تدوين السنة الشريفة نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تدوين السنة الشريفة - نسخه متنی

محمد رضا جلالی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: تدوين السنة الشريفة
المؤلف: السيد محمد رضا الجلالي
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: من مصادر العقائد عند الشيعة الإمامية
تحقيق:
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: 1418 - 1376 ش
المطبعة: مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي
ردمك: 964-424-123-1
ملاحظات:
تدوين السنة الشريفة

1
تأليف السيد محمد رضا الحسيني الجلالي

2
بسم الله الرحمن الرحيم

3
دليل الكتاب
الإهداء:
تمهيد:
المقدمة:
القسم الأول: جواز التدوين منذ عهد الرسالة، وتفصيل أدلة المبيحين.
التمهيد: الأصل في حكم التدوين؟
الفصل الأول: عرف العقلاء والتدوين، وموقف الشرع من هذا العرف
الفصل الثاني: السنة النبوية والتدوين.
الفصل الثالث: إجماع أهل البيت عليهم السلام على التدوين.
الفصل الرابع: سيرة المسلمين والتدوين.
خاتمة القسم الأول: خلاصة واستنتاج.
القسم الثاني: منع التدوين، وتبريرات المانعين.
التمهيد: متى بدأ المنع من التدوين؟!
الفصل الأول: النهي الشرعي عن كتابة الحديث.
الفصل الثاني: الخوف من اختلاط القرآن بالحديث.
الفصل الثالث: التخوف من ترك القرآن والاشتغال بغيره.
الفصل الرابع: الاستغناء بالحفظ عن التدوين.
الفصل الخامس: عدم معرفة المحدثين للكتابة.
الفصل السادس: القول الفصل في سبب المنع.
الملحق الأول: المنع من رواية الحديث، ونقله.
الملحق الثاني: آثار المنع من التدوين إلى نهاية القرن الأول.
خاتمة القسم الثاني: خلاصة واستنتاج.
حصيلة الكتاب.
الفهارس العامة.

5
الإهداء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين
إلهنا بك نستعين
إلى سليلة بيت الوحي والرسالة، وعقيلة بيت الإمامة والعدالة
وإلى غصن الدوحة الهاشمية، وفرع الشجرة العلوية
سيدتنا فاطمة المعصومة بنت الإمام الكاظم، وأخت الإمام الرضا،
وعمة الإمام الجواد عليهم الصلاة والسلام،
التي أنعم الله علينا بجوارها، فأغدقت علينا من برها وإحسانها،
وآوتنا مكرمين في حماها. والتجأنا إليها مستشفعين بها إلى الله،
لكشف الكربات وقضاء الحاجات، فاستجاب الله لنا بكرامتها
ووجاهتها.
فسلام الله عليها تحية وافرة، وصلاته عليها متواترة، وحشرنا الله
معها دنيا وآخرة.
فإلى ساحتها المقدسة:
أهدي هذا الكتاب الذي هو واحد من فيض بركاتها فهو خدمة
متواضعة لسنة جدها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
أرجو منها القبول، ورفد المأمول.
المؤلف

7
تمهيد:
إن الحديث الشريف يعتبر - عند المسلمين كافة - تالي القرآن
الكريم، عمادا للإسلام، ومصدرا للأحكام.
وصيانة الحديث الشريف، واجبة كفاية، على المسلمين، كما هو
الحكم بالنسبة إلى القرآن الكريم، حفاظا على أصول الشريعة من
التحريف والتصحيف.
وقد بذل علماء الأمة قصارى جهدهم في أداء ذلك الواجب،
حتى تألف الحديث الشريف في المجاميع الكثيرة، من الأجزاء الصغيرة
إلى المصنفات الكبيرة، وما بينهما من الأصول والصحاح والمعاجم
والمسانيد والجوامع.
وكذلك، أحاطوه بما في وسعهم من وسائل الحفظ، وأدوات
الحيطة والحذر،
فسنوا لذلك القواعد المتينة والأصول الرصينة، في علم مصطلح
الحديث أو الدراية.

9
وضبطوا نصوصه على أسس قويمة، بأساليب مستقيمة، في علم
الحديث والرواية،
حتى سلموه إلى الخلف مصونا عما يشين، ومحاطا بما يزين،
والحمد لله رب العالمين.
وجرت على الحديث الشريف - منذ نشأته الأولى، وما تلاها من
الأدوار - تطورات كثيرة، وبذلت حوله جهود جبارة، وكل ذلك يكون
للحديث الشريف. تاريخا حافلا.
ومن أهم المباحث المطروحة في مجال تاريخ الحديث، هو تاريخ
تدوين الحديث أو - بعبارة أخرى -: تحديد البداية الأولى لتدوينه،
والأسباب التي أدت إلى منع تدوينه! في بعض فترات التاريخ من صدر الإسلام.
والنتائج المتوخاة من هذا البحث، هي:
1 - الفائدة العلمية:
فقد وقع - بين علماء الحديث - بحث واسع في ذلك، بحيث
استقطب من جهودهم قسطا وافرا في الماد ة والمدة، ويمكن من خلال
هذا البحث التوصل إلى الرأي الصائب، بالحجج الصائبة.
2 - الفائدة العملية:
فإن أعداء الإسلام حاولوا التشكيك في حجية الحديث الشريف،
استنادا إلى المنع الصادر من بعض الصحابة، الذين حكموا بعد النبي
صلى الله عليه وآله وسلم، ومنعوا تدوين الحديث الشريف، فجعلوا ذلك
ذريعة لمآربهم الفاسدة، مثل:

10
1 - إثارة الفكرة القديمة البائدة، التي تدعو إلى رفض السنة
والحديث، والاكتفاء بالقرآن الكريم مصدرا وحيدا للتعاليم الإسلامية.
2 - التشكيك في النصوص التي تحويها كتب الحديث الشريف،
باعتبار تأخر تدوينه، إلى ما بعد مائة عام، فلا بد - كما يدعون! - أن
تكون مجموعة كبيرة منها قد ضاعت وأتلفت، أو حر فت، أو نسيت،
أو نقلت بالمعنى، وغير ذلك من الشبهات..
3 - اتهام الإسلام بالتخلف عن ركب الحضارة الهادر، حيث منع
كبار رجاله من تدوين الحديث النبوي في وقت مبكر.
وبالتالي: فإن الأعداء يهدفون - اعتمادا على المنع المذكور - إلى
القضاء على الإسلام، الذي يبتني في أكثر تعاليمه، على الحديث
الشريف، باعتباره أكبر مصادرها سعة، وأهمها - بعد القرآن - حجية واعتبارا.
فكان من الضروري التصدي لهذا البحث، العلمي العملي، لتبرز
الحقائق ناصعة مسفرة.
ورأينا - إسهاما في خدمة الحديث الشريف - أن نفرد لهذا البحث
المهم، هذه الدراسة، محاولين - قدر الوسع والجهد - استيعابها لما قيل أو
يمكن أن يقال، في هذا المجال.
ونرجو من الله التوفيق إلى الصواب، هو نعم المولى وإليه المآب.
وكتب
السيد محمد رضا الحسيني الجلالي
غرة شهر رمضان المبارك 1412 ه‍

11
المقدمة
موجز من تاريخ الخلاف.
وتحديد أقسام البحث.

13
التزم الكثيرون من العامة بأن الحديث تأخر تدوينه إلى نهاية القرن
الأول من الهجرة، وهم بين:
1 - من يقول بأن بداية التدوين كانت في أول القرن الثاني.
2 - ومن يقول بتأخرها عن ذلك، أيضا.
قالوا: إن عمر بن عبد العزيز - الخليفة الأموي - قام بإصدار أول أمر
رسمي بتدوين الحديث:
قال الحافظ السيوطي (ت 911 ه‍): ابتداء تدوين الحديث، وقع
على رأس المائة، في خلافة عمر بن عبد العزيز، بأمره (1).
وقد نقل أمره بذلك، بنصوص متغايرة، وإلى أشخاص متعددين،
في جهات مختلفة:
فكتب إلى الآفاق، يقول: انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه



(1) تدريب الراوي (1 / 40).
15
وآله وسلم فاجمعوه (1).
وكتب إلى أهل المدينة، يقول: انظروا ما كان من حديث رسول
الله صلى الله عليه، فاكتبوه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء (2).
وكتب رسالة إلى أبي بكر بن حزم، يقول فيها: أنظر ما كان من
حديث رسول الله صلى الله عليه... فاكتبه، فإني قد خشيت دروس
العلم، وذهاب العلماء (3)..
وروى البخاري هذه الرسالة بزيادة قوله: ولا تقبل إلا حديث النبي
صلى الله عليه وآله وسلم، ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من
لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا (4)..
وفي بعض المصادر: أن عمر كتب إليه يقول: أما بعد، فأمر أهل
العلم في أن يذكروا العلم في مساجدهم، فإن السنة كانت قد أميتت (5).
وقام ابن حزم بالمهمة، فجمع الأحاديث في كتاب (6).



(1) تدريب الراوي (1 / 41) والتنبئة للسيوطي (ص 51) والرسالة المستطرفة للكتاني (ص 4).
(2) تقييد العلم (ص 106) ومحاسن الاصطلاح للبلقيني (ص 103)..
(3) تقييد العلم (ص 5 - 106) وانظر تدريب الراوي (1 / 40).
(4) صحيح البخاري (1 / 36) باب كيف يقبض العلم، من كتاب العلم، وانظر: الطبقات
الكبرى لابن سعد (8 / 480) وتاريخ التراث العربي، لسزكين (ج 1 مج 1 / 228)
الهامش، والتنبئة، للسيوطي (ص 15) نقلا عن ذم الكلام للهروي.
(5) أدب الإملاء والاستملاء (ص 44) وانظر: الطبقات، لابن سعد (2 / 134) وإرشاد
الساري (1 / 6).
(6) حاشية الزرقاني على موطأ مالك (1 / 10).
16
وكتب عمر - أيضا - إلى مرة بن كثير يأمره بتدوين الحديث (1).
كما أصدر إلى ابن شهاب الزهري أمرا بتدوين الحديث، فقام
هذا بالأمر.
وكان عمر يبعث إلى كل أرض دفترا من دفاتر الزهري (2).
وكان الزهري يذكر تدوينه للحديث، معتدا به، فيقول: لم يدون
هذا العلم أحد قبل تدويني (3).
بالرغم من أن الزهري كان ممن يكره الكتابة، وكان يعلن عن
كراهته فقد قال: كنا نكره كتابة العلم، حتى أكرهنا عليه السلطان،
فكر هنا أن نمنعه أحدا (4).
وقال أيضا: كنا نكره كتاب العلم، حتى أكرهنا عليه هؤلاء
الأمراء، فرأينا أن لا نمنعه أحدا من المسلمين (5).
وقال: لولا أحاديث سالت علينا من المشرق، ننكرها، لا نعرفها،
ما كتبت حديثا، ولا أذنت في كتابه (6).
ويستفاد منه - كما يقول ابن حجر -: ابتداء تدوين الحديث النبوي،



(1) الطبقات، لابن سعد (7 / 447).
(2) جامع بيان العلم، للقرطبي (1 / 76).
(3) تهذيب التهذيب (9 / 449) والرسالة المستطرفة (ص 4).
(4) سنن الدارمي (1 / 92) ح 410.
(5) طبقات ابن سعد (الجزء المتمم) (ص 169) وأخرجه المعلق عن طبقات ابن سعد
(2 / 389) وحلية الأولياء لأبي نعيم (3 / 363).
(6) طبقات ابن سعد (الجزء المتمم) (ص 166).
17
وأن أول من دونه بأمر عمر، هو ابن شهاب الزهري (1).
وقد طارت شهرة الزهري باعتباره أول من دون الحديث (2).
أقول: وبما أن عمر بن عبد العزيز قد توفي سنة (101) فإن هذا
التاريخ يكون - عند هؤلاء - هو بداية تدوين الحديث، على أبعد
الفروض.
على أن بعض المصادر تشير إلى أن عمر بن عبد العزيز - وإن أصدر
أمرا بالتدوين - إلا أن أمره لم ينفذ في حياته (3).
وقد يكون مع هذا الرأي كل من أخر تاريخ ابتداء التدوين إلى
سنوات أبعد من بداية القرن الثاني.
قال ابن حجر: جمع الحديث إلى مثله في باب واحد، سبق إليه
الشعبي (ت 104) (4).
وهذا النوع من التأليف، وإن كان يعد تصنيفا لنوع معين من
الأحاديث، إلا أنه تدوين له على كل حال، إن لم نقل بأنه أفضل أشكال
التدوين المجرد، فهو أخص أشكاله قطعا.
وقال الذهبي: إن خالد بن معدان الحمصي (ت 104) لقي سبعين



(1) تدريب الراوي (1 / 41) والرسالة المستطرفة (ص 4) والحديث والمحدثون
(ص 221).
(2) تاريخ التراث العربي (1 / مج 1 / 228) وانظر مصادره العديدة.
(3) أنظر تاريخ التراث العربي (مج 1 / ج 1 / 228).
(4) تدريب الراوي (1 / 40).
18
صحابيا، وكان يكتب الحديث، وله مصنفات، وكان علمه في
مصحف له أزرار وعرى (1).
وقال أبو طالب المكي (ت 381 ه‍): كره كتب الحديث الطبقة
الأولى من التابعين... وأجاز ذلك من بعدهم، وما حدث التصنيف إلا
بعد موت الحسن (البصري ت 110 ه‍) وابن المسيب (ت 94 أو 105 ه‍) (2).
وقال الغزالي (ت 505 ه‍): الكتب والتصانيف محدثة ولم يكن
شئ منها زمن الصحابة وصدر التابعين، وإنما حدث بعد سنة (120)
وبعد وفاة جميع الصحابة وجلة التابعين، وبعد وفاة سعيد بن المسيب
(ت 105 ه‍) والحسن (البصري ت 110 ه‍) وخيار التابعين، بل كان الأولون
يكرهون كتب الحديث، وتصنيف الكتب (2).
وأمر هشام بن عبد الملك (ت 125 ه‍) ابن شهاب الزهري (ت 124)
أن يملي على أولاده الحديث، فأملى عليهم أربعمائة حديث (4).
ويعتقد البعض: أن أول مصنف وضع في علم الحديث - عامة! -
هو كتاب ألفه همام بن منبه (ت 131 ه‍) فقد جمع روايات عن
أبي هريرة، في كتاب باسم، (الصحيفة الصحيحة) (5).



(1) تذكرة الحفاظ (1 / 93) وانظر الحديث والمحدثون (ص 221).
(2) قوت القلوب (1 / 159) وانظر الرسالة المستطرفة (ص 8 - 9) ودلائل التوثيق المبكر
(ص 235).
(3) إحياء علوم الدين (1 / 79) ط بولاق.
(4) الإلماع، للقاضي عياض (ص 243) وتهذيب التهذيب (9 / 449).
(5) مصادر الفكر العربي الإسلامي في اليمن، للحبشي (ص 38).
19
ويرى الذهبي: أن أول زمن التصنيف، وتدوين السنن، وتأليف
الفروع، بعد انقراض دولة بني أمية، وتحول الدولة إلى بني العباس
(سنة 132 ه‍) (1).
وقال الذهبي - أيضا - في حوادث سنة (143 ه‍): وفي هذا العصر،
شرع علماء الإسلام في تدوين الحديث، والفقه، والتفسير،...، وكثر
تبويب العلم وتدوينه،...، وقبل هذا العصر كان سائر العلماء يتكلمون
من حفظهم، ويروون العلم عن صحف غير مرتبة (2).
ويعتقد الكثيرون: أن أول من صنف هو ابن جريج (ت 150 ه‍) (3).
قال ابن الأثير: انتهى الأمر إلى زمن جماعة من الأئمة مثل: عبد
الملك بن جريج، ومالك بن أنس، وغيرهما ممن كان في عصرهما،
فدونوا الحديث، حتى قيل: إن أول كتاب صنف في الإسلام: كتاب
ابن جريج (4).
وقال ابن حجر: لما انتشر العلماء في الأمصار، وكثر الابتداع...
دونت [الآثار] ممزوجة بأقوال الصحابة، وفتاوى التابعين وغيرهم،
فأول من جمع ذلك ابن جريج (ت 150 ه‍) بمكة، وابن إسحاق (ت 151 ه‍)



(1) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام (ص 279).
(2) النجوم الزاهرة، للتغري بردي (1 / 351) ودراسات في الحديث والمحدثين، للحسني
(ص 24).
(3) الجرح والتعديل، للرازي (1 / 184) تاريخ بغداد (10 / 400) دائرة معارف وجدي
(مادة: حدث)..
(4) جامع الأصول، لابن الأثير (1 / 41).
20
(ت 151) أو مالك (ت 179 ه‍) بالمدينة، والربيع بن صبيح (ت 160 ه‍) أو
سعيد بن أبي عروبة (ت 156 ه‍) أو حماد بن سلمة (ت 167 ه‍) بالبصرة،
وسفيان الثوري (ت 161 ه‍) بالكوفة، والأوزاعي (ت 157 ه‍) بالشام،
وهشيم (ت 183 ه‍) بواسط، ومعمر (ت 153 ه‍) باليمن، وجرير بن عبد
الحميد (ت 188 ه‍) بالري، وابن المبارك (ت 181 ه‍) بخراسان (1).
قال العراقي، وابن حجر: وكان هؤلاء في عصر واحد، فلا ندري
أيهم أسبق؟ (2).
وأضاف الذهبي على هؤلاء من ذكرهم بقوله: وصنف أبو حنيفة
(ت 150 ه‍) الفقه والرأي، بالكوفة، وابن إسحاق (ت 151 ه‍) المغازي،
وصنف الليث بن سعد (ت 157 ه‍) وعبد الله بن لهيعة (ت 174)
والقاضي أبو يوسف (ت 182 ه‍) وابن وهب (ت 197 ه‍).
وقال ابن حجر: ثم تلا المذكورين كثير من أهل عصرهم، إلى أن
رأى بعض الأئمة أن تفرد أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة،
وذلك على رأس المائتين،...، ثم اقتفى الأئمة آثارهم، فقل إمام من
الحفاظ إلا وصنف حديثه على المسانيد،...، ومنهم من صنف على
الأبواب وعلى المسانيد معا (3).
وهكذا نجد أن هؤلاء، الملتزمين بتأخر تدوين الحديث عن القرن
الأول يختلفون في ما بينهم في تحديد زمان البداية الأولى للتدوين:



(1) هد ي الساري، مقدمة فتح الباري (1 / 17) وانظر الجامع
لأخلاق الراوي (2 / 425 - 427) ومفتاح السنة للخولي (ص 21).
(2) تدريب الراوي (1 / 40) والمصادر السابقين.
(3) هدي الساري (1 / 18) وانظر تدريب الراوي (1 / 40).
21
فمن قائل بأنه سنة (101 ه‍) وهو أقدم تاريخ ذكروه لذلك، ثم سنة
(104 ه‍) ثم سنة (105 - 110 ه‍) ثم سنة (125 ه‍) ثم سنة (131)
ثم سنة (132 ه‍) ثم سنة (134 ه‍) ثم بين السنوات (150 - 197).
وقد يتصور أن هذه الأقوال غير متنافية، لأن بعضها - وخاصة
الأخير - ينظر إلى التصنيف، لا إلى مجرد التدوين!
وهذا التصور يعتمد فكرة التفريق بين التصنيف والتدوين،
كما يحاول البعض التأكيد عليه (1).
لكنا لم نجد فرقا بين الأمرين، ويدل على عدم التفرقة أن عبارة
التدوين أطلقت في ما نقلناه من كلماتهم حتى على المصنفات المتأخرة.
ومهما يكن، فإن رأيهم استقر على التأليف بعد القرن الثاني،
وصدرت المؤلفات الجامعة للحديث الشريف على اختلاف المناهج،
كالمسانيد، والمصنفات، والصحاح، وغير ذلك.
ولكن الذي يجمع بين تلك الأقوال - كلها، على اختلافها - هو:
الاتفاق على عدم تقدم زمان التدوين على نهاية القرن الأول!.
وعلى هذا: فما قاله الإمام السيد شرف الدين الموسوي العاملي
رحمه الله، من، أن الإجماع قائم على أنه ليس لعلماء العامة، في العصر
الأول، تأليف، خاصة في علم الحديث (2).
مستند إلى هذا الاتفاق، الملتزم به من قبل العامة - أنفسهم - في



(1) لاحظ تاريخ التراث العربي، لسزكين (1 / مج 1 / 7 - 228).
(2) مؤلفو الشيعة في صدر الإسلام (ص 13) والمراجعات لشرف الدين المراجعة رقم (110).
22
أمر التدوين.
ولقد أثار هذا الالتزام عدة تساؤلات صعبة:
1 - فلماذا أغفل أهل الإسلام - دين الحضارة والتمدن - هذا العمل
الحضاري، الذي يعتبر مكرمة إلهية للإنسان، فامتنعوا من تدوين
الحديث، أهم مصادر الشريعة، وأعظمها بعد القرآن الكريم؟
2 - أليس ترك التدوين طيلة مائة سنة - وهو تمام القرن الأول -
تعريضا للحديث إلى الضياع، والتلف، والنسيان، والإبادة؟؟.
3 - وماذا كان الضر ر، لو دونت السنة، في عهد مبكر،
وحفظت، كما كتب القرآن الكريم وحفظ؟
ومن كان المتضرر من ذلك، لو تم التدوين؟
4 - لماذا ناقض المسلمون أنفسهم، وخالفوا كبراءهم من الصحابة
وبعض التابعين، الذين منعوا التدوين، فجاء من بعدهم، فعمدوا بعد
قرن من الزمان، إلى كتابة الحديث وتدوينه؟؟
كما فتح هذا الالتزام، لأعداء الإسلام، أبواب النقد والاعتراض،
واستهداف الشريعة الإسلامية، بالطعن على ثاني مصادر التشريع، بأنه
منفصل عن مصادره الأصيلة طيلة قرن من الأعوام، على أقل تقدير،
فلا تبقى ثقة بنصوصها المنقولة!!
كما وجه المغرضون، من المستشرقين والمستغربين (1) سهام نقدهم



(1) نعني بالمستغربين: تلك الشرذمة من أولاد المسلمين الذين استعبدتهم الثقافة الغربية،
فهووها، ودعوا إليها، إلى حد العمالة العمياء للغرب، ولكل ما هو غربي، ولو على
حساب دينهم ووطنهم وثقافتهم وحضارتهم.
23
الملطخة بسموم حقدهم، إلى ساحة الدين الإسلامي، فوصموه بالأمية
والصد عن التثقيف!
وقد حاول أنصار ذلك الرأي الدفاع، وقدموا
لذلك تبريرات عديدة، مختلفة، جمعناها في القسم الثاني من هذه
الدراسة.
وطلبا منا للحقيقة، لم نكتف بمجرد النقل، بل ناقشنا كل ما
ذكروه بهذا الصدد، مناقشة موضوعية جذرية.
وتوصلنا - بتوفيق من الله - إلى القول الفصل في وجه الالتزام بذلك
الرأي، والعلة الأساسية لمنع تدوين الحديث من قبل المانعين، وغرضهم
الذي راموه من وراء عملية منع التدوين.
وأما القسم الأول من هذه الدراسة:
فقد أوردنا فيه الرأي الإسلامي، المعارض للرأي السابق، والذي
لا يبقى معه مجال لأي اعتراض على الحديث الشريف، وتندفع به كل
التهم المغرضة التي وجهها أعداء الإسلام إليه.
وهذا الرأي يقول: إن الكتابة عملية حضارية، أقرها الإسلام بكل
تصميم وقوة، واستعملها في تدوين الشريعة ومصادرها بأوسع ما يمكن،
فكان القرآن الكريم يكتب فور نزوله، بيد كتاب الوحي، الذين
بلغ عددهم الأربعين شخصا، وبإشراف تام من الرسول الأعظم
صلى الله عليه وآله كما حث الإسلام على تعلم الكتابة ومزاولتها، بأساليب عديدة،

24
وفي نصوص متضافرة، في القرآن، والسنة، ومن خلال سيرة علماء
الإسلام وتصرفاتهم.
ولم يكن الحديث الشريف مستثنى من ذلك، بل بذل
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جهدا بليغا في الحث على كتابته
وتدوينه، بعد أن صدع بأمر تبليغه وبثه، فقد أمر بتدوينه، ودفع كثيرا
من الصحابة إلى مزاولته، كما أملى هو صلى الله عليه وآله كثيرا من
السنن ليكتبها أصحابه.
وقد تمت في عصره صلى الله عليه وآله وسلم - وبمرأى منه ومسمع - كتابة الكثير من
الحديث الشريف، في المجاميع، والصحف، والكتب، بما يدل
بوضوح على تقريره صلى الله عليه وآله لجواز التدوين، وإمضائه
والرضا به
ويعتبر أصحاب هذا الرأي، الرسول الكريم نفسه صلى الله عليه
وآله وسلم، رائد الآمرين بكتابة الحديث، وقائد القائمين بتدوينه،
وضبطه.
ويأتي كبار الصحابة الأبرار في مقدمة الملتزمين بهذا الرأي،
وكثير منهم قام بالتدوين، وقد خلفوا آثارا حميدة، تدل على عدم
انصياعهم لأوامر المانعين، بل معارضتهم لمنع التدوين.
وأما أهل البيت عليهم السلام، فقد أجمعوا - كافة - على التدوين
ومعارضة المنع، قولا، وعملا.
وقد جمعنا كل ذلك في القسم الأول من هذه الدراسة.

25
ولخصنا البحث كله في خاتمة لكل من القسمين بغية تنظيم فكرة
واضحة عنه، وسردنا فيها مجمل ما في القسمين، وخلاصة مقتضبة
عما توصلنا إليه من نتائج.
وقد التزمنا بالأمانة التامة في نقل النصوص، والإشارة المضبوطة
إلى مصادرها، كما أرجعنا إلى المزيد من مراجع البحث، تكميلا
للفائدة.
ووضعنا ما أضفناه على النصوص - أحيانا - بين [معقوفتين] تمييزا
له، كما أنا ميزنا ما حذفناه بوضع نقاط ثلاث (...) في موضعه من
النصوص.
وأضفنا إلى جملة الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر
(آله) حيثما لم يرد في المصادر، حذرا من أن تبقى الصلاة عليه بتراء،
وقد نهى صلى الله عليه وآله وسلم عنها، في ما رواه المسلمون كافة (1).
وعينا المصادر التي راجعناها، بطبعاتها الخاصة، في فهرس
المصادر،
كما أعددنا للدراسة فهارس مناسبة لموضوع البحث.
والله ولي التوفيق.



(1) أنظر: الصواعق المحرقة لابن حجر (ص 87) ورشفة الصادي (ص 33) ووسائل الشيعة
للعاملي، كتاب الصلاة، أبواب الذكر ب (24) ح 2 رقم 9112 (ج 7 / 202) طبع
، الحديث 5 و 6 و 17، والاعتصام بحبل الله المتين للقاسم بن محمد
من أئمة الزيدية (2 / 134).
26
القسم الأول:
جواز التدوين منذ عهد الرسالة
وأدلة المبيحين.
ويحتوي على:
التمهيد: ما هو الأصل في حكم التدوين؟
الفصل الأول: عرف العقلاء والتدوين، وموقف الشرع من هذا
العرف.
الفصل الثاني: السنة النبوية والتدوين.
الفصل الثالث: إجماع أهل البيت عليهم السلام على التدوين.
الفصل الرابع: سيرة المسلمين على التدوين.
الخاتمة: خلاصة واستنتاج.

27
التمهيد:
ما هو الأصل في حكم التدوين؟
من المتفق عليه أن تدوين الحديث قد تحقق في عصر الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم، كما أن كثيرا مما تحققت كتابته في عصره
كان بإذنه وبإشراف منه.
قال الدكتور الشيخ عبد الحليم محمود - شيخ الأزهر سابقا -:
لقد وقر في أذهان الناس بصورة راسخة: أن السنة لم تدون إلا في
القرن الثاني،
ومن أجل اقتلاع هذه الفكرة الخاطئة أطلنا في نقل بعض النصوص
التي تثبت الحقيقة، وهي أن السنة دونت في القرن الأول، في عهد
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وفي عهد الصحابة الأجلاء (1).
وقال الدكتور عتر: وردت أحاديث كثيرة عن عدد من الصحابة
تبلغ بمجموعها رتبة التواتر، في إثبات وقوع الكتابة للحديث النبوي،
في عهده صلى الله عليه وآله وسلم (2).



(1) السنة في مكانتها وفي تاريخها (ص 48).
(2) منهج النقد في علوم الحديث، للدكتور نور الدين عتر (ص 40).
29
وقال الدكتور رفعت: نقرب من الحقيقة عندما نقول: إن الماد ة التي
كتبت في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليست بالشئ
القليل (1).
وقال آخر: لا مجال للشك في تحقيق تقييد الحديث في عصر النبي
صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، وليس على رأس المائة الثانية للهجرة،...،
لأن الكتب والأخبار والوثائق التاريخية لا تدع مجالا له (2).
ويعترف عتر: بتوافر الدلائل العلمية، التي تبلغ درجة المسلمات -
في نطاق العلم - على إثبات الكتابة لقسم كبير من الحديث في عصر
النبوة (3).
ولا ريب أن الأشياء - كلها - على أصل الإباحة في الشرع
الإسلامي، حتى يقوم الدليل الخاص على حكمها، كما ثبت ذلك في
علم أصول الفقه.
والتدوين كواحد من الأعمال، لو لم يدل على حكمه دليل
خاص، فهو على أصل الإباحة، كذلك.
وإذا دلت الأخبار الكثيرة، والدلائل العلمية المسلمة، والوثائق
التاريخية، على وقوع التدوين - للحديث الشريف - في عهد الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم، تأكد ذلك الأصل، بتقرير الشارع الحكيم



(1) صحيفة علي بن أبي طالب عليه السلام (ص 44).
(2) علوم الحديث، لصبحي الصالح (ص 33).
(3) منهج النقد (ص 50).
30
لجوازه، وهو بمعنى الموافقة عليه وعدم المنع منه.
مضافا إلى أن الكثير من تلك الأدلة يدل على الجواز صريحا،
وبوضوح، بحيث لا يقبل التأويل، ولا التقييد، كما سيأتي بيانه.
ويمكن الاقتناع بهذا الإجمال، لدفع المنع عن التدوين، وحمل ما
ادعي للمنع - من حجج - على صور خاصة، أو تحديدها بحالات معينة،
أو طرحها رأسا، لأن شيئا منها لا يقاوم عموم أدلة الجواز، ولا إطلاق
أدلة الإباحة.
وبما أنه لا يمكن الاقتصار في البحث العلمي على هذا الإجمال،
فإن من الممكن وقوع مناقشات خاصة حول كل واحد من تلك الأدلة
والأخبار والوثائق، فنحن نعرض كل ذلك للبحث، فنقول:
يمكن أن يستدل لجواز تدوين الحديث وإباحته بالأدلة التالية:
1 - عرف العقلاء، المقرر عند الشرع.
2 - السنة النبوية الشريفة.
3 - إجماع أهل البيت عليهم السلام.
4 - سيرة الصحابة، وكبار التابعين، وسائر علماء المسلمين.
ولنذكر كل واحد في فصل:

31
الفصل الأول
عر ف العقلاء والتدوين، وموقف الشرع من هذا العرف
الكتابة أمر حضاري:
وجعل الشيخ الطوسي الكتابة من وسائل بيان الأحكام، فقال:
فأما ما يتبين به الشئ، فأشياء: منها (الكتابة):
وذلك نحو ما كتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى عماله
بالأحكام التي بينها لهم، ولمن بعدهم، من كتب الصدقات والديات
وغيرها من الأحكام.
وأما بيان الله تعالى فقد يكون بالكتابة والقول،
لأنه تعالى كتب في اللوح المحفوظ، وبين ذلك للملائكة (1).
وقال الشهيد الأول: محدثات الأمور بعد عهد النبي صلى الله عليه
وآله وسلم: أولها الواجب كتدوين القرآن والسنة، إذا خيف عليهما
التفلت من الصدور، فإن التبليغ للقرون الآتية واجب إجماعا، وللآية،
ولا يتم إلا بالحفظ (2).



(1) العد ة، للطوسي (طبع الهند) ص (2 - 3).
(2) القواعد والفوائد، للشهيد، القاعدة (205) (2 / 145).
32
وقال الشافعي: لولا المحابر لخطبت الزنادقة على المنابر (1).
وقال ابن معين: إظهار المحبرة عز (2).
وقال الشهيد الثاني: الكتابة من أجل المطالب الدينية، وأكبر
أسباب الملة الحنيفية من الكتاب والسنة، وما يتبعهما من العلوم الشرعية،
وما يتوقفان عليه من المعارف العقلية، وهي منقسمة في الأحكام حسب
العلم المكتوب: فإن كان واجبا على الأعيان، فهي كذلك، حيث
يتوقف حفظه عليها، وإن كان واجبا على الكفاية، فهي كذلك،
وإن كان مستحبا، فكتابته مستحبة (3).
وقال السيد صد يق حسن خان: احتاج العلماء إلى تدوين الحديث
وتقييده بالكتابة، ولعمري! إنها الأصل فإن الخاطر يغفل،
والقلم يحفظ (4).
وقال عتر عن الكتابة: إنها من أهم وسائل حفظ المعلومات ونقلها
للأجيال، وقد كانت أحد العوامل في حفظ الحديث، على الرغم
مما وقع فيها من اختلاف الروايات، وتباين الوجهات (5).
وقال الشيخ أبو زهو: الخط مظهر من مظاهر التحضر، وأثر من
آثار الاجتماع والتمدن، لذا سبق إليه الأمم المتمدنة.



(1) سير أعلام النبلاء (10 / 70).
(2) الكامل لابن عدي (1 / 133) (3) منية المريد في آداب المفيد والمستفيد للشيخ الشهيد الثاني (ص 339).
(4) الحطة (ص 106) وانظر مفتاح السنة للخولي (ص 21).
(5) منهج النقد (ص 39 - 40).
33
وقال: الكتابة من أدوات التبليغ (1)
وقال الدكتور رفعت: مما لا شك فيه أن الكتابة من أهم عوامل
التوثيق، إن لم تكن أهمها جميعها! (2).
وقال الدكتور شعبان: الكتابة من الأمور التي تثبت بها الحجية (3).
أقول: إن الكتابة هي من أبرز معالم الحضارة البشرية، وأكثرها
فائدة، لأن بها يتم نقل أفكار الأمم إلى الأجيال، بمنتهى الأمانة
والبساطة،
وقد أجمع عقلاء البشر على أهمية الكتابة وفضلها، والكتاب
وفضله، بما لا مجال لنقل كلماتهم، في هذه الدراسة (4).
ولقد دعم الإسلام موقف العقلاء من الكتابة، بنصوص من القرآن
الكريم، ومن الحديث الشريف، باعتبارها واحدة من أفضل النعم
الإلهية التي ألهمها للبشر، ومن أحسن الخصائص البشرية التي يمتاز بها
الإنسان.



(1) الحديث والمحدثون (ص 119 و 225).
(2) توثيق السنة في القرن الثاني (ص 43).
(3) دراسات حول القرآن والسنة (ص 190).
(4) لاحظ: تقييد العلم، للخطيب، باب فضل الكتب وبيان منافعها (ص 113 - 117)
وسيأتي في الفصل الرابع من القسم الثاني كلمات العلماء في لزوم الكتابة حتى مع الحفظ،
فراجع.
34
الكتابة في القرآن:
ولئن كانت (اللغات) وكان (النطق) من المواهب الإلهية، التي
امتن بها الخالق على خلقه، فذكر ذلك صريحا بقوله تعالى: (... واختلاف
ألسنتكم) [سورة الروم (30) الآية: 22]
وتعريضا، بقوله تعالى: (... إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون)
[سورة الذاريات (15) الآية: 23]
فإن الكتابة بالقلم - بلا ريب - من تلك المواهب، التي أنعم بها
على البشر.
ولقد عظم الله سبحانه أمر الكتابة والقلم، إلى حد أنه تعالى أقسم
بهما في قوله تعالى: (ن، والقلم وما يسطرون) [سورة القلم (68)
الآية: (1)] (1).
والقسم لا يكون إلا بأمر مهم، ومقدس.
وقد عرف جل ذكره نفسه بأنه (الذي علم بالقلم)
سورة العلق (96) الآية (4) (2).
وقد واحتج ابن فارس بهذه الآية على إباحة التدوين للحديث،
وقال: أعلى ما يحتج به في ذلك، قوله تعالى: (ن، والقلم
وما يسطرون) قال الحسن البصري: (ن) الدواة، و (القلم) القلم (3).



(1) لاحظ: نور الحقيقة (ص 108) وأدب الدنيا والدين (ص 68).
(2) لاحظ: نور الحقيقة (ص 108) وأدب الدنيا والدين (ص 68).
(3) محاسن الاصطلاح، للبلقيني (ص 299).
35
قال الخطيب البغدادي: وقد أدب الله سبحانه عباده بمثل ذلك في
الدين، فقال عز وجل: (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى
أجله، ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا)
[سورة البقرة (2) الآية: 282] (1).
وقال البلقيني: وقد ندب الله إلى الكتابة في قوله تعالى
(... فاكتبوه...) (2).
أقول: وقد وردت في القرآن الكريم ألفاظ من مادة (كتب)
المراد منها الكتابة بالقلم، في (سبعة وخمسين) موضعا (3).
وورد لفظ (كتاب) في (مائتين واثنين وستين) موضعا من القرآن
الكريم (4).
وجاء ذكر (الأقلام) في بعض الآيات (5).
إن احتواء القرآن على هذه الألفاظ، وبهذه الكثرة، يوحي إلى
الإنسان - بلا ريب - ما للكتابة من مكانة مرموقة عند الله جل ذكره.
قال الخطيب - بعد ما ذكر آية الدين السابقة (6) -: لما أمر الله تعالى
بكتابة الدين، حفظا له، واحتياطا عليه، وإشفاقا من دخول الريب فيه،



(1) تقييد العلم (ص 71).
(2) محاسن الاصطلاح (299).
(3) المعجم المفهرس لألفاظ القرآن (ص 1 - 595) مادة (كتب).
(4) المصدر السابق، (ص 592 - 595) مادة (كتب).
(5) في سورة لقمان (31): 27، وسورة آل عمران (3): 44.
(6) راجع عند الهامش رقم (1).
36
كان العلم - الذي حفظه أصعب من حفظ الدين - أحرى أن تباح
كتابته، خوفا من دخول الريب والشك فيه (1).
ومن ظريف الآثار ما روي عن أبي المليح، عن أيوب (ت 131 ه‍)
أنه قال: يعيبون علينا الكتاب، وقد قال الله تعالى: (... علمها عند ربي
في كتاب...) [سورة طه (20) الآية: (2 5)] (2).
وروى الدارمي هذا الأثر، عن أيوب، عن أبي المليح (3).
ومن ذلك: قالوا لقتادة: نكتب ما نسمع منك؟
قال: وما يمنعك أن تكتب، وقد أخبرك اللطيف الخبير أنه يكتب،
قال: (علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى) (4).
ويقول بعض المعاصرين: لقد كان القرآن الكريم فتحا جديدا رائعا،
لا في تاريخ العقيدة - فحسب - وإنما في تاريخ المعرفة الإنسانية كلها،
فهو قد كرم العلم والعلماء، وأقسم في محكم آياته بالكتاب المسطور،
وبالقلم وما يسطرون وكان القرآن الكريم أول نص عربي كامل اتخذ
شكل كتاب (5).



(1) تقييد العلم (ص 71).
(2) تقييد العلم (ص 110).
(3) سنن الدارمي (ج 1 / 104) ح 495.
(4) المحدث الفاصل (ص 372) رقم (340) وتقييد العلم (ص 103).
(5) مصادر التراث العربي، عمر الدقاق (ص 9) عن عبد الستار الحلوجي، مجلة الكتاب
العربي، أكتوبر 1970.
37
الكتابة في السنة والأثر:
قد قام الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة إلى كل ما
يرفع من قيمة الإنسان، ويسمو به إلى المكارم، ويزيده مدنية، وكمالا،
وحضارة.
ومن أهم وسائل التمدن والكمال والتحضر، هي (الكتابة) ومحو
الأمية، بلا ريب.
وقد اهتم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الأمر اهتماما بليغا
حتى أنه أدخل ذلك في قضية سياسية عسكرية، وهي فداء أسرى بدر
من المشركين في مقابل تعليم عشرة من أولاد المسلمين الكتابة
والقراءة، وأمر بعض الصحابة بتعليم الصبيان في المدينة.
وقد تظافرت الأحاديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم في ما يتعلق
بشؤون الكتابة، فأملى على كتابه، وقرر كتابتهم، وأمرهم بالكتابة.
فتحققت السنة، بكل أنواعها: الفعلية، والتقريرية، والقولية، في
الحث على الكتابة عامة، وكتابة الحديث خاصة.
والسنة القولية، وردت بألفاظ مختلفة، ومنها: ما ورد فيه أسماء
أدوات الكتابة، من: كتاب، وورق، ومداد، وحبر، وقلم، وقرطاس.
وسيأتي ذكر جميع ما يرتبط بسنة الرسول صلى الله عليه وآله
وسلم في الفصل الثاني من هذا القسم.
ولا ريب في دلالة ذلك على تقرير الرسول صلى الله عليه وآله

38
وسلم لما تعارف عليه عقلاء البشر من الاعتماد على التدوين والكتابة،
كأمر حضاري مهم.
أضف إلى ذلك أن أئمة أهل البيت الأطهار - الذين
جعلهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نجوما لأمته، بأنوارهم
يهتدون، وأمر بالتمسك بحبلهم، والاقتداء بهم - قد أجمعوا على أن
الكتابة أمر ضروري، ورغبوا فيها، وحثوا الأمة مزاولتها.
وسيأتي تفصيل ما أثر عنهم في هذا المجال من أفعال وأقوال،
في الفصل الثالث من هذا القسم.
وكذلك أقوال الصحابة الأبرار - الذين اتبعوا آثار رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم في أفعاله وأقواله - فسيأتي في الفصل الرابع أن
كبارهم وعلماءهم قاموا بكتابة الحديث والسنة، ولم يألوا جهدا في
الحث على الكتابة.
والدليل على إقرار الشريعة الإسلامية لعرف العقلاء في استخدام
الكتابة: أن المسلمين - على طول التاريخ - استخدموها في حياتهم
العلمية بشكل واسع، بل تفننوا في إجادتها، بحيث تعد نماذج الخط
الإسلامي بأنواعه وأشكاله وزخرفته، من أميز الفنون الجميلة العالمية،
روعة وبهاء، وتعبر عن ذوق ومهارة فائقين.
وقد استخدم المسلمون الكتابة في تدوين أقدس ما لديهم من نص،
وهو القرآن الكريم.
فمن المهين للعرب ما ذكره الشيخ أبو زهو بقوله:

39
أما بادية العرب فلم تكن تخط بل كانت ترى الخط وصمة
عار، وسمة عيب، كما هو شأنها في سائر الصناعات المدنية (1).
فهذا جزاف من القول، يتنافى والذوق البشري، وحب الخلود
عند الإنسان، والحقيقة التي عرفناها عن العرب قبل الإسلام، وإن عدم
الكتابة الذي شاع بينهم فهو على أثر التخلف، لا حبا في الأمية وتباهيا
بها! إلا جهلا وعصبية وغرورا!
وأين هذا من الإسلام؟ وإشادته بالعلم والكتابة؟ وتأكيده على
محو الأمية؟!
ومن المهين للمسلمين - والعرب منهم - أن تنسب إليهم كراهة
الكتابة، بهدف فصلهم عن عرف العقلاء ذلك الذي بيناه، وإبعادهم عن أهم
عناصر الحضارة، بينما نجد خلاف ذلك عند العرب أنفسهم، فإنهم
كانوا يسمون باسم (الكامل) من كان يعرف الكتابة، ويحسن الرمي،
ويجيد السباحة (2).
ولئن نقل عن واحد من شعرائهم - وهو ذو الرمة - قوله - عن
الكتابة -: إنها عيب عندنا! ويطلب كتمانها عليه (3).
مع أن كلامه ليس حجة على أمة كاملها، فالوجه فيه أن ذلك يتنافى



(1) الحديث والمحدثون لأبي زهو (ص 119).
(2) أنظر: طبقات ابن سعد (ج 3 ص 613) وفتوح البلدان للبلاذري (ص 459) وعيون
الأخبار لابن قتيبة (ج 2 ص 168) وسير أعلام النبلاء 1 / 8 - 279).
(3) الأغاني (18 / 30) ولاحظ اسم (ذو الرمة) في فهرس الأعلام.
40
وقوة نظم الشعر عند الشاعر، تلك المعتمدة على قريحته الذاتية، لأن
كتابته للشعر تدل على ضعف الشاعرية عنده باستمداده من شعر غيره،
أو عدم نبوعها من أعماق روحه، وإلا لم يحتج إلى نقشها على
صفحات الأوراق، بعد صفحات القلوب.
فهذا القرآن الكريم وهو أعظم نص مقدس عند المسلمين، لأنه الوحي
الإلهي المبين، وكلام رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلب سيد
المرسلين.
ومع أنه نص محدود بما بين الدفتين، وآياته مشهورة محفوظة في
صدور المسلمين، وهم مكلفون بتلاوتها وتكرارها كل حين، في
الصلوات وجوبا، وفي غيرها ندبا.
ومع أن سبحانه قد تكفل حفظه وصيانته، بقوله تعالى:
(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (سورة الحجر (15) الآية: 9).
فمع ذلك كله، نجد أن الإسلام لم يمنع من كتابته وتدوينه،
وخطه بالقلم على الأوراق.
بل، إن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم اهتم بأمر كتابته
من أول وهلة لنزوله، فعين له كتابا عديدين، بلغ بهم بعض المصادر إلى
أربعين كاتبا (1).
وقد كان لكتابته أثر مهم في حفظه عن التحريف، وصيانته عن
التصحيف، فلم يتمكن أعداء الإسلام من الإجهاز عليه، والتشكيك فيه،



(1) التنبيه والإشراف للمسعودي (ص 246 - 7) وانظر السنة قبل التدوين (ص 298).
41
بالرغم من تعريضه للإحراق والتمزيق في فترات عصيبة من التاريخ (1).
لكنه، برعاية الله، وبفضل كتابته وانتشار نسخه، كان أشهر من
أن يمسه غير
الطاهرين بسوء، فبقي نصه المقدس مشعلا ينير درب
الهدى للمؤمنين، وأقدس
محور يتحد عنده جمع المسلمين، والحمد لله
رب العالمين.
وقد أثير تول ارتباط القرآن بالكتابة، ووجه الفرق والتمييز بين
القرآن والسنة في أمر كتابتهما، وحكم تدوينهما - بحوث طويلة الذيل
عرضناها مفصلة في ما يلي من مواضع هذه الدراسة، وخاصة في الفصل
الثالث من القسم الثاني، فراجع.
أما السنة والكتابة:
فإذا كانت الكتابة بهذه المنزلة من الحضارة والمدنية والكمال، يلتزم
بها عقلاء البشر من دون تلكؤ، والقرآن يحث عليها في آياته العديدة،
بشتى الأساليب، والرسول يدعو إليها ويرغب فيها بكل الأشكال،
وكذا أهل بيته الأئمة الأطهار، وصحابته الأخيار!
وقد كتب ما هو أفضل النصوص، وأشرفها على الإطلاق، وهو
القرآن الكريم.
فما بال السنة الشريفة، تبقى غير مكتوبة، بل، يمنع عن كتابتها



(1) لاحظ الإتقان للسيوطي (ج 1 ص 209) ومدخل إلى القرآن الكريم، لدراز (ص 50)
وتاريخ القرآن، للزنجاني (ص 75).
42
وتدوينها طوال قرن من الزمن؟؟!
مع أنها لا تقل أهمية من القرآن في تشريع الأحكام وبيان قواعد
الإسلام، كما سيأتي بيانه في هذه الدراسة (1).
وسنرى أن السنة والقرآن متعاضدان، وليس ترك السنة إلا تركا
للقرآن، ومؤديا للقضاء عليه كليا، حيث إن السنة هي بيان القرآن وهو
يبقى بدونها مستعجما.
هذا، مع أن السنة بعيدة الأطراف، واسعة الأكناف، فهي - على
المدى البعيد - أكثر تعرضا لأشكال التحريف، وهذا ما دفع علماء
الإسلام إلى وضع ضوابط علم الدراية والمصطلح للمحافظة عليها، والتوثق من
سلامتها.
ومما اعتمدوه أداة لحفظ الحديث وضبطه هو كتابته وتدوينه، وقد
أصبح ذلك من أهم وسائل الحفاظ عليه وصيانته.
ويظهر من الإمام أحمد - إمام الحنابلة - أنه جعل الكتابة أفضل من
الصلاة تطوعا:
فعن إبراهيم بن هاني: قلت لأحمد بن حنبل: أي شئ أحب
إليك، أجلس بالليل، أنسخ، أو أصلي تطوعا؟
فقال: إذا كنت تنسخ، فأنت تعلم به أمر دينك، فهو أحب
إلي (2)



(1) لاحظ السنة قبل التدوين (ص 23 - 27).
(2) الفقيه والمتفقه للخطيب (1 / 17).
43
فلماذا يجب أن نلتزم بتأخر هذه الوسيلة المهمة للضبط والصيانة
للسنة والحديث، إلى نهاية القرن الأول؟
مع أن السنة بتلك المنزلة من الأهمية، والخطورة؟ وقابلية التعرض
لأشكال من السوء؟؟
ولو كانت المحافظة على الكتاب والسنة وعلومهما، واجبة على
المسلمين، وجوبا كفائيا، فإن وجوب كتابتهما - التي هي من أهم
وسائل حفظهما - أمر واضح.
قال المحقق الشيخ الدربندي: لا ريب في كون كتابة الأحاديث من
المندوبات العينية والواجبات الكفائية، بل قد تجب على جماعة فرضا عينيا (1).
ومن القواعد المعلومة - كما يقول الشيخ الشهيد الثاني -: أن فرض
الكفاية إذا لم يقم به من فيه كفاية، يخاطب به كل مكلف، ويأثم
بالتقصير فيه كل مكلف به، فيكون في ذلك كالواجب العيني، إلى أن
يوجد من فيه كفاية (2).
أليس في الالتزام بالمنع من تدوين الحديث مخالفة بينة لعرف
العقلاء الذي أقره الإسلام في قرآنه، وحديث رسوله، وكلام أئمته،
وسيرة أصحابه؟
أليس في الامتناع عن كتابة السنة طوال قرن واحد، إخلال
بواجب المحافظة عليها؟



(1) القواميس - مخطوط - (ورقة 17) من قسم الدراية.
(2) منية المريد (ص 39 - 340).
44
أما نحن، فلا نتصور أن الإسلام العظيم، دين المدنية، يهمل
الكتابة، وهي من أهم أسس الحضارة البشرية.
وكذلك لا نتهم أحدا من الصحابة الكرام بالتقصير في أداء هذا
الواجب الديني المقدس.
بل، نعتقد بأن الإسلام وقوانينه الرصينة أجل من أن يمنع مثل هذا
الأمر الدال على الكمال والرقي، فكيف يمنع كتابة الحديث الشريف،
الذي هو ثاني مصادر هذا الدين، باتفاق المسلمين، على اختلاف الفرق
والمذاهب؟!
كما نعتقد أن أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
المخلصين لهذا الدين، والمدافعين بكل وجودهم عن شريعة سيد المرسلين،
قد بذلوا جهدا واسعا مشكورا من أجل صيانة الحديث الشريف،
وضبطه وحفظه في الكتب المدونة.
ولقد قاوموا عملية المنع، وتهديدات المانعين، فتحملوا المشاق من
أجل ذلك، فلم ينقطعوا عن أداء هذا الواجب المقدس، طرفة عين،
وسنأتي على ذكر طرف من أحاديثهم، وما بلوا به في هذا المجال (1).
كما أن المانعين من تدوين الحديث، ومن التزم برأيهم، واتبع
آثارهم قد رجعوا إلى الحق، فعادوا إلى الرشد، ولحقوا بسائر المسلمين،
وتبعوهم في كتابة الحديث الشريف، كتابة عامة، ولو بعد قرن من
الزمان، دون تحرج أو منع أو تحريم!



(1) في الفصل (4) من القسم الأول، وفي تمهيد القسم الثاني وخاتمته.
45
الفصل الثاني
السنة النبوية والتدوين
إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو الصادع بالدين، من
خلال الوحي، لم يأل جهدا في أداء التبليغ والبيان (هدى للناس،
وبينات من الهدى والفرقان).
فكان صلى الله عليه وآله وسلم يجسد الإسلام عملا، وقولا،
حتى أصبح بوجوده الكامل تمثالا للشريعة، وأصبحت سيرته وسنته،
أفعاله وأقواله، أسوة حسنة، وحجة مقننة، للمسلمين.
ونص القرآن الكريم على حسن الاقتداء به، واتباع أوامره ونواهيه،
فقال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) (سورة
الأحزاب (33) الآية: 21).
وقال جل وعلا: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه
فانتهوا) (سورة الحشر (59) الآية: 7).
وجعل في آيات عديدة، طاعة الرسول من طاعة الله، وقرنهما في
محل واحد، وأمر المؤمنين بهما، فقال تعالى: (... من يطع الرسول
فقد أطاع الله...) (سورة النساء (4) الآية: 80).

47
ثم جعل ما ينطق به الرسول وحيا، وإن لم يكن قرآنا، في قوله
تبارك اسمه: (... ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه
شديد القوى) (سورة النجم (53) الآية: 3).
وقد قام الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بأداء المهمة
الرسالية خير قيام:
فدعا - كما سبق أن ذكرنا - إلى كل ما يرفع من قيمة
الإنسان، ويسمو به إلى المكارم، ومن أهم ذلك الدعوة إلى نبذ الأمية،
وإلى تعليم الناس الكتابة والقراءة،
وتمثلت جهوده في هذا الصدد، بأشكال، نذكر منها:
1 - السنة التقريرية:
كان في عصره صلى الله عليه وآله وسلم بعض الكتاب، يمارسون
الكتابة، في المدينة، منهم (1):
سعد بن الربيع الخزرجي (2).
وبشير بن سعد بن ثعلبة (3).
وكان هو صلى الله عليه وآله وسلم بحاجة فعلية وماسة إلى
الكتابة، حيث كان يوجه رسائل الدعوة إلى الأطراف، ويراسل الملوك



(1) للبحث عن معرفة العرب الكتابة قبل الإسلام مجال واسع ومصادر وافرة، فلذا لم نكن
بحاجة إلى التوسع فيه، واقتصرنا على فترة ظهور الإسلام ولاحظ دلائل التوثيق المبكر (ص
153 - 179).
(2) طبقات ابن سعد (3 / 522).
(3) طبقات ابن سعد (3 / 531) وتهذيب التهذيب (1 / 464).
48
والرؤساء، ويكتب العقود والمعاهدات، فكان من الضروري وجود
كتاب مجيدين لدى حضرته المنيفة صلى الله عليه وآله وسلم.
بالإضافة إلى أن كتابة القرآن الكريم بشكل دائم ودقيق، كانت
تستدعي وجود كتاب محسنين.
وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يزاول
- بنفسه - الكتابة والقراءة، بشكل ظهر معه إعجاز القرآن جليا وواضحا
- حتى أطلق عليه (الأمي القرآن (1)، وإن كان معنى (الأمية)
والمقصود منها في القرآن أمرا مختلفا فيه إلى حد بعيد - (2).
علمنا أن وجود من يمارس الكتابة عنده صلى الله عليه وآله وسلم
من أمس الحاجات.
وبالنسبة إلى الحديث الشريف:
فقد عرفنا في التمهيد (3) أن الصحابة قد كتبوا الشئ الكثير من
ذلك في عصره.
وسيأتي في الفصل الرابع من هذا القسم الأول (4) ذكر المؤلفين من
الصحابة، وذكر ما ألفوا، بتفصيل واف.
فعن عبد الله بن عمر، قال: كان عند رسول الله أناس أصحابه



(1) القرآن الكريم، سورة الأعراف (7) الآيتان (157 و 158).
(2) لاحظ تفسير القرطبي (13 / 1 - 353) وكتاب (محمد وعلي وبنوه الأوصياء)
للشيخ العسكري، ففيه بحث مشبع عن ذلك.
(3) لاحظ (ص 29) من هذه الدراسة.
49
وأنا معهم، وأنا أصغر القوم - فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار.
فلما خرج القوم، قلت لهم: كيف تحدثون عن رسول الله، وقد
سمعتم ما قال، وأنتم تنهمكون في الحديث عن رسول الله؟
قال: فضحكوا، فقالوا: يا ابننا، إن كل ما سمعنا منه فهو
عندنا في كتاب (1).
فكانوا يكتبون الحديث من دون تحرج، ولولا معرفتهم إباحته
لم يكونوا يفعلون ذلك، مع أن مما لا ريب فيه أن جميع تلك المحاولات،
كانت بمرأى من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومسمع، بل كان
بعضها بأمر مباشر منه وتوجيه، فسكوته عليها، وعدم منعه عنها، يدل على
رضاه بعملهم.
وهذا ما يسميه علماء الأصول السنة التقريرية.
2 - السنة الفعلية:
لقد واجه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم موضوع الكتابة،
بشكل إيجابي منذ بداية الإسلام، فقام بأعمال تدل بوضوح على رغبته
الأكيدة في تعميمها، وقد تناقل أهل العلم موقف عديدة له نذكر منها:
1 - أنه صلى الله عليه وآله وسلم أدخل الكتابة في قضية سياسية
عسكرية، حيث جعل فداء الأسرى من المشركين، من كان يعرف منهم
الكتابة والقراءة، أن يعلم كل منهم عشرة من أولاد المسلمين، فيكون



(1) الكامل لابن عدي (1 / 36) ورواه في تقييد العلم (ص 98) عن (عبد الله بن عمرو).
50
فداؤه ذلك (1).
روى الماوردي عن عكرمة أنه قال: بلغ فداء أهل بدر أربعة آلاف،
حتى إن الرجل ليفادى على أنه يعلم الخط.
قال الماوردي: لما هو مستقر في نفوسهم من عظم خطره، وجلالة
قدره، وظهور نفعه وأثره (2).
2 - وأمر صلى الله عليه وآله وسلم بعض صحابته بتعليم الخط في
المدينة، ومنهم: عبد الله بن سعيد بن العاص، وكان كاتبا محسنا (3).
3 - وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض الصحابة بكتابة
الأحاديث الشريفة المسموعة منه، أو سائر أخبار المسلمين وحوادث
عصر النبوة، وخاصة الأحكام الشرعية والأقضية الصادرة منه صلى الله
عليه وآله وسلم.
4 - وكذلك أملى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على بعض
أصحابه ما كتبوه، من أحاديثه وأقواله.
ويمكن أن يعتبر هذا النواة الأولى لكتابة الحديث.
ودلالة هذه السنة على جواز التدوين، وإباحته منذ البداية، أقوى
من غيرها:



(1) طبقات ابن سعد (2 / 22) وفي طبعة ليدن (2 ق 1 ص 14) وسنذكره فيما
يلي من هذه الدراسة.
(2) أدب الدنيا والدين (ص 68).
(3) الإستيعاب، بهامش الإصابة (ج 2 ص 374).
51
1 - لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو القائم بها، وقد تمت
على يده وتحت إشرافه المباشر.
وهذا أوضح دلالة مما تم كتابته في عصره، وسكوته عليه، وتقريره له.
2 - أن السنة الفعلية، أقوى دلالة من القولية، لعدم قبولها للتأويل
أو التفسير المختلف فيه.
وقد تحققت في الأعمال التالية:
1 - صحيفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي كانت عند علي
عليه السلام، والمعروفة عند العامة بصحيفة علي عليه السلام.
تناقل العامة ذكر صحيفة بنص محدود، نسبوها إلى الإمام علي
عليه السلام (1). قالوا عنها:
خبر صحيفة علي عليه السلام مشهور (2).
وهي صحيفة صغيرة تشتمل على العقل - مقادير الديات - وعلى
أحكام فكاك الأسير (3).
وقد وقفنا على روايات عديدة ذكرت نبأ هذه الصحيفة، من
مصادر العامة:
1 - فقد أخرج البخاري، وغيره، عن أبي جحيفة، قال:



(1) أقرأ عن الصحيفة في دلائل التوثيق المبكر (ص 420 - 423).
(2) السنة قبل التدوين، لمحمد عجاج الخطيب (ص 317 و 345).
(3) منهج النقد، للدكتور عتر (ص 46).
52
قلت لعلي عليه السلام: هل عندكم كتاب؟
قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل، أو ما في هذه.
قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟
قال: العقل، وفكاك الأسر، وأن لا يقتل مسلم بكافر (1).
2 - وروى أبو حسان الأعرج: أن عليا كان يأمر بالأمر، فيقال:
قد فعلنا كذا وكذا، فيقول: صدق الله ورسوله.
فقيل له: أشئ عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
قال: فقال: ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا
خاصة دون الناس، إلا شيئا سمعته منه في صحيفة في قراب سيفي.
قال: فلما نزل به حتى أخرج الصحيفة، فإذا فيها: من أحدث
حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه
صرف ولا عدل.
وإذا فيها: إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم مكة، وإني أحرم
المدينة ما بين حرتيها وحماها، لا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها،
ولا تلتقط لقطتها، إلا لمن أشاد بها - يعني منشدا - ولا يقطع شجرها، إلا
أن يعلف رجل بعيرا، ولا يحمل فيها سلاح لقتال.
وإذا فيها: المؤمنون يكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم



(1) صحيح البخاري باب كتابة العلم، من كتاب العلم (1 / 38) كتاب الديات، باب الدية
على العاقلة (9 / 13) وأسنده المحاملي في أماليه (ص 182 رقم 155) وسنن ابن ماجة (2 / 887 ح 2658) وجامع بيان العلم (1 / 71).
53
يد على من سواهم، ألا، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده (1).
3 - وعن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبيه، قال: خطبنا علي
عليه السلام، فقال: من زعم أن عندنا شيئا نقرؤه، ليس في كتاب
الله تعالى وهذه الصحيفة - قال: صحيفة معلقة في سيفه، فيها: أسنان
الإبل، وشئ من الجراحات - فقد كذب.
وفيها: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: المدينة حرم، ما
بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثا، أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله
والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا، وذمة
المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله
والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا (2).
4 - روى الخطيب بسنده، عن عبيد بن عدي بن الخيار - أحد بني



(1) دلائل النبو ة للبيهقي (7 / 228) وأخرجه أبو داود، في المناسك من سننه (2 / 216
ح 4 - 2035).
وانظر: مناقب الشافعي، للبيهقي (1 / 4 - 195) وأخرجه عن السنن الكبرى
للبيهقي (8 / 30) وسنن الدارقطني (ص 343) ونصب الراية للزيلعي (4 / 330).
(2) دلائل النبو ة للبيهقي (7 / 227 - 228) وقال: رواه البخاري ومسلم، وخرجه المعلق عن
البخاري في 58 باب ذمة المسلمين (4 / 122) ط بولاق، وباب إثم من عاهد ثم غدر
(4 / 124) وأحمد في المسند (1 / 81) وأبو داود في المناسك (2 / 216) وانظر تقييد
العلم (ص 8 - 89) وخرجه المعلق بقوله: ما يوافقه في جامع بيان العلم (1 / 71)
وإرشاد الساري (1 / 166) وعمدة القاري (1 / 561) وفتح الباري (1 / 182)
و (7 / 83) وصحيح مسلم، كتاب الحج، باب فضل المدينة (2 / 995) ومسند أحمد
(ط شاكر) (2 / 45)
رقم 615.
54
قال: بلغني حديث عن علي عليه السلام، خفت
إن مات ألا أجده
عند غيره، فرحلت، حتى قدمت العراق، فسألته
عن الحديث، فحدثني وأخذ علي عهدا ألا أخبر به، ولوددت لو لم يفعل،
فأحدثكموه.
فلما كان ذات يوم، جاء حتى صعد المنبر، في إزار ورداء،
متوشحا قرنا، فجاء الأشعث بن قيس حتى أخذ بإحدى عضادتي المنبر.
ثم قال علي عليه السلام: ما بال أقوام يكذبون علينا،
يزعمون أن عندنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما ليس عند
غيرنا؟! ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان عاما، ولم يكن
خاصا، وما عندي عنه ما ليس عند المسلمين إلا شئ في قرني هذا.
فأخرج منه صحيفة، فإذا فيها: من أحدث حدثا، أو آوى محدثا
فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل.
فقال له الأشعث بن قيس: دعها، يا رجل، فإنها عليك، لا لك!
فقال عليه السلام: قبحك الله، ما يدريك ما علي، لا لي؟؟
أضحت هزالة راعي الضأن تهزأ بي * ماذا يريبك مني راعي الضأن (1).
5 - وعن طارق، قال رأيت عليا عليه السلام على المنبر، وهو



(1) الرحلة إلى طلب الحديث (ص 1 - 132) رقم (45) وأخرج مختصره أحمد في
مسنده (1 / 122) وفي طبعة شاكر (2 / 198) برقم (959) ولاحظ شرح نهج
البلاغة لابن أبي الحديد (4 / 75) وصدر البيت عنده:
أصبحت هزءا لراعي الضأن أتبعه.
55
يقول: ما عندنا كتاب نقرؤه عليكم، إلا كتاب الله عز وجل، وهذه
الصحيفة.
وصحيفة معلقة في سيف عليه حلقة حديد، وبكراته حديد، فيها
فرائض الصدقة، قد أخذها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (1).
وورد نبأ هذه الصحيفة في مؤلفات أخرى عامة (2).
وبالرغم من نسبتهم الصحيفة إلى الإمام علي عليه السلام، إلا أن
الرواية الأخيرة تصرح بأن الإمام أخذ الصحيفة عن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، وهذا المعنى هو ظاهر الرواية الرابعة أيضا.
وكلمة (عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) وإن كانت
تحتمل الرواية عنه، لا أخذ الصحيفة عنه صلى الله عليه وآله وسلم،
كما هو ظاهر الروايتين الأوليين.
إلا أن النصوص المتضمنة لذكر الصحيفة هذه، والمنقولة بطريق
أئمة أهل البيت عليهم السلام تصرح بأن تلك الصحيفة كانت عند
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي ذؤابة سيفه، وإليك تلك
النصوص (3):
1 - عن أبي جعفر، محمد بن علي، الباقر عليه السلام، قال:



(1) تقييد العلم (ص 89) وقال المعلق: قريب منه في (ذم الكلام) للهروي.
(2) أنظر إضافة إلى المصادر السابقة: مسند أحمد (1 / 100 و 102) والأدب المفرد للبخاري
(ص 129) وفتح الباري (1 / 183).
(3) إقرأ عن الصحيفة مرآة الكتب (1 / 8) ومعرفة النسخ (ص 206 - 208) وقد عدد فيه رواته.
56
وجد في قائم سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صحيفة فيها
مكتوب: ملعون من سرق تخوم الأرض، ملعون من تولى غير مواليه،
أو قال: ملعون من جحد نعمة من أنعم عليه (1).
2 - وعن أبي عبد الله، جعفر بن محمد، الصادق عليه السلام،
قال: وجد في ذؤابة (2) سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
صحيفة، فإذا فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، إن أعتى الناس على الله
عز وجل، يوم القيامة من قتل غير قاتله، والضارب غير ضاربه، ومن
تولى غير مواليه (3) فهو كافر بما أنزل الله على محمد، ومن أحدث حدثا
أو آوى محدثا لم يقبل الله عز وجل منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا (4).
3 - وعن أيوب بن عطية الحذاء قال: سمعت أبا عبد الله عليه
السلام يقول: إن عليا عليه السلام وجد كتابا في قراب سيف رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، مثل الإصبع، فيه: إن أعتى الناس....
وأورد مثل ما مضى، إلا أنه زاد فيه: ولا يحل لمسلم أن يشفع في
حد (5).
4 - وروى الدولابي بسنده عن الإمام الباقر عن أبيه عن جده قال:



(1) جامع بيان العلم، للقرطبي (1 / 71).
(2) في الحديث (1) من الكافي: في قائم سيف... بدل: ذؤابة.
(3) في الحديث (1) من الكافي، ومن ادعى لغير أبيه... بدل هذه الجملة.
(4) الكافي للكليني، كتاب الديات، باب آخر (7 / 274) الحديث (1) و (4)،
وانظر صحيفة الإمام الرضا عليه السلام، هامش الحديث (139).
(5) المحاسن، للبرقي، كتاب القرائن (1 / 18 ح 49) باب وصايا النبي صلى الله عليه
وآله وسلم.
57
وجدت في قائم سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صحيفة
مربوطة: أشد الناس عذابا القاتل غير قاتله، والضارب غير ضاربه، ومن
جحد نعمة مواليه فقد برئ مما أنزل الله عز وجل (1).
وهذه النصوص تدل على أن الصحيفة المحتوية على المطالب
المذكورة إنما كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي سيفه.
ويدل النص التالي على أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ورث
هذه الصحيفة لعلي عليه السلام:
4 - في مسند الإمام أبي الحسن، علي بن موسى الرضا عليه
السلام بسنده عن آبائه، عن علي عليه السلام، قال: ورثت من رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم كتابين: كتاب الله عز وجل، وكتابا في
قراب سيفي.
فقيل: يا أمير المؤمنين، وما الكتاب الذي في قراب سيفك؟
قال: من قتل غير قاتله، أو ضرب غير ضاربه، فعليه لعنة الله (2).
5 - عن أبي عبد الله، الصادق عليه السلام: أنه كان في ذؤابة
سيف علي عليه السلام صحيفة، وأن فيها الأحرف التي يفتح كل حرف
ألف حرف... فما خرج منها إلى الناس حرفان إلى الساعة (3).



(1) الذرية الطاهرة (ص 126 ح 146) في مسند الحسين عليه السلام.
(2) صحيفة الإمام الرضا عليه السلام، الحديث (139) وانظر عيون أخبار الرضا عليه السلام،
للصدوق (2 / 40) ح 122.
(3) الإختصاص، للشيخ المفيد (ص 284) وبحار الأنوار، للشيخ المجلسي (7 / 288)
ط الحجر.
58
ويصرح الدكتور أبو شهبة بأن الصحيفة كانت عند رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، فأعطاها لعلي عليه السلام خاصة (1).
ولعل من هذه الصحيفة ما جاء ذكره عند ابن حزم في الأحكام من
أن عثمان حمل إليه محمد بن علي بن أبي طالب من عند أبيه عليه
السلام كتاب حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الزكاة!
فقال عثمان: أغنها عنا! فرجع إلى أبيه فقال عليه السلام: ضع الصحيفة
حيث وجدتها (2).
ونقل آخرون: أن هذه الصحيفة كانت موجودة عند أبي بكر،
أيضا (3).
وقال ابن حجر بصدد هذه الصحيفة: والجمع بين هذه الأحاديث
أن الصحيفة كانت واحدة، وكان جميع ذلك مكتوبا فيها، ونقل كل
واحد من الرواة عنه ما حفظه (4).
وقد جمع أنباء هذه الصحيفة، من مصادرها عند العامة - فقط! -



(1) صحيفة علي بن أبي طالب عليه السلام (ص 41).
(2) الأحكام (1 / 240 و 253) ونقله في توجيه النظر (ص 16) وفي دلائل
التوثيق (ص 423) عن صحيح البخاري (2 / 277) كتاب فرض الخمس.
(3) أنظر: فتح الباري (3 / 318) وصحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم
(2 / 146) وانظر السنن الكبرى، للبيهقي (4 / 88) وسنن أبي داود (2 / 97) وسنن
النسائي (5 / 18 - 23) والفقيه والمتفقه، للخطيب (1 / 120 و 135) وانظر: السنة
قبل التدوين (ص 345).
(4) فتح الباري (1 / 183).
59
ونسق فصولها، وجمع شتات متفرقاتها الدكتور رفعت فوزي عبد
المطلب، وطبع باسم صحيفة علي بن أبي طالب عليه السلام عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
والمهم ذكره أن وجود هذه الصحيفة وأخبارها دليل حاسم على
جواز كتابة العلم وخاصة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم، وأن ذلك قد تم في عهده، وبعلم وبإشراف تام منه، بل كان هو
صلى الله عليه وآله وسلم يحافظ على هذه الكتابة في ذؤابة سيفه.
قال الدكتور رفعت: قد روى البخاري حديثا من أحاديث
الصحيفة في كتاب العلم، وترجم له بباب كتابة العلم، دلالة على
جواز كتابة الحديث، ردا على من كرهوا ذلك، وفيه دلالة - كذلك -
على أن الحديث قد كتب - فعلا - بمرأى ومسمع من رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم (1).
ولا بد أن تكون هذه الصحيفة، غير كتاب علي عليه السلام،
الذي سنذكره بعد هذا، فإن هذه الصحيفة مختصرة، ومقتصرة على
الجمل المذكورة، بينما ذلك الكتاب واسع ومفصل جدا، إلا أن يكون
هذا جزءا من ذاك!
واعترف بعض العامة بأن هناك خبر صحيفة أخرى عند علي عليه
السلام غير تلك الصحيفة (2).



(1) صحيفة علي بن أبي طالب عليه السلام (ص 41).
(2) أنظر: رد الدارمي على بشر المريسي (ص 130) وأصول الحديث للخطيب محمد
عجاج (ص 190) ولاحظ توجيه النظر للجزائري (ص 16) عن الأحكام لابن حزم.
60
وقد تبين من مجموع حديثنا عن هذه الصحيفة بطلان ما ذكره
بعضهم من: أننا لا نطمئن إلى ما جاء فيها من روايات مهما كان
رواتها... قال: ومرد شكنا إلى أن عليا عليه السلام إذا كان قد أراد أن
يكتب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يراه نافعا للدين
والمسلمين، فلا تكفيه مثل هذه الصحيفة التي كان يضعها - كما
يقولون - في قراب سيفه، وإنما يكتب آلاف الأحاديث، في جميع
ما يهم المسلمين، وهو صادق في كل ما يكتب (1).
فإن الصحيفة قد ورد نبؤها من طرق الشيعة والسنة، وفي أمهات
كتبهم، بما لا يمكن إنكاره.
مع أنه لم يرد في شئ من النصوص أن الإمام عليه السلام قد
كتب تلك الصحيفة بنفسه، وإنما بعض القرائن تدل على أنها كانت
لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورثها الإمام (2).
والإمام قد كتب كتابا واسعا سيأتي ذكره بعنوان (كتاب علي)
في ما يلي.



(1) أضواء على السنة المحمدية، لأبي رية (ص 96).
(2) وفي دلائل التوثيق المبكر (ص 422): ومن المحتمل - كما يشير الدكتور حميد الله - أن
هذه الوثائق تنتمي أساسا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، وبعد وفاته أصبحت
ملكا للإمام علي عليه السلام. نقلا عن صحيفة همام بن منبه (30 - 31).
ونقل عن المقريزي في إمتاع الأسماع (1 / 107) أن الإمام عليه السلام أكثر الأشخاص
احتمالا أن تكون لديه الوثائق التي [كانت] في منزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن
ثم احتمل أن تكون هذه الصحيفة هي (دستور المدينة) الذي سيأتي الحديث عنه في
هامش الصفحات التالية.
61
2 - كتاب علي عليه السلام:
انتشر نبأ هذا الكتاب انتشارا واسعا، وأصبح مشهورا بين المسلمين
وأجمع أهل الحديث - خاصة - على وجوده، فتناقل خبره علماء الشيعة،
وغيرهم.
لكن الأئمة الأطهار من أهل البيت عليهم السلام - وهم أدرى بما
في البيت - أفصحوا عن سعة هذا الكتاب، وكبر حجمه، واحتوائه على
علم كثير، فقالوا: إنها صحيفة طولها سبعون ذراعا، وأن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم قد أملاها على الإمام علي عليه السلام، فكتبها
الإمام بخطه وأنه أول كتاب جمع فيه العلم، على عهد رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، وأن الأئمة الاثني عشر من ذريته عليهم السلام
يتوارثون ذلك الكتاب (1) وقد وصفوه بكونه: كتابا مدروجا عظيما (2).
واعترف العامة بأهميته وسعته:
فقال بعضهم - محتملا أن تكون هي الصحيفة التي أمر رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الأولى للهجرة، بكتابتها -: فكانت
أشبه شئ بدستور الدولة الناشئة - آنذاك - في المدينة، وعنوانها: " هذا



(1) أنظر عن هذا الكتاب: الذريعة إلى تصانيف الشيعة، للطهراني (2 / 306) بعنوان
أمالي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأعيان الشيعة، للعاملي (ج 1 ق 1 ص
330 - 338) و (ص 350 - 352).
(2) رجال النجاشي (ص 360) رقم الترجمة (966) وانظر: الفوائد الطوسية للحر
العاملي (ص 243).
62
كتاب محمد النبي، رسول الله، بين المؤمنين والمسلمين من قريش، وأهل
يثرب ومن تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم: أنهم أمة واحدة، من دون
الناس....
وقد بلغ من أمرها أنها أصبحت تقرن - وحدها - بكتاب الله،
لتواترها وكثرة ما فيها من أحكام الإسلام، وكلياته الكبرى (1).
وقال آخر: إنه جمع فيها عدة أحكام (2).
وقال آخر: إن هذه الصحيفة فيها أمور يرة؟، وموضوعات
متعددة (3).
والأئمة الأطهار عليهم السلام الذين ورثوا هذا الكتاب عن آبائهم،
وكان موجودا عندهم، يرجعون إليه، أفصحوا عنه بشكل أدق، في ما
روي عنهم من نصوص حول ذلك، وإليك رواياتهم (4):



(1) علوم الحديث لصبحي الصالح (ص 30) والسنة قبل التدوين (ص 344) وانظر أصول
الحديث للعجاج (ص 188 - 189) ودلائل التوثيق المبكر (ص 383 - 384) بعنوان
(دستور المدينة) عن صحيفة همام (ص 15) وسيرة ابن هشام (341) والأموال
لأبي عبيد (202) وجمهرة رسائل العرب (1 / 25) وإشارات عنه في طبقات ابن سعد
(1 / 2 / 72) و (2 / 1 / 19 و 23) وتقييد العلم (ص 72) ومسند أحمد (1 / 79 و 119
و 122 و 271) وغيرها، وصحيح البخاري (2 / 274) و (4 / 428) وصحيح مسلم
(2 / 702) وسنن أبي داود (4 / 252) رقم (453) والترمذي (1 / 180)
والنسائي
(8 / 23) وابن ماجة (2 / 145) وانظر معرفة النسخ (ص 207).
(2) الأنوار الكاشفة، للمعلمي (ص 37).
(3) صحيفة علي بن أبي طالب عليه السلام (ص 41).
(4) ومن مصادرها: الإرشاد، للمفيد (ص 274) والأمالي، للطوسي (2 / 20).
63
1 - قال الإمام الحسن السبط عليه السلام: إن العلم فينا، ونحن
أهله، وهو عندنا
مجموع كله بحذافيره، وإنه لا يحدث شئ إلى يوم
القيامة حتى أرش الخدش إلا وهو عندنا مكتوب، بإملاء رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، وخط علي عليه السلام بيده (1).
2 - وروى عن الإمام الحسن السبط عليه السلام - أيضا - أنه سئل
عن رأي أبيه في الخيار - من مباحث البيوع والمعاملات -؟
فأمر عليه السلام بإحضار ربعة، وأخرج منها صحيفة صفراء تضم
آراء علي في ذلك (2).
وكان الكتاب عند الإمام السجاد علي بن الحسين زين العابدين
عليه السلام.
3 - عن عبد الرحمن بن الحجاج، وحفص بن البختري، وسلمة
بياع السابري، جميعا، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:
كان علي بن الحسين عليه السلام إذا أخذ كتاب علي عليه السلام
فنظر فيه قال: من يطيق هذا؟ (3).
والظاهر أن المراد بالصحف التي كانت عند السجاد عليه السلام،
والتي كان فيها ذكر عبادة علي عليه السلام هو نفس كتاب علي عليه



(1) الإحتجاج، للطبرسي (ص 155) وانظر بحار الأنوار (ج 44 / ص 100).
(2) العلل، لأحمد بن حنبل (1 / 104) وانظر تاريخ التراث العربي لسزكين (ج 1 مج
1 / 235) وقد فسر كلمة الخيار بأولى الفضل، وهو خطأ.
(3) الكافي، الروضة (8 / 163) رقم 172.
64
السلام، الذي كان ينظر فيه (1).
وكانت الصحيفة عند الإمام أبي جعفر، محمد الباقر عليه السلام:
4 - قال عذافر الصيرفي: كنت - مع الحكم بن عتيبة - عند أبي
جعفر عليه السلام فجعل يسأله، وكان أبو جعفر عليه السلام له
مكرما، فاختلفا في شئ! فقال أبو جعفر عليه السلام: يا بني
فأخرج كتاب علي.
فأخرج كتابا مدروجا عظيما، وفتحه، وجعل ينظر، حتى أخرج
المسألة فقال أبو جعفر عليه السلام: هذا خط علي عليه السلام، وإملاء
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأقبل على الحكم، وقال: يا أبا، اذهب أنت وسلمة وأبو
المقدام حيث شئتم - يمينا وشمالا - فوالله، لا تجدون العلم، أوثق منه
عند قوم كان ينزل عليهم جبرئيل عليه السلام (2).
5 - وسأل الحكم بن عتيبة الإمام الباقر عليه السلام، عن تقسيم
دية الأسنان؟
فأجابه الإمام، وقال: هكذا وجدناه في كتاب علي عليه
السلام (3).



(1) الإرشاد، للمفيد (ص 256) وشرح الأخبار للقاضي (13 / 128) من الأصل المخطوط.
ومناقب شهرآشوب (4 / 149).
(2) رجال النجاشي (ص 360) رقم (966).
(3) الكافي، للكليني (7 / 329) كتاب الديات، باب الخلقة... (ح 1).
65
6 - وعن زرارة بن أعين، قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن
الجد؟ وذكر الحديث - إلى أن قال -: فأقبل عليه السلام على ابنه جعفر
عليه السلام وقال له: أقرئ زرارة صحيفة الفرائض... فأخرج إلي
صحيفة مثل فخذ البعير... فلما ألقى إلي طرف الصحيفة إذا كتاب
غليظ، يعرف أنه من كتب الأولين، فنظرت فيها... فلما أصبحت،
لقيت أبا جعفر عليه السلام، فقال لي: أقرأت صحيفة الفرائض؟... فإن
الذي رأيت - والله يا زرارة - هو الحق، الذي رأيت إملاء رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، وخط علي عليه السلام بيده... وقد حدثني
أبي، عن جدي، أن أمير المؤمنين عليه السلام حدثه بذلك (1).
7 - وعن محمد بن مسلم، أن أبا جعفر عليه السلام أقرأه
صحيفة الفرائض التي أملاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخط
علي عليه السلام بيده (2).
وكان الكتاب عند الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق
عليه السلام:
8 - عن محمد بن مسلم، أن الصادق عليه السلام قال: إن في
كتاب علي عليه السلام: أن المدحة قبل المسألة (3).
9 - وعن حمران بن أعين، أنه عليه السلام قال: في كتاب علي



(1) الكافي، أيضا (7 / 94) كتاب المواريث، باب ميراث الولد مع الأبوين (ح 3).
(2) الكافي، أيضا (7 / 98) كتاب المواريث، باب ميراث الأبوين مع الزوج (ح 3).
(3) الكافي - أيضا - (2 / 351) كتاب الدعاء باب الثناء قبل الدعاء، ح (2) وفلاح السائل
ص 29.
66
عليه السلام - وذكر حكما عن صلاة الجمعة - (1).
10 - وعن زرارة بن أعين، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:
في كتاب علي عليه السلام أن الهر سبع، ولا بأس بسؤره (2).
11 - وعن سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:
في كتاب علي عليه السلام: أن نبيا من الأنبياء شكا إلى ربه
القضاء (3).
21 - وعن الحلبي، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: إن في
كتاب علي عليه السلام: أنه كان يضرب بالسوط، وبنصف السوط،
وببعضه، في الحدود (4).
31 - وعن أبي أيوب الخزاز، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال
: إن في كتاب علي عليه السلام: أن كل ذي رحم بمنزلة الرحم الذي
يجر به... (5)
41 - حدث أبو دعامة، قال: أتيت علي بن محمد بن علي بن
موسى [الإمام الهادي عليه السلام] عائدا في علته التي كانت وفاته
منها في هذه السنة، فلما هممت بالانصراف قال لي: يا أبا دعامة، قد
وجب حقك، أفلا أحدثك حديث تسر به؟



(1) تهذيب الأحكام للطوسي (3 / 28) ح 69.
(2) الكافي، للكليني (3 / 9) كتاب الطهارة، باب الوضوء من سؤر الدواب والسباع
الحديث (4).
(3) الكافي، للكليني (7 / 414) كتاب القضاء، باب أن القضاء بالبينات (ح 3 و 4).
(4) الكافي - أيضا - (7 / 176) كتاب الحدود، باب التحديد (ح 31).
(5) الكافي - أيضا - (7 / 77) كتاب المواريث، باب أن الميراث لمن سبق... (ح 1).
67
فقلت له: ما أحوجني إلى ذلك يا بن رسول الله!
قال: حدثني محمد بن علي، قال حدثني أبي، علي بن موسى،
قال: حدثني أبي، موسى بن جعفر، قال: حدثني أبي، جعفر بن محمد،
قال: حدثني أبي، محمد بن علي، قال: حدثني أبي، علي بن الحسين،
قال: حدثني أبي، الحسين بن علي، قال: حدثني أبي علي بن أبي طالب
عليهم السلام، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اكتب يا علي.
فقلت: ما أكتب؟.
قال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، الإيمان ما وقرته القلوب،
وصدقته الأعمال، والإسلام ما جرى به اللسان، وحلت به المناكح.
قال أبو دعامة: فقلت: يا بن رسول الله، ما أدري - والله - أيهما
أحسن؟ الحديث أم الإسناد؟
فقال: إنها لصحيفة بخط علي بن أبي طالب، بإملاء رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، نتوارثها صاغرا عن كابر (1).
وقد نقل عنه بعنوان (كتاب علي عليه السلام) أحاديث مختلفة في
الأبواب التالية:
باب حرمة الطيب على المحرم الميت، كالمحرم الحي (2).



(1) مروج الذهب، للمسعودي (5 / 2 - 83) رقم (3079).
(2) أنظر الكافي (4 / 368) كتاب الحج، باب المحرم يموت، ح 3، وتهذيب الأحكام
(1 / 329 و 330) ح (963 و 966) و (5 / 383) ح (1337).
68
وباب أن الوتر واجب (1).
وباب أن الله لا يعذب على كثرة العبادة ولكن يزيده خيرا (2).
وباب القبلة (3).
ومواضيع أخرى أبواب الفقه (4).
وروى الصدوق في كتاب الفقيه بابا كبيرا بعنوان (ذكر جمل من
مناهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم) أورد فيه رواية واحدة بسنده عن
شعيب بن واقد، عن الحسين بن زيد، عن أبي عبد الله الصادق عليه
السلام، معنعنا عن آبائه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نهى
عن كذا وكذا.
وقال في آخر الحديث: قال شعيب بن واقد: سألت الحسين بن
زيد عن طول هذا الحديث؟ فقال: حدثني جعفر بن محمد بن علي



(1) تهذيب الأحكام (2 / 243) ح (962).
(2) بصائر الدرجات (ص 185) ح (11) أنظر الوسائل للحر العاملي، كتاب الصلاة،
باب عدد الفرائض، (32 ح 4).
(3) تهذيب الأحكام (2 / 23) ح (46) و (2 / 251) ح (995) والاستبصار للطوسي
(1 / 251) ح (900).
(4) أنظر ما روي بعنوان (كتاب علي عليه السلام) حول كثرة الصلاة والصيام في بصائر
الدرجات (ص 185 ح 11) ولاحظ الوسائل تسلسل (4630).
وعن القامة والذراع في باب أوقات الصلوات: تهذيب الأحكام (2 / 23) ح (64)
و (2 / 251) ح (995) ولاحظ الوسائل تسلسل (4754) وعن الصلاة في ما لا يؤكل
لحمه في الكافي (3 / 397) والوسائل تسلسل (5344).
69
ابن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام: أنه جمع هذا
الحديث من الكتاب الذي هو إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
وخط علي عليه السلام بيده (1).
كما أورده الصدوق في أماليه بسنده عن الإمام الصادق عليه
السلام، المجلس السادس والستين (2).
وأورد الصفار منقولات عن هذا الكتاب بطرق أهل البيت عليهم
السلام (3).
وموارد ذكر هذا الكتاب كثيرة جدا، نكتفي بهذا المقدار للإقناع.
وهكذا تؤكد هذه الروايات على سعة أطراف هذا الكتاب،
باحتوائه على مختلف المواضيع الفقهية من الصلاة، والدعاء، والبيوع،
والحدود والديات، والقضاء، والشهادات، والفرائض والإرث.
وكذلك احتواؤه على المواضيع الأخلاقية، والعقائدية، وغيرها.
كما تدل على ضخامة حجمه، حيث عبر عنه بكونه مدروجا
عظيما، ومثل فخذ البعير، وكتاب غليظ (4) أو طوله سبعون ذراعا (5).
وقد عبر عنها الشهيد زيد بن علي عليه السلام بكتب علي



(1) من لا يحضره الفقيه (4 / 2 - 11) الباب (1).
(2) أمالي الصدوق (ص 344) وانظر الذريعة، للطهراني (2 / 307).
(3) بصائر الدرجات، للصفار (ص 145 و 145 و 153 و 165).
(4) ويمكن أن يراد من لفظ (الكتاب) هنا (الخط) فلاحظ.
(5) أعيان الشيعة (1 ق 1 / 330 فما بعدها).
70
صلوات الله عليه، وأنها كانت عند الصادق عليه السلام (1).
وهذا التعبير يدل على ضخامة ما كان الإمام علي عليه السلام
قد كتبه.
وكل ذلك يقتضي - بوضوح - بطلان القول بأنها صحيفة صغيرة أو
مجرد ورقة واحدة!
فالتعبير عنها بالصحيفة لا يعني الورقة مطلقا، لأن الصحيفة - في
اللغة - هي: الكتاب (2).
ووجدنا إطلاق الرواة والمؤلفين أسماء عديدة على هذا الكتاب،
وهي: الصحيفة وكتاب علي عليه السلام والجفر
والجامعة (3).



(1) رجال الكشي ترجمة سورة بن كليب رقم (706) ص (376).
(2) لسان العرب (كتب) وانظر معرفة النسخ (ص 22).
(3) لاحظ الإرشاد، للمفيد (ص 274) والذريعة (5 / 118) وأعيان الشيعة (1 ق 1
ص 330) واقرأ عنه في مرآة الكتب للشهيد التبريزي (1 / 3 - 6).
وقد جاء ذكر (الجفر والجامعة) عند العامة كثيرا:
قال الشريف الجرجاني: الجفر والجامعة: جلد كتب فيه علي عليه السلام ما أملاه عليه
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل: هما كتابان.
وذكره ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (ص 70 - 71) وابن خلدون، قالا: إن هارون
بن سعد العجلي - رأس الزيدية - نسبه إلى الإمام الصادق، انظر الذريعة (5 / 118 - 119).
وقد عنونوا لما أسموه بعلم الجفر، وقالوا: هو عبارة عن العلم الإجمالي بلوح
القضاء والقدر المحتوي على ما كان وما يكون كليا وجزئيا وقالوا: إنه علم توارثه أهل البيت
عليهم السلام ومن ينتمي إليهم ويأخذ عنهم من المشايخ الكاملين.
ونقل عن كمال الدين ابن طلحة الشافعي (ت 652) قوله: الجفر والجامعة كتابان
جليلان.
أحدهما ذكره الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وهو يخطب بالكوفة على المنبر.
والآخر: أسره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليه، وأمره بتدوينه.
وقال: لا يقف على حقيقة هذا الكتاب إلا المهدي المنتظر خروجه في آخر الزمان.
ونقل طاش كبري زاده وجوده عند الإمام الرضا عليه السلام.
لاحظ: مفتاح السعادة (2 / 550) وكشف الظنون (عمود 1 - 592).
وقد ألف جمع كتبا حول هذا العلم، إليك أسماؤها:
1 - الجفر الجامع والنور اللامع، للشيخ محمد بن طلحة، أبي سالم كمال الدين
الشافعي، النصيبي (ت 652 ه‍) ذكر فيه ما نقلناه سابقا، وقال: إن الأئمة من أولاد
جعفر الصادق عليه السلام يعرفون الجفر. كشف الظنون (عمود 592).
2 - الكواكب الدرية في الأصول الجفرية، للأديب عثمان بن علي العمري الموصلي،
قال البغدادي: قد حصل عندي بخط المؤلف. إيضاح المكنون (2 / 390 - 391).
3 - الدرة الناصعة في الجفر والجامعة، للشيخ محيي الدين ابن عربي.
كشف الظنون (6 / 738).
4 - الدرة الناصعة في كشف علوم الجفر والجامعة، لعبد الرحمن البسطامي.
كشف الظنون (2 / 744).
5 - الكشف الساطع في حل الجفر الجامع، لمحسن بن علي الحفناوي الدمشقي.
إيضاح المكنون (2 / 360).
6 - الجواهر الوفية في الدقائق الجفرية من قول الإمام الرضا عليه السلام، الذريعة
(5 / 285) عن مخطوطات الموصل.
71
وليس بعيدا أن تكون كلها أسماء لكتاب واحد.
ولعل إطلاق هذا الاسم الأخير باعتبار أنه يجمع كل شئ، كما
تدل عليه بعض النصوص المتقدمة.

72
ويسمى كتاب علي عليه السلام - أيضا - بأمالي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما سبق (1).
ولعل هذا الكتاب - أو قسما منه - هو ما جاء في أخبار إملاء
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أمير المؤمنين عليه السلام، في ما
رواه الخاصة والعامة، في الأحاديث التالية:
1 - عن أم سلمة زوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
قالت: دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأديم، وعلي بن
أبي طالب عليه السلام عنده، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم يملي، وعلي يكتب، حتى ملأ بطن الأديم وظهره وأكارعه (2).
2 - روى الشيخ أبو الحسن، علي بن الحسين بن موسى، ابن
بابويه القمي (ت 329 ه‍) بسنده، عن أم سلمة، قالت: أقعد رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام في بيته ثم دعا بجلد شاة،
فكتب فيه حتى أكارعه... في حديث طويل (3).
3 - وعن عائشة، قالت: دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
عليا بأديم ودواة، فأملى عليه، وكتب، حتى ملأ الأديم (4).
4 - وروى أبو الحسن ابن بابويه، بسنده عن الإمام الباقر عليه
السلام عن آبائه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين



(1) الذريعة (2 / 306).
(2) أدب الإملاء والاستملاء، للسمعاني (ص 12 - 13) والمحدث الفاضل (ص 601) رقم (868).
(3) الإمامة والتبصرة من الحيرة (ص 174) الحديث (28) وانظر بصائر الدرجات للصفار
(ص 163 و 168).
(4) محاسن الاصطلاح، للبلقيني (ص 300).
73
عليه السلام: اكتب ما أملي عليك.
فقال: يا نبي، وتخاف علي النسيان؟!
فقال: لست أخاف عليك النسيان، وقد دعوت الله لك أن
يحفظك ولا ينسيك، ولكن، اكتب لشركائك.
قال: قلت: ومن شركائي، يا نبي؟
قال: الأئمة من ولدك... إلى آخر الحديث (1).
وفي حديث أورده الطبري في أصحاب القائم عليه السلام، سأل فيه أبو بصير
الإمام الصادق عليه السلام: هل كان أمير المؤمنين يعلم أصحاب القائم،
كما كان يعلم عدتهم؟
قال أبو عبد الله: حدثني أبي، قال: والله، لقد كان يعرفهم
بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم رجلا فرجلا....
إلى أن قال أبو بصير: قلت: مكتوب؟
قال: فقال أبو عبد الله عليه السلام: مكتوب في كتاب، محفوظ
في القلب، مثبت في الذكر، لا ينسى.
قال قلت: جعلت فداك، أخبرني بعددهم، وبلدانهم،
ومواضعهم فذاك يقتضي (2) من أسمائهم.



(1) الإمامة والتبصرة من الحيرة (ص 183) الحديث (38) وبصائر الدرجات للصفار (ص
167) وقد أخرجه الصدوق في أماليه
(ص 327) وإكمال الدين (ص 206) وانظر
(ص 284 - 289) وانظر: الغيبة للنعماني (ص 75 - 81).
(7) كذا في المصدر، ولعله مصحف عن (يغننيي) فلاحظ.
74
قال: فقال: إذا كان يوم الجمعة، بعد الصلاة، فأتني.
قال: فلما كان يوم الجمعة، أتيته، فقال: يا أبا بصير، أتيتنا لما
سألتنا عنه؟
قلت: نعم، جعلت فداك.
قال: إنك لا تحفظ، فأين صاحبك الذي يكتب لك؟
فقلت: أظن شغله شاغل وكرهت أن أتأخر عن وقت حاجتي.
فقال لرجل في مجلسه: اكتب له: هذا إملاء رسول الله على أمير
المؤمنين وأودعه إياه من (تسمية أصحاب المهدي، وعدة من يوافيه من
المفقودين عن فرشهم (1) وقبائلهم، والسائرين في ليلهم ونهارهم إلى مكة،
وذلك عند استماع الصوت، في السنة التي يظهر فيها أمر الله عز وجل،
وهم النجباء والقضاة والحكام على الناس....
ثم بدأ الإمام بذكر البلدان وعدد من فيها من أصحاب الحجة القائم
المنتظر عليه السلام، في حديث طويل (2).
ولعل هذه (التسمية) جزء من كتاب علي عليه السلام الكبير (3).



(1) ورد في عدة أحاديث ذكر (الفقداء) وأنهم: قوم يفقدون من فرشهم ويصبحون بمكة،
في الغيبة، للنعماني (ص 313) وتفسير العياشي (1 / 67) و (المفقودين عن فرشهم) في إكمال
الدين (ص 654) و (المفتقدين) وأنهم ليفتقدون عن فرشهم ليلا فيصبحون بمكة، إكمال
الدين (ص 672).
(2) دلائل الإمامة (ص 307 - 308) ونقله السيد البحراني في (الحجة في ما نزل في القائم
الحجة) (ص 722 - 723) من المطبوع مع غاية المرام.
(3) لاحظ ما ذكرناه في مقدمة (تسمية من شهد مع علي عليه السلام حروبه) وقد نشر هذا
البحث منه بعنوان (التسميات طليعة المؤلفات...) في مجلة تراثنا الفصلية، العدد (15)
السنة (4).
75
ولنعد إلى ذكر كتاب علي عليه السلام:
ومن مجموع ما ذكرنا عن هذا الكتاب، يتبين أنه غير الصحيفة
التي تحدثنا عنها سابقا بعنوان (صحيفة رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم) التي كانت عند علي عليه السلام، فقد عرفنا أن تلك صحيفة
صغيرة كانت في ذؤابة السيف، وعرفنا أن هذا الكتاب كبير جدا.
وعبر بعض العامة عن تلك بصحيفة علي عليه السلام، ولم يذكر
عن هذا الكتاب شيئا إلا أن آخرين منهم اعترفوا بأن هناك خبر صحيفة أخرى
عن علي عليه السلام غير تلك الصحيفة، كما ذكرنا (1).
3 - كتاب فاطمة عليها السلام:
وقد كان عند الزهراء فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم كتاب عن أبيها، ورد ذكره عند العامة والخاصة.
ذكره من العامة: الخرائطي، عن مجاهد قال: دخل أبين كعب
على فاطمة رضي الله عنها ابنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأخرجت
إليه كربة فيها كتاب:
من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره (2).
والخطيب (3)



(1) لاحظ عند الهامش (2) في ما مضى (ص 60).
(2) مكارم الأخلاق، للخرائطي (ص 43) رقم (217).
(3) تقييد العلم (ص 99) وانظر دلائل التوثيق المبكر (ص 501).
76
وذكره من الخاصة أبو الحسن ابن بابويه القمي (ت 329 ه‍) بسنده
عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام، أنه قال: كنت أنظر في
كتاب فاطمة عليها السلام فليس ملك يملك، إلا وهو مكتوب باسمه
واسم أبيه (1).
وجاء ذكره في باب حساب زكاة النقدين، من الكافي، وأن الإمام
الصادق عليه السلام أخذ الجواب من كتاب فاطمة عليها السلام (2).
ويعرف هذا الكتاب باسم (مصحف فاطمة عليها السلام) (3).
وذكر أنه كان من إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخط
علي عليه السلام.
وقد فصل السيد الأمين العاملي الحديث عنه في مقدمة أعيان
الشيعة (4).



(1) الإمامة والتبصرة من الحيرة (ص 180) ح (43).
(2) الكافي الكليني، كتاب الزكاة (3 / 507) ح 2.
(3) أنظر الذريعة، للطهراني (21 / 126).
وقد استغل بعض المغرضين إطلاق اسم
(المصحف) على هذا الكتاب للتشهير بالمؤمنين الشيعة، بالنظر إلى شيوع إطلاق هذا
الاسم على القرآن الكريم في عرف المسلمين.
لكن ذلك التشهير وهذا الاستغلال ظلم على الشيعة، وإغراء بالجهل لسائر المسلمين، وتلاعب
بالعقول الساذجة، حيث أن اسم المصحف يطلق على كل كتاب، كما تطلق
عليه الصحيفة، وهناك كتاب أطلق الصحابة عليه اسم المصحف فيما قال الشيخ طاهر
الجزائري: لما توفي النبي عليه الصلاة والسلام بادر الصحابة إلى مع ما كتب في عهده في
موضع واحد، وسموا ذلك " المصحف ". توجيه النظر (ص 6) ولاحظ معرفة النسخ (ص 31).
(4) أعيان الشيعة (ج 1 ق 1 / 353 - 359) من الطبعة الثانية، وقد حذف من الطبعة
الحديثة، واقرأ عنه في مرآة الكتب (1 / 6).
77
4 - ما كتبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى عماله وغيرهم، في ما
يتعلق بالأمورية.
استدل بعضهم على جواز كتابة الحديث بما ورد عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم من كتبه تلك.
قال الدكتور عتر: هي كتب كثيرة، تشتمل على مهمات أحكام
الإسلام، وعقائده، وخطوطه العريضة، وبيان الأنصبة والمقادير الشرعية
للزكاة، والديات، والحدود، والمحرمات، وغير ذلك (1).
من ذلك:
كتابه إلى عمرو بن حزم الأنصاري، عامله على اليمن (2).
وكتابه إلى وائل بن حجر الحضرمي وقومه في حضرموت (3).
وكتاب في الزكاة، والديات، كان عند أبي بكر (4).
ونقول: الاستدلال بهذه الكتب، باعتبار أنه كان للرسول الأكرم
صلى الله عليه وآله وسلم إشراف تام على كتابتها، وإن لم يكن هو
المباشر للكتابة، لكن امتناعه عن المباشرة - لسبب - لا ينافي أن ينسب ذلك



(1) منهج النقد في علوم الحديث (ص 47).
(2) أخرجه عتر: عن البيهقي في دلائل النبوة مطولا، وذكره الخطيب في الفقيه والمتفقه
(1 / 120 و 135) وتنوير الحوالك، للسيوطي (1 / 7 - 159) والأموال، لأبي عبيد
(ص 357) واقرأ عنه تفصيلا في مرآة الكتب (1 / 7 - 8).
(3) طبقات ابن سعد (1 / 278 و 349 و 351).
(4) مرت مصادره (ص 59).
78
إلى فعله صلى الله عليه وآله وسلم، باعتبار تعلق إرادته بالفعل، وإشرافه
عليه، ووقوعه لديه، وتعلق غرضه به.
وهذا، كما يكتب كتاب الأمراء الرسائل والخطابات لمن يأمرهم بذلك
فإنها تنسب إلى الآمرين، دون الكاتبين، وإن كان هؤلاء هم
المباشرين.
مع وضوح اختلاف هذه السنة عن التقرير لما فعله الغير، وكذلك
عن الأمر بمطلق التدوين والكتابة، كما سيأتي فلا يكون إلا من السنة
العملية الفعلية، فلاحظ.
5 - وأخيرا:
وفي نهاية المطاف، والرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم
مسجى على فراش المرض، ينتظر الموت الحق، إذ طلب ممن حضر عنده
قرطاسا ودواة: ليكتب لهم كتابا لا يضلوا بعده، أبدا.
وكان طلبه جديا، ومهما، إذ علق عليه أمرا مهما وهو هداية الأمة، وعدم ضلالتهم إلى الأبد.
جاء ذلك في ما رواه البخاري وغيره - واللفظ له - عن ابن عباس، قال:
لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وجعه، قال: إئتوني بكتاب،
أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده.
قال عمر: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غلبه الوجع! وعندنا
كتاب الله حسبنا.

