بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: نفحات الأزهار المؤلف: السيد علي الميلاني الجزء: 3 الوفاة: معاصر المجموعة: من مصادر العقائد عند الشيعة الإمامية تحقيق: الطبعة: الأولى سنة الطبع: 1414 المطبعة: مهر الناشر: المؤلف ردمك: ملاحظات: نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار للعلم الحجة آية الله السيد حامد حسين اللكهنوي نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار للعلم الحجة آية الله السيد حامد حسين اللكهنوي حديث الثقلين - 3 تأليف السيد علي الحسيني الميلاني الجزء الثالث
1 جميع الحقوق محفوظة الكتاب: نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج 3 المؤلف: السيد علي الحسيني الميلاني نشر: المؤلف الطبعة: الأولى - 1414 ه المطبعة: مهر الكمية: 1000 نسخة
2 بسم الله الرحمن الرحيم
3 دحض المعارضة بحديث: اهتدوا بهدى عمار
5 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.
7 قوله: " وقوله واهتدوا بهدى عمار ". أقول: وهذه المعارضة ساقطة الوجوه: 1 - احتجاج (الدهلوي) بهذا الحديث ينافي ما التزم به إن الاحتجاج بهذا الحديث يتنافى مع التزامه بعدم النقل إلا من كتبنا، على أنه لا طريق صحيح له عندهم أيضا، ولو سلمنا صحته فإنه ليس في مرتبة حديث الثقلين الثابت تواتره، بالإضافة إلى أنه ليس مثله في الظهور والدلالة. 2 - إن عمارا من شيعة علي عليه السلام إن عمارا رضي الله تعالى عنه من كبار المتمسكين بالثقلين وأتباع مولانا أمير المؤمنين عليه السلام. فلو كان رسول الله صلى الله عليه وآله قد أمر بالاهتداء بهدى عمار فليس إلا من جهة كونه آخذا بالكتاب العزيز ومعتصما بالأئمة الطاهرين،
9 واتخاذه ذلك شعارا له ودثارا، فالمهتدي بهداه متبع للثقلين، والمتبع لخطاه متمسك بالحبلين. ومما يدل على هذا بوضوح: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله عمارا باتباع أمير المؤمنين عليه السلام واقتفاء أثره، ولقد امتثل رضي الله تعالى عنه هذا الأمر فاختص بأمير المؤمنين ولازمه ولم يفارقه حتى استشهد. والشواهد التاريخية على هذا الأمر كثيرة جدا، فقد رووا: " عن علقمة بن قيس والأسود بن يزيد، قالا: أتينا أبا أيوب الأنصاري، فقلنا: إن الله تبارك وتعالى أكرمك بمحمد صلى الله عليه وسلم، إذ أوحى إلى راحلته فبركت على بابك، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضيفا لك، فضيلة فضلك الله عز وجل بها، ثم خرجت تقاتل مع علي بن أبي طالب!! قال: مرحبا بكما وأهلا، إنني أقسم لكما بالله، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت الذي أنتما فيه وما في البيت غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي جالس عن يمينه وأنا قائم بين يديه إذ حرك الباب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أنس انظر من في الباب، فخرج ونظر ورجع، فقال: هذا عمار بن ياسر، قال أبو أيوب: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يا أنس افتح لعمار الطيب المطيب، ففتح أنس الباب، فدخل عمار فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام ورحب به وقال: يا عمار إنه سيكون في أمتي بعدي هنات واختلاف حتى يختلف السيف بينهم حتى يقتل بعضهم بعضا ويتبرء بعضهم من بعض، فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الذي عن يميني - يعني عليا - وإن سلك كلهم واديا وسلك علي واديا فاسلك وادي علي وخل الناس طرا. يا عمار، إن عليا لا يزيلك عن هدى، يا عمار، إن طاعة علي من طاعتي. وطاعتي من طاعة الله عز وجل ". أنظر: (الشريعة للآجري) و (فردوس الأخبار) و (فرائد السمطين - 1 / 178) و (المودة في القربى) و (مناقب الخوارزمي 57، 124) و (ينابيع
10 المودة 128، 250) و (مفتاح النجا - مخطوط) و (كنز العمال 12 / 212). وأخرج الحافظ الخطيب البغدادي عنهما " قالا: أتينا أبا أيوب الأنصاري عند منصرفه من صفين، فقلنا له: يا أبا أيوب إن الله أكرمك بنزول محمد صلى الله عليه وسلم [في بيتك] وبمجئ ناقته تفضلا من الله [تعالى] وإكراما لك حتى أناخت ببابك دون الناس [جميعا] ثم جئت بسيفك على عاتقك تضرب [به] أهل لا إله إلا الله؟ فقال: يا هذا إن الرائد لا يكذب أهله، إن رسول الله صلى الله عليه وآله أمرنا بقتال ثلاثة مع علي [رضي الله عنه] بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، فأما الناكثون فقد قاتلناهم [قابلناهم] وهم أهل الجمل وطلحة والزبير، وأما القاسطون فهذا منصرفنا عنهم [من عندهم] - يعني معاوية وعمرا [وعمرو بن العاص] - وأما المارقون منهم [فهم] أهل الطرفاوات وأهل السقيفات [السعيفات] وأهل النخيلات وأهل النهروان [النهروانات] والله ما أدري أين هم ولكن لا بد من قتالهم إن شاء الله [تعالى]. [ثم] قال: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: يا عمار تقتلك الفئة الباغية وأنت إذ ذاك مع الحق والحق معك، يا عمار [بن ياسر] إن رأيت عليا قد سلك واديا وسلك الناس [كلهم] واديا [غيره] فاسلك مع علي فإنه لن يدليك في ردى ولن يخرجك من هدى، يا عمار من تقلد سيفا [و] أعان به عليا [رضي الله عنه] على عدوه قلده الله يوم القيامة وشاحين من در ومن تقلد سيفا أعان به عدو علي [رضي الله عنه] قلده [الله] يوم القيامة وشاحين من نار. قلنا: يا هذا حسبك رحمك الله، حسبك رحمك الله " (1). وروى المتقي الهندي في فضائل عمار: " عن حذيفة، أنه قيل له: إن عثمان قد قتل، فما تأمرنا؟
(1) تاريخ بغداد 13 / 186 - 187. 11 قال: إلزموا عمارا. قيل: إن عمارا لا يفارق عليا. قال: إن الحسد هو أهلك للجسد، وإنما ينفركم من عمار قربه من علي فوالله لعلي أفضل من عمار أبعد ما بين التراب والسحاب، وإن عمارا من الأخيار. كر " (1). ورواه القندوزي في (ينابيع المودة 128)، وعبد الحق الدهلوي في (رجال المشكاة) بترجمة عمار ثم قال: " ذكر هذه الأحاديث السيوطي في جمع الجوامع ولها طرق عديدة كثيرة ". 3 - تخلف عمار عن بيعة أبي بكر. والعجب من (الدهلوي) كيف يستند إلى هذا الحديث ويحتج به؟! فإن عمارا رضي الله تعالى عنه من المتخلفين عن بيعة أبي بكر والمنحازين إلى أمير المؤمنين عليه السلام، قال اليعقوبي: " وتخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار، ومالوا مع علي بن أبي طالب، منهم العباس بن عبد المطلب والفضل بن عباس والزبير بن العوام وخالد بن سعيد والمقداد بن عمرو وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر والبراء بن عازب وأبي بن كعب " (2). وانظر (المختصر في أخبار البشر 1 / 156) و (تتمة المختصر 1 / 187) وغيرهما. وقد أفصح عمار رضي الله عنه عن اعتقاده الراسخ وإيمانه الثابت في مواقع، منها: حين بويع عثمان بن عفان، فقد قال المسعودي: " وقد كان عمار حين بويع عثمان بلغه قول أبي سفيان صخر بن حرب في دار عثمان
(1) كنز العمال 16 / 141. 2. تاريخ اليعقوبي 2 / 114. 12 عقيب الوقت الذي بويع فيه عثمان ودخل داره ومعه بنو أمية، فقال أبو سفيان أفيكم أحد من غيركم؟ وقد كان عمي، قالوا: لا، قال: يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم، ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة. فانتهره عثمان وسائه ما قال، ونمى هذا القول إلى المهاجرين والأنصار وغير ذلك من الكلام. فقام عمار في المسجد فقال: يا معشر قريش أما إذا صدفتم هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم ههنا مرة وههنا مرة، فما أنا بآمن من أن ينزعه الله فيضعه في غيركم كما نزعتموه من أهله ووضعتموه في غير أهله " (1). 4 - إعراض عمر بن الخطاب عن هدى عمار لقد كذب عمر بن الخطاب عمارا وأعرض عن هداه وأغلظ له الكلام حتى قال له " نوليك ما توليت "، أي جعله مصداق قوله تعالى: * [ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا] *. وقد بحث هذا الموضوع في (تشييد المطاعن) بالتفصيل، وإليك رواية أخرجها: أحمد في (المسند 4 / 265). ومسلم في (الصحيح 1 / 110). وأبو داود في (السنن 1 / 135). والنسائي في (السنن 1 / 165 بشرح السيوطي). والطبري في (التفسير 5 / 113). والعيني في (عمدة القاري 4 / 19). وابن الأثير في (جامع الأصول 8 / 149، 151).
(1) مروج الذهب 2 / 342. 13 والشيباني في (تيسير الوصول 3 / 115). وغيرهم، واللفظ لأحمد قال: " ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا سفيان عن سلمة - يعني ابن كهيل - عن أبي ثابت عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، قال: كنا عند عمر فأتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إنا نمكث الشهر والشهرين لا نجد الماء، فقال عمر: أما أنا فلم أكن لأصلي حتى أجد الماء. فقال عمار: يا أمير المؤمنين تذكر حيث كنا بمكان كذا ونحن نرعى الإبل، فتعلم أنا أجنبنا؟ قال: نعم. قال: فإني تمرغت في التراب، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته فضحك وقال: كان الصعيد الطيب كافيك، وضرب بكفيه الأرض ثم نفخ فيها ثم مسح بهما وجهه وبعض ذراعيه. قال: اتق الله يا عمار! قال: يا أمير المؤمنين إن شئت لم أذكره ما عشت - أو ما حييت - قال: كلا والله، ولكن نوليك من ذلك ما توليت ". وفي هذا الحديث نقاط: الأولى: إن عمر بن الخطاب لم يأخذ بحديث عمار استكبارا، وهذا ينافي الاهتداء بهداه. الثانية: إنه طعن في حديثه، وقد اعترف بذلك الشيخ ولي الله (والد الدهلوي) عند الكلام على ضروب اختلاف الصحابة، حيث قال: " منها: أن صحابيا سمع حكما في قضية أو فتوى ولم يسمعه الآخر، فاجتهد برأيه في ذلك وهذا على وجوه... ثالثها: أن يبلغه الحديث ولكن لا على الوجه الذي يقع به غالب الظن، فلم يترك اجتهاده بل طعن في الحديث.. روى الشيخان أنه كان من مذهب عمر بن الخطاب أن التيمم لا يجزي الجنب الذي لا يجد ماءا، فروى عنده عمار: أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصابته جنابة ولم يجد ماءا، فتمعك في التراب، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله:
14 إنما كان يكفيك أن تفعل هكذا - وضرب بيديه الأرض، فمسح بهما وجهه ويديه -. فلم يقبل عمر، ولم ينهض عنده حجة، لقادح خفي رآه فيه، حتى استفاض الحديث في الطبقة الثانية من طرق كثيرة، واضمحل وهم القادح فأخذوا به " (1). ولنعم ما أفاد العلامة السيد محمد قلي أحله الله دار السلام في كتابه (تشييد المطاعن) حيث قال في هذا المقام: " إن عدم قبول عمر حديث عمار وعدم جعله حجة رد صريح للشريعة، لأن عمارا صحابي ثقة عادل جليل الشأن فلماذا لا تقبل روايته ولا تكون حجة؟ وإذا كان حديث عمار لا ينهض حجة، ولا يوجب إنكاره طعنا، فلماذا يكون إنكار أحاديث الصحابة موجبا للطعن؟ وذلك، لأن عمارا من أجلة الصحابة وأعاظمهم وأكابرهم، وله فضائل ومناقب عظيمة لم تكن لكثير من كبار الأصحاب، فمتى جاز إنكار حديثه جاز عدم قبول أحاديث غيره من الصحابة. فالعجب، أن أهل السنة يقبحون عدم قبول الأحاديث التي ينسبونها إلى عوام الصحابة وجهالهم - بل إلى فجارهم - بل يحسبونه قدحا في الدين، ولكن لا ينكرون على عمر رده حديث عمار، بل هو إمامهم الأعظم ومقتداهم الأفخم؟! قال العلامة فضل الله التوربشتي شارح المصابيح في كتاب المعتمد في المعتقد: لقد أراد الزنادقة أحداث دين في الشريعة، وجعلوا أساسه القدح في خلافة أبي بكر، وهذا يفضي إلى الطعن في جميع الصحابة، والطعن فيهم يقتضي الطعن في الدين، لأن القرآن والسنة والأحكام المستفادة منهما إنما وصلتنا عن طريق الصحابة، فإذا كان ما يقولون في الصحابة حقا لم يبق أي اعتماد على أخبارهم، فلا تثبت الشريعة، نعوذ بالله من الضلال.
(1) الانصاف في بيان الاختلاف: 16. 15 وليعلم الآن، أن المحافظة على هذه المسألة على مصداق أهل السنة والجماعة محافظة على أبواب الشريعة، والتهاون بها إضاعة لها جميعا، والله ناصر وولي دينه. وعلى ضوء هذا نقول: إن طعن عمر في رواية عمار - الذي بلغ من جلالة القدر وعظم الشأن ما لم يبلغه من الصحابة إلا قليل كما صرح بذلك في كتبهم - يقتضي الطعن في الدين... ودعوى: إن سبب عدم قبول عمر حديث عمار هو " وجود قادح خفي فيه " مردودة: بأن هذا الاحتمال في هكذا حديث صحيح رواه صحابي ثقة عن رسول الله صلى الله عليه وآله (مع أن دين أهل السنة يبتني على أحاديث الأصحاب، وإن أصل أصولهم - أعني إمامة أبي بكر - إنما ثبتت بعناية الصحابة) يفتح بابا للملاحدة والكفار في ردهم آيات الكتاب والسنة النبوية والدين، بدعوى (وجود القادح الخفي "!! وبالجملة: فإن حسن ظن أهل السنة دعاهم إلى هذه التكلفات الباردة في سبيل إصلاح ما لا يصلح، وإلا فبديهي أنه لا وجه لإنكار ورد حديث عمار إلا العناد وعدم الاعتداد بأحكام رب العباد. والأعجب أن أهل السنة يقبلون الخبر الموضوع: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث) بل يحتجون به في مقابل أهل الحق - مع ما فيه وفي ناقله من وجوه القدح -، ولكن حديث عمار لا ينهض حجة عندهم، رغم كونه مقبولا بالاجماع، ورغم عجزهم عن بيان " القادح الخفي "!! وعلى ضوء كلام المخاطب نفسه - في المطعن الثاني عشر من مطاعن أبي بكر -: إن رواية أبي هريرة وأبي الدرداء وأمثالهما يفيد القطع كالآيات الكريمة نقول: إن خبر عمار - وهو أفضل منهما إجماعا - يفيد القطع كذلك، وهو كالآية الشريفة من القرآن العزيز، فعدم قبوله رد له قطعا. ولقد ثبت من كلام (شاه ولي الله): " حتى استفاض الحديث.. " إن دعوى " وجود القادح الخفي " فيه باطلة عاطلة، وإن أهل السنة رأوا ظن عمر
16 لا طائل تحته فأعرضوا عن مذهبه، ولله الحمد ". الثالثة: إنه لم يتحرج عمر بن الخطاب من تكذيب عمار، وقد اعترف بذلك جماعة أكابر العلماء، قال عبد العلي في مسألة إنكار المروي عنه روايته: " المانع للحجية استدل بما روى مسلم أن رجلا أتى عمر فقال: إني أجنبت فلم أجد ماءا، فقال: لا تصل. فقال عمار لعمر رضي الله عنه: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد الماء، فأما أنت فلم تصل وأما أنا فتمعكت أي تقلبت في الأرض بحيث أصاب التراب جميع البدن فصليت، فقال النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم: إنما يكفيك أن تسمح بيديك الأرض ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك، وقد وقع في سنن أبي داود إنما يكفيك ضربتان، فلم يذكر أمير المؤمنين عمر، فما رجع عمر رضي الله عنه عن مذهبه، فإنه لا يرى التيمم للجنب، وفي رواية مسلم، فقال عمر: اتق الله يا عمار. وأنت لا يذهب عليك أن أمير المؤمنين عمر أنكر إنكار التكذيب لا إنكار السكوت، فليس هذا من الباب في شئ " (1). ومن الواضح: إن تكذيب آحاد المؤمنين الصادقين معصية يذم العقلاء فاعلها، فكيف بتكذيب هذا الصحابي؟! ". الرابعة: لقد خاطب عمر عمارا بقوله: " اتق الله يا عمار ". وهذا الكلام لا يقال إلا لمن ارتكب بدعة محرمة. نص على ذلك العيني في (شرح كنز الدقائق 1 / 233) والزيلعي في (شرح كنز الدقائق 3 / 60 - 61) في الجواب عن حديث فاطمة بنت قيس في وجوب النفقة والسكنى للمطلقة البائن، قال العيني: " وحديث فاطمة لا يجوز الاحتجاج به لوجوه: أحدها إن كبار الصحابة أنكروا عليها كعمر - على ما تقدم - وابن مسعود وزيد بن
(1) فواتح الرحموت في شرح مسلم الثبوت 2 / 125. 17 ثابت وأسامة بن زيد وعائشة رضي الله عنهم، حتى قالت لفاطمة - فيما رواه البخاري - ألا تتقي الله؟! وروي أنها قالت لها: لا خير لك فيه. ومثل هذا الكلام لا يقال إلا لمن ارتكب بدعة محرمة ". فما ظنك بعمر القائل هذا الكلام لعمار؟ وهل هو مهتد بهداه؟. الخامسة: لقد قال لعمار: " نوليك ما توليت " ولا ريب أنه قد آذاه بهذه الكلمة الغليظة الشديدة، فقد جعله - والعياذ بالله - مصداقا لقوله تعالى: * [ومن يشاقق...] *، فهل هو مهتد بهدى عمار كما يقول الحديث؟! * ومما يدل على أن عمر لم يكن مهتديا بهدى عمار رضي الله عنه بل كان يعاديه: عزله إياه عن ولاية الكوفة من دون تقصير منه بعد استعماله من دون طلب منه، والأفظع قوله له بعد عزله - مستهزءا به - " أساءك عزلنا إياك " فأجابه قائلا: " والله لقد ساءتني الولاية وساءني العزل ". قال ابن سعد: " أخبرنا عفان بن مسلم، قال نا خالد بن عبد الله، قال نا داود عن عامر، قال قال عمر لعمار: أساءك عزلنا إياك؟ قال لئن قلت ذلك [ذاك] لقد ساءني حين استعملتني وساءني حين عزلتني " (1). وقال ابن الأثير: " ولما عزله عمر قال له: أساءك العزل؟ قال: والله لقد ساءتني الولاية وساءني العزل " (2). 5 - اعتداء عثمان على عمار لقد آذى عثمان بن عفان عمارا واعتدى عليه وظلمه قولا وفعلا مرة بعد أخرى، وذلك كله معروف، والشواهد عليه كثيرة جدا، وإليك بعضها: قال ابن قتيبة: " ما أنكر الناس على عثمان رحمه الله. قال ذكروا أنه
(1) الطبقات الكبرى 3 / 256. (2) أسد الغابة 4 / 46. 18 اجتمع ناس من أصحاب النبي عليه السلام، فكتبوا كتابا ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان من سنة رسول الله وسنة صاحبيه... ثم تعاهد القوم، ليدفعن الكتاب في يد عثمان، وكان ممن حضر الكتاب عمار بن ياسر والمقداد بن الأسود وكانوا عشرة، فلما خرجوا بالكتاب ليدفعوه إلى عثمان - والكتاب في يد عمار - جعلوا يتسللون عن عمار حتى بقي وحده، فمضى حتى جاء دار عثمان فاستأذن عليه فأذن له في يوم شات، فدخل عليه وعنده مروان بن الحكم وأهله من بني أمية، فدفع إليه الكتاب فقرأه فقال له: أنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: نعم، قال: ومن كان معك؟ قال: كان معي نفر تفرقوا فرقا منك قال: ومن هم؟ قال: لا أخبرك بهم، قال: فلم اجترأت علي من بينهم؟ فقال مروان: يا أمير المؤمنين، إن هذا العبد الأسود - يعني عمارا - قد جرأ عليك الناس وإنك إن قتلته نكلت به من وراءه. قال عثمان: اضربوه، فضربوه وضربه عثمان معهم حتى فتقوا بطنه فغشي عليه، فجروه حتى طرحوه على باب الدار فأمرت به أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فأدخل منزلها، وغضب فيه بنو المغيرة وكان حليفهم، فلما خرج عثمان لصلاة الظهر عرض له هشام بن الوليد بن المغيرة فقال: أما والله لئن مات عمار بن ضربه هذا لأقتلن به رجلا عظيما من بني أمية، فقال عثمان: لست هناك " (1). وقال ابن عبد ربه: " ومن حديث الأعمش - يرويه أبو بكر بن أبي شيبة - قال: كتب أصحاب عثمان عيبه وما ينقم الناس عليه في صحيفة، فقالوا: من يذهب بها إليه؟ فقال عمار: أنا، فذهب بها إليه، فلما قرأها قال أرغم الله انفك قال: وبأنف أبي بكر وعمر، قال: فقام إليه فوطئه حتى غشي عليه. ثم ندم عثمان وبعث إليه طلحة والزبير يقولان: اختر إحدى ثلاث إما
(1) الإمامة والسياسة 1 / 32. 19 أن تعفو وإما أن تأخذ الأرش وإما أن تقتص، فقال والله لا قبلت واحدة منها حتى ألقى الله. قال أبو بكر: فذكرت هذا الحديث للحسن بن صالح فقال: ما كان على عثمان أكثر مما صنع " (1). وقال المسعودي: " وفي سنة خمس وثلاثين كثر الطعن على عثمان رضي الله عنه وظهر عليه النكير لأشياء ذكروها من فعله، منها: ما كان بينه وبين عبد الله بن مسعود وانحراف هذيل عن عثمان من أجله، ومن ذلك ما نال عمار بن ياسر من الفتق والضرب وانحراف بني مخزوم عن عثمان من أجله.. " (2). وقال ابن عبد البر في (الاستيعاب 3 / 136): " وللحلف والولاء اللذين بين بني مخزوم وبين عمار وأبيه ياسر كان اجتماع بني مخزوم إلى عثمان حين نال من عمار غلمان عثمان ما نالوا من الضرب حتى انفتق له فتق في بطنه ورغموا وكسروا ضلعا من أضلاعه، فاجتمعت بنو مخزوم وقالوا: والله لئن مات لا قتلنا به أحدا غير عثمان " (3). وقال اليعقوبي: " فأقام ابن مسعود مغاضبا لعثمان حتى توفي، وصلى عليه عمار بن ياسر وكان غائبا، فستر أمره، فلما انصرف رأى القبر، فقال قبر من هذا؟ فقيل: قبر عبد الله بن مسعود، قال: فكيف دفن قبل أن أعلم؟ فقالوا: ولي أمره عمار بن ياسر وذكر أنه أوصى أن لا يخبر به، ولم يلبث إلا يسيرا حتى مات المقداد فصلى عليه عمار، وكان أوصى إليه ولم يؤذن عثمان به، فاشتد غضب عثمان على عمار وقال: ويلي على ابن السوداء، أما لقد كنت به عليما " (4). وروى الطبري وابن الأثير في قصة مسير الحسن عليه السلام وعمار
(1) العقد الفريد 2 / 192. (2) مروج الذهب 2 / 338. (3) الاستيعاب 3 / 136. (4) تاريخ اليعقوبي 2 / 160. 20 رضي الله عنه إلى الكوفة - واللفظ للأول: " فأقبلا حتى دخلا المسجد، فكان أول من أتاهما مسروق بن الأجدع، فسلم عليهما وأقبل على عمار فقال: يا أبا اليقظان على ما قتلتم عثمان رضي الله عنه؟ قال: على شتم أعراضنا وضرب أبشارنا، فقال: والله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لكان خيرا للصابرين " (1). وفي (النهاية) و (تاج العروس) و (لسان العرب) في مادة " صبر ": " وفي حديث عمار حين ضربه عثمان، فلما عوتب في ضربه إياه قال: هذي يدي لعمار فليصطبر. معناه: فليقتص ". رسول الله: من عادى عمارا عاداه الله إذا عرفت ذلك وأحطت خبرا بصنيع عثمان فلنورد طرفا من الأحاديث الواردة في ذم بغض عمار رضي الله عنه: قال ابن عبد البر " ومن حديث خالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أبغض عمارا أبغضه الله تعالى. قال خالد: فما زلت أحبه من يومئذ " (2). وقال الحافظ ابن حجر: عن خالد بن الوليد قال: كان بيني وبين عمار كلام فأغلظت له، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء خالد فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه فقال: من عادى عمارا عاداه الله ومن أبغض عمارا أبغضه الله " (3). وفي (أسد الغابة 4 / 45) عن أحمد بن جنبل و (المشكاة 5 / 641 هامش المرقاة) واللفظ للأول: " عن علقمة عن خالد بن الوليد قال: كان بيني وبين عمار كلام فأغلظت له في القول، فانطلق عمار يشكوني إلى النبي
(1) الطبري 3 / 497، الكامل 3 / 116. (2) الاستيعاب 3 / 1138. (3) الإصابة 2 / 506. 21 صلى الله عليه وسلم، فجاء خالد وهو يشكوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال فجعل يغلظ له ولا يزيده إلا غلظة والنبي ساكت لا يتكلم فبكى عمار فقال: يا رسول الله ألا تراه؟ فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه وقال: من عادى عمارا عاداه الله ومن أبغض عمارا أبغضه الله. قال خالد: فخرجت فما كان شئ أحب إلي من رضى عمار فلقيته فرضي ". وروى المتقي الهندي: " كف يا خالد عن عمار، فإنه من يبغض عمارا يبغضه الله ومن يلعن عمارا يلعنه الله. ابن عساكر عن ابن عباس. من يحقر عمارا يحقره الله، ومن يسب عمارا يسبه الله، ومن يبغض عمارا يبغضه الله. ع. وابن قانع. طب ض عن خالد بن الوليد. يا خالد: لا تسب عمارا، إنه من يعادي عمارا يعاديه الله، ومن يبغض عمارا يبغضه الله، ومن يسب عمارا يسبه الله ومن يسفه عمارا يسفهه الله، ومن يحقر عمارا يحقره الله. ظ وسمويه، طب. ك. عن خالد بن الوليد ". (1) وانظر أيضا (كنز العمال 16 / 142). وقال نور الدين الحلبي: " وفي الحديث: من عادى عمارا عاداه الله ومن أبغض عمارا أبغضه الله، عمار يزول مع الحق حيث يزول، [عمار] خلط الإيمان بلحمه ودمه، عمار ما عرض عليه أمران إلا اختار الأرشد منهما. وجاء: إن عمارا دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مرحبا بالطيب المطيب، إن عمار بن ياسر حشي ما بين أخمص قدميه إلى شحمة أذنه إيمانا، وفي رواية: إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه. وتخاصم عمار مع خالد بن الوليد في سرية كان فيها خالد أميرا، فلما جاء إليه صلى الله عليه وسلم استبا عنده، فقال خالد: يا رسول الله أيسرك أن
(1) كنز العمال 13 / 298، 16 / 142. 22 هذا العبد الأجدع يشتمني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا خالد لا تسب عمارا فإن من سب عمارا فقد سب الله ومن أبغض عمارا أبغضه الله ومن لعن عمارا لعنه الله، ثم إن عمارا قام مغضبا، فقام خالد فتبعه حتى أخذ بثوبه واعتذر إليه فرضي عنه " (1). 6 - مخالفة عبد الرحمن بن عوف لعمار لقد خالف عبد الرحمن بن عوف عمارا، ولم يهتد بهداه فضل وأضل... فقد روى الطبري (التاريخ 3 / 297) وابن الأثير (3 / 37) وابن عبد ربه (العقد الفريد 2 / 182) في قصة الشورى واللفظ للأول ما نصه: " فلما صلوا الصبح جمع الرهط وبعث إلى من حضره من المهاجرين وأهل السابقة والفضل من الأنصار وإلى أمراء الأجناد، فاجتمعوا حتى التج المسجد بأهله فقال: أيها الناس، إن الناس قد أحبوا أن يلحق أهل الأمصار بأمصارهم، وقد علموا من أميرهم، فقال سعيد بن زيد: إنا نراك لها أهلا فقال: أشيروا علي بغير هذا، فقال عمار: إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع عليا، فقال المقداد بن الأسود: صدق عمار، إن بايعت عليا قلنا سمعنا وأطعنا. قال ابن أبي سرح: إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان، فقال عبد الله ابن أبي ربيعة: صدقت إن بايعت عثمان قلنا سمعنا وأطعنا، فشتم عمار ابن أبي سرح وقال: متى كنت تنصح المسلمين، فتكلم بنو هاشم وبنو أمية فقال عمار: أيها الناس إن الله عز وجل أكرمنا بنبيه وأعزنا بدينه، فأنى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم؟! ". 7 - بغض سعد بن أبي وقاص لعمار إن هذا الحديث دليل على ضلال سعد بن أبي وقاص، لما ذكروا من
(1) السيرة الحلبية 2 / 265. 23 أنه كان مهاجرا لعمار بن ياسر، وقد روى ابن قتيبة وابن عبد ربه أنه: " قال له سعد: إن كنا لنعدك من أفاضل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حتى إذا لم يبق من عمرك إلا - ظئم الحمار أخرجت ربقة الاسلام من عنقك، ثم قال له: أيما أحب إليك مودة على دخل أو مصارمة جميلة؟ بل مصارمة جميلة، فقال: علي أن لا أكلمك أبدا " (1). 8 - ترك المغيرة نصيحة عمار إن هذا الحديث دليل ساطع على ضلال المغيرة بن شعبة، فقد روى ابن قتيبة ما هذا نصه: " ثم دخل المغيرة بن شعبة، فقال له علي: هل لك يا مغيرة في الله؟ قال: فأين هو يا أمير المؤمنين؟ قال: تأخذ سيفك فتدخل معنا في هذا الأمر فتدرك من سبقك وتسبق من معك، فإني أرى أمورا لا بد للسيوف أن تشحذ لها وتقطف الرؤس بها. فقال المغيرة: فإني والله يا أمير المؤمنين ما رأيت قاتل عثمان مصيبا ولا قتله صوابا، وإنها لمظلمة تتلوها ظلمات فأريد يا أمير المؤمنين إن أذنت لي أن أضع سيفي وأنا في بيتي حتى تنجلي الظلمة ويطلع قمرها فنسري مبصرين نقفوا آثار المهتدين ونتقي سبيل الجائرين، قال علي: قد أذنت لك فكن من أمرك على ما بدا لك. فقام عمار فقال: معاذ الله يا مغيرة تقعد أعمى بعد أن كنت بصيرا يغلبك من غلبته ويسبقك من سبقته، انظر ما ترى وتفعل، وأما أنا فلا أكون إلا في الرعيل الأول. فقال له المغيرة: يا أبا اليقظان إياك أن تكون كقاطع السلسلة فر من الضحل فوقع في الرمضاء. فقال علي لعمار: دعه فإنه لن يأخذ من الآخرة إلا ما خالطته الدنيا،
(1) المعارف 550، العقد الفريد 2 / 188. 24 وأما والله يا مغيرة إنها للوثبة المودية تودي من قام فيها إلى الجنة ولها أختان بعدها فإذا غشيتاك فنم في بيتك. فقال المغيرة: أنت والله يا أمير المؤمنين أعلم مني ولئن لم أقاتل معك لا أعين عليك، فإن يكن ما فعلت صوابا فإياه أردت، وإن أخطأ فمنه نجوت، ولي ذنوب كثيرة لا قبل لي بها إلا الاستغفار منها " (1). 9 - تخلف كبار الأصحاب عما دعاهم عمار إليه إن هذا الحديث دليل واضح على ضلالة عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة، فإنهم لم يتبعوا عمارا ولم يهتدوا بهداه، فقد ذكر ابن قتيبة: " اعتزل عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة عن مشاهد علي وحروبه، قال: وذكروا أن عمار بن ياسر قام إلى علي فقال يا أمير المؤمنين ائذن لي آتي عبد الله بن عمر فأكلمه لعله يخف معنا في هذا الأمر، فقال علي: نعم، فأتاه فقال له: يا أبا عبد الرحمن إنه قد بايع عليا المهاجرون والأنصار ومن إن فضلناه عليك لم يسخطك وإن فضلناك عليه لم يرضك، وقد أنكرت السيف في أهل الصلاة، وقد علمت أن على القاتل القتل وعلى المحصن الرجم، وهذا يقتل بالسيف وهذا يقتل بالحجارة، وإن عليا لم يقتل أحدا من أهل الصلاة فيلزم حكم القاتل. فقال ابن عمر: يا أبا اليقظان إن أبي جمع أهل الشورى الذين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فكان أحقهم بها علي، غير أنه جاء معه أمر فيه السيف ولا اعرفه، ولكن الله ما أحب أن لي الدنيا وما عليها وإني أظهرت أو أضمرت عداوة علي. قال: فانصرف عنه، فأخبر عليا بقوله، فقال لو أتيت محمد بن مسلمة الأنصاري، فأتاه عمار فقال له محمد: مرحبا بك يا أبا اليقظان على فرقة ما
(1) الإمامة والسياسة 1 / 50. 25 بيني وبينك، والله لولا ما في يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لبايعت عليا ولو إن الناس كلهم عليه لكنت معه، ولكنه يا عمار كان من النبي أمر ذهب فيه الرأي. فقال عمار: كيف؟ قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا رأيت المسلمين يقتتلون أو إذا رأيت أهل الصلاة، فقال عمار: فإن كان قال لك: إذا رأيت المسلمين فوالله لا ترى مسلمين يقتتلان بسيفهما أبدا، وإن كان قال لك أهل الصلاة فمن سمع هذا معك؟ إنما أنت أحد الشاهدين، فتريد من رسول الله قولا بعد قوله يوم حجة الوداع: دماؤكم وأموالكم عليكم حرام إلا بحدث فتقول يا محمد لا تقاتل المحدثين، قال: حسبك يا أبا اليقظان. قال: ثم أتى سعد بن أبي وقاص فكلمه فأظهر سعد الكلام القبيح، فانصرف عمار إلى علي. فقال له علي: دع هؤلاء الرهط، أما ابن عمر فضعيف، وأما سعد فحسود وذنبي إلى محمد بن مسلمة إني قتلت قاتل أخيه يوم خيبر مرحب اليهودي " (1). 10 - مخالفة أبي موسى الأشعري لعمار ويقتضي هذا الحديث أن يعتقد أهل السنة بضلالة أبي موسى الأشعري، فإنه عوضا عن الاهتداء بهدى عمار خالفه وعانده، فقد روى الطبري في (التاريخ 3 / 497) وابن الأثير في (الكامل 3 / 116) و ابن خلدون في (التاريخ 2 / 159) في قصة مجئ الحسن وعمار سلام الله عليهما إلى الكوفة وقد كان أبو موسى الوالي عليها (واللفظ للأول): " فخرج أبو موسى فلقي الحسن فضمه إليه، وأقبل على عمار فقال: يا أبا اليقظان أعدوت فيمن عدا على أمير المؤمنين فأحللت نفسك مع الفجار؟
(1) الإمامة والسياسة 1 / 53. 26 فقال لم أفعل ولم يسؤني ". وروى البخاري في (الصحيح 9 / 70) والحاكم في (المستدرك 3 / 117) وابن الأثير في (جامع الأصول 10 / 431) وسبط ابن الجوزي في (تذكرة الخواص 69) وجماعة عن أبي وائل أنه قال - واللفظ للبخاري -. " دخل أبو موسى وأبو مسعود على عمار حيث بعثه علي إلى أهل الكوفة يستنفرهم فقالا: ما رأيناك أتيت أمرا أكره عندنا من إسراعك في هذا الأمر منذ أسلمت، فقال عمار: ما رأيت منكما منذ أسلمتما أمرا أكره عندي من إبطائكما عن هذا الأمر، وكساهما حلة حلة، ثم راحوا إلى المسجد ". 11 - مخالفة أبي مسعود الأنصاري لعمار إن هذا الحديث يبين ضلالة أبي مسعود الأنصاري، فإنه اقتفى أثر أبي موسى في التخلف عن هدى عمار وإنكاره الاستنفار لنصرة أمير المؤمنين عليه السلام، كما علم مما تقدم في الوجه السابق. وأخرج البخاري بعد الحديث المتقدم: " حدثنا عيدان عن أبي حمزة عن الأعمش عن شقيق بن سلمة، قال: كنت جالسا مع أبي مسعود وأبي موسى وعمار، فقال أبو مسعود: ما من أصحابك أحد إلا لو شئت لقلت فيه غيرك وما رأيت منك شيئا منذ صحبت النبي صلى الله عليه وسلم أعيب عندي من استسراعك في هذا الأمر. قال عمار: يا أبا مسعود وما رأيت منك ومن صاحبك هذا شيئا منذ صحبتما النبي صلى الله عليه وسلم أعيب عندي من ابطائكما في هذا الأمر. فقال أبو مسعود - كان موسرا - يا غلام هات حلتين، فأعطى إحداهما أبا موسى والأخرى عمارا، وقال: روحا فيهما إلى الجمعة " (1). والجدير بالذكر تستر اليافعي على الرجلين لفرط فظاعة معاملتهما مع
(1) صحيح البخاري 9 / 70. 27 عمار رضي الله عنه في تاريخه وقوله: " وعاتبه رجلان جليلان ممن توقف عن القتال لما التقى الفريقان في كلام معناه: ما رأينا منك قط شيئا نكرهه سوى إسراعك في هذا الأمر، يعني في القتال مع علي، أو نحو ذلك من المقال " (1). ومثل هذا عندهم كثير، ولكن " لن يصلح العطار ما أفسده الدهر ". 12 - خروج طلحة والزبير على علي وعمار معه ويتضح من هذا الحديث ضلالة طلحة والزبير، إذ لم يهتديا بهدى عمار يوم الجمل، على أن الزبير كان يعلم وجوده في جيش أمير المؤمنين عليه السلام. قال الطبري: " قال قرة بن الحارث: كنت مع الأحنف بن قيس وكان جون بن قتادة ابن عمي مع الزبير بن العوام، فحدثني جون بن قتادة قال: كنت مع الزبير فجاء فارس يسير - وكانوا يسلمون على الزبير بالإمرة - فقال: السلام عليك أيها الأمير. قال: وعليك السلام، قال: هؤلاء القوم قد أتوا مكان كذا وكذا ولم أر قوما أرث سلاحا ولا أقل عددا ولا أرعب قلوبا من قوم أتوك، ثم انصرف عنه. قال ثم جاء فارس فقال: السلام عليك أيها الأمير، فقال: وعليك السلام، قال: جاء القوم حتى أتوا مكان كذا وكذا فسمعوا بما جمع الله عز وجل من العدد والعقد والحد، فقذف في قلوبهم الرعب فولوا مدبرين. قال الزبير: أيها عنك الآن، فوالله لو لم يجد ابن أبي طالب إلا العرفج لدب إلينا فيه، ثم انصرف. ثم جاء فارس وقد كادت الخيول أن تخرج من الرهج فقال: السلام عليك أيها الأمير. قال: وعليك السلام، قال: القوم قد أتوك، فلقيت عمارا فقلت له فقال لي: فقال الزبير: إنه ليس فيهم، فقال: بلي والله إنه لفيهم، قال: والله ما جعله الله فيهم، فقال: والله لقد جعله الله فيهم، قال: والله ما
(1) مرآة الجنان - حوادث 87. 28 جعله الله فيهم، فلما رأى الرجل يحالفه قال لبعض أهله: إركب. فانظر أحق ما يقول؟ فركب معه فانطلقا وأنا انظر إليهما حتى وقفا في جانب الخيل قليلا ثم رجعا إلينا، فقال الزبير لصاحبه ما عندك؟ قال: صدق الرجل. قال الزبير: يا جدع أنفاه، أو يا قطع ظهراه. قال: محمد بن عمارة قال عبيد الله قال فضيل: لا أدري أيهما قال. قال: ثم أخذه أفكل فجعل السلاح ينتقض. قال: فقال جون: ثكلتني أمي، هذا الذي كنت أريد أن أموت معه أو أعيش معه، والذي نفسي بيده ما أخذ هذا ما أرى إلا لشئ قد سمعه أو رآه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما تشاغل الناس انصرف فجلس على دابته، ثم ذهب، فانصرف جون فجلس على دابته فلحق بالأحنف، ثم جاء فارسان حتى أتيا الأحنف وأصحابه فنزلا فأتيا فأكبا عليه فناجياه ساعة ثم انصرفا، ثم جاء عمرو بن جرموز إلى الأحنف فقال: أدركته في وادي السباع فقتلته، فكان يقول: والذي نفسي بيده إن صاحب الزبير الأحنف " (1). 13 - كلمات عائشة القارصة ويدل الحديث على ضلال عائشة بنت أبي بكر، قال الطبري: " كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن محمد وطلحة قالا: أمر علي نفرا بحمل الهودج من بين القتلى، وقد كان القعقاع وزفر بن الحارث أنزلاه عن ظهر البعير، فوضعناه إلى جنب البعير فأقبل محمد بن أبي بكر إليه ومعه نفر فأدخل يده فيه، فقالت: من هذا؟ قال: أخوك البر، قالت: عقوق، قال عمار بن ياسر: كيف رأيت ضرب بنيك اليوم يا أمه؟ قالت: من أنت؟ قال: أنا ابنك البار عمار، قالت: لست لك بأم. قال: بلي وإن كرهت، قالت: فخرتم أن ظفرتم وأتيتم مثل ما نقمتم، هيهات والله لن يظفر من كان هذا
(1) الطبري 3 / 520. 29 دأبه " (1). وانظر (مروج الذهب 2 / 362) وغيره من التواريخ. 14 - سرور معاوية بمقتل عمار إن هذا الحديث من أوضح الأدلة والبراهين على ضلالة معاوية بن أبي سفيان، رئيس الفئة الباغية.. فلقد اعرض عن هدى عمار ثم فرح بمقتله بصفين فلما ذكر بقول رسول الله صلى الله عليه وآله له " ويحك يا ابن سمية، تقتلك الفئة الباغية " قال: " إنما قتله الذين جاءوا به ". راجع للوقوف على ذلك: 1 - الطبقات 3 / 253، 259. 2 - المسند 2 / 164، 206 3 - تاريخ الطبري 4 / 2 - 3 و 4 / 28 - 29 4 - الكامل 3 / 148، 157، 158. 5 - الإمامة والسياسة 1 / 126 6 - المستدرك 3 / 378 7 - العقد الفريد 2 / 203، 204. 8 - الروض الأنف 4 / 264 - 265. 9 - تفسير ابن العربي 2 / 519 بتفسير قوله تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا. 10 - فتح الباري في شرح صحيح البخاري 13 / 26 11 - عمدة القاري في شرح صحيح البخاري 24 / 192 12 - شرح صحيح مسلم لأبي عبد الله السنوسي 13 - الرياض المستطابة لعماد الدين العامري - ترجمة عمار.
(1) الطبري 3 / 538. 30 14 - وفاء الوفاء 1 / 329 - 332 15 - المصنف لابن أبي شيبة 5 / 81. 16 - كنز العمال 16 / 143 17 - المرقاة في شرح المشكاة 5 / 447 18 - الخميس في تاريخ النفس النفيس 2 / 277 19 - نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض 3 / 166 20 - الخصائص للنسائي 133 - 135 وغيرها من مصادر التاريخ والأخبار. رسول الله: عمار تقتله الفئة الباغية وإليك نصوص بعض عبارات أعلام القوم في هذا الباب: قال محمد بن سعد البصري المعروف بكاتب الواقدي بترجمة عمار عليه الرحمة: " أخبرنا أبو معاوية الضرير، عن الأعمش عن عبد الرحمن بن زياد، عن عبد الله بن الحارث، قال: إني لأسير مع معاوية في منصرفه عن صفين بينه وبين عمرو بن العاص، قال: فقال عبد الله بن عمرو: يا أبة! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: ويحك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية. قال: فقال عمرو لمعاوية: ألا تسمع ما يقول هذا؟ قال: فقال معاوية: ما نزال تأتينا بهنة تدحض بها في بولك، أنحن قتلناه؟ إنما قتله الذين جاءوا به. قال: أخبرنا يزيد بن هارون عن العوام بن حوشب، قال: حدثني أسود بن مسعود، عن حنظلة بن خويلد العنزي قال: بينا نحن عند معاوية إذ جاء رجلان يختصمان في رأس عمار، يقول كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال عبد الله بن عمرو: ليطب به أحدكما نفسا لصاحبه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية. قال: فقال معاوية: ألا تغني عنا مجنونك يا عمرو فما بالك معنا؟ قال: إن أبي شكاني إلى رسول الله
31 صلى الله عليه وسلم فقال: أطع أباك حيا ولا تعصه، فأنا معكم ولست أقاتل ". وقال أيضا " أخبرنا محمد بن عمر، حدثني عبد الحارث بن الفضيل، عن أبيه، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، فال: شهد خزيمة بن ثابت الجمل وهو لا يسل سيفا وشهد صفين وقال: أنا لا أسل أبدا حتى يقتل عمار فأنظر من يقتله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية. قال فلما قتل عمار بن ياسر قال خزيمة: قد بانت لي الضلالة واقترب، فقاتل حتى قتل، وكان الذي قتل عمار بن ياسر أبو غادية المزني طعنه برمح فسقط وكان يومئذ يقاتل في محضة فقتل يومئذ وهو ابن أربع وتسعين سنة، فلما وقع أكب عليه رجل آخر فاحتز رأسه فأقبلا يختصمان فيه كلاهما يقول: أنا قتلته. فقال عمرو بن العاص والله إن يختصمان إلا في النار، فسمعها منه معاوية فلما انصرف الرجلان قال معاوية لعمرو بن العاص: ما رأيت مثل ما صنعت قوم بذلوا أنفسهم دوننا تقول لهما: إنكما تختصمان في النار فقال عمرو: هو والله ذاك والله إنك لتعلمه، ولوددت أني مت قبل هذه بعشرين سنة ". وقال أبو بكر ابن أبي شيبة العبسي في مصنفه: " حدثنا يزيد بن هارون، قال أخبرنا العوام بن حوشب، قال: حدثني أسود بن معسود عن حنظلة بن خويلد العنزي، قال: إني لجالس عند معاوية إذ أتاه رجلان يختصمان في رأس عمار، كل واحد منهما يقول: أنا قتلته قال عبد الله بن عمرو: ليطب به أحدكما نفسا لصاحبه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية فقال: معاوية: ألا تغني عن مجنونك يا عمرو فما بالك معنا؟ قال: إني معكم ولست أقاتل، إن أبي شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم أطع أباك ما دام حيا ولا تعصه، فأنا معكم ولست أقاتل ".
32 وقال أحمد بن حنبل الشيباني في مسنده في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص " حدثنا أبو معاوية، ثنا: الأعمش، عن عبد الرحمن بن زياد، عن عبد الله بن الحارث، قال: إني لأسير مع معاوية في منصرفه من صفين بينه وبين عمرو بن العاص، قال فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: يا أبت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: ويحك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية. قال: فقال عمرو لمعاوية: ألا تسمع ما يقول هذا؟ فقال معاوية: لا تزال تأتينا بهنة أنحن قتلناه؟ إنما قتله الذين جاءوا به. حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن الأعمش، عن عبد الرحمن بن أبي زياد مثله أو نحوه ". وقال أيضا: " حدثنا يزيد. أنا: العوام، حدثني أسود بن مسعود، عن حنظلة ابن خويلد العنبري، قال: بينما أنا عند معاوية إذ جاءه رجلان يختصمان في رأس عمار يقول كل منهما: أنا قتلته فقال عبد الله بن عمرو: ليطب به أحدكما نفسا لصاحبه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية. قال معاوية: فما بالك معنا؟ قال: إن أبي شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أطع أباك ما دام حيا ولا تعصه فأنا معكم ولست أقاتل ". وقال: " حدثنا الفضل بن دكين، ثنا: سفيان، عن الأعمش، عن عبد الرحمن ابن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، قال: إني لأساير عبد الله ابن عمرو بن العاص ومعاوية فقال عبد الله بن عمرو لعمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تقتله الفئة الباغية، يعني عمارا فقال عمرو لمعاوية: اسمع ما يقول هذا! فحدثه فقال: أنحن قتلناه؟ إنما قتله من جاء به. حدثنا أبو معاوية، ثنا: الأعمش، عن عبد الرحمن بن أبي زياد، فذكر نحوه ". وقال: " حدثنا أسود بن عامر: ثنا يزيد بن هارون، أنا: العوام: حدثني أسود بن مسعود، عن حنظلة بن خويلد العنبري، قال: بينما أنا عند
33 معاوية إذ جاءه رجلان يختصمان في رأس عمار يقول كل واحد منهما: أنا قتلته. فقال عبد الله: ليطب به أحدكما نفسا لصاحبه فإني سمعت، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية. فقال معاوية ألا تغني عنا مجنونك يا عمرو فما بالك معنا؟! قال: إن أبي شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أطع أباك ما دام حيا ولا تعصه. فأنا معكم ولست أقاتل ". وقال أحمد في مسند عمرو بن العاص: " ثنا عبد الرزاق، قال ثنا: معمر، عن طاووس، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، قال لما قتل عمار بن ياسر دخل عمرو بن حزم على عمرو بن العاص فقال قتل عمار وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقتله الفئة الباغية. فقام عمرو بن العاص فزعا يرجع حتى دخل على معاوية، فقال له معاوية: ما شأنك؟ قال: قتل عمار! فقال معاوية: قد قتل عمار فماذا؟ قال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية فقال له معاوية: دحضت في بولك؟ أو نحن قتلناه؟! إنما قتله علي وأصحابه جاءوا به حتى ألقوه بين رماحنا، أو قال: بين سيوفنا ". وقال أبو عبد الرحمن النسائي في كتاب (الخصائص) في مقام سياق طرق حديث الفئة الباغية: " أنبأنا أحمد بن سليمان، قال: ثنا: يزيد، قال: أنبأنا العوام عن الأسود بن مسعود، عن حنظلة بن خويلد، قال: كنت عند معاوية فأتاه رجلان يختصمان في رأس عمار يقول كل واحد منهما: أنا قتلته! فقال عبد الله ابن عمرو: ليطب به نفسا أحدكما لصاحبه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتلك الفئة الباغية. قال [أبو عبد الرحمن]: خالف شعبة فقال: عن العوام، عن رجل، عن حنظلة بن سويد، أخبرنا محمد بن المثنى، [حدثنا محمد]، أخبرنا شعبة، عن العوام بن حوشب، عن رجل من بني شيبان، عن حنظلة بن سويد، قال: جئ برأس عمار فقال عبد الله بن عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
34 يقول: تقتلك الفئة الباغية. أخبرني محمد بن قدامة، قال: ثنا: جرير، عن الأعمش [عن عبد الرحمن] عن عبد الله بن عمرو، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يقتل عمارا الفئة الباغية [قال أبو عبد الرحمن]: خالفه أبو معاوية فرواه عن الأعمش عن عبد الرحمن بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، أخبرنا عبد الله بن محمد قال [حدثنا] أبو معاوية: حدثنا الأعمش، عن عبد الرحمن ابن أبي زياد وأخبرنا عمرو بن منصور الشيباني، أخبرنا [أبو نعيم، عن سفيان]، عن عن الأعمش، عن عبد الرحمن بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث،: قال: إني لأساير عبد الله بن عمرو بن العاص ومعوية فقال عبد الله ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: عمار تقتله الفئة الباغية. قال عمرو: يا معاوية اسمع ما يقول هذا! فجذبه فقال: نحن قتلناه؟! إنما قتله من جاء به، لا تزال داحضا في بولك ". وقال ابن قتيبة الدينوري " ثم حمل عمار وأصحابه فالتقى عليه رجلان فقتلاه وأقبلا برأسه إلى معاوية يتنازعان فيه كل يقول: أنا قتلته. فقال لهما عمرو بن العاص: والله إن تتنازعان إلا في النار، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتل عمارا الفئة الباغية. فقال معاوية قبحك الله من شيخ! فما تزال تتزلق في بولك! أو نحن قتلناه؟! إنما قتله الذين جاءوا به. ثم التفت إلى أهل الشام فقال: إنما نحن الفئة الباغية التي تبغي دم عثمان ". وقال الطبري في خبر رسل الإمام عليه السلام إلى معاوية " وتكلم يزيد ابن قيس، فقال: إنا لم نأتك إلا لنبلغك ما بعثنا به إليك ولنؤدي عنك ما سمعنا منك، ونحن على ذلك لن ندع أن ننصح لك وأن نذكر ما ظننا أن لنا عليك به حجة، وإنك راجع به إلى الألفة والجماعة، إن صاحبنا من قد عرفت وعرف المسلمون فضله، ولا أظنه يخفى عليك أن أهل الدين والفضل لن يعدلوا بعلي ولن يمثلوا بينك وبينه، فاتق الله يا معاوية ولا تخالف عليا فإنا والله ما رأينا رجلا قط أعمل بالتقوى ولا أزهد في الدنيا ولا أجمع
35 لخصال الخير كلها منه. فحمد الله معاوية وأثنى، ثم قال: أما بعد! فإنكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة، فأما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا هي، وأما الطاعة لصاحبكم فإنا لا نراها، إن صاحبكم قتل خليفتنا وفرق جماعتنا وآوى ثارنا وقتلتنا وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله فنحن لا نرد ذلك عليه، أرأيتم قتلة صاحبنا؟ ألستم تعلمون أنهم أصحاب صاحبكم فليدفعهم إلينا فلنقتلهم به. ثم نحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة. فقال له شبث: أيسرك يا معاوية أنك أمكنت من عمار تقتله؟ فقال معاوية: وما يمنعني من ذلك والله لو أمكنت من ابن سمية ما قتلته بعثمان رضي الله عنه ولكن كنت قاتله بناتل مولى عثمان! فقال له شبث: وآله الأرض وآله السماء ما عدلت معتدلا، لا والذي لا إله إلا هو لا تصل إلى عمار حتى تندر الهام عن كواهل الأقوام وتضيق الأرض الفضاء عليك برحبها! فقال له معاوية: إنه لو قد كان ذلك كان الأرض عليك أضيق ". وقال في خبر عن عبد الرحمن السلمي في مقتل عمار: " فلما كان الليل قلت لأدخلن إليهم حتى أعلم هل بلغ منهم قتل عمار ما بلغ منا؟ وكنا إذا توادعنا من القتال تحدثوا إلينا وتحدثنا إليهم فركبت فرسي وقد هدأت الزجل ثم دخلت فإذا أنا بأربعة يتسايرون: معاوية أبو الأعور السلمي وعمرو بن العاص وعبد الله بن عمرو وهو خير الأربعة، فأدخلت فرسي بينهم مخافة أن يفوتني ما يقول أحد الشقين فقال عبد الله لأبيه: يا أبة! قتلتم هذا الرجل في يومكم هذا؟ وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله ما قال؟ قال: وما قال؟ قال: ألم تكن معنا ونحن نبني المسجد والناس ينقلون حجرا حجرا ولبنة لبنة عمار ينقل حجرين حجرين ولبنتين لبنتين، فغشي عليه فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: ويحك يا بن سمية الناس ينقلون حجرا حجرا ولبنة لبنة وأنت تنقل حجرين حجرين ولبنتين لبنتين رغبة منك في الأجر، وأنت ويحك مع ذلك تقتلك الفئة الباغية! فدفع عمر وصدر فرسه ثم جذب معاوية إليه فقال: يا معاوية!
36 أما تسمع ما يقول عبد الله؟ قال: وما يقول؟ فأخبره الخبر، فقال معاوية: إنك شيخ أخرق ولا تزال تحدث بالحديث وأنت تدحض في بولك! ونحن قتلنا عمارا؟ إنما قتل عمارا من جاء به. فخرج الناس من فساطيطهم وأخبيتهم يقولون: إنما قتل عمارا من جاء به، فلا أدري من كان أعجب هو أو هم ". وقال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه القرطبي " مقتل عمار بن ياسر العتبي: قال لما التقى الناس بصفين نظر معاوية إلى هشام بن عتبة الذي يقال له المرقال لقول النبي صلى الله عليه وسلم: أرقل يا ميمون! وكان أعور والراية بيده وهو يقول: أعور يبغي نفسه محلا: قد عالج الحياة حتى ملا * لا بد أن يفل أو يفلا فقال معاوية لعمرو بن العاص: يا عمرو! هذا المرقال والله لئن زحف بالراية زحفا إنه ليوم أهل الشام الأطول ولكني أرى ابن السوداء إلى جنبه، يعني عمارا وفيه عجلة في الحرب وأرجو أن تقدمه إلى الهلكة، وجعل عمار يقول: يا عتبة تقدم! فيقول: يا أبا اليقظان! أنا أعلم بالحرب منك، دعني أزحف بالراية زحفا! فلما أضجره وتقدم أرسل معاوية خيلا فاختطفوا عمارا فكان يسمي أهل الشام قتل عمار " فتح الفتوح ". وقال أيضا: " أبو ذر، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن جده أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده بالمدينة أمر باللبن يضرب وما يحتاج إليه، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع ردائه، فلما رأى ذلك المهاجرون والأنصار وضعوا أرديتهم وأكسيتهم يرتجزون ويقولون ويعلمون: لئن قعدنا والنبي يعمل * ذاك إذا لعمل مضلل قالت: وكان عثمان بن عفان رجلا نظيفا متنظفا فكان يحمل اللبنة ويجافي بها عن ثوبه، فإذا وضعه نفض كفيه ونظر إلى ثوبه فإذا أصابه شئ من التراب نفضه! فنظر إليه علي رضي الله عنه فأنشد:
37 لا يستوي من يعمر المساجدا * يدأب فيها راكعا وساجدا وقائما طورا وطورا قاعدا * ومن يرى عن التراب حائدا فسمعها عمار بن ياسر فجعل يرتجز بها وهو لا يدري من يعني، فسمعه عثمان فقال: يا بن سمية! ما أعرفني بمن تعرض؟ ومعه جريدة، فقال: لتكفن أو لأعترضن بها وجهك! فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل حائط، فقال: عمار جلدة ما بين عيني وألفي، فمن بلغ ذلك منه فقد بلغ مني وأشار بيده فوضعها بين عينيه، فكف الناس عن ذلك وقالوا لعمار: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غضب فيك ونخاف أن ينزل فينا قرآن! فقال: أنا أرضيه كما غضب، فأقبل عليه فقال: يا رسول الله! ما لي ولأصحابك؟ قال ومالك ولهم؟ قال: يريدون قتلي يحملون لبنة ويحملون علي لبنتين، فأخذ به وطاف به في المسجد وجعل يمسح وجهه من التراب ويقول: يا بن سمية! لا يقتلك أصحابي ولكن تقتلك الفئة الباغية. فلما قتل بصفين وروى هذا الحديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال معاوية: هم قتلوه لأنهم أخرجوه إلى القتل. فلما بلغ ذلك عليا قال: ونحن قتلنا أيضا حمزة لأنا أخرجناه ". وقال أبو عبد الله الحاكم النيسابوري بترجمة عمار: " أخبرني أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصنعاني. ثنا: إسحق بن إبراهيم بن عباد. أنبأ: عبد الرزاق عمر معمر، عن ابن طاووس، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، أخبره قال: لما قتل عمار بن ياسر دخل عمرو بن حزم على عمرو بن العاص فقال: قتل عمار وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية. فقام عمرو فزعا حتى دخل على معاوية فقال له معاوية: ما شأنك؟ فقال: قتل عمار بن ياسر! فقال: قتل عمار فماذا؟ فقال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يقتله الفئة الباغية. فقال له معاوية: أنحن قتلناه؟ إنما قتله علي وأصحابه جاءوا به حتى ألقوه بين رماحنا، أو قال: سيوفنا. صحيح على شرطهما ولم يخرجاه بهذه السياقة.
38 أخبرنا أبو زكريا الغبري ثنا: محمد بن عبد السلام، ثنا: إسحق ثنا، عطاء ابن مسلم الحلبي، قال: سمعت! لأعمش يقول: قال أبو عبد الرحمن السلمي: شهدنا صفين فكنا إذا توادعنا دخل هؤلاء في عسكر هؤلاء في عسكر هؤلاء، فرأيت أربعة يسيرون معاوية بن أبي سفيان وأبو الأعور السلمي وعمرو بن العاص وابنه، فسمعت عبد الله بن عمرو يقول لأبيه عمرو: وقد قتلنا هذا الرجل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما قال. قال. أي الرجل؟ قال عمار بن ياسر، أما تذكر يوم بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فكنا نحمل لبنة لبنة وعمار يحمل لبنتين لبنتين، فمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتحمل لبنتين لبنتين وأنت ترحض؟! أما إنك ستقتلك الفئة الباغية وأنت من أهل الجنة. فدخل عمرو على معاوية فقال: قتلنا هذا الرجل وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال. فقال: أسكت فوالله ما تزل تدحض في بولك! أنحن قتلناه؟! إنما قتله علي وأصحابه جاءوا به حتى ألقوه بيننا! ". وقال أبو المؤيد الموفق بن أحمد الخوارزمي: " وكان الذي قتل عمارا أبو غادية المزني طعنه برمح فسقط وكان يومئذ يقاتل وهو ابن أربعة وتسعين، فلما وقع أكب عليه رجل آخر فاجتز رأسه فأقبلا يختصمان كلاهما يقول: أنا قتلته؟ فقال عمرو بن العاص: والله إن يختصمان إلا في النار، فسمعها معاوية فلما انصرف الرجلان قال معاوية لعمرو: ما رأيت مثل ما صنعت! قوم بذلوا أنفسهم دوننا تقول لهما: إنكما تختصمان في النار؟! فقال عمرو: هو والله ذلك إنك لتعلمه ولوددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة ". قال: " في اليوم السادس والعشرين من حروب صفين قتل أبو اليقظان عمار ابن ياسر وأبو الهيثم بن التيهان نقيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهما. روي أن الحرث بن باقور أخا ذي الكلاع برز إلى عمار وضربه عمار فصرعه وكان من برز إليه قتله فينشد: نحن ضربناكم على تنزيله * واليوم نضربكم على تأويله
39 ضربا يزبل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله أو يرجع الحق إلى سبيله! واستسقى عمار فأتي بلبن في قدح فلما رآه كبر ثم شربه وقال: إن النبي صلى الله عليه وآله قال لي: آخر زادك من الدنيا ضياح من لبن، ويقتلك الفئة الباغية! فهذا آخر أيامي من الدنيا ثم حمل وأحاط به أهل الشام واعترضه أبو الغادية الفزاري وابن جوفي السكسكي، فأما أبو الغادية فطعنه وأما ابن جوفي فاجتز رأسه الشريف، وقد كان ذو الكلاع سمع عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعمار بن ياسر: يا بن سمية! تقتلك الفئة الباغية. قال ذو الكلاع، وتحت أمره ستون ألفا من الفرسان يقول لعمرو بن العاص: ويحك أنحن الفئة الباغية؟! وكان في شك من ذلك، فيقول عمرو: إنه سيرجع إلينا، واتفق أنه أصيب ذو الكلاع يوم أصيب عمار، فقال عمرو: لو بقي ذو الكلاع لمال بعامة قومه ولأفسد علينا جندنا. وقتل أبو الهيثم وجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى ذلك عبد الله بن عمرو بن العاص قال لأبيه: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول لعمار: تقتلك الفئة الباغية فقال عمرو لمعاوية: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنحن قتلنا عمارا؟ إنما قتله الذي جاء به فألقاه تحت رماحنا وسيوفنا. وفرح بقتل عمار أهل الشام، وقال معاوية: قتلنا عبد الله بن بديل وهاشم بن عتبة وعمار بن ياسر، فاسترجع النعمان بن بشير وقال: والله إنا كنا نعبد اللات والعزى، وعمار يعبد الله ولقد عذبه المشركون بالرمضاء وغيرها من ألوان العذاب، فكان يوحد الله ويصبر على ذلك، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صبرا آل ياسر؟ موعدكم الجنة. وقال له: عمارا يدعو الناس إلى الجنة ويدعونه إلى النار، وقال ابن جوفي من أهل الشام: أنا قتلت عمارا. فقال عمرو بن العاص: ماذا قال حين ضربته؟ قال: قال اليوم ألقى
40 الأحبة محمدا وحزبه. فقال عمرو: صدقت، أنت صاحبه والله ما ظفرت يداك وقد أسخطت ربك. وعن السدي، عن يعقوب بن أسباط، قال احتج رجلان بصفين في سلب عمار وفي قتله، فأتيا عبد الله بن عمرو بن العاص يتحاكمان إليه، فقال: ويحكما أخرجا عني فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أولعت قريش بعمار، عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، قاتله وسالبه في النار ". وقال السهيلي: " وفي " جامع معمر بن راشد " أن عمارا كان ينقل في بنيان المسجد لبنتين، لبنة عنه ولبنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ينقلون لبنة واحدة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: للناس أجر ولك أجران، وآخر زادك من الدنيا شربة لبن، وتقتلك الفئة الباغية! فلما قتل يوم صفين دخل عمرو على معاوية فزعا فقال: قتل عمار! فقال معاوية فماذا؟ فقال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتلك الفئة الباغية! فقال: دحضت في بولك، أنحن قلناه؟! إنما قتله من أخرجه ". وقال ابن الأثير الجزري في خبر رسل أمير المؤمنين إلى معاوية: " وقال يزيد بن قيس: إنا لم نأت إلا لنبلغك ما أرسلنا به إليك ونؤدي عنك ما سمعنا منك، ولن ندع أن ننصح وأن نذكر ما يكون به الحجة عليك ويرجع إلى الألفة والجماعة، إن صاحبنا من عرف المسلمون فضله ولا يخفى عليك، فاتق الله يا معاوية ولا تخالفه! فإنا والله ما رأينا في الناس رجلا قط أعمل بالتقوى ولا أزهد في الدنيا ولا أجمع لخصال الخير كلها منه. فحمد الله معاوية ثم قال: أما بعد، فإنكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة، فأما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا هي، وأما الطاعة لصاحبكم فإنا لا نراها، لأن صاحبكم قتل خليفتنا وفرق جماعتنا وآوى ثارنا، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله، فنحن لا نرد عليه ذلك فليدفع إلينا قتلة عثمان لنقتلهم ونحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة! فقال شبث بن ربعي: أيسرك يا معاوية أن يقتل عمارا؟!
