مقدمة في أصول الدين نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

مقدمة في أصول الدين - نسخه متنی

وحید خراسانی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: مقدمة في أصول الدين
المؤلف: الشيخ وحيد الخراساني
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: من مصادر العقائد عند الشيعة الإمامية
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:
مقدمة في أصول الدين

1
مقدمة في أصول الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين
لا سيما بقية الله في الأرضين
هذا الكتاب في فروع الدين، إلا أنه لغرض التعرف على أصول الدين
وضعت لها هذه المقدمة، وكما أن للنور مراتب، ونور الشمس ونور الشمع
مرتبتان من حقيقة النور، فكذلك معرفة أصول الدين الإسلامي المبين لها
مراتب.
وهذه المقدمة شمعة للسالكين في هذا الطريق، لغرض المعرفة الإجمالية،
لا المعرفة التفصيلية بمستوى التحقيق والتعمق.
وقد راعينا فيها أن يكون الاستدلال العقلي بالوجوه المبنية على مقدمات
كانت أسهل تناولا، واستندنا في النقليات إلى كتب حديث العامة والخاصة،
وكتب التاريخ المعروفة.
والإخبار بما نقل مستند إلى تلك المصادر، وإن كان الناقل ثقة أو المنقول
موثوقا به.
والاستضاءة بأنوار الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة في مباني الدين
المبين من جهة أن الكتاب والسنة يوقظان الفطرة، ويشتملان على أدق قواعد
الحكمة.
وقد تركنا إيراد بعض النكات الفنية الدقيقة مراعاة للأذهان العامة، ولم

5
نستقص الجهات المتعلقة بالمطالب مراعاة للاختصار.
وقبل الشروع في بيان أصول الدين لابد من ذكر مقدمات:

6
مقدمات تمهيدية
1 - لزوم تحصيل المعرفة
إن احتمال وجود المبدأ والمعاد يوجب البحث والسعي لتحصيل المعرفة
الدينية، فما دام الإنسان يحتمل أن لهذا العالم خالقا عليما حكيما، وأن الموت
ليس نهاية لحياة الإنسان، وأن لخالقه هدفا من خلقه إياه، وأنه قد وضع له
دستورا إن هو لم يطبقه وقع في الشقاء الأبدي، فإن فطرته توجب عليه أن يهتم
بهذا الاحتمال مهما كان ضعيفا، لكون المحتمل أمرا عظيما وخطيرا جدا، وتدفعه
لأن يبحث عن حقيقة الأمر ولا يهدأ ولا يستقر حتى يصل إلى نتيجة قطعية
حاسمة، نفيا أو إثباتا.
وهذا كمن احتمل وجود مواد متفجرة في بيته، أو احتمل وجود اتصال في
تيار كهربائي يسبب احتراق بيته بمن فيه وما فيه، فإنه لا يستقر لحظة، بل
يفحص ويبحث حتى يتيقن بعدم وجود الخطر.
2 - حاجة لإنسان إلى الدين الحق
الإنسان موجود مركب من بدن و روح، وعقل وهوى، وبسبب هذا
التركيب تراه يفحص بفطرته عن سعادته المادية والمعنوية، ويسعى للوصول إلى
الكمال المقصود من وجوده.

7
ومن ناحية أخرى، فإن حياة كل فرد من أفراد الإنسان لها بعدان: فردي
واجتماعي، نظير أي عضو من أعضاء البدن الواحد، الذي له - مضافا إلى حياته
الخاصة - تأثير وتأثر متقابل مع سائر الأعضاء.
ولأجل هذا احتاج الإنسان إلى نظام وقوانين تحقق له الحياة الطيبة، الفردية
والاجتماعية، وتحقق له السعادة المادية والمعنوية.
وهذا النظام والقوانين هو الدين الحق الذي يكون الاحتياج إليه
ضرورة فطرة الإنسان {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس
عليها} (1).
ثم إن لكل موجود كمالا لا يمكن الوصول إليه إلا باتباع السنة المعينة
لتكامله وتربيته، وهذه قاعدة عامة لا يستثنى منها الإنسان {قال ربنا الذي أعطى
كل شئ خلقه ثم هدى} (2).
3 - أثر الدين في الحياة الشخصية
لحياة الإنسان أصل وفروع، ومتن وهوامش، فالأصل ذات الإنسان نفسها،
والفروع والهوامش متعلقاتها من المال والمقام والزوج والأولاد والأقارب.
وبسبب حب الإنسان لذاته ومتعلقاتها صارت حياته مقترنة بآفتين: الغم
والحزن، والخوف والقلق، الغم والحزن لما يفقده، والخوف والقلق على ما يجده
خشية من أن يفقده.
والإيمان بالله يزيل هاتين الآفتين من جذورهما، لأن الإيمان بالله



(1) سورة الروم: 30.
(2) سورة طه: 50.
8
العالم القادر الحكيم الرحيم يدفع الإنسان إلى القيام بوظائفه المقررة له،
وعندما يؤدي وظائف عبوديته لربه، يعلم أن الله تعالى بعناية حكمته ورحمته
سيوصله إلى ما هو خير وسعادة له، ويقيه من موجبات شره وشقائه.
بل إن الإنسان إذا وجد الحقيقة التي كل حقيقة دونها مجاز، وكل ما سواها
كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، لم يبق له ضالة، وبإيمانه ب‍ {ما عندكم ينفد وما
عند الله باق} (1) لا يبقى في نفسه أية جاذبية للحطام الدنيوي ليغتم من فقده، أو
يستوحش من زواله {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا
وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمت الله ذلك
هو الفوز العظيم} (2).
إن الذي يوجب انهيار أعصاب الإنسان في الحياة الدنيا هو الاضطرابات
الحاصلة من الفرح بالظفر بالعلائق المادية، والحزن والقلق من عدم الوصول
إليها.
والشئ الوحيد الذي يوفر للإنسان الأمن من طوفان الأمواج العاتية في
حياته، ويرسي سفينته في مرسى الأمان، هو الإيمان بالله عز وجل {لكيلا تأسوا
على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} (3)، {الذين آمنوا و تطمئن قلوبهم بذكر الله ألا
بذكر الله تطمئن القلوب} (4).



(1) سورة النحل: 96.
(2) سورة يونس: 62، 63، 64.
(3) سورة الحديد: 23.
(4) سورة الرعد: 28.
9
4 - أثر الدين في الحياة الاجتماعية
إن الإنسان له قوتا شهوة وغضب، فإن غلبت عليه شهوة المال، فإن كنوز
الأرض لا تقنعه، وإن غلبت عليه شهوة المقام والرئاسة فإن ملك الأرض
لا يكفيه، بل يطمح أن يمد سلطانه إلى الكواكب الأخرى {وقال فرعون يا هامان
ابن لي صرحا لعلى أبلغ الأسباب * أسبب السماوات} (1).
إن هوى الإنسان الطاغي مع شهوة البطن والفرج والمال والمقام،
واستخدامه قوة الغضب لإشباع هواه غير المحدود، لا تخضع لأي شئ،
ولا تقف عند أي حد، ولا يصرف النظر عن تضييع أي حق.
وليست نتيجة الحياة بهذه الشهوة إلا الفساد، ولا بهذا الغضب إلا سفك
الدماء وإهلاك الحرث والنسل، بل إن استخدام الإنسان ما يكتشفه من أسرار
الكون بقدراته الفكرية في سبيل الوصول إلى مآرب أهوائه غير المحدودة سوف
يجر الحياة البشرية على الكرة الأرضية إلى الدمار والخراب {ظهر الفساد في البر
والبحر بما كسبت أيدي الناس} (2).
والقدرة الوحيدة التي تكبح جماح النفس الإنسانية، وتسيطر على غلواء
غضبها وشهوتها، وتروضهما حتى يعتدلا، وتحقق حقوق الفرد والمجتمع
وتضمنهما، ليست إلا الإيمان بالمبدأ والمعاد، والثواب والعقاب، فإن الاعتقاد
بالله الذي {و هو



(1) سورة غافر: 36 - 37.
(2) سورة الروم: 41.
10
معكم أين ما كنتم} (1) وبالمجازاة التي {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل
مثقال ذرة شرا يره} (2) هو الذي يبعث الإنسان إلى كل خير ويصرفه عن كل شر،
ويحقق مجتمعه على أساس التصالح في البقاء، بعيدا عن التنازع على البقاء.
5 - شرف علم أصول الدين
الإنسان يعشق العلم بفطرته، لأن ما به الإنسان إنسان هو العقل، وثمرة
العقل هو العلم، ولهذا إذا قلت للجاهل: يا جاهل، يحزن، مع أنه يعلم بكونه
جاهلا، بينما إذا نسبته إلى العلم يفرح، وهو يعلم أنه ليس بعالم.
وحيث إن الإسلام دين الفطرة، فقد جعل نسبة العلم إلى الجهل نسبة النور
إلى الظلمة، ونسبة الحياة إلى الموت (إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى
أن يهديه) (3)، (العالم بين الجهال كالحي بين الأموات) (4).
وكل علم وإن كان بذاته شريفا إلا أن مراتب العلوم متفاوتة بسبب عدة
أمور كموضوع العلم، ونتيجته، ونوع الاستدلال فيه، فالعلم الباحث عن
الإنسان أشرف من علم الباحث عن النبات، بنسبة فضل الإنسان على النبات،
والعلم الباحث عن ضمان سلامة الإنسان أشرف من العلم الباحث عن ضمان
أمواله، بنسبة شرف حياة الإنسان على ماله، والعلم الذي يقدم نتائجه من
البرهانيات أشرف من العلم الذي يستند إلى الفرضيات، بنسبة شرف اليقين على



(1) سورة الحديد: 4.
(2) سورة الزلزلة: 7، 8.
(3) مشكاة الأنوار 327.
(4) الأمالي للمفيد ص 29، المجلس الرابع، ح 1.
11
الظن.
وعلى هذا، فإن أشرف العلوم هو العلم الذي موضوعه (الله) تبارك
وتعالى، مع ملاحظة أن نسبة شرف الله تعالى على غيره ليست كنسبة البحار إلى
القطرة، ولا كنسبة الشمس إلى الذرة، بل هي نسبة غير المتناهي إلى المتناهي،
وبالنظرة الدقيقة فإن الفقير بالذات لا يمكن أن يكون طرفا في النسبة مع الغني
بالذات {وعنت الوجوه للحي القيوم} (1).
وثمرة هذا العلم هي الإيمان والعمل الصالح، اللذان هما الوسيلة الوحيدة
لسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، ولتأمين حقوق الفرد والمجتمع {من عمل
صلحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة} (2).
وطريقة الاستدلال فيه هي الدليل والبرهان المفيد لليقين، ولا يتبع فيه الظن
{أدع إلى سبيل ربك بالحكمة} (3)، {ولا تقف ما ليس لك به علم} (4)، {إن الظن لا يغني
من الحق شيئا} (5).
وبذلك يتضح مدلول الحديث الشريف: (إن أفضل الفرائض وأوجبها على الإنسان
معرفة الرب والإقرار له بالعبودية) (6).
6 - شرط الوصول إلى المعرفة والإيمان بالله تعالى



(1) سورة طه: 111.
(2) سورة النحل: 97.
(3) سورة النحل: 125.
(4) سورة الإسراء: 36.
(5) سورة يونس: 36.
(6) كفاية الأثر: 262، باب ما جاء عن جعفر بن محمد (عليه السلام)...
12
عندما يواجه الإنسان أية ظاهرة في الوجود يفحص ويبحث عن الموجد
لها، والفطرة الإنسانية متعطشة إلى معرفة مبدأ الوجود ومنتهاه.
لكن جوهرة الإيمان بالله ومعرفته، التي هي أغلى جواهر خزانة العلم
والمعرفة، لا ينالها - بمقتضى قاعدة العدل والإنصاف - من تلبس بالظلم للإيمان
والمعرفة بالله، لأن إعطاء الحكمة لمن ليس بأهلها ظلم لها، وإمساكها عن أهلها
ظلم لأهلها.
كما أن الإنسان لا يمكنه بحال أن يعتقد بعدم المبدأ والمعاد، إلا إذا أحاط
بكل الوجود، وأحاط بسلسلة العلل والمعلولات، ولم يجد المبدأ والمعاد، فما
لم تتحقق هذه المعرفة المحيطة، فإن يقينه بعدم المبدأ والمعاد محال، بل غاية
ما يمكنه هو الجهل بهما.
وعلى هذا، فإن مقتضى العدل والإنصاف للشاك في وجود الله تعالى أن
لا يتجاوز مقتضى الشك قولا وعملا، فعليه أن يعترف بعدم العلم، وليس له أن
يدعي العلم بالعدم، مثلا من احتمل وجودا تترتب على وجدانه السعادة الأبدية،
وعلى فقدانه الشقاء الأبدي، فإن وظيفته العقلية أن لا ينكر وجوده بلسانه
ولا بقلبه، وأن يواصل - في مقام العمل - البحث عنه بكل استطاعته، ويراعي
الاحتياط في سلوكه حتى لا يخسر السعادة الأبدية، ولا يقع في الشقاء الأبدي
على فرض وجوده، وذلك كما يحكم العقل عليه بأن يمسك عن الطعام اللذيذ
الذي يحتمل أن فيه سما يوجب هلاكه.
وكل شاك في وجود الله، إذا عمل بمقتضى العدل، الذي هو واجبه العقلي
يصل بلا شك إلى المعرفة والايمان {و الذين جهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} (1)، وإلا



(1) سورة العنكبوت: 69.
13
فمع التلوث بالظلم لهذه الحقيقة يستحيل حصول معرفة ذلك القدوس المتعال
{يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا} (1)، {و يضل الله
الظالمين ويفعل الله ما يشاء} (2).
وبعد الالتفات إلى هذه المقدمات نشرع في بيان أصول الدين:



(1) سورة البقرة: 269.
(2) سورة إبراهيم: 27.
14
طرق الوصول إلى الإيمان بالله تعالى
الطرق للوصول إلى الإيمان بالله تعالى متعددة:
أما لأهل الله تعالى فالدليل عليه والوسيلة إلى معرفته هو سبحانه {أو لم
يكف بربك أنه على كل شئ شهيد} (1)، (يا من دل على ذاته بذاته) (2)، (بك عرفتك وأنت
دللتني عليك) (3).
وأما لغيرهم فنشير إلى عدة طرق رعاية للاختصار:
الطريق الأول:
إذا نظر الإنسان إلى نفسه وما يصل إليه إدراكه، ولاحظ أجزاءه وذراته،
وجد أن عدم أي جزء منه ليس بمحال، وأنه بذاته ليس بضروري الوجود ولا
بضروري العدم، وكل ما أمكن وجوده وعدمه فهو محتاج إلى سبب يوجده،
نظير كفتي الميزان المتساويتين، لا يمكن أن ترجح إحداهما على الأخرى إلا
بعامل من الخارج، نعم الممكن إنما يحتاج إلى السبب في وجوده، وأما عدمه
فبعدم ذلك السبب.
وبما أن كل جزء من أجزاء العالم محتاج في وجوده إلى سبب يعطيه



(1) سورة فصلت: 53.
(2) بحار الأنوار ج 84 ص 339.
(3) الصحيفة السجادية، دعاؤه (عليه السلام) في سحر كل ليلة من شهر رمضان. اقبال الأعمال ص 67.
15
الوجود،
فمعطي الوجود له، إما هو نفسه، أو مثله من سائر الموجودات، أما نفسه
فالمفروض أنه فاقد للوجود، فكيف يكون معطيا لما يفقده، وأما مثله فكذلك،
لا يمكنه أن يعطي الوجود لنفسه، فكيف يعطيه لغيره، وهذا الحكم الجاري على
كل جزء من أجزاء العالم، يجري على كل العالم أيضا.
كما أن ضياء الفضاء الذي ليس له نور في ذاته دليل على وجود مبدأ لذلك
الضياء يكون الضوء ذاتيا له، وإلا لما أضاء ذلك الفضاء، لأن ما كان مظلما في
ذاته يستحيل أن يضئ نفسه، فضلا عن غيره.
ومن هنا كان وجود الكائنات وكمالات الوجود - كالحياة والعلم والقدرة -
دليلا على وجود مبدأ يكون وجوده وحياته وعلمه وقدرته ذاتيا له غير مستند
إلى غيره {أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون} (1).
عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أنه دخل عليه رجل فقال له: يا
ابن رسول الله ما الدليل على حدوث العالم؟ فقال: " أنت لم تكن ثم كنت وقد علمت أنك
لم تكون نفسك، ولا كونك من هو مثلك " (2).
وسأل أبو شاكر الديصاني الإمام الصادق (عليه السلام)، ما الدليل على أن لك صانعا؟
فقال: " وجدت نفسي لا تخلو من إحدى الجهتين، إما أن أكون صنعتها وكانت موجودة، أو صنعتها وكانت
معدومة، فإن كنت صنعتها وكانت موجودة فقد استغنيت بوجودها عن صنعتها، وإن كانت معدومة
فإنك تعلم أن المعدوم لا يحدث شيئا، فقد ثبت المعنى الثالث أن لي صانعا وهو الله رب العالمين " (3).



(1) سورة الطور: 35.
(2) التوحيد للصدوق ص 293 باب إثبات حدوث العالم، ح 3.
(3) التوحيد للصدوق ص 290 باب أنه عز وجل لا يعرف إلا به ح 10.
16
إن الشئ الذي لم يكن ثم كان، إما أن يكون قد أوجد نفسه، أو أوجده
غيره، فإن كان هو أوجد نفسه، فلا يخلو إما أن أوجد نفسه عندما كان موجودا أو
أوجد نفسه عندما كان معدوما، فإن كان الأول يلزم إيجاد الموجود، وهو محال،
وإن كان الثاني يلزم علية المعدوم للوجود، وهو محال أيضا.
وإن كان الموجد له غيره، فإن كان ذلك الغير مثله غير موجود ثم وجد،
فحكمه حكم ذلك الشئ بلا فرق.
لذلك، تقضي ضرورة العقل بأن كل شئ لم يكن موجودا ثم كان، لابد أن
يكون له موجد ليس للعدم إلى ذاته سبيل.
وبهذا يظهر أن كل موجودات العالم وتطوراتها دليل على وجود موجد لها
ليس له موجد، وأن كل المصنوعات والمخلوقات دليل على وجود خالق
وصانع غير مخلوق ولا مصنوع.
الطريق الثاني:
لو عثر على ورقة مطروحة في برية مكتوب عليها حروف المعجم من الألف
إلى الياء بالترتيب، فإن ضمير كل إنسان يشهد بأن كتابة تلك الحروف وترتيبها
ناتجة عن فهم وإدراك.
وإذا رأى على الورقة كلمة مؤلفة من الحروف المذكورة وكلاما منسقا من
الكلمات، فإنه سيؤمن بعلم الكاتب وفكره، بنسبة ذلك التأليف والتنسيق،
ويستدل به على علمه وحكمته.
فهل تكوين نبتة من عناصرها الأولية أقل دلالة على علم صانعها وحكمته
من تركيب جملة من الكلام الدال بوضوح على علم كاتبه؟!

17
فما بال الإنسان يستدل بالسطر على علم كاتبه وحكمته، ولا يستدل بالنبتة
على علم خالقها وصانعها وحكمته؟!
ما هذه الحكمة والعلم الذي جعل من الماء والتراب ما يبلي قشر الحبة
ويحيي لبها بالحياة النباتية!
وأعطى لجذر النبتة قدرة يشق بها الأرض، ويجذب قوت النبتة وغذاءها
من ظلمة التراب!
وهيأ في كل قسم من مائدة التراب الغنية أقواتا لأنواع النباتات والأشجار
المختلفة، فصارت كل نبتة وشجرة تجد فيها غذاءها الخاص!
وجعل جذور كل شجرة لا تجذب إلا الغذاء الخاص الذي ينتج ثمرتها
الخاصة!
وجعل الجذور تكافح جاذبية الأرض، فترسل الماء والغذاء إلى فروع
الشجرة وغصونها!
وفي نفس الوقت الذي تعمل فيه الجذور في الأعماق، جعل الفروع
والغصون والأوراق تنشط في الفضاء للحصول على النور والهواء! (فكل ميسر لما
خلق له) (1).
ومهما حاول الإنسان تغيير هذه السنة الحكيمة، ليجعل الجذور - التي
خلقت لتضرب في أعماق التراب - تذهب نحو السماء، والغصون - التي خلقت
لتنشط في الفضاء - تذهب إلى أعماق الأرض، يجد أنهما تكافحان مع نقض هذه
السنة، وتذهبان في مسيرهما الطبيعي {و لن تجد لسنة الله تبديلا} (2).



(1) عوالي اللئالي ج 4 ص 22، التوحيد ص 356 باب 58 ح 3.
(2) سورة النمل: 60.
18
إن التأمل في خلق شجرة واحدة من عروقها إلى آلاف أوراقها، وما فيها من
أنظمة مدهشة محيرة للعقول، وما أعطي لكل خلية من خلايا أوراقها من القدرة
على جذب الماء والغذاء من أعماق الأرض بواسطة الجذور، وارتباطها بما في
السماء والأرض وما بينهما، والنواميس المؤثرة في حياتها، من اختلاف الليل
والنهار وتضامن القوى الأرضية والسماوية على إنباتها، بإفناء بذرها في أصلها
وفرعها، وإبقاء نوعها بإيداع بذور منها في أثمارها، يكفي للإنسان أن يؤمن
بالعلم والحكمة اللا متناهية وراء ذلك {أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم
من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله
بل هم قوم يعدلون} (1)، {أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون} (2)، {و أنبتنا فيها
من كل شئ موزون} (3).
إن أية نبتة وشجرة تنظر إليها، تجدها من جذورها إلى ثمارها آية لعلم
الخالق وقدرته وحكمته، خاضعة للسنة التي جعلت لأجل تربيتها ورشدها {و
النجم والشجر يسجدان} (4).
وكذلك التأمل في حياة كل حيوان يهدي إلى الله تعالى.
جاء أبو شاكر الديصاني إلى الإمام الصادق (عليه السلام) فقال له: يا جعفر بن محمد
دلني على معبودي.
فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): إجلس، فإذا غلام صغير في كفه بيضة يلعب بها، فقال



(1) سورة النمل: 60.
(2) سورة الواقعة: 72.
(3) سورة الحجر: 19.
(4) سورة الرحمن: 6.
19
أبو عبد الله (عليه السلام): ناولني يا غلام البيضة، فناوله إياها، فقال أبو عبد الله (عليه السلام):
يا ديصاني هذا حصن مكنون، له جلد غليظ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق، وتحت الجلد الرقيق
ذهبة مائعة وفضة ذائبة، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة، ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة
المائعة، فهي على حالها، لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن صلاحها، ولم يدخل فيها داخل مفسد فيخبر عن
فسادها، لا يدري للذكر خلقت أم للأنثى، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس، أترى لها مدبرا؟!
قال: فأطرق مليا، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد
أن محمدا عبده ورسوله، وأنك إمام وحجة من الله على خلقه، وأنا تائب مما
كنت فيه (1).
فأي تدبير صنع هذا الحصن المحكم من مادة الكلس المصفى، وأودع فيه
الأسرار العجيبة؟!
أي تدبير نسج هذا الحصن من مواد الحب الذي تأكله الدجاجة والطير، ثم
وضعه في بيت المبيض وجعله مقرا آمنا لنمو الفرخ فيه، وأسكن فيه النطفة
كاللؤلؤة في الصدفة؟!
وحيث إن الجنين منفصل عن أمه، وليس هناك رحم يوفر له الغذاء، فقد هيأ
له الغذاء في داخل الحصن، وجعل بين جدار الحصن الغليظ وبين الفرخ وغذائه
غشاء لطيفا يمنع من وصول الأذى إليه، ثم خلق في ذلك الجو المظلم جميع
أعضاء الحيوان وقواه من عظام وعضلات وعروق وأعصاب وحواس ووضع كل
واحدة
منها في موضعها، والتأمل في تركيب العين من تلك الأعضاء فقط وما أودع فيها



(1) الكافي ج 1 ص 80، التوحيد ص 124 باب 9 ح 1، الاحتجاج ج 2 ص 71، باب احتجاج
الصادق (عليه السلام).
20
من لطائف الصنع، ووضعها في موضعها الذي يليق بها يحير العقول، فضلا عن
جميعها. ولأجل أن يتمكن من الارتزاق - إذا خرج - بالتقاط الحب من بين
التراب والأحجار، جهزه بمنقار صلب من جنس قرون الحيوانات، لئلا يتأذى
بالنقر في الأرض.
ولأجل أن لا يفوته رزقه، جعل له حويصلة يجمع فيه كل ما وجد من الحب
ويدخره في تلك المحفظة، ثم يعالجه بعد ذلك ويرسله إلى هاضمته.
ثم كسا جلده الرقيق بريش وجناحين تقيه الحر والبرد، والضر والعدو.
ثم لم يكتف له بضرورات حياته وواجباتها، حتى أنعم عليه بنوافلها
المتعلقة بمظهره، فلون ريشه وجناحيه بألوان تسر الناظرين، قال (عليه السلام): " تنفلق عن
مثل ألوان الطواويس ".
وبما أن تكامل هذا الحيوان يحتاج إلى الحرارة الموزونة في صدر
الدجاجة، فإذا بالحيوان الذي لا يهدأ عن السعي والحركة إلا في ظلام الليل،
يخمد في مكانه، ويرقد على بيضه هادئا ساكنا طوال المدة التي يحتاج الجنين
في البيض إلى تلك الحرارة.
فأية حكمة سلطت هذا الخمود والسكون على طائر دائم الحركة لتتحقق
حركة الحياة في فرخ جديد؟!
بل أي أستاذ علم الطائر أن يقلب البيض في الليل والنهار حتى لا تفقد
أعضاء الجنين تعادلها؟! وعلم الفرخ عندما يتم خلقه أن يكسر جدار الحصن
بمنقاره، ويدخل في عالم حياة جديدة أعدت لها أعضاؤه وقواه؟!
أي أستاذ أحدث ثورة في طبيعة أم الفراخ، تلك التي لم يكن يؤثر فيها إلا
عامل المحافظة على حياتها والدفاع عن نفسها، فإذا بانقلاب يحدث فيها،

21
فتجيش
بالعاطفة على فراخها، تحافظ عليها وتحميها، وتجعل صدرها درعا يقيها،
وتبقى هذه الحالة العاطفية طوال المدة التي تحتاج إليها حتى تستعد لإدامة الحياة
بنفسها.
ألا يكفينا التأمل في بيضة واحدة لأن يهدينا إلى الذي {خلق فسوى * والذي
قدر فهدى} (1)، ومن هنا قال الإمام (عليه السلام): (أترى لها مدبرا؟ قال: فأطرق مليا، ثم قال:
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأنك
إمام وحجة على خلقه، وأنا تائب مما كنت فيه).
*
إن العالم القدير الحكيم، الذي ربى الحبة في ظلمة التربة، وربى الفرخ في
ظلمة البيضة، كل واحد لأجل هدف وغرض معين، هو الذي ربى نطفة الإنسان
في ظلمات البطن والرحم، من أجل هدف وغرض معين، تلك النطفة التي كانت
في أولها ذرة لا يدركها الطرف، فاقدة لجميع الأعضاء والقوى الإنسانية،
فجهزها بأنواع الأجهزة للحياة خارج الرحم، فقد جهزها - على سبيل المثال -
بعظام على
مختلف أشكالها ومقاديرها تتناسب مع وظائفها، وأضاء مشعل الإدراك فيه
بواسطة دماغه بعجائب صنعة تتحير فيها العقول، وأبقى على حرارة الحياة فيه
بنبضات القلب التي لا يفتر عنها ليلا ونهارا ويفوق عددها الملايين في كل سنة.
إن التأمل في تركيب أبسط عضو من بدن الإنسان يكفي للإيمان بتقدير
الخالق العزيز العليم، فالأسنان - مثلا - خلقت في ثلاثة أقسام: الثنايا في



(1) سورة الأعلى: 2 و 3.
22
المقدمة، ثم الأنياب، ثم الطواحن الصغار والكبار، فماذا كان سيحدث لو خلقت
الطواحن مقدمة على الثنايا والأنياب، وكانت هذه في موضع الطواحن، من جهة
تقطيع الطعام ومضغه، ومن جهة المنظر من حيث القبح والجمال؟!
ماذا كان يحدث لو كان حاجباه تحت عينيه، أو كانت فتحة أنفه إلى الأعلى
بدل الأسفل؟!
إن جميع فعاليات الإنسان لإعمار الأرض، من عمله في الزراعة إلى
تشييده أضخم العمارات وأقواها، وإلى إتقانه أدق الصنائع وأكثرها ظرافة،
متوقف على بنانه ونمو أظافره.
فأية قدرة وحكمة جعلت مادة الظفر متوفرة في غذاء الإنسان، وجعلتها
تمر في العمليات المحيرة للعقول من الهضم والمضغ والجذب في أنابيب العروق،
حتى تصل إلى رؤوس الأصابع، فتنسج أظافر صلبة، ثم لكي يتحقق الغرض من
خلقها توثق التلاحم بينها وبين لحم الأصابع بحيث لا يتحمل الإنسان فصلهما،
لكن عندما يتحقق الغرض منها ينفصل أحدهما عن الآخر، فيمكن للإنسان
تقليم أظافره بسهولة؟!
والعجب أن ذلك الغذاء الذي يحمل مادة العظام والأظافر الصلبة المعدة
للفعاليات الصعبة، نفسه يحمل مادة في نهاية الشفافية واللطافة لجهاز العين
الحساس الدقيق، تصل إليها بعد عمليات تحليلها عبر العروق!
فماذا يحدث في نظام حياة البشر، لو انعكس الأمر في مسار الرزق
المقسوم المعلوم، فوصل غذاء الأظافر إلى العيون فنبتت فيها أظافر! ووصل
غذاء العيون إلى رؤوس الأصابع فنسجت عليها أجزاء من العيون!
*

23
إنما هذه نماذج من أبسط آثار العلم والحكمة، غير المحتاجة إلى دقة النظر
{وفي أنفسكم أفلا تبصرون} (1)، فكيف إذا وصلنا إلى أعماق أسرار الخلقة، التي
تحتاج إلى تخصص في علم وظائف الأعضاء وتشريحها، واستعمال الأجهزة
الدقيقة والتفكير العميق {أو لم يتفكروا في أنفسهم} (2).
أجل، إن هذا الموجود الذي لم يكتشف العلماء إلى الآن الأسرار الكامنة في
خلقة جلده وقشره الظاهر على بدنه، رغم جهودهم الكبيرة لمعرفتها، فماذا عن
عجائب لبه وباطنه، من قوة شهوته لجلب ما يلائمه، وقوة غضبه لحفظ الملائم
ودفع المنافر، إلى طاقة عقله التي تقوم بالمعادلة بين القوتين عمليا وتهدي
الحواس نظريا {و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} (3).
أي قلم علم وقدرة كتبت هذا الكتاب الملئ بالحكمة على قطرة ماء؟!
{فلينظر
الانسان مم خلق * خلق من ماء دافق} (4)، {يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد
خلق في ظلمت ثلث} (5).
وأي علم وقدرة وحكمة خلفت من ذرة سابحة في ماء مهين بشرا سويا
يتطلع بشعلة عقله وإدراكه إلى فهم أعماق الآفاق والأنفس {إقرأ وربك الأكرم *
الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم} (6)، ويتخذ الأرض والسماء ميدانا



(1) سورة الذاريات: 21.
(2) سورة الروم: 8.
(3) سورة النحل: 18.
(4) سورة الطارق: 5، 6.
(5) سورة الزمر: 6.
(6) سورة العلق: 3، 4، 5.
24
لجولان أفكاره وقدراته؟! {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في
الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجدل في الله بغير علم و
لاهدى ولا كتب منير} (1).
وماذا يستطيع الإنسان أن يقول أمام هذا العلم والقدرة والرحمة والحكمة إلا
الذي قاله الله عز وجل: {فتبارك الله أحسن الخلقين} (2)، وماذا يستطيع أن يفعل
إلا أن يخر إلى الأرض ساجدا ويقول: (سبحان ربي الأعلى وبحمده)؟!
*
ولقوله تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه
الحق} (3) لابد من نظرة إلى آفاق الكون المشتملة على ملايين الشموس والأقمار
والنجوم، والتي يصل ضوء بعضها إلى الأرض بعد آلاف السنين الضوئية (سرعة
الضوء في كل ثانية 300 ألف كيلومتر تقريبا)، وبعضها أكبر حجما من الأرض
بملايين المرات!
إن الفواصل بينها محسوبة بحساب دقيق، وكل واحدة منها في مدارها
الخاص، وقد تحقق التعادل بينها بفعل الجاذبة والدافعة العمومية بحيث لا يقع
تصادم بين واحدة وأخرى {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق
النهار وكل في فلك يسبحون} (4).
والأرض التي أعدت لحياة الإنسان، فأحاطها جو يصونها من آلاف الشهب



(1) سورة لقمان: 20.
(2) سورة المؤمنون: 14.
(3) سورة فصلت: 53.
(4) سورة يس: 40.
25
المتناثرة في الفضاء، بإحالتها إلى البخار إذا اصطدمت به.
وقد جعل بعد الشمس عن الأرض بنظام دقيق متغير، لتحقق شرائط تكون
المعادن ونمو النباتات والحيوان والإنسان، من جهة النور والحرارة، على
أحسن وجه!
ونظمت حركات الأرض الوضعية والانتقالية، لكي يوجد في أكثر الأرض
ليل ونهار، وطلوع وغروب، ويحصل بطلوعها النور والضوء في حياة الإنسان
فيشرع في فعالياته لأمر معاشه، وأما عند غروبها فيوافي الليل بكلكله وينشر
ظلامه لتوفير الهدوء والسكون اللازم لإدامة الحياة بتجديد النشاط، فلا استدامة
لإشعاع الشمس، ولا انقطاع له كليا لئلا يختل نظام الحياة {وهو الذي جعل الليل و
النهار خلفة لمن أراد أن يذكر} (1)، {ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه
ولتبتغوا من فضله} (2)، {قل أرءيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيمة
من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون} (3).
فالنور والظلمة، والليل والنهار - مع ما بينهما من غاية التضاد - متفقان
متعاونان، آخذ كل منهما بيد الآخر لأجل هدف واحد! فالنهار يجعل ما في
الأرض، والليل يجعل ما في السماء في معرض رؤية الإنسان، لكي يكون ملك
الأرض والسماء وملكوتهما في معرض بصره وبصيرته.
فالليل والنهار يورقان صفحات كتاب الوجود للإنسان لكي يقرأ آيات ربه
في صفحة الأرض والسماء {أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق



(1) سورة الفرقان: 62.
(2) سورة القصص: 73.
(3) سورة القصص: 71.
26
الله من شئ} (1)، {و كذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من
الموقنين} (2).
عجبا للإنسان الذي يجعل ملاك العلم والحكمة في البشر، معرفة الواحد
منهم لبعض الموجودات، وانطباع أقل قليل قوانين الكون وأسرار الكائنات في
ذهنه، كيف يمكن أن يرى خالق الذهن والفكر والمقنن للقوانين الحاكمة على
الكون والمبدع لأسرار الخلقة، فاقدا للعلم والحكمة؟!
هذا، مع أن جميع ما توصلت إليه أذهان العلماء من أسرار الكون وقوانينه،
ما هو إلا كقطرة من معلومات أمام بحر من المجهولات؟! {و ما أوتيتم من العلم إلا
قليلا} (3).
كيف يتقبل العقل أن الإنسان الذي يستطيع أن ينسخ على لوحة ذهنه بعض
سطور من كتاب الوجود، عالم وحكيم، بينما مؤلف كتاب الوجود وصانع ناسخه
وجهاز الاستنساخ وما ينسخ، لا إدراك له ولا شعور؟!
كلا، ولهذا ترى أن فطرة منكر الخالق العالم القادر أيضا تشهد بوجوده
{و لئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى
يؤفكون} (4)، {و لئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز
العليم} (5).



(1) سورة الأعراف: 185.
(2) سورة الأنعام: 75.
(3) سورة الإسراء: 85.
(4) سورة العنكبوت: 61.
(5) سورة الزخرف: 9.
27
دخل رجل من الزنادقة على علي بن موسى الرضا (عليه السلام) وعنده جماعة، فقال
له أبو الحسن (عليه السلام):
أيها الرجل أرأيت إن كان القول قولكم - وليس هو كما تقولون - ألسنا وإياكم شرعا سواء،
ولا يضرنا ما صلينا وصمنا وزكينا وأقررنا؟ فسكت.
فقال أبو الحسن (عليه السلام): وإن يكن القول قولنا - وهو كما نقول - ألستم قد هلكتم ونجونا؟
فقال الرجل: رحمك الله فأوجدني كيف هو، وأين هو؟
قال: ويلك إن الذي ذهبت إليه غلط، هو أين الأين وكان ولا أين، وهو كيف الكيف وكان
ولا كيف، ولا يعرف بكيفوفية ولا بأينونية، ولا يدرك بحاسة ولا يقاس بشئ.
قال الرجل: فإذا إنه لا شئ، إذ لم يدرك بحاسة من الحواس!
فقال أبو الحسن (عليه السلام): ويلك لما عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته، ونحن إذا عجزت
حواسنا عن إدراكه أيقنا أنه ربنا خلاف الأشياء.
قال الرجل: فأخبرني متى كان؟
فقال أبو الحسن (عليه السلام): أخبرني متى لم يكن، فأخبرك متى كان.
قال الرجل: فما الدليل عليه؟
قال أبو الحسن (عليه السلام): إني لما نظرت إلى جسدي فلم يمكني فيه زيادة ولا نقصان في العرض
والطول، ودفع المكاره عنه، وجر المنفعة إليه علمت أن لهذا البنيان بانيا فأقررت به، مع ما أرى من
دوران الفلك بقدرته، وإنشاء السحاب، وتصريف الرياح، ومجرى الشمس والقمر والنجوم، وغير ذلك من
الآيات العجيبات المتقنات علمت أن لهذا مقدرا ومنشئا) (1).
ومعنى قول الإمام (عليه السلام): " ولا يضرنا ما صلينا وصمنا... " أن الوظائف الدينية من الايمان
والعمل الصالح وترك المنكرات موجبة لطمأنينة الروح وصلاح المجتمع، وهذه



(1) التوحيد للصدوق ص 250 باب 36 في الرد على الثنوية والزنادقة ح 3، الكافي ج 1 ص 78.
28
الأعمال حتى لو كانت عبثا لكان تحملها بسبب احتمال وجود المبدأ والمعاد
جهدا ضئيلا، ولازما لأجل دفع الشر وجلب الخير الذي لا حد له.
ومعنى قوله (عليه السلام): " هو أين الأين... ": أنه تعالى خالق الأين والمكان والكيفية،
والمخلوق لا يكون وصفا للخالق، حيث إن اتصاف الخالق بصفات الخلق
يستلزم احتياج الخالق إلى خلقه، ولهذا لا يحد بالأين والكيف، ولا يحس
بحاسة ولا يقاس بشئ.
ومعنى قوله (عليه السلام): " ويلك لما عجزت... " أن الذي يحصر الوجود بالمحسوس غافل
عن أن الحس موجود ولكنه ليس بمحسوس، فالسمع - مثلا - موجود وليس
بمسموع، والبصر موجود وليس بمرئي، والإنسان يدرك أن غير المتناهي
غير محدود، مع أن كل محسوس محدود، وكم من الموجودات الذهنية
والخارجية هي وراء الحس والمحسوس.
واغتر هذا الشخص بظنه أن الموجود منحصر في المحسوس، فأنكر خالق
الحس والمحسوس، فهداه الإمام (عليه السلام) إلى أن خالق الحس والمحسوس، والوهم
والموهوم، والعقل والمعقول، لا يحويه حس، ولا وهم، ولا عقل، لأن كل قوة
مدركة تحيط بما تدركه، والخالق محيط بالخلق، فلا يمكن أن يكون خالق قوى
الحس والوهم والعقل المحيط بها، واقعا في حيطة إدراكها، فيكون المحيط
محاطا!
ثم، لو كان الله تعالى محسوسا أو موهوما أو معقولا يحويه الذهن، لصار
شبيها بما تدركه هذه القوى وشريكا له، وجهة الاشتراك تستلزم جهة اختصاص،
فيكون وجوده مركبا، والتركيب من صفات المخلوق لا الخالق، فلو كان الله
تعالى يحويه حس أو وهم أو عقل، لكان مخلوقا لا خالقا.

29
الطريق الثالث:
إن التطورات الحادثة في المادة والطبيعة دليل على وجود قدرة فائقة
عليهما،
لأن تأثير المادة والمادي يحتاج إلى وضع ومحاذاة، فمثلا: النار لا تؤثر الحرارة
في جسم إلا إذا كان لها نسبة ووضع خاص منه، والمصباح إنما يضئ فضاء
يكون على وضع خاص ونسبة خاصة منه.
وحيث يستحيل الوضع والنسبة إلى المعدوم، فلا يمكن تأثير المادة
والطبيعة في الموجودات المختلفة المسبوقة بالعدم، فوجود كل ما كان معدوما
دليل على وجود قدرة لا يحتاج تأثيرها إلى الوضع والمحاذاة، وتكون ما وراء
الأجسام والجسمانيات {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} (1).
الطريق الرابع:
الإيمان بالله تعالى مغروز في فطرة الإنسان، فالإنسان بفطرته يجد نفسه
موجودا ضعيفا محتاجا إلى قدرة يستند إليها، وإلى غني يستمد منه، لكن انشغاله
بمشاغله المختلفة، وعواطفه تجاه ما يحبه من علائقها، يحجبه عن وجدانه
ومعرفته.
ثم عندما يقع في خطر، ويفقد الأمل بكل أسباب النجاة، ويرى كل شعلة
فكر خامدة، وكل قدرة عاجزة، تستيقظ فطرته النائمة، ويتجه - بلا اختيار - إلى
القادر الغني بالذات الذي يستند إليه ويستمد منه بفطرته.



(1) سورة يس: 82.
30
{قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجينا من
هذه لنكونن من الشاكرين} (1)، {و إذا مس الانسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا
خوله نعمة منه نسي ما كان يدعوا إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله} (2)،
{هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة و
فرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم
دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين} (3).
قال رجل للإمام الصادق (عليه السلام): يا بن رسول الله دلني على الله ما هو؟ فلقد أكثر
علي المجادلون وحيروني!
فقال له: يا عبد الله، هل ركبت سفينة قط؟
قال: نعم.
قال: فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك؟
قال: نعم.
قال: فهل تعلق قلبك هنالك أن شيئا من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟
قال: نعم.
قال الصادق (عليه السلام): فذلك الشئ هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث
لا مغيث) (4).
وهذه المعرفة والارتباط الفطري بالله، يمكن أن يصل إليها الإنسان في غير



(1) سورة الأنعام: 63.
(2) سورة الزمر: 8.
(3) سورة يونس: 22.
(4) التوحيد ص 231 باب 31 ح 5، معاني الأخبار للصدوق ص 4 باب معنى الله ح 2.
31
حالات الاضطرار والانقطاع المطلق - أي في حال الاختيار - بجناحي العلم
والعمل:
الأول: أن يزيح بنور عقله حجاب الجهل والغفلة، ويرى أن وجود كل
موجود وكمالاته ليس من ذاته ولا بذاته، ويعلم أن الكل لابد وأن ينتهي إلى
الذات المقدسة الذي {هو الأول والاخر والظهر والباطن وهو بكل شئ
عليم} (1)، {هو الله الخلق البارئ المصور له الأسماء الحسنى} (2).
الثاني: أن يزيل عن جوهر روحه أكدار الآثام والرذائل وظلماتها، بتزكية
النفس ورعاية التقوى، فإنه لا يحجب العبد عن ربه إلا حجاب الجهل والغفلة
وظلمات الذنوب وأكدارها، ولابد من إزالة ذلك بالجهاد علما وعملا {و الذين
جهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} (3).
قال الإمام الصادق (عليه السلام) لابن أبي العوجاء:
(وكيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك: نشوؤك ولم تكن، وكبرك بعد صغرك، وقوتك
بعد ضعفك، وضعفك بعد قوتك، وسقمك بعد صحتك، وصحتك بعد سقمك، ورضاك بعد غضبك،
وغضبك بعد رضاك، وحزنك بعد فرحك، وفرحك بعد حزنك، وحبك بعد بغضك، وبغضك بعد حبك، وعزمك بعد
إبائك، وإباؤك بعد عزمك، وشهوتك بعد كراهتك، وكراهتك بعد شهوتك، ورغبتك بعد رهبتك، ورهبتك بعد
رغبتك، ورجاؤك بعد يأسك، ويأسك بعد رجائك، وخاطرك بما لم يكن في وهمك، وعزوب ما أنت معتقده من
ذهنك..
قال ابن أبي العوجاء: وما زال يعد علي قدرته التي في نفسي التي لا أدفعها،



(1) سورة الحديد: 3.
(2) سورة الحشر: 24.
(3) سورة العنكبوت: 69.
32
حتى ظننت أنه سيظهر فيما بيني وبينه!) (1).



(1) التوحيد للصدوق ص 127 باب القدرة ح 4، الكافي ج 1 ص 75.
33
التوحيد

34
التوحيد
التوحيد هو الاعتقاد بأن الله واحد، ليس مركبا من أجزاء وصفات - لأن
وجود أي مركب يحتاج إلى أجزاء وإلى من يركبها، والوجود المحتاج محال أن
يعطي الوجود لنفسه، فضلا عن غيره - وأنه لا شريك له في ألوهيته ولا في
صفاته (1).



(1) للتوحيد مراتب نشير إليها إجمالا:
توحيد الذات:
كل موجود مركب إلا ذات الباري المقدسة فإنه الواحد الذي الأحدية عين ذاته، وكل ما سواه قابل
للقسمة: إما في الوجود كانقسام الجسم إلى المادة والصورة، أو في الوهم كانقسام الزمان إلى الآنات،
أو في العقل كانقسام الإنسان إلى الإنسانية والوجود، وانقسام كل موجود متناه إلى المحدود وحده
* (قل هو الله أحد) *.
عن شريح ابن هاني، عن أبيه قال: إن أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير
المؤمنين أتقول: إن الله واحد؟
قال: فحمل الناس عليه قالوا: يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب؟!
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): دعوه، فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم، ثم قال: يا
أعرابي إن القول في أن الله واحد على أربعة أقسام، فوجهان منها لا يجوزان على الله عز وجل، ووجهان
يثبتان فيه: فأما اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز، لأن
ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد، أما ترى أنه كفر من قال إنه ثالث ثلاثة.
وقول القائل: هو واحد من الناس، يريد به النوع من الجنس، فهذا ما لا يجوز عليه، لأنه تشبيه، وجل
ربنا عن ذلك وتعالى.
وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربنا.
وقول القائل: إنه عز وجل أحدي المعنى، يعني به أنه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم، كذلك ربنا
عز وجل. (التوحيد للصدوق ص 83، باب معنى الواحد والتوحيد والموحد ح 2).
توحيد الذات والصفات:
ومعناه أن صفاته الذاتية - كالحياة والعلم والقدرة - عين ذاته تعالى، وإلا فتعدد الذات والصفة يستلزم
التركيب والتجزئة، والمركب من الأجزاء محتاج إلى الأجزاء وإلى من يركبها، وأيضا فإن زيادة
الصفات على الذات يستلزم أن تكون الذات فاقدة لصفات الكمال.
من جهة أخرى، فإن زيادة الصفات على الذات، يستلزم أن تكون الذات في مرتبة الذات فاقدة
لصفات الكمال، ومتضمنة لإمكان وجودها! بل يستلزم أن تكون الذات أيضا ممكنة الوجود، لأن
فاقد صفات الكمال وحامل إمكانها محتاج إلى الغني بالذات!
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (أول عبادة الله معرفته، وأصل معرفة الله توحيده، ونظام توحيد الله نفي
الصفات عنه، لشهادة العقول أن كل صفة وموصوف مخلوق، وشهادة كل مخلوق أن له خالقا ليس
بصفة ولا موصوف) (التوحيد للصدوق ص 34، باب التوحيد ونفي التشبيه ح 2).
التوحيد في الألوهية:
* (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) * سورة البقرة: 163.
التوحيد في الربوبية:
* (قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شئ) * سورة الأنعام: 164.
* (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) * سورة يوسف: 39.
التوحيد في الخلق:
* (قل الله خالق كل شئ وهو الواحد القهار) * سورة الرعد: 16.
* (والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) * سورة النحل: 20.
التوحيد في العبادة:
* (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا) * سورة المائدة: 76.
التوحيد في الأمر والحكم:
* (ألا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين) * سورة الأعراف: 54.
* (إن الحكم إلا لله) * سورة يوسف: 40.
التوحيد في الخوف والخشية:
* (فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين) * سورة آل عمران: 175.
* (فلا تخشوا الناس واخشوني) * سورة المائدة: 44.
التوحيد في الملك:
* (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك) * سورة الإسراء: 111.
التوحيد في النفع والضر:
* (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله) * سورة الأعراف: 188.
* (قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا) * سورة الفتح: 11.
التوحيد في الرزق:
* (قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله) * سورة سبأ: 24.
* (أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه) * سورة الملك: 21.
التوحيد في التوكل:
* (وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) * سورة الأحزاب: 3.
* (الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * سورة التغابن: 13.
التوحيد في نية العمل:
* (وما لاحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الاعلى) * سورة الليل: 19 - 20.
التوحيد في التوجه:
وهذا مقام الذين أدركوا هلاك الكائنات وفنائها، واستوعبوا حقيقة * (كل شئ هالك إلا وجهه) * سورة
القصص: 88، * (كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام) * سورة الرحمن: 26 - 27.
وتجلي التوحيد في التوجه الفطري إلى خالقهم بجهادهم في الله، في التوحيد في التوجه الإرادي،
فتحقق ما استودع في النفوس بلا اختيار في نفوسهم بالعلم والاختيار، ووصلوا من قوله تعالى:
* (وعنت الوجوه للحي القيوم) * (سورة طه: 111) إلى قوله تعالى: * (إني وجهت وجهي للذي فطر
السماوات والأرض) *.
36
ونشير إلى بعض أدلة التوحيد في الألوهية:
الدليل الأول:
تعدد الإله يستدعي الاشتراك في الألوهية، لكون كل منهما إلها، ويستدعي
امتياز أحدهما عن الآخر حتى تتحقق الإثنينية، فكل منهما مركب مما به
الاشتراك وما به الامتياز.
الدليل الثاني:
تعدد الإله بلا امتياز محال، والامتياز موجب لفقدان الكمال، وفاقد الكمال
محتاج، ولابد أن تنتهي سلسلة الاحتياج إلى الغني بالذات من جميع الجهات،
وإلا لزم عدم وجود أي ممكن، لأن الفاقد للوجود يستحيل أن يكون معطيا
للوجود.
الدليل الثالث:
إن الله تعالى موجود لا حد له - لأن كل محدود مركب من الوجود وحد ذلك
الوجود، وحد الوجود هو فقدان الكمال الزائد على ذلك الوجود، وهذا التركيب
أسوأ أنواع التركيب - حيث إن التركيب إما من وجودين، أو من عدمي ووجود،
وهذا التركيب المزعوم من وجود وعدم - وكل أنواع التركيب محال على الله
تعالى.

39
والموجود الذي لا حد له فهو واحد لا يتصور له ثان، لأن تصور الثاني له
مستلزم لتحديده بعدم الثاني، والمحدود مركب من الوجود والعدم، وكل مركب
محتاج إلى ما يتركب منه، فالشرك في الألوهية ينتهي إلى افتقار الإله إلى العدم،
فهو سبحانه أحدي الذات والصفات، فليس له ثان متحقق ولا متصور.
الدليل الرابع:
إن وحدة النظم في أجزاء العالم وفي كل العالم تثبت وحدة الناظم.
فإن التدقيق في النظم والتركيب لكل جزء من أجزاء كل واحد من جزئيات
أنواع الكائنات، وارتباط أنواع الكائنات كل واحد بالآخر يكشف عن أن الجزء
والكل مخلوقان لخالق واحد عليم قدير حكيم.
إن تركيب أجزاء شجرة، وأعضاء حيوان وقواه، وارتباط بعضها ببعض،
وارتباطها بالأرض والشمس، وارتباط المنظومة الشمسية بسائر المنظومات
والمجرات وبكلمة: إن تركيب الذرة الواحدة من نواتها وما يدور حولها إلى
تركيب الشمس والسيارات والمجرات، يكشف عن أن خالق الذرة والشمس
والمجرة واحد {و هو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم
العليم} (1)، {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون *
الذي جعل لكم الأرض فرشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من
الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} (2).



(1) سورة الزخرف: 84.
(2) سورة البقرة: 21 و 22.
40
الدليل الخامس:
سئل الصادق (عليه السلام) لم لا يجوز أن يكون صانع العالم أكثر من واحد؟ فقال (عليه السلام):
(... ثم يلزمك إن ادعيت اثنين فرجة ما بينهما حتى يكونا اثنين، فصارت الفرجة ثالثا بينهما قديما معهما،
فيلزمك ثلاثة، وإن ادعيت ثلاثة لزمك ما قلنا في الاثنين، حتى تكون بينهم فرجة فيكونوا خمسة، ثم
يتناهى في العدد إلى ما لا نهاية له في الكثرة) (1).
الدليل السادس:
قال أمير المؤمنين لولده الحسن (عليهما السلام): (واعلم يا بني أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله،
ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنه إله واحد كما وصف نفسه) (2).
ونتيجة الإيمان بوحدانية الله تعالى توحيده في العبادة، لأن غيره لا يستحق
العبادة ولا يليق لها، إذ كل ما سواه ومن سواه عباده سبحانه {إن كل من في
السماوات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا} (3).
ثم إن العبودية لغير الله تعالى ذلة للذليل واستعطاء من الفقير، بل هي ذلة
للذلة واستعطاء من الفقر المحض! {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو
الغنى الحميد} (4).
إن الإيمان بوحدانيته تعالى، وبأن كل موجود منه وبه وإليه، يتلخص في
ثلاث جمل: " لا إله إلا الله "، " لا حول ولا قوة إلا بالله "، {و إلى الله ترجع



(1) الكافي ج 1 ص 80 باب 1 ح 5، التوحيد ص 243 باب 26 ح 1.
(2) نهج البلاغة، رسائل رقم 31.
(3) سورة مريم: 93.
(4) سورة فاطر: 15.
41
الأمور} (1).
فالسعيد من كانت هذه الكلمات الطيبة التامة ذكره الدائم، ينام ويستيقظ
معها، يحيى ويموت عليها، فيفوز بحقيقة {إنا لله وإنا إليه راجعون} (2).
تأثير التوحيد على الإنسان والمجتمع
أثر الإيمان بالتوحيد أن تتركز أشعة الفكر والإرادة من الفرد والمجتمع على
هدف واحد، لا هدف أعلى منه، بل لا هدف غيره {قل إنما أعظكم بواحدة أن
تقوموا لله مثنى وفرادى} (3).
وإذا كان تمركز أشعة النفس الإنسانية على نقطة وهمية يحقق قدرات
عجيبة محيرة للعقول، فكيف إذا تمركزت أشعة فكر الإنسان وإرادته على حقيقة
هي المبدأ والمنتهى للوجود و {نور السماوات والأرض} (4)، وإلى أي مقام ومرتبة
يصل هذا الإنسان؟!
إن الفرد والمجتمع إذا وصلا إلى المقام الذي قال سبحانه وتعالى عنه: {إني
وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} (5) صاروا
بارتباطهم بالله وتخلقهم بأخلاق الله منبعا للخير والسعادة والكمال الذي يعجز
البيان عن وصفه.



(1) سورة آل عمران: 109.
(2) سورة البقرة: 156.
(3) سورة سبأ: 46.
(4) سورة النور: 35.
(5) سورة الأنعام: 79.
42
وختام الكلام في هذا المقام بكلمة هي حصن الله الحصين من عذاب الدنيا
والآخرة، عن أبي حمزة: عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: (ما من شئ أعظم
ثوابا من شهادة أن لا إله إلا الله، لأن الله عز وجل لا يعدله شئ ولا يشركه في الأمر أحد) (1).
يستفاد من هذه الرواية أنه كما أن الله تعالى ليس له عديل ولا شريك له في
أمره، كذلك لا عديل لشهادة " لا إله إلا الله " في الأعمال، ولتناسب الجزاء مع العمل،
فلا عديل له - من الأعمال - في الثواب.
إن الشهادة ب‍ " لا إله إلا الله " باللسان توجب صيانة النفس والمال والعرض في
الدنيا، والشهادة بها بالقلب توجب النجاة من عذاب النار في الآخرة، والفوز
بنعيم الجنة، فهذه الكلمة المباركة مظهر للرحمة الرحمانية والرحيمية.
روي عن الصادق (عليه السلام): (إن الله تبارك وتعالى أقسم بعزته وجلاله أن لا يعذب أهل توحيده
بالنار أبدا) (2).
وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (ما جزاء من أنعم الله عز وجل عليه بالتوحيد إلا الجنة) (3).
إن من تكون هذه الكلمة ذكره الدائم فقد نجت سفينة قلبه بمرساة " لا إله إلا الله "
من مهاوي الهلكة والأمواج المهيبة من الحوادث والوساوس والأهواء {الذين
آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (4).
إن كلمة " لا إله إلا الله " ذكر تؤدى حروفه بالجهر والإخفات، فهي تجمع بين
الذكر الجلي والخفي، وتشتمل على الاسم المقدس " الله "، وقد روي عن أمير



(1) التوحيد للصدوق ص 19 باب 1 ح 3.
(2) التوحيد للصدوق ص 20 باب 1 ثواب الموحدين.
(3) التوحيد للصدوق ص 22 باب 1 ثواب الموحدين.
(4) سورة الرعد: 28.
43
المؤمنين (عليه السلام) أنه أكبر اسم من أسماء الله تعالى.
{قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم
صادقين * بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون} (1).
وروى أبو سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " قال الله جل جلاله لموسى: يا
موسى لو أن السماوات وعامريهن والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله
إلا الله " (2) فلا تعادل الأرضين والسماوات ولا الماديات والمجردات كلمة لا إله إلا
الله، ولا يدرك عظمتها إلا الواصلون إلى حقيقة النفي والإثبات التي اشتملت
عليها هذه الكلمة الطيبة.



(1) سورة الأنعام: 40 - 41.
(2) التوحيد للصدوق ص 30 ب 1 ثواب الموحدين.
44
العدل

46
العدل
الأدلة على عدل الله عز وجل كثيرة، نذكر بعضها:
الدليل الأول:
كل إنسان - ولو لم يكن ملتزما بدين - يدرك بفطرته حسن العدل وقبح
الظلم، حتى أن الظالم إذا وصفوه بأنه ظالم يتأذى وينفر، وإذا وصفوه بأنه عادل
يبتهج ويفرح.
ولو أن ظالما مجرما - يصرف كل همه تبعا لشهوته وغضبه للوصول إلى
مآربه النفسانية - قدم إلى محكمة، فقضى له القاضي بغير الحق، طمعا في ماله أو
خوفا من سطوته، فإنه سيفرح بحكم القاضي، لكن عقله وفطرته يحكمان بقبح
الحكم ودنائة القاضي!
وعلى العكس من ذلك، إذا حاكمه قاض ولم يبال بمال الظالم وجاهه،
وحكم عليه بالعدل، فإن الظالم سيغضب عليه، ولكن فطرته تجعله ينظر إلى ذلك
القاضي وقضاوته باحترام وتحسين.
فإذا كانت هذه حال الإنسان، فكيف يمكن أن يكون الله سبحانه ظالما في
ملكه وحكمه، وهو الذي جعل حسن العدل وقبح الظلم في فطرته، وأراد من
الإنسان أن يتحلى بحلية العدل ويتجنب عن لوث الظلم، وأمر بالعدل بقوله

48
تعالى:
{إن الله يأمر بالعدل والأحسن} (1) و {قل أمر ربى بالقسط} (2) و {يا داود إنا جعلناك
خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى} (3).
الدليل الثاني:
إنما ينشأ الظلم من أحد أسباب ثلاثة، وكلها محال على الله تعالى: إما من
الجهل بقبحه، أو من العجز عن تحقيق هدفه إلا بارتكابه، أو من اللغو والعبث،
والله منزه عن الجهل والعجز والسفه، فعلمه بكل شئ وقدرته على كل شئ
وحكمته البالغة توجب أن يكون عادلا ومنزها عن كل ظلم وقبيح.
الدليل الثالث:
الظلم نقص، ولو كان الله تعالى ظالما لزم تركبه من النقص والكمال،
والوجدان والفقدان، وهذا أسوأ أنواع التركيب كما تقدم (4)، مضافا إلى أن
المركب من الكمال والنقص محتاج ومحدود، والاحتياج والحد من أوصاف
المخلوق لا الخالق.
والنتيجة أن الله تبارك وتعالى عادل في خلق الكائنات {شهد الله أنه لا إله
إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} (5) وعادل



(1) سورة النحل: 90.
(2) سورة الأعراف: 29.
(3) سورة ص: 26.
(4) في صفحة 34.
(5) سورة آل عمران: 18.
49
في قوانينه وأحكامه {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتب والميزان
ليقوم الناس بالقسط} (1) وعادل في حساب عباده يوم الجزاء {و قضى بينهم بالقسط
وهم لا يظلمون} (2).
عن الصادق (عليه السلام): " أنه سأله رجل فقال له: إن أساس الدين التوحيد والعدل،
وعلمه كثير، ولابد لعاقل منه، فاذكر ما يسهل الوقوف عليه ويتهيأ حفظه، فقال:
" أما التوحيد فأن لا تجوز على ربك ما جاز عليك، وأما العدل فأن لا تنسب إلى خالقك ما لامك عليه " (3). وقال
لهشام بن الحكم: " ألا أعطيك جملة في العدل والتوحيد؟ قال: بلى جعلت فداك، قال: من
العدل أن لا تتهمه، ومن التوحيد أن لا تتوهمه " (4).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (كل ما استغفرت الله تعالى منه فهو منك، وكل ما حمدت الله
تعالى فهو منه) (5).



(1) سورة الحديد: 25.
(2) سورة يونس: 54.
(3) التوحيد، ص 96 باب في معنى التوحيد والعدل ح 1.
(4) بحار الأنوار ج 5 ص 58، وبتفاوت في نهج البلاغة باب المختار من حكمه (عليه السلام) رقم 470.
(5) الطرائف 329، الهداية للصدوق ص 20.
50
النبوة العامة

52
النبوة العامة
بعد أن ثبت وجود الخالق الحكيم، تثبت بذلك ضرورة وجود النبوة والنبي.
ضرورة التعليم والتربية الإلهية:
لكي نفهم احتياج البشر إلى هداية الأنبياء، لابد أن نعرف طبيعة خلقة
الإنسان، والهدف من خلقته، والعوامل الموصلة إلى ذلك الهدف والمعيقة عنه.
ولا يتسع هذا الموجز للوصول إلى عمق هذه المباحث، كما يظهر ذلك من
العناوين المطروحة، لكن نشير إلى بعض الجهات بقدر الضرورة:
الجهة الأولى:
إن الإنسان موجود له غرائز مختلفة، وحياته تبدأ من أضعف مراتبها التي
هي الحياة النباتية، وتصل إلى الحياة العقلانية، بل إلى أرقى منها، فإن المؤمن
ينظر بنور الله (1).
والإنسان مخلوق مركب من طبع وعقل، وجسم ذي حاجات محدودة،
وروح ذات مطلوبات غير محدودة، وهو في تساميه وتعاليه أعلى من الملائكة،
وفي تسافله وتنزله أحط من البهائم.



(1) الكافي ج 1 ص 218 (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله عز وجل).
54
" عن عبد الله بن سنان، قال: سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام)،
فقلت: الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ فقال: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): إن الله
عز وجل ركب في الملائكة عقلا بلا شهوة، وركب في البهائم شهوة بلا عقل، وركب في بني آدم كليهما،
فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم " (1).
وكان هذا الخلق في غاية الإبداع بحيث صار - بعد تسويته ونفخ الروح
المضاف إلى الله تعالى (2) فيه - مخلوقا استثنائيا من بين كل الموجودات، وتظهر
عظمة خلقه من قوله تعالى: {ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخلقين} (3).
والإنسان يدرك أنه لم يخلق لحياة مادية محدودة، فإن الحكمة توجب أن
تكون الأدوات متناسبة مع العمل المطلوب منها، والخلقة متناسبة مع الهدف
منها، فلو كانت الحياة التي خلق من أجلها حياته الدنيوية فقط، لكانت قوة
الشهوة التي تجلب الملائمات وقوة الغضب التي تدفع المنافرات كافيتين له،
ولم يكن موجب لأن يعطى عقلا متطلعا إلى علم غير محدود، مشتاقا إلى التجمل
بالكمالات الأخلاقية والعملية، وفطرة لا تقنع بأي مقام يصل إليه، بل تتعطش
ما هو أعلى منه، فإعطاء الإنسان ذلك العقل وتلك الفطرة دليل على أنه مخلوق
لحياة غير محدودة، كما ورد في الحديث النبوي الشريف: " ما خلقتم للفناء بل خلقتم
للبقاء، وإنما تنقلون من دار إلى دار " (4).
ومن ناحية أخرى، إن حكمة الحكيم على الإطلاق تدلنا على أن كل قوة



(1) علل الشرائع ج 1 ص 4 باب 6 ح 1.
(2) إشارة إلى الآية الكريمة: * (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) * سورة الحجر: 29.
(3) سورة المؤمنون: 14.
(4) بحار الأنوار ج 6 ص 249.
55
أودعها في الموجود فقد هيأ لها عوامل الوصول إلى مرحلة فعليتها، لأن إفاضة
قوة لا تتحول إلى الفعل أصلا، وطلب لا يصل إلى المطلوب، لغو وعبث، تعالى
الله عنهما.
فأنت ترى أن العلم والقدرة المطلقة، عندما أعطى قوة الإثمار للحبة، خلق
لها الماء والتراب والهواء، وجعل لها فيها عوامل وصولها إلى هدفها!
وعندما أعطى نطفة الإنسان قوة التحول إلى أعضاء وجوارح، خلق لها
الرحم وعوامل فعليتها فيه!
فكيف يمكن أن يخلق الله بذرة عقل الإنسان، ويودع فيها قوة الوصول إلى
ثمرة العلم والعمل، ويخلق روح الإنسان اللطيفة ويودع فيها استعداد الوصول
إلى الكمال العلمي والخلقي والعملي، إلى أن يصل إلى معرفة الله بالله، ثم لا يهئ
للعقل عوامل بلوغه إلى ثمره، والشرائط التي توجب فعلية استعداد النفس
الإنسانية لأعلى مراتب الكمالات العلمية والعملية، ووصول الروح إلى أوج
فعليتها؟!
وكيف يمكن أن لا يهدي الإنسان إلى الغرض المقصود من خلقته؟!
فهل يمكن أن يخصص قانون {اعطى كل شئ خلقه ثم هدى} (1) ويستثنى منه
خلق الإنسان؟!
كلا، ولهذا كانت ضرورة الهداية الإلهية لإيصال الإنسان إلى الهدف من
خلقه واضحة {ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها} (2).



(1) سورة طه: 50.
(2) سورة الشمس: 7 و 8.
56
الجهة الثانية:
إن الإنسان بفطرته يبحث عن صانعه وخالقه، يريد أن يعرف من هو الذي
أوجده بعد أن لم يكن، وأعطاه هذه الجوارح والأعضاء والقوى {وأسبغ عليكم
نعمه ظاهرة وباطنة} (1)، وأنعم عليه بما لا يعد ولا يحصى {وإن تعدوا نعمة الله لا
تحصوها} (2).
ويريد أن يعرف هذا المنعم الحقيقي، ليقوم بوظيفته العقلية، وهي شكر
المنعم الحقيقي.
ومن ناحية أخرى يدرك الإنسان أن الله تعالى - الذي هو خالق الحس
والمحسوس، والوهم والموهوم، والعقل والمعقول، السبوح القدوس عن جميع
النقائص والقبائح، الذي لا يتناهى جماله وكماله - أعظم وأعلى وأجل من أن
يكون طرفا لخطاب مخلوق مملوء بالجهل والخطأ والهوى، فيجيبه مباشرة على
أسئلته، ويوجهه إلى ما يجب ويحرم عليه في أيام حياته.
فلابد من وجود واسطة بين الله تعالى وبين خلقه، له صورة الإنسان وصفاته
ليتعامل مع الناس، وله عقل منزه عن الخطأ، ونفس مقدسة عن الهوى، وسيرة
ربانية، ليكون - على وفق قانون تناسب الفاعل والقابل - أهلا لتنوره بنور
الوحي، ولتلقي الهداية والمعرفة من الله تعالى، فيفتح أبوابها للبشر، وينقذ
الإنسان من تفريطه في تعطيل العقل عن معرفة الله، ومن إفراطه في تشبيه الحق
بالخلق، ويهديه إلى الدين القيم والصراط المستقيم {و أن هذا صراطي مستقيما



(1) سورة لقمان: 20.
(2) سورة إبراهيم: 34.
57
فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذ لكم وصيكم به لعلكم تتقون} (1).
الجهة الثالثة:
الإنسان له قدرات فكرية يستطيع بها أن يستكشف عددا من أسرار الطبيعة
وقوانينها، ويستخدم بعض طاقاتها، وفيه أهواء نفسانية وقوى شهوانية وغضبية
توسعية خطيرة، لا تقف عند حد، وهذه خاصية طبيعة الإنسان.
ولهذا ارتبط صلاح الأرض وفسادها بصلاح الإنسان وفساده {ظهر الفساد
في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس} (2)، بل بمقتضى قوله تعالى: {وسخر لكم ما
في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} (3) فإن صلاح
الكرات الأخرى وفسادها مرتبط بالإنسان أيضا.
والذي يضمن إصلاح هذا الموجود، إنما هو الهداية الإلهية، التي تحقق له
الاعتدال الفكري بالعقائد الحقة، والاعتدال الروحي بالأخلاق الفاضلة،
والأعمال الصالحة.
الجهة الرابعة:
إن حياة الإنسان بسبب حاجاته المختلفة مرتبطة بالمجتمع، وهذا الارتباط
يستتبع التأثير والتأثر المتقابل، فيوجب ذلك حقوقا مختلفة للأفراد والمجتمع
لإبقاء للحياة الاجتماعية إلا بإحقاقها، ولا يمكن إحقاقها إلا بوضع وإجراء



(1) سورة الأنعام: 153.
(2) سورة الروم: 41.
(3) سورة الجاثية: 13.
58
قوانين صحيحة مصونة من النقص والخطأ، معصوم واضعها ومنفذها عن التأثر
بالمصالح الشخصية والانحراف عن الحق والعدالة.
وهذا لا يتحقق إلا في الشرائع الإلهية، وفي الأنبياء الذين يبلغونها وينفذونها
{لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتب والميزان ليقوم الناس بالقسط} (1).
* *
وبعد أن اتضح ضرورة هداية الإنسان إلى المبدأ والمعاد والهدف من خلقه،
واتضح لزوم إيصاله إلى كماله النظري والعملي، ولزوم تعديل قواه النفسانية،
وتأمين حقوقه الفردية والاجتماعية، يتضح أن هذه الأهداف لا تتيسر إلا عن
طريق الوحي والنبوة، وكفاية هذه المهمات لا تتحقق بالفكر الذي لا يصون عن
الخطأ وباليد المغلولة بقيد الهوس والهوى.
إن مصباح فكر الإنسان مهما كان قويا، ليس بإمكانه أن يضئ النقاط
المبهمة والمجهولة في فطرته، ويستغني في مسيرة حياته عن الأنبياء
وهدايتهم (عليهم السلام).
لقد بذل نوابغ البشر جهودهم في البحث عن أسرار العالم، فتصوروا أنهم
توصلوا إلى نتائج ونظريات افتخروا بكشفها، وصدقها الناس، ومضت قرون
وأجيال على التصديق بها، فإذا هي أوهام باطلة!
فهذه نظريتهم القائلة إن بدن الإنسان يتركب من العناصر الأربعة، وأن
أمراضه تنشأ من الطبائع الأربع، انكشف بطلانها!
وهذه نظريات القدماء عن تكوين الكون من عناصر التراب والماء والهواء
والنار، وأن الأجرام السماوية لا تقبل الخرق والالتئام، ذهبت هباء أمام



(1) سورة الحديد: 25.
59
ما اكتشفه العلم!
وهاهو الإنسان عرف أنه لم يكن يفهم تركيب بدنه الذي هو أقرب الأشياء
إليه! ولا كان يعرف أسباب مرضه وصحته، وأن كثيرا من أفكاره حول الطبيعة
والكون، وعن القمر الذي هو أقرب الكواكب إليه، لم تكن غير أوهام خاطئة!
فهل يمكن أن يكون هذا الفكر هاديا للإنسان إلى معرفة المبدأ والمعاد،
وإلى موجبات سعادته وشقائه؟! كلا!
بل كيف يمكن لفكر الإنسان العاجز عن معرفة الأسرار المخبأة في داخل
ذرة من الذرات، أن يعرف بداية خلق الإنسان والكون، ونهاية الإنسان والعالم،
وأن يعرف ما يهديه إلى المبدء والمعاد، وإلى موجبات سعادته وشقائه!
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته،
ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم آيات المقدرة " (1).



(1) نهج البلاغة، الخطبة الأولى.
60
خصائص النبي - العصمة...

61
خصائص النبي
للنبي خصائص، نكتفي بذكر اثنتين منها:
الخصوصية الأولى: العصمة
والأدلة على عصمة الأنبياء (عليهم السلام) عديدة، نشير إلى بعضها:
الدليل الأول:
إن لوصول كل مخلوق إلى كماله الذي خلق له سننا وقوانين، وقد تبين مما
تقدم أن السنة التي توصل الإنسان إلى كماله المقصود من خلقه، إنما هي الهداية
الإلهية ودين الحق.
ولما كان تحقق هذا الكمال يتوقف على هداية الإنسان إلى دين الحق،
وتبليغ القوانين الإلهية وتنفيذها، وكان النبي هو المتكفل لتربية الإنسان وفق هذه
السنة، فلو حصل تخلف في التبليغ أو التنفيذ لكان نقضا للغرض، ولا يكون
تخلف هذا المبلغ والمربي بالتربية الإلهية إلا من جهة الخطأ أو الهوى، وأي منهما
كان فلا يحصل الغرض الأقصى.
فكمال الهداية الإلهية يتطلب كمال الهادي، وعصمة القانون الإلهي الذي
{لا يأتيه البطل من بين يديه ولا من خلفه} (1) تستلزم عصمة المعلم والمنفذ.



(1) سورة فصلت: 42.
62
الدليل الثاني:
دل العقل والنقل على أن الدين جاء ليحيي الإنسان حياة طيبة {من عمل
صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما
كانوا يعملون} (1)، وماء الحياة الطيبة للإنسان هو الإيمان والعمل الصالح، وهما
يشكلان مجموعة الدين.
وعين الحياة التي ينفجر منها هذا الماء وجود النبي، فلو كانت متلوثة
لتلوث الماء، ولم يصلح لسقي عقول الناس وقلوبهم، ولا يحصل منه ثمر الحياة
الطيبة.
الدليل الثالث:
بما أن الغرض من بعثة النبي لا يتحقق إلا بإطاعته في أمره ونهيه، وبما أن
إطاعة المخطئ والعاصي لا تجوز، فلو لم يكن النبي معصوما لم تجب إطاعته،
فيلزم نقض الغرض وبطلان نتيجة البعثة.
الدليل الرابع:
خصائص النبي - المعجزة...
إذا لم يكن النبي معصوما عن الخطأ، لم يحصل للأمة اليقين بصدقه وصحة
قوله في تبليغ الوحي، وإذا لم يكن معصوما من الذنوب، سقطت مكانته في أعين
الناس، وكلام العالم بلا عمل والواعظ غير المتعظ، لا يؤثر في النفوس، فلا
يحصل الغرض المقصود من البعثة.



(1) سورة النحل: 97.
63
الدليل الخامس:
منشأ الخطأ والذنب ضعف العقل والإرادة، وعقل النبي كامل، لأنه باتصاله
بالوحي وصل إلى حق اليقين، وصار يرى الأشياء على واقعها كما هي، وإرادته
لا تتأثر إلا بإرادة الله سبحانه وتعالى، فلا يبقى في شخصيته مجال للخطأ
والذنب.
الخصوصية الثانية: المعجزة
إن قبول كل دعوى يحتاج إلى دليل، ولابد أن يكون ارتباط الدعوى بدليلها
وثيقا بحيث لا ينفك اليقين بحقانية الدعوى عن الدليل، وبما أن النبي يدعي
السفارة عن الله تعالى، وهذه الدعوى لا سبيل إلى ثبوتها إلا بتصديق الله تعالى لما
يدعيه، فالمعجزة تصديق عملي من الله تعالى لدعوى نبيه:
وذلك أن المعجزة أمر يتحقق - بلا وساطة سبب عادي - بالإرادة المحيطة
بالأسباب والمسببات المهيمنة على تأثير السبب في المسبب، وتأثر المسبب
بالسبب، وليست هي إلا إرادة الله سبحانه وتعالى، فعندما تحدث المعجزة
لدعوى النبي، يحصل اليقين بأن الله تعالى فعل المعجزة تصديقا له.
فمن ادعى النبوة، وكان صدقه ممكنا عقلا، وظهرت على يده المعجزة،
فهي دليل قطعي على صدقه في دعواه، لأنه لو لم يكن صادقا لكان حدوث
المعجزة على يده تصديقا للكاذب وموجبا لإضلال الناس، والله سبحانه وتعالى
منزه عن تصديق الكاذبين، وإضلال الناس.
هذا، وفي النبوة العامة آيات كريمة وأحاديث شريفة، نقتصر منها على
حديثين شريفين:

64
الحديث الأول:
عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: " إنا لما أثبتنا أن لنا خالقا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق وكان
ذلك الصانع حكيما متعاليا لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسوه فيباشرهم ويباشروه، ويحاجهم ويحاجوه، ثبت
أن له سفراء في خلقه، يعبرون عنه إلى خلقه وعباده، ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به
بقاؤهم وفي تركه فناءهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه والمعبرون عنه
جل وعز، وهم الأنبياء (عليهم السلام) وصفوته من خلقه، حكماء مؤدبين بالحكمة، مبعوثين بها، غير مشاركين للناس
- على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب - في شئ من أحوالهم، مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة،
ثم ثبت ذلك في كل دهر وزمان مما أتت به الرسل والأنبياء من الدلائل والبراهين، لكيلا تخلو أرض الله
من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقالته وجواز عدالته " (1).
وفيما يلي نشير إلى بعض المعاني التي تضمنها كلامه (عليه السلام):
ذكر (عليه السلام) دليل ضرورة بعثة الأنبياء بقوله: (وكان ذلك الصانع حكيما متعاليا.. إلى قوله
فناؤهم)، ومعناه أن كل فعل وترك وحركة وسكون يصدر من الإنسان، إما أن
يكون نافعا لدنياه وآخرته، أو ضارا، أو غير نافع ولا ضار، وعلى كل الفروض
يحتاج الإنسان إلى معرفة ما هو النافع وما هو الضار وما هو المصلح والمفسد
لدنياه وآخرته، وهذه المعرفة لا تتيسر إلا من عند من هو خبير بالرابطة التي بين
الأفعال والتروك وصلاح الإنسان وفساده، ومحيط بتأثير الحركات والسكنات
في حياة الإنسان في الدنيا والآخرة، وإنما هو خالق الإنسان، وخالق الدنيا
والآخرة سبحانه.
*



(1) الكافي ج 1 ص 168.
65
ولما كانت حكمته تعالى تستوجب أن يدل عباده على ذلك،
وكانت دلالته عليه بدون واسطة غير ممكنة لتعاليه عن مباشرتهم ومخاطبتهم،
فلابد من سفراء مختارين (يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه
فناؤهم).
وهذا البرهان يمتاز من جهات عما برهن الفلاسفة على ضرورة النبوة -
الذي اعتمد على قاعدة أن الإنسان مدني بالطبع فيحتاج إلى قوانين عادلة
لمعاملاته وعلاقاته الاجتماعية... - فإن دليلهم مختص بالحياة الاجتماعية
على الأرض، بينما دليل الإمام (عليه السلام) يشمل عموم مصالح الإنسان ومضاره في كل
عوالم الوجود.
*
وأشار (عليه السلام) إلى وجودهم الاستثنائي، باشتراكهم مع الناس وامتيازهم عنهم،
وما به اشتراكهم وما به اختصاصهم بقوله (عليه السلام): (غير مشاركين للناس - على مشاركتهم في
الخلق والتركيب - في شئ من أحوالهم).
*
وأشار (عليه السلام) بقوله: (صفوته من خلقه) إلى اصطفاء النبي من سائر الخلق،
ليتمكن بتلك الخلقة الصافية من نيل مقام الوساطة بين الخالق والمخلوق، وأداء
مهمة الرابط بين العالي والداني.
وما ألطف كلمة " التعبير " التي أتى بها في قوله: " يعبرون عنه " ليوضح منزلة
النبي، وأنه كاللسان المبين ما في الضمير، ينطق عن الله تعالى، ويبلغ ما يريده
إلى خلقه، وهذه المنزلة لازمة لقداسة النبي ومستلزمة لعصمته.
*
كما بين (عليه السلام) الدليل على لزوم المعجزة لإثبات النبوة بقوله: " يكون معه علم يدل

66
على صدق مقالته وجواز عدالته "، وبما أن منشأ النبوة حكمة الحكيم على الإطلاق،
وثمرتها الحكمة أيضا {قال قد جئتكم بالحكمة} (1)، {أدع إلى سبيل ربك
بالحكمة} (2) فقد اهتم (عليه السلام) بامتياز حكمة الأنبياء النظرية والعملية عن الحكمة
البشرية الناتجة عن الفكر الإنساني، وأن حكمتهم بما أنها تعبير عنه تعالى،
بمقتضى قوله (عليه السلام): (ويعبرون عنه) وأنها (من عند الحكيم العليم) فهي صافية من كدورة
الأوهام، وأن النبي سراج منير لم يتخذ نور علمه من التعليم والتربية البشرية، بل
بارتباطه بنور السماوات والأرض {يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار} (3).
*
قال (عليه السلام): " حكماء مؤدبين بالحكمة "، ثم بعد فصل قليل قال: " مؤيدين من عند الحكيم العليم
بالحكمة " ليبين (عليه السلام) أن حكمة الأنبياء - حدوثا وبقاء - من عند العليم الذي أحاط
بكل شئ والحكيم الذي أتقن صنع كل شئ، وأنها تمتاز عن الفكر البشري
امتياز ما عند الله تعالى على ما عند الناس.
*
ويظهر من جملة " وكان ذلك الصانع حكيما " ومن وصف الأنبياء بأنهم " حكماء مؤدبين
بالحكمة مبعوثين بها " أن العلة الفاعلية والعلة الغائية للنبوة هي الحكمة، والحد الوسط
بين المبدأ والمنتهى أيضا هي الحكمة {يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض
الملك القدوس العزيز الحكيم * هو الذي بعث في الأمين رسولا منهم يتلوا عليهم



(1) سورة الزخرف: 63.
(2) سورة النحل: 25.
(3) سورة النور: 35.
67
آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (1).
وهناك مباحث ثمينة ودقائق عميقة أخرى في إشارات كلام الإمام (عليه السلام)
ولطائفه، لا يتسع لها المجال.
الحديث الثاني:
قال الإمام الرضا (عليه السلام): " فإن قال: فلم وجب عليهم معرفة الرسل والإقرار بهم والإذعان
لهم بالطاعة؟ قيل: لأنه لما أن لم يكن في خلقهم وقواهم ما يكملون به مصالحهم وكان الصانع متعاليا
عن أن يرى، وكان ضعفهم وعجزهم عن إدراكه ظاهرا لم يكن بد لهم من رسول بينه وبينهم معصوم
يؤدي إليهم أمره ونهيه وأدبه ويقفهم على ما يكون به اجترار منافعهم ومضارهم إذ لم يكن في
خلقهم ما يعرفون به ما يحتاجون إليه من منافعهم ومضارهم " (2).



(1) سورة الجمعة: 1 و 2.
(2) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 100 ب 34 ح 1، وبتفاوت في البحار ج 6 ص 59 وفيه: (... ما يكون
به إحراز منافعهم ودفع مضارهم إذ لم يكن في خلقهم ما يعرفون به ما يحتاجون إليه من منافعهم
ومضارهم).
68
النبوة الخاصة

70
...

71
النبوة الخاصة
بما أن نبينا محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم الأنبياء والرسل، وصاحب الرسالة الخاتمة
الخالدة، فلابد أن تكون معجزته خالدة أيضا.
وبما أن العصر الذي بعث فيه كان عصر تفاخر وتنافس بالفصاحة والبلاغة
في النظم والنثر، حيث كان المعيار السائد لمعرفة مكانة الشخصيات المرموقة
في المجتمع، هو الفصاحة والبلاغة، وكان للفصحاء البلغاء مكانة كبيرة في ذلك
المجتمع، لذلك اقتضت حكمته تعالى أن يكون القرآن الكريم معجزا في ألفاظه
ومعانيه، ليكون معجزة خالدة ودليلا مستمرا على نبوة نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، يتناسب
مع رسالته الخاتمة المستمرة في كل عصر وزمان.
ونكتفي فيما يلي بعرض موجز لإعجاز القرآن.
1 - عجز البشر عن الإتيان بمثل القرآن
لقد ظهر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في عصر ومنطقة، كانت توجد فيها أمم متعددة، وعقائد
متشتتة.
فبعضهم كانوا ماديين ملحدين، ينكرون المبدأ والمعاد.
والذين كانوا يعتقدون بما وراء الطبيعة، بعضهم كانوا يعبدون الأصنام،
وبعضهم يعبدون الأجرام السماوية.

72
والذين اعتزلوا عبادة الأصنام والأجرام السماوية، كانوا ينتحلون المجوسية
والثنوية، واليهودية القائلة بأن عزيرا ابن الله، والنصرانية القائلة بأن الله ثالث
ثلاثة.
ومن جهة أخرى، كان أكاسرة إيران وقياصرة الروم مشغولين في استعمار
الأمم الضعيفة واستثمارها، أو بالحروب والقتال.
في مثل هذه الظروف التي كانت العقول محجوبة بالأوهام، والقلوب قاسية
بالأهواء، ولا يحكم في البلاد إلا من يفسد في الأرض أو يسفك الدماء، بعث
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ورفع علم الإيمان بالغيب والتوحيد، ودعا العالم إلى عبودية الله
تعالى، وإلى كسر قيود الكفر والظلم، ودعا ملوك الأرض الطغاة المتجبرين من
كسرى إيران وإمبراطور الروم، إلى ملوك الغساسنة في الشام، وملوك حمير في
اليمن، وغيرهم من الأمراء والسلاطين الكبار والصغار، إلى قبول الإسلام
وإطاعة أوامر الله تعالى، والخضوع للحق والعدل.
لقد رفض ثنوية المجوس، وتثليث النصارى، وافتراءات اليهود على الله
والأنبياء، وعادات الجاهلية الوثنية الموروثة عن الآباء والأجداد، الراسخة في
أعماق وجود الناس في جزيرة العرب!
لقد وقف (صلى الله عليه وآله وسلم) وحيدا أمام كل دول العالم، وأممه، وأمرائهم وعلمائهم،
وخطأ عقائدهم، وتحداهم بالمعجزات التي جعلها الله دليلا على نبوته.
وكان أبرزها معجزة القرآن الذي تحدى به قدرات الملوك والسلاطين
وعباد الأصنام، وأحبار اليهود، وقساوسة النصارى! {و إن كنتم في ريب مما نزلنا
على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين} (1).



(1) سورة البقرة: 23.
73
ومن البديهي أن عامة الناس - بتعصبهم لعقائدهم - ورجال الأديان
والمذاهب - بتصلبهم وتشددهم لحفظ أتباعهم - والملوك والحكام - بخوفهم من
يقظة شعوبهم - لو استطاعوا مواجهة القرآن لما تأخروا عن ذلك لحظة.
أفتظن أنه لو كانت لهم القدرة في المعارضة في هذه المسابقة التي يفوق
السابق في الدين والدنيا، ما فعلوا ذلك؟!
نعم، إنهم جميعا بذلوا كل جهدهم لمواجهة تحدي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم بالقرآن،
وفيهم علماء وشعراء وخطباء، كانوا أعلاما في الفصاحة والبلاغة، يتسابقون كل
سنة في سوق عكاظ الشهير وغيره، ويعلقون القصائد الفائزة بإعجاب على
الكعبة، وكان أشهرها المعلقات السبع.
لقد حرصوا على الانتصار لدينهم ودنياهم المهددين بالقرآن، ولكنهم
رجعوا خائبين خاسئين، ولم يجدوا جوابا إلا أن قالوا: {ان هذا إلا سحر مبين} (1).
وقد جاء في التاريخ أن أبا جهل قصد الوليد بن المغيرة الذي كان مرجع
فصحاء العرب، وطرح معه مشكلة تحدي محمد لهم بالقرآن، فقال له: فما أقول
فيه! فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه مني ولا بقصيده،
ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا! ووالله إن لقوله حلاوة،
وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو ولا يعلى!
قال أبو جهل: لا والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه!
قال: دعني حتى أفكر فيه!
فلما فكر، قال: هذا سحر يأثره عن غيره (2).



(1) سورة المائدة: 110.
(2) تفسير الطبري ج 29 ص 195، ذيل الآية 24 من سورة المدثر.
74
إن نفس اتهامهم للقرآن بالسحر دليل على تسليمهم بإعجازه! لأن السحر
يرجع بالنتيجة إلى أسباب عادية غير خارجة عن الطاقة البشرية، وقد كان ذلك
أمرا مقدورا لهم، وكان السحرة والكهنة منتشرين في جزيرة العرب والبلاد
المجاورة لها، ومع ذلك فقد سجل التاريخ أنهم لم يستطيعوا أن يجدوا جوابا على
تحدي القرآن! وبسبب ذلك لجأوا إلى محاولات تطميع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمال
والمقام! وعندما رفض ذلك، ضاعفوا محاولاتهم لقتله!
2 - هداية القرآن
نزل القرآن الكريم في عصر كان قسم من الناس ملحدين لا يعتقدون بما
وراء الطبيعة، ويرون أن الذي يدبر نظام هذا الوجود المدهش، لا يتصف بعقل
ولا إدراك!
أما الذين كانوا يعتقدون بما وراء الطبيعة، فكانوا يعبدون أصناما على صور
متعددة.
وأما المنتسبون إلى الأديان السماوية، فقد وصفوا الله تعالى حسب كتبهم
المحرفة بصفات المخلوقين.
في ذلك العصر الذي سجل التاريخ أن أهله كانوا في غاية الانحطاط فكرا
وخلقا وعملا، نهض رجل أمي لم يتلق العلم من أحد، وكسر أقفال الجهل
والضلالة، وفتح أبواب العلم والهداية، وأحيا النفوس الميتة بالحياة الطيبة،
وأخرج الناس من الظلمات إلى النور.
لقد دعا الناس إلى عبادة الله المنزه عن كل نقص، الذي منه كل كمال
وجمال، وله كل حمد وثناء، وأعلن أنه وحده يليق للعبادة وأن ما يدعون من

75
دونه كسراب
بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وأنه أكبر من أن يحد بحد أو يوصف بوصف.. " سبحن
الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ".
وتحدى في ذلك الجو الذي كانوا يصفون خالق العدد والمعدود بالتركيب
والتثليث، والمنزه عن الصاحبة والولد بالاحتياج والتوليد، ويصورون له مثيلا
وشريكا، ويزعمون أنه مجسد في صنم ينحتونه، أو شجرة يقدسونها!
في هذا الجو نزل القرآن، فنزه الله عن جميع تلك الأوهام، وأعلن أنه أحد
منزه عن التركيب العقلي والوهمي والحسي، وأنه بذاته غني عن كل شئ، وما
سواه فقير محتاج إليه بالذات، ونزه ساحته المقدسة عن كل أنواع التوليد العقلي
والحسي.
وبين أن الموجودات وجدت بقدرته، وخلقت بمشيئته، وأنه لا كفؤ له،
لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
ونزلت أكثر من ألف آية من القرآن الكريم في معرفة الله تعالى، وصفاته
العليا، وأسمائه الحسنى، لو تدبرنا منها سطرا واحدا هو سورة التوحيد لعرفنا
عظمة الهداية التي جاء بها (صلى الله عليه وآله): {قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد *
ولم يكن له كفوا أحد} (1).
هذا مضافا إلى أن أحاديث النبي وأهل بيته (عليهم السلام)، مفاتيح خزائن معرفة الله
تعالى، ونكتفي منها هنا بحديثين:
1 - قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إن الله تبارك وتعالى خلو من خلقه وخلقه خلو منه، وكل



(1) سورة التوحيد: 1 - 4.
76
ما وقع عليه اسم شئ ما خلا الله عز وجل فهو مخلوق، والله خالق كل شئ تبارك الذي ليس كمثله
شئ) (1).
2 - وقال الإمام الباقر (عليه السلام): (كل ما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه، مخلوق مصنوع
مثلكم، مردود إليكم) (2).
* *
إن عظمة ما قدمه القرآن من الهداية في المعارف الإلهية، تتجلى بمقارنتها
مع ما يقابلها في العهد العتيق والجديد من الآيات التي ما زال يعتقد بها مئات
ملايين البشر إلى اليوم من اليهود والنصارى، وبنيت على الإيمان بها كل كنيس
وكنيسة.
ونكتفي بنماذج من توراتهم فهو يمثل تصوراتهم لله تعالى:
أ - ورد في الإصحاح الثاني من سفر التكوين:
(وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل. فاستراح في اليوم السابع
من جميع عمله الذي عمل. وبارك الله اليوم السابع وقدسه، لأنه فيه استراح من
جميع عمله الذي عمل الله خالقا....!
وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار
آدم نفسا حية. وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا. ووضع هناك آدم الذي
جبله، وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل.
وشجرة الحياة في وسط الجنة، وشجرة معرفة الخير والشر....
وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها. وأوصى الرب



(1) التوحيد ص 105 باب 7 ح 3.
(2) مشرق الشمسين 398، بحار الأنوار ج 66 ص 293.
77
الإله آدم قائلا: من جميع شجر الجنة تأكل أكلا، وأما شجرة معرفة الخير والشر
فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتا تموت.
ب - في الإصحاح الثالث من سفر التكوين:
وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله، فقالت
للمرأة: أحقا قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة؟ فقالت المرأة للحية: من ثمر
شجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه،
ولا تمساه لئلا تموتا!
فقالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح
أعينكما، وتكونان كالله عارفين الخير والشر!
فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية
للنظر، فأخذت من ثمرها وأكلت، وأعطت رجلها أيضا معها فأكل، فانفتحت
أعينهما وعلما أنهما عريانان. فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر، وسمعا
صوت الرب الإله ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار، فاختبأ آدم وامرأته من
وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة، فنادى الرب الإله آدم وقال له: أين أنت؟
فقال: سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت!
فقال: من أعلمك أنك عريان، هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن
لا تأكل منها... ".
وفي نفس الأصحاح: " وقال الرب الإله: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا
عارفا الخير والشر! والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل
ويحيا إلى الأبد ".
وفي الإصحاح السادس:

78
" فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض. وتأسف في قلبه.
فقال الرب أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته. الإنسان مع بهائم
ونباتات وطيور السماء. لأني حزنت أني عملتهم ".
ونكتفي بتسجيل بعض الملاحظات:
(1)
زعمت توراتهم أن الله تعالى نهى آدم وحواء عن معرفة الحسن والقبيح، مع
أن الله تعالى خلق الإنسان ووهبه العقل ليعرف به الحسن والقبيح، والخير والشر،
فكيف يعقل أن ينهى عن معرفتهما!
وأما هداية القرآن فهي: {قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما
يتذكر أولوا الألباب} (1)، {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون} (2).
والآيات القرآنية في الترغيب في العلم والمعرفة والتعقل والتفكر والتدبر
أكثر من أن تذكر في هذا المختصر.
وخلق الله الإنسان للاستباق إلى الخيرات وأمره بها، وللاجتناب عن الشرور
ونهاه عنها، والغرض من هذا التكوين والتشريع لا يتحقق إلا بمعرفة الخير والشر،
والأمر بذي المقدمة والنهي عن المقدمة مع انتهائهما إلى اجتماع النقيضين كيف
يصدر عن سفيه فضلا عن الحكيم على الإطلاق؟!
(2)



(1) سورة الزمر: 9.
(2) سورة الأنفال: 22.
79
وزعمت توراتهم أن الله تعالى قال لآدم وحواء: إذا أكلتما من شجرة المعرفة
تموتان، فأكلا منها فلم يموتا!
فإن كان الله بزعمهم لا يعلم أنهما لا يموتان، فهو جاهل!
وإن كان يعلم فهو كاذب! وكيف يليق بالجاهل والكاذب أن يسمى بالإله؟
والأعجب من ذلك أن الحية ترشد آدم وحواء إلى الأكل من شجرة معرفة
الخير والشر، وتكشف لهما كذب الإله (المزعوم لهم) وخداعه!
وهذه نماذج من هداية القرآن في علم الله تعالى:
{يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء} (1).
{لا يعزب عنه مثقال ذرة} (2) {إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شئ
علما} (3).
(3)
كيف يكون الموجود المحدود - الذي يضيع آدم بين أشجار الجنة، وتحول
الأشجار دون رؤيته له، ويناديه: أين أنت؟! حتى يعرف مكانه من صوته! -
جديرا بأن يكون إله العالمين، وعالم السر والخفيات، والمحيط بالأرض
والسماء، وخالق الكون والمكان؟!
وأما نموذج هداية القرآن فهكذا: {و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم
ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة الا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض و



(1) سورة البقرة: 255.
(2) سورة سبأ: 3.
(3) سورة طه: 98.
80
لا رطب ولا يابس الا في كتب مبين} (1).
(4)
بينما يعلم القرآن الناس توحيد الله وتنزيهه ويقول: {ليس كمثله شئ وهو
السميع البصير} (2)، فإن التوراة تعلم الناس الشرك بالله تعالى، وتشبهه بمخلوقاته!
حيث تقول: " وقال الرب الإله: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير
والشر... ".
(5)
نسبت توراتهم إلى الله تعالى، أنه ندم على خلق آدم، فكان جاهلا بعاقبة
خلقه له! فكيف يصح لكتاب سماوي جاء لهداية البشر إلى ربهم، أن ينسب إلى
الله تعالى الجهل المستلزم لمحدودية الذات وتركب الحق المتعال من نور العلم
وظلمة الجهل، الموجب لاتصاف الخالق بصفة المخلوق.
وهداية القرآن هكذا: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} (3)، {و إذ قال
ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك
الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون} (4).
(6)



(1) سورة الأنعام: 59.
(2) سورة الشورى: 11.
(3) سورة الملك: 14.
(4) سورة البقرة: 30.
81
نسبت توراتهم إلى الله تعالى الاستراحة والحزن والغم والهم والأسف، وهي
صفات من لوازم الجسمية والجهل والعجز!
ويقول الرب امحو عن وجه الأرض الإنسان والبهائم والنباتات والطيور
تشفيا لتأسف قلبه، ولأنه صار محزونا بخلقه لهم، ومع ذلك ندم عما أخبر به،
فلماذا يقول ما لا يفعل؟! وهل هذا إلا تجهيل لنفسه وتكذيب لقوله؟! {سبحانه
وتعالى عما يصفون} (1).
أما القرآن فيقول: {سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم * له
ملك السماوات والأرض يحيى ويميت وهو على كل شئ قدير * هو الأول والاخر و
الظهر والباطن وهو بكل شئ عليم} (2).
* *
ونشير إلى بعض العقائد المختصة بالنصارى أيضا:
(1)
في الإنجيل في رسالة يوحنا الأولى، الإصحاح الخامس:
1 - كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح فقد ولد من الله. وكل من يحب الوالد
يحب المولود منه أيضا.
2 - بهذا نعرف أننا نحب أولاد الله إذا أحببنا الله وحفظنا وصاياه.
3 - فإن هذه هي محبة الله أن نحفظ وصاياه. ووصاياه ليست ثقيلة.
4 - لأن كل من ولد من الله يغلب العالم. وهذه هي الغلبة التي تغلب العالم:



(1) سورة الأنعام: 100.
(2) سورة الحديد: 1 - 3.
82
إيماننا.
5 - من هو الذي يغلب العالم إلا الذي يؤمن أن يسوع هو ابن الله.
6 - هذا هو الذي أتى بماء ودم يسوع المسيح لا بالماء فقط بل بالماء والدم.
والروح هو الذي يشهد لأن الروح هو الحق.
7 - فإن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة: الأب، والكلمة، والروح
القدس، وهؤلاء الثلاثة هم واحد.
8 - والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة: الروح والماء والدم، والثلاثة هم
في الواحد.
(2)
وفي إنجيل يوحنا، الإصحاح الأول:
1 - في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله.
2 - هذا كان في البدء عند الله.
3 - كل شئ به كان، وبغيره لم يكن شئ مما كان.
4 - فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس.
5 - والنور يضئ في الظلمة، والظلمة لم تدركه.
6 - كان إنسان مرسل من الله اسمه يوحنا.
7 - هذا جاء للشهادة ليشهد للنور لكي يؤمن الكل بواسطته.
8 - لم يكن هو النور، بل ليشهد للنور.
9 - كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتيا إلى العالم.
10 - كان في العالم وكون العالم به، ولم يعرفه العالم.

83
11 - إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله.
12 - وأما كل الذين قبلوه، فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله، أي
المؤمنون باسمه.
13 - الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيمة جسد، ولا من مشيمة رجل،
بل من الله.
14 - والكلمة صار جسدا وحل بيننا، ورأينا مجده مجدا، كما الوحيد من
الأب مملوء نعمة وحقا.
(3)
وقال في إنجيل يوحنا، الإصحاح السادس:
51 - أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز
يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة
العالم.
52 - فخاصم اليهود بعضهم بعضا قائلين: كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده
لنأكل.
53 - فقال لهم يسوع: الحق الحق أقول لكم: إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان
وتشربوا دمه، فليس لكم حياة فيكم.
54 - من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم
الأخير.
55 - لأن جسدي مأكل حق، ودمي مشرب حق.
56 - من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه.

84
57 - كما أرسلني الأب الحي وأنا حي بالأب، فمن يأكلني فهو يحيا بي.
58 - هذا هو الخبز الذي نزل من السماء، ليس كما أكل آباؤكم المن وماتوا.
من يأكل هذا الخبز فإنه يحيا إلى الأبد.
(4)
قال في إنجيل يوحنا، الإصحاح الثاني:
1 - وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل وكانت أم يسوع هناك.
2 - ودعي أيضا يسوع وتلاميذه إلى العرس.
3 - ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له ليس لهم خمر.
4 - قال لها يسوع: مالي ولك يا امرأة. لم تأت ساعتي بعد.
5 - قالت أمه للخدام مهما قال لكم فافعلوه.
6 - وكانت ستة أجران من حجارة موضوعة هناك حسب تطهير اليهود،
يسع كل واحد مطرين أو ثلاثة.
7 - قال لهم يسوع: املأوا الأجران ماء، فملأوها إلى فوق.
8 - ثم قال لهم: استقوا الآن وقدموا إلى رئيس المتكأ فقدموا.
9 - فلما ذاق رئيس المتكأ الماء المتحول خمرا ولم يكن يعلم من أين هي.
لكن الخدام الذين كانوا قد استقوا الماء علموا. دعا رئيس المتكأ العريس.
10 - وقال له كل إنسان إنما يضع الخمر الجيدة أولا، ومتى سكروا فحينئذ
الدون. أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن.
11 - هذه بداية الآيات فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده، فآمن به
تلاميذه.

85
والملاحظات على هذه الفقرات كثيرة، نكتفي ببعضها:
أ: من أصول عقائد النصارى المتفق عليها عندهم: عقيدة التثليث، لكنهم
وجدوا في أناجيلهم نصوصا على توحيد الله تعالى، كما في إنجيل يوحنا -
الأصحاح السابع عشر - الفقرة الثالثة (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت
الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته).
فاضطروا إلى أن يجمعوا بين التثليث والتوحيد، فقالوا - كما جاء في رسالة
يوحنا الأولى -: " الثلاثة واحد! " وأن الثلاثة متحدون حقيقة، ومتميزون عن
بعضهم حقيقة!
وهي عقيدة باطلة لعدة وجوه، نشير إلى بعضها:
1 - إن مراتب الأعداد - كالواحد والثلاثة - متضادة، واجتماع الضدين
محال، فكيف يمكن أن يكون الثلاثة واحدا، والواحد ثلاثة؟!
2 - عقيدة التثليث تستلزم الاعتقاد بخمسة آلهة، بل الاعتقاد بعدد غير متناه
من الآلهة - كما تقدم في التوحيد عن الإمام الصادق (عليه السلام) - فلا مناص لهم من
الالتزام بالآلهة غير المتناهية.
3 - عقيدة التثليث تستلزم التركيب، والتركيب يحتاج إلى أجزاء، وإلى من
يركبها.
4 - عقيدة التثليث تستلزم اتصاف خالق العدد بالمخلوق، لأن العدد
والمعدود مخلوقان، والله تعالى منزه من أن يكون معدودا حتى الوحدة العددية.
وأما وصفه بالوحدانية فقد تقدم في مبحث التوحيد معناه {لقد كفر الذين
قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن

86
الذين كفروا منهم عذاب أليم} (1).
5 - ادعى النصارى أن عيسى (عليه السلام) ابن الله تعالى، وقد رد القرآن قولهم فقال:
{ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان
الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون} (2).
وقوله تعالى: {يأكلان الطعام} إشارة إلى أنهما موجودان محتاجان إلى
طعام، والمحتاج إلى طعام يهضمه ويدفع فضلاته، لا يمكن أن يكون معبودا!.
*
ب: يعتقد النصارى أن عيسى (عليه السلام) كان كلمة الله تعالى، وأن هذه الكلمة
جاءت إلى الدنيا وصارت إنسانا من جسم ولحم ودم، ثم تجسدت في لحم
أتباعه ودمائهم! وأن أول معجزة قام بها المسيح أنه حول الماء في حفل عرس
في قانا إلى خمر وسقاه الحاضرين!
فأي عقل يقبل أن الذي جاء ليكمل عقول الناس ويعلمهم الحكمة، يأتي
بمعجزة من أجل أن يسكر الناس ويذهب عقولهم! ومع أي منطق ينسجم هذا
الكلام؟
*
ج: يعتقد النصارى أن عيسى هو الله تعالى! وفي نفس الوقت يعتقدون أنه
من نسل نبي الله داود، ويوصلون نسبه إلى زوجة داود التي زعموا أنها كانت ذات
زوج، وأن نبي الله داود زنا بها، والعياذ بالله، ثم لما قتل زوجها جاء بها إلى بيته
وولدت له أولاده!



(1) سورة المائدة: 73.
(2) سورة المائدة: 75.
87
وخلاصة القصة كما في سفر صموئيل، الإصحاح الحادي عشر:
أن أوريا كان قائدا عند داود، وكان عنده امرأة جميلة، فعشقها داود،
وأرسل زوجها إلى الحرب وعرضه للقتل ليتخلص منه، وزنا بزوجته في غيابه!
فقتل أوريا وجاء داود بزوجته إلى بيته!
أما القرآن فنزه الله تعالى عن هذه الأوهام، وصحح الاعتقاد بنبي الله عيسى
عن تفريط الذين اتهموه بأنه ابن زنا، وإفراط الذين زعموا أنه ابن الله تعالى،
فقال: {و اذكر في الكتب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا} (1) إلى أن قال
تعالى: {قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا} (2).
ونزه داود (عليه السلام) عن هذه الافتراءات، وقال في شأنه: {يا داود إنا جعلناك خليفة
في الأرض} (3).
وقال لنبينا (صلى الله عليه وآله وسلم): {إصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه
أواب} (4).
ونكتفي بهذه النماذج من الهداية القرآنية في معرفة الله تعالى ومقام أنبيائه.
* *



(1) سورة مريم: 16.
(2) سورة مريم: 30.
(3) سورة ص: 26.
(4) سورة ص: 17.
88
نماذج من تعاليم القرآن في سعادة الإنسان:
إن وجوه إعجاز القرآن في بقية تعليماته وتشريعاته كثيرة واسعة، تشمل
العقائد، والأخلاق، والعبادات، والمعاملات، والسياسات.. ونكتفي بذكر
بعضها:
(1)
في مقابل الامتيازات الاجتماعية التي كان الناس يتمايزون بها، كالقوة،
والمال، والقبيلة، والنسب، واللون، جاء القرآن بميزان للفضائل وهو المسارعة
والاستباق إلى مراتب الكمالات الإنسانية علمية وعملية، وأن كرامة الإنسان
بحقيقتها ومراتبها تدور مدار ما هو عند الله، لا ما هو عند الناس، وهو التقوى
بنطاقها الواسع من الاتقاء عما يوجب كدورة اللطيفة الإنسانية ويكون حجابا بينه
وبين مبدء الكمال والجمال والجلال، فقال تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من
ذكر و أنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقيكم إن الله
عليم خبير} (1).
(2)



(1) سورة الحجرات: 13.
90
عالج الأفكار الفاسدة التي تحدث بسبب شرب المسكرات، والأمراض
الاقتصادية الناشئة من أكل الأموال الحاصلة بالأسباب الباطلة بقوله تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل
الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} (1)، {و أحل الله البيع وحرم الربوا} (2)، {و لا تأكلوا
أموالكم بينكم بالبطل} (3).
(3)
وفي عالم كان يسترخص قتل الإنسان ويفتخر به، حرم القرآن القتل، وشدد
على ضمان حياة الإنسان وبنى فقهه على أشد مراتب الاحتياط في النفوس {و لا
تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} (4)، {و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} (5).
(4)
سد باب الجور والطغيان بتشديد النهي عن الظلم والعدوان، وفتح أبواب
الخير والفضيلة على الإنسان بتأكيد الأمر بالعدل والإحسان {فمن اعتدى عليكم
فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (6)، {وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد



(1) سورة المائدة: 90.
(2) سورة البقرة: 275.
(3) سورة البقرة: 188.
(4) سورة الأنعام: 151.
(5) سورة البقرة: 194.
(6) سورة المائدة: 32.
91
في الأرض} (1)، {إن الله يأمر بالعدل والاحسان} (2).
(5)
ونزل القرآن في عصر كانوا يعاملون المرأة معاملة الحيوان، فقال عز من
قائل: {و عاشروهن بالمعروف} (3)، {و لهن مثل الذي عليهن بالمعروف} (4)،
{فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عمل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من
بعض} (5).
(6)
حرم كل أنواع الخيانة وقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول
وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} (6).
وقال: {إن الله لا يحب الخائنين} (7).
وفرض أداء الأمانة فقال: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} (8)،
وقال: {فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته} (9).



(1) سورة القصص: 77.
(2) سورة النحل: 90.
(3) سورة النساء: 19.
(4) سورة البقرة: 282.
(5) سورة آل عمران: 195.
(6) سورة الأنفال: 27.
(7) سورة الأنفال: 58.
(8) سورة النساء: 58.
(9) سورة البقرة: 283.
92
(7)
وجعل الوفاء بالعهد من علامات الإيمان، فقال: {والذين هم لأماناتهم و
عهدهم راعون} (1). وأمر بالوفاء بالعقد والعهد فقال: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا
بالعقود} (2)، {و أوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا} (3).
(8)
وأنقذ الأمة بقوله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم
درجات} (4)، وبقوله تعالى: {يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا
كثيرا} (5) من هاوية الكفر والجهل والسفاهة، وجعلها حاملة مشعل الإيمان والعلم
والحكمة.
(9)
وأمر أتباعه بكل معروف، ونهاهم عن كل منكر، وأحل لهم الطيبات وحرم
عليهم الخبائث، وحررهم من القيود المكبلة لإنسانيتهم، المخالفة لفطرتهم
السوية، فقال: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في
التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم
عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه



(1) سورة المؤمنون: 8.
(2) سورة المائدة: 1.
(3) سورة الإسراء: 34.
(4) سورة المجادلة: 11.
(5) سورة البقرة: 269.
93
ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} (1).
(10)
وأسس المدينة الفاضلة المبنية على الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة
والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف
وتنهون عن المنكر} (2) وكلف المؤمنين والمؤمنات بهاتين الوظيفتين {المؤمنون
والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} (3).
ومع استلزامهما للعلم بالمعروف والمنكر، وائتمار الآمر بالمعروف وانتهاء
الناهي عن المنكر، وعموم المنكر للعقائد الباطلة والأخلاق الرذيلة والأعمال
الفاسدة يتحقق مجتمع يدور مدار المكارم والفضائل، لا يميل عن الصراط
المستقيم إلى الإفراط ولا التفريط، {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على
الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} (4).
هذه لمعة من أشعة شمس القرآن وأنوار هدايته للعالم، ولو أردنا أن
نستعرض علومه وقوانينه في مجالات الحياة البشرية، في العقائد، والأخلاق،
والعبادة، والاقتصاد، والسياسة، وما فيها من هداية بليغة للبشر إلى سعادتهم في
الدنيا والآخرة.. لاحتجنا إلى تدوين كتب مفصلة!



(1) سورة الأعراف: 157.
(2) سورة آل عمران: 110.
(3) سورة التوبة: 71.
(4) سورة البقرة: 143.
94
إعجاز القرآن في إخباره عن الغيب
إذا ادعى شخص أنه رسول الله لهداية البشر إلى يوم القيامة، فإن أصعب أمر
عنده أن يخبرهم عن شئ أنه سيحدث في المستقبل، لأن احتمال عدم تحققه
ولو بنسبة واحد في المليارد، يهدد كل ما بناه بالانهيار، ويثبت كذب دعواه.
وعندما نرى أنه قد أخبر بيقين جازم، وثقة واطمئنان، عن أمور أنها سوف
تحدث، فحدثت كما أخبر بها حرفيا! فهذا يدل دلالة قطعية على اتصاله بالعليم
الخبير المحيط بالزمان والزمانيات، وهذه بعض إخبارات القرآن بالغيب:
(1) الإخبار عن انتصار الروم
كانت الدولتان الكبيرتان عند بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): فارس والروم، وكان بينهما
صراع وحروب، وقد هزم الفرس جيوش الروم في معركة كبيرة في سوريا،
وكانت المؤشرات كما يذكر المؤرخون تدل على أنه انتصار نهائي، فأخبر القرآن
بأن الروم سوف تغلب الفرس في بضع سنين! وتحقق ما أخبر به كما أخبر به
{ألم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين} (1).
(2) الإخبار عن عودة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مكة
أجمعت قبائل قريش ومن حالفها من قبائل العرب على تكذيب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
ومقاومة دعوته، وحاولوا قتله مرارا حتى اضطر إلى الهجرة من مكة خائفا
يترقب، فأخبره الله تعالى بأنه سوف يعود إلى مكة منتصرا، وتحقق ما أخبره به



(1) سورة الروم: 1 - 4.
95
بعد ثمان سنوات! {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} (1).
(3) الإخبار عن هزيمة المشركين
أخبر عن هزيمة المشركين قبل معركة بدر، مع أنهم كانوا جازمين بالانتصار
لكونهم أكثر عددا وعدة وجمعا ونفوذا في الجزيرة، فقال: {أم يقولون نحن جميع
منتصر * سيهزم الجمع ويولون الدبر} (2)، وتحقق ذلك كما أخبر به.
(4) الإخبار عن فتح مكة
أخبر المسلمين بأنهم سيفتحون مكة ويدخلون المسجد الحرام مع ذكر
حالاتهم عند الدخول، فتحقق ما أخبر به، قال تعالى: {لتدخلن المسجد الحرام إن
شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون} (3).
(5) الإخبار عن عدم مشاركة المنافقين في الحرب
بعد رجوع المسلمين من غزوة تبوك، نزل قوله تعالى عن المنافقين: {فقل
لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا} (4)، فكان كما أخبرت الآية.
(6) الإخبار عن فتح بلاد كسرى وقيصر



(1) سورة القصص: 85.
(2) القمر: 44 - 45.
(3) سورة الفتح: 27.
(4) سورة التوبة: 83.
96
قبل فتح خيبر، وقبل أن يغنم المسلمون غنائم ذات بال، ولم يكن يخطر
ببالهم الوصول إلى خزائن كسرى وقيصر، وعدهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنهم سيفتحون
بلاد كسرى وقيصر ويحكمونها، ونزلت هذه الآيات: {لقد رضى الله عن المؤمنين
إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا *
ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما * وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل
لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما *
وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شئ قديرا} (1).
(7) الإخبار عن ذريته الطاهرة
عندما توفي ابنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال العاص بن وائل: إنه أبتر ليس له نسل وذرية،
فنزلت سورة الكوثر: {إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر * إن شانئك هو
الأبتر} (2)، وأخبر بأن قائل الكلام المذكور هو الأبتر، وأما ذريته (صلى الله عليه وآله وسلم) فباقية.
* *
إعجاز القرآن بإحاطته بأسرار الطبيعة
نزل القرآن في عصر كانوا يتصورون أن الأجرام السماوية بسيطة،
ولا يتصورون حركة الكواكب والنجوم في مداراتها، فأخبر بحركتها وقال: {لا
الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون} (3).



(1) سورة الفتح: 18 - 21.
(2) سورة الكوثر: 1 - 3، وراجع صفحة:
(3) سورة يس: 40.
97
وفي عصر لم يكن عند العلماء تصور عن شمول قانون الزوجية في الأشياء،
قال: {ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون} (1).
وفي عصر لم يكن عندهم احتمال وجود حياة في الكواكب الأخرى، قال:
{وما بث فيهما من دابة} (2).
وأخبر عن تلقيح النباتات بواسطة الريح، فقال: {وأرسلنا الرياح لواقح} (3).
وفي عصر يعتقدون بأن الأجرام السماوية بسيطة، وأن خلقتها ممتازة عن
الأرض، ولم يكن لهم علم برتق السماء وفتقه، قال: {أو لم ير الذين كفروا أن
السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما} (4).
وفي عصر لم يكن عندهم تصور عن اتساع الكون المتواصل، قال لهم:
{والسماء بنيناها بأييد وإنا لموسعون} (5).
وفي عصر كان علماؤه يتخيلون أن الأجسام الفلكية غير قابلة للخرق
والالتئام، ولا يتصورون نفوذ الإنسان فيها قال: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم
أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان} (6).
إلى غير ذلك من الحقائق الكثيرة التي قدمها القرآن عن الإنسان والطبيعة
والكون، التي لم تكن معروفة في عصر نزوله، أو كانت مردودة أو مستغربة، ثم



(1) سورة الذاريات: 49.
(2) سورة الشورى: 29.
(3) سورة الحجر: 22.
(4) سورة الأنبياء: 30.
(5) سورة الذاريات: 47.
(6) سورة الرحمن: 33.
98
انكشفت أنها صحيحة، مما يدل على أن هذا القرآن من عند العليم الحكيم
سبحانه.
إعجاز القرآن بجاذبيته الفريدة
إن كل إنسان منصف عارف بلغة القرآن يعترف بأن في القرآن روحا خاصة
وجاذبية لا توجد في أي نص آخر، وأن النسبة بين أي نص - مهما كان بليغا
ومتوفرا على جميع معايير البلاغة من لطائف علم المعاني والبيان والبديع - وبين
القرآن، كالنسبة بين الزهور الصناعية والطبيعية، أو بين التمثال الحجري
والإنسان الحقيقي!
عدم الاختلاف في القرآن
لا شك أن أعمال الإنسان وأقواله في مراحل عمره ليست على مستوى
واحد، لأن فكره وعلمه يتكامل، وكل عالم تختلف آثاره العلمية في مراحل
حياته، مهما كان متخصصا في علم من العلوم، وكانت وسائل تمركز أفكاره
متوفرة عنده، لأن تحول الفكر يستتبعه تحول آثاره.
والقرآن الكريم كتاب يشتمل على علوم متعددة، من معرفة المبدأ والمعاد
وآيات الآفاق والأنفس، وعلاقة الإنسان بالخالق، وتكاليفه الفردية
والاجتماعية، وقصص الأمم الماضية، وأحوال الأنبياء (عليهم السلام).
وقد تلاه على الناس رجل أمي لم يدرس عند أستاذ، خلال ثلاث وعشرين
سنة تقريبا، وكان يعيش في ظروف صعبة اجتمعت فيها جميع عوامل تشتت
الذهن، من أذى المشركين في مكة، ثم الحروب المتواصلة معهم، والابتلاء بكيد
المنافقين ومكرهم.