79
فاختلفوا، وكثر اللغط.
قال [أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم]: قوموا عني، ولا ينبغي عندي
التنازع.
فخرج ابن عباس، يقول: إن الرزيئة، كل الرزيئة، ما حال بين
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبين كتابه (1).
ويظهر من إيراد البخاري لهذا الحديث في كتاب العلم، في الباب
الذي ترجمه بباب كتابة العلم: أن الحديث - في نظر البخاري - يدل
على جواز كتابة الحديث، وإن لم تتحقق الكتابة من الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم.
وكذلك البيهقي أورده في باب (ما جاء في همه بأن
يكتب لأصحابه كتابا...) وفي نص ما رواه:



(1) أورده البخاري في صحيحه من رواية عبد الله بن العباس، في مواضع، وهي:
1 - كتاب العلم، باب كتابة العلم (1 / 39).
2 - كتاب الجهاد، باب هل يستشفع إلى أهل الذمة (4 / 85)
وباب إخراج اليهود من جزيرة العرب (4 / 120 - 121).
3 - كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم (6 / 11).
4 - كتاب المرضى، باب قول المريض: قوموا عني (7 / 156).
5 - كتاب الإعتصام، باب كراهية الخلاف.
أنظر: فهارس البخاري، لرضوان (ص 12) الحديث (54).
وانظر: شروح البخاري: إرشاد الساري (1 / 169) وفتح الباري (1 / 185) وعمدة
القاري (1 / 575).
وانظر: شرح النووي لصحيح مسلم (2 / 43) والملل والنحل للشهرستاني (1 / 21)
والمصنف لعبد الرزاق (5 / 438 و 439) ومسند أحمد (1 / 336) وبمعناه
(3 / 346).
80
فقال عمر: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد غلبه الوجع، وعندكم
القرآن، حسبنا كتاب الله.
وقال البيهقي: رواه البخاري في الصحيح، ورواه مسلم (1).
فإن إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجدية قد تعلقت بالكتابة،
كما يعلم ذلك من تعليله طلب الكتاب بأن الأمة لا تضل بعده، وهو
تعليل بأمر مهم ضروري، لا يتسامح فيه ولا يجوز لأحد التخلف عنه،
فضلا عن هادي الأمة ومنجيها من الضلالة، المبعوث رحمة للعالمين.
قال الشيخ عبد الغني عبد الخالق - وهو يتحدث عن تعريف السنة
بأنها: ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من فعل، أو قول،
أو تقرير - ما نصه:
ثم إن الفعل يشمل... الهم، فإنه من أفعال القلب، وهو صلى الله
عليه وآله وسلم لا يهم إلا بمشروع، لأنه لا يهم إلا بحق (2).
وقد أضاف ابن حجر (ما هم بفعله) إلى تعريف السنة، فقال:
هي ما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أقواله، وأفعاله،
وتقريره، وما هم بفعله (3).
وقال ابن حجر - في حديث ابن عباس هذا الذي نبحث عنه - ما
نصه: حديث ابن عباس الدال على أنه صلى الله عليه وآله وسلم هم أن



(1) دلائل النبوة، للبيهقي (7 / 181 و 183).
(2) حجية السنة (ص 75).
(3) فتح الباري (13 / 191).
81
يكتب لأمته كتابا يحصل معه الأمن من الاختلاف، وهو لا يهم
إلا بحق (1).
وقال الشيخ أبو زهو: فقد هم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن
يكتب لأصحابه كتابا حتى لا يختلفوا من بعده، والنبي صلى الله عليه
وآله وسلم لا يهم إلا بحق.
فهذا منه صلى الله عليه وآله وسلم نسخ للنهي السابق في حديث
أبي سعيد (2).
قال الدكتور رفعت: وهذا في حد ذاته دليل على إجازة الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم كتابة أحاديثه (3).
وأما عدم تحقق الكتابة من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فلم
يكن من أجل مرضه، ولا لحرمة الكتابة، وإنما كان من أجل قول عمر،
ومنعه للرسول عنها.
قال الدكتور رفعت: لم يكتب هذا الكتاب، لقول عمر (4).
فتكون هذه أول وأخطر عملية منع لكتابة الحديث، والممنوع فيها هو
الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، بالذات، أما المانع فهو الذي



(1) فتح الباري (1 / 187) وفي طبعة أخرى ص 150).
(2) الحديث والمحدثون (ص 124).
(3) صحيفة علي بن أبي طالب عليه السلام (ص 42).
(4) صحيفة علي بن أبي طالب عليه السلام (ص 42) ولاحظ النص والاجتهاد، لشرف
الدين (ص 146) المورد (14) والمراجعات، له (ص 258 - 264) المراجعتان: (86 و 87).
82
تزعم عملية المنع للحديث بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا أمر عجيب، وهو الذي أوجب فزع ابن عباس، فكان يئن
منه، وينعاه بقوله: إن الرزيئة، كل الرزيئة، ما حال بين رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، وبين كتابه؟!
لا يقال: إن إقدام النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا لم يكن إلا
لأمر ضروري ولازم، بل كان واجبا عليه، كما تقدم بيانه، لأنه كان بصدد
هداية الأمة ومنعها من الضلالة، ولا يعقل أن يكون أمر كهذا إلا واجبا.
فلو تم ذلك، لم يكن له صلى الله عليه وآله وسلم أن يعرض عن أدائه
لمجرد قول عمر، وغير عمر، بل كان يؤديه مهما كلف الثمن.
فإعراضه عن كتابة ما أراد يدل على عدم ضرورته، فلا يتم ما نحن
بصدده (1).
لأنا نقول:
أولا: إن الاستدلال بالحديث على جواز تدوين الحديث، غير مبتن
على ما ذكر، لما عرفت من أن مجرد همه للكتابة هو كاف للدلالة على
ذلك، لأن همه من السنة.
وثانيا: إن أمر ذلك الكتاب، كان على ما ذكر من الوجوب واللزوم،
كما دل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: إئتوني، الظاهر في
الوجوب، وكما بينا من أنه كان مرتبطا بأمر هداية الأمة، وهو لا يكون
إلا واجبا، لأنه من أهم أهداف رسالته صلى الله عليه وآله وسلم.



(1) أنظر فهرس الفهارس والأثبات للكتاني (ص 470 - 471).
83
إلا أن قول المانع: إن الرجل ليهجر، أو ما هو بمعناه من غلبة
الوجع، قد سد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم طريق إتمام ذلك
الواجب، وصده عن كتابة الكتاب، وحال بينه صلى الله عليه وآله وسلم
وبين كتابه.
فلو كان ينفذ طلبه ويكتب الكتاب، لم يكن لعمله بعد تلك
المزعومة أثر يذكر، لأن ما ينجزه المريض المتهم -! - لا وقع له عند الناس،
فلزمه صلى الله عليه وآله وسلم التراجع عن الكتابة، وعن أداء ذلك
الواجب، حفاظا على واجب أهم، وهو اتهام نبي الإسلام
بالهجر، فيصاب
بشئ على أيدي المخالفين لهذا الكتاب.
وقال بعضهم: إن طلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هذا
واضح في أنه أراد أن يكتب شيئا غير القرآن، وما كان سيكتبه هو من السنة،
وإن عدم كتابته، لمرضه (2) لا ينسخ أنه قد هم بها، وكان في آخر
أيام حياته عليه الصلاة والسلام، فيفهم من هذا إباحته عليه الصلاة
والسلام الكتابة في أوقات مختلفة، ولمواضع كثيرة، في مناسبات عدة،
خاصة وعامة (2).
وبالرغم من استدلال البخاري بهذا الحديث على جواز كتابة
العلم، وإيراده له في خمسة مواضع من كتابه الصحيح الجامع، بما لا
يبقى شك لدى محدثي العامة في صحته، نرى أن: أكثر المؤلفين - حول



(1) كلا، بل عدم الكتابة كان لقولهم ذلك الكلام الفظيع: إن الرجل ليهجر!!!
(2) السنة قبل التدوين (ص 306).
84
تدوين الحديث - يهملون ذكره والاستدلال به!
قال الدكتور يوسف العش - في تعليقه على كتاب (تقييد العلم)
للخطيب البغدادي -: ومن العجب! أن يكون سها عن بال الخطيب
الاستشهاد بالكتاب الذي أراد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يكتبه
حين وفاته، وخبره في صحيح البخاري... (1).
أقول: والأعجب من الدارسين الجدد، الباحثين في موضوع
تدوين الحديث، أنهم أغفلوا أمر هذا الحديث، مع أن دراساتهم تبتني
على التحقيق والاستيعاب، ومع أن تعليقة العش على (تقييد العلم)
للخطيب كانت - وبلا شك - أمام أعينهم، وفي متناول أيديهم، فلم
يذكروه سوى بعضهم في إشارات عابرة، أو في الهوامش (2).
3 - السنة القولية:
والمراد بها الأحاديث القولية، المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، والتي تدل على إباحته لكتابة الحديث خاصة، أو ترغيبه وحثه
على مطلق الكتابة، وكذلك ما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم في
ذكر الخط، والقلم، والدواة، والكتاب، من أدوات الكتابة، مما يدل
على رغبته التامة في ذلك، وهي كثيرة جدا، وتكفي للدلالة على جواز
كتابة الحديث بطريق أولى.



(1) تقييد العلم (ص 86) الهامش رقم (183).
(2) علوم الحديث، لصبحي الصالح (ص 23) الهامش (2) وانظر: السنة قبل التدوين
(ص 305) والحديث النبوي وروايته (ص 113) والسنة النبوية لمحمد أحمد (ص 28).
85
فإذا كان صلى الله عليه وآله وسلم مبيحا للكتابة، ومرغبا فيها،
فالحديث أولى بأن يكتب ويقيد.
والأحاديث المرفوعة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في
هذا المجال موصوفة بالكثرة من حيث الكمية:
قال القاضي عياض: قد روي كتابة العلم عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم في أحاديث كثيرة (1).
وأما من حيث المحتوى، فقد قسمناها إلى أنواع، كما يأتي:
1 - ما تضمن الأمر منه صلى الله عليه وآله وسلم بالكتابة أو التقييد
بلفظ: اكتبوا، وقيدوا، ومشتقاتهما، وما دل على الأمر بهما ولو
بالملازمة.
2 - ما ورد فيه الإذن بالكتابة أو التقييد، بقوله صلى الله عليه وآله
وسلم: نعم،
في جواب طلبهما.
3 - ما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم مما تضمن لفظ: الكتابة،
وتصاريفها، من غير صيغة الأمر، مثل: كتب، ويكتب، وغيرهما.
4 - ما تضمن ذكر أدوات الكتابة من: الكتاب، والورق، والقلم،
والحبر، والمداد، والخط.
وإليك هذه الأنواع تفصيلا:



(1) الإلماع في أصول الأسماع (ص 147).
86
1 - ما ورد بلفظ الأمر بالكتابة أو التقييد:
1 - عن علي عليه السلام، عن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم، قال: اكتبوا هذا العلم (1).
2 - عن رافع بن خديج، قال: مر علينا رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم يوما، ونحن نتحدث، فقال: ما تحدثون؟
فقلنا: ما سمعنا منك يا رسول الله.
قال: تحدثوا، وليتبوأ مقعده - من كذب علي - من جهنم.
ومضى لحاجته، وسكت القوم، فقال: ما شأنهم لا يتحدثون؟.
قالوا: الذي سمعناه منك، يا رسول الله!
قال: إني لم أرد ذلك، إنما أردت من تعمد ذلك، فتحدثنا.
قال: قلت: يا رسول الله، إنا نسمع منك أشياء، أفنكتبها؟!
قال: اكتبوا ولا حرج (2).
3 - وحديث كتاب أبي شاه الذي أمر رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم أن يكتب له، في ما رواه أبو هريرة، قال: لما فتح الله تعالى
على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم مكة، قام في الناس، فحمد الله،
وأثنى عليه، ثم قال: إن الله تبارك وتعالى حبس عن مكة الفيل



(1) كنز العمال (10 / 262) رقم (29389).
(2) تقييد العلم (ص 2 - 73) والكامل لابن عدي (1 / 36) ومحاسن الاصطلاح
(ص 300) عن الرامهرمزي في المحدث الفاصل (ص 369) رقم (331).
87
وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لم تحل لأحد كان قبلي، وإنما
أحلت ساعة من النهار، وإنها لن تحل لأحد بعدي، فلا ينفر صيدها،
ولا يختلى شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو
بخير النظرين: إما أن يفدي، وإما أن يقتل.
فقام أبو شاه - رجل من أهل اليمن - فقال: اكتبوا لي،
يا رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اكتبوا لأبي شاه (1).
وقد اتفقوا على صحة هذا الحديث، كما أذعنوا لدلالته على الجواز:
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: ليس يروى في كتابة الحديث
شئ أصح من هذا الحديث، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
اكتبوا لأبي شاه (2).
وقال ابن الصلاح: ومن صحيح حديث رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم الدال على جواز ذلك: حديث أبي شاه اليمني (3).



(1) تقييد العلم (ص 86) ومن مصادره: البخاري (1 / 40 - 41) الكتاب () الباب
(63) وشروحه: إرشاد الساري (1 / 168) وعمدة القاري (1 / 567) وفتح الباري
(1 / 184) وعن صحيح الترمذي (5 / 39) رقم (2667) ومعالم السنن للخطابي
(4 / 184) الفقيه والمتفقه للخطيب (1 / 91) وتيسير الوصول (3 / 176) وجامع
بيا العلم (1 / 70) والمحدث الفاصل (363) رقم (314) والاستيعاب (4 / 106)
وأسد الغابة (5 / 224) وانظر (2 / 384) وانظر منهج النقد (ص 48).
(2) مسند أحمد - ط شاكر - (12 / 235) وانظر (ص 232).
(3) مقدمة ابن الصلاح (ص 300).
88
4 - عن عبد الله بن عمرو، قال: قلنا: يا رسول الله، إنا نسمع
منك أشياء لا نحفظها، أفنكتبها؟.
قال: بلى، فاكتبوها (1).
5 - وعن عبد الله بن عمرو - أيضا - قال: كنت أكتب كل شئ
أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأريده، فنهتني
قريش، وقالوا: تكتب كل شئ تسمعه من رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم! ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشر يتكلم في الرضا
والغضب!؟.
قال: فأمسكت، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم.
فقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق، وأشار
بيده إلى فيه (2).
6 - وعن عبد الله بن عمرو - أيضا - عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، قال: قيدوا العلم بالكتاب (3).



(1) تقييد العلم (ص 74).
(2) المستدرك على الصحيحين (1 / 5 - 106) وتقييد العلم (ص 80 - 81) وانظر مسند
أحمد (2 / 162) رقم (7020) وجامع بيان العلم (1 / 71).
وبهذا اللفظ في مسند شمس الأخبار (1 / 4 - 75).
(3) تقييد العلم (ص 69) والمحدث الفاصل (ص 365) رقم (318) ومحاسن الاصطلاح
(ص 298 - 299) وتحف العقول (ص 36) ومختصر تاريخ دمشق لابن منظور
(18 / 246) وفيه: عبد الله بن عمر.
89
7 - وعن عبد الله بن عمرو - أيضا - قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قيدوا العلم.
قلت: يا رسول الله، وما تقييده؟!
قال: الكتاب (1).
ورواه الحاكم والشهيد، بلفظ: قال: كتابته (2).
وفي نص آخر: يعني كتابه (3).
أقول: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص سيأتي بألفاظ أخرى
النوع الثاني.
8 - عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال:
قيدوا العلم بالكتاب (4).
وروي هذا الحديث موقوفا على أنس.
9 - وروي عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قال: قيدوا العلم بالكتاب (5).



(1) تقييد العلم (ص 69) وجامع بيان العلم (1 / 73) وقد يرد منسوبا إلى عبد الله بن عمر،
وهو سهو، لاحظ: حلية الأولياء (1 / 321).
(2) مستدرك الحاكم (1 / 106) وبحار الأنوار (2 / 151) ح (35).
(3) تقييد العلم (ص 57).
(4) تقييد العلم (ص 70) والجامع لأخلاق الراوي (1 / 351) وقال البلقيني: أسنده الرامهرمزي في المحدث الفاصل (ص
386) رقم (327) محاسن الاصطلاح (ص 299) وأدب الدنيا والدين
(ص 66) وكنز العمال (10 / 249) رقم (29332).
(5) الكامل لابن عدي (2 / 792).
90
10 - وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: قيدوا
العلم بالكتابة (1).
ومن هذا الباب ما دل على الأمر بالكتابة بألفاظ أخرى:
11 - روى الترمذي، في صحيحه، كتاب العلم، باب (12)
الرخصة في كتابة العلم، بسنده، عن أبي هريرة، قال: كان رجل من
الأنصار يجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيسمع من النبي
صلى الله عليه وآله وسلم الحديث، فيعجبه، ولا يحفظه، فشكا إلى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، إني لأسمع
منك الحديث فيعجبني ولا أحفظه؟!.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: استعن بيمينك - وأشار
بيده إلى الخط - (2).
وفي بعض النصوص: استعن على حفظك بيمينك، وفسره
بقوله: يعني الكتاب (3).
وفي آخر: يعني: اكتب (4).
وفي آخر: عليك، يعني الكتاب (5).



(1) تاريخ أصبهان (2 / 228) وكشف الظنون (1 / 26) ونقل عن الطبراني.
(2) سنن الترمذي (5 / 39) رقم (2666) والكامل لابن عدي (1 / 36) وتقييد العلم
(ص 66 - 68) ومحاسن الاصطلاح (ص 301) والفتح الكبير للسيوطي (1 / 179)
وفيض القدير للمناوي (1 / 491) والعقد الفريد (2 / 419).
(3) الكامل لابن عدي (3 / 928) و (939).
(4) تقييد العلم (ص 65).
(5) تقييد العلم (ص 66).
91
وفي آخر: استعن بيمينك - وأومأ بيده - أي خط (1).
12 - وروى الماوردي: أن رجلا شكا إلى سيدنا رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم النسيان، فقال: استعمل يدك.
أي اكتب، حتى ترجع - إذا نسيت - إلى ما كتبت (2).
13 - وعن عبد الله بن عمرو، قال: يا رسول الله، إنا نسمع منك
أشياء نخشى أن ننساها، أفتأذن لنا أن نكتبها؟
قال: نعم، شبكوها بالكتب (3).
2 - ما فيه الإذن في الكتابة والتقييد بقوله: نعم عند طلبهما.
14 - حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قلت: يا
رسول الله، أقيد علم؟ قال: نعم (4).
وأضاف - في بعض نقوله -: قلت: وما تقييده؟ قال:
الكتاب (5).
ورواه البلقيني، قال: رواه ابن فارس في كتاب (مآخذ العلم) ثم
قال: لم يروه عن ابن جريج إلا عبد الله بن المؤمل (6).



(1) بحار الأنوار (2 / 152) الحديث (36) وصحيح الترمذي (5 / 39) رقم (2666)
وانظر الكامل لابن عدي (1 / 36)
(2) أدب الدنيا والدين (ص 66) ومحاسن الاصطلاح (ص 300).
(3) تقييد العلم (ص 82).
(4) تقييد العلم (ص 68).
(5) تقييد العلم (ص 68 و 69).
(6) محاسن الاصطلاح (ص 298).
92
15 - وعنه - أيضا - قال: قلت: يا رسول الله، أكتب ما أسمع
منك؟ قال: نعم.
قلت: في الرضا والغضب؟ قال: نعم، قال: فإني لا أقول إلا
حقا (1).
16 - وعنه - أيضا - قال: قلت: يا رسول الله، أسمع منك
أحاديث أخاف أن أنساها، فتأذن لي أن أكتبها؟ قال: نعم (2).
أقول: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في كتابة الحديث عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورد بألفاظ عديدة، ذكرنا منها
سابقا بالأرقام: (4 و 5 و 6 و 7 و 21) (3).
وقد اتفقوا على صحته، والتزموا بدلالته على جواز كتابة الحديث:
قال أحمد بن حنبل: قد روى غير واحد، عن عبد الله بن عمرو،
مثل ما قدمنا روايته... واشتهر ذلك (4).
وقال البلقيني: وحديث عبد الله بن عمرو صحيح، ولذلك خرجه



(1) تقييد العلم (ص 74) وبعدها بأسانيد، والكنى، للدولابي (1 / 144) وانظر عوالي
اللآلي (1 / 68) رقم (120).
(2) تقييد العلم (ص 76) وبعدها بطرق.
(3) وإليك مصادر الحديث:
بحار الأنوار (2 / 147) ح (18 و 19) وسنن الدارمي (1 / 103) ح (390) وسنن أبي
داود (3 / 318) ومسند أحمد ط شاكر (10 / 20) والإلماع للقاضي عياض (ص
146) وجامع بيان العلم لابن عبد البر (1 / 71) وفتح الباري (1 / 185).
(4) تقييد العلم (ص 79).
93
الحاكم في (مستدركه) (1) وله شواهد (2).
وقال المعافى بن زكريا: وفي هذا الخبر دلالة واضحة على أن من
الصواب ضبط العلم وتقييد الحكمة بالكتاب، ليرجع إليه الناسي فيذكر
ما نسيه، ويستدرك ما عزب عنه، وعلى فساد قول من ذهب إلى كراهية
ذلك (3).
وقد خرجه من علماء الشيعة ابن أبي جمهور الأحسائي،
والمجلسي (4).
وقال المحدث الجزائري: يدل على الأمر بالكتابة لجميع أحاديث
العلوم: أنه عليه السلام قاله وجميع سننه مما لا يخالف القرآن، فإن ما
خالف القرآن فليس منه صلى الله عليه وآله وسلم (5).
3 - ما ورد فيه لفظ (الكتابة) وتصاريفها غير الأمر بها
عموما، وكذا التقييد.
17 - قال صلى الله عليه وآله وسلم: من حق الولد على الوالد أن
يعلمه الكتابة، وأن يحسن اسمه، وأن يزوجه إذا بلغ.
رواه البزار وابن النجار (6).



(1) أنظر تخريج الحديث (5 و 7).
(2) محاسن الاصطلاح (ص 298).
(3) تقييد العلم (ص 80).
(4) عوالي اللآلي (1 / 68) هامش الحديث (119) وبحار الأنوار (2 / 147) ح (18).
ومن كتب الزيدية: مسند شمس الأخبار (1 / 4 - 75).
(5) عوالي اللآلي (1 / 68) ح 116.
(6) تاريخ الخط للكردي (ص 9) بواسطة نشأة وتطور الكتابة (83).
94
18 - عن أبي بكر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: من كتب عني علما، وكتب معه صلاة علي، لم يزل في أجر ما
قرئ ذلك الكتاب.
وروي بلفظ: من كتب علي علما... (1).
19 - روى الخوارزمي، مسندا، عن الصادق جعفر بن محمد،
مسندا عن آبائه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم:
إن الله تعالى جعل لأخي علي بن أبي طالب فضائل لا يحصي
عددها غيره.
فمن ذكر فضيلة من فضائله، مقرا بها، غفر الله له ما تقدم من ذنبه
وما تأخر.
ومن كتب فضيلة من فضائل علي بن أبي طالب لم تزل الملائكة
تستغفر له ما بقي لتلك الكتابة رسم،
ومن نظر إلى كتابة في فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها
بالنظر (2).



(1) شرف أصحاب الحديث (ص 35) ح (64) والجامع لأخلاق الراوي (1 / 420) والكامل لابن عدي (3 / 1100)
ومحاسن الاصطلاح (ص 307) عن (أنوار الآثار في فصل الصلاة على النبي المختار)
للتجيبي، والنص والاجتهاد (ص 146) المورد (14) وتاريخ الخلفاء للسيوطي
(ص 73) من روايات أبي بكر، الحديث التاسع والثمانون.
(2) مناقب علي بن أبي طالب، للخوارزمي (ص 2) وأمالي الصدوق (ص 119) ح (9)
المجلس (28).
95
20 - قال صلى الله عليه وآله وسلم: إ ذا كتبت فضع قلمك على
أذنك الأيسر فإنه أذكر لك رواه ابن عساكر (1).
21 - قال جابر بن عبد الله الأنصاري: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله: إذا كتب أحدكم كتابا فليتربه، فإنه أنجح للحاجة، والبركة
في التراب (2).
22 - أسند الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم
السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذا كتبتم
الحديث فاكتبوه بإسناده، فإن يك حقا كنتم شركاء في الأجر، وإن يك
باطلا كان وزره عليه (3).
23 - وعن عطاء بن يسار، قال: كتب رجل عند النبي صلى الله
عليه وآله وسلم، فقال له: كتبت؟ قال: نعم.
قال: عرضت؟ قال: لا.
قال: لم تكتب، حتى تعرض فيصح (4).
24 - الديلمي في الفرودس، عن علي عليه السلام: ضالة المؤمن



(1) تاريخ الخط للكردي (ص 9) بواسطة نشأة وتطور الكتابة (ص 83).
(2) أدب الإملاء للسمعاني (ص 174) وفي الكامل (2 / 505) بلفظ: إذا كتبت... فتربه...
والتراب مبارك، السراج المنير للعزيزي (1 / 165).
(3) أدب الإملاء والاستملاء (ص 4 - 5) وانظر ميزان الاعتدال للذهبي (4 / 98) ولسان الميزان
(6 / 22) ومحاسن الاصطلاح (ص 301).
(4) محاسن الاصطلاح (ص 310) وقال: ذكره السمعاني في كتاب الإملاء.
96
العلم، كلما قيد حديثا طلب إليه آخر (1).
25 - روى ابن عدي بسنده عن أنس، قال: قيل: يا رسول الله،
عمن يكتب العلم بعدك؟
قال: عن علي وسلمان (2).
4 - ما ورد فيه ذكر أدوات الكتابة من:
الكتاب، والورق، والقلم، والمداد، والحبر، والخط،
غير ما مر (3).
26 - عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
قال، من صلى علي في كتاب، لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام
في ذلك الكتاب (4).
27 - عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال:
تربوا الكتاب، فإن التراب مبارك (5).
28 - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه:



(1) الجامع الصغير (2 / 52) الطبعة الأولى ومسند شمس الأخبار (1 / 223) وخرجه السيد
الجلال في (كشف الأستار) بذيله: عن أبي نعيم والديلمي عن علي عليه السلام بلفظه.
(2) الكامل، لابن عدي (1 / 198) وتاريخ بغداد (4 / 158).
(3) أنظر الحديث (6 و 7 و 8 و 10 و 12 و 17 و 19 و 20).
(4) شرف أصحاب الحديث (ص 36) رقم (63) ومحاسن الاصطلاح (ص 307) عن
(أنوار الآثار).
(5) أدب الإملاء (ص 174) أنظر السراج المنير للعزيزي (1 / 165).
97
وآله وسلم:
إذا كتب أحدكم كتابا فليتربه، فإنه أنجح للحاجة (1).
29 - عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم، من أختان كتاب علم، فهو غلول يأتي بما غل يوم القيامة (2).
30 - عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
المؤمن إ ذا مات وتر ك ورقة واحدة عليها علم، تكون تلك الورقة يوم
القيامة سترا في ما بينه وبين النار، وأعطاه الله تبارك وتعالى بكل حر ف
مكتوب عليها مدينة أو سع من الدنيا سبع مرات (3).
ونقله المجلسي، فقال: نقل عن خط الشهيد الثاني، نقلا عن خط
قطب الدين الكيدري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله، وزاد
في آخره: وما من مؤمن يقعد ساعة عند العالم إ لا ناداه ربه، جلست
إلى حبيبي، وعزتي وجلالي، لأسكنتك الجنة معه، ولا أبالي.
وقال المجلسي: ورواه في كتاب (الدرة الباهرة من الأصداف
الطاهرة) (4).
31 - عن زيد بن ثابت، قال: دخل صلى الله عليه وآله وسلم علي



(1) الكامل، لابن عدي (1 / 294).
(2) جزء في عارية الكتب (ص 130 و 133).
(3) إلى هنا نقله الحر في وسائل الشيعة (18 / 68) كتاب القضاء، باب (8) من أبواب
صفات القاضي الحديث (63) عن الأمالي للصدوق (ص 40) ح (3) المجلس
(10).
(4) الدرة الباهرة (ص 25) وبحار الأنوار (2 / 144) باب (19) ح 1 و 2.
98
فقال، ضع القلم على أذنك، فإنه أذكر للمملي به (1).
32 - عن ابن عباس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم، يقول: يؤتى بصاحب القلم - يوم القيامة - في تابوت من نار
مقفل عليه بأقفال من نار، فينظر قلمه في ما أجراه: فإن كان إجراؤه في
طاعة الله ورضوانه، فك عنه التابوت، وإن كان إجراؤه في معصية الله،
هوى به التابوت سبعين خريفا، حتى باري القلم، ولائق الدواة.
رواه السيد المرشد بالله، وقال: هذا في العامل والكاتب، وليس
المتعلم بدونهما، لأن قلمه يجري بأمر الدين، وقلم سواه بأمر الدنيا (2).
33 - عن ابن عباس، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
لو أن الغياض أقلام، والبحر مداد، والجن حساب، والإنس
كتاب، ما أحصوا فضائل علي بن أبي طالب (3).
34 - السمعاني بسنده عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، يقول، أول ما خلق الله القلم، ثم خلق
النون - وهي الدواة - قال: وذلك قول الله عز وجل: ن والقلم وما
يسطرون [سورة القلم 86 الآية: 1 و 2]



(1) عيون الأخبار لابن قتيبة (1 / 42) والجامع الصغير للسيوطي (2 / 52) وقال: الترمذي
عن زيد بن ثابت. وانظر الكامل لابن عدي (4 / 1604) و (5 / 1901).
(2) الأمالي الخميسية (1 / 55).
(3) مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام، للخوارزمي (ص 2) وعن الطبراني في (ص 235) وبحار
الأنوار (40 / 73 - 75) وذكره ابن طاوس عن المطرزي في (شرح المناقب) وانظر فرائد
السمطين للحموي، المقدمة (1 / 16).
99
ثم قال: اكتب، قال: وما أكتب؟
قال: اكتب مقادير كل شئ من عمل، أو أجل، أو أثر، أو ر ز ق.
قال: فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة.
قال: ثم ختم على في القلم، فلم ينطق، ولا ينطق إلى يوم
القيامة (1).
35 - وقال صلى الله عليه وآله وسلم لهلال بن يسار - حين قرر له
العلم والحكمة، هل معك محبرة؟ (2).
36 - وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
قال، يوزن مداد العلماء يوم القيامة بدم الشهداء، فيرجح مدادهم على
دمائهم أضعافا مضاعفة (3).
37 - وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
يحشر الله أصحاب الحديث وأهل العلم، وحبرهم خلوق يفوح، فيقومون
بين يدي الله، فيقول لهم: طالما كنتم تصلون على النبي، انطلقوا إلى
الجنة (4).
38 - وعن أنس، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،



(1) الكامل لابن عدي (6 / 2273) وأدب الإملاء والاستملاء (ص 158) تاريخ بغداد
(12 / 40).
(2) آداب المتعلمين، الفصل العاشر وتعليم المتعلم للزرنوجي (ص 38)
(3) أدب الإملاء (ص 163) انظر السراج المنير (3 / 436) ونحوه مختصرا عن عبادة بن
الصامت في الكنى للدولابي (1 / 103).
(4) أدب الإملاء (ص 148).
100
قال، إ ذا كان يوم القيامة يجئ أصحاب الحديث إ ليبين يدي الله
عز وجل، ومعهم محابر من نور، فيقول الله عز وجل، أنتم أصحاب
الحديث، طالما كنتم تصلون على نبيي، انطلقوا إلى الجنة، وإلى
رحمتي (1).
39 - عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله قال، إذا كان
يوم الخميس بعث الله عز وجل ملائكة معهم صحف من فضة وأقلام من
ذهب يكتبون يوم الخميس وليلة الجمعة أكثر الناس صلاة على النبي
صلى الله عليه وآله وسلم (2).
40 - عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لبعض كتابه،
ألق الدواة، وحرف القلم، وانصب الباء، وفر ق السين، ولا تعور الميم،
وحسن الله، ومد الرحمن، وجود الرحيم، وضع قلمك على أذنك
اليسرى، فإنه أذكر لك (3).
41 - قال صلى الله عليه وآله وسلم: الخط الحسن يزيد الحق
وضوحا (4).



(1) أدب الإملاء (ص 152) ولسان الميزان (5 / 426).
(2) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (18 / 149).
(3) الشفاء للقاضي عياض (ص) إلى قوله: الرحيم، وعنه القرطبي في تفسيره
(13 / 353) ومنية المريد (ص 350) وبحار الأنوار (2 / 152) وانظر: نشأة وتطور
الكتابة (ص 184).
(4) أدب الإملاء (ص 166) وفيه: وضحا، والجامع لأخلاق الراوي (1 / 399) وميزان الاعتدال (2 / 5) ولسان الميزان
(3 / 221) ولاحظ الجامع الصغير للسيوطي (رقم 4134) عن أم سلمة، ونسبه في صبح
الأعشى (3 / 2) إلى علي عليه السلام.
101
42 - روى البيهقي بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي الخلق أعجب إليكم
إيمانا؟.
قالوا: الملائكة.
قال: وما لهم لا يؤمنون، وهم عند ربهم؟.
وذكروا الأنبياء.
فقال: وما لهم لا يؤمنون، والوحي ينزل عليهم؟.
قالوا: فنحن.
قال: وما لكم لا تؤمنون، وأنا بين أظهركم؟.
قالوا: فمن، يا رسول الله؟!
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إن أعجب الخلق
إلي إيمانا لقوم يكونون بعدكم، يجدون صحفا - فيها كتاب - يؤمنون بما
فيها (1).
رواه ابن كثير وقال: يؤخذ منه مدح من عمل بالكتب المتقدمة
بمجرد الوجادة لها، وقد ذكرنا الحديث بإسناده في شرح البخاري (2).
وقال السيوطي: ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره (3) ورواه الحسن



(1) دلائل النبوة للبيهقي (6 / 538) ومسند شمس الأخبار (1 / 150).
(2) اختصار علوم الحديث المطبوع مع الباعث الحثيث (ص 123).
(3) تفسير ابن كثير (1 / 74) ط المنار.
102
ابن عرفة في (جزئه) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وله
طرق كثيرة أوردتها في (الأمالي).
قال السيوطي: وفي بعض ألفاظه، بل قوم من بعدكم، يأتيهم
كتاب بين لوحين، يؤمنون به، ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم
أجرا أخرجه أحمد، والدارمي، والحاكم. من حديث أبي حممة
الأنصاري.
وفي لفظ للحاكم، من حديث عمرو: يجدون الورق المعلق
فيعملون بما فيه فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيمانا (1).
43 - أسند الإمام جعفر بن محمد الصادق، عن آبائه عليهم
السلام، في وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال، يا علي،
أعجب الناس إيمانا، وأعظمهم يقينا، قوم يكونون في آخر الزمان،
لم يلحقوا النبي، وحجب عنهم الحجة، فآمنوا بسواد على بياض (2).
قال المحقق الشيخ هادي الطهراني، معلقا على هذا الحديث:
حيث إن الرواية عن الصادق عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام،
فمضمونها في الحقيقة صادر عنهم جميعهم عليهم السلام، فإنهم رووه
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مقام إ ثبات مضمونها،



(1) المستدرك للحاكم (4 / 85) وقال: صحيح الإسناد، ولاحظ مسند أبي يعلى (1 / 147)
ومجمع الزوائد (10 / 65) والباعث الحثيث لأحمد شاكر (ص 5 - 126) ورواه في
مسند شمس الأخبار (1 / 145).
(2) أمالي الصدوق ().
103
ومن هذه الرواية الشريفة تستفاد أمور:
منها: أن الكتب المشتملة على الأحاديث، كونها مرجعا للناس،
في الأصول والفروع، بإرادة الله تعالى، توجب العلم، وأن اعتبارها من
هذه الحيثية.
ومنها: وقوع هذا الأمر في زمان الغيبة، ومقتضاه أن ما يعتمد
عليه أهل الإيمان في هذا الزمان يوجب الاطمئنان بمقتضى ما تقدم
عنه صلى الله عليه وآله وسلم من حصره البر في ما يوجب سكون النفس
والاطمئنان، وحصره الشر في ما يجول في القلب ويوجب التردد.
والسر في أن الإيمان بالسواد على البياض أعظم اليقينين، وكونه
أعجب إيمانا، توقفه على اجتهاد شديد لا يتحمله إ لا من تمحض الإيمان،
وأقبل بكله إلى ربه، فإنه في غاية الصعوبة.
وفي مقابله الجاحد العنود الذي يرى جميع الآيات والمعجزات
الباهرات، ولا يزداد إ لا جحودا وضلالا وغواية وخذلانا.
فهؤلاء هم المؤمنون بالغيب، لا سيما مع شدة الفتن في آخر
الزمان، كما يشاهد بالعيان.
وإلا، فمجرد السواد على البياض لا يوجب إلا لمن هو في أسفل
دركات العماية والغواية، كما هو ديدن الهمج الرعاع حزب الشيطان،
وأعداء الرحمن (1).



(1) محجة العلماء (ص 253).
104
44 - وبالإسناد عن أنس، قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: عنوان صحيفة المؤمن حب علي بن أبي طالب عليه السلام (1).



(1) بشارة المصطفى (ص 154) ورواه الخطيب، كما في الجامع الصغير للسيوطي (2 / 67).
105
تعليق على الفصل الثاني:
وبعد هذا التجوال الممتع في رحاب السنة المطهرة، والوقوف على
بدائع الآثار الكريمة، عرفنا أن السنة - بجميع أشكالها من: التقريرية،
والفعلية، والقولية - المسندة المرفوعة إلى الرسول صلى الله عليه وآله
وسلم، تدل على إباحة تدوين الحديث، منذ عهد الرسالة، بما لا يبقى
معه شك للواقف عليها في ذلك.
وقد بلغت قوة هذه الحجة بحيث ألجأت المنصفين إلى الاعتراف
بأن، الحقيقة أن إنكار تقييد الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وآله
وسلم لا يمكن أن يأتي ممن يتحاكم إلى الإنصاف ويسلك نهج
العلم.
فإن روايات كتابته قد تعددت بالأسانيد الموثوقة الكثيرة جدا في
مختلف مراجع السنة، مما يبلغ بها درجة التواتر الذي يقطع من يطلع
عليه من العلماء ويتحقق وقوع الكتابة للحديث في عهد النبي صلى الله
عليه وآله وسلم (1).
فلا ريب أن رضاه صلى الله عليه وآله وسلم بما تحقق في مرأى منه
ومسمع محرز، فيدل بتقريره على إ باحة التدوين وجوازه منذ عهده
صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما دلالة ما أشرف هو صلى الله عليه وآله وسلم على كتابته مما سميناه بالسنة الفعلية -



(1) منهج النقد (ص 49).
106
على الجواز والإباحة، فأظهر.
وأما الأحاديث القولية المرفوعة، فمع وضوح دلالتها على الإباحة
والجواز، فإن عنصر الإطلاق في بعض نصوصها، وعدم قابليتها للتقييد
لا يدع مجالا للريب في الدلالة على ذلك.
فأي تقييد يمكن أن يلحق قوله، اكتبوا ولا حرج، وأمثاله؟؟
ويعلم من ذلك فشل محاولة الموجهين لعملية منع التدوين
بتخصيص روايات الإذن، بأفراد معينين أو بزمان معين.
فمع بطلان المحاولة، كما سنثبته بتفصيل في ما يلي من هذه
الدراسة، فإنها تنافي إطلاق هذه النصوص الآبية عن التقييد.
قال محمد عجاج الخطيب: وإذا كانت الأخبار الدالة على إ باحة
الكتابة منها خاص، كخبر أبي شاه، فإن منها - أيضا - ما هو عام،
لا سبيل إلى تخصيصه، كسماحه لعبد الله بن عمرو بالكتابة، وللرجل
الأنصاري الذي شكا سوء حفظه.
ويمكن أن نستشهد في هذا المجال بخبر أنس، ورافع بن خديج،
وإن تكلم فيهما، لأن طرقهما كثيرة يقو ي بعضها بعضا (1).
وقال أيضا: وأرى في حديث ابن عباس، ائتوني بكتاب...
إذنا عاما، وإباحة مطلقة للكتابة (2).



(1) السنة قبل التدوين (ص 309).
(2) المصدر السابق (ص 306).
107
ولا بد من الإشارة إلى أن دلالة النوعين الأخيرين من الأحاديث
القولية، على المقصود، وهما: ما تضمن لفظ الكتابة وتصاريفها،
وما تضمن ذكر أدوات الكتابة، إنما هو بالملازمة العرفية الواضحة،
وبيانها: أن تصدي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لذكر ذلك كله
لا يناسب منع تدوين الحديث.
إذ من الواضح جدا كون تلك الأحاديث بصدد ترغيب الأمة في
الكتابة ومداولة أدواتها، مما يدل على حسن الفعل في نظر الشارع
المقدس، كما لا يخفى على ذي فطنة.
ومن الواضح - أيضا - أن الكتابة ومداولة أدواتها - إذا كانت أمرا
جيدا وحسنا - لم تمنع السنة الشريفة - التي هي خير الحديث وتحتوي
على أفضل الهدي - أن تستعمل بها.
وإذا كانت الكتابة ومداولة أدواتها سائغة في ذاتها، فإن ذلك في
الحديث الشريف أسوغ وأفضل من غيره، لاعتماد الشريعة المقدسة عليه.
مضافا إلى أن كثيرا من تلك الأحاديث إنما وردت بشأن الحديث
وأهله، وقد استدل بكثير منها القائلون بالإباحة.
وقد تأكد لنا في هذا الفصل ورود السنة الشريفة بإباحة تدوين
الحديث، مع صحة بعضها، وحسن الآخر،
ومجموع تلك الروايات يؤكد بعضه بعضا بما ينتج الحجة الشرعية
المعتبرة للاستناد، ونسبة الحكم المذكور إلى الشارع الأكرم صلى الله عليه
وآله وسلم.

108
وبذلك تسقط جميع الاعتبارات السندية في واحد واحد منها،
وكل المناقشات الرجالية الجزئية.
ومن هنا تعرف أن محاولات أعداء الإسلام من المستشرقين
وذيولهم المستغربين للتشكيك في أسانيد هذه الروايات بزعم: أن
الأحاديث الواردة في كتابة الحديث وإباحتها موضوعة وضعيفة (1).
إنما هي محاولات فاشلة، لأنها - كما يقول الدكتور عتر -: نوع
من جموح الخيال، أراد به صاحبه أن يلصق بعلماء الإسلام ما اجترحه
الأحبار في ديانتهم، فاخترع هذا الزعم، وهو فرية لا تستحق النظر
فضلا عن الرد (2).
بل الأولى بهذا الازدراء من حاو ل توجيه عملية منع الحديث مع
اعترافه بهذه الأحاديث، ومن ضرب على أوتار المستعمرين ممن أظهر
الإسلام.
ومنهم صاحب المنار الذي قال: إن الأحاديث الضعيفة التي تدل
للكتابة مطلقا ساقطة، لا يحتج بها، ولا ينظر إليها.
في كلام طويل (3).



(1) هو رأي جولدزيهر، انظر: تقييد العلم، التصدير (ص 16 - 17) ورأي رشيد رضا
في مجلة المنار (ج 10 ع 10 ص 763 - 766) انظر علوم الحديث لصبحي الصالح (ص 33)
والسنة قبل التدوين (ص 305) هامش.
(2) منهج النقد (ص 50).
(3) مجلة المنار (ج 10 ع 10 ص 765 و 766).
109
وقد رد عليه بتفصيل الشيخ محمد محمد أبو زهو، فقال: إن
أحاديث الإذن بالكتابة منها صحيح يدل عليها نصا أو دلالة، ومنها
ضعيف تعددت طرقه فيصلح للاعتبار إن قصر عن درجة الاحتجاج (1).
ثم أفاض في الرد عليه إلى أن قال: فهذه الدعوى من الشيخ
[صاحب المنار] لا أساس لها، بل هي تهدم نفسها بنفسها، فضلا عن
أنها تخالف نصوص القرآن الكريم وتتعارض مع ما تواتر من سنة
الرسول الأمين، ولا تتفق وما أجمع عليه المسلمون في كافة الأزمان، من
عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليوم (2).
وقد رد عليه أكثر من كتب في الموضوع من أفاضل أهل نحلته
ردودا قوية حاسمة.
وبعد انبلاج الحق وثبوته من خلال السنة الشريفة لا يبقى مجال
للالتزام بمنع التدوين، ولو استنادا إ ليعمل أبي بكر وعمر، لأن عملهما
- بعد ذلك - مخالفة صريحة لما ثبت من سنة النبي صلى الله عليه وآله
وسلم.
ولا رأي لأحد - مه ما كان مقامه - في مواجهة رأي الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم ونصه الذي ليس إلا وحيا يوحى.
وقد اعترف الصحابة والعلماء، بأن لا حق لأحد في أن يلتزم
بما يخالف السنة.



(1) الحديث والمحدثون (ص 230) وقد بدأ مناقشة صاحب المنار من 220.
(2) الحديث والمحدثون (ص 242).
110
قال ابن عباس: أراهم سيهلكون، أقول: قال النبي صلى الله عليه
وآله وسلم، ويقول: نهى أبو بكر وعمر (1).
ونقل بلفظ: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء (2).
وقال عبد الله بن عمر: أفرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحق
أن تتبعوا سنته، أم سنة عمر? (3).
وقال الخطيب البغدادي: لا ينبغي أن يقلد أحد في ترك ما ثبتت به
سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (4).
وقال الشافعي: لقد ضل من ترك قول رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم لقول من بعده (5).
وذكر محمد بن نصر المروزي: أن إسحاق بن راهويه كان يقول:
من بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبر يقر بصحته،
ثم رده بغير تقية فهو كافر (6).
نعوذ بالله من الضلال.



(1) مسند أحمد - ط شاكر - (5 / 48) ح 3121 والفقيه والمتفقه (1 / 145) وانظر
السنة قبل التدوين (ص 88).
(2) الحديث والمحدثون (ص 34).
(3) مسند أحمد - ط شاكر - (8 / 77) رقم 5700 وسنن الترمذي (3 / 185) باب التمتع في الحج، والسنة قبل التدوين (ص 90).
(4) الفقيه والمتفقه (2 / 145).
(5) الفقيه والمتفقه (1 / 149).
(6) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (1 / 95) انظر حجية السنة
(ص 253).
111
الفصل الثالث
إ جماع أهل البيت عليهم السلام
على التدوين
إن أهل البيت عليهم السلام أجمعوا على إ باحة تدوين العلم، ومنه
الحديث الشريف، ولم يعهد من أحد منهم منع عنه، على طول الخط.
ومن المعلوم لدى المسلمين - كافة - أن إ جماع أهل البيت
عليهم السلام حجة شرعية يجب اتباعها.
أما ثبوت الإجماع منهم عليهم السلام:
فمع أنه محسوس بالعيان، حيث أنا لم نجد قولا لأحد منهم
عليهم السلام بالمنع، على كثرة تتبعنا في المصادر، ومتابعتنا للأقوال.
فهو ثابت بالنقل والبيان - أيضا - حيث أن رواياتهم وأقوالهم
متضافرة بالإباحة وأعمالهم ومؤلفاتهم متكثرة مشتهرة.
وقد عقدنا هذا الفصل لجمع شتات تلك الروايات والأقوال،
وتعداد تلك المؤلفات والأعمال.
وأما أن إجماع أهل البيت حجة شرعية:
فلتواتر الأحاديث المرفوعة الناصة على أن الرسول صلى الله عليه

113
وآله وسلم قد نصبهم مراجع للأمة تلجأ إليهم للخروج من الشبهات،
وتتمسك بحبلهم للنجاة من الضلال، وقرنهم بالقرآن، وجعلهم وإياه
سببين للهداية، وجعل التخلف عنهما هو الردى والغواية.
مثل حديث الثقلين المتواتر عند الشيعة وأهل السنة، وقد رواه
بضع وعشرون من الصحابة، وأخرجه من أعلام السنة: مسلم في
صحيحه، وأحمد في مسنده، وأبو داود والترمذي والنسائي في
سننهم الصحاح، والحاكم في المستدرك على الصحيحين، وغيرهم.
ونص بعض الروايات:
يا أيها الناس، إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا
كتاب الله، وعترتي أهل بيتي.
رواه الترمذي والنسائي.
وفي رواية الطبراني، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما
فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم.
وفي رواية مسلم في صحيحه، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر
يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم الثقلين: أولهما
كتاب الله فيه الهدى والنور،...، وأهل بيتي، أذكركم الله في
أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي.
وفي كثير من نصوصه،... وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي
الحوض (1).



(1) مصادر حديث الثقلين:
رواه ابن سعد في الطبقات الكبير (3 / 194) وأحمد بن حنبل في مسنده (3 / 14 و 17
و 26 و 59) و (4 / 366 - 367) و (5 / 182 و 189 - 190) وفي الفضائل بالأرقام (170
و 968 و 990 و 1032 و 1382 و 1383 و 1403) ولاحظ المعجم الكبير
للطبراني (3 / 62 و 63 و 201).
ومسلم في صحيحه (4 / 1873 رقم 2408) والنسائي في خصائص علي عليه السلام (ص 96)
والحاكم في المستدرك على الصحيحين (3 / 109 و 148 و 533) والبيهقي في السنن
الكبرى (2 / 148) و 7 / 30) و 10 / 114) والترمذي في صحيحه (5 / 663) ح 3788.
وسنن الدارمي (2 / 310) والطحاوي في مشكل الآثار (2 / 307) وأبو نعيم في حلية
الأولياء (1 / 355) وتاريخ بغداد (8 / 448) نقله الحافظ الكنجي في كفاية الطالب ب 1
ص 11 عن أبي داود وابن ماجة.
وقد جمع مصادر الحديث ونصه في رواياته المتعددة الشيخ قوام الدين الوشنوي في رسالة
(حديث الثقلين) وطبعت في مصر، في مجلة رسالة الإسلام سنة 1374، وطبعت بعد
ذلك مستقلا مكررا.
وانظر مجمع الزوائد للهيثمي (9 / 163).
وخصص الشيخ محمد حسين المظفر كتاب (الثقلان: الكتاب والعترة) للبحث عن ذلك.
ولاحظ الصواعق المحرقة لابن حجر المكي (ص 89) والأصول العامة للفقه المقارن للسيد
محمد تقي الحكيم (ص 164 - 189).
114
وأما الحديث عند الشيعة من الإمامية والزيدية والإسماعيلية فهو من
المسلمات، إن لم تبلغ أسانيد ه الكثيرة حد التواتر، مع أنه قد صرح
بتواتره جمع (1).



(1) عبر جمع عن هذا الحديث بأنه متواتر، منهم السيد مجد الدين المؤيدي من علماء الزيدية
باليمن في التحف (ص 223) وعد ه الإمام القاسم بن محمد - من أئمة الزيدية - من
المتواتر، كما نقله السيد محمد بن الحسين الجلال في كتابه (دليل البيان في جواز صوم
يوم الثلاثين من شعبان) المطبوع مع مسند شمس الأخبار (2 / 426).
وقد جمع الإمام القاسم روايات حديث الثقلين في كتابه (الإعتصام بحبل الله المتين) (ج 1
ص 132 - 152) بطرق كثيرة ونقل في (ص 133) عن (الجامع الكافي) للشريف
العلوي قوله: هذا خبر مشهور تلقته الأمة من غير تواطؤ. ونقل في (ص 136) عن
(حقائق المعرفة) لأحمد بن سليمان قوله: والأمة مجمعة على صحة هذا الخبر، وكل فرقة
من فرق الإسلام تتلقاه بالقبول. وانظر الثقلان للمظفر (ص 13) والأصول العامة
(ص 164) والمراجعات، للسيد شرف الدين المراجعة رقم (8).
115
وتوضيح دلالة الحديث على حجية إ جماع أهل البيت
عليهم السلام - يتوقف على ما يلي:
الأول: إن الخطاب في الحديث موجه إلى جميع الأمة،
لقوله صلى الله عليه وآله وسلم فيه، أيها الناس... وقوله:
فيكم، فيعم من كان في عصر النبوة من المشافهين
بعدهم، وذلك:
1 - لأن الخطابات الشرعية والأحكام الدينية تعمهم جميعا، وذلك
ثابت في علم أصول الفقه.
2 - لأن الشريعة الإسلامية هي ناسخة الشرائع السماوية،
ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء، فالناس إلى يوم القيامة
- مكلفون بما كلف به المخاطبون في عصره صلى الله عليه وآله وسلم،
وهذا ثبت في موضعه من علم الكلام.
3 - تصريح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في متن الحديث بعدم
افتراق العترة عن الكتاب، إلى يوم القيامة، فجميع الناس في هذه الفترة،
داخلون في تعلق غرضه صلى الله عليه وآله وسلم من كلامه.

116
الثاني: أن الحكم المذكور في الحديث، والمسؤولية الملقاة على عاتق
الأمة تجاه الكتاب والعترة أهل البيت عليهم السلام، إنما هو حكم إلزامي
واجب، لا يجوز التخلف عنه، والتقصير فيه، ويحرم تركه، وذلك:
1 - لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد رتب الهداية على
اتباع الكتاب والعترة، ورتب الضلالة والهلاك على مخالفتهما
ومفارقتهما.
ومن الواضح أن طلب الهداية واجب عيني على كل مسلم، كما
أن اجتناب الضلالة والابتعاد عنها أمر واجب عينا على المسلمين،
والمسلمون يطلبون الهداية والابتعاد عن الضلالة في كل يوم عشرة مرات
- على أقل تقدير - في صلواتهم الخمس، في قراءة سورة الفاتحة، بقوله
تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير
المغضوب عليهم ولا الضالين (سورة الحمد (1) الآيات (6 - 7).
ومن الواضح أيضا أنه لا يمكن لأمر ضروري مثل طلب الهداية
وكذلك لأمر خطير مثل الابتعاد عن الضلالة أن يكون حكمهما
الشرعي الاستحباب أو التخيير، بل لا بد أن يكون حكمهما اللزوم
والإيجاب، بحكم العقل وضرورة الشرع.
وإذا تم ذلك كان اتباع أهل البيت عليهم السلام - المؤدي
إلى الهداية، والمبعد عن الضلالة - بنص حديث الثقلين الشريف - واجبا إلزاميا
على الأمة، وجوبا عقليا وشرعيا كما هو مسلم عندهم من وجوب اتباع
القرآن الكريم.

117
2 - لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد جهد في إ بلاغ هذا
الحديث في ظروف حساسة - مكانية وزمانية - تكشف بلا ريب
عن أهمية ما تضمنه كلامه، بالإضافة إ ليتكرر ذكره.
فمن حيث المكان، قال ابن حجر المكي: اعلم أن لحديث التمسك
بذلك طرقا كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابيا، وفي بعض تلك
الطرق: أنه قال ذلك بعرفة، وفي آخر: أنه قاله بغدير خم، وفي آخر:
أنه قاله بالمدينة في مرضه وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي آخر:
أنه قاله لما قام خطيبا بعد انصرافه من الطائف.
وأضاف ابن حجر: ولا تنافي، إ ذ لا مانع أنه كرر عليهم في تلك
المواطن وغيرها اهتماما بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة (1).
ويعلم من ذلك زمان صدور الحديث: وهو في أواخر أيام حياته
صلى الله عليه وآله وسلم، وفي حجة الوداع، وفي عرفة حيث اجتمع
أكبر جمع من المسلمين في الموقف، وفي أكبر اجتماع عقده في آخر
حياته في يوم غدير خم وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة السنة العاشرة
للهجرة، حيث جمع الناس، سابقهم ولاحقهم، على مفترق الطر ق قبل
افتراقهم وتشتتهم، وكان آخر لقائهم به حيث رجع إلى المدينة وتوفي
بعد أشهر.
وعند مرض موته، حيث يفضي المرء بأعز ما عند ه من أسرار،



(1) الصواعق المحرقة لابن حجر المكي (ص 89) وانظر مقال (أهل البيت عليهم السلام في
المكتبة العربية) في مجلة (تراثنا) العدد (15) السنة الرابعة 1409 ه‍.
118
ويوصي بألزم ما يراه من المهمات.
ففي مثل هذه الأمكنة، وهذه الأزمنة، يكرر الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم وصيته بالثقلين: الكتاب، والعترة.
فهل يمكن أن يتصور أن كل ذلك كان لأمر غير ضروري
ولا واجب على الأمة؟
كلا. بل لم يكن كل ذلك الجهد الذي بذله الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم إلا لإبلاغ أمر لازم وواجب، لا يجوز لأحد التخلف عنه.
الثالث: الحديث يدل على استمرار وجود أهل البيت عليهم السلام
إلى يوم القيامة، مع القرآن، حتى يردا عليه الحوض:
لإخباره بعدم افتراقهما.
الرابع: يدل الحديث على عصمة الثقلين المذكورين فيه:
أما القرآن فعصمته واضحة، لأنه الوحي الإلهي الذي (لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه (سورة فصلت (41) الآية: 42.
وأما العترة أهل البيت، فلما يلي:
1 - لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أرجع الأمة إليهم للبعد
عن الضلالة والنجاة من الهلاك، ومن الواضح أن غير المعصوم لا يؤمن
على مثل هذه المهمة.
2 - لأنه جعلهم في الحديث عدلا للقرآن، ومؤدين دوره،
وقائمين بأمره، والقرآن كما ذكرنا معصوم، فهم كذلك، وإلا لم يصح

119
أن يجعلهم والقرآن بمنزلة واحدة.
الخامس: والحديث يدل على أعلمية الثقلين من جميع الأمة:
أما القرآن، فواضح كذلك، لأنه الكتاب الذي نزل (تبيانا لكل
شئ (سورة النحل (16) الآية: 89.
وأما أهل البيت عليهم السلام، فلما يأتي:
1 - لتصريح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في متن الحديث:
بقوله، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم.
2 - لاقترانهم بالقرآن الذي عرفنا كونه الأعلم من الجميع،
وكونهم بديلا عنه في مهمة الهداية والبعد عن الضلالة.
3 - لإرجاع الأمة إليهم مطلقا، ولو كان في الأمة من هو أعلم
من أهل البيت عليهم السلام، لقبح إرجاعه إليهم.
4 - لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث: ولا تقدموهم
فتهلكوا، حيث ر تب الهلاك على التقدم عليهم.
وليس المراد بالتقدم عليهم في المكان والمسير، وإنما المراد التقدم
عليهم بالحكم والرأي والإفتاء والتكلم في أمور الدين والشريعة.
وهذا النهي مطلق وعام لجميع أفراد الأمة، ولو لم يكن
أهل البيت عليهم السلام أعلم من غيرهم لم يستحقوا مثل هذا المقام،
ولم يحر م على غيرهم التقدم عليهم.
السادس: وأخيرا من هم أهل البيت عليهم السلام؟

120
إن المراد من أهل البيت المذكورين في الحديث لا بد أن يكون معينا
ومشخصا، بلا ترديد، وذلك:
1 - لأن إرجاع الأمة - في أمر مهم كالهداية - إلى أشخاص
غير معينين، هو من التكليف بما لا يطاق، وتعليق على المجهول، وهو
أشبه بالإغراء بالجهل، وذلك كله خلاف الحكمة المعهودة في أحكم
الناس وأعقل البشر هادي الأمة، المبعوث رحمة لها رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم.
2 - أن الجهل بالمراد من أهل البيت يؤدي إلى قصور الحديث عن
أداء الغرض المنشود منه، وهو مناف لأهمية الغرض المذكور الذي أثبتنا
أنه هو السبب في بذل أكبر الجهود لإبلاغ الحديث، وبالتالي فيكون
ذلك كله لغوا وعبثا، نربأ بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يتصدى له.
فالغرض المقصود للرسول صلى الله عليه وآله وسلم من جعل الثقلين
خليفتين له في الأمة هي الهداية والابتعاد عن الضلالة، ومثل هذا
المقام لا يقبل التسامح والتفريط فيه، فلو ورد فيه نص فلا بد أن يكون
واضحا مضبوطا ودقيقا لا يدخله شك أو ريب أو شبهة،
وإلا لانتقض الغرض.
3 - جعل أهل البيت قرينا للقرآن في نسق واحد بعنوان
الثقلين، يدل على أنهما سواء في المعروفية والمحدودية بالتعيين، فكما
أن القرآن كتاب الله نص محدود مكتوب معروف، فكذلك يجب أن يكون المراد
من أهل البيت.

121
4 - لم ينقل من أحد أن عد حديث الثقلين من الأحاديث المجملة،
إذ ليس فيه من المفردات ما يعد من الغريب المشكل، ولا يحتوي كذلك
على جملة معقدة غامضة، فلا بد أن يكون المراد من أهل البيت
الوارد في الحديث بعنوان الثقل الآخر، القرين للقرآن - واضحا معينا
عند السامعين والرواة الناقلين الأوائل على الأقل (1).



(1) اعلم أن بعض العامة حاول رد حديث الثقلين (الحاوي للكتاب والعترة بزعم ورود
بلفظ آخر هو (كتاب الله وسنتي) من دون ذكر العترة فيه، ولكن حديث
التمسك بالكتاب والسنة قد تتبعناه في المصادر للوقوف على هذا الحديث،
فكانت الحصيلة أنه قد ورد:
1 - مرسلا:
في ما رواه مالك، بلفظ:، أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: تركت
فيكم أمرين: لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه. في (الموطأ) كتاب القدر،
الباب (1): النهي عن القدر، الحديث (3). (ج 2 ص 899) جامع الأصول / 277).
ورد هكذا بلاغا، وهو منقطع كما أن كلمة (سنة نبيه) لا يمكن أن يكون من لفظ رسول الله،
فهو منقول بالمعنى.
ورواه ابن هشام مرسلا في السيرة (2 / 6) من خطبة النبي صلى الله عليه وآله يوم عرفة.
وأرسله - أيضا - ابن خلدون.
2 - مسندا:
رواه الحاكم في (المستدرك على الصحيحين: 1 / 93) عن ابن عباس، برجال فيهم كلام،
وبعد أن ذكر احتجاج البخاري ومسلم ببعض رجاله، قال: وهذا الحديث لخطبة النبي
صلى الله عليه وآله متفق على إخراجه في الصحيح [بلا ذكر للسنة] وذكر الاعتصام
بالسنة في هذه الخطبة [في هذا الحديث] غريب.
أقول: بل الخطبة المنقولة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في يوم عرفة محتوية في كافة
المصادر على ذكر الثقلين: الكتاب والعترة، فانفراد هذا السند، بذكر السنة بدل العترة،
معارض، مع أن هذا السند لا يخلو من كلام، فلذا لم يصرح الحاكم ولا الذهبي بصحته
وإنما حاولا تقويته بشاهد آخر، وبأن للخطبة أصلا صحيحا!!
وقد نقل الشيخ عبد الخالق هذا الحديث في (حجية السنة ص 281 و 134) من دون
إشارة إلى تأمل الحاكم في متنه ولا سنده!؟
ورواه الحاكم في المستدرك (1 / 39) عن أبي هريرة، شاهدا على الحديث الأول وكذا
ولم يصرحا بصحته، ولفظه: إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما أبدا:
كتاب الله وسنتي. وعزاه السيوطي في الجامع الكبير رقم (8236 ج 1 ص 24) إلى
البيهقي في السنن الكبرى (10 / 114) بلفظ: إني قد خلفت... ونقله في (حجية السنة
(ص 314) عن البيهقي في المدخل، باللفظ الأول.
أقول: لكن الذي رواه البزار عن أبي هريرة، وبنفس السند الذي أورده الحاكم، كما جاء
في (كشف الأستار عن زوائد البزار) كتاب علامات النبو ة، باب مناقب أهل البيت، ما
نصه: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني قد خلفت فيكم اثنين لن تضلوا
بعدهما أبدا: كتاب الله ونسبي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض. قال البزار: لا نعلمه
يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد، وصالح لين الحديث. كشف الأستار
(ج 3 ص 223) رقم (2617).
122
ومن مجموع ما أوردنا ظهر أن لفظ (كتاب الله وسنتي) لم يرد من
وجه صحيح حجة، فطرقه بين مرسل، ومخدوش السند، ومتنه إما معلول أو مصحف،
مع أنه على كل حال خبر واحد لا يعار ض به حديث الثقلين: (الكتاب والعترة) المشهور -
إن لم يكن متواترا - والتي وردت به كتب الصحاح والمسانيد والسنن، مع خلو ه عن أية علة
قادحة في الاحتجاج به.
هذا، ولو فرض صحة حديث: كتاب الله وسنتي، فهو لا ينافي حديث كتاب الله
وعترتي، ولا يؤد ي إلى الإعراض عنه وذلك:
أولا لأن الالتزام بالسنة يتبعه الالتزام بالعترة، لكثرة الأحاديث النبوية الشريفة، وتواترها،
الدالة على لزوم اتباع أهل البيت عليه السلام والتمسك بالعترة.
فليست السنة مستبعدة للعترة، كما أن أهل البيت لا يبعدون عن السنة، إذ في بيوتهم
نبعت وانتشرت، فهم أدرى بها، إذ هي منهم.
وثانيا: إن الجمع بين الحديثين ممكن، فتكون الأمور المرجوع إليها ثلاثة عملا بالحديثين
جميعا، كما قال ابن حجر الهيتمي: إن الحث وقع على التمسك بالكتاب، وبالسنة،
وبالعلماء بهما من أهل البيت، ويستفاد من مجموع ذلك، بقاء الأمور الثلاثة إلى قيام
الساعة. الصواعق المحرقة (ص 98).
وثالثا: مع أن السنة قد يستغنى عن ذكرها، لأنها مبينة للكتاب، فأغنى ذكره عن ذكرها
كما ذكر ذلك ابن حجر في الصواعق (ص 98).
ولكن العترة لا يستغنى عنهم بحال، لأن الكتاب وهو نص مكتوب والسنة كذلك، أو هي
كلام منقول، وإن ما هما بحاجة إلى من يؤد ي عنهما، ويوضحهما، فهما صامتان، وأئمة
أهل البيت عليهم السلام هم الناطقون عنهما، كما قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام،
وهو يتحدث عن القرآن:
النور المقتدى به، ذلك القرآن، فاستنطقوه، ولن ينطق، ولكن أخبركم، ألا إن فيه
علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم... نهج البلاغة،
الخطبة (180).
ورابعا: إن المحجوج بحديث: الكتاب والسنة، إنما هو من زعم عدم حجية السنة،
والاكتفاء بالقرآن، وهو من أعلن عن مقولة، حسبنا كتاب الله وهو غير أتباع أهل البيت
عليهم السلام

124
فمن هم أهل البيت؟
نقول: وبالرغم مما ذكرنا، فقد أثيرت الشبه حول المراد من
أهل البيت في الحديث، ومهما توسعوا في تعميم المراد منه، فإن من
المتفق عليه أن آل محمد وذريته وعترته
ونسله وهم: بنو علي والزهراء، الحسن والحسين سبطا رسول الله
وذريتهما من العلويين الأبرار داخلون في عنوان (أهل البيت) قطعا،
وإنما البحث في دخول غيرهم، فهو بحاجة إلى دليل، أما دخول هؤلاء
السادة الأشراف فمتفق عليه بين كل العلماء على اختلاف المذاهب
والآراء.
وليس - بين الأمة - من يقول بخروج آل محمد العلويين الأشراف
من المراد باسم أهل البيت، ودخول غيرهم فقط، وإنما دخولهم قطعي، ودخول غيرهم هو المشكوك
في دخوله.
ونعتقد - نحن الشيعة الإمامية - بأن المراد من أهل البيت،
في حديث الثقلين هم الأئمة الاثنا عشر خاصة، وذلك:
1 - أن آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم لو صد ق على أحد،

125
فهو صادق على علي وابنيه الحسن والحسين بطريق أولى،
ومن ثم لم يدع أحد عدم صدقه عليهم، والالتزام بصدقه على غيرهم،
مع أن العكس حاصل، حيث إن جمعا من الأمة يقولون بانحصار
العنوان بهم دون غيرهم، فهم محل اتفاق الجميع على كونهم من
أهل البيت، فيشملهم الحديث قطعا.
وقد حصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إطلاق اسم أهل البيت
على الخمسة الطاهرين: نفسه المقدسة، وابنته الزهراء فاطمة، وعلي
أمير المؤمنين، وسبطيه الحسن والحسين، في حديث الكساء، لما جللهم
به، ونزلت آية التطهير قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم
الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) سورة الأحزاب (33) الآية 33
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب
عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا (1).
فقد أكدت المصادر الحديثية والتفسيرية على نزولها فيهم خاصة،



(1) لقد جمعنا مصادر حديث الكساء، ونزول آية التطهير في الخمسة الطاهرة
سلام الله عليهم، في تخريجات (تفسير الحبري) الذي حققناه، فلاحظ تخريج
الأحاديث (50 - 59) ص (503 - 522).
وقد حصر فيها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المراد بأهل البيت بنفسه المقدسة وعلي وفاطمة الزهراء والحسنين،
بتحويل الكساء عليهم وإخراج غيرهم، وصرح بذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
نزلت [آية التطهير] في وفي علي وفاطمة والحسن والحسين. كما في حديث أبي سعيد
الخدري، المروي في تفسير الطبري (22 / 5) ورواه في مجمع الزوائد (9 / 167 - 168)
عن البزار، والطبراني في الأوسط
126
وتضمنت بعض النصوص إخراج غيرهم حتى أم سلمة زوج النبي
صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد نص الإمام الحسين عليه السلام على ولده علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام أنه الإمام
من بعده، وكل إمام نص على الإمام الذي يليه، إلى الإمام الثاني عشر
عليهم السلام.
والنصوص على الأئمة عليهم السلام في مصادرنا الحديثية متضافرة
بما لم يبق معها مجال للريب (1).
وجهل غير الشيعة بتلك النصوص لا يضر بصحتها، وذلك:
أولا: لو كان جهل كل طائفة بما عند الأخرى من تاريخ وحديث
وغير ذلك، دليلا، واستندوا إلى هذا الجهل، لما كان لأحد الاعتماد
على ما عنده، بل الحجة إنما تتم بما يعرض من الأدلة حسب الموازين
العامة المقررة للاستدلال، وإقامة الحجة، وعلم الشيعة بتلك النصوص
ثابت، والجاهل لا بد له أن يرجع إلى العالم.
وثانيا: إن تلك النصوص إنما ثبتت بطرق الرواة الثقات المعترف
بوثاقتهم وحجيتهم عند العامة أيضا، وإن قدحوا فيهم فإنما هو للتطرف
المذهبي، والعصبية الطائفية، ومن المعلوم أن الملاك في حجية الرواية هي
الوثاقة والاطمئنان بالصدور، لا القدح على أساس سوء الظن والتهم.
والحاصل أن ضم المقدمة الأولى، وهي قطعية صدق أهل البيت
على علي أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام، إلى المقدمة الثانية



(1) أجمع مصدر لذلك كتاب (إثبات الهداة) للشيخ الحر العاملي المطبوع حديثا.
127
وهي نص كل إمام من الأئمة الاثني عشر على الإمام الذي يليه، تثبت
النتيجة التالية: أن أهل البيت الذين نصبهم الرسول صلى الله عليه وآله
وسلم خلفا له من بعده، وجعلهم قرناء للكتاب إلى يوم القيامة، إنما هم الأئمة
الاثنا عشر عليهم السلام.
2 - النصوص النبوية الدالة على أن الأئمة بعد النبي صلى الله عليه
وآله وسلم إنما هم اثنا عشر خليفة:
منها أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يزال
الدين قائما حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة، كلهم
من قريش.
وقد أخرجه أعلام السنة عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر،
وأكثر طرقه عن جابر بن سمرة.
ورواه من الأعلام: أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، وأبو
داود، والبيهقي، والحاكم النيسابوري، والخطيب البغدادي، وغيرهم (1).



(1) مصادر حديث اثنا عشر خليفة:
صحيح البخاري (9 / 101) كتاب (23) الأحكام، باب (51) الاستخلاف،
وصحيح مسلم (3 / 1451) كتاب الإمارة، باب (1) الناس تبع لقريش،
وصحيح الترمذي (2 / 45) ط الهند 1342، باب ما جاء في الخلفاء، ودلائل النبوة
للبيهقي (6 / 519 - 520) والمستدرك على الصحيحين للحاكم (3 / 618) كتاب معرفة
الصحابة، ومسند أحمد (1 / 398) و (5 / 86 و 89 - 101 و 106 - 108) في مسند جابر بن سمرة.
وانظر (5 / 294) من طبع أحمد شاكر رقم 3781.
وأخرجه من الجامعين للحديث: تيسير الوصول لابن الديبع (2 / 34) ومنتخب كنز
العمال بهامش مسند أحمد (5 / 312) وتاريخ الخلفاء للسيوطي (ص 7) وتاريخ بغداد
للخطيب (2 / 126) واقرأ مفصلا عنه في (الخلفاء الاثنا عشر) للبحراني، وقد جمع
الحافظ ابن حجر طرقه في كتاب (لذة العيش بجمع طرق حديث الأئمة من قريش)
فلاحظ كشف الظنون (1548).
128
وهذا عدا من رواه في طرق الشيعة من الصحابة، ومن أورده من
مؤلفيهم (1).
وقد اختلف أهل المذاهب في تفسير المراد بالاثني عشر،
وطبقه كل على من يراه مناسبا للخلافة من الخلفاء، وسكت بعضهم عن
التدخل في تفسيره، لكن أحدا منهم لم يوفق إلى تفسيره بما لا يرد عليه شئ
قال ابن الجوزي: قد أطلت البحث عن معنى هذا الحديث
وتطلبت مظانه، وسألت عنه، فلم أقع على المقصود (2).
وأما القول بأن هذا الحديث مجمل غير مبين، فباطل، وذلك:
1 - لأن موضوع الحديث وهو الإمامة والخلافة عن الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم منصب مهم جدا لا يتحمل التسامح فيه
بإيراد نص مجمل لا يفهم منه شئ، وإلا، فمن الممكن أن يقال: ما
فائدة هذا الكلام، ولماذا يتصدى الرسول صلى الله عليه وآله
وسلم إلى لقائه، إذا لم يكن له معنى مفهوم، أو ثمرة بينة.



(1) لاحظ غاية المرام (ص 211 - 235) وإثبات الهداة (1 / 496 - 500).
(2) نقله في أضواء على السنة (ص 235) عن كتاب (كشف المشكل) لابن الجوزي
وانظر فتح الباري (13 / 180 - 181).
129
2 - لأن هذا الحديث لا يحتوي على لفظة مفردة غريبة توجب
الإجمال في معنى الكلام، وليست الجملة بكاملها معقدة حتى يتوقف
في فهم المراد منها.
بل - على العكس - فإن المراد والمدلول واضح جدا، يقول:
إن الخلفاء الذين يلون أمر إمامة الإسلام هم اثنا عشر، في الفترة بين وفاته
صلى الله عليه وآله وسلم وحتى يوم القيامة.
وإذا لم ينطبق هذا المدلول الثابت الحق، إلا على ما يقوله الشيعة
الإمامية، وكان الأئمة الاثنا عشر من أهل البيت هم الذين يصدق فيهم
حديث الثقلين، فأي مانع من الالتزام بأنهم المقصودون بحديث الأئمة
(الاثني عشر) من قريش؟ ما دام هذا الالتزام يؤدي إلى العمل بكل ما
قاله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وعدم نسبة الإجمال إليه؟!
مضافا إلى أن أيا من المذاهب لم يقدم اعتقادا في أناس تنطبق
عليهم الصفات المذكورة في حديث الثقلين، وينطبق عليهم العدد
المذكور في حديث الخلفاء الاثني عشر.
3 - مع أن هؤلاء الأئمة الاثني عشر قد جمعوا إلى
كرم النسب شرف الحسب، وحازوا قصب السبق في كل فضيلة،
وجمعوا طارف المجد وتليده،
فهم بين الأمة كالنجوم السواطع، اعترف بفضلهم كل عدو
وصديق، وأذعن لعلمهم كل عالم ضليع، وأقر بمجدهم وسؤددهم
الأولون والآخرون.

130
فهذا الذهبي - وهو من كبار مؤرخي تاريخ الإسلام، ومترجمي الأعلام -
نراه يترجم للإمام المنتظر المهدي عليه السلام، فيقول: -
خاتمة الاثني عشر سيدا الذين تدعي الإمامية عصمتهم...
ومحمد هذا هو الذي يزعمون أنه الخلف الحجة، وأنه صاحب الزمان،
وأنه حي، لا يموت حتى يخرج فيملأ الأرض عدلا وقسطا
كما ملئت ظلما وجورا.
فوددنا ذلك، والله.
فمولانا علي من الخلفاء الراشدين.
وابناه الحسن والحسين، فسبطا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
سيدا شباب أهل الجنة، لو استخلفا لكانا أهلا لذلك.
وزين العابدين كبير القدر، ومن سادة العلماء العاملين، يصلح
للإمامة!...
وكذلك ابنه أبو جعفر الباقر سيد، إمام، فقيه، يصلح للخلافة!
وكذا ولده جعفر الصادق كبير الشأن، من أئمة العلم، كان
أولى بالأمر من أبي جعفر المنصور.
وكان ولده موسى كبير القدر، جيد العلم، وأولى بالخلافة
من هارون.
وابنه علي بن موسى الرضا كبير الشأن، له علم وبيان، ووقع في
النفوس، صيره المأمون ولي عهده، لجلالته.

131
وابنه محمد الجواد من سادة قومه.
وكذلك ولده الملقب بالهادي شريف، جليل.
وكذلك ابنه الحسن بن علي العسكري رحمهم الله تعالى (1).
فلو لزم اتباع أحد لكانوا هم الأولون، ولو استحق غيرهم شيئا
فهم الأحرون.
فبهم يحصل الحق اليقين، وبدونهم يشك في تحقق المراد
من حديث الثقلين، وبالالتزام بهم يتم الاحتياط، وبالإعراض عنهم
يخشى التفريط والإفراط.
ولو أعرضنا عن هذه الأدلة القاطعة، وقلنا بأن أهل البيت في
حديث الثقلين لا يختص بالأئمة الاثني عشر، ولا بالعترة، فلا ريب في
أن العترة هم ضمن المقصودين، كما لا ريب في أن إجماعهم على شئ
يقدم على إجماع غيرهم على خلافه، ومخالفتهم لغيرهم تزعزع كيان
مخالفهم.
وتدوين الحديث مما قد اتفق جميع أهل البيت على إباحته وجوازه،
وعدم منعه، ولم أعرف في ذلك منهم مخالفا، فهم في جواز التدوين
على منهاج واحد.
وقد عقدنا هذا الفصل لإثبات التزامهم بالتدوين عملا وقولا،
بل رأيهم في التدوين أدل دليل على استحقاقهم لما قلنا فيهم، من أن

132
أحكامهم موافقة لنصوص القرآن الكريم، وآراؤهم أوفق بمسلمات
الأذواق السليمة، ومقبولات العقل والأعراف الحكيمة.
فقد أباحوه حيث منعه المانعون، وحثوا عليه الأمة تلف
الأساليب والوسائل فنشروه عندما منعه غيرهم، ولم يترددوا في ذلك
طرفة عين، ودأبوا على أدائه وتبليغه، منذ عهد الرسالة المبكر، فضبطوه
في مؤلفاتهم، وسعوا في حفظه وأودعوه كل ثقة أمين، ولذلك حفظ
الحديث الشريف عندهم - وعند أصحابهم وأتباعهم - مسجلا، مكتوبا،
محفوظا من الدس والتزوير والتحريف والتصحيف (1).
في الوقت الذي كان الحديث الشريف معرضا لمنع المانعين كما
سنذكره في القسم الثاني من هذه الدراسة (2).
وكذلك قاوموا عملية منع التدوين، فأبطلوا حجج المانعين
ودفعوها، وألفوا كل ما في وسعهم من الحديث الشريف في الكتب
الجامعة، والصحف الواسعة، فتداولوها، وتناقلوها.
وبذلك ظهر الحق الذي أنبأ عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
في حديث الثقلين.
وقد ذكر العلامة الطهراني - في تعليق له على الحديث المسند إلى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، المرفوع بطريق الصادق عن آبائه: عليهم السلام



(1) لقد عزمت على جمع ما أثر عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في التأكيد على جمع الحديث
والمحافظة عليه، والخطوط التي
رسموها لذلك مما يعتبر أساسا لعلوم الدراية والرواية
والرجال، في كتاب مستقل، أعاننا الله على إتمامه.
133
والذي أوردناه في الفصل الثاني من هذا القسم برقم (34) الدال على
الإيمان بسواد على بياض، ما نصه: حيث أن الرواية هي عن الصادق
عن آبائه عليهم السلام فمضمونها - في الحقيقة - صادر عنهم جميعهم،
فإنهم رووها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مقام
إثبات مضمونها.
وقال: أما حث الأئمة عليهم السلام على الكتابة، لئلا يضيع من
أصلاب الرجال، لأنه يجئ على الناس زمان هرج لا ملجأ للناس إلا
كتبهم، مما لا يخفى على من له أدنى خبرة.
وقال - أيضا - وكذا اهتمام أصحاب الأئمة عليهم السلام في
الضبط والتدوين، وأنهم كانوا يكتبونها في مجالس الأئمة بأمرهم،
وربما كتبها لهم الأئمة عليهم السلام بخطوطهم الشريفة (1).
ما ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام (الشهيد عام 40 ه‍)
كان الإمام عليه السلام في طليعة المبيحين للتدوين (2).
وقد علمنا أنه كتب بخطه بإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم كتابه الكبير، الذي تحدثنا عنه بتفصيل في الفصل الثاني من هذا
القسم (3).



(1) محجة العلماء، للطهراني (ص 2 - 253).
(2) الإلماع (ص 147) وعلوم الحديث لابن الصلاح (ص 181) وتدريب الراوي (ص
285) وانظر: معالم العلماء، لابن شهرآشوب (ص 2) ومؤلفو الشيعة في صدر الإسلام
لشرف الدين (ص 13).
(3) لاحظ (ص 62) رقم 2 كتاب علي عليه السلام.
134
وقد قيل في ذلك الكتاب إنه أول كتاب في الإسلام (1).
كما روى الإمام عليه السلام كثيرا من النصوص المرفوعة، الدالة
على إباحة التدوين، وقد سبقت كذلك.
لكن الإمام عليه السلام قد أظهر التزامه بإباحة التدوين، بالقول
والفعل، وتضافرت النصوص الموقوفة عليه في ذلك، وسنذكرها في
مجموعتين:
1 - في مجال التصنيف والتأليف.
2 - في مجال الروايات الموقوفة عليه.
أولا: في مجال التصنيف:
قد مر في الفصل الثاني ذكر كتاب علي عليه السلام الذي كتبه
الإمام عليه السلام بخطه بإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وإنما لم نعده مؤلفا للإمام، لأنه كما تدل عليه نصوصه ورواياته،
قد كتب بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبإرادته وبإشراف تام منه
عليه، ومثل هذا إنما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأن
الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام لا يقوم فيه إلا بدور الكاتب الذي
يملى عليه فيكتب.
وتدل النصوص على أن الإمام عليه السلام قد ألف كتبا كثيرة:
روى البحراني بسنده عن عبد الملك بم أعين، قال: أراني



(1) أنظر الذريعة للطهراني (2 / 306).
135
أبو جعفر عليه السلام بعض كتب علي عليه السلام، ثم قال لي: لأي
شئ كتب هذا الكتاب؟
قلت: ما أبين الرأي فيها!.
قال: هات.
قلت: علم أن قائمكم يقوم يوما فأحب أن يعمل بما فيها.
قال: صدقت (1).
وروى الرازي عن شعبة (ت 160 ه‍): أن روايتي التابعيين: عامر
الشعبي عن علي، وعطاء بن أبي رباح عن علي، إنما هي من كتاب (2).
وقال: كان عند أبي هارون العبدي (ت 134 ه‍) كتاب في علي
عليه السلام (3).
وقال أحمد: خلاس بن عمرو البحري، روايته عن علي عليه السلام
من كتاب، ويقال: وقعت عنده صحف عن علي عليه السلام (4). وقال الدارقطني: قالوا: هو صحفي (5).
وأما الكتب المنسوبة إليه عليه السلام بعناوينها الخاصة، فهي:



(1) عوالم العلوم والمعارف، للبحراني، مخطوط.
(2) الجرح والتعديل، التقدمة، لابن أبي حاتم (1 / 130).
(3) المصدر السابق (1 / 149) وأحتمل أن (في علي) مصحفة من (عن علي) فلاحظ.
(4) المراسيل للرازي (ص 41)
(5) سؤالات الحاكم للدارقطني (ص 203) رقم (314)
والمراسيل للرازي (ص 41) وجامع التحصيل للعلائي (ص 173) رقم (175).
136
1 - كتاب في علوم القرآن:
أملاه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، فذكر فيه ستين نوعا من
أنواع علوم القرآن، رواه الحافظ أبو العباس، أحمد بن محمد بن سعيد،
ابن عقدة الكوفي (ت 333 ه‍) بسنده عن الإمام جعفر الصادق
عليه السلام (1).
ورواه جمع من كبار الطائفة فنسب إليهم:
منهم المحدث أبو القاسم سعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعري
القمي (ت 299 - أو - 301 ه‍) بعنوان (تفسير سعد) و
(ناسخ القرآن ومنسوخه) (2).
منهم المحدث محمد بن إبراهيم بن أبي زينب الكاتب البغدادي
صاحب الغيبة، تلميذ الكليني، فقد نسب إليه بعنوان
(تفسير النعماني) (3).
ومنهم السيد الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي
(ت 346 ه‍) فقد نسب إليه باسم (المحكم والمتشابه في القرآن) (4).
وقد أورد المحدث المجلسي نصه الكامل في كتاب



(1) لاحظ أعيان الشيعة (ج 1 ق 1 ص 321) وبحار الأنوار (93 / 3).
(2) رجال النجاشي (ص 177) رقم (467) والذريعة (24 / 8) ولاحظ (4 / 276)
وبحار الأنوار (1 / 15 و 32) و (92 / 40 و 66) و (84 / 382).
(3) بحار الأنوار (93 / 3) ومستدرك الوسائل (3 / 365).
(4) الذريعة (20 / 154 - 155) وقد طبع بهذا العنوان أيضا.
137
(بحار الأنوار) (1).
2 - كتاب السنن والقضايا والأحكام:
كتاب كبير حوى أبواب العلم، وفقه الشريعة المقدسة، ومنها ما
قضى به الإمام عليه السلام في الحوادث الخاصة، وكما يبدو من اسمه
فإن فيه السنن والآداب الشرعية، والعبادات من الطهارة والصلاة والصوم
والحج والزكاة، والأقضية، والحدود، والديات، وأبواب المعاملات من
البيوع، وغيرها. وقد روى هذا الكتاب جمع من أصحاب الإمام
عليه السلام، تارة بعنوانه العام، وأخرى وإن باب من أبوابه (2).
ونورد هنا قائمة بأسماء من رواه، أو روى قسما منه، مع ذكر
كتبهم ومحل رواياتهم:
1 - عمر ابن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، روى عن أبيه هذا
الكتاب كاملا (3).
2 - أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصاحب
بيت مال الإمام عليه السلام.
روى الكتاب عن أمير المؤمنين عليه السلام كاملا (4) ورواه



(1) راجع بحار الأنوار - الطبعة الحديثة - (93 / 1 - 97) ولاحظ (84 / 71 - 72) وأعيان
الشيعة (ج 1 ق 1 / 318) وتأسيس الشيعة، للصدر (ص 318).
(2) لاحظ مؤلفو الشيعة في الإسلام لشرف الدين (ص 18) وأعيان الشيعة (ج 1
ق 1 / 404) وانظر ترجمة الجلودي في رجال النجاشي (ص 241) رقم (640).
(3) أنظر رجال النجاشي (ص 7) ذيل الرقم (2).
(4) رجال النجاشي (ص 6) الرقم (1) وتأسيس الشيعة (ص 280) وتاريخ بغداد (8 / 449).
138
عنه ابناه:
عبيد الله بن أبي رافع، كاتب الإمام عليه السلام:
روى الكتاب عن أبيه عن الإمام عليه السلام، كما يظهر من
ترجمة أبيه وغيره (1).
وعلي بن أبي رافع، كاتب الإمام عليه السلام:
روى الكتاب عن أبيه كاملا (2).
3 - ربيعة بن سميع:
روى قسم الزكاة عن أمير المؤمنين عليه السلام في كتاب كتبه له
بخطه لما بعثه على الصدقات (3).
4 - محمد بن قيس البجلي:
روى قسم القضايا، وقد عرض كتابه على الباقر عليه السلام،
فصدق أنه كتاب أمير المؤمنين عليه السلام (4).
5 - يعلى بن مرة الثقفي:



(1) لاحظ رجال النجاشي (ص 6) الرقم (1) و (ص 7) الرقم (2) ومعرفة علوم الحديث
للحاكم (ص 118).
(2) رجال النجاشي (ص 6) رقم (2).
(3) رجال النجاشي (ص 7 و 8) رقم (3) وانظر الكافي (كتاب الزكاة باب أدب التصدق)
(3 / 539) وفيه (زمعة بن سبيع) وهو تصحيف، وانظر الجامع في الرجال للزنجاني
(1 / 770).
(4) تأسيس الشيعة (ص 284) وانظر رجال النجاشي (ص 323) رقم (881).
139
له نسخة عن الإمام عليه السلام (1).
6 - الحارث بن عبد الله، الأعور، الهمداني:
روى الكتاب كاملا عن أمير المؤمنين عليه السلام (2).
7 - الأصبغ بن نباتة المجاشعي (3):
روى قسم القضاء عن الإمام علي عليه السلام، وهو موجود برواية
إبراهيم بن هاشم القمي، ومنه نسخة في مكتبة جامعة طهران برقم
(3915) تاريخها سنة (1064 ه‍)، ونسخة في تركيا مكتبة حميدية
رقم (1447) من 149 آ - 153 آ باسم (أقضية أمير المؤمنين عليه السلام).
وكانت عند السيد محسن الأمين العاملي صاحب أعيان الشيعة
نسخة ثمينة من هذا الكتاب ضمن مجموعة عليها تواريخ سنة (410 و 420)
باسم (عجائب أحكام أمير المؤمنين عليه السلام ومسائله) أدرجها في
كتاب ألفه باسم (عجائب أحكام وقضايا ومسائل أمير المؤمنين
عليه السلام) وطبعه في مطبعة الإتقان بدمشق عام 1366 ه‍ وأعيده
بالأوفست بطهران (1 ه‍) ضمن سلسلة (إحياء تراث أهل البيت
عليهم السلام) بتقديم السيد محمد حسين الحسيني الجلالي.
8 - عبيد الله بن عباس:



(1) رجال النجاشي (ص 286) رقم (762) ترجمة (عمر بن عبد الله بن يعلى بن مرة)
وتأسيس الشيعة (ص 284).
(2) رجال النجاشي (ص 7) ذيل الرقم (2) وانظر الفهرست للطوسي (ص 62) رقم (119).
(3) رجال النجاشي (ص 8) رقم (5).
140
كان يتخذ صحفا فيها قضاء علي عليه السلام (1).
9 - ميثم بن يحيى التمار:
له كتاب، كان متداولا حتى القرن السابع
الهجري، حيث نقل
عنه مباشرة الطبري صاحب كتاب (بشارة المصطفى) (2).
10 - عبيد الله بن الحر الكوفي، الشاعر، الجعفي:
روى عن الإمام عليه السلام نسخة (3).
11 - ومن أجزاء هذا الكتاب هو (كتاب الديات) الذي اشتهر
باسم راويه ظريف بن ناصح (4).
فقد عرضه الرواة على الأئمة جعفر الصادق، وموسى الكاظم،
وعلي الرضا عليهم السلام، فأقروا أنه من إملاء إمام أمير المؤمنين
عليه السلام، وأنه كتبه لعماله وأمراء أجناده (5).
ونصه الكامل موجود: فرقه الكليني في جامعه (الكافي) وسماه
(كتاب الفرائض عن علي عليه السلام) (6).
وأورده بتمامه الشيخ الصدوق، في (كتاب الفقيه) (7).



(1) تقييد العلم للخطيب - التصدير (ص 19) وتوجيه النظر (ص 8) مقدمة صحيح مسلم (1 / 14)
(2) لاحظ تأسيس الشيعة (ص 283).
(3) رجال النجاشي (ص 9) الرقم (6).
(4) رجال النجاشي (ص 209) رقم (553) والذريعة (2 / 159 - 161) بعنوان (أصل ظريف)
(5) أنظر الجامع للشرائع (ص 608) والكافي للكليني (7 / 330) و (2 / 363)
(6) الكافي (7 / 330 - 363).
(7) من لا يحضره الفقيه (4 / 54 - 66) وهو تمام الباب (18) دية جوارح الإنسان.
141
كما أورده كاملا الفقيه ابن سعيد الحلي في (الجامع) وطرق إليه
طرقا عديدة (1).
وقد طبع هذا الكتاب باسم (أصل ظريف) في (الأصول
الستة عشر) (2).
والذي يظهر من المصادر أن كلا من هؤلاء الرواة قد
ألف ما يخصه، وجمع روايات كتابه عن الإمام عليه السلام، إلا أنا
نعتقد بأن الكتاب ليس إلا مجموعة كبيرة واحدة من تأليف الإمام
وإملائه عليه السلام، وذلك لما يلي:
1 - انتهاء الأسانيد في تلك الكتب إلى أمير المؤمنين عليه السلام
بعنوان أن كلا منها نسخة منه، أو إملائه.
2 - لوجود نفس العناوين ضمن ما نسب إلى غير الرواة المذكورين
، الذين اعتبروا كمؤلفين للكتب.
فذلك يؤكد أن الكتاب المذكور كان مجموعة كبيرة من تأليف
الإمام نفسه عليه السلام، رواه بعض أصحابه كاملا، وروى بعضهم
أبوابا منه (3).
وقد وردت عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام روايات حول ما
ورد في هذا الكتاب بطرق الرواة المذكورين وغيرهم، في كتب العامة،



(1) الجامع للشرائع (ص 605 - 624).
(2) الأصول الستة عشر (ص 133 - 138).
(3) وقد ذكر هذا الاحتمال في مرآة الكتب (ص 9) أيضا.
142
جمع أحمد بن حنبل مجموعة كبيرة منها في مسنده (1).
3 - عهد الإمام عليه السلام للأشتر:
وهو العهد الطويل المهم الذي كتبه الإمام عليه السلام لمالك الأشتر
النخعي، لما ولاه مصر، وتضمن أصول إدارة البلاد، وتراتيب النظم
السياسية لأمور البلاد.
ونصه معروف، ومطبوع متداول، وهو في (نهج البلاغة) (2) وقد
رواه الأصبغ بن نباتة (3).
4 - التعليقة النحوية:
التي ألقاها الإمام عليه السلام إلى أبي الأسود الدؤلي.
نقل خبرها السيوطي عن ابن عساكر أن بعض النحاة كان يذكر أن
عنده تعليقة أبي الأسود التي ألقاها إليه علي عليه السلام (4).
وقال ابن النديم في سبب تسمية العلم بالنحو: إن عليا ألقى إلى



(1) مسند أحمد (1 / 75 - 160) وانظر حول رواة آخرين لأحاديث عن الإمام
عليه السلام بشكل مكتوب في دلائل التوثيق المبكر (ص 420) ومعرفة النسخ (ص 207).
(2) نهج البلاغة - طبعة صبحي الصالح - (ص 427 - 445).
(3) رجال النجاشي (ص 8) (رقم 5) ومشيخة الفقيه (ص 37) وقد طبعت مع كتاب كم
لا يحضره الفقيه، الجزء الرابع.
(4) أنظر إنباه الرواة للقفطي (1 / 39) وقال: رأيت بمصر في زمن الطلب بأيدي الوراقين
(جزءا) فيه أبواب من النحو، يجمعون على أنها (مقدمة علي بن أبي طالب) التي أخذها
عنه أبو الأسود الدؤلي، وانظر سير أعلام النبلاء (4 / 84) والأشباه والنظائر للسيوطي
(1 / 12 - 14) وانظر تاريخ الخلفاء له (ص 143) ولاحظ طبقات النحويين للزبيدي (ص 21).
143
أبي الأسود شيئا فيه أصول النحو (1).
لكن بعضهم يعتقد أن أول من صنف في علم النحو هو
أبو الأسود نفسه، فلاحظ (2).
2 - في مجال الروايات الموقوفة عليه عليه السلام:
لقد نقل عن أمير المؤمنين عليه السلام الكثير في مجال التأكيد على
الكتابة والتدوين وفيه ما هو صريح في الأمر به، كما أن فيه ما هو دال
بالملازمة العرفية الواضحة، وإليك ما وقفنا عليه من ذلك:
1 - عن الحارث عن علي عليه السلام: قال: قيدوا العلم،
قيدوا العلم، هكذا مرتين (3).
2 - وعن حبيب بن جري، قال: قال علي عليه السلام:
قيدوا العلم بالكتاب (4).
وقد مر هذا مسندا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في الفصل
الثاني برقم (6 - 9).
وعن علباء، عن علي عليه السلام: أنه خطب الناس، فقال:



(1) الفهرست، للنديم (ص 45).
(2) إقرأ تفصيلا عن ذلك في مقال للسيد هاشم الهاشمي، بعنوان (أبو الأسود الدؤلي ودوره
في وضع النحو العربي) في مجلة تراثنا العدد (12) الرابع من السنة الثالثة - شوال
1408 ه‍.
(3) تقييد العلم (ص 89).
(4) تقييد العلم (ص 90).
144
من يشتري مني علما بدرهم (1).
قال أبو خيثمة زهير بن حرب - مفسرا هذا الحديث -: يشتري
صحيفة بدرهم يكتب فيها العلم (2).
وفي بعض نصوص الحديث: أن الحارث الأعور اشترى صحفا
بدرهم، ثم جاء عليا عليه السلام، فكتب له علما كثيرا، ثم إن
الإمام عليه السلام خطب الناس - بعد - فقال: يا أهل الكوفة غلبكم
نصف رجل (3).
4 - عن الحارث، عن علي عليه السلام، قال: قراءتك على العالم
وقراءة العالم عليك سواء، إذا أقر لك به (4).
وروى نحوه أبو ظبيان، عنه عليه السلام (5).
5 - عن هبيرة بن يريم، عن علي عليه السلام، قال: القراءة عليه
بمنزلة السماع منه (6).
وقد أثبتنا هذه الروايات في كتابنا (إجازة الحديث) وقلنا: إنها



(1) طبقات ابن سعد (6 / 116) من طبعة ليدن، وتقييد العلم (ص 90) وتاريخ بغداد
(8 / 357) وكنز العمال (5 / 261) رقم (29385).
(2) تقييد العلم (ص 90).
(3) طبقات ابن سعد (6 / 168) وفي السنة قبل التدوين (ص 397) عن العلم لزهير
(ص 193).
(4) الكفاية في علوم الرواية للخطيب (ص 383).
(5) المصدر (ص 8 - 399).
(6) المصدر (ص 383).
145
تدل على وجود الكتاب في عهد الإمام عليه السلام، حيث أن قراءة
الراوي على الشيخ لا تكون إلا من كتاب وبواسطة نص مكتوب يقرأ
الراوي منه الحديث على الشيخ.
ونقول - أيضا -: قد يكون فيه بعث على كتابة النص ليكون
الراوي مكتفيا بقراءته على الشيخ، لتحصيل عنصر الضبط والإشراف
من الشيخ عليه.
6 - وقال عليه السلام لكاتبه عبيد الله بن أبي رافع: ألق دواتك،
وأطل جلفة قلمك، وفرج بين السطور، وقرمط بين الحروف، فإن ذلك
أجدر بصباحة الخط (1).
7 - وكتب عليه السلام إلى عماله: أدقوا أقلامكم، وقاربوا بين
سطوركم، واحذفوا عني فضولكم، واقصدوا قصد المعاني، وإياكم
والإكثار، فإن أموال المسلمين لا تحتمل الإضرار (2).
8 - وقال أبو حكيمة العبدي: كنت أكتب المصاحف، فبينا أنا
أكتب مصحفا، إذ مر بي علي عليه السلام، فقام ينظر إلى كتابي،
فقال: أجلل قلمك.
فقططت من قلمي قطة (3) ثم جعلت أكتب، فقال: " نعم، هكذا



(1) نهج البلاغة، قسم الحكم، الحكمة رقم (315) (ص 530) تاج العروس (قرمط).
(2) الخصال للصدوق (1 / 310).
(3) في نسخة: قصمة، بدل: قطة.
146
نوره كما نوره الله تعالى (1).
9 - وقال عليه السلام - لرجل رآه قبيح الخط -: أطل جلفة قلمك
وأسمنها، وحرف قطتك وأيمنها، واعدل أقسامك، وأقم ألفك
ولامك (2).
10 - وعن علي عليه السلام، قال: عقل الكاتب قلمه (3).
11 - وقد روي عن الصادق عليه السلام، قال: كان أمير المؤمنين
عليه السلام يعجبه أن يروى شعر أبي طالب، وأن يدون (4).
ما ورد عن الإمام الحسن السبط عليه السلام (ت 49 ه‍)
1 - عن أبي عمرو بن العلاء، قال: سئل الحسن بن علي
عليه السلام: عن الرجل يكون له ثمانون سنة، يكتب الحديث؟ قال:
إن كان يحسن أن يعيش (5).
2 - عن شرحبيل بن سعد، قال: دعا الحسن بن علي عليه السلام
بنيه وبني أخيه، قال: يا بني وبني أخي، إنكم صغار قوم، يوشك أن



(1) أدب الإملاء (ص 6 - 167) والمصاحف للسجستاني (ص 145 - 146)
والعقد الفريد للأندلسي 299).
(2) تحفة أولي الألباب في صناعة الخط والكتاب لابن الصائغ (ص 34).
(3) نور الحقيقة للعاملي (ص 108).
(4) الحجة على الذاهب (ص 25).
الشيعة أبواب ما يكتسب به الباب (105) حديث
15 تسلسل (22691).
(5) شرف أصحاب الحديث (ص 96 رقم 641) والعقد الفريد للأندلسي (2992).
147
تكونوا كبار آخرين، فتعلموا العلم، فمن لم يستطع منكم أن يرويه
فليكتبه، وليضعه في بيته (1).
وهذا الخبر ينسب إلى علي عليه السلام، وإلى الحسين السبط
عليه السلام أيضا، لكن الخطيب قال: الصواب: الحسن عليه السلام (2).
ما ورد عن الإمام الحسين السبط الشهيد عليه السلام (عام 61 ه‍):
1 - قال عليه السلام، في خطبة له في منى، في جمع عظيم
من بني هاشم والشيعة والصحابة والتابعين: أما بعد، فإن هذا الطاغية
قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم، وإني أريد أسألكم
عن شئ، فإن صدقت فصدقوني... اسمعوا مقالي، واكتبوا قولي،
ثم ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم فمن أمنتم من الناس ووثقتم به فادعوهم
إلى ما تعلمون من حقنا، فإني أتخوف أن يدرس هذا الأمر،
ويذهب الحق (3).
والشاهد في هذا الكلام في قوله عليه السلام: اكتبوا قولي،
حيث أنه أمر بكتابة كلامه عليه السلام، ودلالته على تدوين الحديث
من جهات:



(1) طبقات ابن سعد (ترجمة الحسن عليه السلام) المنشور في (تراثنا) العدد (11) ص
(156) تاريخ اليعقوبي (2 / 227) سنن الدارمي (1 / 107 ح 517) العلل لأحمد (1 / 412) الكفاية للخطيب
(ص 229) وجامع بيان العلم (1 / 82) تاريخ دمشق (ترجمة الحسن عليه السلام) (ص
167 - 168) وكنز العمال (5 / 229) بحار الأنوار للمجلسي (2 / 152) ح 37.
(2) تقييد العلم (ص 91) وانظر هامشه.
(3) كتاب سليم بن قيس (ص 165).
148
1 - لأنا نحن الشيعة الإمامية نعتقد أن ما يحدث به الإمام
عليه السلام فإنما هو من السنة التي يجب اتباعها، لما ثبت عندنا من الأدلة
على أن الأئمة عليهم السلام إنما هم الحجج المنصوبين من قبل رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، على الأمة، حيث أمرها بالتمسك بهم والأخذ
منهم، وقد أسلفنا بعض ذلك في الاستدلال بحديث الثقلين (1).
2 - أن الأئمة: قد صرحوا بأن حديثهم إنما هو
حديث جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو بحكمه في
الحجية (2).
3 - أن قوله الذي أمر بكتابته لا يخلو من ذكر حقهم عليهم السلام
الذي أشار إليه، وحقهم إنما يثبت بما أثبته لهم رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، فقوله الذي أمر بكتابته حاو لحديث الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم لا محالة.
4 - أن قوله: (اكتبوا قولي) يكشف عن رضاه بكتابة سنة
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالأولوية المعلومة، خاصة إذا كان
الحديث يرتبط بأمر الدين.
ما ورد عن الإمام علي زين العابدين عليه السلام (ت 95 ه‍)
قد أثرت عنه المؤلفات التالية:



(1) قد مر ذلك في بداية هذا الفصل الثالث (ص 116) وبعدها.
(2) الكافي للكليني (1 / 43 ح 14) إرشاد المفيد ط إيران 250) وصول الأخيار
(ص 107).
149
1 - الصحيفة:
الكتاب العظيم، الجامع لعيون أدعيته عليه السلام، ومناجاته، التي
أنشأها بمناسبات شتى ولأغراض متنوعة، وكان عليه السلام يدأب على
تلاوتها، وهي تحتوي على مضامين عالية رفيعة، من لباب المعارف
الإسلامية الحقة.
وقد تواتر الإسناد إليه، وهو مما أجمع العلماء على قبوله.
أملاه الإمام عليه السلام على ولديه الإمام الباقر محمد
عليه السلام، والشهيد زيد، وقد أملاه الإمام الباقر على ولده الإمام
الصادق عليه السلام، ورواه الرواة عن الإمام الصادق عليه السلام (1).
2 - رسالة الحقوق:
الجامعة لآداب الدنيا والدين، مما يجب على الفرد في معاملته
لنفسه، والآخرين مما حوله من الناس، وسائر الموجودات، من حقوق
والتزامات، فهو أهم كتاب يحتوي على أسس الأخلاق الفاضلة،
ومباني السلوك الاجتماعي في الإسلام (2).