41 فقال: وما يمنعني من ذلك لو تمكنت من ابن سمية لقتلته بمولى عثمان! فقال شبث: والذي لا إله غيره لا تصل إلى ذلك حتى تندر الهام عن الكواهل وتضيق الأرض والفضاء عليك! فقال معاوية: لو كان ذلك لكانت عليك أضيق! وتفرق القوم عن معاوية ". وقال في ذكر مقتل عمار عليه الرحمة: " وخرج عمار بن ياسر على الناس فقال: اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلته! اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أضع ظبة سيفي في بطني ثم أنحني عليه حتى تخرج من ظهري لفعلته! وإني لا أعلم اليوم عملا هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم عملا هو أرضى لك منه لفعلته، والله إني لأرى قوما ليضربنكم ضربا يرتاب منه المبطلون، وأيم الله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر، لعلمت أنا على الحق، وأنهم على الباطل. ثم قال: من يبتغي رضوان الله ربه ولا يرجع إلى مال ولا ولد؟ فأتاه عصابة فقال: اقصدوا بنا هؤلاء القوم الذين يطلبون دم عثمان، والله ما أرادوا الطلب بدمه ولكنهم ذاقوا الدنيا واستحبوها وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه منها، ولم يكن لهم سابقة يستحقون بها طاعة الناس والولاية عليهم، فخدعوا أتباعهم وقالوا: إمامنا قتل مظلوما، ليكونوا بذلك جبابرة ملوكا فبلغوا ما ترون، فلولا هذا ما تبعهم من الناس رجلان. اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت وإن تجعل لهم الأمر فادخر لهم بما أحدثوا في عبادك العذاب الأليم. ثم مضى ومعه تلك العصابة، فكان لا يمر بواد من أودية صفين إلا تبعه من كان هناك من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء إلى هاشم بن عتبة ابن أبي وقاص، وهو المرقال وكان صاحب راية علي وكان أعور، فقال: يا هاشم! أعورا وجبنا * لا خير في أعور لا يغشى الباس * اركب يا هاشم! فركب ومضى معه وهو يقول:
42 أعور يبغي أهله محلا * قد عالج الحياة حتى ملا لا بد أن يفل أو يفلا * يتلهم بذي الكعوب تلا وعمار يقول: تقدم يا هاشم الجنة تحت ضلال السيوف والموت تحت أطراف الأسل، وقد فتحت أبواب السماء وتزينت الحور العين، اليوم ألقى الأحبة محمدا وحزبه، وتقدم حتى دنا من عمرو بن العاص، فقال له: يا عمرو، بعث دينك بمصر؟! تبا لك! فقال له: لا ولكن أطلب بدم عثمان! فقال: أنا أشهد على علمي فيك أنك لا تطلب بشئ من فعلك وجه الله وأنك إن لم تقتل اليوم تمت غدا، فانظر إذا أعطي الناس على قدر نياتهم ما نيتك؟ لقد قاتلت صاحب هذه الراية ثلاثا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه الرابعة ما هي بأبر وأتقى! ثم قاتل عمار ولم يرجع وقتل ". قال: " وقال عبد الرحمن السلمي: لما قتل عمار دخلت عسكر معاوية لأنظر هل بلغ منهم قتل عمار ما بلغ منا، وكنا إذا تركنا القتال تحدثوا إلينا وتحدثنا إليهم، فإذا معاوية وعمرو وأبو الأعور وعبد الله بن عمرو يتسايرون، فأدخلت فرسي بينهم لئلا يفوتني ما يقولون. فقال عبد الله لأبيه: يا أبة! قتلتم هذا الرجل في يومكم هذا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال! قال: وما قال؟ قال: ألم يكن المسلمون ينقلون في بناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين فغشي عليه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: ويحك يا بن سمية! الناس ينقلون لبنة لبنة وأنت تنقل لبنتين لبنتين رغبة في الأجر وأنت مع ذلك تقتلك الفئة الباغية؟؟ فقال عمرو لمعوية: أما تسمع ما يقول؟ قال: وما يقول؟ فأخبره فقال معاوية: أنحن قتلناه؟! إنما قتله من جاء به! فخرج الناس من فساطيطهم وأخبيتهم يقولون: إنما قتل عمارا من جاء به، فلا أدري من كان أعجب أهو أم هم؟! ". وقال محيي الدين ابن عربي الأندلسي في تفسيره، " وإن طائفتان من المؤمنين " إلى آخره، الاقتتال لا يكون إلا للميل إلى الدنيا والركون إلى الهوى
43 والانجذاب إلى الجهة السفلية والتوجه إلى المطالب الجزئية، والاصلاح إنما يكون من لزوم العدالة في النفس التي هي ظل المحبة التي هي ظل الوحدة، فلذلك أمر المؤمنون الموحدون بالإصلاح بينهما على تقدير بغيهما، والقتال مع الباغية على تقدير بغي إحداهما حتى يرجع لكون الباغية مضادة للحق دافعة له، كما خرج عمار رضي الله عنه مع كبره وشيخوخته في قتال أصحاب معاوية ليعلم بذلك أنهم الفئة الباغية ". وقال سبط ابن الجوزي: " وحكى ابن سعد في (الطبقات) عن عبد الله ابن عمرو بن العاص أنه قال لأبيه: قتلتم عمارا وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: تقتلك الفئة الباغية!؟ فسمعه معاوية فقال: لأنك شيخ أخرق ما تزال تأتينا بهنة تدحض بها في بولك! أنحن قتلناه؟! أنما قتله الذي أخرجه وفي رواية: فبلغ ذلك عليا فقال: ونحن قتلنا حمزة لأنا أخرجناه إلى أحد. وذكر ابن سعد أيضا أن ذا الكلاع لما بلغه هذا قال لعمرو: نحن الفئة الباغية وهم بالرجوع إلى عسكر علي وكان تحت يده ستون ألفا فقتل ذو الكاع فقال معاوية: لو بقي ذو الكلاع لأفسد علينا جندنا بميله إلى ابن أبي طالب! ". وقال أيضا: " وقال الواقدي: لما طعن أبو الغادية عمارا بالرمح وسقط أكب عليه آخر فاجتز رأسه ثم أقبلا إلى معاوية يختصمان فيه، كل منهما يقول: أنا قتلته، فقال لهما عمرو: والله إن تختصمان إلا في النار! فقال معاوية: ما صنعت؟ قوم بذلوا نفوسهم دوننا تقول لهم هذا؟! فقال عمرو: هو والله كذلك وأنت تعلمه وإني والله وددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة! ". وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: " فائدة - روى حديث تقتل عمارا الفئة الباغية " جماعة من الصحابة منهم قتادة (أبو قتادة. ظ) بن النعمان كما تقدم وأم سلمة عند مسلم، وأبو هريرة عند الترمذي، وعبد الله بن عمرو بن العاص عند النسائي، وعثمان بن عفان وحذيفة وأبو أيوب وأبو رافع
44 وخزيمة بن ثابت ومعوية وعمرو بن العاص وأبو اليسر وعمار نفسه، وكلها عند الطبراني وغيره طرقها صحيحة أو حسنة. وفيه عن جماعة آخرين يطول عدهم. وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة وفضيلة ظاهرة لعلي ولعمار ورد على النواصب الزاعمين أن عليا لم يكن مصيبا في حروبه ". وقال بدر الدين العيني في شرح حديث " إذا تواجه المسلمان فكلاهما من أهل النار ": " وقال الكرماني: علي رضي الله عنه ومعاوية كلاهما كانا مجتهدين غاية ما في الباب أن معاوية كان مخطئا في اجتهاده له أجر واحد وكان لعلي رضي الله عنه أجران. قلت: المراد (فالمراد. ظ) بما في الحديث المتواجهان بلا دليل من الاجتهاد ونحوه، إنتهى. قلت: كيف يقال كان معاوية مخطئا في اجتهاده، فما كان الدليل في اجتهاده!! وقد بلغه الحديث الذي قال صلى الله عليه وسلم: ويح ابن سمية تقتله الفئة الباغية! وابن سمية هو عمار ابن ياسر، وقد قتله فئة معاوية، أفلا يرضى معاوية سواء بسواء حتى يكون له أجر واحد ". وقال محمد بن خلفة الوشتاني الآبي في شرح حديث قتل عمار: " والحديث حجة بينة للقول بأن الحق مع علي وحزبه وإنما عذر الآخرون بالاجتهاد، وأصل البغي الحسد، ثم استعمل في الظلم، وعلى هذا حمل الحديث عبد الله ابن عمرو العاص يوم قتل عمار، وغيره تأوله فتأوله معاوية وكان أولا يقول: إنما قتله من أخرجه لينفي عن نفسه صفة البغي ثم رجع فتأوله على الطلب وقال: نحن الفئة الباغية، أي الطالبة لدم عثمان، من البغاء بضم الباء والمد وهو الطلب. قلت: البغي عرفا الخروج عن طاعة الإمام مغالبة له، ولا يخفى عليك بعد التأويلين أو خطؤهما، فأما الأول فواضح وكذا الثاني لأن ترك علي القصاص من قتلة عثمان للذين قاموا بطلبه ورأوه مستندا في اجتهادهم ليس لأنه تركه جملة واحدة وإنما تركه لما تقدم، وفيه أن عدم القصاص منكر قاموا بتغييره والقيام بتغيير المنكر إنما هو ما لم يؤد إلى مفسدة أشد. وأيضا المجتهد إنما
45 يحسن به الظن إذا لم يبين مستند اجتهاده، أما إذا بينه فكان خطأ فكيف؟. ولله در الشيخ حيث كان يقول الصحبة حصنت على ما حارب عليا! ". وقال أبو عبد الله محمد بن محمد بن يوسف السنوسي في شرح حديث قتل عمار: " والحديث حجة بينة للقول بأن الحق مع علي وحزبه وإنما عذر الآخرون بالاجتهاد، وأصل البغي الحسد ثم استعمل في الظلم، وغير تأويله معاوية رضي الله عنه فكان يقول: إنما قتله من أخرجه لينفي عن نفسه صفة البغي ثم رجع فتأوله على الطلب وقال: نحن الفئة الباغية، أي الطالبة لدم عثمان، من البغاء بضم الباء والمد وهو الطلب (ب 1): البغي عرفا لخروج عن طاعة الإمام مغالبة له، ولا يخفى بعد التأويلين أو خطؤهما، ولله در الشيخ حيث كان يقول: الصحبة حصنت على من حارب عليا رضي الله عنه ". وقال عماد الدين يحيى بن أبي بكر العامري في ترجمة سيدنا عمار: " قتل رضي الله عنه بصفين سنة سبع وثلثين عن ثلث وخمسين سنة وكان من أصحاب علي وقتله أصحاب معاوية، وبقتله استدل أهل السنة على تصحيح جانب علي لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد قال له: ويح ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية، وقال: ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، وقال قبل أن يقتل: ائتوني بشربة لبن فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن. وكان آدم طوالا لا يغير شيبة، رضي الله عنه ورحمه ". وقال نور الدين السمهودي: " وأسند (2) أيضا أن علي بن أبي طالب كان يرتجز وهو يعمل فيه ويقول: لا يستوي من يعمر المساجدا * يدأب فيها قائما وقاعدا ومن يرى عن الغبار حائدا.
(1) أي: قال: الآبي. (2) ابن زبالة. 46 وأسند هو أيضا ويحيى من طريقه والمجد ولم يخرجه عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده فقرب اللبن وما يحتاجون إليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع ردائه، فلما رأى ذلك المهاجرون الأولون والأنصار ألقوا أرديتهم وأكسيتهم وجعلوا يرتجزون ويعملون ويقولون: لئن قعدنا والنبي يعمل. البيت وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه رجلا نظيفا متنظفا وكان يحمل اللبنة فيجافي بها عن ثوبه، فإذا وضعها نفض كمه ونظر إلى ثوبه فإن أصابه شئ من التراب نفضه، فنظر إليه علي بن أبي طالب فأنشأ يقول: لا يستوي من يعمر المساجدا الأبيات المتقدمة، فسمعها عمار بن ياسر فجعل يرتجز بها وهو لا يدري من يعني بها فمر بعثمان فقال: يا ابن سمية! ما أعرفني بمن تعرض ومعه جريدة فقال: لتكفن أو لاعترض بها وجهك! فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل بيتي تعني أم سلمة. وفي كتاب يحيى: في ظل بيته، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: إن عمار بن ياسر جلدة ما بين عيني وأنفي فإذا بلغ ذلك من المرء فقد بلغ ووضع يده بين عينيه، فكف الناس عن ذلك ثم قالوا لعمار: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد غضب فيك ونخاف أن ينزل فينا القرآن! فقال: أنا أرضيه كما غضب، فقال: يا رسول الله! ما لي ولأصحابك؟ قال: مالك وما لهم؟ قال: يريدون قتلي يحملون لبنة لبنة ويحملون علي اللبنتين والثلاث فأخذ بيده فطاف به في المسجد وجعل يمسح وفرته بيده من التراب ويقول: يا ابن سمية لا يقتلك أصحابي ولكن تقتلك الفئة الباغية. وقد ذكر ابن إسحاق القصة بنحوه كما في (تهذيب) ابن هشام، قال: وسألت غير واحد من أهل العلم بالشعر عن هذا الرجز فقالوا: بلغنا أن علي ابن أبي طالب ارتجز به، فلا ندري أهو قائله أم غيره، وإنما قال ذلك علي رضي الله عنه مطائبة ومباسطة كما هو عادة الجماعة، إذا اجتمعوا على عمل
47 وليس ذلك طعنا. وأخرج ابن أبي شيبة من مرسل أبي جعفر الخطمي، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني المسجد وعبد الله بن رواحة يقول: أفلح من يعالج المساجد فيقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول ابن رواحة: يتلوا القرآن قائما وقاعدا، فيقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي " الصحيح " في ذكر بناء المسجد: وكنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فجعل ينفض التراب عنه ويقول: ويح عمار! تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، وقال: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن. وأسند ابن زبالة ويحيى، عن مجاهد، قال: رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يحملون الحجارة على عمار وهو يبني المسجد فقال: ما لهم ولعمار، ويدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار وذلك فعل الأشقياء الأشرار! وأسند الثاني أيضا عن أم سلمة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد فجعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحمل كل رجل منهم لبنة لبنة وعمار بن ياسر لبنتين، لبنة عنه ولبنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح ظهره وقال: يا ابن سمية! لك أجران وللناس أجر، وآخر زادك من الدنيا شربة من لبن وتقتلك الفئة الباغية. وفي (الروض) للسهيلي أن معمر بن راشد روى ذلك في جامعه بزيادة في آخره وهي: فلما قتل يوم صفين دخل عمرو على معاوية رضي الله عنهما فزعا فقال: قتل عمار! فقال معاوية: فماذا؟ فقال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية. فقال معاوية: دحضت في بولك، أنحن قتلناه؟ إنما قتله من أخرجه. وروى البيهقي في (الدلائل) عن عبد الرحمن (أبي عبد الرحمن. ظ) السلمي أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول لأبيه عمرو: قد قتلنا هذا الرجل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما قال قال: أي رجل؟ قال: عمار بن ياسر، أما تذكر يوم بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، فكنا
48 نحمل لبنة لبنة وعمار يحمل لبنتين لبنتين، فمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تحمل لبنتين وأنت ترحض! أما إنك ستقتلك الفئة الباغية وأنت من أهل الجنة. فدخل عمرو على معاوية فقال: قتلنا هذا الرجل وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال فقال: اسكت، فوالله ما تزال تدحض في بولك! أنحن قتلناه؟! إنما قتله علي وأصحابه جاءوا به حتى ألقوه بيننا. قلت: وهو يقتضي أن هذا القول لعمار كان في البناء الثاني للمسجد، لأن إسلام عمرو كان في الخامسة كما سبق. وقال السمهودي في (خلاصة الوفاء): " ولأحمد عن أبي هريرة: كانوا يحملون اللبن إلى بناء المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، ثم قال: فاستقبلت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عارض لبنة على بطنه فطننت أنها ثقلت عليه فقلت: ناولنيها يا رسول الله! فقال: خذ غيرها يا أبا هريرة فإنه لا عيش إلا عيش الآخرة. وهذا في البناء الثاني لأن إسلام أبي هريرة متأخر. وكذا ما في الصحيح في ذكر بناء المسجد: كنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فجعل ينفض التراب ويقول: ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، لأن البيهقي روى في (الدلائل) عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه سمع عبد الله بن العاص يقول لأبيه عمرو: قد قتلنا هذا الرجل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما قال! قال: أي رجل؟ قال قال: عمار بن ياسر، أما تذكره يوم بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، فكنا نحمل لبنة لبنة وعمار يحمل لبنتين لبنتين، فمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر نحو رواية الصحيح. ثم قال: فدخل عمرو على معاوية فقال: قتلنا هذا الرجل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال! فقال: اسكت فوالله ما تزال تدحض في بولك، أنحن قتلناه؟ إنما قتله علي وأصحابه جاءوا به حتى ألقوه بيننا. وإسلام عمرو رضي الله عنه كان في السنة الخامسة فلم يحضر إلا البناء الثاني ".
49 وقال الملا علي المتقي: " عن خالد بن الوليد عن ابنة هشام بن الوليد ابن المغيرة وكانت تمرض عمارا قالت: جاء معاوية إلى عمار يعوده فلما خرج من عنده قال: اللهم لا تجعل منيته بأيدينا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتل عمارا الفئة الباغية (ع. كر) ". وقال في (شرح الفقه الأكبر) في ذكر خلافة أمير المؤمنين عليه السلام: " ومما يدل على صحة خلافته دون خلافة غيره الحديث المشهور " الخلافة بعدي ثلثون سنة ثم يصير ملكا عضوضا " وقد استشهد علي (رض) على رأس ثلاثين سنة عن وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومما يدل على صحة اجتهاده وخطأ معاوية في مراده ما صح عنه صلى الله عليه وسلم في حق عمار بن ياسر: تقتلك الفئة الباغية. وأما ما نقل أن معاوية أو أحدا من أشياعه قال: ما قتله إلا علي (رض) حيث حمله على المقاتلة فروي عن علي كرمه الله وجهه أنه قال في المقابلة: فيلزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل عمه حمزة! فتبين أن معاوية ومن بعده لم يكونوا خلفاء بل ملوكا وأمراء ". وقال في (شرح الشفاء) في فصل الإخبار بالغيوب: " وإن عمارا وهو ابن ياسر تقتله الفئة الباغية. رواه الشيخان، ولفظ مسلم: قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لعمار: تقتلك الفئة الباغية. وزاد: وقاتله في النار. فقتله، أي عمارا، أصحاب معاوية، أي بصفين، ودفنه علي رضي الله تعالى عنه في ثيابه وقد نيف على سبعين سنة، فكانوا هم البغاة على علي بدلالة هذا الحديث ونحوه، وقد ورد: إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق، وقد كان مع علي رضي الله تعالى عنهما، وأما تأويل معاوية أو ابن العاص بأن الباغي علي وهو قتله حيث حمله على ما أدى إلى قتله، فجوابه ما نقل عن علي كرم الله وجهه أنه يلزم منه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قاتل حمزة عمه. والحاصل أنه لا يعدل عن حقيقة العبارة إلى مجاز الإشارة إلا بدليل ظاهر من عقل أو نقل يصرفه عن ظاهره، نعم، غاية العذر عنهم أنهم اجتهدوا وأخطأوا فالمراد بالباغية الخارجة المتجاوزة لا الطالبة كما ظنه بعض
50 الطائفة ". وقال في (المرقاة - شرح المشكاة): " (وعن أبي قتادة) صحابي مشهور (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار) أي ابن ياسر (حين يحفر الخندق) حكاية حال ماضية (فجعل يمسح رأسه) أي رأسه عمار عن الغبار ترحما عليه من الأغيار (ويقول بؤس) بضم موحدة وسكون همز، ويبدل، وبفتح السين مضافا إلى (ابن سمية) وهي بضم السين وفتح الميم وتشديد التحتية أم عمار وهي قد أسلمت بمكة وعذبت لترجع عن دينها فلم ترجع وطعنها أبو جهل فماتت، ذكره ابن الملك. وقال غيره: كانت أمه ابنة أبي حذيفة المخزومي زوجها ياسرا وكان حليفه فولدت له عمارا فأعتقه أبو حذيفة أي: يا شدة عمار أحضري فهذا أوانك، واتسع في حذف حرف النداء من أسماء الأجناس وإنما يحذف من أسماء الأعلام، وروى بوس بالرفع على ما في بعض النسخ، أي: عليك بؤس أو يصيبك بوس، وعلى هذا ابن سمية منادى مضاف، أي: يا ابن سمية! وقال شارح " المغني ": يا شدة ما يلقاه ابن سمية من الفئة الباغية، نادى بؤسه وأراد نداءه وخاطبه بقوله: (تقتلك الفئة الباغية) أي الجماعة الخارجة على إمام الوقت وخليفة الزمان. قال الطيبي: ترحم عليه بسبب الشدة التي يقع فيها عمار من قبل الفئة الباغية يريد به معاوية وقومه فإنه قتل يوم صفين. وقال ابن الملك: إعلم أن عمارا قتله معاوية وفئته فكانوا طاغين باغين بهذا الحديث، لأن عمار كان غي عسكر علي وهو المستحق للإمامة فامتنعوا عن بيعته. وحكي أن معاوية كان يتأول معنى الحديث ويقول: نحن فئة باغية طالبة لدم عثمان، وهذا كما ترى تحريف، إذ معنى طلب الدم غير مناسب هنا لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر الحديث في إظهار فضيلة عمار وذم قاتله لأنه جاء في طريق: ويح! قلت: ويح، كلمة تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها فيترحم عليه ويرثي له، بخلاف ويل، فإنها كلمة عقوبة تقال للذي
51 يستحقها ولا يترحم عليه هذا. وفي (الجامع الصغير) برواية الإمام أحمد والبخاري عن أبي سعيد مرفوعا: ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة يدعونه إلى النار. هذا كالنص الصريح في المعنى الصحيح المتبادر من البغي المطلق في الكتاب كما في قوله تعالى: وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وقوله سبحانه: فإن بغت إحداهما على الأخرى فإطلاق اللفظ الشرعي على إرادة المعنى اللغوي عدول من العدل وميل إلى الظلم الذي هو وضع الشئ في غير موضعه. والحاصل أن البغي بحسب المعنى الشرعي والاطلاق العرفي خص عموم معنى الطلب اللغوي إلى طلب الشر الخاص بالخروج المنهى، فلا يصح أن يراد به طلب دم خليفة الزمان وهو عثمان رضي الله عنه. وقد حكي عن معاوية تأويل أقبح من هذا حيث قال: إنما قتله علي وفئته حيث حمله على القتال وصار سببا لقتله في المال، فقيل له في الجواب: فإذن قاتل حمزة هو النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان باعثا له على ذلك والله سبحانه وتعالى حيث أمر المؤمنين بقتال المشركين! والحاصل أن هذا الحديث فيه معجزات ثلث: إحديها أنه سيقتل، وثانيها أنه مظلوم، وثالثها أن قاتله باغ من البغاة، والكل صدق وحق. ثم رأيت الشيخ أكمل الدين قال: الظاهر أن هذا أي التأويل السابق عن معاوية وما حكي عنه أيضا من أنه " قتله من أخرجه للقتل وحرضه عليه " كل منهما افتراء عليه! أما الأول فتحريف للحديث، وأما الثاني فلأنه ما أخرجه أحد بل هو خرج بنفسه وما له مجاهدا في سبيل الله قاصدا لإقامة الفرض، وإنما كان كل منهما افتراء على معاوية لأنه رضي الله عنه أعقل من أن يقع في شئ ظاهر الفساد على الخاص والعام. قلت: فإذا كان الواجب عليه أن يرجع عن بغيه بإطاعته الخليفة ويترك المخالفة وطلب الخلافة المنيفة، فتبين بهذا أنه كان في الباطن باغيا
52 وفي الظاهر متسترا بدم عثمان مراعيا مرائيا، فجاء هذا الحديث عليه ناعيا، وعن عمله ناهيا، لكن كان ذلك في الكتاب مسطورا، فصار عنده كل من القرآن والحديث مهجورا! فرحم الله من أنصف ولم يتعصب ولم يتعسف وتولى الاقتصاد في الاعتقاد لئلا يقع في جانبي سبيل الرشاد من الرفض والنصب بأن: يحب الآل والصحب. (رواه مسلم) ". وقال نور الدين الحلبي: " ولما قتل عمار دخل عمرو بن العاص على معاوية فزعا وقال: قتل عمار! فقال معاوية: قتل عمار فماذا؟ قال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقتل عمارا الفئة الباغية. فقال له معاوية: دحضت، أي زلقت في بولك! أنحن قتلناه؟ إنما قتله من أخرجه. وفي رواية قال له: أسكت فوالله ما تزال تدحض، أي تزلق في بولك، إنما قتله علي وأصحابه جاءوا به حتى ألقوه بيننا. وذكر أن عليا رضي الله تعالى عنه لما احتج على معاوية رضي الله تعالى عنه بهذا الحديث ولم يسع معاوية إنكاره قال: إنما قتله من أخرجه من داره، يعني بذلك عليا. فقال علي رضي الله تعالى عنه: فرسول الله صلى الله عليه وسلم إذن قتل حمزة حين أخرجه ". قال: " وكان ذو الكلاع رضي الله تعالى عنه مع معاوية وقال له يوما ولعمرو ابن العاص: كيف نقاتل عليا وعمار بن ياسر؟! فقالا له: إن عمارا يعود إلينا ويقتل معنا. فقتل ذو الكلاع قبل قتل عمار، ولما قتل عمار قال معاوية: لو كان ذو الكلاع حيا لمال بنصف الناس إلى علي، أي لأن ذا الكلاع ذووه أربعة آلاف أهل بيت، وقيل: عشرة آلاف ". وقال شهاب الدين الخفاجي في (نسيم الرياض): " ومما أخبر به صلى الله تعالى عليه وسلم من المغيبات إن عمار بن ياسر الصحابي المشهور تقتله الفئة الباغية. من البغي وهو الخروج بغير حق على الإمام. ولفظ مسلم: قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار: تقتلك الفئة الباغية. وروي: وقاتله في النار. فقتله أصحاب معاوية وكان هو مع علي بصفين وهو صريح في أن الخليفة بحق هو علي رضي الله عنه وإن معاوية مخطئ في اجتهاده
53 كما في حديث " إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق " وابن سمية هو عمار رضي الله تعالى عنه كان مع علي، وهذا هو الذي ندين الله به، وهو أن عليا كرم الله وجهه على الحق ومجتهد مصيب في عدم تسليم قتلة عثمان، ومعوية رضي الله تعالى عنه مجتهد مخطي، فدع القيل والقال فماذا بعد الحق إلا الضلال؟! وقد تأول معاوية حديث عمار لما لم يجد مجالا لإنكاره فقال: إنما قتله من أخرجه، ولذا قال علي كرم الله وجهه لما بلغه قوله: فرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قتل حمزة رضي الله تعالى عنه لما أخرجه لأحد، كما نقله ابن دحية رحمه الله تعالى، وقتل عمار بصفين وهو ابن سبعين سنة قتله ابن العمادية (أبو الغادية. ظ) واجتز رأسه ابن جزء ودفنه علي رضي الله تعالى عنه ". وقال حسين بن محمد الديار بكري: " وفي (عقائد الشيخ أبي السحق الفيروزآبادي) و (خلاصة الوفاء) أن عمرو بن العاص كان وزير معاوية فلما قتل عمار بن ياسر أمسك عن القتال وتابعه على ذلك خلق كثير فقال له معاوية لم لا تقاتل؟ قال قتلنا هذا الرجل وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية، فدل على أنا نحن بغا. قال له معاوية: أسكت فوالله ما تزال تدحض في بولك! أنحن قتلناه؟ إنما قتله علي وأصحابه جاءوا به حتى ألقوه بيننا. وفي رواية قال: قتله من أرسله إلينا يقاتلنا ودفعنا عن أنفسنا فقتل فبلغ ذلك عليا فقال: إن كنت أنا قتلته فالنبي صلى الله عليه وسلم قتل حمزة حين أرسله إلى قتال الكفار ". وقال محمد بن عبد الباقي الزرقاني في (شرح المواهب اللدنية) في بحث حديث " ويح عمار تقتله الفئة الباغية ". " وهذا الحديث متواتر، قال القرطبي: ولما لم يقدر معاوية على إنكاره قال: إنما قتله من أخرجه فأجابه علي بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قتل حمزة حين أخرجه. قال ابن دحية: وهذا من الالزام المفحم الذي لا جواب عنه، وحجة لا اعتراض عليها. قال القرطبي: فرجع معاوية وتأوله على الطلب وقال: نحن الفئة الباغية أي
54 الطالبة لدم عثمان، من البغاء بضم الباء والمد هو الطلب. قال الآبي: البغي عرفا الخروج عن طاعة الإمام مغالبة له. ولا يخفى بعد التأويلين أو خطؤهما والأول واضح وكذا الثاني لأن ترك علي القصاص من قتلة عثمان الذين قاموا بطلبه ورأوه مستند اجتهادهم ليس لأنه تركه جملة واحدة، وإنما تركه لما تقدم أي حتى يدخلوا في الطاعة ثم يدعوا علي من قتل. قال: وأيضا عدم القصاص منكر قاموا لتغييره، والقيام لتغيير المنكر إنما هو ما لم يؤد إلى مفسدة أشد. وأيضا المجتهد إنما يحسن به الظن إذا لم يبين مستند اجتهاده وأما إذا بينه وكان خطأ فلا، ولله در الشيخ، يعني ابن عرفة حيث كان يقول: الصحبة حصنت من حارب عليا، إنتهى ". وقال محمد بن إسماعيل بن صلاح الأمير اليماني الصنعاني في (الروضة الندية) بعد ذكر بعض أحاديث وأخبار قتال أمير المؤمنين مع الناكثين والقاسطين والمارقين: " تنبيه - قلت: اشتملت هذه القصص على معجزات نبوية وكرامات علوية وأخلاق عند الله مرضية، فنذكر شيئا من ذلك. أما المعجزات فمنها: إخباره صلى الله عليه وسلم بأن وصيه عليه السلام يقاتل الثلاث الطوائف وأمره له بذلك، فإنه إخبار بالغيب الذي هو إحدى المعجزات ووصف كل طائفة بوصفها التي قوتلت عليه من النكث والقسط والمروق، وقدمنا في قتاله الناكثين نكتا من معجزات وكرامات، ومن المعجزات في قتاله القاسطين ما تواتر عند أئمة النقل من أن عمارا يقتله الفئة الباغية وأنه يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار. وهذا الحديث متواتر متفق عليه بين الطوائف حتى أن رأس الفئة الباغية ورئيسها معاوية بن أبي سفيان مقر به، فإنه تأوله بالتأويل الباطل ولم ينكره، بل قال: قتله من جاء به، فألزم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القاتل لحمزة. وهذا الحديث من أعلام النبوة فإنه قاله صلى الله عليه وسلم أول قدومه المدينة عند بناء مسجده صلى الله عليه وسلم كما هو معروف في كتب السير
55 والحديث ولم يحضرنا منه شئ فننقل لفظه، ومعناه أنه قال عمار رضي الله عنه وقد حملوه أحجارا صلى الله عليه وسلم المسجد: قتلوني يا رسول الله يحملونني فوق ما أطيق، أو قال: كما يحمله رجلان. فنفض صلى الله عليه وسلم الغبار عنه وقال: ليسوا بقاتليك، إنما يقتلك الفئة الباغية. تكلم صلى الله عليه وسلم بهذا قبل وقعة بدر وقبل فتح مكة وقبل إسلام رأس الفئة الباغية وقبل أن يفتح من البلاد شبر واحد. وتكرر منه صلى الله عليه وسلم ذكر أن عمارا (رض) يقتله الفئة الباغية في عدة مواقف، وقد كان عمار (رض) من أعيان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال العامري (رض): وكان مخصوصا من الرسول صلى الله عليه وسلم بالبشارة والترحيب والبشاشة والتطييب، أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أحد الأربعة الذين تشتاق إليهم الجنة وقال له: مرحبا بالطيب المطيب، وقال صلى الله عليه وسلم: عمار جلدة ما بين عيني وأنفي، وقال: اهتدوا بهدى عمار، وقال: من عادى عمارا عاداه الله من أبغض عمارا أبغضه الله. ذكر هذه الأحاديث في فضائله الفقيه العلامة الشافعي المحدث يحيى بن أبي بكر العامري (رض) في كتاب (الرياض المستطابة) في ترجمة عمار رضي الله عنه. قال العامري: وكان من أصحاب علي عليه السلام وقتله أصحاب معاوية وبقتله استدل أهل السنة على تصحيح إمامة علي عليه السلام وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان قال: ويح ابن سمية يقتله الفئة الباغية، وقال: ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، انتهى كلامه. قلت: وأخرج ابن عساكر وابن سعد أن عليا عليه السلام قال حين قتل عمار: إن امرء من المسلمين لم يعظم عليه قتل عمار بن ياسر وتدخل عليه المصيبة الموجعة لغير رشيد. رحم الله عمارا يوم أسلم، ورحم الله عمارا يوم قتل، ورحم الله عمار يوم يبعث حيا، لقد رأيت عمارا وما يذكر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة إلا كان رابعا ولا خمسة إلا كان خامسا ولا كان أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشك أن عمارا
56 قد وجبت له الجنة في غير موطن ولا شك، فهنيئا لعمار بالجنة، ولقد قيل: إن عمارا مع الحق والحق معه يدور عمار مع الحق حيث دار، وقاتل عمار في النار، انتهى. قلت: وبقتله استدل على أن معاوية في حربه وقتاله باغ ظالم غير مجتهد كما يقوله بعض السنية أنه مجتهد مخطئ وأنه غير آثم، كما قال العامري أيضا وأما المخالفون له فكانوا متأولين وكان لهم شبهة أداهم اجتهادهم إليها، انتهى ذكره في ترجمة الزبير. فنقول: إنه لا يشك من يعرف حال معاوية أنه ليس من الاجتهاد في ورد ولا صدر، وإنما الرجل يتحيل على الملك فنفق شبهة الطلبة بدم عثمان ليضل أهل الشام بها وأي اجتهاد مع النص أنه باغ، وأي اجتهاد مع إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي عليه السلام بأنه يقاتل القاسطين، وسمعت صحة الحديث عند إمام المتأخرين مع أهل السنة الحافظ ابن حجر، فإنه قال: وثبت عند النسائي ونقله وفسره ولم يقدح فيه، وقد ثبت من طرق عدة، وأي اجتهاد مع نص عمار ونص القرآن أن الفئة الباغية تقاتل حتى تفئ إلى أمر الله، وحديث عمار نص أن فئة معاوية الفئة الباغية. وأحسن من قال مشيرا إلى الرد على من زعم اجتهاد معاوية: قال النواصب قد أخطأ معاوية * في الاجتهاد وأخطأ فيه صاحبه والعفو في ذاك من حق لفاعله * وفي أعالي جنان الخلد راكبه قلنا كذبتم فلم قال النبي لنا * في النار قاتل عمار وسالبه وما دعوى الاجتهاد لمعاوية في قتاله إلا كدعوى ابن حزم أن ابن ملجم أشقى الآخرين مجتهد في قتله لعلي عليه السلام كما حكاه عنه الحافظ ابن حجر في (تلخيصه) وإذا كان من ارتكب هواه ولفق باطلا يروج به ما يراه اجتهادا لم يبق في الدنيا مبطل، إذ لا يأتي أحد منكرا إلا وقد أهب له عذرا، وهؤلاء
57 عبدة الأوثان قالوا: ما يعبدونهم إلا ليقربوهم إلى الله زلفى! وكم من محتج حجته داحضة عند ربه وعليه غضب ". وقال المولوي عبد العلي بن الملا نظام الدين السهالوي في (فواتح الرحموت - شرح مسلم الثبوت): " بقي أمر بغي معاوية، والذي عليه جمهور أهل السنة أن هذا أيضا خطأ في الاجتهاد ولا يلزم منه بطلان العدالة، لكن يخدشه عدم إظهار الحجة في مقابلة أمير المؤمنين علي وكان هو ألين للحق واستمراره على الصنع الذي صنع، مع أن قتل عمار كان من أبين الحجج على حقية رأي أمير المؤمنين علي، ولم ينقل في الدفع إلا أمر بعيد هو أن الجائي برجل شيخ في المعركة قاتل إياه! وهو كما ترى ". وقال: " وقال بعضهم: في كون مخالفة معاوية بالاجتهاد نظر، لأنه لو كانت بالاجتهاد لناظر بالحجة وأمير المؤمنين علي كان ألين للحق، وقصد مناظرته بالحجة وإقامة الحجة عليه ولم يصغ إليه، وعند شهادة عمار قال: إنما قتله علي حيث جاء به شيخا كبيرا، وليس هذا من الحجة في شئ، ولذا قال أمير المؤمنين في الجواب: فإذا قتل حمزة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، بل الكلام في كونه مجتهدا، كيف وقد عده صاحب (الهداية) من السلاطين الجائرة مقابل العادلين، ولو كان بالاجتهاد لما كان جورا، ولم ينقل عنه فتوى على طريقة الأصول الشرعية ". وقال سليمان بن إبراهيم البلخي في (ينابيع المودة) في الباب الثالث والأربعين: " وفي (جمع الفوائد) عن عبد الله بن الحارث أن عمرو بن العاص قال لمعوية: أما سمعت النبي صلى الله عليه وآله: يقول حين كان يبني المسجد لعمار: إنك لحريص على الجهاد وإنك لمن أهل الجنة ولتقتلنك الفئة الباغية. قال: بلى! قال عمرو: فلم قتلتموه؟ قال: والله ما تزال تدحض في بولك! أنحن قتلناه؟ إنما قتله الذي جاء به، وهو علي - لأحمد. عبد الله بن عمرو بن العاص رأى رجلين يختصمان في رأس عمار يقول كل واحد منهما: أنا قتلته. فقال عبد الله: سمعت النبي صلى الله عليه وآله
58 وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية. فقال معاوية: فما بالك أنت معنا؟ قال: شكاني أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: اطع أباك ما دام حيا ولا تعصيه (تعصه. ظ) فأنا معكم ولست أقاتل - لأحمد ". 15 - خروج عمرو بن العاص لقتل عمار وهذا الحديث دليل مبين على ضلالة عمرو بن العاص، فإنه الذي أعان معاوية ونصره وأيده وشاركه في سيئات أعماله. أخرج أحمد وابن سعد واللفظ للثاني: " قيل لعمرو بن العاص: قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبك ويستعملك، قال: قد كان والله يفعل فلا أدري أحب أم تألف يتألفني، ولكني أشهد على رجلين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحبهما: عبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر. قالوا: فذاك والله قتيلكم يوم صفين. قال: صدقتم والله، لقد قتلناه " (1). وفي (الطبري): " وخرج اليوم الثالث عمار بن ياسر، وخرج إليه عمرو بن العاص، فاقتتل الناس كأشد القتال.. وشد عمار في الرجال فأزال عمرو بن العاص عن موقفه " (2). وفي (الكامل): " وقد كان ذو الكلاع سمع عمرو بن العاص يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر: تقتلك الفئة الباغية، وآخر شربة تشربها ضياح من لبن. فكان ذو الكلاع يقول لعمرو: ما هذا ويحك يا عمرو! فيقول عمرو: إنه سيرجع إلينا، فقتل ذو الكلاع قبل عمار مع معاوية وأصيب عمار بعده مع علي، فقال عمرو لمعاوية: ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحا؟ بقتل عمار أو بقتل ذي الأكلاع، والله لو بقي ذو الكلاع بعد قتل عمار
(1) الطبقات 2 / 263. (2) الطبري 4 / 7 - 8. 59 لمال بعامة أهل الشام إلى علي. فأتى جماعة إلى معاوية كلهم يقول: أنا قتلت عمارا، فيقول عمرو: وما سمعته يقول؟ فيخلطون، فأتاه ابن جزء فقال: أنا قتلته وسمعته يقول: اليوم ألقى الأحبة، محمدا وحزبه، فقال عمرو: أنت صاحبه، ثم قال: رويدا والله ما ظفرت يداك، ولقد أسخطت ربك " (1). وروى المتقي: " قاتل ابن سمية في النار. كر عن عمرو بن العاص ". وانظر 16 / 141، 145.. من (كنز العمال). وانظر أيضا: المستدرك 3 / 386، 387 مروج الذهب 3 / 31 أسد الغابة 4 / 47 تذكرة الخواص 91، 92 تاريخ ابن خلدون 2 / 173. وغيرها 16 - أبو غادية قاتل عمار وأبو الغادية... قاتل عمار بن ياسر رضي الله عنه. قال ابن سعد بترجمة عمار: " شهد خزيمة بن ثابت الجمل وهو لا يسل سيفا، وشهد صفين وقال: أنا لا أسل أبدا حتى يقتل عمار، فانظر من يقتله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية. قال: فلما قتل عمار بن ياسر قال خزيمة: قد بانت لي الضلالة واقترب فقاتل حتى قتل. وكان الذي قتل عمار بن ياسر أبو غادية المزني، طعنه برمح فسقط، وكان يومئذ يقاتل في محفة، فقتل يومئذ وهو ابن أربع وتسعين سنة، فلما وقع
(1) الكامل لابن الأثير 3 / 157. 60 أكب عليه رجل آخر فاجتز رأسه، فأقبلا يختصمان فيه كلاهما يقول: أنا قتلته، فقال عمرو بن العاص: والله إن يختصمان إلا في النار، فسمعها منه معاوية، فلما انصرف الرجلان قال معاوية لعمرو بن العاص: ما رأيت مثل ما صنعت، قوم بذلوا أنفسهم دوننا تقول لهما: إنكما تختصمان في النار؟ فقال عمرو: هو والله ذاك، والله إنك لتعلمه، ولوددت أني مت قبل هذه بعشرين سنة " (1). وروى المتقي: " عن زيد بن وهب قال: كان عمار بن ياسر قد ولع بقريش وولعت به فغدوا عليه فضربوه فجلس في بيته، فجاء عثمان بن عفان يعوده، فخرج عثمان وصعد المنبر فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتلك الفئة الباغية، قاتل عمار في النار. حل. كر " (2). وفي (الاستيعاب): " ابن الغادية الجهني. كان محبا في عثمان، وهو قاتل عمار بن ياسر رضي الله عنه، وكان إذا استأذن على معاوية وغيره يقول قاتل عمار بالباب. وكان يصف قتله له إذا سئل عنه لا يباليه. وفي قصته عجب عند أهل العلم، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا أنه سمعه منه، ثم قتل عمارا رضي الله عنه روى عنه كلثوم بن جبير " (3). أشار بقوله " روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا " إلى أن أبا الغادية من رواة حديث " عمار تقتله الفئة الباغية " وقد صرح الحلبي بذلك في (سيرته) متعجبا منه. وقال الزبيدي في (تاج العروس): " وأبو الغادية... هو قاتل عمار بن ياسر رضي الله عنه، مذكور في تاريخ دمشق ". وفي (شرح الشفاء للقاري): " قتله أبو الغادية ".
(1) الطبقات 3 / 359. (2) كنز العمال 16 / 139. وانظر 16 / 145، 146. (3) الاستيعاب 4 / 1725. 61 وفي (تذكرة الخواص 94): " وقال الواقدي: لما طعن أبو الغادية عمارا بالرمح وسقط أكب عليه آخر فاحتز رأسه... ". وفي (الروض الأنف 7 / 28): " قتله أبو الغادية الفزاري وابن جزء، اشتركا في قتله ". وفي (أسد الغابة 5 / 267): " أبو الغادية الجهني، بايع النبي صلى الله عليه وسلم... وكان من شيعة عثمان رضي الله عنه، وهو قاتل عمار بن ياسر، وكان إذا استأذن على معاوية وغيره يقول: قاتل عمار بالباب، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن القتل ثم يقتل مثل عمار، نسأل الله السلامة. روى ابن أبي الدنيا عن محمد بن أبي معشر عن أبيه قال: بينا الحجاج جالسا إذ أقبل رجل مقارب الخطو، فلما رآه الحجاج قال: مرحبا بأبي غادية وأجلسه على سريره وقال: أنت قتلت ابن سمية؟ قال: نعم، قال: وكيف صنعت؟ قال: صنعت كذا حتى قتلته. فقال الحجاج لأهل الشام: من سره أن ينظر إلى الرجل عظيم الباع اليوم القيامة فلينظر إلى هذا، ثم سار أبو غادية يسأله شيئا فأبى عليه، وقال أبو غادية: نوطئ لهم الدنيا ثم نسألهم فلا يعطوننا ويزعم أنني عظيم الباع يوم القيامة، أجل والله إن من ضرسه مثل أحد وفخذه مثل ورقان ومجلسه مثل ما بين المدينة والربذة لعظيم الباع يوم القيامة، والله لو أن عمارا قتله أهل الأرض لدخلوا النار ". وراجع: التاريخ الصغير للبخاري 1 / 188. المعارف لابن قتيبة 256. مروج الذهب 2 / 381. المستدرك 3 / 386. وغيرها.
62 دحض المعارضة بحديث: تمسكوا بعهد ابن أم عبد
63 قوله: " وتمسكوا بعهد ابن أم عبد ". أقول: تمسك (الدهلوي) بهذا الحديث باطل لوجوه: 1 - إنه مما تفرد به أهل السنة إنه حديث من متفردات العامة، وحديث الثقلين متفق عليه. 2 - إنه مما اعرض عنه الشيخان إنه حديث أعرض عنه الشيخان، وإعراضهما دليل على الضعف عندهم. 3 - إنه ضعيف سندا إنه حديث ضعيف سندا، قال ابن الأثير بترجمة ابن مسعود: " أخبرنا أبو البركات الحسن بن محمد بن الحسن بن هبة الله الدمشقي، أخبرنا أبو العشائر محمد بن خليل بن فارس القيسي، أخبرنا أبو القاسم علي بن محمد
65 ابن علي المصيصي، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن قاسم ابن أبي نصر، أخبرنا أبو الحسن خيثمة بن سليمان بن حيدرة الأطرابلسي، حدثنا أبو عبيدة السري بن يحيى بالكوفة، حدثنا قبيصة بن عقبة حدثنا سفيان الثوري عن عبد الملك بن عمير عن مولى لربعي عن ربعي عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وتمسكوا بعهد ابن أم عبد. وقد رواه سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن ابن مسعود " (1). وفيه قبيصة بن عقبة قال الذهبي: " قال ابن معين هو ثقة إلا في حديث الثوري ". قال: وقال ابن معين ليس بذلك القوي، وقال: ثقة في كل شئ إلا في سفيان " (2). وقد علمت أنه روى هذا الحديث عن سفيان الثوري. وفيه: سفيان الثوري وقد ذكرنا مساويه بالتفصيل في القسم الثاني من مجلد (حديث مدينة العلم). وفيه: عبد الملك بن عمير وقد ذكرنا وجوه ضعفه والقدح فيه في مجلد (حديث الطير) بالتفصيل.
(1) أسد الغابة 3 / 258. (2) ميزان الاعتدال 3 / 383. 66 وفيه: مولى ربعي وهو مجهول. * وأما طريقه الآخر الذي ذكره ابن الأثير معلقا ففيه: أبو الزعراء وقد ترجمه بقوله: " عبد الله بن هاني، أبو الزعراء صاحب ابن مسعود، قال البخاري: لا يتابع على حديثه، سمع منه سلمة بن كهيل حديثه عن ابن مسعود في الشفاعة: ثم يقول نبيكم صلى الله عليه وسلم رابعا، والمعروف أنه عليه السلام أول شافع، قاله البخاري. وقد أخرج النسائي الحديث مختصرا " (1). وفي (تهذيب التهذيب 6 / 16): قال البخاري: " لا يتابع في حديثه ". هذا، ولو راجعت (جامع الترمذي) باب مناقب ابن مسعود لرأيت أن راوي هذا الحديث عن سلمة بن كهيل هو: يحيى بن سلمة بن كهيل وعنه ابنه إسماعيل وعنه ابنه إبراهيم. وهؤلاء بأجمعهم مجروحون حسب تصريحات الأئمة من أهل السنة كما فصل ذلك في مجلد (حديث الطير) وستقف على ذلك قريبا أيضا، وبالأخص: يحيى بن سلمة فإنه الأشد ضعفا فيهم، فلقد قال الترمذي بعد إن خرجه: " هذا حديث غريب من حديث ابن مسعود، لا نعرفه إلا من يحيى بن سلمة بن كهيل، ويحيى بن سلمة يضعف في الحديث " (2). وبهذه الوجوه يقف المنصف على تعسف (الدهلوي) ومكابرته... والله الموفق.
(1) ميزان الاعتدال 2 / 516. (2) صحيح الترمذي 2 / 221. 67 دحض المعارضة بحديث: رضيت لكم ما رضي به ابن أم عبد
69 قوله: " ورضيت لكم ما رضي به ابن أم عبد ". أقول: هذا الحديث لا يجوز الاستدلال به للوجوه الآتية: 1 - إنه من الآحاد إن هذا الحديث من الآحاد، وحديث الثقلين من المتواترات. على أنه مما تفرد به أهل السنة، كما إنه مما لا يقبله أهل الحق. 2 - إنه مما أعرض منه الشيخان لقد أعرض الشيخان عن روايته، وقد ذكرنا أن كلما لم يذكراه فهو عندهم موهون. بل لم يخرجه أحد من أصحاب الصحاح الستة. 3 - إنه لا يدل على منزلة لابن مسعود ولو فرض صحة هذا الحديث وسلمنا ذلك، فإنه لا يعارض حديث
71 الثقلين، لأن حديث الثقلين يدل على خلافة أهل البيت عليهم السلام وإمامتهم وعصمتهم وطهارتهم وأفضليتهم من غيرهم... كما مر بالتفصيل. وأما هذا الحديث فلا يثبت شيئا مما ذكر لابن مسعود، بل لا يدل على علمية أو مقام، بل لو تأمل أحد في شأن صدوره لعلم أنه لا يدل إلا على أن النبي صلى الله عليه وآله يريد أن ابن مسعود يرضى بما رضي الله به ورسوله، ويشهد بما ذكرنا ما جاء في (المستدرك) بإسناده عن جعفر ابن عمر وابن حريث عن أبيه قال: " قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود: اقرأ، قال: أقرأ وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن اسمع من غيري، قال: فافتتح سورة النساء حتى بلغ " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " فاستعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكف عبد الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم، فحمد الله في أول كلامه وأثنى على الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وشهد شهادة الحق وقال: رضينا بالله ربا وبالاسلام دينا ورضيت لكم ما رضي الله ورسوله. فقال رسوله الله صلى الله عليه وسلم: رضيت لكم ما رضي لكم ابن أم عبد. هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه " (1). فحاصل الحديث: إني رضيت لكم ما رضي به ابن مسعود لكم، وهو قوله: رضينا بالله ربا... 4 - ما كان بين عمر وابن مسعود. من العجيب تمسك (الدهلوي) بهذا الحديث وسابقه في مقابلة حديث الثقلين وقد رووا أن عمر بن الخطاب قد منع ابن مسعود من الافتاء، قال الدارمي: " أخبرنا محمد بن الصلت، ثنا ابن المبارك، عن ابن عون عن محمد قال قال عمر لابن مسعود: ألم أنبأ، أو أنبئت أنك تفتي ولست بأمير؟
(1) المستدرك 3 / 319. 72 ول حارها من تولى قارها " (1). وهذا ينافي حديث " تمسكوا بعهد ابن أم عبد " وعلى أهل السنة حينئذ إما أن يتركوا الحديث من أصله، وإما أن يحكموا بمعصية عمر لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله. * بل أن عمر اتهم ابن مسعود في الرواية ونهاه عنها، قال ابن سعد في ذكر من كان يفتي بالمدينة: " أخبرنا حجاج بن محمد عن شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه قال قال عمر بن الخطاب لعبد الله بن مسعود ولأبي الدرداء ولأبي ذر: ما هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أحسبه قال: ولم يدعهم يخرجون من المدينة حتى مات " (2). وقال الذهبي بترجمة عمر: " إن عمر حبس ثلاثة: ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود الأنصاري فقال: قد أكثرتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " (3). 5 - ما كان بين عثمان وابن مسعود وأما صنائع عثمان بن عفان مع ابن مسعود فقد اشتهرت في التاريخ اشتهار الشمس في رابعة النهار، ونحن نكتفي هنا ببعض الأخبار: قال اليعقوبي في قصة المصاحف بعد كلام له: " فأمر به عثمان فجر برجله حتى كسر له ضلعان، فتكلمت عائشة وقالت قولا كثيرا... واعتل ابن مسعود، فأتاه عثمان يعوده فقال له: ما كلام بلغني عنك؟ قال: ذكرت الذي فعلته بي، إنك أمرت بي فوطئ جوفي، فلم أعقل صلاة الظهر ولا العصر، ومنعتني عطائي. قال: فإني أقيدك من نفسي، فافعل بي مثل الذي فعل بك.
(1) مسند الدارمي 1 / 61. (2) الطبقات 2 / 336. (3) تذكرة الحفاظ 1 / 5 - 8. 73 قال: ما كنت بالذي أفتح القصاص على الخلفاء. قال: هذا عطاؤك فخذه. قال: منعتنيه وأنا محتاج إليه، وتعطينيه وأنا غني عنه، لا حاجة لي به. فانصرف، فأقام ابن مسعود مغاضبا لعثمان حتى توفي، وصلى عليه عمار ابن ياسر، وكان عثمان غائبا فستر أمره، فلما انصرف رأى عثمان القبر فقال: قبر من هذا؟ فقيل: قبر عبد الله بن مسعود. قال: فكيف دفن قبل أن أعلم؟ فقالوا: ولي أمره عمار بن ياسر، وذكر أنه أوصى ألا يخبره به. ولم يلبث إلا يسيرا حتى مات المقداد، فصلى عليه عمار وكان أوصى إليه ولم يؤذن عثمان به، فاشتد غضب عثمان على عمار وقال: ويلي على ابن السوداء أما لقد كنت به عليما " (1). وفي (المعارف) في خلافة عثمان: " وكان مما نقموا على عثمان: أنه.. طلب إليه عبد الله بن خالد بن أسيد صلة فأعطاه أربعمائة ألف درهم من بيت مال المسلمين. فقال عبد الله بن مسعود في ذلك، فضربه إلى أن دق له ضلعين... " (2). وفي (الرياض النضرة 2 / 163) و (الخميس 2 / 261) و (تاريخ الخلفاء للسيوطي 158) واللفظ للأول: " فلم يبق أحد من أهل المدينة إلا حنق على عثمان، وزاد ذلك غضب من غضب لأجل ابن مسعود وأبي ذر وعمار ". وانظر: تاريخ الطبري 3 / 311، 325، 326
(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 159. (2) المعارف 194. 74 العقد الفريد 2 / 186، 192 الأوائل لأبي هلال 152 الكامل 3 / 42 أسد الغابة 3 / 259 وغيرها. ولقد اعترف (الدهلوي) أيضا بذلك كله في (التحفة).
75 دحض المعارضة بحديث: أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل
77 قوله: " وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ". أقول: والجواب عنه وجوه: 1 - إنه من متفردات العامة إن هذا الحديث ليس من أحاديث الإمامية، وقد كان (الدهلوي) قد التزم بنقل الأحاديث التي يعترف الإمامية بصحتها ويحتجون بها، على أن والده لم يجوز الاحتجاج معهم بأحاديث الصحيحين، مع أن هذا الحديث لا عين له ولا أثر فيهما كما لا يخفى. 2 - إنه واه إن هذا الحديث سنده واه، فإنه جزء من حديث: " أرحم أمتي أبو بكر.. " ولقد بسطنا الكلام حوله في مجلد (حديث مدينة العلم). 3 - اعترف ابن تيمية بضعفه
79 لقد اعترف ابن تيمية - وهو من فتن أهل السنة بهفواته - بضعفه، إذ قال في الجواب عن حديث " أقضاكم علي " بعد أن ذكره: " مع أن الحديث الذي فيه ذكر معاذ وزيد بعضهم يضعفه وبعضهم يحسنه " (1). أقول: سيأتي تعقيب ابن عبد الهادي لتحسين بعضهم إياه. 4 - قدح فيه ابن عبد الهادي إن حديث أعلمية معاذ بن جبل - وإن حسنه بعضهم بل صححه - باطل عند ابن عبد الهادي فقد صرح في (التذكرة) بأن في متنه نكارة وبأن شيخه ضعفه بل رجح وضمه. 5 - قدح فيه الذهبي لقد عد الحافظ الذهبي - الذي استند (الدهلوي) إلى كلامه في رد حديث الطير - هذا الحديث في الأحاديث المقدوحة، وصرح بذلك في (الميزان) بترجمة سلام بن سليم، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى. 6 - قدح فيه المناوي لقد قدح المناوي في هذا الحديث لكون " ابن البيلماني " في سنده، ونقل في ذلك كلام ابن عبد الهادي، فقال في شرح الحديث الطويل المشار إليه سابقا ": " ع. من طريق ابن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر بن الخطاب. وابن البيلماني حاله معروف. لكن في الباب أيضا عن أنس وجابر وغيرهما عن الترمذي وابن ماجة والحاكم وغيرهم، لكن قالوا في روايتهم بدل " أرأف ": " أرحم ". وقال ت: حسن صحيح، وقال ك: على شرطهما. وتعقبهم ابن عبد الهادي في تذكرته بأن في متنه نكارة، وبأن شيخه
(1) منهاج السنة 2 / 138. 80 ضعفه، بل رجح وضعه " (1). بعض كلماتهم في راويه: ابن البيلماني لقد اكتفى المناوي بقوله: " وابن البيلماني حاله معروف " ولا بأس بإيراد كلمات أساطين الجرح والتعديل فيه وفي أبيه: قال البخاري: محمد بن عبد الرحمن البيلماني عن أبيه. منكر الحديث، كان الحميدي يتكلم فيه " (2). وقال النسائي: " محمد بن عبد الرحمن البيلماني عن أبيه. منكر الحديث " (3). وقال المقدسي: " إذا كان آخر الزمان واختلف الأهواء فعليكم بدين البادية والنساء. فيه محمد بن عبد الرحمن البيلماني قال ابن معين: ليس بشئ " (4). وقال عنه في مواضع عديدة بعد أحاديث رواها " لا شئ في الحديث " و " لا شئ " و " ليس بشئ " و " كان يتهم " (أنظر: ص 26، 42، 46، 49، 82، 112، 122، 123، 136، 141). وقال ابن الجوزي بعد الحديث المذكور: " قال المصنف: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يحيى بن معين: محمد بن الحارث ومحمد بن عبد الرحمن ليسا بشئ، قال أبو حاتم: حدث محمد بن عبد الرحمن عن أبيه بنسخه شبيه بمائتي حديث كلها موضوعة، لا يحل الاحتجاج به ولا ذكره في الكتب إلا تعجبا " (5).
(1) فيض القدير 1 / 460. (2) الضعفاء والمتروكين للبخاري 103. (3) الضعفاء والمتروكين للنسائي 93. (4) تذكرة الموضوعات للحافظ المقدسي 25. (5) الموضوعات 1 / 271. 81 وهكذا قال فيه في حديث في " باب فضل جدة ". وفي (ميزان الاعتدال): " د. ق محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني عن أبيه: ضعفوه، وقال البخاري وأبو حاتم: منكر الحديث، وقال الدارقطني وغيره: ضعيف، وقال ابن حبان: يحدث عن أبيه بنسخه شبيه بمائتي حديث كلها موضوعة.. قال ابن عدي: كلما يرويه ابن البيلماني البلاء فيه منه.. " (1). وفي [المغني]: " ضعفوه وقال ابن حبان: روى عن أبيه نسخة موضوعة " (2). وقال الزين العراقي بعد حديث " إذا كان آخر الزمان.. ": " وابن البيلماني له عن أبيه عن ابن عمر نسخة كان يتهم بوضعها، وهذا اللفظ عن هذا الوجه رواه حب في الضعفاء في ترجمة ابن البيلماني والله أعلم " (3). وقال الهيثمي في باب صلاة الخوف بعد حديث " رواه البزار وفيه محمد بن عبد الرحمن البيلماني، وهو ضعيف جدا " (4). وقال سبط ابن العجمي: " ضعفه غير واحد، وقال خ وأبو حاتم: منكر الحديث، وقال ابن حبان: حدث عن أبيه بنسخة شبيه بمائتي حديث كلها موضوعة، وقد ذكر الذهبي عدة أحاديث في ميزانه وفي آخرها: قال ابن عدي: كلما يرويه ابن البيلماني فالبلاء منه، ومحمد بن الحرث أيضا ضعيف. إنتهى، يعني: راوي غالب الأحاديث التي ذكرها والله أعلم. وفي ثقات ابن حبان في ترجمة أبيه: يضع على أبيه العجائب " (5).
(1) ميزان الاعتدال 3 / 617. (2) المغني في الضعفاء 2 / 603. (3) المغني عن حمل الاسفار في الأسفار 1 / 262. (4) مجمع الزوائد 2 / 196. (5) الكشف الحثيث عمن رمى بوضع الحديث - مخطوط. 82 وقال ابن حجر بعد حديث: " ورواه الدارقطني من طريق ابن البيلماني عن أبيه عن عثمان، وابن البيلماني ضعيف جدا وأبوه ضعيف أيضا " (1). ونقل في (تهذيب التهذيب) كلمات البخاري وأبي حاتم والنسائي وابن معين وابن عدي. ثم قال: " قلت وقال ابن حبان: حدث عن أبيه نسخة شبيه بمائتي حديث كلها موضوعة لا يجوز الاحتجاج به ولا ذكره إلا على وجه التعجب وقال الساجي: منكر الحديث، وقال العقيلي: روى عنه صالح بن عبد الجبار ومحمد بن الحارث مناكير، وقال الحاكم: روى عن أبيه عن ابن عمر المعضلات " (2). وفي (لسان الميزان): " قال البخاري: منكر الحديث " (3). وفي (تقريب التهذيب): " ضعيف وقد اتهمه ابن عدي وابن حبان، من السابعة " (4). وقال ابن الهمام في مسألة تقدير المهر: " وحديث العلائق معلول بمحمد ابن عبد الرحمن ابن البيلماني، قال ابن القطان قال البخاري منكر الحديث " (5). وقال السخاوي بعد حديث " إذا كان.. ": " وابن البيلماني ضعيف جدا " (6). وقال الخزرجي: " قال البخاري منكر الحديث " (7). وقال السندي: " محمد بن عبد الرحمن البيلماني، روى عن أبيه نسخة
(1) التلخيص الحبير 1 / 84. (2) تهذيب التهذيب 9 / 294. (3) لسان الميزان 6 / 697. (4) تقريب التهذيب 2 / 182. (5) فتح القدير 2 / 436. (6) المقاصد الحسنة 290. (7) خلاصة التهذيب 2 / 429. 83 كلها موضوعة " (1). ونقل القاري عن ابن القيم كلمات القوم المتقدمة (2). وقال المناوي بعد حديث: " إذا كان آخر الزمان.. ": " وابن البيلماني ضعيف جدا، وأورده السخاوي في المقاصد " (3). وبمثله قال الزبيدي في (شرح الأحياء) بعد الحديث المذكور. وقال الشوكاني: " وفيه ابن البيلماني وهو ضعيف جدا، عن أبيه وهو أيضا ضعيف " (4). وأما أبوه عبد الرحمن ابن البيلماني فقد ضعفه الدارقطني في (المجتني - مخطوط). والحاكم في (المستدرك 4 / 485). والذهبي في (الميزان 2 / 551) و (المغني 2 / 377) و (الكاشف 2 / 158) و (تلخيص المستدرك 4 / 102 و 485). وابن حجر العسقلاني في (تهذيب التهذيب 6 / 150) و (تقريب التهذيب 1 / 474). والخزرجي في (خلاصة التذهيب 2 / 127). وابن أمير الحاج في (التقرير والتحبير 1 / 224). والمتقي في (كنز العمال 6 / 146). والشوكاني في (نيل الأوطار 1 / 197). والمناوي في (فيض القدير 1 / 163). والزبيدي في (تاج العروس - بلم).
(1) مختصر تنزيه الشريعة عن الأحاديث الموضوعة - مخطوط. (2) الموضوعات 419. (3) فيض القدير 1 / 424. (4) نيل الأوطار 1 / 197، 6 / 87. 84 7 - قدح المناوي أيضا لقد قال المناوي في (فيض القدير) بشرح حديث " معاذ بن جبل إعلم الناس بحلال الله وحرامه ": " حل - عن أبي سعيد الخدري، وفيه زيد العمي وقد مر ضعفه، وسلام بن سليم قال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه ". أقول: وإليك بعض أقوال أساطين علمائهم في كل من الرجلين: أما زيد العمى فقد قال النسائي: " زيد العمي ضعيف " (1). وقال ابن أبي حاتم عن أبيه في حديث: " زيد العمي ضعيف الحديث " (2). وقال ابن الجوزي بعد أحاديث: " هذه أحاديث ليس فيها صحيح... والثاني والثالث: فيهما زيد العمي، قال ابن حبان، يروي أشياء موضوعة لا أصل لها حتى يسبق إلى القلب إنه المعتمد لها " (3). وقال الذهبي: " فيه ضعف، قال ابن عدي: لعل شعبة لم يرو عن أضعف منه " (4). وقال العراقي في (المغني) بعد حديث: " وفيه زيد العمي وهو ضعيف ". وقال ابن حجر: " ضعيف " (5).
(1) الضعفاء والمتروكين للنسائي: 180. (2) العلل 1 / 45. (3) الموضوعات 3 / 215. (4) الكاشف 1 / 338. (5) تقريب التهذيب 1 / 274. 85 وفي (تهذيب التهذيب): " قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: صالح الحديث، وقال غير مرة: لا شئ، وقال أبو الوليد بن أبي الجارود عن ابن معين: زيد العمي وأبو المتوكل يكتب حديثهما وهما ضعيفان، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال أبو زرعة: ليس بقوي واه الحديث، ضعيف، وقال الجوزجاني: متماسك، وقال الاجري عن أبي داود حديث عن شعبة وليس بذاك ولكن ابنه عبد الرحيم لا يكتب حديثه، وقال الاجري أيضا: سألت أبا داود عنه فقال: زيد بن مرة، قلت: كيف هو؟ قال: ما سمعت منه إلا خيرا. وقال النسائي: ضعيف، وقال الدارقطني: صالح، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه ضعيف، على أن شعبة قد روى عنه، ولعل شعبة لم يرو عن أضعف منه، وقال علي بن مصعب: سمى العمي، لأنه كان كلما سئل عن شئ، قال: حتى اسأل عمي. قلت: وقال الرشاطي: هو منسوب إلى بني العم من تميم، وقال ابن سعد: كان ضعيفا في الحديث، وقال ابن المديني: كان ضعيفا عندنا، وقال أبو حاتم: كان شعبة لا يحمد حفظه، وقال العجلي: بصري ضعيف الحديث ليس بشئ، وقال ابن عدي: هو من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم " (1). وأما سلام بن سليم فقد قال البخاري: " تركوه " (2). وقال النسائي في (الضعفاء والمتروكين 47) وابن أبي حاتم في (العلل 1 / 63) عن أبيه: " متروك الحديث ".
(1) تهذيب التهذيب 3 / 408. (2) الضعفاء للبخاري 55. 86 وقال أبو نعيم بترجمة الشعبي بعد حديث: " متروك باتفاق " (1). وقال ابن الجوزي بعد حديث: " فيه سلام الطويل قال يحيى: ليس بشئ لا يكتب حديثه، وقال البخاري: تركوه، وقال النسائي والدارقطني: متروك وقال ابن حبان: يروى عن الثقات الموضوعات وكأنه كان المعتمد لها " (2). وقال الذهبي: " تركوه " ثم نقل كلماتهم فيه (3). وفي (المغني): " متروك، وقال أبو زرعة: ضعيف " (4). وفي (الكاشف): " قال البخاري: تركوه " (5). وقال ابن التركماني عن البيهقي: " متروك " (6). وقال الهيثمي: " قد أجمعوا على ضعفه " (7). وقال سبط ابن العجمي في (الكشف الحثيث): " جرحه جماعة ". وقال ابن حجر: " متروك من السابعة " (8). وقال أيضا: " زيد وسلام ضعيفان " (9). وهكذا ضعفه آخرون كالخزرجي (خلاصة التذهيب 1 / 433) والسندي في (مختصر تنزيه الشريعة) ومحمد بن طاهر في (قانون الموضوعات 259).