99
وإذا أخذنا في الاعتبار طول هذه المدة وكثرة تلك العوامل، لعلمنا أنه لو كان
مثل هذا الكتاب من بيان ذلك الإنسان لكان مشتملا على اختلافات كثيرة، ولكنا
لا نجد في القرآن أدنى تفاوت أو اختلاف! وهذا يدل دلالة قطعية على أنه نزل
من أفق أعلى من فكر الإنسان وحالاته المتفاوتة، وأنه مقام الوحي المقدس عن
الجهل والغفلة، {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلفا
كثيرا} (1).
معجزة التربية العملية بالقرآن
إذا ادعى أحد التفوق في الطب على جميع الأطباء في العالم، فإنه يوجد
طريقان لإثبات دعواه:
الأول: أن يأتي بكتاب في الطب، فيه علل الأمراض والأدوية والتداوي...
بحيث لا يوجد نظيره في الكتب الطبية.
والثاني: أن يستطيع معالجة مريض قد استولى المرض على جميع أعضائه
وقواه حتى أشرف على الموت، وقد عجز الأطباء عن معالجته، فعوفي على يده
وعادت إليه السلامة الكاملة.
والأنبياء (عليهم السلام) هم أطباء عقول البشر وأرواحهم، والمعالجون للأمراض التي
تطرأ للإنسان بما هو إنسان، ونبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) صفوة هؤلاء الأطباء وأرقاهم،
والدليل العلمي على ذلك هو القرآن الكريم، هذا الكتاب الذي لا نظير له في بيان
علل الأمراض الفكرية والأخلاقية والعملية للفرد والمجتمع وبيان علاجها،



(1) سورة النساء: 82.
100
وفيما قدمناه من نماذج هدايته النظرية كفاية.
ومن ناحية عملية: نزل القرآن في مجتمع مصاب بأسوأ الأمراض
الإنسانية، وقد وصل فيه الانحطاط الفكري إلى حد اتخذت كل قبيلة صنما لها،
فتجعله إلهها الخاص! بل كانت العائلة تتخذ صنما لها، وربما تصنعه من التمر
فتعبده وتسجد له صباحا، ثم عندما تجوع، تأكل إلهها!
فجاء القرآن وعالج آفات أفكارهم، بحيث حمدوا خالق الكون بأنه {الله لا
إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من
ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشئ من
علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم
} (1)، فخروا له سجدا وقالوا: (سبحان ربي الأعلى وبحمده).
وفي مجال العاطفة الإنسانية، نلاحظ أن المجتمع الذي بعث فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
كان يتصف بقسوة شديدة جعلتهم يئدون بناتهم ويدفنونهن وهن أحياء! (2)،
فأحيا فيهم العواطف الإنسانية، بحيث تحولوا إلى أرحم أمة فاتحة، فعندما
فتحوا مصر رأوا حمامة بنت عشها على خيمة من خيام معسكرهم، ولما أرادوا
أن يرحلوا تركوا لها الخيمة حتى لا يخرب عشها، وسموا الخيمة بالفسطاط، ثم
سموا المدينة التي بنوها هناك باسم الخيمة (فسطاط مصر) (3).



(1) سورة البقرة: 255.
(2) راجع الكافي ج 2 ص 162، كتاب الكفر والايمان، باب البر بالوالدين ح 18.
(3) معجم البلدان ج 4 ص 264.
101
وأزال تطاول الأغنياء على الفقراء إلى درجة أنه اتفق أن رجلا غنيا نظيف
الثياب كان في مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فجاء فقير فجلس إلى جنبه، فجمع الغني
ثيابه من جانبه، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أخفت أن يمسك من فقره شئ؟ قال: لا، قال:
فخفت أن يصيبه من غناك شئ؟ قال: لا، قال: فخفت أن يوسخ ثيابك؟ قال: لا. قال: فما
حملك على ما صنعت؟
فقال: يا رسول الله إن لي قرينا يزين لي كل قبيح، ويقبح لي كل حسن، وقد
جعلت له نصف مالي.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للمعسر: أتقبل؟ قال: لا.
فقال له الرجل: ولم؟ قال: أخاف أن يدخلني ما دخلك! (1).
فأية تربية هذه التي غرست روح العطاء في نفس الغني، وغيرت تكبره إلى
تواضع! وغرست النظرة البعيدة والهمة العالية في نفس الفقير، وغيرت ذلته إلى
عزه!
استطاعت تربية القرآن أن تزيل تسلط القوي على الضعيف، كما نرى في
قصة مالك الأشتر التالية.
فقد ورثت الدولة الإسلامية سلطان إمبراطورية الروم والفرس، وكان مالك
الأشتر القائد العام لقوات أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وذات يوم كان مالك مجتازا
سوق الكوفة وعليه قميص خام وعمامة منه، فرآه بعض السوقة فسخر من زيه،
فرماه ببندقة تهاونا به، فمضى ولم يلتفت! فقيل له: ويلك أتدري من رميت؟!



(1) الكافي ج 2 ص 262.
102
فقال: لا، فقيل له: هذا مالك صاحب أمير المؤمنين (عليه السلام)! فارتعد الرجل، ومضى
إليه ليعتذر منه، فرآه وقد دخل مسجدا وهو قائم يصلي، فلما انفتل أكب الرجل
على قدميه يقبلهما، فقال له: ما هذا الأمر؟! فقال: أعتذر إليك مما صنعت، فقال:
لا بأس عليك، فوالله ما دخلت المسجد إلا لأستغفرن لك! (1).
لقد كان أثر التربية القرآنية على مالك أن غرور المنصب الكبير لم يسلبه
خضوع العبد المؤمن للحي القيوم عز وجل، وأن يجازي ذلك الذي أهانه - وهو
مضطرب لا يدري ماذا سيلاقي من العقوبة - بأفضل الخيرات، بأن شفع له إلى الله
تعالى، وطلب أن يغفر له!
هذه هي التربية التي أزالت الفوارق القومية الراسخة في النفوس، ومنها
التعصب القومي بين العرب والفرس وغيرهم، فعندما اعترض بعضهم على
جلوس سلمان الفارسي وأمثاله في مجلس النبي إلى جانب شخصيات قبائل
العرب، وطلبوا من النبي أن يجعل لهم مجلسا خاصا، أجابهم (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله تعالى:
{و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك
عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره
فرطا} (2)، فصار سلمان أميرا على المدائن، وكان عطائه خمسة آلاف، وإذا خرج
عطائه تصدق به، وكان يأكل من عمل يده، وكانت له عباءة يفرش بعضها ويلبس
بعضها.
كما استطاعت أن تزيل فوارق العرق واللون، فصار بلال الغلام الأسود



(1) بحار الأنوار ج 42 ص 157، تنبيه الخواطر المعروف بمجموعة ورام ج 1 ص 2.
(2) سورة الكهف: 28.
103
المؤذن الخاص للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصاحبه المقرب، وعندما اعترض بعض زعماء
قريش قائلا: (أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا!) (1)، كان جواب
النبي لهم بقوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا و
قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقيكم إن الله عليم خبير} (2).
وقد غرس القرآن دوحة جذورها العلم والمعرفة، وجذعها الإعتقاد بالمبدأ
والمعاد، وفروعها الملكات الحميدة والأخلاق الفاضلة، وأزهارها التقوى
والورع، وثمارها الأقوال المحكمة والأفعال المحمودة {ألم تر كيف ضرب الله
مثلا كلمة
طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتى أكلها كل حين بإذن
ربها} (3).
* *
بهذا التعليم وهذه التربية بالقرآن، أثمرت شجرة الإنسانية بعمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وقدم أعلى ثمراتها الفريدة إلى البشرية، وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام).
ويكفي من موسوعة فضائله العلمية والعملية بعض سطور:
لقد اقتضى أدبه (عليه السلام) أن لا يظهر علمه ومعرفته في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان
قمرا تحت شعاع الشمس.
ثم واجه بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ظروفا كان معها في محاق الاضطهاد ممنوعا من أن
تشرق أشعة أنواره على الأمة.



(1) مجمع البيان ج 9 ص 226 في تفسير الآية المذكورة.
(2) سورة الحجرات: 13.
(3) سورة إبراهيم: 24 - 25.
104
ثم في مدة الخمس سنوات - تقريبا - التي حكم فيها، ابتلي بحروب صعبة،
حرب الجمل، وصفين، والنهروان!
لكن في هذه الفرصة القليلة كان (عليه السلام) إذا أسندت له وسادة الكلام، نطق بما هو
دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق - على حد تعبير ابن أبي الحديد - (1).
ومن تأمل في حقائق خطبته الأولى من نهج البلاغة في معرفة الله تعالى،
ولطائف خطبته في أوصاف المتقين، وسياسة النفس، وما أودع في عهده إلى
مالك الأشتر من قواعد إدارة المجتمع وسياسة المدن، يرى أنه بحر محيط في
الحكمة النظرية والعملية، مع أن هذه الروائع الثلاث ما هي إلا قطرات من ذلك
البحر!
كان إذا قدم إلى الحرب لم يشهد التاريخ شجاعا مثله، كان يلبس درعا
لا ظهر له (2)، وفي ليلة واحدة تواصل فيها القتال إلى الصباح أحصوا له خمسمائة
وثلاثا وعشرين تكبيرة، مع كل تكبيرة كان يجدل عدوا لله إلى الأرض (3)!.
وفي نفس تلك الليلة (ليلة الهرير) وقف بين الصفين يصلي صلاة الليل،
ويؤدي مراسم العبودية لربه، فأمر أن يبسط له نطع ما بين الصفين، ودخل في
صلاته بين يدي ربه، غير مكترث برشق السهام بين يديه وعن جنبيه، حتى
أكمل نافلته (4)، فلم يشغله شئ من ذلك عن العبودية لله كسائر الأوقات!
كان إذا أحجم المسلمون في الحرب، ورهبوا من مبارزة الأبطال كعمرو بن



(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 24.
(2) مناقب آل أبي طالب ج 2 ص 84 فصل في المسابقة بالشجاعة.
(3) مناقب آل أبي طالب ج 2 ص 83 فصل المسابقة بالشجاعة.
(4) مناقب آل أبي طالب ج 2 ص 123 فصل في المسابقة بصالح الأعمال.
105
عبد ود، تقدم قائلا: أنا له يا رسول الله، وخطا إليه بخطوات ثابتة، وقلب متصل
بالله، فلم يلبث أن ضربه ضربة هاشمية جدلته في التراب، فأعلن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
يومئذ: (لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ود يوم الخندق أفضل من عمل أمتي إلى يوم
القيامة) (1).
وعندما أجفل المسلمون أمام يهود خيبر، وانهزموا أمام رشق سهام
المتحصنين في أعلى حصنهم الحصين، وخافوا من هيبة فرسانهم المشهورين
مثل مرحب.. تقدم علي (عليه السلام)، وواصل هجومه إلى أعلى الجبل وحيدا وهو يدفع
سيل
السهام والأحجار من حراس الحصن، حتى وصل إلى باب الحصن فدحاه، وبرز
إليه مرحب فقده شطرين، وقتل بعده سبعين من فرسانهم، وكبر معلنا الفتح،
فالتحق به المسلمون، وذهل المسلمون واليهود من فعله (2)!
ذلك البطل الذي ترتعد من هيبته فرائص الأبطال، كان يجمع إلى تلك
الشجاعة الخوف والخشية لله تعالى، فكان إذا تهيأ للصلاة تغير لونه، وارتعد
بدنه، فيسألونه عن ذلك فيقول: " جاء وقت أمانة عرضها الله تعالى على السماوات والأرض



(1) كشف الغمة ج 1 ص 150 في بيان أنه أفضل أصحابه، الخصال ص 579 أبواب السبعين ح 1، مناقب
أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 1 ص 222، المسترشد ص 350 وص 648، الإرشاد ج 1 ص 103، الطرائف
ص 60، شرح الأخبار ج 1 ص 300 ومصادر أخرى للخاصة.
المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 32، تاريخ بغداد ج 13 ص 19، كنز العمال ج 11 ص 623، شواهد
التنزيل ج 2 ص 14، ينابيع المودة ج 1 ص 412 ومصادر أخرى للعامة.
(2) مناقب آل أبي طالب ج 2 ص 293 وص 294 فصل في نواقض العادات منه (عليه السلام)، وص 298 فصل في
معجزاته، وبتفاوت في الإصابة ج 4 ص 466.
106
والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان... " (1).
إن ذلك البطل الذي كان تقشعر جلود الفرسان من سطوته في ميادين الحرب
كان إذا جن عليه الليل يتململ تململ السليم ويقول باكيا: " يا دنيا، يا دنيا إليك عني، أبي
تعرضت؟ أم إلي تشوقت؟ لا حان حينك هيهات غري غيري لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثا لا رجعة لي
فيها... آه! من قلة الزاد، وطول الطريق وبعد السفر " (2).
وسأله أعرابي شيئا فأمر له بألف، فقال الوكيل: من ذهب أو فضة؟ فقال:
" كلاهما عندي حجران، فأعط الأعرابي أنفعهما له " (3).
وفي أي الأمم والشعوب رأيت شجاعة اقترنت بالكرم في ساحة الحرب،
حيث قال له مشرك: يا ابن أبي طالب هبني سيفك، فرماه إليه! فقال المشرك:
عجبا يا ابن أبي طالب في مثل هذا الوقت تدفع إلي سيفك؟!
فقال: " يا هذا إنك مددت يد المسألة إلي، وليس من الكرم أن يرد السائل "، فرمى الكافر
نفسه إلى الأرض وقال: هذه سيرة أهل الدين، فقبل قدمه وأسلم! (4).
وقال له ابن الزبير: إني وجدت في حساب أبي: أن له على أبيك ثمانين ألف
درهم، فقال له: " إن أباك صادق، فقضى ذلك، ثم جاءه فقال: غلطت فيما قلت، إنما كان لوالدك
على والدي ما ذكرته لك!
فقال: والدك في حل والذي قبضته مني هو لك " (5).



(1) مناقب آل أبي طالب ج 2 ص 124 فصل في المسابقة بصالح الاعمال.
(2) نهج البلاغة، باب المختار من حكمه (عليه السلام)، رقم 77، إرشاد القلوب ج 3 ص 218، نظم درر السمطين
ص 135، سبل الهدى والرشاد ج 11 ص 300، ينابيع المودة ج 1 ص 438.
(3) مناقب آل أبي طالب ج 2 ص 118 فصل في المسابقة في الهيبة والهمة.
(4) مناقب آل أبي طالب ج 2 ص 87 فصل في المسابقة بالشجاعة.
(5) مناقب آل أبي طالب ج 2 ص 118. فصل في المسابقة بالهيبة والهمة.
107
وهل رأى الدهر حاكما امتدت حكومته من مصر إلى خراسان، فرأى امرأة
تحمل قربة ماء، فأخذ منها القربة إلى دارها، وسأل عن حالها، ثم قضى ليلته
تلك قلقا مما رأى من حال المرأة ويتاماها، حتى إذا أصبح حمل إليهم الزاد،
وطبخ لهم الطعام، وجعل يلقم الصبيان، فلما عرفته المرأة واعتذرت إليه، قال:
" بل واحيائي منك يا أمة الله "! (1).
وجاء إلى السوق، ومعه غلام له، وهو خليفة، فاشترى قميصين وألبس
الغلام أحسنهما ولبس الآخر، ليرضي رغبة الشاب بحب الزينة (2).
ومن رأى حاكما تحت يده خزائن الذهب والفضة، وهو يقول: (والله لقد
رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها؟) (3).
وفي كل مرة يفرغ من تقسيم الغنائم يصلي ركعتين فيقول: " الحمد لله الذي أخرجني
منه كما دخلته " (4).
عرض - في زمن خلافته - سيفه في السوق للبيع وقال: " فوالله لو كان عندي
ثمن إزار ما بعته " (5).
وما أصيب بمصيبة إلا صلى في ذلك اليوم ألف ركعة، وتصدق على ستين



(1) مناقب آل أبي طالب ج 2 ص 115. فصل في حلمه وشفقته.
(2) مناقب آل أبي طالب ج 2 ص 97. فصل في المسابقة بالزهد والقناعة.
(3) نهج البلاغة، الخطبة 160.
(4) مناقب آل أبي طالب ج 2 ص 95، فصل في المسابقة بالزهد والقناعة. أنساب الأشراف ص 134.
(5) كشف المحجة، ص 124 فصل 141، مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 2 ص 55، مناقب آل أبي طالب
ج 2 ص 97 فصل في المسابقة بالزهد والقناعة، ومصادر أخرى للخاصة.
ذخائر العقبى ص 107، مصنف ابن أبي شيبة ج 8 ص 158، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 2
ص 200، الطبقات الكبرى ج 6 ص 238 ومصادر أخرى للعامة.
108
مسكينا، وصام ثلاثة أيام (1).
وقد أعتق ألف مملوك من كد يده (2).
وعندما خرج من الدنيا كان عليه دين ثمانمائة ألف درهم! (3).
وذات ليلة جاءت إلى بيت ابنته ليفطر عندها، فما كان على مائدة بنت
الحاكم للدولة المترامية الأطراف إلا قرصان من خبز الشعير، وقصعة فيها لبن
وملح جريش، فقال: " يا بنية أتقدمين إلى أبيك إدامين في فرد طبق واحد؟ " فأفطر بالخبز
والملح وما شرب اللبن، لئلا تكون مائدة طعامه أكثر ألوانا من ضعاف رعيته (4)!
وأين رأيت في التاريخ حاكما يملك دولة ممتدة من خراسان إلى مصر،
يضع لنفسه ولحكام ولاياته برنامج سلوك كالذي سجلته رسالته (عليه السلام) إلى
عثمان بن حنيف حاكم البصرة، حين قد بلغه أنه دعي إلى وليمة ثري من أهلها
فأجاب إليها، فكتب له:
" أما بعد يا ابن حنيف، فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة، فأسرعت إليها،
تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان! وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو، وغنيهم
مدعو، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب
وجهه فنل منه.
ألا وإن لكل مأموم إماما يقتدي به، ويستضئ بنور علمه.
ألا و إن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه.



(1) الدعوات قطب الدين الراوندي ص 287.
(2) المحاسن ص 624 كتاب المرافق ب 10 ح 80، الكافي ج 5 ص 74.
(3) كشف المحجة، ص 125 فصل 141.
(4) بحار الأنوار ج 42 ص 276.
109
ألا وأنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد، فوالله ما كنزت من
دنياكم تبرا، ولا ادخرت من غنائمها وفرا، ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا، ولا حزت من أرضها شبرا، ولا أخذت منه إلا
كقوت أتان دبرة، ولهي في عيني أوهى من عفصة مقرة ". إلى أن قال: " ولو شئت لاهتديت
الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي
ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له
بالشبع،... " (1).
إن الحكومة الإسلامية تتجلى في مرآة وجود حاكم كان مركز حكمه
بالكوفة، وكان يمنعه احتمال وجود من لا عهد له بالشبع بالحجاز أو اليمامة من
أن يمد يده إلى لذيذ الطعام، ولا أعد لبالي ثوبه طمرا، ولا حاز من أرض الدنيا
شبرا، وهكذا كان قوته وملبسه ومسكنه في الدنيا، لئلا يكون أحسن معيشة من
أفقر أفراد رعيته.
لقد طبق (عليه السلام) العدالة في أطراف مملكته، بحيث أنه لما رأى درعه عند
يهودي،
وقال له: " درعي سقطت عن جمل لي أورق ". فقال اليهودي: درعي وفي يدي، ثم قال له
اليهودي: بيني وبينك قاضي المسلمين، فأتوا شريحا، فلما رأى عليا قد أقبل
تحرف عن موضعه وجلس علي فيه، ثم قال علي: " لو كان خصمي من المسلمين لساويته
في المجلس... " ثم قال لليهودي: " خذ الدرع " فقال اليهودي: أمير المؤمنين جاء معي إلى
قاضي المسلمين فقضى عليه ورضي، صدقت والله يا أمير المؤمنين انها لدرعك
سقطت عن جمل لك التقطتها، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله،



(1) نهج البلاغة: رسالة رقم 45.
110
فوهبها له علي وأجازه سبعمائة وقتل معه يوم صفين (1).
ولما بلغه أن امرأة معاهدة انتزع خلخالها في غارة على بلدها، لم يصبر على
هذا الظلم ونقض القانون، وقال: فلو أن امرءا مات من هذا أسفا ما كان به ملوما، بل كان
عندي به جديرا) (2).
ورأى في الطريق شيخا يستعطي، فقال: (ما هذا؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين
نصراني، فقال: استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه! أنفقوا عليه من بيت المال) (3).
وكان في مقام رعاية حقوق الخلق بحيث لو أعطي الأقاليم السبعة بما تحت
أفلاكها، على أن يسلب جلب شعيرة من نملة ما فعل! (4).
وكان في مقام رعاية حق الخالق يقول: (إلهي ما عبدتك طمعا في جنتك ولا خوفا من
نارك، ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك) (5).
* *
نعم، هكذا ربى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا (عليه السلام)، وعندما ارتضى تربيته قال عنه: (أنا
أديب الله، وعلي أديبي) (6).



(1) حلية الأولياء ج 4 ص 139، وبتفاوت في السنن الكبرى للبيهقي ج 10 ص 136، وفي لسان الميزان
ج 2 ص 342 وغيرها من مصادر العامة.
وبتفاوت في مناقب آل أبي طالب ج 1 ص 373، وأتى بصدر القصة في المبسوط ج 8 ص 149 وفي
غيرهما من مصادر الخاصة.
(2) الكافي ج 5 ص 5، باب فضل الجهاد ح 6 - نهج البلاغة خطبة 27.
(3) تهذيب الأحكام ج 6 ص 292.
(4) نهج البلاغة الخطبة رقم 224.
(5) عوالي اللئالي ج 1 ص 404.
(6) مكارم الأخلاق: 17.
111
لقد استطاع بهذه التربية أن يقدم للبشرية قدوة إنسانية كاملة، مزج الصلابة
في ميدان الحرب برقة قلب تنحدر بها دموعه على خديه لمنظر يتيم محروم!
واستطاع أن يرفع مستوى الإنسانية إلى درجة تتحرر فيها من قيود جميع
المنافع الدنيوية المحدودة والأخروية غير المحدودة، وتتمحض فيها لعبودية
رب العالمين!.
ثم لم يكن هذا الإخلاص من أجل نفعه، بل من أجل أنه آمن بأن ربه أهل
للعبادة فعبده!
لقد جمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في شخصية تلميذه، بين حرية وعبودية، هي المقصد
النهائي من خلق الإنسان والكون، فقد أفنى رضاه وغضبه في رضا خالقه
وغضبه، حتى لم يعدله رضا وغضب!
وقد شهد على ذلك مبيته على فراش النبي عند هجرته (1)، وضربته يوم
الخندق التي قال النبي عنها إنها تعدل عمل الثقلين! (2).
أليس من حق ذلك الرجل (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي عمل في أرض جزيرة العرب
القاحلة، في مدة قصيرة، وفي تلك الظروف الصعبة، فأنشأ تلك الأمة، وغرس
شجرة الإنسانية، وأنتج سيد ثمارها عليا (عليه السلام)، وقدمه إلى دنيا البشرية.. أن يقول:
أنا أكبر بستاني للإنسانية!
وهل يوجد في الدنيا تعليم وتربية أعظم من تربية علي أمير المؤمنين (عليه السلام)؟!



(1) كشف الغمة ج 1 ص 82 ما جاء في إسلامه وسبقه وص 310 في الآيات النازلة فيه (عليه السلام)، تفسير
العياشي ج 1 ص 101، المناقب ص 126، كشف اليقين ص 31 ومصادر أخرى للخاصة.
مسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 331، المستدرك ج 3 ص 133، مجمع الزوائد ج 9 ص 120 ومصادر
أخرى للعامة.
(2) عوالي اللئالي ج 4 ص 86.
112
* *
مع قطع النظر عن معجزات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، التي لا يتسع لها هذا الموجز،
ألا يوجب العدل والإنصاف لمن كان بعيدا عن الهوى والتعصب، أن يؤمن بنبوة
هذا الرسول ودينه، الذي استطاع أن يوصل البشرية إلى مثل هذه التربية العلمية
والعملية - التي ذكرناها باختصار - وهي منتهى كمال الإنسانية؟
وهل ما يطلبه العقل والفطرة الإنسانية من الدين، سوى ما يوجد في هذا
الدين والمنهج؟! وهل يوجد تعليم وتربية أعظم من هذه التربية للإنسان، في
المجال الشخصي والاجتماعي؟
وهل يوجد دين أولى بأن يكون خاتم الأديان، ورسول يكون خاتم الرسل
غير الإسلام، ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
وهذا هو الإيمان بخاتمية نبي الإسلام، وأبدية شريعته {ما كان محمد أبا
أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شئ
عليما} (1).



(1) سورة الأحزاب: 40.
113
أشعة من حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
ونستضئ ببعض الأضواء الوهاجة من شمس حياته الساطعة، التي هي
بذاتها دليل على رسالته ونبوته (صلى الله عليه وآله وسلم).
عندما أعلن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعوته، خافت قبائل قريش أن يطيعه الناس،
فبادروا إلى التهديد والتطميع، وجاؤوا وفدا إلى عمه أبي طالب وقالوا: يا أبا
طالب إن ابن أخيك قد سفه أحلامنا، وسب آلهتنا، وأفسد شبابنا، وفرق
جماعتنا، فإن كان يحمله على ذلك العدم جمعنا له مالا فيكون أكثر قريش مالا،
ونزوجه أية امرأة شاء من قريش، حتى وعدوه بالملك والسلطنة.
فكان جوابه (صلى الله عليه وآله وسلم): (لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما أردته) (1).
ولما رأوا أن التطميع لم يؤثر فيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنه ماض في أمره غير عابئ
بتطميعهم، عمدوا إلى التهديد والإيذاء، ومن نماذج ذلك:
أنهم كانوا عندما كان يقف النبي للصلاة في المسجد الحرام يرسلون أربعة
من بني عبد الدار القادة العسكريين لقريش، اثنين إلى يمينه يصفران، واثنين إلى
يساره يصفقان بأيديهما ليؤذياه بذلك ويشوشا عليه صلاته! (2).
وذات يوم وهو في طريقه إلى المسجد رموا على رأسه التراب، أو هو



(1) تفسير القمي ج 1 ص 228 ذيل آية 4 من سورة ص.
(2) تفسير مجمع البيان ج 4 ص 463 ذيل آية 35 من سورة الأنفال.
114
ساجد فطرحوا عليه رحم شاة، فأتته ابنته وهو ساجد لم يرفع رأسه، فرفعته عنه
ومسحته! (1).
وبعد وفاة عمه وناصره أبي طالب، اشتد البلاء وزاد أذى قريش له، ففي
تلك الظروف الخطيرة قصد النبي قبيلة ثقيف بالطائف وعرض عليهم أن يحموه
حتى يبلغ رسالة ربه، ولكنهم أبوا ذلك، وتهزؤوا به، ووجهوا عليه سفهاءهم
وغلمانهم، فقعدوا له صفين على طريقه، فلما مر رسول الله بين صفيهم جعلوا
لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة، حتى أدموا رجليه، فخلص
منهم وهما يسيلان دما، فعمد فجاء إلى حائط من حيطانهم، فاستظل في ظل
نخلة منه وهو مكروب موجع تسيل رجلاه دما، فإذا في الحائط عتبة بن ربيعة
وشيبة بن ربيعة، فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ورسوله، فلما
رأياه أرسلا إليه غلاما لهما يدعى عداس معه عنب وهو نصراني من أهل نينوى،
فلما جاءه قال له رسول الله: من أي أرض أنت؟ قال: من أهل نينوى. قال: من مدينة
العبد الصالح يونس بن متى؟ فقال له عداس: وما يدريك من يونس بن متى؟ فقال: أنا
رسول الله، والله تعالى أخبرني خبر يونس بن متى، فلما أخبره بما أوحى الله إليه من شأن
يونس خر عداس ساجدا لله، ومعظما لرسول الله، وجعل يقبل قدميه وهما
تسيلان بالدماء (2).
وقد آذووا أصحابه بأنواع الأذى، فمنها أنهم كانوا يطرحون بلالا تحت
حرارة الشمس، ويضعون على صدره حجرا ثقيلا ويطلبون منه أن يكفر، فكان



(1) تفسير العياشي ج 2 ص 54، ح 43، في تفسير قوله تعالى: * (والله خير الماكرين) * سورة آل عمران: 54.
(2) مناقب آل أبي طالب ج 1 ص 68 - تفسير مجمع البيان ج 9 ص 154 ذيل آية 30 من سورة الأحقاف.
115
يردد: أحد أحد! (1).
وعذبوا سمية أم عمار العجوز لكي ترجع عن دينها وتكفر، فلم تفعل
فقتلوها! (2).
ومع كل هذا الأذى، ففي بعض الظروف طلب منه بعض أصحابه أن يدعو
على قومه فقال (إنما بعثت رحمة للعالمين) (3) وكان يدعو لقومه (اللهم اهد قومي فإنهم
لا يعلمون) (4)!
فكان يريد لهم من الله الرحمن بدل العذاب، رحمة لا يتصور فوقها رحمة،
وهي نعمة الهداية، وأضاف القوم إلى نفسه بقوله: " قومي " ليصونهم بذلك من
عذاب الله، ويكون شافعا لهم عنده بدلا من أن يشكوهم إليه، ويعتذر لهم بأنهم
لا يعلمون.
وكانت معيشته (صلى الله عليه وآله وسلم) الزهد والتقشف، فكان طعامه خبز الشعير، وما كان
يأكل منه بقدر الشبع (5).
وقد جاءت إليه الصديقة الكبرى - في غزوة الخندق - ومعها كسيرة من
خبز، فدفعتها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ما هذه الكسيرة؟ قالت: قرصا خبزتها للحسن
والحسين جئتك منه بهذه الكسيرة، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا فاطمة أما انه أول طعام دخل فم أبيك منذ
ثلاث! (6).



(1) حلية الأولياء ج 1 ص 148. تاريخ الطبري ج 2 ص 153.
(2) إعلام الورى ج 1 ص 132 الفصل الخامس في ذكر ما لقى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أذى المشركين...
(3) بحار الأنوار ج 8 ص 243.
(4) الخرائج والجرائح ج 1 ص 164.
(5) الأمالي للصدوق ص 398، مكارم الأخلاق ص 28.
(6) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 40 باب 31 ح 123.
116
ولم يكن تقشفه كذلك بسبب قلة ذات يده، فقد كانت تصل إليه - في نفس
تلك الأيام - الأموال فيقسمها ويهب ويتصدق، حتى أنه كان يعطي لشخص واحد
مئة بعير! (1).
وقد فارق الدنيا وما ترك دينارا ولا درهما ولا غلاما ولا أمة، ولا شاة
ولا بعيرا، وكانت درعه مرهونة عند يهودي على عشرين صاعا من شعير،
اشتراها لقوت عياله! (2).
ولابد من التأمل في نقطتين:
الأولى: لا شك أن اليهودي لم يكن يطلب من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الوثيقة، لمكانته
وأمانته، لكنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قصد أن يراعي قانون الرهن عند عدم كتابة الدين، ليكون
المال وثيقة عند الدائن، حتى لو كان الدائن يهوديا، والمدين أكبر شخصية في
الإسلام.
الثانية: أنه كان في متناول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أطيب الأطعمة وألذها، لكنه اكتفى
إلى آخر عمره الشريف بخبز الشعير، حتى لا يكون طعامه أحسن من طعام
أضعف رعيته!
نموذج من إيثار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
إن مكانة فاطمة الزهراء سلام الله عليها معلومة عند الخاصة والعامة، فإن
كتب الفريقين مشحونة بفضائلها، كما يأتي، وقد قامت في محرابها حتى تورم
قدماها (3) تأسيا بأبيها، وكانت مع استغراقها في عبادة الله تقوم بإدارة بيت ولي الله



(1) من لا يحضره الفقيه ج 2 ص 153.
(2) قرب الإسناد ص 91.
(3) مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 341، فضل آل البيت ص 25.
117
وتربية أبناء رسول الله، حتى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل عليها ذات يوم فرآها تطحن
بالرحى وترضع ولدها فدمعت عيناه (1).
ذلك الأب الذي كان متمكنا أن تملأ بيت ابنته ذهبا وفضة وليستخدم لها
عبيدا وإماء، ولا يرد عن بابه ذا حاجة إلا بقضاء حاجته، أمسك عن استخدام
خادمة لسيدة نساء العالمين، التي كانت بضعة منه، ويريبه ما أرابها، في مثل هذه
الحاجة الملحة لبنته التي هي أحب الخلق إليه، إيثارا لفقراء أمته على مهجة قلبه.
هكذا كانت سيرة الذي بعثه الله لأن يربي أمته بقوله تعالى {ويؤثرون على
أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} (2)
نماذج من تعامله وأخلاقه (صلى الله عليه وآله وسلم)
كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يجلس على الأرض (3).
ويأكل مع العبيد، ويسلم على الصبيان (4).
وكان يأكل أكلة العبد، ويجلس جلسة العبد (5).
مرت به امرأة بدوية وكان يأكل وهو جالس على الأرض، فقالت: يا
محمد، والله إنك لتأكل أكل العبد، وتجلس جلوسه. فقال لها رسول الله: ويحك
أي عبد أعبد مني؟ (6).



(1) مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 342 - مكارم الأخلاق ص 117.
(2) سورة الحشر: 9.
(3) الأمالي للشيخ الطوسي ص 393.
(4) أمالي الصدوق المجلس السابع عشر ح 2، ص 130.
(5) المحاسن ص 456 باب 51 ح 386.
(6) المحاسن ص 457 باب 51 ح 388، الكافي ج 2 ص 157.
118
وكان يرقع ثوبه (1).
ويحلب عنز أهله، ويجيب دعوة الحر والعبد (2).
ويعود المرضى في أقصى المدينة (3).
ويجالس الفقراء، ويؤاكل مع المساكين (4).
وكان إذا صافحه أحد لم يجر يده من يده حتى يتركها الآخر (5).
ويجلس حيث ينتهي به المجلس (6).
ولا يثبت بصره في وجه أحد (7).
يغضب لربه ولا يغضب لنفسه (8).
وأتاه رجل يكلمه فأرعد، فقال له: هون عليك، فلست بملك، إنما أنا
ابن امرأة كانت تأكل القد (9).
وقال خادمه أنس بن مالك: خدمت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تسع سنين، فلم أعلمه قال
لي قط هلا فعلت كذا وكذا؟ ولا عاب علي شيئا قط (10).
بينا هو (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم جالس في المسجد إذ جاءت جارية لبعض الأنصار



(1) مناقب آل أبي طالب ج 1 ص 146.
(2) المصدر السابق.
(3) المصدر السابق.
(4) المصدر السابق.
(5) مناقب آل أبي طالب ج 1 ص 147.
(6) مناقب آل أبي طالب ج 1 ص 146.
(7) المصدر السابق.
(8) المصدر السابق.
(9) مكارم الأخلاق ص 16 الفصل الثاني في نبذ من أحواله.
(10) المصدر السابق.
119
وهو قائم، فأخذت بطرف ثوبه، فقام لها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلم تقل شيئا، ولم يقل لها
النبي شيئا، حتى فعلت ذلك ثلاث مرات، فقام لها النبي في الرابعة وهي خلفه،
فأخذت هدبة من ثوبه، ثم رجعت!
فقال لها الناس: فعل الله بك وفعل، حبست رسول الله ثلاث مرات،
لا تقولين له شيئا ولا هو يقول لك شيئا! ما كانت حاجتك إليه؟!
قالت: إن لنا مريضا فأرسلني أهلي لآخذ هدبة من ثوبه، ليستشفي بها، فلما
أردت أخذها رآني فقام فاستحييت منه أن آخذها وهو يراني، وأكره أن أستأمره
في أخذها، فأخذتها (1).
وهذه الحادثة تدل على اهتمامه (صلى الله عليه وآله وسلم) بكرامة الإنسان لأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) تفطن إلى
حاجة الجارية وكراهيتها للسؤال، وقام من مكانه أربع مرات من أجل قضاء
حاجتها، ولم يستنطقها لئلا تقع الجارية في ذل السؤال، فالذي يحافظ على
حرمة جارية وكرامتها، بهذه الدقة والأدب، إلى أي حد تكون قيمة الإنسان
وكرامته في نظره؟!
وفي الوقت الذي كان اليهود يعيشون في دولته على العهد والذمة، وكان هو
في أعلى درجات القدرة، كان لأحدهم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دنانير فتقاضاه،
فقال له: يا يهودي ما عندي ما أعطيك. فقال: فإني لا أفارقك يا محمد حتى
تقضيني! فقال: إذا أجلس معك، فجلس معه حتى صلى في ذلك الموضع الظهر
والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة!
وكان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتهددونه ويتواعدونه، فنظر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
إليهم فقال: ما الذي تصنعون به؟ فقالوا: يا رسول الله يهودي يحبسك؟ فقال:



(1) الكافي ج 2 ص 102.
120
لم يبعثني ربي عز وجل بأن أظلم معاهدا، ولا غيره.
فلما علا النهار قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده
ورسوله، وشطر مالي في سبيل الله، أما والله ما فعلت بك الذي فعلت إلا لأنظر
إلى نعتك في التوراة، فإني قرأت نعتك في التوراة: محمد بن عبد الله مولده بمكة
ومهاجره بطيبة، وليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب، ولا متزين بالفحش، ولا قول
الخناء. وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وهذا مالي، فاحكم فيه بما
أنزل الله، وكان اليهودي كثير المال (1).
عن عقبة بن علقمة قال: (دخلت على علي (عليه السلام)، فإذا بين يديه لبن حامض
آذاني حموضته، وكسرة يابسة، فقلت: يا أمير المؤمنين أتأكل مثل هذا؟!
فقال لي: يا أبا الجنوب [الجنود] إني أدركت رسول الله يأكل أيبس من هذا
ويلبس أخشن من هذا، فإن أنا لم آخذ بما أخذ به رسول الله (صلى الله عليه وآله) خفت أن لا ألحق به) (2).
وقيل لعلي بن الحسين (عليهما السلام) وكان الغاية في العبادة: (أين عبادتك من عبادة
جدك؟ قال: عبادتي عند عبادة جدي، كعبادة جدي عند عبادة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)) (3).
وفي ختام حياته عفى عن قاتله (4)، وأظهر بذلك تخلقه بأخلاق الله تعالى
بظهور الرحمة الرحمانية {و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (5).



(1) أمالي الصدوق المجلس 71 ح 6، ص 552.
(2) مكارم الأخلاق ص 158.
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 27، بحار الأنوار ج 41 ص 149.
(4) الكافي ج 2 ص 108 كتاب الايمان والكفر، باب العفو ح 9.
(5) سورة الأنبياء: 107.
121
إن مثل هذا الرسول العظيم يستطيع أن يقول: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) (1).
وأنى يتيسر شرح فضائله الأخلاقية، والله تعالى يقول له: {و إنك لعلى خلق
عظيم} (2).
إن مطالعة يسيرة في حياته وأخلاقه وسجاياه - فقط - تكفي المنصف لأن
يؤمن بنبوته {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه
وسراجا منيرا} (3).



(1) تفسير مجمع البيان ج 10 ص 86.
(2) سورة القلم: 4.
(3) سورة الأحزاب: 45 - 46.
122
بشائر الأنبياء السابقين بنبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)
وهكذا، فقد ظهرت بشارات الكتب السماوية والأنبياء السابقين (عليهم السلام) بنبينا
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومع أن أتباعهم حرفوا كتبهم لكي لا يبقى أثر لتلك البشارة، لكن
المتأمل فيما بقي منها تنكشف له الحقيقة. ونكتفي منها بنموذجين:
الأول:
جاء في التوراة - سفر التثنية - الإصحاح 33:
(وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته فقال:
جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من
ربوات القدس، وعن يمينه نار شريعة لهم).
و (سيناء) محل نزول الوحي على نبي الله موسى، و (سعير) محل بعثة نبي الله
عيسى، و (فاران) الذي يتلألأ بنور الله تعالى، هي جبال مكة المكرمة التي
تلألأت بنور نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)!
وفي سفر التكوين، الإصحاح 21، عن إسماعيل وأمه هاجر: (وكان الله مع
الغلام فكبر. وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس. وسكن في برية فاران.
وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر.)
ففاران هي مكة التي سكنها إسماعيل وأبناؤه ومن تلالا جبل فاران وعن
يمينه نار شريعة لهم هو السراج المنير الذي أرسله الله من جبل حراء ليضئ سماء

123
العالم بنور هداية القرآن، ويحرق الكفر والنفاق بنار غضب القهار {يا أيها النبي
جاهد الكفار والمنافقين} (1).
وفي التوراة - سفر حيقوق النبي - الإصحاح الثالث:
(الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران. سلاه. جلاله غطى
السماوات. والأرض امتلأت من تسبيحه. وكان لمعان كالنور. له من يده شعاع.
وهناك استتار قدرته.)
فبظهوره (صلى الله عليه وآله وسلم) حدث ذلك الدوي في العالم من جبال مكة بصوت (سبحان الله،
والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) وانتشر في العالم ترديد المسلمين في صلواتهم
(سبحان ربي العظيم وبحمده) و (سبحان ربي الأعلى وبحمده).
الثاني:
جاء في إنجيل يوحنا، الإصحاح الرابع عشر:
15. إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي.
16. وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزيا آخر ليمكث معكم إلى الأبد.
وفي الإصحاح الخامس عشر:
26. ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي
من عند الأب ينبثق، فهو يشهد لي.)
وقد ورد في النسخة الأصلية اسم النبي الذي وعدهم عيسى بأن ربه سوف
يرسله (بارقليطا) أو (بركليتوس) وترجمتها المحمود والأحمد، ولكن
المترجمين غيروها إلى (المعزي)!.
وهذه الحقيقة ظهرت في إنجيل برنابا، فقد جاء في الفصل الثاني عشر بعد



(1) سورة التوبة: 73.
124
المائة:
" (13) فاعلم يا برنابا إنه لأجل هذا يجب التحفظ وسيبيعني أحد تلاميذي
بثلاثين قطعة من نقود (14) وعليه فإني على يقين من أن من يبيعني يقتل
باسمي (15) لأن الله سيصعدني من الأرض وسيغير منظر الخائن حتى يظنه كل
أحد إياي (16) ومع ذلك فإنه لما يموت شر ميتة أمكث في ذلك العار زمنا طويلا
في العالم (17) ولكن متى جاء محمد رسول الله المقدس تزال عني هذه
الوصمة ".
وقد جاءت البشارة بعنوان " محمد رسول الله " في فصول من هذا الإنجيل.
منها: ما جاء في الفصل التاسع والثلاثين: " (14) فلما انتصب آدم على
قدميه رأى في الهواء كتابة تتألق كالشمس نصها " لا إله إلا الله ومحمد رسول الله "
(15) ففتح حينئذ آدم فاه وقال: " أشكرك أيها الرب. إلهي لأنك تفضلت
فخلقتني (16) ولكن أضرع إليك أن تنبئني ما معنى هذه الكلمات " محمد رسول
الله " (17) فأجاب الله مرحبا بك يا عبدي آدم (18) وإني أقول لك إنك أول إنسان
خلقت ".
ومنها: ما جاء في الفصل الواحد والأربعين: " (30) فلما التفت آدم رأى
مكتوبا فوق الباب: " لا إله إلا الله محمد رسول الله ".
ومنها: ما جاء في الفصل السادس والتسعين: " (11) حينئذ يرحم الله
ويرسل رسوله الذي خلق كل الأشياء لأجله (12) الذي سيأتي من الجنود بقوة
وسيبيد الأصنام وعبدة الأصنام (13) وسينتزع من الشيطان سلطته على البشر
(14) وسيأتي برحمة الله لخلاص الذين يؤمنون به (15) وسيكون من يؤمن
بكلامه مباركا ".

125
ومنها: ما جاء في الفصل الواحد والتسعين: " (1) ومع أني لست مستحقا أن
أحل سير حدائه (2) قد نلت نعمة ورحمة من الله لأراه ".
ويكفي لإثبات بشارات التوراة والإنجيل بنبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنه دعا اليهود
والنصارى وحكامهم وأحبارهم ورهبانهم وقساوستهم إلى الإسلام، وأعلن
رفضه لعقيدة اليهود {عزير ابن الله} (1) ولعقيدة النصارى {إن الله ثالث ثلاثة} (2).
وأعلن بكل صراحة بأنه هو الذي بشرت به التوراة والإنجيل {الذين يتبعون
الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} (3)، {وإذ قال
عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة
ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} (4).
فهل كان يمكنه الإعلان عن هذه الدعوى، وهو غير صادق فيها، أمام أولئك
الأعداء الذين كانوا ينتهزون الفرصة للقضاء عليه حتى لا يفقدوا موقعيتهم المادية
والمعنوية؟
إن الأحبار والقساوسة وعلماء اليهود والنصارى وسلاطينهم الذين توسلوا
بكل الوسائل للوقوف أمامه وبذلوا جميع جهودهم للتصدي له، ورجعوا خائبين
مندحرين حتى في الحرب والمباهلة، كيف سكتوا في مقابل هذه الدعوى
المدمرة، وعجزوا عن مواجهتها وإبطالها؟
إن هذا السكوت الفاضح من علماء اليهود والنصارى وأمرائهم، وذلك



(1) سورة التوبة: 30.
(2) سورة المائدة: 73.
(3) سورة الأعراف: 157.
(4) سورة الصف: 6.
126
الادعاء الواضح منه (صلى الله عليه وآله وسلم) برهان قاطع على ثبوت تلك البشارات في ذلك
الزمان، وأنهم لم يجدوا بعد ذلك بدا من تحريف الكتب، حفظا لما بأيديهم من
حطام الدنيا وحبا للجاه والمقام بين الناس، كما يحدثنا عن ذلك - مثلا - قسيس
أسلم وسمى
نفسه (فخر الإسلام) في كتابه (أنيس الأعلام) وخلاصة كلامه:
إني ولدت بين كنائس أرومية، وفي أواخر أيام دراستي صرت خادما عند
أحد كبار طائفة الكاثوليك، وكان يحضر درسه أربعمائة أو خمسمائة مستمع،
وذات يوم كان التلاميذ يتباحثون فيما بينهم في غياب الأستاذ، وعندما دخلت
عليه سألني: في أي شئ كانوا يبحثون؟
قلت له: في معنى كلمة (الفارقليط).
فسألني عن آراء المتباحثين فأخبرته، فقال: الحق غير ما قالوه!
ثم أعطاني مفتاح صندوق كنت أتصور أنه صندوق فيه كنز له، وقال: في
هذا الصندوق كتابان أحدهما باللغة السريانية والآخر باليونانية، وقد كتبا على
رق قبل بعثة محمد، أحضرهما لي.
وعندما أحضرتهما أراني الجملة التي فيها كلمة الفارقليط، وقال: هذا اللفظ
بمعنى أحمد ومحمد، وقال لي: لم يكن بين علماء المسيحية خلاف في معنى
هذا الاسم قبل بعثته، لكنهم بعد بعثته حرفوا اسمه!
سألته عن دين النصارى، فقال: هو منسوخ، وطريق النجاة منحصر باتباع
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)!
سألته: لما لا تظهر ذلك؟
فقال: إذا أظهرت ذلك سوف يقتلونني.

127
عندها بكينا كلانا معا، ثم سافرت بهذا الزاد الذي تزودته من أستاذي إلى
بلاد المسلمين!.
وكانت مطالعة ذينك الكتابين كافية لإحداث تحول في عقيدة ذلك القسيس
المحترم، وبعد تشرفه بالإسلام ألف كتابه أنيس الأعلام في بطلان دين
النصارى، وأن الدين الحق هو الإسلام، وكتابه يدل على تتبعه وتحقيقه في
التوراة والإنجيل.

128
المعاد

129
الأدلة العقلية على المعاد...
المعاد
الإعتقاد بالمعاد مبني على الدليل العقلي، والدليل النقلي المبني على العقل
الدليل العقلي
(1)
كل عاقل يدرك أن العالم والجاهل، والمتخلق بالأخلاق الفاضلة والمتخلق
بالأخلاق الرذيلة، والمحسن والمسئ في الأقوال والأعمال ليسا سواء،
والتسوية بين الفريقين فضلا عن ترجيح المرجوح على الراجح، ظلم وسفاهة.
ومن جهة أخرى، فإنا نرى أن المحسنين والمسيئين لا ينالون جزاءهم في
الحياة الدنيا كما ينبغي، فمقتضى العدل والحكمة وجود البعث والحساب،
والثواب والعقاب {لتجزى كل نفس بما كسبت} (1) على ما يقتضيه ارتباط العمل
بالجزاء فإنهم لا ينالون جزاء أعمالهم كما ينبغي في هذه الدنيا، فإذا كانت
لا توجد دار أخرى يتحقق فيها الحساب والجزاء والعقاب المتناسب مع عقائد
الناس وأعمالهم، لكان ذلك ظلما.
إن عدل الله تعالى يستوجب وجود البعث والحساب والثواب والعقاب



(1) سورة الجاثية: 22.
131
{أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين
كالفجار} (1)، {يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم " 6 " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا
يره " 7 " ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} (2)
(2)
إن الله تعالى حكيم، ولا يصدر عنه سفه وعبث، وهو لم يقتصر في خلق
الإنسان على تجهيزه بالقوى الضرورية لحياته النباتية والحيوانية، كقوة الجذب
والدفع، والشهوة والغضب، بل جهزه بقوى أخرى تقوده إلى التكامل والتحلي
بالفضائل العلمية والعملية، وترتفع به إلى مستويات عليا، لا يقف فيها عند حد،
بل كلما ترقى في هذا السبيل يتعطش لما هو أعلى، وقد بعث الله الأنبياء (عليهم السلام)
لهداية الإنسان إلى الكمال الذي يكون مفطورا على طلبه ومجبولا على أن لا
يقف على حد حتى ينتهي إلى ما قال سبحانه {وأن إلى ربك المنتهى} (3). فلو كان
الإنسان مخلوقا للحياة الحيوانية فقط لكان إعطاؤه العقل الذي لا يقتنع إلا بإدراك
أسرار الوجود لغوا، وخلقه على الفطرة التي لا تطمئن دون أية مرتبة من الكمال
حتى يصل إلى مبدأ الكمال الذي ليس له حد عبثا.
فالحكمة الإلهية توجب أن لا تختم حياة الإنسان بالحياة المادية
والحيوانية، بل تتواصل لتحقيق الهدف الذي خلقت قوى عقله وروحه من أجله
{أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون} (4).



(1) سورة ص: 28.
(2) سورة الزلزلة: 6 و 7 و 8.
(3) سورة النجم: 42.
(4) سورة المؤمنون: 115.
132
(3)
إن فطرة الإنسان تحكم بأن كل صاحب حق لابد أن يعطى حقه، وكل
مظلوم لابد أن يؤخذ له من ظالمه.
وهذه الفطرة البشرية هي التي تدفع البشر في كل عصر - على مختلف
أديانهم ومهما كانت أفكارهم ومعبوداتهم - إلى تشكيل أجهزة قضائية، ومحاكم
لتحقيق العدالة.
ومن ناحية أخرى، نرى أن كثيرا من الظالمين والمجرمين يموتون دون أن
يقتص منهم، ونرى مظلومين يموتون تحت سياط الظالمين ونيران اضطهادهم،
لذا فإن حكمة الله تعالى وعدله وعزته ورحمته، تستوجب وجود حياة أخرى
تؤخذ فيها حقوق المظلومين من الظالمين {و لا تحسبن الله غفلا عما يعمل
الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار} (1).
(4)
حكمة الله تعالى تقتضي أن يهئ للإنسان وسيلة وصوله إلى ثمرة وجوده
والغرض من خلقته، ولا يتحقق ذلك إلا بأن يأمره بما يوجب سعادته، وينهاه عما
يوجب شقاءه.
وتنفيذ الأوامر والنواهي الإلهية المخالفة لهوى الإنسان، لا يمكن إلا بوجود
عاملي الخوف والرجاء في نفسه، وهما لا يتحققان إلا بالتبشير والإنذار،
والتبشير والإنذار يستلزمان وجود ثواب وعقاب ونعيم وعذاب بعد هذه الدنيا،
وإلا كانا تبشيرا وإنذارا كاذبين، والله تعالى منزه عن الكذب والقبيح.



(1) سورة إبراهيم: 42.
133
الدليل النقلي على المعاد...
الدليل النقلي
أجمعت الأديان الإلهية على وجود معاد وحياة آخرة، فقد أخبر بذلك
جميع الأنبياء (عليهم السلام)، وصدقهم أتباعهم من أهل الأديان السماوية، فعصمة
الأنبياء (عليهم السلام)، وحفظ الوحي عن الخطأ، يستوجب الإيمان بالمعاد.
أما المنكرون للمعاد والحشر في مقابل الأنبياء، فلا دليل عندهم على عدمه
إلا الاستبعاد المحض لأن يحيي الله العظام وهي رميم، وأن يجمع ذرات الإنسان
المتفرقة بعد موته وفنائه، وينشئها مرة أخرى.
وقد غفلوا أو تغافلوا عن أن الموجودات الحية إنما خلقت من أجزاء مادية
ميتة متفرقة، وأن العليم الحكيم القدير الذي خلقها أول مرة وركبها من اجزاء
ميتة. تركيبا خاصا يقبل الحياة، وصورها بصورة إنسان له أعضاء وقوى مختلفة
بلا مثال قبله، قادر على أن يعيد خلقها ثانية من ذراتها أينما كانت، وبأي شكل
صارت! لأن أجزاء بدنه أينما كانت وكيفما كانت غير خارجة عن دائرة علم الله
وقدرته التي بها خلق الإنسان من دون مثال سابق، بل الخلق الثاني المسبوق
بالمثال أهون {قالوا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون} (1)، {أوليس
الذي خلق السماوات والأرض بقدر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلق
العليم} (2).
إن الذي يقدر على أن يجعل من الشجر الأخضر نارا، ويقدر على أن يحيي
الأرض في كل ربيع بعد موتها في الخريف، لقادر على أن يحيي الموتى {الذي



(1) سورة المؤمنون: 82.
(2) سورة يس: 81.
134
جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون} (1)، {إعلموا أن الله يحيي
الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون} (2).
إن القدير الذي يطفئ مشعل إدراك الإنسان وعلمه وإرادته في كل ليلة،
فيميته ويسلب منه قدرته واختياره، ثم يوقظه، ويرد إليه ما أخذه، لقادر بعد أن
يطفئه بالموت على أن يضيئه ويحييه ويبعثه إنسانا سويا، ويعيد إليه معلوماته
التي فقدها (لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون) (3)، سبحان الذي جعل النوم
ايقاظا لمعرفة المعاد والمبدء الذي لا تأخذه سنة ولا نوم {ومن آياته منامكم بالليل
والنهار} (4).



(1) سورة يس: 80.
(2) سورة الحديد: 17.
(3) روضة الواعظين ص 53 - الاعتقادات للمفيد ص 64 - عوالي اللئالي ج 4 ص 72.
(4) سورة الروم: 23.
135
الإمامة

137
...
الإمامة
لا خلاف بين الخاصة والعامة في ضرورة وجود الخليفة بعد
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنما الخلاف في أنه منصوب من قبل الله تعالى أو باختيار من
الناس.
قال العامة إنه لا حاجة إلى النصب، بل يتعين باختيار الأمة، وقال الخاصة
بضرورة النصب والتعيين من الله تبارك وتعالى بواسطة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
والحكم في هذا الاختلاف هو العقل والكتاب والسنة.
حكومة العقل
ونكتفي منها بثلاثة وجوه:
الوجه الأول:
لو أن شخصا مخترعا أسس مصنعا ينتج أغلى الجواهر، وكان هدفه أن
يستمر المصنع في إنتاجه ولا يتوقف في حضوره أو غيابه وحياته وبعد موته،
وكان في المصنع أجهزة معقدة دقيقة، لا يمكن معرفتها إلا بأن يعلم المخترع
أحدا على خصائصها وتشغيلها.
فهل يمكن أن نصدق أن ذلك المخترع العاقل الواعي، يعلن للناس أنه
سوف يموت في هذه السنة، ثم لا يعين لإدارة المصنع شخصا عالما بأجهزته،

139
قادرا على تشغيلها واستخدامها للإنتاج، بل يترك اختيار المدير والمهندس لذلك
المصنع إلى أناس ليس لهم معرفة بأحوال تلك الأجهزة ودقائق صنعها وظرافة
تشغيلها.
فهل أن الدقة والظرافة للمعارف والسنن والأحكام الإلهية لجميع مجالات
الحياة، التي هي أجهزة مصنع دين الله أقل من أجهزة ذلك المصنع؟!
وهل أن إنتاجها الذي هو أغلى جواهر الوجود وهو كمال الإنسانية بمعرفة
الله تعالى وعبادته، وتعديل شهوة الإنسان إلى العفة، وغضبه إلى الشجاعة،
وفكره إلى الحكمة، وإقامة المدينة الفاضلة على أسس العدل والقسط، هل ذلك
أقل قدرا من إنتاج مصنع الجواهر؟!
إن الكتاب الذي بعث الله به رسوله ووصفه بأنه {و نزلنا عليك الكتب تبينا
لكل شئ وهدى ورحمة} (1)، وقال عنه: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من
الظلمات إلى النور} (2)، وقال عنه: {و ما أنزلنا عليك الكتب إلا لتبين لهم الذي
اختلفوا فيه} (3) وضمنه كل ما يحل اختلاف الناس على اختلاف مراتبهم ويميز لهم
الحق والباطل، يحتاج إلى مبين يستخرج منه ما هو تبيان له، ولابد أن يكون
محيطا بالظلمات الفكرية والأخلاقية والعملية، وما يقابلها من النور، حتى
يخرجهم من تلك الظلمات، ويهديهم إلى ذلك النور، ويبين لهم الحق والباطل
فيما اختلفوا فيه؟!
ولا مناص من أن يكون عالما بالحق والباطل في كل ما اختلف فيه الناس،



(1) سورة النحل: 89.
(2) سورة إبراهيم: 1.
(3) سورة النحل: 64.
140
لكي يبين لهم الذي اختلفوا فيه، من أعمق المسائل الأصولية في المبدأ والمعاد -
التي ما زالت تشغل أفكار نوابغ العلماء في حلها - إلى كل ما يبتلى به في المسائل
الفرعية كتنازع المرأتين في رضيع تدعي كل واحدة منهما أنها أمه.
فهل يعقل أن نقول: إن مهمة هذا القرآن في هداية الناس وتربيتهم وحل
مشاكلهم ورفع اختلافاتهم قد انتهت برحيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
فهل ترك الله ورسوله هذا الكتاب المبين لكل ما يحتاج إليه البشر، من دون
أن يعين له مبينا؟!
ومن هنا، فإن تصور حقيقة القرآن الحكيم المنزل من عند العليم الحكيم
على النبي الذي من الله ببعثه على المؤمنين، ليتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم
الكتاب والحكمة، يستلزم التصديق بوجود معلم إلهي، ومفسر رباني، عنده علم
الكتاب الذي أنزله الله تبيانا لكل شئ.
وهل يقبل عاقل أن الله ورسوله قد أوكلا تعيين المبين لدين الله إلى الذين
يجهلون علوم القرآن وأسراره، وقوانين الإسلام وأهدافه؟!
الوجه الثاني:
إن الإمامة للإنسان عبارة عن الإمامة والقيادة لعقل الإنسان، لأن موضوع
بحث الإمامة من يكون إماما للإنسان، وإنسانية الإنسان بعقله وفكره (دعامة
الإنسان العقل) (1).
ففي نظام خلقة الإنسان تحتاج قواه وأعضاء بدنه إلى توجيه حواسه،
وتحتاج أعصاب حركته إلى أعصاب حسه.. لكن الذي يوجه الحواس ويميز



(1) علل الشرائع ج 1 ص 103 باب 91 ح 2.
141
صوابها وخطأها، هو عقله، وهذا العقل ذو إدراك محدود، معرض للخطأ
والهوى، فهو يحتاج إلى قيادة عقل كامل محيط بالداء والدواء، وبعوامل نقص
الإنسان وتكامله، مصون عن الخطأ والهوى، لكي تتحقق بإمامته هداية عقل
الإنسان.
وطريق معرفة هذا العقل الكامل، إنما هي بتعريف الله تعالى.
من هنا، فإن تصور حقيقة الإمامة لا ينفك عن التصديق بضرورة نصب
الإمام من الله تعالى.
الوجه الثالث:
بما أن مقام الإمامة مقام حفظ القوانين الإلهية وتفسيرها وتطبيقها، فإن نفس
الدليل الذي دل على ضرورة عصمة النبي المبلغ للدين ومطبقه، يدل على
ضرورة عصمة خليفته المحافظ على الكتاب والسنة والمفسر لهما ومطبقهما.
وكما أن الخطأ والهوى في المبلغ يبطل الغرض من بعثته، فكذلك الخطأ
والهوى في الحافظ المفسر والمنفذ، يوجب ضلال الأمة ونقض الغرض من
البعثة، وبما أن الأمة لا يمكنها أن تعرف المعصوم، فلابد أن يعرفها إياه الله تعالى
ورسوله.
ب: حكومة الكتاب
وللاختصار نشير إلى ثلاث آيات:
الآية الأولى: {و جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا

142
يوقنون} (1).
كل شجرة لابد أن تعرف بمعرفة أصلها وفرعها، وجذرها وثمرها، وقد ذكر
الأصل والفرع لشجرة الإمامة الطيبة في هذه الآية من القرآن الكريم.
فأصل الإمامة أعلى مراتب الكمال العقلي، وهو اليقين بآيات الله سبحانه
تكوينا وتشريعا، كما هو المستفاد من عموم الجمع المضاف، وفرعها أعلى
مراتب الكمال الإرادي وهو الصبر وحبس النفس عن كل مكروه وعلى كل
محبوب لله سبحانه، كما هو المستفاد من إطلاق الصبر عن التقييد بمتعلق خاص،
فالجملتان في الآية الشريفة تبينان علم الإمام وعصمته.
وأما ثمرة هذه الشجرة الطيبة فهي الهداية بأمر الله التي لا يتيسر إلا لمن
يكون واسطة بين عالم الخلق والأمر.
وهذه الثمرة من تلك الشجرة الطيبة تحيى البشرية بالحياة الطيبة من الجهل
والهوى.
فبالتدبر في الآية الكريمة يظهر مبدأ الإمامة ومنتهاها، وأن الشجرة التي
أصلها اليقين بآيات الله، وفرعها الصبر على مرضاة الله، وثمرتها الهداية بأمر الله،
لا يكون غارسها إلا الله، فالإمام منصوب من الله ومن هنا قال عز من قائل: {و
جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} (2).
الآية الثانية: قوله تعالى: {و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني



(1) سورة السجدة: 24.
(2) سورة السجدة: 24.
143
جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين} (1).
دلت الآية على أن الإمامة لأجيال الناس مقام رباني عظيم، لم يبلغه نبي الله
إبراهيم (عليه السلام) إلا بعد نجاحه في ابتلائه بكلمات، منها امتحانه بإلقائه في نار نمرود،
ومنها اسكان زوجته وولده في واد غير ذي زرع، ومنها اختباره باستعداده لذبح
ولده إسماعيل.
فبعد أن وصل إبراهيم إلى مراتب النبوة، والرسالة، والخلة، وبعد أن ابتلى
بكلمات فأتمهن، قال له الله تعالى: {إني جاعلك للناس إماما}، وبسبب عظمة هذا
المقام طلبه إبراهيم لذريته فأجابه الله تعالى: {لا ينال عهدي الظالمين}.
وعبر الله تعالى عن الإمامة ب‍ (عهد الله) الذي لا يناله إلا المعصوم، إذ لا شك
أن إبراهيم لم يسأل الإمامة لجميع ذريته، فإنه لا يمكن أن يسأل خليل الله من
العدل الحكيم الآمر بالعدل والإحسان الإمامة للمتلبس بالظلم والعصيان، فكان
دعائه للعدول من ذريته، ولما كان طلبه عاما لمن هو عادل بالفعل وإن تلبس
بالظلم في الماضي كان المقصود من الجواب عدم الاستجابة بالنسبة إلى هذا
القسم من الذرية العدول، فدلت الآية الشريفة أن الإمامة المطلقة مشروطة -
بحكم العقل والشرع - بالطهارة والعصمة المطلقة، فهيهات أن ينالها من عبد
اللات والعزى، وأشرك بالله العظيم، وقد قال سبحانه: {إن الشرك لظلم عظيم} (2).
الآية الثالثة: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر
منكم} (3)، فقد عطف في الآية " أولي الأمر " على " الرسول "، ومع أن العطف في



(1) سورة البقرة: 124.
(2) سورة لقمان: 13.
(3) سورة النساء: 59.
144
قوة التكرار لكنه اكتفى ب‍ (أطيعوا) واحدة ولم يكررها، ليبين أن إطاعتهم
وإطاعة الرسول من سنخ واحد، وحقيقة واحدة، فكما أن إطاعة الرسول غير
مقيدة بقيد ولا شرط في الوجوب، ولا حد في الواجب، فكذلك إطاعة أولي
الأمر.
ومثل هذا الوجوب لا يكون إلا مع عصمة أولي الأمر، لأن إطاعة كل أحد
مقيدة لا محالة بعدم مخالفة أمره لأمر الله تعالى، وإلا لزم الأمر بعصيان الإله، ولما
كان أمر المعصوم - بمقتضى عصمته - غير مخالف لأمر الله تعالى، كان وجوب
إطاعته غير مقيد بقيد.
ثم مع الاعتراف بأن الإمامة عند الجميع خلافة للنبي في تطبيق الدين
وحفظ كيان الأمة، وأن الإمام واجب الطاعة على جميع الأمة (1)، ومع ملاحظة
قوله تعالى: {ان الله يأمر بالعدل والإحسان} (2)، وقوله: {يأمرهم بالمعروف وينهاهم
عن المنكر} (3)، يتضح أن الإمام يجب أن يكون معصوما، وإلا لزم من الأمر
بطاعته المطلقة الأمر بالظلم والمنكر، والنهي عن العدل والمعروف، سبحانه
وتعالى.
ومن جهة أخرى، إذا لم يكن الإمام معصوما فقد يخالف أمره أمر الله
ورسوله، وفي هذه الحالة يكون الأمر بإطاعة الله ورسوله والأمر بإطاعة ولي
الأمر، بمقتضى اطلاق الأمر والمأمور به فيهما، أمرا بالضدين، وهو محال، فولي
الأمر على الإطلاق عقلا ونقلا لا يكون إلا المعصوم على الإطلاق.



(1) شرح المواقف ج 8 ص 345.
(2) سورة النحل: 90.
(3) سورة الأعراف: 157.
145
والنتيجة: أن أمر الله سبحانه بإطاعة (أولي الأمر) بلا قيد ولا شرط، دليل على
عدم مخالفة أمرهم لأمر الله ورسوله، وهذا دليل على عصمتهم، وتعيين المعصوم
لا يمكن إلا من قبل العالم بالسر والخفيات.
ج: حكومة السنة
لا يخفى أن الاستشهاد بالروايات الواردة من طرق العامة في هذه المقدمة
على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) لإتمام الحجة، والجدال بالتي هي أحسن، وإلا ففي
تحقق شروط الإمامة التي يحكم بها العقل والكتاب في نفسه القدسية (عليه السلام)،
وانطباق الكبرى عليها قهرا، فيما تواتر من السنة على إمامته غنى وكفاية.
وما أطلقنا عليه الصحيح من روايات العامة هو الصحيح على الموازين
الرجالية عندهم، وما أطلقنا عليه الصحيح من روايات الخاصة هو الواجد
لشرائط الاعتبار أعم من الصحيح الاصطلاحي والموثق على الموازين الرجالية
عندهم.
لا إشكال في وجوب اتباع سنة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، بمقتضى إدراك العقل لزوم اتباع
المعصوم وإطاعة أمره، ومقتضى حكم القرآن بذلك {وما آتاكم الرسول فخذوه وما
نهاكم عنه فانتهوا} (1).
ونكتفي بما تواتر صدوره عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واتفق العلماء بأصنافهم من
المفسر والمحدث والمؤرخ وأهل الأدب واللغة عليه، ولم تخف على شيخ
وشاب، قال ابن أبي الحديد روى سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن قاسم عن



(1) سورة الحشر: 7.
146
عمر بن عبد الغفار أن أبا هريرة لما قدم الكوفة مع معاوية كان يجلس بالعشيات
بباب كندة، ويجلس إليه، فجاء شاب من الكوفة فجلس إليه، فقال يا أبا هريرة
أنشدك الله أ سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لعلي بن أبي طالب: اللهم وال من والاه وعاد
من عاداه، قال: اللهم نعم. قال: فأشهد بالله لقد واليت عدوه، وعاديت وليه، ثم قام
عنه (1).
وقال ابن حجر العسقلاني في شرح صحيح البخاري: وأما حديث من كنت
مولاه فعلي مولاه، فقد أخرجه الترمذي والنسائي، وهو كثير الطرق جدا، وقد
استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان... (2).
نذكر منها واحدا من الصحاح عندهم وهو ما رواه زيد بن أرقم قال:
(لما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات
فقممن، فقال:
كأني قد دعيت فأجبت، إني قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله وعترتي،
فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض.
ثم قال: إن الله عز وجل مولاي وأنا مولى كل مؤمن، ثم أخذ بيد علي (رضي الله عنه) فقال: من
كنت مولاه فهذا وليه. اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه... وذكر الحديث بطوله) (3).
ونظرا لاهتمامه (صلى الله عليه وآله وسلم) بإمامة الأمة من بعده، لم يقتصر تأكيده عليها في حجة
الوداع وحدها، بل أكد عليها في مناسبات متعددة قبل حجة الوداع وبعدها،
ومنها في مرض وفاته حيث كان الصحابة مجتمعين عنده فأوصاهم بالقرآن



(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 4 ص 68، الإيضاح ص 496.
(2) فتح الباري ج 7، ص 61.
(3) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 109.
147
والعترة بتعابير مختلفة.
فتارة بلفظ (إني قد تركت فيكم الثقلين) (1).
وأخرى بلفظ: (إني تارك فيكم خليفتين) (2).
وثالثة بلفظ: (إني تارك فيكم الثقلين) (3).



(1) فضائل الصحابة ص 15، المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 109، مسند أحمد ج 3 ص 26، جامع
المسانيد والسنن ج 19 ص 137، مجمع الزوائد ج 9 ص 163، السنن الكبرى للنسائي ج 5 ص 45
وص 130، البداية والنهاية لابن كثير ج 5 ص 228، سيرة ابن كثير ج 4 ص 416، ينابيع المودة ج 1
ص 105 و 115 و 121، ومصادر أخرى للعامة.
بصائر الدرجات ص 434 الجزء الثامن باب 17 ح 4 - كمال الدين وتمام النعمة ص 236 و 238 -
لمناقب ص 154 - العمدة ص 71، الطرائف ص 114 و 116 و 122 ومصادر أخرى للخاصة.
(2) مسند أحمد ج 5 ص 182 و 189 - في مصنف ابن أبي شيبة ج 7 ص 418، (الخليفتين)، كتاب السنة
للشيباني ص 629، رقم 1545، وص 336 رقم 754، مجمع الزوائد ج 9 ص 162، الجامع الصغير ج 1
ص 402، الدر المنثور ج 2 ص 60، كنز العمال ج 1 ص 172 و 186، ينابيع المودة ج 1 ص 119
ومصادر أخرى للعامة.
كمال الدين وتمام النعمة ص 240 - العمدة ص 69 - سعد السعود ص 228 ومصادر أخرى للخاصة.
(3) فضائل الصحابة ص 22، مسند أحمد ج 3 ص 14 و 17 و ج 4 ص 371، المستدرك على الصحيحين
ج 3 ص 148، سنن الدارمي ج 2 ص 432 - السنن الكبرى للبيهقي ج 7 ص 30 و ج 10 ص 114 -
مجمع الزوائد ج 9 ص 163 - مسند ابن الجعد ص 397 - مصنف ابن أبي شيبة ج 7 ص 176 - السنن
الكبرى للنسائي ج 5 ص 51 - خصائص أمير المؤمنين (عليه السلام) ص 93 - مسند أبي يعلى ج 2 ص 297
و 303 - صحيح ابن خزيمة ج 4 ص 63 - تفسير ابن كثير ج 4 ص 122 - المعجم الصغير ج 1 ص 131
و 135 - المعجم الأوسط ج 3 ص 374 و ج 4 ص 33 - المعجم الكبير ج 3 ص 66 و ج 5 ص 154 و 166
و 170 و 182 و... الطبقات الكبرى ج 2 ص 194 - تاريخ مدينة دمشق ج 19 ص 258 و ج 41 ص 19
و ج 54 ص 92 - سير أعلام النبلاء ج 9 ص 365. ومصادر أخرى للعامة.
بصائر الدرجات ص 432 الجزء الثامن باب 17 ح 3 و ح 5 و ح 6 - دعائم الإسلام ج 1 ص 28 - الأمالي
للصدوق ص 500 المجلس الرابع والستون ح 15 - كمال الدين وتمام النعمة ص 234 و... معاني
الأخبار ص 90 - كفاية الأثر ص 87 و 137 و 163 - روضة الواعظين ص 273 مناقب أمير المؤمنين
(عليه السلام) ج 2 ص 112 و 116 و 135 و 140 و...، المسترشد ص 559، شرح الاخبار ج 1 ص 99 و ج 2
ص 479 و 481 و...، ومصادر أخرى للخاصة.
148
وفي بعضها: (لن يفترقا) (1).
وفي بعضها: (لن يتفرقا) (2).



(1) البداية والنهاية ج 5 ص 228 و ج 7 ص 386، الطبقات الكبرى ج 2 ص 194، مسند أبي يعلى ج 2
ص 297، وص 376، جواهر العقدين ص 231 و 232 و 233، مسند ابن الجعد، ص 397، خصائص
أمير المؤمنين (عليه السلام)، ص 93، مسند أحمد ج 3 ص 14، وص 17 و 26 و 59 - مجمع الزوائد ج 9
ص 163 - المعجم الصغير ج 1 ص 131 و 135 - المعجم الكبير ج 3 ص 65 - نظم درر السمطين 232 -
كنز العمال ج 1 ص 172 - الطبقات الكبرى ج 2 ص 194 - السيرة النبوية لابن كثير ج 4 ص 416
ومصادر أخرى للعامة.
بصائر الدرجات ص 433 و 434 الجزء الثامن باب 17 - الكافي ج 2 ص 415 - الخصال ص 65 -
الأمالي للصدوق ص 616 المجلس التاسع والسبعون ح 1 - كمال الدين وتمام النعمة ص 64 و 94
و 234 و... - كفاية الأثر ص 92 الاحتجاج ج 1 ص 75 و 217 و 391 و ج 2 ص 147 و 252 - العمدة
ص 68 و 71 و 83 و...، تفسير القمي ج 1 ص 172 - التبيان ج 1 ص 3 - مجمع البيان ج 1 ص 33 و ج 2
ص 356 و ج 7 ص 267 و ج 8 ص 12 ومصادر أخرى للخاصة.
(2) سنن الترمذي ج 5 ص 622، رقم 3788، كتاب السنة للشيباني ص 629، رقم 1553، وص 630،
1554، المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 109 و 148، المعرفة والتاريخ ج 1 ص 536 و 537،
وفضائل الصحابة ص 15، مسند أحمد ج 5 ص 182، مجمع الزوائد ج 1 ص 170 و ج 9 ص 163
و 165، مصنف لابن أبي شيبة ج 7 ص 418، السنن الكبرى للنسائي ج 5 ص 45 و 130، المعجم
الأوسط ج 3 ص 374، المعجم الكبير ج 5 ص 154 و 166 و... الجامع الصغير ج 1 ص 402، شواهد
التنزيل ج 2 ص 42، الدر المنثور ج 2 ص 60، تاريخ مدينة دمشق ج 42 ص 220 و ج 54 ص 92
ينابيع المودة ج 1 ص 345 ومصادر أخرى للعامة.
روضة الواعظين ص 94، مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 1 ص 148، المناقب ص 154، تفسير القمي ج 2
ص 447 في تفسير سورة الفتح، تفسير فرات الكوفي ص 17 ومصادر أخرى للخاصة.
149
وفي بعضها: (لا تقدموهما فتهلكوا ولا تعلموهما فإنهما أعلم منكم) (1).
وفي بعضها: (إني تارك فيكم أمرين لن تضلوا إن اتبعتموهما) (2).
ولا يمكن استيفاء النكات الدقيقة التي تضمنتها بياناته (صلى الله عليه وآله وسلم)، لذا نكتفي
بالإشارة إلى بعضها:
(1)
تدل جملة (إني قد تركت) على أن الكتاب والعترة تركة وميراث من
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أمته، لأن نسبة النبي إلى أمته نسبة الأب إلى ولده، وذلك أن
الإنسان موجود مركب من الجسم والروح، ونسبة الروح إلى الجسم نسبة المعنى
إلى اللفظ، واللب إلى القشر.



(1) العبارة المذكورة والقريب منها: راجع المعجم الكبير ج 3 ص 66 و ج 5 ص 167، كنز العمال ج 1
ص 186 و 188، الدر المنثور ج 2 ص 60، ينابيع المودة ج 1 ص 74 و 109 و 112 و 116 و 121
و 133 و ج 2 ص 438، مجمع الزوائد ج 9 ص 164 - الصواعق المحرقة ص 150 و 328 ومصادر
أخرى للعامة.
تفسير العياشي ج 1 ص 4 و 250 - تفسير القمي ج 1 ص 4، تفسير فرات الكوفي ص 110، الإمامة
والتبصرة ص 44، الكافي ج 1 ص 209 و 287 و 294، الأمالي للصدوق ص 616 المجلس التاسع
والسبعون ح 1، كفاية الأثر ص 163، مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 2 ص 376، المسترشد ص 401
و 467، الارشاد ج 1 ص 180 ومصادر أخرى للخاصة.
(2) جامع الأحاديث: المستدرك على الصحيحين ج 1 ص 193 و ج 3 ص 110 ج 3 ص 430، رقم
9591، ينابيع المودة ج 1 ص 161، تاريخ مدينة دمشق ج 42 ص 216، كنز العمال ج 1 ص 187،
وقريب منه في مسند أحمد ج 3 ص 59، سنن الترمذي ج 5 ص 328 و 329، السنن الكبرى ج 1
ص 114، منتخب مسند عبد بن حميد ص 108، المعجم الصغير ج 1 ص 135 ومصادر أخرى للعامة.
كمال الدين وتمام النعمة ص 235 وص 237 و... كفاية الأثر ص 265، تحف العقول ص 458، مناقب
أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 2 ص 105 ص 113 و... وص 141 وص 177، شرح الأخبار ج 1 ص 105
ومصادر أخرى للخاصة.
150
والأب الجسماني واسطة لإفاضة الأعضاء والقوى الجسمانية، والأب
الروحاني واسطة لإفاضة القوى والأعضاء الروحانية من العقائد الحقة،
والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة.
ولا تقاس الواسطة في إفاضة السيرة الروحانية والصورة العقلانية بالواسطة
في إفاضة الصورة المادية والهيئة الجسمانية، كما لا يقاس اللب بالقشر
ولا المعنى باللفظ، ولا اللؤلؤ بالصدف.
هذا الأب العظيم للأمة أخبر أمته عن رحيله، وأن ربه تعالى سيدعوه إلى
جواره فيجيبه ويفارقهم (كأني قد دعيت فأجبت) وأكد عليهم أن تركتي فيكم
وحصيلة عمري وثمرة وجودي، شيئان (كتاب الله، وعترتي).
فالكتاب هو رابط الأمة بربها، والعترة هي رابطة الأمة بنبيها، فانقطاع الأمة
عن القرآن انقطاع عن الله تعالى، وانقطاعها عن العترة انقطاع عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
والانقطاع عن النبي انقطاع عن الله تعالى.
وقد كان يكفي لبيان عظمة القرآن والعترة مجرد إضافتهما إلى الله تعالى
ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأن المضاف يأخذ قيمته من المضاف إليه، لكن مع ذلك
وصفهما (صلى الله عليه وآله وسلم) ب‍ (الثقلين) ليدل على جوهرهما الغالي ووزنهما الثقيل، فنفاسة
القرآن الكريم، وثقل وزنه المعنوي فوق إدراك العقول، لأن القرآن تجلي الخالق
لخلقه، ويكفي لدرك عظمته التأمل في هذه الآيات: {يس * والقرآن الحكيم (1)
ق * والقرءان المجيد} (2)، {إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا



(1) سورة يس: 1 - 2.
(2) سورة ق: 1 - 2.
151
المطهرون} (1)، {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خشعا متصدعا من خشية الله
وتلك الأمثل نضربها للناس لعلهم يتفكرون} (2).
ثم إن وصف العترة بنفس ما وصف به القرآن يفيد أن العترة في كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم)
عدل للقرآن وشريك للوحي، ولا يمكن أن تكون العترة عدلا للقرآن - في كلام
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو ميزان الحقيقة - إلا إذا كانت العترة، فيما وصف الله الكتاب
بقوله: {تبينا لكل شئ} (3) شريكا لعلم القرآن، وفيما وصف الله القرآن بقوله:
{لا يأتيه البطل من بين يديه ولا من خلفه} (4) شريكا في عصمته.
(2)
يدل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) " لن يتفرقا " على التلازم الدائم بين القرآن والعترة، بحيث
لا ينفك أحدهما عن الآخر، وذلك أن القرآن الكريم كتاب أنزل لكافة أفراد
البشر على اختلاف مستوياتهم وقابلياتهم، فكانت عباراته للعوام، وإشاراته
للعلماء، ولطائفه للأولياء، وحقائقه للأنبياء (عليهم السلام).
إنه كتاب يستضئ بنور هدايته أدنى أفراد البشر، الذي لا هم له إلا الأمور
المادية، إلى أعلى الأفراد، الذي لا يهدأ اضطراب روحه إلا بالاطمئنان بذكر الله
تعالى، ولا ضالة له إلا الأسماء الحسنى والأمثال العليا، وتحمل اسم الله الأعظم.
إن هذا القرآن كالشمس، يستشفي المصاب بالبرد بحرارتها، ويحتاجها
الزارع لنمو زرعه، ويبحث العالم الطبيعي في تأثير أشعتها على الأحياء والنبات



(1) سورة الواقعة: 77 - 79.
(2) سورة الحشر: 21.
(3) سورة النحل: 89.
(4) سورة فصلت: 42.
152
والمعادن، ويبحث العالم الرباني في تأثيرها على الأرض ومواليدها، وفي
السنن والقوانين التي تنظم بعدها عن الأرض وقربها، وطلوعها وغروبها، فيجد
ضالته وهو الخالق المدبر للشمس.
إن مثل هذا الكتاب الذي جاء لجميع أفراد البشر، والمتكفل لكل ما تحتاج
إليه الإنسانية في الدنيا والبرزخ والآخرة، لابد له من معلم عالم بكل ذلك، فإن
الطب بلا طبيب، والعلم بلا معلم ناقص، وكذلك القانون - خاصة القانون الإلهي
الذي به نظم أمور المعاش والمعاد - بلا مفسر مناسب له ناقص ومناف لقوله
تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} (1)، وناقض للغرض من نزول هذا الكتاب
ويخالف قوله تعالى: {و نزلنا عليك الكتب تبينا لكل شئ} (2). والحكيم على
الإطلاق يستحيل أن ينزل دينا ناقصا، أو ينقض غرضه من تنزيله! ولذا قال
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (لن يتفرقا).
(3)
في بعض صيغ حديث الثقلين (لن تضلوا إن اتبعتموهما) واهتداء الإنسان - من
جهة خصوصية خلقه - سبب لسعادته الأبدية، وضلاله سبب لشقائه الأبدي،
وذلك أن الإنسان - كما أشرنا سابقا - عصارة موجودات العالم، فهو مخلوق
دنيوي، وبرزخي، وأخروي، وملكي، وملكوتي، وهو مرتبط بعالم الخلق،
وعالم الأمر، وهو مخلوق من أجل البقاء لا الفناء.
والهداية اللازمة لمخلوق من هذا النوع هداية خاصة، لا تتيسر إلا بتعليم



(1) سورة المائدة: 3.
(2) سورة النحل: 89.
153
وتربية بالوحي الإلهي ذلك النور المقدس عن الظلمات {قد جاءكم من الله نور و
كتب مبين} (1).
وبقانون التناسب والسنخية، لابد أن يكون معلم البشر بالوحي الذي قال
سبحانه في شأنه: {ذلك الكتاب لا ريب فيه} (2) و {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا
وحى يوحى} (3) أيضا معصوما عن الخطأ والهوى.
وإنما قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (لن تضلوا إن اتبعتموهما) لأن اتباع الكتاب الذي ينطق بالحق
بلسان الصدق الذي لا يتفرق عن الحق، يحقق للبشر الأمن من الضلال الفكري
والأخلاقي والعملي.
(4)
وفي تفسير قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا تعلموهما فإنهما أعلم منكم) نكتفي بما قاله ابن حجر،
وهو من علماء السنة المتعصبين، قال واصفا أهل البيت (عليهم السلام): (وتميزوا بذلك عن
بقية العلماء، لأن الله أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا... إلى أن قال: ثم
أحق من يتمسك به منهم إمامهم وعالمهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، لما
قدمناه من مزيد علمه ودقائق مستنبطاته، ومن ثم قال أبو بكر: علي عترة رسول
الله، أي الذين حث على التمسك بهم، فخصه لما قلنا، وكذلك خصه بما مر يوم
غدير خم) (4).
النص على الإمامة الخاصة...
فمع اعترافهم بأن عليا امتاز عن بقية علماء الأمة بآية التطهير، التي دلت



(1) سورة المائدة: 15.
(2) سورة البقرة: 2.
(3) سورة النجم: 3 - 4.
(4) الصواعق المحرقة ص 151.
154
على أنه طاهر من كل أنواع الرجس، واعترافهم بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نص على أن
عليا (عليه السلام) أعلم الأمة، ونظرا إلى أن العقل والكتاب يوجبان اتباع الأعلم بقوله
تعالى: {قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا
الألباب} (1)، وقوله تعالى: {أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدى إلا أن
يهدى فما لكم كيف تحكمون} (2) واعترافهم بصحة أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: (إني تارك
فيكم أمرين لن تضلوا إن اتبعتموهما، وهما كتاب الله وأهل بيتي عترتي)، تكون النتيجة ثبوت
الحجة على متبوعية علي (عليه السلام) وتابعية عموم الأمة - من دون استثناء - وأن جميع
الأمة مأمورة لأجل النجاة من الضلال أن تتبع عليا (عليه السلام) {قل فلله الحجة البلغة} (3).
(5)
بعدما بين أن ما تركه لصيانة الأمة عن الضلالة هو الكتاب والعترة، أراد أن
يبين مصداق العترة، وأن يعرف الذي لا يفترق القرآن عنه، ولا يفترق هو عن
القرآن، لئلا تبقى أية شبهة لأحد من الأمة، فأخذ بيد علي (عليه السلام)، فقال: (من كنت مولاه
فهذا وليه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه).
فمع أن الحجة كانت تامة ببيان الكبرى لانطباقها على علي (عليه السلام) بعلمه
وعصمته بشهادة الكتاب والسنة، فقد أكدها بإثبات ولايته على كل مؤمن
لعلي (عليه السلام) لئلا يتخلف أحد عن دائرة هدايته العامة وولايته المطلقة، وذلك
بقوله (صلى الله عليه وآله): (إن الله عز وجل مولاي وأنا مولى كل مؤمن) وبه فسر قوله تعالى: {إنما وليكم



(1) سورة الزمر: 9.
(2) سورة يونس: 35.
(3) سورة الأنعام: 149.
155
الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} (1).
* * *
ومع أن الأدلة على الإمامة العامة من العقل والكتاب والسنة، أوضحت أمر
الإمامة الخاصة، وأن الصفات اللازمة في الإمام لا تنطبق إلا على الأئمة
المعصومين (عليهم السلام)، كما تقدم في حديث الثقلين، لكن لأجل إتمام الحجة نورد
بعض الأحاديث في إمامة أمير المؤمنين وسيد الوصيين علي (عليه السلام)، التي ثبتت
صحتها عند المحدثين:
الحديث الأول:
عن أبي ذر (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني
فقد عصى الله، ومن أطاع عليا فقد أطاعني، ومن عصى عليا فقد عصاني) (2).
دل هذا الحديث الذي صححه كبار علماء السنة على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - الذي
شهد القرآن بأنه لا ينطق عن الهوى، وشهد العقل بذلك - حكم بأن طاعة علي
ومعصيته طاعة النبي ومعصيته، وطاعة النبي ومعصيته طاعة الله تعالى ومعصيته،
وقد قال الله تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (3).



(1) سورة المائدة: 55.
(2) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 121 وفي التلخيص أيضا وص 128، كنز العمال ج 11
ص 614 - تاريخ مدينة دمشق ج 42 ص 270 و 307 - ذخائر العقبى ص 66 - ينابيع المودة ج 2
ص 313 ومصادر أخرى للعامة.
معاني الأخبار ص 372 - وقريب منه في بصائر الدرجات ص 314، الجزء السادس باب 11 باب في
أمير المؤمنين (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يشاركه في العلم... الكافي ج 1 ص 440، الأمالي للصدوق
ص 701 المجلس الثامن والثمانون ح 5 تفسير فرات الكوفي ص 96 و 109 ومصادر أخرى للخاصة.
(3) سورة النساء: 80.
156
وبما أن الطاعة والمعصية إنما تكون عند الأمر والنهي، ومنشأ الأمر والنهي
هو الإرادة والكراهة، فلا يمكن أن تكون طاعة علي ومعصيته طاعة الله تعالى
ومعصيته، إلا أن تكون إرادة علي وكراهته مظهرا لإرادة الله تعالى وكراهته.
ومن كانت إرادته وكراهته مظهرا لإرادة الله تعالى وكراهته، فقد بلغ من
العصمة مقاما يكون رضاه وغضبه، رضا الله تعالى وغضبه.
وبمقتضى دلالة كلمة (من) على العموم، يعلم أن كل من كان داخلا في دائرة
إطاعة الله ورسوله لابد له أن يطيع عليا (عليه السلام) وإلا كان عاصيا لله ورسوله: {ومن
يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا} (1)، {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم
خالدين فيها أبدا} (2).
ومن أطاعه فقد أطاع الله والرسول {ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجرى
من تحتها الأنهار} (3)، {ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} (4)، {ومن يطع الله
والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم} (5).
الحديث الثاني:
(ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليا فقال:
أتخلفني في الصبيان والنساء؟ قال: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس نبي



(1) سورة الأحزاب: 36.
(2) سورة الجن: 23.
(3) سورة النساء: 13.
(4) سورة الأحزاب: 71.
(5) سورة النساء: 69.
157
بعدي) (1).



(1) صحيح البخاري غزوة تبوك ج 5 ص 129 ح 2، وصحيح البخاري ج 4 ص 208، وصحيح مسلم ج 7
ص 120 و 121 و ج 8 ص 175، 176، الجامع الصحيح سنن الترمذي ج 5 ص 302 و 304، سنن
ابن ماجة ج 1 ص 45، خصائص النسائي ص 48 و 50 وموارد أخرى من هذا الكتاب، المستدرك على
الصحيحين ج 2 ص 337 و ج 3 ص 108 و 133، وفي التلخيص أيضا، مسند أحمد ج 1 360 و 370
و 375 و 379 و 386 و 390 و 391 و 709 و ج 4 ص 64 و ج 5 ص 99، فضائل الصحابة ص 13 و 14.
السنن الكبرى للبيهقي ج 9 ص 40، مجمع الزوائد ج 9 ص 109 و... مسند أبي داود الطيالسي ص 28
و...، المصنف لعبد الرزاق ج 5 ص 406، ج 11 ص 226، مسند الحميدي ج 1 ص 38، المعيار
والموازنة ص 70 و 187 و 219، مسند ابن الجعد ص 301، مصنف ابن أبي شيبة ج 7 ص 496 و ج 8
ص 562، مسند ابن راهويه ج 5 ص 37، مسند سعد بن أبي وقاص ص 51 و 103 و 136 و...، الآحاد
والمثاني ج 5 ص 172، السنن الكبرى للنسائي ج 5 ص 44 و 108 و... و 144 و 240، مسند أبي يعلى
ج 1 ص 286 و ج 2 ص 57 و... و ج 12 ص 310، صحيح ابن حبان ج 15 ص 15 و 369 و...، المعجم
الصغير ج 2 ص 22 و 54، المعجم الأوسط ج 2 ص 126 و ج 3 ص 139 و ج 4 ص 296، و ج 5 ص 287
و ج 6 ص 77 و 83 و ج 7 ص 311 و ج 8 ص 40، المعجم الكبير ج 1 ص 146 و 148 و ج 2 ص 247
و ج 4 ص 17 و 184، و ج 5 ص 203 و 221 و ج 11 ص 61 و 63 و ج 12 ص 15 و 78 و ج 19 ص 291
و ج 24 ص 146، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 2 ص 59 و 264 و ج 5 ص 248 و ج 6 ص 169
و ج 10 ص 222 و ج 13 ص 211، نظم درر السمطين ص 24 و 95 و 107 و 124 و 194، شواهد
التنزيل ج 1 ص 190 و... و ج 2 ص 35، الطبقات الكبرى ج 3 ص 23، تاريخ بغداد ج 1 ص 342 و ج 4
ص 56 و 176 و 291 و 425 و ج 5 ص 147 و ج 7 ص 463 و ج 8 ص 52 و 262 و ج 9 ص 370 و ج 10
ص 45 و ج 11 ص 383 و 430 و ج 12 ص 320، تاريخ مدينة دمشق ج 2 ص 31 و ج 13 ص 151
و ج 8 ص 138 و ج 20 ص 360 و ج 21 ص 415 و ج 30 ص 60 و 206 و 359 و ج 38 ص 7 و ج 39
ص 201 و ج 41 ص 18 و ج 42 ص 16 و 53 و 100 وموارد أخرى من هذا الكتاب، أسد الغابة ج 4
ص 26 و ج 5 ص 8 - ذيل تاريخ بغداد ج 2 ص 78 و ج 4 ص 209، تهذيب الكمال ج 5 ص 277 و 577
و ج 7 ص 332 وموارد أخرى من هذا الكتاب، تذكرة الحفاظ ج 1 ص 10 وص 217 و ج 2 ص 523،
ميزان الاعتدال ج 1 ص 561 و ج 2 ص 3 وسير أعلام النبلاء ج 1 ص 142 و 361، و ج 7 ص 362
و ج 12 ص 214 و ج 13 ص 340 و ج 15 ص 42، معرفة الثقات ج 2 ص 184 و 457، تهذيب التهذيب
ج 5 ص 160 و ج 6 ص 84 و ج 7 ص 296، ذكر أخبار أصبهان ج 1 ص 80 و ج 2 ص 281، البداية
والنهاية ج 5 ص 11 و ج 7 ص 370 و 374 و... و ج 8 ص 84، السيرة النبوية لابن كثير ج 4 ص 12،
سبل الهدى والرشاد ج 5 ص 441 و ج 11 ص 291، ينابيع المودة ج 1 ص 112 وص 137 و 156 و...
وموارد أخرى كثيرة من هذا الكتاب ومصادر أخرى كثيرة جدا للعامة يصعب ذكرها.
المحاسن للبرقي ج 1 ص 159، الكافي ج 8 ص 107، دعائم الإسلام ج 1 ص 16، علل الشرائع ج 1
ص 66 وص 137 و... وص 202 و ج 2 ص 474، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 122 باب 35 ح 1
و ج 2 ص 25 باب 31 ح 5 و ج 2 ص 153 باب 40 ح 22 وموارد أخرى من هذا الكتاب، الخصال
ص 311 و 370 و 374 و 554 و 572، الأمالي للصدوق ص 156 المجلس الحادي والعشرون ح 1
وص 197 و 402 و 491 و 618، التوحيد ص 399، كمال الدين وتمام النعمة ص 251 و 264 و 278
و 336، معاني الأخبار ص 57 و 74 و...، كفاية الأثر ص 135، تحف العقول ص 416 و 430 و 459،
روضة الواعظين ص 89 و 112 و 153، مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 1 ص 224 و 350 و 301 و 317
و 355 و 414 و 459 و 472 و 499 و 500 وموارد أخرى، ج 3 ص 202، كتاب الغيبة ص 83 و 142،
الإرشاد ج 1 ص 156، الاختصاص ص 169 و...، الأمالي للمفيد ص 57، كنز الفوائد ص 274 و...،
الأمالي للطوسي ص 50 و 171 و 227 و 253 و 261 و 307 و 333 و 342 وموارد أخرى، الاحتجاج
ج 1 ص 59 و 98 و 113 و 151 و... موارد أخرى، ج 2 ص 8 و 67 و 145 و 252، العمدة ص 86 و 97
و 126 وموارد أخرى، الفضائل ص 134 و 152، مناقب آل أبي طالب ج 1 ص 213 و 221 و ج 2
ص 186 و 194 وموارد أخرى، التحصين ص 566 و 635 ومصادر أخرى كثيرة جدا للخاصة يصعب
ذكرها.
158
هذا حديث متفق عليه من الخاصة والعامة أخرجه أصحاب الصحاح
والمسانيد المعتبرة من العامة، ونقل جمع من أكابرهم الاتفاق على صحته، كقول
بعضهم: (هذا حديث متفق على صحته، رواه الأئمة الحفاظ كأبي عبد الله
البخاري في صحيحه، ومسلم بن الحجاج في صحيحه، وأبي داود في سننه،
وأبي عيسى الترمذي في جامعه، وأبي عبد الرحمان النسائي في سننه،
وابن ماجة القزويني في سننه، واتفق الجميع على صحته حتى صار ذلك إجماعا

159
منهم. قال الحاكم النيسابوري: هذا حديث دخل في حد التواتر) (1).
وقد دل هذا الحديث الشريف - بمقتضى عموم المنزلة - على أن كل منزلة
كانت لهارون من موسى (عليهما السلام)، ثبتت لعلي من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، واستثناء النبي (صلى الله عليه وآله)
للنبوة فقط، يؤكد هذا العموم.
وقد قال الله تعالى عن منزلة هارون من موسى {و اجعل لي وزيرا من أهلي *
هارون أخي * اشدد به أزرى * وأشركه في أمري} (2)، {و قال موسى لأخيه هارون
أخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} (3).
وتتلخص هذه المنزلة بعدة مقامات:
الأول، الوزارة:



(1) كفاية الطالب ص 283، ونشير إلى كلمات بعض علماء العامة حول هذا الحديث:
أ: ابن عبد البر في الاستيعاب القسم الثالث ص 1097 و 1098 " وروى قوله (صلى الله عليه وآله): أنت مني بمنزلة
هارون من موسى، جماعة من الصحابة وهو من أثبت الآثار وأصحها، وطرق حديث سعد فيه كثيرة
جدا ".
ب: الجزري في أسنى المطالب ص 53 " متفق على صحته بمعناه من حديث سعد بن أبي وقاص، قال
الحافظ أبو القاسم بن عساكر: " وقد روى هذا الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جماعة من الصحابة منهم
عمر، وعلي، وابن عباس، و عبد الله بن جعفر، ومعاذ، ومعاوية، وجابر بن عبد الله، وجابر بن سمرة،
وأبو سعيد، وبراء بن عازب، وزيد بن أرقم، وزيد بن أبي أوفى، ونبيط بن شريط، وحبشي بن جنادة،
وماهر بن الحويرث، وأنس بن مالك، وأبي الطفيل، وأم سلمة، وأسماء بنت عميس، وفاطمة بنت
حمزة ".
ج: شرح السنة للبغوي، ج 14 ص 113: " هذا حديث متفق على صحته ".
د: شواهد التنزيل، الحاكم الحسكاني ج 1 ص 195: " هذا هو حديث المنزلة الذي كان شيخنا أبو
حازم الحافظ يقول خرجته بخمسة آلاف اسناد ".
(2) سورة طه: 29 - 32.
(3) سورة الأعراف: 142.
160
وأنه وزير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والوزير هو الذي يتحمل المسؤوليات التي يتحملها
من هو وزير له، ويتصدى لأدائها بأمره، وهذا الحديث صريح في ثبوت هذه
المنزلة لعلي (عليه السلام).
ولكن الدليل على أنه وزيره لا ينحصر به، فقد نص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ذلك في
أحاديث أخرى - في كتب الحديث والتفسير من العامة والخاصة - في مناسبات
متعددة (1).
الثاني، الأخوة:
وأن عليا أخ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد كان هارون أخا نسبيا لموسى، وجعل النبي
هذه المنزلة لعلي بعقد الأخوة معه، وقد وردت في ذلك أحاديث عديدة في
مصادر العامة والخاصة نكتفي منها بواحدة:
عن عبد الله بن عمر قال: (لما ورد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة آخى بين
أصحابه، فجاء علي (رضي الله عنه) تدمع عيناه، فقال: يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تواخ بيني
وبين أحد؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا علي أنت أخي في الدنيا والآخرة) (2).



(1) التفسير الكبير ج 12 ص 26 في تفسير آية * (انما وليكم الله ورسوله) * - طبقات ابن سعد ج 3 ص 23 -
تاريخ مدينة دمشق ج 42 ص 52، ينابيع المودة ج 1 ص 258 و ج 2 ص 153، تفسير فرات الكوفي
ص 95 و 248 و 250 و 255، ومصادر أخرى للعامة والخاصة تقدم ذكرها.
(2) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 14، سنن الترمذي ج 5 ص 300 رقم 3804، أسد الغابة ج 4
ص 29، البداية والنهاية ج 7 ص 371، مجمع الزوائد ج 9 ص 112، فتح الباري ج 7 ص 211، تحفة
الأحوذي ج 10 ص 152، تاريخ بغداد ج 12 ص 363، نظم درر السمطين ص 95، كنز العمال ج 13
ص 140، تاريخ مدينة دمشق ج 42 ص 18 و 53 و 61، أنساب الأشراف ص 145، الجوهرة في نسب
الإمام علي وآله ص 64، ينابيع المودة ج 2 ص 392 ومصادر أخرى للعامة.
مناقب آل أبي طالب ج 2 ص 185، وقريب منه في الخصال ص 429 باب العشرة ح 6، مناقب أمير
المؤمنين (عليه السلام) ج 1 ص 306 و 319 و 325 و 343 و 357، شرح الأخبار ج 2 ص 178 و 477 و 539،
العمدة ص 167 و 172 ومصادر أخرى للخاصة.
161
فهذه الأخوة تدل على أنه ارتفع عن كل مؤمن عندما نزلت: {إنما المؤمنون
إخوة} (1)، لأنه (صلى الله عليه وآله) آخى بينهم على قدر منازلهم، كما آخى بين أبي بكر وعمر،
وآخى بين عثمان وعبد الرحمن، وآخى بين أبي عبيدة وسعد بن معاذ و... (2)،
فاختاره (صلى الله عليه وآله وسلم) لنفسه، وكيف لا يكون في مرتبة أشرف ولد آدم، وقد نص
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بإخوته له في الدنيا والآخرة.
وهذا يدل على أنه قد بلغت المشاكلة الروحية والمماثلة العلمية والخلقية
والعملية بينه وبين أفضل البرية إلى مستوى درجته (صلى الله عليه وآله)، {ولكل درجات مما
عملوا} (3)، والدرجات في الدار الآخرة على ما كسبوا واكتسبوا، {ونضع الموازين
القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا} (4)، والله أعلم بما جاهد في الله حق جهاده،
حتى وصل إلى المقام في دار القرار مع الذي قال سبحانه {عسى أن يبعثك ربك
مقاما محمودا} (5).



(1) الحجرات: 10.
(2) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 14 و 303 - الدر المنثور ج 3 ص 305 - علل الدارقطني ج 9
ص 205 ومصادر أخرى للعامة.
الأمالي للطوسي ص 587 - مناقب آل أبي طالب ج 2 ص 185 - العمدة ص 166 ومصادر أخرى
للخاصة.
(3) سورة الأنعام: 132.
(4) سورة الأنبياء: 47.
(5) سورة الإسراء: 79.
162
فلا يمكن أن يعبر عن درجته إلا بما عبر به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: (أنت أخي في
الدنيا والآخرة)، ولقد كان (عليه السلام) مفتخرا بعد العبودية بهذه الاخوة، فكان يقول: (أنا عبد الله
وأخو رسوله) (1)، وقال يوم الشورى: (أفيكم من آخى رسول الله بينه وبين نفسه غيري؟!) (2).
الثالث، شد الأزر:
وقد دلت أحاديث أخرى على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد طلب من الله تعالى أن يشد
به أزره فاستجاب الله له (3).



(1) سنن ابن ماجة ج 1 ص 44، المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 112، ذخائر العقبى ص 60، مصنف
ابن أبي شيبة ج 7 ص 497 و 498، الآحاد والمثاني ج 1 ص 148، كتاب السنة ص 584، السنن الكبرى
للنسائي ج 5 ص 107 و 126، خصائص أمير المؤمنين (عليه السلام) ص 87، مسند أبي حنيفة ص 211، شرح
نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 2 ص 287 و ج 13 ص 200 و 328، نظم درر السمطين ص 95 و...، كنز
العمال ج 11 ص 608 و ج 13 ص 122 و 129 - الطبقات الكبرى ج 2 ص 23، التاريخ الكبير ج 5
ص 59، تاريخ مدينة دمشق ج 42 ص 59 و 60 و 61، ميزان الاعتدال ج 1 ص 432، تهذيب التهذيب
ج 7 ص 296، الجوهرة في نسب الإمام علي وآله ص 64، تاريخ الطبري ج 2 ص 56، البداية والنهاية
ج 3 ص 36 و ج 7 ص 371، ينابيع المودة ج 1 ص 193 ومصادر أخرى للعامة.
عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 63 باب 31 ح 262، مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 1 ص 305 و...
المسترشد ص 263 و... و 378، شرح الأخبار ج 1 ص 192، الأمالي للمفيد ص 6، الأمالي للطوسي
626 و 726، تفسير مجمع البيان ج 5 ص 113، أعلام الورى ج 1 ص 298، كشف الغمة ج 1 ص 89
و ج 1 ص 412، العمدة ص 64 و 220، الخصال ص 402 ومصادر أخرى للخاصة.
(2) لسان الميزان ج 2 ص 157، الاحتجاج للطبرسي ج 1 ص 189 ومصادر أخرى.
(3) الدر المنثور ذيل تفسير هذه الآية ج 4 ص 295 والتفسير الكبير ذيل آية * (انما وليكم الله...) *، شواهد
التنزيل ج 1 ص 230 و 482، المعيار والموازنة ص 71 و 322، نظم درر السمطين ص 87، ينابيع
المودة ج 1 ص 258 و ج 2 ص 153 ومصادر أخرى للعامة.
مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 1 ص 348، تفسير فرات الكوفي ص 95 و 248 و 255 و 256، شرح
الأخبار ج 1 ص 192، كنز الفوائد ص 136، تفسير مجمع البيان ج 3 ص 361، الجمل ص 33،
المسترشد ص 488 ومصادر أخرى للخاصة.
163
ولا ريب أن أعباء الرسالة الخاتمية التي هي أعظم المسؤوليات التي كلفها
الله سبحانه لا يتحملها إلا ظهر الرسول الذي هو ظهير الأنبياء والمرسلين.
وبعد أن تحمل ما حمله الله تعالى دعا ربه أن يشد ظهره وعضده بعلي،
واستجاب له ربه، كما استجاب لموسى حيث قال سبحانه: {سنشد عضدك
بأخيك} (1).
والدعاء من الرسول والإجابة من الله دليل على أن إنجاز أمر الرسالة
الخاتمية لم يتحقق إلا بلسانه الناطق بحكمة الله ويده القاهرة بقدرة الله.
فهل يعقل أن يكون بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ظهيرا لأمته غير من هو ظهير الرسول أو
تتخذ الأمة عضدا سوى عضد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
الرابع، الإصلاح:
{وقال موسى لأخيه هارون أخلفني في قومي وأصلح}، فكما أن هارون كان
مصلحا لقوم موسى ونائبا منابه في إصلاح أمته، كذلك هذه المنزلة في أمة
الرسول لعلي (عليه السلام)، والإصلاح بقول مطلق شأن من كان متصفا بالصلاح المطلق، لا
بمطلق الصلاح، وهو الذي اتصف به يحيى {وسيدا وحصورا ونبيا من
الصالحين} (2)، وعيسى {ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين} (3).



(1) سورة القصص: 35.
(2) سورة آل عمران: 39.
(3) سورة آل عمران: 46.
164
الخامس، الشركة في أمره:
فقد كان هارون شريكا في أمر موسى وعمله، وعلي (عليه السلام) بمقتضى هذا
الحديث شريك في عمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ما عدا النبوة المستثناة.
ومن أمره تعليم الكتاب الذي فيه تبيان كل شئ، والحكمة التي قال الله
تعالى في شأنها {يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا} (1)،
{وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك
عظيما} (2)،
ولا ريب أن ما أنزل الله عليه من الكتاب والحكمة هو ما أنزل على جميع الأنبياء
والمرسلين، مع ما زاد عليه بنسبة النبوة العامة، والرسالة الخاتمية، وإمامته لجميع
الأنبياء، وسيادته على كل ما سوى الله.
ومن أمره أن يبين للناس كل ما اختلفوا فيه {ليبين لهم الذي يختلفون فيه} (3).
ومن أمره أن يحكم بين الناس {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس
بما أراك الله} (4).
ومن أمره أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فكان علي (عليه السلام) شريكا في
أمر من هو ولي الأمر في نظام التكوين والتشريع.



(1) سورة البقرة: 269.
(2) سورة النساء: 113.
(3) سورة النحل: 39.
(4) سورة النساء: 105.
165
السادس، الخلافة:
فقد كان هارون خليفة موسى (عليهما السلام) على أمته، فكذلك علي (عليه السلام) خليفة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على أمته بعده بلا فصل.
إن الخليفة كما سنشير إليه فيما بعد (1) هو الوجود التنزيلي للمستخلف عنه
الذي يسد خلاء وجوده عند فقده وغيبته، ولا يقاس الوجود التنزيلي للخاتم مع
الوجود التنزيلي لأحد من الأنبياء، بل لا يقاس خليفة الخاتم مع خليفة جميع
الأنبياء، لأن خليفة الخاتم قائم مقام من يكون آدم ومن دونه تحت لوائه، فكيف
يقاس ظل العرش بظل جميع ما هو دون العرش، فيكون هارون خليفة لموسى
ووجودا تنزيليا لمن قال الله سبحانه في شأنه: {وناديناه من جانب الطور الأيمن
وقربناه نجيا} (2) ويكون علي (عليه السلام) خليفة لخاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم) ووجودا تنزيليا لمن
قال سبحانه في شأنه: {ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى} (3).
وفي الصحيح عن أبان الأحمر، قال الصادق (عليه السلام): (يا أبان كيف ينكر الناس قول أمير
المؤمنين (عليه السلام)، لما قال: " لو شئت لرفعت رجلي هذه، فضربت بها صدر بن أبي سفيان بالشام، فنكسته
عن سريره " ولا ينكرون تناول آصف وصي سليمان عرش بلقيس، وإتيان سليمان به قبل أن يرتد إليه
طرفه، أليس نبينا (صلى الله عليه وآله) أفضل الأنبياء ووصيه (عليه السلام) أفضل الأوصياء، أفلا جعلوه كوصي سليمان، حكم الله
بيننا وبين من جحد حقنا وأنكر فضلنا) (4).
فلا تقاس وزارته للرسول الأعظم، وشد أزره، والشركة في أمره، وأخوته



(1) راجع صفحة:
(2) سورة مريم: 52.
(3) سورة النجم: 8 - 9.
(4) الاختصاص ص 212.
166
له، وإصلاحه في أمته، وخلافته عنه بمن هو حائز لهذه المقامات ممن دون
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من آدم إلى عيسى بن مريم.
ومن تأمل في حديث المنزلة، وكان من أهل التدبر في الكتاب والتفقه في
السنة يعلم بأن الفصل في الخلافة بين رسول الله ومن استخلفه الرسول عن نفسه
في حياته مخالف لما حكم به العقل والكتاب والسنة.
وفي الرواية التي اعترفوا بصحتها عن بكير بن مسمار قال: سمعت عامر بن
سعد يقول: قال معاوية لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما: ما يمنعك أن تسب
ابن أبي طالب؟ قال فقال: لا أسب ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن
تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم.
قال له معاوية: وما هن يا أبا إسحاق؟ قال: لا أسبه ما ذكرت حين نزل عليه
الوحي فأخذ عليا وابنيه وفاطمة فأدخلهم تحت ثوبه ثم قال: رب إن هؤلاء
أهل بيتي، ولا أسبه ما ذكرت حين خلفه في غزوة تبوك غزاها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
فقال: له علي خلفتني مع الصبيان والنساء؟ قال: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من
موسى إلا أنه لا نبوة بعدي، ولا أسبه ما ذكرت يوم خيبر وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): لأعطين هذه الراية رجلا
يحب الله ورسوله ويفتح الله على يديه، فتطاولنا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أين علي؟ قالوا: هو
أرمد، قال: ادعوه، فدعوه، فبصق في وجهه ثم أعطاه الراية، ففتح الله عليه، قال: فلا
والله ما ذكره معاوية بحرف حتى خرج من المدينة (1).
وقال الحاكم (2) وقد اتفقا (أي البخاري ومسلم) على إخراج حديث
المواخاة وحديث الراية.



(1) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 108 وفي التلخيص أيضا.
(2) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 109.
167
وفي البخاري عن سهل بن سعد قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم خيبر: لأعطين هذه
الراية غدا رجلا يفتح على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فبات الناس يدوكون
ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلهم يرجو أن
يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال
فأرسلوا إليه فأتى به فبصق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم
يكن به وجع فأعطاه الراية، فقال علي يا رسول الله: أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا،
فقال عليه الصلاة والسلام: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما
يجب عليهم من حق الله فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر
النعم (1).



(1) صحيح البخاري ج 5 ص 76، نيل الأوطار ج 8 ص 55 و 59، فضائل الصحابة ص 16، مسند أحمد
ج 1 ص 99 و 185 و ج 4 ص 52، صحيح مسلم ج 5 ص 195 و ج 7 ص 120 و ج 7 ص 122، سنن ابن
ماجة ج 1 ص 45، سنن الترمذي ج 5 ص 302، السنن الكبرى للبيهقي ج 6 ص 362 و ج 9 ص 107
وص 131، مجمع الزوائد ج 6 ص 150 و ج 9 ص 123 و...، مصنف ابن أبي شيبة ج 8 ص 520 و 522،
مسند سعد بن أبي وقاص ص 51، بغية الباحث ص 218، كشف السنة ص 594 و...، السنن الكبرى ج 5
ص 46 و 108 و... و 145، خصائص أمير المؤمنين (عليه السلام) ص 49 و... و 82 و 116، مسند أبي يعلى ج 1
ص 291 و ج 13 ص 522 و 531، صحيح ابن حبان ج 15 ص 377 و 382، المعجم الأوسط ج 6 ص 59
و 152، المعجم الكبير ج 6 ص 167 و 187 و 198 و ج 7 ص 13 و 17 و 31 و 35 و 36 و 77 و ج 18
ص 237 و 238، مسند الشاميين ج 3 ص 348، دلائل النبوة ص 190، الفائق في غريب الحديث ج 1
ص 383، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 11 ص 234 و ج 13 ص 186، نظم درر السمطين
ص 98 و 107، كنز العمال ج 10 ص 467 و 468 و ج 13 ص 121 و 123 و 163، الطبقات الكبرى ج 2
ص 111، التاريخ الكبير ج 2 ص 115، الثقات لابن حبان ج 2 ص 12 و 267، تاريخ بغداد ج 8 ص 5،
تاريخ مدينة دمشق ج 13 ص 288 و ج 41 ص 219 و ج 42 ص 16 و 81 و... و 432، أسد الغابة ج 4
ص 26 و 28، ذيل تاريخ بغداد ج 2 ص 78، البداية والنهاية ج 4 ص 211 و... و ج 7 ص 251 و 372
و...، سيرة ابن هشام ج 3 ص 797، سبل الهدى والرشاد ج 2 ص 32 و ج 5 ص 124 و ج 10 ص 62،
ينابيع المودة ج 1 ص 161 و ج 2 ص 120 و 231 و 390 ومصادر أخرى كثيرة جدا للعامة يصعب
ذكرها.
رسائل المرتضى ج 4 ص 104، الدعوات ص 63، زبدة البيان ص 11، كشف الغطاء ج 1 ص 11،
الكافي ج 8 ص 351، علل الشرائع ج 1 ص 162 باب 130 ح 1، الخصال ص 211 وص 311 و 555،
الأمالي للصدوق ص 604 المجلس السابع والسبعون ح 10، تحف العقول ص 346، روضة الواعظين
ص 127، مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 1 ص 345 و 537 و ج 2 ص 89 و 496 و...، المسترشد ص 299
و 300 و 341 و... و 491 و 590، شرح الأخبار ج 1 ص 302 و ج 2 ص 178 و 192 و 195 و 209،
الافصاح ص 34 و 68 و 86 - 157 - 197، النكت الاعتقادية ص 42، الإرشاد ح 1 ص 64،
الاختصاص ص 150، الأمالي للمفيد ص 56، الأمالي للطوسي ص 171 و 307 و 308 و 546 و 599،
الاحتجاج ج 1 ص 190 و 406 و ج 2 ص 64، الخرائج والجرائح ج 1 ص 159، العمدة ص 97 و 131
و 139 و... و 188 و 189 و 219، الفضائل ص 152، التبيان ج 3 ص 555 و ج 9 ص 329، مجمع البيان
ج 3 ص 358 و ج 9 ص 201 ومصادر أخرى كثيرة جدا للخاصة يصعب ذكرها.
168
ولا يخفى أن قوله صلوات الله عليه: لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله
ويحبه الله ورسوله يكشف عن أنه لم يكن في أصحابه متصفا بهذا الوصف غير
علي (عليه السلام) وإلا كان تخصيصه بهذا الوصف من دون مخصص، وجل جنابه (صلى الله عليه وآله وسلم) عما
هو باطل عقلا وشرعا.
وإعطاؤه الراية وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) " يفتح الله على يديه " تفسير لحديث المنزلة، وأن
عليا هو الذي شد الله عضد رسوله به.
وإعطاؤه الراية وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): يفتح الله على يديه، دليل على أن فعل الله جرى
على يديه كما جرى على يد رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله تعالى: {وما رميت إذ رميت
ولكن الله رمى} (1)، وعنه (عليه السلام): والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية (2).



(1) سورة الأنفال: 17.
(2) راجع صفحة:
169
ومن يكون الله فاتحا لخيبر على يديه هو يد الله، وهل يشد عضد خير خلق
الله إلا بيد الله؟ {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} (1).
الحديث الثالث
ما رواه العامة والخاصة، ونقتصر على ما رواه الحاكم النيسابوري في
مستدركه (2) والذهبي في تلخيصه (3)، عن بريدة، قال: (غزوت مع علي إلى
اليمن، فرأيت منه جفوة، فقدمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فذكرت عليا فتنقصته،
فرأيت وجه رسول الله يتغير، فقال: يا بريدة، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى
يا رسول الله. فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه...).
وهذا هو نفس ما قاله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبة الغدير.
وحادثة غدير خم وخطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها مشهورة، ذكرها أكابر المحدثين
والمؤرخين والمفسرين (4) في أحداث حجة الوداع، وفسرها كبار اللغويين.



