منار الهدى في النص على إمامة الإثني عشر (ع) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

منار الهدى في النص على إمامة الإثني عشر (ع) - نسخه متنی

علی بحرانی؛ محقق: عبدالزهرا خطیب

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: منار الهدى في النص على إمامة الإثني عشر (ع)
المؤلف: الشيخ علي البحراني
الجزء:
الوفاة: 1340
المجموعة: ردود علماء المسلمين على الوهابية والمخالفين
تحقيق: تنقيح وتحقيق وتعليق : السيد عبد الزهراء الخطيب
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: 1405 - 1985 م
المطبعة:
الناشر: دار المنتظر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:
منار الهدى
في النص على إمامة الأئمة الاثني عشر (ع)

1
منار الهدى
في النص على إمامة الأئمة الاثني عشر (ع)
تأليف
العلامة النحرير والمحدث الخبير
الشيخ علي البحراني
نقحه وحققه وعلق عليه
السيد عبد الزهراء الخطيب
دار المنتظر
بيروت - لبنان

3
الطبعة الأولى
كافة الحقوق محفوظة للمحقق
1405 ه‍ - 1985 م
دار المنتظر للطباعة والنشر والتوزيع
بيروت - لبنان ص. ب 234 / 25

4
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة التحقيق
قضية الإمامة من قضايا الإسلام الكبرى، بل هي أكبرها بل كل ما
حدث في الإسلام من القضايا منحدر منها، ومتفرع عنها، وقد حصل
الخلاف فيها والنزاع عليها يوم لحق الرسول (صلى الله عليه وآله)
بالرفيق الأعلى بل وقبل أن يوسد في الثرى وهذا من المسلمات التي لا مرية
فيها، وانقسمت الأمة الواحدة إلى مذاهب يطول عرضها، سنة وشيعة،
أشاعرة ومعتزلة إلى آخر ما هنالك.
وصار لكل مذهب من هذه المذاهب أصوله وفروعه التي يتميز بها عن
المذهب الآخر، بل تشعب المذاهب الواحد إلى شعب متفرقة، ولم يقتصر
خلافهم على مسألة الإمامة فحسب، فهم بعد أن آمنوا بالله تعالى وملائكته
وكتبه ورسله واليوم الآخر، اختلفوا في صفاته سبحانه وتعالى، كما اختلفوا
في الأنبياء من حيث أفضليتهم على الملائكة أو أفضلية الملائكة عليهم، وفي
عصمتهم وعدمها، وإذا كانت هل هي قبل النبوة أو بعدها، وهل هي من
كبائر الذنوب وصغائرها، وهل في التبليغ وغيره، وفي القرآن الكريم من
حيث القدم والحدوث، وفي المعراج هل هو بالروح أو الجسد أو بهما جميعا،
وفي القبر ونعيمه وعذابه، وفي خلق الجنة والنار وعدمه إلى آخر ما هو
مسطور في كتب الملل والنحل.

5
ولم يقتصر الخلاف على الأصول والعقائد بل انسحب على الفروع
بقسميها التكليفي والوضعي، وربما اختلف أهل المذهب الواحد في المسألة
الواحدة في كثير من مسائل العبادات والمعاملات تعرف ذلك بأول نظرة إلى
الكتب التي حفلت بالفقه المقارن ومسائل الخلاف.
وكل ما ذكرنا فرع عن الخلاف في الإمامة. وليت الخلاف اقتصر على
الكلام والجدل بل تخطاه إلى ما هو أدهى وأمر فكم قامت من حروب،
وسفكت دماء، وهتكت حرمات، واستبيحت محرمات، وبيعت ضمائر،
واشتريت ذمم وقد وصف ذلك عالم من علماء الأزهر وكاتب من كتاب مصر
صفة لم يسبق فيها.
يقول الشيخ عبد الله عفيفي في كتابه القيم " المرأة العربية في جاهليتها
واسلامها 2 / 135 ": ما زال المسلمون منذ لحق النبي بربه وهم من أمر
خليفته، والقائم بالأمر من بعده، في فتنة غاشية تعصف بهم تارة وتقر دونهم
رابضة مترصدة متحفزة تارة أخرى، فهي يومئذ غافية غفوة الذئب نائمة
هاجعة ساكنة مستجمعة، كذلك تدافعت الحقب على الخلاف والدم ينغر من
حروفها، والمهج تسيل على أطرافها، وشفار السيوف تصل من أقطارها،
ورسل الموت رائحة بأسود الغابة، وفتيان الضراب من كل معتزم لو جرد في
سبيل الله عزمته لفل بها الصفوف، وجندل الألوف.. ". حتى قال
الشهرستاني في الملل والنحل 1 / 27: " أعظم خلاف بين الأمة خلاف
الإمامة، إذا ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية في كل زمان مثل ما
سل على الإمامة في كل زمان " فمن يوم الدار إلى يوم الجمل وصفين
والنهروان، ثم من فاجعة كربلا إلى يوم الحرة إلى انتهاك حرمة البلد الحرام
والمسجد الحرام وإلى آخر ما تعرض له التاريخ في طوله وعرضه، ولعل ما خفي
على الناس أكثر، إذ أن التاريخ كتبته السياسة، وليس بوسع الباحث أن

6
يطمئن إلى كثير مما نقل فيه.
وليست لتلك البداية نهاية إلا أن يشاء الله تعالى فما زلنا نقاسي آلام
تلك الفتن والمحن ونتجرع مرارتها.
وعسيت أن تقول - كما قال بعضهم -: إذا كان الأمر كذلك فلماذا " لا
يسد هذا الباب، لأن وجود الإمام الذي ترتضيه الأمة وتتفق عليه متعذر،
لأن آراء الناس مختلفة، وأهواءهم متباينة، وقلوبهم شتى، وهذا يستدعي إثارة
الفتن، وقيام الحروب، والتجربة التي مر بها الأولون يجب أن يعتبر بها
التالون، فاللازم ترك هذا الأمر والابتعاد عن هذا المحذور ".
وهذا القول قد يروق لبعض الناس، ويروونه جميلا في ظاهره لولا
الوقوع في محذورين:
الأول: فسح المجال للطغاة والمستبدين ليتحكموا في رقاب الناس
وأعراضهم وأموالهم، ويحكموا فيهم بغير ما أنزل الله سبحانه.
الثاني: لزوم أمر الإمامة، إذ ليس للمسلم مندوحة عنها، لأن أمر
الإمامة لازم لا يكمل الدين ولا يتم الإيمان إلا به، ولا يقوم الإسلام إلا
عليه، لتعلق أمور الدنيا والآخر بها، لأن القرآن الكريم ينادي: {يوم ندعو
كل أناس بإمامهم} (1) والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من مات ولم
يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) والله لا يريد أن يطبق في الأرض إلا
حكمه {إن الحكم إلا لله} (2). {ومن أحسن من الله حكما لقوم
يوقنون} (3). {ومن لم يحكم بما أنزل فأولئك هم الكافرون... هم



(1) الاسراء: 71.
(2) الأنعام: 57، يوسف: 40 و 47.
(3) المائدة: 50.
7
الظالمون... هم الفاسقون} (1) والقرآن لم ينزل ليوضع بين يدي الحكام
للحلف به والحكم بغيره، أو لتفتتح به الإذاعات، ثم يعقبه ما لا يرضي الله
تعالى، أو ليكون زخارف تعلق على الجدران، أو تمائم تناط بالأعناق، أو
ليتلى في المآتم، أو ينقش على ألواح القبور، أو ليطرح عليها، القرآن أنزل
للأحياء لا للأموات، وللعمل لا للتلاوة فحسب.
وهيهات أن تنفذ أحكامه، وتقام حدوده ما لم يكن بين الناس من يؤتمن
على حفظه، ويقوم بتطبيقه، ولا يمكن أن يقوم بهذه المهمة، أو يضطلع
بهذه المسؤولية إلا شخص له صفات خاصة تؤهله لهذا المقام الأسمى،
وذلك هو الذي تجب طاعته، ويلزم اتباعه، لأنه خليفة الرسول، والقائم
مقامه {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (2) وهو ولي الأمر الذي أمر الله
تعالى باتباعه {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} (3) وموضع
ذي بال كهذا لا بد أن ينال من اهتمام العلماء - على اختلاف مذاهبهم - ما لم
ينله موضوع سواه، ولذا كثرت المؤلفات في الإمامة من صدر الإسلام وإلى
يوم الناس هذا حتى تجاوزت العشرات بل المئات من المجلدات تعرف ذلك
بمراجعة معجمات الرجال، وفهارس الكتب، عدا من تعرض لذلك ممن
خصصوا لهذا الموضوع في كتبهم أبوابا، أو تعرضوا لذكره استطرادا، وقد
طال الكلام فيها وعرض، في وجوبها وعدمه، وإذا وجبت هل هل هي
واجبة على الله تعالى أم على الخلق؟ وهل هذا الوجوب من جهة الشرع أو
العقل، أو من قبلهما معا، وفي صفات الإمام من حيث العصمة وعدمها
والقرشية وغيرها، وهل وهل وهلم جرا.



(1) المائدة: 44 و 45 و 47.
(2) النساء: 80.
(3) النساء: 59.
8
وقد كان عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي: تعرض لذلك في مواطن
عديدة في شرحه على نهج البلاغة، وتحامل على الإمامية، وانبرى لنقض
أقوالهم بكل ما أوتي من بلاغة في القول، وبراعة في الكلام.
وذلك ما حدى بطائفة من علماء الإمامية لإفراد كتب في الرد عليه.
وكان من جملة من تصدى للرد على ابن أبي الحديد، ونقض كلامه صاحب
" منار الهدى " وفي أثناء رده على ابن أبي الحديد تعرض أيضا للرد على علاء
الدين علي بن محمد القوشجي المتوفى سنة 879 ه‍ من أكابر علماء الأشاعرة
في كلامه حول الإمامة في كتابه المعروف ب‍ (الجديد في شرح التجريد) أي
تجريد الاعتقاد لنصير الدين الطوسي إذ لا يقل عن ابن أبي الحديد في الميل
على الإمامية، والطعن في عقائدهم كما ستطلع على الكثير من ذلك في ثنايا
هذا الكتاب.
أما صلتي ب‍ (منار الهدى) وعملي فيه، فأني كنت قد اطلعت على هذا
الكتاب مصادفة قبل أربعين عاما تقريبا في مكتبة أحد الأعلام في كربلاء
فتصفحت جملا من فصوله في صفحات مختلفات فاستحسنت بعضها، وراقني
كثير منها، ثم لم أره بعد ذلك الحين إلا قبل ثلاث سنوات أثناء إقامتي في
البحرين فهاجت بي الذكرى، وأخذني الحنين إلى أيام الشباب، فأعدت
النظر فيه، فرأيت أن أخرج مصادره، وأعلق عليه ففطنت لشئ فيه هو أن
المؤلف قوي الحجة، ناصع البرهان إلا أن في لهجته شيئا من الغلظة والشدة
على خصميه - المعتزلي والقوشجي - كنت أتمنى لو أنه كان لين العريكة
معهما، فرأيت أن أخفف منها، وألطف بعضها بشئ من التنقيح والتهذيب
على أن لا أغير شيئا من معناه وأن تغير شئ من مبناه، وقد حاولت أن
أحافظ على عبارات المؤلف ما وجدت إلى ذلك سبيلا.
ولا يسمى عملي هذا تصرف في الكتاب، أو تحريف له فالتنقيح

9
والتهذيب، والاختصار والتجريد طريق سلكه كثير من الفضلاء قبلي، ثم
رأيت أن أسميه من بعد ذلك ب‍:
(أشعة من منار الهدى)
أما مؤلف " منار الهدى " فهو الشيخ علي بن عبد الله بن علي البحراني
الستري علم من أعلام البحرين، ذلك البلد الطيب الذي أنجب كثيرا من
العلماء والفقهاء، والفلاسفة والحكماء، والأدباء والشعراء في ماضي الدهر
وحاضره.
كما عرف بالولاء لأهل البيت عليهم السلام منذ أن دخله الإسلام، أو
منذ أن دخل هو طواعية في الإسلام أيام رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) حيث قد تعاقب عليه ولاة عرفوا بالتشيع لعلي عليه السلام أمثال
أبان بن سعيد بن العاص الأموي والعلاء بن الحضرمي، وساعد في ذلك
تهجير زياد بن أبيه في أيام ولايته على العراق جماعة عرفوا في ولاء أهل البيت
ومحبتهم، ولجوء آخرين إلى البحرين فرارا من بطش الحجاج أيام بني
مروان، فأسسوا للإيمان قواعد راسخة، وشيدوا للعلم صروحا شامخة، لا
تزعزعها القواصف مهما اشتدت الأعاصير، وعصفت الرياح.
ولد المؤلف في البحرين ولم تذكر لنا المصادر تاريخ ولادته، لا مسقط
رأسه من قرى البحرين، والمظنون أنه ولد في قرية " سترة " وهي القرية
التي ينسب إليها، نشأ في البحرين، وتعلم فيها، وتخرج بعلمائها وخصوصا
والده وهو أيضا من العلماء الأعلام، فعل وانتهل حتى ارتوى - وإن كان
طالب العلم لا يشبع نهمه ولا تروى غلته ما دام يتنسم روح الحياة - فأصبح
عالما يشار إليه بالبنان، وفقيها يرجع إليه في الأحكام، ثم بدا له أن يهاجر
إلى مطرح من بلاد عمان لحاجة الناس إليه هناك، ولكثرة العلماء في البحرين

10
فحل بينهم، يهذب النفوس، ويشحذ الأفكار، ويطهر القلوب، ويدعو
إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وهدى الله به إلى الحق أمة من
الناس، حتى قيل: إنه تحول بسببه إلى مذهب أهل البيت عليهم السلام
أكثر من ثلاثين ألفا، وصار له هناك من جليل الآثار، وصالح الأعمال ما
يذكر به، ويشكر عليه.
ثم بعد ما أصاب هدفه، ونال قصده تحول إلى " لنجه " أحد مواني
إيران الشمالية، ليواصل دعوته فقام فيها بما قام به في سابقتها ومكث فيها
بقية أيامه حتى لقي ربه مسموما من قبل أعداء الله الذين كبر عليهم ما
يدعوهم إليه، فكان أحد " شهداء الفضيلة " وذلك في شهر جمادى الأولى
سنة 1319 ه‍. فكان يومه مشهودا، وكان لفقده رنة حزن وأسى من كل
من عرف فضله، واستضاء بنور علمه، تغمده الله برحمته، وحشره مع من
يتولاه.
أما آثاره العلمية فهي:
1 - رسالة عملية في الطهارة والصلاة.
2 - رسالة في الفرق بين الإسلام والإيمان.
3 - رسالة في التوحيد.
(4) رسالة في نقض الاختيار في الإمامة.
5 - رسالة في وجوب الاخفات في البسملة في ثالثة المغرب والركعتين
الأخيرتين من العشاء.
وقد نقض هذه الرسالة الشيخ صالح بن أحمد البحراني رحمه الله.
6 - رسالة في التقية.
7 - رسالة في المتعة.
8 - قامعة أهل الباطل في الرد على محرمي الشعائر الحسينية. ط

11
9 - أجوبة المسائل المسقطية.
10 - لسان الصدق في الرد على بعض أحبار النصارى.
11 - منار الهدى وهو هذا الكتاب الذي بين يديك وقد قرظه الشيخ علي
البلادي صاحب كتاب " أنوار البدرين " بقوله:
هذا " منار الهدى " حقا وذا علمه *
هذا لسان الهدى صدقا وذا قلمه
فالزم محجته، واسلك طريقته *
تلقى النجاة يقينا حين تلتزمه.. الخ.
استقينا هذه الترجمة من كتاب " شهداء الفضيلة " للشيخ عبد الحسين
الأميني صاحب كتاب " الغدير "، وكتاب " أنوار البدرين " للشيخ علي
البلادي، " والذريعة " لاغا بزرك الطهراني، وما نقله لي شفاها كل من
سماحة العلامة الجليل السيد جواد الوداعي، والخطيب الفاضل الشيخ محمد
صادق العصفور وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
بيروت 20 محرم الحرام سنة 1405.
عبد الزهراء الحسيني الخطيب

12
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الغني لذاته، والمتوحد بصفاته، والمتفرد في أفعاله الذي لم يشاركه
أحد في صنع مخلوقاته، ولم يوازره وزير في إنشاء برياته، الذي لم يخلق الخلق
عبثا، ولا فطر السماوات والأرض وما بينهما باطلا {ذلك ظن الذين كفروا
فويل للذين كفروا من النار} (1) الذي لم يكلف عباده شططا، ولم يتركهم
سدى، ولم يعذب أحدا من خلقه حتى يبعث إليهم رسلا يدلونهم على طريق
الهدى ويصدونهم عن سبيل الردى تقوم له بهم على العباد الحجة، وتستبين بهم
المحجة لئلا تكون للناس على الله حجة بعد الرسل، والصلاة والسلام على
من ختمت به النبوة وكملت به الرسالة ووضحت به الدلالة، وقامت به
الحجة وتمت به النعمة واجتمعت به الكلمة وحصلت به الألفة، وائتلفت به
القلوب المختلفة، وانتظمت به أمور الناس بعد المباينة والفرقة، واتفقت به
الأهواء المتشتتة، والآراء المتشعبة، ولم الله به الشعث وشعب به الصدع،
وآمن به السبل، وصدق به الرسل، وفضله على جميع من خلق ونسخ
بشرعه أديان من سبق وأنزل عليه قرآنا مجيدا وفرقانا حميدا، أقام به الأود (2)
وهدى به إلى الراشد وسوى به العوج، وفك به من الرنج (3) إمام المتقين



(1) سورة ص: 7.
(2) الأود - بالتحريك -: الاعوجاج.
(3) العوج - بكسر ففتح -: الالتواء وعدم الاستقامة، والرتج - بالتحريك -: المغلق.
13
وسيد المرسلين وشفيع يوم الدين سيدنا ونبينا محمد بن عبد الله النبي الأمي،
وعلى آله البررة الأخيار الناسجين على منواله، والمقتفين أثره في أفعاله
وأقواله، حجج الله على بريته، وخلفاء رسوله على أمته الحافظين لكتابه
وسنته والعاملين بأحكام شريعته والمطهرين من مقارفة معصيته، والمنزهين عن
ارتكاب مخالفته الذين ماز (1) الله بولايتهم الخبيث من الطيب ببديع حكمته
كما قال في محكم كتابه {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز
الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب..} (2) ففرض
ولاءهم على لسان نبيه الكريم الأمين فامتاز به الغث من السمين، وأبى عن
حمله من خبثت طينته من الأشقياء وسارع لحمله وقبوله من سبقت له من الله
الحسنى، وعلى أصحابه المنتهين إلى أمره والمنزجرين بزجره ما هدل
الحمام (3) وهطل الغمام.
أما بعد:
فيقول المفتقر إلى فيض ربه السبحاني علي بن عبد الله بن علي البحراني
ألهمه الله تقواه وأتاه هداه: إن أمر الإمامة والإمام، مما شاع فيه بين الأمة
الجدال والخصام، وطال فيه البحث والكلام، وبذل كل فريق جهدهم
في إثبات ما ذهبوا إليه، وأجهد كل قوم أنفسهم في
تقوية ما اعتمدوا عليه، فكم جمع أصحابنا المتقدمون فيه
من مصنف فائق، وكم حرر أسلافنا الصالحون فيه من مؤلف رائق أقاموا في
تلك الصحف والمصنفات على صحة مذهبهم الأدلة الواضحة، وأظهروا عليها
البراهين اللائحة، التي انجلى غبارها وسطع منارها مما فيه كفاية كل طالب
ومنتهى رغبة كل راغب بحيث لم تبق لقائل مقالة ولا لمتعلل علة ولا لخصم



(1) ماز - هنا - بمعنى: فزر.
(2) آل عمران: 179.
(3) هدل الحمام هديلا: صوت.
14
عذر إلا مكابرا مال عن التحقيق وتنكب قصد الطريق بالشبهة وحاد بسوء
النظر عن سواء المحجة فتاه في فيافي الضلالة، وارتكس في غمرات الفتنة ممن
جعل شهوة نفسه أمام عقله، وصير الخطأ صوابا بجهله واقتصر من الدليل
على حقية مذهبه وتصحيح طريقته على تقليد الأسلاف وحسن الظن فيمن
تحقق منهم لله ولرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) الخلاف، ممن حقت
عليهم كلمة العذاب بتركاضهم (1) في مهاوي الشك والارتياب وتهافتهم على
الدنيا تهافت الفراش والذباب، فخالف الرشاد على عمد وسلك
فج الهلاك مقدرا للسلامة والنجاة، وليس إعراض المعاند عن
الهدى بناقض للحق ولا حجاج المكابر بمبطل للصدق ولا إنكار
الجاحد بموهن لما أقامه أصحابنا من الدليل ولا بمبهم لما أوضحوه في تلك الزبر
من نهج السبيل، بل كان ما زبروه كافيا وما رقموه شافيا، وإنما أنكره من
انحرف فهمه كما ينكر الماء العذب من انحرف مزاجه والداء إنما هو منه لا
من الماء، فشكر الله مساعيهم الجميلة وضاعف مثوباتهم الجزيلة، وجعلنا
من المنتظمين في سلك عقدهم والواردين صافي وردهم، بيد (2) أن التصنيف
الحادث لا يفقد فائدة اهملها الأولون والتأليف الجديد لا يعدم التنبيه على
دقيقة أغفلها السابقون، لاستغنائهم عن إيرادها في ذلك الزمان
وتجدد الحاجة إليها في هذه الأزمان، فلذا تجشمت هذه الخطة
وخضت هذه اللجة وولجت هذه الغمرة، مع قلة البضاعة وكثرة الإضاعة،
ومكابدة المحن ومعاناة صروف الزمن وتوارد الهموم وتتالى الغموم وغربة



(1) التركاض: مبالغة في الركض، واستعاره لسرعة خواطرهم في الضلال.
(2) بيد: اسم ملازم للإضافة إلى " أن " ومعموليها ومعناه: غير إلا أنه لا يقع إلا
منصوبا، ولا يقع صفة، ولا يستثنى إلا استثناء مقطعا تقول: فلان كثير المال بيد
أنه بخيل، وقد تكون بمعنى: من أجل كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا
أفصح من نطق بالضاد بيد أني من قريش) أي من أجل أني من قريش والمراد بالمتن
المعنى الأول.
15
الديار والابتلاء بمعاشرة الأغمار (1) ومصاحبه الأغيار وكثرة الحساد ومقاساة
الأمور الشداد، فصنفت هذا الكتاب المحتوي على إثبات النص على مولانا
أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب وأولاده الأحد عشر المعصومين
صلوات الله عليهم أجمعين بالإمامة، معتصما بالله ومتوكلا عليه في
الاسعاف، والإعانة على ما طلبت والتسديد والارشاد إلى ما قصدت، فلا
حول ولا قوة إلا به، ولا انتصار إلا بنصره، ولا التجاء إلا إلى منيع عزه،
ولا استمداد إلا من إلهامه ولا استعانة على أمر إلا بمعونته وتوفيقه، ورغبت
إليه أن يجعله للمسترشدين مرشدا وللسائلين، منجحا، وللسالكين سبيل
الانصاف هاديا، وأن يجعله لي في القيامة ذخرا، وإليه مقربا وأن يجعلني لثوابه
مستحقا، ويجعل لي به عند النبي (صلى الله عليه وآله) وسيلة
وقربا، ويزرع لي به في قلوب المؤمنين ودا أنه مجيب الدعوات ومعطي
الأمنيات، واقتصرت في مقام الحجة على ذكر ما صح عند الخصوم من دليل
عقل معروف عدله، أو آية محكمة فيها بيان الأمر وفصله، أو خبر ثبت في
صحاح أخبارهم والمعول عليه من كتبهم، مما وضح معناه ودليله وبان جده
وزال هزله، ولم أذكر في خلال المباحث حديثا من طرقنا خاصة إلا لمرام آخر
كالبيان لأصحابنا ما يدل على قولنا من أحاديث أئمتنا (عليه السلام) لتزداد
بصيرتهم كما ذهبت حيرتهم لا لاحتج به على الخصم فإنه لا يجوز الاحتجاج
على أحد إلا بما يعتقد صحته ويسلم حجيته، وذلك سبيل الانصاف وصراط
من جانب الزيغ والاعتساف، (2) وقد بذلت فيه جهدي وأتعبت فيه كدي
وجريت فيه إلى غاية مقدرتي، طلبا لمرضاة الله وتقربا به إلى رسول الله
(صلى الله عليه وآله) ونصرا لدين الله عز وجل ووسمته إذ سميته



(1) الأغمار - جمع غمر بتثليث الغين المعجمة وإسكان الميم - وهو الجاهل.
(2) الزيغ: الميل، والاعتساف: الأخذ على غير الطريق وفي معناه التعسف والعسف
أيضا.
16
ب‍ (منار الهدى في إثبات النص على الأئمة الاثني عشر النجباء) ورتبته على
مقدمة وفصلين مستعينا على تحقيقه وتنميقه برب الثقلين.
اللهم افتح لي أبواب فضلك وانشر علي من خزائن علمك، اللهم زدني
علما وفهما واشرح لي صدري ويسر لي أمري، وثبت قدمي واعصم من الزلل
والخطل قلبي، (1) واجر الحق على لساني إنك ذو الفضل العظيم، بحق
نبيك الكريم وآله الأبرار أولي الشرف القديم وبحق من عظمت قدره من
خلقك يا رب العالمين.



(1) الخطل: المنطق الفاسد المضطرب.
17
المبحث الأول
في بيان معنى الإمامة
في بيان معنى الإمامة، قد عرفها المتكلمون وحدوها: بأنها رئاسة عامة
في أمور الدين والدنيا لشخص إنساني خلافة عن النبي، فخرج بقيد العموم
مثل رئاسة القاضي وأمير الحاج وأمير الجيش وأمير بلاد وناحية ورئاسة
من جعله الإمام نائبا عنه مطلقا لأنها لا تعم الإمام، وفي الدين والدنيا
متعلق تلك الرئاسة، والمراد بالدنيا هنا ما يتعلق بأمر المعاش من إصلاح
البلاد وإزالة الفساد وأخذ الحقوق وغير ذلك، وبقيد الشخصية تعدد الإمام
في العصر الواحد، فلا يكون مستحق الإمامة في عصر واحد أكثر من إمام
واحد إذ لا يجوز في عصر واحد إمامان لاستلزامه التكليف. بالمحال، وبيان
ذلك: أن الإمام واجب الطاعة على المكلفين البتة، فلو كانا اثنين في عصر
واحد فأمر أحدهما بأمر ونهى الآخر عنه فإنه يجب بحكم الطاعة لهما فعل ذلك
المأمور به وتركه في حال واحدة وظاهر أن ذلك محال، وما يستلزم المحال
محال، ثم يلزم أما ترك طاعتهما معا فيخرجان عن كونهما واجبي الطاعة
وامتثال قول أحدهما دون الآخر وحينئذ إما أن يكون بغير مرجح والترجيح
بغير مرجح قبيح عقلا فهو غير جائز، وإما أن يكون لمرجح فكان واجب
الطاعة بالمرجح هو الإمام البتة (1)، وخرج الآخر عن كونه إماما وهو المطلوب،



(1) البتة: الأمر المقطوع به وينصب على المصدر.
19
وبعبارة أخرى: لو كان في عصر واحد إمامان واجبا الطاعة فأمر أحدهما
بشئ ونهى الآخر عنه فإما أن يجب امتثال أمرهما معا فيجب فعل ذلك
الشئ وتركه في حال واحدة وذلك ممتنع لامتناع اجتماع الضدين، أو عدم
امتثال أمرهما معا فيكون من هو واجب الطاعة محرمة طاعته في حال واحدة
هذا خلف أو ترجيح قول أحدهما بغير مرجح وهو قبيح أو تقديم قول أحدهما
لمرجح فيكون هو الإمام ويخرج الآخر عن الإمامة لعدم وجوب طاعته فلما
كان في اجتماع إمامين في عصر واحد لزوم المحال أو خلاف المفروض من
طاعة الإمام والترجيح بدون المرجح وجب وحدة الإمام في الزمان الواحد،
ولذا ورد عن مولانا أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام) أنه سئل:
أيكون إمامان في عصر واحد؟ قال: (لا إلا وأحدهما صامت) (1) ومن هذا
بطل ما ينقل عن الزيدية من جواز نصب إمامين في عصر واحد كل واحد في
ناحية (2)، وهذا لا يرفع التناقض ولا يزيل المحذور إن لم يزده لو فرض
صدور أمر كل منهما إلى أهل ناحية الآخر بشئ وصدر من الآخر نهي أهل
ناحيته عنه تقدير طاعة أهل الناحيتين لكلا الإمامين واستشراء الفساد
بعصيان كل من أهل الناحيتين لإمام الأخرى عند طلبه منهم الطاعة فيحدث
القتال ويشيع الجدال، ومن هذا علم بطلان ما قيل: إن غاية الأمر أنه لا بد
في كل اجتماع من رئيس مطاع منوط به النظام والانتظام، لكن من أين
يلزم عموم رئاسته جميع الناس وشمولهما أمر الدين والدنيا على ما هو المعتبر في
الإمام؟ مع أنه أجاب عنه أهل الاختيار: بأنا نعلم أن انتظام أمر الدين
والدنيا على جهة العموم على وجه يؤدي إلى الصلاح فيهما مفتقر إلى رياسة
عامة لأنه لو تعدد الرؤساء في الأصقاع والبقاع لأدى إلى منازعات ومخاصمات



(1) الكافي (الأصول: كتاب الحجة) 1 / 136.
(2) نقله عن الزيدية الشهرستاني في الملل والنحل 1 / 155.
20
تؤدي إلى اختلال النظام، ولو كانت الرئاسة مقصودة على الدنيا لفات انتظام
أمر الدين الذي هو المقصد الأهم من الإمامة انتهى.
فإن قيل: نفرض اتفاق الأئمة في الأمر والنهي فيزول المحذور، قلنا: أنتم
تجعلون الإمام كواحد من المجتهدين فهذا الفرض غير ممكن الحصول على
قولكم لأن اتفاق المجتهدين في جميع أحكام الدين وأمور الدنيا مما لم يقع ولا
يقع أبدا على أن التزام هذا الفرض يقتضي الحكم بوحدة الإمام، لأن الآمر
والناهي على قولكم واحد والباقين موافقون له في الحالين تابعون لأمره ونهيه
فيكون هو الإمام وأولئك أتباعا له فهم من جملة الرعية المطيعين فلا تعدد على
هذا في الإمام إذ لا رئاسة لمن لا يأمر ولا ينهى إلا تبعا لغيره،
وبالجملة فالمعتمد هو وجوب وحدة الإمام في العصر واستقلاله بالنهي
والأمر وعموم رئاسة على جميع المكلفين.
وبقيد الإنسان يخرج الملك وغيره فلا يكون الملك إماما قال الله تعالى:
{ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون} (1) وورد عن
أبي جعفر الباقر (عليه السلام): (إن لله لم ينزل ملائكة يجعلهم في الأرض
حكاما وإنما جعل ذلك من البشر، قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلا
رجالا نوحي إليهم من أهل القرى} (2) وإذ امتنع أن يكون الرسول ملكا
امتنع أن يكون الإمام كذلك للأولوية أو للاشتراك في العلة وهي عدم قيام
الحجة على المكلفين بإتيان الملك بما هو خارق للعادة لعدم ثبوت كونه معجزا
لاحتمال أنه من قدرة الملك لا من فعل الله لتصديقه في دعواه الرسالة لأن
قدرة البشر تعجز عن قليل من قدرة الملك فلم يكن في إتيانه بما يعجز عنه
البشر معجزة تقوم بها الحجة على صحة رسالته وغير ذلك من العلل ليس هنا



(1) الأنعام: 9.
(2) يوسف: 109.
21
مقام بيانها ومحله مبحث النبوة، وهذا يتمشى على قواعدنا من اشتراط
المعجزة في الإمام كالنبي، وعلى قواعد غيرنا للسمع والأولوية، أو لأنه
نائب عن النبي فيجب أن يكون من نوعه أو علة أخرى.
وبقيد الخلافة خرجت النبوة، وفي بعض الحدود نيابة عن النبي والمعنى
واحد، ونقل عن بعض الفضلاء أنه عرف الإمامة بأنها رئاسة عامة في أمور
الدين والدنيا لشخص إنساني بحق الأصالة، قيل: واحترز به عن نائب
يفوض إليه الإمام عموم الولاية فإن رئاسته عامة لكن ليست بالأصالة،
وأجيب بأن النائب المذكور لا رئاسة له على إمامه فليست رئاسته بعامة فتخرج
بقيد العموم ولا يحتاج في إخراجها من الإمامة إلى ذكر الأصالة، وجعل
بعض الأفاضل موضع خلافة عن النبي في الحد لفظ بحق النيابة عن النبي أو
بواسطة بشر وكلاهما يؤدي مؤدى لفظ الخلافة عن النبي إلا أن الأول
يزيد عليه بالتصريح بإخراج الإمامة بالاختيار من الحد حيث أخذ حق النيابة
قيدا للرئاسة ولا يعلم أن النائب تحق له النيابة عن النبي إلا بنصه عليه،
وظني أن هذا التقييد زائد عن مفهوم الإمامة من حيث هي هي، فإن كون
الإمامة مشروطة صحتها بالنص أم تصح بالاختيار أمر آخر وراء مفهومها
وحقيقتها.
وأما الثاني: وهو قوله بواسطة أحد من البشر فلا يقتضي أكثر من كون
الإمام منصوبا من قبل أحد من البشر وهذا لا ينفي الاختيار في الإمامة
فيرجع في نفسه فيها إلى أمر آخر وهو ما سنذكره من الأدلة على بطلان
الاختيار، على أن كلا من لفظ الخلافة والنيابة يقتضي النص عندنا لزوما لأن
مرادنا من الإمامة الصحيحة ولا تكون كذلك إلا باستخلاف النبي
واستنابته ولا يكون ذلك إلا بنصه فيكون بحق في قوله بحق النيابة مستغني
عنه لأنه مؤكد لا مؤسس.

22
ثم إن الإمامة تجامع النبوة فإن كل نبي إمام، وقد تكون مجردة عن
النبوة كإمامة الأئمة في هذه الأمة لختم النبوة بنبينا (صلى الله عليه وآله
وسلم) فلا نبي بعده، والإمامة في النبي من حيث النبوة غير الإمامة من
حيث النيابة عن النبي لثبوت الأولى بثبوت النبوة وعدم احتياجها إلى أمر آخر
واحتياج الثانية إلى نصب النبي إذ ليس كل نبي نائبا عن الذي قبله وإلا
لتعددت النواب لكثرة الأنبياء في الأمم السالفة والمعلوم خلافه، فإن موسى ما
كان وصيه إلا يوشع بن نون وداود لم يكن وصيه إلا ابنه سليمان وكذا غيرهما
من الأنبياء كل نبي يوصي إلى واحد بعينه فيكون خليفته مع تعدد الأنبياء في
تلك الأزمان وإن جميعهم أئمة من حيث النبوة لأن كل نبي إمام وليس كل
إمام من حيث النيابة نبيا وإلا لامتنعت الإمامة في نواب نبينا (صلى الله عليه
وآله وسلم) لامتناع النبوة فيهم ولذا احتاج موسى في استخلافه أخاه هارون
إلى نصه عليه بقوله: (اخلفني في قومي) (1) ولم يكف في نيابته عنه كونه نبيا
مرسلا معه، فظهر أن الإمامة من حيث النيابة عن الأنبياء منفكة عن
الإمامة من حيث النبوة وبالعكس، وأن حيثية أحدهما غير حيثية الأخرى
واختلاف الحيثيات كاف في اختلاف الحقائق وتغاير المفهومات وإن اجتمعتا في
الوجود في شخص واحد كاجتماعهما في هارون وأشباهه من الأنبياء الذين
كانوا نوابا عمن كان قبلهم من الأنبياء بنصبهم لهم واستخلافهم إياهم على
أممهم في إنفاذ الأحكام وإقامة أمر الدين كشيث وسام وإسماعيل وإسحاق
وغيرهم، وبين الإمامتين عموم وخصوص من وجه.
وأيضا للإمامة مفهومان آخران قال الشيخ أبو علي في مجمع البيان:
" المستفاد من لفظ الإمام أمران أحدهما أنه المقتدى به في أفعاله
وأقواله، والثاني: أنه الذي يقوم بتدبير الأمة وسياستها والقيام بأمورها



(1) الأعراف: 142.
23
وتأديب جناتها وتولية ولاتها وإقامة الحدود على مستحقيها ومحاربة من يكيدها
ويعاديها، فعلى الوجه الأول لا يكون نبي من الأنبياء إلا وهو إمام، وعلى
الوجه الثاني لا يجب في كل نبي أن يكون إماما إذ يجوز ألا يكون مأمورا
بتأديب الجناة ومحاربة العداة والدفاع عن حوزة الدين ومجاهدة الكافرين "
انتهى (1)، وأنت خبير بأن الإمامة المذكورة في الحد شاملة للوجهين المذكورين
لأنها رئاسة في الدين والدنيا فتخرج النبوة بقيد الخلافة أو النيابة، ثم إن
الإمامة على ما هي مذكورة في الحد هي الملك العظيم المذكور في قوله تعالى:
{فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما} (2) فالكتاب
النبوة، والحكمة العلم والملك العظيم الإمامة وهي عبارة عن فرض الطاعة
على المكلفين وهو معنى الرئاسة العامة وفي قوله تعالى في شأن داود: {وآتاه
الله الملك والحكمة} (3) جمع الله له النبوة والرئاسة العامة كما جمعهما من قبله
لموسى (عليه السلام) ومن بعده لابنه سليمان كما جمعا لنبينا (صلى الله عليه
وآله وسلم) واختص نوابه بالثاني لأن النبوة قد ختمت به والرسالة قد كملت
برسالته فلا نبي بعده ولا شريعة بعد شريعته، وقد أنكر تقسيم الشيخ أبي
علي (رحمه الله) في زماننا هذا من لم يعرف معنى الإمامة وزعم أن النبي لا
يلزم أن يكون إماما مطلقا وهو مع ذلك يدعي أنه من العارفين لكنه جاهل
جهله ولا عبرة بمثله.
ثم اعلم أيضا أن للإمام تقسيما آخر وهو إما أن يكون الإمام إماما ليس
عليه إمام أو يكون إماما وعليه إمام.
والأول: يختص باهل الشرائع الست وهم آدم ونوح وإبراهيم وموسى



(1) مجمع البيان 1 / 201.
(2) النساء: 54.
(3) البقرة: 251.
24
وعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله) لأنهم أئمة الأمم وليس على
واحد منهم إمام يأتم به.
والثاني: يشتمل على ما سواهم من الأنبياء والأئمة لرجوع الجميع منهم إلى
شرائع الستة المذكورين فقد حصل الاتفاق على انحصار الشرائع المبتدأة
والناسخة في تلك الست وأن لا شريعة غيرها، روى الشيخ الجليل ثقة
الإسلام أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني بالسند عن ابن أبي يعفور (1) قال
سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (سادة النبيين والمرسلين خمسة
وهم أولوا العزم من الرسل وعليهم دارت الوحي نوح وإبراهيم وموسى
وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وعلى جميع الأنبياء) (2). وروي بسنده عن
درست بن أبي منصور (3) قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (الأنبياء
والمرسلون على أربع طبقات فنبي منبأ في نفسه لا يعدو غيرها، ونبي يرى في
النوم ويسمع الصوت ولا يعاينه في اليقظة ولم يبعث إلى أحد وعليه إمام مثلما
كان إبراهيم على لوط، ونبي يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاين الملك وقد
أرسل إلى طائفة قلوا أو كثروا كيونس قال الله تعالى ليونس {وأرسلناه إلى مائة ألف



(1) ابن أبي يعفور هو أبو محمد عبد الله الكوفي من أصحاب الإمام الصادق (عليه
السلام) وكان كريما عليه ومات في أيامه، وقد أثنى عليه الصادق (عليه السلام) في
حياته وبعد مماته وهو القائل للصادق (عليه السلام): والله لو فلقت رمانة بنصفين
وقلت: هذا حرام وهذا حلال لشهدت أن الذي قلت حلال حلال وأن الذي قلت
حرام حرام، قال رحمك الله رحمك، ونبزه أبو يوسف القاضي بالميل إلى الرفض
فبكى عبد الله حتى سالت دموعه وقال: نسبتني إلى قوم أخاف أن لا أكون مهم،
وكان عبد الله قارئا يقرئ في مسجد الكوفة، وبعد من كبار فقهاء الشيعة، وثقاة
رواتهم، ومن الأوائل من مؤلفيهم.
(2) الكافي (الأصول: كتاب الحجة) 1 / 134.
(3) درست بن أبي منصور الواسطي قال الشيخ الطوسي في الفهرست: ص 69: " له
كتاب ".
25
أو يزيدون} (1) قال يزيدون ثلاثين ألفا وعليه إمام، والذي يرى في نومه
ويعاين في اليقظة وهو إمام مثل أولي العزم.. الخبر ((2) والأخبار عن
ساداتنا في هذا المعنى كثيرة مودعة في محالها ولا حاجة إلى التطويل بنقلها
لوضوح المقام عند أولي الأفهام وغير خفي عليك أن الإمام المبحوث عنه هنا
من القسم الثاني لكون إمامته خلافة عن النبي.



(1) الصافات: 147.
(2) الكافي (الأصول: كتاب الحجة) 1 / 133.
26
المبحث الثاني:
في نصب الإمام هل هو واجب أم لا؟ وعلى تقدير وجوبه فهل هو واجب على
الله أو على المكلفين؟ وهل هو من جهة العقل أو السمع، وقد اختلف الناس في
ذلك فذهب الأشاعرة والمعتزلة والزيدية إلى وجوبه على الخلق ثم اختلفوا فقال:
الأولون سمعا، وقالت المعتزلة والزيدية: عقلا، وقال الحرورية: إنه غير واجب
مطلقا (1) وقال أبو بكر الأصم (2) من المعتزلة أنه يجب مع الخوف وظهور
الفتن ولا يجب مع الآمن لعدم الحاجة إليه وقال الفوطي (3) وأتباعه: يجب مع
الآمن لإظهار شعائر الشرع ولا يجب عند ظهور الفتن لأن الظلمة ربما لم



(1) الملل والنحل: 1 / 116.
(2) أبو بكر الأصم من شيوخ المعتزلة ومن أصحاب الفوطي ورأيه في الإمامة كرأي
الفوطي ويقول - كما نقل عنه الشهرستاني في الملل والنحل 1. 72 -: " الإمامة لا
تنعقد إلا بإجماع الأمة عن بكرة أبيهم " قال الشهرستاني: " وإنما أراد الطعن في إمامة
علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ كانت بيعته أيام الفتنة " ولا أدري أي خليفة قبل
علي بن أبي طالب انعقدت بيعته بالاجماع!!
(3) هشام بن عمرو الفوطي كما ضبطه ابن حجر في لسان الميزان 6 / 164 " بضم الفاء
وإسكان الواو " نسبة إلى بيع الفوط - كصرد - ثياب تجلب من السند أو مآزر مخططة
واحدتها فوطة أو هي لغة سندية. وغلط من كتبه بالغين المعجمة ظنا منه أن النسبة
إلى غوطة دمشق وهو من المعتزلة وإمام فرقة منهم تسمى الهشامية وكان يجوز قتل
واغتيال المخالف لمذهبه وأخذ أموالهم لاعتقاده كفرهم توفي سنة 226.
27
يطيعوه وصار سببا لزيادة الفتن (1) وذهب أصحابنا الإمامية إلى أنه واجب
على الله عقلا وهو المعتمد وعليه المعول، ولنا في ذلك وجوه:
الأول: إن كل ما دل على وجوب النبوة من الفوائد التي من جملتها
معاضدة النقل فيما يدل عليه العقل، واستفادة الحسن والقبح في الأفعال التي لا
يهتدي العقل إلى مواقعها وحفظ النوع الإنساني وتكميل أشخاصه وتعليم
الأخلاق الفاضلة والسياسات الكاملة ورفع الاختلاف عنهم في أمر دينهم
ودنياهم، وغيرها مما ذكر هناك فهو دال على وجوب الإمامة لأنها خلافة عنها
والإمام خليفة النبي في جميع منازله إلا في تلقي الوحي بلا واسطة أحد من
البشر فإن ذلك مخصوص بالنبي، ولو لم تجب الإمامة بعد النبوة لزالت فائدة
البعثة لأن النبي إذا ارتحل من الدنيا إلى جوار الملك الأعلى ولم يجعل الله له
خلفا يقوم بتلك المصالح ويقرر تلك الفوائد ويجمع الأمة عن شتات الكلمة
رجع الناس بعد النبي إلى الاختلاف واستعمال الآراء المؤدي إلى الخلط في
الدين، وذهاب الألفة وتشتيت الكلمة لاستغناء كل برأيه واتباع كل مريد شئ
هواه، فيرجع الأمر من الصلاح إلى الفساد، وتضعف قواعد شريعة النبي
لكثرة الاختلاف فيها وتذل تلك الملة لافتراق أهلها وعدم تناصرهم كما
نشاهده في هذا الزمان الذي منع الناس فيه أنفسهم اللطف بإخافة الإمام من
استيلاء الكفرة اللئام على أهل الإسلام وإبطالهم أحكام شريعة سيد الأنام
وقعود المسلمين عن جهادهم لعدم اجتماعهم وتعاونهم وما ذاك إلا لعدم
رجوعهم إلى رئيس مطاع مأمون على الدين، ومعلوم على هذا أن فوائد
البعثة مع عدم نصب إمام لا تبقى بل تزول وتفنى فوجب على الله في حكمته
نصب الإمام لإبقاء فوائد النبوة كما وجب في الحكمة إحداث النبوة لحصول
تلك الفوائد والعقلاء يجزمون بأن ما وجب إحداثه لإدراك مصلحة يجب إبقاؤه



(1) ذكر ذلك بمعناه الشهرستاني في الملل والنحل: 1 / 72.
28
أو إحداث ما يقوم مقامه لاستبقاء تلك المصلحة.
الثاني: إن الإمام لطف من الله في حق عبادة لأنه يقرب إلى الطاعة
ويبعد عن المعصية، وبيانه إلى الناس إذا كان لهم رئيس مطاع يمنعهم من
المحظورات ويحثهم على الطاعات كانوا معه إلى الطاعة أقرب ومن المعصية
أبعد منهم بدونه وذلك هو الإمام فيكون لطفا واللطف واجب على الله
تعالى، والمعتزلة يوافقونا في وجوب اللطف على الله والأشاعرة ينفونه بناء على
أصلهم من نفي الحسن والقبح العقليين وقد أبطل أصحابنا هذا الأصل
وهدموه بما لا مزيد عليه من القول في مبحث العدل، وليس هذا الموضع محل
ذكره فليطلب من موضعه، على أنه يكفي في بطلان قولهم قوله تعالى:
{ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا
فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى} (1) فإنه واضح في وجوب اللطف على
الله تعالى، واعترض مخالفونا على هذا الدليل بأن الإمام إنما يكون لطفا إذا
خلا عن المفاسد كلها وهو ممنوع، لأن أداء الواجبات وترك الحرام مع عدم
الإمام أكثر ثوابا لكونهما أقرب إلى الإخلاص لانتفاء كونهما من خوف الإمام
والجواب من وجوه.
الأول: القدح في العلة فإن أداء الواجب على وجهه وترك الحرام من
جميع جهاته لا يحصل بدون الإمام.
الثاني: منع أكثرية الثواب في أداء الواجب وترك الحرام بدون الإمام
لقربه إلى الإخلاص لاحتمال إرادة الرياء أو خوف المسلمين أن يسقطوا منزلته
لا سيما إذا كان الشخص من أولي المناصب فليس عدم الإمام بكاف في قرب
العمل إلى الإخلاص.



(1) طه: 134.
29
الثالث: إنه لو كان احتمال الخوف من الإمام في أداء الواجب وترك
الحرام مفسدة توجب خروجه عن كونه لطفا لكان احتمال الخوف من النبي
في إظهار كلمة الإسلام وفعل الواجب وترك الحرام مفسدة توجب خروجه
عن كون بعثته لطفا لاشتراك العلة فيهما فيجب ألا يبعث نبي واللازم باطل
بالاتفاق فالملزوم مثله، على أن اللطف كما علمت هو ما يحصل به الحث على
الطاعة والردع عن المعصية ولا يبلغ إلى حد الإلجاء فالخوف منه في أداء
الواجب وترك الحرام هو نفس كونه لطفا فكيف يكون مخرجا له عن اللطف؟
فحاصل هذا الاعتراض أن اللطف ليس بلطف ولا خفاء في تناقضه
فالاعتراض به باطل من أصله غير محتاج إلى الجواب عنه، والعجب من
القوشجي (1) كيف اعترض به على الدليل ثم عقبه بقوله: ولو سلم فإنما
يجب لو لم يقم لطف آخر مقامه كالعصمة مثلا لم لا يجوز أن يكون زمان يكون
الناس فيه معصومين مستغنين عن الإمام، والجواب أن هذا الفرض معلوم
الاستحالة كما نعلم استحالة أن يكون زمان يكون الناس جميعهم في مؤيدين
بالوحي السماوي والإلهام الإلهي والعصمة فيكونون مستغنين عن النبي
لوجهين:
الأول: إن النفوس البشرية ليست بجملتها ذوات ذكاء وفطنة بحيث
تكون قابلة للهداية بدون واسطة ولا ذوات قوة ونباهة بحيث يشرق عليها نور
العرفان فتستغني به في ترك القبيح عن مؤدب كما هو المشاهد في الأمصار
والأعصار، بل كثير من النفوس كالحشرات لا تقبل التعليم ولا التأديب كما
قال تعالى: [إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا] (2) فأين الجميع من



(1) القوشجي: علاء الدين علي بن محمد من علماء الدولة العثمانية له تصانيف منها
" شرح التجريد " المشهور بالشرح الجديد، وكل ما نقله المؤلف في هذا الكتاب عن
القوشجي منقول من الشرح المذكور توفي سنة 879 بمدينة القسطنطينية (استانبول).
(2) الفرقان: 44.
30
العصمة بل من العدالة!.
الثاني: ما ورد في الكتاب العزيز من الأخبار عن أكثر الناس بعدم
الإيمان تارة وعدم العلم أخرى وعدم الفقه ثالثة وتخصيص الشاكرين بالأقل
مطلق غير مقيد بوقت مثل قوله: [ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ولكن
أكثرهم لا يعلمون وأكثرهم الفاسقون وقليل من عبادي الشكور وقليل ما
هم] (1) إلى غير ذلك من الآيات الموجبة للقطع بامتناع هذا الفرض بل
بامتناع حصول العدالة لجميع الناس فيكون ما فرضه غير واقع دائما، ثم لو
سلمنا إمكان وقوع الفرض عقلا لرددناه بمقتضى العادة المستمرة المفيدة
لليقين، وبيان ذلك أنا إنما نتكلم على ما جرت به العادة الموجبة للقطع بأن
ذلك الفرض وهو عصمة جميع الناس لم يحصل فيما مضى من الأزمنة ولا
يحصل فيما يأتي لتساوي الأزمان وإشخاص النوع الإنساني وحذو هذه الأمة
حذو من سبقها من الأمم كما أفصح عنه قول النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) فيما صح من الأخبار (2)، فكان العلم بامتناع عصمة جميع الناس من
جهة العادة جاريا مجرى العلم بامتناع عصمة جميع الناس من جهة العادة
جاريا مجرى العلم بامتناع انقلاب أواني الجمادات وصيرورتها جالا كاملين
علماء ومشائخ مهذبين فضلاء من جهتها، وإن كان غير ممتنع ذلك في قدرة الله
تعالى فعلم أنه لا لطف يقوم مقام الإمام، بل تعين انحصار اللطف فيه،
فوجب في حكمة الله نصبه لأن الاخلال بما وجب في الحكمة قبيح لا يصدر
من الحكيم، فإن حصل زمان تنخرق فيه العادة ويعصم الناس فيه عن
آخرهم حكمنا باستغنائهم عن الإمام من هذا الوجه لا من جميع الوجوه لكن



(1) ما بين القوسين أبعاض آيات من: هود: 17، والأنعام: 37، وآل عمران: 110
وسبأ 13 وص 24.
(2) يشير إلى الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند 4 / 125: (ليحملن شرار هذه
الأمة على سنن الذين خلوا من قبلهم أهل الكتاب حذو القذة بالقذة).
31
ذلك لا يحصل أبدا فالحاجة إلى الإمام حاصلة دائما، هذا كله مع أن العلم
بالتجاء العقلاء في جميع الأعصار والأمصار إلى نصب الرؤساء في حفظ
نظامهم وضبط أحوالهم دال على انتقاء طريق سوى الإمامة وعدم قيام غير
الإمام مقامه، وإلا لكانوا يلتجئون إليه ويتمسكون به، ومن هذا يعلم
انحصار اللطف عند العقلاء في الإمام فيتعين وجوبه، وعلم من جميع ما
ذكرنا امتناع الفرض المذكور عقلا وسمعا وعادة، ومنه يتضح صحة ما قاله
رئيس المحققين نصير الدين (1) في التجريد من معلومية انتفاء المفاسد
وانحصار اللطف في الإمام للعقلاء (2)، وقول القوشجي إنهما مجرد دعوى
فاسدناش؟؟ عن غير تأمل وقال أيضا في الاعتراض على دليلنا: " وأيضا إنما
يكون لطفا إذا كان الإمام ظاهرا قاهرا زاجرا عن القبائح قادرا على تنفيذ
الأحكام وإعلاء لواء الإسلام، وهذا ليس بلازم عندكم فالإمام الذي ادعيتم
وجوبه ليس بلطف والذي هو لطف ليس بواجب " والجواب المعارضة بالأنبياء
فإن النبي لطف ولم يشترط في كونه لطفا قدرته على الزجر عن القبائح وقهره
على الطاعة ولم تبطل نبوته وإمامته بعصيان العصاة، فإنا نعلم بأخبار الكتاب
العزيز أن نوحا. وهودا ولوطا (عليهم السلام) عصاهم قومهم ولم يقدروا
على الزجر عن القبائح وإنفاذ الأحكام، وأن إبراهيم خليل الرحمن ألقاه قومه
في النار ليحرقوه، وأن هارون عصاه بنو إسرائيل وعكفوا على عبادة العجل



(1) نصير الدين الطوسي محمد بن الحسن الفيلسوف المتكلم المجمع على فضله ولد
بطوس سنة 597 وتوفي ببغداد سنة 672 ودفن في رواق المشهد الكاظمي في تربة كان
الخليفة الناصر لدين الدين العباسي قد أعدها لنفسه ولكنه لم يدفن بها وقبر الطوسي
مزور مشهور له كتب منها " تجريد الاعتقاد " شرحه جماعة من العلماء كالعلامة الحلي
بكتاب " كشف المراد " كما شرحه القوشجي بكتابه المعروف بالشرح الجديد وكثيرا ما
ينقل المؤلف عن هذين الكتابين.
(2) لاحظ " شرح تجريد الاعتقاد " للعلامة الحلي ص 285.
32
ولم يستطع كفهم عن ذلك، وموسى طلبه فرعون ليقتله ومن معه ولم يقدر
على مدافعة فرعون واضطر إلى عبور البحر، وأن عيسى بن مريم أراد اليهود
قتله فرفعه الله، وغيرهم من الأنبياء الذين أوذوا وقتلوا وكلهم لم يكونوا
متمكنين مما ذكره من القهر والزجر والقدرة على تنفيذ الأحكام وإعلاء لواء
الإسلام (1) إما دائما أو في أكثر الأحوال ومع هذا لم تبطل نبوتهم وإمامتهم في
حال من الأحوال ولا كان عدم تمكنهم واقتدارهم على ما ذكره وسطره مخرجا
لهم عن كونهم ألطافا ولا مقتضيا للقدح في إمامتهم، وإذا لم يكن عدم القدرة
على إنفاذ الأحكام وإعلاء لواء الدين موجبا لخروج النبي عن كونه لطفا من
الله في خلقه لم يكن ذلك مبطلا للطفية خليفته لتساويهما في كونهما معا
منصوبين من قبل الله تعالى فلا يخرجان عن الإمامة بعصيان الخلق، وقد
علمت أن نبينا محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) قد كذبه قومه كأبي جهل
وأبي لهب وأبي سفيان وأضرابهم من رؤساء قريش وأرادوا قتله وأخافوا سبيله
وجهدوا أنفسهم في ذلك حتى ألجئوه تارة إلى الحصار وأخرى إلى الغار
والهجرة عن الوطن إلى الدار (2) ورمته العرب عن قوس واحدة وبذلوا
جهدهم في قتله وقتل من معه افترى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) حين
كان غير متمكن من الزجر عن القبائح ولا من إعلاء لواء الإسلام وغير قاهر
أولي العصيان ليس بنبي ولا إمام وليس بلطف من الله في الأنام فيكون قد
بطلت بذلك نبوته وزالت إمامته ولطفيته؟ ما أراك تقول ذلك ولا ترضى
به، بل تقول نبوته (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يبطلها تكذيب المكذبين
وإمامته (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يفسدها عصيان العاصين، وكونه



لا يريد بالاسلام هنا شريعة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنما إشارة إلى
(الإسلام دين الفطرة)، (ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين).
(2) يريد بالدار المدينة المنورة قال تعالى: [والذين تبوئوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون
من هاجر إليهم]. الحشر / 9.
33
لطفا لم يزله عناد المعاندين، وإذا لم تقل بأن عدم التمكن والقهر في النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) قادح في صحة نبوته ولا مبطل لفرض إمامته
ولا مخرج له عن اللطف لزمك القول بأن عدم التمكن مما ذكرته أيضا غير
قادح في إمامة وصيه ولا مزيل للطفية خليفته لاتحاد العلة، ثم إنا نعلم أن
التكليف لطف لأنه زاجر عن القبيح وحاث على الطاعة، وهو عبارة عن أمر
ونهي وأنه لا يخرجه عن اللطفية عدم عمل المكلفين بمقتضاه، وخروجهم من
حدوده، ومن ذا يتبين أن عمل أناس بمقتضى اللطف وإجابتهم إياه ليس
بشرط في كون اللطف لطفا؟ فعدم حصوله لا يبطل لطفية اللطف فالإمام لا
يبطل لطفيته عدم تمكنه من الأمور التي ذكرها المعترض لعصيان الرعية، فما
ادعينا وجوبه لطف فيكون واجبا، وهذا الجواب هو الحاصل من كلام جماعة
من قدماء أصحابنا كالصدوق (1) وابن قبة (2) في إبطال تلك الشبهة وأجاب
أصحابنا المتأخرون كنصير الدين الطوسي وجمال الدين الحلي (رضي الله
عنه) (3) عنها بأن وجود الإمام لطف تصرف أو لم يتصرف لقيام حجة الله



(1) الصدوق: الشيخ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه رئيس
المحدثين له نحو من ثلاثماية مصنف توفي بالري سنة (381) وقبره هناك مشهور
مزور.
(2) ابن قبة بكسر القاف وفتح الياء وتخفيفها أبو جعفر محمد بن عبد الرحمن بن قبة
الرازي من فقهاء الإمامية ومتكلميهم صاحب كتاب " الانصاف " في الإمامة ينقل
عنه العلماء في كتبهم كالمفيد في " المحاسن " والمرتضى في " الشافي " كان في ابتداء
أمره من المعتزلة ثم تحول إلى الإمامية، وقد حمل هذا الكتاب أبو الحسين
السوسنجردي وهو من علماء الإمامية أيضا إلى بلخ وعرضه على أبي القاسم
البلخي من شيوخ المعتزلة، فنقضه البلخي بكتاب " المسترشد " فعاد به
السوسنجردي إلى ابن قبة فنقضه البلخي بكتاب " المستثبت " فعاد به إلى الري فوجد ابن قبة
قد توفي رحمه الله وانظر مصادر نهج البلاغة وأسانيده 1 / 310.
(3) جمال الدين الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي المعروف بالعلامة ولد سنة 648
وتوفي سنة 726 بالحلة وحمل إلى النجف الأشرف ودفن في حرم أمير المؤمنين (عليه
السلام) وقبره عن يمين الداخل من الباب الشمالية من أبواب الإيوان الذهبي وهو
معروف.
34
على عباده به ولأن المكلف إذا علم بوجود إمام في العالم يجوز ظهوره وتسلطه
على الرعية فيعاقب العصاة ويؤدب الجناة كان إلى فعل الطاعة والانزجار عن
المعصية أقرب منه إذا علم انتفاء وجوده فيحصل من وجوده اللطف وإن لم
يتصرف، وتصرفه الظاهر لطفا آخر لا يفوت الأول بفواته وعدمه إنما جاء من
قبل المكلفين وسوء اختيارهم حيث أخافوا الإمام وتركوا نصرته ففوتوا أنفسهم
مصلحة تصرفه في إنفاذ الأحكام وإقامة الحدود وأخذ الحقوق وإعزاز الدين
وحماية الإسلام والمسلمين حتى ألجئوه إلى الاستتار والغيبة.
وحاصل هذا الوجه أن الواجب على الله في الحكمة إيجاد الإمام ودلالة
العباد عليه وليس يجب على الله تصيير العباد منقادين لحكم الإمام ومطيعين
لأمره، بل الواجب في حكمة الله أمرهم بطاعته والواجب عليهم الانقياد له
والتسليم لأمره والرضا بحكمه ونصرته على من ناواه، وقد قال تعالى لنبيه:
[فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيها شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم
حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما] (1) والله سبحانه قد فعل ما وجب في
حكمته فأوجد الإمام ودل عليه وأمر بطاعته بقوله: [أطيعوا الله وأطيعوا
الرسول وأولي الأمر منكم] (2) والعباد لم يفعلوا ما وجب عليهم من الطاعة
للإمام فكان فوات اللطف الظاهر وهو تصرف الإمام منهم ولذا قال
بعض المحققين: " التحقيق أن اللطف في أمر الإمامة يتم بأمور منها ما يجب
على الله تعالى وهو خلق الإمام وتمكينه من القدرة والعلم والنص عليه باسمه
ونسبه وهذا قد فعله الله تعالى، ومنها ما يجب على الإمام وهو تحمله الإمامة



(1) النساء: 65.
(2) النساء: 59.
35
وقبوله لها وهذا قد فعله الإمام، ومنها ما يجب على الرعية وهو المساعدة
والنصرة له وقبول أوامره وامتثال قوله وهذا لم يفعله الرعية، فكان اللطف
الكامل منهم لا من الله تعالى ولا من الإمام " انتهى فتبين أن وجود الإمام
لطف على الاستقلال غير متوقف على التصرف فبطل بذلك ما قال
القوشجي: " بأنا لا نسلم أن وجوده بدون التصرف لطف " لأنا قد بينا أن
مسارعة العبد إلى الطاعة وانزجاره عن القبيح بسبب علمه بوجوده وإمكان
تصرفه أقرب منه إذا علم عدمه لأنه إذا اعتقد وجوده كان دائما يخاف ظهوره
ويترقب تصرفه فيمتنع من القبائح، وذلك هو اللطف.
وأما قوله: " بأن مجرد الحكم بخلقه وإيجاده في وقت ما كاف في هذا
المعنى فإن ساكن القرية إذا انزجر عن القبيح خوفا من حاكم من قبل
السلطان مختف في القرية لا أثر له كذلك ينزجر خوفا من حاكم علم أن
السلطان يرسله إليها متى شاء " ففاسد لأن محصله أن علم المكلف بقدرة الله
تعالى على إيجاد إمام في وقت من الأوقات وتمكينه من التصرف قائم مقام
وجوده في حصول الخوف للمكلف فيحصل به اللطف ولا يحتاج في ذلك إلى
كون الإمام موجودا، وفساده من وجوه.
الأول: إن ما فرضه خوف من المعدوم ولا خفاء أن الخوف من المعدوم
غير حاصل للعقلاء بخلاف الخوف من الموجود المترقب ظهوره فإن الخوف منه
حاصل فكان لطفا دون الأول، فقوله بعد: " وليس هذا خوفا من المعدوم بل
موجود مترقب " عدول عما فرضه ومغالطة في القول فإن الفرض أنه ليس
بموجود لكن يمكن وجوده وأما إذا كان موجودا كان هو عين ما فرضناه لا ما
فرضه.
الثاني: إن المكلف لو علم أن في القرية حاكما مختفيا من جهة السلطان
سيظهر ويعاقب على فعل القبيح يكون دائما خائفا من اطلاعه عليه إذا فعل

36
قبيحا لعلمه بوجوده وعدم معرفته بعينه وتصوره أن إنكاره فعل القبيح لا
ينفعه إذا ظهر ذلك الحاكم لاطلاعه عليه بخلاف ما إذا علم خلو القرية منه
ولم يبق إلا علمه بإمكان وجوده فيما بعد فإنه لا يرتدع عن القبيح لذلك
لتمكنه من الانكار عند وجود ذلك الحاكم وهذا ظاهر عند العقلاء فاللطف
يحصل بما فرضناه دون ما فرضه للفرق الظاهر بين الحالين.
الثالث: إن ما ذكره لا يتمشى على قواعدهم لأن نصب الإمام عندهم
ليس من الله بل من المكلفين فلا إمام على قولهم يترقب نصبه من الله فلا
لطف حاصل بالمرة، وقد علم من هذا أن اللطف منحصر في وجود الإمام
وأن العلم بإمكان إيجاده لا يقوم مقام وجوده فثبت أن وجوده لطف فهو
واجب في حكمة الله ووضح سلامة الدليل من الخدش فيه، كل هذا مع ما
في كلامه من التدافع فإنه فيما مر عليك من قوله أبطل لطفية الإمام بخوف
المكلف منه في أداء الطاعة فمقتضى كلامه هناك أن الإمام لا يكون لطفا إذا
كان متمكنا من ردع العاصين ومعاقبة الجانين فيكون لطفية مشروطة بعدم
تصرفه ثم هو هنا يقول أن الإمام لا يكون لطفا إلا إذا كان متصرفا قاهرا
زاجرا عن القبيح، فما جعله هنا شرطا في كون الإمام لطفا جعل ضده هناك
شرطا في ذلك، وهذا تناقض واضح فيكفي في بطلان قوليه تضادهما وتنافيهما.
الثالث (1): من أدلتنا أنه لا شك أن الله تعالى أنظر لخلقه منهم
لأنفسهم وارأف بهم وأرحم بهم منهم على أنفسهم، وليس من نظر الله لهم
ورأفته عليهم ورحمته بهم أن يتركهم هملا ويهملهم سدى كالغنم لا راعي لها
بل مقتضى الرحمة والرأفة بهم يوجب في حكمة الله أن ينصب لهم من يقيم
أودهم (2) ويجمع كلمتهم ويهتدون إلى سبيل النجاة بضياء علمه وينزجرون



(1) أي من الأدلة على أن نصب الإمام واجب على الله تعالى لطفا منه.
(2) الأود بالتحريك: الاعوجاج.
37
عن القبيح بنافذ حكمة ويقتدون في أمر دينهم ودنياهم بقوله وفعله وذلك هو
الإمام، فنصب الإمام واجب في الحكمة بمقتضى نظر الله لخلقه ورأفته بهم
وهو المطلوب، وهذا الوجه لبعض متكلمينا من أصحاب أبي عبد الله الصادق
(عليه السلام) (1) ولا قدح باحتمال قيام إيجاب الله على العباد نصب الإمام
لحصول الفوائد المذكورة مقام نصبه لهم إماما في حصول الرأفة بهم لأن ذلك
مناف للرأفة للعلم بأن تفويض الأمر إلى الخلق مما يوجب لهم الاختلاف
والنزاع المؤدي إلى الفساد واختلال النظام لاختلاف الآراء وميل الأهواء
فيميل كل قوم إلى شخص غير الذي اختاره غيرهم فيقع الخصام ويشيع
الجدال فيما بينهم فلا يتم الغرض المطلوب بل تصير الرحمة بذلك نقمة وهو
خلاف المراد.
احتج القائلون بوجوب نصب الإمام على العباد عقلا بأن في نصب
الرئيس دفعا للضرر عن أنفس الخلق ودفع الضرر واجب عقلا أما الأولى
فظاهرة لأن الخلق إذا لم يكن لهم رئيس يحسم مادة النزاع فيما بينهم ويأخذ
للضعيف من القوي انتشر أمرهم وفشا الفساد فيهم، وأما الكبرى فمعلومة
والجواب أنه لا نزاع في كون الإمامة دافعة للضرر وكون دفع الضرر واجبا إنما
النزاع في تفويض الأمر إلى اختيار الخلق فإنا لا نسلم كون الإمامة على هذا
الوجه دافعة للضرر لاختلاف الخلق في تعيين الإمام فيؤدي إلى الضرر
المطلوب زواله كما قدمناه فالواجب جعل ذلك إلى الله تعالى على أن الاختيار في
الإمامة سنبطله إن شاء الله تعالى في محل الكلام عليه بأدلة واضحة.
واحتج القوشجي للأشاعرة بوجوه قال:
الأول: وهو العمدة إجماع الصحابة حتى جعلوا ذلك أهم الواجبات



(1) هو هشام بن الحكم في مناظرة له مع عمرو بن عبيد في مسجد البصرة (انظر سفينة
البحار 2 / 266 مادة " عمر ".
38
واشتغلوا به عن دفن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذا عقيب موت
كل إمام، روي أنه لما توفي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خطب أبو بكر
فقال: " يا أيها الناس من كان يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات، ومن كان
يعبد رب محمد فإنه حي لا يموت، لا بد لهذا الأمر ممن يقوم به فانظروا وهاتوا
آراءكم رحمكم الله ".
وهذه الحجة فاسدة من وجوه.
الأول: إن دعوى الإجماع من الصحابة على المبادرة إلى تعيين الإمام
ونصبه خطأ فاحش فقد صح في روايات قومه وأهل مذهبه أن الذين بادروا
إلى ذلك الأنصار وثلاثة من المهاجرين أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ومضوا
ينازعون الأنصار في سقيفة بني ساعدة حتى غلبوا عليهم وجميع المهاجرين
غيرهم لم يحضروا ذلك الأمر ولا بادروا إليه وهم وجوه الصحابة وأعلم
الصحابة علي (عليه السلام) وهو وجميع بني هاشم وأشياعهم يشتغلون
بجهاز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودفنه عن ذلك الأمر، فأين إجماع
الصحابة على المبادرة إلى نصب الإمام واشتغال جميعهم به عن دفن الرسول
كما ادعاه؟ فلو كان نصب الإمام على الرعية واجبا لكان أحق الناس بالمبادرة
إليه علي بن أبي طالب وشيعته مثل عمه العباس، وسلمان وأبي ذر والمقداد
وأضرابهم، ولو كان مبادرة الثلاثة والأنصار إلى المنازعة في الخلافة حقا لما
تأخر علي (عليه السلام) وشيعته لأنه مع الحق والحق معه ولما قعد عنه أكابر
الصحابة عندهم كعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والزبير بن
العوام وطلحة بن عبيد الله وعثمان بن عفان وأشباههم فلا إجماع منهم على ما
ذكره المحتج.
الثاني: إن الذين بادروا إلى عقد الإمامة من الصحابة الذين ذكرناهم لم
يكن غرضهم ما ذكره من تعيين الإمام لكونه واجبا وإنما كان غرضهم أمرا

39
دنيويا، أما الأنصار فسارعوا إلى ذلك خوفا من أن تلي الخلافة قريش فيأخذوا
منهم ثار من قتله الأنصار من رجال قريش في حروب النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) وأما الثلاثة المذكورين فبادروا إلى ذلك خوفا من خروج
الأمر من أيديهم وولاية الأنصار عليهم، ولم يكن أحد الفريقين طلب بما أراد
أمرا دينيا ولا وجها شرعيا كما ادعاه في الحجة، وقد روى ما ذكرناه جميع من
روى أخبار الصحابة كأبي بكر الجوهري (1) ومحمد بن جرير الطبري (2)
ويحيى بن جابر البلاذري (3) وغيرهم من رجال العامة وثقاة محدثيهم وها نحن
نذكر بعض ما رواه مما يصرح بما قلناه وينطق بما إليهم نسبناه، قال أبو بكر
الجوهري: أخبرنا أحمد بن إسحاق بن صالح، قال: حدثنا عبد الله بن عمر
عن حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال: لما توفي
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة
فأتاهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة فقال الحباب بن المنذر: منا أمير ومنكم أمير
والله ما ننفس هذا الأمر عليكم أيها الرهط ولكنا نخاف أن يليه بعدكم من



(1) أبو بكر الجوهري أحمد بن عبد العزيز عالم محدث له كتاب " السقيفة " ينقل عنه ابن
أبي الحديد كثيرا في " شرح نهج البلاغة ".
(2) أبو جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب " التفسير الكبير " والتاريخ الشهير وغيرهما
من الكتب مثل كتاب " الولاية " الذي جمع فيه طرق (من كنت مولاه فهذا علي
مولاه) حتى اندهش الذهبي لما اطلع عليه لكثرة طرقه، كما له طرق حديث الطير
توفي سنة 310 ودفن ليلا لغضب الحنابلة عليه لأنه لم يذكر الإمام أحمد بن حنبل في
اختلاف الفقهاء وكان يقول: " لم يكن أحمد فقيها وإنما كان محدثا " وقد قسمت أوراق
مؤلفاته على أيام عمره منذ بلغ الحلم فحلق كل يوم أربع عشرة ورقة.
(3) يحيى بن جابر البلاذري أبو جعفر كاتب شاعر مترجم له من الكتب " فتوح البلدان "
و " أنساب الأشراف " وهو أحد النقلة من الفارسية إلى العربية كان مقربا عند المتوكل
والمستعين والمعتز توفي سنة 276.
40
قتلنا أبناءهم وآباءهم وإخوانهم فقال عمر بن الخطاب: إذا كان ذلك قمت
إن استطعت، فتكلم أبو بكر فقال: نحن الأمراء وأنتم الوزراء والأمر بيننا
نصفان كشق الأبلمة (1) فبويع (2).
وروى الطبري في التاريخ حديثا طويلا فيه ذكر السقيفة وذكر الفلتة من
كلام عمر وفيه حكاية عمر قول أبي بكر للأنصار: يا معشر الأنصار إنكم لا
تذكرون فضلا إلا وأنتم له أهل، وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لقريش
أوسط العرب دارا ونسبا وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين يعني عمر وأبا
عبيدة - إلى أن قال -: فلما قضى أبو بكر كلامه قام رجل من الأنصار فقال:
" أنا جذيلها المحكك: وعذيقها المرجب (3) منا أمير ومنكم أمير " وارتفعت
الأصوات واللغط فلما خفت الاختلاف قلت لأبي بكر: أبسط يدك أبايعك
فبسط يده فبايعته وبايعه الناس ثم نزونا على سعد بن عبادة فقال قائلهم قتلتم
سعدا فقلت: اقتلوه قتله الله إلى أن قال: خشيت إن فارقت القوم ولم
يكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة فإما أن نبايعهم على ما لا نرضى أو نخالفهم
فيلوث فيكون فسادا (4) وفي رواية أبي بكر الجوهري من حديث أحمد بن
إسحاق عن أحمد بن سيار عن سعيد بن كثير الأنصاري بعد كلام أبي بكر
للأنصار فقال الأنصار: ما نحسدكم على خير ساقه الله إليكم، ولا أحد



(1) الأبلمة: الخوصة.
(2) نقل ذلك عن الجوهري ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 2 / 53. ونقل البخاري
في صحيحه 4 / 194 في كتاب فضائل المهاجرين قريبا من ذلك.
(3) جذيل تصغير جذل: وهو عود بنصب للإبل الجربى لتستشفي للاحتكاك به،
المحكك: الذي كثر الاحتكاك حتى صار أملس، والعذيق تصغير عذق بالفتح
والمرجب: المدعوم بالرجبة، وهي خشبة ذات شعبتين تدعم بها النخلة إذا طالت
وثقل حملها والمعنى أني ذو رأي شاف مثمر وقائل ذلك هو الحباب بن المنذر.
(4) تاريخ الطبري 4 / 1823 طبع ليدن حوادث سنة 11.
41
أحب إلينا ولا أرضى عندنا منكم، ولكنا نشفق فيما بعد هذا اليوم ونحذر أن
يغلب على هذا الأمر من ليس منا ولا منكم (1) إلى آخر ما ذكر، فهذه
الأخبار وغيرها من أحاديثهم ناصة على أن غرض المسارعين إلى عقد الإمامة
ليس ما ذكره المحتج من أداء الواجب الذي هو تعيين الإمام، وإنما كان
غرضهم ما ذكرناه عنهم من الأمور الدنيوية، وتنطق بأن الثلاثة الذين
حضروا مع الأنصار من المهاجرين كان مطلبهم ألا يلي الأمر غيرهم وليسوا
قاصدين أمرا وراء هذا من الأمور الراجعة إلى الدين فقط كما قال، وأيضا لو
كان غرض من سارع إلى عقد الإمامة أمرا دينيا لم يكن لإعراضهم عن
المجلس الذي اجتمع فيه الناس لتجهيز الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
وجه إذ جلوسهم في ذلك المجلس لم يكن مانعا لهم من إجالة الرأي وإدارة
المشورة فيما بينهم في تعيين الإمام وعقد البيعة له هناك على برد ورضا فتركهم
ذلك المجلس ومخاصمتهم في السقيفة وما جرى لهم من النزاع فيها المؤدي إلى
قول عمر: اقتلوا سعدا قتله الله وقول الحباب بن المنذر: إن شئتم لنعيدنها
جذعة (2) وقوله: والله لا يرد على أحد ما أقول إلا حطمت أنفه وغير ذلك
من الأقوال الغليظة المذكورة في الأحاديث التي نقلنا منها ما تقدم وغيرها دليل
على أن القوم قصد كل منهم المغالبة والاستبداد بالأمر وأنهم سارعوا إليه قبل
أن يعقد لغيرهم فيفوتهم ما طلبوا من الرئاسة لأداء ما وجب عليهم من تعيين
من يصلح للإمامة وكل هذا ظاهر لمن نظر في الأخبار نظر متأمل، فإذا كان
أغراض القوم هي ما عرفت من المطالب النفسية والشهوات الدنيوية كيف
يكون فعلهم أصلا يبني عليه القواعد الشرعية، وحجة يعتمد عليها في
الأصول الدينية؟ هذا بعيد من التحقيق وناء عن نظر أهل النظر بواد
سحيق.



(1) انظر شرح نهج البلاغة: 6 / 8.
(2) جدعة: فتية.
42
الثالث: إن الكلام الذي ذكره من قول أبي بكر وجواب الصحابة له
على الوجه المذكور مما لا أصل له ولا ورد في شئ من أخبارهم على هذا
النهج (1) بل أخبارهم ناطقة بأن بيعة أبي بكر لم تكن عن مشاورة ومناظرة
وإنما كانت مغالبة ووقعت فلتة وإجماع الناس على ذلك وما تقدم من الأخبار
شاهد به ويكفيك من ذلك قول عمر على صهوة المنبر: إن بيعة أبي بكر
فلتة (2) وغيرها من الأخبار روى الجوهري في خبر سعيد بن كثير قال: لما قبض
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، ثم
ذكر كلام سعد وما ردوا عليه من الإجابة إلى توليته وما ترادوه بينهم من
الكلام إلى أن قال: فأتى الخبر عمر فأتى منزل رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) فوجد أبا بكر في الدار وعليا في جهاز رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم) وكان الذي أتاه معن بن عدي (3) فأخذ بيد عمر وقال: قم فقال عمر
أني عنك مشغول فقال إنه لا بد من قيام فقام معه فقال له: إن هذا الحي من
الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة معهم سعد بن عبادة يدورون حوله
أنت المرجى ونجلك المرجى وثم أناس من أشرافهم وقد خشيت الفتنة
فانظر يا عمر ماذا ترى واذكر لأخوتك واحتالوا لأنفسكم فأتى انظر إلى باب
فتنة قد فتح الساعة إلا أن يغلقه الله، ففزع عمر أشد الفزع حتى أتى أبا بكر



(1) أي على الوجه الذي سماه القوشجي عمدة الإجماع.
(2) قول عمر (رضي الله عنه): " كانت بيعة أبي بكر فلتة " رواه البخاري في صحيحه
8 / 25 في كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب رجم الحبلى من الزنا إذا
أحصنت وابن هشام في السيرة 4 / 226 والطبري في التاريخ 3 / 200 وابن الأثير في
النهاية مادة " فلت " والمحب في الرياض النضرة 1 / 161 وابن حجر في الصواعق
المحرقة ص 5 و 6 وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 6 / 23 و 26 عن تاريخ
الطبري.
(3) معن بن عدي البلوي حليف الأنصار صحابي شهد المشاهد كلها وقتل يوم اليمامة في
خلافة أبي بكر (أسد الغاية 5 / 401).
43
مع عمر فحدثه الحديث ففزع أبو بكر أشد الفزع وخرجا مسرعين إلى سقيفة
بني ساعدة، وساق الكلام الواقع في السقيفة من خصام أبي بكر وصاحبيه
للأنصار (1).
وقال أبو بكر الجوهري: سمعت أبا زيد عمر بن شبة يحدث رجلا بحديث
لم أحفظ إسناده قال: مر المغيرة بن شعبة بابي بكر وعمر وهما جالسان على باب
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قبض فقال ما يقعد كما قالا: ننتظر
هذا الرجل يخرج فنبايعه يعنيان عليا (عليه السلام) فقال أتريدون أن
تنتظروا خيل الحلبة (2) من هذا البيت وسعوها في قريش تتسع (3) قال فقاما
إلى سقيفة بني ساعدة أو كلاما هذا معناه وغير ذلك من أخبارهم المصرحة
بخلاف ما ذكره هذا المحتج والناطقة بمغايرته، على أن جميع أصحاب السيرة
رووا كلام أبي بكر بعد قول عمر: إن رسول الله لم يمت ولا يموت حتى يظهره
الله على دينه قالوا جميعا: فجاء أبو بكر وكشف عن وجه رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) وقال: بأبي وأمي طبت حيا وميتا والله لا يذيقك الله الموتتين
ثم جزع والناس حول عمر وهو يقول لهم: إنه لم يمت ويحلف فقال: أيها الحالف
على رسلك ثم قال: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله
فإن الله حي لا يموت قال الله تعالى: [إنك ميت وإنهم ميتون] (4) وقال:
[أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم] (5) هذا كلامه الذي نقله جميع



(1) شرح نهج البلاغة 6 / 6.
(2) في شرح النهج " حبل الحبلة " هكذا بتقديم الباء على اللام وقال الأستاذ محمد أبو
الفضل إبراهيم: " الحبلة في الأصل الكرم، قيل في معناه حمل الكرمة قبل أن تبلغ
ولعله كناية عن صغر علي ".
(3) شرح النهج 6 / 43.
(4) الزمر: 30.
(5) آل عمران: 144.
44
أهل السيرة من أوليائه (1) وليس فيه مما ذكره القوشجي من طلب أبي بكر من
الصحابة تعيين الإمام وإجابتهم له بما ذكره هناك حرف واحد وما ذكرناه دليل
واضح على أن القول المذكور لم يقع وأنه شئ افتعله القوشجي من نفسه أو
غيره من متكلميهم ليصلحوا به أمرهم، ويقووا به مذهبهم، فلا حجة فيما
ذكر إذ لم يرد به خبر، ولا وجد له في كتب الأخبار أثر، والكذب لا تقوم به
الحجة الشرعية عند أولي الألباب، ومما بيناه استبان أنه لا استشارة ولا جواب
فضلا عن أن يكون وقع اتفاق من الصحابة على تعيين الإمام، وحصول
الإجماع.
الرابع: إن خبره لو صح لكان مناقضا لغرضه ومعاندا لمطلبه لأن فيه
بعد كلام أبي بكر وطلبه من القوم تعيين الإمام قالوا: صدقت لكنا ننظر في
هذا الأمر، وهذا القول دال على التأني والمهلة لا على المسارعة والعجلة كما لا
يخفى على من له اطلاع وممارسة بكلام العرب ومحاوراتهم، فما احتج به الرجل
على مراده مخالف له فلا يصح له الاحتجاج به لو صح وروده فكيف ودون
ذلك أهوال؟ ومما ذكرنا من الوجوه يعلم يقينا اجتثاث أصل هذا الدليل
وانقلاع أساسه وانطماس رسومه واعتفاء أثره مع أنه العمدة عندهم فزال
عمادهم وبطل إليه استنادهم.
الثاني: (2) من أدلته أن الشارع أمر بإقامة الحدود، وسد الثغور، وتجهيز
الجيوش، للجهاد وكثير من الأمور المتعلقة بحفظ النظام وحماية بيضة الإسلام
مما لا يتم إلا بالإمام وما لم يتم الواجب المطلق إلا به وكان مقدورا فهو واجب
على ما مر.
الجواب من وجهين (3).



(1) نقل هذا الإجماع ابن أبي الحديد في شرح النهج 2 / 40.
(2) أي من أدلة القوشجي على أن نصب الإمام واجب على الخلق.
(3) أي الجواب على ما انتصر به القوشجي للأشاعرة.
45
الأول: منع توجه الخطاب بذلك لعامة المكلفين ابتداء بل الخطاب
متوجه به كذلك إلى الأئمة والمكلفون مأمورون بطاعتهم ومعاونتهم عليه ومنهيون
عن التخلف عن أمرهم فالخطاب به توجه إليهم بواسطة وجوب مؤازرة الأئمة
عليهم في ذلك كله فهو خطاب ثانوي وقوله تعالى: [فقاتل في سبيل الله لا تكلف
إلا نفسك وحرض المؤمنين على القتال] (1). وقوله تعالى: [يا أيها النبي
جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم] (2) وقوله تعالى: [ما كان لأهل
المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا
بأنفسهم عن نفسه] (3) وقوله تعالى: [فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن
تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم] (4). وغيرها من الآيات الجارية هذا
المجرى وقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما استفاض: (لي عليكم أن لا
تأمروني ولا أن تنهوني وإنما عليكم أن تسمعوا وتطيعوا) شواهد صدق على ما
قلناه، إذا الإمام في ذلك كله كالنبي لأنه خليفته فليس على المكلفين تعيين من
يتوجه له الخطاب من الشارع بذلك كما أنه ليس عليهم أن يعينوا شارعا
يتوجه له الأمر من الله به، بل على الشارع تعيين شخص لذلك كما كان على
الله تعالى أن يبعث شارعا بما يريد من الشرع واستقلال النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) في حياته بتأمير الأمراء دليل على أن تعيين الأمير العام من بعده
له وعليه لا للرعية ولا عليهم وإلا لفوض لهم ذلك في حياته فتبين أن عامة
الناس ليسوا بمأمورين بتلك الأمور المذكورة على الإطلاق وبذلك بطل
الدليل.
الثاني: إن التكليف بذي المقدمة بواسطة التكليف بذيها مشروط بقدرة



(1) النساء: 84.
(2) التوبة: 73.
(3) التوبة: 120.
(4) النور: 63.
46
المكلف عليهما كما ذكره في دليله وأما إذا لم يكن المكلف قادرا عليها كالوقت
للصلاة والاستطاعة للحج والنصاب للزكاة لم يكلف بها ولا بذيها، بل يكلف
به إذا حصلت وتحصيل الإمام غير مقدور للمكلفين من جهتين.
الأولى: إنه يشترط في الإمام المنصوب أن يكون مرضيا عند الله للإمامة
ومعرفة المرضي عند الله لذلك من دون نص عليه متعذرة على سائر المكلفين
لعدم اطلاعهم على الغيب وانقطاع الوحي بموت النبي وعدم المؤيد على قول
المستدل بالهام من الله وتفهيم وكون الظن لا يغني من الحق شيئا ولأن الظاهر
قد يخالفه الباطن فربما يختار المكلفون من يؤدي نصبه إلى الفساد المطلوب
إزالته من نصب الإمام وهم يظنون أنه صالح فلا يكون لله رضا وحيث كان
معرفة من يصلح للإمامة عند الله ويكون نصبه لله رضا غير مقدور للرعية لم
يجز أن يكونوا مأمورين به فبطل الدليل، اللهم إلا أن يقولوا إن الإمام لا
يلزم أن يكون مرضيا عند الله ولا موسوما بالصلاح للإمامة لديه فحينئذ
نجيبهم ونقول: فما الفرق بين هذا الإمام وبين الملوك المتغلبين على العباد بالقهر
والجبر، وأي فائدة في نصب هذا الإمام للدين، وأي مصلحة في حكومته
للمسلمين، وكيف يجوز طاعة من لم يكن مرضيا عند الله للأمر والنهي؟ على
أنه لا يتم به الواجب المطلق لعدم قيامه بجميع الوظائف الشرعية ولسنا نتكلم
في مثل هذا ولا موضع للقول فيه ولا اعتناء لنا بشأنه ولا حاجة لنا في ذكره
إلا بما يذكر أمثاله كنمرود وفرعون.
الثانية: إن الإمام المرضي عند جميع المسلمين يستحيل أن يكون واحدا
بعينه باتفاق لاختلاف الآراء وتشعب الأهواء وميل كل فرقة إلى اختيار
شخص لا سيما عند كثرة المسلمين وانتشارهم في البلاد وقبح الجبر فيما سبيله
الاختيار وعدم جواز ترجيح اختيار البعض على البعض الآخر لفقد المرجح
فأين قدرة المكلفين على تعيين واحد بعينه وما يختاره قوم يأباه قوم آخرون؟
وحديث أبي بكر مع الأنصار في السقيفة وما جرى بينه وأصحابه وبين علي

47
(عليه السلام) والزبير ومن معهما وحديث غضب طلحة وتابعيه لنص أبي
بكر على عمر وعدم رضا علي (عليه السلام) والزبير ومن معهما أو حديث
غضب طلحة وتابعيه لنص أبي بكر على عمر وعدم رضا علي (عليه السلام)
وجملة من الصحابة كعمار والمقداد وأمثالهما ببيعة عثمان وعدم انقياد جماعة كثيرة لعلي
(ع) ظنا منهم أن إمامته ببيعة من بايعه كالأولين دليل واضح وبرهان لائح على
أنه لم يل الخلافة من رضي به جميع أهل الحل والعقد من المسلمين ولا أمكن
لأحد تحصيل رضاهم بإمامته فكيف يكلفون بما لا يمكن حصوله أو يكلف
أحدهم بما لا يمكن له تحصيله وهو رضا غيره باختياره فيقال له صير غيرك
راضيا بما تختار ثم يكلف ذلك الغير بتصيير الأول راضيا بما يختار والأمران
متقابلان والتكليفان متعاندان ولا يحصل بالقطع واليقين إلا بالإكراه وتحكيم
حد الحسام وأعمال ماض السنان في الرؤس والأجسام، وأين هذا من
الرضا المطلوب والاختيار المقصود؟ فبان أن نصب الإمام على وجه لا يستلزم
شيئا من المفاسد غير مقدور للأنام فبطل تكليفهم به المدعى.
الثالث: من أدلتهم أن في نصب الإمام الاستجلاب منافع لا تحصى
واستدفاع مضار لا تخفى وكل ما هو كذلك فهو واجب أما الصغرى فتكاد أن
تكون من الضروريات بل من المشاهدات وتعد من العيان الذي لا يحتاج إلى
البيان وذلك لأن الاجتماع المؤدي إلى صلاح المعاش والمعاد لا يتم بدون
سلطان قاهر يدرأ المفاسد ويحفظ المصالح ويمنع ما تتسارع إليه الطباع وتتنازع
إليه الأطماع، وكفاك شاهدا ما يشاهد من استيلاء الفتن والابتلاء بالمحن
بمجرد هلاك من يقوم بحماية الحوزة ورعاية البيضة وإن لم يكن على ما ينبغي
من الصلاح والسداد ولم يخل عن شائبة شر وفساد، ولهذا لا ينتظم أمر أدنى
اجتماع كرفقة طريق بدون رئيس لا يصدرون إلا عن رأيه ومقتضى أمره
ونهيه، بل ربما يجري مثل هذا فيما بين الحيوانات العجم كالنحل لهم عظيم
يقوم مقام الرئيس ينتظم به أمرها ما دام فيها وإذا هلك انتشرت الأفراد

48
انتشار الجراد وشاع فيما بينهم الهلاك والفساد، وأما الكبرى فبالإجماع.
والجواب أما المنافع الكثيرة في نصب الإمام فأمر معلوم وكذلك أن حفظ
النظام منوط به وبدونه يختل أمر الدين وليس هذا محل النزاع، وأما دعوى
تفويض الله نصبه إلى الأمة الذي هو موضع النزاع فغير مسلمة على أنها هي
مطلوبهم والدليل غير ناهض بها ولا واف بإثباتها وإنما غايته الدلالة على
وجوب نصب إمام يحصل به النفع ويدفع به الضرر، وعلى هذا يكون لطفا
فيكون واجبا على الله تعالى: ولم تكن فيه دلالة على جعل ذلك للعباد،
وهذا المعنى هو المتنازع فيه وأيضا دل الدليل على وجوب نصب الإمام
لاستجلاب المنافع ودفع المضار والمفاسد، وفي تفويضه إلى المكلفين عكس
ذلك المراد ونقيض الوجه المطلوب لما ذكرنا سابقا من اختلاف الآراء في
الاختيار وميل كل طائفة من الناس إلى شخص بعينه غير من مالت إليه
الطائفة الأخرى فيقع بين العباد الجدال والخصام ويختل به النظام المطلوب
التئامه من نصب الإمام وميل كل من الناس إلى هواه وأخذ كل منهم برأيه
ومشتهاه، لا سيما إذا كان له الخيرة في ذلك وهذا أمر مشاهد بالعيان المستغني عن
البيان وحصول الفساد بذلك أمر معلوم باللزوم وتسليم الخصوم وقد منعوا به
من نصب إمامين في زمان واحد، ومن المعلوم لدى كل فاهم أن الاختلاف
والفتنة اللذين نشأ منهما الفساد في هذه الأمة فسفكت الدماء وعطلت الحدود
وغيرت الأحكام واختل نظام دين الإسلام إنما كانا من جعلهم نصب الإمام
إلى الخلق واختلافهم في الاختيار (1) فتبين أن في جعل تعيين الإمام إلى
الرعية لزوم مفسدة تزول بها المصلحة التي وجب لأجلها نصب الإمام وذلك
غير جائز على الحكيم، فالواجب لدفع المفسدة التي لا تحصل المصلحة إلا به
أن يكون الإمام منصوبا من قبل من لا يجوز لأحد من الرعية مخالفته ولا



(1) قال الشهرستاني في الملل والنحل 1 / 24: " أعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة إذ
ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان ".
49
تسوغ لأحد من الناس معصيته ليكون ذلك حاسما للنزاع وقاطعا لطريق ذوي
الأطماع، وليس كذلك إلا من هو منصوب من الله تعالى، فنصب الإمام
لذلك يكون واجبا عليه فالدليل إن لم يكن لنا لم يكن علينا.
وأما ما ذهب إليه الخوارج وما قال به أبو بكر الأصم وما ذهب إليه
الفوطي وأتباعه (1) فهو مع كونه فاسدا بما دل من الأدلة على وجوب الإمام
مطلقا مبني على جعل تعيين الإمام موكولا إلى العباد وقد أقمنا البرهان على
بطلانه وزيفنا أدلته وهدمنا رفيع بنيانه، وإذا بطل الأصل تبعه في البطلان
فرعه لا سيما وحجة الخوارج موجبة لبطلان الاختيار حيث قالوا: " إن في
نصب الإمام إثارة للفتن لأن الآراء مختلفة والأهواء متباينة فيميل كل حزب
إلى أحد فتهيج الفتن وتقوم الحروب وما هذا شأنه لا يجب بل كان ينبغي أن
لا يجوز إلا أن احتمال الاتفاق على الواحد أو تعينه وتقرره باستجماع
الشرائط وترجيحه من بعض الجهات منع الامتناع وأوجب الجواز " وأنت خبير
بأن ما احتملوه غير حاصل ولا حصل فيما مضى فلم يبق إلا أن يكون نصب
الإمام محرما وهو فاسد باتفاق المسلمين وواجبا على الله دون الرعية لإزالة
الخوف مما ذكروه من هيجان الفتن وقيام الحروب وهو المطلوب وحجة أبي بكر
الأصم مبنية أيضا على أن مصلحة نصب الإمام مقصورة على إزالة الخوف
وتأمين سبل المسلمين وليس بصحيح فإن للإمام مصالح كثيرة غير ذلك قد مر
ذكرها وسيأتي وحجة الفوطي منقوضة بأن من جملة المصالح التي لأجلها
نصب الإمام إزالة البدع وإذهاب الفتن وإماطة الاختلاف وردع أهل المعاصي
عنها فلا يكون وجودها مانعا من وجوب نصبه والأمر في ذلك ظاهر.
(فائدة جليلة)
هي فرع ما أصلناه ونتيجة ما أبرمناه، إعلم أرشدنا الله وإياك إلى الحق



(1) مرت آراء الخوارج والأصم والفوطي في أول المبحث الثاني.
50
أن أصحابنا الإمامية وبعض فرق الشيعة قالوا إنه لا يجوز خلو زمان التكليف
من إمام معصوم تقوم به الحجة لله على خلقه وتزاح به علتهم، وتجتمع به
كلمتهم، وتحصل به ألفتهم، ويدلهم على مراشدهم ويهديهم إلى سبيل
نجاتهم، ويبين لهم ما اختلفوا فيه من أمر دينهم وينتظم به أمر دنياهم،
وتنجح به مطالبهم ومصالحهم في معاشهم ومعادهم، ويزول به الشك
ويتضح به الحق وترتفع به الحيرة ويقمع به الباطل ويقام به الأود ويثقف به
العوج، ويستبين بنوره طريق الهدى ويستضيئون بضياء علمه في حنادس
الجهل وغياهب الظلماء، ولا يشترط تمكنه ولا على الله تمكينه من إقامة عمود
الدين وإعزاز دولة الإسلام بنفسه، بل يجب عليه القيام بذلك مع وجود
المعين والناصر وبذل الطاعة ممن يحصل به النصرة والانتصار على الأعداء،
وخالفنا في ذلك مخالفونا القائلون بأن نصب الإمام من قبل الرعية من المعتزلة
والأشاعرة وغيرهم، فجوزوا خلو العصر من إمام بتلك المثابة على أن
مقتضى أدلة الطائفتين كما عرفت وجوب نصب الإمام عل العباد في كل زمان
وإن تركه إخلال بالواجب عقلا كما عن المعتزلة أو شرعا كما عن الأشاعرة،
ولازم ذلك ارتكاب الجميع منهم العصيان بتركهم نصب الإمام الذي تحصل
به حماية حوزة الإسلام ويدفع به الضرر عن المكلفين في جميع الأزمان، إذ لا
نراهم فعلوا ما أوجبوه على أنفسهم والتزموا به في مذهبهم من قديم الأعصار
فدخلوا بإخلالهم بالواجب عندهم في زمرة العاصين وكانوا بتركهم إياه في
عداد الفاسقين، وحسبك بلزوم الفسق لهم وتوازرهم عليه لإهمالهم ما وجب
عليهم بحكمهم دليلا على فساد قولهم وبطلان مذهبهم، ومن ثم كان
الصحيح ما عليه أصحابنا، ولنا على ذلك مضافا إلى الأصل أدلة كثيرة من
العقل والنقل.
الأول: إنا بينا أن الإمام لطف وأن اللطف منحصر فيه، واللطف
واجب على الله تعالى والأزمان متساوية والمكلفون متماثلون، فليس زمان

51
أولى باللطف من زمان ولا مكلف أحق به من مكلف آخر وليس يجوز في
حكمة الله منع بعض المكلفين اللطف، فوجب إذن كون الإمام موجودا في
جميع أزمنة التكليف فلا يجوز على الله تعالى بمقتضى حكمة إخلاء زمان
من أزمنة التكليف من إمام بالمعنى المذكور وذلك بخلاف النبي فإنه وإن كان
لطفا إلا أن اللطف غير منحصر فيه لقيام الإمام مقامه فيما بعث له من
المصالح والفوائد فلذا جاز خلو الزمان من رسول حي ولم يجز خلوه من إمام
ولذا قال العلامة جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي عطر الله
مرقده في بعض كتبه.
" الإمامة لطف عام والنبوة لطف خاص لإمكان خلو الزمان من النبي
الحي بخلاف الإمام " انتهى وللشيخ الصدوق أبي جعفر محمد بن علي بن
بابويه في هذا المقام كلام طويل لا بأس بنقل جملة منه لما فيه من الفوائد
الجليلة قال روح الله روحه ونور ضريحه: " والفترات بين الرسل (عليهم
السلام) كانت جائزة لأن الرسل مبعوثة بشرائع الملة وتجديدها ونسخ بعضها
بعضا وليس الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) كذلك، ولا لهم ذلك لأنه لا
ينسخ بهم شريعة ولا تجدد بهم ملة، وقد علمنا أن بين نوح وإبراهيم وبين
إبراهيم وموسى وبين موسى وعيسى وبين عيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله
وعليهم) أنبياء وأوصياء يكثر عددهم، وإنما كانوا مذكرين لأمر الله
مستحفظين مستودعين لما جعل الله تعالى عندهم من الوصايا والكتب
والعلوم، وما جاءت به الرسل عن الله عز وجل إلى أممهم، وكان لكل نبي
منهم مذكر عنه ووصي ومودع استحفظ من علومه ووصاياه، فلما ختم الله
عز وجل الرسالة بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يجز أن تخلو الأرض
من وصي هاد مذكر يقوم بأمره ويؤدي عنه ما استودعه، حافظا لما ائتمنه
عليه من دين الله عزو جل فجعل الله ذلك سببا لإمامة منسوقة منظومة متصلة
لما اتصل أمر الله عز وجل لأنه لا يجوز أن تتدارس آثار الأنبياء والرسل

52
وأعلام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وملته وشريعته وفرائضه وسنته
وأحكامه، أو تنسخ وتخفى عليها آثار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
وشرائعه إذ لا رسول بعده، ولا نبي والإمام ليس برسول ولا نبي ولا داع
إلى شريعة ولا ملة غير شريعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وملته فلا
يجوز بين الإمام والإمام الذي بعده فترة والفترات بين الرسل جائزة فلذلك
وجب أن لا بد من إمام محجوج به، ولا بد أيضا أن يكون بين الرسول
والرسول وإن كان بينهما فترة إمام وصي يلزم الخلق حجته ويؤدي عن الرسل
ما جاءوا به عن الله تعالى وينبه عباده على ما أغفلوا يبين لهم ما جهلوا
ليعلموا أن الله عز وجل لم يتركهم سدى ولم يضرب عنهم الذكر صفحا ولم
يدعهم من دينهم في شبهة ولا من فرائضه التي وظفها عليهم في حيرة،
والنبوة والرسالة سنة من الله جل جلاله والإمامة فريضة والسنن تنقطع ويجوز
تركها في حالات والفرائض لا تزول ولا تنقطع بعد محمد (صلوات الله
عليهم) وأجل الفرائض وأعظمها خطرا الإمامة التي تؤدي بها الفرائض
والسنن وبها كمال الدين وتمام النعمة فالأئمة من آل محمد (صلى الله عليه
وآله وسلم) لأنه لا نبي بعده يحملون العباد على محجة دينهم ويلزمونهم سبل
نجاتهم ويجنبونهم موارد هلكتهم، ويبينون لهم من فرائض الله عز وجل ما
سد عن أفهامهم ويهدونهم بكتاب الله عز وجل إلى مراشد أمورهم فيكون
الدين بهم محفوظا لا يعترض فيه الفسقة وفرائض الله عز وجل مؤداة لا
يدخلها ذلل وأحكام الله خالصة لا يلحقها تبديل ولا يزيلها تغيير، فالرسالة
والنبوة سنن والإمامة فرائض الله الجارية بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
لازمة لنا ثابتة علينا لا تنقطع إلى يوم القيامة مع إنا لا ندفع الأخبار التي
رويت أنه كان بين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعيسى (عليه
السلام) فترة لم يكن فيها نبي ولا وصي ولا ننكرها ونقول إنها أخبار
صحيحة ولكن تأويلها غير ما ذهب إليه مخالفونا من انقطاع الأنبياء والأئمة

53
الرسل (عليهم السلام) وإنما معنى الفترة أنه لم يكن بينهما رسول ولا نبي ولا
وصي ظاهر مشهور كمن كان قبله وعلى ذلك دل الكتاب المنزل أن الله عز
وجل بعث محمدا على حين فترة من الرسل لا من الأنبياء والأوصياء ولكن قد
كان بينه (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين عيسى أنبياء وأئمة مستورون
خائفون منهم خالد بن سنان العبسي نبي لا يدفعه دافع ولا ينكره منكر
لتواطؤ الأخبار به بذلك عن الخاص والعام وشهرتها عندهم وأن ابنته أدركت
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ودخلت عليه فقال النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم): (هذه ابنة نبي ضيعه قومه خالد بن سنان العبسي) (1) وكان
بين مبعثه وبين نبينا صلوات الله عليه وآله خمسون سنة، وهو خالد بن
سنان بن بعيث بن مريطة بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس
حدثني بذلك جماعة من أهل الفقه والعلم " إلى أن قال: " وبعد فلولا
الكتاب المنزل وما خبرنا الله عز وجل على لسان نبينا المرسل (صلى الله عليه
وآله وسلم) وما اجتمعت عليه الأمة من النقل عنه (صلى الله عليه وآله
وسلم) في الخبر الموافق للكتاب أنه لا نبي بعده لكان الواجب للحكمة أنه لا
يجوز أن تخلو العباد من رسول منذر ما دام التكليف لازما لهم، وأن يكون
الرسل متواترة إليهم على ما قال الله عز وجل: [ثم أرسلنا رسلنا تترى
كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا] (2) فلما أخبر الله عز وجل



(1) روي أن المحياة ابنة خالد بن سنان العبسي وفدت على رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) فرحب بها وقال: (ابنة نبي ضيعه قومه) وهو الذي رد نار الحرتين
بكهنها وكانت ببلاد بني عبس، وقد ذكرها المؤرخون في كتبهم والشعراء في أشعارهم
قال الشاعر.
كنار الحرتين لها زفير * تصم مسامع الرجل السميع
(انظر سفينة البحار ج 1 / 405 مادة " خلد " و ج 2 / 620 مادة " نور ".
(2) المؤمنون: 33.
54
أنه قد ختم رسله وأنبيائه بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) سلمنا ذلك
وأيقنا أنه لا رسول بعده وأنه لا بد لنا ممن يقوم مقامه وتلزمنا حجة الله عز
وجل به " إلى أن قال: " فالرسل والأنبياء والأوصياء لم تخل الأرض منهم
وقد كانت لهم فترات من خوف وأسباب لا يظهرون فيها دعوة ولا يبدون
أمرهم إلا لمن أمنوه حتى بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان
آخر أوصياء عيسى (عليه السلام) رجلا يقال له أبي ويالط وروى في
ذلك أخبارا جمة " إلى آخر ما قال. (1) ولنقتصر مع ما ذكرناه في صدر
الاستدلال في هذا الوجه على كلامه فقد بلغ منه المرام فجزاه الله خيرا عن
المسلمين والإسلام.
الثاني: (2) إن الحجة لا تقوم لله تعالى على خلقه بدون مرشد مأمون يبين
للناس أمر الدين وتزاح به علة المكلفين ويهدي العباد إلى طريق الصواب
ويرفع عنهم الاختلاف والحيرة ويؤيده قوله تعالى: [إنما أنت منذر ولكل
قوم هاد] (3) الدال على أن كل قوم لا بد لهم من هاد يهديهم إلى سبل الحق
واعلم أن مبنى هذا الدليل على خمس مقدمات.
الأولى: إن الله سبحانه وتعالى في كل واقعة حكما معينا لا يختلف
باختلاف المجتهدين ويدل على هذه المقدمة آيات كثيرة مثل قوله تعالى:
[وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم] (4) وقوله تعالى:
[وكل شئ أحصيناه في إمام مبين] (5) وقوله تعالى:: [ما فرطنا في



(1) إكمال الدين وتمام النعمة ص 616.
(2) أي الثاني من الأدلة عن أن نصب الإمام لطف.
(3) الرعد: 7.
(4) الحجر: 21.
(5) يس: 12.
55
الكتاب من شئ] (1) وما أشبهها من الآيات وكلها ظاهرة غاية الظهور في أن
لكل أمر وفعل حدا وحكما عند الله تعالى وليس شئ عنده مهملا غير محدود
بحد ولا محكوم عليه بحكم، وقد استفاض في الروايات عن النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) من طرق أصحابنا أن الله جعل لكل شئ حدا وجعل لمن
يتعدى ذلك الحد حدا، وأما ما يحتج به للمخالفين النافين تعيين حكم الله
تعالى في كل واقعة من قوله تعالى: [يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من
ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته] (2) وقوله تعالى: [وأنزلنا إليك الذكر
لتبين للناس ما أنزل إليهم] (3) فضعيف وتقرير حجتهم أن النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) مأمور بتبليغ الأمة ما أنزل إليه من ربه وبيانه لهم، ومن
المعلوم أنه لم يخالف الأمر فقد بلغ ما أنزل الله إليه وبينه وما بلغه الأمة وبينه
لهم لم يف ببيان جميع الأحكام فلو كان لله تعالى في كل واقعة حكم لأنزله إلى
نبيه ولو أنزله إليه لبلغه وبينه لأنه مأمور بذلك ولو بلغة وبينه لنقل إلينا وحيث
لم ينقل إلينا مع توفر الدواعي على نقله من حكم الشريعة إلا ما نقل علمنا
أنه لم ينزل عليه شيئا غيره فلم يكن لله في ذلك الغير حكم وكان الحكم فيه
الاجتهاد فما أدى إليه نظر المجتهد في الواقعة الغير المبنية فهو حكم الله في حقه
وحق مقلديه وهذه الحجة هي العمدة في احتجاجهم وليس لهم غيرها ما
يعتنى به أو يحتاج إلى الجواب عنه وهذه حجة منقوضة وشبهة مردودة بوجوه:
الأول: منع العموم في آية التبليغ وإرادة الخصوص منها كما يشير إليه
قوله تعالى فيها: [وإن لم تفعل فما بلغت رسالته] (4) فإنه لا يستقيم إلا
بجعل مسمي رسالته المفعول لبلغت مغايرا لمصداق [ما أنزل إليك]



(1) الأنعام: 38.
(2) المائدة: 67.
(3) النحل: 44.
(4) المائدة: 67.
56
ليكون المعنى بلغ هذا الأمر الخاص فإن لم تبلغه كنت بمنزلة من لم يبلغ ما
سبق من الرسالة التي بلغتها ولو كان المراد العموم فيما أنزل إليك لم يكن
لقوله تعالى: [فإن لم تفعل] الخ موقع لأن معناه يكون على هذا بلغ جميع
ما أنزل إليك وإن لم تبلغ جميع ما أنزل إليك لم تبلغ جميع ما أنزل إليك فوازنه
وزان اضرب زيدا فإنك إن لم تضربه لم تضربه ومن البين لدى أولي الفطنة
أن الكلام على هذا التقدير غير مفيد لأن الجزاء هو عين الشرط فلم يحصل
جزاء إذا لا بد في إفادة الجملة الشرطية من تغاير الشرط والجزاء، فعلى المعنى
المذكور من العموم يجب أن يكون الجزاء كلاما آخر مثل أسقطنا أجرك
وعاقبناك وما جرى هذا المجرى وأقل ما فيه أن تكون الآية على هذا الوجه
خارجة عن قانون البلاغة والفصاحة التي نزل بهما القرآن فيكون مرغوبا عنه
ومما يقوي ما ذكرناه من إرادة الخصوص من الآية بل يعينه أنها نزلت بعد
نزول أكثر القرآن وبعد تبليغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كثيرا من
الفرائض والأحكام في أصول الدين وفروعه فيكون المقصود من الجملة أنك
إن لم تبلغ ما أنزل إليك من ربك في هذا الأمر الخاص كنت كأنك لم تبلغ ما
بلغت سابقا من رسالة ربك لكتمانك هذا الأمر، وفائدتها الحث والتأكيد على
المسارعة إلى تبليغ ذلك الأمر الخاص وهذا واضح لمن تأمل وذلك الأمر
المذكور وهو تبليغ الناس أمر ولاية أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لا جميع
الأحكام أي بلغ ما أنزل إليك من ربك في ولاية علي (عليه السلام) وهو
المروي عن ابن عباس وجابر بن عبد الله من طريق الكلبي عن أبي صالح
رواه الحاكم أبو القاسم الحسكاني أبو إسحق أحمد بن محمد بن إبراهيم
الثعلبي في تفسيره (1) وقال بمضمونه ومن أصحابنا رواه من الطريق المذكور



(1) شواهد التنزيل للحسكاني 1 / 189 ونقله عن الحسكاني الطبرسي في مجمع البيان
3 / 223.
57
العياشي في تفسيره (1) وهو المتفق عليه في الرواية عن أئمتنا (عليهم السلام)
بين أهل النقل عنهم، وهو الأصح أو أن الله بعث النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) برسالة ضاق بها ذرعا وهاب قريشا فأنزل الله عليه الآية لإزالة تلك
الهيبة وهو المروي عن الحسن البصري (2) وليس فيه ظهور مخالفة للقول الأول
لاحتمال إرادته من الرسالة الوجه الأول وهو تبليغ ولاية علي (عليه السلام)
ويومي إليه قوله وهاب قريشا إذ لم يرد أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
هاب قومه في تبليغ أمر إلا ولاية علي فإنه خاف منهم أن يكذبوه فيها وينسبوه
إلى المحاباة كما جاء في الرواية عن ابن عباس وجابر بن عبد الله الأنصاري
برواية الحسكاني والثعلبي، أو المراد بلغ ما أنزل إليك من آيات القرآن وهو
مروي عن ابن عباس أيضا وهو محتمل منها ويدخل الأول فيه بالعموم لأن
ولاية علي منزلة في الآيات وبالجملة فكافة المفسرين قائلون بأن المراد من (ما
أنزل) إليك الخصوص ولم ينقل أنها نزلت في الأمر بتبليغ جميع الوحي إلا عن
عائشة وليس قولها مما يعارض ما ذكرناه مع أن في تصديق روايتها لو خلت
عن معارض غاية الإشكال فكيف وقد خالفت جميع الأقوال التي كلها متفقة
على أن المراد من الآية الخصوص لا العموم المؤيدة بظهور الآية بل صراحتها
في ذلك على أن قولها لا يستلزم العموم لأن المروي عنها أن النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) لم يكتم شيئا من الوحي للتقية ونحن نقول بذلك ونعتقد
أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكتم للتقية شيئا من الوحي وإنما
كتمه لمصلحة أخرى لأجلها أمر بكتمانه كعدم حاجة الناس إليه في زمانه
(صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يبينه لجميعهم أو غير ذلك من المصالح
وكلامها لا ينفي ما أثبتناه فانتفى الخلاف عما نقول وآية التبيين يحتمل فيها ما
ذكر عن ابن عباس أخيرا في آية التبليغ هو تبيين آيات القرآن أو تبيين



(1) تفسير العياشي 1 / 332.
(2) نقل رأي الحسن البصري هذا أبو علي في مجمع البيان 1 / 332.
58
الشرائع والدلائل على توحيد الله تعالى، ويحتمل أن يكون المبلغ والمبين بفتح
اللام والياء في الآيتين الفرائض الدينية والأحكام الكلية والحدود الشرعية لا
جميع الأحكام حتى الجزئية في الوقائع المتجددة ولا جميع الوحي، وهذا الوجه
وإن لم يذكره أحد من المفسرين إلا أنه قريب من مفهوم الآيتين وإذا لم يكن
المبلغ والمبين في الآيتين عامين سقط احتجاج الخصوم بهما على مطلبهم، إذ لا
دليل لهم فيهما إلا على تقدير عموم المبلغ والمبين وشمولهما لجميع الأحكام كما
هو ظاهر.
الثاني: سلمنا أن مفاد الآيتين ظاهر العموم ولكن قد عارضتهما آيات
أخر دالة على أن لله في كل واقعة حكما معينا وأن لكل شئ عنده حدا مثل
الآيات المتقدمة ومثل قوله جل وعلا: [وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه
إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب] (1) فإنها ظاهرة بل صريحة في
أن كل ما حصل فيه اختلاف بين الأمة فلله فيه حكم معين ولم يكن مهملا
عند الله تعالى والمنصوص لا يكون فيه اختلاف ومثل آيات الرد عند الشارع
إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر، وبيان توجيهها أن الرد إلى الله وإلى
الرسول وإلى أولي الأمر عند التنازع في الحكم إما أن يكون لبيان الحكم ورفع
الاختلاف فيه في تلك الواقعة أولا والثاني باطل قطعا وعلى الأول إما أن
يكون لله تعالى في تلك الواقعة حكم معين بينه لرسوله (صلى الله عليه وآله
وسلم) وبينه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لولي الأمر أولا فإن كان
الثاني فلا فائدة عليه في الرد عند التنازع إلى الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) إذ الاختلاف على هذا لا يرتفع بالرد إليه لأن جوابه على هذا الوجه
للمختلفين إذا رجعوا إليه أنه ليس لله فيما اختلفتم فيه حكم معين بينه لي
وانتظر بيانه لي حتى أخبركم به فيزول الاختلاف عنكم بل الحكم في واقعتكم



(1) الشورى: 10.
59
هذه دائر مدار الاجتهاد فما أدى إليه اجتهاد أحدكم فهو حكمه فليعمل عليه
وهكذا يكون الجواب من ولي الأمر بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
ومن الله أيضا فأي فائدة على هذا في الرد إليهم عند التنازع إذا لم يكن
الاختلاف مرتفعا به، بل يكون عبثا والله لا يأمر به فيثبت الأول وهو كون
الرد إليهم لبيان الحكم المعين في الواقعة ورفع الاختلاف فيها بالبيان
للمختلفين ذلك الحكم ومنه يثبت أن لله فيها حكما معينا وهو المطلوب، ومثل
ذلك آيات أخر سيأتي ذكرها، وحيث حصل التعارض وجب الجمع بحمل
الآيتين على إرادة تبليغ أحكام خاصة وتبيينها لا على جميع الأحكام وقول
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للمظاهرة (وما أظنك إلا وقد حرمت
عليه) بعد قوله (لم ينزل على فيك قرآن) (1) شاهد بأن كل واقعة
تقع فلله فيها حكم معين وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينتظر
الحكم فيها من الله تعالى حتى يحكم به.
الثالث: سلمنا عموم الآيتين وشمولهما لجميع الأحكام وعدم تخصيصهما
من الوجه السابق لكن لا نسلم وجوب التبليغ والتبيين لجميع المكلفين لم لا
يجوز أن يكون تبليغ جميع الأحكام وتبيينه للبعض من المكلفين وهم أولوا
الأمر وبه يحصل امتثال الأمر وآية الرد إليهم عند الاختلاف شاهدة بذلك بما
مر من التقريب وما سيأتي، ولا ينافيه لفظ الناس وفي آية التبيين الظاهر في
الجميع لإطلاق الناس في القرآن العزيز على الواحد وعلى الجماعة قلوا أو



(1) الظاهر أن المؤلف رحمه الله وهم فنقل ما هو حجة عليه لأن رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) لا يحكم بالظن. والذي قال لها ذلك زوجها كما في فتح القدير
للشوكاني 5 / 184 - قال لها: ما أظنك إلا حرمت علي فانطلقي إلى رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) فاسأليه فأتت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال:
(يا خولة ما أمرنا في أمرك بشئ) الخ وفي رواية الزمخشري في الكشاف 4 / 69
(ما عندي في أمرك شئ).
60
كثروا قال الله تعالى: [الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم
فاخشوهم] (1) وقال: [ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس] (2) وقال عز
وجل: [أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله] (3) ومثله كثير
يطول به الكلام والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد بلغ جميع الوحي
والأحكام وبينها لخلفائه الكرام فحصل المطلوب.
الرابع: سلمنا العموم في الوجهين المبلغ والمبلغين والمبين والمبينين لهم
لكن لا نسلم أن المراد تبيين جميع الوحي والأحكام لجميع الناس وتبليغهم
إياها تفصيلا، لم لا يجوز أن الأمر بالتبليغ والتبيين لبعضهم تفصيلا في جميعها
وللباقين تفصيلا وإجمالا، وإحالتهم على من فصل له الجميع فيما لم يبينه لهم
مفصلا؟ فيكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على هذا الوجه قد بلغ
جميع الأحكام وبينها لجميع الناس وسينكشف لك هذا الوجه في المقدمة الآتية
والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد فعل ذلك فبين للأمة مفصلا ما بين
من الفرائض وحدودها والمحرمات ومواضعها ودلهم على من يرجعون إليه في
بيان ما لم يبينه لهم فقال: (إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا
كتاب الله وعترتي) (4) وقال في شأن عترته (تعلموا منهم ولا تعلموهم فإنهم
أعلم منكم) (5) وقال: (أقضاكم علي) (6) يعني أعلمكم بالقضاء وقال لعلي



(1) آل عمران: 173.
(2) البقرة: 199.
(3) النساء: 54.
(4) حديث الثقلين مشهور بل متواتر حتى قال ابن حجر في الصواعق ص 99: " إن
طرقه وردت عن نيف وعشرين صحابيا " بل جاء في العبقات - كما في طبعته الأخيرة
بتعريب السيد الميلاني - رواه أكثر من ثلاثين صحابيا وما لا يقل عن مائتي عالم من
كبار علماء أهل السنة بألفاظ مختلفة ومعنى متفق.
(5) هذا تابع لحديث الثقلين انظر الصواعق ص 135.
(6) الإستيعاب لابن عبد البر: 3 / 38.
61
(عليه السلام) فيما رواه أبو نعيم عن أنس: (أنت تؤدي عني وتبين لهم ما
اختلفوا فيه بعدي) (1) إلى غير ذلك مما سيأتي مشروحا عند ذكر النصوص على
أمير المؤمنين (عليه السلام) إن شاء الله تعالى وكله مصحح عند الخصوم،
على أنهم حيث اعترض جماعة من محققي الإمامية على رواية أبي بكر عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) (2) فقالوا
كيف يبين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك لأبي بكر ولم يبين لأهل
الميراث أجابوهم بأنه إذ بين المولى من بعده فقد بين للأمة مع حكمهم بأن
ولاية المذكور ليست من قبل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنما هي
من وجه اختيار قوم من الصحابة وهذا لازم فيما ذكرناه في الوجه الثالث وهنا
من أن البيان للعترة بيان لجميع الناس لا سيما وولايتهم (عليهم السلام)
كانت بنصه (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم ودلالته وإشارته إليهم
بصريح القول وواضح المعنى، وقد علم من جملة ما ذكرناه بطلان ما ادعوه من
أنه ليس لله في غير ما نص عليه في الكتاب والسنة من الأحكام حكم معين
في الوقائع وسلمت مقدمتنا الحاكمة بنقيض دعواهم من الايراد، ومن ذلك
يتضح بطلان ما حكموا به من الاستغناء بالاجتهاد في غير المنصوص من
الوقائع عن الرجوع إلى مستحفظ الأحكام ومستودع الوحي والمخصوص بعلم
التأويل من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن يحل محله من أطائب
ذريته المخصوصين من الله بالتفهيم والإلهام لبطلان ما بنوا عليه ذلك الحكم
المردود من انتفاء حكم الله في جميع الوقائع والحوادث، وبعد فكيف يجوز
عاقل على ربه الحكيم العليم عدم علمه بكثير من الأمور وأنه لا يدري أهي



(1) شرح نهج البلاغة: 9 / 169.
(2) صحيح البخاري 5 / 82 كتاب المغازي باب غزوة خيبر، وصحيح مسلم 5 / 135
كتاب الجهاد والسير.
62
داخلة في حيز التحليل والتحريم حتى يحكم فيها ربيعة الرأي (1) وسالم بن أبي
حفصة (2). والأوزاعي (3) وأبو حنيفة (4) وأضرابهم فهنالك يحدث له العلم
بحكمها وتتجدد له المعرفة بحدها ورسمها فلا يزال على هذا يخرج من جهل
إلى علم باستمداده من أهل الرأي والقياس واستفادته من اجتهادهم المقرون
بالشك والالتباس كما هو لازم قولهم الذي دلهم عليه الوسواس الخناس أعوذ
بالله من هذه الجرأة العظيمة المستلزمة لنسبة الجهل للخالق الحكيم الخبير
كأنهم لم يسمعوا قوله تعالى: [والله بكل شئ عليم، أليس الله بأحكم
الحاكمين، إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين] (5) وغيرها من
الآيات الكثيرة في الذكر الحكيم، على أن صحة ما قلناه وبطلان قول الخصوم
لا يحتاج من الدليل إلى أكثر مما ذكرناه من استلزام قولنا تنزيه البارئ تعالى
عن النقص واستلزام قولهم نسبة الجهل إلى الحي القيوم وتحصيله العلم
ومعرفته الحكم في خلقه وبريته وأفعالهم من اجتهاد المجتهدين فلقد وقع الحق
وبطل ما كانوا يعملون.