(1) الصحيفة الكاملة، بتقديم السيد محمد المشكاة (ص و) وكفاية الأثر للخزاز (ص 2 -
303) والفهرست للطوسي (ص 199) رقم (768) ورجال النجاشي (ص 426) رقم
(1144) ورجال الطوسي (ص 485) رقم (53)، ومعالم العلماء، لابن شهرآشوب
(ص 1) والفوائد الطوسية (ص 246) والذريعة (15 / 18).
(2) والرسالة مطبوعة مستقلا بتحقيقنا، وأوردها الصدوق في الأمالي المجلس (59) (ص 301 -
306) والخصال (ص 564) وتحف العقول (ص 255) والوسائل (11 / 131) ب 3
من أبواب جهاد النفس، والحلي في الجامع للشرائع (ص 625 - 632).
150
ونسخها متوفرة، وقد شرحها عدة من العلماء، ومن شروحها
الحديثة ما كتبه عمي - أبو زوجتي - العلامة الخطيب السيد حسن بن علي الحسيني القبانجي
دام علاه، باسم شرح رسالة الحقوق، وهو مطبوع في مجلدين.
3 - مناسك الحج:
رسالة حاوية لجميع أحكام الحج الشرعية، في ثلاثين بابا، رواها
عن الإمام عليه السلام كل من أبنائه: الإمام محمد الباقر، وزيد
الشهيد، والحسين الأصغر، عليهم السلام.
وقد طبعت في بغداد بتقديم الحجة السيد هبة الدين الشهرستاني،
ولدينا منه نسخة قيمة مصححة صححها السيد العلامة
محمد بن الحسين الجلال من مشايخنا من علماء اليمن السعيدة، وقابلها
على بعض ما عنده من النسخ المصححة. وقد توسعنا في الحديث عنها
في تقديمنا لها.
4 - صحيفته في الزهد:
قال أبو حمزة الثمالي ثابت بن أبي المقدام: قرأت صحيفة فيها
كلام زهد، من كلام علي بن الحسين عليه السلام، وكتبت ما فيها، ثم
أتيت علي بن الحسين صلوات الله عليه، عرضت ما فيها عليه، فعرفه،
وصححه (1).



(1) الكافي، للكليني (8 / 14 - 17) وانظر الفهرست للطوسي (ص 67) رقم (138).
151
5 - الجامع في الفقه:
رواه أبو حمزة الثمالي، عن الإمام السجاد عليه السلام (1).
6 - نسخة:
رواها عبد الله بن إبراهيم بن الحسين الأصغر بن الإمام السجاد
عليه السلام، عن آبائه (2).
7 - كتاب حديثه عليه السلام:
جمعه داود بن يحيى بن بشير، أبو سليمان الدهقان، الكوفي (3).
ما ورد عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام (ت 114 ه‍)
1 - في الأقوال:
1 - عن جابر الجعفي، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: أقيد
الحديث إذا سمعت؟
قال: إذا سمعت حديثا من فقيه خير مما في الأرض من ذهب
وفضة (4).
وقد أشار الإمام عليه السلام في هذا الجواب إلى ضرورة التدوين
ولزوم الكتابة بنحو دقيق، وبلاغة فائقة، حيث جعل الحديث خيرا من
الذهب والفضة، فإذا كان الإنسان بطبعه يحافظ على الذهب والفضة



(1) رجال النجاشي (ص 116) رقم (298) وتأسيس الشيعة (ص 300).
(2) رجال النجاشي (ص 224) رقم (587).
(3) رجال النجاشي (ص 7 - 158) رقم (415).
(4) أدب الإملاء (ص 55).
152
بالإحراز والضبط، ولا يعرضهما للتلف والضياع، فإن ما هو خير
منهما - أعني الحديث - يكون أولى بالإحراز والحفظ، ومن الواضح أن
أفضل طرق ضبط الحديث وإحرازه كتابته وتدوينه.
2 - عن جابر الجعفي - أيضا - عن أبي جعفر عليه السلام، قال:
سارعوا في طلب العلم، فوالذي نفسي بيده لحديث واحد في حلال
وحرام تأخذه عن صادق خير من الدنيا وما حملت من ذهب وفضة،
وذلك أن الله يقول: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه
فانتهوا) (الآية (7) من سورة الحشر: 95) (1).
3 - عن داود بن عطاء المديني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه
عليهما السلام، قال: عرض الكتاب، والحديث سواء (2).
المراد بالعرض هنا هو قراءة الراوي الروايات على الشيخ، والمراد
بالحديث هنا هو تحديث الشيخ وإلقاؤه الروايات على الراوي.
والعرض هنا هو ما يسمى في علم المصطلح ودراية الحديث بالقراءة
على الشيخ، والحديث هنا هو ما يسمى في ذلك العلم بالسماع من
الشيخ.
ومعنى الحديث: أن القراءة على الشيخ، تساوي في الحجية
والاعتبار السماع منه.
وقد ورد بهذا المعنى روايتان عن أمير المؤمنين عليه السلام،



(1) جامع أحاديث الشيعة (1 / 51).
(2) سنن الدارمي (1 / 123) والكفاية للخطيب (ص 386).
153
ذكرناهما في هذا الفصل، بعنوان ما ورد عن الإمام أمير المؤمنين
عليه السلام (1).
4 - عن خالد بن طهمان، عن أبي جعفر عليه السلام، قال:
لا تعد لهم سفرا، ولا تخط لهم بقلم (2).
وهذا الحديث وإن كان نهيا عن إعداد السفر - وهو الكتاب -
والخط بالقلم، لكن من الواضح أن الإمام عليه السلام إنما نهى عن
الكتابة للولاة الظالمين كما يظهر من الحديث الذي أورده ابن أبي شيبة
قبل هذا الحديث وفيه: النهي عن التولي للسلطان.
وهو يدل بالإيماء على شرافة إعداد الكتب والخط بالقلم والرغبة
فيهما للأخيار، كما لا يخفى على ذي فطنة.
2 - في الكتب والمؤلفات:
وقد نقلت في عن الإمام أبي جعفر عليه السلام مؤلفات عديدة:
قال محمد عجاج الخطيب: كان عند الإمام محمد بن علي بن
الحسين، أبي جعفر الباقر عليه السلام (56 - 114 ه‍) كتب كثيرة، سمع
بعضها منه ابنه جعفر الصادق عليه السلام وقرأ بعضها (3).
وقال عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب: كنت أختلف إلى
جابر بن عبد الله، أنا، وأبو جعفر، معنا ألواح نكتب فيها.



(1) أنظر ما مضى (ص 145) رقم (4 و 5).
(2) مصنف ابن أبي شيبة (15 / 236).
(3) أنظر السنة قبل التدوين (ص 4 - 355).
154
وفي بعض نصوصه: فنسأله عن سنن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم، وعن صلاته، فنكتب عنه (1).
والمنقول من أسماء مؤلفاته هو:
1 - تفسير القرآن:
رواه زياد بن المنذر، أبو الجارود العبدي (2).
2 - نسخة أحاديث:
رواها خالد بن أبي كريمة (3).
3 - نسخة:
رواها خالد بن طهمان، أبو العلاء الخفاف (4).
4 - كتاب:
رواه عبد المؤمن بن القاسم، الأنصاري الكوفي (5).
5 - كتاب: رواه زرارة بن أعين الشيباني، الكوفي (6).



(1) تقييد العلم (ص 104) والمحدث الفاضل للرامهرمزي (ص 370) رقم (335) وعنه
في محاسن الاصطلاح (ص 297).
(2) الفهرست للنديم (ص 36) وتأسيس الشيعة (ص 327) وأعيان الشيعة (ج 1 ق 1
ص 112).
(3) رجال النجاشي (ص 151) رقم (396).
(4) أيضا (ص 151) رقم (397).
(5) تأسيس الشيعة (ص 285).
(6) أيضا (ص 286).
155
6 - رسالته إلى سعد الإسكاف:
رواها سعد بن طريف، الإسكاف،
الحنظلي (1).
7 - رسالته إلى سعد الخير:
وهو سعد بن عبد الملك الأموي، وهو صاحب نهر سعد
برحبة الكوفة، وقد رواها الكليني بسندين (2).
ما ورد عن زيد بن علي عليه السلام الشهيد عام (122 ه‍)
نقلت عنه مؤلفات عديدة:
1 - المجموع:
سمعه منه أبو خالد الواسطي، ورواه عنه، وهو مطبوع بروايته،
باسم (مسند زيد) وله شروح كثيرة، منها المطبوع باسم
(الروض النضير).
وتذكر بعض المصادر أن للشهيد زيد مجموعين: فقهي وآخر
حديثي (3).
وهو من جمع عبد العزيز البغدادي، طبع بالقاهرة سنة (1340 ه‍)
قال محمد عجاج الخطيب: المجموع من أجل الوثائق التاريخية التي تثبت
ابتداء التصنيف والتأليف في أوائل القرن الثاني الهجري بعد أن استنتجنا



(1) رجال النجاشي (ص 178) رقم (468).
(2) أوردها الكليني في الكافي (8 / 52 - 55).
(3) أنظر الروض النضير (1 / 82) والسنة قبل التدوين (ص 369 و 371).
156
هذا من خلال عرضنا لمصنفات ومجاميع العلماء، من غير أن نرى
نموذجا ماديا يمثل أولى كتب المصنفات، اللهم، إلا موطأ مالك، الذي
انتهى من تأليفه قبل منتصف القرن الهجري الثاني، فيكون المجموع قد
صنف قبله بنحو ثلاثين سنة (1).
2 - الإحتجاج في القلة والكثرة (2):
ذكر ابن صفوان أن لزيد كتابا في القلة والجماعة كان يستعمله
في محاججة خصومه ويلجأ إليه (3).
3 - الصفوة:
رسالة كلامية صغيرة، تبحث عن الإمامة وأحقية أهل البيت
عليهم السلام بها معتمدا على آيات القرآن الكريم في بيان ذلك، طبعها
ناجي حسن، بمطبعة الآداب، في النجف الأشرف.
4 - قراءة علي عليه السلام:
نسبه إلى زيد الشهيد في تأسيس الشيعة (4) وقد ذكروا أن لزيد
الشهيد قراءة خاصة (5).



(1) السنة قبل التدوين (ص 371) واقرأ عن المجموع في تاريخ الفقه الجعفري للسيد
الحسني (ص 303 - 306).
(2) التحف شرح الزلف (ص 30).
(3) ثورة زيد بن علي، لناجي حسن (ص 35).
(4) تأسيس الشيعة (ص 40).
(5) ثورة زيد (ص 34).
157
5 - غريب القرآن:
تفسير لمفردات ألفاظ القرآن الكريم، وسماه بعض المؤلفين ب‍
غرائب معاني القرآن (1)
وسماه الإمام المرشد بالله بتفسير الغريب، وروى عنه (2).
وأقدم بعض المحققين على طبعه أخيرا في مصر.
قال ناجي حسن: تنسب إلى زيد بن علي بضع عشرة رسالة في
موضوعات مختلفة، كعلم الكلام، والتفسير، والفقه، والأخبار (3).
وذكر السيد مجد الدين المؤيدي من مؤلفات الإمام زيد
عليه السلام غير ما ذكرنا:
6 - تفسير القرآن:
ولعله تفسير غريب القرآن الذي ذكرناه برقم (5).
7 - الإيمان.
8 - الرد على المرجئة.
9 - الخطب والتوحيد.
10 - فضائل أمير المؤمنين عليه السلام.
11 - الرسالة في إثبات الوصاية.



(1) التحف شرح الزلف (ص 30).
(2) الأمالي الخميسية (2 / 103).
(3) الصفوة - المقدمة (ص 9).
158
12 - تفسير الفاتحة.
13 - المناظرات.
14 - المواعظ والحكم (1).
ونسب إليه منسك الحج (2) وطبع كذلك، لكن ذكرنا في ما
ورد عن الإمام السجاد عليه السلام أن الكتاب من تأليفه عليه السلام وأن
أبناءه قد رووه عنه، ومنهم ابنه زيد، فلاحظ (3).
ما ورد عن الإمام جعفر بن محمد أبي عبد الله الصادق
عليه السلام (4 ((ت 148 ه‍)
أ - في الأحاديث:
1 - قال أبو عبد الله عليه السلام للمفضل بن عمر الجعفي:
اكتب وبث علمك في إخوانك، فإن مت فأورث كتبك بنيك، فإنه
يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم (5).



(1) التحف شرح الزلف (ص 30).
(2) لاحظ مسند زيد - المقدمة (ص 5) وطبعه الحجة السيد هبة الدين الشهرستاني باسم
(منهاج الحاج) منسوبا إلى زيد الشهيد، بمطبعة الفرات، بغداد سنة (1330 ه‍).
(3) لاحظ ما ذكرناه (ص 151) رقم (3).
(4) إنما أوردنا ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام ومن بعده من الأئمة الاثني عشر
رغبة في استيفاء ما ورد عنهم عليهم السلام في هذا المجال، ولأن أفعالهم
حجة معتبرة تكشف عن إجماع أهل البيت على جواز التدوين ونفي حرمته،
فليلاحظ.
(5) الكافي (1 / 46) كتاب فضل العلم، باب رواية الكتب، الحديث (11) بحار الأنوار
(2 / 152) ح 827.
159
2 - وفي كتاب عاصم بن حميد الحناط، عن أبي بصير، قال:
دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقال: دخل علي أناس من أهل
البصرة، فسألوني عن أحاديث، فكتبوها، فما يمنعكم من الكتاب؟.
أما إنكم لن تحفظوا حتى تكتبوا (1).
ولنا بيان لهذا الحديث سنذكره في الفصل الرابع من القسم
الثاني (2).
3 - وعن حسين الأحمسي، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:
القلب يتكل على الكتاب (3).
4 - وعن عبيد بن زرارة، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام:
احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها (4).
5 - عن سيف بن هارون مولى آل جعدة، قال: قال أبو عبد الله
عليه السلام: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم من أجود كتابك،
ولا تمد الباء حتى ترفع السين (5).
6 - وعن الحسن بن السري، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:
لا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم لفلان) ولا بأس أن تكتب على



(1) كتاب عاصم الحناط، مطبوع مع الأصول الستة عشر (ص 34) الكافي (1 / 42) ح 9
والبحار (2 / 153).
(2) أنظر (ص 377) من هذا الكتاب.
(3) الكافي (1 / 42) ح (8) بحار الأنوار (2 / 152).
(4) الكافي (1 / 42) ح (10) البحار (2 / 152) ح (40).
(5) الكافي (2 / 493) كتاب العشرة، الحديث (1).
160
ظهر الكتاب لفلان (1).
7 - وقال الإمام الصادق عليه السلام للمفضل بن عمر في كتاب
التوحيد: تأمل - يا مفضل - ما أنعم الله تقدست أسماؤه به على
الإنسان من هذا النطق الذي يعبر به عما في ضميره، وما يخطر بقلبه،
ونتيجة فكره، وبه يفهم عن غيره ما في نفسه.
وكذلك الكتابة التي بها تقيد أخبار الماضين للباقين، وأخبار الباقين
للآتين، وبها تخلد الكتب في العلوم والآداب وغيرهما، وبها يحفظ
الإنسان ذكر ما يجري بينه وبين غيره من المعاملات والحسابات، ولولاه
لانقطع أخبار بعض الأزمنة عن بعض، وأخبار الغائبين عن أوطانهم،
ودرست العلوم، وضاعت الآداب، وعظم ما يدخل على الناس من الخلل
في أمورهم ومعاملاتهم، وما يحتاجون إلى النظر فيه من أمر دينهم، وما
روي لهم مما لا يسعهم جهله (2).
8 - وفي كتاب مصباح الشريعة، المنسوب إلى الإمام الصادق
عليه السلام، قال: على كل جزء من أجزائك زكاة واجبة لله عز وجل...
وزكاة اليد: البذل والعطاء والسخاء بما أنعم الله عليك به،
وتحريكها بكتبة العلوم، ومنافع ينتفع بها المسلمون في طاعة الله تعالى،
والقبض عن الشرور (3).



(1) الكافي (2 / 494) الحديث (2).
(2) توحيد المفضل (ص 79 - 80) بحار الأنوار (3 / 82).
(3) بحار الأنوار (96 / 7).
161
قال العلامة المجلسي رحمه الله في بيان هذا الحديث:
قوله: بكتبة العلوم، يدل على شرافة كتابة القرآن المجيد
والأدعية وكتب الأحاديث المأثورة وسائر الكتب المؤلفة في العلوم
الدينية، وبالجملة كل ما له مدخل في علوم الدين (1).
9 - وروي عنه عليه السلام - موقوفا عليه - أنه قال: إذا كتبتم
الحديث فاكتبوه بإسناده.
وهو الحديث الذي مر مرفوعا مسندا بطريق أهل البيت
عليهم السلام (2).
10 - وقد مر حديث أبي بصير - لما استخبر الإمام الصادق
عليه السلام عن أصحاب المهدي عليه السلام وبلدانهم - فقال
عليه السلام: إنك لا تحفظ، فأين صاحبك الذي يكتب لك؟
فقلت: أظن شغله شاغل وكرهت أن أتأخر عن وقت حاجتي،
فقال عليه السلام لرجل في مجلسه: اكتب له. (3).
ويلاحظ في قوله عليه السلام: إنك لا تحفظ، أنه عليه السلام
جعل الكتابة أمرا احتياطيا عند عدم التمكن من الحفظ، فهو يؤكد عليها
عمليا في هذه الحالة.
والمراد بقوله: لا تحفظ، أن الحديث طويل ويشتمل على أسماء



(1) بحار الأنوار (96 / 7).
(2) لاحظ (ص 96) رقم (22).
(3) دلائل الإمامة للطبري (ص 308).
162
البلدان وأكثرها غريبة غير متداولة، فمن البعيد أن يحفظها أبو بصير
بإلقاء واحد، وسماع مرة.
وهذا يدل على أن مثل هذا الحديث - في الطول والاشتمال على
ألفاظ غريبة - كانوا يأخذون له مزيدا من الاحتياط بالضبط
والتسجيل والكتابة والتدوين.
كما أن قوله عليه السلام: أين صاحبك الذي يكتب لك؟
يدل على أن أبا بصير الذي كان فاقد البصر، كما هو المعروف، كان
قد اتخذ لنفسه كاتبا يكتب له الحديث.
ودلالة هذا الخبر على جواز كتابة الحديث، وعلى اهتمام الإمام
عليه السلام بذلك واضحة جدا.
11 - وفي حديث زيارة أمير المؤمنين عليه السلام، قال الصادق
عليه السلام لابن مارد: اكتب هذا الحديث بماء الذهب (1).
قال الحر العاملي: فيه الأمر بكتابة الحديث بماء الذهب... ولعله
كناية عن تعظيمه والاعتناء والاهتمام بتدوينه وحفظه (2).
ب - في المؤلفات:
لقد كان الإمام الصادق عليه السلام كثير الاهتمام بأمر الكتب
وتدوينها يفصح عن ذلك في كل موقف وزمان، مستغلا الفرص
المتاحة لمثل هذا الإعلان.



(1) تهذيب الأحكام، للطوسي (6 / 21) ح 49.
(2) وسائل الشيعة، كتاب الحج، أبواب المزار باب 23 ح 3 تسلسل 19421.
163
قال محمد عجاج: كان عند جعفر الصادق بن محمد الباقر
عليهما السلام رسائل وأحاديث ونسخ (1).
وقد أثار هذا الجانب حفيظة بعضهم، فكان يشير إلى الإمام
الصادق عليه السلام بأنه صحفي، أي: يأخذ علمه من الكتب.
وكان الإمام عليه السلام يفتخر بذلك، فلما بلغه كلام أبي حنيفة
- هذا - ضحك، وقال:... أما في قوله: أنا رجل صحفي، فقد صدق
! قرأت صحف آبائي، وإبراهيم، وموسى... (2).
ويدل على أن علم أهل البيت عليهم السلام مخزون موروث
غير مبدل الكلمات ولا محرف النقاط، بخلاف ما كان يجده
أبو حنيفة من نقص في ما بأيديهم من النصوص، حتى التجأوا
إلى الرأي والأخذ بالقياس والاستحسان، مما أدى بهم إلى الابتعاد
عن الحق (3).
وقد بقي مما نسب إليه عليه السلام من المؤلفات ما يلي:
1 - التوحيد:
كتاب أملاه عليه السلام على المفضل بن عمر الجعفي الكوفي
يحتوي على بيان عقيدة التوحيد بالنظر والفكر، ويسمى بكتاب (فكر)



(1) السنة قبل التدوين (ص 358) عن تهذيب التهذيب (2 / 104).
(2) لاحظ روضات الجنات للخونساري (8 / 169) وقاموس الرجال (ترجمة: محمد بن
عبد الله بن الحسن) (8 / 243).
(3) أنظر تاريخ بغداد (13 / 323) ترجمة أبي حنيفة النعمان.
164
لأن الإمام عليه السلام يقول فيه للمفضل مكررا: فكر يا مفضل (1).
وهو مشهور متداول، ويعد من أفضل الكتب المؤلفة في باب
التوحيد المرشدة إلى الاعتقاد بوحدانية البارئ تعالى ذكره.
وقد طبع مكررا باسم توحيد المفضل، وأدرجه المجلسي في
بحار الأنوار مع الشرح والبيان (2).
وشرحه العالم الطبيب الشيخ محمد الخليلي النجفي مفصلا باسم
(من أمالي الإمام الصادق عليه السلام) في أربعة أجزاء مطبوعة.
2 - الإهليلجة في التوحيد:
رسالة كتبها الإمام الصادق عليه السلام ردا على الملحدين
المنكرين للربوبية، احتجاجا عليهم، وأرسلها إلى المفضل بن عمر،
المذكور (3)
وقد أوردها المجلسي - أيضا - في البحار (4).
2 - الأهوازية:
رسالة مفصلة كتبها الإمام عليه السلام جوابا لأسئلة عبد الله
النجاشي والي الأهواز، تحتوي على جملة من التعاليم الأخلاقية.



(1) رجال النجاشي (ص 416) رقم (113) والذريعة (4 / 482) رقم (2156).
(2) بحار الأنوار (3 / 57 - 151).
(3) الذريعة (2 / 484).
(4) بحار الأنوار (3 / 152 - 196).
165
أوردها السيد محي الدين ابن ز هرة الحلبي في أربعينه (1).
4 - رسالة إلى أصحابه عليه السلام:
كتبها لهم في الإرشاد إلى السيرة الحسنة والسلوك الديني.
أوردها الكليني في الكافي (2).
5 - الجعفريات:
مجموعة من أحاديث الأحكام مرتبة على أبواب الفقه، رواها
عن الإمام الصادق ابنه الإمام الكاظم عليهما السلام، وأحاديثه كلها
مسندة عن آبائه أو مرفوعة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
ونسخته الموجودة هي برواية محمد بن الأشعث الكوفي،
المصري، عن موسى بن إسماعيل بن الإمام الكاظم، عن أبيه إسماعيل،
عن أبيه الإمام الكاظم عليه السلام.
ولأن الإمام جعفر بن محمد عليه السلام هو مجمع الأحاديث
كلها، فإن الكتاب سمي بالجعفريات.
وبهذا الاسم نقل عنه من غير الإمامية: القاضي نعمان المصري
كبير علماء الإسماعيلية، في بعض مؤلفاته الفقهية المخطوطة.
ويسمى الكتاب - أيضا - بالأشعثيات، نسبة إلى راويه ابن الأشعث



(1) الأربعون حديثا لابن زهرة (ص 46 - 47) الحديث (السادس) وعنه الشهيد في
كشف الريبة (ص 122) وانظر بحار الأنوار (77 / 189 و 78 / 271)
والذريعة (2 / 485).
(2) الكافي، للكليني، قسم الروضة (8 / 2 - 14) وانظر (ص 397).
166
المذكور، الذي هو مجرد راو للكتاب، وليس مؤلفا له قطعا (1).
وقد ذكر النجاشي في ترجمة إسماعيل بن الإمام الكاظم أن:
له كتبا يرويها عن أبيه عن آبائه (2).
وقد رجحنا في بحث أسند عنه أن الأقوى أن يكون الكتاب
من تأليف الإمام الصادق عليه السلام (3).
ومجموعة من الكتب نسبها إليه الرواة، نعددها في ما يلي:
1 - وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
ذكرها الإشبيلي في فهرسة ما رواه. وأورد طريقه إلى جعفر
بن محمد الصادق عليه السلام (4).
ورواها البيهقي عن السري بن خالد عن جعفر بن محمد، عن
أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم أنه قال: يا علي، أوصيك بوصية فاحفظها، فإنك لا تزال بخير
ما حفظت وصيتي، يا علي.
يا علي: إن للمؤمن ثلاث علامات: الصلاة والصيام والزكاة.
وذكر حديثا طويلا في الرغائب والآداب.



(1) الذريعة (2 / 109) رقم (436).
(2) رجال النجاشي (ص 26) رقم (48).
(3) المصطلح الرجالي أسند عنه (ص 135 - 138).
(4) الفهرسة لابن خير الأندلسي (ص 277 - 278).
167
قال البيهقي: وهو حديث موضوع (1)
وذكره الطيبي في الخلاصة (2).
وذكره من أعلامنا أحمد بن محمد أبو غالب الزراري
(ت 368 ه‍) في فهرست ما رواه، قال: عن أبي العباس ابن عقدة، وعلى
ظهره إجازته لي جميع حديثه، بخطه (3).
وقد أسند الصدوق إلى ما سماه: وصية النبي صلى الله عليه وآله
وسلم لعلي عليه السلام، من طريق أهل البيت عليهم السلام (4).
وبهذا العنوان نسخة في المكتبة الظاهرية في دمشق،
برقم (9742).
2 - كتاب الحج:
رواه أبان بن عبد الملك الثقفي (5).
3 - مناسك الحج وفرائضه وما هو مسنون في ذلك:
سمعه كله من الإمام عليه السلام راويه عمر بن محمد أبو الأسود
بياع السابري، ذكره النجاشي، ورواه بثلاثة أسانيد (6).



(1) دلائل النبوة للبيهقي (7 / 22).
(2) الخلاصة في علم الحديث: للطيبي (ص 10).
(3) رسالة أبي غالب الزراري في آل أعين بتحقيقنا (ص 181) رقم (107).
(4) من لا يحضره الفقيه (4 / 134).
(5) رجال النجاشي (ص 14) رقم (9).
(6) رجال النجاشي (ص 283) رقم (751).
168
4 - حديث الحج:
قال يحيى بن سعيد: أملى علي جعفر [عليه السلام] الحديث
الطويل - يعني في الحج - (1).
ولعله أراد حديث جابر بن عبد الله الأنصاري في الحج الذي رواه
مسلم في الصحيح، وقد ذكرناه في ما نقل عن جابر من المؤلفات.
5 - كتاب:
رواه طلاب بن حوشب أبو رويم الشيباني (2).
6 - كتاب مبوب في الحلال والحرام:
رواه إبراهيم بن محمد أبو إسحاق المدني (3).
7 - كتاب:
رواه عباد بن صهيب اليربوعي البصري (4).
8 - كتاب:
رواه ابنه الإمام موسى الكاظم عليه السلام، برواية القاسم
بن إبراهيم بن إسماعيل عنه، وعن أبيه وغيرهما، والراوي هو القاسم الرسي من
أئمة الزيدية (5).



(1) تهذيب التهذيب (2 / 103).
(2) رجال النجاشي (ص 207) رقم (549).
(3) أيضا (ص 15) رقم (12).
(4) أيضا (ص 293) رقم (791).
(5) أيضا (ص 314) رقم (859).
169
9 - كتاب:
رواه خالد بن صبيح، الكوفي (1).
10 - كتاب نوادر:
رواه خالد بن يزيد العكلي الكوفي (2).
11 - كتاب نوادر:
رواه داود بن عطاء المدني (3).
12 - كتاب نوادر:
رواه خضر بن عمرو النخعي (4).
13 - نسخة كبيرة:
رواها محمد بن إبراهيم الإمام (5).
14 - نسخة:
رواها عباس بن زيد المدني مولاه عليه السلام (6).
15 - نسخة:
رواها محمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي



(1) رجال النجاشي (ص 150) رقم (393).
(2) أيضا (ص 152) رقم (398).
(3) أيضا (ص 157) رقم (412)
(4) أيضا (ص 153) رقم (402).
(5) أيضا (ص 355) رقم (951).
(6) أيضا (ص 282) رقم (750).
170
عليه السلام (1).
16 - نسخة:
رواها إبراهيم بن رجاء الشيباني الجحدري ابن هراسة (2).
17 - نسخة:
رواها سفيان بن عيينة الهلالي، من محدثي العامة (3).
18 - نسخة:
رواها عبد الله بن أبي أويس الأصبحي (4).
19 - نسخة:
رواها الفضيل بن عياض البصري (5).
20 - نسخة:
رواها مطلب بن زياد الزهري القرشي المدني (6).
21 - كتاب نسب إليه عليه السلام:
رواية حفيده الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، ذكر
في ترجمة جعفر بن بشير البجلي الوشاء المتوفى (208 ه‍) (7)



(1) رجال النجاشي (ص 358) رقم (962).
(2) أيضا (ص 16) رقم (16).
(3) أيضا (ص 190) رقم (506).
(4) أيضا (ص 224) رقم (586).
(5) أيضا (ص 310) رقم (847).
(6) أيضا (ص 432) رقم (1136).
(7) الفهرست للطوسي (ص 68) رقم (142).
171
وذكر النجاشي للمترجم كتابا باسم النوادر، ولعل المراد به هو
هذا الكتاب (1).
وبلغت حركة التأليف أقصى قوتها في عهد الإمام الصادق عليه السلام
بفضل توجيهاته وإرشاداته القيمة، فكان في تلامذته الكثيرون ممن ألفوا
الكتب، ودونوا الحديث في المصنفات والمسانيد (2).
وتوصلنا في بحثنا عن: المصطلح الرجالي أسند عنه، إلى أن جميع
الموصوفين - من الرواة - بهذا الوصف إنما هم ممن ألف حديث الإمام
عليه السلام على شكل (المسند) فجمع فيه ما رواه الإمام عليه السلام
مسندا مرفوعا عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (3).
ما ورد عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام (ت 183 ه‍)
1 - الأقوال:
عن زيد النهشلي، قال: كان جماعة من خاصة أبي الحسن
عليه السلام من أهل بيته وشيعته يحضرون مجلسه ومعهم في أكمامهم
ألواح أبنوس لطاف وأميال، فإذا نطق أبو الحسن عليه السلام بكلمة،
أو أفتى في نازلة، أثبت القوم ما سمعوا منه في ذلك (4).
وقد أثرت عنه عليه السلام المؤلفات التالية:



(1) رجال النجاشي (ص 118) رقم (304).
(2) أنظر روضة المتقين، لمحمد تقي المجلسي (1 / 87).
(3) المصطلح الرجالي (ص 122) خاصة ص (125).
(4) مهج الدعوات، لابن طاوس (ص 219 - 220).
172
1 - مسند الإمام موسى بن جعفر عليه السلام:
مجموعة من الروايات المسندة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، التي أسندها الإمام الكاظم عليه السلام بطريق آبائه
عليهم السلام.
رواها عنه موسى بن إبراهيم أبو عمران المروزي البغدادي،
قال: إنه سمعها من الإمام عليه السلام عندما كان الإمام في سجن
هارون العباسي.
ذكره الطوسي (1) والنجاشي (2).
وذكره الجلبي وقال: رواه أبو نعيم الأصفهاني، وروى عنه هذا
المسند موسى بن إبراهيم (3).
وحققه أخي السيد محمد حسين الحسيني الجلالي معتمدا
النسخة الموجودة في المكتبة الظاهرية بدمشق، في المجموعة رقم (34)
وطبع بتحقيقه سنة (1389 ه‍) في النجف، وسنة (1392 ه‍) بطهران،
وأعيد طبعه بأمريكا سنة (1401 ه‍) وطبع أخيرا في بيروت سنة (1406 ه‍)
ومجموع ما فيه (59) حديثا.
والملاحظ وجود عدد وافر من الأحاديث التي رواها المروزي
المذكور عن الإمام الكاظم عليه السلام، على منهج الإسناد المذكور،



(1) الفهرست للطوسي (ص 191) رقم (721).
(2) رجال النجاشي (ص 407) رقم (1082).
(3) كشف الظنون (عمود 1682).
173
يمكن اعتبارها مستدركا على النسخة المذكورة، ولعلها تبلغ ضعف ما
جاء فيه (1).
2 - كتاب:
رواه محمد بن صدقة العنبري البصري (2).
3 - كتاب:
رواه بكر بن الأشعث أبو إسماعيل الكوفي (3).
4 - كتاب:
رواه خلف بن حماد بن ياسر الكوفي (4).
5 - نسخة:
رواها علي بن حمزة بن الحسن، العلوي (5).
6 - نسخة:
رواها محمد بن ثابت (6).
7 - نسخة:



(1) أنظر المصطلح الرجالي... (ص 129 - 130).
(2) رجال النجاشي (ص 364) رقم (983).
(3) أيضا (ص 109) رقم (275).
(4) أيضا (ص 152) رقم (399).
(5) أيضا (ص 273) رقم (714).
(6) أيضا (ص 396) رقم (1003).
174
رواها محمد بن زرقان بن الحباب (1).
8 - مسائل:
رواها الحسن بن علي بن يقطين (2).
9 - مسائل:
رواها علي بن يقطين (3).
10 - رسالة:
كتبها الإمام عليه السلام إلى علي بن سويد السائي (4).
ما ورد عن الإمام علي بن موسى أبي الحسن الرضا عليه السلام
(ت 202 ه‍)
1 - الأقوال:
1 - قال الراوي: كتبت على ظهر قرطاس: إن الدنيا ممثلة للإمام
كفلقة الجوزة، فدفعته إلى أبي الحسن عليه السلام، وقلت: جعلت فداك
إن أصحابنا رووا حديثا ما أنكرته، غير أني أحببت أن أسمعه منك!.
قال: فنظر فيه ثم طواه، حتى ظننت أنه قد شق عليه، ثم قال:



(1) رجال النجاشي (ص 370) رقم (1006).
(2) أيضا (ص 45) رقم (91).
(3) أيضا (ص 273) رقم (715).
(4) رجال النجاشي (ص 276) رقم (724) وأوردها الكليني في الكافي (8 / 124)
وقد شرح هذه الرسالة الشيخ فاضل المالكي في كتاب (علي بن سويد السائي) مع ترجمة
موسعة لهذا الراوي، طبع في قم سنة 1411 ه‍ من منشورات مؤتمر الإمام الرضا
عليه السلام الذي أقيم في مشهد المقدسة - في الجمهورية الإسلامية في إيران.
175
هو حق، فحوله في أديم.
وفي نقل آخر للحديث: قال: وهو حق، فانقلوه إلى أديم (1).
وقال المجلسي مبينا للحديث: إنما قال عليه السلام: فحوله إلى
أديم، ليكون أدوم وأكثر بقاء من القرطاس، لاهتمامه بضبط هذا
الحديث، ويظهر منه استحباب كتابة الحديث وضبطه والاهتمام به،
وكون ما يكتب فيه الحديث شيئا لا يسرع إليه الاضمحلال (2).
2 - وفي تفسير قوله تعالى: (وكان تحته كنز لهما)
سورة الكهف (18) الآية: 82،
قال علي بن أسباط: قلت له عليه السلام: جعلت فداك، أريد أن
أكتب.
قال: فضرب يده - والله - إلى الدواة، فتناولت يده، فتناولتها
وأخذت الدواة فكتبته (3).
3 - وعن ابن أبي نصر، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام:
أنه كان يترب الكتاب وقال: لا بأس به (4).
4 - عن أحمد بن عمر الحلال، قال قلت لأبي الحسن الرضا
عليه السلام: الرجل من أصحابنا يعطيني الكتاب، ولا يقول: " إروه



(1) الإختصاص للمفيد (ص 217) وبحار الأنوار (2 / 145) ح 11 و 21.
(2) بحار الأنوار (2 / 146).
(3) نقله الطهراني في محجة العلماء (ص 253).
(4) الكافي للكليني (2 / 494) كتاب العشرة، ح 8.
176
عني، يجوز لي أن أرويه عنه؟
قال: فقال: إذا علمت أن الكتاب له، فاروه عنه (1).
وقد نسبت إلى الإمام الرضا عليه السلام عدة مؤلفات، وهي:
1 - صحيفة الرضا عليه السلام:
ويسمى أيضا مسند الإمام الرضا عليه السلام.
وهو مجموع ما أسنده الإمام عليه السلام عن آبائه عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم، برواية العديد من أصحابه، وأشهرهم أحمد
بن عامر بن سليمان الطائي.
وهذه الصحيفة مشهورة متواترة النقل عنه عليه السلام لدى كافة
الطوائف الإسلامية، فلها طرق كثيرة عند الشيعة الإمامية، والزيدية،
كما هو عند العامة.
وذكرها أرباب الفهارس والمعاجم (2).
ونسخها المخطوطة منتشرة في دور الكتب العالمية، كما طبعت
طبعات عديدة، وقفنا منها على:
1 - طبعة اليمن سنة (1354 ه‍) بمطبعة الحكومة المتوكلية في
مدينة صنعاء العاصمة، بترتيب الشيخ عبد الواسع الواسعي، باسم مسند



(1) الكافي (1 / 52) الحديث (6) وروضة المتقين للمجلسي (1 / 26) وبحار الأنوار
(2 / 167) وكتابنا (إجازة الحديث) المخطوط.
(2) رجال النجاشي (ص 100) رقم (250) وأعيان الشيعة (ج 1 ق 1 ص 374)
والذريعة (15 / 17) و (21 / 26) و (24 / 149).
177
الإمام الرضا عليه السلام) وأعيد طبعه بعد ذلك ملحقا بمسند الإمام زيد
الشهيد، في بيروت، من إصدارات دار مكتبة الحياة.
2 - وطبع في قم سنة (1365) باسم كتاب ابن أبي الجعد،
وهي كنية الطائي.
3 - وطبع بطهران سنة (1377 ه‍) بتحقيق الدكتور الشيخ حسين
علي محفوظ الكاظمي، باسم صحيفة الرضا عليه السلام.
4 - وطبع في مشهد سنة (1404 و 1406 ه‍) بتحقيق الشيخ محمد
مهدي نجف.
5 - وطبع أخيرا في قم سنة (1408 ه‍) بتحقيق مدرسة الإمام
المهدي عليه السلام مع مقدمة جامعة لطبقات رواة الصحيفة على
اختلاف نسخها وطرقها على مر القرون، مع تخريج واسع لأحاديثه،
وإضافة ما ورد من أحاديث وروايات منقولة عن الإمام عليه السلام على
منهج الإسناد الذي جاء في الكتاب.
2 - الرسالة الذهبية:
رسالة في بعض النصائح الطبية، كتبها الإمام عليه السلام
للمأمون العباسي، فأمر هذا بكتابتها بماء الذهب، فسميت بالذهبية،
وهي متداولة، طبعت في النجف سنة (1380 ه‍) بتقديم السيد
محمد مهدي الموسوي الخرسان، وفي قم سنة (1402 ه‍) بتحقيق الشيخ
مهدي نجف (1).



(1) وقد أورد الرسالة بكاملها السيد الجزائري في كتاب (الأنوار النعمانية) (ج 4 ص 174 -
187) وقال المعلق عليه: شرحها من العلماء السيد فضل الله الراوندي (ت بعد 548)
والسيد عبد الله الشبر (ت 1242) والدكتور صاحب زيني وشرحه مقارن بالطب
الحديث وطبع بمطبعة المعارف في بغداد.
178
3 - أمالي الإمام الرضا عليه السلام:
رواه أبو الحسن، علي بن علي الخزاعي أخو دعبل الشاعر، قال:
حدثنا أبو الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام، بطوس، إملاء، في
رجب سنة ثمان وتسعين ومائة، قال: حدثني أبي موسى بن جعفر....
أورد ذلك الشيخ الطوسي ونقل عنه أحاديث عديدة (1).
أقول: لعل هذا الكتاب هو الذي ذكر النجاشي أن الخزاعي
رواه عن الإمام عليه السلام (2).
4 - أمالي الإمام الرضا عليه السلام:
رواه الفضل بن شاذان، وأطلق لعلي بن محمد بن قتيبة روايته عن
الإمام عليه السلام (3).
5 - كتاب الإهليلجة:
نسب إليه عليه السلام.
وقال السيد الأمين: فيه حجج بالغة ومطالب جليلة في



(1) أمالي الطوسي (1 / 370 - 382).
(2) رجال النجاشي (ص 277) رقم (727).
(3) أمالي الصدوق - المقدمة - (ص 21) بقلم السيد محمد مهدي الموسوي الخرسان.
179
علم الكلام (1).
6 - مجالس الرضا عليه السلام مع أهل الأديان:
صنفه الحسين بن محمد بن الفضل بن يعقوب أبو محمد
الهاشمي (2).
7 - كتاب:
رواه موسى بن سلمة الكوفي (3).
8 - كتاب:
رواه وريزة بن محمد الغساني سنة (190 ه‍) (4).
9 - كتاب:
رواه علي بن مهدي بن صدقة أبو الحسن الرقي الأنصاري (5).
10 - نسخة مبوبة كبيرة:
رواها محمد بن عبد الله للاحقي (6).
11 - نسخة:



(1) أعيان الشيعة (ج 1 ق 1 ص 377) و (ج 1 ق 2 ص 5).
(2) رجال النجاشي (ص 56) رقم (131).
(3) رجال النجاشي (ص 409) رقم (1090).
(4) رجال النجاشي (ص 432) رقم (1163).
(5) رجال النجاشي (ص 277) رقم (728) وأعيان الشيعة (ج 1 ق 1 ص 374).
(6) رجال النجاشي (ص 396) رقم (990).
180
رواها محمد بن علي بن الحسين بن زيد الشهيد (1).
12 - نسخة:
رواها أبو أحمد، داود بن سليمان الغازي (2).
وهذا الراوي هو من رواة الصحيفة التي ذكرناها برقم (1) هنا.
13 - نسخة:
رواها عبد الله بن علي بن الحسين بن زيد الشهيد (3).
14 - نسخة:
رواها عبد الله بن محمد بن علي بن العباس التميمي الرازي (4).
15 - نسخة:
رواها عباس بن هلال الشامي (5).
16 - مسائل:
رواها معاوية بن سعيد (6).



(1) رجال النجاشي (ص 396) رقم (992).
(2) أعيان الشيعة (ج 1 ق 1 ص 374).
(3) رجال النجاشي (ص 227) رقم (599).
(4) أيضا (ص 228) رقم (603) وهذه النسخة بتمامها وبنفس سند النجاشي أوردها
الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام (ج 1 ص 58) الأحاديث (214 - 314)
وذكر في دلائل الإمامة (ص 239) حديثا منها.
(5) رجال النجاشي (ص 282) رقم (749).
(6) أيضا (ص 410) رقم (1094).
181
17 - مسائل:
رواها الحسن بن علي الوشاء (1).
18 - مسائل:
رواها سعد خادم أبي دلف العجلي (2).
19 - مسائل:
رواها صباح بن نصر الهندي (3).
20 - مسائل:
رواها عبد الله بن محمد بن حصين الأهوازي (4).
21 - مسائل:
رواها عيسى بن عبد الله بن سعد بن مالك الأشعري (5).
ما ورد عن الإمام أبي جعفر، محمد بن علي الجواد عليه السلام
(ت 220 ه‍)
عن محمد بن الحسن بن أبي خالد، شينولة، قال: قلت
لأبي جعفر الثاني عليه السلام: جعلت فداك، إن مشايخنا رووا عن
أبي جعفر، وأبي عبد الله عليهما السلام، وكانت التقية شديدة، فكتموا
كتبهم، فلم ترو عنهم، فلما ماتوا صارت الكتب إلينا؟



(1) رجال النجاشي (ص 39) رقم (80).
(2) أيضا (ص 179) رقم (471).
(3) أيضا (ص 202) رقم (539).
(4) أيضا (ص 227) رقم (597).
(5) أيضا (ص 297) رقم (805).
182
فقال: حد ثوا بها فإنها حق (1).
ما ورد عن الإمام علي بن محمد أبي الحسن الهادي عليه السلام
(ت 254 ه‍)
نقلت عنه الكتب التالية:
1 - الأمالي في تفسير القرآن:
وهو المعروف باسم تفسير العسكري، رواه عنه اثنان من أصحابه
عليه السلام، وكان الإمام يملي عليهما ذلك مدة سبع سنوات، مقدارا
لكل يوم قدر ما ينشط له من الإملاء (2).
2 - رسالة الرد على أهل الجبر والتفويض (3).
3 - كتاب في أحكام الدين:
ذكره السيد الأمين العاملي (4).
4 - نسخة:
رواها أبو طاهر ابن حمزة بن اليسع أخو أحمد (5).
5 - نسخة:



(1) الكافي للكليني (1 / 53) ح (15) ونقله في بحار الأنوار (2 / 167) وانظر مستدرك
الوسائل (3 / 382) وقد تحدثنا عن هذا الحديث بتفصيل في بحثنا حول (الطرق الثمان
لتحمل الحديث وأدائه) باعتباره من أدلة طريقة (الوجادة).
(2) الذريعة (4 / 283 و 285) ولاحظ أمالي الصدوق - المقدمة (ص 21) ط النجف،
وقد شكك بعض الأعلام في نسبة هذا التفسير إلى الإمام عليه السلام، فلاحظ.
(3) أعيان الشيعة (ج 1 ق 1 ص 380).
(4) أعيان الشيعة (ج 1 ق 1 ص 380).
(5) رجال النجاشي (ص 460) رقم (1256).
183
رواها عيسى بن أحمد بن عيسى بن المنصور، السر من رائي (1).
6 - نسخة:
رواها علي بن الريان بن الصلت الأشعري القمي (2).
7 - مسائل:
رواها علي بن جعفر الهماني البرمكي (3).
ما ورد عن الإمام الحسن بن علي أبي محمد العسكري عليه السلام
(ت 260 ه‍)
1 - عن داود بن القاسم الجعفري، قال: عرضت على أبي محمد
صاحب العسكر عليه السلام كتاب يوم وليلة ليونس، فقال لي:
تصنيف من هذا؟
فقلت: تصنيف يونس مولى آل يقطين.
فقال: أعطاه الله بكل حرف نورا يوم القيامة (4).
والمأثور عنه عليه السلام من الكتب:
1 - كتاب المنقبة:
قال شيخنا الطهراني: المشتمل على أكثر الأحكام ومسائل
الحلال والحرام وعن (مناقب شهرآشوب، و (الصراط المستقيم)



(1) رجال النجاشي (ص 297) رقم (806).
(2) أيضا (ص 278) رقم (731).
(3) أيضا (ص 280) رقم (740).
(4) رجال النجاشي (ص 447) رقم (1208) وبحار الأنوار (2 / 150) ح (25).
184
للنباطي: أنه تصنيف الإمام العسكري عليه السلام.
وحكى ذلك السيد الميرزا محمد هاشم الأصفهاني في آخر رسالته
في تحقيق حال الكتاب المعروف بفقه الرضا، وجعل الاحتمال
الخامس في الرسالة: اتحاد فقه الرضا مع كتاب المنقبة هذا (1).
2 - نسخة:
رواها عبد الله بن محمد أبو معاد الحويمي (2).
3 - مسائل:
رواها محمد بن سليمان أبو طاهر الزراري جد أبي غالب (3).
4 - مسائل:
رواها محمد بن الريان بن الصلت الأشعري القمي (4).
5 - مسائل:
رواها محمد بن علي بن عيسى القمي (5).
6 - تفسير العسكري عليه السلام:
نسبت نسخة كتاب بهذا العنوان إلى الإمام الحسن العسكري عليه
السلام، وقد طبعت أخيرا اعتمادا على نسخ أقدمها المؤرخة بسنة (886 ه‍).
وليس هناك ما يدل على وجودها أسبق من ذلك إلا ما تناقله بعض



(1) رسالة في تحقيق فقه الرضا (ص 30) الذريعة (23 / 149).
(2) الذريعة (24 / 152) رقم (777).
(3) رجال النجاشي (ص 347) رقم (937) ولاحظ رسالة أبي غالب الزراري (ص
126 و 148 و 226)
(4) رجال النجاشي (ص 370) رقم (1009).
(5) أيضا (ص 371) رقم (1010).
185
من أحاديث مفردة بسند يتفق مع ما جاء في أول هذه النسخة
كالصدوق وصاحب الاحتجاج والمحقق الكركي في إجازة له.
ولم يثبت استنادهم إلى مثل هذه النسخة، فمن الممكن اعتمادهم
على النقل الشفوي، أو إلى كتاب آخر يحتوي على مثل هذا السند.
ثم إن القدماء مع ذلك نسبوا بنفس السند تفسيرا إلى الإمام
الهادي عليه السلام، ذكرناه في مؤلفاته عليه السلام.
ومن المستبعد تعدد الكتابين من الراويين المذكورين في السند، تارة
عن الهادي عليه السلام، وأخرى عن العسكري عليه السلام!
ثم إن في النسخة المطبوعة اضطرابا في سندها وخلطا في متنها،
لا يناسبان - مطلقا - نسبتها إلى الإمام عليه السلام.
وقد ألف الحجة الشيخ محمد جواد البلاغي (ت 1352 ه‍) رسالة في
نسبة هذا الكتاب فصل أوجه الاضطراب والخلط فيه، كما جمع الشيخ
رضا الأستادي أقوال الأعلام نفيا وإثباتا حول الكتاب ونسبته، وقد نشر
العملان في مجلة (نور علم) القمية في العدد الأول للسنة الثانية ص 118 - 151. فليراجع.
ما ورد عن الإمام محمد بن الحسن المهدي المنتظر عليه السلام
فقد خرجت من ناحيته المقدسة أجوبة المسائل مكتوبة باسم
(التوقيعات) على الأسئلة الموجهة إلى ناحيته المقدسة.
وقد جمعها عدة من الأعلام، منهم: أبو العباس الحميري عبد الله
بن جعفر بن الحسين بن مالك بن جامع القمي، من أصحاب الإمام أبي
محمد الحسن العسكري عليه السلام (ت 299 ه‍) (1).



(1) رجال النجاشي (ص 220) رقم (573).
186
تعليق على الفصل الثالث:
وبهذا ينتهي الفصل الثالث من القسم الأول، وقد عرفنا من خلال
عرضنا لروايات أئمة أهل البيت عليهم السلام ومؤلفاتهم: أنهم -
كلهم وبلا استثناء - وقفوا مع جواز التدوين قولا وعملا.
بل، رأيهم جميعهم على ذلك وإذا كان كبار أهل البيت
عليهم السلام كذلك نستكشف موافقة سائر علمائهم والمخالف
شاذ وخارج عن إجماعهم، والعبرة بما انعقد عليه إجماع أهل
الحل والعقد منهم، ولا حكم للشاذ النادر.
مع أنه لم ينقل عن أي واحد منهم خلاف ذلك، على سعة تتبعنا
في الموضوع.
لكن ينبغي - ونحن في نهاية هذا الفصل - التنبيه على أمرين:
الأمر الأول: أن ما عددناه في هذا الفصل من المؤلفات والكتب
المأثورة عن الأئمة الاثني عشر عليهم السلام، لا يعني - إطلاقا - تحديد
نشاطاتهم العلمية بذلك، أو حصر آثارهم العملية في ذلك فقط، بل،
إن تلك المؤلفات والكتب لا تمثل إلا جزءا ضئيلا من جهودهم المسجلة،
فإن أصحابهم - الذين تربوا على أيديهم وحصلوا في مدارسهم - من

187
المؤلفين للكتب، في عصرهم وبمرأى منهم - كانوا كثيرون جدا.
قال المحدث المتضلع في تاريخ الحديث عند الشيعة الإمامية المولى
محمد تقي المجلسي الأول (ت 1070 ه‍): إن أصحاب الإمام
أبي عبد الله الصادق عليه السلام المصنفين للكتب كانوا أربعة آلاف
رجل، فاختاروا - من جملة كتبهم وجملة ما نقله أصحاب سائر
أئمتنا عليهم السلام - أربعمائة كتاب وسموها (الأصول
الأربعمائة) وكانت هذه الأصول عند أصحابنا، يعملون عليها، مع تقرير
الأئمة الذين في أزمنتهم عليهم السلام على العمل بها،
وكانت هذه الأصول عند الكليني والصدوق والطوسي
، فجمعوا منها هذه الكتب الأربعة: الكافي، ومن لا يحضره الفقيه،
والتهذيب، والاستبصار.
لكن لما كانت هذه الكتب الأربعة موافقة لتلك الأصول الأربعمائة،
وكانت هذه مرتبة بترتيب أحسن من تلك، لم يهتموا غاية الاهتمام بنقل
تلك الأصول،
ولما أحرقت كتب المفيد والطوسي، ضاعت أكثر الأصول،
وبقي بعضها حتى عصر ابن إدريس الحلي، فقد كان عنده طرف منها،
وبقي القليل منها إلى الآن (1).



(1) أنظر روضة المتقين شرح من لا يحضره الفقيه (1 / 6 - 87) وعن الأصول الأربعمائة
الذريعة (2 / 125 - 167) ودائرة المعارف الإسلامية الشيعية للأمين (5 / 32) بقلم
محمد حسين الحسيني الجلالي، وتأسيس الشيعة (ص 287) وعن الكتب الأربعة انظر
دليل القضاء الشرعي (3 / 110 - 252).
188
وأما مجموع ما ألفه أصحاب الأئمة عليهم السلام فقد بلغ
الآلاف، وعددها المحدث المذكور بثمانين ألف كتاب (1).
ولا غرو، فقد كان الأئمة عليهم السلام يحثون أصحابهم على
التدوين، قولا وعملا، ويبعثون على جمع الحديث وكتابته، وتخليد
الكتب والاحتفاظ بها بشتى الوسائل والأساليب، فلا عجب من أتباعهم
الذين يقتدون بهم ويتأسون بعلمهم وعملهم ويتبعون أثارهم: أن
يعمدوا إلى تأليف الكتب، وبشكل واسع، ويسبقوا غيرهم في مجال
التدوين في مختلف العلوم الإسلامية والحديث الشريف خاصة، صونا
له من الضياع والتلف، ولأحكام الدين وآدابه من التغيير والتبديل،
وقطعا لدابر أعداء الدين الذين يكيدون له بكل وسائل الإبادة
والتخريب، بما في ذلك منع تدوين الحديث وتحريم تخليده في الكتب.
والمنقول عن الأئمة عليهم السلام من الكتب والمؤلفات قليل
بالنسبة إلى ما حدثوا به من الروايات المنقولة عنهم شفهيا، فقد ملأت
أحاديثهم التي تناقلها الرواة عنهم مجلدات كثيرة، وحوتها موسوعات
كبيرة، مثل: بحار الأنوار تأليف المحدث المجلسي في أكثر من مائة
جزء، ومثل وسائل الشيعة للمحدث الحر العاملي في ثلاثين جزءا،
ومثل مستدرك الوسائل النوري، في أكثر من خمسة وعشرين جزء، وعوالم
العلوم والمعارف للبحراني في أكثر من مائة جزء، وجامع المعارف
والأحكام للسيد عبد الله الشبر في أكثر من أربعين جزءا.



(1) روضة المتقين (1 / 87) ولاحظ الفوائد الطوسية (ص 5 - 246).
189
الأمر الثاني: قد ظهر من مجموع ما أوردناه في هذا الفصل تحقق
إجماع أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم على إ باحة التدوين
لجميع العلوم، وخاصة الحديث الشريف منذ عهد أمير المؤمنين
عليه السلام وحتى اليوم، ولم يعهد عن أي واحد منهم سواء الأئمة
الاثنا عشر، أو أصحابهم، أو سائر علماء الشيعة الأبرار نقل -
ولو ضعيف - بالقول بمنع التدوين.
ومن ذلك يعلم بالقطع واليقين بطلان نسبة حديث النهي عن
الاحتفاظ بالكتب إلى الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام، والاستدلال
بذلك على منعه لتدوين الحديث.
فإنه: مضافا إلى منافاته لما اشتهر من النقل عن الإمام عليه السلام
من كونه من القائلين بإباحة التدوين، بل هو مذكور في مقدمة المبيحين،
وقد نقلنا عنه ذلك قولا وعملا، بما لا يبقى معه ريب في بطلان نسبة
الخلاف إليه.
فإن ذلك باطل من جهات:
1 - أن ذلك الخبر - الذي رواه القرطبي في جامعه (1) - إنما هو خبر
واحد، غير معروف الطريق، ولا مشهور الرواية، فلا يعارض الأخبار
الكثيرة الناقلة لإباحته عليه السلام التدوين والكتابة، وروايته ذلك،
وفعله وكتابته للكتب، كما فصلناه سابقا.
2 - إن نص هذا الخبر هو:



(1) جامع بيان العلم (1 / 63) وانظر السنة قبل التدوين (ص 313).
190
أن عليا عليه السلام كان يخطب، يقول: أعزم على كل من كان
عنده كتاب إلا رجع فمحاه، فإنما هلك الناس حيث يتبعوا أحاديث
علمائهم، وتركوا كتاب ربهم.
مع أن هذا النص - بعد الإعراض عن الجهات السابقة - لا ينافي
القول بجواز التدوين، وذلك لأنه يحتوي على أمرين:
1 - أن يكون الكتاب المذكور مؤديا إلى ترك كتاب الرب.
2 - أن يكون الكتاب المذكور من كلام العلماء الذين يكتسبون من
غير الوحي.
وكلا الأمرين لا يوجدان في كتاب الحديث الشريف:
1 - فإن الحديث ليس من كلام العلماء، وإنما هو كلام الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، بل يستلهم من
الوحي، فهو خارج عما يراد من هذا الخبر تخصصا (1).
2 - إن الحديث النبوي الشريف لا يؤدي إلى ترك كتاب الله حتى
يكون مصداقا لما ذكره الإمام عليه السلام وموردا للعلة التي ذكرت في
الكلام.
بل الحديث ليس إلا امتدادا للقرآن وتبيانا له وتأكيدا على
مضامينه، كما سيأتي تفصيل ذلك في الفصل الثالث من القسم الثاني.
3 - إن سند الخبر - كما في مصدره المذكور - هو قول يوسف بن



(1) لاحظ الأنوار الكاشفة، للمعلمي (ص 39).
191
عبد البر القرطبي: أخبرنا أحمد بن عبد الله: حدثنا أبي: نا عبد الله:
نا بقية: نا أبو بكر أبو أسامة، عن شعبة، عن جابر بن عبد الله
بن يسار، قال: سمعت عليا يخطب، يقول (1).
وهذا السند مخدوش من جهات:
فأولا: ما ذكره المعلمي - في الأنوار الكاشفة - بقوله: ذكره
ابن عبد البر من طريق شعبة عن جابر، ولم أجد لجابر بن عبد الله
بن يسار ذكرا، وقد استوعب صاحب التهذيب مشايخ شعبة في
ترجمته، ولم يذكر فيهم من اسمه جابر، إلا جابر بن يزيد الجعفي،
فلعل الصواب، جابر، عن عبد الله بن يسار.
... وعبد الله بن يسار لا يعرف (2).
أقول: أما ما صوبه أخيرا، فهو عين الصواب، لما ذكره،
وأما قوله: وعبد الله بن يسار لا يعرف، فهو خطأ، إذ الرجل من
التابعين وقد ذكره ابن حجر، وذكر أنه روى عن علي عليه السلام وروى
عنه جابر الجعفي ونقل عن النسائي وابن حبان توثيقه (3).
وثانيا: ما ذكره المعلمي أيضا - على مبناه في الجرح - بقوله:
جابر الجعفي ممقوت، كان يؤمن برجعة علي عليه السلام إلى الدنيا، وقد
كذبه جماعة في الحديث، منهم أبو حنيفة، وصدقه بعضهم في الحديث



(1) جامع بيان العلم (1 / 63).
(2) الأنوار الكاشفة (ص 39).
(3) تهذيب التهذيب (6 / 4 - 85).
192
خاصة بشرط أن يصرح بالسماع، ولم يصرح هنا (1).
وثالثا: إن رجال السند في الحديث المذكور قد عملوا على خلاف
مؤداه ومضمونه، وهذا هو من عوامل وهنه وضعفه:
فقد كان الإمام عليا عليه السلام ممن يكتب الحديث ويأمر بكتابة
العلم، كما مر مفصلا (2).
وجابر الجعفي كتب الكتب - كذلك - (3).
وأبو أسامة - وهو حماد بن سلمة - كان صاحب كتب وكان
يقول: كتبت بإصبعي - هاتين - مائة ألف حديث (4).
ورابعا: إني أشك في ضبط هذا السند، فاسم (بقية) غلط،
وإنما الصواب هو (بقي) لأن ابن عبد البر يروي في كتابه هذا
(جامع بيان العلم) مكررا عن أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي،
عن أبيه، عن عبد الله - وهو ابن يونس - عن بقي - وهو ابن مخلد - عن
أبي بكر - وهو ابن أبي شيبة - عن أبي أسامة (5).
بينما لم أعثر على شبيه للسند الأول، ولا في مورد واحد (6).



(1) الأنوار الكاشفة (ص 39).
(2) قد مر مفصلا، وانظر الأنوار الكاشفة (ص 39).
(3) الفهرست، للشيخ الطوسي (ص 70).
(4) تهذيب التهذيب (3 / 3)
(5) لقد تكرر مثل السند الثاني في (جامع بيان العلم) في الجزء الأول (ص 95 و 100
و 108 و 115 و 116 و 124) وفي الجزء الثاني (ص 23 و 38 و 42).
(6) أقول: وبعد أن كتبت هذا، على أساس من شكي المذكور، وقع في نفسي أن أتتبع
ترجمة (بقي بن مخلد) فوجدت أن الذهبي قال في حقه: ومما انفرد به ولم يدخله أي إلى
الأندلس] سواه: مصنف أبي بكر بن أبي شيبة. سير أعلام النبلاء (13 / 287 - 288).
فراجعت (الكتاب المصنف) لابن أبي شيبة، فوجدت فيه، في كتاب الأدب، الباب
(1073) من يكره كتاب العلم، الحديث [6490]: أبو أسامة، عن شعبة، عن جابر،
عن عبد الله بن يسار، قال: سمعت عليا يخطب يقول... (الكتاب المصنف: 9 / 52).
فظهر ما في سند جامع بيان العلم من أخطاء فظيعة، والحمد لله على توفيقه، ونسأله
الهدى إلى سواء طريقه.
193
وخامسا: إنه - على كل حال - حديث غريب، تفرد به رواته،
كما تفرد بإثباته ابن أبي شيبة في المصنف، ومنه نقل الناقلون، وهذا
التفرد يكشف - بلا ريب - عن إعراضهم عنه، وعدم الاحتجاج به.
ويزيد في توهين هذا الحديث أن روايته انحصرت بعبد الله
بن يسار عن علي عليه السلام، مع أنه يرويه عن خطبة له عليه السلام،
وظاهرها أن تكون ملقاة على جمع من الناس، فكيف لا يرويها إلا هو؟!
ويؤيد عدم حجيته أنه لم ينقل من طريق أهل البيت عليهم السلام،
ولا شئ بمعناه مع أنهم هم أولى من يعرف مثل ذلك من أبيهم
عليه السلام لو كان ثابتا أنه قاله، بل لم ينقل أهل البيت عليهم السلام
إلا ما يخالفه ويبطله.
والحاصل: أن مثل هذا الخبر لا يقوم دليلا على نهي الإمام
عليه السلام، عن تدوين الحديث الشريف.
فإجماع أهل البيت عليهم السلام على إباحة التدوين متحقق،

194
وهو حجة شرعية يجب اتباعها، بحكم حديث الثقلين، فإن في
التمسك بهم واتباعهم الهدى، وفي الابتعاد عنهم وتركهم الضلال والردى.
هدانا الله إلى الحق القويم.

195
الفصل الرابع
سيرة المسلمين على التدوين
تمهيد:
لا ريب أن سيرة المسلمين مستقر ة على تدوين العلم وكتابته، ومن
المعلوم أن سيرتهم لا تنتظم على شئ مخالف للشريعة.
وإذا كانت هذه السيرة متواصلة الحلقات متصلة بعهد الرسول
الكريم صلى الله عليه وآله وسلم كانت حجة شرعية على جواز التدوين،
وإن كانت راجعة - في الحقيقة - إلى شكل من أشكال السنة النبوية،
كما هو مفصل في علم الأصول (1).
ومن الواضح أن الحديث الشريف من أفضل ما يكتبه المسلمون بعد
القرآن الكريم.
وكل هذا الذي ذكرنا لا خلاف فيه ولا يحتاج إلى بحث عنه، إلا
ما افترضناه من اتصال حلقات هذه السيرة بعهد الرسالة، فإن ذلك
يحتاج إلى إثبات هذه السيرة في أربعة عهود:



(1) أنظر: الأصول العامة للفقه المقارن (ص 199).
197
1 - عهد القرن الثاني فما بعده.
2 - عهد التابعين قبل بداية القرن الثاني.
3 - عهد الصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
4 - عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
أما العهد الأول: فإن الإجماع قد تحقق فيه على إباحة التدوين
للحديث الشريف، وقد عرفنا في المقدمة (1) أن عمر بن عبد العزيز كان قد
أمر بتدوينه وكتابته، وأنه لم يبق تحرج من كتابته منذ عصره، ولم يخرج
القرن الثاني إلا وقد انعقد إجماع الأمة على إباحة التدوين، بل ضرورته.
قال ابن الصلاح: ثم إنه زال ذلك الخلاف، وأجمع المسلمون
على تسويغ ذلك، وإباحته، ولولا تدوينه في الكتب لدرس في الأعصر
الآخرة (2).
وقال البلقيني: ومن أباح ذلك كثير، وهم الجم الغفير، والآن فهو
مجمع عليه، لا يتطرق خلاف إليه (3).
وقال ابن حجر: إن السلف اختلفوا في ذلك [أي التدوين] عملا
وتركا، وإن كان الأمر استقر، والإجماع انعقد على جواز كتابة العلم،
بل على استحبابه، بل على وجوبه على من خشي النسيان ممن يتعين عليه
تبليغ العلم (4).



(1) أنظر ص (15).
(2) علوم الحديث لابن الصلاح (ص 183) مقدمة ابن الصلاح (ص 302).
(3) محاسن الاصطلاح (ص 33).
(4) فتح الباري (ج 1 ص 182).
198
وقال ابن كثير: وقد حكي إ جماع العلماء في الأعصار المتأخرة
على تسويغ كتابة الحديث، وهذا أمر مستفيض، شائع، ذائع، من غير
نكير (1).
وقال شاكر: ثم جاء إ جماع الأمة القطعي - بعد - قرينة قاطعة على
أن الإذن هو الأمر الأخير، وهو إ جماع ثابت بالتواتر العملي، عن كل
طوائف الأمة بعد الصدر الأول (2).
وقال الدكتور عبد الغني عبد الخالق: إجماع الأمة القطعي - بعد
عصر الصحابة والتابعين - على الإذن وإباحة الكتابة... وهو إجماع ثابت
بالتواتر العملي عن كل طوائف الأمة بعد الصدر الأول (3).
وعمل أعلام الحديث - من كل الفرق الإسلامية - منذ أوائل القرن
الثاني فما بعد، دليل قاطع على تحقق إجماعهم على جواز التدوين
وإباحته، ويستنبط من ذلك القطع بإباحة التدوين من أول الأمر، لأن
الأمة - كما يقول ابن الصلاح - معصومة عن الخطأ، فما ظنت صحته
ووجب عليها العمل به، لا بد وأن يكون صحيحا في نفس الأمر (4).
أقول: فكيف بما أجمعت عليه وقطعت بصحته؟ فلا بد أن يكون
صوابا وحقا ثابتا من شرع الإسلام.
وقال ابن الديبع: والإذن في الكتابة ناسخ للمنع، بإجماع الأمة



(1) اختصار علوم الحديث المطبوع مع الباعث الحثيث (ص 127).
(2) الباعث الحثيث (ص 128).
(3) حجية السنة (ص 448)
(4) نقله في الباعث الحثيث (ص 33).
199
على جوازها، ولا يجتمعون إلا على أمر صحيح (1).
وأما العهد الرابع: وهو تحقق جواز الكتابة والتدوين للحديث في
عهد الرسالة: فقد عرفناه مفصلا في الفصل الثاني من هذا القسم (2)،
حيث نقلنا قيام السنة القولية والفعلية والتقريرية على جواز تدوين
الحديث، كما نقلنا ثبوت الأدلة على وقوع الكتابة في عهده صلى الله
عليه وآله وسلم من د ون نكير منه.
وقد قال الدكتور عتر: وردت أحاديث كثيرة عن عدد من
الصحابة تبلغ بمجموعها رتبة التواتر في إثبات وقوع الكتابة للحديث
النبوي في عهده صلى الله عليه وآله وسلم (3).
وقال السيد أحمد صقر: من الحقائق المطوية في ثنايا الكتب:
أن الأحاديث النبوية قد دونت في حياة رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم (4).
وأما ما نسب إليه صلى الله عليه وآله وسلم من أحاديث المنع عن
التدوين والنهي عن الكتابة (5) فسيأتي - في القسم الثاني من هذه الدراسة - الجواب عنه،
بأن كل ذلك إنما جاءت به الأسانيد الضعيفة، وبينها صحيح واحد - في ما
يقال - معلل بالتردد بين الوقف والرفع، مع انحصارها بما لا يتجاوز



(1) تيسير الوصول (3 / 177).
(2) أنظر (ص 47 - 111) من هذا الكتاب.
(3) منهج النقد (ص 40).
(4) المدخل إلى فتح الباري (ص 7).
(5) أنظر الفصل الأول من القسم الثاني (ص 286) فما بعدها.
200
الأصابع مما لا يقاوم المجموعة الكبيرة من الأحاديث الدالة على الإباحة والجواز
وفيها العديد من الصحاح، لو تم التعارض بينهما.
مع أن أحاديث النهي محمولة على محامل أخر، بحيث لا تنافي
ما دل على جواز التدوين وإباحة كتابة الحديث: كالحمل على نهي
أشخاص معينين، أو النهي عن كتابة الحديث في صحف خاصة لكتابة
القرآن، أو أنها منسوخة، وإنما كانت في ابتداء الأمر، وأن أدلة الجواز
هي المتأخرة (1).
فلم يبق أمام إثبات اتصال هذه السيرة إلا إثباتها في عهد الصحابة
والتابعين، وهو ما عقدنا له هذا الفصل.
مع أننا نعتقد أن السيرة التي تحققت بعد القرن الأول، والإجماع
الذي انعقد عند علماء الإسلام كافة، لم يكونا نابعين من حينهما
، بل كانا مأخوذين من السلف الصالح، وأنهما مستمران في التحقق،
جيلا قبل جيل، ر غم المخالفة القصيرة العمر، والقليلة الأثر على
الحديث الشريف.
ولو حققنا الأمر، وصدقنا القول، لوجدنا أن هذه السيرة متصلة
بعصر النبوة الزاهر، بل مستوحاة بلا شك من تقرير الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم، وأمره بالتدوين والكتابة.
وليس علينا أن ننتظر - كما يقول المشككون في الحديث - عهد



(1) الحديث والمحدثون لأبي زهو (ص 124) وصحيفة علي بن أبي طالب عليه السلام
(ص 44).
201
عمر بن عبد العزيز، حتى نسمع للمرة الأولى - كما هو الشائع - بشئ
اسمه تدوين الحديث أو محاولة لتدوينه (1).
وهذا هو الذي يوجبه حسن الظن بكل مسلمي القرن الثاني
والثالث وما بعدهما إلى اليوم.
وعلى كل حال، فنبدأ بإثبات سيرة الصحابة والتابعين على
التدوين، بما يلي:
العهد الأول: عهد الصحابة:
لم يتخذ إجراء المنع عن التدوين، بعد رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم إلا بعد فترة طويلة، حتى أن أبا بكر أقدم - في تلك الفترة المتصلة
بوفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم - على تدوين الحديث.
ولما بدا له أن يمنع التدوين - فبدأ بإبادة تلك الأحاديث التي جمعها،
وكانت تبلغ الخمسمائة حديث - لم يقدم تبريرا لعمله ذلك إلا خشيته أن
يكون قد كتب ما حدثه رجل قد وثق به ولم يكن كما حدثه (2)!
ومع أن هذا التبرير، لا يوجب منع غيره - ممن حفظ الحديث وأجاد
حفظه - من التدوين:
فإنا لم نجد من وافق أبا بكر في إقدامه ذلك، في فترة حكمه،
فلم ينقل حديث المنع عن غيره من الصحابة في تلك الفترة.
ونرى في عدم استناد أبي بكر في منعه التدوين إلى حرمة ذلك في



(1) علوم الحديث لصبحي الصالح (ص 33).
(2) تذكرة الحفاظ، للذهبي (1 / 5).
202
الشرع، ولا إلى عدم جوازه في عهد الرسول، دليلا على عدم وجود
منع سابق.
وتدور الأمور، حتى عهد عمر، فنجده هو الآخر يقدم في بداية
عصره على كتابة السنن، فيريد أن يكتبها ثم يتردد، فيستشير الصحابة
في ذلك، فأشار عليه كافتهم بالكتابة (1).
وهذا هو في نفسه دليل واضح على أنه لم يكن في عهد الصحابة
تحرج من تدوين الحديث، ولم يجر في خلد أحد منهم المنع، وأنهم لم يأبهوا
بما بدر من أبي بكر من إجراء الإبادة للحديث.
وإلا، فكيف يشير كافتهم على عمر بأن يكتب السنن؟!.
ولكن عمر لم يأخذ بمشورة الصحابة، وإنما طفق شهرا، مترددا،
إلى أن استقر رأيه على المنع، بحجج سنعرضها في القسم الثاني.
وكل هذا الإقدام وتلك الاستشارة، وهذه الإشارة من الصحابة،
وذلك التردد والتعلل من عمر، يدل على عدم ثبوت المنع عندهم من
الشرع، وإلا فلا معنى لكل ذلك.
قال الشيخ محمد محمد أبو زهو: وقد كأن هذا [المنع] رأيا من عمر (2).
بل، صدر المنع من أبي بكر، وثم من عمر، على أنه رأي خاص
لهما، من دون أن يوافقهما عليه سائر الصحابة.



(1) طبقات ابن سعد (3 / 286) و (3 ق 1 ص 206) من طبعة ليدن وتقييد العلم
(ص 49 - 51) وجامع بيان العلم (1 / 64).
(2) الحديث والمحدثون، لأبي زهو (ص 126).
203
ولم يكن رأي عامة الصحابة، إلا عدم التحرج من الكتابة، وإباحتهم
التدوين بل لزومه، كما يفهم من إشارتهم على عمر بأن يكتب السنن.
وبعد أن أعرض عمر عن آراء الصحابة، وبدا له أن يمنع التدوين
وعمم أوامر المنع على الأمة، بما فيهم الصحابة، بدأ حديث المنع يتسرب
وينتشر.
وفي هذه الفترة نجد بعض الصحابة يظاهر عمر على إجراء المنع،
وهم نزر قليل لا يتجاوزون العقد الواحد، وقد عدهم الخطيب البغدادي
ستة أشخاص فقط في كتابه (تقييد العلم) وهو أجمع وأهم كتاب في
هذا الموضوع (1).
والملاحظ أن أحدا منهم لم يحتج بالشرع في منعه من التدوين،
ولم يستند عند محاولة المنع إلى نص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم،
وإنما علل لمنع التدوين بعلل أخرى.
قال الشيخ محمد محمد أبو زهو: إن امتناع بعض الصحابة عن
كتابة الحديث، ومنعهم منها، لم يكن سببه نهي النبي صلى الله عليه وآله
وسلم عن كتابة الحديث، بدليل أن الآثار الواردة عنهم في المنع
أو الامتناع من كتابة الحديث، لم ينقل فيها التعليل بذلك، وإنما كانوا
يعللون بمخافة أن يشتغل الناس بها عن كتاب الله، أو غير ذلك من الأغراض (2).
هؤلاء المانعين من الصحابة تدور أحاديث المنع



(1) لاحظ دراسات في السنة النبوية للصديق (ص 103).
(2) الحديث والمحدثون، لأبي زهو (ص 3 - 234).
204
المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وإليهم - أنفسهم - تنسب أكثر التوجيهات والتبريرات المذكورة للمنع،
كما سيأتي تفصيل ذلك في فصول القسم الثاني.
وهم بعد أبي بكر، وعمر، وعثمان: أبو موسى الأشعري،
وابن مسعود، وأبو سعيد الخدري، وزيد بن ثابت.
لكن عامة الصحابة الكبار خالفوا - بشد ة - هؤلاء في منعهم التدوين، وعارضوهم
قولا وعملا، حتى أولئك القلة المانعة من الصحابة نجدهم يكتبون
الحديث، بعد تلك الفترة.
يقول الدكتور الأعظمي: إن كل من نقل عنه كراهية كتابة العلم،
فقد نقل عنه عكس ذلك أيضا، ما عدا شخص أو شخصين، وقد ثبتت
كتابتهم والكتابة عنهم، أو الكتابة عنهم فقط (1).
ولا ندري، ما هو الداعي لتلك القلة، في الالتزام بأوامر عمر بالمنع
هل لأنه ولي أمرهم، تجب طاعته عليهم؟
لكن لماذا لم يدرك سائر الصحابة هذا الأمر؟
ولماذا لم يلتزم أحد - حتى تلك القلة من الصحابة - بأوامر عمر بمنع
التحديث والرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
ذلك الإجراء الذي اتخذه عمر بعد منع التدوين! كما سيأتي بيانه في
نهاية القسم الثاني.



(1) دراسات في السنة النبوية الشريفة لصديق (ص 104) عن الأعظمي.
205
ومهما يكن موقف أولئك، فإن عامة الصحابة أشاروا على عمر
بالتدوين من دون ت حرج وهذا منهم وحده دليل على التزامهم بجواز
الكتابة والتدوين من دون حرج (1). بل قاوم بعضهم المنع بشدة،
ولم ينصاعوا عمليا لتلك الأوامر إطلاقا حتى أن عمر حاول الالتفاف
عليهم، لينقض على ما كتبوا من الأحاديث، فطلب منهم إحضارها
عند ه، ولم يبين لهم مراده، حتى ظنوا أنه يريد بها خيرا، لكنه، جمعها
وأحرقها (2).
ولو علموا ذلك منه، لما أتوه بها ولأخفوها عنه.
وهذا النص يدل على أن دأب الصحابة، كان على التدوين،
وبإصرار وحرص بالغين، غير منصاعين لأوامر الوالي بالمنع، حتى التجأ
عمر إلى الالتفاف عليهم للقضاء على ما كتبوا!
قال الشيخ عبد الغني: فقد كان أكثرهم يبيح الكتابة، ويحتفظ
بالمكتوب منها، والبعض يكتب بالفعل (3).
كما تدل على ذلك آثار الصحابة ومخلفاتهم المكتوبة، التي جمعوا
فيها الحديث الشريف، والتي سنستعرضها في هذا المقام بتفصيل.
ومقارنة سريعة بين أسماء المانعين للتدوين، وبين أسماء المبيحين
للتدوين من الصحابة، تعطينا اليقين بأن المانعين إنما كانوا شذاذا حادوا



(1) الحديث والمحدثون لأبي زهو (ص 234).
(2) لاحظ هذه الدراسة، القسم الثاني، التمهيد (ص 274) وبعدها.
(3) حجية السنة (ص 448).
206
عن الصواب في هذه المسألة، لأغراض شخصية خاصة وإنما الحق كان
مع أولئك المبيحين.
قال أحمد محمد شاكر: وأكثر الصحابة على جواز الكتابة، وهو
القول الصحيح (1).
فقد نقل إباحة التدوين عن: عمر! وعلي عليه السلام، وأنس،
وجابر، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو، والإمام الحسن (2).
وروي عن: عثمان، وأبي موسى الأشعري، وسلمان، وأبي ذر،
وأبي رافع، وعلي وعبيد الله ابني أبي رافع، وسعد بن عبادة، ورافع
بن خديج، وحنظلة الكاتب، وسمرة بن جندب، وواثلة بن الأسقع،
وأبي هريرة، وعائشة.
وقد عرفنا أن الصحابة - كافة - أشاروا على عمر بأن يكتب الحديث،
وأن أكثرهم أباحوا ذلك.
وهذا يدل على أن عملية المنع، لم تكن مستندة إلى أساس شرعي،
بل إنما كانت فلتة (3) لا أثر لها على الحديث، ولا وقع لها في حكم
تدوينه وكتابته.
ومن ذلك يتضح أن السيرة العملية في عهد الصحابة، كانت هي



(1) الباعث الحثيث (ص 127).
(2) الإلماع (ص 147).
(3) لاحظ هذا الكتاب (ص 417) والنهاية لابن الأثير (3 / 468).
207
جواز التدوين وإباحته، واتصالها بعهد الرسول الأكرم صلى الله عليه
وآله وسلم، معلوم.
ومن الغريب أن نجد بين أسماء الصحابة المبيحين اسم مثل: عمر،
وعثمان، وأبي موسى، مع أنهم من المانعين والمبررين للمنع!!! (1)
بل قد رووا عن عمر قوله: قيدوا العلم بالكتاب (2) موقوفا عليه.
وعن عثمان قوله: قيدوا العلم، قلنا: وما تقييد ه؟ قال: تعلموه
وعلموه، واستسخوه (3).
وسيأتي أن لأبي موسى، صحيفة موجودة.
لكن: قد يكون الناقلون لهذه الأقوال والآثار، افتعلوا نسبتها
إلى هؤلاء، الذين بدأوا منع التدوين، وعارضوا تقييد الحديث وحفظه
في الكتب، إلى حد الإحراق والإبادة، ومع معروفية أنهم من أشد



(1) أنظر دلائل التوثيق المبكر (ص 234) ويقول: ويبدو أن الفاروق عمر كان مؤيدا لتسجيل
الحديث، على الرغم من أنه لم يدعم ذلك!؟
(2) المحدث الفاصل (ص 377) رقم (357) وجامع بيان العلم (1 / 72) ومستدرك
الحاكم (1 / 106) وتقييد العلم (ص 88) ومحاسن الاصطلاح (ص 296)
وسنن الدارمي (1 / 127).
ومن الغريب أن يستدل بعضهم بهذا الحديث ليؤكد على أن (عمر) لم يكن ضد الكتابة،
كما ذكر (دلائل التوثيق المبكر ص 232) لكن مجرد هذا الحديث لا يتم حجة ضد ما
اشتهر عن عمر قولا، وعملا، بما لا يبقى معه مجال للإنكار.
(3) محاسن الاصطلاح (ص 296) عن كتاب المرزباني.
208
المعارضين للتدوين (1).
قد يكون الناقلون عنهم هذه الأقوال والآثار إنما وضعوا عليهم
ذلك ليسجلوا لهم مأثرة في التدوين، تخفف عنهم تبعات الإقدام على
المنع، وتبعة إبادة الكتب وإحراقها.
لكن ذلك يصادم الحقيقة الثابتة الصارخة بأنهم منعوا التدوين حتى
آخر لحظة من حياتهم، وما مات واحدهم إلا وهو ملتزم بذلك،
كما سيأتي بيانه.
وأما جهود الصحابة المبيحين للتدوين، فقد وقفنا منها على ما يلي:
الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام (الشهيد عام 40 ه‍)
فقد عرفنا في الفصل الثالث من هذا القسم الأول أن الإمام
عليه السلام كان رائد أهل التدوين، وأثبتنا ما روي عنه من أقوال، وما أثر
عنه من آثار، في ذلك، فراجع.
2 - الإمام الحسن بن علي السبط عليه السلام (ت 49 ه‍)
فقد عرفنا كذلك أنه كان ممن أباح التدوين، وقد أمر به أيضا.
3 - أنس بن مالك، خادم النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ت 93 ه‍)
فعن يزيد الرقاشي، قال: كنا إذا أكثرنا على أنس بن مالك:
ألقى إلينا بمخلاة - أو - أتانا بمخال، فألقاها إلينا وقال: هذه أحاديث
كتبتها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو سمعتها من رسول الله



(1) لاحظ القسم الثاني، التمهيد (ص 263).
209
صلى الله عليه وآله وسلم، وكتبتها، وعرضتها (1).
وقد روى الخطيب هذه الرواية بلفظ: ألقى إلينا بمجال (2)
وهو جمع: مجلة.
ورواه ابن عدي بلفظ، مجالس، وفي روايته أن أنسا قال:
هذه أحاديث سمعتها فكتبتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
ثم عرضتها عليه (3).
وهذا النص يدل على وقوع الكتابة في زمان الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم.
وفي عرضها عليه وسكوته صلى الله عليه وآله وسلم عنه، تقرير
واضح منه صلى الله عليه وآله وسلم على تدوينه وكتابته.
وعن أنس، قال: كتب العلم فريضة (4).
وأسند الرامهرمزي: أن أنسا كان يأمر بنيه أن يقيدوا العلم بالكتاب (5).
وكان يقول لبنيه: يا بني، قيدوا هذا العلم (6).
وقد روى الخطيب بسنده، عن النضر وموسى ابني أنس، عن



(1) المحدث الفاصل (ص 367) رقم (325) ومحاسن الاصطلاح (ص 297).
(2) تقييد العلم (ص 95).
(3) الكامل لابن عدي (1 / 36) وميزان الاعتدال (3 / 28) وقد تجرأ الذهبي فأنكر صحة
قوله: وعرضتها عليه، مع أنه النص المروي، لاحظ دراسات في السنة النبوية الشريفة (ص 129).
(4) محاسن الاصطلاح (ص 297).
(5) المحدث الفاصل (ص 368) رقم (326) ومحاسن الاصطلاح (ص 297).
(6) سنن الدارمي (1 / 104) ح (497).
210
أبيهما: أنه أمرهما بكتابة الحديث والآثار عن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، وتعلمها (1).
وقد أثرت عن أنس جملة: قيدوا العلم بالكتاب (2) التي مرت
مرفوعة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (3) كما مرت موقوفة على علي
عليه السلام أيضا (4).
وكان أنس يقول: كنا لا نعد علم من لم يكتب علمه علما (5).
وكلمة (كنا) تدل على استقرار عادة الصحابة على التدوين
والكتابة، وقد عرفنا أنه كان ممن يكتب في عصر الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم وقد بقي إلى أواخر القرن الأول، ولم ينقل عنه ما يدل على
التزامه بمنع التدوين، فيمكن أن نعتبر كلمة (كنا) دالة على استمرار
هذه العادة من عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى زمن بعيد.
وكان أنس يملي على الناس، وهم حوله يكتبون (6).
وكان الحجاج الثقفي سفاك العراق، قد ختم في عنقه يريد إذلاله،



(1) شرف أصحاب الحديث (ص 97) رقم (211).
(2) سنن الدارمي (1 / 127) والمحدث الفاصل (ص 368) رقم (327) وتقييد العلم
(6 - 97).
(3) مر برقم (6 - 9) ص (89 - 90).
(4) مر برقم (2) ص (144).
(5) تقييد العلم (ص 96) وشرف أصحاب الحديث (ص 97) رقم (211).
(6) تاريخ بغداد (8 / 259) ودلائل التوثيق المبكر (ص 460). وقد كتبت عنه عدة
صحف، اقرأ عنها: معرفة النسخ (ص 99 -).
211
وأن يجتنبه الناس فلا يسمعوا منه الحديث، في آخرين من الصحابة (1).
4 - جابر بن عبد الله الأنصاري (ت 74 ه‍)
كانت له صحيفة مشهورة، ذكرها ابن سعد (2) وعبد الرزاق (3)
وابن أبي حاتم (4) وابن معين (5) والذهبي (6).
وقد حددها بعضهم بأنها كانت في مناسك الحج (7).
لكن قيل: يحتمل أن تكون هذه الصحيفة غير المنسك الصغير
الذي أورده مسلم بن الحجاج في كتاب الحج من صحيحه (8).
وقيل: إن نسخة منها توجد في مكتبة شهيد علي باشا في تركيا (9).
وكان قتادة بن دعامة السدوسي يقول: لأنا بصحيفة جابر أحفظ
مني لسورة البقرة (10).



(1) أسد الغابة لابن الأثير (2 / 472) من الطبعة الحديثة المحققة، في ترجمة سهل الساعدي.
(2) الطبقات الكبرى (5 / 467) وفي طبعة ليدن (344).
(3) المصنف لعبد الرزاق (11 / 183).
(4) المراسيل، للرازي (ص 37).
(5) جامع التحصيل للعلائي (ص 296) رقم (862).
(6) تذكرة الحفاظ (1 / 43).
(7) علوم الحديث لصبحي الصالح (ص 26).
(8) السنة قبل التدوين (ص 352) وانظر توثيق السنة (ص 52) وصحيح مسلم (2 / 886 -
892) وصحيح مسلم بشرح النووي (3 / 313 - 356).
(9) الخلاصة للطيبي (ص 10) المقدمة.
(10) طبقات ابن سعد (7 ق 2 / 1 - 2) من طبعة ليدن، والتاريخ الكبير للبخاري
(4 / 1 / 186) رقم (827).
212
وكان جابر من المعلنين بأمر التدوين، فكان يملي الأحاديث على
تلامذته من التابعين فيكتبون عنه (1) مثل: سليمان بن قيس اليشكري (2)
وقد روى عنه وصف حجة الوداع، كما رواه مسلم في كتابه (3).
ومحمد بن الحنفية (4) وعبد الله بن محمد بن عقيل (5) ووهب بن
منبه (6)، وآخرين (7).
وكان الحجاج، قد ختم في يده، وفي عنق آخرين معه من
الصحابة، يريد إذلالهم وأن يجتنبهم الناس، ولا يسمعوا منهم (8).
5 - معاذ بن جبل (ت 18 ه‍):
كان لديه كتاب يحتوي على أحاديث (9) وقد كان عند موسى
بن طلحة (10) وكانت عند ابن عائذ نسخة كتاب له أيضا (11).



(1) لاحظ دلائل التوثيق المبكر (ص 454).
(2) تهذيب التهذيب (4 / 215) وتقييد العلم (ص 108) ومعرفة النسخ (ص 151 - 160).
(3) صحيح مسلم (2 / 886) وشرح النووي عليه (3 / 313 - 356).
(4) تقييد العلم (ص 104).
(5) المصدر السابق والكامل لابن عدي (4 / 1447).
(6) تهذيب التهذيب (4 / 215).
(7) راجع السنة قبل التدوين (ص 353) وانظر معرفة النسخ (ص 152)
(8) أسد الغابة (2 / 472) من الطبعة الحديثة المحققة، في ترجمة سهل الساعدي.
(9) سيرة ابن هشام (ص 886 و 956) حلية الأولياء (1 / 240) الأموال، لأبي عبيد
(27 و 37).
(10) مسند أحمد (5 / 228).
(11) أنظر دلائل التوثيق المبكر (ص 418).
213
6 - حنظلة بن ربيع الكاتب (مات في عصر معاوية):
قال الشيخ الطوسي: روى (كتابا) للنبي صلى الله عليه وآله
وسلم (1).
ولا بد أن يكون الكتاب المذكور أكبر من مجرد رسالة من
رسائل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بعض الأشخاص، لأن
الطوسي إنما ذكر ذلك في عداد المصنفات، فلا بد أن يكون الكتاب
المذكور في حجم المؤلفات، كما لا يخفى على أهل الخبرة.
7 - أبو ذ ر الغفاري (ت 32 ه‍):
قال ابن شهرآشوب: الصحيح - وقيل: المشهور -: أن أول
من صنف في الإسلام أمير المؤمنين عليه السلام، ثم سلمان الفارسي، ثم
أبو ذر الغفاري (2).
قال الصدر: أول من صنف في الآثار بعد سلمان هو أبو ذر
الغفاري، له كتاب (الخطبة) شرح فيها الأمور الواقعة بعد النبي
صلى الله عليه وآله وسلم، ذكره الطوسي في الفهرست (3).
8 - رافع بن خديج الأنصاري (ت 74 ه‍):
روى مسلم في صحيحه، عن نافع بن جبير: أن مروان الأموي
خطب الناس، فذكر مكة وأهلها وحرمتها، ولم يذكر المدينة وأهلها



(1) الفهرست، للطوسي (ص 91) رقم (266) وانظر معالم العلماء
لشهرآشوب (ص 40)
(2) معالم العلماء، لشهرآشوب - ط إقبال - (ص 1).
(3) تأسيس الشيعة (ص 281).
214
وحرمتها، فناداه رافع بن خديج، وقال: ما لي أسمعك ذكرت مكة
وأهلها وحرمتها، ولم تذكر المدينة وأهلها وحرمتها؟ وقد حرم
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما بين لابتيها؟ وذلك عندنا في أديم
خولاني، إن شئت أقرأتكه! (1)
وقد مر أن رافع بن خديج كان ممن استأذن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم في كتابة حديثه، فأذن لهم، وقال: اكتبوا عني، ولا حرج (2).
9 - أبو رافع المدني، مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
(ت 35 ه‍):
كان يملي على ابن عباس الحديث، فيكتبه:
قال عبيد الله بن أبي رافع: كان ابن عباس يأتي أبا رافع، فيقول:
ما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم كذا؟ ما صنع رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم يوم كذا؟ ومع ابن عباس ألواح يكتب فيها (3).
وأبو رافع من المتقدمين في التصنيف من سلفنا الصالح، وهو أول
من ذكره النجاشي منهم في كتاب (فهرست مصنفي الشيعة) المعروف
برجال النجاشي، قال: ولأبي رافع كتاب (السنن والأحكام
والقضايا) وذكر سند ه إليه (4).



(1) صحيح مسلم، كتاب الحج، باب فضل المدينة (2 / 992) رقم (1361).
(2) مر الحديث في القسم الأول، الفصل الثاني (الحديث الثاني) ص (87).
(3) طبقات ابن سعد (2 / 2 / 123) من طبعة ليدن، تقييد العلم (ص 91 - 92) والإصابة،
لابن حجر (4 / 92).
(4) رجال النجاشي (ص 8) رقم (1).
215
وقد مر ذكر هذا الكتاب في ما أثر عن الإمام علي عليه السلام من
المؤلفات (1).
وقال السيد شرف الدين: أبو رافع، مولى رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، وصاحب بيت مال أمير المؤمنين عليه السلام، وكان من
خاصة أوليائه، والمستبصرين بشأنه، له كتاب (السنن والأحكام
والقضايا) جمعه من حديث علي عليه السلام خاصة، فكان عند سلفنا
في الغاية القصوى من التعظيم (2).
وقال الصدر: أول من دون الحديث من شيعة أمير المؤمنين
عليه السلام بعده: أبو رافع (3).
وقال محمد عجاج الخطيب: كان عند أبي رافع مولى رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم (ت 35 ه‍) كتاب فيه استفتاح الصلاة، دفعه إلى
أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث (ت 94 ه‍) (4).
10 - سعد بن عبادة الخزرجي الأنصاري (ت 15 ه‍):
كان يعرف الكتابة في الجاهلية، فكان يسمى بالكامل من
أجل ذلك (5).



(1) أنظر القسم الأول، الفصل الثالث ص (138 - 143) من هذا الكتاب.
(2) المراجعات، المراجعة (110) الفقرة (2) ص (306) ط النجف.
(3) تأسيس الشيعة (ص 280).
(4) السنة قبل التدوين (ص 346) عن الكفاية للخطيب (ص 330).
ودلائل التوثيق المبكر (ص 419) عن الكفاية (ص 39).
(5) تهذيب التهذيب (3 / 457) وفتوح البلدان للبلاذري (ص 459) وانظر: تسمية من
شهد مع علي عليه السلام حروبه - بتحقيقنا - والأم للشافعي (7 / 112) والمعارف لابن
قتيبة (ص 87).
216
وكانت له صحيفة، روى ابنه منها حديثا (1).
وقيل: هي صحيفة عبد الله بن أبي أوفى بعينها، وأنه جمع فيها
طائفة من أحاديث الرسول وسننه (2).
11 - سلمان الفارسي (ت 34 ه‍)
قال ابن شهرآشوب: الصحيح - وقيل: المشهور -: أن أول
من صنف أمير المؤمنين علي عليه السلام، ثم سلمان الفارسي
رضي الله عنه (3).
وذكره الصدر بعنوان، أول من صنف الآثار، صنف حديث الجاثليق
الرومي، الذي بعثه ملك الروم، بعد النبي صلى الله عليه وآله، ذكره
الطوسي في الفهرست (4).
12 - البراء بن عازب (ت 72:)



(1) مسند أحمد (5 / 285) وسنن الترمذي، كتاب الأحكام، باب اليمين مع الشاهد
(3 / 657) رقم (1343) تعجيل المنفعة لابن حجر (36 و 314) مشاهير علماء
الأمصار (130) رقم (1024).
(2) السنة قبل التدوين (ص 342) وعلوم الحديث لصبحي الصالح (ص 24) ودلائل التوثيق المبكر
(ص 417).
(3) معالم العلماء - ط إقبال - (ص 1) والمراجعات، المراجعة (110) ص 306 ط
النجف.
(4) تأسيس الشيعة (ص 280).
217
قال محمد عجاج الخطيب: كان البراء بن عازب، صاحب
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يحدث، ويكتب من [كان] حوله.
فعن عبد الله بن خنيس: رأيتهم عند البراء يكتبون على أيديهم
بالقصب (1).
13 - عائشة (ت 57 ه‍):
ورد عنها في ما يرتبط بالتدوين حديثان:
1 - قالت لابن أختها عروة بن الزبير: يا بني، بلغني أنك تسمع
عني الحديث، ثم تعود فتكتبه!
فقال لها: أسمعه منك على شئ، ثم أعود فاسمعه على غيره؟!
فقالت: هل تسمع في المعنى خلافا؟
قال: لا.
قالت: لا بأس بذلك (2).
قال محمد عجاج الخطيب: فلو كرهت عائشة الكتابة لأمرت
بمحوه، ولنهته عن الكتابة، ولكن لم يحدث شئ من هذا، بل، لم تر
بأسا بعمله (3).



(1) السنة قبل التدوين (ص 320) ومصادره: جامع بيان العلم (1 / 73) وكتاب العلم
لزهير بن حرب (ص 193 ب) وتقييد العلم (ص 105)
وانظر العلل لابن حنبل (1 / 42) سنن الدارمي (1 / 106) وفيها: عبد الله بن حنش.
(2) الكفاية للخطيب (ص 309 - 310).
(3) السنة قبل التدوين (ص 391).
218
2 - روى الخزاز القمي، بأسانيد عن أبي سلمة، قال: دخلت على
عائشة، وهي حزينة، فقلت لها: ما يحزنك، يا أم المؤمنين؟!.
قالت: فقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتظاهر الحسكات!.
فحملت الجارية إليها (كتابا) ففتحت، ونظرت فيه طويلا،
ثم قالت: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقلت: ماذا، يا أم المؤمنين؟
فقالت: أخبار وقصص، كتبته عن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم... فأطبقت الكتاب، وفتحت الكتاب.
قال: فأخرجت البياض، وكتبت هذا الخبر، وأملت علي حفظا،
ولفظا (1).
أقول: والحديث طويل، انتخبنا منه ما يهمنا هنا، ولو صح الخبر
فلا بد أن يكون إنما كتبته عائشة في عهد الرسول صلى الله عليه وآله
وسلم، ومع إحراز رضاه، على أقل التقادير!؟
14 - عبد الله بن عباس (ت 68 ه‍)
عني بكتابة الكثير.
وقد وقفنا على حديث كتابته لسيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه
وآله وسلم، حيث كان يسأل عنها الصحابي أبا رافع مولى الرسول،
ويسجلها في ألواح كان يحملها، ولعل هذه أول سيرة للرسول كتبت



(1) كفاية الأثر، للخزاز (ص 189 - 192).
219
في الإسلام (1).
وعرفنا - أيضا - أنه كانت عنده صحف فيها قضاء علي
عليه السلام (2).
ولقد اشتهر أنه ترك حين وفاته حمل بعير من كتبه (3) وأن ابنه عليا
ورثها وكان يستفيد منها (4).
وذكر له ابن النديم كتابا قال عنه: رواه مجاهد، ورواه حميد
بن قيس، عن مجاهد، وورقاء، وعيسى بن ميمون، عن أبي نجيح،
عن مجاهد (5).
والظاهر أن هذا الكتاب هو في تفسير القرآن، لأن ابن النديم إنما
ذكره في عنوان (تسمية الكتب المصنفة في تفسير القرآن).
وقد ذكر النجاشي لابن عباس كتبا عديدة في ترجمة الجلودي (6).
ومن أقواله في التدوين:
خير ما قيد به العلم الكتاب (7) وقيدوا العلم بالكتاب (8).