(1) سورة ق: 37.
(2) المستدرك ج 3 ص 110 - مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 2 ص 425، كشف الغمة في معرفة الأئمة ج 1
ص 292 ومصادر أخرى.
(3) ذيل المستدرك ج 3 ص 109.
(4) الهداية للشيخ الصدوق ص 149 و 150، رسائل المرتضى ج 3 ص 20 و 130، الاقتصاد للشيخ
الطوسي ص 216، الرسائل العشر للشيخ الطوسي ص 133، الكافي ج 1 ص 287 و 294 و ج 4
ص 567 و ج 8 ص 27، دعائم الإسلام ج 1 ص 16 وص 19، من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 148 حديث
686 و ج 2 ص 335 حديث 1558 الصلاة في مسجد غدير خم، علل الشرائع ج 1 ص 143، عيون
أخبار الرضا (عليه السلام) ج 1 ص 52 و 64 و 164 و ج 2 ص 58، الخصال ص 66 و 211 و 219 و 311 و 479
و 496 و 578، الأمالي ص 49 و 149 و 184 و 185 و 186 و 428 و 670، كمال الدين وتمام النعمة
ص 276 و 337، التوحيد ص 212، معاني الأخبار ص 65 و 67، المجازات النبوية للشريف الرضي
ص 217، خصائص الأئمة ص 42، تهذيب الأحكام ج 3 ص 263، روضة الواعظين ص 94 و 103
و 350، الإيضاح ص 99 و 536، مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 1 ص 118، 137، 171، 362، ج 2 365
وموارد أخرى من هذا الكتاب، المسترشد ص 468 و... و 620، 632، دلائل الإمامة ص 18، شرح
الأخبار ج 1 ص 98 و...، 228 و... و 240 و...، و ج 2 ص 66 و 185 و 194 و 202 و 255 و 260
وموارد أخرى من هذا الكتاب و ج 3 ص 469 و 485، كتاب الغيبة ص 68، الإرشاد ج 1 ص 176
و 351، الاختصاص ص 79، الأمالي للمفيد ص 85 و 223، كنز الفوائد ص 225 و...، الأمالي للطوسي
ص 9 و 227 و 247 و 254 و 255 و 272 و 332 و 333 و... و 343 و 546 و 555 و...، الاحتجاج ج 1
ص 75 و 96 و 155، الخرائج والجرائح ج 1 ص 207، العمدة ص 85 و 92 و... ص 271 وموارد أخرى
من هذا الكتاب، تفسير العياشي ج 1 ص 4 و 250 و 381 و 327 و 329 و 332 و... و ج 2 ص 98 و 100
و 307 و 320، تفسير القمي ج 1 ص 174 و 301 و ج 2 ص 201، تفسير فرات الكوفي ص 56 و 110
و 124 و 130 و 345 و... و 451 و 490 و 495 و... و 503 و... و 516 و 574، مجمع البيان ج 3 ص 274
و 382 و 383 و ج 8 125 و ج 10 ص 59 و 119 ومصادر أخرى كثيرة جدا للخاصة يصعب ذكرها.
فضائل الصحابة ص 14، مسند أحمد ج 1 ص 84 و 118 و 119 و 152 و 331 و ج 4 ص 281 و 368
و 370 و 372 و ج 5 ص 347 و 366 و 370 و 419، سنن ابن ماجة ج 1 ص 45، سنن الترمذي ج 5
ص 297، المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 116 وفي التلخيص أيضا وص 134 وفي التلخيص
أيضا وص 371 وص 533 وفي التلخيص أيضا، مجمع الزوائد ج 7 ص 17 و ج 9 ص 103 و...
وص 120 و 164، فتح الباري ج 7 ص 61، المصنف لعبد الرزاق ج 11 ص 225، المعيار والموازنة
ص 72 و 210 و... وص 322، مصنف ابن أبي شيبة ج 7 ص 495 و...، الآحاد والمثاني ج 4 ص 325
و...، كتاب السنة ص 552 و 590 و...، السنن الكبرى للنسائي ج 5 ص 45 و 108 و 130 و...،
خصائص أمير المؤمنين (عليه السلام) ص 50 و 64 و 94 و...، مسند أبي يعلى ج 1 ص 429 و ج 11 ص 307،
صحيح ابن حبان ج 15 ص 376، المعجم الصغير ج 1 ص 65 و 71، المعجم الأوسط ج 1 ص 112 و ج 2
ص 24 و 275 و 324 و 369 و ج 6 ص 218 و ج 7 ص 70 و ج 8 ص 213، المعجم الكبير ج 3 ص 179
و 180 و ج 4 ص 17 و 173 و... و ج 5 ص 166 و 170 و 171 و... وص 194 و... وص 203 و 204
و 212 و ج 12 ص 78 و ج 19 ص 291، مسند الشاميين ج 3 ص 223، شرح نهج البلاغة لابن أبي
الحديد ج 3 ص 289 و 208 و ج 4 ص 74 و ج 5 ص 8 و ج 6 ص 168 و ج 8 ص 21 وموارد أخرى من
هذا الكتاب، نظم درر السمطين ص 93 و 109 و 112، موارد الظمآن ص 543، الجامع الصغير ج 2
ص 643، كنز العمال ج 1 ص 187 و... و ج 5 ص 290 و ج 11 ص 332 و 603 و 608 و... و ج 13
ص 105 و 131 وموارد أخرى من هذا الكتاب، شواهد التنزيل ج 1 ص 200 و... و 223 و 251 و...
و ج 2 ص 197 و 352 و 381 و... و 390، تفسير ابن كثير ج 2 ص 15، الدر المنثور ج 2 ص 259 و 293
و ج 5 ص 182، تاريخ بغداد ج 7 ص 389 و ج 8 ص 284 و ج 12 ص 340 و ج 14 ص 239، أسد الغابة
ج 1 ص 367 و 369 و ج 2 ص 233 و ج 3 ص 92 و 274 و 307 و 321 و ج 4 ص 28 و ج 5 ص 6 و 205
و 208 و 276 و 283، ذيل تاريخ بغداد ج 3 ص 10 ومصادر أخرى كثيرة جدا للعامة يصعب ذكرها
170
قال ابن دريد في جمهرة اللغة: (خم، غدير معروف، وهو الموضع الذي قام
فيه رسول الله بفضل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب) (1).
وقال الزبيدي في تاج العروس في تفسير الولي: (الذي يلي عليك أمرك...
ومنه الحديث: من كنت مولاه فعلي مولاه).
وقال ابن الأثير في النهاية في كلمة ولي: (وقول عمر لعلي: أصبحت مولى
كل مؤمن، أي ولي كل مؤمن).
وقد روى حديث الغدير بطرق صحيحة عند العامة، وإن كانت كثرة طرقه
تجعله غنيا عن البحث في صحة سنده، قال الحافظ القندوزي في ينابيع المودة:
" حكى العلامة علي بن موسى وعلي بن محمد أبي المعالي الجويني الملقب
بإمام الحرمين أستاذ أبي حامد الغزالي رحمهما الله يتعجب ويقول: رأيت مجلدا
في بغداد في يد صحاف فيه روايات خبر غدير خم مكتوب عليه: المجلدة
الثامنة والعشرون من طرق قوله صلى الله عليه وسلم: من كنت مولاه فعلي



(1) جمهرة اللغة ج 1 ص 108.
172
مولاه.. ويتلوه المجلدة التاسعة والعشرون!) (1).
وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة علي (عليه السلام) بعد أن نقل حديث
الغدير عن ابن عبد البر عن أبي هريرة، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم:
(وقد جمعه ابن جرير الطبري في مؤلف فيه أضعاف من ذكر، وصححه،
واعتنى بجمع طرقه أبو العباس بن عقدة، فأخرجه من حديث سبعين صحابيا أو
أكثر!) (2).
ودلالة هذا الحديث واضحة على ولاية علي (عليه السلام) على الأمة، وخلافته
للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا فصل، لأن لفظ (المولى) وإن استعمل في معان كثيرة، لكن القرائن
المقامية والمقالية تعين المقصود منه وأنه ولاية الأمر على الأمة، وهذه بعض
القرائن:
1 - قبل إعلان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولاية علي (عليه السلام)، أخبر (صلى الله عليه وآله وسلم) أمته أنه راحل إلى
ربه، وأوصاهم بالكتاب والعترة، وأكد أنهما لا يفترقان، ثم قدم لهم عليا معلنا
لهم (من كنت مولاه فعلي مولاه)، فالمقصود تعريف من يجب على الأمة التمسك به
وبالقرآن لتصان عن الضلال.
2 - لا يناسب لحكمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأمر بإيقاف الألوف المؤلفة من الحجاج
في الصحراء في حر الظهيرة، ويأمرهم أن يصنعوا له منبرا من الأحجار وحدائج
الإبل.. من أجل أن يعلن للمسلمين أن عليا مولاهم بمعنى محبهم وناصرهم! بل
لابد أن يكون الموضوع إعلان أمر مهم، وليس هو إلا بيان ولاية الأمر من بعده.
3 - روى الواحدي في أسباب النزول عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت



(1) ينابيع المودة ج 1 ص 114.
(2) تهذيب التهذيب ج 7 ص 339.
173
هذه الآية: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته
والله يعصمك من الناس} (1) يوم غدير خم في علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) (2).
ويستفاد من الآية الكريمة أن الذي أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) - في شأن نزول الآية -
بتبليغه كان ذا جهتين:
الأولى: أن الشئ الذي أوقفهم لتبليغهم إياه ذو أهمية كبرى على مسيرة
الأمة، بحيث إنه لو لم يفعل لما بلغ رسالة الله، وهذا لا يكون إلا ولاية أمر الأمة
من معاني الولاية.
الثانية: إن وعد الله بأن يعصمه من الناس دليل على أن تبليغ ما أمر بتبليغه
يستتبع كيد المنافقين الذين قد سمعوا من أهل الكتاب ظهور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتوسعة



(1) سورة المائدة: 67.
(2) أسباب النزول ص 135، شواهد التنزيل ج 1 ص 249 و 254 و 255 و 257 و 402 و ج 2 ص 391
و 451، الدر المنثور ج 2 ص 298، فتح الغدير ج 2 ص 60، المعيار والموازنة ص 214، تاريخ مدينة
دمشق ج 42 ص 237، ينابيع المودة ج 1 ص 359 و ج 2 ص 248 و 285 و ج 3 ص 279، وقد ذكر سبب
نزول الآية الشريفة في بعض المصادر المذكورة في صفحة ص 149.
دعائم الإسلام ج 1 ص 15 - رسائل المرتضى ج 3 ص 20 و ج 4 ص 130 - الكافي ج 1 ص 289
و 290، الأمالي للصدوق ص 435 المجلس السادس والخمسون ح 10 وص 584 - وكشف الغطاء ج 1
ص 10، التوحيد ص 254 و 256، روضة الواعظين ص 90 و 92، مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 1
ص 140 و 171 ج 2 ص 380 و 382، المسترشد ص 465 و 470 و 606، شرح الأخبار ج 1 ص 104
و ج 2 ص 276 و 374، الإرشاد ج 1 ص 175، الاحتجاج ج 1 ص 70، مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 21
و 23، العمدة ص 99، الطرائف ص 121 و 149 و 152، تفسير أبي حمزة الثمالي ص 160، تفسير
العياشي ج 1 ص 328 و 331 و... و ج 2 ص 97، تفسير القمي ج 1 ص 171 و 174 و ج 2 ص 201،
تفسير فرات الكوفي ص 124 و 129 و...، ومصادر أخرى للخاصة، وقد ذكر سبب نزول الآية الشريفة
في بعض المصادر المذكورة في صفحة: إعلام الورى ج 1 ص 261.
174
حكومته، فتظاهروا بالإيمان وأحاطوا به طمعا في الرئاسة من بعده، وليس شئ
من معاني الولاية يترتب عليه ذلك إلا ولاية الأمر من بعده.
4 - روى الخطيب، عن أبي هريرة قال: من صام يوم ثمان عشرة من ذي
الحجة، كتب له صيام ستين شهرا، وهو يوم غدير خم، لما أخذ النبي (صلى الله عليه وسلم) بيد
علي بن أبي طالب فقال: ألست ولي المؤمنين؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: من
كنت مولاه فعلي مولاه، فقال عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت
مولاي ومولى كل مسلم. فأنزل الله: اليوم أكملت لكم دينكم (1)، وإكمال الدين وإتمام
النعمة على المسلمين، لا يتصور إلا بتعيين شخص يبين الإسلام، وينفذه بعد
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
5 - قال الشبلنجي في نور الأبصار: ونقل الإمام أبو إسحاق الثعلبي (رحمه الله) في
تفسيره: " أن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى سئل عن قوله تعالى: {سأل سائل
بعذاب واقع} فيمن نزلت، فقال للسائل: لقد سألتني عن مسألة لم يسألني عنها
أحد قبلك، حدثني أبي عن جعفر بن محمد عن آبائه رضي الله عنهم أن
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما كان بغدير خم نادى الناس، فاجتمعوا، فأخذ بيد علي (رضي الله عنه)، وقال:
من كنت مولاه فعلي مولاه، فشاع ذلك فطار في البلاد، وبلغ ذلك الحرث بن النعمان



(1) تاريخ بغداد ج 8 ص 284، شواهد التنزيل ج 1 ص 123 و 200 و... و ج 2 ص 391 - تاريخ مدينة
دمشق ج 42 ص 233 و 234، تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 39، البداية والنهاية ج 7 ص 386، المعيار
والموازنة ص 212، ينابيع المودة ج 2 ص 249 ومصادر أخرى للعامة.
العمدة ص 106 و 170 و 244، الطرائف ص 147، رسائل المرتضى ج 4 ص 131، الاقتصاد ص 220،
الأمالي للصدوق ص 50 المجلس الأول ح 2، روضة الواعظين ص 350، المسترشد ص 587، تفسير
فرات الكوفي ص 516، خصائص الوحي المبين ص 97 ومصادر أخرى للخاصة.
175
الفهري فأتى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على ناقة، فأناخ راحلته ونزل عنها وقال: يا محمد!
أمرتنا عن الله عز وجل بشهادة أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلنا منك، وأمرتنا
أن نصلي خمسا فقبلنا منك، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا، وأمرتنا أن نصوم رمضان
فقبلنا، وأمرتنا بالحج فقبلنا، ثم لم ترض بذلك حتى رفعت بضبعي ابن عمك
تفضله علينا. فقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه! فهذا شئ منك أم من الله
عز وجل؟
فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): والذي لا إله إلا هو، إن هذا من الله عز وجل. فولى الحارث بن النعمان
يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من
السماء، أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل راحلته حتى رماه الله عز وجل بحجر،
سقط على هامته وخرج من دبره وقتله، وأنزل الله تعالى: سأل سائل بعذاب واقع *
للكافرين ليس له دافع * من الله ذي المعارج) (1).
ولا شك أن أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في فضائل علي (عليه السلام) كانت قد بلغت
المسلمين، والحديث الذي لم يكن يعرفه أمثال الحارث بن النعمان الفهري،
وجابر بن النضر، إنما هو ولاية علي على الأمة بعد النبي، فكان يصعب عليهم
قبوله ولذلك اعترضوا عليه.
6 - من القرائن الواضحة على أن معنى المولى الولي بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أن
المسلمين فهموا ذلك من خطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهنؤوا عليا (عليه السلام) بذلك، فقد روى



(1) نور الأبصار ص 87، وراجع أيضا نظم درر السمطين ص 93، تفسير القرطبي ج 18 ص 279،
ينابيع المودة ج 2 ص 370، شواهد التنزيل ج 2 ص 381 و... ومصادر أخرى للعامة.
شرح الأخبار ج 1 ص 230، مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 40، تفسير فرات الكوفي ص 505، الطرائف
ص 152، مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 40 ومصادر أخرى للخاصة.
176
أحمد في مسنده: (1)، والخطيب في تاريخ بغداد (2)، والرازي في تفسيره (3)،
ونكتفي بما في مسند أحمد:
عن البراء بن عازب قال: كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في سفر فنزلنا بغدير خم،
فنودي فينا الصلاة جامعة، وكسح لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) تحت شجرتين، فصلى الظهر
وأخذ بيد علي رضي الله تعالى عنه فقال: ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟
قالوا: بلى.
قال: ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟
قالوا: بلى.
قال: فأخذ بيد علي فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه!
قال: فلقيه عمر بعد ذلك فقال له: هنيئا يا ابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت
مولى كل مؤمن ومؤمنة) (4).
فهذه التهنئة من شخص مثل عمر لا يمكن أن تكون بسبب أن النبي مدح



(1) مسند أحمد بن حنبل ج 4 ص 281.
(2) تاريخ بغداد ج 8 ص 284.
(3) التفسير الكبير ج 12 ص 49 تفسير آية * (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) * ومصادر أخرى
للعامة.
مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 2 ص 368 و 369 و... المناقب ص 156 ومصادر أخرى للخاصة.
(4) مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 1 ص 442 و 443، ج 2 ص 368 و 371 و 441، المسترشد ص 470،
مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 45، الطرائف ص 150، اختيار معرفة الرجال ج 1 ص 87 ومصادر أخرى
للخاصة.
نظم درر السمطين ص 109، ذخائر العقبى ص 67، تاريخ مدينة دمشق ج 42 ص 220 و... البداية
والنهاية ج 7 ص 386، ينابيع المودة ج 1 ص 98 و 101 و ج 2 ص 158 و 285 ومصادر أخرى للعامة.
177
عليا بأمر مشترك بينه وبين غيره، بل بسبب أنه خصه بأمر مختص به، وليس هو
إلا ولايته وزعامته على الأمة.
7 - ومن القرائن على أن المقصود بالمولى الوالي على الأمة، احتجاج
علي (عليه السلام) بخطبة الغدير، وقد نقل ذلك عدد من كبار علماء السنة، مثل ابن حجر
في الإصابة (1)، وابن الأثير في أسد الغابة (2)، ونكتفي بما قاله ابن كثير، قال:
(قال أبو إسحاق: وحدثني من لا أحصي أن عليا نشد الناس في الرحبة من سمع
قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه. فقام نفر
فشهدوا أنهم سمعوا ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكتم قوم!
فما خرجوا من الدنيا حتى عموا، وأصابتهم آفة! منهم يزيد بن وديعة، وعبد
الرحمن بن مدلج).
ومن البديهي أن استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) بهذا الحديث، وطلبه شهادة
الصحابة لإثبات خلافته، قرينة واضحة على تعين المدلول - لكلمة الولي - في
ولاية أمر المسلمين.
8 - ومن القرائن على أن الولاية في الحديث بمعنى ولاية الأمر، أن



(1) الإصابة ج 4 ص 300 القسم الأول عبد الرحمن بن مدلج، و ج 4 ص 276 و ج 7 ص 136.
(2) أسد الغابة ج 3 ص 321، وراجع أيضا: مسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 119، مجمع الزوائد ج 9
ص 105 و 107، السنن الكبرى للنسائي ج 5 ص 131 و...، مسند أبي يعلى ج 1 ص 428، البداية
والنهاية ج 5 ص 229، السيرة النبوية ج 4 ص 418، خصائص أمير المؤمنين (عليه السلام) ص 96 و 100 و...
وص 132، المعجم الأوسط ج 7 ص 70، المعجم الكبير ج 5 ص 171، شرح نهج البلاغة لابن أبي
الحديد ج 19 ص 217، تاريخ مدينة دمشق ج 42 ص 205 ومصادر أخرى للعامة.
مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 2 ص 372، شرح الأخبار ج 1 ص 100، المسترشد ص 469، الأمالي
للطوسي ص 372 و 334... العمدة ص 93، الطرائف ص 151 ومصادر أخرى للخاصة.
178
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مهد لولاية علي بولاية الله تعالى، وقال: (الله مولاي) ولا شك أنه
لا ولاية لأحد عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) سوى الله تبارك وتعالى، ثم قال: (وأنا مولى كل مؤمن)
فأفاد أن تلك الولاية ثابتة له على المؤمنين، ثم قال: (من كنت مولاه فعلي مولاه)
فأثبت تلك الولاية لعلي من بعده، ومن الواضح أنها ليست إلا ولاية أمر
المسلمين.
9 - ومن القرائن أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قد رفع الشبهة والشك وسد الطريق على من يراد
تحريف ولاية علي (عليه السلام) التي أعلنها، حيث إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكرهم بقول الله تعالى: {النبي
أولى بالمؤمنين من أنفسهم} (1) وأخذ منهم الإقرار بولايته وأولويته بهم بقوله:
" ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم، قالوا: بلى " ثم جعل تلك الولاية والأولوية لعلي (عليه السلام)
بقوله: " فمن كنت مولاه فعلي مولاه "، فلا يبقى أي شك في أن المراد من المولى هو
ولاية الأمر على المسلمين.
الحديث الرابع
قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام): (أنت مني وأنا منك) (2)، وقد أخرجه البخاري وغيره



(1) سورة الأحزاب: 6.
(2) صحيح البخاري ج 3 ص 168 كتاب الصلح باب كيف يكتب هذا... و ج 4 ص 207 باب مناقب
علي بن أبي طالب و ج 5 ص 85 باب عمرة القضاء - مسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 98 و 115 و ج 5
ص 204 و 108، وصحيح ابن حبان ج 11 ص 229 و 230، السنن الكبرى للبيهقي ج 8 ص 5، مجمع
الزوائد ج 9 ص 275، المصنف لعبد الرزاق ج 11 ص 227، مصنف ابن أبي شيبة ج 7 ص 499، السنن
الكبرى للنسائي ج 5 ص 127 و 148 و 168 و 169، خصائص أمير المؤمنين (عليه السلام) ص 88 و 89 و 122
و 151، كنز العمال ج 5 ص 579 و ج 11 ص 599 و 639 و 755 و ج 13 ص 255، معاني القرآن ج 5
ص 40، شواهد التنزيل ج 2 ص 143، تفسير القرطبي ج 13 ص 60 و ج 15 ص 215، تفسير ابن كثير
ج 3 ص 475 و ج 4 ص 218، تاريخ بغداد ج 4 ص 364، تاريخ مدينة دمشق ج 19 ص 362 و ج 42
ص 53 و 63 و 179، تهذيب الكمال ج 5 ص 54، سير أعلام النبلاء ج 1 ص 214، البداية والنهاية ج 4
ص 267، ومصادر أخرى كثيرة للعامة.
مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ص 473 مناقب آل أبي طالب ج 1 ص 396 - الخصال ص 496 وص 573
وص 652، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 58 باب 31 ح 224، الأمالي للصدوق ص 66 المجلس
الرابع ح 8 وص 156 المجلس الحادي والعشرون ج 1 وص 342 المجلس الخامس والأربعون ج 18
وموارد أخرى من هذا الكتاب، كمال الدين وتمام النعمة ص 241، كفاية الأثر ص 158، روضة
الواعظين ص 112 و 296، المسترشد ص 621 و 634 و...، شرح الأخبار ج 1 ص 93 و ج 2 ص 250،
الإرشاد ج 1 ص 46، الأمالي للمفيد ص 213، الأمالي للطوسي ص 200 و 351 و 652، العمدة
ص 146 و 201، ومصادر أخرى للخاصة.
179
من أكابر أئمة الحديث.
لا ريب أن كمال العالم بالعقل والعلم والعبادة والإطاعة بالاختيار، الذي
خلق لأجله الإنسان الذي امتاز في خلقته بالعقل والاختيار، وكمال الإنسان
بلوغه إلى مرتبة الاتصال بعالم الغيب، واستنارة عقله بنور الوحي، وهي مرتبة
النبوة، وكمال هذه المرتبة ببعثه سفيرا من الخالق إلى خلقه لإضاءة عقولهم بضياء
الحكمة الإلهية، وهي مرتبة الرسالة.
وكمال هذه المرتبة بلوغها إلى مرتبة العزم على العهد المعهود، والميثاق
المأخوذ، الذي هو مرتبة أولي العزم من الرسل المبعوثين بالشريعة.
وكمال هذه المرتبة الوصول إلى مرتبة الخاتمية، التي هي مرتبة المبعوث
بالشريعة الأبدية، التي هي نهاية الحد، وصاحبها أول العدد وآخر الأبد، الخاتم
لما سبق، والفاتح لما استقبل، وهو الاسم الأعظم، والمثل الأعلى وقد وصل

180
علي (عليه السلام) إلى مرتبة قال الذي قال الله في شأنه: {وما ينطق عن الهوى} (1): (علي مني)،
الكاشف عن اشتقاق علي من الجوهرة الفريدة في عالم الإمكان، وهي النفس
القدسية التي هي العلة الغائية من خلق العالم واستخلاف آدم، ولم يقتصر على
هذا، بل قال: (وأنا منه)، لأن غاية وجوده والهدف من بعثته وما به قوام إنيته، وهو
الهداية إلى الدين القويم والصراط المستقيم، لم تتحقق حدوثا وبقاء إلا بعلي
وأبنائه المعصومين (عليهم السلام).
فكيف يمكن الفصل في الخلافة بين من هو من علي وعلي منه؟!
الحديث الخامس
قال النبي (صلى الله عليه وآله): (علي مع القرآن والقرآن مع علي لن يتفرقا حتى يردا على الحوض) (2)، وقد
اعترف بصحة سنده كبار أئمة الحديث من العامة والخاصة.
ودلالة هذا الحديث كسابقه واضحة، لأنه ليس في الكتب الإلهية أفضل من
القرآن {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشبها} (3)، {إن هذا القرآن يهدى للتي هي



(1) سورة النجم: 3.
(2) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 124 وفي التلخيص أيضا، مجمع الزوائد ج 9 ص 134، المعجم
الصغير ج 1 ص 255، المعجم الأوسط ج 5 ص 135، الجامع الصغير ج 2 ص 177، كنز العمال ج 11
ص 603، فيض القدير ج 4 ص 470، سبل الهدى والرشاد ج 11 ص 297، ينابيع المودة ج 1 ص 124
وص 169 ومصادر أخرى للعامة.
الاحتجاج ج 1 ص 216 و 297، الطرائف ص 73 و 103، الأربعون حديثا ص 73، كشف الغمة ج 1
ص 148، الأمالي للطوسي ص 460، المجلس السادس عشر ح 34 وص 479 وص 506 وبتفاوت في
مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 2 ص 616 ومصادر أخرى للخاصة.
(3) سورة الزمر: 23.
181
أقوم} (1)، وقد وصفه الله بأوصاف تنبئ عن عظمته التي جف القلم عن تحريرها
وكل البيان عن تقريرها كقوله تعالى: {بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ} (2)، {إنه
لقرآن كريم * في كتاب مكنون} (3)، {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم} (4)،
{يس * والقرآن الحكيم} (5)، ووصف نفسه بأنه معلم هذا الكتاب {الرحمن * علم
القرآن} (6)، وأشار إلى ما تجلى من جبروته في هذا الكتاب بقوله تعالى: {لو أنزلنا
هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله} (7)، وإلى ما تجلى من
قدرته في الأسرار المكنونة في آياته بقوله تعالى: {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال
أو قطعت به
الأرض أو كلم به الموتى} (8)، وأن هذا الكتاب مظهر علمه وحكمته {وإنك لتلقى
القرآن من لدن حكيم عليم} (9)، وقال: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى
ورحمة} (10)، وحمد نفسه على إنزال هذا الكتاب {الحمد لله الذي أنزل على عبده
الكتاب ولم يجعل له عوجا} (11)، وهو الكتاب الذي قد روي عن رسول الله في



(1) سورة الإسراء: 9.
(2) سورة البروج: 20 - 21.
(3) سورة الواقعة: 77 - 78.
(4) سورة الحجر: 87.
(5) سورة يس: 1 - 2.
(6) سورة الرحمن: 1 - 2.
(7) سورة الحشر: 21.
(8) سورة الرعد: 31.
(9) سورة النمل: 6.
(10) سورة النحل: 89.
(11) سورة الكهف: 1.
182
التمسك به: فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنه شافع مشفع
وماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على
خير سبيل، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل وله ظهر وبطن،
فظاهره حكم، وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق، له تخوم، وعلى تخومه تخوم، لا تحصى عجائبه،
ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى، ومنار الحكمة، ودليل على المعروف [المعرفة] لمن عرفه [عرف
الصفة]) (1).
هذا هو الكتاب الذي قد تجلى الله لخلقه فيه، وقد عرفه من أنزله بما ذكر من
الآيات، ومن أنزل عليه بهذه الكلمات، فما أجل قدر من وصفه النبي بمعية هذا
الكتاب.
فهو الذي يكون مع ظاهر القرآن بحكمته، ومع باطن القرآن بعلمه، ومع
عجائبه التي لا تحصى وغرائبه التي لا تبلى، وبهذه المعية، عنده ما أنزل الله على
جميع أنبيائه من الكتاب والحكمة، وعلمه حملة علمه من عزائم أمره وغوامض
أسراره.
ومن كان عنده علم من الكتاب كان قادرا على أن يأتي بعرش بلقيس قبل
أن يرتد طرف سليمان، فما أرفع مكان من هو مع الكتاب بكل ما فيه!
وهو الأذن الواعية في قوله تعالى: {وتعيها أذن واعية} (2)، على ما رواه أعلام
التفسير والحديث (3)، وهو الذي قال: سلوني فوالله لا تسألوني عن شئ إلا أخبرتكم وسلوني



(1) الكافي ج 2 ص 599.
(2) سورة الحاقة: 12.
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 7 ص 220، نظم درر السمطين ص 92، كنز العمال ج 13
ص 135 و 177، جامع البيان ج 29 ص 69، وأسباب النزول ص 294 - شواهد التنزيل ج 2 ص 361
و 362 و...، تفسير القرطبي ج 18 ص 264، تفسير ابن كثير ج 4 ص 441، الدر المنثور ج 6 ص 260،
تاريخ مدينة دمشق ج 38 ص 349، ج 41 ص 455 و ج 42 ص 361 ومصادر أخرى للعامة.
بصائر الدرجات ص 537، الجزء العاشر باب 17، ح 48 - الكافي ج 1 ص 423، عيون أخبار الرضا
(عليه السلام) ج 2، ص 62 باب 31 ح 256، روضة الواعظين ص 105، مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 1
ص 142 و...، دلائل الإمامة ص 235، تفسير العياشي ج 1 ص 14، تفسير فرات الكوفي ص 499،
التبيان ج 10 ص 98، مجمع البيان ج 10 ص 107 ومصادر أخرى للخاصة.
183
عن كتاب الله فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار (1).
وما أعظم مقام من وصفه النبي بأن القرآن معه، ومع أن المعية قائمة
بالطرفين لم يكتف بقوله (صلى الله عليه وآله): علي مع القرآن وزاد في بيان عظمته بما لا يناله إلا أولو
الألباب وهو قوله: والقرآن مع علي.
وفي الابتداء بعلي والاختتام بالقرآن في الجملة الأولى، والابتداء بالقرآن
والاختتام بعلي في الجملة الثانية، وترتيب الكلام من أفصح من نطق بالضاد (2)
بحيث يكون البدء والختم بعلي، لطائف لا يسعها المجال.
وخلاصة الكلام أنه ليس فيمن أرسله الله أفضل من الرسول الأمين، ولما



(1) فتح الباري ج 8 ص 459، كنز العمال ج 2 ص 565 وبتفاوت يسير في شواهد التنزيل ج 1 ص 42،
تفسير الثعالبي ج 1 ص 52، تفسير القرطبي ج 1 ص 35، الجرح والتعديل ج 6 ص 192، تهذيب
الكمال ج 20 ص 487، تهذيب التهذيب ج 7 ص 297، أنساب الأشراف ص 99، الجوهرة في نسب
الإمام علي وآله ص 74، ينابيع المودة ج 2 ص 173 و 408، ذخائر العقبى ص 83، تفسير القرآن عبد
الرزاق ج 3 ص 241، الطبقات الكبرى ج 2 ص 338، تاريخ مدينة دمشق ج 42 ص 398 ومصادر
أخرى للعامة.
الاحتجاج للطبرسي ج 1 ص 195، مناقب آل أبي طالب ج 1 ص 46، وصول الأخيار إلى أصول
الأخبار ص 4، المناقب ص 94، كشف الغمة ج 1 ص 117، سعد السعود ص 284، تفسير العياشي ج 2
ص 283، ومصادر أخرى للخاصة.
(2) بحار الأنوار ج 2 ص 163.
184
كان علي منه وهو من علي، فعلي تالي تلو خير خلق الله، وليس فيما أنزل الله
أعلى من القرآن المبين، ولما كان علي مع القرآن والقرآن معه فقلبه خزانة كل ما
أنزل الله من الهدى والنور والكتاب والحكمة.
فهل يبقى ريب في أنه أولى بأن يكون خليفة للرسول الكريم ومفسرا
للقرآن العظيم؟! وهل يبقى شك في أنه مولى كل من آمن بالله الذي قال: {ما آتاكم
الرسول فخذوه} (1)، {ما على الرسول إلا البلاغ المبين} (2).
الحديث السادس
وقد اعترف بصحته أهل الحديث والرجال من العامة، قال عمرو بن ميمون،
قال: إني لجالس عند ابن عباس إذ أتاه تسعة رهط فقالوا: يا ابن عباس، إما أن
تقوم معنا، وإما أن تخلو بنا من بين هؤلاء. قال: فقال ابن عباس: بل أنا أقوم
معكم، قال: وهو يومئذ صحيح قبل أن يعمى.
قال: فابتدؤوا فتحدثوا فلا ندري ما قالوا، قال: فجاء ينفض ثوبه ويقول:
أف وتف! وقعوا في رجل له بضع عشرة فضائل، ليست لأحد غيره! وقعوا في
رجل قال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لأبعثن رجلا لا يخزيه الله أبدا، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله،
فاستشرف لها مستشرف فقال: أين علي؟ فقالوا: إنه في الرحى يطحن، قال:
وما كان أحدهم ليطحن!
قال: فجاء وهو أرمد لا يكاد أن يبصر. قال: فنفث في عينيه، ثم هز الراية



(1) سورة الحشر: 7.
(2) سورة النور: 54.
185
ثلاثا فأعطاها إياه.
قال ابن عباس: ثم بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلانا بسورة التوبة، فبعث عليا
خلفه فأخذها منه وقال: لا يذهب بها إلا رجل هو مني وأنا منه.
فقال ابن عباس: وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لبني عمه: أيكم يواليني في الدنيا والآخرة؟ قال
وعلي جالس معهم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأقبل على رجل رجل منهم: أيكم
يواليني في الدنيا والآخرة، فأبوا!
فقال لعلي: أنت وليي في الدنيا والآخرة.
قال ابن عباس: وكان علي أول من آمن من الناس بعد خديجة رضي الله
عنها. قال: وأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثوبه فوضعه على علي وفاطمة وحسن
وحسين، وقال: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا.
قال ابن عباس: وشرى علي نفسه، فلبس ثوب النبي ثم نام مكانه... إلى
أن قال:
وجعل علي (رضي الله عنه) يرمى بالحجارة كما كان يرمى نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يتضور،
وقد لف رأسه في الثوب لا يخرجه حتى أصبح، ثم كشف عن رأسه، فقالوا: إنك
للئيم، وكان صاحبك لا يتضور ونحن نرميه، وأنت تتضور، وقد استنكرنا ذلك!
فقال ابن عباس: وخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزوة تبوك، وخرج بالناس
معه، قال فقال له علي: أخرج معك.
قال: فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا، فبكى علي، فقال له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون
من موسى، إلا أنه ليس بعدي نبي. إنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي.
قال ابن عباس: وقال له رسول الله: أنت ولي كل مؤمن بعدي ومؤمنة.
قال ابن عباس: وسد رسول الله أبواب المسجد غير باب علي، فكان يدخل

186
المسجد جنبا، وهو طريقه ليس له طريق غيره.
قال ابن عباس: وقال رسول الله: من كنت مولاه فإن مولاه علي (1).
فهل يبقى شك في أن عليا هو الخليفة للنبي بلا فصل، بعد تخصيص النبي له
براية الفتح، ونصه عليه وحده من بين الأصحاب بأنه محبوب الله ورسوله؟ وبعد
أن أرسل سورة براءة إلى أهل مكة بيد غيره، فأمره الله أن يسحبها منه ويعطيها
لعلي، لأنه لا يجوز أن يبلغها عن النبي إلا هو أو رجل منه، وهو علي؟
وبعد تصريح النبي بأن منزلته منه كمنزلة هارون من موسى، وأنه لا ينبغي له
أن يذهب من المدينة إلا وعلي خليفته؟
وبعد أن نص على ولايته المطلقة على المؤمنين فقال: (أنت ولي كل مؤمن بعدي
ومؤمنة) (من كنت مولاه فعلي مولاه)؟
وكيف يبقى مجال للشك عند المنصف وهو يرى هذه الأحاديث وأمثالها
مدونة في مصادر العامة، معترفا بصحتها عندهم، تنص على أن عليا (عليه السلام) هو
خليفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا فصل؟!
* *



(1) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 132، مسند أحمد ج 1 ص 230، والسنن الكبرى البيهقي ج 5
ص 112، والمعجم الكبير ج 12 ص 97، وفضائل الصحابة ج 2 ص 682، خصائص أمير
المؤمنين (عليه السلام) ص 62.، خصائص الوحي المبين ص 117، تاريخ مدينة دمشق ج 42 ص 98، ينابيع
المودة ج 1 ص 110، ذخائر العقبى ص 87، مجمع الزوائد ج 9 ص 119، كتاب السنة ص 589، السنن
الكبرى للنسائي ج 5 ص 113، البداية والنهاية ج 7 ص 374 ومصادر أخرى للعامة.
مناقب أمير المؤمنين ج 2 ص 505، تفسير فرات الكوفي ص 341، شرح الأخبار ج 2 ص 299،
العمدة ص 85 و 238، كشف الغمة ج 1 ص 80، المناقب ص 125، كشف اليقين ص 26، ومصادر
أخرى للخاصة.
187
هذا غيض من فيض من آيات الله تعالى، وأحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا
الموضوع، ولا يتسع هذا الموجز لاستقصائها.
وقد روى الحاكم الحسكاني، وهو من أعلام القرن الخامس من علماء
العامة، عن مجاهد أنه قال: (إن لعلي سبعين منقبة ما لأحد من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم)
مثلها، وما من شئ من مناقبهم إلا وقد شركهم فيها) (1).
وعن ابن عباس قال: (ما في القرآن آية: الذين آمنوا وعملوا الصالحات، إلا
وعلي أميرها وشريفها، وما من أصحاب محمد رجل إلا وقد عاتبه الله، وما ذكر
عليا إلا بخير!) (2).
وقال: (لقد كانت لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) ثمانية عشر منقبة، لو لم يكن له إلا
واحدة منهن لنجا بها. ولقد كانت له ثلاثة عشر منقبة لم تكن لأحد من هذه
الأمة) (3).
وقال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: (قال شيخنا أبو الهذيل وقد
سأله سائل: أيهما أعظم منزلة عند الله علي أم أبو بكر؟
فقال: يا بن أخي، والله لمبارزة علي عمروا يوم الخندق تعدل أعمال
المهاجرين والأنصار وطاعاتهم كلها وتربو عليها فضلا عن أبي بكر وحده) (4).



(1) شواهد التنزيل ج 1 ص 24.
(2) شواهد التنزيل ج 1 ص 30. وقريب منه في ص 67 و... وينابيع المودة ج 2 ص 406 وقد ذكر في كتب
الخاصة أيضا كما في كشف الغمة ج 1 ص 317 وتفسير العياشي ج 2 ص 352 وتفسير فرات الكوفي
ص 49 وغيرها.
(3) شواهد التنزيل ج 1 ص 22، والمعجم الأوسط ج 8 ص 212 وقريب منه في مصادر الخاصة أيضا
كما في مناقب آل أبي طالب ج 2 ص 3 وغيره.
(4) شرح النهج لابن أبي الحديد ج 19 ص 60، وشواهد التنزيل ج 2 ص 16 وغيرهما، وقد ذكر في
مصادر الخاصة أيضا كما في مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 1 ص 223 وغيره.
188
وقال أحمد بن حنبل كما في مستدرك الحاكم: (ما جاء لأحد من أصحاب
رسول الله من الفضائل، ما جاء لعلي بن أبي طالب) (1).
وقيل لإمام العلم والأدب مؤسس علم العروض، الخليل بن أحمد:
ما الدليل على أن عليا إمام الكل في الكل؟
قال: احتياج الكل إليه، واستغناؤه عن الكل.
وقيل له: ما تقول في علي بن أبي طالب؟
فقال: ما أقول في حق امرئ كتم مناقبه أولياؤه خوفا، وأعداؤه حسدا، ثم
ظهر من بين الكتمانين ما ملأ الخافقين (2).
فلو لم يكن حسد الأعداء وخوف الأصدقاء، ولو لم تحجب العصور
المظلمة لحكومات بني أمية وبني العباس شمس أمير المؤمنين (عليه السلام)، فكيف كانت
ستشرق ويسطع نورها؟! وتنتشر أنوار فضائله في الآفاق؟!
* *
ولنختم هذا المبحث الشريف بآيتين من الآيات النازلة في شأنه (عليه السلام):
الآية الأولى
{إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم



(1) المستدرك ج 3 ص 107، وشواهد التنزيل ج 1 ص 26 و 27، وتاريخ مدينة دمشق ج 42 ص 418،
نظم درر السمطين ص 80، تهذيب التهذيب ج 7 ص 297، ينابيع المودة ج 1 ص 9 و ج 2 ص 370
و 385 وغيرها. وقد ذكر في كتب الخاصة أيضا كما في: الطرائف ص 136 والمناقب ص 11 و 34
والعمدة ص 121 وكشف الغمة ج 1 ص 167 وغيرها.
(2) المهذب البارع ج 4 ص 293.
189
راكعون} (1).
وقد اعترف أكابر علماء العامة بنزولها في شأن علي (عليه السلام) ونكتفي بما نقله
الفخر الرازي في تفسيره، وروى عن أبي ذر (رضي الله عنه) أنه قال: صليت مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
يوما صلاة الظهر، فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد، فرفع السائل يده إلى
السماء وقال: اللهم اشهد أني سألت في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فما أعطاني أحد
شيئا، وعلي (عليه السلام) راكعا، فأومأ إليه بخنصره اليمنى وكان فيها خاتم، فأقبل السائل
حتى أخذ الخاتم بمرأى النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقال: اللهم إن أخي موسى سألك فقال {رب اشرح
لي صدري} (2) إلى قوله: {وأشركه في أمري} فأنزلت قرآنا ناطقا {سنشد عضدك بأخيك
ونجعل لكما سلطانا} (3) اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي
وزيرا من أهلي عليا أشدد به ظهري. قال أبو ذر: فوالله ما أتم رسول الله هذه الكلمة حتى
نزل جبرئيل فقال: يا محمد اقرأ {إنما وليكم الله ورسوله} إلى آخرها (4).



(1) سورة المائدة: 55.
(2) سورة طه: 25.
(3) سورة القصص: 35.
(4) التفسير الكبير ج 12 ص 26، وراجع أيضا: جامع البيان ج 6 ص 389، أحكام القرآن ج 2 ص 557،
تفسير القرطبي ج 6 ص 222، تفسير ابن كثير ج 2 ص 74، الدر المنثور ج 2 ص 293 و 294، المعيار
والموازنة ص 228، المعجم الأوسط ج 6 ص 218، معرفة علوم الحديث ص 102، شرح نهج البلاغة
ج 13 ص 276، نظم درر السمطين ص 86، تاريخ مدينة دمشق ج 42 ص 357، البداية والنهاية ج 7
ص 394، ينابيع المودة ج 1 ص 343 و 346 و ج 2 ص 192، شواهد التنزيل ج 1 ص 209 و 212 و...،
أسباب النزول الواحدي ص 134، مجمع الزوائد ج 7 ص 17، تفسير السعود ج 3 ص 52، تفسير
النسفي ج 1 ص 405 ومصادر أخرى للعامة.
الكافي ج 1 ص 289 و 427، الخصال ص 580، الأمالي للصدوق ص 186 المجلس السادس
والعشرون ح 4، كمال الدين وتمام النعمة ص 276 و 337، روضة الواعظين ص 92 و 102، مناقب أمير
المؤمنين (عليه السلام) ج 1 ص 151 و 170 و 189، دلائل الإمامة ص 19 و 54، شرح الأخبار ج 2 ص 193
و 346، الإرشاد ج 1 ص 7، كنز الفوائد ص 154 و...، الأمالي للطوسي ص 549، الاحتجاج ج 1
ص 73 و ج 2 ص 252، العمدة ص 119 و...، تفسير العياشي ج 1 ص 327، تفسير فرات الكوفي
ص 124 و...، التبيان ج 3 ص 558، مجمع البيان ج 3 ص 361 ومصادر أخرى كثيرة للخاصة.
190
ونزول الآية بعد دعائه (صلى الله عليه وآله وسلم) إجابة له، فقد جعل الله عز وجل عليا من
رسول الله كما كان هارون من موسى (عليهما السلام).
ويستفاد من هذه الآية - بمقتضى حرف العطف - أن نفس ولاية الله الثابتة
للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هي الثابتة لعلي (عليه السلام).
وأفادت الآية الشريفة - بمقتضى أداة الحصر " إنما " - أن هذه الولاية الثابتة
لله ولرسوله ولعلي ولاية منحصرة بالله ورسوله وعلي، وليست هذه الولاية إلا
ولاية الأمر.
الآية الثانية
وهي قوله تعالى: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع
أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله
على الكاذبين} (1).
وفي هذه الآية نكات لأهل النظر، نكتفي بالإشارة إلى ثلاث منها:
1 - دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المباهلة برهان على صدق رسالته وحقانية دينه،
وإباء النصارى عنها اعتراف ببطلان دينهم.



(1) سورة آل عمران: 61.
191
2 - وكلمة (أنفسنا) دليل على خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) بلا فصل، لأنه مع
وجود النفس المنزلة منزلة نفس النبي بنص الكتاب، والتي هي امتداد لوجوده
الشريف، لا يعقل أن يقوم مقامه شخص آخر.
3 - واتفق أئمة التفسير على أن المراد بأبنائنا في الآية الحسن
والحسين (عليهما السلام)، والمراد بنسائنا فاطمة الزهراء (عليها السلام)، والمراد بأنفسنا علي (عليه السلام) (1).



(1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 1 ص 85 باب 7 ح 9 و ج 1 ص 231 باب 23 ح 1، الخصال للصدوق
ص 576 أبواب السبعين ح 1، الأمالي للصدوق ص 618، المجلس التاسع والسبعون ح 1، تحف العقول
ص 429، روضة الواعظين ص 164، شرح الأخبار ج 2 ص 340 و ج 3 ص 94، الفصول المختارة
ص 38، تفضيل أمير المؤمنين (عليه السلام) ص 21، الإرشاد ج 1 ص 167، الأمالي للطوسي ص 271 المجلس
العاشر ح 45 وص 307 وص 334 المجلس الثاني عشر ح 10 وص 564 المجلس الحادي والعشرون
ح 1، الاحتجاج ج 1 ص 162 و ج 2 ص 165، دعائم الإسلام ج 1 ص 18، مسار الشيعة ص 41، كنز
الفوائد ص 167، العمدة ص 132 و 188 و...، تفسير فرات الكوفي ص 85، التبيان ج 2 ص 484،
تفسير مجمع البيان ج 2 ص 309، حقائق التأويل ص 112، تفسير الصافي ج 1 ص 343، مناقب أمير
المؤمنين (عليه السلام) ج 2 ص 502، المناقب ص 108، كشف الغمة ج 1 ص 308، كشف اليقين ص 282،
ومصادر أخرى كثيرة للخاصة يصعب ذكرها.
سنن الترمذي ج 5 ص 302، تحفة الأحوذي ج 8 ص 278، معرفة علوم الحديث ص 49، نظم درر
السمطين ص 108، فتح الباري ج 7 ص 60، جامع البيان ج 3 ص 408، تفسير القرطبي ج 4 ص 104،
تفسير البغوي ج 3 ص 361، تفسير روح المعاني ج 3 ص 188، تفسير السعود ج 2 ص 46، تفسير
النسفي ج 1 ص 224، الدر المنثور ج 2 ص 39، شواهد التنزيل ج 1 ص 156 و...، سير أعلام النبلاء
ج 3 ص 286، زاد المسير ج 1 ص 339، تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 82، البداية والنهاية ج 5 ص 65 و ج 7
ص 376، السيرة النبوية ابن كثير ج 4 ص 103، ينابيع المودة ج 1 ص 43 و 136 و 165 و ج 2 ص 446
و ج 3 ص 368، أحكام القرآن ج 2 ص 18، أسباب نزول الآيات ص 67، مسند أحمد ج 1 ص 185،
صحيح مسلم ج 7 ص 121، سنن الترمذي ج 4 ص 293، المستدرك ج 3 ص 150، السنن الكبرى
للبيهقي ج 7 ص 63، مسند سعد بن أبي وقاص ص 51، أسد الغابة ج 4 ص 26، تاريخ مدينة دمشق
ج 42 ص 16 و 112، الإصابة ج 4 ص 468 ومصادر أخرى للعامة كثيرة جدا.
192
ونكتفي بذكر حديث أورده الفخر الرازي في تفسيره، قال:
(المسألة الثانية: روي أنه (عليه السلام) لما أورد الدلائل على نصارى نجران ثم إنهم
أصروا على جهلهم، فقال (عليه السلام): إن الله أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم.
فقالوا: يا أبا القاسم، بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك. فلما رجعوا قالوا
للعاقب، وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال: والله لقد عرفتم يا معشر
النصارى أن محمدا نبي مرسل، ولقد جاءكم بالكلام الحق في أمر صاحبكم،
والله ما باهل قوم نبيا قط، فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم لكان
الاستئصال، فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه،
فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.
وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خرج وعليه مرط من شعر أسود، وكان احتضن الحسين
وأخذ بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعلي (رضي الله عنه) خلفها، وهو يقول: إذا دعوت
فأمنوا.
فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى، إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن
يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض
نصراني إلى يوم القيامة، ثم قالوا: يا أبا القاسم، رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على
دينك.
فقال صلوات الله عليه: فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا، يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على
المسلمين، فأبوا، فقال: فإني أناجزكم القتال، فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن
نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا، على أن نؤدي إليك في كل عام
ألفي حلة، ألفا في صفر، وألفا في رجب، وثلاثين درعا عادية من حديد.
فصالحهم على ذلك، وقال: والذي نفسي بيده، إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران، ولو

193
لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، لاضطرم عليهم الوادي نارا، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس
الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا.
وروي أنه (عليه السلام) لما خرج في المرط أسود، فجاء الحسن (رضي الله عنه) فأدخله، ثم جاء
الحسين (رضي الله عنه) فأدخله ثم فاطمة، ثم علي رضي الله عنهما، ثم قال: {إنما يريد الله
ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} (1). واعلم أن هذه الرواية كالمتفق
على صحتها بين أهل التفسير والحديث) (2).
ولا يتسع المجال لشرح الآية الكريمة والحديث الشريف، فنكتفي بنقطتين:
الأولى: إنما جمع النبي عند خروجه عليا وفاطمة والحسنين وأدار عليهم
الكساء وقرأ الآية {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}،
ليثبت أن الدعاء الذي يخرق نواميس الطبيعة، ويهيمن على أسبابها، ويستجاب
فورا بإرادة الله تعالى، لابد أن يصعد إلى خالق الكون من روح مطهرة من كل
أنواع الرجس {إليه يصعد الكلم الطيب} (3)، وأن هذه الطهارة بإرادة الله تعالى
متحققة في هؤلاء النفر، أصحاب الكساء، صلوات الله عليهم.
الثانية: إن مباهلة النبي للنصارى دعاء بنزول العذاب عليهم وهو دعاء
خطير، تعني إجابته انقلاب صورة الإنسان إلى الحيوان، وتحول التراب إلى
النار، وإمحاء أمة من وجه الأرض!
ولا يمكن أن يكون ذلك إلا بإرادة متصلة بالأمر الذي {إنما أمره إذا أراد شيئا
أن يقول له كن فيكون} (4).



(1) سورة الأحزاب: 33.
(2) التفسير الكبير ج 8 ص 80.
(3) سورة فاطر: 10.
(4) سورة يس: 82.
194
وهذا مقام الإنسان الكامل الذي يكون رضاه وغضبه مظهرا لرضا الله
وغضبه، وهو مقام خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم)، ووصيه (عليه السلام).
والمرأة الوحيدة التي شاركت في هذا المقام هي الصديقة الكبرى فاطمة
الزهراء (عليها السلام)، وهذا يكشف عن أن روح الولاية الكلية والإمامة العامة التي هي
العصمة المطلقة، متحققة فيها صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها.
ومما يؤكد ذلك الحديث الذي رواه العامة والخاصة، واعترفوا بصحته أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها أغضبني) (1).



(1) صحيح البخاري ج 4 ص 210 باب مناقب قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و ج 6 ص 158، وقريب منه في
فضائل الصحابة ص 78 - مسند أحمد بن حنبل ج 4 ص 5 و 328 - صحيح مسلم ج 7 ص 141، سنن
ابن ماجة ج 1 ص 644، سنن ابن داود ج 1 ص 460 - سنن الترمذي ج 5 ص 359 و 360، المستدرك
على الصحيحين ج 3 ص 159 - السنن الكبرى للبيهقي ج 7 ص 307 و ج 10 ص 201، مصنف ابن أبي
شيبة ج 7 ص 526، الآحاد والمثاني ج 5 ص 361 و 362، السنن الكبرى للنسائي ج 5 ص 97،
خصائص أمير المؤمنين (عليه السلام) ص 120 و... صحيح ابن حبان ج 15 ص 406، المعجم الكبير ج 22
ص 404 و 405، شرح نهج البلاغة ج 16 ص 273 و 279، نظم درر السمطين ص 176، الجامع الصغير
ج 2 ص 208، كنز العمال ج 12 ص 107 و... تفسير ابن كثير ج 3 ص 267، تفسير الثعالبي ج 5
ص 315، تاريخ مدينة دمشق ج 3 ص 155 و ج 58 ص 159، تهذيب الكمال ج 22 ص 599 و ج 35
ص 250، تذكرة الحفاظ ج 2 ص 735، سير أعلام النبلاء ج 2 ص 119 و ج 5 ص 90، تهذيب الكمال
ج 12 ص 392، الإصابة ج 8 ص 265، البداية والنهاية ج 6 ص 366، سبل الهدى والرشاد ج 10
ص 449 و... و ج 11 ص 444، ينابيع المودة ج 2 ص 46 و 52 و... ومصادر أخرى كثيرة للعامة.
علل الشرائع ج 1 ص 186 باب 149 ح 2 و ج 1 ص 187 - الأمالي للصدوق ص 165، المجلس الثاني
والعشرون ح 3 - كفاية الأثر ص 37 و 65، الإيضاح ص 541، دلائل الإمامة ص 135، شرح الأخبار
ج 3 ص 30 و 31 و 59 و... الاعتقادات ص 105 الأمالي للمفيد ص 260، الأمالي للطوسي ص 24،
مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 332 و... العمدة ص 384 و... تفسير مجمع البيان ج 2 ص 311 و ج 5
ص 403، المناقب ص 353، كشف الغمة ح 466 و... ومصادر أخرى كثيرة للخاصة.
195
ومع أن العقل والكتاب والسنة دلت على أن غضب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو غضب الله
تعالى، لكن روى علماء السنة أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لفاطمة: (إن الله يغضب لغضبك ويرضى
لرضاك) (1).
ومن كان الله يرضى لرضاه ويغضب لغضبه بلا قيد ولا شرط، لابد أن يكون
رضاه وغضبه - بضرورة العقل - منزهين عن الخطأ والهوى، وهذه هي العصمة
الكبرى.



(1) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 154 والمعجم الكبير ج 1 ص 108، و ج 22 ص 401، مجمع
الزوائد ج 9 ص 203، الآحاد والمثاني ج 5 ص 363، ميزان الاعتدال ج 1 ص 535 و ج 2 ص 492 -
الإصابة ج 8 ص 266، تهذيب الكمال ج 35 ص 250، تهذيب التهذيب ج 12 ص 392، الإصابة ج 8
ص 265، ذخائر العقبى ص 39، المعجم الكبير ج 1 ص 108 و ج 22 ص 401، نظم درر السمطين
177، كنز العمال ج 12 ص 111 و ج 13 ص 674، الكامل ج 2 ص 351، تاريخ مدينة دمشق ج 3
ص 156، أسد الغابة ج 5 ص 522، سبل الهدى والرشاد ج 11 ص 44، ينابيع المودة ج 2 ص 56 و 57
و 72 و 132 و 464 ومصادر أخرى للعامة.
الاحتجاج ج 2 ص 103 - وبتفاوت يسير عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 1 ص 26 باب 31 ح 6 وص 46
ح 176 - الأمالي للصدوق ص 467 المجلس الحادي والعشرون ح 1، روضة الواعظين ص 149،
دلائل الإمامة ص 146، شرح الأخبار ج 3 ص 29 و 30 و 522، الأمالي للطوسي ص 427، تفسير
مجمع البيان ج 2 ص 311، الاحتجاج للطبرسي ج 2 ص 103، مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 334،
كشف الغمة ج 2 ص 467، كشف اليقين ص 351، معاني الأخبار ص 303، الاعتقادات ص 105،
الأمالي للمفيد ص 95، إعلام الورى ج 1 ص 294 ومصادر أخرى للخاصة.
196
...
الأئمة الإثنا عشر:
ما تقدم هو أدلة مختصرة على مسألة الإمامة في المذهب الحق، والشيعة
تعتقد أن أئمة المسلمين بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هم الأئمة الإثنا عشر المعصومون (عليهم السلام)،
وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد نص عليهم، وهم:
الأول: الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه السلام).
الثاني: الإمام الحسن بن علي السبط الأكبر (عليهما السلام).
الثالث: الإمام الحسين بن علي سيد الشهداء (عليهما السلام).
الرابع: الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام).
الخامس: الإمام محمد بن علي الباقر (عليهما السلام).
السادس: الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام).
السابع: الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليهما السلام).
الثامن: الإمام علي بن موسى الرضا (عليهما السلام).
التاسع: الإمام محمد بن علي الجواد (عليهما السلام).
العاشر: الإمام علي بن محمد الهادي (عليهما السلام).
الحادي عشر: الإمام الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام).
الثاني عشر: الإمام الحجة ابن الحسن العسكري المهدي الموعود (عليهما السلام).
وقد اكتفينا بالأدلة المتقدمة على إمامة أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وللبحث في

197
أدلة إمامة كل واحد منهم، من العلم، واستجابة الدعاء، ونص الإمام السابق
عليه، مجال آخر.
وغرضنا هنا أن نذكر أحاديث البشارة النبوية في مصادر العامة بالأئمة
الاثني عشر (عليهم السلام) التي وردت بعنوان " اثنا عشر خليفة " و " اثنا عشر أميرا "، وفيما
يلي بعضها:
1 - في صحيح البخاري: (عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول:
يكون اثنا عشر أميرا فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي إنه قال كلهم من قريش) (1).
2 - وفي صحيح مسلم: (عن جابر بن سمرة قال: دخلت مع أبي على
النبي (صلى الله عليه وسلم) فسمعته يقول: إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة. قال: ثم
تكلم بكلام خفي علي، قال: فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش) (2).
3 - وفي صحيح مسلم، ومسند أحمد: (عن جابر بن سمرة قال: سمعت
النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا، ثم تكلم النبي بكلمة خفيت
علي، فسألت أبي ماذا قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟ فقال: كلهم من قريش) (3).
4 - وفي صحيح ابن حبان: (سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: يكون بعدي اثنا عشر
خليفة كلهم من قريش) (4).
5 - وفي سنن الترمذي: (يكون من بعدي اثنا عشر أميرا، قال: ثم تكلم بشئ
لم أفهمه، فسألت الذي يليني فقال قال: كلهم من قريش) (5).



(1) البخاري: آخر كتاب الأحكام ج 8 ص 127، ومسند أحمد ج 5 ص 93.
(2) صحيح مسلم ج 12 ص 201.
(3) صحيح مسلم ج 12 ص 202، مسند أحمد ج 5 ص 98.
(4) صحيح ابن حبان ج 15 ص 43.
(5) سنن الترمذي ج 4 ص 501.
198
6 - وفي مسند أحمد بن حنبل: (يكون بعدي اثنا عشر خليفة، كلهم من قريش) (1).
7 - وفيه أيضا: (يكون بعدي اثنا عشر أميرا ثم لا أدري ما قال بعد ذلك، فسألت
القوم كلهم فقالوا: قال: كلهم من قريش) (2).
8 - وفي مسند أحمد بن حنبل: (يكون من بعدي اثنا عشر أميرا فتكلم فخفي علي،
فسألت الذي يليني أو إلى جنبي فقال: كلهم من قريش) (3).
9 - وفي مسند أحمد: (يكون بعدي اثنا عشر أميرا، قال ثم تكلم فخفي علي
ما قال، قال: فسألت بعض القوم أو الذي يليني ما قال؟ قال: كلهم من قريش) (4).
10 - وفي مسند ابن الجعد: (يكون بعدي اثنا عشر أميرا، غير أن حصينا قال في
حديثه: ثم تكلم بشئ لم أفهمه. وقال بعضهم فسألت أبي، وقال بعضهم فسألت
القوم، فقال كلهم من قريش) (5).
11 - وفي مسند أبي يعلى: (يقول لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة، ويكون عليكم
اثنا عشر خليفة كلهم من قريش) (6).
12 - وفي مسند أحمد بن حنبل: (عن جابر بن سمرة قال: خطبنا
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعرفات فقال: لا يزال هذا الأمر عزيزا منيعا ظاهرا على من ناواه حتى يملك اثنا عشر
كلهم، قال فلم أفهم ما بعد قال: فقلت لأبي ما قال بعدما قال: كلهم؟ قال: كلهم من



(1) مسند أحمد ج 5 ص 92.
(2) مسند أحمد ج 5 ص 92.
(3) مسند أحمد ج 5 ص 99.
(4) مسند أحمد ج 5 ص 108.
(5) مسند ابن الجعد: 390 رقم 266.
(6) مسند أبي يعلى ج 13 ص 454.
199
قريش) (1).
13 - وفي مستدرك الحاكم: (عن مسروق قال: كنا جلوسا ليلة عند عبد الله
يقرؤنا القرآن فسأله رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كم
يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال: عبد الله ما سألني عن هذا أحد منذ قدمت
العراق قبلك! قال: سألناه فقال: اثنا عشر، عدة نقباء بني إسرائيل) (2).
والأحاديث في هذا الباب كثيرة (3)، وطرقها عن كبار الصحابة، مثل



(1) مسند أحمد بن حنبل ج 5 ص 93.
(2) مستدرك الحاكم ج 4 ص 501.
(3) راجع: صحيح ابن حبان ج 15 ص 14، المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 618، سنن أبي داود ج 4
ص 106، ومسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 398 و 406، و ج 5 ص 86 و 87 و 88 و 89 و 90 و 94 و 95
و 97 و 100 و 101 و 106 و 107 و 108، مسند أبي يعلى ج 8 ص 4448 و ج 9 ص 222، المعجم
الكبير ج 2 ص 196 و 197 و 199 و 206 و 207 و 208 و 214 و 215 و 218 و 223 و 226 و 240
و 248 و 253 و 254 و 255 و ج 10 ص 157 و ج 22 ص 120، المعجم الأوسط ج 1 ص 474، الآحاد
والمثاني ج 3 ص 128، والتاريخ الكبير للبخاري ج 3 ص 185 و ج 8 ص 410، تهذيب الكمال ج 3
ص 223 و ج 33 ص 272، الثقات لابن حبان ج 7 ص 241، طبقات المحدثين بأصبهان ج 2 ص 89،
مسند أبي داود الطيالسي ص 105 و 180، سنن الترمذي ج 4 ص 501، تعجيل المنفعة بزوائد رجال
الأئمة الأربعة ج 1 ص 538، تاريخ بغداد ج 14 ص 354، تاريخ مدينة دمشق ج 21 ص 288 و ج 32
ص 303، تهذيب الكمال ج 3 ص 224، سير أعلام النبلاء ج 8 ص 184 ومصادر أخرى كثيرة جدا
للعامة يصعب ذكرها.
كشف الغطاء ج 1 ص 7، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 1 ص 49 باب 6، الخصال ص 467 و... الأمالي
للصدوق ص 386 المجلس الحادي والخمسون ح 4 وص 387 و... كمال الدين وتمام النعمة ص 68
و... و 271 و...، كفاية الأثر ص 35 و 49 و... روضة الواعظين ص 261 و 262، دلائل الإمامة ص 20،
شرح الأخبار ج 3 ص 351 و 400، كتاب الغيبة ص 103 و... و 118 و 120 و...، الغيبة للطوسي
ص 128 و...، مناقب آل أبي طالب ج 1 ص 295، العمدة ص 416 و... الطرائف ص 169 و... ومصادر
أخرى للخاصة.
200
ابن عباس، وابن مسعود، وسلمان الفارسي، وأبي سعيد الخدري، وأبي ذر،
وجابر بن سمرة، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وزيد بن ثابت،
وزيد بن أرقم، وأبي ثمامة، وواثلة بن الأسقع، وأبي أيوب الأنصاري،
وعمار بن ياسر، وحذيفة بن أسيد، وعمران بن حصين، وسعد بن مالك،
وحذيفة بن اليمان، وأبي قتادة الأنصاري وآخرين.
وفي هذه الأحاديث نكات نوردها في نقاط:
1. حصر الخلفاء في اثني عشر.
2. استمرار خلافة هؤلاء الاثني عشر إلى يوم القيامة.
3. توقف عزة الإسلام وأمته ومنعتهما عليهم.
4. أن قوام الدين علما وعملا بهم، لأن قوامه العلمي بمفسر للكتاب ومبين
لحقائقه ومعارفه، وقوامه العملي بمنفذ لقوانينه وأحكامه العادلة، وهذان
الغرضان المهمان لا يتيسران إلا بتحقق شروط خاصة في هؤلاء الأئمة الاثني
عشر.
5. اختياره (صلى الله عليه وآله وسلم) لتنظير نقباء بني إسرائيل مع أن النظير للعدد متعدد تنبيه
على أن خلافتهم ليست بانتخاب من الناس، بل انتصاب من الله فقد قال الله تعالى
عن النقباء {وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا} (1).
6. إن هؤلاء الأئمة من قريش.
فهل يوجد خلفاء فيهم هذه الميزات، إلا على المذهب الحق؟
وهل يمكن تفسير الأئمة الاثني عشر إلا بأئمتنا (عليهم السلام)؟
وهل تحققت عزة الإسلام وأهدافه في خلافة يزيد بن معاوية وأمثاله؟!



(1) سورة المائدة: 12.
201
لقد اعترف بعض المحققين من علماء العامة بأن بشارة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تقبل
الانطباق إلا على الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، ففي ينابيع المودة للقندوزي:
(قال بعض المحققين: إن الأحاديث الدالة على كون الخلفاء بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) اثني
عشر قد اشتهرت من طرق كثيرة، فبشرح الزمان وتعريف الكون والمكان، علم
أن مراد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من حديثه هذا الأئمة الإثنا عشر من أهل بيته وعترته، إذ
لا يمكن أن يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه، لقلتهم عن اثني
عشر، ولا يمكن أن يحمل على الملوك الأموية لزيادتهم على اثني عشر،
ولظلمهم الفاحش إلا عمر بن عبد العزيز، ولكونهم غير بني هاشم، لأن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (كلهم من بني هاشم) في رواية عبد الملك عن جابر، وإخفاء
صوته (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا القول يرجح هذه الرواية، لأنهم لا يحسنون خلافة بني
هاشم، ولا يمكن أن يحمل على الملوك العباسية لزيادتهم على العدد المذكور،
ولقلة رعايتهم الآية {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} (1).
فلابد من أن يحمل هذا الحديث على الأئمة الاثني عشر من أهل بيته
وعترته (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنهم كانوا أعلم أهل زمانهم وأجلهم وأورعهم وأتقاهم، وأعلاهم
نسبا، وأفضلهم حسبا، وأكرمهم عند الله، وكان علمهم عن آبائهم متصلا
بجدهم (صلى الله عليه وآله وسلم) وبالوراثة واللدنية، كذا عرفهم أهل العلم والتحقيق، وأهل الكشف
والتوفيق.
ويؤيد هذا المعنى أي أن مراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الأئمة الإثنا عشر من أهل بيته،
ويشهد له ويرجحه حديث الثقلين، والأحاديث المتكثرة المذكورة في هذا



(1) سورة الشورى: 23.
202
الكتاب وغيرها) (1).
قال السدي في تفسيره، وهو من علماء الجمهور وثقاتهم: (لما كرهت سارة
مكان هاجر أوحى الله تعالى إلى إبراهيم: أن انطلق بإسماعيل وأمه حتى تنزله
بيت النبي التهامي، فإني ناشر ذريتك وجاعلهم ثقلا على من كفر، وجاعل من
ذريته اثني عشر عظيما) (2).
وهو موافق لما في التوراة الفعلية في سفر التكوين، الإصحاح السابع عشر:
18. وقال إبراهيم لله: ليت إسماعيل يعيش أمامك.
19. فقال الله: بل سارة امرأتك تلد لك ابنا وتدعو اسمه إسحاق، وأقيم
عهدي معه عهدا أبديا، لنسله من بعده.
20. وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه، ها أنا أباركه وأثمره، وأكثره كثيرا
جدا. اثني عشر رئيسا يلد، وأجعله أمة كبيرة.
* * *
وقد دلت على إمامتهم (عليهم السلام) من طرقنا أحاديث صحيحة ونصوص متواترة،
تستغني بتواترها عن البحث في سلسلة إسنادها إلى المعصوم (عليه السلام)، ونكتفي في
هذا الموجز بروايتين لحديث اللوح، الذي رواه كبار المحدثين بأسانيد متعددة
بعضها معتبر:
الأولى:
رواية الشيخ الصدوق (رحمه الله) عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام)، عن جابر بن عبد الله



(1) ينابيع المودة ج 3 ص 292.
(2) كشف الغطاء ص 7.
203
الأنصاري قال: (دخلت على فاطمة (عليها السلام) وبين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء من ولدها، فعددت
اثني عشر آخرهم القائم، ثلاثة منهم محمد، وأربعة منهم علي صلوات الله عليهم أجمعين) (1).
والثانية:
الرواية المشتملة على أخبار غيبية، ومتنها شاهد على صدورها عن مقام
العصمة. وقد رواها أكابر محدثينا مثل الشيخ الصدوق، والشيخ المفيد، والشيخ
الطوسي، أعلى الله مقامهم، عن عبد الرحمن بن سالم، عن أبي بصير، عن الإمام
الصادق (عليه السلام) قال:
قال أبي لجابر بن عبد الله الأنصاري: " إن لي إليك حاجة، فمتى يخف عليك أن أخلو بك
فأسألك عنها، فقال له جابر: أي الأوقات أحببته، فخلا به في بعض الأيام فقال له: يا جابر أخبرني عن
اللوح الذي رأيته في يد أمي فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما أخبرتك به أمي أنه في ذلك اللوح
مكتوب؟
فقال جابر: أشهد بالله أني دخلت على أمك فاطمة (عليها السلام) في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهنيتها بولادة
الحسين، ورأيت في يديها لوحا أخضر، ظننت أنه من زمرد، ورأيت فيه كتابا أبيض، شبه لون الشمس،
فقلت لها: بأبي وأمي يا بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما هذا اللوح؟ فقالت: هذا لوح أهداه الله إلى رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيه اسم أبي واسم بعلي واسم ابني، واسم الأوصياء من ولدي، وأعطانيه أبي ليبشرني بذلك،
قال جابر: فأعطتنيه أمك فاطمة (عليها السلام) فقرأته واستنسخته.
فقال له أبي: فهل لك يا جابر أن تعرضه علي؟ قال: نعم، فمشى معه أبي إلى منزل جابر فأخرج
صحيفة من رق، فقال: يا جابر انظر في كتابك لأقرأ أنا عليك، فنظر جابر في نسخته فقرأه أبي فما
خالف حرف حرفا، فقال جابر: فأشهد بالله أني هكذا رأيته في اللوح مكتوبا:



(1) كمال الدين وتمام النعمة: 181.
204
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لمحمد نبيه ونوره وسفيره وحجابه ودليله،
نزل به الروح الأمين من عند رب العالمين.
عظم يا محمد أسمائي واشكر نعمائي، ولا تجحد آلائي، إني أنا الله لا إله إلا أنا، قاصم الجبارين ومديل
المظلومين وديان الدين، إني أنا الله لا إله إلا أنا، فمن رجا غير فضلي أو خاف غير عدلي، عذبته عذابا
لا أعذبه أحدا من العالمين، فإياي فاعبد، وعلي فتوكل، إني لم أبعث نبيا فكملت أيامه وانقضت مدته إلا
جعلت له وصيا، وإني فضلتك على الأنبياء، وفضلت وصيك على الأوصياء، وأكرمتك بشبليك وسبطيك حسن
وحسين، فجعلت حسنا معدن علمي، بعد انقضاء مدة أبيه. وجعلت حسينا خازن وحيي وأكرمته بالشهادة
وختمت له بالسعادة، فهو أفضل من استشهد، وأرفع الشهداء درجة، جعلت كلمتي التامة معه وحجتي
البالغة عنده، بعترته أثيب وأعاقب. أولهم علي سيد العابدين وزين أوليائي الماضين، وابنه شبه جده
المحمود، محمد الباقر لعلمي، والمعدن لحكمتي.
سيهلك المرتابون في جعفر، الراد عليه كالراد علي، حق القول مني لأكرمن مثوى جعفر ولأسرنه
في أشياعه وأنصاره وأوليائه.
أتيحت بعده لموسى فتنة عمياء حندس، لأن خيط فرضي لا ينقطع وحجتي لا تخفى، وإن أوليائي
يسقون بالكأس الأوفى، من جحد واحدا منهم فقد جحد نعمتي، ومن غير آية من كتابي فقد افترى
علي.
ويل للمفترين الجاحدين عند انقضاء مدة موسى عبدي وحبيبي وخيرتي، في علي وليي وناصري، ومن
أضع عليه أعباء النبوة، وأمتحنه بالاضطلاع بها، يقتله عفريت مستكبر، يدفن في المدينة التي بناها العبد
الصالح، إلى جنب شر خلقي.
حق القول مني لأسرنه بمحمد ابنه وخليفته من بعده ووارث علمه، فهو معدن علمي وموضع
سري، وحجتي على خلقي، لا يؤمن عبد به إلا جعلت الجنة مثواه، وشفعته في سبعين من أهل بيته
كلهم قد استوجبوا النار.

205
وأختم بالسعادة لابنه علي وليي وناصري، والشاهد في خلقي، وأميني على وحيي، أخرج منه الداعي
إلى سبيلي والخازن لعلمي الحسن.
وأكمل ذلك بابنه (م ح م د) رحمة للعالمين، عليه كمال موسى، وبهاء عيسى، وصبر أيوب، فيذل
أوليائي في زمانه، وتتهادى رؤوسهم كما تتهادى رؤوس الترك والديلم، فيقتلون ويحرقون ويكونون
خائفين مرعوبين وجلين، تصبغ الأرض بدمائهم، ويفشو الويل والرنة في نسائهم.
أولئك أوليائي حقا، بهم أدفع كل فتنة عمياء حندس، وبهم أكشف الزلازل، وأدفع الآصار والأغلال،
أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، وأولئك هم المهتدون ".
قال عبد الرحمن بن سالم: قال أبو بصير: لو لم تسمع في دهرك، إلا هذا
الحديث لكفاك، فصنه إلا عن أهله (1).
* *
والأدلة على إمامة الأئمة المعصومين (عليهم السلام) أكثر من أن تحصى في هذا
المختصر، ولكن نختم هذا الموجز بخطبة شريفة للإمام الصادق (عليه السلام)، يصف فيها
مقام العصمة والإمامة السامي، رواها شيخ المحدثين محمد بن يعقوب الكليني،
عن محمد بن يحيى (الذي يقول في حقه النجاشي: شيخ أصحابنا في زمانه،
ثقة، عين، روى نحو ستة آلاف رواية) عن أحمد بن محمد بن عيسى (شيخ
القميين، ووجههم وفقيههم
غير مدافع، ومن أصحاب الرضا والجواد والهادي (عليهم السلام)) عن الحسن بن محبوب
(أحد أربعة هم أركان زمانهم، ومن أصحاب الإجماع الذين أجمعت الطائفة
على صحة ما يروى عنهم بسند صحيح، ومن أصحاب الإمام الكاظم والإمام



(1) أصول الكافي ج 1 ص 528 (باب ما جاء في الاثني عشر).
206
الرضا (عليهما السلام)) عن إسحاق بن غالب (الذي يضاف إلى توثيقه الخاص رواية أمثال
صفوان بن يحيى عنه) عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، في خطبة له يذكر
فيها حال الأئمة (عليهم السلام) وصفاتهم:
" إن الله عز وجل أوضح بأئمة الهدى من أهل بيت نبينا عن دينه، وأبلج بهم عن سبيل منهاجه،
وفتح بهم عن باطن ينابيع علمه، فمن عرف من أمة محمد صلى الله عليه وآله واجب حق إمامه، وجد
طعم حلاوة إيمانه، وعلم فضل طلاوة إسلامه، لأن الله تبارك وتعالى نصب الإمام علما لخلقه، وجعله
حجة على أهل مواده وعالمه، وألبسه الله تاج الوقار، وغشاه من نور الجبار، يمد بسبب إلى السماء،
ولا ينقطع عنه مواده، ولا ينال ما عند الله إلا بجهة أسبابه، ولا يقبل الله أعمال العباد إلا بمعرفته، فهو
عالم بما يرد عليه من ملتبسات الدجى، ومعميات السنن، ومشبهات الفتن.
فلم يزل الله تبارك وتعالى يختارهم لخلقه من ولد الحسين من عقب كل إمام، يصطفيهم لذلك
ويجتبيهم، ويرضى بهم لخلقه ويرتضيهم، كل ما مضى منهم إمام نصب لخلقه من عقبه إماما، علما بينا،
وهاديا نيرا، وإماما قيما، وحجة عالما.
أئمة من الله، يهدون بالحق وبه يعدلون. حجج الله ودعاته، ورعاته على خلقه، يدين بهديهم
العباد، وتستهل بنورهم البلاد، وينمو ببركتهم التلاد، جعلهم الله حياة للأنام، ومصابيح للظلام، ومفاتيح للكلام،
ودعائم للإسلام، جرت بذلك فيهم مقادير الله على محتومها.
فالإمام هو المنتجب المرتضى، والهادي المنتجى، والقائم المرتجى، اصطفاه الله بذلك، واصطنعه على
عينه في الذر حين ذرأه، وفي البرية حين برأه، ظلا قبل خلق نسمة عن يمين عرشه، محبوا بالحكمة في
علم الغيب عنده، اختاره بعلمه، وانتجبه لطهره.
بقية من آدم عليه السلام، وخيرة من ذرية نوح، ومصطفى من آل إبراهيم، وسلالة من إسماعيل،
وصفوة من عترة محمد صلى الله عليه وآله لم يزل مرعيا بعين الله، يحفظه ويكلؤه بستره، مطرودا عنه
حبائل إبليس وجنوده، مدفوعا عنه وقوب الغواسق، ونفوث كل فاسق، مصروفا عنه قوارف السوء،

207
مبرءا من العاهات، محجوبا عن الآفات، معصوما من الزلات، مصونا عن الفواحش كلها، معروفا بالحلم والبر
في يفاعه، منسوبا إلى العفاف والعلم والفضل عند انتهائه، مسندا إليه أمر والده، صامتا عن المنطق
في حياته.
فإذا انقضت مدة والده، إلى أن انتهت به مقادير الله إلى مشيئته، وجاءت الإرادة من الله فيه
إلى محبته، وبلغ منتهى مدة والده فمضى، وصار أمر الله إليه من بعده، وقلده دينه، وجعله الحجة على
عباده، وقيمه في بلاده، وأيده بروحه، وآتاه علمه، وأنبأه فصل بيانه، واستودعه سره، وانتدبه لعظيم
أمره، وأنبأه فضل بيان علمه، ونصبه علما لخلقه، وجعله حجة على أهل عالمه، وضياء لأهل دينه،
والقيم على عباده، رضي الله به إماما لهم، استودعه سره، واستحفظه علمه، واستخبأه حكمته، واسترعاه
لدينه، وانتدبه لعظيم أمره، وأحيا به مناهج سبيله وفرائضه وحدوده، فقام بالعدل عند تحير أهل الجهل،
وتحيير أهل الجدل، بالنور الساطع، والشفاء النافع، بالحق الأبلج، والبيان اللائح من كل مخرج، على طريق
المنهج، الذي مضى عليه الصادقون من آبائه.
فليس يجهل حق هذا العالم إلا شقي، ولا يجحده إلا غوي، ولا يصد عنه إلا جري على الله جل
وعلا " (1).
إن كل جملة في هذه الخطبة الشريفة تحتاج إلى شرح مفصل، ونكتفي في
هذا الموجز ببيان بعض النقاط منها:
(أ)
جعل الإمام (عليه السلام) موضوع خطبته أئمة الهدى، لوضوح ضرورة وجود الإمام
للأمة {يوم ندعوا كل أناس بإمامهم} (2).



(1) الكافي ج 1 ص 203 كتاب الحجة باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته ح 2.
(2) سورة الإسراء: 71.
208
وإمام الأمة لابد أن يكون إمام الهداية، كما قال الله تعالى: {و جعلنا منهم أئمة
يهدون بأمرنا} (1). {إنما أنت منذر ولكل قوم هاد} (2).
ومعرفة إمام الهداية يتوقف على معرفة الهداية، ومعرفة الهداية تحتاج إلى
التدبر في آيات الكتاب الواردة في هذا الموضوع، التي تزيد على المأتين
وتسعين آية، ولا يتسع هذا الموجز لشرحها.
وذلك أن الهداية كمال الخلقة {قال ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم
هدى} (3) {سبح اسم ربك الاعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى} (4)،
وهداية كل مخلوق تناسب مع خلقته، ولما كان الإنسان مخلوقا في أحسن
تقويم فهدايته أعلى مراتب كمال الممكنات.
وقد بين الإمام (عليه السلام) عظمة مقام الإمامة حيث وصف الأئمة بأنهم (أئمة الهدى)،
بل أوضح لأهل النظر والتعمق ما للإمام من الخصائص، وما لهذا الملزوم من
لوازم.
ثم شرع الإمام بعد الإجمال بالتفصيل، فبين موقع الإمام من الدين الإلهي،
وأن الإمام هو المبين لأصول الدين وفروعه، لأن الله تعالى لم يوكل تفسير دينه
إلى آراء الخلق المعرضة للخطأ والاختلاف، لأن الخطأ والاختلاف في الدين
آفتان تنقضان الغرض من تنزيله، وتدخلان الأمة بعد هدايتها في ظلمات
الضلال.



(1) سورة السجدة: 24.
(2) سورة الرعد: 7.
(3) سورة طه: 50.
(4) سورة الأعلى: 1، 2، 3.
209
بل لم يترك الله تعالى نقطة غموض ولا إبهام، حول أصول دينه وفروعه، إلا
أوضحها بأئمة الهدى، كما قال الإمام (عليه السلام): (إن الله عز وجل أوضح بأئمة الهدى من أهل بيت
نبينا عن دينه).
(ب)
الإنسان بمقتضى فطرته يبحث عن خالقه تعالى، وهذه الفطرة لا تنال
مقصودها إلا بأن تجد الطريق إلى الله، الذي هو الدين القويم والاستقامة عليه {قل
هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} (1).
وبما أن عوامل الانحراف عن دين الله تعالى موجودة في كل عصر، من خطأ
الإنسان وهواه، وقطاع طريق الله من الجن والإنس {و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم
عن سبيله} (2)، {اشتروا بأيت الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا
يعملون} (3) فكان من اللازم وجود إمام ليتحقق به الغرض من تكوين هذه الفطرة
- وهو الوصول إلى الله - ومن تشريع الصراط المستقيم - وهو الدين والسبيل إلى
الله - قال (عليه السلام): " وأبلج عن سبيل منهاجه ".
(ج)
الغرض من خلق عقل الإنسان الوصول إلى حقيقة العلم والمعرفة،
والإنسان يستدعي بلسان جبلته وخلقته من واهب العقل والإدراك ويناجيه:



(1) سورة يوسف: 108.
(2) سورة الأنعام: 153.
(3) سورة التوبة: 9.
210
إلهي أرني الأشياء كما هي، وعرفني نفسي، وأنها من أين، وفي أين، وإلى أين.
وتعطش الإدراك الإنساني لا يرتفع إلا بالوصول إلى عين الحياة من العلم
الإلهي، وإلا فإن عاقبة الحكمة والفلسفة أيضا هي حيرة الكمل بأن يعلمون أنهم
لا يعلمون.
لهذا كان من الضروري وجود إنسان له الطريق إلى عين الحياة وينابيع العلم
والحكمة، ليروي بيده العطاشى إلى الحقيقة، فيتحقق بذلك الغرض من خلق
العقل والإدراك، كما قال الإمام (عليه السلام) في النص المعتبر (من زعم أن الله يحتج بعبد في
بلاده، ثم يستر عنه جميع ما يحتاج إليه، فقد افترى على الله) (1).
نعم إن الظن بأن الله جعل إنسانا حجة على العباد، ثم يحجب عن حجته
ما يحتاج إليه العباد ولا يعلمه، افتراء على الله تعالى نشأ من عدم المعرفة بالعلم
والقدرة والحكمة غير المتناهية، ومن هنا قال: " وفتح بهم عن باطن ينابيع علمه ".
(د)
(وألبسه تاج الوقار) تاج الوقار الذي على رأس الإمام (عليه السلام) هو العلم والقدرة،
فعن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في جواب من سأله عن علامة الإمام فيما هي؟ قال:
(في العلم، واستجابة الدعوة) (2)، وذلك أن منشأ الاضطراب والخفة في الإنسان هو
الجهل والعجز، وبما أن الإمام معلم لكتاب الله - وهو لا يفارقه بنص حديث
الثقلين - والكتاب تبيان لكل شئ - بمقتضى قوله تعالى: {و نزلنا عليك الكتب



(1) بصائر الدرجات ص 123 الجزء الثالث نادر من الباب ح 4.
(2) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 200 باب 46 ح 1.
211
تبينا لكل شئ} (1) - فلا يمكن أن يكون الإمام غير محيط بعلم من العلوم التي في
الكتاب الإلهي!
وتستفاد هذه النكتة من الحديث المعتبر: عن ابن بكير، عن أبي عبد الله
الصادق (عليه السلام)، قال: (كنت عنده فذكروا سليمان وما أعطي من العلم، وما أوتي من
الملك، فقال لي: وما أعطي سليمان بن داود؟! إنما كان عنده حرف واحد من الاسم الأعظم، وصاحبكم
الذي قال الله: قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب! وكان والله عند علي علم
الكتاب! فقلت: صدقت والله، جعلت فداك) (2).
والإمام - بارتباطه بأمر الله - صاحب الدعوة المستجابة، وبهذا العلم والقدرة
تلبس بتاج الوقار.
(ه‍)
(وغشاه من نور الجبار) أضيف النور إلى الاسم المقدس: " الجبار " والمضاف إلى كل
اسم من الأسماء الإلهية يكتسب خصوصية ذلك الاسم بمقتضى الإضافة.
والله جبار يجبر كل انكسار " يا جابر العظم الكسير " (3).
وقد غشي الإمام من نور الجبار لكي يجبر كل كسر ونقص يلحق بالإسلام
والمسلمين.
(و)
(أئمة من الله، يهدون بالحق، وبه يعدلون).



(1) سورة النحل: 89.
(2) بصائر الدرجات ص 212، الجزء الخامس، باب ما عند الأئمة (عليهم السلام) من اسم الله الأعظم.
(3) تفسير العياشي ج 2 ص 198 ح 88 (سورة يوسف)، مصباح المتهجد ص 228.
212
الإمام هو الإنسان المختار من الله تعالى، والمصطفى باصطفائه، والمجتبى
باجتبائه للإمامة والقيادة، ولذا عندما يتوفى إمام ينصب الله مكانه إماما آخر
ليكون علما للخلق، ومصباحا لهدايتهم، وهاديا نيرا، وقائدا قيما، وحجة عالما،
لكي يتحقق الغرض من خلقة الإنسان وبعثة الأنبياء (عليهم السلام)، ذلك الغرض الذي
يتلخص في كلمتين هما: الهداية بالحق، والعدالة بالحق، وهما عصارة الحكمة
النظرية والعملية، ومنتهى كمال العقل والإرادة الإنسانية.
وتحقق هذين الأمرين إنما يكون بواسطة العقل الذي يعرف الأشياء كما
هي، والإرادة التي تقوم بكل عمل كما ينبغي.
وهذا هو مقام العصمة العلمية والعملية، ولهذا قال (عليه السلام): (أئمة من الله، يهدون
بالحق، وبه يعدلون).
(ز)
(اصطفاه الله بذلك واصطنعه على عينه في الذر حين ذرأه).
الإمام هو الذي صنع الله جوهرة وجوده على يمين عرشه، ورباه على عينه،
ووهبه الحكمة في علم الغيب المكنون عنده، الذي لا سبيل لأحد إليه {إلا من
ارتضى من رسول} (1).
وفي هذه النشأة كان من حيث النسب من الخيرة من ذرية نوح، والمصطفين
من ذرية إبراهيم، والمنتخبين من سلالة إسماعيل، والصفوة من ذرية
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). جسمه مبرأ من العيوب، وروحه معصومة من كل زلل، مصونة من
كل ذنب.



(1) سورة الجن: 27.
213
وقد طرد إبليس الذي قال: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم
المخلصين} (1) عن ذاته المقدسة بالعزة التي حصلت له في ظل عبودية الله {إن
عبادي ليس لك عليهم سلطان} (2).
وقد دل بقوله (عليه السلام): (وصار أمر الله إليه من بعد) على أن أمر الله ينتقل من الإمام
السابق إلى اللاحق، وذاك الأمر هو الذي جاء في الحديث الصحيح عن
الصادق (عليه السلام) قال: (إن الله واحد متوحد بالوحدانية، متفرد بأمره، فخلق خلقا فقدرهم لذلك الأمر،
فنحن هم يا ابن أبي يعفور، فنحن حجج الله في عباده، وخزانه على علمه، والقائمون بذلك) (3).
(ح)
(وأيده بروحه) الروح التي أيد الله بها الإمام فسرها الحديث الصحيح عن أبي
بصير قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي، قال: خلق
أعظم من جبرئيل وميكائيل، لم يكن مع أحد ممن مضى، غير محمد صلى الله عليه وآله وهو مع الأئمة
يسددهم، وليس كل ما طلب وجد) (4).
(ط)
(وآتاه علمه) في الصحيح عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن لله علما لا يعلمه غيره، وعلما قد



(1) سورة ص: 82 - 83.
(2) سورة الحجر: 42.
(3) الكافي ج 1 ص 193.
(4) الكافي ج 1 ص 193.
214
أعلمه ملائكته وأنبياءه ورسله فنحن نعلمه، ثم أشار بيده إلى صدره (1).
(ي)
(واستودعه سره) في صحيحة معمر بن خلاد، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (لا يقدر
العالم أن يخبر بما يعلم، فإن (فإنه) سر الله، أسره إلى جبرئيل (عليه السلام)، وأسره جبرئيل (عليه السلام) إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وأسره محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى من شاء الله) (2).
(ك)
(رضي الله به إماما لهم) لا شك أن الأمة تحتاج إلى إمام، وأن الإمام يجب أن
يكون مرضيا من الله تعالى، لكن من هو الإمام المرضي من الله؟
إذا كان الله - بين العلم والجهل - يرضى العلم {قل هل يستوى الذين يعلمون و
الذين لا يعلمون} (3)، وبين السلامة والآفة، يرضى السلامة {يهدى به الله من اتبع
رضوانه سبل السلام} (4)، وبين الحكمة والسفاهة، يرضى الحكمة {يؤتى الحكمة
من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا} (5)، وبين العدل والفسق، يرضى
العدل {إن الله يأمر بالعدل والأحسن} (6)، وبين الحق والباطل، يرضى الحق {و



(1) بصائر الدرجات: الجزء الثاني ص 110، باب 21 في الأئمة أنه صار إليهم... ح 5.
(2) بصائر الدرجات: الجزء الثامن ص 377 باب 3 في الأئمة أن عندهم أسرار الله ح 3.
(3) سورة الزمر: 9.
(4) سورة المائدة: 16.
(5) سورة البقرة: 269.
(6) سورة النحل: 90.
215
قل جاء الحق وزهق البطل إن البطل كان زهوقا} (1)، وبين الصواب والخطأ،
يرضى الصواب {لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوبا} (2)، فالذي يرضاه
الله إماما للأمة، لابد أن يتصف بالصفات المرضية عنده سبحانه، ومنها العلم،
والعدل، والسلامة، والحكمة، والصواب، والحق والهداية.
ومن جهة ثانية، نرى أن اختيار الأحسن محبوب لله تعالى {فبشر عبادي
الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} (3)، وأنه تعالى يأمر بالأخذ بالأحسن {وأمر
قومك يأخذوا بأحسنها} (4)، ويأمر بقول الأحسن {و قل لعبادي يقولوا التي هي
أحسن} (5)، ويأمر بالمجادلة - في موضعها - بالأحسن {و جدلهم بالتي هي
أحسن} (6). وعند لزوم الدفع والرد، يأمر بالرد بالأحسن {ادفع بالتي هي
أحسن} (7)، وأنه تعالى يجازي بالأحسن {و لنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا
يعملون} (8)، وأنه ينزل أحسن الحديث {الله نزل أحسن الحديث} (9).
فهل يعقل أن يختار للإمامة غير الأحسن، والأكمل، والأفضل، والأعلم،
والأعدل.. وغير من هو جامع الصفات الحميدة المذكورة في الحديث؟!
ثم مع أن الأمر باتباع الأحسن يستلزم كون الأحسن متبوعا لغيره، فكيف



(1) سورة الإسراء: 81.
(2) سورة النبأ: 38.
(3) سورة الزمر: 18.
(4) سورة الأعراف: 145.
(5) سورة الإسراء: 53.
(6) سورة النحل: 125.
(7) سورة المؤمنون: 96.
(8) سورة النحل: 79.
(9) سورة الزمر: 23.
216
يعقل أن يرضى بإمامة غير الأحسن ومتبوعيته؟! {و من أحسن من الله حكما لقوم
يوقنون} (1).
ولهذا قال (عليه السلام):
(وانتدبه لعظيم أمره، وأنبأه فضل بيان علمه، ونصبه علما لخلقه، وجعله حجة على أهل عالمه،
وضياء لأهل دينه، والقيم على عباده، رضي الله به إماما لهم).



(1) سورة المائدة: 50.
217
موجز من حياة الرسول
وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام)

219
الرسول الأكرم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم)...
الرسول الأكرم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
ولادته (صلى الله عليه وآله وسلم)
ولد سابع عشر شهر ربيع الأول على المشهور عند الخاصة، وفي الثاني
عشر منه على المشهور عند العامة.
أسماؤه (صلى الله عليه وآله وسلم)
ومن أسمائه: محمد، وأحمد، و عبد الله، ويس، ون، وطه، والفاتح،
والخاتم، والكاف، والمقفى، والحاشر.
صفاته (صلى الله عليه وآله وسلم)
ومن أوصافه الذي وصفه الله به: الشاهد، والمبشر، والنذير، والداعي إلى
الله بإذنه، والسراج المنير، ورسول الله، وخاتم النبيين.
عناوينه (صلى الله عليه وآله وسلم)
ومن عناوينه الذي خاطبه الله به: يا أيها النبي، ويا أيها الرسول، ويا أيها
المزمل، ويا أيها المدثر.

221
كناه (صلى الله عليه وآله وسلم)
ومن كناه: أبو القاسم، وأبو الطاهر، وأبو الطيب، وأبو المساكين، وأبو
الدرتين، وأبو الريحانتين، وأبو السبطين.
فضائله ومناقبه (صلى الله عليه وآله وسلم)
وهي أكثر من أن تسطر وأجل من أن تدرك، ونذكر بعض مكارمه تيمنا،
وليس على الله بعزيز أن يوفقنا لقوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة
حسنة} (1).
وهو أول العابدين، وأسبق الأولين والآخرين لقوله " بلى " (2)، حينما أخذ
الميثاق على ربوبيته.
وعن بكر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب دخل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو موقوذ
- أو قال محموم - فقال له عمر: يا رسول الله ما أشد وعكك [أو حماك!] فقال:
ما منعني ذلك أن قرأت الليلة ثلاثين سورة فيهن السبع الطوال. فقال عمر: يا رسول الله غفر الله
لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر وأنت تجتهد هذا الإجتهاد. فقال: يا عمر أفلا أكون عبدا
شكورا (3).
هذا مع تهجده المفروض عليه في كل ليلة، وقد تعبد لربه حتى انتفخ الساق



(1) الأحزاب: 21.
(2) إشارة إلى الآية الشريفة: * (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم
ألست بربكم قالوا بلى) * الأعراف: 172.
(3) الأمالي للشيخ الطوسي ص 403.
222
وورم القدم، فأنزل الله سبحانه: {طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} (1).
وعن جابر بن عبد الله: ما سئل رسول الله شئ قط، فقال لا (2).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: كان أجود الناس كفا، وأجرأ الناس صدرا،
وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه
بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، لم أر قبله ولا بعده مثله (3).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول
الله، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه (4).
كان أعداؤه يعرفونه بالأمانة، حتى اشتهر بينهم بالأمين، ويعرفونه
بالصدق، إلى أن قال أبو جهل: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به، فنزلت:
{فإنهم لا يكذبونك} (5).
كان مجلسه مجلس علم، وحلم، وحياء، ووقار (6).
ولم تكن ركبتاه تتقدمان ركبة جليسه (7). وكان خافض الطرف، نظره إلى
الأرض أطول من نظره إلى السماء (8).
وكان كثير السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، يعرض عمن تكلم بغير



(1) طه: 1 و 2. راجع الاحتجاج ج 1 ص 326.
(2) مكارم الأخلاق ص 18.
(3) مكارم الأخلاق ص 17.
(4) مكارم الأخلاق ص 18.
(5) الأنعام: 33.
(6) مكارم الأخلاق ص 14.
(7) مكارم الأخلاق ص 17.
(8) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) باب 29 حديث 1 ص 317.
223
جميل (1).
وكان ضحكه تبسما (2)، وكلامه فصلا (3)، ولا يقول في الرضا والغضب إلا
الحق (4).
وكان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر (5).
وإذا جلس إليه أحد لم يقم حتى يقوم الذي جلس إليه (6).
وفي معتبرة جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان رسول الله يقسم
لحظاته بين أصحابه، فينظر إلى ذا أو ينظر إلى ذا بالسوية، قال: ولم يبسط
رسول الله رجليه بين أصحابه قط، وان كان ليصاحفه الرجل فما يترك رسول الله
يده من يده حتى يكون هو التارك (7).
وكان في سفر، فأمر أصحابه بذبح شاة، فقال رجل من القوم يا رسول الله
علي ذبحها، وقال الآخر علي سلخها، وقال الآخر علي قطعها، وقال آخر
علي طبخها، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): علي أن ألقط لكم الحطب، فقالوا يا رسول الله لا تتعبن -
بآبائنا وأمهاتنا أنت - نحن نكفيك. قال (صلى الله عليه وآله وسلم): قد علمت أنكم تكفوني، ولكن الله
يكره من عبده إذا كان مع أصحابه أن ينفرد من بينهم، فقام (صلى الله عليه وآله وسلم) يلقط الحطب



(1) مكارم الأخلاق ص 13.
(2) مكارم الأخلاق ص 13.
(3) مكارم الأخلاق ص 23.
(4) مناقب آل أبي طالب ج 1 ص 147.
(5) مكارم الأخلاق ص 14.
(6) مكارم الأخلاق ص 14.
(7) الكافي ج 2 ص 671.
224
لهم (1).
وعن أنس قال: كان [لرسول الله] شربة يفطر عليها وشربة للسحر، وربما
كانت واحدة، وربما كانت لبنا، وربما كانت الشربة خبزا يماث فهيأتها له ذات
ليلة، فاحتبس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فظننت أن بعض أصحابه دعاه، فشربتها حين
احتبس، فجاء (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد العشاء بساعة، فسألت بعض من كان معه: هل كان النبي
أفطر في مكان أو دعاه أحد؟ فقال: لا. فبت بليلة لا يعلمها إلا الله خوف أن
يطلبها مني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا يجدها، فيبيت جائعا، فأصبح صائما، وما سألني
عنها، ولا ذكرها حتى الساعة (2).
وعنه قال: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أدركه أعرابي فأخذ بردائه فجذبه جذبة شديدة
حتى نظرت إلى صفحة عنق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة
جذبته، ثم قال له: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فضحك، وأمر له بعطاء (3).
وفي الصحيح عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: دخل يهودي على رسول الله وعائشة
عنده، فقال: السام عليكم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): عليكم. ثم دخل آخر، فقال مثل
ذلك، فرد عليه كما رد على صاحبه، ثم دخل آخر، فقال مثل ذلك، فرد
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما رد على صاحبيه، فغضبت عائشة، فقالت: عليكم السام
والغضب واللعنة يا معشر اليهود يا إخوة القردة والخنازير، فقال لها
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا عائشة إن الفحش لو كان ممثلا لكان مثال سوء، إن الرفق لم يوضع على شئ



(1) مكارم الأخلاق ص 252، سبل الهدى والرشاد ج 7 ص 13.
(2) مكارم الأخلاق ص 32.
(3) مكارم الأخلاق ص 17.
225
قط إلا زانه ولم يرفع عنه قط إلا شانه... (1).
وفي الصحيح عن أبان الأحمر عن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: جاء
رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد بلي ثوبه فحمل إليه اثني عشر درهما فقال: يا علي خذ
هذه
الدراهم فاشتر لي ثوبا ألبسه، قال علي (عليه السلام): فجئت إلى السوق فاشتريت له قميصا باثني عشر درهما
وجئت به إلى رسول الله فنظر إليه فقال: يا علي غير هذا أحب إلي، أترى صاحبه يقيلنا، فقلت:
لا أدري، فقال: أنظر فجئت إلى صاحبه، فقلت: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد كره هذا يريد
ثوبا دونه فأقلنا فيه، فرد علي الدراهم وجئت بها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فمشى معي
إلى السوق ليبتاع قميصا فنظر إلى جارية قاعدة على الطريق تبكي، فقال لها
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما شأنك، قالت: يا رسول الله إن أهل بيتي أعطوني أربعة دراهم
لأشتري لهم بها حاجة فضاعت فلا أجسر أن أرجع إليهم، فأعطاها رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعة دراهم وقال: إرجعي إلى أهلك، ومضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى السوق
فاشترى قميصا بأربعة دراهم ولبسه وحمد الله، وخرج فرأى رجلا عريانا يقول:
من كساني كساه الله من ثياب الجنة، فخلع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قميصه الذي اشتراه
وكساه السائل، ثم رجع إلى السوق فاشترى بالأربعة التي بقيت قميصا آخر
فلبسه وحمد الله، ورجع إلى منزله وإذا الجارية قاعدة على الطريق، فقال لها
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما لك لا تأتين أهلك، قالت: يا رسول الله إني قد أبطأت عليهم وأخاف
أن يضربوني، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): مري بين يدي ودليني على أهلك، فجاء رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى وقف على باب دارهم، ثم قال: السلام عليكم يا أهل الدار، فلم يجيبوه،



(1) الكافي ج 2 ص 648.
226
فأعاد السلام فلم يجيبوه، فأعاد السلام، فقالوا: عليك السلام يا رسول الله
ورحمة الله وبركاته، فقال لهم: ما لكم تركتم إجابتي في أول السلام والثاني، قالوا: يا رسول
الله سمعنا سلامك فأحببنا أن نستكثر منه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن هذه الجارية
أبطأت عليكم فلا تؤاخذوها، فقالوا: يا رسول الله هي حرة لممشاك، فقال رسول الله: الحمد لله،
ما رأيت اثني عشر درهما أعظم بركة من هذه، كسا الله بها عريانين، وأعتق بها نسمة (1).
ومع كل ما رأى من قومه من الشدائد والأذى التي لم يؤذ نبي بمثلها (2) كان
حريصا عليهم ليهديهم إلى الصراط المستقيم، وينقذهم من الجهالات
والضلالات ويحييهم حياة طيبة في الدنيا والآخرة، ولما ظفر عليهم أسكن
روعتهم بقوله: " لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء " (3).
وفي الموثق عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أتى باليهودية التي
سمت الشاة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لها: ما حملك على ما صنعت؟ فقالت: قلت: إن كان نبيا
لم يضره، وإن كان ملكا أرحت الناس منه، قال: فعفا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها (4).
ومن تأمل في لطائف ما ظهر من مكارمه وتجلى في أقواله وأفعاله يرى أنه
المبعوث لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
هذا قليل من كثير، يتعذر عده، وكيف تحصى مناقب من سبح الله نفسه
بإسرائه به، وقال: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد



(1) الأمالي للصدوق ص 308، المجلس 42 ح 5.
(2) إشارة إلى الحديث المشهور: (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت) مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 247، كشف
الغمة ج 2 ص 537.
(3) * (لا تثريب عليكم اليوم) * سورة يوسف: 92، (اذهبوا فأنتم الطلقاء) الكافي ج 1 ص 513.
(4) الكافي ج 2 ص 108.
227
الأقصى} (1)، وحمد نفسه على الكتاب الذي أنزله عليه {الحمد لله الذي أنزل على
عبده الكتاب} (2)، وبارك على نفسه بالفرقان الذي نزل عليه {تبارك الذي نزل
الفرقان على عبده} (3)، واختاره لأن يناجيه في الملأ الأعلى {فأوحى إلى عبده ما
أوحى} (4)، وقال في شأنه: {إنه لقول رسول كريم} (5).
مواعظ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
ونقتصر من مواعظه على بعض ما وعظ به أبا ذر:
يا أبا ذر، أعبد الله كأنك تراه، فإن كنت لا تراه فإنه يراك.
فاعلم أن أول عبادة الله المعرفة به، فهو الأول قبل كل شئ، فلا شئ قبله، والفرد فلا
ثاني له، والباقي لا إلى غاية، فاطر السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما من شئ وهو الله اللطيف
الخبير وهو على كل شئ قدير.
ثم الايمان بي، والإقرار بأن الله تعالى أرسلني إلى كافة الناس بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه
وسراجا منيرا.
ثم حب أهل بيتي الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
واعلم يا أبا ذر، أن الله عز وجل جعل أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن رغب عنها غرق،
ومثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله كان آمنا.



(1) سورة الإسراء: 1.
(2) سورة الكهف: 1.
(3) سورة الفرقان: 1.
(4) سورة النجم: 10.
(5) سورة الحاقة: 40.
228
يا أبا ذر، احفظ ما أوصيك به تكن سعيدا في الدنيا والآخرة.
يا أبا ذر، نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ.
يا أبا ذر، اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك،
وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك.
يا أبا ذر، إياك والتسويف بأملك، فإنك بيومك، ولست بما بعده، فإن يكن غد لك فكن في الغد كما
كنت في اليوم، وإن لم يكن غد لك لم تندم على ما فرطت في اليوم.
يا أبا ذر، كم من مستقبل يوما لا يستكمله، ومنتظر غدا لا يبلغه.
يا أبا ذر، إن حقوق الله جل شأنه أعظم من أن يقوم بها العباد، وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها
العباد، ولكن أمسوا وأصبحوا تائبين.
يا أبا ذر، لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت.
يا أبا ذر، ما دمت في الصلاة فإنك تقرع باب الملك الجبار، ومن يكثر قرع باب الملك يفتح له.
يا أبا ذر، ما من مؤمن يقوم مصليا إلا تناثر عليه البر ما بينه وبين العرش، ووكل به ملك ينادي يا
ابن آدم لو تعلم ما لك في الصلاة ومن تناجي ما انتقلت.
يا أبا ذر، يقول الله تبارك وتعالى: لا أجمع على عبد خوفين، ولا أجمع له أمنين، فإذا أمنني في الدنيا
أخفته يوم القيامة، وإذا خافني في الدنيا آمنته يوم القيامة.
يا أبا ذر، إن جبرئيل أتاني بخزائن الدنيا على بغلة شهباء، فقال لي: يا محمد هذه خزائن الدنيا ولا ينقصك
من حظك عند ربك، فقلت: يا حبيبي جبرئيل لا حاجة لي فيها، إذا شبعت شكرت ربي، وإذا جعت سألته.
يا أبا ذر، إذا أراد الله بعبد خيرا فقهه في الدين، وزهده في الدنيا وبصره بعيوب نفسه.
يا أبا ذر، ليكن لك في كل شئ نية حتى في النوم والأكل.
يا أبا ذر، ما من شاب يدع لله الدنيا ولهوها، وأهرم شبابه في طاعة الله، إلا أعطاه الله أجر اثنين
وسبعين صديقا.

229
يا أبا ذر، إن الله عز وجل عند لسان كل قائل، فليتق الله أمره وليعلم ما يقول.
يا أبا ذر، إن أحبكم عند الله جل ثناؤه أكثركم ذكرا له، وأكرمكم عند الله عز وجل أتقاكم له، وأنجاكم
من عذاب الله أشدكم له خوفا.
يا أبا ذر، من لم يأت يوم القيامة بثلاث فقد خسر، قلت: وما الثلاث فداك أبي وأمي؟ قال: ورع
يحجزه عما حرم الله عز وجل عليه، وحلم يرد به جهل السفيه، وخلق يداري به الناس.
يا أبا ذر، إن سرك أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله، وإن سرك أن تكون أكرم الناس فاتق
الله، وإن سرك أن تكون أغنى الناس فكن بما في يد الله عز وجل أوثق منك بما في يدك.
يا أبا ذر، لو أن الناس كلهم أخذوا بهذه الآية لكفتهم: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا *
ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره} (1).
يا أبا ذر، طوبى لمن تواضع لله تعالى في غير منقصة، وأذل نفسه في غير مسكنة، وأنفق مالا
جمعه في غير معصية، ورحم أهل الذل والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة.
طوبى لمن صلحت سريرته، وحسنت علانيته، وعزل عن الناس شره.
طوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله (2).
*
ولا عجب بأبي ذر الذي اتعظ بهذه المواعظ، وتأدب بهذه الآداب، أن يقابل
الباطل بالحق، ولا يؤثر فيه التهديد حتى أبعد عن دياره، وتحقق ما قاله
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في حقه: يعيش وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، ويدخل
الجنة وحده (3).



(1) سورة الطلاق: 2 و 3.
(2) بحار الأنوار ج 74 ص 74 بتفاوت في مكارم الأخلاق ص 459.
(3) اختيار معرفة الرجال ج 1 ص 98، أبو ذر 48.
230
ولم يؤثر فيه التطميع، فقد أرسل إليه عثمان موليين له ومعهما مائتا دينار،
فقال لهما: انطلقا إلى أبي ذر، فقولا له: إن عثمان يقرؤك السلام، ويقول لك هذه
مائتا دينار فاستعن بها على ما نابك. فقال أبو ذر: هل أعطى أحدا من المسلمين
مثل ما أعطاني؟ قالا: لا، قال: إنما أنا رجل من المسلمين يسعني ما يسع
المسلمين، قالا له: إنه يقول هذا من صلب مالي، وبالله الذي لا إله إلا هو ما
خالطها حرام، ولا بعثت بها إليك إلا من حلال، فقال: لا حاجة لي فيها، وقد
أصبحت يومي هذا وأنا من أغنى الناس. فقالا له: عافاك الله وأصلحك ما نرى
في بيتك قليلا ولا كثيرا مما يستمتع به! فقال: بلى، تحت هذا الإكاف الذي ترون
رغيفا شعير قد أتى عليهما أيام... (1).
وأرسل عثمان مع عبد له كيسا من الدراهم إلى أبي ذر، وقال له: إن قبل هذا
فأنت حر. فأتى الغلام بالكيس إلى أبي ذر وألح عليه في قبوله، فلم يقبل، فقال:
اقبله فإن فيه عتقي، فقال: نعم، ولكن فيه رقي (2).
التحاقه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرفيق الأعلى
قبض (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما ذكره شيخ الطائفة في التهذيب (3) مسموما، يوم الاثنين
لليلتين بقيتا من صفر سنة عشرة من الهجرة.
ونعتذر من إيراد ما جرى عند وفاته، ونقتصر على بعض ما روته الصحاح
والمسانيد:



(1) اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) ج 1 ص 118، أبو ذر 53.
(2) الكشكول للبهائي ج 1 ص 208.
(3) تهذيب الأحكام ج 6 ص 2 كتاب المزار باب 1.
231
عن عبد الله بن عباس قال: لما اشتد بالنبي (صلى الله عليه وسلم) وجعه، قال: ائتوني بكتاب أكتب
لكم كتابا لا تضلوا بعده. قال عمر: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) غلبه الوجع، وعندنا
كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغظ. قال: قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع، فخرج
ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبين كتابه (1).
عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما حضر
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي (صلى الله عليه وسلم): هلم أكتب لكم
كتابا لا تضلوا بعده، فقال عمر: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا
كتاب الله... (2).
وبسند آخر عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهما
قال: لما حضر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وفي البيت رجال فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): هلموا أكتب لكم كتابا
لا تضلوا بعده، فقال بعضهم: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا
كتاب الله... (3).
وفي صحيح البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه
قال: يوم الخميس، وما يوم الخميس، ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء،



(1) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب كتابة العلم ج 1 ص 37.
(2) صحيح البخاري، باب قول المريض قوموا عني ج 7 ص 9، وباب كراهية الخلاف ج 8 ص 161.
وقد ورد هذا الحديث - بمضمون غلبة الوجع - في مصادرهم الأخرى، منها: مسند أحمد ج 1 ص 325
و 326، صحيح البخاري ج 5 ص 138، صحيح مسلم ج 5 ص 76، مجمع الزوائد ج 4 ص 214 و ج 9
ص 34، السنن الكبرى للنسائي ج 3 ص 433 إلى 435، ج 4 ص 360، صحيح ابن حبان ج 14
ص 562، المعجم الأوسط ج 5 ص 288، طبقات ابن سعد ج 2 ص 242 و 244 و...، المصنف
لعبد الرزاق ج 5 ص 438.
(3) صحيح البخاري، باب مرض النبي (صلى الله عليه وسلم) ج 5 ص 137.
232
فقال: اشتد برسول الله (صلى الله عليه وسلم) وجعه يوم الخميس، فقال ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن
تضلوا بعده أبدا، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا هجر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)... (1).
وفي صحيح البخاري: سمع سعيد بن جبير سمع ابن عباس رضي الله عنهما
يقول: يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم بكى حتى بل دمعه الحصى، قلت: يا
ابن عباس ما يوم الخميس، قال: اشتد برسول الله (صلى الله عليه وسلم) وجعه، فقال: ائتوني بكتف
أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا ما له أهجر
استفهموه، فقال: ذروني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه... (2).
وقد روى البخاري في باب مرض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ووفاته روايتين: عن سعيد بن
جبير قال: قال ابن عباس: يوم الخميس وما يوم الخميس اشتد برسول الله (صلى الله عليه وسلم)
وجعه فقال: ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا، فتنازعوا فلا ينبغي عند نبي تنازع
فقالوا ما له أهجر استفهموه فقال: ذروني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه... (3).
ورواه مسلم في كتاب الوصية بثلاثة أسانيد (4).
وفي مسند أحمد بن حنبل: عن جابر أن النبي (صلى الله عليه وسلم) دعا عند موته بصحيفة
ليكتب فيها كتابا لا يضلون بعده، قال: فخالف عليها عمر بن الخطاب حتى



(1) صحيح البخاري، باب هل يستشفع إلى أهل الذمة ومعاملتهم ج 4 ص 31.
(2) صحيح البخاري، باب إخراج اليهود من جزيرة العرب ج 4 ص 65.
(3) صحيح البخاري، باب مرض النبي (صلى الله عليه وسلم) ج 5 ص 137.
(4) صحيح مسلم ج 5 ص 75 و 76.
وقد ورد هذا الحديث - بمضمون الهجر - في مصادر أخرى للعامة، منها: مسند أحمد ج 1 ص 222
و 355، السنن الكبرى للبيهقي ج 9 ص 207، المصنف لعبد الرزاق ج 6 ص 57 و ج 10 ص 361، مسند
الحميدي ج 1 ص 241، مسند أبي يعلى ج 4 ص 298، المعجم الكبير ج 11 ص 30 و 352، تاريخ
الطبري ج 2 ص 436، البداية والنهاية ج 5 ص 247، السنن الكبرى للنسائي ج 3 ص 433 و 435،
ومصادر أخرى للعامة.
233
رفضها (1).
وقال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر في مادة هجر: ومنه
حديث مرض النبي (صلى الله عليه وسلم) " قالوا ما شأنه أهجر؟ " أي اختلف كلامه بسبب المرض
على سبيل الاستفهام، أي هل تغير كلامه واختلط لأجل ما به المرض؟ وهذا
أحسن ما يقال فيه، ولا يجعل اخبارا، فيكون إما من الفحش أو الهذيان، والقائل
كان عمر، ولا يظن به ذلك (2).
في هذه القضية أمور لابد من التأمل فيها:
الأول: أن إطاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مأمور بها من الله سبحانه بنص الكتاب
مقرونة بطاعة الله تعالى في عدة آيات، كقوله تعالى: {وأطيعوا الله والرسول لعلكم
ترحمون} (3) ومنفردة كقوله تعالى: {وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا
البلاغ المبين} (4).
ومقتضى إطلاق الواجب والوجوب عدم الإختصاص بحال من الأحوال،
وقد أكد سبحانه وجوب إطاعته بتفريعه على أمانته في عدة آيات، كقوله تعالى:
{إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون} (5)، وجعل إطاعته إطاعة الله سبحانه



(1) مسند أحمد بن حنبل ج 3 ص 346.
(2) النهاية في غريب الحديث والآثار ج 5 ص 245.
ومن مصادر الخاصة راجع: الإيضاح ص 359 و... المسترشد ص 681 و 682، أوائل المقالات
ص 406، الإرشاد ج 1 ص 184، الأمالي للمفيد ص 36، الاحتجاج ج 1 ص 223، سعد السعود
ص 297 ومصادر أخرى.
(3) سورة آل عمران: 132.
(4) سورة التغابن: 12.
(5) سورة الشعراء: 143 - 144.
234
بقوله تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (1) فمن لم يطع الرسول خرج عن
طاعة الله.
الثاني: إن القول بأنه: " غلبه الوجع وعندنا كتاب الله " بعد أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) " ائتوني
بكتاب " عصيان للرسول، وقد قال الله تعالى: {إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالاثم
والعدوان ومعصية الرسول} (2)، وعصيان لله سبحانه حيث قال: {وما آتاكم الرسول
فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (3)، وقد قال الله سبحانه: {ومن يعص الله ورسوله فقد
ضل ضلالا مبينا} (4)، {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا} (5).
الثالث: إن ما يختاره الرسول هو مختار الله سبحانه بمقتضى العقل
والكتاب، وقد قال الله سبحانه: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله
أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} (6) والتعبير بجملة " ما كان " تنبيه على أنه حكم
لا يقبل
التخلف بوجه، واتصاف موضوع الحكم بالإيمان مع أنه حكم عام للمؤمن
وغيره بحكم العقل، للإعلام بأن اختيار خلاف ما اختاره الله ورسوله كاشف عن
عدم الإيمان.
الرابع: إن هذه المقالة ايذاء للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ورد على الله حيث قال {ما ضل



(1) سورة النساء: 80.
(2) سورة المجادلة: 9.
(3) سورة الحشر: 7.
(4) سورة الأحزاب: 36.
(5) سورة الجن: 23.
(6) سورة الأحزاب: 36.
235
صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى} (1).
وقد ظهر شدة تأذي النبي وتأثره من ذلك، حيث طردهم من بينه بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" قوموا عني "، مع أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا صافحه أحد لم يترك يده من يده حتى يكون هو
التارك (2)، وإذا جلس إليه أحد لم يقم حتى يقوم الذي جلس إليه (3)، وكان أحيى
الناس وأكرمهم لمن يرد عليه، فقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) " قوموا عني " يكشف عن تألمه إلى حد
لم يتحمل جلوسهم عنده، وقد قال الله تعالى: {والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب
أليم} (4)، وقال سبحانه: {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة} (5).
الخامس: إن هذه المقالة صارت سببا لرفع الأصوات عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} (6)، وقال
سبحانه: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم
للتقوى} (7)، كما صارت سببا للتنازع عنده، وقد قال سبحانه: {وأطيعوا الله
ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا} (8)، وقد قال الله تعالى: {فإن تنازعتم في شئ فردوه
إلى الله والرسول} (9)، فصار الذي جعله الله مردودا إليه في كل أمر، مردودا عليه



(1) سورة النجم: 2 و 3.
(2) الكافي ج 2 ص 671.
(3) مكارم الأخلاق ص 17.
(4) سورة التوبة: 61.
(5) سورة الأحزاب: 57.
(6) سورة الحجرات: 2.
(7) سورة الحجرات: 3.
(8) سورة الأنفال: 46.
(9) سورة النساء: 59.
236
في أمره!
السادس: إن الغاية القصوى من إرسال الرسل وإنزال الكتب هداية الإنسان
وصيانته عن الضلال {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق} (1)، والدعاء الذي
في أم الكتاب يدعو به كل مسلم في كل صلاة هو {اهدنا الصراط المستقيم * صراط
الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} (2)، والرسول الذي يرى الفتن
من بعده، أشفق على أمته وأراد أن يصونهم عن الضلال بعد الهدى بكتاب يكون
ضمانا لهم عن الضلال، حيث قال: " أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده "، وتعليق عدم الضلال
على الكتاب يدل على حرمان الأمة - بفقد ذلك الكتاب - من أعظم النعم وهو
الهداية، وابتلائها بأكبر النقم وهو الظلالة!
السابع: " كتاب الله حسبنا "، مخالف للكتاب والسنة والإجماع والعقل:
فإنه مخالف للكتاب إذ لا يبقى مع هذا الكلام موضوع لوجوب إطاعة
الرسول، ولا للنهي عن معصيته في الآيات الكثيرة، منها قوله تعالى: {وما آتاكم
الرسول فخذوه وما نهيكم عنه فانتهوا} (3).
ومخالف للإجماع القطعي على وجوب اتباع السنة لما ورد في أبواب العلم
وغيره، فلو كان الكتاب كافيا لكان ما في الصحاح الست فضولا مستغنى عنه،
ومخالف للإجماع القطعي من الرجوع إلى السنة.
ومخالف للعقل الحاكم بأنه لا يمكن استفادة تفاصيل الأحكام في العبادات
والمعاملات والسياسات من شعار " عندنا كتاب الله حسبنا ".