(1) ربيعة الرأي هو ربيعة بن فروخ التيمي بالولاء من فقهاء المدينة وإنما قيل له ربيعة
الرأي لأنه من أصحاب القياس وبه تفقه مالك توفي بالأنبار سنة 136.
(2) سالم بن أبي حفصة ويقال له سالم التمار مولى بني عجل كوفي مات سنة 137.
(3) الأوزاعي أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو إمام أهل الشام كان يسكن بيروت توفي
سنة 157، والأوزاعي نسبة إلى وزاع بطن من همدان أو إلى أوزاع قرية بدمشق عند
باب الفردايس.
(4) أبو حنيفة النعمان بن ثابت إمام المذهب ولد بالكوفة سنة 80 وتوفي سنة 150 قال في
نور الأبصار ص 206 أراده المنصور للقضاء فامتنع فأمر بضربه ثم أحضره بين يديه
فدعا بسويق وأكرهه على شربه ثم قام فقال له إلى أين؟ قال: إلى حيث بعثتني
فمضى به إلى السجن فمات فيه.
(5) ما بين القوسين أبعاض آيات من البقرة 282 والتين 8 والأنعام 57.
63
المقدمة الثانية (1):
إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يبين جميع الأحكام مفصلة
لكل الأمة بل بين لجميعهم بعضا تفصيلا وبعضا إجمالا وبين الكل لخلفائه
مفصلا وأمر الأمة: بالأخذ عنهم والتعلم منهم والأدلة على هذه المقدمة
ظاهرة متكثرة.
الأول: إن الأمة قد اختلفوا في الأحكام اختلافا شديدا ولو بين النبي
(صلى الله عليه وآله) لجميعهم كل الأحكام مفصلة لما اختلفوا أما
الأولى فمن المشاهدات، وأما الثانية فلأن اختلافهم في الحكم بعد بيان
الرسول (صلى الله عليه وآله) أما لتعمدهم مخالفته وميلهم إلى الهوى
وترك النص إلى الرأي أو لنسيان الجميع بيان الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) وكل منهما غير جائز عند مخالفينا لأنهم لا يجوزون على الصحابة الخطأ
ولا مخالفة نص النبي (صلى الله عليه وآله) بل يحكمون بأنهم متبعون
له في أفعاله وأقواله وأن إجماعهم حجة فلا سبيل إلى الحكم عليهم في
اختلافهم بتعمد مخالفة بيان النبي (صلى الله عليه وآله) ولا نسيانه إذ
ذاك يخرج إجماعهم عن الحجية فلم يبق إلا الحكم على أن اختلافهم لعدم
البيان إليهم على التفصيل وهو المطلوب، وأما نحن فلا ننكر تعمد البعض
لمخالفة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض الأحكام وتركهم
نصه (2) وحصول الشبهة لبعض آخر بذلك حتى يخرج النص في نظره عن
النصية فيحمله على أبعد محامل التأويل لكن نمنع ذلك عن الكل في جميع
الأحكام لو كانت كلها مبينة بالتفصيل لا عن البعض في البعض ولا من جهة



(1) أي من المقدمات الخمس على إثبات أن لكل قوم هاد.
(2) يراجع في ذلك كتاب النص والاجتهاد للسيد شرف الدين.
64
الشبهة، ولذا إنا نمنع اجتماع الأمة على الخطأ في مثل وجوب الصلوات
الخمس وعدد ركعاتها ومقادير نصب الزكاة وكيفية الحج ومواقفه وغير ذلك
من الضروريات لأن الإمام في جملتهم يقينا وهو لا يجوز عليه الخطأ، فإن قيل
فمن أين جاء الاختلاف وأنتم قلتم: إن النبي (صلى الله عليه وآله) قد
بلغ الأمة جميع الأحكام بعضها تفصيلا وبعضها إجمالا ودل العباد على من
يرجعون إليه في بيان ما لم يفصله؟ قلنا: جاء الاختلاف من مخالفتهم أمر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرجوع إلى من أمرهم بالأخذ عنه
والتمسك به في رفع ذلك عنهم وعدولهم عنه إلى آرائهم واجتهادهم إلا قليلا
من الصحابة، فإن قيل: من هذا الرجل الذي أمر النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) الناس بالرجوع إليه لرفع الاختلاف ببيان الحكم فعدلوا عنه إلى ما
ذكرتم؟ قلنا: ذلك علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقد سبق ذكر يسير من
الأدلة الواردة في أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتمسك به والأخذ
عنه وسيأتي الكثير منه في موضعه إن شاء الله ومن بعده للطيبين من ولده
(عليهم السلام) فإن قيل: فأنتم لم اختلفتم مع رجوعكم إلى من بين له النبي
(صلى الله عليه وآله) جميع الأحكام مفصلة على قولكم ولم لم يرفع
الاختلاف عنكم ببيان الحق قلنا: إنا لا ننكر الاختلاف بيننا في مسائل الفقه
وإنما نشأ ذلك من جهة عدم تمكن الحجة (عليه السلام) من بيان الحق
للخوف على شيعته من الطواغيت وذلك أنه قد ثبت بالتواتر شدة الخوف
على الإمامية في زمن ظلمة من بني أمية وبني العباس حتى آل الأمر إلى استحلالهم دم
من يتهم بتشيع أو يذكر أهل البيت بخير فكان الإمام (عليه السلام) يفتي
بعض شيعته بمر الحق ويفتي آخر بما يحتمل التأويل والوجوه ويفتي آخرين بما
يوافق أقوال العامة لئلا تجتمع شيعته على أمر واحد فيعرفوا فيؤخذ برقابهم
وليس مزج الحق بغيره أو إخفائه في حكم أو أحكام في الفتوى للخوف على
النفس من الإزهاق بأعظم من إظهار الكفر وسب الرسول (صلى الله عليه

65
وآله وسلم) الذي جاز لعمار بن ياسر (رضي الله عنه) وغيره من المؤمنين
لدفع القتل عن نفوسهم حتى أنزل الله عذره وعذر غيره في الكتاب بقوله عز
وجل: [إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان] (1) وقوله تعالى: [إلا أن
تتقوا منهم تقية] (2) وقوله تعالى في رجال ونساء من أهل مكة آمنوا
أظهروا الكفر خوفا من أهاليهم فلم يكونوا معروفين بالإيمان ولأجل أن لا
يصيبهم ضرر من المسلمين وهم لا يعلمون بهم صار صلح الحديبية [ولولا
رجال مؤمنون ونساء مؤمنات أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم لو
تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما] (3) بل كان دفع الضرر عنهم
سببا لدفع القتل عن الكفار فمن هذا جاء الاختلاف بيننا وقد صح في الرواية
عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من الطريقين أنه لما استشاره قضاته فقالوا
بم نقضي بين الناس؟ قال: (اقضوا كما كنتم تقضون حتى يكون للناس
جماعة) (4) وهذا القول تصريح منه بأن قضاءهم السابق غير مرضي عنده، ولو
كان عنده مرضيا لما علق الرخصة فيه إلى غاية يمكن حصولها وتبيين منه بأنه
لم يتمكن في تلك الحال من بيان الحق، وحمل الناس عليه لعدم إذعانهم له
بالطاعة التامة، وعدم تسليمهم إليه المقادة واختلافهم عليه وعصيانهم أمره،
هذا وهو خليفة في الناس فما ظنك به في زمان تغلب من قبله وما ظنك
بالأئمة من ذريته في حال تغلب الظلمة والطواغيت عليهم وعلى تابعيهم وما



(1) النحل: 106.
(2) آل عمران: 28.
(3) الفتح: 25.
(4) رواه البخاري في صحيحه 4 / 20 في كتاب بدأ الخلق باب مناقب المهاجرين بلفظ
" اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الاختلاف حتى يكون للناس جماعة أو أموت كما
مات أصحابي " وفي كتاب الغارات للثقفي ص 124 أنه (عليه السلام) قال
لشريح: " اقض بما كنت تقضي حتى يجتمع أمر الناس ".
66
زال الخوف على الشيعة موجودا في وقت ظهور أئمتهم ولم يذهب شدة الخوف
عنهم ويحصل لهم بعض الأمن في الجملة إلا من بعد اختفاء الحجة (عليه
السلام) واستتاره حيث أخاف الطواغيت سبيله وعلم الظلمة أن لا إمام ظاهر
للشيعة فهناك حصل الاختلاف لهم لعدم الوصلة إلى الإمام الذي يزول
الاختلاف ببيانه ولم يبق إلا الأخذ بما روي عن آبائه وهو على ما وصفنا لما
ذكرنا فبقي الاختلاف الأول قائما كما هو، ومع هذا فإنا نقطع بأن كل مسألة
اختلفنا فيها أن أحد الأقوال فيها هو حكم الله إلا أنا لا نعلمه بعينه فليس
اختلافنا كسبيل اختلاف الخصوم لأن خلافهم واختلافهم حصل من
اعرضاهم عن قول الحجة، واختلافنا مسبب عنه لحسن نظره إلينا، وأقوالنا
لا تخلو من الحق وأقوالهم تخالفه دواما أو غالبا فافترقت الحال بيننا وبينهم
وحصل العذر لنا ولم يحصل لهم فإن قالوا: إنكم وافقتمونا في زمان غيبة
إمامكم في الاجتهاد فأنتم مثلنا قلنا لهم: ولا سواء فإن اجتهادنا باستعمال
قوانين نصبها لنا الحجة (عليه السلام) في تميز الحق من الباطل بقدر وسعنا
وطاقتنا واجتهادكم باستعمال الأقيسة التي اخترعها إبليس واحتج بها على
جواز ترك السجود لآدم والآراء التي نصبها لرد أمر الله تعالى وبين الوجهتين
غاية البعد، وأيضا أن اجتهادنا في تحصيل حكم الله ممن قوله الحجة فنعذر
بعد بذل الجهد إن أخطأنا واجتهادكم أنتم في تحصيل غير حكم الله إذ لا
حكم له في تلك الواقعة عندكم فاجتهادكم لا لإحداث حكم لا يعرفه الله قبل
ذلك بزعمكم ليحكم به عليكم وهو مع ما فيه من الزلل العظيم تصرف في
ملك الغير بغير إذنه، وإيجاب ما لم يوجبه الله أو تحريم ما لم يحرمه، فالخطأ
لازم له على كل حال، والمعذورية مرتفعة على جميع الأحوال لأن حكم ما لم
يحرمه الله ولم يوجبه الإباحة البتة فإيجابه أو تحريمه خلاف حكم الله فكان
اجتهادنا غير اجتهادكم فاجتهادنا مقدمة للواجب وهو تحصيل حكم الله في
الواقعة واجتهادكم لإخراج المباح عن الإباحة والتكليف بما لم يكلف الله به

67
بزعمكم فزال اعتراضكم واندفع إيرادكم.
الثاني: قوله تعالى: [ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم
لعلمه الذين يستنبطونه منهم] (1) وتوضيح ذلك أن الرد إلى أولي الأمر عند
الاختلاف إما لجهل المختلفين الحكم أو لا فإن كان الأول ثبت أن النبي
(صلى الله عليه وآله) لم يبين لجميع الأمة كل الأحكام بالتفصيل بل
بينها جميعها كذلك إلى أولياء الأمر بعده فيثبت المطلوب وإن كان الثاني كان
التكليف بالرد إلى أولي الأمر تحصيلا للحاصل وهو ممتنع، فالتكليف به قبيح
لا يكلف الله به على أنه لا فائدة في الرد إلى ولاة الأمر مع العلم بالحكم من
بيان النبي (صلى الله عليه وآله) فالأمر به عبث، هذا كله مع ظهور
الآية من قوله تعالى: [لعلمه الذين يستنبطونه منهم] في الأول وهو كون
الفائدة في الرد إلى أولي الأمر حصول علم للمستنبطين كانوا قبل الرد إلى أولي
الأمر يجهلونه لكون هذا الجملة جواب الشرط في قوله [ولو ردوه]
وحصول الجواب متوقف على حصول الشرط ومفقود قبله فعلم المختلفين
بالحكم قبل الرد إلى أولي الأمر مفقود وإذا فقد العلم ثبت ضده وهو الجهل
فاتضح من هذا أن المختلفين قبل ردهم ما اختلفوا فيه إلى أولي الأمر
واستعلامهم الحال منهم غير عالمين بحكم الله الواقعي في تلك الواقعة وما
ذاك إلا لعدم التفصيلي لهم من النبي (صلى الله عليه وآله) وهو
المراد.
الثالث: ما ثبت عند الخصوم من أن عند بعض الصحابة من القرآن ما
ليس عند البعض الآخر وأنه قتل من الصحابة في حرب مسيلمة (2) قوم



(1) النساء: 83.
(2) مسيلمة الكذاب ابن ثمامة الحنفي متنبئ بني حنيفة ضرب بكذبه المثل " اكذب من
مسيلمة) ولد ونشأ باليمامة وكان من المعمرين وقف على رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) فيمن وفد من قومه ولكنه تخلف في الرحل فذكروا للنبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) مكانه فأمر له بمثل ما أمر لهم وقال: (إنه ليس بشركم مكانا) لأنه قام
بوظيفة يتوقف عليها أمرهم فلا ينبغي أن يكون دونهم، ولكنه لما رجع ادعى النبوة
كاتب رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أن تكون الأرض مناصفة بينهما فأجابه
(صلى الله عليه وآله): (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده) ووضع
مسيلمة أسجاعا يريد أن يضاهي بها القرآن الكريم بزعمه مثل: " سبح اسم ربك
الأعلى، الذي أولد الحبلى فأخرج منها نسمة تسعى " ومثل قوله لسجاح المتنبئة وقد
سألته ماذا أنزل عليك: " أنتن معشر النساء لنا أزواجا، نولجه.. إيلاجا،
ونخرجه.. إخراجا " فآمنت به وتزوج بها في قصة مشهورة، قتل مسيلمة سنة 12
قتله وحشي قاتل حمزة في الحرب التي جرت بين المسلمين والمرتدين من بني حنيفة وقد
قتل في هذه الوقعة من المسلمين ألف ومائتا رجل منهم أربعمائة وخمسون صحابيا.
انظر تفصيل ذلك في كتب التاريخ.
68
يقرؤون من القرآن شيئا لم يكن عند باقي الصحابة ولهذا لما أراد أبو بكر وعمر
جمع القرآن كان من جاءهم بشئ منه وأقام عليه بينة قبلوه منه ومن لم يقم
بينة على ما أتاهم به منه ردوه واتفق الخصوم على أنه لم يكن يحفظ القرآن
جميعه في عصر النبي (صلى الله عليه وآله) من الصحابة إلا علي بن
أبي طالب (عليه السلام) وهذا أوضح دليل على أن النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) لم يبين جميع لفظ القرآن لكل الصحابة بل يقرأ ما ينزل عليه منه
على من حضره منهم فما ظنك بمعانيه وبباقي الأحكام وقد روى مخالفونا أن زيد
بن ثابت (1) لما أنكر عليه عمر في دعواه شيئا سمعه من رسول الله (صلى الله



(1) زيد بن ثابت الأنصاري الخزرجي من بني النجار كان عمره لما قدم النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) المدينة أحد عشر عاما وأول مشاهدة الخندق، وكان من كتاب
رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم كتاب لأبي بكر وعمر، واستخلفه عمر
على المدينة ثلاث مرات مرتين في حجتين ومرة عند مسيره إلى الشام، وكان عثمان
يستخلفه إذا حج، وكان عثمان قد جعله على بيت المال، وقال ابن الأثير في أسد
الغابة: " وكان زيد عثمانيا ولم يشهد مع علي شيئا من حروبه " توفي بالمدينة وصلى
عليه مروان واختلف في سنة وفاته.
69
عليه وآله وسلم) من جهة أن المنكر لم يسمعه جبهه بكلام قال فيه: لقد
علمت أنه يؤذن لي وادخل وأنت تمنع في كلام آخر وصريحه دعوى زيد أنه
سمع من النبي (صلى الله عليه وآله) ما لم يسمع عمر ولا من كان في
طبقته وقد صدق عمر في دعواه في روايتهم تلك وادعى عبد الله بن
مسعود (1) علم ما لم يعلمه زيد بن ثابت المذكور إلى غير ذلك مما هو مزبور في
التواريخ والسير مما يعطي أن الصحابة كانوا مقرين بأن النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) بين لبعضهم ما لم يبين لبعض آخر وكفى بذلك شاهدا على ما
ندعيه.
الرابع: إنه قد صح أن النبي (صلى الله عليه وآله) خص
بعض الصحابة من العلوم بما لم يخص به سائرهم فأفضى من العلوم والأسرار
والأحكام لعلي (عليه السلام) بما لم يفض بجزء منه إلى جميع الصحابة ثم
بين لهم ذلك بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) " أنا مدينة الحكمة وعلي بابها
فمن أراد الحكمة فليأتها من بابها) (2) وقال فيه (علي خازن علمي وعيبة
علمي) (4) وما أشبه ذلك من الأقوال ولهذا قال علي (عليه السلام) على المنبر



(1) عبد الله بن مسعود الهذلي من فقهاء الصحابة وأحد حفاظ القرآن شهد مع رسول الله
(صلى الله عليه وآله) مشاهده كلها، وأرسله عمر إلى الكوفة ليقرأهم القرآن
ويعلمهم الأحكام فبث فيهم علما كثيرا ويعرف عبد الله بابن أم عبد وقد جاء في
الحديث: (من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد)
انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 3 / 370 مادة غضض توفي ابن مسعود سنة
32.
(2) هذا الحديث رواه جماعة من المحدثين منهم الترمذي 2 / 229 وأبو نعيم في الحلية
1 / 64 وتجده بحروف ما في المتن في تاريخ بغداد 11 / 204.
(3) الكلمتان من حديثين شريفين (انظر فيض القدير للمناوي 4 / 356 وكنز العمال
6 / 156.
70
وقد وضع يديه على بطنه (هذا سفط العلم هذا لعاب رسول الله هذا ما زقني
رسول الله (صلى الله عليه وآله) زقا أيها الناس سلوني قبل أن تفقدوني
فوالله لو سألتموني عن فئة تضل مائة وتهدي مائة لأخبرتكم بقائدها وسائقها
إلى يوم القيامة وما من آية من كتاب الله نزلت في ليل أو نهار أو سهل أو جبل
أو حضر أو سفر مكيها ومدنيها إلا وأنا عالم بتفسيرها وتأويلها وناسخها
ومنسوخها) (1) وفيمن نزلت وقال لكميل بن زياد (2) (يا كميل إن هنا - وأشار
إلى صدره - لعلما جما لو أصبت له حملة) وكثيرا ما يقول ما يضارع هذه
المقالات ولما خطب يوما وذكر كلاما يخبر فيه عن قوم من الأتراك وما يفعلون
في بلاد الإسلام من الفساد وقت خروجهم قال بعض أصحابه وكان كلبيا لقد
أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب، فضحك (عليه السلام) وقال للرجل
(يا أخا كلب ليس هو بعلم غيب وإنما هو تعلم من ذي علم وإنما علم الغيب
علم الساعة وما عدده الله سبحانه إذ يقول: [إن الله عنده علم الساعة] (3)
الآية، فهذا علم الغيب لا يعلمه أحد إلا الله وما سوى ذلك فعلم علمه الله
نبيه (صلى الله عليه وآله) فعلمنيه ودعا بأن يعيه صدري وأن تضطم
عليه جوانحي) إلى غير ذلك وكذلك خص النبي (صلى الله عليه وآله



(1) قال ابن أبي الحديد عن هذه الخطبة التي نقل المؤلف منها هذا الكلام منها: " هذه
الخطبة ذكرها جماعة من أهل السيرة وهي متداولة منقولة مستفيضة خطب
بها علي (عليه السلام) بعد انقضاء أهل النهر وأن " وقد رواها الثقفي في الغارات
ص 6 ونقل مختارها الشريف الرضي في نهج البلاغة، واستعرضت مصادرها في
مصادر نهج البلاغة وأسانيده 2 / 178.
(2) كميل بن زياد النخعي اليماني من خواص أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)
وصاحب سره، وخريج مدرسته عاش إلى أيام الحجاج فقتله في حدود سنة 83 وكان
أمير المؤمنين (عليه السلام) قد أخبره بذلك ودفن بظهر الكوفة (النجف الأشرف)
وقبره مزار مشهور.
(3) لقمان: 24.
71
وسلم) حذيفة بن اليمان (1) من أحوال المنافقين وفسر له من أسمائهم ما لم
يفسر بعضه لكثير من الصحابة حتى أن عمر احتاج أن يسأله عن نفسه أهو
من المنافقين أم لا كما رواه مخالفونا وأسر لسلمان أشياء كثيرة لم يظهرها لغيره
من أصحابه وهكذا مما يطول ذكره.
الخامس: أنه لو لم يكن النبي (صلى الله عليه وآله) بين لقوم ما
لم يبين لغيرهم ولشخص ما لم يبينه لآخر من الأحكام لسقطت أخبار الآحاد
وحرم العمل بها، وبيانه أن مضمون خبر الواحد لم يطلع عليه إلا راويه ولم
يسمعه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا هو والمفروض أن النبي
(صلى الله عليه وآله) لم يخص أحدا ببيان حكم دون أحد وأنه بين
جميع الأحكام لكافة الصحابة فما هو من بيان النبي فهو معلوم لجميعهم وما
ليس معلوما لجميعهم فهو ليس من بيانه (صلى الله عليه وآله وسلم) وخبر
الواحد غير معلوم لكافتهم فيجب أن لا يكون من بيان النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) فيكون مكذوبا ومخالفونا لا يرضون بذلك ولا يجوز عندهم
إسقاط أخبار آحاد الصحابة وكيف يرضون به وهو مبنى صحة مذهبهم ولولا
العمل بها لزال أساس أئمتهم كما لا يخفى على العارف بالحال ومنه يثبت
المدعى.
السادس: أنه قد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال:



(1) أبو عبد الله حذيفة بن اليمان العبسي صحابي عداده في الأنصار سكن الكوفة ومات
في المدائن بعد بيعه علي (عليه السلام) بأربعين يوما، قال ابن الأثير في أسد الغابة
1 / 391: " حذيفة صاحب سر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في
المنافقين " وقال: " وكان عمر إذا مات ميت يسأل عن حذيفة فإن حضر الصلاة عليه
صلى عليه، وإن لم يحضر حذيفة الصلاة عليه لم يحضر عمر ".
72
(أمرنا معاشر الأنبياء أن نكلم الناس على قدر عقولهم) (1) ومن المعلوم أنه ليس في
وسع جميع الصحابة معرفة جميع الأحكام الإلهية ولا في قدرة كافتهم حمل كلها
وحفظ عامتها فوجب بمقتضى ذلك أن يخص بعضهم دون بعض بقدر ما
يحتمله من العلم وقد روي عن عبد الله بن مسعود قال: " ما حدثت رجلا
حديثا لا يبلغه عقله إلا كان له فتنة " ويروى مثله عن ابن عباس، والعقل
السليم يحكم بصدق مضمونه، وقد صح عن أمير المؤمنين (عليه السلام)
أنه قال: (إن أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا عبد امتحن الله قلبه
للإيمان ولا يعي حديثنا إلا صدور أمينة وأحلام رزينة) (2) وكل ذا مروي عند
مخالفينا في بعض كتبهم ويشير إليه من التنزيل قوله تعالى: [لا يكلف الله
نفسا إلا وسعها] (3) وما أشبهه، وكل هذه الأدلة سالمة من القدح فيها يثبت
المطلوب.
المقدمة الثالثة
إن الله سبحانه وتعالى أراد من العباد العمل في كل واقعة بما هو
حكمها عنده لا بما أدى إليه نظرهم واجتهادهم، يدل على ذلك آيات كثيرة
من القرآن كقوله تعالى: [ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الكافرون] (4) وفي أخرى [فأولئك هم الظالمون] وفي ثالثة [فأولئك



(1) شرح نهج البلاغة 8 / 186 ورواه الكليني في الكافي 1 / 18 في كتاب العقل والجهل ح
15 بهذا اللفظ: (إنا معاشر الأنبياء أمرنا) الخ وابن شعبة في تحف العقول ص
32.
(2) بصائر الدرجات ص 6 أصول الكافي 1 / 401.
(3) البقرة: 286.
(4) المائدة: 44.
73
هم الفاسقون] وقوله تعالى: [إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير
الفاصلين] (1) وقوله سبحانه: [ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا
حلال وهذا حرام] (2) وهذه الآية والتي قبلها وما أشبههما من أوضح الأدلة
على بطلان الاجتهاد لنفيه في الأولى حكم من سواه ونهيه في الثانية عن القول
بالتحليل والتحريم بدون دلالة من قوله وكل ذلك ينافي بصريحه الرخصة في
الاجتهاد كما ترى، وقوله عز وجل: [فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما
شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا
تسليما] (3) علق حصول الإيمان من المكلفين على تحكيمهم النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) فيما اختلفوا فيه ورضاهم بحكمه وتسليمهم لقضائه وهو
يناقض رضاه منهم بالاجتهاد ومثلها قوله تعالى: [ما أتاكم الرسول فخذوه
وما نهيكم عنه فانتهوا] (4) وقوله تعالى: [أفحكم الجاهلية يبغون ومن
أحسن من الله حكما لقوم يوقنون] (5) والآيات الدالة على هذا المطلب كثيرة
جدا.
ومنها آيات الرد إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر فإنها صريحة فيه،
إذ لو رضي الله من المجتهدين بالعمل باجتهادهم، لم يكن في الرد إليه وإلى
رسوله (صلى الله عليه وآله) وإلى ولاة الأمر عند التنازع والاختلاف
فائدة، بل يكون عبثا لا يأمر به الحكيم فيجب أن يكون الرد المذكور لطلبه
منهم العمل بحكمه المعين في الواقعة لا بما أدى إليه نظرهم وحصل من
اجتهادهم وهو واضح لا يحتاج إلى زيادة البيان، والآيات الناهية عن اتباع



(1) الأنعام: 57.
(2) النحل: 116.
(3) النساء: 65.
(4) الحشر: 7.
(5) المائدة: 50.
74
الظن وعن القول على الله بغير علم مثل قوله تعالى: [ولا تقف ما ليس لك
به علم] (1) وغيرها والآيات الواردة في ذم المقلدين لأسلافهم كلها على
كثرتها صريحة فيه، وتعدادها يوجب التطويل فلنكتف بالإشارة إليها مع ما
ذكرناه، فإن قال قائل: فإنكم اختلفتم في كثير من المسائل الشرعية أفترى
أن الله أراد منكم الاختلاف ولم يرد منكم العمل بالحكم المعين في تلك
المسائل فإن قلتم: نعم، قال: خصومكم فنحن مثلكم قد أراد منا
الاختلاف دون الحكم المعين وبطلت مقدمتكم، وإن قلتم لا، ناقضتم
أنفسكم وأثبتم مخالفتكم لمراد ربكم وعلى كلا الوجهين لا يصح قولكم؟ قلنا
أما نحن فإن الله تعالى رخص لنا في الاختلاف فيما اختلفنا فيه من المسائل
الشرعية ولم يرد منا الاجتماع على الحكم المعين فيه في زمان تغلب الظلمة على
الأئمة الحق ومنعهم إياهم من التصرف، والدليل على ذلك ما ثبت في
الشريعة المطهرة من اختلاف الأحكام باختلاف الأحوال والأشخاص، فإنا
نعلم يقينا أن الله عز وجل أراد من مكلف في مسألة حكما معينا في حال
وأراد منه في حال أخرى حكما آخر وأراد من بعض أفراد المكلفين حكما في
شئ وأراد فيه حكما آخر من آخرين فقد علمنا أن الله تعالى أوجب على
واجد الماء الوضوء للصلاة أو الغسل وأوجب على فاقده التيمم، وأوجب على
المرأة في حال خلوها من الحيض والنفاس الصلاة والصيام وأوجب تركهما
عليها في وقتهما، وأوجب على الآمن الحاضر إتمام الصلاة وأوجب على
الخائف مطلقا وعلى المسافر قصر الصلاة الرباعية، وأوجب الجمعة على الحر
الصحيح الحاضر الذي بينه وبين محلتها أقل من فرسخين وأسقطها عن العبد
والمرأة والمريض والمسافر ومن هو بعيد عنها بأكثر من فرسخين، وأوجب
الزكاة على من ملك النصاب ولم يوجبها على من لم يملكه والحج على المستطيع



(1) الاسراء: 36.
75
وأسقطه عن غير المستطيع، وحرم الميتة والدم ولحم الخنزير على العباد وأحل
ذلك للمضطر غير الباغي والعادي، وحرم قتل المسلم وأحل قتل الباغي
والعادي وقاطع الطريق، وحرم الكفر وأحل إظهاره عند الاكراه والخوف على
النفس وعدم القدرة على دفع العدو عنها كما مر ذكره في قضية عمار إلى غير
ذلك مما ورد في الشريعة الاختلاف فيه، ولا يخفى على ذوي الخبرة مواضعه.
وبالجملة أن الممنوع اختلاف حكم الله باختلاف المجتهدين ورضاه
بالاجتهاد في دينه لا تغيير الله حكم المكلف بتغير أحواله وإذا أثبت اختلاف
حكم الله على المكلفين باختلاف أحوالهم فيما ذكرناه وفي غيره مما يطول المقام
بنقله صح أن يرخص الله للإمام بل يريد منه في حال عدم تمكنه من
تشخيص الحكم المعين في الواقعة لاتباعه وعدم تمكنهم من العمل به على
التعيين لخوفه الضرر على نفسه في بيانه وعليهم في العمل به إلقاء الخلاف
بينهم وخلط الحق بغيره في كثير من المسائل وأن يريد من كل واحد من شيعة
الإمام العمل بما ألقى إليه الإمام من الحكم وما فهمه من قول الحجة لأن في
ذلك دفع ضرر عن النفس ودفع الضرر عنها واجب، وكل ما توقف عليه
الواجب وكان مقدورا فهو واجب عقلا وسمعا فإذا حصل الأمن وذهب
الخوف عنا زالت الرخصة في الاختلاف وتعين على الإمام تعيين الحكم المعين
لرعيته وعليهم العمل به، نسأل الله تعجيل الفرج.
وأما خصومنا فإن الله أراد منهم ما أراد منا من الإقرار للإمام بالإمامة
والانقياد لطاعته والتسليم لأمره، والأخذ عنه والرجوع إليه في الأحكام، ولو
أنهم فعلوا ذلك إذن لزال الخوف عن الإمام في بيان الحق لاتباعه إذ لا
مخالف له وعنهم في العمل به لأن المسلمين على هذا كلهم يكونون أتباع
الإمام فلا خوف لأحد منهم على أحد، لكن الخصوم لم يفعلوا شيئا من ذلك
فلم يؤدوا ما أراد الله منهم من طاعة الإمام، بل أنكروا إمامته وخالفوه

76
ومنعوه وأتباعه من مخالفتهم وألزموه وإياهم بموافقتهم، وتوعدوه بالقتل إن لم
يفعل وقتلوا من الأئمة من لم يقبل ما طلبوا منه من موافقتهم، ومن اتهموه
بتبعية الإمام من المسلمين، فكان اختلافهم في الشرعيات ناشئا عن مخالفتهم
ما أراد الله من طاعة الإمام وفرعا على معصيته في حكمه المعين عليهم من
تحري مخالفة الإمام فلم يكن الله ليريد منهم الاختلاف المسبب عن مخالفتهم
مراده ولا ليرخص لهم فيه لأن أصل اختلافهم في أحكامه خروجهم عن
طاعته في أمره وردهم عليه حكمه، والله تعالى لا يرخص لأحد من الخلق في
معصيته ورد أمره ولا في أصل ذلك وفرعه، فكانت حالنا غير حالهم ولم
يكونوا مثلنا لأنا غير قادرين على إزالة المانع من إظهار الحق وهم متمكنون من
إزالته ببذل الطاعة للإمام فافترقت الحال بيننا وبينهم، فإن قالوا: فما منع
الإمام من جهاد العدو ودفعهم ليتمكن من بيان الحق وما منع أتباعه من معونته
على ذلك؟ قلنا: المانع للجميع عن الأمرين كون أتباع الإمام في جميع
الأوقات لقلتهم بالإضافة إلى مخالفيهم غير متمكنين من نصرة الإمام إلى حد
يبلغ به الغلبة على أعدائه ودفعه الضرر عن نفوس أوليائه ليحصل له الإمكان
من تعيين الحكم الواقعي فكان حكم الله في حقه وحقهم السكوت والكف
فسبيلهم في هذه الحال سبيل المسلمين في مكة قبل الهجرة فإن الله أوجب
عليهم الكف وترك الجهاد وأخبر عن ذلك عز وجل: [ألم تر إلى
الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة الآية] (1) وذلك لضعف
المسلمين يومئذ عن مدافعة المشركين ولزوم إتيان المشركين عليهم لو
جاهدوهم لكثرتهم، وقد علم جميع الناس أن من جاهد من أئمة الحق
لإحياء الدين قهر وقتل أفظع قتلة، وذلك لقلة ناصريه وسالم من قبله لكثرة
خاذليه ولم يبلغ سيد أئمة الهدى مطلبه ولم يدرك مأربه من إقامة عمود الدين،



(1) النساء: 77.
77
وإظهار الحق ونشر الأحكام لقصور أهل طاعته عن مقاومة مناويه وقلة مواليه
عن عدد معاديه، فمن أين تحصل قدرة الباقين على ذلك مع تفاقم الخطب
واشتداد شوكة الظالمين وتشييد أركان دولة الفاسقين واحتياج الإمام في إزاحة
الظلم والعدوان إلى اشتباك الحروب واستمرار القتل واستعار نار الوغا
وإزهاق النفوس وليس معه من يقوم ببعض ذلك ويصبر عليه؟، فانزاح
الاعتراض واتضح من جملة ما قلناه دفع الايراد وثبوت المراد بتوفيق من بيده
التوفيق للسداد.
المقدمة الرابعة
إنه لا يجوز أن يكلف الله العباد بما لا سبيل لهم إلى معرفته ولا طريق
لهم إلى استعلامه لأنه تكليف ما لا يطاق، والله تعالى منزه عن التكليف به،
وهذه المقدمة قد دل عليها العقل والنقل، فأما العقل فإن العقلاء يستقبحون
مؤاخذة الغافل ومعاقبة من لم يعلم قبل التنبيه والإعلام حتى شاع عند أولي
الألباب أنه لا تكليف إلا بالبيان، وأما النقل فالآيات كثيرة مثل قوله تعالى:
[ذلك إن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون] (1) وقوله تعالى:
[وما كنا مهلكي القرى حتى نبعث في أمها رسولا يتلو عليهم
آياتنا] (2) وقوله: [وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا] (3) وقوله: [لئلا
يكون للناس على الله حجة بعد الرسل] (4) وقوله تعالى: [ولو إنا
أهلكناهم بعذاب من قبله وقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك



(1) الأنعام: 131.
(2) القصص: 59.
(3) الاسراء: 15.
(4) النساء: 165.
78
من قبل أن نذل ونخزى] (1) وقوله تعالى: [لا يكلف الله نفسا إلا
وسعها] (2) [لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها] (3) وقوله تعالى: [ما جعل
عليكم في الدين من حرج] (4) وأي حرج أعظم من تكليف الإنسان بما لا
يعلمه ولا دليل له عليه فيكون منفيا بعموم الآية؟، والآيات الدالة على هذا
المعنى بالصريح غير ما ذكرناه كثيرة لا نطيل بذكرها القول، ومن السنة قول
النبي (صلى الله عليه وآله) المستفيض [لا ضرر ولا ضرار في
الدين] وتكليف الإنسان بما لا يعلم ضرر عليه ظاهر، وكثير من السنة
صريح في المعنى مما لا حاجة إلى ذكره، ولا يخفى على الفطن الخبير على أن
ذلك هو المعروف من سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) فإنه ما قاتل
أحدا من المشركين إلا بعد الإنذار والإعذار إليه وإقامة الحجة إن طلبها منه،
وهذه كانت سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) وبالجملة فالأمر في هذا واضح
ومنكر ذلك مكابر لا يلتفت إليه لأنه قائل بوقوع المحال وهو محال وأولئك
بعض حشوية العامة وبعض أهل الضلال الناسبين إلى الله تعالى القبيح
قبحهم الله وأعمى بصائرهم وأعاذنا من مقالتهم.
المقدمة الخامسة
إنه لا طريق إلى معرفة الحكم المعين عند الله في الواقعة إلا من بيان
خليفة الرسول (صلوات الله عليه)، والدليل على ذلك أن نصوص الكتاب
والسنة لا تفي إلا بيسير من الأحكام الشرعية، وظواهرهما لا تفيد اليقين



(1) طه: 134.
(2) البقرة: 286.
(3) الطلاق: 7.
(4) الحج: 78.
79
لكثرة الاختلاف فيهما واحتمالها الوجوه المتعددة، وباطن الكتاب لا تبلغه
عقول الرجال ولا أفهام الناس كيف والله تعالى يقول: [وما يعلمه إلا الله
والراسخون في العلم يقولون آمنا به] (1) وليس الراسخ في العلم إلا الإمام
المؤيد من الله بالإلهام كما سيأتي فيه البيان التام، وأخبار الآحاد لا تفيد إلا
ظنا مع أن كلا من ظواهر الكتاب والسنة النبوية المتواترة وأخبار الآحاد، لا
تستوعب الأحكام والوقائع، والإجماع الضروري لم يحصل إلا في قليل من
أحكام الشرايع، وما ليس بضروري لا يفيد العلم مع أن حجيته بدون
دخول من لا يجوز الخطأ عليه في الأحكام في جملة المجمعين غير ثابتة لجواز
الخطأ على الآحاد فيجوز على الجملة، ولا قدح في ذلك بالأخبار المتواترة لأنها
إخبار عن محسوس والإجماع إخبار عن أمر نظري، وليس يتطرق إلى
المحسوسات من الخفاء والاشتباه ما يتطرق للأمور النظرية غير اليقينية
فلذلك امتنع الاشتباه في المحسوسات على الخلق الكثير عادة دون النظريات
وحصل القطع بأخبار جماعة كثيرة لا يحتمل تواطئهم على الكذب فيها دون
النظريات والمعاني المعقولة فإن احتمال اتفاق الأفهام على الخطأ فيها قائم فتبين
الفرق وزال القدح، والقياس لا يفيد إلا وهما غير معتبر في الشرع، لأن
المطلوب معرفة الحكم باليقين لا بالوهم، على أن أصحابنا أبطلوه من الأصل
واحتج لإبطاله شارح الباب الحادي عشر بأن مبنى شرعنا على اختلاف
المتفقات كوجوب الصوم آخر رمضان وتحريمه أول شوال، واتفاق المختلفات
كوجوب الوضوء من البول والغائط، واتفاق القتل خطأ والظهار في الكفارة،
هذا مع أن الشارع قطع سارق القليل دون غاصب الكثير، وجلد بقذف
الزنا وأوجب فيه أربع شهادات دون الكفر وذلك كله ينافي القياس، وقد قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله) (تعمل هذه الأمة برهة بالكتاب وبرهة



(1) آل عمران: 7.
80
بالسنة وبرهة بالقياس فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا وأضلوا) (1) انتهى قلت:
والأدلة على بطلان القياس كثيرة قد تكفلت ببيانها كتب أصحابنا في الأصول
وليس الغرض هنا التنصيص على بطلان القياس حتى نستزيد من الأدلة على
فساده وإنما الغرض نفي كونه طريقا إلى تحصيل الحكم التكليفي وهو حاصل
بما ذكرناه، وأما الرجوع إلى البراءة الأصلية فظاهر أنه مستلزم لرفع أحكام
كثيرة لأنها عبادة عن أصالة براءة الذمة من الوجوب والتحريم فليست بطريق
لبيان الأحكام فتبين أن لا طريق لمعرفة جميع أحكام الله المطلوبة من المكلفين
إلا بيان الإمام لأن بيان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يحصل في
الجميع لكافة الناس كما مر بيانه ووضح برهانه فلا بد من قائم مقامه في ذلك
وهو خليفته والوارث منزلته ليبين للأمة ما احتاجوا إليه، وحيث سلمت هذه
المقدمات وصحت ثبت منها أن الحجة لله لا تقوم على العباد والعلة لا تزاح
عنهم في جميع أزمنة التكليف إلا بهاد يهديهم إلى الحق ومرشد يرشدهم إلى
الصواب ودليل يدلهم على طريق الهدى وعالم لا يتغير علمه يبين لهم ما
اختلفوا فيه من أمر الدين ويقيم لهم الكتاب ويوضح لهم متشابهات الآيات
ويفصل لهم مجملات السنة ويفسر لهم ما جهلوه من حدود الملة وذلك هو
الإمام، فإذن يجب في حكمة الله تعالى لذلك نصب إمام يحصل به المطلوب
في كل أزمنة التكليف ولا يجوز أن يخلو عصر من أعصار التكليف ولا وقت
من أوقاته عمن يحصل به الغرض المذكور وتكون له تلك المرتبة الشريفة.
الثالث (2): من الكتاب المجيد وهو قوله تعالى: [يوم ندع كل أناس



(1) رواه السيوطي في الجامع الصغير ص 132 من طريق ابن عمر هكذا " تعمل هذه
الأمة برهة بكتاب الله ثم تعمل برهة بسنة رسول ثم تعمل برهة بالرأي فإذا عملوا
بالرأي فقد ضلوا).
(2) أي من الأدلة على أن الإمام منصوب من الله تعالى.
81
بإمامهم] (1) فإنه صريح في أن لكل أناس إماما، وإضافته إلى ضميرهم يدل
على تغيره بتغيرهم فيكون لكل عصر إمام، وقد قال المفسرون في معنى الآية
أنه ينادى في الموقف يا أتباع فلان ويا أصحاب فلان فينادى كل قوم باسم
إمامهم، وهو نص فيما قلناه من أنه لا بد في كل عصر من إمام، وأنه
شخص إنساني لا القرآن إذ لا يتغير بتغير الأزمان ولا يكنى عنه بفلان، وقوله
تعالى: [إنما أنت منذر ولكل قوم هاد] (2) وهو أيضا نص في أن كل قوم لا بد
أن يكون فيهم هاد يهديهم إلى حكم الله ويدلهم على ما يقربهم إليه وليس
عصر من الأعصار إلا وفيه من هو كذلك، فإذن وجود الإمام واجب في كل
أعصار التكليف، وجملة من الآيات المتقدمة تومي إليه وكذا غيرها وإن لم
تكن صريحة فيه.
الرابع: الأخبار الدالة على عدم خلو العصر من حجة لله على خلقه
عالم لا يتغير علمه فمنها الخبر المشهور وهو قول النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم): (من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية) (3) وفي لفظ عبد الله بن عمر
كما رواه الإسكافي (4) (من مات ولا إمام له مات ميتة جاهلية) ولفظ الصدوق



(1) الاسراء: 71.
(2) الرعد: 7.
(3) في رواية مسلم في صحيحه كتاب الإمارة باب الأمر بلزوم الجماعة برواية عبد الله بن
عمر: (ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) ورواية الإمام أحمد في
المسند 4 / 96: (من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية).
(4) الإسكافي: هو أبو جعفر محمد بن عبد الله بن متكلمي المعتزلة وأحد أئمتهم وإليه
تنسب الطائفة الإسكافية منهم، بغدادي أصله من سمرقند وكان المعتصم العباسي
يعظمه، ومن آثاره الباقية " نقض العثمانية " وهي رد على رسالة الجاحظ المعروفة
ب‍ " العثمانية " وكانا في عصر واحد، وقد نقل ابن أبي الحديد معظم هذه الرسالة في
مواضع من شرح نهج البلاغة، وقد طبعت رسالة الجاحظ مع نقضها في مصر توفي
الإسكافي سنة 240.
82
منا: (من مات وليس له إمام..) إلى آخره وذكر بهاء الدين الشيخ الجليل محمد بن
حسين بن عبد الصمد العاملي في شرح الأربعين لفظ الحديثين هكذا (من
مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) (1) مشعرا بالاتفاق عليه وعلى كل
حال فالخبر دال على أنه في كل زمان إمام تجب معرفته على المكلفين ولا يجوز
لأحد جهله وأن من مات من المسلمين ولم يأتم به مات ميتة كفر ولم ينفعه
إسلامه ولا ما عمله من افعال الخير، ولما قلناه طرق عبد الله بن عمر بن
الخطاب على الحجاج بابه ليلا ليبايعه لعبد الملك بن مروان فقال الحجاج
لحاجبه: قل له يأتي الصبح فأبى أن ينصرف قبل المبايعة وذكر الحديث (2) مستدلا
به وأنه خاف أن يطرقه الموت في تلك الليلة فيموت ولا إمام له كما رواه
العامة من أمره وفعله ولا يجوز أن يكون المراد بالإمام في الحديث المذكور
القرآن كما زعم بعض أهل الخلاف لوجوه.
الأول: إن القرآن لا يجهله أحد من المسلمين ولا يزعم مخالفته أحد،
والإمام المذكور في الخبر مما تقع عليه الخفية وتعرض للناس فيه الجهالة،
وإنهم يكونون بين عارف به وجاهل ومؤمن به وتارك فيكون غير القرآن.
الثاني: إن الإمام المذكور في الخبر مما يتغير بتغير الأزمنة وتغير المكلفين
ولو لم يكن كذلك لم يعرض للناس عدم معرفته فيموت منهم من ليس عارفا
به ولا معتقدا إمامته والقرآن لا يتغير بتغير الزمان فيكون الإمام المذكور غير
القرآن.
الثالث: إن لفظ الإمام ظاهر في شخص إنساني له رتبة الإمامة لأنه هو
المتبادر منه عند الإطلاق ويرشد إليه أن الإمام في الخبر لو كان المراد به القرآن



(1) شرح نهج البلاغة 13 / 242 عن نقض العثمانية.
(2) نفس المصدر.
83
لكان المراد إما معرفة أحكامه أو العمل به أو معرفة أنه كتاب الله وأن ما فيه
من الأحكام عن الله وهو التصديق به المعبر عنه بالمعرفة الإجمالية، لا شئ
غير هذه الثلاثة فإن كان المراد الأول فأكثر المسلمين غير عارفين بأحكام
القرآن وإنما يعرفه الأوحدي من العلماء والمقلد لا يطلق عليه لفظ المعرفة في
العرف القديم ولا باعتبار اللغة العربية فيجب حينئذ أن يكون جميع الناس
مكلفين بمعرفة أحكام القرآن ومعانيه عن نظر واجتهاد ومن قصر عن ذلك من
المسلمين مات كافرا وهذا مخالف لاتفاق الأمة إذ لا يشترط أحد من أهل
العلم ذلك في صحة الإيمان ثم كيف تحصل لأحد من العلماء معرفة معاني
القرآن والإحاطة بما فيه من الأحكام على التمام مع اشتماله على المتشابه
والمجمل والخاص والعام والناسخ والمنسوخ وغير ذلك من الوجوه، وعلى هذا
لا يموت أحد من الناس إلا كافرا لتعذر الإحاطة بمعرفة القرآن عليه ولا شك
في بطلان هذا الوجه وملزومه، وإن كان الثاني فأكثر الناس غير عاملين
بالقرآن بل نبذوا أحكامه وتركوا أوامره وعصوا زواجره ولم يعمل به ولا يخالفه
في جميع الأحكام إلا يسير بل أيسر من اليسير ومن عمل من الناس به لم يعمل
من أحكامه إلا بالقليل فيجب على هذا أن من مات وهو عاص فقد مات
كافرا لعدم امتثاله لبعض أحكام القرآن على أن ذلك لازم في أكثر الناس لما
أخبر الله سبحانه في القرآن عن عصيان أكثر الناس بقوله: [وقليل من
عبادي الشكور] (1) وقوله تعالى:: [ولا تجد أكثرهم شاكرين] (2) وبطلان
هذا واضح كالأول لا سيما عند الخصوم، وإن كان الثالث فذاك لا يجهله مسلم
ولا ينكره مقر بنبوة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) فلا معرض
للجهالة فيه فلا معنى لتقسيم الناس بين ميت على معرفته وميت على الجهل به
كما هو مفاد الخبر فظهر من ذلك أن المراد بالإمام فيه غير القرآن، ولا يجوز



(1) سبأ: 13.
(2) الأعراف: 17.
84
أن يراد منه إمام المذهب مطلقا - كما أنه ربما يقول به متعصب من القوم
المخالفين لوجوه.
الأول: إن المتبادر من لفظ الإمام في المقام - بل إذا أطلق
مطلق - الرئيس العام المنصوب من قبل الملك العلام لا فقيه قلده في فتاواه
جملة من الرعاع وحثالة من الناس والتبادر أمارة الحقيقة.
الثاني: إن تسمية الفقيه الذي قلده قوم على ما ذكرناه بالامام إنما هو
شئ طار من متأخري مخالفينا واصطلاح جديد منهم ولم يكن معروفا في
القديم ولا يعرفه الصحابة ولا التابعون ولا من بعدهم بطبقات متعددة وإنما
يعرفون من الإمام الرئيس العام، فيلزم أن جعلنا لفظ الإمام في الخبر واقعا
على فقيه مقلد لقوم أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاطب
أصحابه بما لا يعرفونه وكلفهم بما لا يفهمونه وذلك غير جائز.
الثالث: إن الإمام في الخبر لو كان كما يظن من أنه الفقيه المذكور لوجب
أن يكون الناس قبل اختراع المذاهب الأربعة ماتوا على الكفر حتى الأئمة
الأربعة لأنهم ماتوا ولم يعرفوا أنهم بالمنزلة التي جعلها لهم أكثر العامة ولا
دخل في خلدهم ذلك ولا ظنوا أنهم يكونون أئمة لا يجوز مخالفتهم وقتا ما،
ويكون الصحابة ومن بعدهم ماتوا كفارا لأنهم لم يعرفوا أن أئمة المذاب
ويكونون فلانا وفلانا إلى آخرهم، وهذا ما لا يقول به مميز ولا المراد السلطان
المتغلب الجائر كما ذكره بعض العامة إذ لا تجوز ولايته ولا الركون إليه بنص
القرآن في قوله تعالى: [ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم
النار] (1) فكيف يكفر من مات جاهلا به وغير معتقد إمامته، وهذا لا يرتاب
فيه ذو فهم ولقد رووا عن إمامهم أبي حنيفة أنه قال: " لو دعاني اللص



(1) هود: 13.
85
الدوانيقي إلى حمل آجرة إلى بناء مسجد ما أطعته " (1) وإذا بطل ما احتملوه من
الاحتمالات في الخبر في معنى الإمام تعين أن يكون المراد منه ما ذكرناه وهو
الرئيس العام المنصوب من الله لهداية الناس وحماية حريم الإسلام، والظاهر
من ابن أبي الحديد (2) ظهورا يقرب إلى التصريح أن المراد بالامام في الخبر
الأئمة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأن من مات وهو عارف
بهم كان مؤمنا ومن مات ولم يعرفهم مات فاسقا وخلد في النار وأراد بهم
الخلفاء الأربعة ومن صحت إمامته بعدهم عند أصحابه، وليس المراد من
الإمام من هو في زمان المكلف الميت، وجوابه معلوم مما ذكرناه في أول الكلام
على معنى الخبر ويؤيده ما رووه وهو أيضا من الراوين لفعل عبد الله بن
عمر مع الحجاج وقد مر ذكره فإنه مصرح بأنه فهم من الإمام المذكور في الخبر
إمام زمان المكلف لا الإمام الذي مضى زمانه وانقضى دوره، وإن كان قصر
في النظر حيث جعل إمام الفساق الذي تجب عداوته كإمام الحق الذي تجب
معرفته، بل رجح الأول على الثاني فقعد عن بيعة أمير المؤمنين علي (عليه
السلام) وخذله مع الخاذلين وفعل ما سمعت في بيعة عبد الملك ولقد أزرى
عليه الحجاج بذلك واستحقره حتى أنه لم يجلس له ولم يعطه يده بل أخرج
إحدى رجليه من اللحاف وهو نائم وقال بايعها فإن يدي عنك مشغولة (3) وهذا
من فرط جهله أو شدة عداوته لأمير المؤمنين (عليه السلام)
يرثها لا عن كلالة، والحاصل أن الخبر واضح في أن لكل زمان إماما تجب
معرفته على المكلفين ولا يسعهم جهله لا سيما على ما ذكره البهائي في لفظ
الحديث، والاحتمالات مزيفة وهو المطلوب روى ثقة الإسلام محمد بن يعقوب



(1) في نور الأبصار للشبلنجي ص 206 وكان أبو حنيفة يقول في المنصور وأشياعه: " لو
أرادوا بناء مسجد وأرادوني على رد آجره لما فعلت ".
(2) شرح نهج البلاغة 8 / 373.
(3) نفس المصدر.
86
الكليني بسنده عن بريد قال سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول في قول
الله تبارك وتعالى: [أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في
الناس] (1) فقال: (ميت لا يعرف شيئا ونورا يمشي به في الناس إماما يأتم به،
كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها قال: الذي لا يعرف الإمام) (2):
وعن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى: [ومن
يؤت الحكمة فقد أوتي خير كثيرا] (3) قال: طاعة الله ومعرفة الإمام (4) انتهى.
ومنها: قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث الثقلين (لم
يفترقا حتى يردا على الحوض) فبين بذلك أنه لا بد من متمسك به مع القرآن
من عترته في كل زمان لا ينقطع في وقت ما دام التكليف باقيا حتى يردا عليه
الحوض وهو وقت انقطاع التكليف وذلك المتمسك به الذي هو قرين القرآن
هو الإمام المدعى إذ لا يجوز أن يكون غيره فيكون باقيا ما بقي التكليف كبقاء
القرآن فيجب أن يكون في كل عصر من هو كذلك حتى تصدق القضية التي لا
يجوز عليها الكذب.
ومنها: ما رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين من قول النبي
(صلى الله عليه وآله): (النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي
أمان لأهل الأرض من الاختلاف) (5) وروى أحمد بن حنبل عن النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم): (إذا ذهب النجوم ذهب أهل السماء وإذا ذهب أهل بيتي
ذهب أهل الأرض) (6) وروى جماعة من محدثيهم عن النبي (صلى الله عليه



(1) الأنعام: 122.
(2) الكافي: الأصول 1 / 142 ورواه العياشي في تفسيره 1 / 375.
(3) البقرة: 265.
(4) الكافي: الأصول 1 / 142 ورواه العياشي في التفسير 1 / 150.
(5) مستدرك الحاكم 3 / 149.
(7) رواه المحب الطبري في ذخائر العقبى ص 17. وقال: " أخرجه أحمد في المناقب.
87
وآله وسلم) قال: (النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأمتي) (1) وفي
رواية أخرى (أهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا هلك أهل بيتي جاء أهل
الأرض من الآيات من كانوا يوعدون) (2) قال في إسعاف الراغبين وهو من أشد
المخالفين بعد نقل هذه الأخبار وقد يشير إلى هذا المعنى قوله تعالى: [وما كان
الله ليعذبهم وأنت فيهم] (3) قيام أهل بيته مقامه في الأمان لأنهم منه وهو منهم
كما ورد في بعض الطرق انتهى (4).
أقول وهذه الأخبار صريحة في أنه ما دام التكليف باقيا فلا بد من
شخص من العترة يؤمن به أهل الأرض من الاختلاف وأن الأرض لا يمكن
خلوها من شخص بهذه المثابة ولو خلت منه لهلك أهلها وذهبوا، فهم أمان
لأهل الأرض من الهلاك والاختلاف، وليس كذلك إلا من ذكرناه وهو الإمام
المنصوب من قبل الله لبيان الأحكام ورفع الاختلاف وإزالة الاشتباه عن
المكلفين في الحلال والحرام لا مع جميع قرابة النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) إذ ليس كلهم ممن يرضى مذهبه ويحمد طريقه.
وبالجملة أنه لا يصلح لرفع الاختلاف ويكون أمانا منه ومن الهلاك
للعباد إلا من هو مؤيد من الله بالإلهام ومخصوص من النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) بالاعلام لا يتغير علمه ولا يتبدل حكمه وما سواه لا يكون
كذلك كما هو ظاهر، وهذا تصديق ما روي عن أئمتنا (عليهم السلام) في
هذا المعنى روى الشيخ الجليل محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن إبراهيم
عن محمد بن عيسى بن يونس عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أحدهما



(1) رواه الحاكم في المستدرك 3 / 458 وفيه " ذهب " مكان " هلك ".
(2) رواه بهذه الصورة المحب في الذخائر ص 17.
(3) الأنفال: 33.
(4) إسعاف الراغبين ص 129 ويلاحظ أن المؤلف نقل كل تلك الأحاديث عن
الاسعاف.
88
(عليهما السلام) قال: (قال: إن الله لم يدع الأرض بغير عالم ولولا ذلك لم
يعرف الحق من الباطل) وعن علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى عن محمد
بن الفضيل عن أبي حمزة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): تبقى الأرض
بغير إمام؟ قال: (لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت) وعن علي بن
إبراهيم عن محمد بن عيسى عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا
(عليه السلام) قال: قلت له: أتبقى الأرض بغير إمام؟ قال: (لا) قلت: فإنا
نروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) إنها لا تبقى بغير إمام إلا أن يسخط الله
على أهل الأرض أو على العباد فقال: (لا تبقى إذا لساخت) (1) وعن علي بن
إبراهيم عن محمد بن عيسى عن أبي عبد الله المؤمن عن أبي هراسة عن أبي
جعفر (عليه السلام) قال: (لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها
كما يموج البحر بأهله) وعن الحسين بن محمد عن معلى بن محمد عن بعض
أصحابنا عن أبي علي بن راشد قال: قال أبو الحسن (عليه السلام): (إن
الأرض لا تخلو من حجة وأنا والله ذلك الحجة) (1) إلى غير ذلك من الأخبار
الكثيرة التي يضيق بنقل بعضها المقام.
ومما يدل على المطلب من كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) وأقواله
الذي ثبت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حقه (إنه مع الحق والحق
معه) كثير نذكر منه شيئا.
فمنها: قوله لكميل بن زياد في كلام طويل (اللهم بلى لا تخلو الأرض
من قائم لله بحجة إما ظاهرا مشهورا وإما خائفا مغمور لئلا تبطل حجج الله
وبيناته وكم ذا وأين؟ أولئك والله الأقلون عددا الأعظمون عند الله قدرا
يحفظ الله حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب أشباههم
هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة وباشروا روح اليقين واستلانوا ما



(1) جل ما نقله المؤلف في المتن من الروايات نقلها من الكافي 1 / 136 و 137.
89
استوعره المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان
أرواحها معلقة بالمحل الأعلى أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه،
آه آه شوقا إلى رؤيتهم) (1) وهذا الكلام نص صريح في وجوب دوام الحجة
وبقاء الخليفة في الأرض ما دام التكليف باق لا يموت واحد حتى يخلفه من
يقوم مقامه وحمل ابن أبي الحديد هذا الكلام على الأبدال السائحين (2) في
الأرض فاسد يرد قوله (عليهم السلام): (وخائفا مغمورا) فإن الأبدال الذين
عناهم ابن أبي الحديد لا خوف عليهم من أحد ثم إنه من أين يكون لأحد
هذا المقام الذي ذكره أمير المؤمنين (عليه السلام) وهذه الأوصاف غير الأئمة
بالمعنى الذي قدمناه خصوصا قوله (عليه السلام): (لئلا تبطل حجج الله
وبيناته " وقوله: " هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة " إلى آخر الأوصاف إذ
من المعلوم البتة أنه ليس أحد من المقلد الذين لا يعرفون الحلال والحرام إلا
من فتوى إلى أبي حنيفة ومالك والشافعي وأضرابهم الذين يقيسون الدين برأيهم
بقائم لله بالحجة وهو مقلد لمن لم يقم بها فمن أين هجم العلم بهؤلاء على
حقيقة البصيرة؟ بل من أين حصلت لهم البصيرة هم مقلدون لمشايخهم،
وهم مختلفون؟ والخارج عن تقليد المشائخ الأربعة غير صحيح العبادة عند
المعتزلي فمن أين يكون قائما بحجة الله إلى آخر الأوصاف؟ ومن أرادهم
بقوله لم ينالوا من البصيرة ما يبل صدى الظمئان؟ على إنا لا نعرف الأبدال
السائحين في الأرض ولم ندرك منهم من هو مصداق هذه الأوصاف حتى نجعل
من لم نره منهم بحكمه كما رأينا الإمام الظاهر وجعلنا الغائب بحكمه بل إنا
لا نعرف السائحين إلا القوم الذين يقال لهم الكلندرية والعامة يسمونهم
أولياء ويطلق عليهم الناس لفظ الدراويش وهؤلاء قوم لا يصلون فضلا عن
أن يكونوا يحسنون الصلاة افترى هؤلاء الذين عناهم أمير المؤمنين بأن باشروا



(1) نهج البلاغة برقم 147 حكم.
(2) شرح نهج البلاغة: 18 / 351.
90
روح اليقين أو أنهم خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه؟ وسائحا غير هؤلاء
لا نعرفه، إن صريح كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) أن القوم الذين وصفهم
منهم ظاهر ومنهم مستور وكلام المعتزلي مصرح بأن جميع السائحين
مستورون لا يعرفون، فلا يطابق كلامه لفظ الخبر ومعناه فلا يصلح أن يحمل
عليه، وبالجملة أن كلام المعتزلي لا معنى له وإنما هو من ضيق الخناق فيتعلل
بما لا يجدي نفعا والله الهادي.
ومنها: قوله (عليه السلام) في خطبة له (والهجرة قائمة على حدها
الأول ما كان لله في أهل الأرض حاجة من مستسر الأمة ومعلنها لا يقع اسم
الهجرة على أحد إلا بمعرفة الحجة في الأرض فمن عرفها وأقر بها فهو مهاجر
ولا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجة فسمعتها أذنه ووعاها
قلبه) (1) وهذا الكلام من أصرح الصريح في أن الأرض لا تخلو من إمام تجب
معرفته وإن من عرفه صح عليه اسم الهجرة فسمي مهاجرا وإن من لم يعرفه
سمي مستضعفا لا دين له وهو قوله (عليه السلام)، لا يقع اسم الهجرة على
أحد إلا بمعرفة الحجة في الأرض ولا يقع اسم الاستضعاف إلى آخره وأن
ذلك باق ما دام التكليف موجودا وهو قوله (عليه السلام) " ما كان لله في
أهل الأرض حاجة " وقد اعترف المعتزلي بذلك فإنه لما ذكر الفرق بين هذه
الهجرة التي ذكرها أمير المؤمنين وبين الهجرة التي ذكرها النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) بقوله: (لا هجرة بعد الفتح) وخص الأولى بالهجرة إلى الإمام
قال: ثم ذكر يعني أمير المؤمنين أنه لا يصح أن يعد الإنسان من المهاجرين إلا
بمعرفة إمام زمانه وهو معنى قوله: (إلا بمعرفة الحجة في الأرض) قال: فمن عرف
الإمام وأقر به فهو مهاجر قال: ولا يجوز أن يسمى من عرف الإمام
مستضعفا - إلى أن قال -: وشيعة الإمام ليست الهجرة بالبدن مفروضة عليهم
بل تكفي معرفتهم به وإقرارهم بإمامته فلا يقع اسم الاستضعاف



(1) نهج البلاغة من الخطبة 187.
91
عليهم (1) انتهى قوله: ولازم قوله أنه من المستضعفين لأنه لا إمام له على طبق
مذهبه والخلفاء الفساق الذين في زمانه من بني العباس لا يصلحون للإمامة
على الوجه المذكور في قول أصحابه، وإمامنا المستور عن أهل الغرور لا يثبت
هو وجوده بل ينفيه في مواضع كثيرة بالصريح من كلامه فبقي حينئذ بلا إمام
عدل فهو من المستضعفين لا محالة، والعجب منه في هذا الموضع أنه لم يذكر
أن الإمام الذي معرفته تكون هجرة هو القطب الذي كان يدعيه في شرح كثير
من خطب أمير المؤمنين المشابهة في المعنى لهذه الخطبة، وأظنه هنا نسي ذلك و
لم يتصور أن الكلام نص في مذهب الإمامية ليتصدى لدفعه ولو بالراح ولستره
ولو بالزجاج، وأنت خبير بأن الكلام المذكور صريح وأي صريح فيما ندعيه.
واعلم أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أراد بالمهاجر والمستضعف في قوله
المذكور وأشار به إلى ما في قوله تعالى: [إن الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي
أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض
الله واسعة فتهاجروا فيها] (2) الآية فمن عرف الإمام في زمانه كان مهاجرا في
الأرض وإن لم يخرج من منزله ومن جهل إمام زمانه فهو مستضعف وإن جاب
الأقطار.
ومنها: قوله في خطبة (وإنما الأئمة قوام الله على خلقه وعرفاؤه على
عباده ولا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه ولا يدخل النار إلا من أنكرهم
وأنكروه) (3) الخطبة، وهي وفق المدعى لأن قوله (عليه السلام): " الأئمة قوام
الله على خلقه " صريح في دوام وجود الإمام واستمراره باستمرار زمان
التكليف، لأن القائم على الخلق والعريف عليهم يستحيل أن يكون غير
موجود ولا حي ولا عارف بأحوالهم، وقوله (عليه السلام): " لا يدخل الجنة "



(1) شرح نهج البلاغة 13 / 104.
(2) النساء 97.
(3) نهج البلاغة من الخطبة 150.
92
الخ. معناه أنه لا يدخل الجنة إلا من عرفهم بالإمامة وأقر لهم بها وعرفوه
بالاقرار لهم بذلك فيجب حينئذ أن يكون في كل عصر إمام قائم لله على
خلقه وعريف عليهم يدخل الجنة من أقر له بالإمامة ويدخل النار من أنكر
إمامته ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وهو المطلوب،
والكلام ظاهر في سعة علم الإمام لتمكنه من معرفة عارفية ومنكريه مع بعد
ديارهم وكثرتهم، وهو تصديق ما ورد من طرقنا عن أهل البيت أن الإمام
يعرف أولياءه وأعداءه في أقاصي الأرض وأدانيها، وأن الدنيا عند الإمام
بمنزلة الدرهم في كف الإنسان يقلبه يعلم أعلاها وأسفلها كما رواه المشائخ
الكبار مثل محمد بن الحسن الصفار ومحمد بن يعقوب وابن بابويه وغيرهم من
أكابر محدثينا في كتبهم، وليس المراد أن الأئمة يعرفون أولياءهم يوم القيامة
خاصة كما ذكره ابن أبي الحديد في شرح الخطبة (1) لأن الذين لا يعرفون
أولياءهم إلا في الآخرة لا يسمون عرفاء الله على خلقه في الدنيا لأن العريف
النقيب والرئيس، على أن معرفة الولي والعدو في الآخرة لا يختص بالأئمة بل
الخلق كلهم ينكشف لهم حينئذ الغطاء فيعرف أهل الجنة أولياءهم ويكونوا
(إخوانا على سرر متقابلين)، ويعرف أهل النار أولياءهم (كلما دخلت أمة لعنت
أختها) ويعرف المظلوم ظالمه وإن كان بعد موته بذكر سئ ويعرف المحسن
من أحسن إليه كذلك كما هو معلوم لدى العارفين فلا فضل للأئمة في هذا
يوم القيامة على غيرهم ثم إن المتبادر من قوله: " لا يدخل الجنة " الخ. إنه لا
يدخل الجنة إلا من عرفهم في الدنيا بالإمامة وعرفوه في الدنيا بالاقرار لهم بها
ولا يدخل النار إلا من أنكر إمامتهم في الدنيا وأنكروه، أي لم يعرفوه في
الدنيا بالاقرار لهم بالإمامة وهو يؤيد المطلب ويوضحه، وكلام أمير المؤمنين
(عليه السلام) في هذا المعنى كثير وسيأتي بعض منه في آخر الكتاب في موضع
يشبه هذا الموضع أو هو فرعه إن شاء الله تعالى.



(1) شرح نهج البلاغة 9 / 154.
93
احتج قوم من الخصوم على جواز خلو العصر من إمام بقوله تعالى:
[لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك] (1) وبقوله تعالى: [وما آتيناهم
من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير] (2) وأجاب أصحابنا عنه
بأن الآيتين نفي للرسول لأن النذير هو الرسول كما يدل عليه قوله في الآية
الثانية [ما أرسلنا] وقوله تعالى: [وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جائهم
نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم] (3) وكثير من الآيات وليس في الآيتين نفي
الأنبياء والأوصياء الهادين إلى الله تعالى والأول نقول به فإنا نجوز خلو العصر
من رسول مبعوث بل من نبي ولا نجوز خلوه من وصي هاد تقوم به الحجة
لله على العباد والآيتان لا تنفيانه فلا حجة لكم فيهما على ما ادعيتم أقول أما
قوله تعالى في الأولى: [ما آتاهم من نذير من قبلك] (1) وفي الثانية: [وما
أرسلنا إليهم قبلك من نذير] (2) فمحتمل لأن يكون الله تعالى أخبر أنه لم
يرسل في قريش رسولا منهم قبل النبي (صلى الله عليه وآله) وإن كان
أرسل فيهم من غيرهم وبلغتهم دعوة الرسل (عليه السلام) إلى توحيد الله
تعالى فليس في الآيتين دلالة على انتفاء الرسل مطلقا وإنما أقصى دلالتهما على
انتفاء رسول إلى قريش عن أنفسهم قبل النبي (صلى الله عليه وآله)
ويؤيد ما قلناه قوله تعالى: [وإن من أمة إلا خلا فيها نذير] (4) فإنها ناصة
على أنه لا تخلو أمة من الأمم من رسول إليهم منذر يخوفهم من العقاب وقد
اعترف بذلك شيخ المعتزلة أبو علي الجبائي (5) فقال وفي هذا دلالة على أنه لا



(1) السجدة: 3.
(2) سبأ: 44.
(3) فاطر: 42.
(4) فاطر: 24.
(5) أبو علي الجبائي محمد بن عبد الوهاب المعتزلي توفي سنة 303 ويقال له ولولده أبي
هاشم عبد السلام المتوفى سنة 321 الجبائيان وكلاهما من أكابر شيوخ المعتزلة.
94
أحد من المكلفين إلا وقد بعث إليهم الرسول وأنه سبحانه أقام الحجة على جميع
الأمم انتهى ومثل ما قلناه في الآيتين قال به الحسن البصري في قوله تعالى:
[لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون] (1) فقال: (لم يأتهم نذير من
أنفسهم وقومهم وإن جائهم من غيرهم) ويحتمل أيضا أن المراد ما أتاهم من
نذير من قبلك على حسب ما جئت به وكذلك في الآية الثانية وهذا كما قاله
قوم في [لتنذر قوما] الآية فتبين أن الآيتين اللتين احتج بهما الخصم لا
تدلان على خلو العصر من الرسل فضلا عن أن تدلا على خلوه من الأوصياء
الهادين فسقط الاحتجاج بهما رأسا،
وأما الآية الثالثة وهي قوله تعالى: [لتنذر قوما ما
أنذر آباؤهم] فقد عرفت ما قيل فيهما مما لا ينفي وجود
الرسل إلى قريش من غيرهم، على أن المروي عن عكرمة (2) في معناها لتنذر
قوما كما أنذر آباؤهم بجعل ما مصدرية لا نافية وحرف التشبيه محذوف كما
حذف في قوله تعالى: [وهي تمر مر السحاب] (3) وهذا القول أدل على
المطلوب من الأول ويعضده آيات كثيرة [وإن من أمة] الآية، وآيات نفي
الحجة للناس على الله بعد الرسل وقوله تعالى: [ثم أرسلنا رسلنا تترى كلما
جاء أمة رسولها كذبوه] (4) وقوله تعالى: [قل قد جائكم رسل من قبلي
بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين] (5) جوابا لقولهم



(1) يس 6 ورأي الحسن البصري نقله الطبرسي في مجمع البيان 8 / 416.
(2) عكرمة بن عبد الله البربري المدني مولى ابن عباس من التابعين كان عالما بالتفسير
وبالمغازي اتصل بنجدة الحروري وتأثر برأيه وخرج إلى المغرب وأخذ عنه أهلها رأي
الصفرية من الخوارج وعاد إلى المدينة فطلبه أميرها فتغيب حتى مات سنة 105.
(3) النمل: 88.
(4) المؤمنون: 44.
(5) آل عمران: 183.
95
[لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك] (1) الآية كما قاله بعض الأفاضل وأما
في الظاهر فهي جواب لقول اليهود [لن نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان
تأكله النار] (2) كما قصه الله من قولهم فلا حجة فيها على المقصود فهذه
الآيات دالة على أن الله عز وجل لم يترك أمة بغير رسول تقوم به الحجة عليهم
وقال الشيخ الصدوق: " إن معنى الآية الأولى وهي قوله تعالى: [لتنذر قوما
ما أتاهم من نذير من قبلك] (3) أي ما جاءهم رسول بتبديل شريعة ولا نسخ
ملة ولم ينف الهداة الدعاة من الأوصياء " (4) انتهى وهو محتمل أيضا.
أما قوله: تعالى: [وما آتيناهم من كتب يدرسونها] (5) فلا دلالة فيه على نفي
الرسول وإنما غاية دلالته على أنه لم ينزل الله على قريش كتبا من السماء
بلسانهم قبل القرآن وهذا ما لا ينكره أحد ولا ينفع الخصم إذ لا يجب في كل
رسول أن يكون معه كتاب وله شريعة بل يجوز إرسال الرسل يدعون إلى
شريعة واحدة ولتأكيد ما في العقول كما ذهب إليه الإمامية وأبو علي الجبائي
وأتباعه من المعتزلة، ودل على الأول الاتفاق على أن لا شريعة لأحد من
الأنبياء إلا لآدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله
وسلم) وأن كل الرسل غيرهم يدعون إلى الشرائع السابقة على شريعتنا،
والحاصل أن الآيات لا تدل على نفي الرسل مطلقا بوجه من الوجوه، ولو نزلنا
للخضم عن الحجة وقلنا بدلالتها على ذلك لم تكن دالة على نفي إمام هاد
تقوم به الحجة لله على العباد كما عرفت من البيان، وقد وضح من ذلك
سلامة أدلتنا الدالة على وجوب وجود إمام في كل زمان من أزمنة التكليف عن



(1) طه: 134.
(2) آل عمران: 183.
(3) القصص: 46.
(4) إكمال الدين وإتمام النعمة 624 وقد نقله المؤلف هنا ملخصا.
(5) سبأ: 44.
96
معارض فتعين القول به والمصير إليه، ولا بأس بنقل بعض الأخبار عن أئمتنا
(عليهم السلام) في هذا المعنى روى ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني
بسنده عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): [إنما أنت منذر
ولكل قوم هاد] فقال: رسول الله (صلى الله عليه وآله) المنذر وعلي
الهادي، يا أبا محمد هل من هاد اليوم؟ قلت: بلى جعلت فداك ما زال
منكم هاد بعد هاد حتى دفعت إليك فقال: (رحمك الله يا أبا محمد لو كان إذا
نزلت آية على رجل ثم مات ذلك الرجل ماتت الآية مات الكتاب ولكنه؟؟
يجري فيمن بقي كما جرى فيمن مضى) (1).
وروى الصدوق رئيس المحدثين بسنده عن أبي الصباح عن أبي عبد الله
(عليه السلام) قال: (إن الله تبارك وتعالى لم يدع الأرض إلا وفيها عالم
يعلم الزيادة والنقصان فإذا زاد المؤمنون ردهم وإذا نقصوا شيئا أكمله لهم
ولولا ذلك لالتبست على المؤمنين أمورهم).
وبسنده عن عبد الأعلى بن أعين عن أبي جعفر (عليه السلام)
قال سمعته يقول (ما تترك الأرض بغير عالم ينقص ما زادوا ويزيد ما نقصوا
ولولا ذلك لاختلطت على الناس أمورهم) (2).
وعن سليمان الأعمش عن الصادق جعفر بن محمد في حديث قال:
(ولم تخل الأرض منذ خلق الله الخلق من حجة الله فيها ظاهر مشهور أو
غائب مستور ولا تخلو حتى تقوم الساعة من حجة لله فيها ولولا ذلك ولم يعبد
الله) قال سليمان فقلت للصادق فكيف ينتفع الناس بالحجة الغائب
المستور؟ قال: (كما ينتفعون بالشمس إذا سترها سحاب) (1) اللهم ثبتنا على



(1) الكافي 1 / 147.
(2) المنقول هنا عن الصدوق تجده ما بين ص 197 - 201 من كتابه إكمال الدين وإتمام
النعمة.
97
الحق وموالاة الحجة إنك تثبت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي
الآخرة.



(1) نفس المصدر.
98
[الفصل الأول
في شروط الإمام
وهو يشتمل على مسائل:]

99
المسألة الأولى:
في عصمة الإمام وينبغي أولا بيان معنى العصمة، فقد اختلف فيها
المتكلمون بعد الاتفاق على أنها في اللغة المنع ومنه قوله تعالى: [والله
يعصمك من الناس] (1) وقوله تعالى [لا عاصم اليوم من أمر الله] (2) فذكر
أصحابنا أن العصمة لطف خفي يفعله الله تعالى بالمكلف بحيث لا يكون له
داع إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك، وفسرها بأنها
الأمر الذي يفعله الله من الألطاف المقربة إلى الطاعات التي يعلم معها أنه لا
يقدم على المعصية بشرط لا ينتهي ذلك الأمر إلى الإلجاء، وفسرها بعض آخر
بأنها ملكة نفسانية لا تصدر عن صاحبها المعاصي، وكل هؤلاء متفقون على
أن العصمة لا يشترط فيها سلب القدرة على المعصية، وذهب قوم إلى
اشتراط سلب القدرة على المعصية في العصمة، ثم اختلفوا في معناها فقال
قوم: إن المعصوم مختص في بدنه وفي نفسه بأمر يقتضي امتناع إقدامه على
المعصية فالعصمة على هذا هي ذلك الأمر المذكور، وقال بعض: إن
العصمة هي القدرة على الطاعة وعدم القدرة على المعصية، وهو قول أبي



(1) المائدة: 67.
(2) هود: 43.
101
الحسين البصري، (1) وأصحابنا رضوان الله عليهم لا يختلفون في قدرة
المعصوم على المعصية لكنه لا يفعلها، ولا يصح نسبتها إليه، بل ينبغي أن
يقال: إنه لا يشترط في العصمة ألا تخطر المعصية بباله إذ لولا ذلك لكان
مسلوب القدرة، وإلا صح ما قاله أصحابنا: إن المعصوم لو لم يكن قادرا
على فعل المعصية لما كان مكلفا بتركها إذ شرط التكليف بالشئ القدرة على
فعله وتركه إذ لا يصح أن يقال إن الإنسان مكلف بترك الطيران إلى السماء
كما أنه لا يجوز أن يكلف بالطيران إليها لعدم الاستطاعة إلى ذلك والتالي
باطل فقد علمنا بتوجه الأمر والنية إلى المعصومين من الأنبياء والأوصياء وإذا
بطل التالي بطل المقدم، وأيضا لو كان المعصوم غير قادر على فعل المعصية لما
استحق على تركها ثوابا ولا مدحا لأنه في تركها مجبور على الترك وملجأ إلى
الاجتناب، ولا مدح لمجبور ولا ثواب لملجأ كما لا يخفى والكل باطل بالاتفاق
إذ لا نزاع في استحقاق المعصوم على ترك المعصية المدح والثواب والكتاب
دال عليه فالمقدم باطل أيضا، إذا عرفت هذا فاعلم أن الناس قد اختلفوا في
أن الإمام يجب أن يكون معصوما أم لا؟ فذهب أصحابنا الإمامية ووافقهم
الإسماعيلية إلى أن الإمام يجب أن يكون معصوما من أول عمره إلى آخره عن
ارتكاب المعاصي كبائرها وصغائرها وعن الخطأ في الأحكام، وقال باقي الفرق
لا يجب في الإمام العصمة بل تكفي العدالة، والأصح هو مذهب
أصحابنا ولنا على ذلك وجوه من الأدلة عقلا وسمعا.
الأول: إن المحوج إلى الإمام هو جواز الخطأ على الأمة في العلم والعمل
فلو جاز الخطأ على الإمام فيهما لوجب له إمام آخر وذلك الإمام أيضا إن كان
معصوما ثبت المطلوب وإلا احتاج إلى إمام آخر فيتسلسل إلى غير النهاية



(1) أبو الحسين البصري: محمد بن علي الطيب من أعلام المعتزلة ومتكلميهم توفي سنة
446 ومن كتبه غرر الأدلة أشار إليه ابن أبي الحديد في شرح النهج في أكثر من
موضع.
102
والتسلسل باطل فوجب أن يكون الإمام معصوما دفعا للزوم التسلسل لولاه،
وأجاب القوشجي عن هذا الدليل بأن للأشاعرة أن يقولوا لا نسلم أن الحاجة
إلى الإمام لما ذكرتم، بل لما ذكرنا في وجوب نصب الإمام ولا يلزم أن يكون
معصوما.
أقول: وجوابه قد عرفته فيما سبق عند إيراد ما احتج به على وجوب نصب
الإمام سمعا فإنا بينا هناك بطلان ما قال وبينا أن الحاجة إلى الإمام هو ما
ذكرناه لا ما ذكره خاصة بما لا مزيد عليه.
الثاني: إن الإمام حافظ للشرع فلو جاز الخطأ لم يكن حافظا له
هذا خلف إما أنه حافظ للشرع فلما نبينه وما بيناه في المقدمة، وإما أن
المخطئ غير حافظ للشرع فظاهر لا يحتاج إلى بيان فوجب أن يكون الإمام
معصوما.
وأجاب القوشجي عنه بأن الإمام ليس بحافظ للشرع بذاته بل بالكتاب
والسنة واجتهاده الصحيح فإن أخطأ في اجتهاده فالمجتهدون يردون والآمرون
بالمعروف يصدون وإن لم يفعلوا أيضا فلا نقص للشريعة القويمة.
أقول: هذا الجواب فاسد أما قوله: ليس حافظا للشرع بذاته، فما أدري ما
عنى به؟ فإن كان يعني أن الإمام علمه ذاتي كعلم البارئ تعالى لا يحتاج إلى
التعلم فذلك ما لا يدعيه أحد من الناس، وإنما المدعي كونه معلما من
الرسول (صلى الله عليه وآله) جميع ما يحتاج إليه الناس في أمور دينهم
ودنياهم ومفهما من الله علم التأويل بحيث لا يشذ عنه حكم واقعة من الوقائع
ولا يسئل عن شئ إلا وهو يعلمه من كتاب الله علما لا تغير فيه ولا تبديل
ولا اختلاف وليس علما اجتهاديا وحكما نظريا يختلف باختلاف النظر ويتغير
بتغير الاجتهاد، وإن عنى بقوله بذاته هذا المعنى المدعى فليس هذا علما ذاتيا
وإنما هو علم من الكتاب والسنة وليس بخارج عنهما لكنه علم يقيني لا يتطرق

103
عليه التبدل والاختلاف بتبدل الأنظار واختلاف الاعتبار فيخطي تارة وطورا
يصيب كحال أئمة المجيب، وأما قوله واجتهاده الصحيح فهو مناقض لقوله
فإن أخطأ في اجتهاده فأين الصحة مع الخطأ، وقد تقدم منا تحقيق بطلان
الاجتهاد الذي عناه الذي هو ملازم لمخالفة الحق دائما وأنه ليس طريقا لبيان
أحكام الله ولم يتعبد الله عباده به في المقدمات الخمس وأوضحناه أتم الإيضاح
وسيأتي له مزيد بيان.
وبالجملة إنا أثبتنا أن الإمام حجة الله على خلقه والحجة لا تقوم بالمجتهد
لجواز الخطأ عليه كما اعترف به المجيب في كلامه، وقوله: فالمجتهدون يردون
فيه الحكم بانقلاب المحجوج حجة والمأمور الذي تجب عليه الطاعة أميرا
واجب الطاعة وهذا إخراج للإمام عن الإمامة لما علمت أنها رئاسة عامة في
الدين والدنيا والمردود عن اجتهاده مرؤوس لا رئيس ومحكوم عليه لا حاكم،
وقوله: والآمرون بالمعروف يصدون، أظهر قبحا فإن المصدود الممنوع من
إمضاء الحكم من سائر الرعية وأداني الناس ليس له رئاسة على أحد، وليت
شعري أي إمامة ورئاسة تبقى لذلك الإمام الذي لا يؤمن عليه الخطأ في
الأحكام مع رد الرعية اجتهاده وإبطالهم قوله ومنعهم إياه من إمضاء الحكم
الذي اجتهد فيه؟ وهل هذا على ما ذكر إلا مأمور منهي يساس ويؤدب من
رعيته الذي نصب لسياستهم وتأديبهم فلا يكون على هذه الحالة إماما البتة
مع ما يلزم من وجوب طاعة مجتهد ومخالفة آخر وذلك أن الإمام إذا
اجتهد في حكم فخالف فيه اجتهاد قوم مجتهدين قد اختلفوا؟ أيضا على
قولين أو ثلاثة، لما علمت من أن الاجتهاد غير منضبط فحينئذ كل فريق
يخطئون الإمام ويأمرونه بالرجوع إلى قولهم فليخبرنا القوشجي عن إمامه
ذلك عن رأي أي الفرق يصدر وبقول أيهم يأخذ ولأمر أيهم يطيع مع لزوم
الترجيح من دون مرجح في تقديم تقليده لكل واحدة من الفرق على الأخرى
والاقتداء بها دون أختها، فهو مرتهن دائما بعصيان فرقة لطاعته الأخرى

104
ومصدود عن الأمر دائما لدوام اختلاف المجتهدين؟ افترى هذا إماما أم هو
أذل المأمومين؟ وبعد فمن أين توجه عليه الخطأ في الاجتهاد عند القوشجي
وأصحابه واحتيج إلى الانكار عليه من المجتهدين مع حكمهم بأن كل مجتهد
مصيب؟ وهل يبقى على هذا القول فضل لمجتهد على مجتهد آخر حتى يكون
أحدهما يرد الآخر عن اجتهاده ويصده عن حكمه؟ ثم لو قلنا بعدم الإصابة
في الاجتهاد الذي هو مخالف لقول المجيب فمن أين علم أن المخطئ هو
الإمام وأن المصيب غيره؟ وهل يعلم ذلك إلا من هو مطلع على باطن حكم
الله في الواقع؟ وإذا وجد هذا فهو الإمام لا محالة، لا ذلك المجتهد المخطئ
والمجيب ينفيه فيلزم حينئذ عدم جواز رد مجتهد من الناس اجتهاد غيره الإمام
ومن سواه لتساويهم في عدم العلم بالإصابة أو الخطأ على القول بالتخطئة وفي
الإصابة معا على القول بالتصويب، فلا يكون لواحد رياسة على الآخر فلا
إمام ولا مأموم إلا الرعاع والأوباش فإن إمامهم من يقلدونه، فما أكثر الأئمة
على هذا القول لو كان قائلوه يشعرون ولما قالوه يفهمون، وقوله: فإن لم
يفعلوه الخ فهو أفحش من الجميع لأنه إخراج للأمر بالمعروف الواجب عن
الوجوب ولا يخفى ما فيه من المناقضة، وقوله فلا نقص للشريعة القويمة، إن
أراد أن عصيان المجتهدين بترك رد إمامهم المخطئ وترك الانكار عليه لا
يغير حكم الله ولا يبدل فرضه فلا ينقلب به الحرام حلالا ولا الحلال حراما
بل يلزم العاصي الإثم على المعصية فذلك صحيح عندنا لكنه لا يرضى به
لاستلزامه اتفاق الأمة على الخطأ وهو خلاف مذهبه، وإن أراد أن عصيان
المجتهدين في تركهم النكير على إمامهم الخاطئ لا يوجب الإثم لهم ولا
يخرجهم من حيز العدالة وعصيان الإمام وخطؤه لا يبطل إمامته فذلك باطل
باتفاق الأمة والنص من الكتاب والسنة، ومن المحال أن يكون كف الناس
عن إنكار المنكر مسقطا عنهم الإثم ومجوزا لفاعل المنكر فعله، والحاصل أن
هذا الكلام تدليس وتلبيس لا معنى له ولا فائدة فيه وأنت بعد الإحاطة بما

105
قررناه لا ترتاب في بطلانه وبذلك يسلم دليلنا من الايراد ويتم به المراد.
الثالث (1): إن الإمام لو أقدم على المعصية لوجب الانكار عليه وهو
مضاد لوجوب إطاعته الثابت بقوله تعالى: [أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
وأولي الأمر منكم] (2) ومفوت للغرض من نصبه وهو امتثال أوامره واجتناب
مناهيه واتباعه فيما يفعله فيكون من تجب طاعته والاقتداء به في القول والفعل
يجب الانكار عليه والبراءة من فعله، أو يلزم الإثم بترك النكير عليه، أو
يخرج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن كونهما واجبين، وكله باطل فوجب
أن يكون الإمام معصوما لدفع هذه المحذورات، وأجاب عنه القوشجي بأن
وجوب الإطاعة إنما هو فيما لا يخالف الشرع، وأما فيما يخالفه فالرد والانكار
فإن لم يتيسر فسكوت عن اضطرار أقول: وهذا ليس بجواب عن الدليل
بالمرة، وإنما هو تدليس وتشبيه على غير ذي الروية، لأن قوله: إن وجوب
الإطاعة إنما هو فيما لا يخالف الشرع مسلم لا ينكره أحد ولا ندعي خلافه
وكذلك قوله وأما فيما يخالفه فالرد والانكار صحيح مسلم وهو خلاف
المدعي، فإن المدعي أن الإمام لا يجوز عليه الخطأ وارتكاب المعصية، ولو
جاز عليه ذلك فحين يواقع الخطيئة إن وجب الانكار عليه خرج عن كونه
واجب الطاعة وهو واجب الطاعة بالنص والاجماع، وإن لم يجب الانكار عليه
خرج الواجب عن كونه واجبا وهو كذلك باطل فحينئذ وجب كونه معصوما
لا يواقع معصية ولا يحتاج إلى الانكار عليه ويكون الراد عليه عليه قوله رادا على
الله ورسوله، وليس المدعي أن الإمام يخالف الشرع فتجب إطاعته في مخالفة
الشرع ولا يجوز الانكار عليه وجوابه إنما يتوجه علينا لو كان هذا مدعانا
وليس هذا هو فسقط الجواب من أصله ولا يتوجه له الجواب إلا بإقامة حجة
على منع اللوازم الباطلة مثل أن يمنع وجوب الانكار على الإمام إذا عصى



(1) أي من الأدلة على وجوب عصمة الإمام.
(2) النساء: 59.
106
ويقيم عليه دليلا وغير ذلك من اللوازم المذكورة في الدليل مع مباشرة الإمام
المعصية وهو لم يقم على منع شئ منها حجة بالمرة، فليس إيراده بوارد علينا
بل هو مما نقول به ونجعله جزءا من الدليل كما ترى، وقوله: فإن لم يتيسر
فسكوت عن اضطرار واه جدا، لأنه يستلزم أمرين قبيحين: أما كون ذلك
الإمام العاصي متظاهرا بالمعصية ومتغلبا على الأمة بمن يوافقه من العاصين
بحيث يبلغ تغلبه إلى خوف أهل العلم والفضل من الانكار عليه إذا عصى
ولا يقدرون على إظهار النكير عليه لتجبره وتكبره عن قبول الحق والعمل به
ومعلوم أن هذا ليس بإمام مرشد ولا رئيس عادل، بل هو ظالم جائر وجبار
فاسق ولا يصلح أن يكون إماما إلا للقوشجي وأمثاله وليس كلامنا في مثل
هذا العنيد المريد، ولا يجوز للقوشجي أن يناضل ويخاصم عن مثل هذا
الإمام الفاجر الذي يدعو إلى النار ويتكلف لنصرته كلاما مسجعا لا حقيقة له
يشبه سجع الكهان، وليس هذا بإمام أصلا حتى نحتاج إلى البحث
عنه، وهذا المعنى هو الأقرب والأنسب بعدم تيسر الانكار والسكوت عن
اضطرار في كلامه، أي إن الناس يضطرون إلى السكوت عن ذلك الإمام فلا
ينكرون عليه لخوفهم من شره وطغيانه، وأما كون الأمة موافقين له على
المعصية فاضطروا إلى السكوت لاتفاق الجميع على العصيان وهذا كما ترى
مستلزم لإجماع الأمة على الخطأ واتفاقهم على الباطل وإلا كيف يتصور عجز
كافتهم وعدم قدرة جميعهم عن الانكار على ذلك الفاسق لولا مواطاتهم معه
على الخطيئة وهو باطل عنده فبطل جوابه من جميع وجوهه وصح دليلنا،
اللهم إلا أن يقول إن الإمام لا يشترط فيه العدالة أيضا كما يفهم من كلام
جماعة من قدماء العامة وحينئذ يلزمه الائتمام بمن وجبت منه البراءة بقوله
تعالى: [ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار] (1) فيستحق ما وعد الله
من العذاب والخزي على ولاية الظالمين ومعونتهم وبئس هذا المذهب مذهبا.



(1) هود: 113.
107
الرابع (1): إن الإمام لو أقدم على المعصية للزم من ذلك انحطاط درجته
عن أقل العوام لأنه أعرف بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات فصدور المعصية
منه أقبح من صدورها من العوام وذلك ينافي علوه وأبهة رياسته ويكون أنزل
درجة من العوام ورعاع الناس فوجب أن يكون معصوما، ولا قدح للقوشجي
فيه وكأنه لا يمنع كون الإمام ناقص الدرجة عن عوام الناس كما يظهر من
كلاميه المتقدمين.
الخامس (2): إن الإمام أمين المسلمين على دينهم وخازنهم على أموالهم
فلو لم يكن معصوما لم يؤمن عليه من تغيير الأحكام والمحاباة في القضاء بين
المسلمين والايثار بالمال لرغبة أو رهبة كما وقع لأئمة القوم فيجئ الفساد من
حيث طلب الصلاح، والعدالة لا تكفي لجواز ارتفاعها عند عروض
الأسباب الداعية إلى ما ذكرنا إذ ليست من الصفات اللازمة فلا يحصل بها
الأمن اليقيني من تغيير الأحكام والإيثار بالمال فلا تنحسم بها مادة التهمة
المثيرة للخلاف والفتنة فوجب كون الإمام معصوما لحسم تلك المواد المنافية
للغرض من نصب الإمام الذي من جملته حصول الألفة به.
السادس (3): إنه لو لم يكن في الأمة معصوم يجوز عليه الخطأ في
الأحكام لم يكن إجماعهم حجة لجواز الخطأ على كل الأفراد فيجوز على
الجملة كما بيناه أولا ويشير إليه قوله تعالى: [أفإن مات أو قتل انقلبتم على
أعقابكم] (4) وقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (ألا لا ترجعن
بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف) (5) فإن هذا الخطاب لا



(1) أي من الأدلة على وجوب عصمة الإمام.
(2) كذلك.
(3) كذلك.
(4) آل عمران: 144.
(5) أخرجه البخاري في موضعين من صحيحه في كتاب العلم باب الانصات للعلماء
108
يوجه إلا لمن يجوز عليه الخطأ وهو كما ترى موجه إلى الجملة فيخرج الإجماع
عن الحجية لكنه حجة عند الخصوم فيجب أن يكون في المجمعين من لا
يخطئ في الحكم لتثبت بوجوده في المجمعين حجية الإجماع ويجب أن يكون
ذلك هو الإمام لأنه أولى الناس بهذه المنزلة فالإمام معصوم.
السابع: إنه قد حصل الاتفاق في النقل عن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) أنه قال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى تقوم الساعة) (1) وحينئذ إن
كانت تلك الطائفة فيهم معصوم من الخطأ يرجعون إلى قوله ويأخذون
بحكمه ويعتمدون في الدين على بيانه فذلك المراد ويكون ذلك هو الإمام لما
ذكرنا من قريب، وإن لم يكن فيهم معصوم بتلك المثابة وجب أن يكونوا
كغيرهم من الطوائف يخطئون ويصيبون فلم يكونوا على الحق أبدا إذ لا
خصوصية لهم على غيرهم من الفرق وعلى هذا توجب لهم دوام الإصابة ولا
مانع لهم عليه من الخطأ، فمن أي وجه كانوا ملازمين للصواب مستمرين على
الحق على أن لازم ذلك كون الطائفة بأسرهم معصومين ولا قائل به بل هو
خلاف ما قاله خصومنا من انتفاء معصوم في الأمة فيجب أن يكون الأول هو
المقصود، وهو أن تلك الطائفة فيهم من لا يجوز عليه الخطأ في الأحكام وهم
تابعوه في أقواله وأفعاله فكانوا بتبعية المعصوم معصومين من الخطأ وذلك
المعصوم هو الإمام وهو المطلوب ولو قلنا بأن الطائفة التي لا تزال على الحق



1 / 38. وفي كتاب الأدب باب ما جاء في قول الرجل ويلك 1 / 112 وليس فيهما
لفظة " بالسيف ".
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 4 / 187 كتاب المناقب (لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر
الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك)
وأخرجه البخاري أيضا 8 / 149 في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب قوله
(صلى الله عليه وآله) (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق) وفي نور
الأبصار للشبلنجي ص 170 (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق إلى يوم
القيامة).
109
هم الأئمة إمام بعد إمام لكان ذلك أدل على المراد من إثبات عصمة الإمام
من الأول فتأمل.
الثامن: قوله عز وجل: [وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال
إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين] (1) وجه
الدلالة أن الآية تضمنت سؤال إبراهيم الخليل ربه القاهر الجليل أن يجعل
من ذريته إماما فأجابه الله تعالى بأن الإمامة وهو قوله [عهدي] لا تنال
الظالمين فلا يكون من جرى عليه اسم الظلم لها أهلا ولا لمقامها مستحقا إذ
من المعلوم ضرورة أن الخليل (عليه إسلام) لم يسأل الإمامة لظالم في حال
ظلمه ولا لعاص في وقت عصيانه، وإنما سألها لمن كان من ذريته في حال
استقامته وصلاحه، فأخرج الله منها الظالم فيلزم أن يكون المراد بالظالم من
جرى عليه اسم الظلم وقتا ما فيجب من ذلك أن يكون مستحق الإمامة من
لم يجر عليه اسم الظلم من أول عمره إلى آخره وذلك معنى العصمة، ثم إن
الظلم يطلق على الشرك والكفر وسائر المعاصي فمن إطلاقه على الشرك قوله
تقدس وتعالى: [إن الشرك لظلم عظيم] (2) ومن إطلاقه على الكفر قوله
تعالى: [والكافرون هم الظالمون] (3) ومن إطلاقه على سائر المعاصي قوله
تعالى: [لكم رؤس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون] (4) فسمى أخذ الربا
ظلما ونقص الغريم رأس مال معامله ظلما وليس واحد منهما بكفر اتفاقا وقوله
تعالى: [لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم] (5) معلوم أن
المراد من عدم محبة الله الجهر بالسوء من القول في المسلمين لا في الكفار إذ لا



(1) البقرة: 124.
(2) لقمان: 13.
(3) البقرة: 254.
(4) البقرة: 279.
(5) النساء: 148.
110
حرمة لهم في الإسلام بالاجماع فكان معنى الآية أن من ظلم مسلما في ماله أو
عرضه أو بدنه من المسلمين جاز للمظلوم أن يذكره بسوء ما صنعه، وليس
غصب مال مسلم أو شتمه مثلا أو ضربه بغير حق كفرا وقد سماه الله ظلما،
وقوله تعالى: [فمن قتل مظلوما] الآية (1) وإذا كان المقتول مظلوما
فالقاتل ظالم البتة وليس القتل بكفر وقد سماه الله ظلما وقوله تعالى: [إن
عدة الشهور عند الله اثنى عشر شهرا - إلى قوله - منها أربعة حرم ذلك الدين
القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم] (2) فسمى القتال في الأشهر الحرم ظلما وهو
ليس بكفر وقوله عز وجل: [قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين] (3) فجعل
حرمان الفقراء والمساكين من حصتهم وهو حقهم عند صرام أصحاب الجنة
جنتهم ظلما وهو ليس بكفر إلى غير ذلك من الآيات التي يطول تعدادها،
فحينئذ وجب في الإمام العصمة من جميع الذنوب التي يصدق عليها اسم
الظلم والكفر وغيره من المعاصي من أول عمره إلى آخره لئلا يكون اسم
الظلم جاريا عليه في بعض أحواله وأطواره فيخرج عن استحقاق الإمامة التي
هي عهد الله ويسقط حظه عن نيلها لاشتراط كون الإمام غير ظالم في صريح
الآية، فالآية المذكورة ولله الحمد صريحة في وجوب عصمة الإمام غاية
الصراحة لا تقبل التأويل وقد اعترف الفخر الرازي وهو من أعاظم المخالفين
بدلالتها على ذلك في تفسيره وصرح بأنهم تركوا العمل بمضمونها على عمد
قال: " أما الشيعة فإنهم يستدلون بها على صحة قولهم في وجوب العصمة
ظاهرا وباطنا، وأما نحن فنقول مقتضى الآية ذلك إلا أنا تركنا الباطن فتبقى
العدالة معتبرة " (4) انتهى فانظر لكلامه وتصريحه بمخالفتهم مقتضى الآية من



(1) الاسراء: 33.
(2) التوبة: 36.
(3) القلم: 29.
(4) انظر تفسير الرازي 4 / 42.
111
غير حجة لتتضح لك حالهم في تعمدهم مخالفة الحق وارتكاب الباطل على
علم ويقين، ومنها علم أن من أسلم عن كفر لا يصلح للإمامة لفوات
العصمة وما أجاب به القوشجي عن الآية بأن غاية الأمر ثبوت التنافي بين
الظلم والإمامة ولا محذور إذا لم يجتمعا باطل بما سبق من البيان من أن
المسؤول له الإمامة ليس الظالم في حال ظلمه ولا ذلك بمقام خليل الرحمن ولا
يجوز عاقل يخاف الله نسبة ذلك إليه بل لمن كان في حال الصلاح أعم من
أن يكون ممن يجري منه الظلم أو غيره، وحيث كان الجواب واردا بإخراج الظالم
من استحقاق الإمامة التي هي عهد الله تعين أن يكون المراد به من جاز
صدور الظلم منه أو صدر منه الظلم اناما؟؟ لا الظالم وقت ظلمه إذ ليس
مسؤولا له الإمامة فلو كان هو المراد من الجواب لم ينطبق على السؤال ولكان
السؤال باقيا بغير جواب وهو خلاف المعلوم المتفق عليه من كون هذا الجواب
لذلك السؤال، وأيضا إن الظالمين اسم فاعل وال موصولة واسم الفاعل إذا
كان صلة الأل تعين كونه للماضي فإذا قيل جاء القائم كان المراد به الذي
قام فمعنى الظالمين بحسب اللغة العربية الذين ظلموا قبل لا ينالهم عهد
الإمامة وإن صلحوا لا الظالمين في الحال لأنه خلاف العربية فكانت الآية
صريحة في وجوب عصمة الإمام قبل الإمامة وفي أن نيل الإمامة مشروط بسبق
العصمة فيجب حصولها أيضا في الحال وفي المآل في الإمام لأنها شرط لنيل
الإمامة وإذا زال الشرط زال المشروط فزال اعتراض المعترض وذهب إيراده
فليتأمل المقام فإنه حقيق بالتأمل، ومما يضحك الحزين غفلته (1) عن معنى قوله
أن غاية الأمر ثبوت التنافي بين الظلم والإمامة، فإنه يتضمن أن الإمام كلما
ظلم زالت إمامته، وعلى هذا لو نصب إمام فظلم بعد نصبه بلا فصل وجب
عزله لتنافي الإمامة والظلم باعترافه فيظلم كذلك فتكون حاله حال الأول
وهكذا فجاز أن ينصب في يوم واحد عشرة أئمة وأكثر ويعزلوا لأن الفرض



(1) أي القوشجي الذي لا يزال المؤلف في معرض الرد عليه.
112
أن الإمام ليس بمعصوم وصدور الظلم منه جائز فأي شئ على هذا أضيع من
هذه الإمامة؟ وأي ذليل وناقص أذل وانقص من هذا الإمام الذي ينصب
ويعزل في ساعة واحدة؟ وهل بمثله يعز الدين وتقوى شوكة المسلمين، أوليس
أنه لا مخرج من هذا المحذور الذي يتضمنه كلام المجيب إلا باشتراط العصمة
في الإمام أو لا يدري أنا لم نشترط العصمة في الإمام إلا من جهة ما ذكره من
تنافي الظلم والإمامة فما جعله ردا علينا هو الدليل لنا وهل زادنا به إلا تقوية
لو كان يشعر، ولو أن اعترافه بما اعترف به شيخه الرازي من تركهم العمل
بمقتضى الآية كما مر عليك من كلامه لكان أولى به وأليق بمذهبه، والحمد لله
على إظهار الحق لأهله.
التاسع: قوله تعالى: [أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر
منكم] (1) وجه الدلالة أنه تعالى أمر بإطاعته على الإطلاق لأنه المالك للعباد
والأمر والنهي ولا يأمر ولا ينهى إلا بمقتضى حكمته ولا يسأل عما يفعل وعباده
يسألون وأمر بطاعة الرسول على الإطلاق أيضا فعرفنا من ذلك أن الرسول
(صلى الله عليه وآله) لا يأمر إلا بحق ولا ينهى إلا عن باطل فهو
معصوم من الخطأ والزلل بعصمة الله له وتثبيته إياه على نهج الصواب، ولولا
ذلك لما أطلق وجوب إطاعته ثم أطلق الأمر بطاعة أولي الأمر كما أطلقه في
طاعة نفسه وطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله) ولم يقيده بقيد ولم
يشترط فيه شرطا فعلمنا من ذلك أيضا أن أولي الأمر معصومون من الخطأ
مطهرون من العصيان ملازمون للصواب، لا يأمرون إلا بمعروف ولا ينهون
إلا عن منكر، إذ لا يجوز أن يأمر الله على الإطلاق بطاعة من يجوز منه الخطأ
في الأحكام ومقارفة الذنوب العظام بل يجب في الحكمة أن يكون الأمر
بالطاعة له مشروطا بموافقة طاعة الله وموافقة الحق لا مطلقا كما أنا رأينا



(1) النساء: 59.
113
البارئ تعالى اشترط في مواضع كثيرة وقيد الوعد والمدح بلزوم التقوى
والاستمرار على الوفاء حيث كان الممدوح والموعود ممن يجوز عليه الخطأ
والمخالفة مثل قوله تعالى: [يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن
اتقيتن] (1) وقوله تعالى: [إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق
أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسنؤتيه
أجرا عظيما] (2) وقوله تعالى: [يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم
فرقانا ويغفر لكم] (3) وغير ذلك من الآيات الكثيرة، وحيث لم يشترط في
طاعة أولي الأمر شيئا لزم أن يكونوا ملازمين لطاعته لا يخرجون منها إلى
معصية وأولوا الأمر هم الأئمة، فالإمام معصوم، فمن كان من أولي الأمر
فهو معصوم ومن ليس بمعصوم فليس من أولي الأمر، ولا يعارض ما ذكرناه
قوله تعالى: [ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن
عملك] الآية (4) وما جرى مجراها من الآيات لأنها أدب للنبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) وتهديد لغيره لأن الله قد عصمه من الشرك ومداهنة الكفار
فلم يكن الشرط في الحقيقة متوجها إليه بل إلى الأمة وكان الله تعالى كثيرا ما
يخاطب النبي (صلى لله عليه وآله وسلم) في القرآن وهو يريد الأمة كقوله
تعالى: [يا أيها النبي إذا طلقتم النساء] (5) وغير ذلك، حتى قيل نزل القرآن
بإياك أعني واسمعي يا جارة، والفائدة في توجيه الخطاب ظاهرا إلى النبي
(صلى الله عليه وآله) في الآية المذكورة ومشابهاتها تهويل أمر الشرك
وتعظيمه وقطع أطماع الطامعين من الناس في المغفرة مع الاشراك بعد الإيمان



(1) الأحزاب: 32.
(2) الفتح: 10.
(3) الأنفال: 29.
(4) الزمر: 65.
(5) الطلاق الآية التي تلي البسملة.
114
لأنهم إذا سمعوا أن الله توعد نبيه الكريم مع ما نوه باسمه في القرآن الحكيم
بإحباط عمله إن أشرك علموا أنه لا رجاء لغيره في عفو الله عنه إذ أشرك
فيحذرون غاية الحذر من الشرك، وليس حال من علمت عصمته بالأدلة
القاطعة مثل النبي (صلى الله عليه وآله) كحال غيره ممن علمت عدم
عصمته حتى يرتكب في أمره من التأويل ما يرتكب في معلوم العصمة للزوم
الجمع بين الأدلة القطعية فتبصر فاندفع إيراد الخصوم بعون الحي القيوم وثبت
من الآية ما ندعيه من عصمة الإمام.
العاشر (1): إن الإمام منصوب لردع العصاة وتأديب الجناة وإقامة
الحدود وإذا لم يكن معصوما من مباشرة القبائح كان في نهيه عن المنكر داخلا
في زمرة المذمومين وحاصلا في حيز الملامين الذين قال الله في أمثالهم
[أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم] (2) فأي إمامة لمن كان مذموما
معاتبا يأمر بالمعروف ويتركه وينهى عن المنكر ويرتكبه وكيف يكون مثل هذا
القيم لله على عباده والصادع بدينه والذاب عن حريم الحق وهو يهتكه ويوهنه
بعصيانه، حاشى لله أن يكون مثل هذا خليفة الله في أرضه وحجته على خلقه
ودليله في عباده وأمينه في بلاده على حلاله وحرامه وحدوده وأحكامه وهو من
جملة العاصين ومن القوم المذنبين، وأي عاقل يتصور أن يكون العاصي أهلا
لخلافة الله ومستوجبا لنيل عهد الله ومستحقا للنيابة عن أنبياء الله؟ فإن هذه
الأوصاف الثابتة للإمام لا يجوزها العقل السليم إلا لمن كان معصوما ولم يكن
بشئ من الذنوب موصوما، على أنا لم نر خليفة لنبي فيما مضى إلا مطهرا من
الذنوب مبرئا من العيوب ونبينا سيد الأنبياء أفيجوز أن يكون خليفته من
العصاة والخائضين في الجهالات؟ إن في هذا لافتراء عظيما على رب الأرضين
والسماوات، فيجب أن يكون الإمام معصوما من مواقعة الخطيئات، وأنت ما



(1) أي من الأدلة على وجوب عصمة الإمام.
(2) البقرة: 44.
115
أظنك تشك في ذلك بعد الإحاطة بما بيناه والتأمل فيما قررناه.
احتج ابن أبي الحديد على عدم اشتراط العصمة في الإمام بقول أمير
المؤمنين في وصيته لابنه الحسن (عليهما السلام) أو محمد بن الحنفية (1) (أي
بني إنه لما رأيتني بلغت سنا ورأيتني أزداد وهنا بادرت بوصيتي إليك وأوردت
خصالا منها قبل أن يعجل بي أجلي دون أن أفضي إليك بما في نفسي وأن
أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي، أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى
وفتن الدنيا فتكون كالصعب النفور، وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما
ألقى فيها من شئ قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل
لبك) هذا آخر ما يمكن تعلقه به من الكلام قال: قوله (عليه السلام): " أو
أن أنقض في رأيي " هذا يدل على بطلان قول من قال: إنه لا يجوز أن ينقص
في رأيه وأن الإمام معصوم عن أمثال ذلك وكذلك قوله للحسن " أو يسبقني
إليك بعض غلبات الهوى وفتن الدنيا " يدل على أن الإمام لا يجب أن يعصم
من غلبات الهوى وفتن الدنيا (2) أقول ليس في هذا حجة ولا تحصل به
معارضة بل ينبغي أن يحمل في أمير المؤمنين وفي ابنه إن كان هو الحسن على