(1) ذكرنا ذلك آنفا عند ذكر أبي رافع لاحظ (ص 215).
(2) ذكرنا ذلك في القسم الأول، الفصل الثالث، رقم 8 (ص 140).
(3) طبقات ابن سعد (5 / 216) طبع ليدن وتقييد العلم (ص 136).
(4) المصدران السابقان.
(5) الفهرست لابن النديم (ص 36).
(6) رجال النجاشي (ص 242) رقم (460) وانظر الفوائد الطوسية للحر (ص 243)
(7) تقييد العلم (ص 92).
(8) المصدر السابق.
220
ولم يقصر جهوده على التدوين والحث عليه، بل كان يربي جيلا
من التلامذة على ذلك، فقد كان يملي الحديث فيكتبه تلامذته (1).
قال ابن أبي مليكة: رأيت مجاهدا يسأل ابن عباس عن تفسير
القرآن، ومعه ألواحه، فيقول له ابن عباس: " اكتب " حتى سأله عن
التفسير كله (2).
وسيأتي ذكر تلامذته من التابعين، في هذه الدراسة.
15 - عبد الله بن عمرو (ت 63 ه‍)
من المبيحين لكتابة الحديث، وكان إقدامه عليها بإذن صريح من
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي عهده.
وقد أوردنا حديث استئذانه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في
كتابة الحديث، وإذنه عليه السلام له بذلك بقوله: اكتب، فإنه
لا يخرج منه - وأشار إلى فيه - إلا الحق (3).
وقد كانت كتابته سببا في كثرة حديثه:
قال البلقيني: كان عبد الله بن عمرو بسبب الكتابة كثير الحديث،
ولذلك قال أبو هرير ة: ما أجد من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله
وسلم أكثر حديثا مني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا عبد الله



(1) سنن الدارمي (1 / 105) طبقات ابن سعد (6 / 179) طبع ليدن،
(2) تفسير الطبري (1 / 30 - 31) ط شاكر وأعيان الشيعة (1 / 195).
(3) ذكرناه في القسم الأول الفصل الثاني، النوع (1) رقم (5) (ص 89).
221
بن عمرو، فإنه كان يكتب، وأنا لا أكتب (1).
وعن أبي هريرة: كنت أعي بقلبي، وكان يعي هو - يعني عبد الله -
بقلبه ويكتب بيده (2).
وفي رواية أحمد، والبيهقي في المدخل، والعقيلي، من طرق
مختلفة: أن أبا هريرة قال: ما أحد أعلم بحديث رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم مني إلا عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب، استأذن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكتب بيده ما سمع منه، فأذن له.
قال أبو زهو: فاستئذان عبد الله عنها في أول الأمر، وقد أذن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالكتابة لما استأذنه، ولا خصوصية
لعبد الله بن عمرو على غيره.
وعليه: فيمكن أن يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
لم يلتحق بالرفيق الأعلى إلا وكتابة الحديث مأذون فيها (3).
ومما يؤثر عنه كتابه المسمى بالصحيفة الصادقة التي اشتهر
أمرها، وتكر ر ذكرها، وأن عبد الله أظهر اعتزازا فائقا بها، كان يقول: ما
يرغبني في الحياة إلا الصادقة، والوهط، فأما الصادقة: صحيفة كنت



(1) البخاري، كتاب العلم، باب كتابة العلم من صحيحه (1 / 39) والترمذي (5 / 40)
رقم (3668) والكامل لابن عدي (1 / 32 و 36) والمحدث الفاصل، للرامهرمزي وتقييد
العلم (ص 82 و 83) والأسماء المبهمة للخطيب (ص 172) ومحاسن الاصطلاح
(ص 299).
(2) محاسن الاصطلاح (ص 299).
(3) الحديث والمحدثون (ص 125) وعلق: بل هذا هو المتعين.
222
استأذنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أكتبها عنه، فكتبتها (1).
وفي نقل الدارمي: فكتبتها عن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم (2).
وقال: ما أتينا على شئ إلا على الصادقة، والصادقة: صحيفة
استأذنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن أكتب فيها ما أسمع
منه، فأذن لي (3).
وقال مجاهد: رأيت عند عبد الله بن عمرو صحيفة، فذهبت
أتناولها، فقال: مه، يا غلام بني مخزوم!.
قلت: ما كنت تمنعني شيئا؟ قال: هذه الصادقة، فيها ما سمعته
من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ليس بيني وبينه فيها أحد (4).
وليس في شئ من هذه النصوص تصريح بوقوع الكتابة لهذه
الصحيفة في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أنه لا مانع من
افتراض ذلك، كما أن في بعض الروايات إشعار بذلك.
ولقد شاعت أخبار هذه الصحيفة (5).



(1) الحديث والمحدثون (125) ولاحظ المحدث الفاصل (366) رقم (323).
(2) سنن الدارمي (1 / 105) ح (502).
(3) محاسن الاصطلاح (298).
(4) محاسن الاصطلاح (ص 8 - 299) وطبقات ابن سعد (2 / 2 / 125) طبع ليدن،
وأسد الغابة (3 / 320) ترجمة عبد الله، ولاحظ المحدث الفاصل (367) رقم (324).
(5) سنن الدارمي (1 / 103 و 105) وتقييد العلم (ص 82 و 84) واقرأ عنها
معرفة النسخ (ص 178 - 181).
223
وقال بعضهم - عن محتواها -: إنها ألف مثل (1).
ويعتقد البعض أن هذه الصحيفة كانت أصلا لما يرويه عمرو بن
شعيب بن عبد الله، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو هذا (2).
وقد أورد أحمد بن حنبل قسما كبيرا من روايات عبد الله
في مسنده (3).
وفي مؤلفات مسلم صاحب الصحيح كتاب حديث عمرو
بن شعيب (4).
وقال الدكتور فوزي رفعت: مسند عبد الله بن عمرو - في مسند
أحمد - كثير يصل إلى (627) رواية، فيها ما هو مكرر من حيث متنه،
ولكن بإسقاط المكرر يبقى الكثير أيضا (5).
محاولة فاشلة لإعادة تأليف هذا الكتاب:
ومن الجدير بالذكر - ونحن بصدد هذا الكتاب، صحيفة عبد الله
بن عمرو - أن نورد حكاية طريفة تنقل محاولة بعض المحدثين لجمع
أحاديث هذا الكتاب، وخصوص ما رواه حفيد المؤلف وهو عمرو
بن شعيب بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، ليجدد تأليف



(1) أسد الغابة، لابن الأثير (3 / 233) الطبعة القديمة.
(2) منهج النقد في علوم الحديث (ص 46).
(3) أنظر مسند أحمد (2 / 158 - 226).
(4) الحطة (ص 448).
(5) صحيفة علي بن أبي طالب عليه السلام (ص 4 - 45).
224
الكتاب المذكور، وإليك نص الحكاية:
روى السيد المرشد بالله، أبو الحسين الهاروني (ت 499 ه‍) بسنده
عن أبي عبد الله، عبد الرحمن بن أحمد بن يزيد الختلي الحافظ،
في المذاكرة، قال: كنت أجمع حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه،
عن جده، فلما ظننت أني قد فرغت منه، جلست ليلة في بيتي
- والسراج بين يدي، وأمي في صفة حيال البيت الذي أنا فيه - وابتدأ ت
أنظم الرقاع وأصنفها.
فغلبتني عيني، فرأيت: كأن رجلا أسود، قد دخل إلي بمهند ذي
نار، فقال: تجمع حديث هذا العدو لله؟ أحرقه وإلا أحرقتك، وأومأ
بيده بالنار، فصحت، وانتبهت، فعدت أمي، فقالت: ما لك؟ ما لك؟
فقلت: مناما رأيته.
وجمعت الرقاع، ولم أعرض لتمام التصنيف، وهالني المنام،
وتعجبت منه، فلما كان بعد مدة طويلة، ذكرت المنام لشيخ من
أصحاب الحديث كنت آنس به، فذكر لي: إن عمرو بن شعيب هذا
، لما أسقط عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى من الخطب على المنابر
لعن أمير المؤمنين عليه السلام، قام إليه عمرو بن شعيب، وقد بلغ إلى
الموضع الذي كانت بنو أمية تلعن فيه عليا عليه السلام، فقرأ مكانه:
(إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء
والمنكر) [سورة النحل: 61 الآية (90)].
فقام إليه عمرو بن شعيب (لعنه الله) فقال: يا أمير المؤمنين،

225
السنة، السنة (1) يحرضه على لعن علي عليه السلام.
فقال عمر: اسكت، قبحك الله، تلك البدعة لا السنة، وتمم الخطبة
قال أبو عبد الله الختلي: فعلمت أن منامي كان عظة من أجل هذه
الحال، ولم أكن علمت من عمرو هذا الرأي، فعدت إلى بيتي وأحرقت
الرقاع التي كنت جمعت فيها حديثه (2)،
16 - عبيد الله بن أبي رافع (بعد 80 ه‍):
كان صحابيا سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وروى عنه (3)
وكان كاتب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام (4)،
ذكره الشيخ ابن شهرآشوب في المصنفين الأوائل في الإسلام (5)
وقد ألف كتاب قضايا أمير المؤمنين عليه السلام (6)،



(1) قال بعض العلماء: إن مصطلح (أهل السنة) يطلق على من كان يؤيد استمرار اللعن الذي سنه
معاوية واستمر عليه بنو أمية وبنو مروان، وهم نبزوا التاركين للعن بأهل البدعة، على هذا
الأساس، وهذا من موارد تسمية الشئ باسم ضده، وانظر: تاريخ اليعقوبي
(2 / 230) في إطلاق كلمة الجماعة، على من ساير الحكام والولاة في العداء لعلي
عليه السلام وأهل البيت وشيعتهم،
(2) الأمالي الخميسية (1 / 153)،
(3) المراجعات، لشرف الدين، المراجعة (110)،
(4) لاحظ ترجمته في مقدمتنا لكتابه (تسمية من شهد...)،
(5) معالم العلماء (ص 2)،
(6) الفهرست للطوسي (ص 133) وانظر ما ذكرناه سابقا القسم الأول الفصل الثالث
(ص 138 رقم 2)،
226
وله أيضا: كتاب تسمية من شهد مع علي عليه السلام
حروبه (1) ويعد كتابه هذا أول مصنف في الرجال والتاريخ (2) واعتمد
عليه جل المؤلفين من بعده، وكانت نسخته عند كبار المؤرخين
والرجاليين مثل الشيخ الطوسي، وابن الأثير، وابن عساكر، وابن حجر،
وقد وفقني الله بفضله العميم، للاطلاع على نصه، فحققته،
وفصلت في مقدمته الحديث عن الحروب الثلاث: الجمل، وصفين،
والنهروان، عقائديا، وفقهيا، وتراثيا.
كما فصلت الكلام في المقدمة حول المؤلف، وآل أبي رافع، بشكل
واف ومستوعب.
وأشكر الله على هذه النعمة الجسيمة، وأسأله التوفيق لإنجازه بعونه،
17 - علي بن أبي رافع (القرن الأول)
ولد على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسماه عليا (3).
وقال النجاشي: من خيار الشيعة، وكاتب أمير المؤمنين
عليه السلام، حفظ كثيرا، وجمع كتابا في فنون من الفقه: الوضوء،
والصلاة، وسائر الأبواب... وكانوا يعلمون هذا الكتاب (4)،



(1) الفهرست للطوسي (ص 133) رقم (468) والذريعة (4 / 187) وتأسيس
الشيعة للصدر (ص 232)،
(2) لاحظ الذريعة (4 / 181) ومصفى المقال في مصنفي علم الرجال للشيخ الطهراني
(عمود 258) والمراجعات الريحانية لكاشف الغطاء (ص 56)
(3) الإصابة لابن حجر (5 / 82) رقم 6258 ط دار الكتب العلمية بيروت،
(4) رجال النجاشي (ص 6 - 7) الترجمة رقم (2).
227
وقال السيد شرف الدين: وكانوا عليهم السلام يعظمون هذا
الكتاب، ويرجعون إليه (1)،
18 - كعب بن عمرو، أبو اليسر:
يقال: إن أبا اليسر كان لديه عدد من المخطوطات، اعتاد أن
يحفظها في الضمامة (2)،
19 - أبو موسى الأشعري (ت 50 ه‍):
ذكر بعضهم: أن له صحيفة توجد نسختها في مكتبة شهيد علي
باشا، بمدينة الآستانة في تركيا (3).
ومن الغريب أنهم نقلوا عن أبي موسى أحاديث تدل على كراهته
للكتابة ومعارضته للتدوين (4)!
فكيف تؤثر عنه كتابة هذه الصحيفة؟،
20 - أبو هريرة الدوسي (ت 57 أو 59):
كانت له صحف كثيرة جدا، رآها عنده عمرو بن أمية الضمري،
وكان أبو هريرة يراجعها (5) بالرغم من تصريحه بأنه كان لا يكتب (6)،



(1) المراجعات، (ص 306) المراجعة (110) الفقرة (2)،
(2) دلائل التوثيق المبكر (ص 424 -)،
(3) الخلاصة، للطيبي (ص 10) ولاحظ مسند أحمد (4 / 396)،
(4) أنظر القسم الثاني (ص 280 و 281)،
(5) جامع بيان العلم وفضله (1 / 74).
(6) جامع بيان العلم وفضله (1 / 74) هدي الساري (1 / 184) وفتح الباري (1 / 217) وانظر: دفاع عن أبي هريرة (ص 71).
228
لكن الظاهر أن مراد ه عدم الكتابة في عهد رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم فلا بد أنه كتب في ما بعد ما لا يمكن نفي نسبته عنه.
كما أن تلامذته الكثيرين قد كتبوا عنه (1):
منهم بشير بن نهيك الذي كتب عنه، واستجازه رواية ما
كتب، فأجازه أبو هريرة (2)
وقد ذكرنا في كتابنا إجازة الحديث أن هذه الإجازة هي أقدم إجازة
عثرنا عليها (3)
ونصها، كما ذكره الدارمي، بسنده، عن بشير، قال: كنت
أكتب ما أسمع من أبي هريرة، فلما أردت أن أفارقه أتيته بكتابه، فقرأته
عليه، وقلت له: هذا ما سمعت منك؟ قال: نعم (4)،
ومنهم: همام بن منبه الذي ألف ما سمعه من أبي هريرة في
صحيفة، وسيأتي ذكره في التابعين من هذا الفصل، إلا أن البعض -
وبالرغم من نسبة الصحيفة إلى همام - يعتقد بأنها في الحقيقة صحيفة
أبي هريرة لهمام (5)،
ومهما يكن: فهي - كما اعتبرها البعض أيضا - نموذج عملي على



(1) لاحظ دلائل التوثيق المبكر (ص 436)،
(2) طبقات ابن سعد (7 / 223) وجامع بيان العلم (1 / 72) والعلم لزهير بن حرب
(ص 193)،
(3) لاحظ الفصل الأول (تاريخ الإجازة)،
(4) سنن الدارمي (1 / 105) ح (500) وجامع بيان العلم (1 / 72) وفيه (كتابي)،
(5) علوم الحديث، لصبحي (ص 31 - 32) ومعرفة النسخ (ص 261)،
229
أن السنة قد كتبت في وقت مبكر، أي في عهد الصحابة (1)،
ويقول محمد عجاج: ولهذه الصحيفة أهمية تاريخية في تدوين
الحديث الشريف، لأنها حجة قاطعة ودليل ساطع على أن الحديث
النبوي كان قد دون في عصر مبكر - وتصحح الخطأ الشائع: أن الحديث
لم يدون إلا في أوائل القرن الهجري الثاني.
ذلك، لأن هماما لقي أبا هريرة، ولا شك أنه كتب عنه قبل
وفاته، وقد توفي أبو هريرة سنة (59) للهجرة، فمعنى ذلك أن هذه
الوثيقة العلمية قد دونت قبل هذه السنة، أي في منتصف القرن الأول.
وقد ثبت لنا أن عبد الله بن عمرو دون في عهد الرسول صحيفته
الصادقة، وها نحن يثبت لنا تدوين صحيفة همام في منتصف القرن
الأول، مما يدل على أن العلماء كانوا قد باشروا التدوين قبل أمر عمر بن
عبد العزيز (2)،
21 - أبو سلام، جد يحيى بن أبي كثير اليمامي:
قال العلائي: يحيى أحد الأعلام، روى عن جماعة من الصحابة،
وقال: كل شئ عن أبي سلام، فهو في كتاب.
وقال حسين المعلم: لما قدم علينا، وجه إلى مطر: أن احمل الدواة
والقرطاس قال: فأتيته، فأخرج إلينا صحيفة أبي سلام (3).



(1) صحيفة علي بن أبي طالب عليه السلام (ص 5).
(2) السنة قبل التدوين (ص 356 - 357).
(3) المراسيل للرازي (ص 143) وجامع التحصيل للعلائي (ص 299) رقم 880.
230
22 - واثلة بن الأسقع (ت 83 ه‍):
كان يملي على الناس الأحاديث، وهم يكتبونها بين يديه (1).
ويبدو منه - في الحديث التالي - أنه كان مستاءا من عدم كتابة
الحديث، وأنه اعتبر ذلك سببا لعدم ضبط الحديث:
قال مكحول: دخلت - أنا وأبو الأزهر - على واثلة بن الأسقع،
فقلنا له: يا أبا الأسقع، حدثنا بحديث سمعته من رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، ليس فيه وهم، ولا تزيد، ولا نسيان!.
قال: هل قرأ أحد منكم من القرآن شيئا؟.
قال: قلنا: نعم، وما نحن له بحافظين جيدا، إ نا لنزيد الواو
والألف، وننقص.
قال: فهذا القرآن مكتوب بين أظهركم لا تألون حفظا وأنتم
تزعمون: أنكم تزيد ون وتنقصون! فكيف بأحاديث سمعناها من
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عسى ألا نكون سمعناها منه إلا مرة
واحدة!؟ حسبكم، إذا حدثناكم بالحديث على المعنى (2).
23 - بلال الحبشي، المؤذن:
فقد أمر بكتابة الحديث، في ما رواه عبد الله بن علي، قال: حملت



(1) الكامل لابن عدي (1 / 37) وميزان الاعتدال (4 / 145) وقم (8658)، وتدريب
الراوي (ص 338).
(2) الجامع لأخلاق الراوي (2 / 20 - 21) وتدريب الراوي (ص 312) ومختصرا في الكنى للدولابي
(1 / 64)
231
متاعي من البصرة إلى مصر، فقدمتها، فبينما أنا في بعض الطريق إذا أنا
بشيخ طويل، شديد الأدمة، أبيض الرأس واللحية، عليه طمران...
فقلت من هذا؟
فقالوا: هذا بلال مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
فأخذت ألواحا، فأتيته، فسلمت عليه، فقلت له: السلام عليك
أيها الشيخ.
فقال: وعليك السلام.
قلت: يرحمك الله تعالى، حدثني بما سمعت من رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال: وما يدريك من أنا؟
فقلت: أنت بلال، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
فبكى وبكيت...
ثم قال: اكتب، يا أخا أهل العراق (1). فذكر حديثا طويلا في
فضائل الأذان، يقول فيه بلال مكررا: اكتب... اكتب.
أقول: بل أدى عدم التدوين من البداية إلى تحرج البعض من
الكتابة في ما بعد، حذرا أن يظن ما كتبوه أنه عين لفظ رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، بينما هو منقول بالمعنى، واللفظ للراوي.
فقد كان عمرو بن دينار يحدث على المعنى ويقول: أحرج على



(1) كتاب من لا يحضره الفقيه (1 / 189 - 194) وانظر أمالي الصدوق (ص 176)
المجلس (38).
232
من يكتب عني (1).
كما أن بعض المهوسين من أهل العصر - ممن أراد أن يطعن
في السنة الشريفة - استند إلى إجراءات المنع، وتبريرات المانعين
عن التدوين، ليثبت دعواه الباطلة الناطقة بأن الحديث الشريف
لم ينقل بلفظ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن لفظه حجة
وإنما نقل بالمعنى (2).
وللإجابة على ذلك، نقول:
أولا: إن ما رتب زعمه الباطل عليه وجعله دليلا له، وهو تحقق
المنع عن تدوين الحديث، إنما هو أمر غير شرعي، ولا صحة له، فإن
المنع - وإن مارسه بعض الحكام في فترات من تاريخ الإسلام في عصر
الخلافة الأول - إلا أن ذلك الإجراء لم يكتسب لدى المسلمين شرعية،
ولم يأبه به علماء المسلمين، وخاصة الصحابة الأبرار، بل زاولوا عملية
التدوين باستمرار، وبلا انقطاع، اتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، وحفاظا على الحديث الشريف من الضياع.
فكيف يبني دعواه، على هذا المنع الباطل؟
وثانيا: إن أداء منع تدوين الحديث إلى هذه الدعوى الباطلة، أعني
عدم حجية الحديث، هو في نفسه دليل آخر على بطلان المنع، وعدم



(1) تذكرة الحفاظ (1 / 113) والسنة قبل التدوين (ص 132).
(2) أضواء على السنة المحمدية لأبي رية (ص 97).
وستأتي مناقشته بتفصيل في القسم الثاني من هذه الدراسة (ص 512) وما
بعدها.
233
مشروعيته، لأن جمهور المسلمين من كل الطوائف - متفقون على
حجية الحديث الشريف وقدسيته، والالتزام بما تؤديه ألفاظه وعباراته،
فلو كان منع التدوين يقتضي عدم حجية ألفاظ الحديث، فهو يتنافى وهذا
الأمر المتفق عليه، والمتسالم بين علماء الإسلام عليه، فلا بد أن يكون المنع
باطلا وغير شرعي، لا أن يخدش بسببه اعتبار الحديث الشريف وقدسيته.
فمع هذه الكثرة في عدد الصحابة الذين كتبوا الحديث - سواء
الذين كتبوه في عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أم بعد ذلك
- ومع هذه الوفرة من الصحف، والكتب، والمدونات المأثورة عنهم -
التي لا يزال قسم منها متوفرا حتى عصرنا -.
فكيف يجوز التقول على
الصحابة بأنهم لم يكتبوا الحديث الشريف؟ أولم يدونوا السنة؟
والاستناد في هذا التقول إلى مجرد نهي عمر ومنعه عن التدوين
لا يكون صحيحا إطلاقا، فمن الواضح أن الفعل الذي قام به ذلك العدد
الكبير من الصحابة، وهو مباشرتهم لتدوين الحديث، هو عمل لا يدخله
أي تأويل أو تشكيك، ولا حكم له إلا الجواز، إبعادا لعمل أولئك الكرام
من فعل الحرام.
وأما المنع الذي أقدم عليه عمر، فإنه - على فرض حمله
على الصحة - لا يعدو أن يكون عملا خاصا من عمر، لم يوافقه عليه
عامة الصحابة، وهو ترك يحتمل التعليل والتبرير، سواء كانت تبريراته
موجهة أم لا؟ (1).



(1) سنستعرض في القسم الثاني تلك التبريرات بتفصيل، إن شاء الله.
234
ومن الواضح أن دلالة الفعل على الجواز مقدمة على دلالة الترك
على الحرمة، لأن الترك أعم ومحتمل للتعليل، كما ذكرنا.
يقول محمد عجاج: تلك أخبار متعاضدة، تثبت
أن الصحابة رضوان الله عليهم أباحوا الكتابة، وكتبوا الحديث
لأنفسهم، وكتب طلابهم بين أيديهم، وأصبحوا يتواصون بكتابة
الحديث وحفظه (1).
وهنا يعرف ما في كلام الشيخ عتر من التهافت، حيث يقول:
لم يكن الصحابة - رضوان الله عليهم - يتداولون تلك الصحف من
الحديث، ولم نجد في شئ من الروايات أن أحدا فعل ذلك، وإنما
كانت تلك الصحف بين أيديهم بمثابة المذكرات (2).
وأوجه التهافت فيه:
أولا: أن البحث إنما هو في أصل جواز الكتابة والتدوين وعدم
حرمتهما، وعمل الصحابة ذلك يدل بوضوح على الجواز ونفي الحرمة،
وكذلك أقوالهم تدل على ذلك، وهذا كاف في المدعى!
وأما تداول ما كتبوه وعدمه فهذا أمر آخر لا يخص تلك الدعوى.
وثانيا: أن غرضه من التداول غير واضح:
فإن الكتب إنما تؤلف لتكون مذكرات يرجع إليها المؤلف أو غيره
عند الحاجة، وهذا هو الغرض الأصلي من تأليف الكتب والمصنفات،



(1) السنة قبل التدوين (ص 321).
(2) منهج النقد في علوم الحديث (ص 45).
235
وقد اعترف عتر بأن الصحابة - أيضا - اتخذوا كتبهم مذكرات!
أليس هذا تداولا للكتاب، باستعماله في الغرض المنشود منه!؟
وثالثا: إن كان مراده بالتداول هو الاستشهاد بالكتاب والرجوع
إليه، فقوله: لم نجد في شئ من الروايات أن أحدا فعل ذلك، غير
صحيح، لأن من الروايات ما تحتوي على رجوع الصحابة إلى كتبهم:
ففي حديث رافع بن خديج أنه قال لمروان، إن شئت أقرأ تكه، أليس هذا
استشهادا بالكتاب الذي عنده!؟
وكذلك قراءة عائشة في كتابها.
واعتزاز عبد الله بن عمرو بصحيفته.
ورابعا: إن كان المراد من التداول هو الاستنساخ والقراءة والحفظ
والرواية - وهو أظهر معاني التداول - فهذا - أيضا - متحقق في ما كتبه
الصحابة، فقد سمعت ذلك في إلقاء أنس بمخاله، أو مجاله، إلى الرواة،
ورأينا أن قتادة السدوسي كان يحفظ صحيفة جابر.
وأدل دليل على ذلك تناقل الرواة أحاديث تلك الصحف، التي
ألفها الصحابة، كصحيفة سعد التي رواها ابنه، وصحيفة سمرة التي
رواها ابنه، وصحيفة عبد الله التي رواها ابنه.
وإن وجود بعض تلك الصحف - في عصرنا الحاضر - بأعيانها ليس
إلا نتيجة لذلك التداول، كما لا يخفى.
وقد ثبت من خلال استعراضنا هذا أن السيرة العملية للصحابة
كانت هي التدوين، بالرغم من الضغوط التي تعرضوا لها على أثر

236
إجراءات المنع من قبل الحكام، وأن الصحابة التزموا بالتدوين،
بلا انقطاع ولا هوادة، وكانت سيرتهم تلك مأخوذة من الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم، ومتصلة بعهده الأنور، كما يقتضيه حسن
الظن بهم رضوان الله عليهم.
العهد الثاني: عهد التابعين:
وأما التابعون، فقد التزموا بإباحة التدوين، وزاولوه كأمر ضروري.
والواقع الملموس في هذا العهد أن التبريرات الشائعة للمنع،
كخوف اختلاط القرآن بغيره، أو خوف الاشتغال بغير القرآن،
أو عدم معرفة الناس الكتابة، وغيرها مما سيأتي في القسم الثاني
من هذه الدراسة، أصبحت كلها باهتة، مفضوحة، غير قابلة للذكر،
بله الإقناع.
وقد كان علماء التابعين يصرون على الكتابة للحديث، وبإلحاح
عجيب، وفي أقسى الظروف وأحرجها.
قال البلقيني: من أباح ذلك من التابعين - فكثير، مثل: الحسن
[البصري] وعطاء، وأبي قلابة، وأبي المليح (1).
وقال القاضي عياض: روي إجازة ذلك وفعله عن... عطاء،
وقتادة، وعمر بن عبد العزيز، وسعيد بن جبير، وأمثالهم... ومن بعد
هؤلاء ممن لا يعد كثرة (2).



(1) محاسن الاصطلاح (ص 302).
(2) الإلماع للقاضي عياض (ص 147).
237
وذكر الخطيب جمعا منهم في (باب الرواية عن التابعين في إباحة
كتابة الحديث).
وعد من الطبقة الأولى منهم: سعيد بن المسيب، وعامر الشعبي،
والحسن البصري.
ومن الثانية والثالثة: قتادة، وأبا قلابة، وعبد الله بن محمد بن
عقيل، والزهري، وصالح بن كيسان، ورجاء بن حياة، وسليمان
اليشكري، وسالم بن أبي الجعد، ومعاوية بن قرة المزني، ويحيى بن
سعيد، وحماد بن سلمة، والأعمش، وغيرهم (1)،
ونحن نذكر هنا من التابعين من عاش في القرن الأول، ومن كان
نشاطه العلمي في ذلك القرن، وهم كبار التابعين، دون من تأخرت
ولادته عن ذلك القرن، لأن أمر التدوين وإباحته أصبح في القرن الثاني
مجمعا عليه، كما مر (2).
1 - حجر بن عدي بن الأدبر، الكندي (قتل 51 ه‍):
هو حجر الخير، كان جاهليا إسلاميا، روى أنه وفد على النبي
صلى الله عليه وآله وسلم، وشهد القادسية، وهو الذي فتح (مرج
عذرى) بالشام، وكان من أصحاب الإمام أمير المؤمنين علي
عليه السلام، وشهد معه الجمل وصفين.
اعتقل بأمر معاوية، فأمر بقتله مع أصحابه، في (مرج عذرى)



(1) تقييد العلم (ص 99 - 113) انظر السنة قبل التدوين (ص 21 - 283).
(2) أنظر ما مضى بداية الفصل الرابع هذا، (ص 198 -).
238
فقال حجر: الحمد لله، أما والله، إني لأول مسلم نبح كلابها في
سبيل الله، ثم أتي بي اليوم إليها مصفودا.
فقتل رحمه الله شهيدا، ونصب رأسه في دمشق، فكان أول رأس
ينصب في الإسلام!
كان ثقة معروفا، ولم يرو عن غير الإمام علي عليه السلام
شيئا، وكانت عنده صحيفة فيها حديث علي عليه السلام (1).
2 - الأصبغ بن نباتة (ت 100 ه‍)
ذكره ابن شهرآشوب في المصنفين الأوائل في الإسلام (2).
كما ذكره النجاشي في المتقدمين في التصنيف من سلفنا الصالح،
فقال: المجاشعي، كان من خاصة أمير المؤمنين عليه السلام، وعمر بعد ه،
روى عنه عهد الأشتر، ووصيته إلى محمد ابنه (3).
وقد مر في عداد مؤلفات الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أن الأصبغ
روى قسم القضاء، من كتاب الأحكام الكبير (4).
وقد ذكر الشيخ الطوسي أن للأصبغ كتاب مقتل الحسين
عليه السلام (5).



(1) الطبقات لابن سعد (6 / 220 لاحظ 154) ولاحظ صحيح مسلم (1 / 7).
(2) معالم العلماء (ص 1).
(3) رجال النجاشي (ص 9) رقم (5) والفهرست للطوسي (ص 62) رقم (119).
(4) لاحظ رقم (7) (ص 140) من الفصل الثالث السابق.
(5) الفهرست للطوسي (ص 62) رقم (119) وتأسيس الشيعة (ص 281).
239
3 - سليم بن قيس الهلالي، العامري (ت 90 ه‍):
قال ابن النديم: من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، وأول
كتاب ظهر للشيعة كتاب سليم المشهور (1)
ونقل نحو ذلك عن السبكي في كتاب محاسن الوسائل في
معرفة الأوائل (2)،
وذكره النجاشي في المتقدمين في التصنيف من سلفنا الصالح،
وقال: له كتاب (3) وكذلك الشيخ الطوسي (4).
وقال النعماني: ليس بين جميع الشيعة - ممن حمل العلم ورواه -
خلاف في أن كتاب سليم بن قيس الهلالي أصل من كتب الأصول التي
رواها أهل العلم وحملة حديث أهل البيت، وأقدمها... وهو من الأصول
التي يرجع الشيعة إليها، وتعول عليها (5)،
وقد ذكر بعض المؤلفين المعاصرين هذا الكتاب، معتبرا له من أقدم
الكتب المؤلفة، وخاصة عند الشيعة (6).



(1) الفهرست للنديم (ص 275) الفن (5) المقالة (6).
(2) الذريعة، للطهراني (2 / 153) رقم (590).
(3) رجال النجاشي (ص 8) رقم (4).
(4) الفهرست للطوسي (ص 107) رقم (348).
(5) الغيبة للنعماني (ص 101) وانظر تأسيس الشيعة (ص 282) والمراجعات لشرف
الدين (ص 307) المراجعة (110).
(6) المقالات الدينية للشيخ محمد سعيد العرفي (ص 8) وتاريخ الأدب العربي
لشوقي ضيف (العصر الإسلامي) (ص 453) وتاريخ الفلسفة الإسلامية لمصطفى
عبد الرزاق (ص 2 - 203).
240
وهذا الكتاب موجود، متداول، ويسمى - أيضا
باسم كتاب السقيفة (1).
وقد قدم له في بعض طبعاته الأولى شيخنا في الرواية المرحوم
العلامة المحقق السيد محمد صادق بحر العلوم رحمه الله (ت 1399 ه‍) مقدمة
موسعة ضافية عن الكتاب والمؤلف (2).
ولكن النسخة المتداولة لا تخلو مما لا ريب في بطلانه حسب
معتقدات الشيعة الإمامية.
4 - الحارث بن عبد الله الهمداني:
روى عنه أبو إسحاق السبيعي أنه قال: خطب أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب عليه السلام يوما خطبة بعد العصر، فعجب الناس من حسن
صفته، وما ذكر من تعظيم الله جل جلاله.
قال أبو إسحاق: فقلت للحارث: أو ما حفظتها؟
قال: قد كتبتها.
فأملاها علينا من كتابه (3).
وقد مر أنه روى عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كتاب السنن
والقضايا والأحكام (1) كما قد نقل عن الإمام عليه السلام أحاديث في



(1) الذريعة للطهراني (2 / 152 - 159).
(2) وله ذكر في الجرح والتعديل للرازي (ج 2 ق 1 ص 214).
(3) التوحيد، للصدوق (ص 31) ح 1.
(4) رجال النجاشي (ص 7) والفهرست للطوسي (62).
241
مجال الحث على التدوين (1).
5 - عبيدة السلماني (ت 64 - أو - 72):
قال خالد بن راشد، عن مولى لعبيدة السلماني، قال: سمعت
عبيدة، يقول: خطبنا علي أمير المؤمنين عليه السلام على منبر له من لبن،
فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، اتقوا الله، ولا تفتوا الناس
بما لا تعلمون، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال قولا آل منه إلى
غيره، وقال قولا وضع على غير موضعه، وكذب عليه.
فقام إليه علقمة وعبيدة السلماني، فقالا: يا أمير المؤمنين، فما
نصنع بما قد خبرنا في هذه الصحف من أصحاب محمد صلى الله عليه
وآله وسلم؟ قال: سلا عن ذلك علماء آل محمد صلى الله عليه وآله.
كأنه عنى نفسه (2).
والغريب أن عبيدة السلماني - مع وجود هذا النص الواضح
الدلالة على وجود الصحف عنده - قد نسب إليه الامتناع عن التدوين
والكتابة (3).
6 - ميثم بن يحيى التمار (ت 60 ه‍)
صاحب أمير المؤمنين عليه السلام، من أعاظم الشهداء على



(1) لاحظ ما مضى (ص 144 و 145).
(2) كتاب عاصم بن حميد الحناط (ص 39).
(3) تقييد العلم (ص - 46) وانظر السنة قبل التدوين (ص 322) ودلائل التوثيق المبكر
(ص 444).
242
التشيع، قتله ابن زياد والي معاوية على الكوفة.
له كتاب في الحديث، ينقل عنه الكشي في رجاله والطوسي
في الأمالي (1) والطبري في بشارة المصطفى، وكثيرا ما يقول
الأخير: وجدت في كتاب ميثم التمار (2).
7 - ثابت بن دينار أبو حمزة الثمالي:
كان من أصحاب علي بن الحسين السجاد عليه السلام، وصحب أبا جعفر
محمد الباقر عليه السلام، ذكره ابن النديم، وقال: من النجباء الثقات،
وله كتاب التفسير (3).
8 - محمد بن الحنفية ابن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
(ت - 73 ه‍):
قال العلائي في عبد الأعلى بن عامر الثعلبي: قال عبد الرحمن بن
مهدي: كل شئ يروى عن محمد بن الحنفية إنما هو كتاب أخذه،
ولم يسمعه (4).
9 - الحسن بن محمد بن الحنفية (ت 100 ه‍):



(1) أمالي الطوسي (1 / 147).
(2) تأسيس الشيعة (ص 283) ومرآة الكتب (1 / 9) وأمالي الطوسي (2 / 20) وإرشاد
المفيد (ص 15 ح 12).
(3) الفهرست للنديم (ص 36).
(4) طبقات ابن سعد (5 / 77) و (6 / 233) وتقدمة الجرح والتعديل (71) والجرح
والتعديل (3 / 1 / 26) وتهذيب التهذيب (6 / 94) وجامع التحصيل في أحكام
المراسيل (ص 218 - 219) رقم (410).
243
ألف كتابا في الإرجاء، ذكره ابن سعد (1).
وله كتاب في الجبر، رد عليه يحيى بن الحسين الهادي إلى الحق
الزيدي (ت 298 ه‍) في كتاب الرد والاحتجاج على الحسن بن محمد،
وأورد نص كتاب ابن الحنفية في كل مسألة، ثم رد عليها (2).
10 - عروة بن الزبير (ت 94 ه‍)
كان ممن يهتم بالتدوين، وقد كتب عن عائشة (ت 57 ه‍) (3).
وكانت له كتب فقه، أحرقها يوم الحرة سنة (63 ه‍) فكان يظهر
أسفه عليها ويقول: لأن تكون عندي أحب إلي من أن يكون لي مثل
أهلي ومالي (4).
وكان يكتب العلم للناس، ويعارضه لهم (5).
ومما يؤثر عنه اهتمامه بعرض الكتاب، والمقصود بالعرض هنا
مقابلته بأصله المكتوب عنه، لتصحيحه وضبطه والتأكد من سلامته من
الغلط والتصحيف:



(1) الطبقات لابن سعد (5 / 328) انظر تاريخ التراث لسزكين (1 / 1 / 237) ودلائل
التوثيق المبكر (ص 551) وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (8 / 120).
(2) طبع كتاب (الرد على الحسن بن محمد) للهادي إلى الحق في (رسائل العدل والتوحيد)
تأليف محمد عمارة (2 / 117 - 303).
(3) الكفاية للخطيب (ص 205).
(4) طبقات ابن سعد (5 / 133) طبع ليدن، ومختصر تاريخ دمشق لابن منظور (17 / 10)
(5) أدب الإملاء والاستملاء (ص 78).
244
قال: عرضت كتابك؟ قلت: لا، قال: لم تكتب (1).
وهذا يدل على عناية فائقة، لا بأصل التدوين فحسب، بل
بالضبط والتصحيح أيضا، ومن المعلوم أن ذلك يعتبر من شؤون التدوين
والكتابة في مرحلة راقية تتجاوز المرحلة البدائية.
وقد اعتبر عروة أول من صنف في المغازي (2).
واستخرج الدكتور محمد مصطفى الأعظمي نصوص
المغازي لعروة، وطبع باسم مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم لعروة بن الزبير برواية أبي الأسود عنه (3).
11 - سعيد بن جبير (ت 94 ه‍)
كان من تلامذة ابن عباس، شديد الاهتمام بكتابة الحديث
وتدوينه، وله في ذلك أحاديث تدل على عنايته الفائقة، نورد بعضها:
1 - قال: ر بما أتيت ابن عباس، فكتبت في صحيفتي حتى أملأها، وكتبت في نعلي حتى
أملأها، وكتبت في كفي، وربما أتيته فلم
أكتب حديثا حتى أرجع، لا يسأله أحد عن شئ (4).
2 - وقال: كنت أأتي ابن عباس، فأكتب عنه (5).



(1) الكفاية للخطيب (ص 237) أدب الاملاء (ص 79).
(2) البداية والنهاية، لابن كثير (9 / 101) لاحظ مقال، التسميات طليعة المؤلفات...
المنشور في مجلة (تراثنا) العدد (15) ص (260 - 261).
(3) طبع طبعة أولى في الرياض سنة 1401 ه‍..
(4) الطبقات لابن سعد (6 / 257).
(5) المصدر والموضع.
245
3 - وقال كنت أكتب عند ابن عباس في صحيفة، وأكتب
في نعلي (1).
4 - وقال كنت أجلس إلى ابن عباس، فأكتب في الصحيفة حتى
تمتلئ، ثم أقلب نعلي فأكتب في ظهورهما (2)،
5 - وقال: كنت أسير مع ابن عباس، في طريق مكة، ليلا،
وكان يحدثني بالحديث فأكتبه في واسطة الرحل، فأصبح، فأكتبه (3).
6 - وقال: كنت أسير بين ابن عمر وابن عباس، فكنت أسمع
الحديث منهما، فأكتبه على واسطة الرحل، حتى أنزل فأكتبه (4).
وله كتاب (التفسير) ذكره ابن النديم (5) وغيره (6).
ورواه عنه عطاء بن دينار:
قال أحمد المصري: عطاء... من ثقات المصريين إلا أن تفسيره
- في ما نرى! - عن سعيد بن جبير، صحيفة (7).
وقال ابن حجر في ترجمة عطاء: إن روايته عن سعيد بن جبير



(1) سنن الدارمي (1 / 105) ح 506.
(2) المصدر السابق (ح 507) والمحدث الفاصل (ص 374) رقم (347).
(3) سنن الدارمي (1 / 105) ح 501 و 505، وجامع بيان العلم (1 / 72).
(4) تقييد العلم (ص 3 - 104).
(5) الفهرست للنديم (ص 37).
(6) وانظر: طبقات ابن سعد (6 / 179 و 186) وتقييد العلم (102).
(7) جامع التحصيل للعلائي (ص 237) رقم (519).
246
من صحيفته (1).
وقال أبو حاتم: كتب عبد الملك بن مروان إلى سعيد بن جبير: أن
يكتب إليه بتفسير القرآن، فكتب سعيد بن جبير بهذا التفسير إليه،
فأخذه عطاء من الديوان (2).
ورواه عنه عزرة:
قال ورقاء بن إياس: رأيت عزرة يختلف إلى سعيد بن جبير، معه
التفسير في كتاب، ومعه الدواة يغير (3).
وبما أن سعيد بن جبير أقدم تلامذة ابن عباس وفاة، فقد قيل إنه
أول من صنف في علم التفسير (4).
12 - مجاهد بن جبر (103 ه‍):
كتب التفسير عن ابن عباس.
قال ابن أبي مليكة: رأيت مجاهدا يسأل ابن عباس عن تفسير
القرآن، ومعه ألواحه، فيقول له ابن عباس: اكتب حتى سأل عن
التفسير كله (5).
وكان مجاهد يقول لأصحابه: لا تكتبوا عني كل ما أفتيت، وإنما



(1) تهذيب التهذيب (7 / 198) وتقريب التهذيب (2 / 21) رقم (188).
(2) جامع التحصيل للعلائي (ص 237) رقم (519).
(3) الطبقات لابن سعد (6 / 266).
(4) تأسيس الشيعة (ص 322).
(5) تفسير الطبري (1 / 30) وأعيان الشيعة (1 / 195).
247
يكتب الحديث (1).
وقال أبو يحيى الكناسي: كان مجاهد يصعد بي إلى غرفته فيخرج
إلي كتبه، فأنسخ منها (2).
13 - نافع مولى ابن عمر (ت 117 ه‍)
كان يملي علمه، ويكتب بين يديه (3) وله كتاب كبير رواه عن
ابن عمر (4).
14 - زيد بن وهب الجهني الكوفي (ت 96 ه‍)
جمع في كتاب خطب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام على المنابر،
في الأعياد،
ذكره الشيخ الطوسي، وأسند إليه (5).
15 - سالم بن أبي الجعد (ت 100 ه‍)
كان ممن يكتب، وقد أقر بذلك زميله إبراهيم النخعي (ت 96 ه‍)
فعن منصور، قال: قلت لإبراهيم: ما لسالم بن أبي الجعد، أتم
منك حديثا؟



(1) قواعد التحديث، للقاسمي (ص 52).
(2) تقييد العلم (ص 105).
(3) سنن الدارمي (1 / 106) ح 513.
(4) تاريخ بغداد (10 / 406) تاريخ الإسلام للذهبي (5 / 11) وانظر دلائل التوثيق المبكر
(ص 539).
(5) الفهرست للطوسي (ص 97) رقم (303).
248
قال: لأنه كان يكتب (1).
وقال منصور: كان سالم إذا حدث، حدث فأكثر، وكان إبراهيم
النخعي إذا حدث جزم، فقلت لإبراهيم؟ فقال: إن سالما كان يكتب (2).
ويظهر من ذلك أن الكتابة كانت تعتبر عند إبراهيم من أسباب
ضبط الحديث، وكثرته، فكأنه كان مستاءا من عدم كتابته،
كما يشير إليه حديثه التالي: قال جامع بن شداد: رأيت حمادا يكتب
عند إبراهيم في ألواح، ويقول: والله ما أريد به الدنيا (3).
16 - محمد بن عمرو الليثي:
كان ممن يؤكد على التدوين والكتابة، ومن أقواله لتلاميذه، ما
نقله سفيان بن عيينة، قال: قال لنا محمد: لا، والله، لا أحدثكم
حتى تكتبوه، إني أخاف أن تكذبوا علي (4).
17 - عطاء بن أبي رباح (ت 114 ه‍)
كان يكتب، ويأمر ابنه بالكتابة (5).
وقال أبو حكيم الهمداني: كنت عند عطاء بن أبي رباح، ونحن
غلمان، فقال: يا غلمان، تعالوا، اكتبوا، فمن كان منكم لا يحسن



(1) سنن الدارمي (1 / 101) ح 481، الكامل لابن عدي (1 / 37).
(2) طبقات ابن سعد (6 / 291).
(3) طبقات ابن سعد (6 / 332).
(4) الكامل لابن عدي (1 / 37) والجامع لأخلاق الراوي والسامع.
(5) المحدث الفاصل للرامهرمزي (ص 371) رقم (339).
249
كتبنا له، ومن لم يكن معه قرطاس أعطيناه من عندنا (1) فكان تلامذته
يكتبون بين يديه (2).
18 - همام بن منبه (ت 132 ه‍)
ألف ما سمعه من شيخه أبي هريرة الدوسي (ت 57 - أو - 59 ه‍) في
صحيفة تعرف بالإضافة إلى اسمه.
ويعتقد البعض أن الصحيفة من تأليف أبي هريرة نفسه، وأن هماما
إنما رواها عنه.
لكن المعروف أن المدون لها هو همام.
وقد كان همام من المولعين بالكتب، والمهتمين بالكتابة والتدوين،
وكان يملي للناس الأحاديث من الكتب، والكراريس (3).
ونشرت صحيفة همام أخيرا، باعتبارها واحدا من نماذج
الحديث المدون في صدر تاريخ التدوين.
وقال بعض المعاصرين عنها: إنما كانت لهذه الصحيفة مكانة
خاصة في تاريخ تدوين الحديث، لأنها وصلت إ لينا كاملة، سالمة، كما
رواها ودونها همام عن أبي هريرة، وتحتوي على (138 حديثا) وعثر
عليها الباحث المحقق الدكتور محمد حميد الله الحيدرآبادي، في
مخطوطتين متماثلتين، في دمشق، وبرلين.



(1) المحدث الفاصل (ص 373) رقم 344.
(2) سنن الدارمي (1 / 106).
(3) الجامع لأخلاق الراوي والسامع.
250
وأضاف: وزادنا ثقة بما جاء فيها أنها - برمتها - ماثلة في مسند
أحمد، وأن كثيرا من أحاديثها مروي في صحيح البخاري في أبواب
مختلفة.
وقد سميت هذه الصحيفة بالصحيفة الصحيحة (1).
19 - عامر الشعبي (ت 104 ه‍)
كان يقول: الكتاب قيد العلم (2).
وقال: اكتبوا ما سمعتم مني ولو على الجدار (3).
وبالرغم من وضوح دلالة هذا الكلام على كون الشعبي من أنصار
التدوين فقد نسب إليه القول بالمنع من التدوين.
وعد - فعلا - في
المانعين (4)
ونقل عنه قوله: ما كتبت سوداء في بيضاء، ولا سمعت من رجل
حديثا فأردت أن يعيد ه علي (5).
لكن كلامه هذا - إن صح عنه - لا يدل على أكثر من عدم تحقق
الكتابة منه لأجل قو ة الحفظ، فمراده - كما يدل عليه ذيل هذا الكلام -



(1) علوم الحديث لصبحي الصالح (ص 32) وانظر مسند أحمد (2 / 12 - 319)
(2) تقييد العلم (ص 99).
(3) طبقات ابن سعد (6 / 250) والمحدث الفاصل (ص 376) رقم (354) وتقييد العلم
(ص 100) والعلم لزهير بن حرب (ص 193 ب).
(4) السنة قبل التدوين (ص 313).
(5) جامع بيان العلم (1 / 67) والمصدر السابق عن كتاب العلم لزهير بن حرب
(ص 187 ب).
251
التعبير عن قوة الحفظ الذي كان يتمتع به، بحيث كان يعتمد على
الذاكرة ولم يكن بحاجة إلى الكتابة، لا أنه يعارض الكتابة.
ويدل على ذلك أيضا أنه وجد له - بعد موته - كتاب الفرائض
والجراحات (1).
وقد عده الخطيب في من أباح كتابة الحديث من التابعين (2).
20 - الضحاك بن مزاحم (ت 105 ه‍)
فقد كان يقول: إ ذا سمعت شيئا فاكتبه، ولو في حائط.
وأملى كتاب (مناسك الحج) على حسين بن عقيل (3).
21 - معاوية بن قرة، أبو أياس (ت 113 ه‍)
كان يقول: من لم يكتب علمه، لم يعد علمه علما (4).
ونكتفي بهذا العدد من التابعين، والملاحظ أنهم من كبار التابعين
وفضلائهم ومن لا ينعقد رأي في عصرهم بدونهم، وهم أعلام الإسلام
في ذلك العهد بعد الصحابة الكرام.
ولا يشك عارف بالتاريخ والحديث أن قيام هؤلاء بأمر التدوين يعني
تحقق سيرتهم على التدوين، كما أنه لا ريب في اتصال هذه السيرة



(1) تاريخ بغداد (12 / 232).
(2) تقييد العلم (ص 99 - 113).
(3) جامع بيان العلم (1 / 72) وحجية السنة (ص 451).
(4) سنن الدارمي (1 / 104) ح 496، ومحاسن الاصطلاح (303).
252
بسيرة الصحابة، وقد عرفنا أن سيرة الصحابة قد قامت على التدوين.
وإذا اتصلت السيرة في عهدي الصحابة والتابعين، تم اتصال سيرة
المسلمين - المتحققة بعد القرن الأول - بسيرة المسلمين في عهد الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم، فتكون هذه السيرة العملية حجة شرعية
بلا ريب.
وقد ذكر الشهيد التبريزي في نهاية كلام له حول أول ما ألف في
الإسلام ما هذا نصه:
وقد تحصل أن الكتب المصنفة في عهد النبي صلى الله عليه وآله
وسلم كثيرة، منها:
كتاب علي عليه السلام.
والجامعة، إن لم يكن عين كتاب علي عليه السلام.
ومصحف فاطمة عليها السلام.
وكتاب الديات، وكتاب الفرائض، إن لم يكونا جزءا من كتاب
علي عليه السلام -
وكتاب ابن حزم، وهو كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليه.
وأن الكتب المصنفة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضا
كثيرة، منها:
كتاب سلمان، وأبي ذر، والأصبغ، وأبي رافع، وعلي ابنه،

253
وعبيد الله ابنه، والذي جمعه أبو الأسود في النحو، وكتاب سليم بن
قيس، وكتاب ميثم التمار، والصحيفة السجادية (1).
.



(1) مرآة الكتب (1 / 9).
ملاحظة:
إعلم أن المؤلفين في موضوع تدوين الحديث قد تفاوتت أعمالهم في إيراد أسماء الصحابة
والتابعين الذين زاولوا عملية التدوين وخلفوا كتبا مدونة، كما وعددا، وكيفا وتفصيلا.
وقد اقتصرنا نحن في هذه الدراسة على هذا القدر المقنع لإثبات السيرة في عهد الصحابة
وكذا التابعين، من دون توسع في ذكر الأسماء والكتب، فإن ذلك محتاج إلى تأليف
مستقل، مع أن المراجع المتوفرة ترشد إليها، وراجع الفصل الخامس من كتاب دلائل
التوثيق المبكر ص (308 - 309) للوقوف على أسماء أخرى
وكذلك كتاب معرفة النسخ والصحف الحديثية، الجامع للكثير منها.
254
خاتمة القسم الأول
خلاصة واستنتاج
وبعد أن انتهينا من القسم الأول، نقد م مختصرا له:
إن الإسلام - منذ اللحظة الأولى من نزوله وبعثة الرسول الكريم
صلى الله عليه وآله وسلم به - بدأ بالتأكيد على مبدأ الكتابة بأساليب
عديدة، ولم ينتظر انفراجا محليا في الأوضاع السائدة، للبت في تطوير
الثقافة المعتمدة على الأمية، التي كان العرب يعتادونها، إلى ثقافة الإسلام
المعتمدة على الكتاب والكتابة والقلم وما يسطرون، كما هو لم ينتظر في
كل التغييرات الأخرى التي أحدثها على المجتمع الذي نزل فيه، بتغيير
المعتقدات، والأفكار، والأعراف، والأخلاق، والسيرة، والطبائع،
وكل ما لم يوافق عليه إلى ما رآه من عناصر الحضارة والرقي، فبادر إلى
تغييرها بكل فورية.
فهو أيضا تمكن من تغيير أساليب التثقيف المتداولة، المعتمدة
على مجرد الحفظ والرواية، وأدخل عليها عنصر الكتابة والضبط على الورق،
واعتماد الثقافة التحريرية.

255
ومهما كان الحديث عن حفظ العرب وسعته، وعن ذاكرة العرب
وجودتها فإن الرواية كانت تساير عملية الكتابة، المتسالم عليها لدى
البشر، فلم يرحل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى،
إلا وقد أصبحت الكتابة أمرا مقبولا لدى الجميع، ولا يدور حولها
جدل أو بحث.
وقد أصبح التدوين والكتابة للمعلومات أمرا واقعا بحيث إن عمر،
لما أراد أن يمنع تدوين الحديث اضطر إلى إظهار أعذار يبرر بها
إجراءات المنع.
أما الجماعة الذين عارضوا تلك الإجراءات، من كبار الصحابة
والتابعين - في بداية القرن الأول الهجري - وكذلك المجموعة التي تم
تدوينها وبقيت مصونة من الإبادة والإحراق، فهي تمثل النواة المكونة
لتراث المعرفة الإسلامية.
وقد عرفنا في هذا القسم كل الأوليات الضرورية لإثبات هذه
النظرية ونلخص الكلام هنا، فنقول: إن أدلة المبيحين لتدوين الحديث،
التي جمعنا شتاتها، وألفنا بين متفرقاتها، هي:
1 - أن الأصل الأولي في حكم التدوين، هو الإباحة.
2 - وأن العرف المقبول، يدل على جواز التدوين، وهو عرف قرره
الشارع الكريم، ولم يعارضه، فيكون حجة في نفسه على ذلك.
3 - ورأينا أن السنة النبوية، بأقسامها الثلاثة: التقريرية، والفعلية.
والقولية، قامت على جواز التدوين للحديث.

256
4 - ورأينا أن أهل البيت النبوي عليهم السلام أجمعوا على إباحة
التدوين، بل ضرورته، وأثبتنا أن إجماعهم حجة يجب على الأمة
اتباعه، ولهم في مجال التدوين آثار عظيمة.
5 - ورأينا أن سيرة المسلمين - في جميع العصور: عصر النبوة،
وعصر الصحابة، وعصر التابعين، فما بعد هم إلى اليوم - قد استقرت
على إباحة التدوين ومزاولته، من د ون تردد.
ومع كل هذه الأدلة المعتبرة، لم يبق لدينا ريب في إباحة التدوين
منذ عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن حراما في يوم من
الأيام، ولم ينقطع في فترة سوى ما تعرض له من عمليات المنع، من قبل
بعض الحكام، ولكنه لم يكن ذا أثر على الحديث، ولا على حكم
التدوين، خاصة على من لم يلتزم - عقائديا - بشرعية تلك الإجراءات.
ولا أعتقد أن من يتمتع بالعلم، ويتصف بالإنصاف يمتنع من
الاعتراف بهذه الحقيقة.
وقد أقر بها بعض علماء الحديث في العصر الحاضر، وصرحوا:
بأن معظم الثروة الحديثية قد كتب ودون بأقلام رواة في العصر الأول،
وقد يزيد ما حفظ في الكتب والدفاتر - كتابة وتحريرا في العصر النبوي،
وفي عصر الصحابة - على عشرة آلاف حديث.
وصرحوا: بأنه يمكن أن يقال: إن ما ثبت من الأحاديث
الصحاح، واحتوت عليها مجاميعها، ومسانيدها، قد كتب ودون في
عصر النبوة، وفي عصر الصحابة، قبل أن يدون في الموطأ والصحاح.

257
نقل ذلك الأستاذ الشيخ عبد الحليم محمود - شيخ الأزهر - عن
السيد أبي الحسن الندوي في كتاب رجال الفكر والدعوة، وعن مناظر
أحسن كيلاني في كتاب تدوين الحديث (1).
وأضاف: جمعت السنة - إذن - جميعها - تقريبا - في عهد الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم، وعهد الصحابة (2).
ويقول محمد عجاج الخطيب: إن تقييد الحديث وحفظه، في
الصحف، والرقاع، والعظام، قد مارسه الصحابة في عهد رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، ولم ينقطع تقييد الحديث بعد وفاته صلى الله
عليه وآله وسلم، بل بقي جنبا إلى جنب، مع الحفظ، حتى قيض
للحديث من يودعه المدونات الكبرى.
وأضاف: إن أهل الحديث لم يمسكوا طوال القرن الأول عن تقييد
الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، منتظرين سماح الخليفة
وأمره (3).



(1) لقد راجعنا هذا الكتاب وهو باللغة الأردوئية وقد طبع في الهند، مكتبة تهانوي - ديوبند
ضلع سهارنبور، يو بي. سنة 1983 م.
(2) القرآن والنبي صلى الله عليه وآله وسلم، تأليف عبد الحليم محمود (ص 336 - 339،
(وقارن ذلك بما ذكره الشيخ محمد أبو زهو في الحديث والمحدثون (ص 124) فهو يقول:
إن الحديث لم يكتب في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على النحو الذي كتب عليه
القرآن، فلم يأمر النبي أحدا من كتاب الوحي بكتابة حديثه! وإن وجد من بعض الأفراد
كتابة شئ فذلك قليل جدا وقد كان جل اعتمادهم على الحفظ. انتهى.
فهذا الكلام باطل من جهات عديدة، لا تخفى على العلماء.
(3) السنة قبل التدوين (ص 332).
258
أقول: كما أنهم لم يمسكوا عن تدوين الحديث بإجراءات الخليفة
لمنع التدوين ولم يأبهوا بنهيه وتحريمه، في بداية هذا القرن.
ويقول الدكتور أحمد عمر هاشم - بعد أن ذكر النهي عن الكتابة،
وما قيل من توجيهات الجمع بينه وبين حديث الإذن فيها - ما نصه:
وظل النهي عن الكتابة قائما حتى كثرت السنن وخيف عليها أن تضيع
من البعض، فكان الإذن بالكتابة ناسخا لما تقدم من النهي، ولم يلحق
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالرفيق الأعلى إلا وكتابة الحديث
مأذون فيها (1).
ويقول في آخر حديثه: بعد هذا كله أرى أن السنة النبوية كانت
تكتب في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأن إباحة الكتابة
كانت آخر ما ترك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه عليه،
فلم يلحق بالرفيق الأعلى إلا وكتابة الحديث قائمة، وقد حفظت في
الصحف بجانب حفظها في الصدور، ولم تبق مهملة طيلة القرن الأول
إلى عهد عمر بن عبد العزيز، وأحاديث الإذن بالكتابة أكبر شاهد
على ذلك (2).
وقد ألف المحدث الكبير الشيخ عبد الحي الكتاني المغربي رسالة
في إثبات التدوين والجمع لأهل القرن الأول الهجري من الصحابة
والتابعين (3).



(1) السنة النبوية وعلومها ص 59.
(2) السنة النبوية وعلومها ص 61.
(3) ذكر ذلك في مقدمة كتاب فهرس الفهارس والأثبات المطبوع في بيروت بتحقيق
الدكتور إحسان عباس (ص 32) برقم (129) في قائمة مؤلفات الكتاني.
259
أقول: وبعد الاعتراف بهذه الحقيقة الواضحة، الناصعة، والثابتة
بالأدلة الشرعية، لم نكن بحاجة إلى التعرض لضجيج المانعين عن
التدوين وما أثاروه في وجه الحديث الشريف من شبه، اتباعا لما أقدم عليه
بعض الحكام وتوجيهاتهم لإجراءات المنع.
لأنها - بعد وضوح تلك الحقيقة - لم تكن إلا شبهة في مقابل
البديهة.
ولكن، حفاظا على موضوعية البحث، وإتماما للحجج والأدلة
عقدنا القسم الثاني من هذه الدراسة لذكر جميع ما ذكره المانعون
للتدوين من مبررات.

260
القسم الثاني
مع المانعين للتدوين، وتوجيهاتهم للمنع
ويحتوي على:
التمهيد: متى بدأ المنع للتدوين؟
الفصل الأول: النهي الشرعي عن كتابة الحديث!
الفصل الثاني: الخوف من اختلاط الحديث بالقرآن.
الفصل الثالث: التخوف من ترك القرآن والاشتغال بغيره.
الفصل الرابع: الاستغناء بالحفظ عن التدوين.
الفصل الخامس: عدم معرفة المحدثين للكتابة.
الفصل السادس: القول الفصل في سبب المنع.
الملحق الأول: المنع من رواية الحديث ونقله - أيضا -.
الملحق الثاني: آثار عدم التدوين.
الخاتمة: خلاصة واستنتاج.

261
التمهيد
متى بدأ المنع من التدوين؟
فلم يكن لمنع التدوين ذكر ولا أثر، قبل جلوس أبي بكر على أريكة
الحكم، بل على العكس من ذلك، فإن الآثار تدل على أن أبا بكر قام هو
بعملية التدوين فعلا من دون تحرج، لما جلس على أريكة الخلافة بعد وفاة
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، مباشرة.
فقد نقل الذهبي: أن أبا بكر جمع أحاديث النبي صلى الله عليه
وآله وسلم في كتاب فبلغ عددها خمسمائة حديث، ثم دعا بنار
فأحرقها (1)!
والغريب أن أبا بكر لم يستند في إتلافه هذا الكتاب إلى نص
شرعي، وإنما برر عمله ذلك بأنه أتلفه مخافة أن يكون كتب شيئا
لم يحفظه جيدا (2).
وروى القاسم بن محمد، من أئمة الزيدية عن الحاكم، بسنده عن



(1) تذكرة الحفاظ للذهبي (1 / 5) وعلوم الحديث لصبحي الصالح (ص 39).
(2) المصادر السابقة، نفس المواضع.
263
عائشة قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فكانت خمسمائة حديث فبات ليلة... فلما أصبح قال: أي بنية، هلمي
الأحاديث التي عندك، فجئته بها، فدعا بنار فحرقها.
فقلت: لم حرقتها؟!
قال: خشيت أن أموت وهي عندي، فيكون فيها أحاديث عن
رجل قد ائتمنته ووثقت به، ولم يكن كما حدثني فأكون قد نقلت
ذلك (1).
وهنا يعلل إحراق الحديث بمجرد خشيته المخالفة، مع تصريحه
بأمانة الناقل ووثاقته، إن كان هناك بينه وبين النبي صلى الله عليه وآله
وسلم ناقل!
فلو كان هناك حديث عن المنع الشرعي، لم يكن أبو بكر ليقدم
على الكتابة، أولا.
ولم يكن ليعلل الإتلاف بأمر آخر غير المنع الشرعي، ثانيا.
وقد قال المعلمي - بعد أن أورد هذه الرواية -: لو صح هذا لكان
حجة على ما قلناه - من عدم صحة النهي عن كتابة الحديث - فلو كان
النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن كتابة الأحاديث مطلقا لما كتب
أبو بكر (2).
ولم يؤثر عن أبي بكر منع عن تدوين الحديث بالخصوص غير



(1) الإعتصام بحبل الله المتين (1 / 30).
(2) الأنوار الكاشفة (ص 83).
264
إقدامه ذلك، وإنما رووا عنه المنع عن أصل رواية الحديث عن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم:
روى الذهبي: أن الصديق - يعني أبا بكر - جمع الناس بعد وفاة
نبيهم! فقال: إنكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدثوا عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا، فمن سألكم فقولوا:
بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه (1).
ويمكن أن يستفاد من هذه الرواية أن أبا بكر منع تدوين الحديث،
بأحد وجهين:
1 - بطريق الأولوية، فإن أبا بكر لما منع نقل الحديث وروايته، فهو
لكتابته أشد منعا، لأن الكتابة أبقى، وسبب أقوى لتداول الحديث وانتشاره،
أكثر مما هو في مجرد النقل.
مع أن الأمة بين مانع للتدوين دون الرواية، وبين مانع للاثنين، وبين
مبيح لهما، وليس في الأمة من يمنع الرواية دون التدوين، فلم ينقل ذلك
عن أبي بكر ولا عن غيره!
2 - أن النهي عن مطلق الحديث المفهوم من قوله: لا تحدثوا...
شيئا، يشمل الكتابة، وخاصة بالنظر إلى التعليل الذي ذكره، فهو يرى
أن الحديث عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم موجب للاختلاف،



(1) تذكرة الحفاظ للذهبي (1 / 3) ترجمة أبي بكر، والأنوار الكاشفة (ص 53) وسنعلق
عليه بتفصيل في الملحق الأول (ص 424 فما بعدها).
265
من دون فرق بين أن يروى أو يكتب؟.
والحاصل: أن استفادة منع أبي بكر للتدوين، من هذه الرواية،
واضحة.
ومهما يكن، فإن منع أبي بكر للحديث - رواية أو تدوينا -
لم يأخذ به أحد، بحيث لم ينقل حوله شئ يذكر.
وأما إقدام أبي بكر على إحراق حديث رسول الله صلى الله عليه
وآله الذي جمعه. فبالإضافة إلى أنه أدى إلى فقدان تلك المجموعة من
الأحاديث، ومضافا إلى أن الإحراق للكتب عمل غير مستساغ، كما
سيأتي، فهو مناف لما روته ابنته عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قالت: نهى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حرق التوراة (1).
مع أن التوراة منهي عن تداولها وقرائتها، كما تدل على ذلك
أحاديث التهوك.
ولعل هذه المفارقات في عمل أبي بكر هي التي دعت بعض
المتأخرين أن يسقط هذه الرواية عن الاعتبار، بقوله:
ذكر الذهبي هذا الخبر، ولا ندري ما سنده إلى ابن أبي مليكة،
وبين الذهبي أنه مرسل، أي منقطع، لأن ابن أبي مليكة لم يدرك أبا بكر
ولا كاد، ومثل ذلك ليس بحجة، إذ لا يدري ممن سمعه (2).
أقول: مع أن الذهبي وغيره أعلم بما أوردوا، فإن كان الخبر بهذه



(1) الكامل لابن عدي (1 / 177).
(2) الأنوار الكاشفة (ص 53).
266
المنزلة من عدم الاعتبار، فلماذا أوردوه في ترجمة أبي بكر؟ أليس
للاعتبار به؟
ثم إن تشددهم في مسائل رجال السند إنما هو في أحاديث أحكام
الشريعة، دون غيرها من الأخبار والسير (1).
ثم تلاه عمر، فلما تربع على أريكة الحكم أبدى في بداية أمره رغبة
في جمع الحديث وكتابة السنن، لكنه بعد مدة، بدا له منع التدوين،
وبشدة فائقة، إلى حد أن عمم ذلك في أمر رسمي على الجميع.
ومن هذا التاريخ بالذات بدأ حديث المنع عن تدوين الحديث
يتسرب وينتشر.
والذي يستوقف الناظر أمران:
1 - أن أبا بكر وعمر، لم يعمدا في إجرائهما إلى الاستدلال
بثبوت المنع في ما سبقهما من عصر النبوة، ولا استندا في عملهما إلى حديث مرفوع عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو أحد من علماء الصحابة (2).
بل لم نجد غيرهما من المانعين استند إلى نهي نبوي عن التدوين.
قال المعلمي: لم يثبت استدلال أحد منهم بنهي النبي صلى الله
عليه وآله وسلم (3).



(1) جامع بيان العلم (1 / 31) قال: والحجة من جهة الإسناد إنما تتقصى في الأحكام وفي
الحلال والحرام.
(2) الحديث والمحدثون لأبي زهو (ص 233 - 234) وانظر دلائل التوثيق المبكر (ص
234) فإنه أكد على أن موقف عمر لم يكن على أساس منع النبي صلى الله عليه وآله.
(3) الأنوار الكاشفة (ص 34).
267
وهذا في نفسه سبب للتشكيك في شرعية إجراء المنع، وكذلك
في ما نقل بعد ذلك من أحاديث مرفوعة يستدل بها على المنع.
وسيأتي تفصيل لهذا الأمر.
2 - أن التوجه إلى منع التدوين، وبذلك الأسلوب، يوحي إلى
الإنسان عملية التدوين كان لها شأن بليغ، وأنها كانت قائمة على
قدم وساق، بحيث استدعى تنفيذ المنع القيام بتلك المبادرات الشديدة
من الحكام.
بل أحاديث المنع ورواياته فيها ما يدل بوضوح على وقوع التدوين
بشكل واسع، قبل التعرض لعملية المنع.
قد قال الدكتور فؤاد سزكين - بعد أن ذكر بعض روايات المنع -:
إنا نتبين - من الخبرين النافيين - اهتماما بالتدوين في وقت مبكر، للغاية (1).
ويقول في الجواب عن: متى ظهر التحرج من كتابة الحديث؟
ما نصه: ليس هناك ما يمنع من افتراض كون الصحابة والتابعين قد أرادوا
المحافظة على أقوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وما روي عنه،
فقاموا بتدوينها خوفا عليها من الضياع.
وهل يجوز أن تترك أقوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
لمصادفات الحفظ في الصدور، في مجتمع كانت الأقوال المأثورة للبشر
العاديين تحفظ بالتدوين؟؟



(1) تاريخ التراث العربي لسزكين (1 / 1 / 233).
268
فهذا الرأي الخاص بصدر الإسلام رأي صحيح، غير أنه قد ظهر
لدى القوم - في ما تلا هذا من زمن - تحرج من الاحتفاظ بالحديث على
شكل مدون (1).
وأما أشخاص المانعين:
فهم - بعد أبي بكر وعمر -: أبو سعيد الخدري، وابن مسعود،
وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري (2).
ويكاد عدد المانعين ينحصر في هؤلاء، لولا أن المنع نسب إلى
آخرين من الصحابة، بينما هم من المبيحين، الذين أثرت عنهم الكتب،
مثل: أبي هريرة، وابن عباس (3)، كما أن الإباحة نسبت إلى بعض
رؤوس المانعين، كعمر وأبي بكر وعثمان (4).
وفي مقابل هؤلاء نجد أكثر الصحابة يقولون بجواز التدوين
وإباحته، وكثير منهم قد زاول عمل الكتابة والتدوين.
وقد فصلنا عن جهودهم في ذلك، قولا وعملا، في الفصل الرابع
من القسم الأول.
فنجد أن المنع - بالرغم من تبني السلطة له، ودعمها إياه بكل



(1) تاريخ التراث العربي لسزكين (1 / 1 / 226).
(2) مقدمة ابن الصلاح (ص 296) علوم الحديث لابن الصلاح، تحقيق عتر (ص 181).
(3) أنظر محاسن الاصطلاح (ص 297).
(4) لاحظ تقييد العلم للخطيب فإنا نجد فيه نسبة إباحة التدوين إلى من ذكره من المانعين،
وكذلك العكس، وهذا في نفسه تناقض لا بد في رفعه من توجيه؟! ولاحظ ما ذكرناه
(ص 8 - 209).
269
الأساليب - لم يصبح واقعا متسالما عليه، بل ظل منحصرا في أطر
خاصة، وانقسم الصحابة أنفسهم، فنجدهم مختلفين بين قليل مانع،
وكثير مبيح.
فلو أعرضنا عن الترجيح بينهم بالكثرة والقلة، وأعرضنا - كذلك -
عن جميع ما مر في القسم الأول - من هذه الدراسة - من الأدلة على
إباحة التدوين، والذي يلزم من ذلك عدم نسبة المنع إلى الشرع
الإسلامي.
يمكننا - استنادا إلى الأمرين التاليين - إثبات أن المنع من التدوين
لم يكن إلا رأيا شخصيا من عمر، وتبعه بعض الصحابة الدائرين في فلك
سياسته.
والأمران هما:
1 - عدم إسناد عمر وأتباعه عمل المنع، إلى أي نص من الشارع
الأقدس كما ذكرناه سابقا، وسنعيده.
2 - مخالفة الصحابة، لإجراء المنع، فلو كان للمنع أصل شرعي
لم يخف على الصحابة المعارضين - وهم الأكثر عددا -، ولم يختص
علمه بعمر والعدد الضئيل ممن تبعه من المانعين.
مع أن في المبيحين من الصحابة من هو أكثر اتصالا بالنبي صلى الله
عليه وآله وسلم من أقاربه وخاصته، مثل أمير المؤمنين علي عليه السلام
ابن عمه، وحتى أنس بن مالك خادمه، وعائشة زوجته.
فلو كان حكم التدوين ثابتا - في الشرع المبين - أنه حرام وممنوع،

270
لم يكن علي عليه السلام، وأنس وأمثاله، يخفى عليهم ذلك الحكم،
لفرض اتصالهم الوثيق بمصدر الشريعة، فكيف إذا علمنا أن هؤلاء
من المصرين على إباحة التدوين؟ بل من المؤكدين عليه، والمزاولين له،
بحيث أثرت عنهم كتب ومؤلفات، كما عرفنا في الفصل الرابع من
القسم الأول.
ويدل إعراضهم عن إجراء عمر للمنع، على أن الصحابة المجوزين
للتدوين لم يعيروا اهتماما لذلك الإجراء، ولم يعتبروه أمرا شرعيا مستندا
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإلا لم يخالفوه، هكذا،
علانية.
وليس لأحد أن يقول: إن مخالفة هؤلاء معارضة بموافقة مجموعة
من الصحابة لإجراءات عمر، المانعة من التدوين؟!
لأنا نقول: إن الصحابة اختلفوا في أمر التدوين على فريقين،
فمنهم من ترك الكتابة، ومنهم من فعلها أو أباحها لمن أقدم عليها، ولا
يمكن تقديم الترك على الفعل، لأن دلالة الفعل نص، ودلالة الترك ظاهر،
لأن الترك أعم من الحرمة، كما هو واضح، وتقديم النص على الظاهر واجب.
ونظرا إلى هذين الأمرين، يمكن القول - بالقطع - بأن إجراء المنع
إنما كان رأيا شخصيا لعمر، ارتآه لغرض خاص به.
مع أن النصوص الناقلة لحديث منع عمر وأتباعه، تدل بنفسها على
أن إقدامهم لم يكن مستندا إلى أصل شرعي، وإنما كان رأيا رأوه،
حسب ما اعتبروه من المصلحة، فلنستعرض تلك النصوص:

271
1 - قال عروة بن الزبير: إن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن
فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأشاروا
عليه: أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا، ثم أصبح يوما،
وقد عزم الله له، فقال: إني كنت أردت أن أكتب السنن، وإني ذكرت
قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا، فأكبوا عليها، فتركوا كتاب الله تعالى،
وإني - والله - لا ألبس كتاب الله بشئ أبدا (1).
وفي بعض نقول هذا النص: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم أشار عامتهم بذلك، أي: بكتابة السنن (2).
وهذا النص يحتوي على أمور مهمة:
1 - أن عمر أراد أن يكتب السنن، فاستشار.
يدل هذا على أن الكتابة لم تكن ممنوعة، ولا حراما، في الأصل،
وإلا فكيف يريد عمر أن يكتب السنن؟
كما أنه يدل على أن عمر لم يكن يعرف من النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهيا عن
التدوين، فأخذ يستشير الصحابة،
كما يدل على ذلك - أيضا - قوله: فطفق
عمر... شهرا، مضافا إلى أنه لم يستدل بالنهي الشرعي، وإنما علل المنع
بغير ذلك، كما سيجئ.
وقال المعلمي - في استشارة عمر، وإشارة الصحابة عليه بالتدوين -
ما نصه: فلو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن كتابة



(1) تقييد العلم (ص 49) ورواه في دفاع عن السنة (ص 21) عن البيهقي في المدخل.
(2) تقييد العلم (ص 50 و 51).
272
الأحاديث مطلقا لما هم بها عمر، و [لما] أشار بها عليه الصحابة (1).
2 - أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
أو عامتهم، أشاروا عليه أن يكتبها.
فأصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يكونوا متحرجين
من كتابة السنن.
3 - أن عمر - بالرغم من أنه استشار الأصحاب فأشاروا عليه أن
يكتب الحديث - خالفهم ولم يأخذ بآرائهم، بل منع الكتابة.
وهذا استبداد بالأمر، إذ بعد الإشارة عليه من عامة الأصحاب،
يجب عليه الأخذ بآراء الأكثرية - على الأقل - وهذا يدل على أن المنع
لم يكن إلا رأيا خاصا له، مخالفا للجميع (2) كما يدل عليه النص التالي
أيضا:
قال يحيى بن جعدة: إن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب
السنة، ثم بدا له أن لا يكتبها، ثم كتب في الأمصار: من كان عند ه
منها شئ فليمحه (3).
وهذا نص يحتوي على:



(1) الأنوار الكاشفة (ص 38).
(2) الحديث والمحدثون، لأبي زهو (ص 126) والغريب أن النص يحتوي على نسبة ذلك
إلى الله - تعالى - بقوله: ثم أصبح وقد عزم الله له، ويقول أبو شهبة: ولكن الله لم يرد له
دفاع عن السنة (ص 21).
(3) تقييد العلم (ص 53).
273
1 - إرادة عمر لكتابة السنة.
وهذا كما مضى يعني أن الكتابة لم يكن فيها حرج أو منع في
أصل الشرع.
2 - أن قوله: أراد، وقوله: بدا له، يدلان - بوضوح - على
أن إقدام عمر كان عن رغبة شخصية، ومستندا إلى إرادته الخاصة، وأنه
كان يعمل ما يبدو له، كما دل عليه النص السابق أيضا، وإلا لاستند في
منعه إلى إرادة الشارع ونهيه.
3 - قال القاسم بن محمد بن أبي بكر: إن عمر بن الخطاب بلغه
أنه قد ظهر في أيدي الناس كتب، فاستنكرها وكرهها، وقال: أيها
الناس، إنه قد بلغني أنه قد ظهرت في أيديكم كتب، فأحبها إلى الله
أعدلها وأقومها، فلا يبقين أحد عند ه كتابا إلا أتاني به، فأرى فيه رأيي.
قال: فظنوا أنه يريد ينظر فيها ويقومها على أمر لا يكون فيه
اختلاف، فأتوه بكتبهم، فأحرقها بالنار.
ثم قال: أمنية كأمنية أهل الكتاب (1).
وفي بعض النقول: مثناة كمثناة أهل الكتاب (2).
والمستفاد من هذا النص أمور:
1 - قوله: قد ظهر في أيدي الناس كتب.



(1) تقييد العلم (ص 52).
(2) طبقات ابن سعد (1 / 140) طبع ليدن والصواب (مشناه) بالشين والهاء، كما يلتي.
274
يدل هذا على أن الكتب كانت منتشرة بين الناس، ومعناه عدم
تحرجهم منها، وإلا فلو كان في ذلك حرمة لم يكن أهل ذلك العصر،
وهم صدر الإسلام وأهل خير القرون؟ وفي تلك الكتب ما كتبه جمع
من الصحابة قطعا، إن لم يكن جميع ما في الكتب منقولا عنهم!
لم يكونوا ليتداولوها بينهم وتكون في أيديهم!
وهذا - في نفسه دليل على أن حكم التدوين - أولا، وقبل المنع
العمري - هو الجواز والإباحة.
2 - قوله: فاستنكرها، وكرهها.
وهذا يدل على أن الأمر يرتبط بمحض إرادة عمر وكراهته، دون أن
يكون في الكتب ما يوجب الكراهة، والاستنكار الواقعي، وذلك:
1 - إن عمر إنما كره الكتب واستنكرها، قبل أن يراها،
كما يدل عليه النص بوضوح.
2 - إن وجود الكتب في أيدي الناس، واحتفاظهم بها، دليل
واضح على عدم احتوائها على ما ينكر أو يكره، إن أردنا أن نحسن الظن
بالناس كلهم! وإلا، لصرح لهم عمر بما فيها، ولما قال: أحبها إلى الله
أعدلها وأقومها، فإن هذا الكلام يدل على عدم علم عمر بما فيها، وأنه
يحتمل وجود الأعدل والأقوم فيها، بل العدل والقائم أيضا!
3 - قوله: فظنوا... فأحرقها.
يدل على مدى البعد الشاسع بين عمر، وبين الناس، حيث كانوا

275
يظنون به أمرا، بينما هو يعمل ما لا يتوقعون، فلم يكن ما قام به إلا رأيا
صادرا منه بالخصوص، من دون أن يوافقه أحد من الناس، بل، إن
بعض النصوص يحتوي على الجملة التالية: ولو أن الناس علموا أن عمر
يفعل بالكتب ذلك - أي يحرقها - لما أتوه بها، ولأخفوها عنه!؟.
4 - قوله: أمنية كأمنية أهل الكتاب.
هذا الكلام ظاهر في أن المصلحة التي رآها عمر في إجراء المنع،
تصوره أن الناس سيلجأون إلى الكتب، ويهملون القرآن، كما فعل
أهل الكتاب بما كان لديهم من الكتب وأهملوا التوراة.
وهذا - بالرغم من أنه سوء ظن بالناس، صد ر من عمر - فهو أحد
التبريرات المطروحة للمنع، والتي سنناقشها بتفصيل في بعض ما يلي من
الفصول.
5 - وأخيرا: فإن لجوء عمر إلى إحراق كتب السنة بالنار، عمل
يستوقف الناظر، للاعتبار:
ولا نريد أن نتساءل عن المجوز الشرعي في أن يحرق كتب الناس
وهي أموالهم الخاصة، من دون رضاهم، كما هو ظاهر الرواية؟ فإن
ذلك أمر راجع إلى الناس، كي يطالبوا به الخليفة!
لكنا نريد أن نسأل عن خصوص إبادة كتب، يحتمل عمر أن تحتوي على
ما هو، الأعدل والأقوم - بنص الخليفة نفسه - ولا بد أن يكون فيها
الكثير من سنن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لفرض أن الكتب
كانت صادرة من الناس الذين فيهم علماء الصحابة -!

276
فنسأل عن خصوص الإبادة بالإحراق بالنار؟.
هل علماء الإسلام يوافقون على هذا الإقدام، فيجيزون لأحد أن
يحرق كتابا من كتب السنة بالنار؟.
إن الإجابة على هذا صعبة جدا، وخاصة أن الكتب الأولى في
صدر الإسلام كانت عزيزة، ولا بد أنها كانت تحتوي على أصول
السنن، وقد فات ما فيها بالإحراق حيث لا تتدارك!!
كما لوحظ في ما أتلفه أبو بكر من حديثه الذي جمعه، فقد صرح
بأنه جمع خمسمائة حديث، بينما الموجود من حديثه - كما أحصاه
ابن حزم والسيوطي - هو (142) حديثا فقط، فالباقي - وهو (358)
حديثا قد أتلفها أبو بكر، ولا يوجد بين الأمة منها عين ولا أثر (1).
فلعل في ما أحرقه عمر أيضا كثير من ذلك؟.
وقد اتبع موافقو عمر أثره في إبادة الحديث، لكن لا بالإحراق، بل
بمجرد الغسل بالماء، كما سيأتي في نقل آثار أبي موسى الأشعري وغيره.
لكن أساليب الإبادة، خفت في ما تلا ذلك من العصور: من
الإحراق والغسل، إلى مجرد الدفن.
قال إبراهيم بن هاشم: دفنا لبشر بن الحارث ثمانية عشر، ما بين
قمطر وقوصرة (2).



(1) أسماء الصحابة الرواة (ص 35) وتاريخ الخلفاء للسيوطي (ص 66) وانظر نهاية هذا القسم عن
آثار المنع (ص 482) وخاصة (ص 486).
(2) تقييد العلم (ص 62 - 63).
277
لكن واحدا من كبار المحدثين، وأئمة الحديث وهو أحمد بن
محمد ابن حنبل الشيباني صاحب المسند أبدى استيائه من ذلك، فقال:
لا أعلم لدفن الكتب معنى (1).
كما أن ابن الجوزي جعل، دفن كتب العلم، وإلقاءها في الماء
من تلبيس إبليس على جماعة من القوم، وقال: قد كان جماعة منهم
تشاغلوا بكتابة العلم، ثم لبس عليهم إبليس وقال: ما المقصود
إلا العمل، ودفنوا كتبهم.
وأضاف: إن العلم نور، وإن إبليس يحسن للإنسان إطفاء النور،
ليتمكن منه في الظلمة، ولا ظلمة كظلمة الجهل، ولما خاف إبليس أن
يعاود هؤلاء مطالعة الكتب، فربما استدلوا بذلك على مكايده حسن
لهم دفن الكتب وإتلافها.
وهذا فعل قبيح محظور وجهل بالمقصود بالكتب.
وقال: واعلم أن الصحابة ضبطت ألفاظ رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم... فإذا كانت الصحابة قد روت السنة، وتلقاها التابعون
وسائر المحدثين، وقطعوا شرق الأرض وغربها لتحصيل كلمة من ههنا
وكلمة من ههنا، وصححوا ما صح، وزيفوا ما لم يصح، وجرحوا
الرواة وعدلوا، وهذبوا السنن وصنفوا.
ثم من يغسل ذلك، فيضيع التعب، ولا يعرف حكم الله في حادثة؟!
فما عوندت الشريعة بمثل هذا!



(1) تقييد العلم (ص 63).
278
أفترى، إذا غسلت الكتب، ودفنت! على من يعتمد في الفتاوى
والحوادث (1)!؟
أقول: والدفن الذي ذكر، واحد من طرق إبادة كتب الحديث،
التي زاولها كثير من المانعين، لكنه هو أهونها، لأن الكتاب المدفون، له
قابلية البقاء - تحت الأرض - لفترة، قد يتلافى أمره، فيستخرج قبل أن
يتلف، بخلاف الإبادة بالإحراق، أو الإماثة في الماء، والإمحاء بالغسل،
فإن الكتاب - في هذه الحالات - غير قابل للإعادة، ولا يستفاد منه أصلا.
فإذا كان ابن حنبل - وكذا ابن الجوزي - يشنان الحملة على دفن
الكتب ويستنكرانه، فهما بالأولى يستنكران الإحراق بالنار ويقبحانه.
ولا أتصور أن قبح هذا العمل يزول إذا كان الفاعل له شخص معين
كعمر، أو غيره!؟
ولو أبحنا للفرد أن يتلف الكتاب الذي كتبه هو، باعتبار أنه مسلط
على ماله، ولم يكن من الإسراف المنهي عنه شرعا، أو التبذير كذلك،
فإن إتلاف الإنسان لكتاب غيره، من دون رضاه محرم شرعا،
وموجب للضمان وضعا، فكيف بمن يحرق كتب الناس، وهم جيل أو
جماعة كبيرة!
فإنه بالإضافة إلى المسؤولية الشرعية، ينوء تحت مسؤولية حضارية
ثقيلة، ويواجه محاسبة ثقافية دقيقة، فلا ينجو من كل ذلك العقاب
والعتاب أيا كان سلطانا، أو خليفة.



(1) نقد العلماء - أو تلبيس إبليس - (ص 314 - 316).
279
وأما موافقو عمر في رأيه وفعله، فإن الآثار المنقولة عنهم، كالتالي:
1 - قال أبو نضرة: قلنا لأبي سعيد: اكتتبنا حديثا من حديث
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: امحه (1).
2 - قال عبد الرحمن بن أبي مسعود: كنا نسمع الشئ، فنكتبه،
ففطن لنا عبد الله - يعني: ابن مسعود - فدعا أم ولده، ودعا بالكتاب،
وبإجانة من ماء، فغسله (2).
3 - وقال أبو بردة: كان لأبي موسى تابع، فقذفه في الإسلام،
فقال لي: يوشك أبو موسى أن يذهب، ولا يحفظ حديثه، فاكتب عنه.
قال: قلت: نعم ما رأيت.
قال: فجعلت أكتب حديثه.
قال: فحدث حديثا، فذهبت أكتبه كما كنت أكتب، فارتاب
بي، وقال: لعلك تكتب حديثي؟
قال: قلت: نعم.
قال: فأتني بكل شئ كتبته.
قال: فأتيته به، فمحاه، ثم قال: احفظ كما حفظت (3).



(1) تقييد العلم (ص 38).
(2) سنن الدارمي (1 / 102).
(3) طبقات ابن سعد (4 / 112).
280
وفي حديث: قال أبو بردة بن أبي موسى: كنت كتبت عن أبي
كتابا، فدعا بمركن ماء فغسله فيه (1).
4 - وقال أبو بردة - أيضا -: كان أبو موسى يحدثنا بأحاديث، فنقوم
- أنا ومولى لي - فنكتبها، فقال: أتكتبان ما سمعتما مني؟ قالا: نعم.
قال: فجيئاني به، فدعا بماء فغسله (2).
وتشترك هذه الآثار مع ما تقدم من الآثار عن عمر، في أمرين:
1 - أن هؤلاء، لم يحاولوا أن ينسبوا شيئا إلى الشرع، أو يستدلوا
لفعلهم بنص عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (3).
وهذا - في ذاته - مما يشكك في الأحاديث التي نقلت عنهم،
والتي نسبوا فيها النهي عن الكتابة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
بقطع النظر عن ضعفها سندا، كما سيجئ مفصلا في الفصل الأول من
هذا القسم.
2 - أن إقدام هؤلاء - مهما كانت مبرراته ومصالحه - لم يكن إلا
رأيا منهم، لم يكن ملزما للآخرين، لأنه:
1 - مخالف لما ثبت في الشرع الشريف من إباحة التدوين، وقد
ذكرنا ذلك في القسم الأول (4).
وقلنا في نهايته: إن عمل هؤلاء المانعين



(1) تقييد العلم (ص 41).
(2) تقييد العلم (ص 40).
(3) بل كما يقول في دلائل التوثيق المبكر (ص 235): أعطوا أسبابا شخصية لعدم موافقتهم،
بدلا من أن يستشهدوا بالأحاديث المانعة!
(4) أنظر ما مضى (ص 255 وبعدها).
281
هو اجتهاد - لو صدق عليه الاجتهاد - في مقابل النص، وقد اعترف
الصحابة والعلماء، أنه لا حق لأحد في الالتزام به، وأنه الهلاك الذي
حذر عنه ابن عباس في الحديث التالي:
روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: تمتع النبي صلى الله
عليه وآله وسلم.
فقال عروة بن الزبير: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة!.
فقال ابن عباس: ما يقول عرية؟!
قال: يقول: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة!.
فقال ابن عباس: أراهم سيهلكون، أقول: قال النبي صلى الله
عليه وآله وسلم، ويقول: نهى أبو بكر وعمر (1).
وفي حديث: قال ابن عباس: إني أحدثكم عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم، وتجيئوني بأبي بكر وعمر!؟.
فقال عروة: هما - والله - كانا أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، وأشيع لها منك!.
قال الخطيب البغدادي - حول جواب عروة -: قلت: قد كان
أبو بكر وعمر على ما وصفهما عروة، إلا أنه لا ينبغي أن يقلد أحد في
ترك ما ثبتت به سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (2).



(1) مسند أحمد - ط شاكر - (5 / 48 ح 3121) وطبعة مصر (6 أجزاء)
(1 / 337) وجامع بيان العلم (2 / 196) والفقيه والمتفقه (1 / 145) والسنة قبل التدوين (ص 88).
(2) الفقيه والمتفقه (1 / 145).
282
وكان عبد الله بن عمر يفتي بالذي أنزل الله عز وجل من الرخصة
بالتمتع، وبما سن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه، فيقول ناس
لابن عمر: كيف تخالف أباك، وقد نهى عن ذلك؟.
فيقول لهم عبد الله: ويلكم، ألا تتقون الله! إن كان عمر نهى عن
ذلك، فيبتغى فيه الخير؟!....
فلم تحرمون ذلك، وقد أحله الله، وعمل به رسول الله
عليه الصلاة والسلام؟؟!
أفرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحق أن تتبعوا سنته؟ أم سنة
عمر (1)!؟.
وقال الشافعي: لقد ضل من ترك قول رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم لقول من بعده (2).
وقال ابن حزم: ومن جاءه خبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم يقر أنه صحيح، وأن الحجة تقوم بمثله، أو قد صحح مثل
ذلك الخبر في مكان آخر، ثم ترك مثله في هذا المكان، لقياس، أو لقول
فلان وفلان، فقد خالف أمر الله وأمر رسوله، واستحق الفتنة،
والعذاب الأليم (3).



(1) مسند أحمد (2 / 95) وطبعة شاكر: (8 / 77) ح (5700) وإسناده صحيح ونقله ابن كثير في
تاريخه (5 / 141) والسنة قبل التدوين (ص 90).
(3) الفقيه والمتفقه (1 / 149).
(3) الأحكام لابن حزم (1 / 149).
283
وقال الدكتور عبد الغني عبد الخالق: لا يصح لنا أن نقول
بالتعارض بين قول صحابي، وبين قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم
والإجماع، فإنهما مقدمان عندنا.
ويقول: إن عمل الصحابي، أو قوله، ليس بحجة (1).
2 - إن هؤلاء النفر من الصحابة، ليسوا بأولى بالاتباع من
سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذين قالوا بإباحة التدوين، وعملوا على ذلك،
وهم الأكثر، وفيهم من هو أعلم من هؤلاء المانعين، وأقرب إلى النبي
صلى الله عليه وآله وسلم منزلا ومنزلة وعلما وهديا، مثل علي
أمير المؤمنين عليه السلام.
وبالرغم من كل المناقضات التي ترى في منع التدوين، فقد انبرى
جمع من أتباع المنع، لتبرير ذلك.
فتناقلوا تبريرات عديدة، نقل بعضها عن الصحابة الذين بدأوا
المنع، وبعضها الآخر عمن تأخر من المؤرخين للحديث.
ولا بد لنا من استعراض جميع تلك الوجوه لنرى مدى قابليتها لحل
المشكلة، ومدى مطابقتها للواقع، ولسائر الأقوال والبحوث المطروحة
في هذا المجال، وسنذكرها في فصول:
الأول: النهي الشرعي عن كتابة الحديث.
الثاني: الخوف من اختلاط الحديث بالقرآن.



(1) حجية السنة (ص 465).
284
الثالث: الخوف من الاشتغال بغير القرآن، وترك القرآن.
الرابع: الاعتماد على الحفظ يغني عن الكتابة والكتب.
الخامس: عدم معرفة رواة الحديث للكتابة.
السادس: القول الفصل في سبب منع التدوين.

285
الفصل الأول
النهي الشرعي عن كتابة الحديث
إن أهم ما استند إليه المانعون لصحة المنع عن التدوين، هو
النصوص المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، التي تضمنت نهيه
عن كتابة الحديث.
وقبل أن نعرض تلك النصوص، لا بد من تقديم ملاحظة هامة،
وهي: أن المانعين - رغم حرصهم على إثبات المنع، وإعطائه صبغة شرعية
دينية. ومحاولتهم إسكات المعارضين بحجج متفاوتة - لم نجد بينهم من
استند إلى هذه النصوص، ولا من نسب المنع إلى الشرع.
فلم نجد في ما نقل عن عمر - وهو رائد المانعين وعمدتهم - أن
نسب المنع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما التجأ هو وغيره من
المانعين إلى تبريرات أخرى للمنع، ومصالح بنظرهم.
ولا ريب، أن المنع لو كان مستندا إلى الشرع الكريم، لكان أحسن
ذريعة للمانعين، كي يلجأوا إليها، ويتمسكوا بها، لإسكات

287
المعارضين المبيحين (1).
وهذه الملاحظة مما تدعنا نشكك في صدور تلك المجموعة من
النصوص المنسوبة إلى الشرع، ونرتاب في نسبتها إلى النبي صلى الله
عليه وآله، بعد أن نجد أسانيدها معللة بعلل الاضطراب والضعف،
مما يكفي لرفع اليد عنها، مع قطع النظر عن معارضتها لكل الأدلة التي
قامت على إباحة التدوين.
وقد ذكرنا هنا الروايات التي وردت مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه
وآله وسلم كما هو ظاهر أسانيدها، دون الموقوفة على الصحابة،
أو المنقطعة المروية عن التابعين، وذكرنا كل مجموعة من الأحاديث
بعنوان راويها من الصحابة، وهي:
1 - أحاديث أ بي سعيد الخدري:
الحديث الأول: عن همام بن يحيى، عن زيد بن أسلم، عن
عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري:
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: لا تكتبوا عني شيئا
إلا القرآن، فمن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه (2).



(1) لاحظ: دلائل التوثيق المبكر (ص 239) فقد قال: إن هؤلاء الذين كانوا قد وقفوا
في معارضة كتابة الحديث كانت لهم أسبابهم الشخصية في ذلك، بل وحتى الفاروق
الذي كان يعد من أشد معارضي الكتابة، لم ينقل أو يستشهد بأي حديث للنبي صلى الله
عليه وآله وسلم يؤيد وجهة نظره المعارضة للتسجيل.
(2) رواه مسلم في الصحيح، كتاب الزهد باب (61) التثبت في الحديث وحكم كتابة
العلم ح (72) (4 / 2289) وأخرجه أحمد في المسند (3 / 12 و 39) والدارمي في
السنن (1 / 98) رقم (456) والخطيب في تقييد العلم (ص 30 - 31) والسجستاني
في المصاحف (ص 9).
وانظر تيسير الوصول (1 / 177) ومقدمة ابن الصلاح (ص 296) وعلوم الحديث له
(ص 181).
288
وقد روي هذا الحديث عن همام مرفوعا، بألفاظ أخرى، كما يلي:
-: لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن، من كتب (1).
-: لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن، فمن كتب (2).
-: لا تكتبوا عني شيئا، فمن كتب (3).
-: لا تكتبوا عني، فمن كتب (4).
ولو أعرضنا عما يرى في هذا النص من الاضطراب في المتن،
بإثبات (إلا) تارة و (سوى) ثانية و (غير) ثالثة، وحذفها جميعا
تارة أخرى!
فذلك أمر يدل على عدم ضبط الراوي!
فمن الممكن القول بأن الراوي إنما نقل الحديث بالمعنى،
وأنه لم يغير شيئا ذا أهمية، ولم يحذف ماله أثر في مقصود الحديث!.



(1) مسند أحمد (3 / 12) جامع بيان العلم (1 / 63) ومستدرك الحاكم (1 / 127) وتقييد
العلم (ص 29).
(2) مسند أحمد (3 / 56) وتقييد العلم (ص 29) والكامل لابن عدي (5 / 1771).
(3) مسند أحمد (3 / 12) وتقييد العلم (ص 30).
(4) تقييد العلم (ص 30).
289
إلا أن المهم ورود المناقشات التالية فيه، نذكرها ضمن أمور:
الأمر الأول: المناقشة السندية:
إن هذا الحديث لم يروه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
إلا همام بن يحيى.
قال الخطيب: تفرد همام بروايته هذا الحديث عن زيد بن أسلم
هكذا مرفوعا، ويقال: إن المحفوظ رواية هذا الحديث، عن أبي سعيد
- هو - من قوله، غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم (1).
ونقل عن البخاري وغيره: أن حديث أبي سعيد - هذا - موقوف
عليه، فلا يصح الاحتجاج به (2) ونسبه ابن حجر إلى بعض الأئمة (3).
أقول: لا شك أن مثل هذه المناقشة في سند الحديث يؤدي
إلى سقوطه عن الحجية في قبال الأحاديث السالمة عن مثل هذه
المناقشة، والمسلم رفعها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والدالة
على إباحة التدوين.
قال الحازمي - في الوجه العشرين، من وجوه الترجيح بين الخبرين
اللذين تعذر الجمع بينهما -: أن يكون أ حد الحديثين متفقا على رفعه،
والآخر قد اختلف في رفعه ووقفه على الصحابي، فيجب ترجيح



(1) تقييد العلم (ص 31 - 32).
(2) الحديث والمحدثون لأبي زهو (ص 24) والأنوار الكاشفة للمعلمي (ص 5 - 36)
والسنة قبل التدوين (ص 306).
(3) فتح الباري (1 / 185) وانظر توضيح الأفكار (2 / 353) وتدريب الراوي (ص 40).
290
ما لم يختلف فيه، على ما اختلف فيه، لأن المتفق على رفعه حجة من
جميع جهاته، والمختلف في رفعه على تقدير الوقف، هل يكون
حجة أم لا؟ فيه خلاف، والأخذ بالمتفق عليه، أقرب إلى الحيطة (1).
وأقول: ليست المناقشة فيه بالخدشة في صحته، كما توهمه الشيخ
أحمد شاكر، حيث قال: قد أجاب العلماء عن حديث أبي سعيد
بأجوبة، فبعضهم أعله بأنه موقوف عليه.
ثم قال: وهذا غير جيد، فإن الحديث صحيح (2).
وذلك: لأن العلة في الحديث، لا تسقطه عن الصحة، ولذا أثبت
مسلم هذا الحديث في صحيحه، لكنه على فرضه (صحيح معلول
غريب). والعلة تسقط الحديث عن الحجية.
مع أن هذا الحديث معلول - أيضا - بالغرابة، حيث إن تفرد همام
عن زيد... يجعل أحاديث إباحة الكتابة الصحيحة أرجح منه، فليس
فيها التفرد الذي في هذا الحديث (3).
ولعل من أجل هذه العلة، ومن أجل غرابة الحديث بانفراد همام



(1) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار (ص 16 - 17).
(2) الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث (ص 127 ولعله عرض بذلك لما ورد في
الأنوار الكاشفة للمعلمي (ص 36) من قوله بعد أن نقل أحاديث جواز الكتابة: فهذه
الأحاديث وغيرها إن لم تدل على صحة قول البخاري وغيره: أن حديث أبي سعيد غير
صحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل موقوف من كلام أبي سعيد نفسه، فإنها
تفضي بتأويله. فلاحظ.
(3) توثيق السنة (ص 45).
291
في رفعه، لم يورده البخاري في صحيحه، ولا غيره من
أصحاب الصحاح، عدا مسلم.
وأما ما رواه الخطيب، من متابعة سفيان الثوري لهمام، في رواية
الحديث - مرفوعا - عن زيد (1).
ففيه: أن في سنده النضر بن طاهر، وقد ضعفوه جدا، ونسبوه
إلى السرقة، وقالوا: ربما أخطأ ووهم (2).
فلا يصح الاستناد إلى هذه المتابعة في إثبات رفع ذلك الحديث.
وأخيرا، العجيب في الأمر أن أبا سعيد - الذي روى الحديث
المرفوع - هذا - في كراهة الكتابة - لا نجده يرى علة لهذا المنع، إلا أنه
لا يريد أن يجعل الحديث كالقرآن في مصاحف، ولا يذكر
أن العلة هي أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن ذلك.
وهذا يؤيد ما قيل من أن الحديث الذي نقلوه مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم إنما هو موقوف عليه (3).
الأمر الثاني: المناقشة في الدلالة:
قال ابن الديبع - بعد أن عزا الحديث إلى مسلم - ما نصه:
وقد قيل: إنما نهى أن يكتب الحديث مع القرآن في صفحة واحدة،
فيختلط به، فيشتبه (4).