(1) سورة التوبة: 33.
(2) سورة الحمد: 5 و 6.
(3) سورة الحشر: 7.
237
ويدل على وضوح الأمر ما صرح به أحد من كبار أئمة العامة وهو الذهبي،
أن (حسبنا كتاب الله) هو ما تقوله الخوارج (1)، وقد غفل عما هو موجود في عدة
أبواب من صحيح البخاري وفي غيره من الصحاح والمسانيد.
الثامن: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مبعوث إلى كافة الناس، وأمته باقية إلى يوم القيامة،
وقد أراد أن يكتب كتابا كي لا تضل الأمة بعده، فبأي حق منعه من هذا العمل
وأضاع حق الأمة بقوله " عندنا كتاب الله حسبنا "؟!.
التاسع: روى مسلم عن عبد الرحمن بن أبزى أن رجلا أتى عمر فقال: إني
أجنبت فلم أجد ماء. فقال عمر: لا تصل، فقال عمار: أما تذكر يا أمير المؤمنين
إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت
في التراب وصليت، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض،
ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفيك، فقال عمر: اتق الله يا عمار. قال: إن شئت
لم أحدث به (2).
وغير خفي أن الصلاة عمود الدين ومفتاحه الطهور وقد قال الله: {يا أيها
الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا
برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر



(1) تذكرة الحفاظ ج 1، ص 3.
(2) صحيح مسلم ج 1 ص 193، مسند أحمد ج 4 ص 265، صحيح البخاري ج 1 ص 87 كتاب التيمم
باب المتيمم هل ينفخ فيهما، سنن ابن ماجة ج 1 ص 188، سنن أبي داود ج 1 ص 81، سنن النسائي
ج 1 ص 166 و 170، السنن الكبرى للبيهقي ج 1 ص 209، عون المعبود ج 1 ص 355، مسند أبي داود
الطيالسي ص 89، السنن الكبرى للنسائي ج 1 ص 134 و 135، مسند أبي يعلى ج 3 ص 183، صحيح
ابن خزيمة ج 1 ص 135، صحيح ابن حبان ج 4 ص 131 و 133، تذكرة الحفاظ ج 3 ص 951 ومصادر
أخرى للعامة.
238
أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا
فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد
ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} (1) والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد بينه لهم!
وأنبأ الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أتى
عمر (رضي الله عنه) بمبتلاة قد فجرت فأمر برجمها فمر بها علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) ومعها
الصبيان يتبعونها، فقال ما هذه قالوا أمر بها عمر أن ترجم، قال فردها وذهب معها
إلى عمر (رضي الله عنه) وقال ألم تعلم أن القلم رفع عن المجنون حتى يعقل وعن المبتلى
حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم (2)
وروى عن عبد الله الحسن، قال دخل علي على عمر، وإذا امرأة حبلى تقاد
ترجم، قال ما شأن هذه قالت: يذهبون بي ليرجموني، فقال: يا أمير المؤمنين
لأي شئ ترجم، ان كان لك سلطان عليها، فمالك سلطان على ما في بطنها. فقال
عمر (رضي الله عنه) كل أحد أفقه مني ثلاث مرات (3)
وروى البيهقي في سننه عن الشعبي قال: خطب عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)
الناس، فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال ألا لا تغلوا في صداق النساء، فإنه لا



(1) سورة المائدة: 6.
(2) المستدرك ج 4 ص 389، وفي التلخيص أيضا، و ج 1 ص 258، وفي التلخيص أيضا، و ج 2 ص 59،
سنن أبي داود ج 2 ص 339 بأسانيد متعددة، السنن الكبرى للبيهقي ج 4 ص 269 و ج 8 ص 264،
المصنف عبد الرزاق ج 7 ص 80، مسند ابن الجعد ص 120، السنن الكبرى للنسائي ج 4 ص 323،
مسند أبي يعلى ج 1 ص 440، صحيح ابن خزيمة ج 2 ص 102، و ج 4 ص 248، صحيح ابن حبان ج 1
ص 356، وبتفاوت في صحيح البخاري ج 8 ص 21 باب رجم المحسن ومصادر أخرى كثيرة للعامة.
الخصال ص 93 و 175، مناقب آل أبي طالب ج 1 ص 3 ومصادر أخرى للخاصة.
(3) ذخائر العقبى ص 81، الرياض النضرة ج 3 ص 143، كفاية الطالب ص 227 باب 59.
239
يبلغني عن أحد ساق أكثر من شئ ساقه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أو سيق إليه إلا جعلت
فضل ذلك في بيت المال، ثم نزل، فعرضت له امرأة من قريش، فقالت يا أمير
المؤمنين: أكتاب الله أحق أن يتبع أو قولك، قال: بل كتاب الله تعالى، فما ذاك؟
قالت: نهيت الناس آنفا أن يغالوا في صداق النساء، والله تعالى يقول في كتابه
{وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا} (1) فقال عمر (رضي الله عنه) كل أحد أفقه من عمر
مرتين أو ثلاثا (2).
وروى في السنن الكبرى أن عمر (رضي الله عنه) أتى بامرأة قد ولدت لستة أشهر فهم
برجمها فبلغ ذلك عليا (رضي الله عنه) فقال ليس عليها رجم، فبلغ ذلك عمر (رضي الله عنه) فأرسل إليه
فسأله فقال {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} (3)
وقال {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} (4) فستة أشهر حمله حولين تمام لا حد عليها
أو قال لا رجم عليها قال فخلى عنها، (5) ولا ريب أن الجرأة على الدماء من أشد
ما يحتاط الفقيه فيه، وهناك موارد أخرى نقتصر على ما ذكرنا.
وهل يمكن بهذا المبلغ من العلم بالكتاب مقابلة من أنزل الله عليه الكتاب
برد كتابه بأن يقال (حسبنا كتاب الله)، والعهدة على أصحاب الصحاح والمسانيد،



(1) سورة النساء: 20.
(2) السنن الكبرى للبيهقي ج 7 ص 233، كنز العمال ج 16 ص 537، كشف الخفاء ج 1 ص 269 و ج 2
ص 118 ومصادر أخرى.
(3)
(4)
(5) السنن الكبرى للبيهقي ج 7 ص 442، المصنف عبد الرزاق ج 7 ص 350 نظم درر السمطين ص 131،
كنز العمال ج 5 ص 457، الدر المنثور ج 1 ص 288 و ج 6 ص 40، الفصول في الأصول ج 1 ص 107،
تاريخ المدينة ج 3 ص 979 ومصادر أخرى للعامة.
240
وإنما عليا فقه السنة ودراية الرواية.
العاشر: من تأمل في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي لن يتفرقا
حتى يردا علي الحوض لن تضلوا ما ان تمسكتم بهما " (1) وفي قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أكتب لكم كتابا لا تضلوا
بعده " يظهر له أن هذا الكتاب متمم لذلك الحديث، لتصير الأمة مصونة عن الضلال
كما قال (صلى الله عليه وآله وسلم) " لن تضلوا "، فلله در ابن عباس حيث قال: " إن الرزية كل الرزية ما
حال بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين كتابه ".



(1) تقدم منابعه في ص 122.
241
آل الرسول وأهل بيته (عليهم السلام)...
آل الرسول وأهل بيته (عليهم السلام)
لابد في معرفة آله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته من النظر إلى منزلتهم عند الله تعالى،
ونكتفي منها بالإشارة إلى أمرين:
الأول: أن الدعاء هو السبب المتصل بين العبد والرب وقد قال الله تعالى:
{ادعوا ربكم تضرعا وخفية} (1)، وقال: {هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين} (2).
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الدعاء سلاح المؤمن، وعمود الدين، ونور السماوات
والأرض (3)، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): الدعاء مخ العبادة (4).
وعن الصادق (عليه السلام): إن الدعاء يرد القضاء المبرم بعدما أبرم إبراما، فأكثر من
الدعاء فإنه مفتاح كل رحمة، ونجاح كل حاجة، ولا ينال ما عند الله إلا بالدعاء (5).



(1) سورة الأعراف: 55.
(2) سورة غافر: 65.
(3) الكافي ج 2 ص 468، مكارم الأخلاق ص 268، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 37، باب 31 ح 95
ومصادر أخرى للخاصة.
المستدرك على الصحيحين ج 1 ص 492، مجمع الزوائد ج 10 ص 147، مسند أبي يعلى ج 1 ص 344
ومصادر أخرى للعامة.
(4) الدعوات ص 18، عدة الداعي ص 24 ومصادر أخرى للخاصة.
سبل السلام ج 4 ص 212، المعجم الأوسط ج 3 ص 293 ومصادر أخرى للعامة.
(5) الكافي ج 2 ص 470، مكارم الأخلاق ص 269.
243
وقد تظافرت النصوص من الخاصة والعامة أن الدعاء محجوب حتى يصلى
على محمد وآله (1)، وفي بعضها كل دعاء محجوب حتى يصلى على محمد وآل
محمد (2).
ولفظة كل من أداة العموم، فكل دعاء من كل داع محجوب، والرافع
للحجاب هو الصلاة عليه وعلى آله.
فإذا كانت الصلاة خارقة للحجاب فالمصلى عليه لا حجاب بينه وبين ربه،
لأنه الواصل إلى مقام القرب الذي أجل من أن يوصف، حيث إن الصلاة عليه
بالإضافة إليه صارت مقربا إلى الله، ومفتاح باب إجابة الدعاء.
الثاني: لا ريب أن أفضل ما يتقرب به العباد إلى ربهم بعد المعرفة، هو
الصلاة، وهي التي قال إبراهيم (عليه السلام): {رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي} (3)، وقال
عيسى (عليه السلام): {وأوصاني بالصلاة} (4)، وأمر الله أشرف عباده بإقامتها، ووعده المقام
المحمود بها، وهي عمود الدين، ووصية الأنبياء والأوصياء، ومعراج المؤمن،



(1) الكافي ج 2 ص 491، الدعوات ص 31، الأمالي للطوسي ص 662، كفاية الأثر ص 39، مكارم
الأخلاق ص 274 ومصادر أخرى للخاصة.
الجامع الصغير ج 1 ص 656، كنز العمال ج 2 ص 78 و 88 و 269، فيض القدير ج 3 ص 725، الصواعق
المحرقة ص 148، ينابيع المودة ج 2 ص 434 ومصادر أخرى للعامة.
(2) الكافي ج 2 ص 493، ثواب الأعمال ص 155 ثواب الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله)، روضة الواعظين
ص 329، مكارم الأخلاق ص 312، عوالي اللئالي ج 2 ص 223 ومصادر أخرى للخاصة.
مجمع الزوائد ج 10 ص 160، المعجم الأوسط ج 1 ص 220، كنز العمال ج 1 ص 49 و ج 2 ص 269،
فيض القدير ج 5 ص 25، البحر الرائق ج 2 ص 77، الجامع الصغير ج 2 ص 279، سبل الهدى والرشاد
ج 12 ص 449، ينابيع المودة ج 2 ص 99 و ج 3 ص 232 ومصادر أخرى للعامة.
(3) سورة إبراهيم: 40.
(4) سورة مريم: 31.
244
وقربان كل تقي، وبالصلاة يبلغ العبد إلى الدرجة القصوى.
وحينما يقوم العبد إلى مناجاة ربه يتقرب إلى الله بقراءة كلام الله ويركع
ويسجد وبعد ما يرفع الرأس من السجدة الأخيرة، ويصل إلى مقام الشهود
والشهادة لله بأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كما شهد الله أنه لا إله إلا هو
والملائكة وأولو العلم، ولمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعبودية والرسالة، يتوسل لقبول صلاته
بالصلاة على محمد وآله، وبعد إتمام الصلاة بالصلاة على الآل يختمها بالتسليم.
فإلى الله يصعد الكلم الطيب بالصلاة على محمد وآله.
وفي سنن الدارقطني عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
من صلى صلاة لم يصل فيها علي وعلى أهل بيتي لم تقبل منه (1).
وقال الفخر الرازي: الدعاء للآل منصب عظيم ولذلك جعل هذا الدعاء
خاتمة التشهد في الصلاة وهو قوله: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد (2).
وفي صحيح مسلم عن أبي مسعود الأنصاري قال: أتانا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال بشير بن سعد أمرنا الله عز وجل أن نصلي
عليك يا رسول الله، فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى تمنينا
أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد
كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم
في العالمين، إنك حميد مجيد، والسلام كما علمتم (3).



(1) سنن الدارقطني ج 1 ص 348، سبل الهدى والرشاد ج 11 ص 10.
(2) التفسير الكبير ج 27 ص 166 في تفسير * (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) * سورة
الشورى: 23، ينابيع المودة ج 3 ص 138.
(3) صحيح مسلم ج 2 ص 16، صحيح البخاري ج 6 ص 27، كتاب تفسير القرآن، باب ان الله
وملائكته...، مسند أحمد ج 5 ص 274، سنن الدارمي ج 1 ص 310، سنن الترمذي ج 1 ص 301 و ج 5
ص 38، المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 148، عون المعبود ج 3 ص 190، مسند الحميدي ج 2
ص 311، مسند ابن الجعد ص 40، مصنف ابن أبي شيبة ج 2 ص 390، السنن الكبرى للنسائي ج 1
ص 381 و ج 6 ص 17 و 97 و 436، سنن النسائي ج 3 ص 45 و 47، السنن الكبرى للبيهقي ج 2
ص 146 و 148، صحيح ابن حبان ج 3 ص 193 و ج 5 ص 287 و 288 و 296، المعجم الكبير ج 17
ص 251 و 264 و ج 19 ص 116 و 124 و...، المعجم الصغير ج 1 ص 86، المعجم الأوسط ج 3 ص 29
و 91 و 92 و 215 و ج 7 ص 57، زاد المسير ج 6 ص 215، تفسير القرطبي ج 14 ص 233، تفسير ابن
كثير ج 2 ص 468 و 515 و 516، الدر المنثور ج 5 ص 217 و 218، تاريخ مدينة دمشق ج 10
ص 291 و ج 53 ص 309 ومصادر أخرى كثيرة للعامة.
المجالس ص 232، الأمالي للطوسي ص 564: العمدة ص 48، الطرائف ص 160، سعد السعود
ص 204، مسند زيد بن علي ص 34، عوالي اللئالي ج 1 ص 417 ج 2 ص 39 ومصادر أخرى للخاصة.
245
والمستفاد من الحديث أن الصلاة على النبي التي أمر الله المؤمنين بها في
كتابه كما فسرها رسوله هي الصلاة على محمد وآله، والأمر بها بعد قوله: {إن الله
وملائكته يصلون على النبي} (1) يدل على أن صلاة الله وملائكته على النبي مقرونة
بالصلاة على آله، ولاتحادهم معه قد اكتفى في الآية الكريمة عن الصلاة عليهم
بالصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وبالتدبر في هذين الأمرين الذين اتفقت عليه العامة والخاصة يظهر مقام آل
الرسول وأهل بيته عند الله سبحانه.
ولا مجال لبسط الكلام في ما ورد في منزلة أهل البيت (عليهم السلام) ويكفي ما
تظافرت النصوص عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله: مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن
تخلف عنها غرق (2).



(1) سورة الأحزاب: 56.
(2) المستدرك ج 2 ص 343 و ج 3 ص 151، مجمع الزوائد ج 9 ص 168، المعجم الصغير ج 1 ص 139
و ج 2 ص 22، المعجم الأوسط ج 4 ص 10 و ج 5 ص 355 و ج 6 ص 85، المعجم الكبير ج 3 ص 45
و ج 12 ص 27، مسند الشهاب ج 2 ص 273، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 218، نظم
درر السمطين ص 235، الجامع الصغير ج 1 ص 373 و ج 2 ص 532، كنز العمال ج 12 ص 94 و...
فيض القدير ج 2 ص 658، تفسير ابن كثير ج 4 ص 123، الدر المنثور ج 3 ص 334، ينابيع المودة ج 1
ص 93 و... ومصادر أخرى للعامة.
بصائر الدرجات، ص 317، باب 13 في الأئمة يعلمون كل أرض...، قرب الإسناد ص 8، عيون أخبار
الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 27 باب 31 ح 10، كفاية الأثر ص 34 و 210، تحف العقول ص 113، مناقب أمير
المؤمنين (عليه السلام) ج 1 ص 296 و ج 2 ص 146 و...، المسترشد ص 260 و 578، شرح الأخبار ج 2
ص 406 وص 502 و... و ج 3 ص 3، كتاب الغيبة ص 44، الأمالي للطوسي ص 60 المجلس الثاني
ح 57 وص 349 و... الاحتجاج ج 1 ص 229 و ج 2 ص 147، العمدة ص 306 ومصادر أخرى
للخاصة.
246
ومن تمثيله أهل بيته بسفينة نوح يستفاد أنه كما كانت سفينة نوح مصنوعة
بيده بعين الله ووحيه {فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا} (1) فصارت وسيلة
نجاة أمته، كذلك نجاة هذه الأمة بسفينة مصنوعة بيد التعليم والتربية الخاتمية
تحت إشراف عين الله ووحيه.
والسفينة التي صانعها رسول الله، وناظرها عين الله، واللطائف التي أعملت
في صنعها إنما هي بوحي الله تدور النجاة والهلاك مدار التمسك بها والتخلف
عنها.
والرواية تدل على عصمة أهل البيت (عليهم السلام)، لأن التمسك بمن لا يكون
معصوما من الخطأ والزلل نقض للغرض الذي هو النجاة من مهالك الدنيا
والآخرة.
ومن يكون التمسك به نجاة والتخلف عنه هلاكا لا يكون إلا من لا يتخلف



(1) سورة المؤمنون: 27.
247
عن الحق، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فالأمر بالتمسك والنهي عن التخلف بمقتضى إطلاق التمسك والتخلف،
دليل على أن سفينة نجاة هذه الأمة تجري على الصراط المستقيم الذي لا
انحراف فيه عن الصدق والحق.
ومقتضى إطلاق كلمة (من) أن من سواهم كائنا من كان مأمور بالتمسك بهم،
ومنهي عن التخلف عنهم، فهم الأئمة الذين فرض الله طاعتهم والقادة الهداة الذين
وجب اتباعهم على جميع الأمة.
ومقتضى المماثلة بين السفينتين أن الذين اتخذوا وليجة في هذه الأمة
وتفرقوا عن أهل بيت العصمة لا عاصم لهم عن عذاب الله، كما قال ابن نوح
{سآوي إلى جبل يعصمني من الماء} (1) ولم يعلم أنه {لا عاصم اليوم من أمر الله} (2)،
إلا بالسفينة التي صنعت بعين الله.
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه خرج ذات ليلة وقد أخر صلاة العشاء حتى ذهب من
الليل هنيهة أو ساعة، والناس ينتظرون فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا: ننتظر الصلاة،
فقال: إنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتموها، ثم قال: اما إنها صلاة لم يصلها أحد
ممن كان قبلكم من الأمم ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: النجوم أمان لأهل
السماء فإن طمست النجوم أتى السماء ما يوعدون، وأنا أمان لأصحابي فإذا
قبضت أتى أصحابي ما يوعدون، وأهل بيتي أمان لأمتي فإذا ذهب أهل بيتي أتى
أمتي ما يوعدون (3)، وقد ورد هذا المضمون في عدة من المصادر (4).



(1) سورة هود: 43.
(2) سورة هود: 43.
(3) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 457.
(4) المستدرك على الصحيحين ج 2 ص 448، كنز العمال ص 96 وص 101 و 102، مجمع الزوائد
ج 9 ص 174، المعجم الكبير ج 7 ص 22، نظم درر السمطين ص 234، الجامع الصغير ج 2 ص 681،
تاريخ مدينة دمشق ج 40 ص 20، سبل الهدى والرشاد ج 11 ص 6 وص 7، ينابيع المودة ج 1 ص 72
و ج 2 ص 104 و 114 وص 442 و 443 و 474 و ج 3 ص 142، الصواعق المحرقة ص 187 ومصادر
أخرى للعامة.
عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 27 باب 31 ح 14، كمال الدين وتمام النعمة ص 205، مناقب أمير
المؤمنين (عليه السلام) ج 2 ص 133 و 142 و... و 174، المسترشد ص 579، شرح الأخبار ج 1 ص 3 و ج 3
ص 13، الأمالي للطوسي ص 259 المجلس العاشر ح 8 وص 379 المجلس الثالث عشر ح 63
ومصادر أخرى للخاصة.
248
وكفى في مقام أهل البيت أنهم أمان للأمة من الوعيد الذي يخاف منه الذين
وصلوا إلى مقام العلم واليقين، قال سبحانه: {ذلك لمن خاف مقامي وخاف
وعيد} (1)، وقال سبحانه: {هيهات هيهات لما توعدون} (2) فمن أدرك عظمة وعيد
الرب وأن الخوف منه عديل للخوف من مقام الرب في الآية الكريمة، وأدرك
عظمة ما يوعدون في قوله تعالى: {حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما
الساعة} (3)، يعلم منزلة أهل البيت الذين هم أمان للأرض من الانشقاق كما أن
النجوم أمان للسماء من الانفطار، وأنهم عديل من لا عديل له في الممكنات في
أن الأمان مما يوعدون يدور مدار وجوده بقاء وذهابا.
وكونهم أمانا للأمة دليل على عصمتهم، لأن الله سبحانه يقول: {الذين آمنوا
ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن} (4) فإذا كان الأمن لمن لهم الأمن
مشروطا بعدم الظلم، فالذين هم أمان كيف يعقل أن يلبس إيمانهم بظلم.



(1) سورة إبراهيم: 14.
(2) سورة المؤمنون: 36.
(3) سورة مريم: 75.
(4) سورة الأنعام: 82.
249
وفي هذا القليل من الكثير كفاية لأصحاب الدراية في معرفة أهل بيت
الرسالة، ومن تأمل فيما ذكر وما لم يذكر مما ورد عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في وصفهم
يرى أنه لا يخلو من الملزوم أو اللازم أو الملازم للعصمة المطلقة وكمال
الإنسانية، الذي لا يتحقق إلا في الإنسان الكامل على الإطلاق.
من هم أهل بيت الرسول صلوات الله عليهم
المستفاد من النصوص المتواترة كحديث الثقلين (1) وغيره، وما ورد في
خليفة الله المهدي (2) من النصوص الكثيرة المتلقاة بالقبول من العامة والخاصة،
أن المهدي من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وان أهل بيته عترته المعصومون الذين لا
يفترقون عن القرآن ولا يفترق القرآن عنهم، وإن كان أهل البيت في زمانه (صلى الله عليه وآله وسلم)
منحصرين في علي وفاطمة والحسن والحسين.
ونقتصر على بعض ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيان مصداق آله وأهل بيته:
ففي الصحيح عندهم عن عامر بن سعد عن أبيه قال: لما نزلت: ندع أبنائنا
وأبناءكم الآية، دعا رسول الله عليا وفاطمة وابنيهما فقال: هؤلاء أهل بيتي (3).
وفي الصحيح عندهم عن أم سلمة قالت: في بيتي نزلت: {إنما يريد الله ليذهب
عنكم الرجس أهل البيت} فأرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى علي وفاطمة وابنيهما فقال:
هؤلاء أهل بيتي (4).



(1) راجع صفحة:
(2) راجع صفحة:
(3) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 146 وفي التلخيص أيضا، وراجع صفحة:
(4) المستدرك على الصحيحين ج 2 ص 416 و ج 3 ص 108 و 146 و 147 و 148 وفي التلخيص
أيضا، مسند أحمد ج 4 ص 107 و ج 6 ص 292 و 304، سنن الترمذي ج 5 ص 30 و 328 و 361،
السنن الكبرى للبيهقي ج 2 ص 150، مجمع الزوائد ج 9 ص 167، مصنف ابن أبي شيبة ج 7 ص 501،
كتاب السنة ص 589، السنن الكبرى للنسائي ج 5 ص 113، خصائص أمير المؤمنين (عليه السلام) ص 49
و 81، مسند أبي يعلى ج 12 ص 313 و 451 و ج 13 ص 471، المعجم الأوسط ج 7 ص 319، المعجم
الكبير ج 3 ص 53 و 54 و 55 ج 9 ص 26 و ج 22 ص 66، ج 23 ص 333 و 396، نظم درر السمطين
ص 133، كنز العمال ج 13 ص 603، جامع البيان ج 22 ص 10 و 11 و 12، أسباب النزول للواحدي
ص 239، شواهد التنزيل ج 2 ص 30 و 37 و 38 و 39 و 50 و 52 و 67 و 73 و 95 و...، تفسير القرطبي
ج 14 ص 183 و 184، تفسير ابن كثير ج 3 ص 492 و 493 و 494، البرهان للزركشي ج 2 ص 197،
الدر المنثور ج 5 ص 198، تفسير الثعالبي ج 4 ص 346، التاريخ الكبير ج 2 ص 69، تاريخ بغداد
ج 10 ص 277، تاريخ مدينة دمشق ج 13 ص 203 و... و ج 14 ص 140 و 144 و 145 و 148، أسد
الغابة ج 2 ص 12 و ج 4 ص 29 و ج 5 ص 589، تهذيب التهذيب ج 2 ص 258 تهذيب الكمال ج 6
ص 229، سير أعلام النبلاء ج 2 ص 121 و ج 3 ص 254 و ج 10 ص 346 ومصادر أخرى كثيرة للعامة
يصعب ذكرها.
الخصال ص 561، الأمالي للصدوق ص 559 المجلس الثاني والسبعون ج 5 وص 572، كمال الدين
وتمام النعمة ص 278، كفاية الأثر ص 66، مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 1 ص 157 و ج 2 ص 125
و 156 و 159 و 162 و 505، شرح الأخبار ج 2 ص 300 و 338 و 339 و 489 و 491 و 492 و ج 3
ص 86، الأمالي للطوسي ص 368 والمجلس الثالث عشر ح 34 وص 559 المجلس السادس
والعشرون ح 9، الاحتجاج ج 1 ص 215: الخرائج والجرائح ج 1 ص 48، العمدة ص 32، و 33 و 36
و 39 و 40 و 41 و 45 و 122 و 188 و 189، سعد السعود ص 107، الطرائف ص 45 و 116 و 123
و 125 و...، الفصول المختارة ص 53، تفسير القمي ج 2 ص 193، تفسير فرات الكوفي ص 332
و 333 و 335، التبيان ج 8 ص 339، مجمع البيان ج 8 ص 156 و 157 ومصادر أخرى كثيرة للخاصة
يصعب ذكرها.
250
وفي الرواية التي اعترفوا بصحتها عن صفية بنت شيبة قالت: قالت عائشة:
خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود، فجاء الحسن الحسين
فأدخلهما معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها معهما ثم جاء علي فأدخله معهم، ثم

251
قال: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} (1).
وقد تقدم عن الفخر أنه قال: واعلم أن هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين
أهل التفسير والحديث (2).
والحصر المستفاد من قوله وفعله (صلى الله عليه وآله وسلم) يكفي لكل لبيب على أنه لم يكن في
عشيرته وأزواجه من يستحق أن يصدق عليه عنوان أهل البيت إلا هؤلاء الأربعة
الذين اختارهم الله للمباهلة لإثبات توحيده وتنزيهه ورسالة رسوله، واصطفاهم
على أهل الأرض باختصاصهم بالدعوة المستجابة.
وأذهب عنهم كل رجس وطهرهم تطهيرا وأخبر بتعلق إرادته بعصمتهم
والطهارة الخاصة بهم.
وهؤلاء الأربعة هم الذين يصلي عليهم الله وملائكته، وبالصلاة عليهم تقبل
الصلاة ويرفع الدعاء، وهم الأبرار الذين نزلت في حقهم {ويطعمون الطعام على
حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} (3).
وهؤلاء هم القدر المتيقن من قوله: {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في
القربى} (4).
قال الزمخشري: وروى أنها لما نزلت قيل: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء
الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: علي وفاطمة وابناهما (5).
قال الرازي ما ملخصه: إن آل محمد هم الذين يؤول أمرهم إليه فكل من كان



(1) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 147 وفي التلخيص أيضا.
(2) التفسير الكبير ج 8 ص 80.
(3) سورة الإنسان: 8 و 9، راجع صفحة:
(4) سورة الشورى: 23.
(5) تفسير الكشاف ج 4 ص 219 في تفسير آية المودة.
252
أمرهم إليه أشد وأكمل كانوا هم الآل، ولا شك أن فاطمة وعليا والحسن
والحسين كان التعلق بينهم وبين رسول الله أشد التعلقات وهذا كالمعلوم بالنقل
المتواتر فوجب ان يكونوا هم الآل (1).
وليعلم أن تعلقهم برسول الله هو ما قال الله تعالى في كتابه وأنفسنا وأنفسكم
فجعل الله عليا نفس النبي، وما قاله النبي في شأن ابنته: فاطمة بضعة مني (2)، وفي
شأن الحسن: هذا مني (3) وفي شأن الحسين: حسين مني وأنا من حسين (4).
وورد في النص الصحيح أن رسول الله دخل على فاطمة رضي الله عنها
فقال: إني وإياك وهذا النائم يعني عليا وهما يعني الحسن والحسين لفي مكان واحد يوم
القيامة (5).
وحشره معهم في مكان واحد في يوم قال سبحانه: {يومئذ يصدر الناس



(1) التفسير الكبير ج 27 ص 166 في تفسير آية المودة.
(2) راجع صفحة:
(3) راجع صفحة:
(4) راجع صفحة:
(5) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 137 وفي التلخيص أيضا، مجمع الزوائد ج 9 ص 169 و 170
و 171، المعجم الكبير ج 3 ص 41، ج 22 ص 406، كنز العمال ج 11 ص 615 و ج 12 ص 99، ترجمة
الإمام الحسين (عليه السلام) ص 165، ذخائر العقبى ص 25، مسند أحمد ج 1 ص 101، مسند أبي داود
الطيالسي ص 26، كتاب السنة ص 584، مسند أبي يعلى ج 1 ص 393، أمالي المحاملي ص 205،
شواهد التنزيل ج 1 ص 397، تاريخ مدينة دمشق ج 13 ص 224 و 228 و ج 14 ص 163 و 164، أسد
الغابة ج 5 ص 269 و 523، تهذيب الكمال ج 6 ص 403، سير أعلام النبلاء ج 3 ص 258، البداية
والنهاية ج 8 ص 226، ترجمة الإمام الحسن (عليه السلام) ص 110 و 117 و... مصادر أخرى للعامة.
شرح الأخبار ج 3 ص 24، الأمالي للطوسي 594 المجلس 26 ح 2، العمدة ص 395 ومصادر أخرى
للخاصة.
253
أشتاتا ليروا أعمالهم} (1)، وقال الله تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم
القيامة} (2)، يكشف عن وصولهم بجهادهم علما وعملا إلى المقام المحمود الذي
لم يبلغه أحد من الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين إلا خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم).
فعلى كل من كان من أهل التفقه في الكتاب والسنة أن ينظر إلى هذه
المقامات التي اتفقت عليها روايات العامة والخاصة، وما جرى على أصحاب
هذه الفضائل التي لا يبلغ كنه عظمتها العقول والأفكار، من الظلامات التي
اسودت صفحات التاريخ، والحكم في ذلك لله الواحد القهار في يوم تتقلب فيه
القلوب والأبصار.
وكيف يوجه تأسيس أساس الظلم والجور حتى انتهى الأمر إلى أن يذبح
الحسين عطشانا وقد رووا في الصحيح عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال لعلي وفاطمة
والحسن والحسين: أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم (3).



(1) سورة الزلزلة: 6.
(2) سورة الأنبياء: 47.
(3) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 149 وفي التلخيص أيضا، مسند أحمد بن حنبل ج 2 ص 442،
مجمع الزوائد ج 9 ص 169، مصنف ابن أبي شيبة ج 7 ص 512، ذخائر العقبى ص 25، سنن ابن ماجة
ج 1 ص 52، سنن الترمذي ج 5 ص 360، المعجم الأوسط ج 3 ص 179 و ج 5 ص 182، المعجم الكبير
ج 3 ص 40 و ج 5 ص 184، صحيح ابن حبان ج 15 ص 434، المعجم الصغير ج 2 ص 3، تاريخ بغداد
ج 7 ص 144، أحكام القرآن الجصاص ج 1 ص 571 و ج 2 ص 508، شواهد التنزيل ج 2 ص 44،
تاريخ مدينة دمشق ج 14 ص 144 و 158، تهذيب الكمال ج 2 ص 359 و ج 13 ص 113، ميزان
الاعتدال ج 1 ص 176 و ج 2 ص 307، سير أعلام النبلاء ج 2 ص 125 و ج 10 ص 432، البداية
والنهاية ج 8 ص 40، ينابيع المودة ج 1 ص 113 و 323 و ج 2 ص 34 و 53 و 120 و 228 و ج 3 ص 140
و... ومصادر أخرى للعامة
روضة الواعظين ص 158، مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 2 ص 156 و...، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2
ص 59 باب 31 ح 233، شرح الأخبار ج 2 ص 514 و 608 و ج 3 ص 13 و 518، العمدة ص 51
و 321، الطرائف ص 131، تفسير فرات الكوفي ص 338 و 339، المناقب ص 15، الاعتقادات
ص 105، الأمالي للطوسي 336 المجلس الثاني عشر ح 20، كشف الغمة ج 1 ص 95 ومصادر أخرى
للخاصة.
254
والتاريخ يشهد من الذي حاربهم ومن الذي سالمهم.

255
مختصر من حياة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)...
مختصر من حياة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)
ولد (عليه السلام) بعد عام الفيل بثلاثين سنة، وكانت ولادته في يوم الجمعة لثلاثة
عشر ليلة خلت من رجب، في البيت الحرام الذي جعله الله قبلة للأنام.
وقال علي بن محمد المالكي: ولم يولد في البيت الحرام قبله أحد سواه،
وهي فضيلة خصه الله تعالى بها إجلالا له، وإعلاما لمرتبته، وإظهارا لتكرمته (1).
وقبض (عليه السلام) في شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة، وله يومئذ ثلاث وستون
سنة. وروى في الكافي " لما كان اليوم الذي قبض فيه أمير المؤمنين، ارتج
الموضع بالبكاء، ودهش الناس كيوم قبض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجاء رجل باكيا وهو
مسرع مسترجع، وهو يقول: اليوم انقطعت خلافة النبوة حتى وقف على باب
البيت الذي فيه أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال:
رحمك الله يا أبا الحسن، كنت أول القوم إسلاما، وأخلصهم إيمانا، وأشدهم
يقينا، وأخوفهم لله، وأعظمهم عناء، وأحوطهم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وآمنهم
على أصحابه، وأفضلهم مناقب، وأكرمهم سوابق، وأرفعهم درجة، وأقربهم من
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أشبههم به هديا وخلقا وسمتا وفعلا، وأشرفهم منزلة، وأكرمهم
عليه، فجزاك الله عن الإسلام وعن رسوله وعن المسلمين خيرا.



(1) الفصول المهمة ص 30.
257
قويت حين ضعف أصحابه، وبرزت حين استكانوا، ونهضت حين وهنوا،
ولزمت منهاج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ هم أصحابه، [و] كنت خليفته حقا، لم تنازع
ولم تضرع برغم المنافقين وغيض الكافرين وكره الحاسدين، وصغر [ضغن]
الفاسقين، فقمت بالأمر حين فشلوا، ونطقت حين تتعتعوا، ومضيت بنور الله إذا
وقفوا، فاتبعوك فهدوا، وكنت أخفضهم صوتا، وأعلاهم قنوتا، وأقلهم كلاما،
وأصوبهم نطقا، وأكبرهم رأيا، وأشجعهم قلبا، وأشدهم يقينا، وأحسنهم عملا،
وأعرفهم بالأمور.
كنت والله يعسوبا للدين أولا وآخرا، الأول حين تفرق الناس، والآخر حين
فشلوا، كنت للمؤمنين أبا رحيما إذ صاروا عليك عيالا، فحملت أثقال ما عنه
ضعفوا، وحفظت ما أضاعوا، ورعيت ما أهملوا، وشمرت إذ [إذا] اجتمعوا،
وعلوت إذ هلعوا، وصبرت إذ أسرعوا، وأدركت أوتار ما طلبوا، وناروا بك
ما لم يحتسبوا.
كنت على الكافرين عذابا صبا ونهبا، وللمؤمنين عمدا وحصنا، فطرت والله
بنعمائها، وفزت بحبائها، وأحرزت سوابقها، وذهبت بفضائلها، لم تفلل حجتك،
ولم يزغ قلبك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك ولم تخر [ولم تخل].
كنت كالجبل لا تحركه العواصف، وكنت كما قال آمن الناس في صحبتك
وذات يدك، وكنت كما قال ضعيفا في بدنك، قويا في أمر الله، متواضعا في
نفسك، عظيما عند الله، كبيرا في الأرض، جليلا عند المؤمنين.
لم يكن لأحد فيك مهمز، ولا لقائل فيك مغمز، [ولا لأحد فيك مطمع،]
ولا لأحد عندك هوادة، الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ له بحقه،
والقوي العزيز عندك ضعيف ذليل حتى تأخذ منه الحق، والقريب والبعيد عندك

258
في ذلك سواء، شأنك الحق والصدق والرفق، وقولك حكم وحتم، وأمرك حلم
وحزم، ورأيك علم وعزم فيما فعلت، وقد نهج السبيل، وسهل العسير، وأطفئت
النيران، واعتدل بك الدين، وقوي بك الإسلام فظهر أمر الله ولو كره الكافرون،
وثبت بك الإسلام والمؤمنون، وسبقت سبقا بعيدا، وأتعبت من بعدك تعبا شديدا،
فجللت عن البكاء، وعظمت رزيتك في السماء، وهدت مصيبتك الأنام، فإنا لله
وإنا إليه راجعون، رضينا عن الله قضاءه وسلمنا لله أمره، فوالله لن يصاب
المسلمون بمثلك أبدا.
كنت للمؤمنين كهفا وحصنا، وقنة راسيا، وعلى الكافرين غلظة وغيظا،
فألحقك الله بنبيه، ولا حرمنا أجرك، ولا أضلنا بعدك.
وسكت القوم حتى انقضى كلامه، وبكى وبكى أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم
طلبوه فلم يصادفوه (1).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما قبض أمير المؤمنين قام الحسن بن علي (عليهما السلام) في
مسجد الكوفة، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم قال:
أيها الناس إنه قد قبض في هذه الليلة رجل ما سبقه الأولون ولا يدركه الآخرون، إنه كان
لصاحب راية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، عن يمينه جبرئيل، وعن يساره ميكائيل، لا ينثني حتى يفتح الله له، والله
ما ترك بيضاء ولا حمراء إلا سبع مئة درهم فضلت عن عطائه، أراد أن يشتري بها خادما لأهله، والله لقد
قبض في الليلة التي فيها قبض وصي موسى يوشع بن نون، والليلة التي عرج فيها بعيسى بن مريم،
والليلة التي نزل فيها القرآن (2).



(1) الكافي ج 1 ص 454، باب مولد أمير المؤمنين (عليه السلام) ح 2.
(2) الكافي ج 1 ص 457.
259
عبادته (عليه السلام)
كان (عليه السلام) أعبد أهل زمانه، وقد دخل ضرار بن ضمرة الكناني على معاوية،
فقال له: صف لي عليا، فقال: أوتعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال:
لا أعفيك، قال:
أما إذا لابد، فإنه كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا،
يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا
وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلب
كفه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما جشب، كان والله
كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقربه إلينا وقربه منا
لا نكلمه هيبة له، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويحب
المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله.
فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت
نجومه، يميل في محرابه قابضا على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء
الحزين، فكأني أسمعه الآن، وهو يقول: يا ربنا، يا ربنا، يتضرع إليه، ثم يقول للدنيا: إلي
تغررت، إلي تشوقت؟! هيهات! هيهات! غري غيري، قد بنتك ثلاثا، فعمرك قصير، ومجلسك حقير،
وخطرك يسير، آه آه! من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.
فوكفت دموع معاوية على لحيته ما يملكها، وجعل ينشفها بكمه، وقد
اعتنق القوم بالبكاء، فقال: كذا كان أبو الحسن رحمه الله (1).



(1) حلية الأولياء ج 1 ص 84، ذخائر العقبى ص 100، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 18
ص 225، نظم درر السمطين ص 135، الإستيعاب لابن عبد البر ج 2 ص 463 - تاريخ مدينة دمشق
ج 24 ص 401، ينابيع المودة ج 2 ص 189 ومصادر أخرى للعامة.
خصائص الأئمة ص 71 - مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 2 ص 52، شرح الأخبار ج 2 ص 391، كنز
الفوائد ص 270، كشف الغمة ج 1 ص 77، العمدة ص 16 وبتفاوت يسير ومصادر أخرى للخاصة.
260
ودخل أبو جعفر (عليه السلام) على أبيه (عليه السلام) فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد،
وقد اصفر لونه من السهر، ورمضت عيناه من البكاء، ودبرت جبهته وانخرم أنفه
من السجود، وورم ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة، قال أبو جعفر (عليه السلام): فلم أملك
حين رأيته بتلك الحال البكاء، فبكيت رحمة له، وإذا هو يفكر، فالتفت إلي بعد هنيئة بعد دخولي،
وقال: يا بني أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب، فأعطيته فقرأ منها شيئا
يسيرا، ثم تركها من يده تضجرا، وقال: من يقوى على عبادة علي بن أبي طالب (1)؟!
شجاعته (عليه السلام)
شجاعته (عليه السلام) أظهر من الشمس، هو الذي قتل في بدر ستا وثلاثين من أبطال
المشركين، وأخذ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من يده قبضة من حصباء الوادي ورمى في وجوه
المشركين، وقال: شاهت الوجوه، فنزلت {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} (2)
فأخذه الحصباء من يد علي، ونفي الله الرمي عن رسوله، وإثباته لنفسه، يكفي
لبيان منزلة علي من رسول الله (3).



(1) مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 194 - الإرشاد ج 2 ص 142، مكارم الأخلاق ص 318، الخرائج
والجرائح ج 2 ص 891، كشف الغمة ج 2 ص 297، إعلام الورى باعلام الهدى ج 1 ص 487.
(2) سورة الأنفال: 17.
(3) مجمع الزوائد ج 6 ص 84، المعجم الكبير ج 11 ص 227، تفسير ابن كثير ج 2 ص 307، جامع البيان
ج 9 ص 271 الدر المنثور ج 3 ص 175، زاد المسير ج 3 ص 226 ومصادر أخرى للعامة.
تفسير العياشي ج 2 ص 52، تفسير جوامع الجامع ج 2 ص 13، تفسير الصافي ج 2 ص 287، مناقب آل
أبي طالب ج 1 ص 189، ومصادر أخرى للخاصة.
261
وهو الذي نودي في غزوة أحد بحصر الفتوة في شخصيته " لا فتى إلا علي لا سيف
إلا ذو الفقار " (1) وهو الذي بمبارزته في غزوة الخندق برز الإيمان كله إلى الشرك
كله، وكفى في فضل مبارزته أنها أفضل من أعمال الأمة إلى يوم القيامة (2)، وبما
أن هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، فالعمل الأفضل من أعمال هذه الأمة
أفضل من أعمال جميع الأمم.
وهو الذي فتح خيبر بعدما رجع الأول والثاني خائبين، فقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم):
لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه ليس بفرار (3)،
فظهر للناس تفسير قوله تعالى: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على



(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 29 و ج 2 ص 211 و ج 7 ص 219 و ج 10 ص 182
و ج 11 ص 217 و ج 13 ص 293 و ج 14 ص 251، نظم درر السمطين ص 120، كنز العمال ج 5
ص 723، تاريخ مدينة دمشق ج 39 ص 201 و ج 42 ص 71، تاريخ الطبري ج 2 ص 197، البداية
والنهاية ج 4 ص 54 و ج 6 ص 6 و ج 7 ص 250 و 293 و 372، كتاب الهواتف ص 20، عون المعبود ج 1
ص 264، المعيار والموازنة ص 91 و 148، ينابيع المودة ج 2 ص 291 و ج 1 ص 240 و 434 وموارد
أخرى من هذا الكتاب، وأتى بجزئه الأول في تحفة الأحوذي ج 6 ص 182، فيض القدير ج 6
ص 553 ومصادر أخرى للعامة.
الكافي ج 8 ص 110، علل الشرائع ج 1 ص 160 باب 129 ح 2، مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 1
ص 495 و ج 2 ص 536، شرح الأخبار ج 2 ص 192 و 381، تفسير فرات الكوفي ص 95 ومصادر
أخرى للخاصة.
(2) راجع صفحة 83.
(3) الثقات لابن حبان ج 2 ص 12، السنن الكبرى للنسائي ج 5 ص 145، خصائص أمير المؤمنين (عليه السلام)
ص 116، تاريخ مدينة دمشق ج 42 ص 89 و 90، ومع تفاوت في مصادر أخرى للعامة تقدم ذكرها
في صفحة:
شرح الأخبار ج 1 ص 302، الأربعون حديثا ص 56 ومع تفاوت في مصادر أخرى للخاصة تقدم
ذكرها في صحفة:
262
المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} (1) وقلع
الباب الذي يقلعه عشرون رجلا وينقله سبعون، وقد اعترف المخالف والمؤالف
بأن قلعه لم يكن ممكنا بالقوة الجسدانية (2).
قال الفخر الرازي: وذلك لأن عليا كرم الله وجهه في ذلك الوقت انقطع نظره
عن عالم الأجساد، وأشرقت الملائكة بأنوار عالم الكبرياء، فتقوى روحه
وتشبه بجواهر الأرواح الملكية، وتطلعت فيه أضواء عالم القدس والعظمة، فلا
جرم حصل له من القدرة ما قدر بها على ما لم يقدر عليه غيره (3).
وهو الذي بات على فراش النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مبيتا ينبئ عن علو شأنه، فقام
جبرئيل وهو ناموس الوحي والعلم عند رأسه، وميكائيل وهو خازن الأرزاق
عند رجليه، ونادى جبرئيل: بخ بخ من مثلك يا بن أبي طالب، يباهي الله بك الملائكة (4)، وأنزل
الله سبحانه: {ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد} (5).
هذه شجاعته الصغرى، وأما شجاعته الكبرى في غلبته النفس والهوى



(1) سورة المائدة: 54.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 5 ص 7 و ج 20 ص 316، الجوهرة في نسب الإمام علي وآله
ص 82 ومصادر أخرى للعامة.
الخرائج والجرائح ج 2 ص 542، الأمالي للصدوق: 604، روضة الواعظين ص 127، مناقب آل أبي
طالب ج 2 ص 239 ومصادر أخرى للخاصة.
(3) التفسير الكبير ج 21 ص 91.
(4) أسد الغابة ج 4 ص 25، ينابيع المودة ج 1 ص 274، شواهد التنزيل ج 1 ص 123، تاريخ اليعقوبي ج 2
ص 39 ومصادر أخرى للعامة.
المسترشد ص 361 وص 434، الأمالي للطوسي: 469 المجلس السادس والعشرون ح 37، الاحتجاج
ج 1 ص 160 ومصادر أخرى للخاصة.
(5) سورة البقرة: 207.
263
فجف عنها القلم، وكل عنها البيان!
كرمه (عليه السلام)
فهو الذي كان يملك كنوز قيصر وكسرى، وخزائن البلاد، وكان إفطاره على
خبز الشعير والملح (1)، وكان يستقي بيده لنخل قوم من اليهود، ثم يتصدق
بالأجرة، ويشد على بطنه حجرا (2).
وهو الذي ملك أربعة دراهم، فأنفق واحدا منها ليلا، وآخر نهارا، وواحدا
سرا، وآخر علانية، فنزل في شأنه: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا
وعلانية} (3).
فصاحته وبلاغته (عليه السلام)
تجلت فصاحته وبلاغته في خطبه وكتبه وكلماته القصار، وفي الأدعية



(1) بحار الأنوار ج 42 ص 272.
(2) بحار الأنوار ج 41 ص 144.
(3) سورة البقرة: 274.
مجمع الزوائد ج 9 ص 334، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 21 و ج 13 ص 276 نظم درر
السمطين ص 90، معاني القرآن ج 1 ص 304، أسباب النزول للواحدي ص 58 شواهد التنزيل ج 1
ص 140 و...، زاد المسير ج 1 ص 286، تفسير ابن كثير ج 1 ص 333، البرهان للزركشي ج 1
ص 159، الدر المنثور ج 1 ص 363، لباب النقول ص 38 تفسير الثعالبي ج 1 ص 534، تاريخ دمشق
ج 42 ص 358، أسد الغابة ج 4 ص 25 ومصادر أخرى للعامة.
عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 62 باب 31 ح 255، روضة الواعظين ص 105 و 383، مناقب أمير
المؤمنين (عليه السلام) ج 1 ص 166 و 167 و 186، شرح الاخبار ج 2 ص 346، الفصول المختارة ص 140،
الاختصاص ص 150، العمدة ص 349 ومصادر أخرى للخاصة.
264
المأثورة منه، وقد عجز أساطين الحكمة وأعلام الفصاحة عن الإتيان بمثلها في
فنون الكلام، مادة وهيئة.
*
فالأمر يدور بين أن يقوم مقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الجامع للمقامات المذكورة
أو فاقدها، فإن كان الأول فقد تحقق قوله تعالى: {أفمن كان على بينة من ربه
ويتلوه شاهد منه} (1) وتجلى قوله تعالى: {والشمس وضحاها * والقمر إذا
تلاها} (2).
وإن كان الثاني فقد استخلفت الظلمات للنور، واستبدلت الهداية بالضلال
{قل هل يستوى الأعمى والبصير أم هل تستوى الظلمات والنور} (3) فلا يحتاج إثبات
خلافة علي (عليه السلام) للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ونفيها عن غيره، إلى إقامة الدليل والبرهان.
* *
قد تقدم في مبحث الإمامة وجوه لإثبات إمامة علي بن أبي طالب (عليه السلام)
وخلافته بلا فصل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونذكر هنا ما يستفاد منه وجوه أخرى
لإثباتها:
هنا قضيتان: ثبوت خلافته (عليه السلام) للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونفيها عن غيره، والقضيتان
لكل مسلم من القضايا التي لا تحتاج إلى الاستدلال، وإنما الحاجة إلى تذكر أمور
يستلزم تصورها التصديق بهما ايجابا وسلبا:
الأول: إن الخليفة خلف للمستخلف عنه، يقوم مقامه، والبدل من كل شئ



(1) سورة هود: 17.
(2) سورة الشمس: 1 - 2.
(3) سورة الرعد: 16.
265
خلف منه، وحقيقة الخلافة تقتضي أن يقوم الخليفة مقام المستخلف عنه بتحمل
ما كان يتصداه وما يتوقع منه، فهو بدل عنه، به يملأ خلأ فقدانه، لهذا فإن بدلية
الخليفة عن المستخلف عنه وقيامه مقامه تستوجب تناسبا خاصا بينهما، تدور
الخلافة مداره وجودا وعدما، فلا يستخلف عن الشمس إلا القمر الذي بنوره
يسد خلأ ضيائها، ولا تكون الظلمة خليفة للنور، ولا الجاهل بدلا عن العالم، ولا
الفاقد قائما مقام الواجد.
فعندما تحصل غيبة أو فقد لمن يكون في الذروة العليا من الحكمة النظرية
والعملية، يقوم مقامه من يتلوه في الحكمتين، لا من يكون فاقدا لهما، ولا من هو
في المراتب النازلة منهما.
الثاني: لابد أن يتأمل في أن المستخلف عنه، وهو الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) من
هو؟ وما يترقب منه بالنسبة إلى الأمة ما هو؟
إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الإنسان الكامل الذي فاق النبيين والمرسلين في
جميع ما أعطاهم الله من الكمالات العلمية والعملية، والآيات التدوينية
والتكوينية.
والغرض من بعثته خروج استعداد نوع الإنسان للكمالات الممكنة له من
القوة إلى الفعل - حتى ويبلغ من الفضائل إلى مقامات يغبطه بها الملأ الأعلى،
ويباهي الله به ملائكة السماء - واحقاق الحق فيعطي كل ذي حق حقه وإقامة
الناس بالقسط بما أنزل إليه من الكتاب والميزان {قد جاءكم من الله نور وكتاب
مبين * يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور

266
بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} (1)، {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم
الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} (2).
الثالث: خليفة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لابد أن يكون هو المثل الأعلى لشخصيته علما
وخلقا وعملا، لكي يسد خلأ وجوده في تعليم الإنسان وتربيته، وتلاوة آيات الله
عليه، وإرشاد الناس إلى تنزيلها وتأويلها، وظاهرها وباطنها، ومحكمها
ومتشابهها، وعامها وخاصها، وناسخها ومنسوخها، وبيان أسرارها المكنونة،
وجواهرها المخزونة في الحروف المقطعة في أوائل سورها.
وبكلمة واحدة لابد أن يكون عنده علم الكتاب، الذي فيه تفصيل كل شئ
{ما فرطنا في الكتاب من شئ} (3)، وأن يتكفل تزكية الناس من الوساوس
الشيطانية والأهواء النفسانية والرذائل الخلقية والعملية، حتى تستعد عقولهم
بالتصفية من تلك الكدورات لإشراق أنوار الكتاب الذي لا يناله إلا المطهرون،
وتصير نفوسهم خزائن لجواهر الحكمة التي يؤتيها من يشاء.
فإذا كان الخليفة قائما مقام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما ينتظر منه ويترقب من وجوده
لتعليم الأمة وتربيتها، فقد تحقق الغرض من خاتمية الرسالة وأبدية الشريعة،
وتحققت الغاية من البعثة {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته
ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} (4).
فالنبوة وإن انتهت ببعثته (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أن الغرض منها وهو تزكية الأمة وتعليم



(1) سورة المائدة: 15 و 16.
(2) سورة الحديد: 25.
(3) سورة الأنعام: 38.
(4) سورة الجمعة: 2.
267
الكتاب والحكمة باق إلى يوم القيامة، ولا يمكن حصوله إلا بمن يقوم مقام
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بما يقتضيه مفهوم الخلافة.
الرابع: من هو مصداق خليفة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعده؟ هل هو علي أو غيره؟
فإن كان عليا (عليه السلام) فهو الذي تجلى فيه فضائل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بحيث يراه من رآه
بعين الإنصاف أنه المرآة الأتم للرسول الأعظم، ونقتصر من تلك الفضائل على
بعضها:
فهو الذي قام الإجماع والسنة على أنه وارث علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
اما الإجماع، فقد ادعى الحاكم في المستدرك الإجماع على إثبات ذلك
لعلي، والنفي عن غيره (1).
وأما السنة فنقتصر منها على قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنا مدينة العلم وعلي بابها " (2)،
وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنا دار الحكمة وعلي بابها " (3).



(1) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 126.
(2) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 126، مجمع الزوائد ج 9 ص 111، المعجم الكبير ج 11 ص 55،
الفائق في غريب الحديث ج 2 ص 16، شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج 7 ص 219، الجامع الصغير
ج 1 ص 415، كنز العمال ج 13 ص 148، فيض القدير ج 1 ص 49، و ج 3 ص 60، شواهد التنزيل ج 1
ص 104... و 432، مفردات الراغب ص 64، تاريخ مدينة دمشق ج 42 ص 378 و... ومصادر أخرى
للعامة.
عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 66 باب 31 ح 298، الخصال للشيخ الصدوق ص 574، الأمالي للشيخ
الصدوق ص 425 و 655، الأمالي للشيخ المفيد ص 559، تفسير فرات الكوفي ص 64، التوحيد
ص 307، تحف العقول ص 430، مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 2 ص 558، شرح الاخبار ج 1 ص 89،
الإرشاد ج 1 ص 33، الاختصاص ص 238، الأمالي للمفيد ص 77، كنز الفوائد ص 149، الاحتجاج
ج 1 ص 102، الخرائج والجرائح ج 2 ص 545 و 565 ومصادر أخرى للخاصة.
(3) الأمالي للشيخ الصدوق: 434، العمدة: 295، ومصادر أخرى للخاصة.
سنن الترمذي ج 5 ص 301 رقم 3707، ذخائر العقبى: 77، تحفة الأحوذي ج 10 ص 155، الجامع
الصغير ج 1 ص 415، مسند أبي يعلى ج 2 ص 58، شواهد التنزيل ج 1 ص 108، تاريخ مدينة دمشق
ج 42 ص 378، ينابيع المودة ج 1 ص 218 و ج 2 ص 90 و 393، كنز العمال ج 11 ص 600، فيض
القدير ج 3 ص 60، ومصادر أخرى للعامة.
وقد وردت بلفظة أنا مدينة الحكمة وعلي بابها، وقريب منه في مصادر كثيرة للخاصة والعامة أيضا.
روضة الواعظين ص 103 و 119، الأمالي للصدوق ص 188، المجلس السادس والعشرون ح 8
وص 342 المجلس الخامس والأربعون ح 18 وص 472 المجلس الحادي والستون ح 11 وص 619،
المجلس التاسع والسبعون ح 1، كمال الدين وتمام النعمة ص 241، شرح الأخبار ج 1 ص 89، الأمالي
للطوسي ص 431، المجلس الخامس عشر ح 21 وص 483 المجلس السابع عشر ح 24، عوالي
اللئالي ج 4 ص 123 ومصادر أخرى للخاصة.
فيض القدير ج 3 ص 60، تاريخ بغداد ج 11 ص 204 و 205، تاريخ مدينة دمشق ج 42 ح 378، ميزان
الاعتدال ج 3 ص 41 و 444، لسان الميزان ج 4 ص 144 و ج 5 ص 19، ينابيع المودة ج 1 ص 390
ومصادر أخرى للعامة.
268
أما حديث أنا مدينة العلم فمن حيث السند غني عن التصحيح، فلو لم نقل
بتواتره لفظا أو معنى، فهو متواتر إجمالا.
وأما من حيث الدلالة فهو يدل على أنه باب مدينة علم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وليس لأحد كائنا من كان أن يأتي هذه المدينة إلا من هذا الباب.
فبنطقه تنفتح مدينة علم الخاتم على أهل العالم، وبسكوته تنغلق.
وأما العلم الذي يكون النبي مدينته وعلي بابه، فهو الذي استحق به آدم
خلافة الله في الأرض، كما قال سبحانه: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في
الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك
ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون * وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على

269
الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} (1)، وقد علم الله الخاتم جميع
ما علمه آدم ومن دونه من النبيين مضافا إلى ما خصه به، كما هو مقتضى
الخاتمية، قال سبحانه وتعالى في شأن ما علمه لكليمه: {وكتبنا له في الألواح من
كل شئ} (2) وفي شأن ما علمه لحبيبه: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ} (3).
وأما حديث أنا دار الحكمة (أو مدينة الحكمة) وعلي بابها، فقد رواه جمع من أصحاب
الحديث، منهم الترمذي في صحيحه (4)، والخطيب في تاريخه (5).
ودلالته واضحة على أن الدار لا تؤتى إلا من بابها، والحكمة التي
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مدينتها وعلي (عليه السلام) بابها، هي التي عد سبحانه وتعالى متاع الحياة
الدنيا التي زين سمائها بزينة الكواكب مع شموسها وأقمارها ونجومها ومجراتها
التي تحير العقول في عظمتها قليلا، وعد الحكمة خيرا كثيرا خص الله بها من
يشاء، قال سبحانه وتعالى: {قل متاع الدنيا قليل} (6)، وقال سبحانه وتعالى: {يؤتى
الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا} (7).
وهذه الحكمة هي التي مبدؤها العلي العظيم، ومجليها القرآن العظيم {الر
كتب أحكمت آيته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} (8).



(1) سورة البقرة: 30، 31.
(2) سورة الأعراف: 145.
(3) سورة النحل: 89.
(4) سنن الترمذي ج 57 ص 306، رقم 3707.
(5) تاريخ بغداد ج 11 ص 204 (الموجود فيه أنا مدينة الحكمة...).
(6) سورة النساء: 77.
(7) سورة البقرة: 269.
(8) سورة هود: 1.
270
فمن أراد هذه الحكمة التي هي ضالة كل مؤمن وطلبة كل إنسان، فلا يمكنه
أن ينالها إلا من طريق علي (عليه السلام).
وغير خفي على أهل النظر أن عظمة علم النبي وحكمته (صلى الله عليه وآله وسلم) فوق أن
تدركها العقول، فإنه الإنسان الكامل على الإطلاق، ومقتضى البرهان صيرورة
ما في نوع الإنسان من الاستعداد للكمال العلمي والعملي فعليا في الفرد الكامل
الذي لا أكمل منه، وقد قال الله سبحانه: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك
ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} (1).
فما عده العلي العظيم الذي لا حد لعظمته عظيما، يكون أعظم من أن تصل
إلى مبلغ عظمته الأفهام، وعلي باب هذا العلم والحكمة، وبكلمة واحدة: باب
علم الخاتم هو باب علم العالم!
وقد اتفق الفريقان على أنه قال: (سلوني قبل أن تفقدوني) (2)، وعدم تحديد



(1) سورة النساء: 113.
(2) نهج البلاغة كلام 189، بصائر الدرجات ص 286 - الجزء السادس، باب 2 في الأئمة (عليهم السلام) أنهم
يعرفون علم المنايا والبلايا...، مناقب آل أبي طالب ج 2 ص 38 و ج 2 ص 105، كامل الزيارات
ص 155 باب 23 ح 16، التوحيد ص 92 و 305، روضة الواعظين ص 32 و 118، شرح الأخبار ج 2
ص 39 و 286 و 311 و ج 3 ص 292، الإرشاد ج 1 ص 35 و 330، الاختصاص ص 235 و 248 و 279،
الاحتجاج ج 1 ص 384، الثاقب في المناقب ص 121، الخرائج والجرائح ج 3 ص 1133، العمدة
ص 261، الأمالي للشيخ الطوسي ص 57 المجلس الثاني ح 54، رسائل المرتضى ج 1 ص 391،
الأمالي للشيخ الصدوق ص 196 المجلس الثامن والعشرون ح 1 وص 422 المجلس الخامس
والخمسون ح 1 ومصادر أخرى للخاصة.
المستدرك على الصحيحين ج 2 ص 352 وص 466، شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج 2 ص 386
و ج 6 ص 136، المعيار والموازنة ص 82 و 298 - جامع البيان ج 13 ص 289 - تاريخ مدينة دمشق
ج 42 ص 397 و 400، كنز العمال ج 13 ص 165 ومصادر أخرى للعامة.
271
المسؤول عنه بحد يكشف أن المتكلم بهذا الكلام باب العلم الذي يمده من
لا يعزب عن علمه مثقال ذرة.
هذه منزلته في العلم والحكمة، وقد اعترف به المؤالف والمخالف، قال
معاوية لابن عباس: فما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال:
كان والله علم الهدى، وكهف التقى، ومحل الحجى، وطود البهاء، ونور
السرى في ظلم الدجى، وداعيا إلى المحجة العظمى، عالما بما في الصحف
الأولى، وقائما بالتأويل والذكرى، متعلقا بأسباب الهدى، وتاركا للجور
والأذى، وحائدا عن طرقات الردى، وخير من آمن واتقى، وسيد من تقمص
وارتدى، وأفضل من حج وسعى، وأسمح من عدل وسوى، إلى آخر ما قال " (1).
وقالت عائشة: علي أعلم الناس بالسنة (2).
وقال عمر بن الخطاب: أعوذ بالله من كل معضلة وليس لها أبو حسن (3)،



(1) المعجم الكبير ج 10 ص 239 وبتفاوت يسير في مجمع الزوائد ج 9 ص 159، ينابيع المودة ج 2
ص 171 ومصادر أخرى للعامة.
المسترشد: 307، الطرائف: 507 وبتفاوت يسير في مصادر أخرى للخاصة.
(2) التاريخ الكبير للبخاري ج 2 ص 255 و ج 3 ص 228، تاريخ مدينة دمشق ج 42 ص 408، ذخائر
العقبى ص 78، نظم درر السمطين ص 133، تفسير الثعالبي ج 1 ص 52، ينابيع المودة ج 2 ص 171
ومصادر أخرى للعامة.
المناقب للخوارزمي: 191، كشف الغمة ج 1 ص 117، شرح الاخبار ج 2 ص 310 و 561، كشف
اليقين ص 57 ومصادر أخرى للخاصة.
(3) الفائق في غريب الحديث ج 2 ص 375، وبتفاوت يسير في: ذخائر العقبى ص 82، تأويل مختلف
الحديث ص 152، نور الأبصار ص 79، نظم درر السمطين ص 131، كنز العمال ج 10 ص 300،
الطبقات الكبرى ج 2 ص 339، تاريخ مدينة دمشق ج 25 ص 369 ج 42 ص 406، أسد الغابة ج 4
ص 23، تهذيب الكمال ج 20 ص 485، تهذيب التهذيب ج 7 ص 296، الإصابة في تمييز الصحابة ج 4
ص 467، أنساب الأشراف ص 100، ينابيع المودة ج 2 ص 172 و 405 و ج 3 ص 147، البداية والنهاية
ج 7 ص 397، الفتوحات الإسلامية ج 2 ص 453، كفاية الطالب: 217 باب 57 حديث 726 ومصادر
أخرى للعامة.
شرح الاخبار ج 2 ص 317 و 565، الايضاح ص 192، دلائل الإمامة ص 21، مناقب آل أبي طالب
ج 2 ص 31 و 369، العمدة ص 257، الطرائف ص 473 ومصادر أخرى للخاصة.
272
وقد اعترف بنجاته من الهلكات في المعضلات بعلم علي (عليه السلام).
وقال معاوية: ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب، فقال له أخوه عتبة:
لا يسمع هذا منك أهل الشام. فقال له: دعني عنك (1).
وبعد نص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي قال الله تعالى {وما آتاكم الرسول فخذوه} (2)،
وإجماع الأمة، والاعتراف حتى من أشد الخصام الذي أعد ما استطاع لإطفاء
نوره ومحو مناقبه، لا يبقى ريب في أنه (عليه السلام) هو البدر التام الذي يستخلف شمس
سماء النبوة، ويقوم مقام الرسول في إشراق أنوار الكتاب والحكمة، وينوب منابه
في الهداية والإمامة، {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه} (3)



(1) الاستيعاب ج 2 ص 463، الاستيعاب بهامش الإصابة في تمييز الصحابة ج 3 ص 44، العدد القوية
ص 250.
(2) سورة الحشر: 7.
(3) سورة هود: 17.
273
...................
الحكومة العلوية
وأما الحكومة العلوية المتشكلة من الأركان الثلاثة، وهي الوالي والقاضي
والعمال المستعملين لتمشية الأمور، فهي مبتنية على الأصول التي بها تتحقق
المدينة الفاضلة بأرقى ما يتصور من صورها، التي تكون ضامنة لسعادة الأمة
مادية ومعنوية، نذكر قليلا مما اعتبره (عليه السلام) في ولاية أمور الأمة مع الإغماض عن
شرحها على ما ينبغي، فإن كل جملة منها باب ينفتح منه أبواب لأصحاب
الحكمة العملية في السياسة المدنية والنفسية للإنسان الذي يحتاج في حياته إلى
إعطاء كل قوة من قواه الشهوية والغضبية والعقلية حقها، حتى تكون حياته حياة
طيبة في معاشه ومعاده.
فمما اعتبره في الوالي ما قاله (عليه السلام):
" ثم اعلم يا مالك إني وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك، من عدل وجور، وأن الناس
ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول
فيهم، وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل
الصالح، فاملك هواك، وشح بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحبت أو
كرهت، وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم،

274
فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل،
ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك
الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك... " (1).
فقد نبه (عليه السلام) بقوله: " قد جرت عليها دول قبلك... " إلى أن هذه الدولة كالدول
الماضية، ظل زائل لا بقاء له {وتلك الأيام نداولها بين الناس} (2)، فكما تنظر إلى
أعمالهم وتقضي في حقهم بما صدر عنهم، كذلك ينظر الناس إلى أمورك، وما
يجري على ألسنتهم مما يرون من أعمالك دليل على صلاحك وفسادك.
والولاة همهم في ولايتهم أن يجمعوا المال والذخائر، وأحب الذخائر إلى
الوالي في حكومته عليه السلام، ذخيرة العمل الصالح.
*
وبين (عليه السلام) بقوله: " فاملك هواك " أن من لا يملك هوى نفسه لا يستطيع أن يحكم
بالحق، فإن اتباع الهوى يصد عن الحق، فلا بد أن يكون الوالي أشجع الرعية
وأقدرهم، وأن " أشجع الناس من غلب هواه " (3).
*
وبأمره (عليه السلام) بسخاء النفس، بين أن الوالي، لابد وأن لا يخرجه من الإنصاف
من نفسه محبوب لنفسه ولا مكروه لها، ولا يخرجه عن الاعتدال حب ولا
بغض.
*



(1) كتابه (عليه السلام) إلى مالك الأشتر النخعي، نهج البلاغة رقم 53.
(2) سورة آل عمران: 140.
(3) معاني الأخبار ص 195.
275
وبين (عليه السلام) بقوله: " وأشعر قلبك الرحمة للرعية " وبتعليله بأنهم " صنفان إما أخ لك في الدين
أو نظير لك في الخلق " أن الوالي فوق الرعية، فكما أن الله الذي هو فوقه وفوق من
ولاه يرى الزلل والعلل، ولا يمسك عن الرحمة والإحسان، فلابد أن لا يصير
تفوق الوالي موجبا لعدم الإغماض عن زلات الرعية.
فكما ينتظر الوالي العفو من الله سبحانه والرحمة - مع ما يرى من نفسه من
الزلل والعلل - كذلك عليه أن يعامل الرعية - مع ما يصدر منهم عمدا أو خطأ -
بالعفو والصفح والمحبة والإحسان، وأن تعم رحمته وإحسانه كل من كان نظيره
في الخلق وإن خالفه في الدين.
فالحكومة العلوية ظهور الرحمة الرحمانية الإلهية على المسلم والكافر،
والبر والفاجر، وبها تتجلى شمس الرسالة الخاتمية التي هي رحمة للعالمين.
*
وعلى الوالي أن لا يرى نفسه آمرا لابد أن يطاع، فإن من رأى لنفسه حق
الطاعة المطلقة إلا من عصمه الله جره ذلك إلى الشقاء كما قال (عليه السلام): " ولا تقولن إني آمر
فأطاع، فإن ذلك إدغال في القلب ومنهكة للدين، وتقرب من الغير [الفتن فتعوذ بالله من درك
الشقاء]. "
ولا ريب أن آنة عقل الوالي التكبر الذي يحدث من سلطانه وملكه، فلا بدله
عندما حدث له أبهة أن تكون ناظرا إلى عظم ملك الذي وسع كرسيه السماوات
والأرض وقدرة القاهر على عباده الذي بيده ناصية كل شئ وجبروت الذي بيده
ملكوت كل شئ، فقال عليه السلام:
" وإذا حدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة، فانظر إلى عظم ملك الله فوقك،
وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإن ذلك يطامن إليك من طماحك، ويكف عنك من غربك،

276
ويفئ إليك بما عزب عنك من عقلك. وإياك ومساماة الله في عظمته، والتشبه به في جبروته، فإن
الله يذل كل جبار، ويهين كل مختال [فخور] ".
*
وقال (عليه السلام): " وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضى
الرعية " فإن الأوسط في الحق هو أصل الحكمة في مقام النظر، والأعم في العدل
هو فرع الحكمة في العمل، والشجرة التي يكون الأوسط في الحق أصلها،
والأعم في العدل فرعها، تكون ثمرتها سعادة الفرد والمجتمع، ورضى الرعية.
*
ولابد أن يكون الوالي ساترا لعيوب أفراد الرعية، وحلالا لعقد الأحقاد،
قابلا لعذر من اعتذر إليه، دارء للحدود بالشبهات، ونعوذ بالله أن يكون آخذا
بالتهم، وهاتكا للأعراض بالتوهمات.
كما قال (عليه السلام): " وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعائب الناس، فإن في الناس
عيوبا، الوالي أحق من سترها، فلا تكشفن عما غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم
على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك [و] أطلق عن
الناس عقدة كل حقد، واقطع عنك سبب كل وتر، [واقبل العذر، وادر الحدود
بالشبهات]... ".
*
وأما خاصة الوالي وأصحابه في خلوته وملئه، فلابد أن يكون ممن لم
يعاون ظالما على ظلمه، ولا آثما على إثمه، ويكون أقربهم منه، كما قال (عليه السلام): " ثم
ليكن آثرهم عندك، أقولهم بمر الحق لك، [وأحوطهم على الضعفاء بالإنصاف، وأقلهم مساعدة [لك مناظرة]
فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه، واقعا ذلك من هواك حيث وقع، [فإنهم يقفونك على الحق،

277
ويبصرونك ما يعود عليك نفعه].
والصق بأهل الورع والصدق، [وذوي العقول والأحساب] ثم رضهم على ألا يطروك ولا يبجحوك
بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو، وتدني من العزة، [والإقرار بذلك يوجب المقت من
الله]... ".
وإذا كان الوالي متصفا بما تقدم من الصفات وكانت خاصته متصفة بالعقل
والحسب والورع والصدق وعدم معاونة على ظلم ولا على إثم، وكان أقربهم إلى
الوالي أكثرهم قولا بالحق الذي هو مر على سامعه، وأكثرهم احتياطا بالإنصاف
على الضعفاء، وعودهم الوالي على عدم إطرائه ومدحه، كان أصل الحكومة
وفروعها ومتنها وحواشيها خلاصة من العقل والحق والعدل والإنصاف والورع
والصدق والرحمة والمحبة والإحسان.
وبذلك تنتشر أنوار المكارم من المركز إلى المحيط بمقتضى تبعية العامة
لأصحاب القدرة والشوكة، وبذلك يتحقق الغرض من إرسال الرسول وإنزال
الكتاب: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس
بالقسط} (1).
هذه بعض ما اعتبره (عليه السلام) في الوالي، ولا يتسع المجال لعرض تمام ما
أفاض (عليه السلام) من صفات الوالي.
*
وأما القاضي في الحكومة العلوية:



(1) سورة الحديد: 25.
278
بما ان إحقاق الحقوق مما يتوقف عليه نظام الدين والدنيا، كما قال (عليه السلام): " فإن
الحكم في إنصاف المظلوم من الظالم، والأخذ للضعيف من القوي، وإقامة حدود الله على سنتها.
ومنهاجها، مما يصلح عباد الله وبلاده "، لذا اشترط (عليه السلام) في القاضي ما يتحقق به الغرض من
القضاء الذي هو من مناصب الأنبياء والأوصياء، فقال (عليه السلام): " ثم اختر للحكم بين الناس
أفضل رعيتك في نفسك [وأنفسهم للعلم والحلم والورع والسخاء]، ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه
الخصوم، ولا يتمادى في [إثبات] الزلة، ولا يحصر من الفئ إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على
طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرما
بمراجعة الخصم [الخصوم]، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء،
ولا يستميله إغراء [اغراق]، [ولا يصغي للتبليغ، فول قضائك من كان كذلك وهم] وأولئك قليل،... ".
فإذا كان القاضي عالما حليما ورعا سخيا، لا يؤثر فيه تطميع، ولا يتأثر
بتخويف، متوقفا عند الشبهة، قاطعا للخصومة عند اتضاح الحكم، لا يكتفي في
الحكم إلا بأقصى مراتب الفهم لاستكشاف الحق، وكان أصبرهم على كشف
الأمر، وإذا عرف الحق لا يصرفه عنه صارف بلغ ما بلغ، فإن قضاء مثله يكون
مصلحا للعباد وعامرا للبلاد، وما أراد الله من الحكام من الحكم بالحق والعدل
{وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} (1)، {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض
فاحكم بين الناس بالحق} (2).
*



(1) سورة النساء: 58.
(2) سورة ص: 26.
279
وأما العمال وأعوان الوالي على تقلد الأمور:
فقد وصفهم (عليه السلام) بقوله: " ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختبارا، ولا تولهم محاباة وأثرة،
فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة "، [وإدخال الضرورة على الناس، وليست تصلح الأمور بالإدغال،
فاصطف لولاية أعمالك أهل العلم والورع والسياسة] وتوخ منهم أهل التجربة والحياء، من أهل
البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام، المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقا، وأصح أعراضا، وأقل في المطامع
إشراقا، وأبلغ في عواقب الأمور نظرا [من غيرهم، فليكونوا أعوانك على ما تقلدت]... ".
وقد بين (عليه السلام) أن تولية الأمور في الحكومة العلوية لا تكون بالميل والهوى،
بل بالاستحقاق والاختبار والاصطفاء، وعلى أساس الورع والعلم والسياسة
والتجربة والحياء، والنشأة في البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام.
فيدور تولي الأمور مدار الكفاية والأمانة، كما قال الله سبحانه: {اجعلني على
خزائن الأرض إني حفيظ عليم} (1)، وقال سبحانه: {إن خير من استأجرت القوى
الأمين} (2).
والأمة التي يتصف واليها بتلك الأوصاف، وقاضيها بتلك السمات، وعاملها
بهذه المزايا، وتكون المراتب والمناصب فيها على أساس درجات العلم
والإيمان والأمانة، تكون خير أمة أخرجت للناس (3)، وإمامهم لا محالة يكون
أفضلهم، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أم قوما وفيهم من هو أعلم منه وأفقه لم يزل أمرهم إلى
سفال إلى يوم القيامة " (4).



(1) سورة يوسف: 55.
(2) سورة القصص: 26.
(3) إشارة إلى الآية 110 من سورة آل عمران.
(4) ثواب الأعمال ص 206، وبتفاوت يسير في علل الشرائع ص 326 باب 20 ح 4 ومصادر أخرى
للخاصة.
المغني لابن قدامة ج 2 ص 20: الجامع الصغير ج 2 ص 582، كنز العمال ج 7 ص 590.
280
*
وقد اقتصرنا من هذا العهد على قليل من كثير، ولم نستوف شرح لطائفه
ودقائقه وحقائقه، فإنه جامع لأبواب سياسة النفس والمدينة، وتنظيم أمر
طبقات الرعية، من الجنود، والكتاب، والقضاة، والعمال، وأهل الجزية والخراج،
والتجار، وأهل الصناعات، وذوي الحاجة والمسكنة.

281
الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (عليها السلام)
الصديقة الكبرى
فاطمة الزهراء سلام الله عليها
وهي إحدى المعصومين (عليهم السلام)، ولدت بمكة بعد النبوة بخمس سنين في
العشرين من جمادى الآخرة، وأقامت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة ثماني سنين، ثم
هاجرت معه إلى المدينة، والأشهر في مدة عمرها أنها كانت ثماني عشرة سنة،
وقبضت في جمادى الآخرة يوم الثلاثاء لثلاث خلون منه.
لها أسماء منها: فاطمة، والصديقة، والمباركة، والطاهرة، والزكية،
والراضية، والمرضية، والمحدثة، والزهراء، والبتول، والإنسية الحوراء.
بدء خلقها (عليها السلام)
قد ورد في روايات العامة والخاصة أنه كان من ثمار الجنة:
منها: ما عن عائشة، قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لما أسري بي إلى السماء أدخلت الجنة
فوقفت على شجرة من أشجار الجنة لم أر في الجنة أحسن منها، ولا أبيض ورقا، ولا أطيب ثمرة،
فتناولت ثمرة من ثمرتها فأكلتها فصارت نطفة في صلبي، فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة،
فحملت بفاطمة، فإذا أنا اشتقت إلى ريح الجنة شممت ريح فاطمة) (1). وغيرها من الروايات
الواردة في هذا الموضوع (2).



(1) الدر المنثور ج 4 ص 153 في ذيل تفسير: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام.
(2) المستدرك ج 3 ص 156، تاريخ بغداد جلد 5 ص 293، ذخائر العقبى ص 36، مجمع الزوائد ج 9
ص 202، المعجم الكبير ج 22 ص 401، ينابيع المودة ج 2 ص 131، كنز العمال ج 12 ص 109
ومصادر أخرى للعامة.
282
وفي الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يكثر تقبيل فاطمة،
فأنكرت ذلك عائشة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا عائشة إني لما أسري بي إلى السماء دخلت الجنة.
فأدناني جبرئيل من شجرة طوبى، وناولني من ثمارها فأكلته، فحول الله ذلك ماء في ظهري، فلما
هبطت إلى الأرض واقعت خديجة، فحملت بفاطمة، فما قبلتها قط إلا وجدت رائحة شجرة طوبى
منها (1).
وقد أنكر بعض العامة هذه الرواية زعما منه أن مولدها قبل البعثة، مع أن
تاريخ الولادة مختلف فيه عند العامة، ففي المستدرك أنه بعد البعثة (2)، وقال ابن
حجر ولدت في الإسلام وقيل قبل البعثة (3)، وفي تحفة الأحوذي ولدت فاطمة
في الإسلام وقيل قبل البعثة (4)، وقال الحافظ البغدادي ولدت فاطمة بعدما
أظهر الله نبوة نبيه وأنزل عليه الوحي بخمس سنين (5) وغير ذلك.



(1) تفسير علي بن إبراهيم ج 1 ص 365 ذيل آية 29 من سورة الرعد. علل الشرايع ج 1 ص 183 باب
147 العلة التي من أجلها كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يكثر تقبيل فاطمة (عليها السلام) ح 1 - عيون أخبار الرضا (عليه السلام)
ج 1 ص 116 باب 11 ح 3، الأمالي للصدوق ص 546 المجلس السبعون ح 7 - التوحيد ص 118 -
روضة الواعظين ص 149 نوادر المعجزات ص 99 - دلائل الإمامة ص 146 و 148 - الاحتجاج ج 2
ص 191 - مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 335 - الطرائف ص 111 - تفسير العياشي ج 2 ص 212 -
تفسير فرات الكوفي ص 76 ومصادر أخرى للخاصة.
(2) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 161.
(3) فتح الباري ج 7 ص 81.
(4) تحفة الأحوذي ج 10 ص 250.
(5) تاريخ مواليد الأئمة (عليهم السلام) ص 9. وهكذا في مصادر أخرى منهم، كما في تاريخ مدنية دمشق ج 3
ص 157، تهذيب الكمال ج 35 ص 248، ذخائر العقبى ص 26 وغيرها.
283
ومن البين أن الرواية لا ترد إلا بمخالفة المجمع عليه لا المختلف فيه، مع أن
المروي عن أئمة أهل البيت وهم أدرى بما في البيت أن ولادتها بعد البعثة (1)
فضائلها (عليها السلام)
وهي أكثر من أن تحصى، ونذكر بعضها فيما ورد من روايات الفريقين:
1 - عن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام)، قال: رأيت أمي فاطمة قامت في
محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات
وتسميهم وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشئ، فقلت لها: يا أماه لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟
فقالت: يا بني الجار ثم الدار (2).
2 - كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يبدأ في سفره بفاطمة ويختم بها (3)، فجعلت وقتا سترا
من كساء خيبرية لقدوم أبيها وزوجها، فلما رآه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تجاوز عنها، وقد
عرف الغضب في وجهه حتى جلس عند المنبر، فنزعت قلادتها وقرطيها
ومسكتيها ونزعت الستر، فبعثت به إلى أبيها، وقالت: اجعل هذا في سبيل الله،



(1) المذكور في مصادر الخاصة أن ولادتها (عليها السلام) بعد البعثة: الكافي ج 1 ص 457، دلائل الإمامة
ص 79، البداية الكبرى ص 175، تاريخ المواليد ص 21، كشف الغمة ج 1 ص 449، مناقب آل أبي
طالب ج 3 ص 357.
(2) علل الشرائع ج 1 ص 182 باب 145، كشف الغمة ج 1 ص 468 في فضائل فاطمة (عليها السلام)، روضة
الواعظين ص 329، دلائل الإمامة ص 152.
(3) بحار الأنوار ج 43 ص 89، كشف الغمة ج 1 ص 451 ومصادر أخرى للخاصة.
مسند أحمد بن حنبل ج 5 ص 275، سنن أبي داود ج 2 ص 291، السنن الكبرى للبيهقي ج 1 ص 26،
المعجم الكبير ج 2 ص 103، نظم درر السمطين ص 177، الدر المنثور ج 6 ص 43، تفسير الثعالبي ج 5
ص 221، سبل الهدى والرشاد ج 7 ص 81 و 427، ينابيع المودة ج 2 ص 132 و 140، المستدرك على
الصحيحين ج 1 ص 489 و ج 3 ص 155 و 156 ومصادر أخرى للعامة.
284
فلما أتاه، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): قد فعلت فداها أبوها ثلاث مرات، ما لآل محمد وللدنيا، فإنهم خلقوا
للآخرة، وخلقت الدنيا لهم (1).
ومع ذلك لما جاءت إلى أبيها لتطلب منه خادمة فاستحيت وانصرفت وجائها
أبوها لأن يسأل حاجتها، فأخبره علي (عليه السلام) بحاجتها، فأجابها بدلا عن حاجتها
بأن تذكر الله تعالى أربعة وثلاثين تكبيرا، وثلاثة وثلاثين تحميدا، وثلاثة
وثلاثين تسبيحا (2).
3 - رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة (عليها السلام) وعليها كساء من أجلة الإبل وهي تطحن
بيديها، وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: يا بنتاه تعجلي مرارة الدنيا
بحلاوة الآخرة، فقالت: يا رسول الله الحمد لله على نعمائه والشكر لله على آلائه، فأنزل الله: {ولسوف
يعطيك ربك فترضى} (3).
فمع ما أصابها من عبادة الله سبحانه من قيامها في المحراب ليلا حتى
تورمت قدماها، ومع ما أصابها نهارا من خدمة بيت ولي الله، وتربية أبناء
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى قال علي (عليه السلام) أصابها من الضر والضرر الشديد، لم تشتك
مما جرى عليها، وتجاوزت عن مرتبة الصبر على تلك الشدائد إلى مرتبة الشكر
عليها، فهي لم تر مصيبة حتى تصبر عليها، بل رأتها ألطافا إلهية ظاهرية، فقالت:



(1) مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 343 في سيرتها، وبتفاوت يسير في الأمالي للصدوق: 305، روضة
الواعظين ص 444.
(2) مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 341 - نظم درر السمطين ص 189 - تهذيب الكمال ج 31 ص 253.
(3) مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 342، مكارم الأخلاق ص 117 و 235، تفسير مجمع البيان ج 10
ص 382 ومصادر أخرى للخاصة.
شواهد التنزيل ج 2 ص 445، فتح القدير ج 5 ص 460، كنز العمال ج 12 ص 422، الدر المنثور ج 6
ص 361 ومصادر أخرى للعامة.
285
الحمد لله على نعمائه، ومننا باطنية فقالت: والشكر لله على آلائه، فرضيت عن الله تعالى
وأرضاها الله بقوله تعالى لأبيه: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} (1)، وظهر وجه
تسميتها بالراضية والمرضية.
4 - لما نزلت هذه الآية على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): {وإن جهنم لموعدهم أجمعين * لها
سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم} (2) بكى (صلى الله عليه وآله وسلم) بكاء شديدا، وبكى أصحابه
ببكائه، ولم يدروا ما نزل به جبرئيل (عليه السلام)، ولم يستطع أحد من أصحابه أن يكلمه،
وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا رأى فاطمة فرح بها، فانطلق بعض أصحابه إلى باب فاطمة
وبين يديها شئ من شعير وهي تطحن وتقول: وما عند الله خير وأبقى، قال فقال:
السلام عليك يا بنت رسول الله، فقالت: وعليك السلام ما جاء بك؟ وأخبرها بخبر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبكائه، فنهضت، والتفت بشملة لها خلقة، قد خيطت اثني عشر
مكانا بسعف النخل، فلما خرجت نظر سلمان الفارسي إلى الشملة، وبكى وقال:
وا حزناه! إن قيصر وكسرى لفي السندس والحرير، وابنة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عليها شملة
صوف قد خيطت في اثني عشر مكانا، فلما دخلت فاطمة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قالت:
يا رسول الله، إن سلمان تعجب من لباسي، فوالذي بعثك بالحق ما لي ولعلي منذ خمس سنين إلا مسك كبش
نعلف عليها بالنهار بعيرنا، فإذا كان الليل افترشناه، وإن مرفقتنا لمن أدم حشوها ليف، فقال
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن ابنتي لفي الخيل السوابق (3).
ومن تأمل في زهدها وزهد بعلها مما اتفقت عليه روايات الفريقين، رأى أن



(1) سورة الضحى آية 5.
(2) سورة الحجر: 43 - 44.
(3) بحار الأنوار ج 43 ص 87، الدروع الواقية ص 274 وبتفاوت في تاريخ مدينة دمشق ج 42 ص 376،
النهاية في غريب الحديث ج 4 ص 331، سنن ابن ماجة ج 2 ص 1391.
286
احتجاجها وتظلمها في قضية فدك لم يكن لحطام الدنيا.
ما تصنع بفدك من تطعم الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا، وتصوم
ثلاثة أيام على الماء، مع بعلها وبنيها، ويؤثرون على أنفسهم ويقولون: {إنما
نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} (1)، ويكتفي بعلها من الدنيا
بتمريه، ومن طعمه بقرصيه، ويقول: ما أصنع بفدك وغير فدك (2)؟! وإنما كان تظلمها
لأجل ما ترى من تضييع الحق بالباطل، بعدما قال الله تعالى: {وآت ذا القربى
حقه} (3)، والآية مدنية كما نص عليه أبو السعود في تفسيره (4)، والنسفي في
تفسيره (5)، والرازي في تفسيره (6) والزمخشري في الكشاف (7) وغيرهم (8)، وقد
روي الفريقان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة،
فأعطاها فدكا (9)، فكانت فدك هي الحق الذي أمر الله رسوله بإعطائها لذي الحق،



(1) سورة الإنسان: 9.
(2) نهج البلاغة، رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام) رقم 45، كتابه إلى عثمان بن حنيف.
(3) سورة الإسراء: 26.
(4) تفسير أبي السعود ج 5 ص 154.
(5) تفسير النسفي ج 2 ص 895.
(6) التفسير الكبير ج 2 ص 145.
(7) تفسير الكشاف ج 2 ص 646.
(8) التسهيل في علوم التنزيل ج 1 ص 166، تفسير الحديث ترتيب السور حسب النزول ج 3 ص 351
ومصادر أخرى.
(9) مسند أبي يعلى ج 2 ص 334، كنز العمال ج 3 ص 767، شواهد التنزيل ج 1 ص 438 إلى ص 444
يذكر أكثر من عشرة طرق لهذا الحديث وص 570، ينابيع المودة ج 1 ص 138، الدر المنثور ج 4
ص 177، الكامل ج 5 ص 190 ومصادر أخرى للعامة.
الكافي ج 1 ص 543، دعائم الإسلام ج 1 ص 385، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 1 ص 233 باب 23
ح 1، الأمالي للصدوق ص 619 المجلس التاسع والسبعون ح 1، تهذيب الأحكام ج 4 ص 149،
مناقب أمير المؤمنين ج 1 ص 159، المسترشد ص 501، شرح الأخبار ج 3 ص 27، تفسير العياشي
ج 2 ص 287، تفسير القمي ج 2 ص 18، تفسير فرات الكوفي ص 239 و 322، تفسير التبيان ج 6
ص 469 و ج 8 ص 253 ومصادر أخرى للخاصة.
287
فقامت لإحقاقها لمعرفتها بعظمة الله وعظمة أمر الله، فإذا تخلفوا على مسند
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الأمر الذي الآمر به هو الله، والمأمور به رسول الله، لا يبقى حرمة
لأمر الله ونهيه، وقد بعث الله رسوله لإحقاق الحق وإبطال الباطل، ومع ضياع حق
ابنته التي هي أحب الخلق إليه لا يبقى أمان لحق أحد من الأمة، فلم يكن
تظلمها (عليه السلام) إلا لإحقاق حق الله بعدم انتهاك حرمة أمر الله، وإحقاق حق الناس.
إن التي يغضب الله لغضبها، ويرضى لرضاها بمقتضى إطلاق السنة (1) لا يمكن
أن يكون رضاها وغضبها إلا تبعا لرضا الله وغضبه.
ولابد من النظر إلى ما تقدم، وإلى ما روى إمام الحنابلة في مسنده (2)،
والبيهقي في سننه (3)، ومسلم في صحيحه (4)، ونقتصر على ما رواه البخاري في
صحيحه: فغضبت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته
حتى توفيت (5)، وأن فاطمة وجدت على أبي بكر فهجرته فلم تكلمه حتى
توفيت (6).



(1) راجع صفحة:
(2) مسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 6.
(3) السنن الكبرى للبيهقي ج 6 ص 300 و...
(4) صحيح مسلم ج 5 ص 154.
(5) صحيح البخاري ج 4 ص 41، باب فرض الخمس.
(6) صحيح البخاري ج 5 ص 82، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر.
وراجع صحيح ابن حبان ج 11 ص 153 و ج 14 ص 573، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 16
ص 217، كنز العمال ج 7 ص 242، الطبقات الكبرى ج 2 ص 315، سير أعلام النبلاء ج 2 ص 121،
البداية والنهاية ج 5 ص 306 المصنف لعبد الرزاق ج 5 ص 472.
288
فأخذوا حقها استنادا إلى هذا الحديث " اني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لا
نورث ما تركنا صدقة) (1).
ولا يخفى أن للأنبياء وارثين، وارث روحاني وهو أمتهم، فإن النبي هو
الأب الروحي لأمته، كما روى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): أنا وعلي أبوا هذه الأمة (2) فمنزلة النبي
وخليفته القائم مقامه في تربية النفوس وتكميل العقول منزلة الأب، وما ترك
لأمته هو الكتاب والحكمة والسنة والشريعة، كما أن العلماء ورثة الأنبياء (3)، ولم
يرثوا منهم دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم وله وارث جسماني وروحاني،
وهو أقربائه الذين يرثون منه العلم بنسبتهم الروحية، والمال بنسبتهم الجسمانية
بمقتضى عمومات الكتاب والسنة.
فلا بد من التأمل في أن مثل هذا الحديث هل يصلح لأن يكون مخصصا
لقانون الإرث؟! إن حجية الرواية وحكومتها على الأدلة الناهية عن القول
والعمل بغير العلم، والمانعة عن اتباع الظن تتوقف على تمامية الاقتضاء
والشرائط لاعتبارها وانتفاء الموانع عن حجيتها.
وهذه الرواية فاقدة لما يكون دخيلا في الاعتماد عليها بوجوه شتى، نشير



(1) مسند أحمد ج 1 ص 4 وموارد أخرى من هذا الكتاب، صحيح البخاري ج 4 ص 42، صحيح مسلم
ج 5 ص 153 ومصادر أخرى للعامة.
(2) علل الشرايع ج 1 ص 127 باب 104 ح 8، روضة الواعظين ص 322، مفردات راغب في كلمة الأب،
ينابيع المودة ج 1 ص 370 ومصادر أخرى للخاصة والعامة.
(3) الكافي ج 1 ص 32، سنن ابن ماجة ج 1 ص 81 ومصادر أخرى للعامة والخاصة.
289
إلى بعضها:
الأول: ان راويها كذبها بما جاء في الآثار، من أنه أوصى عائشة أن يدفن
جنب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (1)، فإن دار النبي مما تركه، وما تركه - على فرض صحة
هذه الرواية - صدقة، فكيف تصح هذه الوصية؟! وكيف يجوز هذا التصرف فيما
هو صدقة على من كان في زمانه من المسلمين بأجمعهم حتى القاصرين ومن لم
يكن إلى يوم القيامة؟!
فبأية ولاية على الحاضرين والغائبين، والموجودين والمعدومين عند
الدفن، صح هذا التصرف؟!
وهل رضى بالتصرف في هذه الصدقة علي وفاطمة وأولادهما، وهم - على
ما زعموا - من مصارف هذه الصدقة؟!
الثاني: انه كذبها بعده من قام مقامه عملا، حيث أوصى وقال: إذا أنا مت
فاجعلوني إلى باب بيت عايشة فقولوا لها هذا عمر بن الخطاب يقرئك السلام،
ويقول أدخل أو أخرج، قال فسكتت ساعة ثم قالت أدخلوه، فادفنوه... (2).
فإن صح هذا الحديث يكون دفنهما فيما هو صدقة على جميع الأمة بإذن
عايشة وبقاء جثمانهما في هذه الدار مخالف لما هو من ضروريات الفقه لمن له
أدنى مرتبة من الفقاهة.
الثالث: التبعيض في صدقة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والتخصيص في حكمها من دون
مخصص بين بنت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأزواجه، حيث أخذ أبو بكر الصدقة من بنت النبي



(1) الطبقات الكبرى ج 3 ص 209، تاريخ مدينة دمشق ج 30 ص 446، تاريخ الطبري ج 2 ص 614،
كنز العمال ج 12 ص 537 ومصادر أخرى.
(2) مسند أبي يعلى ج 8 ص 372، مجمع الزوائد ج 9 ص 33 ومصادر أخرى.
290
قهرا وأسكن بنته فيها، ولم يكتف بهذا، بل أستأذنها، والاستيذان لا مصحح له إلا
من المالك أو الوكيل أو الولي.
ثم كيف يرتفع التناقض بين عمله هذا، وقوله: هذا والذي نفسي بيده لقرابة
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحب إلي أن أصل قرابتي (1)، وقوله: والله لأن تفتقر عائشة أحب
إلي من أن تفتقري (2)؟!
الرابع: أنه لو صحت هذه الرواية (أنا لا نورث ما تركناه صدقة) من
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهل يعقل ان يكتمها عن وصيه المتكفل لجميع شؤونه
أمير المؤمنين (عليه السلام)، وعن أقرب الخلق اليه بضعته الصديقة الطاهرة (عليها السلام)، ويكون
الذي بعثه الله لرفع المفسدة والاختلاف سببا - بهذا الإخفاء - للاختلاف
والمفسدة والشقاق بين الأمة.؟!
الخامس: أن فدك إن كانت صدقة على المسلمين، وبهذا المناط تمنع عن
بنت رسول الله وأبناء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكيف اقطع عثمان الحارث بن الحكم أخا
مروان الحكم ما تصدق به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بموضع سوق بالمدينة يعرف بمهزور
على المسلمين (3)؟!
السادس: ان حديث نفي التوريث عن الأنبياء مخالف لكتاب الله، كما
احتجت الصديقة الطاهرة (عليها السلام) بآيات الله الدالة على أن الأنبياء يورثون،
وأولادهم منه يرثون، وما خالف كتاب الله زخرف وباطل.



(1) مسند أحمد ج 1 ص 9، صحيح البخاري ج 4 ص 210 باب مناقب قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، صحيح
مسلم ج 5 ص 154 ومصادر أخرى.
(2) شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج 16 ص 214.
(3) شرح نهج البلاغة ج 1 ص 198، نيل الأوطار ج 6 ص 51.
291
ثم بعدما أخذت فدك من الصديقة الطاهرة (عليها السلام)، وآل الأمر إلى أن تلاعب بها
أيدي العدوان، اقطع معاوية بن أبي سفيان مروان الحكم ثلثها، واقطع عمرو بن
عثمان ثلثها، واقطع يزيد بن معاوية ثلثها (1)، فلم يزالوا يتداولونها حتى خلصت
كلها لمروان بن الحكم أيام خلافته، فوهبها لعبد العزيز ابنه، وهبها عبد العزيز
لابنه عمر بن عبد العزيز، فلما ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة دعا الحسن بن
الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وقيل بل دعا علي بن الحسين فردها عليه.
فاعترفوا بان اليد التي أخذتها من الصديقة الطاهرة (عليها السلام) كانت يد عدوان
فسجل التاريخ أن أول ظلامة ردها عمر بن عبد العزيز رد فدك (2).
ثم بعده أخذت منهم، وتعاقبت عليها أيدي الغاصبة إلى أن انتهى الأمر إلى
المأمون، فرفع جماعة من ولد الحسن والحسين إلى المأمون يذكرون أن فدك
كان وهبها رسول الله لفاطمة وأنها سألت أبا بكر دفعها إليها بعد وفاة
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فسألها ان تحضر على ما ادعت شهودا، فأحضرت عليا
والحسن والحسين وأم أيمن، فأحضر المأمون الفقهاء، فسألهم عن... رووا أن
فاطمة قد كانت قالت هذا، وشهد لها هؤلاء، وأن أبا بكر لم يجز شهادتهم.
فقال لهم المأمون: ما تقولون في أم أيمن؟ قالوا: امرأة شهد لها رسول الله
بالجنة، فتكلم المأمون بهذا بكلام كثير، ونصهم إلى أن قالوا: ان عليا والحسن
والحسين لم يشهدوا إلا بحق، فلما اجمعوا على هذا، ردها على ولد فاطمة،



(1) شرح نهج البلاغة ج 1 ص 216، وبتفاوت في الطبقات الكبرى ج 5 ص 388، تاريخ الطبري ج 4
ص 173، وفاء الوفاء ج 1 ص 1001.
(2) معجم البلدان ج 4 ص 240، وفاء الوفاء ج 3 ص 1000.
292
وكتب بذلك (1).
فانعقد إجماع الفقهاء على أن أبي بكر حكم بالباطل، وقد قال الله تعالى
{وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} (2).
والقضية من مسلمات التاريخ، ومن أراد التفصيل رجع إلى التاريخ اليعقوبي
المتوفى سنة 284 وفتوح البلدان للبلاذري المتوفى سنة 379 وغيرهما.
وللبحث عما يتعلق بحديث نفي الميراث سندا ودلالة، ودفنهما في بيت
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، واستيذانهما من عائشة، وإذنها، على جميع فروض المسألة، كان ما
تركه صدقة أو ميراثا، وعلى فرض ارث الزوجة من العقار أو حرمانها، وما
يتعلق بفدك من جهات شتى مجال آخر، ويكفي هذا المختصر لأن يظهر ما جرى
في هذه القضية من الظلم والجور على البيت الذي أنزل الله في أهله آية التطهير (3)
وسورة الدهر (4)، وعلى الصديقة (عليها السلام) التي لم يرد الله بصيغة الجمع في آية
المباهلة (5) من قوله " ونساءنا " إلا هذه الوجيهة عند الله لإجابة الدعاء، وأنزل في
شأنها سورة الكوثر (6)، ودفع بها عن رسول الله قول الذي قال إنه أبتر.
ولقد أقامت الصديقة الحجة القاطعة للعذر على حقها على كل تقدير، فلما



(1) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 469، فتوح البلدان ج 1 ص 37.
(2) سورة النساء: 58.
(3)
(4)
(5)
(6) التفسير الكبير ج 32 ص 132، تفسير البغوي ج 4 ص 534، تفسير أبي السعود ج 9 ص 206 تفسير
النسفي ج 3 ص 2005، تفسير الكشاف ج 4 ص 807 ومصادر أخرى للعامة.
تفسير التبيان ج 10 ص 418، تفسير مجمع البيان ج 10 ص 459 ومصادر أخرى للخاصة.
293
منعت عن فدك وقالت إنها حقها الذي أعطاها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته، طولبت
بالبينة، مع أنها كانت ذات يد على المدعى به، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): بل
كانت في أيدينا فدك من كل ما أضللته السماء (1) وكان الخصم مدعيا، والبينة
على المدعي الذي يخالف قوله قاعدة اليد.
ولو سلم الموضوع لطلب البينة منها، فمرتبة البينة متأخرة عن العلم
والاستبانة، ولا يظن بمن كان له أدنى مرتبة من العلم والإيمان أن يحتمل في
دعواها مخالفة الواقع، مع أنها كما قالت عائشة: لم يكن أصدق لهجة منها إلا
الذي ولدها (2)، وشهد الله بطهارتها عن مطلق الرجس، ونطق الكتاب والسنة
بعصمتها (3).
ثم إنها جاءت بعلي (عليه السلام) وأم أيمن للشهادة على حقها، فإذا كانت المدعية
مثل هذه الصديقة، والشاهد مثل هذا الصديق فهل يعقل عدم حصول العلم الذي
هو ميزان للقضاء بالحق والعدل والقسط؟! مع أن الله سبحانه اطلق عليهما عنوان
الأبرار وعباد الله، وشهد بخوفهما من يوم الحساب، واخلاصهما لوجه الله وقال
{إن الأبرار يشربون من كأس...؟؟؟ جزاء ولا شكورا} (4).
وهل لا يحصل العلم من شهادة من شهد الله بأنه نفس الرسول (5)، وشهد
الرسول بأنه مع الحق والحق معه (6) وقال له (أنت مني وانا منك) (7)، وأنه كنفسه



(1) نهج البلاغة، رقم 45 من كتابه (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف.
(2) راجع صفحة
(3) راجع صفحة:
(4) راجع صفحة:
(5) إشارة إلى آية المباهلة راجع صفحة:
(6) راجع صفحة:
(7) راجع صفحة:
294
أولى بالمؤمنين (1)، وأصبح مولى كل مؤمن ومؤمنة؟!
وأما أم أيمن فهي مولاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحاضنته، وقد رووا في حقها -
زائدا على صحبتها وقبول حديثها - مناقب منها أنه كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لأم
أيمن: يا أمه (2) وكان إذا نظر إليها قال: هذه بقية أهل بيتي (3)، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن (4)، وخرجت مهاجرة
إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكة إلى المدينة وهي ماشية ليس معها زاد، وهي صائمة
في يوم شديد الحر، فأصابها عطش شديد حتى كادت أن تموت من شدة العطش
وهي بالروحاء أو هي قريبا منها فلما غابت الشمس قالت إذا أنا بخفيف شئ
فوق رأسي فرفعت رأسي فإذا أنا بدلو من السماء مدلى برشاء أبيض قالت فدنا
مني حتى إذا كان حيث استمكن منه تناولته فشربت منه حتى رويت قالت فلقد
كنت بعد ذلك اليوم الحار أطوف في الشمس كي أعطش وما عطشت بعدها (5).



(1) راجع صفحة:
(2) المستدرك على الصحيحين ج 4 ص 63، الطبقات الكبرى ج 8 ص 223، الإصابة ج 8 ص 359، تركة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ص 109 ومصادر أخرى.
(3) المستدرك على الصحيحين ج 4 ص 63، الطبقات الكبرى ج 8 ص 223، الإصابة ج 8 ص 359، يسرا
علام النبلاء ج 2 ص 224، البداية والنهاية ج 5 ص 347 السيرة النبوية لابن كثير ج 4 ص 642
ومصادر أخرى.
(4) تاريخ مدينة دمشق ج 40 ص 25، الطبقات الكبرى ج 8 ص 224، الإصابة ج 8 ص 359 ومصادر
أخرى.
(5) تاريخ مدينة دمشق ج 40 ص 25، الطبقات الكبرى ج 8 ص 224، الإصابة ج 8 ص 359 ومصادر
أخرى.
295
وقد حضرت أم أيمن أحدا وكانت تسقي الماء، وتداوي الجرحى (1)،
وشهدت خيبر مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهل يحتمل في حق هذه الجليلة الكذب في
شهادتها؟!
ثم إنه بأي وجه لا تقوم دعوى الصديقة الطاهرة مع شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام)
وهذه الصحابية من أهل الجنة مقام دعوى جابر بن عبد الله؟ حيث قال الخليفة
من كان له على النبي (صلى الله عليه وآله) دين أو كانت قبله عدة فليأتنا، قال جابر فقلت: وعدني
رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا. فبسط يديه ثلاث مرات، قال
جابر فعد في يدي خمسمائة ثم خمسمائة ثم خمسمائة (2).
وترتيب اثر الواقع على دعوى من قام الحجة الشرعية على خلافها من
أصالة عدم تحقق الوعد من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصالة براءة ذمته، ولم ينتظر لان
تستبين أو تقوم لها البينة، وعدم ترتيب الأثر على دعوى الصديقة الطاهرة (عليها السلام)
مع قيام الحجة الشرعية على وفاقها من قاعدة اليد، مع انضمام شهادة من هو
بمقتضى السنة القطعية كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كهارون من موسى (3)، ومن كان
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في شأنه: أم أيمن أمي بعد أمي (4)، وكان يزورها في بيتها (5)



(1) الطبقات الكبرى ج 8 ص 225، الإصابة ج 8 ص 361.
(2) صحيح البخاري ج 3 ص 163 باب من أمر بانجاز الوعد، السنن الكبرى للبيهقي ج 4 ص 109،
مجمع الزوائد ج 6 ص 3، المصنف لعبد الرزاق ج 4 ص 78 ومصادر أخرى.
(3) راجع صفحة:
(4) فتح الباري ج 7 ص 70، تحفة الأحوذي ج 10 ص 217، الجامع الصغير ج 1 ص 247، كنز العمال
ج 12 ص 146، تاريخ مدينة دمشق ج 8 ص 51، أسد الغابة ج 5 ص 567، تهذيب الكمال ج 35
ص 339، تهذيب التهذيب ج 12 ص 408، الإصابة ج 8 ص 359 ومصادر أخرى للعامة.
(5) أسد الغابة ج 5 ص 567، سنن أبي داود ج 1 ص 143، صحيح مسلم ج 7 ص 144، سنن ابن ماجة
ج 1 ص 524، مسند أبي يعلى ج 1 ص 71، تاريخ مدينة دمشق ج 4 ص 302، تهذيب الكمال ج 35
ص 330، سير أعلام النبلاء ج 2 ص 226 ومصادر أخرى للعامة.
296
وشهد لها بالجنة، ليس إلا التناقض في العمل وترجيح المرجوح على الراجح
المستقبح عقلا والمردود شرعا والمنافي لقاعدة العدل والإنصاف!
ثم بعد ذلك كله، والتنزل عن كون فدك نحلة لها من أبيها، ينتهي الأمر إلى أن
تكون مما ترك أبوها، وكانت الصديقة الطاهرة (عليها السلام) هي الوارثة التي لا وارث
للنبي نسبا غيرها في مرتبتها، فتمسكت بعموم الكتاب في الميراث، وخصوصه
في ميراث الأنبياء ردا على الرواية المردودة بعدم المقتضى لحجيتها ومعارضتها
للكتاب.
ومن تأمل في احتجاجاتها يرى أنها دعت إلى الحق بالحكمة المشتملة
على الدليل والبرهان للجاهلين، والموعظة الحسنة للغافلين، والجدال بالتي هي
أحسن للمعاندين، حتى يحكم الله {أليس الله بأحكم الحاكمين} (1).
*
أشعة من خطبتها (عليها السلام)
لما أجمع القوم على غصب الخلافة من أمير المؤمنين (عليه السلام) وغصب فدك من
فاطمة (عليها السلام)، لاثت خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها وأقبلت في لمة من
حفدتها ونساء قومها، تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى
دخلت على أبي بكر في مسجد النبي، وهو في حشد من المهاجرين والأنصار
وغيرهم فنيطت دونها ملاءة، فجلست ثم أنت أنة أجهش القوم لها بالبكاء، فارتج



(1) سورة التين: 8.
297
المجلس، ثم أمهلت هنيئة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم، افتتحت
الكلام بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله... وكان مما قالت (1): " وأشهد أن
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمن القلوب موصولها، وأنار في التفكر
معقولها، الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوهام كيفيته ".
فبينت أن تأويل كلمة التوحيد هو الإخلاص، والإخلاص الذي هو تأويل
كلمة التوحيد إخلاص في العلم والعمل.
أما الإخلاص علما فبنفي الصفات الزائدة على الذات المستلزمة للتجزئة
والتركيب والتثنية والحد والعدد، فهو الواحد الأحد، وتفسيره ما قاله علي (عليه السلام):
" أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص
له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل
موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه
فقد جزأه ومن جزأه فقد جهله " (2).
وأما الإخلاص عملا فبإتيان الأعمال الجوانحية والجوارحية خالصة
لوجهه تعالى: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الاعلى} (3)، وهو
مقام المقربين الذين يصلون بالنظر إلى ملكوت السماوات والأرض إلى مقام



(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 16 ص 211، بلاغات النساء ص 12، جواهر المطالب في
مناقب الإمام علي (عليه السلام) ج 1 ص 155 ومصادر أخرى للعامة.
الاحتجاج ج 1 ص 131، دلائل الإمامة ص 11، كشف الغمة ج 1 ص 480، الطرائف ص 264 ومصادر
أخرى للخاصة.
(2) نهج البلاغة الخطبة الأولى.
(3) سورة الليل: 19 - 20.
298
اليقين بأنه {هو الأول والاخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم} (1)، {وهو على
كل شئ قدير} (2)، فيوجهون وجوههم إلى الذي {فطر السماوات والأرض حنيفا} (3)
ويعبدونه ويدعونه مخلصين له الدين، وبعد أن يصيروا مخلصين يصرف الله عنهم
السوء والفحشاء، فيصيرون من المخلصين الذين يعجز الشيطان عن الاستيلاء
على نفوسهم، قال: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين} (4).
ثم بينت (عليها السلام) ما يتعلق بالقلوب من تضمينها بموصول هذه الكلمة، وهو
الفطرة التي فطر الله الناس عليها، {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن
الله} (5)، وما يتعلق بالأفكار من إنارتها بمعقول هذه الكلمة فإن الأفكار التي
استنارت بمعقول هذه الكلمة من حقيقة النفي والإثبات خرجت من الظلمات إلى
النور الذي قال سبحانه {الله نور السماوات والأرض} (6)، فوصلت إلى مقام
الشهود والشهادة، {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم} (7)، شهدوا بأنه
الإله (الممتنع من الأبصار رؤيته) فهو قدوس عن الأشكال والأوضاع، " ومن الألسن صفته "
لأنه ليس له حد محدود ولا نعت موجود، " ومن الأوهام كيفيته " فإن الموهوم
المصنوع للوهم لا يمكن أن يكون كيفية صانع الوهم، فلا يعلم ما هو إلا هو، ولا
كيف هو إلا هو.



(1) سورة الحديد: 3.
(2) سورة التغابن: 1.
(3) سورة الأنعام: 79.
(4) سورة ص: 81 - 82.
(5) سورة لقمان: 25.
(6) سورة النور: 35.
(7) سورة آل عمران: 18.
299
*
ثم قالت (عليها السلام) بعد توحيد الإله وتنزيهه: " ابتدع الأشياء لا من شئ كان قبلها، وأنشأها بلا
احتذاء أمثلة امتثلها، كونها بقدرته، وذرأها بمشيته، من غير حاجة منه إلى تكوينها، ولا فائدة في تصويرها
إلا تثبيتا لحكمته، وتنبيها على طاعته، وإظهارا لقدرته، وتعبدا لبريته، وإعزازا لدعوته، ثم جعل الثواب على
طاعته، ووضع العقاب على معصيته، ذيادة لعباده عن [من] نقمته، وحياشة لهم إلى جنته ".
نبهت صلوات الله عليها على أقسام أفعاله من الإبداع والإنشاء والتكوين،
وبينت مبدأ الخلق ومنتهاه، وسبب الإيجاد من القدرة والمشيئة، وغايته من
تثبيت الحكمة، والبينة على الطاعة، وإظهار القدرة، وتعبد البرية، وإعزاز
الدعوة، وعدم احتياجه إلى تكوينها، وعدم استفادته من تصويرها، وشرح كل
كلمة من هذه الكلمات تحتاج إلى تفصيل لا يسعه المقام.
وأفادت (عليها السلام) في الإبداع لا من شئ، والإنشاء بلا مثال، وتكوين الكائنات
بالقدرة، وذرأها بالمشيئة، أنه تعالى غني في أفعاله عن المادة والأسباب
والأمثال والغاية، وأن الغرض من أفعاله ليس هو الحاجة، وغيره في فعله يحتاج
إلى مادة وسبب ومثال.
فكما أنه ليس له مثل في ذاته، ليس له مثيل في افعاله، فصنع كل صانع
امتثال، وهو الذي يصنع بغير مثال، وكما لا شريك له في ذاته لا شريك له في فعله،
كون الكائنات بقدرته، وأنشأ الأشياء بمشيئته، {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له
كن فيكون} (1).
وفعل كل فاعل إما لحاجة إلى الفعل أو لفائدة عائدة إليه مادية أو معنوية،
والغرض من أفعاله سبحانه لا يعود إليه وإنما هو جود بالإيجاد لإيصال العباد إلى



(1) سورة يس: 82.
300
الكمال بالمعرفة والعبادة وإجابة الدعوة والإطاعة المنتهية إلى السعادة.
وبينت (عليها السلام) أن كل كائن من الكائنات وكل صورة من المخلوقات مثبت
لحكمة الله، ومظهر لقدرة الله، ومنبه على طاعة الله، وداع إلى عبادة الله، وموجب
لعزة دعوة الدعاة إلى الله، لدلالته على صدق دعوتهم إلى أنه لا إله إلا الله {سنريهم
آياتنا في الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} (1).
ثم بينت (عليها السلام) أن الثواب على الطاعة مجعول منه تعالى، والعقاب على
المعصية موضوع منه تعالى، وحكمة جعل الثواب على الطاعة سوق العباد إلى
الجنة، وحكمة وضع العقاب على المعصية صيانة العباد من النقمة، فإن الموصل
إلى كل كمال وفضيلة والرادع عن كل منقصة ورذيلة هو الخوف والرجاء،
ولا يتحققان إلا بالثواب والعقاب.
*
ثم قالت (عليها السلام): " وأشهد أن أبي محمدا عبده ورسوله، اختاره وانتجبه قبل أن اجتبله [اجتباه]،
واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأحاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة،
علما من الله تعالى بمآيل الأمور، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع المقدور، ابتعثه الله إتماما
لأمره، وعزيمة على إمضاء حكمه، وإنفاذا لمقادير حتمه، فرأى الأمم فرقا في أديانها عكفا على نيرانها،
عابدة لأوثانها، منكرة لله مع عرفانها، فأنار الله بأبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ظلمها، وكشف عن القلوب بهمها، وجلى
عن الأبصار غممها، وقام في الناس بالهداية، وأنقذهم من الغواية، وبصرهم من العماية، وهداهم إلى
الدين القويم، ودعاهم إلى الصراط المستقيم ".
بعد أن شهدت بوحدانية الله حق الشهادة، شهدت بعبودية أبيها لله ورسالته،
وأشارت إلى ما يتعلق بأشرف الخلائق وخاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم) من بدء خلقته إلى



(1) سورة فصلت: 53.
301
بعثته، وما اختص به من اختيار الله له، واصطفائه من خلقه، وحكمة بعثته،
وثمرة رسالته من إنقاذ الأمم المتفرقة في أديانهم بتوحيد الكلمة على كلمة
التوحيد {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} (1)، وتطهيرهم من الرجس من
الأوثان بعبادة الرحمن، وأخذ الإقرار بالله منهم بعد الإنكار مع عرفانهم بفطرتهم
{ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم} (2).
فأنار الله به عن العقول ظلم الأوهام، وكشف به عن القلوب بهم الشبهات،
وجلى الغمم والغشاوة عن الأبصار بما جاء به من البصائر من ربهم، فقام في
الناس بالهداية التي قال الله تعالى: {وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم} (3)،
وأنقذهم من الغواية التي قال الشيطان {فبعزتك لأغوينهم أجمعين} (4)، وبصرهم من
العماية التي لا تعمي الأبصار {ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (5)، وهداهم
إلى الدين القويم بالعدل والقسط والحكمة، ودعاهم إلى الصراط المستقيم الذي
هو طريقة المعتصمين بالله {ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم} (6).
وأشارت (عليها السلام) إلى بقية النبوة والرسالة بقولها (عليها السلام): " كتاب الله الناطق، والقرآن
الصادق، والنور الساطع، والضياء اللامع، بينة بصائره، منكشفة سرائره، منجلية [متجلية] ظواهره، مغتبط به
أشياعه، قائد إلى الرضوان اتباعه، مؤد إلى النجاة استماعه، به تنال حجج الله المنورة، وعزائمه المفسرة،
ومحارمه المحذرة، وبيناته الجالية، وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة، ورخصه الموهوبة، وشرائعه



(1) سورة آل عمران: 103.
(2) سورة الزمر: 38.
(3) سورة الحج: 67.
(4) سورة ص: 82.
(5) سورة الحج: 46.
(6) سورة آل عمران: 101.
302
المكتوبة ".
وبيانها (عليها السلام) يكشف عن إحاطتها بما في القرآن الحكيم من ظاهره الأنيق إلى
باطنه العميق، ولا يسعنا شرح كلماتها في الرسول ورسالته، والقرآن وهدايته،
لاشتمالها على ما لا يدرك بعضه فضلا عن كله، ونقتصر على التعرض لمتن
كلامها الذي أشارت به إلى جملة من الأسرار المكنونة في الشرائع المكتوبة في
القرآن، قالت (عليها السلام): " فجعل الله الإيمان تطهيرا لكم من الشرك، والصلاة تنزيها لكم من الكبر، والزكاة
تزكية للنفس ونماء في الرزق، والصيام تثبيتا للإخلاص، والحج تشييدا للدين، والعدل تنسيقا للقلوب،
وطاعتنا نظاما للملة، وإمامتنا أمانا للفرقة [من الفرقة]، والجهاد عزا للإسلام، والصبر معونة على استيجاب
الأجر، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة، وبر الوالدين وقاية من السخط، وصلة الأرحام منسأة في العمر
ومنماة للعدد، والقصاص حقنا للدماء، والوفاء بالنذر تعريضا للمغفرة، وتوفية المكاييل والموازين تغييرا
للبخس، والنهي عن شرب الخمر تنزيها عن الرجس، واجتناب القذف حجابا عن اللعنة، وترك السرقة إيجابا
للعفة، وحرم الله الشرك إخلاصا له بالربوبية ".
والتأمل في هذه الكلمات يرشدنا إلى أن الشريعة التي يكمل بها الإنسان،
وتصان بها العقول والنفوس والأعراض والأموال، وتضمن بها الحقوق، وتحفظ
بها المصلحة العامة، وتدعو إلى الإيمان والعدل والتنزيه والتزكية والعز والعفة،
وتسوق المجتمع إلى أحسن نظام بإمامة الأفضل في العلم والأخلاق والأعمال،
إنما هي شريعة الإسلام.
هذا ما ظهر ارتجالا من علمها وحكمتها وفصاحتها وبلاغتها في مجلس
واحد، مع المصائب التي صبت عليها، من فقد أبيها، وتظاهر الزمان عليها، فهي
المشكاة التي {فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب درى يوقد من
شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار نور على

303
نور} (1)، فهي مع اتصالها بنور السماوات والأرض باستغراقها في معرفة الله
وعبادته، وانقطاعها بزهدها عن الدنيا وما فيها لا تحتاج إلى اقتباس العلم
بالتعلم.
*
وفي الصحيح عن أبي عبيدة قال: " سأل أبا عبد الله بعض أصحابنا عن
الجفر، فقال: هو جلد ثور مملوء علما، قال له: ما الجامعة؟ قال: تلك صحيفة طولها سبعون
ذراعا في أرض الأديم، مثل فخذ الفالج، فيها كل ما يحتاج الناس إليه، وليس من قضية إلا وهي فيها
حتى أرش الخدش.
قال: فمصحف فاطمة (عليها السلام)؟ قال: فسكت طويلا، ثم قال: إنكم لتبحثون عما تريدون
وعما لا تريدون، إن فاطمة مكثت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خمسة وسبعين يوما، وقد كان دخلها حزن شديد
على أبيها، وكان جبرئيل يأتيها فيحسن عزائها على أبيها، ويطيب نفسها، ويخبرها عن أبيها ومكانه، ويخبرها
بما يكون بعدها في ذريتها، وكان علي (عليه السلام) يكتب ذلك، فهذا مصحف فاطمة (عليها السلام) " (2).
إن النفس القدسية التي تستعد بعد انقطاع الوحي بختم النبوة، لأن تلاقي من
يكون مقامه عند سدرة المنتهى، هي النفس التي تكون بضعة من العقل الكل،
وبالجاذبية التي ورثتها من الحقيقة المحمدية تجذب الذي هو شديد القوى من
الأفق الأعلى لتسليتها، فيصير مصحفها الذي ألقاه الروح الأمين وأملاه أمير
المؤمنين (عليه السلام) إحدى خزائن علوم الأئمة المعصومين (عليهم السلام) المشتملة على علم



(1) سورة النور: 35.
(2) الكافي ج 1 ص 241 كتاب الحجة باب فيه ذكر الصحيفة ح 5، وبصائر الدرجات ص 174 الجزء
الثالث باب 14 ح 6 وبتفاوت يسير. وفي بعض الروايات أن فيه علم ما يكون (الإيضاح لفضل بن
شاذان ص 462، الكافي ج 1 ص 240 ح 2، الخصال ص 528 أبواب الثلاثين وما فوقه ح 1 ومصادر
أخرى).
304
ما يكون.
وبالتأمل في هذه الصحيحة يظهر سر تسميتها بالمحدثة، ولولا السنخية مع
الملاء الاعلى بلطافة روحها عن كدورات عالم المادة، لم يتيسر لها مجالسة روح
القدس، وهذا وجه تسميتها بالحوراء الإنسية.
ولا عجب من وصولها إلى هذه المقامات العالية، وطيها درجات مرقاة
الكمال، إلى أن وصلت إلى مرتبة توجب حيرة الكمل، فان الإنسان يمتاز عن
سائر الخلق بتركبه من الشهوة والغضب، والعقل والإرادة، فان صارت الإرادة
مقهورة للشهوة والغضب يتنزل إلى مرتبة الحيوانية {أولئك كالانعام بل هم أضل} (1)
وان صارت مقهورة للعقل يصر الإنسان بالقوة انسانا بالفعل، وبغلبة جنود العقل
على جنود الجهل يتسلط على نفسه ويصعد بروحه من حضيض الأرض إلى
ملكوت السماء.
والكمال كل الكمال أن تصير الإرادة مقهورة لأمر الله، والرضا والغضب
تابعين لرضا الله وغضب الله تعالى، فإذا بلغ العبد إلى أن يرضى لرضا الرب
ويغضب لغضبه على الإطلاق، بحيث لا يتخلف رضاه وغضبه عن رضا الله
وغضبه في حال من الأحوال، يصل إلى مرتبة العصمة المطلقة.
وقد صحح عند العامة وإلى الخاصة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لفاطمة إن الله يغضب
لغضبك ويرضا لرضاك (2)، فإذا كانت العصمة المطلقة المستلزمة لإمامة الناس أن يرضى
العبد برضى الرب ويغضب لغضبه بقول مطلق، فكيف تصل الأفكار إلى مقام
الصديقة التي يرضى الرب لرضاها ويغضب لغضبها على الإطلاق، بإطلاق كلام



(1) سورة الأعراف: 179
(2) راجع صفحه:
305
الذي قال الله تعالى {وما ينطق عن الهوى} (1)
فكما لا تختلف ارادتها عن إرادة الله، لا تخلف إرادة الله عن ارادتها، وآية
المباهلة لتشهد على اتصال ارادتها بالأمر الذي قال سبحانه {إنما أمره إذا أراد شيئا
أن يقول له كن فيكون} (2).
وكفاها منزلة أن الله سبحانه وتعالى اصطفى من عباده أنبيائه، واصطفى منهم
خاتمه الذي أرسله رحمة للعالمين، وقال {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} (3)
واختار فاطمة لأن يكون بها امتداد وجوده (صلى الله عليه وآله وسلم) فأبقى بها نسله إلى يوم القيامة،
وجعل حضنها مهدا لأئمة الأمة، الذين بهم تمت نعمته بعثته، وكملت بهم شريعته
ودينه، وطلعت من مشرق وجودها نجوم أضاءت بأنوارها العملية والعملية أعين
العقول، إلى أن يرفع الله حجاب الغيبة عن الغرة الحميدة والطلعة الرشيدة، التي
وعد الله رسوله بظهوره، حتى يتحقق قوله تعالى {هو الذي أرسل رسوله بالهدى
ودين الحق ليظهره على الدين كله} (4) وبهذا الكوكب الدري الذي هو خاتم
المعصومين من ولدها يتجلى معنى قوله {وأشرقت الأرض بنور ربها} (5) ومن
تأمل فيما تقدم يظهر له وجه تسميتها بالمباركة.
فحقيق بها أنها إذا دخلت على أبيها الذي يتشرف بزيارته الأنبياء
والمرسلون والملائكة المقربون أن رحب بها وقبل يدها وأجلسها مكانه (6).