(1) روى ابن عبد ربه المالكي طرفا من هذه الوصية في موضعين تحت عنوانين في باب
مواعظ الآباء للأبناء من العقد الفريد في الثالث ص 155 وص 156 بتقديم وتأخير
وحذف واختصار كما هي عادته في نقل كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) ففي
العنوان الأول قال: " كتب علي بن أبي طالب إلى ولده الحسن " وذكر أول الوصية،
وفي العنوان الثاني قال: " وكتب إلى ولده محمد من الحنفية: تفقه في الدين - إلى
قوله - فإن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة " ولذا إن المؤلف جاء بكلمة " أو " ولكن
المشهور أن الوصية كانت للحسن (عليه السلام) كتبها أمير المؤمنين بحاضرين عند
انصرافه من صفين وقد استعرضت مداركها في " مصادر نهج البلاغة وأسانيده "
3 / 307 - 312.
(2) شرح نهج البلاغة 16 / 66.
116
أنه خرج مخرج ما جرت به العادة في البشر من حيث الجملة من تقلب
أحوالهم وتصرف الأمور بهم وحصول التغيير لهم في الأجسام والآراء وغلبة
النفس والهوى على عقولهم لا خصوص الموصي والموصى لأنه (عليه السلام)
هنا في مقام التأديب والموعظة وإرادة المبادرة بها وقصد تعجيلها إلى ابنه
ومقتضى الحال أن يذكر الداعي إلى ذلك والمسبب إليه في الواعظ والموعوظ
ولا شئ أنسب في ذلك مما ذكره ولا أدخل في المقام مما زبره، ولو أنه قال
أنا لا أخاف على رأيي نقصا ولا على جسمي وهنا ولا أتخوف عليك من
حدوث أمر يصدك عن الاقبال على حمل الموعظة ولا أحاذر عليك من عروض
عارض يمنعك من العمل بموجبها لم يكن لموعظته موقع ولم يبق لتعجيلها
والمبادرة بها سبب ولا داع فذكر ما ذكر ليحسن منه المسارعة إلى الوعظ ويحمد
منه التعجيل فيه إلى ابنه وليس الغرض بيان أنه يجوز حصول ما خافه على
نفسه وعلى ابنه لهما، وإذا كان للكلام فائدة أخرى لم يتعين حمله على أحد
الفائدتين إلا بقرينة ولا قرينة تعين حمله على ما قاله ابن أبي الحديد بل القرنية
تعين حمله على ما قلناه لقيام الأدلة التي سلفت على وجوب عصمة الإمام وما
قاله أمير المؤمنين (عليه السلام) في تلك الوصية قبيل هذا الكلام وهو قوله
(عليه السلام): (غير أني حيث تفرد بي دون هموم الناس هم نفسي فصدقني
رأيي وصرفني عن هواي وصرح لي محض أمري فأفضى إلى جد لا يكون فيه
لعب وصدق لا يشوبه كذب) (1) فإنه يدل على عصمته من تغيير ما
هو عليه من الرأي لقوله فأفضى إلى جد لا يكون فيه لعب الخ. فلما
حصلت المعارضة في كلامه وجب حمل أحدهما على ما لا يخالف الأدلة
الخارجية للتوفيق بين الكلامين ولا يكون ذلك إلا بما قلناه، على أنا نعلم
يقينا أنه ليس كلما يفرض الواعظ وقوعه من الموعوظ حتى يتوجه له النهي عنه
مما يجب أن يكون صدوره من الموعوظ جائزا عند الواعظ، ولا كلما يفرض



(1) نهج البلاغة برقم 31 كتب.
117
الواعظ صدوره من نفسه يعتقد جواز صدوره منه، فإنا سمعنا الله يقول لنبيه
(صلى الله عليها وآله وسلم) [يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين
والمنافقين] (1) وقال تعالى: [لا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما
مدحورا] (2) وقال تعالى: [قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم
أليم] (3) من المعلوم أن الله عز وجل يعلم أن نبيه محمدا (صلى الله عليه وآله
وسلم) لا يطيع الكافرين والمنافقين ولا يجعل معه إلها آخر ولا يعصيه فيعذبه
لأنه قد عصمه وسدده في القرآن من هذا كثير، وقال النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) (أنا سيد الأنبياء ولا فخر ولو عصيت لهويت) (4) وهو يعلم أنه
لا يعصي لعلمه بأن الله قد أيده وعصمه وهداه واجتباه، وأخبر عنه إنه لا
ينطق عن الهوى لكنه (صلى الله عليه وآله) ذكر ذلك في مقام الوعظ
والتحذير من العصيان كما وردت به الرواية فليكن كلام أمير المؤمنين جاريا
هذا المجرى بل الواجب حمله عليه، وكيف لا وأمير المؤمنين (عليه السلام)
قد علم من أخبار الله في آية التطهير وأخبار النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) في كثير من أقواله الصريحة الآتية إن شاء الله تعالى أنه لا يصيبه تغير
في رأي ولا زلل في قول، وقد أخبر (عليه السلام) بذلك عن نفسه بما
ذكرناه مرارا فقال (والله ما ظللت ولا ضل بي ولا زللت ولا زل بي وما زلت
على السبيل الواضح ألفظه لفظا) (5) إلى غير ذلك من أقواله المصرحة بأنه ليس



(1) الأحزاب الآية التي تلي البسملة.
(2) الاسراء: 39.
(3) الأنعام: 15.
(4) روى صدر الحديث المناوي في كنوز الحقائق ص 80.
(5) قال أبو مخنف: " قام رجل إلى علي (عليه السلام) يوم الجمل فقال: يا أمير
المؤمنين أي فتنة أعظم من هذه إن البدريين ليمشي بعضهم إلى بعض بالسيف؟!
فقال علي (عليه السلام): " ويحك أتكون فتنة أنا أميرها وقائدها! والذي بعث
محمدا بالحق وكرم وجهه ما كذبت الخ " وانظر شرح نهج البلاغة 1 / 265، وأما قوله
(عليه السلام): (ما زلت على الطريق الواضح) الخ فقد ورد مثله في زيارته
(عليه السلام) يوم الغدير: (وإني على الطريق الواضح ألفظه لفظا) نقل ذلك
الشهيد في مزاره كما ورد في مفاتيح الجنان للمحدث القمي ص 367 كما رواها ابن
أبي الحديد عنه أيضا في شرح نهج البلاغة 5 / 249 وأنه قالها يوم صفين.
118
بشاك في نفسه ولا متخوف عروض نقص في رأيه وقد ملئ بها نهج البلاغة
وغيره مما لا مجال إلى إنكاره ولا سبيل إلى دفعه.
والحاصل أن ما استدل به المعتزلي على مطلبه ليس بدليل بعد ما سمعت
فيه من الكلام ولا يعارض على ما فيه من الاجمال والاشتباه الأدلة الصريحة
الدالة على وجوب عصمة الإمام كما لا يخفى على ذي حجى، وأن الاستناد
إلى مثل هذه الأقوال المجملة القابلة للتأويل والمعارضة الأدلة الصراح بها
تشبث بما لا يجدي نفعا ولا يغني من الحق شيئا.
واعلم أنه كما يجب عصمة الإمام عن ارتكاب الآثام والخطأ في الأحكام
كذلك يجب عصمته عن الغلط والسهو والنسيان لأنه قدوة الأنام ومعتمد
أهل الإسلام، فلو جاز عليه ذلك لم يحصل الوثوق التام بقوله ولا تطمئن
النفوس في الاقتداء بفعله لتجويزها صدور الفعل منه إذ ذاك على جهة الغلط
أو السهو أو النسيان وذلك كما علمت مناف لمنصب الإمام ومناقض للغرض
من نصبه فوجب أن يكون معصوما مما ينافيه.
وأجاز الصدوق محمد بن علي بن بابويه وشيخه محمد بن الحسن بن
الوليد (1) وقوع السهو والنسيان من الإمام في غير تبليغ الأحكام لكنه من فعل
الله به لا من فعل الشيطان ولا من ضعف قوته الحافظة بناء على جواز صدور



(1) محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد نزيل قم من شيوخ القميين وثقاتهم قال فيه تلميذه
الصدوق رحمه الله: " كل ما لم يصححه ولم يحكم بصحته من الأخبار متروك " وفي
ج 17 من بحار الأنوار رسالة في استحالة السهو على النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) ردد نسبتها بين المفيد وتلميذه الشريف المرتضى.
119
السهو من الأنبياء على الوجه المذكور، حتى قال محمد بن الحسن أن أول
درجة في الغلو نفي السهو عن الأنبياء واستندا في إجازتهما ذلك إلى أخبار
وردت بنسيان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الصلاة وأنه سلم على
نقص ساهيا، وأن الله سبحانه وتعالى أنساه كخبر ذي اليدين (1) وما شابهه وهو
مستند ضعيف إذ مثل هذه الأخبار الآحاد لا يعارض بها الأدلة القطيعة من
العقل والنقل، بل السبيل فيها الرد أو الحمل على أنها خرجت مخرج التقية
لأن ذلك مذهب جميع مخالفينا فيجب إرجاعها إلى قولهم، لا سيما وقد وردت
أخبار أخر بإزائها تنفي ما اشتملت عليه وتنقض ما تضمنته، ومنها الخبر
الذي ورد عن الرضا (عليه السلام) في صفات الإمام (2) فيتعين فيها ما
ذكرناه " وأقل الأمور تساقط الأخبار من الطرفين والرجوع إلى الأدلة الثابتة
والأخذ بها وهي تثبت عصمة الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) من جميع ما
ينفر منه الطبع ويحصل منه عدم الوثوق والاطمئنان بهم في القول والفعل
فيثبت المطلوب على أن اتفاق الإمامية على ذلك حاصل أو هو الحجة،
وخلاف الشيخين المذكورين غير قادح فيه لمعلومية نسبهما ومن ذلك يعلم أن
نسبة السهو إلى الأنبياء تقصير ونفيه عنهم حق وصواب والله الهادي.
وقد تبين مما حررناه وجوب كون الإمام منزها عن الخصال الدنية



(1) ذو اليدين ويقال له ذو الشمالين أيضا هو عمير أو عمرو بن عبد عمرو صحابي
استشهد يوم بدر والرواية عن أبي هريرة قال: صلى بنا رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) الظهر أو العصر فسلم في ركعتين فقال له ذو الشمالين بن عبد عمرو
وكان حليفا لبني زهرة: أنسيت أم قصرت الصلاة! فقال له رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم): (لم أنس ولم تقصر أكما يقول ذو اليدين!) فقالوا: نعم فتقدم
فصلى ما ترك ثم سلم.. الخ روى ذلك جماعة من المحدثين منهم البخاري في كتاب
الصلاة 1 / 123.
(2) ستأتي صفة الرضا (عليه السلام) للإمام في آخر الكتاب.
120
والآفات الردية والخلائق الغير المرضية، كالبخل والجبن والغلظة والفظاظة
والبرص والجذام والعنن وغيرها من الأمراض المنفرة والمسقطة لمحل الإمام من
القلوب كل ذلك لمنافاتها منصبه واحتمال وقوعه في المعصية لو كان بخيلا أو
جبانا باستئثاره بمال أو منعه حقا أو فراره من زحف، ويكون أيضا منزها عن
الطعن في نسبه وقد ذكر في أخبارنا وذكره أيضا بعض أصحابنا أنه يشترط في
الإمام أن يكون مسلما لا عن كفر استناد إلى آية الخليل، وقد علمت أن
اشتراطنا العصمة في جميع العمر يكفي عنه لدخوله فيه وقد قال النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم): (من عبد صنما ووثنا لا يكون إماما).
المسألة الثانية (1):
يجب أن يكون الإمام أفضل أهل زمانه ولنذكر أولا معنى الفضل فنقول
الفضل على معنيين أحدهما كثرة الثواب فيقال: زيد مثلا أفضل من عمرو أي
أكثر ثوابا منه، والثاني الجمع للخصال الحميدة من العلم والحلم والعبادة
والسخاوة والشجاعة وغير ذلك كما يقال فلان أفضل من فلان أي أجمع منه
لخصال الخير وأرجح منه فيها، ومن المعنى الأول قوله تعالى: [وفضل الله
المجاهدين على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على
القاعدين أجرا عظيما] (2) أي جعل له ثوابا زائدا على القاعدين، ومنه ما
ورد في الحديث (ركعتان يصليهما متزوج أفضل من سبعين ركعة يصليها
اعزب) (3) وما ورد (أن العالم أفضل من سبعين عابدا) (4) وما أشبه ذلك ومن
المعنى الثاني قوله تعالى: [ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر
ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير مما خلقنا تفضيلا) (5) يريد أنه



(1) ينظر في هذه الرواية وأمثالها كتاب تحفة العالم.
(2) أي من مسائل شروط الإمام.
(3) النساء: 95.
(4) الوسائل 14 / 6 كتاب النكاح ب 2 ح 1.
(5) الاسراء: 70.
121
جمع لهم خصالا زائدة على خصال كثير من خلقه وليس يريد الثواب لدخول
الكفار في الآية والكافر لا ثواب له يقينا، وقوله تعالى: [ونفضل بعضها
على بعض في الأكل] (1) وقوله تعالى: [تلك الرسل فضلنا بعضهم على
بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم فوق بعض درجات وآتينا عيسى بن
مريم البينات وأيدناه بروح القدس] (2) يحتمل المعنيين وهو في لفظ التفضيل
والايتاء أقرب إلى الثاني كما أن لفظ ورفع إلى درجات يختص بالأول وقوله
تعالى: [ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا] (3) يحتمل
الوجهين أيضا، إذا تبينت ذلك فاعلم أن أصحابنا الإمامية قد اتفقوا على
أنه يشترط في الإمام أن يكون أفضل أهل زمانه من رعيته بالمعنيين جميعا وهذا
القول هو المعتمد ولنا على صحته وجهان من الدليل أحدهما خاص والثاني
عام.
فالأول: في المعنى الأول أن الإمام متحمل أعباء الخلافة وقائم بإرشاد
الأمة ومقيم للوظائف الشرعية مجرد نفسه لسياسة الرعية وحماية حوزة الدين
ولم شعث المسلمين مكاشف للأباعد والأقارب في إمضاء الأحكام وإقامة
الحدود على جميع أهل الإسلام فكان تكليفه أشق من غيره فوجب أن يكون
ثوابه أكثر لأن كثرة المشقة في التكليف توجب الأكثرية في الثواب، ولأن
الإمام متبوع ومن سواه من الرعية تابع له ومقتد به والمتبوع يجب أن يكون
أكثر ثوابا من التابع كما يرشد إليه حديث (من سن سنة كان له أجرها وأجر
العامل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينتقص من أجورهم شئ) (4) ولذا



(1) الرعد: 4.
(2) البقرة: 253.
(3) الاسراء: 55.
(4) صحيح مسلم 8 / 61 وفي الدر المنثور /: (من سن خيرا كان له أجره ومن أجور
من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا.. الحديث).
122
كان صلحاء الصحابة أفضل من صلحاء من بعدهم لأنهم السابقون إلى
الدين ومتبوعون فيه وغيرهم تابع لهم.
وفي المعنى الثاني: أما اشتراط كون الإمام أعلم من كل رعيته فلأنه
مقتدى الأمة فلو كان فيهم من هو أعلم منه لوجب عليه الاقتداء بذلك الغير
فخرج الإمام عن كونه مقتدى الأمة فلم يكن إماما، ولأنه الذي ترد إليه
الأمة الأمر عند التنازع فيرفع عنهم الاختلاف بيانه كما دلت عليه آية:
[ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه
منهم] (1) على ما مر من توضيحها، وإذا كان في المختلفين من هو أعلم منه لم
يرتفع الخلاف ببيانه بل احتاج هو إلى بيان ذلك الأعلم فلم يحصل بالرد إليه
الغرض من رفع الاختلاف وإزالة الشبه وذلك خلاف المراد من الرد فوجب
أن يكون هو الأعلم وأن علمه لا يتغير ولا يختلف كما مر عليك بيانه في
المقدمة وبعضه في المسألة الأولى.
وأما اشتراط كونه أسخى فلأنه ولي أموال المسلمين وخازنها فإذا لم يكن
سخيا تاقت نفسه إلى جمع المال وادخاره فساءت حاله عند أصحابه وسقطت
من القلوب منزلته، إذ من المعلوم أن السخي الباذل تكون له جلالة عظيمة
في النفوس وقبول عند الناس ومحبة أكيدة وموقع في القلوب، والإمام أولى
بذلك كله من غيره وأحوج إلى أن تقع جلالته في النفوس فيحصل المسارعة
إلى إنفاذ أوامره ونواهيه، ويكون مرجوا سيبه (2) ممدودة إليه أعناق الرجال،
وهكذا يجب أن يكون الإمام، وأن البخيل الشحيح لا جلالة له في النفوس
ولا تعظيم ولا محبة ولا قبول، بل يكون ثقيلا على القلوب محقرا عند العباد،
والإمام يجب أن يكون منزها عن ذلك لأنه ينافي ما يجب من ولايته، ولأجل



(1) النساء: 83.
(2) السيب: الماء الجاري، والمراد به هنا التقع.
123
ما ذكرنا يجب أن يكون الإمام أزهد أهل زمانه وأورعهم وأتقاهم وأكثرهم
على المندوبات مواظبة وللمكروهات الشرعية اجتنابا ليكون أعبد الناس
وأبعدهم عن همز هامز ولمز لامز.
وأما اشتراط كونه أحلم الناس فللعلة التي ذكرها الله تعالى في كتابه لنبيه
(صلى الله عليه وآله وسلم) [ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من
حولك] (1) وإذا كانت الغلظة في النبي (صلى الله عليه وآله) وهو صاحب
الشريعة موجبة لانفضاض الناس عنه فهم إلى الانفضاض عن الإمام بها
أقرب، ولأنه لو كان في الرعية من هو أحلم من الإمام لكان عند الناس
أكمل وكانت القلوب إليه أميل والإمام أحق بهذه المرتبة فوجب أن يكون
أحلم من رعيته ليعظم قدره في النفوس وتأتلف له القلوب، ومن هنا يجب
أن يكون خاليا من العجلة والطيش والتضجر والتبرم في مقام الحكم والفتوى
وقسمة الفئ والأموال، متأنيا في الأمر وفيما يرد عليه من الوقائع والحوادث
ومحاورة الخصوم لأنه الحاكم بين المسلمين والقاسم لفيئهم وأموالهم من
الصدقات والغنائم وغير ذلك من الحقوق وليتمكن سائله من طلب التفهم
والخصم عنده من بيان حجته والشاهد من أن يتتعتع في شهادته إلى غير ذلك
من المصالح التي يتوقف عليها حصول ميزان العدل والانصاف الذي يقوم به
الإمام.
وأما اشتراط كونه أشجع فلأن الإمام الفئة التي يرجع إليها المسلمون في
القتال فإذا لم يكن أثبت منهم قلبا وأمضى منهم في جهاد العدو فإذا ما حاد كما
يحيدون (2) وفر كما يفرون فلأي فئة حينئذ يرجعون، ومن هذا يشترط أن
يكون الإمام أقوى أهل زمانه في أمر الله تعالى لأنه المتولي لإنفاذ الأحكام



(1) آل عمران: 159.
(2) حاد: انحرف.
124
وإقامة الحدود وأخذ القصاص وتجهيز الجيوش وسد الثغور، وإذا لم يكن
أقوى الأمة في ذلك قصر عما لا يقصر عنه غيره وذهب بقصوره جملة من
مصالح نصبه، ومن ذلك يجب أن يكون أسد الناس رأيا وأحسنهم للأمور
تدبيرا فيما لا يخالف الشرع، وأصبرهم على احتمال المكاره وتحمل الشدائد
في جنب الله ليكون القدوة للرعية في الصبر والاحتمال، وقد أشار إلى ذلك
كله أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة له قال فيها (أيها الناس إن أحق
الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه) (1) وقال في أخرى: (إن
أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به) قال المعتزلي الرواية أعلمهم
والصحيح أعملهم (2) أقول ولا مناقشة معه في ذلك لأن الكلام على كلا
الوجهين دال على قولنا بأوضح دلالة وقال (عليه السلام): (إن العجلة
والطيش لا تقوم بهما حجج الله وبيناته) إلى غير ذلك من أقواله.
والثاني (3) من وجوه
الأول العقل وبيانه أن تقديم المفضول على الأفضل قبيح عقلا، وتقديم
المساوي ترجيح بدون مرجح، وهو أيضا قبيح فإنا نقطع بذم العقلاء رجلا
أراد سلوك طريق لحاجته إليه وقد أخبره رجل ثقة عالم بتلك الطريق مجرب لها
مطلع على أخبارها بأنها طريق حزنة (4) لا يمكن السلوك فيها إلا بشدة المشقة
فترك سلوكها وفوت نفسه الحاجة ترجيحا لقول هذا الجاهل غير الثقة على



(1) نهج البلاغة من الخطبة 170.
(2) شرح نهج البلاغة 18 / 252 وانظر مصادر نهج البلاغة وأسانيده 4 / 90.
(3) أي الثاني وهو العام من وجهي الدليل على وجوب أفضلية الإمام فهو من وجوه الأول
الخ.
(4) الحزن - بفتح فسكون -: ما غلظ من الأرض، يقال: في الطريق حزونة أي ضد
السهولة.
125
قول ذلك العالم الثقة المجرب، ونجزم بتوجه العقل إلى تجهيله في ذلك ولومه
وعذله على ترجيحه خبر ذلك الجاهل على خبر ذلك المطلع الثقة وتفويته
حاجته لذلك، وهذا أمر وجداني لا شك فيه، وما ذاك إلا لما ارتكز في
العقول السليمة من قبح تقديم المفضول على الأفضل ولزوم العكس، وأيضا
إن المقطوع به من سيرة الناس في الأعصار والأمصار من المسلمين والكفار
استقباح تقديم أهل الغباوة والحمق في جميع الأمور التي لها شأن وخطر على
ذوي الفطنة والذكاء، وتقديم المتهورين على ذوي الآراء السديدة في المشورة
وإجالة الرأي في عقد أو حل، وتقديم من ليس كاملا ومتقنا في الصناعات
والحرف على أولى الكمال والاتقان فيها، وما ذاك إلا لاستقباح العقول تأخير
الأفضل وتقديم المفضول، فيثبت ذلك في الشرع إذ لا تخالف بين العقل
والشرع في المعلومات والمعتزلة يسلمون ذلك فيثبت المطلوب.
الثاني النقل من الكتاب والسنة فمن الكتاب قوله تعالى [وكونوا
مع الصادقين] (1) فأوجب الكون مع الصادق، ولا يتم إلا بترك الكون مع غير
الصادق مع فرض اختلافهما فتكون الآية نصا في وجوب تقديم الأفضل على
المفضول، وقوله تعالى [أفمن يهدي للحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا
أن يهدى فما لكم كيف تحكمون] (2) وهذه الآية صريحة في أن الهادي إلى
الحق بعلمه أحق بالاتباع ممن يحتاج في الاهتداء إلى من يهديه والأحق بالشئ
من ليس لغيره فيه حق معه فالآية ناصة كالأولى على وجوب اتباع الأفضل
وترك المفضول، وحاثة على ذلك بأشد ما يكون من الحث، ومهددة على
المخالفة كما هو صريح قوله تعالى [فما لكم كيف تحكمون] فثبت من
صريحها وجوب تقديم الأفضل على المفضول على أن ابن أبي الحديد قد



(1) التوبة 119.
(2) يونس: 35.
126
استدل بها على تحريم القول بأفضلية غير علي (عليه السلام) وسماه منكرا،
وحكم أن الآية ناهية عنه، وإذا استدل بها على تحريم تفضيل غير علي (عليه
السلام) عليه لفضله الظاهر وجب أن يحرم اتباع غيره لذلك لأنها في النهي
عن اتباع المفضول وترك الأفضل نص، وفيما ذكره باللزوم وقوله عز من قائل
[هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا
الألباب] (1) فبين عز وجل أنه لا تجوز التسوية بين العالم وبين غير العالم فمن
قدم غير العالم على العالم واقتدى به وترك العالم فقد رجح غير العالم على
العالم، وإذا كانت التسوية بينهما غير جائزة بصريح الآية فكيف يجوز تقويم
المرجوح منهما على الراجح؟ فالآية ظاهرة ظهورا بينا في لزوم تقديم الأفضل
على المفضول، وغير ذلك من الآيات التي يطلع عليها من طلب علم القرآن
وتأمل دلالاته.
ومن السنة كثير فمنها ما رواه ابن أبي الحديد عن أحمد بن حنبل في كتاب الفضائل
قال خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله) الناس يوم الجمعة فقال:
(قدموا قريشا ولا تقدموها وتعلموا منها ولا تعلموها، قوة رجل من قريش
تعدل قوة رجلين من غيرهم، وأمانة رجل من قريش تعدل أمانة رجلين من
غيرهم، أيها الناس أوصيكم بحب ذي قرباها أخي وابن عمي علي بن أبي
طالب (عليه السلام) (2) الخبر وهو صريح في وجوب تقديم قريش لفضلها
على الناس، وتقديم علي لفضله عليها فدل على ما قلناه ومما يرشد إلى ذلك
مما لا ينكر من فعل النبي (صلى الله عليه وآله) أنه لم يؤمر على علي
(عليه السلام) أحدا من الصحابة وأمر على من سواه الأمراء وأمره هو على
كل من كان من الصحابة في مواضع كثيرة وما ذاك إلا لأن عليا (عليه



(1) الزمر: 9.
(2) شرح نهج البلاغة 9 / 172. وكنز العمال للمتقي الهندي 7 / 140.
127
السلام) أفضل الصحابة وأنه لا يجوز تقديم المفضول على الأفضل وهذا
الوجه بعينه استدل به أبو سعيد الحسن البصري (1) على أفضلية علي (عليه
السلام) على جميع الصحابة وقد رواه عنه ابن أبي الحديد وصححه عنه (2)
ومنه يستفاد وجوب تقديم الأفضل، ولولا ذلك لأمر رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) على علي (عليه السلام) من الصحابة في وقت من
الأوقات، بل لو كان ذلك جائزا لوجب على النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) أن يفعله وقتا ما ليبين للناس الجواز، فإن قيل: إنما لم يأمر النبي
(صلى الله عليه وآله) على علي (عليه السلام) غيره لأنه أشجع من
غيره وأعرف بقيادة الجيوش، قلنا: فهذا اعتراف منك بأن الأفضل مقدم على
المفضول، وهو عين مدعانا لأنا ندعي أنه لا يجوز تقديم أحد في أمر على من
هو أفضل منه فيه، وأنت باعتراضك اعترفت لنا بما ندعي.
ومنها ما صح روايته عند الخصوم واشتهر بينهم أنه لما طعن الصحابة على
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تأميرة أسامة بن زيد (3) على جلة



(1) أبو سعيد الحسن بن يسار مولى زيد بن ثابت الأنصاري وأمه خيرة مولاة أم سلمة
زوجة النبي (صلى الله عليه وآله) وكان يتهم بالانحراف عن علي (عليه
السلام) حتى عده ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 4 / 95 من المبغضين لعلي
(عليه السلام) وقال ابن حجر في تقريب التهذيب 1 / 165 كان يرسل كثيرا
ويدلس وكان يروي عن جماعة لم يسمع منهم ويقول: حدثنا وكذلك قال عنه في
تهذيب التهذيب 1 / 270 ومع ذلك فقد وثقه مات سنة 110.
(2) شرح نهج البلاغة 3 / 95.
(3) أسامة بن زيد بن حارثة مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمة أم أيمن
أمره رسول الله (صلى الله عليه وآله) على البعث الذي أراد تنفيذه قبيل وفاته
وله من العمر ثماني عشرة سنة، امتنع من البيعة لعلي (عليه السلام) ولم يشهد معه
مشاهده توفي بالمدينة أواخر أيام معاوية على اختلاف في سنة وفاته.
128
المهاجرين والأنصار وقالوا يؤمر هذا الغلام الحدث على جلة المهاجرين
والأنصار قام خطيبا فقال فيما أجابهم به: (لأن طعنتم على في تأميري أسامة
فقد طعنتم في تأميري أباه من قبله وأيم الله إنه كان لخليقا بالإمارة وابنه من
بعده لخليق بها وإنهما لمن أحب الناس إلي) إلى قوله (فإنه من خياركم (1) فما
نرى الصحابة رجعوا في إنكارهم إلا إلى قبح تقديم المفضول على الأفضل
لزعمهم أن في القوم الذي أمر عليهم أسامة من هو أفضل منه وما نرى النبي
(صلى الله عليه وآله) أجاب عن إنكارهم إلا بأن أسامة خليق بالإمارة
لأنه من خيارهم ولم يجبهم بأنه لا بأس بتقديمه لأن المفضول يجوز تقديمه على
الأفضل ومن هذا الخبر يعلم أن الصحابة لا يجوزون تقديم المفضول على
الأفضل وإن غلطوا في التفضيل وأنهم إن قدموا المفضول فهو خلاف مذهبهم
أو لتوهمهم أفضليته غلطا.
ومنها ما رووه وصححوه من قول النبي (صلى الله عليه وآله) لأبي
الدرداء (2) حين كان يمشي أمام أبي بكر (أتمشي أمام من هو خير منك!)
وهذه الرواية (3) وإن لم تكن عندنا بشئ لكنا نحتج بها على مخالفينا من باب
إلزام الخصم بما ألزم به نفسه وهي صريحة تمام الصراحة في قبح تقدم
المفضول على الأفضل في المشي فما ظنك في تقدمه عليه في الإمامة والأمر
والنهي والحكم والصلاة وغير ذلك من المناصب الشرعية، وهل تجويز ذلك
إلا مخالفة لما صح عندهم عن الرسول (صلى الله عليه وآله) على
عمد.



(1) انظر شرح نهج البلاغة 1 / 158.
(2) أبو الدرداء عامر بن زيد الأنصاري صحابي معروف ولي القضاء بدمشق لعثمان وتوفي
بعد صفين على الأصح سنة 8 أو 39.
(3) نور الأبصار للشبلنجي ص 54 وفيه (خير منك في الدنيا والآخرة).
129
ومنها ما استفاض من طرقنا عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه
قال (من أم قوما وفيهم من هو أفضل منه لم يزل أمرهم في سفال إلى يوم
القيامة) (1) وفي رواية أخرى (من تقدم قوما وفيهم من هو أعلم منه كبه الله
على منخريه في النار) وهما صريحتان في المدعي وليس للخصوم أن يقدحوا
فيهما بعد ما رووا عن النبي (صلى الله عليه وآله) ما يوافق مضمونهما مما
مر ذكره وغيره، وما يفهم من مذهب الصحابة مما مضى بيانه ويأتي عن
قريب وقد تبين من جملة ما حررناه وجوب أفضلية الإمام على رعيته، وأنه لا
يجوز أن يكون في رعية الإمام من هو أفضل منه بوجه من الوجوه، وخالفنا
في ذلك أكثر العامة من الأشاعرة وغيرهم فجوزوا إمامة المفضول، وبالغ في
ذلك المعتزلة غاية المبالغة فصححوا إمامة الخلفاء الثلاثة مع ذهاب المعظم من
محققيهم كمعتزلة بغداد قاطبة وجماعة كثيرة من معتزلة البصرة إلى تفضيل علي
(عليه السلام) على جميع الصحابة بالمعنيين من التفضيل وصرح عز الدين
عبد الحميد بن أبي الحديد المدائني وهو من أعاظم المعتزلة في شرح نهج البلاغة
تمام التصريح (2) به قال وهو يخبر عن الله بزعمه: وقدم المفضول على الأفضل
لمصلحة اقتضاها التكليف (3) والمقصود من هذه العبارة أن الله أوجب الاقتداء
بالمفضول واتباعه وترك اتباع الأفضل للمصلحة المذكورة وفي كتابه عنه ونقلا
عن أصحابه مثل هذا كثير.
أقول وهذه الدعوى مع ما فيها من الافتراء على الله قد كذبتها مضافا



(1) نقله المجلسي في البحار ج 88 ص 88 عن الصدوق في ثواب الأعمال وعلل
الشرائع والمحاسن للبرقي والسرائر لابن إدريس بلفظ " إلى سفال " بدل " في
سفال ".
(2) شرح نهج البلاغة: 1 / 9.
(3) نفس المصدر: 1 / 1.
130
إلى ما مضى من الأدلة سيرة أئمة المعتزلي وما صح نقله عنده من طريقهم
وذلك من وجوه.
الأول إن أبا بكر لما قال لأصحاب السقيفة " هذان عمر وأبو عبيدة
فبايعوا أحدهما " قال له عمر " كيف أتقدم عليك وأنت أقدم مني إسلاما وأنت
صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وثاني اثنين في الغار،
وقدمك رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الصلاة رضيك رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) لديننا أفلا نرضاك لدنيانا "؟ وقال للناس
" أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) في الصلاة " (1) فنرى عمر لم يجوز لنفسه ولا لغيره التقدم على أبي بكر
لأفضلية أبي بكر عليه وعلى غيره في الخصال التي ذكرها بزعمه لا لشئ آخر
وما نراه قال لأبي بكر نعم أنا أفضل منك أوهنا من هو أفضل منك، ولكن
المصلحة التي اقتضاها التكليف تقديمك على من هو أفضل منك كما ادعاه
المعتزلي.
الثاني: إن أبا بكر لما استخلف عمر قال له طلحة: " ماذا أنت قائل لربك
إذا قدمت عليه وقد وليت علينا فظا غليظا " فغضب أبو بكر وقال لطلحة
" أبالله تخوفني إذا لقيت ربي فسألني قلت خلفت عليهم خير أهلك " فقال
طلحة " أعمر خير الناس يا خليفة رسول الله " فاشتد غضبه فقال " أي والله
هو خيرهم وأنت شرهم " (2) فما نرى أبا بكر احتج على تقديمه عمر على
الناس إلا لأفضليته عليهم عنده، وما نرى طلحة أنكر على أبي بكر تقديمه
عمر إلا لمفضوليته عنده وكونه على صفة لا يصلح صاحبها للإمامة، وهي
كونه فظا غليظا كما صرح به، وما أجاب أبو بكر طلحة عن ذلك ولا اعتذر



(1) نفس المصدر: 6 / 39.
(2) المصدر السابق: 1 / 165.
131
له بما قال المعتزلة بأن عمر ليس أفضل عندي منكم ولكن جاز تقديمه عليكم
لمصلحة اقتضاها التكليف بل أجابه بأنه خيرهم كما سمعت.
الثالث أن عمرو بن العاص لما كلم عمر وطلب منه أن يكلم أبا بكر أن يجعله
أميرا على جيوش المسلمين بالشام ويعزل أبا عبيدة ويجعله تحت أمره أجابه
عمر بأن أبا عبيدة عندنا خير منك وقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) يقول: أبو عبيدة أمين هذه الأمة) فامتنع أبو بكر وعمر من
تقديم ابن العاص على أبي عبيدة لأفضلية أبي عبيده عليه (1) عندهما كما ترى
لا لما ذكره المعتزلي وقبيله إلى غير ذلك مما رووه من أقوال أئمتهم وأفعالهم مما
هو مماثل في المعنى لما ذكرناه وكل ذلك رواه ابن أبي الحديد وصححه وهو
صريح في مخالفة قوله ومناقضة دعواه، فاتضح منه أن المعتزلة والأشاعرة
وغيرهم قد خالفوا أئمتهم وتركوا قول من جعلوا دعواهم وسيلة لتقديمهم
وكفى بقولهم بطلانا مخالفته لحكم من يقتدون به والذي يمكن تمسك المعتزلة به
في قولهم ذلك وجهان يظهران من مطاوي كلام ابن أبي الحديد.
الأول إن النبي (صلى الله عليه وآله) أمر على أبي بكر وعمر
وعثمان أبا عبيدة بن الجراح مرة وأمر عليهم عمرو بن العاص تارة وخالد بن
الوليد أخرى وأسامة بن زيد رابعة (2) وأبو بكر وعمر وعثمان أفضل من
هؤلاء المؤمرين عليهم بالإجماع فيعلم من ذلك جواز تقديم المفضول على
الأفضل، والجواب أنه إن أراد إجماع الصحابة فقد عرفت أنه قائم على قبح



(1) انظر فتوح الشام للواقدي 1 / 8.
(2) إمرة أبي عبيدة حين أرسله مددا لعمرو بن العاص في سرية ذات السلاسل (سيرة ابن
هشام 4 / 200) وإمرة عمرو بن العاص في سرية ذات السلاسل (شرح نهج البلاغة
6 / 24) وسيرة ابن هشام 4 / 201 ولم أعثر على إمرة خالد عليهم وأما أسامة ففي
بعث أسامة المشهور.
132
تقديم المفضول على الأفضل ولذا أنكروا على النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) تأمير أسامة بن زيد زعما منهم أن أسامة مفضول بالنسبة إلى المؤمر
عليهم ولم ينكروا تأمير أبي عبيدة وعمرو وخالد على أبي بكر وعمر وعثمان
فدل ذلك من فعلهم وقولهم على أنهم لا يرون لهم فضلا على الأمراء
المذكورين في ذلك الزمان وإن قال به البعض بعد ما صار الثلاثة خلفاء فهو
قول متجدد، وقد فضل الأنصار سعد بن عبادة على أبي بكر وقدموه عليه
لولا ما رواه عمر من قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (الأئمة من
قريش) وادعاء أبي بكر وصاحبيه القرابة من النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) وميل بعض الأنصار لقريش حسدا لسعد وطعن سعد المذكور على
أبي بكر وعمر بالمعصية في قوله: لو اجتمع الثقلان ما بايعتكما أيها الغاصبان،
وطعن الحباب بن المنذر على عمر بالجهل وطعن طلحة عليه بالفظاظة
والغلظة وأنكر على أبي بكر قوله فيه " إنه خير الناس "، وكل ذلك محقق عندهم
فأين الإجماع من الصحابة على فضلهم فضلا عن أفضليتهم؟ على
إن هذا الإجماع المدعي لو تحقق منهم لكان مناقضا لقول النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) في حديث تأمير أسامة وإذا كان الإجماع مناقضا لقول النبي
(صلى الله عليه وآله) كان باطلا والحق أن أفضلية الثلاثة لم تكن
معروفة في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين الصحابة وأنها بعده
من المختلف فيه بينهم وإن أراد إجماع الأشاعرة فهو لا يرضى به فإنهم وإن لم
يستقبحوا تقديم المفضول على الأفضل بناء على أصلهم من نفي الحسن
والقبح العقليين لكنهم يفضلون الثلاثة على علي (عليه السلام) في معنى كثرة
الثواب، وهو يبطل ذلك كله وإن أراد إجماع أصحابه المعتزلة فهو معارض
بإجماع الشيعة على تفضيل أسامة على أبي بكر وعمر وعثمان وأن الباقين
أحسن حالا منهم لا سيما في كثرة الجهاد، والشيعة أكثر من المعتزلة فيحتاج
في ترجيح أحد الإجماعين على الآخر إلى مرجح من الأدلة فإن احتج بالسبق

133
إلى الإسلام أجيب بأن السبق على أبي عبيدة ممنوع في عمر فإن أبا عبيدة
أسلم قبله وعثمان أيضا غير متحقق إسلامه قبل أبي عبيدة وخاصية السبق
على أسامة منتفية لتولده في دعوة الإسلام وعدم سبق الكفر منه، ثم إن
السبق إلى الإسلام لا يصلح بنفسه خاصة أن يكون موجبا للأفضلية إذا
عارضه ما هو مثله أو أقوى منه من الصفات الموجبة للتفضيل ما لم ينضم إليه
المساواة في باقي الصفات الحميدة ليكون للسابق الزيادة على الآخر المساوي
في الصفات بالسبق فيفضله به وذلك بأن نفرض شخصين تساويا في الخصال
المحمودة لكن أحدهما أسبق في الإسلام من صاحبه فالسابق أفضل بالسبق
من اللاحق أما إذا كان اللاحق قد أدرك من صفات الخير مثل العلم
والسخاوة وكثرة الجهاد وغير ذلك مما يقابل السبق ويربو عليه ولم يكن للسابق
من ذلك شئ أو لم يكن فيه توغل كاللاحق لم يكن السابق أفضل من
المسبوق، وآية [لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل] (1) الآية
ظاهرة في المعنى الأول بل لا تحتمل غيره وقوله تعالى [إن الله لا يضيع عمل
عامل منكم من ذكر وأنثى] (2) شاهد للمعنى الثاني فغير ممتنع أن يكون لعمرو
بن العاص وخالد بن الوليد بعد دخولهما في الإسلام خصائص تقابل سبق
الثلاثة وتربو عليه وبذلك قدمهما رسول الله (صلى الله عليه وآله)
عليهم، هذا كله إذا أريد من الأفضلية كثرة الثواب، وأما إذا أريد الجمع
للخصال الحميدة كان استحقاق عمرو وخالد التقدم في الإمارة على الثلاثة
أوضح من أن يوضح لحصول الشجاعة والثبات في الجهاد فيهما دونهم، ولو
احتج بالأحاديث المروية في فضل الثلاثة أجيب بوجهين:
الأول إنها مفتعلة موضوعة كما دل عليه احتجاج أبي بكر وعمر على



(1) الحديد: 10.
(2) آل عمران: 195.
134
المنازعين لهما في أمور كثيرة قد مر بعضها لخلوه عن ذكر شئ منها مع
احتياجهم إليها لأن حديثا منها أوضح من جميع ما احتجوا به على مطالبهم مما
لا يغني شيئا ولا يجدي نفعا، ولم لا احتج أبو بكر أو احتج عمر له على
الأنصار بما يروي بعد من قول النبي (صلى الله عليه وآله): (لا ينبغي
لقوم فيهم أبو بكر أن يتقدم عليه غيره) واحتج أبو بكر على طلحة في تفضيل
عمر الذي ادعاه بقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (ضرب الحق على
لسان عمر (1) لو كان شئ من ذلك موجودا فعدم تعرضهم لها مع الحاجة
إليها وارتفاع المانع من ذكرها دليل على عدم وجودها عندهم وإذا لم تكن
موجودة عندهم كانت لا محالة موضوعة، والأمر في عثمان أوضح لأن حاجته
كانت إلى الحجة الصحيحة أشد، وتلك الأخبار في حقه لو كانت موجودة
لكان الاحتجاج بها أنفع له مما ذكره من كل غث وسمين مما لم يدفع عنه حجة
خصومه، على إن بعض العامة طعن فيها بالوضع لما ذكرناه، وطعن الشيعة
فيها لذا وغيره معلوم مشهور فتكون باطلة لا تقوم بها حجة وسيأتي لهذا
زيادة توضيح في موضع هو أملك به من هذا الموضع.



(1) قيل في رد هذا الحديث: إن صح فيقتضي عصمته ولم يذع ذلك عمر (رضي الله
عنه) ولا ادعاه لواحد وقد شهد هو على نفسه بالخطأ ورجع عن بعض الأحكام
واعترف بذلك في أكثر من موطن كقوله: (لولا علي لهلك عمر) قال ذلك في أكثر
من موطن انظر السنن الكبرى للبيهقي 7 / 442 تفسير الرازي 7 / 487 الدر المنثور
1 / 288 الرياض النضرة 2 / 194 الخ. وقوله (لولا معاذ لهلك عمر) (سنن
البيهقي 7 / 443 الإصابة 3 / 427 فتح الباري 12 / 120 و (كل الناس أفقه من
عمر) تفسير القرطبي 5 / 99 تفسير النيسابور 1 / الأربعين للرازي ص 467
نور الأبصار للشبلنجي ص 79 الدر المنثور للسيوطي 2 / 133 قيل ولم نر عمر
(رضي الله عنه) احتج لنفسه بهذا الحديث في المواطن التي احتاج إلى الحجاج فيها.
135
الثاني (1) إنها معارضة بما روي من مدح المأمرين المذكورين وقد رواه
من روى مدح الثلاثة من المحدثين مثل (أبي عبيدة أمين هذه الأمة) و
(عمرو بن العاص أحب الناس إلي) و (خالد سيف الله) والتأمير يكون
قرينة الترجيح فإن رد الجميع بالوضع فلا احتجاج بالكل فتأمل الوجه
الثاني (2) إن علي بن أبي طالب (عليه السلام) رضي بتقديم أبي بكر وعمر
وعثمان عليه في الخلافة وهو عند نفسه أفضل منهم وعندنا كذلك، ولو لم يجز
تقديم المفضول على الأفضل عنده لما رضي بتقدمهم عليه، وهذه الحجة مع
إنها معتمدهم واهية جدا والجواب عنها يمنع المقدمة الأولى فإن عدم رضى
أمير المؤمنين بتقدم أبي بكر عليه أظهر من الشمس الضاحية، وقد روى هذا
المحتج فيما صح عنده من الروايات امتناع علي (عليه السلام) عن بيعة أبي
بكر مع جملة من أصحابه وهم خيار الصحابة وصلحاؤهم، وتألمه من تقدم
أبي بكر عليه حتى أخرج إلى البيعة بالقهر والغلبة على أوعر وجه وأشد هوان
هو ومن معه وروى أيضا أن عليا استنصر الناس على أبي بكر، كان يركب
فاطمة على حمار ويأخذ معه الحسن والحسين ويمضي إلى دور المهاجرين
والأنصار يطلب منهم النصرة على أبي بكر وتطلب فاطمة (عليها السلام)
منهم له الانتصار على أبي بكر فلم يجبه إلا أربعة أو خمسة (3) وقد عيره معاوية
بذلك في مراسلاته وبأنه قيد إلى البيعة كما يقاد البعير المخشوش (4) فما أنكر
شيئا من ذلك بل كان من جوابه لمعاوية (وقلت: إني أقاد كما يقاد البعير



(1) من الوجوه في رد بعض الأحاديث الموضوعة في الفضائل.
(2) أي الوجه الثاني من الوجهين اللذين تمسك بهما المعتزلة من جواز تقديم المفضول على
الأفضل.
(3) شرح نهج البلاغة 11 / 14.
(4) المصدر السابق 2 / 47 والخشاش بكسر الخاء المعجمة: عود يجعل في عظم أنف
الجمل الصعب ليسهل قياده.
136
المخشوش فلعمري لقد أردت أن تذم فمدحت وإن تفضح فافتضحت وما
على المؤمن من غضاضة إذا كان مغلوبا عليه ما لم يكن شاكا في دينه أو مرتابا
في يقينه (1)) كل ذلك رواه (2) وروى أيضا أن عليا (عليه السلام) كان
يقول (لو وجدت أربعين ذوي عزم لنا هضت القوم) (3) يعني أبا بكر
وأصحابه فأين رضاه بتقدم أبي بكر على هذا وما سيأتي بعده من البيان في
مواضعه؟ فالمعلوم من ذلك أن عليا (عليه السلام) ما ترك مناجزتهم إلا
لعدم وجوده الناصر وأمور أخرى يأتي إيضاحها إن شاء الله فإذا بطل رضاه
بتقدم الأول بطل رضاه بتقدم الأخيرين البتة، وتظلمه (عليه السلام)
منهم في زمان خلافته في كلماته وخطبه مشهور معلوم، وقوله في بعض خطبه
في أيام الجمل (فوالله ما زلت مدفوعا عن حقي مستأثرا علي منذ قبض
الله نبيه حتى يوم الناس هذا) (4) معروف غير منكور قد رواه المحدثون
وصححه ابن أبي الحديد (5) ولو عمدنا إلى ذكر ما ورد في الروايات المصححة
عند الخصم من تظلمه (عليه السلام) وتألمه وتشكيه من تقدم الثلاثة عليه
إذن لاحتاج إلى كتاب مفرد، وليس المقصود هنا إلا بيان عدم رضاه بتولي
القوم عليه وهو حاصل ببعض ما ذكرناه، ومنه صح أن يدعى رضى أمير
المؤمنين (عليه السلام) بتقدم من تقدم عليه مبطل في دعواه فبطل ما بنى
عليه من القول بجواز تقديم المفضول على الأفضل على أن المعتزلي قد ذكر في
موضع من كلامه ما حاصله أن الناس الذين لم يشاهدوا النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) ولم يسمعوا منه ما قال في حق علي (عليه السلام) من



(1) المصدر السابق 2 / 45 ونهج البلاغة برقم 28 كتب.
(2) الضمير في " رواه " لابن أبي الحديد لأنه في معرض الرد عليه.
(3) نفس المصدر.
(4) نهج البلاغة برقم 6 خطب.
(5) شرح نهج البلاغة 1 / 225 و 227.
137
الأقوال الجميلة إنما دعاهم إلى القول بأفضلية المتقدمين عليه في الخلافة
تقديمهم عليه فيها لاعتقادهم أن الأفضلية هي سبب التقديم وهذا الكلام
مؤيد لما قلناه من أنه قد ارتكز في العقول قبح تأخير الأفضل عن المفضول
وذلك مبطل لما يقول ولهذا كان من قدم الثلاثة على أمير المؤمنين (عليه
السلام) مع اشتهار فضائله وشياع مناقبه ووفور مآثره وتواتر أقوال النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) في تفضيله وتبجيله اعتمادا على فعل قوم من
الناس ظهرت منهم مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله) في مواضع كثيرة
مخالفا لمذهبه ومكابرا لمقتضى عقله فلا عذر له عند الله يوم المئاب ولا حجة له
عند الحساب لاكتفائه بالتقليد عن النظر مع وضوح الأمر وصراحته.
ثم ما أدري أي مصلحة في التكليف اقتضت تقديم المفضول على
الأفضل (1) والتكليف دائر مدار المصلحة وهي عندنا وعنده عقلية والعقل
ينكر تقديم المفضول ويقبحه؟ فأين هذه المصحلة؟ ما هذا إلا تناقض في
القول وتشبث بما لا يسمن ولا يغني من جوع فبطل ما قال وصح ما قلنا من
وجوب تقديم الأفضل على المفضول.
وبعد فأي عاقل يجوز لنفسه ترك الأخذ بقول رجل فاضل متقن للأحكام
محرز لأدلة المسائل العلمية والعملية ويأخذ بقول رجل قاصر العلم ضعيف
الاتقان؟ أو يقدم لقيادة الجيوش رجلا خوارا لا يصبر عند اللقاء ولا يثبت
عند منازلة الأعداء؟ بل يفر ويولي الدبر ويؤخر عن ذلك رجلا مقداما
صبورا عند الهزاهز وقورا عند الشدائد قويا على محاولة الشجعان بصيرا في
مطاعنة الاقران عارفا بقيادة الجيوش وسياسة الأمور كرارا غير فرار ويقدم في
المشورة في الأمور المهمة رجلا جامدا القريحة متردد الذهن ضعيف العزم على



(1) يشير إلى قول ابن أبي الحديد من مقدمة شرحه على نهج البلاغة: " وقدم المفضول على
الأفضل لمصلحة اقتضاها التكليف ".
138
رجل ثاقب الرأي ماضي العزيمة صرام للأمور نافذ البصيرة عارف بأنواع
المصالح والمفاسد، أو يقدم في الأمانة رجلا غير تام الوثاق ولا مستكمل الديانة
على رجل آخر معروف بالعفاف والأمانة وكمال الديانة مقطوع بصلاحه
مشهورة ثقته إلى غير ذلك من الأوصاف المتقابلة التي لا يرتاب عاقل غير
معاند ولا مكابر في استقباح تقديم القاصر فيها على الكامل؟!! ولكن
القوم (1) خالفوا عقولهم وناقضوا أحلامهم فسفهوها بقبح أقوالهم وكل ذلك
إرادة منهم لتصحيح إمامة القاصرين من المتقدمين، وقد بان مما حررناه
بطلان ما أثبتوه والله المستعان.
المسألة الثالثة (1) يشترط في الإمام أن يكون قريبا من النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) في النسب بل يجب أن يكون أقرب الناس إليه، أما القرابة
في الجملة فظاهر الصحابة والتابعين بل جميع المسلمين عليها، ولذا احتج بها
أبو بكر وصاحباه في السقيفة على الأنصار عند رومهم مبايعة سعد بن عبادة،
وروى لهم عمر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (أن الأئمة من
قريش (2) واحتج لقريش على الأنصار جماعة منهم فانصرفوا بها عن مبايعة سعد
واحتج أمير المؤمنين (عليه السلام) بها على أبي بكر وأصحابه في استحقاق



(1) يريد بالقوم ابن أبي الحديد وأصحابه المعتزلة ولا يريد المصنف بهذا الكلام إلا تفنيد؟؟
ما يذهبون إليه من جواز تقديم المفضول على الأفضل.
(1) من المسائل في شروط الإمام.
(2) حديث (الأئمة من قريش) رواه جماعة وروى أن أبا بكر (رضي الله عليه) احتج به
على الأنصار ولكن الجمع بين ذلك وبين قوله الذي رواه الطبري في التاريخ 4 / 214
حوادث سنة 13 وغيره في جملة مسائله التي ود لو سأل رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) عنها: " ليتني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر حق " يوقع الباحث
في حيرة خصوصا بعد المقارنة بين ذلك وبين قول عمر (رضي الله عنه) أيضا " لو
كان سالم مولى أبي حذيفة حيا استخلفته " ومعلوم أن سالما ليس بقرشي.
139
الإمامة دونهم، فما أنكر الاحتجاج بها على أولويته بالخلافة منهم أحد بل
اعتذر منهم من اعتذر بأمور أخرى كما سيأتي مشروحا ولم يخالف في ذلك ممن
ينتحل الإسلام إلا الخوارج (1) ولا عبرة بهم لخرقهم إجماع المسلمين، نعم
ربما يتصور الخلاف في اشتراط الأقربية من النبي (صلى الله عليه وآله)
في الإمامة فإن أكثر المخالفين لم يشترطوها وأصحابنا جميعا على الاشتراط،
والعباسية كذلك وهذا هو الأصح وعليه المعتمد لنا قوله تعالى [وأولوا
الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله] (2) في الأنفال وفي الأحزاب
[وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين
والمهاجرين] (3) وهما شاملتان للمال والمنزلة بل هما للمنزلة أقرب وفيها
أظهر لأن سياق الآيتين في معنى الولاية لا سيما الثانية فإنها في مساق ولاية
النبي (صلى الله عليه وآله) وهو قوله تعالى: [النبي أولى بالمؤمنين من
أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام] الآية وذلك مرجح ليس له
معارض، وقوله تعالى في إبراهيم (عليه السلام) [وجعلها كلمة باقية في
عقبه] (4) والكلمة الإمامة وهو إشارة إلى قوله تعالى عز وجل [إني جاعلك
للناس إماما] (5) وبه قال جماعة من المفسرين وهو عند أصحابنا متفق عليه
فالآية صريحة في المطلوب وقوله جل وعلا [إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل
إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض] (6) يومي إلى ذلك
بل يصرح به قول النبي (صلى الله عليه وآله) (لا يؤدي عني إلا أنا



(1) حيث جوز الخوارج أن تكون الإمامة في غير قريش (انظر الملل والنحل 1 / 116).
(2) الأحزاب: 33.
(3) الأنفال: 57.
(4) الزخرف: 28.
(5) البقرة: 124.
(6) آل عمران: 34.
140
ورجل مني) (1) لعموم اللفظ ولأنه إذا لم يجز أن يؤدي عن النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) بعض الأمور من هو بعيد عنه في النسب فكيف يجوز أن
يؤدي عنه إلى جميع الأمة جميع الأحكام الشريعة في الدين والدنيا فدل ذلك
على اشتراط الأقربية من النبي (صلى الله عليه وآله) في الإمام فإن قيل:
إذا حكمتم بأن الإمام يجب أن يكون أقرب الناس إلى النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم لزمكم القول بأن العباس بن عبد المطلب هو الإمام بعد رسول
الله كما قاله العباسية لأنه العم والعم أقرب من ابن العم وأنتم لا تقولون
بذلك، قلنا لهذا جوابان عندنا معروفان وآخران مذكوران.
الأول وأن ابن العم للأبوين أقرب عندنا من العم للأب فيجوز الميراث
دونه ويحجبه، وهذا مذهب أمير المؤمنين (عليه السلام) ومن المحقق أنه لا
يقول إلا الحق وقد قال به قوم من الفقهاء كنوح بن دراج (2) وأبي بكر بن
عياش (3) وغيرهما وعلي (عليه السلام) ابن عم النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) لأبويه فإن أم عبد الله وأبي طالب جميعا فاطمة بنت عمرو المخزومية
وأم العباس أخرى غيرها فهو عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
لأبيه خاصة فيكون علي (عليه السلام) أقرب منه إلى النبي (صلى الله عليه



(1) قال (صلى الله عليه وآله) ذلك في قصة براءة كما سيأتي.
(2) نوح بن دراج ولي القضاء للرشيد على الكوفة والبصرة وكان من الشيعة قيل: وكان
يقضي بقضاء علي (صلوات الله وسلامه عليهم) وهو أخو جميل بن دراج المدفون قريبا
من بلده الدجيل ويظهر أنه ولي القضاء ببغداد أيضا حيث يقول الأشهب الكوفي:
يا أهل بغداد قد قامت قيامتكم * مذ صار قاضيكم نوح بن دراج
(3) أبو بكر بن عياش اسمه سالم وقيل: شعبة: وقيل: اسمه كنيته كان من العلماء
العباد الزهاد توفي بالكوفة سنة 193.
(4) أم العباس نتيلة بنت جناب بن كلب (الإصابة 2 / 271).
141
وآله وسلم).
الثاني أن القرابة بمفردها غير كافية في استحقاق منزلة النبي صلى الله عليه وآله بل
تحتاج إلى أن ينضم إليها باقي الشروط من العصمة والأفضلية والعباس غير
معصوم وعلي أفضل منه بالإجماع فكان أحق بمقام النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) منه، ومن هذا الوجه قدمنا عليا (عليه السلام) على أخيه عقيل مع
تساوي نسبهما الصوري إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وكون قرابتهما
منه واحدة وأما الوجهان الآخران.
فأحدهما ما ذكره علي (عليه السلام) وسيأتي ذكره مشروحا في إيراد
النصوص عليه وهو مبايعته النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين جمع بني
عبد المطلب ودعاهم إلى مبايعته على أن من بايعه يكون أخاه ووزيره ووارثه
وخليفته فبايعه علي (عليه السلام) دونهم (1).
والثاني مروي عن أبي الحسن موسى بن جعفر إنه ذكره للرشيد (2) واحتج به
عليه مع أول الوجهين الأولين حين ناظره في استحقاق علي (عليه السلام
ميراث النبي (صلى الله عليه وآله) دون العباس وهو أن عليا أسلم
وهاجر فكانت له ولاية النبي (صلى الله عليه وآله) والعباس تأخرا
إسلامه ولما أسلم لم يهاجر فلم يكن له من ولاية النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) في الميراث شئ لقوله تعالى: [والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من
ولايتهم من شئ حتى يهاجروا] (3) فلذلك لم يكن للعباس (رضي الله عنه)



(1) يعني في يوم الدار المشهور.
(2) نقله السيد الطباطبائي في الميزان في تفسير القرآن 9 / 143 عن كتاب " معاني
الأخبار " للصدوق.
(3) الأنفال: 72.
142
مقام النبي (صلى الله عليه وآله) ولقد أخرجه عمر من الشورى لذلك
وادخل عليا دونه، وذلك حجة على المعترض فبطل اعتراضه كما بطل
اعتراض هارون الرشيد على أبي الحسن لما ذكر له الوجه المذكور وبما ذكرنا من
الوجوه بطل قول قوم رعف بهم الزمان يسمون العباسية قالوا: بأن الإمامة
بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمه العباس لأنه الأقرب فادعوا له
ما لم يدعه لنفسه وما ذكره أيضا بعض جهلة العامة ردا على الشيعة من أن
الإمامة إن كانت بالقرابة وجب أن يكون العباس هو الإمام بعد الرسول
(صلى الله عليه وآله) لأنه العم وهو أقرب من ابن العم وعلي (عليه
السلام) ابن العم فلا يكون له مقام النبي (صلى الله عليه وآله) مع
وجود عمه العباس لما علمت من أن الإمامية لم يسلموا أقربية العباس للنبي
(صلى الله عليه وآله) من علي (عليه السلام) وقد ذكرنا دليل المنع
ووافقهم عليه من وافقهم من غيرهم مثل نوح بن دراج وهو من قضاة هارون
الرشيد وأبي بكر بن عياش وهو من الأجلاء عند العامة ولم يجعلوا القرابة
بمفردها مقتضية لاستحقاق الخلافة بدون حصول باقي الشروط فاندفع
الاعتراض عنهم وزال من أصله وثبت المدعي من اشتراط الأقربية من النبي
(صلى الله عليه وآله) في الإمام وأما الحسن والحسين فاستحقا الإمامة
لتساويها في قرابة النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام)
فلم يكن ولد الحسن يستحقونها مع الحسين (عليه السلام) وهو الأقرب إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي، ثم هي بعد الحسين لمن كان أقرب
إلى الإمام الذي قبله مع جمعه باقي الشروط ولذا صارت بعد الحسين في ولده
خاصة ولم تصر في ولد الحسن لتساوي الجميع في القرب من النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) وعلي (عليه السلام)، لأن ولد الحسين (عليه السلام)



(1) الملل والنحل: 1 / 207.
143
اختصوا بالقرابة من الحسين وهو الإمام بعد الحسن دون ولد الحسن.
فكان ولد الإمام أولى به بمفاد الآيتين فلم يكن ميراث الحسين (عليه
السلام) من جده وأبيه يعود بعده إلى ولد أخيه دون ولده ولا يشتركون فيه،
ومن هذا بطل قول من قال من الزيدية وغيرهم بأن الإمامة بعد الحسين
جائزة لذريته وذرية أخيه الحسن لتساوي قرابة الكل منهم إلى رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) وإلى أمير المؤمنين، ومنه أيضا يفسد قول
الكيسانية بانتقال الإمامة بعد الحسين إلى أخيه محمد بن علي وهو ابن الحنفية
ثم من بعده لولده وأنه هو القائم المنتظر إلى غير ذلك من خرافاتهم
واختلافاتهم، لأن علي بن الحسين أقرب إلى أبيه وإلى النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) من عمه محمد (رض)، وبطل قول الإسماعيلية لأن موسى (عليه
السلام) أقرب إلى أبيه أبي عبد الله، من ولد أخيه إسماعيل إذ لا خلاف في
أن الولد أقرب من ولد الولد وليست لإسماعيل إمامة في حياة أبيه إذ لا إمامة
للاحق إلا بعد مضي السابق وإسماعيل مات قبل أبي عبد الله (عليه
السلام)، وبطل قول الفطحية بإمامة عبد الله بن جعفر (1) لعدم العدالة فيه
دون العصمة والعلم وباقي الشروط وبهذا أيضا يبطل جميع ما ذكرناه من
الأقوال وغيرها من خرافات فرق الشيعة غير الإمامية وغيرهم من فرق الناس
والله الموفق للصواب.



(1) عبد الله بن جعفر الصادق (عليه السلام) يعرف بالأفطح (لأنه أفطح الرأس) أي ذو رأس
عريض أدعى الإمامة أو ادعيت له بحجة أنه أكبر أولاد الصادق (عليه السلام) بعد موته لما ورد
أن الإمامة تكون في الأكبر وقد منع من ذلك أن من شروط الإمام أن لا تكون به عاهة مضافا إلى
الشروط الأخرى من العصمة والعلم نحو ذلك وقد روي أن الإمام الصادق قال للكاظم (عليه
السلام) (يا بني إني أخاف أن أخاك سيجلس مجلسي ويدعي الإمامة بعدي فلا تنازعه بكلمة
فإنه أول أهل بيتي لحوقا بي) فمات بعد أبيه بسبعين أو تسعين يوما وانظر سفينة البحار 2 / 373
مادة " فطح ".
144
المسألة الرابعة (1) في طريق الإمامة وقد اختلف الناس في ذلك فذهب
أصحابنا الإمامية إلى أن الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه من النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) أو مدلولا عليه من الإمام الذي قبله، أو يدعي الإمامة
فيقيم معجزا يدل على صدقه، ولا خلاف بين الأمة في أن النص والتعيين
من النبي (صلى الله عليه وآله) أمر مستقل تثبت به الإمامة، وإنما
الخلاف في كون النص شرطا فلا تثبت الإمامة بدونه ودون الوجه الثاني،
وهذا مذهب أصحابنا (رضي الله عنهم) وهو الحق المتبع، وذهب العامة
وغيرهم من الفرق إلى أن الإمامة تصح بالاختيار وتثبت ببيعة أهل الحل
والعقد كما تثبت بالنص، وذهب الزيدية إلى أن كل فاطمي عالم زاهد خرج
بالسيف وادعى الإمامة فهو إمام، وهذا المذهب مشارك لما قبله في الضعف
والوهن، وستسمع الحجة على إبطالهما وذهب العباسية إلى أن تعيين الإمام
يكون بالنص والميراث ومرادهم الأقربية، ولا نزاع بيننا وبينهم إلا في تعيين
الأقرب الوارث وقد مر بيان ذلك من قريب، فإن قيل إنكم قلتم: إن نصب
الإمام واجب على الله فيكون منصوبا من قبله ثم قلتم هنا: إن الإمامة تحتاج
في ثبوتها إلى نص من الرسول (صلى الله عليه وآله) فلا اعتراض فيه
لأنه يوحي إليه فيعرفه الله الإمام من بعده ويأمره بنصبه فيكون منصوبا من
الله على لسان الرسول (صلى الله عليه وآله) لكن الإمام من أين
تحصل له معرفة من نصبه الله بعده في الإمامة حتى يدل عليه والوحي قد
انقطع وليس الإمام عندكم يوحي إليه فلا محالة يكون المدلول عليه مختار
الإمام الذي قبله لا منصوبا من الله فرجع قولكم في الإمامة إلى الاختيار
أيضا قلنا: ليس الأمر كما ادعيت بل لنا في الجواب عن هذا الايراد وجوه.
الأول أن الوحي وإن كان قد انقطع فما انقطعت الإلهامات فجائز أن



(1) أي من مسائل شروط الإمام.
145
يلهم الإمام ويفهم من الله معرفة الإمام الذي اختاره للإمامة من بعد كما
يلهم غير ذلك من الأمور فيدل الأمة على الإمام بعده وينص عليه بدلالة الله
إياه عليه من طريق الالهام، وليس القول بالإلهام مما نختص به نحن بل جملة
من خصومنا يثبتونه لكافة أهل العرفان المسلمين عندهم باهل الله من إمام
غيره، وقد صرح ابن عربي محيي الدين عند الخصوم بأن المهدي إذا خرج
يلهم الشريعة ويحكم بما القي إليه ملك الالهام منها (1) وصرح الحافظ جلال
الدين السيوطي في الكشف بأن عيسى إذا نزل يفهم جميع أحكام الشريعة
المحمدية من القرآن من غير احتياج إلى الحديث كما فهمها منه نبينا (صلى الله
عليه وآله وسلم) لانطوائه على جميعها وإن قصرت أفهام الأمة عن فهم ما
يفهمه صاحب النبوة (2) وقال بعضهم أظنه أبا حامد الغزالي كلاما في هذا
المعنى طويلا ومن جملته قوله " فالنبوة والرسالة من حيث عينها وحكمها ما
انقطعت وما نسخت وإنما انقطع الوحي الخاص بالرسول والنبي من نزول
الملك على أذنه وقلبه " وكان قبل هذا الكلام قال " إن النبوة والرسالة
انقطعت من الوجه الخاص ثم بقي منها المبشرات " ثم قال بعد ذلك:
" وأما الأولياء فلهم في هذه النبوة مشرب عظيم " إلى آخر كلامه في هذا
الشأن، وقد ذكر الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا في النمط العاشر في أسرار
الآيات من كتاب الإشارات صحة الالهام والعلم بالغائبات للأولياء من جهة
استكمال النفس الإنسانية القوة التي هي مبدأ الأفعال الغريبة، قال في
موضع " إذا قلت الشواغل الحسية وبقيت شواغل أقل لم يبعد أن يكون للنفس
فلتات تخلص عن شغل التخيل إلى جانب القدس فانتقش فيها نقش من
الغيب فساح إلى عالم التخيل وانتقش في الحس المشترك وهذا في حال النوم أو



(1) نقله الصبان في إسعاف الراغبين ص 149. عن الفتوحات المكية لابن عربي.
(2) نقله الصبان أيضا في الاسعاف ص 149. عن السيوطي.
146
في حال مرض ما، يشغل الحس ويوهن التخيل " (1) ثم ذكر علل ذلك وقال
بعدها: " فإذا كانت النفس قوية الجوهر تسع للجوانب المتجاذبة لم يبعد أن يقع
لها هذا الخلس والانتهاز في حال اليقظة " (1) وقال في موضع آخر مشيرا إلى
هذه القوة: " هذه القوة ربما كانت للنفس بحسب المزاج الأصلي لما يفيده
من هيئة نفسانية تصير للنفس الشخصية تشخصها وقد تحصل المزاج وقد
يحصل بضرب من الكسب يجعل النفس كالمجردة لشدة الذكاء كما يحصل
لأولياء الله الأبرار " وقال في موضع " إذا بلغك أن عارفا حدث عن غيب
فأصاب متقدما ببشرى أو نذير فصدق ولا يتعسرن عليك الإيمان به فإن
لذلك في مذاهب الطبيعية أسبابا معلومة (1) " إلى غير ذلك من كلماته المصرحة
بهذا المعنى، وإذا سلم الخصوم صحة الالهام للأولياء من جهة الشرع
والحكمة ثبت جوازه وحصوله للإمام لأنه على ما نقول ولي الأولياء وعماد
الأصفياء الذي لا يشوب عمله شائبة التغير ولا يخاط حكمه شئ من
التبديل فوجب أن يكون ملهما مفهما.
الثاني أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد بين للإمام بعده جميع ما
علمه الله من العلوم والأسرار كما ذكرنا فيما مر ومن المعلوم أن الله تعالى أخبر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدد أوصيائه وأسمائهم وصفاتهم فكان
من جملة ما بينه لخليفته ثم بينه الخليفة إلى من يكون بعده وهكذا وبهذا
صرحت جملة من الآثار.
الثالث أنه لا يبعد أن النبي (صلى الله عليه وآله) يخبر كل إمام
زمان بمن يكون الإمام بعده مشافهة أو في المنام وليس في ذلك مانع فقد ذكر
مخالفونا ذلك وجوزوه في الأولياء بزعمهم، قال ابن عربي " جزم بعض



(1) الإشارات لابن سينا 4 / 137 و 138 و 155.
147
المحققين القياس على جميع أهل الله لكون رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) مشهودا لهم فإذا شكوا في صحة حديث أو حكم رجعوا إليه في ذلك
فأخبرهم بالأمر الحق يقظة ومشافهة " انتهى (1) وقال السيوطي: " إن عيسى إذا
أنزل يجتمع به يعني نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا مانع من أن يأخذ
عنه ما يحتاج إليه من أحكام شريعته وكم من ولي ثبت أنه اجتمع به يقظة
وأخذ عنه فعيسى أولى " (2) انتهى وأمثال ذلك من كلامهم كثيرا مثلما ذكره
الواقدي في فتوح الشام من أخبار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي
عبيدة بأمور كثيرة مما يدور بين النصارى من الكلام والتدبير والمشورة في
المنام (3) فإذا صح مشاهدة النبي (صلى الله عليه وآله) عندهم للأولياء
وأخذهم عنه وإخباره إياهم في النوم بأمور من الغيب فالإمام أولى لأنه سيد
الأولياء، وهذا الوجه وارد في أخبارنا أيضا فاندفع الايراد وانزاح الإشكال،
وإذا تحققت ما رسمناه فاعلم أن لنا على ما ذهبنا إليه وجوها من الأدلة.
الأول إنا بينا أن الإمام يجب أن يكون معصوما، والعصمة أمر خفي لا
يطلع عليها في أي شخص هي إلا علام الغيوب الذي أيد ذلك الشخص بها
فلا يعرف صاحبها إلا من قبله إما بالنص عليه أو إظهار المعجزة على يديه،
أما وجوب عصمة الإمام فقد أثبتناه بالأدلة القاطعة، وأما إن العصمة أمر
خفي فلما علمت من معناها، ولأنه ليس في خلق الإنسان ما يدل على أنه
معصوم أو غير معصوم، وأما ما كان خفيا فلا يعرف إلا من جهة الله تعالى



(1) نقله عن الفتوحات الصبان في إسعاف الراغبين ص 145.
(2) نقله الصبان أيضا في الاسعاف ص 147.
(3) فتوح الشام 1 / 50: وفيه أنه قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد أن
بشره بالفتح: " فقلت: يا رسول الله أراك على عجل؟ قال لأحضر جنازة أبي بكر
الصديق ".
148
بأحد الوجهين المذكورين فأمر ظاهر لا يحتاج إلى البيان فيثبت المطلوب.
الثاني أن سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) تقتضي التنصيص
على الإمام وذلك أنه أشفق على الأمة من الوالدة على ولدها حريص على
إرشادهم وهدايتهم ولهذا علمهم الأمور الجزئية حتى ما يتعلق بقضاء الحاجة
والاستنجاء وما شاكل ذلك، وقد وصفه الله بالرأفة بالمؤمنين والحرص على
إرشادهم في الكتاب المبين، في قوله تعالى: [لقد جاءكم رسول من أنفسكم
عزيز علي ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم] (1) فمن كان بهذه
المثابة من الشفقة على الأمة والرأفة بهم لا يجوز في العقل أن يتركهم من غير
أن يبين لهم مفزعهم ومن يرجعون إليه في أمور دينهم ودنياهم فتحصل لهم
بترك بيانه في دينهم الحيرة وتعتريهم في أمورهم الجهالة والشبهة، كلا إن
العقل يحيل ذلك عن النبي الرؤف الرحيم بالأمة، الذي اعتنى ببيان أمور
لا نسبة لها بالإمامة ولا تعد شيئا بالنسبة إلى الخلافة فكيف يهمل الأمر الأهم
من لم يهمل الأمور الجزئية من المستحبات والمكروهات، على أن أبا بكر ما
جوز لنفسه ترك بيان خليفته، وعمر بين أن الخلافة بعده جائزة لستة وجعل
الرأي لواحد منهم ولم يجوز لنفسه ترك بيان من يصلح بعده للخلافة، أفترى
النبي (صلى الله عليه وآله) يقصر في إصلاح الأمة عن الرجلين وهو
على ما علم من حاله في الشفقة بالأمة ومن منصبه في إبلاغ الفرائض التي
أعظمها وأجلها الإمامة إليهم؟ وحيث أن سيرة النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) تقتضي التنصيص وجب أن يكون الإمام منصوصا عليه.
الثالث أن الاختيار يؤدي إلى التنازع ويفضي إلى التجاذب لاحتمال أن
يختار كل فرقة من الناس رجلا للإمامة فتقوم الفتنة بين الأئمة وأصحابهم على



(1) التوبة: 128.
149
ساق، وكذلك في الفاطميين على ما قاله الزيدية، إذ لا مانع من قيام
فاطميين أو أكثر بالسيف يدعون إلى أنفسهم كل منهم عالم زاهد فيحصل من
ذلك النزاع الشديد والخصام اللديد، فيجب أن يكون الإمام منصوصا عليه
لدفع هذه المحذورات المنافية للمطلوب من نصب الإمام، وأنت خبير بأن
الفساد الذي شاع في هذه الأمة من الحروب وسفك الدماء وانتهاك المحارم في
الصحابة وغيرهم على ما هو مذكور ومسطور كله ناش من الاختيار في
الإمامة (1) والعدول عن النص ومتفرع عليه، ولا مدفع له إلا بالتزام النص
على الإمام، وقد تقدم في المقدمة تحقيق في هذا المطلب ما لا يزيد عليه.
الرابع فحوى بعض الآيات وصراحة بعضها في كون الإمامة موقوفة على
النص من الله تعالى.
فمنها قوله عز من قائل: [وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني
جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين] (2)
والدلالة من وجهين.
الأول إن إبراهيم (عليه السلام) لما شرفه الله تعالى بجعله يعني نصبه
إماما طلب من الله عز وجل اسمه أن يجعل في ذريته أيضا إماما وقد علمت
فيما مر من الكلام أن الإمامة تجامع الرسالة وتجامع النبوة وتخلو منهما والخليل
(عليه السلام) سأل الأعم ولم يخصص المسألة بالإمامة المجامعة لأحد
الأمرين، فلو كانت الإمامة بجميع مراتبها تصح بالاختيار لما سأل إبراهيم
ربه أن يجعل من ذريته إماما، بل كان يختار من يشاء من ذريته وينصبه
إماما، وحيث سأل الله ذلك وطلبه علمنا أن الخليل كان يعلم من إعلام الله



(1) تقدم كلام الشهرستاني أنه ما سل في الإسلام سيف كما سل في الإمامة.
(2) البقرة: 124.
150
له أن الإمامة موقوفة على اختيار الله لا اختيار البشر، وإذا لم يكن للخليل
اختيار في نصب الإمام فكيف يكون ذلك لسائر الناس؟ وبما ذكرناه يبطل ما
احتمله الرازي في تفسيره (1) من كون الإمامة المطلوبة لإبراهيم النبوة ولا
ينالها من عبد صنما وقتا ما على أنه قد أبطل قوله هذا بما ذكرناه عنه في مسألة
العصمة من جعله الآية دالة على عصمة الإمام ظاهرا وباطنا وأن أصحابه
تركوا دلالتها على ذلك واكتفوا بالعدالة في الإمام وجعلوها دليلا على اشتراط
العدالة في الإمام ولا يكون هذا المعنى إلا في الإمامة المجردة عن النبوة فثبت
أنه مقر بأن الإمام بالمعنى الأعم هو المطلوب ثم يقول في هذا المقام: " إن
مطلوب إبراهيم الإمامة بالنبوة والنبوة عنده لا تكفي فيها العدالة لقوله ولا
ينالها من عبد صنما وقتا ما فكان بعض كلامه مناقضا لبعض وهذا دأب القوم
وديدنهم في مذاهبهم وأقوالهم لضيق مسلكهم.
الثاني إن الله تعالى أجاب إبراهيم بقوله [لا ينال عهدي الظالمين]
فسمى الإمامة عهده، ومن المعلوم أن عهد الله لا ينال إلا من قبله وليس
للخلق في جعله لانسان معين صنع، ولو كانت الإمامة تجوز عند الله باختيار
الخلق وترام بذلك لقال لإبراهيم أن الإمامة ليست موقوفة على نصبي ونصي
بل جعلت الاختيار في تعيين الإمام لخلقي فاختر أنت من ذريتك من تشاء أو
من عرفته في نظرك صالحا لها فأنصبه إماما، ولما لم يجب الله إبراهيم (عليه
السلام) بذلك بل أجابه بما سمعت علمنا أن الإمامة لا تكون إلا بنص من
الله تعالى وهو المطلوب.
ومنها قوله تعالى [ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ
قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا تقاتل في سبيل الله] إلى أن قال تعالى: [وقال



(1) تفسير الرازي 4 / 39 - 44 وما ذكره هنا نقله ملخصا.
151
لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أني يكون له الملك علينا
ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم
وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم وقال
لهم نبيهم أن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك
آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة] (1) الآية والملك في بني إسرائيل بمعنى
الإمام في هذه الأمة، لأنه منصوب، لإقامة الحدود وإمضاء الأحكام وأخذ
القصاص وتجهيز الجيوش وقتال أهل الشرك، ودلالة الآية على المطلوب من
جهات.
الأولى: إن بني إسرائيل لما أرادوا ملكا يقيم فيهم الأحكام ويقاتل بهم
العدو في سبيل الملك العلام طلبوا من نبيهم أن ينصب لهم ملكا لذلك
المرام، ولو كانت الإمامة جائزة بالاختيار لما احتاجوا في نصب الإمام إلى
تعيين النبي وقالوا [ابعث لنا ملكا] يعني انصب بل كانوا يختارون لأنفسهم
من شاؤوا فيجعلونه عليهم ملكا، ولما كانوا سألوا نبيهم نصب واحد من
قبله فتوقفهم عن نصب الملك وطلبهم إياه من نبيهم دليل على أن ليس لهم
في الإمامة اختيار.
الثانية قول نبيهم: [إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا] ولم يقل إني بعثت
لكم فدل ذلك على أن النبي ليس له اختيار في تعيين من شاء للإمامة وإنما له
أن يخبر الأمة عن الله بأن فلانا المخصوص قد جعله الله لكم إماما فالامامة
إذن بالنص لا بالاختيار.
الثالثة: إنهم لما أبوا إمامة طالوت وأرادوا نصب من يختارون بقولهم [أنى



(1) البقرة: 247.
152
يكون له الملك علينا] الخ رد الله قولهم وأبطل اختيارهم بقوله تعالى [إن
الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم] فأبان بذلك بطلان
الاختيار في الإمامة وعدم ثبوتها به وجعلها موقوفة على اصطفائه وهو اختيار الله
عز وجل من يختار لها من خلقه لا من يختاره لها، وبالزيادة في العلم
والجسم يعني الشجاعة ومن المعلوم أن من يختار الله لا يعلم إلا من قبله
فوجب من صريح الآية أن يكون الإمام منصوصا عليه من الله تعالى على
لسان النبي أو الوصي وأن يكون أعلم أهل زمانه وأشجعهم، ولو لم يكن
ذلك شرطا لم يكن لذكره معنى وحمل هذه الآية على بطلان الاختيار بعد
النصر لا قبله كما قاله بعضهم فاسد مردود بالجهتين الأوليين، وبأنهم لم
يطلبوا الاستقلال بالاختيار وإنما طلبوا أن ينصب لهم من يكون لهم رضا بمعنى
أن يكون من يختاره الله للملك يوافق اختيارهم ويطابق غرضهم فهم من أول
أمرهم على هذا، وقد أبطل الله اختيارهم من أصله ورد عليهم ما اقترحوه ولم
يجعل لهم في الاختيار مطلقا نصيبا فيدل ذلك بصريحه على أن الإمامة ليس
للخلق فيها اختيار لا على جهة الاستقلال ولا على الاشتراك فيثبت المطلوب
على أنه لا فرق بين الحالين في الحقيقة، بل إذا لم يجز الاختيار بعد النص
لم يجز قبله إذ ليس لأحد أن يحكم بدون حكم الله قبل الحكم وبعده.
الرابعة: قوله [والله يؤتي ملكه من يشاء] دل الكلام صريحا على أن
الإمامة ملك الله يؤتيها من يشاء إتيانه إياها لا من يشاء خلقه فدل ذلك
بأوضح دلالة على أن الخلق ليس لهم اختيار ولا مدخل في اختيار الإمام أصلا
وأنها موقوفة على اختيار الخالق مطلقا قبل النص وبعده بمعنى أنه ليس لأحد
أن يرد النص على واحد بعينه من الله تعالى بنظر واجتهاد ولا أن ينصب إماما
من دون نصب الله إياه فأزال بذلك الفرقان بين الحالين الذي ادعاه ذلك
الجهول، وهو أيضا وجه رابع في رد قوله وفساد دعواه.

153
الخامسة: قوله تعالى: [إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت] (1) الخ فإنه نص
في أن الإمامة تحتاج في ثبوتها إلى دليل وبرهان وهو المعجز وليست مما تثبت
لمدعيها بدون حجة ودليل ولا بقول أحد من الناس وتسميته ذلك المدعى
إماما وتصديقه في دعواه الإمامة، وهذا هو نص مذهب الإمامية وهو أوضح
دليل على بطلان الاختيار في الإمامة كما ترى، والآية محكمة ومضمونها جار
في هذه الأمة ولم يرد عن أحد من المفسرين السابقين من العامة والخاصة أنها
منسوخة الحكم أو أن حكمها مخصوص ببني إسرائيل دون هذه الأمة فلا يجوز
لهم الاختيار في الإمامة خاصة دوننا بل عامة لهذه الأمة أنزلها الله لبيان سنته
في الذين خلوا ولن تجد لسنة الله تبديلا فتكون حجة على من قال بالاختيار في
الإمامة، فما قاله جاهل من حشوية العامة (2) بأن مضمون الآية مخصوص
بالأمم السالفة دون هذه الأمة زور وبهتان وظلم وعدوان وذلك مبلغه من
العلم، وليس دعوى النسخ مما ثبت باللسان من دون حجة ولا بيان ولا
حجة على النسخ إلا العصبية والعناد والميل إلى شهوة النفس وردها الحق
لتصحيح ما فعله الأسلاف، وهذا مما لا يعبأ به عند المناظرة والحجاج ولا
تقوم به حجة ولا يصح به حكم، على أن هذا الحكم مما لا تختلف فيه
المصالح بحسب الأزمان والأشخاص حتى يعرض له النسخ والتخصيص بل
حال كحال النبوة التي لا تصح أو المعجزة لأنها خلافة عن النبوة فسبيلها في
جميع الأمم واحدة.
ومنها قوله تعالى: [وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة] (3)



(1) البقرة: 248.
(2) الحشوية: طائفة تنفي التأويل وكأن الاسم مأخوذ من حشو الكلام وهو الفضول
منه.
(3) القصص 68.
154
دلت الآية على نفي الخيرة للخلق مطلقا في الخلق والحكم فليس لهم أن
يثبتوا حكما ولا ينفوا حكما من قبل أنفسهم ولا أن يختاروا أحدا فيقدموه في
منزلة ويأخروا غيره عنها بل الحكم في ذلك كله لله تعالى، فكانت الآية ناصة
على أنه لا يجوز لأحد أن يختار إماما فينصبه في الإمامة بعد نص الله وقبله كما
هو مفادها إذ لو صح ذلك لكان مناقضا لمدلول الآية وحيث بطل الاختيار في
كل شئ بطل الاختيار للناس في الإمامة فوجب أن يكون الإمام منصوصا
عليه.
ومنها قوله تقدس وتعالى: [وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله
ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم] الآية (1) وهي وإن كانت
ظاهرة في نفي الاختيار بعد النص لا قبله إلا أنا قد بينا أنه لا فرق بين
الأمرين وأنه ليس لأحد أن يوجب حكما أو ينفي واجبا من دون إيجاب الله
ونفيه ولا أن يعطي أحدا منزلة ويثبت له مقاما لم يعطه الله إياه ولم يثبته له
وقد كان ذلك فيما قضاه الله وأنزله في كتابه حيث يقول [إن الحكم إلا لله
يقص الحق وهو خير الفاصلين] (2) وغيرها من الآيات فلا يجوز لأحد أن
يختار شيئا ويوجبه لم يختره الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) ولم يحكما
به.
ومنها قوله تعالى: [إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران
على العالمين] (3) ومن البين أن في آل إبراهيم أنبياء وأئمة بإمامة مجردة من
النبوة كالملوك المنصوبين من قبل الله في بني إسرائيل والاصطفاء واقع على



(1) الأحزاب: 36.
(2) الأنعام: 57.
(3) آل عمران: 33.
155
الجميع فتكون الإمامة باصطفاء الله كالنبوة، إذ لا تخصيص في الآية بالنبوة
وإذا كانت الإمامة باصطفاء الله بطل أن تكون ثابتة باختيار الناس.
ومنها قوله تعالى: [أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد
آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما] (1) والملك العظيم
هو الإمامة، وهو حاصل بإيتاء الله وإذا كانت الإمامة لا تكون إلا بإيتاء الله
بطل أن تكون باختيار من الناس وثبت من مدلول هذه الآيات الظاهرات
توقف الإمامة على النص وعدم صحتها بالاختيار، ولعمري أن الاحتجاج بها
على المطلب كاف لأولي الأنظار المجانبين لطريق الاستكبار والله الهادي.
الخامس إن الإمامة خلافة الله في أرضه لا ينكر ذلك أحد من أهل العلم
والمعرفة وقد صرح بذلك الخلفاء حتى الذين كانت خلافتهم بالاختيار فكانوا
يسمون أنفسهم خلفاء الله كما لا يخفى على من قرء السير والأخبار والتواريخ
والآثار، وما زال الناس من ذوي الفضل يقولون في الإمامة أنها خلافة الله في
إني جاعل في الأرض خليفة] (2) وقال تعالى: [يا داود إنا جعلناك خليفة
في الأرض فاحكم بين الناس بالحق] (3) وقال تعالى: [وقال موسى لأخيه
هارون اخلفني في قومي] (4) ومن المعلوم الذي لا يشك فيه أحد عاقل أن
خلافة الله لا تنال إلا من قبله ولا تثبت لأحد إلا بنصبه ونصه ولا تعلم إلا
من قوله لا من قول الناس، وأنت خبير بأن خلافة أحد من البشر فيما له



(1) سورة النساء: 54.
(2) سورة البقرة: 30.
(3) سورة ص: 26.
(4) الأعراف: 142.
156
الولاية عليه لا تصح لأحد من الناس إلا باستخلافه ونصه عليه ولا تعلم إلا
من قبله ولا تصح بنصب غيره أفترى أن خلافة الله تصح بدون إذنه وتثبت
لأحد من الناس بنصب الخلق إياه فتقصر حرمة الخالق عن حرمة المخلوق،
وإذا كان خلافة الله لا تحصل إلا من قوله تعالى كما هو معلوم وجب أن يكون
الإمام منصوصا عليه لأنه خليفة الله.
السادس وهو مؤلف من مقدمتين الأولى أنه لا يجوز لأحد من الناس أن
يوجب شيئا أو يحرم شيئا بهواه ورأيه من تلقاء نفسه من غير دليل من كتاب
الله أو سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإن من أوجب شيئا أو
حرمه سئل من أين أخذه فإن أقام عليه شاهدا من كتاب أو دليلا ثابتا من
سنة قبل منه وإلا رد عليه وأبطل قوله وأدخل في جملة القائلين على الله بغير
علم والمفترين على الله الكذب، وهذه المقدمة مما صح عليها اتفاق المسلمين
قولا فإنك لا تجد أحدا من الناس يقول إنه يجوز الحكم في إيجاب أو تحريم
بدون حكم الله ولا أنه يجوز مخالفة الله في حكمه وقد ورد القرآن الكريم
بالنهي عن القول على الله بغير علم ولعن الكذبة المفترين وورد مثله في سنة
سيد المرسلين بما لا يحصى كثرة من الآيات والروايات مثل قوله تعالى [ولا
تقف ما ليس لك به علم وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ولا تقولوا لما
تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن
الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون فجعلتم منه حراما وحلالا قل
الله أذن لكم أم على الله تفترون] (1) وغير ذلك من الآيات وقال النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) فيما تواتر واستفاض عنه (كثرت على الكذابة فمن
كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) (2) فمن المتيقن أن الموجب والمحرم



(1) ا بين القوسين أبعاض آيات من الاسراء 35 والبقرة 169 والنحل 116 ويونس 59.
(2) صحيح مسلم 1 / 18.
157
بغير حجة من الله كاذب على الله وعلى رسوله ومفتر عليهما الكذب فيكون
مستحقا للعن ومستوجبا للبعد من رحمة الله لأن الله يقول [فنجعل لعنة الله
على الكاذبين] (1) ويكون الحاكم بدون دليل من الشرع الشريف حاكما
بخلاف ما أنزل الله فيدخل في عموم قوله تعالى [ومن لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك هم الكافرون] (2) ثم كيف يجوز لأحد من الناس الإيجاب
والتحريم والتحليل بدون قول الله تعالى والنبي الذي هو سيد الرسل لم يكن
له ذلك بل هو مأمور بأن يحكم بحكم الله ولا يتعداه ولا يعمل بسواه قال الله
تعالى خطابا له [اتبع ما أوحي إليك من ربك] (3) وقال [واستقم كما
أمرت] (4) وقال [إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك
الله] (5) ولم يقل له احكم بما تراه أنت وما تشتهيه، ومعنى أراك أعلمك
وقال [ليس لك من الأمر شئ] (6) وقال تعالى [ولو تقول علينا بعض
الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين] (7) وغير ذلك من
الآيات في هذا المعنى وإذا كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) منهيا عن
الحكم برأيه مع أنه أسد البرية رأيا افترى يجوز الله الحكم بالرأي لسائر
الناس؟ وإذا لم يجعل الله للنبي (صلى الله عليه وآله) أمر التحليل
والايجاب والتحريم أفيجوز أن يجعل ذلك لغيره؟ فثبت من ذلك كله أن
الموجب والمحرم بدون حجة من الله من كتاب أو سنة متعمد للكذب على الله



(1) آل عمران: 61.
(2) المائدة: 44.
(3) الأنعام: 106.
(4) الشورى: 15.
(5) النساء: 105.
(6) آل عمران: 128.
(7) الحاقة: 46.
158
ومفتر عليه، ومتعمد الكذب على الله كافر مستحق اللعن والعذاب والطرد
من رحمة الله والإبعاد كما عرفت أولا.
الثانية: إن الإمام هو الرئيس الذي تجب على المسلمين طاعته وتحرم على
المكلفين معصيته وتجب موالاته ومعاداة أعدائه، والنصيحة له ولزوم جماعته
وهذا أمر متفق عليه لا يحتاج إلى الإطالة فيه بنقل الأدلة، ويكفيك منه ما
بين في المقدمة مما أوضحناه هناك فحينئذ نقول لأهل الاختيار إذا بدر جماعة
من الناس قلوا أو كثروا بعد موت النبي فبايعوا رجلا ونصبوه إماما فإنهم لا
محالة أوجبوا بذلك على المكلفين طاعته وحرموا عليهم معصيته فهل أوجبوا ما
أوجبوه لذلك الرجل من الطاعة وحرموا ما حرموه له من المعصية وسموه
إماما بنص من الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) عليه بالخصوص
ليكونوا قد أوجبوا وحرموا بحكم الله؟ أم بهوى أنفسهم وميل شهوتهم؟ فإن
كان الأول فذلك خارج عن معنى الاختيار ومطابق لقولنا أن الإمامة لا تكون
إلا بنص من الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) فلا اختيار على هذا،
وإن كان الثاني كانوا بإيجابهم ما لم يوجبه الله وتحريمهم ما لم يحرم داخلين في
زمرة المفترين على الله الكذب والقائلين عليه بغير علم، إذ قد علمت من
صريح الآيات أن الله تعالى لم يفوض إلى أحد أن يحكم بما أراد في دينه من
وجوب وتحريم عموما ولا خصوصا، ومن ادعا ذلك فعليه البيان وإقامة
البرهان وأنى له بذاك، فبطل بذلك الاختيار في الإمامة لاستلزامه كذب
المختارين على الله، ولو كلفهم الله باختيار الإمام لاغتفر لهم القول عليه
بغير علم لكنه تعالى لم يغتفر ذلك لأحد، اللهم إلا أن يقولوا إن الإمام على
وجه الاختيار لا تجب طاعته، وإنما هو كالملوك الجائرين فحينئذ يخرج من معنى
الإمامة الشرعية ونستريح من كلفة تصحيح إمامته وإبطالها، ومن هذا يعلم
أنه لا تثبت الإمامة إلا بالنص وليس الاختيار بطريق لها.

159
السابع إنه لا شك أن الإمام يجب أن يكون مصلحا لأمر الرعية مع
صلاحه في نفسه في الدين والدنيا ويجب أن يكون عادلا في الأحكام الشرعية
جميعا فلو تعدى حكم الله في شئ من الأحكام لكان مفسدا مبتدعا مفتريا
للكذب على الله مستحقا لاسم الظلم والكفر لحكمه بخلاف حكم الله
وليس مثل هذا بإمام قطعا عند أهل الدين، فنقول حينئذ لأصحاب الاختيار
إذا قلتم بأن الإمامة تثبت بالاختيار فأخبرونا عنكم تريدون إماما مصلحا أم
مفسدا؟ لا سبيل لهم إلى الثاني بل لا بد من أن يقولوا نريد إماما مصلحا،
فيقال لهم: فهل يجوز أن تقع خيرتكم على الأفسد وأنتم تظنون أنه الأصلح
أم تقولون إن خيرتكم لا بد أن تقع على الأصلح وتوافق خيرة الله في باطن
الأمر؟ فإن قالوا: بالأول قلنا: فقد بطل بهذا صحة الإمامة بالاختيار
لاحتمال كون المختار مفسدا وعدم القطع بكونه مصلحا فلا يكون مقطوعا
بصلاحه للإمامة لعدم الجزم بحصول ما هو شرط في الإمام فيه وهو
الصلاح، لأن المفروض هو كون الاختيار غير مقتض لصلاحه ولا موجب
لإصلاحه فبطلت إمامته لبطلان شرطها، وإن قالوا بالثاني قلنا لهم فيلزم من
ذلك دعواكم علم الغيب ومعرفة العواقب ويلزم أن تكونوا أسد رأيا من
أعاظم الأنبياء المرسلين فإنا وجدنا منهم من اختار في أمور ليس لها خطر
الإمامة أحد يظن أنه صالح لما اختاره فبان أنه غير صالح لذلك في باطن
الغيب فلم توافق خيرته خيرة الله.
هذا موسى بن عمران الذي كلمه الله تكليما واصطفاه برسالاته وفرق له
البحر وأنزل عليه التوراة وظلله وقومه بالغمام إلى غير ذلك مما أعطاه اختار
من قومه وهم ألوف سبعين رجلا لميقات ربه ليكونوا شهودا له عند قومه على
خطاب الله تعالى إياه وهو يظن أنهم صالحون فكفروا كما حكى الله تعالى من
خطابهم لنبيهم موسى بقوله عز وجل وقالوا [لن نؤمن لك حتى نرى الله

160
جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم] (1) فوقعت خيرته على الأفسد وهو يظن
أنه الأصلح.
وهذا نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو سيد الرسل وأفضل
الخلق أجمعين قد اختار أبا بكر لتبليغ آيات من سورة براءة إلى أهل مكة
ويقرؤها في الموسم بناء على صلاحيته لذلك في الظاهر فلم تكن خيرته مطابقة
لخيرة الله في باطن الغيب فأتاه جبرائيل (عليه السلام) عن الله تعالى يقول
" لا يبلغ عنك إلا أنت أو رجل منك " فأعطاها عليا (عليه السلام) وعزل
عنها أبا بكر والقصة مشهورة كالشمس وفيها سر عجيب وإشارة لطيفة ليس
هنا مقام بيانها، فإذا كان الكليم والحبيب من أولي العزم من الرسل وناهيك
بهما لما اختارا من دون وحي وقعت خيرتهما على غير الأصلح لما اختاراه ولم
توافق خيرتهما خيرة الله فكيف يدعي أحد من الناس أو يدعى له أن رأيه لا
يخطئ الواقع وأن خيرته من قبل نفسه ملازمة لإصابة خيرة الله حتى يكون
الذي ينصبه من تلقاء نفسه وميل قلبه لله رضا وأنه مختار الله؟ وأي شئ
أعظم فرية على الله وأشد كفرا من دعوى أن أحدا من الناس أسد رأيا وأجود
إصابة من الأنبياء المرسلين بحيث أن خيرته تلازم إصابة الواقع وتوافق خيرة
الله دون الأنبياء من أولي العزم؟ ما أظن أحدا من المسلمين عاقلا يسوغ
لنفسه ذلك، ولا يتجاسر على هذه الدعوى، فإذن خيرة الناس لا يلزم منها
إصابة الواقع فليس لهم أن يختاروا إماما لأنا بينا أن شرط صحة الاختيار علم
المختار بصلاحيته من اختاره لما اختاره في باطن الأمر عند الله تعالى وقد أخبر
الله تعالى عن ذلك بقوله [ولقد اخترناهم على علم على العالمين] (2) فليس
للجاهل بما هو صالح عند الله أن يختار عليه ويفرض إمامة من لم يفرض الله



(1) البقرة: 55.
(2) الدخان: 32.
161
إمامته، فتبين من جميع ذلك أن الاختيار في الإمامة لا عبرة به ولا تأثير له ولا
تعويل عليه والإمام به ليس بإمام حق تجب طاعته ولا بدليل هدى يتحتم
الاقتداء به، ومن أنصف عرف ذلك وتحققه، وإذا بطل كون الإمامة
بالاختيار وجب أن تكون بالنص أو المعجز إذ لا طريق غير ذلك لها فثبت ما
قلناه والله الهادي.
واعلم أنه ليس لمخالفينا على ما ادعوا من صحة الإمامة
بالاختيار حجة من آية أو رواية، ولا عثرنا لهم في كتبهم على ذلك بمتمسك
يتمسكون به، ولا ذكروا له دليلا سوى ما حدث من بعض الصحابة حيث
بايعوا أبا بكر ونصبوه إماما ولم يكن منصوصا عليه، فلولا أن الاختيار طريق
للإمامة لم تكن إمامة أبي بكر صحيحة لكنها صحيحة لإجماع الصحابة عليها
فيكون الاختيار مثبتا للإمامة لم نجد لهم سوى هذه الشبهة الواهية وفسادها
ظاهر لأهل النظر، بل ليست مما ينبغي أن يذكرا وذلك من وجوه.
الأول أنها مصادرة على المطلوب إذ لا تصح إمامة المذكور إلا بعد جواز
الاختيار والاختيار باطل بالأدلة، والباطل لا يثبت شيئا ولا يصححه، فكان
الواجب أولا أن يصححوا الاختيار بدليل حتى يثبتوا به إمامة الرجل، وهم
إنما صححوا الاختيار بإمامته التي لا تصح إلا بالاختيار فيلزم من ذلك الدور
وهو باطل.
الثاني منع الإجماع فإن المعروف من معنى الإجماع عند الخصوم كما ذكروه
في كتبهم الأصولية أنه عبارة من اتفاق أهل الحل والعقد، ومعلوم أن اتفاق
أهل الحل والعقد لم يحصل على إمامة أبي بكر بالرضا والاختيار، بل كان
الناس بعد النبي (صلى الله عليه وآله) على ثلاث فرق، فرقة مالوا إلى
علي (عليه السلام) وأخرى إلى سعد بن عبادة، وأخرى إلى أبي بكر، وما
زال الاختلاف باقيا إلى يومنا هذا ولقد أجاد من قال.

162
وكيف صيرتم الإجماع حجتكم * والناس ما اتفقوا يوما ولا اجتمعوا
أمر علي بعيد عن مشورته * مستكره فيه والعباس ممتنع
وليس يخفي على ذي اطلاع ما وقع بين الصحابة في خلافة أبي بكر من
الخصام والنزاع، وإن أكثر من بايعه ليس على وجه الرضا، وسيأتي جملة من
بيان ذلك وقد مضى شئ منه إشارة فلا إجماع ولا اتفاق، وإن كان
الإجماع اتفاق جماعة ولو كانوا اثنين أو ثلاثة فذلك مخالف لما ذكروه من معنى
الإجماع، بل ليس إجماعا قطعا وجزما إذ لو كان كذلك لكان كل قول اتفق
عليه ثلاثة مثلا كان إجماعا فإذن كثرت الإجماعات وتعارضت وفساد هذه
الدعوى بين لا يحتاج إلى البيان الذي فهم.
الثالث منع حجية الإجماع المدعى، وذلك أنا بينا فيما مر أن الإجماع لا
يكون حجة إلا بدخول من لا يجوز عليه الخطأ في جملة المجمعين، ومن
المتفق عليه بين المسلمين أنه لا معصوم من الداعين إلى بيعة أبي بكر ولا من
المبايعين، بل لم تدع العصمة لرجل من الصحابة إذ ذاك إلا لعلي (1) (عليه
السلام) وقد صح عند كل الأمة أن عليا لم يدخل في بيعة أبي بكر وأبي
خلافته وأنكرها وما زال منكرا لها حتى أكره على البيعة وقد روى البخاري
ومسلم في صحيحهما (2) أن عليا (عليه السلام) امتنع من بيعة أبي بكر مدة
حياة فاطمة وقد عاشت بعد أبيها ستة أشهر فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه
الناس عن علي (عليه السلام) فضرع إلى مبايعة أبي بكر، ومن اليقين أن
البيعة لو كانت حقا لما قعد عنها علي (عليه السلام) (وهو مع الحق والحق



(1) باعتبار قول الإمامية بعصمته.
(2) صحيح البخاري 5 / 82 كتاب المغازي باب غزوة خيبر وصحيح مسلم 5 / 154.
163
معه) (1).
وليس بعد الحق إلا الضلال بنص الكتاب.
وأما مبايعته أبا بكر بعد انصراف وجوه الناس عنه فأمر اضطراري إذ لا
يسعه الانفراد بنفسه، على أن الأمر خلاف هذا وإنما ذكرنا الرواية حجة على
الخصم، وإذا لم يكن على الذي هو ثابت العصمة مع المجمعين فلا عبرة
بالاجماع لو كان قد حصل، والحاصل أن مبني هذه الشبهة على الوثوق
بجملة الصحابة والحكم عليهم بأنهم لا يتعمدون مخالفة النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) وهذا المبني متهدم وسيتضح لك فساده تمام الاتضاح في
الفصل الثاني إن شاء الله، وأنت بعد تأمل الأدلة المتقدمة وما حررناه هنا لا
تشك في بطلان هذه الشبهة واندفاعها.
الرابع إن الإمامة لو كانت بالاختيار لم تكن أئمتهم أئمة لأن معنى اختيار
المسلمين هو اختيار أهل العلم والرأي منهم في جميع بلاد الإسلام، وأقل ما
يفهم من الاختيار اختيار أهل الفضل والعلم من بلد الإمام بأن يجتمعوا بعد
موته ويتشاوروا فيما بينهم ويجيلوا الرأي حتى تتفق كلمتهم على واحد معين
وتظهر لهم جلية الحال فيه، فإذا اجتمع رأيهم عليه بعد المشاورة والنظر
بايعوه لا معنى للاختيار غير هذا ولا ريب أن البيعة لواحد إذا وقعت على غير
هذا الوجه لم تكن واقعة باختيار المسلمين فتقع باطلة لبطلان شرطها وهو
اختيار المسلمين، ومن يدعي للاختيار معنى غير هذا فهو مكابر جاحد أو
جاهل معاند، ومعلوم أن واحدا من أئمتهم لم تقع إمامته على هذا الوجه،
هذا أبو بكر وهو رئيس أئمتهم لم تقع بيعته إلا باختيار رجلين عمر بن



(1) ستأتي مصادر هذا الحديث في جملة الأحاديث التي أوردها المؤلف في فضائل الإمام
علي (عليه السلام).
164
الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح لم يحضرها من المهاجرين غيرهما وحضرها
المغيرة بن شعبة وهو إذ ذاك ليس من أهل الشورى عند القوم وجميع أهل
الفضل من المهاجرين غير حاضرين لم يشاوروا فيها ولم يناظروا، والأنصار
وهم المعتمد في نصرة الإسلام نازعوا فيها وخاصموا فأخرجهم عمر بن
الخطاب من الشورى بما روى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن الأئمة
من قريش) فلم يجعل لهم في الإمامة اختيارا وكانوا قد اختاروا سيدهم سعد
بن عبادة الخزرجي وأقعدوه في سقيفة بني ساعدة ليبايعوه فأبطل عمر
وصاحباه أمرهم بالرواية المذكورة تارة وبغيرها أخرى وأخرجوهم من هذا
الأمر بالمرة، وحسبك من ذلك قول عمر " كانت بيعة أبي بكر فلتة " (1)
يعني بغير مشورة كما قاله تابعوه في معناها، وإلا فالكلمة أعظم من ذلك كما
يصرح به قوله بعد " وقي الله المسلمين شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه " والكل
مذكور مبين في مواضعه فأين اختيار المسلمين في هذا الأمر وأين مشاورتهم في
هذه البيعة؟ وليس لأحد أن يدعي خلاف ذلك لأنه يدخل حينئذ في حيز
العناد البحت والجهل الصرف بما وقع عليه أمر بيعة الرجل فلم تكن بيعة أبي
بكر واقعة باختيار المسلمين بالقطع واليقين، وإنما هي باختيار عمر وأبي عبيدة
خاصة، فإن قال قائل: إن اختيار الرجلين المذكورين ماض على جميع
المسلمين فليس لهم بعد اختيارهما اختيار قلنا له: أولا هذا رجوع عن القول
بالاختيار ومناقض له وعدول إلى القول بالاختصاص ولا بد من إبطالك أحد
المتناقضين، فأبطل ما شئت منهما تخصم، ويقال له ثانيا: فيلزمك الحكم
بفسق من تخلف من عظماء الصحابة عن بيعة أبي بكر ولم يعتد باختيار
الرجلين ولا جعله مؤثرا شيئا حتى ألزم قوم منهم بالمبايعة عل غير وجه جميل



(1) روى هذه الفلتة البخاري في صحيحه 8 / 210 كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة
باب رجم الحبلى ص 86.
165
كعلي (عليه السلام) ومن معه مثل العباس وبني هاشم والزبير وسلمان
والمقداد وأبي ذر وعمار وبقي جماعة على الآباء والامتناع كسعد بن عبادة
وتابعيه من حيث أنهم لم يجعلوا اختيار عمر وأبي عبيدة ماضيا عليهم ولم
يرضوا بمن اختاراه، قل ما شئت تخصم نفسك وتبطل مذهبك إن قلت: إن
اختيار الرجلين غير ماض على المسلمين أبطلت تلك البيعة وطعنت في صحتها
وعاقديها، وإن قلت أن اختيار الرجلين ماض على المسلمين طعنت فيمن رده
وأبطله وجعل وجوده كعدمه، فاختر - أعزك الله - من هذين الوجهين ما
تريد يكن فيه إبطال مذهبك وتكذيب دعواك هذه الحال في بيعة أبي بكر.
وأما خلافة عمر فإنها صدرت باختيار أبي بكر خاصته ولم تكن بمشاورة
غيره، وطلب فيها طلحة الشورى وأباها هو وقوم معه أشد الآباء وأزرى على
أبي بكر استخلافه عمر وخوفه من الله في ذلك، فجبهه أبو بكر وتنقصه بأن قال
له " عمر خير الناس وأنت شرهم (1) " وتهدده وتوعده بما هو عند مخالفينا مذكور
وفي كتبهم مسطور وقد مر عليك ذكره، فأين اختيار المسلمين في هذه
البيعة،؟ بل هي أعظم من سابقتها اختصاصا ومن أين جاز لأبي بكر أن
يجعل لعمر الخلافة من غير مشاورة المسلمين من أهل السابقة والعلم والدين
من الصحابة وهو يعلم أنها لا تصح إلا باختيارهم كما قلتم؟ وكيف زاد على
ما فعل بإجبار من أبي عن بيعة عمر مع سبقه عليه اسلاما وكونه أكثر منه
جهادا على طاعته؟ وكيف استحل عمر الولاية من جهة أبي بكر خاصة مع
عدم رضا جماعة من أعيان المسلمين وهو القائل لأبي بكر حين اقطع عينيه بن
حصين والأقرع بن حابس (2) أرضا بعد ما استشار من حوله من المسلمين



(1) شرح نهج البلاغة: 1 / 65 و 195.
(2) عينية بن حصن الفزاري أسلم بعد الفتح وشهد حنينا والطائف وكان من المؤلفة
قلوبهم ومن الأعراب الجفاة وارتد بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) وتبع
طليحة الأسدي وقاتل معه وأسر وحمل إلى أبي بكر فكان صبيان المدينة يقولون له يا
عدو الله كفرت بعد إيمانك فيقول: ما آمنت بالله طرفة عين وأسلم فأطلقه أبو بكر
(رضي الله عنه)، (أسد الغاية 4 / 167).
وأما الأقرع بن حابس فهو من بني تميم وفد على رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) مع أشراف قومه بعد فتح مكة وجرت بينهم وبين رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) محاورة لطيفة نقلها ابن الأثير أسد الغابة 1 / 119 بترجمة الأقرع بن
حابس المذكور وأسلم الأقرع يومئذ وكان شريفا في الجاهلية والإسلام وشهد فتح
الأنبار مع خالد بن الوليد وأصيب بالجوزجان وكان قد بعثه عبد الله بن عامر على
جيش بعثة إلى خراسان.
166
" أخبرني عن هذه الأرض التي أقطعتها هذين الرجلين أهي لك خاصة أم
بين المسلمين؟ قال: بين المسلمين، قال: فما حملك أن تخص
بها هذين دون جماعة المسلمين قال: استشرت الذين حولي، فأشاروا بذلك،
فقال: أفكل المسلمين أوسعتهم مشورة ورضا " فقال " أبو بكر " فقد كنت
قلت لك إنك أقوى على هذا الأمر مني لكنك غلبتني " وقد كان قبل أن يأتي
أبا بكر ويسأله بما سمعت أخذ كتاب الإقطاع من الرجلين ثم تفل فيه فمحاه
كما رواه أولياؤه من فعله (3) فواعجباه من عمر يرد اقطاع أبي بكر لعيينة
والأقرع أرضا خربة مع رضا كثير من المسلمين بذلك لعدم رضا جميعهم ثم
يتولى الخلافة بقول أبي بكر وعهده إليه مع عدم رضا جماعة من المسلمين مثل
طلحة وأضرابه ولم يقل لأبي بكر لا أتولى بقولك حتى توسع كل المسلمين
عذرا ومشورة؟ وأين هو إذ ذاك عن كلامه الأول وهو يعلم أن الخلافة
باختيار المسلمين فأين الاختيار وأين المشورة في خلافته وهل هي إلا فلتة
كالأولى؟! ثم البيعة الثالثة لعثمان مثلها فإن عمر قصر الاختيار فيها في
ستة أخرج جميع المسلمين منها ومن المشورة فيها ثم أخرج منها خمسة وقصرها
على رأي واحد وهو عبد الرحمن بن عوف وأبطل اختيار الباقين، وأمر بقتل
من خالف عبد الرحمن من الخمسة وغيرهم وبقتل الستة جميعا إن مضت ثلاثة
أيام ولم يبايعوا الواحد منهم، فأين اختيار المسلمين في ذلك؟ وأين وقوع هذه

167
البيعة باختيارهم؟ وإنما وقعت بخيرة عبد الرحمن خاصة وكان جماعة من خيار
الصحابة كعمار بن ياسر والمقداد بن الأسود وأمثال هذين وسعد بن أبي وقاص
في رواية كلهم أشاروا على عبد الرحمن بمبايعة علي بن أبي طالب (عليه
السلام) وترك مبايعة عثمان فلم يلتفت إلى قولهم ولم يشر بمبايعة عثمان إلا
رجل طليق من بني مخزوم ممن لا تجوز مشاورة مثله في تمرة من بيت مال
المسلمين (1) فضلا عن الرئاسة العامة على الأمة فأين اختيار أهل الفضل من
الصحابة لهذه البيعة؟ وكل هذه الأمور معلومة لا يستطيع أحد إلى إنكارها
سبيلا فاللازم على الخصوم إما القول ببطلان اختيار المسلمين في الإمامة وأنها
كالملك الجبري تكون لمن غلب كما هي حالها بعد الرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم) وإما القول ببطلان إمامة الثلاثة لعدم وقوعها باختيار المسلمين
كما عرفت أو الحكم بفسق كثير من الصحابة الطاعنين في تلك المبايعات
والرادين لها كما مر عليك بيانه مشروحا في المقام وإن كان مختصرا وكل ذلك
لا يقول به الخصوم فما أدري ماذا يقولون؟ وبماذا يجيبون في هذه الإمامة التي
يقولون إنها باختيار المسلمين ثم يعقدها لواحد آخر على رغم إناف
المسلمين، فما أشد مناقضة هذا الفعل لذلك القول، ومن هذا يعلم أن
الإمامة لا تصح بالاختيار، وأنها لم يلها أحد باختيار المسلمين من أئمة
القوم بالمرة فلا بد في صحتها وثبوتها من النص وقد تبين غاية التبين من جميع
ما ذكرناه أن كل من ادعى الإمامة أو ادعيت له بعد النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) ما خلا عليا (عليه السلام) ليست إمامته صحيحة
لفقدانهم الشروط الواجبة في الإمام بأدلة القاطعة والبراهين النيرة
اللامعة من العصمة والقرابة والنص عليهم من الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) والفضل لا سيما بالمعنى الثاني من معنييه وهو الجمع للصفات الحميدة



(1) الرجل المقصود عبد الله بن سعد بن أبي سرح وإشارته نقلها ابن أبي الحديد في شرح
النهج 1 / 193 كما نقل إشارة سعد والآخرين كما في المتن.
168
لقصورهم عن كثير من الصحابة في ذلك فضلا عن أن يوازنوا فيها أمير
المؤمنين، ولم يكن أحد منهم إماما بالنص عليه من الرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم) باتفاق الأمة وإقرار الخصوم، وإذا بطلت إمامة الكل ما خلا
إمامنا عليا (عليه السلام) تعين أن يكون هو الإمام بالضرورة لعدم جواز
إمامته غيره، وعدم جواز خلو الأرض من إمام وذلك هو المطلوب والمراد،
ولنختم هذا الفصل بإيراد حديث شريف في هذا المعنى رواه الشيخان الجليلان
محمد بن يعقوب الكليني، ومحمد بن علي بن بابويه القمي واللفظ هنا لمحمد
بن يعقوب قال قدس الله نفسه وطهر رمسه أبو محمد القاسم بن العلا رحمه الله رفعه
عن عبد العزيز بن مسلم قال كنا مع الرضا بمرو فاجتمعنا في الجامع يوم
الجمعة في بدء مقدمنا فأداروا أمر الإمامة وذكروا اختلاف الناس فيها فدخلت
على سيدي (عليه السلام) - يعني الرضا - فأعلمته خوض الناس فيه فتبسم ثم
قال: (يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن آرائهم إن الله عز وجل لم
يقبض نبيه (صلى الله عليه وآله) حتى أكمل له الدين وأنزل عليه
القرآن فيه تبيان كل شئ بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما
يحتاج إليه الناس كملا، فقال الله عز وجل [ما فرطنا في الكتاب من
شئ] (1) وأنزل في حجة الوداع وهي آخر عمره (صلى الله عليه وآله)
[اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام
دينا] (2) وأمر الإمامة من تمام الدين ولم يمض (صلى الله عليه وآله)
حتى بين لأمته معالم دينهم وأوضح لهم سبيلهم وتركهم على قصد سبيل الحق
وأقام لهم عليا (عليه السلام) علما وإماما وما ترك شيئا تحتاج إليه الأمة إلا
بينه فمن زعم أن الله عز وجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله ومن رد كتاب
الله فهو كافر، هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة فيجوز فيها



(1) الأنعام: 38.
(2) المائدة: 3.
169
اختيارهم، إن الإمامة أجل قدرا وأعظم شأنا وأعلا مكانا وأمنع جانبا وأبعد
غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم أو يقيموا إماما
باختيارهم، إن الإمامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل بعد النبوة
والخلة مرتبة ثالثة وفضيلة شرفه بها وأشار بها ذكره فقال: [إني جاعلك
للناس إماما] فقال الخليل (عليه السلام) سرورا بها [ومن ذريتي] قال الله
تبارك وتعالى: [لا ينال عهدي الظالمين] (1) فأبطلت هذه الآية إمامة كل
ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة، ثم أكرمه الله تعالى بأن جعلها في
ذرية أهل الصفوة والطهارة فقال: [ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا
جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات
وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين] (2) فلم تزل في ذريته يرثها
بعض عن بعض قرنا فقرنا حتى ورثها الله عز وجل النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) فقال جل وتعالى [إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا
النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين] (3) فكانت له خاصة فقلدها (صلى
الله عليه وآله وسلم) عليا (عليه السلام) بأمر الله عز وجل على رسم ما
فرض الله فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان بقوله
جل وعلا [وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم
البعث] (4) فهي في ولد علي (عليه السلام) خاصة إلى يوم القيامة إذ لا
نبي بعد محمد (صلى الله عليه وآله) فمن أين يختار هؤلاء؟!.
إن الإمامة هي منزلة الأنبياء ووراثة الأوصياء.