(1) تقييد العلم (ص 32).
(2) لسان الميزان (6 / 162).
(3) توثيق السنة (ص 54).
(4) تيسير الوصول (3 / 177).
292
وقد ذكر الشيخ أحمد شاكر هذا المعنى، فقال: وأجاب العلماء
بأن المنع إنما هو عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة، خوف
اختلاطهما على غير العارف في صدر الإسلام (1).
واستفادة هذا المعنى - من الحديث - واضحة، إذا لاحظنا
أن أبا سعيد راوي الحديث هو من أنصار هذا التبرير لمنع التدوين،
والذي سنفصله في الفصل الثاني، هنا.
وحاصله أن المنهي عنه إنما هو تدوين الحديث إلى جنب آيات
القرآن، وفي صفحة واحدة، فالرسول إنما نهاهم عن ذلك خشية
اختلاط الحديث بالقرآن.
ويؤيد أن هذا الحديث غير ناظر إلى منع تدوين الحديث بقول مطلق
: أن مسلما صاحب الصحيح، الذي أورد هذا الحديث إنما أورده
في باب ترجمه بعنوان، باب التثبت في الحديث (2) ولم يعنونه بباب
المنع من كتابة الحديث، مثلا.
فترجمة الباب - وهي تدل على ما فهمه المؤلف - (3) لا تدل على
ما يستفاد من ظاهر هذا الحديث، وإنما على مجرد المحافظة عليه،
كما هو ظاهر.
الأمر الثالث: شذوذ الحديث:



(1) الباعث الحثيث (ص 127).
(2) صحيح مسلم (4 / 2289) ب (16) من كتاب الزهد.
(3) لاحظ هدي الساري (1 / 24 - 25).
293
أن ما يدل عليه الحديث، وهو النهي عن عموم كتابة غير القرآن
لعموم الناس أمر لم يعمل به، قطعا.
فكثير من الناس قد كتبوا، وكثير من الحديث قد كتب.
وهذا بنفسه دليل على عدم الالتزام بما يدل عليه ظاهر الحديث، وأن
العمل قد تحقق على خلافه، فلا بد - لو أريد التصديق به، والتسليم به
سنديا - من تخصيصه بما دل على الجواز من الأحاديث، أو رفع اليد عنه.
وقد اعترفوا بأن العلماء لم يلتزموا بما يدل عليه:
قال شاكر: قد أجاب العلماء عن حديث أبي سعيد بأجوبة (1)
وذكرها واختار منها ما ذكره بقوله: والجواب الصحيح
أن النهي منسوخ بأحاديث أخرى دلت على الإباحة... مع استقرار العمل
بين أكثر الصحابة والتابعين، ثم اتفاق الأمة بعد ذلك على جوازها،
كل هذا يدل على أن حديث أبي سعيد منسوخ (2).
أقول: وسيأتي تفصيل هذا، في مناقشتنا العامة لأحاديث النهي
الشرعي، في نهاية هذا الفصل.
والغريب أن بعض المحققين جعل نفس هذا الحديث دليلا على
أن تدوين الحديث بدأ في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقال:
فألفاظ الحديث تدل على وجود من كان يدون الحديث في حياة
الرسول الأولى (3).



(1) الباعث الحثيث (ص 127).
(2) المصدر السابق (ص 7 - 128).
(3) ثبت البلدي، مقدمة المحقق (ص 77).
294
فالحديث على هذا (شاذ) لم يعمل به، ومثله لا يمكن
الاستدلال به، سيما مع معارضته للأحاديث الصحاح الدالة على خلافه.
الحديث الثاني، من أحاديث أبي سعيد الخدري:
1 - عن سفيان بن عيينة، عن ابن زيد بن أسلم، عن
عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، أنه قال: استأذنت النبي
صلى الله عليه وآله وسلم أن أكتب الحديث، فأبى أن يأذن لي (1).
2 - وبالسند: عن أبي سعيد الخدري، قال: استأذنا
النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكتابة، فأبى أن يأذن لنا (2).
3 - وعن سفيان بن عيينة قال: حدثنا زيد بن أسلم، عن
عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري: أنهم استأذنوا النبي صلى الله
عليه وآله وسلم في أن يكتبوا، فلم يأذن لهم (3).
وهذا الحديث، مع غض النظر عن الاضطراب في نصه - حيث
ورد في الأول: استأذنت... لي، وفي الثاني: استأذنا... لنا،
وفي الثالث: استأذنوا... لهم - فإنه يرد عليه:
أولا: المناقشة السندية:
حيث أن راويه - بجميع نصوصه - هو سفيان بن عيينة،



(1) تقييد العلم (ص 32) والكامل في الضعفاء لابن عدي (4 / 1583).
(2) تقييد العلم (ص 33) وصحيح الترمذي (5 / 38) رقم (2665)
والكامل لابن عدي (1 / 35).
(3) سنن الدارمي (1 / 98) ح (457).
295
الموسوم بالتدليس (1).
وقد ظهر تدليسه في خصوص هذا الحديث، حيث روى النصين
الأولين عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وروى النص الثالث
عن زيد بن أ سلم نفسه!
وهذا التدليس مضر بالصحة، لضعف عبد الرحمان (2) فلا يمكن
الاعتماد على هذا الحديث.
وثانيا: المناقشة في الدلالة:
فالمفروض في نصوص الحديث تخصيصها بكلمات: (لي)
و (لنا) و (لهم) فالنهي الوارد في الحديث خاص بأصحاب أحد هذه
الضمائر، وبما أن تعيين أحدها خاصة مشكل، فالالتزام بالأخص
وهو (لي) هو القدر المتيقن، فيكون خصوص أبي سعيد قد نهي عن
كتابة الحديث، وهذا لا يكون دليلا على النهي العام عن كتابة الحديث.
ولو كان النهي عاما لم يحتج إلى التقييد بكلمات: (لي) و (لنا)
و (لهم) وهو واضح.
مع أن قوله في الحديث: فأبى أن يأذن، يقرب ذلك، فإن كلمة



(1) جامع التحصيل للعلائي (ص 106) ولاحظ تاريخ الثقات للعجلي (ص 195) رقم
(578) والغريب أن المعلق فرضه شخصا آخر مسمى بهذا الاسم! وهو ما لم يذكره
أحد! ولاحظ تهذيب التهذيب (4 / 120 - 121).
(2) تهذيب التهذيب (6 / 178) والكامل لابن عدي (4 / 1584) فقد ضعفه
يحيى بن معين وابن حنبل والنسائي وغيرهم.
296
أبى، تفيد شدة الامتناع (1) وذلك إنما يتحقق بالامتناع بعد المعاودة،
فقد يكون أبو سعيد قد منع عن الكتابة أولا، فلما استأذن ثانيا أبى
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يأذن له، لأمر ما، هو صلى الله عليه وآله وسلم أعلم به (2).
نتيجة الاستدلال بأحاديث أ بي سعيد:
قال المعلمي: لم يثبت استدلال أحد منهم بنهي النبي صلى الله
عليه وآله وسلم، فالمروي... عن أبي سعيد روايتان:
إحداهما: فيها الرفع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
ولم يذكر فيها امتناع أ بي سعيد.
وهذا إما أنه خطأ، والصواب (عن أبي سعيد من قوله) كما قال
البخاري وغير ه.
وإما محمول على أمر خاص.
وثانيتهما: رواية أبي نضرة عن أبي سعيد امتناعه هو، وليس فيها
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى (3).
2 - أحاديث أبي هريرة:
1 - عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يسار،
عن أبي هريرة، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -



(1) المفردات، للراغب الأصفهاني (ص 7) مادة (أب ا).
(2) ولاحظ النص الذي نقله ابن عدي، فإن فيه: استأذنت رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم أن يأذن لي أن أكتب الحديث، فلم يأذن لي. الكامل (4 / 1583).
(3) الأنوار الكاشفة (ص 43).
297
ونحن نكتب الأحاديث - فقال: ما هذا الذي تكتبون؟
قلنا: أحاديث سمعناها منك.
قال: أ كتابا غير كتاب الله تريدون؟ ما أضل الأمم من قبلكم
إلا ما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله.
قال أبو هريرة: أ نتحدث عنك، يا رسول الله؟.
قال: نعم، تحدثوا عني، ولا حرج، فمن كذب علي متعمدا
فليتبوأ مقعده من النار (1).
2 - وروى أحمد بسنده عن عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه،
عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، قال: كنا قعودا نكتب ما نسمع من
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فخرج علينا، فقال: ما هذا؟ تكتبون؟
فقلنا: ما نسمع.
فقال: اكتبوا كتاب الله، أمحضوا كتاب الله، أ كتاب مع كتاب
الله، أمحضوا كتاب الله - أو - خلصوه.
قال: فجمعنا ما كتبنا في صعيد واحد، ثم أحرقناه بالنار.
قلنا: أي رسول الله، أ نتحدث عنك؟
قال: نعم، تحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ
مقعده من النار.
قال: فقلنا: يا رسول الله، أنتحدث عن بني إسرائيل؟



(1) تقييد العلم (ص 33).
298
قال: نعم، تحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، فإنكم لا تحدثون
عنهم بشئ إلا وقد كان فيهم أعجب منه (1).
وبالسند، مثله، وأضاف: قلنا: فنحدث عن بني إسرائيل؟
قال: حدثوا ولا حرج، فإنكم لم تحدثوا عنهم بشئ إلا
وقد كان فيهم أعجب منه.
قال أبو هريرة: فجمعناها في صعيد واحد فألقيناها في النار.
قال الخطيب: هذا لفظ حديث القطيعي، والآخر بمعناه، إلا
أنه قال فيه: أكتاب مع كتاب الله، أمحضوا كتاب الله، وأخلصوه (2).
3 - وبالسند، عن أبي هريرة، قال: بلغ رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم أن ناسا قد كتبوا حديثه، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه،
ثم قال: ما هذه الكتب التي بلغني أنكم قد كتبتم، إنما أنا بشر،
من كان عنده منها شئ فليأت به.
فجمعناها، فأخرجت، فقلنا: يا رسول الله، نتحدث عنك؟
قال: تحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ
مقعده من النار (3).
والمناقشة في هذه الأحاديث من وجوه:



(1) مسند أحمد (3 / 12 - 13).
(2) تقييد العلم (ص 34) وانظر مسند أحمد (3 / 12 - 13).
(3) تقييد العلم (ص 35)
299
الأول: سنديا:
فكلها ضعيفة بعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فلا يعتمد عليها (1).
الثاني: دلالة:
حيث إن النص الثاني صريح في النهي عن كتابة الحديث إلى
جنب القرآن، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: أمحضوا
كتاب الله، وأخلصوه.
وليكن هذا قرينة على المراد من قوله: أكتاب مع كتاب الله؟
في هذا النص الثالث والنص الأول.
وسيأتي أن هذا هو التبرير الآخر الذي ذكروه لمنع التدوين،
وسيأتي تفصيله في الفصل الثاني من هذا القسم.
الثالث: معارضة أبي هريرة لذلك عمليا:
إن هذه الروايات مرفوضة عمليا من قبل أبي هريرة نفسه،
حيث التزم هو كتابة الحديث، وعرف عنه أنه أجاز ذلك وأباحه،
كما أثرت عنه صحف وكتب.
وقد ذكرنا جميع ذلك في الفصل الرابع من القسم الأول (2) ونقلنا
ما روى هو بأسانيد صحيحة من أن عبد الله بن عمرو كان يكتب
الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأبو هريرة لم يكتب،



(1) لاحظ توثيق السنة (ص 46) والغريب أن رواة هذه الأحاديث هم رواة أحاديث أبي
سعيد السابقة!!
(2) لاحظ (ص 228) برقم (20).
300
فلذلك كان عبد الله أكثر حديثا منه (1).
فالالتزام بدلالة هذه الأحاديث على المنع من التدوين، ينافي كل ذلك.
3 - أحاديث زيد بن ثابت:
1 - عن كثير بن زيد، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، قال:
قال زيد: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرنا أن لا نكتب
شيئا من حديثه (2).
2 - وبالسند، عن زيد بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم نهى أن يكتب حديثه (3).
وهذان الحديثان واضحا الدلالة على المنع، إلا أنهما لا يتمان سندا:
ففي السند كثير بن زيد، قالوا فيه: ليس بالقوي، ضعيف،
فيه لين، فلا يحتج به، إذن (4).
والمطلب بن عبد الله كان كثير التدليس والإرسال.
قال الرازي: عامة روايته مرسل (5) وقال المعلمي: لم يدرك زيدا (6).



(1) لاحظ (ص 222).
(2) سنن أ بي داود (3 / 319) تقييد العلم (ص 35) والفقيه والمتفقه (1 / 203)
ومعالم السنن للبغوي (4 / 184) وتيسير الوصول (3 / 177) وجامع بيان العلم (1 / 63) والإلماع
(ص 148).
(3) تقييد العلم (ص 35).
(4) توثيق السنة (ص 46) وانظر الأنوار الكاشفة (ص 35).
(5) المراسيل للرازي (ص 128).
(6) الأنوار الكاشفة (ص 35)
301
وقد جعل روايته عن أبي هريرة، المتوفى سنة (57 - أو - 59 ه‍)
مرسلة، وكذلك قيل: إن روايته عن عائشة مرسلة (1) مع أنها توفيت
سنة (57 ه‍) فتكون روايته عن زيد بن ثابت، المتوفى سنة (55 ه‍)
وقيل قبلها (2) مرسلة قطعا.
وقد حكم بعضهم بانقطاع الحديث (3).
المناقشات العامة في الأحاديث المرفوعة الناهية:
ذلك مجموع الأحاديث الناهية عن تدوين الحديث، والمرفوعة
إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي كلها - كما عرفت - ضعيفة
السند لا يمكن الاعتماد عليها للاحتجاج على ما ادعوه من حرمة التدوين
في الشرع المبين، عدا حديث واحد عد صحيحا، أدرجه مسلم
في جامعه، لكنه معلل بالترديد بين الوقف والرفع، ولذلك لم يورده
البخاري في صحيحه، وهذه العلة - وإن لم تخرجه عن الصحة -
إلا أنها تسقطه عن الاحتجاج بها، في قبال الصحاح الكثيرة الدالة
على إباحة التدوين.
قال الدكتور رفعت: وعلى هذا فلم يسلم من الضعف - في هذه
الأحاديث جميعها - إلا حديث واحد، تفرد به رواته، وقيل فيه
إنه موقوف على الصحابي
[وهو حديث أبي سعيد الخدري] (4).



(1) تهذيب التهذيب (10 / 178).
(2) تهذيب التهذيب (10 / 178).
(3) توثيق السنة (ص 64).
(4) توثيق السنة (ص 46).
302
ويقول صاحب الأنوار الكاشفة: أ ما أحاديث النهي فإنما هي
حديث مختلف في صحته وهو حديث أبي سعيد، وآخر متفق على
ضعفه وهو المروي عن زيد بن ثابت (1).
مع أن تلك الأحاديث تدور على نفر معدود من الصحابة
كما عرفنا مفصلا، وهم عدد قليل، على حين نرى أن كثيرا
من الصحابة قد كتبوا (2).
ومن مجموع ذلك تبين مدى المبالغة في قول الدكتور الشيخ
نور الدين عتر، حيث يقول: وردت الأحاديث عنه صلى الله عليه وآله
وسلم في ذلك من رواية جماعة من الصحابة... ما لا يدع مجالا للتردد
في صحة ثبوت ذلك عنه عليه السلام (3).
ولو أعرضنا عن هذه المناقشة، وأعرضنا عن ما أوردناه على
كل واحد من أحاديث النهي، واعترفنا بقابلية هذه الأحاديث للاعتماد،
فإنها معارضة بروايات تدل على إباحة التدوين، وهي أصح سندا،
وأوضح دلالة، وأكثر رواة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
من روايات الأقوال والأفعال، وفيها ما يأبى التقييد والتخصيص،
وقد تقدم ذكرها مفصلا في الفصل الثاني من القسم الأول (4).
وقد أقر الجميع بورود أحاديث الإذن في الكتابة، وإباحة التدوين،



(1) الأنوار الكاشفة (ص 4 - 35 و 43).
(2) توثيق السنة (ص 47).
(3) منهج النقد (ص 41).
(4) لاحظ (ص 107).
303
وأنه آخر الأمرين، فيكون ناسخا للنهي قطعا كما سيأتي (1).
قال الدكتور عتر: لا مجال للشك في إذنه صلى الله عليه وآله
وسلم في الكتابة (2).
فنقول: إذا كانت أحاديث المنع لا تتجاوز الآحاد، فإن أحاديث
الإذن تبلغ الاستفاضة والشهرة، بلا ريب.
بل قال الدكتور عتر: وردت أحاديث كثيرة، عن عدد من الصحابة
تبلغ بمجموعها رتبة التواتر في إثبات وقوع الكتابة للحديث النبوي
في عهده صلى الله عليه وآله وسلم (3).
ونحن - وإن كنا على اطمئنان بورود أحاديث وقوع الكتابة،
وعلى يقين من إباحة التدوين - إلا أن ادعاء التواتر لتلك الأحاديث
لا يخلو من صعوبة، اللهم إلا أن يراد التواتر المعنوي!
وبهذا تبين أن المعارضة بين أحاديث المنع، وبين أحاديث الجواز
والإباحة، إنما هي معارضة صورية، فإن أخبار الآحاد لا تعارض المتواتر،
بل ولا المشهور المستفيض!
وعلى فرض قابلية أحاديث المنع للاعتماد في أنفسها، إلا أن هناك
مانعا عن العمل بها، لإعراض الأمة - ولو بعد حين - عنها، إعراضا كليا،
كاشفا عن عدم حجيتها، لما ثبت من تحقق إجماع الأمة - عمليا وقوليا -



(1) في الوجه الثاني للجمع بين أحاديث الإذن وأحاديث النهي (ص 308).
(2) منهج النقد (ص 41).
(3) منهج النقد (ص 40).
304
على جواز الكتابة، بل وكونها من الضروريات.
وإجماعهم في نفسه حجة، كما ثبت في محله في أصول الفقه!
وهذا كاف في إهمال أحاديث المنع، وعدم الاعتناء بها،
فلا تصلح لمعارضة أحاديث الجواز، المتفق على العمل بمضامينها.
فما بال بعض المعاصرين يحاول أن يوجه المنع من تدوين الحديث
- بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالاستناد إلى أحاديث المنع
المنسوخة - على تقدير ورودها ورفعها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟
أو المحكومة أمام أحاديث الجواز وإباحة التدوين.
وأما نحن فنرى أن روايات المنع أحاديث موهونة، لم يصح
رفع شئ منها، وإنما هي من صنع الحكام الذين استهدفوا السنة
بمنع النقل والتدوين، ومن وضع الممالئين لهم من الصحابة، والتابعين لهم
على تلك الأهداف.
ومن المناسب أن نبحث عن وجوه الجمع المفترض، ومدى
إمكان الالتزام بكل منها:
الجمع بين أحاديث الإباحة والمنع:
إن الذين التزموا بتمامية أحاديث الطرفين، لم يلتزموا بتعارضها
واقعا، بل ذكروا وجوها للجمع بينها، بحيث لم يبق تناف بينها، وهي:
1 - أن النهي عام، والإذن خاص:
حاول البعض أن يجعل النهي متوجها إلى التدوين العام فهو بعمومه

305
حرام لا يجوز لأحد الإقدام عليه، وجعل الإذن متوجها إلى أشخاص
معينين معدودين، يعتبرون أفذاذا نابهين (1).
فاعتبر الإذن استثناء من عموم النهي عن التدوين.
قال الدكتور عتر: إن الكتابة التي أذن بها هي التي لا تتخذ طابع
التدوين العام، ولذلك لم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحدا بكتابة
الحديث، كما أمر بكتابة القرآن، وإنما أذن لأفذاذ من الصحابة بذلك،
ولم يكن الصحابة رضوان الله عليهم يتداولون تلك الصحف
من الحديث... وإنما كانت تلك الصحف - بين أيديهم - بمثابة المذكرات،
فلما انتشر علم القرآن أقبلت الأمة على تدوين الحديث تدوينا اتخذ
صيغة العموم، وتداولت صحفه المكتوبة، وذلك بأمر الخليفة العادل
عمر بن عبد العزيز (2).
أقول: هذا الوجه يقتضي أن الأصل في حكم التدوين
هو المنع عنه، وأن إذن النبي صلى الله عليه وآله لخصوص بعض الناس،
استثناء عن ذلك الأصل العام.
ولكن نقول في دفعه: إن مثل هذا الفرض - لو تم - لكان معروفا
بين المسلمين، ومشتهرا بين علمائهم خاصة - على الأقل - (3).
وحينئذ لم يقع بينهم أدنى خلاف في حكم التدوين، ولتحرجوا



(1) علوم الحديث لصبحي (ص 21 - 23) وذكر نحوه عن مصطفى السباعي في السنة
ومكانتها في التشريع الإسلامي (ص 61) بواسطة السنة المفترى عليها (ص 54).
(2) منهج النقد (ص 4 - 45).
(3) أنظر السنة قبل التدوين (ص 307).
306
جميعا عنه، ولم يكن الأمر بحاجة إلى اتخاذ إجراءات للمنع،
ولا تبريرات للمانعين.
بينما الظاهر من أحوالهم أنهم لم يتحرجوا من التدوين،
والظاهر من مجريات الأحداث أن المانعين واجهوا معارضة في البداية،
كما أشرنا إليه، في التمهيد لهذا القسم الثاني (1).
ومما يؤيد عدم ثبوت هذا الأصل - أي حرمة التدوين والمنع عنه -
أن أحدا من المانعين لم يستند إلى ذلك، ولا إلى ورود النهي في أحاديث
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، مع قرب عهدهم، بل على العكس
من ذلك قد أقدم المانعون - قبل المنع - على التدوين، فلو كان الأصل
هو الحرمة لم يصدر منهم مثل ذلك.
هذا أولا.
وثانيا: إن الالتزام بذلك يقتضي أن يكون التدوين حراما، وممنوعا
شرعا مطلقا، من دون تقيد بزمان دون آخر.
فيكون إقدام الأمة - ولو بعد حين - على التدوين أمرا مخالفا لهذا الأصل.
مع أن الأمة أقدمت على التدوين من دون أدنى تحرج، بل جعل
إجماعها على ذلك كاشفا - عند العلماء - عن ثبوت أصل شرعي
بالجواز، كما مر ذلك (2).
أما قول الدكتور عتر: لم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحدا



(1) مضى في (ص 263).
(2) مضى في (ص 198) من القسم الأول، الفصل الرابع.
307
بكتابة الحديث.
فهو غير صحيح، لأن كثيرا من النصوص المرفوعة، المسندة تحتوي
على أمره صلى الله عليه وآله وسلم المخاطبين بالكتابة والتدوين والتقييد،
بل فيها من المطلقات ما يأبى التقييد:
مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: اكتبوا، ولا حرج،
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: قيدوا العلم بالكتاب،
ثم قوله لعبد الله بن عمرو: اكتب (1).
أليست تلك أوامر بكتابة الحديث؟
وأما قول عتر: وإنما أذن لأفذاذ من الصحابة:
فهذا مجرد دعوى، لم يستدل عليها.
فإن لقائل أن يقول: كلا، بل إن النهي خاص ببعض الصحابة،
أو بعض الحالات الخاصة، وأما الأمر بالتدوين، فهو عام للجميع، كما
يمكن الاستدلال لذلك بالروايات العامة، كما سيأتي في التوجيه الثالث.
والإذن لبعض الصحابة بالكتابة، لا يعني الاختصاص بهم مطلقا،
كما أن تخصيص كتابة الوحي ببعض كتابه، لا يعني اختصاص
كتابته بهم، كما هو واضح.
بل يمكن أن يقال: إن سماح النبي صلى الله عليه وآله وسلم



(1) مضى تخريج هذه النصوص في الفصل الثاني من القسم الأول.
308
في كتابة الحديث بنحو عام، وعدم تعيين كتاب خاصين للحديث،
هو أدعى للقول بأن الأصل هو جواز التدوين عموما، وأن النهي عنه
خاص بالشخص المنهي!
وأما ما ذكره من عدم تداول الصحابة لتلك الصحف:
فمع أن أمر التداول وعدمه لا يرتبط بالبحث عن جواز الكتابة
وحرمتها، بل إن مجرد وجود الصحف دليل على تحقق التدوين،
سواء تداولوا ما دونوه أ م لم يتداولوه.
فمع هذا يرد عليه: أن دعوى عدم تداولهم لما دونوه، باطلة، كما ذكرنا
ذلك في القسم الأول، نهاية الفصل الرابع (1).
ونضيف هنا: أن عدم تداول تلك الصحف، قد يكون على أثر
منع السلطات للتدوين، وتشديدهم على كتب الحديث بإبادتها بطرق
شتى، كالإحراق، والإماثة والغسل بالماء، والدفن، وحينئذ يكون
من الطبيعي أن لا تظهر تلك الكتب، ولا تتداول.
ويدل على ذلك أن الكتب ظهرت، وتدوولت، بعد رفع المنع،
بشكل طبيعي، في عهد عمر بن عبد العزيز.
2 - أن الإذن ناسخ للنهي:
وجمع بعضهم بين روايات النهي وبين روايات الإذن، بأن النهي كان ثابتا
أولا، ثم جاء الإذن في الكتابة ناسخا.
قال ابن الديبع: والإذن في الكتابة ناسخ للمنع عنها، بإجماع



(1) أنظر (ص 235 وما بعدها).
309
الأمة على جوازها، ولا يجتمعون إلا على أمر صحيح (1).
لكن هذا الكلام لم يشر إلى روايات الإذن إلا على أساس انتزاعه
من إجماع الأمة، بينما النصوص الدالة على الإذن، الصريحة
في دلالتها، وفيها كثير من الصحاح والروايات المعتبرة، هي موجودة
فعلا، والإجماع إن دل على الإباحة، فهو دليل مستقل، كما سبق
تفصيلا في القسم الأول (2).
قال الدكتور عتر: القول بالنسخ، قد استدل له من النقل،
ومال إليه كثير من العلماء، كالمنذري، وابن القيم، وابن حجر،
وغيرهم، لأن الإذن بالكتابة متأخر عن النهي عنها (3).
وقال أحمد شاكر: الجواب الصحيح أن النهي منسوخ بأحاديث
أخرى دلت على الإباحة... وهذه الأحاديث مع استقرار العمل -
بين أكثر الصحابة والتابعين، ثم اتفاق الأمة بعد ذلك - على جوازها،
كل هذا يدل على أن حديث أبي سعيد [الدال على النهي عن الكتابة]
منسوخ، وأنه كان في أول الأمر (4).
أقول: وذكر هذا الوجه: ابن قتيبة (5) والخطابي (6)



(1) تيسير الوصول لابن الديبع (3 / 177).
(2) أنظر (ص 198).
(3) فتح الباري (1 / 149) منهج النقد (ص 42).
(4) الباعث الحثيث (ص 7 - 128).
(5) تأويل مختلف الحديث (ص 286).
(6) معالم السنن (4 / 184).
310
والسمعاني (1) وابن حجر (2) وبعض المتأخرين (3).
وقد أشكل على القول بالنسخ:
بأن النهي عن الكتابة، لو نسخ نسخا عاما، لما بقي الامتناع
عن الكتابة في صفوف الصحابة بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم،
ولأقيمت الحجة عليهم من طلبة العلم الذين كانوا شديدي الحرص
على تدوين الحديث (4).
وهذا الإشكال غير وارد:
مضافا إلى بطلان ما فيه من دعوى بقاء الامتناع بين صفوف
الصحابة، فإن المنع إنما استحدث بعد فترة من وفاة الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم، من قبل نفر يسير منهم، تبعا لعمر، كما عرفنا مفصلا
في الفصل الرابع من القسم الأول وتمهيد القسم الثاني.



(1) أدب الإملاء والاستملاء (ص 146).
(2) فتح الباري (1 / 149) بشرط الأمن من الالتباس.
(3) أنظر الحديث والمحدثون لأبي زهو (ص 124) والأنوار الكاشفة للمعلمي
(ص 43) وحجية السنة لعبد الغني عبد الخالق (ص 446) وقال: قد قال بالنسخ
جمهور العلماء على ما حكاه ابن تيمية في جوابه في صحة مذهب أهل المدينة (ص 36)
واختار بعض المتأخرين (كصاحب مفتاح السنة ص 17) والأستاذ أحمد شاكر في تعليقه
على الباعث الحثيث (ص 155) وانظر السنة قبل التدوين (ص 307) وتاريخ المذاهب
الفقهية لأبي زهرة (ص 24) تصدير العش لتقييد العلم (ص 9) علوم الحديث
لصبحي (ص 8 و 9) منهج النقد (ص 42).
(4) منهج النقد (ص 42).
311
فإن حديث النهي - لو لم ينسخ بل كان باقيا مستمرا إلى ما بعد
وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، لما جاز للأمة أن تلجأ - ولو بعد القرن
الأول - إلى التدوين، وبشكل رسمي، وعلني، بل أصبح
من الضرورات، واستقر عليه رأي الجمهور، فيما تأخر
من العصور والقرون (1).
والأغرب من ذلك دعوى أن النهي ناسخ للإذن (2)
قال الشيخ عبد الغني عبد الخالق: لا يصح بحال أن يكون النهي
ناسخا للإذن، لأمور ثلاثة:
الأول: ما تقدم لك من أنه لا يصار إلى القول بالنسخ إلا عند
العجز عن الجمع بين الدليلين المتعارضين بغيره، وقد أمكن الجمع
كما تقدم.
الثاني: أن أحاديث الإذن متأخرة، فحديث أبي شاه عام الفتح،
وحديث أبي هريرة متأخر - أيضا - لأن أبا هريرة متأخر الإسلام،
وحديثه همه صلى الله عليه وآله وسلم بكتابة كتاب لن تضل الأمة بعده
كان في مرض موته صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: إجماع الأمة القطعي - بعد عصر الصحابة والتابعين -
على الإذن وإباحة الكتابة، وعلى أن الإذن متأخر عن النهي...



(1) أنظر تيسير الوصول لابن الديبع (3 / 177) وعلوم الحديث لابن الصلاح (ص 171)
وعلوم الحديث لصبحي (ص 23).
(2) هو رأي صاحب المنار في مجلته، العدد 10 للعام 10 (ص 767).
312
وهو إجماع ثابت بالتواتر العملي عن كل طوائف الأمة بعد الصدر
الأول، حتى ممن قال في عصرنا بأن النهي ناسخ للإذن، فإنا نجده قد ملأ
الصحف بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (1).
3 - أن النهي خاص، والإذن عام:
وقد يأتي على الخاطر أن الجمع الممكن بين أحاديث النهي،
وأحاديث الإذن هو بحمل النهي على منع أشخاص معينين
عن التدوين، أو توجيه النهي لخصوص كتابة الحديث مع القرآن
في صفحة واحدة.
وقد سبق توجيهنا لكل واحد من أحاديث النهي إلى التدوين
الخاص بواحد من الخصوصيات الممكنة في مواردها.
وأما الإذن في التدوين والكتابة، فهو حكم عام لجميع المسلمين،
وذلك:
لأن أحاديث الإذن فيها من العمومات والمطلقات، العدد الكثير،
من دون أن يقيد واحد منها بجهة معينة.
ويؤيد ذلك إقدام الصحابة والتابعين على التدوين، من دون
تحرج، ولم نجد منهم ذاهبا إلى المنع في البداية، قبل ما ظهر - في ما بعد -
من بعض الحكام.
ثم إن إجماع الأمة على التدوين دليل واضح على أن الأصل العام



(1) حجية السنة (ص 7 - 448).
313
للتدوين هو الإباحة والجواز.
ويؤيد ذلك أيضا: أن أحدا من المانعين لم يستند في منعه إلى ثبوت
المنع في أصل الشرع، أو أن التدوين ممنوع في الشريعة، بل لجأوا
إلى تبريرات متنوعة ومصالح رأوها مانعة.
وكذلك لجوء مؤيدي المنع إلى ذكر تبريرات للمنع، دون الاستناد
إلى أن حكم التدوين هو المنع في الشريعة.
4 - رأينا في الجمع:
ونرى أن كل هذه التوجيهات - للجمع بين أحاديث النهي والمنع،
وبين أحاديث الجواز والإذن - مبتنية على قبول أحاديث النهي،
وتصحيحها، وجعلها قابلة لمعارضة أحاديث الإذن.
لكنا أثبتنا - سابقا - أن أحاديث المنع والنهي كلها غير قابلة للاستناد
والاحتجاج، لأنها بين ضعيفة الإسناد، وبين معللة ساقطة عن الحجية.
مع أنها لا تقاوم الأحاديث الصحيحة، الكثيرة، الدالة على جواز
التدوين بما لا مجال للريب فيه، وفيها ما لا يقبل التقييد أو التخصيص.
وقد صرح الشيخ محمد أبو زهو بأن أحاديث الإذن أصح (1)
لا خصوصية في أدلة الإذن (2).
فالحق: أن التدوين للحديث الشريف، والسنة النبوية، لم يكن



(1) الحديث والمحدثون (ص 233).
(2) الحديث والمحدثون (ص 224 و 225 و 231).
314
في يوم من الأيام ممنوعا شرعا، ولم يدل دليل على التحرج من كتابته
وتقييده بل كان مباحا في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
وفي عهد الصحابة، وكبار التابعين قبل القرن الأول وبعده، بل هو
اليوم ضروري ولازم، وهو من أقدس الأعمال وأشرفها وأكثرها نفعا
للإسلام والمسلمين، لأن به تصان أكبر مصادر التشريع بعد
القرآن الكريم، وهي السنة الشريفة.
وقد استدللنا في فصول القسم الأول على جواز التدوين
بالأدلة الأربعة: العرف المقبول شرعا، والسنة القطعية بأنواعها، وإجماع
أهل البيت عليهم السلام، وسيرة المسلمين منذ عهد الرسالة،
وحتى اليوم.

315
الفصل الثاني
الخوف من اختلاط الحديث بالقرآن
من أهم التبريرات التي ذكرت لمنع تدوين الحديث هو التخوف
من أن يكتب الحديث، فيختلط بالقرآن، فيظن أنه منه، فيكون قرآنا.
وحفاظا على القرآن، وإبعادا له عن اختلاطه بشئ من غيره،
منع من كتابة الحديث.
وقد صرح عمر بهذا لما صمم على المنع الرسمي من كتابة
الحديث، بعد أن أشار الصحابة عليه أن يكتبه، فخالف مشورتهم،
وقال: إني - والله - لا ألبس كتاب الله بشئ أبدا (1).
وأبو سعيد الخدري هو أكثر من نقل عنه تعليل المنع بهذا الأمر
في ما روي عنه موقوفا:
قال أبو نضرة له: لو كتبتم لنا، فإنا لا نحفظ؟ أو قال له:
ألا نكتب ما نسمع منك؟ أو قال: أكتبنا! أو قال: لو اكتتبتنا الحديث!



(1) تقييد العلم (ص 49).
316
فقال في جوابه إحدى هذه العبارات:
1 - نكتبكم، ولا نجعلها مصاحف (1).
2 - أتجعلونه مصاحف تقرؤونها؟ (2).
3 - تريدون أن تجعلوها مصاحف؟ (3).
4 - أتتخذونه قرآنا؟ (4).
5 - لن نكتبكم، ولن نجعله قرآنا (5).
6 - لن اكتبكموه، ولن أجعله قرآنا (6).
7 - لا نكتبكم (7).
وقد عرفنا في الفصل الأول أن أبا سعيد الخدري هو الذي نسب
إليه الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا تكتبوا
عني إلا القرآن، ومن كتب عني غير القرآن، فليمحه.
وأن كبار المحدثين مثل البخاري حكموا بوقف الحديث، وأنه
من قول أبي سعيد نفسه.



(1) تقييد العلم (ص 36).
(2) تقييد العلم (ص 36).
(3) تقييد العلم (ص 37) وجامع بيان العلم (1 / 64).
(4) تقييد العلم (ص 38).
(5) تقييد العلم (ص 38) وانظر سنن الدارمي (1 / 100) ح 477.
(6) تقييد العلم (ص 38).
(7) جامع بيان العلم (1 / 64).
317
وقد ذكرنا أن البعض فهم منه - كما لا يستبعد - أن يكون النهي فيه
خاصا بكتابة غير القرآن في صفحة واحدة مع القرآن (1).
وهذه الروايات الموقوفة على أبي سعيد، تؤيد فهم ذلك المعنى
من روايته المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد نسب هذا الاحتمال إلى مسلم في صحيحه (2).
وقال ابن الصلاح: محتملا هذا المعنى -: نهى عن كتابة ذلك
حين خاف عليهم اختلاط ذلك بصحف القرآن العظيم، وأذن في كتابته
حين أمن من ذلك (3).
وقد أوضح الخطيب البغدادي هذا الوجه، بشئ من التفصيل،
فقال: قد ثبت أن كراهة من كره الكتاب من الصدر الأول إنما هي
لئلا يضاهى بكتاب الله - تعالى - غيره.
ونهى عن كتب العلم في صدر الإسلام وجدته، لقلة الفقهاء
في ذلك الوقت والمميزين بين الوحي وغيره، لأن أكثر الأعراب
لم يكونوا فقهوا في الدين ولا جالسوا العلماء العارفين، فلم يؤمن
أن يلحقوا ما يجدون من الصحف بالقرآن ويعتقدوا أن ما اشتملت عليه
كلام الرحمن (4).



(1) أنظر تيسير الوصول لابن الديبع (1 / 177) وما سبق في هذا الكتاب (ص 291).
(2) أنظر تدريب الراوي (1 / 40).
(3) مقدمة ابن الصلاح (ص 302) علوم الحديث له (ص 182).
(4) تقييد العلم (ص 57).
318
وذكر السمعاني هذا الوجه أولا، فقال: وقد ذكرت جواز الكتابة
وعدم جوازها على الاستقصاء في كتاب (طراز الذهب) وحاصله:
أن كراهة كتابة الأحاديث إنما كانت في الابتداء، كي لا يختلط
بكتاب الله، فلما وقع الأمن عن الاختلاط، جاز كتابته (1).
ويقول بعض المعاصرين: نهى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
عن كتابة الأحاديث أول نزول الوحي، مخافة التباس أقواله
وشروحه وسيرته بالقرآن، ولا سيما إذا كتب هذا كله في صحيفة
واحدة مع القرآن (2).
وذكرنا في توجيه الأحاديث المرفوعة أن أحاديث أبي هريرة،
قابلة للحمل على هذا التوجيه، حيث جاء فيها، قوله صلى الله عليه وآله
وسلم: أمحضوا كتاب الله، وأخلصوه (3).
فإنه صريح في إرادة عدم كتابة شئ - مع كتاب الله - في
كتاب واحد.
المناقشات في هذا الوجه:
ولا يمكن الالتزام بهذا مبررا لمنع تدوين الحديث الشريف،
ويمتنع أن يستند الشارع إلى هذا، فيجعله سببا للمنع والنهي
عن كتابته، وذلك: لأن الاحتياط في المحافظة على نص



(1) أدب الإملاء والاستملاء (ص 146).
(2) علوم الحديث، لصبحي (ص 20) نقلا عن الخطابي في معالم السنن (1 / 184).
(3) مضى في الفصل الأول من هذا القسم (ص 299).
319
القرآن الكريم، أمر واجب قطعا، فإذا كانت كتابة شئ إلى جنبه،
ومعه، مؤدية إلى اختلاطه بغيره، لزم الاجتناب من هذه الكتابة أو
النهي عنها، بالضرورة، لكن هذا النهي عن كتابة شئ إلى جنب
القرآن، مقيد بقيدين أساسيين:
الأول: أن تكون كتابة ذلك الشئ إلى جنب القرآن ومعه،
لا منفصلة عنه.
الثاني: أن تكون الكتابة موجبة ومؤدية إلى الاختلاط، لا متميزة.
وإذا فرض وجود هذين القيدين، كان النهي عن الكتابة واجبا
على الشارع، مستمرا، غير قابل للتغيير حينئذ، لأن المحافظة على القرآن
كذلك واجبة دائما.
فليس لأحد أن يسمح بكتابة ما يوجب الاختلاط في أي زمن،
فكيف بصاحب الشرع والصادع بالوحي صلى الله عليه وآله وسلم!
وإذا كان النهي عن كتابة شئ دائرا مدار أحد القيدين السالفين،
فمعنى ذلك انتفاء النهي إذا لم يكن هناك أحد هذين القيدين.
والحاصل أن النهي ليس مطلقا، ولا دائما، ولا عاما في الأزمان، بل:
1 - إذا كانت كتابة الحديث متميزة، بحيث يعرف النص القرآني
منها عن غيره، لم يكن ثمة نهي، لعدم خوف الاختلاط، كما روي
عن أبي سعيد الخدري قوله: ما كنا نكتب شيئا غير القرآن والتشهد (1).



(1) تقييد العلم (ص 39).
320
وقد علق الخطيب على هذه الرواية بما نصه: وأبو سعيد هو الذي
روي عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تكتبوا عني
سوى القرآن، ومن كتب عني سوى القرآن فليمحه، ثم هو يخبر:
أنهم يكتبون القرآن والتشهد؟!.
ثم قال الخطيب: وفي ذلك دليل على أن النهي عن كتب ما سوى
القرآن إنما كان على الوجه الذي بيناه من أن يضاهى بكتاب الله تعالى
غيره... فلما أمن ذلك، ودعت الحاجة إلى كتب العلم، لم يكره كتبه،
كما لم تكره الصحابة كتابة التشهد، ولا فرق بين التشهد وبين غيره
من العلوم، في أن الجميع ليس بقرآن (1).
2 - وإذا كانت كتابة الحديث منفصلة، بحيث لم يكن في صفحة
واحدة مع القرآن وإلى جنبه، أو لم يكن في أوراق من نوع ما يكتب فيه
القرآن، لم يبق هناك خوف من الاختلاط.
كما يفهم ذلك من رواية أبي هريرة: أمحضوا كتاب الله
وأخلصوه، حيث تدل على إرادة أن يكون القرآن في صفحات مستقلة
ممحضة لكتابته وخالصة له، دون أن يكتب فيها غيره.
وقال ابن الديبع: إنما نهى أن يكتب الحديث مع القرآن في صفحة
واحدة، فيختلط به فيشتبه (2).
وقال الخطابي: إنما عنى أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة



(1) تقييد العلم (ص 39).
(2) تيسير الوصول (3 / 177).
321
واحدة، لئلا يختلط به ويشتبه على القارئ، فأما أن يكون نفس
الكتاب محظورا، وتقييد العلم بالخط منهيا، فلا (1).
وإلى هذا تشير الآثار المنقولة عن بعض كبار التابعين:
فقد قال الضحاك بن مزاحم الهلالي (ت 105 ه‍) - وهو ينهى عن
كتابة الحديث في نفس الأوراق التي يكتب فيها القرآن -: لا تتخذوا
للحديث كراريس ككراريس المصاحف (2).
وعن إبراهيم بن يزيد النخعي (ت 96 ه‍) أنه كان يكره أن تكتب
الأحاديث في الكراريس، ويقول: يشبه بالمصاحف (3).
وأما كتابة الحديث منفصلا وبعيدا عن كراريس القرآن فلا نهي
فيه، لعدم وجود خوف الاختلاط.
3 - إن النهي يدور مدار علته، وهي خوف الاختلاط، فإذا زالت
العلة في مورد لم يثبت النهي.
والاختلاط إنما يخشى من الأعراب الذين لم يكونوا فقهوا
في الدين ولا جالسوا العلماء العارفين، فلم يؤمن أن يلحقوا ما يجدونه
مكتوبا في الصحف إلى جنب القرآن، بالقرآن، على ما ذكره الخطيب
في ما نقلنا عنه (4).



(1) معالم السنن (4 / 184).
(2) تقييد العلم (ص 47).
(3) سنن الدارمي (1 / 100) ح 470 وتقييد العلم (ص 48).
(4) تقييد العلم (ص 57).
322
وأما أهل العلم وطلاب الحديث ورواته، فلا يخشى منهم
ذلك، وكيف يمكن أن يختلط عليهم أمر القرآن بغيره، من الحديث
أو التفسير؟ وتشتبه عليهم آياته، مع أن القرآن كان يبذل في كتابته
وتنظيمه الجهد الوفير منذ عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم،
وبإشرافه، وهو متميز بنصه، ومنحصر بما بين الدفتين.
ولنا هنا ملاحظة هامة، وهي:
إن نسبة خوف الاختلاط بين القرآن والحديث إلى الشارع الكريم
صلى الله عليه وآله وسلم أمر غير مقبول، بل ولا معقول، وذلك:
لأن القرآن الكريم - وهو كتاب الوحي الإلهي - له ميزة بلاغية فائقة،
وعبقة قدسية رائقة، يتميز بها عن كلام سائر البشر، حتى كلام النبي
صلى الله عليه وآله وسلم، حيث إن آيات الكتاب كانت تحاط عند
نزولها بأمور خاصة وتعرض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنزولها
عوارض مميزة، كما هو معروف، فكانت قرينة حالية تميز القرآن
عن سائر كلامه صلى الله عليه وآله وسلم، وقد انتشرت آياته منذ الساعة
الأولى لنزولها، وكان لكل آية منه عند نزولها صدى بالغ المدى،
يتباشر بها المسلمون، ويتهادونها، مما يكشف عن أبعاد الاحتفاء
والإكرام الذي يكنونه لهذا النص المقدس.
وقد اختصت كلمات القرآن في الشريعة بأحكام خاصة فلا يجوز
أن يمسه إلا المطهرون، ولقراءته الفضل المذكور في الأحاديث،
ولحفظه الأثر المشهور.

323
فمع كل هذه الخصوصيات: أفهل يمكن أن يتصور فيه الاختلاط
بغيره؟ أو أن يشتبه على المسلمين المعترفين بقدسيته؟
ثم إذا كان العرب بما أوتوا من فصاحة وبلاغة، يميزون بين آيات
الوحي بمجرد سماعها وبين غيرها، وينجذبون إلى روعتها لأول وهلة
حيث استقر القرآن في نفوس وعقول العرب، واستقلت به ألسنتهم،
وميزت أذواقهم بين أسلوب القرآن وأسلوب غيره، وأصبح أبسط رجل
منهم يميز بين القرآن وبين أفصح كلام للعرب بمجرد سماعه (1).
فكيف يمكن أن نتصور في حق رواة الحديث من الصحابة
أن يشتبه عليهم ذلك، فيختلط عليهم الوحي الذي عرفوه نصا مقدسا
منزلا من عند الله وله عندهم كرامته المعروفة، بكلام الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم؟
أليس هذا التصور فيهم، إزراء بحقهم؟ إن لم يكن تهوينا
لروعة القرآن! أو إغضاء عن إعجاز آياته البادي من خلال عبقريته
البلاغية؟ تلك الروعة والعبقرية التي كانت سببا لإيمان المشركين!؟
فكيف تختلط على المؤمنين؟!
ومن هنا فإنا نقطع بأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يطرح
مثل هذا التخوف.
لماذا كتب القرآن مع أنه معجز ببلاغته الفائقة؟



(1) دراسات في السنة النبوية الشريفة للدكتور صديق (ص 102).
324
لقد أثير سؤال في هذا المجال حاصله: أن إعجاز القرآن إذا كان
يميزه عن السنة، لم تكن حاجة إلى كتابته (1).
وقد أجاب عن ذلك الدكتور عبد الغني عبد الخالق بقوله:
إعجاز القرآن إنما يدركه أساطين البلغاء من العرب أيام أن كانت
بلاغة العرب في أوجها، وذلك في عصره صلى الله عليه وآله وسلم
والأعصر القريبة منه.
فأما غير البلغاء منهم في هذه الأعصر - وهم الأكثرون - وجميع
العرب، في ما بعد ذلك، وجميع الأعاجم والمستعربين، في جميع
العصور، فلا يمكنهم تمييزه عن السنة، خصوصا إذا لاحظنا أن السنة
القولية كلام أفصح العرب وأبلغهم، وأنها تكاد تقرب من درجة القرآن
في البلاغة، ولا يستطيع أن يقف موقف المميز بينهما إلا من كان
من فرسان البلاغة والبيان وممن يشار إليه بالبنان.
ولا يتمكن غير البلغاء - أيضا - من إدراك إعجاز القرآن بأنفسهم،
وإنما يدركونه بواسطة عجز من تحداهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم
من أساطين البلاغة وأمراء الفصاحة عن الإتيان بأقصر سورة منه،
وإذا ما ثبت إعجازه ثبتت لهم رسالته صلى الله عليه وآله وسلم،
وإذا ثبتت رسالته ثبت صدقه في إخباره أن هذه السورة، أو هذه الآية
أو هذه الكلمة أو هذا الحرف من القرآن، فبهذا الإخبار يتميز لجميع
الأمة. القرآن من غيره.



(1) لاحظ مجلة المنار المصرية لصاحبها رشيد رضا السنة التاسعة، العدد (7) ص (515).
325
ولما كان هذا الإخبار لا يحصل لكل الأمة بالضرورة، بل إنما
يحصل لبعض من في عصره صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يخشى
على هؤلاء السامعين - قبل استقراره في القلوب وشيوعه بين الناس -
الاشتباه بطول الزمن، وعدم تمام الحفظ للفظه، خصوصا الاشتباه في
الآية الواحدة والكلمة الواحدة والحرف الواحد.
حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشد الحرص على تمييزه
جميعه بالكتابة، عن سائر ما يصدر عنه، وتخصيصه بها إلى أن يطمئن
إلى كمال تميزه عن غيره، عند سائر الناس، وإلى استقراره
في القلوب
وشيوعه بين الناس، وإلى أنه إذا أخطأ فرد من الأمة - فخلط بينه
وبين غيره - رده سائر الأمة أو القوم الذين يؤمن تواطؤهم على الكذب،
إلى الصواب.
ولذلك، لما اطمأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تميزه
تمام التميز، أذن في كتابة السنة (1).
والظاهر من السؤال: احتواؤه على محاولة جعل تخصيص القرآن
بالكتابة ذريعة ودليلا على أن الامتناع عن كتابة السنة، كان
من أجل التخوف من اختلاطهما، وأن إعجازه في بلاغته غير كاف
لتميزه عن السنة!
والظاهر من الجواب: موافقته على أصل الفكرة، إلا أنه زاد
في الطنبور نغمة أخرى، بحصره درك إعجاز القرآن بعصر خاص،



(1) حجية السنة (ص 7 - 438).
326
وبأشخاص محصورين!
ونحن نعتقد أن أصل الإشكال فاسد، وكذا الجواب المذكور،
وذلك للملاحظات التالية:
1 - إن هذه المقارنة بين القرآن والسنة في خصوص مسألة الإعجاز،
إنما تخص السنة القولية - كما صرح به الكاتب المذكور - وهي إنما تمثل
ثلث السنة النبوية، لأنها قول، وفعل، وتقرير، بإجماع المسلمين.
وأيضا: فالسنة القولية التي بأيدينا، والتي هي محل ابتلاء المسلمين
إنما عمدتها تلك المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الفترة
التالية من تاريخ الإسلام، بعد الصدر الأول، وخارج أطر مكة قبل
الهجرة، وعندما استقر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين أنصاره
وأصحابه المسلمين المؤمنين به إلى حد الفداء والتضحية، ومثل هؤلاء
لم تكن عندهم مشكلة بعنوان إعجاز القرآن، بل كانوا يقدسون القرآن
أعظم تقديس، عارفين بأسلوبه، مميزين لبهائه ونوره مقرين معترفين
بإعجازه وتميزه عن سائر الكلام البشري، ولو كان كلام الصادع به
نفسه، فلا يتخوف بالنسبة إليهم الاختلاط.
ثم، إن السنة القولية الصادرة من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
ليست كلها ملقاة باعتبارها من بليغ كلامه، بل الكثير من كلامه
صلى الله عليه وآله وسلم يجري مجرى المعتاد من الكلام مما كان يحاور
به الناس العاديين، في الظروف العادية، وحول الأمور العادية، وهو
ليس بالقليل في السنة القولية.

327
وخصوص ما يحتوي على بيان الأحكام الشرعية من المعاملات
والعبادات، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يستعمل فيها سوى الكلام
العادي، إذ ليس المطلوب إلا توضيح الأحكام.
ولو استثنينا من المقارنة كل هذه الأقسام من السنة القولية، لم يبق
للمقارنة بينها وبين القرآن في مسألة الإعجاز إلا شئ قليل جدا.
إذن، فلا يبقى ما يدخل تحت هذا التعليل، بخشية الاختلاط
إلا ذلك القليل، فتكون أكثر السنة خارجة عنه، وهذا يعني
أن التعليل لإثبات ذلك بخشية الاختلاط هو أخص من المدعى.
2 - إن القرآن كانت تحيط بنزوله أمور خاصة، مثل الحالات
التي كانت تعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين نزول الوحي عليه،
مما هو معروف ومذكور في الكتب الخاصة بتاريخ القرآن وعلومه.
ثم إن القرآن بمجرد نزوله وتبليغه من قبل الرسول صلى الله عليه وآله
وسلم كان المؤمنون يستبشرون به، ويتهادونه، ويعتبرونه من أفضل النعم
عليهم، وهذا كان حتى في صدر الإسلام قبل الهجرة.
أضف إلى اختصاص آيات القرآن، بأحكام خاصة، مثل التلاوة
في الصلاة وغيرها، وحرمة مس غير المتطهر لما كتب منه، وغير ذلك مما هو معروف
عند الفقهاء وثابت بالأدلة في الفقه.
ومع هذه المزايا والخصوصيات التي كان القرآن محاطا بها،
دون السنة، كيف يحتمل أن يختلط نصه الكريم بغيره، ولو كان

328
من أبلغ الكلام وأروعه!؟
3 - ليس من المطلوب من عامة الناس أن يتخصصوا كلهم
في أي علم من العلوم، وإنما اللازم رجوعهم إلى أهل الخبرة في كل علم،
وكذلك أمر الإعجاز، فليس اختصاص إدراكه بالبلغاء في كل عصر،
يؤدي إلى اختصاص تميز القرآن عن غيره بهم حتى يحتاج تميزه
إلى أمر آخر كالكتابة، بل، إذا تميز القرآن بإدراك البلغاء لإعجازه،
كفى لرجوع الآخرين إليهم في ذلك.
وإذا ثبت إعجازه لجميع الناس في كل عصر، ولو اعتمادا
على اعتراف البلغاء في العصر الأول من صدر الإسلام، أولئك الذين
تحداهم النبي فعجزوا عن أن يأتوا بآية من مثل القرآن، مع شدة اهتمامهم
في ذلك، ومسيس حاجتهم إليه، حتى اضطروا إلى إعلان إعجازه،
فأعلنوا ذلك صريحا بينا غير خاف على أحد، وتناقلت الأنباء والأخبار
والصحف كلامهم في الاعتراف بذلك.
فإن هذا كان - ولا يزال مدى الدهر - كافيا لتميز القرآن الكريم
عن غيره من كلام الآدميين، مهما بلغوا القمة في البلاغة والفصاحة!
منذ البداية، من دون حاجة إلى الانتظار مدة حتى يطمأن بتميزه
عن غيره!؟ ولا الالتجاء إلى كتابته وحده دون غيره؟!
4 - إن ثبوت صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوسيلة سائر المعجزات
التي جاء بها يكفي للاعتماد على أخباره الأخرى، ومنها القرآن ونزوله

329
وسائر شؤونه، ولا يتوقف ذلك على خصوص إدراك إعجاز القرآن
إن لم يكن حاصلا بعد!
فالقرآن كان متميزا بهذا الإخبار منذ البداية، من دون خشية
الاشتباه والخلط بين القرآن وسائر كلامه صلى الله عليه وآله وسلم
على المؤمنين به.
5 - وأخيرا:
إن القرآن يتميز بروعته وطراوته ونوره وجماله المعنوي،
ونغمه اللفظي، لكل الناس - من العارفين باللغة العربية وآدابها -
حتى الفساق، وغير المسلمين.
وإن من التقصير - أمام عظمة هذا النص الرائع - أن يساويه
أحد بكلام البشر، حتى كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم
الصادع بوحيه؟
وإن من التفريط بشأنه: أن نقول بأن غير البلغاء لا يميزونه
عن غيره.
بل، المحسوس لنا - ولسنا ممن يعد في البلغاء - أن القرآن يختلف
بجرسه وأسلوبه وبيانه وسجعه، عن غيره من سائر الكلام
البشري، حتى أقوى أشعار البلغاء، وأفصح خطب العلماء.
فكيف يجسر جاسر على إبداء ذلك الكلام بحقه!
ولو كان ذلك الكلام صادرا عن غير الشيخ عبد الغني عبد الخالق

330
ممن لم يكن عالما باللغة العربية، ومدرسا بالأزهر، ولا عالما بالشريعة
وأصول الفقه، لأعذرناه.
لكن صدوره من عالم مثله، زلة، بلا ريب!.
هذا ما يبدو لنا من المناقشة في هذا التبرير، أولا.
وأما ثانيا:
فإن الاحتياط للقرآن بصيانته والمحافظة على نصه من الاختلاط
بغيره - وإن كان من أهم الواجبات، كما ذكرنا - إلا أن ذلك لا يعني
إهمال الحديث الشريف وعدم رعايته بالصيانة والمحافظة، ولا ينافي
العناية به بكتابته وتدوينه، لئلا تضيع نصوصه، ولا تفوت الاستفادة
منه بموت حامليه من الصحابة الحافظين له، الآخذين له من مصدره،
ولا يندرس بموت أهله، مع أنه ثاني مصادر التشريع، وتال تلو القرآن
في الأهمية واعتماد الدين عليه.
فكيف يمكن أن يهمله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وينهى
عن أخذ الحائطة له، ولا يرضى بحفظه وتدوينه؟!
أليس ذلك تعريضا للحديث الشريف إلى الاندراس!؟
ومن أجل ذلك لا يمكن أن تجعل المحافظة على القرآن ذريعة لتعريض
الحديث إلى الإبادة والاندراس.
وأما ثالثا:
فإن هذا التخوف - من اختلاط القرآن بغيره - لو صح فرضه،

331
فإنما كان في صدر الإسلام وأول أمره، ولا ريب أن ذلك ارتفع بعد
أن نزل أكثر الوحي، وحفظه الكثيرون، وأمن اختلاطه بسواه،
وأذن الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذنا عاما في الكتابة (1).
فالتزم الصحابة بكتابة الحديث في عصر النبوة، وما بعده.
فما بال المانعين عمدوا إلى منع التدوين بعد وفاة الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم؟ متذرعين بنفس هذه العلة التي من المفروض
فوات زمانها؟!
وهذا يقتضي بوضوح أن يكون سبب المنع أمرا آخر، غير هذا؟!



(1) علوم الحديث لصبحي الصالح (ص 9).
332
الفصل الثالث
التخوف من ترك القرآن والاشتغال بغيره
ومن المبررات التي ذكروها لمنع تدوين الحديث هو: أن تدوين
أي شئ سيشغل الناس عن الانكباب على كتاب الله، فهو مؤد إلى ترك
كتاب الله وإهماله.
وقد جاء هذا التبرير في ما روي عن عمر من قوله: إني كنت أردت
أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا
عليها، وتركوا كتاب الله تعالى، وإني - والله - لا ألبس كتاب الله
بشئ أبدا (1).
وكان عبد الله بن مسعود يؤكد على تبرير المنع بهذا، فتراه يكرره
في أحاديث:
1 - عن إبراهيم التيمي، قال: بلغ ابن مسعود أن عند ناس كتابا
يعجبون به، فلم يزل معهم حتى أتوه به فمحاه،
ثم قال: إنما هلك أهل



(1) تقييد العلم (ص 49).
333
الكتاب قبلكم أنهم أقبلوا على كتب علمائهم، وتركوا كتاب ربهم (1).
وفي نقل آخر:... أقبلوا على كتب علمائهم وأساقفتهم... تركوا
التوراة والإنجيل، حتى درسا، وذهب ما فيهما من الفرائض والأحكام (2).
2 - عن مرة، قال: بينما نحن عند عبد الله [بن مسعود] إذ جاء
ابن قرة بكتاب، قال: وجدته بالشام فأعجبني، فجئتك به.
قال: فنظر عبد الله، ثم قال: إنما هلك من كان قبلكم باتباعهم
الكتب وتركهم كتابهم.
قال: ثم دعا بطست فيه ماء، فماثه فيه، ثم محاه (3).
3 - وعن الأسود، وعلقمة: أنهما أتياه بصحيفة، وقالا: هذه
صحيفة فيه حديث عجيب... انظر إليها، فإن فيها حديثا حسنا.
فدعا بالطست والماء، وجعل يمحوها، ثم قال: إنما هذه القلوب
أوعية، فأشغلوها بالقرآن، ولا تشغلوها بغيره (4).
4 - وعن الأسود، قال: جاء رجل من أهل الشام إلى عبد الله
بن مسعود ومعه صحيفة فيها كلام أبي الدرداء وقصص من قصصه،
فقال: يا أبا عبد الرحمن، ألا تنظر ما في هذه الصحيفة من كلام
أخيك أبي الدرداء؟



(1) سنن الدارمي (1 / 100) ح 475.
(2) تقييد العلم (ص 56).
(3) تقييد العلم (ص 53).
(4) تقييد العلم (ص 3 - 54) ولاحظ جامع بيان العلم (1 / 66).
334
فأخذ الصحيفة، فجعل يقرأ فيها وينظر، حتى أتى منزله، فقال:
يا جارية، ايتيني بالإجانة مملوءة ماء، فجاءت بها، فجعل يدلكها،
ويقول: (الر تلك آيات الكتاب المبين، إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم
تعقلون نحن نقص عليك أحسن القصص) [الآيات (1 - 3)
من سورة يوسف (12)]
أقصصا أحسن من قصص الله تريدون؟ أو حديثا أحسن
من حديث الله تريدون (1)؟
5 - وعن سليم بن الأسود، قال: كنت أجالس أبانا في المسجد،
فأتيتهم ذات يوم، فإذا عندهم صحيفة يقرؤونها، فيها ذكر وحمد،
وثناء على الله، فأعجبتني، فقلت لصاحبها: أعطنيها، فأنسخها.
قال: فإني وعدت بها رجلا، فأعد صحفك، فإذا فرغ منها،
دفعتها إليك.
فأعددت صحفي، فدخلت المسجد ذات يوم، فإذا غلام يتخطى
الخلق، يقول: أجيبوا عبد الله بن مسعود في داره.
فانطلق الناس، فذهبت معهم، فإذا تلك الصحيفة بيده، وقال:
ألا إن ما في هذه الصحيفة فتنة، وضلالة، وبدعة، وإنما هلك من كان
قبلكم من أهل الكتب - باتباعهم الكتب وتركهم كتاب الله،
وإني أحرج على رجل يعلم منها شيئا إلا دلني عليه، فوالذي نفس
عبد الله بيده، لو أعلم منها صحيفة بدير هند لأتيتها، ولو مشيا



(1) تقييد العلم (ص 4 - 55).
335
على رجلي، فدعا بماء، فغسل تلك الصحيفة (1).
وروى الدارمي هذا الحديث، ومحتوى الكتاب في روايته:
سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
فقال عبد الله: إن ما في هذا الكتاب بدعة، وفتنة، وضلالة،
وإنما أهلك من كان قبلكم هذا وأشباه هذا، إنهم كتبوها، فاستلذتها
ألسنتهم وأشربتها قلوبهم.... (2).
وروي هذا التبرير عن أبي موسى الأشعري:
عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: إن بني إسرائيل كتبوا كتابا
واتبعوه، وتركوا التوراة (3).
ويبدو أن هذا التبرير ظل مقبولا لدى العلماء إلى عهد متأخر،
فهذا إسماعيل ابن علية (ت 200 ه‍) يقول: إنما كرهوا الكتاب
لأن من كان قبلكم اتخذوا الكتب فأعجبوا بها، فكانوا يكرهون
أن يشتغلوا بها عن القرآن (4).
وقد ذكر الخطيب البغدادي هذا التبرير، وقال: فقد ثبت أن كراهة
من كره الكتاب من الصدر الأول إنما هي لئلا يضاهى بكتاب الله تعالى
غيره، أن يشتغل عن القرآن بسواه،
ونهي عن الكتب القديمة أن تتخذ، لأنه لا يعرف حقها



(1) تقييد العلم (ص 65).
(2) سنن الدارمي (1 / 102) ح 485.
(3) تقييد العلم (ص 56).
(4) تقييد العلم (ص 57).
336
من باطلها وصحيحها من فاسدها، مع أن القرآن كفى عنها وصار
مهيمنا عليها (1).
واختار هذا الوجه من المعاصرين:
الدكتور عتر، فقال: العلة التي تصلح لذلك - في اختيارنا - هي:
خوف الانكباب على درس غير القرآن، وترك القرآن، اعتمادا على ذلك (2).
والمناقضة في هذا التبرير من وجوه:
فأولا: إن هذا التبرير بعضه حق، وبعضه باطل، وقد حاول
أصحابه الخلط بينهما، وتوضيح ذلك: أن المفروض في كلامهم أمران:
1 - إن ترك القرآن منهي عنه، فهو حرام شرعا.
وهذا حق لا يرتاب فيه مسلم.
2 - إن الاشتغال بغير القرآن يؤدي إلى ترك القرآن، وهو أيضا حرام،
وهذا ليس - بإطلاقه - صحيحا، بل:
إن كان الاشتغال بغير القرآن مؤديا إلى ترك القرآن كان حراما.
وإلا فإن لم يكن الاشتغال بغير القرآن، مؤديا إلى ترك القرآن
فهو ليس بحرام قطعا.
وجعل الفرض الأول، كالفرض الثاني - في الحكم - وإطلاق أنهما
يؤديان إلى ترك القرآن، خلط بين الحق والباطل، وإيهام، وإغراء قبيح.



(1) تقييد العلم (ص 57).
(2) منهج النقد (ص 43).
337
وقد استعملوا كلمات الاشتغال، والانكباب، والانهماك،
ليزيدوا من تبشيع الأمر، ويضخموا من تهويله على الآخرين.
وإلا، فليس في مجرد كتابة شئ من الحديث: اشتغال،
أو: انكباب، أو: انهماك، عن القرآن، ولا يؤدي إلى ترك القرآن.
ومن هنا، نجد بشاعة قول ابن مسعود: إن الصحيفة المحتوية
على قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، بدعة
وفتنة وضلالة! فلماذا؟ فهل إن هذه الكلمات الأربع باطلة؟
وهي من الأذكار التي جاء بها الإسلام، وليست مفرداتها
إلا كلمات وجملا حقة، ومن القرآن؟ وليس فيها من الباطل شئ.
وهل هي مؤدية إلى ترك القرآن؟
وثانيا:
إن ترك القرآن - وهو فعل محرم واضح البطلان عند المسلمين -
من هو المتهم به من بين المسلمين الذين أرادوا جمع الحديث، وتأليفه،
وتدوينه وتقييده؟
وهم في ذلك العصر، بين صحابي جليل، أو تابعي فاضل،
أو مؤمن طالب للعلم الذي هو حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
أو كلمة ذكر وثناء وتمجيد لله، كما كان في صحيفة ابن مسعود؟
أليس اتهام أهل تلك الطبقة اتهاما لأهل خير القرون، وهم سلف
المسلمين، وفيهم الصحابة، وفضلاء التابعين؟

338
أليس ذلك كله تجاسرا عليهم وهتكا لحرماتهم؟
فلا يبقى من يتصور ذلك - أي ترك القرآن والاشتغال بغيره -
في حقهم، إلا القلائل من الشذاذ، الجهلة، أو المغرضين الذين دخلوا
الإسلام طمعا أو خوفا أو بغرض التشويش بين المسلمين، كالمتهوكين،
وخاصة من أهل الديانات الأخرى ممن لم يكن يرغب في تدوين السنة
وكتابة الحديث قطعا!
ولا يخفى أن أمرا مهما - مثل تدوين الحديث وحفظه من الضياع -
لا يمكن أن يعلق على هذه الشرذمة، فيمنع من أجلهم!
مع أن الحديث هو من أهم وسائل حفظ الإسلام، والتي يمكن بها
القضاء على مكر هؤلاء وتزويرهم، وإن ترك تدوينه تعريض له للفناء،
وهذا أقرب إلى أغراض تلك الحفنة!
وثالثا: إن ما يؤدي إلى ترك القرآن من الكتب هو ما كان منافيا
للقرآن في أهدافه ومحتوياته، من عقائد وأحكام وأخبار، وأبرز
مظهر لذلك - في تلك العصور - هو كتب الضلال التي كان يتداولها
أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، وهي التوراة والإنجيل المحرفان،
وما دار حولهما من كتب وأساطير.
وقد جاء التصريح بذلك في أكثر كلمات المانعين أولئك المستندين
للمنع إلى هذا التبرير.
فقد ذكر عمر ذلك - لما أحرق كتب الناس - فقال: أمنية كأمنية

339
أهل الكتاب (1)،
أو: مثناة كمثناة أهل الكتاب (2).
ويلاحظ أن كلمة (مشنا ه) إنما هو مصطلح يهودي عبروا به
عن التوراة المبدلة المحرفة، في قبال التوراة التي لم تبدل، وقد فسر الكلمة
بهذا المعنى أبو نعيم الأصفهاني (3).



(1) تقييد العلم (ص 52).
(2) طبقات ابن سعد (1 / 140) طبع ليدن، والصواب (مشناه). ويلاحظ أن عمر هو أول
من أطلق كلمة (مشناه) على السنة المحمدية والحديث النبوي، حيث استعملها في مقام
تشبيه ما كتبه الناس من الحديث بما كتبه اليهود.
ولاحظ بهذا الصدد:
الإسلام عقيدة وشريعة للإمام محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر
(ص 492 - 494) والسنة النبوية وعلومها لهاشم (ص 18 - 19) واقرأ عنه كتاب:
الصحيح من السيرة للسيد جعفر مرتضى العاملي (1 / 26) وما بعدها.
وعن ارتباطه بالتوراة وسائر الكتب اليهودية، وبأحبار اليهود في المصنف لعبد الرزاق
(10 / 313) وسنن الدارمي (1 / 115) وتقييد العلم (ص 52).
ولاحظ في كتابنا هذا ما يأتي حول أحاديث (التهوك) التي تدور قصتها حوله، وانظر
دلائل التوثيق المبكر (ص 162 - 164)
ومما يؤكد على أن ابن مسعود كان يتبع في هذه الدعوى سياسة عمر ذاتها ما ذكره الأستاذ
مذكور بقوله: كان ابن مسعود من مدرسة عمر بن الخطاب، إذ كان لعمر أثر كبير في
ابن مسعود، معجبا بآرائه، نحا منحاه، ونهج نهجه الاجتهادي من الغوص في المعاني،
والبحث عن الأسباب بل، ومراعاة المصلحة، يكاد لا يخالفه في شئ مما ذهب إليه،
وكان [أي ابن مسعود] يقول: كان عمر إذا سلك طريقا وجدناه سهلا، أما علي
فلم تكن لديه هذه المرونة الفقهية!
وكان يقول: لو سلك الناس واديا وشعبا، وسلك عمر واديا وشعبا لسلكت وادي
عمر وشعبه.
مناهج الاجتهاد في الإسلام 62) وانظر إعلام الموقعين (ج 1 ص 13 - 14).
(3) دلائل النبوة لأبي نعيم - ط حلب - ص 836 ذيل رقم (824).
340
وروى خالد بن عرفطة، في قصة ضرب عمر لرجل من عبد القيس،
قال عمر له: أنت الذي نسخت كتاب دانيال؟ قال الرجل:
مرني بأمرك أتبعه.
قال عمر: فانطلق، فامحه بالحميم والصوف
الأبيض، ثم لا تقرأه، ولا تقرئه أحدا من الناس، فلئن بلغني عنك أنك
قرأته أو أقرأته أحدا من الناس، لأنهكنك عقوبة (1).
وذكر ذلك أبو موسى الأشعري وهو بصدد النهي عن تدوين
الحديث -: إن بني إسرائيل كتبوا كتابا، وتركوا التوراة (2).
وعبر عن ذلك ابن مسعود بذكر اسم أهل الكتاب، أو قوله:
من كان قبلكم (3).
وعلق مرة - الذي نقل عن ابن مسعود أنه محا كتابا - بقوله: لو كان
من القرآن أو السنة لم يمحه، ولكن كان من كتب أهل الكتاب (4).
ولا ريب أن الاعتماد على كتب أهل الكتاب، سواء التوراة
أم الإنجيل أم غيرهما؟ يؤدي إلى ترك القرآن، لما بين القرآن وبين تلك
الكتب من التنافي البين.
فالقرآن جاء ناسخا لتلك الكتب، والإسلام جاء ناسخا
لتلك الأديان.



(1) تقييد العلم (ص 1 - 52) وكنز العمال (1 / 3 - 334).
(2) تقييد العلم (ص 56).
(3) أنظر ما سبق من رواياته، في بداية هذا الفصل الثالث (ص 334).
(4) سنن الدارمي (1 / 102).
341
مع عدم وضوح ما في تلك الكتب من الحق والباطل، وكفاية
القرآن عن حقها - كما يقول الخطيب البغدادي (1).
ويكون نفس الالتزام بتلك الكتب دليلا على الضلال، حيث
يكون الملتزم بها غير معتقد بحقية القرآن ولا بطلان تلك الكتب،
أو أن ميله إليها وإعجابه بها - على الأقل - يكشف عن تردده في حقية الإسلام،
وشكه في القرآن، وهذا هو التهوك الذي أغضب النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، فحذر عنه بأساليب في ما يلي من الروايات:
1 - روي عن عمر بن الخطاب أنه قال للنبي صلى الله عليه وآله
وسلم: إنا نسمع أحاديث من يهود، تعجبنا! أفترى أن نكتبها؟
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أمتهوكون أنتم؟
كما تهوكت اليهود والنصارى، لقد جئتكم بها بيضاء نقية (2).
2 - روى الخطيب البغدادي بسنده، عن عبد الله بن ثابت الأنصاري
- خادم النبي صلى الله عليه وآله وسلم - قال: جاء عمر بن الخطاب
إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومعه (جوامع من التوراة)
فقال: مررت على أخ لي من قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة،
أفلا أعرضها عليك؟
فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! فقال الأنصاري:
أما ترى ما بوجه رسول الله؟! فقال عمر:



(1) تقييد العلم (ص 57).
(2) النهاية لابن الأثير (5 / 282) لسان العرب (12 / 400).
342
رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا.
فذهب ما كان بوجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفسي بيده، لو أن موسى أصبح
فيكم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، أنتم حظي من الأمم، وأنا حظكم
من النبيين (1).
وقال المعلق على المصدر، عن بعض المصادر: إن الذي رد على
عمر هو عبد الله بن زيد - الذي أري الأذان - قال لعمر: أمسخ الله عقلك؟
ألا ترى الذي بوجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (2).
3 - وقال عمر: انطلقت أنا... فانتسخت كتابا من أهل الكتاب،
ثم جئت به في أديم.



(1) الأسماء المبهمة للخطيب (ص 8 - 189) رقم (95) وخرجه المعلق من المصادر
التالية: في مجمع الزوائد (1 / 174) عن أبي الدرداء، وفي جمع الفوائد (1 / 30)
والذي رد فيه على عمر: (عبد الله بن ثابت) ونسبه إلى الطبراني في الكبير.
وفي ثلاث روايات برقم (10163 - 10165) والمعترض على عمر في الثانية:
(عبد الله بن ثابت) كما في المصنف لعبد الرزاق (10 / 313)
برقم (19213) و (11 / 111) برقم (20062) قال المعلق على الأسماء المبهمة: وفي سنن الدارمي
(1 / 115) من طريق محمد بن العلاء، وذكره
- مختصرا - في أسد الغابة (3 / 126)
الطبعة القديمة.
وورد في دلائل النبوة لأبي نعيم (1 / 50).
وأخرجه المعلق عن فتح الباري لابن حجر
كتاب الإعتصام، باب لا تسألوا أهل الكتاب، عن أحمد، وابن أبي شيبة، والبزار،
وانظر مجمع الزوائد (1 / 174) وانظر مسند أحمد (3 / 387) عن جابر.
(2) أنظر الأسماء المبهمة للخطيب، (ص 189) رقم الحديث (95).
343
فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما هذا في يدك،
يا عمر؟
قلت: يا رسول الله، كتاب انتسخته، لنزداد به علما إلى علمنا!
فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى احمرت وجنتاه، ثم نودي
بالصلاة جامعة.
فقال الأنصار: أغضب نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم، السلاح السلاح،
فجاؤوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال: يا أيها الناس، إني أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه، واختصر
لي اختصارا، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية، فلا تتهوكوا، ولا يقربنكم
المتهوكون.
قال عمر: فقمت، وقلت: رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا،
وبك رسولا.
ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (1).
4 - وروى ابن أبي شيبة، بسنده عن جابر: أن عمر بن الخطاب
أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكتاب أصابه من بعض
أهل الكتاب، فقال: يا رسول الله، إني أصبت كتابا حسنا من بعض



(1) تقييد العلم (ص 1 - 52) وانظر ما يوافقه في جامع بيان العلم (2 / 42) ونقل عن ذم
الكلام للهروي
344
أهل الكتاب... إلى آخره (1).
5 - وروى أبو داود عن أبي قلابة: أن عمر مر بقوم من اليهود،
فسمعهم يذكرون دعاء من التوراة، فاستحسنه، ثم جاء به
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فجعل يقرؤه، ووجه النبي صلى الله عليه
وآله وسلم يتغير.
فقال رجل: يا بنطاب، ألا ترى ما في وجه رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم؟
فوضع عمر الكتاب.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله عز وجل بعثني
خاتما، وأعطيت جوامع الكلم وخواتيمه، واختصر لي الحديث
اختصارا، فلا يلهينكم المتهوكون؟
فقلت لأبي قلابة: ما المتهوكون؟
قال: المتحيرون (2).
6 - ذكر عبد الغني عبد الخالق رواية عن الدارمي، عن جابر
بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين أتاه عمر (رض)



(1) الكتاب المصنف (9 / 47) رقم (6472) وقال المعلق: أخرجه الهيتمي
في مجمع الزوائد (8 / 262) وانظر (1 / 173 و 174) ورواه ابن عبد البر بسنده
عن ابن أبي شيبة في جامع بيان العلم (2 / 224).
(2) المراسيل لأبي داود السجستاني (ص 3 - 224) رقم (1) وخرجه المعلق عن المزي في
تحفة الأشراف (13 / 254) رقم (18908).
345
فقال: إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا، أ فترى أن نكتب بعضها؟
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أ متهوكون أنتم كما تهوكت اليهود
والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حيا ما وسعه
إلا اتباعي.
وقال: قال في جواهر الألفاظ (ص 331) التهوك: السقوط
في هوة الردى (1).
وقال الجوهري: في الحديث - عن طريق آخر - أن عمر أتاه
بصحيفة أخذها من بعض أهل الكتاب، فغضب صلى الله عليه وآله
وسلم وقال: أمتهوكون فيها، يا بنطاب؟ (2).
وقال أبو عبيدة - في معنى متهوكون -: معناه: أمتحيرون
في الإسلام حتى تأخذوه من اليهود؟
وقال ابن سيدة: يعني: أمتحيرون.
وقيل معناه: أمترددون ساقطون (3).
والحاصل أن ترك القرآن - والمراد به عدم الاعتقاد به - إنما يترتب
على الالتزام بكتب الأديان الأخرى، التي جاء القرآن نافيا لها وكافيا
عنها، ليس على كتابة شئ آخر مما لا يعارض القرآن ولا ينافيه.
وأما الحديث الشريف فلا يمكن أن يتصور فيه أنه معارض للقرآن.



(1) حجية السنة (ص 317).
(2) الصحاح للجوهري (هوك) ولسان العرب (12 / 400).
(3) لسان العرب (12 / 400).
346
وقد صرح القرآن نفسه بأن النبي (ما ينطق عن الهوى إن هو إلا
وحي يوحى علمه شديد القوى...) [سورة النجم 53 الآية: 3 - 5]
وعن حسان بن عطية، قال: كان جبريل عليه السلام ينزل على
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن،
ويعلمه كما يعلمه القرآن (1).
ونقل عن أحمد بن حنبل قوله: السنة تفسر الكتاب وتبينه،
والسنة عندنا آثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والسنة تفسير
القرآن، وهي دلائل القرآن (2).
وقال عبد الرحمن بن مهدي: الرجل إلى الحديث أحوج منه
إلى الأكل والشرب، لأن الحديث يفسر القرآن (3).
وقال ابن حزم: لما بينا أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه
في الشرائع، نظرنا فيه فوجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا به رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، ووجدناه عز وجل يقول فيه واصفا لرسوله
صلى الله عليه وآله وسلم: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)
[سورة النجم 53 الآية: 3 - 4] فصح لنا بذلك أن الوحي ينقسم
من الله عز وجل إلى رسوله على قسمين:
أحدهما وحي، متلو، مؤلف تأليفا معجز النظام، وهو القرآن.
والثاني: وحي، مروي، منقول، غير مؤلف، ولا معجز النظام،



(1) المراسيل لأبي داود السجستاني (ص 249) ح (2).
(2) حجية السنة (ص 332).
(3) المصدر السابق.
347
ولا متلو، لكنه مقروء، هو الخبر الوارد من رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم، وهو المبين عن الله عز وجل مراد ه (1).
وقال الشيخ أبو زهو: السنة... هي أحد قسمي الوحي الإلهي
الذي نزل به جبريل الأمين على النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم،
والقسم الثاني هو القرآن الكريم (2).
وقال: وقد وكل الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم
أن يبلغ القرآن الكريم للناس وأن يبين لهم بقوله وفعله ما يحتاج إلى البيان،
وهو صلى الله عليه وآله وسلم إذ يبين للناس كتاب الله لا يصدر
عن نفسه، ولكنه يتبع ما يوحى إليه من ربه، فالسنة النبوية وظيفتها تفسير
القرآن الكريم والكشف عن أسراره، وتوضيح مراد الله تعالى من أوامره
وأحكامه (3).
وقال الشيخ عبد الغني عبد الخالق: السنة مع الكتاب في مرتبة
واحدة من حيث الاعتبار والاحتجاج بهما على الأحكام الشرعية،
ولا نزاع أن الكتاب يمتاز عن السنة بأن لفظه منزل من عند الله، متعبد
بتلاوته، معجز... بخلافها، ولكن ذلك لا يوجب التفصيل بينهما
من حيث الحجية (4).
وقال محمد عجاج: كل ما جاء من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم -



(1) الأحكام في أصول الأحكام (1 / 93).
(2) الحديث والمحدثون (ص 11).
(3) المصدر السابق (ص 7 - 38).
(4) حجية السنة (ص 485).
348
سوى القرآن الكريم - من بيان الأحكام وتفصيل لما في الكتاب الكريم
وتطبيق له هو الحديث النبوي أو السنة... وهي بوحي من الله... (1).
فكيف يؤدي الاشتغال بالحديث إلى إهمال القرآن وتركه (2).
فهذا من أبده الكلام الباطل، لوضوح أن حديث رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، وما نطق به ليس إلا حقا، كما صرح هو به
في روايات إذنه لعبد الله بن عمرو في كتابة الحديث (3).
وليس الحديث الشريف إلا مفسرا للقرآن، وشارحا لمراده (4).
بل السنة الشريفة امتداد للقرآن، وتطبيق عملي لمؤداه، وليس اتباع
السنة إلا اتباعا للقرآن، حيث أمر الله تعالى بذلك في آياته الكريمة بالأخذ
بما أمر به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (ما آتاكم الرسول
فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) الآية (7) من سورة الحشر (59).
ولا تختلف السنة عن القرآن في الحجية، وقد أجمع على ذلك
علماء الإسلام، وعقد أهل الحديث في كتبهم أبوابا تدل تراجمها
على ذلك.
فقد ترجم الخطيب البغدادي أول أبواب كتابه الكفاية، بعنوان
باب ما جاء في التسوية بين حكم كتاب الله تعالى، وحكم سنة



(1) أصول الحديث للخطيب (ص 34).
(2) عبر بهذا في منهج النقد (ص 43).
(3) أنظر ما مضى، القسم الأول، الفصل الثاني (89).
(4) لاحظ مقدمة الحافظ محمد التجاني لكتاب الكفاية للخطيب (ص 15) ط مصر.
349
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في وجوب العمل، ولزوم التكليف (1).
وترجم الباب الثاني منه، بعنوان باب تخصيص السنن لعموم
محكم القرآن، وذكر الحاجة في المجمل إلى التفسير والبيان (2).
وأورد في كتابه الفقيه والمتفقه أحاديث دالة على أن السنة
معتبرة في عرض الكتاب (3).
وعقد الدارمي بابا ترجمه بباب أن السنة قاضية على كتاب الله،
نقل فيه عن ابن أبي كثير شيخ الأوزاعي قوله: السنة قاضية على القرآن،
وليس القرآن بقاض على السنة (4).
ونقل عن مكحول قوله: القرآن أحوج إلى السنة، من السنة
إلى القرآن (5).
وقال ابن برجان (ت 627 ه‍): ما قال النبي صلى الله عليه وآله
وسلم من شئ، فهو في القرآن، وفيه أصله، قرب أو بعد، فهمه
من فهمه، وعمه عنه من عمه (6).
وقال الزركشي: اعلم أن القرآن والحديث أبدا متعاضدان على
استيفاء الحق وإخراجه من مدارج الحكمة، حتى أن كل واحد منهما



(1) الكفاية للخطيب (ص 39).
(2) الكفاية للخطيب (ص 45).
(3) الفقيه والمتفقه للخطيب (1 / 86 - 90).
(4) سنن الدارمي (1 / 117) ب 49 ح 594.
(5) الكفاية للخطيب (ص 47).
(6) الإرشاد في تفسير القرآن لعبد السلام بن عبد الرحمن الإشبيلي مخطوط.
350
يخصص عموم الآخر، ويبين إجماله (1).
وقد جاء من قال لعمران بن الحصين: ما هذه الأحاديث التي
تحدثوناها وتركتم القرآن؟ لا تحدثونا إلا بالقرآن!
فقال عمران في جوابه: أرأيت لو وكلت - أنت وأصحابك -
إلى القرآن، أكنت تجد فيه صلاة الظهر أربعا، وصلاة العصر أربعا،
والمغرب ثلاثا، تقرأ في اثنتين؟؟؟
أرأيت لو وكلت - أنت وأصحابك - إلى القرآن، أكنت تجد
الطواف بالبيت سبعا، والطواف بالصفا والمروة؟؟
وبطريق آخر أضاف: والموقف بعرفة؟ ورمى الجمار كذا؟
واليد من أين تقطع؟ أمن هاهنا؟ أم هاهنا؟ أم هاهنا؟ ووضع يده
على يده على مفصل الكف، ووضع يده عند المرفق، ووضع يده
عند المنكب -؟؟؟
ثم قال: اتبعوا حديثنا ما حدثناكم، وخذوا عنا، وإلا - والله -
ضللتم (2).
وعن أيوب السختياني، قال: إذا حدثت الرجل بالسنة، فقال:
دعنا من هذا، وحدثنا من القرآن فاعلم أنه ضال مضل (3).



(1) البرهان في علوم القرآن للزركشي (2 / 128).
(2) الكفاية للخطيب (ص 48) وانظر المستدرك على الصحيحين للحاكم (1 / 109)
(3) الكفاية (ص 49).
351
أحاديث الأريكة:
أقول: والأصل في الحكم بضلال من فرق بين القرآن والسنة،
أو فصل في الاحتجاج بين كتاب الله وبين حديث رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، أو دعا إلى الاكتفاء بالقرآن، وترك الحديث والسنة
، هو: ما ورد من أحاديث مرفوعة متضافرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
تنبأ هو صلى الله عليه وآله وسلم فيها بوقوع مثل ذلك في أمته، وحذرهم من أصحاب تلك الدعوة
الخبيثة، في أحاديث، منها:
1 - روى ابن ماجة باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، والتغليظ على من عارضه، من صحيحه:
بسنده عن المقدام بن معدي كرب الكندي: أن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، قال: يوشك الرجل متكئا في أريكته، يحدث
بحديث من حديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله عز وجل،
فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه!
ألا، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل
ما حرم الله (1).



(1) مسند أحمد (1 / 131) وأبو داود في سننه كتاب السنة، باب (5) لزوم السنة
(4 / 200) ح 4604 وسنن ابن ماجة 1 / 6) باب (3) رقم الحديث (12)
وسنن الدارمي (1 / 117) ح 592، وسنن البيهقي (9 / 331) ودلائل النبوة له (1 / 25)
و (6 / 549) والمستدرك على الصحيحين للحاكم (1 / 8 و 109) وأورده الخطيب
في الكفاية (ص 39 - 40) والفقيه والمتفقه (1 / 88) والحازمي في الاعتبار (ص 7
وابن حبان في صحيحه (1 / 147) والترمذي في سننه، كتاب العلم (2 / 110 - 111)
وقال: هو حديث صحيح. وانظر الحديث والمحدثون لأبي زهو (ص 11 و 24).
352
أقول: رواية المقدام وردت بطرق:
1 - عن الحسن بن جابر، عنه، وهي التي أثبتنا لفظها،
وقد أوردها ابن ماجة والدارمي، والترمذي، والحاكم في المستدرك
وصححه ولم يتعقبه الذهبي.
2 - عن ابن أبي عوف، عنه، برواية مروان، أوردها ابن حبان
في صحيحه، والبيهقي في مناقب الشافعي.
3 - عن ابن أبي عوف، عنه، برواية جرير، أوردها أحمد
في المسند، وأبو داود في السنن، والحازمي في الاعتبار ولفظه: أريكته
- أي سريره -.
وقال الشيخ محمد أبو شهبة: الحديث ثابت من جهة النقل
والرواية، ومعناه ثابت من جهة العقل والدراية، والكتاب الكريم يؤيده (1).
2 - وفي بعض النصوص: ألا إني أوتيت الكتاب، ومثله معه،
ألا، إني قد أوتيت القرآن ومثله.
ألا، يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا
القرآن... (2).
3 - وروى ابن ماجة بسنده عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه:
أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: لا ألفين أحدكم متكئا



(1) دفاع عن السنة (ص 216).
(2) الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي (1 / 37) والكفاية للخطيب (ص 39) ورواه
في الفقيه والمتفقه (1 / 88).
353
على أريكته، يأتيه الأمر مما أمرت به، أو نهيت عنه، فيقول: لا
أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه (1).
وقال الحاكم: هو صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي
على ذلك.
وقال المحدث الشيخ محمد الحافظ التجاني: سند هذا الحديث
ورجاله رجال الصحيحين (2).
4 - وروي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه
قال: لا أعرفن ما يحدث أحدكم عني الحديث، وهو متكئ
على أريكته، فيقول: اقرأ قرآنا!
ما قيل من قول حسن فأنا قلته (3).
5 - وروى الخطيب بسنده، عن جابر بن عبد الله، يقول:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لعل أحدكم أن يأتيه حديث
من حديثي، وهو متكئ على أريكته، فيقول: دعونا من هذا،
ما وجدنا في كتاب الله اتبعنا (4).
ورواه ابن عدي بسنده عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وآله



(1) سنن ابن ماجة 1 / 6 - 7) ح (13) والمستدرك للحاكم (1 / 108) والكفاية للخطيب
(ص 1 - 42) والفقيه والمتفقه (1 / 88).
(2) سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، مجمع البحوث الإسلامية، الكتاب السابع
(ص 21 - 22).
(3) سنن ابن ماجة 1 / 9 - 10) ح 21.
(4) الكفاية للخطيب (ص 42).
354
وسلم: ألا هل عسى أحدكم يحدث عني بحديث وهو على أريكته
فيقول: دعونا من هذا، وهاتوا القرآن (1).
6 - ورواه البيهقي، عن سالم أبي النضر أنه سمع عبيد الله
بن أبي رافع يخبر عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به
أو نهيت عنه، يقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه (2).
وروى ابن حزم بسنده عن العرباض بن سارية: أنه حضر
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب الناس، وهو يقول:
أيحسب أحدكم متكئا على أريكته، قد يظن أن الله تعالى لم يحرم شيئا
إلا ما في القرآن، ألا وإني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء
إنها لمثل القرآن.
وقال ابن حزم: صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
هي مثل القرآن، ولا فرق في وجوب طاعة كل ذلك علينا.
وقد صد ق الله تعالى هذا إذ يقول: (ومن يطع الرسول



(1) الكامل لابن عدي (5 / 1756).
(2) دلائل النبوة للبيهقي (1 / 24) و (6 / 549) والسنن الكبرى (7 / 76) وأورده الشافعي في الرسالة
(403 - 404) وأحمد في المسند (6 / 8) وأبو داود في السنن كتاب السنن، باب لزوم
السنة (4 / 200) ح 4605 ولاحظ: الإحسان في صحيح ابن حبان (1 / 107)
ح 12 عن المقدام، وابن ماجة صحيحه، المقدمة (1 / 6) ح 13 باب تعظيم
حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
والترمذي في السنن كتاب العلم (1 / 37 - 109) والحاكم في المستدرك (1 / 108 - 109).
355
فقد أطاع الله) [سورة النساء (4) الآية (80)].
وهي - أيضا - مثل القرآن في أن كل ذلك وحي من عند الله تعالى،
قال الله عز وجل: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)
[سورة النجم (53) الآيتان (3 و 4)] (1).
والملاحظ في كل هذه النصوص أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
يذكر فيها أن الرجل المعارض إنما هو صاحب (أريكة) يتكئ عليها.
فإذا كانت الأريكة - كما يقول أهل اللغة -: سريرا منجدا في
قبة أو بيت (2) أو - مطلق السرير، كما فسره به الشافعي (3) والحازمي (4).
فإن أولى من تهيأ له إنما هو الحاكم والخليفة، الذي يحكم الناس
ويتحكم بأمورهم.
وإذا لاحظنا الفعل (يوشك) الوارد في كلام الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم - وهو لفظ يستعمل للدلالة على قرب تحقق العمل،
لأنه من أفعال المقاربة -.
وإذا وجدنا أنه ليس في من منع الحديث وعارضه، أقرب عهدا
إلى زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من الخليفة الأول الذي
قعد على أريكة الحكم، بعد النبي مباشرة، وتصدى للحديث، بعين



(1) الإحكام لابن حزم (1 / 159).
(2) النهاية لابن الأثير (أرك) ولسان العرب (12 / 269).
(3) الرسالة للشافعي (ص 89 - 91) ومناقب الشافعي للبيهقي (1 / 330).
(4) الاعتبار (ص 7).
356
ما تنبأ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
في ما رواه الذهبي: أن الصد يق [أبا بكر] جمع الناس، بعد
وفاة نبيهم، فقال: إنكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدثوا
عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله
فاستحلوا حلاله، وحرموا حرامه (1).
إذا علمنا كل ذلك: علمنا أن أبا بكر لم يبعد نفسه - بإقدامه على هذا الكلام - أن يكون هو ذلك
الرجل الذي تنبأ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمجيئه، متكئا
على أريكته، مجابها الحديث بقوله: (بيننا وبينكم كتاب الله...) (2).
فكان هذا من أعظم دلائل النبوة وأوضح أعلامها (3).
والحقيقة - المرة! - أن التاريخ لم يحفظ لنا معارضة للحديث، من حاكم
مقتدر أشد وأقرب عصرا إلى وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من
أبي بكر وصاحبه عمر، فيدل على أنهما المقصود الأول من هذه
الأحاديث وأما من جاء بعدهما فإنما استن بسنتهما، ولم يمنع الحديث
بأشد من منعهما، وسيأتي تفصيل ذلك.
فمن الغريب ما نقل عن الخطابي في تفسير الحديث من قوله:
أراد بقوله: (متكئ على أريكته) أي أصحاب الترفه والدعة،



(1) تذكرة الحفاظ (1 / 2 - 3) ترجمة أبي بكر.
(2) قارن السنة قبل التدوين (ص 78).
(3) أنظر دلائل النبوة للبيهقي (1 / 24) و (6 / 549).
357
الذين لزموا البيوت، ولم يطلبوا العلم من مظانه (1).
فمن الواضح لمن تأمل الحديث الشريف بألفاظه المختلفة
أن كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس ناظرا إلى أن المتكئ
على الأريكة من أين يطلب العلم؟ بل كلامه صلى الله عليه وآله
وسلم ناظر إلى من يحكم الناس فيسمعون أمره ونهيه، وهو نافذ الكلمة
فيهم، فيمنع الناس من العلم الذي هو حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
ويدعي إرجاعهم إلى علم القرآن فقط.
فهل أهل الترفه والدعة الذين لزموا البيوت لهم مثل هذا الشأن حتى
يحذر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عنهم، وبتلك الشدة؟
ومتى كان أصحاب الترفه والدعة مراجع للأحكام، حتى يسألوا
عن الحلال والحرام؟
ثم متى وأين تحقق مصداق خبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
بعيد وفاته، في من تصدى للسنة، وبنفس المقولة التي حذر منها الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم، ومن المتكئين على الأرائك؟
وهل أهل الترف يرجعون إلى القرآن، ويفرقون بينه وبين الحديث؟!
مع أن الحديث بنصوصه المختلفة ينص على أن المتكئ على أريكته،
الذي يمنع من الحديث ويقول: (بيننا وبينكم كتاب الله) إنما هو
(رجل) مفرد، لا عدة!



(1) تفسير القرطبي (1 / 38) لاحظ دراسات حول القرآن والسنة للدكتور شعبان (ص 117)
ودفاع عن السنة لمحمد محمد أبي شهبة (ص 15).
358
إن الإعراض عن كل هذه الحقائق، ومحاولة تفسير الحديث
بما لا يلائم الواقع، ولا مفردات الألفاظ الواردة فيه، لا يصدر إلا عن هوى.
نعوذ بالله من ذلك.
والأغرب أن الذهبي يحاول صرف حديث الأريكة عما فعله
أبو بكر من منع الحديث، فيقول: إنه - أي أبا بكر - لم يقل: حسبنا
كتاب الله، كما تقوله الخوارج (1).
لكن: إن الكلمة التي حذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم
عنها وعن قائلها هي: (بيننا وبينكم كتاب الله...) وهي التي قد قالها أبو بكر بعينها.
وأما كلمة (حسبنا كتاب الله) وإن لم يقلها أبو بكر، فقد قالها
عمر، الذي كان أشد في منع الحديث وتدوينه، بدعوى أنه لا يريد
أن يلبس القرآن بشئ (2).
وعمم ذلك على الناس في كتاب رسمي، فكتب إلى الأمصار
من كان عنده منها شئ، فليمحه (3).
فعمر، هو أول من أفصح عن مقالة (حسبنا كتاب الله) وقد قالها
كلمة جريئة في محضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي أشد
اللحظات حساسية في حياة الرسول صلى الله عليه وآله



(1) تذكرة الحفاظ للذهبي (1 / 3) ولاحظ دراسات حول القرآن والسنة لشعبان
(ص 117) فقد نقل عن الخطابي مثل هذا الكلام.
(2) تقييد العلم (ص 49).
(3) تقييد العلم (ص 53) وجامع بيان العلم (1 / 78) وكنز العمال (10 / 292) ح (29476).
359
وسلم، لما قال صلى الله عليه وآله وسلم: ائتوني بدواة وقرطاس، أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي.
فقال عمر: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غلبه الوجع، وعندنا
كتاب الله حسبنا - وفي لفظ البيهقي: حسبنا كتاب الله -.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قوموا عني (1).
وقد حفظت عن عمر - لا عن غيره - جملة، حسبنا كتاب الله،
ورواها عنه أصحاب الحديث، في المصنفات (2) والمسانيد (3) والصحاح (4)
والسنن (5) والتواريخ (6).
كما نقل عنه قوله: لا كتاب مع كتاب الله، ينهى عن السنة (7).
أما الخوارج، فلم تعهد منهم هذه الكلمة أن اتخذوها شعارا،
أو كرروها، وإنما شعارهم: لا حكم إلا لله، ولذلك يسمون المحكمة (8).
نعم نقل عن عائشة بنت أبي بكر - عندما ردت بعض أحاديث



(1) أثبتنا مصادره في القسم الأول، الفصل الثاني (ص 79 - 80) ولاحظ المصادر في
التعليقات التالية.
(2) المصنف لعبد الرزاق (5 / 438).
(3) مسند أحمد (1 / و 22 و 29 و 32 و 336) و (3 / 346) و (6 / 106 و 116 و 476).
(4) صحيح البخاري في مواضع متعددة، انظر فهارس البخاري لرضوان (ص 12 ح 54).
(5) دلائل النبوة للبيهقي (7 / 183 - 184) باب ما جاء في همه أن يكتب لأصحابه كتابا،
وقال: رواه البخاري ورواه مسلم.
(6) الملل والنحل للشهرستاني (1 / 21).
(7) جامع بيان العلم (1 / 77) وكنز العمال (10 / 292) ح 29475.
(8) لاحظ مفاتيح العلوم للخوارزمي (ص 18).
360
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم - قولها: حسبكم القرآن (1).
وهل تخفى كل هذه الأمور على الذهبي - وهو مؤرخ
الإسلام!؟ (2).
الدعوة إلى نبذ السنة على أساس الاكتفاء بالقرآن، في نظر
المعاصرين:
ولئن صمت الذهبي عن هذه الدعوة، أو تغافل عنها وعن قائلها،
فإن علماء قدامي ومعاصرين، تنبهوا إلى ما تحويه من خطر على
الإسلام، فأعربوا بوضوح عن خبثها وكفر دعاتها:
فقد قال ابن حزم: لو أن امرء قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا
في القرآن، لكان كافرا بإجماع الأم ة، وقائل هذا كافر، مشرك، حلال
الدم والمال! (3).
ويقول الشيخ سليمان الندوي - أحد علماء الهند المعاصرين -: إن
الذين أرادوا، أو يريدون، أن يفرقوا بين القرآن والسنة، فيقبلوا القرآن
ويردوا السنة، قد ابتعدوا عن الصراط المستقيم، أو يبتعدون.
فإنهم يحاولون أن يفهموا من القرآن حسب ما يدركونه بعقولهم
ويجعلوا استنباطهم من القرآن كل ما للإسلام من تعاليم صحيحة
ويكتفوا بذلك دون غيره.



(1) صحيح البخاري كتاب الجنائز (2 / 77) وانظر منهج النقد (ص 54).
(2) وسيأتي مزيد كلام مع الذهبي حول منع أبي بكر للرواية والحديث فانظر (ص 425).
(3) الإحكام في أصول الأحكام (1 / 208) وانظر حجية السنة (ص 255).
361
هيهات! فإنهم مدعون، ضالون (1).
وقال الشيخ المحدث الدكتور محمد أبو شهبة - أستاذ الأزهر -:
قد ظهرت فئة في القديم والحديث، تدعو إلى هذه الدعوة الخبيثة
[وهي الاكتفاء بالقرآن] وغرضهم هدم نصف الدين، أو إن شئت
قلت: تقويض الدين كله.
لأنه إذا أهملت الأحاديث، فسيؤدي ذلك ولا ريب إلى استعجام
معظم القرآن على الأمة، وعدم معرفة المراد منه.
وإذا أهملت الأحاديث واستعجم القرآن، فقل: على الإسلام
العفاء (2).
وقال الأستاذ علي حسب الله: قد ابتلي المسلمون في كل العصور
بمن يحاول صرفهم عن الإسلام، تارة بالطعن في كتابه، وأخرى
بمحاولة انتقاصه من أطرافه، بالطعن في السنة التي تفصل ما أجمل منه،
وتوضح ما خفي.
وكأنهم حين وقفوا من القرآن أمام جبل شامخ لا يلين، رجعوا
- بعد العناء - بخفي حنين، ظنوا أنهم قادرون على النيل منه بتوهين السنة
التي هي عماد بيانه، فسلكوا لذلك طرقا، وتكلفوا شططا:
فمنهم من طعن في متن الحديث، فأنكر منه ما لم يوافق هواه،



(1) نقلنا مضمون كلامه من مقدمته لكتاب تدوين حديث لمناظر أحسن كيلاني
(ص ج - ح).
(2) في رحاب السنة (ص 13) ودفاع عن السنة (ص 15 - 16).
362
ومنهم من ادعى انقطاع الصلة بين الرسول وما يروى عنه، وتعذر
تمييز الصحيح من السقيم، لإهمال تدوينه نحو قرن من الزمان.
فدعا إلى إهمال الحديث جملة، والاكتفاء بالقرآن الكريم.
ومن المؤسف أن يقول بهذا الرأي من يزعم أنه من المسلمين (1).
ومما يدل على أن هذه الدعوة فاسدة هو تذرع الظالمين بها، فهذا
عقبة بن نافع، الذي ولي لمعاوية، وغزا إفريقية ثم ولي ليزيد - يقول في
وصيته إلى ولده: لا تقبلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله إلا
عن ثقة... ولا تكتبوا ما يشغلكم عن القرآن (2).
فالثقة الذي يعتمد عليه مثل هذا الوالي معلوم من هو؟
ونغمة الاشتغال عن القرآن، مصدرها المانعون عن كتابة السنة،
كما هو واضح بأدنى التفات.
ثم جاء في آخر الزمان من يشعل فتيل هذه الفتنة، وينعق بما لا يعقل
من ضجيجها، في ما نقله الشيخ زيني دحلان من:
أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب - مبتدع الدعوة الوهابية - كان
يضمر في نفسه دعوى النبوة وأنه رفض الاحتجاج بالسنة وتظاهر
باتباع القرآن (3). على طريقة: حسبنا كتاب الله، أو: بيننا وبينكم
كتاب الله.