(1) حلية الأولياء 4 / 336. (2) الموضوعات 2 / 89. (3) ميزان الاعتدال 1 / 175. (4) المغني 1 / 270. (5) الكاشف 1 / 413. (6) الجوهر النقي 1 / 21. (7) مجمع الزوائد 1 / 212. (8) تقريب التهذيب 1 / 342. (9) تلخيص الحبير 1 / 222. 87 8 - قدح المناوي أيضا قال المناوي: " حل - عن أبي سعيد. وإسناده ضعيف " (1). 9 - قدح العزيزي فيه قال العزيزي: " حل - عن أبي سعيد وإسناده ضعيف " (2). 10 - تصرف معاذ في ما ليس له إن من مبطلات أحاديث أعلمية معاذ بن جبل تصرفه في ما ليس له من الأموال، وإليك من ذلك روايتين: الأولى: ما أخرجه جماعة مهم ابن سعد بترجمة معاذ، قال: " أخبرنا عبيد الله بن موسى، أنا شيبان، عن الأعمش عن شقيق قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم معاذا على اليمن، فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر وهو عليها، وكان عمر عامئذ على الحج، فجاء معاذ إلى مكة ومعه رقيق ووصفاء على حدة، فقال له عمر: يا أبا عبد الرحمن لمن هؤلاء الوصفاء؟ قال: هم لي، قال: من أين هم لك؟ قال: أهدوا لي. قال: أطعني وأرسل بهم إلى أبي بكر فإن طيبهم لك فهم لك، قال: ما كنت لأطيعك في هذا، شئ أهدي لي أرسل بهم إلى أبي بكر؟ قال: فبات ليلا [ليلته] ثم أصبح فقال: يا ابن الخطاب ما أراني إلا مطيعك، إني رأيت اللية في المنام كأني أجر - أو: أقاد أو كلمة تشبهها - إلى النار وأنت آخذ بحجزتي، فانطلق [بي و] بهم إلى أبي بكر، فقال: أنت أحق بهم، [فانطلق بهم إلى أبي بكر] فقال أبو بكر: هم
(1) التيسير 2 / 376. (2) السراج المنير 3 / 282. 88 لك، فانطلق بهم إلى أهله فصفوا خلفه يصلون قال: لمن تصلون؟ قالوا: لله تبارك وتعالى. قال: فانطلقوا فأنتم له " (1). والثانية: أخرجها جماعة منهم ابن عبد البر في (الاستيعاب 3 / 1404) بترجمة معاذ والمتقي في (كنز العمال 5 / 342) في كتاب الخلافة، وهذا لفظ المتقي: " أخبرنا معمر عن الزهري عن كعب بن عبد الرحمن [ابن كعب] بن مالك عن أبيه قال: كان معاذ بن جبل رجلا سمحا شابا جميلا من أفضل شباب قومه، وكان لا يمسك شيئا، فلم يزل يدان حتى أغلق ما له كله من الدين، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب له أن يسأل له غرماءه أن يضعوا له، فأبوا، فلو تركوا لأحد من أجل أحد تركوا لمعاذ من أجل النبي صلى الله عليه وسلم، فباع النبي صلى الله عليه وسلم كل ما له في دينه حتى قام معاذ بغير شئ، حتى إذا كان عام فتح مكة بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على طائفة من اليمن أميرا ليجبره، فمكث معاذ باليمن أميرا وكان أول من أتجر مال الله هو، ومكث حتى أصاب وحتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قدم قال عمر لأبي بكر: أرسل إلى هذا الرجل فدع له ما يعيشه وخذ سائره، فقال أبو بكر: إنما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ليجبره ولست بآخذ منه شيئا إلا أن يعطيني، فانطلق عمر إلى معاذ إذ لم يطعه أبو بكر، فذكر ذلك عمر لمعاذ، فقال [معاذ]: إنما أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجبرني ولست بفاعل، ثم لقي معاذ عمر فقال: قد أطعتك وأنا فاعل ما أمرتني به، إني رأيت في المنام أني في حومة ماء قد خشيت الغرق، فلخصتني منه يا عمر، فأتى معاذ أبو بكر فذكر ذلك له وحلف له أنه لم يكتمه شيئا حتى بين له سوطه، فقال أبو بكر: والله لا آخذه منك، قد وهبته لك، فقال عمر: هذا حين طاب لك وحل، فخرج معاذ
(1) الطبقات 3 / 585. 89 عند ذلك إلى الشام. قال معمر: فأخبرني رجل من قريش قال: سمعت الزهري يقول: لما باع النبي صلى الله عليه وسلم مال معاذ أوقفه للناس فقال: من باع هذا شيئا فهو باطل. عب وابن راهويه ". أقول: فمن كان هذا حاله من الجهل بحكم الله والتصرف في مال الله ولم يؤده حتى رأى في منامه ما رأى.. لا يكون أعلم بحلال الله وحرامه من غيره!. قوله: وأمثال ذلك كثيرة. أقوال: نعم أمثال هذه الموضوعات في كتبهم كثيرة، وعلى ألسنتهم شهيرة، والوقوف على حال ما ذكر منها كاف لمعرفة حال تلك عند من له أدنى بصيرة، والحمد لله الذي وفقنا لاحقاق الحق وإعلانه، ودحض الباطل وإزهاقه، وهو سبحانه نعم المولى ونعم النصير.
90 دحض المعارضة بحديث: اقتدوا باللذين من بعدي
91 قوله: خصوصا قوله: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " حيث بلغ درجة الشهرة والتواتر بالمعنى. أقول: إن دعوى صحة هذا الحديث كاذبة، لما ذكرنا في مجلد (حديث الطير) من الوجوه الرصينة والبراهين المتينة على وهنه وسقوطه عن درجة الاعتبار، بحيث لو ركن أهل السنة إلى أنواع التلبيس، واعتمدوا على إشكال التدليس، وتشبثوا بمختلف طرق التسويل لما تمكنوا من إثبات صحته فضلا عن تواتره... ونحن ذاكرون هنا وجوها على فساد هذا الحديث وبطلانه لاقتضاء المقام ذلك، فنقول: 1 - لقد أعله أبو حاتم لقد كشف أبو حاتم الرازي النقاب عن سقم هذا الحديث، فقد قال المناوي: " وأعله أبو حاتم، وقال البزار كابن حزم: لا يصح، لأن عبد الملك لم يسمعه من ربعي، وربعي لم يسمعه من حذيفة، لكن له شاهد " (1).
(1) فيض القدير في شرج الجامع الصغير 2 / 56. 93 أقول: قد ذكرنا ما في سند الشاهد في مجلد (حديث الطير). ترجمة أبي حاتم قال السمعاني: " وأبو حاتم، كان إماما حافظا فهما من مشاهير العلماء... توفي سنة سبع وسبعين ومائتين " (1). وقال: " إمام عصره والمرجوع إليه في مشكلات الحديث.. كان من مشاهير العلماء المذكورين الموصوفين بالفضل والحفظ والرحلة.. وكان أول من كتب الحديث.. وكان أحمد بن سلمة يقول: ما رأيت بعد إسحاق - يعني ابن راهويه - ومحمد بن يحيى أحفظ للحديث ولا أعلم بمعانيه من أبي حاتم محمد بن إدريس. قال أبو حاتم: قال لي هشام بن عمار يوما: أي شئ تحفظ من الأذواء؟ قلت له: ذو الإصبع وذو الجوشن وذو الزوائد وذو اليدين وذو اللحية الكلابي وعددت له ستة، فضحك وقال: حفظنا نحن ثلاثة وزدت أنت ثلاثة مات أبو حاتم بالري في شعبان سنة سبع وسبعين ومائتين " (2). وذكره ابن الأثير وقال: " وهو من أقران البخاري ومسلم " (3). وقال الذهبي: " أبو حاتم الرازي الإمام الحافظ الكبير محمد بن إدريس ابن المنذر الحنظلي أحد الأعلام، ولد سنة خمس وتسعين ومائة، قال: كتبت الحديث سنة تسع ومائتين. قلت: رحل وهو أمرد فسمع عبيد الله بن موسى ومحمد بن عبد الله الأنصاري والأصمعي وأبا نعيم وهوذة بن خليفة وعفان وأبا مسهر وأمما سواهم، وبقي في الرحلة زمانا، فقال: أول ما رحلت أقمت سبع سنين
(1) الأنساب - الجزى. (2) المصدر - الحنظلي. (3) الكامل في التاريخ 6 / 67. 94 أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ، ثم تركت العدد، وخرجت من البحرين إلى مصر ماشيا ثم إلى الرملة ماشيا ثم إلى طرسوس ولي عشرون سنة قلت ألحق عبيد الله فأتيته قبل موته بشهرين، قال: وكتبت عن النفيلي نحو أربعة عشر ألفا، وسمع مني محمد بن المصفى أحاديث. قلت: وحدث عنه يونس بن عبد الأعلى ومحمد بن عون الطاعي وأبو داود والنسائي وأبو عوانة الأسفرائني وأبو الحسن علي بن إبراهيم القطان وأبو عمر وأحمد بن محمد بن حكيم وعبد الرحمن بن حمدان الجلاب وعبد المؤمن بن خلف النسفي وخلق كثير. قال محمد بن إسحاق الأنصاري القاضي: ما رأيت أحفظ من أبي حاتم، وقال محمد بن سلمة الحافظ: ما رأيت بعد محمد بن يحيى أحفظ للحديث ولا أعلم بمعانيه من أبي حاتم، وقال النسائي ثقة، وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: قلت على باب أبي الوليد الطيالسي: من اغرب علي حديثا صحيحا فله درهم - وكان ثم خلق أبو زرعة فمن دونه، وإنما كان مرادي أن يلقى علي ما لم اسمع به لأذهب به إلى راويه فأسمعه - فلم يتهيأ لأحد أن يغرب علي... " (1). وترجم له الذهبي في (سير أعلام النبلاء 13 / 247) و (الكاشف 3 / 18) و (دول الاسلام 1 / 132) و (العبر 2 / 58) قال في الأخير حوادث 277 -: " فيها توفي حافظ المشرق أبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلي الرازي في شعبان وهو في عشر التسعين، وكان بارع الحفظ، واسع الرحلة، من أوعية العلم، سمع محمد بن عبد الله الأنصاري وأبا مسهر وخلقا لا يحصون، وكان جاريا في مضمار البخاري وأبي زرعة الرازي ". وكذا جاء في (مرآة الجنان) في حوادث السنة المذكورة.
(1) تذكرة الحفاظ 2 / 567. 95 وقال الحافظ ابن حجر: " أحد الحفاظ، من الحادية عشر " (1). وقال السيوطي: " أحد الأئمة الحفاظ، روى عن أحمد وآدم بن أبي أياس وأبي خيثمة وقتيبة وخلق، وعنه أبو داود والنسائي وابن ماجة وآخرون، قال الخطيب: كان أحد الأئمة الحفاظ الاثبات، مشهورا بالعلم مذكورا بالفضل، وثقه النسائي وغيره، وقال ابن يونس: قدم مصر قديما وكتب بها وكتب عنه. مات بالري سنة خمس وقيل سبع وسبعين ومائتين " (2). 2 - طعن الترمذي فيه لقد طعن أبو عيسى الترمذي في سند هذا الحديث برواية ابن مسعود - وإن رواه عن حذيفة وحسن رجاله - وذلك حيث قال: " حدثنا إبراهيم ابن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل، ثنى أبي عن أبيه سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقتدوا باللذين من بعدي من أصحابي أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدى عمار، وتمسكوا بعهد ابن مسعود. هذا حديث غريب من هذا الوجه من حديث ابن مسعود، لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سلمة بن كهيل، ويحيى بن سلمة يضعف في الحديث، وأبو الزعراء اسمه عبد الله بن هاني، وأبو الزعراء الذي روى عنه شعبة والثوري وابن عيينة اسمه عمرو بن عمرو، وهو ابن أخي أبي الأحوص صاحب ابن مسعود " (3). أقول: لقد اكتفى الترمذي بهذا المقدار في تضعيفه، ونحن نضيف إلى كلامه بعض كلماتهم في رجاله:
(1) تقريب التهذيب 2 / 142. (2) طبقات الحفاظ 255. (3) صحيح الترمذي 5 / 672. 96 أما إبراهيم بن إسماعيل فقد قال الذهبي: " لينه أبو زرعة وتركه أبو حاتم، يروي عن أبيه، تأخر " (1). وفي (المغني): " غمزه أبو زرعة وتركه أبو حاتم " (2). وأضاف ابن حجر العسقلاني: " وقال العقيلي عن مطين: كان ابن نمير لا يرضاه ويضعفه، وقال: روى أحاديث مناكير. قال العقيلي ولم يكن إبراهيم هذا بقيم الحديث... وذكره ابن حبان في الثقات فقال: في روايته عن أبيه بعض المناكير " (3). وقال الخزرجي: " اتهمه أبو زرعة " (4). وأما إسماعيل بن يحيى فقد قال الذهبي: " قال الدارقطني متروك " (5). وقال ابن حجر: " قال الدارقطني متروك، وتقدم الكلام عليه في ترجمة ابنه. قلت: ونقل ابن الجوزي عن الأزدي أنه قال: متروك " (6). وأما يحيى بن سلمة بن كهيل فقد قال البخاري: " منكر الحديث " (7). وقال أيضا: " في حديثه مناكير " (8).
(1) ميزان الاعتدال 1 / 20. (2) المغني في الضعفاء 1 / 10. (3) تهذيب التهذيب 1 / 106. (4) خلاصة تهذيب الكمال 1 / 14. (5) ميزان الاعتدال 1 / 254، والمغني في الضعفاء 89. (6) تهذيب التهذيب: 1 / 336. (7) التاريخ الصغير للبخاري 1 / 347. (8) الضعفاء للبخاري 119. 97 وقال النسائي: " متروك الحديث " (1). وقال المقدسي: " ضعفه ابن معين، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال البخاري: في حديثه مناكير، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال الترمذي: ضعيف، أما ابن حبان فذكره في الثقات " (2). وقال الذهبي: " ضعيف، مات سنة 172 " (3). وقال ابن حجر بعد الأقوال المتقدمة: " قلت: وذكره ابن حبان أيضا في الضعفاء فقال منكر الحديث جدا لا يحتج به، وقال النسائي في الكنى: متروك الحديث، وقال ابن نمير ليس ممن يكتب حديثه، وقال الدارقطني: متروك، وقال مرة: ضعيف وقال العجلي: ضعيف الحديث وكان يغلو في التشيع، وقال ابن سعد: كان ضعيفا جدا، وقال البخاري في الأوسط: منكر الحديث، وذكره يعقوب بن سفيان في باب من يرغب عن الرواية عنهم، وكنت أسمع أصحابنا يضعفونه، وقال الاجري عن أبي داود: ليس بشئ " (4). وأما أبو الزعراء فقد مر قدحه عن البخاري في الكلام على حديث: وتمسكوا بعهد ابن أم عبد، فليكن منك على ذكر.. 3 - إبطال البزار إياه لقد أنصف البزار إذ قال " لا يصح " كما عرفته بنص المناوي في [فيض القدير] ومن العجيب: إن (الدهلوي) يستدل في حاشية (التحفة)
(1) الضعفاء والمتروكين للنسائي 109. (2) الكمال في أسماء الرجال - مخطوط. (3) الكاشف 3 / 251. (4) تهذيب التهذيب 11 / 225. 98 بحديث أخرجه البزار في (مسنده) على أن أبا بكر أشجع من أمير المؤمنين عليه السلام. ولكنه لا يلتفت في المقام إلى طعن البزار في حديث الاقتداء فيدعي شهرته وتواتره.. على أنه قد وصفه في موضع آخر ب " عمدة محدثي أهل السنة " فهل يجوز له الاستدلال بحديث ضعفه " عمدة المحدثين " فضلا عن دعوى شهرته وتواتره؟ ولا بأس بذكر كلمات لهم في الثناء على البزار: ترجمة البزار قال أبو نعيم: " أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البصري أبو بكر البزار الحافظ، قدم أصبهان مرتين " (1). وقال السيوطي: " البزار - الحافظ العلامة الشهير أبو بكر.. صاحب المسند الكبير المعلل، رحل بآخر عمره إلى أصبهان ونشر علمه، مات بالرملة سنة 292 " (2). وقال الأزهري في (أسانيده): " قال ابن أبي خيثمة، هو ركن من أركان الاسلام، وكان يشبه بابن حنبل في زهده وورعه ". 4 - إبطال العقيلي إياه لقد أورد العقيلي حديث الاقتداء في كتاب (الضعفاء) وأنكره كما ستعرف ذلك من عبارة ابن حجر العسقلاني. ترجمة العقيلي ولقد أثنى على العقيلي علماء الرجال ووصفوه بكل جميل.. راجع
(1) تاريخ أصبهان 1 / 104. (2) طبقات الحفاظ 285. 99 (تذكرة الحفاظ 3 / 833) و (العبر في خبر من غبر 2 / 198) و (طبقات الحفاظ 346). وهذه خلاصة ما جاء في (تذكرة الحفاظ): " العقيلي، الحافظ الإمام صاحب كتاب الضعفاء الكبير. قال سلمة بن القاسم: كان العقيلي جليل القدر عظيم الخطر ما رأيت مثله وكان كثير التصانيف، فكان من أتاه من المحدثين قال: اقرأ من كتابك ولا تخرج أصله، فتكلمنا في ذلك وقلنا إما أن يكون أحفظ الناس وإما أن يكون من اكذب الناس واجتمعنا عليه، فلما أتيت بالزيادة والنقص فطن لذلك، فأخذ مني الكتاب وأخذ القلم فأصلحها من حفظه، فانصرفنا من عنده وقد طابت أنفسنا وعلمنا أنه من أحفظ الناس. وقال الحافظ أبو الحسن بن سهل القطان: أبو جعفر ثقة جليل القدر، عالم بالحديث، مقدم في الحفظ، توفي سنة 322 ". 5 - تضعيف النقاش إياه لقد نص النقاش على أن هذا الحديث " واه " فقد قال الذهبي بترجمة أحمد ابن محمد بن غالب الباهلي: " ومن مصائبه قال: حدثنا محمد بن عبد الله العمري حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ". فهذا ملصق بمالك. وقال أبو بكر النقاش وهو واه " (1). وكلام النقاش هذا دليل متين على سقم هذا الحديث، إذ النقاش كان ممن ولع بجمع الموضوعات والاعتماد عليها، وتفسيره ملئ بها كما لا يخفى على من راجع (طبقات الحفاظ للحافظ السيوطي 371).
(1) ميزان الاعتدال 1 / 142. 100 6 - تضعيف الدارقطني إياه لقد صرح الدارقطني بعدم ثبوت هذا الحديث المنقول عن ابن عمر وضعف راويه، كما ستعرف ذلك إن شاء الله من عبارة ابن حجر العسقلاني. ترجمة الدارقطني وكتب الرجال والتاريخ مشحونة بالثناء على الدارقطني وإطرائه، وإليك بعض مصادر ترجمته: الأنساب - الدارقطني. الكامل في التاريخ، حوادث 385. وفيات الأعيان 2 / 459. تذكرة الحفاظ 3 / 991. العبر 3 / 28. طبقات السبكي 3 / 462. طبقات الأسنوي 1 / 508. طبقات القراء 1 / 559. طبقات الحفاظ 393. وقد أوردنا طرفا من كلماتهم في مجلد (حديث الطير). 7 - إبطال ابن حزم إياه لقد صرح ابن حزم بعدم صحة حديث الاقتداء، فقد قال في استخلاف أبي بكر: " وأيضا: فإن الرواية قد صحت بأن امرأة قالت يا رسول الله: أرأيت إن رجعت ولم أجدك؟ كأنها تريد الموت قال: فأتي أبا بكر. وهذا نص جلي على استخلاف أبي بكر. وأيضا: فإن الخبر قد جاء من الطرق الثابتة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها في مرضه الذي توفي فيه عليه السلام: هممت أن أبعث إلى أبيك وأخيك فأكتب
101 كتابا وأعهد عهدا لكيلا يقول قائل: أنا أحق، أو يتمنى متمن، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر، وروي أيضا ويأبى الله والنبيون إلا أبا بكر. فهذا نص جلي على استخلافه عليه الصلاة والسلام أبا بكر على ولاية الأمة بعده. قال أبو محمد: ولو أننا نستجير التدليس والأمر الذي لو ظفر به خصومنا طاروا به فرحا أو أبلسوا أسفا لاحتججنا بما روي: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر. قال أبو محمد: ولكنه لم يصح، ويعيذنا الله من الاحتجاج بما لا يصح " (1). أقول: وفي هذا الكلام فوائد لا تخفى عليه النبيه. ولقد ظهر أيضا قدحه في هذا الحديث من عبارة (فيض القدير) كما تقدم. ترجمة ابن حزم قال السمعاني ما ملخصه: " الحافظ المعروف بابن حزم من أفضل أهل عصره بالأندلس وبلاد المغرب، له التصانيف والكتب المفيدة، وكان حافظا في الحديث، وكان يميل إلى مذهب أهل الظاهر " (2). وقال الذهبي ما ملخصه: " وكان إليه المنتهى في الذكاء وحدة الذهن وسعة العلم بالكتاب والسنة والمذاهب والملل والنحل والعربية والأدب والمنطق والشعر، مع الصدق والأمانة والديانة والحشمة والسؤدد والرياسة والثروة وكثرة الكتب... " (3). وقال السيوطي: " ابن حزم الإمام العلامة الحافظ الفقيه أبو محمد علي ابن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف الفارسي الأصل الترمذي الأموي مولاهم القرطبي الظاهري. كان أولا شافعيا ثم تحول
(1) الفصل في الملل والنحل 4 / 88. (2) الأنساب - اليزيدي. (3) العبر 3 / 239، دول الاسلام 1 / 207. 102 ظاهريا وكان صاحب فنون وورع وزهد، وإليه المنتهى في الذكاء والحفظ وسعة الدائرة في العلوم، أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الاسلام وأوسعهم معرفة مع توسعه في علوم اللسان والبلاغة والشعر والسير والأخبار، له (المجلي) على مذهبه واجتهاده، وشرحه (المحلى) و (الملل والنحل) و (الايصال في فقه الحديث) وغير ذلك. آخر من روى عنه بالإجارة أبو الحسن شريح بن محمد. مات في جمادي الأولى سنة سبع وخمسين وأربعمائة " (1). 8 - تنصيص العبري على أنه موضوع لقد صرح العبري الفرغاني بوضع حديث الاقتداء حيث قال: " وقيل: إجماع الشيخين حجة لقوله صلى الله عليه وسلم: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، فالرسول أمرنا بالاقتداء بهما، والأمر للوجوب وحينئذ يكون مخالفتهما حراما، ولا نعني بحجية إجماعهما سوى ذلك. الجواب: إن الحديث موضوع لما بينا في شرح الطوالع " (2). ترجمة الفرغاني ولقد قال الأسنوي بترجمة الفرغاني ما نصه: " الشريف برهان الدين عبيد الله الهاشمي الحسيني المعروف بالعبري - بعين مكسورة ثم باء موحدة ساكنة - كان أحد الأعلام في علم الكلام والمعقولات، ذا حظ وافر من باقي العلوم، وله التصانيف المشهورة.. " (3). وقال ابن حجر العسقلاني: " كان عارفا بالأصلين وشرح مصنفات ناصر الدين البيضاوي... وذكره الذهبي في المشتبه في العبري فقال: عالم كبير في وقتنا وتصانيفه سائرة، ومات في شهر رجب سنة 743.
(1) طبقات الحفاظ 436. (2) شرح المنهاج - مخطوط. (3) طبقات الشافعية 2 / 236. 103 قلت: رأيت بخط بعض فضلاء العجم أنه مات في غرة ذي الحجة منها وهو أثبت، ووصفه فقال: هو الشريف المرتضى قاضي القضاة، كان مطاعا عند السلاطين، مشهورا في الآفاق مشارا إليه في جميع الفنون، ملاذ الضعفاء كثير التواضع والانصاف... " (1). وقال اليافعي: " الإمام العلامة قاضي القضاة عبيد الله بن محمد العبري الفرغاني الحنفي البارع العلامة المناظر، يضرب بذكائه ومناظرته المثل، كان إماما بارعا متفننا، تخرج به الأصحاب، يعرف المذهبين الحنفي والشافعي وأقرأهما وصنف فيهما، وأما الأصول والمعقول فتفرد فيهما بالإمامة، وله تصانيف... وكان أستاذ الأستاذين في وقته " (2). وبمثل ما تقدم ترجمه الشوكاني في (البدر الطالع 1 / 411) وتقي الدين ابن قاضي شهبة الأسدي في (طبقات الشافعية - 2 / 183). 9 - تغليط الذهبي إياه لقد غلط الذهبي حديث الاقتداء المروي عن ابن عمر، وأظهر بطلانه مرة بعد أخرى، فقال: " أحمد بن صليح عن ذي النون المصري عن مالك عن نافع عن ابن عمر بحديث اقتدوا باللذين من بعدي. وهذا غلط، وأحمد لا يعتمد عليه " (3). وقال: " أحمد بن محمد بن غالب الباهلي غلام خليل عن إسماعيل بن أبي أويس وشيبان وقرة بن حبيب، وعنه ابن كامل وابن السماك وطائفة، وكان من كبار الزهاد ببغداد، قال ابن عدي سمعت أبا عبد الله النهاوندي يقول قلت لغلام خليل: ما هذه الرقائق التي تحدث بها؟ قال: وضعناها لنرقق بها قلوب العامة.
(1) الدرر الكامنة 2 / 433. (2) مرآة الجنان 4 / 306. (3) ميزان الاعتدال 1 / 105. 104 وقال أبو داود: أخشى أن يكون دجال بغداد، وقال الدارقطني متروك. ومن مصائبه قال: حدثنا محمد بن عبد الله العمري حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر. فهذا ملصق بمالك، وقال أبو بكر النقاش وهو واه. قال أبو جعفر بن الشعيري: لما حدث غلام خليل عن بكر بن عيسى عن أبي عوانة قلت له: يا أبا عبد الله ما هذا الرجل؟ هذا حدث عنه أحمد بن حنبل وهو قديم لم تدركه، ففكر في هذا، فقلت: لعله آخر اسمه ذلك؟ فسكت، فلما كان من الغد قال لي يا أبا جعفر، علمت أني نظرت البارحة في من سمعت عليه بالبصرة ممن يقال له بكر بن عيسى، فوجدتهم ستين رجلا " (1). وقال: " محمد بن عبد الله بن عمر بن القاسم بن عبد الله بن عبيد الله ابن عاصم بن عمر بن الخطاب العدوي العمري، ذكره العقيلي وقال لا يصح حديثه ولا يعرف بنقل الحديث. حدثنا أحمد بن الخليل حدثنا إبراهيم بن محمد الحلبي حدثني محمد ابن عبد الله بن عمر بن القاسم أنا مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعا: اقتدوا باللذين من بعدي. فهذا لا أصل له من حديث مالك، بل هو معروف من حديث حذيفة ابن اليمان وقال الدارقطني: البصري هذا يحدث عن مالك بأباطيل، وقال ابن مندة: له مناكير " (2). فظهر أن هذا الحديث مصنوع موضوع. وقال الذهبي: " عن يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه عن أبي الزعراء عن ابن مسعود مرفوعا: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، واهتدوا
(1) ميزان الاعتدال 1 / 141. (2) ميزان الاعتدال 3 / 610. 105 بهدى عمار، وتمسكوا بعهد ابن مسعود. قلت: سنده واه جدا " (1). وقال المناوي بشرح الحديث برواية ابن مسعود: " ورواه ك عن ابن مسعود باللفظ المذكور. قال الذهبي وسنده واه حدا " (2). 10 - إبطال ابن حجر إياه لقد قال ابن حجر العسقلاني - مقتفيا أثر الذهبي - " أحمد بن صليح عن ذي النون المصري عن مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: بحديث " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " وهذا غلط، وأحمد لا يعتمد عليه " (3). وقال بعد كلام الذهبي المتقدم حول غلام خليل: " وقال الحاكم سمعت الشيخ أبا بكر بن إسحاق يقول: أحمد بن محمد بن غالب ممن لا أشك في كذبه، وقال أبو أحمد الحاكم: أحاديثه كثيرة لا تحصى كثرة وهو بين الأمر في الضعف، وقال أبو داود: قد عرض علي من حديثه فنظرت في أربعمائة حديث أسانيدها ومتونها كذب كلها، وروى عن جماعة من الثقات أحاديث موضوعة على ما ذكره لنا القاضي أحمد بن كامل مع زهده وورعه، ونعوذ بالله من ورع يقين صاحبه ذلك المقام... " (4). وقال بعد كلام الذهبي في محمد بن عبد الله العمري: " وقال العقيلي بعد تخريجه: هذا ديث منكر لا أصل له، وأخرجه الدارقطني من رواية أحمد الخليلي الضمري بسنده، وساق بسند كذلك ثم قال: لا يثبت، والعمري هذا
(1) تلخيص المستدرك 3 / 75. (2) فيض القدير 2 / 57. (3) لسان الميزان 1 / 188. (4) لسان الميزان 1 / 272. 106 ضعيف... " (1). 11 - إبطال الهروي إياه لقد قال شيخ الاسلام الهروي ما نصه: " من موضوعات أحمد الجرجاني: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر. باطل " (2). والخلاصة: قد ثبت بطلان حديث " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " وبأن وضعه، وظهر كذب (الدهلوي) في زعمه شهرته وتواتره، والحمد لله رب العالمين.
(1) لسان الميزان 5 / 237. (2) الدر النضيد 97. 107 ثم إن (الدهلوي) لم يكتف بإيراد حديث الاقتداء في متن (التحفة) فأضاف في حاشيتها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر فإنهما حبل الله الممدود، من تمسك بهما فقد تمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها. أخرجه الطبراني عن أبي الدرداء، وله طرق أخرى. أقول: وهذا أيضا باطل لوجوه: الأول: إنه لم يعرف سنده حتى ينظر فيه، فلا يجوز الاستدلال به. الثاني: إنه غير مخرج في الكتب الملتزم فيها الصحة، فلا يصغى إليه. الثالث: لقد أخرجه الطبراني في (المعجم الكبير) على ما في (كنز العمال 12 / 171)، ولكن الطبراني لم يلتزم فيه الصحة كالبخاري ومسلم وأمثالهما، ولم يصرح بصحة هذا الحديث بالخصوص، كما لم يقل بصحته أحد من مشاهير حفاظهم الثقات، بل لم يدع ذلك حتى غير الثقات من علمائهم. الرابع: لقد جعل (الدهلوي) في (أصول الحديث) - تبعا لوالده -
108 تصانيف الطبراني من جملة الكتب التي لم يلتزم فيها بالصحة، ونص على أنها لم تبلغ المرتبة الأولى ولا الثانية من مراتب الشهرة والقبول، واعترف بأنها تضم الأحاديث الضعيفة بل فيها ما رمي بالوضع، وأن في رواتها المستورين والمجاهيل، وذكر أن أكثر أحاديث معاجمه غير معمول بها لدى الفقهاء، بل فيها ما انعقد الإجماع على خلافه. فإذا كان هذا حال كتب الطبراني حسب تصريحه، فإن مجرد وجود حديث أبي الدرداء في كتاب منها لا يدل على اعتباره ولا يجوز الاعتماد عليه، والاستناد إليه (1)... فما الذي دعاه إلى أن يحتج بهذا السياق إذن؟ إن الذي دعاه إلى ذلك وصف الشيخين فيه ب " حبل الله الممدود ".. نعم هذا ما دعاه إليه، وانخدع به، فأتى به معارضا لحديث " الثقلين ". ثم قال (الدهلوي) قالت الشيعة هذا خبر واحد، فلا يجوز التمسك به فيما يطلب فيه اليقين. قلنا: ليس أقل من خبر الطير ولا من خبر المنزلة، وهم يدعون فيما يوافق مذهبهم التواتر وفيما يخالفه الآحاد تحكما، فلا يكون هذا إلا دعاء مقبولا.. شرح المواقف. أقول: لا يخلو نقله عن تصرف ما، وهذا نص ما جاء في (شرح المواقف): " السادس: قوله عليه السلام اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، أقل مراتب الأمر الجواز. قالت الشيعة: هذا خبر واحد فلا يجوز أن يتمسك به فيما يطلب فيه اليقين. قلنا: ليس أقل من خبر الطير الذي يعولون به على
(1) بل اعترف الحافظ الهيثمي بضعف هذا الحديث من هذا الوجه خاصة حيث قال (مجمع الزوائد 9 / 53): وعن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، فإنهما حبل الله المدود ومن تمسك بهما فقد تمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها. رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفهم. وقد بحثنا عن هذا الحديث سندا ودلالة في العدد الثاني من سلسلتنا في الأحاديث الموضوعة. (الميلاني) 109 الأفضلية كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ولا من خبر المنزلة الذي مر، وهم يدعون فيما يوافق مذهبهم التواتر، وفيما يخالفه الآحاد تحكما، فلا يكون ذلك إلا دعاء مقبولا. أقول: وهذا فاسد. فأما قوله: " قالت الشيعة: هذا خبر واحد فلا يجوز أن يتمسك به فيما يطلب فيه اليقين " فلا يخلو من تلبيس، لأن من راجع كتب الشيعة علم أنهم يعتبرون هذا الحديث من موضوعات أهل السنة، ويثبتون فساده وبطلانه سندا ومتنا.. كما في (الشافي لعلم الهدى) و (منهاج الكرامة للعلامة الحلي) وكيف لا يكون كذلك؟ وقد اعترف بوضعه كبار حفاظ أهل السنة، ولو جاء في كلام أحد منهم أنه خبر واحد فإنما كان على سبيل التنزل وعلى فرض تسليم الصحة. وأما قوله: " ليس أقل من خبر الطير.. ولا من خبر المنزلة.. " فظاهر الفساد كما لا يخفى على من راجع المجلدين المختصين بهما، حيث أثبتنا هناك تواترهما على ضوء كلمات أئمة الحديث من أهل السنة. وأما قوله: " وهم يدعون فيما يوافق مذهبهم التواتر، وفيما يخالفه الآحاد تحكما " فباطل، لأنهم لا يدعون تواتر حديث من الأحاديث في الإمامة والكلام إلا بالاستناد إلى كلمات علماء الخصم.. كما لا يخفى على من راجع كتبهم الكلامية. ويتجلي للمتتبع عكس ذلك لدى أهل السنة، فإنهم يدعون التواتر فيما يذكرونه لمعارضة براهين أهل الحق، وهو لم يبلغ أدنى مراتب الثبوت فضلا عن التواتر. فنسبة التحكم إلى أهل الحق مكابرة ومصادمة للواقع والحقيقة. وأما قوله: " فلا يكون ذلك الادعاء مقبولا " فمكابرة واضحة: لأن الشيعة يبطلون حديث الاقتداء من أصله، وأما أهل السنة فمنهم من يصرح ببطلانه ووضعه ومنهم من يصرح بأنه من الآحاد، فليس ادعاء كونه من
110 الآحاد من علماء الشيعة، ونحن وإن كنا في غنى عن ذكر كلمات القائلين بذلك منهم - بعد ثبوت وضعه من كلمات كبار أئمتهم وحفاظهم - لكنا ننقل في المقام بعض عباراتهم الزاما لشارح المواقف و (الدهلوي) وتبيينا لكذبهما.. قال الآمدي في الجواب عن مطاعن عمر: " وقد ورد في حقه من النصوص والأخبار ما يدرء عنه ما قيل من الترهات، وهي وإن كانت أخبار آحاد غير أن مجموعها ينزل منزلة التواتر، فمن ذلك قوله عليه السلام: إن في أمتي لمحدثين، وإن عمر منهم، وقوله عليه السلام: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " (1). وقال ابن الهمام في مبحث الإجماع بعد أن ذكر حديث الاقتداء وحديث عليكم بسنتي وسنة الخلفاء.. " أجيب: يفيدان أهلية الاقتداء لا منع الاجتهاد وعليه أن ذلك مع إيجابه، إلا أن يدفع بأنه آحاد " (2). وقرره ابن أمير الحاج (3). وقال نظام الدين السهالوي في (الصبح الصادق) في المبحث المذكور بعد الحديثين المذكورين " والجواب: إنهما من أخبار الآحاد فلا يثبت به حجية الإجماع القطعي الحجية ". وفيه أيضا: ويمكن أن يجاب أيضا بأنهما من الآحاد، وأدلتنا الدالة على حجية الإجماع معممة وهي قطعية، فلا يعارضانها ". وكذا قال عبد العلي (4). هذا، ولم يجد الفخر الرازي بدا من الاعتراف بذلك، فقد قال في الجواب عن الأحاديث المستدل بها على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام:
(1) أبكار الأفكار للآمدي 2 / 112. (2) التحرير لابن همام بشرح ابن أمير الحاج 3 / 98. (3) التقرير والتحبير في شرح التحرير 3 / 98. (4) فواتح الرحموت في شرح مسلم الثبوت 2 / 509. 111 " الطريقة الخامسة لهم: التمسك بأخبار آحاد رووها منها قوله عليه السلام سلموا على علي بإمرة المؤمنين، ومنها قوله عليه السلام: إنه سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين، وقال عليه السلام: هذا ولي كل مؤمن ومؤمنة، وقال عليه السلام لعلي: أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني. والاعتراض: إنها بأسرها معارضة بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إيتوني بدواة وقلم أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه اثنان، ثم قال يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر. وأيضا عينه للإمامة في الصلاة وما عزله عنها فوجب أن يبقى إماما على الصلاة، وكل من ثبت إمامته في الصلاة بعد الرسول أثبت إمامته مطلقا، فوجب القول بإمامته. وروي عن أنس بعد الرسول أثبت إمامته مطلقا، فوجب القول بإمامته. وروي عن أنس رضي الله عنه: إن النبي أمره عند إقبال أبي بكر أن يبشره بالجنة وبالخلافة بعده... وبما روي أنه عليه السلام قال: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر. والكلام على صحة هذه الأحاديث من الجانبين وفي دلالتها على المطلوب طويل، ولكنها عن إفادة اليقين بمعزل، لكونها من أخبار الآحاد عند التحقيق وإن كان كل واحد من الفريقين يدعي في خبره كونه متواترا ويطعن فيما يرويه مخالفه ". أقول: فمن القائل بكون هذا الحديث من أخبار الآحاد إذن؟! وقد ثبت أن القائلين بوضعه منهم أكثر عددا وأجل قدرا... قوله: " فاللازم أن يكون هؤلاء كلهم أئمة ". أقول: إنما يلزم ذلك لو كان قد صح ما استدل به شئ من الأحاديث، ولكن قد ظهر سقوط جميع ما زعمه معارضا لحديث الثقلين سندا ودلالة ومتنا فدعوى لزوم إمامة الحميراء وعمار وابن مسعود ومعاذ بن جبل وأبي بكر بن أبي قحافة وعمر بن الخطاب باطلة.
112 دحض المعارضة بحديث: أصحابي كالنجوم
113 هذا.. وكأن (الدهلوي) يعلم بعدم نهوض تلك الأحاديث الموضوعة حجة في مقابلة حديث الثقلين، فأضاف إليها حديثا آخر، وهو " حديث النجوم " فقال في حاشية [التحفة]: " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به، لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة مني ماضية، فإن لم يكن مني سنة ماضية فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة. أخرجه البيهقي بسنده في المدخل عن ابن عباس ". حديث النجوم موضوع سندا عنه الأئمة أقول: لكنه أيضا موضوع باطل كما نص على ذلك كبار الأئمة والحفاظ: 1 - أحمد بن حنبل لقد كذب أحمد بن حنبل حديث النجوم وحكم بوضعه، قال ابن أمير
115 الحاج.. " قال أحمد: لا يصح " (1). وقال نظام الدين في (الصبح الصادق في شرح المنار) وعبد العلي في (فواتح الرحموت 2 / 510): " قال ابن حزم في رسالته الكبرى: مكذوب موضوع باطل، وبه قال أحمد والبزار ". 2 - المزني لم يصحح أبو إبراهيم المزني - صاحب الشافعي - هذا الحديث، وقد ذكر له - إن صح - معنى هو بعيد عن الصواب بكثير، قال ابن عبد البر: قال المزني رحمه الله في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم، قال: إن صح هذا الخبر فمعناه فيما نقلوا عنه وشهدوا به عليه: فكلهم ثقة مؤتمن على ما جاء به، لا يجوز عندي غير هذا، وأما ما قالوا فيه برأيهم فلو كان عند أنفسهم كذلك ما خطأ بعضهم بعضا ولا أنكر بعضهم على بعض ولا رجع منهم أحد إلى قول صاحبه، فتدبر " (2). ترجمة المزني وترجم له ابن خلكان بما ملخصه: " أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني صاحب الإمام الشافعي هو من أهل مصر، كان زاهدا عالما مجتهدا محجاجا غواصا على المعاني الدقيقة، وهو إمام الشافعيين وأعرفهم بطرقه وفتاواه وما ينقله عنه، صنف كتبا كثيرة في مذهب الإمام الشافعي، وقال الشافعي في حقه: المزني ناصر مذهبي. وكان في غاية الورع، وبلغ من احتياطه أنه كان يشرب في جميع فصول السنة من كوز نحاس، فقيل له في ذلك، فقال: بلغني أنهم يستعملون
(1) التقرير والتحبير في شرح التحرير 3 / 99. (2) جامع بيان العلم 2 / 89 - 90. 116 السرجين في النيران والنار لا تطهرها، وكان من الزهد على طريقة صعبة شديدة، وكان مجاب الدعوة، ولم يكن أحد من أصحاب الشافعي يحدث نفسه في شئ من الأشياء بالتقدم عليه، وهو الذي تولى غسل الإمام الشافعي، وقيل: كان معه أيضا حينئذ الربيع. وذكره ابن يونس في تاريخه ثم قال: صاحب الشافعي، وقال: كانت له عبادة وفضل، ثقة في الحديث لا يختلف فيه، حاذق من أهل الفقه، وكان أحد الزهاد في الدنيا، وكان من خير خلق الله عز وجل. ومناقبه كثيرة، وتوفي لست بقين من شهر رمضان سنة أربع وستين ومأتين بمصر، ودفن بالقرب من تربة الإمام الشافعي " (1). وقال السبكي: " الإمام الجليل أبو إبراهيم المزني ناصر المذهب وبدر سمائه... كان جبل علم، مناظرا محجاجا، قال الشافعي رضي الله عنه في وصفه: لو ناظر الشيطان لغلبه، وكان زاهدا ورعا متقللا من الدنيا، مجاب الدعوة، وكان إذا فاتته صلاة في جماعة صلاها خمسا وعشرين مرة، ويغسل الموتى تعبدا واحتسابا ويقول: افعله ليرق قلبي.. قال الشافعي: المزني ناصر مذهبي. " (2). وانظر: (حسن المحاضرة 1 / 307) و (مرآة الجنان 2 / 167 - 178) و (العبر 2 / 28) وغيرها. 3 - البزار لقد طعن الحافظ البزار في حديث النجوم، فقد قال ابن عبد البر: " وعن محمد بن أيوب الرقي قال قال لنا أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار: سألتم عما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم مما في أيدي
(1) وفيات الأعيان 1 / 196. (2) طبقات الشافعية 2 / 93. 117 العامة يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أصحابي كمثل النجوم، أو أصحابي كالنجوم فبأيها اقتدوا اهتدوا. قال: وهذا الكلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. رواه عبد الرحيم بن زيد العمى عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وربما رواه عبد الرحيم عن أبيه عن ابن عمر. وإنما أنى ضعف هذا الحديث من قبل عبد الرحيم بن زيد، لأن أهل العلم قد سكتوا عن الرواية لحديثه. والكلام أيضا منكر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي فعضوا عليها بالنواجذ، وهذا الكلام يعارض حديث عبد الرحيم لو ثبت فكيف ولم يثبت، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يبيح الاختلاف بعده من أصحابه، والله أعلم. هذا آخر كلام البزار " (1). وفيه وجوه عديدة في قدح حديث النجوم تقدم بيانها في القسم الثاني من مجلد (حديث مدينة العلم). وقد نقل هذا الكلام عن البزار واعتمده جماعة كبيرة من علمائهم منهم: ابن حزم في (رسالته) وابن تيمية في (منهاجه) وأبو حيان في (تفسيريه) وابن مكتوم في (الدار اللقيط) وابن القيم في (أعلام الموقعين) والزين العراقي في (تخريج المنهاج) وابن حجر في (تخريج المختصر) و (تخريج الرافعي الكبير) وابن أمير الحاج في (التقرير والتحبير) والقاري في (شرح الشفاء) والمناوي في (شرح الجامع الصغير) ونظام الدين في (الصبح الصادق) وعبد العلي في (فواتح الرحموت).
(1) جامع بيان العلم 2 / 90. 118 4 - ابن القطان لقد أورد الحافظ ابن عدي المعروف بابن القطان هذا الحديث في (الكامل) وموضوعه الضعفاء والمقدوحون وموضوعاتهم، بترجمة جعفر بن عبد الواحد، وحمزة النصيبي، كما ستعرف ذلك من كلام الزين العراقي. ترجمة ابن عدي وترجم له السمعاني بما ملخصه: " وأبو أحمد عبد الله ابن عدي بن عبد الله ابن محمد الجرجاني المعروف بابن القطان الحافظ، حافظ عصره، صنف في معرفة ضعفاء المحدثين كتابا مقدار ستين جزءا سماه (الكامل) وكان حافظا متقنا لم يكن في زمانه مثله، تفرد بأحاديث، وقد كان وهب أحاديث تفرد بها لبنيه وأبي زرعة ومنصور، تفردوا بروايتها عن أبيهم. قال حمزة بن يوسف السهمي: سألت الدارقطني أن يصنف كتابا في ضعفاء المحدثين فقال: أليس عندك كتاب ابن عدي؟ قلت: نعم، قال: فيه كفاية، لا يزاد عليه. وكانت وفاته يوم السبت غرة ذي القعدة سنة سبع وسبعين ومائتين " (1). وقال الذهبي: " قال الخليلي: " كان عديم النظير حفظا وجلالة، سألت عبد الله بن محمد الحافظ: أيهما أحفظ ابن عدي أو ابن قانع؟ فقال: زر قميص ابن عدي أحفظ من عبد الباقي بن قانع. قال الخليلي: وسمعت أحمد بن أبي مسلم الحافظ يقول: لم أر أحدا مثل أبي أحمد ابن عدي، وكيف فوقه في الحفظ؟. وكان أحمد قد لقي الطبراني وأبا أحمد الحاكم وقد قال لي: كان حفظ هؤلاء تكلفا وحفظ ابن عدي طبعا،
(1) الأنساب - الجرجاني. 119 زاد معجمه على ألف شيخ... " (1). وكذا ترجم له في (العبر 6 / 337) واليافعي في (مرآة الجنان 2 / 381) وجلال الدين السيوطي في (طبقات الحفاظ). 5 - الدارقطني لقد قدح الدارقطني في حديث النجوم، فقد قال ابن حجر العسقلاني ما نصه: " جميل بن يزيد عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر رفعه: ما وجدتم في كتاب الله فالعمل به، ولا يسعكم تركه إلى غيره، الحديث، وفيه: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. أخرجه الدارقطني في غرائب مالك، والخطيب في الرواة عن مالك من طريق الحسن بن مهدي عن عبدة المروزي عن محمد بن أحمد السكوني عن بكر بن عيسى المروزي عن أبي يحيى عن جميل به. قال الدارقطني: لا يثبت عن مالك، ورواته مجهولون " (2). وسيأتي ذلك عن (تخريج أحاديث الكشاف لابن حجر) أيضا. 6 - ابن حزم لقد كذب ابن حزم هذا الحديث وأبطله وحكم بوضعه، فقد قال أبو حيان ما نصه: " قال الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن حزم في رسالته في إبطال الرأي والقياس والاستحسان والتعليل والتقليد ما نصه: وهذا خبر مكذوب موضوع باطل لم يصح قط " (3). وتجد كلام ابن حزم هذا في (النهر الماد) و (الدر اللقيط) و (تخريج
(1) تذكرة الحفاظ 3 / 940. (2) لسان الميزان 2 / 137. (3) البحر المحيط 5 / 528. 120 أحاديث المنهاج) و (التلخيص الحبير) و (التقرير والتحبير) و (المرقاة) و (نسيم الرياض) و (الصبح الصادق) و (فواتح الرحموت) كما ستعرف ذلك كله إن شاء الله تعالى. هذا، وقد نقل ابن حزم في رسالته المذكورة كلام البزار المتقدم سابقا وأيده كما سيأتي عن (البحر المحيط) وغيره، كما قدح فيه في كتابه (الاحكام في أصول الأحكام) أيضا. 7 - البيهقي لقد ضعف البيهقي حديث النجوم في (المدخل)، فقد قال الحافظ العراقي ما نصه: " ورواه البيهقي في المدخل من حديث عمر ومن حديث ابن عباس بنحوه، ومن وجه آخر مرسلا وقال: متنه مشهور وأسانيده ضعيفة، لم يثبت في هذا إسناد " (1). وسيأتي عن (تخريج أحاديث الكشاف) أيضا. ومن هنا يظهر خيانة (الدهلوي)، إذ نقل الحديث برواية ابن عباس عن (المدخل) وسكت عن تضعيف البيهقي إياه.. على أن البيهقي قد طعن فيه في كتابه (الاعتقاد) أيضا، حيث حكم في سنده الذي فيه عبد الرحيم بن زيد بأنه غير قوي، وفي سنده عن الضحاك بأنه حديث منقطع، كما سيأتي عن ابني حجر وأمير الحاج.. 8 - ابن عبد البر قال الحافظ أبو عمرو وابن عبد البر بعد كلام البزار والمزني المتقدمين: - " قال أبو عمرو: قد روى أبو شهاب الحناط عن حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أصحابي مثل
(1) تخريج أحاديث المنهاج - مخطوط. 121 النجوم، فأيهم أخذتم بقوله اهتديتم. وهذا إسناد لا يصح ولا يرويه عن نافع من يحتج به، وليس كلام البزار بصحيح على كل حال، لأن الاقتداء بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منفردين إنما هو لمن جهل ما يسأل عنه، ومن كانت هذه حاله فالتقليد لازم له، ولم يأمر أصحابه أن يقتدي بعضهم ببعض إذا تأولوا تأويلا سائغا جائزا ممكنا في الأصول، وإنما كل واحد منهم نجم جائز أن يقتدي به العامي الجاهل، بمعنى ما يحتاج إليه من دينه، وكذلك سائر العلماء من العامة، والله أعلم. وقد روي في هذا الحديث أسناد غير ما ذكر البزار عن سلام بن سليم قال حدثنا الحارث بن غصين عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. قال أبو عمرو: هذا إسناد لا تقوم به حجة، لأن الحارث بن غضين مجهول " (1). وقد ذكرنا فوائد هذا الكلام - مع الاعتراض على بعضه - في القسم الثاني من مجلد حديث (مدينة العلم). 9 - ابن عساكر لقد صرح الحافظ ابن عساكر بضعف هذا الحديث، كما ستعرف ذلك من (فيض القدير) إن شاء الله. ترجمة ابن عساكر وقد ترجم لابن عساكر وأثنى عليه جماعة كبيرة من أصحاب المعاجم الرجالية وكتب التاريخ منهم: ياقوت الحموي في (معجم الأدباء 13 / 73 - 87). ابن خلكان في (وفيات الأعيان 2 / 471).
(1) جامع بيان العلم 2 / 90 - 91. 122 الذهبي في (تذكرة الحفاظ 4 / 1328) و (دول الاسلام 2 / 85). اليافعي في (مرآة الجنان 3 / 393). السبكي في (طبقات الشافعية 4 / 273). أبو الفداء الأيوبي في (المختصر في أخبار البشر 3 / 59). ابن الوردي في (تتمة المختصر في أخبار البشر 2 / 124). جلال الدين السيوطي في (طبقات الحفاظ 474). الأسنوي في (طبقات الشافعية 2 / 216). الخوارزمي في (جامع مسانيد أبي حنيفة). وقد ذكرنا ترجمته بالتفصيل في مجلد (حديث الطير). 10 - ابن الجوزي لقد أورده الحافظ ابن الجوزي في (العلل المتناهية) قائلا: " روى نعيم بن حماد قال نا عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن عمر ابن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت ربي فيما يختلف فيه أصحابي من بعدي، فأوحى إلي يا محمد إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء، بعضها أضوء من بعض، فمن أخذ بشئ مما هم عليه من اختلافهم فهو على هدى. قال المؤلف: وهذا لا يصح، نعيم مجروح، وقال يحيى بن معين: عبد الرحيم كذاب " (1). 11 - ابن دحية وقد قدحه الحافظ ابن دحية قال الحافظ العراقي: " وقال ابن دحية - وقد ذكر حديث أصحابي كالنجوم - حديث لا يصح " (2).
(1) العلل المتناهية في الأحاديث الواهية 1 / 283. (2) تعليق تخريج أحاديث المنهاج - مخطوط. 123 ترجمة ابن دحية وترجم لابن دحية: ابن خلكان في (وفيات الأعيان 3 / 121). والسيوطي في (بغية الوعاة 2 / 218) و (حسن المحاضرة 1 / 355). والمقري في (نفح الطيب 2 / 301). والزرقاني في (شرح المواهب اللدنية 1 / 79 - 80). وقد ذكرنا ترجمته في مجلد (حديث الولاية). 12 - أبو حيان لقد قال الحافظ أبو حيان الأندلسي القول الفصل في حديث النجوم، وهذا نص كلامه: " قال الزمخشري فإن قلت: كيف كان القرآن تبيانا لكل شئ؟ قلت: المعنى أنه بين كل شئ من أمور الدين حيث كان نصا على بعضها، وإحالة على السنة حيث أمر باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته، وقيل " وما ينطق عن الهوى " وحثا على الإجماع في قوله " ويتبع غير سبيل المؤمنين "، وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته اتباع أصحابه والاقتداء بآثاره في قوله: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، وقد اجتهدوا وقاسوا ووطئوا طرق القياس والاجتهاد، فكانت السنة والاجماع والقياس مستنده إلى تبيين الكتاب، فمن ثم كان تبيانا لكل شئ. وقوله: وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم " إلى قوله " اهتديتم، لم يقل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حديث موضوع لا يصح بوجه عن رسول الله، قال الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن حزم في رسالته في إبطال الرأي والقياس والاستحسان والتعليل والتقليد ما نصه: وهذا خبر مكذوب عن النبي صلى الله عليه وسلم مما في أيدي العامة ترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنما مثل أصحابي كمثل النجوم - أو كالنجوم - بأيها اقتدوا
124 اهتدوا. وهذا كلام لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه عبد الرحيم بن زيد العمى عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما أتى ضعف هذا الحديث من قبل عبد الرحيم، لأن أهل العلم سكتوا عن الرواية لحديثه، والكلام أيضا منكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت، والنبي لا يبيح الاختلاف بعده من أصحابه. هذا نص كلام البزار. قال ابن معين: عبد الرحيم بن زيد كذاب ليس بشئ، وقال البخاري: هو متروك. ورواه أيضا حمزة الجزري. وحمزة هذا ساقط متروك " (1). ترجمة أبي حيان وقد ترجم صلاح الدين الصفدي أبا حيان بما هذا ملخصه: " الشيخ الإمام الحافظ العلامة فريد العصر وشيخ الزمان وإمام النحاة أثير الدين أبو حيان الغرناطي، لم أر في أشياخي أكثر اشتغالا منه، لأني لم أره إلا يسمع أو يشتغل أو يكتب، ولم أره على غير ذلك، وهو ثبت فيما ينقله، محرر لما يقوله، عارف باللغة، ضابط لألفاظها، وأما النحو والتصريف فهو إمام الدنيا فيهما، لم يذكر معه في أقطار الأرض غيره في العربية، وله اليد الطولى في التفسير والحديث والشروط والفروع وتراجم الناس وطبقاتهم وتواريخهم وحوادثهم، وله التصانيف التي سارت وطارت وانتشرت وانتثرت وقرئت ودرست ونسخت وما نسخت، أخملت كتب الأقدمين وألهت المقيمين بمصره والقادمين، وقرأ الناس عليه وصاروا أئمة وأشياخا في حياته " (2). وذكره الذهبي في (المعجم المختص) والكتبي في (فوات الوفيات 4 / 71).
(1) البحر المحيط 5 / 527 - 528، النهر الماد من البحر المحيط. (2) الوافي بالوفيات 5 / 267. 125 والسبكي وقال: " شيخنا وأستاذنا أبو حيان شيخ النحاة، العلم الفرد والبحر الذي لا يعرف الجزر بل المد... وكان الشيخ أبو حيان إماما منتفعا به اتفق أهل العصر على تقديمه وإمامته ونشأت أولادهم على حفظ مختصراته وآباؤهم على النظر في مبسوطاته، وضربت الأمثال باسمه مع صدق اللهجة وكثرة الاتقان والتحري، وسدد طرفا صالحا من الفقه... " (1). وقال الأسنوي بترجمته: " إمام زمانه في علم النحو، وصاحب التصانيف المشهورة فيه وفي التفسير شرقا وغربا والتلاميذ المنتشرة، كان أيضا إماما في اللغة، عارفا بالقراءات السبع والحديث، شاعرا مجيدا، وكان صادق اللهجة كثير الاتقان والتحري، ملازما على الاشتغال إلى آخر وقت، كثير الاستحضار واشتغل بالفروع اشتغالا قليلا... " (2). وترجم له ابن الجزري فقال: " الإمام الحافظ الأستاذ شيخ العربية والأدب والقراءات مع العدالة والثقة. قال الذهبي: ومع براعته الكاملة في العربية له يد طولى في الفقه والآثار والقراءات واللغات، وله مصنفات... وهو فخر أهل مصر في وقتنا في العلم، تخرج به جماعة... " (3). ذكره ابن حجر ونقل عن الكمال في ترجمته: " شيخ الدهر وعالمه، ومحيي الفن الأول بعد ما درست معالمه، وبحر اللسان العربي فلا يقاربه أحد فيه ولا يقاومه، وذكر أنه لازمه من سنة ثماني عشرة إلى أن مات، وذكر جملة كثيرة من شيوخه، وذكر تصانيفه وذكر أنه كان صدوقا حجة سالم العقيدة من البدع الفلسفية والاعتزال والتجسيم، وجرى على مذهب أهل الأدب في الميل إلى محاسن الشباب ومال إلى مذهب أهل الظاهر، وإلى محبة علي بن أبي طالب والتجافي عمن قاتله، وكان يتأول قوله " لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق " وكان كثير الخشوع، يبكي عند قراءة القرآن وعند
(1) طبقات الشافعية 1 / 475. (2) طبقات الشافعية 1 / 457. (3) طبقات القراء 2 / 285. 126 الأبيات الغزلية، وقال: وامتدحه الأعيان... " (1). وبنحو ذلك ترجم له وذكره السيوطي في (بغية الوعاة 121) والأسدي في (طبقات الشافعية - 3 / 220) والشوكاني في (البدر الطالع 2 / 288) وغيرهم. 13 - الذهبي لقد قدح الذهبي حديث النجوم في مواضع عديدة، منها بترجمة " جعفر ابن عبد الواحد الهاشمي " حيث قال بعد كلمات العلماء الأعيان في جرحه: " ومن بلاياه عن وهب بن جرير عن أبيه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أصحابي كالنجوم من اقتدى بشئ منها اهتدى " (2). ومنها بترجمة " زيد العمي " حيث قال بعد إيراده: " فهذا باطل " (3). ومنها بترجمة " عبد الرحيم بن زيد " (4). 14 - ابن مكتوم وقدحه تاج الدين ابن مكتوم القيسي، حيث نقل كلمات شيخه أبي حيان المتقدمة سابقا عن تفسيريه، في كتابه (الدر اللقيط من البحر المحيط - المطبوع بهامش البحر المحيط) بعين ألفاظها. ترجمة ابن مكتوم وقد أثنى على ابن مكتوم وترجم له الصفدي، والجزري في (طبقات
(1) الدرر الكامنة 5 / 70. (2) ميزان الاعتدال 1 / 413. (3) ميزان الاعتدال 2 / 102. (4) ميزان الاعتدال 2 / 605. 127 القراء 1 / 70) وجلال الدين السيوطي في (طبقات النحاة) و (حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة 1 / 47). وذكره ابن حجر العسقلاني فقال: " كان قد تقدم في الفقه والنحو واللغة ودرس وناب في الحكم، وجمع من تفسير أبي حيان مجلدا سماه (الدر اللقيط من البحر المحيط) قصره على مباحث مع ابن عطية والزمخشري " (1). وقد ذكرنا ترجمته في القسم الثاني من مجلد (حديث الغدير). 15 - ابن القيم وطعن ابن قيم الجوزية في حديث النجوم، حيث قال في الرد على المقلدين: " الوجه الخامس والأربعون قولهم: يكفي في صحة التقليد الحديث المشهور: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. جوابه من وجوه: أحدها إن هذا الحديث قد روي من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر، ومن حديث سعيد بن المسيب عن ابن عمر، ومن طريق حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر. ولا يثبت شئ منها. قال ابن عبر البر: حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد أن أبا عبد الله ابن مفرح حدثهم ثنا محمد بن أيوب الصموت قال قال لنا البزار: وأما ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، فهذا الكلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم " (2). 16 - الزين العراقي وقال الحافظ زين الدين العراقي ما نصه: " حديث أصحابي
(1) الدرر الكامنة 1 / 174. (2) أعلام الموقعين 2 / 223. 128 " كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " رواه الدارقطني في الفضائل وابن عبد البر في العلم من طريقه من حديث جابر وقال: هذا إسناد لا تقوم به حجة، لأن الحارث بن غصين مجهول، ورواه عبد بن حميد في مسنده من رواية عبد الرحيم بن زيد العمى عن أبيه عن ابن المسيب عن ابن عمر، قال البزار: منكر لا يصح. ورواه ابن عدي في الكامل من رواية حمزة بن أبي حمزة النصيبي عن نافع عن ابن عمر بلفظ فأيهم أخذتم بقوله - بدل اقتديتم - وإسناده ضعيف من أجل حمزة فقد اتهم بالكذب. ورواه البيهقي في المدخل من حديث عمر ومن حديث ابن عباس بنحوه ومن وجه آخر مرسلا وقال: متنه مشهور وأسانيده ضعيفة لم يثبت في هذا إسناد. وقال ابن حزم: مكذوب موضوع باطل، قال البيهقي: ويؤدي بعض معناه حديث أبي موسى: النجوم أمنة لأهل السماء، وفيه أصحابي أمنة لأمتي، الحديث، رواه مسلم " (1). وقال الزين العراقي: " قال ابن دحية - وقد ذكر حديث أصحابي كالنجوم -: حديث لا يصح، ورواه القضاعي قال: أنبأنا أبو الفتح منصور ابن علي الأنماطي، أنبأ أبو محمد الحسن بن رثيق، أنبأ محمد بن جعفر بن محمد، حدثنا جعفر - يعني ابن عبد الواحد - أنبأ وهب بن جرير بن حازم عن أبيه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مثل أصحابي مثل النجوم من اقتدى بشئ منها اهتدى. قال الدارقطني: جعفر ابن عبد الواحد كان يضع الحديث، وقال أبو أحمد بن عدي: كان يتهم بوضع الحديث، لا يصح " (2). هذا وسيأتي عن (نسيم الرياض) اعتراض العراقي على القاضي
(1) تخريج أحاديث المنهاج - مخطوط. (2) تعليق تخريج أحاديث المنهاج - مخطوط. 129 عياض إيراده حديث النجوم بصيغة الجزم. ترجمة الزين العراقي وقد ترجم للزين العراقي وأثنى عليه جماعة متهم: 1 - الجزري في (طبقات القراء 1 / 382). 2 - السخاوي في (الضوء اللامع 4 / 171 - 178). 3 - الشوكاني في (البدر الطالع 1 / 354 - 356). 17 - ابن حجر العسقلاني قال ابن حجر العسقلاني ما نصه: " حديث أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. عبد بن حميد في مسنده من طريق حمزة النصيبي عن نافع عن ابن عمر. وحمزة ضعيف جدا. ورواه الدارقطني في غرائب مالك من طريق جميل بن يزيد عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر. وجميل لا يعرف ولا أصل له من حديث مالك ولا من فوقه. وذكره البزار من رواية عبد الرحيم بن زيد العمى عن أبيه عن سعيد ابن المسيب عن عمر، وعبد الرحيم كذاب، ومن حديث أنس أيضا، وإسناده واه. ورواه القضاعي في مسند الشهاب له عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، وفي إسناده جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، وهو كذاب. ورواه أبو ذر الهروي في كتاب السنة من حديث مندل عن جويبر عن الضحاك بن مزاحم منقطعا. وهو في غاية الضعف. قال أبو بكر البزار: هذا الكلام لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن حزم: هذا خبر مكذوب باطل. وقال البيهقي في الاعتقاد عقب حديث أبي موسى الأشعري الذي
130 أخرجه مسلم بلفظ: النجوم أمنة لأهل السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون، أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون. قال البيهقي: روي في حديث موصول بإسناد غير قوي - يعني حديث عبد الرحيم العمى - في حديث منقطع - يعني حديث الضحاك بن مزاحم -: مثل أصحابي كمثل النجوم في أهل السماء من أخذ بنجم منها اهتدى، قال: والذي رويناه ههنا من الحديث الصحيح يؤدي بعض معناه. قلت: صدق البيهقي، هو يؤدي صحة التشبيه للصحابة بالنجوم خاصة، أما في الاقتداء فلا يظهر من حديث أبي موسى، نعم يمكن أن يتلمح ذلك من معنى الاهتداء " (1). وقال ابن حجر: " حديث أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم. الدارقطني في المؤتلف من رواية سلام بن سليم عن الحارث بن غصين عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعا، وسلام ضعيف. وأخرجه في غرائب مالك من طريق جميل بن يزيد عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر في أثناء حديث - وفيه: فبأي قول أصحابي أخذتم اهتديتم، إنما مثل أصحابي مثل النجوم من أخذ بنجم منها اهتدى، وقال: لا يثبت عن مالك، ورواته دون مالك مجهولون. ورواه عبد بن حميد والدارقطني في الفضائل من حديث حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر، وحمزة اتهموه بالوضع. ورواه القضاعي في مسند الشهاب من حديث أبي هريرة وفيه: جعفر ابن عبد الواحد الهاشمي، وقد كذبوه. ورواه ابن طاهر من رواية بشر بن الحسين عن الزبير بن عدي عن أنس وبشر كان متهما أيضا. وأخرجه البيهقي في المدخل من رواية جويبر عن الضحاك عن
(1) تلخيص الحبير 4 / 190 - 191. 131 ابن عباس وجويبر متروك، ومن رواية جويبر عن جواب بن عبيد الله مرفوعا، وهو مرسل قال البيهقي: هذا المتن مشهور وأسانيد كلها ضعيفة. وروى في المدخل أيضا عن عمر: سألت ربي فيما يختلف فيه أصحابي من بعدي، فأوحى إلي يا محمد أصحابك عندي بمنزلة النجوم من السماء، بعضها أضوء من بعض، فمن أخذ بشئ مما هم عليه من اختلافهم فهو عندي على هدى. وفي إسناده عبد الرحيم بن زيد العمي وهو متروك " (1). أقول: وفي عبارتي ابن حجر هاتين وجوه ينبغي التدقيق والتدبر فيها، وكلها تهبط بحديث النجوم إلى أقصى درجات الفساد، ويظهر منهما أيضا قبح تمسك (الدهلوي) برواية البيهقي، إذ أنه بلغ من الهوان حدا لم يتمكن البيهقي من السكوت عنه حتى اعترف بضعفه. تنبيهات وبعد، فإن ههنا تنبيهات: الأول: لقد اكتفى ابن حجر في (سلام بن سليم) بقوله " سلام ضعيف " وقد علم سابقا - في الطعن في حديث أعلمية معاذ - كونه مجروحا ومطعونا فيه بمطاعن جسيمة. الثاني: إنه أعرض عن تضعيف (الحارث بن غصين) وقد علم من كلام الحافظين ابن عبد البر والعراقي كونه مجروحا. الثالث: إنه لم يقل في (حمزة) إلا " اتهموه بالوضع " وهذه بعض كلماتهم في جرحه: ترجمة حمزة الجزري قال البخاري: " منكر الحديث " (2) وقال النسائي " متروك الحديث " (3)
(1) الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف - هامش الكشاف 2 / 628. (2) الضعفاء للبخاري 36. (3) الضعفاء للنسائي 32. 132 وقال ابن الجوزي: " قال يحيى: ليس بشئ، وقال ابن عدي، يضع الحديث " وقال أيضا: " قال أحمد: هو مطروح الحديث، وقال يحيى: ليس بشئ لا يساوي فلسا، وقال ابن عدي: يضع الحديث، وقال ابن حبان: لا يحل الرواية عنه " (1). وتقدم عن أبي حيان قوله: " وحمزة هذا ساقط متروك ". وترجمه الذهبي وقال: " قال ابن معين: لا يساوي فلسا، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال الدارقطني: متروك، وقال ابن عدي: عامة مروياته موضوعة " (2). وذكره ابن حجر نفسه وقال بعد نقل الكلمات المذكورة: " قلت: وقال أبو حاتم أيضا وأبو زرعة: ضعيف الحديث، وزاد أبو حاتم: أضعف من حمزة بن نجيح، وقال الاجري عن أبي داود: ليس بشئ، وقال الحاكم: يروي أحاديث موضوعة، وقال ابن عدي أيضا: يضع الحديث، وأورد له البخاري وابن حبان في موضوعاته " (3). الرابعة: إنه قال في (جعفر بن عبد الواحد): " وقد كذبوه " وإليك بعض أقوالهم فيه: ترجمة جعفر بن عبد الواحد قال ابن الجوزي بعد حديث: " هذا حديث موضوع قال ابن حبان: لا أصل لهذا الحديث، قال: وجعفر كان يسرق الحديث ويقلب الأخبار حتى لا يشك أنه يعملها، وقال أبو أحمد ابن عدي: كان جعفر يتهم بوضع
(1) الموضوعات 3 / 34. (2) ميزان الاعتدال 1 / 606. (3) تهذيب التهذيب 3 / 29. 133 الحديث " (1). وقال بعد حديث: قال الدارقطني كذاب يضع الحديث " (2). وذكره الذهبي في (المغني في الضعفاء) وقال " متروك " وفي (الميزان) وقال: " قال الدارقطني: يضع الحديث، وقال أبو زرعة: روى أحاديث لا أصل لها، وقال ابن عدي: يسرق الحديث ويأتي بالمناكير عن الثقات، ثم ساق له ابن عدي أحاديث وقال: كلها بواطيل وبعضها سرقة من قوم، وكان عليه يمين أن لا يحدث ولا يقول حدثنا وكان يقول قال لنا فلان... " (3). الخامس: إنه قال في (بشر بن الحسين): " وبشر كان متهما أيضا " ولنورد بعض كلمات علمائهم فيه: ترجمة بشر بن الحسين قال الذهبي: " قال الدارقطني: متروك وقال أبو حاتم: يكذب على الزبير " (4) وفي (الميزان): " قال البخاري: فيه نظر، وقال الدارقطني: متروك وقال ابن عدي: عامة حديثه ليس بمحفوظ، وقال أبو حاتم: يكذب على الزبير... قال ابن حبان: يروي بشر بن الحسين عن الزبير نسخة موضوعة شبيها بمائة وخمسين حديثا " (5). وقال العراقي: " هو ضعيف جدا " وقال الهيثمي: " هو كذاب ". وقال ابن حجر العسقلاني ما ملخصه: " قال ابن حبان لا ينظر في شئ رواه عن الزبير إلا على جهة التعجب، وقال أبو نعيم: جاء إلى أبي داود الطيالسي فقال: حدثني الزبير بن عدي، فكذبه أبو داود وقال ما نعرف
(1) الموضوعات 2 / 96. (2) الموضوعات 3 / 172. (3) ميزان الاعتدال 1 / 413. (4) المغني في الضعفاء 1 / 105. (5) ميزان الاعتدال 1 / 315. 134 للزبير بن عدي عن أنس رضي الله عنه إلا حديثا واحدا، وقال أبو أحمد الحاكم: ليس حديثه بالقائم، وقال ابن الجارود: ضعيف " (1). السادس: أنه اختصر القدح في (جويبر) فقال " جويبر متروك " ولكن سيأتي ذكر بعض كلماتهم في جرحه. السابع: إنه سكت عن الطعن في (الضحاك) وستعرف أنه موهون لدى كبار العلماء.... ترجمة جواب بن عبيد الله الثامن: إنه لم يذكر شيئا حول (جواب بن عبيد الله) وقد ضعفه ابن نمير وقد رآه الثوري فلم يحمل عنه، وقال أبو خالد الأحمر: كان يقص ويذهب مذهب الارجاء، وقال ابن عدي: ليس لجواب من المسند إلا القليل... راجع: (الميزان 1 / 426) و (تهذيب التهذيب 2 / 121) وغيرهما. التاسع: إنه لم يسم راوي الحديث عن (جويبر) وستعرف من كلام السخاوي أنه (سليمان بن أبي كريمة) وستعرف ما فيه. العاشر: إنه لم يقل في (عبد الرحيم بن زيد العمى) إلا أنه " متروك "، وقد قال يحيى بن معين: ليس بشئ هو وأبوه، وقال مرة: عبد الرحيم كذاب خبيث، وقال الجوزجاني: غير ثقة، وقال أبو زرعة: واه ضعيف الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة ولا مأمون ولا يكتب حديثه، وقال البخاري: تركوه... إلى غير ذلك من كلمات الطعن والذم تجدها في كتب الرجال وغيرها، وقد تقدم بعضها... 18 - ابن الهمام لقد طعن ابن الهمام في حديث النجوم حيث قال في مبحث الإجماع
(1) لسان الميزان 2 / 117. 135 في الجواب عن حديث الاقتداء وحديث عليكم بسنتي " وأجيب: يفيدان أهلية الاقتداء لا منع الاجتهاد، وعليه إن ذلك مع إيجابه، إلا أن يدفع بأنه آحاد، وبمعارضته بأصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، وخذوا شطر دينكم عن الحميراء، إلا أن الأول لم يعرف " (1). 19 - ابن أمير الحاج لقد أوضح ابن أمير الحاج في شرح التحرير وهن هذا الحديث قائلا: " [وبمعارضته] أي: وأجيب أيضا بمعارضة كل منهما [بأصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. وخذوا شطر دينكم عن الحميراء] أي عائشة وإن خالف قول الشيخين أو الأربعة [إلا أن الأول] أي أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم [لم يعرف] بناءا على قول ابن حزم في رسالته الكبرى مكذوب موضوع باطل، وإلا فله طرق من رواية عمر وابنه وجابر وابن عباس وأنس، بألفاظ مختلفة أقربها إلى اللفظ المذكور ما أخرج ابن عدي في الكامل وابن عبد البر في كتاب بيان العلم عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل أصحابي مثل النجوم يهتدى بها فبأيهم أخذتم بقوله اهتديتم. وما أخرج الدارقطني وابن عبد البر عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل أصحابي في أمتي مثل النجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم. نعم لم يصح منها شئ، ومن ثمة قال أحمد: حديث لا يصح، والبزار: لا يصح هذا الكلام عن النبي صلى الله عليه وسلم. إلا أن البيهقي قال في كتاب الاعتقاد: رويناه في حديث موصول بإسناد غير قوي. وفي حديث آخر منقطع، والحديث الصحيح يؤدي بعض معناه وهو حديث أبي موسى المرفوع... " (2).