(1) البقرة: 124.
(2) الأنبياء: 73.
(3) آل عمران: 68.
(4) الروم: 56.
170
إن الإمامة خلافة الله وخلافة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
ومقام أمير المؤمنين وميراث الحسن والحسين (عليهما السلام).
إن الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين.
إن الإمامة أس الإسلام النامي وفرعه السامي، بالامام تمام الصلاة
والزكاة والصيام والحج والجهاد وتوفير الفئ والصدقات وإمضاء الحدود
والأحكام ومنع الثغور والأطراف.
الإمام يحل حلال الله ويحرم حرام الله، ويقيم حدود الله ويذب عن دين
الله ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة.
الإمام كالشمس الطالعة المجللة بنورها للعالم وهي في الأفق بحيث لا
تنالها الأيدي والأبصار.
الإمام البدر المنير والسراج الزاهر والنور الساطع والنجم الهادي في
غياهب الدجى وإجواز البلدان والقفار ولجج البحار.
الإمام الماء العذب على الظمأ والدال على الهدى والمنجي من الردى.
الإمام النار على اليفاع الحار لمن اصطلى به والدليل في المهالك من فارقه
فهالك.
الإمام السحاب الماطر والغيث الهاطل والشمس المضيئة والسماء الظليلة
والأرض البسيطة والعين الغزيرة والغدير والروضة.
الإمام الأنيس الرفيق والوالد الشفيق والأخ الشقيق والأم البرة بالولد
الصغير ومفزع العباد في الداهية النئاد.
الإمام أمين الله على خلقه وحجته على عباده وخليفته في بلاده والداعي
إلى الله والذاب عن حرم الله.

171
الإمام المطهر من الذنوب والمبرأ من العيوب المخصوص بالعلم الموسوم
بالحلم نظام الدين وعز المسلمين وغيظ المنافقين وبوار الكافرين.
الإمام واحد دهره لا يدانيه أحد ولا يعادله عالم ولا يوجد منه بدل ولا له
مثل ولا نظير مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه له ولا اكتساب بل
اختصاص من المفضل الوهاب، فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام أو يمكنه
اختياره، هيهات هيهات ضلت العقول وتاهت الحلوم وحارت الألباب
وخسئت العيون وتصاغرت العظماء وتحيرت الحكماء وتقاصرت الحلماء
وحصرت الخطباء وجهلت الألباء وكلت الشعراء وعجزت الأدباء وعييت البلغاء
عن وصف شأن من شأنه وفضيلة من فضائله وأقرت بالعجز والتقصير،
وكيف يوصف بكله أو ينعت بكنهه، أو يفهم شئ من أمره أو يوجد من
يقوم مقامه ويغني غناه لا كيف وإني وهو بحيث النجم من يد المتناولين
ووصف الواصفين؟ فأين الاختيار من هذا وأين العقول عن هذا وأين يوجد
مثل هذا؟ يظنون أن ذلك يوجد في غير آل الرسول محمد (صلى الله عليه وآله
وسلم) كذبتهم والله أنفسهم ومنتهم الأباطيل فارتقوا مرتقا صعبا دحضا تزل
عنه إلى الحضيض أقدامهم راموا إقامة الإمام بعقول حائرة بائرة ناقصة وآراء
مضلة فلم يزدادوا منه إلا بعدا قاتلهم الله أنى يؤفكون ولقد راموا صعبا
وقالوا إفكا وضلوا ضلالا بعيدا ووقعوا في الحيرة إذ تركوا الإمام عن بصيرة
وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين رغبوا عن
اختيار الله واختيار رسوله (صلى الله عليه وآله) إلى اختيارهم والقرآن
يناديهم [وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله عما
يشركون] (1) وقال عز وجل [وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله



(1) القصص: 68.
172
ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم] (1) الآية وقال [ما لكم كيف
تحكمون أم لكم كتاب فيه تدرسون أم لكم فيه لما تخيرون أم لكم أيمان علينا
بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون سلهم أيهم بذلك زعيم أم لهم
شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين] (2) وقال عز وجل [أفلا
يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها أم طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون
أم قالوا سمعنا وهم لا يسمعون إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين
لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم
معرضون أم قالوا سمعنا وعصينا بل هو فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو
الفضل العظيم] فكيف لهم باختيار الإمام والإمام عالم لا يجهل وراع لا ينكل
معدن القدس والطهارة والنسك والزهادة والعلم والعبادة مخصوص بدعوة
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ونسل المطهرة البتول لا مغمز فيه في
نسب ولا يدانيه ذو حسب في البيت من قريش والذروة من هاشم والعترة من
الرسول (صلى الله عليه وآله) والرضا من الله عز وجل، شرف
الأشراف والفرع من عبد مناف نامي العلم كامل الحلم مضطلع بالإمامة عالم
بالسياسة مفروض الطاعة قائم بأمر الله عز وجل ناصح لعباد الله حافظ لدين
الله إن الأنبياء والأئمة يوفقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا
يؤتيه غيرهم فيكون علمهم فوق علم أهل زمانهم في قوله جل وتعالى
[أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدي فما لكم كيف
تحكمون] (3) وقوله تبارك وتعالى [ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا
كثيرا] (4) وقوله في طالوت [إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم



(1) الأحزاب: 36.
(2) القلم: 40.
(3) يونس: 35.
(4) البقرة: 269.
173
والجسم والله يؤت ملكه من يشاء والله واسع عليم] (1) وقال لنبيه (صلى الله
عليه وآله وسلم) [أنزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم
وكان فضل الله عليك عظيما] (2) وقال في الأئمة من أهل بيت نبيه وعترته
وذريته [أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم
الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه
وكفي بجهنم سعيرا] (3) وأن العبد إذا اختاره الله عز وجل لأمور عباده
شرح صدره لذلك وأودع قلبه ينابيع الحكمة وألهمه العلم إلهاما فلم يعي
بعده بجواب ولا يحير فيه عن الصواب فهو معصوم مؤيد موفق مسدد قد آمن
من الخطأ والزلل والعثار، يخصه الله بذلك ليكون حجته على عباده وشاهده
على خلقه و [ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم] (4)
فهل يقدرون على مثل هذا فيختارونه، أو يكون مختارهم بهذه الصفة
فيقدمونه تعدوا وبيت الله - الحق ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا
يعلمون، وفي كتاب الله الهدى والشفاء فنبذوه واتبعوا أهواءهم فذمهم الله
ومقتهم وأنفسهم فقال جل وتعالى [ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من
الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين] (5) قال [فتعسا لهم وأضل أعمالهم] (6)
وقال [كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب
متكبر جبار] (7) وصلى الله على النبي محمد وآله وسلم تسليما كثيرا تمام



(1) البقرة: 247.
(2) النساء: 113.
(3) النساء: 54.
(4) الجمعة: 4.
(5) القصص: 50.
(6) محمد: 8.
(7) غافر: 35.
174
الخبر (1). وهو كما ترى قد اشتمل على المطالب الجليلة وصرح بالفوائد الجزيلة
نسأل الله التوفيق لفهم معانيه والعمل على ما فيه إنه خير مسؤول وأكرم
مأمول.



(1) الكافي 1 / 154 إكمال الدين ص 632.
175
الفصل الثاني
في ذكر النصوص على أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام)
وهو يشتمل على مسائل:

177
المسألة الأولى: في إيراد النصوص على سيدنا ومولانا أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب (عليه السلام) بالإمامة، واعلم أن لأصحابنا في إثبات
الإمامة لأمير المؤمنين (عليه السلام) بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) بلا فصل ثلاثة طرق.
الأول: إبطال إمامة غيره ممن ادعيت له الإمامة بعد رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) لتثبت له الإمامة بالضرورة.
الثاني: النصوص الواردة في إمامته من الكتاب والسنة النبوية.
الثالث: ظهور المعجز على يده مع دعواه الإمامة.
أما الطريق الأول فقد بيناه في آخر الفصل الأول بما يكفي في البيان
لأولي الأذهان وسيأتي في مطاوي هذا الفصل له مزيد تبيان إن شاء الله.
وأما الطريق الثاني: فنقول إن الإمامية وجملة من فرق الشيعة متفقون
على أن المنصوص عليه من الله ومن الرسول (صلى الله عليه وآله)
بالإمامة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو علي بن أبي طالب (عليه
السلام) فيكون هو الإمام بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ لا نص على
غيره باتفاق الأمة، وزعم ابن أبي الحديد وشيوخه المعتزلة كالأشاعرة أنه لا

179
نص على علي (عليه السلام) بالإمامة صريحا يقطع العذر ويقيم الحجة وإنما
كان هناك تلويح لا تصريح وتعريض لا توضيح لا تثبت به الحجة القاطعة
للمنازعة وإنما طلبها بالأفضلية والقرابة من الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم)، والأشاعرة قالوا بعدم النص على علي (عليه السلام) وأن أبا بكر
أحق منه بالخلافة لأنه أفضل، وغير ذلك. مما تصدى قوم من أصحابنا
لإبطاله وأبطلوه، وستسمع في كلامنا إفساده بحول الله وقوته، فلنجعل
أصل المناظرة هنا مع ابن أبي الحديد ونقتصر من النصوص على جملة مما رواه
هو وصححه، أو ما روى في الكتب الصحيحة بزعمه وقبل ذكر النصوص
لا بد من بيان معنى النص في هذا المقام فنقول: المراد بالنص في هذا الموضع
الأمر الدال على الإمامة بالصريح من فعل وقول، فالفعل مثل تأهيل النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) رجلا لإمرة لا يصلح ذلك الفعل إلا له (صلى الله
عليه وآله وسلم)، مثل أن يعلم من قول النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) أنه لا يبلغ عنه الأمر الفلاني مثلا إلا من كان صالحا لأن يقوم
مقامه فيبعث رجلا للتبليغ عنه فإنه يعلم بهذا الفعل أنه (صلى الله عليه وآله
وسلم) أهله لمقامه من بعده ورشحه لخلافته ويكون المخالف له رادا للنص
وطاعنا فيه، والقول ما أفاد معنى الإمامة إما بلفظها أو ما يقاربه في المعنى
كلفظ الإمرة والإمارة وما شاكلهما، أو بلفظ الوصي والخليفة والوزير
وشبهه، أو بلفظ الطاعة مثل أن يقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
فلان إمام بعدي أو أميركم وشبههما، أو هو وصيي وخليفتي أو طاعته
طاعتي، أو هو وزيري، أو أن يقول هو مثلي أو تمسكوا به من بعدي، أو
هو وليكم، أو منزلته مني منزلة فلان من فلان ويشير إلى خليفة نبي فهذه
الألفاظ كلها دالة على الإمامة فهي نصوص صريحة فيها من غير ضم شئ
إليها داخلي أو خارجي، ومثلها فلان وارثي فلان أحق بمقامي أولى بي فلان
المختار بعدي فلان سيد أمتي، وقد يفيدها ألفاظ أخر كقول النبي (صلى الله

180
عليه وآله وسلم) فلان أحبكم إلى الله فلان أعلمكم فلان أقربكم إلى فلان
أشدكم جهادا أو أكثركم فلان لا يزال على الحق فلان خير أمتي، فهذه
الألفاظ تدل على الإمامة بضم اشتراط العصمة والأفضلية والأعلمية والأقربية
إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) في الإمام ولا يعرف في النص على
الإمامة أوضح من هذه المذكورات، ومن طلب لذلك لفظا أوضح منها أو
مثلها في هذا الباب لم يجده، ومن شك فقد نازع مقتضى عقله وأخرج
اللفظ عن معناه وصرفه في غير مؤداه، وهذا لا يعجز عنه أحد من العارفين
بفنون الكلام حتى في كلمتي الشهادتين (لا إله إلا الله محمد رسول الله)
لكنه بدون قرينة صارفة عن الحقيقة عين العناد ومنه يجئ الباطل والفساد،
والمعاند لا يلتفت إليه، وكيف يستفاد نص أبي بكر على عمر بالخلافة من قوله
إني عهدت إلى عمر بن الخطاب ويعرف منه استخلافه ولا يعرف من قول
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لرجل مخصوص هو وصيي النص عليه
بالاستخلاف وكلا اللفظين بمعنى واحد؟ فإن عهدت إلى فلان بمعنى
أوصيت إليه كما نص عليه أهل اللغة فما ظنك بغيره من الألفاظ التي ذكرت مما
هو أصرح منه وهل يجوز لعاقل أن يقول أنا أفهم من قول أبي بكر إني عهدت
إلى عمر أنه استخلفه ولا أفهم من قول رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) (علي وصيي) أنه استخلفه؟ فكيف بقوله: (علي إمامكم بعدي علي
خليفتي على أمتي) (1) إلى غير ذلك من الألفاظ الصريحة؟ وهل يرتاب عاقل
في إفادتها النص بالخلافة وهو قد قطع بنص أبي بكر على عمر باللفظ المذكور
إلا أن يسلك مسلك العناد الذي لا دواء له، نعوذ بالله من طاعة الهوى،



(1) الظاهر أن ما بين القوسين من حديثين ففي عدة من الأصول كمسند الإمام أحمد
5 / 340: (وهو وليكم بعدي) وفي حديث بدأ الدعوى كما في تاريخ الطبري
2 / 321 بتحقيق الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم: (إن هذا أخي ووصيي وخليفتي
فيكم).
181
فإذا تقرر ذلك وانتقش معناه في صحيفة قلبك فاعلم أنه قد ورد عن النبي
(صلى الله عليه وآله) النص على أمير المؤمنين بالإمامة بالفعل والقول
بتلك الألفاظ وما أدى معناها وغيرها مما يدركه المتتبع لكتب الأخبار وكتب
الاستدلال في الإمامة، فالفعل الصريح في النص.
منه: أخذ النبي (صلى الله عليه وآله) سورة براءة من أبي بكر
وعزله عنها بعد أن بعثة بها ليقرأها في الموسوم وينفذ حكمها نيابة عن الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم) وبعثه عليا (عليه السلام) بها لذلك مع قوله
لأبي بكر لما سأله أنزل في شئ قال: (لا، لكن لا يبلغ إلا أنا أو رجل مني) (1)
والقضية معلومة لا شك فيها عند الأمة وهي كما كانت دالة على إمامة علي
(عليه السلام) لأنه المبلغ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى
الأمة كذلك هي دالة على نفي صلاحية غيره للإمامة لأنها ناصة على أنه لا
يصلح أن يبلغ عن النبي (صلى الله عليه وآله) بعض آيات من سورة



(1) إجمال القصة براءة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعث أبا بكر (رضي الله
عنه) ببراءة وأمره أن ينادي في الموسم أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف
بالبيت عريان ومن كان بينه وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله) عهد فهو
إلى مدته ومن لم يكن له عهد فمدته أربعة أشهر والله برئ من المشركين ورسوله،
وكتب له بهذه الولاية كتابا فبينما أبو بكر (رضي الله عنه) ببعض الطريق إذ سمع
رغاء ناقة رسول الله القصوى فخرج أبو بكر فزعا - كما في رواية الترمذي - فظن أنه
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإذا هو علي (عليه السلام) فبلغه أن رسول
الله (صلى الله عليه وآله) بعثه ليأخذ منه براءة ويقوم هو بتبليغها، فوجد أبو
بكر في نفسه فلما رجع إلى المدينة بكى وقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي نزل
في شئ؟ قال: " لا، ولكن جبرائيل جائني فقال: (لا يؤدي عنك إلا أنت أو
رجل منك) كذا في رواية الإمام أحمد، وانظر تفسير الطبري 10 / 46 و 47
ومستدرك الحاكم 3 / 51 وسنن الترمذي 2 / 183 ومسند أحمد 1 / 3 و 151 و 330
وتفسير ابن كثير 2 / 333.
182
براءة إلى أهل مكة ولم يرتضه الله لذلك ولم يجعله له أهلا، فكيف يرتضيه
الله للرئاسة العامة وهي التبليغ عن النبي (صلى الله عليه وآله) للأمة
جميع أحكام شريعته في الدماء والأموال والفروج وإنفاذها فيهم؟ لأن الإمام
هو المبلغ عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أحكام الشريعة إلى أمته
والقائم بتنفيذها فيهم لا معنى للإمامة غير هذا يقينا، ومن لم يرتضه الله
لتبليغ بعض الأحكام القليلة لأناس من الأمة عن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) فبالأولى أن الله لا يرتضيه لتلك الرئاسة العامة والمنزلة الجليلة، ولما
كان علي (عليه السلام) هو المرتضى للتبليغ عن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) من دون تخصيص وأن حاله في ذلك كحال الرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم) فهو القائم مقامه في التبليغ إلى الأمة، كان هو الإمام المرتضى
لتلك الرئاسة الكبرى والأمر في ذلك واضح لا يخفى على ذي حجي فكيف
على خصومنا وهم من الفضلاء لولا ما وقع على أفهامهم من ظلمات
الشبهات فحالت بينها وبين إبصار الأمور الظاهرة والحق الواضح.
ثم أن قول النبي (صلى الله عليه وآله) (أو رجل مني) إما أنه
يريد أنه منه في قرابة النسب فيكون ذلك حجة لنا على ما نقول من أن الإمام
يجب أن يكون من ذوي قربى الرسول (صلى الله عليه وآله) ومن لم
يكن من ذوي قرابته لا يصلح لخلافته أو أنه بالاتباع كقوله تعالى حكاية عن
إبراهيم الخليل (عليه السلام): [فمن تبعني فإنه مني] (1) وقد قال الله
سبحانه وتعالى [قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله] (2) ومحبة الله
سبحانه وتعالى لعلي (عليه الصلاة والسلام) ومحبته لله تعالى ثابتة بقوله (صلى
الله عليه وآله وسلم) يوم خيبر: (يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله)



(1) إبراهيم: 36.
(2) آل عمران 31.
183
وقرابته لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثابتة بالنسب واتباعه له مما لا
يختلف فيه اثنان ولذا كان المخصوص بتبعية الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) وبمحبة الله تعالى فهو الإمام المرتضى بنص الله، القاطع ونص رسوله (صلى
الله عليه وآله وسلم) المثبت للحجة والمزيل للأعذار الواهية، فإنه على كلا التقديرين
في معنى " مني " يوجب خروج غيره عن صلاحيته للإمامة كما سمعت، فأي نص
يريد ابن أبي الحديد على إمامة علي (عليه السلام) أصرح من هذا النص
الصريح. ولعمري أن هذه القصة المتفق عليها (1) كافية في النص على إمامة
أمير المؤمنين (عليه السلام) ونفي إمامة غيره عند أولي الألباب، ولا
يحتاجون في ذلك إلى غيرها وإن كان موجودا قد طبق الآفاق والاعتذار في هذا
بأن عادة العرب إذا عقدوا بينهم عقدا وعهدا لا يقوم بتبليغه إلى المعاهدين إلا
العاقد أو من هو قريب منه في النسب كالأخ وابن العم فجرى الأمر في براءة
على قاعدة العرب فلم يكن فيه دلالة على إثبات مقام النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) لعلي مطلقا ونفي أبي بكر عن صلاحيته له مطلقا كما قاله المعتزلة
والأشاعرة اعتذار واهن وتعلق بما لا ينفع كتعلق الغريق بالحشيش ودفع
للنص بالشبهات الركيكة، لأنا نقول لهم: أولا إنكم علمتم أن النبي
(صلى الله عليه وآله) لا يعمل في أمر الدين والدنيا وتقديم أحد أو



(1) وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما بعث أبا بكر بآيات من أول
سورة براءة ليتلوها نيابة عنه في الموسم فنزل جبرائيل بعد أن سار أبو بكر وأمره أن
يرسل عليا ليأخذ الكتاب من أبي بكر وأخبره أنه لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل من
أهل بيتك فأخذ علي (عليه السلام) الكتاب منه وحج بالناس وأذن وبلغ روى ذلك
أئمة التفسير وعلماء الحديث وأرسلوه إرسال المسلمات كالطبري في تفسيره 10 / 46
وابن كثير في تفسيره 2 / 333 والآلوسي في تفسيره 3 / 268 والترمذي 2 / 135
والنسائي في الخصائص ص 20 كما رواه في السنن أيضا 5 / 234 والدارمي في السنن
2 / 67 والطبري في تاريخه 4 / 1720 ليدن حوادث سنة 9 وابن هشام في السيرة
4 / 130. الخ.
184
تأخيره بعادات العرب أهل الجاهلية ولا يعتمد عليها ولم يأمره الله بذلك بل
نهاه في كثير من الآيات عن ذلك مثل قوله تعالى [ولا تطع من أغفلنا قلبه
عن ذكرنا] (1) وقوله: [ولا تتبع أهواء الذين لا يؤمنون] (2) وغير
ذلك، وإنما اعتماده في كل الأشياء على قواعد دين الله دون قواعد الجاهلية
وعاداتها كيف لا والله تعالى يقول في حقه [وما ينطق عن الهوى إن هو إلا
وحي يوحى] (3) فأبطلت هذه الآية وما قبلها ما ادعاه الخصوم من كون عزله
عن براءة وبعث علي (عليه السلام) بها جاريا على عادات العرب وأثبتت أنه
لبيان استحقاق مقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعدم استحقاقه على
أبين وجه، وأيضا لو كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك مراعيا
لعادات العرب لبعث ببراءة من أول الأمر رجلا من أقاربه كعلي (عليه
السلام) أو عمه العباس أو عقيل أو غيرهم من بني هاشم فإنهم كانوا معه في
المدينة، وهو (صلى الله عليه وآله) عالم بعادات العرب ولم يبعث أبا
بكر بها ثم كيف يعقل أن الله يأمر نبيه (صلى الله عليه وآله) وسلم بأن
يجري على عادات أهل الجاهلية وهو قد بعثه لإزالتها وإماتتها بدين حنيفي
وملة إسلامية لا يقبل الله سواها، وقد قال (صلى الله عليه وآله) (إن
الله أذهب بالإسلام نخوة الجاهلية وتفاخرها بأنسابها) (4) وهو معلوم من قوله
(صلى الله عليه وآله) لا ريبة فيه وقال الله وجل وعلا مخاطبا له [اتبع
ما أوحي إليك من ربك] (5) ولم يقل اتبع عادات العرب وبعد فأي نبي بعثه



(1) الكهف: 28.
(2) الجاثية: 18.
(3) النجم: 3.
(4) في شرح نهج البلاغة 17 / 281 عن المغازي للواقدي (إن الله أذهب نخوة الجاهلية
وتكبرها بآبائها كلكم لآدم وآدم من تراب وأكرمكم عند الله أتقاكم) والكلمة من
خطبة له (صلى الله عليه وآله) لما فتح مكة. (5) الأنعام: 106.
185
الله باتباع عادات الكفرة وأهل الجاهلية حتى يكون سيد الرسل (صلى الله
عليه وآله وسلم) كذلك فنسبه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى العمل
بعادات أهل الجاهلية، ونسبة الله إلى أمره نبيه بذلك نسبة قبيحة مخالفة
للعقل والنقل من الكتاب والسنة توجب الخروج من الدين والبعد من الملة
الإسلامية لا يجوز لمسلم أن يدعيها ولا يجترئ مؤمن على اعتقادها لمخالفتها
الكتاب والسنة وضرورة العقل لكن ذلك ليس بكثير على الخصوم، وحيث
بطل ما ادعوا صح أن القصة دالة على ما ذكرناه من بيان مستحق مقام النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) ومن لا يستحق دون ما ذكروه لبطلانه بالأدلة
القطعية ونقول لهم ثانيا إذا كان بعث النبي (صلى الله عليه وآله) عليا
(عليه السلام) ببراءة وعزله أبا بكر عنها كان جاريا على عادة العرب لأن
عادتهم جرت بأن إبلاغ العهود لا يكون إلا للعاقد أو أحد من أقاربه كما قلتم
وجب أن تجري الإمامة ذلك المجرى فإن العرب قد جرت عادتهم واستقرت
بأن مقام الرجل الشريف من بعد موته يكون لا قرب الناس إليه لا سيما من
يقوم مقامه في حياته من ذوي قرابته، ولم تجر عادتهم بإعطاء مقامه الأباعد
فوجب أن يكون الإمام بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا (عليه
السلام) دون غيره على عادة العرب لأنه أقامه مقامه في حياته وهو أقرب
الناس إليه ويجب لذلك أن يكون تخصيص الله ورسوله (صلى الله عليه وآله
وسلم) عليا بتبليغ براءة نصا منهما على أن عليا (عليه السلام) هو القائم
مقام النبي (صلى الله عليه وآله) بعد وفاته دون باقي أقاربه لإقامته
إياه مقامه في حياته فلا ينازعه أحدا من أقارب النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) في مقام النبي (صلى الله عليه وآله)، وأما أبو بكر فإنه
خارج بعادة العرب عن خلاقة النبي (صلى الله عليه وآله) على كل
حال فما خرجت القصة على دعواكم عن كونها نصا على استخلاف أمير
المؤمنين (عليه السلام) بعد النبي (صلى الله عليه وآله) بلا فصل،

186
وعدم صلاحيته لذلك المنصب وليس في ذلك خفاء، ودعوى القوشجي في
شرح التجريد أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يدفع براءة إلى أبي
بكر ثم عزله عنها بعلي (عليه السلام) وإنما بعثه أميرا على الموسم وأردفه بعلي
عليه السلام) ليقرأ براءة، مخالف لما شاع وذاع وتواتر في القصة بين
المفسرين وأهل السيرة واستفاض في روايات محدثيهم، ولسنا نشك أنه كلام
مختلق موضوع ويدل على ذلك مضافا إلى شهرة القصة ما سيأتي من احتجاج
عبد الله بن عباس على عمر بن الخطاب في تفضيل علي (عليه السلام) على
أبي بكر بعزله عن براءة بعلي (عليه السلام) فلم ينكره عمر ولا ادعا
خلافه، على أن ذلك لا يدفع حجتنا لأنا نقول على هذه الدعوى أن غيره لا
يصلح للتبليغ عن النبي (صلى الله عليه وآله) في شئ من الأحكام ولو
صلح لذلك لاعطاه براءة وأمره بتبليغها وإذا لم يصلح لأن يبلغ عنه (صلى
الله عليه وآله وسلم) في حياته بعض الأحكام إلى قوم خاصين من الأمة لم
يصلح بالضرورة للقيام مقام النبي (صلى الله عليه وآله) بعد وفاته في
تبليغ جميع الأحكام لكل الأمة فلا فرق في ذلك بين عدم تأميره عليها من أول
الأمر وبين عدم إقراره عليها بعد التأمير لإفادة الأمرين معنى واحدا كما
عرفت، وما توهمه القوشجي من الفرق بين الحالين تجاهل وتغافل.
وأما ابن أبي الحديد فعنده كغيره منهم إن عزل أبي بكر عن براءة ثابت
كالشمس المنيرة صرح به في كتبه وأشعاره (1) وعلى كل حال يكون إعطاء
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا (عليه السلام) براءة إن كان من
أول الأمر وإن كان بعد عزل أبي بكر عنها إعلاما للناس وإفهاما لهم إنه لا



(1) أما في كتبه فانظر شرح نهج البلاغة 8 / 200 وأما في أشعاره فقوله في إحدى
علوياته.
ولا كان معزولا غداة براءة * ولا عن صلاة أم فيها فاخرا
187
يصلح للتبليغ عنه أحكام الشريعة وعهود المعاهدين غيره فهو القائم مقامه في
حياته فيجب أن يكون خليفته بعده والمؤدي عنه لأمته وهو المطلوب، وهذا
بحمد الله واضح لكن المتجاهل عن الحق والمقلد لأسلافه لا حيلة فيه.
ومن الفعل: الصريح الناص على إمامة أمير المؤمنين وأنه لا يجوز أن
يتقدم عليه في الإمامة أحد بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن النبي
(صلى الله عليه وآله) أمر الأمراء من أصحابه على غير علي (عليه
السلام) ولم يؤمر عليه أحدا فما خرج أمير المؤمنين (عليه السلام) في جيش
ورسول الله (صلى الله عليه وآله) ليس في ذلك الجيش إلا وعلي
(عليه السلام) هو الأمير على الجيش، ولا بعثه النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) إلى بلد إلا وهو أمير على من بها من الصحابة وغيرهم، ولا خلفه في
المدينة إلا وهو خليفته فيها، وهذا أمر معلوم لا يشك فيه عاقل، وقد روى
ابن أبي الحديد عن الواقدي قال سئل الحسن - يعني البصري عن علي
(عليه السلام) وكان يظن به الانحراف عنه ولم يكن كما يظن فقال: " ما
أقول فيمن جمع الخصال الأربع، ائتمانه على براءة، وما قال له في غزاة تبوك
فلو كان غير النبوة شئ لاستثناه، وقول النبي (صلى الله عليه وآله)
الثقلان كتاب الله وعترتي، وأنه لم يؤمر عليه أمير قط وأمرت الأمراء على
غيره " (1) انتهى ومن هذا يعلم أن دعوى القوشجي تأمير أبي بكر على علي
(عليه السلام) يوم بعثه ببراءة باطلة كسائر دعاويه المزخرفة الفاسدة التي لا
تحتاج في بطلانها إلى إكثار القول ونقل الحجج، ويعلم منه أيضا بطلان دعوى
ابن أبي الحديد أنه لم يرو عزل أبي بكر عن إمارة الموسم إلا الشيعة، فإن
روايته المذكورة عن الواقدي عن الحسن مصرحة بأن عليا (عليه السلام) لم
يؤمر عليه أحد قط فلو كان أبو بكر أمير الموسم وعلي فيه لكان أبو بكر أميرا



(1) شرح نهج البلاغة: 4 / 96.
188
عليه وحصل التناقض في القول، وابن أبي الحديد مصدق لقول الحسن غير
طاعن فيه، فإثباته لرواية محدثيهم زعم إمارة أبي بكر على الموسم وطعنه في
رواية عزله عنه ونسبتها إلى الشيعة خاصة مناقضة في قوليه إما لجهل أو
تجاهل، وعل هذا فتكون رواية الشيعة أرجح لأن مثل الحسن والواقدي
وأمثالهما من العامة قد وافقهم، والثانية باطلة مردودة لاختصاص جماعة منهم
بها، وصح من كل ذلك أن عليا (عليه السلام) لم يؤمر عليه أحد من
الصحابة في حال من الأحوال، وتقرير النص من هذا الفعل: أن النبي
(صلى الله عليه وآله) حيث لم يؤمر على علي (عليه السلام) أحد دل
ذلك من فعله أنه لا يجوز أن يتأمر على علي (عليه السلام) أحد من
الصحابة وأن يجوز له التأمر عليهم، وإذا لم يصح ان يتأمر عليه أحد من
الأمة في زمان النبي (صلى الله عليه وآله) لم يصح ذلك لأحد بعد
موت النبي (صلى الله عليه وآله) إذ لا فرق بين الحالين، وإذا لم
يجز لأحد التأمر على علي (عليه السلام) في حال من الأحوال وجب أن
يكون هو أمير الأمة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) فهو الإمام لا
محالة بعده ولا يجوز لأحد التقدم عليه إذ ليس إلا أمير مطاع أو مأمور مطيع
كما رووه عنه وما سواهما خارج من الملة، ولما كان غيره كأبي بكر وعمرو
وعثمان وأبي عبيدة وأضرابهم، ممن أمر عليهم رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) غيرهم كان ذلك دالا على جواز تقدم الغير عليهم فلا يكونون
أئمة، وهذا الفعل كسابقة نص على إمامة علي (عليه السلام) كما هو نص
على صلاحية غيره للإمامة لدلالته على عدم جواز تقدم الغير عليه ففيه وفي
سابقة الكفاية في النص لابن أبي الحديد لو كان ينصف، اللهم إلا أن يريد منا
نصا مثل النص الذي أراده أهل مكة من النبي (صلى الله عليه وآله)
في قولهم: [أو تأتي بالله والملائكة قبيلا] (1) فيقول لنا جيئونا بالنبي (صلى



(1) الاسراء: 92.
189
الله عليه وآله وسلم) لنشاهده ويقول لنا أنا فعلت ذلك لأعلم الناس أن عليا
(عليه السلام) هو الإمام بعدي والقائم مقامي وأن الإمامة لا تجوز لغيره
وإني بذلك الفعل قد نصصت عليه فحينئذ نقر بالعجز عن هذا ونقول إنما
علينا أن نأتيكم من فعل النبي (صلى الله عليه وآله) بدليل وشاهد
ونقيم عليكم حجة من قول النبي (صلى الله عليه وآله) ويكون جوابنا
هنا لهم شبيها بجواب النبي (صلى الله عليه وآله) لأولئك المقترحين
عليه وهو قوله تعالى: [قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا] (1)
وليت شعري كيف يفهم عويم بن ساعدة الأنصاري الأوسي استخلاف
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي بكر من أمره له بالصلاة كما ذكره
عنه ابن أبي الحديد (2) وغيره ويفهم عمر رضا رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) بأبي بكر لديهم وتقديمه عليهم من ذلك كما هو مشهور من قوله ولا
يفهم من ذينك الفعلين الواضحين إرادة الله ورسوله استخلاف علي (عليه
السلام) وتقديمه، ما هذا إلا تحير في المعلومات وشك في الواضحات وذلك
من أعظم الغفلات نسأل الله العصمة عن طاعة الهوى، على أن الصلاة لا
يشترط عندهم في إمامها العدالة فضلا عن الأفضلية فلو صح أن النبي
(صلى الله عليه وآله) أمره بالصلاة ولم يفد على قولهم عدالته فكيف
يفيد أفضليته وخلافته، وأنى ودون صحته خرط القتاد وكيف يصح وأمير
المؤمنين ينكره ويقول إن الأمر صدر من عائشة كما رواه ابن أبي الحديد (3)
وقد صح عنده (أن عليا مع الحق والحق معه) (4) فما ينكره علي لا يكون إلا



(1) الاسراء: 93.
(2) شرح نهج البلاغة 6 / 19.
(3) المصدر السابق: 6 / 39.
(4) نفس المصدر 19 / 88 و 16 / 77 قال ابن أبي الحديد: " ثبت عندي أن النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) قال: (إن عليا مع الحق وإن الحق يدور معه حيثما دار).
190
حقا فأمر أبي بكر بالصلاة غير صادر عن النبي (صلى الله عليه وآله)
قطعا بخلاف الأمرين المذكورين الثابتين من فعل رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) بعلي (عليه السلام) لأنهما لا يحتملان إلا إرادة التقديم على الغير
والاستخلاف كما بيناه ودفعنا به تعليلات القوم العليلة.
وأما القول: فالوارد منه بلفظ الإمامة جملة من الأخبار عن النبي
(صلى الله عليه وآله) منه قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) (علي
إمام البررة وقاتل الكفرة منصور من نصره مخذول من خذله) رواه الحاكم
بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري (1) وهو ممن لا يقدح الخصوم في روايته
لأنه من أكابر محدثيهم.
ومنه ما رواه ابن أبي الحديد عن أبي نعيم الحافظ الاصفهاني في حلية
الأولياء عن أنس بن مالك في حديث قال فيه له رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) (أول من يدخل عليك من هذا الباب إمام المتقين وسيد
المسلمين ويعسوب الدين وخاتم الوصيين وقائد الغر المحجلين) قال أنس
فقلت اللهم اجعله رجلا من الأنصار وكتمت دعوتي فجاء علي (عليه
السلام) فقال (صلى الله عليه وآله) (من جاء يا أنس)؟ فقلت علي
(عليه السلام) فقام إليه مستبشرا فاعتنقه ثم جعل يمسح عرق وجهه فقال
علي (عليه السلام) يا رسول الله لقد رأيت منك اليوم تصنع بي شيئا ما
صنعته قبل قال (صلى الله عليه وآله) (وما يمنعني وأنت تؤدي عني
وتسمعهم صوتي وتبين لهم ما اختلفوا فيه بعدي) (2) وهذا الحديث دال على
أن المؤدي عن النبي (صلى الله عليه وآله) المبين للأمة ما اختلفوا فيه



(1) مستدرك الحاكم 3 / 129.
(2) شرح نهج البلاغة 9 / 169 وحلية الأولياء 1 / 63.
191
من بعده هو صاحب الأوصاف المتقدمة في صدر الحديث من كونه إمام المتقين
إلى آخرها وهو المستحق لها دون من سواه ممن لا يصلح للأداء عن النبي
(صلى الله عليه وآله) تسع آيات من سورة براءة.
ومنه: ما رواه عنه في الكتاب المذكور عن أبي بردة الأسلمي أن رسول
الله (صلى الله عليه وآله) قال: (إن الله عهد إلي في علي عهدا
فقلت: يا رب بينه لي قال: اسمع إن عليا راية الهدى وإمام أوليائي ونور
من أطاعني وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين من أحبه فقد أحبني ومن أطاعه
فقد أطاعني فبشره بذلك فقلت بشرته يا رب فقال: أنا عبد الله وفي قبضته
فإن يعذبني فبذنوبي لم يظلم شيئا أن يتم لي ما وعدني فهو أولى وقد دعوت له
فقلت: اللهم اجل قلبه واجعل ربيعه الإيمان بك قال: قد فعلت ذلك غير
أني مختصة بشئ من البلاء لم أختص به أحدا من أوليائي فقلت رب أخي
وصاحبي قال: إنه سبق في علمي أنه لمبتل ومبتلى به) (1).
وبإسناد آخر بلفظ آخر في الكتاب المذكور عن أنس بن مالك عن النبي
(صلى الله عليه وآله): (إن رب العالمين عهد إلي في علي
عهدا أنه راية الهدى ومنار الإيمان وإمام أوليائي ونور جميع من
أطاعني إن عليا أميني غدا يوم القيامة فصاحب رايتي، بيد علي مفاتيح خزائن
رحمة ربي).
وفي الكتاب المذكور قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (مرحبا
بسيد المؤمنين وإمام المتقين) فقيل لعلي (عليه السلام) كيف شكرك؟ فقال
أحمد الله على ما أتاني وأسأله الشكر على ما أولاني وأن يزيدني مما



(1) شرح نهج البلاغة 9 / 167 وحلية الأولياء 1 / 66.
192
أعطاني) (1).
وقال ابن أبي الحديد: روى ابن ديزيل، قال: حدثنا زكريا بن يحيى قال:
حدثنا علي بن القاسم عن سعيد بن طارق عن عثمان بن القاسم عن زيد بن
أرقم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (ألا أدلكم على ما إن
تسالمتم عليه لم تهلكوا إن وليكم الله وإمامكم علي بن أبي طالب فناصحوه
وصدقوه فإن جبرائيل أخبرني بذلك) فهذه الأحاديث الصحيحة عند الخصم
كلها ناصة على علي (عليه السلام) بالإمامة ومصرحة بأنه إمام البررة وإمام
المتقين وإمام الأولياء وإمام الصحابة كما هو نص حديث زيد بن أرقم
وصريحها أن من كان من المتقين البررة وأولياء الله وأصحاب الرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم) فإمامه علي (عليه السلام) ومن لم يكن إمامه عليا
(عليه السلام) فليس من المتقين البررة ولا من الأولياء ولا من الصحابة بل
هو خارج عن هذه المراتب الشريفة وداخل في أضدادها فكيف تجوز لهم
الإمامة وقد جعلهم الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) مأمومين فأي
نص أوضح من هذه النصوص على ما ندعيه من إمامة أمير المؤمنين علي
(عليه السلام) من بعد النبي (صلى الله عليه وآله) وأي صريح
أصرح منها في ذلك؟ ويعجبني من ابن أبي الحديد قوله بعد نقله حديث
زيد بن أرقم: " فإن قلت: هذا نص صريح في الإمامة فما الذي تصنع المعتزلة
بذلك؟ قلت: يجوز أن يريد به أنه إمامهم في الفتاوى والأحكام الشرعية لا
في الخلافة " (2) انتهى وهذا الجواب مع أنه حرف اللفظ عن معناه وعدول به
عن نصه من غير سبب داع إلى ذلك كما هي عادة هؤلاء القوم فيكون فاسدا
لا يدفع ما نقوله ولا يرد ما ندعيه لأن دعوانا إنما هو وجود النص من الله ومن



(1) أيضا 3 / 98.
(2) شرح نهج البلاغة: 3 / 98.
193
الرسول (صلى الله عليه وآله) على علي (عليه السلام) بالإمامة الذي
كان ابن أبي الحديد وأصحابه ينكره وكذلك إخوانهم من الأشاعرة ومضاهوهم
ينكرون وها هو موجود كما ندعي فثبت مدعانا وبطل إنكارهم، ولسنا ندعي
عليه وعلى أصحابه وأمثالهم أنهم يقفون على النص ولا يتعدونه ولا يخرجونه
عن معناه بآرائهم ولسنا ننكر منه تحريفهم الكلم عن مواضعه، بل نقر لهم
بأن المعروف من سيرتهم والمعلوم من طريقتهم لكنه عين العصبية والعناد
المنهي عنه في الدين.
ثم يقال لابن أبي الحديد: جميع أهل العلم لا يعرفون من معنى الإمام
الشرعي إلا الرئيس العام على الأمة في إنفاذ الأحكام الشرعية، ولا يعرف
الصحابة من لفظ الإمام إذا أطلق إلا هذا المعنى كما بيناه سابقا، وهذا هو
الخليفة البتة وليسوا يعرفون من معنى الإمامة الشرعية إلا الرئاسة العامة في
أحكام الدين على سائر المكلفين وتلك هي الخلافة عن الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم) لا محالة، وتسمية المفتي إماما إنما هو اصطلاح حدث بعد
مضي أكثر من خمسمائة سنة من الهجرة بسبب ذكره بعض الشافعية في كلام
طويل ولم يكن قبل ذلك معروفا فلا يصح حمل الإمام في الأحاديث النبوية
عليه يقينا، وقد أوضحنا فيما سبق أن الإمام العام هو العالم بأحكام الدين
وموضحها للمكلفين ومن سواه ليس بإمام عام، على أن لفظ الخبر وهو
قوله: (صلى الله عليه وآله): (ما إن تسالمتم عليه لم تهلكوا) أي
توافقتم ثم إتيانه بلفظ الإمام بعد قوله: (إن وليكم الله) لا يحتمل إلا إرادة
الرئيس العام لا غيره، ويزيده وضوحا قوله: (صلى الله عليه وآله)
: (فناصحوه وصدقوه) إذ المناصحة لا محصل لها ولا موقع خصوصا إذا
كانت مطلوبة من جميع الناس كما هو صريح اللفظ إلا للإمام العام الذي هو
الخليفة، ويؤكده زيادة أيضا قوله (صلى الله عليه وآله): (فإن
جبرائيل أخبرني بذلك) فإنه (صلى الله عليه وآله) قصد بهذا القول

194
إخبارهم بأن نصه على علي (عليه السلام) بالإمامة بوحي من الله إليه لا من
قبل نفسه وليس يحتاج إلى بيان هذا إلا إذا كان المقصود من الإمامة المعنى
المطلق لا معنى خاصا وهذا ظاهر لكل ذي فهم، وأما الإمامة بمعنى الرئاسة
في غير الأحكام الشرعية التي هي أحكام الدين فغير معروفة عند أحد من
الصحابة ولا من الفقهاء والمتكلمين بأنها إمامة شرعية وأنها خلافة الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنما تعرف بأنها ملك جبري وسلطان
جوري، فإذا أقررت بأن عليا هو الإمام في أحكام الدين بنص الخبر لزمك
الإقرار بأنه خليفة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ لا خلافة في
الشرع غير الإمامة في أحكام الدين، ولزمك إذا جعلت غيره خليفة في غير
الأحكام الشرعية الإقرار بأنه ليس بإمام من أئمة الدين فهو غير واجب
الطاعة على المكلفين ولا لازم المناصحة على المؤمنين فليس بإمام شرعي فلا
يكون خليفة الرسول، لأن الخلافة هي الإمامة العامة في الدين والأحكام
الشرعية، بل هو سلطان جائر دنيوي فما زدت بجوابك على أن أثبت إمامة
صاحبنا وأوضحت النص عليها وأخرجت غيره من الإمامة الشرعية وأدخلته
في الرئاسة الدنيوية لا الدينية وذلك هو مطلبنا الأهم وغرضنا المقدم، والذي
كنا نناضل الفرق المخالفة عليه، إذ لسنا نزيد في القول على أن من عداه
ليس بإمام في أحكام الدين تجب طاعته والاقتداء به فيها، وأن الإمام في
ذلك كله هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأنه
ظلم واغتصب حقه وصريح قولك الاعتراف بدلالة
الخبر على قولنا وذلك هو المراد، فكأنك بما قلت قد قلدت جيد مذهبنا قلائد
النور وخلعت على قولنا خلع السرور، ثم يقال له أيضا: ألست حكمت بما
قلت: بأن عليا (عليه السلام) إمام أبي بكر في الأحكام الشرعية كما هو
إمام غيره من الصحابة فيها، وأن أبا بكر إمام علي (عليه السلام) لأنه
الخليفة فحينئذ يكون كل من علي وأبي بكر إماما ومأموما في حال واحدة كل

195
منهما واجب الطاعة على الثاني، وهل سمعت ورأيت رجلا إماما لغيره في
حال وذلك الغير إمام لذلك الرجل في تلك الحال؟ وهل وجد ذلك في شرائع
النبيين؟ أو عقل عند ذوي العقول المنصفين؟ كلا بل هذا تناقض لا تجوز
العقول حصوله، وتضاد لا تحتمل جمعيه لأن اجتماع المتضادين واتلاف
المتناقضين مما يمتنع في العقل ولا يعرفه أهل العلم والفضل، فيكون القول
المستلزم له باطلا فيجب أن يكون الإمام في الأحكام الشرعية لجميع المسلمين
وهو الخليفة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لئلا يلزم التناقض والتضاد
اللذان لا يجوزان عقلا ولا شرعا، ثم نقول له أيضا إنك حيث قلت أن عليا
إمام الصحابة في الفتاوى والأحكام الشرعية والإمام هو الذي يجب على
المأمومين الاقتداء به ولا يجوز لهم مخالفته فأخبرنا عن إمامك أبي بكر هل أخذ
في إبطال دعوى فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في فدك
بفتوى إمامه علي (عليه السلام) في الأحكام؟ أم بخلاف فتواه؟ وكذلك في
رده شهادته لفاطمة (عليه السلام) وفي منعها ميراثها؟ وفي درءه الحد عن
خالد بن الوليد لما قتل مالك بن نويرة وزنى بامرأته؟ وإحراقه الفجاءة السلمي
وإسقاطه سهم أولي القربى من الخمس؟ وتخلفه عن جيش أسامة، ورده عمر
من الجيش؟ وغير ذلك من الأفعال (1) هل أخذ بفتوى إمامه علي (عليه
السلام) في جميعها أم بغير فتواه؟ فإن قال أخذ في ذلك كله بفتوى علي
(عليه السلام) فقد أبطل وأحال وادعى ما لا يعرف وما يكذبه فيه كل
أحد، وإن قال أخذ في ذلك وغيره بغير فتوى علي (عليه السلام) بل
بضدها كما هو المعلوم بين الأمة فيلزمه أحد الأمرين: إما إثبات المعصية لأبي
بكر لمخالفته فتوى إمامه في الفتوى، أو إخراج علي (عليه السلام) من
الإمامة في الفتاوى والأحكام الشرعية التي اعترف بصراحة الخبر فيها فيكون



(1) شرح نهج البلاغة 3 / 98.
196
قد كذب الخبر الصحيح عنده وأبطل ما حكم به، فليختر عز الدين عبد
الحميد من هذين الوجهين ما يريد يكفه في مناقضته نفسه وإبطال مذهبه
وجرائته على أئمته، فتبين لك من هذه الجملة الوافرة عصمة تلك الأخبار
الصريحة عن التأويل، وامتناعها عن القال فيها والقيل، وبها يتحقق النص
على إمامة أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، ويبطل ما قاله ابن أبي
الحديد، وأعجب من قوله الأول قوله بعده: " وأيضا فإنا قد شرحنا من قول
شيوخنا البغداديين ما محصوله أن الإمامة كانت لعلي (عليه السلام) إن رغب
فيها ونازع عليها، وإن أقرها في غيره وسكت عنها تولينا ذلك الغير وقلنا
بصحة خلافته، وأمير المؤمنين لم ينازع الأئمة الثلاثة ولا جرد السيف ولا
استنجد الناس عليهم " (1) إلى آخر ما قال مما معناه إن أمير المؤمنين (عليه
السلام) فعل ذلك لحكم هو وأصحابه على المتقدمين عليه بالهلاك " (2) وفي
هذا الكلام من الوهن ما لا يخفي وهو من وجوه:.
الأول: حكمه عليهم بالهلاك لو نازعهم علي (عليه السلام) وهذا
يناقض القول بصحة إمامتهم بعد البيعة لهم كما يقوله هو وأصحابه لأن إمام
الحق لا يجوز قتاله ولا منازعته ولا تجريد السيف في وجهه، بل لا تجوز
مخالفته في أمره ونهيه، وإذا كانت إمامتهم صحتها موقوفة على رضاه لم
يجز لهم عقدها قبل حضوره ومشاورته فإن رغب فيها سلموها له وإن رضي
بغيره عقدوها لذلك الغير وشئ من ذلك لم يكن، فإنه (عليه السلام) لم
يشاور في واحدة من بيعات الثلاثة البتة بالاتفاق، وتصحيح هذا الخصم فإن
عمر قد عقدها لأبي بكر في السقيفة وعلي غير حاضر ولا مشاور ولازم قول
المعتزلي أن بيعة أبي بكر في السقيفة غير صحيحة لعدم مشاورة أمير المؤمنين



(1) استعرض السيد شرف الدين كل هذه الأحداث في كتابه النص والاجتهاد ص
141 - 284 وحري بالباحث أن يطلع على ذلك.
(2) شرح نهج البلاغة 3 / 98.
197
فإلزامه الناس بمبايعته بعد خروجه من السقيفة ظلم وعدوان، وعقدها أبو
بكر لعمر ولم يشاور عليا (عليه السلام) وعقدها عبد الرحمن بن عوف
لعثمان بوصية من عمر وعلي (عليه السلام) كاره، وكل ذلك معلوم لا نزاع
فيه فتقع إمامتهم على ما قال باطلة يصححها، ولازم قوله فسادها.
الثاني: قوله إن أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يستنجد الناس عليهم
فإنه دفع للمعلوم باللسان، فقد روي أن عليا أركب فاطمة على حمار وأخذ
الحسن والحسين، فما ترك أحدا من أهل السابقة إلا مضى إليه وذكر له
حقه ودعاه إلى نصرته على أبي بكر وأصحابه فعل ذلك ثلاث ليال في كلها لم
يجبه إلا أربعة أو خمسة (1) فمن فعل ذلك كيف يقال فيه أنه لم يستنجد الناس
وأنه سكت عن طلب الخلافة ورضي بخلافة غيره؟
الثالث: إنه " قوله (عليه السلام) ما جرد السيف " وهذا باطل فإنه قد
روي أن الزبير جرد السيف بأمره (عليه السلام) وخرج شاهرا سيفه حين
أتى عمر وأصحابه بأمر أبي بكر واقتحموا على علي (عليه السلام) وأصحابه
البيت ليجالدهم بذلك السيف فأخذ من عنده، ونادى أبو بكر بأخذه اضرب
به الحجر ففعل، وساقوا عليا وأصحابه بالعنف الشديد، ومن المعلوم أن
هذا تجريد للسيف لكنه لم يجد على ذلك ناصرا ولا معينا فلا يجوز أن يقال فيه
أنه ما جرد السيف.
الرابع: قوله " ولم ينازعهم " فإن هذه دعوى كاذبة كذبا صراحا، وأي
منازعة أعظم مما جرى منه معهم وتخلفه عنهم معلوم واحتجاجه عليهم مشهور
وطعنه فيهم مواجهة بتظاهرهم على أخذ حقه مذكور وفي كتاب خصمنا وغيره
مسطور؟ وسيأتي بعضه في نقل حجته على ما يدعى من عدم النص إن شاء



(1) شرح نهج البلاغة 6 / 13.
198
الله تعالى ونذكر هنا قطعة صالحة من ذلك مما نبطل به دعواه فنقول قال في
كتابه (1) قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري، وأخبرنا أبو زيد عمر بن شبة
قال حدثنا إبراهيم بن المنذر عن ابن وهب عن أبي لهيعة عن أبي الأسود قال
غضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر وغضب علي والزبير فدخلا بيت
فاطمة معهما السلاح فجاء عمر في عصابة منهم أسيد بن حضير وسلمة بن
سلامة بن وقش (2) وهما من بني عبد الأشهل فصاحت فاطمة (عليها
السلام) وناشدتهم فأخذوا سيفي علي والزبير فضربوا بهما الجدار حتى
كسروهما ثم أخرجهما عمر، يسوقهما حتى بايعا وقال خصمنا (3) ابن أبي الحديد
أيضا، " قال أبو بكر وحدثنا أبو زيد عمر بن شبه وساق السند إلى سلمة بن
عبد الرحمن قال: لما أجلس أبو بكر على المنبر كان علي والزبير وناس من بني
هاشم في بيت فاطمة فجاء عمر إليهم وقال والذي نفسي بيده لتخرجن إلى
البيعة أو لأحرقن البيت عليكم فخرج الزبير مصلتا سيفه فاعتنقه رجل من
الأنصار وزياد بن لبيد فدق به فندر (4) السيف فصاح أبو بكر وهو على المنبر
" اضرب به الحجر " (5) قال أبو بكر الجوهري " وقد روي في رواية أخرى أن
سعد بن أبي وقاص كان معهم في بيت فاطمة والمقداد بن الأسود أيضا وأنهم
اجتمعوا (عليه السلام) أن يبايعوا عليا (عليه السلام) فأتاهم عمر ليحرق
عليهم البيت فخرج إليه الزبير بالسيف وخرجت فاطمة (عليها
السلام) تبكي وتصيح " (6).



(1) يعني شرح النهج.
(2) في شرح النهج " قريش ".
(3) شرح نهج البلاغة 6 / 47.
(4) ندر أي سقط.
(5) شرح نهج البلاغة: 2 / 56.
(6) أيضا 6 / 48 وتحريق باب فاطمة عليها السلام أو التهديد بالتحريق نقله جماعة من
المؤرخين نذكر منهم الطبري في التاريخ 3 / 202 حوادث سنة 11 وابن قتيبة في
الإمامة والسياسة 1 / 13 وابن عبد ربه في العقد الفريد 4 / 259 وابن شحنة في
تاريخه هامش كامل ابن الأثير 7 / 164 وأشار إليه حافظ إبراهيم شاعر النيل في
قصيدته العمرية المشهورة بقوله:
وقولة لعلي قالها عمر * أكرم بسامعها أعظم بملقيها
حرقت دارك لا أبقي عليك بها * إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها
ما كان غير أبي حفص يفوه بها * أمام فارس عدنان وحاميها
واعتذر بذلك عروة بن الزبير عن أخيه عبد الله إذ هم بتحريق بني هاشم لما امتنعوا
عن بيعه كما في شرح نهج البلاغة 4 / 495.
199
قال المعتزلي، وقال أحمد بن عبد العزيز الجوهري أيضا:
" وحدثنا ابن غفير قال: حدثنا أبو عون عبد الله بن عبد الرحمن عن أبي
جعفر محمد بن علي أن عليا (عليه السلام) حمل فاطمة على حمار وسار بها
ليلا إلى بيوت الأنصار يسألهم النصرة وتسألهم فاطمة الانتصار فكانوا
يقولون: يا بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد مضت بيعتنا
لهذا الرجل لو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به، فقال علي
(عليه السلام): أكنت أترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) ميتا في
بيته لا أجهزه وأخرج إلى الناس أنازعهم في سلطانه " (1).
قال وقال أبو بكر: " حدثنا أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد
وساق السند عن الليث بن سعد قال: تخلف علي عن بيعة
أبي بكر فأخرج ملببا (2) يمضي به رقصا (3) وهو يقول معاشر المسلمين علام
يضرب عنق رجل من المسلمين لم يتخلف لخلاف " (4).



(1) شرح نهج البلاغة 6 / 13.
(2) يقال: لبب فلان فلانا أي جمع ثيابه عند صدره ونحره ثم جره.
(3) في الشرح " ركضا ".
(4) شرح نهج البلاغة 6 / 45.
200
وهذه الأخبار وأضعافها مما رواه ابن أبي الحديد عن الثقاة عنده، وسيأتي أيضا جملة
أخرى منها إن شاء الله تعالى كلها دالة بأوضح دلالة على أن عليا (عليه السلام)
رغب في الخلافة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وطلبها وطلبها
له جماعة من أعيان الصحابة وحضروا ليبايعوه وجمعوا السلاح لولا أنهم
عوجلوا وغلب على أمرهم، وأنه (عليه السلام) نازع في خلافة أبي بكر
أشد المنازعة وجرد أصحابه السيف بأمره لقتال أتباعه، واستنجد
الناس عليه ودعاهم إلى حربه وإعانته على ذلك فاطمة بنت رسول الله
(صلوات الله عليها) فلم يجد منجدا ولا معينا، وأنه غير راض بخلافة أبي
بكر ومصرحة بذلك أتم تصريح وأنه ما سكت وكف، بل غلب وقهر
وأخرج ملببا وأوعد بإحراق منزله وهو بيت النبوة، وواضحة في أنه (عليه
السلام) ما غمد السيف وترك المناهضة لأبي بكر واتباعه إلا بعد أن تحقق
عنده عدم الناصر له، فهو سكوت عن اضطرار لا عن رضا واختيار، ولو
لم توجد هذه الأخبار وأمثالها الدالة على ما ذكرناه لكان في قوله (عليه
السلام) المشهور عنه في خطبة النهج (فنظرت فإذا ليس لي معين إلا أهل
بيتي فضننت بهم عن الموت واغضيت على القذى وشربت على الشجى
وصبرت على أخذ الكظم وعلى أمر من طعم العلقم) (1) كفاية في الدلالة على
أن علة سكوته وكفه عن جهادهم فقده الناصر والمعين وليس عن رضا
نفس، وأنه تجرع في صبره عن ذلك ما هو أمر من العلقم فمن يقول
هذا القول وأشباهه وهو كثير كيف يعقل أنه كف عن رضا وسكت عن
اختيار؟ ما هذا إلا تجاهل وتغافل؟ وقد وضح من هذه الأخبار بطلان ما
قاله ابن أبي الحديد أن عليا (عليه السلام) ما نازع الثلاثة ولا طلب في
أيامهم الخلافة واقض عجبا منه ومن أغاليظه حيث يروي هذه الأخبار



(1) نهج البلاغة من الخطبة 26 وسترى في آخر الكتاب أن هذا الفصل من خطبة له
(عليه السلام) نقلها المؤلف عن كتاب الغارات لابن هلال الثقفي.
201
وأمثالها مع كونها نصا في طلب أمير المؤمنين الخلافة وعدم رضاه بخلافة
الرجل وأنه أخرج من بيته مقهورا وطلب ناصرا فلم يجد، ثم يقول إن عليا
(عليه السلام) ما نازع أبا بكر ولا طلب الخلافة لنفسه في زمانه ولا جرد
السيف ولا استنجد الناس ولا ولا، فليختر ابن أبي الحديد الآن أحد وجهين
لا محيص له عن واحد منهما إما تكذيب هذه الأخبار التي صححها، أو تكذيب
علي (عليه السلام) فيما أخبر به عن نفسه من عدم الرضا بخلافة من تقدم
عليه وأنه لم يكف عن منابذتهم ومناجزتهم إلا لعدم المعين وفقدان الناصر
فيكون قد كذب من هو مع الحق والحق معه بروايته، وكذب ثقات المحدثين
عنده، وإما أن يحكم ببطلان خلافة من تقدم عليه ويجزم بخروجهم من
الإمامة لعدم شرط صحتها عنده وهو عدم رضا أمير المؤمنين (عليه السلام) بها كما تقدم
في قوله، لأنا قد أقمنا الأدلة الصحيحة لديه على عدم رضا علي (عليه
السلام) بها بتمام التحقيق، وأي الوجهين اختاره ابن أبي الحديد فقد أمكن
الرأي من ثغرة نحره وذبح نفسه بخنجره فليكن ذلك محققا.
وأما ما ورد بلفظ: الإمارة والإمرة فلم يورده ابن أبي الحديد ولكنه أورد ما
هو بمعناه وزيادة، ومن المعلوم أنه لا فرق بين أن يذكر الشئ أو يذكر مرادفه فليس
بين قولك جاءني بشر وجاءني إنسان أو حيوان ناطق فرق في إفادة المعنى
المقصود فها نحن نذكر ذلك عنه قال في أوائل شرح النهج: " وتزعم الشيعة أن
يعني عليا (عليه السلام) خوطب في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) بأمير المؤمنين خاطبه بذلك جملة المهاجرين والأنصار ولم يثبت ذلك في
أخبار المحدثين (1) إلا أنهم قد رووا ما يعطي هذا المعنى وإن لم يكن اللفظ بعينه
وهو قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) له (أنت يعسوب الدين والمال
يعسوب الظلمة)، وفي رواية أخرى (هذا يعسوب المؤمنين وقائد الغر



(1) رواه ابن عساكر في تاريخه 2 / 260 عن بريدة الأسلمي.
202
المحجلين) واليعسوب ذكر النحل وأميرها، روى هاتين الروايتين أبو عبد الله
أحمد بن حنبل الشيباني في المسند وفي كتابه في فضائل الصحابة ورواهما أبو
نعيم الحافظ في حلية الأولياء انتهى (1).
أقول: وقد مر ذكر هذه اللفظة في الأحاديث المذكورة أولا فراجع وفي
رواية أبي رافع عن أبي ذر من قول الرسول (صلى الله عليه وآله) لعلي
(عليه السلام) (وأنت يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الكافرين) وستأتي
بتمامها إن شاء الله وقد اعترف ابن أبي الحديد كما سمعت في كلامه بأن معنى
اليعسوب الأمير فثبت من ذلك أن عليا (عليه السلام) أمير المؤمنين على
لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ لا فرق بين اللفظ ومرادفه عند
جميع العقلاء فيثبت أنه إمامهم لأن معنى أمير المؤمنين إمامهم بغير اختلاف
فهي نص على إمامته بلا ريب، فمن كان من المؤمنين وأهل الدين فعلى
أميره ومن لم يكن على أميره فليس من المؤمنين ولا من أهل الدين، فما أنكر
ابن أبي الحديد أن يكون جملة من المهاجرين والأنصار خاطبوا عليا (عليه
السلام) بأمير المؤمنين في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم (1) ثم
أنكروا ذلك بعد وأخفوه كسائر ما أنكروا من فضائله وأخفوا من مناقبه، فإنه
قد تواتر عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (سلموا على علي
بإمرة المؤمنين)، فأخفى القوم ذلك وستروه فصار مجهولا عند العامة ومعلوما
عند الخاصة وسيأتي اعتراف المعتزلي بأن القوم قد فعلوا بفضائل أمير المؤمنين
(عليه السلام) ما ذكرناه وبه يزول ما استنكر منه هنا مع اعترافه بورود مماثلة
في المعنى وكل ذلك من استحكام الشبه في أوهام القوم.
وأما ما ورد بلفظ: الوصي فكثير منها ما رواه ابن أبي الحديد عن صاحب كتاب
الفردوس وأكثره عنه وعن أحمد بن حنبل عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال



(1) شرح نهج البلاغة: 1 / 12.
203
(كنت أنا وعلي نورا بين يدي الله عز وجل قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر
ألف عام فلما خلق آدم قسم ذلك النور وجعله جزئين فجزء أنا وجزء على ثم
انتقلنا حتى صرنا في عبد المطلب فكان لي النبوة ولعلي (عليه السلام)
الوصية) (1).
وفي حديث أنس المتقدم قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) في
علي (عليه السلام): (وخاتم الوصيين وقائد الغر المحجلين) وروى ابن أبي
الحديد في شرح النهج عن علي (عليه السلام) أنه قال: (أنا خاتم الوصيين
وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عهد إلي وأني وصي رسول الله
(صلى الله عليه وآله) وما يعطي هذا المعنى في كثير من كلامه.
وروي عن أبي مخنف أنه لما بلغ حذيفة بن اليمان أن عليا (عليه
السلام) قد قدم ذا قار واستنفر الناس دعا أصحابه فوعظهم وذكرهم الله
وزهدهم في الدنيا ورغبهم في الآخرة، وقال لهم " الحقوا بأمير المؤمنين
ووصي سيد المرسلين فإن من الحق أن تنصروه " (2).
ومن أشعار الصحابة والتابعين المتضمنة أنه وصي رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) كثير لا يحصى وقد رواه المحدثون الموثقون عند الخصوم
كأبي مخنف لوط بن يحيى الأزدي وإبراهيم بن ديزيل الهمداني ونصر بن مزاحم
المنقري وغيرهم من أهل التواريخ والسير كل روى منه شيئا.
وذكر ابن أبي الحديد منه طائفة ونحن هنا نذكر منه نبذة يسيرة تبركا
وتيمنا بمدحه (عليه السلام) فمن ذلك قول أبي الهيثم بن التيهان (3) وكان



(1) شرح نهج البلاغة 1 / 171 ونقله المحب في الرياض النضرة 2 / 164.
(2) شرح نهج البلاغة 2 / 187.
(3) أبو الهيثم هو مالك بن التيهان صحابي جليل استشهد يوم صفين بين يدي علي (عليه
السلام) سنة 37 وكان علي (عليه السلام) يحن إلى ذكره ويشتاق إليه.
204
بدريا.
قل للزبير وقل لطلحة إننا * نحن الذين شعارنا الأنصار
نحن الذين رأت قريش فعلنا * يوم القليب (1) أولئك الكفار
كنا شعار نبينا ودثاره * تفديه منا الروح والأبصار
إن الوصي إمامنا وولينا * برح الخفاء وباحت الأسرار (2)
أقول قوله (رضي الله عنه): إن الوصي إمامنا إلى آخر البيت، إخبار عن
نفسه وعن أمثاله من قومه وهم صلحاء الأنصار بأنه كان يعتقده وإياهم
إمامة أمير المؤمنين سابقا ويخفونه في نفوسهم في زمان الثلاثة ويسرون عن
الناس قد أظهروه اليوم وباحوا به حيث ارتفع الخوف وزال المانع من إظهاره
بوجود الناصر والمعين عليه، ففيه دليل ظاهر على أن أبا الهيثم وأشباهه لم
يكونوا معتقدين إمامة غيره، وإنما الإمام عندهم بعد رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لأنه وصيه ولكنهم
يجمجمون (3) ذلك في الصدور ويخفونه حتى تمكنوا من إظهاره فأظهروه،
ونحن على ما هم عليه إن شاء الله.
وقال خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين (4) وكان بدريا أيضا يوم الجمل.
أعايش خلى عن علي وعيبه * بما ليس فيه إنما أنت والده
وصي رسول الله من دون أهله * وأنت على ما كان من ذاك شاهده



(1) يريد به قليب بدر.
(2) شرح نهج البلاغة 1 / 143.
(3) يجمجون ذلك أي لم يظهروه يقال: جمجم الرجل وتجمجم إذا لم يبين كلامه.
(4) خزيمة بن ثابت صحابي شهد بدرا يقال له ذو الشهادتين لأن رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) جعل شهادته شهادة رجلين في قضية معروفة شهد مع علي
(عليه السلام) حرب الجمل واستشهد بين يديه في صفين بعد عمار بن ياسر رضي
الله عنهما.
205
وحسبك منه بعض ما تعلمينه * ويكفيك لو لم تعلمي غير واحده
إذا قيل ماذا عبت منه رميته * بقتل ابن عفان وما تلك أيده
وليس سماء الله قاطرة دما لذلك * ولا الأرض الفضاء بمائده (1)
والأخير من الأبيات يومي إلى أنه غير آمر بما جرى لعثمان.
وقال النعمان بن العجلان الأنصاري (2):
كيف التفرق والوصي إمامنا * لا كيف إلا حيرة وتخاذلا
لا تغبنن عقولكم لا خير في * من لم يكن عند البلابل عاقلا
وذروا معاوية الغوى وتابعوا * دين الوصي لتحمدوه اجلا (3)
وقال عبد الله بن العباس بن عبد المطلب:
وصي رسول الله من دون أهله * وفارسه إن قيل هل من منازل
فدونك إن كنت تبغي مهاجرا * أشم كنصل السيف غير حلاحل (4)
وقال حسان بن ثابت في جملة أبيات أيام المخاصمة بين المهاجرين
والأنصار بعد موت النبي (صلى الله عليه وآله):
جزى الله عنا والجزاء بفضله * أبا حسن خيرا ومن كأبي حسن
سبقت قريشا بالذي أنت أهله * فصدرك مشروح وقلبك ممتحن
تمنت رجال من قريش أعزة * مقامك هيهات الهزال من السمن
حفظت رسول الله فينا وعهده * إليك ومن أولى به منك من ومن
ألست أخاه في الهدى ووصيه * وأعلم منهم بالكتاب وبالسنن
فحقك ما دامت بنجد وشجة * عظيم علينا ثم بعد على اليمن (5)



(1) شرح نهج البلاغة 1 / 146.
(2) النعمان بن عجلان الأنصاري كان شاعرا فصيحا سيدا في قومه واستعمله علي (عليه
السلام) على البحرين ترجم له ابن الأثير في أسد الغابة 5 / 26 ولم يذكر سنة وفاته.
(3) شرح نهج البلاغة 1 / 149.
(4) أيضا 1 / 150.
(5) أيضا 6 / 235 عن الموفقيات للزبير بن بكار وسيكرر الاستشهاد بها عند كلامه على
سبق علي (عليه السلام).
206
إلى ذلك من الأشعار من محبيه ومبغضيه مما لا يسع المقام عشر عشيرها
مما تضمن لفظ الوصي والولي فقد صح أن عليا (عليه السلام) وصى رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) ومنه يعلم أن ما ذكره ابن أبي الحديد عن عائشة
وبعض تابعيها من أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يوص (1)
باطل بلا شبهة لمعارضته لشهادة خيار الصحابة لعلي (عليه السلام) بأنه
وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ودلالة الأخبار على ذلك،
وعائشة متهمة في علي (عليه السلام) وكيف تقر له بالوصية وهي تعيبه وتذمه
وهي في الغاية القصوى من البغض له، وإلا فهي شاهدة وصية الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم) إليه ونصه عليه كما هو صريح شعر خزيمة بن
ثابت ذي الشهادتين الذي ذكرناه وأيضا أن شهادة عائشة وتابعيها على النفي
وشهادة الجماعة لعلي (عليه السلام) على الاثبات وشهادة الاثبات مقدمة
على الشهادة على النفي إجماعا من أهل العلم.
ثم إن المعروف من معنى الوصي على جهة الإطلاق هو القائم مقام
الموصي في جميع ما للموصي الولاية فيه وعليه.
ومن معنى الوصية إقامة الموصي الوصي مقامه في جميع ما له التصرف فيه
والولاية عليه ولا معنى للوصي والوصية عند العلماء غير هذا والمعروف من



(1) روى هذا الإنكار البخاري في موضعين من صحيحه الأول في ج 2 / 83 في كتاب
الوصايا وفي ج 3 / 64 في باب مرض النبي (صلى الله عليه وآله) ووفاته ورواه
مسلم في كتاب الوصية من صحيحه ج 2 / 14 قال " ذكر عند عائشة (رضي الله عنه)
أن النبي (صلى الله عليه وآله) أوصى إلى علي رضي الله عنه فقالت: من
قاله، لقد رأيت النبي وإني لمسندته إلى صدري فدعا بطشت فانخنت فمات فما
شعرت فكيف أوصي إلى علي، وللسيد شرف الدين في المراجعات ص 233 تعليق
على هذا الحديث حري بالباحث أن يقف عليه.
207
معنى وصي النبي هو القائم مقامه في الأمر والنهي بعهد من النبي إليه، وإذا
كان علي (عليه السلام) هو الوصي لرسول الله (صلى الله عليه وآله)
كان هو القائم مقامه في تنفيذ الأحكام وسياسة الأمة وغير ذلك من ولايات
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيكون هو خليفته والإمام بعده، إذ لا
معنى لخلافته إلا القيام مقامه ولا معنى لوصيه إلا القائم مقامه بنصبه إياه،
ولا معنى للإمامة إلا هذا ولا يعرف لها معنى غيره، وهذا بحمد الله واضح.
قال ابن أبي الحديد " وأما الوصية فلا ريب عندنا أن عليا (عليه
السلام) كان وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإن خالف في
ذلك من هو منسوب عندنا إلى العناد ولسنا نعني بالوصية النص والخلافة لكن
أمورا لعلها إذا لمحت أشرف وأجل " (1) انتهى.
قول إخراج اللفظ عن صريح معناه تشهيا من دون حجة بينة ولا سبب
داع هو ديدن ابن أبي الحديد وأصحابه وأمثالهم، وليس النزاع بيننا وبينهم في
هذا كما علمت أولا فإنا مقرون لهم بأنهم يحرفون الكلم من بعد مواضعه
ويدفعون النصوص بالشبهات ويصرفون الألفاظ الصريحة عن معانيها بمجرد
الشهوات هذه عادتهم المعروفة وسجيتهم المألوفة، وإنما النزاع بيننا وبينهم أنا
ندعي النص من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على علي (عليه
السلام) بالإمامة والقائم مقامه فعلينا أن نأتي من أقوال النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) بما هو صريح في المعنى ونص في المطلب مثل لفظ الإمام
والأمير والوصي وما أشبهها مما سنورده، وقد أتينا منه بما يقرون به ولا
ينكرونه وما نسبوا جاحده إلى العناد مع أن ذلك الجاحد أم المؤمنين عائشة



(1) شرح نهج البلاغة 1 / 140 وانظر إلى ابن أبي الحديد لما عجز عن التوجيه والتأويل
جعل المعنى في قلب الشاعر - كما يقول المثل العامي - فإذا لم تكن الوصاية هي النص
على الخلافة فعلى أي شئ! أعلى الترك والنبي لا يورث كما يزعمون!؟.
208
وبعض من الناس كما قدمنا، وليس علينا أن نحبس ألسنتهم عن التأويلات
الفاسدة والتمحلات الممتنعة التي لو صدرت عن غيرهم لحملوه على عدم
الفهم وحكموا عليه بالبلادة والعصبية والعناد، فلا ذنب لنا ولا إبطال
لدعوانا بسبب تأويلاتهم الركيكة الباطلة بل حجتنا واضحة وحجتهم
داحضة.
فما ذنبنا إن جاش بحر بفضلنا * وبحرك ساج لا يوارى الدعا مصا (1)
وما قدمنا من بيان معنى الوصي متكفل بإبطال دعوى ابن أبي الحديد بأن
الوصية في غير الخلافة ولأنه يدعي التقييد في المطلق فعليه أن يأتي بالمقيد،
وأنى له به؟ ولنا على إبطال قوله مضافا إلى ما ذكرنا وجوه أخر.
الأول: أن الوصية لا تثبت بغير النص من الموصي على الوصي يقينا
وإذا سلم الخصم أن عليا (عليه السلام) وصي رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) وذلك ما ندعي، فقوله ولسنا نعني بالوصية النص كلام لا معنى
له.
الثاني: إن أهل العقول من جميع المسلمين لا يعلمون منزلة بعد النبوة
أشرف وأجل من الإمامة حتى تنصرف وصية النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) إلى علي (عليه السلام) إليها كما ادعاه فعليه وعلى من يدعي دعواه
تبيين تلك المنزلة حتى نعرفها، ثم لو كانت ثمة منزلة أعلا وأجل من الإمامة
كما ذكر لكانت أيضا منضمة إليها وداخلة معها علوم الوصية فتتناول جميع
المنازل حتى يثبت المخصص وليس ثمة مخصص، فقوله: " لعلها إذا لمحت
أشرف وأجل " دعوى مستحيلة، ولو أمكنت لكانت مع الإمامة مندرجة في



(1) الدعامص جمع الدعموص: دويبة صغيرة تكون في مستنقع الماء ويجمع على دعاميص
أيضا والبيت للأعشى.
209
الوصية،
الثالث: إن المسلمين من أولي العلم كافة يعلمون أن النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) لم يترك أموالا كثيرة ولا خلف أطفالا صغارا يحتاج إلى
الإيصاء في حفظ أموالهم والقيام بمصالحهم إلى وصي يقوم بذلك وليس له
حاجة في الوصية إلا في القيام مقامه بمصالح الأمة وحماية الملة وإنفاذ الأحكام
وجهاد المشركين ودعوتهم إلى دين الإسلام لا غير ذلك، فوصيه هو المنصوص
عليه منه بذلك والمنصوب منه له وتلك هي الإمامة بلا ريبة ولا يشك في ذلك
عاقل غير معاند.
الرابع: إن الأخبار المذكورة والأشعار الواردة التي قدمناها وغيرها يتبادر
من لفظ الوصي فيها بل لا يفهم من معناها إلا كون أمير المؤمنين وصي
رسول الله على ما هو المعنى المعروف من أوصياء الأنبياء وهو الخلافة بعدهم
لا شئ آخر، فإن قول النبي (صلى الله عليه وآله): (لي النبوة ولعلي
الوصية) وقوله: (صلى الله عليه وآله وسلم) (خاتم الوصيين) (1) لا يعقل
منه إلا أن لعلي خلافة الأنبياء، وأنه خاتم خلفاء النبيين، لأن النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) خاتم الأنبياء فلا نبي بعده فلا خليفة نبي بعد علي
(عليه السلام) بدون واسطة خليفة غيره، لأن الوصية المقابلة للنبوة هي
الخلافة من غير شبهة، والوصي المقابل للنبي هو الخليفة بعده لا يتصور منه
غير هذا المعنى ولا يراد به غيره عند الإطلاق ببديهة العقل، وليس يعقل منها
الفطن اللبيب إن لعلي الوصية المقابلة للنبوة في أمر مخصوص، أو أنه خاتم
الوصيين في أمور أخر غير الخلافة كمال أو حكم خاص أو سر في معنى
خاص ولا يحملها على هذا المعنى إلا معوج الفهم بسبب استيلاء الشبه على
عقله ومما زجتها للبه، فيجعل عقله تبعا لمشتهاه، وسالكا في أثر تقليده ومما



(1) تاريخ بغداد: 10 / 356.
210
يزيد المعنى وضوحا في أن المراد بالوصي هو القائم مقام النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) في جميع أمره ما رواه ابن أبي الحديد قال: قال: نصر يعني ابن
مزاحم المنقري وحدثنا عبد العزيز بن سياه قال حدثنا حبيب بن أبي ثابت
قال: حدثنا سعيد التيمي المعروف بعقيصا قال: كنا مع علي (عليه
السلام) في مسيره إلى الشام حتى إذا كنا بظهر الكوفة من جانب هذا السواد
عطش الناس واحتاجوا إلى الماء، فانطلق بنا علي (عليه السلام) حتى أتى
إلى صخرة ضرس (1) في الأرض كأنها ربضة عنز (2) فأمرنا فاقتلعناها فخرج
لنا تحتها ماء فشرب الناس وارتووا ثم أمرنا فأكفاناها حتى إذا مضى قليلا،
قال: أمنكم أحد يعلم مكان هذا الماء الذي شربتم منه؟ قالوا: نعم يا أمير
المؤمنين قال: فانطلقوا إليه، فانطلق هنا رجال ركبانا ومشاة فاقتصصنا
الطريق إليه حتى انتهينا إلى المكان الذي نرى أنه فيه فطلبناه فلم نقدر على
شئ، حتى إذا عيل علينا انطلقنا إلى دير قريب منا فسألناهم أين هذا الماء
الذي عندكم؟ قالوا: ليس قربنا ماء، فقلنا: بلى إنا شربنا منه، قالوا:
أنتم شربتم منه؟ قلنا: نعم، فقال صاحب الدير: والله ما بني هذا الدير
إلا لذلك الماء وما استخرجه إلا نبي أو وصي نبي " (3) ومن المعلوم أنه لا
يريد بوصي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هنا إلا الخليفة بعده لا ما
يقوله ابن أبي الحديد وأصحابه والأشاعرة.
الخامس: إن إيصاء النبي (صلى الله عليه وآله) إلى رجل في أمر
مخصوص أو أمور مخصوصة لا يصيره وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) على الإطلاق، ولا يسمى عند أحد بوصي الرسول (صلى الله عليه



(1) الضرس: الأكمة الخشنة.
(2) الربضة - بضم الراء وكسرها أيضا: - مقدار جثة العنز إذا ربضت.
(3) شرح نهج البلاغة 3 / 204.
211
وآله وسلم)، فقد روى ابن أبي الحديد وغيره أن أبا أيوب الأنصاري قال في
كلام أن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، " عهد إلينا أن نقاتل مع
علي (عليه السلام) الناكثين والقاسطين والمارقين " (1) ولا نجد أحدا قال إن
أبا أيوب وقومه أوصياء الله (صلى الله عليه وآله) ورووا أن أبا ذر قال
" إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) عهد إلي أنه يلي غسلي وتجهيزي
قوم من المؤمنين " (2) في حديث طويل ولم يقل أحد من الصحابة وغيرهم أن
أبا ذر وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورووا أن عمار بن ياسر
قال: يوم صفين في كلام " عهد إلي رسول الله (صلى الله عليه وآله)
أنه يكون آخر زادي من الدنيا ضياحا من لبن " (3) ورووا عن كثير من
الصحابة مثل هذا ولم يسم أحد منهم بوصي النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) لذلك الأمر الذي عهد إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله)
فيه والأمور المخصوصة وهذا مما يدل صريحا على أنه لا يسمى رجل وصي
رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الإطلاق إلا المنصوص عليه
بخلافته والموصى إليه منه بالقيام مقامه، فأمير المؤمنين وصي النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) بهذا المعنى لا غيره فهو الإمام بعده لا محالة وقد اتضح
الأمر وزال تشبيه المعتزلي وثبت المراد والله ولي التوفيق إلى السداد.



(1) أيضا 3 / 207 وأسد الغابة 4 / 32 و 33 ومستدرك الحاكم 3 / 139.
(2) أيضا 15 / 99 والاستيعاب 1 / 215 وفي صفين لنصر بن مزاحم (إن آخر زادك من
الدنيا شربة من لبن) وجاء في زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) المروية عن الإمام.
علي بن محمد الهادي عليهما السلام: " وقال - أي عمار -: قال لي رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم): (آخر شرابك من الدنيا ضياح من لبن تقتلك الفئة الباغية)
وإن عمارا لما استسقى وسقي اللبن كبر وذكر ذلك مفاتيح الجنان للقمي ص 371
والضياح - بالفتح -: اللبن الرقيق الكثير الماء.
(3) الإستيعاب 2 / 48.
212
وأما ما ورد بلفظ الخليفة: فهو الخبر الصحيح عند القوم كافة قال ابن
أبي الحديد " وأما خبر الوزارة فقد ذكره الطبري في تاريخه عن عبد الله بن
عباس عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: لما أنزلت هذه الآية
[وأنذر عشيرتك الأقربين] (1) على رسول الله (صلى الله عليه وآله)
دعاني فقال: يا علي إن الله أمرني أن انذر عشيرتك الأقربين فضقت بذلك
ذرعا وساق الرواية - إلى أن قال - ثم تكلم رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) فقال: يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه
بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن
أدعوكم إليه، فأيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي
وخليفتي فيكم؟ فأحجم القوم عنها جميعا فقلت: أنا وإني لأحدثهم سنا
وأرمصهم عينا وأعظمهم بطنا وأحمشهم ساقا: أنا يا رسول الله أكون وزيرك
عليه، وأعاد القول فأمسكوا واعدت ما قلت، فأخذ برقبتي ثم قال لهم:
هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا إليه وأطيعوا، فقام القوم
يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع " (2) وهذه
الرواية مع صحتها عند الخصوم نص صريح في أن عليا (عليه السلام)
خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على من يطيعه، وأنه وصيه
ووزيره فأي نص على الخلافة أصرح من هذا؟ ولشهرة هذه الرواية احتج بها
أبو جعفر الإسكافي في نقضه على الجاحظ (3) وما أدري ماذا يقول ابن أبي



(1) الشعراء: 214.
(2) شرح نهج البلاغة: 13 / 210. تاريخ الطبري 2 / 216.
(3) قال أبو جعفر الإسكافي في نقض العثمانية للجاحظ: " فهل يكلف عمل الطعام
ودعاء القوم صغير غير مميز، وغر غير عاقل، وهل يؤتمن على سر النبوة ابن خمس
سنين " - إلى أن قال -: وهل يصنع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يده في يده
ويعطيه صفقة يمينه بالأخوة والوصية والخلافة إلا وهو أهل لذلك بالغ حد التكليف.
محتمل لولاية الله وعداوة أعدائه " الخ.
213
الحديد في ذلك فإنه لم يتعرض فيها بتأويل؟ وأظنه لعجزه عنه، ولو أدرك
إليه منفذا لسارع عليه ولعله يرى أن أمير المؤمنين خليفة رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) في أمور أخرى كما قال في الوصية فيكون جوابه، هنا
مثل جوابه هناك.
وأما ما ورد بلفظ الوزارة: فمنه حديث أبي ذر عن النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) وفيه بعد ما ذكرنا في لفظ اليعسوب وأنت أخي ووزيري
والحديث المتقدم صريح، وقال ابن أبي الحديد بعد ذكره (ويدل على أنه
(عليه السلام) وزير رسول الله (صلى الله عليه وآله) من نص
الكتاب والسنة قول الله تعالى [واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي
اشدد به أزري وأشركه في أمري] (1) وقال النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) في الخبر المجمع على روايته بين فرق الإسلام: (أنت مني بمنزلة هارون
من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) فأثبت له جميع مراتب هارون ومنازله من
موسى، فإذن هو وزير رسول الله) صلى الله عليه وآله) وشاد أزره
ولولا أنه خاتم النبيين لكان شريكا في أمره " (2)، انتهى.
أقول: فإذا كان علي (عليه السلام) وزير رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) والوزير هو المعين على الأمر فإذن علي (عليه السلام) هو معين
رسول الله (صلى الله عليه وآله) على إظهار دعوة الإسلام وإقامة
أحكام النبوة فيكون له مقامه في حياته وبعد وفاته والأمر ظاهر، ثم إن ابن
أبي الحديد حيث استفاد من هذا الحديث أنه نص في وزارة علي لرسول الله
(صلى الله عليه وآله) لأنها من جملة منازل هارون من موسى بنص
الكتاب وأن جميع منازل هارون من موسى إلا النبوة ثبتت لعلي (عليه



(1) طه: 29.
(2) شرح نهج البلاغة: 13 / 211.
214
السلام) من رسول الله (عليه السلام)، فيلزمه على هذا الحكم أيضا بأن
الحديث نص في خلافة علي (عليه السلام) لرسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) لأن الخلافة ثابتة لهارون بنص الكتاب وهو قوله تعالى: [وقال
موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي] (1) الآية ورسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) لم يستثنها مع النبوة فتكون خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) ثابتة لعلي (عليه السلام) بنص الكتاب والسنة كما ثبتت الوزارة له
بنصهما على ما قررا أفأبلغ شاهد من هذا يريد عبد الحميد؟ وهل تراه يخفي
عليه مثل هذا المعنى الواضح كالشمس الصاحية؟ ولكن غلب عليه ألف
المذهب وتقليد الأسلاف كما غلبا على غيره فصاروا يرون الحق باطلا والنص
الجلي متشابها والمعنى الواضح خفيا والصواب خطأ فإذا ورد عليهم ما يوافق
مذهبهم من المشتبهات صيروه كالبدر الأتم وضوحا وصراحة، وإذا عثروا
على ما يطابق مشتهاهم من المزخرفات المضطربة الألفاظ تلقوه بالقبول الأعظم
ووصفوه بغاية الصحة ونهاية الفصاحة، أو جاءهم في ذلك شئ من
الموهونات صيرورة كالطود الأشم قوة ورجاحة، فنعوذ بالله من كتمان الحق
للأغراض الدنيوية وترويج الباطل للعناد والعصبية.
وأما ما ورد بلفظ الطاعة: فمنه ما تقدم في حديث الخلافة والوزارة من
قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (اسمعوا له وأطيعوه) وقوله (صلى
الله عليه وآله وسلم) في حديث أبي برزة المتقدم إخبارا عن الله تعالى في شأن
علي (عليه السلام) وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين من أحبه فقد أحبني ومن
أطاعه فقد أطاعني) (2) وإذا كان علي (عليه السلام) طاعته طاعة الله وجب
أن يكون خليفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن الذي طاعته طاعة



(1) الأعراف: 142.
(2) شرح نهج البلاغة 13 / 167 عن حلية أبي نعيم.
215
الله هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لقوله تعالى: [من يطع الرسول
فقد أطاع الله] (1) ولا نبوة بعد نبينا (صلى الله عليه وآله) فتبقى
الخلافة، فالحديث نص على إمامته لوجوب طاعته ولا طاعة واجبة لغير الله
والنبي والإمام، وفي حديث أنس المتقدم: (وإمام أوليائي ونور جميع من
أطاعني) والمراد بنور من أطاعني قدوتهم الذي يقتدون به في الأحكام ويهتدون
به عن الضلال، وإذا كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بالسمع
والطاعة لعلي وجعله الله قدوة المطيعين وهاديهم وجب أن يكون إماما، لأن
غير الإمام لا يجب له السمع والطاعة على المكلفين، وإنما ذلك لولي الأمر
خاصة، ويستفاد من الخبر أن من لم يقتد بعلي (عليه السلام) في دينه فليس
مطيعا لله لأنه لم يأتم بالنور الذي جعله لمن أطاعه ولم يستضئ بضياه فلم
يكن من أهل النور، فإذن ليس هو من أهل طاعة الله، وفي حديث عمار
أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (يا عمار طاعة علي طاعتي
وطاعتي طاعة الله) رواه كثير من خصومنا (2).
وأما ما ورد بالمثلية: فمن القرآن قوله تعالى: [وأنفسنا وأنفسكم] (3)
ولم يدع غير علي (عليه السلام) بالاجماع، فهو إذن نفس الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم) وليس على جهة الاتحاد قطعا فيكون المراد به المثلية، وإذا
كان مثل الرسول (صلى الله عليه وآله) وجب أن يكون الإمام بعده إذ
لا نبي بعد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
ومن السنة ما رواه ابن أبي الحديد عن أحمد بن حنبل أن النبي
(صلى الله عليه وآله) قال: (لتنتهن يا بني وليعة



(1) النساء: 80.
(2) نقله في مجمع البيان 4 / 534 عن أبي طالب الهروي بسنده عن أبي أيوب الأنصاري.
(3) آل عمران: 61.
216
أو لأبعثن إليكم رجلا كنفسي يمضي فيكم أمري يقتل المقاتلة ويسبي
الذرية) قال أبو ذر فما راعني إلا برد كف عمر من حجزتي من خلفي يقول
من تراه يعني؟ فقلت: إنه لا يعنيك وإنما يعني خاصف النعل وإنه (قال
هو هذا) (1) قال: وقال لوفد ثقيف (لتسلمن أو لأبعثن إليكم رجلا
مني أو قال عديل نفسي فليضربن أعناقكم وليسبين ذراريكم وليأخذن
أموالكم) قال عمر ما تمنيت الإمارة إلا يومئذ وجعلت انصب لها صدري
رجاء أن يقول هو هذا فالتفت فأخذ بيد علي فقال: (هو هذا مرتين) (2)
وقول النبي (صلى الله عليه وآله) في حديث مشهور سيأتي ذكره (إن
عليا مني وأنا من علي) وإذا كان علي (عليه السلام) نفس الرسول (صلى
الله عليه وآله) وعديل نفسه، وأنه منه كان مماثلا له البتة، ولما كان النبي
(صلى الله عليه وآله) خاتم الأنبياء فلا نبوة بعده وجب أن يكون علي
(عليه السلام) الإمام بعده لقضية المماثلة وإلا فلا معنى للمماثلة قطعا،
ومثله قوله (صلى الله عليه وآله) (علي أخي) لأن الأخوة النسبية بينهما
معلومة الانتفاء فثبت أنه (صلى الله عليه وآله) يريد بها المماثلة،
وليس إلا في الصفات فما لرسول الله (صلى الله عليه وآله) من
الصفات غير النبوة فهو ثابت لعلي (عليه السلام) للمماثلة ومن جملة ذلك
الإمامة، فهذا نص صريح من الرسول (صلى الله عليه وآله) على
استخلاف علي (عليه السلام) من غير شك وفي قول (مني) معنى عميق وهو
أنه مخلوق من نوره وأن ذلك النور كان في أول الخلق شيئا واحدا ثم انقسم
إلى قسمين أحدهما كان النبي (صلى الله عليه وآله) والثاني عليا (عليه



(1) شرح نهج البلاغة 9 / 168 ورواه المحب الطبري في الرياض النضرة 2 / 164 وقال:
أخرجه أحمد في المناقب ".
(2) شرح نهج البلاغة 9 / 167 ورواه ابن عبد البر في الإستيعاب 3 / 46 والمحب في
الرياض 2 / 164.
217
السلام) فكل واحد من الآخر، فعلي (عليه السلام) عديل نفس رسول
الله وكنفسه بعد الانقسام والعديل بمعنى المعادل، وهو أيضا نفس الرسول
(صلى الله عليه وآله) لأنهما في الأصل نور واحد يدل على ذلك صريحا
حديث ابن أبي الحديد عن مسند أحمد بن حنبل وكتابه في الفضائل وعن
كتاب الفردوس من قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (كنت أنا وعلي
نورا بين يدي الله عز وجل قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام فلما خلق
آدم قسم ذلك النور فيه وجعله جزئين فجزء أنا وجزء علي) (1)..
الخبر وقد ذكرناه بتمامه في لفظ الوصية، ومثله في طرقنا
وطرق غيرنا كثير وهذا المعنى هو الذي يشير إليه أمير المؤمنين متبجحا به
ومفتخرا بقوله في مواضع كثيرة (وأنا من محمد كالضوء من الضوء) (2) وحق
له أن يفتخر بذلك ويتبجح به ويحتج على خصمه به فإنه لا فضل أعلا منه
وإن علا ولا رفعة إلا وهي دونه ولا شرف إلا وهو منحط عنه، فقد فاق به
الأنبياء المرسلين رفعة ومجدا وشرفا وفضلا ولقد أحسن الحسن البصري في
قوله كما رواه عنه الخصم: (ولقد آخا رسول الله (صلى الله عليه وآله)
بين أصحابه فآخا بين علي وبين نفسه فرسول الله خير الناس نفسا وخيرهم
أخا) (3) انتهى. وإذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد صرح في
علي (عليه السلام) بهذه المقالات بمحضر من الصحابة فأي شئ تراه ترك
بعد هذا المقال من النص على استخلافه عليا (عليه السلام) حتى يقول ابن
أبي الحديد وأشباهه: ليس هناك نص صريح وإنما هو تعريض وتلويح، نسأل
الله أن يوفقنا لإبطال الباطل وتصحيح الصحيح، وأي عاقل منصف سلم



(1) شرح نهج البلاغة 9 / 171 ورواه المحب في الرياض 2 / 164 عن الفضائل للإمام
أحمد.
(2) الملل والنحل 1 / 189 وفي نهج البلاغة في الكتاب 45: (الصنو من الصنو).
(3) شرح نهج البلاغة 4 / 95.
218
من علة تقليد السلف وألف الشبه يشك في إمامة علي (عليه السلام) بعد
رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد أن سماه (صلى الله عليه وآله
وسلم) (على عديل نفسي ونفسي): ويرتاب في أن النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) أراد بذلك استخلافه؟ أو يجوز تقديم من ليس من النبي على
من هو عديل نفسه في مقامه (صلى الله عليه وآله) حاشا وكلام يأبى
العقل الذكي ذلك إلا بعلة.
وأما ما ورد بلفظ التمسك: به من بعد النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) وما هو في معناه فكثير شئ منه بإفراده بنفسه وشئ منه بضمه إلى
عترة النبي (صلى الله عليه وآله) وشئ منه بضمه إلى الكتاب والعترة
معا، ونحن نورده جميعا فنقول:
روى ابن أبي الحديد عن الحافظ أبي نعيم في حلية الأولياء وعن أحمد بن
حنبل في المسند وكتاب الفضائل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه
قال: (من سره أن يحيى حياتي ويموت ميتتي ويتمسك بالقضيب من الياقوتة
التي خلقها الله تعالى بيده ثم قال لها كوني فكانت فليتمسك بولاء علي بن
أبي طالب) (1) وعن أبي نعيم عن النبي (صلى الله عليه وآله) في
حديث سنذكر صدره فيما يأتي إن شاء الله قال: فيه فلما جاء أرسل إلى الأنصار
فأتوه فقال: (يا معشر الأنصار ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا
أبدا) قالوا بلى يا رسول الله قال: (هذا علي فأحبوه بحبي وأكرموه بكرامتي
فإن جبرائيل أمرني بالذي قلت لكم عن الله عز وجل) (2) وعن الحافظ أبي
نعيم عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (من سره أن يحيى



(1) شرح نهج البلاغة 9 / 168 وحلية الأولياء 1 / 86 وقال المحب في الرياض 2 / 215:
" أخرجه أحمد في الفضائل ".
(2) شرح نهج البلاغة: 9 / 170 وحلية الأولياء 1 / 63.
219
حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن التي غرسها ربي فليوال عليا من بعدي
وليوال وليه وليقتد بالأئمة من بعدي فإنهم عترتي خلقوا من طينتي ورزقوا فهما
وعلما فويل للمكذبين من أمتي القاطعين فيهم صلتي لا أنالهم الله
شفاعتي) (1) والموالاة والاقتداء بمعنى المتابعة وهو معنى التمسك وهذه الرواية
كما أنها نص على إمامته علي (عليه السلام) كذلك هي نص على إمامة الأئمة
من عترة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونص في حرمان الشفاعة لمن
كذب بإمامتهم وقطع صلة النبي (صلى الله عليه وآله) فيهم فقد
صرحت بحقيه مذهب الإمامية الاثني عشرية بأتم تصريح وبينته بأوضح
بيان.
وروى ابن أبي الحديد عن أحمد بن حنبل في المسند وكتاب الفضائل عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه خرج على الحجيج عشية عرفة فقال
لهم: (إن الله باهى بكم الملائكة عامة وغفر لكم عامة وباهى بعلي خاصة
وغفر له خاصة إني قائل لكم قولا غير محاب فيه لقرابتي، إن السعيد كل
السعيد حق السعيد من أحب عليا في حياته وبعد موته) (2) تمام الخبر والمحبة
من لوازمها المتابعة والطاعة ومن لم يطع أحدا فليس بمحب له وقد نطق
بذلك الكتاب الإلهي في قوله تعالى: [قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني
يحببكم الله] (3) من يتبع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو غير محب
لله وقال بعض الأبرار.
تعصي الإله وأنت تزعم حبه * هذا كلام في المقال بديع
لو كان قولك صادقا لأطعته * إن المحب لمن يحب مطيع



(1) شرح نهج البلاغة 6 / 7171 وحلية الأولياء 1 / 86.
(2) شرح نهج البلاغة 9 / 168 عن مسند أحمد وفضائله.
(3) آل عمران: 31.
220
فمحبة علي (عليه السلام) طاعته ومتابعته وهذا معنى التمسك.
واعلم أن في إخبار النبي (صلى الله عليه وآله) عن نفسه بعدم
المحاباة لقرابته فيما قال فيهم ظهورا أو إشعارا بعلمه (صلى الله عليه وآله
وسلم) بأن جماعة من أصحابه يتهمونه بمحاباة قرابته فيما شرفهم به على
غيرهم من الأفعال والأقوال ولولا ذلك لكان قوله (صلى الله عليه وآله
وسلم) في الخبر غير محاب فيه لقرابتي قليل الفائدة بل لا فائدة فيه أصلا،
لأنه (صلى الله عليه وآله) إذا كان عالما من جميع أصحابه عدم اتهامه
بالمحاباة لقرابته فيما يفضله به من قول وفعل كان إخباره بنفي ذلك عنه إخبار
للعالمين به ومعتقديه، ولا ريب أن إخبار العالم بنسبة الخبر أو معتقد حصولها
عديم الفائدة، وإنما يكون مفيدا إذا كان المخبر يجهل نسبة الخبر أو يعتقد
نقيضها ليفيد إعلامه بما جهل أورده عن الخطأ في الاعتقاد فتحقق من هذا أنه
لا تتحقق فائدة في ذلك الإخبار إلا مع علم النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) من جماعة من أصحابه اتهامه بالمحاباة لقرابته عمدا منهم أو جهلا
ليكون نفيه المحاباة عن نفسه تكذيبا للمتعمد ورفعا لجهل الجاهل وإزالة
لتجويز المجوز فتحصل فائدة تامة فيظهر من البيان أن نسبة جماعة من
الصحابة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) محاباة القرابة واقعة فمن
العجب قول بعض الخصوم (1) (إن الصحابة لو سمعوا من رسول الله
(عليه السلام) نصا ما عدلوا عنه) لأن من يتهمه كيف تبعد منه مخالفته،
وقول بعضهم ما حاصله " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم
يوص ولو أوصى ما تأمر أبو بكر على وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) وإن أبا بكر ود أنه سمع من رسول الله كلمة فتكون في أنفه خزمة "
وقول القوشجي محصوله: أنه لا يظن ذو مسكة أن الصحابة سمعوا



(1) يريد ببعض الخصوم ابن أبي الحديد.
221
النصوص الجلية على علي (عليه السلام) من النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) فخالفوها، واستبعاد عبد الحميد المعتزلي صدور ذلك من الصحابة
كما لما يصدر منهم تغيير القبلة والصوم إلى آخر لغطهم فإن هذا الحديث
الصحيح عندهم يبطل دعاويهم ويذهب خرافاتهم، ومثله ما رواه المعتزلي
وغيره عن علي (عليه السلام) من قوله: (إنه لعهد النبي الأمي إلى أن الأمة
ستغدر بك من بعدي) (1) ويشير إلى ذلك أيضا ما قدمنا من حديث أبي
نعيم في لفظ الإمام، وقول النبي (صلى الله عليه وآله) فيه مخبرا عن
الله في حق علي (غير أني مختصه بشئ من البلاء لم أختص به أحدا من
أوليائي إلى قوله إنه لمبتلى ومبتلى به)، وإلا فأي نص وأي وصية أوضح
وأصرح من هذه الأقوال المؤكدة والألفاظ الصريحة والكلمات الظاهرة؟
مثل: (إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا وليقتد بالأئمة من بعدي فليوال عليا
من بعدي (2)، مع تأكيد الجميع ببشارة المحبين وتوعد الغاصبين بما هو
مذكور في تلك الأخبار وهل فوق هذا في الوصية والنص مزيد؟ والحمد لله
الحميد.
ومن ذلك قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث المشهور
وقد رواه ابن أبي الحديد: (إنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد الحكمة فليأتها
من بابها) (3) وهو صريح في أن من أراد علم النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) فليأخذه عن علي (عليه السلام) فالتمسك به لازم لأنه باب العلم
الذي يجب على الناس أخذه والعمل به لقوله تعالى: [ما أتاكم الرسول



(1) شرح نهج البلاغة 2 / 45.
(2) رواه جماعة من المحدثين منهم الحاكم في المستدرك 3 / 126 وص 127 وابن حجر في
الصواعق ص 73 وقال: " أخرجه البزار والطبراني والحاكم والعقيلي وابن عدي
والترمذي " ومثله في فتح القدير للمناوي 3 / 46.
(3) شرح نهج البلاغة 9 / 168. بلفظ " فليأت الباب ".
222
فخذوه] (1) فثبت منه وجوب التمسك بعلي لمن أراد علم الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم)، ومن لم يرده فهو كافر مرتاب وفاجر كذاب.
من ذلك ما رواه ابن أبي الحديد من قول النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم): (علي خازن علمي) قال: وقال فيه تارة أخرى (عيبة علمي) أقول:
وهما مشهوران أيضا (2) واستفادة التمسك منهما بعلي (عليه السلام) بتقريب
ما ذكرناه في حديث (أنا مدينة العلم).
وروى ابن أبي الحديد عن أبي نعيم في الحلية وأحمد بن حنبل في المسند
عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (يا علي إن الله قد زينك
بزينة لم يزين العباد بزينة أحب إليه منها هي زينة الأبرار عند الله تعالى الزاهد
في الدنيا جعلك لا ترزأ من الدنيا شيئا ولا ترزأ (3) منك شيئا ووهب لك
حب المساكين فجعلك ترضى بهم أتباعا ويرضون بك إماما فطوبى لمن أحبك
وصدق فيك وويل لمن أبغضك وكذب فيك) (4) والمتابعة له هي التمسك به
وهي زينة الأبرار التي ذكرها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نسأل الله أن
يجعلنا من أولئك المساكين الذين رضيهم أمير المؤمنين (عليه السلام) له
أتباعا وبه متمسكين ثم إن الخبر مصرح بالإمامة فهو من المعاضد للأخبار التي
ذكرت في مقامها ومن ذلك حديث الحافظ عن أنس وقول رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) في علي (عليه السلام): (إنه راية الهدى ومنار الإيمان)



(1) الحشر: 7.
(2) شرح نهج البلاغة 9 / 165 وقال المناوي في فتح القدير 4 / 356: (علي عيبة علمي)
أي مظنة استفصاحي وخاصتي وموضع سري ومعدن نفائسي والعيبة ما يحرز الرجل
فيه نفائسه.
(3) رزأ: أخذ.
(4) شرح نهج البلاغة 9 / 177.
223
وقد ذكرناه ومن المعلوم أن راية الهدى يجب اتباعها، ومنار الإيمان يجب
الاقتباس منه والاقتداء به، وذلك معنى التمسك بلا ريب.
ومن ذلك الحديث المتواتر في الجملة وهو حديث الثقلين وقد صححه ابن
أبي الحديد (1) وهو مروي بأسانيد كثيرة وألفاظ مختلفة بالزيادة والنقصان فمنها
(إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي) ومنها (إني
مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي كتاب الله الثقل الأكبر وعترتي الثقل
الأصغر فتمسكوا بهما فإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي
الحوض) (2) وغير ذلك من الألفاظ والأسانيد وعلى كل حال فهو نص صريح
في وجوب التمسك بالعترة الذين أمير المؤمنين (عليه السلام) سيدهم وحاث
على لزوم متابعتهم، ومصرح بأن قولهم قول القرآن فالمخالف لهم مخالف
للقرآن على عمد فهو فاسق ظالم فالخبر ناص على إمامة العترة المحمدية بلا
شك لأن واجب المتابعة على الإطلاق هو الإمام لا غيره من الأمة، وعترة
النبي (صلى الله عليه وآله) هم الذي دعاهم للمباهلة يوم نصارى
نجران وقال فيهم ذلك اليوم (اللهم هؤلاء أهل بيتي أذهب عنهم الرجس
وطهرهم تطهيرا) كما هو مشهور عند المفسرين (3) ومعلوم عند المحدثين ولا
شك أن المخاطبين بالتمسك بالثقلين بالمشافهة هم الصحابة فهم مأمورون
باتباع الكتاب والعترة وبه يبطل ما ادعا خصومنا أن النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) قال: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) (4) للتناقض



(1) شرح نهج البلاغة 1 / 270.
(2) قد مر حديث الثقلين ومن أيضا مستدرك الحاكم 3 / 109 و 148. سنن الترمذي
2 / 38، مسند أحمد 3 / 17 و 5 / 181 وفي مواضع أخرى.
(3) ممن رواه من المفسرين الطبري ج 22 ص 5 عن علي وأم سلمة وأنس وأبي هريرة
وأبي الحمراء وسعد وغيرهم.
(4) هذا الحديث في مقابلة ما روي عنه (صلى الله عليه وآله) (الأئمة من أهل
بيتي كالنجوم بأيهم اقتديهم اهتديهم) رواه القاضي في دعائم الإسلام ورواه غيره
بتفاوت في بعض الحروف واتفاق في المعنى والواقع يمنع أن الرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم) يأمر بالاقتداء بأي كان ممن يطلق عليه اسم الصحبة لأن الصحابة
اختلفوا في كثير من الأمور، ورد بعضهم على بعض، وطعن بعضهم ببعض بل
وقاتل بعضهم بعضا والعقل يمنع أن يكون علي وصحبه ومعاوية وحزبه كلهم على
هدى وبأيهم يجوز الاقتداء، ثم هل يجوز لمسلم أن يقتدي بمعاوية وعمرو بن العاص
بسب علي في إعقاب الفرائض وعلى صهوات المنابر أو يقتدي ببسر بن أرطأة - وقد
عد من الصحابة - وقد سفك دماء المسلمين وخرب ديارهم ولم يتورع عن ذبح
الأطفال بيده فيكون على هدى، وهل يجوز الاقتداء بابي محجن الثقفي في شرب
الخمر وهل وهل وهلم جرا!! ثم هل يصح معنى هذا الحديث فيخاطب النبي
أصحابه فيقول يا أصحابي اقتدوا بأصحابي.
224
الظاهر لكل ذي فهم إلا أن يحمل على إرادة العترة من لفظ الأصحاب كما
قال أمير المؤمنين في بعض خطب النهج مخبرا عن وبنيه (نحن الشعار
والأصحاب والخزنة والأبواب) الخطبة (1) وهو موافق لما روي من طريقنا أن
النبي (صلى الله عليه وآله) فسر الأصحاب الذين هم كالنجوم إذ
سئل عنهم باهل بيته وعترته، فما أدرى أهل السقيفة إذ قالوا ما قالوا وفعلوا
ما فعلوا بالثقلين تمسكوا أم بآرائهم أخذوا وما بعد عبادان قرية فليجبنا ابن
أبي الحديد بحق لا بما يختار ويريد، مما يربى على كلام المبرسمين (2) سماجة
ويزيد فإن مثل ذلك مما لا ينفع عند الخصام ولا يقنع به في الحجة ذوو
الأفهام.
وروى ابن أبي الحديد عن أحمد بن حنبل في كتاب الفضائل عن



(1) نهج البلاغة من الخطبة 152.
(2) البرسام: ذات الجنب وهو التهاب يصيب الغشاء المحيط بالرئة، قال ابن منظور في
لسان العرب 2 / 46 في (برسم): " وكأنه معرب، بر وهو الصدر وسام من أسماء
الموت).
225
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه خطب الناس يوم جمعة فقال: (أيها
الناس قدموا قريشا ولا تقدموها - إلى أن قال - أيها الناس أوصيكم بحب ذي
قرباها أخي وابن عمي علي بن أبي طالب) (1) الخبر والمحبة تستلزم المتابعة
كما ذكرنا من قبل بل إذا كانت مأمورا بها كما هنا كانت هي نفس المتابعة لا
غير، وسيأتي ما يوضح هذا المقام بأتم إيضاح فدلالة الخبر على وجوب
التمسك بعلي (عليه السلام) ظاهرة غاية الظهور، فهو الإمام الواجب
اتباعه بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) وإلا فلا فائدة في التمسك به
إذا كان المتبوع في الأمر والنهي غيره بل لا تمسك به على هذا بالمرة وإنما
المتمسك به ذلك المطاع المتبع وهو غيره على قول الخصوم وهو (عليه
السلام) مأمور عندهم باتباع ذلك الغير فأين إذن وجوب التمسك بأمير
المؤمنين (عليه السلام) بعد النبي (صلى الله عليه وآله) الذي
صرحت به أخبارهم ونصت عليه رواياتهم الصحيحة مما ذكرناه هنا وغيره؟
فلازمهم أما رد الأخبار وتكذيبها ولا سبيل لهم إلى ذلك، أو الإقرار بأنها
نص في إمامة علي (عليه السلام) من بعد النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) وبطلان إمامة غيره؟ وهو المراد والتأويلات الفاسدة مردودة مع أنها
في المقام مفقودة.
وأما ما ورد بلفظ الولي: فمن القرآن قوله: [إنما وليكم الله ورسوله
والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون] (2) وهي
عند المفسرين نازلة في أمير المؤمنين (عليه السلام) حين تصدق في ركوعه
بخاتمة على السائل، ورووا ذلك عن أبي ذر (رضي الله عنه) وعن
عبد الله بن العباس (رضي الله عنه) ورواه عنه المحدثون من الخصوم أيضا



(1) شرح نهج البلاغة 9 / 172 قيل هو الجدري.
(2) المائدة 55.
226
وصححوه (1) وبالجملة فالاتفاق حاصل عليه، والولي هنا هو الأولى
بالتصرف لقول الله تعالى: [النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم] وجملة
[وهم راكعون] حال من ضمير [ويؤتون الزكاة] أي يؤتون الزكاة في
حال ركوعهم وإذا كان علي (عليه السلام) هو الأولى بالناس بولاية الله
ورسوله (صلى الله عليه وآله) عليهم كان هو الإمام إذ لا ولاية كذلك
لغير الإمام ولا ولاية لغير علي (عليه السلام) من الصحابة للحصر ب‍ " إنما "
فالآية نص في إمامة علي (عليه السلام) وفي نفي إمامة غيره بعد النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) ومتى قيل: كيف جعل لفظ الجمع موضع المفرد
وما الفائدة في ذلك إذا كان المراد الواحد دون الجمع؟ قلنا: وضع الجمع
موضع المفرد وارد في كلام العرب على كثرة إذا قصدوا تعظيم ذلك الواحد
وتفخيم شأنه، وفي القرآن الكريم من ذلك الكثير قال الله تعالى: [والسماء
بنيناها بأيد وإنا لموسعون] (2) وقال تعالى: [إن إبراهيم كان أمة قانتا لله
حنيفا] (3) والاستدلال على هذا المطلب مما لا حاجة إليه لوضوحه وحمل
الولاية في الآية على ما لا يرجع إلى فرض الطاعة والإمامة مثل المعونة
والنصرة كما قاله القوشجي وقبيله والمعتزلي وأصحابه فاسد، لأنه يستلزم أن
لا معين ولا ناصر للمؤمنين إلا الله تعالى والنبي (صلى الله عليه وآله)
وعلي (عليه السلام) لدلالة الحصر بأنما على ذلك كما ذكرنا فيجب ألا يكون
بعض المؤمنين ناصرا ومعينا لبعض، وهو خلاف نص الله تعالى بقوله:
[والمؤمنون بعضهم أولياء بعض] (4) وما يخالف كتاب الله باطل مردود،



(1) انظر تفسير الطبري وأحكام القرآن للجصاص 2 / 446 وتفسير الرازي 12 / 26.
والكشاف للزمخشري 2 / 442 الخ.
(2) الذاريات: 47.
(3) النحل: 120.
(4) التوبة: 71.
227
على أنه يلزم على قوله أن لا يكون المتقدمون علي (عليه السلام) من
أعوان المؤمنين وأنصارهم لا في زمان النبي (ص) ولا بعده فلا يجوز
جعلهم أئمة لأن الإمام ناصر المؤمنين وهم أنصاره فيجب أن يكون علي
(عليه السلام) هو الإمام بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) لثبوت
نصرة المؤمنين له مطلقا بالآية وهذا لا يرضى به القوشجي وحزبه، فما
ارتكبه من التأويل الفاسد لدفع حجتنا كان لقولنا محققا ولمذهبه مبطلا وهو
يقدر بجهله أنه أزال بتأويله استنادنا إلى الآية في إثبات إمامة أمير المؤمنين
(عليه السلام) وهو ما زادنا إلا تقوية وانتصارا بإخراجه أئمته من ولاية
المؤمنين وحمل وهم راكعون على العطف والاستيناف دون الحال كما ارتكبه هو
أيضا وأشباهه فلا تكون الآية خاصة بعلي (عليه السلام) مع ما فيه من
المخالفة لقول المفسرين منهم والمحدثين من اختصاص الآية بعلي (عليه
السلام) كمجاهد (2) والسدي (1) وعطا (2) والثعلبي (3) وأبي بكر الرازي (4)



(1) السدي: - بضم السين المهملة وتشديد الدال المهملة، نسبة إلى سدة مسجد الكوفة وهو
ما تبقى من الطاق المسدود، وهذا اللقب يطلق على رجلين من المفسرين، الأول: أبو
محمد إسماعيل الكوفي المتوفى في حدود سنة 128 وهو المراد هنا، والثاني: حفيده
محمد بن مروان بن عبد الله بن إسماعيل المذكور ويفرق بينهما بالسدي الكبير والمراد به
الجد والسدي الصغير ويراد به الحفيد.
(2) مجاهد وعطا من أكابر المفسرين يراجع في معرفتهما مقدمة مجمع البيان للسيد الأمين رحمه الله
وطبقات المفسرين.
(3) الثعلبي أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم صاحب التفسير المشهور وهو صاحب كتاب
العرائس في قصص الأنبياء توفي سنة 427 أو 437.
(4) قوله: " أبو بكر الرازي " من سهو القلم فإن هذه الكنية للطبيب المشهور والمقصود أبو
عبد الله محمد بن عمر الرازي المتوفى سنة 606، الملقب بفخر الدين، صاحب التفسير
الكبير المعروف المسمى " مفاتيح الغيب " الذي مات قبل إكماله فأكمله كل من نجم
الدين القمولي المتوفى سنة 727، وشهاب الدين الخوبي الشافعي المتوفى سنة 637.
؟ 3 أو 384.
228
والرماني (1) والطبري (2) وغيرهم مستلزم لعطف الجملة الاسمية المحضة على
الجملة الفعلية المحضة وذلك مرغوب عنه في العربية ومرجوع عند أهل اللغة
فلا يحمل عليه القرآن الكريم الذي هو في أعلا طبقات البلاغة وأيضا مستلزم
للتكرير الغير المفيد لأن قوله عز وجل [يقيمون الصلاة] دخل فيه الركوع
فذكره ثانيا تكرير غير مفيد فيكون مرجوحا يصان عنه الكتاب العزيز،
وجعل الجملة المذكورة حالا مفيد فائدة قريبة فالحمل عليه أولى، بل هو
الواجب والاستئناف ممتنع لتلبس الجملة بضمير الذين يؤتون الزكاة ولأنه لم
يبق لها معنى محصل إذا قطعت عن ما قبلها ومع هذا كله إن قوله تعالى:
[إنما وليكم الله] خطاب للمؤمنين كافة والنبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) داخل فيهم قطعا لأن الله وليه وقوله: [ورسوله] خارج
من الخطاب وقوله: [والذين آمنوا] لا بد فيه من أحد وجهين إما أن
يكون إخراجا لواحد خاص فقد تم المعنى وثبت أن ذلك الواحد هو الولي
الذي تجب طاعته بطاعة الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) ولا قائل
من العلماء على تقدير اختصاص الآية وكون الولاية فيها بمعنى فرض الطاعة
بأن المعنى بها غير علي (عليه السلام) فتثبت إمامته بعد النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) ضرورة - وإما أن يكون إخراجا لكل المؤمنين الذين
يصلون ويزكون ويركعون كما هو مقتضى قول الخصم فحينئذ لم يبق مخاطب
بالآية وكان المضاف هو عين المضاف إليه وكان كل مؤمن هو ولي نفسه وهو
محال لأن الخطاب بالآية غير مرتفع بالاتفاق، والواجب في ذلك أن يكون من
جعلت له الولاية غير المخاطبين بالآية الذين جعلت عليهم الولاية حتى يكون
ولي ومولى عليه وليس على تأويل الخصم إلا الولي خاصة، فالخطاب إذن قد



(1) الرماني: نسبة إلى قصر الرمان في واسط هو أبو الحسن علي بن عيسى الواسطي توفي سنة
(2) الطبري: أبو جعفر محمد بن جرير المؤرخ والمفسر المشهور توفي سنة 310.
229
ارتفع وهو باطل بدون تأمل فبطل ما تأولوه من التأويلات الركيكة وانزاح ما
تمحلوه من التمحلات الممتنعة وتبين أن الآية نص في إمامة أمير المؤمنين بلا
ريب.
ومن السنة خبر الغدير الذي ملأ الاسماع وطبق البقاع وذكر في إسعاف
الراغبين (1) أنه مروي عن ثلاثين رجلا من الصحابة وذكر غيره أن طرق هذا
الحديث تزيد على مائة طريق روى أحمد بن حنبل في مسنده عن البراء بن
عازب (رضي الله عنه) قال " كنا مع النبي (صلى الله عليه وآله) في
سفر فنزلنا بغدير خم فنودي فينا الصلاة جامعة وكسح لرسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) تحت شجرتين فصلى الظهر وأخذ بيد علي (عليه السلام)
فقال (صلى الله عليه وآله): ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من
أنفسهم، قالوا: بلى، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (اللهم من
كنت مولاه فعلي مولاه اللهم فوال من والاه وعاد من عاداه)، فلقيه عمر بن
الخطاب بعد ذلك فقال له هنيئا لك يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى
كل مؤمن ومؤمنة (2) ورواه أحمد بن الحسين البيهقي بهذا اللفظ أيضا مرفوعا
إلى البراء بن عازب (3) في حديث الزهري في ذكر خطبة النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) بغدير خم ثم قال يعني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (أيها
الناس من أولى الناس بالمؤمنين) قالوا الله ورسوله (صلى الله عليه وآله
وسلم) أولى بالمؤمنين، يقول ذلك ثلاث مرات ثم قال في الرابعة وأخذ بيد
علي (عليه السلام) (اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه
وعاد من عاداه) يقولها ثلاث مرات (ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب).