(1) السنة قبل التدوين، المقدمة (ص: د ه‍).
(2) مختصر تاريخ دمشق (17 / 111).
(3) خلاصة الكلام لدحلان (ص 229 - 231).
363
وصاحب مجلة (المنار) رشيد رضا الذي نشر في العددين
(7 و 12) من السنة التاسعة مقالين للدكتور توفيق صدقي يعلن فيهما
ذلك الرأي تحت عنوان: الإسلام هو القرآن وحده (1).
أقول: والأنكى من ذلك أن يتسمى أتباع هذه الدعوة بأهل
السنة، وأن يعنونوا هذه الدعوة الخبيثة بالدعوة الإسلامية، أو السلفية،
أو العمل الإسلامي، وما أشبه من الأسماء الكريمة، لتنطلي مكيدتهم
على الأمة المحمدية، تحت تلك العناوين، ويكسبوا لأنفسهم حصانة
يحتمون بها.
وهذا ما أدى بالمسلمين إلى ما نراه من الذل والهوان، بالوقوع تحت
نير المستعمرين، وأذنابهم من الخونة المتحكمين على دين الأمة ودنياها
باسم الإسلام.



(1) دراسات حول القرآن والسنة للدكتور شعبان (ص 171)
364
الفصل الرابع
الاستغناء بالحفظ عن التدوين
ومما ذكر مبررا للمنع هو أن المسلمين في الصدر الأول، لم يكونوا
بحاجة إلى تدوين الحديث في الكتب، لاعتمادهم على الذاكرة وتمتعهم
بقوة الحفظ فلقد بلغوا القمة في هذه القابلية، بما هو خارق للعادة.
وقد نقل هذا عن أبي سعيد الخدري - وهو من كبار المانعين من
التدوين -.
فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحدثنا، فنحفظ،
فاحفظوا عنا كما كنا نحفظ عن نبيكم (1).
وعن أبي موسى الأشعري، أنه - لما جئ بما كتبه ابنه أبو بردة - دعا
بماء، وغسله، وقال: احفظوا عنا كما حفظنا (2).
ونقل ذلك عن التابعين:



(1) تقييد العلم (ص 36) وجامع بيان العلم (1 / 64).
(2) تقييد العلم (ص 40).
365
قال أبو طالب المكي: كره كتب الحديث الطبقة الأولى من التابعين
فكانوا يقولون: احفظوا كما كنا نحفظ (1).
وقال ابن الصلاح: لعله صلى الله عليه وآله وسلم أذن في الكتابة
لمن خشي عليه النسيان، ونهى عن الكتاب عنه من وثق بحفظه، مخافة
الاتكال على الكتاب (2).
وقال ابن الأثير: كان اعتمادهم - أولا - على الحفظ والضبط في
القلوب والخواطر، غير ملتفتين إلى ما يكتبونه، ولا معولين على
ما يسطرونه محافظة على هذا العلم، كحفظهم كتاب الله عز وجل
فلما انتشر الإسلام، واتسعت البلاد، وتفرقت الصحابة في الأقطار،
وكثرت الفتوح، ومات معظم الصحابة، وتفرق أصحابهم وأتباعهم،
وقل الضبط، احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة (3).
وقال السمعاني: كانوا يكرهون الكتاب أيضا، لكي لا يعتمد
العالم على الكتاب، بل بحفظه... فلما طالت الأسانيد، وقصرت
الهمم، رخص في الكتابة (4).
وقال القاضي عياض: روي كراهة ذلك... مخافة الاتكال على
الكتاب، وترك الحفظ، ومنهم من كان يكتب فإذا حفظ محا، والحال



(1) قوت القلوب (1 / 159).
(2) مقدمة ابن الصلاح (ص 301) علوم الحديث له (ص 182).
(3) جامع الأصول (1 / 40).
(4) أدب الإملاء والاستملاء (ص 147).
366
- اليوم - داعية لكتابته، لانتشار الطرق، وطول الأسانيد، وقلة الحفظ،
وكلال الأفهام (1).
وقال ابن حجر: اعلم أن آثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم
لم تكن في عصر أصحابه وكبار تابعيهم مدونة في الجوامع، ولا مرتبة،
لأمرين:
أحدهما: أنهم كانوا في ابتداء الحال قد نهوا عن ذلك.
وثانيا: لسعة حفظهم وسيلان أذهانهم (2).
وقد علل السيوطي عدم التدوين بذلك، أيضا (3).
وقال أبو زهو: وشئ آخر جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ينهاهم (!) عن كتابة الحديث، هي المحافظة على تلك الملكة التي
امتازوا بها في الحفظ، فلو أنهم كتبوا لاتكلوا على المكتوب، وأهملوا
الحفظ فتضيع ملكاتهم بمرور الزمن (4).
وقال الشيخ عبد الغني: القول الثاني: إنه نهى عن كتابتها خوف
اتكالهم على الكتابة وإهمالهم الحفظ الذي هو طبيعتهم وسجيتهم،
وبذلك تضعف فيهم ملكته... ولذلك كان هذا النهي خاصا بمن كان
قوي الحفظ آمنا من النسيان (5).



(1) الإلماع (ص 149).
(2) هدي الساري (ص 4).
(3) تدريب الراوي (1 / 40).
(4) الحديث والمحدثون (ص 123) ولاحظ (ص 49 - 50).
(5) حجية السنة (ص 428).
367
المناقشات في هذا من وجوه:
الأول: إن القائلين بهذا التوجيه اختلفوا في تقريره، فبينما نسبه
بعضهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه هو نهى عن الكتابة
لأجل هذا التوجيه بالخصوص، نرى سائرهم يجعل ذلك سببا لترك
المسلمين - هم أنفسهم - للتدوين.
وكلامنا مع الأولين: أنهم فرضوا نهيا صادرا من النبي صلى الله
عليه وآله وسلم، ثم صاروا إلى توجيهه بما ذكر، مع أنا قد عرفنا في
الفصل الأول من هذا القسم: أنه لم يرد حديث مرفوع متصل
يصح، ويعتمد عليه كحجة شرعية.
ومع ذلك فلم يرد في ما احتجوا به ذكر لمسألة الحفظ، بل،
ولا إشارة إلى ذلك، فليس نسبة ذلك التعليل إلى الشرع إلا رجما بالغيب
وإلحادا في كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
فنسبة هذا الوجه إلى الشارع الكريم نسبة ظالمة، غير صحيحة.
وكلامنا مع الآخرين - بعد فرض أن هذا التوجيه ليس واردا من الشرع،
وإنما توجيه لرغبة المانعين أنفسهم -:
أنه لا ريب في أن المسلمين كانوا يتمتعون بقدرة فائقة على
استظهار النصوص وحفظها في الخواطر، وتلك فضيلة جليلة تميز بها
أسلافنا الكرام.
ولا ريب - أيضا - في أن استخدامها في الأمور الشرعية، أفضل
وأحسن، وخاصة استظهار القرآن الكريم والسنة الشريفة.

368
ولكن لا يلزم من فضل ذلك وحسنه أن تكون الكتابة محرمة
شرعا، ومنهيا عنها! إذ لا ملازمة بين الأمرين، فلذا كان بعضهم
يكتب فإذا حفظ محا، كما نقله القاضي عياض.
وعلى فرض أنهم كانوا يكرهون الاتكال على الكتاب - ومجرد
الكراهة لا تعني الحرمة الشرعية، بل تعني عدم الرغبة فيها - فسببه
- كما يتوهم أن ذلك يؤدي إلى ضعف الحافظة لدى
الكاتب، ويوهن من عزمه على الضبط في الخواطر، لأن ما يريد حفظه
مسجل في الكتاب.
فضنا منهم بقوة الحفظ - هذه الخصلة الحسنة - ألا تزول عنهم،
كانوا يكرهون الكتاب، وذلك لا يعني مطلقا حرمة الكتابة شرعا.
فوجود هذه القوة دليل على عدم لجوئهم إلى الكتابة لرغبتهم عنها
- إن صح التعبير - لا على حرمتها شرعا.
قال الشيخ عبد الغني عبد الخالق: الحفظ والكتابة يتناوبان في
المحافظة على الشرع، وفي الغالب يضعف أحدهما إذا قوي الآخر، ومن
هنا قد نفهم سببا من الأسباب التي حملت الصحابة [وليس الرسول] على حث تلاميذهم
على الحفظ، ونهيهم إياهم عن الكتابة!
وذلك لأنهم كانوا يرون أن الاعتماد على الكتابة تضعف فيهم
ملكة الحفظ، وهي ملكة طبعوا عليها، والنفس تميل إلى ما طبعت
عليه، وتكره ما يخالفه ويضعفه (1).



(1) حجية السنة (ص 405).
369
وهذا الكلام ليس فيه وراء الخطابة أمر علمي ولا استدلال بشئ،
بل هو بعيد عن الموضوعية، حيث إن البحث إنما هو عن حرمة التدوين!
وأين كل هذا الكلام من ذلك، فهو إنما ينفق في سوق الرغبات
والطبائع وما تحب أو تكره!
وهل هذا يوجب ترك أمر شرعي مهم - كالحديث النبوي الشريف - عرضة للنسيان
وغيره من آفات الذاكرة، وعدم ضبطه وتوثيقه بالكتابة والتدوين؟!
هذا ما في هذا التوجيه، أولا.
وثانيا:
أن حفظ النصوص الشرعية على ظهر الخاطر، سواء كان القرآن
الكريم أو السنة الشريفة، ليس مما نص على وجوبه شرعا، فلا يعلق عليه
أمر واجب شرعا، ومهم مثل صيانة السنة والحديث.
فهنا أمران:
1 - وجوب صيانة السنة والحديث، والمحافظة عليهما، كفاية.
2 - عدم وجوب حفظ ذلك على الخواطر، واستظهاره بظهر
الغيب.
أما الأول: أي وجوب صيانة السنة والحديث، فلما يلي:
1 - أن السنة والحديث الشريف يتوقف عليهما مهمات هذا الدين،
فأكثر أحكامه الشرعية يؤخذ منهما، وكثير من أبعادها وشروطها
وتفاصيلها يعرف بهما، ولولا السنة لما بقي من الدين إلا القليل.

370
ولا ريب أن المحافظة على أحكام الدين وتفاصيل الشريعة من أهم
الواجبات على المسلمين، وإذا توقف أداؤها على شئ وجب ذلك
توصلا إلى الواجب، كما تقرر في أصول الفقه.
2 - أن الأوامر الشرعية بوجوب الالتزام بالسنة، ووجوب اتباعها،
بل وكفر مخالفها ومعارضها، كثيرة جدا.
وقد ثبتت حجية السنة بالكتاب، وبالسنة القطعية، وبالإجماع
على أن ما حكم به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فهو حكم الله،
كما فصل ذلك في بابه من كتب الأصول، وكتب الحديث (1).
وإذا كانت السنة بهذه المكانة وجب حفظها، توصلا إلى
العمل بها، لأن الإخلال بذلك إخلال بها وتقصير في حقها، وهو
مناف لوجوبها.
3 - قد صرح العلماء بأن تصنيف العلوم فرض كفاية، ولا ريب أن
الحديث الشريف وعلومه هو من أفضل العلوم بعد كتاب الله وعلومه،
فكتابته فرض أيضا.
قال الزركشي في قواعده: إن تصنيف العلوم فرض كفاية
على من منحه الله فهما وعلما، فلو ترك التصنيف لضيع العلم
على الناس (2).



(1) وقد أفرد لهذا البحث كتاب حجية السنة الدكتور الشيخ عبد الغني عبد الخالق
المصري، أستاذ الأزهر، ورئيس قسم أصول الفقه في كلية الشريعة.
(2) قواعد التحديث للقاسمي (ص 37).
371
وأما الثاني - أي عدم وجوب حفظ ذلك على الخواطر -: فمع
تسليم أن حفظ الحديث على الخاطر من الفضائل والمكارم، إلا أن ذلك
ليس من الواجبات، وذلك:
1 - للاتفاق على عدم عده من الواجبات على المسلم، المفروضة
عليه عينا، لا وجوبا نفسيا، ولا وجوبا تبعيا، إلا إذا تعلق به نذر أو عهد
أو يمين، وذلك حكم خاص بالمكلف بأحد هذه الأمور.
أما أن يكون حفظ الحديث على الخاطر واحدا من الواجبات
الأولية على المسلمين، فلم نقف له على قائل.
ولا أد ري: لماذا يؤكد هؤلاء - دعاة النهي عن التدوين - على
الحفظ والحافظة والذكر والذاكرة، على حساب الكتاب والكتابة والتدوين؟
ولماذا يتهالكون هكذا على رعاية الحفظ، بينما لم نجد في روايات
الشرع وآياته ما يدل على لزوم الحفظ عشر معشار ما ورد من الروايات التي تدل على ضرورة
الكتاب ولزوم الكتابة؟
فإذا كان الحفظ بتلك المنزلة من الأهمية، فلماذا لم يصرح الشارع
في شئ من النصوص، وحتى في شئ من روايات التدوين إذنا ومنعا،
على التأكيد عليه والحث على المواظبة عليه!
بينما وردت تلك المجموعة الكبيرة من الآيات والروايات والآثار
المرتبطة بالكتاب والكتابة وأدواتها، التي تشعر - بوضوح عن رغبة الشارع
في التدوين! (1).



(1) قد ذكرنا في القسم الأول هنا مجموعة من تلك النصوص.
372
2 - أن حصول الإنسان على قوة الحفظ والذكر على الخاطر،
ليس أمرا اختياريا، إنما هي موهبة إلهية، أو تحصل للفرد نتيجة لأسباب
تكوينية، أو بمعالجات عرضية خاصة، ليست موفرة بسهولة ويسر لكل
أحد (1) ولم يطلب في الشرع تحصيل تلك الأسباب والمعالجات
بالوجوب والفرض.
فكيف يكلف المسلم بحفظ الحديث وإثباته في الخاطر، مع عدم
وجوب تحصيل تلك القوة؟ وكيف يعلق أمر واجب مهم كحفظ
الحديث وصيانته، على أمر غير اختياري؟!
فالملاحظ - بالوجدان - أن هذه القوة ليست موجودة عند أفراد
الأمة كلهم، بل المبتلون بعوارض النسيان منهم أكثر من الحفاظ الأذكياء
الذين يعدون في النوادر.
قال الأستاذ يوسف العش في تصديره القيم لكتاب تقييد العلم:
لئن كان هذا الرأي يفخر بالحافظة العربية التي لا تحفل بالتقييد،
لأن لها من قوتها ما يسعفها بالتقاط العلم وعدم نسيانه... فهو ييسر
سبيل الطعن على علم العرب، فذاكرة أكثر الناس أضعف من أن تتناول
مادة العلم بأجمعه، فتحفظها من الضياع، وتقيها من الشرود، ومهما
قويت عند أناس فلا بد أن تهن عند آخرين فتخونهم وتضعف
معارفهم (2).



(1) لاحظ كتاب الحطة للسيد صد يق حسن خان (ص 47).
(2) تقييد العلم (ص 8) من التصدير. ثم هل الحديث الشريف خاص بالعرب!
373
ومن هنا نعرف مدى التعنت في جواب أبي سعيد الخدري، لقول
أبي نضرة: لو كتبتم لنا فإنا لا نحفظ.
حيث أجاب أبو سعيد بقوله: لا نكتبكم... فاحفظوا (1).
فنجد أن الراوي يستغيث إلى أبي سعيد من عدم الحفظ - ولعله
كان قد احتاط للأمر بذكر أضعف الأحوال وأبعد المحتملات، وهي
صورة عدم إمكان الحفظ - لكن أبا سعيد أصر على رأيه بلزوم الحفظ،
أليس هذا من التكليف بما لا يطاق، الذي تأباه العقول؟.
وهلا تعلم أبو سعيد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو
الصادع بالشريعة، حيث قال - لمن شكا إليه سوء الحفظ -: استعن
بيمينك؟!.
وهل علينا أن نجعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أسوة،
وكلامه حجة، أو أن نلتزم بكلام أبي سعيد؟! وأمره!
3 - أن القرآن الكريم، وهو الوحي الإلهي المقدس، مع أن نصه
محدود بما بين الدفتين، والحفاظ عليه واجب عين، ومن ضروريات الدين، وبديهيات
الشرع المبين، بل من أبده الواجبات على المسلمين، وقد ورد التأكيد من
الشرع الشريف على استحباب حفظه على الخواطر (3) لكن لم يقل أحد
بوجوب حفظه على الخاطر، بل نجد المسلمين - منذ الصدر الأول وحتى
اليوم - يهتمون بكتابته، وتدوينه، وتسجيله بشتى الوسائل والصور،



(1) تقييد العلم (ص 36).
(2) لاحظ أربعون حديثا للبكري (ص 69).
374
بل في الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يشرف بنفسه
مباشرة على كتابته منذ طلاوة نزوله.
فلو كان الحفظ على الخاطر واجبا في شئ، لكان في القرآن
أوجب.
ولو كانت سعة الحفظ وقوة الحافظة مانعة عن كتابة شئ لكانت
أمنع ما تكون عن كتابة القرآن (1).
وإذا لم يكن كذلك، ولم تكن الكتابة مانعة عن الحفظ،
بل مؤكدة له - كما سيأتي - فليكن في الحديث كذلك.
هذا ما يبدو لنا من المناقشة في هذا التبرير ثانيا.
وأما ثالثا:
فلأن الكتابة لا تنافي الحفظ على الخاطر، بل هي مؤكدة له،
وموجبة لقوته.
وقد رأينا أن القرآن الكريم قد حث الشرع على حفظه على الخاطر
واستظهار آياته، وحث - كذلك - على كتابته وتدوينه وزاول أمر كتابته كتاب
الوحي، تحت إشراف الشارع نفسه، وثابر المسلمون على كتابته مدى
القرون، من دون أن يكون لذلك تأثير في أمر حفظه.
ولذا قد جاء في الحديث الشريف، عن الإمام أبي عبد الله الصادق
عليه السلام قوله: القلب يتكل على الكتابة (2).



(1) لاحظ الفوائد الطوسية للحر العاملي (ص 242) الفائدة (57).
(2) الكافي للكليني (1 / 42) ح 8 باب رواية الكتب، كتاب فضل العلم.
375
وقد مر بنا الحديث عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام
أنه قال - لكبير رواة عصره أبي بصير -: اكتبوا، فإنكم لا تحفظون
حتى تكتبوا (1).
فجعل الإمام عليه السلام الكتابة من أقوى وسائل الحفظ على
الخاطر، وهذا هو الواقع الذي أكدته التجربة، حيث أن الكاتب للنص
يستعمل حين الكتابة عينه التي ترى النص، ويستعمل يده التي تكتب
النص، ويتابع بفكره ما يكتبه، فهو في حالة واحدة، يتصل بالنص
اتصالات ثلاثة، وهذا يؤدي إلى ثبوت النص في ذاكرته بشكل أقوى،
ويتركز على خاطره بشكل آكد.
وبذلك نعرف مدى بعد المانعين للتدوين عن الصواب والحكمة.
وقد أفصح الحفاظ للحديث عن حاجتهم الملحة إلى الكتب، فكم
من حافظ كتب الحديث، وكم من كاتب حفظ الحديث؟؟ بل نجد في
المؤلفين للكتب الواسعة من هم أكثر الناس حفظا.
قال ابن المبارك: لولا الكتاب ما حفظنا (2).
وقال الشافعي: اعلموا - رحمكم الله - إن هذا العلم يند كما تند
الإبل، فاجعلوا الكتب له حماة، والأقلام عليه رعاة (3).
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: ما رأيت أبي - على حفظه -



(1) الكافي للكليني (1 / 42) ح 9 باب رواية الكتب، كتاب فضل العلم.
(2) تقييد العلم (ص 114).
(3) تقييد العلم (ص 114).
376
حدث من غير كتاب، إلا أقل من مائة حديث (1).
وقال جعفر الطيالسي: ينبغي لطالب الحديث أن يتزر بالصدق،
ويرتدي بالكتاب (2).
وقد ندم جمع من المحدثين على محو الحديث:
قال عروة بن الزبير (ت 94 ه‍): كتبت الحديث، ثم محوته،
فوددت أني فديته بمالي وولدي وأني لم أمحه (3).
وقال منصور بن المعتمر: وددت أني كتبت، وأن علي كذا
وكذا، قد ذهب عني مثل علمي (4).
فكيف تكون الكتابة منافية للحفظ، مع أن هؤلاء الحفاظ يتمنون
الكتابة؟!
وكيف يراد الاعتماد على مجرد الحفظ، مع أن زيد بن أرقم - وهو
من رواة الصحابة المكثرين - يصر ح بعروض النسيان عليه، فيقول
حصين بن سبرة له: لقيت - يا زيد - خيرا كثيرا، رأيت رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، وسمعت حديثه، وغزوت معه، وصليت معه،
لقد رأيت - يا زيد - خيرا كثيرا، حدثنا - يا زيد - ما سمعت من
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟!



(1) الإلماع للقاضي عياض (ص 225) وأدب الإملاء والاستملاء (ص 47).
(2) أدب الإملاء والاستملاء (ص 47).
(3) تقييد العلم (ص 60).
(4) تقييد العلم (ص 60) ولاحظ تذكرة الحفاظ للذهبي (1 / 142) فإنه نقل عنه فقط قوله:
ما كتبت حديثا قط!.
377
فقال زيد: يا بن، والله، لقد كبرت سني، وقدم عهدي،
ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
فما حدثتكم فاقبلوه، وما لا فلا تكلفونيه... (1).
ورابعا:
أن الاعتماد على مجرد الحفظ يؤدي إلى الأوهام والأخطاء في
الحديث ولا يخفى أن اجتناب الخطأ في الحديث أمرا ضروري وواجب
لخطورة أمره، لأنه منسوب إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم،
وتبتني عليه أحكام الشرع، فإهمال أمره يؤدي إلى التحريف في الدين،
والتهاون بأمر الشرع المبين.
ولا ريب في أن الكتابة هي الوسيلة الموجبة للإتقان، الذي هو
المطلوب في مثل هذا المقام الخطير.
وقال ابن الأثير - وهو يتحدث عن الكتابة -: لعمري إنها الأصل،
فإن الخاطر يغفل والذهن يغيب والذكر يهمل، والقلم يحفظ
ولا ينسى.
وكان أيوب بن عيينة (ت 160 ه‍) يحدث من حفظه على التوهم،
فيغلط وأما كتبه - في الأصل - فهي صحيحة (3).
وقد أخطأ أبو داود الطيالسي (ت 203 ه‍) في ما حدث من حفظه،



(1) مسند أحمد (4 / 366).
(2) جامع الأصول (1 / 40).
(3) العلل لابن أبي حاتم (ص 40) تهذيب التهذيب (1 / 409).
378
وحاول تصحيحه (1).
وقال ابن شبة البصري: كان عبد العزيز كثير الغلط في حديثه، لأنه أحرق
كتبه، فإنما كان يحدث بحفظه (2).
وقال أحمد بن حنبل: حدثونا قوم عن حفظهم، وقوم من كتبهم،
فكان الذين حدثونا من كتبهم أتقن (3).
وقال أحمد أيضا: لولا كتابته - أي الحديث - أي شئ
كنا نحن! (4).
وقيل لأحمد: من أحب إليك يونس، أو إسرائيل؟
قال: إسرائيل، لأنه كان صاحب كتاب (5).
وعطاء بن مسلم الخفاف دفن كتبه، ثم روى من حفظه فوهم (6).
وحدث محمد بن إبراهيم بن مسلم البغدادي (ت 273 ه‍) من حفظه
فأخطأ، فقال ابن حبان: لا يعجبني الاحتجاج إلا بما حدث من كتابه (7).
وقد جعل الحازمي - في الترجيحات بين الحديثين المتعذر الجمع
بينهما - الوجه الرابع والعشرين: أن يكون راوي أحد الحديثين مع حفظه



(1) تهذيب التهذيب (4 / 186).
(2) أخبار المدينة المنورة (1 / 123).
(3) تقييد العلم (ص 115).
(4) تقييد العلم (ص 115).
(5) تهذيب التهذيب (1 / 262).
(6) تهذيب التهذيب (7 / 211 - 212).
(7) تهذيب التهذيب (9 / 15 - 16).
379
صاحب كتاب يرجع إليه، والراوي الآخر حافظ غير أنه لا يرجع
إلى كتاب، فالحديث الأول أولى أن يكون محفوظا، لأن الخاطر قد
يخون أحيانا.
وقال علي بن المديني: قال أحمد: لا تحدثن إلا من كتاب (1).
وقد بالغ يحيى بن معين في قوله: كتبت بيدي ألفا ألف حديث،
وقال: لو لم نكتب الحديث خمسين مرة ما عرفناه (2).
وقال ابن المديني: انتهى علم الناس إلى ابن معين، وكنت
إذا قدمت إلى بغداد منذ أربعين سنة، كان الذي يذاكرني
أحمد بن حنبل، فربما اختلفنا في الشئ، فنسأل يحيى بن معين،
فيقوم فيخرجه، ما كان أعرفه بموضع حديثه؟ (3).
ومن المنقول عن ابن معين قوله: إظهار المحبرة عز (4).
وقال الماوردي: ربما اعتمد [المحدث] على حفظه وتصوره، وأغفل تقييد
العلم في كتبه، ثقة بما استقر في ذهنه، وهذا خطأ منه، لأن الشك
معترض، والنسيان طارئ.
قال الخليل بن أحمد: اجعل ما في الكتب رأس المال، وما في
قلبك النفقة (5).



(1) الاعتبار للحازمي (ص 17) وانظر أدب الإملاء (ص 47).
(2) تذكرة الحفاظ للذهبي (2 / 430).
(3) تذكرة الحفاظ (2 / 429) تهذيب التهذيب (11 / 280).
(4) الكامل لابن عدي (1 / 133).
(5) وأدب الدنيا والدين (ص 66).
380
وقال ابن الجوزي - بعد أن عد دفن الكتب وإبادتها من تلبيس
إبليس - ما نصه: إعلم أن القلوب لا تبقى على صفائها، بل تصدأ،
فتحتاج إلى جلاء، وجلاؤها النظر في كتب العلم (1).
وقد أصبحت الكتابة أمرا تساوي التحديث في الأهمية والاعتبار
حتى صح القول بأن القلم أحد اللسانين (2).
وأثر عن السلف قولهم: ما كتب قر، وما حفظ فر.
وقال الدكتور يوسف العش: العلم يأبى الخيانة، ويبتغي
الإخلاص، ولا نصير له إلا التقييد، ولا حافظ من ضياعه إلا التدوين (3).
وللدكتور فؤاد سزكين رأي يقول: إن طرق تحمل الحديث تعتمد
أساسا على النصوص المكتوبة، فيقول: في كل الحالات... نرى أنه ليس
للحفظ دور إلا في الحالتين الأولتين - وهما السماع والقراءة - والواقع
أن النصوص المدونة كانت ضرورية في هاتين الحالتين - أيضا - ويعتقد:
وأنه لم ينظر في النقل - منذ البداية - إلا إلى النصوص المدونة،
وأن الأسانيد تتضمن أسماء المؤلفين (4).
.



(1) نقد العلم والعلماء (ص 317).
(2) نقل هذا من قول أبي دلف العجلي في أدب الكتاب للصولي (ص 74)
وانظر أدب الإملاء للسمعاني (ص 159) ومغني اللبيب لابن هشام (ص 587)
والتمثيل والمحاضرة (ص 155)
(3) تقييد العلم، التصدير (ص 8).
(4) تاريخ التراث العربي (1 مجلد / 1 / 231) وانظر (ص 242) ولاحظ توثيق السنة
(ص 164) وكتابنا، الطرق الثمان لتحمل الحديث وأدائه. وقد تعرضنا للبحث المذكور
في كتابنا (إجازة الحديث) فراجع.
381
وقال الدكتور رفعت: الحقيقة أن الكتاب لعب دورا هاما في
توثيق الأحاديث، وإعانة العلماء على حفظ مروياتهم من غفلة
ذاكرتهم، وعلى حفظ مروياتهم أيضا من أن تتهم عندما يخالفهم فيها
غيرهم (1).
بعض المقارنات بين الحفظ والكتابة:
1 - الكتاب لا يعارض الحفظ، بل يساويه في المحافظة على النص:
جعل الشافعي الكتابة مع السماع في مرتبة واحدة، فقال - في
صفة الراوي -: حافظا إن حدث من حفظه، حافظا (2) لكتابه إن حدث
من كتابه، إذا شرك أهل الحفظ في الحديث وافق حديثهم (3).
وقال الدكتور رفعت: يكون الضبط بأحد طريقين، أو هما معا
الاستعانة بالذاكرة إن كان قد رزق ذاكرة حافظة تعي ما تأخذ
وتحفظه.
والاستعانة بالكتاب الذي يودعه مروياته، ويصونه، فيعتمد عليه
كلية، أو عونا له على حفظه بذاكرته (4).
وقال: وأعلى درجات الضبط: حفظ الذاكرة مع الكتاب،
أي اتخاذ الطريقين معا.



(1) توثيق السنة (ص 164).
(2) أتصور أن هذه الكلمة مصحفة عن (ضابطا) ليناسب التحديث من الكتاب،
ولتتم المقابلة بينه وبين التحديث من حفظه، فلاحظ.
(3) الرسالة للشافعي (ص 371).
(4) توثيق السنة (ص 161).
382
يقول أحمد: إن يحيى بن سعيد أثبت من وكيع، وعبد الرحمن
ابن مهدي، ويزيد بن هارون، وأبي نعيم، وهؤلاء كلهم أئمة، لأنه
كان يضم إلى حفظه كتابة ما يسمعه (1).
والذي يدون الأحاديث هو أروى من غيره:
يقول ابن المبارك: ما رأيت أحدا أروى من الزهري عن معمر،
إلا ما كان من يونس، فإن يونس كتب كل شئ (2).
3 - الحفظ لا يغني عن الكتاب:
قال المعلمي: كان المتثبتون لا يكادون يسمعون من الرجل إلا من
أصل كتابه، كان عبد الرزاق الصنعاني ثقة حافظا، ومع ذلك لم يسمع
منه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، إلا من أصل كتابه (3).
وأحمد بن حنبل، قال فيه ابن المديني: ليس في أصحابنا
أحفظ منه،... كان لا يحدث إلا من كتاب، ولنا فيه أسوة حسنة (4).
3 - عدم الكتابة قد يؤدي إلى الاضطراب:
قال أحمد - في عكرمة بن عمار -: أحاديثه عن يحيى ضعاف،



(1) الجرح والتعديل للرازي، التقدمة (1 / 246) توثيق السنة (ص 162)
(2) العلل لابن حنبل (1 / 19) والجرح والتعديل، التقدمة (1 / 295) وتوثيق السنة
(ص 162).
(3) الأنوار الكاشفة (ص 80 - 81).
(4) تهذيب الكمال، للمزي (1 / 452).
383
ليست بصحاح وكذلك قال يحيى القطان، والسبب - كما يقول
البخاري -: أنه لم يكن له كتاب، فاضطرب حديثه (1).
4 - الاحتكام إلى الكتب:
قال عبد الله بن المبارك: إذا اختلف الناس في حديث شعبة،
فكتاب غندر حكم بينهم (2).
وأنكروا حديثا على ابن جريج، فلجأ إلى كتابه، وقال: ها،
أخبرني أبو جعفر محمد بن علي عليه السلام (3).
وقال الشافعي: من كثر غلطه من المحدثين، ولم يكن له أصل
كتاب صحيح، لم يقبل حديثه (4).
5 - الحفظ ليس بشرط:
قال البزار في عاصم بن أبي النجود: لا نعلم أحدا ترك حديثه
مع أنه لم يكن بالحافظ (5) وقال التهانوي معلقا عليه: فالحفظ ليس شرطا لصحة الحديث (6).



(1) الجرح والتعديل للرازي، التقدمة (1 / 136) وميزان الاعتدال (3 / 90)
وتوثيق السنة (ص 163).
(2) الجرح والتعديل، للرازي، التقدمة (1 / 271).
(3) العلل لابن حنبل (1 / 113) وانظر توثيق السنة (ص 4 - 165).
(4) مناقب الشافعي للبيهقي (2 / 27) وانظر نحوه في كتب حوض القاضي،
الكامل لابن عدي (1 / 134).
(5) هدي الساري (2 / 175).
(6) قواعد في علوم الحديث (ص 413) رقم (65).
384
ونقل ابن حجر في ترجمة عبد الواحد بن زياد العبدي عن القطان
أنه أشار إلى لينه فقال: ما رأيته طلب حديثا قط، وكنت أذاكره بحديث
الأعمش فلا يعرف منه حرفا.
قال ابن حجر: قلت: وهذا غير قادح، لأنه كان صاحب كتاب،
وقد احتج به الجماعة (1)
وعلق التهانوي: أي لم يكن يحدث من حفظه، ومن كان
يحدث من الكتاب فلا عبرة بحفظه، وإنما الاعتماد على كتابه (2).
6 - وأخيرا: هل الحفظ أعظم فائدة من الكتابة، وأجدى نفعا؟
وهل الكتابة دون الحفظ قوة؟!
لقد أثار الشيخ الدكتور عبد الغني عبد الخالق هاتين الدعويين،
فلا بد من معرفة الحقيقة فيهما، والإجابة عن ذينك السؤالين:
أما الأول: فقد قال فيه: إن الحفظ في الغالب لا يكون
إلا مع الفهم، وإدراك المعنى والتحقق منه، حتى يستعين بذلك على عدم
نسيان اللفظ، ثم إنه يحمل المرء على مراجعة ما حفظه واستذكاره
آنا بعد آن، حتى يأمن زواله، ثم إن محفوظه يكون معه في صدره
في أي وقت، وفي أي مكان، فيرجع إليه في جميع الأحوال عند
الحاجة، ولا يكلفه ذلك الحمل مؤونة ولا مشقة بخلاف الكتابة (3).



(1) هدي الساري (2 / 188).
(2) قواعد في علوم الحديث (ص 418) رقم (77).
(3) حجية السنة (ص 405).
385
ثم ذكر نقيض كل تلك الأمور في الكتابة، حتى قال: وبذلك
كله يكون نقلة العلم جهالا، مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفارا، وأعظم
به سببا في ضياع العلم، وانتشار الجهل.
أقول: ليس هذا الكلام كله إلا مغالطة، فإن ما ذكره من الفوائد
للحفظ ليست ملازمات له بالخصوص، دون الكتابة:
1 - فليس الحفظ ملازما للفهم:
بل، كثير مما يحفظ يبقى غير مفهوم، وكثير ممن يحفظ لا يفهم
محفوظاته، كما أن كثيرا مما يفهم لم يكن محفوظا على الخاطر، وكثير
ممن يفهم لا يحفظ!
والفهم أمر آخر، له أسبابه ومكوناته، بلا ارتباط له بالحفظ
أو الكتابة، وإن كان أحدهما أو كلاهما مؤثرا في حصوله
أو سرعته أحيانا.
بل، قد اشتهر بين أهل العلم - عندنا -: أن الحفاظ من الطلبة
غير جيدي الذكاء أو غير سريعي الفهم، والذين يفهمون بجودة ضعيفو
الذاكرة غالبا!
وقد نقل عن الحكماء قولهم: إن الفهم والحفظ لا يجتمعان
على سبيل الكمال، لأن الفهم يستدعي مزيد رطوبة في الدماغ والحفظ
يستدعي مزيد يبوسة فيه، والجمع بينهما على سبيل التساوي
ممتنع عادة (1).



(1) الحطة لصديق حسن خان (ص 47).
386
2 - وليس الحفظ معينا على التحقق من المعنى أكثر من الكتابة:
أليس الكتاب هو المتوفر عند الإنسان دائما، ويمكنه مراجعته مكررا،
حتى يفهم معانيه، ويتحقق من صحة ما فهمه، كما هو المعمول به عند
العلماء والمحققين؟.
3 - وأما أن الحفظ يحمل المرء على المراجعة:
فقد يقال في خلافه: إن الكتاب بما أنه حرز مأمون، لا يخون،
ولا تعرضه آفات الذاكرة من السهو والنسيان والذهول والغفلة،
فهو أدعى للاعتماد.
4 - وأما مسألة الحمل ومؤونته!
فهذا كلام ينفذ في سوق الحمالين، ولا يناسب الاستدلال به في
الكتب العلمية والبحوث التحقيقية، فهل بإمكان طالب علم أو عالم أن
يستغني عن الكتب، مهما ثقل وزنها، ومهما كمل حفظه وبلغ علمه،
وهل كل من حمل أسفار الكتب أو امتلكها كان مخطئا يقال له ذلك
المثل، الذي إنما جاء مثلا لمن لا يعمل بعلمه، وإن لم يكن له كتاب!
إن هذه هفوة كبيرة لقدر هذا الدكتور الكبير!
والحق أن لكل من الحفظ والكتابة، ميزات تخصه، ومحسنات
تميزه، وليس القياس بين من يحفظ ولا يكتب، أو من يكتب ولا يحفظ،
قياسا صحيحا، إذ لا منافاة بينهما أساسا، بل الكتابة تزيد الحافظة قوة
وسدادا، وكل واحد منهما ضروري في مجاله الخاص، وعندما
تدعو الحاجة إليه.

387
ولا أدري: كيف يذكر الدكتور هذا الكلام النابي، وهو يجد
للعلماء الحافظين للحديث مؤلفات كتبوا فيها محفوظاتهم!
أما السؤال الثاني، وهو هل أن الكتابة دون الحفظ قوة؟
فقد قال الدكتور فيه: إن الكتابة تفيد الظن - على ما علمت - فهي
دون الحفظ في هذه الإفادة، ولذلك نرى أن علماء الأصول إذا تعارض
حديث مسموع، وحديث مكتوب، يرجحون الأول.
قال الآمدي: أما ما يعود إلى المروي فترجيحات: الأول:
أن تكون رواية أحد الخبرين عن سماع من النبي عليه السلام،
والرواية الأخرى عن كتاب، فرواية السماع أولى، لبعدها عن تطرق
التصحيف والغلط (1).
ونرى - أيضا - أن علماء الحديث - بعد اتفاقهم على صحة رواية
الحديث بالسماع - قد اختلفوا في صحة روايته بطريق المناولة أو المكاتبة.
إلى أن يقول: وبالجملة، فالمكاتبة فيها من الاحتمالات أكثر مما في
التحديث شفاها، ولذلك وقع الخلاف فيها دونه، وإن كان الصحيح
جواز الاعتماد عليها بالشروط التي صرح ببعضها ابن حجر (2).
أقول: إن جعل السماع أولى من الكتابة ليس على إطلاقه، بل في
العلماء من ساوى بينهما، بل منهم من قدم الكتابة عليه.
ثم من قدم السماع إنما علل تقديمه بالبعد عن الغلط



(1) الإحكام للآمدي (4 / 334).
(2) حجية السنة (ص 2 - 403).
388
والتصحيف، فلو تم الضبط في الكتابة بحيث حصل فيها الأمن،
لم تبق للسماع مزية، مضافا إلى ما فيها من مزايا الثبوت والاستمرار
التي يفتقدها السماع.
ونحن إنما نتحدث عن الكتابة الجامعة لشرائط الصحة والضبط!
وقد تحدثنا عن رتبة الكتابة بين طرق التحمل في كتابنا،
الطرق الثمان... فراجع.
وبعد هذا كله: فهل يبقى مجال للقول بأن الحفظ يغني
عن التدوين؟

389
الفصل الخامس
عدم معرفة المحدثين للكتابة
وقد ذكرت تبريرات أخرى لمنع تدوين الحديث، لا تستحق الذكر
لوضوح بطلانها، مع أنها لم تذكر إلا بعد حدوث المنع، دفاعا عن
المانعين وإضفاء لصبغة شرعية على عملهم.
ومن ذلك: أن الصحابة والتابعين كانوا أميين لا يعرفون الكتابة،
فلذلك امتنعوا عنها.
قال ابن قتيبة: كان الصحابة أميين لا يكتب منهم إلا الواحد
والاثنان وإذا كتب لم يتقن ولم يصب التهجي (1).
وقال ابن حجر: اعلم أن آثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم
لم تكن - في عصر الصحابة وكبار تابعيهم - مدونة في الجوامع، ولا مرتبة...
لأنهم كانوا لا يعرفون الكتابة (2).



(1) تأويل مختلف الحديث (ص 366) وانظر توجيه النظر للجزائري (ص 10).
(2) هدي الساري (ص 4).
390
وهذا التبرير غير مقبول، لوجوه:
فأولا: إن نفس النهي عن الكتابة - لو صح - يقتضي بطلان
هذا التوجيه والتبرير، حيث إن الأمي، غير العارف للكتابة، لا يعقل
أن يخاطب بمثل: لا تكتب، بل الحكمة تقتضي أن يوجه مثل هذا
الخطاب إلى من يعرف الكتابة، ويتمكن منها، فيراد صده عنها.
وثانيا: أن الكتابة - مهما كان شأنها قبل الإسلام - أصبحت
بمجئ الإسلام من أكبر اهتمامات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم،
فلم يأل جهدا في حث المسلمين على استيعابها بشتى الوسائل، حتى أنه
صلى الله عليه وآله وسلم استعملها في المجال السياسي.
فجعل صلى الله عليه وآله وسلم فداء أسرى بدر - من المشركين
الذين كانوا يعرفون الكتابة - أن يعلم كل واحد منهم عشرة من صبيان
المدينة الكتابة والقراءة (1).
إن هذا وحد ه دليل على مدى أهمية محو الأمية في الإسلام،
ومدى احترامه للثقافة والمثقفين، وسعيه في تعميم الثقافة.
ولعل هذه أول مدرسة ا قيمت في تاريخ الإسلام المبكر.
وقد عين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جمعا من الصحابة
لكتابة القرآن حتى بلغ عدد كتاب الوحي أربعين رجلا، حسب
بعض المصادر (2).



(1) طبقات ابن سعد (2 ق 1 ص 14) طبع ليدن.
(2) مباحث في علوم القرآن، لصبحي (ص 73).
391
وقال محمد عجاج الخطيب - رادا على ابن قتيبة -: لا يمكننا أن
نسلم بهذا بعد أن رأينا نيفا وثلاثين كاتبا يتولون كتابة الوحي للرسول
الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، وغيرهم يتولون أموره الكتابية الأخرى.
ولا يمكننا أن نعتقد بقلة الكتاب وعدم إتقانهم لها، فتعميم ابن
قتيبة هذا لا يستند إلى دليل؟ (1).
وقال الدكتور عبد الغني في الرد على كلام ابن قتيبة: إن العمدة
في ثبوت النهي حديث أبي سعيد الخدري، والمتبادر منه أنه أجاز كتابة
القرآن لمن نهاه عن كتابة السنة، ولو كانت علة النهي خوف الخطأ في
الكتابة، فكيف يجيز لهم كتابة القرآن؟ (2).
ثم، لو كان من يعرف الكتابة من المسلمين قلة في بداية ظهور
الإسلام، وقبل الهجرة، إلا أن المسلمين ما كادوا يستقرون في المدينة
حتى بدلت الحال غير الحال، فكثر فيهم الكاتبون (3).
وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن سعيد بن العاص
أن يعلم الكتابة بالمدينة، وكان كاتبا محسنا (4).
والعجب من محدث رجالي مؤرخ مثل الحافظ ابن حجر
العسقلاني، أن تخفى عليه حقيقة واضحة كهذه، فيقول: لأنهم
كانوا لا يعرفون الكتابة! وهذا يعني جميعهم، كما هو المتبادر من كلامه.



(1) أصول الحديث للعجاج (ص 146).
(2) حجية السنة (ص 430 و 444).
(3) علوم الحديث، لصبحي (ص 4).
(4) الإستيعاب للقرطبي، بهامش الإصابة (2 / 374).
392
ولعل الحافظ السيوطي قد تنبه إلى هذه الزلة من ابن حجر، فعدل
عبارته، حيث يقول: لأن أكثرهم كانوا لا يحسنون الكتابة (1).
وإذا تم تصحيح الكلام بهذا الشكل، فنجيب:
ثالثا: إن ذلك لم يكن مانعا عن كتابة ما يلزم كتابته في الشريعة،
لكفاية قيام غير الأكثر ممن يعرف الكتابة، بأداء المهمة، والواجب يتأدى
بالكتابة ولو بالخط الردئ غير الحسن!.
مع أن العارفين للكتابة ليسوا في كل الأعصار سوى القلة، وخاصة
المتخصصين بعلوم الدين، وبالأخص علم الحديث منهم، فهل يتوقع
أن يكون أكثر الناس عارفين للكتابة أو محسنين لها، حتى تؤدى مهمة
ضرورية مثل كتابة الحديث؟!
ثم، ألا ترى أن الصحابة - على فرض عدم إحسانهم للكتابة -
لم يمتنعوا من كتابة القرآن، وهو كلام الله تعالى، فكيف يفرض
ذلك مانعا لهم عن كتابة الحديث وهو كلام رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم؟
مع أنه لم يؤخذ في النظر - في هذا التبرير - نوعية المكتوب، فإذا
لم يكونوا عارفين - كما يقول ابن حجر - أو محسنين للكتابة - كما يقول
السيوطي. فما بالهم أقدموا على كتابة القرآن الكريم، وبتلك السعة؟!
قال محمد عجاج الخطيب: ولو قبلنا - جدلا - ما ادعوه من ندرة
وسائل الكتابة، وصعوبة تأمينها، لكفى في الرد عليهم أن المسلمين



(1) تدريب الراوي (1 / 89).
393
دونوا القرآن الكريم، ولم يجدوا في ذلك صعوبة، فلو أرادوا أن يدونوا
الحديث ما شق عليهم تحقيق تلك الوسائل، كما لم يشق هذا على من
كتب الحديث بإذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (1).
بل، لم يأل المسلمون جهدا في كتابة القرآن - رغم الصعاب - وإذا
علمنا أن السنة الشريفة لا تقل - عند المسلمين - أهمية من القرآن، بنص
الكتاب نفسه، والسنة القطعية، وإجماع المسلمين، كما سبق ذكر
بعض ذلك - فلا بد أن تكون همتهم قد توجهت إلى كتابة الحديث
الشريف أيضا.
ثم، إن هذا التبرير إنما يناسب ما لو كان الصحابة والتابعون امتنعوا
عن كتابة الحديث بأنفسهم، لكن المفروض أنهم كانوا يرغبون في كتابة
الحديث كما ظهر من إشارتهم على عمر بأن يكتب الحديث (2)
وكما أقدم كثير منهم على التدوين فخلف صحفا وكتبا، عددنا بعضها
في القسم الأول من هذه الدراسة، لكن خالفهم، ومنعهم، من أمر بمنع
التدوين مطلقا.
فالسؤال الأساسي هو: لماذا جاء المنع؟
وأما عدم معرفة أكثرهم للكتابة، فلا ربط له بالبحث، لأن المدعى ليس
هو كتابة الأكثر للحديث، وعدمها.
بل السؤال: عن وجه منع العارفين للكتابة، عن التدوين؟



(1) السنة قبل التدوين (ص 302) وانظر أصول الحديث له ص 146.
(2) تقييد العلم (ص 49).
394
الفرق بين القرآن والسنة في أمر التدوين:
ولقد حاول بعضهم التفريق بين القرآن والسنة في حكم التدوين،
فطرح ذلك بشكل سؤال عن الحكمة في أمر النبي صلى الله عليه
وآله وسلم بكتابة القرآن، مع أنه لم يأمر بكتابة السنة؟!
وأجاب الشيخ عبد الغني عبد الخالق بقوله: الحكمة في أمره
بكتابة القرآن هي: بيان ترتيب الآيات، ووضع بعضها بجانب
بعض، فإنه - بالاتفاق بين العلماء - توقيفي نزل به جبريل في آخر زمنه
صلى الله عليه وآله وسلم.
وبيان ترتيب السور، فإنه - أيضا - توقيفي على الراجح.
وزيادة التأكيد، فإنا لا ننكر أن الكتابة طريق من طرق الإثبات،
وهي - وإن كانت أضعف من السماع، فضلا عن التواتر اللفظي -
إذا انضمت إلى ما هو أقوى منها في الإثبات، زادته قوة على قوة.
وإنما احتيج إلى زيادة التأكيد في القرآن لكونه كتاب الله تعالى،
وأعظم معجزة لسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، المبعوث إلى
الخلق كافة، وإلى يوم القيامة.
ولكونه المعجزة الباقية من بين سائر معجزاته إلى يوم الدين، لتكون
للمتأخرين دليلا ساطعا على نبوته، وبرهانا قاطعا على رسالته.
ولكونه أساس الشريعة الإسلامية، وإليه ترجع سائر الأدلة الشرعية
في ثبوت اعتبارها في نظر الشارع، وثبتت به جميع العقائد الدينية التي
لا بد منها، وأمهات الأحكام الشرعية.

395
ويترتب على ضياعه ضياع هذه الأمور كلها، وتقويض الشريعة
جميعها.
ولكونه قد تعبدنا الله بتلاوة لفظه في الصلاة وغيرها، ولم يجز لنا
أن نبدل حرفا منه بحرف آخر.
فلكون القرآن مشتملا على هذه الأمور الجليلة العظيمة الخطر،
اهتم الشارع بأمره أعظم اهتمام، وأحاطه بعنايته أجل إحاطة، فأثبته
للناس إلى يوم الدين بجميع الطرق الممكنة التي يتأتى بها الإثبات،
للمحافظة على لفظه ونظمه، ليتأكد عند الناس ثبوته تمام التأكيد.
كما أنه قد حافظ على معناه بالسنة المبينة له، الدافعة لعبث العابثين به.
ولما لم تكن السنة بهذه المثابة:
فلا ترتيب بين الأحاديث بعضها مع بعض، وليست بمعجزة،
ولم يتعبدنا الله بتلاوة لفظها، وأجاز لنا أن نغيره ما دامت المحافظة على
المعنى متحققة، حيث أن المقصود من السنة بيان الكتاب وشرح
الأحكام، وهذا المقصود يكفي فيه فهم المعنى والتأكد منه سواء كان
بنفس اللفظ الصادر عن رسول الله أم بغيره.
هذا كله، مع ملاحظة الفرق الشاسع بين حجم القرآن وحجم
السنة التي من وظيفتها الشرح والبيان له، وعادة الشرح أن يكون أكبر
حجما من المشروح.
وما كان صغير الحجم أمكن - في العادة - نقله بجميع الطرق
بخلاف كبيره، فإن من المتعذر تحصيل جميع الطرق فيه، خصوصا

396
من أمة أمية كالعرب!
وخصوصا إذا لاحظنا أن السنة قول أو فعل أو تقرير منه صلى الله
عليه وآله وسلم، وليس من اللازم - بل - ولا من الممكن أن يجتمع معه
صلى الله عليه وآله وسلم في كل أحواله جمع من الصحابة يمكنهم
الكتابة، ويؤمن تواطؤهم على الكذب، فيؤدون كل ما يسمعون
ويشاهدون إلى من بعدهم أو من غاب عنهم بجميع الطرق من تواتر
لفظي وكتابة، بل قد يصدر قوله أو فعله أمام صحابي واحد أمي،
ولا يتكرر ذلك منه في ما بعده.
بخلاف القرآن:
فإن الآية منه أو السورة، كان يقرؤها النبي صلى الله عليه وآله
وسلم أمام أقوام مختلفة منهم الكاتبون، ومنهم الأميون، ويتكرر ذلك
منه في أزمنة وأمكنة مختلفة بعبارة واحدة لا تغيير فيها ولا تبديل،
فمن ذلك كله يتأتى وجود جميع طرق النقل فيه (1).
أقول: لا بد من تحديد موضع البحث، فنحن هنا نبحث
عن سبب المنع عن تدوين الحديث، وعن خصوص النهي الشرعي عنه حسب دعوى
المانعين، وكما فرضه الشيخ محمود شلتوت (2).
وليس البحث عن الحكمة في مجرد عدم أمر الشارع بكتابة
الحديث، في الوقت الذي أمر بكتابة القرآن، حتى يصح السؤال



(1) حجية السنة (ص 422 - 423).
(2) الإسلام عقيدة وشريعة (ص 498).
397
بالصورة التي طرحها الدكتور الشيخ.
فلو قيل بذلك، وسئل عن الحكمة في أمره بكتابة القرآن وعدم أمره
بكتابة السنة؟ أمكن التفريق بينهما بكون القرآن أهم من الحديث.
لكن السؤال الأساسي هو عن الحكمة في الأمر بكتابة القرآن،
في حين النهي عن كتابة السنة - حسب الدعوى -؟
فإن الجمع بين النهي عن الكتابة لشئ والأمر بكتابة آخر، يقتضي
بلا ريب اختلاف الشيئين وتغايرهما في ما يرتبط بكتابتهما، وليس
مجرد الأهمية مؤثرا في اختلاف حكم كتابتهما، فإن كتابة الأهم إذا
كانت واجبة، فكتابة المهم أيضا واجبة، ولا تكون محرمة.
فلا بد من صياغة السؤال بصورة صحيحة، وهي: لماذا أمر الشارع
بكتابة القرآن، ونهى عن كتابة السنة وحرمها؟
مع أن القرآن إذا كان نصا مقدسا، فالسنة أيضا مقدسة لأنها بيان
للقرآن باعتراف جميع المسلمين؟!
وحينئذ، نجد أن ما ذكره الشيخ عبد الغني من الفوارق، لا يوجب
شئ منها التفريق بين القرآن والسنة في الحكم الشرعي للتدوين.
فإنه جعل الحكمة بيان ترتيب الآيات، وأنه توقيفي، بخلاف السنة
فلا ترتيب فيها.
وفيه: إن بيان ترتيب الآيات إذا كان يستدعي الأمر بالكتابة، كما أن
عدم الترتيب لا يستدعي حرمة الكتابة.

398
فإن أصل القرآن إذا أمكن المحافظة عليه بالحفظ والاستذكار،
كانت المحافظة على ترتيبه حاصلة، لأن من يحفظ نصا معينا فلا بد أنه
يحفظه على ترتيبه الخاص والمطلوب!
هذا مع أن الشيخ عبد الغني قد أكد بأن أصل القرآن مدعوم بالتواتر
اللفظي، ولم يعتمد على النقل الكتبي (1).
فالمحافظة على ترتيبه تتم بالحفظ في الذاكرة ولا تستوجب
خصوص الكتابة.
وكذلك عدم ترتيب الأحاديث لا يستدعي حرمة كتابتها، بل،
على العكس، قد يقال بلزوم كتابتها، لصعوبة ضبطها في الحافظة على
أثر تشعثها؟! بخلاف المرتب فإنه يحفظ بسهولة.
وكذلك كون القرآن معجزة، بل هو أكبر معاجز النبي صلى الله
عليه وآله وسلم، وأعظمها، وأبقاها، وأخلدها، بشكل أوضح
من السنة!
فإن إعجاز القرآن ليس بوجوده الكتبي، وإنما هو بوجوده
اللفظي، ومدلوله المعنوي، ونظمه المتناسق مع الأمرين.
ومن الغريب أن المدعي يقول بأن القطع بالقرآن إنما حصل بالتواتر
اللفظي دون النسخ الموجودة (2).
وكذلك كون القرآن أساسا للشريعة الإسلامية، وإليه ترجع سائر الأدلة.



(1) حجية السنة (ص 408).
(2) حجية السنة (ص 407).
399
فإن هذا لا يستدعي وجوب كتابته، إذا كان محفوظا في الصدور
كما لا تستدعي أهمية السنة وسائر الأدلة وجوب أن تكتب حسب
دعواهم.
ثم إن بناء الشريعة على السنة ليس بأقل أهمية من بنائها
على القرآن، فالسنة هي المبينة له والشارحة لمراده، وتحتوي
على تفصيل الشريعة مما أجمل فيه، حتى قيل: إن القرآن أحوج إلى
السنة، منها إليه (1).
فلو كانت المحافظة على الشريعة من خلال القرآن داعية إلى كتابته،
فهي بنفس الملاك تستدعي كتابة السنة لاحتوائها على أكثر الشريعة.
فكيف ينهى عن كتابتها وتدوينها؟!
وأما التعبد بلفظ القرآن في التلاوة، دون السنة:
فإن ذلك أدعى إلى إيجاب حفظه، وتلقيه بالسماع والقراءة
بالمشافهة، وأبعد من استلزام كتابته المعرضة للتصحيف! فمن الغريب أن
تجعل التلاوة من دواعي الكتابة!
وأما التفرقة بين كتابة القرآن وكتابة السنة في الحكم: باعتبار حجم
كل منهما، وأن القرآن صغير فكتابته لازمة، والسنة كبيرة الحجم
فلا تكتب.
فهي غريبة جدا، لأن النص الصغير يكون حفظه أسهل وضبطه في
الحافظة أسرع، فلا يكون صغر حجمه أدعى إلى كتابته، من حفظه،



(1) قد أوردنا طرفا مما دل على هذا المعنى في الفصل الثالث من هذا القسم الثاني (ص 347).
400
بخلاف النص الكبير، فبما أن حفظه على الخاطر أصعب تكون كتابته
أسهل وألزم.
ولو احتاج الصغير إلى الضبط بالكتابة والتدوين، فالكبير هو الأحوج
إلى ذلك بالأولوية القطعية؟!
ولا ينقضي عجبي من قول الشيخ الدكتور: خصوصا من أمة أمية كالعرب،
كيف يريد أن يستبعد بذلك أمر كتابة السنة، بينما هو يأمرها
بكتابة القرآن؟!
أفهل كتابة القرآن لا تنافي أمية العرب؟
أو أن من يستطيع أن يكتب القرآن في حجمه، يصعب عليه
أن يخلد كتبا في السنة بمثل حجم القرآن ومقدار آياته؟
وأما أن السنة قول وفعل وتقرير، فتكون واسعة الأطراف
ليس بإمكان أحد حصرها كلها وضبطها وتقييدها، بخلاف القرآن،
فإنه محدود، والرسول يكرره في الأمكنة والأزمنة.
فنقول: إن سعة أطراف السنة أدعى للزوم ضبطها بالكتابة،
دون الاعتماد على حفظها، لأنها حينئذ معرضة لآفات الذاكرة، وموت
الحافظين، بخلاف الكتب فإنها أخلد والمفروض أن يقوم كل راو بتسجيل ما رواه أو رآه،
حتى تجتمع السنة كلها في مجموع الكتب كما هو الحال الآن.
بخلاف ما كان صغير الحجم ومكرر الذكر، فإن حفظه
على الخواطر أيسر لصغره وتكرره، فتكون الحاجة إلى كتابته أقل،
بخلاف السنة، فهي أولى بالتسجيل لئلا تتلف أو تفلت، وأصدق

401
شاهد على ذلك لجوء الأمة إلى تدوينها، ولو بعد حين!
وقد ظهر من مجموع ما ذكرنا أن الشيخ عبد الغني لم يقدم
ما يصلح للتفرقة بين القرآن والسنة، في حكم الكتابة.
فالحق أنه لا وجه للمنع عن كتابة السنة، بل الإسلام - دين المدنية -
أكد على الكتابة ومحو الأمية بكل ما لديه من قوة وحول وطول، فبدأ
بأعز نصوصه وهو القرآن الكريم، ثم أتبعه بالسنة، فحث على كتابتهما بأوسع نطاق،
فسجلهما الصحابة بأمره وإرادته، ولم يألوا بعده جهدا في كتابتهما، لتبقى
السنة إلى جنب القرآن، أداة ربانية لهداية البشر، إلى يوم الحشر.
وقد حاول المعلمي - أيضا - التفريق بين السنة والقرآن في حكم
الكتابة، فقال: إن القرآن كان يحفظ بطريقين: الأولى: حفظ
الصدور، والثانية: بالكتابة.... فأما السنة فمخالفة لذلك في أمور:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعن بكتابتها،
بل اكتفى بحفظهم في صدورهم، وتبليغهم منها، أي بنحو الطريق
الأول في القرآن.
الثاني: أنها كانت منتشرة لا يمكن جمعها كلها بيقين.
الثالث: أنه لم يتفق لها في عهد الصحابة ما اتفق للقرآن إذ استحر
القتل بحفاظه من الصحابة قبل أن يتلقاه التابعون، فإن الصحابة كانوا
كثيرا، ولم يتفق أن استحر القتل بحفاظ السنة منهم قبل تلقي التابعين.
الرابع: إنهم إذا هموا بجمعها رأوا أنه لن يكون كما قال عمر في
جمع القرآن: هو والله خير، أي خير محض، لا يترتب عليه محذور.

402
كانوا يرون أنه يصعب جمعها كلها، وإذا جمعوا ما أمكنهم
خشوا أن يكون ذلك سببا لرد من بعد هم ما فاتهم منها.
وخشوا - أيضا - من جمعها في الكتب قبل استحكام أمر القرآن
أن يقبل الناس على تلك الكتب ويدعوا القرآن.
فلذلك رأوا أن يكتفوا بنشرها بطريق الرواية، ويكلوها إلى حفظ
الله تعالى الذي يؤمنون به (1).
أقول: في هذا الكلام مواقع للبحث:
الأول: قوله: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعن بكتابتها.
فهذا على إطلاقه باطل، حيث أن أحاديث الإذن، بل الأمر
بالكتابة، وإملائه صلى الله عليه وآله وسلم الحديث على الصحابة،
مشهورة، بل متواترة معنى لدلالتها على الإذن بكتابة الحديث،
كما مر مفصلا.
ثم إن البحث ليس في مجرد عدم كتابة الحديث، بل في سبب
النهي عنها ومنعها؟!
الثاني: قوله: بل اكتفى بحفظهم....
إن نسبته هذا الفعل إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم،
غير جائزة، حيث لم يرد عنه صلى الله عليه وآله وسلم ما يدل على أنه
أراد أو أمر بأن تكون السنة - مطلقا - محفوظة في الصدور فقط،



(1) الأنوار الكاشفة (ص 45).
403
وانحصار طريق المحافظة عليها بذلك وحد ه.
نعم، ورد حديث: من حفظ على أمتي أربعين حديثا...، لكنه
مع انحصاره برقم الأربعين، قد اختلف الأعلام في المراد بالحفظ المذكور فيه:
هل يختص بحفظ الصدر، أو يراد به المحافظة التي منها الكتابة أيضا،
والأكثر على الثاني، ولجأوا إلى تأليف (الأربعينات الحديثية).
الثالث: قوله: إنها كانت منتشرة لا يمكن جمعها كلها....
فيه: أن انتشار السنة لا يؤدي إلى الالتزام بعدم كتابتها رأسا،
بل المفروض أن كل واحد من الصحابة يكتب، أو يملي على من يكتب،
الحديث الذي رواه وسمعه وتحمله، محافظة عليه، وكل مكلف
بما عنده وبما بلغه، وبتظافر الجهود كانت السنة تجمع كلها أو جلها،
كما حصل للمتأخرين منهم في عصر تأليف كتب السنة، فإن أحدا
منهم لم يحاول - ولم يدع - أنه جمع السنة كلها في كتاب.
فضلا عن أن يؤدي ذلك إلى منع كتابة الحديث والنهي عنها إلى
حد الحبس والتهديد والإحراق للكتب!
وقد أشرنا في جواب الدكتور عبد الغني إلى طرف من هذا.
الرابع: قوله: لم يتفق لها في عهد الصحابة ما اتفق للقرآن
إذ استحر القتل بحفاظه من الصحابة... ولم يتفق أن استحر القتل بحفاظ
السنة منهم قبل تلقي التابعين!.
إن هذا الكلام مما يضحك الثكلى!

404
فهو يفرض في الصحابة حفاظا للقرآن، ويفرض فيهم حفاظا
للسنة، ويجعل القتل يستحر بالأولين، دون الآخرين، يقول: إن التابعين
تلقوا من حفاظ السنة، دون حفاظ القرآن.
وهذه كلها دعاو فارغة، لا تصح:
فمن أين جاء بهذه التقسيم بين الصحابة، هل كانت هناك معاهد
متخصصة بالقرآن، وأخرى بالسنة، تخرج جمع من الصحابة من هذا
المعهد، وجمع من ذاك!؟
وهل كان الجهاد الذي اشترك فيه الصحابة، واجبا على حفاظ
القرآن فقط، دون حفاظ السنة؟
وهل كان التابعون يتعمدون عدم تلقي القرآن من حفاظه،
ويقصدون التلقي من حفاظ السنة فقط؟!
ثم إن الآفات المهددة للسنة لم تنحصر بالقتل، بل كان الموت الحق
لحامليه بالمرصاد (1) وآفات الذاكرة (2).
أضف إلى ذلك عمليات الإبادة من الدفن والإحراق والإماثة في



(1) أنظر الحديث والمحدثون لأبي زهو (ص 127) حيث يقول: ومرور هذا الزمن الطويل
(يعني القرن الأول) كفيل بأن يذهب بكثير من حملة الحديث من الصحابة والتابعين.
(2) فهذا أنس بن مالك - خادم النبي صلى الله عليه وآله وسلم - سئل عن البسملة في قراءة
الصلاة، فأجاب: قد كبرت ونسيت! مع أن هذا داخل في الصلاة التي
لا تترك بحال! ويؤديها المسلم خمس مرات يوميا على أقل تقدير!
وأنس قد توفي سنة 92 ه‍ فلاحظ.
405
الماء، التي تعرضت له كميات كبيرة من السنة.
ألم يكن كل ذلك اتفاقا لحفاظ السنة، يدعو إلى المحافظة على
السنة بالكتابة والتقييد؟! مثل ما حصل للقرآن إذ استحر بحفاظه القتل؟!
بل الحقيقة أن كل ما هدد القرآن الذي حمله الصحابة، كان
يهدد السنة التي كانوا يحملونها أيضا.
لكن الذين اهتموا بالقرآن، فجمعوه، ولم يأبهوا بالسنة
بل منعوها، هم الذين حملوا شعار الفصل بين القرآن والسنة فأعلنوا
مقولة: حسبنا كتاب الله!
وسيأتي الكلام عنهم وعن مقولتهم مفصلا، إن شاء الله.
الخامس: قوله: رأوا أنه لن يكون كما قال عمر في القرآن،
هو والله خير.
عجبا لهذا الكاتب! كيف يكتب مثل هذا في كتابه مدعيا
انتصاره للسنة، وكيف يصح أن ينفي عن السنة أن تكون خيرا محضا،
أليس خير الهدى هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
وأما الخشية من رد من بعدهم فهذا لم يذكره أحد من الممتنعين
عن تدوين الحديث ولا المانعين، وإنما هو من نسج خيال هذا الكاتب
وأمثاله.
فهو باطل محض، فإذا ثبت الحديث للصحابي الذي تلقاه من
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فعليه تبليغه، سواء رده غيره، أم لا؟

406
ولا يمنعه رد غيره فضلا عن خشية رده! والتبليغ يتم بأداء لفظه
وكتابة نصه.
وإذا كانت هذه الخشية مانعة عن تبليغها بالكتابة، فلماذا لم تكن
مانعة عن تبليغ السنة بالنقل الشفوي والرواية!
السادس: قوله: وخشوا - أيضا -... أن يقبل الناس على تلك
الكتب ويدعوا القرآن.
وهذه الدعوى هي التي تعرضنا لردها بتفصيل في الفصل الثالث
من هذا القسم، فراجع.
ثم إن هذا الكلام إنما يتم لو كان القرآن مكتوبا متداولا بشكل
مصاحف، شائعا تلاوته منها، بحيث يكون كتاب الحديث على تلك
الدعوى مؤديا لأن يدع الناس القرآن، ويشتغلوا بكتاب الحديث.
لكن من يرى أن القرآن لم يجمع - وإن كان مكتوبا متفرقا -
ولم يعتمد المسلمون في العهد الأول إلا على نصه المحفوظ في الصدور،
بوجوده اللفظي، وأنه هكذا تواتر، لا بوجوده الكتبي (1).
إن هؤلاء ليس لهم أن يتمسكوا بهذه الدعوى لمنع كتابة الحديث،
حيث إن الحديث على فرض كتابته لا يمكن أن يزاحم القرآن المستقر
في الصدور والقلوب، وهو واضح.
والكاتب - المعلمي - هو من هؤلاء، حيث يقول في كتابه:



(1) لاحظ حجية السنة لعبد الغني عبد الخالق (ص 407 -) وفتح الباري لابن حجر
(1 / 114) والنشر في القراءات للجزري (1 / 6).
407
إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكتب مصحفا، وإن أبا بكر
وعمر وعثمان - مدة من ولايته - لم يكتبوا إلا مصحفا واحدا بقي
عندهم، لا يكاد يصل إليه أحد (1).
وإذا كان هذا موقف الأمراء من كتابة القرآن، فما حال سائر
الناس؟!
وإذا كانت نسخ القرآن بهذه القلة وكان القرآن محفوظا في
الصدور، فكيف يكون كتاب الحديث مؤديا إلى الاشتغال عن القرآن؟
مضافا إلى ما ذكرنا في الفصل السابق من أن الحديث ليس معارضا
للقرآن حتى يكون الاشتغال به شاغلا عن القرآن؟.



(1) الأنوار الكاشفة (ص 48).
408
الفصل السادس
القول الفصل في سبب المنع
وبعد هذا التجوال الطويل - في هذه الفصول الخمسة - اتضحت لنا
- بالقطع واليقين - الحقيقة التالية: أن تلك التبريرات - كلها - لا تصح
أن تكون شئ منها سببا واقعيا لمنع تدوين الحديث، وإن تذرع بها المانعون، وليس
في واحد منها مقنع للإجابة على السؤال الذي طرحناه لماذا منعوا
عن تدوين الحديث؟
وقد عرفنا أن أهم ما يمكن توجيه المنع به هو الأحاديث المرفوعة
الدالة على النهي الشرعي عن التدوين.
ولكن: مضافا إلى ما ذكرناه في الفصل الأول من هذا القسم
، من الإجابات عن ذلك بإثبات ضعف أسانيدها. وكونها معللة غير قابلة
للاحتجاج بها أو الاستناد إليها في إثبات المدعى في قبال الأحاديث
المستفيضة الصحيحة، الدالة على تحقق التدوين، وجوازه وإباحته
في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بعد إقامة الأدلة الأربعة
على جواز التدوين وإباحته في القسم الأول من هذه الدراسة.

409
مضافا إلى كل ذلك، نقول:
إن استمرار الخلاف في أمر التدوين، وعدم خضوع المبيحين
لإجراءات المنع، دليل على أمرين:
1 - أن أحاديث النهي عن التدوين ليست صحيحة، وإلا،
لم يكن أكثر الصحابة والتابعين على خلاف المنع، بل فيهم من قام
عملا بتدوين الحديث وجمعه في الصحف.
2 - أن المنع، لم يكن أمرا شرعيا، بل كان رأيا ارتآه المانعون،
استنادا إلى أمور خاصة، ظهرت لهم، ولم يوافقهم عليها سائر الصحابة.
وهذا الأخير يتضح بشكل أكثر، إذا لاحظنا تعليلاتهم للمنع،
تلك المختلفة، بل المتنافية في بعض الجهات، كما مر ذكر ذلك تفصيلا.
بل، إن لجوء المانعين إلى طرح مثل هذه التبريرات، التي أثبتنا
بطلانها، لهو دليل واضح على عدم أصالة المنع كحكم شرعي.
وإذا كان المنع على أساس ما يراه الصحابي مصلحة، فإن للصحابة
الآخرين حق الاعتراض عليه، فلا يكون ما يراه الصحابي حجة
على الصحابي الآخر، إلا إذا أقام له الدليل الشرعي المقنع، كما هو
الحال في المجتهدين (1).
ولما لم تكن التبريرات المطروحة مقنعة للإجابة عن سبب المنع؟



(1) لاحظ المستصفى للغزالي (1 / 261 - 262) فإنه قال: ليس بحجة فانقضاء الدليل،
والعصمة، ووقوع الاختلاف بينهم، وتصريحهم بجواز مخالفتهم فيه، ثلاثة أدلة قاطعة.
ولاحظ إرشاد الفحول للشوكاني (ص 226) وحجية السنة (ص 465).
410
فالذي يستغرب في الأمر: أن المصلحة المعتمدة لدى المانعين لم تذكر
بوضوح، ولم يعلن عنها؟
ويبدو أن كل التبريرات المذكورة، إنما ذكرت لمجرد إسكات
المعارضين، وخاصة تلك التي يتذرع فيها باسم القرآن وصيانته؟
فكأن فيه إيماء إلى أن المعارضة ستتهم بالإساءة إلى القرآن وهدر
كرامته، بإقدامهم على تدوين الحديث؟!
ومن هنا يعرض لنا سؤال آخر: لماذا
أخفوا المصلحة التي رأوها موجبة لمنع تدوين الحديث والسنة، ولماذا لم يفصحوا عنها؟
فالمصلحة التي تفرض: لا بد أن تحتوي علي العناصر التالية (1).
1 - أن تكون خطيرة، يخشى من إبدائها والإعلان عنها.
2 - أن تكون غير مقبولة من قبل المعارضين للمنع.
3 - أن يكون الممنوع مرتبطا بالقرآن، ليتم للمانعين اعتذارهم بصيانة
القرآن، وأنهم لا يلبسوه بشئ.
4 - أن تكون زائلة بعد القرن الأول، بحيث لم تعد للمنع مصلحة
حينذاك، فانقلب أمرها إلى الإباحة.
وبعد التأمل العميق في ما يناسب أن يكون مصلحة للمنع من قبل
المانعين، تجتمع فيه العناصر المذكورة، علمنا - بعون الله - أن المصلحة



(1) لقد تأملنا تاريخ التدوين لاستخراج هذه العناصر، بعون الله وتوفيقه، وكما يرى
الباحث المدقق فإن كل واحد منها يستفاد من مكان في فصول هذا الكتاب.
411
إنما كانت تدبيرا سياسيا من قبل الخلفاء، وخاصة في الصدر الأول، بعد
وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا التدبير السياسي واضح من خلال رواية، رواها الخطيب
البغدادي، بسنده، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، قال:
جاء علقمة بكتاب من مكة - أو اليمن - صحيفة فيها أحاديث،
في أهل البيت - بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم -
فاستأذنا على عبد الله، فدخلنا عليه، قال: فدفعنا إليه الصحيفة.
قال: فدعا الجارية، ثم دعا بطست فيها ماء.
فقلنا له: يا أبا عبد الرحمن، انظر فيها، فإن فيها أحاديث حسانا
فجعل يميثها فيها، ويقول: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما
أوحينا إليك هذا القرآن)
[الآية (3) من سورة يوسف (12)]
القلوب أوعية، فأشغلوها بالقرآن، ولا تشغلوها ما سواه (1).
إن الصحيفة المعرضة للإبادة في هذا الحديث، واضحة المحتوى،
فإن فيها أحاديث حسانا كما يقول علقمة.
كما أن موضوعها يرتبط بأهل البيت عليهم السلام، وكأن الراوي
اعتنى بهذه النقطة، فاستعمل عطف البيان للتأكيد على المراد
بأهل البيت، ولكي يلفت نظر عبد الله بن مسعود إلى أنهم أهل بيت النبي
صلى الله عليه وآله وسلم.



(1) تقييد العلم (ص 54) ونقلها محمد عجاج الخطيب في أصول الحديث
(ص 155 - 156).
412
لكن عبد الله لم يعر اهتماما، وأباد الصحيفة.
والتبريرات المذكورة لمنع التدوين، لا يجري شئ منها هنا.
فلا اختلاط لما في الصحيفة، بالقرآن.
وليس فيها ما يعارض القرآن وينافيه.
ولا فيها من خرافات أهل الكتاب شئ.
كما أن الاشتغال بها لا يؤدي إلى ترك القرآن، لأن مجرد أحاديث
في صحيفة، لا تلهي عن القرآن.
ومع كل ذلك، فإن عبد الله قد أباد الصحيفة، محاولا أن يوهم
أن القرآن يغني عما فيها؟
مع أنه كان مخطئا في فرضه أن الاشتغال بالحديث هو اشتغال
بما سوى القرآن، لأن الحديث لا ينفصل عن القرآن، بل هو يعضده.
ولو دققنا النظر في هذا الحديث، وجدنا أن محتواه هو الذي
كان يضر السلطة الحاكمة، وينافي سياستها القائمة، لأن الأحاديث
النبوية الواردة في أهل البيت عليهم السلام، إنما تدل على فضلهم،
وتوكد على خلافتهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتجعلهم قرناء
للقرآن، ليكونوا هم وهو خليفتين له، من بعده.
وأما سائر أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، سواء
في الأحكام والفرائض، أو الآداب والسنن، فهي لا تمس كيان
السلطة بشئ.

413
ولذا لم يشملها المنع بنحو شديد:
قال عمر: أقلوا الرواية عن رسول الله، إلا في ما يعمل به (1).
وقال الدارمي - في شرح منع عمر عن الحديث عن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم - ما نصه: معناه عندي الحديث عن أيام
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس السنن والفرائض (2).
وإنما أصدرت أوامر المنع وإجراءاته بصورة عامة، فلأن التدبير السياسي
يقتضي منع الحديث بالعموم، حتى يشمل المنع الأحاديث المضرة
بالسياسة.
وإنما لم يخص المنع بما يضر، فلأن تخصيصها بالمنع
يؤدي إلى وضوح الهدف من المنع، وانكشاف المصلحة الموضوعة له.
والإعلان عن تلك المصلحة غير ممكن، لأنه يوجه الأنظار إليها
بشكل أكثر تركيزا، فيوجب نقض الغرض المترقب من المنع، ويعكس
المصلحة إلى مفسدة لا تتدارك.
وإنما خص أهل البيت عليهم السلام بذلك:
لأنهم كانوا يعتبرون زعماء المعارضة السياسية، الذين بقوا في
الساحة، وكان المسلمون يتطلعون فيهم الخلافة ويعتقدون لهم الإمامة (3).
وحجتهم في ذلك الأعداد المتضافرة من الأحاديث النبوية، التي



(1) البداية والنهاية لابن كثير (8 / 107).
(2) سنن الدارمي (1 / 73) ح 286، وانظر جامع بيان العلم (2 / 121).
(3) إقرأ كتاب (النظام السياسي في الإسلام) تأليف المحامي أحمد حسين يعقوب.
414
تبلغ اليوم - رغم بعد الزمن، وعصف الأعاصير، ورغم كل عمليات
المنع، والإبادة، والتحريف - تبلغ الآلاف (1).
فكيف بها تلك الأيام، وهي لا تزال تمثل لرواتها - من الصحابة -
بمنازلها، ومناظرها، وأحداثها، ومناسباتها، وأسبابها؟ والنبي صلى الله
عليه وآله وسلم لا يزال حيا في الخواطر، والأذهان، يحدثهم بما
لأهل بيته من فضل، وما لهم من منزلة ومقام؟!
ولا شك في أن كثيرا من أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم
كانت تشيد بعلي عليه السلام - زعيم أهل بيت النبي - عليه الصلاة
والسلام، وتنص عليه بالولاية والإمامة، وكانت النصوص غضة، نضرة،
تنبض مشاهدها بالحياة، ويرن صداها في الأسماع.
فلو كان مسموحا للأمة أن يتداولوها، ويحدثوا بها، ويكتبوها،
ويضبطوها لكانت ترتسم في الأذهان، وتعلق بالأفكار، وتنعقد عليها
القلوب، وتبنى بها قواعد العقائد، فيكون لذلك تأثير سياسي عميق
على نظام الحكم، بلا ريب.
فكان المنع الرسمي للحديث أفضل تدبير سياسي، للوقوف
في وجه ذلك.
فالمصلحة المنشودة من هذا التدبير، هي: إخفاء الأحاديث النبوية
التي تدل على خلافة علي عليه السلام وإمامة أهل البيت عليهم السلام،
بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.



(1) لاحظ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (4 / 73).
415
وهذه المصلحة تحتوي على العناصر المطلوبة، التي ذكرناها:
1 - فهي خطرة للسلطة.
إذ لو نشرت هذه الأحاديث وأذيعت وتداولها الناس لما استقر
الحكم قائما، إذ هو اعتمد على أساليب أصدق ما يقال فيها أنها (فلتة) (1).



(1) وقد روى البخاري في صحيحه، كتاب المحار بين، باب رجم الحبلى من الزنى،
الحديث الوحيد في الباب - وهو طويل - ومن خطبة عمر يوم الجمعة وفيه قوله: بلغني أن
قائلا منكم يقول: والله لو مات عمر بايعت فلانا، فلا يغترن امرؤ أن يقول: إنما كانت
بيعة أبي بكر فلتة، وتمت، ألا وإنها كانت كذلك، ولكن الله وقى شرها.
وفي الحديث: من بايع رجلا على [أو: عن] غير مشورة من المسلمين، فلا يبايع [أو:
يتابع] هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا.
صحيح البخاري - دار إحياء التراث العربي - (ج 8 ص 210 - 211)
وقال الخطابي:
في حديث عمر: أنه قال: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، وقى الله شرها.
أقول: وبهذا اللفظ ورد في مصادر عديدة، إلى كفة مصادره:
المصنف لعبد الرزاق الصنعاني (3 / 355 و 5 / 441) ومسند أحمد (1 / 56) وسيرة
ابن هشام (4 / 308) وتاريخ الطبري (3 / 200 - 205) والملل والنحل للشهرستاني -
الخلاف الخامس (1 / 30 - 31) والرياض النضرة (1 / 232) وشرح نهج البلاغة
للحديدي (2 / 23) والكامل في التاريخ لابن الأثير (2 / 326) والنهاية لابن الأثير
(3 / 175 و 467) وتاريخ الخلفاء للسيوطي (ص 51).
والفلتة: فسرها أهل الغريب بالأمر الفجائي يحدث من غير روية ولا إحكام فانظر الفائق
للزمخشري (3 / 139) وغريب الحديث لأبي عبيد (2 / 231) و (2 / 356) والنهاية
لابن الأثير المعجم الوجيز تأليف مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
والإمام أمير المؤمنين عليه السلام يقول عن بيعة الناس له: إن هذه بيعة عامة من ردها رغب
عن الإسلام، وإنها لم تكن فلتة. رواه الدينوري في الأخبار الطوال (ص 140) وأن عليا
عليه السلام قام خطيبا فقال:...
ورواه في الخطبة (136) من نهج البلاغة قوله عليه السلام: لم تكن بيعتكم إياي فلتة،
قال صبحي الصالح: الفلتة: الأمر يقع من غير روية ولا تدبر.
416
فإذا تمكن الإمام علي عليه السلام وأنصاره، من إظهار النصوص الشرعية
الكثيرة المسندة، الدالة بوضوح على أن عليا عليه السلام
هو ولي الأمر من بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الذي جعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة هارون من
موسى في كل شئ إلا النبوة.
وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من كنت
مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من
نصره، واخذل من خذله.
فإذا ظهرت هذه النصوص للناس، لما بقي الوضع على قراره.
2 - إن هذا الإخفاء لم يقبل من قبل المعرضة المتمثلة في الإمام عليه السلام وأنصاره.
بل تزعم الإمام القول بإباحة التدوين، ولم ينصع، لا هو ولا أنصاره
لأوامر المنع من التدوين، ولا لأوامر منع نقل الحديث، كما سيأتي، فقاوموا
كل ذلك بصلابة.
3 - إن تلك الأحاديث فيها الكثير مما قرن فيه الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم بين علي وأهل بيته، وبين القرآن.
كما في حديث: علي مع القرآن، والقرآن مع علي (1).



(1) حديث معروف رواه الحفاظ، وقد فصلنا الكلام حوله في مقدمة تفسير الحبري
(ص 153 - 163).
417
وحديث الثقلين، الذي فيه: إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله
وعترتي
أهل بيتي (1).
4 - إن الإخفاء قد أثر آثاره العميقة في الأمة في صدر القرن الأول:
وامتداد المنع الرسمي إلى نهاية القرن الأول كان كافيا لطمس
معالم تلك الأحاديث بشكل واف، فلذلك لم يعد لإظهارها بعد ذلك
أي أثر معاكس على السلطات، فلذلك رفع المنع المذكور.
إن وجود هذه العناصر في هذه المصلحة، وعدم تصور مصلحة
أخرى، تؤكد صحة أن يكون السبب الأساس لمنع تدوين الحديث
هو هذا التدبير السياسي.
ولقد ذكر المعلمي - أحد كبار علماء التسنن المعاصرين - في تعليق
له على مرسل ابن أبي مليكة - المحتوي على منع أبي بكر للناس عن
الحديث بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (2) - فقال:
إن كان لمرسل ابن أبي مليكة أصل فكونه عقب الوفاة النبوية يشعر
بأنه يتعلق بأمر الخلافة.
كأن الناس عقب البيعة بقوا يختلفون، يقول أحد هم: أبو بكر
أهلها، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كيت وكيت، فيقول
آخر: وفلان! قد قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كيت وكيت.
فأحب أبو بكر صرفهم عن الخوض في ذلك، وتوجيههم



(1) قد سبق نقل مصادر هذا الحديث في القسم الأول (ص 114 - 116).
(2) سيأتي التعليق عليه (ص 423) وقد مر ذكره (ص 265).
418
إلى القرآن (1).
وقال السيد هاشم معروف الحسني - من علماء الشيعة
المعاصرين -: ولو تقصينا الأسباب التي يمكن افتراضها لتلك الرغبة الملحة
في بقاء السنة في طي الكتمان، لم نجد سببا يخوله هذا التصرف.
ولا نستبعد أنه كان يتخوف من اشتهار أحاديث الرسول في فضل
علي عليه السلام وأبنائه عليهم السلام (2).
ويوضح هذا الهدف ما رواه الزبير بن بكار (ت 256 ه‍) بسنده
عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قدم علينا سليمان بن عبد الملك حاجا،
سنة (82) وهو ولي عهد، فمر بالمدينة، فدخل عليه الناس، فسلموا
عليه، وركب إلى مشاهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، التي
صلى فيها، وحيث أصيب أصحابه بأحد، ومعه أبان بن عثمان، وعمرو
بن عثمان، وأبو بكر بن عبد الله، فأتوا به قباء، ومسجد الفضيخ،
ومشربة أم إبراهيم، وأحد، وكل ذلك يسألهم؟ ويخبرونه عما كان.
ثم أمر أبان بن عثمان أن يكتب له سير النبي صلى الله عليه وآله
وسلم ومغازيه.
فقال أبان: هي عندي، قد أخذتها مصححة، ممن أثق به.
فأمر بنسخها، وألقى فيها إلى عشرة من الكتاب، فكتبوها في رق،
فلما صارت إليه، نظر، فإذا فيها ذكر الأنصار في العقبتين، وذكر



(1) الأنوار الكاشفة (ص 54).
(2) دراسات في الحديث والمحدثين (ص 22).
419
الأنصار في بدر.
فقال: ما كنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل، فإما أن يكون
أهل بيتي غمصوا عليهم، وإما أن يكونوا ليس هكذا.
فقال أبان بن عثمان: أيها الأمير، لا يمنعنا ما صنعوا... أن نقول (1)
بالحق، هم على ما وصفنا لك في كتابنا هذا.
قال [سليمان]: ما حاجتي إلى أن أنسخ ذاك حتى أذكره
لأمير المؤمنين، لعله يخالفه، فأمر بذلك الكتاب، فخرق، وقال: أسأل
أمير المؤمنين إذا رجعت، فإن يوافقه فما أيسر نسخه.
فرجع سليمان بن عبد الملك، فأخبر أباه بالذي كان من قول أبان،
فقال عبد الملك: وما حاجتك أن تقدم بكتاب ليس لنا فيه فضل؟ تعر ف
أهل الشام أمورا لا نريد أن يعرفوها!
قال سليمان: فلذلك - يا أمير المؤمنين - أمرت بتخريق ما كنت
نسخته حتى أستطلع رأي أمير المؤمنين.
فصوب رأيه (2).
فإذا كانوا لا يتحملون ذكر فضل الأنصار، فكيف يتحملون ذكر
فضل أهل البيت، وسيدهم أمير المؤمنين عليه السلام؟!
كما يدل عليه ما روي من أن خالد القسري - أحد ولاة بني أمية -



(1) كذا الصواب ظاهرا، وفي المصدر (أن القول بالحق).
(2) الموفقيات للزبير بن بكار (ص 222 - 223) بواسطة مغازي رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، لعروة: (ص 28).
420
طلب من أحدهم أن يكتب له السيرة، فقال الكاتب: فإنه يمر بي
الشئ من سيرة علي بن أبي طالب، أ فأذكره؟
فقال خالد: لا، إلا أن تراه في قعر جهنم (1)!!.
أقول: أما نحن، فلا نشك في أن السبب الأساسي لمنع تدوين
الحديث هو هذا الهدف، لما حققناه في هذه الدراسة من عدم وجود
سبب صحيح آخر له، غيره.
ولا يرد على هذا الرأي، إلا ما قد يقال من: أن الالتزام به يقتضي
أن يكون المنع للتدوين، مصحوبا بمنع أشد لأصل الرواية ونقل
الحديث، إذ ليس من الصواب لمن يدبر تلك السياسة أن يمنع تدوين
الأحاديث، ويبيح للرواة والسامعين تناقلها وروايتها.
فلو ثبت أن الحكام المانعين للتدوين، قد أقدموا على منع الرواية
ونقل الحديث شفها أيضا، تم القول بأن الهدف هو التدبير السياسي
المذكور ضد علي وأبنائه عليهم السلام.
فأقول: نعم، وإن مما يؤكد رأينا بأن المصلحة لمنع تدوين الحديث
هو إخفاء الأحاديث النبوية، الدالة على إمامة علي وأهل البيت
عليهم السلام هو أن الحكام لم يكتفوا بمنع التدوين فقط، وإنما منعوا
رواية الحديث ونقله، بشدة.
وإذا صح شئ من تلك التبريرات المذكورة في الفصول السابقة،
لمنع تدوين الحديث، فأي سبب ومبرر يذكر لمنع نقل الحديث وروايته؟؟



(1) الأغاني (22 / 25).
421
وإن الروايات والآثار والحقائق التاريخية التي تثبت أن الحكام قاموا
بمنع رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تؤكد أن ذلك
كان يستهدف غرضا سياسيا محضا.
ونحن نعتقد بأن الغرض من منع التدوين هو الغرض من منع الرواية
بلا فرق.
ولا بد لسرد تلك الآثار والروايات والحقائق من متابعة مجريات
تاريخ الحديث في القرن الأول الهجري - فترة المنع الرسمي - لاقتناصها،
وتسجيلها.
ثم إن عملية المنع من تدوين الحديث أدت إلى تعرض الحديث
الشريف لأخطار جسيمة، وترتبت عليه آثار سيئة، كان من الضروري
أن نجمعها ونذكرها، كي يتبين مدى ما اقترفه المانعون للحديث - تدوينا
ورواية - في حق هذا الركن العظيم من مصادر الإسلام، ورأينا من
المناسب أن نجعل هذين البحثين ملحقين بهذا القسم الثاني:
الملحق الأول: في المنع من رواية الحديث ونقله - أيضا -.
الملحق الثاني: في آثار المنع من تدوين الحديث وتقييده.

422
الملحق الأول:
المنع من رواية الحديث ونقله - أيضا -.
قد عرفنا في تمهيد القسم الثاني (1) أن أبا بكر كتب الحديث - بعد
وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - ثم عمد إلى إبادته بالإحراق.
ولم نقف على صدور منع منه للتدوين، سوى هذا الإقدام العملي،
الذي قد يكون أدل على المنع من مجرد المنع بالألفاظ والكلمات.
لكنا نرى أبا بكر يقدم على منع نقل الحديث وروايته عن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم بصورة علنية.
وقد يكون هذا آكد في كون أبي بكر مانعا للتدوين، حيث أنه
يلازم منع التدوين بطريق أولى.
فلا قائل بمنع الرواية وإباحة التدوين، بخلاف العكس، لأن في
من منع التدوين عدة ممن يقول بإباحة الرواية، بل لم يعهد منع الرواية إلا من
الخلفاء والأمراء المانعين للتدوين، كما سيأتي.
وأما حديث منع أبي بكر للرواية:
فرواه الذهبي في ترجمة أبي بكر، قال: إن الصديق [يعني أبا بكر]
جمع الناس بعد وفاة نبيهم! فقال: إنكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم



(1) لاحظ (ص 263) من هذه الدراسة.
423
أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدثوا عن
رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله
فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه (1)!!
وفي ما يرتبط بهذا النص بحثان:
البحث الأول: في مدلول كلام أبي بكر، في نقاط:
1 - في قوله: أحاديث تختلفون فيها.
فالملاحظ أن أبا بكر أخبر عن أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه
وآله كان الناس يختلفون فيها، وإذا لاحظنا أن الخلافات الواقعة في تلك
الفترة محدودة، وأهم ما وقع بين الناس من الخلاف والنزاع والتخاصم،
هو موضوع الخلافة والإمامة، كما تتفق عليه كتب التاريخ والفرق (2)
إذ لم ينقل أن الناس اختلفوا في أحكام الصلاة أو الصوم أو غير ذلك من
العبادات أو المعاملات، فالأحاديث المختلف فيها التي توجب الخلاف
الأشد إنما هي تلك التي تمس نظام الحكم وتؤثر على سيطرة الحاكمين.
وهذا مما يدل على أن الهدف الأساس من منع الحديث هو منع تلك
الأحاديث التي تدل على خلافة علي عليه السلام وإمامته من الانتشار
الواسع بين الناس.
2 - قوله: لا تحدثوا عن رسول الله شيئا.
إن ظاهر هذه الجملة هو العموم، لأن النكرة (شيئا) بعد النهي
(لا تحدثوا) تدل على العموم، بلا خلاف معروف بين الأصوليين.



(1) تذكرة الحفاظ (1 / 2 - 3) والأنوار الكاشفة (ص 53).
(2) أنظر الملل والنحل (1 / 22) والإمامة والسياسة - ط زيني - (1 / 12 - 20).
424
3 - قوله: بيننا وبينكم كتاب الله.
وهذه الجملة خطر ة للغاية، إذ فيها الدعوة - علنا - إلى الاكتفاء
بكتاب الله في مقابل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
وهي الدعوة التي حذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها في
أحاديث (الأريكة) حيث قال: يوشك الرجل متكئا على أريكته،
يحدث بحديث من حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله... (1).
وقد أبدى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استياءه من
قائل تلك الجملة، بعبارات شتى، مثل قوله: لا أعرفن...
و: لا ألفين....
كما رد النبي صلى الله عليه وآله على ذلك بقوله: إلا ما حرم
رسول الله، كما حرم الله (2).
ردا على من فصل بين الكتاب والسنة.
البحث الثاني: مع الذهبي في دفاعه عن أبي بكر:
إن الذهبي - بعد أن نقل هذا الحديث، عن أبي بكر - قال: إن مراد
الصديق التثبت في الإخبار، والتحري، لا سد باب الرواية... ولم يقل:
حسبنا كتاب الله، كما تقول الخوارج (3).
أقول: يرد على الذهبي أمور:



(1) سنن ابن ماجة (1 / 6) باب (3) ح (12).
(2) أوردنا الأحاديث عن مصادرها في (ص 352 - 356) نهاية الفصل الثالث
من هذا القسم.
(3) تذكرة الحفاظ (1 / 3).
425
1 - قوله: مراد الصديق التثبت... لا سد باب الرواية:
ففيه: أن من يريد سد باب الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم، ويريد منع نقل الحديث عنه مطلقا، هل يجد كلاما أوضح دلالة،
على عموم المنع، من جملة: لا تحدثوا عن رسول الله شيئا؟
ولو لم يرد المتكلم بهذا الكلام سد باب الرواية، بل كان يريد
التثبت والتحري - كما فرض الذهبي - لما جاز له أن يأتي بما يدل
على عموم المنع والنهي عن الحديث مطلقا عن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم.
بل كان عليه أن يقول - مثلا -: لا تحدثوا ببعض ما تسمعون أو تروون.
أو يقول: لا تحدثوا بما لا تتثبتون....
وما أشبه ذلك.
أو يأمرهم بالاحتياط، ويحذرهم عن الخطأ والاشتباه.
كما أن قوله: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلوا حلاله، وحرموا
حرامه، قرينة واضحة على أن مراده نبذ السنة مطلقا، والاكتفاء بكتاب
الله وما فيه من حلال وحرام، تلك الدعوة التي نادى بها أهل الفصل
بين الكتاب والسنة، والاكتفاء بالقرآن مستغنين به عن السنة.
2 - قول الذهبي: ولم يقل - يعني أبا بكر -: حسبنا كتاب الله -
كما تقول الخوارج.
أقول: هل يتصور الذهبي أن منع الحديث والرواية مطلقا يتوقف
على قول: حسبنا كتاب الله، فقط؟

426
أليس كل ما يؤدي مؤدى هذه الجملة، فقائله يكون ممن يمنع
الاستناد إلى الحديث، ويدعو إلى الاكتفاء بكتاب الله؟!
ومؤدى حسبنا كتاب الله، هو الاكتفاء بكتاب الله، في مقابل
الحديث الشريف المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وكلام أبي بكر: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلوا حلاله وحرموا
حرامه، بعد قوله: لا تحدثوا عن رسول الله شيئا، يؤدي نفس معنى
قول: حسبنا كتاب الله، بلا أدني فرق، وبوضوح تام، ويدل على الاكتفاء بالقرآن وما
فيه من حلال وحرام، عما وردت به السنة.
وبما أن أبا بكر ذكر هذه الجملة في مقابل الحديث عن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، فهو يدل على الاستغناء بالقرآن عن الحديث، وهذا
واضح لا غبار عليه.
والعجيب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أراد الإنكار
على الفصل بين حديثه وبين الكتاب - في أحاديث (الأريكة) حذر
عن قول نفس جملة: بيننا وبينكم كتاب الله...، هذه الجملة بالذات التي قالها أبو بكر
في حديث منعه.
ثم، أي فرق يراه الذهبي بين جملة، حسبنا كتاب الله، التي
ذكرها هو، وجملة: بيننا وبينكم كتاب الله، في كلام أبي بكر؟!
3 - قول الذهبي: حسبنا كتاب الله، كما تقول الخوارج.
سبق أن تعرضنا لهذا الكلام بما حاصله: إنا لم نعهد من الخوارج
ذكرهم لجملة: حسبنا كتاب الله، وإنما شعارهم: لا حكم إلا لله،

427
وأما جملة: حسبنا كتاب الله، فهي معروفة من كلام عمر قالها في عهد
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد جابهه بها، وهو صلى الله عليه وآله
وسلم مسجى على فراش الموت (1) وذكرنا سابقا مصادر قول عمر:
حسبنا كتاب الله (2).
وأهم ما يجب التنبيه عليه في هذا المجال:
أن النصوص النبوية الدالة على وجوب رواية الحديث، ونقله،
وتبليغه، ونشره، وحمله، وأدائه إلى الآخرين، متضافرة، لا مجال
للتشكيك في صدورها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل هي تجوز
حد التواتر المعنوي، وبعض ألفاظها مستفيض قطعا، إليك بعض
نصوصها، ومصادرها:
قال صلى الله عليه وآله وسلم: نضر الله أمرء سمع مقالتي
فوعاها، وأداها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل
فقه ليس بفقيه (3).
وقال - في حديث -: احفظوهن، وأخبروا بهن من ورائكم (4).



(1) أنظر (ص 359) الفصل الثالث من القسم الثاني.
(2) أنظر (ص 80 - 81) الفصل الثاني من القسم الأول.
(3) رواه أحمد في مسنده (1 / 437) و (4 / 80) و (5 / 183) وفي طبعة شاكر:
(6 / 96) والحديث رقم (4157) وبألفاظ أخرى في (4 / 82) و (3 / 325)
وانظر سنن ابن ماجة (1 / 4 - 85) ومستدرك الحاكم (1 / 87 و 88) وجامع بيان العلم
(1 / 39) وكنز العمال (10 / 258) رقم (29375) وقبله وبعده.
(4) فتح الباري لابن حجر (1 / 194) ومسند أحمد (1 / 228).
428
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: مثل الذي يتعلم علما ثم
لا يحدث مثل رجل رزقه الله مالا فكنزه، فلم ينفق منه (1).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: من سئل عن علم فكتمه، ألجمه
الله بلجام من نار يوم القيامة (2).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: من رغب عن سنتي فليس مني (3).
وقد روى حذيفة بن اليمان، قال: دخلت على رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه الذي قبض فيه، فرأيته يتساند إلى
علي، فأردت أن أنحيه وأجلس مكانه، فقلت: يا أبا الحسن، ما أراك
إلا تعبت في ليلتك هذه، فلو تنحيت، فأعنتك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: دعه، فهو أحق بمكانه
منك، ادن مني يا حذيفة، من أطعم مسكينا لله عز وجل دخل الجنة.
قال: قلت: يا رسول الله، أكتم أم أتحدث؟؟!
قال: بل تحدث به (4).
ولا أظن مسلما يتردد في أن حديث رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم لا بد أن ينشر ويبلغ وينقل، بل إن ذلك من بديهيات الإسلام.



(1) الجامع لأخلاق الراوي والسامع.
(2) مسند أحمد (2 / 263 و 305 و 495 و 353 و 296) وطبعه شاكر: (14 / 5)
ح 7561 و (15 / 86) ح 7930. والمستدرك للحاكم (1 / 101).
(3) الفقيه والمتفقه، للخطيب (1 / 144).
(4) مختصر تاريخ دمشق (18 / 259).
429
فأين كان أبو بكر - في صحبته الطويلة مع النبي صلى الله عليه وآله
وسلم - من هذه الحقيقة الواضحة القطعية، حتى يقف بعد وفاة النبي صلى الله
عليه وآله وسلم - بفترة غير طويلة - ويمنع من نقل أي حديث عن رسول الله
صلى الله عليه وآله، بقوله: لا تحدثوا عن رسول الله شيئا؟
عمر، والرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
لقد عرفنا أن عمر كان أول من أعلن المنع عن تدوين الحديث،
بعد أن أراد كتابته، وشاور الصحابة في ذلك، وأشار عليه عامتهم بأن
يكتب، لكنه خالفهم وعزم على المنع (1).
وقد وقف عمر من رواية الحديث ونقله موقفه الشديد من تدوين
الحديث (2).
وقد رويت آثار في ذلك، نستعرضها في ما يلي:
1 - فمنع وفد الصحابة الذين أرسلهم إلى الكوفة من الرواية
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال قرظة بن كعب: بعثنا عمر بن الخطاب إلى الكوفة، وشيعنا
إلى موضع قرب المدينة، يقال له: (صرار).
وقال: أتدرون لم شيعتكم، أو مشيت معكم؟
قال: قلنا: نعم، لحق صحبة رسول الله، أو: نحن أصحاب



(1) أنظر ما ذكرناه في التمهيد للقسم الثاني (ص 272).
(2) حتى عد - بحق - رائدا للمانعين!.
430
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولحق الأنصار.
قال عمر: لكني مشيت معكم لحديث أردت أن أحدثكم به،
فأردت أن تحفظوه لممشاي معكم، إنكم تقدمون على قوم، أو: تأتون
قوما، تهتز ألسنتهم بالقرآن اهتزاز النخل - أو: للقرآن في صدورهم هزيز
كهزيز المرجل، أو: لهم دوي بالقرآن كدوي النحل - فإذا رأوكم مدوا
إليكم أعناقهم، وقالوا: أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم - أو:
فيأتونكم فيسألونكم عن الحديث -؟
فأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
وأنا شريككم.
أو: فلا تصدوهم بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (1).
2 - ومنع عمر صحابة كبارا بالخصوص عن الحديث عن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم:
1 - فمنع أبا هريرة:
قال عمر لأبي هريرة: لتتركن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم أو لألحقنك بأرض دوس (2).