(1) التحرير بشرح ابن أمير الحاج 3 / 99. (2) التقرير والتحبير 3 / 99. 136 ترجمة ابن أمير الحاج ترجم له الحافظ السخاوي وأثنى عليه بما ملخصه: " ولد في ثامن عشر ربيع الأول سنة خمس وعشرين وثمانمائة بحلب ونشأ بها، وعرض على ابن خطيب الناصرية والبرهان الحافظ والشهاب ابن الرسام وغيرهم من أهل بلده وتفقه بالعلاء الملطي، وأخذ النحو الصرف والمعاني والبيان والمنطق عن الزين عبد الرزاق أحد تلامذة العلاء البخاري، وكذا لازم ابن الهمام، وبرع في فنون، وأذن له ابن الهمام وغيره، وتصدى للأقراء، فانتفع به جماعة وأفتى وقد سمعت أبحاثه وفوائده وسمع مني بعض القول البديع وتناوله مني، وكان فاضلا مفننا دينا قوي النفس محبا في الرياسة والفخر " (1). 20 - أبو ذر الحلبي لقد قدح أبو ذر الحلبي شارح الشفاء في حديث النجوم حيث قال معترضا على القاضي عياض: " وكان ينبغي للقاضي أن لا يذكره بصيغة جزم لما عرف عند أهل الصناعة، وقد سبق له مثله مرارا ". ترجمة موفق الدين أبي ذر أحمد الحلبي وترجم له الحافظ السخاوي في (الضوء اللامع) ترجمة مطولة نلخصها فيما يلي: " لزم الاعتناء بالحديث والفقه، وأفرد مبهمات البخاري، وكذا اعرابه بل جمع عليه تعليقا لطيفا لخصه من الكرماني والبرماوي وشيخنا، وآخر أخصر منه، وله التوضيح للأوهام الواقعة في الصحيح، ومبهمات مسلم أيضا، وقرة العين في فضل الشيخين والصهرين والسبطين، وشرح الشفاء والمصابيح ولكنه لم يكمل، والذيل على تاريخ ابن خطيب الناصرية، وغير ذلك، وأدمن قراءة الصحيحين والشفاء، خصوصا بعد وفاة والده،
(1) الضوء اللامع 2 / 210. 137 وصار متقدما في لغاتها ومبهماتها وضبط رجالها، لا يشذ عنه من ذلك إلا النادر. ولما كان شيخنا بحلب لازمه واغتبط شيخنا به وأحبه لذكائه وخفة روحه ووصفه بالامام موفق الدين، ومرة " بالفاضل البارع المحدث الأصيل الباهر الذي ضاهى كنيه في صدق اللهجة، الماهر الذي ناجى سميه ففداه بالمهجة، الأخير الذي فاق الأول في البصارة والنضارة والبهجة، أمتع الله المسلمين ببقائه. وأذن له في تدريس الحديث وإفادته في حياة والده. كان خيرا شهما مبجلا في ناحيته، منعزلا عن بني الدنيا، قانعا باليسير محبا للانجماع، كثير التواضع والاستيناس بالغرباء والاكرام لهم، شديد التخيل، طارحا للتكلف. ذا فضيلة تامة وذكاء مفرط. وقد تصدى للحديث والأقراء وانتفع به جماعة من أهل بلده والقادمين عليها، بل وكتب مع القدماء في الاستدعاءات من حياة أبيه وهلم جرا. وترجمه ابن فهد وغيره من أصحابنا، وكذا وصفه ابن أبي غديبة في أبيه بالامام العلامة، وسمى بعض تصانيفه ". 21 - السخاوي قال الحافظ السخاوي: " حديث اختلاف أمتي رحمة. البيهقي في المدخل من حديث سليمان بن أبي كريمة عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم تكن في كتاب الله فسنة مني ماضية، فإن لم تكن سنة مني فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أمتي رحمة، ومن هذا الوجه أخرجه الطبراني والديلمي في مسنده: بلفظ سواء. وجويبر ضعيف، والضحاك عن ابن عباس منقطع " (1).
(1) المقاصد الحسنة 26 - 27. 138 أقول: ولنورد بعض كلماتهم في رجال هذا الحديث: أما سليمان بن أبي كريمة فقد قال ابن أبي حاتم في (العلل) بعد حديث: قال أبي هذا حديث باطل، وابن أبي كريمة ضعيف الحديث. وقال ابن الجوزي بعد أحاديث أوردها: " هذه الأحاديث موضوعات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الأول ففيه سليمان ابن أبي كريمة وأحمد ابن إبراهيم، قال ابن عدي: يرويان المناكير " (1). وقال الذهبي: " لين صاحب مناكير " (2) وفي (الميزان): " ضعفه أبو حاتم، وقال ابن عدي: عامة أحاديثه مناكير، ولم أر للمتقدمين فيه كلاما " (3) وكذا قال ابن حجر (4) وكذا ضعفه السيوطي والمتقي ومحمد بن طاهر في (قانون الموضوعات 261). وأما جويبر بن سعيد البخلي، فقد ذكره البخاري بقوله: " جويبر بن سعيد البلخي عن الضحاك قال علي بن [عن] يحيى: كنت أعرف جويبرا بحديثين، ثم أخرج هذه الأحاديث [بعد] فضعف " (5). وكذا النسائي وقال: " متروك الحديث " (6). وفي (الموضوعات) - بعد حديث تحذير من بلغ الأربعين -: " أجمعوا
(1) الموضوعات 1 / 277. (2) المغني في الضعفاء 1 / 282. (3) ميزان الاعتدال 2 / 221. (4) لسان الميزان 3 / 102. (5) الضعفاء للبخاري 27. (6) الضعفاء للنسائي 28. 139 على تركه، قال أحمد: لا يشتغل بحديثه ". وفيه بعد حديث الاكتحال يوم عاشوراء: قال الحاكم أنا أبرء إلى الله من عهدة جويبر. قال: والاكتحال يوم عاشوراء لم يرو عن رسول الله فيه أثر، وهو بدعة ابتدعها قتلة الحسين. قال أحمد: لا يشتغل بحديث جويبر، وقال يحيى: ليس بشئ، وقال النسائي والدارقطني: متروك ". وقال ابن حجر: " قال عمرو بن علي: ما كان يحيى ولا عبد الرحمن يحدثان عنه، وكذا قال أبو موسى، وقال أبو طالب عن أحمد: ما كان عن الضحاك فهو أيسر، وما كان يسند عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو منكم، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: كان وكيع إذا أتى على حديث جويبر قال: سفيان عن رجل - لا يسميه استضعافا له - وقال الدوري وغيره عن ابن معين: ليس بشئ، وزاد الدوري: ضعيف ما أقر به من جابر الجعفي وعبيدة الضبي وقال عبد الله بن علي بن المديني: سألته - يعني أباه - عن جويبر فضعفه جدا قال: وسمعت أبي يقول: جويبر أكثر عن الضحاك روى عنه أشياء مناكير وذكره يعقوب بن سفيان في باب من يرغب عن الرواية عنهم، وقال الدارقطني عن أبي داود: جويبر على ضعفه، وقال النسائي وعلي بن الجنيد والدارقطني متروك، وقال النسائي في موضع آخر: ليس بثقة، وقال ابن عدي: والضعف على حديثه وروايته بين. قلت: وقال أبو قدامة السرخسي قال يحيى القطان: تساهلوا في أخذ التفسير عن قوم لا يوثقونهم في الحديث، ثم ذكر الضحاك وجويبرا ومحمد بن السائب وقال: هؤلاء لا يحمل حديثهم ويكتب التفسير عنهم، وقال أحمد بن سيار المروزي: جويبر بن سعيد كان من أهل بلخ وهو صاحب الضحاك وله رواية ومعرفة بأيام الناس، وحاله حسن في التفسير وهو لين في الرواية. وقال ابن حبان: يروي عن الضحاك أشياء مقلوبة، وقال الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث، وقال الحاكم أبو عبد الله: أنا أبرأ إلى الله من عهدته، وذكره البخاري في التاريخ الأوسط في فصل من مات بين الأربعين
140 إلى الخمسين ومائة " (1). وأما الضحاك بن مزاحم فقد قال ابن الجوزي في (الموضوعات): " أما الضحاك فقال شعبة: لا يحدث عنه، وينكر أن يكون لقي ابن عباس، وقال يحيى بن سعيد: هو عندنا ضعيف ". وقد ذكر إنكار شعبة هذا: الذهبي في (ميزان الاعتدال 2 / 326) وابن التركماني بعد أن قال: " لم يلق ابن عباس ". وكذا بمعناه في (تهذيب التهذيب 4 / 453 - 454) عنه وعن مشاش وعبد الملك. وفي (الميزان): " قال ابن عدي: الضحاك بن مزاحم إنما عرف بالتفسير، فأما رواياته عن ابن عباس وأبي هريرة وجميع من روى عنه ففي ذلك كله نظر " (2). وفي (المغني): " ضعفه يحيى القطان وشعبة أيضا " (3). وقال محمد بن طاهر: " ضعيف مجروح ولم يسمع عن ابن عباس ". وكذا في (اللآلي المصنوعة) عن ابن الجوزي. حول حديث اختلاف أصحابي لكم رحمة ولا يخفى أن سياق حديث النجوم في كتاب (المدخل) للبيهقي - الذي استدل به (الدهلوي) - يشتمل على حديث " اختلاف أصحابي لأمتي - أو لكم - رحمة " وقد نص الحفاظ على ضعفه، فثبت ضعف الحديثين كليهما لضعف الاسناد المشتمل عليهما.... ومن هنا كان على (الدهلوي) الاعراض عن هذا السياق بجملته، لا
(1) تهذيب التهذيب 2 / 123. (2) ميزان الاعتدال 2 / 326. (3) المغني في الضعفاء 1 / 312. 141 الاستناد إليه في مقابلة حديث الثقلين، ولكن " إذا لم تستح فاصنع ما شئت ". وإليك كلمات بعضهم في تضعيف هذا الحديث: قال الحافظ العراقي: " حديث اختلاف أمتي رحمة. البيهقي في المدخل من حديث ابن عباس: بلفظ أصحابي، ورواه آدم بن أبي أياس في كتاب العلم والحلم بلفظ اختلاف أصحابي لأمتي رحمة. وهو مرسل ضعيف، ذكره البيهقي في رسالته الأشعرية بهذا اللفظ بغير إسناد " (1). وقال في (المغني): " حديث اختلاف أمتي رحمة، ذكره البيهقي في رسالته الأشعرية تعليقا، وأسنده في المدخل من حديث ابن عباس بلفظ: اختلاف أصحابي لكم رحمة. وإسناده ضعيف " (2). وقال ابن إمام الكاملية: " الوجه [الخامس] لهم [إنه] أي العمل بالقياس [يؤدي إلى الخلاف والمنازعة] بين المجتهدين للاستقراء لأنه تابع للأمارات وهي مختلفة، فكيف يجوز العمل به [وقد قال الله تعالى: ولا تنازعوا فتفشلوا] فوجب أن يكون ممنوعا [قلنا: الآية] إنما وردت [في الآراء والحروب] لقرينة قوله: فتفشلوا وتذهب ريحكم، فأما التنازع في الأحكام فجائز [لقوله عليه الصلاة والسلام: اختلاف أمتي رحمة] قال الخطابي والبيهقي: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يدل على أنه له أصلا، قال الشيخ زين الدين العراقي: وأسنده في المدخل من حديث ابن عباس بلفظ اختلاف أصحابي لكم رحمة وإسناده ضعيف " (3). وقال محمد بن طاهر: " في المقاصد اختلاف أمتي رحمة للبيهقي عن الضحاك عن ابن عباس رفعه في حديث طويل بلفظ: واختلاف أصحابي
(1) تخريج أحاديث المنهاج - مخطوط. (2) المغني عن حمل الأسفار. هامش إحياء العلوم 1 / 34. (3) شرح المنهاج - مخطوط. 142 لكم رحمة، وكذا الطبراني والديلمي، والضحاك عن ابن عباس منقطع، وقال العراقي: مرسل ضعيف " (1). وقال المناوي: " وأسنده البيهقي (في المدخل) وكذا الديلمي في مسند الفردوس كلاهما من حديث ابن عباس مرفوعا بلفظ اختلاف أصحابي رحمة، واختلاف الصحابة في حكم اختلاف الأمة كما مر. لكن هذا الحديث قال الحافظ العراقي: سنده ضعيف " (2). وقال العزيزي: " أسنده البيهقي في المدخل وكذا الديلمي في الفردوس من حديث ابن عباس، لكن بلفظ اختلاف أصحابي رحمة. قال الشيخ: حديث ضعيف " (3). ومن هنا تعرف: أنه ليس إسناده في المدخل ضعيفا عند البيهقي فحسب، بل قد نص على ضعفه جمع من نقاد الأخبار وصيارفة الحديث كالعراقي والسخاوي ومحمد بن طاهر والمناوي والحجازي - وهو المراد من الشيخ " في كلام العزيزي كما صرح في صدر كتابه - والعزيزي. 22 - ابن أبي شريف لقد طعن ابن أبي شريف في حديث النجوم تبعا لشيخه الحافظ ابن حجر كما ستعرف ذلك من عبارة المناوي في (فيض القدير) إنشاء الله. ترجمة ابن أبي شريف وقد ترجم السخاوي لابن أبي شريف ترجمة مطولة، هذا ملخصها: " ارتحل إلى القاهرة غير مرة، منها في سنة تسع وثلاثين، وأخذ في بعضها عن ابن الهمام والعز عبد السلام البغدادي والعلاء القلقشندي والقاياني وشيخنا
(1) تذكرة الموضوعات 90 - 91. (2) فيض القدير 1 / 212. (3) السراج المنير 1 / 66. 143 - ولازمه (يعني شيخه وهو ابن حجر) في أشياء رواية ودراية وسماعا وقراءة - في آخرين بالقاهرة وببلده ممن أخذ عنهم العلم حتى تميز، وأذن له كلهم أو جلهم في الأقراء وعظمه جدا، منهم ابن الهمام وعبد السلام وشيخنا حيث قال: إنه شارك في المباحث الدالة على الاستعداد، وتأهل أن يفتي بما يعلمه ويتحققه من مذهب الإمام الشافعي من أراد، ويفيد في العلوم الحديثية من المتن والإسناد علما بأهليته لذلك وتولجه في مضائق تلك المسالك. وترجم له البقاعي ووصفه بالذهن الثاقب والحافظة الضابطة والقريحة الوقادة والفكر القويم والنظر المستقيم، وسرعة الفهم وبديع الانتقال وكمال المروة، مع عقل وافر وأدب ظاهر وخفة روح ومجد على سمته يلوح، وإنه شديد الانقباض عن الناس غير أصحابه، قال: وهو الآن صديقي، وبيننا من المودة ما يقصر الوصف فيه. ودرس وأفتى وحدث ونظم ونثر وصنف، وبالجملة فهو علامة متين التحقيق حسن الفكر والتأمل فيما ينظره ويقرب عهده، وكتابه أمتن من تقريره ورويته أحسن من بديهته، مع وضائته وتأنيه وضبطه وقلة كلامه وعدم ذكره للناس " (1). وقال القاضي مجير الدين العليمي الحنبلي - وهو من تلامذته - بترجمته: " هو شيخ الاسلام، ملك العلماء الأعلام، حافظ العصر والزمان، بركة الأمة، علامة الأئمة، شيخنا الإمام الحبر الهمام العالم العلامة الرحالة، القدوة المجتهد العمدة، مولده في ليلة يسفر صباحها عن يوم السبت خامس شهر ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة بمدينة القدس ونشأ بها في عفة وصيانة وتقوى وديانة، لم يعلم له صبوة ولا ارتكاب محظور... وجد ودأب ولازم الاشتغال والاشغال إلى أن برع وتميز وأشير إليه في حياة شيخه الزين
(1) الضوء اللامع 9 / 64 - 67. 144 ماهر، وكان يرشد الطلبة للقراءة عليه حين ترك هو الأقراء وكذلك المستفتين، ودرس وأفتى من سنة ست وأربعين وثمانمائة.... ولم يزل حاله في ازدياد وعلمه في اجتهاد، فصار نادرة وقته وأعجوبة زمانه إماما في العلوم، محققا لما ينقله وصار قدوة بيت المقدس ومفتيه وعين أعيان المعيدين بالمدرسة الصلاحية.. ووقع له ما لم يقع لغيره ممن تقدمه من العلماء والأكابر، وبقي صدر المجالس وطراز المحافل، المرجع في القول إليه والتعويل في الأمور كلها عليه، وقلده أهل المذاهب كلها، وقبلت فتواه على مذهبه ومذهب غيره، ووردت الفتاوى إليه من مصر والشام وحلب وغيرها، وبعد صيته وانتشرت مصنفاته في سائر الأقطار، وصار حجة بين الأنام في سائر ممالك الاسلام.... وأما سمته وهيبته فمن العجائب في الأبهة والنورانية، رؤيته تذكر السلف الصالح، ومن رآه علم أنه من العلماء العاملين برؤية شكله وإن لم يكن يعرفه، وأما خطه وعبارته في الفتوى فنهاية في الحسن. وبالجملة فمحاسنه أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر، وهو أعظم من أن ينبه مثلي على فضله، ولو ذكرت حقه في الترجمة لطال الفصل، فإن مناقبه وذكر مشايخه يحتمل الإفراد بالتأليف، والمراد هنا الاختصار... " (1). وكذا ترجم له الشوكاني (2). 23 - السيوطي قال الحافظ جلال الدين السيوطي في (إتمام الدراية): " وليس قول صحابي حجة على غيره نعم لحديث: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. وأجيب بضعفه ".
(1) الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل 2 / 288. (2) البدر الطالع 2 / 243 - 244. 145 ووضع عليه " ض ". وهي علامة الضعف في (الجامع الصغير) (1). وقال في (جمع الجوامع) ما نصه: " مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة مني ماضية، فإن لم تكن سنة مني فبما قال أصحابي، أن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فبأيها أخذتم اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة. ق في المدخل وأبو نصر السجزي في الإبانة وقال: غريب، والخطيب وابن عساكر والديلمي عن سليمان بن أبي كريمة عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، وسليمان ضعيف وكذا جويبر ". 24 - المتقي لقد تبع المتقي شيخه السيوطي في الطعن في حديث النجوم حيث نقل عبارته السالفة بعين ألفاظها (2). 25 - القاري وقال القاري ما نصه: " قال ابن الديبع: إعلم أن حديث أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم أخرجه ابن ماجة. كذا ذكره الجلال السيوطي في تخريج أحاديث الشفاء، ولم أجده في سنن ابن ماجة بعد البحث عنه، وقد ذكره ابن حجر العسقلاني في تخريج أحاديث الرافعي في باب أدب القضاء، وأطال الكلام عليه وذكر أنه ضعيف واه، بل ذكر عن ابن حزم: إنه موضوع باطل، لكن ذكر عن البيهقي أنه قال: إن حديث مسلم يؤدي بعضه معناه، يعني قوله صلى الله عليه وسلم النجوم أمنة للسماء الحديث. قال ابن حجر: صدق البيهقي هو يؤدي صحة التشبيه للصحابة بالنجوم، أما
(1) بشرح المناوي 4 / 76. (2) كنز العمال 6 / 133. 146 في الاقتداء فلا يظهر، نعم يمكن أن يتلمح ذلك من معنى الاهتداء بالنجوم. قلت: الظاهر أن الاهتداء فرع الاقتداء. قال: وظاهر الحديث إنما هو إشارة إلى الفتن الحادثة بعد انقراض الصحابة من طمس السنن وظهور البدع وفشور الجور في أقطار الأرض انتهى. وتكلم على هذا الحديث ابن السبكي في شرح ابن الحاجب الأصلي في الكلام على عدالة الصحابة ولم بعزه لابن ماجة، وذكره في جامع الأصول ولفظه عن ابن المسيب عن عمر بن الخطاب مرفوعا: سألت ربي. الحديث إلى قوله: اهتديتم. وكتب بعده: أخرجه. فهو من الأحاديث التي ذكرها رزين في تجريد الأصول ولم يقف عليها ابن الأثير في الأصول المذكورة، وذكره صاحب المشكاة وقال: أخرجه رزين " (1). أقول: وفي هذا الكلام فوائد لا تخفى. وقال القاري في (شرح الشفاء) بشرح قول القاضي: " وقال صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " قال: " ثم اعلم أن قوله وقال: أصحابي... حديث آخر، وقد أخرجه الدارقطني في الفضائل وابن عبد البر من طريقه من حديث جابر وقال: هذا إسناد لا تقوم به حجة، ورواه عبد بن حميد في مسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال البزار: منكر لا يصح ورواه ابن عدي في الكامل بإسناده عن نافع عن ابن عمر بلفظ: فأيهم أخذتم بقوله بدل اقتديتم وإسناده ضعيف، ورواه البيهقي في المدخل من حديث عمر ومن حديث ابن عباس بنحوه، ومن وجه آخر مرسلا وقال: متنه مشهور وأسانيده ضعيفة. قال الحلبي: وكان ينبغي للقاضي أن لا يذكره بصيغة جزم لما عرف عند أهل الصناعة، وقد سبق له مثله مرارا. أقول: يحتمل أنه ثبت بإسناده عنده أو حمل كثرة الطرق على ترقيه من
(1) المرقاة 5 / 523. 147 الضعيف إلى الحسن بناءا على حسن ظنه، مع أن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال، والله أعلم بحقيقة الأحوال ". تنبيه إن ما احتمله القاري في هذا المقام سخيف، وذلك: أولا: إن احتمال ثبوت الحديث بإسناد عند القاضي. - من دون أكابر الحفاظ - بعيد جدا، ومجرد الاحتمال لا يصغى إليه في مثل هذا الموضوع، إذ لو ثبت ذلك لأورده فلم يتعرض للطعن من أبي ذر الحلبي وغيره. ثانيا: لقد علم من الوجوه السابقة سقوط حديث النجوم لدى أحمد والمزني والبزار وابن عدي والدارقطني وابن حزم والبيهقي وابن عبد البر.. وكل هؤلاء متقدمون على القاضي، فلو كان على إسناد مثبت له لذكره حتى يدفع كلماتهم فيه، ولا يجوز - والحالة هذه - أن يعرض عن ذكر السند رأسا، ويورده بصيغة الجزم حائدا عن طريق الاحتياط والحزم. ثالثا: إنه لو كان لهذا الحديث سند مثبت - لم يذكره القاضي لسبب من الأسباب - لذكره شراح كتابه (الشفاء) ومخرجوا أحاديثه وهم علماء أعلام عاشوا قبل القاري بكثير، ولكان لهم بذلك منة على القاضي، وقد رأيناهم يتعرضون عليه ذكره بصيغة الجزم. ولقد علم آنفا من عبارة (المرقاة) عزو السيوطي حديث النجوم إلى ابن ماجة، ولا أثر له في سننه، وهذا أدل دليل على خيبة الأمل وضلال السعي في هذا الباب. رابعا: إن دعوى كثرة طرقه مردودة لتنصيص كبار الحفاظ على خلافها، وأما طرقه المعدودة فمقدوحة كما تقدم. هذا، ولم يدع أحد منهم ترقي هذا الحديث إلى الحسن، فكيف جاز للقاضي أن يحسن الظن به؟ خامسا: إن دعوى العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال
148 - على فرض التسليم بها - لا تجدي في المقام لوجوه: 1 - إن هذا الحديث موضوع وليس بضعيف، فلا يجوز العمل به مطلقا. 2 - إنه ليس في فضل عمل من الأعمال، بل مفاده من أهم الأمور الدينية. 3 - إنه لو سلمنا ذلك كله فإن أصل الاعتراض على ذكر القاضي إياه بصيغة الجزم باق على حاله. وسيأتي مزيد كلام في بطلان تضليل القاري من كلام الخفاجي والشوكاني فانتظر. 26 - المناوي قال المناوي: " [سألت ربي فيما تختلف فيه أصحابي] أي: ما حكمه [من بعدي] أي: بعد موتي [فأوحى إلي يا محمد إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء بعضها أضوء من بعض، فمن أخذ بشئ مما هم عليه من اختلافهم فهو عندي على هدى] لأنهم كنفس واحدة في التوحيد ونصرة الدين واختلافهم إنما نشأ عن اجتهاد ولهم محامل، ولذلك كان اختلافهم رحمة كما في حديث [السجزي في الإبانة] عن أصول الديانة و [ابن عساكر عن عمر] قال ابن الجوزي: لا يصح والذهبي: باطل " (1). وقال بشرحه: " قال ابن الجوزي في العلل: هذا لا يصح، نعيم مجروح، وعبد الرحيم قال ابن معين كذاب، وفي الميزان هذا الحديث باطل، وقال ابن حجر في تخريج المختصر: حديث غريب سئل عنه البزار فقال: لا يصح هذا الكلام عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الكمال ابن أبي شريف، كلام شيخنا - يعني ابن حجر - يقتضي أنه مضطرب، قال ابن عساكر: رواه عن
(1) التيسير في شرح الجامع الصغير 2 / 48. 149 سعيد زيد العمى أبو الحواري وكان ضعيفا في الحديث، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه ومن يروي عنه ضعفاء " (1). 27 - الخفاجي وقال شهاب الدين الخفاجي: " وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر رواه الدارقطني وابن عبد البر في العلم من طريق أسانيد كلها ضعيفة حتى جزم ابن حزم بأنه موضوع، وقال الحافظ العراقي: كان ينبغي للمصنف رحمه الله أن لا يورده بصيغة الجزم. وما قيل: من إنه ليس بوارد لأن المصنف رحمه الله ساقه في فضل الصحابة وقد استقروا على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال فضلا عن فضائل الرجال، لا وجه له، لأن قول أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم فيه العمل بما فعلوه وقالوه من الأحكام، وليس هذا من قبيل الفضائل التي يجوز العمل فيها بالضعيف " (2). أقول: هذا كلام الخفاجي، ثم جعل يدافع عن القاضي بوجه آخر فقال: فلو قال إنه بمعنى الحديث الذي قبله - وهو حديث صحيح يعمل به - ولذا ساقه بعده كالمتابعة له، ولذا جزم به كان أقوى وأحسن. إلا أنه واه بل أوهن من بيت العنكبوت لوجوه: الأول: إن حديث الاقتداء موضوع لغرض لم يوضع لأجله حديث النجوم، فإن الأول وضع للشيخين والثاني لجميع الصحابة، ولذا ذهب جماعة من الأصوليين إلى أنهما متعارضان، كما لا يخفى على من راجع (إحكام
(1) فيض القدير - شرح الجامع الصغير 4 / 76. (2) نسيم الرياض - شرح الشفاء 4 / 423 - 424. 150 الأحكام) و (مختصر الأصول) و (شرح المختصر) و (حاشية التفتازاني على شرح المختصر) و (شرح المنهاج للعبري) و (معراج الأصول للأيكي) و (التحرير) و (شروح التحرير) و (مسلم الثبوت) و (شروح مسلم الثبوت) وغيرها. فجعل الثاني بمعنى الأول غير صحيح. الثاني: دعوى صحة حديث الاقتداء وإنه معمول به باطلة، لأنه حديث موضوع قطعا، كما ذكرنا في هذا الكتاب وفي مجلد (حديث الطير). الثالث: قوله " ولذا ساقه بعده كالمتابعة له " باطل، لأن " المتابعة " تكون في الحديث الواحد بتعدد رواته، و " الشاهد " هو الحديث الذي يؤدي معنى حديث آخر. (راجع كلمات: ابن الصلاح والنووي والعراقي وغيرهم في هذا الموضوع). ومن المعلوم: أن حديثي الاقتداء والنجوم متغايران، وليس معناهما واحدا - بل هما متعارضان كما أشرنا آنفا - فلا يتحقق في المقام معنى " المتابعة " ولا " الشاهد ". الرابع: إن دعوى " المتابعة " في هذا المقام ممنوعة من جهة أخرى: لأن روايات الوضاعين والكذابين لا شأن لها حتى في المتابعات والشواهد. وقد نص على ذلك علماء الفن كما لا يخفى على من راجع كلماتهم. نعم قد تذكر روايات شرذمة معينة من الضعفاء لغرض المتابعة والاستشهاد.... ولقد ثبت وضع حديث النجوم، وأن رواته وضاعون كذابون في جميع أسانيده، فلا يليق لأن يساق متابعة أيضا. الخامس: لو سلم ذلك كله... فإنه لا يصح جزم القاضي بحديث النجوم. وهنا نكتة يجب ذكرها: وهي أنه لو كان القاضي يقصد المتابعة لذكر حديث الاقتداء بصيغة الجزم، ثم ذكر حديث النجوم مع الاعتراف بالضعف لتتم المتابعة، ولكنه فعل العكس فذكر حديث الاقتداء الصحيح
151 - بزعم الخفاجي - غير جازم به، وحديث النجوم - الذي اعترف الخفاجي بضعفه - بصيغة الجزم. ولقد حاول الخفاجي الدفاع عن القاضي بوجه - زعم أنه أقوى وأحسن - وغفل عما يترتب عليه ويتوجه إليه - وعلى القاضي - من وجوه النقد والاشكال. وبما ذكرنا ظهر: سقوط دفاع القاري والخفاجي عن القاضي، وبقاء اعتراض العراقي وغيره على حاله. 28 - السندي قال السندي بعد أن ذكر حديث الثقلين ودلالته: " فإن قلت: قد ورد أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، وورد: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - وورد: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الحديث. فقد ثبت الحث باقتداء غيرهم واهتداء من اقتدى بهم. قلت [فلنا]: الحديث الأول موضوع، وإلا لكان قوله " اهتديتم " فيه خاصة مما يدل على عدم خطئهم... " (1). 29 - البهاري وقال القاضي محب الله البهاري عند نفي حجية إجماع الشيخين أو الخلفاء الأربعة: " قالوا: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، وعليكم بسنتي... الحديث. قلنا: خطاب للمقلدين وبيان لأهلية الأتباع، لأن المجتهدين كانوا يخالفونهم والمقلدين قد يقلدون غيرهم، وأما المعارضة بأصحابي كالنجوم، وخذوا شطر دينكم عن الحميراء كما في المختصر فتدفع بأنهما ضعيفان " (2).
(1) دراسات اللبيب في الأسوة الحسنة بالحبيب 240. (2) مسلم الثبوت بشرح عبد العلي 2 / 510. 152 ترجمة البهاري وقد ترجم غلام على آزاد القاضي البهاري بقوله: " هو بحر من العلوم وبدر بين النجوم، جاب ديار الفورب في عنفوان الشباب، وقرع في طلب العلم كثيرا من الأبواب، وأخذ أوائل الكتب الدرسية من مواضع شتى، ثم انقطع برمته إلى حوزة درس المولوي قطب الدين الشمس آبادي، وبدلالة هذا القطب قطع مسافة الاغتراب وانتهى إلى أقصى حدود الاكتساب، وبعد ما تحلى بالفضائل، وبرع في الأماثل، قصد الديار الجنوبية من الهند المعبر عنها بالدكن، ولازم السلطان عالم گير، فولاه قضاء لكهنو من بلاد الفورب... ومن مصنفاته سلم العلوم في المنطق، ومسلم الثبوت في أصول الفقه - وتاريخ تأليفه هذا الاسم - والجوهر الفرد، وهي رسالة في مسألة الجزء الذي لا يتجزأ والتصانيف الثلاثة مقبولة متداولة في مدارس العلماء " (1). 30 - السهالوي وقال نظام الدين السهالوي في مبحث الإجماع، في الكلام على الاحتجاج بحديث الاقتداء وحديث عليكم بسنتي: " وأجيب أيضا بأنهما معارضان بقوله صلى الله عليه وسلم: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، وقوله صلى الله عليه وسلم: خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء. فتقاعد الاحتجاج. وأجيب بأن الحديث الأول - وإن روي عن المعتبرات - لم يعرف. قال ابن حزم في رسالته الكبرى: مكذوب موضوع باطل، وبه قال أحمد والبزار... " (2).
(1) سبحة المرجان بذكر آثار هندوستان 77. (2) الصبح الصادق - شرح المنار. 153 31 - المولوي عبد العلي وقال المولوي عبد العلي - بحر العلوم - في المبحث المذكور: " وأما المعارضة بأصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم، رواه ابن عدي وابن عبد البر وخذوا شطر دينكم عن الحميراء، أي أم المؤمنين عائشة الصديقة، كما في المختصر، فتدفع بأنهما ضعيفان لا يصلحان للعمل فضلا عن معارضة الصحاح. أما الحديث الأول فلم يعرف، قال ابن حزم في رسالته الكبرى: مكذوب موضوع باطل وبه قال أحمد والبزار... " (1). 32 - الشوكاني وقال الشوكاني في مبحث الإجماع: " وهكذا حديث أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، يفيد حجية قول كل واحد منهم وفيه مقال معروف، لأن في رجاله عبد الرحيم العمي عن أبيه، وهما ضعيفان جدا بل قال ابن معين: إن عبد الرحيم كذاب، وقال البخاري: متروك، وكذا قال أبو حاتم، وله طريق أخرى فيها حمزة النصيبي وهو ضعيف جدا قال البخاري منكر الحديث، وقال ابن معين: لا يساوي فلسا، وقال ابن عدي: عامة مروياته موضوعة، وروى أيضا من طريق جميل بن زيد وهو مجهول " (2). وقال في مسألة عدم حجية قول الصحابي: " وأما تمسك بعض القائلين بحجية قول الصحابي بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، فهذا مما لم يثبت قط، والكلام فيه معروف عند أهل الشأن بحيث لا يصح العلم بمثله في أدنى حكم من أحكام الشرع، فكيف مثل هذا الأمر العظيم والخطب الجليل ".
(1) فواتح الرحموت - شرح مسلم الثبوت 2 / 510. (2) إرشاد الفحول 83. 154 وقال الشوكاني في (القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد): " ومما استدلوا به حديث: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، والجواب: إن هذا الحديث قد روي من طرق عن جابر وابن عمر رضي الله عنهما، وصرح أئمة الجرح والتعديل بأنه لم يصح منها شئ، وإن هذا الحديث لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تكلم عليه الحفاظ بما يشفي ويكفي، فمن رام البحث عن طرقه وعن تضعيفها فهو ممكن بالنظر في كتاب من كتب هذا الشأن وبالجملة: فالحديث لا تقوم به حجة ". 33 - ولي الله اللكهنوي قال ولي الله بن حبيب الله اللكهنوي في (شرح مسلم الثبوت) بعد كلام له: " وأما المعارضة للحديثين المذكورين بقوله صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم.. رواه ابن عدي وابن عبد البر، وبقوله خذوا شطر دينكم عن الحميراء، أي عائشة رضي الله عنها، فإنهما يدلان على جواز الأخذ بقول كل صحابي وقول عائشة وإن خالف قول الشيخين أو الأربعة، فتقاعد احتجاجكم كما في المختصر لابن الحاجب. فتدفع بأنهما ضعيفان. في الحاشية على أن الثاني يتبادر منه الرواية، أما ضعف الأول فلما قال أحمد لم يصح، والبزار: لا يصح مثل هذا الكلام عن النبي صلى الله عليه وسلم.... إعلم أن الحديث الأول وإن روي في المعتبرات... ولكن لم يصح منها شئ قاله أحمد والبزار، قال ابن حزم في رسالته الكبرى: مكذوب موضوع باطل. نعم الحديث يؤدي بعض معناه، وهو حديث أبو موسى المرفوع.. ". ترجمة ولي الله اللكهنوي وقد ترجم ولي الله لنفسه في كتابه (الأغصان الأربعة) واستدرك عليه
155 ولده محمد إنعام الله في (ضميمة الأغصان الأربعة) فليراجع. 34 - صديق حسن خان قال صديق حسن القنوجي في مسألة عدالة الصحابة، " والبحث عن عدالة الراوي إنما هو في غير الصحابة وأما فيهم فلا، لأن الأصل فيهم العدالة قال القاضي: هو قول السلف وجمهور الخلف، وقال الجويني: بالاجماع. ووجه هذا القول ما ورد من العمومات المقتضية لتعديلهم كتابا وسنة، كقوله سبحانه: * [كنتم خير أمة] *، وقوله: * [وجعلناكم أمة وسطا] *، أي: عدلا، وقوله: * [لقد رضي الله عن المؤمنين] *، وقوله: * [والسابقون] *، وقوله: * [والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم] *. وقوله صلى الله عليه وسلم: خير القرون قرني، وقوله في حقهم: لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وهما في الصحيح، وقوله: أصحابي كالنجوم على مقال فيه معروف " (1). حول ما زعموا أنه يفيد بعض معنى حديث النجوم لقد أشير في بعض الكلمات إلى حديث مسلم، والصحيح أنه ليس بمعنى حديث النجوم، وهذا لفظه: " حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم وعبد الله بن عمرو بن أبان كلهم عن حسين، قال أبو بكر: ثنا حسين بن علي الجعفي عن مجمع بن يحيى عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه قال: صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء، قال: فجلسنا، فخرج علينا فقال: ما زلتم ههنا؟ قلنا: يا رسول الله صلينا معك المغرب ثم قلنا نجلس حتى نصلي معك العشاء، قال: أحسنتم - أو أصبتم - قال: فرفع رأسه إلى السماء - وكان كثيرا ما يرفع رأسه إلى
(1) حصول المأمول 56. 156 السماء - فقال: النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون " (1). أقول: ومع ذلك نتكلم عليه سندا ودلالة. 1 - في سنده أبو موسى وهو متهم في الحديث أما سندا فإن مداره على " أبي موسى الأشعري " وقد كان أبو موسى متهما بالإضافة إلى مخازيه ومساويه التي لا تحصى، وقد ورد بعضها في كتاب (استقصاء الافحام في رد منتهى الكلام). أما حديث اتهامه في الرواية فقد أخرجه الشيخان - في أكثر من موضع - وأحمد بن حنبل كذلك وأبو داود والدارمي والطحاوي والبغوي وغيرهم، وإليك نصوص رواياتهم في ذلك: قال أبو داود سليمان بن داود الطيالسي في (مسنده): " حدثنا وهب ابن خالد عن داود عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري أن الأشعري استأذن على عمر ثلاثا ولم يؤذن له فرجع فأرسل إليه فقال: إني استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا استأذن المستأذن فلم يؤذن له فليرجع. فقال: لتأتيني بمن يعلم هنا (هذا. ظ) أو لأفعلن بك ولا فعلن!. قال أبو سعيد: جاءني الأشعري يرعد قد أصفر لون وجهه فقام على حلقة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنشد الله رجلا علم من هذا علما إلا قام به، فإني قد خفت هذا الرجل على نفسي! فقلت أنا معك فقال آخر: وأنا معك، فسري عنه ". وقال أحمد في (مسنده): " ثنا سفيان، ثنا يزيد بن خصيفة عن بسر ابن سعيد عن أبي سعيد الخدري، قال: كنت في حلقة من حلق الأنصار
(1) صحيح مسلم 2 / 270. 157 فجاءنا أبو موسى كأنه مذعور فقال: إن عمر أمرني أن آتيه فأتيته فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن فرجعت، وقد قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: من استأذن ثلاثا ولم يؤذن له فليرجع. فقال: لتجيئن ببينة على الذي تقول وإلا أوجعتك. قال أبو سعيد: فأتانا أبو موسى مذعورا - أو قال: فزعا - فقال: أستشهدكم، فقال أبي بن كعب: لا يقوم معك إلا أصغر القوم. قال أبو سعيد: وكنت أصغرهم فقمت معه وشهدت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من استأذن ثلاثا ولم يؤذن له فليرجع " (1). وقال أيضا: " ثنا يزيد: أنبأنا داود عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري، قال: استأذن أبو موسى على عمر ثلاثا فلم يؤذن له فرجع فلقيه عمر فقال: ما شأنك رجعت؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من استأذن ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع، قال: لتأتين على هذا ببينة أو لأفعلن. ولأفعلن فأتى مجلس قومه فناشدهم الله عز وجل، فقلت: أنا معك فشهدا له بذلك فخلى سبيلهم ". وقال أيضا: " ثنا زيد بن هارون قال: أنا داود عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: استأذن أبو موسى على عمر (رض) ثلاثا فلم يؤذن له فرجع فلقيه عمر (رض) فقال: ما شأنك رجعت؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من استأذن ثلاثا ولم يؤذن له فليرجع. فقال: لتأتين على هذه ببينة أو لأفعلن ولأفعلن فأتى مجلس قومه فناشدهم الله تعالى، فقلت: أنا معك، فشهدوا له فخلى سبيله ". وقال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي السمرقندي في (مسنده): " أخبرنا أبو النعمان ثنا يزيد بن زريع ثنا داود عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري أن أبا موسى الأشعري استأذن على عمر ثلث مرات فلم يؤذن له فرجع فقال: ما رجعك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) مسند أحمد بن حنبل 3 / 6. 158 يقول: إذا استأذن المستأذن ثلث مرات فإن أذن له وإلا فيرجع، فقال: لتأتين بمن يشهد معك أو لأفعلن ولأفعلن. قال أبو سعيد: وأتانا وأنا في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وهو فزع من وعيد عمر إياه فقام علينا فقال: أنشد الله منكم رجلا سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شهد لي به، قال: فرفعت رأسي فقلت: أخبره أني معك على هذا، وقال ذاك آخرون فسري عن أبي موسى ". وقال البخاري في (الصحيح): " حدثنا محمد بن سلام: أخبرنا مخلد بن يزيد أخبرنا ابن جريح قال: أخبرني عطاء عن عبيد بن عمير أن أبا موسى الأشعري استأذن على عمر بن الخطاب فلم يؤذن وكأنه كان مشغولا فرجع أبو موسى ففرغ عمر فقال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس، إئذنوا له، قيل: قد رجع فدعاه فقال: كنا نؤمر بذلك فقال تأتيني على ذلك بالبينة فانطلق إلى مجلس الأنصار فسألهم فقالوا: لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا أبو سعيد الخدري فذهب بأبي سعيد الخدري فقال عمر: أخفي هذا علي من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألهاني الصفق بالأسواق. يعني الخروج إلى التجارة ". وقال أيضا: " حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان حدثنا يزيد بن خصيفة عن بسر بن سعيد عن أبي سعيد الخدري قال: كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور فقال: استأذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت فقال: ما منعك؟ قلت استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع فقال: لتقيمن عليه بينة، أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبي بن كعب والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم فقمت معه، فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك. وقال ابن المبارك: أخبرني ابن عيينة حدثني يزيد عن بسر بن سعيد قال: سمعت أبا سعيد بهذا. قال أبو عبد الله: أراد عمر التثبت لا أن لا يجيز خبر
159 الواحد ". وقال: " حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ابن جريح حدثني عطاء عن عبيد بن عمير قال: استأذن أبو موسى على عمر فكأنه وجده مشغولا فرجع فقال عمر: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس ائذنوا له، فدعي له فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: إنا كنا نؤمر بهذا قال: فأتني على هذا ببينة أو لأفعلن بك. فانطلق إلى مجلس من الأنصار فقالوا: لا يشهد إلا أصاغرنا (أصغرنا. ظ) فقام أبو سعيد الخدري فقال: قد كنا نؤمر بهذا، فقال عمر: خفي علي هذا من أمر النبي صلى الله عليه وسلم. ألهاني الصفق بالأسواق ". وقال مسلم في (الصحيح): " حدثني أبو الطاهر أخبرني عبد الله بن وهب، ثني عمرو بن الحرث عن بكير بن الأشجع أن بسر بن سعيد حدثه أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: كنا في مجلس عند أبي بن كعب فأتى أبو موسى الأشعري مغضبا حتى وقف فقال: أنشدكم الله هل سمع أحد منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الاستيذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع، قال أبي: وما ذاك؟ قال: استأذنت على عمر بن الخطاب أمس ثلاث مرات فلم يؤذن لي فرجعت ثم جئته اليوم فدخلت عليه فأخبرته أني جئت أمس فسلمت ثلاثا ثم انصرفت. قال: قد سمعناك ونحن حينئذ على شغل فلو ما استأذنت حتى يؤذن لك؟ قال: استأذنت كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا، فقال أبي بن كعب: فوالله لا يقوم معك إلا أحدثنا سنا، قم يا أبا سعيد! فقمت حتى أتيت عمر فقلت: قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا ". وقال: " حدثنا حسين بن حريث أبو عمار ثنا الفضل بن موسى أخبرنا طلحة بن يحيى عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري قال: جاء أبو موسى إلى عمر بن الخطاب فقال: السلام عليكم، هذا عبد الله بن قيس، فلم يأذن له، فقال: السلام عليكم، هذا أبو موسى، السلام عليكم هذا
160 الأشعري. ثم انصرف فقال: ردوا علي! ردوا علي! فجاء فقال: يا أبا موسى! ما ردك؟ كنا في شغل، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الاستيذان ثلاثا فإن أذن وإلا فارجع، قال: لتأتيني على هذا ببينة وإلا فعلت وفعلت!، فذهب أبو موسى. قال عمر: إن وجد بينة تجدوه عند المنبر عشية وإن لم يجد بينة فلم تجدوه، فلما أن جاء بالعشي وجدوه قال: يا أبا موسى ما تقول؟ أقد وجدت؟ قال: نعم! أبي بن كعب، قال: عدل، قال: يا أبا الطفيل! ما يقول هذا! قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك يا بن الخطاب، فلا تكونن عذابا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال سبحان الله! إنما سمعت شيئا. فأحببت أن أتثبت! ". وقال أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي في كتاب (مشكل الآثار): " حدثنا يونس بن عبد الأعلى. ثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو ابن الحارث عن بكير بن الأشج أن بسر بن سعيد حدثه أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: كنا في مجلس عند أبي بن كعب فجاء أبو موسى الأشعري مغضبا حتى وقف فقال: أنشدكم الله! هل سمع منكم أحد رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: الاستيذان ثلاث فإن أذن لك فادخل وإلا فارجع؟ فقال أبي: وما ذاك؟ فقال: استأذنت على عمر بن الخطاب أمس ثلاث مرات فلم يؤذن لي فرجعت ثم جئته اليوم فدخلت عليه فأخبرته أني جئته أمس فسلمت ثلاثا ثم انصرفت، فقال: قد سمعنا ونحن حينئذ على شغل فلو ما استأذنت حتى يؤذن لك؟ قال: استأذنت كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: فقال: والله لأضربن بطنك وظهرك أو لتأتيني بمن يشهد لك على هذا! فقال أبي بن كعب: فوالله لا يقوم معك أحد إلا أحدثنا سنا الذي بجنبك، قم يا أبا سعيد! فقمت حتى أتيت عمر فقلت: قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول هذا ". وقال: " حدثنا إبراهيم بن مرزوق حدثنا أبو عاصم عن ابن جريح عن عطاء عن عبيد بن عمير أن أبا موسى استأذن على عمر وكان مشغولا في
161 بعض الأمر فلما فرغ قال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس، قالوا: رجع، قال: ردوه! فجاء فقال: كنا نؤمر بمثل هذا في الاستيذان ثلاثا، قال: لتأتيني على هذا ببينة أو لأفعلن، فجاء إلى مجلس الأنصار فأخبرهم فقالوا: لا يقوم معك إلا أصغرنا فقام أبو سعيد الخدري، فجاء فقال: نعم! فقال عمر: خفى على هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وشغلني التسويف بالأسواق، قال إبراهيم: وجدت على ظهر كتابي: وشغلني شغلي بالأسواق ". وقال: " حدثنا فهد بن سليمان ثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل ثنا عبد السلام ابن حرب عن طلحة بن يحيى القرشي عن أبي بردة عن أبي موسى قال: جئت باب عمر رضي الله عنه فقلت: السلام عليكم، يدخل عبد الله بن قيس؟ فلم يؤذن، فرجعت فانتبه عمر فقال: علي بأبي موسى فأتيت قال: أني ذهبت؟ فقلت استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ليستأذن الرجل المسلم على أخيه ثلاثا، فإن أذن له، وإلا رجع فقال: لتجيئني على ما قلت بشاهد أو لينالنك مني عقوبة، قال: فخرجت فلقيت أبي ابن كعب فأخبرته فقال: نعم! فجاء فأخبره، فقال له عمر: يا أبا الطفيل! سمعت ما قال أبو موسى من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: نعم؟ وأعوذ بالله عز وجل أن تكون عذابا على أصحاب محمد صلى الله عليه وآله. قال: وأعوذ بالله من ذلك ". وقال البغوي في (معالم التنزيل): " أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا: أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن بشران، أن إسماعيل بن محمد الصفار، أنا أحمد بن منصور الرمادي، أنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن سعيد الحريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري: قال: سلم عبد الله بن قيس على عمر بن الخطاب ثلاث مرات فلم يأذن له فرجع، فأرسل عمر في أثره فقال: لم رجعت؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إذا سلم أحدكم ثلاثا فلم يجب فليرجع، قال: لتأتين على ما تقول ببينة وإلا لأفعلن بك كذا وكذا، غير أنه قد أوعده، قال: فجاء أبو موسى ممتقعا لونه
162 وأنا في حلقة جالس فقلنا: ما شأنك؟ فقال: سلمت على عمر، فأخبرنا خبره، فهل سمع منكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا كلنا قد سمعه. قال: فأرسلوا معه رجلا منهم حتى أتى عمر فأخبره بذلك ". وقال برهان الدين عبيد الله بن محمد الفرغاني العبري في (شرح منهاج البيضاوي): " قال أبو علي في بيان اشتراط العدد: إن الصحابة طلبوا العدد فإن أبا بكر (رض) لم يقبل خبر مغيرة بن شعبة في الجدة حتى رواه محمد بن مسلمة الأنصاري، ولم يعمل عمر (رض) بخبر أبي موسى الأشعري في الاستيذان حتى رواه أبو سعيد الخدري، ورد أبو بكر وعمر خبر عثمان في رد الحكم بن العاص. وأمثال (ذلك. صح. ظ) كثيرة، وطلب العدد منهم في الروايات الكثيرة دليل اشتراطه. قلنا في الجواب عنه أنهم إنما طلبوا العدد عند التهمة لا مطلقا، ونحن إنما ندعي أن خبر العدل الواحد حيث لا تهمة في روايته مقبول، فلا يرد ما ذكرتم من الصور نقضا ". وقال ابن حجر العسقلاني في (فتح الباري): " واحتج من رد الخبر الواحد: بتوقفه صلى الله عليه وسلم في قبول خبر ذي اليدين، ولا حجة فيه لأنه عارض علمه وكل خبر واحد إذا عارض العلم لم يقبل، ويتوقف أبي بكر وعمر في حديثي المغيرة في الجدة وفي ميراث الجنين حتى شهد بهما محمد ابن مسلمة، وبوقف عمر في خبر أبي موسى في الاستيذان حتى شهد له أبو سعيد، وبتوقف عائشة في خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء الحي، وأجيب بأن ذلك إنما وقع منهم أما عند الارتياب كما في قصة أبي موسى فإنه أورد الخبر عند إنكار عمر عليه رجوعه بعد الثلاث وتوعده، فأراد عمر الاستثبات خشية أن يكون دفع بذلك عن نفسه، وقد أوضحت ذلك بدلائله في كتاب الاستيذان، وأما عند معارضة الدليل القطعي كما في إنكار عائشة حيث استدلت بقوله تعالى: * [ولا تزر وازرة وزر أخرى] *.
163 نهي عمر أبا موسى وأبا هريرة عن الحديث بل إن أبا موسى كان متهما في حديثه عن رسول الله صلى الله عليه وآله مطلقا، لا في حديث الاستيذان فحسب، ولذا نهاه وأبا هريرة عمر بن الخطاب عن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله كما نص عليه الغزالي حيث قال: " ثم اعلم أن المخالف في المسألة له شبهتان: الشبه الأولى قولهم: لا مستند في إثبات خبر الواحد إلا الإجماع، فكيف يدعي ذلك؟ وما من أحد من الصحابة إلا وقد رد الخبر الواحد، فمن ذلك توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قبول خبر ذي اليدين حيث سلم عن اثنتين حتى سأل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وشهدا بذلك وصدقاه، ثم قبل وسجد للسهو، ومن ذلك رد أبي بكر رضي الله عنه خبر المغيرة بن شعبة من ميراث الجد [ة] حتى أخبره معه محمد بن مسلمة، ومن ذلك: رد أبي بكر وعمر خبر عثمان رضي الله عنهم فيما رواه من استئذانه الرسول في الحكم بن أبي العاص وطالباه بمن يشهد معه بذلك. ومن ذلك: ما اشتهر من رد عمر رضي الله عنه خبر أبي موسى الأشعري في الاستيذان حتى شهد له أبو سعيد الخدري رضي الله عنه ومن ذلك: رد علي رضي الله عنه خبر أبي سنان الأشجعي في قصة بروع بنت واشق وقد ظهر منه أنه كان يحلف على الحديث، ومن ذلك: رد عائشة رضي الله عنها خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه، وظهر من عمر نهيه لأبي موسى وأبي هريرة عن الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وأمثال ذلك مما يكثر، وأكثر هذه الأخبار تدل على مذهب من يشترط عددا في الراوي، لا على مذهب من يشترط التواتر فإنهم لم يجتمعوا فينتظروا التواتر " (1).
(1) المستصفى في علم الأصول 2 / 135. 164 2 - في سنده أبو بردة وهو فاسق وفي رجال حديث مسلم " أبو بردة بن أبي موسى " وهو ممن عرف واشتهر بالجرائم الموبقة، فقد كان له يد في قتل الصحابي العظيم " حجر بن عدي " وأصحابه إذ شهد عليهم زورا. قال الطبري: " ثم بعث زياد إلى أصحاب حجر، حتى جمع منهم اثنى عشر رجلا في السجن، ثم إنه دعا رؤوس الأرباع فقال: اشهدوا على حجر بما رأيتم منه، وكان رؤوس الأرباع يومئذ عمرو بن حريث على ربع أهل المدينة، وخالد بن عرفطة على ربع تميم وهمدان، وقيس بن الوليد بن عبد شمس بن المغيرة على ربع ربيعة وكندة، وأبو بردة بن أبي موسى على مذحج وأسد، فشهد هؤلاء الأربعة أن حجرا جمع إليه الجموع وأظهر شتم الخليفة ودعا إلى حرب أمير المؤمنين، وزعم أن هذا الأمر لا يصلح إلا في آل أبي طالب ووثب بالمصر، وأخرج عامل أمير المؤمنين وأظهر عذر أبي تراب والترحم عليه والبراءة من عدوه وأهل حربه، وإن هؤلاء النفر الذين معه هم رؤوس أصحابه وعلى مثل رأيه وأمره " (1). وهذا نص شهادة أبي بردة: " بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما شهد عليه أبو بردة بن أبي موسى لله رب العالمين: شهد أن حجر بن عدي خلع الطاعة وفارق الجماعة ولعن الخليفة ودعا إلى الحرب الفتنة، وجمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة وخلع أمير المؤمنين معاوية وكفر بالله عز وجل كفرة صلعاء. فقال زياد: على مثل هذه الشهادة فاشهدوا، أنا [أما] والله لأجهدن على قطع خيط عنق الخائن الأحمق، فشهد رؤوس الأرباع على مثل شهادته وكانوا أربعة، ثم إن زيادا دعا الناس فقال: اشهدوا على مثل شهادة رؤوس الأرباع " (2).
(1) تاريخ الطبري 4 / 199. (2) تاريخ الطبري 4 / 200. 165 أبو بردة من المنحرفين عن أمير المؤمنين وذكره ابن أبي الحديد في المنحرفين عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: " ومن المبغضين القالين: أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، يرث البغض [البغضة] له لا عن كلالة، [و] روى عبد الرحمن بن جندب قال: قال أبو بردة لزياد: أشهد أن حجر بن عدي قد كفر بالله كفرة صلعاء [أصلع]. قال عبد الرحمن: إنما عني بذلك نسبة الكفر إلى علي بن أبي طالب عليه السلام لأنه كان أصلع. قال: وقد روى عبد الرحمن المسعودي عن ابن عياش المنتوف قال: رأيت أبا بردة قال لأبي الغادية الجهني قاتل عمار بن ياسر: أأنت قتلت عمار ابن ياسر؟ قال: نعم، قال: فناولني يدك، فقبلها وقال: لا تمسك النار أبدا!! وروى أبو نعيم عن هشام بن المغيرة عن الغضبان بن يزيد قال: رأيت أبا بردة قال لأبي الغادية قاتل عمار: مرحبا بأخي ههنا ههنا، فأجلسه إلى جانبه " (1). دلالة حديث مسلم وأما دلالة فإن حديث مسلم هذا لا يفيد مطلوبهم - وهو جواز الاقتداء بالصحابة - لأن معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون " هو: أن الأصحاب لا يبقون بعده صلى الله عليه وسلم على ما كانوا عليه في عهده، فتقع بينهم الفتن والحروب، وتختلف آراؤهم وأهواؤهم وقلوبهم، ويتشاجرون فيما بينهم، مما يؤدي إلى ارتداد بعض العرب فهذا معنى الحديث وهو يفيد الذم: قال النووي بشرحه: " وقوله صلى الله عليه سلم وأنا أمنة لأصحابي فإذا
(1) شرح نهج البلاغة 4 / 99. 166 ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، أي: من الفتن والحروب وارتداد من ارتد من الأعراب واختلاف القلوب، ونحو ذلك مما أنذر به صريحا، وقد وقع كل ذلك " (1). وقال الطيبي: " والإشارة في الجملة إلى مجئ الشر عند ذهاب أهل الخير فإنه لما كان صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم كان يبين ما يختلفون فيه، فلما توفي صلى الله عليه وسلم حالت الآراء واختلفت الأهواء " (2). وقال القاري: " فإذا ذهبت أنا أتى أصحابي ما يوعدون. أي من الفتن والمخالفات والمحن " (3). هذا وإذا دل هذا الحديث على ما سمعت فلا مجال لأن يذكر بصدد تأييد حديث النجوم، وأن يعد من فضائل الصحابة. التحريف في حديث النجوم وبعد، فقد ظهر لدى التحقيق أن لأصحاب الخدع والضلال وأولي الأيدي الأثيمة تحريفا عظيما في هذا الحديث، وذلك لأن أصله هكذا: " وأهل بيتي أمان لأمتي، فإذا ذهب أهل بيتي أتى أمتي ما يوعدون " فجعل " أصحابي " في مكان " أهل بيتي "... وهذا نص الحديث: " حدثنا أبو القاسم عبد الرحمن ابن الحسن القاضي بهمدان من أصل كتابه، ثنا محمد ابن المغيرة اليشكري، ثنا القاسم بن الحكيم [الحكم] العرني ثنا عبد الله بن عمرو بن مرة، حدثني محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج ذات ليلة وقد أخر صلاة العشاء حتى ذهب من الليل هنيهة أو ساعة والناس ينتظرون في المسجد فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا: ننتظر الصلاة، فقال: إنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتموها. ثم قال: أما
(1) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج 9 / 424. (2) الكاشف - مخطوط. (3) المرقاة 5 / 519. 167 إنها صلاة لم يصلها أحد ممن قبلكم من الأمم، ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: النجوم أمان لأهل السماء فإن طمست النجوم أتى السماء ما يوعدون، وأنا أمان لأصحابي فإذا قبضت أتى أصحابي ما يوعدون، وأهل بيتي أمان لأمتي فإذا ذهب أهل بيتي أتى أمتي ما يوعدون " (1). فليلاحظ ممن هذا التحريف؟ أمن أبي موسى؟ من ولده أبي بردة؟ من غيرهما من المحرفين المنحرفين؟ سيأتي إنشاء الله تعالى إن أهل البيت عليهم السلام هم كالنجوم في هداية الأمة، وهم الذين يمتنع الاختلاف والهلاك باتباعهم... كل ذلك من أحاديث عديدة بطرق وسياقات متكاثرة عن النبي صلى الله عليه وآله... وفي كل ذلك ما يرغم آناف أولي البغي والعناد، ويوضح للسالكين محجة الصواب والرشاد. حديث النجوم باطل وحديث النجوم... باطل من جهة متنه ودلالته كذلك... ولنوضح ذلك في وجوه: 1 - مخالفته للاجماع والضرورة إن حديث النجوم يدل على صلاح جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا باطل بالاجماع. ويدل على أنهم جميعا هادون للأمة. وهذا باطل أيضا، لأن طائفة كبيرة منهم أضلت كثيرا من الناس. ويدل على أهلية جميع الصحابة لاقتداء الأمة بهم، وهذا أيضا ظاهر البطلان إذ لا يصلح كثير منهم - بل أكثرهم - لذلك.