(1) ص 152 وفيه: " رواه ثلاثون صحابيا " وقال بعد ذلك: " وكثير من طرقه صحيح أو
حسن ".
(2) مسند الإمام أحمد 4 / 281 وليس فيه " اللهم " الأولى.
(3) نقله ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص 25 عن البيهقي.
230
وفي رواية الحافظ أبو الفتوح أسعد بن أبي الفضائل بن خلف في كتابه
الموجز بسنده عن حذيفة بن أسيد الغفاري وعامر بن أبي ليلى بن ضمرة في
ذكر الخطبة أيضا ثم قال يعني النبي (صلى الله عليه وآله) (يا أيها
الناس ألا تسمعون ألا فإن الله مولاي، وأنا أولى بكم من أنفسكم ألا ومن
كنت مولاه فعلي مولاه) (1) وأخذ بيد علي (عليه السلام) فرفعها حتى نظرها
القوم ثم قال: (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) (2) وبعض المحدثين رواه
مختصرا بدون المقدمة المذكورة وهي قوله (صلى الله عليه وآله) (ألستم
تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم) إما اختصارا أو تدليسا أو استغناءا بما
بعدها في إفادة المراد لا لأنها غير موجودة في أصل كلام النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) فقدح القوشجي في دلالة الخبر على المقصود بأن أكثر من رواه لم
يرو المقدمة المذكورة معه مقدوح أولا بوجودها في قول النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) برواية جملة من أكابر المحدثين كما سمعت فلا سبيل إلى إنكارها
وثانيا بأن الباقي كاف في الدلالة على المطلب لو لم تكن مذكورة قبله في أصل
قول النبي (صلى الله عليه وآله) وخطبته وهذا الخبر مما احتج به أمير
المؤمنين (عليه السلام) على أهل الشورى في جملة ما احتج به على أولويته
بالإمامة فما أنكره من القوم منكر ولا قدح فيه قادح، وقد صحح ذلك
المعتزلي واعترف به القوشجي (3) فقول بعض الخصوم أن الخبر غير متواتر



(1) نقل الحديث بطوله في الفصول المهمة ص 24 عن الترمذي والزهري عن زيد بن أرقم وفيه
ما نقل في المتن بحروفه.
(2) رواه ابن الأثير في أسد الغابة 3 / 92 ونقله ابن الصباغ في الفصول عن الموجز لابن أبي
الفضائل كما في المتن، ورواه ابن حجر في الإصابة 2 / 257 عن كتاب الموالاة لابن عقدة
عن عامر وحذيفة.
(3) القوشجي علاء الدين علي بن محمد توفي سنة 879 وفيه ذكر حديث الغدير مسلما بصحته
ولكنه ناقش في دلالته على الإمامة.
231
تعصب محض وعناد صرف ومن هذا شأنه فهو ملئ بالجهالات ودفع
الضرورات فلا يلتفت إليه.
وروى ابن أبي الحديد هذا الخبر في مواضع كثيرة من كتابه قال في موضع
" وروى عثمان بن سعيد عن شريك بن عبد الله (1) قال لما بلغ عليا (عليه
السلام) أن الناس يتهمونه فيما يذكره من تقديم النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) إياه وتفضيله على الناس، قال: أنشد الله من بقي ممن لقي رسول
الله وسمع مقاله في يوم غدير خم إلا قام فشهد بما سمع، فقام ستة ممن عن
يمينه من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وستة ممن عن
شماله من الصحابة أيضا فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله يقول ذلك اليوم
وهو رافع بيد علي: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه
وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأحب من أحبه وأبغض
من أبغضه (2) وذكر قول النبي (صلى الله عليه وآله): (وأدر الحق
معه حيث دار) في موضع آخر مفردا (3).
والمولى هنا يراد به الأولى والأحق بالأمر مثله.
في قوله تعالى: [مأواهم النار هي مولاهم] (4) وقوله تعالى:
[ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون] (5) لأنه في الشرط مراد به
ذلك لثبوته للنبي (صلى الله عليه وآله) بالكتاب في قوله عز وجل:
[النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم] (6) الآية والجزاء على منوال الشرط وارد



(1) يعني القاضي المتوفى 177.
(2) شرح النهج 2 / 228.
(3) في ج / 2 ص 297 من الشرح المذكور.
(4) الحديد 15.
(5) النساء / 33.
(6) الأحزاب / 6.
232
فيراد به ما يراد بشرطه فثبت أن عليا (عليه السلام) هو الأولى بالأمر
والأحق به، فيكون هو الإمام بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)
لدخول من سواه في ولايته بواسطة دخولهم في ولاية رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) فلا يصلح أحد منهم للتقدم عليه في أمر من الأمور، كما لا
يصلح لهم التقدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يجوز حمل
المولى في الخبر على غير الأولى بالأمر من معانيه لامتناع المعتق والمعتق للفاعل
والمفعول وشبههما يقينا واتفاقا، وخروج الناصر والمعين وما آل إليهما بالقرنية
اللفظية والعقلية، أما اللفظية فقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل
ذلك: (أنا أولى بكم من أنفسكم) فإنها تعين أن المراد من قوله (من كنت
مولاه فعلي مولاه) من كنت أولى به من نفسه، وإلا
فلا فائدة في هذا الكلام في المحل ولا حاجة إلى أخذ النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) اعتراف القوم به ثلاث مرات، كما في حديث الزهري، ومرة
واحدة كما في غيره، فتكون لغوا ولا يجوز أن يكون كذلك كلام الرسول
(صلى الله عليه وآله) فتكون لما ذكرناه من إرادة رفع الاشتراك عن
لفظ المولى وتعيين معنى الأولى منه، وأما العقلية فلأن مقتضى المقام ذلك لأن
جميع الناس وأخبارهم في ذلك الوقت الشديد الحر لا ينصرف ذهنا ولا يحتمل
عقلا لأن يكون إخبارا بما كان معلوما قبل ذلك للمخبرين، بل ينصرف
عقلا إلى الإخبار بأمر غير معلوم لهم سابقا، ليكون تأسيسا لحكم وكون علي
(عليه السلام) ناصرا ومعينا لمن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله)
وليه أمر معلوم لكل الحاضرين، فالإخبار به قليل الفائدة، بل لا فائدة فيه
وهل هو إلا تحصيل حاصل يصان فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
عن مثله، فلا بد أن يكون الإخبار عن ما ليس بمعلوم للمخاطبين ليعلموه
وما هو إلا إثبات ولاية النبي (صلى الله عليه وآله) على المؤمنين لعلي
(عليه السلام) والمشترك يرتفع اشتراكه بالقرينة المعينة لإرادة أحد معانيه

233
منه، وهي هنا موجودة على ما نقول كما ترى، فتعين أن المراد بلفظ مولى في
الخبر الأولى بالتصرف، وبه يثبت المطلوب.
وبالجملة أن هذا الخبر نص صريح على أمير المؤمنين
(عليه السلام) بالإمامة يقينا لا ينبغي للخصوم الشك فيه، ولا التشكيك،
لولا ما ارتكبوه فيه من التأويلات البعيدة الباردة التي يحكم
الذوق المستقيم باستحالتها للشبهة التي اتخذوها حقا والبدعة التي
جعلوها سنة، وكيف يصح أن يريد النبي (صلى الله عليه وآله) هنا
بالمولى الناصر والمعين وابن العم والحليف كما قالوه، فيكون (صلى الله عليه
وآله وسلم) قد قام في حر الظهيرة وجمع الناس في سعير الهاجرة يخبرهم عن
شئ علموه أولا على لسانه من القرآن الكريم في قوله تعالى: [والمؤمنون
والمؤمنات بعضهم أولياء بعض وغيرها] (1) من الآيات الكثيرة وعرفوه من
قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) مرات متعددة، وتيقنوه من دون خبر إذ لا
يجهل أحد أن عليا ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأن من
كان ابن عم أحدهما فهو ابن عم الآخر والحليف كذلك وينبئهم عن علي (عليه
السلام) بشئ لا يختص دون المؤمنين كافة، ولا دون سائر بني هاشم في
ذلك المقام الوعر، وهذا لو فعله سائر الناس أو صدر من بعض عامتهم لنسبه
العقلاء إلى ضعف العقل، وطعن فيه أهل الروية بقلة الرأي، فكيف يصدر
مثله عمن لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فيجب أن النبي
(صلى الله عليه وآله) إنما أخبرهم في ذلك المشهد بشئ من الولاية
يختص به علي (عليه السلام) دون سائر المؤمنين ودون باقي بني هاشم، وما
هو إلا أنه ولي بولاية الرسول (صلى الله عليه وآله) على المؤمنين وأولى
بالتصرف فيهم من أنفسهم باليقين، فيكون هو الإمام لا معنى للمولى هنا إلا



(1) التوبة 71.
234
هذا كما ذكرنا، ولا يشك في هذا إلا من خالطت العصبية لحمه ودمه،
وأعرض عن التأمل في دلالات الكلام والنظر في مقتضيات الأحوال فحاد عن
قبول الحق، واعتمد على ما ألفه من زخارف الأسلاف، أهل العصبية
والاعتساف، وأما من وقف عند النص وتأمل مقتضى الحال، وترك التعلل
بالشبهات الواهية، فإنه لا يرتاب في أن الخبر نص واضح على أمير المؤمنين
(عليه السلام) بالإمامة العامة، ولذا قال أبو الهيثم فيما ذكرنا من شعره.
إن الوصي إمامنا وولينا.. البيت.
يريد أولى بنا كما لا يخفى على المتأمل في كلامه.
وروى ابن أبي الحديد عن إبراهيم بن ديزيل (1) في كتاب صفين، قال
حدثنا يحيى بن سليمان، قال حدثنا ابن فضيل، قال حدثنا الحسن بن
الحكم النخعي، عن رياح بن الحارث النخعي، قال: كنت جالسا عند علي
(عليه السلام) إذ قدم عليه قوم متلثمون فقالوا السلام عليك يا مولانا،
فقال لهم، (أو لستم قوما عربا) قالوا بلى ولكنا سمعنا رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) يقول يوم غدير خم (من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال
من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله) فقال: لقد
رأيت عليا ضحك حتى بدت نواجذه ثم قال اشهدوا ثم إن القوم مضوا إلى
رحالهم فتبعتهم، فقلت لرجل منهم، من القوم؟ قال: نحن رهط من
الأنصار وذاك يعنون - رجلا منهم - أبو أيوب صاحب منزل رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) فصافحته (2) وهذا الخبر ظاهر أي الظهور في أن القوم



(1) إبراهيم بن الحسين الكسائي الهمداني أبو إسحاق المعروف بابن ديزيل توفي 280، أو
281. قال الذهبي في تذكرة الحفاظ 2 / 281، قال الحاكم، ثقة مأمون، له كتاب
صفين، قال عنه ابن كثير في البداية والنهاية 11 / 71 " إنه بجلد كبير "، وينقل عنه ابن
أبي الحديد كثيرا.
(2) شرح نهج البلاغة 3 / 208 ويعرف هذا الحديث بحديث الركبان وقد رواه ابن الأثير في
أسد الغابة 1 / 368 عن الموالاة لابن عقدة كما نقله عن ابن عقدة أيضا ابن حجر في
الإصابة 1 / 305.
235
فهموا من لفظ المولى في كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إرادة الأمير
الذي هو الإمام فسلموا على علي بالموالاة بدل الإمارة لأنها عندهم بمعناها
فمرادهم بمولانا أميرنا ولو كان مرادهم المعونة والنصرة لم يكونوا سلموا عليه
بالإمرة لكنهم قصدوا من اللفظ المذكور التسليم عليه بها، ولولا ذلك لما كان
لضحك علي (عليه السلام) واستبشاره باستدلالهم على ذلك بالحديث معنى
ولا لقوله لأصحابه اشهدوا فائدة لأنهم لا يشكون قبل ذلك في أنه من
المؤمنين الذين صرح القرآن بأن بعضهم معين بعض وناصره بل لا يشكون
في أنه سيد المؤمنين وإمامهم في ذلك الوقت، ثم إن راوي الحديث يفهم منه
أنه فهم من قصد الأنصار الولاية العامة لا المعونة والنصرة فتأمل.
قال ابن أبي الحديد وقال أبو بكر: وحدثني علي بن سليمان النوفلي قال
سمعت أبي يقول: ذكر سعد بن عبادة يوما عليا (عليه السلام) بعد يوم
السقيفة فذكر أمرا من أمره نسيه أبو الحسن يوجب ولايته فقال ابنه قيس بن
سعد أنت سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول هذا في
علي بن أبي طالب (عليه السلام) ثم تطلب الخلافة ويقول أصحابك: منا
أمير ومنكم أمير؟ لا كلمتك والله من رأسي بعدها كلمة أبدا (1) انتهى.
فهذا كما ترى دال على أن من طلب الخلافة بعد رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) من القوم ليس لعدم علمه بنص الغدير بولاية أمير المؤمنين
(عليه السلام) ولا لأن هذا اللفظ لا يوجب له الإمامة ولكن كان ذلك
منهم حبا للرئاسة وطلبا للإمرة وتعمدا لمخالفة نص الرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم) لذلك الغرض ولذا أنكر قيس على أبيه طلب الخلافة بعد سماع



(1) شرح لنهج البلاغة 6 / 44.
236
ذلك، وقال: ما سمعت ولولا علمه بأن الولاية لعلي (عليه السلام) في
قول النبي (صلى الله عليه وآله) يراد بها الإمامة والإمارة دون المعونة
والنصرة، وعلمه بأن أباه يعلم ذلك لما كان يتوجه له الانكار على أبيه بوجه
من الوجوه ولا صح له أن يتبرئ من مكالمته بحال من الأحوال، ولولا أن
سعدا فهم من الولاية ما فهمه ابنه منها لاعتذر إليه عن فعله ودفع عنه إنكاره
بما يعتذر به خصومنا اليوم من حمل الولاية على المعونة والنصرة، وأقول:
سقيا لربع قيس في صدعة بالحق وعدم التفاته في القول به إلى القرابة وإنكاره
الباطل حتى على أبيه مع كونه سيد الأنصار، وهذه قاعدة طالب الحق المنصف
وطريقته لا يعاند إذا ظهر له الحق ولا يعدل عنه ويتعلل فيه لرضى القرابة
والعشيرة والشيوخ والاسلاف وحب الرئاسة والجاه، وقد وضح من جملة ما
حررناه أن الأنصار ومن سمع الخبر من منصفي التابعين قد عرفوا وحكموا أن
مراد النبي (صلى الله عليه وآله) (من كنت مولاه فعلي مولاه) الأولوية
بالأمر وهي الإمارة العامة والإمامة الكبرى والخلافة العظمى لا معنى غيرها
مما يذكره الخصوم، افترى خفي على المهاجرين مثل أبي بكر وعمر وعثمان
وأبي عبيدة وعبد الرحمن وأضرابهم مع شدة ملازمتهم للنبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) وقوة فهمهم وعلمهم على ما يدعى الخصم ما كان ظاهر
للأنصار ظهور الشمس في رابعة النهار؟ أم تعمدوا مخالفة النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) طلبا للرئاسة وكتموا نص الرسول (عليه السلام) على علي
(عليه السلام) طمعا في الإمارة كما فعل سعد بن عبادة عند طلبه ذلك فلما
فاته الأمر أظهر ما أخفاه وأبرز ما كتمه؟ فانظر ما قلناه بعين التبصر
والإنصاف فإنك لا تشك بعده في صحة ما نذهب إليه، ومما يعين ما قلناه
مضافا إلى ما ذكرناه قول النبي (صلى الله عليه وآله) في آخر الخبر
(اللهم وال من ولاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله) فإن
المراد من موالاة الله موالي علي (عليه السلام) هدايته وإثابته إياه، ومن

237
معاداته معادي علي (عليه السلام) إضلاله ومعاقبته، والمراد من موالاة علي
(عليه السلام) متابعته والاقتداء به، ومن معاداته مخالفته والعدول عنه إلى
غيره لا النصرة والحلف في الموضعين، ولا الخذلان والمحاربة في المقامين،
لأنه لو كان المراد ذلك لكان قول النبي (صلى الله عليه وآله) بعده
(وانصر من نصره واخذل من خذله) تكريرا عديم الفائدة، ولا يجوز حمل
كلام النبي المطهر على ذلك، وإذا استوضحت جهة استدلالنا بالخبر الشريف
على قولنا وعرفت صراحته في مذهبنا فاعلم أن الذي حاوله المخالفون فيه
وزعموا أنه ناقص لدلالته على ما ندعيه ومخرج له عن الحجية على ما نبتغيه
وجوه أربعة.
الأول: منع تواتره لأنه لم يروه البخاري ومسلم والواقدي كما قاله
القوشجي وغيره منهم فلا يكون حجة في المقام يعارض به الإجماع، وهذا
الوجه وما بعده من الوجوه التي يتعللون بها في دفع الحق الواضح قد اشتمل
بياننا على تزييفها وإبطالها على أوضح وجه، ولكنا هنا نذكرها مفصلة ونردف
كل وجه بما يبين فساده ويوضح بطلانه.
فنقول في الجواب عن هذا أن الداعي لمن ذهب من الخصوم إلى منع
تواتر الخبر المذكور هو الشبهة الحاصلة من تقدم الثلاثة على علي (عليه
السلام) وتركهم وأصحابهم العمل به واستبعاد مخالفتهم للرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم) فيما كان معلوما وكل ذلك مردود أما تقدم الثلاثة فلا يكون
معارضا للخبر حتى يثبت أنه واقع على وجه شرعي وهذا هو موضع النزاع
والخبر لا نزاع في صحته وإن نوزع في تواتره فيكون أقوى من صحة تقدمهم
والاستبعاد ليس بدليل حتى يعارض به الأدلة لا سيما ومخالفة الرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم) من القوم واقعة في حياته وبعد وفاته، وسيأتيك
توضيحه في موضعه، فما هو بمقتض عدم تواتر الخبر في نفسه لأن شرط

238
التواتر وهو كونه خبر جماعة يفيد بنفسه القطع موجود فيه لكثرة طرقه وإقرار
الصحابة به من موافقي علي ومخالفيه كما علمت، وترك البخاري وصاحبيه
روايته لا يدل على عدم تواتره مع رواية من سواهم من المحدثين وأهل السيرة
له، وكم من حديث متواتر لم يذكره البخاري وصاحباه خصوصا إذا كان
حجة عليهم، ومتى قال مخالفونا إن تخلف علي ومن معه وسعد بن عبادة ومن
اتبعه عن أبي بكر وإنكارهم بيعة غير قادح في الإجماع على إمامته فلا ينبغي
لهم أن يقدحوا في الإجماع على الخبر المذكور بترك البخاري وصاحبيه روايته
مع عدم تصريحهم بإنكاره، فالاعتراض في الخبر من هذا الوجه مندفع.
الثاني (1): عدم تعيين المولى فيه بمعنى الأولى واحتمال كونه لغيره من
المعاني كالناصر والحليف، وزاد الصبان الشافعي في كتابه إسعاف الراغبين (2)
على ذلك أنه لم يعهد كون المولى بمعنى الأولى لا شرعا وهو واضح، ولا لغة
إذ لم يذكر أحد من أئمة العربية أن مفعلا بمعنى أفعل والجواب عنه أن نقول
لهم: إنكم حكمتم على لفظ مولى في قوله تعالى: [مأواكم النار هي
مولاكم] (3) وفي قول النبي (صلى الله عليه وآله) (أيما امرأة نكحت
بدون إذن مولاها) (4) إنه بمعنى الأولى ومالك الأمر للقرينة الحالية والمقالية
ونفيتم عنه ما سوى ذلك من معانيه ولازم ذلك الحكم على مولى في الخبر بأنه
بمعنى الأولى بالمؤمنين لوجود القرينتين الحالية والمقالية على إرادته منه ونفى ما
سواه من المعاني كما ذكرنا أولا وهما دليلان يجب العمل بهما في المقام كما



(1) من الوجوه على عدم دلالة حديث الولاية على الإمامة كما يرى خصوم الشيعة.
(2) ص 153.
(3) الحديد من الآية (15).
(4) استشهد في تاج العروس 10 / 399 بالآية المتقدمة، وهذا الحديث، وحديث " من كنت
مولاه " بأن الولي، والمولى معناهما واحد.
239
أوجبتم العمل بهما في غيره وترك العمل بالدليل للتشهي غير جائز شرعا.
وأما الجواب عن زيادة الصبان وهذره فبأن مولى قد عهد كونه بمعنى
الأولى شرعا وعرفا ولغة فأما في الشرع فالرواية المتقدمة تشهد به فقد جمع
أصحابه وغيرهم على لفظ مولى فيها بمعنى الأولى شرعا، ومثله في الآيات
كثير قال الله تعالى: [ولكل جعلنا موالي مما ترك الولدان والأقربون] (1)
أي أولى بالميراث وقال تعالى: [وإني خفت الموالي من ورائي] (2) إلى
الأولى بميراثه من غيرهم، وكل هذا مما لا نزاع فيه، وأما في اللغة فبوجوه.
الأول: إن أبا عبيدة معمر بن المثنى وهو إمام نقلة اللغة العربية قد
ذكر: أن مولى بمعنى الأولى ونص عليه وحمل عليه لفظ موالي في الآية
المذكورة (3).
وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتابه المترجم بالعبارة في
صفات الله: أصل تأويل الولي الذي هو أولى أي أحق ومثله المولى، وقال بعد
تأويل ذلك بأن الله هو مولى الذين آمنوا والولي والمولى معناهما سواء وهو
الحقيق بخلقه المتولي لأمورهم، وقال في كتاب معاني القرآن: " الولي والمولى
في كلام العرب واحد " (4)، وقال: أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري في
كتابه المعروف بالمشكل " المولى الولي والمولى الأولى بالشئ " وذكره أيضا غيرهم



(1) النساء / 33.
(2) مريم / 5.
(3) المجاز لأبي عبيدة 2 / 254، واستشهد ببيت لبيد الآتي، ونقله عنه الرازي في تفسيره
29 / 227، والعسقلاني في فتح الباري 8 / 482.
(4) معاني القرآن والعبارة من كتب المبرد التي لم أطلع عليها، ولكن ما ذكره المصنف عن المبرد
منقول في الغدير لشيخنا الأميني 1 / 361، ومما تجدر الإشارة إليه أن الأميني رحمه الله أشبع
القول في هذه المسألة في الجزء الأول من الغدير من ص 344 - 383 بما يكفي ويشفي ولم
يدع مجالا لأحد إلا أن يقر بأن لفظ (مولى) يراد به لغة الأولى أو أنه أحد معانيه.
240
من أئمة اللغة واعترف بثبوت ذلك وصحته القوشجي في شرح التجريد.
الثاني: وروده في القرآن كما في الآيات المذكورة وغيرها، وفي السنة مثل
الرواية المتقدمة وغيرها وهما أفصح الكلام العربي.
الثالث: وروده في أشعار العرب على كثرة.
قال لبيد بن ربيعة العامري:
فغدت كلا الفرجين تحسب أنها * مولى المخافة خلفها وأمامها (2)
فالمولى فيه بمعنى الأولى مثله في قوله تعالى: [مأويكم النار هي
مولاكم] قاله ثعلب النحوي وأبو عبيدة، وقال الشنفري جابر بن ثابت
الأزدي.
وإني لمولى الصبر أحباب بزة * على مثل قلب السمع والحزم أفعل
أي إني أولى بالصبر من غيري، وأنا مالك أمره، وذلك أنه يصف نفسه
بكثرة الصبر زيادة على غيره من ذوي الصبر فلا بد من معنى التفضيل.
وقال عمرو بن البراقة الفهمي.
إذا جر مولانا علينا جريرة * صبرنا لها إنا كرام دغاثم
وننصر مولانا ونعلم أنه * كما الناس مجروم عليه وجارم
فمولانا في البيتين بمعنى سيدنا قاله شراح الشواهد وهو بمعنى الأولى بنا
والمالك لأمرنا.
وقال الأخطل:
فأصبحت مولانا من الناس بعده * وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا



(1) رأي ثعلب. نقله الزوزني في شرح المعلقات عند شرحه البيت المذكور من معلقة لبيد.
241
وقال غيره:
كانوا موالي حق يطلبون به * فأدركوه وما ملوا وما لعبوا
والشواهد عليه كثيرة، وإطلاق المولى في لسان العرب على مالك العبد
معلوم غير مجهول، وبه ورد الكتاب العزيز قال الله تعالى: [ضرب الله
مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ وهو كل على مولاه] والمراد به الأولى به
والمالك لأمره، أما في العرف فلأن إطلاق لفظ " المولى " على من بيده أمر
المرأة في النكاح وعلى مالك العبد أمر شائع ذائع بين الفقهاء والمحدثين وعامة
الناس في جميع الأقطار بحيث لا ينكر ولا يدفع، فقد جاء مولى بمعنى الأولى
بالشئ والأحق به شرعا ولغة وعرفا، بل قال بعض المحققين من أهل
الاطلاع على دقائق اللغة العربية: إن الأصل في المولى الأولى بالشئ والأحق
به وما سواه من معاني المولى راجع إليه، فالمعتق مولى لأنه أولى بميراث المعتق
وهذا مولى لأنه أولى بنصرة المعتق من غيره، وابن العم لأنه أولى بنصرة ابن
عمه لقرابته، والورثة موالي لأنهم أولى بميراث الميت من غيرهم، والحليف
لأنه أولى بأمر محالفه للمحالفة التي جرت بينهما، والولي لأنه أولى بنصرة من
يواليه، والسيد لأنه أولى بتدبير من يسوده انتهى والصبان في غفلة عن هذا
كله، والجواب عن قوله: أن مفعلا لم يرد بمعنى أفعل، من وجهين.
الأول: إنا قد أثبتنا بالأدلة الظاهرة والبراهين الزاهرة مجئ هذا الحرف
من مفعل بمعنى أفعل فلا يضرنا عدم مجئ غيره بمعناه لأنا لا ندعي العموم
وإنما الدعوى في واحد وقد أثبتناها.
الثاني: إنه ليس المدعى أن مولى صفة بمعنى الأولى حتى يرد قوله وإنما
المدعى أن مولى اسم للأولى وقد اعترف بذلك القوشجي وغيره من محققيهم
وبوروده كذلك في كلام العرب وأشعارهم فزال اعتراض الصبان.

242
الثالث: (1) تسليم أنه بمعنى أولى لكن لا نسلم أنه أولى بالإمامة، بل
بالاتباع له والقرب منه كقوله تعالى: [إن أولى الناس بإبراهيم للذين
اتبعوه] (2) وقول التلاميذ: نحن أولى بأستاذنا مثل به في المقام القوشجي.
والجواب إنا لا ندري ما مرادهم من هذا العبارة المضطربة الألفاظ
الزائلة المعنى ولا بد من أن يكونوا أرادوا أحد وجوه إما أنهم أرادوا أن معنى
قول النبي (صلى الله عليه وآله) " من كنت مولاه فعلي مولاه " من
كان لي تابعا فهو لعلي تابع فيكون حاصله أن من لم يكن تابعا لي فليس تابعا
لعلي فمن لم يكن تابعا لعلي (عليه السلام) فليس بتابع للنبي (صلى الله
عليه وآله وسلم)، فيقال لهم: على هذا فأبو بكر وأصحابه تابعون للنبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) أم غير تابعين له فإن كانوا له تابعين لزمهم أن
يتبعوا عليا بعده، والمتبوع هو الإمام وإن لم يكونوا للنبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) أتباعا لم تجز لهم خلافته فدلالة الخبر على المدعى بحالها وإن أرادوا أن
معناه من كنت تابعه فهذا معنى قبيح لأن النبي (صلى الله عليه وآله)
لم يتبع أحدا من الناس، بل هو الرئيس المتبوع، وإن أرادوا أن معناه من
كان تابعا لي كان علي تابعا له، فهو معنى مستهجن جدا لأن مراد النبي
(صلى الله عليه وآله) من الكلام مدح علي (عليه السلام) بالاتفاق،
وعلى هذا المعنى يكون مدحا لواحد غير معين ويكون علي (عليه السلام)
ملزوما بتبعية ذلك الغير فلا مدح له وهو خلاف المراد، ولا تنصرف عبارتهم
إلى غير هذه المعاني الثلاثة، والأول لنا لا علينا وإن كان من لفظ الخبر
بعيدا، والأخيران مع ما فيهما مما سمعته بعيدان عن حاق اللفظ فحمل كلام
النبي (صلى الله عليه وآله) عليهما بين الفساد، وأما الأولى في الآية



(1) أي من الوجوه المزعومة على عدم دلالة حديث الولاية على الإمامة.
(2) آل عمران: 68.
243
فلولا القرنية الدالة من العقل على أن التابع لا يلي أمر المتبوع لدلت على ولاية
الأمر لكن القرنية صارفة عنه وهي دليل متبع، ومع هذا كله فإن خروج أولى
في الآية عن معنى الأحقية إلى معنى المتابعة غير مسلم لأنه على قولهم بمعنى إن
أتبع الناس لإبراهيم للذين اتبعوه وهذا ممتنع من جهة أن اسم التفضيل يدل
على المشاركة والزيادة ومن لم يتبع إبراهيم لم يشارك متبعيه في متابعته وحيث لا
مشاركة فلا تفضيل، وكذا لا مشاركة في الأقربية بين تابعيه ومن لم يتبعه
فينتفي التفضيل في الأقربية أيضا فكان لا محالة الأولى فيها باقيا على معناه،
والمراد أن الأولى بطريقة إبراهيم والأحق بدينه من جميع الناس من كان تابعا
له من الأنبياء والأوصياء وأتباعهم في الملة الحنيفية بدليل قوله تعالى: بعد
(وهذا النبي) فإن النبي (صلى الله عليه وآله) غير تابع شريعة إبراهيم
في التحليل والتحريم ليكون مؤتما به بالاجماع وإنما تبعيته لإبراهيم كونه على
الملة الحنيفية مثله والذين آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله) فالآية رد
على اليهود والنصارى وغيرهم من الفرق المدعين أنهم على دين إبراهيم
وطريقته هذا ظاهرها وسرها أن الأولى بمقام إبراهيم والأحق بإمامته المجعولة
تابعوه من ذريته في الدين القويم الذين لم يجر عليهم اسم ظلم طول
أعمارهم، وهذا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والذين آمنوا الذين لم
يلبسوا إيمانهم بظلم، وهم علي (عليه السلام) وأطائب أولاده فهي تشير إلى
قوله تعالى: [وجعلها كلمة باقية] (1) في عقبه يعني الإمامة وهذا الوجه هو
الوارد عن علماء أهل البيت في معنى الآية (2) فهي دالة على مطلبنا من جميع
الجهات وبعيدة عن مطلبهم، وكذا مثال القوشجي فإن المراد منه أن التلاميذ
أحق بفوائد أستاذهم وعوائده من غيرهم وذلك موافق لنا لا له، وليس



(1) الزخرف: 28.
(2) قال الطبرسي في مجمع البيان 9 / 45: " قيل: الكلمة الباقية هي الإمامة إلى يوم
الدين عن أبي عبد الله عليه السلام ".
244
المراد منه إنا أتبع لأستاذنا كما لا يخفي على المتدبر، ثم لو سلمنا حمل الولاية
في الآية والمثال على ما ذكروه لكن لا نسلم جواز حمل الخبر عليهما لاختلاف
التأليف المقتضي لاختلاف المعنى، فإن الأولى في الآية مسند إلى التابعين
وإبراهيم متعلق الولاية فجاز أن يكون المعنى إن أقرب الناس لإبراهيم المتبعون
له، وفي المثال كذلك وفي الخبر الولاية مسنده إلى النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) فلا يجوز أن يكون أراد النبي (صلى الله عليه وآله) من كنت
تابعا لامتناع ذلك، وعلى ما قالوه يكون المعنى هكذا نعم لو قال (صلى الله
عليه وآله وسلم) من كان مولاي فهو مولى علي لجاز حمله على ما قالوه على ما
فيه من القول الذي مر فتبين من هذا أن حمل الخبر على ما في الآية مستحيل
وليس ذلك بخفي على من له معرفة بعلم العربية ولا على مثل القوشجي
ولكن يلجئهم ضيق المسلك إلى ترك ما يعلمون، والله المسدد لمن طلب
السداد.
الرابع: (1) تسليم أنه الأولى بالأمر لكن في المئال بعد الثلاثة لا بعد
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يدل على بطلان إمامة الثلاثة ونحن
نقول بذلك ونقر بأنه رابع الأئمة والجواب أن نقول لهم إذا قررتم بأن معنى
" من كنت مولاه فعلي مولاه " من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من
نفسه فلا بد لكم من التزام أحد أمرين لا محيص لكم عن اختيار واحد
منهما، إما أن تحكموا على المتقدمين عليه بأنهم من المؤمنين الذين كان النبي
(صلى الله عليه وآله) أولى منهم بأنفسهم في اعتقادهم أو بأنهم ليسوا
منهم فإن أجبتم بالأول فلازمه أن يكون علي (عليه السلام) أولى بهم من
أنفسهم بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، لأن من كان النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه على جهة



(1) أي من الوجوه المزعومة على عدم دلالة حديث الولاية على الإمامة.
245
العموم في الشرط المقتضي لعموم الجزاء لتناول القضية جميع الأشخاص
والأوقات كما هو دأب الشرطية المطلقة العامة، فيجب أن يكون علي إمامهم
إذ كان أولى بهم من أنفسهم، ولا يجوز لهم أن يولوا عليه ولا على أنفسهم
وقد جعله رسول الله عليهم وليا وأولى بهم من أنفسهم فبطلت إمامتهم
قطعا، وإن أجبتم بالثاني فقد أخرجتموهم من حيز الإيمان ونفيتموهم من ملة
الإسلام لأن من لم يعتقد أن النبي (صلى الله عليه وآله) أولى به من
نفسه فهو كافر والكافر لا يجوز أن يكون إماما بالاجماع ونص الكتاب وهذا
الوجه لا تجوزونه بل تحكمون بكفر من نسب إلى الثلاثة الكفر فبقي الوجه
الأول وهو يعين بطلان إمامتهم فثبت المطلوب وصحت دلالة الحديث على
إمامة علي (عليه السلام) بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا
فصل وعدم جواز إمامة غيره كائنا من كان.
وأما قول صاحب الإسعاف بأن تجويز النسيان على سائر الصحابة
السامعين لهذا الحديث مع قرب العهد في غاية البعد، (1) فباطل لأنا لم ندع
نسيان الصحابة للحديث، ولا جهالتهم بمراد النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) منه، ولا عدم معرفتهم دلالته على إمامة علي (عليه السلام) وعموم
ولايته على الناس كافة بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، وكيف
وعمر بن الخطاب لما سمعه عرف جميع ذلك منه وقال مخاطبا لعلي (عليه
السلام): هنيئا لك يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن
ومؤمنة، كما قدمنا ذكره في رواية أحمد بن حنبل والبيهقي عن البراء بن
عازب (2)، أفترانا ندعى أن عمر كان شاكا في دلالة الحديث على أن عليا أولى



(1) إسعاف الراغبين ص 154.
(2) المسند 4 / 281 وفي تفسير الرازي 12 / 49 فلقيه عمر فقال: " هنيئا لك أصبحت
مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة " ومثله في تاريخ الخطيب. 8 / 290.
246
بكل المؤمنين والمؤمنات من أنفسهم بعد النبي (صلى الله عليه وآله)
وهو يقول ما سمعت ويصرح به؟ أو ترى أنه أراد تهنئته بأن ناصر المؤمنين
الذي يشاركه فيه جميعهم كما تدعون؟ بل هنأه بالخلافة والإمامة بلا ريبة،
وهذا من أقوى الأدلة على ما ذكرنا سابقا من أن الصحابة عرفوا من الحديث
النص من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على علي (عليه السلام)
بالإمامة، ولم يعرض لهم نسيانه ولا ارتياب في معناه وذلك مدعانا عليهم
ولذا لا نعذرهم فيما فعلوا وقوله: وزعم أن الصحابة علموا هذا النص ولم
ينقادوا له عناد باطل مردود بما بيناه من قرب في تهنئة عمر لعلي (عليه
السلام)، وما ذكرناه في حديث سعد بن عبادة وابنه قيس، وحديث تسليم
الأنصار على أمير المؤمنين (عليه السلام) بالولاية، وغير ذلك، وليس الصحابة
بمعصومين حتى يجب تنزيههم عن الخطأ، في الأحكام وارتكاب العصيان وقد
صدرت من بعضهم المخالفة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كثير من الأمور وفي
كثير من القضايا والأحكام وسنذكره مفصلا في محله إن شاء الله، فما ذكره
من عدم انقياد القوم لنص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع علمهم به
هو اليقين عندنا من فعلهم، وليس فيه عناد أصلا بعد انتفاء عصمتهم
بالاجماع، وثبوت المخالفة منهم للرسول (صلى الله عليه وآله)
بالتواتر، بل هو عمل بالدليل وإنما يكون عنادا إذا ثبتت عصمتهم أو عدم
مخالفتهم للنبي (صلى الله عليه وآله) في شئ من الأمور دائما وكل
ذلك لم يكن فلا سبيل إذن إلى رد الأدلة الصريحة حذرا من تجويز المخالفة على
الصحابة، ولسنا نحكم بذلك على جميع الصحابة فنعارض بما روي عن
النبي (صلى الله عليه وآله) (لا تجتمع أمتي على ضلال) (1)، لأنا



(1) هذا الحديث رواه كثير من المحدثين وناقش في صحته بعضهم، وعلى فرض الصحة
فإن موضوعه لم يتحقق حتى الآن فإن الأمة لم تجتمع على ضلال كما لم تجتمع على حق
وهذا معلوم لا يماري به إلا مكابر فإن الاختلاف وقع بين الأمة من يوم وفاة رسول
الله (صلى الله عليه وآله) إلى يوم الناس هذا وما اختلفت دعوتان إلا كانت
إحداهما ضلالة.
247
نقول إن عليا وأصحابه الأخيار ما زالوا على العمل بذلك النص في سرهم
وإن لم يتمكنوا من إظهاره في زمان تغلب الأولين، والحق معهم وحجة الله
فيهم والإمام بالحق على قولهم فهو الإجماع الصحيح فاندفع ما أورده الصبان
بإذن الواحد المنان، ثم إنه زاد في كتابه وجها خامسا في الايراد على الخبر لا
ينبغي أن يذكر لهجنته لولا أن الواجب على المناظر الاستظهار في الحجة وإزالة
جميع الشبه الواردة على دليله.
قال (1): خامسها كيف يكون ذلك نصا في إمامة علي (عليه السلام)
مع أن عليا بنفسه صرح بأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم ينص عليه ولا
على غيره كما في البخاري وغيره انتهى (2).
أقول: ما أضعف ما يتشبث به هؤلاء القوم في إخفاء الحق الزاهر، وما
أوهن ما يتعلقون به في إطفاء نور الهدى، وهل خفي على أحد من ذوي
المعرفة ادعاء أمير المؤمنين (عليه السلام) النص عليه من النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) بهذا الخبر وغيره، واستشهاده من معه من الصحابة على
ذلك وشهادة جماعة منهم له به، وقد قدمنا ذكر شئ منه ويأتي غيره، ولا
نعرف موضعا صرح (عليه السلام) فيه بعدم النص عليه، وكيف يصرح
بعدم النص عليه وهو ما زال يدعي النص ويستشهد عليه وهل هذا إلا
تناقض لا يجوز أن يقع من أدنى العقلاء فكيف يصدر منه مع استكمال
بصيرته ووفور علمه وحكمته! وذكر البخاري ذلك وأمثاله عنه غير مقبول



(1) الضمير في " قال " للصبان، والوجه الخامس زاده الصبان على الوجوه الأربعة التي
ذكرها أصحابه.
(2) إسعاف الراغبين ص 154.
248
فإنه متهم في ذلك لموافقة غرضه ومطابقة مذهبه، وهل هو في ذلك إلا كثعالة
شاهده ذنبه، ومن روى له مثله، فليس بدليل أصلا لو لم يكن له معارض
فكيف وقد عارضه ما هو معلوم من تصريح علي (عليه السلام) بوجود
النص عليه من النبي (صلى الله عليه وآله) فمن المقطوع به أن ما
ذكره البخاري منكر من القول وزور فهو باطل يقينا هذا والناقل لم يذكر لفظ
البخاري ليزيل عن نفسه تهمة الكذب على شيخه والحوالة في مثل هذا المقام
غير جائزة عند المناظرة، ولا يثبت بها الاحتجاج، ولذا كان للخصم أن
يقول لعلك تقولت على الشيخ أو لعله من كلامه لا من روايته فلا يكون
حجة أو لعلها رواية ليس صريحة كما يدعى وتدعى والتأويل البعيد فيها ليس
بمقبول منكم وإلا لقبلناه في حديث الغدير، ولو ذكر اللفظ لم يتوجه عليه
شئ من ذلك ولكان الاحتجاج فيه والايراد متوجها على البخاري دونه.
وأما الرواية التي نقلها أبو العباس الدمشقي في تاريخه عن ابن عساكر
فلا شك أنها مصنوعة مزورة فلا ريب في بطلانها لاشتمالها على اعتراف أمير
المؤمنين (عليه السلام) بما تواتر عنه القول بضده مثل عدم عهد النبي
(صلى الله عليه وآله) إليه في قتال أهل الجمل وإخوانهم من أهل
الشام مع اشتهار الرواية بوصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقتال
الناكثين والقاسطين والمارقين، وقوله (صلى الله عليه وآله) (إن فيكم
من يقاتل على تأويل القرآن) الخبر (1)، وقول أبي أيوب الأنصاري: عهد
إلينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن نقاتل مع علي الناكثين
والقاسطين والمارقين رواه ابن ديزيل: ونصر بن مزاحم (2) وعلى أن خلافة



(1) شرح نهج البلاغة 1 / 207 ورواه الإمام أحمد في المسند 3 / 33 والحاكم في المستدرك
3 / 122 وأبو نعيم في الحلية 1 / 67.
(2) شرح نهج البلاغة 2 / 207 ورواه ابن الأثير في أسد الغابة 4 / 32 و 33.
249
الأولين بنص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهما وقد حصل الاتفاق
على رده بيعة أبي بكر حتى أخرج إليها قهرا وقد شرحنا ذلك فيما مر فكيف
يعترف بالنص ويخالفه وهو منزه عن مخالفة الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) في جميع الأمور، ولتضمنها نسبة أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى
نفسه ما صح عند المؤالف والمخالف أنه لم يفعله ومن جملته أنه يغزو إذا أغزاه
أبو بكر وعمر وعثمان وقد صح عند كل أهل الرواية أنه لم يخرج من المدنية
غازيا في زمان الثلاثة قط وامتناعه عن الخروج مع عمر إلى الشام حين دعاه
إليه معروف (1)، ومذاهبه المخالفة للثلاثة مشهورة، وفي كتب القوم
مذكورة، وتصريحه بدفعهم إياه وأخذهم حقه وغصبهم مقامه على ذروات
المنابر معلوم، قد بيناه في مواضع من هذا الكتاب يستغنى بشرحه فيها عن
ذكره هنا، وكلما كان من الروايات مخالف للمعلوم فالواجب رده والحكم عليه
بالبطلان خصوصا إذا كان مما يختص به المدعي ولم يروه خصمه كهذه
الرواية، على أن هذا الرجل قد ذكر قبل الوجه المذكور بقليل أن عليا قد
احتج بالخبر على إمامته في خلافته فكيف يعتبر باحتجاج علي (عليه السلام)
على إمامته بالخبر ثم يقول ولم يطل الكلام أن عليا قد اعترف بعدم النص
عليه! فانظر إلى هذا التضاد الشديد البين في كلامه فيا سبحان الله ما أبعد
هؤلاء الجماعة عن التأمل فيما يقولون؟ وقد بينا سابقا أن الحديث المذكور
قد احتج به أمير المؤمنين (عليه السلام) على أهل الشورى في اختصاصه
بالإمامة دون غيره باعتراف الخصوم من معتزلة وأشاعرة فلا وجه لتخصيص
الصبان احتجاجه (عليه السلام) بالحديث بأيام خلافته، ثم يقال له: إذا
كان علي قد احتج به على إمامته في خلافته باعترافك فوجب أن يكون حجة
على ذلك أبدا إذ لا تخصيص فيه بوقت، بل هو صريح في تناول جميع



(1) شرح نهج البلاغة 12 / 78.
250
الأوقات، وبذلك تبطل إمامة المتقدمين مع ما في اعترافك بهذا من إكذابك
نفسك في دعواك اعتراف أمير المؤمنين (عليه السلام) بعدم النص وتكذيبك
البخاري في ذكره ذلك كما قلت، فتأمل أيها المنصف في تناقض كلام هؤلاء
القوم لتعلم (أي الفريقين أحق بالأمن) (1) وقد اتضح من جميع ما ذكرنا
سلامة الخبر من الايرادات وخلوصه من التشكيكات وعصمته من
التمويهات، وثبت أنه نص على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد سيد
المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك المراد.
ومنها: ما رواه ابن أبي الحديد عن أكثر المحدثين وعن أحمد بن حنبل في
المسند وكتاب الفضائل ولفظ الرواية بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) خالد بن الوليد في سرية وبعث عليا (عليه السلام) في سرية أخرى
وكلاهما إلى اليمن، وقال إن اجتمعتما فعلي على الناس وإن افترقتما فكل واحد
منكما على جنده، فاجتمعا وأغارا وسبيا نساء وأخذا أموالا وقتلا ناسا، وأخذ
علي (عليه السلام) جارية فاختصها لنفسه فقال خالد لأربعة من المسلمين
منهم بريدة الأسلمي اسبقوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
فاذكروا له كذا واذكروا له كذا لأمور عددها على علي (عليه السلام) فسبقوا
إليه فجاء واحد من جانبه فقال: إن عليا فعل كذا فأعرض عنه، فجاء
الآخر فقال: إن عليا فعل كذا فأعرض عنه، فجاء بريدة الأسلمي فقال:
يا رسول الله إن عليا فعل كذا وأخذ جارية لنفسه فغضب (صلى الله عليه
وآله وسلم) حتى احمر وجهه وقال: (دعوا لي عليا) يكررها (إن عليا مني
وأنا من علي وإن حظه في الخمس أكثر مما أخذ وهو ولي كل مؤمن من
بعدي).



(1) الأنعام: 81.
251
قال ابن أبي الحديد: رواه أبو عبد الله أحمد في المسند غير مرة (1) والمراد
أنه رواه بطرق متعددة وروى الترمذي والحاكم عن عمران بن حصين أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (ما تريدون من علي ما
تريدون من علي ما تريدون من علي إن عليا مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن
بعدي) (2).
أقول: وهو نص صريح غاية الصراحة في أن عليا (عليه السلام) ولي
المؤمنين بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا معنى للولاية بعد
النبي (صلى الله عليه وآله) إلا الإمامة، ولا يجوز حملها على المعونة
والنصرة لأنه يلزم من ذلك أن عليا في حياة النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) غير ناصر للمؤمنين ولا معين لهم وإنما يكون كذلك بعد النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) وهذا ظاهر البطلان بالبديهة، وهل نصر الإيمان
والمؤمنين في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله) أحد كنصره أو ذب
عن حريم الإسلام أحد كذبه فتعين أن المراد الأول فهو النص الواضح الذي
لا تدخله الشبه ولا يتطرق إليه فاسد التأويل ولذا قال أمير المؤمنين في خطبة
له: (فوالله إني لأولى الناس بالناس)، رواها المعتزلي (3): المنكر النص عليه
ومن هنا يعلم فساد ما قاله الصبان حيث قال: والجواب عما يوهمه ظاهره
يعني الخبر من تقديمه على غيره واستحقاقه الإمامة عقب وفاته (صلى الله عليه
وآله وسلم) يؤخذ مما ذكرناه في حديث (من كنت مولاه) وأنا أقول جواب
هذا الكلام المتهافت يؤخذ مع ما ذكرناه هنا من جوابنا عليه هناك وقد صرح



(1) شرح نهج البلاغة 9 / 170 وانظر مسند الإمام أحمد ج 4 / 164 و 165 و 437
و ج 5 / 356.
(2) الترمذي 2 / 297 من طريق عمران بن الحصين ومستدرك الحاكم 3 / 110.
(3) شرح النهج 7 / 284.
252
الحديث كما ترى بأن القوم كانوا مبغضين لعلي (عليه السلام) في حياة النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) وأنهم مجهدون أنفسهم في عيبه ونقصه عند
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليغضب عليه لكنهم لم يجدوا إلى ذلك
سبيلا فما فاتهم منه في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أدركوه
منه بعد وفاته فدفعوه عن مقامه وأخرجوه قهرا إلى من قدموه عليه.
قال ابن أبي الحديد قال أبو بكر: وحدثني أبو زيد عمر بن شبة عن
رجاله قال: جاء عمر إلى بيت فاطمة في رجال من الأنصار، ونفر قليل من
المهاجرين فقال: والذي نفسي بيده لتخرجن إلى البيعة أو لأحرقن البيت
عليكم فخرج الزبير مصلتا بالسيف فاعتنقه زياد بن لبيد الأنصاري ورجل
آخر فندر (1) السيف من يده فضرب به عمر الحجر فكسره، ثم أخرجهم
بتلابيبهم يساقون سوقا عنيفا حتى بايعوا أبا بكر (2)، ولا شك أن من سكن
في قلبه ذلك البغض القديم لعلي في حياة النبي (صلى الله عليه وآله)
يحدث منه بعد وفاته (صلى الله عليه وآله) في علي (عليه السلام)
هذا الفعل الذميم، ويأتي لهذا زيادة تحقيق في موضعه فترقب، ومن تبصر
أدنى تبصر عرف يقينا أن القوم قد ارتكبوا من أمير المؤمنين أمر عظيما،
وأنهم تعمدوا إنكار فضله وإخفاء النص عليه من النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم)، وأنهم قصدوا مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله في جميع ما
عهد إليهم في حقه وما أوضحه لهم من علو شأنه، أو لا تراهم كيف شاهدوا
غضب النبي (صلى الله عليه وآله) عليهم من ذكرهم عليا (عليه
السلام) بشئ من سئ القول وإبدائهم الشكاية منه إليه! (3) ثم هم يعمدون
بعد أيام إلى حرق بيته ويخرجونه ملببا يسوقونه ومن معه سوقا عنيفا، فماذا



(1) ندر: سقط.
(2) شرح نهج البلاغة 2 / 56 و 5 / 48.
(3) نفس المصدر 6 / 45.
253
تظن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لو رآهم حين أخرجوا عليا (عليه
السلام) على تلك الحال في ذل وصغار؟!! وهل يجوز لعاقل لبيب أن يستبعد
عليهم مخالفة نص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يرى منهم هذه
المخالفات، ويعلم من أفعالهم هذه المنكرات بعد مشاهدتهم من النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) ما سمعت من غضبه الشديد لقول في علي دون فعل
فيقول (1) لو سمع الصحابة نصا من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على
علي (عليه السلام) لما خالفوه! لأنا لا نظن عليهم مخالفته وهذان الحديثان
قالعان لشبهتهم التي إليها يستندون كما ترى وسيأتي من الأخبار ما هو أصرح
في هذا المطلب ثم إن الحديثين يدلان على أن ما يفعله علي (عليه السلام
حق وصواب لأن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يسمع الشكاية فيه ولو
جاز عليه الخطأ لم يكن يحابيه ولا يراعيه فزالت بحمد الله كل شبهة وذلك من
فضل الله وعونه.
وأما ما ورد بلفظ المنزلة: فهو الحديث المتفق على روايته بين الأمة وهو
قول النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) يوم توجه إلى
تبوك واستخلفه على المدينة فقال علي (عليه السلام): خلفتني على النساء
والصبيان فقال: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا
نبي بعدي) هذه صورة الحديث عن سعد بن أبي وقاص (2) وصورته عن



(1) القائل هو ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة / وانظر أيضا ج 6 ص 12.
(2) حديث المنزلة من طريق سعد أخرجه البخاري صحيحه 4 / 208 في كتاب بدأ
الخلق في باب مناقب علي بن أبي طالب وفي 5 / 129 كتاب المغازي باب غزوة تبوك
ومسلم في صحيحه 7 / 12 في كتاب فضائل الصحابة، في باب من فضائل علي بن
أبي طالب (رضي الله عنه) والترمذي في سننه 2 / 308 كما أخرجه الإمام أحمد في
مواطن من مسنده ج 1 / 173 و 175 و 177 و 179 و 182 و 185 و ج 6 / 369
و 438، وقال ابن عبد البر في الإستيعاب 3 / 45 عن حديث المنزلة: " رواه جماعة
من الصحابة وهو من أثبت الآثار وأصحها، رواه عن النبي سعد بن أبي وقاص "
قال: " وطرق سعد فيه كثيرة ذكرها ابن أبي خيثمة وغيره، وكرره رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) في مواطن منها يوم غزوة تبوك كما مر في البخاري وعند
التنازع في ابنة حمزة كما في الخصائص للنسائي ص 19 ويوم المواخاة كما في كنز
العمال 6 / 188 ومنها يوم ولد الحسن (عليه السلام) كما في ذخائر العقبى ص
120 وفي صواعق ابن حجر ص 179 قال: أخرج أحمد " أن رجلا سأل معاوية عن
مسألة فقال: سل عنها عليا فهو أعلم، قال: جوابك فيها أحب إلي من جواب علي
قال: بئس ما قلت لقد كرهت رجلا كان رسول الله يغره العلم غرا ولقد قال له:
(أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) وكان عمر إذا أشكل عليه
شئ أخذ منه ".
254
العباس بن عبد المطلب عن عمر بن الخطاب عن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم): (وأنت مني بمنزلة هارون من موسى كذب من زعم أنه يحبني وهو
يبغضك) في خبر رواه في الخصائص (1) وكثير من الناس يرويه (أنت مني
بمنزلة هارون) إلى آخر ما مر عن سعد، وقد تقدم في حديث الوزارة ذكره
وذكر معناه، وجملة الأمر فيه أن لهارون من موسى منزلة الأخوة والوزارة
وشد الأزر والشركة في الأمر والخلافة عنه في قومه، فالوزارة تحمل الثقل
عنه، وشد الأزر كونه ردأ له يصدقه، والشركة في الأمر النبوة معه، فأثبت
النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) منه جميع منازل
هارون من موسى ولم يستثن إلا النبوة، فعلي وزير رسول الله وشاد أزره
وخليفته في قومه وأخوه وليس من النسب لكنه من جهة المماثلة، ومؤاخاة
النبي (صلى الله عليه وآله) متفق عليها، فمفهوم الأخوة ثابت له من
الحديث المذكور، وقد قال الحسن البصري فيما تقدم نقله وقال له يوم تبوك
ما قال، فلو كان ثمة شئ غير النبوة لاستثناه انتهى، فقدح بعض الخصوم
في عموم الخبر لكل المنازل بأن عليا ليس أخا النبي (صلى الله عليه وآله



(1) كذا في المتن والظاهر عبد الله بن العباس كما في كنز العمال 6 / 365.
255
وسلم) يقينا فلا يشمل جميع المنازل مندفع بما ذكرناه من ثبوت الأخوة له
إجماعا، وليس كونها من النسب بواجب في صدقها مطلقا حتى تكون
خارجة، بل الواجب دخولها في مفهوم الخبر لثبوتها من وجه آخر وصحة
إطلاقها على علي (ع) دائما فيقال هو أخو رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) وهو (صلى الله عليه وآله) كثيرا ما يقول في علي (أخي وابن
عمي وأخي وصاحبي)، فالأخوة من هذا الوجه مرادة من الخبر يقينا ولم
تستثن، فالخبر شامل لجميع المنازل إلا النبوة لا تخصيص فيه بدونها، وإذا
ثبت لعلي جميع تلك المنازل من النبي (صلى الله عليه وآله) التي من
جملتها أنه خليفته على الإطلاق ثبت كونه الإمام بعده، فدلالة هذا الخبر
المتواتر على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) دلالة نص صريح لا تخفى
استفادتها منه إلا على جاهل صرف لا معرفة له بمعاني الألفاظ، ولا علم له
بتراكيب الكلام العربي، أو معاند يرتكب تغيير المعاني ويتعسف طريق
التأويل، ولسنا في ذلك نبحث ولا إنصافهم ندعي كما قدمنا القول فيه، وقد
تقدم عن ابن أبي الحديد اعترافه باستفادة ثبوت جميع منازل هارون من موسى
ومراتبه غير النبوة لعلي (عليه السلام) من رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) من هذا الحديث، والانكار غير مقبول بعد الإقرار، وما أورده
بعض الخصوم كالقوشجي وغيره على دلالة الخبر على المطلوب مضافا إلى ما
سبق تارة باحتمال كون هارون خليفة لموسى (عليهما السلام) في حياته خاصة
لأنه مات قبله، وتارة باحتمال أنه لو بقي بعد موسى أن تكون إمامته بالنبوة
لا بالخلافة عن موسى، فلا يلزم أن يكون علي إماما بعد النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) لأنه ليس بنبي تشكيك في المعلومات، والجواب عن الأول
بأنا إنما نتكلم على دلالة الألفاظ دون ما يؤل إليه أمر الناس من سبق موت
الخليفة على من استخلفه، فإنا نعلم يقينا أن الرجل إذا أوصى إلى آخر دل
على أنه النائب عنه بعد موته بحيث إذا مات كان للوصي التصرف، ولو

256
مات الوصي قبل الموصي تحقق بموته انفساخ وصيته لا بدلالة اللفظ، فقول
موسى (عليه السلام) لهارون (عليهما السلام) (اخلفني في قومي) (1) نص
على استخلافه غير مقيد بوقت، فلو فرض أن موسى (عليه السلام) توفاه
الله في مسيره ذاك لكان هارون خليفته بذلك الاستخلاف قطعا، وليس لأحد
أن يقول إنه ينعزل بموت موسى (عليه السلام) مع شمول اللفظ للحالين،
ولا يقول بذلك نبيه، بل نقول إنه خليفة موسى (عليه السلام) في غيبته
وموته غيبة وإن لم يرج زوالها فالحال واحدة، وكذا القول فيما لو رجع ومات
بعد رجوعه ولم يصرح بعزل هارون فإنه يكون أيضا خليفته بذلك
الاستخلاف الأول، ولا يعترض الشك لعاقل فيه، وأما انفساخ خلافته
بموته قبل موسى فليس من جهة قصور الدلالة اللفظية في الاستخلاف، بل
من جهة استحالة نيابة الميت عن الحي، فكذا نقول في علي (عليه السلام
ثبتت له الخلافة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على سبيل العموم على ما
ثبتت لهارون ولم يعرض ما يفسخها من فعل أو قول فيجب بقاؤها له بعد موت
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالضرورة وعن الثاني بأن القيام مقام النبي
الأول لا يكون بمجرد النبوة فيقوم من بعده من هو نبي مقامه مطلقا، بل لا
بد من استخلافه والوصية إليه وإلا لكان كل نبي يقوم مقام من قبله فيلزم
تعدد الخلفاء في زمان واحد، وهذا باطل بما صح بالاتفاق أن موسى (عليه
السلام) قام مقامه يوشع بوصيته إليه ولم يكن لأنبياء ذلك الزمان مع كثرتهم
ذلك المنصب بالنبوة، وكذلك بعد يوشع لوصيه وهكذا إلى طالوت وداود
وإلى سليمان وهلم جرا إلى أن جددت شريعة عيسى (عليه السلام) وكان
الحال فيها كسابقتها يقوم الثاني مقام الأول بوصية إليه لا بنبوة الثاني فقط،
فهرون (عليه السلام) لو بقي بعد موسى (عليه السلام) لكان خليفته
بذلك الاستخلاف لا بنبوته وإلا لكان خليفته في حياته بالنبوة ولم يحتج إلى



(1) الأعراف 142.
257
استخلافه في ذلك فلا حاجة إلى قوله (اخلفني في قومي) وأيضا إن موسى
(عليه السلام) لو لم يستخلف هارون واستخلف غيره لوجب عليه الطاعة
لذلك الغير ولم تكن نبوته نافية عنه تبعية وصي أخيه موسى وخليفته فلا
يكون أحد مطلقا خليفة نبي إلا باستخلاف، وهذا ظاهر لكل ذي علم،
فكذلك علي (عليه السلام) هو خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) بذلك الاستخلاف لأنه لم يعزله ولم يوص إلى غيره بل أكد استخلافه
والوصية إليه بخبر الغدير وغيره فثبت المراد وزال الايراد.
ومما يقرب شبها من هذا الحديث ما رواه ابن أبي الحديد عن الحافظ أبي
نعيم في الحلية من قول النبي (صلى الله عليه وآله) (أخصمك يا علي
بالنبوة فلا نبوة بعدي، وتخصم الناس بسبع لا يجاحد فيها أحد من قريش
أنت أولهم إيمانا بالله، وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم بأمر الله، وأقسمهم
بالسوية، واعد لهم في الرعية، وأبصرهم بالقضية، وأعظمهم عند الله
مزية) تمام الخبر (1) فالنبي (صلى الله عليه وآله) لم يخرج من
خصائصه ومراتبه عن علي (عليه السلام) إلا النبوة ولوزامها؟؟ فتبقى له
الخلافة والإمامة لأنها لم تنقطع بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
بالاتفاق، بل بالضرورة من الدين فهو قريب من الخبر الأول في الدلالة
فتأمل.
وأما ما ورد بلفظ الوراثة: فمنه ما رواه ابن أبي الحديد عن أبي جعفر
الطبري في التاريخ أن رجلا قال لعلي (عليه السلام) يا أمير المؤمنين بم
ورثت ابن عمك دون عمك؟ فقال على هاؤم (2) ثلاث مرات حتى اشرأب
الناس ونشروا أذانهم، ثم قال: جمع رسول الله (صلى الله عليه وآله



(1) شرح نهج البلاغة 9 / 173.
(2) هاؤم: ها اسم فعل بمعنى خذ، ويجوز مد ألفها فإذا مدت جاز تعريف همزتها
فيقال: هاء للمذكر - بالفتح - وهاء للمؤنث - بالكسر - وهاؤما، وهاؤن،
وهاؤم، قال تعالى: [هاؤم أقروا كتابيه].
258
وسلم) بني عبد المطلب بمكة وهم رهط كلهم يأكل الجذعة ويشرب
الفرق (1)، وصنع مدا من طعام (2) حتى أكلوا وشبعوا وبقي الطعام كما هو
كأنه لم يمس، ثم دعا بغمر (3) فشربوا ورووا، وبقي الشراب كأنه لم يشرب،
ثم قال: (يا بني عبد المطلب إني بعثت إليكم خاصة وإلى الناس عامة،
فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي، فلم يقم إليه أحد
فقمت إليه وكنت من أصغر القوم، فقال: (اجلس) ثم قال ذلك ثلاث
مرات، كل ذلك أقوم إليه فيقول (اجلس) حتى كان في الثالثة فضرب بيده
على يدي، فبذلك ورثت ابن عمي دون عمي (4)، وظاهر الحديث بل
صريحه أن الناس لا يشكون في أن عليا وارث رسول الله دون عمه العباس،
بل هو معلوم عندهم، وإنما يسألون عن السبب في ذلك.
قال ابن أبي الحديد: وروى يعني أحمد بن حنبل - عن جعفر بن محمد
الصادق قال: كان علي (عليه السلام) يرى مع رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) قبل الرسالة الضوء، ويسمع الصوت، وقال له (صلى الله عليه
وآله وسلم) (لولا أني خاتم الأنبياء لكنت نبيا، فإن لا تكن نبيا فإنك وصي
نبي ووارثه، بل أنت سيد الأوصياء وإمام الأتقياء) (5) وهذا الحديث قد
اشتمل أيضا على ذكر الوصية والإمامة اللتين لا يحتملان إلا الخلافة العامة
فهو كما قدمناه من الأخبار في ذلك على ما قررناه هناك.



(1) الفرق بكسر الفاء وقيل: بفتحها -: مكيال يكال به اللبن.
(2) المد: ربع الصاع، ومقدر بوزن اليوم ثلاثة أرباع الكيلو تقريبا.
(3) الغمر: الكثير والمراد هنا اللبن.
(4) شرح نهج البلاغة 13 / 212 وتاريخ الطبري 3 / 1173 ط ليدن.
(5) شرح نهج البلاغة 13 / 210 عن مسند أحمد.
259
وروى ابن أبي الحديد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال في
خطبة: " ورثت نبي الرحمة، ونكحت سيدة نساء هذه الأمة (1)، وأنا خاتم
الوصيين "، الخطبة إلى غير ذلك من الأخبار ووراثة علي (عليه السلام)
لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أما في المال وذلك غير صحيح عند
أصحاب ابن أبي الحديد وإخوانهم من الأشاعرة لوجهين.
الأول حديث أبي بكر عن النبي (صلى الله عليه وآله) (نحن
معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة) (2).
الثاني إن العباس عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) موجود مع فاطمة
بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والعم عندهم يحجب ابنت
العم مطلقا، فلفاطمة نصف وللعباس نصف فلا ميراث لعلي (عليه
السلام) من المال، وأما عندنا فلأن ابن العم لا يرث مع الولد مطلقا ذكرا
كان أو أنثى، وفاطمة موجودة فالمال جميعه لها فليس لعلي (عليه السلام)
ميراث من مال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إجماعا مع أنه وارثه
بالنص الصريح، فحينئذ لم يبق إلا المراتب والمنازل، والنبوة في علي (عليه
السلام) منتفية لختمها برسول الله (صلى الله عليه وآله) فيبقى الباقي
من الفضل والعلم والإمامة فعلي وارث النبي (صلى الله عليه وآله)
فيها، فيكون هو الإمام والخليفة من بعده لعموم الوراثة وبقاء ما لم يخرج
بدليل قاطع تحت العموم، بل لو قلنا: إن المراد من الوراثة في الأحاديث
المذكورة وشبهها هو وراثة الإمامة ولوازمها لا غير لم نبعد عن الصواب، فإن



(1) نفس المصدر 2 / 287.
(2) صحيح البخاري ج 5 / 82 كتاب المغازي باب غزوة خيبر و ج 4 / 209 كتاب بدأ
الخلق باب مناقب قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومنقبة فاطمة
(عليها السلام)، وصحيح مسلم 5 / 153 كتاب الجهاد والسير.
260
إمعان النظر فيها والتروي في معانيها يوصل إلى فهم ذلك منها، ومن هذا
كله يعلم بطلان ما قال ابن أبي الحديد: وأما الوراثة فالإمامية يحملونها على
ميراث المال أو الخلافة ونحن نحملها على وراثة العلم انتهى، وقد تحقق لك
أن الإمامية لا يحملونها على وراثة المال لإجماعهم على أن لا وارث مع ولد من
ذوي النسب إلا الأبوان، فكلام ابن أبي الحديد فرية عليهم، اللهم إلا بعد
وفاة فاطمة فميراث النبي (صلى الله عليه وآله) المالي بواسطتها ينتقل
إلى علي (عليه السلام) وولديها الحسن والحسين فيجتمع لهم هنالك المراتب
والمال، وأما قبل وفاتها فعلي (عليه السلام) وارث في الإمامة ولوازمها لا
يحمل الإمامية الوراثة هنا إلا على هذا وهي صريحة فيه، وأما تخصيصه إياها
بوارثة العلم فهو تخصيص للعام بالرأي، وتقييد للمطلق بالاستحسان،
وذلك ميراثه وأصحابه من أسلافهم كما سيأتي القول فيه، وليس ذاك بجائز
إذ ليس عليه من الشرع دليل فما إلى القول به سبيل مع أن قوله غير وارد
علينا ولا مناقض لنا، بل مواقف لما نقول، لأنا نذهب إلى أن وارث علم
النبي (صلى الله عليه وآله) يجب أن يكون هو الإمام بعده، ولا يجوز
أن يتقدم عليه أحد من الناس كما بيناه فيما سبق من المقدمة والفصل الأول
من وجوب تقديم الأفضل على المفضول، فقوله لنا لا علينا بل نزيد على
ذلك ونقول إن العقل السليم يجزم بأن وارث علم النبي هو الوارث مقامه
وأنهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر عقلا، ووجهه يؤخذ مما أسلفنا
من التحقيقات ومن تأمل وأنصف عرف صحة ما نقول.
وأما ما ورد بلفظ الأحقية والأولوية: فما رواه ابن أبي الحديد عن أبي
إسحاق الثعلبي في تفسيره عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما نزل
[إذا جاء نصر الله والفتح] بعد انصرافه (صلى الله عليه وآله وسلم) من
غزاة حنين جعل يكثر من سبحان الله استغفر الله ثم قال: (يا علي إنه قد
جاء ما وعدت به جاء الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا وإنه ليس أحد

261
أحق منك بمقامي لقدمك في الإسلام، وقربك مني، وصهرك، وعندك
سيدة نساء العالمين، وقبل ذلك ما كان من بلاء أبي طالب عندي حين نزل
القرآن فأنا حريص أن أراعي ذلك لولده] (1) انتهى وهذا الحديث نص
صريح في أن عليا (عليه السلام) أحق بمقام رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) من كل أحد للخصال التي ذكرها (صلى الله عليه وآله) في
علي، وهذه الخصال هي التي نقول إن الموصوف بها على لسان النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) هو الإمام لأن من شرط الإمام الاتصاف بها لاقتضائها
الفضل، وهو دليل لنا على الوجهين.
وبالجملة فالحديث المذكور نص من النبي (صلى الله عليه وآله)
على علي (عليه السلام) بالإمامة بعده لا يعتريه الريب، ولا يتطرق إليه
العيب، ومن الأولوية ما في بعض خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) من
قوله: (لا يقاس بآل محمد (صلى الله عليه وآله) من هذه الأمة
أحد) إلى أن قال: (ولهم خصائص الولاية) (2) وسنذكرها فيما بعد جميعها
إن شاء الله فالمراد بالولاية هنا أوليتهم بمقام الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) لأنه إذا كان لهم حق ولاية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
كانوا هم الأحق والأولى بمقامه.
قال ابن أبي الحديد في شرح الخطبة: ثم ذكر (عليه السلام) خصائص
حق الولاية والولاية الإمرة، فأما الإمامية فتقول أراد نص النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) عليه وعلى أولاده، ونحن نقول لهم خصائص حق ولاية
الرسول (صلى الله عليه وآله) على الخلق انتهى (3) أقول ما أرى ابن



(1) شرح نهج البلاغة 9 / 174.
(2) نهج البلاغة من الخطبة 2.
(3) شرح نهج البلاغة 1 / 139.
262
أبي الحديد في إيراده صنع شيئا، وإنما زاد المعنى إيضاحا وزاد الحجة إثباتا،
لأنه لو قيل له ما ولاية الرسول (صلى الله عليه وآله) على الخلق؟
لكان يقول الإمرة عليهم، لا محيص له عن ذلك إذ لا معنى لها غيرها، فيقال
له: إذا أقررت أن لعلي (عليه السلام) وأولاده حق تلك الولاية كنت مقرا
بأن لهم الإمرة لأن الولاية المذكورة هي الإمرة بعينها، فلعلي (عليه السلام)
وأولاده الإمرة على الخلق وهو نص كلام الإمامية الذي أنكرته فإنهم لا
يزيدون على أن لعلي (عليه السلام) وأطهار ولده ولاية النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) على الخلق، فنعوذ بالله من اللجاج بغير فائدة ما سوى التعصب
للمذاهب وقصد تصحيح قول الأسلاف بما لا يصح به، ومما يشير إلى معنى
الأحقية والأولوية أخبار فمنها أخبار المماثلة وقد تقدمت.
ومنها ما رواه ابن أبي الحديد عن أحمد بن حنبل في المسند وفي كتاب
فضائل علي (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
(أنا أول من يدعى به يوم القيمة فأقوم عن يمين العرش في ظله ثم أكسى
حلة، ثم يدعى بالنبيين بعضهم على إثر بعض فيقومون عن يمين العرش
ويكسون حللا، ثم يدعى بعلي بن أبي طالب (عليه السلام) لقرابته مني
ومنزلته عندي ويدفع إليه لوائي لواء الحمد آدم ومن دونه تحت ذلك اللواء)
ثم قال لعلي (عليه السلام): (ثم تسير به حتى تقف بيني وبين إبراهيم
الخليل، ثم تكسى حلة وينادي مناد من العرض نعم الأب أبوك إبراهيم
ونعم الأخ أخوك علي، أبشر فإنك تدعى إذا دعيت وتكسي إذا كسيت وتحبا
إذا حبيت) (1) ودلالته على أولوية علي بالنبي (صلى الله عليه وآله)



(1) نفس المصدر 9 / 169 ورواه المحب الطبري 2 / 202 عن مناقب أحمد كما رواه
آخرون ممن تطول الحاشية باستعراض بعضهم ولكن أردنا إثبات نقل ابن أبي الحديد
عن الإمام أحمد كما في المتن.
263
ظاهرة من مواضع دعائه دون غيره مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
فيكون أولى بالنبي (صلى الله عليه وآله) من غيره، وإلا لدعي ذلك
الغير، والقرب منه والمنزلة عنده، ولو كان أحد أولى منه لكان أقرب منه إلى
النبي (صلى الله عليه وآله) وكانت منزلته عند النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) أرفع، لكن ليس غيره كذلك فهو أولى، وإعطاؤه لواء النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) فلو كان غيره أولى بالنبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) لكان له ذلك اللواء، وقوله (صلى الله عليه وآله) في آخر
الحديث: (إنك تدعى إذا دعيت) الخ تصريح بالأولوية، وإذا كان أولى
به في الآخرة فهو في الدنيا كذلك فيكون هو الأولى بمقامه، فالحديث فيه
إشارة إلى إمامته بعد الرسول (صلى الله عليه وآله).
ومنها ما رواه عن أحمد في كتاب الفضائل عن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم): (أعطيت في علي خمسا هن أحب إلي من الدنيا وما فيها، أما واحدة
فهو كأب بين يدي الله عز وجل حتى يفرغ من حساب الخلائق، وأما الثانية
فلواء الحمد بيده آدم ومن ولد تحته، وأما الثالثة فواقف على عقر حوضي (2)
يسقي من عرف من أمتي، وأما الرابعة فساتر عورتي ومسلمي إلى ربي، وأما
الخامسة فإني لست أخشى عليه أن يعود كافرا بعد إيمان، ولا زانيا بعد
إحصان) (2) والأظهر في الأولوية الرابعة ثم الثانية والثالثة، والتقرير كما في
الأول.
وأما ما ورد بلفظ المختار: فما رواه ابن أبي الحديد عن أحمد بن حنبل
في المسند قال قالت فاطمة: إنك والخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) زوجتني فقيرا لا مال له فقال: (زوجتك أقدمهم سلما، وأعظمهم



(1) نفس المصدر 9 / 172 عن مناقب أحمد.
(2) العقر: مؤخر الحوض حيث تقف الإبل.
264
حلما، وأكثرهم علما أما تعلمين أن الله اطلع إلى الأرض اطلاعة فاختار منها
بعلك) (1) أقول هذا الحديث نص واضح في إمامة علي (عليه السلام) بعد
رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأن الله اختاره بعده فدخل في قوله
تعالى: [ولقد اخترناهم على علم على العالمين] (2) ولا يختار الله أحدا من
الناس، فيقال اختاره الله إلا نبيا أو خليفة نبي ولما كان نبينا (صلى الله عليه
وآله وسلم) خاتم الأنبياء وجب أن يكون اختار الله عليا لخلافته، إذ لا
معنى لاختيار الله رجلا إلا نصبه نبيا أو إماما، وهذا ظاهر لا يحتاج إلى بيان.
ومثله ما رواه ابن أبي الحديد عن محمد بن إسماعيل بن عمرو البجلي
قال: أخبرنا عمر بن موسى الوجيهي، عن المنهال بن عمرو، عن
عبد الله بن الحارث، قال: قال علي (عليه السلام) على المنبر (ما أحد
جرت عليه المواسي إلا وقد أنزل الله فيه قرآنا) فقام إليه رجل من مبغضيه
فقال فما أنزل الله تعالى فيك؟ فقام الناس إليه يضربونه، فقال (دعوه تقرأ
سورة هود)؟ قال: نعم، قال فقرأ (عليه السلام): [فمن كان على بينة
من ربه ويتلوه شاهد منه] (3) ثم قال: (الذي كان على بينة من ربه محمد
(صلى الله عليه وآله وسلم)، والشاهد الذي يتلوه أنا) (4) فدل الحديث
بصراحته على أن عليا هو التالي للنبي (صلى الله عليه وآله) في اختيار
الله له فهو الإمام بعده بلا اشتباه، فما هما إلا سابق ولاحق، ومجل
ومصل (5)، فالنبي السابق وعلي اللاحق والنبي (صلى الله عليه وآله)



(1) شرح نهج البلاغة 9 / 174.
(2) الدخان: 32.
(3) هود: 17.
(4) شرح نهج البلاغة 2 / 287.
(5) المصدر السابق 9 / 175. والمجلي: السابق والمصلي: تالي السابق، يقال: صلى
الفرس إذا جاء مصليا يتلو السابق لأن رأسه عند صلاة أي مغرز ذنية.
265
المجلى وعلي المصلى، فصلوات الله عليهما وآلهما.
واعلم أن الحديثين خصوصا الأول كما يدلان بنصهما على إمامة أمير
المؤمنين (عليه السلام) بعد النبي (صلى الله عليه وآله) كذلك
يدلان على أنه أفضل من جميع الأنبياء، وذلك لأن سبق الاختيار من الله
لأحد دليل على شدة اعتناء الله تعالى بشأنه قطعا وشدة الاعتناء من الله يوجب
الأفضلية للمعتنى بشأنه على غيره، ولما كان المخصوص بسبق الاختيار هو
النبي المختار كان أفضل المخلوقين، ولما كان المثنى به في الاختيار هو حيدر
الكرار كان أفضل البرية بعد النبي الأمين، وهذا بحمد الله ظاهر المنار،
ليس عليه غباوة ولا غبار، وهو تصديق ما ورد في هذا المعنى من طرقنا من
الأحاديث والأخبار، وبه يبطل ما أبطله عز الدين ابن أبي الحديد من القول
بأفضلية علي (عليه السلام) على الأنبياء، واندفع بذلك تشنيعه على بعض
أصحابنا في هذا القول بسبق الإجماع من أصحابنا على خلافه، فإنه لا إجماع
على خلاف هذا القول من أصحابنا إن لم يكن إجماعهم عليه، والأخبار أدلة
وشواهد على أن ابن أبي الحديد قال بعد روايته جملة أحاديث هذا منها: إن
من قيل فيه ما قيل لو رقى إلى السماء، وعرج في الهوى، وفخر على الملائكة
والأنبياء تعظما وتبجحا لم يكن ملوما، بل كان بذلك جدير انتهى، وهو
صريح فيما كان ينفيه ويشنع على قائليه من تفضيل علي (عليه السلام) على
الأنبياء والملائكة، فكان القوم سكارى عن النظر في تناقض أقوالهم،
وواعجباه من فاضل محقق يروي مثل هذه الأحاديث وأضعافها محتجا بها على
مذاهبه ومصححا لها في مئاربه ثم يقول لا نص على علي (عليه السلام
بالإمامة، فكأنه لا يفهم معاني هذه الأخبار، ولا يدرك حقائق هذه الآثار،
قد أغشت الشبهة قلبه وأعمى التقليد للأسلاف عين بصيرته، فلم يهتد
للصواب.

266
وأما ما ورد بلفظ السيادة: فكثير ومنه قول النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) فيما تقدم من حديث أنس (أول من يدخل عليك من هذا الباب
إمام المتقين، وسيد المسلمين) وفي الحديث الآخر المتقدم أيضا: (مرحبا
بسيد المؤمنين، وإمام المتقين) ومنه ما رواه ابن أبي الحديد عن الحافظ أبي
نعيم في الحلية من قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (ادعوا لي سيد
العرب عليا) (عليه السلام) فقالت عائشة: ألست سيد العرب؟ فقال:
(أنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب) فلما جاء أرسل إلى الأنصار فأتوه فقال
لهم: (يا معشر الأنصار، ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا
أبدا؟) قالوا: بلى يا رسول الله قال: (هذا علي فأحبوه بحبي وأكرموه
بكرامتي فإن جبرئيل أمرني بالذي قلت لكم عن الله عز وجل) (1).
وعن أحمد في المسند عن النبي (صلى الله عليه وآله) (النظر إلى
وجهك يا علي عبادة، أنت سيد في الدنيا وسيد في الآخرة، من أحبك أحبني
وحبيبي حبيب الله، وعدوك عدوي وعدوي عدو الله) (2) فعلي كما ترى تارة
سيد المسلمين، وأخرى سيد المؤمنين، وثالثة سيد العرب، ورابعة سيد في
الدنيا وسيد في الآخرة، والسيد هو الرئيس المطاع ومالك الأمر ولا سيادة
بأحد هذين المعنيين على المسلمين والمؤمنين والعرب في الدنيا غير النبوة
والإمامة، ولا رئيس بعد النبي (صلى الله عليه وآله) على المسلمين
والمؤمنين إلا الإمام، ولا رئيس على جميعهم سواه، فيكون علي (عليه
السلام) هو الإمام، لأنه الرئيس الواجب الطاعة على المسلمين، فهي نص
في إمامته ومصرحة بخلافته لا يعترض فيها بالشبه كما قاله في الاسعاف أن
سيادته لهم من حيث النسب أو نحوه فلا يستلزم أفضليته على الخلفاء الثلاثة



(1) المصدر السابق 9 / 170 وحلية الأولياء 1 / 63.
(2) كذلك 9 / 171 ورواه المحب في الرياض 2 / 166 وقال: " أخرجه أحمد ".
267
قبله (1) انتهى وعلى ما ذكره فتكون سيادة النبي (صلى الله عليه وآله)
على ولد آدم في النسب فلا يستلزم أفضليته على الأنبياء ولا على الثلاثة أيضا
والحاصل أن هذا كلام متجاهل متعصب لا يبالي بما قال فيما يوافق مشتهاه،
ولو كان له بعض التدبر لكفاه فهم عائشة من إرادة النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) بلفظ السيادة من التقدم والفضل، ولذا قالت له مستفهمة
ألست سيد العرب ولكن ديدن الرجل وأصحابه رد الحق النير بما لا يعقل ولا
يمكن من القول كما لا يخفى على الناظر في كلامهم، وذلك لا يغني من الحق
شيئا.
وأما ما ورد بلفظ المحبة: فمنه حديث الطائر المتواتر، وقد أشار إليه
ابن أبي الحديد مرارا، ورواه الحاكم في المستدرك، وقال بعض العامة أنه صح
في كتب النقل والأحاديث الصحيحة والأخبار الصريحة، عن أنس بن مالك
قال: أهدي إلى النبي (صلى الله عليه وآله) طير مشوي يسمى
الحجل، وفي رواية ما أراه إلا حباري (2) فقال: (اللهم اتني بأحب خلقك
إليك يأكل معي من هذا الطير) فجاء علي فحجبته، وقلت: إن رسول الله
(صلى الله عليه وآله) مشغول رجاء أن تكون الدعوة لرجل من
قومي، ثم جاء على ثانية فحجبته، ثم الثالثة فقرع الباب، فقال النبي
(صلى الله عليه وآله): أدخله فقد غيبته) فلما دخل قال له النبي
(صلى الله عليه وآله): (ما حبسك عنا يرحمك الله) قال: هذه آخر
ثلاث مرات وأنس يقول إنك مشغول فقال: (يا أنس ما حملك على ذلك)
قلت: سمعت دعوتك فأحببت أن تكون لرجل من قومي فقال (صلى الله



(1) إسعاف الراغبين ص 155.
(2) الحبارى: طائر أكبر من الدجاج الأهلي وأطول منه عنقا، ومن أمثال العرب " إبله
من الحبارى " لأنها فيما زعموا إذا غيرت عشها نسيته وحضنت بيض غيرها.
268
عليه وآله وسلم): (لا يلام الرجل على حبه لقومه) رواه الترمذي (1) انتهى
ومنه حديث الراية بخيبر المتواتر وقد رواه جميع المحدثين كالبخاري ومسلم
والحاكم والترمذي وغيرهم (2) وذكره ابن أبي الحديد وأشار إليه مرارا وهو
قول النبي (صلى الله عليه وآله) (لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله
ورسوله ويحبه الله ورسوله، كرارا غير فرار لا يرجع أو يفتح الله على يديه)
فأعطاها عليا وفتح الله خيبر على يديه، وفي حديث مسلم قال عمر بن
الخطاب: فما أحببت الإمارة إلا يومئذ.
ورووا أن حسان بن ثابت قال يخبر عن ذلك:
وكان علي أرمد العين يبتغي * دواء فلما لم يجد من مداويا
شفاه رسول الله منه بتفلة * فبورك مرقيا وبورك راقيا
وقال سأعطي راية القوم فارسا * كميا شجاعا في الحروب محاميا
يحب إلها والإله يحبه * به يفتح الله الحصون الأوابيا (3)



(1) شرح نهج البلاغة ج 1 ص 7، وحديث الطائر أخرجه جماعة من أصحاب السنن
منهم الترمذي 2 / 299، والحاكم في المستدرك 3 / 130 و 131، والنسائي في
الخصائص ص 5، وأبو نعيم في الحلية 6 / 336، وابن الأثير في أسد الغابة 4 / 30
والمحب الطبري في الرياض 2 / 160 وغيرهم، وكلهم أسندوا ذلك إلى أنس بن
مالك، وقال الحاكم في المستدرك 3 / 130: " هذا حديث صحيح على شرط
الشيخين، وقد رواه عن أنس جماعة من الصحابة زيادة على ثلاثين نفسا ثم صحت
الرواية عن علي وأبي سعيد وسفينة ".
(2) صحيح البخاري 4 / 20، كتاب بدأ الخلق، باب مناقب علي بن أبي طالب،
و ج 5 / 74 كتاب المغازي، باب غزوة خيبر بطريقين الأول عن أم سلمة رضي الله
عنها، والثاني عن سهل بن سعد، وصحيح مسلم 7 / 117 كتاب فضائل الصحابة
من عدة طرق، والترمذي 2 / 300، ومستدرك الحاكم 3 / 109.
(3) الأوابي - جمع آب - وهو الممتنع والمراد الحصون المنيعة.
269
فخص بها دون البرية كلهم * عليا وسماه الولي المواليا
وكان ذلك القول من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في علي بعد
رجوع الشيخين براية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منهزمين.
ومنه الأخبار التي قدمناها المشتملة على (من أحب عليا فقد أحب الله
ومن أحبه أحب رسول الله) بألفاظ مختلفة ومعان متفقة والأحب إلى الله
الأكثر ثوابا عنده فيكون أفضل، وكذا الذي يحبه الله ورسوله (صلى الله
عليه وآله وسلم) ومن محبته محبة الله ومحبة رسوله (صلى الله عليه وآله
وسلم)، والمحب لله ولرسوله (صلى الله عليه وآله) هو التابع لهما كما
قدمنا بيانه في فصل التمسك، وإذا كان علي (عليه السلام) هو المخصوص
بمحبة الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)، وأحب الخلق لهما وجب أن
يكون المقدم والرئيس على المسلمين لأنه أفضلهم فيكون هو الإمام لقبح
تقديم المفضول على الأفضل والشبهات مندفعة.
وأما ما ورد بلفظ الأعلمية وما يؤل إلى ذكر فكثير لا يحصى نذكر منه
شيئا يسيرا.
فمنه: قول النبي (صلى الله عليه وآله) لفاطمة في حديث الاختيار المتقدم
(زوجتك أقدمهم سلما وأعظمهم حلما وأكثرهم علما) وقوله (صلى الله عليه
وآله وسلم) لعلي في حديث خصمه بالنبوة وأبصرهم بالقضية وقدمنا ذكره
في حديث المنزلة والأبصر بالقضية هو الأعلم، وقوله (صلى الله عليه وآله
وسلم) في الحديث المشهور (أقضاكم علي) أشار إليه ابن أبي الحديد في
مواضع ونقل عن عمر أنه قال: علي أقضانا، والأقضى هو الأعلم بالقضاء.
ومنه قول النبي (صلى الله عليه وآله): (خازن وعيبة علمي وأنا
مدينة العلم وعلي بابها) وقد مر ذكر ذلك كله مشروحا، على أنا لا نحتاج

270
هنا إلى الأطناب في القول للاجماع على أن عليا أعلم الصحابة من جميع أهل
العلم، وابن أبي الحديد مقر بذلك ومطنب فيه حتى قال في كلام له يعدد فيه
خصائص علي (عليه السلام): والثانية علومه التي لولاها لحكم بغير الصواب
في كثير من الأحكام، وقد اعترف بذلك له، والخبر مشهور " لولا علي لهلك
عمر " (1) انتهى وإذا كان أعلم وجب أن يكون هو الإمام المتبع، والرئيس
المقدم، ولم يجز لمن ليس مثله في ذلك أن يتقدم عليه لقول الله تعالى: [أفمن
يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف
تحكمون] (2) وغيرها من الآيات، بل بالعقل كما سبق ذكره وإذا كان الأعلم
هو الأحق بالاتباع والمتبع هو الإمام لا غيره فعلي (عليه السلام) هو الإمام
لأنه الأعلى وهو ظاهر.
وأما ما ورد بلفظ الأقربية: فمنه ما رواه ابن أبي الحديد عن أحمد بن
حنبل في كتاب الفضائل عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه خطب
الناس يوم جمعة فقال: (أيها الناس قدموا قريشا ولا تقدموها، وتعلموا منها
ولا تعلموها قوة رجل من قريش تعدل قوة رجلين من غيرهم، وأمانة رجل
منهم تعدل أمانة رجلين من غيرهم، أيها الناس أوصيكم بحب ذي قرباها
أخي وابن عمي علي بن أبي طالب (عليه السلام) لا يحبه إلا مؤمن ولا
يبغضه إلا منافق، من أحبه فقد أحبني ومن أبغضه فقد أبغضني، ومن
أبغضني عذبه الله بالنار) (3) وهذا الخبر نص في أن عليا (عليه السلام) هو



(1) شرح نهج البلاغة 1 / 141، وقد قالها في أكثر من موطن، وهي من كلماته
المشهورة، ومن رواتها ابن عبد البر في الإستيعاب 3 / 39، والسبط في التذكرة ص
87 وابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول ص 13 والمحب الطبري في الرياض
2 / 194.
(2) يونس: 25.
(3) شرح نهج البلاغة 9 / 172، وتذكرة الخواص ص 17، والرياض النضرة 2 / 212.
271
ذو القربى من الرسول وهو المخصوص بها دون سائر قريش لتخصيص النبي
(صلى الله عليه وآله) إياه بذلك في قوله: (أوصيكم بحب ذي
قرباها) ودليل على إرادة تقديمه على كل الأمة وتوضيح ذلك أن النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) حث الناس أولا على تقديم قريش والتعلم منها فدخل
علي بن أبي طالب (عليه السلام) في ذلك لأنه من ذروتها، وأولى الجميع
بالعلتين المذكورتين اللتين لأجلهما أمر النبي (صلى الله عليه وآله)
بتقديم قريش والتعلم منها، وهما القوة والأمانة، ثم خصص عليا (عليه
السلام) بالوصية بحبه ووصفه بصفة أراد بها التعليل على تخصيصه دون قريش
بوجوب الحب المراد منه المتابعة وهي صفة خاصة به، فكان مفاد الحديث
قدموا قريشا على كل الناس لقوتهم وأمانتهم وقدموا عليا (عليه السلام) على
قريش في المتابعة لأنه أقربهم إلي، ثم أكد وجوب تقديمه بما ذكره من أنه (لا
يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق)، إلى آخر ما بينه من الأوصاف المؤكدة
لوجوب تقديمه.
ومنه قول النبي (صلى الله عليه وآله): (ثم يدعي بعلي لقرابته
مني ومنزلته عندي) (1).
ومنه قوله (صلى الله عليه وآله): (وإنه ليس أحد أحق منك
بمقامي لقدمك في الإسلام وقربك مني) (2) فصرحت هذه الأحاديث بأن
الوصية من النبي (صلى الله عليه وآله) بحب علي (عليه السلام
وتقديمه على قريش وتقديمه في الدعوة مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
على غيره، وإن أحقيته بمقام النبي (صلى الله عليه وآله) دون غيره،
كل ذلك لقرابته منه فكان ذلك دليلا على أن الأقربية من الرسول (صلى الله



(1) شرح نهج البلاغة 9 / 169.
(2) المصدر السابق.
272
عليه وآله وسلم) تقتضي التقديم والأحقية بمقامه، ويوازرها في هذه الدلالة
قوله تعالى: [وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض
في كتاب الله] (1) وإذا كان علي (عليه السلام) هو الأقرب للنبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) والأقرب للنبي (صلى الله عليه وآله) هو الأحق
بمقامه وأولى بالتقديم وجب أن يكون هو المقدم بعد النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) والقائم مقامه، فهو إذن الإمام وذلك كله مفاد الأحاديث كما سمعت
قال ابن أبي الحديد روى أبو عمر بن عبد البر المحدث في كتابه المعروف
بالاستيعاب في معرفة الصحابة أن إنسانا سأل الحسن - يعني البصري - عن
علي (عليه السلام) فقال: كان والله سهما صائبا من مرامي الله على عدوه،
ورباني هذه الأمة، وذا فضلها وسابقتها، وذا قرابتها من رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) لم يكن بالنؤمة عن أمر الله ولا بالملولة في دين الله،
ولا بالسروقة لمال الله، أعطى القرآن عزائمه ففاز منه برياض مونقة (2)
انتهى.
أقول وبما ذكرنا هنا يندفع ما أورده بعض الخصوم فيما ذكرناه في مسألة
الأقربية من النبي (صلى الله عليه وآله) من أنه لو كانت الإمامة
تستحق بالأقربية لكان العباس أحق بها من علي (عليه السلام)، فهذه
الأخبار والأقوال رادة لذلك ومثبتة أن عليا (عليه السلام) أقرب للنبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) من العباس وذلك لبعض ما ذكرناه من الوجوه هناك.
وأما ما ورد أنه أشد جهادا: فإنه أمر متعارف متعالم وقد ذكره أهل
المغازي والسير وذكر ابن أبي الحديد في كتابه منه كثيرا ويكفيك في ذلك قول
النبي (صلى الله عليه وآله) في خبر الراية المتواتر: (كرارا غير فرار لا



(1) الأحزاب: 6.
(2) شرح نهج البلاغة 4 / 95، والاستيعاب 3 / 47.
273
يرجع أو يفتح الله علي يديه) (1) وسنذكر جملة من هذا في ذكر شجاعته عند
ذكرنا جمعه للصفات الحميدة.
قال ابن أبي الحديد في كلام: فإن قيل: لا ريب أن في كلامه - يعني
عليا (عليه السلام) تعريض بمن تقدم عليه، فأي نعمة له عليهم؟ قيل:
نعمتان الأولى منهما جهاده وهم قاعدون فإن من أنصف علم أنه لولا سيف
علي (عليه السلام) لاصطلم المشركون من أشار إليه وغيرهم من المسلمين،
وقد علمت آثاره في بدر وأحد والخندق وخيبر وحنين، وأن الشرك فيها
فغرفاه فلولا أنه سده بسيفه لالتهم المسلمين كافة (2) انتهى وإذا كان علي
(عليه السلام) هو الأشد جهادا والأكثر عناء في نصر النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) وإعزاز دينه ودفع بأس المشركين عن أهل ملته كان هو الأحق
بمقامه، والأولى بالتقديم على غيره، لأن تلك الصفات تقتضي تقديمه
وتعظيمه ولا شئ من التقديم غير الإمامة فيجب أن يكون هو الإمام بعد
النبي (صلى الله عليه وآله).
وأما ما ورد بأنه مع الحق دائما: فمنه ما رواه كثير من أهل الحديث قال



(1) حديث الراية رواه المحدثون عامة منهم البخاري في صحيحه ج 4 / 5 وص 207 في
كتاب بدأ الخلق باب مناقب علي بن أبي طالب، وفي كتاب الجهاد والسير باب دعاء
النبي (صلى الله عليه وآله) إلى الإسلام والنبوة، وص 12 باب ما قيل في لواء
النبي صلى الله عليه وسلم، و ج 5 / 76 في كتاب المغازي باب غزوة خيبر، ومسلم في
صحيحه في 3 / 1441 في كتاب الجهاد والسير باب غزوة ذي قرد، و ج 4 / 871 في
كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب، والترمذي ج 2 / 300
وابن ماجة في سننه ص 12، في باب فضائل الصحابة، والإمام أحمد في المسند
1 / 99 و 133 والنسائي في خصائصه ص 5 والحاكم في المستدرك 3 / 130 و 131
الخ..
(2) شرح نهج البلاغة 1 / 141.
274
ابن أبي الحديد في شأن علي (عليه السلام) وحكمه في ذلك حكم رسول الله
(صلى الله عليه وآله) لأنه قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة أنه قال:
(علي مع الحق والحق مع علي يدور حيثما دار) وقال له غير مرة: (حربك
حربي وسلمك سلمي) (1) انتهى.
ومنه قول النبي (صلى الله عليه وآله) في حديث الغدير (وأدر
الحق معه حيث دار) وقوله (صلى الله عليه وآله): (كتاب الله
وعترتي لن يفترقا حتى يردا على الحوض) (2) وما يعطي هذا المعنى من
الأحاديث الكثيرة مثل أحاديث (إن طاعته طاعة الله وطاعة رسوله (صلى الله
عليه وآله وسلم) وإن محبته محبة الله) وأحاديث التمسك به والاقتداء وغير
ذلك مما مضى ويأتي، وإذا كان علي مع الحق لا يزال ولا يزول عنه كان
واجب التقديم لا سيما أنه قد طلب الخلافة، وأنف من تقدم غيره عليه
وامتنع من بيعته حتى قهر عليها كما بيناه سابقا، فوجب أن تكون إمامة غيره
باطلة إذ ليس بعد الحق إلا الضلال فهذه الأحاديث دالة على أن عليا (عليه
السلام) هو الأولى بمقام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو الإمام
بعده والله الهادي.
وأما ما ورد بأنه خير الأمة وخير الخلق، وما أدى مؤداه: فكثير منه ما
رواه ابن أبي الحديد عن أحمد بن حنبل في المسند عن مسروق قال: قالت لي
عائشة إنك من ولدي ومن أحبهم إلي فهل عندك علم من المخدج؟ فقلت:
نعم قتله علي بن أبي طالب على نهر يقال لأعلاه تامرا ولأسفله النهروان بين
لخافيق وطرفا (3) قالت: إبغني على ذلك بينة، فأقمت رجالا شهدوا عندها



(1) شرح نهج البلاغة 1 / 141.
(2) تقدم تخريج مصادر حديث الثقلين.
(3) تامرا كما في معجم البلدان: نهر واسع يخرج من جبال شهرزور، ولخافيق جمع
لخفوق وهو شق في الأرض، والطرفا: شجر الحمض واحدته طرفاء.
275
بذلك قال: فقلت لها سألتك بصاحب القبر ما الذي سمعت من رسول
الله؟ فقالت نعم سمعته يقول: (إنهم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير
الخلق والخليقة وأقربهم عند الله وسيلة) (1) قال ابن أبي الحديد: وفي كتاب
صفين أيضا للمدائني عن مسروق أن عائشة قالت له لما عرفت أن عليا قتل ذا
الثدية: لعن الله عمرو بن العاص فإنه كتب إلي يخبرني أنه قتله
بالإسكندرية، إلا أنه ليس يمنعني ما في نفسي أن أقول ما سمعته من رسول
الله (صلى الله عليه وآله) سمعته يقول: (يقتله خير أمتي من
بعدي) (2).
وعن أبي جعفر الإسكافي بسنده عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن
أبيه عن جده أبي رافع قال: أتيت أبا ذر بالربذة أودعه فلما أردت الانصراف
قال: لي ولأناس معي ستكون فتنة فاتقوا الله وعليكم بالشيخ علي بن أبي طالب
فاتبعوه، فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول له:
(أنت أول من آمن بي وأول من يصافحني يوم القيمة، وأنت الصديق
الأكبر، وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل، وأنت يعسوب
المؤمنين، والمال يعسوب الكافرين، وأنت أخي ووزيري وخير من أترك
بعدي، تقضي ديني، وتنجز موعودي) (3).
وروى ابن أبي الحديد أيضا عن ابن الكلبي عن رجل من ولد عقيل بن
أبي طالب حكمه عمر بن عبد العزيز الأموي في قضية المرأة التي حلف زوجها
أن علي بن أبي طالب خير هذه الأمة وأولاها برسول الله، وإلا فامرأته طالق



(1) شرح نهج البلاغة 2 / 267.
(2) المصدر السابق 2 / 268.
(3) كذلك 13 / 228 عن نقض العثمانية.
276
ثلاثا فقال العقيلي لعمر: نشدتك الله يا أمير المؤمنين ألم تعلم أن رسول الله
(صلى الله عليه وآله) قال لفاطمة وهو عندها في بيتها عائد لها يا
بنية: ما علتك؟ قالت: الوعك يا أبتاه، وكان علي غائبا في بعض حوائج
النبي (صلى الله عليه وآله) فقال لها: أتشتهين شيئا؟ قالت: أشتهي
عنبا وأنا أعلم أنه عزيز، وليس وقت عنب فقال (صلى الله عليه وآله
وسلم): (إن الله قادر على أن يجيئنا به) ثم قال: (اللهم ائتنا به مع
أفضل أمتي عندك منزلة) فطرق على الباب فدخل ومعه مكتل (1) قد ألقى
عليه طرف ردائه، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله) ما هذا يا
علي؟ قال عنب التمسته لفاطمة قال: (الله أكبر الله أكبر اللهم كما سررتني
بأن خصصت عليا بدعوتي فاجعل فيه شفاء ابنتي) ثم قال: (كلي على اسم
الله يا بنية) فأكلت وما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى
استقلت وبرئت فقال عمر: صدقت وبررت أشهد لقد سمعته ووعيته، يا
رجل خذ بيد امرأتك فإن عرض لك أبوها فاهشم أنفه ثم قال: يا بني عبد
مناف وكان المجلس جامعا لبني هاشم وبني أمية وأفخاذ قريش والله ما
نجهل ما يعلم غيرنا ولا بنا عمى في ديننا ولكنا كما قال الأول:
تصيدت الدنيا رجالا بفخها * فلم يدركوا خيرا بل استحقبوا الشرا
وأعماهم حب الغنى وأصمهم * فلم يدركوا إلا الخسارة والوزرا
قيل: فكأنما ألقم بني أمية حجرا وكتب إلى عامله ميمون بن مهران
الذي بعث بالمرأة وزوجها وأبيها إليه ليحكم في أمرهم أن يستيقن ذلك
الحكم ويعمل عليه (2)،



(1) المكتل: وعاء شبه الزنبيل.
(2) كذلك 2 / 222 والقصة نقلها المؤلف رحمه الله اختصارا وهي في شرح نهج البلاغة
أطول.
277
قلت: وهذا الخبر الذي رواه العقيلي تدل القصة على أنه متواتر بين
الناس لا سبيل لأحد إلى إنكاره فلهذا لم ينكره من القوم منكر، ولا قال منهم
قائل، بل كلهم سلموا لراويه مع أنه جل من في ذلك المجلس مبغضون
لأمير المؤمنين، ولا مانع لهم من الطعن في الخبر لو لم يكن معلوما من تقية أو
خوف لا سيما عمر بن عبد العزيز فإنه السلطان القاهر إذ ذاك، وقد أقر بأنه
روى الحديث ووعاه، فلا شك إذن في صدق الحديث ومعلوميته وما مضى
من أحاديث السيادة والاختيار والمحبة ومماثلة الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) وما يأتي من الأخبار مثل تشبيهه بالأنبياء وغير ذلك كلها تعضد هذه
الأخبار المصرحة بأنه خير الخلق وأفضل الأمة في دلالتها، ثم إن نصها على
أفضلية علي (عليه السلام) على الأمة، بل على الخلق كافة بمعنى كثرة
الثواب وإطلاقها يدل على أفضليته بمعنى الأجمع للخصال المحمودة لشمول
الخيرية والأفضلية لذلك، مع أن هذا المعنى لا ينازع فيه عاقل وسنوضحه إن
شاء الله.
وروى ابن أبي الحديد أن قيس بن سعد بن عبادة لما أتى مصر عاملا لعلي
(عليه السلام) قام خطيبا على المنبر وقال بعد الحمد لله والثناء عليه وما أراد
أن يذكره: أيها الناس إنا بايعنا خير من نعلم بعد نبينا يعني عليا (عليه
السلام) فقوموا فبايعوا على كتاب الله فإن نحن لم نعمل فيكم بكتاب الله
فليس لنا عليكم طاعة (1).
وقال المعتزلي أيضا: وروى أبان بن أبي عياش قال: سألت الحسن
البصري عن علي (عليه السلام) فقال: ما أقول فيه كانت له السابقة
والفضل والعلم والحكمة والفقه والرأي والصحبة والنجدة والبلاء والزهد
والقضاء والقرابة، أن عليا كان في أمره عليا، رحم الله عليا وصلى عليه،



(1) كذلك 6 / 59.
278
فقلت يا أبا سعيد: أتقول صلى الله عليه لغير النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم)؟
قال: ترحم على المؤمنين إذا ذكروا وصل على النبي وآله وعلي (عليه السلام)
خير آله قلت: أهو خير من حمزة وجعفر: قال: نعم، قلت: وخير من
فاطمة وابنيها قال: نعم والله إنه خير آل محمد كلهم، ومن يشك إنه خير
منهم وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (وأبوهما خير منهما)
ولم يجر عليه اسم شرك ولا شرب خمر، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم): (لفاطمة زوجتك خير أمتي) فلو كان في أمته خير منه
لاستثناه، ولقد آخى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين أصحابه
فآخى بين علي ونفسه، فرسول الله خير الناس نفسا وخيرهم أخا فقلت: يا
أبا سعيد فما هذا الذي يقال عنك إنك قلته في علي؟ فقال: يا بن أخي
احقن دمي من هؤلاء الجبابرة لولا ذلك لسالت بي الخشب (1) انتهى. وقد
دل آخر الكلام على أن إخفاء الحسن القول بأفضلية علي (عليه السلام) على
جميع الأمة كما صرح به هنا وروى فيه الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) إنما كان للخوف على نفسه من القتل، لأن بني أمية كانوا يقتلون من
ذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) بخير فكيف من فضله على الأمة، وهذا
أمر شائع معلوم، على أن المعتزلي مقر بذلك وبه معترف حتى أنه قال في
دعوة علي (عليه السلام) للأشتر: إني لا أشك أن الأشتر يغفر الله له
ويدخل الجنة بهذه الدعوة فإنها لا فرق عندنا بينها وبين دعوة رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) (2) انتهى.
ثم إن الأحاديث قد اشتملت تارة على أنه خير الأمة وخير من يترك النبي



(1) الخشب بضم الخاء والشين المعجمتين - جمع خشب وهو الصقيل من السيوف.
(2) كذلك 4 / 96.
279
(صلى الله عليه وآله) بعده، وخير الخلق والخليقة، فيكون أفضل
الخلق حتى الأنبياء والملائكة لأنهم من جملة الخلق والخليقة الذين نص الخبر
على أن عليا (عليه السلام) خيرهم، فكونه (عليه السلام) أفضل
الصحابة أمر واضح ومع هذا إنا نعلم يقينا أن الخصال التي توجب الفضل
والصفات التي تقتضي كثرة الثواب كلها حصلت له دون غيره واجتمعت فيه
دون من سواه وفاق في جميعها كل الناس فيجب أن يكون أفضل بالضرورة
وإلا لخرج المقتضى عن كونه مقتضيا وهو باطل، وها نحن نذكر استكماله في
خصال الخير مفصلا ونأتي به مشروحا.
أما نسبه (عليه السلام): فهو النسب الجليل الذي لا يساجل (1)،
والمجد الأثيل الذي لا يطاول، فإنه من السرو (1) من قريش، والصريح المهذب
من قصى، والذروة من عبد مناف، والسلالة من هاشم، أبوه أبو طالب
شريف قريش مانع الجار وحامي الذمار أمنع الناس جانبا، وأبلغهم حجة،
وأثبتهم قلبا، وأفصحهم لسانا، وأوفاهم موعدا، وحمايته النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) وغيرها تشهد له بذلك، وقال معاوية بن أبي سفيان في
أبيات يخاطب بها عمرو بن العاص بعد قتل علي (عليه السلام).
نجوت وقد بل المرادي سيفه * من ابن أبي شيخ الأباطح طالب (2).