(1) سورة النجم: 3
(2) سورة يس: 82.
(3) سورة الفرقان: 1.
(4) سورة التوبة: 33.
(5) سورة الزمر: 69.
(6) راجع صفحة:
306
*
ولا يسع هذا المختصر بسط الكلام في مآثرها وآثارها، فإن عظمة
ما كسبته في هذه الدنيا تظهر من عظمة جزائها يوم الجزاء، فمما اتفقت عليه
روايات العامة والخاصة في كيفية ورودها المحشر، ودخولها الجنة، أنه إذا كان
يوم القيامة نادى مناد من وراء الحجاب: يا أهل الجمع غضوا أبصاركم عن فاطمة بنت محمد
حتى تمر (1).
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " وأبعث على البراق، خطوها عند أقصى طرفها، وتبعث فاطمة
أمامي " (2)، وكفى لها شرفا أنها أول من يدخل الجنة، فهي أمام إمام العالم وسيد بني
آدم، وفي الصحيح عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): أول شخص يدخل الجنة فاطمة (3)
وهذا جزاء جهادها في سبيل الله علما وعملا حتى بلغت مقام أن أذهب الله



(1) المستدرك ج 3 ص 153، مجمع الزوائد ج 9 ص 212 وبتفاوت يسير في المعجم الأوسط ج 3
ص 35، المعجم الكبير ج 1 ص 108 و ج 22 ص 400، نظم درر السمطين ص 182، الجامع الصغير ج 1
ص 127، أسد الغابة ج 5 ص 523، ميزان الاعتدال ج 1 ص 532، لسان الميزان ج 3 ص 395 ومصادر
أخرى للعامة.
الأمالي للصدوق ص 70 المجلس الخامس ح 4، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 32 باب 31 ح 55،
مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 2 ص 207، شرح الاخبار ج 3 ص 63 ومصادر أخرى للخاصة.
(2) المستدرك ج 3 ص 153، وفي الأمالي للمفيد ص 272 المجلس الثاني والثلاثون ح 3، والأمالي
للطوسي ص 35 المجلس الثاني ح 4، الأمالي للصدوق ص 275، المجلس السابع والثلاثون بتفاوت
يسير.
(3) مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 329، بحار الأنوار ج 37 ص 70 و ج 42 ص 44 ومصادر أخرى
للخاصة.
ميزان الاعتدال ج 2 ص 618، نظم درر السمطين ص 180، كنز العمال ج 12 ص 110، لسان الميزان
ج 4 ص 16، سبل الهدى والرشاد ج 10 ص 386، ينابيع المودة ج 2 ص 322 ومصادر أخرى للعامة.
307
عنها الرجس وطهرها تطهيرا (1)، واختارها للمباهلة (2)، وأنزل فيها {ونساءنا
ونساءكم} (3) ونزلت في شأنها سورة الدهر (4) بعملها لوجه الله، وصارت ثالث



(1) راجع صفحة:
(2) تحفة الأحوذي ج 8 ص 278 - معرفة علوم الحديث ص 50 - نظم درر السمطين ص 108 - فتح
الباري ج 7 ص 60، جامع البيان ج 3 ص 408 - تفسير القرطبي ج 4 ص 104، تفسير البغوي ج 3
ص 361 - تفسير روح المعاني ج 3 ص 188 - تفسير السعود ج 2 ص 46، تفسير النفسي ج 1 ص
224، الدر المنثور ج 2 ص 39 - شواهد التنزيل ج 1 ص 156 و.... سير أعلام النبلاء ج 3 ص 486 -
زاد الميسر ج 1 ص 339 - تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 82 - البداية والنهاية ج 5 ص 65 و ج 7 ص 376 -
السيرة النبوية ابن كثير ج 4 ص 103 - ينابيع المودة ج 1 ص 43 و 136 و 165 و ج 2 ص 446 و ج 3
ص 368 - احكام القرآن ج 2 ص 18 - أسباب نزول الآيات ص 67، مسند أحمد ج 1 ص 185 -
صحيح مسلم ج 7 ص 121 - سنن الترمذي ج 4 ص 293 و ج 5 ص 302، المستدرك على
الصحيحين ج 3 ص 150 وفي التلخيص أيضا - السنن الكبرى للبيهقي ج 7 ص 63 -، مسند سعد بن
أبي وقاص ص 51 - أسد الغابة ج 4 ص 26، تاريخ مدينة دمشق ج 42 ص 16 و 112، تاريخ المدينة
ج 2 ص 583، فتوح البلدان ج 1 ص 77، الإصابة ج 4 ص 468 ومصادر أخرى للعامة كثيرة جدا
يصعب ذكرها.
عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 1 ص 85 باب 7 ح 9 و ج 1 ص 231 باب 23 ح 1، الخصال للصدوق ص
576 أبواب السبعين ح 1 - الأمالي للصدوق ص 618 المجلس التاسع والسبعون ح 1 - تحف العقول
ص 429 - روضة الواعظين ص 164 - شرح الاخبار ج 2 ص 340 و ج 3 ص 94 - الفصول المختارة
ص 38، تفضيل أمير المؤمنين (عليه السلام) ص 21 - الارشاد ج 1 ص 167 - الأمالي للطوسي ص 271
المجلس العاشر ح 45 و 307 و 334 المجلس الثاني عشر ح 10 وص 564 المجلس الحادي
والعشرون ح 1 - الاحتجاج ج 1 ص 162 و ج 2 ص 165، دعائم الاسلام ج 1 ص 18 - مسار الشيعة
ص 41 - كنز الفوائد ص 167 - العمدة ص 123 و 188 و... - تفسير فرات الكوفي ص 85 و...، التبيان
ج 2 ص 484 - تفسير مجمع البيان ج 2 ص 309، تفسير العياشي ج 1 ص 177 - حقائق التأويل ص
112 - مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 2 ص 502 - المناقب ص 108، كشف الغمة ج 1 ص 308 - كشف
اليقين ص 282 ومصادر أخرى كثيرة جدا للخاصة يصعب ذكرها.
(3) سورة آل عمران: 61.
(4) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 191 باب 45 ح 2 - الأمالي للصدوق ص 333 المجلس الرابع
والأربعون ح 13 - روضة الواعظين ص 156 و 163 - الارشاد ج 1 ص 178 و ج 2 ص 30 الخرائج
والجرائح ج 2 ص 890 - العمدة ص 346، الطرائف ص 108 و 277، تفسير فرات الكوفي ص 519
و 527 - تفسير مجمع البيان ج 10 ص 209، خصائص الوحي المبين ص 178، المناقب ص 267
و 271 - كشف الغمة ج 1 ص 303، علل الشرايع ج 1 ص 266 باب 162 ح 2، مناقب أمير المؤمنين ج
1 ص 183 و 186، شرح الاخبار ج 2 ص 193، الفصول المختارة ص 140، الارشاد ج 1 ص 178،
الاحتجاج ج 1 ص 165، تفسير القمي ج 2 ص 398 ومصادر أخرى كثيرة للخاصة.
شرح نهج البلاغة ج 1 ص 21 - تفسير القرطبي ج 19 ص 131 و 134، شواهد التنزيل ج 2 ص 395
و... ص 45 و 406، أسد الغابة ج 5 ص 530 - الإصابة ج 8 ص 281 - ينابيع المودة ج 1 ص 279،
أسباب النزول الواحدي ص 296، الدر المنثور ج 8 ص 371 و ج 6 ص 299 - نور الابصار ص 124،
البداية والنهاية ج 5 ص 351 - تفسير الكشاف ج 4 ص 670 ذخاير العقبى ص 89 و 102، السيرة
النبوية لابن كثير ج 4 ص 649، تفسير أبي السعود 9 ص 73، تفسير روح المعاني ج 29 ص 157 -
تفسير البغوي ج 4 ص 428 - تفسير النسفي ج 3 ص 1903 ومصادر أخرى كثيرة للعامة.
308
أصحاب الكساء. (1)
ولقد من الله على المؤمنين بأن بعث الله فيهم أباها، ومن الله على أبيها
بإعطائها له، فقال: {إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر * إن شانئك هو الأبتر} (2).



(1) مسند أحمد ج 6 ص 298 و 323، مسند أبي يعلى ج 12 ص 344 و 456، المعجم الكبير ج 3 ص
53 و ج 9 ص 26 و ج 23 ص 335، تاريخ مدينة دمشق ج 14 ص 142، أسد الغابة ج 2 ص 18،
ترجمة الإمام الحسين (عليه السلام) ص 95 و 104 ذخائر العقبى ص 22، نيل الأوطار ج 2 ص 327، شواهد
التنزيل ج 2 ص 110، ينابيع المودة ج 2 ص 221 و 446 ومصادر أخرى للعامة.
علل الشرايع ج 1 ص 226 باب 162 ح 1، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 1 ص 85 باب 7 ح 9، مناقب أمير
المؤمنين (عليه السلام) ج 1 ص 337 و ج 2 ص 152، الإختصاص ص 56، الإحتجاج ج 2 ص 165، العمدة
ص 36، الطرائف ص 110، تفسير فرات الكوفي ص 335 ومصادر أخرى للخاصة.
هذا بعض المصادر للعامة والخاصة المذكور فيه (الكساء) وراجع أيضا المصادر المذكورة في آية
المباهلة. (صفحة:) وآية التطهير (صفحه).
(2) سورة الكوثر وراجع صفحة.
309
ومع ذلك كله فقد فارقت الدنيا وكانت هذه وصيتها:
" بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصت به فاطمة بنت رسول الله، أوصت وهي تشهد أن لا إله إلا
الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من
في القبور، يا علي أنا فاطمة بنت محمد زوجني الله منك لأكون لك في الدنيا والآخرة، أنت أولى بي من
غيري، حنطني وغسلني وكفني بالليل وصل علي وادفني بالليل، ولا تعلم أحدا، وأستودعك الله وأقرأ على
ولدي السلام إلى يوم القيامة " (1).
وفي الصحيح عن عائشة قالت: ما رأيت أحدا كان أشبه كلاما وحديثا من
فاطمة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكانت إذا دخلت عليه رحب بها وقام إليها فأخذ بيدها
فقبلها وأجلسها في مجلسه (2).
وفي الصحيح عن عائشة أن النبي قال وهو في مرضه: يا فاطمة ألا ترضين
أن تكوني سيدة نساء العالمين وسيدة نساء المؤمنين وسيدة نساء هذه الأمة (3).



(1) بحار الأنوار ج 43 ص 214.
(2) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 154 وفي التلخيص أيضا، وبتفاوت في فضائل الصحابة ص 78 -
سنن أبي داود ج 2 ص 522 - سنن الترمذي ج 5 ص 361 - المستدرك على الصحيحين ج 4 ص 272 -
ذخائر العقبى ص 41 - السنن الكبرى للبيهقي ج 7 ص 101 - مسند ابن راهويه ج 5 ص 6 - الأدب
المفرد ص 209 - الآحاد والمثاني ج 5 ص 368 - السنن الكبرى للنسائي ج 5 ص 96 و 392 - مسند أبي
يعلى ج 12 ص 111 - صحيح ابن حبان ج 15 ص 403 - المعجم الأوسط ج 4 ص 242 - نظم درر
السمطين ص 179 - سير أعلام النبلاء ج 2 ص 121 ومصادر أخرى للعامة.
مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 2 ص 210 - الأمالي للطوسي ص 400 - مناقب آل أبي طالب ج 3
ص 333 - عوالي اللئالي ج 1 ص 434 - كشف الغمة ج 1 ص 453 ومصادر أخرى للخاصة.
(3) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 151 وفي التلخيص أيضا وص 154 وفي التلخيص أيضا
وص 156 وفي التلخيص أيضا، و ج 4 ص 44، فضائل الصحابة ص 58 و 76 و 77 - مسند أحمد ج 3
ص 80 و ج 5 ص 391 و ج 6 ص 282 - صحيح البخاري ج 4 ص 183 باب علامات النبوة في الإسلام
و ج 4 ص 209 باب مناقب قرابة رسول الله و ج 4 ص 219 باب مناقب فاطمة رضي الله عنها - صحيح
مسلم ج 7 ص 143 و 144 - سنن ابن ماجة ج 1 ص 518 - سنن الترمذي ج 5 ص 326 و 369 - مجمع
الزوائد ج 1 ص 180 و ج 9 ص 201 مسند أبي داود الطيالسي ص 197 - مصنف ابن أبي شيبة ج 7
ص 527 - مسند ابن راهويه ج 5 ص 7 - الآحاد والمثاني ج 5 ص 365 و... السنن الكبرى للنسائي ج 4
ص 252 و ج 5 ص 81 و 95 و 96 و 145 و...، خصائص أمير المؤمنين (عليه السلام) ص 116 و...، مسند أبي
يعلى ج 2 ص 395 و ج 12 ص 111 و 112 و 313 - صحيح ابن حبان ج 15 ص 402 - حلية الأولياء
ج 2 ص 39 - كتاب الأوائل ص 84 - المعجم الكبير ج 11 ص 294 و ج 18 ص 102 و ج 22 ص 403
و 417 و... - الفائق في غريب الحديث ج 1 ص 240 - شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج 1 ص 30
و ج 2 ص 287 و ج 9 ص 174 و ج 9 ص 193 و ج 10 ص 265 و 266 و ج 13 ص 108 وموارد أخرى
من هذا الكتاب - نظم درر السمطين ص 178 و... وص 213، كنز العمال ج 11 ص 605 و ج 12 ص 96
و 102 و 107 و... جامع البيان ج 3 ص 359 - الدر المنثور ج 2 ص 23 - الطبقات الكبرى ج 2 ص 248
و ج 8 ص 27 - التاريخ الكبير ج 1 ص 232 - تاريخ مدينة دمشق ج 3 ص 155 و ج 12 ص 269 و ج 13
ص 207 و ج 14 ص 134 و 173 و ج 42 ص 134 و ج 47 ص 482 - أسد الغابة ج 2 ص 9 و 18 و ج 4
ص 16 و ج 5 ص 519 و 522 و 523 و 574 - سير أعلام النبلاء ج 2 ص 120 و 123 و 126 و 127
و 130 و... و ج 3 ص 252 - الإصابة ج 8 ص 102 و 265 - تاريخ الطبري ج 6 ص 196 - البداية والنهاية
ج 5 ص 246 و ج 6 ص 234 - ينابيع المودة ج 2 ص 36 و 53 و... ومصادر أخرى كثيرة جدا للعامة
يصعب ذكرها.
الكافي ج 1 ص 459، الاختصاص ص 91 و 183، الاحتجاج ج 1 ص 190 و 195 و 219، مناقب آل
أبي طالب ج 3 ص 144، علل الشرائع ج 1 ص 182 باب 146 ح 1 - الخصال ص 559 و 573 - الأمالي
للصدوق ص 77 المجلس السابع ح 2 و ح 3 وص 112 ح 10 وص 175 و 187 و 374 و 554 و 560
و 575 و 692 و 702 - كمال الدين وتمام النعمة ص 257 و 260 و 263 - معاني الأخبار ص 58 و 107
و 124 - كفاية الأثر ص 37 و 98 و 124 - روضة الواعظين ص 100 و 102 و 111 و 149 و 150 -
مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 1 ص 327 و 546 و ج 2 ص 193 و 197 و 209 و 257 و 259 و 422
و 513 و 515 و 593 - دلائل الإمامة ص 81 و 138 و 149 و 152 - شرح الأخبار ج 1 ص 121 و 207
و ج 3 ص 24 و 25 و 56 - الإرشاد ج 1 ص 37 و 353 - الأمالي للمفيد ص 23 و 116 - الأمالي للطوسي
ص 85 و 248 و 333 و 334 و 546 و 555 و 558 و 568 و 633 - مكارم الأخلاق ص 93 - الخرائج
والجرائح ج 1 ص 209 - العمدة ص 284 و 386 و... ومصادر أخرى كثيرة للخاصة.
310
وفي الصحيح عن عائشة قالت: انا كنا أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) عنده جميعا لم تغادر
منا واحدة، فأقبلت فاطمة (عليها السلام) تمشي لا والله ما تخفى مشيتها من مشية
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلما رآها رحب بها وقال: مرحبا بابنتي ثم أجلسها عن يمينه أو عن
شماله ثم سارها فبكت بكاء شديدا، فلما رأى حزنها سارها الثانية، فإذا هي
تضحك، فقلت لها أنا من بين نسائه: خصك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالسر من بيننا، ثم أنت
تبكين، فلما قام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سألتها عما سارك، قالت: ما كنت لأفشي على
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سره، فلما توفى قلت لها عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما
أخبرتني. قالت: أما الآن فنعم فأخبرتني، قالت أما حين سارني في الأمر الأول
فإنه أخبرني عن جبرئيل كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة، وأنه قد عارضني به
العام مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب فاتقي الله واصبري فإني نعم السلف أنا
لك، قالت فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارني الثانية قال: يا
فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة (1).
وفي فضائل الصحابة:... حتى إذا قبض سألتها فقالت إنه كان حدثني قال:
كان جبرئيل يعارضني كل عام مرة، وإنه عارضني العام مرتين ولا أراني إلا وقد
حضر أجلي وأنك أول أهلي لحوقا بي، ونعم السلف أنا لك فبكيت ثم إنه سارني
ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو نساء هذه الأمة قالت فضحكت



(1) صحيح البخاري ج 7 ص 141 كتاب الاستيذان، باب من ناجى بين يدي الناس...، خصائص أمير
المؤمنين (عليه السلام) ص 119، المعجم الكبير ج 22 ص 419.
312
لذلك (1).
وقد اعترفوا أيضا بما عن عائشة قالت: دفنت فاطمة ليلا، دفنها علي ولم
يشعر بها أبو بكر حتى دفنت (2)
*
وعلى كل مسلم مؤمن بكتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، مع قوله تعالى: {قل لا
أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} (3) ومع قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " فإنما هي فاطمة
بضعة مني يريبني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها " (4)، أن ينظر فيما جرى عليها بعد أبيها حتى
أوصت بدفنها في الليل، ولم تسمح بأن يشهد جنازتها أحد وبذلك حرمت الأمة
التي لم تشيع جنازة أبيها عن ادراك تشييع جنازتها، ولذلك خفي على الأمة قبرها



(1) فضائل الصحابة ص 77.
(2) صحيح البخاري ج 5 ص 82 كتاب المغازي باب غزوة خيبر، صحيح مسلم ج 5 ص 154، المستدرك
على الصحيحين ج 3 ص 162 وفي التلخيص أيضا، ومع تفاوت في: الطبقات الكبرى ج 8 ص 29،
السنن الكبرى للبيهقي ج 4 ص 29 و 31، مصنف ابن أبي شيبة ج 3 ص 226 و ج 8 ص 62، الآحاد
والمثاني ج 5 ص 355، شرح نهج البلاغة ج 16 ص 280 و...، تاريخ المدينة ج 1 ص 107 و...
المصنف لعبد الرزاق ج 3 ص 521 و 226، صحيح ابن حبان ج 11 ص 153 و ج 14 ص 573، مسند
الشاميين ج 4 ص 198، البداية والنهاية ج 5 ص 307 ومصادر أخرى للعامة.
(3) سورة الشورى: 23.
(4) فضائل الصحابة ص 78، مسند أحمد بن حنبل ج 4 ص 328، صحيح البخاري ج 4 ص 210 باب
مناقب قرابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، السنن الكبرى للنسائي ج 5 ص 97، المعجم الكبير ج 22 ص 404، تاريخ
مدينة دمشق ج 58 ص 159، سير أعلام النبلاء ج 19 ص 488، صحيح مسلم ج 7 ص 140، سنن
ابن ماجة ج 1 ص 644، سنن أبي داود ج 1 ص 460، سنن الترمذي ج 5 ص 359 ومصادر أخرى
للعامة.
مناقب أمير المؤمنين ج 2 ص 211، الإيضاح ص 541، شرح الأخبار ج 3 ص 60، مناقب أبي طالب
ج 3 ص 332، العمدة ص 385 ومصادر أخرى للخاصة.
313
حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين.
* * *

314
الإمام الثاني الحسن بن علي (عليهما السلام)
الإمام الثاني
الحسن بن علي (عليهما السلام)
ولد (عليه السلام) في شهر رمضان، والأشهر أن ولادته يوم الثلاثاء، منتصف شهر
رمضان، في سنة اثنتين من الهجرة، وقبض في شهر صفر من سنة تسع وأربعين،
فعمره سبع وأربعين سنة وأشهر.
كنيته وألقابه
سماه الله الحسن، وكنيته أبو محمد وألقابه السيد، والسبط الأول، والأمين،
والحجة، والبر، والتقي، والأثير، والزكي، والمجتبى، والزاهد.
مناقبه (عليه السلام)
وهي أكثر من أن تستوفى في هذا المختصر، وقد كان أشبه الناس
برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خلقا وهديا وسؤددا.
أتت فاطمة (عليها السلام) بابنيها الحسن والحسين إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في شكواه التي
توفى فيها، فقالت: يا رسول الله، هذان ابناك، فورثهما شيئا، فقال: أما الحسن فإن له هديي
وسؤددي، وأما الحسين فإن له جودي وشجاعتي (1).



(1) الإرشاد ج 2 ص 7، وقريب منه في الخصال ص 77، وفي دلائل الإمامة ص 69، وفي شرح الأخبار
ج 3 ص 100 ومصادر أخرى للخاصة.
مجمع الزوائد ج 9 ص 185، الآحاد والمثاني ج 1 ص 299 و ج 5 ص 370، شرح نهج البلاغة لابن أبي
الحديد ج 16 ص 10، نظم درر السمطين ص 212 ومصادر أخرى للعامة.
315
ويكفي في جلالة مقامه ما ورد من طرق العامة بأسناد متعددة، عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): اللهم إني أحبه، فأحببه وأحب من يحبه (1).
وكفاه منزلة أنه حبيب الله، وحبيب رسول الله، وأن محبه حبيب الله، فحبه
براءة من النار، وجواز دخول الجنة، وإذا كان محبه محبوبا لله تعالى فهو في مقام
ومنزلة عند الله دونه كل مقام ومنزلة، لأنه (عليه السلام) بإفنائه حبه في ذات الله وإفنائه
رضاه في رضوان الله، صار حبه إكسيرا يقلب الحديد إلى الكبريت الأحمر،
فيصير محبه محبوبا لله تعالى.
ولقد خاب من يدعي حبه ومع ذلك يحب عدوه، فكيف يجتمع الضدان؟!
وكفاه منقبة أنه ريحانة رسول الله في عالم الملك (2)، يستشم منه رائحة
الملكوت، وأنه هو الذي سماه سيد العالم سيدا، وهذا بيان لإمامته، لأن السيادة



(1) فضائل الصحابة ص 19، مسند أحمد بن حنبل ج 2 ص 249 و 331 و 508 و 532 و ج 4 ص 284
صحيح البخاري ج 3 ص 20 و ج 7 ص 55، صحيح مسلم ج 7 ص 129، سنن ابن ماجة ج 1 ص 51،
سنن الترمذي ج 5 ص 327، المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 169 وفي التلخيص أيضا و 178
وفي التلخيص أيضا، البداية والنهاية ج 8 ص 36، مجمع الزوائد ج 9 ص 176، مسند الحميدي ج 2
ص 450، مسند ابن الحميد ص 295، الأدب المفرد ص 252 - السنن الكبرى للنسائي ج 5 ص 49،
مسند أبى يعلى ج 11 ص 279، صحيح ابن حبان ج 15 ص 417، المعجم الكبير ج 3 ص 32، نظم درر
السمطين 198، تاريخ بغداد ج 12 ص 9، تاريخ مدينة دمشق ج 13 ص 176 و 186 و...، تهذيب
الكمال ج 6 ص 226 و 227، سير أعلام النبلاء ج 3 ص 250، تهذيب التهذيب ج 2 ص 258، ذخائر
العقبى ص 121 ومصادر أخرى كثيرة للعامة.
مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 2 ص 237 و 244، شرح الأخبار ج 3 ص 106، الأمالي للطوسي
ص 249، مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 25، العمدة ص 398 و 403 ومصادر أخرى للخاصة.
(2) راجع صفحة
316
عنوان إضافي، فهو سيد من سواه من الأمة، فإن الحسن والحسين إمامان قاما أو
قعدا (1).
كان (عليه السلام) إذا توضأ ارتعدت مفاصله واصفر لونه، فقيل له في ذلك. فقال: حق
على كل من وقف بين يدي رب العرش أن يصفر لونه، وترتعد مفاصله (2).
وعن محمد بن علي (عليهما السلام) قال: قال الحسن (عليه السلام): إني لأستحيي من ربي أن ألقاه،
ولم أمش إلى بيته، فمشى عشرين مرة من المدينة على رجليه (3).
وعن علي بن زيد بن جذعان، قال: " خرج الحسن بن علي من ماله مرتين،
وقاسم الله ثلاث مرات " (4).
وعن الصادق (عليه السلام) قال: حدثني أبي عن أبيه (عليه السلام) أن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان
أعبد الناس في زمانه، وأزهدهم وأفضلهم، وكان إذا حج حج ماشيا، وربما مشى حافيا، وكان إذا ذكر الموت
بكى، وإذا ذكر القبر بكى، وإذا ذكر البعث والنشور بكى، وإذا ذكر الممر على الصراط بكى، وإذا ذكر العرض
على الله تعالى ذكره شهق شهقة يغشى عليه منها، وإذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربه



(1) مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 367، علل الشرايع ج 1 ص 211 باب 159 ج 2 الطرائف ص 196
دعائم الإسلام ج 1 ص 37، علل الشرائع ج 1 ص 211، كفاية الأثر ص 38 و 117، الفصول المختارة
ص 303 الارشاد ج 2 ص 30، كشف الغمة ج 1 ص 533، روضة الواعظين ص 156 ومصادر أخرى.
(2) مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 14 في مكارم أخلاقه.
(3) ذخائر العقبى ص 137، البداية والنهاية ج 8 ص 39، نظم درر السمطين ص 196، تاريخ مدينة
دمشق ج 13 ص 242، أسد الغابة ج 2 ص 13 ومصادر أخرى للعامة.
مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 14، ومصادر أخرى للخاصة.
(4) البداية والنهاية ج 8 ص 39، المجموع ج 7 ص 91، السنن الكبرى للبيهقي ج 4 ص 331، أحكام
القرآن للجصاص ج 3 ص 303 ومصادر أخرى للعامة.
عوالي اللئالي ج 2 ص 88، كشف الغمة ج 2 ص 190، مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 14 ومصادر أخرى
للخاصة.
317
عز وجل، وكان إذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السليم، وسأل الله تعالى الجنة، وتعوذ به من النار،
وكان (عليه السلام) لا يقرأ من كتاب الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا} إلا قال: لبيك اللهم لبيك، ولم ير في
شئ من أحواله إلا ذاكرا لله سبحانه، وكان أصدق الناس لهجة وأفصحهم منطقا (1).
هذه معاملته مع الله، وأما معاملته مع خلقه فقد كان مارا في بعض حيطان
المدينة، فرأى أسود بيده رغيف يأكل ويطعم الكلب لقمة، إلى أن شاطره
الرغيف، فقال له الحسن (عليه السلام): ما حملك على أن شاطرته ولم تغابنه فيه بشئ،
فقال: استحت عيناي من عينيه أن أغابنه. فقال له: غلام من أنت؟ فقال: غلام
أبان بن عثمان، فقال: والحائط؟ قال: لأبان بن عثمان. فقال له الحسن (عليه السلام):
أقسمت عليك، لا برحت حتى أعود عليك، فمر واشترى الغلام والحائط، وجاء
إلى الغلام، فقال: يا غلام قد اشتريتك، قال: فقام قائما، فقال: السمع والطاعة لله
ولرسوله ولك يا مولاي، قال: وقد اشتريت الحائط، وأنت حر لوجه الله،
والحائط هبة مني إليك، فقال الغلام: يا مولاي قد وهبت الحائط للذي وهبتني
له (2).
هذه معاملته مع الضعيف مع قبض يده، فكيف كان الأمر لو كانت يداه
مبسوطتان.
وأما معاملته لعدوه، فقد قال لأخيه الحسين (عليه السلام) عند وفاته: وإني لعارف من أين
دهيت، فأنا أخاصمه إلى الله تعالى، فبحقي عليك لا تكلمت في ذلك بشئ (3).



(1) الأمالي للصدوق ص 244، المجلس الثالث والثلاثون ح 10.
(2) تاريخ بغداد ج 6 ص 33 ترجمة الإمام الحسن (عليه السلام) ابن عساكر ص 148، تاريخ مدينة دمشق ج 13
ص 246، البداية والنهاية ج 8 ص 4 ومصادر أخرى.
(3) مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 42، إعلام الورى باعلام الهدى ج 1 ص 414، كشف الغمة ج 2
ص 208، الإرشاد ج 2 ص 17.
318
فهو الذي تخلق بأخلاق الله، وتجلت فيه أسماء الله، بغفرانه الذنوب، وستره
العيوب، وظهور الرحمة العامة والخاصة من حضرته.
وقد أمره أمير المؤمنين (عليه السلام) يوما أن يخطب، قام فقال: " الحمد لله الواحد بغير تشبيه،
الدائم بغير تكوين، القائم بغير كلفة، الخالق بغير منصبة، الموصوف بغير غاية، المعروف بغير محدودية،
العزيز لم يزل قديما في القدم، ردعت القلوب لهيبته، وذهلت العقول لعزته، وخضعت الرقاب
لقدرته، فليس يخطر على قلب بشر مبلغ جبروته، ولا يبلغ الناس كنه جلاله، ولا يفصح الواصفون منهم
لكنه عظمته، ولا تبلغه العلماء بألبابها، ولا أهل التفكر بتدبير أمورها، أعلم خلقه به الذي بالحد لا يصفه،
يدرك الأبصار، ولا تدركه الأبصار، وهو اللطيف الخبير.
أما بعد، فإن عليا باب من دخله كان مؤمنا، ومن خرج منه كان كافرا، أقول قولي هذا وأستغفر
الله العظيم لي ولكم ".
فقام علي بن أبي طالب وقبل بين عينيه، ثم قال: " ذرية بعضها من بعض والله
سميع عليم " (1).
فقد جمع (عليه السلام) في هذه الخطبة القصيرة جميع ما يتعلق بالمعارف الإلهية، مما
يتعلق بذاته تعالى وصفاته وأفعاله.
وقد اشتمل قوله (عليه السلام): " الحمد لله الواحد بغير تشبيه " في بدء خطبته على الإثبات
والنفي، أي حقيقة التوحيد، وإخراج العقول عن حد التعطيل والتشبيه.
وفي قوله (عليه السلام) في ختامها: " اعلم خلقه به الذي بالحد لا يصفه " إبطال التفكر في ذاته
وصفاته، وأن كل وصف إلا ما وصف الله به نفسه ينتهي إلى التحديد، وهو تثنية



(1) تفسير فرات الكوفي ص 80 ذيل آية 34 سورة آل عمران، الدروع الواقية ص 188 ترجمة الإمام الحسن
(عليه السلام) لابن عساكر ص 145.
319
التي تبطل بواحديته بغير تشبيه، {سبحانه وتعالى عما يصفون} (1)
ففي كل جملة منها مجمل من مفصل، لا يصل إليه إلا الراسخون في الحكمة
الإلهية.
وقد سأل أعرابي أبا بكر، فقال: إني أصبت بيض نعام فشويته وأكلته وأنا
محرم، فما يجب علي؟ فقال له: يا أعرابي أشكلت علي في قضيتك، فدله على
عمر، فدله عمر على عبد الرحمن، فلما عجزوا قالوا: عليك بالأصلع، فقال أمير
المؤمنين: سل أي الغلامين شئت. فقال الحسن: يا أعرابي ألك إبل؟ قال: نعم، قال: فاعمد إلى
عدد ما أكلت من البيض نوقا فاضربهن بالفحول، فما فضل منها فاهده إلى بيت الله العتيق الذي
حججت إليه، فقال أمير المؤمنين: إن من النوق السلوب ومنها ما يزلق، فقال: إن يكن من النوق
السلوب وما يزلق، فإن من البيض ما يمرق، قال: فسمع صوت معاشر الناس، إن الذي فهم
هذا الغلام هو الذي فهمها سليمان بن داود (2).
وفي الموثق عن محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر وأبا عبد الله يقولان:
بينا الحسن بن علي (عليه السلام) في مجلس أمير المؤمنين صلوات الله عليه إذ أقبل قوم،
فقالوا: يا أبا محمد أردنا أمير المؤمنين. قال: وما حاجتكم؟ قالوا: أردنا أن نسأله عن
مسألة، قال: وما هي تخبرونا بها، فقالوا: امرأة جامعها زوجها، فلما قام عنها، قامت
بحموتها، فوقعت على جارية بكر فساحقتها، فألقت النطفة فيها، فحملت، فما
تقول في هذا؟ فقال الحسن: معضلة وأبو الحسن لها، وأقول: فإن أصبت فمن الله، ثم من
أمير المؤمنين، وإن أخطأت فمن نفسي، فأرجو أن لا أخطئ إن شاء الله: يعمد إلى المرأة، فيؤخذ منها مهر
الجارية البكر في أول وهلة، لأن الولد لا يخرج منها حتى يشق فيذهب عذرتها، ثم ترجم المرأة لأنها محصنة،



(1) سورة انعام: 100.
(2) مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 10.
320
وينظر بالجارية حتى تضع ما في بطنها ويرد إلى أبيه صاحب النطفة، ثم تجلد الجارية الحد، قال:
فانصرف القوم من عند الحسن فلقوا أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: ما قلتم لأبي محمد، وما
قال لكم، فأخبروه، فقال: لو أنني المسؤول ما كان عندي فيها أكثر مما قال ابني (1).
ولما أحاط أصحاب الجمل حول علم الطغيان على خليفة الرحمن، وعجز
عن مقابلتهم الفرسان، دعا أمير المؤمنين (عليه السلام) محمد بن الحنفية فأعطاه رمحه
وقال له: اقصد بهذا الرمح قصد الجمل، فذهب فمنعوه بنو ضبة فلما رجع إلى والده انتزع
الحسن رمحه من يده، وقصد قصد الجمل، وطعنه برمحه ورجع إلى والده، وعلى
الرمح أثر الدم، فتمغر وجه محمد من ذلك، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا تأنف فإنه ابن
النبي وأنت ابن علي (2).
وقد شيب هذه الشجاعة في نفسه القدسية بالحلم، ذلك الحلم الذي روى
فيه المبرد وابن عائشة أن شاميا رآه راكبا فجعل يلعنه والحسن لا يرد، فلما فرغ
أقبل الحسن (عليه السلام) فسلم عليه وضحك، فقال: أيها الشيخ أظنك غريبا ولعلك شبهت، فلو استعتبتنا
أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإن كنت جائعا أشبعناك، وإن
كنت عريانا كسوناك، وإن كنت محتاجا أغنياك، وإن كنت طريدا آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك،
فلو حركت رحلك إلينا وكنت ضيفا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لأن لنا موضعا وجاها عريضا ومالا
كثيرا.
فلما سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال: أشهد أنك خليفة الله في أرضه، الله
أعلم حيث يجعل رسالته، وكنت وأبوك أبغض خلق الله إلي، والآن أنت أحب
خلق الله إلي، وحول رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل وصار معتقدا



(1) الكافي ج 7 ص 203.
(2) مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 21.
321
لمحبتهم (1).
ولما مات (عليه السلام) أخرجوا جنازته، فحمل مروان بن الحكم سريره، فقال له
الحسين (عليه السلام): تحمل اليوم جنازته وكنت بالأمس تجرعه الغيظ، قال مروان: نعم كنت أفعل ذلك
بمن يوازن حلمه الجبال (2).
ولقد ساد الخلائق في الفضائل، من العلم والحلم والمعرفة والعبادة
والفصاحة والسماحة والجود والشجاعة والعفو والرحمة، فهو السيد على
الإطلاق كما سماه جده (3) وأمضاه الله سبحانه وقال: {ما آتاكم الرسول فخذوه} (4).
ولابد من التأمل في سبب انتهاء أمر الأمة إلى نقض بيعة هذا السيد ابن
السيد، والدخول إلى بيعة ذلك الطليق بن الطليق، وهل كان مبدء هذا المنتهى الا
تمهيد الحكومة في الشورى لبني أمية وأبناء الطلقاء.
كراماته (عليه السلام)
ومن كراماته (عليه السلام) ما عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: خرج الحسن بن علي في بعض
عمره، ومعه رجل من ولد الزبير، كان يقول بإمامته، فنزلوا من تلك المناهل



(1) مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 19.
(2) مقاتل الطالبيين ص 49، بحار الأنوار ج 44 ص 145.
(3) فضائل الصحابة ص 58 و 76، مسند أحمد بن حنبل ج 3 وص 62 ص 64 وص 82 و ج 5 ص 391
و 392، سنن ابن ماجة ج 1 ص 44، سنن الترمذي ج 5 ص 321 و 326، المستدرك على الصحيحين
ج 3 ص 167 و 381 ومصادر أخرى للعامة.
الغيبة ص 190، الثاقب في المناقب ص 307، العمدة ص 396 و 437 الطرائف ص 199، عوالي اللئالي
ج 1 ص 102 و 225 و 390 من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 132، علل الشرائع باب 156 ح 12 ص 209،
عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 27 باب 31 ح 12 و ح 56 ص 33 ومصادر أخرى للخاصة.
(4) سورة الحشر: 7.
322
تحت نخل يابس قد يبس من العطش، ففرش للحسن (عليه السلام) تحت نخلة، وللزبيري
تحت أخرى، فقال الزبيري: لو كان في هذا النخل رطب لأكلنا منه. فقال له
الحسن (عليه السلام): وإنك لتشتهي الرطب، فقال الزبيري: نعم، فرفع يده إلى السماء فدعا
بكلام لم أفهمه، فاخضرت النخلة، ثم صارت إلى حالها، وأورقت، وحملت
رطبا، فقال الجمال الذي اكتروا منه: سحر والله. فقال له الحسن (عليه السلام): ويلك ليس بسحر،
ولكن دعوة ابن نبي مستجابة، فصعدوا، وصرموا ما كان في النخلة وكفاهم (1).
والعجب من قوم اعترفوا بأن الحسن والحسين ممن نزلت فيهم آية
التطهير (2)، وانهما اللذان أراد هما الله من كلمة الجمع في أبنائنا (3)، واختارهما
للمباهلة التي هي من أعظم الآيات لإبطال النصرانية، وإحقاق الإسلام، ومن
أظهر البينات لإثبات من يكون وجيها عند الله بإجابة الدعاء، وأنهما من آل
محمد الذين يصلى عليهم في كل الصلوات، وأنهما سيدا شباب أهل الجنة (4)،
وأنهما بضعة من رسول الله (5)، وأنهما ريحانتا رسول الله (6)، وأنهما أحب أهل



(1) الكافي ج 1 ص 462، وبتفاوت يسير في الخرائج والجرائح ج 2 ص 571، بصائر الدرجات
ص 256، الجزء الخامس باب 13 ح 10.
(2) راجع صفح:
(3) راجع صفحه:
(4) راجع صفحه:
(5) مسند أحمد ج 6 ص 340، سنن ابن ماجة ج 2 ص 1293، المعجم الكبير ج 3 ص 23، الطبقات
الكبرى ج 8 ص 278، أسد الغابة ج 2 ص 10، الإصابة ج 5 ص 320، و ج 8 ص 450، ترجمة الإمام الحسين
(عليه السلام) ص 12 و 266 ومصادر أخرى للعامة.
بحار الأنوار ج 43 ص 242، كشف الغمة ج 2 ص 523، العدد القوية ص 35 ومصادر أخرى للخاصة.
(6) فضائل الصحابة ص 20، صحيح البخاري ج 4 ص 217 باب مناقب الحسن والحسين رضي الله
عنهما و ج 7 ص 74 باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، سنن الترمذي ج 5 ص 322، سير أعلام النبلاء
ج 3 ص 281، الإصابة ج 2 ص 68، مسند أحمد ج 2 ص 85 و 93 و 114 و 153 و ج 5 ص 51، مجمع
الزوائد ج 9 ص 175، السنن الكبرى للنسائي ج 5 ص 49 و 150، خصائص أمير المؤمنين (عليه السلام)
ص 124، صحيح ابن حبان ج 15 ص 419 و 426، المعجم الكبير ج 3 ص 34 نظم درر السمطين
ص 199، كنز العمال ج 12 ص 123 و ج 13 ص 667، الكامل ج 1 ص 285 و ج 5 ص 110، تاريخ
مدينة دمشق ج 13 ص 176 و 202 و 236 و 237 - الصواعق المحرقة ص 37 ومصادر أخرى للعامة.
الكافي ج 6 ص 2، الأمالي للصدوق ص 207 المجلس التاسع والعشرون ح 12، روضة الواعظين
ص 157، شرح الاخبار ج 3 ص 114، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 27 باب 31 ح 8، مناقب آل أبي
طالب ج 4 ص 25 ومصادر أخرى للخاصة.
323
بيت رسول الله اليه (1)، وأن الله زين الجنة بهما (2)، وأنهما خير الناس جدا وجدة
وأبا واما (3)، وأنهما سبطا هذه الأمة (4)، وأن النبي ورثهما سيادته وجوده



(1) الجامع الصغير ج 1 ص 37، ذخائر العقبى ص 122، سنن الترمذي ج 5 ص 323، مسند أبي يعلى ج 7
ص 274، نظم درر السمطين 209، كنز العمال ج 12 ص 116، التاريخ الكبير ج 8 ص 378، تاريخ
مدينة دمشق ج 14 ص 153 الصواقع المحرقة ص 137 ومصادر أخرى للعامة.
شرح الاخبار ج 3 ص 113، مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 382 ومصادر أخرى للخاصة.
(2) مجمع الزوائد ج 9 ص 184، المعجم الأوسط ج 1 ص 108 و ج 7 ص 148، كنز العمال ج 12
ص 121، تاريخ بغداد ج 2 ص 235، تاريخ مدينة دمشق ج 13 ص 228، أسد الغابة ج 1 ص 178، لسان
الميزان ج 1 ص 257، ترجمة الإمام الحسن (عليه السلام) ص 119 ومصادر أخرى للعامة.
روضة الواعظين ص 166، شرح الاخبار ج 3 ص 112، الارشاد ج 2 ص 127، الأمالي للطوسي
ص 406 ومصادر أخرى للحاصة.
(3) مجمع الزوائد ج 9 ص 184، المعجم الأوسط ج 6 ص 298، المعجم الكبير ج 3 ص 67، نظم درر
السمطين ص 213، كنز العمال ج 12 ص 118، تاريخ مدينة دمشق ج 13 ص 229، ينابيع المودة ج 2
ص 220 و ج 3 ص 38 ومصادر أخرى للعامة.
الأمالي للصدوق ص 522 المجلس السابع والستون ح 2، كفاية الأثر ص 98، روضة الواعظين
ص 122، مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 2 ص 411 و 593، شرح الأخبار ج 1 ص 119 ومصادر أخرى
للخاصة.
(4) راجع صفحة:
324
وشجاعته (1)، وغير ذلك مما جاء في مناقبهما من الفضائل الخلقية والخلقية
والعلمية والعملية، مما ملأت كتب التفسير والحديث والرجال والتاريخ، ومع
ذلك جوزوا استبدال الحسن بمعاوية، والحسين بيزيد بملاك بيعة الأكثرية الذين
لا يعقلون.
وأخذوا ما استندوا إليه عن معاوية، حيث قال للحسن بن علي (عليهما السلام): أنا خير
منك يا حسن، قال: وكيف ذلك يا بن هند، قال: لأن الناس قد أجمعوا علي
ولم يجمعوا عليك. قال: هيهات، هيهات، لشر ما علوت يا بن آكلة الأكباد، المجتمعون عليك رجلان،
بين مطيع ومكره، فالطائع لك عاص لله، والمكره معذور بكتاب الله، وحاش لله أن أقول: أنا خير منك،
فلا خير فيك، ولكن الله برأني من الرذائل كما برأك من الفضائل (2).
نقل ابن أبي الحديد عن أبي الفرج: خطب معاوية بالكوفة حين دخلها،
والحسن والحسين جالسان تحت المنبر، فذكر عليا، فنال منه، ثم نال من
الحسن، فقام الحسين ليرد عليه، فأخذه الحسن بيده فأجلسه، ثم قام فقال: أيها
الذاكر عليا، أنا الحسن وأبي علي، وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمي فاطمة وأمك هند، وجدي رسول الله،
وجدك عتبة بن ربيعة، وجدتي خديجة وجدتك قتيلة. فلعن الله أخملنا ذكرا وألأمنا حسبا، وشرنا قديما
وحديثا، وأقدمنا كفرا ونفاقا، فقال طوائف من أهل المسجد: آمين. قال الفضل: قال
يحيى بن معين وأنا أقول آمين.
قال أبو الفرج قال أبو عبيد قال الفضل وأنا أقول آمين، ويقول علي بن
الحسين الاصفهاني آمين، قلت: ويقول عبد الحميد بن أبي الحديد مصنف هذا



(1) راجع صفحة:
(2) مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 22.
325
الكتاب آمين (1).
* * *
صلحه (عليه السلام) مع معاوية بن أبي سفيان
لابد من التعرف على طرفي هذا العقد، ونفس العقد، ولا مجال إلا للإشارة
إلى الثلاثة.
أما معاوية فالكتب مملوءة من ارتكابه الكبائر الموبقة، منها البغي، قال الله
سبحانه: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على
الأخرى فقاتلوا التي تبغى حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل
وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} (2).
مع أن عليا (عليه السلام) كان خليفة بإجماع الأمة، وكان ما استدل به على استحقاق
الخلافة والإمامة - من الكتاب والسنة والإجماع - منطبقا عليه، خرج معاوية
عليه وفارق الجماعة، فانطباق الباغي عليه، والبغي على عمله لا يحتاج إلى بيان.
وقد نص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على بغيه، ونقتصر على ما رووا عن عمارة بن
خزيمة بن ثابت، قال: شهد خزيمة بن ثابت الجمل، وهو لا يسل سيفا، وشهد
صفين، قال: أنا لا أضل أبدا بقتل عمار، فانظر من يقتله، فإني سمعت رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: تقتلك الفئة الباغية.
قال: فلما قتل عمار، قال خزيمة: قد حانت له الضلالة، ثم أقرب، وكان الذي



(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 16 ص 47 مقاتل الطالبيين ص 46، مناقب آل أبي طالب ج 4
ص 36.
(2) سورة الحجرات: 9.
326
قتل عمارا أبو غادية المزني طعنه بالرمح، فسقط، فقاتل حتى قتل، وكان يومئذ
يقاتل وهو ابن أربع وتسعين. فلما وقع كب عليه رجل آخر، فاجتز رأسه، فأقبلا
يختصمان كل منهما يقول: أنا قتلته، فقال عمرو بن العاص: والله إن يختصمان إلا
في النار، فقال عمرو: هو والله ذاك والله إنك لتعلمه، ولوددت إني مت قبل هذا
بعشرين سنة (1).



(1) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 385 وقد ذكر في هذا الكتاب أكثر من عشرين حديثا تدل على
كون عمار على الحق وأن قاتله الفئة الباغية و...، وقد صحح كثيرا منها الذهبي في تلخيصه، وقد
وردت الأحاديث الدالة على هذا الأمر في كثير من كتب العامة والخاصة نذكر بعضها: الطبقات الكبرى
ج 3 ص 259 و 248، مجمع الزوائد ج 7 ص 242 و ج 9 ص 295، المعجم الكبير ج 10 ص 96، شرح
نهج البلاغة ج 3 ص 98، كنز العمال ج 11 ص 198 و 721، تاريخ بغداد ج 13 ص 188، تاريخ مدينة
دمشق ج 42 ص 472 و ج 43 ص 404 و 406، سير أعلام النبلاء ج 1 ص 416، البداية والنهاية ج 6
ص 239 و ج 7 ص 300، فضائل الصحابة ص 51، مسند أحمد ج 2 ص 161 و 164 و 206 و ج 3
ص 22 و 28 و 91 و ج 4 ص 197 و 199 و ج 5 ص 214 و 306 و 307 و ج 6 ص 300 و 311 و 315،
صحيح البخاري ج 3 ص 207، صحيح مسلم ج 8 ص 186، سنن الترمذي ج 5 ص 333، المستدرك
على الصحيحين ج 2 ص 148 و 155 و...، السنن الكبرى للبيهقي ج 8 ص 189، مسند أبي داود
الطيالسي ص 84 و 90 و 223 و 288، المصنف ج 11 ص 240، مسند ابن الجعد ص 182 و 246، مسند
ابن راهويه ج 4 ص 111 و 146، بغية الباحث ص 303، مسند أبي يعلى ج 3 ص 189 و 209 و ج 7
ص 195 و ج 11 ص 403 و ج 12 ص 424، الآحاد والمثاني ج 3 ص 436 و ج 5 ص 172، السنن
الكبرى للنسائي ج 5 ص 75 و 155 و 156 و 157، خصائص أمير المؤمنين (عليه السلام) ص 132 و...، صحيح
ابن حبان ج 15 ص 131 و 553 و...، المعجم الصغير ج 1 ص 187، المعجم الأوسط ج 6 ص 249 و ج 7
ص 291 و ج 8 ص 44 و 252، المعجم الكبير ج 1 ص 320 و ج 4 ص 85 و 168 و ج 5 ص 221 و 266
و ج 19 ص 170 و 331 و 396 و ج 23 ص 363 و...، الطبقات الكبرى ج 1 ص 241 و ج 3 ص 248
و 251 و...، سير أعلام النبلاء ج 1 ص 142 و 419 و... و ج 2 ص 452 وموارد أخرى من هذا الكتاب
ومصادر أخرى للعامة كثيرة جدا يصعب ذكرها.
الاقتصاد ص 181، عيون أخبار الرضا ج 2 باب 31 ح 269، كمال الدين وتمام النعمة ص 531، معاني
الأخبار ص 35، كفاية الأثر ص 121، مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 1 ص 515 و ج 2 ص 350 و...،
المسترشد ص 657 و 658 و 664 و...، شرح الأخبار ج 1 ص 407... و ج 2 ص 15 و 72 و 526 وموارد
أخرى من هذا الكتاب، الاختصاص ص 14، الاحتجاج ج 1 ص 267 و.... ومصادر أخرى للخاصة
كثيرة جدا يصعب ذكرها.
327
فما يقال في الرجل الذي شق عصا المسلمين، وفارق الجماعة وخالف
الكتاب والسنة والعقل وإجماع الأمة؟!
وهو مهدور الدم بحكم الله في القرآن {فقاتلوا التي تبغى حتى تفئ إلى أمر
الله}، وأسس الفئة الباغية التي إحدى سيئاتها قتل عمار الذي رووا في الصحيح
عن النبي (صلى الله عليه وآله) في حقه: مرحبا بالطيب المطيب (1)، وفي الصحيح أن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
مر بعمار وأهله، وهم يعذبون، فقال: أبشروا آل عمار وآل ياسر فإن موعدكم الجنة (2)، وفي



(1) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 388، وفي التلخيص أيضا، مسند أحمد ج 1 ص 100 و 126
و 130، سنن ابن ماجة ج 1 ص 52، سنن الترمذي ج 5 ص 332، مصنف ابن أبي شيبة ج 7 ص 217
و 524، أدب المفرد ص 221، مسند أبي يعلى ج 1 ص 324 و...، صحيح ابن حبان ج 15 ص 551،
المعجم الصغير ج 1 ص 87، المعجم الأوسط ج 5 ص 102، التاريخ الكبير ج 8 ص 229، تاريخ بغداد
ج 1 ص 162 و ج 6 ص 153 و ج 13 ص 316، تاريخ مدينة دمشق ج 43 ص 386 و...، أسد الغابة ج 4
ص 45، تهذيب الكمال ج 21 ص 222، سير أعلام النبلاء ج 1 ص 413، تهذيب التهذيب ج 7 ص 358
ومصادر أخرى كثيرة للعامة.
المسترشد ص 656، شرح الأخبار ج 1 ص 411، الاحتجاج ج 1 ص 267 ومصادر أخرى للخاصة.
(2) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 383 و 388، مجمع الزوائد ج 9 ص 293، المعجم الأوسط ج 2
ص 141، المعجم الكبير ج 24 ص 203، شرح نهج البلاغة ج 13 ص 255 و ج 2 ص 26، كنز العمال
ج 11 ص 727 و...، الطبقات الكبرى ج 3 ص 249 و ج 4 ص 137، تاريخ بغداد ج 1 ص 161 و ج 11
ص 342، تاريخ مدينة دمشق ج 43 ص 360 و 368 و...، أسد الغابة ج 4 ص 44 و ج 5 ص 99 ومصادر
أخرى للعامة.
الاحتجاج ج 1 ص 266، روضة الواعظين ص 286، بحار الأنوار ج 18 ص 210 ومصادر أخرى
للخاصة.
328
الصحيح عنه (صلى الله عليه وآله): من يسب عمارا يسبه الله، ومن يعاد عمارا يعاده الله (1).
ومن كبائر معاوية التي ثقلت في السماوات والأرض سب أمير
المؤمنين (عليه السلام).
وقد رووا في الصحيح عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): من سب عليا فقد سبني (2)، وفي آخر:
من سب عليا فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله تعالى (3).
ومن كان له أدنى معرفة بمبادئ الفقاهة يعلم أن مقتضى التنزيل في
الموضوع التوسع في دائرة الأحكام المترتبة على المنزل عليه بالنسبة إلى



(1) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 389، وفي التلخيص أيضا وص 390، فضائل الصحابة ص 50،
مسند أحمد ج 4 ص 90، السنن الكبرى للنسائي ج 5 ص 74، كنز العمال ج 11 ص 726، تاريخ مدينة
دمشق ج 43 ص 399، تهذيب الكمال ج 25 ص 652، سير أعلام النبلاء ج 1 ص 415 و ج 9 ص 367
ومصادر أخرى للعامة.
(2) مسند أحمد بن حنبل ج 6 ص 323، المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 121، مجمع الزوائد ج 9
ص 130، السنن الكبرى للنسائي ج 5 ص 133، خصائص أمير المؤمنين (عليه السلام) ص 99، تاريخ مدينة
دمشق 42 ص 266 ومصادر أخرى للعامة.
الأمالي للطوسي ص 86 المجلس الثالث ح 39، مناقب أمير المؤمنين ج 2 ص 598 ومصادر أخرى
للخاصة.
(3) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 121، نظم درر السمطين ص 105، الجامع الصغير ج 2 ص 608،
تاريخ مدينة دمشق ج 14 ص 132 و ج 30 ص 179 و ج 42 ص 533، ذخائر العقبى ص 66، كنز
العمال ج 11 ص 573 و 602، فيض القدير ج 6 ص 190 ومصادر أخرى للعامة.
عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 67 باب 31 ح 308، الأمالي للصدوق ص 157 المجلس الحادي
والعشرون ح 2، مناقب أمير المؤمنين ج 2 ص 600، شرح الأخبار ج 1 ص 155 و 156 و 167 و 171،
الاحتجاج ج 1 ص 205 و 420 ومصادر أخرى للخاصة.
329
المنزل، إلا أن تقوم حجة على تقييد إطلاق التنزيل، ولم يقم في المقام من كتاب
ولا سنة ولا إجماع مقيد لهذا التنزيل، ومن أحكام سب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسب الله
تعالى هو الارتداد والكفر (1).
ولا تعارض بين هذه الرواية وما عن أبي برزة، قال: أغلظ رجل لأبي
بكر (رضي الله عنه)، فقلت: يا خليفة رسول الله ألا أقتله، فقال: ليس هذا إلا لمن شتم
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (2)، لاستحالة التعارض بين الحاكم والمحكوم، فإن هذه الرواية تثبت
القتل لشتم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتلك الرواية تثبت أن شتم علي (عليه السلام) هو شتم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
نعم هذه الرواية حجة قاطعة على عدم جواز قتل أحد لسب أبي بكر وعمر
وعثمان وبطلان قول من حكم بجواز قتل ساب الثلاثة، ولو تنزلنا عما ذكرنا
فلا ريب في أن سب علي (عليه السلام) بمقتضى الكتاب والسنة من أعظم الكبائر، فكيف لا
يسقطون أمارته عن الاعتبار، ويمنعون عن ذكره بسوء، مع أنه من أكبر الفساق
والفجار.
ويكفي في شأنه ما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام) المضمون عصمته من الله بآية
التطهير (3)، ومن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: علي مع الحق والحق مع علي (4)، ونقتصر من جميع ما



(1) المغني ج 10 ص 75، حاشية المختار ج 4 ص 419، المجموع ج 19 ص 427، كشف القناع ج 6
ص 214، نيل الأوطار ج 1 ص 368 ومصادر أخرى للعامة.
الخلاف ج 5 ص 340، شرح الأخبار ج 1 ص 156 ومصادر أخرى للخاصة.
(2) المستدرك على الصحيحين ج 4 ص 355، المحلى لابن حزم ج 11 ص 410.
(3) راجع ص
(4) مجمع الزوائد ج 7 ص 235، تاريخ بغداد ج 14 ص 322 في ترجمة يوسف بن محمد المؤدب،
تاريخ مدينة دمشق ج 20 ص 361 و ج 42 ص 419 و 449 و ج 20 ص 361، ينابيع المودة ج 1
ص 173، المعيار والموازنة ص 28 و 35 و 119 وموارد أخرى، شواهد التنزيل ج 2 ص 481، شرح
نهج البلاغة ج 2 ص 297 و ج 18 ص 72 ومصادر أخرى للعامة.
الخصال ص 499 و 559، الأمالي للصدوق ص 83 المجلس الثامن ح 4 وص 150 المجلس العشرون
ح 1، كفاية الأثر ص 18 و 20 و 117 و...، روضة الواعظين ص 100، مناقب أمير المؤمنين ج 1
ص 369 و 422.. و ج 2 ص 530، المسترشد ص 297 و 497، شرح الأخبار ج 1 ص 207 و ج 2 ص 60
و 67 و 119 و 525، الفصول المختارة ص 97 و 135 و 211 و... الأمالي للطوسي ص 548 و 731،
الاحتجاج ج 1 ص 97 و 116 و 215 ومصادر أخرى للخاصة.
330
قاله (عليه السلام) بما كتبه إلى أهل العراق: (فأيقظوا رحمكم الله نائمكم، واجمعوا على حقكم، وتجردوا
لحرب عدوكم، قد أبدت الرغوة عن الصريح، وبان الصبح لذي عينين، إنما تقاتلون الطلقاء وأبناء الطلقاء،
وأولي الجفاء، ومن أسلم كرها وكان لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنف الإسلام كله حربا، أعداء الله والسنة والقرآن،
وأهل الأحزاب والبدع والأحداث، ومن كانت بوائقه تتقى، وكان على الإسلام مخوفا، أكلة الرشا وعبدة
الدنيا) (1).
هذا معاوية ابن أبي سفيان من وراء الظلمات التي بعضها فوق بعض.
*
وأما الحسن بن علي (عليهما السلام) فهو الذي حبه حب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبغضه بغضه
وحب الرسول وبغضه حب الله وبغضه، وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: خرج
علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومعه الحسن والحسين على عاتقيه وهو يلثم هذا مرة وهذا
مرة حتى انتهى إلينا فقال له رجل: يا رسول الله إنك تحبهما؟ فقال: نعم، من أحبهما
فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني (2)، وهو الذي أذهب الله عنه الرجس وطهره



(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 6 ص 99، الإمامة والسياسة ج 1 ص 178، كشف المحجة
ص 186 - بحار الأنوار ج 30 ص 24.
(2) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 166، وفي التلخيص أيضا و ص 171، مسند أحمد ج 2 ص 288
و 440 و 531، مجمع الزوائد ج 9 ص 179 و 181، تهذيب الكمال ج 6 ص 228، الإصابة ج 2 ص 62،
فضائل الصحابة ص 20، السنن الكبرى للبيهقي ج 4 ص 29، المصنف لعبد الرزاق ج 3 ص 472، مسند
ابن راهويه ج 1 ص 248، السنن الكبرى للنسائي ج 5 ص 49، المعجم الكبير ج 3 ص 48 و 50، نظم
درر السمطين ص 205 و 209 و...، تاريخ مدينة دمشق ج 13 ص 198 و 199 و 294 و ج 14
ص 123 و 152 و 156 ومصادر أخرى كثيرة للعامة يصعب ذكرها.
مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 282، بحار الأنوار ج 27 ص 106 و ج 43 ص 281 روضة الواعظين
ص 166، مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 2 ص 222 و 235 و 243 و 246 و.... شرح الاخبار ج 3
ص 109 و 531، الارشاد ج 2 ص 28 ومصادر أخرى للخاصة.
331
تطهيرا (1)، والتدبر في إطلاق الرجس الذي أذهب الله عنه، والطهارة التي طهره بها
يغني عن كل منقبة.
وقد اختاره الله للمباهلة (2) التي هي منزلة من تستجاب له دعوته، ولا ترد
طلبته، وهو رابع أهل الكساء (3)، وثالث من نزلت في شأنه سورة هل أتى (4)،
وممن جعل الله مودته أجر الرسالة العظمى (5)، وهو ممن يصلي عليه كل مصل في
كل صلاة في كل غداة وعشاء (6)، وهو ممن قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في حقهم: أنا حرب لمن
حاربكم وسلم لمن سالمكم (7)، وهو وأخوه سبطا هذه الأمة (8)، وسيدا شباب أهل



(1) راجع صفحة:
(2) راجع صفحة:
(3) راجع صفحة:
(4) راجع صفحة:
(5) إشارة إلى الآية الشريفة {قل لا أسئلكم عليه اجرا الا المودة في القربى} سوره الشورى: 23.
(6)
(7) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 149، مسند أحمد بن حنبل ج 2 ص 442، وراجع صفحة:
(8) مجمع الزوائد ج 9 ص 165 و 166 و 181، المعجم الصغير ج 1 ص 37 - المعجم الأوسط ج 6
ص 327، المعجم الكبير ج 3 ص 23 و 58 و 60 و ج 22 ص 274، ينابيع المودة ج 1 ص 241 و ج 2
ص 210 و ج 3 ص 264 و 269 و 389، ذخائر العقبى ص 44 مسند الشاميين ج 3 ص 184، الجامع
الصغير ج 1 ص 575، التاريخ الكبير ج 8 ص 415، تاريخ مدينة دمشق ج 14 ص 149، النهاية في
غريب الحديث في كلمة سبط، كنز العمال ج 12 ص 116 و 119 و 129 و ج 13 ص 662 ومصادر
أخرى للعامة.
الخصال ص 412 باب الثمانية ح 16 وص 555، كفاية الأثر ص 63، مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 1
ص 389 و ج 2 ص 231، الإرشاد ج 1 ص 37، الطرائف ص 412، المناقب ص 314، المسترشد
ص 580 و 613 و...، شرح الأخبار ج 1 ص 118 و 123 و ج 2 ص 510، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2
ص 268 باب 68، عمدة الطالب ص 68، الأمالي للطوسي ص 333، الاحتجاج ج 1 ص 190 ومصادر
أخرى للخاصة.
332
الجنة (1)، وكيف تحصى فضائله وقد شهد سيد ولد آدم بسيادته بقوله: إن ابني هذا
سيد (2).



(1) فضائل الصحابة ص 58 و 76، مسند أحمد ج 3 ص 3 و 62 و 64 و 82 و ج 5 ص 391 و 392، سنن ابن
ماجة ج 1 ص 44، سنن الترمذي ج 5 ص 321 و 326، المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 167 وفي
التلخيص أيضا وص 381، مجمع الزوائد ج 9 ص 165 و 182 و... و 201، المعيار والموازنة ص 151
و 206 و 323، مصنف ابن أبي شيبة ج 7 ص 512، بغية الباحث ص 297، السنن الكبرى للنسائي ج 5
ص 50 و 81 و 95 و 145 و...، خصائص أمير المؤمنين (عليه السلام) ص 118 و...، مسند أبي يعلى ج 2
ص 395، المعجم الأوسط ج 2 ص 347 و ج 4 ص 325 و ج 5 ص 243 و ج 6 ص 10 و 238 و 327،
المعجم الكبير ج 3 ص 35، تاريخ بغداد ج 1 ص 150 و ج 3 ص 181 و ج 6 ص 369 و... مصادر أخرى
للعامة كثيرة جدا يصعب ذكرها.
علل الشرائع ج 1 ص 209 باب 156 ح 12، الخصال ص 320 و 551 و 575، الأمالي للصدوق ص 74
المجلس السادس ح 5، وص 112 و 187 و 524 و 560 و 575 و 652، كمال الدين وتمام النعمة
ص 60 و 258 و 263 و 669، معاني الأخبار ص 124، كفاية الأثر ص 38 و 100 و 102 و 124 و 144
روضة الواعظين ص 98 و 157، الأمالي للمفيد ص 23، مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 1 ص 543 و ج 2
ص 222 ومصادر أخرى للخاصة كثيرة جدا يصعب ذكرها.
(2) مسند أحمد بن حنبل ج 5 ص 38 و 44 وموارد أخرى منه، صحيح البخاري ج 3 ص 169 باب
الصلح مع المشركين و ج 4 ص 183 و ج 8 ص 99، سنن أبي داود ج 2 ص 311 و 405، سنن الترمذي
ج 5 ص 323، عون المعبود ج 11 ص 250، كنز العمال ج 13 ص 673 ومصادر أخرى للعامة.
كتاب الغيبة للنعماني ص 214، كتاب الغيبة للطوسي 190، العمدة 434 و 437، الطرائف ص 177
ومصادر أخرى للخاصة.
333
*
هذه أشعة من أنوار المصباح الذي حياته نور على نور.
وأما عقد الصلح فلابد من النظر إلى ما وقع عليه العقد وسببه، وما ترتب
عليه، ونقتصر على إشارة إجمالية إلى الجهات الثلاث:
الجهة الأولى: فمما وقع عليه العقد: أن الإمام (عليه السلام) لا يسمى معاوية بأمير
المؤمنين، ولا يقيم عنده شهادة، وعلى أن لا يتعقب على شيعة علي (عليه السلام) شيئا،
وعلى أن يفرق في أولاد من قتل مع أبيه يوم الجمل وأولاد من قتل مع أبيه
بصفين ألف ألف درهم، وأن يجعل ذلك من خراج دار ابجرد (1).
وبالجملة الأولى أبطل أمارته للمؤمنين، فإنه الذي لا امارة له من الله ولا من
رسوله ولا من المؤمنين، حتى على القول بانعقاد الإمامة ببيعة أهل الحل والعقد
فإنه لابد من الأهلية المستتبعة لشروط، منها العدالة بالضرورة، فلا يمكن عقلا
ولا شرعا إمامة الفاسق على المؤمنين، {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا
يستوون} (2) وأي فسق أعظم من سب من سبه سب الله، والبغي على خليفة
رسول الله، وإراقة دماء من تولى ولي الله، والمخالفة لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وبالجملة الثانية أثبت عدم لياقته للحكم في حق الله وحق الناس، مع أن الله



(1) بحار الأنوار ج 44 ص 3 - علل الشرائع ج 1 ص 210 باب 159 العلة التي من أجلها صالح الحسن بن
علي صلوات الله عليه.
(2) سورة السجدة: 18.
334
سبحانه قال: {وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر} (1).
وبالجملة الثالثة أتم الحجة على كل مسلم، بأن شرط على معاوية أن
لا يتعقب على شيعة علي شيئا، وقد ظهر منه نقض العهد على رؤس الأشهاد
بسفك الدماء المعصومة من العباد والزهاد من شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى أن
جنى جناية ليست فوقها جناية حيث صار سببا لقتل ريحانة الرسول وسيد
شباب أهل الجنة، وقد روى أعيان أهل الحديث من العامة بأن ابنة الأشعث بن
قيس سمت الحسن بن علي ورشيت على ذلك (2)، وتظافرت أقوال أعيان التاريخ
والحديث على أن الراشي كان معاوية.
منهم الزمخشري، قال: جعل معاوية لجعدة بنت الأشعث امرأة الحسن مئة
ألف درهم حتى سمته (3)، ومع ذلك كله يمسكون عن إحقاق الحق وإبطال
الباطل، والدفاع عن الظلم الذي جرى على رسول الله في ابنه الذي رووا في
الصحيح أنه أو أخيه ركب ظهره في حال السجود فلم يرفع رأسه، ولما سألوه
وقالوا: يا رسول الله لقد سجدت في صلاتك هذه سجدة ما كنت تسجدها، أفشئ
أمرت به أو كان يوحى إليك؟ قال: كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله
حتى تقضي حاجته (4).



(1) سورة الطلاق: 2.
(2) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 176، وتلخيص الذهبي ج 3 ص 176.
(3) ربيع الأبرار للزمخشري باب 81 وراجع أيضا: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 16 ص 11 وص
وص وص - تهذيب الكمال ج 6 ص 252 و 253 - سير أعلام النبلاء ج 3 ص 274، الأعلام للزركلي
ج 2 ص 200 - ترجمة الإمام الحسن (عليه السلام) ابن عساكر ص 209، مقاتل الطالبيين ص 48، تاريخ مدينة
دمشق ج 13 ص 284، البداية والنهاية ج 8 ص 47، ومصادر أخرى للعامة.
(4) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 166 - مسند أحمد بن حنبل ج 3 ص 494 و ج 6 ص 467 - سنن
النسائي ج 2 ص 230، السنن الكبرى للبيهقي ج 2 ص 263، مصنف ابن أبي شيبة ج 7 ص 514، الآحاد
والمثاني ج 2 ص 188، السنن الكبرى للنسائي ج 1 ص 243، المعجم الكبير ج 7 ص 271، كنز العمال
ج 12 ص 124 و ج 13 ص 668، تاريخ مدينة دمشق ج 13 ص 216 و ج 14 ص 160 و...، أسد الغابة
ج 2 ص 389، تهذيب الكمال ج 6 ص 402، تهذيب التهذيب ج 2 ص 299 ومصادر أخرى للعامة.
علل الشرائع ج 1 ص 174 باب 139 ح 1، شرح الأخبار ج 3 ص 117، مناقب آل أبي طالب ج 4
ص 24 ومصادر أخرى للخاصة.
335
ورووا في الصحيح عندهم عن أبي هريرة كنا نصلي العشاء مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره وإذا رفع أخذهما فوضعهما وضعا
رفيقا فإذا عاد عادا فلما صلى جعل واحدا هاهنا وواحدا هاهنا، فقلت يا
رسول الله ألا أذهب بهما إلى أمهما؟ قال: لا، فبرقت برقة فقال ألحقا بأمكما فما
زالا يمشيان في ضوئها حتى دخلا (1).
وأما الجهة الثانية: وهي سبب الصلح، والجهة الثالثة وهي ما ترتب عليه
تظهر مما: فإن السنة الإلهية في الإمامة المجعولة لأئمة الهدى هي الصبر على ما
ابتلوا بها، قال سبحانه: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا} (2)، {وإذ ابتلى
إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما} (3).
وإمامة أئمة هذه الأمة بمقتضى الخلافة لمقام الرسالة الخاتمية أرفع
درجات الإمامة، فلا محالة تقتضي الإشتراط بأعلى مراتب الصبر على البلاء



(1) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 167 وفي التلخيص أيضا، ذخائر العقبى ص 131، المعجم
الكبير ج 3 ص 52، البداية والنهاية ج 6 ص 168، ترجمة الإمام الحسن (عليه السلام) ص 88 و 150 و...
ومصادر أخرى للعامة.
مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 2 ص 277، الثاقب في المناقب ص 99 ومصادر أخرى للخاصة.
(2) سورة السجدة: 24.
(3) سورة البقرة: 124.
336
والزهد في زخارف الدنيا (اللهم لك الحمد على ما جرى به قضاؤك في أوليائك الذين استخلصتهم
لنفسك ودينك، إذا اخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيم الذي لا زوال له ولا اضمحلال بعد أن
شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنية) (1).
ويظهر هذا لمن تأمل في حياة الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وابتلائهم بطواغيت
الزمان، والمصائب التي جرت عليهم وعلى أولادهم ومن اختص بهم.
وقد ابتلى السبط الأكبر بمصيبة تظهر عظمتها من مقايسة أصحابه بأصحاب
أخيه الحسين (عليه السلام)، لما قام الحسين خطيبا في أصحابه، وقال: فإني لا أرى الموت إلا
سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما، قال زهير بن القين: ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيه
مخلدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها.
وقال هلال بن نافع البجلي: والله ما كرهنا لقاء ربنا، وإنا على نياتنا وبصائرنا،
نوالي من والاك ونعادي من عاداك.
وقال برير بن خضير: والله يا ابن رسول الله لقد من الله بك علينا أن نقاتل بين
يديك فتقطع فيك أعضاؤنا ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة (2).
وفي الصحيح عن علي بن الحسين (عليهما السلام): كنت مع أبي في الليلة التي قتل في
صبيحتها، فقال لأصحابه: هذا الليل فاتخذوه جنة، فإن القوم إنما يريدوني، ولو قتلوني لم
يلتفتوا إليكم، وأنتم في حل وسعة، فقالوا: والله لا يكون هذا أبدا، فقال: إنكم تقتلون غدا
كلكم، ولا يفلت منكم رجل، قالوا: الحمد لله الذي شرفنا بالقتل معك (3).
وأما الحسن (عليه السلام) فخطب بعد وفاة أبيه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما والله



(1) المزار للمشهدي ص 574.
(2) اللهوف في قتلى الطفوف ص 48 - بحار الأنوار ج 44 ص 381.
(3) الخرائج والجرائح ج 2 ص 848.
337
ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلة ولا قلة، ولكن كنا نقاتلهم بالسلامة والصبر، فشيب السلامة بالعداوة
والصبر بالجزع، وكنتم تتوجهون معنا ودينكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم، وكنا لكم
وكنتم لنا، وقد صرتم اليوم علينا.
ثم أصبحتم تصدون قتيلين: قتيلا بصفين تبكون عليهم، وقتيلا بالنهروان تطلبون بثأرهم، فأما
الباكي فخاذل، وأما الطالب فثائر.
وإن معاوية قد دعا إلى أمر ليس فيه عز ولا نصفة، فإن أردتم الحياة قبلناه منه، وأغضضنا عن
القذى، وإن أردتم الموت بذلناه في ذات الله وحاكمناه إلى الله.
فنادى القوم بأجمعهم: بل البقية والحياة (1).
ولما وجه إلى معاوية قائدا في أربعة آلاف، وكان من كندة، وأمره أن يعسكر
بالأنبار، كتب إليه معاوية: إن أقبلت إلي وليتك بعض كور الشام، أو الجزيرة، غير
منفس عليك، وأرسل إليه بخمسمائة ألف درهم، فقبض الكندي المال وقلب
على الحسن (عليه السلام)، وصار إلى معاوية في مائتي رجل من خاصته وأهل بيته.
فبلغ ذلك الحسن (عليه السلام) فقام خطيبا وقال: هذا الكندي توجه إلى معاوية وغدر
بي وبكم، وقد أخبرتكم مرة بعد أخرى أنه لا وفاء لكم، أنتم عبيد الدنيا، وأنا
موجه رجلا آخر مكانه، وأنا أعلم أنه سيفعل بي وبكم ما فعل صاحبه، لا يراقب
الله في ولا فيكم.
فبعث إليه رجلا من مراد في أربعة آلاف، وتقدم إليه بمشهد من الناس،
وتوكد عليه، وأخبره أنه سيغدر كما غدر الكندي، فحلف له بالأيمان التي لا تقوم
لها الجبال أنه لا يفعل. فقال الحسن (عليه السلام): إنه سيغدر.



(1) بحار الأنوار ج 44 ص 21 - الطرائف ص 198، تاريخ مدينة دمشق ج 13 ص 268، أسد الغابة ج 2
ص 13 - سير أعلام النبلاء ج 3 ص 269 ومصادر أخرى للعامة والخاصة.
338
فلما توجه إلى الأنبار، أرسل معاوية إليه رسلا، وكتب إليه بمثل ما كتب إلى
صاحبه وبعث إليه بخمسمائة ألف درهم، ومناه أي ولاية أحب من كور الشام، أو
الجزيرة، فقلب على الحسن (عليه السلام) وأخذ طريقه إلى معاوية، ولم يحفظ ما أخذ عليه
من العهود، وبلغ الحسن (عليه السلام) ما فعل المرادي.... (1).
وكتب أكثر أهل الكوفة إلى معاوية، فإنا معك، وإن شئت أخذنا الحسن
وبعثناه إليك، ثم أغاروا على فسطاطه وضربوه بحربة، ثم كتب جوابا لمعاوية: إنما
هذا الأمر لي، والخلافة لي ولأهل بيتي، وإنها محرمة عليك وعلى أهل بيتك، سمعته من رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والله لو وجدت صابرين عارفين بحقي غير منكرين ما سلمت لك ولا أعطيتك ما تريد (2).
فكما أنه قال (عليه السلام): فإن أردتم الموت بذلناه في ذات الله، وحاكمناه إلى الله، لو كان له
أصحاب مثل ما كان لأخيه لكان له يوم كيوم الحسين (عليه السلام)، ولكن الذين كانوا
حوله كانت قلوبهم مع معاوية، ولو قام لم يتيسر مراده من بذل نفسه في ذات الله،
بل تحقق ما أراده معاوية وهو أن يمحو العفو والكرامة التي ظهرت من جده
رحمة الله على العالمين، عليه وعلى أبيه من المشركين، حيث قال (صلى الله عليه وآله وسلم): لا
تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء (3)، وأن يزيل عار الطليق ابن الطليق عن
نفسه وعن أبيه بالسيطرة على الإمام فيمن على رسول الله وأوصيائه المعصومين
بالعفو عنه (عليه السلام)، ويجعل عار الطليق على سيد الأحرار فيصير صاحب الفئ فيئا،
وكان هذا هوانا وذلا على الرسول وأوصيائه وعلى علي وأولاده (عليهم السلام) إلى يوم



(1) الخرائج والجرائح ج 2 ص 575.
(2) الخرائج والجرائح ج 2 ص 576.
(3) فيض القدير ج 5 ص 218، فتح القدير ج 2 ص 60، الثقات ج 2 ص 56، تاريخ الطبري ج 2 ص 337،
البداية والنهاية ج 4 ص 344، سبل السلام ج 4 ص 45 ومصادر أخرى للعامة.
الكافي ج 3 ص 513، التهذيب ج 4 ص 38، بحار الأنوار ج 21 ص 106 ومصادر أخرى للخاصة.
339
القيامة.
ومعاوية هو الذي كتب عنه أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى زياد بن أبيه: إن معاوية
كالشيطان الرجيم يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فاحذره، ثم احذره، ثم
احذره، والسلام (1).
إلا أن الذي كان ينظر بنور الله، وينطق بحكمة الله، ويفعل بإرادة الله، بقعوده
عن القتال أبطل الباطل، وأحق الحق، وحفظ عزة الرسول، ومقام الرسالة،
وحرمة الوصي، ومنصب الإمامة، ومنع عن إراقة دماء الأمة، وصان كيان
الإسلام، لكيلا يترصد الكفار لاغتنام الفرصة من تشتت المسلمين.
عن سدير قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) ومعي ابني: يا سدير اذكر لنا أمرك الذي أنت عليه،
فإن كان فيه إغراق كففناك عنه، وإن كان مقصرا أرشدناك، قال: فذهبت أن، أتكلم فقال
أبو جعفر (عليه السلام): أمسك حتى أكفيك، إن العلم الذي وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند علي من عرفه كان
مؤمنا ومن جحده كان كافرا، ثم كان من بعده الحسن (عليه السلام)، قلت: كيف يكون بتلك المنزلة وقد
كان منه ما كان دفعها إلى معاوية؟ فقال: اسكت، فإنه أعلم بما صنع، لولا ما صنع لكان أمر
عظيم (2).
وما أضمره معاوية وإن كان بينا لمن كان من أهل المعرفة بالتاريخ، ومع ذلك
قد بين كما في رواية الجهني عنه (عليه السلام): والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني
إليه سلما، فوالله لئن أسالمه وأنا عزيز، خير من أن يقتلني وأنا أسيره، أو يمن علي فتكون صبة على بني



(1) بحار الأنوار ج 33 ص 519 - الغارات ج 2 ص 927 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 16
ص 182 ومصادر أخرى.
(2) علل الشرائع ج 1 ص 210، باب 159 العلة التي من أجلها صالح الحسن صلوات الله عليه ح 1.
340
هاشم إلى آخر الدهر، ومعاوية لا يزال يمن بها وعقبه على الحي منا والميت (1).
هذا بعض ما ظهر من حكمة قعوده عن قتال معاوية، وما خفي أكثر، وعن
أبي سعيد قال: قلت للحسن بن علي بن أبي طالب: يا بن رسول الله لم داهنت
معاوية وصالحته، وقد علمت أن الحق لك دونه، وأن معاوية ضال باغ؟ فقال: يا أبا
سعيد ألست حجة الله تعالى ذكره على خلقه، وإماما عليهم بعد أبي؟ قلت: بلى. قال: ألست الذي قال
رسول الله لي ولأخي: الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا؟ قلت: بلى، قال: فأنا إذن إمام لو
قمت، وأنا إمام إذا قعدت، يا أبا سعيد علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول الله لبني ضمرة وبني
أشجع، ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية، أولئك كفار بالتنزيل، ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل، يا أبا
سعيد إذا كنت إماما من قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يسفه رأيي فيما أتيت من مهادنة أو محاربة،
وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبسا، ألا ترى الخضر (عليه السلام) لما خرق السفينة، وقتل الغلام، وأقام الجدار
سخط موسى فعله لاشتباه وجه الحكمة عليه، حتى أخبره، فرضي، هكذا أنا، سخطتم علي بجهلكم بوجه
الحكمة فيه، ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قتل (2).
وفي الرواية نكات لابد من التأمل فيها:
الأولى: إرشاده (عليه السلام) إلى حكم العقل والكتاب والسنة، فإن الإمام من الله على
خلقه - لعلمه وعصمته - إمام على العقول والأفكار، ولا يمكن أن يجعل الحكيم
اللطيف الخبير من يحتاج إلى الإرشاد مرشدا، ولا من لم يكن معصوما عن الخطأ
والاعوجاج هاديا إلى الصراط المستقيم، وعاصما للأمة على الدين القويم.
فاتباع من جعله الله حجة وإماما ضرورة عقلية، لأنه يهدي بأمر الله، وقد حكم
الكتاب بالرد إليه، وقرن الرد إليه بالرد إلى الرسول {ولو ردوه إلى الرسول وإلى



(1) الاحتجاج للطبرسي ج 2 ص 10.
(2) علل الشرائع ج 1 ص 210، باب 159 العلة التي من أجلها صالح.. ج 2.
341
أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} (1).
فمن يكون بحكم الله مردودا إليه كيف يجوز الرد عليه، فإن الراد عليه راد
على الرسول، والراد على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) راد على الله تعالى، وقد نص الرسول على
إمامته قام أو قعد، فإن الإمامة الإلهية لا تدور مدار القيام بالأمر.
الثانية: احتج على صلحه بصلح الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنه تأسى بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
وقد قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (2).
الثالثة: أنه (عليه السلام) صالح الكفار بالتأويل، والرسول صالح الكفار بالتنزيل، فإذا
وجب الصلح من الرسول مع الكافر ظاهرا وباطنا عند اقتضاء المصلحة، فالصلح
مع الكافر باطنا والمسلم ظاهرا تجب بالأولوية القطعية، وقد صح في روايات
العامة ما أشار إليه (عليه السلام): فعن أبي سعيد قال: كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فانقطعت نعله
فتخلف علي يخصفها فمشى قليلا، ثم قال: إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن
كما قاتلت على تنزيله، فاستشرف له القوم وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما،
قال أبو بكر: أنا هو؟ قال: لا. قال عمر: أنا هو؟ قال: لا، ولكن خاصف النعل يعني
عليا فأتيناه فبشرناه، فلم يرفع به رأسه، كأنه قد سمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (3).



(1) سورة النساء: 83.
(2) سورة الأحزاب: 21.
(3) المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 123 وفي التلخيص أيضا، وبتفاوت يسير في مسند أحمد بن
حنبل ج 3 ص 33 و 82 - وسنن الترمذي ج 5 ص 298 رقم 3799 - مجمع الزوائد ج 5 ص 186 و ج 9
ص 133 - مصنف ابن أبي شيبة ج 7 ص 497 - السنن الكبرى للنسائي ج 5 ص 128 ومصادر أخرى
للعامة.
الكافي ج 5 ص 11 وبتفاوت يسير في الخصال ص 276 باب الخمسة ح 18 - تهذيب الأحكام ج 6
ص 124 ومصادر أخرى للخاصة.
342
الرابعة: أنه استدل على سد باب الاعتراض على عمل الإمام بما جرى بين
موسى والخضر، الله سبحانه وتعالى عبر عما علمه الخضر بصيغة النكرة، وقال:
{فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما} (1)، ومع ذلك قال
لموسى: {ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا} (2)، فلما بين له الحكمة في عمله،
قال {ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا} (3).
وهو (عليه السلام) إمام من الله، قائم مقام الذي ينزل الله عليه الكتاب تبيانا لكل شئ،
فهو عالم بما في هذا الكتاب، فإذا كان خرق السفينة في البحر ممن علمه الله علما
مقرونا بالحكمة، فكيف بالصلح الذي صدر ممن عنده علم الكتاب.
الخامسة: بين (عليه السلام) وجها من وجوه صلحه بقوله: " ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا
على وجه الأرض أحد إلا قتل " وشيعته الذين حقن دمائهم بصلحه، هم الذين استفاضت
روايات العامة على أنهم خير البرية، وقد قال الهيتمي - مع ما عليه من سعيه لهدم
مباني الشيعة -: من الآيات النازلة في شأن علي {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات
أولئك هم خير البرية} (4) وقال: أخرج الحافظ جمال الدين الزرندي عن ابن
عباس: إن هذه الآية لما نزلت قال (صلى الله عليه وآله) لعلي هو أنت وشيعتك، تأتي أنت وشيعتك يوم
القيامة راضين مرضيين، ويأتي عدوك غضابا مقمحين. قال: ومن عدوي؟ قال: من تبرأ منك ولعنك (5).
هؤلاء شيعة علي (عليه السلام)، وقد كتب معاوية إلى جميع البلدان:



(1) سورة الكهف: 65.
(2) سورة الكهف: 75.
(3) سورة الكهف: 82.
(4) سورة البينة: 7.
(5) نظم درر السمطين ص 92 - شواهد التنزيل ج 2 ص 460 وموارد أخرى من هذا الكتاب، وقريب منه
في الدر المنثور ج 6 ص 379 - فتح القدير ج 5 ص 477 ومصادر أخرى للعامة.
343
انظروا من قبلكم من شيعة علي واتهمتموه بحبه واقتلوه، وإن لم تقم عليه
البينة، فاقتلوهم على التهمة والظنة والشبهة (1).
هذا مختصر مما صالح (عليه السلام) عليه، وما كان سبب صلحه، وما ترتب على
صلحه. ومن تأمل في صلح الحسن (عليه السلام) وحرب الحسين (عليه السلام) ظهر له معنى ما قاله
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا (2).
شهادته (عليه السلام)
واستشهد بالسم الذي دس معاوية إلى جعدة بنت الأشعث بن قيس، بعدما
جاهد في الله حق جهاده، ومضت أيام حياته في طاعة الله وعبادته.
وعندما كان يجود بنفسه، قال له جنادة بن أبي أمية: يا مولاي ما لك لا تعالج
نفسك؟ فقال: يا عبد الله بماذا أعالج الموت؟ قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم التفت إلي وقال: والله إنه لعهد عهده إلينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أن هذا الأمر يملكه إثنا عشر
إماما من ولد علي (عليه السلام) وفاطمة (عليها السلام)، ما منا إلا مسموم أو مقتول...
فقلت: عظني يا بن رسول الله. قال: نعم، استعد لسفرك، وحصل زادك قبل حلول أجلك،
واعلم أنه تطلب الدنيا والموت يطلبك، ولا تحمل هم يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه،
واعلم أنك لا تكسب من المال شيئا فوق قوتك إلا كنت فيه خازنا لغيرك، واعلم أن في حلالها حسابا،
وفي حرامها عقابا، وفي الشبهات عتاب [عتابا]، فأنزل الدنيا بمنزلة الميتة، خذ منها ما يكفيك، فإن كان
ذلك حلالا كنت قد زهدت فيها، وإن كان حراما لم يكن فيه وزر، فأخذت كما أخذت من الميتة، وإن



(1) الاحتجاج للطبرسي ج 2 ص 18، وقريب منه في شرح نهج البلاغة لان أبي الحديد ج 11 ص 44
ومصادر أخرى.
(2) راجع صفحة
344
كان العتاب فإن العتاب يسير.
واعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا، وإذا أردت عزا بلا عشيرة، وهيبة بلا
سلطان فاخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعة الله عز وجل، وإذا نازعتك إلى صحبة الرجال حاجة
فاصحب من إذا صحبته زانك، وإذا خدمته صانك، وإذا أردت منه معونة أعانك، وإن قلت صدق قولك،
وإن صلت شد صولك، وإن مددت يدك بفضل مدها، وإن بدت منك ثلمة سدها وإن رأى منك حسنة
عدها، وإن سألته أعطاك، وإن سكت عنه ابتدأك، وإن نزلت بك أحد [احدى] الملمات أسألك، من لا يأتيك
منه البوائق ولا يختلف عليك منه الطوالق، ولا يخذلك عند الحقائق، وإن تنازعتما منفسا آثرك.
قال: ثم انقطع نفسه، واصفر لونه حتى خشيت عليه (1).
هكذا انقطع نفسه في الدعوة إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة،
وأذهب عن كل من عمل بهذه الكلمات حسرة الفوت وسكرة الموت، وأحيا
بمماته كل نفس بحياة طيبة.
وقال لأخيه: ولقد عرفت من دهاني، ومن أين أتيت، فما أنت صانع به يا أخي؟
فقال الحسين (عليه السلام): اقتله والله. قال: فلا أخبرك به أبدا حتى تلقى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)،
ولكن اكتب: هذا ما أوصى به الحسن بن علي إلى أخيه الحسين بن علي، أوصى
أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنه يعبده حق عبادته، لا شريك له
في الملك، ولا ولي له من الذل، وأنه خلق كل شئ فقدره تقديرا، وأنه أولى من
عبد، وأحق من حمد، من أطاعه رشد، ومن عصاه غوى، ومن تاب إليه اهتدى،
فإني أوصيك يا حسين بمن خلفت من أهلي وولدي وأهل بيتك، أن تصفح عن
مسيئهم، وتقبل من محسنهم، وتكون لهم خلفا ووالدا، وأن تدفنني مع جدي
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإني أحق به وببيته ممن أدخل بيته بغير إذنه، ولا كتاب جاءهم من



(1) كفاية الأثر ص 227.
345
بعده، قال الله (تعالى) فيما أنزله على نبيه (صلى الله عليه وآله) في كتابه: {يا أيها الذين آمنوا لا
تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} (1)، فوالله ما أذن لهم في الدخول عليه في
حياته بغير إذنه، ولا جاءهم الإذن في ذلك من بعد وفاته، ونحن مأذون لنا في
التصرف فيما ورثناه من بعده، فإن أبت عليك الامرأة فأنشدك بالقرابة التي قرب
الله منك، والرحم الماسة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن لا تهريق في محجمة من دم حتى
نلقى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فنختصم إليه، ونحبره بما كان من الناس إلينا بعده، ثم
قبض (عليه السلام) (2).
ومن رزقه الله دراية الروايات، وتدبر في قراءة أوراق حياة هذا القرآن
الناطق، من اصفرار لونه بالنظر إلى أبواب المساجد، بإيصال روحه إلى نور
عظمة الله، إلى تحمله أثقال المصائب التي رآها من أصحابه وأعدائه لحفظ أمانة
الله، وتأمل في معاملته لخلق الله، من عدم مؤاخذة قاتله في بيته بشئ، لأنها
كانت قبل الجناية، وكتمانه عليه بعدها، وإيكال الأمر إلى الله، يعلم أن مثله يقدر
أن يقول: أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنه يعبده حق عبادته.



(1) سورة الأحزاب: 53.
(2) الأمالي للطوسي ص 159، المجلس السادس ح 18.
346
الإمام الثالث الحسين بن علي (عليهما السلام)
الإمام الثالث
الحسين بن علي (عليهما السلام)
ولد عام الخندق بالمدينة، والأشهر أنه ولد لثلاث خلون من شعبان،
وشهادته يوم العاشر من محرم سنة إحدى وستين، وعمره ست وخمسون
وشهورا.
كنيته وألقابه (عليه السلام)
كنيته أبو عبد الله، وألقابه كثيرة، منها: الشهيد السعيد، والسبط الثاني،
والرشيد، والطيب، والوفي، والسيد، والزكي، والمبارك، والتابع لمرضاة الله،
والدليل على ذات الله عز وجل.
فضائله (عليه السلام)
وهي أكثر من أن يسعها هذا المختصر، ونذكر بعضها من روايات العامة
والخاصة:
كان أشبه الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (1)، وكان يقعد في المكان المظلم فيهتدى
إليه ببياض جبينه ونحره (2).



(1) ذخائر العقبى ص 128، سند احمد ج 3 ص 261، صحيح البخاري ج 4 ص 216 باب مناقب الحسن
والحسين رضي الله عنهما ومصادر أخرى.
(2) مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 75، شرح الأخبار ج 3 ص 112.
347
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا، حسين سبط من
الأسباط " (1).
وخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من بيت عائشة، فمر على بيت فاطمة (عليها السلام)، فسمع حسينا
يبكي، فقال: " ألم تعلمي أن بكاءه يؤذيني " (2).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " وأما الحسين فإن له جودي وشجاعتي " (3).



(1) مسند أحمد بن حنبل ج 4 ص 172، سنن ابن ماجة ج 1 ص 51، سنن الترمذي ج 5 ص 324،
المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 177، وفي التلخيص أيضا، مجمع الزوائد ج 9 ص 181، مصنف
ابن أبي شيبة ج 7 ص 515، الأدب المفرد ص 85، صحيح ابن حبان ج 15 ص 428، المعجم الكبير ج 3
ص 32 و 33 و ج 22 ص 274، مسند الشاميين ج 3 ص 184، نظم درر السمطين ص 208، الجامع
الصغير ج 1 ص 575، كنز العمال ج 12 ص 115 و...، التاريخ الكبير ج 8 ص 415، تاريخ مدينة دمشق
ج 14 ص 149 و 150 و ج 64 ص 35، أسد الغابة ج 2 ص 19، تهذيب الكمال ج 6 ص 402 و ج 10
ص 427، ميزان الاعتدال ج 2 ص 135، تهذيب التهذيب ج 2 ص 299 ومصادر أخرى للعامة.
شرح الأخبار ج 3 ص 88 و 112، الإرشاد ج 2 ص 127، العمدة ص 406، كامل الزيارات ص 116
ومصادر أخرى للخاصة.
(2) ذخائر العقبى ص 141، مجمع الزوائد ج 9 ص 201، سير أعلام النبلاء ج 3 ص 284، المعجم الكبير
ج 3 ص 116، تاريخ مدينة دمشق ج 14 ص 171، ترجمة الإمام الحسين (عليه السلام) ص 190، سبل الهدى
والرشاد ج 11 ص 73، ومصادر أخرى للعامة.
مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 71، كشف الغمة ج 2 ص 60 وشرح الاخبار ج 3 ص 77 ومصادر أخرى
للخاصة.
(3) الإرشاد ج 2 ص 7، وقريب منه في الخصال ص 77، ودلائل الإمامة ص 69، وشرح الأخبار ج 3
ص 100 والخرائج والجرائح ج 1 ص 889 وكشف الغمة ج 1 ص 516 ومصادر أخرى للخاصة.
وفي مصادر العامة: " و اما الحسين فله جرأتي وجودي " وقريب منه في الآحاد والمثاني ج 1 ص 299
و ج 5 ص 370، مجمع الزوائد ج 9 ص 185، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 16 ص 10، نظم
درر السمطين ص 212 وكنز العمال ج 13 ص 670 - تاريخ مدينة دمشق ج 14 ص 128 و 129،
البداية والنهاية ج 8 ص 161 ومصادر أخرى للعامة.
348
وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا رأى الحسين مقبلا قبله ورشف ثناياه، وقال: " فديت من
فديته بابني إبراهيم " (1).
وكفى في مقامه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي اختاره الله من الأولين والآخرين
فداه بنفسه، وأن الله تعالى خيره بينه وبين ابنه إبراهيم، فاختاره عليه وفداه بابنه
إبراهيم! فكان ذلك جزاء للحسين بما أنه فدى ما أعطاه الله لإبقاء ثمرة حياة
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وما أرسل به وما أنزل عليه.
مكارمه (عليه السلام)
من مكارمه أنه (عليه السلام) حج خمسا وعشرين حجة، ونجائبه تقاد معه، وهو ماش
على قدميه (2).
وقد جنى غلام له جناية توجب العقوبة، فأمر به أن يضرب، فقال: يا
مولاي والكاظمين الغيظ، فقال: خلوا عنه، فقال: يا مولاي والعافين عن الناس،
فقال: قد عفوت عنك، فقال: يا مولاي والله يحب المحسنين، قال: وأنت حر
لوجه الله، ولك ضعف ما كنت أعطيك (3).
مر بمساكين قد بسطوا كساءا لهم وألقوا عليه كسرا، فقالوا: هلم يا بن رسول
الله، فجلس وأكل معهم، ثم تلى إنه لا يحب المستكبرين، ثم قال: أجبتكم فأجيبوني، فقاموا



(1) تاريخ بغداد ج 2 ص 201، تاريخ مدينة دمشق ج 52 ص 324، مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 81،
الطرائف 202، كشف اليقين ص 322 ومصادر أخرى للعامة والخاصة.
(2) نظم درر السمطين ص 208، تاريخ مدينة دمشق ج 14 ص 180، سير أعلام النبلاء ج 3 ص 287
البداية والنهاية ج 8 ص 226 ومصادر أخرى للعامة.
كشف الغمة ج 2 ص 23 ومصادر أخرى للخاصة.
(3) كشف الغمة ج 2 ص 31، وبتفاوت يسير في الفصول المهمة ص 168.
349
معه حتى أتوا منزله، فقال للجارية: أخرجي ما كنت تدخرين (1).
دخل على أسامة بن زيد وهو مريض، وهو يقول: وا غماه، فقال له
الحسين (عليه السلام): وما غمك يا أخي؟ قال: ديني، هو ستون ألف درهم. فقال
الحسين (عليه السلام): هو علي. قال: إني أخشى أن أموت، فقال الحسين (عليه السلام): لن تموت
حتى أقضيها عنك، قال: فقضاه قبل موته (2).
رأى غلاما يؤاكل كلبا، ولما سأله، قال: يا بن رسول الله إني مغموم، أطلب
سرورا بسروره، لأن صاحبي يهودي أريد أفارقه، فأتى الحسين (عليه السلام) إلى صاحبه
بمأتي دينار ثمنا له، وقال اليهودي: الغلام فداء لخطاك، وهذا البستان له ورددت
عليك المال، فقال (عليه السلام): قد وهبت لك المال، قال: قبلت المال ووهبته للغلام.
فقال الحسين (عليه السلام): أعتقت الغلام، ووهبته له جميعا. فقالت امرأته: قد أسلمت
ووهبت زوجي مهرها. فقال اليهودي: وأنا أيضا أسلمت وأعطيتها الدار (3).
وعن أنس قال: كنت عند الحسين (عليه السلام) فدخلت عليه جارية، فحيته بطاقة
ريحان فقال لها: أنت حرة لوجه الله. فقلت: تحيتك بطاقة ريحان لا خطر لها،
فتعتقها؟ فقال: كذا أدبنا الله. قال: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو
ردوها} (4)، وقال: أحسن منها عتقها (5).
من يرى أن الأحسن من التحية بطاقة ريحان عتق الجارية من قيد الرقية،



(1) تفسير العياشي ج 2 ص 257، تاريخ مدينة دمشق ج 14 ص 181، التواضع والخمول ص 142،
تاريخ مدينة دمشق ج 14 ص 181 ومصادر أخرى للخاصة والعامة.
(2) مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 65، العوالم للإمام الحسين (عليه السلام) ص 62.
(3) مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 75، مستدرك الوسائل ج 12 ص 398.
(4) سورة النساء: 86.
(5) كشف الغمة ج 2 ص 31، العوالم للإمام الحسين (عليه السلام) ص 64.
350
لا يرى أحسن من قطرة دمع في مصيبته إلا العتق من النار.
حكمه ومواعظه (عليه السلام)
منها: روي أن الحسين بن علي (عليهما السلام) جاءه رجل وقال: أنا رجل عاص ولا أصبر على
المعصية فعظني بموعظة، فقال: إفعل خمسة أشياء وأذنب ما شئت: فأول ذلك لا تأكل رزق الله
وأذنب ما شئت، والثاني اخرج من ولاية الله وأذنب ما شئت، والثالث اطلب موضعا لا يراك الله وأذنب ما
شئت، والرابع إذا جاءك ملك الموت لقبض روحك فادفعه عن نفسك وأذنب ما شئت، والخامس إذا
أدخلك مالك في النار فلا تدخل وأذنب ما شئت (1).
ومنها: عن الصادق (عليه السلام)، حدثني أبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن رجلا من أهل
الكوفة كتب إلى الحسين بن علي (عليهما السلام): يا سيدي أخبرني بخير الدنيا والآخرة. فكتب (عليه السلام): بسم الله الرحمن
الرحيم أما بعد، فإن من طلب رضا الله بسخط الناس كفاه الله أمور الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط
الله وكله الله إلى الناس، والسلام (2).
ومنها: عن الصادق عن أبيه عن جده (عليهم السلام)، قال: سئل الحسين بن علي، فقيل له:
كيف أصبحت يا بن رسول الله؟ قال: أصبحت ولي رب فوقي، والنار أمامي، والموت يطلبني، والحساب
محدق بي، وأنا مرتهن بعملي، لا أجد ما أحب، ولا أدفع ما أكره، والأمور بيد غيري، فإن شاء عذبني، وإن شاء
عفا عني، فأي فقير أفقر مني (3).
ومنها: ما قاله (عليه السلام) يوما لابن عباس: لا تتكلمن فيما لا يعنيك، فإنني أخاف عليك فيه
الوزر، ولا تتكلمن فيما يعنيك حتى ترى للكلام موضعا، فرب متكلم قد تكلم بالحق فعيب، ولا تمارين حليما



(1) بحار الأنوار ج 75 ص 126 عن جامع الأخبار فصل 89.
(2) الأمالي للصدوق، المجلس السادس والثلاثون ح 14، ص 268، الاختصاص ص 225.
(3) من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 289، الأمالي للصدوق المجلس التاسع والثمانون ح 3 ص 707.
351
ولا سفيها، فإن الحليم يقليك والسفيه يؤذيك [يردى بك]، ولا تقولن في أخيك المؤمن إذا توارى
عنك إلا ما تحب أن يقول فيك إذا تواريت عنه، واعمل عمل رجل يعلم أنه مأخوذ بالإجرام مجزي بالإحسان،
والسلام (1).
ومنها: ما روي عنه عندما عزم على الخروج إلى العراق:... أيها الناس من جاد
ساد، ومن بخل رذل، وإن أجود الناس من أعطى من لا يرجو، وإن أعفى الناس من عفى عن قدرة، وإن
أوصل الناس من وصل من قطعه، والأصول على مغارسها بفروعها تسمو، فمن تعجل لأخيه خيرا وجده
إذا قدم عليه غدا، ومن أراد الله تبارك وتعالى بالصنيعة إلى أخيه كافأه بها في وقت حاجته، وصرف
عنه من بلاء الدنيا ما هو أكثر منه، ومن نفس كربة مؤمن فرج الله عنه كرب الدنيا والآخرة، ومن أحسن
أحسن الله إليه، والله يحب المحسنين... (2).
ومنها: ما قاله لابنه علي بن الحسين (عليه السلام): يا بني إياك وظلم من لا يجد عليك ناصرا إلا
الله (3).
ومنها: أنه جاءه رجل من الأنصار يريد أن يسأله حاجة، فقال (عليه السلام): يا أخا الأنصار
صن وجهك عن بذلة المسألة، وارفع حاجتك في رقعة، فإني آت فيها ما سارك إن شاء الله، فكتب:
يا أبا عبد الله إن لفلان علي خمسمائة دينار، وقد ألح بي فكلمه ينظرني إلى
ميسرة، فلما قرأ الحسين (عليه السلام) الرقعة دخل إلى منزله فأخرج صرة فيها ألف دينار،
وقال (عليه السلام) له: أما خمسمائة فاقض بها دينك، وأما خمسمائة فاستعن بها على دهرك، ولا ترفع حاجتك إلا
إلى أحد ثلاثة: إلى ذي دين، أو مروة، أو حسب، فأما ذو الدين فيصون دينه، وأما ذو المروة فإنه يستحي
لمروته، وأما ذو الحسب فيعلم أنك لم تكرم وجهك أن تبذله في حاجتك، فهو يصون وجهك أن يردك



(1) كنز الفوائد ص 194.
(2) كشف الغمة ج 2 ص 30.
(3) الكافي ج 2 ص 331.
352
بغير قضاء حاجتك (1).
هذا قليل من كثير يجد من أمعن النظر فيه جميع ما يضمن سعادة الإنسان في
معاملته مع الخالق والخلق، وما يصرف الإنسان عن كل شر وسيئة، ويوصله إلى
كل خير وإحسان.
وقد بين (عليه السلام) بعمله في قضاء حاجة رجل من الأنصار مبلغ كرامة الإنسان،
وفي وصيته لابن عباس جمع جميع مدارج الكمال، ويتجلى في كلامه
وعمله (عليه السلام) " كلامكم نور، وأمركم رشد، ووصيتكم التقوى، وفعلكم الخير، وعادتكم الإحسان " (2).
كراماته (عليه السلام)
من كراماته ما نقل عن يحيى بن أم الطويل قال: كنا عند الحسين (عليه السلام) إذ دخل
عليه شاب يبكي، فقال له الحسين: ما يبكيك؟ قال: إن والدتي توفيت في هذه
الساعة ولم توص، ولها مال وكانت قد أمرتني أن لا أحدث في أمرها شيئا حتى
أعلمك خبرها، فقال الحسين (عليه السلام): قوموا بنا حتى نصير إلى هذه الحرة، فقمنا معه حتى
انتهينا إلى باب البيت الذي فيه المرأة [وهي] مسجاة فأشرف على البيت، ودعا
الله ليحييها حتى توصي بما تحب من وصيتها فأحياها الله، وإذا المرأة جلست
وهي تتشهد، ثم نظرت إلى الحسين (عليه السلام) فقالت: ادخل البيت يا مولاي ومرني
بأمرك، فدخل وجلس على مخدة ثم قال لها: وصي، يرحمك الله.
فقالت: يا ابن رسول الله [إن] لي من المال كذا وكذا، في مكان كذا وكذا، وقد
جعلت ثلثه إليك لتضعه حيث شئت من أوليائك، والثلثان لابني هذا إن علمت أنه



(1) تحف العقول: قصار هذه المعاني منه (عليه السلام) ص 247.
(2) من لا يحضره الفقيه ج 2 ص 374، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 277 باب 68 ح 1.
353
من مواليك وأوليائك، وإن كان مخالفا فخذه إليك، فلا حق للمخالفين في أموال
المؤمنين.
ثم سألته أن يصلي عليها وأن يتولى أمرها، ثم صارت المرأة ميتة كما
كانت (1).
ولا عجب من إحياء الموتى بدعائه، وقد اختاره الله ليستجيب دعوته في
المباهلة، وقد أحيا به الإسلام والإيمان ومعالم الدين وما أنزل على جميع
الأنبياء والمرسلين.
فلولا شهادته لانهدم بنيان الوحي والتنزيل بحكومة آل أبي سفيان التي
بنيت على الفكرة التي أبداها يزيد بن معاوية بقوله:
لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل (2)
وبعدما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جرى ما جرى من تصدي أمر الدين والدنيا من
اعترف على نفسه بقوله: " أقيلوني ولست بخيركم " (3). ولا ريب في أنه ان كان



(1) الخرائج والجرائح ج 1 ص 245.
(2) تاريخ الطبري ج 8 ص 187 وغيره من مصادر العامة، روضة الواعظين ص 191 وغيرها من مصادر
الخاصة.
(3) سر العالمين ص 22، تذكرة الخواص ص 65، وجاء بلفظ " وليت " أو " وليتكم " في كثير من مصادر
العامة والخاصة منها: المصنف لعبد الرزاق ج 11 ص 336، المعيار والموازنة ص 39، شرح نهج
البلاغة ج 1 ص 168 و ج 17 ص 157، تفسير القرطبي ج 1 ص 272، كنز العمال ج 5 ص 599 و 601
و 607، الثقات ابن حبان ج 2 ص 157، تاريخ مدينة دمشق ج 30 ص 301 و 302، تاريخ اليعقوبي ج 2
ص 127، تاريخ الطبري ج 2 ص 450، البداية والنهاية ج 5 ص 269 ومصادر أخرى للعامة.
عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 187 باب 45 ح 2، الإيضاح ص 129، المسترشد ص 136 و 241،
الاحتجاج ج 2 ص 152 و ج 1 ص 104، الطرائف ص 402 و 497، الرسائل العشر للطوسي ص 123،
دعائم الإسلام ج 1 ص 85، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 187 باب 45 ح 2 ومصادر أخرى
للخاصة.
354
المقام حقه فلا يجوز الاستقالة، وان لم يكن حقه فلا موضوع للاستقالة، ومع
اعترافه بأنه ليس خيرا منهم فولايته ترجيح بلا مرجح وهو باطل عقلا وشرعا.
فليتأمل فيما قاله من تقمص الخلافة بعده: " بيعة أبي بكر فلتة وقى الله الأمة
شرها " (1)، فالبيعة التي كانت فلتة وكانت شرا كيف يمكن الإيمان بها؟ وهل يجوز
لمن يعتقد بالكتاب الذي يهدي للتي هي أقوم أن يدخل في الفلتة ويستبدل الخير
بالشر؟! وتأويل هذا الكلام وصرفه عن ظاهره مخالف لحجيته الظهور التي تدور
على مدار الإفادة والاستفادة والاحتجاج والإعذار، ولولا حجية الظواهر يعتذر
كل ملحد عن ظاهر كلامه بما يتخلص به عن كل مؤاخذة ونكال.
والبيعة الثانية كانت مبنية على الأولى، وهل يكون المبني على الفلتة والشر
حقا وخيرا!
والثالثة بنيت على الثانية مع أنها جعلت في الشورى المركبة من الستة



(1) صحيح البخاري ج 8 ص 26 كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب رجم الحبلى من الزنا إذا
أحصنت، الفايق في غريب الحديث ج 3 ص 50 - شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج 2 ص 26 و 29
وموارد أخرى من هذا الكتاب، البداية والنهاية ج 12 ص 338، تاريخ الخلفاء ص 67، غريب
الحديث ج 3 ص 355، النهاية في غريب الحديث ج 3 ص 467، المعيار والموازنة ص 38 و 231،
مصنف ابن أبي شيبة ج 7 ص 615 و 616 و ج 8 ص 570، الثقات ابن حبان ج 2 ص 156، تاريخ
اليعقوبي ج 2 ص 158، سبل الهدى والرشاد ج 11 ص 127، مسند أحمد ج 1 ص 55، المصنف
لعبد الرزاق ج 5 ص 442 و 445، السنن الكبرى للنسائي ج 4 ص 272 و 273 و 433، صحيح ابن حبان
ج 2 ص 148 و 155 و 157 و...، تاريخ مدينة دمشق ج 30 ص 283، تاريخ الطبري ج 2 ص 446،
السيرة النبوية لابن كثير ج 4 ص 487 ومصادر أخرى للعامة.
الاحتجاج ج 2 ص 153 و 235، مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 315، الإيضاح ص 134 و 516،
المسترشد ص 213 و 244، شرح الأخبار ج 2 ص 234 ومصادر أخرى للخاصة.
355
المخالفة لإجماع الأمة من أن الخلافة إما بالنص وإما بانتخاب الملة.
وقدم - مع الاختلاف - ما مال إليه عبد الرحمن بن عوف (1)، وبذلك أنهى
أمر الإسلام والمسلمين إلى حكومة شخص لم يقم دليل على حجية قوله بانفراده
في الدعوى على درهم عند الحاكم، فكيف على الخلافة التي تدور عليها رحى
أحكام الإسلام وأمور المسلمين.
وقد كانت نتيجة الشورى التي اعطى فيها حق النقض لعبد الرحمن بن عوف
انتقال خلافة سيد المرسلين إلى الأمويين، ثم آل الأمر إلى ابن أبي سفيان، وأخذ
البيعة لشارب الخمر وصاحب الكلب، وناكح المحرمات، فاستخلف الكفر
والطغيان والبغي والعدوان عن الإسلام والقرآن والعدل والإحسان، ولم يبق من
يلاحظ ويخاف من سطوته إلا الحسين (عليه السلام).
فكتب إليه معاوية: أما بعد فقد انتهت إلي أمور عنك، إن كان حقا فقد أظنك
تركتها رغبة فدعها، ولعمر الله إن من أعطى الله عهده وميثاقه لجدير بالوفاء، وإن
كان الذي بلغني باطلا فإنك أنت أعذل الناس لذلك، وعظ نفسك، فاذكر ولعهد
الله [وبعهد الله] أوف، فإنك متى تنكرني أنكرك، ومتى تكدني أكدك، فاتق
شقك [شق] عصا هذه الأمة، وأن يردهم الله على يديك في فتنة، فقد عرفت
الناس وبلوتهم فانظر لنفسك ولدينك ولأمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يستخفنك السفهاء
والذين لا يعلمون.
فلما وصل الكتاب إلى الحسين (عليه السلام) كتب إليه: أما بعد، فقد بلغني كتابك، تذكر أنه قد
بلغك عني أمور، أنت لي عنها راغب، وأنا بغيرها عندك جدير، فإن الحسنات لا يهدي لها ولا يسدد إليها إلا الله،
وأما ما ذكرت أنه انتهى إليك عني، فإنه إنما رقاه إليك الملاقون المشاؤن بالنميم، وما أريد لك حربا، ولا عليك



(1) شرح نهج البلاغة ج 9 ص 50، تاريخ ابن خلدون ج 1 ص 210 ومصادر أخرى.
356
خلافا، وأيم الله، إني لخائف لله في ترك ذلك، وما أظن الله راضيا بترك ذلك وعاذرا بدون الإعذار فيه
إليك، وفي أوليائك القاسطين الملحدين، حزب الظلمة وأولياء الشياطين.
ألست القاتل حجر بن عدي أخا كندة، والمصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم، ويستعظمون
البدع، ولا يخافون في الله لومة لائم، ثم قتلتهم ظلما وعدوانا من بعدما كنت أعطيتهم الأيمان المغلظة،
والمواثيق المؤكدة، [و] لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم، ولا بإحنة تجدها في نفسك.
أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله العبد الصالح الذي أبلته العبادة، فنحل جسمه،
وصفرت لونه بعدما آمنته وأعطيته من عهود الله ومواثيقه، ما لو أعطيته طائرا لنزل إليك من رأس
الجبل، ثم قتلته جرأة على ربك، واستخفافا بذلك العهد.
أولست المدعي زياد بن سمية المولود على فراش عبيد ثقيف، فزعمت أنه ابن أبيك، وقد قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الولد للفراش وللعاهر الحجر، فتركت سنة رسول الله تعمدا، وتبعت هواك بغير هدى
من الله، ثم سلطته على العراقين، يقطع أيدي المسلمين وأرجلهم ويسمل أعينهم، ويصلبهم على جذوع
النخل، كأنك لست من هذه الأمة، وليسوا منك.
أولست صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم ابن سمية أنهم كانوا على دين علي (عليه السلام)، فكتبت إليه
أن أقتل كل من كان على دين علي، فقتلهم ومثل بهم بأمرك، ودين علي والله الذي كان يضرب
عليه أباك، ويضربك، وبه جلست مجلسك الذي جلست، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف أبيك الرحلتين.
وقلت فيما قلت: أنظر لنفسك ولدينك ولأمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) واتق شق عصا هذه الأمة، وأن تردهم
إلى فتنة، وإني لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمة من ولايتك عليها، ولا أعظم نظرا لنفسي ولديني، ولأمة
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلينا أفضل من أن أجاهدك، فإن فعلت فإنه قربة إلى الله، وإن تركته فإني أستغفر
الله لذنبي [لديني]، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري.
وقلت فيما قلت: إني إن أنكرتك تنكرني وإن أكدك تكدني، فكدني ما بدا لك، فإني أرجو أن
لا يضرني كيدك في، وأن لا يكون على أحد أضر منه على نفسك [لأنك] على أنك قد ركبت بجهلك [جهلك]

357
وتحرضت على نقض عهدك، ولعمري ما وفيت بشرط، ولقد نقضت عهدك بقتلك هؤلاء النفر الذين
قتلتهم بعد الصلح والأيمان والعهود والمواثيق، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا وقتلوا، ولم تفعل
ذلك بهم إلا لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقنا، فقتلتهم مخافة أمر، لعلك لو لم تقتلهم مت قبل أن
يفعلوا أو ماتوا قبل أن يدركوا، فأبشر يا معاوية بالقصاص واستيقن بالحساب، واعلم أن لله تعالى
كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وليس الله بناس لأخذك بالظنة، وقتلك أولياءه على التهم، ونفيك
أوليائه من دورهم إلى دار الغربة، وأخذك للناس ببيعة ابنك غلام حدث يشرب الخمر ويلعب بالكلاب، لا أعلمك
إلا وقد خسرت نفسك وتبرت دينك، وغششت رعيتك [وأخزيت] أخربت أمانتك، وسمعت مقالة السفيه
الجاهل، وأخفت الورع التقي لأجلهم. والسلام (1).
ولما قرأ معاوية الكتاب أشار من حوله إليه بأن يجيبه بما يصغر إليه نفسه،
قال: وما عسيت أن أعيب حسينا، والله ما أرى للعيب فيه موضعا.
ومن تأمل هذا الجواب يعلم ما معنى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " وأنا من حسين ".
وكتب (عليه السلام) في وصيته إلى أخيه: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن
أبي طالب إلى أخيه المعروف بابن الحنفية، إن الحسين يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا
عبده ورسوله، جاء بالحق من عند الحق، وأن الجنة والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث
من في القبور، وأني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (صلى الله عليه وسلم)
أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول
الحق، فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير
الحاكمين (2).