(1) رواه أصحاب الكتب، وقد جمعنا بين ألفاظهم المختلفة بقولنا (أو: كذا)
فانظر: طبقات ابن سعد (6 / 7) وسنن الدارمي (1 / 73) ح 285 و 286 وسنن
ابن ماجة 1 / 12) باب التوقي في الحديث، ومستدرك الصحيحين للحاكم (1 / 110)
وشرف أصحاب الحديث (ص 92) وجامع بيان العلم (2 / 120) وتذكرة الحفاظ
(1 / 7) وكنز العمال (2 / 284 - 285) رقم (4017).
(2) المحدث الفاصل (ص 554) رقم (746) والبداية والنهاية لابن كثير (8 / 106).
431
وقال له - أيضا -: لتتركن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، أو لألحقنك بأرض الطنيح - يعني أرض قومه - (1).
وقال عمر له: لتتركن الرواية - أو الإكثار من الرواية - أو لألحقنك
إلى جبال دوس (2).
وقال ابن أبي الحديد: ضربه عمر بن الخطاب - في خلافته - بالدرة،
وقال له: لقد أكثرت الرواية، وأحر بك أن تكون كاذبا على رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم (3).
2 - ومنع ابن مسعود، وأبا مسعود:
قال ابن عساكر: بعث عمر إلى أبي مسعود، وابن مسعود، فقال:
ما هذا الحديث الذي تكثرونه عن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم (4).
ونقله ابن عدي، وفيه: بعث عمر بن الخطاب إلى عبد الله
بن مسعود، وإلى أبي الدرداء، وإلى أبي مسعود الأنصاري، فقال:
ما هذا الحديث الذي تكثرون عن رسول الله صلى الله عليه؟ فحبسهم
بالمدينة حتى استشهد (5).



(1) أخبار المدينة المنورة لابن شبة (3 / 800).
(2) الإعتصام بحبل الله المتين، للقاسم (2 / 29).
(3) شرح نهج البلاغة (4 / 68) ونقله في الإعتصام (2 / 29) وفيه: وأخشاك، بدل:
وأحر بك.
(4) تاريخ دمشق (39 / 108).
(5) الكامل لابن عدي (1 / 18).
432
3 - ومنع أبا موسى الأشعري - لما بعثه إلى العراق - بمثل ما ورد
في حديث قرظة بن كعب (1).
3 - ومنع عمار عامة الناس عن الحديث:
خطب عمر، وقال: ألا، لا أعلمن ما قال أحدكم: إن عمر
بن الخطاب منعنا أن نقرأ كتاب الله، إني ليس لذلك أمنعكم.
ولكن أحدكم يقوم لكتاب الله، والناس يستمعون إليه، ثم يأتي
بالحديث من قبل نفسه [؟] إن حديثكم هو شر الحديث، وإن كلامكم
هو شر الكلام.
من قام منكم فليقم بكتاب الله، وإلا فليجلس، فإنكم قد حدثتم
الناس حتى قيل: قال فلان، وقال فلان، وترك كتاب الله (2).
إن ظاهر هذه الخطبة المنع من حديث المتكلمين خلال القرآن،
ولم يصرح فيه بالمنع من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
لكن يمكن فهم المراد بملاحظة أمور:
1 - إيراد ابن شبة لهذه الخطبة في سياق ما نقله من منع
عمر للصحابة من نقل الحديث والرواية عن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم.
2 - ظهور الخطبة - وخاصة الفقرة الأخيرة منها - في تأكيد عمر
على ترك كل حديث ما سوى كتاب الله، وهو نفس المقولة المعروفة



(1) مستدرك الحاكم (1 / 125) والبداية والنهاية لابن كثير (8 / 107).
(2) أخبار المدينة المنورة (3 / 800).
433
عن عمر " حسبنا كتاب الله "، ويؤدي مؤداها.
ومن الواضح أن عمر إنما كان يردد تلك المقولة: حسبنا كتاب
الله " في مقابل الحديث النبوي وروايته، كما يظهر من تعليله المنع من الحديث
بالمحافظة على القرآن وخوف تركه والاشتغال بغيره، وهو التبرير الذي عرفناه
مكررا في أحاديثه التي تضمنت منع التدوين، كقوله: إني لا ألبس
كتاب الله بشئ أبدا (1).
3 - إن حسن الظن بالمحدثين في ذلك العصر وبالمسلمين في تلك
الفترة، يقتضي أن الشئ الذي ينقله المحدثون خلال قراءتهم للقرآن
الكريم، وإلى جنب آياته، بحيث يقبله المسلمون إذا استمعوا إليه أن
يكون كلاما مقدسا وحقا، لا أي كلام كان من أي أحد صدر، وبأي محتوى؟
أفهل يعقل من معلمي القرآن في ذلك العصر - ولا بد أن يكون فيهم مجموعة من
الصحابة إن لم يكن كلهم منهم، ومجموعة من كبار التابعين - أن يقرأوا
القرآن ويحدثوا الناس في أثناء تلاوتهم له بأشياء تكون
" شر الحديث، كما يعبر عنها عمر!! ومع هذا يقبل المسلمون ذلك
ويسكتون عليه؟ ولم ينتبهوا إلى بطلان ذلك إلا بتنبيه عمر؟!
إن أفضل محمل لذلك أن يكون ما نقلوه من حديث رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن من تلك الأحاديث التي لم ترق للسلطة
الحاكمة، ومما يعارض سياستها.
عمر يهدد الصحابة على الحديث ويهينهم:



(1) تقييد العلم (ص 49).
434
1 - قال عمر لأبي موسى:... والله، لتقيمن عليه بينة، وفي لفظ
مسلم: أقم عليه البينة وإلا أوجعتك (1).
2 - وأخذ بمجامع أبي بن كعب، وقال: لتخرجن مما قلت،
فجاء يقوده حتى أدخله المسجد، فأوقفه على حلقة من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، منهم أبو ذر، فقال: أنا سمعته...
فأرسل عمر أبيا (2).
3 - وفي حديث قال لأبي: لتأتيني على ما تقول ببينة (3).
وقد تذرع له بأنه خشي الكذب على النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، وأراد الاحتياط في الحديث والرواية.
لكنها ذريعة باطلة، إذ أن الصحابي العادل إذا سمع شيئا من
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجب عليه تبليغه وأداؤه إلى
الآخرين، لأنه سنة، والسنة شريعة، والصحابة من حفاظها (4).
فكيف يجوز لأحد أن يتشدد عليهم هكذا
ولو فرضنا أنه لم يجد من سمع الحديث من رسول الله صلى الله



(1) صحيح مسلم (3 / 1694) وموطأ مالك (2 / 964) بلفظ آخر، والرسالة للشافعي
(ص 430).
(2) طبقات ابن سعد (4 / 1 / 13 - 14).
(3) تذكرة الحفاظ (1 / 8).
(4) فانظر إلى موقف عبادة بن الصامت من معاوية لما عارض الحديث، في صحيح مسلم
(3 / 1210) كتاب المساقاة.
435
عليه وآله وسلم فيشهد له، فهل حقه أن يهان ويهدد؟
أليس هذا سدا لباب الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
5 - عمر يحبس الصحابة كي لا يحدثوا عن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم:
إن عمر حبس جماعة من كبار الصحابة، مصرحا بأن السبب
في ذلك هو روايتهم الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
وأن هدفه من حبسهم منعهم من رواية الحديث، وقد وردت في ذلك
آثار عديدة:
1 - إن عمر بن الخطاب حبس بعض أصحاب النبي صلى الله عليه
وآله وسلم، فيهم: ابن مسعود، وأبو الدرداء، فقال: قد أكثرتم الحديث
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال ابن البري: يعني منعهم الحديث، إذ لم يكن لعمر حبس (1).
2 - أسند الحاكم عن إبراهيم: أن عمر قال لابن مسعود،
ولأبي الدرداء ولأبي ذ ر: ما هذا الحديث عن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم؟
وأحسبه حبسهم بالمدينة حتى أصيب.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه
الذهبي في ذيله (2).



(1) المحدث الفاصل للرامهرمزي (ص 553) رقم (744) والإلماع للقاضي عياض (ص 217).
(2) المستدرك على الصحيحين للحاكم (1 / 110) ومجمع الزوائد (1 / 149).
436
3 - قال الذهبي: إن عمر حبس ثلاثة: ابن مسعود، وأبا الدرداء،
وأبا مسعود الأنصاري، فقال: لقد أكثرتم الحديث عن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم (1).
4 - قال عبد الرحمن بن عوف: ما مات عمر بن الخطاب
حتى بعث إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجمعهم
من الآفاق: عبد الله، وحذيفة، وأبا الدرداء، وأبا ذر، وعقبة بن عامر،
فقال: ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله صلى الله عليه وآله
في الآفاق؟!
قالوا: تنهانا؟!
قال: لا، أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشت، فنحن
أعلم، نأخذ عنكم ونرد عليكم.
فما فارقوه حتى مات (2).
رواه عساكر وأضاف: وما خرج ابن مسعود إلى الكوفة
ببيعة عثمان إلا من حبس عمر في هذا السبب (3).



(1) تذكره الحفاظ (1 / 7).
(2) كنز العمال (1 / 239) ط الهند
وانظر عن موضوع حبس عمر للصحابة، ومنعهم من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، في المصادر التالية:
طبقات ابن سعد ففيه إحراقه للحديث (5 / 188) وأمره بجمع الحديث في وتقييد العلم
(ص 53) وانظر سنن الدارمي (1 / 85) والمستدرك على الصحيحين للحاكم (1 / 102)
ومجمع الزوائد (1 / 149).
(3) مختصر تاريخ دمشق (17 / 101).
437
توجيهات العامة لحبس الصحابة:
لقد ارتبك علماء العامة أمام هذه الإقدام، ارتباكا غريبا.
فهم بين منكر لهذه الروايات - وخاصة ما نقل عن عمر في حبس
الصحابة - وحاكم بعدم صحتها، وبوضعها، ومن أشدهم في ذلك
ابن حزم الظاهري، الذي عبر عن رواياتها بالروايات الملعونة!
وبين من صححها سندا، وهم الأكثر، إلا أنهم اختلفوا في
توجيهها، مع الاعتراف بظهورها في التشديد على الصحابة في نقل
الحديث والرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
إلا أن فيهم من أسفر عن حقيقة الأمر، بلا تورية، وهو أبو بكر
ابن العربي، صاحب (العواصم من القواصم) فإنه - على تعنته وجرأته
في إنكار ما لا يوافق مذهبه وهواه ورأيه - في الدفاع عن عثمان إذ أخذ عليه
إخراج أبي ذر إلى الربذة:
فقد روي أن عمر بن الخطاب... سجن ابن مسعود في نفر
من الصحابة، سنة، بالمدينة، حتى استشهد، فأطلقهم عثمان،
وكان سجنهم لأن القوم أكثروا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم (1).
وهو وإن كان حرف علة السجن، فجعلها الإكثار، بينما هي مجرد
الإفشاء، أي الإعلان والإذاعة والنقل والنشر لحديث الرسول وسنة المصطفى
صلى الله عليه وآله وسلم.



(1) العواصم من القواصم (ص 76).
438
ولا بد من ذكر التوجيهات التي وقفنا عليها لنرى مدى قابليتها للقبول،
وما يرد عليها من النقوض:
1 - توجيه الخطيب البغدادي:
قال الخطيب: إن قال قائل: ما وجه إنكار عمر على الصحابة
روايتهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتشديده عليهم
في ذلك؟
قيل له: فعل ذلك عمر احتياطا للدين، وحسن نظر للمسلمين،
لأنه خاف أن يتكلوا عن الأعمال، ويتكلوا على ظاهر الأخبار، وليس
حكم جميع الأحاديث على ظاهرها، ولا كل من سمعها عرف فقهها،
فقد يرد الحديث مجملا ويستنبط معناه وتفسيره من غيره، فخشي عمر
أن يحمل حديث على غير وجهه، أو يؤخذ بظاهر لفظه، والحكم
بخلاف ما أخذه.
وأضاف: وفي تشديد عمر - أيضا - على الصحابة في رواياتهم حفظ لحديث
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وترهيب لمن لم يكن من الصحابة
أن يدخل في السنن ما ليس منها (1).
وفي هذا التوجيه نظر من وجوه:
1 - أما احتياطه للدين:
1 - فإنه لم يكن أحد أحرص على هذا الدين من نفس الرسول



(1) شرف أصحاب الحديث (ص 97 - 98).
439
صلى الله عليه وآله وسلم الصادع بالرسالة، الذي صدرت منه تلك
الروايات، وهو قد أمر بنشرها، وحث على تبليغها، وأمر باتباعها.
ولو كان في الأحاديث أدنى خطر أو سوء على الدين، لم تصدر
هي من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
2 - إن احتياط عمر للدين لا يقتضي منع الحق الذي سمعه
الصحابة الكرام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن الصحابة
لا ينسبون إلى النبي باطلا، وخاصة مثل أبي ذر الغفاري، الذي قال فيه
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء
على ذي لهجة أصدق من أبي ذر (1).
الحديث الذي رواه من الصحابة علي عليه السلام، وأبو الدرداء،
وابن عمر (2).
3 - ولماذا يفرض عمر نفسه أنه أحرص على الدين، والمحافظة على
الحديث من سائر الصحابة؟
أفهل كان الصحابة متهاونين في أمر الحديث أو الدين؟ أو كانوا
ينشرون بالحديث حقا، ويؤدون بنشره واجبا؟ وحديثهم هو من الدين؟!
وإذا فرضنا أن الصحابة يخطئون، فهذا يشمل عمر أيضا.
4 - وإذا كان الصحابة يرون - حسب اجتهادهم - وجوب أداء



(1) الكنى للدولابي (2 / 62) و (2 / 169).
(2) مسند أحمد (2 / 175 و 223) و (6 / 442) ومستدرك الحاكم (4 / 480)
و (3 / 342 و 344).
440
الأحاديث بما يفهمون من ظواهرها، أفهل يجوز لأحد أن يمنعهم،
ويفرض عليهم رأيه؟!
ومن أين له حق السيطرة على فهم الناس للحديث، واجتهادهم
في استنباط الأحكام من الروايات؟ هل كان هو أفهم منهم، أو أعلم؟!
خاصة مع دعوى أن المسلمين في القرن الأول - الذي هو خير
القرون عندهم - كانوا أتقى من أن يتعمدوا خلاف ما تدل
عليه النصوص؟!
والمفروض حجية الأحاديث عليهم، لبلوغها إليهم من أفواه
الصحابة - الذين هم قاطبة عدول عندهم -؟!
أفهل كان عمر يريد أن يحجز فهم النصوص على نفسه؟
أو يريد الخطيب حجزه عليه؟!
5 - وأما حبس الصحابة والتشديد عليهم لغرض ترهيب غيرهم،
فهل يجوز في شريعة الإسلام أن يشدد على شخص بغرض تأديب
غيره؟!
ولو فرضنا لعمر حقا في تأديب الناس، لحق له أن يباشر تأديب
المخالفين أنفسهم، لا تأديب البريئين من الصحابة بغرض تأديب غيرهم؟
فلماذا يأخذ عمر الجار بذنب الجار؟ ويرمي البرئ بحجر المسئ؟؟
والله يقول: (لا تزر وازرة وزر أخرى) في خمس آيات
أولها في سورة الأنعام: (6)، الآية 164].

441
6 - ثم، هل من الصحيح أن يمنع الحديث عن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، وهو ثاني أعمدة هذا الدين، بمثل هذا التوجيه، مع أن
بالإمكان لمن يريد إرشاد الناس - لا ترهيبهم طبعا - أن يبين لهم الطريق
الصحيح، ويحدد لهم نوعية الأحاديث المقبولة، أو تعيين مراجع خاصة
ليأخذوا منها.
لا أن يعمد إلى عيون الصحابة الكرام، بالتهديد والتشديد عليهم
وحبسهم عنده، ومنعهم من إبلاغ ما تحملوه من رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم؟!
والملاحظ:
أن الخطيب - وهو من أعيان العامة في علوم الحديث ونقده -
لم يتعرض لهذا الحديث بالنقد السندي، وهذا يدل على صحته،
وسلامته من أي إشكال رجالي أو علة قادحة في الاحتجاج به.
كما أن تصديه لتوجيهه يدل على ذلك، كما لا يخفى.
2 - توجيه ابن حزم الظاهري:
ذكر ابن حزم الظاهري رواية عبد الرحمن بن عوف في حديث
حبس عمر للصحابة (1) ثم اعترض عليه سندا، ودلالة.
وكلامه طويل، اختصرناه، ورتبناه كما يلي:
قال: هذا مرسل، ومشكوك فيه عن شعبة، فلا يصح، ولا يجوز



(1) هو الذي نقلناه عن كنز العمال (1 / 239) ط - الهند.
442
الاحتجاج به.
ثم هو في نفسه ظاهر الكذب والتوليد، لأنه لا يخلو عمر من:
1 - أن يكون اتهم الصحابة.
وفي هذا ما فيه.
2 - أو يكون نهى عن نفس الحديث، وعن تبليغ سنن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسلمين، وألزمهم كتمانها وجحدها،
وأن لا يذكروها لأحد.
فهذا خروج عن الإسلام...!
3 - ولئن كان سائر الصحابة متهمين بالكذب على النبي صلى الله
عليه وآله وسلم، فما عمر إلا واحد منهم.
4 - ولئن كان حبسهم - وهم غير متهمين - لقد ظلمهم.
فليختر المحتج بمثل هذه الروايات الملعونة، أي الطريقتين
الخبيثتين شاء؟
ولا بد له من أحدهما (1).
أقول:
أما إشكاله على السند، ففيه:
أولا: أن الحديث هو من روايات التابعين لما فعله الصحابة



(1) الإحكام لابن حزم (1 / 256 - 257) باختصار.
443
وما حدث بينهم، وهذا لا يسمى مرسلا اصطلاحا، إلا إذا خالف
ابن حزم اصطلاح المحدثين، وهو منه ليس بقليل.
وثانيا: أن الحديث قد ورد بطرق أخرى، وهو لا ينحصر بهذا
السند، ولا يدور على من رواه عن شعبة، كما عرفت، وسيأتي بعض
الكلام حول سنده أيضا.
إلا أن المهم أن الحاكم ذكر ما روي عن شعبة، وقال فيه: صحيح
على شرط الشيخين; ووافقه الذهبي، فقال: على شرطهما (1).
وأين ابن حزم من صيارفة نقد الحديث من أمثال الحاكم والذهبي؟
حتى يعترض على الحديث بخلافهما؟! (2).
كما عرفنا أن الخطيب - وهو من أعيان علوم الحديث - لم يتكلم في
سنده وإنما اكتفى بتوجيهه دلالة، وهذا منه ومن كل من تصدى لتوجيه
الحديث، دليل على عدم مناقشتهم فيه سندا.
وأما إشكاله على متن الحديث:
فلا ينكر أحد أن الحبس قد تحقق من عمر قطعا، كما لم يناقش فيه
أحد من أعلام الحديث، ولهذا تصدوا لتوجيهه، ولو كان في أصله أدنى
مناقشة، لما فاتهم ذلك، لأن المناقشة في الدلالة فرع ثبوت الحديث
وصحة سنده، كما لا يخفى.



(1) المستدرك للحاكم (1 / 110) وتلخيص الذهبي له، بذيله.
(2) وكذلك من قلد ابن حزم من المحدثين - كالشيخ أبي شهبة - حيث قال عن رواية حبس
عمر للصحابة: إنها مكذوبة، لاحظ دفاع عن السنة (ص 280).
444
وظاهر الحبس هو رفض ما صدر من الصحابة من نقل الحديث، كما يظهر
من كلامه حيث عاتبهم بقوله: ما هذا الحديث عن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم؟! مستنكرا؟!
والاستنكار لا يكون إلا إذا كان الصحابي قد جاء بما لم يتوقع منه،
وهذا هو واحد من أشكال الاتهام.
ولا أقل من احتواء ما فعله عمر على التشديد على الصحابة،
وقد اعترف أكثر المحدثين بذلك، وصرح به الخطيب (1) وابن عساكر (2)
وابن قتيبة (3).
والتشديد - أيضا - حرام، وخاصة على الصحابة الكرام.
وإذا نفينا أن يكون فعل عمر بالصحابة بوجه التهمة، فيبقى
احتمالان - مما ذكر ابن حزم - لا بد من أحدهما:
1: فإما أن يكون غرض عمر منع الحديث والرواية عن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا هو ظاهر جميع النصوص التي وردت في مسألة الحبس،
وسائر تصرفات عمر وأقواله لمنع الصحابة، حيث استنكر عليهم أصل
الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
كما يدل عليه إقدامه الشديد على منع تدوين الحديث،



(1) شرف أصحاب الحديث (ص 97 - 98) وقد مضى نقل كلامه.
(2) تاريخ دمشق (39 / 108 - 109) وسيأتي نقل كلامه.
(3) تأويل مختلف الحديث (ص 39) وسيأتي نقل كلامه.
445
وخاصة احتجاجه بالاكتفاء بالقرآن، الذي هو من أدلة المدعين للفصل
بين الكتاب والسنة.
2 - أو الالتزام بأنه حبس الصحابة ظلما.
وإن لم يتحمل ابن حزم أي واحد من هذه الاحتمالات في حق
عمر، فليخضع لما توصلنا إليه من أن غرضه - من منع الحديث رواية
وتدوينا - كان سياسيا بهدف منع تداول نوع خاص من الحديث
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما كان ينافي وجوده على
أريكة الخلافة، من الأحاديث الدالة على إمامة الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام
وخلافته المباشرة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الغريب أن يتابع رأي ابن حزم في معالجة أحاديث سجن عمر
للصحابة من قبل مؤلف أحدث كتاب تعرض لموضوع تدوين السنة
والحديث، وهو دلائل التوثيق المبكر، حيث نجده يقول: وعلى الرغم
من قراره - أي عمر - بعدم جمع الحديث رسميا، فقد كان عمر حريصا
على نشر الحديث، بل وحتى كتابته.
ويقول بعد سطور: وفي ضوء هذه المقولات، فرواية سجنه
لأبي مسعود الأنصاري، وأبي الدرداء، وعبد الله بن مسعود بتهمة نقل
عدد من الأحاديث [نقلا عن: تذكرة الحفاظ (1: 7) والمحدث
الفاصل (ص 355)] تبدو أنها مشكوك فيها، وفي الحقيقة يمكن رفض
هذه الرواية على أساس إسنادها ومتنها.
ثم قال: وجدنا اسم إبراهيم في إسناد هذه الرواية، وإبراهيم هذا

446
ولد سنة (20 ه‍) أو سنة (21 ه‍) [نقلا عن: مشاهير علماء الأمصار
(ص 66) الترجمة (450)] أي في أخريات حياة عمر، فمن غير
المحتمل على الإطلاق أن يروي أي شئ مباشر من فترة الفاروق عمر.
وقال: وعلى هذا الأساس أوضح ابن حزم بجلاء أن نسبة هذه
الأحاديث إلى عمر غير صحيحة [نقلا عن إحكام الأحكام
(2 / 141)] وشكك الجزائري في صحة هذا الحديث على أساس
إسناده أيضا (نقلا عن توجيه النظر (81)] (1).
أقول: وتتحدد مؤاخذتنا عليه بنقاط:
1 - قد عرفت في جواب ابن حزم، كما سيأتي أيضا - في المقطع
التالي -: أن الحديث الدال على حبس عمر للصحابة هو صحيح،
بحكم صيارفة نقد الحديث والرجال، من أمثال الحاكم النيسابوري،
والحافظ الذهبي، فقد اعتبراه من الصحيح على شرط الشيخين.
وكذلك قد أجبنا عن إشكال الإرسال بما حاصله: أن الحديث
ذاك من روايات التابعين لما وقع في زمن الصحابة، وما حدث بينهم
من مجريات الأفعال وما صدر منهم من الأقوال والجدال، ونقل التابعي له
لا يسمى مرسلا اصطلاحا.
كما أن الذين تصدوا لتبرير فعل عمر بالصحابة، يظهر منهم
الموافقة على ورود أصله، وعدم اعتراض منهم على إسناده، فلا يمكن
رده على أساس النقاش السندي.



(1) دلائل التوثيق المبكر (ص 511 - 512).
447
مع أن وضوح هذا الأمر وشهرته لا يحتاج معها إلى التطرق إلى إسناده.
ثم إن ما نقله عن الجزائري ليس شيئا زائدا على كلام ابن حزم،
لأن الجزائري في ذلك الموضع من كتابه نقل نص كلام ابن حزم
فحسب، بلا اختلاف ولا إضافة.
وقد أوضحنا اعتراف الجميع بأصل صدور الحبس من عمر لكبار
الصحابة، معلنا أن ذلك من أجل إفشائهم حديث رسول الله
صلى الله عليه وآله وإنما حاول بعض المحدثين تبرير ذلك موقف من عمر،
وعملهم هذا دليل على وقوعه منه.
2 - وأما حديث معارضة عمر لتدوين الحديث، فهو أمر سارت
به الركبان، ولم يختلف فيه اثنان، حتى أن اسم عمر يكتب في صدر
قائمة أسماء المانعين من التدوين عند جميع المؤرخين، ومنهم مؤلف
دلائل التوثيق المبكر نفسه، حيث جعل في عداد العوامل التي منعت
تدوين الحديث النبوي -: (41 - منع الفاروق عمر) وقال:
عامل رئيسي آخر لعدم تدوين أحاديث النبي صلى الله عليه وآله
وسلم في وقت مبكر، كان الأمر المشدد الذي أصدره عمر بمنع الصحابة
من تسجيل أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال: وجدنا أن الفاروق عمر أثناء خلافته نفذ هذا بنجاح، وفي
سعيه لتنفيذ سياسته حرق بعضا من مجموعات الأحاديث المكتوبة (1).
ويعترف بإصرار عمر على هذه السياسة طيلة خلافته، فيقول:



(1) دلائل التوثيق المبكر (ص 230).
448
إن أمر الفاروق عمر بالتحريم ظل ساريا حتى وفاته (1).
ولكنه، مع هذا! يحاول هنا أن يعتبر عمر مؤيدا لتسجيل الحديث (2).
ويحاول أن يعتبره حريصا على نشر الحديث، بل وحتى
كتابته (3).
إن التهافت والتناقض واضح بين هذه الكلمات، ولا أدري كيف
يكون عمر مؤيدا للتدوين، أو حريصا على نشر الحديث، وهو يحرق
المجموعات التي دون فيها الحديث!؟ أو يعمم على الأمة قانون تحريم كتابة
الحديث! ولا يرفع التحريم حتى وفاته!
3 - توجيه ابن عبد البر:
وقد أغرب ابن عبد البر القرطبي في توجيه هذه الأحاديث، حيث إنه جمع في
الاحتمال بين أن لا تكون حجة، وبين أن تكون صحيحة حاول تأويلها.
فإنه قال - ومورد كلامه ما رواه قرظة من حديث عمر مع
وفد الكوفة -:
طعن في حديث قرظة هذا، لأنه يدور على (بيان) عن الشعبي،
وليس مثله حجة في هذا الباب، لأنه يعارض السنن والكتاب....
فكيف يتوهم أحد على عمر أنه يأمر بخلاف ما أمر الله به....



(1) دلائل التوثيق المبكر (ص 435).
(2) دلائل التوثيق المبكر (ص 234).
(3) دلائل التوثيق المبكر (ص 511 - 512).
449
والكلام في هذا أوضح من النهار (1).
ثم قال: وقد يحتمل عندي أن تكون الآثار كلها - عن عمر -
صحيحة متفقة.
ويخرج معناها على أن من شك في شئ تركه (2).
أقول:
إن ترديده في الحديث بين احتمال الإشكال السندي،
وعدم الحجية، وبين احتمال أن يكون صحيحا، عمل غريب جدا - وخاصة
من مثل ابن عبد البر - حيث إنه مع الإشكال في السند بما ذكر، لم يبق
مجال لاحتمال الصحة.
إلا إذا أراد أن يجيب على ذلك الفرض أيضا تنزلا وتسليما، فلا بد أن يذكره
فرضا، لا احتمالا.
وأما إشكاله السندي، من جهة دوران الحديث على بيان فهو
غير وارد، وذلك: لأن الرجل هو: بيان بن بشر، وهو - عندهم ثقة (3).
وقد اعترض محمد عجاج الخطيب على ابن عبد البر في كلامه
هذا، بقوله: طعن عبد البر في روايته هذه، لأنه خالف من هو أوثق
منه، وهذا لا يمنع صحتها (4).



(1) جامع بيان العلم (2 / 122).
(2) جامع بيان العلم (2 / 123) وانظر السنة قبل التدوين (ص 110 - 103).
(3) تهذيب التهذيب (1 / 506).
(4) السنة قبل التدوين (ص 101) ه‍ 1.
450
أقول: مع أن الحديث منقول بأسانيد أخرى وفيها الصحاح،
ولا تنحصر روايته بهذا السند، بل إن حديث منع عمر للصحابة من
الحديث مشهور معروف، لا يحتاج إلى ملاحظة أسانيده.
وأما تأويله للحديث على احتمال صحته والاتفاق عليه بأنه:
يخرج على أن من شك في شئ تركه.
ففيه: أنه تخريج بعيد، لأنه لا يرتبط بأمر الحديث عن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، الذي سمعه الصحابة منه، وحاولوا نشره
وإذاعته، ولا بمنع عمر لهم عن ذلك إلى حد التشديد والحبس.
فلا الصحابة كانوا شاكين في ما يروون عن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، حتى يتركوه، ولا عمر كان شاكا في شئ مما يفعل من
المنع والحبس حتى يتركه.
وإذا صح الحديث بأن عمر قد حبس الصحابة ومنعهم عن الرواية،
فلا بد من النظر في مدى موافقة ذلك العمل للنصوص الثابتة الدالة على
جواز الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجوازها في كل عصر
ومصر، بل ضرورة ذلك ولزومه، الذي هو من بديهيات الإسلام، وهو
أوضح من النهار - كما ذكر ابن عبد البر - ونعم ما قال في نهاية كلامه
المذكور، ونصه: ولو كان مذهب عمر ما ذكرناه، لكانت الحجة في
قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، دون قوله، فهو القائل: نضر
الله عبدا سمع مقالتي فوعاها... (1).



(1) جامع بيان العلم (2 / 124).
451
أقول: فلا يحتاج الحديث إلى تخريج أو توجيه، بل يؤاخذ عمر
على فعله ذلك في حق كبار الصحابة وأعيانهم من استدعائهم إلى
المدينة، وحبسهم عنده، لأنهم لم يلتزموا بأوامره في الامتناع عن نشر
الحديث وإفشائه وإبلاغه.
كما لم يلتزموا بإجراءاته الشديدة في منع التدوين وكتابة الحديث،
بل خالفوه، فكتبوا، وخلفوا لنا وللأجيال ما نشكرهم عليه وتشكرهم الأيام.
4 - توجيه ابن حبان وابن عساكر:
وروى ابن عساكر حديث منع عمر لابن مسعود، وقال بعده:
لم يكن هذا من عمر على وجه التهمة، وإنما أراد التشديد في باب
الرواية لئلا يتجاسر أحد إلا على رواية ما تحقق صحته (1).
أقول:
أما وجود التهمة للصحابة، فهو المحسوس من ظاهر كل
الأحاديث المتضمنة لمنع عمر لهم من الحديث، حيث إنه تكلم معهم
مستنكرا حديثهم، فقال: ما هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم؟!
والمرء يؤخذ بظاهر كلامه.
كما أن قوله للصحابة في حديث عبد الرحمن بن عوف (2)



(1) تاريخ دمشق (108 / 39 - 109).
(2) مضى نقله برقم (4) ص (437).
452
بكل صراحة: ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم في الأفاق؟!
ثم يقول لهم: فنحن أعلم، نأخذ منكم، ونرد عليكم.
هو كلام من لا يقبل من الصحابة، ويتهمهم في بعض أحاديثهم، وإلا فلماذا
يرد عليهم؟ وما هو المردود عند عمر؟
والعجيب أن هؤلاء العلماء! يحاولون التمويه، فيسمون ذلك
من عمر تثبتا في الحديث، ومحافظة عليه، حتى أوردوا أخبار منع
عمر للحديث في أبواب ترجموها بالتوقي في الحديث.
وقد أشرنا، في جوابنا عن توجيه الخطيب، إلى أن أسلوب
منع الصحابة بغرض ترهيب غيرهم، أسلوب غير شرعي ولا مقبول،
تجاه الصحابة، فلاحظ.
وبعد ذلك نجيب عن هذا التوجيه بما يلي:
أولا:
أن منع الحديث بغرض المحافظة، أشبه ما يكون بالتناقض، كما إذا
أراد الإنسان أن يصلح أداة معيوبة ومعطوبة، فيعمد إلى إبادة تلك
الآلة وتهشيمها.
وكما إذا أراد الإنسان أن يؤدب شخصا، فيعمد إلى قتله وإعدامه.
إن من يريد التثبت من الحديث، يلزمه أن يحوطه بما لديه
من إمكانات احتياطية، ويحدد له طرقا معينة، ويشخص له موارد مأمونة،

453
ومراجع صالحة، تقوم على رعايته والمحافظة عليه.
لا أن يعمد إلى كبار الصحابة وحفاظهم للحديث، فيكم
أفواههم، ويخوفهم، ويشدد عليهم، ويستنكر رواياتهم، ويهددهم
بالإبعاد عن المدينة، أو بجبرهم على الإقامة فيها
أليس هذا نقضا لغرض المحافظة على الحديث؟!
ألم يجعل عمر - بحبس الصحابة ومنعهم من الحديث - جعل ما عند
أولئك الصحابة من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكتومة
في صدورهم! فلم يبثوه إلى الأمة! ولعلها تعرضت لعوامل النسيان وغيره؟
أمثل هذا العمل يسمى محافظة، وتثبتا؟ وتوقيا؟!
أم يسمى هدرا، وتفريطا، وتضييعا، وإماتة؟؟.
وثانيا:
من المتفق عليه - لدى كافة العقلاء - أن كتابة العلم، وتسجيل
المعلومات هما من أفضل وسائل الحفظ والصيانة والتثبت.
ولو كان عمر يهدف من إجراءاته تلك المحافظة على الحديث
والتثبت والتوقي فيه، وكان يخاف من تداوله بين الناس وعدم صحته،
لكان يلجأ إلى تدوينه، ويأمر بتقييده، وضبطه، أو يشرف هو - وجمع
من الصحابة الحافظين له، المأمونين - على عملية جمعه.
لكن نرى أنه، إلى جنب منع رواية الحديث ونقله بهذه الشدة،
كان من أشد المانعين للتدوين، بأعذار مختلفة، كما سبق لنا عرضها.

454
فبأي شكل كان يريد المحافظة على الحديث؟ إذا هو يمنع من جهة
نقله وتداوله والمذاكرة به، ويمنع من جهة أخرى كتابته وضبطه وتدوينه
وتقييده؟؟!
هل هناك معلم أمين يحث تلاميذه على العلم، ويحرص
على محافظة طلابه على المعلومات، لكنه يوصيهم بعدم المذاكرة بها،
وعدم الكتابة لها؟؟!
أو أن الذي يريد إضاعة الحديث وإبادة السنة يقوم بأمر غير منع
كتابته من جانب، ومنع تداوله ونقله من جانب آخر؟!
وثالثا:
إن محاولة إظهار عمر - وهو المانع للصحابة من الحديث والرواية -
بمظهر المحافظ على الحديث المتثبت فيه، تستلزم - بوضوح - أن يكون
الصحابة الممنوعون - وفيهم كبار أجلاء مثل أبي ذر الغفاري،
وأبي مسعود الأنصاري، وغيرهما، وهم الذين لم يأبهوا بمنع عمر،
فلم يزالوا مستمرين على الإكثار من رواية الحديث عن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، حتى التجأ عمر إلى جلبهم إلى المدينة،
من الآفاق وحبسهم عنده بالإقامة الجبرية.
إن تلك المحاولات تستلزم أن يكون هؤلاء - كلهم - لم يحافظوا على
الحديث، ولم يتثبتوا فيه، ولم يحتاطوا له، بل فرطوا فيه.
إن مثل هذا الالتزام تجرؤ على مقام أولئك الصحابة الكرام،
الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه.

455
5 - توجيه ابن قتيبة:
وتصدى ابن قتيبة الدينوري لتوجيه تلك الروايات، مع تخصيصه البحث
بما ورد بلفظ الإقلال، فقال:
كان عمر شديد الإنكار على من أكثر الرواية، وكان يأمرهم
بأن يقلوا الرواية يريد بذلك ألا يتسع الناس فيها، ويدخلها الشوب،
ويقع التدليس والكذب من المنافق، والفاجر، والأعرابي.
وكان كثير من جلة الصحابة وأهل الخاصة برسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم - كأبي بكر، والزبير، وأبي عبيدة، والعباس بن عبد
المطلب - يقلون الرواية عنه.
بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئا، كسعيد بن زيد بن عمرو
بن نفيل، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة (2).
أقول:
وأول ما يرد على ابن قتيبة أنه لم يذكر الروايات الدالة على
أن عمر منع عن عموم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
بلا تخصيص بالإكثار، وهي أكثر روايات الباب.
فاقتصاره على ذكر الرواية التي فيها أمر عمر بالإقلال، وتوجيهها،
لا ينهض جوابا عن الروايات الدالة على منع عمر لعموم الحديث.
وهذا خارج عن الموضوعية العلمية المطلوبة من المحقق في العلم.



(1) تأويل مختلف الحديث (ص 39).
456
وقد يخطر على البال أن ابن قتيبة - ومن تبعه - حملوا الروايات
العامة في منع الحديث، على خصوص الإقلال، حملا للعام على الخاص.
لكن هذا غير صحيح، وذلك:
1 - لأن ابن قتيبة لم يذكر الأخبار العامة أصلا، ولا بالإشارة،
فكيف ينسب إليه هذا التخصيص؟
2 - إن المخاطبين بقول عمر: أقلوا الرواية...، هم وفده إلى الكوفة،
وأبو موسى الأشعري الذي أرسله إلى الكوفة، لكن الممنوعين من عامة
الحديث هم غير هؤلاء، فمنهم أبو هريرة، وأبو ذر، وأبو مسعود،
وغيرهم، ومن الواضح أن المخاطب بالكلام العام إذا اختلف عن المخاطب
بالخاص، امتنع التخصيص.
فإذا كلف زيد بإكرام العلماء، وكلف عمرو بإكرام العلماء
النحويين، لم يجز لزيد ترط؟ العام عملا بخطاب عمرو، وهذا واضح.
3 - إن التخصيص إنما يجري في الخطابين إذا كان أحدهما
يحتوي على لفظ عام، والثاني على لفظ خاص، فيكون حمل العام على
الخاص تخصيصا.
والمقام ليس كذلك، فإن الحبس الصادر من عمر لم يكن إلا عملا
صدر منه، وعرفنا من عتابه لهم أن سبب الحبس هو أن الصحابة كانوا
يروون الحديث عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولم ينههم لفظا
عن رواية الحديث، كي يقال: إنه عام فيكون قابلا للتخصيص بقوله: أقلوا.
مضافا إلى أن ما سنورده على هذا التوجيه وارد على فرض إرادة

457
الخاص أيضا، فلاحظ.
ويرد على هذا التوجيه، أمور:
الأول: قول ابن قتيبة: كان عمر شديد الإنكار على من أكثر الرواية...
يريد ألا يتسع الناس فيها.
يرده أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاحب الرسالة،
والصادع بأمر الشريعة، ومصدر الرواية والحديث، كان يريد الاتساع
في الرواية، والإكثار منها، وكان يحث أصحابه وأمته على سماع
الحديث، ونقله، وتحمله، وأدائه، وتبليغه، ونشره.
وإن رغبة الشارع في التوسعة في الحديث والرواية، أمر لا ينكره
عالم من علماء الإسلام، حتى أصبحت التوسعة فيها من مفاخرهم،
وقد لقبوا كبار المحدثين المكثرين من حفظ الرواية، بألقاب خاصة
مثل الحاكم، والحافظ، والحجة، وغير
ذلك (1).
فما بال عمر، يريد أن لا يتسع الناس في الحديث والرواية
ونصوص الأحاديث لا تزال في عصر ه غضة نظرة، عبقة بأثر
النبي صلى الله عليه وآله وسلم الباهر، ويفوح منها أريج النبو ة العاطر؟!
لماذا لا يريد عمر، الاتساع في الحديث، وهو سنة النبي صلى الله
عليه وآله وسلم، التي أمر الله المسلمين باتباعها، ولهم فيها برسول الله
أسوة حسنة؟!
ثم إن ابن حزم الظاهري قد عقد فصلا في كتاب الأحكام)



(1) أنظر كتب دراية الحديث ومصطلحه، وانظر: منهج النقد (ص 57 - 77).
458
للرد على من ذم الإكثار من الرواية، فقال:
فصل في فضل الإكثار من الرواية للسنن، وذهب قوم إلى
ذم الإكثار من الرواية ونسبوا ذلك إلى عمر...
وقولهم هذا داحض بالبرهان الظاهر، وهو أن يقال لمن ذم الإكثار
من الرواية: أخبرنا، أخير هي أم شر؟ ولا سبيل إلى وجه ثالث.
فإن قال: هي خير، فالإكثار من الخير خير.
وإن قال هي شر، فالقليل من الشر شر، وهم قد أخذوا بنصيب
وافر منه....
ثم نقول لهم: عرفونا حد الإكثار من الرواية، المذموم عندكم؟
لنعرف ما تكرهون؟ وحد الإقلال المستحب عندكم؟
إلى آخر ما قاله (1).
ومن هم الناس الذين لا يريد عمر اتساعهم في الرواية؟
أليسوا هم - في ذلك العهد - الصحابة الأمناء، الذين لا يرتاب فيهم،
ولا يرتاب على الحديث منهم؟
هذا مع أن الوارد في حديث حبس عمر للصحابة إنما هو لفظ
أفشيتم، لا أكثرتم، مما يدل على أن الجرم الذي من أجله جلب
الصحابة وحبسهم هو مجرد ذكر الحديث ونشره وإذاعته، حتى
لو لم يكن بحد الإكثار!.



(1) الأحكام لابن حزم (1 / 252 - 253) نقله الجزائري في توجيه النظر
(ص 16 - 17) وانظر جامع بيان العلم (2 / 122).
459
الثاني: قول ابن قتيبة: يريد ألا يتسع الناس فيها، ويدخلها الشوب،
ويقع التدليس والكذب من المنافق، والفاجر، والأعرابي؟
أقول: إن الممنوعين في زمان عمر كانوا من الصحابة - كما عرفنا
أسماء كثير منهم في نصوص منعه - أو لا أقل من وجود الصحابة فيهم.
فإن كان ما احتمله من الشوب والتدليس والكذب، يحتمل
صدوره من الصحابة، وأن يكون المنافق والفاجر والأعرابي يوجد في ما
بينهم باعتبار أنهم كانوا محط منع عمر وإنكاره وتشديده وحبسه.
فهذا ينافي ما يلتزم به كل المسلمين من احترام الصحابة وتقديسهم،
مثل أبي ذر الغفاري، وأبي مسعود الأنصاري، فكيف على رأي
العامة في الصحابة بأنهم كلهم عدول!.
وإن كان المذكورون من غير الصحابة، فذلك لا يبرر إنزال العقوبة
والإهانة والتضييق بالصحابة الكرام، من أجل روايتهم لحديث رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم؟
الثالث: قول ابن قتيبة: وكان كثير من جلة الصحابة وأهل الخاصة
برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... يقلون الرواية.
فهذا جزاف من القول، بلا ريب، يشهد على ذلك عدم تمثيله
إلا بهذا العدد النزر، بينما المكثرون للحديث من الصحابة كثيرون، وفيهم
من هو أخص برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ممن ذكر، كأهل بيته،
ونسائه، وخدمه، والمخلصين من أتباعه، فإنهم قد رووا وأكثروا،
وفيهم من منعه عمر، وحبسه، مثل أبي ذر الغفاري وأبي مسعود

460
الأنصاري.
فكيف يجعل ابن قتيبة الصحابة موافقين لعمر في إجرائه، مع أنهم
خالفوه في أمر التدوين، حيث أشاروا عليه - عامتهم - بالتدوين،
فخالفهم، ومنع من التدوين (1).
وسيأتي أن جمعا من الصحابة عارضوا إجراءات عمر لمنع الحديث،
وفيهم علي عليه السلام، وأبو ذر، وابن عباس، وهؤلاء من مكثري
الصحابة من نقل الحديث.
إن نسبة ما سنه عمر من منع الحديث - سواء عاما أم خاصا
بالإكثار - إلى الصحابة الكرام، تخالف الواقع الموجود في ما بأيدينا
من كتب الحديث حيث إن هذه الآلاف المؤلفة من الأحاديث لم ترو
إلا من طريق صحابة الرسول صلى الله عليه وآله، وهي الدليل القاطع
على أن الصحابة لم يلتزموا بأوامر عمر بالإقلال، ولم يأبهوا بإجراءاته
في المنع من الإكثار.
والعجب من الدكتور نور الدين عتر أنه جعل الإقلال في
الحديث من قوانين الرواية، فقال: وأهم قوانين الرواية - في عهد
الصحابة - تقليل الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، خشية
أن تزل أقدام المكثرين، بسبب الخطأ أو النسيان، فيقعوا في شبهة
الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من حيث لا يشعرون.
فكان أبو بكر وعمر يشددان في ذلك، وقد سلك عموم الصحابة



(1) تقييد العلم (ص 49).
461
هذا السبيل (1).
أقول: هذا الكلام بعيد عن الموضوعية من جهات:
1 - إنه تعرض لمسألة الإقلال، وأهمل ذكر منع عمر وأبي بكر
لأصل الحديث والرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عامة،
قليلا كان أو كثيرا، وهو ما يظهر من أخبار المنع التي قدمنا ذكرها،
ومن لفظة أفشيتم في خبر الحبس.
وقد فهم الصحابة من عمر النهي عن كل الحديث، حيث سألوه:
أتنهانا؟
وهو - وإن قال لهم: لا، إلا أنه أقدم عمليا على حبسهم عنده،
فمنعهم - عمليا - من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
كما مضى أن ابن البري فسر الحبس بالمنع من الحديث (2).
وقد فهم قرظة الراوي للحديث المذكور ذلك فلم يحد ث بشئ،
كما يأتي.
2 - وأما قوله: تقليل الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم خشية أن تزل أقدام فيقعوا في شبهة الكذب من حيث
لا يشعرون.
ففيه:
مضافا إلى ما أوردنا على مثل ذلك في كلام ابن قتيبة، في ما مر (3):



(1) منهج النقد (ص 52).
(2) أنظر ذلك ذيل الحديث (1) ص (436).
(3) أنظر ما أوردناه على ابن قتيبة 460).
462
أن ترك الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استنادا
إلى مثل هذه الشبهة والتخوف من الكذب الموهوم، مخالف للحق الذي
دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث إنه تلافى مثل ذلك
بصراحة، في ما رواه رافع بن خديج، قال: مر علينا رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم يوما، ونحن نتحدث، فقال: ما تحدثون؟
فقلنا: ما سمعنا منك، يا رسول الله.
قال: تحدثوا، وليتبوأ مقعده - من كذب علي - من جهنم!
ومضى لحاجته، وسكت القوم، فقال: ما شأنهم لا يتحدثون؟!
قالوا: الذي سمعناه منك، يا رسول الله!
قال: إني لم أرد ذلك، إنما أردت من تعمد ذلك.
، فتحد ثنا.
قال: قلت: يا رسول الله! إنا نسمع منك أشياء، أ فنكتبها؟
قال: اكتبوا، ولا حرج (1).
ومعنى ذلك أن توهم الكذب، لا يسد به باب الرواية والحديث،
لا قليله ولا كثيره، وأن الذي حذر عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
إنما هو تعمد الكذب.
والعجب من الدكتور أنه يقول مثل هذا الكلام، مع أنه يرى قيد
(متعمدا) في الحديث المتواتر: من كذب علي متعمدا فليتبوأ



(1) تقييد العلم (ص 2 - 73) ومحاسن الاصطلاح (ص 300) عن المحدث الفاصل
(ص 963) رقم (133) والكامل لابن عدي (1 / 36).
463
مقعده من النار (1).
ومن الواضح أن الاعتناء بتوهم الكذب، ومنع الرواية كلها
أو بعضها بتقليلها، لئلا يقعوا فيه، يساوي لغوية قيد التعمد بالكذب،
ويلزم منه ترك الحديث مطلقا، سواء كان الكذب فيه عن عمد
أو غير عمد، وهذا باطل.
3 - وأما قوله: وقد سلك عموم الصحابة هذا السبيل.
فهو ادعاء لا يوافق الواقع، فإن الآثار - ومنها ما نقلناه سابقا - تدل
على أن المانع من الحديث - ولو بعنوان الإقلال منه - ليس إلا أبو بكر
وعمر، وأما الصحابة فكان كبارهم وأجلاؤهم من الممنوعين، ويفهم
من فحوى تلك الآثار أنهم لم يكترثوا بأوامر عمر، حتى لجأ إلى جلبهم
من الآفاق إلى المدينة، وحبسهم عنده، وفيهم مثل أبي ذر الغفاري،
وأبي مسعود الأنصاري.
فكيف يجعل الدكتور الصحابة الممنوعين، في سلك عمر
وأبي بكر المانعين؟!
4 - إن حد الإقلال غير واضح: فمحمد عجاج الخطيب - بعد أن نقل خبر الذهبي
في حبس عمر للصحابة (2) - قال: هؤلاء ثلاثة من جلة أصحاب الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم، وأتقاهم، وأورعهم.



(1) أنظر مسند أحمد (1 / 165) و (2 / 195) و (3 / 39) ومواضع أخر.
(2) ذكرناه برقم (3).
464
هل يعقل من مثل عمر بن الخطاب أن يحبسهم؟
وهل يكفي لحبسهم أنهم أكثروا من الرواية؟
وأضاف: إن المرء ليقف متسائلا أمام هذا الخبر، ويعتريه الشك فيه، ويتبادر
إلى نفسه أن يتساءل عن الحد الذي يمكن أن يعرف به الإقلال والإكثار؟ (1).
أقول:
أما السؤال الأخير فلا بد أن يسأل عنه عمر نفسه، الذي أمر وفده
إلى الكوفة بالإقلال؟ فقال: أقلوا الحديث...
وكذلك يسأل ابن قتيبة الذي أخبر بأن فلانا وفلانا كانوا يقلون الرواية؟
وكذلك يسأل الدكتور عتر الذي جعل الإقلال في الرواية
من قوانينها؟
فأي قانون هو هذا المجهول الهوية، والكم، والكيف؟
وأما الشك في هذا الخبر، والقدح في صحته، فليس من شأن
العلماء، بعد ثبوته في الكتب والمؤلفات المعتبرة وبأسانيد عديدة فيها
الصحاح بحكم صيارفة الفن مثل الحاكم والذهبي، واشتهار أمر ذلك
بحيث تصدى كبار حملة الحديث وحماته لتوجيهه، وليس لشخص
مثل العجاج أن يشكك في ذلك.
وإذا لم يتمكن من الاقتناع بهذا التوجيه فليس معناه جواز رد الخبر،
بل التحقيق يفرض على العالم أن يبحث ليجد الحل المناسب.



(1) السنة قبل التدوين (ص 106 وما بعدها).
465
لكن العجاج لما لم يجد إجابة لأسئلته تلك، لجأ إلى رد الحديث
تارة بما ذكر، وأخرى بقوله: هناك خلاف في المحبوسين: فهل تكرر
الحبس من عمر؟ ولو تكرر لاشتهر؟
وقال أيضا: وقد كان غير هؤلاء أكثر منهم حديثا، ولم يردنا خبر
عن حبسهم، فلا يعقل أن يحبس أمير المؤمنين [عمر] بعضا دون
بعض، في قضية واحدة، هم فيها سواء وهي الإكثار من الحديث.
معاذ الله أن يفعل ذلك عمر، فيحبس هؤلاء، ويترك أبا هريرة -
مثلا - وهو أكثر حديثا منهم؟
قال: وبهذا البيان لا يرقى إلى الصحة خبر حبس عمر للصحابة.
وأضاف العجاج قائلا:
ومما يؤكد لنا أنه لم يحبس أحدا: ما يرويه الرامهرمزي، عن شيخه
ابن البري، قال: يعني منعهم الحديث، ولم يكن لعمر حبس.
فقد فسر ابن البري الخبر تفسيرا جيدا، فهو يريد أنه منعهم كثرة
الحديث، خوفا أن لا يتدبر السامعون كلام رسول الله عليه الصلاة
والسلام إذا كثر عليهم (1).
وخلاصة ما ذكره العجاج أمور ثلاثة:
1 - الخلاف في المحبوسين، وعدم اشتهار تكرر الحبس.
2 - لماذا لم يحبس عمر أبا هريرة، مع أنه أكثر حديثا من غيره؟



(1) السنة قبل التدوين (ص 106 - 110).
466
3 - أن عمر لم يكن له حبس، والحبس بمعنى المنع.
أقول: وقد جعل هذه الأمور الثلاثة دليلا على بطلان الخبر،
ونفى - من أجل ذلك - صحة ما ورد في حبس عمر للصحابة لكونهم
أكثروا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!.
وفي كل ما ذكر نظر:
أما الأول - وهو الخلاف في المحبوسين، وعدم اشتهار تكرر الحبس -:
ففيه: أن خبر حبس عمر، ورد في مختلف المصادر التاريخية
والحديثية، واشتهر بين المؤلفين، بحيث لم ينكره القدماء،
وإنما يسعون لتوجيهه.
مع أنه قد ورد خبره بالأسانيد الصحيحة، بتصديق علماء كبار
من أهل الفن، كالحاكم والذهبي، فلا يمكن رده ونفي صحته،
بمجرد عدم فهم المراد منه.
وليس النزاع في حبس هذا أو ذاك، حتى يثبت أو ينكر،
وإنما قيام عمر بحبس الصحابة أمر مسلم، كواحد من أساليب عمر في التشديد على الصحابة
من أجل رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
أفهل ينكر أحد ذلك؟
مع أن في بعض النصوص: إنه حبس الصحابة، وهذا يشمل
مجموعة منهم، والوارد في كل رواية بعض الأسماء، فلا منافاة
بين الروايات، لأن كل واحد منها لا يدل على الحصر، ولا يعارض

467
أن يكون غير من فيها أيضا محبوسا. ويكون من ذكر في كل
رواية من باب المثال، لا الحصر.
ومع وجود هذه الاحتمالات لم يبق مجال لرد الرواية ونفي
صحتها لاختلاف الروايات في أسماء المحبوسين.
وأما الثاني - وهو عدم حبس أبي هريرة -
ففيه: أن الروايات، وإن لم تذكر أبا هريرة في المحبوسين، لكن
شيئا من الروايات لم ينف حبس أبي هريرة، مع أنه ليس معنى عدم
حبسه عدم منعه من رواية الحديث، الذي هو الهدف من عملية الحبس.
وقد وردت آثار عديدة في منع عمر أبا هريرة عن رواية الحديث،
وتهديده بالإبعاد إلى أرض قومه، ذكرنا بعضها (1).
وقد أعلن أبو هريرة عن تخوفه من نقل الحديث في عهد عمر،
وأن عمر لو كان حيا لما سمح له بنقل الحديث ولضربه بالمخفقة (2).
لأنه قد ضربه بالدرة وقال له: قد أكثرت من الرواية، وأحر بك
أن تكون كاذبا على رسول الله صلى الله عليه (3)!.
بل قال أبو هريرة: ما كنا نستطيع أن نقول: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم حتى قبض عمر (4).



(1) أنظر (ص 431 و 432).
(2) تذكرة الحفاظ (1 / 7) وجامع بيان العلم (2 / 121).
(3) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد (4 / 7 - 68).
(4) البداية والنهاية لابن كثير (8 / 107).
468
وهذا النص مع أنه يدل على أن مطلق الحديث كان ممنوعا على
الصحابة في عهد عمر، حتى الحديث الواحد!! فهو يدل - كذلك - على أن أبا هريرة كان ممن خضع
للأوامر والتهديدات العمرية، فلم يحتج إلى أن يحبس.
ولسنا نحن بصدد البحث عن خصوص حبس عمر للصحابة،
إلا باعتباره واحدا من أساليبه لمنع الحديث.
وأما الثالث:
فكلمة الحبس يراد بها - لغة - السجن، والمنع، والظاهر أن الأصل
في معنى الحبس هو ضد التخلية (1) وتخلية كل شئ بحسبه.
فلو منع عمر صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن الخروج
من المدينة إلى الآفاق، فقد حبسهم في المدينة، كما جاء في بعض
النصوص نفس هذا التعبير (2).
ويدل عليه قول عمر في بعض الروايات: أقيموا عندي
لا تفارقوني... فما فارقوه حتى مات (3).
ومن المعلوم أن منعهم من الخروج عن المدينة، إنما كان لأجل
أن لا يحدثوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ذلك الحديث
الذي أثار عمر، وألجأه إلى حبسهم.
وأما تفسير الحبس بالمنع من الحديث، فهو صحيح لغة،



(1) أنظر صحاح اللغة للجوهري (مادة: حبس).
(2) أنظر (ص 432 رقم (2).
(3) أنظر (ص 437) رقم (4).
469
لكنه لا يختلف عن المعنى الأول في شئ، حتى يعتبره العجاج جيدا،
وكأن المعنى الأول ليس بجيد!
فالمنع من الحديث هو مغزى هذا الخبر، ومغزى كل الآثار المذكورة
عن عمر في تعامله مع الصحابة، وهو الأمر الذي يتصدى علماء العامة لتوجيهه.
على أن أبا بكر ابن العربي قال: إن عمر سجن ابن مسعود في نفر
من الصحابة... فأطلقهم عثمان... وكان سجنهم لأن... (1) فاستعمل
كلمة السجن.
وأما قول العجاج - توضيحا لتفسير ابن البري -: يريد أنه منعهم
كثرة الحديث خوفا أن لا يتدبر السامعون... إذا كثر عليهم.
فهذا تصرف غير أمين، لأن ابن البري يقول: منعهم الحديث
عن رسول الله، والعجاج يقول: يريد منعهم كثرة الحديث.
فكلمة (كثرة) زادها العجاج ليفيد منها، موهما أن ابن البري يريدها
وهو لا يريدها، ولو أرادها لأضافها في كلامه.
وأما نحن فنعتقد أن الهدف الأساس من منع رواية الحديث ونقله
هو الهدف من منع تدوينه وتقييده وضبطه، وهو إخفاء الأحاديث
الدالة على إمامة أمير المؤمنين علي عليه السلام، وعلى أساس سياسة مدبرة.
ولئن لم تكن هذه السياسة واضحة أيام عمر، لكثرة التعتيم
الإعلامي، فإن مجريات الأحداث المتعاقبة بعده، أوضحت ذلك (2)



(1) العواصم من القواصم (ص 76).
(2) من باب (ستبدي لك الأيام ما كان خافيا).
470
فلنقرأ الآثار المنقولة:
بغض الحديث ومعارضة تدوينه، خلق في آل عمر:
نقلت آثار تدل على أن معارضة الحديث وبغضه أمر أصبح خلقا
في آل عمر.
قال الشعبي: جالست ابن عمر سنة، فما سمعته يحدث عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا (1)!.
وروى عن حفصة بنت عمر أنها كانت تعارض تدوين الحديث (2).
وقال سفيان بن عيينة: دخلت على العمري - يعني الرجل العابد
من آل عمر - فقال: ما أحد من الناس - يدخل علي - أحب إلي منك،
إلا أن فيك عيبا،!
قلت: وما هو؟
قال: تحب الحديث (3)!
وقال سعيد بن المسيب: كتب إلي أهل الكوفة مسائل ألقى فيها
ابن عمر، فلقيته، فسألته من الكتاب، ولو علم أن معي كتابا لكانت
الفيصل في ما بيني وبينه (4).



(1) الحديث والمحدثون (ص 68).
(2) ذم الكلام، للهروي.
(3) فاتني تسجيل مصدر هذا الكلام، فلتلاحظ ترجمة سفيان.
(4) تقييد العلم (ص 44).
471
منع الحديث سنة للحكام:
لقد أصبح منع الحديث سنة اتبعها الحكام من بعده.
قال الشيخ محمد أبو زهو: وقد تتابع الخلفاء على سنة عمر...
فلم يشأ أحدهم أن يدون السنن، ولا أن يأمر الناس بذلك، حتى جاء
عمر بن عبد العزيز (1).
فكانوا يعلنون أن منهجهم في ذلك منهج عمر، وقاموا بما قام به
عمر من تهديد الصحابة، ومنعهم من الرواية.
وبما أن السلطة قد تمكنت من الرقاب بشكل لا تخشى من أي شئ
فإن أهداف المنع من الحديث - تدوينا ورواية - لم تعد طي الكتمان،
بل بدأت يعلن عنها، ويتحدث بها على المنابر، وتصدر الأوامر الأميرية بها.
والآثار المنقولة كثيرة جدا نكتفي بما يلي:
1 - عثمان يمنع رواية الحديث:
قال محمود بن لبيد: سمعت عثمان على المنبر يقول: لا يحل
لأحد يروي حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لم يسمع به
في عهد أبي بكر، ولا عهد عمر (2).
وهذا النص يدل على أن الممنوع في عهد عثمان، هو الممنوع
في عهد أبي بكر وعمر، وقد أثبتنا أن الممنوع في ما سبق عثمان



(1) الحديث والمحدثون (ص 126).
(2) الطبقات لابن سعد (2 / 2 / 100) مسند أحمد (1 / 2 - 363).
472
إنما هو الحديث لا مجرد الإقلال منه، فالممنوع في عهد عثمان
- أيضا - كذلك.
لكن محمد عجاج الخطيب يحاول التمويه هنا أيضا، فيقول:
روي عن عثمان أنه اتبع منهج عمر في الإكثار من الرواية (1).
ثم أورد رواية محمود بن لبيد، مع أن تلك الرواية لا تحتوي على كلمة
(الإكثار) فلاحظ.
وقد فعل عثمان بأبي هريرة ما فعله عمر، من تهديده بالإبعاد،
فقال له: ما هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
لقد أكثرت، لتنتهين أو لألحقنك بجبال دوس (2).
2 - معاوية يعارض الحديث:
1 - قال رجاء بن حياة: كان معاوية ينهى عن الحديث، يقول:
لا تحدثوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (3).
2 - روى ابن عدي، عن إسماعيل بن عبيد الله: أن معاوية نهى
أن يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحديث، إلا حديث
ذكر على عهد عمر، فأقره عمر.
إن عمر كان قد أخاف الناس في الحديث عن النبي صلى الله



(1) السنة قبل التدوين (ص 97).
(2) المحدث الفاضل (ص 554) رقم (749) والسنة قبل التدوين (ص 459 - 460)
وانظر أضواء على السنة لأبي رية (ص 54).
(3) الفقيه والمتفقه، للخطيب (1 / 7).
473
عليه وآله وسلم (1).
ورواه ابن علية، عن رجاء بن أبي سلمة أنه قال: بلغني أن معاوية
كان يقول... (2).
3 - وروى ابن عساكر: كان معاوية يقول على منبر دمشق:
إياكم والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلا حديثا ذكر
على عهد عمر (3).
4 - وفي صحيح مسلم عن اليحصبي، قال: سمعت معاوية يقول:
إياكم وأحاديث، إلا حديثا كان في عهد عمر، فإن عمر كان يخيف
الناس في الله عز وجل (4).
5 - وقال معاوية: ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم أحاديث، قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه.
فقام عبادة بن الصامت، وعارضه (5).
وكتب يزيد بن معاوية إلى أبيه: أن جبير بن نفير قد نشر
في مصري حديثا، فقد تركوا القرآن.
فبعث معاوية إلى جبير فجاءه، فقرأ عليه كتاب يزيد،



(1) الكامل لابن عدي (1 / 33) وانظر (1 / 18) ومسند أحمد (4 / 99) وتذكرة الحفاظ (1 / 7).
(2) حجية السنة (ص 467).
(3) تاريخ دمشق لابن عساكر (3 / 160).
(4) صحيح مسلم (2 / 718) كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة.
(5) صحيح مسلم (ج 3 ص 1210) باب الصرف وبيع الذهب من كتاب المساقاة.
474
فعرف بعضه وأنكر بعضه.
فقال معاوية: لأضربنك ضربا أدعك لمن بعدك نكالا (1).
4 - قال ابن أبي الحديد: روى أبو الحسن، علي بن محمد
بن أبي سيف المدائني، في كتاب (الأحداث):
كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة [سنة
40] أن: برئت الذمة ممن روى شيئا في فضل أبي تراب، وأهل بيته.
وكتب إلى عماله في جميع الآفاق أن:
انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته، والذين
يروون فضائله ومناقبه، فأدنوا
مجالسهم وقربوهم وأكرموهم،
واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته.
ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه، لما كان يبعثه
إليهم معاوية من الصلات، والكساء والحباء والقطائع.
ثم كتب إلى عماله:
إن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه
وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا، فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل
الصحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في
أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة.
فقرئت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة،



(1) سير أعلام النبلاء (4 / 77).
475
مفتعلة لا حقيقة لها، وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى، حتى
أشادوا بذكر ذلك على المنابر، والقي إلى معلمي الكتاتيب، فعلموا
صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع، حتى رووه، وتعلموه كما
يتعلمون القرآن، وحتى علموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم،
فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر.
وأضاف ابن أبي الحديد: وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه -
وهو من أكابر المحدثين وأعلامهم - في (تاريخه) ما يناسب هذا الخبر (1).
هذه جملة من الآثار المنقولة في ذلك.
والذي يستخلص منها بوضوح أن المسموح به في عهد عمر،
كان مسموحا به في عهد عثمان ومعاوية، والممنوع في عهدهما
هو الممنوع في عهد عمر.
أما الممسوح في عهد عمر:
فيمكن تحديده من خلال النصين التاليين:
1 - قال عمر: أقلوا الرواية عن رسول الله، إلا فيما يعمل به (2).
فأحاديث العمل - وهي ما يرتبط بالصلاة، والصوم، والحج، وغير
ذلك من متعلقات الأحكام الشرعية - واجبات وفرائض، ومستحبات
وسنن - مسموح بها، ولا غرض لعمر فيها، لكن غيرها ممنوع.



(1) شرح نهج البلاغة (11 / 44 - 46).
(2) البداية والنهاية لابن كثير (8 / 107).
476
2 - ذكر الدارمي - في شرح حديث منع عمر لوفد الكوفة، وأمرهم
بالإقلال في الرواية - ما نصه: معناه عندي الحديث عن أيام رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، ليس السنن والفرائض (1).
إن أحاديث السنن والفرائض، وهي أحاديث الأحكام، ليست
ممنوعة ولكن غيرها هو الممنوع.
3 - وقال ابن عبد البر - وهو يفسر منع عمر عن الحديث - نقلا عن
بعضهم: إن عمر إنما نهى عن الحديث عما لا يفيد حكما ولا يكون سنة (2).
وأما الممنوع في عهد معاوية:
فقد أعلن عنه بكل جرأة أنه كل ما روي في فضل الإمام
أمير المؤمنين علي عليه السلام وأهل بيته.
ومن الواضح أن منع معاوية لذلك إنما كان بهدف سياسي،
وهو صد الناس عن علي وأهل بيته الكرام، حذرا من
أن ينتبه الناس إلى أن معاوية ومن استن بسنته إنما هم غاصبون.
وإذا ضممنا هذا إلى ما رويناه سابقا من حرق عبد الله بن مسعود
للصحيفة التي كانت تحتوي على فضل أهل البيت، أهل بيت النبي (3).
عرفنا أن المصلحة التي كان يطلبها عمر ومن اتبعه في سنة
منع الحديث إنما هي السياسة التي كان يدبرها من أجل إبعاد أهل البيت



(1) سنن الدارمي (1 / 72) ح 286.
(2) جامع بيان العلم (2 / 121).
(3) تقييد العلم (ص 54) وانظر ما مضى (ص 421).
477
عليهم السلام عن الحكم.
وهي التي اتبعها بعده عثمان ومعاوية.
وهي التي أدت الحديث الشريف إلى أن يتجرأ الحجاج الثقفي،
فيختم على الصحابة بهدف منعهم من الحديث، فيما رواه
ابن الأثير الجزري، قال:
كان الحجاج بن يوسف الثقفي، قد ختم في يد جابر بن عبد الله،
وفي عنق سهل بن سعد الساعدي، وأنس بن مالك، يريد إذلالهم،
وأن يجتنبهم الناس، ولا يسمعوا منهم (1).
وبهذا نصل إلى القول الفصل في سبب منع الحديث،
تدوينا ورواية، وهو إخفاء الأحاديث النبوية الدالة على خلافة
علي عليه السلام وأهل البيت عليهم السلام.
التوجيه المقبول للمنع:
ويمكن بذلك أيضا توجيه منع عمر للصحابة عن الحديث،
وحبسهم، والتشديد عليهم في ذلك، بتوجيه هذه السياسة
وشرح المصلحة فيها، فنقول:
إن إباحة رواية الحديث عموما، بما يشمل
رواية فضل علي عليه السلام وأهل بيته، وفيها أحاديث كثيرة تدل
على ولايته على الأمة خلافته عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتقدمه
على غيره من المتصدين لها.



(1) أسد الغابة لابن الأثير (2 / 472) الحديثة في ترجمة " سهل ".
478
وفيها الكثير مما يدل على وجوب
طاعتهم، وحرمة التقدم عليهم، وحرمة إيذائهم وسبهم، وقتلهم!
كل ذلك مما يمس - بوضوح - كيان الحكام، ويزلزل الأريكة
من تحتهم، ويمنعهم من الاستيلاء على تلك المناصب المقدسة.
كحديث الغدير، الحي في الأذهان بمشاهده، ومناظره، حيث
رفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا، ونادى - في الجمع، وفي حجة الوداع
-: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من
عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله (1).
ذلك الكلام الذي يرن صداه في الأسماع والآذان.
فهل يخفى تأثير ذلك على أبي بكر، وعمر؟ وخاصة إذا كان
الناقلون له صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وخاصته
من الأجلاء ذوي الورع والفضل والتقى، من أمثال أبي ذر الغفاري،
وأبي مسعود الأنصاري ممن لا يرتاب أحد في صدقهم، ولا يتهمون
في نقلهم؟!
إن الحكام كانوا يهابون - بلا ريب - مثل هذه الأحاديث، فكان
أسهل السبل وأفضل الوسائل للقضاء على آثارها هو منع روايتها



(1) حديث الغدير من متواترات أحاديث الإسلام، وقد اتفقت على نقله كافة الفرق
الإسلامية، جمعنا جملة من مصادرها في تخريجاتنا لتفسير الحبري (ص 448 - 450) وانظر
عنها كتاب (الغدير) للأميني، المجلد الأول، وعبقات الأنوار للسيد حامد حسين الهندي.
واعترف بتواتره العامة، فراجع: نظم المتناثر، للكتاني (ص 194) رقم (232).
479
ونقلها، ومنع تدوينها.
وهذا هو ما حصل، ولقد نجحت تلك السياسة:
فاعتدت على السنة والحديث فأخفتها وأبادتها.
وتجاوزت كرامة الصحابة فأهدرتها، واتهمتهم.
وتعدت على حرياتهم فحبستهم.
ومنعتهم من بث علومهم، وهو من أبسط حقوقهم.
وأعظم ما في تلك السياسة أنها كادت أن تؤدي إلى وأد حق علي وأهل بيته
في الخلافة والإمامة.
وهذا من أسوأ آثار تلك السياسة التي سنستعرضها في ما يلي.

480
الملحق الثاني
آثار المنع من التدوين
ومهما كان شأن التدوين: جوازه، أو حرمته.
ومهما كانت الأسباب التي دعت إلى منع تدوين الحديث،
إلى جانب منع روايته ونقله، كله أو بعضه.
فإن الأمر الذي ليس لأحد إنكاره هو أن الحديث قد منع كتابة
وتدوينا، ورواية وتحديثا، من قبل الحكام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله
إلى فترة حكم عمر بن عبد العزيز.
وقد أثر ذلك المنع آثارا سيئة، سواء أراد المانعون أم لم يريدوا؟
وسواء رضي المدافعون عنهم أم غضبوا؟!
وقد عبر البيهقي عن هذه الآثار لما عنون لأحاديث الأريكة،
بقوله: باب ما جاء في إخباره صلى الله عليه وآله وسلم بشبعان على
أريكته، يحتال في رد سنته، بالحوالة على ما في القرآن من الحلال

481
والحرام دون السنة، فكان كما أخبر، وبه ابتدع من ابتدع، وظهر الضرر (1).
وقال الشيخ محمد أبو زهو: كاد القرن الأول ينتهي، ولم يصدر
أحد من الخلفاء أمره إلى العلماء بجمع الحديث، بل تركوه موكولا
إلى حفظهم، ومرور هذا الزمن الطويل كفيل بأن يذهب بكثير من حملة
الحديث من الصحابة والتابعين (1).
ونحن لا نعتقد أن هذه الآثار قد أفقدت الحديث شيئا من قدسيته
أو اعتباره أو حجيته، بل نعتقد أن هذه الآثار هي الدليل الواضح
على فساد محاولات المنع، سواء منع رواية الحديث، أم منع تدوينه.
وأن المانعين عليهم مسؤولية هذه الآثار وتبعاتها.
وأن الحديث النبوي قد صانه المخلصون للحق، والمبلغون
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكل ما لديهم من أدوات الحيطة
والحصانة والضبط، أولئك الذين عارضوا إجراءات الحكام،
ولم يلتزموا بشرعيتها، كما لم يلتزموا بشرعية حكمهم على الأمة.
فمن المجموعة الكبيرة التي حفظها الصحابة بالكتابة والتقييد بأيد
أمينة، إلى المجموعة الكبيرة التي تناقلتها القلوب المخلصة بأفئدة ذكية،
إلى المحاولات الجادة الهادفة لوقف الزحف المخرب ضد الحديث وعلومه،
فقام علماء الإسلام بالسعي الجاد بتحديد قوانين الرواية وتحملها وأدائها،
بما لم يسبق له مثيل بن الأمم والحضارات السالفة،
وتأسيس علم



(1) دلائل النبوة (6 / 549)، ولاحظ أحاديث الأريكة في ما مضى (ص 352) وبعدها.
(2) الحديث والمحدثون (ص 127).
482
مصطلح الحديث، أو دراية الحديث.
وعلى أثر تلك الجهود لم يمس الحديث من كيد المانعين بسوء، ورد الله كيدهم إليهم
بل، بقي محفوظا عند المخلصين المحافظين عليه.
نعم، سبب ذلك المنع تضليل الأمة، واتهام الإسلام من قبل
الجهال، وزيادة تعب العلماء للتمييز بين مختلف الأحاديث، وفتح ألسنة
المغرضين على الحديث وأهله.
وأهم تلك الآثار المخربة هو ابتعاد الأمة عن أهل بيت النبي
عليهم السلام، أولئك الهداة الثقات العلماء الأوتاد، وقرناء القرآن.
وهو ما جر الويلات عبر التاريخ على الإسلام والمسلمين.
لكن الحديث لا يزال هو الركن الثاني للإسلام، وبه يمكن إزالة
كل تلك الغشاوات، وكشف تلك الظلمات، لأنه من الحق الذي يعلو
ولا يعلى عليه.
وقد توصل كثير من علماء العصر ومحققي علوم الحديث والسنة
إلى الحقيقة الناصعة، القائلة بأن الحديث النبوي قد دون وكتب في
عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وبإشراف تام منه نفسه عليه السلام.
أطبق على هذا الرأي المسلمون والمستشرقون الناشدون للحقيقة.
إلا أن الغريب في محاولة بعض أهل السنة من المعاصرين إخفاء
من كان وراء عملية المنع، ومن سبب كل ذلك النزاع والضوضاء على كتابة الحديث
إلى حد إحراق الكتب وإبادتها ومراقبة الكاتبين للحديث إلى حد التهديد

483
والعتاب والسجن.
بل الأغرب محاولة بعضهم تبرير مواقف المانعين من تدوين
الحديث وكتابته وتسجيله وحفظه، ومحاولة التغطية على صنيعهم
بالكتب الكاتبين لها، أو إنكار ما اقترفوه في هذا المجال من أعمال، بدلا
من أن يستنكروها ويتبرأوا من صانعيها ومؤججي نارها التي أحرقت
تلك المجاميع من كتب الحديث، وسببت هذه المشاكل العلمية والعملية
للمسلمين بما لا ينمحي أثره إلى يومنا الحاضر.
فكان من الضروري أن نعرض بعض آثار تلك المواقف السيئة تجاه
الحديث الشريف، إتماما للبحث، وتوضيحا لجوانب مهمة من تاريخ
الحديث والسنة.
1 - اختفاء جملة كبيرة من الحديث:
لا شك أن المنع من تدوين الحديث، كالمنع من روايته،
بل والإقدام على إبادته بالإحراق، والإماثة في الماء، والدفن، أدى إلى
انعدام كثير من نصوص الحديث الشريف، وفقدانه، وعدم نشره وتداوله (1).
ولولا ذلك المنع لبقي كل ذلك، ولاستفادت الأمة منه، بتداوله
ونقله، باعتباره سنة يجب اتباعها، وحديثا
من خير الحديث.



(1) إقرأ عن مدى الجريمة التي ارتكبت بحق العلم والحديث خاصة: دلائل التوثيق المبكر
(ص 239 - 246) بينما كان أنصار التدوين يحافظون على كتبهم بكل الوسائل.
كما هو المنقول حول كتاب علي عليه السلام الموروث عند أهل البيت عليهم السلام.
484
ولدينا أدلة على فقدان جملة كبيرة منه، كما في الآثار التالية:
1 - دلت الأخبار على أن أبا بكر جمع أحاديثه في كتاب،
فكان عددها - كما أخبرت ابنته عائشة - خمسمائة حديث.
لكنه عمد إلى إبادتها (1).
فإذا كان قد جمع في ذلك الكتاب ما رواه عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم، وعلمنا من خلال إحصاء الحفاظ لحديث أبي بكر، الموجود
في الكتب، أن مجموع أحاديثه هو [142] حديثا فقط من الأحاديث
المرفوعة (2) وإذا طرحنا هذا العدد (142) - وهو حديثه الموجود -
من (500) وهو الذي كتبه ثم أباده، نجد أن المفقود (358) حديثا،
فهذا يدل على أن أبا بكر قد أباد من أحاديثه (358) حديثا،
على أقل تقدير، ولم يوجد لها بين الأمة اليوم عين ولا أثر؟!
2 - قرظة بن كعب، لم يحدث:
روى قرظة بن كعب خبر منع عمر لوفد الكوفة من الحديث
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (3).
وقال - بعد ذلك -: فما حدثت بشئ! وقد سمعت
كما سمع أصحابي.



(1) لاحظ ما سبق (ص 277).
(2) أسماء الصحابة الرواة لابن حزم (ص 35) انظر تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص 66)
ترجمة أبي بكر.
(3) سنن الدارمي (1 / 73) ح 285 و 286.
485
ولا شك أن هذا الصحابي لو كان يحدث لكانت الأمة تستفيد
من حديثه، في عصره، وفي الأجيال بعده، وتثبت أحاديثه في ما ثبت
وخلد من السنة الشريفة!
ولكنه لم يفعل، من أجل المنع؟
3 - أبو هريرة يخفي وعاء من حديثه، وإنما نشر واحدا فقط:
لقد عرفنا أن أبا هريرة كان ممن هدده عمر بالإبعاد بسبب روايته
الحديث، وقد خضع أمام التهديدات، كما يظهر من الآثار التالية:
1 - روى المقبري، عن أبي هريرة قال: حفظت من رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم وعائين: فأما أحدهما فبثثته في الناس،
وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم (1)!
2 - قال أبو سلمة: سألت أبا هريرة: أكنت تحدث في زمان عمر
هكذا؟
قال أبو هريرة: لو كنت أحدث في زمان عمر - مثل ما أحدثكم -
لضربني بمخفقته (2)!
3 - وقال أبو هريرة: لقد حدثتكم بأحاديث لو حدثت بها زمن
عمر لضربني بالدرة (3).
.



(1) صحيح البخاري، العلم (114) تذكرة الحفاظ (153) والكامل لابن عدي (133).
(2) تذكرة الحفاظ (17).
(3) جامع بيان العلم لابن عبد البر (2 / 121).
486
4 - وقال: ما كنا نستطيع أن نقول: (قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم) حتى قبض عمر (1).
قال أبو زهو: هذا أبو هريرة يمسك عن التحديث في زمن
عمر بن الخطاب، مع أنه معدود من المكثرين من الصحابة لرواية
الحديث، ولكنه اتباعا لسنة الشيخين في التقليل من الرواية، يكف (2).
لكن النص السابق يدل على أن أبا هريرة إنما ترك الحديث رهبة
من درة عمر، لا رغبة في سنة عمر.
ومع أن أبا هريرة من المكثرين في الحديث، فالظاهر أن ما رواه
إنما كان بعد زمان عمر، أو أن المجموعة الموجودة من رواياته لم تضر
السلطات، بل تؤيدها (3).
لأن سياسة عمر في منع الحديث، كانت سنة يتبعها عثمان
ومعاوية، كما عرفنا (4).
ومع ذلك، فقد خفي القسم الأكبر من أحاديث أبي هريرة،
كما يدل عليه ما اشتهر عنه من حديث الوعائين الذين لم ينشرهما،
وإنما نشر وعاء واحدا منهما، فكان له هذا الحديث الكثير الذي أوجب



(1) البداية والنهاية لابن كثير (8 / 107)
(2) الحديث والمحدثون (ص 67).
(3) راجع للتفصيل عن أحاديث أبي هريرة: كتاب (أبو هريرة) للسيد شرف الدين، وكتاب
أضواء على السنة المحمدية، لأبي رية، وخصوصا: كتاب أبو هريرة شيخ المضيرة، له.
(4) أنظر الملحق الأول (ص 472).
487
استكثار بعض الصحابة ذلك (1).
والكتب التي أبيدت:
فالصحيفة التي أبادها عبد الله بن مسعود، والتي كانت تحتوي
أحاديث حسانا... في فضل أهل البيت، بيت النبي (2).
ماذا كانت تحتوي؟ وأين أحاديثها؟
وكتب الناس، التي أحرقها ابن مسعود (3):
ماذا كانت تحتوي؟ وأين صارت أحاديثها؟
وكتب الناس التي جمعها عمر، وأمر بإبادتها (4):
ماذا كانت تحتوي؟ وأين أحاديثها؟
هل بقي من كل ذلك شئ، من يدري؟!
ومما لا ينكره مؤرخو الحديث أن الانتظار إلى مطلع القرن الثاني
لكي يدون الحديث، يقارن موت معظم الصحابة (5) وذهاب كثير
من حملة الحديث (6).



(1) السنة قبل التدوين (ص 423) وحتى أن عائشة استكثرت عليه ذلك فلاحظ
المحدث الفاضل (ص 4 - 555).
(2) مضى في (ص 412) من هذا الكتاب نقلا عن تقييد العلم (ص 54).
(3) مضى في (ص 333) وبعدها.
(4) مضى في (ص 340) وهامشه.
(5) جامع الأصول لابن الأثير (1 / 40).
(6) الحديث والمحدثون (ص 127).
488
لأن آخرهم موتا هو أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني الذي توفي
سنة (مائة) من الهجرة (1).
فلو التزمنا بمنع التدوين، إلى ذلك الحين، كما هو رأي
أكثر المؤرخين من محدثي العامة، والتزمنا إلى جانب ذلك بتشديد
عمر في منع نقل الحديث والرواية، لصح القول بأن أكثر الحديث
قد ضاع بموت حامليه، حيث لا رواية ولا كتابة، عدا ما أباح تسجيله
وروايته الحاكمون وهو القليل، ومن أحاديث الأعمال فقط، أو تم نقله
بصورة غير قانونية؟!
ومن أوضح نتائج هذا الاختفاء أن الفقهاء العامة واجهوا قلة في النصوص التي
تستفاد منها الأحكام الشرعية، فلجأوا إلى الرأي والقياس - الذي هو
الأساس لمحق الدين - كما وقع لأبي حنيفة، فقالوا في حقه:
إن أبا حنيفة إنما كثر القياس في مذهبه، لكونه في زمن
قبل تدوين الحديث، ولو عاش حتى دونت الأحاديث الشريفة، وبعد
رحيل الحفاظ في جمعها من البلاد والثغور وظفر بها، لأخذ بها وترك
كل قياس كان قاسه (2).
أقول: بل، لو دونت الأحاديث قبل أن يولد أبو حنيفة، لما ضاع شئ
منها، ولاستفادت الأمة كلها منها في معرفة دينها، وإصلاح دنياها.
لكن المانعين كانوا يتعمدون ضياع الأحكام، وتشتيت أحوال أمة



(1) تهذيب التهذيب (5 / 82).
(2) (2) قواعد في علوم الحديث للتهانوي الحنفي (ص 454).
489
الإسلام، بتحريم تدوين السنة، مضافا إلى منع روايتها على الألسنة.
وأما نوعية الحديث الذي اختفى:
إن من غير الممكن تحديد نوعية جميع الحديث الذي اختفى على
أثر عملية المنع، إلا أنه يمكن الجزم بنوعية بعض ما اختفى نظرا إلى الآثار
الواصلة إلينا، والتي سبق ذكرها موثوقة بمصادرها، وإجمالها: 1 - إبادة الصحيفة التي فيها فضل أهل البيت.
2 - قول معاوية إلى عماله: برئت الذمة ممن روى شيئا في فضل
علي وأهل بيته.
3 - قول الدارمي بأن الممنوع إنما كان ما يرتبط بأيام رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، دون السنن والفرائض.
وهي الأمور التي ذكرناها سابقا بتفصيل ما (1) وقلنا: إنها تدل
على أن الهدف من المنع إنما كان عدم انتشار الأحاديث التي ترتبط
بخلافة علي عليه السلام، مما كان يعارض السلطة القائمة ويهدم أساس
خلافة الحكام.
4 - أضف إلى ذلك ما ذكروه عن محتوى الوعائين اللذين
لم ينشرهما أبو هريرة من أحاديثه.
فقد بينوا أن ما عنده مما لم ينشره لا يتعلق بالأحكام والآداب
وليس مما يقوم عليه أصل من أصول الدين، بل هو بعض أشراط الساعة،



(1) أنظر (ص 6 - 477).
490
أو بعض ما يقع للأمة الفتن (1).
ومن الواضح، لدى علماء الحديث، أن المراد بعنوان (الفتن)
هو ما يرتبط بأمر الخلافة وما وقع حولها من نزاع وتشاح وحروب
وغير ذلك، قبل أن يصبح ملكا عضوضا.
وإذا علمنا من خلال ترجمة أبي هريرة وسيرته أنه مال إلى معاوية
وحزبه (2) وكان مع السلطة، اتضح أن الذي لم ينشره من الحديث منه
ما كان مرتبطا بفضل علي عليه السلام وأهل البيت وذلك الذي كانت
السلطة تسعى بكل قواها في إخفائه ومنعه تدوينا ورواية.
وأيضا: يمكن أن نعرف نوعا آخر مما اختفى:
وهو ما رواه علي عليه السلام من الحديث، فإن أصحاب الإمام
عليه السلام وتلامذته الذين اقتبسوا منه، قد شردوا بعد استيلاء معاوية
على الحكم، وكانوا تحت الرقابة الشديدة، بل زجوا في السجون،
وقتلوا تقتيلا.
بحيث لم يجرؤ بعض الرواة أن يذكر اسم الإمام عليه السلام
عندما أراد أن يروي عنه بل كان يقول: حدثني أبو زينب، كناية عنه
عليه السلام (3).
وقال يونس بن عبيد: سألت الحسن [البصري] قلت: يا أبا سعيد،



(1) السنة قبل التدوين (ص 452) وانظر أبو هريرة لشرف الدين (ص 50 - 52).
(2) لاحظ أضواء على السنة (ص 212 فما بعدها).
(3) شرح نهج البلاغة (4 / 73).
491
إنك تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنك لم تدركه؟
قال: يا بن، لقد سألتني عن شئ ما سألني عنه أحد قبلك،
ولولا منزلتك مني ما أخبرتك، إني في زمان كما ترى (وكان في عمل
الحجاج) كل شئ سمعتني أقوله: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم، فهو عن علي بن أبي طالب عليه السلام، غير أني في زمان
لا أستطيع أن أذكر عليا (1).
بل، أدى بهم بغض علي عليه السلام إلى ترك السنة.
أخرج النسائي، عن سعيد بن جبير قال: كنت مع ابن عباس
بعرفة، فقال: ما لي لا أرى الناس يلبون؟!
قلت: يخافون من معاوية، فخرج من فسطاطه يقول: لبيك
اللهم لبيك، فإنهم قد تركوا السنة من بغض علي (2).
لكن الذين اشتروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله، وجعلوا أرواحهم
رخيصة في سبيل أهداف الإسلام الغالية، لم يأبهوا بالتهديدات،
ولم تؤثر فيهم الاتهامات، فقاوموا السلطات، وقاموا بكل جرأة بأداء
الحق بعد تحمله، كي لا يعذر الناس،
وبلغوا القدر الممكن الكافي لإتمام
الحجة على الأمة، فوصل إلينا ما لا يبقى معه عذر لمعتذر فقد حفظوا لنا
الدين المعتمد - بعد القرآن - على سنة سيدنا الرسول صلى الله عليه وآله،



(1) تهذيب الكمال، للمزي (1 / 124).
ونقله عنه في هامش تهذيب التهذيب (3 / 266) في ترجمة الحسن البصري.
(2) الإعتصام بحبل الله المتين (1 / 360).
492
سالكين أفضل السبل وأوثقها وأصح الأسانيد وأقومها، ألا وهو ما أسنده
الأئمة العظام من أهل البيت: إلى جدهم المصطفى.
هذا مع أن أهل البيت أدرى بما في البيت، وأحرص على حفظه،
وضبطه، ونشره، وتبليغه، لما لهم من الفضل والجهاد والعلم والسداد.
فعلى المسلمين بعد انسداد أبواب العلم على غيرهم، وانقطاع
الطرق إليه السير في طريقهم، والالتجاء إليهم في معرفة علوم الدين
وقواعد الإسلام من تفسير القرآن، ورواية الحديث والسنة.
ومن أجل ذلك يجب الرجوع إليهم في أخذ أحكام الشرع،
والعمل بفقههم الأصيل، المتصل الإسناد بالرسول صل الله عليه وآله،
والمعتمد على مصادر الشريعة المكرمة، بدون انقطاع أو تحريف أو شبهة.
وقد أكدت النصوص المنقولة عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم على وجوب الرجوع إليهم، وأنهم مع القرآن، فهما الخليفتان له في أمته
من بعده لو تمسكت بهما لم تضل أبدا، كما سبق بيانه في حديث
الثقلين الذي تحدثنا عنه مفصلا في بداية الفصل الثالث من القسم الأول.
كما اعترف كل المسلمين المؤمنين بفضل أئمة أهل البيت
عليهم السلام وتقدمهم في معرفة الإسلام أصوله وفروعه، والعمل به
في أخلاقياته وإرشاداته وواجباته ومسنوناته.
فالأخذ منهم هو سبيل النجاة من ورطة الهلكات، في هذه الدنيا
وبعد الممات.

493
2 - وضع الحديث:
قال محمد علي السايس: نشأ - من عدم تدوين الحديث، واكتفاء
الصحابة بالاعتماد على الذاكرة، وصعوبة حصر ما قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم وفعل، في مدة ثلاثة وعشرين عاما، من بدء
الوحي إلى الوفاة - أن وجد أعداء الإسلام - الذين غلبوا على أمرهم -
منفذا يدسون منه على المسلمين، ما يفسد دينهم، ليتسنى لهم قلب
الدولة الإسلامية، واسترجاع ما فقدوا من عز وسلطان!
لم يجدوا - وقد سدت في وجوههم أبواب الكتاب - إلا أن يلجوا
على المسلمين من باب السنة الواسع (1).
وقد ذكر المدائني في كتاب (الأحداث) إجراءات معاوية في منع
الحديث في فضل الإمام علي عليه السلام وأهل بيته، وتشجيعه على
وضع الحديث في فضائل الخلفاء والصحابة، غير علي وأصحابه،
وبذله الأموال والإقطاعات على ذلك.
قال: حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن، وحتى علموه



(1) دليل القضاء الشرعي، للسيد محمد صادق بحر العلوم; (3 / 31) عن كتاب
(تاريخ الفقه الإسلامي) (ص 68) طبع القاهرة سنة 1376 ه‍، وهو منهج السنة الثانية
لكلية الشريعة بالأزهر.
وانظر كتاب (تاريخ التشريع الإسلامي) للسايس بالاشتراك مع عبد اللطيف السبكي،
ومحمد يوسف البربري، المطبوع بالقاهرة طبعة ثانية سنة 1357 ه‍ (ص 17 فما بعدها).
494
بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم.
وأضاف: فظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر.
وقال ابن أبي الحديد - الذي نقل ذلك عن المدائني -: وقد روى
ابن عرفة المعروف بنفطويه - وهو من أكابر المحدثين وأعلامهم
في (تاريخه) ما يناسب هذا الخبر، وقال: إن أكثر الأحاديث الموضوعة
- في فضائل الصحابة - افتعلت في أيام بني أمية ربا إليهم، بما يظنون
أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم (1).
وقال أبو رية: كان من آثار تأخير تدوين الحديث، وربط ألفاظه
بالكتابة، إلى ما بعد المائة الأولى للهجرة وصدر كبير من المائة الثانية
: أن اتسعت أبواب الرواية، وفاضت أنهار الوضع، بغير ما ضابط
ولا قيد (2).
وقال السيد شرف الدين: لا يخفى ما قد ترتب على هذا [المنع]
من المفاسد التي لا تتلافى أبدا... وليت أبا بكر وعمر صبرا نفسيهما
على جمع السنن وتدوينها في كتاب خاص يرثه عنهما من بعدهما....
ولو فعلا ذلك لعصما الأمة والسنة من معرة الكاذبين بما افتأتوه
على رسول الله صل الله عليه وآله وسلم.
إذ لو كانت السنن مدونة من ذلك العصر في كتاب تقدمه الأمة



(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (11 / 44 - 46) وانظر النصائح الكافية (ص 88)
وكتاب سليم بن قيس (ص 166) والأنوار النعمانية (1 / 101).
(2) أضواء على السنة (ص 188 و (ص 268 (و (285).
495
لأرتج على الكذابين باب الوضع.
وحيث فاتهما ذلك، كثرت الكذابة على النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، ولعبت في الحديث أيدي السياسة، وعاثت به ألسنة الدعاية
الكاذبة، ولا سيما على عهد معاوية وفئته الباغية، حيث سادت فوضى
الدجاجيل، وراج سوق الأباطيل (1).
وقد كان في وسعهما وأوليائهما أن يكفوا شر هؤلاء
بتدوين السنن....
وما كان ليخفى عليهم رجحان ذلك... لكن أهدافهم التي أعدوا،
وتعبأوا لها، لا تتفق مع كثير من النصوص الصريحة المتوافرة، والتي
لا بد من تدوينها - لو أبيح تدوين - لكونها مما لا يجحد صدوره،
ولا يكابر في معناه (2).
وقال السيد هاشم معروف الحسني العاملي:
لو وقف المسلمون - بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم - من
السنة موقفا سليما، وعملوا على تدوينها وجمعها من صدور الحفاظ،
قبل أن تأكلهم الحروب، والغزوات، وقبل أن تعبث بها أيدي
الدساسين والمخربين.
لو وقفوا منها هذا الموقف، لقطعوا الطريق على هؤلاء وغيرهم



(1) راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (11 / 44 - 46) وأضواء على السنة
(126 فما بعدها).
(2) النص والاجتهاد لشرف الدين (المورد (14) (ص 146 - 149) ط دار الأندلس بيروت
الطبعة السابعة و (ص 142 - 144) ط قم مع تعليقات الراضي.
496
من المرتزقة الذين كانوا يتقربون إلى الحكام بوضع الأحاديث التي تمس
أخصامهم السياسيين، وتؤيد عروشهم.
ولكن الحكام - بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم - بدلا
من أن يفسحوا المجال لجمعها من الصدور، قبل أن تعبث بها الأيدي،
منعوا من تدوينها، وجمعها في الكتب (1).
أقول: ومن الغريب أن بعض المؤرخين الجدد للحديث الشريف،
من أهل التسنن يهملون ذكر أثر منع التدوين والرواية للحديث في حدوث
الوضع وشيوعه.
نوعية الحديث الموضوع:
ومع أن منع التدوين أنتج أثرا سيئا ضد علي وأهل بيته
عليهم السلام، وتسبب إلى إخفاء فضائلهم وحديثهم، خاصة في زمان
آل أمية ومروان، حيث كان نقل فضيلة لعلي عليه السلام يعني الهلاك،
فكان كبار الناس يخشون السلطة، ولا يذكرون اسم علي عليه السلام،
فضلا عن أن يرووا له فضيلة، أو ينقلوا عنه حديثا.
ومع أن أحباء أمير المؤمنين عليه السلام وأولياءه كانوا مطاردين، من قبل
الدولة، ومصيرهم القتل أو السجن.
فضاعت أكثر فضائل الإمام عليه السلام بين سندان المنع من
التدوين والرواية ومطرقة التهديد والسجن والتعذيب والقتل والمطاردة.



(1) دراسات في الحديث والمحدثين (ص 9) وراجع كتابه: تاريخ الفقه الجعفري
(ص 166 و 167 و 185).
497
قال المغيرة بن شعبة - والي الكوفة من قبل معاوية - لصعصعة
ابن صوحان: إياك أن يبلغني عنك أنك تظهر شيئا من فضل علي،
فأنا أعلم بذلك منك! ولكن هذا السلطان قد ظهر، وقد أخذ بإظهار
عيبه للناس، فنحن ندع شيئا كثيرا مما أمرنا به، ونذكر الشئ الذي
لا نجد منه بدا ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا، فإن كنت ذاكرا فضله
فاذكره بينك وبين أصحابك في منازلكم سرا، وأما علانية في المسجد
فإن هذا لا يحتمله الخليفة لنا (1).
وهذا خالد القسري - أحد ولاة بني أمية طغاة - طلب من أحدهم
أن يكتب له السيرة، فقال الكاتب فإنه يمر بي الشئ من سيرة
علي بن أبي طالب، أفأذكره؟
فقال خالد: لا، إلا أن تراه في قعر جهنم (2).
وقال ابن قتيبة الدينوري: أهملوا من ذكره [يعني الإمام عليا
عليه السلام] أو روى حديثا من فضائله، حتى تحامى كثير من المحدثين
أن يتحدثوا بها، وعنوا بجمع فضائل عمرو بن العاص، ومعاوية،
كأنهم لا يريدونهما بذلك، وإنما يريدونه (3).
وأخرج ابن الجوزي، عن طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال:
سألت أبي: ما تقول في علي ومعاوية؟



(1) الكامل في التاريخ، لابن الأثير (3 / 430).
(2) الأغاني (22 / 52).
(3) الاختلاف في اللفظ (ص 48).
498
فأطرق، ثم قال: اعلم أن عليا كان كثير الأعداء، ففتش أعداؤه له
عيبا فلم يجدوا، فعمدوا إلى رجل قد حاربه فأطروه كيدا منهم لعلي (1).
وللإمام محمد بن علي أبي جعفر الباقر عليه السلام حديث
طويل، يتحدث فيه عن ما قام به أعداء أمير المؤمنين علي عليه السلام
من التلاعب بالأحاديث بإخفاء ما ورد في أهل البيت،
ووضع ما يؤيد مواقف الحكام (2).
فمع هذا نجد أن المؤرخين الجدد - تبعا للأمويين الحاقدين
على الإسلام وآل البيت عليهم السلام - يتهمون الرواة الشيعة بوضع
أحاديث في فضائل أهل البيت عليهم السلام.
ففي الوقت الذي يخشى الراوي أن يروي فضيلة واقعية،
صحيحة! كيف يجرؤ أحد على وضع مثلها؟
ومن هو الذي يرغب، أو يحاول أن يروي فضيلة صحيحة،
فضلا عن فضيلة موضوعة؟!
فبدلا من أن يعد الراوي لفضيلة أهل البيت - في مثل تلك
الظروف الصعبة القاسية - إنسانا مؤمنا، طالبا للحق، حيث أنه جازف
بحياته، وبسلامته، فتصدى لعمل هو أخطر ما يكون عليه؟ وهو رواية
حديث في فضائل علي وآله؟!



(1) فتح الباري لابن حجر (7 / 83) والصواعق المحرقة، لابن حجر الهيتمي
(ص 76) وقال: أخرجه السلفي في (الطيوريات).
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (11 / 3 - 44).
499
أو محبا متفانيا في حب آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم،
حيث عرض سمعته لاتهام أعداء الحق الحاكمين وسطوتهم؟!
نجدهم يتهمون الشيعة لآل محمد بالوضع؟
مع أن وضاع الحديث إنما يسعون لدنياهم، إما مالا وثروة
أو جاها ومقاما وتسللا إلى منزلة وشهرة، ومن المعلوم أن شيئا من هذه المغريات
لم يكن إلى جانب أهل البيت عليهم السلام حتى يدعو أحدا إلى وضع
أحاديث في فضائلهم؟!
بينما كل المغريات كانت متوفرة لدى السلطة.
فالمتهم بالوضع إنما هم أنصار الدولة ورجالها، ورواتها،
لا الشيعة المضطهدون!
وقد رأينا أن معاوية كان يغري وضاع الحديث بالأموال،
والعقارات، والصلات والهبات والإقطاعات، والولايات، والإمارات،
والزلفى التقرب لديه.
فكيف يتغاضى مؤرخو الحديث - وخاصة الجدد منهم -
عن هذه الحقيقة؟!
إن هذا إلا افتراء وهراء وفرية بلا مرية، شهرها سلف أعداء أهل البيت،
استمرارا لسياستهم التي منعوا الحديث على أساسها، رواية وتدوينا،
فأخفوا بذلك فضائل أهل البيت عليهم السلام، وأبعدوا المسلمين
عن معين معارفهم.