(1) يساجل: يباري، والأثيل: الأصيل، والسرو: أعلا الشئ أو السخاء في مروءة.
(2) البيت من شواهد النحاة على جواز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالنعت عند
الضرورة، وهو من أبيات بعث بها معاوية إلى عمرو بن العاص لما أصيب أمير
المؤمنين (عليه السلام) وسلم هو من ضربة الخارجي، وقتل خارجة مكان عمرو.
خطأ، وأولها:
وقتك وأسباب الأمور كثيرة * منية شيخ من لوي بن غالب
فيا عمرو مهلا إنما أنت عمه * وصاحبه دون الرجال الأقارب
نجوت وقد بل المرادي سيفه *.. البيت
وبعده:
ويضربني بالسيف آخر مثله * وكانت عليه تلك ضربة لازب
وأنت تناغي كل يوم وليلة * بمصرك بيضا كالظباء القوارب
والقوارب جمع قارب - بفتح الراء - وهو طالب الماء قال علي (عليه السلام): (وهل أنا
إلا كطالب وجد وقارب ورد) يريد سلام الله عليه حصوله على الشهادة.
280
ابن عبد المطلب شيبة الحمد، وساقي الحجيج، سيد قريش كلها لا
يدافع في ذلك ولا ينازع، ابن هاشم عمرو العلا صاحب الايلاف، ومطعم
الأضياف، وشمس بني عبد مناف، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم فهو
أول هاشمي ولد من هاشميين، وهو ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) لأبيه وأمه.
نسب كأن عليه من شمس الضحى نورا ومن فلق الصباح عمودا.
آباؤه آباء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأمهاته أمهات رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو خير الناس نسبا، وأشرفهم حسبا،
وأفضلهم آباء وأمهات لما صح عن النبي (صلى الله عليه وآله) من
قوله: (ما افترقت فرقتان من لدن آدم إلا كنت في خيرهما) (1) وقوله (صلى الله
عليه وآله وسلم): (كنت أنا وعلي نورا واحدا فما زلنا ننتقل من صلب طاهر
إلى رحم مطهر حتى افترقنا في عبد الله وأبي طالب) (2) فعلي (عليه السلام)
أفضل الصحابة نسبا، وأجلهم أصلا وأكرمهم عنصرا.
وأما إنه أعلم الصحابة: فلقوة حدسه وشدة ذكائه وكثرة ملازمته
للرسول (صلى الله عليه وآله) حتى قال: (علمني رسول الله (صلى



(1) أورد المحب الطبري في الرياض النضرة 2 / 164 ما هو بمضمون هذين الحديثين.
(2) رواه في كنز العمال 6 / 405 وقال: أخرجه الأصبهاني في الحجة. وانظر فتح القاري
16 / 165.
281
الله عليه وآله وسلم) ألف باب من العلم فانفتح لي من كل باب ألف
باب) (1) ولحرص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على تعليمه وإرشاده
وعظم شفقته عليه، لما نزل قوله تعالى: [وتعيها أذن واعية] (2) قال:
(اللهم اجعلها أذن علي) وقال علي (عليه السلام) (ما نسيت بعد ذلك
شيئا) (3) وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين بعثه إلى اليمن
قاضيا: (اللهم اهد قلبه وثبت لسانه) قال: (فما شككت بعدها في قضاء
بين اثنين) (4) وقال (عليه السلام): (والله لو كسرت لي الوسادة لحكمت
بين أهل التورية بتوراتهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الإنجيل
بإنجيلهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم، والله ما نزلت من آية في بر أو بحر
أو سهل أو جبل أو سماء أو أرض أو ليل أو نهار إلا أنا أعلم فيمن نزلت،
وفي أي شئ نزلت] (5) وقضاياه معروفة مأثورة كحكمه في قضية الحمار
والبقرة بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) (6) وفتياه في الزانية



(1) تفسير الطبري 28 / 33 و 34 الكشاف 4 / 151 روح المعاني 9 / 153 وهكذا في أكثر
كتب التفسير.
(2) الحاقة 12، وانظر سنن ابن ماجة باب ذكر القضاء ص 168، وأسد الغابة 4 / 22
وتاريخ بغداد 12 / 443.
(3) رواه ابن أبي الحديد 6 / 136 وقريبا منه ابن جرير في تفسيره ج 26 / 116 وابن سعد في
الطبقات في 2 / 101.
(4) شرح نهج البلاغة 1 / 19 نور الأبصار ص 71 والصواعق ص 73.
(5) شرح نهج البلاغة 6 / 136.
(6) إجمال القضية إن ثورا لرجل قتل حمارا لآخر فرفعت القضية إلى رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم وهو في مجلسه وعنده جماعة من أصحابه فطلب النبي من أبي بكر أن يحكم
بالقضية، فقال: بهيمة قتلت بهيمة، ما عليها شئ، وطلب من عمر أن يحكم بالقضية
فحكم بحكم أبي بكر، فقال لعلي عليه السلام: (يا علي اقض بينهم) فقال: إن كان الثور
دخل على الحمار في مراحه ضمن أصحاب الثور وإن الثور دخل على الحمار في مراحه فلا
ضمان عليهم.
282
الحامل (1)، وفي المرأة التي وضعت لستة أشهر (2) وحكمه في قضية
الأرغفة (3)، وفيمن حلف لا يحل قيد عبده (4) وفي مال الكعبة حين
استشاره عمر فيه (5)، وهو الذي اخترع علم النحو وبين أصوله (6)
وينبغي إلحاق ذلك بالمعاجز وغير ذلك مما لا يبلغ إليه فهم، ولا يحوم حوله



(1) مجمل القضية أن عمر أتي بامرأة حامل اعترفت بالفجور فأراد رجمها فمنعه علي (عليه
السلام) وقال: هذا سلطانك عليها فما سلطانك على ما في بطنها رواه المحب في
الرياض 2 / 195 وقال: " أخرجه ابن السمان في الموافقة ".
(2) القضية أن امرأة ولدت لستة أشهر فأراد عمر أن يرجمها فبلغ ذلك عليا (عليه
السلام) فأخبره أن لا رجم عليها وتلا قوله تعالى: [والوالدات يرضعن أولادهن
حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة] وقوله تعالى: [وحمله وفصاله ثلاثون
شهر] وقال: فالحمل ستة أشهر والفصال أربعة وعشرون شهرا فخلى عمر سبيلها
وقال: لولا علي لهلك عمر. رواه البيهقي في السنن 7 / 442 والمتقي في الكنز
3 / 222 والمحب في الرياض 2 / 194.
(3) قصة الأرغفة رواها ابن عبد البر في الإستيعاب 2 / 462 والمحب في الرياض
2 / 199 وابن حجر في الصواعق وغير هؤلاء.
(4) قضية من حلف أن لا يحل قيد عبده من القضايا التي أشكل حكمها على عمر
فرفعها إلى علي عليه السلام تجدها في قضاء أمير المؤمنين للتستري ص 181.
(5) روي أنه ذكر عند عمر بن الخطاب حلي الكعبة وكثرته فقال قوم: لو أخذته
فجهزت به الجيوش كان أعظم للأجر، وما تصنع الكعبة بالحلي فهم عمر بذلك
وسأل عنه أمير المؤمنين فقال (عليه السلام): " إن هذا القرآن أنزل على النبي
(صلى الله عليه وآله) والأموال أربعة: أموال المسلمين فقسمها بين الورثة في
الفرائض، والفئ فقسمه على مستحقيه، والخمس فوضعه الله حيث وضعه،
والصدقات فجعلها الله حيث جعلها وكان حلي الكعبة فيها يومئذ فتركه الله على حاله
ولم يتركه نسيانا ولم يخف عليه مكانا فأقره حيث أقره الله ورسوله، فقال عمر:
لولاك لافتضحنا، وترك الحلي بحاله (انظر نهج البلاغة باب الكلمات القصار برقم
270).
(6) انظر قضاء أمير المؤمنين للتستري ص 199
283
عقل، وقد رجع إليه الصحابة في كثير من المسائل بعد غلطهم، واحتاجوا
إلى بيانه ولم يحتج هو في شئ من الأحكام إلى أحد من الناس، واعترف
أكابر الصحابة له بالأعلمية وقال عبد الله بن العباس لما سئل: أين علمك
من علم ابن عمك علي (عليه السلام)؟ قال: كالقطرة في المثعنجر يعني
البحر المحيط (1) وقال عبد الله بن مسعود ما معناه إن من أراد علم القرآن كما
أنزله الله فعليه بعلي بن أبي طالب، وقال عمر غير مرة: " لولا علي لهلك
عمر " وقال: " لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن " (2). حتى أن كل فرقة
من أهل العلم لتنتمي إليه، وكل ذي طريقة ليتجاذبه وينتهي إليه، فقه كل
فقيه وعلم كل عالم، ويكفي في ذلك ما صح في الروايات عن النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) من أنه أعلم الناس فلا شك أنه أعلم الصحابة في
جميع العلوم فيكون أفضلهم لقول الله تعالى: [قل هل يستوي الذين
يعلمون والذي لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب] (3). وقال: [إنما
يخشى الله من عباده العلماء] (4).
وأما إنه أحلمهم: فهو كضوء النهار حتى بلغ من حلمه أنه ترك عبد
الرحمن بن ملجم في دياره ويعطيه العطاء مع علمه به وقوله فيه مرارا (إنه



(1) كلمة ابن عباس نقلها السيد زيني دحلان في الفتوحات الإسلامية 2 / 337 هكذا:
" ما علمي وعلم أصحاب عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) في علم علي
رضي الله عنه إلا كقطرة في سبعة أبحر ".
(2) الكلمتان مشهورتان بل متواترتان عن عمر (رضي الله عنه) رواهما غير واحد من
العلماء منهم أبو عمر في الإستيعاب 3 / 39 والمحب في الرياض 2 / 194 وابن طلحة
الشافعي في مطلب السؤال ص 12 وابن كثير في البداية والنهاية 7 / 359 و و الخ.
(3) الزمر: 9.
(4) فاطر: 28.
284
قاتلي) (1) وعفا عن مروان يوم الجمل مع شدة عداوته له وقوله فيه: (ستلقى
الأمة منه ومن ولده يوما أحمر) (2) وعفى عن سعيد بن العاص وكان عدوا له
في غاية العداوة وعن عبد الله بن الزبير وكان يشتمه على رؤوس الاشهاد
وأطلقه وقال له: (اذهب فلا أرينك) لم يزده على ذلك (3) وحسبك بحلمه
عفوه عن أهل البصرة بعد ما هزمهم وكانوا قد ضربوا وجهه ووجوه بنيه
وأصحابه بالسيوف، ونكثوا بيعته ونصروا عدوه، وعفوه عن عائشة وهي
السبب الأعظم في نكث بيعته والإجلاب عليه ولو فعلت عشر ذلك بغيره ثم
قدر عليها لمزق جلدها وقطعها إربا إربا، ولما منعه وأصحابه معاوية الماء يوم
صفين حين ملك أهل الشام الشريعة فقاتلهم وهزمهم وأراد أصحابه منعهم
من الماء قال: (أفرجوا لهم عن الشريعة ففي حد السيف مغنى عن ذلك)
وكان مع الحلم عظيم الرزانة لم ير طائشا قط، وكان أطلق الصحابة وجها،
وأحسنهم خلقا حتى نسبه أعداؤه كعمرو بن العاص إلى الدعابة (4).
وأما قدمه في الإسلام: فمعلوم لأنه لم يجر منه كفر قط وكان يصلي قبل
الناس مع رسول الله سبع سنين وقال رسول الله (أولكم اسلاما علي بن أبي
طالب) (5) وقال: (أقدمهم سلما) وكان علي (عليه السلام) يقول على



(1) انظر الإستيعاب 3 / 61.
(2) رواه ابن واضح في تاريخه 1 / 68 والرضي في نهج البلاغة ط 70 وقال ابن أبي
الحديد: روي هذا الخبر من طرق كثيرة.
(3) شرح نهج البلاغة 1 / 23.
(4) شرح نهج البلاغة (1 / 25).
(5) أخرجه الحاكم وصححه في المستدرك 3 / 136 وصدره: (أولكم ورودا - أو - وردا
علي الحوض أولكم إسلاما علي بن أبي طالب) وابن عبد البر في الإستيعاب 3 / 28.
وانظر شرح النهج لابن أبي الحديد 4 / 117 كما نقله غير هؤلاء بما يتفق معنى ويختلف
لفظا.
285
المنابر: (أنا أول من صلى وأول من آمن بالله ورسوله، ولم يسبقني إلى
الصلاة إلا نبي الله) (1) ولم يرد عليه أحد قوله مع أنهم كانوا يردون عليه في
أقل شئ مما يمكنهم الرد فيه ولو من جهة الشبهة أو الجهالة بما يقول، وقد
استفاضت الروايات بذلك عن محدثي مخالفينا كالطبري والواقدي وابن عبد
البر وابن إسحاق وابن كعب القرظي وابن شهاب الزهري وعبد الله بن
محمد بن عقيل وقتادة وغيرهم ورووا ذلك عن عبد الله بن العباس، وسلمان
وأبي ذر والمقداد وخباب بن الأرت وأبي سعيد الخدري وزيد بن أسلم وعفيف
الكندي والحسن البصري (2)، وإلى هذا القول ذهب أكثر المخالفين، ولم يخالف
فيه إلا شاذ لا يعبأ به وأشعار الصحابة والتابعين فيه كثيرة ومن جملتها قول
خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين:
وصي رسول الله من دون أهله * وفارسه مذ كان في سالف الزمن
وأول من صلى من الناس كلهم * سوى خيرة النسوان والله ذو منن (3)
وقول حسان بن ثابت:
جزى الله عنا والجزاء بفضله * أبا حسن خيرا ومن كأبي حسن
سبقت قريشا بالذي أنت أهله * فصدرك مشروح وقلبك ممتحن (4)



(1) أما الكلمة الأولى فرواها ابن عبد البر في الإستيعاب 3 / 32 وقد عدها ابن أبي الحديد
في شرح نهج البلاغة مما استفاضت بها الروايات والكلمة الثانية فقد رويت عنه
(عليه السلام) بألفاظ مختلفة ومعنى واحد مما يدل على تعدد المواقف حتى قال أبو
جعفر الإسكافي المعتزلي في نقض العثمانية: ما زال يقول: (أنا أول من أسلم)
ويفتخر بذلك: (انظر شرح نهج البلاغة 3 / 244. ومسند الإمام أحمد
(2) من حديث رواه الإمام أحمد في المسند 5 / 26 وابن عبد البر في الإستيعاب 3 / 136).
(3) شرح نهج البلاغة 13 / 231.
(4) المصدر السابق 6 / 35. من أبيات نقلها عن الموفقيات للزبير بن بكار، وقد استشهد
المؤلف بهذه الأبيات فيما سبق من الكتاب.
286
وقول عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب:
وإن ولي الأمر بعد محمد * علي وفي كل المواطن صاحبه
وصي رسول الله حقا وصنوه * وأول من صلى ومن لان جانبه (3)
وقول أبي سفيان بن حرب في رواية أبي جعفر الإسكافي وفي رواية غيره
قول بعض ولد أبي لهب:
ما كنت أحسب أن الأمر منصرف * عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم * وأعلم الناس بالأحكام والسنن
وأقرب الناس عهدا بالنبي ومن * جبريل عون له في الغسل والكفن (2)
وقول هاشم بن عتبة المرقال في صفين:
أعور يبغي أهله محلا * قد عالج الحياة حتى ملا
أشلهم بذي الكعوب شلا * عن ابن عم أحمد المعلا
أول من صدقه وصلا (3)
وقول شريح بن هاني الحارثي وهو من التابعين:
أبا موسى رميت بشر خصم * فلا تضع العراق فدتك نفسي
فلا تجعل معاوية بن حرب * كشيخ في الحوادث غير نكس
هداه الله للإسلام فردا * سوى عرس النبي وخير عرس (4)
وقول سعيد بن قيس الهمداني:
هذا علي وابن عم المصطفى * أول من أجابه فيما روى
هو الإمام لا يبالي من غوى (5)



(1) المصدر السابق عن نقض العثمانية للإسكافي.
(2) نفس المصدر 13 / 231 وقد نقل الإسكافي منها البيتين الأولين ونسبهما إلى أبي سفيان
بن حرب ولعله أبو سفيان بن الحرث فإن التصحيف بين حرب وحرث قريب جدا.
(3) المصدر نفسه 8 / 11.
(4) كذلك 2 / 245.
(5) كذلك 3 / 232.
287
وقول أبي الأسود الدئلي يهدد طلحة والزبير يوم الجمل:
وإن عليا لكم مصحر * يماثله الأسد الأسود
أما إنه أول العابدين * بمكة والله لا يعبد (1)
وغير ذلك من الأشعار، ولو تعاطينا ذكر الأخبار ورواية الأشعار في هذا
الباب حتى نستوفي ما وجدناه من ذلك في كتب الخصوم لطال الكتاب وبلغ
إلى غاية الأطناب، وقول من قال: أول من أظهر الإيمان أبو بكر مع شذوذه
مردود بمعارضته لهذه الشهرة التي قربت من الإجماع بل كادت تكون إجماعا،
ولذا ادعى بعض العامة عليه الإجماع، على أن أبا جعفر الإسكافي قال في
كتاب نقض العثمانية: إن جمهور المحدثين لم يذكروا أن أبا بكرا أسلم إلا بعد
عدة من الرجال منهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) وجعفر أخوه
وزيد بن حارثة وأبو ذر الغفاري وعمرو بن عنبسة السلمي وخالد بن
سعيد بن العاص وخباب بن الأرت انتهى (2) وقال ابن أبي الحديد أن
المخالف في سبق إيمان علي (عليه السلام) شاذ لا يعتد به (3) انتهى ولأجل
اشتهار الأمر لم نحتج فيه إلى ذكر ما رواه الخصوم جميعه بل اكتفينا بيسير منه
وإذا كان علي (عليه السلام) أسبق في الإيمان كان أفضل لقوله تعالى:
[والسابقون السابقون أولئك المقربون] (4) والمقرب أكثر ثوابا البتة.
وأما إنه أشجع الصحابة وأكثرهم جهادا: فأمر معلوم لا يشك فيه ذو
فهم وفطنة، بل كونه أشجع البشر أمر أوضح من ضوء النهار كما يشهد به
مواقفه المشهورة، ومشاهدة المأثورة في حروب النبي (صلى الله عليه وآله



(1) أيضا.
(2) نقض العثمانية كما في شرح نهج البلاغة 13 / 224.
(3) شرح نهج البلاغة 4 / 125.
(4) الواقعة 11.
288
وسلم) وحروبه في أيام خلافته، وقد قال معاوية لعمرو بن العاص لما أشار
عليه بمبارزته: أتأمرني بمبارزة أبي الحسن وهو الشجاع المطرق أراك
طمعت في إمارة الشام بعدي، وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في
مقابلته كما افتخر بذلك عبد الله بن الزبير على معاوية فقال له معاوية:
لا جرم أنه قتلك وأباك بيسرى يديه وبقيت اليمنى فارغة يطلب من يقتله
بها، ويكفيك شاهدا على ذلك افتخار رهط قتلاه بأن قتلهم قالت أخت
عمرو بن عبد ود:
لو كان قاتل عمرو غير قاتله * بكيته أبدا ما دمت في الأبد
لكن قاتله من لا نظير له * وكان يدعى أبوه بيضة البلد (1)
قال ابن أبي الحديد: أما الشجاعة فإنه أنسى فيها ذكر من كان قبله
ومحى اسم من يأتي بعده، ومقاماته في الحرب مشهورة يضرب بها الأمثال،
وهو الشجاع الذي ما فر قط ولا ارتاع من كتيبة، ولا بارز أحدا إلا قتله،
ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الأولى إلى ثانية، انتهى. ولقد قتل
صناديد المشركين، وقويت به شوكة الإسلام، واعتز به جانب المسلمين،
قتل في غزاة بدر أعيان الكفار وشجعانهم حتى قتل قريبا من نصف القتلى
وقتل باقي المسلمين والملائكة المسمون النصف الآخر (2)، قال القوشجي ومع
ذلك كانت الراية في يد علي (عليه السلام) في أحد وقد تفرق عن النبي
(صلى الله عليه وآله) أصحابه وانهزموا بعد إن قتل علي (عليه



(1) بيضة البلد من الأضداد يقصد بها المدح كما يقصد بها الذم والمراد هنا الأول وكان أبو
طالب (رضي الله عنه) يدعى بيضة البلد والمعنى أنه فرد ليس مثله في الشرف
كالبيضة التي هي تريكة وحدها ليس معها غيرها.
(2) شرح نهج البلاغة 1 / 24 وجاء ذلك في احتجاج المأمون على الفقهاء كما في العقد
الفريد لابن عبد ربه المالكي 5 / 92.
289
السلام) طلحة بن أبي طلحة وهو المسمى كبش الكتيبة وكان صاحب راية
قريش قتله مبارزة بعد أن تحاماه المسلمون وتأخروا عن البراز إليه، ثم أخذ
الراية غيره فقتله علي (عليه السلام) أيضا ولم يزل يقتل واحدا بعد واحد
حتى قتل تسعة نفر فانهزم المشركون، واشتغل المسلمون بالغنائم فحمل
خالد بن الوليد وضرار بن الخطاب الفهري وأصحابهما على النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) فضربوه بالسيوف والرماح والحجارة وانهزم الناس عنه ما
خلا عليا (عليه السلام) فإنه ما زال يجالد عنه حتى رد عنه المشركين، وقتل
جملة من فرسانهم وكان قتلاه قريبا من نصف المقتولين وقتل كل المسلمين
النصف الآخر قال القوشجي: وجمع له الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
بين اللواء والراية انتهى ونادى جبريل ذلك اليوم: (لا سيف إلا ذو الفقار
ولا فتى إلا علي (1).
وفي يوم الأحزاب حين ظن المسلمون بالله الظنون وزلزلوا زلزالا
شديدا، وأتى عمرو بن عبد ود يطلب المبارزة مرارا فأحجم عنه المسلمون
وخافوا أشد الخوف والنبي (صلى الله عليه وآله) يحض المسلمين على
مقاتلته ويحرضهم على منازلته ويعرض عليهم مبارزته فلم يجبه أحد منهم إلا
علي فخرج إلى عمرو فقتله وكفى الله المؤمنين القتال به وكان الفتح ذلك
اليوم على يده وقال النبي (صلى الله عليه وآله) (لضربة علي لعمرو
خير من عبادة الثقلين) (2) وقال حذيفة: والذي نفس حذيفة بيده



(1) المصدر السابق 10 / 182 ونداء جبرئيل (عليه السلام): (لا سيف إلا ذو الفقار ولا
فتى إلا علي) رواه الطبري في التاريخ 3 / 15 وكذلك ابن هشام في السيرة
النبوية 3 / 52 والخوارزمي في المناقب 104 وسبط ابن الجوزي في التذكرة ص 17
عن فضائل الإمام أحمد بن حنبل وغيرهم.
(2) في رواية الحاكم في المستدرك 3 / 32 والرازي في موضعين من تفسيره ج 2 تفسير (تلك
الرسل فضلنا بعضهم على بعض) و ج 30 في تفسير سورة القدر بهذا اللفظ (لمبارزة
علي بن أبي طالب لعمر بن عبد ود يوم الخندق أفضل أعمال أمتي إلى يوم لقيامة).
290
لعمله - يعني عليا (عليه السلام) ذلك اليوم أعظم أجرا من عمل
أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) إلى يوم القيمة (1).
وفي غزوة خيبر وقد أخذ الراية أبو بكر فرجع مع أصحابه منهزمين
خائفين، ثم أخذها عمر من الغد ففعل مثل ذلك، فقال النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) (لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله تعالى ورسوله ويحبه الله
ورسوله كرار غير فرار لا يرجع أو يفتح الله علي يديه) فدعا بعلي (عليه
السلام) وهو أرمد فأتي به فتفل في عينيه فبرأ من ساعته، وأعطاه الراية
فمضى وقتل مرحبا فانهزم أصحابه اليهود وغلقوا الأبواب فاقتلع علي الباب
وجعله جسرا على الخندق وأمسكه بيده حتى عبر عليه المسلمون فلما انصرفوا
أخذه بيده ودحاه أذرعا وكان يغلقه عشرون رجلا وعجز جماعة من المسلمين
عن نقله حتى نقله سبعون رجلا من أقويائهم وقال علي (عليه السلام) (ما
قلعت باب خيبر بقوة جسمانية ولكن قلعته بقوة ربانية) وكان الفتح على
يده (2) وروى الحافظ ابن عساكر الدمشقي أن عليا (عليه السلام) تترس
باب الحصن عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه وهذه
الرواية موافقة لرواية أصحابنا.
وفي غزاة حنين وقد سار النبي (صلى الله عليه وآله) في اثني عشر



(1) شرح نهج البلاغة 19 / 61 والكلمة في الشرح أطول وألطف مما في المتن.
(2) قوله (عليه السلام): (ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية) الخ رواه الفخر الرازي
في تفسير سورة الكهف بلفظ (جسدانية) وعلق عليه بقوله: " وذلك لأن عليا كرم الله
وجهه في ذلك الوقت انقطع نظره عن عالم الأجساد وأشرقت الملائكة بأنوار عالم
الكبرياء فتقوى روحه بجواهر الأرواح الملكية، وتلألأت أضواء عالم القدس
والعظمة، فلا جرم حصل له من القدرة ما قدر بها على ما لم يقدر عليه غيره ".
291
ألف مقاتل فتعجب أبو بكر من كثرتهم وقال لن نغلب اليوم من قلة كما ذكره
القوشجي وغيره ونظمه ابن أبي الحديد في أشعاره (1) فانهزموا بأجمعهم ولم يبق
مع النبي (صلى الله عليه وآله) إلا تسعة من بني هاشم وأيمن بن أم أيمن
مولى النبي (صلى الله عليه وآله) يقدمهم علي (عليه السلام) فخرج
أبو جرول فقتله علي (عليه السلام) حتى قتل أربعين رجلا فانهزم المشركون
وغنمهم المسلمون (2).
وفي غزوة بني المصطلق وغيرها من الوقائع المشهورة والغزوات المأثورة،
قال ابن أبي الحديد وهذا الفصل لا معنى للاطناب فيه لأنه من المعلومات
الضرورية كالعلم بوجود مكة ومصر ونحوهما وإذا كان علي (عليه السلام)
أكثر الصحابة جهادا كان أكثرهم أجرا لقوله تعالى: [وفضل الله المجاهدين
على القاعدين أجرا عظيما] (3) فهو أفضلهم.
وأما إنه أسخى الناس: فيدل عليه إيثاره المحاويج على نفسه وأهل بيته
حتى جاد بقوته وقوت أهل بيته ثلاث ليال على يتيم ومسكين وأسير فأنزل الله
فيه وفي أهل بيته [ويطعمون الطعام على حبه] السورة بتمامها إلا آيات
قليلة منها وتصدق بخاتمة في الصلوات فأنزل الله في حقه: [إنما وليكم الله
ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم
راكعون] (4)، قال ابن أبي الحديد: وروى المفسرون أنه لم يكن يملك إلا



(1) يعني قوله في إحدى علوياته:
وأعجب إنسانا من القوم كثرة * فلم يغن شيئا ثم هرول مدبرا
وضاقت عليه الأرض من بعد رحبها * وللنص حكم لا يدافع بالمرا
(2) شرح نهج البلاغة 1 / 24.
(3) النساء: 95.
(4) المائدة 55، وممن روى نزولها في علي (عليه السلام) الطبري في تفسيره 6 / 186
والرازي في تفسيره 12 / 26 والزمخشري في كشافه 1 / 624، وذكر جماعة ممن خرج
ذلك من المفسرين والمحدثين، والواحدي في أسباب النزول ص 148 والمحب في
" ذخائر العقبى ص 112 والرياض النضرة 2 / 237 الخ.
292
أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية
فأنزل فيه: [الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية لهم أجرهم
عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون] (1) وكان (عليه السلام)
يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة (2) حتى مجلت يده ويتصدق بالأجرة
ويشد على بطنه حجرا وقال الشعبي وقد ذكره: كان أسخى الناس على
الخلق الذي يحبه الله ما قال لا لسائل قط، وكان يكنس بيوت الأموال
ويصلي فيها، وكان يقول: (يا صفراء ويا بيضاء غري غيري) حتى إنه لم
يخلف ميراثا ولقد قال عدوه ومبغضه معاوية فيه: لو ملك بيتا من تبن وبيتا
من تبر لأنفق تبره قبل تبنه، ويكفيك شاهدا على أنه أسخى الصحابة
وأجودهم آية النجوى التي لم يعمل بها غيره ولم يفز بها سواه وهي قوله
تعالى: [يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجويكم
صدقة] (3) الآية فإن الصحابة جميعهم امتنعوا من مناجاة النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) بعد نزولها ولم يناجه إلا علي (عليه السلام)، وقد روي
أنه أعتق من كسب يده ألف مملوك. (4)
وأما إنه أزهد الناس فأمر ظاهر، فإنه (عليه السلام) كان سيد الزهاد
وبدل الأبدال، ما شبع من طعام قط وكان أخشن الناس مأكلا وملبسا،
وقل أن يأتدم فإن فعل فبالملح أو الخل، فإن ترقى فبنبات الأرض، فإن زاد
فبلبن، وكان لا يأكل اللحم إلا قليلا، ويقول: (لا تجعلوا بطونكم مقابر



(1) المجادلة 12.
(2) شرح نهج البلاغة 1 / 22.
(3) المجادلة: 12.
(4) رواها ابن أبي الحديد في شرح النهج 1 / 26.
293
الحيوان)، وكان نعلاه من ليف وحمائل سيفه من ليف، وكان يرقع قميصه
بجلد تارة وبليف أخرى، وإذا اشترى قميصا ورأى كمه طويلا قطعه
بالشفرة ولم يخطه حتى يبقى متساقطا على يده، وقد تواترا إعراضه عن لذات
الدنيا مع اقتداره عليها لا تساع أبواب الدنيا عليه لأن الأموال كانت تجبى
إليه، حتى قال: (يا دنيا يا دنيا إليك عني أبي تعرضت أم إلي تشوقت لا
حان حينك هيهات هيهات غري غيري لا حاجة لي فيك وقد طلقتك ثلاثا لا
رجعة فيها، فعيشك قصير، وخطرك يسير، وملكك حقير) وقال: (والله
لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم) (1) وقال عبد الله
ابن أبي رافع دخلت عليه يوما فقدم جرابا مختوما فوجدنا فيه خبز شعير يابسا
مرضوضا فأكلنا منه، فقلت: يا أمير المؤمنين لم ختمته فقال: (خفت
هذين الولدين يلتانه بزيت أو سمن) (2)، قال القوشجي: وهذا شئ
اختص به علي (عليه السلام) ولم يشاركه فيه غيره، ولم ينل أحد بعض
درجته انتهى وأخبار زهده وسخائه كثيرة يضيق بها هذا الإملاء وتحتاج إلى
مصنف على حدة، والغرض هنا الإشارة إلى صفاته الحميدة.
وأما إنه أعبد الناس فلما تواتر من كثرة صلاته وصيامه حتى كان يصلي
كل يوم وليلة ألف ركعة، وتعلم منه الناس صلاة الليل وملازمة الأوراد،
ويشهد بذلك ما في دعواته ومناجاته من تعظيم جلال الله والخضوع والخشوع
له، قال ابن أبي الحديد: وما ظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن
يبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير فيصلي عليه ورده والسهام تقع بين
يديه، وتمر على صماخيه يمينا وشمالا فلا يرتاع لذلك ولا يقوم حتى يفرغ من
وظيفته، وما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده (3) انتهى،



(1) نهج البلاغة ح 236.
(2) شرح نهج البلاغة 1 / 26.
(3) المصدر السابق 1 / 27.
294
وقيل لعلي بن الحسين مع أنه سيد العابدين: أين عبادتك من عبادة جدك،
فقال: (عبادتي عند عبادة جدي كعبادة جدي عند عبادة رسول الله (عليه
السلام).
وأما إنه أحفظ الصحابة للقرآن فلما صح أنه (عليه السلام) كان
يحفظه على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يكن غيره
يحفظه، ثم هو أول من جمعه ولم يحتج إلى ما عند أحد غيره منه في جمعه كما
احتاج إلى ذلك أبو بكر وعمر لما أرادا جمع القرآن فنادى مناديهما: من كان
عنده شئ من القرآن فليأت به، فدل على أنهما لم يعرفا من القرآن إلا
يسيرا، وهذا كله صحيح عند الخصوم، وكان أكثر القراء كأبي عمرو بن
العلا وعاصم بن أبي النجود وغيرهما يسندون قراءتهم إليه لأنهم تلامذة أبي
عبد الرحمن السلمي وهو تلميذ أمير المؤمنين، وعبد الله بن العباس رئيس
المفسرين، وعنه يأخذون وإلى قوله يستندون، وهو تلميذ أمير المؤمنين
(عليه السلام) وما زال منقطعا إليه وعنه أخذ ومنه تعلم (1).
وأما إنه أفصح الناس لسانا فيدل عليه خطبه ومواعظه ورسائله، وما
اشتملت عليه من المطالب العالية، وعلوم التوحيد وكيفية السلوك، والأخبار
عن أحوال العالم العلوي وصفاته، وكيفية إنشاء الخلائق علويها وسفليها
وجسمانيها وروحانيها ماديها ومجردها مما لم يجر لأحد من الناس شبهه عشر
العشر، بل لا يعلم أحد من الصحابة شيئا منه، ولا يعرفون ما هو ولا
يحسنون التعبير عنه، وكل ذلك أورده في كلام عال لم يوازنه كلام أحد من
البشر بعد كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وشرح فيه أحوال
الدنيا والآخرة بعبارات تحير عقول البلغاء في حسن نظمها ولطافة سبكها، ولم



(1) انظر المصدر السابق 1 / 27.
295
يدون لأحد من الناس عشر العشر مما دون له من الكلام (1) واستشهد
القوشجي على أنه أفصح الناس بكلامه المدون في نهج البلاغة وهو كما ذكر
أوضح شاهد وأدل دليل، وقال قال البلغاء إن كلامه تحت كلام الخالق وفوق
كلام المخلوق، ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة، وقال عدوه معاوية فيه
حين قال له محفن بن أبي محفن: جئتك من عند أعيا الناس: ويحك كيف
يكون أعيا الناس فوالله ما سن الفصاحة لقريش غيره (2)؟
وأما إنه أسد الصحابة رأيا فلاحتياج جميعهم إلى رأيه في معظم الأمور
وبلوغهم المنى في أخذهم برأيه كما أشار على عمر في وقائع كثيرة وصل فيها
إلى مطلوبه إذ أخذ برأي علي (عليه السلام)، وأشار إلى عثمان ولو أطاعه
لم يجر عليه بعض ما جرى، ولم ينخدع قط ولم يتحير في أمر قط، وما عرض
له أمر إلا عرف مورده ومصدره، وقال لأصحابه لما رفع أهل الشام المصاحف
بصفين: (إنما رفعوها خدعة فناجزوهم) فكان الأمر كما قال، ولو أطاعوه
لنجحوا، ولما أراد أصحابه نصب أبي موسى حكما قال لهم: (إني أخاف
عمروا أن يخدع يمنيكم هذا ولكن ادفعوا في صدر عمرو بن العاص
بعبد الله بن عباس) ولو أطاعوه لأفلحوا ولما تمكن عمرو مما أبرمه لكن عصوه
فكان الأمر كما قال من خدع ابن العاص لأبي موسى وغير ذلك مما يطول



(1) يراجع في ذلك الجزء الأول من مصادر نهج البلاغة وأسانيده تحت عنوان الكتب
المؤلفة في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام).
(2) انظر شرح نهج البلاغة 1 / 24 و 1 / 229.
(3) تجد تفصيل ذلك في شرح نهج البلاغة ج 1 من ص 206 - 264 فقد نقل ابن أبي
الحديد هناك قصة التحكيم وظهور أمر الخوارج عن كتاب صفين لنصر بن مزاحم
المنقري وكتاب صفين لإبراهيم بن الحسين الكسائي المعروف بابن ديزيل، وكتاب
صفين لأبي الحسن علي بن محمد المدائني، وانساب الأشراف لأبي جعفر أحمد بن يحيى
البلاذري وأمالي محمد بن القاسم الأنباري، والموفقيات للزبير بن بكار، والأمالي لأبي
أحمد الحسن بن عبد الله العسكري.
296
تعداده، وإنما تفرق الناس عنه إلى أعدائه لاقتصاره على حكم الشريعة،
وتقيده بالسنة، وتركه العمل بالحيل الدنيوية وتدبير أمر الدنيا، وأخذه في
جميع أموره بما يقتضيه الشرع المحمدي، ولذا قال (عليه السلام): (لولا
التقى لكنت أدهى العرب) (1) وغيره دبر دنياه وترك آخرته فصار ممدوحا
بالرأي عند الجهال ورغب أهل الطمع إلى دنياه والناس عبيد الدنيا.
وأما إنه أسوس الصحابة فذلك مما لا يحتاج إلى بيان فإنه ما حابى أحدا
قط ولا آثر قريبا على بعيد في حكم، وشدته على العصاة معلومة من سيرته
وحربه وكلينه لأهل الإيمان والطاعة.
وأما إنه أعدل الصحابة في الرعية فلما علم من مساواته الناس في
القسمة والعطاء لم يؤثر أحدا من الناس على أحد، ولم يفضل قويا على
ضعيف ولا شريفا على دني، ولا ذا رحم على أجنبي، طلب إليه الزبير
وطلحة أن يزيدهما في القسمة فلم يفعل وكان يومئذ بمكان
رفيع عند الناس (2) وطلب إليه ابن أخيه عبد الله بن جعفر وكان يجريه
مجرى ولده أن يعطيه زيادة فلم يفعل، وقال له: (لا زيادة لك عندي على
سهمك إلا أن تأمر عمك أن يسرق فيعطيك) (3) أو كلاما ما هذا معناه وطلب
منه أخوه عقيل مالا زيادة على نصيبه من بيت المال وألح عليه في ذلك
فوعده بالصبر إلى يوم الجمعة فلما خطب الناس يوم الجمعة التفت إلى عقيل
وقال: (ما تقول يا أبا يزيد فيمن خان هؤلاء جميعا في أموالهم) فقال
عقيل: بئس الرجل، فقال له: (فهذا أنت تأمرني بذلك) (4) فأسكته عن



(1) رواية ابن أبي الحديد 1 / 28: (لولا الدين والتقي).
(2) شرح نهج البلاغة 1 / 231.
(3) الغارات للثقفي ص 66 وشرح نهج البلاغة 4 / 92.
(4) شرح نهج البلاغة 4 / 92.
297
مطالبته وبعث إليه أسامة بن زيد أن ابعث لي بعطائي ثم لو دخلت فم
الأسد بعد ذلك لدخلت معك فكتب (عليه السلام) إليه: (إن هذا المال
لمن جاهد عليه ولكن لي مالا بالمدينة فأصب منه ما شئت) (1). وكان
تسويته بين الناس أعظم الأسباب في تفرق الناس
عنه وتقاعدهم عن نصرته، بل في قتال من قاتله، بل هو
السبب في ذلك كله لا سبب غيره، فلم يبال (عليه السلام) بذلك ولا رأى
صلاح دنياه مقتضيا لمخالفة السنة في ترك المساواة بين الناس في القسمة، ولما
أشير عليه بتفضيل بعض الناس على بعض في ذلك لإصلاح أمر دنياه وتقوية
سلطانه أبى ذلك وقال: (إنه لو كان المال لي لساويت بينهم فكيف وإنما هو
مالهم) (2) والأخبار في هذا الباب أجل من أن تجمع في هذا المحل وغيره
ولو أراد أثر بالفئ وفضل في العطاء وأصلح بهما أمر دنياه.
وأما إنه أحرص الصحابة على إقامة حدود الله فظاهر فإنه ما دافع عن
أحد أقيمت عليه شهادة في حد، ولا سلك مسلك التأويل والاستصلاح في
إسقاط حد عن أحد صديق أو عدو قريب أو بعيد كما كان يفعل غيره، ولا
أغضى عن حق عند أحد كائنا من كان، ولم يلتفت في إقامة حدود الله
لغضب أحد من الناس ولا رضاه، وسيرته في ذلك مذكورة في كتب
الحديث والسير والتواريخ، فهذه الخصائص والصفات المحمودة هو أبو
عذرها وابن بجدتها والسابق في مضمارها قال ابن أبي الحديد بعد تعدادها:
وهذه خصائص البشر قد أوضحنا أنه فيها الإمام المتبع فعله والرئيس المقتفى



(1) المصدر السابق 4 / 102.
(2) قال ذلك في كلام له (عليه السلام) ذكر مختاره الرضي (رحمه الله) في نهج البلاغة
ونقله ابن أبي الحديد في الشرح 2 / 203 عن المدائني ورواه ابن هلال الثقفي في
الغارات ص 45.
298
أثره (1) انتهى.
ولما أتى عبد الله بن العباس عائشة بعد هزيمتها يوم الجمل رسولا من علي
(عليه السلام) إليها في أمر فجعلت تعتل عليه وطفقت تفضل عمر بن
الخطاب على علي (عليه السلام) فقال لها ابن العباس في كلام يطرى فيه
عليا (عليه السلام): إنه والله أعلا منارا، وأحسن آثارا من أبيك ومن
عمر (2)، فظهر من ذلك كله أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أفضل الصحابة
وأكثرهم ثوابا وأجمعهم لخصال الخير، وما ذكرناه قد أقر به الخصوم، ومن
كتبهم أخذنا ما ذكرنا.
ومن جملة ما خصه الله به من المزية كون مولده في الكعبة الغراء على
الرخامة الحمراء فقد أجمع الشيعة على أن عليا (عليه السلام) ولد داخل
الكعبة كما وصفنا ونقلوه متواترا عن أهل بيت النبوة الذين هم مع القرآن لا
يفارقهم ولا يفارقونه ورواه من أهل السنة، أبو المعالي الفقيه المالكي في
كتاب المناقب عن علي بن الحسين قال كنا عند الحسين في بعض الأيام وإذا
بنسوة مجتمعات فأقبلت امرأة منهن علينا فقلنا من أنت رحمك الله قالت: أنا
زبدة ابنة العجلان من بني ساعدة، فقلت لها: هل عندك من شئ تحدثينا
به؟ قالت: أي والله حدثتنا أم عمارة بنت عبادة بن نضلة بن مالك بن
العجلان الساعدي أنها كانت ذات يوم في نساء من العرب إذا قبل أبو طالب
كئيبا حزينا، فقلت له: ما شأنك؟ قال: إن فاطمة بنت أسد في شدة من
الطلق، ثم أخذ بيدها وجاء بها إلى الكعبة فدخل بها، وقال اجلسي على
اسم الله فطلقت طلقة واحدة فولدت غلاما نظيفا منظفا لم أر أحسن منه



(1) شرح نهج البلاغة 1 / 28.
(2) نقله مختصرا من شرح نهج البلاغة 6 / 229 وتجده مفصلا في مروج الذهب
للمسعودي 2 / 377.
299
وجها فسماه أبو طالب عليا وقال.
سميته بعلي كي يدوم له * عز العلو وفخر العز أدومه
وجاء النبي (صلى الله عليه وآله) فحمله معه إلى منزل، أمه قال
علي بن الحسين: فوالله ما سمعت شيئا حسنا إلا وهذا من أحسنه (1)، فلا
التفات حينئذ لتوقف ابن أبي الحديد في ذلك زاعما أن المحدثين لا يعترفون به
ويزعمون أن المولود في الكعبة حكيم بن حزام بن خويلد (2) إذ لا عبرة



(1) ورواه الحاكم في المستدرك 3 / 483 وقال: " وقد تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد
ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في جوف الكعبة " كما رواه
السبط في التذكرة ص 7 والحلبي في السيرة النبوية 1 / 150 وابن طلحة الشافعي في
مطالب السؤول ص 11 والشبلنجي في نور الأبصار ص 76 وقال الآلوسي في
الخريدة ص 15. " كون الأمير كرم الله وجهه ولد في البيت أمر مشهور ذكر في كتب
الفريقين " يعني السنة والشيعة ثم قال بعد ذلك: " وما أحرى بإمام الأئمة أن يكون
وضعه فيما هو قبلة للمؤمنين وسبحان من يضع الأشياء مواضعها " قال: " وقد أحب
عليه الصلاة والسلام أن يكافئ الكعبة حيث ولد في بطنها بوضع الصنم عن
ظهرها ".
وقد نظم السيد رضا الهندي عطر الله مرقده هذا المعنى فقال:
لما دعاك الله قدما لأن * تولد في البيت فلبيته
شكرته بين قريش بأن * طهرت من أصنامهم بيته
(2) شرح نهج البلاغة 1 / 14 وأقول: إن مولد علي: (عليه السلام) في الكعبة المشرفة
فضيلة له ولها أيضا فقد زادها شرفا إلى شرفها، وفضلا إلى فضلها، فلو صح للناس
أن عليا (عليه السلام) ولد في أي موضع من بقاع الأرض لأصبح ذلك الموضع محل
تقدير لهم وتكريم ومزارا يقصدونه من كل مكان ويؤمونه من كل فج عميق، ولقد
جهد أعداؤه أن يخفوا فضيلة مولده (عليه السلام) بالبيت الحرام زاده الله شرفا فلم
يتمكنوا حتى فتحوا في زمن بني أمية بابا آخر الكعبة عند الركن اليماني مقابلا لبابها
المعلومة لأن عليا (عليه السلام) ولد قريبا منها فباءت كل مساعيهم بالفشل ولم
يتمكنوا من إخفاء هذه المنقبة، وإطفاء هذا النور فلا تزال تلك الرخامة الحمراء التي
أشار إليها المؤلف وقد وفق الله سبحانه وتعالى كاتب هذه الحروف لدخول الكعبة
المعظمة في سنة 1387 ه‍ فرأيت بلاط الكعبة المشرفة يميل إلى البياض عدا صخرة
واحدة حمراء بين الباب والركن اليماني من داخل الكعبة وهي علامة لموضع ولادته
(عليه السلام).
300
بزعمهم بعد ما سمعت فيه من الصحة، ولا ريب أن المحدثين زعموا هذه
الفضيلة لحكيم بن حزام ليناقضوا ما ورد لأمير المؤمنين (عليه السلام) كما
هي عادتهم والحق لا يزيد إلا علوا وظهورا، والصدق لا يزال يتوقد ضياء
ونورا، وإذا ثبت أن عليا (عليه السلام) أفضل الصحابة كما دلت عليه
الأدلة ووافقنا عليه أكثر المعتزلة وجب أن يكون هو المقدم والإمام بعد
الرسول (صلى الله عليه وآله)، ولا يجوز أن يقدم عليه غيره لأنا قد
بينا امتناع تقديم المفضول على الأفضل لقبحه عقلا والمنع منه شرعا وأقمنا
عليه الأدلة الواضحة في موضعه وقد تقدم وبذلك يثبت المطلوب، وزعم
الأشاعرة أن الأفضل بمعنى الأكثر ثوابا بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) أبو بكر ثم من بعده من الخلفاء مرتبا قال القرماني في تاريخ الدول
أجمع أهل السنة على أن الأفضل بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
أبو بكر ثم عثمان ثم علي (عليه السلام) ثم باقي العشرة إلى آخر ما قال،
وأهل السنة عندهم اسم لمن كانوا على مثل ما عليه أبو الحسن الأشعري من
نفي الحسن والقبح العقليين، ونفي الاستطاعة عن المكلف، وغير ذلك من
شبهاته الواهية، وهذا القول فاسد على تقديران للثلاثة فضلا وما احتج به
القوشجي على ذلك بعد اعترافه بما ذكرناه من مناقب أمير المؤمنين على
أفضلية أبي بكر وعمر عليه كله باطل مردود، ومزور ومختلق فمن احتجاجه
على ذلك الاتفاق الجاري مجرى الإجماع على أفضلية أبي بكر ثم عمر زعم،
وأقول ما أدري ما عني بالاتفاق إن كان اتفاق جماعة من أصحابه الأشاعرة كما

301
هو مفاد قول أبي العباس المتقدم فمسلم ولا حجة فيه، وغايته كونه قولا
لجماعة من الأمة يطلب عليهم في ثبوته وصحته الدليل فلا يكون هو نفسه
دليلا كما ادعى الرجل، وإن عنى اتفاق الصحابة فالمنقول عن أفاضلهم
تفضيل علي (عليه السلام) على جميع الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) مثل العباس بن عبد المطلب وجملة بنيه، وبني هاشم كافة وبني
المطلب كافة، وسلمان وأبي ذر والمقداد وعمار وحذيفة بن اليمان وأبي بن
كعب وجابر بن عبد الله وخالد بن سعيد بن العاص الأموي وخزيمة بن ثابت
ذي الشهادتين وزيد بن أسلم وبريدة بن الحصيب وأبي الهيثم بن التيهان
والبراء بن عازب وقيس بن سعد بن عبادة وأبي سعيد الخدري وأبي أيوب
الأنصاري وحجر بن عدي الكندي وزيد بن أرقم وسهل بن حنيف وأخيه
عثمان بن حنيف وعبادة بن الصامت وأبي الطفيل عامر بن واثلة الكناني
وعمرو بن الحمق الخزاعي في كثير من أمثالهم، ذكر ذلك جماعة من أهل
العلم بأقوال الناس كأبي عمر يوسف بن عبد البر المحدث في كتاب
الاستيعاب وأبي جعفر محمد بن عبد الله الإسكافي وعبد الحميد بن أبي الحديد
وغيرهم (1)، وكل منهم نقل ذلك عن جماعة من المذكورين، وكان الزبير
أول الأمر قائلا (2) به ومبالغا فيه حتى صرفه عنه ابنه عبد الله إلى عداوة أمير
المؤمنين (عليه السلام) والخروج عليه، وهؤلاء المذكورين هم خيار
الصحابة ومن أجمعت الأمة على وثاقتهم وصدقهم، واعتبار أقوالهم، وكلام
جماعة منهم الصريح في التفضيل قد تقدم، ولم يبق من الصحابة ممن صرح
بتفضيل غيره إلا من علم فسقه وثبت ضلاله بمحاربته عليا (عليه السلام)
وبغضه، وقد صح أنه حربه حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله)



(1) شرح نهج البلاغة 20 / 221.
(2) أيضا 20 / 222.
302
وبغضه بغضه، كمعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وعبد الله بن
الزبير وأبي هريرة والوليد بن عقبة بن أبي معيط في أضرابهم، أو من اختلفت
الأمة في وثاقته وقبول روايته فضلا عن اعتبار قوله، ومن لم يكن من الفريقين
من باقي الصحابة المسكوت عن حالهم لم يعرف لهم قول في المسألة فأين
إجماع الصحابة على ما يقول؟ بل أين الشهرة في ذلك بل الحق أن المشهور
بين الصحابة عكس ما قال، والتقدم في الخلافة لا يوجب التفضيل عنده
وعند أصحابه على فرض أن التقدم وقع برضى جميع الصحابة، وقد بينا
استحالته مرارا فلا اتفاق من الصحابة على ما قال القوشجي ولا اشتهار له
فيما بينهم، وإن عنى اتفاق التابعين فحالهم في ذلك كحال الصحابة فالكثير
منهم يفضل عليا على جميع الناس، منهم، أويس القرني، وزيد بن
صوحان، وصعصعة بن صوحان، وجندب الخير، وعبيدة السلماني،
ومالك بن الحارث الأشتر، وكميل بن زياد، وسعيد بن قيس الهمداني وخلق
كثير لا يحصون (1)، وقد قدمنا تصريح الحسن البصري به، وتصريح
عمر بن عبد العزيز به أيضا والتابعين من بني هاشم كذلك، على أن أكثر
الناس من أهل العلم والورع لم يمنعهم من إظهار القول بتفضيل علي (عليه
السلام) على جميع الصحابة إلا الخوف من معاوية وأتباعه ومن تولى بعده من
بني أمية وأتباعهم، فإنهم كانوا يقتلون من ذكر عليا (عليه السلام) بخير أو
روى عنه حديثا فما ظنك بحال من يفضله؟ وقد مر في كلام الحسن البصري
ما يدل عليه ويأتي له زيادة استدلال، وإن عنى فرق الإسلام فالشيعة قاطبة
يفضلون عليا (عليه السلام) على جميع الناس وأكثر المعتزلة يوافقونهم على
ذلك فالبغداديون كافة قائلون به كأبي سهل بشر بن المعتمر، وأبي موسى بن
صبيح وأبي عبد الله جعفر بن مبشر، وأبي جعفر الإسكافي، وأبي الحسين
الخياط، وأبي القاسم البلخي وتلامذته، ومن البصريين أبو علي الجبائي في



(1) أيضا 20 / 226.
303
آخر عمره، وكان قبل من المتوقفين بين علي وأبي بكر خاصة، نقل ذلك عنه
أبو القاسم البلخي.
ومنهم أبو عبد الله الحسين بن علي البصري،. وقاضي القضاة أبو الحسن
عبد الجبار بن أحمد، وقطع على ذلك بخبر المنزلة.
ومنهم أبو محمد الحسن بن متوية، وسيأتي التصريح به عن أبي الهذيل
العلاف، ومال قوم منهم إلى التوقف في تفضيل علي (عليه السلام) على
أبي بكر مع القطع على تفضيله على عمر كواصل بن عطا وأبي هاشم وأبي
الحسين البصري.
ومنهم من قال بتفضيل الثلاثة كعمرو بن عبيد، وإبراهيم بن سيار
النظام، وعمرو بن بحر الجاحظ، وثمامة بن أشرس وهشام
الفوطي، وأبي يعقوب الشحام، وكل أهل قول يحذو حذوهم قوم
منهم، وكتب المعتزلة في علم الكلام ناطقة بما قلناه ومن نقلهم نقلنا ومن
المحدثين من نسب إليه قوم من العامة في كتبهم وتواريخهم القول بتفضيل علي
صريحا كالكيا الهراسي وأمثاله وفي كلام قوم من أعيانهم ما يصرح بالتفضيل
قال أحمد بن حنبل: ما جاء لأحد من الفضائل ما جاء لعلي (عليه
السلام)، وقال: إن عليا لم تزنه الخلافة ولكنه زانها نقل هذا الكلام ابن
أبي الحديد عن ابن الجوزي في المنتظم عن أحمد بن حنبل وقال بعده ما
حاصله: أن هذا الكلام يعطي أن جميع من ولي الخلافة غير علي (عليه
السلام ذوو نقص ازدان بالخلافة وتم نقصه بها وأن الخلافة قبل ولاية علي
(عليه السلام) كانت ناقصة فأتمها بولايته إياها (1).
أقول وهذا الكلام غاية التفضيل، ونهاية التعظيم والتبجيل، ولعمري



(1) شرح نهج البلاغة 1 / 7 و 52.
304
أن الأمر كما قال وقال إسماعيل القاضي والنسائي وأبو علي النيسابوري: لم
يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الحسان أكثر مما جاء في علي، فهذه
شهادة مشائخهم فأين الاتفاق الذي ادعاه القوشجي علي
تفضيل أبي بكر وعمر على علي (عليه السلام)؟ وأين الشهرة بين الأمة؟
وهل زاد الأمر على كون المسألة من المسائل الخلافية بين الناس؟ والواجب
فيها اتباع الدليل الصحيح كغيرها من مسائل الخلاف، ومن هنا تبين بطلان
ما ينسبه قوم من الأشعرية المتعصبين من الابتداع إلى من ذهب من المحدثين
والعلماء من متقدمي أصحابهم إلى تفضيل علي (عليه السلام) فيقولون:
كان فلان عالما فاضلا وكذا وكذا لصفات من الخير ثم يقولون إلا أنه مال إلى
تفضيل علي (عليه السلام) أو قال به فيخرجونه من السنة إلى البدعة
بزعمهم لأنه قال بتفضيل علي (عليه السلام)، وذلك عندهم بدعة كما
وجدناه في تصانيف قوم منهم وتواريخهم، وكل هذا لتركهم النظر في الأقوال
والأدلة وتقليدهم من تقدم من مشائخهم وأساتيذهم على جهالة لا يعلمون
وراء ما سمعوه منهم مذهبا ولا يفهمون غير توجيههم في الأدلة توجيها وذلك
لا يغني من الحق شيئا.
واحتج القوشجي ثانيا بقوله تعالى: [وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله
يتزكى] (1) مدعيا أن الآية نزلت في أبي بكر عند الجمهور، والأتقى هو
الأفضل لقوله تعالى: [إن أكرمكم عند الله أتقاكم] (2) وهذا الاحتجاج
واه لأن الآية مع احتمال كون الأتقى والأشقى
بها بمعنى التقي والشقي كقوله تعالى: [الله أعلم حيث يجعل رسالته] (3)



(1) الليل 17.
(2) الحجرات 13.
(3) الأنعام 124.
305
أي عليم وقوله تعالى: [وهو أهون عليه] (1) يعني هين وقول طرفة:.
تمنت رجال أن أموت وإن أمت * فتلك سبيل لست فيها بأوحد
كما قاله بعض المفسرين، ويشهد لذلك الاعتبار فإن صاحب النخلة المعني
بالأشقى من المسلمين ومن الصحابة المحكوم عليهم عند القوشجي وأصحابه
بالجنة فلا يجوز أن يجعل أشقى من أبي جهل وأبي لهب وأمثالهما من
المشركين، فلا دليل فيها على التفضيل مضافا إلى أنها نازلة عند أكثر
المفسرين في أبي الدحداح، وهو المروي عن ابن عباس رواه الواحدي وسببه
قصة النخلة المشهورة (2)، وقال غيره نزلت في مصعب بن عمير وذكر ذلك
أبو جعفر الإسكافي، ولم يقل إنها نزلت في أبي بكر إلا عروة بن الزبير (3) لأنه
اشترى ست رقاب فأعتقها بلال وعامر بن فهيرة وأربعة أخر، وحال ابن
الزبير في الكذب معلوم، وميله إلى جده معروف، وليس هذا منه بأعجب
من روايته عن خالته عائشة عن النبي (صلى الله عليه وآله): أن عليا
والعباس بن عبد المطلب من أهل النار (4)، وكان سبابا لعلي (عليه السلام)
وكثير البغض له، ومن أفسق ممن يسب رجلا من سبه فقد سب رسول الله



(1) الروم 27.
(2) أسباب النزول ص 299.
(3) شرح نهج البلاغة 13 / 222 عن نقض العثمانية.
(4) رواه الإسكافي في نقض العثمانية كما في شرح نهج البلاغة 13 / 63 عن الزهري
عن عروة بن الزبير هكذا: حدثتني عائشة قالت: كنت عند رسول الله إذ أقبل
العباس وعلي فقال: (يا عائشة إنهما يموتان على غير ملتي أو قال: ديني) والحديث
الثاني أن عروة زعم أن عائشة حدثته قالت: كنت عند النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) إذ أقبل العباس وعلي فقال: (يا عائشة إن سرك أن تنظري إلى رجلين من
أهل النار فانظري إلى هذين قد طلعا) نظرت فإذا العباس وعلي بن أبي طالب.
306
(صلى الله عليه وآله) كما دلت عليه الأخبار الصحاح عند القوم،
ومنها ما رواه الإسكافي عن عثمان بن أبي شيبة، عن عبد الله بن موسى،
عن قطر بن خليفة، عن أبي عبد الله الجدلي قال: دخلت على أم سلمة
رحمها الله فقالت: لي أيسب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيكم
وأنتم أحياء؟ قلت: وأنى يكون هذا؟ قالت: أليس يسب علي (عليه
السلام) ومن يحبه (1) وما رواه الحافظ أبو عبد الله محمد بن يوسف البلخي
الشافعي في كفاية الطالب عن ابن عباس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) قال لعلي (من سبك فقد سبني ومن سبني فقد سب الله، ومن سب
الله فقد كبه الله على منخريه في النار) (2) وما قدمنا من الأخبار عن أحمد بن
حنبل وغيره من قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في علي (عليه
السلام): (لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق) (3) وقوله (صلى الله
عليه وآله وسلم): (عدوك عدوي وعدوي عدو الله) (4) فمن كان هذه حاله
كيف تقبل روايته فيمن يميل إليه بدون معارض فكيف إذا عارضها رواية
الثقاة؟ على أن شراء أبي بكر بلالا وعامرا الذي هو سبب نزول الآية كما
زعم فاسد لأن محمد بن إسحاق والواقدي ذكر أن رسول الله هو الذي
اعتقهما، (5) وبالجملة فالاحتجاج بالآية ساقط، ودعوى قول الجمهور أنها
نازلة في أبي بكر كما ترى زور وبهتان كدعواه الاتفاق المتقدم واحتج أيضا
بروايات مفتعلة:



(1) شرح نهج البلاغة 13 / 222.
(3) كفاية الطالب الكنجي.
(3) رواه المحب في الرياض 2 / 214 وقال: " أخرجه أحمد في المناقب ".
(4) نفس المصدر 2 / 166 وتاريخ بغداد للخطيب 4 / 45.
(5) شرح نهج البلاغة 13 / 273 عن نقض العثمانية للإسكافي.
307
فمنها: (اقتدوا بالذين من بعدي أبا بكر وعمر) (1) دخل في الخطاب
علي فيكون مأمورا بالاقتداء بهما.
أقول قد ذكر بعض أهل العلم والخبرة بالحديث أن هذه الرواية جميع من
رواها رواها الذين بصيغة الجمع، وأبا بكر وعمر بنصب أبا، والجواب عنها
وعن غيرها على جهة العموم من ثلاثة وجوه.
الأول إنها مما اختص بروايتها الخصوم وليسوا عندنا من أهل الصدق فلا
يلزمنا قبول رواياتهم ولا تقوم لهم بها علينا حجة مع أنهم متهمون في ذلك.
الثاني إنه قد طعن في مثل هذه الروايات قوم منهم كالفخر الرازي
وحكم بأنها من الموضوعات إذ لم يجر لشئ منها ذكر بين الصحابة والتابعين
في مقام الحجة والمناظرة، وطعن فيها سيدنا المرتضى ذو المجدين علم الهدى
كذلك (2) وغيره، وهو كما قال، فإن هذه الروايات إنما وضعت وافتعلت في أيام
تغلب بني أمية، روى ذلك أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني في
كتاب الأحداث وابن عرفة نفطويه وهما من أكابر المحدثين قال المدائني في
كلام طويل: وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق لا يجيزوا لأحد من
شيعة علي وأهل بيته شهادة، وكتب إليهم أن انظروا من قبلكم من شيعة
عثمان ومحبيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم،



(1) في أسنى المطالب ص 48: (أبي بكر وعمر) وقال: " أعله أبو حاتم، وقال البزاز
كابن حزم: لا يصح، وفي رواية للترمذي وحسنها (واقتدوا بهدى عمار وتمسكوا
بعهد ابن مسعود) وقال: الهيثمي سندها واه ".
(2) انظر الشافي ج 3 ص 123 بتحقيقنا.
308
وقربوهم وأكرموهم واكتبوا لي بما يرويه كل رجل منهم واسمه واسم أبيه
وعشيرته، ففعلوا ذلك حتى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعثه
إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطائع، ويفيضه في العرب
منهم والموالي، فكثر ذلك في كل مصر، إلى أن قال: ثم كتب إلى عماله أن
الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية فإذا جاءكم
كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين، ولا
تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وآتوني بمناقض له في الصحابة
فإن هذا أحب إلي وأقر لعيني وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته وأشد عليهم
من مناقب عثمان وفضله، فقرئت كتبه على الناس فرويت أخبار كثيرة في
مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجد الناس في رواية ما يجري هذا
المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، وألقى إلى معلمي الكتاب فعلموا
صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون
القرآن وحتى علموه بناتهم ونسائهم وخدمهم وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء
الله ثم كتب بعد ذلك إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان، انظروا من
قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه
ورزقه، وشفع ذلك بنسخة أخرى، من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا
به واهدموا داره، فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق، ولا سيما
بالكوفة، حتى أن الرجل من شيعة علي (عليه السلام) ليأتيه من يثق به
فيدخل بيته فيلقي إليه سره ويخاف من خادمه ومملوكه ولا يحدثه حتى يأخذ
عليه الأيمان الغليظة ليكتمن عليه، فظهر حديث كثير موضوع وبهتان
منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة، وكان أعظم الناس في
ذلك بلية القراء المراؤون والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك
فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم، ويقربوا مجالسهم، ويصيبوا
به الأموال والضياع والمنازل، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي

309
الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها، وهم يظنون
أنها حق، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها، فلم يزل الأمر
كذلك حتى مات الحسن بن علي (عليه السلام) فازداد البلاء والفتنة (1) إلى
آخر ما قال من بيان ما فعله معاوية من قتل محبي أمير المؤمنين (عليه
السلام)، وما فعله من بعده في عشيرته من إظهار الفساد بقتل المؤمنين
الصادقين، وإكرام الكذابين الوضاعين مما يطول نقله ومثله، قال نفطويه،
وبهذا المضمون قال أبو جعفر الإسكافي،
ويصدق ذلك (2) ما روي في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين من تقسيم
المحدثين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى أربعة أحدهم،
منافق يكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يتحرج ولا يتأثم
من الكذب عليه (3) وما سيأتي بعد عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه
السلام) من ذكره مضمون ما قاله المدائني ونفطويه بالصريح، فهذه الأخبار
التي احتج بها القوشجي وغيره على أفضليته الرجلين على أمير المؤمنين هي
تلك الأخبار المزورة المختلقة طاعة لمعاوية وطلبا للدنيا وإيثارا للعاجلة ما
زالت تتداول عند قضاة السوء، والفقهاء المنافقين، والقراء المرائين حتى تلقفها
حشوية العامة كالبخاري ومسلم وابن مردويه وأضرابهم وزبروها في كتب مع
أمثالها إلا ما قل من الأحاديث وسموا تلك الكتب الصحاح، وأقوى دليل
على اختلاقها أن جلها ينتهي إسناده إلى من تظاهر بعداوة أهل البيت كأبي
هريرة وعمرو بن العاص وعروة بن الزبير وأشباههم، وأن كل حديث منها



(1) شرح نهج البلاغة 11 / 44 عن كتاب الأحداث للمدائني.
(2) قوله: " ويصدق ذلك " أي ويصدق ما قاله الإسكافي لأن الإسكافي سابق للشريف
الرضي.
(3) نهج البلاغة الخطبة 208.
310
مناقض لحديث أو أحاديث من المروي في فضل علي (عليه السلام) وولده
وذلك لموافقة غرض معاوية الذي مر في كلام المدائني، فما كان هذه حالة من
الأحاديث كيف يكون حجة ودليلا؟ هيهات هيهات ذلك عن التحقيق وناء
عن طريق أهل النظر الدقيق.
الثالث إن هذه الأخبار على قلتها وشذوذها قد عارضتها الأدلة الواردة في
تفضيل علي (عليه السلام) من الكتاب والسنة الكثيرة التي أجمع الخاصة
والعامة على نقلها وصحتها، ومن جملتها ما تلوناه عليك مما تضمن مماثلة علي
(عليه السلام) لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومماثلته للأنبياء،
وما دل على أنه إمام المتقين وأنه سيد المسلمين، وولي كل مؤمن بعد رسول
الله، ومولى من كان رسول الله مولاه، وأنه كلمة الله التي ألزمها المتقين،
وأن بيده مفاتيح خزائن الله، وأنه حامل لواء الحمد يوم القيمة، وأنه خير
الخلق والخليقة، وغير ذلك مما عددناه نوعا نوعا، وصنفا صنفا، وما سنتلوه
عليك في هذا المقام وفيما بعد إن شاء الله تعالى وعارضتها أيضا أدلة العقل
والاعتبار، ولا شك أنه عند التعارض يجب الأخذ بالمتفق عليه والمعاضد
بالدلالة الخارجية وترك المختلف فيه والمعاند للدلالة الخارجية، فما ظنك
بالمطعون في سنده ومتنه مع مخالفته لكتاب الله عز وجل وقد صح عن النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه (إذا أتاكم الخبر عني فاعرضوه على كتاب الله.
ما وافق كتاب الله فاعملوا به وما خالف فاضربوا به عرض الحائط) بعد
إخباره (صلى الله عليه وآله) في أول الكلام بكثرة الكذابة عليه فإذا
جاء في الكتاب العزيز أن عليا (عليه السلام) نفس رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) كما في آية المباهلة، وجاء أنه ولي الأمة مثل ولاية الله إياهم
ورسوله كما في آية الولاية، ولا شك أن نفس الرسول خير الأنفس، وأن

311
ولي المؤمنين خيرهم، ثم أتى عن النبي (صلى الله عليه وآله) أن أبا
بكر خير من علي (عليه السلام) فقد حصلت المخالفة الصريحة والمعارضة
الظاهرة بين هذا الخبر وبين كتاب الله فوجب بمقتضى أمر الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم) رد ذلك الخبر، وضرب الحائط به، وأخبار بهذه المثابة
يجب ردها وإسقاطها، ويلزم تكذيبها وإبطالها، ولا يجوز التدين بها ولا
التعويل عليها.
وأما الجواب الخاص عن الخبر المذكور فبأنه معارض لحديث التمسك
بالثقلين كتاب الله والعترة، وحديث الاقتداء بالأئمة من أهل البيت،
وحديث: (أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق)، وما
جرى هذا المجرى مما رسمناه فيكون مفتعلا لمناقضتها كما مر بيانه فهو باطل،
ولو صح لوجب تأويله إلى ما يوافق تلك الأدلة الصحيحة بجعل التقدير
اقتدوا بالذين من بعدي من الأئمة يا أبا بكر وعمر، فأبو بكر وعمر مأموران
بالاقتداء وليس تقدير الفعل الناصب لأبا بكر بأولى من تقدير حرف الندا بل
هذا أولى للتوفيق بين الدليلين وقد جاء حذف حرف النداء من المنادى المعلوم
كثيرا نحو قوله تعالى: [يوسف أعرض عن هذا] (1) وقول الشاعر.
أبا حكم هل أنت عم مجالد * وسيد أهل الأبطح المتناحر
وقول الآخر:
حمامة بطن الواديين ترنمي * سقاك من الغر الغوادي مطيرها
وقول الآخر (2):



(1) يوسف: 29.
(2) هو جرير من قصيدة له يهجو الفرزدق، والنيب: الناقة المسنة، والضوطري:
الرجل الضخم اللئيم الذي لا غناء به، والضوطري أيضا: المرأة الحمقاء، ومعنى
البيت إنكم تعدون غاية مجدكم أي عزكم وفخركم عقر الناقة المسنة فهلا تعدون من
مجدكم قتل الكمي أي الشجاع المكمى في سلاحه أي المستتر فيه، والمقنع الذي على
رأسه البيضة والمغفر، وشاهد المؤلف في البيت تقدير حرف النداء في المنادى وهو
" بني " بحرف نداء محذوف وأنه منصوب بالياء لأنه جمع مذكر سالم.
312
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم * بنى الضوطرى لولا الكمي المقنعا
وهذا أمر معروف لا يحتاج إلى الإكثار من شواهده فيكون الخبر حجة لنا
لا علينا.
ومنها في أبي بكر وعمرهما (سيدا كهول أهل الجنة ما خلا النبيين
والمرسلين) (1) والجواب عنه بالخصوص أنه معارض بقول النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) في الحسن والحسين: هما (سيدا شباب أهل الجنة) (2)
وبقوله (صلى الله عليه وآله): (سادات أهل الدنيا هم سادات أهل
الآخرة أنا وعلي والحسن والحسين وحمزة وجعفر) (3) وقوله لعلي (عليه
السلام): (أنت سيد في الدنيا والآخرة) (4) وقوله (عليه السلام) فيه:



(1) روي مرفوعا بطريقين الأول عن أنس بن مالك والثاني عن علي (عليه السلام) وفي
طرق الحديثين جماعة من الوضاعين أمثال نوح بن أبي مريم وعبد الرحمن بن مالك بن
مغول وبشار بن موسى الشيباني الخفاف وبحسبك أن ترجع إلى ميزان الاعتدال
1 / 310 و 2 / 584 و 4 / 279. لتعرف ذلك.
(2) الترمذي 2 / 306 ومسند أحمد ج 3 ص 3 و 62 و 82 و ج 5 / 391 وحلية الأولياء
4 / 139 و 190 و ج 5 / 71 وغيرها وفي بعضها: (وأبوهما خير منهما).
(3) شرح نهج البلاغة 7 / 64 ورواه ابن ماجة في السنن ص 309 باب خروج المهدي
والحاكم في المستدرك 3 / 211 وقال: " هذا الحديث صحيح على شرط مسلم " وابن
حجر في الصواعق ص 96 وقال: " أخرجه الديلمي ".
(4) وتتمة الحديث: (حبيبك حبيبي، وحبيبي حبيب الله، وعدوك عدوي، وعدوي
عدو الله) رواه الحاكم في المستدرك 3 / 127 وقال: " صحيح على شرط الشيخين "
كما رواه غيره.
313
(هو سيد المؤمنين وسيد المسلمين) (1) فيكون مختلقا لمناقضة هذه الأخبار
وشبهها فهو باطل هذا في سنده وفي متنه بمخالفته للكتاب في قوله تعالى:
[إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا] (2) وقد صح عن النبي
(صلى الله عليه وآله): إن الجنة لا يدخلها شيخ ولا عجوز ولا
كهل وإن أهلها جرد مرد على صفة الشباب) (3).
ومنها (خير أمتي أبو بكر ثم عمرو) والجواب عنه أنه معارض لقول
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في علي (عليه السلام) والخوارج:
(يقتلهم خير الخلق والخليقة) (4) وقوله (صلى الله عليه وآله): (خير
الناس حمزة وجعفر وعلي) (5) وما شابه ذلك مما شاع وذاع بين الفريقين فهو
مصنوع للمناقضة فيكون باطلا.
ومنها: (ما ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يتقدم عليه غيره) وكيف
يكون كذلك وقد عارضه ما تواتر من فعل النبي (صلى الله عليه وآله)
فإنه أمر على أبي بكر أبا عبيدة بن الجراح مرة ومرة عمرو بن العاص وأخرى
خالد بن الوليد ومرة أسامة بن زيد، وأمر عليه عليا مرارا وما نرى النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) امتنع من تقديم غير أبي بكر من الصحابة عليه
فكيف يعقل أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول قولا معناه النهي عن
تقدم أحد من الصحابة على أبي بكر ثم يقدم عليه جماعة منهم مرة بعد أخرى



(1) طبقات ابن سعد 3 ق 1 / 131 ورياض المحب 1 / 16 و 168.
(2) الواقعة / 36.
(3) شرح نهج البلاغة 6 / 330.
(4) شرح نهج البلاغة 2 / 267 وفي رواية ابن كثير في البداية والنهاية " هم شرار أمتي يقتلهم خيار
أمتي ".
(5) شرح نهج البلاغة 15 / 72 عن مقاتل الطالبيين.
314
فينقض قوله بفعله وهو الذي لا ينطق عن الهوى؟ اللهم إلا في مقام النسخ
وإذا كان هذا القول منسوخا فلا حجة فيه وآخر عمر النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) وأبو بكر تحت راية أسامة، والحاصل أن الخبر إذا كان مناقضا لما
علم من فعل النبي (صلى الله عليه وآله) كان باطلا بالضرورة،
والحديث المذكور هذا شأنه مع معارضته لقول النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) للأنصار: (هذا علي فأحبوه بحبي وأكرموه بكرامتي) (1)، وقوله
(صلى الله عليه وآله): (أوصيكم بحب ذي قرباها (2) أخي وابن عمي
علي بن أبي طالب) وحديث المنزلة وغير ذلك من الأحاديث الصريحة في لزوم
تقديم علي (عليه السلام) فهو مصنوع لمعارضتها، على أن المروي في بعض
تواريخ القوم أن هذا القول من كلام عمر نفسه ولم ينسبه إلى النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) وذلك في كلام طويل خطب به يذكر فيه حديث
السقيفة أورده الطبري في تاريخه (3)، وكذلك هو الحاصل من كلام عمر يوم
السقيفة حيث قال: كيف أتقدم قدمين قدمها رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) للصلاة، فأخذه القوشجي وأمثاله وصيروه حديثا ينسبونه إلى النبي
(صلى الله عليه وآله) جهلا أو تعمدا ليقووا به شبهتهم، وأنى والأمر
أظهر من أن يخفى! ومع هذا كله إنه لو صح لم يقتض التفضيل لأن مذهب



(1) شرح نهج البلاغة 9 / 170 عن حلية الأولياء.
(2) كنز العمال 7 / 140 وفيه: (ذي أقربها) وفي الرياض النضرة 2 / 214: (ذي
قرنيها) وللوجه الأخير وجه وهو أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لعلي
(عليه السلام) كما في مستدرك الحاكم 3 / 123: (وإنك لذو قرنيها) تشبيها له
(عليه السلام) بذي القرنين ولكن ابن أبي الحديد في ج 9 / 17 رواه عن حلية الأولياء
(ذي قرباها).
(3) تاريخ الطبري 4 / 1822 ط ليدن حوادث سنة 11.
315
القوم جواز تقديم المفضول، ولو اقتضى لكان دليلهم مخالفا لمذهبهم فيكون
عليهم لآلهم.
ومنها (لو كنت متخذا خليلا دون ربي لاتخذت أبا بكر خليلا لكن هو
شريكي في ديني وصاحبي الذي أوجبت له صحبتي في الغار وخليفتي في
أمتي) (1) وهذا قريب من الأول.
والجواب عنه أنه لو صح امتناع اتخاذ النبي (صلى الله عليه وآله)
أبا بكر خليلا لم يمتنع اتخاذه إياه أخا وما نراه اتخذه أخا يوم المؤاخاة بل جعله
أخا لعمر واتخذ هو (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا أخا فلو صلح أبو بكر
لخلة النبي (صلى الله عليه وآله) لصلح لأخوته لكنه لم يصلح وإلا
لأخاه أو أخا بينه وبين علي (عليه السلام)، هذا على تقدير كون الخلة أعلا
شأنا وأقرب مماثلة بين الاثنين من الإخوة كما هو مرام المستدل والأمر بعكس
ما رام، فإن الأخوة أدخل في المشابهة وأقرب إلى المماثلة من الخلة، ولذا
جاز أن يكون لله خليل ولم يجز أن يكون لله أخ لأن الأخ هو العدل المماثل
وليس لله مثيل، والخليل هو المخلص في المودة والاخلاص في محبة الله
مطلوب فإذا امتنع أن يكون أبو بكر مخلصا في محبة النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) فلا فضيلة له البتة وإذا كان علي (عليه السلام) هو الصالح لمماثلة
النبي (صلى الله عليه وآله) كان هو الأفضل لا محالة ثم أي مانع من
اتخاذ النبي (صلى الله عليه وآله) أبا بكر خليلا من جهة الشرع
والخليل على ما سمعت من معناه، فالكلام جزما لو صح لكان قدحا فيه ولم
يكن مدحا لتضمنه لعدم صلاحيته لمودة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
والأمر في ذلك واضح وقوله: (شريكي في ديني) فاسد لأنه لو صح أنه



(1) يرى ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 11 / 49 إن هذا الحديث وضعه البكرية في
مقابلة حديث الآخاء.
316
شريك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في دينه بالمعنى الخاص يعني في قوة
الإيمان واليقين كما كان لعلي (عليه السلام) لكان له أخا وكان أعلا مرتبة من
الخليل، ولزم تناقض الكلام ويكون معناه إنه لا يصلح لي أن أتخذه خليلا
لكنه ارفع من ذلك منزلة وأجل منه قدرا، فالمراد من الاستدراك إثبات منزلة
لأبي بكر أدنى من الخلة والكلام يعطي إثبات منزلة له ارفع منها وكلام النبي
(صلى الله عليه وآله) مصون عن التناقض وإن كان المراد من شركة
أبي بكر للنبي (صلى الله عليه وآله) في دينه المعنى العام يعني الإقرار
بالعقائد وأداء الفرائض فالمسلمون كلهم على هذا المنوال فلا أفضلية له على
أحد عنهم في ذلك فلا معنى لمدحه وتفضيله على غيره بما يشاركه ذلك الغير
فيه.
وأما حديث الغار فنحن في غناء عن ذكره إذ لا دلالة فيه على الفضل
بوجه من الوجوه بل دلالته على العكس واضحة من قوله: [لا تحزن]
وقوله: [وأنزل السكينة عليه] ولم يقل عليهما والذي أنزلت عليه السكينة
هو المؤيد بالجنود وهو النبي (صلى الله عليه وآله) بلا ريب ولماذا لم
يشركه الله في السكينة مع النبي (صلى الله عليه وآله) كما أشرك
المؤمنين في حنين معه (صلى الله عليه وآله) فيها فقال: [ثم أنزل
الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين] (1) وكانوا تسعة من بني هاشم يقدمهم
علي بن أبي طالب (عليه السلام) وعاشرهم أيمن بن أم أيمن بإجماع المفسرين
وأهل المغازي وأهل التواريخ والسيرة (2) ومن وجوه أخر لا حاجة إلى ذكرها



(1) التوبة: 26.
(2) الأصح أنهم سبعة وهم علي والعباس والفضل بن العباس وأبو سفيان بن الحارث بن
عبد المطلب (أسد الغابة 1 / 161) وعتبة ومعتب ابني أبي لهب (أسد الغابة
3 / 366) وكلهم من بني هاشم وثامنهم مولاهم أيمن بن عبيد والدليل على ذلك قول
العباس بن عبد المطلب فيما رواه ابن إسحاق (أسد الغابة 1 / 161):
نصرنا رسول الله في الحرب سبعة * وقد فر من قد فر عنه واقشعوا
وثامننا لاقي الحمام بنفسه * لما ناله في الله لا يتوجع
317
وتطويل المقال بها.
وأما قوله: (وخليفتي في أمتي) فباطل بالإجماع لأن الأمة أجمعت على
أن خلافة أبي بكر ليست من جهة النص، ولو صح هذا القول عن النبي
(صلى الله عليه وآله) لكان نصا صريحا ولكان احتجاج أبي بكر وعمر
به على الأنصار أولى من احتجاجهم بما ذكروه من القرابة والصلاة لأنه نص
قاطع للعذر، ولكان احتجاجهما به على علي (عليه السلام) وأصحابه إذ
امتنعوا من بيعة أبي بكر أولى لهما من تهددهم بحرق البيت عليهم لصراحته في
الحجة، لكنه في ذلك الزمان غير موجود وإنما صنع بعد ذلك الوقت لمعارضة
مؤاخاة النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) ولحديث
(من منكم يبايعني فيكون أخي ووزيري ووارثي وخليفتي على أمتي).
فبايعه علي (عليه السلام) وغيرهما من الأحاديث من أشباههما فهو باطل.
ومنها (وأين مثل أبي بكر كذبني الناس وهو صدقني، وآمن بي وزوجني
ابنته، وجهزني بماله وواساني بنفسه وجاهد معي ساعة الخوف) (1) وهذا
الحديث طريف ينبغي الجواب عنه مقولة مقولة ومنقلة بعد منقلة، فنقول أما



(1) نور الأبصار ص 54 عن ابن عباس بصورة أخصر وأخرجه ابن حبان من طريق
إسحاق بن بشر بن مقاتل الكاهلي المتوفى سنة 228، وقال عنه السيوطي في اللآلئ
المصنوعة 1 / 153: " كذاب وضاع بالاتفاق " وذكره السيوطي في مواطن أخرى من
كتابه ومثله في تاريخ بغداد 6 / 329 والذهبي في ميزان الاعتدال 1 / 87.
318
تصديقه للنبي (صلى الله عليه وآله) فقد بينا أنه أسلم بعد جماعة من
الناس فلم يكن صدقة في حال تكذيب جميع الناس له لتكون القضية كلية،
وإذا لم يكن كذلك سقط التمدح بسبق التصديق فلم يبق للكلام موقع في
المدح لسقوط الكلية التي بنى المدح على صدقها، وإن كانت مهملة وحملت
على الأكثرية أي كذبني أكثر الناس فجميع من صدق النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) في مكة، بل وفي المدينة في أول الهجرة صدقه وكذبه أكثر
الناس فلا اختصاص له بذلك فلا مدح فيه يوجب فضلا على سائر
الصحابة.
وأما تزويج النبي (عليه السلام) ابنته فما أدري لأيهما الفضل على الآخر
النبي (صلى الله عليه وآله) حين قبلها أم لأبي بكر حين زوجه إياها؟
وبعد فأي رجل من الناس يخطب إليه النبي (صلى الله عليه وآله)
ابنته فلا يزوجه إياها حتى يكون تزويج أبي بكر ابنته إياه منة عليه يستحق بها
ثناء من النبي (صلى الله عليه وآله) وثوابا كثيرا من الله كما هو مدعى
المستدل فلو خطب (صلى الله عليه وآله) إلى الأكاسرة والقياصرة
والتبابعة لعدو خطبته بناتهم من أجل النعم الواصلة إليهم فكيف بغيرهم.
وأما تجهيزه النبي (صلى الله عليه وآله) بماله فمتى كان ذلك أفي
مكة أم في المدينة فإن كان في مكة فكل عالم يعلم أن النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) كان إذ ذاك غنيا بمال خديجة (رضي الله عنها) وكان ينفق منه
على من شاء في أول النبوة ولم يجهز جيشا ولا قاتل عدوا مدة بقائه (صلى الله
عليه وآله وسلم) في مكة حتى يحتاج في ذلك إلى معونة أحد، ثم إنا نعلم أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أحوج ما يكون للتجهيز حين أراد الهجرة
من الغار إلى المدينة، وقد روى جميع المحدثين أن أبا بكر باع النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) بعيرين وأخذ منه ثمنهما في تلك الحال فأين التجهيز

319
بالمال بعد قبض ثمن البعيرين؟ وأين موضع هذا التجهيز ومحله؟ ثم من أين
له المال الذي يجهز به رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد صحح
عندكم أنه احتاج إلى سفرة في وقت سفره معه (صلى الله عليه وآله)
إلى المدينة فلم يجدها وثمنها درهم فقطعت ابنته أسماء نطاقها نصفين فأعطته
نصفا ليكون له سفرة فسميت لذلك ذات النطاقين (1)، وإن قلتم في المدينة
فقد أحلتم فإن أبا بكر كان فقيرا وكان هو وغيره من المهاجرين عيالا على
الأنصار، والقرآن ناطق بذلك، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ ذاك
قد أغناه الله بالغنائم والأنفال، فأخبرونا عن تجهيزه النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) متى كان وفي أي سفر وأي غزوة؟! دلونا عليه حتى نعلم
موضعه ونعرف محله، هذا وقد علم كافة أهل الأثر أنه ترك مناجاة النبي
(صلى الله عليه وآله) فيمن تركها لما نزلت آية المناجاة عن أن يتصدق
لأجلها ولو بشئ يسير فكيف يجهز رسول الله بماله من ترك مناجاته عجزا من
الصدقة ولو كان قادرا لكان ذلك ذنبا احتاج هو وغيره فيه إلى عفو الله عنهم، أفيفعل
الندب ويرتكب الذنب ما لكم كيف تحكمون؟
وأيضا أنه قد صح أن عليا (عليه السلام) تصدق بخاتمه (2)، وتصدق



(1) ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر تزوجها الزبير بن العوام فأولدها بنيه الثلاثة عبد الله
وعروة والمنذر وعاشت إلى أن قتل ولدها عبد الله سنة 73 وماتت بعده بأيام قليلة ولها
من العمر مائة عام.
(2) تصدق علي (عليه السلام) بخاتمه وهو في الصلاة ونزول (إنما وليكم الله ورسوله..
الآية) نقله كثير من المفسرين والمحدثين نذكر منهم الطبري في تفسيره 6 / 186
والرازي في تفسيره 12 / 26 والواحدي في أسباب النزول ص 133 والسبط في
التذكرة ص 15 وابن حجر في الصواعق 25 والشبلنجي في نور الأبصار ص 77.
320
بأربعة دراهم ليلا ونهارا وسرا وعلانية (1) وجاد بقوته وقوت عياله ثلاث ليال (2)
فأنزل الله في كل من ذلك قرآنا يتلى بمدحه، ويكشف عن إخلاص عمله،
ويعرب عن صدق نيته، مثل قوله تعالى: [إنما نطعمكم لوجه الله] (3) فما
بال غيره لم ينزل في تجهيزه النبي (صلى الله عليه وآله) آية تتلى ولا
كلمة تقرى، أفترون أن الله عز وجل أضاع عمله وهو لا يضيع عمل عامل
أم لم يقبله منه فترك ذكره وأهمله، أم لم يكن شئ مما ادعيتم يحتاج إلى أن
يبينه الله تعالى فيما أنزله؟! هذا كله مضافا إلى ما صح من فقر أبي بكر حتى
احتاج في أيام خلافته إلى أن يجعل له المسلمون قسمة من سهامهم من بيت
المال لكل يوم شئ يسير كما صح في سير القوم وتواريخهم فمن هذه حاله من
أين له المال حتى يجهز به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وأما المواساة بنفسه فمتى كان ذلك أفي الشعب حين أجمعت قريش على
حصر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأبو بكر ليس من
المحصورين، أم في إيذاء قريش للنبي (صلى الله عليه وآله) فأبو بكر
ليس من المحامين بل القائم بحماية النبي (صلى الله عليه وآله)
والمواسي له بنفسه والذاب عنه في ذلك كله من لا يهاب الرجال ولا تروعه
الأبطال أبو طالب وبنوه ورهطه وأبو بكر في معزل عن ذلك كله فما نعلم
الموضع الذي اختص فيه بمواساة النبي (صلى الله عليه وآله) دون
غيره إلا أن يدعو حديث الغار وفيه ما فيه - كما تقدم - وأين هو في ذلك ممن
بات يفدي النبي (صلى الله عليه وآله) بنفسه ويتوقع الموت
في الذب عنه صابرا محتسبا،
وأما المجاهدة ساعة الخوف فما علمنا لأبي بكر قتالا ولا سمعنا أنه في



(1) أسباب النزول للواحدي ص 58 والكشاف 1 / 398 وتفسير الرازي 7 / 83.
(2) شرح نهج البلاغة 1 / 21 وانظر أسباب النزول للواحدي ص 296.
(3) الدهر 9 و 10.
321
موقف بارز قرنا ولا سفك دما فضلا عن أن يكون اختص بجهاد مع النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) دون غيره، بل المعلوم ضرورة خلاف ذلك فإنه
في بدر كان بالعريش ولم ير القتال بوجهه فضلا عن أن يكون قاتل وكان
رسول الله لا يكلفه حربا ولا قتالا فإنه لما خرج ابنه عبد الرحمن يوم أحد من
عسكر المشركين يدعو المسلمين للمبارزة وينادي هل من مبارز أنا
عبد الرحمن بن عتيق فغضب أبوه من قوله وقام مصلتا سيفه يريد مبارزته فنظر
إليه النبي (صلى الله عليه وآله) وقال: (يا أبا بكر شم سيفك وأمتعنا
بنفسك) (1) ثم لم يلبث بعد ذلك حتى فر مع الفارين، وفاز بالمواساة
والجهاد غيره وهو علي الذي لم يزل فائزا بذلك حتى نزل جبرئيل على النبي
(صلى الله عليه وآله) فقال: يا محمد قد عجبت الملائكة من صبر هذا
الفتى إنها لهي المواساة فقال: (يا جبرئيل إنه مني وأنا منه (فقال
جبرئيل (ع): وأنا منكما (2)، ولا شك أن حديثهم الذي افتعلوه ليناقضوا به
هذا الحديث الصحيح وما جرى مجراه، ثم في يوم الأحزاب عجز هو وغيره
عن مبارزة عمرو وفاز بالحظ الجزيل من مبارزة الشرك كله وقتله غيره.
وفي خيبر رجع منهزما براية النبي (صلى الله عليه وآله) ومن الغد
فعل مثل ذلك صاحبه وأدرك الفضيلة السابق إلى الفضائل ابن عم
المصطفى.
وفي حنين ولى مدبرا مع المدبرين فأين جهاده مع النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) ساعة الخوف؟ وفي أي موضع حصل وفي أي موقف صدر؟
فليدلنا القوشجي وحزبه عليه حتى نعرفه وهل بلغ من الجهاد مع النبي



(1) نقض العثمانية للإسكافي كما في شرح نهج البلاغة 13 / 294.
(2) شرح نهج البلاغة 13 / 261 عن نقض العثمانية وشرح نهج البلاغة 14 / 251،
وتاريخ الطبري 3 / 15 حوادث سنة 3.
322
(صلى الله عليه وآله) ما بلغه أدنى المسلمين من الصحابة حتى يفضل
بجهاده على جملتهم، وإذا تأملت الأمر عرفت أن مضمون الخبر كذب كله
وليس من قول النبي (صلى الله عليه وآله) لأنه لا يقول إلا حقا ولا
يمدح أحدا إلا بما فيه من الخير وبما عمل من الأعمال الصالحة وإنما وضعه
القوم ليناقضوا به أقوال النبي (صلى الله عليه وآله) في علي (عليه
السلام) المشهورة بين الناس مثل قوله (صلى الله عليه وآله): (هو
أول من آمن بي وصدقني) وقوله (صلى الله عليه وآله) فيه (أولهم
سلما) وليعارضوا به ما شاع لأمير المؤمنين (عليه السلام) من إنفاقه في سبيل
الله ما يملكه ولا يجد سواه وما تواتر وعلم من مواساته النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) بنفسه وبذله مهجته دونه في ساعات الخوف، ومجالدته الأقران
عنه في أوقات الروع، وذبه عنه بحسامه عند التحام القتال ومنازلته الأبطال
ليغطوا على التحقيق بالشبهات وأنى لهم بذاك.
ومنها: والخطاب لأبي ادرداء؟؟ حين مشى أمام أبي بكر: (أتمشي أمام من
هو خير منك والله ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على
أحد أفضل من أبي بكر (1) والجواب عنه أنه معارض لكثير من الأخبار
الصحيحة الواردة في فضل علي (عليه السلام) مثل قول النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم): (الصديقون ثلاثة حبيب النجار، ومؤمن آل فرعون،
وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو أفضلهم) (2) وقوله (صلى الله عليه
وآله وسلم) فيه: (سيد المسلمين ويعسوب المؤمنين وأعظمهم عند الله
مزية) (3) ومساواته للأنبياء وغيرها مما مر ذكره وما يأتي فهو مما افتعل



(1) نور الأبصار ص 54.
(2) نقله ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 9 / 172 عن فضائل أحمد.
(3) شرح نهج البلاغة 9 / 172 وطبقات ابن سعد 3 ق 1 ص 131 وتاريخ الطبري
3 / 203 والمحب في الرياض 1 / 167 و 177.
323
للمناقضة فيكون فاسدا ولو صح هذا ومثله لما قال أبو بكر " وليتكم ولست
بخيركم " (1) والقول بأنه أراد كسر نفسه باطل لأن الأفضلية حكم من
الأحكام لا يجوز إخفاؤه، ونعمة من نعم الله يجب إظهارها ولا يجوز الإخبار
بضد الحكم وكتمان نعمة الله، ولهذا قال النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) (أنا سيد المرسلين ولا فخر)، وقال علي (عليه السلام) على
المنبر: (أنا الصديق الأكبر وأنا الفاروق الأعظم، آمنت قبل إيمان أبي
بكر) (2) وأيضا إن المقام مقام إظهار الحجة لأنه إذ ذاك في مخاصمة الأنصار
ومخاصمة علي (عليه السلام) في أمر الخلافة وطلبه منه ومن أصحابه البيعة
له فلا موضع لكسر النفس وهضمها في ذلك الوقت وهو يطلب طاعة
الأشراف لها واتباع أولي الفضل إياها، هذا لو سلمنا عدم قبح إخفاء الحق
لهضم النفس مطلقا فكيف ودون تسليم الأقوال البليغة ومن جملته بل زبدته
ما أشرنا إليه في أول هذا الكلام، بل إن الشيخ لم يعلم بهذا الحديث الجديد
ولا سمعته أذناه ولا أحد من الصحابة في وقته، ولا علم أنه أفضل الصحابة
عند أنفسهم ولذا لم يجيبوه ولا واحد منهم بأنك خيرنا، بل مبلغ علمه أنه
عند نفسه وعند الناس من جملة الصحابة فأخبر عن نفسه بما هو عليه، وإنما
حدث له التفضيل العام فيما بعد من أعداء أهل بيت النبوة كما أوضحناه في
أول الأجوبة على هذه الأخبار ثم أين عمر عن هذا الحديث حين ذهب في
السقيفة يحتج لأبي بكر بصحبته النبي (صلى الله عليه وآله) في الغار



(1) قال ذلك بعد أن بويع بالخلافة (انظر شرح نهج البلاغة 1 / 169.
(2) أخرج الطبراني - كما في كنز العمال 6 / 156 وفيض القدير 4 / 358 - عن سلمان وأبي
ذر: أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيد علي فقال: (هذا أول من
آمن بي) إلى أن قال: (وهذا الصديق الأكبر، وهذا الفاروق الأعظم) وكان علي
(عليه السلام) كما في خصائص النسائي ص 46 وغيره كثيرا ما يقول: (أنا
الصديق الأكبر).
324
وتقديم قدميه في الصلاة مما لا يستدل به على أفضليته، فلم ترك مثل هذا
الحديث الصريح في الأفضلية وعدل عنه إلى ما لا حجة فيه.
ومنها قال عمرو بن العاص: قلت لرسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم): أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة قلت من الرجال: قال:
أبوها قلت: ثم من قال: عمر (1) والجواب عن هذا اللغو مستغنى عنه في
الحقيقة لأن كذبه بين، وراويه ابن الشانئ الأبتر الملعون على لسان النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) لكنا نجري على العادة في أمثاله فنقول بيان
بطلانه من وجهين.
الأول: إن هذا الكلام قطعه من كلام الفه ابن العاص يوم صفين
يحرض به أهل الشام على قتال أمير المؤمنين، وسيد الموحدين، وخليفة
رسول رب العالمين كما ذكره جامعوا أخبار الوقعة، وقبله ما مضمونه أمرني،
رسول الله على أبي بكر وعمر فظننت أن ذلك لفضل لي عليهما فلما رجعت
قلت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الكلام المذكور بتمامه، وهذا
علي فعل بعائشة كذا وكذا لكلام ذكره يعيب عليا (صلوات الله عليه
وسلامه) به، ولا شك لأحد أن هذا القول اختلقه ابن العاص وافترعه
ليحض أهل الشام على قتال أمير المؤمنين ليجدوا في ذلك ويبذلوا جهدهم كما
اختلق (إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين) (2)



(1) رواه الترمذي 2 / 130، والحاكم في المستدرك 3 / 154 و 157 والنسائي في الخصائص
ص 29 والمحب في الرياض 2 / 162 باختلاف يسير في المعنى واتفاق في اللفظ يشير
إلى قول رسول الله (صلى الله عليه وآله).
(2) نقله الإسكافي كما في شرح نهج البلاغة 4 / 64 وذكر أنه من وضع عمرو بن العاص،
ولا أدري لماذا يتنكر رسول الله لآل أبي طالب الذين آزروه ونصروه من بدئ الدعوة
والعجب أن هذا الحديث مروي في صحيحي مسلم والبخاري، فقد رواه البخاري
في ج 7 ص 73 كتاب الأدب وكأنهم أحسوا أن هذا الحديث يكذب متنه سنده
فحرفوه عند النسخ أو عند الطبع إلى (آل أبي) فحذفوا كلمة (طالب) وبعضهم ترك
مكانها بياضا، وبعضهم مكان طالب (فلان) وكذلك فعلوا في رواية مسلم لها ج
1 / 136 ففيه: (إن آل أبي يعني فلانا) وتتمة هذا الحديث كما في البخاري (ولكن
لهم رحم أبلها ببلالها) يعني أصلها بصلتها وآخر الحديث يشهد أن المراد آل أبي
طالب ويضم إلى ذلك تصريح الإسكافي بقوله: " أخرجه البخاري ومسلم في
صحيحها مسندا متصلا بعمرو بن العاص وإرسال ابن أبي الحديد لنقل الإسكافي عن
الصحيحين إرسال المسلمات.
325
وغير ذلك مما قوي به قلوب أهل الشام، وشحذ به عزائمهم على الضلال،
وكان على الكذب مقتدرا وبتصنيع الكلام وتزوير البهتان بصيرا، وأي جهل
أعظم من جهل من يجعل رواية ابن العاص المعروف بالفسق والكذب دليلا
يعارض به الكتاب وصحاح الأخبار مع أن مقام إيرادها مصرح باختلاقها،
ومجموع ألفاظها واضح في اصطناعها لكن القوم يأخذون ما يسمعون في
الشيخين ويتلقونه بالقبول ولا ينظرون في سنده ولا في متنه، ولا في مقام
إيراده، بعكس ما يرد عليهم من أحاديث فضل أمير المؤمنين (عليه السلام)
فإنهم يبذلون الجهد في تهجينها سندا مع وثاقة رواتها، ومتنا مع صراحتها
واستقامة معانيها كما فعلوا في خبر الغدير وغيره ولو بالتأويلات التي لا معنى
لها في العقول، وهذا نتيجة ما في قلوبهم من العصبية.
الثاني إنه معارض لما صح نقله من الأحاديث المشهورة في محبة النبي
(صلى الله عليه وآله) لعلي وفاطمة والحسن والحسين ومن ذلك ما
رواه الترمذي عن عائشة قالت: كانت فاطمة أحب النساء إلى رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) وزوجها علي أحب الرجال (2) إليه وقال



(2) شرح نهج البلاغة 1 / 264.
326
الإسكافي ولما سئلت عائشة من كان أحب الناس إلى رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) قالت: أما من الرجال فعلي وأما من النساء ففاطمة.
وروى أبو داود والطبراني والحاكم والترمذي وحسنه عن أسامة بن زيدان
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (أحب أهلي إلي فاطمة) (1)
وقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (لأبعثن إليكم رجلا عديل
نفسي) وغير ذلك مما اشتمل عليه هذا الكتاب فيكون باطلا كإخوانه.
ومنها (لو كان بعدي نبي لكان عمر) (2) والجواب عنه من وجهين.
الأول: إن من شروط النبي العصمة عن الشرك عندنا وعندهم وعمر
كان مشركا يعبد الأصنام دهرا ومن كان كذلك لا يكون نبيا البتة بنص
الكتاب فيجب أن لو كان بعد نبينا نبي أن يكون غير عمر لعدم جواز النبوة له
لسبق الكفر منه فمتن الخبر كذب محض.
الثاني: معارضته لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه
السلام) (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) (3) وقوله
(صلى الله عليه وآله) له أيضا (إنك ترى ما أرى وتسمع ما أسمع إلا
أنك لست بنبي (4) فهو مما افتعل للمناقضة فيكون باطلا.
ومنها في أبي بكر وعمر: (هذان السمع والبصر) (5) والجواب إن هذا



(1) ذكرنا مصادر هذا الحديث فيما تقدم.
(2) أخرجه ابن عساكر في تاريخه 3 / 287.
(3) حديث المنزلة تقدم إخراجه.
(4) نهج البلاغة من الخطبة 91 وهي المعروفة بالقاصعة.
(5) تعرض شيخنا الأميني في الغدير 5 / 325 لهذا في سلسلة الموضوعات ونقله بهذه
الصورة (إن أبا بكر وعمر من الإسلام بمنزلة السمع والبصر) وقال: " عده
المقدسي في تذكرته من موضوعات الوليد بن الفضل الوضاع كما نقل في ص 270
من الجزء المذكور عن ميزان الاعتدال 3 / 273 وتذكرة الموضوعات للمقدسي ص
27: إن الوليد بن الفضل العنزي يروي الموضوعات لا يجوز الاحتياج به بحال.
327
القول لو صح لم تثبت به أفضلية فقد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) أنه قال: (عمار جلدة بين عيني والمقداد قدمنا قدا) ولم يفضلهما
أحد بهذا على علي (عليه السلام) فكيف وإنما جئ به لمناقضة قول النبي
(صلى الله عليه وآله): (علي مني بمنزلة رأسي من بدني) (1) رواه
الديلمي عن ابن عباس وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (كنت أنا وعلي
نورا واحدا) (2) وما شابه هذا من الأقوال الصحيحة فيكون فاسدا ولو حملناه
على قوله تعالى: [إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه
مسؤولا] (3) كما ورد عندنا في تأويله لصح وانقلب عليهما لا لهما لكن ذلك مما
نختص بروايته فلا نحتج به على الخصوم.
ومنها قول ابن عمر: كنا نقول ورسول الله حاضر حي أفضل أمة النبي
(صلى الله عليه وآله) بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، أقول لا أشك
إن هذا القول كان مفتعلا على ابن عمر كما كان مفتعلا على النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) وذلك أن ابن عمر من جملة من روى حديث مؤاخاة النبي
(صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) حين آخا بين أصحابه وقال
سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول لعلي (عليه السلام)
(أنت أخي في الدنيا والآخرة) (4) وهل يرتاب أحد في أن النبي (صلى الله



(1) نور الأبصار ص 72 أخرجه الديلمي عن ابن عباس وابن حجر في الصواعق ص 75
والخطيب في تاريخ بغداد 6 / 12 عن البراء بن عازب.
(2) الرياض النضرة 2 / 164.
(3) الاسراء: 34.
(4) مستدرك الحاكم 3 / 14.
328
عليه وآله وسلم) أراد من هذه مؤاخاة إثبات المماثلة بين كل رجلين آخا
بينهما في الصفات العلمية والمشابهة بينهما في الفضل، وإن تخصيصه عليا
(عليه السلام) بأخوته قصدا لإبانته بالشرف من بين الصحابة، وإظهارا
لتفضيله عليهم، اللهم إلا أن يكون خليا من أدنى فهم وأقل تمييز، ثم إنه
(صلى الله عليه وآله) أكد المعنى الظاهر بما أردفه من الأقوال الصريحة
في تفضيل علي (عليه السلام) مثل (ادعو لي سيد العرب عليا) و (أنت مني
بمنزلة هارون من موسى) (1) وقوله (صلى الله عليه وآله): لعلي لما
نزلت هذه الآية [إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية] (2):
(هو أنت وشيعتك تأتي يوم القيمة أنت وهم راضيين مرضيين، ويأتي
أعدائك غضابا مقمحين) (3) رواه الطبراني عن ابن عباس، ورواه خطيب
خوارزم، ورواه بعضهم عن علي (عليه السلام) وغير ذلك من الأقوال
المنتشرة بين الصحابة التي بسببها ذهب إلى تفضيله من ذهب من خيارهم،
افتراه بعد ذلك ينقض قوله وفعله فيقول لأصحابه قولوا أفضل أمتي بعدي أبو
بكر ثم عمر ثم عثمان ويقررهم على هذا القول، أفيعقل عاقل هذا من فعل
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم كيف يكون القول بتفضيل أبي بكر
وعمر وعثمان في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحضوره مشهورا
بين الصحابة معروفا عندهم ويذهب من ذكرناهم الصحابة وكثير ممن لم
نذكرهم إلى تفضيل علي (عليه السلام) على جميع الناس؟ أفتراهم تعمدوا
مخالفة الرسول (صلى الله عليه وآله)؟ فإن قال قائل بجواز ذلك



(1) ما بين القوسين فقرتان من حديثين رواهما الحاكم في المستدرك الأول 3 / 124 والثاني
2 / 387 كما رواهما كثير من المحدثين.
(2) البينة 7.
(3) انظر الصواعق ص 96 ونور الأبصار ص 70 وص 101 وقد رواه مختصرا ابن جرير
في تفسيره 30 / 170 والسيوطي في الدر المنثور عند تفسيره لهذه الآية ج 6 / 379.
329
عليهم، قلنا له: إن ذلك يخالف قولك فإنك تذهب إلى أن الصحابة لا
يجوز نسبتهم إلى مخالفة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإذا سلمنا لك
الجواز بناء على مذهبنا عارضناك بأن الجواز لا يستلزم الوقوع فدلنا على أمر
خالف أولئك القوم فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عمدا بقطع
ويقين حتى نلحق ذاك بهذا، كما نثبت نحن لك مثل ذلك على أئمتك
وأعوانهم لكنك لا تجد سبيلا إلى مثل ذاك من أصحابنا فبطلت حجتك، وإن
قلت: لا يجوز عليهم تعمد مخالفة الرسول (صلى الله عليه وآله)
بطل حديثك وذلك هو المراد وأيضا فقد روى صاحب كتاب الخصائص فيه
عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله
يقول في علي (عليه السلام) ثلاث خصال وددت لو أن لي واحدة منهن
وذكرهن وسنذكر الخبر بتمامه بعد إن شاء الله ومعلوم أن المقصود من كلام
عمران الثلاث الخصال اللاتي سمعهن من رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) في علي (عليه السلام) يوجبن التفضيل له على كل أحد فود أن
تكون له واحدة منهن ليتفضل بها على سائر الصحابة وينال بها الشرف العظيم
بين الناس، وإذا كان عمر يعلم أنه أفضل أصحاب النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) بعد أبي بكر وأنه أفضل من علي (عليه السلام) فأي حاجة له
إلى خصلة من الخصال التي قالها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في
علي (عليه السلام) لينال بها تفضيلا؟ وأي فائدة في تحسره على حصول
خصلة واحدة من تلك الخصال لعلمه أنه لا يدرك الجميع يقينا هل ذلك إلا
طلب تحصيل الحاصل ولا معنى له عند العقلاء، أو تقول أن عمر لم يعلم
بحديث ابنه فتكون قد طعنت في عمر بعدم العلم بالمشهورات وذلك أمر
يعود عليك بالنقص والنقض، أو تطعن في حديثك وتخرجه من الصدق إلى
الكذب لمخالفته الأدلة الصادقة - فاختر ما شئت تخصم، وقد وضح من ذلك
كله أن الحديث باطل بلا ريب وأنه موضوع ليقابلوا به الأقوال التي ذكرناها

330
عن النبي (صلى الله عليه وآله) وغيرها من الوارد في تفضيل علي
(عليه السلام) صريحا.
ومنها عن محمد بن الحنفية قلت لأبي: أي الناس أفضل بعد النبي
(صلى الله عليه وآله)؟ قال: أبو بكر قلت: ثم من قال: عمر،
وخشيت أن أقول ثم من فيقول: عثمان قلت ثم أنت قال ما أنا إلا رجل
من المسلمين (1).
ومنها عن علي (عليه السلام): خير الناس بعد النبيين أبو بكر وعمر
ثم الله أعلم.
ومنها عن علي (عليه السلام) لما قيل له: أما توصي فقال (عليه
السلام): ما أوصى رسول الله (عليه السلام) حتى أوصي ولكن إن أراد
الله بالناس خيرا جمعهم على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم (2) -
والجواب إن هذا الأحاديث الثلاثة المفتراة تبطل بما بطل به ما قبلها، وبما
صح عن علي (عليه السلام) في رواية الخصوم كالجوهري وغيره حين قال
عثمان له: إن أبا بكر وعمر خير منك، فقال علي (عليه السلام):
(كذبت أنا خير منك ومنهما) (3) وما كان يقوله على رؤوس الاشهاد وصهوات
المنابر (أنا الصديق الأكبر وأنا الفاروق الأعظم آمنت قبل إيمان أبي بكر) (4)
الخبر الذي مر ولا ريب أن مراده من هذا الكلام تفضيل نفسه على أبي بكر
لا يشك في ذلك ذو فهم، وبما صح عنه (عليه السلام) من نسبة المذكورين
إلى ظلمه واغتصاب حقه كما أوضحناه أتم إيضاح فيما مضى ويأتي فكيف



(1) انظر نقاش المرتضى حول هذا الحديث في الشافي الجزء الثالث بتحقيقنا.
(2) مستدرك الحاكم 3 / 69 والصواعق ص 27 والبداية والنهاية 5 / 251.
(3) شرح نهج البلاغة 20 / 25.
(4) من رواته بهذا اللفظ المحب في الرياض 2 / 157 وقال أخرجه ابن قتيبة في المعارف.
331
ينسبهما إلى ذلك ثم يقول هما خير الناس فيكون خير الناس عنده الظالم
الغاصب هذا من المحال ثم كيف يصرح على المنابر بأنه الصديق الأكبر،
وأنه أولى الناس بالناس، وأنه وارث رسول الله ووصيه، وخازن علمه كما مر
عليك بيان جميعه ثم يقول: ما أنا إلا رجل من المسلمين الذي يعطي
بواسطة المقام أنه لا فضل له على أحد من الناس فأين إذن دعوى الوصية
والوراثة للرسول (صلى الله عليه وآله) ودعوى الأولوية بالناس ثم
كيف يقول: أنا وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله) (1) ثم
يقول: إن رسول الله لم يوص؟ وهذا تناقض عظيم في الأقوال لا يصدر مثله
من عاقل فكيف يصدر من باب مدينة العلم والحكمة ومستودع أسرار
النبوة، وكيف يدعون على محمد بن الحنفية ما سمعت والمروي عنه خلاف
ذلك؟ ومن جملته ما رواه جامعوا أخبار صفين من محدثيهم ما مضمونه أن
عبيد الله بن عمر بن الخطاب خرج يوما يطلب المبارزة فأراد محمد بن الحنيفة
مبارزته فمنعه أبوه من ذلك، ومضى هو بنفسه إلى عبيد الله فلما رأى
عبيد الله عليا (عليه السلام) قد أتاه رجع عن المبارزة إلى صفه، فرجع أمير
المؤمنين فقال محمد له يا أمير المؤمنين إني لأرغب بك عن مبارزة أبيه إلى آخر
الخبر (2)، وهذا صريح في تفضيل محمد أباه على عمر فكيف يسمع محمد من
أبيه أن عمر خير الناس ثم يقول إني لأرغب بك عن مبارزته، ومن ذا يرغب
بنفسه أو بأبيه عن مبارزة خير الناس؟ وإنما يرغب أشراف الناس عن مبارزة
غير الكفوء وخير الناس فوق الكفاءة فمن المعلوم أن أحاديثهم الثلاثة
اختلقوها ليضاهوا ما ذكرناه من أقوال أمير المؤمنين (عليه السلام) من بيان



(1) أخرج المحب في الرياض 2 / 178 عن مناقب أحمد أن سلمان سأل رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم): من وصيك؟ فقال (صلى الله عليه وآله) في جملة كلام
له (فإن وصيي ووارثي يقضي ديني وينجز موعدي علي بن أبي طالب).
(2) شرح نهج البلاغة 5 / 179.
332
تفضيل نفسه وظلم حقه وغير ذلك فتكون باطلة، ومع هذا كله يلزم عليهم
في الحديث الآخر محذوران لو صح.
الأول: مخالفة أبي بكر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث أن
النبي (صلى الله عليه وآله) لم يوص إلى أحد وأبو بكر أوصى إلى عمر
ومتابعة الرسول (صلى الله عليه وآله) واجبة وأبو بكر قد خالف
الواجب ويكون الحديث مناقضا أيضا لما مر في أحاديثهم من دعواهم قول
النبي (صلى الله عليه وآله) لأبي بكر: (وخليفتي على أمتي) فإن هذا
القول وصية بالخلافة ونص صريح ومناقضا لقول القوشجي أيضا أن النبي
(صلى الله عليه وآله) أوصى إجماعا أما عند الشيعة فلعلي (عليه
السلام) وأما عند الأشاعرة فلأبي بكر، ومناقضا أيضا لما رواه البخاري من
قول النبي (صلى الله عليه وآله): (ويأبى الله إلا أبا بكر)، وهذا
القول وصية ظاهرة فما أدري بهؤلاء القوم على أي أخبارهم يعولون، وإلى
أي أدلتهم يستندون؟ ما تراهم إلا يستدلون في كل باب بما يناقض دليلهم في
باب آخر ويعانده، هذا القوشجي يستدل بهذا الحديث المصرح بأن رسول
الله (صلى الله عليه وآله) لم يوص على أفضلية أبي بكر وهو قبل يورد
الحديث المصرح بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أوصى إلى أبي
بكر بالخلافة، ثم هو يرد على الإمامية في مسألة إنكارهم على أبي بكر مخالفة
النبي (صلى الله عليه وآله) في الوصية بما ذكرناه من أن رسول الله
(صلى الله عليه وآله) أوصى إجماعا ويحتج على ذلك بخبر البخاري
ومع ذلك كله يروون عن أبي بكر أنه قال في حديث طويل: وددت أني
سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن صاحب هذا الأمر من هو
حتى لا ننازعه (1) هذا ودعواه الإجماع على استخلاف النبي (صلى الله عليه



(1) تكرر مرارا.
333
وآله وسلم) منافية لدعواه الإجماع في مسألة نصب الإمام علي أن إمامة أبي
بكر برأي الصحابة لا بالنص ولاستدلاله هناك بقول أبي بكر في خطبته لا بد
لهذا الأمر ممن يقوم به فانظروا وهاتوا آراءكم، وإذا كان النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) قد استخلف رجلا بعينه فما حاجة خليفته في نظر الصحابة
في ذلك وآرائهم، فانظر إلى هذا التناقض العظيم، وما ذاك إلا لخروج القوم
عن الصراط المستقيم، وعدولهم عن الحق القويم، فأي حجة لهم في أخبار
متعارضة متناقضة يكذب بعضها بعضا ويدفع بعضها الآخر؟ وكفى بذلك
فيها بطلانا، فكيف تقاوم الأدلة الصحاح المتوافقة المتطابقة على أفضلية أمير
المؤمنين بعد النبي (صلى الله عليه وآله) على الخلق أجمعين هذا لا
يعقل ولا يحمل.
الثاني: إنه يلزم أن معاوية الباغي بنص رسول الله الملعون على لسانه
بقوله لعمار: (تقتلك الفئة الباغية تدعوهم إلى الجنة ويدعونك إلى النار) (1)
وقوله صلى الله عليه وآله) في أبي سفيان وابنيه أحدهما معاوية:
(لعن الله الراكب القائد والسائق) (2) وقوله (صلى الله عليه وآله):



(1) هذا الحديث مشهور بل متواتر ويظهر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قاله
في أكثر من موطن لاختلاف الوجوه والأسباب واتفاق المعنى وبحسبك أن ترجع إلى
صحيح البخاري، كتاب الصلاة باب التعاون في بناء المسجد / وكتاب الجهاد
والسير باب مسح الغبار عن الناس، وصحيح مسلم كتاب الفتن ج 8 ص 185 فما
بعدها من عدة طرق، وأسد الغابة 2 / 217 وحلية الأولياء 4 / 171 وغيرها ومن
المؤسف حقا أن الطبعة المشكولة بتصحيح الشيخ محمد ذهني المطبوعة سنة 1315
حذف منها جملة (الفئة الباغية) مع أنها مثبتة في الطبعات الأخرى مثل طبعة المطبعة
الخيرية بالقاهرة سنة 1320 ه‍ وهكذا تضيع الحقائق ويحرف الكلم من بعد
مواضعه.
(2) نقل ذلك ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 6 / 289 عن كتاب المفاخرات
للزبير بن بكار.
334
(إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه فإن لم تفعلوا لن تفلحوا) (1) وغير ذلك
من الأقوال الشديدة فيه مما صح نقله عند مشايخ القوشجي وكان أمير
المؤمنين (عليه السلام) يقنت بلعنه ولعن جماعة من أصحابه في الصلاة
يكون خير الأمة لأن الله جمع الناس عليه فدانت له الناس بالقهر والغلبة،
فيكون أفضل من سعد بن أبي وقاص وهو أحد العشرة المبشرة بالجنة والذي
اختاره عمر بن الخطاب للخلافة وجعله من أصحاب الشورى،
وأفضل من الحسن والحسين اللذين هما سيدا شباب أهل
الجنة، وأفضل من باقي المهاجرين والأنصار الذين كانوا في ذلك الزمان،
وهذا من أبطل ما يكون بغير ريبة، أو إن الله لم يرد بالناس خيرا حين جمعهم
على معاوية بل أراد بهم شرا، وهذا لا يرضى به القوشجي وأصحابه
لاستلزامه بطلان إجماعاتهم التي يحتجون بها على أقوالهم المتناقضة، ومذاهبهم
المتنافية، والحاصل أن من نظر فيما حررناه، وتبصر فيما رسمناه لا يكاد
يتوقف في بطلان أحاديثهم هذه وما شاكلها، ولا يرتاب في اختلاقها وافتعالها
إن كان ذا روية وإنصاف، وإذا بطل ما استند إليه القوشجي من الأخبار
وانهدم ما اعتمد عليه من الآثار فلا حاجة إلى التعرض لما ذكره من الأمارات
الدالة بزعمه على تفضيل الثلاثة على معدن الفضل أمير المؤمنين من كثرة
الفتوح والغنائم وغير ذلك مما سنوضح طرقه ونذكر أسبابه، وأغرب ما في
كلامه جعله جمع عثمان الناس على مصحف واحد يعني قراءة زيد بن ثابت
وإسقاطه جميع القراءات المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله) بطرق
ثقات الصحابة كعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وشبههما وحرقه المصاحف
من الأمارات الدالة على فضله وأفضليته وهذا مما يقضي بالعجب العجاب



(1) شرح نهج البلاغة 4 / 32 وصفين لنصر بن مزاحم ص 243 ونقل ابن أبي الحديد
تعليقا لطيفا للحسن البصري قال: " فوالله ما فعلوا ولا أفلحوا ".
335
حيث يكون ذلك سببا لأفضليته مع أنه من جملة ما نقم عليه وسبب عليه
وسببت قتله، مع ما يلزم أيضا من مخالفة القوشجي مذهبه لأن ما ذكره إن كان
يقتضي تفضيل عثمان على علي (عليه السلام) كما هو زعمه ومرامه فيجب
أن يقتضي تفضيله أيضا على أبي بكر وعمر لأنهما لم يفوزا بهذه المنقبة إذ لم
ينقل ناقل عنهما أنهما أحرقا المصاحف ولا أسقطا القراءات المروية عن النبي
(صلى الله عليه وآله) برواية الثقات والقوشجي لا يسلم ذلك ولا
يذعن به فأمارته باطلة من الرأس ولا حول ولا قوة إلا بالله وليت شعري أين
هم لو سلموا من الطعن وبرئت ساحتهم من الظلم، وأين غيرهم من أخ
الرسول (صلى الله عليه وآله) وخليفته ووزيره ومعينه وسيد المؤمنين
به وساقي عطاشى أمته من حوضه يوم الورود على الله، وأين يقع فضل
الفضلاء من فضله وهو منبع الفضائل ومعدن المفاخر والوسائل، وهل سبقه
إلى الفضل إلا السابق لكل خير رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأتى
بعده مصليا ليكون ذلك المنذر ويكون هو الهادي كما صح في روايات غير
لشيعة فقد أخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال ما أنزل الله:
[يا أيها الذين آمنوا] إلا وعلي أميرها وشريفها، ولقد عاتب الله أصحاب
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في غير مكان وما ذكر عليا (عليه السلام)
إلا بخير (1) وأخرج ابن عساكر عنه قال ما نزل في أحد من كتاب الله تعالى ما
نزل في علي (2)، وأخرج عنه أيضا قال: نزل في علي (عليه السلام)
ثلاثمائة آية (3) وأخرج الطبراني عنه قال: كانت لعلي (عليه السلام) ثمانية
عشر منقبة ما كانت لأحد من هذه الأمة (4) وأخرج ابن عساكر عن ابن



(1) شرح نهج البلاغة 3 / 46.
(2) رواه الشبلنجي في نور الأبصار ص 78 و 81 عن ابن عساكر.
(3) كذلك ص 81.
(4) نقلها في إسعاف الراغبين ص 161 عن الطبراني.
336
مسعود قال أفرض أهل المدينة وأقضاها علي (عليه السلام) (1) وروى
الطبراني عن ابن عباس قال لما أنزل قوله تعالى: [إنما أنت منذر ولكل قوم
هاد] (2) قال (صلى الله عليه وآله) (أنا المنذر وعلي الهادي وبك يا
علي يهتدي المهتدون) (3)، وروى أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره عن أبي ذر
(رضي الله عنه) في حديث قال فيه: قال النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم): (اللهم إني محمد نبيك وصفيك، اللهم فاشرح لي صدري،
ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليا اشدد به ظهري) قال أبو ذر:
فما استتم دعاؤه حتى نزل عليه جبرئيل من عند الله عز وجل وقال قرأ:
[إنما وليكم الله ورسوله الذين آمنوا] (4) الآية وروى أبو المؤيد في مناقبه عن
أبي بردة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونحن جلوس
ذات يوم: (والذي نفسي بيده لا يزال قدم عن قدم يوم القيمة حتى يسأل الله
تعالى الرجل عن أربع عن عمره فيم أفناه، وعن جسده فيم أبلاه، وعن
ماله مما كسبه وفيم أنفقه، وعن حبنا أهل البيت) فقال له عمر: ما آية
حبكم فوضع يده على رأس علي (عليه السلام) وهو جالس إلى جانبه
وقال: (آية حبي حب هذا من بعدي) (5).
وروى الواحدي في أسباب النزول عن الحسن والثعلبي والقرطبي قالوا:
إن عليا (عليه السلام) وطلحة بن شيبة والعباس افتخروا فقال طلحة: أنا
صاحب البيت مفتاحه بيدي ولو شئت كنت فيه، فقال العباس: وأنا صاحب
السقاية والقائم عليها، فقال علي (عليه السلام): (لا أدري لقد صليت



(1) نور الأبصار ص 80.
(2) الرعد: 7.
(3) نور الأبصار ص 78.
(4) المائدة: 55 وأخرجه في نور الأبصار ص 77 عن الثعلبي.
(5) مجمع الزوائد 10 / 346 وقال: " أخرجه الطبراني في الأوسط ".
337
ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد) فأنزل الله تعالى: [أجعلتم
سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في
سبيل الله لا يستوون عند الله] إلى قوله: [الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا
في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم
الفائزون] (1).
وروى في الإسعاف عن ابن السماك أن أبا بكر قال: سمعت النبي
(صلى الله عليه وآله) يقول: (لا يجوز على الصراط إلا من كتب له
علي الجواز) (2) فهذا من جملة ما ورد فيه صلوات الله عليه في حديثهم من
المحامد العظام فأنى يجازيه من لم يفز بشئ من تلك الأوصاف، وكيف
يوازنه من لم ينل واحدة من هذه الخصال، وكيف يدرك شأوه من لم يحرز فعلا
واحدا مما له من محمود الفعال، فوضح من جميع ما بيناه أن عليا (عليه
السلام) هو الأفضل للأدلة السالمة من القدح، والأحاديث البعيدة عن
الطعن، ووضوح بطلان ما عارضها مما تعلق به الخصم، فهو الإمام بعد
الرسول إذ لا يقدم على الأفضل المفضول، وهذه الأدلة المذكورة في الفصول
كلها نصوص صريحة في إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) واضحة في
استخلافه وبها يبطل ما أنكره ابن أبي الحديد من النص على إمامته حيث قال
بعد ذكر جملة من أخبار السقيفة وإخراج أمير المؤمنين من بيته على أصعب
وجه: واعلم أن الآثار والأخبار في هذا الباب كثيرة جدا ومن تأملها وأنصف
علم أنه لم يكن هناك نص صريح مقطوع به لا تختلجه الشكوك، ولا تتطرق
إليه الاحتمالات كما تزعم الإمامية، فإنهم يقولون إن الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم) نص على أمير المؤمنين نصا صريحا جليا ليس بنص يوم