(1) اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) ص 48 رقم 98 و 99 في ترجمة عمرو بن الحمق، الإحتجاج
ج 2 ص 21 بتفاوت.
(2) العوالم، للإمام الحسين (عليه السلام)، ص 179، وبتفاوت في مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 89.
358
وفي وصيته هذه (عليه السلام) دقائق ولطائف، نشير إلى بعضها:
منها: أن مبدأ الوجود هو الحق ومعاد الوجود إلى الحق، والوسط بين المبدأ
والمنتهى وهو صراط الله المستقيم الذي جاء به عبده ورسوله هو الحق، فلا
مناص للإنسان إلا من قبول الحق، فإن قبل فالله أولى بالحق، وإن رد فيقضي الله
عليه بالحق.
فقد أفاد بهذا البيان أن مسيره (عليه السلام) من الحق للحق إلى الحق، وأن ما يصدر
ممن غلب هواه على عقله، إما من الشهوة التي حاصلها الأشر والبطر، وإما من
الغضب الذي غايته الإفساد والظلم، والأمة التي وصفها الله سبحانه بقوله: {كنتم
خير أمة أخرجت للناس} (1)، تتبدل بهاتين الآفتين إلى شر الأمم، فلابد من الخروج
لطلب الإصلاح، ولا إصلاح إلا بقول وعمل، والقول هو الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر بنطاقهما الواسع لكل ما عرفه وأنكره العقل والوحي، والعمل هو
سيرة أشرف الأنبياء وسيد الأوصياء صلوات الله عليهما.
*
وقال (عليه السلام) لأصحابه: " قد نزل من الأمر ما ترون، وأن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها،
واستمرأت [واستمرت] حتى لم يبق منها إلا كصبابة الإناء وإلا خسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون الحق
لا يعمل به والباطل لا يتناهي عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله، واني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع
الظالمين إلا برما " (2).



(1) سورة آل عمران: 110.
(2) شرح الأخبار ج 3 ص 150، مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 68 ومصادر أخرى للخاصة.
وبتفاوت في المعجم الكبير ج 3 ص 115، سير أعلام النبلاء ج 3 ص 310، تاريخ مدينة دمشق ج 14
ص 217 وغيرها من مصادر العامة.
359
ونحن قاصرون عن إدراك الشخصية التي تجلت معرفته بالله في أدعيته
وعبادته لله، باستمهاله العدو ليلة عاشوراء لإحيائها بقراءة القرآن وإقامة الصلاة.
تلك الليلة التي أحاطته البلية من كل جانب، ورأى بعينه الناظرة بنور الله
ما يجري عليه وعلى أهل بيته وأصحابه، ومع ذلك كان يناجي ربه بصلاته أو
يناجيه ربه بكلامه، وله ولأصحابه المستضيئين بنوره دوي كدوي النحل.
*
ومن كلامه المروي في تلك الليلة: " أثني على الله أحسن الثناء وأحمده على السراء والضراء،
اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وعلمتنا القرآن، وفقهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعا وأبصارا
وأفئدة، ربنا فاجعلنا من الشاكرين " (1).
لقد بلغ (عليه السلام) من الصبر الذي جعله الله سبحانه وتعالى ملاكا لمقام الإمامة،
وقال: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا} (2) مرتبة تعجبت من صبره
ملائكة السماوات.
وبلغ من الشكر مرتبة بحيث لم ير ما نزل عليه مصيبة، بل يرى كل ما ورد
عليه من المصائب نعمة، فهو يثني على الله في أشد البلاء أحسن الثناء، ويرى
الضراء رحمة من الله كالسراء فيحمده عليهما، ولا ينظر إلى ما ابتلاه الله به، بل
نظره مقصور على ما أكرمه الله به، وآخر دعواه ربنا فاجعلنا من الشاكرين.
وإن البيان ليقل واللسان ليكل عن بيان شهادته التي عظمت رزيتها في
الآفاق والأنفس.
ومقتضى العدل والحكمة أن تكون الدرجات على وزان الأعمال {ولكل



(1) روضة الواعظين ص 183، الإرشاد ج 2 ص 91، تاريخ الطبري ج 4 ص 317 وبتفاوت يسير.
(2) سورة السجدة: 24.
360
درجات مما عملوا} (1)، {وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون} (2).
واختلاف الأعمال يدور مدار اختلاف مراتب العلم والإيمان {يرفع الله الذين
آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} (3).
ولابد في معرفة كل عمل اختياري من النظر إلى ما ينشأ منه، وإلى ما يترتب
عليه، وإلى نفس العمل وخصوصياته التي يكون العمل متصفا بها، ولذلك تختلف
الأعمال باختلاف أنفسها وعللها ومعلولاتها.
أما منشأ هذه الشهادة فهو العرفان والإيمان الذي ظهرت منهما أشعة في
دعائه يوم عرفة في عرفات (4)، فإنه (عليه السلام) بعدما خاطب ربه سبعة وعشرين مرة
بكلمة الخطاب التي تدل على أنه كان في مقام الحضور عند مليك مقتدر ليس
بينه وبين عبده حجاب، وبدأ بقوله (عليه السلام): " يا مولاي أنت الذي مننت " وختم بقوله (عليه السلام): " أنت
الذي أكرمت تباركت ربنا [ربي] وتعاليت " وبعدما بين ما هو حق الرب بنعمه ومننه، وما
يستحقه العبد بقصوره وتقصيره، خاطب الله سبحانه بالتهليل اليونسي، الذي هو
منتهى سير الكمل من الأولياء الذين وصلوا إلى معرفة الله، ومعرفة النفس، فقال:
" لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " وعقب هذا التهليل بقوله (عليه السلام): " لا إله إلا أنت سبحانك
إني كنت من المستغفرين، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الموحدين، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت
من الخائفين، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الوجلين، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الراجين، لا



(1) سورة الأنعام: 132.
(2) سورة الأحقاف: 19.
(3) سورة المجادلة: 11.
(4) اقبال الأعمال ص 344 و 345.
361
إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الراغبين، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من المهللين، لا إله إلا أنت سبحانك
إني كنت من السائلين، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من المسبحين، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من
المكبرين، لا إله إلا أنت سبحانك ربي ورب آبائي الأولين ".
وافتتاح هذه التهليلات ب‍ " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " بيان
لما هو من نفسه، واختتامها ب‍ " لا إله إلا أنت سبحانك ربي ورب آبائي الأولين " بيان
لما هو من ربه، من التربية التكوينية والتشريعية له ولآبائه، واما استغفاره (عليه السلام) فهو
من حسنات الأبرار التي هي سيئات المقربين.
وتوحيده لله سبحانه توحيده في الأحدية والألوهية والربوبية إلى آخر
مراتب التوحيد، وهو التوحيد في محبة الله الذي ظهر منه (عليه السلام) حيث بذل مهجته في
الله.
وفي كل تهليل من خوفه، ووجله، ورغبته، وتهليله، وسؤاله، وتسبيحه،
وتكبيره ما يليق من تلك المعاني بالحي القيوم العلي العظيم، الذي هو بكل شئ
عليم، وعلى كل شئ قدير، وهو رب العرش العظيم.
وتهليلاته على عدد الشهور التي عند الله اثنا عشر شهرا (1)، ومجموع
التهليلات والتسبيحات أربع وعشرون بعدد ساعات الليل والنهار، ويظهر من كل
جملة من هذا الدعاء من العلم والعرفان والإيمان والعمل ما هو أعلى وأجل من
البيان.
فمبدأ عمله ومنشأ شهادته، وما ظهر منه في يوم ليس كيومه يوم (2) هو العلم
والإيمان الذان رفعه الله بهما إلى مقام الحرية عن كل ما سوى الله، والعبودية لله



(1) * (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا) * سورة التوبة: 36.
(2) الأمالي للصدوق ص 177 المجلس الرابع والعشرون ح 3.
362
تعالى، كما ورد عنه: (إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوما عبدوا الله رهبة
فتلك عبادة العبيد، وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة " (1).
وعنه (عليه السلام): (أنت الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك حتى عرفوك ووحدوك، وأنت الذي
أزلت الاغيار عن قلوب أحبائك حتى لم يحبوا سواك، ولم يلجأوا إلى غيرك) (2).
فهو الراغب الذي لا يرغب إلا إلى القرب من الله، والراهب الذي لا يرهب إلا
البعد من الله، وهو الحر الذي أعتق نفسه عن كل تعلق، وبذل مهجته باسم الله وبالله
وفي سبيل الله، شكرا لله {قل كل يعمل على شاكلته} (3).
وأما ثمرة شهادته (عليه السلام) فهو إبقاء ما خلق لأجله الإنسان، وهو عبادة الرحمن،
والبينات التي أرسل رسله بها، وما أنزل الله معهم من الكتاب والميزان ليقوم
الناس بالقسط.
وكفاه شرفا أن بعثة جده علة محدثة لما يتعلق بالله من توحيده وتسبيحه
وتكبيره وعبادته ولما يتعلق بالناس من القيام بالحق والقسط، وشهادته صارت
علة مبقية له.
وأما عمله فكفى فيه ما ورد في زيارته المأثورة (مصيبة ما أعظمها وأعظم رزيتها
في الإسلام وفي جميع السماوات والأرض) (4).



(1) تحف العقول من قصار هذه المعاني لحسين بن علي (عليهما السلام) ص 246.
(2) بحار الأنوار ج 95 ص 216.
(3) سورة الإسراء: 86.
(4) مصباح المتهجد ص 775 زيارة يوم عاشوراء.
363
وأما ما جعل الله جزاء لعمله، فمنه أنه جعل الأئمة (عليهم السلام) من ذريته، وإجابة
الدعاء تحت قبته، والشفاء في تربته (1)، ونقتصر على بعض ما جزاه الله في تربته:
فقد روى شيخ الطائفة عن معاوية بن عمار، قال: كان لأبي عبد الله (عليه السلام)
خريطة ديباج صفراء فيها تربة أبي عبد الله (عليه السلام)، فكان إذا حضرته الصلاة صبه على
سجادته وسجد عليه، ثم قال (عليه السلام): إن السجود على تربة أبي عبد الله (عليه السلام) يخرق الحجب السبع (2).
وسند الحديث - مع أن الشيخ (رحمه الله) أخبر برواية معاوية - صحيح، يشتمل على
أئمة الحديث، وبعض أصحاب الإجماع.
وأما فقه الحديث فلا مجال إلا للإشارة إليه، فإن السجود أعظم عبادة أمر الله
سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) به للاقتراب إليه {كلا لا تطعه واسجد واقترب} (3)، والإمام
المعصوم يتوسل في سجوده الذي هو نهاية تقربه بتراب الحسين (عليه السلام)، لأن يخرق
به الحجب السبع.
فما يمكن أن يقال في شأن دم صار ذلك التراب بإضافته اليه خارقا
للحجاب بين العبد وربه، وموصلا لعباد الله إلى منتهى كرامة الله.
وفي الصحيح عن أبي الحسن (عليه السلام): إن النبي لما أسري به إلى السماء، قطع سبع حجب،
فكبر عند كل حجاب تكبيرة، فأوصله الله عز وجل بذلك إلى منتهى الكرامة) (4).
ومما لابد من التأمل فيه أن افتتاح الصلاة بسبع تكبيرات - تقوم مقام



(1) الأمالي للطوسي ص 317، المجلس الحادي عشر ح 91.
(2) مصباح المتهجد ص 677.
(3) سورة العلق: 19.
(4) من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 199 باب وصف الصلاة من فاتحتها إلى خاتمتها ح 4.
364
التكبيرات السبع التي كبرها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فرضعت له الحجب السبعة ليلة
الإسراء صار سنة بلسان الحسين (عليه السلام)، ففي الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: إن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان في الصلاة وإلى جانبه الحسين بن علي، فكبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم يحر الحسين
التكبير، ثم كبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم يحر الحسين التكبير، فلم يزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) يكبر ويعالج الحسين
التكبير فلم يحر، حتى أكمل سبع تكبيرات، فأحار الحسين (عليه السلام) التكبير في السابعة، فقال أبو عبد الله (عليه السلام):
فصارت سنة (1).
فخرق الحجاب بين العباد ورب الأرباب في أول العروج إلى الله، وهو أول
الركعة، بلسان الحسين (عليه السلام)، وخرق الحجاب في آخر الركعة وهو السجود بتربة
الحسين (عليه السلام).
وفي الصحيح عن إسحاق بن عمار، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن
لموضع قبر الحسين بن علي (عليهما السلام) حرمة معلومة من عرفها واستجار بها أجير، قلت: فصف لي
موضعها جعلت فداك. قال: امسح من موضع قبره اليوم، فامسح خمسة وعشرين ذراعا من ناحية
رجليه، وخمسة وعشرين ذراعا من خلفه، وخمسة وعشرين ذراعا مما يلي وجهه، وخمسة وعشرين ذراعا
من ناحية رأسه، وموضع قبره منذ يوم دفن روضة من رياض الجنة، ومنه معراج يعرج فيه بأعمال
زواره إلى السماء، فليس ملك ولا نبي في السماوات إلا وهم يسألون الله أن يأذن لهم في زيارة قبر
الحسين (عليه السلام) ففوج ينزل وفوج يعرج (2).
ومع أن العالي لا يميل إلى السافل، ومن في الملكوت لا يلتفت إلى عالم
الملك فقد انقلب قبره بمجاورة جسده الشريف، فصار ارفع من السماوات



(1) تهذيب الأحكام ج 2 ص 67.
(2) تهذيب الأحكام ج 6 ص 71، كامل الزيارات ص 457 ح 4 من باب 89 فضل الحائر وحرمته، الكافي
ج 4 ص 588.
365
ومقامات الملأ الأعلى، ولهذا يقول الإمام (عليه السلام): ليس من ملك حتى الكروبيين، ولا
من نبي حتى أولي العزم من المرسلين إلا ويسألون الله الإذن في زيارة قبره (عليه السلام)،
فهم ينالون في زيارة هذا القبر ما لا يمكن وصفه إلا بما روي عن زيد الشحام
قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما لمن زار الحسين (عليه السلام)؟ قال: كان كمن زار الله في عرشه،
قال قلت: ما لمن زار أحدا منكم؟ قال: كمن زار رسول الله (صلى الله عليه وآله) (1).
فإن كان أثر عمله في تربته أن يصير معراج القرب إلى الله، وفي قبره أن يصير
عرش الله، فماذا يكون أثره في دمه؟!
فمن جهة أن بين النفس والبدن تفاعلا متقابلا يؤثر كل منهما في الآخر
ويتأثر منه، فدمه منبعث عن القلب المتعلق بالنفس المستغرقة في أسماء الله
الجلالية والجمالية والكمالية.
وكل شئ يعرف بأصله وفرعه، وأصله برهانه، وفرعه دليله، فلا يعرف هذا
الدم إلا بمعرفة النفس التي هي في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وبالقلب الذي
هو عرش الرحمن، وبالصدر الذي هو خزينة أسرار رب العالمين، ولا يعرف إلا
بمعرفة فرعه وأثره وهو إحياء الحق الذي جاء من عند الحق لإقامة العدل
والحق.
ولقد فضل الله هذا الدم على دم يحيى بن زكريا الذي قال الله تعالى في حقه:
{سلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا} (2).
فعن ابن عباس، قال: أوحى الله إلى نبيكم إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين



(1) كامل الزيارات، باب 59 ح 1.
(2) سورة مريم: 15.
366
ألفا، وإني قاتل بابن بنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا (1).
وقد بعث الله أشرف أنبيائه لالتقاط هذا الدم من الأرض والصعود به إلى
الرفيق الأعلى.
عن ابن عباس، قال: رأيت النبي فيما يرى النائم نصف النهار أشعث أغبر،
معه قارورة فيها دم، فقلت: يا نبي الله ما هذا؟ قال: هذا دم الحسين وأصحابه لم أزل
ألتقطه منذ اليوم (2).
هذا بعض ما ورد من طرق العامة، وأما ما ورد من طرق الخاصة فنقتصر
على ما في الزيارة التي اكتفى بها الصدوق في من لا يحضره الفقيه، وقال: " إنها
أصح الروايات عندي من طريق الرواية، وفيها بلاغ وكفاية " والسند معتبر عن
الصادق (عليه السلام):



(1) المستدرك ج 3 ص 178، وفي التلخيص أيضا، كنز العمال ج 12 ص 127، تفسير القرطبي ج 10
ص 219، الدر المنثور ج 4 ص 264، تاريخ بغداد ج 1 ص 152، تاريخ مدينة دمشق ج 14 ص 225
و ج 64 ص 216، سير أعلام النبلاء ج 4 ص 342، البداية والنهاية ج 8 ص 219، تهذيب الكمال ج 6
ص 431، ذخائر العقبى ص 150، ميزان الاعتدال ج 3 ص 368، تهذيب التهذيب ج 2 ص 305، لسان
الميزان ج 4 ص 457 ومصادر أخرى للعامة.
كشف الغمة ج 2 ص 63، شرح الأخبار ج 3 ص 168، مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 81، الطرائف
ص 202، إعلام الورى ج 1 ص 429، كشف اليقين ص 306 ومصادر أخرى للخاصة.
(2) المستدرك ج 4 ص 398، وبتفاوت يسير في مسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 242 و 283، مجمع
الزوائد ج 9 ص 194، البداية والنهاية ج 6 ص 258 و ج 8 ص 202، سير أعلام النبلاء ج 3 ص 315،
منتخب مسند عبد بن حميد ص 235، ترجمة الإمام الحسين (عليه السلام) ص 386، المعجم الكبير ج 3
ص 110 و ج 12 ص 144 نظم درر السمطين ص 218 تاريخ بغداد ج 1 ص 152، تاريخ مدينة دمشق
ج 14 ص 237. تهذيب الكمال ج 6 ص 439، سير أعلام النبلاء ج 3 ص 315، تهذيب التهذيب ج 2
ص 306، الإصابة ج 2 ص 71 ومصادر أخرى كثيره للعامة.
كشف الغمة ج 2 ص 56، بحار الأنوار ج 45 ص 232، ومصادر أخرى للخاصة.
367
" أشهد أن دمك سكن في الخلد، واقشعرت له أظلة العرش، وبكى له جميع الخلائق، وبكت له
السماوات السبع والأرضون، وما فيهن وما بينهن، ومن يتقلب في الجنة والنار من خلق ربنا، وما يرى
وما لا يرى " (1). ولا مقام أرفع من هذا المقام، فإن سكنى دمه الذي هو من عالم الدنيا
ودار الفناء في دار البقاء وجنة الخلد، يكشف عن انقلاب الدم الذي هو من
عالم الملك بمجاورة روحه إلى عالم الملكوت، وبلغ من الطيب والطهارة إلى
مرتبة قال الله سبحانه: {إليه يصعد الكلم الطيب} (2).
فما أعظم شأن دم عظمت رزيته على جميع الخلائق من الماديات
والمجردات.
هذا ما يتعلق بدمه، ولقد جف القلم مما يتعلق بروحه، وقد قال الله سبحانه:
{يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية} (3).
وقد جعله الله خازن وحيه وأكرمه بالشهادة، وختم له بالسعادة، وهو أفضل
من استشهد وأرفع الشهداء درجة (4)، وهو ثار الله وابن ثاره، وخاتم أهل
المباهلة وخامس أهل الكساء، وفاتح أبواب الهداية والعلم والعبادة بالتسعة
الذين بهم قام الدين والدنيا، وبالتاسع من ولده يحيي الله الأرض بعد موتها ويملأ
الله الأرض به قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا.
والسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا.



(1) من لا يحضره الفقيه ج 2 ص 359، الكافي ج 4 ص 576.
(2) سورة فاطر: 10.
(3) سورة الفجر: 27، 28 وراجع: تفسير القمي ج 2 ص 433.
(4) إشارة إلى ما ورد في حديث اللوح، الكافي ج 1 ص 527.
368
الإمام الرابع علي بن الحسين بن علي (عليهم السلام)
الإمام الرابع
علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)
وأمه (عليه السلام) شاهزنان بنت يزدجرد، ولد بالمدينة خامس شعبان سنة ثمان
وثلاثين، وقبض يوم السبت ثاني عشر محرم سنة خمس وتسعين، وعمره سبع
وخمسون سنة.
كنيته وألقابه (عليه السلام)
كنيته أبو الحسن، وأبو محمد، وأبو القاسم.
وألقابه: زين العابدين، وسيد العابدين، وزين الصالحين، ووارث علم
النبيين، ووصي الوصيين، وخازن وصايا المرسلين، وإمام المؤمنين، ومنار
القانطين، والخاشع، والمتهجد، والزاهد، والعابد، والعدل، والبكاء، والسجاد،
وذو الثفنات، وإمام الأمة، وأبو الأئمة.
فضائله ومناقبه (عليه السلام)
كتب العامة والخاصة مشحونة بفضائله ومناقبه (عليه السلام):
قال الزمخشري: روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: [لله] من عباده خيرتان،
فخيرته من العرب قريش، ومن العجم فارس، وكان يقال لعلي ابن الحسين ابن
الخيرتين (1).



(1) ربيع الأبرار ج 1 ص 402.
369
وروي أن أبا الأسود الدئلي قال فيه:
وأن غلاما بين كسرى وهاشم * لأكرم من نطيب عليه التمائم (1)
قال ابن طلحة: هذا زين العابدين، قدوة الزاهدين، وسيد المتقين، وإمام
المؤمنين، سمته تشهد أنه من سلالة رسول الله، وسمته تثبت مقام قربه من الله
زلفا، وثفناته تسجل بكثرة صلاته وتهجده، وإعراضه عن متاع الدنيا ينطق
بزهده فيها، درت له أخلاف التقوى فتفوقها، وأشرقت لديه أنوار التأييد فاهتدى
بها، وألفته أوراد العبادة فآنس بصحبتها، وحالفته وظائف الطاعة فتحلى
بحليتها، طالما اتخذ الليل مطية فركبها لقطع طريق الآخرة، وظمأ الهواجر دليلا
استرشد به في مفازة المسافرة، وله من الخوارق والكرامات ما شوهد بالأعين
الباصرة، وثبت بالآثار المتواترة، وشهد أنه من ملوك الآخرة (2).
وكان (عليه السلام) إذا توضأ للصلاة يصفر لونه، فيقول له أهله: ما هو الذي يعتادك
عند الوضوء؟ فيقول: أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟
وكان إذا قام إلى الصلاة أخذته الرعدة، فيقول لمن يسأله: أريد أن أقوم بين يدي
ربي وأناجيه (3).
ووقع الحريق والنار في البيت الذي هو فيه، وكان ساجدا في صلاته،
فجعلوا يقولون: يا بن رسول الله! يا بن رسول الله! النار النار، فما رفع رأسه حتى
أطفئت، فقيل له: ما الذي ألهاك عنها؟ فقال: نار الآخرة (4).



(1) الكافي ج 1 ص 467، مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 167.
(2) مطالب السؤول: 77.
(3) كشف الغمة ج 2 ص 74، وبتفاوت في البداية والنهاية ج 9 ص 123.
(4) كشف الغمة ج 2 ص 74، وبتفاوت في البداية والنهاية ج 9 ص 123.
370
وعن زرارة بن أعين قال: سمع سائل في جوف الليل، وهو يقول: أين
الزاهدون في الدنيا الراغبون في الآخرة، فهتف هاتف من ناحية من البقيع يسمع
صوته ولا يرى شخصه: ذاك علي بن الحسين (1).
عن الزهري قال: دخلت مع علي بن الحسين (عليهما السلام) على عبد الملك بن مروان
قال: فاستعظم عبد الملك ما رأى من أثر السجود بين عيني علي بن الحسين،
فقال: يا أبا محمد لقد بان عليك الإجتهاد، ولقد سبق لك من الله الحسنى، وأنت
بضعة من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وقريب النسب وكيد السبب، وإنك لذو فضل عظيم على
أهل بيتك وذوي عصرك، ولقد أوتيت من العلم والفضل والورع ما لم يؤته أحد
مثلك ولا قبلك، إلا من مضى من سلفك، وأقبل يثني عليه ويطريه، قال: فقال
علي بن الحسين: كلما ذكرته ووصفته من فضل الله وتأييده وتوفيقه، فأين شكره على
ما أنعم، إلى أن قال: والله لو تقطعت أعضائي وسالت مقلتاي على صدري لن أقوم لله جل جلاله
بشكر عشر العشير من نعمة واحدة من جميع نعمه التي لا يحصيها العادون، ولا يبلغ حد نعمة منها علي جميع
حمد الحامدين، لا والله أو يراني الله لا يشغلني شئ عن شكره وذكره في ليل ولا نهار ولا سر ولا علانية، لولا أن
لأهلي علي حقا ولسائر الناس من خاصهم علي حقوقا لا يسعني إلا القيام بها حسب الوسع والطاقة حتى
أؤديها إليهم، لرميت بطرفي إلى السماء وبقلبي إلى الله، ثم لم أردهما حتى يقضي الله على نفسي وهو
خير الحاكمين، وبكى (عليه السلام) وبكى عبد الملك... (2).
هذه قطرة من بحر عرفانه بربه وعبادته لإلهه، ولابد لأهل الفضل من النظر
في صحيفته السجادية التي هي زبور آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعراج الأولياء ومنهاج
الأصفياء التي عجزت عن إدراك دقائقها عقول الحكماء، واندهشت من لطائفها



(1) روضة الواعظين ص 199، الإرشاد ج 2 ص 144، كشف الغمة ج 2 ص 86.
(2) فتح الأبواب ص 170.
371
قلوب العرفاء، ولم تصل إلى حقائقها إلا الأنبياء والأوصياء صلوات الله عليهم.
في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: حج علي بن الحسين على راحلة عشر حجج، ما قرعها
بسوط، ولقد بركت به سنة من سنواته فما قرعها بسوط (1).
وكان عنده قوم أضياف فاستعجل خادما بشواء كان في التنور، فأقبل به
الخادم مسرعا، فسقط السفود منه على رأس بني لعلي بن الحسين (عليهما السلام) تحت
الدرجة، فأصاب رأسه فقتله، فقال علي (عليه السلام) للغلام وقد تحير الغلام واضطرب:
أنت حر، فإنك لم تتعمده، وأخذ في جهاز ابنه ودفنه (2).
ودخل على محمد بن أسامة بن زيد [زيد بن أسامة بن زيد] فجعل محمد
يبكي، فقال له علي (عليه السلام): ما شأنك؟ قال: دين، فقال: كم هو؟ فقال: خمسة عشر ألف
دينار، فقال علي بن الحسين (عليهما السلام): هو علي فالتزمه عنه (3).
وكان له ابن عم يأتيه بالليل متنكرا فيناوله شيئا من الدنانير، فيقول: لكن
علي بن الحسين لا يواصلني لا جزاه الله عني خيرا. فيسمع ذلك ويحتمله ويصبر
عليه، ولا يعرفه بنفسه، فلما مات فقدها، فحينئذ علم أنه هو كان، فجاء إلى قبره
وبكي عليه (4).
لما مات علي بن الحسين (عليهما السلام) وجدوه يقوت مئة بيت من أهل المدينة كان
يحمل إليهم ما يحتاجون إليه (5).
وقال محمد بن إسحاق: كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من



(1) المحاسن ج 2 ص 361، بتفاوت في الخرائج والجرائح ج 2 ص 586.
(2) كشف الغمة ج 2 ص 81.
(3) الإرشاد ج 2 ص 149، كشف الغمة ج 2 ص 87.
(4) كشف الغمة ج 2 ص 107.
(5) الإرشاد ج 2 ص 149، كشف الغمة ج 2 ص 77.
372
أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين (عليهما السلام) فقدوا ما كانوا يؤتون به في
الليل (1).
وقد روت الخاصة والعامة ما رؤى من آثار سواد في ظهره من حمل جرب
الدقيق على ظهره ليلا، وإيصالها إلى فقراء المدينة سرا (2).
إن من شغله اضطراب خادمه في قتل ولده عن مصابه بابنه فأسكن روعته
بتسليته، واعتذر عنه بأنك لم تكن متعمدا وأعتقه، والذي لم يتحمل أن يرى عينا
باكية من هم الدين، فجعل دينه على نفسه، والذي ينفق على من يشتمه
ولا يعرفه بنفسه لكيلا يرى ذل الانكسار في وجه شاتمه، والذي يحمل على
ظهره الدقيق والحطب للأيتام والمساكين، ويبسط رحمته على الإنسان
والحيوان، ويموت وعلى جبهته وظهره الثفنات التي تكشف عن إفناء نفسه في
عبادة الله، والإحسان إلى عيال الله، ولا يشغله شأن عن شأن، يليق بأن يطلق
عليه إمام الإنسان وحجة الله على الإنس والجان.
والذي يحير العقول في عظمته (عليه السلام) أنه مع استغراقه في معرفة الرب بأدعيته،
وانشغاله في عبادته بإحياء الليل وصيام النهار، وأداء حقوق الخلق على ما في
رسالته في الحقوق التي أعطت كل ذي حق حقه، يقول: وأما رحمة الله فإن الله تعالى
يقول: إنها قريبة من المحسنين، ولا أعلم أني محسن (3).
كان يعظ الناس في كل جمعة في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويقول:
أيها الناس اتقوا الله واعلموا أنكم إليه ترجعون، فتجد كل نفس ما عملت في هذه الدنيا من خير



(1) كشف الغمة ج 2 ص 77.
(2) مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 154، كشف الغمة ج 2 ص 77، البداية والنهاية ج 9 ص 120.
(3) كشف الغمة ج 2 ص 108.
373
محضرا، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا، ويحذركم الله نفسه.
ويحك ابن آدم الغافل وليس بمغفول عنك، ابن آدم، إن أجلك أسرع شئ إليك، قد أقبل نحوك
حثيثا يطلبك ويوشك أن يدركك، وكأن قد أوفيت أجلك، وقبض الملك روحك، وصرت إلى قبرك وحيدا،
فرد إليك فيه روحك، واقتحم عليك فيه ملكان، ناكر ونكير، لمسائلتك وشديد امتحانك، ألا وإن أول
ما يسألانك عن ربك الذي كنت تعبده، وعن نبيك الذي ارسل إليك، وعن دينك الذي كنت تدين به، وعن
كتابك الذي كنت تتلوه، وعن إمامك الذي كنت تتولاه، ثم عن عمرك فيما أفنيت، ومالك من أين اكتسبته
وفيما أنفقته، فخذ حذرك، وانظر لنفسك، وأعد الجواب قبل الامتحان والمسألة والاختبار... (1).
حكمه (عليه السلام)
ومن حكمه (عليه السلام):
اتقوا الكذب الصغير منه والكبير في كل جد وهزل، فإن الرجل إذا كذب في الصغير اجترء على
الكبير (2).
الخير كله صيانة الإنسان نفسه (3).
إن أحبكم إلى الله أحسنكم عملا، وإن أعظمكم عند الله أعظمكم فيما عند الله رغبة، وإن أنجاكم من
عذاب الله أشدكم خشية، وإن أقربكم عند الله أوسعكم خلقا، وإن أرضاكم عند الله أسبغكم على عياله،
وإن أكرمكم عند الله أتقاكم لله (4).
إن المعرفة بكمال دين المسلم تركه الكلام فيما لا يعنيه، وقلة مرائه، وحلمه، وصبره، وحسن



(1) الكافي ج 8 ص 72، الأمالي للصدوق المجلس السادس والسبعون ح 1 ص 593 بتفاوت يسير.
(2) الكافي ج 2 ص 338.
(3) تحف العقول، في قصار هذه المعاني عن علي بن الحسين (عليهما السلام).
(4) الكافي ج 8 ص 69.
374
خلقه (1).
ثلاث من كن فيه من المؤمنين كان في كنف الله، وأظله الله يوم القيامة في ظل عرشه،
وآمنه من فزع اليوم الأكبر: من أعطى من نفسه ما هو سائلهم لنفسه، ورجل لم يقدم يدا ولا رجلا حتى
يعلم أنه في طاعة الله قدمها أو في معصيته، ورجل لم يعب أخاه بعيب حتى يترك ذلك العيب من
نفسه (2).
وقال (عليه السلام) لبعض بنيه: يا بني انظر خمسة فلا تصاحبهم ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق،
فقال: يا أبة من هم؟ قال (عليه السلام): إياك ومصاحبة الكذاب، فإنه بمنزلة السراب يقرب لك البعيد ويباعد
لك القريب، وإياك ومصاحبة الفاسق فإنه بائعك بأكلة أو أقل من ذلك، وإياك ومصاحبة البخيل فإنه
يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه، وإياك ومصاحبة الأحمق، فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، وإياك
ومصاحبة القاطع لرحمه، فإني وجدته ملعونا في كتاب الله (3).
وقال لابنه محمد (عليهما السلام): افعل الخير إلى كل من طلبه منك، فإن كان أهله فقد أصبت
موضعه، وإن لم يكن بأهل كنت أنت أهله، وإن شتمك رجل عن يمينك، ثم تحول إلى يسارك فاقبل
عذره (4).
وقال (عليه السلام): يقول الله: يا بن آدم إرض بما آتيتك تكن من أزهد الناس، ابن آدم اعمل بما افترضت
عليك تكن من أعبد الناس، ابن آدم اجتنب ما حرمت عليك تكن من أورع الناس (5).
وقال (عليه السلام): خمس لو رحلتم إليه لأنضيتموهن وما قدرتم على مثلهن، لا يخاف عبد إلا ذنبه، ولا يرجو إلا
ربه، ولا يستحي الجاهل إذا سأل عما لا يعلم أن يتعلم، والصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان



(1) الكافي ج 2 ص 240.
(2) تحف العقول: في قصار هذه المعاني عن علي بن الحسين (عليهما السلام) ص 282.
(3) الكافي ج 2 ص 377.
(4) الكافي ج 8 ص 153.
(5) تحف العقول: في قصار هذه المعاني عن علي بن الحسين (عليهما السلام) ص 281.
375
لمن لا صبر له (1).
إنها كلمات منيرة، قصيرة لفظا، بعيدة المدى معنى، يضمن تعلمها والعمل بها
سعادة الفرد والمجتمع.
كراماته (عليه السلام)
ونقتصر من كراماته بما رواه أبو نعيم وابن حجر وغيرهما من العامة،
وصاحب كشف الغمة وغيره من الخاصة:
عن ابن شهاب الزهري قال: شهدت علي بن الحسين يوم حمله عبد
الملك بن مروان من المدينة إلى الشام، فأثقله حديدا ووكل به حفاظا في عدة
وجمع، فاستأذنتهم في التسليم عليه والتوديع له، فأذنوا لي، فدخلت عليه، وهو
في قبة والأقياد في رجليه، والغل في يديه، فبكيت وقلت: وددت أني في
مكانك وأنت سالم، فقال لي: يا زهري، أوتظن هذا مما ترى علي وفي عنقي مما يكربني؟ أما لو
شئت ما كان، وأنه إن بلغ بك وبأمثالك غمر ليذكر عذاب الله، ثم أخرج يده من الغل ورجليه من
القيد، ثم قال: يا زهري لا جزت معهم ذا منزلتين من المدينة، قال: فما لبثنا إلا
أربع ليال، حتى قدم الموكلون به يطلبونه من المدينة، فما وجدوه، فكنت فيمن
سألهم عنه، فقال لي بعضهم: إنا نراه متبوعا، إنه لنازل ونحن حوله، لا ننام
نرصده، إذ أصبحنا فما وجدنا بين محمله إلا حديدة.
قال الزهري: فقدمت بعد ذلك على عبد الملك بن مروان، فسألني عن
علي بن الحسين، فأخبرته، فقال لي: إنه جاءني في يوم فقده الأعوان، فدخل
علي، فقال: ما أنا وأنت، فقلت: أقم عندي، فقال: لا أحب، ثم خرج، فوالله لقد



(1) تحف العقول: في قصار هذه المعاني عن علي بن الحسين (عليهما السلام) ص 281.
376
امتلأ ثوبي منه خيفة.
قال الزهري: فقلت: يا أمير المؤمنين ليس علي بن الحسين حيث تظن، إنه
مشغول بربه، فقال: حبذا شغل مثله، فنعم ما شغل به (1).



(1) حلية الأولياء ج 3 ص 135 رقم 229 زين العابدين علي بن الحسين، الصواعق المحرقة ص 200،
تاريخ مدينة دمشق ج 41 ص 372، كشف الغمة ج 2 ص 76، نوادر المعجزات ص 127.
377
الإمام الخامس محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام)
الإمام الخامس
محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام)
ولد بالمدينة ثالث صفر أو غرة رجب سنة سبع وخمسين، وقبض سنة أربع
عشرة ومئة سابع ذي الحجة، وكان عمره سبعا وخمسين سنة.
عاش مع جده الحسين (عليه السلام) أربع سنين، ومع أبيه تسعا وثلاثين، وكانت مدة
إمامته ثماني عشرة سنة، وأمه أم عبد الله بنت الحسن بن علي (عليهما السلام)، فهو
ابن الحسن والحسين (عليهم السلام).
وعن الصادق (عليه السلام): وكانت أمه صديقة لم تدرك في آل الحسن مثلها (1).
وعن الباقر (عليه السلام): كانت أمي قاعدة عند جدار فتصدع الجدار، وسمعنا هدة شديدة، فقالت بيدها:
لا وحق المصطفى، ما أذن لك في السقوط، فبقي معلقا حتى جازته (2).
كنيته وألقابه (عليه السلام)
وكنيته أبو جعفر، وألقابه: باقر العلم، والشاكر، والهادي.
مناقبه (عليه السلام)
انتشرت عنه أنوار العلوم والمعارف، واعترف بمناقبه المؤالف والمخالف.
وفي الصحاح: كان يقال لمحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي



(1) الكافي ج 1 ص 469.
(2) الكافي ج 1 ص 469.
378
طالب (رضي الله عنه): الباقر لتبقره في العلم.
في القاموس، بقره كمنعه، شقه، ووسعه، والباقر محمد بن علي بن
الحسين، لتبحره في العلم.
قال ابن حجر: وارثه منهم عبادة وعلما وزهادة أبو جعفر محمد الباقر،
سمي بذلك من بقر الأرض أي شقها وأثار مخبأتها ومكامنها، فلذلك هو أظهر
من مخبآت كنوز المعارف، وحقائق الأحكام، والحكم واللطائف، ما لا يخفى إلا
على منطمس البصيرة، أو فاسد الطوية والسريرة، ومن ثم قيل فيه هو باقر العلم
وجامعه وشاهر علمه ورافعه، صفى قلبه، وزكى علمه وعمله، وطهرت نفسه،
وشرف خلقه، وعمرت أوقاته بطاعة الله، وله من الرسوم في مقامات العارفين
ما تكل عنه ألسنة الواصفين (1).
وقال ابن طلحة: هو باقر العلم وجامعه، وشاهر علمه ورافعه، ومتفوق دره
وراضعه، ومنمق دره وراصفه، صفى قلبه، وزكى عمله، وطهرت نفسه، وشرف
أخلاقه، وعمرت بطاعة الله أوقاته، ورسخت في مقام التقوى قدمه، وظهرت
عليه سمات الازدلاف وطهارة الاجتباء، فالمناقب تسبق إليه، والصفات
تتشرف به (2).
وقد روت الخاصة والعامة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبلغه السلام بواسطة جابر
بن عبد الله الأنصاري.
وفي الصحيح عن الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: إن رسول الله قال ذات يوم
لجابر بن عبد الله الأنصاري: يا جابر إنك ستبقى حتى تلقى ولدي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب



(1) الصواعق المحرقة ص 201.
(2) مطالب السؤول ص 80.
379
المعروف في التوراة بالباقر، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام، فدخل جابر إلى علي بن
الحسين (عليهما السلام) فوجد محمد بن علي (عليهما السلام) عنده غلاما، فقال له: يا غلام أقبل،
فأقبل، ثم قال: أدبر، فأدبر، فقال جابر: شمائل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ورب الكعبة، ثم
أقبل علي بن الحسين، فقال له: من هذا؟ قال: هذا ابني وصاحب الأمر بعدي، محمد الباقر،
فقام جابر فوقع على قدميه يقبلهما، ويقول: نفسي لنفسك الفداء يا بن رسول الله،
اقبل سلام أبيك، إن رسول الله يقرأ عليك السلام، قال: فدمعت عينا أبي
جعفر (عليه السلام)، ثم قال: يا جابر، على أبي رسول الله السلام ما دامت السماوات والأرض، وعليك السلام يا جابر
بما بلغت (1).
قدم وفد من فلسطين على الباقر (عليه السلام)، فسألوه عن مسائل، فأجابهم، ثم
سألوه عن الصمد، فقال: تفسير الصمد فيه خمسة أحرف، فالألف دليل على إنيته، وهو قوله:
شهد الله أنه لا إله إلا هو، وذلك تنبيه وإشارة إلى الغائب عن درك الحواس، واللام دليل على إلهيته بأنه
هو الله، والألف واللام مدغمان لا يظهران على اللسان ولا يقعان في السمع، ويظهران في الكتابة دليلان
على أن إلهيته خافية لا تدرك بالحواس ولا يقع في لسان واصف ولا أذن سامع، لأن تفسير الإله هو
الذي أله الخلق عن درك مائيته وكيفيته بحس أو بوهم، لا بل هو مبدع الأوهام وخالق الحواس، وإنما
يظهر ذلك عند الكتابة فهو دليل على أن الله أظهر ربوبيته في إبداع الخلق وتركيب أرواحهم اللطيفة
في أجسادهم الكثيفة، فإذا نظر عبد إلى نفسه لم ير روحه، كما أن لام الصمد لا تتبين، ولا تدخل في
حاسة من الحواس الخمس، فإذا نظر إلى الكتابة ظهر له ما خفي ولطف، فمتى تفكر العبد في مائية
الباري وكيفيته أله فيه وتحير ولم تحط فكرته بشئ يتصور له، لأنه عز وجل خالق الصور، فإذا نظر إلى
خلقه ثبت له أنه خالقهم ومركب أرواحهم في أجسادهم.



(1) أمالي الصدوق المجلس السادس والخمسون ح 9، روضة الواعظين ص 203، بتفاوت وفي
الصواعق المحرقة ص 201، مطالب السؤول ص 81، ينابيع المودة ج 3 ص 52 ومصادر أخرى.
380
وأما الصاد فدليل على أنه عز وجل صادق وقوله صدق وكلامه صدق، ودعا عباده إلى اتباع الصدق
بالصدق، ووعد بالصدق دار الصدق.
وأما الميم فدليل على ملكه، وأنه الملك الحق لم يزل ولا يزال ولا يزول ملكه.
وأما الدال فدليل على دوام ملكه وأنه عز وجل دائم تعالى عن الكون والزوال، بل هو الله
عز وجل مكون الكائنات الذي كان بتكوينه كل كائن.
ثم قال: لو وجدت لعلمي الذي أتاني الله حملة لنشرت التوحيد والإسلام والدين والشرايع من
الصمد (1).
وعن داود بن القاسم الجعفري، قلت لأبي جعفر (عليه السلام): جعلت فداك
ما الصمد؟ قال: السيد المصمود إليه في القليل والكثير (2).
وقال: حدثني أبي زين العابدين عن أبيه الحسين بن علي (عليهم السلام) أنه قال: الصمد
الذي لا جوف له، والصمد الذي به انتهى سؤدده، والصمد الذي لا يأكل ولا يشرب، والصمد الذي لا ينام، والصمد
الذي لم يزل ولا يزال (3).
وكما يستخرج (عليه السلام) جواهر العرفان من الكلمات وحروف القرآن، كان يرشد
الإنسان إلى ما يحتاج إليه في المعاش والمعاد.
حكمه ومواعظه (عليه السلام)
ونقتصر على قليل من كثير من حكمه ومواعظه:
تعلموا العلم، فإن تعلمه حسنة، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعلمه



(1) معاني الأخبار ص 7 باب معنى الصمد، التوحيد للصدوق ص 92.
(2) معاني الأخبار ص 6.
(3) معاني الأخبار ص 7.
381
صدقة، وبذله لأهله قربة، والعلم ثمار الجنة وأنس في الوحشة، وصاحب في الغربة، ورفيق في
الخلوة، ودليل على السراء، وعون على الضراء، ودين [زين] عند الأخلاء، وسلاح عند الأعداء، يرفع الله به قوما
فيجعلهم في الخير سادة، وللناس أئمة يقتدى بفعالهم ويقتص آثارهم (1)...
وورد أنه قال لبعض شيعته وقد أراد سفرا، فقال له أوصني، فقال: لا تسيرن سيرا
وأنت حاف، ولا تنزلن عن دابتك ليلا إلا ورجلاك في خف، ولا تبولن في نفق، ولا تذوقن بقلة، ولا تشمها
حتى تعلم ما هي، ولا تشرب من سقاء حتى تعرف ما فيه، ولا تسيرن إلا مع من تعرف، واحذر من
لا تعرف (2).
وقيل له: من أعظم الناس قدرا؟ فقال: من لا يرى الدنيا لنفسه قدرا (3).
ما يأخذ المظلوم من دين الظالم أكثر مما يأخذ الظالم من دنيا المظلوم (4).
أربع من كنوز البر: كتمان الحاجة، وكتمان الصدقة، وكتمان الوجع، وكتمان المصيبة (5).
من صدق لسانه زكى عمله، ومن حسنت نيته زيد في رزقه، ومن حسن بره بأهله زيد في
عمره (6).
البشر الحسن وطلاقة الوجه مكسبة للمحبة، وقربة إلى الله، وعبوس الوجه وسوء البشر مكسبة
للمقت، وبعد من الله (7).
عليكم بالورع، والاجتهاد، وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برا كان أو فاجرا، فلو أن



(1) بحار الأنوار ج 75 ص 189.
(2) بحار الأنوار ج 75 ص 189.
(3) بحار الأنوار ج 75 ص 188.
(4) بحار الأنوار ج 75 ص 188 وبتفاوت في الكافي ج 2 ص 334.
(5) تحف العقول في قصار هذه المعاني عنه (عليه السلام).
(6) تحف العقول ص 295.
(7) تحف العقول ص 269.
382
قاتل علي بن أبي طالب (عليه السلام) ائتمنني على أمانة لأديتها إليه (1).
لو يعلم السائل ما في المسألة ما سأل أحد أحدا، ولو يعلم المسؤول ما في المنع ما منع أحد أحدا (2).
ثلاث درجات، وثلاث كفارات، وثلاث موبقات، وثلاث منجيات:
فأما الدرجات فإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام.
وأما الكفارات فإسباغ الوضوء في السبرات والمشي في النهار إلى الجماعات، والمحافظة على
الصلوات.
وأما الموبقات فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه.
وأما المنجيات فخوف الله في السر والعلانية، والقصد في الغنى والفقر، وكلمة العدل في
الرضا والسخط (3).
عن جابر، قال: دخلنا على أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) ونحن جماعة
بعدما قضينا نسكنا، فودعنا، وقلنا له: أوصنا يا بن رسول الله، فقال: ليعن قويكم
[على] ضعيفكم، وليعطف غنيكم على فقيركم، ولينصح الرجل أخاه كنصحه لنفسه، واكتموا أسرارنا،
ولا تحملوا الناس على أعناقنا، وانظروا أمرنا، وما جاءكم عنا، فإن وجدتموه للقرآن موافقا فخذوا به وإن
لم تجدوه موافقا فردوه، وإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده، وردوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح
لنا.
فإذا كنتم كما أوصيناكم لم تعدوا إلى غيره، فمات منكم ميت قبل أن يخرج قائمنا كان شهيدا، وإن
أدرك قائمنا فقتل معه كان له أجر شهيدين، ومن قتل بين يديه عدوا لنا كان له أجر عشرين



(1) تحف العقول ص 299.
(2) تحف العقول ص 100.
(3) الخصال للصدوق ص 84.
383
شهيدا (1).
إن الله خبأ ثلاثة في ثلاثة: خبأ رضاه في طاعته فلا تحقرن من الطاعة شيئا فلعل رضاه فيه،
وخبأ سخطه في معصيته فلا تحقرن من المعصية شيئا، فلعل سخطه فيه، وخبأ أوليائه في خلقه
فلا تحقرن أحدا فلعله الولي (2).
كراماته (عليه السلام)
وهي أكثر من أن تذكر في هذا المختصر، ونكتفي بما يلي:
في الصحيح عن أبي بصير، قال: دخلت على أبي عبد الله وأبي جعفر (عليهما السلام)،
فقلت لهما: أنتما ورثة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، قال: نعم، قلت: فرسول الله وارث الأنبياء،
علم كل ما علموا، فقال لي: نعم.
فقلت: أنتم تقدرون على أن تحيوا الموتى وتبرئوا الأكمه والأبرص؟ فقال
لي: نعم، بإذن الله.
ثم قال: ادن مني يا أبا محمد، فمسح يده على عيني ووجهي، فأبصرت الشمس
والسماء والأرض والبيوت وكل شئ في الدار، قال: أتحب أن تكون هكذا، ولك
ما للناس، وعليك ما عليهم يوم القيامة أو تعود كما كنت ولك الجنة خالصا؟ قلت: أعود كما كنت،
قال: فمسح على عيني، فعدت كما كنت (3).
وعن أبي بصير قال: كنت مع الباقر (عليه السلام) في مسجد رسول الله قاعدا حدثان



(1) الأمالي للطوسي ص 232 المجلس التاسع ح 2.
(2) بحار الأنوار ج 75 ص 188 كشف الغمة ج 2 ص 148.
(3) بصائر الدرجات الجزء السادس باب 3، ما في الأئمة (عليهم السلام) أنهم يحيون الموتى ص 289، وبتفاوت
يسير في الكافي ج 1 ص 470، كشف الغمة ج 2 ص 143.
384
ما مات علي بن الحسين (عليهما السلام) إذ دخل المنصور وداود بن علي قبل أن أفضى
الملك إلى ولد العباس، وما قعد إلا داود إلى الباقر (عليه السلام)، فقال: ما منع الدوانيقي أن يأتي،
قال: فيه جفاء. قال الباقر (عليه السلام): لا تذهب الأيام حتى يلي أمر هذا الخلق فيطأ أعناق الرجال، ويملك
شرقها وغربها، ويطول عمره فيها حتى يجمع من كنوز الأموال ما لم يجمع لأحد قبله، فقام داود وأخبر
الدوانيقي بذلك، فأقبل إليه الدوانيقي، وقال: ما منعني من الجلوس إليك إلا
إجلالك، فما الذي أخبرني داود؟ قال: هو كائن. قال: وملكنا قبل ملككم؟ قال:
نعم، قال: ويملك بعدي أحد من ولدي؟ قال: نعم، قال: فمدة بني أمية أكثر أم
مدتنا؟ قال: مدتكم أطول، ويتلقفن هذا الملك صبيانكم، ويلعبون به كما يلعبون بالكرة، هذا ما عهده
إلي أبي. فلما ملك الدوانيقي تعجب من قول الباقر (عليه السلام) (1).



(1) كشف الغمة ج 2 ص 142، الخرائج والجرائح ج 1 ص 273.
385
الإمام السادس جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام)
الإمام السادس
جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام)
ولد بالمدينة سابع عشر شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين، وقبض بها في
شوال سنة ثمان وأربعين ومئة، وله خمس وستون سنة.
وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد، أقام مع جده اثنتي عشرة سنة ومع أبيه
تسع عشرة سنة، ومدة إمامته أربع وثلاثون سنة.
كنيته وألقابه (عليه السلام)
كنيته أبو عبد الله، وألقابه: الصادق، والفاضل، والكامل، والصابر،
والطاهر، والقاهر، والباقي، والمنجي، وأشهرها ما سماه به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو
الصادق.
فضائله ومناقبه (عليه السلام)
اعترف العامة والخاصة له بالعلم وإجابة الدعوة اللذين بهما يعرف الإمام.
قال ابن طلحة: هو من عظماء أهل البيت وساداتهم، ذو علوم جمة، وعبادة
موفورة، وأوراد متواصلة، وزهادة بينة، وتلاوة كثيرة، يتتبع معاني القرآن
الكريم، ويستخرج من بحره جواهره، ويستنتج عجائبه.
ويقسم أوقاته على أنواع الطاعات، بحيث يحاسب عليها نفسه، رؤيته تذكر
بالآخرة، واستماع كلامه يزهد في الدنيا، والاقتداء بهديه يورث الجنة، نور

386
قسماته شاهد أنه من سلالة النبوة، وطهارة أفعاله تصدع بأنه من ذرية الرسالة،
نقل عنه الحديث واستفاد منه العلم جماعة من أعيان الأئمة وأعلامهم، إلى أن
قال:
وأما مناقبه وصفاته فتكاد تفوق عدد الحاصر، ويحار في أنواعها فهم اليقظ
الباصر، حتى أنه من كثرة علومه المفاضة على قلبه من سجال التقوى صارت
الأحكام التي لا تدرك عللها، والعلوم التي تقصر الأفهام عن الإحاطة بحكمها،
تضاف إليه، وتروى عنه (1).
قال ابن حجر: أخرج أبو القاسم الطبري من طريق ابن وهب، قال: سمعت
الليث بن سعد، يقول: حججت سنة ثلاث عشرة ومئة، فلما صليت العصر في
المسجد، رقيت أبا قبيس، فإذا رجل جالس يدعو، فقال: يا رب يا رب حتى انقطع
نفسه، ثم قال: يا حي يا حي حتى انقطع نفسه، ثم قال: إني أشتهي العنب فأطعمنيه، وأن
بردي قد خلقا فاكسني، قال الليث: فوالله ما استتم كلامه حتى نظرت إلى سلة مملوءة
عنبا، وليس على الأرض يومئذ عنب، فإذا بردان موضوعان لم أر مثلهما في
الدنيا، فأراد أن يأكل فقلت: أنا شريكك، فقال: لم؟ فقلت: لأنك دعوت وكنت
أؤمن، فقال: تقدم وكل، فتقدمت وأكلت عنبا لم آكل مثله قط، وما كان له عجم،
فأكلنا حتى شبعنا ولم تتغير السلة، فقال: لا تدخر ولا تخبئ منه شيئا، ثم أخذ أحد البردين
ودفع إلي الآخر، فقلت: أنا في غنى عنه، فائتزر بأحدهما وارتدى بالآخر، ثم
أخذ برديه الخلقين فنزل وهما بيده، ولقيه رجل بالمسعى، فقال: اكسني
يا بن رسول الله مما كساك الله، فإني عريان، فدفعهما إليه، فقلت: من هذا؟ قال:



(1) مطالب السؤول ص 81.
387
جعفر الصادق، فطلبته بعد ذلك لأسمع منه شيئا فلم أقدر عليه (1).
وعن مالك بن أنس فقيه المدينة: والله ما رأت عيني أفضل من جعفر
بن محمد زهدا وفضلا وعبادة وورعا، وكان رجلا لا يخلو من إحدى ثلاث
خصال، إما صائما، وإما قائما، وإما ذاكرا، وكان من عظماء العباد، وأكابر الزهاد
الذين يخشون الله عز وجل، وكان كثير الحديث، طيب المجالسة، كثير الفوائد،
فإذا قال: قال رسول الله اخضر مرة واصفر أخرى حتى لينكره من كان يعرفه (2).
وكيف لا يكون كذلك وهو إمام العارفين، إنه الإمام الذي بعمله يعلمنا ما هي
معرفة الله التي تنبعث منها هذه الخشية لله {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (3)،
وبقوله يعرف من هو العارف بالله، وقد روي عنه (عليه السلام) أنه قال: العارف شخصه مع الخلق
وقلبه مع الله، لو سهى قلبه عن الله طرفة عين لمات شوقا إليه، والعارف أمين ودائع الله، وكنز
أسراره، ومعدن أنواره، ودليل رحمته على خلقه، ومطية علومه، وميزان فضله وعدله، قد غنى عن
الخلق والمراد والدنيا، ولا مؤنس له سوى الله ولا نطق ولا إشارة ولا نفس إلا بالله و [لله] ومن الله ومع
الله، فهو في رياض قدسه متردد، ومن لطائف فضله إليه متزود، والمعرفة أصل فرعه
الإيمان (4).
ومن نظر في آلاف الروايات الواردة عنه في أصول الدين من المبدأ إلى
المعاد، وفي فروع الدين من الطهارة إلى الديات، وما روى عنه في المواعظ
والأخلاق، وما حفظ عنه في العشرة والحقوق والآداب يدرك ما في زيارة



(1) الصواعق المحرقة ص 203، وبتفاوت يسير في كشف الغمة ج 2 ص 160.
(2) مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 275.
(3) سورة فاطر: 28.
(4) مصباح الشريعة ص 191.
388
الجامعة وبموالاتكم علمنا الله معالم ديننا، وأصلح ما كان فسد من دنيانا، ومن تأمل فيما صدر
عنه في المعرفة والعبادة يؤمن بأنه يحق له أن يقول: بنا عرف الله، بنا عبد الله، نحن الأدلاء
على الله، لولانا ما عبد الله (1).
قال الحسن بن زياد: سمعت أبا حنيفة وقد سئل من أفقه من رأيت؟ قال:
جعفر بن محمد، لما أقدمه المنصور بعث إلي، فقال: يا أبا حنيفة، إن الناس قد
فتنوا بجعفر بن محمد، فهيئ له من مسائلك الشداد، فهيأت له أربعين مسألة،
ثم بعث إلي أبو جعفر وهو بالحيرة، فأتيته ودخلت عليه وجعفر جالس عن
يمينه، فلما بصرت به دخلني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر، فسلمت
عليه، فأوما إلي، فجلست ثم التفت إليه فقال: يا أبا عبد الله هذا أبو حنيفة، قال:
نعم أعرفه، ثم التفت إلي فقال: يا أبا حنيفة الق على أبي عبد الله من مسائلك
فجعلت القي عليه فيجيبني، فيقول: أنتم تقولون كذا وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن
نقول كذا... حتى أتيت على الأربعين، فما أخل بشئ، ثم قال أبو حنيفة: أليس
أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس؟! (2)
قال ابن قتيبة في أدب الكاتب: وكتاب الجفر كتبه الإمام جعفر بن محمد
الصادق ابن محمد الباقر، وفيه كل ما يحتاجون إلى علمه إلى يوم القيامة (3).
وقال الشبلنجي الشافعي في نور الأبصار: ومناقبه كثيرة تفوق عدد
الحاسب ويحار في أنواعها فهم اليقظ الكاتب (4).



(1) التوحيد للصدوق ص 152، باب 12 ح 9.
(2) مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 255 وغيره من كتب الخاصة - وبتفاوت يسير في: الكامل في ضعفاء
الرجال ج 2 ص 132 - تهذيب الكمال ج 5 ص 79 - سير أعلام النبلاء ج 6 ص 257.
(3) الذريعة ج 5 ص 120.
(4) نور الأبصار ص 160.
389
مكارمه (عليه السلام)
ومكارمه أكثر من أن تحصى:
منها: أنه كان للصادق ابن، فبينا هو يمشي بين يديه، إذ غص فمات،
فبكى، وقال: لئن أخذت لقد أبقيت، ولئن ابتليت لقد عافيت، ثم حمله إلى النساء فلما
رأينه صرخن، فأقسم عليهن أن لا يصرخن، فلما أخرجه للدفن، قال: سبحان من
يقتل أولادنا، ولا نزداد له إلا حبا، فلما دفنه، قال: يا بني وسع الله في ضريحك، وجمع بينك وبين
نبيك (1).
وقال (عليه السلام): إنا قوم نسأل الله ما نحب فيمن نحب، فيعطينا، فإذا أحب ما نكره فيمن نحب رضينا.
في هذا الحديث الشريف تنبيه على أن جميع ما أعطاه الله العباد إنما هو
ابتداء بالنعم بلا استحقاق، فما أخذه مع إبقاء نعمه التي لا تعد ولا تحصى،
وما ابتلى به مع العافية عن سائر أنواع البلاء، ومع أن البلاء للولاء ليس إلا عناية
ورحمة ونهاية اللطف من المولى.
ثم أرشد (عليه السلام) إلى أن مقتضى التعامل بين ما أحب العبد وما أحب الرب ليس
إلا التسليم والرضا، فباشتداد البلاء يزداد حب الأولياء لله تعالى.
دخل سفيان الثوري على الصادق (عليه السلام) فرآه متغير اللون، فسأله عن ذلك،
فقال: كنت نهيت أن يصعدوا فوق البيت، فدخلت فإذا جارية من جواري ممن تربي بعض ولدي قد
صعدت في سلم، والصبي معها، فلما بصرت بي ارتعدت وتحيرت وسقط الصبي إلى الأرض فمات، فما
تغير لوني لموت الصبي، وإنما تغير لوني لما أدخلت عليها من الرعب، قال لها: أنت حرة لوجه الله، لا بأس



(1) دعوات الراوندي ص 286.
(2) دعوات الراوندي ص 286.
390
عليك، مرتين (1).
فمع أنه (عليه السلام) نهاهم وخالفته الأمة وعصته وعصت الله سبحانه، وارتعدت
برؤيتها له، والسبب في ذلك كله هي، ولكنه لم يتغير لونه لموت فلذة كبده، وإنما
تغير لاضطراب قلب الجارية، وأسكن اضطرابها بعتقها وآمنها بنفي البأس عليها
عن مؤاخذة الدنيا وعذاب الآخرة! وبذلك أظهر (عليه السلام) بموت ولده بأمر الخالق
منتهى الرضا لله، وأظهر بموت ولده بفعل الخلق منتهى الرحمة لخلق الله، فالله
أعلم حيث يجعل خلافته.
وفي الصحيح عن هشام بن سالم، قال: كان أبو عبد الله إذا أعتم وذهب من
الليل شطره، أخذ جرابا فيه خبز ولحم والدراهم، فحمله على عنقه، ثم ذهب به
إلى أهل الحاجة من أهل المدينة، فقسمه فيهم ولا يعرفونه، فلما مضى أبو
عبد الله فقدوا ذا [ذلك] فعلموا أنه كان أبا عبد الله (2).
حكمه ومواعظه (عليه السلام)
ومن حكمه ومواعظه ما عن بعض أصحابه (عليه السلام)، قال: دخلت عليه وموسى
بين يديه، وهو يوصيه بهذه الوصية، فكان مما حفظت منها، أن قال: يا بني اقبل
وصيتي، واحفظ مقالتي، فإنك إن حفظتها تعش سعيدا وتمت حميدا، يا بني من قنع بما قسم له
استغنى، ومن مد عينه إلى ما في يد غيره مات فقيرا، ومن لم يرض بما قسم الله له اتهم الله في
قضائه، ومن استصغر زلة غيره استعظم زلة نفسه، ومن استصغر زلة نفسه استعظم زلة غيره.
يا بني من كشف عن حجاب غيره تكشفت عورات بيته، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن



(1) مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 274.
(2) الكافي ج 4 ص 8.
391
احتفر لأخيه بئرا سقط فيها، ومن داخل السفهاء حقر، ومن خالط العلماء وقر، ومن دخل مداخل السوء
اتهم.
يا بني إياك أن تزري بالرجال فيزرى بك، وإياك والدخول فيما لا يعنيك فتذل.
يا بني قل الحق لك وعليك تستشار من بين أقرانك.
يا بني كن لكتاب الله تاليا وللإسلام فاشيا، وبالمعروف آمرا، وعن المنكر ناهيا، ولمن قطعك واصلا،
ولمن سكت مبتدئا، ولمن سألك معطيا، وإياك والنميمة فإنها تزرع الشحناء في قلوب الرجال، وإياك
والتعرض لعيوب الناس، فمنزلة المعترض لعيوب الناس كمنزلة الهدف.
يا بني إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه، فإن للجود معادن، وللمعادن أصولا وللأصول فروعا
وللفروع ثمرا، ولا يطيب ثمر إلا بفرع، ولا فرع إلا بأصل، ولا أصل ثابت إلا بمعدن طيب.
يا بني إذا زرت فزر الأخيار ولا تزر الفجار، فإنهم صخرة لا يتفجر ماؤها، وشجرة لا يخضر ورقها، وأرض
لا تظهر عشبها.
قال علي بن موسى: فما ترك أبي الوصية إلى أن توفي (1).
وفي كل عبارة من كلمات هذه الوصية إشارات ولطائف ودقائق وحقائق،
فمن تأمل في كلمة منها وهي قوله (عليه السلام): قل الحق لك وعليك يرى أن قيام السماوات
والأرض بالحق، ولا يمكن تحقق ما في تصور الحكماء من المدينة الفاضلة إلا
بإحقاق الحق، ولا يصل كل إنسان إلى الكمال المطلوب له من خلقه إلا بالتخلية
عن الباطل، والتحلية بالحق.
وكل ما يتعلق بالإنسان إما له وإما عليه، فإذا دار فيهما مدار الحق يرضى
عنه الخالق والخلق، فإذا قال الحق له وعليه، فأول ما يستفيد منه أن النفوس
المفطورة على محبة الحق والتنفر عن الباطل تطمئن اليه وتحبه، ويصير قسطاسا



(1) كشف الغمة ج 2 ص 184، تهذيب الكمال ج 5 ص 89، سير أعلام النبلاء ج 6 ص 262.
392
مستقيما لا يميل إلى الإفراط والتفريط، فتستمد منه العقول، ويكون مستشارا
بين الأقران.
فلو عمل بهذه الكلمة أفراد المجتمع من أدناهم إلى أعلاهم، لتحقق فيه
الاطمئنان النفسي والثقة التي يقوم بها المجتمع.
فكيف إذا كان مع ذلك تاليا للكتاب الذي يهدي للتي هي أقوم، وناشرا
للإسلام الذي هو تسليم المسلم لله، وسلامة المسلمين من يده ولسانه، وآمرا
بالمعروف وناهيا عن المنكر، عالما بما يأمر وما ينهى، وعادلا فيما يأمر وينهى،
ورفيقا بمن يأمر وينهى، وعاملا بما يأمر به وتاركا لما ينهى عنه، ثم اتعظ بسائر
المواعظ التي تضمن المحافظة عليها سلامة الحياة ومحمدة الممات.
وقال (عليه السلام): إذا بلغك عن أخيك شئ يسوؤك فلا تغتم به، فإنه إن كان كما يقول كانت
عقوبة عجلت، وإن كان على غير ما يقول كانت حسنة لم تعملها (1).
وقال (عليه السلام): وإن خير العباد من يجتمع فيه خمس خصال: إذا أحسن استبشر، وإذا أساء استغفر، وإذا
أعطي شكر، وإذا ابتلى صبر، وإذا ظلم غفر (2).
كراماته (عليه السلام)
ومن كراماته (عليه السلام) ما في الصحيح عن جعفر بن محمد بن الأشعث قال: وقال
لي: أتدري ما كان سبب دخولنا في هذا الأمر ومعرفتنا به؟ وما كان عندنا منه ذكر
ولا معرفة شئ مما عند الناس؟ قال: قلت له: وما ذاك؟ قال: إن أبا جعفر - يعني
أبا الدوانيق - قال لأبي، محمد بن الأشعث: يا محمد ابغ لي رجلا له عقل يؤدي



(1) كشف الغمة ج 2 ص 186، تهذيب الكمال ج 5 ص 93، سير أعلام النبلاء ج 6 ص 264.
(2) كشف الغمة ج 2 ص 206.
393
عني، فقال له أبي: قد أصبته لك، هذا فلان ابن مهاجر خالي. قال: فأتني به،
قال: فأتيته بخالي، فقال له أبو جعفر: يا ابن مهاجر خذ هذا المال وائت المدينة
وائت عبد الله بن الحسن بن الحسن، وعدة من أهل بيته فيهم جعفر بن محمد، فقل
لهم: إني رجل غريب من أهل خراسان وبها شيعة من شيعتكم وجهوا إليكم بهذا
المال، وادفع إلى كل واحد منهم على شرط كذا وكذا، فإذا قبضوا المال فقل: إني
رسول وأحب أن يكون معي خطوطكم بقبضكم ما قبضتم، فأخذ المال وأتى
المدينة فرجع إلى أبي الدوانيق ومحمد بن الأشعث عنده، فقال له أبو الدوانيق:
ما وراءك؟ قال: أتيت القوم وهذه خطوطهم بقبضهم المال، خلا جعفر بن محمد،
فإني أتيته وهو يصلي في مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) فجلست خلفه، وقلت حتى ينصرف
فأذكر له ما ذكرت لأصحابه، فعجل وانصرف، ثم التفت إلي فقال: يا هذا اتق الله
ولا تغر أهل بيت محمد فإنهم قريب العهد بدولة بني مروان وكلهم محتاج، فقلت: وما ذاك
أصلحك الله؟ قال: فأدنى رأسه مني وأخبرني بجميع ما جرى بيني وبينك حتى
كأنه ثالثنا، قال: فقال له أبو جعفر: يا ابن مهاجر! اعلم أنه ليس من أهل بيت نبوة
إلا وفيه محدث، وأن جعفر بن محمد محدثنا اليوم، وكانت هذه الدلالة سبب
قولنا بهذه المقالة (1).
ولا عجب أن يعترف إمام المالكية بأنه ما رأت عيني أفضل من جعفر بن
محمد، وإمام الحنفية بأنه أعلم الأمة، وقد اعترف أعدى أعدائه ومن توسل بكل
وسيلة لإطفاء نوره، بأنه الواسطة بين عالم الغيب والشهود.
وعن أبي بصير أنه قال: كان لي جار يتبع السلطان، فأصاب مالا فأعد قيانا،
وكان يجمع الجميع ويشرب المسكر ويؤذيني، فشكوته إلى نفسه غير مرة فلم



(1) الكافي ج 1 ص 475.
394
ينته، فلما أن ألححت عليه، فقال لي: يا هذا أنا رجل مبتلى، وأنت رجل معافى،
فلو عرضتني لصاحبك رجوت أن ينقذني الله بك، فوقع ذلك في قلبي، فلما
صرت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) ذكرت له حاله، فقال لي: إذا رجعت إلى الكوفة سيأتيك، فقل
له: يقول لك جعفر بن محمد، دع ما أنت عليه وأضمن لك على الله الجنة.
فلما رجعت إلى الكوفة أتاني فيمن أتى فاحتبسته عندي حتى خلا منزلي،
ثم قلت له: يا هذا إني ذكرتك لأبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، فقال لي:
إذا رجعت إلى الكوفة سيأتيك، فقل له: يقول لك جعفر بن محمد دع ما أنت عليه وأضمن لك على الله
الجنة، قال: فبكى، ثم قال لي: الله لقد قال لك أبو عبد الله هذا؟ قال: فحلفت له أنه
قد قال لي ما قلت. فقال لي: حسبك ومضى، فلما كان بعد أيام بعث إلي فدعاني،
فإذا هو خلف داره عريان، فقال لي: يا أبا بصير لا والله ما بقي في منزلي شئ إلا
وقد أخرجته، وأنا كما ترى، قال: فمضيت إلى إخواننا، فجمعت له ما كسوته به،
ثم لم تأت عليه إلا أيام يسيرة حتى بعث إلي إني عليل فأتني، فجعلت اختلف
إليه، وأعالجه حتى نزل به الموت، فكنت عنده جالسا وهو يجود بنفسه، فغشي
عليه غشية ثم أفاق، فقال لي: يا أبا بصير قد وفى صاحبك لنا، ثم قبض رحمه
الله، فلما حججت أتيت أبا عبد الله (عليه السلام) فاستأذنت عليه فلما دخلت، قال لي ابتداء
من داخل البيت وإحدى رجلي في الصحن والأخرى في دهليز داره: يا أبا بصير قد
وفينا لصاحبك (1).
وعلى رغم اتفاق حكام الجور مع أئمة الضلال وخدام السلطنة والمال
وسعيهم لمنع انتشار أضواء علومه وأنوار كمالاته، فقد ظهر منه ما يحير العقول
في العلوم والفنون المختلفة، فيما يتعلق بالمبدأ والمعاد، والنبوات، والتكوين،



(1) الكافي ج 1 ص 474 ح 5 في مولد أبي عبد الله (عليه السلام).
395
والتشريع في العبادات والمعاملات وعامة الأحكام، وروي عنه من الحكمة
والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن الذي ظهر منه في الاحتجاجات
ما ملئت منه الأصول والمصنفات والكتب الباقية، مع كثرة ما ضاع من آثاره
وأخباره بسبب الخوف وحوادث الزمان، وإن ما ظهر منه (عليه السلام) في السنين القليلة
من أيام إمامته، مع شدة مراقبة طاغية عصره عليه وعلى أصحابه شاهد على مبلغ
حرمان البشر من كمالات الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، فلو ثنيت لهم الوسادة
وجلسوا في مجلس الرسول (صلى الله عليه وآله) وفسروا الكتاب الذي فيه تبيان كل شئ،
وفتحوا باب مدينة العلم والحكمة، وأقاموا الناس بالقسط بما أنزل الله من
الكتاب والميزان، لظهر ما أراد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله: لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما (1)،
ولتبين ما في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها
غرق (2).



(1) الاحكام في أصول الاحكام ج 8 ص 1075 - أصول السرخسي ج 1 ص 314 - ينابيع المودة و ج 1
ص 109 وموارد أخرى من هذا الكتاب ومصادر أخرى للعامة.
الاحتجاج ج 1 ص 82 وص 191 ومصادر أخرى للخاصة. وقد تقدم في صفحة:
(2) راجع صفحة:
396
الإمام السابع موسى بن جعفر (عليهما السلام)
الإمام السابع
موسى بن جعفر (عليهما السلام)
ولد لسبع خلون من صفر سنة ثمان وعشرين ومئة، وقبض لخمس بقين من
رجب سنة ثلاث وثمانين ومئة، وله خمس وخمسون سنة، وكانت مدة إمامته
خمسا وثلاثين سنة.
كنيته وألقابه (عليه السلام)
كنيته أبو الحسن، وأبو إبراهيم، وأبو علي، وألقابه: العبد الصالح، والنفس
الزكية، وزين المجتهدين، والوفي، والصابر، والأمين، والزاهر، والكاظم.
فضائله ومناقبه (عليه السلام)
اعترف الفريقان بفضائله ومناقبه التي استحق بها الإمامة والخلافة: قال
ابن طلحة: هو الإمام الكبير القدر، العظيم الشأن، الكثير التهجد، الجاد في
الإجتهاد، المشهود له بالكرامات، المشهور بالعبادة، المواظب على الطاعات،
يبيت الليل ساجدا وقائما، ويقطع النهار متصدقا وصائما، ولفرط حلمه وتجاوزه
عن المعتدين عليه دعي كاظما، كان يجازي المسئ بإحسانه إليه، ويقابل
الجاني عليه بعفوه عنه، ولكثرة عباداته كان يسمى بالعبد الصالح، ويعرف
بالعراق بباب الحوائج إلى الله، لنجح المتوسلين إلى الله تعالى به، كراماته تحار

397
منها العقول، وتقضي بأن له عند الله قدم صدق لا تزل ولا تزول (1).
وقال ابن حجر: وكان معروفا عند أهل العراق بباب قضاء الحوائج عند الله،
وكان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأسخاهم (2).
عن أحمد بن عبد الله عن أبيه، قال: دخلت على الفضل بن الربيع وهو
جالس على سطح، فقال لي: أشرف على هذا البيت وانظر ما ترى؟ فقلت: ثوبا
مطروحا، فقال: انظر حسنا، فتأملت فقلت: رجل ساجد، فقال لي تعرفه؟ هو
موسى بن جعفر، أتفقده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلا على
هذه الحالة، إنه يصلي الفجر فيعقب إلى أن تطلع الشمس، ثم يسجد سجدة، فلا
يزال ساجدا حتى تزول الشمس، وقد وكل من يترصد أوقات الصلاة، فإذا أخبره
وثب يصلي من غير تجديد وضوء، وهو دأبه، فإذا صلى العتمة أفطر، ثم يجدد
الوضوء ثم يسجد فلا يزال يصلي في جوف الليل حتى يطلع الفجر، وقال بعض
عيونه: كنت أسمعه كثيرا يقول في دعائه: اللهم إنني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهم
وقد فعلت فلك الحمد (3).
وكان (عليه السلام) يقول في سجوده: قبح الذنب من عبدك فليحسن العفو والتجاوز من عندك (4).



(1) مطالب السؤول ص 83، كشف الغمة ج 2 ص 212 بتفاوت يسير.
(2) الصواعق المحرقة ص 203.
(3) مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 318، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 107، باب 8 ح 10.
(4) مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 318، إعلام الورى ج 2 ص 25، وبتفاوت في كشف الغمة ج 2 ص 228
ومصادر أخرى للخاصة.
وقريب منه في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 6 ص 191، تاريخ بغداد ج 13 ص 29، تهذيب
الكمال ج 29 ص 44، سير أعلام النبلاء ج 6 ص 271 ومصادر أخرى للعامة.
398
ومن دعائه (عليه السلام): اللهم إني أسألك الراحة عند الموت والعفو عند الحساب (1).
وكان (عليه السلام) يتفقد فقراء أهل المدينة فيحمل إليهم في الليل العين والورق وغير
ذلك، فيوصله إليهم وهم لا يعلمون من أي جهة هو (2).
وكان (عليه السلام) يصل بالمأتي دينار إلى الثلاثمأة دينار، وكانت صرار موسى
مثلا (3).
وشكا محمد البكري إليه فمد يده إليه فرجع إلى صرة فيها ثلاثمائة دينار (4).
وكان يستغفر في كل يوم خمسة آلاف مرة (5).
وقال أبو حنيفة: رأيت موسى بن جعفر وهو صغير السن في دهليز أبيه
فقلت: أين يحدث الغريب منكم إذا أراد ذلك؟ فنظر إلي ثم قال: يتوارى خلف الجدار
ويتوقى أعين الجار، ويتجنب شطوط الأنهار، ومساقط الثمار، وأفنية الدور والطرق النافذة، والمساجد،
ولا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها، ويرفع ويضع بعد ذلك حيث شاء.
قال: فلما سمعت هذا القول منه، نبل في عيني، وعظم في قلبي، فقلت له:
جعلت فداك: ممن المعصية؟ فنظر إلي ثم قال: اجلس حتى أخبرك، فجلست فقال: إن
المعصية لابد أن تكون من العبد أو من ربه أو منهما جميعا، فإن كانت من الله تعالى فهو أعدل



(1) الكافي ج 3 ص 323، تهذيب الأحكام ج 2 ص 300، كشف الغمة ج 2 ص 228.
(2) الخرائج والجرائح ج 2 ص 896، مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 318، كشف الغمة ج 2 ص 228.
(3) كشف الغمة ج 2 ص 229، مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 318، وقريب بهذا المضمون في تاريخ بغداد
ج 13 ص 28، سير أعلام النبلاء ج 6 ص 271، تهذيب الكمال ج 29 ص 45 ومصادر أخرى للخاصة
والعامة.
(4) روضة الواعظين ص 215، دلائل الإمامة ص 310، كشف الغمة ج 2 ص 228، ومصادر أخرى
للخاصة. تاريخ بغداد ج 13 ص 29 ومصادر أخرى للخاصة والعامة.
(5) كتاب الزهد ص 74 رقم 199، وسائل الشيعة ج 16 ص 86، كتاب جهاد النفس باب 92 ح 8.
399
وأنصف من أن يظلم عبده ويأخذه بما لم يفعله، وإن كانت منهما فهو شريكه والقوي أولى بإنصاف
الضعيف، وإن كانت من العبد وحده فعليه وقع الأمر، وإليه توجه النهي، وله حق الثواب والعقاب،
ووجبت الجنة والنار، فقلت: {ذرية بعضها من بعض} (1) الآية (2).
وهو الذي قال في حقه هارون الرشيد الذي قتله وسعى بكل ما استطاع
لإطفاء نوره، لولده المأمون حيث قال له: يا أمير المؤمنين لقد رأيتك عملت بهذا
الرجل شيئا ما رأيتك فعلته بأحد من أبناء المهاجرين والأنصار، ولا ببني هاشم،
فمن هذا الرجل؟ فقال: يا بني هذا وارث علم النبيين، هذا موسى بن
جعفر بن محمد، إن أردت العلم الصحيح فعند هذا، قال المأمون، فحينئذ انغرس
في قلبي محبتهم (3).
وقال المطران، وهو أعلم العرب والعجم بالنصرانية لعالم نصراني، سأله عن
الأعلم: " إن كنت تريد علم الإسلام، وعلم التوراة، وعلم الإنجيل، وعلم الزبور،
وكتاب هود، وكل ما انزل على نبي من الأنبياء في دهرك ودهر غيرك، وما أنزل
من السماء من خبر، فعلمه أحد أو لم يعلم به أحد، فيه تبيان كل شئ، وشفاء
للعالمين، وروح لمن استروح إليه، وبصيرة لمن أراد الله به خيرا، وأنس إلى
الحق فأرشدك إليه " فأرشده إلى موسى بن جعفر (4).
وما جاء عنه في العلوم والمعارف من معرفة الله وأحكامه، وما يرشد
الإنسان إلى سعادة الدارين لا يسعه هذا المختصر.



(1) سورة آل عمران: 34.
(2) مناقب ج 4 ص 314، وبتفاوت يسير روضة الواعظين ص 39، دلائل الإمامة ص 22.
(3) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 1 ص 93 باب 7 حديث 12، الأمالي للشيخ الصدوق ص 458 المجلس
الستون ح 1، مناقب ج 4 ص 310 وبتفاوت يسير في ينابيع المودة ج 3 ص 165.
(4) الكافي ج 1 ص 478 باب مولد أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) ح 4.
400
ولما كان العقل هو ما به الإنسان إنسان، وبه تعلم الأسماء وأسرار الوجود،
وصار معلم الملائكة، ومسخر ما في السماوات والأرض، فلابد للإنسان من
معرفة العقل وما يصلحه وما يفسده، وما يكمله وما ينقصه، لذا أوصى (عليه السلام)
هشام بن الحكم بوصية في العقل، من تدبر في كل جملة منها انفتحت عليه
أبواب من الحكمة، ونقتصر بذكر بعضها، ولا مجال لشرحها:
" يا هشام، ما بعث الله أنبيائه ورسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله، فأحسنهم استجابة أحسنهم
معرفة، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلا، وأكملهم عقلا أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.
يا هشام، إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء
والأئمة (عليهم السلام)، وأما الباطنة فالعقول.
يا هشام، إن العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره، ولا يغلب الحرام صبره.
يا هشام، من سلط ثلاثا على ثلاث فكأنما أعان على هدم عقله: من أظلم نور تفكره بطول أمله،
ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه، وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه، فكأنما أعان هواه على هدم
عقله، ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه.
يا هشام، نصب الحق لطاعة الله، ولا نجاة إلا بالطاعة، والطاعة بالعلم، والعلم بالتعلم، والتعلم
بالعقل يعتقد، ولا علم إلا من عالم رباني، ومعرفة العلم بالعقل.
يا هشام، إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب، وترك الدنيا من الفضل، وترك الذنوب
من الفرض.
يا هشام، إن العاقل نظر إلى الدنيا وإلى أهلها فعلم أنها لا تنال إلا بالمشقة، ونظر إلى الآخرة فعلم
أنها لا تنال إلا بالمشقة، فطلب بالمشقة أبقاهما.
يا هشام، إن العقلاء زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة، لأنهم علموا أن الدنيا طالبة ومطلوبة،
والآخرة طالبة ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه، ومن طلب الدنيا طلبته

401
الآخرة فيأتيه الموت، فيفسد عليه دنياه وآخرته.
يا هشام، من أراد الغنى بلا مال، وراحة القلب من الحسد، والسلامة في الدين فليتضرع إلى الله
عز وجل في مسألته بأن يكمل عقله، فمن عقل قنع بما يكفيه، ومن قنع بما يكفيه استغنى، ومن
لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغنى أبدا.
يا هشام، كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: ما عبد الله بشئ أفضل من العقل، وما تم عقل امرئ
حتى يكون فيه خصال شتى: الكفر والشر منه مأمونان، والرشد والخير منه مأمولان، وفضل ماله مبذول،
وفضل قوله مكفوف، ونصيبه من الدنيا القوت، لا يشبع من العلم دهره، الذل أحب إليه مع الله من
العز مع غيره، والتواضع أحب إليه من الشرف، يستكثر قليل المعروف من غيره، ويستقل كثير المعروف
من نفسه، ويرى الناس كلهم خيرا منه، وأنه شرهم في نفسه، وهو تمام الأمر.
يا هشام، إن العاقل لا يكذب وإن كان فيه هواه.
يا هشام، إن العاقل لا يحدث من يخاف تكذيبه، ولا يسأل من يخاف منعه، ولا يعد ما لا يقدر عليه،
ولا يرجو ما يعنف برجائه، ولا يقدم على ما يخاف فوته بالعجز عنه " (1).
وبالتأمل في هذا الحديث يعلم أن أساس الدين هو العقل والعلم، فالعلم
بنواميس الكون، والقوانين الحاكمة على الموجودات، والسنن الجارية على
أعظم الكائنات إلى أصغر الذرات، والتعقل فيها يرشد إلى أنه لا يمكن أن تكون
المادة والقوة الفاقدتان للعلم والإدراك مبدأ العالم بنظامه الحاكم على كل جزء
من أجزائه، وعلى كل هذه الأجزاء، وعلى التفاعل والتأثير والتأثر المتقابل
بينهما بميزان وحساب، ولا يمكن أن تكون الحياة منتهية إلى الميت بالذات، بل
كل موجود محتاج بافتقار وجوده إلى الغني بالذات، وبتبدله وتغيره بلا اختيار
من حال إلى حال، مقهور لمن هو محول الأحوال.



(1) الكافي ج 1 ص 16 إلى 20.
402
فلا ينفك العقل والعلم عن الإيمان، وبكمال العقل يصل الإنسان إلى مقام
يكون جوهر نفسه منزها عن كدورة الكفر والشر، ومنورا بنور الرشد والخير،
و {البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه} (1).
العاقل ينفق فضل ماله، فبفضل ماله يسد لأرباب الحاجة ضرورات
حياتهم، فيكون إنفاقه سببا لطهارة نفسه من البخل، وصيانة للمجتمع من
الطغيان.
ويمسك فضل كلامه، وبهذا الإمساك يحفظ قوة جسمه وروحه، ويتنزه عن
اللغو والباطل، وبما أن الحكمة التي هي كمال العقل تقتضي إعطاء كل ذي حق
حقه، فحاجة الجسم المخلوق للفناء محدودة بالقوت والزائد عليه ليس له، وإنما
هو لغيره فنصيبه من الدنيا القوت، وحاجة الروح المخلوق للبقاء إلى العلم الذي
لا حد له، فلا يسأم من طلب العلم طول دهره.
وعندما يرى العاقل أن غير الله ذليل لله {إن كل من في السماوات والأرض إلا
آتى الرحمن عبدا} (2) و {إن العزة لله جميعا} (3) يكون الذل مع الله أحب إليه من العز
مع غيره.
وعندما يرى أن ما به من نعمة فمن الله، وأن الذي منه ليس إلا القصور أو
التقصير، فيكون التواضع أحب إليه من الشرف.
وعندما يصل إليه المعروف من غيره يرى عدم استحقاقه لذلك، لهوان نفسه
عليه، فيكون القليل عنده كثيرا.



(1) سورة الأعراف: 58.
(2) سورة مريم: 93.
(3) سورة يونس: 65.
403
وحينما يصل منه معروف إلى غيره، يرى كرامة الغير فيرى الكثير قليلا في
مقابل كرامة الإنسان.
وعندما ينظر إلى نفسه يعلم مساويها فيكون على يقين منها، ولا يعلم لنفسه
محاسن، لأن غضب الله مخفي في معاصيه، فلعل سيئة من سيئاته تمحو جميع
حسناته.
أما إذا نظر إلى غيره فلا يكون على يقين من مساويه لخفاء رضا الله سبحانه
في طاعته، فلعل بينه وبين الله حسنة تمحو سيئاته، فتمام الأمر أن يرى الناس
كلهم خيرا منه، وأنه شرهم في نفسه.
ولا مجال لاستخراج جواهر المعرفة من كلمات معدن العلم والحكمة،
وما قيل أو يقال فإنما هو غرفة من البحر أو رشحة من الديم، ففي كل خطاب منه
" يا هشام " باب ينفتح منه أبواب.
كراماته (عليه السلام)
ومن كراماته مما رواه العامة والخاصة:
ما عن شقيق البلخي، قال: خرجت حاجا في سنة تسع وأربعين ومئة
فنزلت القادسية فبينا أنا أنظر إلى الناس في زينتهم وكثرتهم، فنظرت إلى فتى
حسن الوجه شديد السمرة ضعيف، فوق ثيابه ثوب من صوف مشتمل بشملة،
في رجليه نعلان وقد جلس منفردا، فقلت في نفسي: هذا الفتى من الصوفية يريد
أن يكون كلا على الناس في طريقهم، والله لأمضين إليه ولأوبخنه، فدنوت منه،
فلما رآني مقبلا قال: يا شقيق {اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم} (1) ثم تركني



(1) سورة الحجرات: 12.
404
ومضى، فقلت في نفسي إن هذا لأمر عظيم قد تكلم بما في نفسي ونطق باسمي،
وما هذا إلا عبد صالح لألحقنه ولأسألنه أن يخالني فأسرعت في أثره فلم ألحقه
وغاب عن عيني، فلما نزلنا واقصة وإذا به يصلي وأعضاؤه تضطرب ودموعه
تجري، فقلت: هذا صاحبي أمضي إليه وأستحله، فصبرت حتى جلس، وأقبلت
نحوه فلما رآني مقبلا قال: يا شقيق أتل {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا
ثم اهتدى} (1) ثم تركني ومضى فقلت: إن هذا الفتى لمن الأبدال، قد تكلم على
سري مرتين، فلما نزلنا زبالة إذا بالفتى قائم على البئر وبيده ركوة يريد أن يستقي
ماء فسقطت الركوة من يده في البئر وأنا أنظر إليه، فرأيته قد رمق السماء وسمعته
يقول:
أنت ربي إذا ظمئت إلى الماء * وقوتي إذا أردت الطعاما
اللهم سيدي ما لي غيرها فلا تعدمنيها، قال شقيق: فوالله لقد رأيت البئر قد ارتفع ماؤها
فمد يده وأخذ الركوة وملأها ماء فتوضأ وصلى أربع ركعات، ثم مال إلى كثيب
رمل فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويحركه ويشرب، فأقبلت إليه
وسلمت عليه فرد علي السلام، فقلت: أطعمني من فضل ما أنعم الله عليك، قال:
يا شقيق لم تزل نعمة الله علينا ظاهرة وباطنة فأحسن ظنك بربك، ثم ناولني الركوة فشربت
منها فإذا هو سويق وسكر، فوالله ما شربت قط ألذ منه ولا أطيب ريحا، فشبعت
ورويت، وأقمت أياما لا أشتهي طعاما ولا شرابا.
ثم لم أره حتى دخلنا مكة، فرأيته ليلة إلى جنب قبة الميزاب في نصف الليل
قائما يصلي بخشوع وأنين وبكاء، فلم يزل كذلك حتى ذهب الليل، فلما رأى
الفجر جلس في مصلاه يسبح ثم قام فصلى الغداة، وطاف بالبيت أسبوعا وخرج



(1) سورة طه: 82.
405
فتبعته وإذا له غاشية وموال، وهو على خلاف ما رأيته في الطريق، ودار به الناس
من حوله يسلمون عليه، فقلت لبعض من رأيته يقرب منه: من هذا الفتى؟ فقال:
موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) فقلت:
قد عجبت أن تكون هذه العجائب إلا لمثل هذا السيد (1).
وفي المناقب: حكي أنه مغص بعض الخلفاء فعجز بختيشوع النصراني عن
دوائه وأخذ جليدا فأذابه بدواء ثم أخذ ماء وعقده بدواء وقال: هذا الطب إلا أن
يكون مستجاب دعاء ذا منزلة عند الله يدعو لك، فقال الخليفة: علي بموسى
بن جعفر، فأتي به فسمع في الطريق أنينه، فدعا الله سبحانه، وزال مغص الخليفة
فقال له: بحق جدك المصطفى أن تقول بم دعوت لي؟ فقال (عليه السلام): قلت: اللهم كما أريته
ذل معصيته، فأره عز طاعتي، فشفاه الله من ساعته (2).
وفي الصحيح: قال حماد بن عيسى: دخلت على أبي الحسن موسى بن
جعفر (عليه السلام) بالبصرة فقلت له: جعلت فداك ادع الله تعالى أن يرزقني دارا، وزوجة،
وولدا، وخادما، والحج في كل سنة، قال: فرفع يده ثم قال: اللهم صل على محمد وآل
محمد وارزق حماد بن عيسى دارا وزوجة وولدا وخادما والحج خمسين سنة، قال حماد: فلما اشترط
خمسين سنة علمت أني لا أحج أكثر من خمسين سنة، قال حماد: وقد حججت
ثمانية وأربعين سنة، وهذه داري قد رزقتها، وهذه زوجتي وراء الستر تسمع
كلامي، وهذا ابني، وهذا خادمي وقد رزقت كل ذلك، فحج بعد هذا الكلام
حجتين تمام الخمسين، ثم خرج بعد الخمسين حاجا فزامل أبا العباس النوفلي



(1) مطالب السؤول ص 83 وبتفاوت نوادر المعجزات ص 159، دلائل الإمامة ص 318، كشف الغمة
ج 2 ص 213.
(2) المناقب ج 4 ص 305.
406
فلما صار في موضع الإحرام دخل يغتسل فجاء الوادي فحمله فغرق، فمات
رحمنا الله وإياه قبل أن يحج زيادة على الخمسين وقبره بسيالة (1).
وفي الصحيح: قال عبد الله بن مغيرة: مر العبد الصالح بامرأة بمنى وهي
تبكي وصبيانها حولها يبكون، وقد ماتت لها بقرة، فدنا منها ثم قال لها: ما يبكيك يا
أمة الله؟ قالت: يا عبد الله إن لنا صبيانا يتامى وكانت لي بقرة معيشتي ومعيشة
صبياني منها، وقد ماتت وبقيت منقطعا بي وبولدي لا حيلة لنا، فقال: يا أمة الله هل
لك أن أحييها لك، فألهمت أن قالت: نعم يا عبد الله، فتنحى وصلى ركعتين، ثم رفع
يده هنيئة وحرك شفتيه، ثم قام فصوت بالبقرة فنخسها نخسة أو ضربها برجله،
فاستوت على الأرض قائمة! فلما نظرت المرأة إلى البقرة صاحت وقالت:
عيسى بن مريم ورب الكعبة، فخالط الناس وصار بينهم ومضى (عليه السلام) (2).
وفي الصحيح، قال علي بن يقطين: استدعى الرشيد رجلا يبطل به أمر أبي
الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) ويقطعه ويخجله في المجلس فانتدب له رجل
معزم، فلما أحضرت المائدة عمل ناموسا على الخبز، فكان كلما رام خادم أبي
الحسن (عليه السلام) تناول رغيف من الخبز طار من بين يديه، واستفز هارون الفرح
والضحك لذلك، فلم يلبث أبو الحسن (عليه السلام) أن رفع رأسه إلى أسد مصور على
بعض الستور فقال له: يا أسد الله خذ عدو الله، قال: فوثبت تلك الصورة كأعظم
ما يكون من السباع، فافترست ذلك المعزم فخر هارون وندماؤه على وجوههم
مغشيا عليهم وطارت عقولهم خوفا من هول ما رأوه، فلما أفاقوا من ذلك بعد
حين، قال هارون لأبي الحسن (عليه السلام): أسألك بحقي عليك لما سألت الصورة أن ترد



(1) قرب الإسناد ص 310، وبتفاوت في دلائل الإمامة ص 328 بتفاوت.
(2) الكافي ج 1 ص 484.
407
الرجل، فقال: إن كانت عصا موسى ردت ما ابتلعته من حبال القوم وعصيهم، فإن هذه الصورة ترد
ما ابتلعته من هذا الرجل " (1).



(1) الأمالي للصدوق ص 212 المجلس التاسع والعشرون حديث 19، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 1
ص 65 باب 8 حديث 1.
408
الإمام الثامن علي بن موسى بن جعفر (عليهم السلام)
الإمام الثامن
علي بن موسى بن جعفر (عليهم السلام)
ولد على الأشهر لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعدة، وقال في الكافي:
ولد سنة ثمان وأربعين ومئة، وقبض في صفر من سنة ثلاث ومائتين، وهو
ابن خمس وخمسين سنة، وقد اختلف في تاريخه، إلا أن هذا التاريخ هو أقصد
إن شاء الله (1).
كنيته وألقابه (عليه السلام)
كنيته أبو الحسن، ومن ألقابه: الرضا، والصابر، والرضي، والوفي،
والصادق، والصديق، وقرة أعين المؤمنين، وغيض الملحدين، وسراج الله،
ونور الهدى، وكافي الخلق، ورب السرير.
فضائله ومناقبه (عليه السلام)
وفضائله أكثر من أن تحصى، وقد اشتملت كتب العامة والخاصة على
مآثره:
قال ابن طلحة: وكانت مناقبه علية، وصفاته الشريفة سنية، ومكارمه
حاتمية، وشنشنته أخزمية، وأخلاقه عربية، ونفسه الشريفة هاشمية، وأرومته
الكريمة نبوية، فمهما عد من مزاياه كان (عليه السلام) أعظم منه، ومهما فصل من مناقبه



(1) الكافي ج 1 ص 486.
409
كان أعلى رتبة منه (1).
عن أحمد بن علي الأنصاري قال: سمعت رجاء بن أبي الضحاك يقول:
بعثني المأمون في إشخاص علي بن موسى الرضا (عليه السلام) من المدينة وأمرني أن آخذ
به على طريق البصرة والأهواز وفارس، ولا آخذ به على طريق قم، وأمرني أن
أحفظه بنفسي بالليل والنهار حتى أقدم به عليه، فكنت معه من المدينة إلى مرو،
فوالله ما رأيت رجلا كان أتقى لله منه، ولا أكثر ذكرا له في جميع أوقاته منه،
ولا أشد خوفا لله عز وجل.
وكان إذا أصبح صلى الغداة، فإذا سلم جلس في مصلاه يسبح الله ويحمده
ويكبره ويهلله ويصلي على النبي وآله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى تطلع الشمس، ثم يسجد
سجدة يبقى فيها حتى يتعالى النهار، ثم أقبل على الناس يحدثهم ويعظهم إلى
قرب الزوال، ثم جدد وضوءه وعاد إلى مصلاه، فإذا زالت الشمس قام وصلى
ست ركعات يقرأ في الركعة الأولى الحمد وقل يا أيها الكافرون، وفي الثانية
الحمد وقل هو الله أحد، ويقرأ في الأربع في كل ركعة الحمد لله وقل هو الله أحد،
ويسلم في كل ركعتين، ويقنت فيهما في الثانية قبل الركوع وبعد القراءة، ثم يؤذن
ثم يصلي ركعتين، ثم يقيم ويصلي الظهر، فإذا سلم سبح الله وحمده وكبره وهلله
ما شاء الله، ثم سجد سجدة الشكر يقول فيها مئة مرة شكرا لله، فإذا ارفع رأسه قام،
فصلى ست ركعات يقرء في كل ركعة الحمد وقل هو الله أحد ويسلم في كل
ركعتين ويقنت في ثانية كل ركعتين قبل الركوع وبعد القراءة، ثم يؤذن ثم يصلي
ركعتين ويقنت في الثانية فإذا سلم قام وصلى العصر، فإذا سلم جلس في مصلاه
يسبح الله ويحمده ويكبره ويهلله ما شاء الله، ثم سجد سجدة يقول فيها مئة مرة



(1) مطالب السؤول ص 84.
410
حمدا لله.
فإذا غابت الشمس توضأ وصلى المغرب ثلاثا بأذان وإقامة، وقنت في
الثانية قبل الركوع وبعد القراءة، فإذا سلم جلس في مصلاه يسبح الله ويحمده
ويكبره ويهلله ما شاء الله، ثم يسجد سجدة الشكر، ثم رفع رأسه ولم يتكلم حتى
يقوم ويصلي أربع ركعات بتسليمتين، يقنت في كل ركعتين في الثانية قبل
الركوع وبعد القراءة، وكان يقرأ في الأولى من هذه الأربع الحمد وقل يا أيها
الكافرون، وفي الثانية الحمد وقل هو الله أحد، ثم يجلس بعد التسليم في التعقيب
ما شاء الله حتى يمسي ثم يفطر.
ثم يلبث حتى يمضي من الليل قريب من الثلث، ثم يقوم فيصلي العشاء
الآخرة أربع ركعات، ويقنت في الثانية قبل الركوع وبعد القراءة، فإذا سلم جلس
في مصلاه يذكر الله عز وجل ويسبحه ويحمده ويكبره ويهلله ما شاء الله، ويسجد
بعد التعقيب سجدة الشكر، ثم يأوي إلى فراشه.
فإذا كان الثلث الأخير من الليل قام من فراشه بالتسبيح والتحميد والتكبير
والتهليل والاستغفار، فاستاك ثم توضأ، ثم قام إلى صلاة الليل، فصلى ثماني
ركعات ويسلم في كل ركعتين يقرأ في الأوليين منها في كل ركعة الحمد مرة،
وقل هو الله أحد ثلاثين مرة، ويصلي صلاة جعفر بن أبي طالب أربع ركعات،
يسلم في كل ركعتين، ويقنت في كل ركعتين في الثانية قبل الركوع وبعد التسبيح،
ويحتسب بها من صلاة الليل، ثم يصلي الركعتين الباقيتين يقرأ في الأولى الحمد
وسورة الملك، وفي الثانية الحمد وهل أتى على الإنسان.
ثم يقوم فيصلي ركعتي الشفع يقرأ في كل ركعة منها الحمد مرة، وقل هو الله
أحد ثلاث مرات، ويقنت في الثانية ثم يقوم فيصلي الوتر ركعة يقرأ فيها الحمد

411
وقل هو الله أحد ثلاث مرات، وقل أعوذ برب الفلق مرة واحدة، وقل أعوذ برب
الناس مرة واحدة، ويقنت فيها قبل الركوع وبعد القراءة، ويقول في قنوته: اللهم
صل على محمد وآل محمد، اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت وتولنا فيمن توليت، وبارك
لنا فيما أعطيت، وقنا شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من
عاديت، تباركت ربنا وتعاليت. ثم يقول: أستغفر الله وأسأله التوبة سبعين مرة، فإذا سلم جلس
في التعقيب ما شاء الله.
وإذا قرب الفجر قام فصلى ركعتي الفجر، يقرأ في الأولى الحمد وقل يا أيها
الكافرون، وفي الثانية الحمد وقل هو الله أحد، فإذا طلع الفجر أذن وأقام وصلى
الغداة ركعتين، فإذا سلم جلس في التعقيب، حتى تطلع الشمس ثم سجد
سجدتي الشكر حتى يتعالى النهار.
وكانت قراءته في جميع المفروضات في الأولى الحمد وإنا أنزلناه، وفي
الثانية الحمد وقل هو الله أحد، إلا في صلاة الغداة والظهر والعصر يوم الجمعة،
فإنه كان يقرأ فيها بالحمد وسورة الجمعة والمنافقين، وكان يقرأ في صلاة العشاء
الآخرة ليلة الجمعة في الأولى الحمد وسورة الجمعة، وفي الثانية الحمد وسبح،
وكان يقرأ في صلاة الغداة يوم الاثنين والخميس في الأولى الحمد وهل أتى على
الإنسان، وفي الثانية الحمد وهل أتاك حديث الغاشية.
وكان يجهر بالقراءة في المغرب والعشاء وصلاة الليل والشفع والوتر والغداة
ويخفي القراءة في الظهر والعصر، وكان يسبح في الأخراوين يقول: سبحان الله
والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ثلاث مرات وكان قنوته في جميع صلواته " رب اغفر
وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأجل الأكرم ".
وكان إذا أقام في بلدة عشرة أيام صائما لا يفطر، فإذا جن الليل بدأ بالصلاة

412
قبل الإفطار، وكان في الطريق يصلي فرائضه ركعتين ركعتين، إلا المغرب فإنه
كان يصليها ثلاثا، ولا يدع نافلتها، ولا يدع صلاة الليل والشفع والوتر وركعتي
الفجر في سفر ولا حضر.
وكان لا يصلي من نوافل النهار في السفر شيئا، وكان يقول بعد كل صلاة
يقصرها " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر " ثلاثين مرة، ويقول هذا لتمام الصلاة،
وما رأيته صلى صلاة الضحى في سفر ولا حضر، وكان لا يصوم في السفر شيئا،
وكان يبدأ في دعائه بالصلاة على محمد وآله، ويكثر من ذلك في الصلاة
وغيرها.
وكان يكثر بالليل في فراشه من تلاوة القرآن، فإذا مر بآية فيها ذكر جنة أو
نار بكى، وسأل الله الجنة وتعوذ به من النار، وكان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم
في جميع صلواته بالليل والنهار، وكان إذا قرأ قل هو الله أحد قال سرا " الله أحد "
فإذا فرغ منها قال: " كذلك الله ربنا " ثلاثا، وكان إذا قرأ سورة الجحد قال في نفسه
سرا " يا أيها الكافرون " فإذا فرغ منها قال: " ربي الله وديني الإسلام " ثلاثا، وكان إذا قرأ
والتين والزيتون قال عند الفراغ منها: " بلى وأنا على ذلك من الشاهدين " وكان إذا قرأ
لا أقسم بيوم القيامة قال عند الفراغ منها: " سبحانك اللهم بلى " وكان يقرأ في سورة
الجمعة {قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين} (1).
وكان إذا فرغ من الفاتحة قال: " الحمد لله رب العالمين " وإذا قرأ سبح اسم ربك
الأعلى، قال سرا: " سبحان ربي الأعلى " وإذا قرأ يا أيها الذين آمنوا قال: " لبيك اللهم لبيك "
سرا.
وكان لا ينزل بلدا إلا قصده الناس يستفتونه في معالم دينهم، فيجيبهم



(1) سورة الجمعة: 11.
413
ويحدثهم الكثير عن أبيه، عن آبائه عن علي (عليهم السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
فلما وردت به على المأمون سألني عن حاله في طريقه فأخبرته بما
شاهدت منه في ليله ونهاره وظعنه وإقامته، فقال: بلى يا ابن أبي الضحاك هذا
خير أهل الأرض، وأعلمهم وأعبدهم، فلا تخبر أحدا بما شهدت منه لئلا يظهر
فضله إلا على لساني، وبالله أستعين على ما أقوى من الرفع منه والإساءة به (1).
وعن الهروي، قال: جئت إلى باب الدار التي حبس فيها الرضا (عليه السلام) بسرخس
وقد قيد، فاستأذنت عليه السجان فقال: لا سبيل لكم إليه، فقلت: ولم؟ قال:
لأنه ربما صلى في يومه وليلته ألف ركعة، وإنما ينفتل من صلاته ساعة في صدر
النهار، وقبل الزوال، وعند اصفرار الشمس، فهو في هذه الأوقات قاعد في
مصلاه، يناجي ربه، قال: فقلت له: فاطلب لي في هذه الأوقات إذنا عليه،
فاستأذن لي عليه فدخلت عليه وهو قاعد في مصلاه متفكرا. الخبر (2).
وكان إذا نصبت مائدته، اجلس على مائدته مماليكه حتى البواب والسائس
والحجام، حتى يوم وفاته (3) مع أنه كان يوم وفاته يتململ كتململ السليم من أثر
السم.
وفي الصحيح عن عبد الله بن الصلت، عن رجل من أهل بلخ، قال: كنت مع
الرضا (عليه السلام) في سفره إلى خراسان، فدعا يوما بمائدة له فجمع عليها مواليه من
السودان وغيرهم، فقلت: جعلت فداك لو عزلت لهؤلاء مائدة، فقال: مه، إن الرب



(1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 180، باب 44 ح 5.
(2) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 183، باب 44 ح 6.
(3) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 184 باب 44 ح 7، و ج 2 ص 159 باب 40 ح 24، و ج 2 ص 241 باب
62 ح 1.
414
تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة والأب واحد، والجزاء بالأعمال (1).
مر رجل بأبي الحسن الرضا (عليه السلام) فقال: أعطني على قدر مروتك، قال:
لا يسعني ذلك، فقال: على قدر مروتي، قال: أما إذا فنعم، ثم قال: يا غلام اعطه
مأتي دينار (2).
عن اليسع بن حمزة، قال: كنت أنا في مجلس أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أحدثه
وقد اجتمع إليه خلق كثير يسألونه عن الحلال والحرام، إذ دخل عليه رجل طوال
أدم، فقال له: السلام عليك يا بن رسول الله، رجل من محبيك ومحبي آبائك
وأجدادك، مصدري من الحج وقد افتقدت نفقتي، وما معي ما أبلغ به مرحلة، فإن
رأيت أن تنهضني إلى بلدي، ولله علي نعمة، فإذا بلغت بلدي تصدقت بالذي
توليني عنك فلست موضع صدقة. فقال له: اجلس رحمك الله، وأقبل على الناس
يحدثهم حتى تفرقوا وبقي هو وسليمان الجعفري وخيثمة وأنا، فقال: أتأذنون لي
في الدخول؟ فقال له سليمان: قدم الله أمرك، فقام فدخل الحجرة وبقي ساعة ثم
خرج ورد الباب، وأخرج يده من أعلى الباب، وقال: أين الخراساني؟ فقال: هاأنا
ذا. فقال: خذ هذه المائتي دينار، واستعمل بها في مؤنتك ونفقتك وتبرك بها، ولا
تصدق بها عني، وأخرج فلا أراك ولا تراني. ثم خرج، فقال سليمان: جعلت فداك
لقد أجزلت ورحمت فلماذا سترت وجهك عنه؟ فقال: مخافة أن أرى ذ ل السؤال
في وجهه لقضائي حاجته...) (3).
ومن هذه سيرته في عبادته للخالق ومعاشرته للخلق، لو صار الأمر إليه فتح



(1) الكافي ج 8 ص 230.
(2) مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 360.
(3) الكافي ج 4 ص 23.
415
على الناس باب معرفة الله في عبادته، ولوصلوا بالاقتداء به إلى اتقاء الله حق
تقاته، وبلغ الإنسان إلى حد كرامته، وتحقق ما قال الله سبحانه: {الذين إن مكناهم
في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} (1).
حكمه ومواعظه (عليه السلام)
نذكر بعضها:
لا يكون المؤمن مؤمنا حتى تكون فيه ثلاث خصال، سنة من ربه، وسنة من نبيه، وسنة من
وليه، فأما السنة من ربه فكتمان السر، وأما السنة من نبيه فمداراة الناس، وأما السنة من وليه فالصبر
في البأساء والضراء (2).
الإيمان أربعة أركان: التوكل على الله، والرضا بقضاء الله، والتسليم لأمر الله، والتفويض إلى الله،
وقال العبد الصالح: وأفوض أمري إلى الله، فوقاه الله سيئات ما مكروا (3).
لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى تكون فيه خصال ثلاث: التفقه في الدين، وحسن التقدير
في المعيشة، والصبر على الرزايا (4).
ليس لبخيل راحة، ولا لحسود لذة، ولا لملوك وفاء، ولا لكذوب مروة (5).
من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر، ومن خاف أمن، ومن اعتبر أبصر، ومن أبصر فهم،
ومن فهم علم، وصديق الجاهل في تعب، وأفضل المال ما وقى به العرض، وأفضل العقل
معرفة الإنسان نفسه، والمؤمن إذا غضب لم يخرجه غضبه عن حق، وإذا رضي لم يدخله رضاه في باطل،



(1) سورة الحج: 41.
(2) كتاب التمحيص ص 67، تحف العقول ص 422 ومن قصار هذه المعاني لعلي بن موسى (عليه السلام).
(3) تحف العقول ص 445.
(4) تحف العقول ص 446.
(5) تحف العقول ص 450.
416
وإذا قدر لم يأخذ أكثر من حقه (1).
الإيمان فوق الإسلام بدرجة، والتقوى فوق الإيمان بدرجة، واليقين فوق التقوى بدرجة،
ولم يقسم بين العباد شئ أقل من اليقين (2).
وقال له ابن السكيت:... فما الحجة على الخلق اليوم؟ فقال (عليه السلام): العقل، يعرف
به الصادق على الله فيصدقه، والكاذب على الله فيكذبه، قال: فقال ابن السكيت: هذا والله
هو الجواب (3).
كراماته (عليه السلام)
ومن كراماته ما رواه في الإرشاد (4) والبصائر (5) والعيون (6)، عن مسافر،
قال: كنت مع الرضا (عليه السلام) بمنى فمر يحيى بن خالد مع قوم من آل برمك، فقال:
مساكين هؤلاء، لا يدرون ما يحل بهم في هذه السنة، ثم قال: هاه! وأعجب من هذا، هارون وأنا كهاتين،
وضم بإصبعيه، قال مسافر: فوالله ما عرفت معنى حديثه حتى دفناه معه.
ومما روته العامة على ما في المناقب (7) عن سعد بن سعد أنه قال نظر الرضا
إلى رجل فقال يا عبد الله أوص مما تريد واستعد لما لابد منه، فمات الرجل بعد



(1) العدد القوية ص 292.
(2) الكافي ج 2 ص 51.
(3) الكافي ج 1 ص 25، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 86 باب 32.
(4) الإرشاد ج 2 ص 258.
(5) بصائر الدرجات ص 504.
(6) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 225 باب 50 حديث 2، وفي الكافي بتفاوت يسير ج 1 ص 491.
(7) مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 341.
417
ثلاثة أيام، والخاصة كما في العيون (1) وإعلام الورى (2) وغيرها (3) باختلاف
يسير: (عن الحسن بن علي الوشاء، قال: شخصت إلى خراسان ومعي حلل
وشئ للتجارة فوردت مدينة مرو ليلا وكنت أقول بالوقف على موسى بن
جعفر (عليهما السلام) فوافق موضع نزولي غلام أسود كأنه من أهل المدينة، فقال لي: يقول
لك سيدي: وجه إلي بالحبرة التي معك لأكفن بها مولى لنا قد توفي، فقلت له:
ومن سيدك؟ قال: علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، فقلت: ما معي حبرة ولا حلة إلا
وقد بعتها في الطريق، فمضى ثم عاد إلي فقال لي: بلى قد بقيت الحبرة قبلك،
فقلت له: إني ما أعلمها معي، فمضى وعاد الثالثة فقال: هي في عرض السفط
الفلاني، فقلت في نفسي: إن صح قوله فهي دلالة، وكانت ابنتي قد دفعت إلي
حبرة وقالت: ابتع لي بثمنها شيئا من الفيروزج والسبج من خراسان ونسيتها،
فقلت لغلامي: هات هذا السفط الذي ذكره، فأخرجه إلي وفتحه، فوجدت
الحبرة في عرض ثياب فيه، فدفعتها إليه وقلت: لا آخذ لها ثمنا، فعاد إلي وقال:
تهدي ما ليس لك؟ دفعتها إليك ابنتك فلانة، وسألتك بيعها وأن تبتاع لها بثمنها
فيروزجا وسبجا فابتع لها بهذا ما سألت، ووجه مع الغلام الثمن الذي يساوي
الحبرة بخراسان.
فعجبت مما ورد علي وقلت: والله لأكتبن له مسائل أنا شاك فيها، ولأمتحننه
بمسائل سئل أبوه (عليه السلام) عنها، فأثبت تلك المسائل في درج وعدت إلى بابه
والمسائل في كمي، ومعي صديق لي مخالف، لا يعلم شرح هذا الأمر.