(1) المستدرك 3 / 457. 168 وإذا ثبت بطلان ذلك كله ثبت بطلان الحديث من أصله. 2 - اقتراف بعض الصحابة للكبائر لقد اقترف جماعة كبيرة من الصحابة كبائر الذنوب، مثل الزنا وقتل النفس المحترمة وشهادة الزور ونحو ذلك مما هو مشهور معروف لمن نظر في أحوالهم، فهل يعقل أن يجعل رسول الله صلى الله عليه وآله كل واحد منهم قائدا للأمة وهاديا للملة؟ 3 - مخالفته للكتاب لقد وردت آيات في كتاب الله عز وجل صريحة في سوء حال جم غفير من الصحابة، ولا سيما الآيات في سورة الأنفال، وسورة البراءة، وسورة الأحزاب، وسورة الجمعة، وسورة المنافقين. أفيصح أن ينصب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جميع الصحابة قادة للأمة والحال هذه؟ 4 - مخالفته للأحاديث الأخرى لقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله أحاديث كثيرة تفيد ذم الصحابة والحط من شأنهم... تجدها في الصحاح والمسانيد المعتبرة، ومنها: حديث الحوض. وحديث الارتداد. وحديث: لا ترجعوا بعدي كفارا. وحديث: الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل. وحديث: لا أدري ما تحدثون بعدي. وحديث: اتباع سنن اليهود والنصارى. وحديث: التنافس.
169 وحديث: إن من أصحابي من لا يراني بعدي ولا أراه. وحديث: إن في أصحابي منافقين. وحديث: قد كثرت علي الكذابة. إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في ذم الصحابة مجتمعين وفرادى. وقد جاوزت حد الحصر، ويكفيك منها ما ذكر في كتاب (تشييد المطاعن). وهذه الأحاديث تعارض حديث النجوم - إن صح - فلا يجوز العلم به. 5 - نهي النبي صلى الله عليه وآله عن الاقتداء بهم لقد جاء في كتب القوم أحاديث تدل بصراحة منع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الاقتداء بالصحابة، وفيها " إن من اقتداهم في النار ". قال العاصمي: " وقال عليه السلام إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، يعني عن الوقيعة فيهم، عن ذكر زلاتهم وما كان منهم في مقاماتهم، وأي عبد من عباد الله لم يزل ولو بطرفة!!. فليحذر العاقل في هذا الموضوع عن الوقيعة فيهم وذكر زلاتهم ومساويهم. وأخبرني جدي أحمد بن المهاجر رحمه الله قال أخبر أبو علي الهروي قال أخبرنا المأمون قال أخبرنا عطية عن ابن المبارك عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب قال قال رسول الله صلى الله عليه: يكون من أصحابي أحداث بعدي، يعني الفتنة التي كانت بينهم، فيغفرها الله لهم لسابقتهم، إن اقتدى بهم قوم من بعدهم كبهم الله في نار جهنم. قال ابن لهيعة: هذا رأيي منذ سمعت هذا الحديث " (1). وقال المتقي: " تكون بين أصحابي فتنة يغفر الله لهم لسابقتهم، إن
(1) زين الفتى في تفسير سورة هل أتى - مخطوط. 170 اقتدى بهم قوم من بعدهم كبهم الله تعالى في نار جهنم. نعيم عن [ابن] يزيد ابن أبي حبيب، مرسلا " (1). 6 - اعترافهم بعدم أهليتهم للاقتداء بهم إن في كتب أهل السنة أحاديث كثيرة فيها اعتراف الصحابة أنفسهم بعدم أهليتهم للاقتداء بهم، ويكفي من أقوال أبي بكر بن أبي قحافة: قوله: إن لي شيطانا يعتريني. - لست بخير من أحدكم فراعوني، فإذا رأيتموني استقمت فاتبعوني، وإذا رأيتموني زغت فقوموني. - أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم. - أفتظنون أني أعمل بسنة رسول الله، إذا لا أقوم بها؟. ومن أقوال عمر بن الخطاب: قوله: يا حذيفة بالله أنا من المنافقين. - لولا علي لهلك عمر (في قضايا كثيرة). - لولاك لافتضحنا (قاله لعلي عليه السلام). - امرأة خاصمت عمر فخصمته (في مسألة المهر). - امرأة أصابت ورجل أخطأ. - ألا تعجبون من إمام أخطأ ومن امرأة أصابت؟ ناضلت إمامكم فنضلته. - تسمعونني أقول مثل هذا فلا تنكرونه، حتى ترد علي امرأة ليست من أعلم النساء؟ - كل أحد أفقه مني. - كل أحد أفقه من عمر.
(1) كنز العمال 22 / 174. 171 - كل أحد أعلم من عمر. - كل أحد أعلم وأفقه من عمر. - كل أحد أعلم منك حتى النساء. - كل أحد أفقه من عمر حتى النساء - كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات في الحجال. - كل الناس أعلم من عمر حتى العجائز. وهذه كلها موجودة في كتب أهل السنة كما لا يخفى على من راجع (تشييد المطاعن) وغيره. فهل يصح تشبيه هكذا أناس بالنجوم؟!
172 تفنيد كلام الدهلوي في حاشية التحفة
173 ومن الغريب قول (الدهلوي) في حاشية (التحفة) في هذا المقام: فإن قلت: اجتهاد بعض الصحابة خطأ بيقين، فكيف وعد الهداية في اتباعهم جميعا؟. قلنا: محل اتباعهم ما كان غير منصوص في الكتاب والسنة، ولا شبهة إن تيقن الخطأ إنما يكون في المنصوصات، وهي ليست محلا لاتباعهم. والحاصل: إن اتباعهم دليل الهداية ما لم يظهر خطؤهم بمقتضى الكتاب والسنة، فلا إشكال. شرح الارشاد. أقول: وهذا الكلام مردود بوجوه: 1 - المخطئ لا يكون هاديا من كان اجتهاده خاطئا بيقين لا يجوز أن يكون هاديا. 2 - الخطأ في غير المنصوصات أكثر إذا كان بعضهم يخطأ في اجتهاده فيخالف منصوصات الكتاب، فإنه
175 يكون خطؤه في غير المنصوصات أكبر وأكثر. 3 - لا يجوز متابعة المخطئ مع وجود المعصوم إنه لا ريب في عصمة أئمة أهل البيت عليهم السلام عن الخطأ، لدلالة آية التطهير وحديث الثقلين وغيرهما من الآيات والروايات على ذلك - ومع وجود هؤلاء لا يعقل أن يجعل النبي صلى الله عليه وآله الخاطئين بمنزلة النجوم. على أن في أصحابه صلى الله عليه وآله من تتلو مرتبتهم مرتبة الأئمة عليهم السلام. أمثال أبي ذر وسلمان والمقداد وعمار رضي الله عنهم أجمعين فترك هؤلاء واتباع الخاطئين ظلم عظيم. تعالى الله عن ذلك ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. 4 - الاختلاف بين الأصحاب في الأحكام إنه لا شك في وقوع الاختلاف بين الصحابة في الأحكام الشرعية - المنصوصة منها وغيرها - وهو موضوع كتاب (الانصاف في بيان سبب الاختلاف لشاه ولي الله والد الدهلوي) وجعل هؤلاء قادة للأمة وتشبيههم بالنجوم من حيث الهداية قبيح في الغاية، يجل عنه كل عاقل فضلا عن خاتم النبيين وأشرف الخلائق أجمعين صلى الله عليه وآله. 5 - تخطئة الأصحاب بعضهم لبعض لقد كان باب التخطئة مفتوحا لدى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل قد تجاوزت تخطئة بعضهم البعض حد الاعتدال وبلغت التكذيب والتجهيل التكفير، وتلك قضاياهم مدونة في كتب أهل السنة وأسفارهم، فكيف يصدق عاقل أن يكونوا جميعا - والحالة هذه - أئمة في الدين وقادة المسلمين؟!
176 6 - استعمالهم القياس لقد كان في الأصحاب من يستعمل القياس ويتبع في ذلك سبيل أول من قاس... ومن كان مخطئا بيقين في المنصوصات ومستعملا للقياس في غيرها لا يستحق أن يكون نجم هداية. 7 - جهلهم بالأحكام لقد كان في الأصحاب - ومنهم المشايخ الثلاثة - من يرجع في الحوادث الواقعة إلى غيره ملتمسا الحكم الشرعي فيه، بل كان فيهم من يعترف بأن " كل الناس أفقه منه حتى المخدرات في الحجال ". ومن المستحيل أن ينصب الرسول صلى الله عليه وآله هؤلاء الجهال مراجع للأمة في الأحكام وغيرها.... بل كان فيهم من يحكم - لفرط جهله - أحكاما مختلفة متناقضة في الواقعة الواحدة.... بل كان فيهم من لم يعرف معنى " الكلالة " رغم وجودها في القرآن الكريم وتفسير النبي صلى الله عليه وآله لها، وقد روي عن أبي بكر أنه قال: " إني قد رأيت في الكلالة رأيا، فإن كان صوابا فمن الله وحده لا شريك له وإن يكن خطأ فمني والشيطان، والله برئ منه " (1). وقد روي في هذا المقام عن عمر بن الخطاب عجائب، رواها الطبري في تفسيره، وقد ذكرت بالتفصيل في (تشييد المطاعن). والأعجب أنه كان الخليفة متى قرأ قوله تعالى: * [يبين الله لكم أن تضلوا] * قال: " اللهم من تبينت له الكلالة فلم تتبين لي ". ولقد كان يقول: ما أراني أعلمها أبدا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال " يشير إلى قوله صلى الله عليه وآله لحفصة: " ما أرى أباك يعلمها
(1) راجع تفسير الطبري 4 / 283 - 284. 177 أبدا ". بل روي عنه أنه كان يقول " ثلاث لأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهن لنا أحب إلي من الدنيا وما فيها: الخلافة والكلالة والربا ". 8 - إقدام بعضهم على معاملة محرمة لقد أقدم بعض كبار الصحابة في بعض معاملاته على أمر محرم باطل، سبب بطلان حجه وجهاده مع رسول الله صلى الله عليه وآله، على حد تعبير عائشة بنت أبي بكر. وقد روى هذا الأثر كبار المحدثين في كتب المحدثين، وأئمة الفقه في كتبهم ومشاهير العلماء في التفسير وعلم الأصول في مؤلفاتهم، وإليك نصوص عبارات طائفة من هؤلاء الأعلام: قال عبد الرحمن بن القاسم المالكي في كتاب (المدونة الكبرى): " وأخبرني ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن أبي إسحاق الهمداني، عن أم يونس أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت لها أم محبة أم ولد لزيد بن أرقم الأنصاري: يا أم المؤمنين! أتعرفين زيد بن أرقم؟ قالت: نعم! قالت: فإني بعته عبدا إلى العطاء بثمان مائة، فاحتاج إلى ثمنه فاشتريته منه قبل الأجل بستمائة. فقالت بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وآله إن لم يتب. قالت: فقلت: أفرأيت إن تركت المائتين وأخذت الستمائة؟ قالت: فنعم! من جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ". وقال عبد الرزاق بن همام الصنعاني في (المصنف) " أخبرنا معمر والثوري عن أبي إسحق السبيعي، عن امرأة دخلت على عائشة في نسوة فسألتها امرأة فقالت: يا أم المؤمنين! كانت لي جارية فبعتها من زيد بن أرقم بثمان مائة درهم ثم ابتعتها منه بستمائة فنقدته الستمائة وكتب عليه ثمان مائة فقالت عائشة: بئس ما اشتريت وما بئس ما اشترى! أخبري زيد بن
178 أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وآله إلا أن يتوب، فقالت المرأة لعائشة: أرأيت إن أخذت رأس مالي ورددت إليه الفضل! فقالت: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ". وقال أحمد بن حنبل الشيباني في (مسنده) " حدثنا محمد بن جعفر: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن امرأة (امرأته. ظ) أنها دخلت على عائشة - هي وأم ولد زيد بن أرقم - فقالت أم ولد زيد بن أرقم لعائشة: إني بعت من زيد غلاما بثمان مائة درهم نسية واشتريت بستمائة نقدا، فقالت عائشة: أبلغي زيدا أنك قد أبطلت جهادك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن تتوب! بئس ما اشتريت وبئس ما شريت! ". وقال أبو بكر أحمد بن محمد المعروف بالجصاص الرازي الحنفي في كتاب (أحكام القرآن) في شرح أحكام آية الربا: " ومن الربا المراد من الآية شري ما يباع بأقل من ثمنه قبل نقد الثمن. والدليل على أن ذلك ربا حديث يونس ابن إسحاق (أبي إسحق. ظ) عن أبيه عن أبي العالية قال (العالية، قالت. ط) كنت عند عائشة فقالت لها امرأة: إني بعت زيد بن أرقم جارية لي إلى عطائه بثمان مائة درهم وأنه أراد أن يبيعها فاشتريتها منه بستمائة، فقالت: بئسما شريت وبئسما اشتريت أبلغي زيد بن أرقم أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب! فقالت: يا أم المؤمنين! أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي فقالت: (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله)، فدلت تلاوتها لآية الربا عند قولها " أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي " أن ذلك كان عندها من الربا، وهذه التسمية طريقها التوقيف ". وقال أبو زيد عبيد الله بن عمر بن عيسى الدبوسي الحنفي في كتاب (تأسيس النظر) في مسائل مبحث تقديم قول الصحابي على القياس: " ومنها إذا اشترى ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن لا يجوز، أخذنا بحديث عائشة رضي الله عنها وحديث زيد بن أرقم فحكمنا بفساد البيع وتركنا القياس،
179 وعند الإمام أبي عبد الله الشافعي: البيع جائز، وأخذ فيه بالقياس ". وقال شمس الأئمة أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي في كتاب (المبسوط): " وإذا باع رجل شيئا بنقد أو بنسية فلم يستوف ثمنه حتى اشتراه بمثل ذلك الثمن أو أكثر منه جاز، وإن اشتراه بأقل من ذلك الثمن لم يجز ذلك في قول علمائنا رحمهم الله استحسانا، وفي القياس يجوز ذلك وهو قول الشافعي، لأن ملك المشتري قد تأكد في المبيع بالقبض فيصح بيعه بعد ذلك بأي مقدار من الثمن باعه، كما لو باعه من غير البائع، ألا ترى أنه لو وهبه من البائع جاز ذلك، فكذلك إذا باعه منه بثمن يسير، ولأنه لو باعه من إنسان آخر ثم باعه ذلك الرجل من البائع الأول بأقل من الثمن الأول جاز، فكذلك إذا باعه المشتري منه. إلا أنا استحسنا لحديث عائشة، رضي الله عنها، فإن امرأة دخلت عليها وقالت: إني بعت من زيد بن أرقم جارية لي بثمان مائة درهم إلى العطاء ثم اشتريتها منه بستمائة درهم قبل محل الأجل. فقالت عايشة رضي الله عنها: بئسما اشتريت، أبلغي زيد بن أرقم شريت وبئس أن الله تعالى أبطل حجه وجهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب فأتاها زيد بن أرقم معتذرا، فتلت قوله تعالى: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف. فهذا دليل على أن فساد هذا العقد كان معروفا بينهم، وأنها سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن أجزية الجرائم لا تعرف بالرأي، وقد جعلت جزاءه على مباشرة هذا العقد بطلان الحج والجهاد، فعرفنا من ذلك كالمسموع من رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتذار زيد رضي الله عنه إليها دليل على ذلك لأن في المجتهدات كان يخالف بعضهم بعضا، وما كان يعتذر أحدهم إلى صاحبه فيها ". وقال ملك العلماء علاء الدين أبو بكر بن مسعود الكاشاني الحنفي في كتاب (بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع) في مسألة " شراء ما باع بأقل من ثمنه قبل نقد الثمن ": " ولنا ما روي أن امرأة جاءت إلى سيدتنا عائشة
180 رضي الله عنها وقالت: إني ابتعت خادما من زيد بن أرقم بثمانمائة ثم بعتها بستمائة، فقالت سيدتنا عائشة رضي الله عنها: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أبلغي زيدا أن الله تعالى قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب. ووجه الاستدلال به من وجهين: أحدهما أنها ألحقت بزيد وعيدا لا يوقف عليه بالرأي، وهو بطلان الطاعة بما سوى الردة، فالظاهر أنها قالته سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يلتحق الوعيد إلا بمباشرة المعصية، فدل على فساد البيع لأن البيع الفاسد معصية. والثاني: أنها رضي الله عنها سمت ذلك بيع سوء وشراء سوء، والفاسد هو الذي يوصف بذلك لا الصحيح ". وقال برهان الدين علي بن أبي بكر المرغيناني في (الهداية) " قال: ومن اشترى جارية بألف درهم حالة أو نسية فقبضها، ثم باعها من البائع بخمس مائة درهم قبل أن ينقد الثمن، لا يجوز البيع الثاني، وقال الشافعي: يجوز لأن الملك قد تم فيها بالقبض فصار البيع من البائع ومن غيره سواء، وصار كما لو باع بمثل ثمن الأول أو بالزيادة أو بالعوض. ولنا: قول عائشة (رض) لتلك المرأة وقد باعت بستمائة. بعد ما اشترت بثمان مائة: بئس ما شريت واشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أن الله قد أبطل حجه وجهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب! ". وقال مجد الدين مبارك بن محمد المعروف بابن الأثير الجزري الشافعي " أم يونس، قالت: جاءت أم ولد زيد بن أرقم إلى عائشة فقالت: بعت جارية من زيد بثمانمائة درهم إلى العطاء ثم اشتريها منه قبل حلول الأجل بستمائة، وكنت شرطت عليه أنك إن بعتها فأنا اشتريها منك، فقالت لها عائشة: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وآله إن لم يتب منه. قالت: فما
181 نصنع؟ فتلت عائشة: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فينتقم الله منه، فلم ينكل أحد على عائشة والصحابة متوفرون. ذكره رزين ولم أجده " في الأصول ". وقال مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد الله الحراني في كتاب (المنتقى) " باب أن من باع سلعة بنسية لا يشتريها بأقل مما باعها. عن أبي إسحاق السبيعي، عن امرأته أنها دخلت على عائشة فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم، فقالت: يا أم المؤمنين! إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسية وأني ابتعته منه بستمائة نقدا، فقالت لها عائشة: بئس ما اشتريت وبئس ما شريت، إن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بطل إلا أن يتوب. رواه الدارقطني ". وقال أبو المؤيد محمد بن محمود الخوازمي في (جامع مسانيد أبو حنيفة) " أبو حنيفة، عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأة أبي السفر أن امرأة قالت لعائشة (رض): إن زيد بن أرقم باعني جارية بثمان مائة درهم ثم استردها مني بستمائة درهم، فقالت: أبلغيه عني أن الله أبطل جهاده مع رسول الله إن لم يتب ". وقال أبو البركات عبد الله بن أحمد المعروف بحافظ الدين النسفي في (كشف الأسرار - شرح المنار): " وقد اتفق عمل أصحابنا بالتقليد فيما لا يعقل بالقياس كما في أقل الحيض، أخذا بقول أنس، وشراء ما باع بأقل مما باع قبل بعد الثمن، عملا بقول عائشة رضي الله عنها في قصة زيد بن أرقم ". وقال علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري في (كشف الأسرار - شرح أصول البزودي): " وأفسدوا شراء ما باع بأقل مما باع، يعني قبل أخذ الثمن، مع أن القياس يقتضي جوازه كما قال الشافعي، لأن الملك في المبيع قد تم بالقبض للمشتري فيجوز بيعه من البائع بما شاء كالبيع من غيره وكالبيع بمثل الثمن منه، عملا بقول عائشة رضي الله عنها، وهو ما روت أم يونس أن امرأة جاءت إلى عائشة رضي الله عنها وقالت: إني بعت من زيد بن أرقم
182 خادما بثمان مائة درهم إلى العطاء فاحتاج إلى ثمنه فاشتريته منه قبل محل الأجل بستمائة، فقالت عائشة رضي الله عنها: بئسما شريت واشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أن الله تعالى أبطل جهاده وحجه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب. فأتاها زيد ابن أرقم معتذرا، فتلت قوله تعالى: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف. فتركنا القياس به لأن القياس لما كان مخالفا لقولها تعين جهة السماع فيه. والدليل عليه أنها جعلت جزاءه على مباشرة هذا العقد بطلان الحج والجهاد، وأجزئة الجرائم لا تعرف بالرأي، فعلم أن ذلك كالمسموع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتذار زيد إليها دليل على ذلك أيضا، فإن بعضهم كان يخالف بعضا في المجتهدات وما كان يعتذر إلى صاحبه ". وقال حسن بن محمد الطيبي في (كاشف - شرح مشكاة) في باب الربا في شرح حديث " مح (1) ": احتج أصحابنا بهذا الحديث أن الحيلة التي يعملها بعض الناس توصلا إلى مقصود الربا ليس بحرام، وذلك أن من أراد أن يعطي صاحبه مائة درهم بمائتين فيبيعه بمائتين ثم يشتري منه بمائة، لأنه صلى الله عليه وآله قال: بع هذا واشتر بثمنه من هذا، وهو ليس بحرام عند الشافعي. وقال مالك وأحمد: هو حرام. أقول: وينصره ما رواه رزين في كتابه عن أم يونس أنها قالت: جاءت أم ولد زيد بن أرقم إلى عائشة رضي الله عنها فقالت: بعت جارية من زيد بثماني مائة درهم إلى العطاء ثم اشتريتها منه قبل حلول الأجل بستمائة، وكنت شرطت عليه أنك إن بعتها فأنا أشتريها منك، فقالت لها عائشة رضي الله عنها: بئس ما شريت وبئسما اشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وآله إن لم يتب منه. قالت: فما
(1) أي: قال محيي الدين النووي في " شرح مسلم ". 183 يصنع: فتلت عائشة رضي الله عنها: " فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله " تعالى الآية. فلم ينكر أحد على عائشة، والصحابة متوفرون ". وقال فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي في (تبيين الحقائق - شرح كنز الدقائق): " قال: وشراء ما بالأقل قبل النقد، ومعناه أنه لو باع شيئا وقبضه المشتري ولم يقبض البائع الثمن فاشتراه بأقل من الثمن الأول لا يجوز، وقال الشافعي (رح) يجوز، وهو القياس، لأن الملك قد تم بالقبض فيجوز بيعه بأي قدر كان من الثمن، كما إذا باعه من غير البائع أو منه بمثل الثمن الأول أو بأكثر أو بعرض أو بأقل بعد النقد. ولنا: ما روي عن أبي إسحاق السبيعي، عن امرأة أنها دخلت على عائشة رضي الله عنها فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم، فقالت: يا أم المؤمنين إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمان مائة درهم نسيئة وإني ابتعته منه بستمائة نقدا، فقالت لها عائشة: بئسما شرى؟ إن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بطل إلا أن يتوب. رواه الدارقطني. فهذا الوعيد دليل على أن هذا العقد فاسد، وهو لا يدرك بالرأي فدل على أنها قالته سماعا، ولا يقال: قد روى أنها قالت: إني بعته إلى العطاء، فلعلها أنكرت عليها لذلك. لأنا نقول: كانت عائشة رضي الله عنها ترى البيع إلى العطاء ولأن الثمن لم يدخل في ضمان البائع قبل قبضه، فإذا عاد إليه عين ما له بالصفة التي خرج من ملكه وصار بعض الثمن قصاصا ببعض بقي له عليه فضل بلا عوض، فكان ذلك ربح ما لم يضمن، وهو حرام بالنص ". وقال أبو الفدا إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي في (تفسيره): " وقال ابن أبي حاتم: قرأ على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: أخبرنا ابن وهب، أخبرني جرير بن حازم، عن أبي إسحاق الهمداني، عن أم يونس - يعني امرأته العالية بنت أيفع - إن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لها أم بحنة (محبة ظ): أم ولد زيد بن أرقم: يا أم المؤمنين: أتعرفين زيد بن أرقم:
184 قالت نعم! قالت: فإني بعته عبدا إلى العطاء بثمانمائة فاحتاج إلى ثمنه فاشتريته قبل محل الأجل بستمائة، فقالت: بئسما شريت وبئسما اشتريت، أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بطل إن لم يتب. قالت: فقلت أرأيت تركت المائتين وأخذت الستمائة؟ قالت: نعم! فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف. وهذا الأثر مشهور وهو دليل لمن حرم مسألة العينة، مع ما جاء فيها من الأحاديث المذكورة المقررة في كتاب الأحكام، ولله الحمد والمنة " (1). قال أكمل الدين محمد بن محمود البابرتي في (العناية): " وحاصل ذلك أن شراء ما باع لا يخلو من أوجه، إما أن يكون من المشتري بلا واسطة أو بواسطة شخص آخر والثاني جائز بالاتفاق مطلقا: أعني سواء اشترى بالثمن الأول أو بأنقص أو بأكثر أو بالعرض، والأول إما أن يكون بأقل أو بغيره، والثاني بأقسامه جائز بالاتفاق، والأول هو المختلف فيه، الشافعي (ره) جوزه قياسا على الأقسام الباقية وبما إذا باع من غير البائع فإنه جائز أيضا بالاتفاق، ونحن لم نجوزه بالأثر والمعقول. أما الأثر: فما قال محمد: حدثنا أبو حنيفة يرفعه إلى عائشة رضي الله عنها أن امرأة سألتها فقالت: إني اشتريت من زيد بن أرقم جارية بثمانية مائة درهم إلى العطاء، ثم بعتها منه بستمائة درهم قبل محل الأجل فقالت عائشة رضي الله عنها: بئسما اشتريت! أبلغي زيد بن أرقم إن الله تعالى قد أبطل حجه وجهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب، فأتاها زيد بن أرقم معتذرا، فتلت عليه قوله تعالى: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف. ووجه الاستدلال أنها جعلت جزاء مباشرة هذا العقد بطلان الحج والجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجزية الأفعال لا تعلم بالرأي فكان مسموعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعقد الصحيح لا يجازي بذلك
(1) تفسير ابن كثير 1 / 327. 185 فكان فاسدا وإن زيدا اعتذر إليها، وهو دليل على كونه مسموعا لأن في المجتهدات كان بعضهم يخالف بعضا، وما كان أحدهما يعتذر إلى صاحبه، وفيه بحث، لجواز أن يقال إلحاق الوعيد لكون البيع إلى العطاء هو أجل مجهول. والجواب أنه ثبت من مذهبها جواز البيع إلى العطاء وهو مذهب علي رضي الله عنها فلا يكون كذلك، ولأنها كرهت العقد الثاني حيث قالت: بئسما شريت، مع عرائه عن هذا المعنى، فلا يكون لذلك بل لأنهما تطرقا به إلى الثاني. فإن قيل: القبض غير مذكور في الحديث فيمكن أن يكون الوعيد للتصرف في المبيع قبل قبضه. أجيب بأن تلاوتها آية الربا دليل على أنه للربا لا لعدم القبض ". وقال جلال الدين الخوارزمي الكرماني في (الكفاية): " ولنا: قول عائشة رضي الله عنها لتلك المرأة، وهو أن امرأة دخلت على عائشة رضي الله تعالى عنها وقالت: إني اشتريت من زيد بن أرقم جارية إلى العطاء بثمان مائة درهم ثم بعتها منه بستمائة. فقالت عائشة: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت! أبلغي زيد بن أرقم أن الله تعالى أبطل حجه وجهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب عن هذا. فأتاها زيد بن أرقم معتذرا، فتلت قوله تعالى: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف. فهذا الوعيد الشديد دليل على فساد هذا العقد، والحاق هذا الوعيد لهذا الصنع لا يهتدي إليه العقل، إذ شئ من المعاصي دون الكفر لا يبطل شيئا من الطاعات إلا أن يثبت شئ من ذلك بالوحي، فدل على أنها قالته سماعا، واعتذار زيد إليها دليل على ذلك، لأن في المجتهدات كان يخالف بعضهم بعضا وما كان يعتذر أحد إلى صاحبه فيها. ولا يقال: إنما ألحقت الوعيد بن للأجل إلى العطاء. لأنا نقول: إن مذهب عائشة رضي الله عنه جواز البيع إلى العطاء ولأنها قد كرهت العقد الثاني بقولها: بئس ما شريت. وليس فيه هذا المعنى وإنما ذمت البيع الأول وإن كان جائزا عندها، لأنه صار ذريعة إلى البيع الثاني الذي هو موسوم بالفساد، وهذا كما يقول
186 لصاحبه: بئس البيع الذي أوقعك في هذا الفساد وإن كان البيع جائزا. فإن قيل: يحتمل أنها ذمت البيع الأول لفساده بجهالة الأجل وأنها رجعت عن تجويز البيع إلى العطاء والبيع الثاني، لأنه بيع المبيع قبل القبض إذ القبض لم يذكر في الحديث. قلنا: الرجوع لم يثبت وإنما ذمت البيع الثاني لأجل الربا حتى تلت عليه آية الربا، وليس في بيع المبيع قبل القبض الربا ". وقال أبو إسحق إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي في كتاب (الموافقات في أصول الأحكام): " والثاني من الاطلاقين أن يراد بالبطلان عدم ترتب آثار العمل عليه في الأخوة وهو الثواب. ويتصور ذلك في العبادات والعادات فتكون العبادة باطلة بالإطلاق الأول فلا يترتب عليها جزاء لأنها غير مطابقة لمقتضى الأمر بها، وقد تكون صحيحة بالإطلاق الأول ولا يترتب عليها ثواب أيضا، فالأول كالمتعبد رئاء الناس فإن تلك العبادة غير مجزئة ولا يترتب عليها ثواب والثاني كالمتصدق بالصدقة يتبعها بالمن والأذى وقد قال تعالى: * [يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس] *، الآية. وقال (لئن أشركت ليحبطن عملك). وفي الحديث: " أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب، على تأويل من جعل الابطال حقيقة ". وقال بدر الدين محمود بن أحمد العيني في (شرح الهداية): " (ص): ولنا قول عائشة رضي الله عنه لتلك المرأة وقد باعت بستمائة بعد ما اشترت بثمان مائة: بئسما شريت! أبلغي زيد بن أرقم أن الله تعالى قد أبطل حجه وجهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب. (ش): هذا أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: أخبرنا معمر والثوري عن أبي إسحاق عن امرأة أنها دخلت على عائشة في نسوة فسألت امرأة فقالت: يا أم المؤمنين! كانت لي جارية فبعتها من زيد بن أرقم بثمان مائة إلى العطاء ثم
187 ابتعتها منه بستمائة فنقدت له الستمائة. فقالت عائشة: بئسما شريت وبئسما اشتريت أخبري زيد بن أرقم أنه قد بطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب. فقالت المرأة لعائشة رضي الله عنها: أرأيت إن أخذت رأس مالي ورددت عليه الفضل؟ فقالت: من جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف. وأخرجه الدارقطني ثم البيهقي في سننيهما عن يونس بن أبي إسحاق الهمداني عن أمه العالية، قالت: كنت قاعدة عند عائشة رضي الله عنها فأتتها أم محبة فقالت: إني بعت زيد بن أرقم جارية إلى العطاء. فذكرا بنحوه. وقال الدارقطني: أم محبة وأم العالية مجهولتان لا يحتج بهما. (قلت): بل العالية امرأة معروفة جليلة القدر، ذكرها ابن سعد في (الطبقات) فقال: العالية بنت أيفع بن شرحبيل. امرأة أبي إسحاق السبيعي: سمعت من عائشة رضي الله عنها. وأم محبة بضم الميم وكسر الحاء. كذا ضبطه الدارقطني في كتاب (المؤتلف والمختلف). ورواه أبو حنيفة في مسنده عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأة أبي السفر أن امرأة سألت عن عائشة فقالت: إن زيد بن أرقم باعني جارية بثمان مائة واشتراها مني بستمائة فقالت: أبلغي عن زيد بن أرقم أن الله عز وجل قد أبطل جهاده إن لم يتب. وجه الاستدلال أنها جعلت جزاء مباشرة هذا العقد بطلان الحج والجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب، وأجزية الجرائم لا تعلم بالرأي فكان مسموعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعقد الصحيح لا يجازي بذلك فكان فاسدا وإن زيدا اعتذر إليها، وهو دليل على كونه مسموعا، وفي المجتهدات كان بعضهم يخالف بعضا وما كان أحدهما يعتذر إلى صاحبه. فإن قلت: يجوز أن يكون إلحاق الوعيد لكون البيع إلى العطاء وهو أجل مجهول. (قلت): ثبت من مذهب عائشة رضي الله عنها جواز البيع إلى العطاء وهو مذهب علي وابن أبي ليلى وآخرين ولم يكن كذلك. فإن قلت: لم كرهت العقد الأول مع أن الفساد من الثاني؟ قلت لأنها تطرق به إلى
188 الثاني، كالسفر يكون محظورا إذا كان لقطع الطريق وإن كان السفر مباحا في نفسه. فإن قلت: القبض غير مذكور في الحديث فيمكن أن يكون الوعيد للتصرف في المبيع قبل القبض. قلت: تلاوتها آية الربا دليل على أنه للربا لا لعدم القبض ". وقال ابن الهمام السيواسي في (فتح القدير): " ولنا: قول عائشة رضي الله عنها إلى آخر ما نقله المصنف عن عائشة، يفيد أن المرأة هي التي باعت زيدا بعد أن اشترت منه وحصل له الربح لأن " شريت " معناه " بعت "، قال تعالى: شروه بثمن بخس. أي: باعوه، وهو رواية أبي حنيفة فإنه روى في مسنده عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأة أبي السفر أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها إن زيد بن أرقم باعني جارية بثمانمائة درهم ثم اشتراها مني بستمائة. فقالت: أبلغيه أن الله أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب. ففي هذا أن الذي باع زيد ثم استرد وحصل الربح له، ولكن رواية غير أبي حنيفة من أئمة الحديث عكسه. روى الإمام أحمد بن حنبل، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته أنها دخلت على عائشة هي وأم ولد زيد بن أرقم فقالت أم ولد زيد لعائشة: إني بعت من زيد غلاما بثمان مائة درهم نسية واشتريته بستمائة نقدا. فقالت أبلغي زيدا أن قد أبطلت جهادك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن تتوب بئسما شريت وبئسما اشتريت وهذا فيه أن الذي حصل له الربح هي المرأة قال ابن عبد الهادي في " التنقيح ": هذا إسناد جيد وإن كان الشافعي قال: لا يثبت مثله عن عائشة. وقول الدارقطني في العالية " هي مجهولة لا يحتج بها " فيه نظر، فقد خالفه غير واحد، ولولا أن عند أم المؤمنين علما من رسول الله أن هذا محرم لم تستجز أن تقول مثل هذا الكلام بالاجتهاد. وقال غيره: هذا مما لا يدرك بالرأي. والمراد بالعالية امرأة أبي إسحاق السبيعي التي ذكر أنها دخلت مع أم ولد على عائشة.
189 قال ابن الجوزي: قالوا إن العالية امرأة مجهولة لا يحتج بنقل خبرها. قلنا: هي امرأة جليلة القدر، ذكرها ابن سعد في " الطبقات " فقال: العالية بنت أنفع بن شراحيل، امرأة أبي إسحاق السبيعي. سمعت من عائشة. وقولها: بئسما شريت، أي بعت. قال تعالى: وشروه بثمن بخس. أي باعوه. وإنما ذمت العقد الأول لأنه وسيلة، وذمت الثاني لأنه مقصود بالفساد. وروى هذا الحديث على هذا النحو عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر والثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأة أنها دخلت على عائشة في نسوة فسألتها امرأة فقالت: كانت لي جارية فبعتها من زيد بن أرقم بثمانمائة إلى العطاء ثم ابتعتها منه بستمائة فنقدته ستمائة وكتب لي عليه ثمانمائة. فقالت عائشة: - إلى قولها - إلا أن يتوب. وزاد: فقالت المرأة لعائشة: أرأيت إن أخذت رأس مالي ورددت عليه الفضل؟ فقالت: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف. لا يقال: إن قول عائشة وردها لجهالة الأجل وهو البيع إلى العطاء فإن عائشة كانت ترى جواز الأجل إلى العطاء، ذكره في (الأسرار) وغيره ". وقال ابن أمير الحاج الحلبي في كتاب (التقرير والتحبير) في مسألة إلحاق قوله الصحابي بالسنة: " وفساد بيع ما اشترى قبل نقد الثمن لقول عائشة لأم ولد زيد بن أرقم - لما قالت لها: إني بعت من زيد غلاما بثمانمائة درهم نسية واشتريته بستمائة نقدا -: أبلغي زيدا أن قد أبطلت جهادك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن تتوب بئسما اشتريت وبئسما شريت. رواه أحمد. قال ابن عبد الهادي: إسناده جيد ". وقال عبد اللطيف بن عبد العزيز الحنفي المعروف بابن الملك في (شرح المنار): " وكفساد شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن مع أن القياس يقتضي جوازه عملا بقول عائشة رضي الله عنها لتلك المرأة القائلة: إني بعت خادما من زيد بن أرقم بثمان مائة درهم إلى العطاء فاحتاج إلى ثمنه فاشتريته منه بستمائة، قالت: بئسما شريت واشتريت، أبلغي زيد بن أرقم
190 أن الله تعالى أبطل حجه وجهاده مع رسول الله عليه السلام إن لم يتب ". وقال زين الدين عبد الرحمن بن أبي بكر المعروف بابن العيني في (شرح المنار): " وشراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن أفسدوه بقوله عائشة للتي قالت: إني بعت من زيد بن أرقم خادما بثمانمائة درهم إلى العطاء فاحتاج إلى ثمنه فاشتريته قبل محل الأجل بستمائة: بئسما شريت واشتريت! أبلغي زيد بن أرقم أن الله أبطل جهاده وحجه مع رسول الله عليه السلام إن لم يتب ". وقال جلال الدين السيوطي في تفسيره (الدر المنثور): " وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن عائشة أن امرأة قالت لها: إني بعت زيد بن أرقم عبدا إلى العطاء بثمانمائة فاحتاج إلى ثمنه فاشتريته قبل محل الأجل بستمائة: فقالت: بئسما شريت وبئسما اشتريت، أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب. قلت أفرأيت إن تركت المائتين وأخذت الستمائة! فقالت: نعم! من جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف " (1). وقال في (عين الإصابة): " أخرج عبد الرزاق في (المصنف) والدارقطني والبيهقي في (سننهما) عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته أنها دخلت على عائشة في نسوة فسألتها امرأة فقالت: يا أم المؤمنين! كانت لنا جارية فبعتها من زيد بن أرقم بثمانمائة إلى العطاء ثم ابتعتها منه بستمائة فنقدته الستمائة وكتب عليه ثمانمائة: فقالت عائشة: بئسما اشتريت وبئسما شريت، أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب. فقالت المرأة لعائشة: أرأيت إن أخذت رأس مالي ورددت عليه الفضل؟ قالت: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ". وقال عبد الرحمن بن علي الشهير بابن الديبع الشيباني في (تيسير الوصول): " وعن أم يونس، قالت: جاءت أم ولد زيد بن أرقم رضي الله عنه
(1) الدر المنثور 1 / 365. 191 إلى عائشة رضي الله عنها فقالت: بعت جارية من زيد بثمانمائة درهم إلى العطاء ثم اشتريتها منه قبل حلول الأجل بستمائة درهم وكنت شرطت عليه أنك إن بعتها فأنا اشتريتها منك. فقالت عائشة رضي الله عنها: بئس ما شريت، وبئس ما اشتريت أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب منه. قالت فما صنع؟ فتلت عائشة رضي الله عنها: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله. الآية. فلم ينكر أحد على عايشة رضي الله عنها، والصحابة رضي الله عنهم متوفرون ". وقال زين الدين الشهير بابن نجيم المصري في (البحر الرائق - شرح كنز الدقائق): " قوله: وشراء ما باع بالأقل قبل النقد. أي لم يجز شراء البائع ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن، فهو مرفوع عطفا على البيع لا أنه مجرور عطفا على المجرورات لأنه لو كان كذلك لصار المعنى لم يجز بيع شراء، وهو فاسد وإنما منعنا جوازه استدلالا بقول عائشة (رض) لتلك المرأة وقد باعت بستمائة بعد ما اشترت بثمانمائة: بئس ما شريت واشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أن الله تعالى أبطل حجه وجهاده مع رسول الله صلى الله عليه وآله إن لم يتب ". وقال الملا علي القاري في (المرقاة - شرح المشكاة) في شرح حديث تمر جنيب بعد ذكر الاختلاف في مسألة الاحتيال في الربا: " قال الطيبي رحمه الله: وينصر قول مالك وأحمد ما رواه رزين في كتابه عن أم يونس أنها قالت: جاءت أم ولد لزيد بن أرقم إلى عائشة رضي الله عنها فقالت: بعت جارية من زيد بثمانمائة درهم إلى العطاء ثم اشتريتها قبل حلول الأجل بستمائة وكنت شرطت عليه أنك إن بعتها فأنا أشتريها منك فقالت لها عائشة رضي الله عنها:؟ بئس ما شريت وبئس ما اشتريت أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب. قالت: فما يصنع؟ قالت: فقالت عائشة: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله. فلم ينكر أحد على عائشة، والصحابة متوفرون ".
192 وقال محمد بن حسن بن أحمد الكواكبي مفتي حلب الشهباء في كتاب (الفوائد السنية - شرح الفوائد السنية): ومن شرى ما باع بالأقل * من الذي باع به من قبل والثمن الأول ما كان نقد * فذا شراؤه يقينا قد فسد أي: إن اشترى جارية مثلا بألف درهم حالة أو نسية فقبضها ثم باعها من البايع بخمسمائة قبل أن ينقد الثمن الأول لا يجوز البيع الثاني، لقول عائشة رضي الله عنها لتلك المرأة وقد باعت جارية من زيد بن أرقم بثمانمائة إلى العطاء ثم ابتاعتها منه بستمائة وكتبت عليه ثمانمائة: بئس ما اشتريت وبئس ما اشترى أخبري زيد بن أرقم إن الله تعالى أبطل حجه وجهاده مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن لم يتب ". وقال الملا أحمد بن أبي سعيد بن عبيد الله الحنفي في (نور الأنوار - شرح المنار) " وشراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن الأول فإن القياس يقتضي جوازه، ولكنا قلنا بحرمته جميعا عملا بقول عائشة رضي الله عنها لتلك المرأة وقد باعت بستمائة بعد ما شرت بثمانمائة من زيد بن أرقم: بئس ما شريت واشتريت أبلغي زيد بن أرقم بأن الله تعالى أبطل حجه وجهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب ". وقال المولوي عبد العلي بن نظام الدين الأنصاري في (فواتح الرحموت) في مسألة " تقليد الصحابي فيما لا يدرك بالرأي " " مثال آخر: روى رزين عن أم يونس، قالت: جاءت أم ولد زيد بن أرقم إلى أم المؤمنين عائشة فقالت: بعت جارية من زيد بثمانمائة درهم إلى العطاء ثم اشتريتها قبل حلول الأجل بستمائة وكنت شرطت عليه إن بعتها فأنا اشتريتها منك. فقالت لها عائشة: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم إن لم يتب منه. قالت: فما نصنع؟ قال: قالت عائشة: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فينتقم الله منه. والحكم ببطلان الجهاد لا يكون بالرأي فلا بد من السماع ".
193 9 - بيع بعضهم الخمر لقد كان في الأصحاب من يقول بجواز بيع الخمر، وقد ارتكب هذا الذنب الكبير فعلا، وإن ذلك - وإن كان عن اجتهاد!! - قد أزعج عمر ابن الخطاب حتى قال: قاتل الله فلانا باع الخمر؟! وهذا أيضا من الآثار المشهورة التي اتفق كافة الرواة والعلماء على نقله: قال الشافعي في (مسنده): " أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا باع خمرا فقال: قاتل الله فلانا! باع الخمر؟ أما علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قاتل اليهود! حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها ". وقال أبو بكر بن أبي شيبة البغدادي: " حدثنا هشيم عن مطيع عن الشعبي عن مسروق، قال: قال عمر: لعن الله فلانا فإنه أول من أذن في بيع الخمر " (1). وقال أحمد بن حنبل: " حدثنا سفيان عن عمرو عن طاوس عن ابن عباس ذكر لعمر رضي الله عنه إن سمرة - وقال مرة: بلغ عمر أن سمرة -، باع خمرا، قال: قاتل الله سمرة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها " (2). وقال عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي في (مسنده): " حدثنا محمد بن أحمد، ثنا سفيان عن عمرو - يعني ابن دينار - عن طاوس عن ابن عباس قال بلغ عمر أن سمرة باع خمرا فقال: قاتل الله سمرة، أما علم أن النبي صلى الله عليه وآله قال: لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها. قال سفيان: جملوها أذابوها ". وقال البخاري في (الصحيح) في باب " لا يذاب شحم الميتة ولا يباع
(1) المصنف 8 / 195. (2) المسند لأحمد 1 / 25. 194 ودكه ": " حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار، قال: أخبرني طاوس أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول: بلغ عمر أن فلانا باع خمرا فقال: قاتل الله فلانا! ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قاتل الله اليهود! حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها. حدثنا عبدان، أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن ابن شهاب، قال: سمعت سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها. قال أبو عبد الله: قاتلهم الله: لعنهم قتل - لعن - الخراصون ". وقال في باب " ما ذكر بني إسرائيل ": " حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن عمرو عن طاوس عن ابن عباس، قال: سمعت عمر رضي الله عنه يقول: قاتل الله فلانا! ألم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها. تابعه جابر وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ". وقال مسلم في (الصحيح): " حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم - واللفظ لأبي بكر - قالوا: نا: سفيان بن عيينة عن عمرو عن طاوس عن ابن عباس، قال: بلغ عمر أن سمرة باع خمرا فقال: قاتل الله سمرة! ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها. حدثنا أمية بن بسطام، نا: يزيد بن زريع، نا: روح - يعني ابن القاسم - عن عمرو بن دينار بهذا الاسناد مثله ". وقال ابن ماجة في (السنن) في باب " التجارة في الخمر ": " حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، ثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس، قال: بلغ عمر أن سمرة باع خمرا فقال: قاتل الله سمرة! ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها ".
195 وقال النسائي في (السنن): " النهي عن الانتفاع بما حرم الله عز وجل. أخبرنا إسحق بن إبراهيم، قال: أخبرنا سفيان عم عمرو عن طاوس عن ابن عباس قال: أبلغ عمر أن سمرة باع خمرا، قال: قاتل الله سمرة! ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها. قال سفيان: أذابوها ". وقال الغزالي في (إحياء العلوم): " ومن الوقت الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الربا فقال: أول ربا أضعفه ربا العباس، ما ترك الناس بأجمعهم كما لم يتركوا شرب الخمر وسائر المعاصي حتى روي أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باع الخمر فقال عمر رضي الله عنه: لعن الله فلانا، هو أول من سن بيع الخمر ". وقال عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن مسرور الجماعيلي المقدسي الحنبلي في (عمدة الأحكام): " عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: بلغ عمر أن فلانا باع خمرا فقال: قاتل الله فلانا، ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها. جملوها: أذابوها ". وقال ابن الأثير الجزري: " [خ م س] ابن عباس، قال: بلغ عمر بن الخطاب أن فلانا باع خمرا فقال: قاتل الله فلانا، ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فباعوها. هذه رواية البخاري ومسلم، وأخرجه النسائي قال [أ] بلغ عمر أن سمرة بن جندب باع خمرا فقال: قاتل الله سمرة ألم يعلم؟ الحديث ". وقال علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي المعروف بالخازن في تفسيره (لباب التأويل) في تفسير الآية: * [يسئلونك عن الخمر] *: " أجمعت الأمة على تحريم بيع الخمر والانتفاع بها وتحريم ثمنها، ويدل على ذلك ما روي عن جابر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام فتح مكة إن الله تعالى حرم بيع الخمر والانتفاع بها والميتة والخنزير
196 والأصنام. أخرجاه في (الصحيحين) مع زيادة اللفظ (ق). عن عائشة، قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: حرمت التجارة في الخمر. (ق). عن ابن عباس، قال: بلغ عمر بن الخطاب أن فلانا باع خمرا فقال: قاتل الله فلانا: ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها ". وقال عماد الدين إسماعيل بن أحمد بن سعيد بن محمد بن الأثير الحلبي الشافعي في (إحكام الأحكام - شرح عمدة الأحكام) في شرح حديث " قاتل الله فلانا ": " وفلان الذي كنى عنه هو سمرة بن جندب ". وقال ابن حجر العسقلاني في (تلخيص الخبير): " حديث نهي عن بيع العنب من عاصره. أخرجه الطبراني في الأوسط عن محمد بن أحمد بن أبي خثيمة بإسناده عن بريدة، مرفوعا: من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه من يهودي أو نصراني أو ممن يتخذه خمرا فقد تقحم النار على بصيرة. وفي (الصحيحين): بلغ عمر بن الخطاب أن فلانا - يعني سمرة بن جندب - باع خمرا فقال: قاتل الله فلانا، الحديث وفي الباب الأحاديث الواردة في لعن بائع الخمر ومبتاعها وحاملها والمحمولة إليه ". وقال الملا علي المتقي: " عن ابن عباس، قال: بلغ عمر أن سمرة باع خمرا فقال: قاتل الله سمرة! أما علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قاتل الله اليهود حرم الله عليهم الشحوم فجملوها فباعوها. عب. حم والدارمي والعدني خ. م: ن حب وابن الجارود: وابن جرير. ق " (1). وقال: " عن عمر، قال: لعن الله فلانا أول من أذن في بيع الخمر وأن التجارة لا تصح فيما لا يحل أكله وشربه. ش. ق. أي أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " والبيهقي في " السنن ". * ورووا أن سمرة قد خلط في فئ المسلمين ثمن الخمر والخنزير، فلما
(1) كنز العمال 4 / 91. 197 بلغ ذلك عمر استنكره بشدة، قال المتقي: " عن ابن عباس قال: رأيت عمر يقلب كفيه وهو يقول: قاتل الله سمرة عويمل لنا بالعراق، خلط في فئ المسلمين ثمن الخمر والخنزير، فهي حرام وثمنها حرام عب. ق " (1). هذا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله - فيما روى عنه الحفاظ - " من باع الخمر فليشقص الخنازير " قال الخازن: " أخرجه أبو داود. قال: والمعنى من استحل بيع الخمر فليستحل بيع الخنازير، فإنهما في التحريم سواء ". بل إنه قد ارتقى في أمر الخمر حتى جعل يدلك جسده بدرديه، الأمر الذي دعا عمر لأن يلعنه على المنبر، وممن روى ذلك فقيه الحنفية فخر الاسلام السرخسي، حيث قال: " ويكره شرب دردي الخمر والانتفاع به، لأن الدردي من كل شئ بمنزلة صافيه، والانتفاع بالخمر حرام فذلك بدرديه، وهذا لأن في الدردي أجزاء الخمر، ولو وقعت قطرة من خمر في ماء لم يجز شربه والانتفاع به، فالدردي أولى، والذي روي أن سمرة بن جندب رضي الله عنه كان يتدلك بدردي الخمر في الحمام، فقد أنكر عليه عمر رضي الله عنه ذلك حتى لعنه على المنبر لما بلغه ذلك عنه، وليس لأحد أن يأخذ بذلك بعد ما أنكره عمر رضي الله عنه " (2). * أقول: وقد سبق سمرة بن جندب في هذا الاجتهاد!! خالد بن الوليد - وهو أحد كبار مجتهدي الصحابة؟! فقد كان مولعا بالخمر غير مرتدع عنه، حتى لقد وبخه عمر فلم ينته فعزله عن الأمارة، قال الطبري: " كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن أبي عثمان وأبي حارثة قالا: فما زال خالد على قنسرين حتى غزا غزوته التي أصاب فيها وقسم فيها ما أصاب لنفسه.
(1) كنز العمال 4 / 91. (2) المبسوط 24 / 20. 198 كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن أبي المجالد مثله. قالوا: وبلغ عمر أن خالدا دخل الحمام فتدلك بعد النورة بثخين عصفر معجون بخمر. فكتب إليه: بلغني أنك تدلكت بخمر وإن الله قد حرم ظاهر الخمر وباطنه كما حرم ظاهر الإثم وباطنه، وقد حرم مس الخمر إلا أن تغسل كما حرم شربها، فلا تمسوها أجسادكم فإنها رجس، وإن فعلتم فلا تعودوا. فكتب إليه خالد: إنا قتلناها فعادت غسولا غير خمر، فكتب إليه عمر: إني أظن آل المغيرة قد ابتلوا بالجفاء فلا أماتكم الله عليه. فانتهى إليه ذلك " (1). وقال ابن الأثير: " وقيل إن خالد بن الوليد حضر فتح الجزيرة مع عياض ودخل حماما بآمد فأطلى بشئ فيه خمر فعزله عمر " (2). وقال ابن خلدون: " قيل إن خالدا حضر فتح الجزيرة مع عياض ودخل الحمام بآمد فأطلى بشئ فيه خمر " (3). وقال: " وشاع في الناس ما أصاب خالد مع عياض بن غنم من الأموال، فانتجعه رجال منهم الأشعث بن قيس وأجازه بعشرة آلاف، وبلغ ذلك عمر مع ما بلغه من تدلكه بالخمر، فكتب إلى أبي عبيدة أن يقيمه في، المجلس وينزع عنه قلنسوته ويعقله بعمامته ويسأله من أين أجاز الأشعث فإن كان من ماله فقد أسرف فاعزله واضمم إليك عمله ". * قد باع معاوية بن أبي سفيان المجتهد الأعظم!! الخمر على عهد عثمان بن عفان... قال أبو هلال العسكري: " أخبرنا أبو القاسم بإسناده عن المدائني عن أبي معشر عن محمد بن كعب عن بريدة الأسلمي قال: مر بعبادة بن الصامت عير تحمل الخمر بالشام [من الشام]، فقال: أزيت هذا؟
(1) تاريخ الطبري 3 / 166. (2) الكامل 2 / 375. (3) تاريخ ابن خلدون المجلد الثاني 956. 199 قالوا: [لا] بل خمر تباع لمعاوية، فأخذ شفرة فشق الروايا، فشكاه معاوية إلى أبي هريرة، فقال له أبو هريرة: مالك ولمعاوية؟ له ما تحمل إن الله تعالى يقول: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم. فقال: يا أبا هريرة إنك لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بايعناه على السمع والطاعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر [وإن] نمنعه مما نمنع نساءنا وأبناءنا ولنا الجنة، فمن وفى بها لله [الله] وفى الله له، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه. فكتب معاوية إلى عثمان يشكوه، فحمله إلى المدينة، فلما دخل عليه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيلي أموركم رجال يعرفونكم ما تنكرون وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمن عصى الله، وعبادة يشهد أن معاوية منهم. فلم يراجعه عثمان " (1). 10 - الافتاء بغير علم لقد كان في الأصحاب من يفتي بغير علم، فهل يكون هكذا شخص كالنجم يهتدى من يقتدي به؟ وإليك بعض الشواهد على ذلك: قال المتقي: " عن عاصم بن ضمرة قال: جاء نفر إلى أبي موسى الأشعري فسألوه عن الوتر فقال: لا وتر في الأذان، فأتوا عليا فأخبروه فقال: لقد أغرق في النزع وأفرط في الفتيا، الوتر ما بينك وبين صلاة الغداة من أوترت فحسن. عبا. وابن جرير " (2). وكلمة أمير المؤمنين عليه السلام هذه عن أبي موسى كافية لاثبات جهله وغباوته، وكيف لا يكون أبو موسى كذلك؟ والحال أن النبي صلى الله عليه وآله
(1) الأوائل لأبي هلال 153. (2) كنز العمال 8 / 47. 200 وسلم كان يوتر عند الأذان، قال أحمد: " ثنا أسود ثنا شريك عن أبي إسحاق عن الحرث عن علي رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر عند الأذان، ويصلي الركعتين عند الإقامة " (1). ومن الغرائب: فتيا أبي موسى بعدم نقض النوم الوضوء، فقد قال السرخسي: " وكان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يقول: لا ينقض الوضوء بالنوم مضطجعا حتى يعلم بخروج شئ منه، وكان إذا نام أجلس عنده من يحفظه، فإذا انتبه سأله فإن أخبر بظهور شئ منه أعاد الوضوء " (2). وقال الغزالي: " وأنكروا على أبي موسى الأشعري قوله: النوم لا ينقض الوضوء " (3). ومن فتاواه الباطلة ما جاء في [الموطأ] وهذا نصه: " مالك عن يحيى ابن سعيد: أن رجلا سأل أبا موسى الأشعري فقال: إني مصصت عن امرأتي من ثديها لبنا فذهب في بطني، فقال أبو موسى [الأشعري]: لا أراها إلا قد حرمت عليك. فقال عبد الله بن مسعود: أنظر ما يفتي [ماذا تفتي] به الرجل!! فقال أبو موسى: فما [ذا] تقول أنت؟ فقال عبد الله بن مسعود: لا رضاعة إلا ما كان في الحولين. فقال أبو موسى: لا تسألوني عن شئ ما كان هذا الحبر بين أظهركم " (4). وفي [المبسوط]: قام ابن مسعود " إلى أبي موسى ثم أخذ بأذنه وهو يقول: أرضيع فيكم هذا اللحياني؟ فقال أبو موسى: لا تسألوني... ".
(1) المسند 1 / 111. (2) المبسوط 1 / 78. (3) المستصفى 1 / 186. (4) الموطأ 2 / 607. 201 حرمة الفتيا بغير علم ولنذكر في هذا المقام بعض الأحاديث الواردة في ذم الفتيا بغير علم وحرمتها: روى الحافظ جلال الدين السيوطي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: " من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض " (1). قال المناوي والعزيزي بشرحه - واللفظ للأول: " حيث نسب إلى الله أن هذا حكمه وهو كاذب " (2). وأخرج ابن الأثير: " إن عمرو بن العاص [عبد الله بن عمرو بن العاص] قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينزعه من الناس - وفي رواية: من العباد - ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا. وزاد في رواية: قال عروة: ثم لقيت عبد الله بن عمرو على رأس الحول فسألته فرد علي الحديث كما حدث وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أخرجه البخاري ومسلم " (3). وقال: " وأخرجه الترمذي مختصرا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العلماء، ولكن يقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا " (4). وقال مجد الدين عبد السلام الحراني في [المنتقى]: " وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أفتى بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على الذي أفتاه. رواه أحمد وابن ماجة.