(1) التوبة 19 و 20 وانظر أسباب النزول 182.
(2) إسعاف الراغبين ص 161 والرياض النضرة 2 / 77 و 224.
338
الغدير، ولا خبر المنزلة ولا ما شابههما من الأخبار الواردة من طرق العامة
وغيرها، بل نص عليه بالخلافة وبأمرة المؤمنين وأمر المسلمين أن يسلموا
عليه بذلك فسلموا عليه بها، وصرح لهم في كثير من المقامات بأنه خليفة
عليهم من بعده، وأمرهم بالسمع والطاعة
ولا ريب أن المنصف إذا سمع ما جرى لهم بعد وفاة رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) يعلم قطعا أنه لم يكن هذا النص، ولكن قد يسبق إلى
النفوس والعقول أنه قد كان هناك تعريض وتلويح وكناية وقول غير صريح،
وحكم غير مبتوت، ولعله يصده عن التصريح بذلك أمر يعلمه ومصلحة
يراعيها، ووقوف مع إذن الله تعالى في ذلك (1) انتهى.
أقول: إن العارف المنصف إذا نظر هذا الكلام ووقف على ما ذكره قائله
من النصوص المتقدمة يعلم قطعا أن قائل هذا القول قد سلك مسلك
العناد، وخاض بحر العصبية واللداد، وأي نص لم يصرح به الرسول مما
يدل على استخلافه عليا حتى يقال: يصده عن ذاك أمر يعلمه ومصلحة
يراعيها، وأي لفظ مما ذكره هذا المورد وأقر بأنه موجب للنص على الإمامة
وأكثر منه لم يرد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حق علي
(عليه السلام) قال فيه: (إمام المتقين) (2) وقال فيه: (سيد
المسلمين) (3) وقال فيه: (هو ولي كل مؤمن من بعدي) (4) وقال فيه:
(خليفتي) (5) في حديث الموازرة وقال (اسمعوا



(1) شرح نهج البلاغة 2 / 59.
(2) مستدرك الحاكم 3 / 137.
(3) المصدر السابق.
(4) مسند أحمد 4 / 437.
(5) تاريخ الطبري 3 / 1172 ط ليدن.
339
له وأطيعوا) (1) وقال فيه: (وصيي ووزيري وأحق بمقامي بعدي واختاره الله
بعدي) (2) وغير ذلك مما سمعت مفصلا فأي نص يريد ابن أبي الحديد أجلى
وأوضح من هذه النصوص، وأي لفظ يطلبه للدلالة على الإمامة أصرح من
تلك الألفاظ، وهل يرتاب عاقل أو يختلجه شك في أن قول النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم): (علي (عليه السلام) إمام أوليائي، وإمام المتقين،
وإمامكم من بعدي) يريد به الإمامة المعروفة ذلك الوقت وما بعده، وهل
يوجد لفظ أجلى في الإمامة من هذا اللفظ، أليس بقبيح من عاقل أن يقول:
ما أراد النبي (صلى الله عليه وآله) بلفظ امام الإمام؟؟ ولا عنى
الإمامة، أوليس يقال: لو أراد النبي (صلى الله عليه وآله) أن ينص
على علي (عليه السلام) بالإمامة ما ذا كان يقول أيحتاج في ذلك إلى أكثر من
قوله: (علي الإمام بعدي) أو (إمامكم بعدي) فإنه لا يجد سبيلا عن أن
يقول بلى يكفيه هذا اللفظ ولا يحتاج في ذلك إلى أكثر منه، وقد قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك مرارا فيما روى الرجل ودع عنك ما
رواه غيره زيادة عليه، فهو النص الصريح، ولو تمحل ابن أبي الحديد
وقال: لا يكفي في ذلك إلا ما نسبنا إلى الإمامية ادعاءه في كلامنا قلنا له إنك
قد رويت ذلك كله فيما رويت عن النبي (صلى الله عليه وآله) بلفظه
أو بمرادفه، ولم يبق إلا أمره بالتسليم على علي (عليه السلام) بالإمرة، فإنه
وإن كان صحيحا لكنك لم تروه (3) وليس هذا مما يتوقف النص الصريح عليه
حتى تحتج على عدم النص بعدمه فإنك تسلم أن أبا بكر نص على عمر نصا
صريحا باستخلافه بمجرد قوله: إني عهدت إلى عمر بن الخطاب ولم تحتج أنت
ولا غيرك في نصبه عليه إلى إمرة المسلمين أن يسلموا عليه بالخلافة، فليس



(1) نفس المصدر في نفس الصفحة.
(2) المصدر نفسه.
(3) رواه ابن عساكر بترجمة علي (عليه السلام).
340
لك أن تلزمنا بما لم تلزم به نفسك ولم نلتزم به نحن، فإنا نقول: إنه وقع
ولسنا نقول أن النص على علي (عليه السلام) من الرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم) لا يصح إلا به فإن ادعيت ذلك فأثبته علينا وحينئذ قد حصل
النص الذي لا تختلجه الشكوك من قولك وروايتك، على أن الإمامية لا
يحتاجون في إثبات النص على أمير المؤمنين إلى أكثر من خبر الغدير وخبر
المنزلة كما زعمت لصراحتهما في ذلك، وهل أبقيا شيئا من معنى الإمامة
والخلافة حتى يحتاج الإمامية في إثباته إلى دليل غيرهما لو كنت تنصف، وهل
مشابههما وغيره من الأخبار إلا مؤكد لهما، ومقو لدلالتهما، ومضاعف
لصراحتهما أضعافا مضاعفة، فسبحان الله ما هذا النص الصريح بعد ما
طلبت واقترحت؟ ألا تدلنا عليه ما هو وما صفته وما لفظه وما معناه حتى
نعلمه ونقف عنده؟ فليس بيننا وبين الحق عداوة، ولم يكن قدمنا عليا على
غيره من الصحابة في الفضل والإمامة طمعا في دنيا نصيبها، ولا رغبة في
ثروة ننالها، فإنا نعلم وأنتم تعلمون أن الرئاسة في الدنيا قديما وحديثا لمن
ناواه، والمال والثروة والغلبة فيها لمن عاداه، وإن أولياءه ومحبيه ما زالوا
مقهورين مغلوبين خائفين، وإنما صرنا إلى ما صرنا إليه لما ساقنا إليه الدليل
الواضح، والبرهان المبين الذي أقررتم بصحته، فدلونا على ما ينقضه مما
اجتمعنا نحن وإياكم على صحته وسلامته من مناقضة بعضه بعضا حتى نعدل
إليه، وأما التأويلات الركيكة والاستبعادات الواهنة والتمحلات (1) الممتنعة
والتعللات الباردة فليست مما يجوز أن يترك لها الدليل، ولا أن يعدل بها
عنه، وبالجملة فما أدري ما هذه النصوص التي تدل على الإمامة عند ابن أبي
الحديد وأصحابه التي لا يختلجها الشك ولا تطرق إليها الاحتمالات، وما
تلك الألفاظ الصريحة فيها غير تلك الألفاظ المذكورة حتى نعرفها، فإنا لا



(1) التمحل: الاحتيال والمماكرة.
341
نفهم لفظا في الإمامة والخلافة أصرح من لفظ الإمام والخليفة وما رادفهما مما
رقمناه ورسمناه حتى نأتيهم به، والصريح جئناهم به من حديثهم فما أذعنوا
به، وما ذلك إلا تعللات عن قبول الحق ومدافعة للحجة بالراح، وما أظن
القوم إلا أنهم يريدون منا أن نرقى في السماء ثم نأتيهم بكتاب من الله تعالى
يقرءونه وفيه إلى عبادي المعتزلة فلان وفلان بأسمائهم أما بعد فإن رسولي
محمد بن عبد الله قد نص على علي بالإمامة والخلافة وقد صدق الإمامية فيما
قالوا فيكون حينئذ عند القوم نصا، وهذا شئ تعذر على الأنبياء والأوصياء
فكيف يمكن مثله لرواة أخبارهم ونقله آثارهم والمقتبسين من شعاع أنوارهم،
وأظن أنه لو تيسر ذلك لم يقبلوه ولم يصدقوه ولتأولوه ودافعوا فيه، وإلا
لصدقوا ما رووه وصححوه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من
ذلك، وكأنهم اقتدوا بأم المؤمنين عائشة لروايتهم في شأنها (خذوا نصف
دينكم من الحميراء) (1) قد روت في حق علي (ع) ما سمعته قريبا وحضرت
وصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إليه كما قاله خزيمة بن ثابت ذو
الشهادتين في شعره الذي مر عليك، وقد خرجت تحاربه مع أنها سمعت
رسول الله يقول لها في حق علي (عليه السلام) (ستقاتلينه يوما وأنت ظالمة
له وتنبحك في طريقك كلاب الحوئب) فلما سارت إلى البصرة ووصلت ذلك
الماء نبحتها كلابه فسألت عن اسمه فقيل ماء الحوئب فقالت: ردوني فإني
سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول كذا وكذا وذكرت
الحديث، فلفق لها طلحة والزبير رجالا من الأعراب وقد جعلوا لهم جعلا



(1) أنكر ابن حجر هذا الحديث وقال عنه: " لا أعرف له إسنادا ولا رأيته في شئ من
كتب الحديث إلا في النهاية لابن الأثير ذكره في (ح م ر) ولم يذكر من خرجه " قال:
" ورأيته أيضا في كتاب الفردوس لكن بغير لفظه ذكره من حديث أنس بغير إسناد
ولفظه (خذوا ثلثي دينكم من بيت الحميراء) ونقل عن ابن كثير أنه سأل المزي
والذهبي عنه فلم يعرفاه عن (التقرير والتحبير 3 / 99).
342
ورشوة فشهدوا عندها أنه ليس بماء الحوئب فقبلت الإنكار بعد الإقرار
وصدقت شهادة الأعراب كأن رسول الله لم يخبرها بذلك، والعجيب أنها بعد
ذلك كتبت إلى حفصة تبشرها أن عليا لما بلغه كثرة جمعنا بقي متحيرا وصار
كالفرس الأشقر إن تقدم عقر وإن تأخر نحر حتى قال في ذلك كله سهل بن
حنيف الأنصاري رحمه الله
عذرنا الرجال بحرب الرجال * فما للنساء وما للسباب
أما حسبنا ما أتينا به * لك الخير من هتك ذاك الحجاب
ومخرجها اليوم من بيتها * يعرفها الذنب نبح الكلاب
إلى أن أتانا كتاب لها * مشوم بأقبح ذاك الكتاب
وكل هذا ذكره ابن أبي الحديد ورواه غيره من أهل السير
فروايته وأصحابه شيئا والقول بخلافه شئ آخر: ولا أدري كيف قال:
ليس على علي بالإمامة نص صريح وإنما هو تعريض وتلويح بعد روايته
لحديث الغدير وقول عمر لعلي (عليه السلام) ذلك اليوم: هنيئا لك يا بن أبي
طالب أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة (1) كما روى أيضا عن ابن عباس قال
دخلت على عمر في أول خلافته وقد ألقى له صاع من تمر على خصفة فدعاني
إلى الأكل فأكلت تمرة واحدة وأقبل يأكل حتى أتى عليه ثم شرب من جر كان
عنده، واستلقى على مرفقة له وطفق يحمد الله يكرر ذلك، ثم قال: من
أين جئت يا عبد الله قلت: من المسجد قال: كيف خلفت ابن عمك فظننته
يعني عبد الله بن جعفر فقلت خلفته يلعب مع أتراب له، فقال: لم أعن



(1) هذه التهنئة رواها جماعة من العلماء منهم الإمام أحمد في المسند 4 / 2111 والطبري في
تفسيره 3 / 428 والشهرستاني في الملل والنحل 1 / 220 وابن حجر الهيثمي في
الصواعق ص 26 الخ.
343
ذلك وإنما عنيت عظيمكم أهل البيت، قلت: خلفته يمتح بالغرب (1) على
نخيلات بني فلان وهو يقرأ القرآن، قال: يا عبد الله عليك دماء البدن إن
كتمتنيها هل بقي في نفسه شئ من أمر الخلافة؟ قلت: نعم قال: أيزعم
أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نص عليه، قلت: نعم وأزيدك
أني سألت أبي عما يدعيه فقال: صدق، فقال عمر: لقد كان من رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) في أمره ذرو (2) من القول لا يثبت حجة ولا
يقطع عذرا، ولقد كان يربع (3) في أمره وقتا ولقد أراد في مرضه أن يصرح
باسمه فمنعت من ذلك إشفاقا وحيطة على الإسلام، لا ورب هذه البنية لا
تجتمع عليه قريش أبدا، ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها،
فعلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إني علمت ما في نفسه
فأمسك، وأبى الله إلا إمضاء ما حتم (4).
قال ابن أبي الحديد: ذكر هذا الخبر أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب
تاريخ بغداد في كتابه مسندا (5) انتهى فانظر إلى قولهم أنه ليس على إمامة علي
(عليه السلام) نص صريح وإنما هو تعريض وتلويح فإنه مأخوذ من قوله
هنا: لقد كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أمره ذرو من
القول لا يثبت حجة، ولا يقطع عذرا، وقوله: فمنعت من ذلك، لا يريد
به الحقيقة بمعنى أنه قال للنبي (صلى الله عليه وآله) لا تفعل لعدم
قدرته على ذلك في ذلك الوقت، لكنه أراد أني قلت قولا علم من رسول الله
(صلى الله عليه وآله) إنا نخالفه لو صرح باسم علي (عليه السلام)
فترك ذلك لعدم الفائدة، وأشار بهذا إلى قصة الكتاب حيث قال النبي



(1) الغرب: الدلو.
(2) الذرو: الشئ.
(4) شرح نهج البلاغة 12 / 20. (3) يربع يقوله وقتا ويتركه في أوقات.
(5) أيضا 6 / 46.
344
(صلى الله عليه وآله) للحاضرين عنده: (هلم اكتب لكم كتابا لن
تضلوا بعده أبدا) فقال عمر: اهجر استفهموه، فاختلف الحاضرون،
فقالت طائفة: قربوا إليه يكتب لكم، وقالت طائفة أخرى: القول ما قاله
عمر، فغضب النبي (صلى الله عليه وآله) وقال: (قوموا عني فلا
ينبغي عند نبي تنازع) وهذا الحديث مروي في صحاح القوم كصحيح
البخاري وصحيح مسلم وغيرهما وهو بالغ حد التواتر في الجملة، وألفاظه
مختلفة بالزيادة والنقص، وصورة ما ذكرناه متفق عليها وذكره ابن أبي الحديد
بلفظه مرة وأشار إليه مرارا.
ثم يقال لابن أبي الحديد: أليس دل هذا الحديث على النص من قول
علي (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نص عليه
وقوله حق عندك لأنه مع الحق، ومن شهادة عمه العباس له بذلك، فأين
قولك، أنه لا نص هناك وإنكارك على الإمامية دعواه؟ أولست
بإنكارك النص كذبت عليا، ورددت شهادة العباس ولم تكن كذبت الإمامية
خاصة؟ وأين قولك في كثير من المواضع: إن عليا لم يحتج على الصحابة
بالنص، وهذا الخبر ينص على ذلك من قول عمر: أيزعم أن رسول الله
(صلى الله عليه وآله) نص عليه، ومن قول ابن عباس: نعم، أفما
في هذا دلالة صريحة على أن عليا (عليه السلام) كان طالبا للخلافة محتجا
على ذلك بنص الرسول (صلى الله عليه وآله) وأن عمر قد علم ذلك
وسمعه، وأن ابن عباس كذلك وأن العباس سمعه وشهد له، افترى باقي
الصحابة لم يسمعوا ذلك! ولا ضير أيضا لو لم يسمعوا إذا كان الخصم قد
سمع الدعوى والحجة عليها.
ثم يقال له أيضا أليس في كلام عمر تناقض بين لأنه أنكر النص أو لا
وذكر أنه لا نص وإنما هو شئ من القول لا تقوم به الحجة ولا يقطع العذر

345
ثم قال ولقد أراد رسول الله في مرضه أن يصرح باسمه، أفليس يدل هذا
القول على أن عمر قطع أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يريد
التصريح باسم علي (عليه السلام) وتعيينه للخلافة فأخبر أن النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) نص عليه بهذه الإرادة، وإذا علم ذلك فلا يحتاج إلى
اللفظ لأن الحاجة إلى اللفظ إنما هي لإبراز ما في الضمير، وإذا كان القصد
معلوما من الإشارة فلا حاجة إلى اللفظ، وإذا علم عمر من إشارة النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الكتاب إرادته النص على علي (عليه
السلام) فقد علم النص عليه، فكيف يقول لا نص؟ فدل قوله على أنه رد
على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قضاءه ومنعه من إنفاذ حكمه.
ثم يقال له أيضا: أي ضرر على الإسلام إذا ولى الأمة أعلمهم بالكتاب
والسنة وأشجعهم وأتقاهم وأقربهم إلى الرسول قرابة حتى يشفق على الإسلام
من ولايته وهو الذي شيد الإسلام بسيفه ومهد قواعده بجهاده؟ وكيف لا
تجتمع عليه قريش بعد نص النبي (صلى الله عليه وآله) عليه وأنت
تزعم أن الصحابة لا يخالفون نص النبي (صلى الله عليه وآله)؟
وكيف تنتقض عليه العرب مع النص عليه من الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) أليس هذا إخبارا صريحا من عمر عن تعمد قريش لمعصية الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم) ومخالفته وعدم اعتنائهم بنصه فأين زعمك أن
الصحابة لو سمعوا نصا من النبي (صلى الله عليه وآله) لما خالفوه،
وهذا عمر يخبر عنهم وهو منهم أنهم ملتزمون بمخالفة النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) في علي (عليه السلام) إذا نص عليه وصرح باسمه، فحديثك
كله نص فيما نقول وشاهد على ما ندعي، فبطل إنكارك ما قلناه، وكل ما
أوردناه على ابن أبي الحديد وارد عن عمر حرفا بحرف، ثم يقال له أيضا:
هب أن قريشا تخالف نص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعصيه لم
ابتدأت أنت بذلك وبادرت إلى المخالفة ومنعته من التصريح باسم علي

346
(عليه السلام)، وتحملت مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وابتدعتها لقريش وجرأتهم عليها وطرقتها لهم والنبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) حي، ولم وافقتهم وشاركتهم في مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) ومعصيته بعد وفاته في عدولهم عن وصيه إلى غيره وكنت أنت المتقدم
لهم في ذلك وأول الساعين فيه وأعظم المساعدين عليه؟ وهلا كنت مساعدا
لمن نص عليه النبي (صلى الله عليه وآله) كما ساعدت غيره؟ وكيف
تركت من قصد النبي (صلى الله عليه وآله) توليته وعدلت عنه
وبادرت إلى بزه خلافته وسارعت إلى نصب من لم يشر إليه النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) في هذا الأمر وادعيت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) رضيه للدين فرضيته للدنيا؟ وهلا عدلت عن ذلك كله إلى طاعة
الرسول حيا وميتا ولا يضرك عصيان من عصى؟ فما أدري ماذا تصنع المعتزلة
أيكذبون هذه الأحاديث المروية من الكتب الصحيحة عندهم؟ أم يكذبون
عليا (عليه السلام) في دعواه نص الرسول (صلى الله عليه وآله)
عليه ويردون شهادة العباس بذلك له؟ أم يكذبون عمر الذي افتعلوا في شأنه
(إن الملك ينطق على لسانه) في إخباره عن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) أنه أشار إلى علي (عليه السلام) بالخلافة في أيام حياته وقصد
التصريح به في مرضه وأن المنع من التصريح باسمه إنما جاء من قبله مع أن
ذلك معاندة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وردا لأمره وجرأة على
الله في مخالفته، وليت شعري كيف يتابع هؤلاء القوم من يحرم الحلال ويحلل
الحرام ويقبلون قوله ويقدمونه على نص الكتاب والسنة، فإذا أخبر عن نفسه
بأنه عصى وخالف الرسول (صلى الله عليه وآله) كذبوه، وهذا يدلك
على أنهم قد تحيلوا على التقليد المحض في مذهبهم والتصديق الصرف
لأسلافهم، فهم مذعنون لهم فيما قالوه وإن خالف ما رووه وصححوه وجملة
الأمران الأولين قصدوا إلى إنكار النصوص الواردة عن النبي (صلى الله عليه

347
وآله وسلم) على علي (عليه السلام) وإخفائها وسترها ما استطاعوا قولا
وفعلا والآخرون من معتزلة وأشاعرة ورعاع الناس وأهل الأطماع في الدنيا
قلدوهم في ذلك واتبعوهم على غير بصيرة، فتراهم يروون النص الصريح
ويقولون ليس هذا بنص صريح، والمنصف المتأمل في أمرهم إذا نظر إلى
أقوالهم لا يختلجه الشك ولا يدخله الريب في أن هذه طريقتهم ودأبهم،
وليتهم إذا أخفوا نصوص إمامة علي (عليه السلام) اقتصروا على ذلك ولم
يتعدوا عنه إلى تزويرهم الأخبار في ذمه واختلاقهم الأحاديث في فضائل
المتقدمين عليه ليعارضوا بها ما لم يجدوا إلى إخفائه وستره سبيلا من مناقبه مثل
خطبة ابنة أبي جهل وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غضب عليه
لذلك وأنه قال: (إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء) إلى غير ذلك مما
ذكروا من الأكاذيب وسيأتي لهذا المبحث كشف وبيان في موضع هو أخلق
بذكره من هنا فترقب والحاصل أنه لولا فعل الشيخين بأمير المؤمنين وتهجينهما
أمره وتصغيرهما قدره لكانت النصوص المذكورة على إمامته زاهرة أقمارها،
مشرقة شموسها، مضيئة أنوارها تملأ عين كل ناظر وتقرع سمع كل باد
وحاضر، لكنهما أطفئا تلك الأنوار الظاهرة وأخفيا تلك الشموس الزاهرة
ولولاهما لم يخالف أمير المؤمنين (عليه السلام) أحد من الناس ولكان أجل
قدرا من أن يضام ويجترئ أحد من الناس على منازعته ولقد صرح بهذا
معاوية بن أبي سفيان في كتابه إلى محمد بن أبي بكر وهو غير متهم على
الشيخين قال في ذلك الكتاب (فقد كنا وأبوك معنا في حياة نبينا نرى حق ابن
أبي طالب لازما لنا، وفضله مبرزا علينا، فلما اختار الله لنبيه ما عنده، وأتم
له ما وعده، وأظهر دعوته وأفلج حجته قبضه الله إليه فكان أبوك وفاروقه
أول من ابتزه وخالفه، على ذلك اتفقا واتسقا إلى آخر ما قال من شبه هذا
فلقد صدق وليس بصدوق روى هذا الكتاب ابن أبي الحديد عن نصر بن

348
مزاحم المنقري وكان عند ابن أبي الحديد ثقة ثبتا في الحديث (1) فأعطى قول
معاوية أن مخالفته لعلي (عليه السلام) ومناوأته له إنما كانت لما فعلاه من
ابتزاز حقه في أول الأمر فكان ذلك مطمعا لمعاوية في نيل الرئاسة ومجسرا له
على المخالفة، ولم يكن ذلك منه لعدم علمه بفضل علي (عليه السلام) ولا
لجهالته بعدم لزوم حقه على الناس في حياة النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) وما ذاك إلا لما بينه النبي (صلى الله عليه وآله) من فضله وما
ألزمه الناس من حقه بالقول والفعل، ولا يكون ذلك إلا بنص عليه،
فلعمري أن في قول معاوية إقرارا بالنص من جهة اللزوم وتصريحا بمخالفة
الشيخين له وذلك هو ما نقول، وهو أعظم حجة على معاوية حيث صرح
بتعمده مخالفة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في خلعه ما لزمه من حق
علي (عليه السلام) تقليدا لفلان وفلان فقد ظهر الحق وتوجه النقض على
ابن أبي الحديد وأصحابه وبطل ما كانوا يعملون.
فإن قيل: كيف قبحتم على المعتزلة صرف ألفاظ الأخبار عن نصوصها
والعدول بها عن ظواهرها مع أنهم قصدوا بذلك التوفيق بينها وبين فعل
الصحابة وأنتم جوزتم لأنفسكم صرف ألفاظ القرآن الدالة على صدور
المعصية من الأنبياء مثل [وعصى آدم ربه فغوى] (2) وغيرها عن نصوصها
وظواهرها إلى مجازات بعيدة كترك الأولى وفعل المرجوح وغير ذلك، فكيف
جاز لكم صرف اللفظ عن صريحه إلى بعض محتملاته البعيدة ولم يجز
للمعتزلة ذلك؟ قلنا: هذه الحجة هي التي ركن إليها ابن أبي الحديد وقوم
من أصحابه واستطاعوا على الإمامية بها وهي أوهن من بيت العنكبوت،
والجواب عنها أن نقول: إنا إنما صرنا إلى ما صرنا إليه من صرف الألفاظ



(1) شرح نهج البلاغة 3 / 189.
(2) طه 121.
349
القرآنية الدالة على صدور المعاصي من الأنبياء عن ظواهرها إلى المجازات مثل
ترك الأولى وفعل المرجوح لما ثبت من وجوب عصمة الأنبياء عليهما السلام
عن مواقعة الذنوب والخطايا كبائرها وصغائرها بالدليل القاطع من العقل
والنقل، فلذلك حملنا الألفاظ الواردة في صدور المعاصي منهم على ترك
الأولى وفعل المرجوح وما أشبه ذلك، وعدلنا بها عن مفادها ظاهرا إلى
مجازات بعيدة طلبا للتوفيق بين الدليلين المعلومين، وهربا من تناقض الأمرين
القطعيين، ولولا ما قام من الدليل المقطوع به من العقل والنقل على نزاهة
الأنبياء من مباشرة الذنوب وطهارتهم من مقارفة المعاصي والعيوب لتركنا
الألفاظ على حالها، وأبقيناها على مفادها، ولم نحتج إلى تكلف التأويلات،
على أن المعتزلة قد شاركونا في تأويلها ووافقونا على صرفها في غير معانيها
لوجوب عصمة الأنبياء عندهم، غاية الأمر أنهم حملوها على الصغائر المكفرة
لوجوب عصمة الأنبياء عندهم عن الكبائر خاصة، أما التأويل فعليه الاتفاق
بيننا وبينهم وليس الأمر في الصحابة كذلك فإنهم غير معصومين باتفاق الأمة
ولم يكن منهم من قيل بعصمته إلا صاحبنا الذي نحن بصدد إثبات النص
عليه، فلما كان الصحابة غير معصومين قطعا لم يجز صرف الألفاظ الصريحة
عن معانيها إذا خالفت أفعالهم ولم يسغ رد نصوص الكلمات الصحيحة إذا
ناقضت سيرتهم إذ لا داعي إلى ذلك بعد انتفاء عصمتهم وجواز وقوع
المعصية منهم والسهو والغلط عليهم، فهذا فصل ما بين الأمرين والفارق ما
بين الحالين فما ظنك بعد هذا بما إذا كان وقوع العصيان منهم معلوما وصدور
المخالفة لله ورسوله منهم متحققا، أفيجوز تخلية اليد من نص اللفظ المعلوم
الصدور ممن قوله حجة وتركه والعدول به إلى غير معناه لتصحيح أفعالهم
الباطلة في نفسها فنكون قد تركنا المعلوم للموهوم؟ حاشا ما يقول بذا ذو
عقل فضلا عن ذي فضل فثبت المراد واندفع الايراد.
وأما الأمور الصادرة من النبي (صلى الله عليه وآله) في شأن أمير المؤمنين

350
من افعال وأقوال تنبئ عن عظيم منزلته وجلالته قدره ورفعة شأنه، وتدل
على إبانته إياه على غيره، وتومي إلى إرادة رئاسته وتشير إلى قصد النبي
(صلى الله عليه وآله) إظهار إمامته فهي كثيرة.
فأما الأفعال فمنها مؤاخاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا (عليه
السلام) فإنه قد اتفق الناس على أن النبي (عليه السلام) حين آخى بين
أصحابه آخى بين علي ونفسه، وصفة المؤاخاة رووها عن عبد الله بن عمرو
عن عبد الله بن العباس، قال ابن عمر: لما آخى رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) بين صحابته جاءه علي بن أبي طالب (عليه السلام)
وعيناه تدمعان فقال: يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين
أحد فسمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (أنت أخي في
الدنيا والآخرة) (1).
وفي حديث ابن عباس قال: لما آخى رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) بين أصحابه من المهاجرين والأنصار وهو أنه (صلى الله عليه وآله
وسلم (آخى بين أبي سكر وعمر وآخى بين عثمان بن عفان وبين
عبد الرحمن بن عوف وآخى بين طلحة والزبير وآخى بين أبي ذر والمقداد ولم
يؤاخ بين علي بن أبي طالب وبين أحد منهم خرج علي مغضبا إلى أن قال:
(أغضبت حين آخيت بين المهاجرين والأنصار ولم أؤاخ بينك وبين أحد
منهم؟ أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي
إلا من أحبك فقد حف بالأمن والإيمان ومن أبغضك أماته الله ميتة



(1) حديث المواخاة من الآثار الثابتة كما في الإستيعاب 3 / 35 ورواه غير واحد من حملة
الآثار منهم الحاكم في المستدرك 3 / 14 والترمذي في السنن 2 / 299 والمحب في
الرياض 2 / 17 الخ..
351
جاهلية) (1).
وأما قول النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي أخي فهو كثير في
الأحاديث المتقدمة والآتية وغيرها، وهذا الفعل من النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) بعلي (عليه السلام) يدل على أمرين.
أحدهما: إن عليا (عليه السلام) لا يماثله أحد من الصحابة ولو كان له
مثيل أو شبيه منهم لآخاه.
والثاني: إن عليا (عليه السلام) مماثل لرسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) في صفاته إلا ما خرج بدليل قاطع لأن حقيقة الأخوة رجوع شيئين أو
أكثر إلى أصل واحد فهي إذن مماثلة بين اثنين في صفة أو صفات، فمن
النسب مماثلة شخصين في التولد من أبوين معا أو من أحدهما، وبين المؤمنين
مماثلتهم في الإيمان، وأخوة علي (عليه السلام) للرسول (عليه السلام
مماثلة في صفاته، ولما كانت غير معينة في شئ ولا مخصوصة بصفة كانت
عامة لكل الصفات إلا ما علم انتفاؤه كالتولد من أبوين أو من أحدهما للعلم
بانتفاء ذلك، ومثل النبوة لختمها بالنبي (صلى الله عليه وآله) كما دل
عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فبقي ما سواهما من الصفات داخلا في
عموم المماثلة مثل العلم والعصمة والأفضلية على الخلق والإمامة كما قال
الحسن البصري فرسول الله (صلى الله عليه وآله) خير الناس نفسا
وخيرهم أخا، فمؤاخاة النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي دالة على أن
عليا هو الصالح لمماثلته في صفاته والقيام مقامه بعد وفاته، لأن من جملة ما
ماثله فيه الإمامة فهو الإمام بعده وأن من سواه غير صالح لمماثلة النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) وإلا لآخاه، ولا مستحقا لمشاكلة علي (عليه السلام



(1) مجمع الزوائد 9 / 111.
352
وإلا لآخى بينه وبينه، فمفاده أنه لا يصلح أحد من الصحابة غير علي (عليه
السلام) للقيام مقام النبي (صلى الله عليه وآله) في دينه وأمته من
بعده، فهذا الفعل يكاد يلحق بالنصوص الصريحة على إمامة أمير المؤمنين
(عليه السلام) إن لم يكن من أدلها وأوضحها عند إعطاء التأمل حقه وليس
من أدلة الإشارات والأمارات كما ترى، والعجب كيف تقتضي صحبه أبي
بكر لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في الغار عند أبي عبيدة وعمر
إرادة رسول الله (صلى الله عليه وآله) تقديمه عليهما بزعمهما فيمتنعان
من التقدم عليه يوم السقيفة كما رواه ابن أبي الحديد (1) وغيره من قولهما مع
ما في أمر صحبته الغار من الايراد وعدم تحقق السلامة من الطعن كما سلف
منا إشارة إليه ولا تقتضي مؤاخاة النبي (صلى الله عليه وآله) عليا
عندهما إرادة تقديمه على الناس كافة مع ما فيها من التشريف الظاهر،
والتفضيل البين، والتنويه الواضح بشأن أمير المؤمنين (عليه السلام) مع ما
يشاركه من الأفعال والأقوال، والمدح العظيم والثناء الجسيم من النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) عليه ما هذا إلا عناد وإنكار صريح الفضل أمير المؤمنين
(عليه السلام)؟ فأعاذنا الله تعالى من الغفلات وقد تقدم هذا كلام في
موضع دعت الحاجة إلى ذكره فيها وأوضحنا هناك فيه ما ينتفع به ههنا.
ومنها إباتة النبي (عليه السلام) عليا (عليه السلام) على فراشه لما أراد
مشركوا قريش قتله في داره، ونحن نذكر من ذلك ما ذكره ابن أبي الحديد
عن شيخه أبي جعفر الإسكافي المعتزلي في نقضه على الجاحظ، ونكتفي به
فإنه قد أتى من ذلك بما لا ينبغي الزيادة عليه، قال في جواب الجاحظ: (ثم
يقال له: ما بالك أهملت أمر مبيت علي (عليه السلام) على الفراش بمكة
ليلة الهجرة هل نسيته أم تناسيته؟ فإنها المحنة العظيمة والفضيلة الشريفة التي



(1) شرح نهج البلاغة 6 / 10.
353
إذا امتحنها الناظر وأجال فكره فيها رأى تحتها فضائل متفرقة ومناقب متفاوتة
وذلك أنه لما استقر الخبر عند المشركين أن رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) مجمع على الخروج من بينهم والهجرة إلى غيرهم قصدوا إلى معاجلته
وتعاقدوا على أن يبيتوه في فراشه وأن يضربوه بأسياف كثيرة بيد كل صاحب
قبيلة من قريش سيف منها ليضيع دمه بين الشعوب ويتفرق بين القبائل ولا
يطلب بنوا هاشم بدمه قبيلة واحدة بعينها من بطون قريش وتحالفوا على تلك
الليلة واجتمعوا عليها فلما علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذلك
من أمرهم دعا أوثق الناس عنده وأمثلهم في نفسه وأبذلهم في ذات الله لمهجته
وأسرعهم إجابة إلى طاعته فقال له: (إن قريشا قد تحالفت على أن تبيتني هذه
الليلة فامض إلى فراشي ونم في مضجعي والتف في بردي الحضرمي ليروا أني
لم أخرج وإني خارج إن شاء الله تعالى) فمنعه أولا من التحرز وأعمال الحيلة
وصده عن الاستظهار لنفسه بنوع من أنواع المكايد والجهات التي يحتاط بها
الناس لنفوسهم والجأه إلى أن يعرض نفسه لظبات السيوف الشحيذة من
أرباب الحنق والغيظة فأجاب إلى ذلك سامعا مطيعا طيبة بها نفسه ونام على
فراشه صابرا محتسبا واقيا له بمهجته ينتظر القتل ولا نعلم فوق بذل النفس
درجة يلتسمها صابر ولا يبلغها طالب (والجود بالنفس أقصى غاية الجود)
ولولا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علم أنه أهل لذلك لما أهله
ولو كان عنده نقص في صبره أو في شجاعته أو في مناصحته لابن عمه واختير
لذلك لكان من اختاره (صلى الله عليه وآله) منقوصا في رأيه مقصرا في
اختياره ولا يجوز أن يقول هذا أحد من أهل الإسلام وكلهم يجمعون على أن
الرسول (صلى الله عليه وآله) عمل بالصواب وأحسن في الاختيار ثم
في ذلك إذا تأمله المتأمل وجوه من الفضل منها أنه وإن كان عنده في موضع
الثقة فإنه غير مأمون عليه ألا يضبط السر فيفسد التدبير بإفشائه تلك الليلة
إلى من يلقيه إلى الأعداء ومنها أنه وإن كان ضابطا للسر ثقة عند من اختاره

354
فغير مأمون عليه الجبن عند مفاجأة المكروه ومباشرة الأهوال فيفر من الفراش
فيفطن لموضع الحيلة ويطلب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيظفر به
ومنها أنه وإن كان ثقة ضابطا للسر شجاعا نجدا فلعله غير محتمل للمبيت على
الفراش لأن هذا خارج عن الشجاعة إذ قد أقامه مقام المكتوف الممنوع، بل هو
أشد مشقة من المكتوف الممنوع، لأن المكتوف الممنوع يعلم من نفسه أنه لا
سبيل إلى الهرب وهذا يجد السبيل إلى الهرب وإلى الدفع عن نفسه ولا يهرب
ولا يدافع، ومنها أنه وإن كان ثقة ضابطا للسر شجاعا محتملا للمبيت على
لفراش فإنه غير مأمون أن يذهب صبره عند العقوبة الواقعة والعذاب النازل
بساحته حتى يبوح بما عنده ويصير إلى الإقرار بما يعلمه وهو أنه أخذ طريق
كذا فيطلب فيؤخذ فلهذا قال علماء المسلمين: إن فضيلة علي (عليه
السلام) تلك الليلة لا نعلم أحدا من البشر نال مثلها إلا ما كان من إسحاق
وإبراهيم عند استسلامه للذبح ولولا أن الأنبياء لا يفضلهم غيرهم لقلنا إن
محنة علي أعظم لأنه قد روي أن إسحاق تلكأ لما أمره أن يضطجع وبكى على
نفسه وقد كان أبوه يعلم أن عنده في ذلك وقفة ولذلك قال له [انظر ماذا
ترى] (1) وحال علي (عليه إسلام) بخلاف ذلك فإنه ما تلكأ ولا تعتع ولا
تغير لونه ولا اضطربت أعضاؤه " - أن قال -: " وذلك لعلم كل واحد منهما
أن أحدا لا يصبر على ثقل هذه المحنة ولا يتورط هذه الهلكة إلا من خصه الله
بالصبر على مشقتها والفوز بفضيلتها وله من جنس ذلك افعال كثيرة " ثم
قال: " إنه قد ثبت بالتواتر حديث الفراش " قال: " وقال أهل التفسير أن
قوله تعالى: [ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين] (2) كناية عن علي
(عليه السلام) ثم ذكر إن مكرهم توزيع السيوف على بطون قريش ومكر الله
هو منام علي على الفراش " قال: " وقد روى المفسرون كلهم أن قول الله



(1) الصافات: 102.
(2) الأنفال: 30.
355
تعالى: [ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله] (1) أنزلت في علي
(عليه السلام ليلة المبيت على الفراش " ثم ذكر جوابه عن دعوى الجاحظ
أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي ليلة المبيت (نم فلن يخلص
إليك شئ تكرهه) فقال قال شيخنا أبو جعفر: هذا هو الكذب الصراح
والتحريف والادخال في الرواية ما ليس منها والمعروف المنقول أنه قال له ثم
أورد الرواية وقال: ولم ينقل ما ذكره الجاحظ وإنما ولده أبو بكر الأصم وأخذه
الجاحظ ولا أصل له، ولو كان هذا صحيحا لم يصل إليه مكروه وقد وقع
الاتفاق أنه ضرب ورمي بالحجارة إلى آخر ما قال (2).
أقول وهذا الأمر إذا تدبره منصف عرف يقينا أن النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) ما كان يؤهل للأمور العظائم إلا أخاه عليا فيشير إلى أن عليا هو
الذي يقوم مقام النبي (صلى الله عليه وآله) في عظام الأمور فهو
خليفته في أمره حيا وميتا فأين عمرو (3) عن هذا فإذا ذكر لصاحبه الغار لم
يذكر لصاحبنا الفراش أليس في تركه ذكر ذلك والإعراض عنه دليل واضح
على أن قصد القوم صرف الأمر منه إلى غيره وإخفاء ماله من الفضل فكيف
يستبعد منهم كتمان النص ومخالفته وهذا ظاهر لكل فاهم.
ومنها إبقاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا بمكة بعد خروجه
لأداء أماناته قال ابن أبي الحديد: قال شيخنا أبو جعفر: والمعروف المنقول
أنه قال له: (اذهب فاضطجع في مضجعي وتغش ببردي الحضرمي فإن
القوم سيفقدوني ولا يشهدون مضجعي فلعلهم إذا رأوك يسكنهم ذلك حتى
يصبحوا فإذا أصبحت فلتقم في أداء أمانتي).



(1) البقرة: 207.
(2) شرح نهج البلاغة ج 13 من ص 160 - 262 عن نقض العثمانية.
(3) شرح نهج البلاغة 13 / 263. والمراد بعمرو الجاحظ.
356
وقال ابن أبي الحديد قال محمد بن إسحاق في كتاب المغازي لم يعلم
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحدا من المسلمين ما كان عزم
عليه من الهجرة إلا علي بن أبي طالب وأبا بكر بن أبي قحافة أما علي (عليه
السلام) فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبره بخروجه وأمره
أن يبيت على فراشه يخادع المشركين عنه ليروا أنه لم يبرح فلا يطلبوه حتى تبعد
المسافة بينهم وبينه وأن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عن رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) الودائع التي عنده للناس وكان رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) استودعه رجال من مكة ودائع لهم لما يعرفونه من أمانته وأما
أبو بكر فخرج معه (1) انتهى. وهذا الفعل من النبي (صلى الله عليه وآله
سلم) فيه إشارة ظاهرة إلى أن عليا (عليه السلام) هو القائم مقامه فيما
ينوبه والمؤدي عنه إذا غاب ما يلزم عليه أداؤه في حضوره فهو خليفته في جميع
الأمور وأين غيره من هذين الأمرين وأين يقعون في منزلة هذين الموضعين كلا
بل ليس لهما إلا أبو حسن على صلوات الله وسلامه عليه.
ومن الأفعال التي أبان بها الرسول (صلى الله عليه وآله) عليا
(عليه السلام) وأظهره بفضل لا يدانيه فيه أحد تركه بابه مفتوحا إلى المسجد
حين سد أبواب الصحابة مع إخباره أن ذلك عن أمر الله تعالى والأمر فيه
مشهور (2).
قال ابن أبي الحديد الحديث العشرون كانت لجماعة من الصحابة أبواب



(1) أيضا 13 / 303.
(2) حديث سد الأبواب الشارعة في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا
باب علي (عليه السلام) رواه أكثر المحدثين كالإمام أحمد في المسند 4 / 369
والنسائي في الخصائص ص 13 والحاكم في المستدرك 3 / 125 والمحب في الرياض
2 / 192 الخ.
357
شارعة في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) فقال يوما سدوا كل
باب في المسجد إلا باب علي فسدت فقال في ذلك قوم حتى بلغ ذلك رسول
الله (صلى الله عليه وآله) فقام فيهم فقال إن قوما قالوا في سد الأبواب
وتركي باب علي (عليه السلام) إني ما سددت ولا فتحت ولكني أمرت بأمر
فاتبعته رواه أحمد في المسند مرارا وفي كتاب الفضائل (1).
قلت: في هذا ما لا يخفى على عارف منصف من الإشارة البينة إلى إمامة
أمير المؤمنين لأن الله حيث لم يجز لأحد من الصحابة مساواته في فتح باب إلى
المسجد ولم يرض بمشاركتهم إياه في ذلك، بل جعله في ذلك شريكا للرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم) ومثيلا فيرضى بعد ذلك لهم أن يتقدموه إلى
مقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو يجوز أن يكون أبو بكر وعمر و
عثمان أمراء عليه وحكاما وأئمة له كما يزعم الخصم وهؤلاء هم الذين لم
يرض الله بالأمس بمساواتهم إياه في باب شارع إلى المسجد، أترى يعقل ذلك
عاقل ويعتقده رشيد، وفي الحديث أيضا دلالة على أن بعض الصحابة كانوا
يتهمون النبي (صلى الله عليه وآله) في علي (عليه السلام) ولا
يسلمون له فيه ما فعل به وما قال، ويطلبون مخالفته في ذلك ما استطاعوا
ولذلك قالوا فيه ما أوجب أن يقوم فيهم ويخبرهم أن ما فعل بعلي (عليه
السلام) من التشريف عليهم عن الله لا عن نفسه وذلك في حياته وسلطانه
فما ظنك بعد وفاته.
ومنها مناجاة النبي (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام)
يوم الطائف روى ابن أبي الحديد عن أحمد بن حنبل في المسند أن النبي
(صلى الله عليه وآله) دعا عليا (عليه السلام) في غزاة الطائف
فانتجاه وأطال نجواه حتى كره قوم من الصحابة ذلك، فقال قائل منهم:



(1) شرح نهج البلاغة 9 / 172.
358
لقد أطال اليوم نجوى ابن عمه فبلغه (صلى الله عليه وآله) ذلك
فجمع منهم قوما ثم قال: (إن قائلا قال لقد أطال اليوم نجوى ابن عمه،
أما إني ما انتجيته ولكن الله انتجاه) (1) فانظر إلى ما تضمنه هذا الفعل من
الرفعة لعلي (عليه السلام) وعلو المنزلة التي تقصر عن تناول أدناها يد
المتناول، أوليس صريحا في أن عليا (عليه السلام) هو المخصوص بالعناية
الإلهية بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤهل من الله تعالى:
للفيوضات القدسية؟ أفليس في هذا إشارة بينة إلى أنه (عليه السلام) هو
التالي للنبي (صلى الله عليه وآله) في الدرجة والمرشح من الله من بعده
للرئاسة فهو الإمام بعده والخليفة؟ ثم إن هذا الحديث كسابقة في الدلالة على
أن بعض الصحابة يسؤهم ما كان يفعله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
بعلي (عليه السلام) من التشريف والتفضيل، وينكرون عليه ما يميزه به من
التعظيم والتبجيل، ويتهمونه في ذلك بأنه لحجبه إياه وميله إليه لا لأمر الله
إياه بذلك ولذا قال في جوابهم: (ما انتجيته ولكن الله انتجاه) والمراد أن الله
أمرني بنجواه وأن الله لا ينتجي أحدا ولا يخلو بأحد وإذا كانوا ينكرون على
النبي (صلى الله عليه وآله) فعله وقوله في علي (عليه السلام) وهو
حي فهم إلى إنكار فعله به بعد وفاته أقرب ولمخالفة قوله فيه إذ ذاك أشد
لزوال ما كانوا يحذرونه من عقوبته لقهره عليهم وقوته ويرشدك إلى هذا ترك
عمر وأصحابه يوم السقيفة ذكر ما كان النبي (صلى الله عليه وآله)
خص به عليا (عليه السلام) من هذا الفعل وشبهه مما هو معلوم عند كل
الصحابة بل تركهم ذكر علي بالمرة وإكثارهم من ذكر الغار والاحتجاج به لأبي
بكر فمن كان هذا شأنهم لا يبعد منهم إنكار النص على علي (عليه السلام)
إذ ليس ذلك إلا كإنكارهم مناقبه ذلك اليوم وقد حصل منهم كما ترى فأين



(1) شرح نهج البلاغة 9 / 173 عن مسند أحمد ورواه الترمذي 2 / 300 وفي كنز العمال
6 / 399 إن القائل هو أبو بكر (رضي الله عنه) وقال أخرجه الطبراني.
359
المستبعدون عليهم مخالفة نص النبي (صلى الله عليه وآله) على علي
(عليه السلام) عن هذا وشبهه مما تقدم ويأتي؟ وهل بقي للاستبعاد بعد
ذلك مجال فتأمل.
ومنها اختصاص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا (عليه
السلام) في أسفاره وحضره ومشاركته له في أموره من حله وارتحاله ومسيره
ونزوله، وأنه صاحب رحله في سفره والملاصق له وقت سيره، ومستودع سره
في كل أحواله وأوقاته، وكل ذلك مذكور مشهور وفي التواريخ والسير مسطور
بحيث لا ينكره إلا جاهل أو متجاهل ولقد ذكر (عليه السلام) من ذلك ما
روي في النهج قال (عليه السلام) وهو يخبر عن حاله مع النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم): (وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد
يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه ويمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان
يمضغ الشئ ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في
فعل) إلى أن قال: (ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل إثر أمه، يرفع لي
كل يوم علما من أخلاقه، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة
بحراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير
رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخديجة وأنا ثالثهما أرى نور الوحي
والرسالة، وأشم ريح النبوة، ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي
عليه، فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال: (هذا الشيطان قد أيس
من عبادته إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي ولكنك
لوزير وإنك لعلى خير) (1).
قال ابن أبي الحديد روى الفضل بن العباس قال: سألت أبي عن ولد



(1) نهج البلاغة من الخطبة 190 وهي القاصعة.
360
رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذكور أيهم كان رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) له أشد حبا فقال: علي بن أبي طالب فقلت سألتك
عن بنيه، فقال: إنه كان أحب إليه من بنيه جميعا وأرأف ما رأيناه زايله (1)
يوما من الدهر منذ كان طفلا إلا أن يكون في سفر لخديجة، وما رأينا أبا أبر
بابن منه بعلي ولا ابنا أطوع لأب من علي له (2).
وروى ابن أبي الحديد عن أبي مخنف قال جاءت عائشة إلى أم سلمة
تخادعها على الخروج للطلب بدم عثمان فقالت لها: يا بنت أبي أمية أنت أول
مهاجرة في أزواج رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنت كبيرة
أمهات المؤمنين، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقسم لنا من
بيتك، وكان جبرئيل (عليه السلام) أكثر ما يكون في منزلك، فقالت أم
سلمة: لأمر ما قلت هذه المقالة، فقالت عائشة: إن عبد الله أخبرني أن
القوم استتابوا عثمان فلما تاب قتلوه صائما في شهر حرام، وقد عزمت على
الخروج إلى البصرة ومعي الزبير وطلحة فاخرجي معنا لعل الله يصلح هذا
الأمر على أيدينا وبنا، فقالت أم سلمة، إنك بالأمس تحرضين على عثمان
وتقولين فيه أخبث القول، وما كان اسمه عندك إلا نعثلا، وإنك لتعرفين
منزلة علي بن أبي طالب أي منزلة كانت عند رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم)، فأذكرك؟ قالت: نعم، أتذكرين يوم أقبل (عليه السلام) ونحن
معه حتى إذا هبط من قديد (3) ذات الشمال خلا بعلي (عليه السلام) يناجيه
فأطال فأردت أن تهجمي عليهما فنهيتك فعصيتني فهجمت عليهما، فما لبثت
أن رجعت باكية فقلت: ما شأنك فقلت إني هجمت عليهما وهما يتناجيان



(1) زايلة: فارقة.
(2) شرح نهج البلاغة 13 / 200.
(3) قديد بالتصغير: موضع قيل نزله تبع فهبت ريح قدت خيام أصحابه فسمي
قديد.
361
فقلت لعلي: ليس لي من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا يوم من
تسعة أيام أفما تدعني يا ابن أبي طالب ويومي؟ فأقبل رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) علي وهو غضبان محمر الوجه، فقال: (ارجعي وراءك
والله لا يبغضه أحد من أهل بيتي ولا من غيرهم من الناس إلا وهو خارج من
الإيمان) فرجعت نادمة ساقطة؟ فقالت عائشة: نعم أذكر ذلك، ثم ذكرتها
أيضا حديث: (أيتكن صاحبة الجمل الأزب تنبحها كلاب الحوئب) (1)
وقول النبي (صلى الله عليه وآله) لها: (إياك أن تكونيها يا حميراء)
قالت عائشة: نعم أذكر هذا فهذا الخبر يدل على اختصاص النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) وخلواته بعلي (عليه السلام) دون جميع أصحابه وأكثر من
خلواته بأزواجه، ويصرح بأن مبغض علي (عليه السلام) كائنا من كان
خارج من الإيمان، وأن عائشة كانت منطوية على بغضه من ذلك الزمان،
وبالجملة فشدة تقريب النبي (صلى الله عليه وآله) عليا وإدنائه منه
وتخصيصه إياه بالخلوات دون الأباعد والأقارب أمر معلوم لا يحتاج إلى كثرة
الاستدلال عليه، ولصوق علي (عليه السلام) بالنبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) من حين كان طفلا إلى أن اختار الله لنبيه دار البقاء معروف، قال
أبو جعفر الإسكافي في ذكر إسلام علي (عليه السلام): " وما بال هذا الطفل
لم يأنس بأقرانه " إلى أن قال: " بل ما رأيناه إلا ماضيا على إسلامه مصمما
في أمره محققا لقوله بفعله، قد صدق إسلامه بعفافه وزهده ولصق برسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) من بين جميع من بحضرته، فهو أمينه وأليفه في
دنياه وآخرته، فإسلامه هو السبيل الذي لم يسلم عليه أحد غيره، وما سبيله
في ذلك إلا كسبيل الأنبياء ليعلم أن منزلته من النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) كمنزلة هارون من موسى، وأنه وإن لم يكن نبيا فقد كان في سبيل



(1) شرح نهج البلاغة 6 / 217.
362
الأنبياء سالكا، ولمنهاجهم متبعا، وكانت حاله كحال إبراهيم (عليه
السلام) إلى آخر ما قال (1)، ولقد أجاد وأتى من فضل أمير المؤمنين ببعض ما
يجب أن يقال فيه، ومن ألطف الأشياء وأطرفها معتزلي يقول في علي هذا
القول حتى يبلغ به إلى مساواته لإبراهيم الخليل، وهذا من عظيم نعمة الله
على أمير المؤمنين بأن أظهر فضله على لسان كل ناطق من أهل ولايته وأهل
ولاية غيره، وهذه الأفعال كلها مشيرة إلى تقديم النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) عليا (عليه السلام) على جميع الصحابة من الأقارب والأجانب،
فهو المخصوص بالتعظيم والتفخيم والمقصود بالرئاسة والتقديم، مع ما
يضاف إلى ذلك من مواقفه المشهودة ومشاهده المحمودة، افترى يحق مقام
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لغيره؟ وهل تظن الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم) أن يحل محله سواه؟ كلا ورب الراقصات (2) إن هذا ما لا
يذهب إليه وهم عاقل لبيب ولا يظنه فطن أريب.
وأما الأقوال المشيرة إلى إمامة أمير المؤمنين:
فمنها: ما رواه ابن أبي الحديد عن أحمد بن حنبل في مسنده وأحمد
البيهقي في صحيحه عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (من
أراد أن ينظر إلى نوح في عزمه، وإلى آدم في علمه، وإلى إبراهيم في حلمه،
وإلى موسى في فطنته، وإلى عيسى في زهده، فلينظر إلى علي بن أبي
طالب) (3) وهذا الحديث دال بظاهره على أفضلية علي (عليه السلام) على



(1) نفس المصدر 13 / 249.
(2) الراقصات: الإبل ومنه قول الناصر العباسي:
قسما بمكة والحطيم وزمزم * والراقصات ومشيهن إلى منى
بغض الوصي علامه بين الورى * كتبت على جبهات أولاد الزنا
من لم يوالي في البرية حيدرا * سيان عند الله صلى أم زنى
(3) هذا الحديث يعرف بحديث الأشباه وما ذكره المؤلف رحمه الله هنا منقول عن شرح
نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9 / 168، ونضيف إلى ذلك أن هذا الحديث مشهور بين
المحدثين ورواة الأخبار على اختلاف في بعض الألفاظ ففي كفاية الطالب للكنجي ص
45 (وإلى نوح في حكمته) ورواية المحب في الرياض 2 / 218 (وإلى يحيى بن زكريا
في زهده وإلى موسى في بطشه) والمظنون أن " بطشه " أقرب وفي نزهة المجالس
للصفوري 2 / 240 (وإلى محمد في بهائه) ولأبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبيد الله
المصري المعروف بالمفجع قصيدة تعرف بالأشباه لاشتمالها على هذا الحديث كما في
معجم الأدباء للحموي 17 / 200.
363
الأنبياء لأنه إذا جمع خصال الكل كان أفضل من كل واحد البتة، وهو يكاد
يصرح بالنص إذ المقصد من تشبيه علي (عليه السلام) بالأنبياء إظهار ماله
من الفضل الفائق على جميع الورى وإرادة تعظيمه من الأمة وتقديمه على من لم
يكن فيه خصلة من تلك الخصال، وهذا ينافي ما قاله ابن أبي الحديد من
جواز جعله سوقة يحكم عليه من لا يساويه ولا يدانيه في فضله فسبحان الله
ما أوهن هذا المقال.
ومنها قول النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي: (والذي نفسي
بيده لولا أن تقول طوائف من أمتي فيك ما قالت النصارى في ابن مريم لقلت
اليوم فيك مقالا لا تمر بملأ من المسلمين إلا أخذوا التراب من تحت قدميك
للبركة) رواه ابن الحديد عن أحمد بن حنبل في المسند (1).
أقول: انظر أيها الناظر المتقن إلى ما احتوى عليه هذا الحديث من الفضل
الذي لا يدرك العقل معناه ولا يبلغ الادراك إلى الإحاطة بأدناه، حيث دل
على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد خاف من إظهار ذلك المقال في
علي (عليه السلام) ذهاب طوائف من الأمة إلى القول بربوبيته، والمصير إلى
اعتقاد إلهيته، كما قالت النصارى في ابن مريم، مع أنه قال فيه من الأقوال
الجليلة ما شاع ذكره في الآفاق، ورواه على كثرته كل قوم على اختلاف



(1) شرح نهج البلاغة 5 / 4 و 9 / 168 عن مسند أحمد.
364
مذاهبهم، فصرح الحديث أن قدر علي (عليه السلام) فوق ما ظهر له من
الفضل، وأن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يقل فيه مقدار ما هو حقه
من المنزلة الرفيعة عند الله تعالى: ولم يبين من كراماته حقيقة ما له من
الفضيلة الجليلة، بل بقي بعد ذكر تلك الفضائل العظام، وبيان تلك
المناقب الجسام، ما لو قاله فيه لذهب أكثر الأمة فيه إلى الغلو، فليت
شعري ما هذا المقال بعد تلك الأقوال، ثم أعظم من ذا أنه (صلى الله عليه
وآله وسلم) لم يقل إن ذلك المقال الذي أخفاه في علي (عليه السلام) هو
منتهى فضله ولا غاية مجده فيكون له في فوق ذلك المقال أقوال، وعلى ذلك
الفضل أفضال، فأين مبلغ العقول من معرفة حقيقة هذا النور القدسي؟
وأين محل الادراك من الإحاطة بكنه هذا الجوهر العلوي؟ أفيسوغ لعاقل
يروي هذا الخبر ويدريه أدنى دراية أن يشك في أن المراد منه الإشارة إلى
نصب علي إماما، وأنه لا يجوز لأحد أن يتقدمه بعد الرسول ولا يخالفه فيما
يقول؟ ولا شك أن من رواه ولم يقل ما قلناه، وما عرف معناه ولا دراه ولا
فهم إشارته ولا معزاه كابن أبي الحديد وأصحابه والقوشجي وقبيله وغيرهم
فجوزوا أن يتقدم على المنصوص عليه بهذا التبجيل من يقول (وليتكم ولست
بخيركم وعلي فيكم فأقيلوني) (1) وتارة يقول (إن لي شيطانا يعتريني فإذا



(1) نفس المصدر 1 / 169 وفي مواضع أخرى من الشرح كذلك كما رواها ابن هشام
في السيرة 4 / 340 والطبري في التاريخ 2 / 203 وابن كثير في البداية والنهاية
5 / 247 وليس فيما ذكروه " وعلي فيكم " قال ابن أبي الحديد 1 / 169: " وقد
اختلف الرواة في هذه اللفظة فكثير من الناس رواها: " أقيلوني ولست بخيركم "
ومن الناس من أنكر هذه اللفظة ولم يروها وإنما روى قوله: " وليتكم ولست
بخيركم " واحتج بذلك من لم يشترط الأفضلية في الإمامة " وقال ابن أبي الحديد في
شرح نهج البلاغة 17 / 158 معلقا على قوله: " ولست بخيركم ": فقد صدق عند
كثير من أصحابنا لأن خيرهم علي بن أبي طالب (عليه السلام).
365
زغت فقوموني) (1) ويترأس عليه من يقول: (كل الناس أفقه من عمر حتى
ربات الحجال) (2 وكل ذا رواه المذكور ولا شك أن الشبهات أغشت
أفهامهم، الفتنة أعمت قلوبهم كما قيل: الفتنة إذا أقبلت أعمت عين
البصير، فإن قيل: إن الحديث دال على أن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) أخفى ذلك القول في علي خوفا من القول بالغلو فيه مع أن هذا
القول بالغلو فيه قد حصل، فذهب قوم إلى القول بربوبيته وهم الغلاة
عليهم لعاين الله وقريب منهم المفوضة، فما خاف منه النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) قد وقع؟:
قلت: إن الحديث دال على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يخف من
إبداء ذلك المقال في علي (عليه السلام) ذهاب قوم قليلين من الأمة إلى الغلو
فيه، وإنما خاف من ذهاب معظم الأمة إلى ذلك ألا تراه يقول: (لولا أن
تقول طوائف من أمتي) ولم يقل طائفة ولا قوم، ومن البين أن الغلاة أقل
طوائف الأمة فما وقع لم يخفه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وما خافه
وأخفى لخوفه ذلك المقال لم يقع، وكيف يريد النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) الخوف من حدوث هذا القول مطلقا وهو يقول لعلي (عليه
السلام): (يهلك فيك اثنان محب غال وعدو قال (3) وغيره مما يشبهه فأخبر
أن قوما يغلون فيه، كما أخبر أن قوما سيعادونه، فمراد النبي (صلى الله



(1) شرح نهج البلاغة 17 / 158.
(2) نفس المصدر 1 / 182، وسبب هذا القول أنه نهى الناس عن زيادة مهور النساء على
أربعمائة درهم وأن كل زيادة على ذلك يردها إلى بيت المال فهابه الناس أن يردوا
عليه فقامت إليه امرأة فقالت: الله يعطينا وأنت تمنعنا وتلت قوله تعالى: [وآتيتم
إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا] فقال: (كل الناس أفقه من عمر) انظر تفسير
القرطبي 5 / 99 وتفسير الخازن 1 / 353.
(3) هذا الحديث مشهور بل متواتر عنه (صلى الله عليه وآله).
366
عليه وآله وسلم) ما ذكرناه فلا تناقض ولله الحمد.
ومنها ما رواه ابن أبي الحديد عن أحمد بن حنبل في كتاب الفضائل عن
أنس بن مالك أنه لما كانت ليلة بدر قال رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) (من يستقي لنا ماء؟) فأحجم الناس فقام علي (عليه السلام)
فاحتضن قربة ثم أتى بئرا بعيدة القعر مظلمة فانحدر فيها فأوحى الله إلى
جبرئيل وميكائيل وإسرافيل أن تأهبوا لنصر محمد وأخيه وحزبه، فهبطوا من
السماء لهم لغط يذعر من يسمعه، فلما حاذوا البئر سلموا عليه من عند
آخرهم إكراما له وإجلالا، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله):
(لتؤتين يا علي يوم القيامة بناقة من نوق الجنة فتركبها وركبتك مع ركبتي حتى
تدخل الجنة) (1).
قلت: ولهذا قال عبد الله بن العباس لما سئل عن علي (عليه
السلام): ما أقول في رجل كانت له في ليلة واحدة ثلاثة آلاف منقبة، أو
قال: فضيلة، (2) أراد بذلك تسليم الملائكة عليه تلك الليلة وهم كانوا ثلاثة
آلاف ملك بنص القرآن، وتسليم كل ملك عليه منقبة فلله در ابن عباس في
فطنته ومعرفته بالتأويل، ويا له فضلا حازه أمير المؤمنين (عليه السلام) لا
يسبقه فيه سابق ولا يلحقه لاحق وهو به لحقيق وبنيله لخليق فهو المؤهل
من الله للإمارة كما يشير إليه تسليم الملائكة عليه لا من قال فيه ابن أبي
الحديد الذي هو من شيعته ومواليه حيث قال مشيرا إلى علي (عليه السلام)
وإليه.
ولا كان يوم الغار يهفو جنانه * حذارا ولا يوم العريش تسترا (3)



(1) شرح نهج البلاغة 9 / 172.
(2) نفس المصدر 1 /.
(3) هذا البيت من علوية ابن أبي الحديد التي مطلعها:
جللت فلما دق في عينك الورى * نهضت إلى أم القرى أيد القرا
وأيد بوزن جيد: أي قوي القرا بالفتح الظهر.
367
ومنها ما رواه ابن أبي الحديد عن أحمد بن حنبل في كتاب الفضائل عن
النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (الصديقون ثلاثة، حبيب
النجار الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، مؤمن آل فرعون الذي كان
يكتم إيمانه، وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو أفضلهم) (1) وهذا
الحديث يصدق ما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام): (أنا الصديق الأكبر
وأنا الفاروق الأعظم) ويبطل ما قاله القوم في تسمية غيره بالصديق ولو كان
ما قالوه حقا لقال النبي (صلى الله عليه وآله) الصديقون أربعة وعده
منهم.
ومنها ما رواه ابن أبي الحديد عن أبي جعفر الإسكافي قال: روى أبو
صادق عن ربيعة بن ناجذ عن علي (عليه السلام) قال: قال لي رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم): إن فيك لشبها من عيسى بن مريم أحبته
النصارى حتى أنزلته بالمنزلة التي ليست له وأبغضته اليهود حتى بهتت
أمه) (2).
ومنها ما قال ابن أبي الحديد: روى الناس كافة أن رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) قال لعلي (عليه السلام): (هذا وليي وأنا وليه عاديت من
عاداه وسالمت من سالمه) (3) ونحو هذا اللفظ وهو يدل على أن موالاته هي
الإيمان ولذا قال أبو سعيد الخدري فيما رواه ابن أبي الحديد عن إبراهيم بن
هلال الثقفي في كتاب الغارات، كنا نبور أبناءنا بحب علي ابن أبي طالب



(1) شرح نهج البلاغة 9 / 172.
(2) نفس المصدر 3 / 105 و 5 / 5.
(3) كذلك 4 / 107.
368
(عليه السلام) فمن أحبه عرفنا أنه منا، وعن علي في ذلك الكتاب (لا
يحبني كافر ولا ولد زنا) (1).
ومنها ما رواه ابن أبي الحديد عن إبراهيم بن ديزيل في كتاب صفين
مسند عن أبي سعيد الخدري، قال: كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) فانقطع شسع نعله فألقاها إلى علي (عليه السلام) يصلحها ثم
قال: (إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله) فقال أبو
بكر أنا هو يا رسول الله؟ فقال: لا، فقال عمر بن الخطاب: أنا هو يا
رسول الله؟ قال: (لا ولكنه ذاكم خاصف النعل) ويد علي (عليه
السلام) على نعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلحها، قال أبو
سعيد: فأتيت عليا فبشرته بذلك فلم يحفل به كأنه شئ قد كان علمه من
قبل (2)، وهذا الحديث مشهور وهو ظاهر أي ظهور في النص على إمامة علي
(عليه السلام) لأن النبي (صلى الله عليه وآله) جعله التالي له في
المنزلة، وذلك لأن المنازل ثلاث منزلة النبوة وهو مقام الوحي، ومنزلة
الإمامة وهي مقام التأدية عن الرسول (صلى الله عليه وآله) وتبليغ
أحكام الكتاب إلى الأمة ومنزلة القبول والطاعة وهي منزلة الرعية فبين النبي
(صلى الله عليه وآله) إن منزلة التأدية عنه، والتبليغ وتبيين معاني
الكتاب لعلي (عليه السلام) فهو الإمام بعده المبلغ أمته أحكام التنزيل،
والمفصل لهم مجملات الوحي، وهو المقاتل الناس على قبولهم تأويل القرآن
منه، وتصديقهم ما يقول عنه، كما أن النبي (صلى الله عليه وآله)
قاتل الناس ليقروا بأن القرآن منزل من الله تعالى عليه ويصدقوا بأنه كلام الله
ليس بمختلق ولا مكذوب، فرسول الله (صلى الله عليه وآله) مؤسس



(1) أيضا 4 / 160.
(2) أيضا 3 / 207.
369
الملة وعلي (عليه السلام) موضح أحكام الشريعة، ومبين تأويل الكتاب
والسنة، فهو الخليفة بعده على الأمة، فأين يذهب بابن أبي الحديد عن هذا
ولقد فهم شيخاه ما أشار إليه النبي (صلى الله عليه وآله) في هذا
الحديث من الإمامة؟ فكل تمناها وطلبها ولو لم يعقلوا ذلك من قصد النبي
(صلى الله عليه وآله) ما تطاول كل واحد منهما إلى ذلك، وسأل:
النبي (صلى الله عليه وآله) أنا هو يا رسول الله فواعجباه كيف كان
الشيخان افهم من هذا المعتزلي الجدلي المحقق والخبر رواه أكثر المحدثين.
ومنها ما رواه ابن أبي الحديد من قول النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) (إن الملائكة صلت علي وعلى علي سبع سنين ولم تصل على أحد من
الناس) (1) وذلك أنهما كانا يعبدان الله ولم يكن على وجه الأرض من يصلي لله
غيرهما فشريك النبي (صلى الله عليه وآله) في صلاة الملائكة عليه هو
الأحق بمقامه.
ومنها ما رواه ابن أبي الحديد عن أبي عمر محمد بن عبد الواحد
الزاهد، وعن محمد بن حبيب في أماليه وقال بعد نقله: روى هذا الخبر
جماعة من المحدثين وهو من الأخبار المشهورة، وأنه وجده في بعض نسخ
مغازي محمد بن إسحاق، قال: وسألت شيخي عبد الله بن سكينة عن هذا
الخبر فقال: خبر صحيح (2) وهو أنه لما انهزم الناس عن رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) يوم أحد وأفردوه فوقاه علي بنفسه وفداه بمهجته وجالد
الكتائب دونه حتى قتل من قتل منهم ورجعوا ناكصين، فقال جبرئيل لرسول



(1) أيضا 13 / 230.
(2) أيضا 14 / 251 قال ابن أبي الحديد: " فقلت له: فما بال الصحاح لم تشتمل عليه؟
قال: أو كلما كان صحيحا تشتمل عليه الصحاح، كم قد أهمل جامعوا الصحاح من
الأخبار الصحيحة "!
370
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن هذه المواساة عجبت الملائكة من
مواساة هذا الفتى) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (وما يمنعه
وهو مني وأنا منه) فقال جبرئيل (عليه السلام): (وأنا منكما) فانظر إلى
هذا المقام وعظم هذا المرام بحيث أن الملائكة الكرام عجبت من صبره وبلائه
ومواساته النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك الموقف المهول الذي
ذهلت فيه العقول، وأن جبرئيل سيد الملائكة يطلب الإضافة إليه كما يطلب
ذلك من النبي (صلى الله عليه وآله)، ويعد ذلك من جملة مفاخره
وقول النبي (صلى الله عليه وآله) (هو مني وأنا منه) أليس في هذا
كله ما يدل أو يشير إلى أن عليا هو المستحق لمقام النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) والأولى به دون كل أحد (1).
ومنها ما في الخبر المذكور أيضا قال وسمع ذلك اليوم صوت من قبل
السماء لا يرى شخص الصارخ به ينادي مرارا (لا سيف إلا ذو الفقار ولا
فتى إلا علي (عليه السلام) فسئل رسول الله (صلى الله عليه وآله)
عنه فقال (هذا جبرئيل) (2) فانظر أيضا إلى هذه المنقبة الجليلة التي لا يشك
من سمعها أن عليا هو المخصوص بعناية الله بعد النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم)، والمستحق لمنزلته دون غيره من الصحابة، وكيف يتوهم رشيد أن
الرجل الذي كان بالأمس نوه الله بذكره، وأمر الملائكة أن تعلن بمدحه
لمشاركته الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في صعاب الأمور، وخوضه
دونه غمرات الحروب والذي لا فتى في نصرة الدين وجهاد المشركين وإعزاز
الإسلام وحماية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وطاعة الله مثله، ولا
سيف في كل ذلك كسيفه، والمخصوص من الرسول (صلى الله عليه وآله



(1) أيضا 9 / 182.
(2) أيضا 9 / 182 و 14 / 251.
371
وسلم) بالتقديم في كل شأنه، والتفضيل على أقاربه وأعوانه، والمعدود عنده
للنوائب والمدخر لكشف الشدائد يكون بعده مؤخرا عن مقامه، ومباعدا عن
محله يحكم البعداء عليه في ماله ودمه أو يتصوران الله بذلك راض ورسوله!
حاشا وكلا، بل كل ما ذكرناه من تنويه الله ورسوله (صلى الله عليه وآله
وسلم) باسم علي (عليه السلام) وإعلان الملائكة بمدحه لبيان أنه خليفة
الرسول (صلى الله عليه وآله) بعده في أمته، كما أنه الباذل نفسه في
حياته في طاعة الله وطاعته، والصابر المجاهد في إعلاء كلمته، وهذا ظاهر
لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وهذا الحديث وما قبله يبطلان
ما رواه بعض الخصوم من أن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
بكت (1) عليا (عليه السلام) ذلك اليوم حين قال لفاطمة: أمسكي هذا
السيف غير ذميم فنظر إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) مختضبا
بالدم فقال: (لئن كنت أحسنت القتال اليوم فلقد أحسن عاصم بن ثابت،
والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وسيف أبي دجانة غير ذميم) (2) فإن
هؤلاء وإن كانوا ثبتوا ولم يفروا كما فر غيرهم لكن ليس جهادهم في ذلك
اليوم وغيره يشبه جهاد أمير المؤمنين أو يدانيه كما علمت من قول جبرئيل
(عليه السلام) في أمر المواساة حتى يقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
لعلي إن كنت فعلت كذا فلقد فعل فلان وفلان مثل فعلك، ومن هذا الوجه
يضعف حمل الخبر على إرادة إظهار فضل المذكورين دون تبكيت علي (عليه
السلام) ليرتفع التعارض اللهم إلا على وجه بعيد والله أعلم.
ومنها قول النبي (صلى الله عليه وآله) في علي (عليه السلام)
يوم برز لعمرو بن عبد ود (برز الإيمان كل إلى الكفر كله) رواه ابن أبي



(1) التبكيت: التقريع والتعنيف.
(2) شرح نهج البلاغة 15 / 35.
372
الحديد وهو خبر مشهور بل متواتر وما ظهر من شدة حب النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام) فقد روى ابن أبي الحديد (1) وغيره أن
رسول الله إذ ذاك ما زال رافعا يديه مقمحا رأسه نحو السماء داعيا ربه
قائلا: (اللهم إنك أخذت مني عبيدة يوم بدر وحمزة يوم أحد فاحفظ على
اليوم عليا (عليه السلام) رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين) قال ابن
أبي الحديد: قال شيخنا أبو الهذيل وقد سأله سائل: أيما أعظم منزلة عند الله
علي أم أبو بكر، فقال: يا بن أخي والله لمبارزة علي (عليه السلام) عمرا
يوم الخندق تعدل أعمال المهاجرين والأنصار وطاعاتهم كلها وتربى عليها
فضلا عن أبي بكر وحده، قال: وروى قيس بن الربيع عن أبي هارون
العبدي عن ربيعة بن مالك السعدي قال: أتيت حذيفة بن اليمان فقلت:
يا أبا عبد الله إن الناس ليتحدثون عن علي بن أبي طالب ومناقبه فيقول لهم
أهل البصيرة: إنكم لتفرطون في تقريظ هذا الرجل فهل أنت محدثي بحديث
عنه أذكره للناس؟ فقال: يا ربيعة وما الذي تسألني عن علي وما الذي
أحدثك عنه، والذي نفس حذيفة بيده لو وضع جميع أعمال أمة محمد (صلى
الله عليه وآله وسلم) في كفة الميزان منذ بعث الله محمدا إلى يوم الناس هذا
ووضع عمل واحد من أعمال علي (عليه السلام) في الكفة الأخرى لرجح
على أعمالهم كلها، فقال ربيعة: هذا المدح الذي لا يقام له ولا يقعد ولا
يحمل إني لأظنه إسرافا يا أبا عبد الله، فقال حذيفة، يا لكع وكيف لا يحمل
وأين كان المسلمون يوم الخندق وقد عبر إليهم عمرو وأصحابه فملكهم الهلع
والجزع، ودعا إلى المبارزة فأحجموا عنه حتى برز إليه علي فقتله؟ والذي
نفس حذيفة بيده لعمله ذلك اليوم أعظم أجرا من أعمال أمة محمد (صلى
الله عليه وآله وسلم) إلى هذا اليوم وإلى أن تقوم القيامة (2) انتهى.



(1) نفس المصدر 13 / 285 عن نقض العثمانية للإسكافي و 19 / 61.
(2) المصدر السابق 13 / 283 و 19 / 160 وإنما قال حذيفة استنادا إلى قول رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم): (لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ود يوم الخندق
أفضل من أعمال أمتي إلى يوم القيامة) وقد تقدم تخريج هذا الحديث.
373
أقول وفي هذه القصة وقول النبي (صلى الله عليه وآله): (برز
الإيمان كله..) (1) من الإشارة إلى تقديمه على القوم ما لا يخفى علي ذي
حجى، ولا يحتاج إلى تبيين وتوضيح، وهل كان شبه علي (عليه السلام)
وعمر وذلك اليوم إلا داود وجالوت كما قاله جابر بن عبد الله أو غيره من
الصحابة، فهذه الأفعال والأقوال كلها شواهد حق على إمامة أمير المؤمنين
(عليه السلام)، وأدلة صدق على أنه خليفة رب العالمين، لا يكاد يرتاب
فيها إلا من جانب الانصاف، وسلك فج الاعتساف.
ومما يقوى ما ندعيه ما رواه ابن أبي الحديد عن نصر بن مزاحم في كتاب
صفين عن عمر بن سعد (2) عن مسلم الأعور عن حبة العرني، ورواه أيضا
عن إبراهيم بن ديزيل الهمداني في كتاب صفين، بهذا الإسناد أيضا عن حبة
العرني قال نصر: فروى حبة أن عليا لما نزل على الرقة نزل بموضع يقال له
البلخ (3) على جانب الفرات فنزل راهب هناك من صومعته فقال لعلي (عليه



(1) شرح نهج البلاغة 13 / 285 عن نقض العثمانية للإسكافي.
(2) هو عمر بن سعد بن أبي الصيد الأسدي وكثيرا ما يروي عنه نصر بن مزاحم في كتاب
صفين وقد توهمه بعضهم عمر بن سعد بن أبي وقاص قاتل الحسين (عليه السلام)
ونسي أن من البعد بمكان أن يروي نصر بن مزاحم المتوفى سنة 202 عن عمر بن
سعد المقتول سنة 66، ونذكر بالمناسبة أن الذهبي في ميزان الاعتدال ذكر العمرين
فقال عن ابن أبي الصيد: " شيعي بغيض متروك الحديث " وقال عن الثاني: " هو
في نفسه غير متهم ولكنه باشر قتل الحسين وفعل الأفاعيل) انظر ج 3 ص 98 وص
199 "!!
(3) في شرح النهج " البليخ " وهو الصواب قال عبيد الله بن قيس الرقيات:
ذاك خير من البيلخ ومن * صوت ذئاب علي يدعون ذيبا
وانظر معجم البلدان مادة البليخ.
374
السلام): إن عندنا كتابا توارثناه من آبائنا كتبه أصحاب عيسى بن مريم
أعرضه عليك فقرأ الراهب الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم الذي قضى
فيما قضى وسطر فيما كتب أنه باعث في الأميين رسولا منهم يعلهم الكتاب
والحكمة ويدلهم على سبيل الله، لا فظا ولا غليظا ولا صخابا في الأسواق،
ولا يجزي بالسيئة السيئة، بل يعفو ويصفح أمته الحمادون الذين يحمدون الله
على كل نشز وفي كل صعود وهبوط تدل ألسنتهم بالتكبير والتهليل
والتسبيح، وينصره الله على من ناواه فإذا توفاه الله اختلفت أمته من بعده ثم
اجتمعت فلبثت ما شاء الله ثم اختلفت فيمر رجل من أمته على شاطئ
الفرات يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويقضي بالحق ولا يركس (1)
الحكم، الدنيا أهون عليه من الرماد في يوم عصفت به الريح، والموت عنده
أهون من شرب الماء على الظمآن، يخاف الله في السر وينصح له في
العلانية، لا يخاف في الله لومة لائم، فمن أدرك ذلك النبي من أهل هذه
البلاد فآمن به كان ثوابه رضواني والجنة، ومن أدرك ذلك العبد الصالح
فلينصره، فإن القتل معه شهادة ثم قال: أنا مصاحبك فلا أفارقك حتى
يصيبني ما أصابك، فبكى (عليه السلام) ثم قال: (الحمد لله الذي لم أكن
عنده منسيا، الحمد لله الذي ذكرني عنده في كتب الأبرار) فمضى الراهب
معه ثم ذكر أنه أصيب بصفين، وأن عليا (عليه السلام) صلى عليه ودفنه،
وقال: (هذا منا أهل البيت) واستغفر له مرارا (2)، فهذا الحديث مصرح بأن
عليا (عليه السلام) هو المخصوص بالذكر بعد النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) بتعيينه في كتب الله السابقة المنزلة على الأنبياء فيكون هو الخليفة من
بعده، لأن ذكره معه يشير إلى أنه وصيه والقائم مقامه من بعده، ثم انظر



(1) الركس: رد الشئ مقلوبا وفي كتاب صفين " ولا يرتشي في الحكم ".
(2) شرح نهج البلاغة 3 / 206 وكتاب صفين ص 164.
375
إلى ما وصفه الله به في هذا الكتاب مما لا يوازن به وصف ولا يبلغه إلا
الأنبياء المرسلون، وهو أدل دليل على كون المراد من الكتاب بيان أنه (عليه
السلام) خليفة النبي (صلى الله عليه وآله) ووصيه إذ لم يذكر غيره
على الخصوص بشئ مما يشير إلى معنى الإمامة بالمرة، فليسوا عند الله بخلفاء
النبي (صلى الله عليه وآله) يقينا، وأنت إذا نظرت ما رسمناه
وتدبرت في جميع ما حررناه نظر متأمل متبصر قطعت وجزمت بأنها نصوص
صراح متضحة أي اتضاح في إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وعلمت
يقينا أن إنكار النص عليه ممن روى تلك الروايات أو اطلع عليها في الكتب
الصحيحة عنده ناش عن رأي غير سديد، وعقل غير رشيد، كما صدر من
أمثال ابن أبي الحديد ونحن نسأل الله التوفيق إلى ولاية مولانا أمير المؤمنين (عليه
السلام) ونرغب إلى الله في التسديد.
فإن قيل: إنكم رويتم هذه الأحاديث من كتب خصومكم واعتمدتم
عليها في مطلبكم، فإن يكن ذلك لوثاقتهم عندكم فيلزمكم قبول روايتهم في
أئمتهم، وإن لم يكونوا عندكم موثوقا بهم فليس لكم أن تعتمدوا على شئ
مما رووه، وليس لكم أن تأخذوا من روايتهم ما يوافق مطلوبكم دون ما
يخالفه لأن ترجيح بلا مرجح، ومن قبلته لك لا بد أن تقبله عليك.
قلنا: أما اعتمادنا على الروايات المروية في كتب خصومنا الواردة في
مناقب أئمتنا عليهم السلام فليس لأنهم عندنا ثقات، ولا أن روايتهم
مقبولة، ولا لأنها موافقة لمطلوبنا، بل لأنها مذكورة بألفاظها ومعانيها وأمثال
أمثالها مما لا يحصى كثرة في كتب أصحابنا المعتبرة من الطرق الموثوق بها،
والأسانيد الموثوق برجالها، ولو لم تكن موجودة عندنا، ومروية من طرقنا،
ومثبتة في صحاح أخبارنا، وكثير منها منقول بالتواتر لضربنا عنها الذكر
صفحا، ولما عرجنا عليها، ولا التفتنا إليها، وهذا بخلاف روايتهم في

376
أئمتهم فإنهم يختصون بنقلها، وليس في رواية أصحابنا منها عين ولا أثر،
فلذا نحن لا نقبلها لعلمنا بعدم وثاقه ناقليها، بل علمنا باصطناعهم إياها،
على أن أكثرها أو جميعها ينتهي إسناده إلى من علمت منهم العداوة لأمير
المؤمنين (عليه السلام) وأولاده وذويه، وتزويره الأحاديث في عيبهم
وذمهم، فهو يضيف إليها اختلاق أخبار في فضائل المتقدمين عليهم لتكون
معارضة لروايات فضائلهم ومناقبهم، ليبلغ غرضه من تهجينها عند الرعاع
والغوغاء وينال بذلك الإنعام الوافر عند أعدائهم كأبي هريرة والمغيرة بن شعبة
وعمرو بن العاص وابن عمر وعروة بن الزبير وسمرة بن جندب وأضرابهم وكل
هؤلاء مصرحون ببغض أمير المؤمنين (عليه السلام) والانحراف عنه، وقد
ذكر ابن أبي الحديد في بيان المنحرفين عن علي (عليه السلام) هؤلاء وجماعة
كثيرة من أمثالهم وذكر أقوالهم الشنيعة فيه كل ذلك في شرح النهج (1) وذكر
تفصيل ذلك وبيانه قبله أبو جعفر الإسكافي (2)، ومنها ما اصطنعه أتباعهم من
القراء والفقهاء والمحدثين لمثل أغراضهم كما أسلفنا بيانه في رد حجة
القوشجي، فمن هذه حالهم كيف يصح الثقة برواياتهم؟ على أن كثيرا منها
مدخول فيه، وكثير منها لائح عليه آثار الوضع، وجلها مخالف لصريح
القرآن، وقد أمرنا من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) برد ما خالف
القرآن من الأخبار المروية عنه، وقد طعن فيها جماعة من الخصوم بالوضع
بعضهم صريحا وبعضهم لزوما من حيث لا يشعرون، وطعن ابن أبي الحديد
في بعضها صريحا، والكلام في هذا قدمنا منه ما فيه الكفاية في إبطال احتجاج
القوشجي بجملة منها، فهذا هو الفارق بين قبولنا رواية الخصوم في فضائل
أئمتنا (عليه السلام) دون روايتهم في فضائل أصحابهم وهو المرجح للقبول



(1) نفس المصدر 4 / 74 - 103.
(2) المصدر السابق 4 / ص 63 فما بعدها.
377
والرد، وأما ذكرنا إياها من كتبهم فلأنا في مقام خصام والحجة ما لم يعترف
بصحتها الخصم لا تثبت بها الدعوى ولا يقطع بها العذر، فلذا اخترنا نقلها
من كتبهم من باب إلزام كل إنسان بما التزم به، ولعدم قدرتهم على إنكارها
إذ لا سبيل لهم إليه إلا بإنكار تلك الكتب، وفي إنكارها إبطال مذهبهم
واستئصال طريقتهم، ونقض حجتهم، وذلك هو المطلوب فاندفع
الاعتراض بعون الله.

378
تتميم وتكميل
وإذا قد انتهينا إلى هنا فلنذكر طائفة من الأحاديث والأخبار الدالة على
إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) والمشيرة إلى ذلك والمصرحة بفضله مما لم
يذكره ابن أبي الحديد ولا أشار إليه، وننقلها من كتب الموافقين له في إنكار
النص على أمير المؤمنين والمشاركين له في تقديم غيره عليه ومن رواياتهم لأنا
التزمنا في أول إيراد النصوص أن لا نورد منها إلا
ما رواه المعتزلي المذكور بلفظه وبمعناه ومضمونه أو أشار إليه فلذا لم
نذكر في تلك المباحث إلا ما كان كذلك على أنا لم نقطع بأنا قد استقصينا
جميع ما ذكره المشار إليه في كتابه مما يدخل في تلك الأبواب، ولم نجزم بأن ما
ذكرناه وما سنذكره إن شاء الله تعالى - في مواضعه الآتية جميع ذلك لطول
الكتاب وتفرقها فيه فلعلنا أغفلنا ذكر شئ منه إن نسينا وقت جمع هذا
الكتاب موضعه، لكني أرجو أن ما نذكره إن كان لا يكون خارجا عن
حدود الأنواع المذكورة فنذكر هنا ما أشرنا إليه.
فمن ذلك ما رواه الطبراني سليمان بن أحمد بسنده عن عبد الله بن
حكيم الجهني قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (إن الله تبارك
وتعالى أوحى لي في علي ثلاثة أشياء ليلة أسرى بي بأنه سيد المؤمنين، وإمام
المتقين، وقائد الغر المحجلين (1).



(1) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 121 وقال: " رواه الطبراني في الصغير " كما رواه
الحاكم في المستدرك 3 / 137 والمحب في الرياض 2 / 177 وغيرهم.
379
وروى أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره في حديث طويل عن أبي ذر أنه
قال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر الغفاري،
سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) بهاتين وإلا صمتا يقول في
علي بن أبي طالب: (قائد البررة، قاتل الكفرة، منصور من نصره مخذول
من خذله) (1).
وروى الترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري قال: ما كنا نعرف
المنافقين على عهد رسول الله إلا ببغضهم عليا (2) (عليه السلام).
وفي كتاب الخصائص عن العباس بن عبد المطلب، قال: سمعت
عمر بن الخطاب وهو يقول: كفوا عن ذكر علي بن أبي طالب إلا بخير فإني
سمعت رسول الله يقول في علي ثلاثة خصال وددت لو إن لي واحدة منها
كل واحدة منهن أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، وذاك أني كنت أنا وأبو
بكر وأبو عبيدة بن الجراح ونفر من أصحاب رسول الله إذ ضرب النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) على كف علي بن أبي طالب وقال: (يا علي أنت أول
المسلمين اسلاما وأنت أول المؤمنين إيمانا، وأنت مني بمنزلة هارون من
موسى، كذب من زعم أنه يحبني وهو يبغضك، يا علي من أحبك فقد
أحبني، ومن أحبني أحبه الله تعالى، ومن أحبه الله تعالى أدخله الجنة، ومن
أبغضك فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغضه الله تعالى وأدخله النار) (3).
أقول غير خفي على من له اطلاع أن الراوي من القسم الثاني وبيان ذلك



(1) نقله في نور الأبصار ص 17 عن تفسير الثعلبي.
(2) رواه الصبان في إسعاف الراغبين ص 156 وأشار إلى أن الترمذي أخرجه عن أبي
سعيد وانظر الترمذي 2 / 299.
(3) وشرح نهج البلاغة 3 / 230 عن نقض العثمانية.
380
مضى منه شئ ويأتي منه شطر.
وروى ابن خالويه في كتاب الآل عن أبي سعيد الخدري قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي: (حبك إيمان وبغضك نفاق،
وأول من يدخل الجنة محبك، وأول من يدخل النار مبغضك) (1).
وعن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله) نظر إلى علي بن
أبي طالب فقال له: (أنت سيد في الدنيا، سيد في الآخرة، من أحبك فقد
أحبني ومن أبغضك فقد أبغضني وبغضك يغضب الله تعالى فالويل كل الويل
لمن أبغضك) (2).
روى الثعلبي في تفسيره أن سفيان بن عيينة سئل عن قول الله عز وجل
(سأل سائل بعذاب واقع) فيمن نزلت فقالت للسائل لقد سألتني عن مسألة
ما سألني أحد عنها حدثني أبي عن جعفر بن محمد عن آبائه أن رسول الله
(صلى الله عليه وآله) لما كان بغدير خم نادى الناس فاجتمعوا فأخذ
بيد علي (عليه السلام) وقال: (من كنت مولاه فعلي مولاه) فشاع ذلك
فطار في البلاد وبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري فأتى رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) على ناقة له فأناخ راحلته ونزل عنها وقال: يا محمد
أمرتنا عن الله عز وجل أن نشهد ألا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلناه
منك، وأمرتنا أن نصلي خمسا فقبلناه منك، وأمرتنا بالزكاة فقبلناه منك،
وأمرتنا أن نصوم فقبلناه، وأمرتنا بالحج فقبلناه، ثم لم ترض بهذا
حتى رفعت بضبعي ابن عمك تفضله علينا فقلت: (من كنت مولاه فعلي
مولاه) فهذا شئ منك أم من عند الله عز وجل؟ فقال النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم): (والذي لا إله إلا هو أن هذا من عند الله عز وجل)



(1) نور الأبصار ص 80 عن كتاب الآل لابن خالويه.
(2) المصدر السابق ص 80.
381
فولى الحارث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول
محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل إلى
راحلته حتى رماه الله عز وجل بحجر سقط على هامته فخرج من دبره فقتله،
فأنزل الله عز وجل: [سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من
الله ذي المعارج] (1).
قال في المناقب مختصر مناقب الحافظ أبي عبد الله البلخي الشافعي وهو
يذكر حديث مبيت علي (عليه السلام) على فراش النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) ليلة الغار: وقال بعض أصحاب الحديث: وأوحى الله تعالى إلى
جبرئيل وميكائيل أن انزلا إلى علي (عليه السلام) واحرساه في هذه الليلة إلى
الصباح، فنزلا إليه وهما يقولان بخ بخ من مثلك يا علي قد باهى الله بك
ملائكته (2).
قال: ونقل الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في كتابه إحياء علوم
الدين أن ليلة بات علي بن أبي طالب على فراش رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) أوحى الله إلى جبرئيل وميكائيل: إني آخيت بينكما وجعلت عمر
أحدكما أطول من الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة فاختار كل منهما الحياة
فأوحى إليهما: أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمد فبات
على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة فاهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه،
فكان جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه ينادي فيقول: بخ بخ من
مثلك يا بن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة فأنزل الله عز وجل: [ومن



(1) المصدر السابق ص 87 عن تفسير الثعلبي.
(2) مباهاة الجليل جل وعلا ملائكته بعلي (عليه السلام) نقلها جماعة من علماء أهل
السنة نذكر منهم الرازي في تفسيره ج 5 / 204، وابن الأثير في أسد الغابة ج 4
ص 5 والغزالي في إحياء العلوم كما يأتي قريبا وغيرهم.
382
الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد] (1) انتهى (2).
أقول وهذا الخبر كما ترى يدل على فضل لا يعلم منتهاه ولا يعرف لأحد
من أولياء الله مثل هذه الفضيلة وهو يكذب ما ولده أبو بكر الأصم في حديث
المبيت من أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لعلي (عليه
السلام): (لن يصل إليك منهم أمر تكرهه) إذ لو كان الأمر هكذا لم يكن
علي (عليه السلام) فدى النبي (صلى الله عليه وآله) بنفسه ولا آثره
بالحياة ولم يكن شرى نفسه ابتغاء مرضاة الله إذ لا يكون ذلك إلا إذا كان يجوز
القتل على نفسه في مبيته بل يظنه فيكون قد سخى بنفسه في فداء النبي
(صلى الله عليه وآله)، أما إذا كان قاطعا بالسلامة لإخبار النبي
(صلى الله عليه وآله) إياه بعدم وصول مكروه من المشركين إليه فلا
شئ من ذلك بحاصل لأنه إذ ذاك لم يقدم على مخوف، ولا وطن نفسه
على ملاقاة المكروه، فلا مشقة عليه في ذلك التكليف ومن كان هذا شأنه لا
يستحق شيئا من المدح فكيف يباهي الله به سادات الملائكة ويفضله عليهم
كما ترى؟ فدل المدح من الله تعالى لعلي (عليه السلام) على أن تلك الزيادة
مكذوبة لتهجين هذه الفضيلة حيث لم يكن لغيره ما يدانيها تلك الليلة فلم
يباه الله به ملكا ولم تنزل بالتصريح بمدحه آية والحق لا يخفى.
ووجه آخر وهو أنه قد صح في رواية الخصوم من غير خلاف أن المشركين
كانوا يرجمون عليا بالحجارة تلك الليلة حتى أثر في جسده، وهذا لا شك
مكروه وصل إليه من المشركين، ولو كان النبي (صلى الله عليه وآله)
أخبره بعدم وصول مكروه إليه منهم إذن ما وصل إليه من ذلك شئ، إذ لا
تجوز المخالفة في أخبار النبي (صلى الله عليه وآله) فبطل ما قاله



(1) البقرة 207.
(2) إحياء العلوم 3 / 238 ونقله عن الإحياء الشبلنجي في نور الأبصار ص 86.
383
الأصم وتابعوه وبالله التوفيق.
وروى البيهقي أن عليا (عليه السلام) ظهر من البعد فقال النبي:
(هذا سيد العرب) فقالت عائشة ألست سيد العرب؟ فقال: (أنا سيد
العالمين وهذا سيد العرب) ورواه الحاكم عن ابن عباس بلفظ: (أنا سيد
ولد آدم وعلي سيد العرب) (1).
وروى الترمذي والحاكم وصححه عن بريدة قال: قال رسول الله
(صلى الله عليه وآله): (إن الله أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه
يحبهم) قيل: يا رسول الله سمهم لنا قال: (علي منهم) يقول ذلك ثلاثا
(وأبو ذر والمقداد وسلمان) (2).
أقول: هؤلاء محبوا علي (عليه السلام) حقا ومحب علي يحبه الله ويأمر
بمحبته.
وأخرج أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة عن حبيش بن جنادة قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) (علي مني وأنا من علي ولا يؤدي
عني إلا علي) (3).
روى الطبراني والحاكم وصححه عن أم سلمة (رضي الله عنها) قالت:
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا غضب لم يجترء أن يكلمه إلا
علي (4).



(1) رواه في الصواعق ص 73 عن البيهقي، ومستدرك الحاكم 3 / 124.
(2) الترمذي 2 / 199 والحاكم في المستدرك 3 / 130 وابن ماجة في السنن ص 14،
وابن عبد البر في الإستيعاب 1 / 55.
(3) مسند أحمد 4 / 164 و 165، والترمذي 2 / 299 وخصائص النسائي 19 و 20
وسنن أبي ماجة 12.
(4) فيض القدير 5 / 150 وقال: " أخرجه الطبراني " ومستدرك الحاكم 3 / 130.
384
وأخرجا بإسناد حسن عن ابن مسعود أن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) قال: (النظر إلى وجه علي عبادة) (1).
وروى أبو يعلى والبزاز عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله:
(من آذى عليا فقد آذاني) (2).
وروى الطبراني بسند حسن عن أم سلمة (رضي الله عنها) عن رسول
الله قال: (من أحب عليا فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله ومن أبغض
عليا فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله) (3).
وروى أحمد والحاكم وصححه عنها (رضي الله عنها) قالت: سمعت
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (من سب عليا فقد سبني) (4).
وأخرج الملا في سيرته أنه (صلى الله عليه وآله) أرسل أبا ذر ينادي
فرأى رحى تطحن في بيته وليس معها أحد فأخبر النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) بذلك فقال: (يا أبا ذر أما علمت أن لله ملائكة سياحين في الأرض
قد وكلوا بمعاونة آل محمد) (5).
أقول هذه المنقبة إن لم تكن من المعاجز كرد الشمس وما أشبهها فهي من
الكرامات العظيمة الدالة على فضل لا يدرك كنهه وهل سمعت بولي من
أولياء الله البررة وأنبيائه الكرام تطحن الملائكة بره وتخدمه في مؤنة طعامه



(1) مستدرك لحاكم 3 / 140 و 142 وفيض القدير 5 / 152 وقال: " أخرجه الطبراني ".
(2) مجمع الزوائد 9 / 129 وقال: " أخرجه أبو يعلى والبزار " وكذلك في نور الأبصار ص
72.
(3) كنز العمال 6 / 158 وأشار إلى أن الطبراني أخرجه من طريق أبي رافع وأم سلمة.
(4) مسند أحمد 6 / 323، ومستدرك الحاكم 1 / 121.
(5) رواه المحب في الرياض 2 / 222 عن سيرة الملا وفيه " بمعونة آل محمد ".
385
غير علي (عليه السلام).
وأخرج الطبراني في الأوسط عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (علي مع القرآن والقرآن مع علي لا
يفترقان حتى يردا على الحوض) (1).
قال في الإسعاف وقد روي من طرق عديدة منها صحيح وحسن أن النبي
(صلى الله عليه وآله) قال لعلي (عليه السلام): (أشقى الناس
رجلان الذي عقر الناقة والذي يضربك على هذه) وأشار إلى يافوخه حتى
تبتل منه هذه وأشار إلى لحيته (2).
وروى البيهقي والديلمي عن أنس أن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) قال: (علي يزهر في الجنة ككوكب الصبح لأهل الدنيا) (3).
أقول: وظني أن القوم لمعارضته هذا الخبر وضعوا حديث (سراج أهل
الجنة عمر) (4).
وروى الديلمي عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
قال: (علي مني بمنزلة رأسي من بدني) (5).
أقول لينظر الناظر في هذا المقام العلي الذي ثبت لمولانا علي من النبي
(صلى الله عليه وآله) حيث جعله بمنزلة الجزء من بدنه، ثم لم يرض



(1) الصواعق ص 74 ونور الأبصار ص 72 وقالا: " أخرجه الطبراني في الأوسط ".
(2) إسعاف الراغبين والحديث رواه جملة من المحدثين.
(3) كنز العمال 6 / 153 - 155 وقال: " أخرجه البيهقي في فضائل الصحابة ".
(4) نور الأبصار ص 61.
(5) المصدر السابق ص 80 وإسعاف الراغبين ص 160 وفيهما أن الديلمي أخرجه عن
ابن عباس.
386
له إلا بأشرف الأعضاء كلها أفترى أن هذا الكلام ليس بنص على إمامته،
ولا حث على تقديمه في خلافته! بل والله هو من أصرح النصوص على ذلك
وأوضحها، إذ لا يعقل أن النبي (صلى الله عليه وآله) يرضى
بتقدم أحد من الناس على من كان منه بمنزلة الرأس من البدن، وهذا ظاهر
لمن وعى قال أبو علي: صح عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه سئل
عن بعض أصحابه فقال قائل: فعلي فقال: (إنما سألتني عن الناس ولم
تسألني عن نفسي) (1).
وروى الترمذي والحاكم أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال:
(إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة علي وعمار وسلمان) (2).
وروى البخاري ومسلم أن النبي (صلى الله عليه وآله) وجد عليا
مضطجعا في المسجد وقط سقط رداؤه عن شقه فأصابه تراب فجعل النبي
(صلى الله عليه وآله) يمسحه عنه ويقول: (قم أبا تراب قم أبا
تراب) فكانت هذه الكنية أحب الكنى إليه لأنه (صلى الله عليه وآله وسلم)
كناه بها (3)
وروى أحمد في المناقب عن علي (عليه السلام) قال: جلس النبي
(صلى الله عليه وآله) في حائط فضربني برجله فقال: (قم فوالله
لأرضينك أنت أخي وأبوك والدي قاتل على
سنتي، من مات على عهدي فهو في كنز الجنة، ومن مات على



(1) مجمع البيان 2 / 453.
(2) إسعاف الراغبين ص 160 عن الترمذي والحاكم.
(3) صحيح البخاري 1 / 114 كتاب الصلاة باب نوم الرجال في المسجد و ج 4 / 208
كتاب المناقب و ج 7 / 117 كتاب الأدب باب التكني، وصحيح مسلم 7 / 120 باب
فضائل الصحابة من فضائل علي بن أبي طالب.
387
عهدك فقد قضى نحبه، ومن مات يحبك بعد موتك ختم الله له بالأمن
والإيمان ما طلعت شمس أو غربت) (1).
وروى الطبراني أن عليا (عليه السلام) قال: إن خليلي (صلى الله عليه
وآله وسلم) قال: (يا علي إنك ستقدم على الله أنت وشيعتك راضيين
ومرضيين ويقدم أعداؤك غضابا مقمحين) (2).
وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل لقواعد
التفضيل بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي عن علي (عليه السلام) أنه
قال: إن الله تعالى إيانا عني بقوله: [لتكونوا شهداء على الناس] (3) فرسول
الله (صلى الله عليه وآله) شاهد علينا ونحن شهداء الله على خلقه
وحجته في أرضه ونحن الذين قال تعالى: [وكذلك جعلناكم أمة
وسطا].
وروى أبو علي (رضي الله عنه) عن أبي الحمد مهدي بن نزار الحسيني
قال: حدثنا أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله الحسكاني قال: أخبرنا أبو
عبد الله الشيرازي قال: أخبرنا أبو بكر الجرجاني قال: حدثنا أبو أحمد
البصري قال: حدثنا أحمد بن عمار بن خالد قال: حدثنا يحيى بن
عبد الحميد الحماني قال: حدثنا قيس بن الربيع عن أبي هارون العبدي عن
أبي سعيد الخدري أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما نزلت
[اليوم أكملت لكم دينكم] الآية قال: (الله أكبر على إكمال الدين وإتمام
النعمة ورضا الرب برسالتي وولاية علي بن أبي طالب من بعدي) وقال:
(من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم والله من والاه وعاد من عاداه وانصر من



(1) نقله المحب في الرياض 2 / 167. وقال: " أخرجه أحمد في المناقب ".
(2) إسعاف الراغبين ص 158 ونور الأبصار ص 80 عن الطبراني.
(3) البقرة: 143.
388
نصره واخذل من خذله) قال الربيع بن أنس: نزلت الآية في المسير في حجة
الوداع (1) قال علي بن إبراهيم من أصحابنا: كان نزولها بكراع الغميم
فأقامها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالجحفة (2).
وروى الثعلبي في تفسيره بإسناده مرفوعا إلى ابن عباس قال: نزلت هذه
الآية: [يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك] في علي (عليه
السلام) أمر النبي (صلى الله عليه وآله) أن يبلغ فيه فأخذ رسول الله
بيد علي (عليه السلام) فقال: (من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وآل من
والاه وعاد من عاداه) (3).
وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن ابن عباس وجابر بن
عبد الله الأنصاري قالا: أمر الله محمدا أن ينصب عليا للناس ويخبرهم
بولايته فتخوف رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يقولوا حابى ابن
عمه وأن يطعنوا في ذلك عليه فأوحى الله إليه هذه الآية فقام بولايته يوم غدير
خم (4).
وروى الواحدي في كتابه المسمى بأسباب النزول عن أبي سعيد الخدري
قال: نزلت هذه الآية: [يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك] يوم
غدير خم قال بعض الشافعية هكذا ذكره الشيخ محيي الدين النووي (5)
انتهى.



(1) مجمع البيان 3 / 159.
(2) نقله عن تفسير علي بن إبراهيم الطبرسي في مجمع البيان 3 / 159.
(3) رواه النيسابوري في تفسيره (الكشف والبيان) بطريقين الأول عن أبي جعفر الباقر
(عليه السلام) والثاني عن ابن عباس كما في العمدة لابن البطريق ص 42.
(4) مجمع البيان 2 / 233 عن شواهد التنزيل للحسكاني.
(5) أسباب النزول للواحدي ص 150.
389
وروى أبو طالب الهروي بإسناده عن علقمة والأسود عن أبي أيوب
الأنصاري أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال لعمار: (يا عمار
سيكون بعدي هنات حتى يختلف وله السيف فيما بينهم وحتى يقتل بعضهم
بعضا وحتى يبرء بعضهم من بعض فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن
يميني علي بن أبي طالب فإن سلك الناس كلهم واديا وسلك علي واديا فاسلك
وادي علي وخل عن الناس يا عمار أن عليا لا يردك عن هدى ولا يدلك على
ردى يا عمار طاعة علي طاعتي وطاعتي طاعة الله) (1).
وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني قال: حدثني محمد بن القاسم بن
أحمد قال: حدثنا أبو سعيد محمد بن الفضيل بن محمد قال: حدثنا محمد بن
صالح العرزمي قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: حدثنا أبو سعيد
الأشجع عن أبي خلف الأحمر عن إبراهيم بن طهمان عن سعيد بن أبي عروبة
عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية:
[واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة] (2) قال النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم): (من ظلم عليا مقعدي هذا بعد وفاتي فكأنما جحد نبوتي
ونبوة الأنبياء قبلي) (3).
أقول وهذا الحديث نص في المطلب وصريح في المقصد قد دل بصراحته
على أن من تقدم على علي (عليه السلام) في خلافة النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) فهو بمنزلة من جحد نبوته ونبوة من قبله من الأنبياء كما أسلفنا
بيانه ويأتي ما هو واضح فيه إن شاء الله ودعوى الخصوم رضاه معلومة البطلان
بالبيان والبرهان.



(1) نقله في مجمع البيان 4 / 534 عن أبي طالب الهروي بسنده عن أبي أيوب الأنصاري.
(2) الأنفال: 25.
(3) مجمع البيان 4 / 534 عن الحسكاني وانظر أنوار التنزيل للحسكاني 1 / 207.
390
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: (كونوا مع
الصادقين) (1) مع علي (عليه السلام) وأصحابه (2).
روى مشهورا في قوله تعالى: [رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم
من قضى نحبه] (3) أنه يعني حمزة بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب:
[ومنهم من ينتظر] أنه يعني علي بن أبي طالب وفي رواية بزيادة عبيدة بن
الحارث بن المطلب شهيد بدر (4).
واتفق المفسرون أن عليا (عليه السلام) هو المؤمن في قوله تعالى: [أفمن كان
مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون] (5) فأمير المؤمنين (عليه السلام) هو
الصادق على الإطلاق وهو وأصحابه الثلاثة هم الصادقون بما عاهدوا الله
عليه [وما بدلوا تبديلا] كغيرهم وهو المؤمن وهو البر في قوله تعالى:
[إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا] (6) وهو [الذي عنده
علم الكتاب] في قوله تعالى: [قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن
عنده علم الكتاب] (7). كما عن ابن مسعود وأبي عبد الرحمن السلمي
ويشهد لذلك ما روي عن علي (عليه السلام) أنه قال: (والله ما نزلت آية
إلا وقد علمت فيمن نزلت وأين نزلت وعلى من أنزلت إن ربي وهب لي قلبا



(1) التوبة: 119.
(2) في الدر المنثور في تفسير سورة التوبة " مع علي بن أبي طالب " وقال: " أخرجه ابن مردويه
عن ابن عباس وأخرجه ابن عساكر عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام).
(3) الأحزاب: 23.
(4) نور الأبصار ص 97 والصواعق ص 80.
(5) السجدة: 18.
(6) الإنسان: 5.
(7) الرعد: 43.
391
عقولا ولسانا ناطقا)، رواه ابن سعد (1) وروى هو وغيره عن أبي الطفيل
قال: ل علي (عليه السلام): (سلوني عن كتاب الله فإنه ليس من آية إلا
وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل) (2).
أقول أنى يداني هذا من يقول أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت
في كتاب الله بالرأي فيخبر عن نفسه أنه لم يعرف معاني الكتاب ولم يستعلم
أحكامه من النبي (صلى الله عليه وآله) ثم هو يتقدم على عالم الكتاب
في إنفاذ أحكامه فيالله للعجب العجاب قال في المناقب سأل معاوية خالد بن
يعمر فقال له علام أحببت عليا فقال على ثلاث خصال على حلمه إذا غضب
وعلى صدقه إذا قال وعلى عدله إذا حكم (3).
وروي مشهورا أن معاوية قال لضرار بن ضمرة، صف لي عليا فقال:
اعفني فقال: أقسمت عليك لتصفه، قال: أما إذا كان كلا ولا بد فإنه والله
كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجر العلم
من جوانبه، وتنطق الحكمة من لسانه، يستوحش من الدنيا وزهرتها،
ويأنس بالليل ووحشته، وكان غزير الدمعة، طويل الفكرة، يعجبه من
اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، وكان فينا كأحدنا يجيبنا إذا
سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكاد
نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين، ويقرب المساكين، لا يطمع القوى في
باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد
أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، قابضا على لحيته، يتململ تململ
السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا غري غيري، أبي تعرضت



(1) الطبقات لابن سعد 2 / ق 2 ص 101.
(2) نفس المصدر.
(3) شرح نهج البلاغة 16 / 111.
392
أم إلي تشوقت، هيهات هيهات قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها، فعمرك
قصير، وخطرك يسير، وعيشك حقير، آه من قلة الزاد، وبعد السفر،
ووحشة الطريق، فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك
فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ فقال: حزن من ذبح ولدها في حجرها فهي لا
يرقى دمعها ولا يخفى فجعها (1).
وفي مختصر (2) مناقب البلخي الشافعي لبعض الشافعية قال روي عن علي
أنه قال في مجلسه العام: (سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن علم السماء
فإني أعلمها زقاقا زقاقا وملكا ملكا) فقال رجل من الحاضرين: حيث
أدعيت ذلك يا ابن أبي طالب ابن جبرئيل هذه الساعة فغطس قليلا وتفكر في
الأسرار ثم رفع رأسه قائلا إني طفت السماوات السبع فلم أجد جبرئيل وأظنه
أنت أيها السائل فقال السائل: بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب وربك
يباهي بك الملائكة ثم سجى عن الحاضرين (2).
أقول ويصدق هذا الخبر قول أمير المؤمنين في بعض خطبه " إني بطرق السماء أعلم
مني بطرق الأرض (3) " ويزيل استبعاد النفوس الضعيفة عنه ما أوضحناه في مسألة توقف
الإمامة على النص حيث أقمنا هناك أدلة الحكمة والشرع على جواز الالهام لأولياء الله.