(1) عيون المعجزات ص 98.
(2) إعلام الورى ج 2 ص 53.
(3) كشف الغمة ج 2 ص 312، دلائل الإمامة ص 375، الثاقب في المناقب ص 480.
418
فلما وافيت بابه رأيت العرب والقواد والجند يدخلون إليه، فجلست ناحية
داره وقلت في نفسي: متى أنا أصل إلى هذا وأنا متفكر، وقد طال قعودي
وهممت بالانصراف إذ خرج خادم يتصفح الوجوه، ويقول أين ابن ابنة إلياس؟
فقلت: ها أنا ذا فأخرج من كمه درجا وقال: هذا جواب مسائلك وتفسيرها،
ففتحته وإذا فيه المسائل التي في كمي وجوابها وتفسيرها، فقلت: أشهد الله
ورسوله على نفسي أنك حجة الله، وأستغفر الله وأتوب إليه، وقمت، فقال لي
رفيقي: إلى أين تسرع؟ فقلت: قد قضيت حاجتي في هذا الوقت، وأنا أعود
للقائه بعد هذا).
وروى الخاصة والعامة عن أبي حبيب النباجي أنه قال: رأيت
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام، وقد وافا النباج، ونزل بها في المسجد الذي ينزله
الحاج في كل سنة، وكأني مضيت إليه وسلمت عليه ووقفت بين يديه، ووجدت
عنده طبقا من خوص نخل المدينة، فيه تمر صيحاني، فكأنه قبض قبضة من ذلك
التمر فناولني منه فعددته، فكان ثمانية عشر تمرة، فتأولت أني أعيش بعدد كل
تمرة سنة.
فلما كان بعد عشرين يوما كنت في أرض بين يدي، تعمر للزراعة حتى
جاءني من أخبرني بقدوم أبي الحسن الرضا (عليه السلام) من المدينة، ونزوله ذلك
المسجد، ورأيت الناس يسعون إليه فمضيت نحوه فإذا هو جالس في الموضع
الذي كنت رأيت فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتحته حصير مثل ما كان تحته، وبين يديه طبق
خوص فيه تمر صيحاني فسلمت عليه، فرد السلام علي واستدناني فناولني
قبضة من ذلك التمر، فعددته فإذا عدده مثل ذلك العدد الذي ناولني
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت له: زدني منه يا ابن رسول الله فقال: لو زادك رسول الله (صلى الله عليه وسلم)

419
لزدناك (1).
وأما ما ظهر من كراماته من مشهده التي جمعتها كتب مفصلة، فنقتصر على
واحدة منها: روى الصدوق في العيون عن الهروي، قال: حضر المشهد رجل من
أهل بلخ ومعه مملوك له، فزار هو ومملوكه الرضا (عليه السلام)، وقام الرجل عند رأسه
يصلي ومملوكه يصلي عند رجليه، فلما فرغا من صلاتهما سجدا فأطالا
سجودهما، فرفع الرجل رأسه من السجود قبل المملوك، ودعا بالمملوك، فرفع
رأسه من السجود، وقال: لبيك يا مولاي فقال له: تريد الحرية؟ فقال: نعم،
فقال: أنت حر لوجه الله تعالى ومملوكتي فلانة ببلخ حرة لوجه الله تعالى، وقد
زوجتها منك بكذا وكذا من الصداق، وضمنت لها ذلك عنك، وضيعتي الفلانة
وقف عليكما وعلى أولادكما وأولاد أولادكما ما تناسلوا بشهادة هذا الإمام (عليه السلام).
فبكى الغلام وحلف بالله تعالى وبالإمام (عليه السلام) أنه ما كان يسأل في سجوده إلا
هذه الحاجة بعينها، وقد تعرفت الإجابة من الله تعالى بهذه السرعة (2).
ولاية عهده (عليه السلام)
لما استوى أمر المأمون بعد الأمين، كتب إلى الرضا (عليه السلام)، يستقدمه إلى
خراسان، فاعتل عليه الرضا (عليه السلام) بعلل كثيرة، فما زال المأمون يكاتبه ويسأله حتى
علم الرضا (عليه السلام)، أنه لا يكف عنه، فخرج وأبو جعفر (عليه السلام) له سبع سنين، فكتب إليه
المأمون لا تأخذ على طريق الكوفة وقم، فحمل على طريق البصرة والأهواز



(1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 210، وبتفاوت في كشف الغمة ج 2 ص 313، مناقب آل أبي طالب
ج 4 ص 342، ينابيع المودة ج 3 ص 121.
(2) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 282، باب 69 ح 7.
420
وفارس، حتى وافى مرو، فلما وافى مرو عرض عليه المأمون أن يتقلد الإمرة
والخلافة، فأبى الرضا (عليه السلام) في ذلك، وجرت في هذا مخاطبات كثيرة، فبقوا في
ذلك نحوا من شهرين (1).
وقد احتال المأمون هذه الحيلة لجهات شتى:
منها: إطفاء أنوار الفضائل التي كانت مشرقة من الشمس الضحى في مدينة
الرسول، التي كانت مزار العام والخاص، فكان المأمول والمسؤول لهم بعد زيارة
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) زيارة عالم آل محمد صلى الله عليهم، ولم يقدر أن يحبسه ويضيق
عليه كما فعل هارون مع أبيه موسى بن جعفر (عليهما السلام)، لتبدل الظروف والأجواء،
فأراد تبعيده وحبسه تحت إشرافه، ويظهر هذا من منعه أن يأخذ طريق الكوفة
وقم، لئلا يلتقي مع شيعته في تلك البلاد.
ومنها: أن يسقطه عن أعين الناس بتقليده ولاية عهده حتى يغطي زهده في
الدنيا واستغراقه في عبادة الله.
ومنها: أن يزيل عار قتل أخيه الأمين طلبا للملك بإظهار زهده في الخلافة
بتقليدها للإمام (عليه السلام).
ومنها: أن يمنع من خروج العلويين عليه في أكناف البلاد، ويستريح منهم
بهذه الوسيلة.
ولا مجال لبسط الكلام في المقام، ونقتصر بما جرى بينه وبين الإمام (عليه السلام) بما
رواه الصدوق عن إبراهيم بن تاتانة، وهو من مشايخه الذي ترضى عنه واعتمد
عليه في الفقيه، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن أبي الصلت الهروي الثقة، قال: إن
المأمون قال للرضا (عليه السلام): يا بن رسول الله قد عرفت علمك وفضلك وزهدك



(1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 149 باب 40 ح 21.
421
وورعك وعبادتك وأراك أحق بالخلافة مني، فقال الرضا (عليه السلام): بالعبودية لله عز وجل
أفتخر وبالزهد في الدنيا أرجو النجاة من شر الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، وبالتواضع في
الدنيا أرجو الرفعة عند الله عز وجل، فقال له المأمون: فإني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة
وأجعلها لك وأبايعك، فقال له الرضا (عليه السلام): إن كانت هذه الخلافة لك والله جعلها لك، فلا يجوز لك أن
تخلع لباسا ألبسك الله وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك،
فقال له المأمون: يا بن رسول الله فلابد لك من قبول هذا الأمر، فقال: لست أفعل ذلك
طائعا أبدا، فما زال يجهد به أياما حتى يئس من قبوله فقال له: فإن لم تقبل الخلافة
ولم تجب مبايعتي لك فكن ولي عهدي له تكون لك الخلافة بعدي، فقال
الرضا (عليه السلام): والله لقد حدثني أبي عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): أني أخرج من
الدنيا قبلك مسموما مقتولا بالسم مظلوما تبكي علي ملائكة السماء وملائكة الأرض وأدفن في أرض غربة
إلى جنب هارون الرشيد، فبكى المأمون، ثم قال له: يا بن رسول الله ومن الذي يقتلك أو
يقدر على الإساءة إليك وأنا حي؟! فقال الرضا (عليه السلام): أما اني لو أشاء أن أقول لقلت من
الذي يقتلني، فقال المأمون: يا بن رسول الله إنما تريد بقولك هذا التخفيف عن نفسك
ودفع هذا الأمر عنك، ليقول الناس إنك زاهد في الدنيا، فقال الرضا (عليه السلام): والله ما
كذبت منذ خلقني ربي عز وجل وما زهدت في الدنيا للدنيا وأني لأعلم ما تريد، فقال المأمون: وما
أريد؟ قال: الأمان على الصدق، قال: لك الأمان، قال: تريد بذلك أن يقول الناس إن علي بن
موسى الرضا (عليهما السلام) لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعا في
الخلافة؟ فغضب المأمون ثم قال: إنك تتلقاني أبدا بما أكرهه وقد أمنت سطوتي
فبالله أقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلا أجبرتك على ذلك فإن فعلت وإلا ضربت
عنقك، فقال الرضا (عليه السلام): قد نهاني الله تعالى أن ألقي بيدي [إلى] التهلكة، فإن كان الأمر على هذا،
فافعل ما بدا لك، وأنا أقبل ذلك على أني لا أولي أحدا ولا أعزل أحدا ولا أنقض رسما ولا سنة وأكون

422
في الأمر من بعيد مشيرا، فرضي منه بذلك وجعله ولي عهده على كراهة منه (عليه السلام)
بذلك (1).
استدل (عليه السلام) على بطلان ما اقترحه بأنه إما أن تكون الخلافة لك، وإما أن
لا تكون لك، ولا واسطة بين النفي والإثبات، وعلى التقديرين أنت محجوج.
فإن كانت لك فالخلافة الإلهية ليست سلطنة اعتبارية قابلة للنقل إلى الغير،
والاختصاص بها بتخصيص من الله، ولا خيرة فيما يختاره الله، وما ألبسه الله لا
يمكن خلعه، وإن كانت الخلافة ليست لك فالفاقد لا يكون معطيا.
وبعدما صار محجوجا في جعل الخلافة له اقترح ولاية العهد، ولم يدر أنه
لا يعقل إمكان الفرع بعد استحالة الأصل.
ولما رأى (عليه السلام) عدم اقتناع المأمون بالبرهان أخبره بأنه لا يقدم على اللغو
والعبث، فإن قبوله لولاية العهد متوقف على احتمال حياته بعد المأمون، وهو
عالم بأنه يخرج من الدنيا قبله.
ولما رأى إصراره أخبره بأنه يعلم ما تخفي الصدور، بأنه يريد إسقاطه عن
أعين الناس، بأنه (عليه السلام) لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، وبعد ذلك يقتله
ظلما، فلما خاب المأمون ولم يصل إلى ما نواه بالتطميع توسل بحربة التهديد،
وقال: فإن فعلت وإلا ضربت عنقك.
لقد جمع (عليه السلام) بين الانتهاء بنهي الله {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} (2)، وبين
القبول بولاية العهد قبولا كان بعينه ردها، حيث قال: وأنا أقبل على أن لا أولي أحدا، ولا



(1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 139 - باب 40 ح 3، علل الشرائع باب 173 العلة التي من أجلها قبل
الرضا (عليه السلام) من المأمون ولاية العهد.
(2) سورة البقرة: 195.
423
أعزل أحدا، ولا أنقض رسما ولا سنة.
فإذا لم يكن له عزل ولا نصب ولا تصرف في أمر كان قبوله كما قال (عليه السلام): قد
علم الله كراهتي لذلك، فلما خيرت بين قبول ذلك وبين القتل اخترت القبول على القتل، ويحهم أما
علموا أن يوسف (عليه السلام) كان نبيا رسولا، فلما دفعته الضرورة إلى تولى خزائن العزيز، قال له {اجعلني
على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} (1) ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد
الإشراف على الهلاك، على أني ما دخلت في هذا الأمر إلا دخول خارج منه، فإلى الله المشتكى وهو
المستعان (2).
ويكشف عن نياته وما كان عليه الإمام (عليه السلام) من الشدة والحرج، أنه بعدما كتب
المأمون بذلك إلى البلدان، وضربت الدنانير والدراهم باسم الإمام (عليه السلام)، وخطب له
على المنابر، حضر العيد، فبعث المأمون إلى الرضا (عليه السلام) يسأله أن يركب ويحضر
العيد ويخطب ليطمئن قلوب الناس ويعرفوا فضله وتقر قلوبهم على هذه الدولة
المباركة، فبعث إليه الرضا (عليه السلام) وقال: قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخولي في
هذا الأمر، فقال المأمون: إنما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة والجند والشاكرية
هذا الأمر فتطمئن قلوبهم ويقروا بما فضلك الله به، فلم يزل يرده الكلام في ذلك،
فلما ألح عليه قال: يا أمير المؤمنين إن أعفيتني من ذلك فهو أحب إلي، وإن لم تعفني خرجت كما
كان يخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكما خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال المأمون: اخرج
كما تحب، وأمر المأمون القواد والناس أن يبكروا إلى باب أبي الحسن الرضا (عليه السلام)،
فقعد الناس لأبي الحسن الرضا (عليه السلام) في الطرقات والسطوح من الرجال والنساء



(1) سورة يوسف: 55.
(2) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 139 باب 40 ح 2، علل الشرائع باب 173 العلة التي من أجلها قبل
الرضا (عليه السلام) من المأمون ولاية العهد.
424
والصبيان واجتمع القواد على باب الرضا (عليه السلام)، فلما طلعت الشمس قام الرضا (عليه السلام)،
فاغتسل وتعمم بعمامة بيضاء من قطن وألقى طرفا منها على صدره وطرفا بين
كتفه وتشمر، ثم قال لجميع مواليه: افعلوا مثل ما فعلت، ثم أخذ بيده عكازة وخرج
ونحن بين يديه وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق، وعليه ثياب
مشمرة، فلما قام ومشينا بين يديه رفع رأسه إلى السماء وكبر أربع تكبيرات،
فخيل إلينا أن الهواء والحيطان تجاوبه، والقواد والناس على الباب قد تزينوا
ولبسوا السلاح وتهيؤوا بأحسن هيئة، فلما طلعنا عليهم بهذه الصورة حفاة قد
تشمرنا وطلع الرضا (عليه السلام) وقف وقفة على الباب قال: الله أكبر الله أكبر الله أكبر على ما هدانا
الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام والحمد لله على ما أبلانا، ورفع بذلك صوته ورفعنا
أصواتنا فتزعزعت مرو من البكاء والصياح، فقالها ثلاث مرات، فسقط القواد عن
دوابهم ورموا بخفافهم لما نظروا إلى أبي الحسن (عليه السلام) وصارت مرو ضجة واحدة
ولم يتمالك الناس من البكاء والضجيج، وكان أبو الحسن (عليه السلام) يمشي ويقف في كل
عشر خطوات وقفة، فكبر الله أربع مرات فتخيل إلينا أن السماء والأرض
والحيطان تجاوبه، وبلغ المأمون ذلك، فقال له الفضل بن سهل ذو الرياستين:
يا أمير المؤمنين إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس، فالرأي أن
تسأله أن يرجع فبعث إليه المأمون، فسأله الرجوع، فدعا أبو الحسن (عليه السلام) بخفه
فلبسه ورجع (1).
وقد تحقق أنه (عليه السلام) لم يقبل ولاية العهد، بل رده.
قال علي بن عيسى الثقة عند الفريقين في كشف الغمة:
وفي سنة سبعين وستمائة وصل من مشهده الشريف أحد قوامه ومعه العهد



(1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 150 باب 40 ح 21.
425
الذي كتبه المأمون بخط يده وبين سطوره وفي ظهره بخط الإمام ما هو مسطور،
فقبلت مواقع أقلامه وسرحت طرفي رياض كلامه، وعددت الوقوف عليه من
منن الله وأنعامه... (1).
ويظهر من الكتاب شدة الأمر على الإمام (عليه السلام)، ولكنه أظهر ما يمكن إظهاره
بأول كلامه وآخر كلامه فكتب:
(بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الفعال لما يشاء، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، يعلم خائنة
الأعين وما تخفي الصدور...) (2).
فبين أن ما يشاء الله كائن لا ما يشاؤون، لا يعقب حكمه بما يحكمون، ولا
يرد قضائه بما يريدون، وأشار إلى الأعين الخائنة وما تخفي الصدور من طرح
ولاية العهد إلى نهاية الأمر.
وأبطل كل ما احتاله المأمون بما كتب في آخر كتابه: (والجامعة والجفر يدلان على
ضد ذلك، وما أدري ما يفعل بي ولا بكم، إن الحكم إلا لله يقضي بالحق وهو خير الفاصلين) (3).
وبعدما بين بالجامعة والجفر ما لا يعلمه إلا عالم الغيب الذي لا يظهر غيبه إلا
لمن ارتضى، أشار إلى الظلم الذي جرى عليه، وأحال إحقاق الحق إلى محكمة
يكون القاضي فيها هو الله.
وقد توسل المأمون بكل وسيلة لحط مقامه (عليه السلام) وإطفاء أنوار فضائله، ويأبى
الله إلا أن يتم نوره، فعن الحسن بن الجهم، قال: حضرت مجلس المأمون يوما
وعنده علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، وقد اجتمع الفقهاء، وأهل الكلام من الفرق



(1) كشف الغمة ج 2 ص 333.
(2) كشف الغمة ج 2 ص 337.
(3) كشف الغمة ج 2 ص 337.
426
المختلفة، فسأله بعضهم، فقال له: يا بن رسول الله بأي شئ تصح الإمامة
لمدعيها؟ قال: بالنص والدليل، قال له: فدلالة الإمام ما هي؟ قال: في العلم واستجابة
الدعوة (1).. والحديث طويل مشتمل على مطالب شامخة نقتصر منها على الإشارة
إلى ما أفاد (عليه السلام) فيما تثبت به الإمامة:
فإن الدليل لابد من ارتباطه بالمدلول كارتباط المعلول بالعلة، حتى يكون
إثباتا لما هو في مقام الثبوت، والإمام كما في الصحيح: أمين الله في أرضه، وحجته على
عباده (2)، والأمانة عنوان إضافي متعلق بالمستأمن والأمين، وإذا كان المستأمن هو
الله سبحانه فالأمانة هي العلوم الإلهية، وكلمات الله التامات، وما تنزل الملائكة
والروح في ليلة القدر من كل أمر، وحروف الاسم الأعظم الذي كان حرف منه
عند آصف فجاء بعرش بلقيس قبل ارتداد الطرف، وما يحتاج إليه الناس في
معاشهم ومعادهم، والإمام هو مختار الله لإكمال دينه وإتمام نعمته {وربك يخلق ما
يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة} (3).
والأمين يحتاج إلى سند من المستأمن لإثبات كونه أمينا له، ومن هذه الجهة
صحح (عليه السلام) دعوى الإمامة بالنص، ومن جهة أن الإمام حجة الله على عباده صحت
دعوى الإمامة بدلالة العلم واستجابة الدعوة، فإن الحجة من الله هو الإنسان
الكامل، وكمال الإنسان بالعلم ونفوذ الإرادة.
والرياسة الإلهية في الدنيا لا تجتمع مع العجز والجهالة، فلابد أن يكون
خليفة الله في خلقه وحجته على عباده لاستكمال العقول وتربية النفوس أعلم



(1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 200 باب 46 ح 1.
(2) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 1 ص 218 باب 20 ح 1.
(3) سورة القصص: 68.
427
الناس، ومستمدا من العليم الذي لا نفاد لكلماته، وباستغراقه في طاعة الله واتباع
إرادته لإرادة الله تكون إرادته نافذة، وقدرته قاهرة بإذن الله.
فدلالة الإمام هي العلم واستجابة الدعوة، وهذان الأمران يثبتان مقام
الإنسان الكامل في العقل والإرادة الذي هو مربي نوع الإنسان، وعندما ادعى (عليه السلام)
الإمامة وقال في الملأ العام إن دلالتها العلم واستجابة الدعوة، وقد كانت السلطة
الحاكمة وحواشيها مترصدين لإبطال دعواه ومع ذلك سكتوا عن مطالبته بإقامة
الدليل على مدعاه فإن سكوتهم أقوى شاهد على عجزهم عن معارضته
واعترافهم بأنه العالم الذي عنده جواب كل مسألة وأنه الوجيه عند الله الذي لا
ترد له كل طلبة.
ولما كانت سنة الله على إتمام حجته وإعلاء كلمته أظهر علمه واستجابة
دعائه باستدعاء من المأمون، وكذلك يتم الله نوره فيسخر المأمون الذي أراد
اطفاء نور الإمام (عليه السلام) ليجمع علماء الأمم وعظماء الملل لمناظرته:
لما قدم علي بن موسى الرضا (عليه السلام) إلى المأمون أمر الفضل بن سهل أن يجمع
له أصحاب المقالات مثل الجاثليق، ورأس الجالوت، ورؤساء الصابئين، والهربذ
الأكبر، وأصحاب زردهشت، وقسطاس الرومي، والمتكلمين يسمع كلامه
وكلامهم، فجمعهم الفضل بن سهل، ثم أعلم المأمون باجتماعهم، فقال: أدخلهم
علي، ففعل، فرحب بهم المأمون، ثم قال لهم: إني إنما جمعتكم لخير، وأحببت أن
تناظروا ابن عمي هذا المدني القادم علي، فإذا كان بكرة فاغدوا علي ولا يتخلف
منكم أحد، فقالوا: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين نحن مبكرون إن شاء الله.
قال الحسن بن محمد النوفلي: فبينا نحن في حديث لنا عند أبي الحسن
الرضا (عليه السلام) إذ دخل علينا ياسر الخادم وكان يتولى أمر أبي الحسن (عليه السلام) فقال:

428
يا سيدي إن أمير المؤمنين يقرؤك السلام فيقول: فداك أخوك إنه اجتمع إلي
أصحاب المقالات وأهل الأديان والمتكلمون من جميع الملل فرأيك في البكور
علينا إن أحببت كلامهم وإن كرهت كلامهم فلا تتجشم وإن أحببت أن نصير إليك
خف ذلك علينا، فقال أبو الحسن (عليه السلام): أبلغه السلام وقل له: قد علمت ما أردت، وأنا صائر إليك
بكرة إن شاء الله.
قال الحسن بن محمد النوفلي: فلما مضى ياسر التفت إلينا، ثم قال لي:
يا نوفلي أنت عراقي ورقة العراقي غير غليظة فما عندك في جمع ابن عمك علينا أهل الشرك
وأصحاب المقالات؟ فقلت: جعلت فداك يريد الامتحان ويحب أن يعرف ما عندك،
ولقد بنى على أساس غير وثيق البنيان وبئس والله ما بنى، فقال لي: وما بناؤه في هذا
الباب؟ قلت: إن أصحاب البدع والكلام خلاف العلماء، وذلك أن العالم لا ينكر غير
المنكر، وأصحاب المقالات والمتكلمون وأهل الشرك أصحاب إنكار ومباهتة،
وإن احتججت عليهم أن الله واحد قالوا: صحح وحدانيته، وإن قلت: إن محمدا
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قالوا: أثبت رسالته، ثم يباهتون الرجل وهو يبطل عليهم بحجته،
ويغالطونه حتى يترك قوله، فاحذرهم جعلت فداك، قال: فتبسم (عليه السلام) ثم قال:
يا نوفلي أتخاف أن يقطعوا علي حجتي؟ قلت: لا والله ما خفت عليك قط وإني لأرجو أن
يظفرك الله بهم إن شاء الله، فقال لي: يا نوفلي أتحب أن تعلم متى يندم المأمون؟ قلت: نعم،
قال: إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم، وعلى أهل الزبور بزبورهم،
وعلى الصابئين بعبرانيتهم، وعلى الهرابذة بفارسيتهم، وعلى أهل الروم بروميتهم، وعلى أصحاب المقالات
بلغاتهم، فإذا قطعت كل صنف ودحضت حجته وترك مقالته ورجع إلى قولي علم المأمون أن
الموضع الذي هو بسبيله ليس هو بمستحق له، فعند ذلك تكون الندامة منه، ولا حول ولا قوة إلا

429
بالله العلي العظيم... (1)، هذا ما ظهر من علمه الذي هو دلالة الإمام.
وظهرت إجابة دعائه (عليه السلام) حين احتبس المطر، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى
عليه، ثم قال: اللهم يا رب أنت عظمت حقنا أهل البيت، فتوسلوا بنا كما أمرت، وأملوا فضلك ورحمتك،
وتوقعوا إحسانك ونعمتك، فاسقهم سقيا نافعا عاما غير رايث ولا ضائر، وليكن ابتداء مطرهم بعد
انصرافهم من مشهدهم هذا إلى منازلهم ومقارهم (2)، فاستجاب له ربه كما دعا.
وصدرت منه الآيات الباهرات التي أقر بها المؤمن والمنافق، وخضع لها
المسلم والكافر.
في العيون عن عبد الله بن محمد الهاشمي، قال: دخلت على المأمون يوما
فأجلسني وأخرج من كان عنده، ثم دعا بالطعام فطعمنا، ثم طيبنا، ثم أمر بستارة
فضربت، ثم أقبل على بعض من كان في الستارة، فقال: بالله لما رثيت لنا من
بطوس فأخذت تقول:
سقيا بطوس ومن أضحى بها قطنا * من عترة المصطفى أبقى لنا حزنا
قال: ثم بكى، فقال لي: يا عبد الله، أيلومني أهل بيتي وأهل بيتك أن نصبت أبا
الحسن الرضا (عليه السلام) علما، فوالله لأحدثك بحديث تتعجب منه: جئته يوما فقلت له:
جعلت فداك أن آبائك موسى بن جعفر، وجعفر بن محمد، ومحمد بن علي، وعلي
بن الحسين (عليهم السلام) كان عندهم علم ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، وأنت وصي
القوم ووارثهم، وعندك علمهم، وقد بدت لي إليك حاجة، قال: هاتها، فقلت: هذه
الزاهرية [خطيتي] ولا أقدم عليها من جواري قد حملت غير مرة وأسقطت، وهي
الآن حامل، فدلني على ما نتعالج به فتسلم، فقال: لا تخف من إسقاطها فإنها تسلم، وتلد



(1) التوحيد: ص 417.
(2) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 168، باب 41 ح 1.
430
غلاما أشبه الناس بأمه، ويكون له خنصر زائدة في يده اليمنى ليست بالمدلاة، وفي رجله اليسرى خنصر زائدة
ليست بالمدلاة، فقلت في نفسي أشهد أن الله على كل شئ قدير فولدت الزاهرية
غلاما أشبه الناس بأمه، وفي يده اليمنى خنصر زائدة ليست بالمدلاة، وفي رجله
اليسرى خنصر زائدة ليست بالمدلاة، على ما كان وصفه لي الرضا (عليه السلام)، فمن
يلومني على نصبي إياه علما (1).



(1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 223، الباب 47 ح 43.
431
الإمام التاسع محمد بن علي بن موسى الرضا (عليهم السلام)
الإمام التاسع
محمد بن علي بن موسى الرضا (عليهم السلام)
ولد في شهر رمضان أو شهر رجب سنة خمس وتسعين ومئة، وقبض سنة
عشرين ومائتين في آخر ذي القعدة، وكانت مدة إمامته من بعد أبيه سبع عشرة
سنة، وهو المولود الذي لم يولد مولودا أعظم بركة على الشيعة منه (1).
كنيته وألقابه (عليه السلام)
كنيته أبو جعفر، والخاص أبو علي، ومن ألقابه: التقي، والمنتجب،
والجواد، والمرتضى، والمختار، والمتوكل، والمتقي، والزكي، والقانع، والعالم.
مكارمه وكراماته (عليه السلام)
مكارمه وكراماته مسطورة في كتب والخاصة والعامة، نذكر بعضها:
منها: في الصحيح عن محمد بن حسان عن علي بن خالد، وكان زيديا،
قال:
كنت في العسكر فبلغني أن هناك رجلا محبوسا أتي به من ناحية الشام
مكبولا، وقالوا: إنه تنبأ، قال علي: فداريت القوادين والحجب، حتى وصلت إليه
فإذا رجل له فهم.
فقلت له: يا هذا ما قصتك وما أمرك؟ فقال لي: كنت رجلا بالشام أعبد الله



(1) الكافي ج 1 ص 321.
432
عند رأس الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) فبينا أنا في عبادتي [إذ أنا] إذ أتاني
شخص فقال قم بنا، قال فقمت معه، قال فبينا أنا معه في مسجد الكوفة، فقال لي:
تعرف هذا المسجد؟ قلت: نعم، هذا مسجد الكوفة قال: فصلى وصليت معه،
فبينا أنا معه [إذ أنا] في مسجد المدينة قال: فصلى وصليت، وصلى على
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ودعا له فبينا أنا معه إذا أنا بموضعي الذي كنت أعبد الله فيه
بالشام. قال: ومضى الرجل. قال: فلما كان عام قابل في أيام الموسم إذ أنا به
وفعل بي مثل فعلته الأولى، فلما فرغنا من مناسكنا وردني إلى الشام وهم
بمفارقتي قلت له: سألتك بحق الذي أقدرك على ما رأيت، إلا أخبرتني من أنت؟
قال: فأطرق طويلا ثم نظر إلي فقال: أنا محمد بن علي بن موسى.
فتراقى الخبر إلى محمد بن عبد الملك الزيات، قال: فبعث إلي فأخذني
وكبلني في الحديد، وحملني إلى العراق وحبسني كما ترى.
قال قلت له: ارفع قصتك إلى محمد بن عبد الملك؟ فقال: ومن لي يأتيه
بالقصة؟ قال: فأتيته بقرطاس ودواة فكتب قصته إلى محمد بن عبد الملك فذكر
في قصته ما كان، قال: فوقع في القصة: قل للذي أخرجك في ليلة من الشام إلى
الكوفة، ومن الكوفة إلى المدينة، ومن المدينة إلى المكان أن يخرجك من
حبسك.
قال علي: فغمني أمره ورققت له، وأمرته بالعزاء، قال: ثم بكرت عليه يوما
فإذا الجند، وصاحب الحرس، وصاحب السجن، وخلق عظيم، يتفحصون حاله
قال فقلت: ما هذا؟ قالوا: المحمول من الشام الذي تنبأ افتقد البارحة، لا ندري
خسف به الأرض، أو اختطفه الطير في الهواء.

433
وكان علي بن خالد هذا زيديا فقال بالإمامة بعد ذلك، وحسن اعتقاده " (1).
ومنها: ما رواه المفيد (2) وعلي بن إبراهيم (3) والطبرسي (4)، ورواه العامة (5)
أيضا باختلاف في الإجمال والتفصيل، وننقله من الاحتجاج:
عن الريان بن شبيب قال: لما أراد المأمون أن يزوج ابنته أم الفضل أبا جعفر
محمد بن علي (عليهما السلام) بلغ ذلك العباسيين فغلظ ذلك عليهم، واستنكروه منه، وخافوا
أن ينتهي الأمر معه إلى ما انتهى مع الرضا (عليه السلام)، فخاضوا في ذلك واجتمع منهم أهل
بيته الأدنون منه، فقالوا: ننشدك الله يا أمير المؤمنين أن تقيم على هذا الأمر الذي
قد عزمت عليه من تزويج ابن الرضا (عليه السلام) فإنا نخاف أن يخرج به عنا أمرا قد
ملكناه الله عز وجل، وينتزع [تنزع] منا عزا قد ألبسنا الله عز وجل، وقد عرفت
ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديما وحديثا، وما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك،
من تبعيدهم والتصغير بهم، وقد كنا في وهلة من عملك مع الرضا ما عملت فكفانا
الله المهم من ذلك، فالله الله أن تردنا إلى غم قد انحسر عنا، واصرف رأيك عن
ابن الرضا واعدل إلى من تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره.
فقال لهم المأمون: أما ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه، ولو
أنصفتم القوم لكانوا أولى بكم، وأما ما كان يفعله من قبلي بهم، فقد كان به قاطعا
للرحم، وأعوذ بالله من ذلك، ووالله ما ندمت على ما كان مني من استخلاف



(1) بصائر الدرجات الجزء الثامن باب 13، ح 1، ص 402، وبتفاوت في الكافي ج 1 ص 492 وكشف
الغمة ج 2 ص 359، الخرائج والجرائح ج 1 ص 380.
(2) الإرشاد ج 2 ص 281.
(3) تفسير القمي ج 1 ص 182.
(4) الاحتجاج ج 2 ص 240.
(5) الصواعق المحرقة ص 206.
434
الرضا ولقد سألته أن يقوم بالأمر وأنزعه من [عن] نفسي فأبى، وكان أمر الله قدرا
مقدورا.
وأما أبو جعفر محمد بن علي فقد اخترته لتبريزه على كافة أهل الفضل في
العلم والفضل، مع صغر سنه، والأعجوبة فيه بذلك، وأنا أرجو أن يظهر للناس
ما قد عرفته منه، فيعلموا أن الرأي ما رأيت.
فقالوا: إن هذا الفتى وإن راقك منه هديه فإنه صبي لا معرفة له ولا فقه،
فأمهله ليتأدب ثم اصنع ما تراه بعد ذلك، فقال لهم: ويحكم إني أعرف بهذا الفتى
منكم، وإن هذا من أهل بيت علمهم من الله تعالى ومواده وإلهامه، لم يزل آباؤه
أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حد الكمال، فإن شئتم
فامتحنوا أبا جعفر بما يتبين لكم به ما وصفت لكم من حاله.
قالوا: قد رضينا لك يا أمير المؤمنين ولأنفسنا بامتحانه، فخل بيننا وبينه
لننصب من يسأله بحضرتك عن شئ من فقه الشريعة، فإن أصاب في الجواب
عنه لم يكن لنا اعتراض في أمره، وظهر للخاصة والعامة سديد رأي أمير
المؤمنين فيه، وإن عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب في معناه فقال لهم المأمون:
شأنكم وذلك متى أردتم.
فخرجوا من عنده واجتمع رأيهم على مسألة يحيى بن أكثم، وهو يومئذ
قاضي الزمان، على أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب فيها، ووعدوه بأموال
نفيسة على ذلك، وعادوا إلى المأمون فسألوه أن يختار لهم يوما للاجتماع،
فأجابهم إلى ذلك.
فاجتمعوا في اليوم الذي اتفقوا عليه وحضر معهم يحيى بن أكثم، وأمر
المأمون أن يفرش لأبي جعفر دست ويجعل له فيه مسورتان ففعل ذلك، وخرج

435
أبو جعفر (عليه السلام) وهو يومئذ ابن تسع سنين وأشهر فجلس بين المسورتين، وجلس
يحيى بن أكثم بين يديه، وقام الناس في مراتبهم والمأمون جالس في دست
متصل بدست أبي جعفر عليه السلام.
فقال يحيى بن أكثم للمأمون: أتأذن لي يا أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر
عن مسألة؟ فقال المأمون: استأذنه في ذلك فأقبل عليه يحيى بن أكثم فقال:
أتأذن لي جعلت فداك في مسألة؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): سل إن شئت.
قال يحيى: ما تقول جعلت فداك في محرم قتل صيدا؟
فقال أبو جعفر (عليه السلام): قتله في حل، أو حرم، عالما كان المحرم، أو جاهلا، قتله عمدا أو خطأ، حرا
كان المحرم أم عبدا، صغيرا كان أم كبيرا، مبتدئا بالقتل أو معيدا، من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها،
من صغار الصيد أم من كبارها، مصرا على ما فعل أو نادما، في الليل كان قتله للصيد أم في النهار، محرما
كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرما؟
فتحير يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع ولجلج، حتى عرف
جماعة أهل المجلس عجزه.
فقال المأمون: الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي، ثم نظر إلى
أهل بيته فقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه؟ ثم أقبل على أبي جعفر (عليه السلام) فقال
له: أتخطب يا أبا جعفر؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال له المأمون: أخطب لنفسك
جعلت فداك فقد رضيتك لنفسي وأنا مزوجك أم الفضل ابنتي، وإن رغم أنوف
قوم لذلك.
فقال أبو جعفر (عليه السلام): الحمد لله إقرارا بنعمته، ولا إله إلا الله إخلاصا لوحدانيته وصلى الله على
محمد سيد بريته، والأصفياء من عترته.
أما بعد فقد كان من فضل الله على الأنام، أن أغناهم بالحلال عن الحرام، فقال سبحانه:

436
{وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من
فضله والله واسع عليم} (1).
ثم إن محمد بن علي بن موسى يخطب أم الفضل بنت عبد الله المأمون، وقد
بذل لها من الصداق مهر جدته فاطمة بنت محمد (عليهما السلام) وهو خمسمائة درهم جيادا،
فهل زوجته يا أمير المؤمنين بها على هذا الصداق المذكور؟
قال المأمون: نعم، قد زوجتك يا أبا جعفر أم الفضل ابنتي على الصداق
المذكور، فهل قبلت النكاح؟ قال أبو جعفر (عليه السلام): نعم قد قبلت ذلك ورضيت به.
فأمر المأمون أن يقعد الناس على مراتبهم من الخاصة والعامة.
قال الريان: ولم نلبث أن سمعنا أصواتا تشبه أصوات الملاحين في
محاوراتهم فإذا الخدم يجرون سفينة مصنوعة من فضة تشد بالحبال من
الإبريسم، على عجل [عجلة] مملوة من الغالية، فأمر المأمون أن تخضب لحاء
الخاصة من تلك الغالية ثم مدت إلى دار العامة فتطيبوا منها، ووضعت الموائد
فأكل الناس، وخرجت الجوائز إلى كل قوم على قدرهم.
فلما تفرق الناس وبقي من الخاصة من بقي، قال المأمون لأبي جعفر (عليه السلام): إن
رأيت جعلت فداك أن تذكر الفقه [الذي] فيما فصلته من وجوه قتل المحرم لنعلمه
ونستفيده.
فقال أبو جعفر (عليه السلام): نعم، إن المحرم إذا قتل صيدا في الحل وكان الصيد من ذوات الطير،
وكان من كبارها، فعليه شاة، فإن أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا، وإذا قتل فرخا في الحل
فعليه حمل قد فطم من اللبن، فإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ، فإذا كان من
الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة، وإن كان نعامة فعليه بدنة، وإن كان ظبيا فعليه شاة، وإن



(1) سورة النور: 32.
437
كان قتل شيئا من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا هديا بالغ الكعبة.
وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه، وكان إحرامه بالحج نحره بمنى، وإن كان إحرامه بالعمرة
نحره بمكة.
وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء، وفي العمد عليه المأثم وهو موضوع عنه في الخطأ.
والكفارة على الحر في نفسه، وعلى السيد في عبده، والصغير لا كفارة عليه، وهي على الكبير
واجبة، والنادم يسقط ندمه عنه عقاب الآخرة، والمصر يجب عليه العقاب في الآخرة.
فقال له المأمون: أحسنت يا أبا جعفر أحسن الله إليك، فإن رأيت أن تسأل
يحيى عن مسألة كما سألك فقال أبو جعفر (عليه السلام) ليحيى: أسألك؟
قال: ذلك إليك جعلت فداك، فإن عرفت جواب ما تسألني عنه وإلا استفدته
منك.
فقال له أبو جعفر (عليه السلام): أخبرني عن رجل نظر إلى امرأة في أول النهار فكان نظره إليها حراما
عليه، فلما ارتفع النهار حلت له، فلما زالت الشمس حرمت عليه، فلما كان وقت العصر حلت له، فلما
غربت الشمس حرمت عليه، فلما دخل وقت العشاء الآخرة حلت له، فلما كان وقت انتصاف الليل حرمت
عليه، فلما طلع الفجر حلت له، ما حال هذه المرأة وبماذا حلت له وحرمت عليه؟
فقال له يحيى بن أكثم: لا والله لا أهتدي إلى جواب هذا السؤال، ولا أعرف
الوجه فيه، فإن رأيت أن تفيدناه.
فقال أبو جعفر (عليه السلام): هذه أمة لرجل من الناس، نظر إليها أجنبي في أول النهار فكان نظره إليها
حراما عليه، فلما ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلت له، فلما كان عند الظهر أعتقها فحرمت عليه،
فلما كان وقت العصر تزوجها فحلت له، فلما كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت عليه، فلما كان
وقت العشاء الآخرة كفر عن الظهار فحلت له، فلما كان في نصف الليل طلقها تطليقة واحدة
فحرمت عليه، فلما كان عند الفجر راجعها فحلت له.

438
قال: فأقبل المأمون على من حضر من أهل بيته فقال لهم: هل فيكم من
يجيب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب، أو يعرف القول فيما تقدم من السؤال؟
قالوا: لا والله، إن أمير المؤمنين أعلم بما رأى، فقال: ويحكم إن أهل هذا
البيت خصوا من الخلق بما ترون من الفضل، وإن صغر السن فيهم لا يمنعهم من
الكمال... " (1).
حكمه ومواعظه (عليه السلام)
ومن حكمه ومواعظه (عليه السلام):
" كيف يضيع من الله كافله، وكيف ينجو من الله طالبه، ومن انقطع إلى غير الله وكله الله
إليه، ومن عمل على غير علم كان ما أفسد أكثر مما يصلح " (2).
الضياع إما من جهل الكفيل وإما من عجزه وإما من سفاهته، فلا ضياع إذا
كان الكفيل عالما قادرا حكيما، فكيف يضيع من الله كافله.
ونجاة المطلوب إنما تكون من الطالب الذي يمكن الفرار منه، وكيف يمكن
الفرار ممن هو معكم أينما كنتم، لا بمعية مكانية، بل بمعية قيومية، وليس الفرار
منه إلا إليه، فكيف ينجو من الله طالبه؟
إن من انقطع إلى غير الله يطلب بانقطاعه إليه التوكل عليه، فإذا وكله الله إليه
أجاب دعوته، ولم يرد طلبته، سبحان من هو جواد في كل ما يفعل بالعباد، فمن
انقطع إلى غير الله وكله الله إليه إجابة لدعوته.
كل عمل من كل عامل سواء كان للدنيا أو للآخرة، وكان للفرد أو المجتمع



(1) الاحتجاج ج 2 ص 240، باب احتجاج الجواد (عليه السلام).
(2) كشف الغمة ج 2 ص 368، بحار الأنوار ج 75 ص 364.
439
لابد أن يكون على علم بالعمل، والعلم هو الذي لا يحتمل الخلاف، وفي غير
العمل عن علم يكون العمل عن جهل وحتى لو كان عن ظن، فإن الظن لا يغني من
الحق شيئا، فيكون لا محالة ما أفسده أكثر مما يصلحه.
وقال (عليه السلام): " من أطاع هواه أعطى عدوه مناه " (1).
إن الهوى يهوي بمن اتبعه إلى مهالك الدنيا والآخرة، ويحجب العقل عن
إدراك الحسن والقبح، والخير والشر، فيصده عن الحق، فيضل عن سبيل الله،
وماذا بعد الحق إلا الضلال؟! قال الله تعالى: {واتبع هواه وكان أمره فرطا} (2)
فأعدى عدوك هي نفسك التي بين جنبيك، فمن أطاع هواه فقد أعطى عدوه
مناه.
وقال (عليه السلام): " قد عاداك من ستر عنك الرشد اتباعا لما تهواه " (3).
وقال (عليه السلام): " إياك ومصاحبة الشرير، فإنه كالسيف المسلول يحسن منظره، ويقبح أثره " (4).
إن أصحاب النفوس الشريرة يخفون شرهم وراء القول والعمل الكاذب،
ويظهر شرهم عندما يصدر منهم، كما يظهر أثر السيف المسلول إذا ضرب به.
وقال (عليه السلام): " من لم يعرف الموارد أعيته المصادر " (5).
جمع (عليه السلام) في هذه الجملة ما يوجب السعادة والشقاء، فإن من لم يعرف
ما يرد عليه من قول وعمل، لا يعلم المصالح والمفاسد، والمضار والمنافع التي
تصدر من الموارد، كمن يمشي في ظلمات لا يدري ما يضع قدمه عليه، وأما من



(1) أعلام الدين ص 309، بحار الأنوار ج 75 ص 364.
(2) أعلام الدين ص 309، بحار الأنوار ج 75 ص 364.
(2) سورة الكهف: 28.
(4) الدرة الباهرة ص 41، بحار الأنوار ج 75 ص 364.
(5) أعلام الدين ص 309، بحار الأنوار ج 75 ص 364.
440
عرف الموارد فهو على بصيرة واستعداد للمصادر.
وقال (عليه السلام): " لا تكن وليا لله في العلانية، عدوا له في السر " (1).
فإن من أصلح ظاهره عند الخلق وأفسد باطنه عند الخالق، فقد عظم الخلق
وحقر الخالق، وهو أسوأ حالا ممن كان عدوا لله في السر والعلانية، فإنه قد أمن
الناس من نفاقه.
وقال (عليه السلام): " عز المؤمن في غناه عن الناس " (2).
إن الاستغناء عن الناس والافتقار إلى الله عز وجل شرف الدنيا والآخرة.
وقال (عليه السلام): " القصد إلى الله تعالى بالقلوب أبلغ من اتعاب الجوارح " (3).
من عرف منزلة النفس من البدن، ومرتبة القصد من العمل، أدرك معنى
قوله (عليه السلام).
وقال (عليه السلام): " الثقة بالله ثمن لكل غال، وسلم إلى كل عال " (4).
إن الإنسان مفطور على حب الكمال، فهمته تحصيل ما هو غال، والوصول
إلى ما هو عال، والطبقة النازلة من الناس اعتمادهم على المال والمنال، والطبقة
المتوسطة ثقتهم بقوة نفوسهم لما يرونه من قدرتها العجيبة إذا جمعت قواها، فهم
يرون أن العقد العضال تنحل بإرادتها القوية بالرياضة، وأنه بهمم الرجال تزول
الجبال، والطبقة العالية ترى أن قدرة ما ومن هو غير الله كلها محدودة وبالعرض،
والمحدود لا يتجاوز عن حده، وما هو بالعرض مقهور لما هو بالذات، فليس



(1) بحار الأنوار ج 75 ص 365.
(2) اعلام الدين ص 309، بحار الأنوار ج 75 ص 365.
(3) نزهة الناظر ص 134، كشف الغمة ج 2 ص 368، بحار الأنوار ج 75 ص 364.
(4) أعلام الدين ص 309، بحار الأنوار ج 75 ص 364.
441
الثمن لكل غال والسلم إلى كل عال إلا الثقة بالله المتعال.

442
الإمام العاشر علي بن محمد بن علي (عليهم السلام)
الإمام العاشر
علي بن محمد بن علي النقي (عليهم السلام)
قيل ولد للنصف من ذي الحجة سنة اثنتي عشرة ومأتين، وروي أنه ولد في
رجب سنة أربع عشرة ومأتين، وقبض لأربع بقين من جمادى الآخرة سنة أربع
وخمسين ومأتين، وروي أنه قبض (عليه السلام) سنة أربع وخمسين ومأتين، وعمره على
القول الأول في مولده أحد وأربعون سنة وستة أشهر، وعلى المروي أربعون
سنة (1).
كنيته وألقابه (عليه السلام)
كنيته أبو الحسن، وألقابه: الهادي، والنجيب، والمرتضى، والتقي، والعالم،
والفقيه، والأمين، والمؤتمن، والناصح، والمفتاح، والطيب، والمتوكل،
والعسكري.
وفي الصحيح عن إسماعيل بن مهران، قال: لما خرج أبو جعفر (عليه السلام) من
المدينة إلى بغداد في الدفعة الأولى من خرجتيه، قلت له عند خروجه: جعلت
فداك، إني أخاف عليك في هذا الوجه، فإلى من الأمر بعدك؟ فكر بوجهه إلي
ضاحكا، وقال: ليس حيث ظننت في هذه السنة.
فلما استدعي به إلى المعتصم، صرت إليه، فقلت له: جعلت فداك، فأنت
خارج، فإلى من هذا الأمر من بعدك؟ فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم التفت إلي،



(1) الكافي ج 1 ص 497.
443
فقال: عند هذه يخاف علي، الأمر من بعدي إلى ابني علي (1).
كراماته (عليه السلام)
وهى أكثر من أن يحويها هذا المختصر، ونقتصر على بعضها:
1 - عن أبي هاشم الجعفري، قال: كنت بالمدينة حين مر بنا [بغا] أيام الواثق
في طلب الأعراب فقال أبو الحسن: اخرجوا بنا حتى ننظر إلى تعبئة هذا التركي، فخرجنا
فوقفنا فمرت بنا تعبئته، فمر بنا تركي، فكلمه أبو الحسن (عليه السلام) بالتركي، فنزل عن
فرسه فقبل حافر فرس الإمام (عليه السلام)، فحلفت التركي، فقلت له: ما قال لك الرجل؟
قال: هذا نبي؟! قلت: ليس هو بنبي. قال: دعاني باسم سميت به في صغري في
بلاد الترك، ما علمه أحد إلى الساعة (2).
2 - عن صالح بن سعيد، قال: دخلت على أبي الحسن (عليه السلام)، فقلت: جعلت
فداك، في كل الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك حتى أنزلوك هذا الخان
الأشنع خان صعاليك، فقال: هاهنا أنت يا بن سعيد، ثم أومأ بيده، فقال: انظر،
فنظرت، فإذن بروضات آنفات، وروضات ناظرات، فيهن خيرات عطرات،
وولدان كأنهن اللؤلؤ المكنون، وأطيار، وظباء، وأنهار تفور، فحار بصري
وحسرت عيني، فقال: حيث كنا فهذا لنا عتيد، ولسنا في خان الصعاليك (3).



(1) الكافي ج 1 ص 323، الإرشاد ج 2 ص 298.
(2) الخرائج والجرائح ج 2 ص 674، وبتفاوت يسير في الثاقب في المناقب ص 539، إعلام الورى ج 2
ص 117، كشف الغمة ج 2 ص 397، مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 408.
(3) الكافي ج 1 ص 498، وبتفاوت يسير في بتفاوت يسير بصائر الدرجات الجزء الثامن باب 13 ح 7،
ص 406، الثاقب في المناقب ص 542، الخرائج والجرائح ج 2 ص 680، إعلام الورى ج 2 ص 126،
كشف الغمة ج 2 ص 383، مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 411 ومصادر أخرى.
444
3 - حدث جماعة من أهل إصفهان، منهم أبو العباس أحمد بن النضر وأبو
جعفر محمد بن علوية قالوا: كان بإصفهان رجل يقال له: عبد الرحمن وكان
شيعيا، قيل له: ما السبب الذي أوجب عليك به القول بإمامة علي النقي دون غيره
من أهل الزمان؟
قال: شاهدت ما أوجب ذلك علي، وذلك أني كنت رجلا فقيرا وكان لي
لسان وجرأة، فأخرجني أهل إصفهان سنة من السنين مع قوم آخرين إلى باب
المتوكل متظلمين، فكنا بباب المتوكل يوما إذ خرج الأمر بإحضار علي بن
محمد بن الرضا (عليهم السلام) فقلت لبعض من حضر: من هذا الرجل الذي قد أمر
بإحضاره؟
فقيل: هذا رجل علوي تقول الرافضة بإمامته. ثم قيل: ويقدر أن المتوكل
يحضره للقتل. فقلت: لا أبرح من هاهنا حتى أنظر إلى هذا الرجل أي رجل هو؟
قال: فأقبل راكبا على فرس، وقد قام الناس يمنة الطريق ويسرته صفين
ينظرون إليه، فلما رأيته وقع حبه في قلبي فجعلت أدعو له في نفسي بأن يدفع الله
عنه شر المتوكل، فأقبل يسير بين الناس وهو ينظر إلى عرف دابته لا ينظر يمنة
ولا يسرة، وأنا دائم الدعاء له، فلما صار بإزائي أقبل إلي بوجهه، وقال: استجاب
الله دعاءك، وطول عمرك، وكثر مالك وولدك.
قال: فارتعدت [من هيبته] ووقعت بين أصحابي، فسألوني وهم يقولون: ما
شأنك؟ فقلت: خير، ولم أخبرهم بذلك.
فانصرفنا بعد ذلك إلى إصفهان، ففتح الله علي [الخير بدعائه، و] وجوها من
المال حتى أنا اليوم أغلق بابي على ما قيمته ألف ألف درهم، سوى مالي خارج
داري، ورزقت عشرة من الأولاد، وقد بلغت الآن من عمري نيفا وسبعين سنة

445
وأنا أقول بإمامة هذا الذي علم ما في قلبي واستجاب الله دعاءه في ولي (1).
4 - قال هبة الله بن أبي منصور الموصلي: كان بديار ربيعة كاتب نصراني
وكان من أهل كفرتوثا، يسمى يوسف بن يعقوب، وكان بينه وبين والدي صداقة،
قال: فوافانا فنزل عند والدي فقال له والدي: ما شأنك قدمت في هذا الوقت؟
قال: قد دعيت إلى حضرة المتوكل، ولا أدري ما يراد مني، إلا أني اشتريت
نفسي من الله بمائة دينار، وقد حملتها لعلي بن محمد بن الرضا (عليهم السلام) معي. فقال له
والدي: قد وفقت في هذا.
قال: وخرج إلى حضرة المتوكل وانصرف إلينا بعد أيام قلائل فرحا
مستبشرا. فقال له والدي: حدثني حديثك.
قال: صرت إلى سر من رأى وما دخلتها قط، فنزلت في دار وقلت: أحب
أن أوصل المائة إلى ابن الرضا (عليه السلام) قبل مصيري إلى باب المتوكل، وقبل أن يعرف
أحد قدومي. قال: فعرفت أن المتوكل قد منعه من الركوب، وأنه ملازم لداره
فقلت: كيف أصنع؟ رجل نصراني يسأل عن دار ابن الرضا؟! لا آمن أن ينذر بي
فيكون ذلك زيادة فيما أحاذره.
قال: ففكرت ساعة في ذلك، فوقع في قلبي أن أركب حماري وأخرج في
البلد، فلا أمنعه من حيث يذهب، لعلي أقف على معرفة داره من غير أن أسأل
أحدا.
قال: فجعلت الدنانير في كاغدة، وجعلتها في كمي، وركبت فكان الحمار
يخترق الشوارع والأسواق يمر حيث يشاء إلى أن صرت إلى باب دار، فوقف



(1) الخرائج والجرائح ج 1 ص 392، وبتفاوت يسير في الثاقب في المناقب ص 550، كشف الغمة ج 2
ص 389.
446
الحمار فجهدت أن يزول فلم يزل، فقلت للغلام: سل لمن هذه الدار؟
فقيل: هذه دار [علي بن محمد] ابن الرضا! فقلت: الله أكبر دلالة والله مقنعة.
قال: وإذا خادم أسود قد خرج [من الدار] فقال: أنت يوسف بن يعقوب؟
قلت: نعم. قال: انزل. فنزلت فأقعدني في الدهليز ودخل، فقلت في نفسي:
وهذه دلالة أخرى من أين عرف هذا الخادم اسمي [واسم أبي]، وليس في هذا
البلد من يعرفني، ولا دخلته قط؟!
قال: فخرج الخادم فقال: المائة الدينار التي في كمك في الكاغدة هاتها!؟
فناولته إياها، فقلت: وهذه ثالثة، ثم رجع إلي، فقال: ادخل.
فدخلت إليه وهو في مجلسه وحده فقال: يا يوسف أما آن لك أن تسلم؟
فقلت: يا مولاي قد بان [لي من البرهان] ما فيه كفاية لمن اكتفى.
فقال: هيهات أما إنك لا تسلم، ولكن سيسلم ولدك فلان، وهو من شيعتنا.
[فقال:] يا يوسف إن أقواما يزعمون أن ولايتنا لا تنفع أمثالك، كذبوا والله إنها لتنفع أمثالك،
امض فيما وافيت له، فإنك سترى ما تحب [وسيولد لك ولد مبارك].
قال: فمضيت إلى باب المتوكل فقلت كل ما أردت فانصرفت.
قال هبة الله: فلقيت ابنه بعد [موت أبيه] وهو مسلم حسن التشيع، فأخبرني
أن أباه مات على النصرانية، وأنه أسلم بعد موت والده. وكان يقول: أنا بشارة
مولاي (عليه السلام) (1).
5 - عن زرافة [زرارة] قال: أراد المتوكل أن يمشي علي بن محمد بن
الرضا (عليهم السلام) يوم السلام، فقال له وزيره: إن في هذا شناعة عليك وسوء مقالة فلا
تفعل. قال: لابد من هذا.



(1) الخرائج والجرائح ج 1 ص 396، وبتفاوت يسير في كشف الغمة ج 2 ص 392.
447
قال: فإن لم يكن بد من هذا فتقدم بأن يمشي القواد والأشراف كلهم، حتى
لا يظن الناس أنك قصدته بهذا دون غيره، ففعل ومشى (عليه السلام) وكان الصيف، فوافى
الدهليز وقد عرق.
قال: فلقيته فأجلسته في الدهليز ومسحت وجهه بمنديل وقلت: إن
ابن عمك لم يقصدك بهذا دون غيرك، فلا تجد عليه في قلبك.
فقال: إيها عنك {تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب} (1).
قال زرافة: وكان عندي معلم يتشيع وكنت كثيرا أمازحه بالرافضي
فانصرفت إلى منزلي وقت العشاء وقلت: تعال يا رافضي حتى أحدثك بشئ
سمعته اليوم من إمامكم. قال: وما سمعت؟ فأخبرته بما قال.
قال: يا حاجب أنت سمعت هذا من علي بن محمد (عليهما السلام)؟ قلت: نعم. قال:
فحقك علي واجب بحق خدمتي لك، فاقبل نصيحتي، قلت: هاتها. قال: إن كان
علي بن محمد قد قال ما قلت فاحترز واخزن كل ما تملكه، فإن المتوكل يموت
أو يقتل بعد ثلاثة أيام، فغضبت عليه وشتمته وطردته من بين يدي، فخرج.
فلما خلوت بنفسي، تفكرت وقلت: ما يضرني أن آخذ بالحزم، فإن كان
من هذا شئ كنت قد أخذت بالحزم، وإن لم يكن لم يضرني ذلك، قال: فركبت
إلى دار المتوكل فأخرجت كل ما كان لي فيها، وفرقت كل ما كان في داري إلى
عند أقوام أثق بهم، ولم أترك في داري إلا حصيرا أقعد عليه.
فلما كانت الليلة الرابعة قتل المتوكل وسلمت أنا ومالي، فتشيعت عند ذلك
وصرت إليه، ولزمت خدمته، وسألته أن يدعو لي وتوليته حق الولاية (2).



(1) سورة هود: 65.
(2) الخرائج والجرائح ج 1 ص 401.
448
وغير خفي أن ما ناله الرجل من الأمن في الدنيا والأمان في الآخرة ببركة ما
خدم الإمام (عليه السلام) بمسح عرق وجهه، فطوبى لمن أحيا أمرهم بما أقدره الله عليه،
فإن {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} (1).
حكمه ومواعظه (عليه السلام)
ومن حكمه ومواعظه (عليه السلام):
من رضى عن نفسه كثر الساخطون عليه (2).
الغنى قلة تمنيك، والرضا بما يكفيك.
الناس في الدنيا بالأموال، وفي الآخرة بالأعمال (3).
المصيبة للصابر واحدة، وللجازع اثنتان (4).
الحسد ماحي الحسنات، والعجب صارف عن طلب العلم، داع إلى الغمط، والجهل والبخل أذم الأخلاق،
والطمع سجية سيئة، والهزء فكاهة السفهاء وصناعة الجهال، والعقوق يعقب القلة ويؤدي إلى
الذلة (5).
اذكر مصرعك بين يدي أهلك، ولا طبيب يمنعك، ولا حبيب ينفعك (6).
خير من الخير فاعله، وأجمل من الجميل قائله، وأرجح من العلم حامله، وشر من الشر جالبه، وأهول



(1) سورة النحل: 96.
(2) نزهة الناظر وتنبيه الخاطر ص 138، بحار الأنوار ج 75 ص 368.
(3) نزهة الناظر وتنبيه الخاطر ص 139، الدرة الباهرة ص 141، بحار الأنوار ج 75 ص 369.
(4) نزهة الناظر وتنبيه الخاطر ص 140، بحار الأنوار ج 75 ص 369.
(5) بحار الأنوار ج 75 ص 369.
(6) نزهة الناظر وتنبيه الخاطر ص 141، بحار الأنوار ج 75 ص 370.
449
من الهول راكبه (1).
إذا كان زمان العدل فيه أغلب من الجور، فحرام أن يظن بأحد سوء حتى يعلم ذلك منه، وإذا كان
زمان الجور أغلب فيه من العدل، فليس لأحد أن يظن بأحد خيرا ما لم يعلم ذلك منه (2).
إياك والحسد، فإنه يبين فيك، ولا يعمل في عدوك (3).
المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحلل العقدة الوثيقة، وأقل ما فيه أن تكون فيه المغالبة،
والمغالبة أس أساس القطيعة (4).
وفي كشف الغمة من كتاب الدلائل، عن فتح بن يزيد الجرجاني قال:
ضمني وأبا الحسن الطريق حين منصرفي من مكة إلى خراسان وهو صائر
إلى العراق، فسمعته وهو يقول: من اتقى الله يتقى، ومن أطاع الله يطاع، قال: فتلطفت
في الوصول إليه فسلمت عليه، فرد علي السلام وأمرني بالجلوس، وأول ما
ابتدأني به أن قال:
يا فتح من أطاع الخالق لم يبال بسخط المخلوق، ومن أسخط الخالق فأيقن أن يحل به الخالق سخط
المخلوق، وإن الخالق لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، وأنى يوصف الخالق الذي تعجز الحواس أن
تدركه، والأوهام أن تناله، والخطرات أن تحده، والأبصار عن الإحاطة به، جل عما يصفه الواصفون،
وتعالى عما ينعته الناعتون، نأى في قربه، وقرب في نأيه، فهو في نأيه قريب، وفي قربه بعيد،
كيف الكيف فلا يقال كيف، وأين الأين فلا يقال أين، إذ هو منقطع الكيفية والأينية، هو الواحد
الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فجل جلاله، أم كيف يوصف بكنهه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)



(1) نزهة الناظر وتنبيه الخاطر ص 142، بحار الأنوار ج 75 ص 370.
(2) بحار الأنوار ج 75 ص 370.
(3) نزهة الناظر وتنبيه الخاطر ص 142، بحار الأنوار ج 75 ص 370.
(4) بحار الأنوار ج 75 ص 369 - وبتفاوت في بعض الكلمات، نزهة الناظر وتنبيه الخاطر ص 139.
450
وقد قرنه الجليل باسمه، وشركه في عطائه، وأوجب لمن أطاعه جزاء طاعته إذ يقول: {وما نقموا
إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله} (1) وقال يحكي قول من ترك طاعته وهو يعذبه بين
أطباق نيرانها وسرابيل قطرانها: {يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا} (2) أم كيف يوصف بكنهه من
قرن الجليل طاعتهم بطاعة رسوله حيث قال: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر
منكم} (3) وقال: {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم} (4) وقال: {إن الله
يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} (5)، وقال: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا
تعلمون} (6). (7)
والرواية مفصلة، تنفتح منها أبواب من الحكمة والمعرفة، ذكرنا بعضها،
ولا مجال للتعمق فيها، لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله.
قوله (عليه السلام): " من اتقى يتقى "
فإن من علم وآمن بأن كل شئ كائن بإرادة الله ومقهور لقدرته، وتلا هاتين
الآيتين حق تلاوتهما: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} (8) {وهو القاهر
فوق عباده} (9) لا يخاف ولا يخشى إلا من الله {فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم



(1) سورة التوبة: 74.
(2) سورة الأحزاب: 66.
(3) سورة النساء: 59.
(4) سورة النساء: 83.
(5) سورة النساء: 58.
(6) سورة النحل: 43.
(7) كشف الغمة ج 2 ص 386.
(8) يس: 82.
(9) سورة الأنعام: 18.
451
مؤمنين} (1) {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (2)، و " من خاف الله أخاف الله منه كل
شئ ".
قوله (عليه السلام): " من أطاع الله يطاع "
فإن المطيع لله بتبعية إرادته لأمر الله تكون إرادته التكوينية فانية في الإرادة
التشريعية، فتصير نافذة فيما أراد، فإن جزاء من استجاب لدعوة الله إجابة
دعوته، ومن لم يرد طلبة الله لا ترد طلبته، كما تدين تدان، هل جزاء الإحسان إلا
الإحسان، وفي الحديث القدسي: يا بن آدم، أنا حي لا أمرت، أطعني فيما أمرتك
حتى أجعلك حيا لا تموت، يا بن آدم، أنا أقول للشيئ كن فيكون، أطعني فيما
أمرتك أجعلك تقول للشيئ كن فيكون (3).
قوله (عليه السلام): " من أرضى الخالق لم يبال بسخط المخلوق، ومن أسخط الخالق فأيقن أن يحل به
الخالق سخط المخلوق " (4).
إن من عرف الخالق يعلم أن من وجده لا يفقد شيئا، ومن فقده لا يجد شيئا،
ومن عرف المخلوق يعلم أن حدوثه وبقاءه وإيجاده وإعدامه بمشيئة الخالق، ولا
يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، فإذا أرضى الله بتسليمه
لأمر الله ورضاه بقضاء الله الملازم لرضا الله عنه، لا يبالي بسخط المخلوق، فمن
رضي عنه المالك لا يبالي بسخط المملوك، كما أن من أسخط الخالق يحل به
سخط المخلوق الذي أسلم لله تعالى طوعا وكرها.



(1) سورة آل عمران: 175.
(2) سورة الفاطر: 28.
(3) ارشاد القلوب ص 75.
(4) الكافي ج 1 ص 138.
452
قوله (عليه السلام): " إن الخالق لا يوصف إلا بما وصف به نفسه "
إنما يكون الوصف بعد الإدراك، وما يدرك به الإنسان إما الحس، وإما
الخيال، وإما الوهم، وإما العقل، وكل واحد منها عاجز عن إدراكه لوجوه خاصة
بكل واحد منها، ووجوه عامة لجميعها.
منها: أن الإدراك لا يتحقق إلا بإحاطة المدرك بما أدركه، وما لا حد له لا
يمكن الإحاطة به، فلا يمكن إدراكه، وكل مدرك وما يدرك به مخلوق لله سبحانه
{والله من ورائهم محيط} (1) بالإحاطة القيومية، {وهو معكم أين ما كنتم} (2)
وبالإحاطة العلمية {أحاط بكل شئ علما} (3)، ولو أدركته الحواس والأوهام
والعقول صار المحيط محاطا، وهو محال، سبحان من أظلم بظلمته كل نور (4).
قوله (عليه السلام): " نأى في قربه " لأنه قدوس عن الإدراك، وسبوح عما تتصف به
الممكنات.
قوله (عليه السلام): " وقرب في نأيه " لأنه قيوم الأرضين والسماوات، والماديات،
والمجردات، ولا أقرب من القيوم إلى ما يقوم به، (فمع قيموميته وعدم إدراكه
وعدم نيل وصفه، ظهر وجه أنه " نأى في قربه وقرب في نأيه ".)
وبعبارة أخرى: فقربه تعالى لأنه مشيئ كل شئ وقيومه، فهو أقرب إلى
الشئ من نفسه، لأن شيئية الشئ وإنيته ونفسيته إنما هي بمشيته وقيوميته.
ونأى في قربه لبعده عن نيل الحس والخيال والوهم والعقل، ولقدسه عن



(1) سورة البروج: 20.
(2) سورة الحديد: 4.
(3) سورة الطلاق: 12.
(4) إشارة إلى ما في نهج البلاغة الخطبة 182: فلا إله إلا هو أضاء بنوره كل ظلام، وأظلم بظلمته كل نور.
453
الاتصاف بأوصاف الممكنات، وتنزهه عن مجانسة المخلوقات، فكما أن
خالقيته وربوبيته وقيوميته توجب قربه، كذلك توجب بعده، فنأى في قربه،
وقرب في نأيه.
قوله (عليه السلام): " وكيف الكيف فلا كيف له " فإنه سبحانه خالق الكيف والأين،
والمخلوق فقير بذاته إلى خالقه، والخالق غني بذاته عن مخلوقه، فلا يمكن
اتصاف الغني بالذات بالفقير بالذات.
قوله (عليه السلام): " هو الواحد الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " لما بين (عليه السلام) أنه
تعالى جل عما يصفه الواصفون، وصفه بما وصف به نفسه من الأوصاف الستة،
وفي جمعه أوصاف الله الكمالية في الثلاثة الإيجابية، وهي الواحد والأحد
والصمد، وأوصافه الجلالية في الثلاثة السلبية، وهي لم يلد ولم يولد ولم يكن له
كفوا أحد، أودع جواهر من المعرفة والحكمة لأهلها، من استخراج جميع أسماء
الله الحسنى منها، واستنباط ما يتعلق بالتحميد من الثلاثة الأولى، وما يتعلق
بالتسبيح من الثلاثة الثانية، وبالتأمل فيما ذكره يظهر تفريعه (عليه السلام): " فجل جلاله ".
قوله (عليه السلام): " أم كيف يوصف كنه محمد "
فرق (عليه السلام) بين وصف الله ووصف رسوله بنفي الوصف عن الله بإطلاقه، وعن
الرسول بكنهه، تنبيها على الفرق بين الله ورسوله، وفي التفريق بهذا البيان وجوه
دقيقة لمن تأمل.
وبين (عليه السلام) سبب عدم وصف الرسول بكنهه، بأن الله سبحانه قرن محمدا
باسمه، ورفع ذكره إلى أن صار اسمه قرينا لاسم الله الذي قال في شأنه {تبارك
اسم ربك ذي الجلال والاكرام} (1) فصارت الشهادة برسالته في كل أذان وإقامة



(1) سورة الرحمن: 78.
454
وصلاة قرينة للشهادة بوحدانية الله تعالى، والله الذي لا شريك له في ذاته وصفاته
وأفعاله اختص محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن جعله شريكا في عطائه {وما نقموا إلا أن أغناهم
الله ورسوله من فضله} (1) فأسند إغناءهم من فضله إلى نفسه، والتشريك في العطاء
مستوجب للتشريك في الشكر.
وأوجب لمن أطاع الرسول جزاء طاعته، فصار ترك طاعة الرسول عدلا
لترك طاعة الله سبحانه في استحقاق العقاب {يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا} (2)
فكيف يمكن معرفة الرسول بكنهه مع العجز عن إدراك الإجلال الذي جل الله به
رسوله، والإكرام الذي أكرم به نبيه.
وأما ولي الأمر فقد قرن الجليل طاعته بطاعة الرسول، حيث قال: {أطيعوا
الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} (3) وبالمقارنة بين الطاعتين في وجوبهما
بأمر واحد، ثبت أن أمر ولي الأمر قرين أمر الرسول، ولو لم يكن الآمر معصوما
بعصمة الرسول لاستحالت المقارنة بين الأمرين، فإن الآمر بالباطل لا يمكن أن
يكون قرينا للآمر بالحق، وقد قال تعالى {فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله
والرسول} (4): {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم} (5) فجعل المرجع في
كل ما اختلف فيه الله والرسول وأولي الأمر، والاقتران بين الثلاثة في الرد إليهم
يكشف عن وحدة ما يصدر عنهم، فما أنزله الله على رسوله، وهو الكتاب الذي ما
فرط الله فيه من شئ، عند الرسول، وما هو عند الرسول عند أولي الأمر، ومن



(1) سورة التوبة: 74.
(2) سورة الأحزاب: 66.
(3) سورة النساء: 59.
(4) سورة النساء: 59.
(5) سورة النساء: 83.
455
كان قرينا لخاتم النبيين في العصمة والعلم كيف يدرك كنهه.
وبالاستشهاد بقوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} (1)
وبقوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (2) أرشد إلى أن ولاية أمر
الأمة لابد أن ترد إلى أهلها، وأهلها هو الذي استأمنه الله عليها، وأمر بإطاعته
والرد إليه في الآيتين، فإن لكل أمانة أهلا وأهل هذه الأمانة ليس إلا من كان
مصونا عن خيانتها حتى تجب إطاعته، وعالما بكل مسألة وإلا لما صح ردها إليه
{اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} (3).



(1) سورة النساء: 58.
(2) سورة النحل: 43.
(3) سورة يوسف: 55.
456
الإمام الحادي عشر الحسن بن علي الهادي العسكري (عليهما السلام)
الإمام الحادي عشر
الحسن بن علي الهادي العسكري (عليهما السلام)
ولد في شهر ربيع الآخر، والأشهر أن ولادته في ثمان خلون منه في سنة
اثنتين وثلاثين ومأتين، وقبض في الثامن من ربيع الأول سنة ستين ومأتين،
وكانت مدة خلافته ست سنين.
كنيته وألقابه (عليه السلام)
كنيته أبو محمد، وألقابه: الصامت، والهادي، والسراج، والرفيق، والزكي،
والنقي، والعسكري.
مكارم أخلاقه (عليه السلام) وكراماته
ونقتصر منها على ما يلي:
1 - عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن
علي بن عبد الغفار قال: دخل العباسيون على صالح بن وصيف، ودخل صالح بن
علي وغيره من المنحرفين عن هذه الناحية على صالح بن وصيف عندما حبس
أبو محمد (عليه السلام) فقالوا له: ضيق عليه ولا توسع! فقال لهم صالح: ما أصنع به؟ وقد
وكلت به رجلين شر من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى
أمر عظيم.
ثم أمر بإحضار الموكلين، فقال لهما: ويحكما ما شأنكما في أمر هذا

457
الرجل؟ فقالا له: ما نقول في رجل يصوم نهاره، ويقوم ليله كله، لا يتكلم
ولا يتشاغل بغير العبادة، فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من
أنفسنا، فلما سمع ذلك العباسيون انصرفوا خاسئين [خائبين] (1).
2 - عن علي بن محمد عن جماعة من أصحابنا قالوا: سلم أبو محمد (عليه السلام) إلى
نحرير وكان يضيق عليه ويؤذيه، فقالت له امرأته: اتق الله فإنك لا تدري من في
منزلك؟ وذكرت له صلاحه وعبادته وقالت: إني أخاف عليك منه، فقال: والله
لأرمينه بين السباع، ثم استأذن في ذلك فأذن له، فرمى به إليها فلم يشكوا في
أكلها، فنظروا إلى الموضع، فوجدوه (عليه السلام) قائما يصلي وهي حوله، فأمر بإخراجه
إلى داره (2).
3 - روى أبو هاشم أنه ركب أبو محمد (عليه السلام) يوما إلى الصحراء فركبت معه،
فبينما نسير وهو قدامي وأنا خلفه، إذ عرض لي فكر في دين كان علي قد حان
أجله، فجعلت أفكر في أي وجه قضاؤه، فالتفت إلي وقال: يا أبا هاشم، الله يقضيه،
ثم انحنى على قربوس سرجه فخط بسوطه خطة في الأرض فقال: انزل فخذ
واكتم. فنزلت وإذا سبيكة ذهب، قال: فوضعتها في خفي وسرنا.
فعرض لي الفكر فقلت: إن كان فيها تمام الدين وإلا فإني أرضي صاحبه بها،
ويجب أن ننظر الآن في وجه نفقة الشتاء، وما نحتاج إليه فيه من كسوة وغيرها،
فالتفت إلي ثم انحنى ثانية فخط بسوطه خطة في الأرض مثل الأولى ثم قال: انزل
وخذ واكتم. قال: فنزلت فإذا بسبيكة فضة فجعلتها في الخف الآخر، وسرنا يسيرا
ثم انصرف إلى منزله وانصرفت إلى منزلي. فجلست فحسبت ذلك الدين،



(1) الإرشاد ج 2 ص 324 إعلام الورى ج 2 ص 150، الكافي ج 1 ص 512.
(2) إعلام الورى ج 1 ص 151، الكافي ج 1 ص 513، وبتفاوت في الإرشاد ج 2 ص 324.
458
وعرفت مبلغه، ثم وزنت سبيكة الذهب فخرج بقسط ذلك الدين ما زادت
ولا نقصت، ثم نظرت ما نحتاج إليه لشتوتي من كل وجه، فعرفت مبلغه الذي
لم يكن بد منه على الإقتصاد بلا تقتير ولا إسراف، ثم وزنت سبيكة الفضة
فخرجت على ما قدرته، ما زادت ولا نقصت (1)!
4 - وعن أحمد بن محمد، عن جعفر بن الشريف الجرجاني قال: حججت
سنة فدخلت على أبي محمد (عليه السلام) بسر من رأى، وقد كان أصحابنا حملوا معي
شيئا من المال، فأردت أن أسأله إلى من أدفعه؟ فقال قبل أن قلت له ذلك: ادفع
ما معك إلى المبارك خادمي.
قال: ففعلت [وخرجت] وقلت: إن شيعتك بجرجان يقرؤون عليك السلام،
قال: أولست منصرفا بعد فراغك من الحج؟ قلت: بلى، قال: فإنك تصير إلى جرجان من يومك هذا
إلى مئة وسبعين يوما، وتدخلها يوم الجمعة لثلاث ليال يمضين من شهر ربيع الآخر في أول النهار، فأعلمهم
أني أوافيهم في ذلك اليوم في آخر النهار، وامض راشدا فإن الله سيسلمك ويسلم ما معك، فتقدم على
أهلك وولدك، ويولد لولدك الشريف ابن فسمه الصلت بن الشريف بن جعفر بن الشريف، وسيبلغ الله به
ويكون من أوليائنا.
فقلت: يا ابن رسول الله إن إبراهيم بن إسماعيل الجرجاني هو من شيعتك
كثير المعروف إلى أوليائك يخرج إليهم في السنة من ماله أكثر من مئة ألف درهم،
وهو أحد المتقلبين في نعم الله بجرجان، فقال: شكر الله لأبي إسحاق إبراهيم بن إسماعيل
صنيعته إلى شيعتنا، وغفر له ذنوبه، ورزقه ذكرا سويا قائلا بالحق فقل له: يقول لك الحسن بن علي:
سم ابنك أحمد.
فانصرفت من عنده وحججت فسلمني الله حتى وافيت جرجان في يوم



(1) الخرائج والجرائح ج 1 ص 421، وبتفاوت يسير في الثاقب في المناقب ص 217.
459
الجمعة في أول النهار من شهر ربيع الآخر على ما ذكره (عليه السلام) وجاءني أصحابنا
يهنؤوني فأعلمتهم أن الإمام (عليه السلام) وعدني أن يوافيكم في آخر هذا اليوم فتأهبوا لما
تحتاجون إليه، واعدوا مسائلكم وحوائجكم كلها.
فلما صلوا الظهر والعصر اجتمعوا كلهم في داري، فوالله ما شعرنا إلا وقد
وافانا أبو محمد (عليه السلام) فدخل إلينا ونحن مجتمعون فسلم هو أولا علينا فاستقبلناه
وقبلنا يده، ثم قال: إني كنت وعدت جعفر بن الشريف أن أوافيكم في آخر هذا اليوم، فصليت
الظهر والعصر بسر من رأى، وصرت إليكم لأجدد بكم عهدا، وها أنا قد جئتكم الآن، فاجمعوا مسائلكم
وحوائجكم كلها.
فأول من انتدب لمساءلته النضر بن جابر قال: يا ابن رسول الله إن ابني جابرا
أصيب ببصره منذ أشهر فادع الله له أن يرد إليه عينيه، قال: فهاته، فمسح بيده
على عينيه فعاد بصيرا! ثم تقدم رجل فرجل يسألونه حوائجهم وأجابهم إلى كل
ما سألوه حتى قضى حوائج الجميع، ودعا لهم بخير، فانصرف من يومه ذلك (1).
5 - وعن الحسن بن ظريف أنه قال: اختلج في صدري مسألتان أردت
الكتاب فيهما إلى أبي محمد (عليه السلام) فكتبت أسأله عن القائم إذا قام بم يقضي وأين
مجلسه الذي يقضي فيه بين الناس؟ وأردت أن أسأله عن شئ لحمي الربع،
فأغفلت خبر الحمى، فجاء الجواب: سألت عن القائم إذا قام قضى بين الناس بعلمه
كقضاء داود (عليه السلام) لا يسأل البينة، وكنت أردت أن تسأل عن الحمى الربع فأنسيت، فاكتب ورقة وعلقها
على المحموم فإنه يبرأ بإذن الله إن شاء الله {يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم} (2) فعلقنا



(1) الخرائج والجرائح ج 1 ص 424، وبتفاوت يسير في الثاقب في المناقب ص 215.
(2) سورة الأنبياء: 69.
460
عليه ما ذكر أبو محمد (عليه السلام) فأفاق (1).
ومن كراماته (عليه السلام) ما رواه الخاصة والعامة: أنه قحط الناس بسر من رأى في
زمن الحسن الأخير (عليه السلام) فأمر الخليفة الحاجب وأهل المملكة أن يخرجوا إلى
الاستسقاء، فخرجوا ثلاثة أيام متوالية إلى المصلى يستسقون ويدعون فما
سقوا. فخرج الجاثليق في اليوم الرابع إلى الصحراء ومعه النصارى والرهبان
وكان فيهم راهب فلما مد يده هطلت السماء بالمطر. وخرج في اليوم الثاني
فهطلت السماء بالمطر! فشك أكثر الناس، وتعجبوا وصبوا إلى النصرانية، فبعث
الخليفة إلى الحسن (عليه السلام) وكان محبوسا فاستخرجه من محبسه وقال: إلحق أمة
جدك فقد هلكت. فقال: إني خارج في الغد ومزيل الشك إن شاء الله.
فخرج الجاثليق في اليوم الثالث والرهبان معه وخرج الحسن (عليه السلام) في نفر من
أصحابه، فلما بصر بالراهب وقد مد يده أمر بعض مماليكه أن يقبض على يده
اليمنى ويأخذ ما بين إصبعيه ففعل، وأخذ من بين سبابته والوسطى عظما أسود،
فأخذه الحسن (عليه السلام) بيده ثم قال له: استسق الآن، فاستسقى وكانت السماء متغيمة
فتقشعت وطلعت الشمس بيضاء.
فقال الخليفة: ما هذا العظم يا أبا محمد؟ قال (عليه السلام): هذا رجل مر بقبر نبي من الأنبياء
فوقع إلى يده هذا العظم، وما كشف عن عظم نبي إلا وهطلت السماء بالمطر (2).



(1) الكافي ج 1 ص 509 ح 13، وبتفاوت يسير في الإرشاد ج 2 ص 331، الثاقب في المناقب ص 565،
كشف الغمة ج 2 ص 413، مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 431، إعلام الورى ج 2 ص 145.
(2) الخرائج والجرائح ج 1 ص 441، وبتفاوت يسير مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 425، كشف الغمة ج 2
ص 429، وغيرها من مصادر الخاصة.
الصواعق المحرقة ص 207، ينابيع المودة ج 3 ص 190 وغيرهما من مصادر العامة.
461
حكمه ومواعظه (عليه السلام)
ومن حكمه ومواعظه (عليه السلام):
إنكم في آجال منقوصة، وأيام معدودة، والموت يأتي بغتة، من يزرع خيرا يحصد غبطة، ومن يزرع
شرا يحصد ندامة، لكل زارع ما زرع، لا يسبق بطئ بحظه، ولا يدرك حريص ما لم يقدر له، من أعطي خيرا فالله
أعطاه، ومن وقي شرا فالله وقاه (1).
قلب الأحمق في فمه، وفم الحكيم في قلبه (2).
لا يشغلك رزق مضمون عن عمل مفروض (3).
ما ترك الحق عزيز إلا ذل، ولا أخذ به ذليل إلا عز (4).
خصلتان ليس فوقهما شئ: الإيمان بالله، ونفع الإخوان (5).
إن للسخاء مقدارا فإن زاد عليه فهو سرف، وللحزم مقدارا فإن زاد عليه فهو جبن، وللاقتصاد
مقدارا فإن زاد عليه فهو بخل، وللشجاعة مقدارا فإن زادت عليه فهو تهور (6).
كفاك أدبا تجنبك ما تكره من غيرك (7).
حسن الصورة جمال ظاهر، وحسن العقل جمال باطن (8).
من آنس بالله استوحش من الناس (9).
من لم يتق وجوه الناس لم يتق الله (10).
جعلت الخبائث في بيت، وجعل مفتاحه الكذب (11).



(1) و (3) و (4) تحف العقول، من قصار هذه المعاني، الحسن بن علي (عليهما السلام)، ص 489.
(4) و (2) و (3) و (4) و (5) تحف العقول، من قصار هذه المعاني، الحسن بن علي (عليهما السلام)، ص 489.
(6) و (4) و (5) بحار الأنوار ج 75 ص 377 عن الدرة الباهرة.
(9) عدة الداعي ص 194، بحار الأنوار ج 75 ص 377.
(10) و (8) الدرة الباهرة ص 43، بحار الأنوار ج 75 ص 377.
462
ليست العبادة كثرة الصيام والصلاة، وإنما العبادة كثرة التفكر في أمر الله (1).
وقال (عليه السلام) لشيعته: أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء
الأمانة إلى من ائتمنكم من بر أو فاجر، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (صلى الله عليه وسلم)، صلوا في
عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه
وصدق في حديثه، وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا شيعي فيسرني ذلك.
اتقوا الله وكونوا زينا ولا تكونوا شينا، جروا إلينا كل مودة، وادفعوا عنا كل قبيح، فإنه ما قيل
فينا من حسن فنحن أهله، وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك. لنا حق في كتاب الله، وقرابة من
رسول الله، وتطهير من الله لا يدعيه أحد غيرنا إلا كذاب.
أكثروا ذكر الله وذكر الموت وتلاوة القرآن والصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم)، فإن الصلاة على رسول الله عشر
حسنات.
احفظوا ما وصيتكم به، وأستودعكم الله، وأقرأ عليكم السلام (2).



(1) تحف العقول من قصار هذه المعاني للحسن بن علي (عليهما السلام) ص 488.
(2) تحف العقول من قصار هذه المعاني للحسن بن علي (عليهما السلام) ص 488.
463
الإمام الثاني عشر الحجة بن الحسن المهدي (عليه السلام)
الإمام الثاني عشر
الحجة بن الحسن المهدي ولي العصر وصاحب الزمان
صلوات الله عليه
ضرورة وجود الإمام في كل عصر
روى الفريقان عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه من مات ولم يعرف إمام زمانه مات
ميتة جاهلية (1)، وبما أن معرفة إمام العصر (عليه السلام) تفصيلا لا يتيسر لنا، فنكتفي
بمعرفته إجمالا على سبيل الاختصار.
إن وجود الإمام في كل عصر ضروري بالعقل والنقل وقد تقدم ذلك في
مبحث الإمامة.
وكان مجمل بعض الأدلة العقلية:
أن النبوة والرسالة قد ختمت بنبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن مرحلة نزول الوحي
وتبليغ الرسالة انتهت برحلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن القرآن الذي أنزله الله تعالى لتعليم
الإنسان وتربيته باق وخالد، وهو يحتاج إلى معلم ومرب: وقوانين القرآن التي
شرعت لضمان حقوق الإنسان، هذا الكائن الاجتماعي المدني بالطبع، تحتاج
إلى مفسر ومنفذ.



(1) راجع صفحة:
464
وذلك أن الغرض الإلهي من بعثة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)، غرض ممتد في
الأجيال، ولا يتحقق إلا بوجود معلم عالم بما في القرآن، منزه عن الخطأ
والهوى، متخلق بأعلى صفات الكمال المقصودة بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنما بعثت لأتمم مكارم
الأخلاق) (1)، فبذلك وحده يتحقق الكمال العلمي والعملي للبشر، الذي هو الغرض
من خلق الإنسان {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} (2).
وبالجملة، فإن القرآن كتاب أنزل لإخراج جميع أفراد البشر من الظلمات
الفكرية والأخلاقية والعملية إلى عالم النور {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من
الظلمات إلى النور} (3) {هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات
إلى النور} (4)، ولا يمكن أن يتحقق هذا الغرض إلا بواسطة إنسان عصمه الله من
الأخطاء والأهواء، وإلا فمن هو في الظلمات ليس بخارج منها كيف يكون
مخرجا عنها.
ولولا وجود هذا الإنسان لما تيسر تعلم الكتاب والحكمة، والقيام بالقسط
في الأمة، بل يتحول القرآن الذي أنزله الله من أجل رفع اختلاف الناس إلى سبب
لاختلافهم ومادة لنزاعهم، بسبب أهوائهم وأفكارهم الخاطئة!.
كيف يتعقل الإنسان أن الله الذي لم يترك دور الحاجب في جمال الوجه
حتى أتقنه، مراعيا قاعدته في خلق الإنسان في أحسن تقويم، ينزل كتابا لغرض
تصوير سيرة الإنسان في أحسن تقويم، ثم يبطل غرضه من تنزيله ومن إرسال



(1) تفسير مجمع البيان ج 10 ص 333 ذيل تفسير * (وإنك لعلى خلق عظيم) *.
(2) سورة الفاطر: 10.
(3) سورة إبراهيم: 1.
(4) سورة الحديد: 9.
465
الرسل، بعدم نصبه حافظا وشارحا للكتاب؟!
ومن هنا يتضح المغزى في قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي رواه والعامة: (من مات بغير
إمام مات ميتة جاهلية) (1)، ونحوه المضامين المشابهة المتعددة التي رواها الخاصة
عن الأئمة (عليهم السلام)، كالذي كتبه الإمام الرضا (عليه السلام) إلى المأمون في شرائع الدين (وأن
الأرض لا تخلو من حجة لله تعالى على خلقه في كل عصر وأوان، وأنهم العروة الوثقى.. إلى أن قال:
ومن مات ولم يعرفهم مات ميتة جاهلية) (2).
وأخيرا، عندما نعتقد بالدور الأساسي للإمام المعصوم في كل عصر،
وتأثيره في إكمال الدين وإتمام نعمة الهداية، فلو ترك الله تبارك وتعالى دينه
ناقصا بدونه، لكان إما لعدم إمكان وجوده، أو لعدم القدرة، أو لعدم الحكمة،
وثلاثتها باطلة، فيكون وجوده ثابتا قطعيا.
* *
ومن الأدلة النقلية على ضرورة وجوده حديث الثقلين
فإن هذا الحديث المتفق على صحته عند الفريقين يدل على وجود إمام في



(1) المعجم الكبير ج 12 ص 337، ج 19 ص 388، ومسند الشاميين ج 2 ص 438، ومسند أحمد ج 4
ص 96، مجمع الزوائد ج 5 ص 224 و 225، مسند أبي داود الطياليسي ص 259، المعيار والموازنة
ص 24، مسند أبي يعلى ج 13 ص 366، صحيح ابن حبان ج 1 ص 434، المعجم الأوسط ج 6 ص 70،
شرح نهج البلاغة ج 9 ص 155 و ج 13 ص 242 ومصادر أخرى للعامة.
(2) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 122، وقريب منه في الكافي ج 1 ص 376 و... و ج 2 ص 21 و ج 8
ص 146، دعائم الإسلام ج 1 ص 25 و 27، الخصال ص 479، كمال الدين وتمام النعمة ص 337
و 409 و...، كفاية الأثر ص 296، المسترشد ص 177 وموارد أخرى، دلائل الإمامة ص 337، كتاب
الغيبة ص 127 و 130 ومصادر أخرى للخاصة.
466
كل زمان من أهل بيت النبوة (عليهم السلام) إلى يوم القيامة، لا يفترق عن القرآن، ولا يفترق
القرآن عنه (لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) (1).
ولما كانت حجة الله على الخلق هي الحجة البالغة، جرت هذه الحقيقة على
لسان ابن حجر الهيتمي المعروف بالتعصب حيث قال: (والحاصل أن الحث وقع
على التمسك بالكتاب والسنة وبالعلماء بهما من أهل البيت. ويستفاد من
مجموع ذلك بقاء الأمور الثلاثة إلى قيام الساعة. ثم اعلم أن لحديث التمسك
بذلك طرقا كثيرة، وردت عن نيف وعشرين صحابيا) (2).
ومذهب الحق ليس إلا وجوب وجود عالم بالقرآن من أهل البيت (عليهم السلام)،



(1) مسند أحمد بن حنبل ج 3 ص 14 و 17 و 26 و 59 و ج 5 ص 182 و 190، سنن الترمذي ج 5 ص 329
- المستدرك على الصحيحين ج 1 ص 93 و ج 3 ص 109 و 124 و 148، السنن الكبرى للبيهقي ج 10
ص 114، فضائل الصحابة ص 15، مجمع الزوائد ج 1 ص 170 و ج 9 ص 163 و... و ج 10 ص 363،
مسند ابن الجعد ص 397، مصنف ابن أبي شيبة ج 7 ص 418، كتاب السنة ص 337 و 629 و...، السنن
الكبرى للنسائي ج 5 ص 45 و 130، خصائص أمير المؤمنين (عليه السلام) ص 93، مسند أبي يعلى ج 2
ص 297 و 303 و 376، المعجم الصغير ج 1 ص 131 و 135 و 374، المعجم الكبير ج 3 ص 65 و...،
ج 3 ص 180 و ج 5 ص 154، سنن الدارقطني ج 4 ص 160، شرح نهج البلاغة ج 9 ص 133، نظم درر
السمطين ص 231، الجامع الصغير ج 1 ص 402 و 605، كنز العمال ج 1 ص 172 و... وص 186 و...،
شواهد التنزيل ج 2 ص 42، تفسير ابن كثير ج 4 ص 122 و...، الدر المنثور ج 2 ص 60 ومصادر أخرى
كثيرة للعامة يصعب ذكرها.
الكافي ج 1 ص 209 و ج 2 ص 415، عيون أخبار الرضا ج 2 ص 62 باب 31 ح 259 و ج 1 ص 329
باب 23 ح 1، الأمالي للشيخ المفيد ج 1 ص 176، دعائم الإسلام ج 1 ص 28، الخصال ص 65 و...،
الأمالي للصدوق ص 500 المجلس الرابع والستون ح 15، كمال الدين وتمام النعمة ص 64 و 94
و 234 و...، معاني الأخبار ص 90 و 91 و 114 و...، كفاية الأثر ص 18 و 92، روضة الواعظين
ص 273، المسترشد ص 467 و 559 و... مصادر أخرى كثيرة للخاصة يصعب ذكرها.
(2) الصواعق المحرقة ص 150.
467
عالم بكل ما فيه، وأن الأمة بلا استثناء مأمورة بالتمسك بالكتاب والسنة وبهذا
الإمام، وأن اهتداء أي مسلم يتوقف على هذا التمسك، وإطاعة ذلك الإمام.
من الأدلة النقلية أيضا: أحاديث الأئمة الاثني عشر (عليهما السلام)
فقد ثبت اعتقاد الشيعة بالإمام الثاني عشر (عليه السلام) وظهوره - مضافا إلى ما تقدم -
بالأحاديث المتواترة عن المعصومين (عليهم السلام)، وهي إحدى الطرق المثبتة للإمامة.
هذا مع قطع النظر عما ثبت بالبرهان من أن الإنسان الكامل - وهو خليفة الله
في كل زمان - واسطة الفيض في عالم التكوين، وأن الله سبحانه هو من منه
الوجود، وخليفته وحجته من به الوجود، وبه ينزل الغيث، وبه يمسك السماء أن
تقع على الأرض إلا بإذنه، وبه ينفس الهم ويكشف الضر، وللكلام عن مقام العباد
الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، وأنهم ولاة الأمر في التكوين
والتشريع مجال آخر.
وفي القرآن آيات ورد تفسيرها في مصادر العامة والخاصة بظهوره ودولته
صلوات الله عليه، نذكر بعضها:
1. قال الله تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على
الدين كله ولو كره المشركون} (1).
قال أبو عبد الله الكنجي في كتاب البيان في أخبار صاحب الزمان (عليه السلام): (وأما
بقاء المهدي (عليه السلام) فقد جاء في الكتاب والسنة، أما الكتاب فقد قال سعيد بن جبير
في تفسير قوله عز وجل: {ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} قال: هو



(1) سورة التوبة: 33.
468
المهدي من عترة فاطمة (عليها السلام) (1).
وفي تفسير القرطبي فروي ان جميع ملوك الدنيا كلها أربعة مؤمنان وكافران
فالمؤمنان سليمان بن داوود واسكندر والكافران نمرود وبختنصر، وسيملكها
من هذه الأمة خامس لقوله تعالى {ليظهره على الدين كله} وهو المهدي (2)
2. قال الله تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم
ينفقون} (3). قال الفخر الرازي في تفسيره: (قال بعض الشيعة: المراد بالغيب
المهدي المنتظر الذي وعد الله تعالى به في القرآن والخبر، أما القرآن فقوله: {وعد
الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من
قبلهم} (4)، وأما الخبر فقوله (عليه السلام): " لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج
رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي وكنيته كنيتي، يملأ الأرض عدلا وقسطا، كما ملئت جورا وظلما "
واعلم أن تخصيص المطلق من غير الدليل باطل).. (5).
ومن الواضح أن الرازي يسلم بدلالة القرآن على المهدي (عليه السلام) وأن الإيمان
بالغيب يشمل الإيمان به، ولكنه تصور أن الشيعة يجعلون الإيمان بالغيب مختصا
به فأشكل عليهم بما ذكر! وغفل عن أن الإيمان بالإمام المهدي (عليه السلام) عندهم من



(1) البيان في أخبار صاحب الزمان ص 528. ونقل عن السدي في تفسير القرطبي ج 8 ص 121 و ج 11
ص 48، ينابيع المودة ج 3 ص 239، تفسير الكبير ج 15 ص 40 ومصادر أخرى للعامة.
الكافي ج 1 ص 432، كمال الدين وتمام النعمة ص 670، الاعتقادات ص 95، تفسير العياشي ج 2
ص 87 ومصادر أخرى للخاصة.
(2) تفسير القرطبي ج 11 ص 48.
(3) سورة البقرة: 3.
(4) سورة النور: 55.
(5) التفسير الكبير ج 2 ص 28.
469
مصاديق الايمان بالغيب، وليس الغيب محصورا به!
3. قال الله تعالى: {وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعوني هذا صراط
مستقيم} (1). قال ابن حجر: (قال مقاتل بن سليمان ومن شايعه من المفسرين إن
هذه الآية نزلت في المهدي) (2).
4. قال الله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في
الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم
من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم
الفاسقون} (3)، وفسرت بالإمام المهدي (عليه السلام) وحكومته (4).
5. قال الله تعالى: {إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها
خاضعين} (5). وقد فسرت " آية " بالنداء الذي يسمع من السماء قرب ظهوره (عليه السلام) (6)،
والنداء هو: (ألا إن حجة الله قد ظهر عند بيت الله فاتبعوه، فإن الحق معه وفيه) (7).
6. قال الله تعالى: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم



(1) سورة الزخرف: 61.
(2) الصواعق المحرقة ص 162، وراجع أيضا فيض القدير ج 5 ص 383، ينابيع المودة ج 2 ص 453
و ج 3 ص 345، ومصادر أخرى للعامة.
العمدة ص 430 و 435، بحار الأنوار ج 6 ص 301 و ج 51 ص 98 ومصادر أخرى للخاصة.
(3) سورة النور: 55.
(4) الغيبة للشيخ الطوسي ص 177، تفسير القمي ج 1 ص 14، التبيان ج 7 ص 458، تفسير مجمع البيان
ج 7 ص 267 ومصادر أخرى.
(5) سورة الشعراء: 4.
(6) تفسير روح المعاني ج 19 ص 60.
(7) ينابيع المودة ج 3 ص 297.
470
أئمة ونجعلهم الوارثين} (1).
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (لتعطفن الدنيا علينا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها. وتلا
عقيب ذلك: ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) (2).
7. قال الله تعالى {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في
خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة
عذاب عظيم} (3)، في جامع البيان عن أسباط عن السدى قوله (لهم في الدنيا
خزي) اما خزيهم في الدنيا فإنهم إذا قام المهدي وفتحت القسطنطينية قتلهم،
فذلك الخزي (4).
وذكره أيضا في الدر المنثور (5)، والقرطبي (6) عن قتادة عن السدى الخزي
لهم في الدنيا قيام المهدي، وفتح عمورية ورومية وقسطنطينية وغير ذلك من
مدنهم.
8. قال الله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي
الصالحون} (7). ورد تفسيرها بالإمام المهدي (عليه السلام) وأصحابه (8).



(1) سورة القصص: 5.
(2) نهج البلاغة ج 4 ص 47 الحكم رقم 209. وراجع أيضا: دلائل الإمامة ص 450، الإرشاد ج 2
ص 180، الغيبة للطوسي ص 184، التبيان ج 8 ص 129، ينابيع المودة ج 3 ص 272.
(3) سورة البقرة: 114.
(4) جامع البيان في تفسير هذه الآية ج 1 ص 399.
(5) الدر المنثور ج 1 ص 264.
(6) تفسير القرطبي ج 2 ص 79.
(7) سورة الأنبياء: 105.
(8) تفسير القمي ج 2 ص 77 ذيل آية 105 من سورة الأنبياء، روضة الواعظين ص 261، شرح الأخبار
ج 3 ص 365، الإفصاح ص 100، ينابيع المودة ج 3 ص 243 ومصادر أخرى للخاصة والعامة.
471
ومضمون هذه الآية موجود في: كتاب المزامير - زبور داود - المزمور
السابع والثلاثين: (لأن الرب يحب الحق ولا يتخلى عن أتقيائه. إلى الأبد
يحفظون. أما نسل الأشرار فينقطع. الصديقون يرثون الأرض ويسكنونها إلى
الأبد. فم الصديق يلهج بالحكمة، ولسانه ينطق بالحق، شريعة إلهه في قلبه،
لا تتقلقل خطواته).
وفي المزمور الثاني والسبعين: (اللهم اعط أحكامك للملك وبارك
لابن الملك. يدين شعبك بالعدل ومساكينك بالحق. تحمل الجبال سلاما للشعب
والآكام بالبر. يقضي لمساكين الشعب. يخلص بني البائسين ويسحق الظالم.
يخشونك ما دامت الشمس ودام القمر إلى دور فدور. ينزل مثل المطر على
الجزاز، ومثل الغيوث الذارفة على الأرض. يشرق في أيامه الصدق، وكثرة
السلام إلى أن يضمحل القمر. ويملك من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي
الأرض. أمامه تجثو أهل البرية. وأعداؤه يلحسون التراب).
* *
وقد تواترت أحاديث البشارة النبوية بالإمام المهدي (عليه السلام) عند العامة
والخاصة:
قال أبو الحسين الآبري وهو من كبار علماء العامة: وقد تواترت الأخبار
واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى (صلى الله عليه وسلم) في المهدي، وأنه من أهل بيته، وأنه
يملك سبع سنين ويملأ الأرض عدلا، وأن عيسى عليه الصلاة والسلام يخرج
فيساعده على قتل الدجال، وأنه يؤم هذه الأمة وعيسى خلفه...) (1).
قال الشبلنجي في نور الأبصار: (تواترت الأخبار عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه من



(1) تهذيب التهذيب ج 9 ص 126، الغيبة للنعماني ص 75 باب 4 ح 9.
472
أهل بيته وأنه يملأ الأرض عدلا) (1).
وقال ابن أبي الحديد: (وقد وقع اتفاق الفرق من المسلمين أجمعين على أن
الدنيا والتكليف لا ينقضي إلا عليه) (2) أي بظهوره (عليه السلام).
وقال زيني دحلان قريبا من ذلك (3).
صفات الإمام المهدي أرواحنا فداه
لا يتسع هذا الموجز للبحث عن صفاته (عليه السلام) التي خصه الله تعالى بها، فنكتفي
ببعض ما ورد منها في مصادر الفريقين:
المسيح يقتدي به في الصلاة
اتفق العامة والخاصة على أن إمامة الجماعة تكون للأفضل، وروي أن (إمام
القوم وافدهم، فقدموا أفضلكم) (4).
وروى العامة والخاصة (5) أنه عند ظهوره ينزل عيسى المسيح من السماء إلى



(1) نور الأبصار ص 189.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 10 ص 96.
(3) الفتوحات الإسلامية ج 2 ص 338.
(4) بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث ج 1 ص 265 رقم 144، ووسائل الشيعة ج 8 ص 347 - كتاب
الصلاة أبواب صلاة الجماعة باب 26، ومصادر أخرى للعامة والخاصة.
(5) صحيح البخاري ج 4 ص 143، صحيح مسلم ج 1 ص 136، مسند أحمد بن حنبل ج 2 ص 272
و 336 ج 3 ص 368، سنن ابن ماجة ج 2 ص 1359، المصنف لعبد الرزاق ج 11 ص 400، المعجم
الأوسط ج 9 ص 86، كنز العمال ج 14 ص 334، تفسير ابن كثير ج 1 ص 592، تاريخ مدينة دمشق
ج 47 ص 500، عقد الدرر الباب العاشر، ومصادر أخرى للعامة.
الغيبة للنعماني ص 75 الباب الرابع ح 9، وكشف الغمة ج 1 ص 526 ومصادر أخرى للخاصة.
473
الدنيا، ويصلي خلفه!
فمع أن عيسى كلمة الله وروح الله، ومحيي الموتى ومبرء الأكمه والأبرص
بإذن الله، وهو رابع أولي العزم من الرسل، والوجيه عند الله، ومن المقربين، إلا أنه
في صلاته التي هي معراج المؤمن إلى ربه، يأتم بالإمام المهدي (عليه السلام) ويخاطب الله
تعالى بلسانه، ويجعله واسطة بينه وبين ربه، ويقتدي به في قيامه وقعوده وركوعه
وسجوده، ويجاهد بين يديه، ولا ريب أن الدولة الحقة والحكومة الإلهية قائمة
على أساس الحق والعدل والترجيح بالفضل الذي يقتضي تقديم من حقه التقدم،
(من أم قوما وفيهم من هو أعلم منه لم يزل أمرهم إلى سفال إلى يوم القيامة) (1).
ذكر الكنجي في كتابه - البيان في أخبار صاحب الزمان - وهذه الأخبار مما
ثبت طرقها وصحتها عند السنة، وكذلك ترويها الشيعة على السواء، فهذا هو
الإجماع من كافة أهل الإسلام، ومع ثبوت الإجماع على ذلك وصحته فأيهما
أفضل الإمام أو المأموم في الصلاة والجهاد معا؟! (2).
كما روى السلمي في عقد الدرر، عن سالم الأشل قال: سمعت أبا جعفر
محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) يقول: (نظر موسى بن عمران في السفر الأول إلى ما يعطى قائم آل
محمد من التمكين والفضل فقال موسى: رب اجعلني قائم آل محمد، فقيل له: إن ذاك من ذرية
أحمد. ثم نظر في السفر الثاني فوجد فيه مثل ذلك فقال مثله، فقيل له مثل ذلك. ثم نظر في
السفر الثالث فرأى مثله فقال مثله) (3).
فمع أن موسى (عليه السلام)، أحد الأنبياء أولي العزم، وكليم الله تعالى {وكلم الله موسى



(1) علل الشرائع ج 2 ص 326 باب 20 ح 4.
(2) البيان في أخبار صاحب الزمان: 498.
(3) عقد الدرر ص 26، ورواه النعماني في الغيبة ص 240.
474
تكليما} (1)، والمبعوث بالآيات التسعة {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} (2)،
ومن ناداه الله وقربه لمناجاته: {وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا} (3)،
فأي مقام ومنزلة رآه في المهدي حتى تمناه ثلاث مرات؟!
إن تمني موسى بن عمران لأن يبلغ منزلة المهدي لا يحتاج إلى الإثبات
برواية أو حديث، فإن إمامة المهدي (عليه السلام) لنبي من أولي العزم كعيسى بن مريم
تكفي لأن يتمنى موسى مقامه.
ثم إن نتيجة خلق العالم والإنسان وثمرة بعثة جميع الأنبياء من آدم إلى
الخاتم تتلخص في أربعة أمور:
1. إشراق الأرض بنور معرفة الله وعبادته ليكون مظهرا لقوله تعالى:
{وأشرقت الأرض بنور ربها} (4).
2. إحياء الأرض بحياة العلم والإيمان بعد موتها، قال الله تعالى: {اعلموا أن
الله يحيي الأرض بعد موتها} (5).
3. قيام دولة العدل الإلهية وزوال الباطل ليتجلى قوله تعالى: {وقل جاء الحق
وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} (6).
4. قيام عامة الناس بالعدل والقسط، الذي هو الغاية من إرسال الرسل
وإنزال الكتب {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس



(1) سورة النساء: 164.
(2) سورة مريم: 101.
(3) سورة مريم: 52.
(4) سورة الزمر: 69.
(5) سورة الحديد: 17.
(6) سورة الإسراء: 81.
475
بالقسط} (1).
وظهور جميع هذه الأمور إنما يكون على يد المهدي من أهل بيت
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي (يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا) (2). وهو مقام لا عجب
أن يتمناه الأنبياء العظام (عليهم السلام).
الإمام المهدي (عليه السلام) خليفة الله في أرضه
إن عنوان الإمام الثاني عشر في روايات العامة والخاصة هو " خليفة الله "
(يخرج المهدي وعلى رأسه غمامة فيها مناد ينادي: هذا المهدي خليفة الله فاتبعوه) (3).



(1) سورة الحديد: 25.
(2) كمال الدين وتمام النعمة ص 33 و 257 و 262 و 264 و 280 و 285 و 288 وموارد أخرى من هذا
الكتاب، الخصال ص 396، الأمالي للصدوق ص 78 المجلس السابع ج 3 وص 419، التوحيد ص 82،
معاني الأخبار ص 124، كفاية الأثر ص 4 و 47 و 600 و...، روضة الواعظين ص 32 و 100 و 255
و 392، مناقب أمير المؤمنين ج 2 ص 110 و...، دلائل الإمامة ص 176 ومصادر أخرى كثيرة
للخاصة.
وقريب منه في البيان للكنجي ص 505، وصحيح ابن حبان ج 15 ص 237، وفي التلخيص أيضا،
ومسند أحمد ج 3 ص 28 و 36 و 37 و 52 و 70، سنن أبي داود ج 2 ص 309 و 310، المستدرك على
الصحيحين ج 4 ص و 514 وفي التخليص أيضا وص 465 و 557 وفي التلخيص أيضا، مسند أبي
يعلى ج 2 ص 274، مجمع الزوائد ج 7 ص 313 و 317 و...، عون المعبود ج 11 ص 247، مصنف ابن
أبي شيبة ج 8 ص 678 و 679، المعجم الأوسط ج 2 ص 15 و ج 9 ص 176، الجامع الصغير ج 2
ص 402 و 672، كنز العمال ج 14 ص 261 و 264 و...، تذكرة الحفاظ ج 3 ص 838، ميزان الاعتدال
ج 3 ص 97، سير أعلام النبلاء ج 15 ص 253، تاريخ ابن خلدون ج 1 ص 314 و...، ومصادر أخرى
كثيرة للعامة.
(3) كشف الغمة ج 2 ص 470، كفاية الأثر ص 151، كتاب الغيبة للنعماني ص 10 ومصادر أخرى
للخاصة.
المستدرك على الصحيحين ج 4 ص 464، ومسند أحمد ج 5 ص 277، وسنن ابن ماجة ج 2
ص 1367، ميزان الاعتدال ج 2 ص 679، ونور الأبصار للشبلنجي ص 188، وعقد الدرر للسلمي:
125 وغيرها من مصادر العامة.
476
إن الخلافة من المفاهيم الإضافية المتقومة بالخليفة والمستخلف عنه، فلا
محالة تختلف شؤون الخلافة ومرتبة الخليفة باختلاف مقام من يستخلف عنه،
فإذا كان المستخلف عنه فوق كل كمال بما لا يتناهى، وهو الذي ليس لعظمته حد
محدود، فيكون الذي استخلفه الله لنفسه، وأقامه مقامه، وأنابه منابه أعلى شأنا
وأجل قدرا من أن تنال العقول منزلته.
ومقتضى إضافة الخليفة إلى اسم " الله " كونه (عليه السلام) آية لجميع أسماء الله
الحسنى.
مقامه (عليه السلام) يعلم من مقام أصحابه
وردت أحاديث متعددة في مدح أصحابه (عليه السلام) تدل على علو مقامهم، وهذه
نماذج منها: أن عددهم عدد أهل بدر (1)، وأن لهم سيوفا مكتوبا على كل سيف
منها ألف كلمة ينفتح من كل كلمة ألف كلمة (2).
وفي روايات العامة رواية صحيحة على شرط البخاري ومسلم، رواها
الذهبي في التلخيص والحاكم في المستدرك (3) وفيها: (لا يستوحشون إلى أحد ولا يفرحون
بأحد يدخل فيهم. على عدة أصحاب بدر. لم يسبقهم الأولون ولا يدركهم الآخرون. وعلى عدة أصحاب طالوت



(1) كفاية الأثر ص 278 باب ما جاء من النص عن الجواد (عليه السلام).
(2) الغيبة للنعماني: 314 باب 20 ح 7، كمال الدين وتمام النعمة: 268، كفاية الأثر: 282.
(3) المستدرك على الصحيحين ج 4 ص 554.
477
الذين جاوزوا معه النهر).
فإذا كان التابع سابقا على الأولين وحائزا لمقام القرب المختص بالسابقين
{والسابقون السابقون * أولئك المقربون} (1)، ولم يدركه في الاستباق إلى الكمالات
الآخرون، فما أعظم مقام المتبوع الذي هو باب الله (2) وديان دينه وخليفة الله
وناصر حقه وحجة الله ودليل إرادته.
أنه (عليه السلام) مظهر للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
إن للنبي خصوصية وهي كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم الأنبياء، كما أن للمهدي (عليه السلام)
خصوصية وهي كونه خاتم الأوصياء، وكما أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فاتح الدين
فالمهدي (عليه السلام) خاتمه، وقد دلت على هذا الأمر روايات العامة والخاصة " المهدي منا،
يختم الدين بنا كما فتح بنا " (3)، (بكم فتح الله وبكم يختم) (4).
ولهذا، ظهرت فيه (عليه السلام) الخصوصيات الجسمية والروحية والاسمية
للخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم).
إن افتتاح الدين واختتامه بأبي القاسم محمد كنية واسما وصورة وسيرة - مع
تعدد الشخص بخاتم النبيين وخاتم الوصيين - يحكى عند أهل النظر عن مقام



(1) سورة الواقعة: 10 - 11.
(2) الاحتجاج للطبرسي ج 2 ص 316.
(3) الصواعق المحرقة: 163، وقريب منه في المعجم الأوسط ج 1 ص 136، وعقد الدرر الباب السابع
ص 145، كنز العمال ج 14 ص 598، ينابيع المودة ج 3 ص 262 و 392 ومصادر أخرى للعامة.
كشف الغمة ج 2 ص 473 الرابع والثلاثون في ذكرى المهدي وبه يؤلف الله بين قلوبهم، اليقين ص 325
ومصادر أخرى للخاصة.
(4) الكافي ج 4 ص 576.
478
ومنزلة سامية فوق الإدراك والبيان.
ونذكر بعض الروايات الواردة في هذا الخصوص:
1 - عن عبد الله قال: قال النبي (صلى الله عليه وسلم): يخرج رجل من أمتي يواطئ اسمه اسمي وخلقه
خلقي، فيملؤها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا (1).
2 - في الصحيح عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): المهدي من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خلقا وخلقا، تكون له
غيبة وحيرة، حتى تضل الخلق عن أديانهم، فعند ذلك يقبل كالشهاب الثاقب فيملؤها قسطا وعدلا كما
ملئت ظلما وجورا (2).
3 - في الصحيح عن الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام) قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من أنكر القائم من ولدي فقد أنكرني (3).
4 - روى الشيخ الصدوق أعلى الله مقامه - بواسطتين - عن أحمد بن
إسحاق بن سعد الأشعري وهو من أكابر الثقات، أنه قال: دخلت على أبي محمد
الحسن بن علي (عليهما السلام) وأنا أريد أن أسأله عن الخلف [من] بعده، فقال لي مبتدئا: (يا
أحمد بن إسحاق إن الله تبارك وتعالى لم يخل الأرض منذ خلق آدم (عليه السلام) ولا يخليها إلى أن تقوم الساعة من



(1) صحيح ابن حبان ج 15 ص 238، وقريب منه في سنن أبي داود ج 2 ص 309، المستدرك على
الصحيحين ج 4 ص 442 وفي التلخيص أيضا و 464، بغية الباحث ص 248، المعجم الأوسط ج 2
ص 55، المعجم الكبير ج 10 ص 134 و... و ج 19 ص 32، الجامع الصغير ج 2 ص 438، تاريخ بغداد
ج 9 ص 478، تذكرة الحفاظ ج 2 ص 765، ميزان الاعتدال ج 2 ص 427 ومصادر أخرى كثيرة للعامة.
روضة الواعظين ص 261، شرح الاخبار ج 3 ص 386 و 566، الإفصاح ص 102 الإرشاد ج 2
ص 340، العمدة ص 436 ومصادر أخرى للخاصة.
(2) كمال الدين ص 287، باب 25 ح 4.
(3) كمال الدين ص 412، باب 39 ح 8.
479
حجة لله على خلقه، به يدفع البلاء عن أهل الأرض، وبه ينزل الغيث، وبه يخرج بركات الأرض.
قال: فقلت له: يا ابن رسول الله فمن الإمام والخليفة بعدك؟ فنهض (عليه السلام)
مسرعا فدخل البيت، ثم خرج وعلى عاتقه غلام كأن وجهه القمر ليلة البدر من
أبناء الثلاث سنين، فقال: يا أحمد بن إسحاق لولا كرامتك على الله عز وجل وعلى حججه ما عرضت
عليك ابني هذا، إنه سمي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكنيه، الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا، كما ملئت جورا وظلما.
يا أحمد بن إسحاق مثله في هذه الأمة مثل الخضر (عليه السلام)، ومثله مثل ذي القرنين، والله ليغيبن غيبة
لا ينجو فيها من الهلكة إلا من ثبته الله عز وجل على القول بإمامته ووفقه [فيها] للدعاء بتعجيل
فرجه.
فقال أحمد بن إسحاق: فقلت له: يا مولاي فهل من علامة يطمئن إليها
قلبي؟ فنطق الغلام (عليه السلام) بلسان عربي فصيح، فقال: أنا بقية الله في أرضه، والمنتقم من
أعدائه، فلا تطلب أثرا بعد عين يا أحمد بن إسحاق.
فقال أحمد بن إسحاق: فخرجت مسرورا فرحا، فلما كان من الغد عدت
إليه فقلت له: يا ابن رسول الله لقد عظم سروري بما مننت [به] علي، فما السنة
الجارية فيه من الخضر وذي القرنين؟ فقال: طول الغيبة يا أحمد.
قلت: يا ابن رسول الله وإن غيبته لتطول؟ قال: إي وربي حتى يرجع عن هذا الأمر أكثر
القائلين به، ولا يبقى إلا من أخذ الله عز وجل عهده لولايتنا، وكتب في قلبه الإيمان، وأيده بروح منه.
يا أحمد بن إسحاق: هذا أمر من أمر الله، وسر من سر الله، وغيب من غيب الله، فخذ ما آتيتك واكتمه
وكن من الشاكرين، تكن معنا غدا في عليين) (1).
5 - روى العامة والخاصة أنه (عليه السلام) يخرج من عند الكعبة وجبرائيل عن يمينه



(1) كمال الدين للصدوق ص 384 - وينابيع المودة ج 3 ص 318.
480
وميكائيل عن يساره (1).
وبما أن جبرائيل هو الواسطة في إفاضة العلوم والمعارف الإلهية والحوائج
المعنوية، وميكائيل هو الواسطة في إفاضة الأرزاق والحوائج المادية، فتكون
مفاتيح خزائن العلوم والأرزاق كلها بيده (عليه السلام).
ويظهر كأنه الكوكب الدري (2).
وله هيبة موسى وبهاء عيسى وحكم داود وصبر أيوب (3).
وعليه جيوب النور تتوقد من شعاع ضياء القدس (4).
6 - أنه (عليه السلام) يظهر في يوم عاشوراء، اليوم الذي قتل فيه جده سيد الشهداء
الإمام الحسين (عليه السلام) (5).



(1) عقد الدرر ص 65 الباب الخامس، والفصل الأول الباب الرابع - وأمالي المفيد ص 45، روضة
الواعظين 264، كتاب الغيبة للنعماني ص 307، الإرشاد ج 2 ص 380 ومصادر أخرى.
(2) الجامع الصغير ج 2 ص 672، ميزان الاعتدال ج 3 ص 449، فيض القدير ج 6 ص 279 رقم 9245،
وكنز العمال ج 14 ص 264، وينابيع المودة ج 2 ص 104 و ج 3 ص 263، ومصادر أخرى للعامة.
كتاب الغيبة للنعماني: 94، دلائل الإمامة: 441، شرح الأخبار ج 3 ص 378، كشف الغمة ج 2
ص 469 الثامن في صفة وجه المهدي وفي بعض الأحاديث كالقمر الدري، العمدة ص 439، الطرائف
ص 178 ومصادر أخرى للخاصة.
(3) وبتفاوت في الكافي ج 1 ص 528، وفي عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 1 ص 44 باب 6 ح 2، وكفاية
الأثر، ص 43 كمال الدين وتمام النعمة ص 310، كتاب الغيبة للنعماني ص 66، الاختصاص ص 212،
الغيبة للطوسي ص 146، الاحتجاج ح 1 ص 86 ومصادر أخرى.
(4) الإمامة والتبصرة ابن بابويه القمي: 114، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 6 باب 30 فيما جاء عن
الرضا (عليه السلام) من الأخبار المنثورة ح 14، كمال الدين وتمام النعمة ص 371، كتاب الغيبة للنعماني
ص 180، ومصادر أخرى.
(5) الغيبة للطوسي ص 452، كشف الغمة ج 2 ص 462، الإرشاد ج 2 ص 379، إعلام الورى ج 2
ص 286 الباب الرابع الفصل الثاني في ذكر السنة التي يقوم فيها... والعدد القوية ص 65.
وعقد الدرر للسلمي ص 65 الباب الرابع الفصل الأول.
481
وبذلك يظهر تفسير قوله تعالى: {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره
ولو كره الكافرون} (1)، وتثمر الشجرة المباركة التي سقيت بذلك الدم الطاهر،
ويتجلى أعلى مصاديق الآية الكريمة {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا} (2).
طول عمر الإمام المهدي (عليه السلام)
مما قد يوجب الشبهة في ذهن البسطاء والسطحيين طول عمر الإمام
المهدي (عليه السلام)، فينبغي أن يعلم أن طول عمر الإنسان حتى إلى ألوف السنين ليس
بمحال عقلا ولا عادة، لأن المحال العقلي ما ينتهي إلى اجتماع النقيضين أو
ارتفاعهما، كأن نقول كل شئ إما موجود أو غير موجود، وكل عدد إما فرد أو
زوج، واجتماع هذين أو ارتفاعهما محال.
أما المحال العادي فهو ما كان بنظر العقل ممكنا، لكنه مخالف لقوانين
الطبيعة، كأن يقع الإنسان في النار ولا يحترق، وأما حياة الإنسان قرونا عديدة،
وبقاء خلاياه شابة بكامل نشاطها، فليس من القسم الأول ولا الثاني، فإذا كان
عمر إنسان كنوح (على نبينا وآله وعليه السلام) تسعمائة وخمسين سنة أو أكثر،
كان الزائد عليه أيضا ممكنا، ولهذا ما زال العلماء يبحثون عن سر بقاء خلايا
الإنسان شابة نشيطة.
كما أنه قد ثبت بالقواعد العلمية الحديثة إمكان المحافظة على سلامة المواد



(1) سورة التوبة: 32.
(2) سورة الإسراء: 33.
482
المعدنية من التحلل والزوال عن طريق التصرف في أجزائها وتركيباتها، فمادة
الحديد - مثلا - التي يفسدها الصدأ وغيره، يمكن تبديلها إلى ذهب خالص
لا يعرضه أي خراب وفساد.
وعليه فإن طول عمر الإنسان أمر ممكن عقلا وعلما وإن لم يكتشفوا إلى
اليوم سر ذلك.
هذا مضافا إلى أن الاعتقاد بالإمام المهدي (عليه السلام) وطول عمره إنما هو بعد
الاعتقاد بالقدرة المطلقة لله تعالى، والاعتقاد بنبوة الأنبياء (عليهم السلام) وتحقق المعجزات
على أيديهم.
إن القدرة التي جعلت النار على إبراهيم بردا وسلاما، وأبطلت سحر السحرة
بعصا موسى، وأحيت الأموات بنفس عيسى، وأبقت أهل الكهف قرونا أحياء
نياما بلا ماء ولا غذاء.. من الهين عليها إبقاء إنسان ألوف السنين حيا يرزق
ويعيش بنشاط الشباب، من أجل هدف إبقاء الحجة لله في أرضه، ونفاذ مشيئته
في غلبة الحق على الباطل {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} (1).
وليس بعيدا عن زماننا يوم انهدم قبر الشيخ الصدوق (قدس سره) فوجدوا جثته في
قبره غضة طرية، ورأوا أن العوامل الطبيعية لتحلل الجسد قد توقف عملها في
بدنه الشريف!
فإذا كانت قوانين الطبيعة تخضع للاستثناء في حق شخص ولد بدعاء الإمام
المهدي (عليه السلام)، وألف كتابا مثل كمال الدين باسمه، فلا تعجب أن تخضع هذه
القوانين للاستثناء في حق خليفة الله تعالى في أرضه، ووارث جميع أنبيائه
وأوصيائه.