500
ثم لم يزل أتباعهم يتهمون كل من روى فضائل آل محمد،
بالوضع والكذب، إبطالا لأثر الحديث المروي.
بعد أن يأسوا من منعه - لأنه كان بحد من الكثرة،
مع إصرار أهل الحق على تداوله، بحيث لم يتمكن أعداء أهل البيت
من إبادته ومنع تدوينه أو روايته، جميعا.
ولكن هيهات أن يؤثر الاتهام والإبطال في الواقع الذي لا ريب
فيه، كما لم يؤثر المنع من التدوين والرواية، بكل أشكاله في استمرار
الحق ودوامه.
مع أن اللجوء إلى هذه الأساليب إنما هو جهد العاجز،
لأن أحاديث فضائل علي وأهل البيت عليهم السلام إنما رويت بطرق
قوية، ومتعددة، ذكرت في الصحاح، والمسانيد، والمصنفات،
والسنن، والتفاسير، والمعاجم، مما رواه رواة أهل السنة.
وأما ما رواه الشيعة من ذلك بطرقهم، فهي منقولة عن أشخاص
اعترف الأعداء أنفسهم بعدالتهم وثقتهم وحجية أحاديثهم،
واعتمد أصحاب الصحاح على حديثهم.
وبعد إخراج روايات هؤلاء وهؤلاء من حيز الاتهام بالوضع، فكم يبقى من أحاديث
الفضائل؟ حتى تقام الدنيا على أن الشيعة تضع أحاديث الفضائل
لعلي وأهل بيته؟
إن زمان اكتفاء القراء بما يلقى عليهم - وخاصة من أهل المذاهب
المعارضة - من الدعاوى الفارغة عن الحجة والدليل، وكيل الاتهامات

501
الواهية المجردة عن كل إثبات - قد ولى.
والمجال مفتوح لكل عاقل، عارف بأوليات العلوم أن يتابع
بنفسه التاريخ، ويقرأ شواهده ليعرف أن أحاديث الفضائل رغم كل
محاولات المعارضة، وتزوير أحاديث مناقضة، ورغم عمليات الإبادة
والإحراق والدفن لكتب الحديث، ورغم إجراءات المنع والحبس والتشريد
والتبعيد لرواته، قد وصل إلينا منها المقدار الكافي المقنع، بأيد أمينة من
الصحابة الكرام، والتابعين الفضلاء.
وهي منقولة عن أهل السنة وطرقهم بأكثر وأوفر مما وصل إلينا
من طرق الشيعة، وإن كانت الطرق الشيعية لخصوص هذه الأحاديث
طرقا أمينة موثوقة، ليس فيها إلا رجال أتقياء حافظوا على الحديث
فنقلوه، وجازفوا بحياتهم ووجودهم في تلك العصور المظلمة -
عصور الجهل والظلم وحكم الفسقة من آل أمية وبني العباس (1) - فنقلوا
هذه الأحاديث، بالرغم من مطاردة الحكام لهم، وتعريضهم لأجل ذلك
لكل أنواع التهم والعذاب.
ولو كان رواة الفضائل - كما يريد أن يصورهم الظالمون - من
طلاب الدنيا، وممن يريد أن يخرب الدين ويضرب قواعده، ويقتل
أهله، فهل كان في تلك العصور سبيل أسهل وأقرب وأقوى من
الدخول في سلك الحكام والتسلل إلى المناصب، وضرب أفضل ما يمت إلى هذا الدين بصلة،
وهم علماء أهل البيت والأئمة من ذرية علي وفاطمة، وقتل الصحابة



(1) لاحظ ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للندوي (ص 20 - 123).
502
وهتك حرماتهم، ومنع حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من
أن يكتب أو ينقل أو يسمع؟!
كما كان الحجاج يفعله مع الصحابة وكرام التابعين، فقتل
من قتل، وحبس من حبس، وها هو يفعل مع الصحابة ما يذلهم،
حتى لا يسمعهم الناس:
قال ابن الأثير: كان الحجاج بن يوسف الثقفي - والي العراق
من قبل الأمويين - قد ختم في يد جابر بن عبد الله [الأنصاري] وفي
عنق سهل بن سعد الساعدي (الأنصاري بن مالك [خادم النبي
صلى الله عليه وآله وسلم]، يريد إذلالهم، وأن يجتنبهم الناس،
ولا يسمعوا منهم (1).
فهل لمن يريد ضرب الدين طريق أفضل من الوجود تحت ظل
الحكم الأموي، والسعي في تخريب الدين، وقتل أهله؟
وأي عاقل يريد ذلك، فينتخب طريقا مخالفا لإرادة الحكام،
فيلجأ إلى نقل حديث أهل البيت عليهم السلام، الذي كان عقابه الموت
والقتل، أو التعذيب ومصادرة الأموال أو الاتهام والطرد؟!
لا أدري، لماذا لا يتدبر أهل التسنن في عصرنا في ما يكتبون عن هذا الأمر،
وإنما يكتفون بتقليد الآباء والأجداد، ممن ولى ذكره مع مرور زمانه من
المستأجرين لدول الظلم عبر التأريخ، والمغرضين الذين ملأهم الحقد على
الإسلام فعدوا على أهل بيت النبي، ومحبيهم، وهم من أكرم الناس



(1) أسد الغابة لابن الأثير (2 / 472) الطبعة الحديثة، في ترجمة سهل.
503
عند الله ورعا وتقوى، والتزاما بالدين والشرع، عدوا عليهم بالتهم
والقذف؟ من دون دليل ولا حجة.
وإلى الله المشتكى، وهو المستعان على ما يصفون.
ولقد وقف علماء الإسلام من الأئمة الكرام عليهم السلام
والصحابة العظام، والتابعين لهم بإحسان، وقفوا موقفا صلبا من الوضع
والوضاعين، زيفوا ما افتروه، وأبطلوا ما ابتدعوه، وكشفوا أهدافهم
ونواياهم الخبيثة.
وكذلك جاء العلماء فوضعوا القواعد للحديث، وقرروا طرقا
لنقد الصحيح من الزيف، وبذلك كله ذهبت أدراج الرياح محاولات
أعداء الإسلام، بالتشويه على الحديث الشريف، هذا الأصل القويم
من أصول الدين الإسلامي العظيم.
3 - اختلاف الحديث، والتشكيك فيه:
قال أبو العباس الحنبلي (ت 716 ه‍): يظن البعض أن منع عمر
تدوين الحديث هو من علل اختلاف الحديث (1).
وقد أثارت هذه الكلمة ثائرة بعض المتعصبين (2).
والحقيقة
أن منع عمر للتدوين - هو قطعا - من علل اختلاف الحديث، وليس
ذلك مجرد وعم وظن، وذلك:
1 - للاعتبار:



(1) لاحظ الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 260).
504
فإن كل إنسان يشهد بوجدانه، بأن تقييد المعلومات بالكتابة
هو من أحسن الوسائل لضبطها، وإبعادها عن الاختلاف، لما في الحفظ
على الخاطر من المخاطر التي يتعرض لها ذهن الإنسان، من النسيان
والغفلة والخلط بين الكلمات المتشابهة، وغير ذلك مما هو عارض لكل
البشر، وليس المسلمون الأوائل مستثنين من ذلك.
ومما لا شك فيه ولا ريب أن كثيرا مما وقع في الحديث
من الاختلاف في الألفاظ، وما تؤديه من الأحكام، إنما هو على أثر
عدم وجود نص مضبوط للحديث الشريف.
2 - لاعتراف العلماء:
وقد اعترف بهذه الحقيقة عدة من العلماء المعترف بهم،
ممن لا يشك فيهم:
1 - قال ابن عساكر في النقل من الحفظ ممن ضاعت كتبه،
أو احترقت، أو دفنها، ثم حدث من حفظه، فلم يتقن الحفظ،
ومن كان يعتمد المرسل، أو يسندون الموقوف، أو يسقطون الإسناد،
أو يدخلون حديثا في حديث (1).
أقول: فكيف بمن لم يكتب أصلا، ولم يتعب نفسه بذلك؟!
2 - وقد جعل ابن السيد البطليوسي في كتابه (الإنصاف في التنبيه
على الأسباب التي توجب الاختلاف بين المسلمين) الباب الخامس في
الخلاف العارض من جهة الرواية والنقل، وذكر فيه علل الحديث، والعلة



(1) تاريخ دمشق (2 / 13 - 14).
505
الثانية منه هي: نقل الحديث على المعنى (1).
ومن الواضح أن نقل الحديث على المعنى، إنما يكون إذا لم يكن
اللفظ محفوظا، كما إذا حدث الراوي من حفظه لا من كتابه،
ولم يحفظ اللفظ مضبوطا، ولو كان الحديث مدونا مضبوطا، لم يحتج
إلى النقل بالمعنى، حتى يؤدي إلى ذلك الاختلاف.
3 - وقال الجزائري - في الاحتجاج لجواز النقل بالمعنى -:
إن الصحابة كانوا يسمعون الأحاديث، ولا يكتبونها، ولا يكررون
عليها، ثم يروونها بعد السنين الكثيرة، ومثل هذا يجزم الإنسان فيه
بأن نفس العبارة لا تنضبط، بل المعنى فقط (2).
وحاصله: أن تأخر تدوين الحديث أدى إلى اختلاف الأحاديث،
وكلف ذلك جهودا جبارة من العلماء للجمع بينها، والتوفيق بين
الألفاظ المختلفة الدلالة على معانيها التي قد يعرضها تفاوت على مرور
الأزمان، وخاصة عند اختلاف الاصطلاحات، أو على أثر ضعف
القدرة اللغوية في الأجيال المتعاقبة بتجدد أوضاع جديدة، وغير ذلك،
وكل تلك المسؤولية تقع على عاتق المانعين لتدوين الحديث.
فلو كان الحديث مدونا من البداية، بلفظ واحد، كانت النصوص
متحدة، لا يعرضها مثل ذلك.
بل قد أثر ذلك في اختلاف الأحكام الفقهية بين الصحابة.



(1) الإنصاف (ص 100) وانظر أضواء على السنة لأبي رية (ص 97 و 99).
(2) توجيه النظر (ص 298).
506
قال الدكتور محمد سلام مدكور، وهو يتحدث عن أسباب
اختلاف الأحكام:
إن السنة لم تكون مدونة، ولم تجتمع الكلمة على مجموعة منها،
بل كانت تتناقل بالرواية والحفظ، وربما علم منها المفتي في مصر
ما لم يعلمه المفتي في بلد آخر، وكثيرا ما كان يرجع المفتي عن فتواه
إذا علم فيها سنة (1).
الاختلاف لا يسقط الحديث عن الحجية:
لكن بعض المتأخرين، جعل من ذلك نقطة ضعف في الحديث
نفسه، وبدأ من خلال ذلك بالتهجم على متون الأحاديث، والخدشة
في اعتبارها.
يقول الجزائري: في تتمة كلامه السابق: لأن لفظ السنة ليس
متعبدا به بخلاف لفظ القرآن، فإذا ضبط المعنى فلا يضر ما ليس بمقصود (2).
وهذا الكلام إن أريد به أن لفظ الحديث - وهو ذلك الذي نطق به
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم - ليس مقدسا مثل القرآن، حتى يلزم
الراوي به عينا، فيكون تكراره واجبا، بل إنما المراد به مدلوله ومعناه
ومفاده، فإذا ضبط المعنى فلا يضر فوات نفس الألفاظ والعبارات،
وتبديلها بعبارات أخرى تؤدي المعنى دقيقا



(1) مناهج الاجتهاد في الإسلام، للدكتور محمد سلام مدكور (ص 145 وانظر ص 148)
ولاحظ: منهج النقد (ص 460 - 462).
(2) توجيه النظر (ص 298).
507
فهذا صحيح وحق، وقد أجمع المحدثون والفقهاء عليه، لكن:
1 - إن مثل هذا التصرف - أعني تجاوز ألفاظ الحديث، وأداؤه
بألفاظ أخرى، مع ضبط المعنى - لا يقدر عليه إلا من كان عارفا بالمعنى
بدقة، وعارفا بكل خصائص اللغة التي جاء بها الحديث، وهذا يعني
أن لا تفوت الراوي أية نكتة بلاغية، أو سر من أسرار العربية، أو علاقة
مجازية، أو كناية خفية إن وجدت في الحديث.
ومثل هذا لا يتسنى إلا للأوحدي، وإلا لمن حضر مشاهد
الحديث، وأزمنته، ومنازله، ومواقعه، وعلم بأسبابه، ومقارناته.
2 - إن من الحديث ما يكون لفظه متعبدا به، كما في الأدعية
والمناجاة والأذكار الخاصة المروية، فقد استثنى العلماء كل ذلك من جواز النقل
بالمعنى، بل أكدوا على لزوم المحافظة على ألفاظه (1).
وكذلك لا بد من استثناء الموارد الخاصة التي ورد الحديث فيها
معتمدا على الصيغ الخاصة، كالخطب في المناسبات الحساسة،
أو الكلمات الرائعة المحتوية على السجع المعين، والنغمات المعينة، فإن من
المتيقن أن الرواة لم يغيروا من ذلك شيئا، بعد أن كانوا هم من أهل اللغة
يتذوقون حلاوة الألفاظ الواردة في مثل تلك الأحاديث.
3 - إن إباحة ذلك إنما كان لفترة وجيزة جدا، وأما بعد شيوع
التدوين فإن العلماء لم يسمحوا بذلك، وخاصة بعد تغير الألسنة،
وابتعاد الناس عن مصادر اللغة الأصيلة، فلم يسمح لمن تأخر عن ذلك



(1) راجع بحثنا: من أدب الدعاء في الإسلام، المنشور في مجلة (تراثنا) الفصلية، العدد (14).
508
العصر أن يقوم بنقل الحديث بالمعنى، بل إن الإقدام على ذلك - بعد
العصر الأول - في الحقيقة خروج عن الشرط الأساسي لجواز النقل
بالمعنى، وهو ضبط المعنى، فإن أهل القرون المتأخرة لم يملكوا تلك
القدرة اللغوية التي تبيح لهم ذلك.
وأما إذا كان المراد من ذلك الكلام أن الراوي لا يتقيد بألفاظ
الحديث، وأن ذلك ليس مهما، ولا ممنوعا.
فهو غير صحيح، بل هو مناقض لشرط ضبط المعنى، فكيف يضبط
المعنى من لا يتقيد باللفظ، فالمعنى لا ينضبط إلا إذا كان الراوي قد حقق
اللفظ ودقق في المراد منه، وعندما يضبط المعنى فحينئذ يجوز له أن يعبر
عن ذلك بألفاظ أخرى غير مخالفة لمراد الحديث.
ويدل على عنايتهم الفائقة بألفاظ الحديث أنهم كانوا يحفظون
المتون على ظهر الخاطر، ويفتخرون بذلك.
ثم إنا إذا لم نعلم أن الحديث مروي بلفظه، أو منقول بمعناه،
فإنا ملزمون بما ورد فيه من ألفاظ، ولا بد أن نتقيد بكل ما فيه من
حروف وإضافات وأجزاء وكلمات.
وهذا هو المعمول به عند الفقهاء من اعتمادهم على ما ورد
في الحديث من ألفاظ واستفادة الأحكام على أساس ذلك.
وبعد: فإن أولئك الأولين إن جاز لهم نقل الحديث بالمعنى،
لأنهم ضبطوا المعنى، فلا يعني ذلك جوازه لغيرهم، إلا مع اليقين
بضبط المعاني.

509
نقل الحديث بالمعنى ليس مضرا:
ولكن المغرضين، الذين يريدون أن يطعنوا الحديث من هذه الناحية،
يهولون الأمر، وكأنه يجوز لكل أحد أن ينقل الحديث بالمعنى، وعند
ذلك لا تبقى لألفاظ الحديث أية قدسية.
كيف؟ وهذا مخالف - لسيرة المسلمين - أجمعين - من تقديسهم
ما ورد في نصوص الأحاديث من ألفاظ، وبذلهم جهودا جبارة
في ضبطها، وسنهم قواعد متينة محكمة لتسجيلها، وتحقيقها، وتثبيتها
في الكتب، باختلافاتها.
وقد سبق المسلمون كل الأمم في وضع قواعد لتحقيق النصوص،
وضبط الكتب من بركة الحديث الشريف، وقواعده المتينة الموثوقة.
ومن المدهش أن نجد في المهتمين باللغة العربية في عصرنا
من يعترف بأن منع التدوين كانت له آثار مشينة على اللغة:
فيقول مصطفى صادق الرافعي: لو كان التدوين شائعا في الصدر
الأول، وتيسر لهم أن يدونوا كل ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وآله
وسلم وألفاظه، وصوغه، وبيانه، لكان لهذه اللغة شأن غير شأنها (1).
لكنه يتجاهل في حديثه أن المانعين من التدوين تقع على عواتقهم
تلك الآثار، ويحاول أن يضع اللائمة على الذين نقلوا الحديث
بالمعنى.
فنقول: إن نقل الحديث بالمعنى لم يكن ذا أثر سئ، ولا أدري،



(1) إعجاز القرآن (ص 422).
510
لماذا يذرفون هذه الدموع؟ فهل إن نقل الحديث بالمعنى كان من الشيوع
بحيث غطى كل الحديث قاطبة؟ أم إنه كان أمرا التزم به العلماء عند
الضرورة، وبشروط صعبة التحقق، ولم يكن - في اعتقادي - إلا في ما
يرتبط بالأحكام والأعمال من الروايات، وهي لا تمثل إلا بعض الحديث.
فإن كانت لكم أعين، فافتحوها على غير ذلك من الأحاديث التي
لولاها - ولولا القرآن - لم يكن للغة العربية أي شأن يذكر!
ثم، أليس كثير من الحديث قد دون، وضبط، وقيد، وكتب؟
فلماذا تنعون الحديث وكأنه لم يكتب أصلا، ولم يدون أصلا؟
ومن هنا نعتقد أن الذين يضربون على هذا الوتر إنما يريدون ضرب
الحديث الشريف كله.
وقد أوغل في إثارة هذه الضجة محمود أبو رية المصري (1) في كتابه
(أضواء على السنة المحمدية) (2).
فهو يقول - في أسباب تأليفه للكتاب -: مما كان يثير عجبي أني
إذا قرأت كلمة لأحد أجلاف العرب اهتز لبلاغتها وتعروني أريحية
من جزالتها، وإذا قرأت أكثر ما ينسب إلى النبي من قول لا أجد له هذه
الأريحية، ولا ذلك الاهتزاز وكنت أعجب! كيف يصدر عنه صلوات الله عليه مثل



(1) يلاحظ أن أبا رية كان من تلامذة الرافعي وله إليه رسائل مطبوعة!
(2) هذا الكتاب لا يخلو من إيراد بعض الحقائق، لكن الهدف الأساس من تأليفه هو ما نقلناه
عنه، ولا تخفى خطورة ذلك على أصل الحديث وكيانه!.
511
هذا الكلام المغسول من البلاغة! العاري عن الفصاحة! وهو أبلغ
من نطق بالضاد؟ (1).
ويقول: حتى انتهيت... إلى إنه لا يكاد يوجد في كتب الحديث -
كلها! - مما سموه صحيحا، أو ما جعلوه حسنا، حديث قد جاء
على حقيقة لفظه ومحكم تركيبه، كما نطق الرسول به (2).
أقول: لا ريب أن في كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
ما يجري مجرى المعتاد من كلام الناس، لم يأت لغرض من أغراض
البلاغة ولا فيه صنعة كلامية، وكذلك البلغاء ليس كل كلامهم طافحا
بالبلاغة، وكذلك الشعراء ليس كل كلامهم شعرا له وزن وقافية، وحتى
الشاعر الواحد ليس كل شعره متساويا في القوة والجودة.
وإنما البلغاء كانوا يبرزون قابلياتهم في المناسبات، وكان الشعراء
يستعدون للمواسم والحلبات، فينظمون لها القصائد، وكل يقدم أفضل ما يقدر
عليه، ويتبارون في المواسم والأسواق، وهذا واضح لمن تابع منشئاتهم
القوية، وداخل أغوار تاريخ الأدب الجاهلي.
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما جاء مربيا ومعلما للناس،
فليس اهتمامه بمجرد صنعة الكلام، وإنما كان يتكلم بلسان قومه ليبلغ
إليهم الأحكام.
لكنه صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يخلد شيئا من الكلام،



(1) أضواء على السنة (ص 19).
(2) أضواء على السنة (ص 20).
512
كانت البلاغة تتفتق من جوانبه، والفصاحة تنساب بين يديه، فيأخذ
كلامه بمجامع القلوب،
كيف لا؟ وهو الذي أوتي جوامع الكلم
وفصل الخطاب.
والبليغ الشامخ في البلاغة، والبالغ القمة الشماء في الفصاحة
والطلاقة، ليس في كلامه صلى الله عليه وآله وسلم قليلا، بل ما روي عنه في صحف الأعلام
ودواوين أهل الإسلام - سواء من مؤلفات الشيعة، أو السنة - من الكلام
البليغ الرائع، كثير كثير جدا، وفي كلامه ما ترتاح له قلوب
غير المؤمنين به، بله المؤمنين، وتخضع له أفئدة الفجار، بله المتقين،
وتهتز له نفوس الأجلاف، بله الأشراف.
وقد جمع نماذج من بليغ كلامه السيد الشريف الرضي
في المجازات النبوية، والقاضي القضاعي في (شهاب الأخبار) ومنه
الآلاف في (الجامع الصغير) للسيوطي.
دع عنك المئات من الرسائل، والخطب، والكلمات القصار
الحكمية، التي هي أمثلة رائعة من بلاغته الناصعة.
والقارئ إن كان ذا ذوق أنيق اطلع على بعض أسرار كلامه
صلى الله عليه وآله وسلم، ومراميه البعيدة وقد كشف شراح الحديث
ما في أحاديثه من ضروب المحسنات البديعية
والنكت البلاغية.
فأنى لأبي رية التفوه بمثل ذلك الكلام الفارغ؟!
وكيف ينكر أبو رية أن يكون في الروايات حديث [ومراده

513
الحديث الواحد] جاء على حقيقة لفظه!
إن من الجفاء أن يهتز الرجل لكلمة واحد من الأجلاف! ولا يهتز
لهذه الآلاف من الكلمات التي تهتز لها الأشراف.
إن النقص ليس - إذن - في الروايات والكلمات المروية عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما النقص في ما انتهى إليه ذوق أبي رية
وإحساسه وبصيرته التي امتلأت بالجلف من الكلام، فلا مجال لكلام
خير الأنام أن يأخذ موقعا منه.
لا، ولا كرامة!
(إنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)
[الآية (46) من سورة الحج (22)].
مع أن أبا رية قد اعتمد في دعواه الباطلة تلك على أساسين هزيلين:
1 - مسألة نقل الحديث بالمعنى:
قال: إن الأحاديث التي جاءتهم عن الرسول صلوات الله عليه
وعلى آله قد رويت عنه بمعناها، لما لم يستطيعوا أن يأتوا بها على حقيقة
مبناها، لنسيان أهلها، أو لمضي الزمن عليها، بعد أن عجزت ذاكرة كل
راو عن ضبط ألفاظه، ولم يكونوا قد عنوا في أول الأمر بتدوينه (1).
ويقول: لما رأى بعض الصحابة أن يرووا للناس أحاديث النبي
صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك في المناسبات التي تقتضي روايتها، وقد



(1) أضواء على السنة (ص 76).
514
يكون ذلك بعد مضي سنين طويلة على سماعها، ووجدوا أنهم
لن يستطيعوا أن يأتوا بالحديث على أصل لفظه، كما نطق النبي به،
استباحوا لأنفسهم أن يرووا على المعنى.
ثم سار بعدهم كل من جاء من الرواة بعدهم فيتلقى المتأخر
عن المتقدم ما يرويه عن الرسول بالمعنى.
ثم يؤديه إلى غيره بما استطاع أن يمسكه ذهنه منه.
ولقد كان لرواية الحديث بالمعنى - ولا جرم - ضرر كبير
على الدين، واللغة، والأدب (1).
أقول:
إن الرجل إنما يتبع هواه، فيحوك كلماته حسب ما يراه،
فهو يصور أن (بعض الصحابة) أراد أن يروي للناس، وكأن الصحابة
ليس كلهم قد انبرى للرواية - قليلا أو كثيرا أن من شذ منهم
فلم يرو شيئا، فهو قد حرم نفسه من ذلك الخير الجسيم، وقصر في أداء
ما وجب عليه من أمر تبليغ الأحكام، بالمسموع له من الأحاديث.
لكنه يذكر الرواة عن الصحابة يقول: ثم سار بعدهم كل من جاء
من الرواة.
ولا أدري من أين له هذه التخمينات بالكل تارة، وبالبعض أخرى؟
سوى كيل هواه!.



(1) أضواء على السنة (ص 21).
515
2 - إنه يصور النقل بالمعنى، وكأنها عملية مباحة في
كل الطبقات، ومتاحة لكل الرواة!.
فالطبقة الأولى وهم الصحابة ينقلون بالمعنى، يعني يأتون بألفاظ
من عندهم، ولا يلتزمون بألفاظ رسول الله، وهكذا التابعون لا يلتزمون
بألفاظ الصحابة، وكذا من بعدهم.
فكل راو يجوز له أن يأتي بألفاظ من نفسه، ولا يلتزم بما سمع
عن من سبقه من الألفاظ.
وهذا جهل محض بقوانين الرواية وبشروط النقل بالمعنى
وأبعاده، وبما عليه المحدثون من كمال المحافظة على الألفاظ المسموعة
أو المقروءة أو المكتوبة، وبذل غاية الوسع في ذلك، كما هو واضح
من جهود أعاظم المحدثين.
وإنما جاز ذلك للسابقين الأولين، دون من بعدهم.
3 - ولو التزمنا بظاهر كلامه: فإذا كان بعض الصحابة روى للناس
بالمعنى، فلماذا يجب أن يروي كل من جاء بعدهم
بالمعنى؟ بل يحتمل أن يكون من جاء بعدهم قد روى عن البعض الأول
بالمعنى، وروى عن البعض الآخر باللفظ، وهكذا.
4 - إن كلامه مبتن على مجرد احتمال فرضه بقوله: قد يكون بعد مضي سنين طويلة
من سماعها، ويرده أنه قد لا يكون كذلك.
كما أن الظاهر أن الصحابة كانوا يروون دائما ومباشرة بعد
ما سمعوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئا، والناس بعدهم كانوا

516
دائما يأخذون أحكام دينهم من الصحابة، ويسألونهم الحديث
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ألا يكفي ذلك لعدم نسيانهم شيئا مما سمعوه من ألفاظ
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؟.
5 - إنه يصور النقل بالمعنى، وكأنها عملية بسيطة عادية،
التجأ إليها الصحابة بعد العجز في الذاكرة.
بينما النقل بالمعنى، كان مطروحا من أول الأمر، فقد سئل عنه
الصحابة أنفسهم؟ واعترض الرواة عليهم بتغيير الألفاظ، مما يدل على
التحرج منه، وسئل الأئمة من أهل البيت عليهم السلام عن ذلك أيضا.
فصار إليها علماء الأمة بشروط صعبة، أهمها أن يصيب الراوي
معنى الحديث.
وقد ذكرنا سابقا في رد الجزائري (2): أن هذا مما لا يتاح لكل أحد
بسهولة، إذ إصابة المعنى يبتني على وقوف تام على أسرار اللغة العربية
وخصائصها وسائر أبعاد الكلام من القرائن المحفوفة به.
كما أن نفس شرط إصابة المعنى يدل على أن جواز ذلك
إنما يكون في ما قصد به المعنى فقط، دون ما يكون لخصوص ألفاظ
الحديث مزية مقصودة، أو لها دخل في المراد.
ومن المعلوم أن الأحاديث الملقاة على أساس الجهة البلاغية،



(1) أنظر (ص 508) سابقا.
517
التي تحتوي على السجع المعين فإن ألفاظها قد تعلق بها غرض معين،
فلا يجوز للراوي تغييرها، لأن آثار الألفاظ المخصوصة تزول
بذلك.
2 - الأساس الثاني الذي بنى عليه أبو رية دعواه الباطلة -:
عدم تدوين الحديث وكتابته.
فقد ذكر في نهاية كلامه المنقول سابقا: ولم يكونوا قد عنوا
من أول الأمر بتدوينه.
ويقول: كان أول ما بان لي من هذه الحقائق أن النبي
صلوات الله عليه لم يجعل لحديثه كتابا يكتبونه عندما كان ينطق به،
كما جعل للقرآن الحكيم، وتركه ينطلق من غير قيد إلى أذهان
السامعين، تخضعه الذاكرة لحكمها القاهر... من سهو، أو وهم،
أو غلط، أو نسيان، وبذلك تفكك نظم ألفاظه، وتمزق سياق معانيه.
ولم يدع صلوات الله عليه الأمر على ذلك فحسب، بل نهى عن
كتابته، فقال - في ما رواه مسلم -: لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن....
وقد استجاب أصحابه لهذا النهي، فلم يكتبوا عنه غير القرآن.
ولم يقف الأمر عند ذلك، بل ثبت عنهم أنهم كانوا يرغبون عن
رواية الحديث، وينهون الناس عنها، ويتشددون في ما يروى لهم منها (1).
ويقول: لقد تضافرت الأدلة النقلية الوثيقة، وتواتر العمل الثابت
الصحيح على أن أحاديث الرسول صلوات الله عليه لم تكتب في عهده



(1) أضواء على السنة (ص 20 - 21) وانظر دفاع عن السنة (ص 202).
518
كما كان يكتب القرآن، ولا كان لها كتاب يقيدونها عند سماعها منه،
وتلفظه بها.
وقد جاءت أحاديث صحيحة وآثار ثابتة، تنهى كلها عن كتابة
أحاديثه صلى الله عليه وآله وسلم (1) ثم ذكر بعضها.
والذي يرد عليه:
أولا: أنه يبدو مؤكدا على حرمة التدوين، لتصديقه بما ورد
في ذلك من الأدلة النقلية والتواتر العملي من الصحابة حيث استجابوا
لنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا يتحرجون من الكتابة خشية
أن يقعوا في ما نهى عنه.
لكنه رتب على عدم التدوين هذا الرأي الباطل الذي ادعاه، من
أن الحديث لم ينقل بلفظه، بل بمعناه، وأنه لا حجية له من أجل ذلك.
وهذا تناقض واضح، بين ما أثبته من حرمة التدوين، وبين ما يعج
منه ويضج، من دعواه الباطلة.
وقد صرح بهذا التناقض حيث يقول: ولقد كان لتأخير كتابة
الحديث ضرر كبير (2).
فيقال له: إذا كان التدوين محرما، لأن النبي صلى الله عليه وآله



(1) أضواء على السنة (ص 46) وانظر حجية السنة فقد نقله بمعناه ورد عليه بتفصيل
(ص 392 - 398) وما بعدها، لكنه لم يشر إلى جوابه الصحيح إلا في (ص 430)
فلاحظ مواضع من كتابنا هذا حيث تعرضنا لسائر كلامه.
(2) أضواء على السنة (ص 23).
519
وسلم قد نهى عنه، فاستجاب الصحابة لهذا النهي، وهكذا من بعدهم
- بدليل اشتراك الجميع في الأحكام -
فالضرر الناتج من عدم التدوين
ومن تأخير الكتابة، يقع على عاتق من؟
هل يريد بهذا الكلام أن يعترض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم
حيث نهى عن الكتابة؟ - والعياذ بالله -؟.
أو يعترض على الصحابة حيث استجابوا للرسول صلى الله عليه وآله
وسلم؟ وتحرجوا من مخالفة نهيه؟؟.
أو يريد أن يصب - بهذا غضبه على الحقيقة التي بانت له؟ والتي
تزيف دعواه الفاسدة؟، لو التزم بها؟.
لكنا نقول له: إن التدوين لم يتأخر لحظة، منذ انطلاق الإسلام،
حيث كانت قريش المشركة تتصدى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته، ووقفت
من حديثه موقفا مانعا، حيث حاولوا منع عبد الله
بن عمرو بن العاص عن كتابة حديثه، لكن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم أمره بكتابة ما يخرج من فمه الشريف.
بل كان التدوين قائما على قدم وساق، في عصره صلى الله عليه
وآله وسلم، وبإملائه تارة، وإشرافه أخرى، وأمره ثالثة، وحثه تارة....
وحتى عهد المانعين الجدد قريش المستسلمة، في عهد
الخلافة، حيث لم ينقطع الصحابة الأمناء على هذا الدين، وحملة
الشريعة المتقين، من تبليغه رواية وتدوينا، على الرغم من الضغوط
والتهديدات التي تعرضوا لها.

520
وكذلك التابعون الكرام، الذين واجهتهم الصعوبات على مدى
القرن الأول، حتى عصر الإباحة الرسمية، في خلافة عمر بن عبد العزيز.
وثانيا:
إن ما يعلن عن عدم كونه سليما في بحثه، ويسير على خلاف ما يجب
أن يكون عليه العلماء - أنه عندما ما يتحدث عن التدوين، وعن النهي
عنه في الشرع، لم يذكر - ولا بالإشارة - الأدلة على إباحة التدوين
والروايات الكثيرة الدالة على ذلك بما فيها الكثير من الصحاح!.
وإنما يكتفي بذكر روايات المنع وآثار المانعين، فقط!.
فهل الأمانة والتحقيق والبحث العلمي - الذي يدعيه
ويدعو إليه - تسمح له بذلك؟؟.
بل، نقول له: إن اهتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحديث
الشريف وحثه على تبليغه ونشره وأدائه، هي بحيث لا تقبل الإنكار.
والآثار الدالة على مزيد عنايته - هو صلى الله عليه والأئمة من آله
والصحابة المخلصون - بالحديث، أمر ذائع كالشمس في رائعة
النهار، بحيث أصبح الحديث ثاني أعمدة هذا الدين عند المسلمين
كافة، وبخصوص كتابته وتدوينه، فإن الأمر لا يختلف إطلاقا،
وقد عرضنا في القسم الأول من هذه الدراسة الأدلة على ذلك.
وثالثا:
إن ما قاله عن الأخبار الصحيحة الدالة على النهي، باطل محض،

521
حيث قد أثبتنا في الفصل الأول من القسم الثاني، إنه لم يرد
في باب النهي عن التدوين خبر صحيح، إلا رواية أبي سعيد الخدري
التي رواها مسلم -
وقد أثبتنا أنها رواية معلولة، لأن أمرها يدور بين أن تكون مرفوعة
إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو موقوفة على أبي سعيد نفسه.
وقلنا: إن مثل ذلك - حتى لو سمي صحيحا - فإنه لا يقاوم
في الحجية ما دل على الجواز من الأخبار الصحيحة سندا والدالة
بوضوح على المقصود.
وأما سائر روايات النهي، فكلها ضعيفة السند، كما سبق مفصلا.
وأما قوله: وقد استجاب أصحابه لهذا النهي:
فباطل أيضا:
لأنه لم يكن هناك نهي ثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أصلا، كما أثبتنا سابقا، فكيف يكون الصحابة التزموا بالنهي؟.
وقد أثبتنا في ما سبق أن الكتاب من الصحابة كانوا يباشرون عملية
التدوين منذ عهد الرسالة، وبمرأى من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم منه
ومسمع، وحتى بعد وفاته،
ولم ينقطعوا عن التدوين، كما لم ينقطعوا عن الرواية، بالرغم
من معارضة السلطات لهم.
وقد أوردنا هناك أسماء من كتب منهم، وأسماء كتبهم.

522
فكيف يدعي - أبو رية - هذه الدعوى الطويلة العريضة الباطلة؟
وقد حاول البعض أن يجعل كتابة بعض الصحابة للحديث دليلا
على أن الحديث الشريف إنما ورد بعين لفظه.
قال محمد عجاج الخطيب: ويقوى عندي أن معظم ما رواه
الصحابة والتابعون كان بلفظ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:
أن بعضهم كان يكتب الحديث بين يدي النبي الكريم.
وكانوا يعقدون الحلقات يتذاكرون فيها ما يسمعون منه
عليه الصلاة والسلام (1).
أقول: هذا كلام بإجماله صحيح وجيد، إلا أن كتابة البعض،
وتذاكر البعض ليس كافيا للحكم على معظم الحديث الشريف بكونه
جاء بعين لفظ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
فإذا كان الأصل - في حكم التدوين - هو الحرمة.
وإذا كانت رواية الحديث ونقله ممنوعة.
وإذا كان المنع - رواية وتدوينا - قد استمر طوال القرن الأول،
وبصورة رسمية من قبل الخلفاء والحكام والولاة، بدءا بأبي بكر
وعمر الأول، وحتى عهد عمر الثاني.
إذا تم ذلك، كان من الواضح عدم إمكان دعوى انضباط الحديث
بلفظه الذي نطق به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.



(1) السنة قبل التدوين (ص 135).
523
وبعبارة أخرى: ما دمتم منصاعين لأوامر المنع السلطوي،
وتسيرون في ركب المانعين، وتبررون أعمالهم بالتشديد في منع الحديث
رواية وتدوينا طوال القرن الأول، فإن الحديث الشريف لا يزال مهددا
بمثل تلك الدعاوى الفارغة، ومعرضا للتشكيك فيه!
وكما تجرأ صاحب المنار أن ينشر مقال (الإسلام هو القرآن وحده)
ويستند إلى ذلك المنع، ويقول:
لو كانت السنة حجة لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكتابتها،
ولعلم الصحابة والتابعون من بعد على جمعها وتدوينها، لما في ذلك
من صيانتها من العبث والتبديل والخطأ والنسيان، ولا يحصل القطع
إلا بكتابتها (1).
فالحل الصحيح - إذا أردنا أن ننزه الحديث ونصوصه الناصعة من
كل تشكيك أو زعزعة أو تحريف - أن نلتزم بما دلت عليه الأدلة الأربعة
التي أقمناها في القسم الأول - من العرف الممضى شرعا، والسنة النبوية
بأقسامها، وإجماع أهل البيت عليهم السلام، وسيرة المسلمين صحابة
وأتباعا ومن بعدهم من المتأخرين - على جواز التدوين وضرورته، منذ
فجر الرسالة الأبلج إلى جانب إباحة روايته ونقله، بل وجوب ذلك أيضا.
وهذا ما نلتزم به - نحن الشيعة الإمامية - في ظل الأدلة القوية.
وأما اختلاف الحديث عندنا - نحن الشيعة الإمامية - وهو أمر



(1) مجلة (المنار) لرشيد رضا، بواسطة: دراسات حول القرآن والسنة للدكتور شعبان
(ص 171 - 172).
524
لا ينكر وقوعه:
فليس كما يظنه بعض المعاصرين ناشئا من تأخر التدوين،
إذ التدوين - عندنا - لم يتوقف لحظة، منذ فجر الرسالة، وحتى آخر زمن
صدور النصوص، بل على العكس فإنه كان قائما على قدم وساق،
بإرشاد الأئمة الأطهار عليهم السلام، وحثهم قولا وعملا
على التدوين والكتابة.
وإنما السبب عندنا في اختلاف الحديث علل الحديث الواردة
في سنده أو متنه، كتخليط الرواة، أو صدور الأخبار تقية،
أو كون الاختلاف صوريا يزول بعد التأمل في الجمع بين الأحاديث
المختلفة ظاهرا.
وقد خصص الشيخ الطوسي كتاب (الإستبصار لما اختلف
من الأخبار) لذكر الأخبار المختلفة، ووجوه الجمع بينها.
ومن غريب ما وقفت عليه:
ما رواه ابن بشكوال عن الشيخ أبي بكر بن عقال الصقلي،
أنه قال في (فوائده): إنما لم يجمع الصحابة سنن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم في مصحف، كما جمعوا القرآن، لأن السنن انتشرت،
وخفي محفوظها من مدخولها، فوكل أهلها في نقلها إلى ضبطهم،
ولم يوكلوا من القرآن إلى مثل ذلك.
وألفاظ السنن غير محروسة من الزيادة والنقصان، كما حرس الله
كتابه ببديع النظم الذي أعجز الخلق عن الإتيان بمثله.

525
فكانوا في الذي جمعوا من القرآن مجتمعين، وفي حروف السنن
ونقل نظم الكلام نصا مختلفين، فلم يصح تدوين ما اختلفوا فيه (1).
وفي هذا الكلام مواقع للنظر:
1 - أنه لم يتكلم عن التدوين في عصر النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، ولم يتعرض للنصوص والأدلة على ذلك.
2 - وقوله: إن السنن انتشرت وخفي محفوظها....
فيه: أن المفروض كون عدم التدوين في عهد الصحابة، هو السبب
لخفاء المحفوظ من المدخول، والاختلاف في نصوص الحديث،
لا أن الخفاء والاختلاف هو سبب عدم التدوين.
وهذا واضح جدا، لأن الحديث لو كان يدون من أول الأمر
لم ينجر إلى اختلافه.
3 - قوله: فوكل أهلها... إلى ضبطهم، ولم يوكلوا من القرآن
إلى مثل ذلك.
الفعلان [وكل] و [لم يوكلوا] مبنيان للمفعول، كما هو
واضح، ولم يعين القائل فاعلهما، فمن هو الذي وكل الصحابة في
السنن إلى الحفظ، ولم يوكلهم في القرآن إلى ذلك؟!.
فإن كان الموكل هو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فالمفروض
عدم سبق ذكره في كلام الصقلي وكون الحديث عن عهد الصحابة،



(1) شرح شروط الأئمة الخمسة للحازمي (ص 48 و 49).
526
مع أنه لم يعهد حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو كل فيه
الحديث إلى حفظ الأمة له على الخواطر - دون الكتابة -.
وإن كان الموكل غيره - كعمر - فالنزاع غير منحل بذلك،
لأن عمر هو واحد من الصحابة المتنازعين، وليس رأيه مقدما عليهم
مع أن البحث إنما هو عن سبب التفرقة بين السنة حيث
لم تكتب، وبين القرآن الذي قد كتب؟
وعلى هذا الأخير يكون ذلك الكلام مصادرة على المطلوب.
4 - وقوله: وألفاظ السنن غير محروسة... كما حرس الله كتابه.
أن الاختلاف في الحديث والسنن إن كان في صميم المعاني
والأحكام المترتبة عليها، فهذا أيضا محفوظ، لأنه عماد الدين الذي
وعد الله بحفظه.
وإن كان مجرد اختلاف لفظي، فهذا لا ينافي كونه محروسا،
وقد وقع مثله في القرآن أيضا. باختلاف القراءات، من دون أن يؤثر على جوهره الذي هو
الذكر المصون من قبل الله تعالى، وإلا لانتقض - والعياذ بالله - بما وقع
من الخلاف في ألفاظ القراءات، وذلك باطل بالإجماع.
5 - وقوله: فكانوا في الذي جمعوا من القرآن مجتمعين،
وفي حروف السنن... مختلفين.
هذا مصادرة على المطلوب، إذ السؤال عن السبب في اختلافهم
في جمع السنن، واجتماعهم على جمع القرآن؟ مع أن ملاكهما واحد؟

527
وهو أن كلا منهما مصدر للشريعة والأحكام، وجامع لأصول الإسلام،
فلماذا فرقوا بينهما؟
6 - قوله:... فلم يصح تدوين ما اختلفوا فيه.
أقول: إن اختلافهم إن كان في حكم تدوين الحديث من حيث
الإباحة والمنع - كما هو ظاهر كلامه - فهذا مصادرة على المطلوب،
حيث إن المبحوث عنه هو سبب اختلافهم في حكم التدوين، مع وضوح
الأدلة على إباحته، بل ضرورته، ووفورها كذلك؟.
وإن كان اختلافهم في نفس الحديث ونصه، وأنه بعد الخلاف فيه
لم يصح تدوينه:
ففيه أنه مخالف لما عليه العلماء من أن عدم التدوين هو السبب
لوقوع الاختلاف في النصوص، وأنها لو دونت وضبطت لم يقع فيها
اختلاف، فالسؤال باق على حاله: لماذا لم يدونوا الحديث حتى لا يقع
فيه الاختلاف؟
7 - وأخيرا:
فإن كلامه كله منقوض بما أقدمت عليه الأمة بالإجماع، في القرن
الثاني وما تلاه، على جمع الحديث وتدوينه، وبدون أدنى تحرج من ذلك،
مع أن الحديث بعد مرور الزمن يكون أوغل في اختلاف نصوصه؟!.
4 - اتهام الدين الإسلامي، بالتخلف:
لقد فتح منع تدوين الحديث ألسنة أعداء الإسلام، لاتهام الإسلام

528
والمسلمين بمنع هذا العمل الحضاري المهم.
والتشكيك في السنة الشريفة ثاني أعظم مصدر للتشريع بأنها
منفصلة عن معينها، حيث إن
مدوناتها ومصنفاتها قد تأخرت عن عهد
الرسول بما يقرب القرن من الزمان! وذلك - حقا - زمان طويل بعيد
يمكن أن يقضى فيه على الحديث كله؟! (1).
ونحن، وإن كنا ندفع هذا الاتهام، بأن التدوين بدأ في عصر
النبوة الزاهر، ولم يتوقف أصلا، بل استمر قائما على قدم وساق
إلى أن وصل إلينا.
وأن إجراءات الحكام لمنعه كان تصرفا مخالفا لما ثبت في الشرع
الشريف من ضرورة نقله وضبطه ونشره بشكل واسع، ونجد في أعمال الصحابة
جهودا كبيرة واسعة ماثلة في المجاميع الكبيرة والصحف الصغيرة.



(1) حتى جعل بعض أدعياء (تكوين العقل العربي) منع التدوين للفترة الأولى إلى عام
(143) للهجرة، أساسا للقول بأن العقل العربي أخذ تصوراته من هذا العصر، الذي لا يخلو
من وجود رأي للذي قام بالتدوين، فلا بد أنه قام بحذف وتقديم وتأخير في المرويات،
تكوين العقل العربي (ص 46).
وهو يعني نفي أن يكون العربي المسلم قد اعتمد في تكوين عقليته على نصوص مقدسة
ثابتة، وبنى ذلك على مزعومة عدم تدوين الحديث إلى فترة متأخرة.
مع أن أصول الفكر الإسلامي مأخوذة من القرآن، والسنة المتواترة القطعية، لا السنة الظنية،
مضافا إلى أن قضايا الفكر لا بد أن تعتمد على العقل والنظر، لا النص والأثر.
فما ذكره يدل على جهله بأصول التفكير الإسلامي ومبانيه، وليس هدفه من طرح تلك
المقولات إلا التهريج.
529
كما حصل على خلاف إجراءات منع التدوين إجماع المسلمين
بعد قرن واحد.
لكن منشأ تلك التهمة هي محاولات أولئك المانعين عن التدوين،
وتبريرات الذين وقفوا إلى جانبهم مؤيدين، فإن أعداء الإسلام - وبينهم
بعض المستشرقين والعلمانيين - اتخذوا من المنع ذريعة لذلك الاتهام، للكيد بالإسلام.
وجعل بعضهم المنع العمري من أسباب كراهة تدوين الحديث، قال:
14 - منع الفاروق عمر: عامل رئيسي آخر لعدم تدوين أحاديث
النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وقت مبكر كان الأمر المشدد
الذي أصدره عمر بمنع الصحابة من تسجيل أقوال النبي صلى الله عليه
وآله وسلم.
ووجدنا أن الفاروق عمر -
أثناء خلافته - نفذ هذا الأمر بنجاح،
وفي سعيه لتنفيذ سياسته حرق بعضا من مجموعات الأحاديث المكتوبة
ثم نقل كلام شبرنجر (sprenger) القائل:
إن الفاروق عمر لم يهدف إلى تعليم العرب البدو فحسب،
بل تمنى أن يحافظ على شجاعتهم الجبارة، وإيمانهم الديني القوي،
ليجعلهم حكاما للعالم، والكتابة واتساع المعرفة لا تتناسب مع الهدف
الذي سعى من أجله (1).
فيلاحظ كيف أن شبرنجر يحاول أن يستغل منع عمر للكتابة،
ويوحي بخبث أن انتشار الإسلام كان على أساس القوة دون المعرفة،



(1) دلائل التوثيق البيكر (ص 230 - 231).
530
وكيف يحمل الإسلام - الممثل له في عمر الخليفة - كراهية العلم والمعرفة
والكتابة، بينما تلك الأمور هي بلا ريب من أسس الحضارة ومعالمها
البارزة؟!
فإذا كان في عمل المانعين من الكتابة ما يوحي بخلاف ذلك،
فلا يمكن اعتبار عملهم إسلاميا، ما دام الإسلام يؤكد بقرآنه وسنته
وسيرة أتباعه على العلم والمعرفة والقراءة والكتابة، وما دام أن هذه الأمور
من مقومات الحضارة الصحيحة ومعالم جدارة الحكام الناجحين، بما فهيم
حكام المسلمين المستولين على مساحات كبيرة من عالم اليوم.
فلا بد أن يعتبر عمل المانعين مخالفا لتدابير الإسلام، وللأسس
الحضارية المعترف بها، لا أن يجعل عملهم دليلا على اتهام الإسلام
وحضارته بشئ من مثل الذي زعمه المستشرق شبرنجر.
وقد اعتبر جولد زيهر كل روايات التدوين موضوعة، واعتبر
كل الكتب المؤلفة الجامعة للحديث، المنسوبة إلى العصر الأول، مفتعلة،
فلم يعر لها اهتماما (1).
ولقد أثار ذلك حفيظة بعض المؤلفين المعاصرين من أنصار منع
التدوين، من المبررين لعمل المانعين، فأظهروا تذمرهم من إنكار
المستشرقين لتدوين الحديث في صدر الإسلام!.
ليس إنكار المستشرقين لوقوع التدوين في الصدر الأول، أفحش



(1) السنة قبل التدوين (ص 375 - 381) ومنهج النقد (ص 49) تاريخ التراث العربي
لسزكين (1 / 1 / 226).
531
من عمل المانعين من التدوين من أهل الصدر الأول؟!.
فإنا لا نجد فارقا في النكاية بالإسلام، والكيد له، بين إنكار وقوع
كتابته في الصدر الأول، وبين منع تدوينه وكتابته حينذاك
فهما مشتركان في التهوين بالحديث، ومحاولة التشكيك فيه، والسعي
في إبطال حجيته!.
بل نقول - بكل صراحة -: إن ذلك المنع هو السبب الأساس لهذا
الإنكار، ولولا ذلك المنع لكان التدوين يبرز بشكل قوي وواسع،
بحيث لا يبقى مجال لمثل هذا الإنكار الخبيث.
ألا ترى أن الهمة لما حدت بالمسلمين إلى التدوين في القرن الثاني
وما تلاه - بشكل عام ورسمي - قد أبرز الحديث في مقامه المناسب لأداء
دوره في الشريعة، والحضارة الإسلامية، ولم يتمكن أعداء الإسلام
أن يكيدوا له شيئا، بعد ذلك؟!
فلو كان هذا الجهد يبذل في سبيل الحديث منذ اليوم الأول
وطوال القرن الأول - الذي يسمونه خير القرون - وكان الحديث يؤخذ
من ينابيعه الصافية الفياضة، ويسجل وهو على صفائه وخلوصه،
لم يكن لأحد أن يشوبه بالتشكيك، ولا أن يتطاول عليه بالإنكار
والجحد والتزوير، ولا أن يخدش اعتباره بشئ.
إن الإنكار ليس إلا أثرا ضئيلا من آثار ذلك المنع، ويدل على مدى
عظم الجريمة التي اقترفتها يد المانعين بحق الإسلام ومصادر الشريعة،
وبالحضارة الإسلامية كلها.

532
وقد رأينا في آثار المنع هذه:
1 - أن منع التدوين كان سببا لفسح المجال للدجالين من أصحاب
الأهواء الفاسدة المعادية للحق، أن يضعوا الأحاديث المختلفة، وينشروها
بين الناس، ترويجا لباطلهم، وقضاء على الحق وأهله.
فلو كانت الأحاديث مدونة من البداية، لم يجد هؤلاء مجالا لمثل
ذلك العمل البالغ الخطورة.
2 - أن بعض المغرضين استندوا إلى عدم التدوين، لإثبات زعمهم
الفاسد القائل بأن الحديث قد وقع فيه اختلاف وتشويش، فلم يبق مجال
للاعتماد على نصوصه، حيث أن الرواة إنما نقلوه بالمعنى دون اللفظ.
وغرضهم من ذلك إسقاطه عن الحجية.
ولو كان الحديث مدونا لم يجد هؤلاء أيضا مجالا لزعمهم.
وليس كل واحد من هذه الأمور بأقل خطورة من إنكار المستشرقين
لتدوين الحديث، أو لما دل على تدوينه، أو للصحف المدونة خلال القرن
الأول؟!
5 - إبعاد أهل البيت عليهم السلام عن الساحة:
ومن أخطر الآثار التي ترتبت على منع تدوين الحديث،
بل أسوأها على الإطلاق، هو أن المانعين تمكنوا من إقصاء أهل البيت عليهم السلام من
الساحة السياسية وإبعادهم عن حقهم في الخلافة والإمامة ومنعهم من القيام مقام
النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قيادة الأمة، ثم إبعاد الأمة الإسلامية عن هؤلاء.

533
بحيث أصبحوا يجهلونهم، ولم يقفوا على فضلهم سوى القلة
المؤمنة، فهنا أمران:
أما الأمر الأول أعني إبعاد أهل البيت عليهم السلام عن الساحة:
فقد أثبتنا في الفصل السادس من القسم الثاني: أن المصلحة
الأساسية التي اتخذها المانعون غرضا للمنع إنما كانت إخفاء أحاديث
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الدالة على فضائل علي وأهل بيته
الناصة على إمامتهم وخلافتهم عن الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم بلا فصل.
واعتمدنا في إثباتنا لذلك على أحاديث واردة، وآثار مقبولة لدى
أهل السنة، ومنقولة من طرقهم وفي كتبهم.
بعد أن بينا بصورة مفصلة عدم قابلية كل ما ذكروه من التوجيهات
لأن تكون مبررات للمنع، ولا صلاحيتها لذلك.
ويتضح هذا الغرض السياسي للمنع، لو علمنا أن الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم لم يهمل أمته من بعده بلا راع يرعى شؤونهم، وبدون إمام
يهديهم، مع أنه يقول: من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية (1).
كما أن الحكمة تقتضي أن ينصب كل رئيس وسيد من يقوم مقامه



(1) حديث معروف رواه السنة والشيعة، فانظر مصادره الشيعية في الإمامة والتبصرة من الحيرة
لابن بابويه (ص 197 ح 50) والباب 18 الأحاديث (69 - 71) وتخريجاتها، وأما
أهل السنة فرواه منهم: أحمد في المسند (4 / 96) بلفظ
من مات بغير إمام، وقد جمع
مصادره الشيخ مهدي الفقيه دام ظله في كتاب
شناخت إمام، باللغة الفارسية.
534
لرعاية الشؤون، وإدارة البلاد، وإصلاح الأمور دبير العباد.
لأن من يقوم بعمل - ولو كان صغيرا - لا يحق له - عرفا وعقلا - أن
يتركه سدى، بلا راع أو مشرف، إذا قدر له أن يغيب، ولو لفترة مؤقتة!
فكيف بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم - وهو أحكم الناس وأعقلهم وأرشدهم وأدراهم -؟!
والدين لا يزال غض العود؟!
كيف يتركهم بلا إمام يقتدى به، وبلا مرشد يهتدى به؟
وقد تواترت الأخبار الدالة على تعيينه الأئمة من بعده، بالعموم
أو الخصوص:
أما الأخبار العامة فكقوله صلى الله عليه وآله وسلم: الأئمة من قريش (1).
وأما الأخبار الخاصة، فهي على نوعين:
1 - ما ورد فيه ذكر أهل البيت عليهم السلام مثل: حديث الثقلين (2).
وحديث السفينة، وحديث الأمان، وغيرها مما يدل على إمامة
أهل البيت عليهم السلام وعلي عليه السلام زعيم أهل البيت
وسيدهم وإمامهم.
2 - ما ورد فيه خصوص ذكر علي عليه السلام وتعيينه للإمامة، مثل:
قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: أنت مني بمنزلة هارون



(1) أوردنا الحديث في (ص 128 - 129) وخرجناه من مصادر عديدة.
(2) قد أثبتنا نص الحديث ومصادره في القسم الأول، الفصل الثالث
فلاحظ
(ص 114 - 116).
535
من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي.
وقوله: هذا وصيي وخليفتي عليكم - في يوم الدار -.
وقوله: علي مني وأنا من علي، ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي،
وهو ولي كل مؤمن بعدي.
وقوله: علي مع الحق والحق مع علي.
وقوله: علي مع القرآن، والقرآن مع علي.
وقوله: إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله،
وهو خاصف النعل.
وكان علي هناك يخصف نعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأخيرا: قوله صلى الله عليه وآله وسلم، في غدير خم، في حجة
الوداع، أمام جموع كبيرة ممن كان معه، حيث قال رافعا لعلي
عليه السلام على يده: من كنت مولاه فعلي مولاه (1).



(1) نص حديث الغدير قد سار مع النور فملأ الدنيا، وما من كتاب معتبر عند المسلمين إلا
وتجده فيه،
وقد خصص الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني كتاب (الغدير في الكتاب والسنة والأدب)
للبحث عن هذا الحديث، من كل جوانبه، فليراجع.
كما خصص السيد الأمير حامد حسين اللكهنوي جزءا من كتابه الكبير: عبقات الأنوار، لهذا
الحديث سندا ومتنا، فليراجع. ولقد خصصت مجلة تراثنا الفصلية عددها الحادي
والعشرين الصادر سنة (1410) بالغدير الأغر، بمناسبة مرور أربعة عشر قرنا على ذكراه
العطرة، وقد حوى العدد الخاص بحوثا ومقالات تحقيقية قيمة عن (الغدير) عقيدة
وتاريخا وتراثا.
536
وهذا هو حديث الغدير المعروف، الذي رواه أكثر من مائة
من الصحابة، وارتفع عدد رواته في الطبقات المتأخرة إلى أكثر من الألف، فهو
من المتواترات القطعية، ونصه واضح الدلالة على المقصود.
فلو أتيح لكل هذه الأحاديث، أو بعضها، أن ينشر بين
المسلمين، فلا بد أن كثيرا منهم كانوا يلتزمون بإمامة علي عليه السلام،
فلم يبق هو وأهل بيته بعيدين عن الحكم والسلطة طيلة خمسة وعشرين
عاما، ولا كان يتسلط على تلك المناصب المقدسة السامية، أو يدعيها من لم تكن
له بحق، اعتمادا على حجج واهية، أصح ما يقال فيها أنها: فلتة (1)
لم يق الله شرها أن يعم تاريخ الإسلام!
فلو كانت تلك الأحاديث تنقل بواسطة الصحابة الأمناء أنفسهم،
كانت تأخذ من قلوب الناس وعقولهم موقعا قويا.
ولذلك نجد أن المنع يتركز على الصحابة إلى حد (الحبس)
والتهديد والتبعيد والجبر على الإقامة بالمدينة وعدم الخروج منها.
كما أن المنع لم يختص بالتدوين، بل منع عن رواية الحديث
ونقله، أو
خصص الجواز بتقليله، أو خصص بأحاديث الأعمال
من الصلاة والصوم والحج من الفرائض والسنن، دون غيرها من أحاديث
الفضائل وأيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.



(1) قالها عمر عن بيعة أبي بكر، لاحظ تاريخ الطبري (3 / 205) مضافا إلى ما أوردنا له من المصادر
في (ص 414).
537
وقد أوضحنا كل هذه الأمور في مواضعه من هذا الكتاب.
نقول: والنتيجة التي ترتبت على كل تلك الأعمال هي أن عليا
عليه السلام أقصي عن الخلافة والحكم مدة خمس وعشرين سنة.
ويدل على ذلك، أنه لما خفيت أسباب المنع، وضعفت السلطة،
بعد عمر بن الخطاب، وانتشرت تلك الأخبار شيئا فشيئا، ظهرت للناس
حقيقة الأمر وكان ذلك بإقدام من الصحابة الذين كانوا من قبل
مخالفين لإجراءات المنع، فنشروا حديث رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم من دون تلكؤ أو تحرج.
وعرف الناس مقام الإمام عليه السلام، فرجعوا إليه، وفيهم جميع
الصحابة المعاصرين له باستثناء الذين حاربوه في حربي الجمل وصفين،
وهم لا يتجاوزون عدد أصابع اليد (1).
وأما الأمر الثاني: وهو إبعاد المسلمين عن أهل البيت عليهم السلام:
فإذا لم يعرف المسلمون أهل البيت حق المعرفة،
ومات الصحابة الذين وقفوا إلى جانب أهل البيت إلى حد
الشهادة في الدفاع عن حقهم، كعمار وغيره، وخاف الآخرون،
وضعف أمرهم، بحيث لم تبق لهم كلمة مسموعة، سيطر - حينئذ - على حكم
المسلمين من لا خلاق لهم بالإسلام، ممن كانت همتهم السلطنة والملك،
كما قال معاوية، لما ملك الكوفة، في خطبة له للجمعة: إني ما قاتلتكم



(1) راجع ما كتبناه في مقدمة كتاب: تسمية من شهد مع علي عليه السلام حروبه.
538
لتصلوا أو تصوموا، ولا لتحجوا وتزكوا... وإنما قاتلتكم لأتأمر
عليكم (1) قال ذلك بكل وقاحة وتهتك.
وأمثاله ممن كان يطلب الإمارة والصدارة، كعمرو بن العاص....
فلو كان المسلمون يعرفون أهل البيت، لما وصل الأمر بالمسلمين إلى هذا الحد، الذي أدى بهم إلى أن لا يعرفوا
لأهل البيت عليهم السلام أي حق، حتى القرابة من رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، الذي كان أجرا لرسالته، كما قال تعالى:
(قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) سورة الشورى (42)
الآية (23).
ولم يبق لأهل البيت عليهم السلام لدى المسلمين حرمة:
فهان عليهم قتلهم وحتى سبي ذراريهم ونهب أموالهم، كأنهم ليسوا
من أهل ملة الإسلام، بينما هم أولاد رسول الإسلام وأحفاده، وآله،
وذريته، وذوو قرباه، ولحمته.
فقتلت الأمة عليا عليه السلام وهو في محراب الصلاة، وأهل الشام
- وهم فرحون بقتله - يتعجبون من مكان قتله، لأن معاوية أذاع فيهم
أن عليا لا يصلي!
بينما علي - كما تنادي به الأحاديث المرفوعة والآثار المشهورة - هو
أول من صلى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم (2).



(1) مقاتل الطالبيين (ص 70) وإرشاد المفيد (ص 191) وشرح ابن أبي الحديد (16 /
ص 46) وبلفظ آخر في النصائح الكافية (ص 149).
(2) أنظر تفسير الحبري - بتحقيقنا - (ص 388 - 397).
539
وطعنت الأمة الحسن عليه السلام، وهو ريحانة رسول الله.
ويقتلون الحسين عليه السلام، وهو سيد شباب أهل الجنة.
ويأسرون، ويسبون نساءه وذراريه على أعين الناس،
وهم آل محمد.
ويسبون عليا عليه السلام على المنابر ستين عاما، في خطب
الجمعة، إلى أن أزال عمر بن عبد العزيز ذلك، وكانوا يسمون ذلك
السب بالسنة (1).
كل هذه المصائب والآلام، والتعذيب والإجرام، وقع على
أهل البيت عليهم السلام، والمسلمون ينظرون ولم ينبس أحد منهم ببنت
شفة، إلا قتل وأعدم، وأهين وضرب وهدد.
هذا، ولما يمض على وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم نصف قرن، أي خمسون عاما
فقط!
هل يتصور انتكاص على الأعقاب، أكثر من هذا؟
كل ذلك كان على أثر منع الحديث تدوينا ورواية.
فلو كان الحديث مسموحا به أن يروى وينشر ويعرفه الجميع، لعرف المسلمون ما
لأهل البيت من الفضل الباذخ، والمقام الشامخ، والحرمة
المفترضة، والمودة الواجبة على المسلمين.
ولو فعلوا، لما كان شئ من ذلك التعدي، والقتل،



(1) لاحظ النصائح الكافية (ص 18 - 89) ولاحظ هنا (ص 622) الهامش (1).
540
يجري ويحدث.
لكن ذلك يعني زوال الخلافة من أيدي المتربعين على
أريكة الحكم؟
ولم تقف آثار تلك الجريمة - أعني إبعاد المسلمين عن أهل البيت
عليهم السلام إلى هذا الحد، بل تعدى الأمر بالناس إلى أن رفضوا
أهل البيت حتى في أخذ الدين عنهم.
حتى بلغ الأمر ببعض أعاجمهم أن يقول: وشذ أهل البيت
بمذاهب ابتدعوها، وفقه انفردوا به، وبنوه على مذهبهم (1).
فتركوهم، وأخذوا معالم الدين ممن كان لا يمت إلى هذا الدين
بنسب ولا سبب، ممن كان مرجئا في الاعتقاد، ولم يأخذ الأحكام
من كتاب ولا سنة، بل اعتمدا الرأي والقياس.
ومن قالوا فيه: ما ولد مولود في الإسلام أضر على
هذا الدين منه (2).
ومع وضوح هذا، فقد أخذ الناس
أحكام دينهم من أمثالهم وتركوا
الإمام أبا جعفر، محمد بن علي الباقر،
والإمام جعفر بن محمد
الصادق وسائر أئمة أهل البيت عليهم السلام وأهملوا أقوالهم في بيان
الأحكام، مع أنها مأخوذة من معين الكتاب وآياته، ومن السنة الشريفة،



(1) مقدمة ابن خلدون (ص 446) وانظر الفصول المهمة للسيد شرف الدين.
(2) راجع تاريخ بغداد (13 / 419).
541
بأقوى إسناد وأعلاه، وأشرفه وأنقاه، وهو آباؤهم الكرام إلى جدهم
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الصادق عليه السلام: حديثي حديث أبي، وحديث
أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث أبيه، وحديث أبيه حديث أبيه،
وحديث أبيه حديث رسول الله (1).
ووال أناساهم وحديثهم * روى جدنا عن جبرئيل عن الباري.
وأين هذا من أقوال من يعتمد الرأي والقياس ويترك حديث
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟!
وهذا الأثر من أسوء آثار منع التدوين وأضرها، وذلك:
لأن العلماء
أمكنهم التصدي للآثار المذكورة سابقا -
فدافعوا عن الحديث، وتثبتوا منه، وواجهوا ما اختلف منه وأولوه حسب
القواعد المقررة.
لكن هذا الأثر ظل ساريا في الأمة كلما أخلق الزمان تعمق
هذا الأثر في نفوسهم، وتأصل في عقولهم، وصعب زعزعته وكأنه
الحقيقة التي لا تتغير.
والأنكى والأقبح أنهم عمدوا إلى شيعة أهل البيت عليهم السلام،
أولئك الذين ناضلوا من أجل الدين الحق، واستقاموا على اتباع أهل البيت
عليهم السلام فعرضوهم للقتل والسبي والهتك والفتك،



(1) الكافي، للكليني (134) وانظر بحثنا: المصطلح الرجالي أسند عنه (ص 139).
542
والاتهام والإعدام.
هذا، والمؤمنون جابهوا كل ذلك بصمود وبطولة، التزاما بما أراد
الله ورسوله من النص على أهل البيت: بأنهم الأئمة السادة،
والهداة القادة والولاة الذادة.
فقتل من قتل، وهتك من هتك، وسجن من سجن، وعذب من
عذب، وأقصي من أقصي، وصلب من صلب.
وفي أيام الحجاج - وحده - قتل العشرات صبرا.
واستمر ذلك التعدي على
الشيعة الأبرار من قبل الحكام،
لسبب واحد وهو أنهم عرفوا الحق الذي أخفاه الظالمون عن الناس.
وبدلا أن يكون لتلك المواقف النضالية من هؤلاء الأبطال موجة
استحسان وتشجيع، من الذين يدعون المعرفة بالإسلام
والأحكام، فينتصروا لمواقفهم من الظلمة المعتدين على أنفس المؤمنين،
وهاتكي أعراض المسلمين.
بدلا من ذلك نجد أن أولئك الأبطال الأبرار لم يأمنوا مكر علماء
السوء من وعاظ السلاطين، وقضاة البلاط، ممن يدعون المعرفة والكمال،
وخاصة علم الرجال، فعمدوا إلى كل فضيلة من فضائل علي
عليه السلام، الثابتة في الحديث النبوي فأنكروها، وإلى كل راو لها،
فاتهموه، وأنهكوه قدحا وجرحا، لا لشئ إلا لأنه من رواة أحاديث
الفضائل! فإذا قيل لهم: إنها فضائل ثابتة لا ريب فيها.

543
قالوا: وإن.
والعجب أن أولئك المانعين الأولين للحديث، لم يجرأوا على إنكار
الفضائل الثابتة في تلك الأحاديث، فلجأوا إلى منعها، واكتفوا بأن
لم يسمحوا بها أن تروى وتنقل، أو تكتب وتسجل.
لكن هؤلاء المتأخرين عمدوا إلى إنكار أصل الأحاديث، وردها،
وجرح رواتها واتهامهم!
وهذا ما يندى له جبين العلم، ويسود منه وجه التاريخ.
ولسنا بصدد البحث عن كل هذه القضايا، فإن لها مجالا خاصا
وهو كتب الجرح والتعديل، وقد أشبع علماء الفن البحث عن
ذلك كله (1).
لكن - وهذا مما لا يجوز كتمانه - ما هو موقف المسلمين اليوم - وفي
عصرنا الحاضر - من أهل البيت عليهم السلام، وفضائلهم وأحاديثهم،
ومن شيعتهم، وعقائدهم وفقههم؟
أليس من العيب والعار على مسلم ينتمي إلى دين النبي محمد
صلى الله عليه وآله وسلم، في هذا العالم، أن لا يعرف تاريخ أهل بيت
نبيه، ولا يتعرف على ماضيهم ومذهبهم وعلومهم ومعارفهم؟
لكن مع الأسف الشديد فإن هذا هو الواقع الأليم؟



(1) لاحظ: العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل، للسيد محمد بن عقيل الحضرمي،
وفتح الملك العلي للسيد شرف الدين.
544
فإن في المسلمين اليوم من ينظر إلى أهل البيت عليهم السلام نظره
إلى سائر الناس، ممن عاش ومات، أو كمن ينتسب إلى النبي صلى الله
عليه وآله وسلم بالرابطة النسبية من السادة والأشراف في هذا العصر؟
كيف هذا؟
وأئمة أهل البيت عليهم السلام قد وردت فيهم آلاف مؤلفة من
الأحاديث النبوية الشريفة التي تشيد بذكرهم، وتدل على فضلهم،
وتوجب طاعتهم، وتحذر عن مخالفتهم
ومعصيتهم، وتصرح بحقهم
العظيم في الإمامة.
والأحاديث اليوم ليست ممنوعة فهي مدونة، وبفضل الطباعة
الحديثة منتشرة، والاستدلال بها سهل ممكن واضح، بفضل الثقافة
العامة التي يتمتع بها الناس في القرن العشرين؟!
فما عذر المسلم التارك لمعرفة الحقيقة؟ والمقصر في الوصول
إلى الحق؟
والناس - في عالم اليوم - يحبون أن يطلعوا على المعرفة بكل ألوانها،
فما بال المسلم لا يعرف عن أهل بيت نبيه شيئا؟!
وإذا كان الناس في القديم معذورين، لمنع التدوين ومنع الرواية،
ولوجود الظالمين المانعين، فاليوم لا يوجد شئ من تلك الأعذار!؟
وإن كانت ثلة من دعاة الضلال ينعقون بنفس النغمات السابقة،
فيدعون إلى نبذ الحديث، والاكتفاء بالقرآن، تلك الدعوة اللا إسلامية،
فإنها مرفوضة من كل الفرق والمذاهب السائدة اليوم بين المسلمين،

545
وعلماء العصر ينبذون الإصغاء لها، ويعلمون اليوم أنها ضلال أريد به
ضرب الدين، بالفصل بين السنة والكتاب المبين.
ومن أولئك من لا يزال يدعو إلى العصبية المقيتة، ولا يريد
أن يخضع لتلك الأحاديث، بحجة أنها تؤدي إلى بطلان خلافة الأولين،
فكيف يرفع اليد عنها؟ بعد أن كانت حقيقة واقعة؟!
فإذا قلنا له: إن الحق أحق أن يتبع؟ وهذه أحاديث صحيحة
صادرة من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، تدل بوضوح وتأكيد
على إمامة أهل البيت عليهم السلام وخلافتهم عنه، فلماذا تعرض عنها؟
قال: ولماذا أعرض عنها الأولون؟
وهنا يتضح عمق الجريمة التي ابتدعها أولئك المانعون الأولون
للحديث، ففصلوا بين الأمة وبين أهل البيت عليهم السلام -
وبما أنا نؤمن بما جاء في الكتاب والسنة شريعة ومنهاجا، فإنا نتبع
أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الدلالة على إمامة أهل البيت
عليهم السلام في الخلافة والشريعة، فنلتزم بها، روحا ونصا، وهي أعداد
كبيرة من الصحاح الدالة على إمامة علي عليه السلام وأهل بيته
الأئمة عليهم السلام، ولنلتزم بفقههم، وبما ورد عنهم ومن طريقهم عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي أفضل الطرق وأنقاها وأصحها،
فهم أدرى بما في البيت، ولم يؤثر منهم اعوجاج في سلوك وعمل،
ولا انحراف في عقيدة أو فكر، ولا خطأ في قضاء أو حكم.
ثم إن العمل بما يقولون أحوط للدنيا والدين، حيث أن النبي

546
صلى الله وآله وسلم قد أمر باتباعهم، وحذر عن التخلف عنهم،
وأن في تركهم الضلال والردى وفي اتباعهم النجاة والهدى.
فما بالنا نتركهم؟ ونأخذ من غيرهم؟
ولماذا يعتبر اتباعهم جرما، وفسقا، وخروجا من الدين؟
وقد أكدت الأيام - والتاريخ يكشف الحقيقة - أن الشيعة
كانوا ولا يزالون - بفضل اتكالهم على الله، والتزامهم بالقرآن،
واعتمادهم على السنة التي أخفاها الحكام ومنعها الآخرون،
وبفضل اتباعهم لأئمة أهل البيت عليهم السلام - على أفضل ما يكون
عليه المسلم المؤمن من:
الإيمان الخالص الذي لا يشوبه شرك ولا إلحاد ولا جبر
ولا تفويض ولا تشبيه ولا تجسيم ولا تعجيز ولا حلول.
والعمل الصالح الخالص من الرياء والسمعة والعجب، فيصلون إلى
الكعبة ويقدسونها ويصومون شهر رمضان، ويحجون إلى
البيت الحرام، ويزكون أموالهم، ويجاهدون في سبيل الله، ويأمرون
بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويعملون الواجبات ويتركون المحرمات.
فيحرمون الخمر - حتى النبيذ - والزنى، والظلم، والتعاون
مع الظالم، ويبرأون من اليهود والنصارى والمجوس وكل من لا ينتمي
إلى الإسلام ويحاد الله ورسوله، ويجتنبون الدم والخنزير وما أهل لغير الله.
ويدعون إلى الأخلاق الفاضلة ويتحلون بمكارم الشريعة
ومحاسنها، ويجتنبون رذائل الأخلاق والأعمال والنفوس وينهون عنها.

547
وفي مجال العلم والمعرفة: ففيهم العلماء الذين خدموا الإسلام والملة
بجهودهم الضخمة ومؤلفاتهم القيمة، وأسسوا المكتبات والجامعات
والمدارس العلمية العريقة، ومنها ما يربو تاريخها على الألف سنة،
كجامعة النجف، وقم.
ولهم جهود متواصلة لا تكل في صد الأفكار المخربة التي ينشرها
علماء السوء ويروجونها، سواء من داخل البلاد الإسلامية أو المستوردة
من بلاد الكفر الشرقية والغربية.
ولهم جهاد مرير في مقاومة الظلم والظالمين، في كل زمان ومكان،
وخاصة القوى الاستعمارية الكافرة الصليبية والصهيونية، النظريات
الملحدة: شيوعية واشتراكية وقومية وعلمانية، تلك الغازية لبلاد
المسلمين، والطغمة من أذنابهم المتحكمين على رقاب الأمة باسم الإسلام.
ولهم في النضال ضد اليهود الصهاينة، الغاصبين لفلسطين يد
بيضاء، لا ينكرها إلا أعمى البصر والبصيرة.
فشيعة أهل البيت: هم الذين التزموا بإصرار بما ورد
عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الأحاديث الشريفة، ولم يأبهوا
بالأوامر الأميرية الناهية عن تدوين الحديث أو روايته ونقله.
فأين المسلمون من هذا الواقع الحق؟
إن التعتيم الإعلامي المضلل، والرقابة العسكرية الشديدة،
والاتهامات الأميرية المتوالية، ودجل علماء السوء، والأطماع الدنيوية،
والشهوات المحرمة والعصبيات الطائفية، والعنصرية المقيتة، كلها

548
اجتمعت - كلها - وتكالبت وسخرها الحكام للسيطرة على عقول الناس وصدهم
عن المعارف الإلهية التي ورد بها الحديث... فمنعوا من تدوينه وروايته
أولا وهم يمنعون روحه وإرشاده أخيرا.
وكذلك ما ورد في
القرآن، فهم منعوا تأويله وتطبيقه أولا، وهم يمنعون نشره وتفسيره أخيرا.
وإذا كلمت أحدهم قال: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على
آثارهم مقتدون) من الآية (23) من سورة الزخرف (43).
مع أن الحق أظهر من الشمس في رائعة النهار.
فلعن الله أول ظالم ظلم حق آل محمد، وآخر تابع له على ذلك.

549
خاتمة القسم الثاني:
خلاصة واستنتاج
وبعد:
فقد عرفنا في هذا القسم الثاني أن المنع من رواية الحديث
لم يكن ذا أصل شرعي وإنما ابتدعه الخلفاء الأوائل، واستعملوا في سبيل
إبادة الحديث أساليب مستنكرة كالإحراق، والإماثة في الماء، وغير ذلك
مما هو أعظم من الدفن تحت الأرض.
وإذا استنكر بعض العلماء من أهل السنة كأحمد وابن الجوزي
عملية دفن الكتب فهم لتلك الأساليب أشد استنكارا؟
ثم إن عمل أولئك الخلفاء لم يكن حجة مسلمة، خاصة إذا رأينا
أن كثيرا من الصحابة قد خالفوهم، ومع ذلك فإن المتأخرين حاولوا تبرير
المنع، بأمور:
وفي الفصل الأول:
تعرضنا لما ادعي وروده من الأخبار المرفوعة المسندة إلى الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم الدالة على المنع

551
من كتابة الحديث، أوردنا منها أحاديث أبي سعيد، وأبي هريرة،
وزيد بن ثابت.
وناقشناها وأثبتنا أنها غير قابلة للاحتجاج، حيث لم يصح منها سندا
إلا حديث واحد، أورده مسلم في الصحيح، وهو حديث أبي سعيد
الخدري، وهو أيضا معلول، لتردده بين الرفع والوقف.
وناقشناها عموما بأنها معارضة بسائر الأحاديث الدالة على جواز
التدوين وفيها الكثير من الصحاح المرفوعة.
وقد حاول بعض العامة الجمع بين الأحاديث المانعة، والأخبار
المبيحة، بما لم يصح من الوجوه التي ذكرناها، وعرضنا ما يرد عليها،
وقلنا: إن أحاديث المنع كلها غير معتبرة، ولا بد من الإعراض عنها.
وفي الفصل الثاني:
ذكرنا ما ادعي من التبرير للمنع، بالخوف من اختلاط الحديث
بالقرآن، وهو محرم.
ادعاه عمر، ورواه أبو سعيد الخدري، وذكره
بعض المتأخرين.
فناقشناه بوجوه، أهمها: أن كتابة الحديث غير موجبة للاختلاط
المذكور، خاصة إذا كانت منفصلة.
وفي الفصل الثالث:
أوردنا التبرير للمنع بالتخوف من أداء كتابة الحديث
إلى ترك القرآن.

552
روي ذلك عن عمر، وابن مسعود، وأبي موسى الأشعري.
وناقشناه بوجوه:
منها: أن الحديث ليس مما يشغل عن القرآن، لعدم المنافاة بينها.
ومنها: أن المقابلة في كلام المانعين إنما هي بين القرآن من جانب،
وبين ما كان باطلا ككتب أهل الكتاب من اليهود والنصارى،
من جانب آخر، وليست بين القرآن وبين الحديث الذي يعتبر تفسيرا له
وبيانا، بل لا يستغني القرآن عنه.
وقد حكم العلماء بضلالة من فصل بين القرآن والحديث مدعيا
الاكتفاء بالقرآن وحده.
وقلنا: إن الأصل في الحكم بضلال من فصل بينهما، إنما هو
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديث الأريكة، حيث أخبر
بمجئ رجل يتكئ على أريكته ويقول ذلك، فأبدى الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم استياءه من ذلك القائل وحذر الأمة عنه وعن مقالته، بألفاظ مختلفة،
منها قوله: يوشك الرجل متكئا في أريكته، يحدث بحديث من حديثي
فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله عز وجل فما وجدنا فيه من حلال
استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه " ألا، وإن ما حرم رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم مثل ما حرم الله.
وعلمنا أن أبا بكر خطب الناس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم وقال: إنكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدثوا

553
عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله،
فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه.
فظهر أن المقصود بحديث الأريكة هو أبو بكر الذي كان أول من
نطق بهذه المقالة.
ثم تلاه عمر في قوله: حسبنا كتاب الله، المعروف
عنه، وفي منعه للحديث تدوينا أولا، ثم رواية أيضا.
وصدق هذا التنبؤ من أعظم دلائل نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الفصل الرابع:
ذكرنا التبرير بالاستغناء بالحفظ عن التدوين.
وقد ذكره بعض المتأخرين.
ودفعناه بأن الحفظ لو كان مانعا عن تدوين شئ لكان مانعا
عن تدوين القرآن المحصور نصه بما بين الدفتين.
مع أن الحفظ على الخاطر ليس من الواجبات الشرعية لا في القرآن
ولا في السنة.
ومع أن الكتابة لا تنافي الحفظ، بل هي مؤكدة له، كما ورد
عن الصادق عليه السلام: اكتبوا، فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا.
مع أن الاعتماد على الحفظ المجرد يؤدي إلى الأوهام، بشهادة
العلماء الأعلام.
وفي الفصل الخامس:
ذكرنا تبريرهم للمنع بعدم معرفة المحدثين للكتابة، وهو ما ذكره

554
ابن حجر والسيوطي.
ودفعه واضح، إذ أن كتابتهم للقرآن أكبر دليل على تمكنهم منها
لو شاءوا ذلك.
وفي الفصل السادس:
ذكرنا القول الفصل في سبب المنع، وهو ما توصلنا إليه بعد بطلان
كل التبريرات المطروحة للمنع، ورأينا:
أن المنع لم يستند إلى الشرع، إنما كان رأيا لبعض الصحابة،
على أساس مصلحة خاصة قصدها، وليس ذلك ملزما للآخرين، سيما
مع مخالفة سائر الصحابة للمانع في ذلك.
ومن الغريب إخفاء تلك المصلحة وعدم الإعلان عنها
فتمكنا من معرفة المواصفات التي يجب أن تكون عليها المصلحة
تلك، فوجدنا:
1 - أن تكون خطرة، يخشى من إبدائها للملأ.
2 - أن تكون غير مقبولة من قبل المعارضين للمنع.
3 - أن يكون الممنوع مرتبطا بالقرآن
4 - أن تكون المصلحة زائلة بعد القرن الأول، حيث لم يستمر
المنع، بل أجاز الحكام تدوين الحديث ونشره.
وبعد التأمل في جوانب البحث توصلنا - بتوفيق من الله إلى
أن المصلحة كانت تدبيرا سياسيا، وقد كشفنا حقيقتها من خلال

555
الغور في الآثار المرتبطة بمسألة المنع وظروفها وأجوائها وتاريخها، فوجدنا
ضمن روايات الباب: رواية ابن مسعود في شأن الصحيفة التي ذكر فيها
: أن علقمة جاء بكتاب من مكة - أو اليمن - صحيفة فيها أحاديث
في أهل البيت - بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم - فاستأذن (هو والأسود)
على عبد الله بن مسعود، فدخلا عليه، فدفعا إليه الصحيفة، قال:
فدعا الجارية، ثم دعا بطست فيها ماء.
فقالا له: يا أبا عبد الرحمن، انظر فيها، فإن فيها أحاديث حسانا،
فجعل يميثها فيها، ويقول: (نحن نقص عليك أحسن القصص
بما أوحينا إليك هذا القرآن).
القلوب أوعية، فأشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها ما سواه.
وبما أن الصحيفة هذه لم تكن من كتب أهل الكتاب، وإنما كان
فيها أحاديث حسان، كما نص عليه الأسود وعلقمة، وفي خصوص
أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن يخشى من ذلك الاختلاط
بالقرآن، أو الاشتغال عنه، لكن ابن مسعود أبادها! علمنا أن محتوى
الصحيفة - وهو ما يرتبط بأهل البيت - هو الذي كان يضر
السلطة الحاكمة، بقرينة سائر ما ورد في أهل البيت مما كان يشيد
بفضلهم، ويؤكد على خلافتهم وإمامتهم وتقدمهم على غيرهم،
ووجوب طاعتهم، وحرمة مخالفتهم، وحرمة التخلف عنهم أو التقدم
عليهم، كما هو مفاد حديث الثقلين.
وقد جعلهم الرسول في أحاديثه قرناء للقرآن وحفظة

556
مفسرين له.
وأما سائر أحاديث الرسول المرتبطة بالأعمال والسنن، فلم تضر
الدولة ولهذا لم يشملها المنع، بل استثنيت بنص عمر نفسه.
ثم إن أهل البيت عليهم السلام هم المعارضون السياسيون الوحيدون
الذين بقوا في الساحة السياسية، حيث كان الناس يعظمونهم من أجل
مكانهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع السوابق الشريفة
التي كانت لهم.
وكان في الناس من يتطلع لهم الخلافة، ويعتقد لهم الإمامة.
فلو أتيح لهم أن ينشروا أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في
أهل البيت، وفيها ما يدل على إمامتهم من بعده، وهي حية
بمناظرها ومشاهدها للصحابة الأكرمين وعامة الناس منهم في المدينة.
لكانت تحدث اختلافا على الحكام الذين استولوا على كرسي
الحكم وأريكة الخلافة في غفلة وبطريقة الفلتة.
فالمصلحة المنشودة من المنع هي: إخفاء الأحاديث النبوية التي
تدل على خلافة علي عليه السلام، وفضل أهل البيت من بعد
النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذه المصلحة تحتوي على العناصر المطلوبة التي ذكرناها.
لكن ربما يورد عليه بأن ذلك يقتضي أن يكون منع التدوين
مصحوبا بمنع أشد لنقل الرواية والحديث.

557
فنقول في الجواب: نعم، وهذا هو عين ما تحقق، فإن السلطة
لم تكتف بمنع التدوين، بل منعت أصل الرواية والحديث بأساليب عديدة.
ولأجل إثبات ذلك عقدنا ملحقا للفصل السادس يتضمن الآثار
التي دلت على منع الحكام للحديث رواية أيضا.
منها ما ورد من منع عمر لذلك: فمنع وفد الكوفة، ومنع عدة
من الصحابة وهددهم بالتبعيد، ومنع عامة الناس، وأخيرا حبس جمعا
من الصحابة وأجبرهم على الإقامة عنده في المدينة، فلم يفارقوه حتى
مات، وقد أثار حديث الحبس هذا ارتباكا بين علماء السنة، فأنكره
بعضهم، وأثبته أكثرهم واختلف المثبتون له في توجيهه:
1 - فجعله الخطيب احتياطا من عمر، وحسن نظر منه للمسلمين.
2 - وأنكر ابن حزم أصل الحديث، وردد أمره بين الخروج
من الإسلام، وبين ظلم الصحابة، واعتبر رواياته: ملعونة.
3 - وحمله ابن عبد البر على أن من شك في شئ تركه.
4 - وحمله ابن عساكر على التشديد في باب الرواية.
5 - وحمله ابن قتيبة على الإقلال من الرواية، وعلله بقوله: ألا يتسع
الناس في الرواية ويدخلها الشوب والتدليس والكذب.
وقد ناقشنا كل هذه التوجيهات بتفصيل.
ثم ذكرنا أن المنع عن رواية الحديث أصبح سنة التزم بها عثمان،
وثم معاوية، حيث أعلن عن ذلك، وعمم منعه رسميا على البلاد.

558
ومن خلال المنع في عهد معاوية تمكنا من تحديد واقع الممنوع
في عهد عمر، حيث أن معاوية ربط الممنوع في عهده بالممنوع في عهد
عمر، وأجاز ما كان جائزا في عهد عمر.
وحدد معاوية الممنوع في نص آخر بأنه الرواية في فضل علي
عليه السلام وأهل بيته.
وبذلك ثبت أن الهدف الأساسي من المنع هو التدبير السياسي
بإخفاء ما ورد من الأحاديث النبوية في علي وأهل البيت
عليهم السلام.
وألحقنا بالفصل السادس ملحقا ثانيا يتضمن آثار منع التدوين
حيث أن منع التدوين للحديث الشريف، قد أثر آثارا سيئة للغاية، هي:
1 - إختفاء جملة كبيرة من الحديث الشريف:
على أثر تعريض كتب الحديث وصحفه للإبادة بالإحراق،
والإماثة بالماء والدفن، وهذا سبب التجاء بعض الفقهاء إلى الرأي
والقياس واعتمادهما في استنباط الأحكام.
ولا بد أن كثيرا مما اختفى هو مما يرتبط بأهل البيت
عليهم السلام الذين كان الهدف الأساس إبعادهم عن الساحة السياسية.
2 - وضع الحديث:
على أثر عدم ضبط الحديث في كتب محددة، فتمكن المغرضون
لهدم الدين من وضع مجموعة كبيرة من الأحاديث، ودسها في الكتب،

559
بأغراض متنوعة، أهمها: ما كان يدفع الحكام على وضعه،
لخدمة مصالحهم وأهدافهم، أو بهدف معارضة فضائل أهل البيت
عليهم السلام.
ومن الغريب أن المتهم بالوضع والمحكوم به هي أحاديث فضائل
أهل البيت عليهم السلام التي كانت هدفا للمنع من أول الأمر.
مع أن الوضاع للحديث - وهم ليسوا مؤمنين بالإسلام
ولا بأهل البيت إنما يهدفون الدنيا ومغرياتها، ولم يكن
شئ من ذلك في جانب أهل البيت حتى يطمعوا
للوصول إليه بوضع أحاديث الفضائل.
بل كانت السلطة وما لها من مال ومنال ضد أهل البيت،
عليهم السلام ومن فضائلهم، وكانوا يغرون الناس بوضع
أحاديث فضائل الخلفاء والصحابة في مقابل أهل البيت عليهم السلام،
فالمتهم بالوضع في الحقيقة هم أنصار الدولة وأعضاد السلطة ورجالة
الحكام والأمراء.
لا المؤمنون الشيعة المطاردون الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل إعلاء كلمة الله ونشر
حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
3 - اختلاف الحديث:
ومن الآثار السيئة التي أثرها المنع هو حصول الاختلاف في نصوص
الأحاديث، فلو كانت مسجلة مضبوطة ابتعد ذلك عنها.

560
وجعل النقل بالمعنى من آثار الاختلاف، فلذلك شكك
في الحديث كله أن يكون منقولا بلفظه، ورتب على ذلك عدم
حجية النصوص.
فدفعنا هذا التشكيك بوجوه.
4 - ومن آثار منع التدوين: اتهام الدين الإسلامي بالتخلف
عن الحضارة:
وهو ما أثاره بعض أعداء الإسلام من المستشرقين، مستندين إلى
ما صدر من المانعين وما تحقق على أثر ذلك من إبادة الكتب ومنع تدوينه،
ورتبوا على ذلك التشكيك في الحديث.
وقد أجبنا عن ذلك.
5 - ومن آثار المنع - وهو أهمها وأكثرها خطورة، وهو الهدف
الأساس من المنع - إبعاد أهل البيت: من ساحة الحكم
والخلافة:
فقد أزووا الأئمة عليهم السلام عن كل نشاط سياسي بعد
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يفسحوا لهم المجال في ذلك
أصلا، على أثر منع الحديث.
حيث أن الحديث الممنوع كان منه - بل هو كله - ما تضمن
تعيين أهل البيت للخلافة والإمامة، ولو أتيح لها أن تنشر
بين الناس، لما تمكن الحكام من إزواء أهل البيت عليهم السلام

561
إلى هذه الدرجة.
وترتب على ذلك ما كان أخطر، وهو ابتعاد المسلمين عن
آل محمد عليهم السلام ابتعادا كليا، حتى في أخذ معالم الدين منهم،
فتركوهم ولجأوا إلى أخذ الدين وأحكامه من الغرباء المتطفلين
على موائده البعداء عن معارفه، المنحرفين في العقائد، والمعتمدين في
الأحكام على الرأي والاستحسان، والقياس.
وجهل الناس بمقام أهل البيت عليهم السلام إلى حد الإقدام
على قتلهم وسبي نسائهم وقتل شيعتهم واتهامهم بشتى التهم.
وهذا منتهى الانتكاص على الأعقاب، والخروج عن الدين.
ثم عمدوا إلى شيعة أهل البيت، وهم مسلمون،
مؤمنون بالله وكتابه وما فيه، وبرسوله وما جاء به من السنة والحديث،
ملتزمون الصلاح شعارا، والتقوى دثارا، وبمنهج أهل البيت
عليهم منهجا.
فجعلهم الحكام الظالمون عرضة لكل أنواع التعذيب والهتك
والفتك على مدى التاريخ.
وبدلا أن يكون جهادهم ومقاومتهم وصبرهم وانتصارهم
للدين وأهله، سببا للتمجيد والتكريم، حيث تحملوا كل ذلك
في سبيل الحق، بنوايا خالصة، وإيمان عميق، وحب كبير لآل بيت النبي
صلى الله عليه وعليهم أجمعين.
فبدلا من ذلك، قابلهم علماء البلاط والقائمون بأمر الدين،

562
بالاتهام والجرح والقدح، والسب والنبز، والاعتداء والقذف، بالزور والبهتان، وقابلوا رواياتهم بالرد
والإنكار والجحد.
موقف الشيعة:
أما الشيعة فلم تؤثر فيهم تلك الأعمال، سواء من الحكام الظالمين،
أو من علماء السوء المتحكمين باسم الإسلام، ولم يزدهم ذلك إلا ثباتا
على الحق واستمرارا على الالتزام بالكتاب والسنة، وصمودا وإصرارا
على الوقوف إلى جانبهم.
موقفنا من مسألة التدوين:
وبذلك باءت كل المحاولات تلك بالفشل، كما فشلت محاولات
مانعي الحديث - تدوينا ورواية - بالفشل الذريع، بفضل المقاومة التي
أبداها المقاومون الأولون.
ووقف المخلصون لهذا الدين مع الصحابة والتابعين، ضد إجراء
منع التدوين، في كل الأدوار (1) وقد عرفنا جهودهم الجبارة في تدوين
الحديث، بقيامهم بتأليف الكتب وجمع الأحاديث فيها، وحثهم
على ذلك في روايات عديدة.



(1) يقول في دلائل التوثيق المبكر (ص 235): لا يستطيع المرؤ أن يسلم أن الكتابة
كانت مختفية طوال فترة [المنع] ففي الواقع أننا عرفنا أن الانتقال المستمر والمكتوب
للحديث بدأ من وقت مبكر، بل، وحتى في الوقت الذي كانت فيه الكتابة تعد جريمة
لا تغتفر، كان بعض العلماء يكتبون سرا.
أقول: بل كثير من العلماء جاهروا في مخالفة السلطة المانعة في كلا مجالي
التدوين والتحديث.
563
كما وقفوا ضد إجراءات منع نقل الحديث وروايته موقفا حازما
صريحا، تبعا لإرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحثه على نشر الحديث
وأمره بتبليغه.
1 - فهذا أمير المؤمنين علي عليه السلام يقول: تذكروا هذا
الحديث، وتزاوروا، فإنكم إن لم تفعلوا يدرس (1).
وكان يقول: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على
أهل العلم أن يعلموا (2).
وهذا دفع لواحد من آثار المنع التي ذكرناها، أعني اختفاء الحديث،
وهو معارضة عملية واضحة لإجراءات مانعي الحديث الذين عمدوا إلى
إبادته بالإحراق، وإماثته بالماء، ودفنه.
2 - والصحابي العظيم أبو ذر الغفاري:
واجه إجراءات منع التحديث بشدة فائقة، وبصراحة واضحة.
قال الراوي: أتيت أبا ذر - وهو جالس عند الجمرة الوسطى -
وقد اجتمع الناس عليه، يستفتونه، فأتاه رجل فوقف عليه ثم قال:
ألم تنه عن الفتيا؟
فرفع رأسه إليه فقال: أرقيب - أنت - علي؟ لو وضعتم الصمصامة



(1) سنن الدارمي (1 / 122) ح 632، ومعرفة علوم الحديث للحاكم (ص 60 و 146) وشرف أصحاب الحديث (ص 69).
(2) السابق واللاحق، للخطيب (ص 185) وللحديث قصة مجملها أن الزهري
ترك الحديث، فلقيه الحسن بن عمارة، فحدثه بهذا الحديث، فاضطر الزهري إن يحدثه،.
564
على هذه - وأشار إلى قفاه - ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قبل أن تجيزوه علي، لأنفذتها (1)؟!
وبهذه الصراحة والصلابة والجرأة، يقف أبو ذر من إجراء المنع،
ويعلن عن رفضه لذلك.
فإذا لاحظنا زمانه ومكانه، نجد أنه كان في الموسم - لأن الجمرة
لا يجتمع عندها الناس في غير الموسم عادة - وعند الجمرة الوسطى، حيث
مجمع الحاج الصاعد منهم إلى العقبة، والهابط إلى الصغرى.
وفي قول الرقيب لأبي ذر: ألم تنه، دلالة واضحة على كون
أبي ذر ممنوعا عن التحديث.
مع أن وجود الرقيب والرقابة، وكلام أبي ذر، كل ذلك يدل على وجود
معارضة قوية لإجراءات الحكومة المانعة عن الحديث.
3 - وابن عباس يخالف المنع:
وقف ابن عباس من منع الحديث موقفا صلبا، بعد أن عارض منع التدوين
فقد أثر عنه قوله: تذاكروا هذا الحديث لا ينفلت منكم، فإنه ليس
مثل هذا القرآن مجموع محفوظ، وإنكم إن لم تذاكروا هذا الحديث
ينفلت منكم، ولا يقولن أحدكم: حدثت أمس فلا أحدث اليوم،
بل، حدثت أمس، ولتحدث اليوم، ولتتحدث غدا (2).



(1) سنن الدارمي (1 / 112) ورواه البخاري من قوله: لو وضعتم.. إلى آخره، في صحيحه
(1 / 27) وفتح الباري (18 / 170) وحجية السنة (ص 3 - 464).
(2) سنن الدارمي (1 / 119 رقم 606) وشرف أصحاب الحديث (ص 95 رقم 205)
والجامع لأخلاق الراوي.
565
وهذا يدل على تشديده في معارضة المانعين.
ولا غرو، فإنه تلميذ
الإمام علي عليه السلام الذي كان في رأس
المعارضين للمنع، وقام بالمعارضة قولا وعملا.
4 - وهذا علقمة بن قيس النخعي - من أصحاب علي عليه السلام -
يقول: أطيلوا كر الحديث، لا يدرس (1).
وكذلك وقفنا - نحن شيعة علي وأهل البيت عليهم السلام -
نفس الموقف:
فنعتقد أن الحديث يجب أن يكتب ويضبط بدقة فائقة، ثم ينقل
ويبلغ إلى الأمة بأمانة وبصورة واسعة، ويفسر ويشرح لهم، كي تبلغ الجميع فتستبين لهم السبيل
العادلة، الموصلة إلى الحق.
وبذلك تميز أهل البيت وشيعتهم عن سائر الناس
بحمايتهم الحديث الشريف، وحثهم على تدوينه، وروايته، قولا وعملا،
فسجلوا بذلك جدارتهم وفضلهم.



(1) مختصر تاريخ دمشق (17 / 172) وسير أعلام النبلاء (4 / 57).
566
حصيلة الكتاب

567
وإذا عرفنا في القسم الأول من الكتاب أن تدوين السنة الشريفة
هو من ضرورات الفكر الإسلامي، فلا بد من الاعتماد على هذه
الضرورة:
علميا: لقيام الأدلة القاطعة عليها.
وعمليا: لأن لها الأثر الذي لا ينكر في دعم الثقافة الإسلامية
وتخليدها.
وإذا عرفنا أن القسم الأكبر من التراث الحديثي قد تم تدوينه وضبطه
في عهد مبكر، ولا يزال قسم منه متوفرا كاملا، وقسم آخر منه قد وزع
في المؤلفات التالية للعصر الأول، فلا بد لنا من التمسك بهذا التراث
- في طريق العودة إلى الإسلام الأصيل - وتفادي كل الأخطاء والهفوات
التي تحملناها طيلة القرون الماضية، لنعيش في ظل الثقافة الإسلامية حياة
حرة كريمة.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف السامي، لا بد من مراجعة شاملة
ناقدة لما اشتهر وانتشر من الأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وآله

569
وسلم حاملين رؤى صائبة للنقد والاختيار، لتتم عملية التصحيح بأمانة
ودقة، رؤى تتفق والمنطق الإسلامي الحق والعقل الراجح، والورع
المضئ، طبقا لأحكم القواعد العلمية المتفق عليها بين العلماء.
فنجمع على هذه الأسس، لا على الأسس الخاطئة المستلهمة
من نظرية منع التدوين وحرمته، ولا المعتمدة على المشتهر على الألسنة
من المحفوظات، ولا المصادر التي تداولتها بالوضع أهواء وأغراض
وعداوات مذهبية وعنصرية عرقية.
فنجمع من السنة الشريفة ما تطمئن به القلوب، ونؤكد بذلك
على وثاقة اتصال المعرفة الإسلامية بجذور العروة الوثقى المحمدية.
فلا بد لنا من إصلاح مناهج التفكير الحديثي، وتجديد بناء معارف
السنة على أسس قوية من العقل السليم، والعاطفة المحررة من العصبية،
ليتسنى لنا الإبداع في كل مجالات الجمع، والاختيار، والتأليف،
والتبويب، والفهم، والتحليل، والاستنتاج.
دعما للفكر الإسلامي، من خلال توثيق أهم مصادره، وأعمها
إطلاقا، وهي السنة المحمدية الشريفة.
وإسعافا للفكر البشري بمعين من ينابيع المعرفة الإلهية التي وهبها
الله لكرامة البشر، من خلال دين الإسلام وتعاليمه القيمة.
وقد عرفنا في القسم الثاني من الكتاب: أن الهدف المحدد
من عملية منع تدوين السنة الشريفة هو إبعاد الأمة عن واحد من أعظم
مصادر الفكر الإسلامي الأصيل، ورافد من أزخر روافده غنى وثروة

570
وصفاء وأصالة، ألا وهو حديث أهل البيت النبوي الطاهر وتحقيق
ما منيت به الأمة من حرمان من الإفادة من هذا المعين العذب الفرات في
كافة الأصعدة والمجالات العقيدية والتشريعية والاجتماعية والأدبية،
وعدم تزويد المعرفة الإسلامية بآرائهم المحكمة الرصينة الموثوقة بالاستناد
إلى أأمن السبل وأوضحها محجة، وأقواها سندا وحجة.
لا بد من انقشاع رواسب تلك السياسة الغاشمة، وإزالة آثارها، ورفع
الالتزامات بمسبباتها، بعد وضوح بطلانها، بما قدمناه من البراهين
والمؤاخذات عليها. وبذلك تفتح أمام الدارسين المخلصين
لهذا الدين، والعلماء الأئمة المخلصين لهذه الأمة، أبواب منهج واع
تحدوه العقول السليمة، والنوايا الطيبة، ويقوده الإحساس بخطورة
الأوضاع التي تعيشها الأمة، وعمق الأزمة التي يتورط فيها المجتمع
الإسلامي بكل مرافقه وأجهزته، متمتعين بحرية الرأي والتصميم وجدية
العزم لمعرفة أسباب ما تعيشه الأمة من الانفصام والتفكك والانهزام أمام
قوى الشر المعاصرة، وللبحث عن طرق الخلاص من هذه الأزمات العويصة
باجتثاث أصول أسبابها، ورسم الخطوط
الصالحة لحياة حرة كريمة،
مستلهمة من مصادر الإسلام وينابيعه الثرة، التي هي القرآن العظيم،
والسنة المشرفة، وإرشادات أئمة أهل البيت الطاهرين الذين دلت على
حجية حديثهم أقوى ما دل على حجية أي دليل يستند إليه في معرفة
تعاليم الدين ومعالم الفكر الإسلامي الرصين:
فنحن ندعو المهتمين بشؤون المسلمين والمتصدين للحالة الثقافية
المتردية في العالم الإسلامي، والساعين لإصلاح المجتمع الإسلامي من

571
خلال رفع العراقيل والمعوقات عن طريق إحياء الفكر الإسلامي، أن
ينتهلوا من معين السنة الشريفة التي يحملها أهل البيت النبوي وعلماء
مذهبهم وتحويها مصادر فكرهم، والتزود من معارفهم المتصلة بمصدر
الوحي والرسالة بحبل متين وثيق، والله ولي التسديد والتوفيق.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين،
والحمد لله رب العالمين)
(وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين).

572
/ 1