(1) الجامع الصغير. (2) التيسير في شرح الجامع الصغير 2 / 402. (3) جامع الأصول 9 / 23. (4) جامع الأصول 9 / 25. 202 وفي لفظ: من أفتى بفتيا بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه. رواه أحمد وأبو داود ". 11 - عدم الاطلاع على السنن لقد كان في الصحابة من لم يبلغه كثير من أحكام الدين وسنن رسول الله صلى الله عليه وآله، فلذا كانوا كثيرا ما يخالفون حكم النبي صلى الله عليه وآله ويحكمون بخلافه، بل ربما خالفوا صريح الكتاب ونصه. وبالرغم من اشتهار قضاياهم فإننا نكتفي هنا بإيراد كلام الحافظ ابن حزم في هذا المورد حيث قال ما نصه: " ووجدنا الصاحب من الصحابة رضي الله عنهم يبلغه الحديث فيتأول فيه تأويلا يخرجه به عن ظاهره، ووجدناهم رضي الله عنهم يقرون ويعترفون بأنهم لم يبلغهم كثير من السنن، وهكذا الحديث المشهور عن أبي هريرة: إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على أموالهم، وهكذا قال البراء... قال: ما كل ما نحدثكموه سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم [و] لكن حدثنا صحابنا، وكانت تشغلنا رعية الإبل. وهكذا [وهذا] أبو بكر رضي الله عنه لم يعرف فرض ميراث الجدة وعرفه محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة، وقد سأل أبو بكر رضي الله عنه عائشة في كم كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهذا عمر رضي الله عنه يقول في حديث الاستئذان: أخفي علي هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألهاني الصفق في الأسواق. وقد جهل أيضا أمر إملاص المرأة وعرفه غيره، وغضب على عيينة بن حصن، حتى ذكره الحر بن قيس بن حصن بقوله تعالى: وأعرض عن الجاهلين. وخفي عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجلاء اليهود والنصارى من
203 جزيرة العرب إلى آخر خلافته، وخفي على أبي بكر رضي الله عنه قبله أيضا طول مدة خلافته، فلما بلغ عمر أمر بإجلائهم فلم يترك بها منهم أحدا. وخفي على عمر أيضا أمره عليه السلام بترك الإقدام على الوباء، وعرف ذلك عبد الرحمن بن عوف. وسأل عمر أبا واقد الليثي عما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاتي الفطر والأضحى، هذا وقد صلاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أعواما كثيرة. ولم يدر ما يصنع بالمجوس حتى ذكره عبد الرحمن بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، ونسي قبوله عليه السلام الجزية من مجوس البحرين وهو أمر مشهور، ولعله رضي الله عنه قد أخذ من ذلك المال حظا كما أخذ غيره منه. ونسي أمره عليه السلام بأن يتيمم الجنب فقال: لا يتيمم أبدا ولا يصلي ما لم يجد الماء وذكره بذلك عمار. وأراد قسمة مال الكعبة حتى احتج عليه أبي بن كعب بأن النبي عليه السلام لم يفعل ذلك فأمسك. وكان يرد النساء اللواتي حضن ونفرن قبل أو يود عن البيت حتى أخبر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في ذلك، فأمسك عن ردهن. وكان يفاضل بين ديات الأصابع حتى بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالمساواة بينها، فترك قوله وأخذ المساواة. وكان يرى الدية للعصبة فقط حتى أخبره الضحاك بن سفيان بأن النبي صلى الله عليه وسلم ورث المرأة من الدية فانصرف عمر إلى ذلك. ونهى عن المغالاة في مهور النساء استدلالا بمهور النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذكرته امرأة بقول الله عز وجل: وآتيتم إحداهن قنطارا، فرجع عن نهيه. وأراد رجم مجنونة حتى أعلم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: رفع القلم عن ثلاثة، فأمر أن لا ترجم. وأمر برجم مولاة حاطب حتى ذكره عثمان بأن الجاهل لا حد عليه
204 فأمسك عن رجمها. وأنكر على حسان الانشاد في المسجد فأخبر هو وأبو هريرة أنه قد أنشد فيه بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت عمر. وقد نهى عمر أن يسمى بأسماء الأنبياء وهو يرى محمد بن مسلمة يغدو عليه ويروح وهو أحد الصحابة الجلة منهم، ويرى أبا أيوب الأنصاري وأبا موسى الأشعري وهما لا يعرفان إلا بكناهما من الصحابة، ويرى محمد بن أبي بكر الصديق وقد ولد بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، واستفتته أمه إذ ولدته ماذا تصنع في إحرامها وهي نفساء. وقد علم يقينا أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بأسماء من ذكرنا وبكناهم بلا شك وأقرهم عليها ودعاهم بها ولم يغير شيئا من ذلك، فلما أخبره طلحة وصهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم بإباحة ذلك أمسك عن النهي عنه. وهم بترك الرمي في الحج ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله فقال: لا يجب لنا أن نتركه. وهذا عثمان رضي الله عنه، فقد رووا عنه أنه بعث إلى الفريعة أخت أبي سعيد الخدري يسألها عما أفتاها به رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر عدتها وأنه أخذ بذلك. وأمر برجم امرأة قد ولدت لستة أشهر فذكره علي بالقرآن وإن الحمل قد يكون ستة أشهر، فرجع عن الأمر برجمها. وهذه عائشة وأبو هريرة رضي الله عنهما خفي عليهما المسح على الخفين وعلى ابن عمر معهما، وعلمه جرير ولم يسلم إلا قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بأشهر وأقرت عائشة أنها لا علم لها به وأمرت بسؤال من يرجى عنده علم ذلك وهو علي رضي الله عنه. وهذه حفصة أم المؤمنين سئلت عن الوطي يجنب فيه الواطي أفيه غسل أم لا؟ فقالت: لا علم لي. وهذا ابن عمر توقع أن يكون حدث نهي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن
205 كراء الأرض بعد أزيد من أربعين سنة من موت النبي صلى الله عليه وسلم فأمسك عنها، وأقر أنهم كانوا يكرونها على عهد أبي بكر وعمر وعثمان ولم يقل إنه لا يمكن أن يخفى على هؤلاء ما يعرف رافع وجابر وأبو هريرة، وهؤلاء إخواننا يقولون فيما اشتهوا لو كان هذا حقا ما خفي على عمر. وقد خفي على زيد بن ثابت وابن عمر وجمهور أهل المدينة إباحة النبي صلى الله عليه وسلم للحائض أن تنفر حتى أعلمهم بذلك ابن عباس وأم سليم فرجعوا عن قولهم. وخفي على ابن عمر الإقامة حتى يدفن الميت حتى أخبره بذلك أبو هريرة وعائشة فقال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة. وقيل لابن عمر في اختياره متعة الحج على الإفراد: إنك تخالف أباك، فقال: أكتاب الله أحق أن يتبع أم عمر؟ روينا ذلك عنه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر. وخفي على عبد الله بن عمر الوضوء من مس الذكر حتى أمرته بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم بسرة بنت صفوان، فأخذ بذلك. وقد تجد الرجل يحفظ الحديث ولا يحضره ذكره حتى يفتي بخلافه، وقد يعرف هذا في آي القرآن، وقد أمر عمر على المنبر بأن لا يزاد في مهور النساء على عدد ذكره، فذكرته امرأة بقول الله تعالى " وآتيتم إحداهن قنطارا " فترك قوله وقال: كل أحد أفقه منك يا عمر، وقال: امرأة أصابت وأمير المؤمنين أخطأ. وأمر برجم امرأة ولدت لستة أشهر، فذكره علي بقول الله تعالى: * [وحمله وفصاله ثلاثون شهرا] * مع قوله تعالى: * [والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين] * فرجع عن الأمر برجمها. وهم أن يسطو بعيينة بن حصن إذ قال له: يا عمر ما تعطينا الجزل ولا تحكم فينا بالعدل، فذكره الحر بن قيس بن حصن بن حذيفة بقول الله تعالى: * [وأعرض عن الجاهلين] * وقال له: يا أمير المؤمنين هذا من الجاهلين
206 فأمسك عمر. وقال يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما مات رسول الله ولا يموت حتى يكون آخرنا، أو كلاما هذا معناه، حتى قرئت عليه: " إنك ميت وإنهم ميتون "، فسقط السيف من يده وخر إلى الأرض وقال: كأني والله لم أكن قرأتها قط. قال الحافظ ابن حزم: فإذا أمكن هذا في القرآن فهو في الحديث أمكن وقد ينساه البتة، وقد لا ينساه بل يذكره ولكن يتأول فيه تأويلا، فيظن فيه خصوصا أو نسخا أو معنى ما، وكل هذا لا يجوز اتباعه إلا بنص أو إجماع، لأنه رأي من رأى ذلك ولا يحل تقليد أحد ولا قبول رأيه... " (1). هذا، ولقد ذكر هذه الجهالات وغيرها ابن القيم في (أعلام الموقعين) وقال: " وهذا باب واسع لو تتبعناه لجاء سفرا كبيرا ". وانظر أيضا كتاب (الانصاف في بيان سبب الاختلاف) لولي الله الدهلوي. 12 - مخالفة الرسول صلى الله عليه وآله في الفتوى لقد كان في الأصحاب من يفتي بغير ما يحكم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا أخبره أحد بذلك ضربه بالدرة... قال جلال الدين السيوطي في (مفتاح الجنة): " وأخرج البيهقي عن هشام بن يحيى المخزومي أن رجلا من ثقيف أتى عمر بن الخطاب فسأله عن امرأة حاضت وقد كانت زارت البيت ألها أن تنفر قبل أن تطهر؟ فقال: لا، فقال له الثقفي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتاني في مثل هذا المرأة بغير ما أفتيت، فقام إليه عمر فضربه بالدرة ويقول: لم تستفتوني في شئ أفتى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
(1) الاحكام في أصول الأحكام 2 / 12. 207 13 - إباحة بعضهم شرب الشراب المثلث لقد أباح عمر بن الخطاب شرب الشراب المثلث وإن كان شديدا، ثم لما أشكل على عبادة بن الصامت ذلك قال له عمر: " يا أحمق... " وهكذا شخص لا يليق لأن يكون مرجعا للأمة حتى في غير المنصوصات.... وقد روى هذه الواقعة، فقيه الحنفية شمس الأئمة السرخسي واستخرج منها أحكاما عديدة حيث قال: " وعن محمد بن الزبير رضي الله عنه قال: استشار الناس عمر رضي الله عنه في شراب مرقق، فقال رجل من النصارى: إنا نصنع شرابا في صومنا، فقال عمر رضي الله عنه: أيتني بشئ منه، قال: فأتاه بشئ منه، قال: ما أشبه هذا بطلاء الإبل، كيف تصنعونه؟ قال: نطبخ العصير حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه، فصب عليه عمر رضي الله عنه ماء وشرب منه، ثم ناوله عبادة بن الصامت رضي الله عنه وهو عن يمينه فقال عبادة: ما أرى النار تحل شيئا، فقال عمر: يا أحمق أليس يكون خمر ثم يصير خلا فنأكله؟. وفي هذا دليل إباحة شرب المثلث وإن كان مشتدا، فإن عمر رضي الله عنه استشارهم في المشتد دون الحلو، وهو مما يكون ممريا للطعام مقويا على الطاعة في ليالي الصيام، وكان عمر رضي الله عنه حسن النظر للمسلمين وكان أكثر الناس مشورة في أمور الدين خصوصا فيما يتصل بعامة المسلمين.. " (1). 14 - بدع بعضهم لقد كان في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله أصحاب محدثات وبدع، وقد كثر ذلك من معاوية بن أبي سفيان حتى أنكر عليه فيها سائر الأصحاب... قال محمد معين السندي ما نصه: " ثم إن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
(1) المبسوط 24 / 7. 208 تمالاوا على الإنكار على من رأى رأيا بخلاف الحديث، وقد كثر ذلك على معاوية بن أبي سفيان في محدثاته. فمنها: تقبيله لليمانين، أنكر عليه ذلك ابن عباس رضي الله عنهما لخلاف السنة. ومنها: ترك التسمية في الصلوات جهرا لما قدم المدينة المطهرة، أنكرت عليه ذلك المهاجرون والأنصار وقالوا: سرقت التسمية يا معاوية. ومنها: إنه نهى الناس عن متعة الحج، فقد روى الترمذي في جامعه من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وأول من نهى عنه معاوية. والجمع بين حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذا والتي فيها نهى عمر وعثمان رضي الله عنهما أما رجوعهما بعد القول بالنهي إلى حد ذلك أو بالعكس، وضبط ابن عباس أحد الأمرين فأخبر به، وأما كون معاوية أول من نهى مع تقدم النهي بذلك عن عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما على ما وقع في حديث الضحاك عن عمر حيث قال لسعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد نهى عن ذلك كما رواه الترمذي في الجامع، فباعتبار أن نهيهما معناه بيان أنه غير مباح، ونهي معاوية منع الناس جبرا من أن يأتوا به على مذهب علي رضي الله تعالى عنه وغيره من الصحابة، فهو أول من نهى بهذا المعنى، والله سبحانه وتعالى أعلم. ومنها: قوله في زكاة الفطر إني أرى أن مدين من سمراء الشام يعدل صاعا من تمر، أنكر عليه ذلك أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه وقال: تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها، وذلك لما روى الأئمة الستة عنه: كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر عن كل صغير وكبير حر ومملوك صاعا من طعام أو صاعا من أقط أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من زينب، فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية حاجا أو متعمرا فكلم الناس على المنبر فكان فيما كلم به الناس أن قال: إني أرى مدين من
209 سمراء الشام. الحديث. وفيه قال أبو سعيد: أما أنا فإني لا أزال أخرجه أبدا ما عشت، ولما بلغ ابن الزبير رأي معاوية قال: بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان، صدقة الفطر صاع صاع. وأولياته المحدثة لا تخفى كثرتها على عاثر علم الحديث " (1). بل كان معاوية بن أبي سفيان - المجتهد! - يرتكب كبائر المحرمات الموبقة عالما عامدا بمرأى من الناس غير متحرج، قال السندي بعد أن ذكر رواية معاوية حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن جلود النمر مع استعمال معاوية إياها، قال: " وليس معاوية ممن يقال إذا عمل بخلاف مرويه دل على النسخ، مع أن هذا القول بإطلاقه في عمل الراوي باطل، ولو كان كذلك لما أخذ عليه المقدام في ذلك أخذة رابية، ولنورد القصة في تمام الحديث فإن في ذلك عبرة لكل محب العترة الطاهرة - إلى كثير مما يستخرج من ذلك الحديث وسكتنا عنه تأسيا بالأئمة الطاهرة في السكوت عن كثير مثل ذلك، وهو حديث خالد قال: وفد المقدام بن معد يكرب وعمرو بن الأسود - رجل من بني أسد - على معاوية بن أبي سفيان، فقال معاوية: أما علمت أن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما توفي؟ فترجع المقدام رضي الله تعالى عنه فقال له: يا فلان أتعدها مصيبة؟ فقال: هذا مني وحسين من علي رضي الله تعالى عنهما قال فقال الأسدي: جمرة أطفأها الله تعالى، قال فقال المقدام رضي الله تعالى عنه: أما أنا فلا أبرح اليوم حتى أغيظك وأسمعك ما تكره، ثم قال: يا معاوية إن صدقت فصدقني وإن كذبت فكذبني، قال: أفعل، قال: فأنشدك بالله هل سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن لبس الذهب؟ قال: نعم قال: فأنشدك بالله
(1) دراسات اللبيب 95 - 96. 210 هل تعلم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن لبس جلود السباع والركوب عليها؟ قال: نعم، قال: فوالله لقد رأيت هذا كله في بيتك يا معاوية، فقال معاوية: قد علمت أني لن أنجو منك يا مقدام. قال خالد: فأمر له معاوية بما لم يأمر لصاحبه وفرض لابنه في المائتين، ففرقها المقدام على أصحابه ولم يعط الأسدي أحدا شيئا مما أخذ، فبلغ ذلك معاوية فقال: أما المقدام فرجل كريم بسط يده، وأما الأسدي فرجل حسن الامساك لشيئه " (1). هذا، والجدير بالذكر هنا أن بعض أهل السنة من قصة وفود المقدام القسم التالي منها بغية تقليل الشناعة، فرواها في ترجمة الإمام الحسن السبط عليه السلام إلى قول المقدام " وقد وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره وقال هذا مني وحسين من علي " ففي (كفاية الطالب) للحافظ الكنجي بسنده عن خالد ابن معدان قال: " وفد مقدام بن معد يكرب وعمرو بن الأسود إلى قنسرين فقال معاوية لمقدام: أعلمت أن الحسن بن علي توفي؟ فاسترجع مقدام، فقال له معاوية: أتراها مصيبة؟ قال: ولم لا أراها مصيبة وقد وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره وقال هذا مني وحسين من علي. قلت: رواه الطبراني في معجمه الكبير في ترجمته " -. وانظر (كنز العمال) في باب فضائل الإمام الحسن عليه السلام. 15 - مخالفة بعضهم للرسول لقد كان في الأصحاب من خالف رسول الله صلى الله عليه وآله بصراحة... فقد جاء في (الموطأ) ما نصه: " مالك عن زيد بن أسلم عن
(1) دراسات اللبيب 98 - 99. (2) كفاية الطالب 414. 211 عطاء ابن يسار: إن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فقال [له] أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل، فقال له معاوية: ما أرى بمثل هذا بأسا، فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية؟ أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه، لا أساكنك بأرض أنت بها، ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب فذكر له ذلك. فكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية: ألا يبيع مثل ذلك إلا مثلا بمثل ووزنا بوزن " (2). ومن عجائب الصنائع الشنيعة إسقاط بعض أسلاف القوم ذيل خبر مالك المتقدم، المشتمل على تجاسر معاوية، لغرض التستر على اقترافه ومخالفته للنبي صلى الله عليه وآله، وما درى أن مراجعة الموطأ وشروحه، وغيرها من كتب الحديث تكشف الواقع وتظهر حقيقة الحال. قال النسائي في مسألة بيع الذهب بالذهب: " حدثنا قتيبة عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن معاوية باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل " (1). وقال أبو الوليد الباجي في (شرح الموطأ): " وفيما قاله أبو الدرداء تصريح بأن أخبار الآحاد مقدمة على القياس والرأي، وقوله: " لا أساكنك بأرض أنت فيها " مبالغة في الانكار على معاوية وإظهار لهجره والبعد عنه حين لم يأخذ بما نقل إليه من نهي النبي صلى الله عليه وسلم ويظهر الرجوع عما خالفه ". وقال ابن الأثير الجزري: " عطاء بن يسار قال: إن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء:
(1) الموطأ 2 / 634. (2) سنن النسائي 2 / 223. 212 سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل، فقال له معاوية: ما أرى بمثل هذا بأسا، فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية؟ أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يخبرني برأيه! [عن رأيه] لا أساكنك بأرض أنت [كنت] بها ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب فذكر له ذلك، فكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية ألا يبيع [أن لا تبع] ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن، أخرجه (الموطأ) وأخرج النسائي منه إلى قوله مثلا بمثل " (1). وقال فخر الدين الرازي في كتاب (المحصول) في مقام عمل الصحابة على وفق الخبر الواحد " عن أبي الدرداء (2) سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه فقال معاوية: لا أرى بأسا، فقال أبو الدرداء، من معذري عن معاوية أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخبرني عن رأيه! لا أساكنك بأرض أبدا ". وقال أبو الحسن الآمدي في كتاب (الاحكام في أصول الأحكام) في مبحث العمل بخبر الواحد: " ومن ذلك ما روى أنه لما باع معاوية شيئا من أواني ذهب وورق بأكثر من وزنه أنه قال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن ذلك فقال له معاوية: لا أرى بذلك؟ بأسا! فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه! لا أساكنك بأرض أبدا ". وقال جلال الدين السيوطي في (مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة) " وأخرج البيهقي عن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله
(1) جامع الأصول 1 / 468. (2) حق العبارة في هذه الرواية أن تكون هكذا: لما باع معاوية شيئا من أواني ذهب أو ورق بأكثر من وزنه قال له أبو الدرداء: سمعت.... 213 عليه وسلم نهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل. فقال له معاوية: ما أرى بأسا! فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية؟ أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرني عن رأيه! لا أساكنك بأرض أنت بها! قال الشافعي: فرأى أبو الدرداء الحجة تقوم على معاوية بخبره، فلما لم ير معاوية ذلك فارق أبو الدرداء الأرض التي هو بها إعظاما لأنه ترك خبر ثقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وقال بشرح الحديث: " فقال أبو الدرداء من يعذرني من معاوية؟! أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه، إلى آخره. قال ابن عبد البر: كان ذلك منه أنفة من أن يرد عليه سنة علمها من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه، وصدور العلماء تضيق عند مثل هذا وهو عندهم عظيم رد السنن بالرأي، قال: وجائز للمرء أن يهجر من لم يسمع منه ولم يطعه، وليس هذا من الهجرة المكروهة، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس ألا يكلموا كعب بن مالك حين جلب عن تبوك قال: وهذا أصل عند العلماء في مجانبة من ابتدع وهجرته وقطع الكلام عنه، وقد رأى ابن مسعود رجلا يضحك في جنازة فقال: والله لا أكلمك أبدا! إنتهى " (1). وقال عبد الرحمن بن علي المعروف بابن الديبع الشيباني: " وعن عطاء ابن يسار أن معاوية رضي الله عنه باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل، فقال معاوية: ما أرى بهذا بأسا! فقال له أبو الدرداء رضي الله عنه: من يعذرني من معاوية؟! أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخبرني عن رأيه! لا أساكنك بأرض أنت بها! ثم قدم أبو الدرداء رضي الله عنه على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر له ذلك فكتب عمر إلى معاوية أن لا تبع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن. أخرجه مالك والنسائي. السقاية: إناء
(1) تنوير الحوالك 2 / 59. 214 يشرب فيه. وقال محمد بن محمد بن سليمان بن الفاسي الروداني المغربي المالكي في كتاب (جمع الفوائد): " عطاء بن يسار أن معاوية باع سقاية من ذهب - أو ورق - أكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل. فقال له معاوية: ما أرى بمثل هذا بأسا! فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية؟! أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخبرني عن رأيه، لا أساكنك بأرض أنت بها، ثم قدم أبو الدرداء على عمر فذكر له ذلك فكتب عمر إلى معاوية أن لا يبيع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن، للموطأ والنسائي ". وقال الزرقاني في (شرح الموطأ) بشرحه " فقال أبو الدرداء: من يعذرني بكسر الذال المعجمة من معاوية، أي من يلومه على فعله ولا يلومني عليه؟ أو من يقوم بعذري إذا جازيته بصنعه ولا يلومني على ما أفعله به، أو: من ينصرني يقال: عذرته: إذا نصرته. أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه. أنف من رد السنة بالرأي وصدور العلماء تضيق عن مثل هذا وهو عندهم عظيم رد السنن بالرأي. لا أساكنك بأرض أنت بها وجائز للمرء أن يهجر من لم يسمع منه ولم يطعه، وليس هذا من الهجرة المكروهة ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن لا يكلموا كعب بن مالك حين تخلف عن غزوة تبوك، وهذا أصل عند العلماء في مجانبة من ابتدع وهجره وقطع الكلام عنه، وقد رأى ابن مسعود رجلا يضحك في جنازة فقال: والله لا أكلمك أبدا! قاله أبو عمر. ثم قدم أبو الدرداء من الشام على عمر بن الخطاب المدينة فذكر ذلك له، فكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية أن لا يبيع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن. بيان للمثل. قال أبو عمر: لا أعلم أن هذه القصة عرضت لمعاوية مع أبي الدرداء إلا من هذا الوجه، وإنما هي محفوظة لمعاوية مع عبادة بن الصامت والطرق متواترة بذلك عنهما. والإسناد صحيح وإن لم يرد من وجه آخر فهو من الأفراد
215 الصحيحة، والجمع ممكن لأنه عرض له ذلك مع عبادة وأبو الدرداء. وقال شاه ولي الله الدهلوي في (المسوى من أحاديث الموطأ): " مالك، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل، فقال له معاوية: ما أرى بمثل هذا بأسا فقال أبو الدرداء من يعذرني من معاوية؟! أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه! لا أساكنك بأرض أنت بها! ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب - رض - فذكر له ذلك فكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية بن أبي سفيان ألا تبع مثل ذلك إلا مثل بمثل وزنا بوزن. قوله، من يعذرني أي: من ينصرني، والعذير: النصير ". 16 - بيع بعضهم الأصنام ورووا أن معاوية باع الأصنام في عهد سلطنته، ففي (المبسوط) ما نصه: " وذكر عن مسروق رحمه الله قال: بعث معاوية رحمه الله بتماثيل صفر تباع بأرض الهند، فمر بها على مسروق رحمه الله قال: والله لولا أني أعلم أنه يقتلني لغرقتها، ولكني أخاف أن يعذبني فيفتنني، والله لا أدري أي الرجلين معاوية: رجل زين له سوء عمله، أو رجل قد يئس من الآخرة فهو يتمتع في الدنيا؟ وقيل: هذه تماثيل كانت أصيبت في الغنيمة، فأمر معاوية رضي الله عنه ببيعها بأرض الهند ليتخذ بها الأسلحة والكراع للغزاة، فيكون دليلا لأبي حنيفة رحمه الله في جواز بيع الصنم والصليب ممن يعبده كما هو طريقة القياس، وقد استعظم ذلك مسروق رحمه الله كما هو طريق الاستحسان الذي ذهب إليه أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في كراهة ذلك. ومسروق من علماء التابعين، وكان يزاحم الصحابة رضي الله عنهم في الفتوى، وقد رجع ابن عباس إلى قوله في مسألة النذر بذبح الولد، ولكن مع
216 هذا قول معاوية رضي الله عنه مقدم على قوله، وقد كانوا في المجتهدات يلحق بعضهم الوعيد بالبعض، كما قال علي رضي الله عنه: من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليقل في الجد - يعني بقول زيد رضي الله عنه -. وإنما قلنا هذا لأنه لا يظن بمسروق رحمه الله أنه قال في معاوية رضي الله عنه ما قال عن اعتقاد، وقد كان هو من كبار الصحابة رضي الله عنهم وكان كاتب الوحي وكان أمير المؤمنين، وقد أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملك بعده، فقال له عليه السلام يوما: إذا ملكت أمر أمتي فأحسن إليهم، إلا أن نوبته كانت بعد انتهاء نوبة علي رضي الله عنه ومضي مدة الخلافة، فكان مخطئا في مزاحمة علي رضي الله عنه تاركا لما هو واجب عليه من الانقياد له، لا يجوز أن يقال فيه أكثر من هذا. ويحكى أن أبا بكر محمد بن الفضل رحمه الله كان ينال منه في الابتداء، فرأى في منامه كأن شعرة تدلت من لسانه إلى موضع قدمه فهو يطؤها ويتألم من ذلك، ويقطر الدم من لسانه، فسأل المعبر عن ذلك فقال: إنك تنال من واحد من كبار الصحابة رضي الله عنه فإياك ثم إياك. وقد قيل في تأويل الحديث أيضا: إن تلك التماثيل كانت صغارا لا تبدو للناظر من بعد، ولا بأس باتخاذ مثل ذلك على ما روي أنه وجد خاتم دانيال عليه السلام في زمن عمر رضي الله عنه وكان عليه نقش رجل بين أسدين يلحسانه وكان على خاتم أبي هريرة ذبابتان، فعرفنا أنه لا بأس باتخاذ ما صغر من ذلك. ولكن مسروقا رحمه الله كان يبالغ في الاحتياط، فلا يجوز اتخاذ شئ من ذلك ولا بيعه، ثم كان تغريق ذلك من الأمر بالمعروف عنده، وقد ترك ذلك مخافة على نفسه، وفيه تبيين أنه لا بأس باستعمال التقية وأنه يرخص له في ترك بعض ما هو فرض عند خوف التلف على نفسه، ومقصوده من إيراد الحديث أن يبين أن التعذيب بالسوط يتحقق فيه الاكراه كما يتحقق في القتل، لأنه قال: لو علمت أنه يقتلني لغرقتها ولكن أخاف أن يعذبني
217 فيفتتني، فتبين بهذا أن فتنة السوط أشد من فتنة السيف " (1). أقول: ولا يخفى على النبيه ما في هذا الكلام من فوائد، ولا سيما قوله: " وفيه تبيين أنه لا بأس باستعمال التقية... ". وأما ما ذكره للذب عن معاوية فواضح الهوان. 17 - مخالفة بعضهم لصريح الكتاب لقد كان في الأصحاب من يرد الحكم المنصوص في الكتاب، ومن كان هذا دأبه لا يكون الاقتداء به موجبا للهداية، ولا يجوز أن ترجع إليه الأمة في المنصوصات وغيرها... قال الغزالي في مبحث حجية خبر الواحد: " ثم اعلم أن المخالف في المسألة له شبهتان، الشبهة الأولى قولهم: لا مستند في إثبات خبر الواحد إلا الإجماع فكيف يدعى ذلك وما من أحد من الصحابة إلا وقد رد خبر الواحد. ثم قال بعد أن ذكر طرفا من شواهد ذلك: لكنا نقول في الجواب عما سألوا عنه الذي رويناه قاطع في علمهم وما ذكرتموه رد لأسباب عارضة تقتضي الرد ولا تدل على بطلان الأصل، كما أن ردهم بعض نصوص القرآن وتركهم بعض أنواع القياس ورد القاضي بعض أنواع الشهادات لا يدل على بطلان الأصل " (2). بل لقد ترك الأصحاب كتاب الله على عهد عمر بن الخطاب حتى ذمهم عليه، فقد قال الحافظ ابن حزم: " أخبرني أحمد بن عمر العذري، ثنا أحمد بن محمد بن عيسى البلوي غندر، ثنا خلف بن قاسم ثنا أبو الميمون عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد البجلي، ثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو النظري الدمشقي ثنا أبو مسهر ثنا سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبيد الله عن السائب بن يزيد بن أخت نمر: إنه سمع عمر بن الخطاب يقول:
(1) المبسوط في فقه الحنفية - كتاب الاكراه: 24 / 46. (2) المستصفى 1 / 135 - 136. 218 إن حديثكم شر الحديث: [و] إن كلامكم شر الكلام، فإنكم قد حدثتم الناس حتى قيل: قال فلان، وقال فلان، ويترك كتاب الله، من كان فيكم [منكم] قائما فليقم بكتاب الله وإلا فليجلس. فهذا قول عمر لأفضل قرن على وجه الأرض فكيف لو أدرك ما نحن فيه من ترك القرآن وكلام محمد صلى الله عليه وسلم والاقبال على ما قال مالك وأبو حنيفة والشافعي؟ وحسبنا الله ونعم الوكيل، وإنا لله وإنا إليه راجعون " (1). وقد رواه ابن القيم عن أبي زرعة كذلك، وعلق عليه بمثل كلام ابن حزم المذكور (2). 18 - ابن عباس: ما سألوا النبي إلا عن ثلاث عشرة مسألة عن ابن عباس قال: " ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض كلهن في القرآن، منهم: * [يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه] * و * [يسئلونك عن المحيض] *. قال: ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم " (3). أقول: وهذا يكشف عن عدم عنايتهم بالأحكام الشرعية، وإلا لسألوه صلى الله عليه وسلم منتهزين فرصة وجوده بين أظهرهم. هذا شأن هؤلاء القوم، ومعه كيف يقال بأنهم متبعون فيما كان غير منصوص في الكتاب والسنة؟ 19 - خفاء الأمور والأحكام الواضحة عليهم لقد خفي على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أوضح أموره وهم
(1) الاحكام في أصول الأحكام 6 / 97. (2) أعلام الموقعين / 2 / 176. (3) الانصاف في بيان سبب الاختلاف: 13. 219 حواليه صلى الله عليه وسلم وحاضرون عنده. قال ولي الله: " ومنها اختلاف الوهم في التعبير، مثاله أن رسول الله حج، فرآه الناس، فذهب بعضهم إلى أنه كان متمتعا، وبعضهم إلى أنه كان قارنا، وبعضهم إلى أنه كان مفردا " (1). وإذا كان هذا حالهم فلا يستحقون قطعا لأن يكونوا هداة الأمة من بعده. وقال الحافظ ابن عبد البر: " قرأت على أبي عبد الله بن محمد بن عبد الله أن محمد بن معاوية القرشي أخبرهم قال حدثنا إسحاق بن أبي حسان الأنماطي قال حدثنا هشام بن عمار قال حدثنا عبد الحميد قال حدثنا الأوزاعي قال حدثنا عطاء بن أبي رباح قال سمعت ابن عباس يخبر أن رجلا أصابه جرح على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أصابه احتلام، فأمر بالاغتسال فقر فمات، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قتلوه قتلهم الله، ألم يكن شفاء العي السؤال؟. " (2). ومما يقطع به كل عاقل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر بالاقتداء بهكذا أناس مطلقا.... 20 - لا يجوز الاستنان بالرجال قال الحافظ ابن عبد البر: " حدثنا عبد الوارث بن سفيان ويعيش بن سعيد قالا حدثنا قاسم بن إصبع قال حدثنا بكر بن حماد قال حدثنا بشر بن حجر قال حدثنا خالد بن عبد الله الواسطي عن عطاء - يعني ابن السائب - عن أبي البختري عن علي قال: إياكم والاستنان بالرجال، فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب - لعلم الله فيه - فيعمل بعمل أهل
(1) الانصاف في بيان سبب الاختلاف: 28. (2) جامع بيان العلم 115. 220 النار، فيموت وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فينقلب - لعلم الله - فيعمل بعمل أهل الجنة فيموت وهو من أهل الجنة، فإن كنتم لا بد فاعلين فبالأموات لا بالأحياء " (1). وظاهر أن المرتد لا يهتدى به، ولا ينجو من اقتدى به أبدا، ونحن ننزه النبي صلى الله عليه وآله عن أن يأمر بالاقتداء بكل صحابي من صحابته....
(1) جامع بيان العلم 390. 221 تفنيد كلام المزني حول حديث النجوم
223 وإذ فرغنا من تفنيد استدلال (الدهلوي) بحديث النجوم بإبطاله سندا ودلالة، كان من المناسب أن نذكر كلام المزني في معنى الحديث المذكور، ونتكلم عليه بما يبين بطلانه وفساده: قال ابن عبد البر: " قال المزني رحمه الله في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصحابي كالنجوم... قال: إن صح هذا الخبر فمعناه فيما نقلوا عنه وشهدوا به عليه، فكلهم ثقة مؤتمن على ما جاء به، لا يجوز عندي غير هذا، وأما ما قالوا فيه برأيهم فلو كان عند أنفسهم كذلك ما خطأ بعضهم بعضا، ولا أنكر بعضهم على بعض ولا رجع منهم أحد إلى قول صاحبه. فتدبر ". نوادر من سير الأصحاب أقول: هذا المعنى لا يصح، لأنه لو كان كلهم ثقة مؤتمنا - على ما جاء به - لما طعن بعضهم في بعض ولما كذب بعضهم بعضا... ولو أردنا استقصاء ذلك لاحتجنا إلى سفر كبير برأسه... ولكننا نذكر هنا بعض الصحابة وما واجهوه من الذم والطعن، وما قيل فيهم من الأصحاب
225 وغيرهم: 1 - أبو بكر وعمر لقد كذب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وسيدنا العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أبا بكر وعمر في رواية حديث " لا نورث، ما تركناه صدقة " وأبطلا امتناعهما عن دفع ما تركه رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أهله، بالاستناد إلى هذا الحديث المزعوم، ووصفا أبا بكر وعمر بالكذب والإثم والغدر والخيانة. أخرج ذلك مسلم في (الصحيح) (1) وتجده في غيره من كتب الحديث، وقد فصلنا البحث عن ذلك في مجلد حديث (مدينة العلم). * ورووا أن عمرا قد أقسم بالله كاذبا في قضية الناقة، فقد ذكر الحافظ ابن حجر بترجمة عبد الله بن كيسبة: " وهو القائل لعمر بن الخطاب - واستحمله فلم يحمله: أقسم بالله أبو حفص عمر * ما مسها من لقب ولا دبر فاغفر له اللهم إن كان فجر وكان عمر نظر إلى راحلته لما ذكر أنها وجعت فقال: والله ما بها من علة [قلبة] فرد عليه، فعلاه بالدرة وهرب وهو يقول ذلك، فلما سمع عمر آخر قوله حمله وأعطاه... " (2). وفي (شرح النهج) في سيرة عمر: " أتى أعرابي عمر فقال: إن ناقتي بها نقبا ودبرا فاحملني، فقال [له]: والله ما ببعيرك نقب ولا دبر، فقال: أقسم بالله... فقال عمر: اللهم اغفر لي، ثم دعاه فحمله " (3).
(1) صحيح مسلم 2 / 54. (2) الإصابة 3 / 94. (3) شرح نهج البلاغة 12 / 62. 226 وروى القصة عبد القادر البغدادي (1). * وقال عمر لأهل الحبشة: " نحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم " فكذبه النبي صلى الله عليه وسلم... أخرجه الشيخان، وهذا لفظ مسلم: حيث قال: " حدثنا عبد الله بن براد الأشعري ومحمد بن العلاء الهمداني قالا: نا أبو أسامة ثنى بريد عن أبي بردة عن أبي موسى قال: بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وإخوان لي أنا أصغرهما أحدهما أبو بردة والآخر أبورهم. إما قال: بعضا وإما قال ثلاثة وخمسين، أو اثنين وخمسين رجلا من قومي، قال: فركبنا في سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده، فقال جعفر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا ههنا وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا، قال، فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر فأسهم لنا - أو قال: أعطانا منها - وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا إلا لمن شهد معه إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه قسم لهم معهم. قال: فكان ناس من الناس يقول لنا - يعني لأهل السفينة - نحن سبقناكم بالهجرة، قال فدخلت أسماء بنت عميس وهي ممن قدم معنا على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر إليه، فدخلا عمر على حفصة - وأسماء عندها - فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، قال عمر: الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟ فقالت أسماء: نعم، فقال عمر: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم. فغضبت وقالت كلمة: كذبت يا عمر، كلا والله كنتم مع رسول الله
(1) خزانة الأدب 2 / 351 - 352. 227 صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم وكنا في دار - أو في أرض - البعداء البغضاء في الحبشة، وذلك في الله وفي رسوله، وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن كنا نؤذى ونخاف، وسأذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد على ذلك. قال: فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله، إن عمر قال كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم - أنتم أهل السفينة - هجرتان. قالت فلقد رأيت أبو موسى وأصحاب السفينة يأتونني إرسالا يسألوني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شئ هم به أفرح وأعظم في أنفسهم مما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو بردة: فقالت أسماء: فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعد هذا الحديث مني " (1). أقول: ولقد قال ذلك لأسماء جماعة من الأصحاب تبعا لعمر بن الخطاب فكذبهم النبي صلى الله عليه وآله كذلك، فقد روى المتقي: " عن الشعبي، قال: لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل جعفر بن أبي طالب، ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأته أسماء بنت عميس حتى فاضت عبرتها، فذهب بعض حزنها، ثم أتاها فعزاها ودعا بني جعفر فدعا لهم ودعا لعبد الله بن جعفر أن يبارك له في صفقة يده، فكان لا يشتري شيئا إلا ربح فيه. فقالت له أسماء: يا رسول الله إن هؤلاء يزعمون أنا لسنا من المهاجرين، فقال: كذبوا، لكم الهجرة مرتين، هاجرتم إلى النجاشي وهاجرتم إلي [ش] (2).
(1) صحيح مسلم 2 / 264. (2) كنز العمال 15 / 294. 228 2 - عثمان بن عفان لم يصدق أبو بكر وعمر عثمان فيما زعم روايته من استئذانه رسول الله صلى الله عليه وآله في رد طريد الرسول الحكم بن أبي العاص إلى المدينة. وقد ذكر ذلك كبار علماء أهل السنة في كتبهم كالغزالي في (المستصفى 1 / 153) والعبري في (شرح المنهاج). 3 - أبو موسى الأشعري وكان أبو موسى الأشعري متهما في الحديث لدى عمر بن الخطاب، كما تقدم في هذا الكتاب. 4 - أبو هريرة لقد كذب عمر بن الخطاب أبا هريرة واتهمه وأنكر عليه، حتى ضربه بالدرة وهدده بإخراجه من المدينة المنورة... قال السرخسي: " ولما بلغ عمر إن أبا هريرة يروي [بعض] ما لا يعرف قال: لتكفن عن هذا أو لألحقنك بجبال دوس " (1). وقال ابن عبد البر: " وعن أبي هريرة أنه قال: لقد حدثتكم بأحاديث لو حدثت بها زمن عمر بن الخطاب لضربني عمر بالدرة " (2). وفي (كنز العمال): " عن السائب بن يزيد قال سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة: لتتركن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لألحقنك بأرض دوس. وقال لكعب: لتتركن أو لألحقنك بأرض القردة كر " (3). ورواه ابن كثير وفيه أيضا: " وقال صالح بن أبي الأخضر عن
(1) الأصول 1 / 341. (2) جامع بيان العلم 399. (3) كنز العمال 10 / 179. 229 [الزهري عن] أبي سلمة سمعت أبا هريرة يقول: ما كنا نستطيع أن نقول " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبض عمر " (1). وفي (تذكرة الحفاظ) بترجمة عمر: " عن أبي سلمة عن أبي هريرة قلت له: [أ] كنت تحدث في زمان عمر هكذا؟ فقال: لو كنت أحدث في زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته " (2). وقال ابن قتيبة: " وأما ما طعنه " يعني النظام " على أبي هريرة بتكذيب عمر وعثمان وعلي وعائشة له فإن أبا هريرة صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا من ثلاث سنين وأكثر الرواية عنه، وعمر بعده نحوا من خمسين سنة وكانت وفاته سنة تسع وخمسين - وفيها توفيت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وتوفيت عائشة رضي الله عنها قبلها بسنة - فلما أتى من الرواية عنه ما لم يأت بمثله من صحبه من جلة أصحابه والسابقين الأولين إليه اتهموه وأنكروا عليه وقالوا: كيف سمعت هذا وحدك؟ ومن سمعه معك؟ وكانت عائشة رضي الله عنها أشدهم إنكارا عليه، لتطاول الأيام بها وبه، وكان عمر أيضا شديدا على من أكثر الرواية أو أتى بخبر في الحكم لا شاهد له عليه، وكان يأمرهم بأن يقلوا الرواية، يريد بذلك أن لا يتسع الناس فيها ويدخلها الشوب ويقع التدليس والكذب من المنافق والفاجر والأعرابي " (3). وفي (شرح نهج البلاغة) عن الإسكافي: " وأبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضي الرواية، ضربه عمر بالدرة وقال [له]: قد أكثرت الرواية وأحر بك أن تكون كاذبا على رسول الله صلى الله عليه وآله " (4). * وكان عثمان أيضا يكذب أبا هريرة، وكذا سيدنا أمير المؤمنين
(1) البداية والنهاية 8 / 106 - 107. (2) تذكرة الحفاظ 1 / 7. (3) تأويل مختلف الحديث 38. (4) شرح نهج البلاغة 4 / 67. 230 عليه السلام كما مضى في عبارة ابن قتيبة، وفي (شرح المنهج) عن أبي جعفر الإسكافي: " وقد روي عن علي عليه السلام أنه قال: ألا إن أكذب الناس - أو أكذب الأحياء - على رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو هريرة الدوسي " (1). * وكان عائشة " المجتهدة!! " أشد الناس إنكارا على أبي هريرة، كما نص عليه ابن قتيبة في عبارته الماضية، وقد أوردنا طرفا من قضاياها معه في القسم الأول من مجلد (حديث الغدير). * وقد كذبه الزبير بن العوام - وهو أحد العشرة المبشرة كما يقولون - فقد ذكر ابن كثير: " قال ابن [أبي] خيثمة ثنا هارون بن معروف ثنا محمد بن [أبي] سلمة ثنا محمد بن إسحاق عن عمر - أو عثمان - ابن عروة عن أبيه - يعني عروة بن الزبير بن العوام - قال: قال لي أبي الزبير: أدنني من هذا [اليماني] - يعني أبا هريرة - فإنه يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأدنيته منه، فجعل أبو هريرة يحدث وجعل الزبير يقول صدق كذب صدق كذب. قال قلت: يا أبت ما قولك صدق كذب؟ قال: يا بني إما أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أشك، ولكن منها ما وضعه [يضعه] على مواضعه ومنها ما وضعه على غير مواضعه " (2). من كلمات التابيعن وكبار العلماء في أبي هريرة إبراهيم بن يزيد التيمي قال أبو جعفر الإسكافي على ما نقل عنه ابن أبي الحديد: " وروى سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم التيمي قال: كانوا لا يأخذون عن أبي هريرة إلا ما كان من ذكر جنة أو نار. وروى أبو أسامة عن الأعمش قال: كان إبراهيم صحيح الحديث
(1) شرح نهج البلاغة 4 / 68. (2) تاريخ ابن كثير 8 / 108. 231 فكنت إذا سمعت [من أحد] الحديث أتيته فعرضته عليه، فأتيته يوما بأحاديث من أحاديث [حديث] أبي صالح عن أبي هريرة فقال: دعني من أبي هريرة، أنهم كانوا ينكرون [يتركون] كثيرا من أحاديثه [حديثه] " (1). إبراهيم بن يزيد النخعي قال ابن كثير: " وقال شريك عن مغيرة عن إبراهيم قال: كان أصحابنا يدعون من حديث أبي هريرة، وروى الأعمش عن إبراهيم قال: ما كانوا يأخذون من كل [بكل] حديث أبي هريرة. [و] قال الثوري عن منصور عن إبراهيم قال: كانوا يرون في أحاديث أبي هريرة أشياء [شيئا]، وما كانوا يأخذون من حديثه [بكل حديث أبي هريرة] إلا ما كان من صفة جنة أو نار، أو حث على عمل صالح أو نهى عن شئ [شر] جاء القرآن به " (2). بسر بن سعيد قال ابن كثير: " وقال مسلم بن الحجاج ثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ثنا مروان الدمشقي عن الليث بن سعد حدثني بكير بن الأشج قال قال بسر بن سعيد: اتقوا الله وتحفظوا [من] الحديث فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث حديث [عن] رسول الله صلى الله عليه وسلم [ويحدثنا عن كعب الأحبار ثم يقوم فأسمع بعض ما كان معنا يجعل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية: يجعل ما قاله كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قال [قاله] رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كعب، فاتقوا الله وتحفظوا في الحديث " (3).
(1) شرح نهج البلاغة 4 / 68. (2) تاريخ ابن كثير 8 / 109. (3) تاريخ ابن كثير 8 / 109. 232 شعبة بن الحجاج قال ابن كثير: " وقال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول: كان أبو هريرة يدلس، أي يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يبين [يميز] هذا من هذا. ذكره ابن عساكر. وكان شعبة بهذا يشير إلى حديثه: من أصبح جنبا، فلا صيام له، فإنه لما حوقق [عليه] قال أخبرنيه مخبر ولم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم " (1). أبو حنيفة قال الإسكافي على ما جاء في (شرح النهج): " وروى أبو يوسف قال قلت لأبي حنيفة يجئ الخبر [الخبر يجئ] عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف قياسنا ما نصنع به؟ قال: إذا جاءت به الرواة الثقات عملنا به وتركنا الرأي [ف] قلت: ما تقول في رواية أبي بكر وعمر؟ فقال: ناهيك به [بهما]، فقلت: علي وعثمان؟ فقال: كذلك، فلما رآني أعد الصحابة قال: الصحابة كلهم عدول ما عدا رجالا، ثم عد منهم أبا هريرة وأنس بن مالك " (2). أقول: ولعمري أن أبا حنيفة النعمان وإن سلك في تعديل قاطبة الأصحاب مسلك المجازفة والعدوان إلا أنه أحسن غاية الاحسان في استثناء أبي هريرة وغيره من أولي البغي والطغيان. وقال أبو حنيفة - كما ذكر الكفوي نقلا عن الصدر الشهيد -: " أقلد جميع الصحابة ولا أستجيز خلافهم برأي إلا ثلاثة نفر: أنس بن مالك وأبو هريرة وسمرة بن جندب، فقيل له في ذلك فقال أما أنس فقد بلغني أنه
(1) تاريخ ابن كثير 8 / 109. (2) شرح نهج البلاغة 4 / 68. 233 اختلط عقله في آخر عمره، وكان يستفتي من علقمة، وأنا لا أقلد علقمة فكيف أقلد من يستفتي من علقمة؟ وأما أبو هريرة فكان يروي كلما بلغه وسمع من غير تأمل في المعنى " (1). محمد بن الحسن الشيباني قال ابن حزم في مسألة أحقية البائع بالمتاع إذا أفلس التي خالف فيها الحنفية -: " روينا من طريق أبي عبيد أنه ناظر في هذه المسألة محمد بن الحسن، فلم يجد عنده أكثر من أن قال: هذا حديث أبي هريرة. قال أبو محمد: نعم والله من حديث أبي هريرة البر الصادق، لا من حديث مثل محمد بن الحسن الذي قيل لعبد الله بن المبارك: من أفقه، أبو يوسف أو محمد بن الحسن؟ فقال: قل أيهما أكذب؟ " (2). عيسى بن أبان البصري الحنفي قال علي بن يحيى الزندويستي: " قال عيسى بن أبان أقلد جميع الصحابة إلا ثلاثة منهم: أبو هريرة ووابصة بن معبد وأبو سنابل بن بعكك " (3). أبو جعفر محمد بن عبد الله الهندواني قال الزندويستي: " واختلفوا أن تقليد قول الصحابة حجة تقبل بغير معرفة المعنى ويعمل به، حتى روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه سئل فقيل له: إذا قلت قولا وكتاب الله يخالف قولك؟ قال أترك قولي بكتاب الله، فقيل له: إذا كان قول الصحابي يخالف قولك؟ قال: أترك قولي بقول
(1) كتائب أعلام الأخيار من علماء مذهب النعمان المختار - مخطوط. (2) المحلى لابن حزم. (3) روضة العلماء. 234 الصحابي، فقيل له: إذا كان قول التابعي يخالف قولك؟ قال: لا يترك قولي بقوله، قال: إذا كان التابعي رجلا فأنا رجل، ثم قال: أترك قولي بجميع قول الصحابة إلا ثلاثة منهم: أبو هريرة وأنس بن مالك وسمرة بن جندب رضي الله عنهم. قال الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله: إنما لم يترك قوله بقول هؤلاء الثلاثة لأنهم مطعونون، أما أبو هريرة فإنه روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من أصبح جنبا فلا صوم له، قالت عائشة رضي الله عنها: أخطأ أبو هريرة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من غير احتلام ثم يتم صومه وذلك في رمضان، قال أبو هريرة: هي أعلم، كنت سمعته من الفضل ابن العباس، والفضل كان يومئذ ميتا، فقد أحال خبره إلى ميت، فصار مطعونا... " (1). أبو بكر الجصاص قال الجصاص ما نصه: " وقد روى أبو هريرة خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أصبح جنبا فلا يصومن يومه ذلك، إلا أنه لما أخبر برواية عائشة وأم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا علم لي بهذا، أخبرني الفضل بن العباس، وهذا مما يوهن خبره لأنه قال بديا ما أنت قلت - ورب الكعبة - من أصبح جنبا فقد أفطر، محمد قال ذلك ورب الكعبة، وأفتى السائل عن ذلك بالافطار، فلما أخذ [أخبر] برواية عائشة وأم سلمة تبرأ من عهدته وقال: لا علم لي بهذا، إنما أخبرني به الفضل... " (2). عمر بن عبد العزيز الصدر الشهيد وقد تقدم ما يفيد طعنه في أبي هريرة عن كتاب (كتائب أعلام
(1) روضة العلماء. (2) أحكام القرآن 1 / 195. 235 الأخيار). الحنفية وأبو هريرة مطعون لدى فقهاء الحنفية، وذلك مشهور عنهم، قال ابن حجر العسقلاني في كتاب البيوع: " قال الحنابلة: واعتذر الحنفية عن الأخذ بحديث المصراة بأعذار [شتى]، فمنهم من طعن في الحديث لكونه من رواية أبي هريرة ولم يكن كابن مسعود وغيره من فقهاء الصحابة، فلا يؤخذ بما رواه مخالفا للقياس الجلي، وهو كلام آذى به قائله [قائله به] نفسه، وفي حكايته غنى عن تكلف الرد عليه، وقد ترك أبو حنيفة القياس الجلي لرواية أبي هريرة وأمثاله كما في الوضوء بنبيذ التمر ومن القهقهة في الصلاة وغير ذلك. وأظن [أن] لهذه النكتة أورد البخاري حديث ابن مسعود عقب حديث أبي هريرة، إشارة منه إلى أن ابن مسعود قد أفتى بوفق حديث أبي هريرة، فلولا أن خبر أبي هريرة في ذلك ثابت لما خالف ابن مسعود القياس الجلي في ذلك. وقال ابن السمعاني في الاصطلام: التعرض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان فاعله، بل هو بدعة وضلالة، وقد اختص أبو هريرة بمزيد الحفظ لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له، يعني المتقدم في كتاب العلم وفي أول البيوع " (1). شيوخ المعتزلة وتقدم قول أبي جعفر الإسكافي: " وأبو هريرة مدخول عند شيوخنا، غير مرضي الرواية، ضربه عمر رضي الله عنه بالدرة وقال له: قد أكثرت الرواية
(1) فتح الباري 4 / 290. 236 وأخرتك [وأحربك - ظ] أن تكون كاذبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ". أبو جعفر الإسكافي وقد طعن فيه أبو جعفر الإسكافي كما سمعت، وقال أيضا (شرح النهج) " إن معاوية وضع قوما من الصحابة وقوما من التابعين على رواية قبيحة في علي رضي الله عنه تقتضي الطعن والبراءة منه، وجعل لهم جعلا يرغب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه، منهم: أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين: عروة بن الزبير. قال: وأما أبو هريرة: فروي عنه الحديث الذي معناه أن عليا رضي الله عنه خطب ابنة أبي جهل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسخطه، فخطب على المنبر وقال: لاها الله، لا يجتمع ابنة ولي الله وابنة عدو الله، إن فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها، فإن كان علي يريد ابنة أبي جهل فليفارق ابنتي وليفعل ما يريد، أو كلاما هذا معناه، والحديث مشهور من رواية الكرابيسي ". أقول: بل يتبين عدم اعتماد الصحابة والتابعين على حديثه من كلام أبي هريرة نفسه، فقد أخرج عنه الحميدي أنه قال: " ألا إنكم تحدثون أني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم... " (1). وفي (المرقاة): " وعنه " أي أبي هريرة قال: " إنكم " أي معشر التابعين وقيل الخطاب مع الصحابة المتأخرين - " تقولون: أكثر أبو هريرة " أي الرواية " عن النبي صلى الله عليه وسلم والله الموعد " أي: موعدنا، فيظهر عنده صدق الصادق وكذب الكاذب، لأن الأسرار تنكشف هنالك. وقال الطيبي: أي لقاء الموعد، ويعني به يوم القيامة فهو يحاسبني على ما أزيد وأنقص، لا سيما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال: من كذب
(1) الجمع بين الصحيحين - مخطوط. 237 علي معتمدا فليتبوء مقعده من النار " (1). وقال الإسكافي على ما نقل عنه: " روى الأعمش قال: لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة جاء إلى مسجد الكوفة، فلما كثر [فلما رأى كثرة] من استقبله من الناس جثى على ركبتيه ثم ضرب صلعته مرارا وقال: يا أهل العراق، أتزعمون أني أكذب على الله وعلى رسوله وأحرق نفسي بالنار والله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن لكل نبي حرما و [إن] حرمي المدينة [بالمدينة] ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وأشهد [بالله] أن عليا أحدث فيها، فلما بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه وولاه إمارة المدينة. قال ابن أبي الحديد: قلت: [أما قوله] ما بين عير إلى ثور [فالظاهر أنه] غلط من الراوي لأن ثورا بمكة وهو جبل يقال له ثور أطحل، وفيه الغار الذي دخله رسول الله [النبي] صلى الله عليه وآله وأبو بكر [رضي الله عنه]... فأما قول أبي هريرة أن عليا عليه السلام أحدث [في المدينة]، فحاش لله، كان علي عليه السلام أتقى لله من ذلك، و [والله] لقد نصر عثمان نصرا لو كان المحصور جعفر بن أبي طالب لم يبذل له إلا مثله " (2). وقال العيدروس اليمني: " وقال أبو هريرة يوم دفن الحسن بن علي: قاتل الله مروان قال والله ما كنت لأدع ابن أبي تراب يدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دفن عثمان بالبقيع، فقلت: يا مروان اتق الله ولا تقل لعلي إلا خيرا، فأشهد لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم خيبر لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ليس بفرار، وأشهد لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحسن: اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه. قال مروان: إنك والله لقد أكثرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) المرقاة - شرح المشكاة 5 / 458. (2) شرح نهج البلاغة 4 / 67. 238 الحديث فلا نسمع منك ما تقول، فهلم غيرك يعلم ما تقول، قال قلت: هذا أبو سعيد الخدري، فقال مروان: لقد ضاع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لا يرويه إلا أنت وأبو سعيد الخدري، والله ما أبو سعيد الخدري يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا غلام، ولقد جئت أنت من جبال دوس قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيسير، فاتق الله يا أبا هريرة. قال قلت: نعما أوصيت به، وسكت عنه " (1). 5 - أبي بن كعب لقد اتهم عمر بن الخطاب أبي بن كعب وأهانه قولا وفعلا، قال السمهودي " وقال ابن سعد أنا يزيد بن هارون أنا أبو أمية بن يعلى عن سالم أبي النضر قال: لما كثر المسلمون في عهد عمر رضي الله عنه وضاق بهم المسجد فاشترى عمر ما حول المسجد من الدور إلا دار العباس بن عبد المطلب وحجر أمهات المؤمنين، فقال عمر للعباس يا أبا الفضل إن مسجد المسلمين قد ضاق بهم وقد ابتعت ما حوله من المنازل نوسع به على المسلمين في مسجدهم إلا دارك وحجر أمهات المؤمنين، فأما حجر أمهات المؤمنين فلا سبيل إليها، وأما دارك فبعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين أوسع بها في مسجدهم، فقال العباس: ما كنت لأفعل، قال فقال له عمر: اختر مني إحدى ثلاث. إما أن تبيعنيها بما شئت من بيت المال، وإما أن أحظك [أخطك] حيث شئت من المدينة وأبنها لك من بيت مال المسلمين، وإما أن تصدق بها على المسلمين فتوسع في مسجدهم فقال: لا ولا واحدة منها، فقال عمر: اجعل بيني وبينك من شئت، فقال: أبي بن كعب. فانطلقا إلى أبي فقصا عليه القصة، فقال أبي: إن شئتما حدثتكما بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: حدثنا، فقال: سمعت
(1) العقد النبوي - مخطوط. 239 رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله أوحى إلى داود أن ابن لي بيتا أذكر فيه، فخط لي [له] هذه الخطة خطة بيت المقدس، فإذا تربيعها بزاوية بيت رجل من بني إسرائيل، فسأله داود أن يبيعه إياها فأبى، فحدث داود نفسه أن يأخذه منه، فأوحى الله إليه يا داود أمرتك أن تبني لي بيتا أذكر فيه، فأردت أن تدخل في بيتي الغصب؟ وليس من شأني الغصب، وإن عقوبتك أن لا تبنيه، قال: يا رب فمن ولدي؟ قال: فمن ولدك. فأخذ [عمر] بمجامع أبي بن كعب فقال: جئتك بشئ فجئت بما هو أشد منه؟ لتخرجن مما قلت، فجاء يقوده حتى دخل المسجد فأوقفه على حلقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أبو ذر، فقال أبي: نشدت الله رجلا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر حديث بيت المقدس حين أمر الله داود أن يبنيه إلا ذكره، فقال أبو ذر: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال آخر: أنا سمعته يعني من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فأرسل أبيا، قال فأقبل أبي على عمر فقال: يا عمر أتتهمني على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: والله يا أبا المنذر ما اتهمتك عليه ولكن أردت أن يكون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرا. قال: وقال عمر للعباس: إذهب فلا أعرض لك في دارك، فقال العباس أما إذ [ا] قلت ذلك فإني قد تصدقت بها على المسلمين أوسع عليهم في مسجدهم فأما وأنت تخاصمني فلا، قال: فخط له عمر داره التي هي اليوم وبناها من بيت مال المسلمين " (1). 6 - أنس بن مالك لقد كذب أنس بن مالك في قضية الطير المشوي، كما هو ظاهر كل الظهور على من راجع مجلد (حديث الطير) من كتابنا.
(1) وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى 1 / 482. 240 كما أنه كتم الشهادة عندما ناشده أمير المؤمنين عليه السلام في جماعة عن حديث الغدير، فكتم الشهادة، معتذرا بالنسيان كاذبا، فدعا عليه الإمام عليه السلام وسرعان ما ظهر عليه أثر دعوته. وفي كتاب (الأربعين) لأسعد بن إبراهيم الأربلي عن شيخه ابن دحية الكلبي، عن سالم بن أبي الجعد قال: " حضرت مجلس أنس بن مالك - وهو مكفوف البصر وفيه وضح - فقام إليه رجل من القوم - وكأنه كان بينه وبين أنس أحنة - وقال له: يا صاحب رسول الله، ما هذه السمة التي أراها بك؟ فوالذي بعث محمدا نبيا لقد حدثني أبي عن النبي أن الله قد بين أن البرص والجذام ما يبتلى به مؤمنا ونرى بك وضحا، فأطرق أنس به مالك إلى الأرض وعيناه تذرفان بالدمع وقال: أما الوضح فإنها من دعوة دعاها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقام إليه جماعة فسألوه أن يحدثهم بالحديث قال: لما أنزلت سورة الكهف سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم أصحاب الكهف فوعدهم ذلك، فبينما هو جالس في بعض الأيام وقد أهدي له بساط من قرية يقال لها هندف من قرى الشام وحضرت الصحابة وذكروه بوعدهم فقال: احضروا عليا، فلما حضر قال لي: يا أنس أبسط البساط وأمر أصحابه أن يجلسوا عليه. فلما جلسوا رفع يديه إلى السماء ساعة وسأل الله تعالى وأمر عليا أن يكنف القوم ويسأل الله معه كما يسأل أن يبعث له ملائكة أربعة يحملون البساط وعليه الصحابة لأن ينظروا أهل الكهف، فما كان إلا ساعة وارتفع البساط قال أنس: وأنا معهم وسرنا في الهواء إلى الظهر فوقف البساط ثم وقعنا على الأرض، فشاهدنا أهل الكهف. وكان علي يأمر البساط أن يمضي كما يريد، فكأنه كان يعرف الكهف وقال انزلوا نصلي، فنزلنا وأم بنا وصلينا وتقدمنا إليهم فرأينا قوما نياما تضئ وجوههم كالقناديل وعليهم ثياب بيض وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد فملئنا منهم رعبا فتقدم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: السلام
241 عليكم، فردوا عليه السلام فتقدمت الجماعة فسلموا فلم يردوا عليهم السلام، فقال لهم علي: لم لم تردوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أحدهم: سل ابن عمك ونبيك ثم قال علي للجماعة: خذوا مجالسكم، فلما أخذوا قال علي رضي الله عنه: يا ملائكة الله ارفعوا البساط، فرفع فسرنا في الهواء ما شاء الله، ثم قال: ضعونا لنصلي الظهر، فإذا بأرض ليس بها ماء يشرب ولا يتوضأ، فركض برجله الأرض فنبع ماء عذب، فتوضأنا وصلينا وشربنا فقال: ستدركون صلاة العصر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسار بنا إلى العصر فإذا نحن على باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآنا هنأنا بالسلم وأقبل يحدثنا كأنه كان معنا وقال: يا علي لما سلمت عليهم ردوا السلام وسلم أصحابي فلم يردوا، فسألتهم عن ذلك قالوا: سل ابن عمك ونبيك ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون السلام إلا على نبي أو وصي نبي، ثم قال: إشهد لعلي يا أنس. فلما كان يوم السقيفة استشهدني علي وقال: يا أنس اشهد لي بيوم البساط قلت له: إني نسيت، قال: فإن كنت كتمتها بعد وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فرماك الله ببياض في عينك ووجهك ولظى في جوفك وأعمى بصرك فبصرت وعميت. وكان أنس لا يطيق الصيام في شهر رمضان ولا في غيره من حرارة بطنه، ومات بالبصرة، وكان يطعم كل يوم مسكينا ". وفي (شرح نهج البلاغة): " وذكر جماعة من شيوخنا البغداديين أن عدة من الصحابة والتابعين والمحدثين كانوا منحرفين عن علي عليه السلام قائلين فيه السوء، ومنهم من كتم مناقبه وأعان أعداءه ميلا مع الدنيا وإيثارا للعاجلة، فمنهم أنس بن مالك، ناشد علي عليه السلام الناس في رحبة القصر - أو قال: رحبة الجامع - بالكوفة من [أيكم] سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كنت مولاه [فعلي مولاه]؟ فقام اثنا عشر رجلا فشهدوا بها وأنس بن مالك في القوم لم يقم فقال له: يا أنس ما يمنعك أن تقوم فتشهد
242 فلقد حضرتها؟! فقال: يا أمير المؤمنين كبرت ونسيت، فقال: اللهم إن كان كاذبا فارمه بها بيضاء لا تواريها العمامة. قال طلحة بن عمير: فوالله لقد رأيت الوضح به بعد ذلك أبيض بين عينيه. وروى عثمان بن مطرف: إن رجلا سأل أنس بن مالك في آخر عمره عن علي بن أبي طالب فقال: [إني] آليت أن لا أكتم حديثا سئلت عنه في علي بعد يوم الرحبة، ذلك [ذاك] رأس المتقين يوم القيامة، سمعته والله من نبيكم " (1). ولقد علم فيما تقدم طعن أبي حنيفة في جماعة من الصحابة منهم أنس ابن مالك. 7 - زيد بن أرقم وزيد بن أرقم أيضا ممن كتم الشهادة بحديث الغدير، قال ابن المغازلي " أخبرنا أبو الحسن علي بن عمر بن عبد الله بن شوذب قال حدثني [أبي قال حدثنا محمد بن الحسين الزعفراني حدثني] أحمد بن يحيى بن عبد الحميد حدثني [أبو] إسرائيل الملائي عن الحكم بن [عن] أبي سليمان المؤذن عن زيد بن أرقم قال: نشد علي الناس في المسجد [قال]: انشد [الله] رجلا سمع النبي صلى الله عليه وآله يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، فكنت [وكنت] أنا فيمن كتم، فذهب بصري " (2). ورواه الحلبي في (السيرة 3 / 337). والجامي في (شواهد النبوة) في كرامات الإمام عليه السلام.
(1) شرح النهج 4 / 74. (2) مناقب أمير المؤمنين: 23. 243 8 - البراء بن عازب وهو أيضا ممن كتم الشهادة بذلك، قال المحدث الشيرازي في حديث الغدير: " ورواه زر بن حبيش فقال: خرج علي من القصر فاستقبله ركبان متقلدي السيوف عليهم العمائم حديثي عهد بسفر، فقالوا: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا مولانا. فقال علي بعد ما رد السلام: من ههنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام اثنا عشر رجلا منهم خالد بن زيد أبو أيوب الأنصاري وخزيمة ابن ثابت ذو الشهادتين وثابت بن قيس بن شماس وعمار بن ياسر وأبو الهيثم ابن التيهان وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص وحبيب بن بديل بن ورقاء، فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله يوم غدير خم يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه... الحديث. فقال علي لأنس بن مالك والبراء بن عازب: ما منعكما أن تقوما فتشهدا، فقد سمعتما كما سمع القوم؟ فقال: اللهم إن كانا كتماها معاندة فابلهما، فأما البراء فعمي، فكان يسأل عن منزله فيقول كيف يرشد من أدركته الدعوة، وأما أنس فقد برصت قدماه... " (1). وسيأتي هذا عن البلاذري أيضا. 9 - جرير بن عبد الله وهو أيضا ممن كتمها، قال البلاذري: " قال علي على المنبر: أنشد الله رجلا سمع رسول الله صلى الله عليه وآله يقول يوم غدير خم: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، إلا قام فشهد، وتحت المنبر أنس بن مالك والبراء بن عازب وجرير بن عبد الله [البجلي]، فأعادها فلم يجبه أحد، فقال: اللهم من كتم هذه الشهادة - وهو يعرفها - فلا نخرجه من الدنيا حتى تجعل به آية
(1) الأربعين للمحدث الشيرازي - مخطوط. 244 يعرف بها قال: فبرص أنس وعمي البراء ورجع جرير أعرابيا بعد هجرته، فأتى السراة فمات في بيت أمه [بالسراة] " (1). 10 - سمرة بن جندب وقد باع سمرة بن جندب دينه بدنياه وآثر العاجلة على الآخرة، إذ ارتكب الكذب الصريح وأتى بالبهتان العظيم، قال ابن أبي الحديد " قال أبو جعفر: وقد روي أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروي أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب * [ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد] * وإن الآية الثانية [ا] نزلت في ابن ملجم وهي [قوله تعالى] * [ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله] * فلم يقبل. فبذل له مائتي ألف [درهم] فلم يقبل. فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل. فبذل له أربعمائة ألف فقبل وروى ذلك " (2). وفي (شرح النهج) أيضا: " وروى شريك قال أخبرنا عبيد [عبد] الله ابن معد [سعد] عن حجر بن عدي قال: قدمت المدينة فجلست إلى أبي هريرة فقال ممن أنت؟ قلت: من أهل البصرة، قال: فما فعل سمرة بن جندب؟ قلت: هو حي، قال: ما [أحد] أحب إلى طول حياة منه، قلت ولم ذاك؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي وله ولحذيفة بن اليمان: آخركم موتا في النار فسبقنا حذيفة، وإني الآن أتمنى أن أسبقه، قال فبقي سمرة بن جندب حتى شهد مقتل الحسين [بن علي].
(1) أنساب الأشراف 2 / 156 (2) شرح النهج 4 / 73. 245 وروى أحمد بن بشير عن مسعر بن كدام قال: كان سمرة [ابن جندب] أيام مسير الحسين عليه السلام إلى الكوفة على شرطة عبيد الله بن زياد، وكان يحرض الناس على الخروج إلى الحسين عليه السلام وقتاله " (1). ولقد علم فيما تقدم طعن أبي حنيفة في سمرة بن جندب. 11 - المغيرة بن شعبة لقد اتهم أبو بكر المغيرة بن شعبة إذ رد خبره في ميراث الجدة حتى أخبره معه محمد بن مسلمة، ذكر ذلك جماعة منهم الغزالي في (المستصفى 1 / 153). وتقدم عن أبي جعفر الإسكافي: إن المغيرة كان يضع الأحاديث القبيحة في أمير المؤمنين عليه السلام بترغيب من معاوية بن أبي سفيان. واتهمه عمر بن الخطاب إذ رد خبره في دية الاملاص فقد جاء في [تذكرة الحفاظ]: " وروى هشام عن أبيه المغيرة بن شعبة: إن عمر استشارهم في إملاص المرأة - يعني السقط - فقال له المغيرة: قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة، فقال له عمر: إن كنت صادقا فآت أحدا يعلم ذلك. قال: فشهد محمد بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به " (2). 12 - عمرو بن العاص وكان عمرو بن العاص من الصحابة الذين حرضهم معاوية بن أبي سفيان على وضع الأحاديث القبيحة في مولانا أمير المؤمنين عليه السلام، كما مر فيما سبق في عبارة الإسكافي.
(1) شرح النهج 4 / 87. (2) تذكرة الحفاظ - ترجمة عمر بن الخطاب. 246 وكان قد تعود الكذب، حتى أنه كذب في خطبة له على رؤوس الاشهاد، الأمر الذي اضطر بعضهم إلى تكذيبه علانية فيما رواه البخاري في (التاريخ الصغير) وأحمد في (المسند) والطبري في (التاريخ). قال الطبري: " لما اشتغل الوجع قام أبو عبيدة في الناس خطيبا فقال: أيها الناس إن هذا الوجع رحمة ربكم ودعوة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم له منه حظه، فطعن فمات. واستخلف على الناس معاذ بن جبل قال: فقام خطيبا بعده فقال: أما أيها الناس إن هذا الوجع رحمة ربكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، وإن معاذا يسأل الله أن يقسم لأن معاذ منه حظهم، فطعن ابنه عبد الرحمن بن معاذ فمات، ثم قام فدعا به لنفسه فطعن في راحته، فلقد رأيته ينظر إليها ثم يقبل ظهر كفه ثم يقول: ما أحب أن لي بما فيك شيئا من الدنيا. فلما مات استخلف [على] الناس عمرو بن العاص، فقام خطيبا في الناس فقال: أيها الناس إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار فتجبلوا منه في الجبال. فقال أبو واثلة الهذلي: كذبت والله لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت شر من حماري هذا، قال: والله ما أرد عليك ما تقول وأيم الله لا نقيم عليه " (1). 13 - معاوية بن أبي سفيان ولقد كان معاوية بن أبي سفيان يحمل أصحابه الذين باعوه دينهم بدنياه على الكذب والافتراء ووضع الأحاديث، وقد كتب نسخة إلى عماله بعد ما يسمى ب " عام الجماعة " يأمرهم بقتل شيعة أمير المؤمنين عليه السلام
(1) تاريخ الطبري 3 / 162 - 163. 247 ورواة فضائله، وبلعنه على المنابر ووضع الأحاديث في ذمه والثناء على مناوئيه... ذكر ذلك كافة المؤرخين. على أن معاوية نفسه كان يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله، فقد أخرج أحمد وأبو داود بإسنادهما عن أبي شيخ الهنائي - واللفظ للأول: " إن معاوية قال لنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أتعلمون أن رسول الله نهى عن لباس الذهب إلا مقطعا؟ قالوا: اللهم نعم، قال: وتعلمون أنه نهى عن جلود النمور أن يركب عليها؟ قالوا: اللهم نعم، قال وتعلمون أنه نهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة؟ قالوا: اللهم نعم، قال: وتعلمون أنه نهى عن المتعة - يعني متعة الحج -؟ قالوا: اللهم لا " (1). وكذب معاوية على قيس بن سعد، روى ذلك المؤرخون كالطبري وابن الأثير وابن تغرى بردى، قال ابن الأثير: " فلما قرأ قيس كتابه ورأى أنه لا يفيد معه المدافعة والمماطلة أظهر له مات في نفسه، فكتب إليه: أما بعد فالعجب من اغترارك بي وطمعك في واستسقاطك إياي، أتسومني الخروج عن طاعة أولى الناس بالإمارة، وأقولهم بالحق، وأهداهم سبيلا، وأقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيلة، وتأمرني بالدخول في طاعتك طاعة أبعد الناس من هذا الأمر، وأقولهم بالزور، وأضلهم سبيلا، وأبعدهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيلة، ولد ضالين مضلين، طاغوت من طواغيت إبليس؟! وأما قولك " إني مالئ عليك مصر خيلا ورجالا " فوالله إن لم أشغلك بنفسك حتى تكون أهم إليك إنك لذو جد. والسلام. فلما رأى معاوية كتابه أيس منه وثقل عليه مكانه ولم تنجع حيلة فيه، فكاده من قبل علي فقال لأهل الشام: لا تسبوا قيس بن سعد ولا تدعوا إلى غزوة فإنه لنا شيعة، قد تأتينا كتبه ونصيحته سرا، ألا ترون ما يفعل
(1) المسند 4 / 95. 248 بإخوانكم الذين عنده من أهل خربتا؟ يجري عليهم أعطياتهم وأرزاقهم ويحسن إليهم. وافتعل كتابا عن قيس إليه بالطلب بدم عثمان والدخول معه في ذلك وقرأ على أهل الشام. فبلغ ذلك عليا - أبلغه ذلك محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر بن أبي طالب وأعلمته عيونه بالشام - فأعظمه وأكبره، فدعا ابنيه وعبد الله بن جعفر فأعلمهم ذلك، فقال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، اعزل قيسا عن مصر. فقال علي: إني والله ما أصدق بهذا عنه " (1). * ولقد كذب على جماعة فيهم سيدنا الإمام الحسين السبط عليه السلام وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر وعائشة، في قضية إقامة يزيد ابنه مقامه وأخذ البيعة له، إذ وكل بكل رجل منهم رجلين - بعد أن سبهم وهددهم بالقتل - وقام خطيبا فقال: " إن عبد الله بن عمر وابن الزبير والحسين بن علي وعبد الرحمن بن أبي بكر بايعوا له... ". فكذبوه قائلين " لا والله ما بايعنا ولكن فعل بنا معاوية ما فعل " (2). * ولقد ذمه وطعن فيه جماعة من أصحاب علي عليه السلام في وجهه، روى المسعودي بإسناده قال: " حبس معاوية صعصعة بن صوحان العبدي وعبد الله ابن الكواء اليشكري ورجالا من أصحاب علي عليه السلام مع رجال من قريش فدخل عليهم معاوية يوما فقال: نشدتكم بالله إلا [ما] قلتم حقا وصدقا، أي الخلفاء رأيتموني؟ فقال ابن الكواء: لولا أنك عزمت علينا ما قلنا، لأنك جبار عنيد، لا تراقب الله في قتل الأخيار، ولكنا نقول: إنك ما علمنا واسع الدنيا، ضيق الآخرة قريب الثرى، بعيد المرعى، تجعل الظلمات نورا والنور
(1) الكامل 3 / 138. (2) تاريخ الاسلام للذهبي 1 / 36، تاريخ الخلفاء للسيوطي 197 وغيرهما. 249 ظلمات. فقال معاوية إن الله أكرم هذا الأمر بأهل الشام الذابين عن بيضته التاركين لمحارمه، ولم يكونوا كأمثال أهل العراق المنتهكين لمحارم الله المحلين ما حرم الله والمحرمين ما أحل الله، فقال عبد الله بن الكوا: يا ابن أبي سفيان، إن لكل كلام جوابا، ونحن نخاف جبروتك، فإن كنت تطلق ألسنتنا ذببنا عن أهل العراق بألسنة حداد لا يأخذها في الله لومة لائم، وإلا فإنا صابرون حتى يحكم الله ويضعنا على فرجه، قال: والله لا يطلق لك لسان. ثم تكلم صعصعة فقال: تكلمت يا ابن أبي سفيان فأبلغت، ولم تقصر عما أردت، وليس الأمر على ما ذكرت، أنى يكون الخليفة من ملك الناس قهرا ودانهم كبرا واستولى بأسلوب الباطل كذبا ومكرا، أما والله مالك في يوم بدر مضرب ولا مرمى، وما كنت فيه إلا كما قال القائل: " لا حلي ولا سيرى " ولقد كنت أنت وأبوك في العير والنفير ممن أجلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أنت طليق ابن طليق، أطلقكما رسول الله صلى الله عليه وآله، فأنى تصلح الخلافة لطليق؟ فقال معاوية: لولا أني أرجع إلى قول أبي طالب حيث يقول: قابلت جهلهم حلما ومغفرة * والعفو عن قدرة ضرب من الكرم لقتلكم " (1). * ولقد وصفه سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام - وهو الصديق الأكبر - ب " الكذاب " بصراحة، فقد جاء في (ينابيع المودة) ما نصه: " وفي المناقب عن الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب عن آبائه أن أمير المؤمنين عليه السلام كتب إلى أهل مصر لما بعث محمد بن أبي بكر إليهم كتابا فقال فيه: " وإياكم دعوة ابن هند الكذاب، واعلموا أنه لا سواء إمام الهدى وإمام الهوى ووصي النبي وعدو النبي " (2).