(1) سورة يس: 82.
483
معجزات الإمام المهدي صلوات الله عليه في غيبته
قال الشيخ الطوسي أعلى الله مقامه في كتابه:
(وأما ظهور المعجزات الدالة على صحة إمامته في زمان الغيبة فهي أكثر من
أن تحصى غير أنا نذكر طرفا منها...) (1).
فإذا كانت معجزاته إلى زمن الشيخ الطوسي (رحمه الله) الذي توفي 460 هجرية،
أكثر من حد الإحصاء، فكم تبلغ إلى زماننا هذا؟!
ونكتفي في هذا المختصر بما يلي:
1 - قال علي بن عيسى الأربلي الموثق عند الفريقين في كتابه كشف الغمة (2)
- هو ثقة عند: (وأنا أذكر من ذلك قصتين قرب عهدهما من زماني، وحدثني بهما
جماعة من ثقات إخواني:
كان في بلاد الحلة شخص يقال له إسماعيل بن الحسن الهرقلي من قرية
يقال لها هرقل، مات في زماني وما رأيته، حكى لي ولده شمس الدين قال:
حكى لي والدي أنه خرج فيه وهو شباب على فخذه الأيسر توثة مقدار قبضة
الإنسان، وكانت في كل ربيع تشقق ويخرج منها دم وقيح، ويقطعه ألمها عن كثير
من أشغاله، وكان مقيما بهرقل، فحضر الحلة يوما ودخل إلى مجلس السعيد
رضي الدين علي بن طاووس (رحمه الله)، وشكا إليه ما يجده منها، وقال أريد أن أداويها،
فأحضر له أطباء الحلة وأراهم الموضع، فقالوا هذه التوثة فوق العرق الأكحل،
وعلاجها خطر، ومتى قطعت خيف أن ينقطع العرق فيموت، فقال له السعيد



(1) الغيبة: 281.
(2) كشف الغمة ج 2 ص 493.
484
رضي الدين قدس روحه: أنا متوجه إلى بغداد وربما كان أطبائها أعرف وأحذق
من هؤلاء، فاصحبني، فأعد معه وأحضر الأطباء فقالوا كما قال أولئك، فضاق
صدره فقال له السعيد: إن الشرع قد فسح لك في الصلاة في هذه الثياب، وعليك
الإجتهاد في الاحتراس، ولا تغرر بنفسك، فالله تعالى قد نهى عن ذلك ورسوله،
فقال له والدي: إذا كان الأمر على ذلك، وقد وصلت إلى بغداد فأتوجه إلى زيارة
المشهد الشريف بسر من رأى على مشرفه السلام، ثم أنحدر إلى أهلي، فحسن
له ذلك، فترك ثيابه ونفقته عند السعيد رضي الدين وتوجه، قال: فلما دخلت
المشهد وزرت الأئمة (عليهم السلام)، ونزلت السرداب واستغثت بالله تعالى وبالإمام (عليه السلام)،
وقضيت بعض الليل في السرداب، وبت في المشهد إلى الخميس ثم مضيت إلى
دجلة واغتسلت ولبست ثوبا نظيفا وملأت إبريقا كان معي، وصعدت أريد
المشهد، فرأيت أربعة فرسان خارجين من باب السور، وكان حول المشهد قوم
من الشرفاء يرعون أغنامهم، فحسبتهم منهم فالتقينا، فرأيت شابين أحدهما عبد
مخطوط، وكل واحد منهم متقلد بسيف، وشيخا منقبا بيده رمح، والآخر متقلد
بسيف وعليه فرجية ملونة فوق السيف، وهو متحنك بعذبته، فوقف الشيخ
صاحب الرمح يمين الطريق، ووضع كعبه في الأرض، ووقف الشابان عن يسار
الطريق، وبقي صاحب الفرجية على الطريق مقابل والدي، ثم سلموا عليه فرد
عليهم السلام، فقال له صاحب الفرجية: أنت غدا تروح إلى أهلك؟ فقال: نعم، فقال له:
تقدم حتى أبصر ما يوجعك، قال فكرهت ملامستهم، وقلت في نفسي: أهل البادية
ما يكادون يحترزون من النجاسة، وأنا قد خرجت من الماء، وقميصي مبلول،
ثم إني بعد ذلك تقدمت إليه فلزمني بيده، مدني إليه وجعل يلمس جانبي من
كتفي إلى أن أصابت يده التوثة فعصرها بيده فأوجعني، ثم استوى في سرجه كما

485
كان، فقال لي الشيخ: أفلحت يا إسماعيل، فعجبت من معرفته باسمي، فقلت:
أفلحنا وأفلحتم إن شاء الله.
قال: فقال لي الشيخ: هذا هو الإمام، قال: فتقدمت إليه فاحتضنته وقبلت
فخذه. ثم إنه ساق وأنا أمشي معه محتضنه فقال: ارجع، فقلت: لا أفارقك أبدا.
فقال: المصلحة رجوعك، فأعدت عليه مثل القول الأول، فقال الشيخ: يا إسماعيل
ما تستحيي يقول لك الإمام مرتين إرجع وتخالفه؟! فجبهني بهذا القول فوقفت،
فتقدم خطوات والتفت إلي وقال: إذا وصلت بغداد، فلابد أن يطلبك أبو جعفر، يعني الخليفة
المستنصر، فإذا حضرت عنده وأعطاك شيئا فلا تأخذه، وقل لولدنا الرضي ليكتب لك إلى علي بن عوض،
فإنني أوصيه يعطيك الذي تريد!
ثم سار وأصحابه معه، فلم أزل قائما أبصرهم إلى أن غابوا عني، وحصل
عندي أسف لمفارقته، فقعدت إلى الأرض ساعة ثم مشيت إلى المشهد فاجتمع
القوام حولي، وقالوا نرى وجهك متغيرا، أأوجعك شئ؟ قلت: لا. قالوا:
أخاصمك أحد؟ قلت: لا، ليس عندي مما تقولون خبر، لكن أسألكم هل عرفتم
الفرسان الذين كانوا عندكم؟
فقالوا: هم من الشرفاء أرباب الغنم، فقلت: لا، بل هو الإمام (عليه السلام)! فقالوا:
الإمام هو الشيخ أو صاحب الفرجية؟ فقلت: هو صاحب الفرجية، فقالوا: أريته
المرض الذي فيك؟ فقلت: هو قبضه بيده وأوجعني، ثم كشفت رجلي، فلم أر
لذلك المرض أثرا، فتداخلني الشك من الدهش، فأخرجت رجلي الأخرى فلم
أر شيئا، فانطبق الناس علي، ومزقوا قميصي، فأدخلني القوام خزانة، ومنعوا
الناس عني.
وكان ناظر بين النهرين بالمشهد فسمع الضجة، وسأل عن الخبر فعرفوه،

486
فجاء إلى الخزانة وسألني عن اسمي، وسألني منذ كم خرجت من بغداد فعرفته
أني خرجت في أول الأسبوع، فمشى عني.
وبت في المشهد وصليت الصبح وخرجت، وخرج الناس معي إلى أن بعدت
عن المشهد ورجعوا عني، ووصلت إلى أوانا فبت بها، وبكرت منها أريد بغداد،
فرأيت الناس مزدحمين على القنطرة العتيقة، يسألون من ورد عليهم عن اسمه
ونسبه وأين كان؟ فسألوني عن اسمي ومن أين جئت فعرفتهم فاجتمعوا علي
ومزقوا ثيابي، ولم يبق لي في روحي حكم، وكان ناظر بين النهرين كتب إلى
بغداد وعرفهم الحال.
ثم حملوني إلى بغداد، وازدحم الناس علي وكادوا يقتلونني من كثرة
الزحام وكان الوزير القمي رحمه الله تعالى قد طلب السعيد رضي الدين رحمه
الله، وتقدم أن يعرفه صحة الخبر.
قال: فخرج رضي الدين ومعه جماعة. فوافينا باب النوبي فرد أصحابه
الناس عني فلما رآني قال: أعنك يقولون؟ قلت: نعم؟ فنزل عن دابته وكشف عن
فخذي فلم ير شيئا، فغشي عليه ساعة، وأخذ بيدي وأدخلني على الوزير وهو
يبكي، ويقول يا مولانا هذا أخي وأقرب الناس إلى قلبي، فسألني الوزير عن
القصة فحكيت له، فأحضر الأطباء الذين أشرفوا عليها وأمرهم بمداواتها،
فقالوا: ما دواؤها إلا القطع بالحديد، ومتى قطعها مات! فقال لهم الوزير فبتقدير
أن تقطع ولا يموت في كم تبرأ؟ فقالوا في شهرين وتبقى في مكانها حفيرة
بيضاء، لا ينبت فيها شعر. فسألهم الوزير: متى رأيتموه؟ قالوا: منذ عشرة أيام.
فكشف الوزير عن الفخذ الذي كان فيه الألم، وهي مثل أختها ليس فيها أثر
أصلا، فصاح أحد الحكماء: هذا عمل المسيح!

487
فقال الوزير حيث لم يكن عملكم فنحن نعرف من عملها.
ثم إنه أحضر عند الخليفة المستنصر رحمه الله تعالى، فسأله عن القصة،
فعرفه بها كما جرى، فتقدم له بألف دينار، فلما حضرت قال: خذ هذه فأنفقها،
فقال: ما أجسر آخذ منه حبة واحدة! فقال الخليفة: ممن تخاف، فقال من الذي
فعل معي هذا! قال لا تأخذ من أبي جعفر شيئا، فبكى الخليفة وتكدر! وخرج
من عنده ولم يأخذ شيئا.
قال أفقر عباد الله تعالى إلى رحمته علي بن عيسى عفا الله عنه: كنت في
بعض الأيام أحكي هذه القصة لجماعة عندي، وكان هذا شمس الدين محمد
ولده عندي وأنا لا أعرفه فلما انقضت الحكاية قال: أنا ولده لصلبه، فعجبت من
هذا الاتفاق وقلت: هل رأيت فخذه وهي مريضة؟ فقال: لا، لأني أصبو عن
ذلك، ولكني رأيتها بعدما صلحت، ولا أثر فيها، وقد نبت في موضعها شعر.
وسألت السيد صفي الدين محمد بن محمد بن بشر العلوي الموسوي، ونجم
الدين حيدر بن الأيسر رحمهما الله تعالى، وكانا من أعيان الناس وسراتهم وذوي
الهيئات منهم، وكانا صديقين لي وعزيزين عندي، فأخبراني بصحة هذه القصة
وأنهما رأياها في حال مرضها، وحال صحتها، وحكى لي ولده هذا: أنه كان بعد
ذلك شديد الحزن لفراقه عليه السلام، حتى أنه جاء إلى بغداد، وأقام بها في فصل
الشتاء، وكان كل أيام يزور سامراء ويعود إلى بغداد، فزارها في تلك السنة
أربعين مرة طمعا أن يعود له الوقت الذي مضى أو يقضي له الحظ بما قضى، ومن
الذي أعطاه دهره الرضا، أو ساعده بمطالبة صرف القضاء، فمات رحمه الله
بحسرته، وانتقل إلى الآخرة بغصته، والله يتولاه وإيانا برحمته، بمنه وكرامته.
وحكى لي السيد باقي بن عطوة العلوي الحسيني: أن أباه عطوة كان به أدرة

488
وكان زيدي المذهب، وكان ينكر على بنيه الميل إلى مذهب الإمامية ويقول:
لا أصدقكم ولا أقول بمذهبكم، حتى يجئ صاحبكم يعني المهدي فيبرئني من
هذا المرض، وتكرر هذا القول منه! فبينا نحن مجتمعون عند وقت عشاء
الآخرة، إذ أبونا يصيح ويستغيث بنا، فأتيناه سراعا فقال: إلحقوا صاحبكم،
فالساعة خرج من عندي، فخرجنا فلم نر أحدا فعدنا إليه وسألناه، فقال: إنه
دخل إلي شخص وقال: يا عطوة، فقلت: من أنت؟ فقال: أنا صاحب بنيك قد جئت لأبرئك
مما بك، ثم مد يده فعصر قروتي ومشى، ومددت يدي فلم أر لها أثرا! قال لي ولده:
وبقي مثل الغزال ليس به قلبه.
واشتهرت هذه القصة وسألت عنها غير ابنه فأخبر عنها.
2 - روي عن أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه، قال: لما وصلت بغداد
في سنة سبع وثلاثين للحج وهي السنة التي رد القرامطة فيها الحجر إلى مكانه
من البيت، كان أكبر همي بمن ينصب الحجر، لأنه مضى في أثناء الكتب قصة
أخذه وأنه ينصبه في مكانه الحجة في الزمان، كما في زمن الحجاج وضعه زين
العابدين (عليه السلام) في مكانه فاستقر، فاعتللت علة صعبة خفت فيها على نفسي،
ولم يتهيأ لي ما قصدت له، فاستنبت المعروف بابن هشام، وأعطيته رقعة
مختومة أسأل فيها عن مدة عمري، وهل تكون المنية في هذه العلة أم لا؟ وقلت
همي إيصال هذه الرقعة إلى واضع الحجر في مكانه، وأخذ جوابه، وإنما أندبك
لهذا، فقال المعروف: بابن هشام لما حصلت بمكة وعزم على إعادة الحجر في
مكانه، وأقمت معي منهم من يمنع عني ازدحام الناس، فكلما عمد إنسان لوضعه
اضطرب ولم يستقم، فأقبل غلام أسمر اللون حسن الوجه فتناوله ووضعه في
مكانه فاستقام كأنه لم يزل عنه، وعلت لذلك الأصوات، فانصرف خارجا من

489
الباب فنهضت من مكاني أتبعه، وأدفع الناس عني يمينا وشمالا حتى ظن بي
الاختلاط في العقل، والناس يفرجون لي، وعيني لا تفارقه حتى انقطع عني
الناس، وكنت أسرع الشدة خلفه، وهو يمشي على تؤدة ولا أدركه، فلما حصل
بحيث لا يراه أحد غيري وقف والتفت إلي، فقال: هات ما معك، فناولته الرقعة
فقال من غير أن ينظر فيها، قل له لا خوف عليك في هذه العلة ويكون ما لابد منه بعد ثلاثين
سنة. قال: فوقع علي الزمع حتى لم أطق حراكا وتركني وانصرف، قال أبو
القاسم: فأعلمني بهذه الجملة فلما كانت سنة سبع وستين اعتل أبو القاسم، فأخذ
ينظر في أمره وتحصيل جهازه إلى قبره، وكتب وصيته واستعمل الجد في ذلك،
فقيل له: ما هذا الخوف وترجو أن يتفضل الله بالسلامة فما عليك مخوفة؟ فقال:
هذه السنة التي وعدت وخوفت منها فمات في علته (1).
3 - روي عن أبي الحسن المسترق الضرير: كنت يوما في مجلس الحسن
بن عبد الله بن حمدان، ناصر الدولة، فتذاكرنا أمر الناحية، قال: كنت أزري
عليها، إلى أن حضرت مجلس عمي الحسين يوما، فأخذت أتكلم في ذلك.
فقال: يا بني قد كنت أقول بمقالتك هذه إلى أن ندبت لولاية قم حين استصعبت
على السلطان، وكان كل من ورد إليها من جهة السلطان يحاربه أهلها، فسلم إلي
جيش وخرجت نحوها، فلما بلغت إلى ناحية طزر خرجت إلى الصيد ففاتتني
طريدة، فاتبعتها، وأوغلت في أثرها، حتى بلغت إلى نهر، فسرت فيه، وكلما
أسير يتسع النهر، فبينما أنا كذلك إذ طلع علي فارس تحته شهباء، وهو متعمم
بعمامة خز خضراء، لا أرى منه إلا عينيه، وفي رجليه خفان أحمران، فقال لي: يا
حسين. فلا هو أمرني ولا كناني، فقلت: ماذا تريد؟ قال: لم تزري على الناحية؟ ولم تمنع



(1) كشف الغمة ج 2 ص 502.
490
أصحابي خمس مالك؟ وكنت الرجل الوقور الذي لا يخاف شيئا فأرعدت [منه] وتهيبته،
وقلت له: أفعل يا سيدي ما تأمر به.
فقال: إذا مضيت إلى الموضع الذي أنت متوجه إليه، فدخلته عفوا وكسبت ما كسبته، تحمل
خمسه إلى مستحقه. فقلت: السمع والطاعة.
فقال: إمض راشدا، ولوى عنان دابته وانصرف فلم أدر أي طريق سلك، وطلبته
يمينا وشمالا فخفي علي أمره، وازددت رعبا وانكفأت راجعا إلى عسكري
وتناسيت الحديث.
فلما بلغت قم وعندي أني أريد محاربة القوم، خرج إلي أهلها وقالوا: كنا
نحارب من يجيئنا بخلافهم لنا فأما إذا وافيت أنت فلا خلاف بيننا وبينك، ادخل
البلدة فدبرها كما ترى.
فأقمت فيها زمانا، وكسبت أموالا زائدة على ما كنت أقدر، ثم وشا القواد
بي إلى السلطان، وحسدت على طول مقامي، وكثرة ما اكتسبت، فعزلت
ورجعت إلى بغداد، فابتدأت بدار السلطان وسلمت عليه، وأتيت إلى منزلي،
وجاءني فيمن جاءني محمد بن عثمان العمري، فتخطى الناس حتى اتكأ على
تكأتي، فاغتظت من ذلك، ولم يزل قاعدا ما يبرح، والناس داخلون وخارجون،
وأنا أزداد غيظا.
فلما تصرم [الناس، وخلا] المجلس، دنا إلي وقال: بيني وبينك سر
فاسمعه، فقلت: قل. فقال: صاحب الشهباء والنهر يقول: قد وفينا بما وعدنا.
فذكرت الحديث وارتعت من ذلك، وقلت: السمع والطاعة. فقمت فأخذت
بيده، ففتحت الخزائن، فلم يزل يخمسها، إلى أن خمس شيئا كنت قد أنسيته مما
كنت قد جمعته، وانصرف، ولم أشك بعد ذلك، وتحققت الأمر.

491
فأنا منذ سمعت هذا من عمي أبي عبد الله زال ما كان اعترضني من شك (1).
وجه الاستفادة من وجود الإمام (عليه السلام) في غيبته
لا شك أن غيبة إمام العصر والزمان صلوات الله عليه خسارة كبيرة للأمة
وللعالم، وأن البشرية قد حرمت من قسم كبير من البركات المتوقفة على
حضوره، ولكن قسما منها لا يتوقف على ذلك، فإنه صلوات الله عليه كالشمس
لا يمكن للغيبة أن تمنع تأثير أشعتها في قلوب المؤمنين النقية، كما تنفذ أشعة
الشمس في باطن الأرض وتغذي الجواهر النفيسة وتنميها، ولا تستطيع الصخور
ولا طبقات الأرض أن تمنع استفادتها من أشعتها.
وكما أن الاستفادة من الألطاف الخاصة الإلهية لها طريقان:
الأول: الجهاد في الله، بتصفية النفس من الكدورات المانعة من انعكاس نور
عنايته.
والثاني: الاضطرار، فإنه يرفع الحجاب بين الفطرة ومبدأ الفيض عز وجل
{أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء} (2)، فكذلك الاستفادة من الإمام (عليه السلام)
الذي هو الواسطة للفيض الإلهي والذي هو الاسم الأعظم والمثل الأعلى لله تعالى
تتيسر بطريقين:
الأول: التزكية فكرا وخلقا وعملا (أما تعلم أن أمرنا هذا لا ينال إلا بالورع) (3).



(1) الخرائج والجرائح ج 1 ص 472.
(2) سورة النمل: 62.
(3) بصائر الدرجات: الجزء الخامس 263، باب 11 ح 2، دلائل الإمامة ص 254، الخرائج والجرائح
ج 2 ص 278.
492
الثاني: الاضطرار والانقطاع عن الأسباب المادية.
وكم من المضطرين الذين تقطعت بهم السبل، توسلوا إلى الله تعالى بالإمام
المهدي أرواحنا فداه واستغاثوا به، فاستجاب الله لهم.
ختاما، نعترف بالقصور والتقصير في ساحة الإمام المقدسة، فهو الذي أتم
الله به نوره، وبوجوده كلمته، وهو الذي كمال الدين بالإمامة وكمال الإمامة به،
وقد ورد في الدعاء له في ليلة ميلاده: (اللهم بحق ليلتنا هذه ومولودها، وحجتك وموعودها،
التي قرنت إلى فضلها فضلك، فتمت كلمتك صدقا وعدلا، لا مبدل لكلماتك ولا معقب لآياتك، ونورك
المتألق، وضياؤك المشرق، والعلم النور في طخياء الديجور، الغائب المستور، جل مولده، وكرم محتده،
والملائكة شهده، والله ناصره ومؤيده إذا آن ميعاده، والملائكة إمداده، سيف الله الذي لا ينبو، ونوره الذي
لا يخبو، وذو الحلم الذي لا يصبو...) (1).
* *



(1) مصباح المتهجد: 773، المزار محمد بن المشهدي: 410.
493
شيعة الأئمة الاثني عشر
صلوات الله عليهم

494
شيعة الأئمة الاثني عشر صلوات الله عليهم
شيعة الأئمة الاثني عشر صلوات الله عليهم
شيعة أهل البيت (عليهم السلام) هم الذين نزل في شأنهم - على ما في تفاسير العامة
والخاصة (1) - قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير



(1) قال الطبري في جامع البيان ج 30 ص 335: 2928 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا عيسى بن فرقد، عن
أبي الجارود، عن محمد بن علي أولئك هم خير البرية فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): أنت يا علي وشيعتك.
الدر المنثور ج 6 ص 379: وأخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي (صلى الله عليه وسلم) فأقبل علي
فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): والذي نفسي بيده ان هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة، ونزلت * (إن الذين آمنوا
وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية) *، فكان أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا أقبل علي قالوا: جاء خير
البرية.
وأخرج ابن عدي عن ابن عباس قال: لما نزلت * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير
البرية) *، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعلي: هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين.
وأخرج ابن مردويه عن علي قال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ألم تسمع قول الله * (إن الذين آمنوا وعملوا
الصالحات أولئك هم خير البرية) *، أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الأمم
للحساب، تدعون غرا محجلين.
وقال الشوكاني في فتح القدير ج 5 ص 477. نقلا عن ابن عساكر
وقال ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق ج 42 ص 371: عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي (صلى الله عليه وسلم)
فأقبل علي بن أبي طالب فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): قد أتاكم أخي ثم التفت إلى الكعبة فضربها بيده، ثم قال:
والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة، ثم قال: إنه أولكم إيمانا معي، وأوفاكم بعهد
الله، وأقومكم بأمر الله، وأعدلكم في الرعية، وأقسمكم بالسوية، وأعظمكم عند الله مزية، ونزلت: * (إن
الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية) *، قال: فكان أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) إذا أقبل علي
قالوا: قد جاء خير البرية.
وفي ينابيع المودة ج 1 ص 197 و 223، ج 2 ص 357 و 452، الصواعق المحرقة الباب الحادي عشر،
الفصل الأول، الآية الحادية عشرة، ص 161، ومصادر أخرى من كتب التفاسير والأحاديث للعامة.
وفي المحاسن ج 1 ص 171: 140 عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله تعالى: الذين آمنوا وعملوا الصالحات
أولئك هم خير البرية، قال: هم شيعتنا أهل البيت.
وفي روضة الواعظين ص 105: وقال (الباقر (عليه السلام)) أيضا: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي مبتديا: * (إن الذين
آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية) * هم أنت وشيعتك وميعادي وميعادكم الحوض إذا حشر
الناس، حيث أنت وشيعتك شباعا مرويين غرا محجلين.
وفي شرح الأخبار ج 1 ص 202، (167) عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، أنه قال: أنزلت في
علي (عليه السلام) وشيعته آية * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية) * قال: هو علي وشيعته.
وراجع ج 3 ص 469.
ورواه الشيخ الطوسي في الأمالي ص 252 و 406 و 671.
وفي مشكاة الأنوار ص 167 ومصادر أخرى للخاصة.
495
البرية} (1)، وقال الله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون
الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} (2)، والآية بمقتضى الروايات الواردة من طرق
الخاصة والعامة، وما ذكره المفسرون من الفريقين نزلت في شأن أمير
المؤمنين (عليه السلام) (3).



(1) سورة البينة: 7.
(2) المائدة: 55.
(3) ذخائر العقبى ص 102، المعجم الأوسط ج 6 ص 218، معرفة علوم الحديث ص 103، شرح نهج
البلاغة لابن أبي الحديد ج 13 ص 277، نظم درر السمطين ص 86 وص 136، جامع البيان (تفسير
الطبري) ج 6 ص 389، أحكام القرآن ج 2 ص 557، شواهد التنزيل ج 1 ص 209 إلى 253 وص 403،
تفسير القرطبي ج 6 ص 221، تفسير ابن كثير ج 2 ص 74، الدر المنثور ج 2 ص 293، تاريخ مدينة
دمشق ج 42 ص 357، البداية والنهاية ج 7 ص 394، السيرة النبوية لابن كثير ح 2 ص 373 ومصادر
أخرى للعامة.
الكافي ج 1 ص 289 و 427، دعائم الإسلام ج 1 ص 16، الخصال ص 580، الأمالي للصدوق ص 186
المجلس السادس والعشرون ح 4، روضة الواعظين ص 92، مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) ج 1 ص 151
و 170 و 189 الأمالي للطوسي ص 549 المجلس السادس والعشرون ح 4، الاحتجاج ج 1 ص 73
و 202، تفسير العياشي ج 1 ص 327، تفسير القمي ج 1 ص 170، تفسير فرات الكوفي ص 125، تفسير
التبيان ج 3 ص 558 ومصادر أخرى للخاصة.
496
وقد قال سبحانه بعد هذه الآية {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب
الله هم الغالبون} (1).
وروى أن نوفا البكالي قال لأمير المؤمنين (عليه السلام): صف لي شيعتك يا أمير
المؤمنين، فبكى لذكرى شيعته، ثم قال (عليه السلام): يا نوف شيعتي والله الحلماء العلماء
بالله ودينه، العاملون بطاعته وأمره (2).
وقد قال الله سبحانه: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم
من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} (3).
والشيعة على دين أئمتهم (عليهم السلام)، ودينهم الورع، والعفة، والصدق، والصلاح،
والاجتهاد، وأداء الأمانة إلى البر والفاجر، وطول السجود، وقيام الليل،
واجتناب المحارم، وانتظار الفرج بالصبر، وحسن الصحبة، وحسن
الجوار...) (4).
وهم أصحاب التخلية عن مساوئ الأخلاق، والتحلية بمكارم الأخلاق،
ونقتصر في هذا المختصر بذكر حديثين في المساوئ والمكارم، وفي كل جملة
منهما أبواب من الحكمة العملية لمن تدبر فيها، ولا مجال لشرحها.



(1) المائدة: 56.
(2) الأمالي للطوسي ص 576، المجلس الرابع والعشرون ح 3.
(3) النساء: 69.
(4) الخصال للصدوق، أبواب الاثني عشر، ح 46، ج 2 ص 479.
497
الحديث الأول:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لرجل سأله أن يعظه:
لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير العمل، ويرجى التوبة بطول الأمل، يقول في الدنيا بقول الزاهدين،
ويعمل فيها بعمل الراغبين، إن أعطي منها لم يشبع، وإن منع منها لم يقنع، يعجز عن شكر ما أوتي، ويبتغي
الزيادة فيما بقي، ينهى ولا ينتهي، ويأمر بما لا يأتي، يحب الصالحين ولا يعمل عملهم، ويبغض المذنبين وهو
أحدهم، يكره الموت لكثرة ذنوبه، ويقيم على ما يكره الموت من أجله، إن سقم ظل نادما، وإن صح أمن
لاهيا، يعجب بنفسه إذا عوفي، ويقنط إذا ابتلي، إن أصابه بلاء دعا مضطرا، وإن ناله رخاء أعرض مغترا،
تغلبه نفسه على ما يظن، ولا يغلبها على ما يستيقن، يخاف على غيره بأدنى من ذنبه، ويرجو لنفسه بأكثر
من عمله، إن استغنى بطر وفتن، وإن افتقر قنط ووهن، يقصر إذا عمل، ويبالغ إذا سأل، إن عرضت
له شهوة أسلف المعصية وسوف التوبة، وإن عرته محنة انفرج عن شرائط الملة.
يصف العبرة ولا يعتبر، ويبالغ في الموعظة ولا يتعظ، فهو بالقول مدل، ومن العمل مقل،
ينافس فيما يفنى، ويسامح فيما يبقى، يرى الغنم مغرما، والغرم مغنما، يخشى الموت ولا يبادر الفوت،
يستعظم من معصية غيره ما يستقل أكثر منه من نفسه، ويستكثر من طاعته ما يحقره من طاعة
غيره، فهو على الناس طاعن، ولنفسه مداهن، اللهو مع الأغنياء أحب إليه من الذكر مع الفقراء، يحكم
على غيره لنفسه، ولا يحكم عليها لغيره، يرشد غيره ويغوي نفسه، فهو يطاع ويعصي، ويستوفى
ولا يوفي، ويخشى الخلق في غير ربه، ولا يخشى ربه في خلقه (1).
الحديث الثاني:
صحيحة عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله جعفر بن محمد صلوات الله عليهما،
قال: لنحب من شيعتنا من كان عاقلا، فهما، فقيها، حليما، مداريا، صبورا، صدوقا، وفيا. ثم قال: إن
الله تبارك وتعالى خص الأنبياء بمكارم الأخلاق، فمن كانت فيه فليحمد الله على ذلك، ومن لم تكن



(1) نهج البلاغة، باب المختار من حكم أمير المؤمنين (عليه السلام) رقم 150.
498
فليتضرع إلى الله وليسأله. قال قلت: جعلت فداك وما هي؟ قال: الورع، والقنوع، والصبر،
والشكر، والحلم، والحياء، والسخاء، والشجاعة، والغيرة، والبر، وصدق الحديث، وأداء الأمانة (1).
وفيما يلي بعض التفصيل لهذه الصفات:
العقل
قدم (عليه السلام) العقل، لأن دعامة الإنسان العقل (2)، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما قسم الله
للعباد شيئا أفضل من العقل، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، وإفطار العاقل أفضل من
صوم الجاهل، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل، ولا بعث الله رسولا ولا نبيا حتى يستكمل
العقل، ويكون عقله أفضل من عقول جميع أمته، وما يضمر النبي في نفسه أفضل من اجتهاد
جميع المجتهدين، وما أدى العاقل فرائض الله حتى عقل منه، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم
ما بلغ العاقل، إن العقلاء هم أولوا الألباب الذين قال الله عز وجل: {إنما يتذكر أولوا
الألباب} (3). (4)
الوفاء
وختم (عليه السلام) بالوفاء، فعن أبي مالك قال: قلت لعلي بن الحسين (عليه السلام): أخبرني
بجميع شرائع الدين؟ قال: قول الحق، والحكم بالعدل، والوفاء بالعهد (5).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ثلاث لم يجعل الله لأحد من الناس فيهن رخصة: بر الوالدين برين



(1) الأمالي للشيخ المفيد ص 192.
(2) ورد في الكافي ج 1 ص 25.
(3) الرعد: 19.
(4) المحاسن للبرقي، باب العقل ح 11، ج 1 ص 193.
(5) الخصال للصدوق، باب الثلاثة ح 90، ج 1 ص 113.
499
كانا أو فاجرين، ووفاء بالعهد بالبر والفاجر، وأداء الأمانة إلى البر والفاجر (1).
وفي الصحيح عن أبي جعفر عن أبيه (عليهما السلام)، قال: أربع من كن فيه كمل إسلامه،
ومحصت عنه ذنوبه، ولقي ربه عز وجل وهو عنه راض: من وفى لله عز وجل بما جعل على نفسه
للناس، وصدق لسانه مع الناس، واستحيى من كل قبيح عند الله وعند الناس، وحسن خلقه مع أهله (2).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أربعة أسرع شئ عقوبة: رجل أحسنت إليه ويكافيك بالإحسان إليه
إساءة، ورجل لا تبغي عليه وهو يبغي عليك، ورجل عاهدته على أمر، فمن أمرك الوفاء له ومن أمره الغدر
بك، ورجل يصل قرابته ويقطعونه (3).
وعن الصادق عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أقربكم غدا مني في الموقف
أصدقكم للحديث، وآداكم للأمانة، وأوفاكم بالعهد، وأحسنكم خلقا، وأقربكم من الناس (4).
وفي وصيته (عليه السلام) للأشتر: وإياك والمن على رعيتك بإحسانك، أو التزيد فيما كان من فعلك، أو
أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإن المن يبطل الإحسان، والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب
المقت عند الله وعند الناس، قال الله تعالى: {كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} (5). (6)
ثم عد (عليه السلام) مكارم الأخلاق:
الورع
في الموثق عن عمرو بن سعيد بن هلال الثقفي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت



(1) الخصال للصدوق، باب الثلاثة، ح 129، ج 1 ص 128.
(2) الخصال للصدوق، باب الأربعة ح 50، ج 1 ص 223.
(3) الخصال للصدوق باب الأربعة ح 71، ج 1 ص 230.
(4) الأمالي للشيخ الطوسي، المجلس السابع ح 53، ص 229.
(5) سورة الصف: 3.
(6) نهج البلاغة، من كتابه إلى الأشتر النخعي.
500
له: إني لا ألقاك إلا في السنين، فأخبرني بشئ آخذ به، فقال: أوصيك بتقوى الله،
والورع، والاجتهاد، واعلم أنه لا ينفع اجتهاد لا ورع فيه (1).
وفي الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام): إنا لا نعد الرجل مؤمنا حتى يكون بجميع أمرنا متبعا مريدا،
ألا وإن من اتباع أمرنا وإرادته الورع، فتزينوا به، يرحمكم الله، وكيدوا [كبدوا] به أعداءنا ينعشكم الله (2).
وسئل أمير المؤمنين (عليه السلام): أي الأعمال أفضل عند الله؟ قال: التسليم والورع (3).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: اتقوا الله، اتقوا الله، عليكم بالورع، وصدق الحديث، وأداء
الأمانة، وعفة البطن والفرج، تكونوا معنا في الرفيق الأعلى (4).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: فيما ناجى الله تبارك وتعالى موسى: يا موسى ما تقرب إلي
المتقربون بمثل الورع عن محارمي، فإني أبيحهم جنات عدني لا أشرك معهم أحدا (5).
القنوع
عن علي (عليه السلام): كفى بالقناعة ملكا، وبحسن الخلق نعيما. وسئل (عليه السلام) عن قوله تعالى:
{فلنحيينه حياة طيبة} (6) فقال: هي القناعة (7).
وعن الصادق (عليه السلام): ومن قنع بالمقسوم استراح من الهم والكذب والتعب، وكلما نقص من
القناعة زاد في الرغبة، والطمع والرغبة في الدنيا أصل كل شر، وصاحبهما لا ينجو من النار إلا أن يتوب.



(1) الكافي ج 2 ص 76 باب الورع ح 1.
(2) الكافي ج 2 ص 78، باب الورع ح 13.
(3) الأمالي للصدوق المجلس الثاني والستون ح 4، ص 479.
(4) الأمالي للشيخ الطوسي المجلس الثامن ح 34 ص 222.
(5) الكافي ج 2 ص 80 باب اجتناب المحارم ح 3.
(6) النحل: 97.
(7) نهج البلاغة، حكمه (عليه السلام) رقم 229.
501
ولذلك قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): القناعة ملك لا يزول وهو مركب رضا الله تعالى، تحمل صاحبها إلى
داره، فأحسن التوكل فيما لم تعطه، والرضا بما أعطيته، واصبر على ما أصابك، فإن ذلك من عزم
الأمور (1).
وعن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: من لم يقنعه من الرزق إلا الكثير لم يكفه من العمل إلا
الكثير، ومن كفاه من الرزق القليل فإنه يكفيه من العمل القليل (2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: ابن آدم إن كنت تريد من
الدنيا ما يكفيك، فإن أيسر ما فيها يكفيك، وإن كنت إنما تريد ما لا يكفيك، فإن كل ما فيها
لا يكفيك (3).
وعن أبي جعفر (عليه السلام): إياك أن تطمح بصرك إلى من هو فوقك، فكفى بما قال الله
عز وجل لنبيه {ولا تعجبك أموالهم وأولادهم} (4) وقال: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به
أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا} (5) فإن دخلك من ذلك شئ فاذكر عيش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنما
كان قوته الشعير، وحلواه التمر، ووقوده السعف إذا وجده (6).
وعن الرضا عن آبائه (عليهم السلام)، قال: جاء أبو أيوب خالد بن زيد إلى رسول الله،
فقال: يا رسول الله، أوصني وأقلل لعلي أن أحفظ، قال: أوصيك بخمس: باليأس عما في
أيدي الناس فإنه الغنى، وإياك والطمع فإنه الفقر الحاضر، وصل صلاة مودع، وإياك وما يعتذر منه،



(1) مصباح الشريعة، الباب الثامن والتسعون ص 202.
(2) الكافي ج 2 ص 138.
(3) الكافي ج 2 ص 138.
(4) التوبة: 84.
(5) طه: 131.
(6) الكافي ج 2 ص 138.
502
وأحب لأخيك ما تحب لنفسك (1).
الصبر
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة} (2).
وفي الصحيح عن الفضل عن أبي عبد الله (عليه السلام): الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد،
فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان (3).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): سيأتي على الناس زمان لا ينال الملك
فيه إلا بالقتل والتجبر، ولا الغنى إلا بالغصب والبخل، ولا المحبة إلا باستخراج الدين واتباع الهوى، فمن أدرك
ذلك الزمان فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى، وصبر على البغضة وهو يقدر على المحبة، وصبر على
الذل وهو يقدر على العز، آتاه الله ثواب خمسين صديقا ممن صدق بي (4).
وفي الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال الله عز وجل: إني
جعلت الدنيا بين عبادي قرضا، فمن أقرضني منها قرضا أعطيته بكل واحدة عشرة إلى سبعمائة ضعف
وما شئت من ذلك، ومن لم يقرضني منها قرضا فأخذت منه شيئا قسرا فصبر أعطيته ثلاث خصال لو
أعطيت واحدة منهن ملائكتي لرضوا بها مني، قال: ثم تلا أبو عبد الله (عليه السلام) قول الله عز وجل:
{الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من
ربهم} فهذه واحدة من ثلاث خصال {ورحمة} اثنتان {وأولئك هم المهتدون}
ثلاث (5).



(1) الأمالي للشيخ الطوسي، المجلس الثامن عشر، ح 18، ص 508.
(2) البقرة: 153.
(3) الكافي ج 2 ص 89.
(4) الكافي ج 2 ص 91.
(5) سورة البقرة: 156 - 157.
503
ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): هذا لمن أخذ الله منه شيئا قسرا (1).
وفي الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: اصبروا على المصائب، وصابروا على الفرائض،
ورابطوا على الأئمة (عليهم السلام) (2).
وعن الرضا (عليه السلام)، قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الصابرون؟ فيقوم فئام من
الناس، ثم ينادي أين المتصبرون؟ فيقوم فئام من الناس، قلت: جعلت فداك وما الصابرون
وما المتصبرون؟ قال: الصابرون على أداء الفرائض، والمتصبرون على اجتناب المحارم (3).
وعن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الصبر ثلاثة، صبر عند المصيبة، وصبر على الطاعة،
وصبر عن المعصية، فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين
الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء [إلى] الأرض، ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة ما بين
الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة
ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش (4).
الشكر
قال الله تعالى: {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا
عليما} (5)، {هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا * إنا خلقنا
الانسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا * إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما



(1) الكافي ج 2 ص 92، وبتفاوت يسير في الخصال باب الثلاثة ح 135، ج 1 ص 130.
(2) تفسير القمي ج 1 ص 129 في تفسير آية {اصبروا وصابروا ورابطوا} آل عمران: 200.
(3) تفسير القمي ج 1 ص 129 في تفسير آية " اصبروا وصابروا ورابطوا " آل عمران: 200.
(4) الكافي ج 2 ص 91.
(5) سورة النساء: 147.
504
كفورا} (1)، {اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور} (2)، {شاكرا لأنعمه
اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم} (3).
عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: أوحى الله عز وجل إلى موسى (عليه السلام): يا موسى اشكرني حق شكري.
فقال: يا رب فكيف أشكرك حق شكرك وليس من شكر أشكرك به إلا وأنت أنعمت به علي؟ قال:
يا موسى الآن شكرتني حين علمت أن ذلك مني (4).
وفي الصحيح عن إسماعيل بن الفضل، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا أصبحت
وأمسيت فقل عشر مرات: اللهم ما أصبحت بي من نعمة أو عافية في دين أو دنيا فمنك وحدك،
لا شريك لك، لك الحمد ولك الشكر بها علي يا رب حتى ترضى وبعد الرضا، فإنك إذا قلت ذلك كنت قد أديت
شكر ما أنعم الله به عليك في ذلك اليوم وفي تلك الليلة (5).
وفي الصحيح عن حفص بن البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان نوح (عليه السلام)
يقول ذلك (6) إذا أصبح، فسمي بذلك عبدا شكورا، وقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من صدق الله نجا (7).
وعن الصادق عن آبائه (عليهم السلام): الطاعم الشاكر له من الأجر كأجر الصائم المحتسب، والمعافى
الشاكر له من الأجر كأجر المبتلى الصابر، والغني الشاكر له من الأجر كأجر المحروم القانع (8).
وفي الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال: يا معاوية من أعطي ثلاثا لم يحرم ثلاثا، من



(1) سورة الإنسان: 1 و 2 و 3.
(2) سورة سبأ: 13.
(3) سورة النحل: 121.
(4) الكافي ج 2 ص 98.
(5) الكافي ج 2 ص 99.
(6) أي الدعاء المذكور في الحديث السابق.
(7) الكافي ج 2 ص 99.
(8) الكافي ج 2 ص 94.
505
أعطي الدعاء أعطى الإجابة، ومن أعطى الشكر أعطى الزيادة، ومن أعطى التوكل أعطى الكفاية، فإن
الله عز وجل يقول في كتابه: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} (1)، ويقول: {لئن شكرتم
لأزيدنكم} (2)، ويقول: {ادعوني أستجب لكم} (3). (4)
الحلم
وهو ضبط النفس عن هيجان الغضب، واعتدال القوة الغضبية.
عن الرضا (عليه السلام): لا يكون الرجل عابدا حتى يكون حليما (5).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين يقول: إنه ليعجبني الرجل أن يدركه حلمه عند
غضبه (6).
وعن أبي جعفر (عليه السلام): إن الله عز وجل يحب الحيي الحليم (7).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): لا عز أرفع من الحلم (8).
وعن الربيع صاحب المنصور، قال: قال المنصور للصادق: حدثني عن
نفسك بحديث أتعظ به، ويكون لي زاجر صدق عن الموبقات، فقال الصادق (عليه السلام):
عليك بالحلم فإنه ركن العلم، واملك نفسك عند أسباب القدرة فإنك إن تفعل ما تقدر عليه كنت كمن
شفى غيظا، أو تداوي حقدا، أو يحب أن يذكر بالصولة، واعلم بأنك إن عاقبت مستحقا لم تكن غاية ما



(1) سورة الطلاق: 3.
(2) سورة إبراهيم: 7.
(3) سورة غافر: 60.
(4) ج 1 ص 101 الخصال للصدوق، باب الثلاثة ح 56.
(5) الكافي ج 2 ص 111.
(6) الكافي ج 2 ص 112.
(7) الكافي ج 2 ص 112.
(8) الأمالي للشيخ الصدوق ح 9 ص 399، المجلس الثاني والخمسون.
506
توصف به إلا العدل، ولا أعرف حالا أفضل من حال العدل، والحال التي توجب الشكر أفضل من الحال
التي توجب الصبر. فقال المنصور: وعظت فأحسنت، وقلت وأوجزت (1).
وعن علي بن الحسين (عليه السلام): ما من جرعة أحب إلى الله من جرعتين، جرعة غيظ ردها مؤمن
بحلم، وجرعة مصيبة ردها مؤمن بصبر (2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ثلاث من كن فيه استكمل خصال الإيمان: من صبر على الظلم،
وكظم غيظه واحتسب، وعفى وغفر كان ممن يدخله الله الجنة بغير حساب، ويشفعه في مثل ربيعة
ومضر (3).
وفي وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الحسن (عليه السلام): يا بني العقل خليل المرء، والحلم وزيره،
والرفق والده، والصبر من خير جنوده (4).
وكفى في منزلة الحلم قوله تعالى: {ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي
هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا
وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} (5).
الحياء
وهو انقباض النفس عن القبائح.
عن معاذ بن كثير عن أحدهما (عليهما السلام): الحياء والإيمان مقرونان في قرن، فإذا ذهب



(1) الأمالي للشيخ الصدوق ص 711، المجلس التاسع والثمانون ح 9.
(2) الخصال ص 50، باب الاثنين ح 60، ج 1.
(3) الخصال ص 104، باب الثلاثة ح 63، ج 1.
(4) الأمالي للشيخ الطوسي ص 146، المجلس الخامس ح 53.
(5) سورة السجدة (فصلت): 34 و 35.
507
أحدهما تبعه صاحبه (1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أربع من كن فيه وكان من قرنه
إلى قدمه ذنوبا بدلها الله حسنات: الصدق والحياء وحسن الخلق، والشكر (2).
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أول ما ينزع الله تعالى من العبد الحياء فيصير ماقتا ممقتا، ثم ينزع
منه الإيمان [الأمانة]، ثم ينزع منه الرحمة، ثم يخلع دين الإسلام عن عنقه فيصير شيطانا لعينا (3).
وعن العسكري (عليه السلام): من لم يتق وجوه الناس لم يتق الله (4).
وعن علي بن الحسين (عليهما السلام): خف الله لقدرته عليك، واستحي منه لقربه منك (5).
وعن الصادق (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الإسلام عريان، فلباسه الحياء، وزينته الوقار
[الوفاء]، ومروءته العمل الصالح، وعماده الورع، ولكل شئ أساس، وأساس الإسلام حبنا أهل البيت (6).
السخاء
عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): السخي
قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، قريب من
النار (7).
وعن الصادق (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): السخاء شجرة في الجنة، أغصانها في الدنيا،



(1) الكافي ج 2 ص 106.
(2) الكافي ج 2 ص 107.
(3) معاني الأخبار ص 410، باب نوادر المعاني ح 94.
(4) بحار الأنوار ج 68 ص 336.
(5) بحار الأنوار ج 68 ص 336.
(6) الكافي ج 2 ص 46.
(7) بحار الأنوار ج 73 ص 308، وعن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قريب منه، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2
ص 12 باب 30 فيما جاء عن الرضا (عليه السلام) من الأخبار المنثورة ح 27.
508
من تعلق بغصن من أغصانها قاده ذلك الغصن إلى الجنة، والبخل شجرة في النار أغصانها في الدنيا، من
تعلق بغصن منها قاده ذلك الغصن إلى النار " (1).
وعن مالك بن أنس قال: قال الصادق (عليه السلام): أعجب لمن يبخل بالدنيا وهي مقبلة عليه
أو يبخل عليها وهي مدبرة عنه، فلا الإنفاق مع الإقبال يضره، ولا الإمساك مع الإدبار ينفعه (2).
وعن الصادق (عليه السلام) أنه قال: إن الله تبارك وتعالى رضي لكم الإسلام دينا فأحسنوا صحبته
بالسخاء وحسن الخلق (3).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: أتى رسول الله وفد من اليمن وفيهم رجل كان أعظمهم كلاما،
وأشدهم استقصاء في محاجة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فغضب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى التوى عرق الغضب بين عينيه
وتربد وجهه وأطرق إلى الأرض، فأتاه جبرئيل، فقال: ربك يقرءك السلام ويقول لك: هذا رجل سخي
يطعم الطعام، فسكن عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الغضب ورفع رأسه، وقال له: لولا أن جبرئيل أخبرني عن الله
عز وجل أنك سخي تطعم الطعام لشردت بك وجعلتك حديثا لمن خلفك. فقال له الرجل: وإن ربك
ليحب السخاء؟ فقال: نعم، قال: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، والذي
بعثك بالحق لا رددت عن مالي أحدا (4).
ومع أن السامري أضل قوم موسى ودعاهم إلى عبادة العجل، لما هم موسى
بقتله أوحى إليه أن لا يقتله لأنه سخي (5).



(1) قرب الإسناد ص 117 - رقم 409.
(2) الأمالي للشيخ الصدوق ص 234، المجلس الثاني والثلاثون ح 4.
(3) الأمالي للشيخ الصدوق ص 344، المجلس السادس والأربعون ح 3.
(4) الكافي ج 4 ص 39.
(5) تفسير القمي ج 2 ص 63 ذيل الآية الشريفة: * (قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس) *
سورة طه: 97. ج 2.
509
الشجاعة
وهي انقياد الغضب للعقل، واعتداله عن الإفراط بالتهور المنتهي إلى إلقاء
النفس في التهلكة، وعن التفريط بالجبن المنتهي إلى المهانة والذلة وإعانة الظالم
بتمكينه من عرضه وماله، وعن الصادق (عليه السلام): لا يؤمن رجل فيه الشح والحسد والجبن (1).
وعن الصادق (عليه السلام): المؤمن أصلب من الجبل، الجبل يستقل منه، والمؤمن لا يستقل من
دينه (2)، وبها قال إبراهيم: {وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين} (3)، وبها نال
أمير المؤمنين (عليه السلام) الفتوة التي قال الرسول: لا فتى إلا علي (4)، وهي التي توجب
الغلبة على الأعداء. وكمالها السيطرة على أعدى الأعداء، وهو النفس الأمارة
بالسوء، والهوى، وعن علي (عليه السلام): أشجع الناس من غلب هواه (5).
وفي الصحيح عن أبي عبيدة الحذاء عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أتي النبي بأسارى فأمر
بقتلهم، وخلى رجلا من بينهم، فقال الرجل: يا نبي الله كيف أطلقت عني من بينهم؟ فقال:
أخبرني جبرئيل عن الله جل جلاله أن فيك خمس خصال يحبها الله ورسوله: الغيرة الشديدة على حرمك،
والسخاء، وحسن الخلق، وصدق اللسان، والشجاعة، فلما سمعها الرجل أسلم، وحسن إسلامه، وقاتل مع
رسول الله قتالا شديدا حتى استشهد (6).
الغيرة



(1) الخصال ص 83، روضة الواعظين ص 424.
(2) الكافي ج 2 ص 241.
(3) سورة الأنبياء: 57.
(4) راجع صفحة:
(5) الأمالي للصدوق ص 73 المجلس السادس ح 4.
(6) الخصال ج 1 ص 282 باب الخمسة ح 28.
510
وهي السعي في المحافظة على ما يلزم المحافظة عليه:
عن الصادق (عليه السلام): إن الله تبارك وتعالى غيور، يحب كل غيور، ولغيرته حرم الفواحش ظاهرها
وباطنها (1).
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كان إبراهيم غيورا، وأنا أغير منه، وجدع الله أنف من لا يغار على
المؤمنين والمسلمين (2).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: يا أهل العراق نبئت أن نسائكم يدافعن الرجال في
الطريق، أما تستحيون؟ (3)
وقال (عليه السلام) - في حديث آخر - أما تستحيون ولا تغارون نساؤكم يخرجن إلى الأسواق ويزاحمن
العلوج (4).
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا لم يغر الرجل فهو منكوس القلب (5).
وعن الصادق (عليه السلام): إن المرء يحتاج في منزله وعياله إلى ثلاث خلال يتكلفها وإن لم يكن في
طبعه ذلك: معاشرة جميلة، وسعة بتقدير، وغيرة بتحصين (6).
البر
قال الله تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو
إصلاح بين الناس} (7) {وأحسن كما أحسن الله إليك} (8).



(1) الكافي ج 5 ص 535.
(2) الكافي ج 5 ص 536.
(3) الكافي ج 5 ص 537.
(4) الكافي ج 5 ص 537.
(5) الكافي ج 5 ص 536.
(6) تحف العقول ص 322.
(7) سورة النساء: 114.
(8) سورة القصص: 77.
511
عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اصطنع الخير إلى من هو
أهله، وإلى من هو غير أهله، فإن لم تصب من هو أهله فأنت أهله (1).
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): رأس العقل بعد الدين التودد إلى الناس، واصطناع الخير إلى كل أحد بر
وفاجر (2).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا يزهدنك في المعروف من لا يشكره لك، فقد يشكرك عليه من
لا يستمتع بشئ منه، وقد تدرك من شكر الشاكر أكثر مما أضاع الكافر، والله يحب المحسنين (3).
وقال الصادق (عليه السلام): أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة، يقال لهم: إن
ذنوبكم قد غفرت لكم، فهبوا حسناتكم لمن شئتم، والمعروف واجب على كل أحد بقلبه ولسانه ويده،
فمن لم يقدر على اصطناع المعروف بيده فبقلبه ولسانه، ومن لم يقدر عليه بلسانه فلينوه بقلبه (4).
وفي الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الصبر والبر والحلم وحسن الخلق من أخلاق
الأنبياء (5).
وفي الصحيح عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن أعرابيا من بني تميم أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال:
أوصني فكان مما أوصاه: تحبب إلى الناس يحبوك (6).
وفي الموثق عن علي بن الحسين (عليهما السلام)، قال: سمعته يقول: إذا كان يوم القيامة
جمع الله تبارك وتعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد، ثم ينادي مناد أين أهل الفضل؟ قال: فيقوم



(1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، ج 2 ص 35 باب 31 ح 76 و ح 77.
(2) المصدر السابق.
(3) نهج البلاغة، حكمه (عليه السلام) رقم 204.
(4) الاختصاص للشيخ المفيد ص 241.
(5) الخصال ج 1 ص 251 باب الأربعة ح 121.
(6) الكافي ج 2 ص 642.
512
عنق من الناس، فتتلقاهم الملائكة فيقولون: وما كان فضلكم؟ فيقولون: كنا نصل من قطعنا،
ونعطي من حرمنا، ونعفوا عمن ظلمنا، قال: فيقال لهم: صدقتم، ادخلوا الجنة (1).
وفي الصحيح - على وجه قوي - عن زرارة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)
يقول: إنا أهل بيت مروءتنا العفو عمن ظلمنا (2).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، في وصيته لمحمد بن الحنفية، قال: لا يكونن أخوك على
قطيعتك أقوى منك على صلته، ولا على الإساءة إليك أقوى [أقدر] منك على الإحسان إليه (3).
وفي الصحيح عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عن آبائه (عليهم السلام) أن أمير
المؤمنين (عليه السلام) صاحب رجلا ذميا، فقال له الذمي: أين تريد يا عبد الله؟ قال: أريد الكوفة، فلما عدل
الطريق بالذمي عدل معه أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال له الذمي: ألست زعمت أنك تريد الكوفة، فقال
له: بلى، فقال له الذمي: فقد تركت الطريق، فقال له: قد علمت. قال: فلم عدلت معي وقد
علمت ذلك؟ فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): هذا من تمام حسن الصحبة أن يشيع الرجل صاحبه هنيئة إذا
فارقه، وكذلك أمرنا نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال له الذمي هكذا قال؟ قال: نعم. قال الذمي: لا جرم إنما تبعه
من تبعه لأفعاله الكريمة، فأنا أشهدك أني على دينك، ورجع الذمي مع أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلما عرفه
أسلم (4).
صدق الحديث
في الموثق عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا تغتروا بصلاتهم ولا بصيامهم، فإن الرجل ربما لهج



(1) الكافي ج 2 ص 108.
(2) الخصال ج 1 ص 10 باب الواحد ح 33.
(3) من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 279.
(4) الكافي ج 2 ص 67.
513
بالصلاة والصوم حتى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة (1).
وفي الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كونوا دعاة للناس بالخير بغير ألسنتكم ليروا منكم
الإجتهاد والصدق والورع (2).
وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): زينة
الحديث الصدق (3).
وعن الفضيل بن يسار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا فضيل إن الصادق أول من
يصدقه الله عز وجل يعلم أنه صادق، وتصدقه نفسه تعلم أنه صادق (4).
عن زيد بن علي عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن أقربكم مني غدا
وأوجبكم علي شفاعة، أصدقكم لسانا، وآداكم للأمانة، وأحسنكم خلقا، وأقربكم من الناس (5).
وفي الصحيح عن أبي كهمس قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): عبد الله بن أبي
يعفور يقرؤك السلام، قال: عليك وعليه السلام، إذا أتيت عبد الله فاقرأه السلام، وقل له: إن
جعفر بن محمد يقول لك: انظر ما بلغ به علي (عليه السلام) عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فالزمه، فإن عليا (عليه السلام) إنما بلغ ما
بلغ عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بصدق الحديث وأداء الأمانة (6).
ويكفي في مقام الصادقين أن الله سبحانه قال فيهم: {هذا يوم ينفع الصادقين
صدقهم لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا



(1) الكافي ج 2 ص 104.
(2) الكافي ج 2 ص 78.
(3) بحار الأنوار ج 68 ص 17، الأمالي للشيخ ص 576 الصدوق المجلس الرابع والسبعون ح 1.
(4) الكافي ج 2 ص 104.
(5) الأمالي للشيخ الصدوق، ص 598 المجلس السادس والسبعون ح 5.
(6) الكافي ج 2 ص 104.
514
عنه ذلك الفوز العظيم} (1)، وقال: {والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون *
لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين * ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا
ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون} (2).
أداء الأمانة
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم
وأنتم تعلمون} (3) وقال: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} (4) وقال: {إنا
عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها
الانسان إنه كان ظلوما جهولا} (5).
وعن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت سيد العابدين علي بن الحسين بن
علي بن أبي طالب (عليهم السلام) يقول لشيعته: عليكم بأداء الأمانة، فوالذي بعث محمدا بالحق نبيا لو أن
قاتل أبي الحسين بن علي ائتمنني على السيف الذي قتله به لأديته إليه (6).
وعن عبد الله بن سنان، قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) وقد صلى العصر
وهو جالس مستقبل القبلة في المسجد، فقلت: يا بن رسول الله إن بعض
السلاطين يأمننا على الأموال يستودعناها، وليس يدفع إليكم خمسكم،
أفنؤديها إليهم؟ قال: ورب هذه القبلة ثلاث مرات، لو أن ابن ملجم قاتل أبي - فإني أطلبه يتستر



(1) سورة المائدة: 119.
(2) سورة الزمر: 33، 34، 35.
(3) سورة الأنفال: 27.
(4) سورة النساء: 58.
(5) سورة الأحزاب: 72.
(6) الأمالي للشيخ الصدوق، ص 318 المجلس الثالث والأربعون ح 6.
515
لأنه قتل أبي - ائتمنني على أمانة لأديتها إليه (1).
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من خان أمانة في الدنيا ولم يردها إلى أهلها، ثم أدركه الموت مات على غير
ملتي، ويلقى الله وهو عليه غضبان (2).
وعن الحسن بن محبوب قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): يكون المؤمن بخيلا؟
قال: نعم، قال: قلت: فيكون جبانا؟ قال: نعم، قلت: فيكون كذابا؟ قال: لا ولا جافيا، ثم
قال: يجبل المؤمن على كل طبيعة إلا الخيانة والكذب (3).
وعن أبي اسامة زيد الشحام قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): إقرأ على من ترى أنه
يطيعني منهم ويأخذ بقولي السلام، وأوصيكم بتقوى الله عز وجل، والورع في دينكم، والاجتهاد لله،
وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أدوا الأمانة إلى من
ائتمنكم عليها برا أو فاجرا، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صلوا عشائرهم واشهدوا
جنائزهم، وعودوا مرضاهم وأدوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدى
الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا جعفري فيسرني ذلك ويدخل علي منه السرور وقيل هذا أدب
جعفر، وإذا كان على غير ذلك دخل علي بلاؤه وعاره وقيل هذا أدب جعفر، فوالله لحدثني أبي (عليه السلام) أن
الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي (عليه السلام) فيكون زينها، آداهم للأمانة، وأقضاهم للحقوق،
وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، تسأل العشيرة عنه فتقول: من مثل فلان إنه لآدانا
للأمانة، وأصدقنا للحديث (4).
*



(1) مشكاة الأنوار ص 174.
(2) من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 15.
(3) الاختصاص ص 231.
(4) الكافي ج 2 ص 636.
516
هذه جملة من مكارم الأخلاق التي لابد لكل شيعي من التخلق بها، ومن
أراد الكمال كل الكمال في الفضائل الإنسانية فعليه بالتدبر في كلمات أهل بيت
العصمة (عليهم السلام)، ودراية رواياتهم، فإنها معادن العلم والحكمة، ونذكر ثلاثة منها،
وفيها غنى وكفاية:
* *
1 - عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (لا يكمل المؤمن إيمانه حتى يحتوي على مئة وثلاث خصال:
فعل، وعمل، ونية، وباطن، وظاهر.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): يا رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما المائة وثلاث خصال؟
فقال: يا علي من صفات المؤمن أن يكون جوال الفكر، جوهري الذكر، كثيرا علمه، عظيما حلمه،
جميل المنازعة، كريم المراجعة، أوسع الناس صدرا، وأذلهم نفسا، ضحكه تبسما، واجتماعه تعلما، مذكر
الغافل، ومعلم الجاهل، لا يؤذي من يؤذيه، ولا يخوض فيما لا يعنيه، ولا يشمت بمصيبة، ولا يذكر أحدا
بغيبة، بريئا من المحرمات، واقفا عند الشبهات، كثير العطاء، قليل الأذى، عونا للغريب، وأبا لليتيم، بشره في
وجهه، وحزنه في قلبه، مستبشرا بفقره، أحلى من الشهد، وأصلد من الصلد، لا يكشف سرا، ولا يهتك سترا،
لطيف الحركات، حلو المشاهدة، كثير العبادة، حسن الوقار، لين الجانب، طويل الصمت، حليما إذا جهل عليه،
صبورا على من أساء إليه، يبجل الكبير، ويرحم الصغير، أمينا على الأمانات، بعيدا من الخيانات، إلفه التقى،
وحلفه الحياء، كثير الحذر، قليل الزلل، حركاته أدب، وكلامه عجب، مقيل العثرة، ولا يتتبع العورة، وقورا،
صبورا، رضيا، شكورا، قليل الكلام، صدوق اللسان، برا، مصونا، حليما، رفيقا، عفيفا، شريفا، لا لعان، ولا
كذاب، ولا مغتاب، ولا سباب، ولا حسود، ولا بخيل، هشاشا، بشاشا، لا حساس، ولا جساس.
يطلب من الأمور أعلاها ومن الأخلاق أسناها، مشمولا بحفظ الله، مؤيدا بتوفيق الله، ذا قوة في
لين، وعزمة في يقين، لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم فيمن يحب، صبورا في الشدائد، لا يجور ولا
يعتدي، ولا يأتي بما يشتهي، الفقر شعاره، والصبر دثاره، قليل المؤونة، كثير المعونة، كثير الصيام، طويل

517
القيام، قليل المنام.
قلبه تقي، وعلمه زكي، إذا قدر عفا، وإذا وعد وفا، يصوم رغبا، ويصلي رهبا، ويحسن في عمله
كأنه ناظر إليه، غض الطرف، سخي الكف، لا يرد سائلا، لا يبخل بنائل، متواصلا إلى الإخوان، مترادفا للإحسان،
يزن كلامه ويخرس لسانه، لا يغرق في بغضه، ولا يهلك في حبه، ولا يقبل الباطل من صديقه، ولا يرد
الحق على عدوه، ولا يتعلم إلا ليعلم، ولا يعلم إلا ليعمل، قليلا حقده، كثيرا شكره، يطلب النهار معيشته،
ويبكي الليل على خطيئته، إن سلك مع أهل الدنيا كان أكيسهم، وإن سلك مع أهل الآخرة كان أورعهم، لا
يرضى في كسبه بشبهة، ولا يعمل في دينه برخصة، يعطف على أخيه بزلته، ويرعى ما مضى من
قديم صحبته) (1).
2 - عن علي بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام) أنه قال:
(إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه، وتماوت في منطقه، وتخاضع في حركاته، فرويدا لا
يغرنكم، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيته ومهانته وجبن قلبه، فنصب
الدين فخا لها، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فإن تمكن من حرام اقتحمه.
وإذا وجدتموه يعف عن المال الحرام فرويدا لا يغرنكم، فإن شهوات الخلق مختلفة، فما أكثر من
ينبو عن المال الحرام وإن كثر، ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها محرما.
فإذا وجدتموه يعف عن ذلك فرويدا لا يغرنكم، حتى تنظروا ما عقده عقله، فما أكثر من ترك ذلك
أجمع، ثم لا يرجع إلى عقل متين، فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله.
فإذا وجدتم عقله متينا فرويدا لا يغركم، حتى تنظروا أمع هواه يكون على عقله، أو يكون مع
عقله على هواه؟ وكيف محبته للرئاسات الباطلة وزهده فيها، فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة
بترك الدنيا للدنيا، ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة، فيترك ذلك
أجمع طلبا للرئاسة، حتى إذا قيل له اتق الله، أخذته العزة بالإثم، فحسبه جهنم ولبئس المهاد!



(1) كتاب التمحيص ص 75.
518
فهو يخبط خبط عشواء، يقوده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة، ويمده ربه بعد طلبه لما لا يقدر
عليه في طغيانه! فهو يحل ما حرم الله، ويحرم ما أحل الله، لا يبالي بما فات من دينه إذا سلمت له
رئاسته التي قد يتقى من أجلها، فأولئك الذين غضب الله عليهم، ولعنهم، وأعد لهم عذابا مهينا.
ولكن الرجل كل الرجل نعم الرجل، هو الذي جعل هواه تبعا لأمر الله، وقواه مبذولة في رضى
الله، يرى الذل مع الحق أقرب إلى عز الأبد من العز في الباطل، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرائها
يؤديه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد، وأن كثير ما يلحقه من سرائها إن اتبع هواه يؤديه إلى
عذاب لا انقطاع له ولا زوال.. فذلكم الرجل نعم الرجل، فبه فتمسكوا، وبسنته فاقتدوا، وإلى ربكم به
فتوسلوا، فإنه لا ترد له دعوة، ولا تخيب له طلبة) (1).
بين أن معيار كمال الإنسان ليس الأقوال والأفعال الخاضعة، وليس صرف
النظر عن شهوة المال والبطن ونحوها، بل ميزان كمال الإنسان إنما هو العقل
المصفى من كدورة الهوى ليكون منشأ الصلاح والإصلاح، والنفس التابعة
لأوامر الله تعالى ونواهيه، بحيث لا تنخدع بأية شهوة حتى شهوة الجاه والمقام،
وتعرض عن العز مع الباطل، ويختار الذلة مع الحق.
3 - عن عنوان البصري وكان شيخا كبيرا أتى عليه أربع وتسعون سنة قال:
(كنت أختلف إلى مالك بن أنس سنين، فلما قدم جعفر الصادق المدينة اختلفت
إليه، وأحببت أن آخذ عنه كما أخذت عن مالك، فقال لي يوما: إني رجل مطلوب ومع
ذلك لي أوراد في كل ساعة من آناء الليل والنهار، فلا تشغلني عن وردي، وخذ عن مالك، واختلف إليه كما
كنت تختلف إليه، فاغتممت من ذلك، وخرجت من عنده وقلت في نفسي: لو تفرس
في خيرا لما زجرني عن الاختلاف إليه والأخذ عنه، فدخلت مسجد الرسول
وسلمت عليه، ثم رجعت من الغد إلى الروضة وصليت فيها ركعتين، وقلت:



(1) الاحتجاج للطبرسي ج 1 ص 54.
519
أسألك يا الله يا الله أن تعطف علي قلب جعفر، وترزقني من علمه ما أهتدي به إلى
صراطك المستقيم.
ورجعت إلى داري مغتما ولم أختلف إلى مالك بن أنس لما أشرب قلبي من
حب جعفر، فما خرجت من داري إلا إلى الصلاة المكتوبة حتى عيل صبري،
فلما ضاق صدري تنعلت وترديت وقصدت جعفرا، وكان بعدما صليت العصر،
فلما حضرت باب داره استأذنت عليه فخرج خادم له فقال: ما حاجتك؟ فقلت:
السلام على الشريف، فقال: هو قائم في مصلاه، فجلست بحذاء بابه، فما لبثت
إلا يسيرا إذ خرج خادم فقال: ادخل على بركة الله، فدخلت وسلمت عليه، فرد
السلام وقال: اجلس غفر الله لك، فجلست فأطرق مليا، ثم رفع رأسه، وقال: أبو من؟
قلت: أبو عبد الله، قال: ثبت الله كنيتك ووفقك، يا أبا عبد الله ما مسألتك؟
فقلت في نفسي: لو لم يكن لي من زيارته والتسليم غير هذا الدعاء لكان
كثيرا، ثم رفع رأسه، ثم قال: ما مسألتك؟
فقلت: سألت الله أن يعطف قلبك علي ويرزقني من علمك، وأرجو أن الله
تعالى أجابني في الشريف ما سألته.
فقال: يا أبا عبد الله ليس العلم بالتعلم، إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن
يهديه، فإن أردت العلم فاطلب أولا في نفسك حقيقة العبودية، واطلب العلم باستعماله، واستفهم
الله يفهمك.
قلت: يا شريف، فقال: قل يا أبا عبد الله.
قلت: يا أبا عبد الله ما حقيقة العبودية؟ قال: ثلاثة أشياء: أن لا يرى العبد لنفسه فيما
خوله الله ملكا، لأن العبيد لا يكون لهم ملك، يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله به، ولا يدبر
العبد لنفسه تدبيرا، وجملة اشتغاله فيما أمره تعالى به ونهاه عنه، فإذا لم ير العبد لنفسه فيما خوله

520
الله تعالى ملكا، هان عليه الإنفاق فيما أمره الله تعالى أن ينفق فيه، وإذا فوض العبد تدبير نفسه
على مدبره، هانت عليه مصائب الدنيا، وإذا اشتغل العبد بما أمره الله تعالى ونهاه، لا يتفرغ منهما إلى المراء
والمباهاة مع الناس.
فإذا أكرم الله العبد بهذه الثلاث هانت عليه الدنيا، وإبليس، والخلق، ولا يطلب الدنيا تكاثرا وتفاخرا،
ولا يطلب ما عند الناس عزا وعلوا، ولا يدع أيامه باطلا، فهذا أول درجة التقى، قال الله تبارك وتعالى:
{تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة
للمتقين} (1).
قلت: يا أبا عبد الله أوصني.
قال: أوصيك بتسعة أشياء فإنها وصيتي لمريدي الطريق إلى الله تعالى، والله أسأل أن يوفقك
لاستعماله. ثلاثة منها في رياضة النفس، وثلاثة منها في الحلم، وثلاثة منها في العلم، فاحفظها وإياك
والتهاون بها، قال عنوان: ففرغت قلبي له. فقال: أما اللواتي في الرياضة: فإياك أن تأكل ما لا
تشتهيه فإنه يورث الحماقة والبله، ولا تأكل إلا عند الجوع، وإذا أكلت فكل حلالا وسم الله، واذكر حديث
الرسول (صلى الله عليه وآله): (ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه، فإن كان ولابد فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث
لنفسه).
وأما اللواتي في الحلم: فمن قال لك إن قلت واحدة سمعت عشرا، فقل: إن قلت عشرا لم
تسمع واحدة، ومن شتمك فقل له: إن كنت صادقا فيما تقول فأسأل الله أن يغفر لي، وإن كنت
كاذبا فيما تقول فالله أسأل أن يغفر لك، ومن وعدك بالخنا فعده بالنصيحة والدعاء.
وأما اللواتي في العلم: فاسأل العلماء ما جهلت، وإياك أن تسألهم تعنتا وتجربة، وإياك أن تعمل
برأيك شيئا، وخذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلا، واهرب من الفتيا هربك من الأسد، ولا تجعل رقبتك
للناس جسرا. قم عني يا أبا عبد الله فقد نصحت لك، ولا تفسد علي وردي، فإني امرؤ ضنين بنفسي،



(1) سورة القصص: 83.
521
والسلام على من اتبع الهدى) (1).
ونكتفي بذكر هذه الأحاديث ولم نتعرض لشرحها لأن في كل حديث، بل
في كل جملة كنوز من العلم والمعرفة، نشير إلى جملة من هذا الحديث، وهي
قوله (عليه السلام): (فإذا أردت العلم فاطلب أولا في نفسك حقيقة العبودية)، بل إلى كلمة منها
وهي حقيقة العبودية.
فإن العبودية إما اعتبارية تدور مدار اعتبار من بيده الاعتبار، وإما حقيقية،
وهي عبودية الفقير بالذات للغني بالذات.
ومن عرف نفسه علم أنه لا يملك نفسه ولا يملك لنفسه شيئا، لا نفعا ولا
ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، وعرف ربه بما قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا يكون الشئ
لا من شئ إلا الله، ولا ينقل الشئ من جوهريته إلى جوهر آخر إلا الله، ولا ينقل الشئ من الوجود إلى
العدم إلا الله) (2) وعلم أن كل ما سوى الله نسبته إلى إرادة الله نسبة الصور القائمة
بالأذهان إلى التفات الإنسان، مع ما به التفاوت بين النسبتين، بأن النسبة
والمنتسبين في الصور العلمية تزول بالسنة والنوم، والأعيان والأذهان قائمة
بالحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وليس لقيوميته ولخالقيته مثل، ولكنه
قال سبحانه: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن
يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب
والمطلوب} (3).
فمن تأمل في خلق الذباب وما أعطاه الله من القوى والأعضاء والجوارح،



(1) بحار الأنوار ج 1 ص 224.
(2) التوحيد للصدوق ص 68، باب التوحيد ح 22.
(3) سورة الحج: 73.
522
وعلم عجز كل ما يدعى من دون الله عن خلق ذباب من مادته وصورته، وإفاضة
الحياة على مادته الميتة، وما أودع في صنعه من لطائف الحكمة، وتأمل في عجز
ما يدعى من دون الله عن استنقاذ ما سلبه هذا المخلوق الضعيف، علم أنه عبد
مملوك لا يقدر على شئ، وعلم تفسير قوله تعالى بعد هذه الآية: {ما قدروا الله
حق قدره إن الله لقوى عزيز} (1)، وعلم {إن كل من في السماوات والأرض إلا آتى
الرحمن عبدا} (2).
ومن أدرك العبودية الحقيقية يعلم أنها تقتضي حقيقة العبودية، التي توصل
العبد إلى العبادة الحقيقية، التي هي منزلة الأحرار عن الرقية لما سوى الله، وهم
الذين عبدوا الله شكرا لا خوفا ولا رجاء.
والذين يريدون استكمال نفوسهم لابد لهم من إدراك العبودية الحقيقية،
وأداء حقها، وهو تطلبهم في نفوسهم حقيقة العبودية، التي هي مفتاح العلم الذي
ليس بالتعلم، وإنما نور يقذفه الله في قلب من يريد الله أن يهديه (3)، وهذا هو مرقاة
الكمال التي يصل عباد الله بطي درجاتها إلى مراتب علم اليقين وعين اليقين وحق
اليقين، ومن هنا قال (عليه السلام): فإن أردت العلم فاطلب حقيقة العبودية.
وليس الغرض من هذه الإشارة تحقيق ما في الحديث من الدقائق، بل
الغرض التذكر للتدبر في كلمات أهل بيت العصمة، نسأل الله التوفيق لعبودية الله
وعبادته التي هي الغاية من الخلقة، وكفى في مرتبة الواصلين إلى مرتبة العبودية
قوله تعالى:



(1) سورة الحج: 74.
(2) سورة مريم: 93.
(3) إشارة إلى ما ورد في مشكاة الأنوار ص 327.
523
{وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا
سلاما * والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما * والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب
جهنم إن عذابها كان غراما * إنها ساءت مستقرا ومقاما * والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا
ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما * والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس
التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم
القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله
سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما * ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله
متابا * والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما * والذين إذا ذكروا بآيات
ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا * والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا
قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما * أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية و
سلما * خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما} (1).
* *
هذا أقل قليل من كثير مما ورد في مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب،
يستغني بها كل لبيب يريد تكميل النفس بالفضائل، عما قيل أو يمكن أن يقال في
إيصال الإنسان إلى الكمال.
ونختم الكلام بما وصف به أمير المؤمنين (عليه السلام) شيعته الذين اقتدوا بقائدهم
وائتموا بإمامهم:
عن نوف البكالي قال: عرضت لي إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
حاجة فاستتبعت إليه جندب بن زهير والربيع بن خيثم وابن أخته همام
بن عبادة بن خيثم وكان من أصحاب البرانس، فأقبلنا معتمدين لقاء أمير



(1) سورة الفرقان: 63 - 76.
524
المؤمنين (عليه السلام) فألفيناه حين خرج يؤم المسجد فأفضى ونحن معه إلى نفر مبدنين
قد أفاضوا في الأحدوثات تفكها، وبعضهم يلهي بعضا، فلما أشرف لهم أمير
المؤمنين (عليه السلام) أسرعوا إليه قياما فسلموا فرد التحية ثم قال: من القوم؟ قالوا: أناس
من شيعتك يا أمير المؤمنين؟ فقال لهم خيرا ثم قال: يا هؤلاء ما لي لا أرى فيكم سمة
شيعتنا، وحلية أحبتنا أهل البيت؟ فأمسك القوم حياء.
قال نوف: فأقبل عليه جندب والربيع فقالا: ما سمة شيعتكم وصفتهم يا أمير
المؤمنين؟ فتثاقل عن جوابهما، وقال: اتقيا الله أيها الرجلان وأحسنا، فإن الله مع الذين
اتقوا والذين هم محسنون.
فقال همام بن عبادة وكان عابدا مجتهدا: أسألك بالذي أكرمكم أهل البيت
وخصكم وحباكم، وفضلكم تفضيلا إلا أنبأتنا بصفة شيعتكم، فقال:
لا تقسم فسأنبئكم جميعا، وأخذ بيد همام فدخل المسجد فسبح ركعتين أوجزهما
وأكملهما وجلس وأقبل علينا، وحف القوم به، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم قال:
أما بعد فإن الله جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه، خلق خلقه فألزمهم عبادته وكلفهم طاعته،
وقسم بينهم معايشهم، ووضعهم في الدنيا بحيث وضعهم، وهو في ذلك غني عنهم، لا تنفعه طاعة
من أطاعه، ولا تضره معصية من عصاه منهم، لكنه علم تعالى قصورهم عما تصلح عليه شؤونهم،
وتستقيم به دهماؤه في عاجلهم وآجلهم، فارتبطهم بإذنه في أمره ونهيه، فأمرهم تخييرا، وكلفهم
يسيرا، وأثابهم كثيرا، وأماز سبحانه بعدل حكمه وحكمته بين الموجف من أنامه إلى مرضاته ومحبته، وبين
المبطئ عنها والمستظهر على نعمته منهم بمعصيته. فذلك قول الله عز وجل: {أم حسب الذين
اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم

525
ساء ما يحكمون} (1).
ثم وضع أمير المؤمنين صلوات الله عليه يده على منكب همام بن عبادة
فقال: ألا من سأل عن شيعة أهل البيت، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم في كتابه مع نبيه
تطهيرا:
فهم العارفون بالله، العاملون بأمر الله، أهل الفضائل والفواضل، منطقهم الصواب، وملبسهم
الاقتصاد، ومشيهم التواضع، بخعوا لله تعالى بطاعته، وخضعوا له بعبادته، فمضوا غاضين أبصارهم عما
حرم الله عليهم، واقفين أسماعهم على العلم بدينهم، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالذي نزلت منهم في
الرخاء رضى عن الله بالقضاء، فلولا الآجال التي كتب الله لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين،
شوقا إلى لقاء الله والثواب، وخوفا من العقاب.
عظم الخالق في أنفسهم، وصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة كمن رآها فهم على أرائكها
متكئون، وهم والنار كمن أدخلها فهم فيها يعذبون، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم
نحيفة، وحوائجهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة ومعونتهم في الإسلام عظيمة.
صبروا أياما قليلة فأعقبتهم راحة طويلة، تجارة مربحة يسرها لهم رب كريم، أناس أكياس، أرادتهم
الدنيا فلم يريدوها، وطلبتهم فأعجزوها.
أما الليل فصافون أقدامهم، تالون لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلا، يعظون أنفسهم بأمثاله،
ويستشفعون لدائهم بدوائه تارة، وتارة مفترشون جباههم وأكفهم وركبهم وأطراف أقدامهم، تجري
دموعهم على خدودهم، يمجدون جبارا عظيما، ويجأرون إليه جل جلاله في فكاك رقابهم، هذا ليلهم.
فأما النهار فحلماء علماء بررة أتقياء، براهم خوف باريهم فهم أمثال القداح، يحسبهم الناظر إليهم مرضى
وما بالقوم من مرض، أو قد خولطوا، وقد خالط القوم من عظمة ربهم، وشدة سلطانه أمر عظيم
طاشت له قلوبهم، وذهلت منه عقولهم، فإذا استفاقوا من ذلك بادروا إلى الله تعالى بالأعمال



(1) سورة الجاثية: 21.
526
الزاكية، لا يرضون له بالقليل، ولا يستكثرون له الجزيل، فهم لأنفسهم متهمون، ومن أعمالهم مشفقون،
إن زكي أحدهم خاف مما يقولون، وقال: أنا أعلم بنفسي من غيري، وربي أعلم بي، اللهم لا تؤاخذني بما
يقولون، واجعلني خيرا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، فإنك علام الغيوب، وساتر العيوب.
هذا، ومن علامة أحدهم أن ترى له قوة في دين، وحزما في لين، وإيمانا في يقين، وحرصا
على علم، وفهما في فقه، وعلما في حلم، وكيسا في رفق، وقصدا في غنى، وتجملا في فاقة،
وصبرا في شدة، وخشوعا في عبادة، ورحمة للمجهود، وإعطاء في حق، ورفقا في كسب، وطلبا في
حلال، وتعففا في طمع، وطمعا في غير طبع - أي دنس - ونشاطا في هدى، واعتصاما في شهوة،
وبرا في استقامة.
لا يغره ما جهله، ولا يدع إحصاء ما عمله، يستبطئ نفسه في العمل، وهو من صالح عمله على
وجل، يصبح وشغله الذكر، ويمسي وهمه الشكر، يبيت حذرا من سنة الغفلة، ويصبح فرحا لما أصاب من
الفضل والرحمة، إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره، لم يعطها سؤلها فيما إليه تشره، رغبته فيما
يبقى، وزهادته فيما يفنى، قد قرن العمل بالعلم، والعلم بالحلم، يظل دائما نشاطه، بعيدا كسله، قريبا
أمله، قليلا زلله، متوقعا أجله، خاشعا قلبه، ذاكرا ربه، قانعة نفسه، عازبا جهله، محرزا دينه، ميتا داؤه،
كاظما غيظه، صافيا خلقه، آمنا منه جاره، سهلا أمره، معدوما كبره، بينا صبره، كثيرا ذكره، لا يعمل شيئا من
الخير رئاء، ولا يتركه حياء.
الخير منه مأمول، والشر منه مأمون، إن كان بين الغافلين كتب في الذاكرين، وإن كان مع
الذاكرين لم يكتب من الغافلين، يعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه، قريب
معروفه، صادق قوله، حسن فعله، مقبل خيره، مدبر شره، غائب مكره.
في الزلازل وقور، وفي المكاره صبور، وفي الرخاء شكور، لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم فيمن
يحب، ولا يدعي ما ليس له، ولا يجحد ما عليه، يعترف بالحق قبل أن يشهد به عليه.
لا يضيع ما استحفظه، ولا ينابز بالألقاب، لا يبغي على أحد، ولا يغلبه الحسد، ولا يضار بالجار، ولا يشمت

527
بالمصاب، مؤد للأمانات، عامل بالطاعات، سريع إلى الخيرات، بطئ عن المنكرات، يأمر بالمعروف ويفعله،
وينهى عن المنكر ويجتنبه.
لا يدخل في الأمور بجهل ولا يخرج من الحق بعجز، إن صمت لم يعيه الصمت، وإن نطق لم يعيه
اللفظ، وإن ضحك لم يعل به صوته، قانع بالذي قدر له، لا يجمح به الغيظ، ولا يغلبه الهوى، ولا يقهره
الشح، يخالط الناس بعلم، ويفارقهم بسلم، يتكلم ليغنم، ويسأل ليفهم، نفسه منه في عناء، والناس منه
في راحة، أراح الناس من نفسه، وأتعبها لآخرته، إن بغي عليه صبر ليكون الله تعالى هو المنتصر له.
يقتدي بمن سلف من أهل الخير قبله، فهو قدوة لمن خلف من طالب البر بعده.
أولئك عمال الله، ومطايا أمره وطاعته، وسرج أرضه وبريته.
أولئك شيعتنا وأحبتنا، ومنا ومعنا، ألا، ها شوقا إليهم!
فصاح همام بن عبادة صيحة وقع مغشيا عليه، فحركوه فإذا هو قد فارق
الدنيا رحمة الله عليه (1).
هذا أنموذج من تعليم أئمتنا وتربية قادتنا، فلولا احتجاب الإسلام بأوهام
المنتحلين له، واختفاء أنوار هداية أئمة المسلمين بأعمال المدعين للائتمام بهم
لظهر قوله تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين
كله} (2).



(1) كنز الفوائد ص 31.
(2) سورة الفتح: 28.
528
فروع الدين

529
فروع الدين
لا يتسع المجال في هذا الموجز للبحث عن الحكم والأسرار في فروع
الدين، فهي قوانين وشرائع ربانية لتنظيم أحوال الإنسان الشخصية
والاجتماعية، وعلاقته مع الخالق والخلق. والفقه الذي دون في ثمانية وأربعين
كتابا، وكل كتاب منه مشتمل على أبواب، لا يتيسر استقصاء حكمها المبينة فضلا
عما لا تصاب بالعقول. وإنما نذكر في هذا الموجز شيئا من حكمة الصلاة
والزكاة:
من حكم الصلاة وأسرارها
تشتمل الصلاة على أجزاء وشروط وموانع:
فشرط إباحة المكان في الصلاة ينبه المصلي أن لا يعتدي على حق أحد.
وشرط الطهارة من الخبث والحدث والخبث يرشده إلى أن النجاسة التي تطهر
بالماء، أو الكدورة المعنوية التي تحصل قهرا في الروح من الجنابة - مثلا وإن
كانت من غير اختيار - وتزول بالغسل، توجبان بطلان الصلاة، وتمنعان الإنسان
من التوجه إلى ذي الجلال والإكرام سبحانه.
وبهذا يمكن أن يتصور تأثير قذارة الأعمال القبيحة الاختيارية، مثل
الكذب، والخيانة، والظلم، والتعدي، وكدورة الأخلاق الرذيلة، في حرمانه من
حقيقة الصلاة التي هي معراج المؤمن، وقربان كل تقي.
*

530
إن فصول الأذان الذي هو دعوة إلى الحضور في محضر الله تعالى، وفصول
الإقامة التي هي مقدمة لتهيئة الروح للعروج إلى مقام القرب منه سبحانه، تشتمل
على خلاصة معارف الإسلام.
والتأمل في افتتاح الأذان والإقامة بالتكبير، واختتامهما بالتهليل، يصور لنا
جو التربية والتعليم في الإسلام.
ولما كان ابتداء التكبير بلفظ الجلالة " الله " وختام التهليل أيضا به، فإن
المصلي يتعلم أنه {هو الأول والاخر} (1).
كما أن افتتاح الأذان والإقامة بكلمة (الله) وانتهائهما بهما، واستحباب الأذان
في أذن المولود اليمنى، والإقامة في أذنه اليسرى، واستحباب تلقين المحتضر
كلمة التوحيد، يعني أن افتتاح حياة الإنسان وختامها يكون باسم الله تعالى.
وتكرار لا إله إلا الله بعد الشهادة بهما مرتين في أول الأذان وآخره، يكشف
عن دور هذه الكلمة الطيبة في تكامل الإنسان العلمي والعملي.
ولهذه الجملة خصائص في لفظها ومعناها:
فحروفها نفس حروف كلمة (الله)، وهي من الذكر الخفي الذي لا يتطرق
الرياء إليه، حيث يمكن للإنسان أن يذكر الله بها ولا يظهر عليه.
وهي تشتمل على نفي وإثبات، والاعتقاد الراسخ بهما يؤثر في نفي الباطل
وإثبات الحق، في عقائده وأخلاقه وأعماله.
ومنه يظهر معنى الحديث القدسي في رواية سلسلة الذهب (لا إله إلا الله حصني،
فمن دخل حصني أمن من عذابي) (2).



(1) سورة الحديد: 3.
(2) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 135 باب 37 ح 4، الأمالي للصدوق ص 306 المجلس الحادي
والأربعون ح 8 ومصادر أخرى للخاصة.
تاريخ مدينة دمشق ج 5 ص 462 - ينابيع المودة ج 3 ص 168 - الدر المنثور ج 4 ص 293.
531
وينكشف عمق كلام الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) (1)، وبهذا
النفي والإثبات يرتبط الروح بنور السماوات والأرض، ويتخلق بأخلاق الله
تعالى. كما أن بالشهادة بالرسالة يجدد عهده بالرسول وما أرسل به.
والشهادة لا اعتبار بها إذا لم تكن بالإدراك الحسي في الحسيات، ولا اعتداد
بها إذا لم تكن بالإدراك التعييني العقلي اليقيني في المعقولات.
وبالشهادة بالتوحيد والرسالة يرى الشاهد في كل أذان وإقامة بعين قلبه
وحدانية الإله ورسالة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم يستبق إلى الفلاح بحي على الفلاح، وإلى
خير العمل بحي على خير العمل.
وفي الأذان والإقامة يكون المبدأ والمنتهى هو الله، والوسط هو الصراط
المستقيم الذي أرسل الله رسوله به، فيستعد العبد للعروج إلى الله بالكلم الطيب
الصاعد إليه، والعمل الصالح الذي يرفعه سبحانه.
وعندما يصفي المصلي روحه بالتدبر في معنى (لا إله إلا الله)، يصل إلى
مستوى: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من
المشركين} (2).
وعندما يتجه إلى فاطر السماوات والأرض، يرتفع عن الأرض والسماء،
ويخرق الحجب السبعة بتكبيراته السبع.
وعندما يرفع يديه إلى جانب أذنيه، يجعل كل شئ غير الله وراء ظهره.



(1) مناقب آل أبي طالب ج 1 ص 56.
(2) سورة الأنعام: 79.
532
وعندما يقول (الله أكبر) يلغي أمام عظمة الله تعالى كل أفكار الذهن البشري
وأوهامه عنه تعالى، وكل الأوصاف والحدود، فهو سبحانه أكبر من أن يوصف.
ثم يبدأ كلامه مع الله تعالى، والصلاة كلام الإنسان مع الله، والقرآن كلام الله
مع الإنسان، لكن الإنسان يبدأ كلامه مع الله بكلام الله تعالى، لأنه لا يمكن
للإنسان أن يحمد الله إلا بما علمه الله من حمده، وبحرمة كلام الله تعالى يصير
كلام الإنسان لائقا لأن يسمع (سمع الله لمن حمده).
*
والصلاة لابد أن يقرأ فيها بفاتحة الكتاب بمقتضى (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) (1)،
وكما أن القرآن الذي هو كلام الخالق مع الخلق يبدأ بسورة الحمد، فكذلك
الصلاة التي هي تكلم الخلق مع الخالق، تبدأ بسورة الحمد.
والمصلي لابد أن يأتي بالحمد والسورة بقصد القراءة، لكن الوصول إلى
حقيقة الصلاة إنما يحصل بالتوجه إلى المعاني والإشارات واللطائف التي في
أفعال الصلاة وأقوالها، ولذا نشير إلى بعض خصائص سورة الحمد:
تضمنت هذه السورة المباركة خلاصة الإسلام، ففيها معرفة المبدأ والمعاد،
وفيها أسماء الله تعالى وصفاته، وهي عهد الإنسان مع الله، وعهد الله للإنسان.
وحسب بعض الروايات (2) فإن اسم الله الأعظم موزع فيها.
وتمتاز سورة الحمد بأن الله تعالى قسمها بينه وبين عبده، فنصفها إلى (مالك
يوم الدين) لله تعالى، ونصفها الآخر من آية (إهدنا الصراط المستقيم) إلى آخرها
للإنسان، وآية (إياك نعبد وإياك نستعين) مشتركة لله تعالى وعباده، العبادة لله



(1) عوالي اللئالي ج 2 ص 218.
(2) ثواب الأعمال ص 104.
533
والاستعانة للإنسان (1).
تبتدئ السورة باسم الله تعالى، الذي به بدأ فجر الرسالة المحمدية فقال الله
تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله): {اقرأ بسم ربك الذي خلق} (2).
ومن خصائص اسم الله تعالى أنه اسم للذات الجامعة لجميع الأسماء
الحسنى {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} (3).
ومعنى (الله) كما روي عن علي (عليه السلام): (المعبود الذي يأله فيه الخلق ويؤله إليه) (4).
وغاية ما يمكن للبشر من معرفته سبحانه، أن يعرفوا عجزهم عن معرفته.
وقد صف الله تعالى نفسه ب‍ (الرحمن الرحيم)، ولا يتسع هذا الموجز لشرح
الرحمة الرحمانية والرحيمية، ومما ينبغي الالتفات إليه أن الله تعالى جعل ابتداء
كلامه مع الإنسان، وابتداء كلام الإنسان معه، ب‍ (بسم الله الرحمن الرحيم) وجعل هذه
الجملة السماوية طليعة قول المسلم وعمله، وألزمه بتكرارها كل يوم في صلواته
الخمس، وعلمه أن نظام الكون قائم على الرحمة، وأن كتاب التكوين والتشريع
يبدأ بالرحمة.
وحتى الحدود والتعزيرات التي شرعها، رحمة لمن تأمل فيها وفقهها..
وهذا يتضح من مراتب فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه إذا
أعرض عضو من المجتمع عن الصلاح، أو أقبل إلى الفساد، فلابد من معالجته
أولا بالحسنى والطرق الملائمة، كما نرى في قصة نبي الله موسى على نبينا وآله



(1) التبيان ج 1 ص 46، مجمع البيان ج 1 ص 48.
(2) سورة العلق: 1.
(3) سورة الأعراف: 180.
(4) التوحيد ص 89، باب تفسير قل هو الله أحد.
534
عليه السلام، حينما بعثه الله واخاه بتسع آيات بينات إلى طاغية مثل فرعون،
وأخاه بقوله: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} (1)، لأن الغرض من البعثة
ليست السيطرة والسلطنة، بل الهداية والتذكر والخشية لله تعالى.
فما دام علاج العضو الفاسد ممكنا بالأدوية لا يجوز إجراء عملية جراحية،
بل يجب المحافظة عليه، لكن عندما لا يصلح حتى بالعملية، فإن قطعه يكون
لمصلحة بقية أعضاء البدن، وكذلك الشخص الفاسد الذي لا علاج له، يكون
إقامة الحد عليه رحمة له لقلة تورطه فيما يفسد عليه دنياه وآخرته، وللمجتمع
لسد باب سراية الفساد إلى سائر الأفراد.
* *
بعد البسملة، يقرأ المصلي (الحمد لله رب العالمين) فيقرر أن كل الحمد والثناء لله
تعالى، لأنه سبحانه (رب العالمين)، وكل كمال وجمال مظهر من مظاهر تربيته
وربوبيته.
وعندما يقرأ المصلي هذه الآية ويرى آثار ربوبية الله تعالى وتربيته، في
نفسه وفي العالم، في سمائه، وأرضه، وجماده، ونباته، وحيوانه، وإنسانه..
يدرك أن الثناء مختص به.
وبما أن آثار تربيته تعالى في جميع المخلوقات، من أخس الكائنات إلى
أشرفها، ظهور رحمته العامة والخاصة، يقول المصلي ثانية: (الرحمن الرحيم).
وبعد أن يستغرق في فضل الله ورحمته، لابد أن يستذكر عدله تعالى،
فيقول: (مالك يوم الدين).
ومجازاة العباد في يوم الدين ضرورة لتحقيق العدل، لأن معصية الإنسان لله



(1) سورة طه: 44.
535
تعالى تعد على حرمته، والهتك والتعدي على حرمة غير المتناهي لا يقاس
بالتعدي على حرمة غيره، فصاحب العظمة غير المتناهية حرمته غير متناهية!
ومعصية الذي حقه ونعمته على الإنسان لا تعد ولا تحصى، لابد أن تجازى
بما يناسبها.
والذنب الذي يرتكبه الإنسان مع ربه ليس بالأمر السهل كما قد يتخيل، فإن
الطاقة التي يصرفها فيه حصيلة الكون، إذ حياته مترابطة مع الكون، فالذنب الذي
يرتكبه الإنسان خيانة لما يسعى اليه عالم الكون.
لذلك كان لابد من كتاب وحساب وجزاء بالعدل، في ذلك اليوم العظيم،
الذي وصفه الله تعالى بقوله: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم *
يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس
سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد} (1).
إن المصلي العارف عندما يقرأ (مالك يوم الدين) ترتعد فرائصه، ولذا كان إمام
العارفين وزين العابدين علي بن الحسين (عليهما السلام) عندما يصل إليها يكررها ويبكي،
حتى يكاد أن يموت (2).
إن آيتي (الرحمن الرحيم) و (مالك يوم الدين) تعطيان المصلي جناحي الخوف
والرجاء، فيعرف بهما رحمة الله وعزته، فيطمع بالأولى بالمغفرة والثواب، ويرى
في الثانية المجازاة والعقاب!
الالتفات إلى الخطاب



(1) سورة الحج: 1 و 2.
(2) الكافي ج 2 ص 602.
536
وبعدما أقبل قلب المصلي إلى عظمة الألوهية والربوبية ورحمانيته اليه
ورحيميته وفضله وعدله وأدرك أن غيره لا يليق أن يكون معبودا ينتقل من الغيبة
إلى الخطاب فيقول: (إياك نعبد).
وبما أن العبادة تحتاج إلى هداية وحول وقوة، يقول (وإياك نستعين)، ففي
(نعبد) يرى أن العبادة منه، وفي (نستعين) يرى أنها بالله تعالى حيث (لا حول ولا قوة إلا
بالله).
وفي (إياك نعبد) ينفي الجبر، وفي (إياك نستعين) ينفي التفويض.
وبهيئة المتكلم مع الغير (نعبد) يربط نفسه بجماعة المسلمين، فيتحقق عملا
كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة.
وبعد أن يؤدي المصلي مراسم العبودية، يدخل في مرحلة الدعاء، مرحلة
طلب العبد من مولاه.. فيقول (إهدنا الصراط المستقيم)، وبذلك يطلب أعظم جوهر
ينفعه في كل مراحل وجوده، لأن علو همة الإنسان، وإكرام مقام الألوهية يقتضي
أن يطلب طلبا عظيما، هو جوهر الهداية إلى الصراط المستقيم، السليم من كل
إفراط وتفريط.
والخط المستقيم واحد لا تعدد فيه، فالله واحد وصراطه واحد، وهو خط
يبدأ من نقطة نقص الإنسان التي يقول عنها الله تعالى: {والله أخرجكم من بطون
أمهاتكم لا تعلمون شيئا} (1) وينتهي إلى الكمال الإنساني المطلق، مستوى: (إلهي
ماذا وجد من فقدك؟ وما الذي فقد من وجدك) (2)، ومستوى قوله تعالى: {وأن إلى ربك



(1) سورة النحل: 78.
(2) إقبال الأعمال ص 349، دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عرفة.
537
المنتهى} (1).
وعندما يطلب المسلم في صلاته من ربه أن يهديه {صراط الذين أنعمت
عليهم} وهو الصراط الذي فصله الله تعالى في قوله: {ومن يطع الله والرسول
فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن
أولئك رفيقا} (2)، فهو بذلك يطلب أن يرزقه؟؟؟ النبيين والصديقين والشهداء
والصالحين وان يبعده عن المغضوب عليهم وعن الضالين، وهذا الدعاء يكرمه
التخلق باخلاق الأنبياء والأولياء والتجنب عن طريق المغضوبين وأهل الضلال.
وهذا يعني أن عليه أن يتخلق بأخلاق هؤلاء الأنبياء والأولياء (عليهم السلام) ويهتدي
بهداهم، ويبتعد عن سلوك أهل الضلال والمغضوبين.
وبمقتضى قوله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى
النور} (3)، عليه أن يتوجه بكله إلى القدوس تعالى الذي هو: {نور السماوات
والأرض} (4)، ويرى عظمته سبحانه بعين قلبه وحقيقة إيمانه.
ثم ينحني راكعا لعظمته امتثالا لقوله: {فسبح بسم ربك العظيم} (5)، ويقول:
سبحان ربي العظيم وبحمده.
وبذلك يأخذ نصيبه من أسرار الركوع، ويتهيأ لمقام القرب من ربه في
السجود، ثم يقع على الأرض امتثالا لقوله تعالى: {سبح اسم ربك الاعلى} (6)،



(1) سورة النجم: 42.
(2) سورة النساء: 69.
(3) سورة البقرة: 257.
(4) سورة النور: 35.
(5) سورة الواقعة: 74.
(6) سورة الأعلى: 1.
538
ويعفر جبينه على التراب، فيتذكر قدرة ربه الذي أضاء نور عقله من التراب
المظلم، وليرى في سجوده على التراب سر {ولقد خلقنا الانسان من سلالة من
طين} (1)، ويقول: سبحان ربي الأعلى وبحمده، ثم يرفع رأسه فيدرك سر {ثم أنشأناه خلقا
آخر فتبارك الله أحسن الخالقين} (2)، ويرى حياته الدنيوية.
ثم يقول (الله أكبر) ثم يعود للسجود على التراب، ويتذكر يوم يرى الموت بعد
حياته ويتخذ منه مسكنا، ثم يرى الحياة بعد الموت فيرفع رأسه، ويتذكر حياته
بعد الممات، ويعرف من السجدتين معنى قوله تعالى: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم
ومنها نخرجكم تارة أخرى} (3)، فيفهم بذلك مراحل وجوده.
* *
إن ما ذكرناه ليس إلا أشعة أو لمعة من أنوار شمس الحكمة والهداية في
الصلاة، ومن أجل الاختصار نترك الإشارة إلى أسرار السورة بعد الحمد،
وأسرار الأذكار، والقيام، والقعود، والقنوت، والتسبيحات الأربع، والتشهد،
والتسليم، ومستحبات الصلاة وآدابها.
مقارنة بين صلاتنا وصلاة المسيحيين
نذكر نموذج العبادة المسيحية مقابل ما ذكرنا من نموذج العبادة في الإسلام،
قال في إنجيل متى، الأصحاح السادس:
(وحينما تصلون لا تكرروا الكلام باطلا كالأمم، فإنهم يظنون أنه بكثرة



(1) سورة المؤمنون: 12.
(2) سورة المؤمنون: 14.
(3) سورة طه: 55.
539
كلامهم يستجاب لهم. فلا تتشبهوا بهم. لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن
تسألوه. فصلوا أنتم هكذا:
أبانا الذي في السماوات. ليتقدس اسمك. ليأت ملكوتك. لتكن مشيئتك
كما في السماء كذلك على الأرض. خبزنا كفافنا أعطنا اليوم. واغفر لنا ذنوبنا كما
نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا. ولا تدخلنا في تجربة. لكن نجنا من الشرير. لأن
لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد. آمين) انتهى.
ونشير هنا إلى بعض النقاط في هذه الصلاة:
1 - أنها تخاطب الله تعالى بلفظ (أبانا الذي في السماوات)!
وإطلاق لفظ الأب على الله تعالى إن قصدوا به المعنى الحقيقي فقد جعلوا الله
مخلوقا، حيث نسبوا إليه صفة التوليد التي هي صفة المخلوق!
وإن قصدوا به المعنى المجازي فقد شبهوه بالمخلوق، وتشبيه الله بمخلوقاته
يعني إثبات صفاتها له.. وحينئذ تكون صلاتهم وعبادتهم للمخلوق لا للخالق!
أما العبادة في الإسلام فهي لله تعالى الذي ليس كمثله شئ وهو السميع
البصير.. فلا تعطيل للعقل عن معرفته، ولا تشبيه له بشئ من خلقه.
2 - بعد هذا الثناء على الله تعالى نرى أن صلاة المسيحي تعلمه أن يطلب من
الله تعالى الخبز الذي يكون لجسده كالعلف للحيوان (خبزنا كففنا أعطنا اليوم)!.
بينما يطلب المسلم في صلاته بعد الثناء على ربه، نور البصيرة في عقله
حتى يجد الصراط المستقيم للحركة إلى الغرض المقصود من خلقه والتوفيق
للسير إلى هدفه {اهدنا الصراط المستقيم}، فلا جوهر أشرف وأغلى من الهداية
التي هي كمال الإنسان ولا طريق إلى المقصد أعدل وأقوم وأقرب من الصراط
المستقيم، ولا هدف أجل وأعلى من الله تبارك وتعالى.

540
3 - يزعم المسيحيون في صلاتهم أنهم يغفرون خطأ من يسئ إليهم،
فيقولون لله تعالى في صلاتهم (اغفر لنا ذنوبنا، كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا)!
ونحن نراهم لا يغفرون خطأ من يسئ إليهم، فهم بذلك يكذبون عند الله تعالى،
والكذب من القبائح عند العقول ومن الكبائر عند الشرائع الإلهية، ولا يمكن
التقرب إلى الله بالقبيح، وعبادته بمعصيته، والاستغفار بالذنب من الذنوب.
ونكتفي بهذه المقايسة للصلاة الإسلامية عن صلوات بقية الأديان.
من حكم تشريع الزكاة والإنفاق
الصلاة ارتباط الإنسان بالخالق، والزكاة ارتباط الإنسان بالخلق.
وقد قرن الله الزكاة بالصلاة في آيات عديدة، فعن أبي جعفر وأبي
عبد الله (عليهما السلام) قالا: (فرض الله الزكاة مع الصلاة) (1)، فالإنسان في حياته مدني بالطبع،
وما يحصل لديه من مال ومقام وعلم وكمال، إنما يتم بواسطة علاقاته
الاجتماعية. فالمجتمع الذي يعيش فيه صاحب حق مادي ومعنوي عليه،
وشريك له فيما ادخره من كسبه. وعندما يطبق أحكام الإسلام في أداء ما يجب
عليه من زكاة وصدقات، يكون أدى ما عليه من حق المجتمع.
إن تشريعات الإسلام للزكاة ولبقية الصدقات والإنفاق، تشريعات حكيمة
لو طبقت لما بقي فقير في المجتمع، وتتحقق مدنيته آمنته مطمئنة من طغيان
الفقراء والمحتاجين.
قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إن الله عز وجل فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم، ولو
علم أن ذلك لا يسعهم لزادهم. إنهم لم يؤتوا من قبل فريضة الله عز وجل، ولكن أتوا من منع من



(1) الكافي ج 3 ص 498.
541
منعهم حقهم لا مما فرض الله لهم. ولو أن الناس أدوا حقوقهم لكانوا عائشين بخير) (1).
وبسبب خطورة المفاسد التي تترتب على عدم إعطاء المحتاجين حقوقهم،
قال الله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم
بعذاب أليم} (2).
وبسبب تأثير البذل والعطاء في إزالة الفقر والمسكنة من المجتمع، وتطهير
نفوس الافراد من الشح والبخل حث الكتاب على الإنفاق والإيثار (3).
فضل الصدقات والإنفاق وتوسيع حقلهما
وقد بلغ من فضل الاهتمام بالفقراء أن إشباع عائلة وكسوتها وحفظ كرامتها
من ذل السؤال أفضل عند الله من سبعين حجة (4).
وقد وسع الإسلام دائرة الصدقة والإحسان حتى شملت الإحسان إلى
الحيوان فقد قال الإمام الباقر (عليه السلام): (إن الله تبارك وتعالى يحب إبراد الكبد الحرى، ومن سقى كبدا
حرى من بهيمة وغيرها، أظله الله يوم لا ظل إلا ظله) (5).
آداب الصدقات والإنفاق
وقد وضع الإسلام آدابا للصدقات، من جملتها أن يستر الصدقة ولا يعلنها (6)



(1) الكافي ج 3 ص 497.
(2) سورة التوبة: 34.
(3) الكافي ج 4 ص 41.
(4) الكافي ج 4 ص 2.
(5) الكافي ج 4 ص 58.
(6) الكافي ج 4 ص 24 و ج 4 ص 7، ج 4 ص 8.
542
حفاظا على عز المؤمن، وسمعة المحتاج. وأن يستقلها وإن كثرت (1)، وأن يعرف
أن آخذها أفضل من تلك الصدقة (2) مهما كانت، وأن لا يمن بصدقته (3)، بل
يعرف أن للمحتاج المنة عليه لأنه أوجب تطهير ماله وقلبه، وأن يبادر إلى إعطائه
ولا يحوجه إلى السؤال، فقد قال الصادق (عليه السلام): (المعروف ابتداء.. فأما من أعطيته بعد
المسألة فإنما كافيته بما بذل لك من وجهه) (4)، وأن يستر وجهه عن المحتاج حتى لا
يستحي، وأن يطلب منه الدعاء، وأن يقبل اليد التي أعطى بها الصدقة، لأن آخذ
الصدقة في الظاهر هو المحتاج وآخذها في الواقع الله عز وجل، قال تعالى: {ألم
يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات} (5).
الإنفاق والإيثار ودرجات الكمال
بلغ اهتمام الإسلام بقضاء حوائج المحتاجين أنه فتح باب الإيثار، قال الله
تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} (6)، وأوصل الإيثار إلى منتهى
درجات الكمال فقال تعالى عن أهله صلوات الله عليهم: {ويطعمون الطعام على
حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} (7).



(1) من لا يحضره الفقيه ج 2 ص 57.
(2) الخصال ص 619.
(3) الكافي ج 4 ص 22.
(4) الكافي ج 4 ص 22.
(5) سورة التوبة: 104، وراجع وسائل الشيعة ج 9 ص 433، وما بعدها من أبواب الصدقة.
(6) سورة الحشر: 9.
(7) سورة الإنسان: 8 و 9.
543
توسيع الإسلام لمفهوم الإنفاق والصدقة
وسع الإسلام مفهوم الإنفاق والصدقة ولم يحصرهما بعطاء المال، بل جعل
أي نوع من مساعدة الضعيف وإرشاد الأعمى إلى الطريق صدقة، وجعل بذل ماء
الوجه من أجل مساعدة المحتاجين زكاة الجاه والمقام، وبالجملة فلم يكتف
بالمساعدة في الأمور المادية فقط وقال: {ومما رزقناهم ينفقون} (1)، والرزق ما
يكون به قوام حياة الإنسان من أي جهة كان، ولهذا قال الإمام الصادق (عليه السلام): " ومما
علمناهم يبثون " (2).
إشارة إلى الآثار الاجتماعية للإنفاق
إن ما تقدم ليس إلا نبذة من حكمة تشريع الإسلام للزكاة والصدقات، هذا
التشريع المقدس الذي يطهر نفوس الأغنياء من كدورة البخل والحرص والطمع
وصدئها، ويطهر أموالهم من حقوق الفقراء التي هي بمنزلة دمائهم فلا يبتلى الغني
بضغط الدم ولا الفقير بفقر الدم، ويوثق العلاقة بين الطبقة الغنية والفقيرة، ويبدل
العلاقة بينهما من الغل إلى الألفة، ويقلل الفاصلة بين هاتين الطبقتين اللتين
يتكون منهما المجتمع.
وهو تشريع يسد حاجات الفقراء، في ظل حفظ كرامتهم، ويطفئ نار حسد
الفقراء بماء رحمة الإنفاق الذي استمن الغني من الفقير في ذلك الإنفاق، وحفظ -
في حصار الزكاة والصدقات - أموال الأغنياء التي هي بمنزلة الدم في شريان
المجتمع، وحفظ قوة نظامه الاقتصادي وسلامته، ولذا عبر أمير المؤمنين (عليه السلام) عن



(1) سورة البقرة: 3.
(2) البحار ج 2 ص 17.
544
الزكاة بما يدل على أنها حصن لأموال الأغنياء، فقال (عليه السلام): " وحصنوا أموالكم بالزكاة " (1).
ألا ينقطع جذور الفقر المادية والمعنوية من المجتمع بإجراء هذا البرنامج
من إنفاق أموال الأغنياء إلى إنفاق علوم العلماء؟!
المدينة الإسلامية الفاضلة التي تحفظ حقوق الإنسان وكرامته
بعد هذه النبذة عن حكمة تشريعات الإسلام في الصلاة والزكاة، وتأثيرهما
في سعادة الفرد والمجتمع، نلفت النظر إلى مستوى المدينة الفاضلة التي يستطيع
الإسلام أن يحققها بتشريعاته التي تشمل كل علاقات الانسان وحقوقه وجميع
حركاته وسكناته وأفعاله وتروكه، وتنتظم في مجموعة الأحكام الوضعية
بأنواعها والتكليفية باقسامها التي انقسمت متعلقاتها بالواجبات من الحق والملك
والحجية والولاية والحكومة وغيرها والمحرمات والمستحبات والمكروهات
والمباحات. تلك التشريعات التي تحرص على صيانة حياة الإنسان وحريته
وملكيته وكرامته، وحقوقه، ويرشده إلى مصالحه ومفاسده، ومنافعه ومضاره في
جميع نشأت وجوه وكان ادراك كلها؟؟؟؟ لنيل إلى حقها متعسرا الا ان ما يتسر
منه يدل على الحكم؟؟؟ في قوانين هذه الشريعة والالطاف الخفية في احكامها.
فإن نظرة في أحكام وآداب قررها الإسلام لحقوق الحيوان المسخر لخدمة
الإنسان، تكشف لنا عن نظرة الإسلام السامية لحقوق الإنسان.
روي عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): للدابة على
صاحبها خصال: يبدأ بعلفها إذا نزل، ويعرض عليها الماء إذا مر به، ولا يضرب وجهها فإنها تسبح بحمد ربها، ولا



(1) نهج البلاغة، حكمة رقم 146.
545
يقف على ظهرها إلا في سبيل الله، ولا يحملها فوق طاقتها، ولا يكلفها من المشي ما لا تطيق (1).
وفي قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): للدابة على صاحبها دلالة على أن هذه الخصال حقوق
للدابة وعلى صاحبها ادعاء الحق إلى ذي الحق.
وفي روايات أخرى أن لا يقبح وجهها، ولا يسرع في السير إلا في الأرض
الجدباء، وأن يتركها ترعى في الأرض المعشبة، ولا يتخذ ظهرها مجلسا
يتحدث عليها، وإذا أكل على ساحل بحر فليلق ما بقي من سفرته في البحر،
لتستفيد منه الحيوانات التي فيه.
كما نهت الشريعة المقدسة عن البول في الماء لأن للماء أهلا، وذلك في
زمان لم يكن يعرف أحد وجود الحيوانات المجهرية!
فمن هذه النماذج من حقوق الحيوان في الشريعة، نعرف برنامجها في
المحافظة على حقوق الإنسان، وتحقيق العدالة في مجتمعه!
هدف إعمار الدنيا والآخرة
إن أحكام الشريعة المقدسة تحقق إعمار الدنيا والآخرة، وسلامة البدن
والروح معا، فقد اهتمت الشريعة المقدسة إلى بالحياة المادية والمعنوية، كل
حسب قيمتها، وذلك بمقتضى العدل والحكمة وترابط الدنيا والآخرة، وترابط
الجسد والروح {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} (2) لكن
اهتمامها بعمران الدنيا ورفاه الإنسان فيها تبعي، بينما اهتمامها بالآخرة استقلالي،
وذلك بمقتضى طبيعة خلقهما.



(1) من لا يحضره الفقيه ج 2 ص 187.
(2) سورة القصص: 77.
546
وقد ورد تفسير الحسنة في الدنيا، في قوله تعالى: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة
وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (1) في كلام الإمام (عليه السلام) بالسعة في الرزق
والمعاش وحسن الخلق، والحسنة في الآخرة برضوان الله تعالى في الجنة (2).
أهمية الزراعة والتجارة في الشريعة
اهتمت الشريعة المقدسة بالتنمية الاقتصادية، خاصة بالزراعة والتجارة..
ودعت المؤمن بحكم قاعدة {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} (3)، إلى السعي ليكون
غنيا عزيزا، وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): " وما في الأعمال شئ أحب إلى الله من
الزراعة " (4)، وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يستصلح الأراضي ويحفر الآبار ويغرس النخل
والأشجار (5).
وفي رواية أن الإمام الصادق (عليه السلام) قال لرجل ترك العمل في السوق: " أغد إلى
عزك " (6)، وفي رواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " تعرضوا للتجارة " (7).
والتجارة والبيع والشراء في الإسلام مبنية على العقل والأمانة والتدبير
والمعرفة بفقه التجارة وأحكامها، ففي الحديث " لا يقعدن في السوق إلا من يعقل



(1) سورة البقرة: 201.
(2) الكافي ج 5 ص 71.
(3) سورة المنافقين: 8.
(4) تهذيب الأحكام ج 6 ص 384.
(5) وسائل الشيعة ج 17، كتاب التجارة، أبواب مقدماتها باب 9 و 10 و ج 19 ص 186 كتاب الوقوف
والصدقات باب 6 ح 2.
(6) الكافي ج 5 ص 149.
(7) الخصال ص 621، أبواب المأة وما فوقه ح 10.
547
الشراء والبيع " (1)، وفي آخر: " الفقه ثم المتجر " (2).
أحكام المعاملات في الإسلام
في الإسلام أحكام للمعاملات من الواجبات والمستحبات والمحرمات
والمكروهات، لا يتسع المجال لتفصيلها، فنكتفي بتعداد مجموعة متنوعة منها:
المنع من الربا، وحلف البائع على بضاعته ومدحها، وذم المشتري لما يريد
أن يشتريه، وإخفاء العيب، والتدليس والغش في أي أخذ وعطاء.
وعلى المتعامل إعطاء الحق وأخذ الحق، وعدم الخيانة وإعطاء الحق
لصاحبه وأخذه بالعدل بدون خيانة، وقبول الإقالة من النادم، وإمهال المعسر،
وإذا وكله أحد أن يشتري له متاعا فلا يبيعه مما عنده، وإن وكله أن يبيع سلعة فلا
يشتريها لنفسه، وإذا اكتال أو وزن أن يعطي أكثر من حقه ويأخذ أقل من حقه.
وأن التاجر فاجر إلا أن يصدق في قوله، وإن وعد أحدا بحسن المعاملة فلا
يأخذ منه ربحا، وأن يساوي بين المشترين ولا يلاحظ علاقتهم به، وأن يساوي
بين المشتري المماكس والمشتري الذي لا يماكس في المتاع الذي له قيمة
معلومة، وأن يتعلم الكتابة والتسجيل في عمله ولا يعمل بدونها، وأن لا يحتكر
ما يحتاج إليه الناس، وأن يكون سهل المعاملة سهل البيع والشراء، وأن يعطي
حق الناس بسهولة ويأخذ حقه منهم بسهولة، فلا يتشدد على من له عليه حق،
وأن لا يطلب التخفيف بعد تمام المعاملة، وأن يبادر إلى المسجد عندما يسمع
صوت الأذان، ويصفي قلبه بذكر الله تعالى، ويرتقي من عالم الطبيعة إلى ما فوق



(1) الكافي ج 5 ص 154.
(2) الكافي ج 5 ص 150.
548
الطبيعة.. {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال *
رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما
تتقلب فيه القلوب والابصار} (1).
ختام فيه نقطتان
النقطة الأولى، التعبد في الدين:
إن من يلاحظ بناء صرح هذا الدين القيم في أصوله وفروعه، ويتفكر في
تشريعاته للعبادات والمعاملات، ويتأمل في سياسته في إدارة النفس والبيت
والمدينة، وفي مجموعة آداب الإسلام من مستحبات ومكروهات، يدرك بيقين
أن هذه القوانين والتشريعات قامت على أساس حكمة بالغة.
ومن الطبيعي أن إدراك الحكمة في قوانين دين شرع أحكامه لسعادة
الإنسان في عوالم حياته كلها، يتوقف على إحاطتنا بهذه العوالم، ومعرفة
حاجات الإنسان فيها وطرق تأمينها، بل الإنصاف أن إدراك الحكمة بشكل كامل
لحكم شرعي واحد لا يتيسر للإنسان، لأن هذا الحكم جزء من برنامج للإنسان
في عوالم حياته جميعا.
لهذا، فإن عدم إدراكنا للحكمة من تشريعات الإسلام، لا يكون دليلا على
عدم وجودها، بل يكون دليلا على قصورنا عن ذلك.
وهكذا، فكما أن كتاب خلق الطبيعة والكون، فيه محكمات ومتشابهات لا
تعلم حكمة وجودها، ولا يجوز بحكم العقل أن ترفع اليد عن العلم بالجهل، وأن
ينقض اليقين بالشك، كذلك كتاب الأحكام والتشريعات فيه محكمات



(1) سورة النور: 36 و 37.
549
ومتشابهات، وهذا هو مقتضى طبيعة التشريع الذي مشرعه هو الحكيم اللطيف
الخبير الذي هو بكل شئ عليم وبكل شئ محيط، فإن كتاب الأحكام
والتشريعات فيه محكمات ومتشابهات، ولا يصح لنا إذا رأينا المتشابه أن نرفع
يدنا عن المحكم، ونتخيل وجود العبث في الخلق أو في التشريع {وما يعلم تأويله
إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا} (1).
إن من الضروري للإنسان أن يعرف أن حياته الدنيا بالنسبة إلى حياته
الآخرة، إنما هي كحياة الجنين في رحم أمه بالنسبة إلى حياته في الدنيا، فالجنين
مهما كان له عقل وشعور، لا يمكنه أن يفهم وجه الحكمة من خلق أعضائه
وقواه، ولماذا يكون الله له جهاز البصر والسمع والتنفس، وما هي الفائدة له من
هذه الأعضاء، وما هي الحكمة من تكوين جهاز ادراكه وتفكره وتعقله، لكنه
عندما يخرج إلى الدنيا يفهم ذلك!
وكذلك جنين روح الإنسان الذي يعيش في رحم الطبيعة، لابد له أن يتجهز
بأعضاء وقوى، هي الوسائل لحياته الأبدية، ولا يكون ذلك إلا بتطبيقه تعاليم ربه
وأحكامه، وسوف تتضح له الحكمة من هذه التعاليم عندما يضع قدمه في عالم
الآخرة، ويعرف أنه كان كالجنين في عالم الدنيا!
لهذا كان التعبد بأحكام الدين من ضروريات خلقة الإنسان، بل من
ضروريات تكامله، ذلك أن قيمة العامل بعمله، وقيمة العمل بنيته والدافع إليه
والمحرك إلى فعله، وقد أرشد النبي (صلى الله عليه وآله) إلى هذه الحقيقة بقوله: (إنما الأعمال بالنيات
ولكل امرئ ما نوى) (2).



(1) سورة آل عمران: 7.
(2) تهذيب الأحكام ج 4 ص 186.
550
ولهذا كان من صفات المقربين ومقامهم أنهم يطيعون الله تعالى، لله فقط،
بقطع النظر عن معرفتهم للنفع والضرر، والمصلحة والمفسدة.
النقطة الثانية، يجب على من لا يقدر على استنباط الأحكام أن يقلد مرجعا
بما أن محافظة الإنسان على صحته وسلامته، تتوقف على رعايته لقوانين
طبية ومقررات صحية، فلابد لمعرفتها أن يكون هو طبيبا، أو يراجع طبيبا
موثوقا فيعمل بتعاليمه، أو يعمل بالاحتياط فيتجنب كل ما يحتمل أنه مضر
بصحته حتى يعرف حكمه، أو يجد من يعرف ذلك ويسأله.
بل إن التقليد من ضرورات حياة الإنسان، سواء في ذلك الجاهل والعالم.
أما احتياج الجاهل إلى التقليد فواضح، وأما العالم فلأن دائرة تخصص كل عالم
ومتخصص لا تشمل إلا جزء يسيرا من دائرة حاجات حياته، فعالم الطب مثلا
لابد أن يقلد المهندس والمعمار في بناء بيته، ويقلد خبير السيارات في تصليح
سيارته، وعندما يركب الطائرة فهو يقلد الطيار، وإذا ركب الباخرة فهو يقلد
الملاح، بل مع تشعب علم الطب، فإن متخصص العضو أو القسم من أعضاء
الإنسان، لابد له أن يقلد طبيبا آخر في غير مجال تخصصه.
والنتيجة أن حياة أي إنسان لا تتم إلا بالتقليد.
وعلى هذا، فالإنسان الذي يؤمن بدين، ويعلم أنه عين له تكاليف وشرع له
واجبات ومحرمات، فهو بحكم عقله وفطرته ملزم أن يختار لمعرفتها أحد طرق
ثلاثة: إما أن يحصل له العلم بها، أو يقلد مرجعا، أو يعمل بالاحتياط.
وعندما لا يكون عالما ولا عاملا بالاحتياط، فطريقه منحصر في تقليد
مرجع متخصص فيها، وفي صورة اختلاف آراء المراجع المتخصصين

551
وفتاواهم، يتعين عليه أن يقلد أعلمهم، كما لو اختلف طبيبان في تشخيص
المرض والعلاج، فيجب عليه بحكم عقله الرجوع إلى أعلمهما.
وفي الختام، إن الإسلام دين علم، وكل عمل فيه لابد أن ينتهي إلى العلم ولو
بواسطة، فتقليد المرجع يكون عملا بعلم، لأنه مستند إلى رأي مرجع متخصص
في أحكام الدين، وهو ما يقضي به العلم والفطرة والعقل السليم {ولا تقف ما ليس
لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} (1).



(1) سورة الإسراء: 36.
552
/ 1