(1) مروج الذهب 3 / 40 - 41. (2) ينابيع المودة 80. 250 ومن العجائب تكذيب معاوية بعض الأصحاب في خبر رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله، فقد أخرج مسلم والنسائي والطحاوي وابن الأثير وغيرهم عن عبادة بن الصامت أنه قال: " إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين فمن زاد أو ازداد فقد أربى، فرد الناس ما أخذوا. فبلغ ذلك معاوية فقام خطيبا فقال: [ألا] ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث؟ قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه، فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة، ثم قال: لنحدثن بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية - أو قال وإن رغم - ما أبالي أن لا أصحبه في جنده ليلة سوداء " (1). * وأخرج أحمد في مسند معاوية والبخاري في " كتاب الأحكام " و " كتاب المناقب " عن الزهري قال: كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث أنه بلغ معاوية - وهو عنده في وفد من قريش - أن عبد الله بن عمرو بن العاص يحدث أنه سيكون ملك من قحطان - فغضب معاوية فقام فأثنى على الله عز وجل بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإنه بلغني أن رجالا منكم يحدثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أولئك جهالكم، فإياكم والأماني التي تضل أهلها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إن هذا في قريش لا ينازعهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين ". 14 - الذين جاؤوا بالإفك قال الله تعالى: * [إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم، لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي
(1) صحيح مسلم 1 / 465. 251 تولى كبره منهم له عذاب عظيم * لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين * لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون * ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم * إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم * ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم * يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين * ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم] * (1). أليس " الذين جاءوا بالإفك " من الصحابة والصحابيات وتلك أسماؤهم مسجلة في الكتب؟ فهل كلهم ثقة مؤتمن؟. 15 - الوليد بن عقبة لقد نص القرآن الكريم على فسق الوليد بن عقبة بن أبي معيط - أخي عثمان لأمه - وعلى عدم جواز الاعتماد على خبره بقوله تعالى: * [يا أيها الذين آمنوا إن جائكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين] * (2). قال ابن عبد البر بترجمته: " ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن - فيما علمت - أن قوله عز وجل: * [إن جائكم فاسق بنبأ] * نزلت في الوليد بن عقبة " (3). كما يشهد قوله تعالى: * [أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون] * (4) على فسقه كذلك، قال ابن عبد البر: " ومن حديث الحكم عن
(1) سورة النور 12 - 18. (2) سورة الحجرات 6. (3) الاستيعاب 4 / 1553. (4) سورة السجدة 18. 252 سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: نزلت في علي بن أبي طالب والوليد بن عقبة في قصة ذكرها: أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون... " (1). وقد ذكر ابن طلحة الشافعي تلك القصة عن أبي الحسن الواحدي وأبي إسحاق الثعلبي، وأورد قصيدة حسان بن ثابت التي ضمنها إياها، وتكلم على القصة بالتفصيل، فليراجع (2). ومن عجائب الأمور: أن يخرج له أبو داود في سننه، ويعدوه من رجال الصحاح ويروي جماعة عنه، كما لا يخفى على من راجع كتب رجال الحديث. 16 - بعض الأصحاب لقد كذب النبي صلى الله عليه وآله جماعة من الأصحاب في قصة أهل هجرة الحبشة فيما رواه المتقي: " عن الشعبي قال: لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل جعفر بن أبي طالب ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأته أسماء بنت عميس حتى فاضت عبرتها فذهب بعض حزنها، ثم أتاها فعزاها ودعا بني جعفر فدعا لهم ودعا لعبد الله بن جعفر أن يبارك له في صفقة يده، فكان لا يشتري شيئا إلا ربح فيه، فقالت له أسماء: يا رسول الله إن هؤلاء يزعمون أنا لسنا من المهاجرين، فقال: كذبوا، لكم الهجرة مرتين، هاجرتم إلى النجاشي وهاجرتم إلي. ش " (3). * وكذب جماعة منهم في قصة عمل عامر بن الأكوع في حديث أخرجه الشيخان في غزوة خيبر عن سلمة بن الأكوع - واللفظ لمسلم - قال: " فلما تصاف القوم كان سيف عامر فيه قصر فتناول به ساق يهودي ليضربه ويرجع ذباب سيفه فأصاب ركبة عامر فمات منه، قال: فلما قفلوا قال سلمة
(1) الاستيعاب 4 / 1554. (2) مطالب السؤل 57. (3) كنز العمال 15 / 294. 253 - وهو آخذ بيدي - قال: فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساكنا قال: مالك؟ قلت له: فداك أبي وأمي زعموا أن عامرا حبط عمله. قال: من قاله؟ قلت: فلان وفلان وأسيد بن حضير الأنصاري، فقال: كذب من قاله، إن له لأجرين - وجميع بين إصبعيه - إنه لجاهد مجاهد قل عربي مشي بها مثله ". * وقال رسول الله صلى الله عليه وآله في خطبة له بعد نزول: * [إنما وليكم الله... الآية] * - رواها شهاب الدين أحمد " قال: اتقوا الله أيها الناس حتى تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعلموا أن الله بكل شئ محيط، وإنه سيكون من بعدي أقوام يكذبون علي فيقبل منهم، ومعاذ الله أن أقول على الله إلا الحق، أو أنطق بأمره إلا الصدق وما آمركم إلا ما أمرني به، ولا أدعوكم إلا إلى الله، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. فقام إليه عبادة بن الصامت فقال: ومتى ذاك يا رسول الله؟ ومن هؤلاء؟ عرفناهم لنحذرهم. قال: أقوام قد استعدوا لنا من يومهم وسيظهرون لكم إذا بلغت النفس مني ههنا - وأومأ صلى الله عليه وبارك وسلم إلى حلقه -. فقال عبادة: إذا كان ذلك فإلى من يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وبارك وسلم: عليكم بالسمع والطاعة للسابقين من عترتي والآخذين من نبوتي، فإنهم يصدونكم عن الغي ويدعونكم إلى الخير وهم أهل الحق ومعادن الصدق، يحيون فيكم الكتاب والسنة يجنبونكم الالحاد والبدعة ويقمعون الحق أهل الباطل، لا يميلون مع الجاهل " (1). فهل كلهم ثقة مؤتمن؟ * لقد صرح أمير المؤمنين عليه السلام - في كلام له - بكذب بعض الأصحاب على رسول الله صلى الله عليه وآله، روى ذلك سبط ابن الجوزي
(1) توضيح الدلائل على تصحيح الفضائل - مخطوط. 254 حيث قال: " ومن كلامه في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبه قال الشعبي: حدثني من سمع عليا عليه السلام وقد سئل عن سبب اختلاف الناس في الحديث، فقال عليه السلام: الناس أربعة، منافق مظهر للايمان [و] مضيع للاسلام [وقلبه يأبى الإيمان] لا يتأثم ولا يتحرج، كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو علم الناس [حاله] لما أخذوا عنه ولكنهم قالوا " صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم!! " فأخذوا بقوله، وقد أخبر الله عن المنافقين بما أخبره ووصفهم بما وصف، ثم إنهم عاشوا بعده فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والبهتان فولوهم الأعمال وجعلوهم على رقاب الناس فأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس تبع للملوك إلا من عصمه الله عز وجل... هذه رواية الشعبي، وفي رواية كميل بن زياد عنه أنه قال: إن في أيدي الناس حقا وباطلا وصدقا وكذبا، وناسخا ومنسوخا وعاما وخاصا ومحكما ومتشابها وحفظا ووهما، وقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده حتى قام خطيبا فقال: من كذب على متعمدا فليتبوء مقعده من النار، وإنما يأتيك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس، وذكرهم. قلت: وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث - وهو قوله صلى الله عليه وآله من كذب علي متعمدا فليتبوء مقعده من النار - مائة وعشرون من الصحابة ذكرتهم في كتابي المترجم ب " حق اليقين "، وأما طريق علي عليه السلام فأخبرنا غير واحد عن عبد الأول الصوفي أنبأ [نا] ابن المظفر الداودي، أنبأ [نا] ابن أعين السرخسي، أنبأ [حدثنا] الفربري ثنا البخاري ثنا علي بن الجعد ثنا شعبة عن منصور عن ربعي بن خراش قال: سمعت عليا عليه السلام يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: من كذب علي متعمدا فليتبوء مقعده من النار. أخرجاه في الصحيحين وأخرجه أحمد في المسند، والجماعة " (1).
(1) تذكرة خواص الأمة 142. 255 فكيف يكون كلهم ثقة..؟ * ولقد كان عمر بن الخطاب يخوف الناس في عهده في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله، لذا لم يعتمد معاوية - مع كونه من أكذب الناس - على كثير من الأحاديث المروية عنه صلى الله عليه وآله إلا ما كان منها في عهد عمر، قال الذهبي بترجمة عمر: " ابن علية عن رجاء ابن أبي سلمة: قال: بلغني أن معاوية كان يقول: عليكم من الحديث بما كان في عهد عمر، فإنه قد أخاف الناس في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " (1). وقال عمر لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله - فيما رواه ابن عبد البر بإسناده -: " أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم. قال ابن عبد البر: وهذا يدل على أن نهيه عن الاكثار وأمره بالإقلال من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان خوف الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم " (2). * وكذب عوف بن مالك الصحابي قوما من الصحابة فكذبهم عمر كذلك فقد روى ابن أبي الحديد في سيرة عمر: " حضر [ت] عند عمر قوم من الصحابة، فأثنوا عليه وقالوا: والله ما رأينا يا أمير المؤمنين رجلا أقضى منك بالقسط و [لا] أقول، ولا أشد على المنافقين منك، إنك لخير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عوف بن مالك كذبتم والله، أبو بكر بعد رسول الله خير منه [أمته]، رأينا أبا بكر، فقال عمر صدق عوف والله وكذبتم، لقد كان أبو بكر والله أطيب من ريح المسك وأنا أضل من بعير أهلي " (3). * وكذبت جماعة من الصحابيات في قضية زفاف عائشة، فقد أخرج
(1) تذكرة الحفاظ - ترجمة عمر. (2) جامع بيان العلم 400. (3) شرح النهج 12 / 36. 256 أحمد قائلا: " ثنا عبد الرزاق أنا سفيان عن ابن أبي الحسين عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت: كنا فيمن جهز عائشة وزفها، قالت: فعرض علينا النبي صلى الله عليه وسلم لبنا، فقلنا: لا نريده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تجمعن جوعا وكذبا " (1). * ومما استفاض نقله: إن بعض نساء النبي صلى الله عليه وآله علمن إحدى زوجاته - حسدا منهن لها وعنادا للنبي صلى الله عليه وآله - أن تستعيذ بالله منه حين يدخل عليها، كي ينتهي ذلك إلى تطليق النبي إياها. وممن روى ذلك ابن سعد والحاكم والطبري، وجماعة من شراح البخاري، وابن عبد البر وابن الأثير... ونحن نكتفي برواية ابن سعد حيث قال: " أخبرنا هشام بن محمد بن السائب عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء بنت النعمان وكانت من أجمل أهل زمانها وأشبه (أشبهم. ظ)، قال: فلما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج الغرائب قالت عائشة قد وضع يده في الغرائب، يوشكن أن يصرفن وجهه عنا، وكان خطبها حين وفدت كندة عليه إلى أبيها فلما رآها نساء النبي صلى الله عليه وسلم حسدنها فقلن لها: إن أردت أن تحظي عنده فتعوذي بالله منه إذا دخل عليك، فلما دخل وألقى الستر مد يده إليها فقالت: أعوذ بالله منك، فقال: أمن عائذا لله، الحقي بأهلك. أخبرنا هشام بن محمد، حدثني ابن الغسيل عن حمزة بن أبي أسيد الساعدي عن أبيه - وكان بدريا - قال: تزوج رسول الله أسماء بنت النعمان الجونية، فأرسلني فجئت بها، فقالت حفصة لعائشة - أو عائشة لحفصة - إخضبيها أنت وأنا أمشطها، ففعلنا [ففعلن] ثم قالت لها إحداهما: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه من المرأة إذا دخلت عليه أن تقول: أعوذ بالله منك، فلما دخلت عليه وأغلق الباب وأرخى الستر مد يده إليها، فقالت: أعوذ
(1) المسند 6 / 459. 257 بالله منك، فقال بكمه على وجهه فاستتر به وقال: عذت معاذا - ثلاث مرات -. قال أبو أسيد: ثم خرج علي فقال: يا أبا أسيد ألحقها بأهلها ومتعها برازقيتين - يعني كرباستين - فكانت تقول: أدعوني الشقية. أخبرنا هشام بن محمد السائب، حدثني زهير بن معاوية الجعفي: إنها ماتت كمدا " (1). 17 - معقل بن سنان لقد رد أمير المؤمنين عليه السلام خبر معقل بن سنان الأشجعفي في المفوضة فيما رواه جماعة كالغزالي والآمدي وأبي الوليد الباجي وعبد العزيز البخاري وابن الهمام وغيرهم، قال المتقي: " عن علي أنه قال في المتوفى عنها ولم يفرض لها صداقا: لها الميراث وعليها العدة ولا صداق لها، وقال: لا يقبل قول أعرابي من أشجع على كتاب الله. ص ق " (2). 18 - هشام بن حكيم وكذب عمر بن الخطاب هشام بن حكيم على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد أخرج البخاري قائلا: " حدثنا سعيد بن عفير [قال] حدثني الليث [قال] حدثني عقيل عن ابن شهاب قال: حدثني عروة بن الزبير أن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبد القاري حدثاه أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى
(1) الطبقات الكبرى 8 / 145. (2) كنز العمال 11 / 29. 258 سلم فلببته بردائه فقلت: من أقرئك هذه السورة التي [سمعتك] تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت كذبت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت. فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسله، اقرأ يا هشام، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أنزلت. ثم قال اقرأ يا عمر، فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل [على] سبعة أحرف، فاقرؤا ما تيسر منه " (1). 19 - رجل من الصحابة كذبه الشعبي - وهو من كبار التابعين - قال الذهبي: " قال الحاكم في ترجمة الشعبي: ثنا إبراهيم بن مضارب العمري [القمري] ثنا محمد بن إسماعيل ابن مهران نا عبد الواحد بن نجدة الحوطي نا بقية نا سعيد بن عبد العزيز حدثني ربيعة بن يزيد قال: قعدت إلى الشعبي بدمشق في خلافة عبد الملك. فحدث رجل من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: اعبدوا ربكم ولا تشركوا به شيئا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الأمراء، فإن كان خيرا فلكم، وإن كان شرا فعليهم وأنتم منه براء. فقال له الشعبي: " كذبت " (2). 20 - طلحة والزبير وعبد الله بن الزبير لقد كذب هؤلاء - وهم من مشاهير الصحابة - في حرب الجمل في
(1) صحيح البخاري 6 / 227. (2) تذكرة الحفاظ - ترجمة الشعبي -. 259 قضية " الحوأب " وحملوا الناس على أن يشهدوا زورا... في قصة معروفة رواها المؤرخون بأجمعهم، كابن قتيبة والطبري وأبناء الأثير وخلدون والوردي والشحنة، وأبي الفداء والمسعودي والسمعاني والحموي.... قال الطبري: " شراء الجمل لعائشة رضي الله عنها وخبر كلاب الحوأب: حدثني إسماعيل بن موسى الفزاري قال: نا علي بن عابس الأزرق قال: ثنا أبو الخطاب الهجري عن صفوان بن قبيصة الأحمسي قال: حدثني العرني صاحب الجمل قال: بينما أنا أسير على جمل إذ عرض لي راكب فقال: يا صاحب الجمل [أ] تبيع جملك؟ قلت: نعم، قال: بكم؟ قلت: بألف درهم. قال: مجنون أنت؟ جمل يباع بألف درهم؟ قال قلت: نعم جمل [جملي] هذا. قال: ومم ذلك؟ قلت: ما طلبت عليه أحدا قط إلا أدركته ولا طلبني وأنا عليه أحد قط إلا فته. قال: لو تعلم لمن نريده لأحسنت بيعنا. قال قلت: ولمن تريده؟ قال: لأمك. قلت: لقد تركت أمي في بيتها قاعدة ما تريد براحا. قال: إنما أريده لأم المؤمنين عائشة، قلت: فهو لك، خذه بغير ثمن، قال: لا ولكن ارجع معنا إلى البرحل فلنعطك ناقة مهرية، وزادوني أربعمائة أو ستمائة درهم. فقال لي: يا أخا عرينة هل لك دلالة بالطريق؟ قال قلت: نعم أنا من أدرك [أدل] الناس قال: فسر معنا، فسرت معهم فلا أمر على واد ولا ماء إلا سألوني عنه حتى فرطنا ماء الحوأب، قال: فصرخت عائشة بأعلى صوتها ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته، ثم قالت: أنا والله صاحبة كلاب الحوأب طروقا، ردوني، تقول ذلك ثلاثا، فأناخت وأناخوا حولها وهم على ذلك، وهي تأبى حتى كانت الساعة التي أناخوا فيها من الغد. قال: فجاءها ابن الزبير فقال: النجاء النجاء فقد أدرككم والله علي بن أبي طالب. قال: فارتحلوا. وشتموني فانصرفت " (1).
(1) تاريخ الطبري 3 / 475. 260 وفي (الكامل): " فقال لها عبد الله بن الزبير: إنه كذب، ولم يزل بها وهي تمتنع، فقال لها: النجاء النجاء! قد أدرككم علي بن أبي طالب، فارتحلوا نحو البصرة " (1). ولم يسم ابن خلدون القائل، فقال: " فقالت عائشة ردوني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - وعنده نساؤه - ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب، ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته وأقامت بهم يوما وليلة إلى أن قيل: النجا النجا قد أدرككم علي، فارتحلوا نحو البصرة " (2). وفي (مروج الذهب) " فقال [ابن] الزبير: بالله ما هذا الحوأب ولقد غلط فيما أخبرك به، وكان طلحة في ساقة الناس فلحقها فأقسم أن ذلك ليس بالحوأب، وشهد معهما خمسون رجلا ممن كان معهم، فكان ذلك أول شهادة زور أقيمت في الاسلام " (3). وقال ابن قتيبة... " وأتى عبد الله بن الزبير فحلف لها بالله لقد خلفتيه أول الليل، وأتاها ببينة زور من الأعراب فشهدوا بذلك، فزعموا أنها أول شهادة زور شهد بها في الاسلام " (4). وفي (شرح النهج) " فقال لها الزبير: مهلا يرحمك الله، فإنا قد جزنا ماء الحوأب بفراسخ ثيرة، فقالت: أعندك من يشهد بأن هذه الكلاب النابحة ليست على ماء الحوأب؟ فلفق لها الزبير وطلحة خمسين أعرابيا جعلا لهم جعلا فحلفوا لها وشهدوا أن هذا الماء ليس [ب] ماء الحوأب، فكانت هذه أول شهادة زور في الاسلام، فسارت عائشة لوجهها " (5).
(1) الكامل 3 / 107. (2) تاريخ ابن خلدون المجلد 2 / 1065. (3) مروج الذهب 2 / 358. (4) الإمامة والسياسة 1 / 63. (5) شرح النهج 9 / 311. 261 21 - زوجة رفاعة لقد كذبت هذه الصحابية على زوجها الثاني بحضرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيما أخرجه البخاري في كتاب اللباس باب الثياب الخضر من [صحيحه] ورواه البغوي والرازي والخازن والسيوطي والشربيني والزمخشري كلهم بتفسير قوله عز وجل " فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره " (1). قال الزمخشري: " روي عن عائشة رضي الله عنها: أن امرأة رفاعة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن رفاعة طلقني فبت طلاقي وإن عبد الرحمن ابن الزبير تزوجني، وإنما معه مثل هدبة الثوب، وإنه طلقني قبل أن يمسني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك. وروي أنها لبثت ما شاء الله ثم رجعت فقالت: إنه كان قد مسني، فقال لها كذبت في قولك الأول فلن أصدقك في الآخر، فلبثت حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتت أبا بكر رضي الله عنه فقالت: أأرجع إلى زوجي الأول؟ فقال: قد عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لك ما قال، فلا ترجعي إليه. فلما بعض أبو بكر رضي الله عنه قالت مثله لعمر رضي الله عنه فقال: إن أتيتيني بعد مرتك هذه لأرجمنك، فمنعها " (2). 22 - الغميصا - أو الرميصا وقد كذبت هذه الصحابية على زوجها الثاني عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد أخرج النسائي ما نصه: " أخبرنا علي بن حجر قال أخبرنا
(1) سورة البقرة: 230. (2) الكشاف 1 / 275. 262 هشيم قال أخبرنا يحيى عن أبي إسحاق عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس أن الغميصا - أو الرميصا - أتت النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي زوجها أنه لا يصل إليها، فلم تلبث أن جاء زوجها فقال: يا رسول الله هي كاذبة وهو يصل إليها، ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ليس ذلك لها حتى تذوق عسيلته " (1). 23 - فاطمة بنت قيس لقد كذبها عمر بن الخطاب في حديثها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يجعل للمطلقة ثلاثا سكنى ولا نفقة، وقد روى ذلك من الفقهاء الطلحاوي في (معاني الآثار) والسرخسي في (المبسوط) والكاساني في (بدائع الصنائع) والمرغيناني في (الهداية) في " كتاب الطلاق " ومن الأصوليين الآمدي في (الأحكام) والغزالي في (المستصفى) والبخاري في (كشف الأسرار) وعبد العلى في (فواتح الرحموت) وغيرهم. بل لقد كذبها جماعة من الأصحاب فيما ذكروا. قال العيني: " وحديث فاطمة لا يجوز الاحتجاج به من وجوه، الأول: إن كبار الصحابة رضي الله عنهم أنكروا عليها كعمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وأسامة بن زيد وعائشة رضي الله عنهم، حتى قالت لفاطمة فيما رواه البخاري ألا تتقي الله. وروي أنه قالت لها: لا خير لك فيه. ومثل هذا الكلام لا يقال إلا لمن ارتكب بدعة محرمة " (2). 24 - بسرة بنت صفوان ولقد كذب جماعة من الصحابة والصحابيات هذه الصحابية المهاجرة
(1) السنن للنسائي 2 / 97. (2) شرح كنز الدقائق للعيني 1 / 233. 263 في حديثها، فيما رواه الطحاوي في (معاني الآثار) والعيني في (شرح الهداية) في كتاب الطهارة، وعبد العزيز البخاري في (كشف الأسرار) في " تقسيم الراوي ". قال عبد العزيز البخاري: " وكذلك حديث بسرة أي وكحديث فاطمة في المبتوتة حديث بسرة بنت صفوان الذي تمسك به الشافعي في أن مس الفرج نفسه أو غيره بباطن الكف بلا حائل حدث، من هذا القسم وهو المستنكر، فإن عمر وعليا وابن مسعود وابن عباس وعمارا وأبا الدرداء وسعد بن أبي وقاص وعمران بن الحصين رضي الله عنهم لم يعملوا به، حتى قال علي رضي الله عنه لا أبالي أمسسته أم أرنبة أنفي، وكذا نقل عن جماعة من الصحابة، وقال بعضهم: إن كان نجسا فاقطعه. وتذاكر عروة ومروان الوضوء من مس الفرج، فقال مروان: حدثتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالوضوء من مس الفرج، فلم يرفع عروة بحديثها رأسا، وروى ابن زيد عن ربيعة أنه كان يقول: هل يأخذ بحديث بسرة أحد، والله لو أن بسرة شهدت على هذه النعل لما أجزت شهادتها، إنما قوام الدين الصلاة، وإنما قوام الصلاة الطهور، فلم يكن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من يقيم هذا الدين إلا بسرة!! قال ابن زيد: على هذا أدركنا مشايخنا، ما منهم أحد يرى في مس الذكر وضوءا. وعن يحيى بن معين أنه قال: ثلاثة من الأخيار لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها: خبر مس الذكر. ووقعت هذه المسألة في زمن عبد الملك بن مروان، فشاور الصحابة، فأجمع من بقي منهم على أنه لا وضوء فيه وقالوا: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت. يعنون بسرة بنت صفوان " (1).
(1) كشف الأسرار 2 / 711. 264 25 - عائشة وحفصة لقد ادعتا باطلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله فردهما النبي فيما أخرجه الحاكم وابن عبد البر وابن الأثير وابن حجر العسقلاني، وهذا نص ما جاء في (المستدرك) قال: " أخبرنا دعلج بن أحمد السجزي ثنا عبد العزيز ابن معاوية البصري ثنا شاذ بن فياض أبو عبيدة ثنا هاشم بن سعيد عن كنانة عن صفية رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: يا بنت حي ما يبكيك؟ قلت: بلغت [بلغني] أن حفصة وعائشة ينالان مني ويقولان نحن خير منها، نحن بنات عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه. قال: ألا قلت: كيف تكونون [تكونان] خيرا مني وأبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد " (1). * وقصة تواطؤهما في أمر العسل مشهورة، وقد نزل بها القرآن ورويت في الصحاح والمسانيد، فأخرجها البخاري في كتاب التفسير، وكتاب الأيمان والنذور، ومسلم في كتاب الطلاق. ورواه جلال الدين السيوطي في (الدر المنثور) بتفسير سورة التحريم عن ابن سعد وعبد بن حميد والبخاري وابن المنذر وابن مردويه.... قال البخاري في كتاب الطلاق: " حدثني الحسن بن محمد بن [ال] صباح حدثنا حجاج عن ابن جريح قال: زعم عطاء أنه سمع عبيد بن عمير يقول: سمعت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب ابنة جحش ويشرب عندها عسلا، فتواصيت أنا وحفصة إن أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل: إني [ل] أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك، فقال: لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له، فنزلت * [يا أيها النبي لم تحرم ما
(1) المستدرك 4 / 29. 265 أحل الله لك] * إلى: " أن تتوبا إلى الله " لعائشة وحفصة " وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا " لقوله: بل شربت عسلا " (1). * وكذبت عائشة عندما أرسلها النبي صلى الله عليه وآله لتطلع على امرأة من كلب خطبها... روى ذلك جماعة منهم ابن قتيبة والخطيب بترجمة (محمد بن أحمد أبي بكر المؤدب) من [تاريخه] وابن القيم في (أخبار النساء ص 9)، وهذه رواية ابن قتيبة: " عن عائشة رضي الله عنها قالت خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من كلب، فبعثني أنظر إليها، فقال لي: كيف رأيت؟ فقلت: ما رأيت طائلا، فقال: لقد رأيت خالا بخدها اقشعر كل شعرة منك على حدة، فقالت: ما دونك سر " (2). * وكذبت عائشة في كلام لها رواه أحمد حيث قال: " ثنا محمد بن عبيد ثنا وائل [حدثني وائل بن داود] قال: سمعت البهي يحدث أن [عن] عائشة قال: ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في جيش قط إلا أمره عليهم، وأن [لو] بقي بعده استخلفه " (3). فقولها " وإن بقي بعده استخلفه " كذب صريح لدى عامة المسلمين، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يكن ليستخلف زيدا أبدا، لأنه ليس من قريش، ولأنه مفضول إجماعا.... * وكذبت عائشة حيث أنكرت " أن عليا كان وصيا " فيما رواه أحمد في [المسند] قائلا: " ثنا إسماعيل عن ابن عون عن إبراهيم عن الأسود قال: ذكروا عند عائشة أن عليا كان وصيا، فقالت: متى أوصى إليه؟ فقد كنت مسندته إلى صدري، أو قالت في حجري، فدعا بالطست، فلقد انخنث في حجري وما شعرت أنه مات، فمتى أوصى إليه؟ ".
(1) صحيح البخاري 7 / 56 - 57. (2) عيون الأخبار لابن قتيبة. كتاب النساء: 19. (3) المسند 6 / 226 - 227. 266 ولو أردنا ذكر وجوه فساد إنكارها وصاية أمير المؤمنين عليه السلام لطال بنا المقام، فلنكتف بكلمة موجزة لابن روزبهان اعترف فيها هذا المكابر العنيد بوصاية علي عليه السلام، فإنه قال في [إبطال الباطل] في الرد على العلامة الحلي رحمه الله " أقول: ما ذكره المصنف من علم أمير المؤمنين فلا شك في أنه من علماء الأمة والناس محتاجون إليه فيه، كيف لا وهو وصي النبي صلى الله عليه وسلم في إبلاغ العلم وبدائع حقائق المعارف، فلا نزاع فيه لأحد ". وقولها: " فقد كنت مسندته إلى صدري... " كذب آخر، ومن العجيب اعترافها هي بذلك كما في بعض الأحاديث، فقد قال الحافظ الكنجي: " أخبرنا أبو محمد عبد العزيز بن محمد بن الحسن الصالحي، أخبرنا الحافظ أبو القاسم الدمشقي، أخبرنا أبو غالب بن البنا، أخبرنا أبو الغنائم بن المأمون، أخبرنا إمام أهل الحديث أبو الحسن الدارقطني، أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد ابن بشر الجبلي، حدثنا علي بن الحسين بن عبيد بن كعب حدثنا إسماعيل بن ريان، حدثنا عبد الله بن مسلم الملائي، عن أبيه عن إبراهيم عن علقمة والأسود عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو في بيتها لما حضره الموت - ادعوا لي حبيبي، فدعوت له أبا بكر، فنظر إليه ثم وضع رأسه، ثم قال: ادعوا لي حبيبي، فدعوت له عمر، فلما نظر إليه وضع رأسه، ثم قال: ادعوا لي حبيبي فقلت: ويلكم؟ ادعوا له عليا، فوالله ما يريد غيره، فلما رآه فرج [أفرج] الثوب الذي كان عليه ثم أدخله فيه [منه]، فلم يزل محتضنه حتى قبض ويده عليه " (1). * ولقد خانت عائشة حين كتمت اسم علي عليه السلام في حديثها عن خروج رسول الله صلى الله عليه وآله في مرضه متوكأ على رجلين، وذلك لأنها - كما قال ابن عباس - " لا تطيب له نفسا ".
(1) كفاية الطالب 262. 267 وقد أخرج ذلك الشيخان وأحمد وهذا لفظه: " ثنا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن عائشة قالت: لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة، فاستأذن نسائه أن يمرض في بيتي فأذن له، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمدا على العباس وعلى رجل آخر، ورجلاه تخطان في الأرض، وقال عبيد الله [ف] قال ابن عباس: أتدري من ذلك الرجل؟ هو علي بن أبي طالب ولكن عائشة لا تطيب له [لها] نفسا " (1). وأضاف شراح البخاري: العيني وابن حجر القسطلاني في شرحه ما يلي بلفظ الأول: " قلت: وفي رواية الإسماعيلي من رواية عبد الرزاق عن معمر: ولكن عائشة لا تطيب نفسا له بخير. وفي رواية ابن إسحاق في المغازي عن الزهري: ولكنها لا تقدر على أن تذكره بخير، وقال بعضهم: وفي هذا رد على من زعم أنها أبهمت الثاني لكونه لم يتعين في جميع المسافة ولا معظمها قلت: أشار بهذا إلى الرد على النووي ولكنه ما صرح باسمه لاعتنائه به ومحاماته له " (2). ثم قال ابن حجر: " ولم يقف الكرماني على هذه الزيادة فعبر عنها بعبارة شنيعة، وفي هذا رد على من تنطع فقال: لا يجوز أن يظن ذلك بعائشة، ورد على من زعم أنها أبهمت الثاني لكونه لم يتعين في جميع المسافة، إذ كان تارة يتوكأ على الفضل وتارة على أسامة وتارة على علي، وفي جميع ذلك الرجل الآخر هو العباس، واختص بذلك إكراما له. وهذا توهم ممن قاله، والواقع خلافه، لأن ابن عباس في جميع الروايات الصحيحة جازم بأن المبهم علي فهو المعتمد والله أعلم " (3). * ولقد اتهم الزهري - وهو من مشاهير التابعين والمنحرفين عن
(1) المسند 6 / 34. (2) عمدة القاري في شرح البخاري 5 / 192. (3) فتح الباري في شرح البخاري 2 / 123 - 124. 268 أهل البيت عليهم السلام - عائشة في حديثين، فقد قال أبو جعفر الإسكافي في (التفضيل) على ما نقل عنه ابن أبي الحديد المعتزلي: " روى الزهري عن [أن] عروة بن الزبير حدثه قال: حدثتني عائشة، قالت: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله إذ أقبل العباس وعلي، فقال: يا عائشة إن هذين يموتان على غير ملتي، أو قال: ديني. وروى عبد الرزاق عن معمر قال: كان عند الزهري حديثان عن عروة عن عائشة في علي عليه السلام، فسألته عنهما يوما فقال: ما نصنع بهما وبحديثهما؟ [و] الله أعلم بهما، إني لأتهمهما في بني هاشم. قال: فأما الحديث الأول فقد ذكرناه. وأما الحديث الثاني فهو: إن عروة زعم أن عائشة حدثته قالت: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل العباس وعلي فقال: يا عائشة إن سرك أن تنظري إلى رجلين من أهل النار فانظري إلى هذين قد طلعا، فنظرت فإذا العباس وعلي بن أبي طالب " (1). أقول: ولما كانت وجوه إثبات كذب وفسق كثير من الصحابة والصحابيات كثيرة لا تحصى، فإننا نقف هنا ونمسك عن ذكر البقية ونختم البحث بما ذكره أبو الفداء الأيوبي عن الحسن البصري والشافعي وهذا نصه: " قال القاضي جمال الدين ابن واصل: وروى ابن الجوزي بإسناده عن الحسن البصري أنه قال: أربع خصال كن في معاوية لو لم يكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة وهي: أخذه الخلافة بالسيف من غير مشاورة وفي الناس بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه ابنه يزيد وكان سكيرا خميرا يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زيادا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقتله حجر بن عدي وأصحابه، فيا ويلا له من حجر وأصحاب حجر.
(1) شرح النهج 4 / 63. 269 وروي عن الشافعي رحمة الله عليه أنه أسر إلى الربيع: [أنه] لا يقبل شهادة أربعة من الصحابة وهم: معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة وزياد " (1). والشافعي شيخ المزني... فثبت بطلان قول المزني " كلهم ثقة مؤتمن " والحمد لله رب العالمين.
(1) المختصر في أخبار البشر 1 / 186. 270 تفنيد كلام ابن عبد البر حول حديث النجوم في توجيه معناه
271 وأورد ابن عبد البر عن البزار قوله: " والكلام أيضا منكر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناده صحيح: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين [المهديين] بعدي، فعضوا عليها بالنواجذ وهذا الكلام يعارض حديث عبد الرحيم لو ثبت فكيف ولم يثبت؟ والنبي صلى الله عليه وسلم لا يبيح الاختلاف بعده من أصحابه. ثم اعترض عليه بقوله: " وليس كلام البزار بصحيح على كل حال، لأن الاقتداء بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منفردين، إنما هو لمن جهل ما يسأل عنه، ومن كانت هذه حاله فالتقليد لازم له، ولم يأمر أصحابه أن يقتدي بعضهم ببعض إذا تأولوا تأويلا سائغا جائزا ممكنا في الأصول، وإنما كل واحد منهم نجم جائز أن يقتدي به العامي الجاهل، بمعنى ما يحتاج إليه من دينه، وكذلك سائر العلماء من [مع] العامة. والله أعلم " (1).
(1) جامع بيان العلم 358. 273 أقول: واعتراضه على كلام البزار غير وارد، وقد نشأ من عدم فهمه مرامه، فإن معنى كلامه هو: أن حديث النجوم يقتضي جواز اختلاف الصحابة في الأحكام الشرعية، وأن الناس من أيهم أخذوا كانوا على الهدى، لكن النبي صلى الله عليه وآله لا يبيح الاختلاف من بعده منهم، فالحديث منكر عن النبي صلى الله عليه وسلم. هذا أصل استدلال البزار على نكارة هذا الحديث من جهة معناه بعد أن أبطله من جهة سنده، وأما كلام ابن عبد البر فغير متوجه عليه، إذ لو سلمنا قوله بأن الأمر بالاقتداء في الحديث متوجه إلى جهال الأمة، وإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر باقتداء بعض الأصحاب ببعض فإن الاشكال - وهو لزوم إباحة الاختلاف - باق على حاله. وذلك: لأن حديث النجوم يدل بوضوح على أن كل واحد من الصحابة أهل للاقتداء به، وإن اختلافهم غير مانع عن ذلك، فيجوز الاقتداء بكل واحد من المختلفين، وهذا الأمر يجوز الاختلاف والتفرق في الدين ويؤدي إلى اختلاف الأمة لا محالة. وباختصار: أمره صلى الله عليه وآله الأمة بالاقتداء بالأصحاب - وهم مختلفون فيما بينهم أشد الاختلاف - يستلزم: 1 - جواز اختلاف الأصحاب في المسائل الشرعية والأحكام الدينية. 2 - إباحة وقوع الاختلاف في الأمة. ولكن الاختلاف منهي عنه كتابا وسنة " فالحديث منكر عن النبي صلى الله عليه وآله ". وإليك بعض كلمات ابن عبد البر نفسه في هذا الشأن فإنه قال ما نصه: " وقد ذكر المزني رحمه الله في هذا حججا أنا أذكرها هنا إن شاء الله. قال المزني: قال الله تبارك وتعالى: * [ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا] * فذم الاختلاف، وقال * [ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا...] *
274 الآية. وقال: * [فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا] * وعن مجاهد وعطاء وغيرهما في تأويل ذلك قال: إلى الكتاب والسنة. قال المزني: فذم الله الاختلاف وأمر [عنده] بالرجوع إلى الكتاب والسنة فلو كان الاختلاف من دينه ما ذمه، ولو كان التنازع من حكمه ما أمرهم بالرجوع عنده إلى الكتاب والسنة. قال: وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إحذروا زلة العالم. وعن عمر ومعاذ وسلمان مثل ذلك في التخويف من زلة العالم. قال: وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطأ بعضهم بعضا، ونظر بعضهم في أقاويل بعض وتعقبها، ولو كان قولهم كله صوابا عندهم لما فعلوا ذلك، وقد جاء عن ابن مسعود في غير مسألة أنه قال: أقول فيها برأيي فإن يك صوابا فمن الله وإن يك خطأ فمني [و] استغفر الله.... وقال ابن عبد البر أيضا: أخبرني قاسم بن محمد قال حدثنا خالد بن سعيد قال حدثنا محمد بن وطيس قال حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال سمعت اشهب يقول: سئل مالك عن اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خطأ وصواب، فانظر في ذلك. وذكر يحيى بن إبراهيم بن حزين قال حدثني اصبغ قال قال أبو القاسم: سمعت مالكا والليث يقولان في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس كما قال ناس فيه توسعة، ليس كذلك، إنما هو خطأ وصواب. قال يحيى: وبلغني أن الليث بن سعد قال: إذا جاء الاختلاف أخذنا فيه بالأحوط... قال إسماعيل القاضي: إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسعة في اجتهاد الرأي، فأما أن تكون توسعة لأن يقول الانسان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا، ولكن
275 اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا. قال أبو عمرو: كلام إسماعيل هذا حسن جدا. وفي سماع اشهب: سئل مالك عمن أخذ بحديث حدثه ثقة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتراه من ذلك في سعة؟ فقال: لا والله حتى يصيب الحق، ما الحق إلا واحد، قولان يكونان صوابين جميعا؟ ما الحق والصواب إلا واحد. قال: وكذلك اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم من المتخالفين، وما رد فيه بعضهم على بعض لا يكاد يحيط به كتاب فضلا عن أن يجمع في باب، وفيما ذكرنا منه دليل على ما عنه سكتنا. وفي رجوع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم إلى بعض دليل واضح على أن اختلافهم عندهم خطأ وصواب، ولولا ذلك كان يقول كل واحد منهم: جائز ما قلت أنت وجائز ما قلت أنا، وكلانا نجم يهتدى به، فلا علينا شئ من اختلافنا. قال أبو عمرو: والصواب مما اختلف فيه وتدافع وجه واحد، ولو كان الصواب في وجهين متدافعين ما خطأ السلف بعضهم بعضا في اجتهادهم وقضائهم وفتواهم، والنظر يأبى أن يكون الشئ وضده صوابا، ولقد أحسن القائل: إثبات ضدين معا في حال أقبح ما يأتي من المحال " (1). قلت: أليس هذا تصريحا بنكارة حديث النجوم وهو ما ذكره الحافظ البزار؟ ثم ذكر موارد من رجوع بعض الصحابة إلى قول بعض... ومع هذا كيف يكون كل واحد منهم نجما؟!
(1) جامع بيان العلم 348 - 349. 276 دحض المعارضة بقول الأمير عليه السلام إنما الشورى للمهاجرين والأنصار
277 قوله: وإذا دل هذا الحديث على إمامة العترة، فكيف يصح الحديث الصحيح المروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام بصورة متواترة عند الشيعة يقول فيه: إنما الشورى للمهاجرين والأنصار.؟ أقول: هذا مردود بوجوه. الأول: لقد أثبتنا دلالة حديث الثقلين على إمامة الأئمة الاثني عشر من العترة الطاهرة، بالدلائل القاهرة والبراهين الساطعة التي لا تبقي ريبا ولا تذر شكا في ذلك، فتشكيك (الدهلوي) فيه واه. الثاني: تعبيره عن " إنما الشورى للمهاجرين والأنصار " ب " الحديث المروي " تخديع وتضليل، لأنه إنما ورد عنه ذلك في بعض كتب السير والتواريخ وفي ضمن كتاب له إلى معاوية بن أبي سفيان، على سبيل الالزام له به. الثالث: دعوى تواتره عند الشيعة باطلة. الرابع: إن هذا الكلام لا ينافي دلالة حديث الثقلين على إمامة الأئمة عليهم السلام، لأن المهاجرين والأنصار مأمورون بأجمعهم باتباع الثقلين، فلو
279 أجمعوا على رجل مع الاهتداء بهدى الكتاب والعترة صحت إمامته، ومن الواضح أن ذلك لن يتحقق إلا بالنسبة إلى رجل من أهل بيت العصمة، ومنه يظهر بطلان خلافة غيره. الخامس: إن ما اجتمع عليه المهاجرون والأنصار كلهم حق، لأن أهل البيت عليهم السلام من " المهاجرين " بل هم سادتهم بلا نزاع. وعلى هذا يكون التمسك بهكذا إجماع عين التمسك بالعترة المأمور به في حديث الثقلين، وعين التمسك بالكتاب بمقتضى الحديث المذكور، فلا تنافي. السادس: إن هذا الكلام يدل على لزوم المشورة من جميع المهاجرين والأنصار، ولا ريب في أن بيعة أبي بكر لم تكن عن مشورة، بل كانت - على حد تعبير عمر - " فلتة وقى الله شرها، فمن دعا إلى مثلها فاقتلوه " ثم قال: " من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا ". قال البخاري: " حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثني إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس، قال: كنت اقرئ رجالا من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها إذ رجع إلى عبد الرحمن فقال: لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول لي قد مات عمر لقد بايعت فلانا فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت. فغضب عمر ثم قال إني إنشاء الله لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغضبوهم أمورهم. قال عبد الرحمن: فقلت يا أمير المؤمنين! لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاء الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها،
280 فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكنا فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها. فقال عمر: أما والله إنشاء الله لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة. قال ابن عباس: فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة فلما كان يوم الجمعة عجلنا الرواح حين زاغت الشمس حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسا إلى ركن المنبر فجلست حوله تمس ركبتي ركبته، فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب فلما رأيته مقبلا قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف قط قبله، فأنكر علي وقال: ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله! فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذنون قام فأنثى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد، فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها، لا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب علي. إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، فلذا رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل " والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله! " فيضلوا بترك فضيلة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف. ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر أن ترغبوا عن آبائكم أو أن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم الإثم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تطروني كما أطري عيسى بن مريم وقولوا: عبد الله ورسوله. ثم إنه بلغني أن قائلا منكم يقول: والله لو مات عمر بايعت فلانا! فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت، ألا وانها كانت
281 كذلك ولكن الله وقى شرها! وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا. وإنه قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف عنا علي والزبير ومن معها، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر! انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نريدهم فلما دنونا منهم لقينا رجلان صالحان فذكر ما تمالأ عليه القوم، فقال: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم، اقضوا أمركم فقلت: والله لنأتينهم! فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ قالوا يوعك. فلما جلسنا قليلا تشهد خطيبهم فأنثى على الله. بما هو أهله ثم قال: أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الاسلام وأنتم معشر المهاجرين رهط وقد دفت دافة من قومكم فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحصنونا من الأمر، فلما سكت أردت أن أتكلم وكنت زورت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحد، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رسلك! فكرهت أن أغضبه فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال بديهة مثلها أو أفضل حتى سكت! فقال: ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب نسبا ودارا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح - وهو جالس بيننا - فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر! اللهم إلا أن تسول لي نفسي عند الموت شيئا
282 لا أجده الآن. فقال قائل من الأنصار! أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش! فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف، فقلت: أبسط يدك يا أبا بكر! فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة فقلت: قتل الله سعد بن عبادة! قال عمر: وأنا والله ما وجدنا فيما حضر من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا فإما بايعناهم على ما لا نرضى (1) وإما نخالفهم، فيكون فساد، فمن بايع رجل على غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغره أن يقتلا " (1). وقال ابن هشام " قال ابن إسحاق: وكان من حديث السقيفة حين اجتمعت بها الأنصار أن عبد الله بن أبي بكر حدثني عن ابن شهاب الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن عباس، قال أخبرني عبد الرحمن بن عوف قال: وكنت منزله بمنى أنتظره وهو عند عمر في آخر حجة حجها عمر، قال: فرجع عبد الرحمن بن عوف من عند عمر فوجدني في منزله في منى أنتظره وكنت أقرئه القرآن، قال ابن عباس: فقال لي عبد الرحمن بن عوف: لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين فقال: يا أمير المؤمنين! هل لك في فلان يقول: والله لو قد مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلانا والله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت. قال: فغضب عمر فقال: إني إنشاء الله لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغضبوهم أمرهم، قال عبد الرحمن فقلت: يا أمير المؤمنين! لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم وانهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس وإني أخشى أن تقوم فتقول
(1) صحيح البخاري 8 / 210. 283 مقالة يطير بها أولئك عنك كل مطير ولا يعوها ولا يضعوها على مواضعها، فامهل حتى تقدم المدينة فإنها دار السنة وتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت بالمدينة متمكنا فيعي أهل الفقه مقالتك ويضعوها على مواضعها. قال: فقال عمر: أما والله إنشاء الله لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة قال ابن عباس: فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة، فلما كان يوم الجمعة عجلت الرواح حين زالت الشمس فأجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسا إلى ركن المنبر فجلست حذوه تمس ركبتي ركبته فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب فلما رأيته مقبلا قلت لسعيد بن زيد: ليقولن العشية على هذا المنبر مقالة لم يقلها منذ استخلف! قال: فأنكر علي سعيد بن زيد ذلك وقال: ما عسى أن يقول مما لم يقل قبله! فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذن قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد! فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها ولا أدري لعلها بين يدي أجلي، فمن عقلها ووعاها فليأخذ بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعيها فلا يحل لأحد أن يكذب علي. إن الله بعث محمدا وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها وعلمناها ووعيناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد رجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ثم إنا قد كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله، لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أو كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تطروني كما أطري عيسى بن مريم وقولوا عبد الله ورسوله. ثم إنه قد بلغني أن فلانا قال: والله لو قد مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلانا فلا يغرن امرء أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت! وإنها قد كانت كذلك إلا أن الله قد وقى شرها،
284 وليس فيكم من تنقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، فمن بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فإنه لا بيعة له هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا. إنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن الأنصار خالفونا فاجتمعوا بأشرافهم (بأسرهم. ظ) في سقيفة بني ساعدة، وتخلف عنا علي بن أبي طالب والزبير بن العوام ومن معهما. واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا منهم رجلان صالحان فذكرا لنا ما تمالا عليه القوم وقالا: أين تريدون؟ يا معشر المهاجرين! قلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، قالا: فلا عليكم أن لا تقربوهم يا معشر المهاجرين! اقضوا أمركم! قال: قلت: والله لنأتينهم. فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل فقلت: من هذا؟ فقالوا: سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ فقالوا: وجع، فلما جلسنا تشهد خطيبهم فأثنى على الله بما هو له أهل ثم قال: أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الاسلام وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا وقد دفت دافة من قومكم، قال: وإذا هم يريدون أن يجتازونا (يختزلونا. ظ) من أصلنا ويغتصبونا الأمر. فلما سكت أردت أن أتكلم وقد زورت في نفسي مقالة قد أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر وكنت أداري منه بعض الحد، فقال أبو بكر على رسلك يا عمر! فكرهت أن أغضبه، فتكلم وهو كان أعلم (أحلم. ظ) مني وأوفر. فوالله ما ترك من كلمة أعجبتني من تزويري إلا قالها في بديهة أو مثلها أو أفضل حتى سكت قال: أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم، وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا ولم أكره شيئا مما قال غيرها، كان: والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلى أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر.
285 قال: فقال قائل من الأنصار، أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش! قال: فكثر اللفظ وارتفعت الأصوات حتى تخوفت الاختلاف فقلت: أبسط يدك يا أبا بكر! فبسط يده فبايعته ثم بايعه المهاجرون ثم بايعه الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة! قال: فقلت: قتل الله سعد بن عبادة! " (1). وقال أحمد بن إسحاق بن جعفر المعروف باليعقوبي: " واستأذن قوم من قريش عمر في الخروج للجهاد، فقال: قد تقدم لكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني آخذ بحلاقيم قريش على أفواه هذه الحرة، لا تخرجوا فتسللوا بالناس يمينا وشمالا، قال عبد الرحمن بن عوف: فقلت: نعم يا أمير المؤمنين! ولم تمنعنا من الجهاد؟ فقال: لئن أسكت عنك فلا أجيبك خير لك من أن أجيبك، ثم اندفع يحدث عن أبي بكر حتى قال: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها فمن عاد بمثلها فاقتلوه " (2). وقال محمد بن جرير الطبري: " حدثني علي بن مسلم، قال: ثنا: عباد ابن عباد، قال: ثنا: عباد بن راشد قال: حدثنا عن الزهري عن عبيد الله بن [عبد الله بن] عتبة عن ابن عباس، قال: كنت اقرئ عبد الرحمن ابن عوف القرآن، قال: فحج عمر وحججنا معه، قال: فإني لفي منزل بمنى إذ جاءني عبد الرحمن بن عوف، فقال: شهدت أمير المؤمنين اليوم وقام إليه رجل فقال: إني سمعت فلانا يقول: لو قد مات أمير المؤمنين لقد بايعت فلانا، قال: فقال أمير المؤمنين: إني لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوا الناس أمرهم، قال فقلت: يا أمير المؤمنين إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم وإنهم الذين يغلبون على مجلسك وإني لخائف إن قلت اليوم مقالة ألا يعوها ولا يحفظوها ولا يضعوها على مواضعها،
(1) سيرة ابن هشام 2 / 658. (2) تاريخ اليعقوبي 2 / 147 - 148. 286 وأن يطيروا بها كل مطير. ولكن أمهل حتى تقدم المدينة تقدم دار الهجرة والسنة وتخلص بأصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار فتقول ما قلت متمكنا فيعوا مقالتك ويضعوها على مواضعها فقال: والله لأقومن بها في أول مقام أقومه بالمدينة قال: فلما قدمنا المدينة وجاء يوم الجمعة هجرت للحديث الذي حدثنيه عبد الرحمن فوجدت سعيد ابن زيد قد سبقني بالتهجير، فجلست إلى جنبه عند المنبر ركبتي إلى ركبته، فلما زالت الشمس لم يلبث عمر أن خرج فقلت لسعيد وهو مقبل: ليقولن أمير المؤمنين اليوم على هذا المنبر مقالة لم يقل قبله، فغضب وقال: أي مقالة يقول لم يقل قبله!؟ فلما جلس عمر على المنبر أذن المؤذ [نو] ن فلما قضى المؤذن أذانه قام عمر فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد، فإني أريد أن أقول مقالة قد قدر أن أقولها من وعاها وعقلها وحفظها، فليحدث بها حيث تنتهي به راحلته ومن لم يعها فإني لا أحل لأحد أن يكذب علي، إن الله عز وجل بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب وكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فرجم رسول الله ورجمنا بعده، وإني قد خشيت أن يطول بالناس زمان فيقول قائل: والله ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله وقد كنا نقول (نقرأ. ظ): لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم. ثم إنه بلغني أن قائلا منكم يقول: لو قد مات أمير المؤمنين بايعت فلانا فلا يغرن أمراءا أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، فقد كانت كذلك غير أن الله وقى شرها، وليس منكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر. وإنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن عليا والزبير ومن معهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة وتخلفت عنا الأنصار بأسرها واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نؤمهم فلقينا رجلان صالحان قد شهدا بدرا فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين فقلنا نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، قالا: فارجعوا فاقضوا أمركم بينكم فقلنا: والله لنأتينهم.
287 قال: فأتيناهم وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة. قال: وإذا بين أظهرهم رجل مزمل، قال: قلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة، فقلت: ما شأنه؟ قالوا: وجع، فقام رجل منهم فحمد الله وقال: أما بعد، فنحن الأنصار وكتيبة الاسلام وأنتم يا معشر قريش رهط نبينا وقد دفت إلينا من قومكم دافة، قال: فلما رأيتم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ويغصبونا الأمر، وقد كنت زورت في نفسي مقالة أقدمها بين يدي أبي بكر، وقد كنت أداري منه بعض الحد وكان هو أوقر مني وأحلم، فلما أردت أن أتكلم قال على رسلك فكرهت أن أعصيه فقام فحمد الله وأثنى عليه فما ترك شيئا كنت زورت في نفسي أن أتكلم به لو تكلمت إلا قد جاء به أو بأحسن منه وقال: أما بعد، يا معشر الأنصار! فإنكم لا تذكرون منكم فضلا إلا وأنتم له أهل وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش وهم أوسط دارا ونسبا، ولكن قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وإني والله ما كرهت من كلامه شيئا غير هذه الكلمة إن كنت لأقدم فتضرب عنقي فيما لا يقربني إلى إثم أحب إلي من أو أؤمر على قوم فيهم أبو بكر، فلما قضى أبو بكر كلامه قام منهم رجل فقال: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب؟ منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش! قال: فارتفعت الأصوات وأكثر اللغظ. فلما أشفقت الاختلاف قلت لأبي بكر: أبسط يدك أبايعك! فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون وبايعه الأنصار، ثم نزونا على سعد حتى قال قائلهم: قتلتم سعد بن عبادة، فقلت. قتل الله سعدا! وإنا والله ما وجدنا أمرا هو أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة فإما أن نتابعهم على ما لا نرضى أو نخالفهم فيكون فساد " (1).
(1) تاريخ الطبري 2 / 445 - 447. 288 وقال أيضا: " ثنا عبيد الله بن سعيد، قال: ثنا عمي، قال: نا: سيف ابن عمر عن سهل وأبي عثمان عن الضحاك بن خليفة، قال: لما قام الحباب ابن المنذر انتضى سيفه وقال: أنا: جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، أنا أبو شبل في عرينة الأسد يعزى إلى الأسد! فحامله عمر فضرب يده فندر السيف فأخذه ثم وثب على سعد ووثبوا على سعد، وتتابع القوم على البيعة وبايع (تمانع. ظ) سعد، وكانت فلتة كفلتات الجاهلية قام أبو بكر دونها، وقال قائل حين وطئ سعد: قتلتم سعدا! فقال عمر: قتله الله إنه منافق واعترض عمر بالسيف صخرة فقطعه ". وقال أبو حاتم محمد بن حبان التميمي البستي: " أخبرنا محمد بن الحسن ابن قتيبة النحمي بعسقلان، ثنا: محمد بن المتوكل، ثنا: عبد الرزاق أنا: معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس، قال: كنت عند عبد الرحمن بن عوف في خلافة عمر بن الخطاب، فلما كان في آخر حجة حجها عمر أتاني عبد الرحمن بن عوف في منزلي عشاءا، فقال: لو شهدت أمير المؤمنين! اليوم وجاءه رجل وقال: يا أمير المؤمنين! إني سمعت فلانا يقول: لو قد مات أمير المؤمنين لبايعت فلانا! فقال عمر: إني لقائم العشية في الناس ومحذرهم - هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغتصبوا المسلمين أمرهم - فقلت: يا أمير المؤمنين! إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاهم وإنهم الذين يغلبون على مجلسك، وإني أخشى أن تقول فيهم اليوم مقالة لا يعونها ولا يضعونها مواضعها وأن يطيروا بها كل مطير، ولكن أمهل يا أمير المؤمنين! حتى تقدم المدينة فإنها دار السنة ودار الهجرة فتخلص بالمهاجرين والأنصار وتقول ما قلت متمكنا فيعوا مقالتك ويضعونها مواضعها. قال عمر: أما والله لأقومن به في أول مقام أقومه بالمدينة. قال ابن عباس: فلما قدمنا المدينة وجاء يوم الجمعة هجرت لما حدثني عبد الرحمن بن عوف، فوجدت سعيد بن زيد بن نقيل قد سبقني بالتهجر جالسا إلى جنب المنبر فجلست إلى جنبه تمس ركبتي ركبته، فلما زالت الشمس خرج
289 علينا عمر فقلت وهو مقبل: أما والله ليقولن اليوم أمير المؤمنين على هذا المنبر مقالة لم يقل قبله! قال فغضب سعيد بن زيد فقال: وأي مقالة يقول لم يقل قبله؟ فلما ارتقى عمر المنبر أخذ المؤذن في أذانه فلما فرغ من أذانه. قام عمر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد، فإني أريد أن أقول مقالة قد قدر لي أن أقولها، فمن وعاها فليحدث بها حيث تنتهي به راحلته ومن خشي أن لا يعيها فإني لا أحل لأحد أن يكذب علي: إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، وإني خائف أن يطول بالناس زمان فيقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله! فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا وإن الرجم على من أحصن إذا زنا وقامت عليه البينة أو كان الحمل أو الاعتراف. ثم إنا قد كنا نقرأ " ولا ترغبوا عن آبائكم " ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله ". ثم إنه بلغني أن فلانا منكم يقول: لو قد مات أمير المؤمنين لقد بايعت فلانا، فلا يغرن امرأ أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، فقد كانت كذلك إلا أن الله وقى شرها ودفع عن الاسلام والمسلمين ضرها، وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر. وإنه كان من خبرنا حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عليا والزبير ومن تبعهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة، وتخلفت عنا الأنصار في سقيفة بني ساعدة، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت: با أبا بكر! انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار، فانطلقنا نؤمهم فلقينا رجلين صالحين من الأنصار شهدا بدرا فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ قلنا: نريد إخواننا هؤلاء الأنصار قالا: فارجعوا مضوا الأمر أمركم بينكم: فقلت والله لنأتينهم فأتيناهم فإذا هم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة بين أظهرهم رجل مزمل قلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة، قال: قلت: ما شأنه؟ قالوا: وجع.
290 فقام خطيب الأنصار فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد! فنحن الأنصار وكتيبة الاسلام وأنتم يا معشر قريش رهط منا وقد دفت إلينا دافة منكم. وإذا هم يريدون أن يختزلون أصلنا ويختصلوا بأمر دوننا وقد كنت زورت في نفسي مقالة أريد أن أقوم بها بين يدي أبي بكر وكنت أداري من أبي بكر بعض الحد، وكان أوقر مني وأحلم، فلما أردت الكلام قال: على رسلك. فكرهت أن أغضبه، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه ووالله ما ترك كلمة قد كنت زورتها إلا جاء بها أو أحسن منها في بديهته، ثم قال: أما بعد! وأما ما ذكرتم فيكم من خير يا معشر الأنصار فأنتم له أهل ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب دارا ونسبا، ولقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم وأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح، فوالله ما كرهت مما قال شيئا غير هذه الكلمة، كنت لأن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى ثم أحب إلي من أن أقدم على قوم فيهم أبو بكر! فلما قضى أبو بكر مقالته فقام رجل من الأنصار فقال: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش، وإلا أجلنا الحرب فيما بيننا وبينكم جذعة! قال معمر: فقال قتادة: قال عمر: فإنه لا يصلح سيفان في غمد ولكن منا الأمراء ومنكم الوزراء! قال معمر عن الزهري في حديثه فارتفعت الأصوات بيننا وكثر اللغظ حتى أشفقت الاختلاف، فقلت: يا أبا بكر! أبسط يدك أبايعك! فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون وبايعه الأنصار. قال: ونزونا على سعد بن عبادة حتى قال قائل: قتلتم سعدا قال قلت: قتل الله سعدا، وإنا والله ما رأينا فيما حضرنا أمرا كان أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم أن يحدثوا بعدنا بيعة فإما أن نبايعهم على ما لا نرضى وإما أن نخالفهم فيكون فساد. فلا يغرن امرأ يقول: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقد كانت كذلك إلا أن الله وقى شرها؟ وليس فيكم من يقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر فمن بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فإنه لا يبايع لا هو ولا الذي بايعه بعده. قال
291 الزهري وأخبرني عروة أن الرجلين الذين لقياهم من الأنصار عويم بن ساعدة ومعن بن عدي، والذي قال " أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب " خباب ابن المنذر " (1). وقال الشهرستاني في كتاب [الملل والنحل] " الخلاف الخامس في الإمامة وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الاسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان! وقد سهل الله تعالى ذلك في الصدر الأول، فاختلف المهاجرون والأنصار فيها وقالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير واتفقوا على رئيسهم سعد بن عبادة الأنصاري فاستدركه أبو بكر وعمر في الحال بأن حضرا سقيفة بني ساعدة وقال عمر: كنت أزور في نفسي كلاما في الطريق فلما وصلنا إلى السقيفة أردت أن أتكلم فقال أبو بكر: مه يا عمر! فحمد الله وأثنى عليه وذكر ما كنت أقدره في نفسي كأنه يخبر عن غيب! فقبل أن يشتغل الأنصار بالكلام مددت يدي إليه فبايعته وبايعه الناس وسكنت النائرة. ألا إن بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه. فأيما رجل بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فإنهما تغرة أن يقتلا، وإنما سكنت الأنصار عن دعواهم لرواية أبي بكر عن النبي عليه السلام: الأئمة من قريش! وهذه البيعة هي التي جرت في السقيفة، ثم لما عاد إلى المسجد إنثال الناس عليه وبايعوه عن رغبة سوى جماعة من بني هاشم وأبي سفيان من بني أمية وأمير المؤمنين علي كرم الله وجهه كان مشغولا بما أمره النبي صلى الله عليه وسلم من تجهيزه ودفنه وملازمة قبره من غير منازعة ولا مدافعة ". وقال السيوطي في (تاريخ الخلفا): " روى الشيخان أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس مرجعه من الحج فقال في خطبته: قد بلغني
(1) الثقات لابن حبان - 292 أن فلانا منكم يقول: لو مات عمر بايعت فلانا فلا يغترن امرأ أن يقول أن بيعة أبي بكر كانت فلتة، ألا وإنها كذلك إلا أن الله وقى شرها، وليس فيكم اليوم من قطع إليه الأعناق مثل أبي بكر. وإنه كان من خبرنا حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عليا والزبير ومن معهما تخلفوا في بيت فاطمة وتخلف الأنصار عنا بأجمعها في سقيفة بني ساعدة واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت له: يا أبا بكر! انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار، فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا رجلان صالحان فذكرا لنا الذي صنع القوم فقال: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ قلت: نؤيد إخواننا من الأنصار فقالا: عليكم أن لا تقربوهم واقضوا أمركم يا معشر المهاجرين فقلت: والله لنأتينهم، فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا هم مجتمعون وإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل فقلت: من هذا؟ قالوا ابن عبادة، فقلت: ما له؟ قالوا: وجع، فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله وقال: أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الاسلام وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا وقد دفت دافة منكم تريدون أن تختزلونا من أصلنا وتحصنوننا من الأمر! فلما سكت أردت أن أتكلم، وقد كنت زورت مقالة أعجبتني أردت أن أقولها بين يدي أبي بكر، وقد كنت أداري منه بعض الحد، وهو كان أحلم مني وأوقر، فقال أبو بكر: على رسلك! فكرهت أن أغضبه وكان أعلم مني، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قالها في بداهته وأفضل حتى سكت. فقال: أما بعد! فما ذكرتم من خير فأنتم أهله ولم تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أيهما شئتم، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، فلم أكره مما قال غيرها، وكان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر! فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش
293 وكثر اللغظ وارتفعت الأصوات حتى خشيت الاختلاف فقلت أبسط يدك يا أبا بكر! فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعه الأنصار، أما والله ما وجدنا فيما حضرنا أمرا هو أوفق من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة فإما أن نتابعهم على ما لا نرضى وإما أن نخالفهم فيكون فيه فساد ". وقال ابن حجر المكي في (الصواعق): " روى الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب بعد القرآن بإجماع من يعتد به: أن عمر رضي الله عنه خطب الناس مرجعه من الحج فقال في خطبته: قد بلغني أن فلانا منكم يقول: لو مات عمر بايعت فلانا! فلا يغترن (يغرن. ظ) أمرا أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، ألا وإنها كذلك إلا أن الله وقى شرها، وليس فيكم اليوم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر. وإنه كان من خبرنا حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عليا والزبير ومن معهما تخلفوا في بيت فاطمة وتخلفت الأنصار عنا بأجمعها في سقيفة بني ساعدة، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت له: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار، فانطلقنا نؤمهم - أي نقصدهم - حتى لقينا رجلان صالحان فذكر لنا الذي صنع القوم، قالا أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: تريد إخواننا من الأنصار فقالا: لا عليكم أن تقربوهم واقضوا أمركم يا معشر المهاجرين! فقلت: والله لنأتينهم، فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا هم مجتمعون فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل فقلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ قالوا: وجع. فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله وقال: أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الاسلام وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا وقد دفت دافة منكم أي دب قوم منكم بالاستعلاء والترفع علينا تريدون أن تخزلونا من أصلنا وتحصنونا من الأمر أي تنحونا عنه وتستبدون به دوننا. فلما سكت أردت أن أتكلم وقد كنت زورت مقالة أعجبتني أردت أن أقولها بين يدي
294 أبي بكر، وقد كنت أداري منه بعض الحد وهو كان أحلم مني وأوقر. فقال أبو بكر: على رسلك! فكرهت أن أغضبه وكان أعلم مني والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قالها في بديهة وأفضل حتى سكت، فقال: أما بعد، فما ذكرتم من خير فأنتم أهله ولم تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أيهما شئتم وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح فلم أكره ما قال غيرها ولإن والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر. فقال قائل من الأنصار - أي هو الحباب بمهملة مضمومة فموحدة - ابن المنذر: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب أي أنا يشتفى برأيي وتدبيري وأمنع بجلدتي ولحمتي كل نائبة تنوبهم، دل على ذلك ما في كلامه من الاستعارة بالكناية المخيل لها بذكر ما يلائم المشبه به، إذ موضوع الجذيل المحكك - وهو بجيم فمعجمة - تصغير جذل عود ينصب في العطن لتحتك به الإبل الجرباء، والتصغير للتعظيم، والعذق بفتح العين النخلة بجملها، فاستعارة لما ذكرناه، والمرجب بالجيم، وغلط من قال بالحاء، من قولهم، نخلة وجبة، وترجيبها ضم أعذاقها إلى سعفاتها وشدها بالخوض لئلا ينفضها الريح أو يصل إليها أكل. منا أمير ومنكم أمير، يا معشر قريش. وكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى خشيت الاختلاف فقلت: أبسط يدك يا أبا بكر! فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعه الأنصار، أما والله ما وجدنا فيما حضرنا أمرا هو أوفق من مبايعة أبي بكر خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة فإما أن نبايعهم على ما لا نرضى وإما أن نخالفهم فيكون فيه فساد ". وقال: " ولا يقدح في حكاية الإجماع تأخر علي والزبير والعباس وطلحة مدة لأمور، منها أنهم رأوا أن الأمر تم بمن تيسر حضوره حينئذ من أهل الحل والعقد، ومنها أنهم لما جاؤوا وبايعوا اعتذروا كما مر عن الأولين من طرق
295 بأنهم أخروا عن المشورة مع أن لهم فيها حقا لا للقدح في خلافة الصديق، هذا مع الاحتياج في هذا الأمر لخطره إلى الشورى التامة، ولهذا مر عن عمر بسند صحيح أن تلك البيعة كانت فلتة ولكن وقى الله شرها! ". السابع: لقد كان أمير المؤمنين عليه السلام يرى بطلان خلافة أبي بكر لأنها كانت من غير مشورة من المسلمين، ويشهد بما ذكرنا ما رواه الشريف الرضي رحمه الله في (نهج البلاغة) حيث قال: " وقال عليه السلام: واعجبا أتكون الخلافة بالصحابة ولا تكون بالصحابة والقرابة. وروي له شعر في هذا المعنى: فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم * فكيف بهذا والمشيرون غيب وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم * فغيرك أولى بالتي أقرب ". قال ابن أبي الحديد: " حديثه عليه السلام في النثر والنظم المذكور مع أبي بكر وعمر، أما النثر فإلى عمر توجيهه لأن أبا بكر لما قال لعمر: امدد يدك، قال له عمر أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله في المواطن كلها، شدتها ورخائها فامدد أنت يدك. فقال علي عليه السلام: إذا احتججت لاستحقاقه الأمر بصحبته إياه في المواطن [كلها] فهلا سلمت الأمر إلى من قد شركه في ذلك وزاد عليه بالقرابة؟! وأما النظم فموجه إلى أبي بكر، لأن أبا بكر حاج الأنصار في السقيفة فقال نحن عشيرة [عترة] رسول الله صلى الله عليه وآله وبيضته التي تفقأت عنه، فلما بويع احتج على الناس ببيعته [بالبيعة] وأنها صدرت عن أهل الحل والعقد، فقال علي عليه السلام: أما احتجاجك على الأنصار بأنك من بيضة رسول الله صلى الله عليه وآله ومن قومه فغيرك أقرب نسبا منك إليه، وأما احتجاجك بالاختيار ورضا الجماعة بك فقد كان قوم من جملة الصحابة
296 غائبين لم يحضروا العقد فكيف يثبت " (1). الثامن: لقد استخلف أبو بكر عمر غير مشورة من المسلمين، بل لقد أمره عليهم بالرغم منهم، وتلك كتبهم تنطق بذلك، فقد روى القاضي أبو يوسف بإسناده قال: " لما حضرت الوفاة أبا بكر رضي الله عنه أرسل إلى عمر يستخلفه، فقال الناس: أتستخلف علينا فظا غليظا لو قد ملكنا كان أفظ وأغلظ؟ فماذا تقول لربك إذا لقيته وقد استخلفت علينا عمر؟ قال: أتخوفونني ربي [بربي]؟ أقول: اللهم أمرت خير أهلك " (2). وقال ابن سعد: " وسمع بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بدخول عبد الرحمن وعثمان على أبي بكر وخلوتهما به، فدخلوا على أبي بكر فقال [له] قائل منهم: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك لعمر علينا وقد ترى غلظته... " (3). وروي بإسناده عن عائشة قالت: " لما ثقل أبي دخل عليه فلان وفلان فقالوا يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا تقول لربك إذا قدمت عليه غدا وقد استخلفت علينا ابن الخطاب؟ فقال أجلسوني، أبالله ترهبوني؟ أقول: استخلفت عليهم خيرهم. ... عن عائشة قالت: لما حضرت أبا بكر الوفاة استخلف عمر فدخل عليه علي وطلحة فقالا: من استخلفت؟ قال: عمر، قالا: فماذا أنت قائل لربك؟ قال: أبالله تفرقاني؟ لأنا أعلم بالله وبعمر منكما، أقول: استخلفت عليهم خير أهلك " (4).
(1) شرح نهج البلاغة 18 / 416. (2) الخراج: 11. (3) طبقات ابن سعد 3 / 199. (4) طبقات ابن سعد 3 / 274. 297 ورواه المحب الطبري (1) والمتقي (2) والوصابي (3). وروى ابن أبي شيبة في (المصنف): " إن أبا بكر حين حضره الموت أرسل إلى عمر يستخلفه، فقال الناس: تستخلف علينا فظا غليظا؟ ولو قد ولينا كان أفظ وأغلظ، فما تقول لربك إذا لقيته وقد استخلفت علينا عمر... ". ورواه شاه ولي الله (والد الدهلوي) (4). وقال محمد بن جرير الطبري " وعقد أبو بكر في مرضته التي توفي فيها لعمر بن الخطاب عقد الخلافة من بعده وذكر أنه لما أراد العقد له دعا عبد الرحمن بن عوف فيما ذكر ابن سعد عن الواقدي عن ابن أبي سبرة عن عبد المجيد بن سهيل عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: لما نزل بأبي بكر - رحه - الوفاة دعا عبد الرحمن بن عوف فقال: أخبرني عن عمر! فقال: يا خليفة رسول الله! هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل ولكن فيه غلظة: فقال أبو بكر: ذلك لأنه يراني رقيقا ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرا مما هو عليه، ويا أبا محمد! قد رمقته فرأيتني إذا غضبت على الرجل في الشئ أراني الرضى عنه وإذا لنت له أراني الشدة عليه! لا تذكر يا أبا محمد مما قلت لك شيئا. قال: نعم! ثم دعا عثمان بن عفان فقال: يا أبا عبد الله! أخبرني عن عمر، قال: أنت أخبر به، فقال أبو بكر على ذاك، يا أبا عبد الله! قال: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته وأن ليس فينا مثله! قال أبو بكر رحمه الله: رحمك الله يا أبا عبد الله! لا تذكر مما ذكرت لك شيئا قال: أفعل. فقال له أبو بكر: لو تركته ما عدوتك! وما أدري لعله تاركه، والخيرة له ألا يلي من أموركم شيئا ولوددت أني كنت خلوا من أموركم وأني كنت فيمن مضى من
(1) الرياض النضرة 1 / 237. (2) كنز العمال 5 / 398. (3) الاكتفاء في فضل الأربعة الخلفاء - مخطوط. (4) قرة العينين 27. 298 سلفكم، يا أبا عبد الله! لا تذكرن مما قلت لك من أمر عمر ولا مما دعوتك له شيئا! ثنا: ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا يونس بن عمرو عن أبي السفر، قال: أشرف أبو بكر على الناس من كنفيه وأسماء ابنة عميس ممسكته موشومة اليدين وهو يقول: أترضون بمن أستخلف عليكم فإني والله ما ألوت من جهد الرأي ولا وليت ذا قرابة وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا! فقالوا: سمعنا وأطعنا! حدثني عثمان بن يحيى عن عثمان القرقساني قال: ثنا سفيان بن عيينة عن إسماعيل عن قيس، قال رأيت عمر بن الخطاب وهو يجلس والناس معه، وبيده جريدة وهو يقول: أيها الناس! اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه يقول: إني لم الكم نصحا، قال: ومعه مولى لأبي بكر يقال له: شديد، معه الصحيفة التي فيها استخلاف عمر. قال أبو جعفر: وقال الواقدي: حدثني إبراهيم بن أبي النضر عن محمد ابن إبراهيم بن الحارث، قال: دعا أبو بكر عثمان خاليا فقال له: اكتب " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين: أما بعد " قال ثم أغمي عليه فذهب عنه فكتب عثمان: أما بعد، فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم الكم خيرا [منه]. ثم أفاق أبو بكر فقال: اقرأ علي فقرأ عليه فكبر أبو بكر وقال: أراك خفت أن يختلف الناس إن افتلتت نفسي في غشيتي! قال: نعم! قال: جزاك الله خيرا عن الاسلام وأهله وأقرها أبو بكر رضي الله عنه من هذا الموضع. ثنا: يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: ثنا الليث بن سعد، قال: ثنا علوان عن صالح بن كيسان عم عمر بن عبد الرحمن ابن عوف عن أبيه أنه دخل على أبي بكر الصديق رضي الله عنه في مرضه الذي توفي فيه، فأصابه مهتما فقال له عبد الرحمن: أصبحت والحمد لله بارئا فقال أبو بكر رضي الله عنه: أتراه؟ قال: نعم! قال: إني وليت أمركم
299 خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه من ذلك يريد أن يكون الأمر له دونه ورأيتم الدنيا قد أقبلت ولما تقبل وهي مقبلة، حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج وتألموا الاضطجاع على الصوف الآذري كما يألم أحدكم أن ينام على حسك، والله لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد خير له من أن يخوض في غمرة الدنيا، وأنتم أول ضال بالناس غدا فتصدونهم عن الطريق يمينا وشمالا! يا هادي الطريق إنما هو الفجر أو البحر. فقلت، له خفض عليك رحمك الله فإن هذا يهيضك في أمرك، إنما الناس في أمرك بين رجلين: إما رجل رأى ما رأيت فهو معك، وإما رجل خالفك فهو مشير عليك وصاحبك كما تحب، ولا نعلمك أردت إلا خيرا ولم تزل صالحا مصلحا وانك لا تأسى على شئ من الدنيا. قال أبو بكر رضي الله عنه: أجل! إني لا آسي على شئ من الدنيا إلا على ثلث فعلتهن وددت أني تركتهن، وثلث تركتهن وددت أني فعلتهن، وثلث وددت أني سألت عنهن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما الثلث اللاتي وددت أني تركتهن فوددت أني لم اكشف بيت فاطمة عن شئ وإن كانوا قد علقوا على الحرب، وددت أني لم أكن حرقت الفجاءة السلمي وأني كنت قتلته سريحا، أو خليته نجيحا، ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين - يريد عمر وأبا عبيدة - فكان أحدهما أمير وكنت وزيرا. وأما اللاتي تركتهن فوددت أني يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيرا كنت ضربت عنقه فإنه يخيل إلي أنه لا يرى شرا إلا أعان عليه! ووددت أني سيرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة كنت أقمت بذي القصة، فإن ظفر المسلمون ظفروا وإن هزموا كنت بصدد لقاء أو مدد، ووددت أني كنت إذ وجهت خالد ابن الوليد إلى الشام كنت وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق فكنت قد بسطت يدي كلتيهما في سبيل الله ومد يديه! ووددت أني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن هذا الأمر فلا ينازعه أحد! ووددت أني
300 كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب؟ ووددت أني كنت سألته عن ميراث ابنة الأخ والعمة فإن في نفسي منها شيئا. قال لي يونس: قال لنا يحيى ثم قدم علينا علوان بعد وفاة الليث فسألته عن هذا الحديث فحدثني به كما حدثني الليث به سعد حرفا حرفا. وأخبرني أنه هو حدث به الليث بن سعد وسألته عن اسم أبيه وأخبرني أنه علوان بن داود. وحدثني محمد بن إسماعيل المرادي، قال: ثنا عبد الله بن صالح المصري قال: حدثني الليث عن علوان بن صالح عن صالح بن كيسان عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: ثم ذكر نحوه ولم يقل فيه عن أبيه " (1). وقال أبو عمر أحمد بن عبد ربه القرطبي: " قال أبو صالح: أخبرنا محمد ابن وضاح، قال: حدثني محمد بن زمج بن مهاجر النجيبي، قال: حدثني الليث بن سعد عن علوان عن صالح بن كيسان عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه أنه دخل على أبي بكر رضي الله عنه في مرضه الذي توفي فيه فأصابه مفيقا فقال: أصبحت بحمد الله بارئا، قال أبو بكر: أبرأه الله (أتراه برءا؟. ظ) قال: نعم! قال: أما إني على ذلك لشديد الوجع، ولما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد علي من وجعي، إني وليت أمركم خيركم في نفسي فكلكم ورم من ذلك أنفه! يريد أن يكون له الأمر، ورأيتم الدنيا مقبلة ولما تقبل وهي مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج، وتألمون الاضطجاع على الصوف الآزري كما يألم أحدكم الاضطجاع على شوك السعدان! والله لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد خير له من أن يخوض في غمرة الدنيا، ألا وإنكم أول ضال بالناس غدا فتصدونهم عن الطريق يمينا وشمالا! يا هادي الطريق، إنما هو الفجر والبحر. قال: فقلت له خفض عليك يرحمك الله! فإن هذا يهيضك على ما بك، إنما الناس في أمرك بين رجلين: إما رجل رأى ما رأيت فهو معك،
(1) تاريخ الطبري 2 / 617 - 620. 301 وإما رجل خالفك فهو يشير عليك برأيه، وصاحبك كما تحب، ولا نعلمك أردت إلا الخير ولم تزل صالحا مصلحا، مع أنك لا تأسى على شئ من الدنيا. فقال أجل! إني لا آسى على شئ من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن ووددت أني تركتهن، وثلاث تركتهن ووددت أني فعلتهن، وثلاث وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن. فأما الثلاث التي فعلتهن ووددت أني تركتهن: فوددت أني لم أكشف بين فاطمة عن شئ وإن كانوا أغلقوه على الحرب! ووددت أني لم أكن حرقت النحام (الفجاءة. ظ) السلمي وأني قتلته شديخا أو خليته نجيحا! ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة قدمت (قلدت. ظ) الأمر في عنق أحد الرجلين، فكان أحدهما أميرا وكنت له وزيرا. يعني بالرجلين عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح. وأما الثلاث التي تركتهن ووددت أني فعلتهن. فوددت أني يوم أتيت الأشعث بن قيس أسيرا ضربت عنقه فإنه يخيل إلي أنه لا يرى شرا إلا أعان عليه! ووددت أني يوم سيرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة أقمت بذي القصة فإن ظفر المسلمون ظفروا وإن انهزموا كنت بصدد لقاء أو مدد! ووددت أني وجهت خالد بن الوليد إلى الشام ووجهت عمر بن الخطاب إلى العراق فأكون قد بسطت يدي كلتيهما في سبيل الله. وأما الثلاث التي وددت أني أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن فإني وددت أني سألته لمن هذا الأمر من بعده؟ فلا ينازعه أحد! وأني سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب؟ فلا يظلموا نصيبهم منه! ووددت أني سألته عن بنت الأخ والعمة فإن في نفسي منهما شيئا " (1). وقال أبو بكر الباقلاني: " وفي حديث عبد الرحمن بن عوف رحمة الله عليه، قال: دخلت على أبي بكر الصديق رضي الله عنه في علته التي مات فيها، فقلت: أراك بارئا يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال: أما إني على ذلك
(1) العقد الفريد 4 / 267. 302 لشديد الوجع، وما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد علي من وجعي! إني وليت أموركم خيركم في نفسي فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر من دونه! والله لتتخذن نضائد الديباج وستور الحرير ولتألمن النوم على الصوف الأذربي كما يألم أحدكم النوم على حسك السعدان. والذي نفسي بيده لأن يقدم أحكم فتضرب رقبته في غير حد خير له من أن يخوض غمرات الدنيا يا هادي الطريق جرت إنما هو وإن الفجر أو البحر. قال: فقلت: خفض عليك يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فإن هذا يهيضك إلى ما بك فوالله ما زلت صالحا لا تأسى على شئ من أمر الدنيا، ولقد تخليت بالأمر وحدك فما رأيت إلا خيرا " (1). وقال الزمخشري في كتاب (الفائق): " أبو بكر الصديق رضي الله عنه دخل عليه عبد الرحمن بن عوف في علته التي مات فيها فقال: أراك بارئا يا خليفة رسول الله! فقال أما إني على ذلك لشديد الوجع ولما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد علي من وجعي! وليت أموركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر من دونه، والله لتتخذن نضائد الديباج وستور الحرير ولتألمن النوم على الصوف الأذربي كما يألم أحدكم النوم على حسك السعدان! والذي نفسي بيده لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد خير له من أن يخوض غمرات الدنيا يا هادي الطريق جرت إنما هو الفجر أو البحر. وروي البحر، قال له عبد الرحمن: خفض عليك يا خليفة رسول الله! فإن هذا يهيضك إلى ما بك. وروي أن فلانا دخل عليه فنال من عمر وقال: لو استخلفت فلانا؟! فقال أبو بكر رضي الله عنه: لو فعلت ذلك لجعلت انفك في قفاك ولما أخذت من أهلك حقا! ودخل عليه بعض المهاجرين وهو يشتكي في مرضه فقال له: أتستخلف علينا عمر وقد عتا علينا ولا سلطان له ولو ملكنا كان أعنى
(1) إعجاز القرآن - هامش الاتقان: 184. 303 وأعتى فكيف تقول لله إذا لقيته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني! فأجلسوه فقال: أبالله تفرقني فإني أقول له إذا لقيته: استعملت عليهم خير أهلك! (برئ) من المرض وبرأ فهو بارئ ومعناه مزايلة المرض والتباعد منه. ومنه برئ من كذا براءة. ورم الأنف كناية عن إفراط الغيظ لأنه يردف الاغتياظ الشديد أن يتورم أنف المغتاظ وينتفخ منخراه، قال: ولا يهاج إذا ما أنفه ورما النضائد: الوسائد والفرش ونحوها مما ينضد، الواحدة نضيدة. الأذربي منسوب إلى أذربيجان وروي الآذري. البحر الأمر العظيم. والمعنى: إن انتظرت حتى يضئ لك الفجر أبصرت الطريق وإن خبطت الظلماء أفضت بك إلى المكروه، وقال المبرد فيمن رواه البحر ضرب ذلك مثلا لغمرات الدنيا وتحييرها أهلها. خفض عليك أي إبق على نفسك وهون الخطب عليها. بيض كسر العظم المجبور ثانية، والمعنى أنه ينكسك إلى مرضك. جعل الأنف في القفا عبارة عن غاية الاعراض عن الشئ ولس الرأس عنه لأن قصارى ذلك أن يقبل بأنفه على ما وراءه فكأنه جعل أنفه في قفاه، ومنه قولهم للمنهزم عيناه في قفاه لنظره إلى ما وراءه دائبا فرقا من الطلب. والمراد لا فرطت في الاعراض عن الحق، أو لجعلت ديدنك الاقبال بوجهك إلى من ورائك من أقاربك مختصا لهم ببرك ومؤثرا إياهم على غيرهم. تفرقني: تخوفني أهلك، كان يقال لقريش " أهل الله " تفخيما لشأنهم، وكذلك كل ما يضاف إلى اسم الله كبيت الله وكقولهم لله أنت، وكقول امرء القيس: فلله عينا من رأى من تفرق * أشت وأنأى من فراق المحصب " (1). وقال في كتاب (أساس البلاغة): " ومن المجاز: ورم أنفه إذا غضب. وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه. كلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر من
(1) الفائق في غريب الحديث 1 / 45. 304 دونه " (1). وقال ابن الأثير: " ومنه حديث أبي بكر: وليت أموركم خيركم فكلكم ورم أنفه على أن يكون له من دونه. أي امتلاء وانتفخ من ذلك غضبا، وخص الأنف بالذكر لأنه موضع الآنفة والكبر كما يقال: شمخ بأنفه، ومنه قول الشاعر " ولا يهاج إذا ما أنفه ورما " (2). وقال محمد بن مكرم الأنصاري: " ورم أنفه، أي غضب، ومنه قول الشاعر: " ولا يهاج إذا ما أنفه ورما " وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه: وليت أموركم خيركم، فكلكم ورم أنفه على أن يكون له الأمر من دونه، أي امتلاء وانتفخ من ذلك غضبا. وخص الأنف بالذكر لأنه موضع الآنفة والكبر كما يقال شمخ بأنفه " (3). التاسع: لقد كان طائفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله يعتقدون بطلان خلافة أبي بكر واستخلافه لعمر بن الخطاب باعتبار وقوعهما بغير مشورة من المسلمين، فقد جاء في (العقد الفريد) ما نصه: " وقال المغيرة بن شعبة إني لعند عمر بن الخطاب ليس عنده أحد غيري، إذ [ا] اتاه آت فقال: هل لك يا أمير المؤمنين في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزعمون أن الذي فعل أبو بكر في نفسه وفيك لم يكن له، وإنه كان بغير مشورة ولا مؤامرة، وقالوا: تعالوا نتعاهد أن لا نعود إلى مثلها، قال عمر: وأين هم؟ قال: في دار طلحة. فخرج نحوهم وخرجت معه وما اعلمه يبصرني من شدة الغضب، فلما رأوه كرهوه وظنوا الذي جاء له، فوقف عليهم وقال: أنتم القائلون ما قلتم؟ والله لا [لن] تتحابوا حتى يتحاب الأربعة: الانسان والشيطان يغويه وهو يلعنه، والنار والماء يطفئها وهي تحرقه، ولم يأن لكم بعد وقد آن ميعادكم
(1) أساس البلاغة: ورم. (2) النهاية في غريب الحديث: ورم. (3) لسان العرب: ورم. 305 ميعاد المسيح متى هو خارج، قال: فتفرقوا فسلك كل واحد منهم طريقا. قال المغيرة قال لي: أدرك ابن أبي طالب فاحبسه علي، فقلت: لا تفعل يا أمير المؤمنين [لا يفعل أمير المؤمنين] فوالله ما عدوت أبغضهم، فقال: أدركه وإلا قلت لك يا ابن الدباغة، فأدركته فقلت له: قف مكانك لإمامك واحلم فإنه سلطان ويندم [سيندم] وتندم. قال: فأقبل عمر فقال: والله ما خرج هذا الأمر إلا من تحت يدك، قال علي: إتق أن لا تكون الذي نطيعك فنفتنك، قال: وتحب أن تكون هو؟ قال: لا ولكننا نذكرك الذي نسيت، فالتفت إلي عمر فقال: انصرف فقد سمعت منا عند الغضب ما كفاك، فتنحيت قريبا وما وقفت إلا خشية أن يكون بينهما شئ فأكون قريبا، فتكلما كلاما غير غضبانين ولا راضين، ثم رأيتهما يضحكان وتفرقا، وجاءني عمر فمشيت معه وقلت: يغفر الله لك أغضبت؟ قال: فأشار إلى علي وقال: أما والله لولا دعابة فيه ما شككت في ولايته وإن نزلت على رغم أنف قريش " (1). العاشر: إن هذا الكلام ينص على لزوم المشورة من المهاجرين والأنصار. ولم تكن خلافة عثمان عن مشورة منهم، بل جعلها عمر بين ستة رجال من المهاجرين، وهم: أمير المؤمنين علي عليه السلام وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف. وهل جاءت خلافة عثمان نتيجة الشورى حقيقة؟ كلا... فلقد كان سعد من بني عم عبد الرحمن، وكان يبغض عليا عليه السلام، وعبد الرحمن كان صهرا لعثمان وكان طلحة يميل إلى عثمان، وكان عمر قد أوصى أنه: إن اجتمع خمسة على رأي واحد وأبى واحد ضرب رأسه بالسيف، وإن اجتمع أربعة وأبى الاثنان ضرب رأساهما، فإن رضي ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين.
(1) العقد الفريد 4 / 281 - 282. 306 فانضم سعد في الرأي إلى عبد الرحمن، وطلحة إلى عثمان، ومال عبد الرحمن إلى صهره... وهكذا تمت البيعة لعثمان على يد عبد الرحمن طبق الخطة المدبرة فأين الشورى؟! هذا إجمال القصة وإليك بعض رواياتهم في ذلك: قال ابن سعد: " أخبرنا عفان بن مسلم، نا: حماد بن سلمة عن علي ابن زيد بن جدعان عن أبي رافع أن عمر بن الخطاب كان مستندا إلى ابن عباس وعنده ابن عمر وسعيد بن زيد فقال: إعلموا أني لم أقل في الكلالة شيئا ولم أستخلف بعدي أحدا، وإنه من أدرك وفاتي من سبي العرب فهو حر من مال الله. قال سعيد بن زيد، إنك لو أشرت برجل من المسلمين أئتمنك الناس. فقال عمر: قد رأيت من أصحابي حرصا سيئا، وإني جاعل هذا الأمر إلى هؤلاء النفر الستة الذين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض! ثم قال: لو أدركني أحد رجلين فجعلت هذا الأمر إليه لوثقت به سالم مولى أبي حذيفة وأبي عبيدة بن الجراح. أخبرنا وكيع بن الجراح عن الأعمش عن إبراهيم قال: قال عمر: من استخلف لو كان أبو عبيدة فقال له رجل: يا أمير المؤمنين! فأين أنت من عبد الله بن عمر؟ فقال: قاتلك الله والله ما أردت الله بهذا. استخلف رجلا لم يحسن يطلق امرأته!؟ " (1). وروى ابن سعد عن عمرو بن ميمون في خبر طويل: " ثم قال: ادعوا لي عليا وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعدا فلم يكلم أحدا منهم غير علي وعثمان فقال يا علي! لعل هؤلاء القوم يعرفون لك قرابتك من النبي صلى الله عليه وسلم وصهرك وما آتاك الله من الفقه والعلم، فإن وليت هذا الأمر فاتق الله فيه! ثم دعا عثمان فقال: يا عثمان! لعل هؤلاء القوم
(1) طبقات ابن سعد - ترجمة عمر. 307 يعرفون لك صهرك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنك وشرفك، فإن وليت هذا الأمر فاتق الله ولا تحملن بني أبي معيط على رقاب الناس ثم قال ادعوا لي صهيبا فدعي فقال: صل بالناس ثلاثا ولتخل هؤلاء القوم في بيت فإذا اجتمعوا على رجل فمن خالفهم فاضربوا رأسه، فلما خرجوا من عند عمر قال عمر: لو ولوها الأجلح (1) سلك بهم الطريق فقال له ابن عمر: فما يمنعك يا أمير المؤمنين! قال أكره أتحملها حيا وميتا " (2). وروي في خبر عن سماك: " وقال للأنصار: أدخلوهم بيتا ثلاثة أيام فإن استقاموا وإلا فادخلوا عليهم فاضربوا أعناقهم! ". وقال ابن سعد أيضا: " أخبرنا محمد بن عمر: حدثني محمد بن موسى عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك، قال: أرسل عمر ابن الخطاب إلى أبي طلحة الأنصاري قبل أن يموت بساعة فقال: يا أبا طلحة! كن في خمسين من قومك من الأنصار مع هؤلاء النفر من أصحاب الشورى فإنهم فيما أحسب سيجتمعون في بيت أحدهم، فقم على ذلك الباب بأصحابك فلا تترك أحدا يدخل عليهم ولا تتركهم يمضي اليوم الثالث حتى يؤمروا أحدهم، اللهم أنت خليفتي عليهم ". وجاء في ما رواه عن عمرو بن ميمون " وقالوا له حين حضره الموت: استخلف! فقال: لا أجد أحدا أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض فأيهم استخلف فهو الخليفة، فسمى عليا عليه السلام وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعدا، فإن أصابت سعدا فذاك، وإلا فأيهم استخلف فليستعن به فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة، قال: وجعل عبد الله معهم يشاورونه وليس له من الأمر شئ، قال فلما اجتمعوا قال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة نفر منكم، فجعل الزبير أمره
(1) يعني عليا عليه السلام. (2) طبقات ابن سعد 3 / 338 - 339. 308 إلى علي وجعل طلحة أمره إلى عثمان، وجعل سعد أمره إلى عبد الرحمن فأتمروا أولئك الثلاثة حين جعل الأمر إليهم فقال عبد الرحمن: أيكم يبرء من الأمر ويجعل إلي ولكم الله علي ألا آلوكم عن أفضلكم وخيركم للمسلمين، فأسكت الشيخان علي وعثمان فقال عبد الرحمن: تجعلانه إلي وأنا أخرج منها! فوالله لا آلوكم عن أفضلكم وخيركم للمسلمين، قالوا: نعم! فخلا بعلي عليه السلام فقال: إن لك من القرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم، والله عليك لئن استخلفت لتعدلن ولئن استخلف عثمان لتسمعن ولتطيعن فقال: نعم! قال: وخلا بعثمان فقال مثل ذلك، قال فقال عثمان: نعم! قال: فقال أبسط يدك يا عثمان! فبسط يده فبايعه! ". وقال أبو بكر بن أبي شيبة في (المصنف) في ما رواه عن عمرو بن ميمون في خبر مقتل عمر " فقالوا له حين حضره الموت: استخلف! فقال: لا أجد أحدا أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فأيهم استخلفوا فهو الخليفة بعدي، فسمى عليا وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعدا، فإن أصابت سعدا فذلك وإلا فأيهم استحب فليستعن به فإني لم أنزعه عن عجز ولا خيانة، قال: وجعل عبد الله بن عمر يشاور معهم وليس له من الأمر شئ، قال: فلما اجتمعوا قال عبد الرحمن بن عوف: اجعلوا أمركم يشاورونه ثلاثة نفر، قال، فجعل الزبير أمره إلى علي وجعل طلحة أمره إلى عثمان وجعل سعد أمره إلى عبد الرحمن، قال: فأتمروا أولئك الثلاثة حين جعل الأمر إليهم، قال: فقال عبد الرحمن، إياكم يتبرأ من الأمر ويجعل الأمر إلي ولكم الله على أن لا آلو عن أفضلكم وخيركم للمسلمين؟ قالوا: نعم؟ فخلا بعلي فقال إن لك من القرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم ولي الله عليك لئن استخلفت لتعدلن ولئن استخلف عثمان لتسمعن ولتطيعن، قال: فقال: نعم! قال: وخلا بعثمان فقال مثل ذلك، فقال له عثمان: نعم! ثم قال: يا عثمان أبسط يدك! فبسط يده وبايعه علي والناس ".
309 وفيه: " حدثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحق عن عمرو بن ميمون الأودي أن عمرو بن الخطاب لما حضر قال: ادعوا إلي عليا وطلحة والزبير وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعدا، قال: فلم يكلم أحدا منهم إلا عليا وعثمان فقال: يا علي! لعل هؤلاء القوم يعرفون لك قرابتك وما آتاك الله من العلم والفقه، فاتق الله وإن وليت هذا الأمر فلا ترفعن بني فلان على رقاب الناس! وقال لعثمان يا عثمان: إن هؤلاء القوم لعلهم يعرفون لك صهرك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنك وشرفك، فإن أنت وليت هذا الأمر فاتق الله ولا ترفع بني فلان على رقاب الناس! فقال: ادعوا لي صهيبا فقال صل بالناس ثلاثا وليجتمع هؤلاء الرهط فليخلوا فإن أجمعوا على رجل فأضربوا رأس من خالفهم ". وأخرج البخاري الخبر المذكور وهذا نصه " فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين! استخلف! قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فسمى عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعد، وعبد الرحمن، وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شئ كهيئة التعزية له، فإن أصابت الإمرة سعدا فهو ذاك وإلا فليستعن به أيكم ما أمر فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة ". وفيه: " فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط فقال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي، فقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف، فقال عبد الرحمن: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه والله عليه والاسلام لينظرن أفضلهم في نفسه فأسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إلي والله علي أن لا آلو عن أفضلكم، قالا: نعم! فأخذ بيد أحدهما فقال لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الاسلام ما قد علمت فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن، ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق قال:
310 ارفع يدك يا عثمان! فبايعه وبايع له علي وولج أهل الدار فبايعوه ". وقال اليعقوبي: " وصير الأمر شورى بين ستة نفر من أصحاب رسول الله علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير ابن العوام وطلحة بن عبد الله وسعد بن أبي وقاص وقال: أخرجت سعيد بن زيد لقرابته مني فقيل له في ابنه عبد الله بن عمر، قال: حسب آل الخطاب ما تحملوا منها، إن عبد الله لم يحسن يطلق امرأته، وأمر صهيبا أن يصلي بالناس حتى يتراضوا من الستة بواحد واستعمل أبا طلحة زيد بن سهل الأنصاري وقال إن رضي أربعة وخالف اثنان فاضرب عنق الاثنين! وإن رضي ثلاثة وخالف ثلاثة فاضرب أعناق الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن! وإن جازت الثلاثة الأيام ولم يتراضوا بأحد فاضرب أعناقهم جميعا! وكانت الشورى بقية ذي الحجة سنة 23 وصهيب يصلي بالناس وهو الذي صلى على عمر، وكان أبو طلحة يدخل رأسه إليهم ويقول: العجل! العجل! فقد قرب الوقت وانقضت المدة ". قال: " وكان عبد الرحمن بن عوف الزهري لما توفي عمر واجتمعوا للشورى وسألهم أن يخرج نفسه منها على أن يختار منهم رجلا ففعلوا ذلك فأقام ثلاثة أيام وخلى بعلي بن أبي طالب فقال: لنا الله عليك إن وليت هذا الأمر أن تسير فينا بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر، فقال: أسير فيكم بكتاب وسنة نبيه ما استطعت. فخلا بعثمان فقال له: لنا الله عليك إن وليت هذا الأمر أن تسير فينا بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر، فقال: لكم أن أسير فيكم بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر، ثم خلى بعلي فقال له مثل مقالته الأولى فأجابه مثل الجواب الأول، ثم خلى بعثمان فقال له مثل مقالة الأولى فأجابه مثل ما كان أجابه ثم خلى بعلي فقال له مثل المقالة الأولى فقال: إن كتاب الله وسنة نبيه لا يحتاج معهما إلى أجيري أحد، أنت مجتهد تزوي هذا الأمر عني. فخلا بعثمان فأعاد عليه القول فأجابه
311 بذلك الجواب وصفق على يده وخرج عثمان والناس يهنئونه " (1). قال " ومال قوم مع علي بن أبي طالب وتحاملوا في القول على عثمان، فروى بعضهم قال: دخلت مسجد رسول الله فرأيت رجلا جاثيا على ركبتيه يتلهف تلهف من كان الدنيا كانت له فسلبها وهو يقول: واعجبا لقريش ودفعهم هذا الأمر على (عن. ظ) أهل بيت نبيهم وفيهم أول المؤمنين وابن عم رسول الله، أعلم الناس وأفقههم في دين الله وأعظمهم غناءا في الاسلام وأبصرهم بالطريق وأهداهم للصراط المستقيم، والله لقد زووها عن الهادي المهتدي الطاهر النقي، وما أرادوا إصلاحا للأمة ولا صوابا في المذهب ولكنهم آثروا الدنيا على الآخرة، فبعدا وسحقا للقوم الظالمين! فدنوت منه فقلت: من أنت؟ يرحمك الله! ومن هذا الرجل فقال: أنا المقداد بن عمرو وهذا الرجل علي بن أبي طالب، قال فقلت: ألا تقوم بهذا الأمر فأعينك عليه؟ فقال: يا ابن أخي! إن هذا الأمر لا يجزي فيه الرجل ولا الرجلان. ثم خرجت فلقيت أبا ذر فذكرت له ذلك فقال: صدق أخي المقداد ". قال: " وروي أن عثمان اعتل علة اشتدت به فدعا حمران ابن أبان وكتب عهدا لمن بعده وترك موضع الاسم ثم كتب إلى عبد الرحمن بن عوف وربطه وبعث به إلى أم حبيبة بنت أبي سفيان فقرأه حمران في الطريق فأتى عبد الرحمن فأخبره، فقال عبد الرحمن وغضب غضبا شديدا: استعمله علانية ويستعملني سرا! ونمى الخبر وانتشر بذلك في المدينة وغضب بنو أمية، فدعا عثمان بحمران مولاه فضربه مائة سوط وسيره إلى البصرة، فكان سبب العداوة بينه وبين عبد الرحمن بن عوف ووجه إليه عبد الرحمن بن عوف بابنه فقال له قل له: والله لقد بايعتك وإن في ثلث خصال أفضلك بهن: إني حضرت بدرا ولم تحضرها، وحضرت بيعة الرضوان ولم تحضرها، وثبت يوم أحد وانهزمت! فلما أدى ابنه الرسالة إلى عثمان قال له قل له: أما غيبتي عن
(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 152. 312 بدر فإني أقمت على بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمي وأجري. وأما بيعة الرضوان فقد صفق لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيمينه على شماله فشمال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من أيمانكم، وأما يوم أحد فقد كان ما ذكرت إلا أن الله قد عفا عني. ولقد فعلنا أفعالا لا ندري أغفرها الله أم لا؟! ". وقال الطبري " حدثني سلمة بن جنادة، قال: ثنا سليمان بن عبد العزيز بن أبي ثابت بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، قال: ثنا أبي عن عبد الله ابن جعفر عن أبيه عن المسور بن محرمة، وكانت أمه عاتكة بن عوف، قال: خرج عمر بن الخطاب يوما يطوف في السوق فلقيه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة وكان نصرانيا فقال: يا أمير المؤمنين! أعدني على المغيرة بن شعبه فإن علي خراجا كثيرا، قال: وكم خراجك؟ قال: درهمان في كل يوم، قال وأيش صناعتك قال: نجار نقاش حداد قال: فما أرى خراجك بكثير على ما تصنع من الأعمال قد بلغني أنك تقول: لو أردت أن أعمل رحى تطحن بالريح فعلت، قال: نعم! قال: فاعمل لي رحى، قال: لئن سلمت لأعملن لك رحى يتحدث بها من المشرق والمغرب، ثم انصرف عنه. فقال عمر رضي الله عنه: لقد توعدني العبد آنفا! قال: ثم انصرف عمر إلى منزله فلما كان من الغد جاءه كعب الأحبار فقال له يا أمير المؤمنين! اعهد فإنك ميت في ثلاثة أيام، قال: وما يدريك! قال: أجده في كتاب الله عز وجل التوراة، قال عمر: الله! إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟! قال: اللهم لا ولكني أجد صفتك وحليتك وأنه قد فنى أجلك، قال: وعمر لا يحس وجعا ولا ألما، فلما كان من الغد جاءه كعب فقال: يا أمير المؤمنين! ذهب يوم وبقي يومان، قال: ثم جاءه من غد الغد فقال: ذهب يومان وبقي يوم وليلة وهي لك إلى صبيحتها.
313 قال: فلما كان الصبح خرج عمر إلى الصلاة وكان يوكل بالصفوف رجالا فإذا استوت جاء هو فكبر. قال: ودخل أبو لؤلؤة في الناس وفي يده خنجر له رأسان نصابه في وسطه، فضرب عمر ست ضربات إحديهن تحت سرته وهي التي قتلته، وقتل معه كليب بن أبي البكير الليثي وكان خلفه، فلما وجد عمر حر السلاح سقط وقال: أفي الناس عبد الرحمن بن عوف؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، هو ذا، قال تقدم فصل بالناس، قال: فصلى عبد الرحمن بن عوف وعمر طريح ثم احتمل فأدخل داره. فدعا عبد الرحمن بن عوف فقال: إني أريد أن أعهد إليك، فقال: يا أمير المؤمنين! نعم، إن أشرت إلي قبلت منك، قال: وما تريد؟ قال: أنشدك الله أتشير علي بذلك؟ قال: اللهم لا! قال: والله لا أدخل فيه أبدا، قال: فهب لي صمتا حتى أعهد إلى النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، ادع لي عليا وعثمان والزبير وسعدا، قال: وانتظروا أخاكم طلحة ثلاثا فإن جاء وإلا فاقضوا أمركم، أنشدك الله يا علي إن وليت من أمور الناس شيئا أن تحمل بني هاشم على رقاب الناس، أنشدك الله يا عثمان إن وليت من أمور الناس شيئا أن تحمل بني أبي معيط على رقاب الناس، أنشدك الله يا سعد إن وليت من أمور الناس شيئا أن تحمل أقاربك على رقاب الناس، قوموا فتشاوروا ثم اقضوا أمركم وليصل بالناس صهيب. ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فقال. قم على بابهم فلا تدع أحدا يدخل إليهم وأوص الخليفة من بعدي بالأنصار الذين تبوؤا الدار والايمان أن يحسن إلى محسنهم وأن يعفو عن مسيئهم، وأوصي الخليفة من بعدي بالعرب فإنها مادة الاسلام أن يؤخذ من صدقاتهم حقها فتوضع في فقرائهم، وأوص الخليفة من بعدي بذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفي لهم بعهدهم، اللهم هل بلغت! تركت الخليفة من بعدي على أنقى من الراحة، يا عبد الله بن عمر! أخرج فانظر من قتلني، فقال: يا أمير المؤمنين! قتلك أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة قال: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل سجد لله سجدة
314 واحدة! يا عبد الله بن عمر! إذهب إلى عائشة فسلها أن تأذن لي أن أدفن مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، يا عبد الله بن عمر إن اختلف القوم فكن مع الأكثر، وإن كانوا ثلاثة وثلاثة فاتبع الحزب الذي فيه عبد الرحمن. يا عبد الله إئذن للناس. قال: فجعل يدخل عليه المهاجرون والأنصار فيسلمون عليه ويقول لهم عن ملا منكم كان هذا فيقولون معاذ الله، قال ودخل في الناس كعب فلما نظر إليه عمر أنشأ يقول: فأوعدني كعب ثلاثا أعدها * ولا شك أن القول ما قال لي كعب وما بي حذار الموت إني لميت * ولكن حذار الذنب يتبعه الذنب قال: فقيل له يا أمير المؤمنين لو دعوت الطبيب؟ قال فدعى طبيب من بني الحارث بن كعب فسقاه نبيذا فخرج النبيذ مشكلا، قال فاسقوه، لبنا قال فخرج اللبن أبيض. فقيل له يا أمير المؤمنين اعهد! قال: قد فرغت. قال ثم توفي ليلة الأربعاء لثلاث ليال بقين من ذي الحجة سنة 23 قال فخرجوا به بكرة يوم الأربعاء فدفن في بيت عائشة مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، قال وتقدم صهيب فصلى عليه وتقدم قبل ذلك رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم علي وعثمان، قال: فتقدم واحد من عند رأسه والآخر من عند رجليه فقال عبد الرحمن: لا إله إلا الله ما أحرصكما على الأمرة! أما علمتما أن أمير المؤمنين قال: ليصل بالناس صهيب!؟ فتقدم صهيب؟! فصلى عليه قال: ونزل في قبره الخمسة ". وروى الطبري خبر عمرو بن ميمون وفيه: " ثم راحوا فقالوا: يا أمير المؤمنين! لو عهدت عهدا. فقال: قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أنظر فأولى رجلا أمركم هو أحراكم أن يحملكم على الحق، وأشار إلى علي ورهقتني غشية فرأيت رجلا دخل جنة قد غرسها فجعل يقطف كل غصنة ويانعة فيضمه إليه ويصيره تحته، فعلمت أن الله غالب أمره ومتوف عمر. فما أريد أن أتحملها حيا وميتا. عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنهم من أهل الجنة سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل منهم
315 ولست مدخله ولكن الستة علي وعثمان ابنا عبد مناف وعبد الرحمن وسعد خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم والزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته وطلحة الخير بن عبيد الله، فليختاروا رجلا منهم ". وفيه " وقال لأبي طلحة الأنصاري: يا أبا طلحة! إن الله عز وجل طالما أعز الاسلام بكم، فاختر خمسين رجلا من الأنصار فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم، وقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني في حفرتي فاجمع الرهط في بيت حتى يختاروا رجلا منهم، وقال لصهيب: صل بالناس ثلاثة أيام وأدخل عليا وعثمان والزبير وسعدا وعبد الرحمن بن عوف وطلحة إن قدم وأحضر عبد الله بن عمر ولا شئ له من الأمر وقم على رؤوسهم. فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلا وأبى واحد فاشدخ رأسه أو اضرب رأسه بالسيف وإن اتفق أربعة فرضوا رجلا منهم وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما. فإن رضي ثلاثة رجلا منهم والثلاثة رجلا منهم فحكموا عبد الله بن عمر فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلا منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس فخرجوا، فقال علي لقوم كانوا معه من بني هاشم: إن أطيع فيكم قومكم لم تؤمرا أبدا، وتلقاه العباس، فقال: عدلت عنا! فقال: وما علمك؟ قال: قرن بي عثمان وقال كونوا مع الأكثر فإن رضي رجلان رجلا ورجلان رجلا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون فيوليها عبد الرحمن عثمان أو يوليها عثمان عبد الرحمن، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني بله إني لا أرجو إلا أحدهما ". وفيه: " فلقي علي سعدا فقال: اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا، أسألك برحم ابني هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وبرحم عمي حمزة منك أن لا تكون مع عبد الرحمن لعثمان ظهيرا علي فإني أدلي بما لا يدلي به عثمان ".
316 وفيه: " ودعا عليا فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده، قال: أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي، ودعا عثمان فقال له بمثل ما قال لعلي، قال: نعم، فبايعه فقال علي: حبوته حبو دهر! ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك والله كل يوم هو في شأن ". وفيه " فقال المقداد: ما رأيت مثل ما أوتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم إني لأعجب من قريش أنهم تركوا رجلا ما أقول إن أحدا أعلم ولا أقضى منه بالعدل، أما والله لو أجد عليه أعوانا، فقال عبد الرحمن: يا مقداد! اتق الله فإني خائف عليك الفتنة، فقال رجل للمقداد: رحمك الله من أهل هذا البيت ومن هذا الرجل؟ قال: أهل بيت بنو عبد المطلب والرجل علي بن أبي طالب فقال علي: إن الناس ينظرون إلى قريش وقريش تنظر إلى بينها فتقول إن ولي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبدا وما كانت في غيرهم من قريش تداولتموها بينكم " (1). وقال أبو عمر ابن عبد ربه القرطبي في بيان قصة الشورى: " يونس بن الحسن وهشام بن عروة عن أبيه قال: لما طعن عمر بن الخطاب قيل له: يا أمير المؤمنين! لو استخلفت؟ قال: إن تركتكم فقد ترككم من هو خير مني وإن استخلفت فقد استخلف عليكم من هو خير مني، ولو كان أبو عبيدة بن الجراح حيا لاستخلفته، فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيك يقول إنه أمين هذه الأمة، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لاستخلفته، فأن سألني ربي قلت: سمعت نبيك يقول: إن سالما ليحب الله حبا لو لم يخفه ما عصاه قيل له: فلو أنك عهدت إلى عبد الله فإنه له أهل في دينه وفضله وقديم إسلامه، قال: بحسب آل الخطاب أن يحاسب منهم رجل واحد عن أمة محمد صلى الله
(1) تاريخ الطبري 3 / 297. 317 عليه وسلم، ولوددت أني نجوت من هذا الأمر كفافا لا لي ولا علي. ثم راحوا فقالوا: يا أمير المؤمنين! لو عهدت؟ فقال: قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أولي رجلا أمركم أرجو أن يحملكم على الحق وأشار إلى علي، ثم رأيت لا أتحملها حيا ولا ميتا، فعليكم بهؤلاء الرهط الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم إنهم من أهل الجنة منهم سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ولست مدخله فيهم، ولكن الستة علي وعثمان ابنا عبد مناف وسعد وعبد الرحمن بن عوف خال رسول الله صلى الله عليه وسلم والزبير حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته وطلحة الخير، فليختاروا منهم رجلا، فإذا ولوكم واليا فأحسنوا موازرته. فقال العباس لعلي: لا تدخل معهم! قال: أكره الخلاف، قال إذا ترى ما تكره! فلما أصبح عمر دعا عليا وعثمان وسعدا والزبير وعبد الرحمن ثم قال: إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم وإني لا أخاف الناس عليكم، ولكني أخافكم على الناس وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنكم راض فاجتمعوا إلى حجرة عائشة بإذنها لتشاوروا واختاروا منكم رجلا، وليصل بالناس صهيب ثلاثة أيام ولا يأتي اليوم الرابع إلا وعليكم أمير منكم ويحضركم عبد الله مشيرا ولا شئ له من الأمر وطلحة شريككم في الأمر فإن قدم في الثلاثة أيام فأحضروه أمركم وإن مضت الثلاثة أيام قبل قدومه فامضوا أمركم، ومن لي بطلحة؟ فقال سعد: أنا لك به إنشاء الله. ثم قال لأبي طلحة الأنصاري: يا أبا طلحة! إن الله قد أعز بكم الاسلام فاختر خمسين رجلا من الأنصار، كونوا معه ولاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم. وقال للمقداد بن الأسود الكندي إذا وضعتموني في حفرتي فاجمع هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم، وقال لصهيب: صل بالناس ثلاثة أيام وادخل عليا وعثمان والزبير وسعدا وعبد الرحمن وطلحة إن حضر، وأحضر عبد الله بن عمر وليس له في الأمر شئ وقم على رؤوسهم. فإن
318 اجتمع خمسة على رأي واحد وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف! وإن اجتمع أربعة فرضوا وأبى الاثنان فاضرب رأسيهما، فإن رضي ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا فحكموا عبد الله بن عمر فإن لم يرضوا بعبد الله فكونوا مع الذين فبهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس وخرجوا. فقال علي لقوم معه من بني هاشم: إن أطيع فيكم قومكم فلن يؤمروكم أبدا، وتلقاه العباس فقال له: عدلت عنا! قال له: وما أعلمك؟ قال قرن بي عثمان ثم قال: إن رضي رجلان رجلا ورجلا ورجلا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فلو كان الآخران معي ما نفعاني، فقال العباس: لم أدفعك في شئ إلا رجعت إلي متأخرا بما أكره. أشرت عليك عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر فأبيت. وأشرت عليك بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعاجل الأمر فأبيت. وأشرت عليك حين سماك عمر في الشورى أن لا تدخل معهم فأبيت، فاحفظ عني واحدة: كلما عرض عليك القوم فأمسك إلى أن يولوك واحذر هذا الرهط فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم لنا فيه غيرنا. فلما مات عمر وأخرجت جنازته تصدى علي وعثمان أيهما يصلي عليه فقال عبد الرحمن: كلاكما يحب الأمر! لستما من هذا في شئ! هذا صهب استخلفه عمر يصلي بالناس ثلاثا حتى يجتمع الناس على إمام، فصلى عليه صهيب فلما دفن عمر جمع المقداد بن الأسود أهل الشورى في بيت عائشة بإذنها وهم خمسة معهم ابن عمر وطلحة غائب وأمروا أبا فروة فحجبهم، وجاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة فجلسا بالباب فحصبهما سعد وأقامهما وقال: تريدان أن تقولا حضرنا وكنا في الشورى. فتنافس القوم في الأمر وكثر بينهما الكلام كل يرى أنه أحق بالأمر، فقال أبو طلحة، لا تتدافعوا فإني أخاف أن تناقضوها، لا والذي ذهب بنفس محمد لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمر بها عمر وأجلس في بيتي، فقال
319 عبد الرحمن. أيكم تخرج منها نفسه ويتقلدها على أن وليها أفضلكم؟ فلم يجبه أحد، قال: فأنا أتخلع منها، قال عثمان: أنا أول من رضي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: عبد الرحمن أمين في السماء أمين في الأرض، فقال القوم: رضينا وعلي ساكت، فقال: ما تقول يا أبا الحسن! قال: أعطني موثقا لتوثرن الحق ولا تتبع الهوى ولا تخص ذا رحم ولا تألوا لأمة نصحا، قال: أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من نكل وأن ترضوا بما أخذت لكم. فتوثق بعضهم من بعض وجعلوها إلى عبد الرحمن فخلا بعلي فقال: إنك أحق بالأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك ولم تبعد فمن أحق بها بعدك من هؤلاء؟! قال: عثمان. ثم خلا بعثمان فسأله من مثل ذلك فقال: على. ثم خلا بسعد فقال على ثم خلا بالزبير فقال عثمان: فقال عمار ابن ياسر لعبد الرحمن: إن أردت أن لا يختلف عليك اثنان فول عليا، وقال ابن أبي سرح: إن أردت أن لا يختلف عليك قرشي فول عثمان، وقال عبد الرحمن: والله ما خلعت نفسي وأنا أرى فيه خيرا لأني علمت أنه لا يلي بعد أبي بكر وعمر أحد يرضى الناس أمره. فلما أحدث عثمان ما أحدث من تولية الأحداث من أهل بيته وتقديم قرابته قيل لعبد الرحمن: هذا كله فعلك؟ قال: لم ظن هذا به ولكن لله علي أن لا أكلمه أبدا؟ فمات عبد الرحمن وهو مهاجر لعثمان. ودخل عليه عثمان عائدا فتحول عنه إلى الحائط ولم يكلمه ". وقال ابن عبد ربه " فلما أحدث عثمان ما أحدث من تأمير الأحداث من أهل بيته على الجلة من أصحاب محمد قيل لعبد الرحمن: هذا عملك؟ قال: ما ظننت هذا! ثم مضى ودخل عليه وعاتبه وقال: إنما قدمتك على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر فخالفتهما وحابيت أهل بيتك وأوطأتهم رقاب المسلمين! فقال: إن عمر كان يقطع قرابته في الله، وأنا أصل قرابتي في الله! قال عبد الرحمن لله على أن لا أكلمك أبدا! فلم يكلمه أبدا حتى مات ودخل
320 عليه عثمان عائدا له في مرضه فتحول عنه إلى الحائط ولم يكلمه " (1). وقال ابن الأثير الجزري في (الكامل): " قال المسور بن مخرمة: خرج عمر بن الخطاب يطوف يوما في السوق، فلقيه أبو لؤلؤ غلام المغيرة بن شعبة وكان نصرانيا فقال: يا أمير المؤمنين! أعدني على المغيرة بن شعبة فإن علي خراجا كثيرا، قال: وكم خراجك؟ قال: درهمان كل يوم، قال، وأيش صناعتك؟ قال: نجار، نقاش، حداد. قال: فما أرى خراجك كثيرا على ما تصنع من الأعمال! قد بلغني أنك تقول: لو أردت أن أصنع رحى تطحن بالريح لفعلت؟! قال: فاعمل لي رحى، قال: لئن سلمت لأعملن لك رحى يتحدث بها من المشرق والمغرب! ثم انصرف عنه. فقال عمر؟ لقد أو عدني العبد الآن. ثم انصرف عمر إلى منزله، فلما كان الغد جاءه كعب الأحبار فقال له يا أمير المؤمنين! اعهد فإنك ميت في ثلث ليال: قال: وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب التورية، قال عمر: أتجد عمر بن الخطاب في التورية؟ قال: اللهم لا، ولكني أجد حليتك وصفتك وأنك قد فنى أجلك قال: وعمر لا يحس وجعا فلما كان الغد جاءه كعب فقال: بقي يومان، فلما كان الغد جاء كعب فقال: مضى يومان وبقي يوم، فلما أصبح خرج عمر إلى الصلاة وكان يوكل بالصفوف رجالا فإذا استوت كبر ودخل أبو لؤلؤة في الناس وبيده خنجر له رأسان نصابه في وسطه. فضرب عمر ست ضربات إحديهن تحت سرته وهي التي قتلته، وقتل معه كليب بن أبي بكير الليثي وهو حليفه (خلفه. ظ) وقتل جماعة غيره، فلما وجد عمر حر السلاح سقط وأمر عبد الرحمن بن عوف فصلى بالناس وعمر طريح فاحتمل فأدخل بيته. ودعا عبد الرحمن فقال له: إني أريد أن أعهد إليك، قال: أتشير علي بذلك؟! قال: اللهم لا! قال: والله لا أدخل فيه أبدا! قال: فهبني صمتا
(1) العقد الفريد 4 / 279. 321 حتى أعهد إلى النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، ثم دعا عليا وعثمان والزبير وسعدا فقال: انتظروا أخاكم طلحة ثلاثا فإن جاء وإلا فاقضوا أمركم، أنشدك الله يا علي إن وليت من أمور الناس شيئا أن تحمل بني هاشم على رقاب الناس أنشدك الله يا عثمان إن وليت من أمور الناس شيئا أن تحمل بني أبي معيط على رقاب الناس، أنشدك يا سعد إن وليت من أمور الناس شيئا أن تحمل أقاربك على رقاب الناس، قوموا أمركم فتشاوروا ثم اقضوا وليصل بالناس صهيب. ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فقال: قم على بابهم فلا تدع أحدا يدخل إليهم، وأوصى الخليفة من بعدي بالأنصار الذين تبوؤا الدار والايمان أن يحسن إلى محسنهم ويعفو عن مسيئهم، وأوص الخليفة بالعرب فإنهم مادة الاسلام أن يؤخذ من صدقاتهم حقها فتوضع في فقرائهم، وأوص الخليفة بذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفي لهم بعهدهم، اللهم هل بلغت! لقد تركت الخليفة من بعدي على أتقى من الراحة. يا عبد الله بن عمر! أخرج فانظر من قتلني، قال: يا أمير المؤمنين قتلك أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة. قال: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل سجد لله سجدة واحدة، يا عبد الله بن عمر إذهب إلى عائشة فسلها أن تأذن لي أن أدفن مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر. يا عبد الله إن اختلف القوم فكن مع الأكثر فإن تساووا فكن مع الحزب الذي فيه عبد الرحمن بن عوف، يا عبد الله إئذن للناس، فجعل يدخل عليه المهاجرون والأنصار فيسلمون عليه ويقول لهم: أهذا عن ملا منكم؟! فيقولون: معاذ الله: قال: ودخل كعب الأحبار مع الناس فلما رآه عمر قال: توعدني كعب ثلاثا أعدها * ولا شك أن القول ما قال لي كعب وما بي حذار الموت إني لميت * ولكن حذار الذنب يتبعه الذنب ودخل عليه علي يعود فقعد عنه رأسه وجاء ابن عباس فأثنى عليه فقال له عمر: أنت لي بهذا يا بن عباس! فأومأ إلى (إليه ظ) علي أن قل: نعم!
322 فقال ابن عباس: نعم! فقال عمر: لا تغرني أنت وأصحابك! ثم قال: يا عبد الله! خذ رأسي عن الوسادة فضعه في التراب لعل الله جل ذكره ينظر إلى فيرحمني والله لو أن لي ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من هول المطلع، ودعى له طبيب من بني الحرث بن كعب فسقاه نبيذا فخرج غير متغير، فسقاه لبنا فخرج كذلك أيضا، فقال له: اعهد يا أمير المؤمنين! قال: قد فرغت ". وقال في بيان قصة الشورى: " وقال لأبي طلحة الأنصاري: يا أبا طلحة! إن الله طالما أعز بكم الاسلام فاختر خمسين رجلا من الأنصار فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم، وقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني في حفرتي فاجمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلا، وقال لصهيب: صل بالناس ثلاثة أيام وادخل هؤلاء الرهط بيتا وقم على رؤوسهم فإن اجتمع خمسة وأبى واحدا فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما، وإن رضي ثلاثة رجلا فحكموا عبد الله بن عمر، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع فيه الناس، فخرجوا فقال علي لقوم معه من بني هاشم: إن أطيع فيكم قومكم لم تؤمروا أبدا وتلقاه عمه العباس فقال: عدلت عنا! فقال وما علمك؟! قال: قرن بي عثمان وقال كونوا مع الأكثر فإن رضي رجلان رجلا ورجلان ورجلا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن، فسعد لا يخالف ابن عمه وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون فيوليها أحدهما الآخر، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني ". وقال: " ودعا عليا وقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده، قال: أرجوا أن أفعل فأعمل بمبلغ علمي وطاقتي، ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي فقال نعم، نعمل، فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يده عثمان، فقال: اللهم اسمع واشهد! اللهم إني قد جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان فبايعه.
323 فقال علي: ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك، والله كل يوم في شأن فقال عبد الرحمن: يا علي! لا تجعل على نفسك حجة وسبيلا، فخرج علي وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله. فقال المقداد: يا عبد الرحمن! أما والله لقد تركته وإنه من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون، فقال يا مقداد! والله لقد اجتهدت للمسلمين. قال: إن كنت أردت الله فأثابك الله ثواب المحسنين، فقال المقداد: ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم، إني لأعجب من قريش إنهم تركوا رجلا ما أقول ولا أعلم أن رجلا أقضى بالعدل ولا أعلم منه، أما والله لو أجد أعوانا عليه! فقال عبد الرحمن: يا مقداد: اتق الله، فإني خائف عليك الفتنة، فقال رجل للمقداد رحمك من أهل هذا البيت ومن هذا الرجل؟ قال: أهل البيت بنو عبد المطلب والرجل علي بن أبي طالب. فقال علي: إن الناس ينظرون إلى قريش وقريش تنظر بينها فتقول: إن ولي عليكم بني هاشم لم تخرج منهم أبدا وما كانت في غيرهم تتداولوها بينكم " (1). وقال أبو الفداء " ثم دخلت سنة أربع وعشرين فيها عقب موت عمر اجتمع أهل الشورى وهم علي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، وكان قد شرط عمر أن يكون ابنه عبد الله شريكا في الرأي ولا يكون له حظ في الخلافة، وطال الأمر بينهم وكان قد جعل لهم عمر مدة ثلاثة أيام وقال: لا يمضي اليوم الرابع إلا ولكم أمير وإن اختلفتم فكونوا مع الذي معه عبد الرحمن. فمضى علي إلى العباس رضي الله عنهما وقال له: عدل عنا لأن سعدا لا يخالف عبد الرحمن لأنه ابن عمه وعبد الرحمن صعر عثمان، فلا يختلفون فيوليها أحدهم الآخر، فقال العباس: لم أدفعك عن شئ إلا رجعت إلي
(1) الكامل في التاريخ 3 / 35. 324 مستأخرا، أشرت عليك قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسأله فيمن يجعل هذا الأمر فأبيت، وأشرت عليك حين سماك عمر في الشورى أن لا تدخل فيهم فأبيت، وهذا الرهط لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقول له غيرنا وأيم الله لا يناله إلا بشر لا ينفع معه خير. ثم جمع عبد الرحمن الناس بعد أن أخرج نفسه عن الخلافة فدعا عليا فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده، فقال: أرجو أن أفعل وأعمل مبلغ علمي وطاقتي، ودعا بعثمان وقال له مثل ما قال لعلي (فقال: نعم. صح. ظ) فرفع عبد الرحمن رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان وقال: اللهم اسمع واشهد، اللهم إني جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان وبايعه. فقال علي: ليس هذا أول يوم تظاهرتم علينا فيه، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك، والله كل يوم هو في شأن! فقال عبد الرحمن: يا علي: لا تجعل على نفسك حجة وسبيلا، فخرج علي وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله. فقال المقداد بن الأسود لعبد الرحمن: والله لقد تركته - يعني عليا - وإنه من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون، فقال: يا مقداد! لقد أجهدت (اجتهدت: ظ) للمسلمين، فقال المقداد: إني لأعجب من قريش أنهم تركوا رجلا ما أقول ولا أعلم أن رجلا أقضى بالحق ولا أعلم منه، فقال عبد الرحمن: يا مقداد اتق الله فإني أخاف عليك الفتنة. ثم لما أحدث عثمان رضي الله عنه ما أحدث من تولية الأمصار للأحداث من أقاربه روي أنه قيل لعبد الرحمن بن عوف، هذا كله فعلك! فقال: لم أظن هذا به لكن لله علي أن لا أكلمه أبدا، ومات عبد الرحمن وهو مهاجر لعثمان رضي الله عنهما ودخل عليه عثمان عائدا في مرضه فتحول إلى الحائط ولم يكلمه " (1).
(1) المختصر في أحوال البشر 1 / 166. 325 (قال الميلاني): الحمد لله حمد الشاكرين على أن وفقنا لإتمام مجلد (حديث الثقلين) من هذه الموسوعة، ونسأله تعالى أن يتقبل هذا العمل وسائر أعمالنا بفضله وكرمه، وأن يوفقنا للاعتصام بالثقلين والحشر معهما في الدنيا والآخرة. إنه سميع مجيب وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.