(1) ضرار بن ضمرة وقد تصحف ضمرة إلى حمزة مولى أم هاني بنت أبي طالب، وكان
من أشد الناس حبا لعلي (عليه السلام) وإخلاصا له، وقد روى بعض كلامه سلام الله
عليه ومنه هذا الخبر الذي رواه كثير من حملة الآثار كابن عبد البر في الإستيعاب
3 / 42 بترجمة علي (عليه السلام) وأبو نعيم في الحلية 1 / 84 والقالي في الأمالي
2 / 143 والمسعودي في مروج الذهب 3 / 433.
(2) نقله المؤلف عن مختصر مناقب الشافعي ولو نقل مثل في كتب الإمامية لعد من
الإسراف في الغلو.
(3) نهج البلاغة من الخطبة 187.
393
وروي مستفيضا أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان جالسا في
المسجد وعنده أناس من الصحابة إذا جاء رجلان يختصمان فقال أحدهما يا
رسول الله إن لي حمارا ولهذا بقرة وإن بقرته نطحت حماري فقتلته فبدر رجل
من الحاضرين فقال لا ضمان على البهائم فقال رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم): (اقض بينهما يا علي) فقال علي (عليه السلام): كان الحمار
والبقرة موثقين أم كانا مرسلين أم أحدهما موثقا والآخر مرسلا فقال لا كان
الحمار موثقا والبقرة مرسلة وصاحبها معها فقال علي (عليه السلام) على
صاحب البقرة الضمان وذلك بحضرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
فقرر حكمه وأمضى قضاءه (1) قال بعض العامة: هناك قال النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) لأصحابه: (أقضاكم علي) (2).
قلت: ما أشبه هذه الواقعة بواقعة الحرث والغنم، وما أشبه حكم أمير
المؤمنين فيها بحكم سليمان بن داود، وله (عليه السلام) مثل ذلك ما
تضيق صدور الأرقام عن سطره وتعيى رؤوس الأقلام عن نقله ونظمه
ونثره، وتكل الألسن عن ذكره ونشره، وقد ذكرنا جملة من الأخبار التي
تدخل في سلك هذا الباب في رد احتجاج القوشجي على أفضلية الثلاثة
وجميع ما أثبتناه من الأحاديث والآيات هنا بين ناص على إمامة أمير المؤمنين
(عليه السلام) بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ومصرح بخلافته،
وبين ظاهر فيها ومشير إليها، وكلها تصرح بأفضليته وتنطق بعلو شأنه
وجلالته، فهي لما ذكرناه من النصوص المرتبة في الفصول السابقة معاضدة



(1) الصواعق المحرقة ص 73 ونور الأبصار ص 79 وإسعاف الراغبين ص 157.
(2) نور الأبصار 79 وإسعاف الراغبين ص 157 وقال ابن أبي الحديد في شرح نهج
البلاغة 1 / 18: " قد روت العامة والخاصة قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
(أقضاكم علي).
394
ولما حررناه من أدلة الإشارات والظواهر مساعدة، وكلها أو جلها مأخوذ
من الكتب التي يقر بصحتها خصمنا المعتزلي كما يعترف بثبوتها الأشعري
تكون حجة على كل منهما فيما ندعيه من النص الجلي، على مولانا أمير
المؤمنين (عليه السلام)، ومن يهدي الله فهو المهتدي.
احتج ابن أبي الحديد على فقدان النص بحديث السقيفة وأن عليا
(عليه إسلام) لم يحتج إذ ذاك بالنص ونقل الخبر من كتاب الجوهري وكان يثنى
عليه بأنه من الثقات المأمونين، قال: ونحن نذكر خبر السقيفة روى أبو بكر
أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة قال: أخبرنا أحمد بن إسحاق
قال: حدثنا أحمد بن سيار قال حدثنا سعيد بن كثير [بن عفير] (1)
الأنصاري: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما قبض اجتمعت
الأنصار في سقيفة بني ساعدة فقالوا إن رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) قد قبض، وساق الرواية وهي طويلة فذكر فيها قول سعد بن عبادة
للأنصار وإجابتهم إلى توليته، ثم اختلافهم عليه في الاستبداد بالأمر
واختيارهم لأن يكون منهم أمير ومن قريش أمير، ومضي أبي بكر وعمر وأبي
عبيدة إلى السقيفة واحتجاجهم على الأنصار بقرابتهم من الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم)، وعرض أبي بكر على عمر وأبي عبيدة المبايعة لواحد منهما
وإبائهما التقدم عليه لأنه ثاني اثنين في الغار ولأن رسول الله أمره بالصلاة
وكلام الأنصار، ومخاصمتهم لأبي بكر وصاحبيه، ورضا عمر وأبي عبيدة
بخلافة أبي بكر، وموافقة بشير بن سعد الخزرجي، وكان من سادات
الخزرج لهما حسدا لابن عمه سعد بن عبادة - وموافقة أسيد بن حضير رئيس
الأوس لهم حسدا لسعد أيضا ومنافسة له أن يلي الأمر، وأن الأوس كلهم
بايعوا أبا بكر لما تابعه رئيسهم، وحمل سعد بن عبادة وهو مريض إلى منزله



(1) ما بين المعقوفين زيادة في شرح النهج.
395
وامتناعه من بيعة أبي بكر، واجتماع بني هاشم ومعهم الزبير إلى علي بن أبي
طالب، واجتماع بني أمية إلى عثمان، وبني زهرة إلى سعد وعبد الرحمن بن
عوف، وقول عمر لهم لما أقبل من السقيفة مع أبي بكر ومن بايعه هناك:
مالي أراكم حلقا (1) قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايعه الناس وبايعه الأنصار!
فقام عثمان ومن معه وسعد وعبد الرحمن ومن معهما فبايعوا أبا بكر، قال:
وذهب عمرو معه عصابة إلى بيت فاطمة معهم أسيد بن حضير وسلم بن
أسلم فقال لهم: انطلقوا فبايعوا فأبوا عليه وخرج الزبير بسيفه فقال عمر:
عليكم الكلب، فوثب عليه سلم بن أسلم فأخذ السيف من يده فضرب به
الجدار، ثم انطلقوا به وبعلي ومعهما بنوا هاشم وعلي يقول: (أنا عبد الله
وأخو رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى انتهوا به إلى أبي بكر فقيل له:
بايع، فقال: أنا أحق بهذا الأمر منكم لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي
أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) فأعطوكم المقادة، وسلموا إليكم الإمارة، وأنا
أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار فأنصفونا إن كنتم تخافون الله
من أنفسكم، واعرفوا لنا من الأمر مثلما عرفته الأنصار لكم وإلا فبوؤا با
لظلم وأنتم تعلمون، فقال عمر: إنك لست متروكا حتى تبايع، فقال له
علي (عليه السلام): أحلب يا عمر حلبا لك شطرة، اشدد له اليوم أمره
ليرده عليك غدا لا والله لا أقبل قولك ولا أبايعه فقال له أبو بكر: فإن لم
تبايعني لم أكرهك، فقال له أبو عبيدة: يا أبا الحسن إنك حدث السن (2)
وهؤلاء مشيخة قريش ليس لك تجربتهم ومعرفتهم بالأمور، ولا أرى أبا بكر
إلا أقوى على هذا الأمر منك وأشد احتمالا له واضطلاعا به، فسلم له هذا
الأمر وارض به، فإنك إن تعش ويطل عمرك فأنت بهذا الأمر خليق، وبه



(1) في الشرح: " ما لي أراكم ملتاثين ".
(2) في الشرح " حديث السن ".
396
حقيق في فضلك وقرابتك وسابقتك وجهادك، فقال علي: يا معشر المهاجرين
الله الله لا تخرجوا سلطان محمد عن داره وبيته إلى بيوتكم ودوركم، ولا
تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أهل
البيت أحق بهذا الأمر منكم، أما كان منا القارئ
كتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بالسنة المضطلع بأمر الرعية، والله إنه
لفينا فلا تتبعوا الهوى فتزدادوا عن الحق بعدا فقال بشير بن سعد: لو كان
هذا الكلام سمعته منك الأنصار يا علي قبل بيعتهم لأبي بكر ما اختلف
عليك اثنان ولكنهم قد بايعوا، وانصرف علي إلى منزله ولم يبايع ولزم بيته
حتى ماتت فاطمة فبايع (1).
أقول: وهذه الرواية قد رويت من طرقنا بزيادات من جملتها ذكر علي
(عليه السلام) بعض ما قيل فيه من النصوص وأن بشيرا قال ما قال بعد
سماعه من علي (عليه السلام) ذكر النص عليه من النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم)، وأن أبا بكر جاء في تلك الحال برواية (لم يكن الله ليجمع لنا
بين النبوة والخلافة) وصدقه من أصحابه من هو على مثل رأيه إلى آخره ما
هناك ولا أشك في أن تلك الأمور أسقطها محدثوا القوم من الخبر لتصريحها
بمذهب الإمامية كما هي عادتهم، ويشهد لذلك ما أسلفناه في حديث أحمد بن
أبي طاهر عن ابن عباس حين قال له عمر وهو يسأل عن علي (عليه
السلام): هل بقي في نفسه شئ من أمر الخلافة؟ قال ابن عباس: قلت:
نعم قال: أيزعم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نص عليه؟
قلت: نعم وأزيدك أني سألت أبي عما يدعيه فقال: صدق فقد بينا صراحة
هذا الكلام في أن عليا (عليه السلام) ما زال طالبا للخلافة محتجا عليها
بالنص من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه وأن العباس قد شهد



(1) شرح نهج البلاغة 1 / 12 و ج 6 من ص 5 - 12.
397
له بالنص عليه، وأن ابن عباس قد علم ذلك وسمعه، وأن عمر قد علم
ذلك ولم يخف عليه، ولا يجوز أن يكون غيرهم من الصحابة غير عالم
بذلك، لأن الكلام يدل على أن أمير المؤمنين كان يجهر بذلك ولا يخفيه في
جميع أوقاته، ومن البين أن أولى الأوقات بذكره هذا الوقت المذكور الذي
كشف فيه عن مقصدهم بالتغلب عليه وبين لهم استحقاقه للأمر دونهم
بالدليل، وليس من الجائز أن يتركه في هذا الحين ويذكره بعد ذلك بسنين،
فمن اليقين أنه دونهم بالدليل، وليس من الجائز أن يتركه في هذا الحين
ويذكره بعد ذلك بسنين، فمن اليقين أنه ذكره في وقته ذاك لكن القوم كتموه
وستروه، والمحدثين من الخبر أسقطوه، ولا ضير علينا في ذلك فقد بقي في
الرواية ما يرمي الخصوم بسهام نافذة، ويضربهم بسيوف شحيذة، وسنبينه
إن شاء الله تعالى.
قال ابن أبي الحديد بعد انتهاء الرواية: قلت: هذا الحديث يدل على
بطلان ما تدعي الإمامية (1) من النص على أمير المؤمنين وغيره لأنه لو كان
هناك نص صريح لاحتج به، ولم يجر للنص ذكر وإنما كان الاحتجاج منه
ومن أبي بكر ومن الأنصار بالسوابق والفضائل والقرب، فلو كان هناك نص
على أمير المؤمنين أو على أبي بكر لاحتج به أبو بكر على الأنصار ولأحتج به
أمير المؤمنين على أبي بكر، فإن هذا الخبر وغيره من الأخبار المستفيضة يدل
على أنه قد كان كاشفهم، وهتك القناع بينه وبينهم. ألا تراه
كيف نسبهم إلى التعدي عليه وظلمه، وتمنع
من طاعتهم، وأسمعهم من الكلام أشده وأغلظه، فلو كان
هناك نص لذكره أو ذكره من كان من شيعته وحزبه، لأنه (لا عطر بعد
عروس) وهذا أيضا يدل على أن الخبر الذي في أبي بكر في صحيح البخاري



(1) في الشرح " ما يدعى ".
398
ومسلم غير صحيح، وهو ما روي من قوله (صلى الله عليه وآله)
لعائشة: (ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا فإني أخاف أن
يقول قائل أو يتمنى متمن ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) وهذا هو نص
مذهب المعتزلة (1) انتهى.
وها نحن ذا نبدأ بذكر ما يخالف مذهبه من صريح الخبر ثم نعود إلى
الجواب عن قوله، لنعلمك أن الحجة التي بها علينا يصول عليه لا له وذلك
من وجهين:
الأول اشتمال الخبر عن منازعة أمير المؤمنين (عليه السلام) القوم
ومكاشفته إياهم، ونسبتهم إلى الظلم والتعدي، والتظاهر على أهل البيت
بأخذ مقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإخراجهم سلطانه من
داره إلى دورهم، ورميهم بالمواطأة على ذلك بقوله لعمر: (أشدد له اليوم
أمره ليرده عليك غدا)، ونحو ذلك مما اشتمل عليه الخبر، ولقد صدق فيما
قال ولم يزل صادقا فإن أبا بكر أوصى بالأمر إلى عمر وعمر تحسر على فقد
أبي عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة حين طعن، وقال لو كان أحدهما حيا لم
يتخالجه الشك فيه وذلك يصرح بما تدعيه الإمامية من معاقدة الجماعة على
ابتزاز الأمر وإخراج الخلافة عن أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) بعد وفاته، وأن الأمر لأبي بكر وبعده لعمر وبعده لأحد الرجلين
المذكورين فصرح الخبر تصريح الليل عن صبحه بأن أمير المؤمنين (عليه
السلام) طاعن في خلافة من تقدم عليه، ويعضد ذلك ما في آخر الخبر من
تركه (عليه السلام) مبايعة أبي بكر وملازمته منزله، ولو لم يكن ساخطا
ولايته ما ترك بيعته ولا تقاعد عنها لأن الراضي بشئ لا يتركه لا سيما وهو
من الأمور الواجبة لوجوب طاعة الإمام ومساعدته وهذا خلاف ما يدعيه ابن



(1) شرح نهج البلاغة 6 / 12.
399
أبي الحديد وأصحابه من رضى أمير المؤمنين بخلافتهم، وعدم منازعته
إياهم، وأنه لم يطعن عليهم بظلم، ولا باتباع هوى، ولا بتظاهر على منعه
حقا له، وكان الخصم قد ملأ كتابه من ذكر هذه الدعوى، والتظاهر بها على
الإمامية، والخبر المذكور الذي به يصول ويجول يخدش هذه الدعوى ويبطلها
كما اعترف هو به في كلامه المنقول فتبين أنه فيما يدعيه من رضا أمير المؤمنين
بخلافة من تقدم عليه غير مصيب، وأن الإمامية في إنكارهم رضاه (عليه
السلام) بها على الحق والهدى والصواب والمحجة البيضاء وهذا هو المراد
والمطلوب.
الثاني إن الخبر قد صرح بأنهم قد سلكوا طريق العناد والعصبية، ولم
يسلكوا مسلك الرشاد والحق، وذلك أنهم احتجوا على الأنصار بالقرابة من
الرسول (صلى الله عليه وآله) وأخرجوهم من الأمر بهذه الحجة فلما
احتج أمير المؤمنين عليهم بها أعرضوا عن قبولها، وأبوا العمل بموجبها،
وضربوا عنها صفحا حيث كانت في هذا المقام مفسدة لما يريدون من الاستبداد
بالأمر، واغتصاب علي (عليه السلام) حقه فأجاب بعضهم: بأنك لست
متروكا حتى تبايع، فأظهر ما في نفسه من حمية الجاهلية وبعض أجاب: بانا
لا نكرهك، وبعض أجاب: بأنك حدث السن، وبعض: بانا لم نسمع
هذا الكلام منك قبل، وأي شئ في هذا كله من الجواب عما احتج به أمير
المؤمنين (عليه السلام) أما الأول والثاني فظاهر، وأما الثالث فيقال له:
أولا إنكم لم تحتجوا على الأنصار بشيخوخة أبي بكر بل احتججتم بقربه من
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهذا علي يحتج عليكم بهذه الحجة،
فإن كانت عندكم حقا وجب عليكم تسليم الأمر إليه، وأن كانت عندكم
باطلا فلا يجوز لكم أن تدفعوا الأنصار عن الأمر بشئ باطل، وحجة فاسدة
عندكم، ويقال له ثانيا أين كبر السن يوم المؤاخاة بين الصحابة لم لا أستحق
بها أخوة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ما نرى استحق أخوة

400
الرسول (صلى الله عليه وآله) إلا حدث السن أفتعجز شيبة أبي بكر
عن استحقاقه بها أخوة النبي (صلى الله عليه وآله) في حياته ويستحق
بها خلافته بعد وفاته أهذا من الحق والإنصاف؟ وأين التقدم بالسن يوم براءة
كيف ما استحق بها التبليغ عن النبي (صلى الله عليه وآله) وأين كانت
ذلك يوم عمرو بن عبد ود؟ وأين كانت يوم مرحب وغيرها من الأيام التي
يطول بعدها المقام؟ ما نرى كانت كلها إلا لذلك الحدث السن فما يمنعه من
الخلافة وهو الشجاع العالم التقي الناصر للإسلام، والمحامي عن الدين
الفائز بالجهاد والسبق والقرابة بقولك ويقال له: أيضا أي أمر من الأمور له
فيه تجربة تزيد على تجربة علي (عليه السلام) أفي حرب أم في سلم أم في
سياسة أم في حكم؟ وأين كانت هذه التجربة له في حياة النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) لم لا استحق بها عنده التقدم في قيادة الجيوش، وسياسة
الأمور؟ ما رأينا استحق ذلك إلا ذلك الحدث السن الذي ادعيت أنه قليل
التجربة ومن لم يكن له من التجربة ما يستحق بها أن يكون أمير سرية يسوس
أمرها أيستحق بتجربته ولاية الأمة؟! ثم يقال له: إن كان المعتمد عندكم في
الخلافة كبر السن والتجربة فالعباس عم رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) أسن من أبي بكر لا خلاف بين أهل التاريخ في ذلك، وهو كثير
التجربة ثاقب الروية زين العقل عظيم الحلم على ذلك اتفق الناس من أهل
الرواية والسيرة والمعرفة بأحوال السلف مع قربه من رسول الله
فهو على هذا أحق بالأمر على قولكم فلن تعدوا عن أن تكونوا ظلمتم عليا
(عليه السلام) إلا أن تكونوا ظلمتم العباس فالظلم لكم لازم على كل
حال.
ويقال للرابع وهل يخفى عليك قرب علي (عليه السلام) من رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) وأنه أقرب الخلق منه فما منعك حين احتج أبو بكر وصاحباه
على قومك بقرابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتركت نصرة قومك

401
لصحة هذه الحجة عندك من أن تقول لهم صدقتم الأقرب إلى الرسول أحق
بمقامه وعلي أقرب إليه منكم فهو الأحق بمقامه من كل أحد فامضوا بنا إليه
جميعا لنبايعه ونسلم إليه خلافة ابن عمه ثم يقال له هب إنك لا تدري أولا
بقرابة علي (عليه السلام) من رسول الله، أو نسيت ذلك ثم علمت الآن
أن الأمر حق لعلي (عليه السلام) بمقتضى حجة أبي بكر على قومك أليس
من الواجب عليك إذ كنت قادرا انتزاع الحق من غير أهله وإيصاله إلى ربه
ومستحقه ومساعدته على ذلك، وهل ذلك إلا بمنزلة شئ تداعاه اثنان فأقام
أحدهما بنية على استحقاقه إياه فحكم له به، ثم جاء ثالث فاستشهد لك
البينة فشهدت له بأنه حق فإن ينزع من يد الأول ويدفع إلى هذا أفليس في
إعراضهم عن قبول الحجة التي دفعوا بها خصومهم على أنفسهم إذا احتج بها
أمير المؤمنين (عليه السلام) عليهم دليل واضح وبرهان راجح وعلم لائح،
على أنهم مجانبون للحق ومتعمدون على إنكار الحجة التي يوردها أمير المؤمنين
عليهم كائنة ما كانت نصا أو الزاما لا يخفى ذلك من أمرهم على ذي فطنة
وكل هذا نص مذهب أصحابنا الإمامية ومخالف لمذهب أصحاب ابن أبي
الحديد المعتزلة ومناقض لأقوالهم من أن الجماعة لم يرتكبوا منكرا ولم يأتوا
بباطل، ولم يردوا حجة صحيحة على أمير المؤمنين، ولم يفعلوا ما يجوز
نسبتهم لأجله إلى الظلم والتعدي، وأنهم كانوا على غاية من الديانة
والصلاح ومنزلة رفيعة من العدل والانصاف، وإنما غاية أمرهم أنهم فعلوا غير
الأولى، وهذا أمير المؤمنين (عليه السلام) قد رماهم بجميع ما برئتموهم
منه بموجب روايتكم، ونسبهم إلى ارتكاب المعصية ورد الحجة وعدم الخوف
من الله، فما أدري أتكذبون روايتكم التي بها تحتجون، أم تفسقون من تعدلون،
أم تطعنون في صدق أمير المؤمنين (عليه السلام) لنسبته الظلم إليهم، وهو
الصديق الأمين لا محيص لكم عن اختيار واحد من هذه الوجوه الثلاثة
فاختاروا منها - أكرمكم الله - ما شئتم يكن فيه قطع حجتكم واستئصال أصل

402
مذهبكم، على أن في قولهم: إن القوم بولاية أبي بكر وتركهم عليا (عليه
السلام) تركوا الأولى وقولهم إن الصحابة فعلوا ما هو الأصلح للإسلام
والمسلمين إذ ولوا أبا بكر تناقضا بينا لأن فعل الأصلح واجب، فكيف يكون
خلاف الأولى والتخالف في أقوالهم كثير، هذا كله على تقدير تسليم قول
المعتزلي أن الرواة لم يذكروا لأمير المؤمنين (عليه السلام) فيها نصا، وليس
الأمر كما ذكر بل الرواية مذكور فيها بعض ذلك صريحا كقوله (عليه السلام)
فيها: (وأخو رسول الله) (صلى الله عليه وآله) فإنا قد بينا أن الأخوة
تقتضي المماثلة وهي نص في الإمامة، واحتج بالأعلمية عليهم، في قوله:
(أما كان منا القارئ لكتاب الله الفقيه في دين الله) وقد قدمنا أن الإمام
يشترط أن يكون أعلم أهل زمانه، فهذا من النصوص، واحتج بالقرابة
وهي من شروط الإمام أيضا، وقد ذكرنا أن المنصوص عليه بالأقربية
كالمنصوص عليه بالإمامة، فهذه من جملة النصوص والقوم لم يقبلوها منه،
ولم يجيبوه عنها بشئ من الحجة، واحتجاج أبي بكر على علي (عليه السلام)
بالسابقة غير ذلك كما يوهمه كلام المعتزلي لا أثر له في الخبر، نعم النص
الذي يريده ابن أبي الحديد من علي (عليه السلام) أن يذكره وهو إنزال
كتاب من السماء لم يأت به أمير المؤمنين ثم إن في قوله (عليه السلام) (نحن
أهل البيت أحق بمقامه) إشارة إلى النص لأن الأحقية في الخلافة لا تكون
بدون تعيين من الرسول (صلى الله عليه وآله)، وليس من مذهب
علي (عليه السلام) الاجتهاد في الأحكام، والقول بالرأي، بل طريقته
الوقوف عند النص والاقتصار على السماع من الكتاب والسنة، وقد شهد
بذلك ابن أبي الحديد في مواضع من كتابه، فإذن دعوى على الأحقية بمقام
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بدون نص منه عليه ممتنعة لكنه ادعى
ذلك فالنص عليه موجود فتبصر، مما يحسن نقله هنا من تظلمات أهل البيت
من أئمة المعتزلي ودعواهم النص من رسول الله (صلى الله عليه وآله)

403
عليهم ما ذكره من كلام أبي جعفر الباقر مرارا قال في موضع
منها وقد روي أن أبا جعفر محمد بن علي الباقر قال لبعض أصحابه: " يا
فلان ما لقينا من ظلم قريش إيانا وتظاهرهم علينا وما لقي شيعتنا ومحبونا من
الناس، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبض وقد أخبر إنا أولى
الناس بالناس فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر من معدنه،
واحتجت على الأنصار بحقنا وحجتنا، ثم تداولتها قريش واحدا بعد واحد
حتى رجعت إلينا، فنكثت بيعتنا ونصبت الحرب لنا، ولم يزل صاحب الأمر
في صعود كؤد حتى قتل فبويع ابنه الحسن وعوهد ثم غدر به وأسلم، ووثب
عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه وانتهب عسكره، وأولجت خلاخيل
أمهات أولاده، فوادع معاوية وحقن دمه ودم أهل بيته وهم قليل حق
قليل، ثم بايع الحسين (عليه السلام) من أهل العراق عشرون ألفا ثم
غدروا به، وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم، ثم لم نزل أهل البيت نستذل
ونستضام ونقصي ونمتهن ونحرم ونقتل ونخاف، ولا نأمن على دمائنا
ودماء أوليائنا، ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعا يتقربون به
إلى أوليائهم، وقضاة السوء وعمال السوء في كل بلدة فحدثوهم بالأحاديث
الموضوعة المكذوبة، ورووا عنا ما لم نقله ولم نفعله ليبغضونا إلى الناس، وكان
عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن (عليه السلام)، فقتلت
شيعتنا بكل بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة، وكان من يذكر
بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره، ثم لم يزل البلاء
يشتد ويزداد إلى زمن عبيد الله بن زياد قاتل الحسين (عليه السلام)، ثم
جاء الحجاج فقتلهم كل قتله، وأخذهم بكل ظنة وتهمة حتى أن الرجل
ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال شيعة علي (عليه السلام)
وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير ولعله يكون ورعا صدوقا يحدث بأحاديث
عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من سلف من الولاة، ولم يخلق الله تعالى

404
شيئا منها ولا كانت ولا وقعت، وهو يحسب أنها حق لكثرة من قد رواها ممن
لم يعرف بكذب ولا بقلة ورع " (1) انتهى. وقد صرح صدر الرواية بأن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبر الناس أن أهل بيته أولى بالناس من
أنفسهم، وهذا هو النص عليهم ثم قوله (عليه السلام): (فتمالأت علينا قريش
حتى أخرجت الأمر من معدنه) صريح في نسبة الظلم إلى المتقدمين،
وقوله: (واحتجت على الأنصار بحقنا وحجتنا) واضح في أن القرابة من
الرسول (صلى الله عليه وآله) أمر يستحق به الخلافة، وأن ذلك الأمر
حقهم وحجتهم، أخذها غيرهم واحتج بها على الأنصار، والواجب عليه أن
يسلم لهم الحق والحجة لأنها لهم دونه، والباقي من الخبر ظاهر وآخره يصرح
بوضع القوم واتباعهم الأحاديث المكذوبة على ما يشتهون ويدعون، وأن أكثر
ذلك كان في زمان معاوية، وقد أوضحنا هذا المطلب فيما مر فقد بان من
جميع ما ذكرنا واتضح أن الخبر الذي استند إليه ابن أبي الحديد وعليه اعتمد
في إبطال النص عاد بالآخرة دليلا لنا ومستندا لقولنا فاندفع لوم اللائمين
وعذل العادلين، وتبين الغث من السمين، والحمد لله رب العالمين.
ثم نشرع الآن في الجواب عن شبهته والكلام على دفع ريبته، وإن كان
فيما ذكرناه كفاية في إبطال حجته، لكن لا ندع الازدياد من الخير وكثرة
الاستظهار بالحجج بعون الله فنقول: من تأمل وتبصره وتدبر وتفكر، ونظر
في الأخبار والآثار نظر من أنصف واعتبر علم يقينا أن القوم إذ ارتكبوا من
أخذ الخلافة ما ارتكبوا، وحين انتهزوا ما انتهزوا من الفرصة في إدراك الرئاسة، قد
عضوا عليها بأسنانهم وقبضوا عليها بأناملهم، لا يرجعون عنها بنص ولا
ينتظرون فيها مشاورة ذي فضل، ولا ينزلون عنها بحجة، ولا يبالون فيها
من غضب ولا عدول لهم عنها إلا بالسيف لو حصل قد سلكوا فيها مسلك



(1) شرح نهج البلاغة 11 / 43.
405
الجبرية والقهر، يلزمون من رأوه ببيعتهم ولا يعذرونه عنها بعذر ولا يقبلون
منه عدلا ولا صرفا، حتى استتم لهم ما أرادوا واستتب لهم ما طلبوا، ألا
ترى لعمر كيف قال في السقيفة حين تم له ما أراد: اقتلوا سعدا قتل الله
سعدا وكيف قال للزبير: عليكم الكلب إذا خرج يدافعهم عن الهجوم على
بيت فاطمة كما ذكر في الحديث المذكور، فهم معرضون عن كل حجة ترد
عليهم من كل محتج لا يلتفتون إليها ولا يبالون بمن أوردها عليهم، وأنهم
مصرون على إنكار النص إن أورده مورد، ومصمموا العزم عليه ومهيئون من
الشبه إلى ما لا يسعهم إنكاره، ولا يمكنهم ستره وكتمانه ما يدفعون به عند
العامة سورة المحتج به عليهم، ولم يكونوا في أمرهم مراعين لحجة ولا
ناظرين لدليل ولا راجعين عما دخلوا فيه لبرهان مبين والذي يدل على ذلك
وجوه.
الأول: ما مر في الخبر من إعراضهم عن قبول الحجة بالقرابة من النبي
(صلى الله عليه وآله) حين احتج بها عليهم أمير المؤمنين (عليه
السلام)، وروى ابن أبي الحديد: في موضع آخر أنه (عليه السلام) إذ
ذاك خاطب أبا بكر في معرض الحجة بهذين البيتين.
فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم * فكيف بهذا والمشيرون غيب
وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم * فغيرك أولى بالنبي وأقرب (1)
وهي كانت حجتهم العظمى التي أبطلوا بها دعوى الأنصار وغلبوهم
وفلجوا بها عليهم، لا السابقة والفضل كما ذكر المعتزلي، وإن كان ذلك
مخالفا لمذهبه إذ لا يجب عنده تقديم الأفضل فلما احتج بها عليهم من هو أولى
بها منهم أعرضوا عنها كأن لم يسمعوها ولم يصغ واحد منهم إلى قبولها ولا



(1) المصدر السابق 18 / 416.
406
التفت إليها، بل جنحوا إلى إفسادها وإبطالها بالشبهات، فمال بعضهم إلى
التعلل بحداثة السن وآخر إلى عدم سماعها قبل بيعته لأبي بكر فصرح أنه لا
يقبل حجة بعد البيعة مع كونها عنده صحيحه، وما النص إلا حجة وقد
صرحوا أنهم لا يقبلون الحجة من أمير المؤمنين (عليه السلام) لحداثة سنه
ولسبق بيعة أبي بكر على احتجاجه، فمن بلغ أمرهم إلى هذا المقدار من ترك
الإصغاء إلى سماع الحجة والعمل بها وهي الحجة التي يحتجون بها على
خصومهم كيف يمتنع منهم إنكار النص لو أورد عليهم ويبعد عليهم رده لو
احتج عليهم؟
الثاني: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) احتج عليهم غير القرابة بأشياء
أخر كأخوة الرسول (صلى الله عليه وآله)، والعلم بكتاب الله،
والفقه في دين الله وغير ذلك مما اشتمل عليه الخبر، فلم يعرجوا ولا واحد
منهم على قبول ذلك منه وكأنهم لم يسمعوا ما قال وهم في السقيفة يحتجون
على أحقية أبي بكر بالخلافة بفضيلته بصحبة النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) في الغار، فلما احتج أمير المؤمنين (عليه السلام) لنفسه عليهم
بالفضل الفائق أعرضوا عنه ورفضوه فمن لم يقبل حجته لنفسه على نفسه
كيف يقبل غيرها من الحجج أو يلتزم بها.
الثالث: اقتحامهم على بيت فاطمة وإخراجهم عليا ومن معه يسوقونهم
سوقا عنيفا بعد التهديد بإحراق البيت عليهم إن لم يفتحوا الباب وتسمية
الزبير كلبا كما مر ذكره في الخبر وغيره من الأخبار، وقد ذكر الخصم من ذلك
في كتابه الكثير الواسع وذلك كله من دون أن يقيموا عليه حجة أو يوردوا
عليه دليلا، ولو لم يكن من ذلك كله إلا قول عمر له (عليه السلام):
لست متروكا حتى تبايع، لكفى في الدلالة على ما نسبناه إلى القوم من عدم
استماعهم للحجة وقبولهم للعذر أو وقوفهم عند النص.

407
الرابع: إن العباس بن عبد المطلب لما احتج على أبي بكر بمحضر جماعة
من أصحابه كعمر وأبي عبيدة كما في رواية طويلة ذكرها الخصم من كتاب
الجوهري عن البراء بن عازب حيث قال له: فإن كنت برسول الله طلبت
فحقنا أخذت، وإن كنت بالمؤمنين فنحن منهم ما تقدمنا في أمركم فرطا،
ولا حللنا وسطا ولا نزحنا سخطا فإن كان هذا الأمر يجب لك بالمؤمنين فما
وجب إذ كنا كارهين، وما أبعد قولك: إنهم طعنوا فيك من قولك إنهم
مالوا إليك إلى أن قال: وأما قولك: إن رسول الله منا ومنكم فإن رسول الله
(صلى الله عليه وآله) من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها، وأما
قولك يا عمر إنك تخاف الناس علينا فهذا الذي قدمتموه أول ذلك وبالله
المستعان (1)، لم يجبه هو ولا أصحابه بشئ بل تركوا الحجة وأعرضوا عنها
كأنهم لم يفهموها، وكانوا في أول الكلام يحتجون بها على العباس ويقرعونه
بها فلما أوردها عليهم وعرفوا أنها له ولأهل بيته دونهم ضربوا عنها صفحا ولم
ينقادوا لها ولا نزعوا عما هم فيه لأجلها ولاحتجوا إلى العمل بها، ومن يعرض
عن قبول حجته التي يجادل بها على نفسه فهو بعدم قبول غيرها من الحجج
أخلق، وإلى الإعراض عن النص ورده أقرب، وهذه المجادلة وقعت بعد
بيعة أبي بكر بيومين والرواية صريحة في أن بني هاشم كانوا كارهين إمارة
الرجل ومكرهين على بيعته، فأين الرضا بخلافته وأين رجوعه وأصحابه إلى
الحجة والعمل بمقتضاها حتى يستنكر منهم كتمان النص ودفعه لو أورد
عليهم؟
الخامس: ما رواه ابن أبي الحديد عن أبي بكر الجوهري قال: حدثني
المغيرة بن محمد المهلبي من حفظه وعمر بن شبة من كتابه بإسناد رفعه إلى أبي
سعيد الخدري قال: سمعت البراء بن عازب يقول: لم أزل لبني هاشم محبا



(1) كذلك 1 / 221.
408
فلما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) خفت أن تتمالأ قريش
على إخراج هذا الأمر عنهم فأخذني ما يأخذ الوالهة العجول مع ما في نفسه
من الحزن لوفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فكنت أتردد إلى بني
هاشم وهم عند النبي (صلى الله عليه وآله) في الحجرة، وأتفقد وجوه
قريش إذ فقدت أبا بكر وعمر وإذا قائل يقول:
القوم في سقيفة بني ساعدة - وإذا قائل آخر يقول:
قد بويع أبو بكر: فلم البث وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو
عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة وهم محتجزون بالأزر الصنعانية لا يمرون
بأحد إلا خبطوه وقدموه فمدوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه شاء ذلك
أو أبى، فأنكرت عقلي وخرجت اشتد حتى انتهيت إلى بني هاشم والباب
مغلق فضربت عليهم الباب ضربا عنيفا وقلت: قد بايع الناس لأبي بكر بن
أبي قحافة، فقال العباس: تربت أيديكم إلى آخر الدهر أما إني أمرتكم
فعصيتموني، فمكثت أكابد ما في نفسي، ورأيت في الليل المقداد وسلمان
وأبا ذر وعبادة بن الصامت وأبا الهيثم بن التيهان وحذيفة وعمارا وهم يريدون
أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين، إلى آخر ما قال من إخبار حذيفة
الجماعة بما علمه من أمر القوم ومسير المذكورين إلى أبي بن كعب للمساعدة
وطلبهم منه فتح بابه وقوله لهم وبالله ما يفتح علي بابي حتى تجري على ما هي
عليه جارية ولما يأتي بعدها شر منها وإلى الله المشتكى (1)، وقد دل الخبر على
أمور.
منها أن الناس يعلمون بغض قريش لبني هاشم في حياة النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) ولذا خاف البراء من تمالئهم على إخراج الخلافة عن بني
هاشم ولولا ذلك ما كان للخوف معنى.



(1) أيضا 1 / 219.
409
ومنها أن الناس يعلمون أن خلافة النبي (صلى الله عليه وآله)
لبني هاشم إما من جهة النص وإما من جهة القرابة، وأن إخراجها عنهم ولا
يكون إلا بتمالئ قريش عليهم.
ومنها أن بيعة الناس لأبي بكر لم تكن برضى واختيار.
ومنها أن أبا بكر وأصحابه لم يسمعوا لأحد حجة ولا يحتجوا عليه بدليل
ولا يقيموا على مدعاهم بينة، بل يلزمون الناس بالبيعة قهرا ويصرح بهذين
الأمرين من الخبر قوله: لا يمرون بأحد إلا خبطوه إلى آخر الجملة، وذلك
كله عين ما نسبناه إليهم من دون زيادة ولا نقص، فمن كانت حالهم هذه
كيف يرجعون عما ملكوه بحجة أو يسلموا ما في أيديهم إلى صاحبه ومالكه
بنص وبينة؟
ومنها أن جماعة من خيار الصحابة كسلمان ومن معه كانوا رادين بيعة أبي
بكر ومنكرين خلافته، وكانوا يسعون في خلعه وإخراجه عن الإمارة جهدهم
فما استطاعوا، فأين الإجماع والرضا؟
ومنها أن علماء الصحابة كحذيفة وأبي يرون أن تلك البيعة كانت شرا وما
بعدها شر منها وذلك نص ما نقول، فهذه الوجوه كلها شواهد حق وأدلة
صدق على ما ادعيناه، وما إلى القوم عزوناه من دخولهم في الأمر دخول
مشاغبة وتغطرس واستكبار عن استماع الحجة، لا دخول متبصر منصف
يميل مع الدليل حيثما مال ويقف مع النص أينما وقف، وينضاف إلى ذلك ما
كان القوم عليه من الرأي والطريقة فإنه كان من هديهم وسجيتهم رد
النصوص بالرأي وتخصيصها بالاستحسان، لا سيما فيما يوطد أساس
الإمارة، ويقرر قاعدة الرئاسة وقد وصف ابن أبي الحديد ذلك قاطعا وجازما
به في كلام له في سياسة علي وعمرو أن عمر كان مدار سياسته على ما يراه
ما حكم به الشرع قال: ولسنا بهذا القول زارين على عمر بن الخطاب ولا

410
ناسبين له ما هو منزه عنه، ولكنه كان مجتهدا يعمل بالقياس والاستحسان
والمصالح المرسلة، ويرى تخصيص عمومات النص بالآراء بالاستنباط من
أصول تقتضي خلاف ما يقتضيه عموم النصوص، ويكيد خصمه ويأمر
أمراءه بالكيد والحيلة ويؤدب بالدرة والسوط من يغلب على ظنه أنه يستوجب
ذلك، ويصفح عن آخرين قد اجترموا ما يستحقون به التأديب كل ذلك بقوة
اجتهاده وما يؤدي إليه نظره، ولم يكن أمير المؤمنين يرى ذلك وكان يقف مع
النصوص والظواهر ولا يتعداها إلى الاجتهاد والأقيسة، ويطبق أمور الدنيا
على أمور الدين ويسوق الكل مساقا واحدا ولا يضع ولا يرفع إلا بالكتاب
والنص (1) انتهى وهو صريح فيما ذكرنا سابقا من أن عليا (عليه السلام) لو
لم يكن منصوصا عليه لما ادعى أنه أولى بالخلافة من غيره وأحق بمقام النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) دون من سواه لأنه لا يرفع ولا يضع إلا بالكتاب
والنص، واعتراف من المعتزلي بأن عمر وأصحابه كان دأبهم الاعتماد على
آرائهم ورد النصوص بها وعدم التفاتهم إلى حكم الشرع إذا خالف ما
يريدون، وإذا كان القوم على هذه لحال فما يمنعهم من مخالفة النص على علي
(عليه السلام) وماذا يصدهم عن كتمانه ورده؟ وأي مجال يبقى لاستبعاد
ذلك منهم. وديدنهم رد النصوص إذا خالفت اجتهاداتهم؟ وهل يخفى على
أحد من أهل الروية مخالفة النص على أمير المؤمنين (عليه السلام) لرأي
عمرو اجتهاده؟ فهو إذن يرى رد النص على علي (عليه السلام) ومخالفته
واجبا وليس يجوز لأحد من أتباعه أن يستنكروا منه فعل الواجب عليه
باجتهاده، بل يجب عليهم الحكم بأنه يفعله وما يهمله ولازم ذلك أنه أنكر
النص على علي (عليه السلام) البتة وهو عين ما ندعي، ولعمري لو لم يكن
لنا إلا هذا الوجه لكفانا في الدلالة على مدعانا فكيف والوجوه كثيرة كما



(1) أيضا 11.
411
ترى، ومن البين الذي لا شك فيه أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان عالما
بذلك من شأنهم ومطلعا عليه، وكيف يخفى عليه من أمرهم مع المعاشرة
المطلعة على الحال، ورؤيته منهم ما رأى سابقا، وفي ذلك الوقت ما علمه
ابن أبي الحديد من أمرهم من جهة الرواية مع بعد المدة وتطاول الزمان،
فكان (عليه السلام) قاطعا بإنكارهم النص لو احتج به ابتداء وصرح لهم
به، أو إلقائهم بعض الشبه عليه كشبهة النسخ بأمر أبي بكر بالصلاة كما
زعموا فلم يكن لذكر النص والحال هذه فائدة، ولم تكن في احتجاجه به
عليهم مصلحة إذ لا تقوم به عندهم له حجة لو ذكره ولو شهد به من هناك
من شيعته كسلمان وأبي ذر والمقداد وأمثالهم إن جوزنا قدرتهم في تلك الحال
على الشهادة لم يقبل القوم شهادتهم ولم يلتفتوا إليها لمخالفتها غرضهم، وما
أدتهم إليه آراؤهم، فكان مقتضى الحكمة وموجب معرفة قواعد الخصوم ترك
التعرض للنص لعدم الانتفاع به في المقام لإنكار الخصم إياه، والاتيان
بحجة لا يستطيع الخصم إنكارها ولا الطعن فيها، فلذا عدل أمير المؤمنين
(عليه السلام) عن الاحتجاج عليهم بالنص واحتج تارة بأخوة النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم)، وأخرى بالأعلمية، وكلاهما مما لا يمكنهم التشبيه
فيه، واحتج عليهم بالقرابة التي لا يسعهم إنكارها ولا القدح فيها لأنها
حجتهم التي دفعوا بها الأنصار عن الأمر وأبطلوا بها دعواهم من حيث كانت
هي النافعة له في المقام، فما مثله في ذلك إلا كرجل يدعي قبل آخر شيئا له
على دعواه حجتان كل منهما تثبت دعواه منفردة وتوجب له ما ادعاه إلا أنه
يقطع بإنكار الخصم واحدة من الحجتين لو أوردها عليه، أو أن يلقي عليها
شبهة تدفع عنه الاحتجاج عليها بها والأخرى يأمن عليها من ذلك كله فإن
الواجب العدول عن تلك الحجة التي يخاف عليها ذلك المحذور وإن كانت
أقوى إلى ذكر الحجة الأخرى التي لا يخشى عليها محذورا، فالمانع لأمير
المؤمنين من ذكر النص عليه خوفه إنكار القوم إياه لعلمه ذلك منهم يقينا لا

412
عدم وجوده، وهو مانع قوي وصارف جلي، وكيف لا يكون النص موجودا
وهو بعد ذلك يدعيه ويشهد له عمه العباس به، ويعترف سعد بن عبادة
بسماعه، ويشهد له ابن عباس بادعائه إياه، وعمر بن الخطاب كذلك كما مر
فيما مضى ذكره، فعدوله عن النص والاحتجاج عليهم في موقفه ذاك بالقرابة
من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أنها من جملة أسباب استحقاق
الخلافة، بل من شروطه كما ذكرناه في موضعه ومع عدم قدرة الخصم على
إنكارها وردها والقدح فيها بوجه من الوجوه هو عين الحكمة وحقيقة المعرفة
وقوة نفاذ البصيرة في قطع الخصومة، فإن الحجة المذكورة كافية له فيما طلب
وافية له بصحة ما ادعا وإثبات ما رام لو قبلوها منه كما قبلتها الأنصار منهم،
أو أذعنوا لها كما أذعن لها خصمهم، وكيف يقبلونها ويذعنون
لها وهم مصرون على العناد متواطئون على ابتزاز الأمر من
صاحبه كما سمعت في الخبر من تعللاتهم العليلة ومما يؤيد
ذلك ويوضحه ويكشف عن سره تدافعهم الخلافة في السقيفة وتراميهم
بها بعد أن غلبوا الأنصار عليها بين ثلاثة فأشار بها أبو بكر إلى عمر أو أبي
عبيدة وعرضها أبو عبيدة على عمر وردها عمر إلى أبي بكر، ولم يشيروا ولا
واحد منهم إلى أحد من بني هاشم ولا ذكروهم في الأمر ولا في المشورة مع
تحقق قرابتهم من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وظهور شرفهم
وفضلهم، خصوصا علي بن أبي طالب الذي شاعت مناقبه واشتهرت
سوابقه، وما اختفى على أحد علمه وفضله، فإعراضهم عن ذكره وذكر بني
أبيه دليل صريح على تواطئهم على سلب بني هاشم خلافة الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم)، وابتزازهم سلطانه ودفعهم عن مقامه، ولازم ذلك
تواطئهم على إنكار النص على أهل البيت ولم يكن علي (عليه السلام)
ليجهل ذلك منهم.
ووجه آخر وهو أن مقصد القوم من العدول عن أهل بيت النبي (صلى

413
الله عليه وآله وسلم) إلى أبي بكر اتساع أمر الخلافة في قريش لتنال كل بطن
منهم وتكون دولة بينهم يرجوها كل قوم كما رواه ابن أبي الحديد عن الجوهري
من قول المغيرة بن شعبة لأبي بكر وعمر: أتريدون أن تنتظروا خيل الحلبة من
أهل هذا البيت وسعوها في قريش تتسع (1)، فقاما إلى السقيفة وقد مر
الحديث بتمامه، وكذلك ذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) أن مقصدهم
ذلك في حديث رواه ابن أبي الحديد عنه، وصرح بعض المحققين من غير
أصحابنا من جهة الاستنباط أن مقصد القوم ما ذكرناه نقله عنه المعتزلي
المذكور (2) ومن الواضح، أن هذا مقتض قوي لإنكار جميعهم النص على
أمير المؤمنين، ومظاهرتهم أبا بكر وعمر عليه وتظاهرهم على جملة بني هاشم
لعلمهم أنها إذا صارت لهم واستقرت فيهم لا تخرج عنهم إلى سائر بطون



(1) أيضا 6 / 43.
(2) هو أبو جعفر النقيب ذكر الأسباب التي منعت من تسليم الأمر لعلي (عليه السلام)
في كلام له مع ابن أبي الحديد ومنها رجاء تداول قبائل العرب الخلافة إذا لم يقتصر بها
على بيت مخصوص فيكون رجاء كل حي وصولهم إليها ثابتا مستمرا وسيأتي هذا
الكلام في بيان أن عليا منصوص عليه وقد نقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة
3 / 99 إن عمر لما طعن قال: يا أصحاب محمد تناصحوا فإنكم إن لم تفعلوا غلبكم
عليها عمرو بن العاص ومعاوية وذكر ابن أبي الحديد عن المفيد إنما أراد عمر بهذا
القول إغراء معاوية وعمرو بن العاص بطلب الخلافة وأطماعهما فيها لأن معاوية كان
عامله وأميره على الشام وعمرو بن العاص عامله وأميره على مصر وخاف أن
يضعف عثمان عنها وأن تصير إلى علي (عليه السلام) فألقى هذه الكلمة إلى الناس
لتنتقل إليهما وهما بمصر والشام فيتغلبا على هذين الأقليمين إن أفضت إلى علي (عليه
السلام) قال ابن أبي الحديد: " وهذا عندي من الاستنباطات التي يوجبها الشنئان
والحنق وعمر كان أتقى لله من أن يخطر له هذا ولكنه من فراسته الصادقة التي كان
يعلم بها كثيرا من الأمور المستقبلة " أما أنا فلم أجد هذا فيما بين يدي من كتب المفيد
رحمه الله ولعله وهم في النقل أوراه فيما لم تصل إليه يدي من كتبه.
414
قريش أبدا بخلاف باقي قريش فإنها تنتقل فيهم، فربما يقدم أحدهم صاحبه
لغرض وليردها عليه عند موته كما فعل الثلاثة في السقيفة، فلذلك استقر
رأيهم على منع أهل البيت ميراثهم من الرسول (صلى الله عليه وآله)،
ودفعهم عن حقهم، ولأجل هذا كله عدل أمير المؤمنين عن ذكر النص
واستغنى عنه! في مخاصمتهم بالقرابة وغيرها مما ذكره من حيث لا محيص لهم
عن الاعتراف به، فحاله (عليه السلام) في ذلك الموقف غير حال أبي بكر
في السقيفة، فإن عمر وأبا عبيدة كانا له ظهيرا، وعويم بن ساعدة ومعن بن
عدي الأنصاريين كانا له ردءا، وهما على ما روى خصومنا اللذان استنهضاه
على حضور السقيفة، واستحثاه على المبادرة إلى طلب الخلافة، وجشماه
الدخول في هذه الورطة، مخالفة منهما لقومهما الأنصار، وأن بشير بن سعد
وكان من رؤوساء الخزرج كان له سندا يخاصم عنه قومه، وأسيد بن حضير
رئيس الأوس كان إليه مائلا، وكلهم طالبون منه الازدياد من الحجة،
ومتعطشون إلى تظاهره على دفع الأنصار بالبينة، والباقون مصغون إلى ذكر
الحجج غير مستنكفين عن قبولها منه، فلا مانع له من ذكر نص عليه لو كان
موجودا ولا صارف له عن الاتيان بقول من النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) يوجب له الفضيلة لو كان حاصلا، ومع هذا لم نره ذكر نصا عليه
ولا قولا من النبي (صلى الله عليه وآله) يوجب المدح له، ولا حجة
يختص بها تثبت له دعواه، ولا ذكر له صاحباه شيئا من ذلك، بل رأيناه
وصاحبيه ذكروا حجة كانت برمتها لغيره، وكانت يده منها خلوا وهي
القرابة، وأشياء لا توجب شيئا من مطلبه ولا تقضي بصحة مأربه وهي
الصحبة في الغار والأمر بالصلاة كما زعم، وكل ذلك لا يفيده شيئا مما أراد لو
كان للخصومة معه مجال، ولم يكن أمره مبنيا على التغلب لأن كون الحجة
الأولى لعلي (عليه السلام) مما لا غباوة فيه.
والثانية أيضا لأن لقائل أن يقول: إن كان اختصاص النبي (صلى الله

415
عليه وآله وسلم) بأبي بكر وخلوته معه في الغار مما يوجب له خلافته فعلي
أولى منه بذلك لأن النبي (صلى الله عليه وآله) اختص به مرة وخلا
معه وقتا واحدا واختص بعلي مرات كثيرة وخلا معه خلوات متعددة في أوقات
لا تحصى، ودع ما لعلي (عليه السلام) ليلة الغار مما لا يوازنه فضل وهو
مبيته على الفراش فكانت هذه أيضا كالقرابة.
والثالثة يقال: لهم إنا لا نسلم أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
أمره بالصلاة، وإن صح أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أمره
بالصلاة فقد عزله عنها إذ خرج ونحاه عن المحراب لا سيما والتقدم في الصلاة
لا يوجب العدالة على مذهبكم فضلا عن الفضل فأي حجة في الصلاة على ما
ادعي فإذن ليس له حجة على ما طلب وأراد فعدوله وصاحبيه عن ذكر نص
عليه من الرسول (صلى الله عليه وآله) أو قول منه في مدحه وفضله
مع احتياجه إليهما وعدم المانع من ذكرهما وانتفاء الصارف عن إيرادهما إلى
ذكر حجة هي لغيره لا له وأخرى قريبة منها وثالثة لا توجب عدالته إن
سلمت له فضلا عن إيجابها خلافته دليل صريح على أنه لم يكن مما ذكروه من
النص عليه شئ موجود، ولا مما رووه في فضله بعد من الأحاديث عن النبي
(صلى الله عليه وآله) حديث معروف، ولا من ذاك عين ولا أثر ولم
يطلع هو ولا أصحابه على شئ من ذلك إلى آخر أيامهم، ولو كان في يدهم
شئ من ذلك وعندهم منه خبر لأوردوه للحاجة إليه خصوصا لما نسبهم أمير
المؤمنين إلى الظلم والتظاهر عليه وعدم الخوف من الله وغير ذلك مما في
الخبر، فلم لادرؤا عنهم قوله فيهم بخبر عن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) في فضل أبي بكر وأي موضع أولى بذكره من ذلك الموضع، ثم في
أيام مقاولة المهاجرين والأنصار وما شاع بينهم من الخصام والجدال بعد بيعة
أبي بكر مدة وشاعت فيما بينهم في ذلك الخطب والأشعار حتى قال في ذلك

416
النعمان بن عجلان الأنصاري وكان من سادات الأنصار يخاطب أصحاب أبي
بكر:
وقلتم حرام نصب سعد ونصبكم * عتيق بن عثمان حلال أبا بكر
وليس أبو بكر لها خير قائم * وأن عليا كان أخلق بالأمر
وكان هوانا في علي وأنه * لأهل لها يا عمرو من حيث لا تدري
في أبيات كثيرة (1) ومثله قال غيره من الأنصار وما احتج عليهم أبو بكر ولا
أحد من أعوانه بخبر عن النبي (صلى الله عليه وآله) في الشيخ
يقتضي استحقاقه الخلافة مع اقتضاء الحاجة إلى ذكره، وعدم الصارف عنه
وانتفاء الموانع من إيراده، وغاية ما عندهم في المدافعة ما تشبثوا به في
السقيفة من قضية الغار والصلاة فعلم من ذلك أنه ليس لهم في فضل الرجل
في ذلك الوقت حديث ولا خبر وإنما أولياؤه بعد ذلك فيه زوروا ما أرادوه
فتبين أنه ليس حال أبي بكر في عدم إيراد نص عليه كحال أمير المؤمنين
(عليه السلام) في تركه إيراد النص لوجود الداعي إلى تركه هنا ووجود المانع
من إيراده وهو تحققه منهم إنكاره ورده مع قيام ما ذكره بثبوت حقه لو أنصفوه
وعدم حصول شئ من ذلك في أبي بكر، فهذا فرق ما بين الحالين وتمييز ما
بين الأمرين، ويزيد ما بيناه توضيحا وصراحة ما جرى يوم الشورى
أن عليا (عليه السلام) ذكر له جملة من النصوص عليه من النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) وطائفة من مناقبه، وناشدهم ذلك كحديث براءة والآخاء
وما شابههما، وخبر الغدير والمنزلة وما ضارعهما، التي عددناها في ذكر
النصوص كل ذلك يقرون به ولا ينكرون منه شيئا، والقصة مشهورة عند
الخصوم، وقد أقر بها القوشجي وابن أبي الحديد وذكر أنها مشتهرة لكنه اقتصر



(1) ذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج 6 / 31 ثمانية عشر بيتا.
417
في نقلها على ذكر جملة مما ذكره أمير المؤمنين من النصوص عليه محتجا به على
القوم، وهم مع تصديقهم إياه واعترافهم بصحة نصوصه لم ينصرفوا بها عن
صرف الخلافة عنه إلى غيره، بل بايعوا عثمان وتركوه ولم يعتنوا بتلك
النصوص والمناقب وهددوه إن لم يبايع عثمان أن يقتلوه أو يقاتلوه، وعثمان لم
يذكر لنفسه فضلا ولا أورد في استحقاقه الخلافة خبرا، وإنما وعدهم بأن
يسير فيهم بسيرة الشيخين، وما الأولون بدونهم في رد نصوص النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم)، ومخالفة أقواله لأنهم أتباعهم ومقلدوهم، وهذا من
أعدل شاهد على ما قلناه من عدم اعتناء القوم بنصوص النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) في حق علي (عليه السلام) طلبا للدنيا وحبا للرئاسة فترك
ذكره أمير المؤمنين لهذا.
ووجه آخر: وهو أن عليا (عليه السلام) في ذلك الوقت غير محتاج إلى
إيراد النص إن سلمنا أنه لم يورده، لأن إيراده إنما هو لإثبات أنه المستحق
لمقام الرسول (صلى الله عليه وآله) دون خصمه، وأبو بكر وأصحابه
مقرون له بذلك لأنهم قد أثبتوا استحقاق الخلافة بقرابة الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم)، ودفعوا الأنصار عن طلبها وخصموهم بها عن المطالبة
فيها، فكان ذلك إقرارا منهم لعلي (عليه السلام) بالحق لأن قرابته من
الرسول (صلى الله عليه وآله) وأقربيته من النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) معلومة غير مجهولة، ومعروفة غير منكورة، فلذا قال لهم كما في
الخبر: (إني أحتج عليكم بما احتججتم به على الأنصار، فإن كانت الخلافة
بالقرابة فأنا أحق الناس بها لأني أقربهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) (1) فلم ينكر منهم أحد ذلك، بل أقروا به لكنهم أصروا على منعه حقه
وقالوا له: لا نسلم لك هذا الحق لأنك صغير السن، فأي حاجة بعد هذا



(1) شرح نهج البلاغة 6 / 11.
418
لذكر النص؟ وأي فائدة في إيراده وتعداده؟ وهل هو في ذلك إلا كرجل
يدعى قبل آخر حقا وله على صحة دعواه بينة عادلة لكن المدعى عليه في حال
المخاصمة أقر له بحقه وقال لا أدفعه إليك ولا أسلمه، فهل ترى يحتاج
المدعي في إثبات حقه بعد إقرار خصمه به إلى إحضار بينته، أو يحكم عليه
حاكم عادل بلزوم إحضارها في ثبوت حقه مع أن البينة لا يصار إليها إلا إذا
لم يقر المدعى عليه بصحته دعوى المدعي؟ وإذا حصل الإقرار من المدعى
عليه فلا حاجة إلى البينة، أفليس لا يبقى للمدعي بعد إقرار المدعى عليه له
بحقه وإصراره على منعه إلا إجباره على تسليم الحق وأخذه منه قهرا؟ وإذا لم
يجد المدعي من يأخذ له بحقه أو يعينه على استخراجه من خصمه ويخاف من
مطالبته به وصول الضرر إليه لا يبقى له إلا الكف والسكوت إلى وقت
التمكن، وكذا أمير المؤمنين (عليه السلام) فعل ما يلزم فعله في الشرع
والعقل فإنه قرر خصومه بالحجة فأقروا له بالحق لقضية القرابة وأصروا على
ترك تسليم حقه إليه، فلم يبق عليه بعد هذا إلا استخلاص حقه منهم
بالجبر، واستخراجه من أيديهم بالقهر، فطلب الأعوان على ذلك وطاف على
دور أهل السوابق من الصحابة مركبا فاطمة على حمار آخذا بيد الحسن
والحسين يدعو الناس إلى معاونته على استيفاء حقه بالسيف إذ لم يبق غيره،
فكان يبايعه بالليل أربعون رجلا على ذلك ويعدهم أن يوافوه صبحا فإذا
أصبح لم يوافه إلا أربعة أو خمسة، حتى فعل ذلك ثلاث ليال وهذه حالهم
معه كما صح عند خصومنا واشتهر بينهم، فلما تبين له الخذلان من الناس
سكت وكف على ما في صدره من المضض وفي قلبه من الألم، إذ لم يبق بعد
فقد الناصر وعدم المعين على أخذ الحق من الممتنع عن تسليمه إلا الكف
والسكوت، لا سيما إذا كان الضرر في ترك الكف عنه مظنونا وصوله إلى
صاحب الحق من ذلك الظالم أو من تابعيه، فليس لذكر علي (عليه السلام)
النص في المقام موضع، ولا لإيراده موقع، وهو واضح لإخفاء فيه ومكشوف

419
لا سترة عليه وهذا بخلاف أبي بكر وأصحابه فإنهم في تمام الحاجة إلى ذكر
نص عليه أو خبر في مدحه، لأن أمير المؤمنين (عليه السلام) يرميهم جميعا
بالظلم والعدوان واغتصاب حقه والعباس بن عبد المطلب كذلك وجماعة من
الأنصار وهكذا، فلو كان ثمة له دليل من النصوص لأورده ومنع به خصمه
عن نفسه، أو حجة من قول النبي (صلى الله عليه وآله) لناضل بها
منازعه، لكنه وصحبه لم يذكروا من ذلك شيئا مع دعاء الحاجة إليه فعلم أنه
لا شئ منه بموجود فافترق الأمران، وبالله المستعان، وقد وضح من هذا
كله بطلان ما أورده ابن أبي الحديد في المقام وما شنع به على أصحابنا في
موضع آخر حين قال: فإن قالت الإمامية: كان يخاف القتل لو ذكر ذلك يعني
النص، قيل لهم: فهلا خاف القتل وهو يعتل ويدفع ليبايع وهو يستصرخ
تارة بقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتارة بعمه حمزة وأخيه جعفر
وهما ميتان، وتارة بالأنصار، وتارة ببني عبد مناف، ويجمع الجموع في داره
ويبث الرسل والدعاة ليلا ونهارا إلى الناس يذكرهم فضله وقرابته، ويقول
للمهاجرين خصمتم الأنصار بكونكم أقرب إلى رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) وأنا أخصمكم بما خصمتم به الأنصار لأن القرابة إن كانت هي
المعتبرة فأنا أقرب منكم؟ وهلا خاف من هذا الامتناع ومن هذا الاحتجاج
ومن الخلف في داره بأصحابه ومن تنفير الناس عن البيعة التي عقدت حينئذ
لمن عقدت له (1) " انتهى وفيه مع اندفاعه بما مضى من البيان فساد واضح من
وجهين.
الأول: دعواه أن الإمامية يقولون خاف علي (عليه السلام) من ذكر
النص والحال أنه ولا واحده من الإمامية بقائل إن أمير المؤمنين (عليه
السلام) لم يذكر النص، بل كلهم متفقون على أنه (عليه السلام) ذكر



(1) المصدر السابق 11 / 111.
420
النص للقوم وذاكرهم لما ساموه البيعة لأبي بكر وخاصمهم به أشد خصام،
فلم يقبلوا منه فعدل إلى القرابة التي احتجوا بها على الأنصار فتعللوا عليه كما
رويتم فلم يجد شيئا يكفهم به عن ظلمه وينتزع به من أيديهم حقه إلا
السيف، فصمم العزم على مناجزتهم فلم يجد ناصرا طلب أربعين رجلا
ذوي عزم فلم يوافقه ولم يجبه إلا أربعة أو خمسة فكف وسكت، وهذا المشنع
ذكر ذلك مرارا في كتابه وصححه واعترف به هنا كما ترى، فليس أحد من
الإمامية يقول: إن عليا (عليه السلام) لم يذكر النص عليه، بل يقطعون
بأنه ذكره ويجزمون بأن القوم ردوه ولم ينقادوا له، ورواياتهم بذلك ناطقة
ومصنفاتهم بذلك مصرحة.
الثاني قوله: إنه خاف القتل، فإن الإمامية إن قالوا خاف القتل فإنهم
يريدون أنه (عليه السلام) خاف القتل من استمراره على ترك بيعتهم فضرع
لها وأجاب دفعا للقتل عن نفسه إذ لا معين له وهو قد صرح بهذا المعنى في
كثير من خطبه كالشقشقية وغيرها وقد ذكرنا شطرا من كلامه في هذا المعنى
فيما تقدم وسيأتي منه الكثير إن شاء الله لا إنه خاف القتل من ذكر النص فإنه
لا قائل به من الإمامية، فإن كان صادقا فليدلنا على هذا القائل، نعم إن قال
أحد منهم أنه خاف من ذكر النص مجاراة للخصم فإنه يريد أنه خاف منهم
إنكاره ورده وذلك صحيح وقد أوضحناه وبيناه فزال تشنيعه على أصحابنا
بقوله هلا خاف من كذا وهلا خاف من كذا هذا كله مع ما يعود عليه في هذا
التشنيع من بطلان مذهبه وفساد عقيدته وذلك من وجهين.
الأول: إنه ملأ كتابه من الدعوى برضا علي (عليه السلام) بخلافة
أبي بكر وروى في ذلك أحاديث كثيرة عن أسلافه، وأن عليا (عليه السلام)
لم يدع أحدا إلى نقض بيعة أبي بكر ولا استصرخ الناس لحربه ولا نازعه
وأصحابه، وقد قدمنا بعضا من كلامه في هذا في فصل أحاديث لفظ الإمام

421
ثم هو الآن يقول: إنه استصرخ الناس لحرب أبي بكر وكاشف ونازع
وعتل ودفع وبث الرسل والدعاة يدعون الناس إلى نقض بيعة الشيخ
ومحاربته، فانظر إلى هذ التناقض العظيم في أقواله والتعارض الشديد في
كلامه.
الثاني: إنه شحن الكتاب أيضا من قوله أن عليا (عليه السلام) لو
كاشف القوم ونازعهم وسخط إمارتهم ولم يرضها فضلا عن أن يكون شهر
السيف عليهم لحكمنا بضلالهم وهلاكهم كما حكمنا بهذا كله على من خالفه
أيام خلافته لأنه على الحق دائما ونقل ذلك أيضا عن مشائخه البغداديين ثم
هو هنا وغير هنا يذكر أنه (عليه السلام) خالفهم ونازعهم واستصرخ الناس
عليهم، ودعا الناس إلى قتالهم، وجمع الجموع في داره لذلك واستغاث منهم
بالأموات والأحياء فلازم ذلك عليه أن يحكم عليهم بالضلال ومخالفة الحق وهو
لا يحكم عليهم، بل يصرح في مواضع من كتابه بأنهم من الدين والإيمان
وصحة اليقين بمكان مكين وغير ذلك من الأوصاف الجميلة التي تزيد على
الوصف، وكان اللازم من هذا عليه تكذيبه في معتقده، أو افتراؤه في
أخباره، أو حكمه بضلال أئمته فما كان أغناه عن كشف هذه القبائح، وبيان
الفضائح، ونشر هذه المعايب وهذا يصرح لك عن هذا الرجل بأنه نهج
منهج الخلط والتخبيط، يقول الشئ وضده ويأتي بالأمر ونقيضه ويعتقد
مذهبا ومنافيه كل ذلك عنده صحيح وفي خياله رجيح لا يقف على حد محدود
ولا يقتصر على مذهب معلوم أعاذنا الله والمؤمنين من المضلات ومن
الانغماس في الجهالات.
واحتج القوشجي على فقد النص مطلقا على أمير المؤمنين وخصوصا قول
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (سلموا على علي بإمرة المؤمنين) وقوله
(صلى الله عليه وآله) لعلي: (أنت الخليفة بعدي) وقوله (صلى الله

422
عليه وآله وسلم) مشيرا إليه (هذا خليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا) وقوله
(صلى الله عليه آله وسلم) حين جمع بني عبد المطلب (أيكم يبايعني
ويوازرني يكون أخي ووصيي وخليفتي من بعدي) (1) فبايعه علي (عليه
السلام) وهي التي استدل بها سلطان الحكماء والمتكلمين نصير الملة والحق
والدين بأن هذه النصوص لم تثبت من يوثق به من المحدثين مع شدة محبتهم
لأمير المؤمنين (عليه السلام) ونقلهم الأحاديث الكثيرة في مناقبه وكمالاته في
أمر الدنيا والدين، ولم ينقل عنه في خطبه ورسائله ومفاخراته ومخاصماته
وعندنا تأخره عن البيعة إشارة إلى تلك النصوص وجعل عمر الخلافة شورى
بين ستة ودخل علي في الشورى، وقال عباس لعلي: امدد يدك أبايعك حتى
يقول الناس هذا عم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بايع ابن عمه
فلا يختلف فيك اثنان، وقال أبو بكر وددت أني سألت رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) عن هذا الأمر فيمن هو وكنا لا ننازعه، وحاج علي (عليه
السلام) معاوية ببيعة الناس لا بنص من النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) (2) انتهى. كلامه.
والجواب أما قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (سلموا على علي
بإمرة المؤمنين) و (أنت الخليفة بعدي) فمتواتر عند الشيعة فضلا عن كونه
مرويا وليس التواتر عند الشيعة على كثرتهم يقصر في الخبر عن كونه خبرا
صحيحا لا سيما إذا لم يكن له مناقض يعتد به وكان له معاضد من الأدلة



(1) تاريخ الطبري 3 / 1172 ليدن وفيه " وخليفتي فيكم " وشرح نهج البلاغة
13 / 244. وأمر النبي (ص) بالتسليم على علي بالإمرة رواه ابن عساكر بترجمة
علي (عليه السلام).
(2) أي كلام القوشجي في خدش الروايات التي استدل بها الطوسي في التجريد على إمامة
علي (عليه السلام) وانظر كشف المراد للعلامة الحلي عند شرحه للمسألة الرابعة في
وجوب النص على الإمام.
423
الصحيحة، وقد ذكرنا في النصوص ما يصرح به عن محدثيهم.
وأما قول النبي (صلى الله عليه وآله) (هذا خليفتي فيكم) الخ.
وقوله: (يا بني عبد المطلب أيكم يبايعني ويوازرني) الخ فكلاهما في حديث
الوزارة حين جمع النبي (صلى الله عليه وآله) بني عبد المطلب بعد
نزول قوله تعالى: [وأنذر عشيرتك الأقربين] وقد رواه الثقاة من محدثي
العامة واستدل به متكلموهم كابن إسحاق وابن جرير الطبري وأبي جعفر
الإسكافي وغيرهم فلا معنى لقول المعترض: إن هذه النصوص لم تثبت عمن
يوثق به من المحدثين، وأما خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) وكلماته
فهي مشتملة على ذكر النص عليه كثيرا مثل قوله: (وإني لأولى الناس بالناس
وإني وارث رسول الله وإني وصي رسول الله وإن رسول الله عهد إلي) ومعناه
باليقين استخلفني وكلامه لمن سأله بم ورثت ابن عمك دون عمك وغير ذلك
مما مضى ويأتي، ومخاصماته بالنصوص مشهورة فإنه كان دائما يدعي النص
عليه من النبي (صلى الله عليه وآله) كما مر في حديث ابن عباس مع
عمر بن الخطاب ومخاصمته أهل الشورى بالنصوص أمر معلوم قد اعترف به
هذا المعترض وغيره، وبالجملة فدعوى علي (عليه السلام) النص عليه من
النبي (صلى الله عليه وآله) واضحة كالشمس الضاحية لا يجهله إلا
جاهل محض، ولا ينكره إلا معاند صرف، فلا معنى لقول المعترض أنه لم
ينقل في كلامه إشارة إلى تلك النصوص لأنه قد اشتهر بها التصريح في كلامه
دون الإشارة.
وأما دخوله في الشورى فلوجهين.
الأول: إنه خاف القتل في امتناعه من الدخول في الشورى بعد ما
عينه عمر لأن امتناعه صريح في الخروج عن طاعته ورد إمامته فلا يأمن أن
يأمر بقتله فيقتل وعمر مطاع في أصحابه، وأكثرهم مبغضون لعلي (عليه

424
السلام)، وكيف يحاذر من قتل علي (عليه السلام) لو خالف أمره وقد
أوصى بقتل من يخالف عبد الرحمن بن عوف من أهل الشورى، وبقتل
ستتهم إن مضت ثلاثة أيام ولم يتفقوا على واحد منهم وعلي فيهم، فأطيع في
ذلك كله، وأخذ الستة بذلك من أبي طلحة الأنصاري وصي عمر على إنفاذ
هذه الوصية، ولو لم يفعلوا كما قال لقتلوا جميعا كما صح في روايات القصة
عند الخاصة والعامة (1)، وهذا أمر ظاهر لا ينبغي التشكيك فيه، وأقل
الأمور أنه (عليه السلام) يظن الضرر لو امتنع من إنفاذ قول عمر ودفع
الضرر المظنون واجب عقلا وشرعا.
الثاني: إنه من الجائز أن أمير المؤمنين دخل في الشورى ليتمكن من
المطالبة بحقه والإدلاء بحجته على ذلك وإذا لم يدخل فيها لم يتمكن من
ذلك، ولذا أنه خاصم القوم وحاجهم بالنصوص عليه لا بغيرها، وقال
هناك (إن لنا حقا أن نعطه نأخذه وأن نمنعه نركب إعجاز الإبل وإن طال
السرى) (2) وعرض عليه ابن عوف المبايعة على سيرة الشيخين فأبى إلا على
كتاب الله وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان ذلك إما
لاحتماله قبول القوم قول النبي (صلى الله عليه وآله) وإما لإلقاء
الحجة لئلا يقول قائل من القوم لا أدري أو نسيت فلم يذكرني أحد، وقد
أرسل الله موسى إلى فرعون وهو يعلم أنه لا يؤمن فليس من المقطوع به أن
يكون دخول أمير المؤمنين (عليه السلام) في الشورى لرضاه بها وجواز
الإمامة عنده بالاختيار، بل ولا من المظنون مع قيام الاحتمالين القويين،



(1) انظر تفصيل ذلك في شرح نهج البلاغة 1 / 158 فما بعدها عن الجاحظ والطبري
والعسكري وغيرهم.
(2) هذا الكلام رواه عنه الشريف الرضي في نهج البلاغة في باب الكلمات القصار برقم
21 ونقله الطبري في التاريخ 5 / 2791 ليدن حوادث سنة 23 كما رواه الهروي في
الجمع بين الغريبين وانظر شرح نهج البلاغة 1 / 195.
425
وإذا لم يكن رضاه بالشورى معلوما من دخوله فيها سقط الاحتجاج بها على
مراد القوشجي، وهنا وجه ثالث ذكره أصحابنا عن أمير المؤمنين (عليه
السلام) أنه إنما دخل في الشورى للرد على عمر وصاحبه في روايتهما عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (ولم يكن الله ليجمع لنا أهل البيت بين
النبوة والخلافة) وهو وجه ظاهر الصحة، وأما قول العباس امدد يدك
أبايعك ففيه ثلاثة وجوه.
الأول: إنها رواية يختص الخصم بنقلها فلا حجة فيها مع أنهم رووا ما
يعارضها وهو الخبر المتقدم المشتمل على شهادة العباس لعلي (عليه السلام)
بالنص عليه من النبي (صلى الله عليه وآله)، وإبلاغ ابن عباس عمر
ذلك عنه وإقرار عمر ببعض ذلك، بل بكله والترجيح لهذا الخبر لأنه أوضح
دلالة ولاعتضاده بالأخبار الصريحة في النص على علي (عليه السلام).
الثاني: إن الرواية لا تدل على نفي النص بحال لأن قوله: امدد يدك
أبايعك الخ ليس فيه ما يدل على عدم النص لا بالمطابقة ولا بالتضمن وهما
ظاهران، ولا بالالتزام إذ لا ملازمة في العقل بين البيعة لئلا يختلف الناس
وبين عدم النص إلا بالجزم بعدم مخالفة القوم لنص النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) لو كان موجودا، والمقطوع به من حالهم خلاف ذلك، نعم
هناك ظاهر ضعيف وهو لا يعارض القاطع.
الثالث: إنه من الجائز أن يكون العباس دعا عليا (عليه السلام) إلى
المبايعة لا لفقد النص عليه، بل دعاه إلى ذلك خوفا اختلاف الناس عليه
لعمله منهم ذلك كما أشار إليه بقوله: حتى يقول الناس هذا عم رسول الله
(صلى الله عليه وآله) بايع ابن عمه فلا يختلفون فيك (1) فدعاه إلى



(1) شرح نهج البلاغة 1 / 160.
426
المبايعة لدفع اختلاف الناس عليه لا لإحداث إمامته بالبيعة، بل ظاهر الحال
أن إمامة علي (عليه السلام) كانت معلومة عند العباس وأراد بالبيعة توكيدها
ودفع الاختلاف فيها، أو لأنه خاف أن يسبق سابق بالبيعة لعلمه أن القوم لا
يقفون مع قول النبي (صلى الله عليه وآله) في علي ونصه عليه لما ظهر
له من الأمارات الواضحة وقرائن الأحوال فأراد السبق بمبايعة علي (عليه
السلام) ليستقر أمره فلا تفيد بيعة غيره بعد ذلك في النقض عليه ويزول
الاختلاف، وإذا جاز ذلك بطل الاستدلال بالخبر إن صح إذ لا حجة فيه
حتى يحصل العلم بأن دعاء العباس عليا (عليه السلام) للبيعة لفقد النص
عليه لا لفائدة أخرى، وليس ذلك بحاصل ولا ظاهر إن لم يكن الظاهر من
ذلك خلافة، لأن تقديم العباس عليا على نفسه في خلافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع كونه
أسن منه يظهر منه أنه كان لسماع العباس من النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) أن عليا هو خليفته والأحق بمقامه، فكان الخبر لنا لا علينا.
وأما قول أبي بكر وددت أني سألت النبي (صلى الله عليه وآله)
الخ فإنه قال ذلك تقريرا لإنكار النص على علي (عليه السلام) وتصنعا منه
وتشبيها على من لم يعلم بأنه ما ظلم واحدا بعينه في تقدمه، ولا في استخلافه
عمر من بعده ليكون قوله هذا معارضا لدعوى علي (عليه السلام) النص
عليه ويستتم له ما أراد من حرمان أهل البيت حقهم من خلافة النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) في ظاهر الأمر عند عامة الناس في جميع الأزمنة لما يعلم
من أن أهل البيت إن تمكنوا من الخلافة وقتا من الأوقات واستقرت قدمهم
فيها ظهر من ظلمه لهم ما كان مستورا عند العامة، وزال الوثوق به
عندهم، وفسد ما دبره ولولا ما ألقاه من الشبه هو وموازروه بالقول والفعل
لما خفي على عوام الناس النص على علي (عليه السلام)، ولا أنكره أحد
لوضوحه فضلا عن أن يكون خفيا على المجيب وأمثاله من المحققين حتى
جادلوا فيه أتم الجدال، وبلغوا في إنكاره إلى الجمع بين الأمور المتناقضة

427
والمذاهب المتخالفة، فلذلك قال الرجل ما قال ليشبه على الجهال فنال ما
طلب ولو أنه صرح بما علمه من النص على علي (عليه السلام) لطعن فيه
العامة لتقدمه على من نص عليه النبي (صلى الله عليه وآله)،
وقدحوا في استخلافه صاحبه وهو لم يترأس ليكون مطعونا عليه عند العوام،
وإنما فعل ذلك ليكون عندهم موثقا مطاعا في الحياة والممات ليتم مقصده
المذكور وتصريحه بالنص يزيل ذلك كله عند سائر الناس وهو خلاف مطلبه،
فليس في قوله حجة على فقدان النص لأن له في إخفائه غرضا قويا، ثم إن
استدلال القوشجي بكلام أبي بكر على انتفاء النص مطلقا على واحد معين يعود
عليه بالنقض في دعواه إجماع أصحابه على استخلاف النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) أبا بكر ويرد حديث عائشة الذي هو الدليل عندهم على ذلك:
(وهو ادعى أباك وأخاك) المتقدم ذكره، ويبطل روايته في أبي بكر وهو قول
النبي (صلى الله عليه وآله) فيه: (وخليفتي في أمتي) وهذا دأبه (1) -
متناقض الأقوال مختل الكلام.
وأما محاجة علي (عليه السلام) معاوية ببيعة الناس له بنص فهي إن
سلمت مثل محاجته للصدر الأول بالقرابة، وذلك أن النصوص الواردة من
النبي (صلى الله عليه وآله) على علي (عليه السلام) وإن كانت
صريحة واضحة ومعاوية يعلمها ولا يجهلها ويعرفها باطنا ولا ينكرها لكن وهن
دلالتها وشبه صراحتها على تابعي معاوية من أهل الشام وأكثر تابعي علي
(عليه السلام)، إذ جل من معه يرون أن إمامته بالبيعة لا بالنص عليه
ويثبتون تقدم الثلاثة عليه في الخلافة فكان الفريقان يذهبان إلى أن الإمامة
بالاختيار لا بالنص وأن النبي (صلى الله عليه وآله) لم ينص على واحد
بعينه، ولو احتج أمير المؤمنين (عليه السلام) بالنص على معاوية لم يسلمه
له في الظاهر وإن كان يعلم صحته كما لم يسلم له الأولون إذا ذكره، ولم



(1) أي القوشجي.
428
يلتفت إليه أهل الشورى إذ أورده، ولا رآهم الناس من العامة خالفوا النبي
(صلى الله عليه وآله) إذ ردوا نصه لتلك الشبهة المرتكزة في نفوسهم
وكان يتجه لمعاوية عند أهل الشام وأكثر أهل العراق أن يجيبه بأن يقول: إذا
كنت أنت المنصوص عليك بهذه النصوص فلم تقدم عليك فلان وفلان ولم
قرن عمر بك في الشورى فلانا وفلانا إلى آخره ولم قدم عليك أهل الشورى
فلانا وهؤلاء خيار الصحابة؟ أفتقول إنهم ظلموك وانتهبوا حقك، فإن صرح
بما لا يحتمل التأويل بأنهم ظلموه وغصبوه حقه وخالفوا نص رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) عليه، وقوله فيه وتقدموا عليه عدوانا كانت
هذه هي الطامة الكبرى التي ود معاوية لو تكلم أمير المؤمنين (عليه السلام)
بكلمة تدل عليها ليجعلها من أعظم الموجبات لمخالفته وقتاله، فما رضاه بقتل
عثمان الذي اقتضى لزوم خلافه ووجوب حربه عند أهل الشام إلا دونها
بمراتب، فيزدادون بها ضلالا وعتوا عليه ويتفاقم خطبهم ويزيد فسادهم،
وهو (عليه السلام) يريد اصلاحهم، ثم ليست هذه مقصورة على فساد
أهل الشام خاصة بل يتمشى الأمر بها إلى فساد أكثر جند أمير المؤمنين (عليه
السلام) عليه، لأن عامتهم يرون في الإمامة ما يرى أهل الشام ويصححون
خلافة الثلاثة، ويوثقونهم ومن معهم من الموازرين لهم فيما فعلوه،
ويناقضون عليا (عليه السلام) في مخالفته فتاوى الشيخين كما هو معلوم
فكيف يتبعونه إذا صرح بأنهما من الظالمين الغاصبين؟ وقد علم كافة أولي
الألباب أن الحجة إذا لم يسلمها الخصم ولا تابعوه لم يكن في الاحتجاج بها
عليه فائدة وإن كانت صحيحة، وأنه يجب العدول عنها إلى حجة لا يقدر
الخصم على دفعها ولا يجد سبيلا لي منعها إذا كانت موجودة، هذا كله إذا لم
يجر الاحتجاج بها على المحتج ضررا فكيف إذا كان ذلك يجر الدواهي الدهم
عليه ويكون موجبا لفساد أصحابه، وزيادة ضلال أصحاب الخصم
وغوايتهم؟ ومع هذا لا يؤمن على معاوية أن يقيم شهودا عند أهل الشام

429
مثل ابن العاص وأبي هريرة وحبيب بن مسلمة الفهري والضحاك بن قيس
وأضرابهم يكذبون عليا (عليه السلام) في دعواه النص، وأن المنصوص
عليه فلان وفلان إلى آخر من يريد معاوية والكذب عند هؤلاء على الله
ورسوله (صلى الله عليه وآله) أهون من شرب الماء البارد على
الظمآن، وخصوصا فيما يعيبون به على أمير المؤمنين (عليه السلام) وأهل
الشام يصدقونهم في جميع ما قالوا لظنهم فيهم الخير فتبطل الحجة عند أهل
الشام مع حصول الضرر، فلهذا كله عدل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن
ذكر النص إلى الاحتجاج ببيعة المهاجرين والأنصار له إذ كانت هي النافعة في
المقام والمعتبرة عند العوام، وأن معاوية لا يستطيع إنكارها ولا يسعه الطعن
فيها ولا يتيسر له إنكار ثبوت الإمامة، لأنه هو وجميع من معه والجم الغفير من
أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) يجعلونها هي الطريق للإمامة ويثبتون
بها إمامة المتقدمين، وبها يتعلق معاوية دعواه الطلب بدم عثمان كما زعم
وذلك لتقوم بها عليه الحجة ظاهرا ولا يمكنه المدافعة والممانعة ولا يقبل قوله
في علي (عليه السلام) أنه يبرء من الشيخين ويفسقهما، كما أكثر من ذلك
في كتبه إلى علي (عليه السلام) وهذه عند أهل الذكي من أعظم الأدلة على
بلوغ أمير المؤمنين (عليه السلام) في الحكم ومعرفة سياسة الأمور الغاية
القصوى، ولو جرى على من تقدمه من رعيته ما جرى عليه إذن ما استقر في
الإمارة شهرا ولذا لم يتمكن معاوية ابتداء من التخلف عن بيعته (عليه
السلام) عند أهل الشام إلا بطلب قتلة عثمان منه، وأنه إذا دفعهم إليه كان
أسرع الناس إلى طاعته فتعلق أولا بأمر مقبول عند أهل الشام غير ثبوت
إمامة علي (عليه السلام) ونفيها لعلمه أن أهل الشام لا يقبلون منه ابتداء
إبطال بيعة الصحابة لمن بايعوه وببطلان ما دعاهم إليه من الطلب بدم عثمان
لو صرح أول الأمر بذلك وتيقنه أن عليا (عليه السلام) لا يجيبه إلى ما طلبه
على الوجه الذي أراد، لأنه غير جائز شرعا من وجوه لا يحسن هنا بيانها فتتم

430
له الحيلة المقصودة له في باطن أمره بهذه الشبهة، فلما تمكن ارتفع عن ذلك
إلى القدح في بيعة علي بأنه قتل عثمان ظلما بزعمه أو راض بقتله، ولا تصح
الخلافة لقاتل خليفة مظلوم لا لأن بيعة الصحابة لا توجب الإمامة وكانت
هذه أيضا شبهة مقبولة عند اتباعه ثم كان كلما تمكن من أمر ارتفع إليه حتى
تم له جميع ما حاول وطلب من أمر الدنيا فكان تعلله إذ لم يتمكن من القدح
في أول الأمر في إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) ببيعة المهاجرين والأنصار
له بما تعلل به شبيها بتعلل الأولين بحداثة السن إذا أعيتهم الحيلة في دفع
حجته، فليس ترك أمير المؤمنين (عليه السلام) مخاصمة معاوية بالنص
لكونه مفقودا بل لكونه غير نافع بل مقتضيا للضرر يقينا، وترك ما يوجب
الضرر واجب قطعا ولأن مراد أمير المؤمنين (عليه السلام) مطالبة معاوية
وأصحابه بالبيعة وذلك متوقف على ثبوت الإمامة على ما يرون ولا يكون إلا
بالبيعة فخاصمهم ليكون قد أتاهم بما يعرفون ولا ينكرون ليستحقوا على
العصيان من المطيعين القتال ومن الله المقت والنكال، وهذا في الحقيقة لا
يجهله محصل ولا يرتاب فيه محقق وبأقل مما بيناه يتضح وجهه، فبطل إيراد
القوشجي كله وانزاح تعلله بعون الله ومنه، وقد نتج من كلامنا من أوله
إلى هنا دعويان.
الأول: إن القوم كانوا يخالفون نصوص النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) ويردونها بالرأي.
الثانية: إن النص موجود على أمير المؤمنين (عليه السلام) من النبي
(صلى الله عليه وآله) فكتمه القوم وأعرضوا عنه ونبذوه وراء
ظهورهم.
أما الأولى: فدليلنا عليها مع ما بيناه وأوضحناه حتى من شهادة أوليائهم
عليهم ما شاع من صدور مخالفة بعض الصحابة للنبي (صلى الله عليه وآله

431
وسلم) في حياته وما تواتر من مخالفتهم إياه بعد وفاته، منها ما صدرت من
شخص معين، ومنها ما صدرت من أشخاص معينين، ومنها ما هو منسوب
إلى جملة من القوم من غير تعيين، ونبدأ من القسم الأول بذكر أبي بكر وعمر
فإنهما رأس هذا الأمر وسنامه، وجميع البحث في الإمامة يدور عليهما فنقول
إن مخالفتهما للنص (صلى الله عليه وآله) جاءت منهما تارة على الإجماع
وأخرى على الانفراد فمما اجتمعنا فيه مخالفتهما للرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) في التخلف عن جيش أسامة مع حث النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) على تنفيذه مرارا.
قال ابن أبي الحديد قال أبو بكر (1) وحدثنا أحمد بن سيار عن سعيد بن
الكثير الأنصاري عن عبد الله بن عبد الله بن عبد الرحمن: إن رسول الله
(صلى الله عليه وآله) في مرض موته أمر أسامة بن زيد على جيش
فيه جلة المهاجرين والأنصار منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح
وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير، وأمره أن يعبر على مؤتة حيث قتل
أبوه زيد، وأن يغزو وادي فلسطين، فتثاقل أسامة وتثاقل الجيش بتثاقله،
وجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يثقل ويخف ويؤكد القول في
تنفيذ ذلك البعث حتى قال له أسامة: بأبي أنت وأمي أتأذن لي أن أمكث
أياما حتى يشفيك الله فقال: (اخرج وسر على بركة الله) فقال: يا رسول
الله إني إن خرجت وأنت على هذه الحالة خرجت وفي قلبي قرحة منك فقال:
(سر على النصر والعافية) فقال: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله)
إني أكره أن أسئل عنك الركبان، فقال: (أنفذ لما أمرتك به) ثم أغمي على
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقام أسامة فجهز للخروج، فلما
أفاق رسول الله (صلى الله عليه وآله) سأل عن أسامة والبعث فأخبر



(1) يعني الجوهري.
432
أنهم يتجهزون فجعل يقول: (أنفدوا بعث أسامة لعن الله من تخلف عنه)
ويكرر ذلك الخبر، (1) ومع هذا الحث الأكيد قد تخلف من تخلف عن البعث
المذكور ردا لنص الرسول (صلى الله عليه وآله) بالرأي فإن أحدهما
تخلف لطلب الخلافة والثاني لمعاونته ولم ينكر عليهما منكر لأن المتمكن من
الإنكار عليهما في تلك الحال يرى رأيهما، والمؤمنون وهم أقل قليل مغلوب
عليهم، فإذا كان هذان الرجلان قد تخلفا عن جيش أسامة مخالفة للنبي
(صلى الله عليه وآله) ولم تمض من المدة ما يحتمل فيه شبهة كنسخ
وغيره، وكل ذلك لغرض الإمرة وطلب الرئاسة فكيف يستنكر منهما ويستبعد
مخالفة نص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على علي وإنكاره
ذلك الغرض المذكور؟ مع أن مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في
الإمامة ورد نصه فيها على مذهب الجماعة أهون من رد نصه في الجهاد لأنهم
جعلوا الخلافة من الأمور الدنيوية ولم يجعلوها من الفروض الدينية،
والأحكام الشرعية، ألا ترى قول عمر لأبي بكر في السقيفة وأمرك رسول الله
بالصلاة رضيك رسول الله لديننا أفلا نرضاك لدنيانا (2)، فجعل الصلاة من
الدين والإمامة من أمر الدنيا، ولازم ذلك جعل نص الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم) فيها كرأي واحد منهم! فكما يجوز مخالفة ذلك الواحد يجوز
مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله) والرجوع إلى ما يؤدي إليه الرأي،
وإذا كانوا قد خالفوا النبي (صلى الله عليه وآله) وردوا نصه في الأمور
الدينية فأحر بهم أن يخالفوا النبي (صلى الله عليه وآله) فيما زعموا أنه
من الأمور الدنيوية لا من الأوامر الشرعية، فتبين هنا أن قول بعضهم: إن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يوص ولو أوصى ما تأمر أبو بكر



(1) شرح نهج البلاغة 6 / 52 كما روى هذا الحديث الشهرستاني في الملل والنحل 1 / 21.
(2) المصدر السابق 2 / 25 عن المغني لقاضي القضاة.
433
على وصيه باطل، لأن أبا بكر قد تآمر في هذه الواقعة على من أمره رسول الله
(صلى الله عليه وآله) عليه والحال في الأمرين واحدة، ومتى رأينا أبا
بكر وصاحبه وقفا مع النص فيما يخالف غرضهما حتى نستبعد منهما مخالفة
النص في الإمامة مع ظهور مخالفته لمطلوبهما ومنعه إياهما من التوصل إلى
محبوبهما ما هذا إلا تمحل المحال.
ومن ذلك مخالفتهما أمره (صلى الله عليه وآله) بقتل ذي
الخويصرة التميمي (1) قال ابن أبي الحديد: وفي الصحاح المتفق عليها أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) بينا هو يقسم قسما جاء رجل من بني
تميم يدعى ذي الخويصرة، فقال: اعدل يا محمد فقال: (قد عدلت) فقال
ثانية: اعدل يا محمد فإنك لم تعدل فقال (صلى الله عليه وآله):
(ويلك ومن يعدل إذا لم اعدل)؟ قال: وفي بعض الصحاح أن رسول الله
قال لأبي بكر وقد غاب الرجل عن عينه: قم إلى هذا فاقتله فقام ثم عاد
فقال: وجدته يصلي، فقال لعمر مثل ذلك فعاد وقال: وجدته يصلي فقال
لعلي (عليه السلام) مثل ذلك فعاد وقال: لم أجده، فقال رسول الله:
(صلى الله عليه وآله) (لو قتل هذا لكان أول فتنة وآخرها) (2)
الحديث فانظر إلى ترك الشيخين قتل الرجل لأنه يصلي فإنك تجده صريحا في
ردهما أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بالرأي وتخصيصهما عمومه
بالاستحسان؟ هذا والنبي (صلى الله عليه وآله) حي نافذ الحكم
شديد السلطان، فإذا تحقق ردا مرة بالرأي في حال حياته وعلو كلمته ولم



(1) ذو الخويصرة: حرقوص بن زهير رأس الخوارج وهو ذو الثدية قتل يوم النهروان سنة
40.
(2) شرح نهج البلاغة 6 /. وقد أخرج هذا الحديث الإمام أحمد في مسنده 3 / 15.
الصورة أطول كما إن حديثه هذا من الأحاديث المتفق عليها كما يقول ابن أبي
الحديد.
434
يحذرا من عقوبته فكيف يستنكر منهما مخالفته نصه في إمامة علي (عليه
السلام) بعد وفاته وعلمهما أنه قد فارق الدنيا وأنه لا يأمر بعد ذلك ولا
ينهى، أفيرتاب عاقل عالم قد علم بمخالفتهما الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) فيما ذكرناه في جواز أن يخالفا نصه في الإمامة مع ارتكاب خطر
العقوبة في الأول والأمن منها في الثاني؟ وهل يصفهما ذو عقل صحيح وذوق
رجيح بعدم إمكان المخالفة كما فعل ابن أبي الحديد فواعجبا من قوم هم
من ذووي التحقيق يروون شيئا ويحققونه ثم يزعمون عدم إمكان واستحالة
وقوعه [فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب
أليم] (1) ولعمري لقد أصابتهم الفتنة من غير شك ولا شبهة وبالله
المستعان.
وفي حديث: أم سلمة المتقدم مع عائشة قالت: وأذكرك أيضا كنت أنا
وأنت مع رسول الله في سفر له وكان علي (عليه السلام) يتعاهد نعلي رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيخصفها، ويتعاهد أثوابه فيغسلها،
فنقبت له نعل فأخذها يومئذ يخصفها وقعد في ظل سمرة، وجاء أبوك ومعه
عمر فاستأذنا عليه، فقمنا إلى الحجاب، فدخلا عليه فحادثاه فيما أراد، ثم
قالا: يا رسول الله إنا لا ندري قدر ما تصحبنا فلو أعلمتنا من تستخلف
علينا ليكون لنا بعدك مفزعا، فقال لها: (أما إني قد أرى مكانه ولو فعلت
لتفرقتم عنه كما تفرقت بنوا إسرائيل عن هارون بن عمران) فسكتا ثم
خرجا، فلما خرجنا إلى رسول الله (عليه السلام) قلت له وكنت أجرأ عليه
منا: من كنت يا رسول الله مستخلفا عليهم؟ فقال: (خاصف النعل)
فنزلنا فلم نر أحدا إلا عليا، فقلت: يا رسول الله ما أرى إلا عليا فقال:
(هو ذاك) فقالت عائشة: نعم أذكر ذلك، فقالت: فأي خروج تخرجين



(1) النور: 63.
435
بعد هذا (1) وهو صريح في إخبار النبي (صلى الله عليه وآله) لهما بأنهما
يخالفان نصه، ولا يطيعان من يستخلفه، وسكوتهما من دون أن يعتذرا للنبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) أو يعطياه من العهود بالطاعة فيمن يستخلفه
عليهم ما يحصل الوثوق ظاهرا بمثله شاهد صدق على أن ما نسبه النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) إليهما وإلى أمثالهما من التفرق عن خليفته كان ذلك
الوقت مضمرا في قلوبهما، وكانا قد عرفا إشارة النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) إلى ما أضمراه من مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله) إن
استخلف عليا، وقد فهما إلى من يشير النبي (صلى الله عليه وآله)
بالاستخلاف فسكتا على ما أضمرا، فأي شاهد عدل من هذا يراد منا على
هذه الدعوى؟
ومما اختص به أبو بكر في مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله)
وكان عمر له تابعا أخذه فدك من فاطمة (عليه السلام) لروايته التي
خالفها بتركه ما ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند علي (عليه
السلام) كالسيف والدرع والبغلة والعمامة وشبه ذلك وترك حجرات النبي
(صلى الله عليه وآله) عند أزواجه (عليه السلام) وتوضيح ذلك أن
فدك كانت من الأنفال كما صح عند خصومنا رواه ابن أبي الحديد عن
الطبري وغيره (2) وليست فيئا للمسلمين وأن فاطمة (عليه السلام) أتت
تطلبها بالميراث من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بادئ بدء فمنعها أبو
بكر وروى أنه قد سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول:
(نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة) (3) وأنه بعد ذلك ترك



(1) من محاورة جرت بين عائشة وأم سلمة وقد تقدم بعضها
(2) شرح نهج البلاغة 16 / 210 فما بعدها وقد أشبع القول في هذه المسألة تفصيلا من
جميع وجوهها.
(2) صحيح البخاري 5 / 84 كتاب المغازي باب غزوة خيبر، وصحيح مسلم 5 / 153
باب قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (لا نورث.. الخ).
436
المذكورات عند علي (عليه السلام) ولم يتصدق به وترك الحجرات عند
الأزواج، فكيف تترك تلك وتؤخذ هذه؟ والاعتذار بأنه لعله تصدق بأثمانها لا يدفع
الايراد ولا يجدي نفعا لوجهين.
الأول: إنه منع فاطمة الميراث بما زعمه من الرواية على رؤوس
الاشهاد وكانت فاطمة وعلي (عليه السلام) وشيعتهما ينسبونه في ذلك إلى
الظلم وافتعال الرواية وكل هذا مصحح عند الخصم فكان تركه المتروكات
موجبا لصدق اتهامه بالرواية والظلم والتصدق باطنا بالأثمان لا يرفع عنه
التهمة ولا يوجب براءة ساحته لأن منعه فاطمة الميراث لروايته أمر متعالم
معروف فالواجب عليه أو يقابله بما يزيل عنه التهمة ويبرئ ساحته من
الطعن عليه بافتراء الرواية بأمر مثله معلوم معروف بأن يحضر جماعة من
الصحابة ويحضر ذوي عدل يقومون تلك الأشياء بقيمة عادلة فيحضر من ماله
قدر ذلك فيتصدق به علانية في ذلك المشهد لأن المعلوم لا يرفعه إلا معلوم
مثله وما نراه فعل شيئا من ذلك ولا نقله عنه من أوليائه ناقل ولو فعله
لصنفت فيه الكتب وكثرت فيه الأسانيد وكل هذا لم يكن وهو دليل على أنه لم
يكن في السر شئ منه وهم لا يدعون له العصمة حتى يقطع على باطنه كما
يقطع على ظاهره الثاني إنا لو جوزنا تصدقه سرا فمن أين نقول إنه تصدق
بأثمان تلك المتروكات فإن كان من ماله فهو باطل لأنه إذ ولى الخلافة واشتغل
بها عن التجارة لم يجد نفقة له ولعياله حتى جعل له المسلمون قسمة من بيت
المال المال كل يوم ثلاثة دراهم كما صح عند الخصوم ونقله ابن أبي الحديد عن أبي
جعفر الإسكافي (1) فأين له مال يتصدق منه بأثمان المتروكات وإن كان من
بيت المال فذلك غير جائز لأن بيت المال حق للمسلمين فليس له أن يؤدي



(1) شرح نهج البلاغة و 17 / 224.
437
عن ذمته من مالهم شيئا بغير إذنهم ولم ينقل أنه استأذنهم في ذلك فأذنوا له
ففعل ثم على تقدير جواز ذلك كله لا ترتفع المخالفة لأن الصدقة في حديثه
متعلقة بأعيان تلك الأشياء لأنه قال ما تركناه صدقة فالواجب دفع أعيان تلك
المتروكات في الصدقة ولا يجزي دفع أثمانها وما هو إلا كرجل نذر الصدقة
بدينار معين فلا يجزيه التصدق بغيره بلا خلاف وقد ترك تلك الأشياء على
حالها بيد من هي تحت يده فثبتت مخالفته لما رواه ثم هنا وجه آخر من المخالفة
لا يدفع وذلك أن لفظ حديثه (ما تركناه صدقة) ومن البين أن الصدقة
للفقراء والمساكين لا لعامة المسلمين ولا في وجوه الجهاد كالكراع والسلاح لم
ينقل أحد من مواليه أنه كان يقسم غلة فدك في الفقراء والمساكين بل صح
عندهم أنه يجعله في بيت المال ويصرفه في أمر الجهاد كما زعم ففعله مخالف
لروايته من هذه الجملة قد بان أن الرواية إنما افتعلت افتعالا في ذلك
الوقت ليدفع بها قول فاطمة (عليها السلام) ويسكتها عن مطالبتها الميراث
لئلا تدعى بعد ذلك ميراث الخلافة لابن عمها علي (عليه السلام) من
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقطع بهذا الخبر المادة التي حذر منها
وكان ذا مكنة على أمثال هذا فلما اندفعت فاطمة عن مطالبة الميراث ترك ما
يلزمه من مضمون روايته.
وقد نقل ابن أبي الحديد أن عثمان كذب هذه الرواية إذ جائته عائشة في
أيام خلافته تطلب ميراث النبي (صلى الله عليه وآله) وطعن عليها
ولا أدري كيف طلبها ميراث النبي (صلى الله عليه وآله) والرواية أنه
لا يورث أفيكون للزوجة ميراث ولا ميراث للبنت.
ومن ذلك إسقاطه سهم ذوي القربى من الخمس والأنفال وجعلهم
كعامة المسلمين فيه وقد خص الله ورسوله ذوي القربى منهما بسهم لا يشركهم

438
فيه غيرهم بنص الكتاب العزيز (1).
ومن ذلك درؤه الحد عن خالد بن الوليد إذ قتل مالك بن نويرة وزنى
بامرأته وعذره لعمر لما طلب أن يقوده بمالك لأنه مسلم ما هو بأول من تأول
وأخطأ فاكفف يدك، وارفع لسانك عنه (2) إلى غير ذلك من الاجتهادات
في مقابلة النص، والعمل بالرأي دون الرواية.
وأما ما يختص به عمر فمنه مخالفته لرسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) حين قال (ائتوني بدواة وصحيفة اكتب لكم كتابا لا تضلون بعدي)
ولم يكفه المخالفة للأمر دون أن قال إنه ليهجر استفهموه حسبنا كتاب الله



(1) قال تعالى: [واعلموا أنما غنمتم من شئ فإن لله خمسة وللرسول ولذي
القربى.] الآية 41 من سورة الأنفال وقد أجمعت الأمة على أن رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) كان يختص بسهم من الخمس ويخص ذي قرباه بسهم آخر منه مدة
حياته صلوا الله عليه وآله وسلم فلما ولي أبو بكر (رضي الله عنه) أسقط سهم النبي
(صلى الله عليه وآله) بموته، ومنع ذوي القربى من الخمس وجعلهم كغيرهم
من يتامى المسلمين ومساكينهم وأبناء السبيل منهم (انظر النص والاجتهاد).
(2) قصة زحف خالد بن الوليد إلى البطاح ليلقى مالك بن نويرة وقومه من بني يربوع
وقتله مالك بن نويرة وجماعة من قومه مع قولهم: إنا مسلمون، ورفعهم الأذان،
وإقامتهم الصلاة بمشهد من المسلمين الذين مع خالد ثم قتلهم بعد استيلائهم على
أسلحتهم ومبيت خالد مع زوجة مالك في ليلة مقتله، وإنكار أبي قتادة لهذه الفعلة
ومفارقته لخالد بعد أن أقسم أن لا يكون أبدا في لواء عليه خالد وغضب عمر بن
الخطاب (رضي الله عنه) لذلك وحنقه عليه حتى عزله يوم تولى الأمر حقيقة ثابتة
ليس بوسع أحد أن ينكرها ويتستر عليها وبحسبك أن ترجع إلى كتاب الغدير
7 / 158 - 169 فقد ألم بهذه القضية من كل أطرافها وهب أن مالكا قتل مرتدا، وزوجته
سبية، وخالد لا يرى أن تعتد بأبعد الأجلين. أوليس رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) يقول: (ألا لا توطأ الحبالى حتى يلدن، ولا غير الحبالى حتى يستبرئن)
كما نادى مناديه يوم حنين وإلى الله ترجع الأمور.
439
مراغمة لقول الله تعالى: [وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى]
ثم افترق الحاضرون فمن قائل القول ما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) ومن قائل القول ما قاله عمر ذكر هذه الرواية ابن أبي الحديد مرارا
وهي في صحاح كتبهم كالبخاري وغيره على اختلاف في الألفاظ وقد مضى
هذا الكلام محقق بينا فيه بيانا وافيا وقررنا فيه تقريرا شافيا وإذا صدرت
من عمر مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ظاهرا مع قوته ونفاذ أمره
كيف يبعد منه مخالفته في نصه على أمير المؤمنين وهو إنما قال ما قال لأنه فهم
أن مقصد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الكتاب تجديد النص على
علي (عليه السلام) وإشهاد الحاضرين فلما رأى النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) الاختلاف من الحاضرين حتى أنهم جعلوه ندا له في القول فجعلوهما
كالمجتهدين المختلفين يذهب إلى قول كل منهما فريق عرف أنهم لا يجيبونه إذا
نص ولا يعتنون بكتابه إذا كتب، فقال: (قوموا فاخرجوا عني فإنه لا ينبغي
عند نبي تنازع) كما هو تمام الخبر وهذا أعجب الأمور وأغربها حيث يجعلون
قوله: ندا لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويترددون في أيهما
أصح وأيهما الأحق بأن يتبع حتى يترجح عند قوم منهم أن الصحة في جانب
قول عمر وأن قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليس بصحيح
وكيف لا يجترئ بعد ذلك على إنكار النص على علي (عليه السلام) وإبطاله
لو أورده ومن تراه ينكر عليه اليوم وهم بالأمس صيرورة لرسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) ندا وقوله لقوله ضدا بل رجحوا قوله على قول الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم) إلا طائفة من المؤمنين وقليل ما هم فيا له من
عجب عجيب، لا ينقضي التعجب منه أبدا وهذا يرشدك إلى صدق ما
ندعيه الإمامية من التواطئ على إنكار النص، ودفع صاحبه.
ومنه رد عمر قول النبي (صلى الله عليه وآله) يوم الحديبية حين صالح
قريشا فقال على م نعطي الدنية في ديننا وهذا رد على الله وعلى رسوله (صلى

440
الله عليه وآله) بالرأي وهل ترى يعتقد في نفسه أنه أوثق في دين الله من
النبي (صلى الله عليه وآله) وهو صاحب الدعوة ومقيم الملة وشارع
الشريعة والمؤتمن على الوحي؟ فإن كان يعتقد ذلك فما قولك فيه، وإن كان
يظن أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخطأ في الحكم حين صالح
قريشا فماذا تجيب عنه؟ والنبي (صلى الله عليه وآله) لا ينطق في
الأحكام عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، ولا يتقول على الله تعالى ولا
أدري كيف يوجه هذا؟ وكيف يجاب عنه، ويعتذر منه. وإن كان يعلم أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المصيب وأنه هو المخطئ فهو الرد على
الله وعلى رسوله (صلى الله عليه وآله) وفي أدنى هذه المراتب ثبوت ما
ندعيه من مخالفته النبي (صلى الله عليه وآله) (1).
ومنه: مخالفته النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما ذكره الخصوم عن
أبي هريرة في قصة النعلين (2).
ومنه: مخالفته النبي (صلى الله عليه وآله) في وضع الدواوين
والتفضيل في القسمة والعطاء.



(1) قد فصل القول في هذه القضية السيد شرف الدين (رحمه الله) في النص والاجتهاد
ص 177 - 193 فحري بمن يريد الاطلاع الرجوع إليه.
(2) قصة النعلين رواها أبو هريرة ومجملها: إن النبي (صلى الله عليه وآله) قام
من بين أصحابه فاستبطؤه وكان أول من خرج في طلبه أبو هريرة فوجده في حائط
لبني النجار فسأله: ما شأنك؟ فقال: أبطأت عنا فخشينا أن تقطع دوننا وأنا أول
من فزع والناس ورائي، فقال: (يا أبا هريرة خذ نعلي هاتين فكل من لقيته وراء
هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة) فكان أول من لقيه
عمر (رضي الله عنه) فأخبره بذلك فضرب عمر بصدره حتى أوقعه على أسته فرجع
إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) باكيا، قيل: وإنما فعل عمر ذلك كي لا
يتكل الناس عليها ويتركوا العمل وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال:
(دعهم يعملون) والقصة مفصلة في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12 / 56.
441
ومنه: مخالفته النبي (صلى الله عليه وآله) في حكم البلاد المفتوحة
عنوة وتفصيل ذلك مذكور في كتب المطاعن وكل ذلك برأيه.
ومنه: مخالفته النبي (صلى الله عليه وآله) في تحريم المتعتين (1)
وإسقاطه من الآذان حي على خير العمل قال القوشجي صعد يعني عمر المنبر
وقال أيها الناس ثلاث كن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)
أنا أنهى عنهن وأحرمهن وأعاقب عليهن وهي متعة النساء ومتعة الحج وحي
على خير العمل ثم قال وأجيب بأن ذلك مما لا يوجب قدحا فيه فإن مخالفة
المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية ليس ببدع (2).
أقول: هذا الكلام من أقبح القبائح وأفضح المفاضح وأوهن المغالطات
وأسمجها وهو مناقض لما رد به النصوص على أمير المؤمنين (عليه السلام)
وهي التي ذكرناها في مناقضته حيث قال: " لو كان في مثل هذا الأمر الخطير
المتعلق بأمر الدين والدنيا مثل هذه النصوص الجلية لتواتر نقله بين الصحابة
ولم يتوقفوا في العمل بموجبه ولم يترددوا حين اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة
لتعيين الإمام وأنه كيف يزعم ذو مسكة أن الصحابة مع بذلهم مهجهم
وذخائرهم وقتلهم أقاربهم وعشائرهم في نصرة رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) خالفوه قبل أن يدفنوه مع وجود هذه النصوص القطعية الظاهرة
الدالة على المراد " (3) فإنه جعل علة الرد لتلك النصوص وإنكار ورودها عدم



(1) قال ابن أبي الحديد بعد أن نقل تحريم المتعتين: " وهذا الكلام وإن كان ظاهرة منكرا
فله عندنا أي المعتزلة مخرج وتأويل، وقد ذكره أصحابنا الفقهاء في كتبهم.
(2) تجد البيان حول هذه المسألة في شرح نهج البلاغة 12 / 252 والشافي للمرتضى ص
256 فما بعدها والنص والاجتهاد لشرف الدين ص 200.
(3) نقل ذلك عن القوشجي السيد شرف الدين في النص والاجتهاد ص 200 وشيخنا
الأميني في الغدير 6 / 236 وللسيد الأمين في أوائل الجزء الأول من أعيان الشيعة
تحقيق مهم في مسألة (حي على خير العمل) في الآذان.
442
تجويزه على الصحابة مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو استبعاده
ذلك منهم وهنا أثبت لعمر مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله) وجعل
العلة في جوازها الاجتهاد مع أن رأس القوم الذين خالفوا تلك النصوص هو
عمر الذي أخبر عن نفسه أنه خالف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وحرم ما حلله بقطع وجزم وأطاعه من أطاعه من الصحابة فكيف يجوز
القوشجي لعمر ومتابعيه مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله) في تحريم
المتعتين وحي على خير العمل وإعطاء أزواج النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) والاقراض ومنع فاطمة وأهل البيت خمسهم والتفضيل في القسمة
بالاجتهاد ولا يستبعد ذلك منهم ولا ينكره ويستنكف ويستنكر من مخالفتهم
النبي (صلى الله عليه وآله) في نصه على علي (عليه السلام) ويمنع
من جوازها عليهم بالاجتهاد وما الأمران إلا سواء في أن كلا منهما رد لنص
النبي (صلى الله عليه وآله) وإبطال لحكمه بل حصوله منهم في هذا
أقرب لتعلق الأغراض الدنيوية والشهوات النفسية كحب الرياسة وبغض علي
(عليه السلام) وإرادة أن تتسع الخلافة في قريش وغيرها به كما أوضحنا ذلك
في مواضع دون الأول إذ لا يتعلق به شئ من هذه الأغراض إلا في الخمس
ولم يكن تواتر هذه الأحكام عن النبي (صلى الله عليه وآله) مانعا لعمر
وتابعيه عن المخالفة فيها حتى يكون تواتر النصوص على علي (عليه السلام)
مانعا لهم من مخالفتها ولم يتوقفوا في موافقة عمر في خلاف النبي في تلك
الأشياء حتى يتوقفوا في موافقته يوم السقيفة في مخالفة النص الجلي على علي
(عليه السلام) من النبي (صلى الله عليه وآله)
فما أدري في أي شئ من القولين يصدق القوشجي أفي تجويزه
للصحابة الاجتهاد في إبطال حكم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في
الأحكام الشرعية أم في استبعاده منهم مخالفة نصه في الإمامة مع أنها عندهم
ليست من الأمور الدينية والمخالفة عندهم فيها سهلة وما أدري على أي

443
القولين يعتمد وإلى أيهما يرجع أو أنه مخلط لا يقف على حد ولا يرجع إلى قول
معين يقول في كل موضع ما يدفع به خصمه وإن خالف مذهبه وعاند قوله
الآخر وهذا هو المحقق من سيرته والمعروف من طريقته وهو غاية الوهن
وضعف الرأي ونهاية الاعوجاج في الطريقة بل العدل والانصاف أن يحكم
بأحد الأمرين.
إما أن الصحابة يخالفون النبي (صلى الله عليه وآله) مطلقا
بآرائهم فلا يجوز له حينئذ الاستبعاد عليهم رد نصه على أمير المؤمنين بالإمامة
وإما أن يمنع من صدور المخالفة منهم للنبي (صلى الله عليه وآله)
مطلقا فيكذب الروايات المشهورة والأخبار المتواترة بمخالفتهم حكم
الرسول (صلى الله عليه وآله) كما أنكر نصوص الإمامة والوصية،
[أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض] (1) وإلا فهو تحكم لا يشبهه
إلا النسئ الذي كان الكفار من أهل الجاهلية [يحلونه عاما ويحرمونه عاما
ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا
يهدي القوم الكافرين] (2) أو متحد به في الطريق وحسبك به نقصا وخروجا
عن سواء السبيل وأيضا إذا كان القوشجي قد جوز لعمر ومن يرى رأيه مخالفة
النبي (صلى الله عليه وآله) في الأحكام بالاجتهاد فما الداعي إلى
تحمله ما تحمل في إنكار مخالفتهم النبي (صلى الله عليه وآله) في نص
الإمامة ويكفيه أن يقول النص موجود ولكن الصحابة خالفوه بالاجتهاد
ومخالفة المجتهد لغيره ليس ببدع كما قال هنا، وما يرد عليه في هذا يرد عليه
في ذاك من دون فرق؟ فإنا معاشر الإمامية نقلوا أن القوم خالفوا نص النبي
(صلى الله عليه وآله) في الإمامة كما خالفوه في غيرها كل ذلك



(1) البقرة: 58.
(2) التوبة: 37.
444
باجتهادهم، لكن الاجتهاد في مقابلة النص في جميع الأمور غير مقبول، لكن
الأشعري المذكور يقبله منهم في كل الأمور فلتكن الإمامة من جملتها فلا حاجة
له إلى الاعتذار عنهم بإنكار النص الواضح وتكلف الدليل عليه وهو يكفيه أن
ينسبه إلى الاجتهاد كغيره.
ثم اعلم أن صريح كلام القوشجي أنه وجزبه جعلوا النبي كواحد من
المجتهدين فجوزوا لعمر مخالفته بالاجتهاد فأسقطوا بذلك وجوب اتباع
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولزوم طاعته، فكأنهم نسوا آيات الكتاب
الناصة على المنع من مخالفته كقوله تعالى: [وما آتاكم الرسول فخذوه وما
نهاكم عنه فانتهوا] (1) وقوله تعالى: [فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن
تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم] (2) وقوله تعالى: [ما كان لمؤمن
ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن
يعصي الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا] (3) والآيات الدالة نصا على أن
حكمه هو حكم الله، وأنه معصوم عن الحكم بالنظر والاجتهاد مثل قوله
تعالى: [وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى] (4) وقوله تعالى:
[ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه
الوتين] (5) وقوله تعالى: [قل إن أتبع إلا ما يوحى إلي من ربي] (6)
وغير ذلك من الآيات على كفر مخالفه وسلوكه طريق الضلال وأنه لا



(1) الحشر: 7.
(2) النور: 63.
(3) الأحزاب: 36.
(4) النجم: 3.
(5) الحاقة: 45 و 46.
(6) الأعراف: 103.
445
حلال إلا ما حلله ولا حرام إلا ما نهى عنه وأبطله (1) وليس بعده نبي ولا
ينسخ بعده حكم وما ورد من الأخبار في ذلك مثل قوله (صلى الله عليه وآله
وسلم): (أيها الناس لا نبي بعدي ولا سنة بعد سنتي) والمراد أنه لا
نسخ لما ثبت حكمه في سنته بعد وفاته، وخالفوا إجماع المسلمين قاطبة على
ذلك حتى جعلوا صاحب الشريعة ومهبط الوحي ونبي الرحمة كعمر وأن اجتهاده
كقول النبي (صلى الله عليه وآله) الذي هو عين حكم الله ومع ذلك
لم يتفطنوا إلى أن هذا القول يوجب هدم الشريعة، وإبطال الأحكام النبوية،
لأنه إذا جاز مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالاجتهاد في تحريم
حلال وتحليل حرام جاز لكل مجتهد مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
في إثبات فريضة لم يفرضها، وإسقاط فريضة فرضها، وجاز زيادة ركعة في
صلاة ونقص ركعة من أخرى، وغير ذلك من الأحكام، إذ لا فرق بين عمر
وغيره من المجتهدين في ذلك ولا بين المذكورات وغيرها من الأحكام،
ويتمشى ذلك إلى قلع أساس الشريعة المحمدية فأين إذن وجوب الاتباع
ولزوم القبول من النبي (صلى الله عليه وآله) والاستماع وتحريم
التشريع في الدين والابتداع؟ على أن ذلك لو صح لانجر إلى جواز الاجتهاد
في ترك العبادات إذ لا فرق بين كل ذلك فيبلغ الأمر إلى الكفر فلا لوم بعد
ذلك على الكفار الذين أداهم اجتهادهم إلى تكذيب النبي المختار فقد جوز
القوشجي وأصحابه لعمر مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله)
باجتهاده، وإذا جاز ذلك لعمر فلا مانع من جوازه لغيره إذ لا فصل بين
الأمرين ولا فارق بين الوجهين، ومن أعجب العجائب أنهم جوزوا الاجتهاد
لعمر في مخالفة الرسول (صلى الله عليه وآله) ولم يجوزوا لأحد
الاجتهاد في مخالفة عمر فتراهم ينكرون على من أحل المتعة إنكارا بليغا يعدل



(1) يشير إلى الحديث: (ما أحللت إلا ما حل الله ولا حرم إلا ما حرم الله) انظر طبقات ابن
سعد 4 / 72 ط القاهرة.
446
الانكار على من أحل الزنا أو يربى عليه حتى قال بعض فقهائهم (1) لأبي
جعفر محمد بن علي الباقر منكرا عليه تحليله المتعة إني أعيدك بالله يا أبا جعفر
إن تحلل شيئا حرمه عمر، فأجابه الإمام بما أسكته وفي هذا دلالة بينة على
أن القوم جعلوا لعمر رتبة زائدة على رتبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
ومنزلة تفوق منزلته لتجويزهم مخالفته بالاجتهاد ومنعهم به من مخالفة وذلك
من أعظم الفساد وأشد الالحاد، ومن أعظم الخطوب في الدين المقتضية لمحو
شريعة سيد المرسلين، وكان الواجب على القوشجي وأهل مذهبه إذ جوزوا
لعمر الاجتهاد في مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله) أن يجوزوا ذلك
لغيره، ويجوزوا للغير مخالفته لأن مخالفة المجتهد لغيره ليست ببدع كما هو علة
تجويزهم، وإما أن يمنعوا من مخالفة النبي مطلقا فيحكموا بفسق من خالفه من
الصحابة، وغيرهم، ثم الواجب عليهم أيضا إذا أثبتوا لعمر خلاف النبي
(صلى الله عليه وآله) وجوزوه له ألا يمتعظوا من قولنا أن عمر قد
خالفه في نص الإمامة على علي (عليه السلام) لتساوي تلك الأمور، ثم
انظر إلى قول القوشجي: ولم يترددوا حين اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة
لتعيين الإمام، فإنك تجده صريحا في أن أبا بكر ليس بمنصوص عليه من
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأين دعواه الإجماع على أن النبي (صلى
لله عليه وآله وسلم) قد استخلفه؟ وأين رواية البخاري ومسلم (ويأبى الله
والمؤمنون إلا أبا بكر) (2) وروايته قول النبي (صلى الله عليه وآله)



(1) هو عبد الله بن عمير الليثي، قال له (عليه السلام): " فأنت على قول صاحبك
وأنا على قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) فهلم ألاعنك أن الحق ما قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله).. " انظر الوسائل 7 / 422 كتاب النكاح
أبواب المتعة، باب إباحتها، الحديث 4.
(2) في صحيح البخاري 8 / 126 كتاب الأحكام باب الاستخلاف: (لقد هممت أن
أرسل إلى أبي بكر وابنه فاعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى
الله ويدفع المؤمنون).
447
في أبي بكر (وخليفتي في أمتي) أليس قد كذب الكل بقوله المذكور، وما زال
هكذا بعض كلامه يكذب بعضا وقد بينا ذلك من أقواله مرارا لبيان تعصبه
وعناده، واعتذر ابن أبي الحديد عن عمر في ذلك وفي قوله أن النبي: يهجر
بأنه أخرج هذه الكلمات على مقتضى جبلته الخشنة وموجب طبعه الجاسي،
وما هو عليه من الجفاء والغلظة (1) وهذا الاعتذار عنه إثبات لقصوره عن المرتبة التي
أحلوه فيها لأنه إذا كان مجبولا على الجفوة والخشونة ومطبوعا على عدم الروية
والفطنة كما يقول ابن أبي الحديد لم يجز أن يكون خليفة للنبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) يبلغ عنه إلى الأمة الأوامر والنواهي ويسوس الرعية
ويؤدبهم وهو في تلك الحال محتاج إلى سائس ومؤدب، ومفهم ومقوم، وقد
قال ابن أبي الحديد في موضع من كتابه أن الخلافة نبوة مختصرة (2) والأمر كما



(1) شرح نهج البلاغة 1 / 183 و 2 / 27.
(2) المصدر السابق 18 / 64 قال هذه الجملة في كلمة لطيفة جدا قالها عند شرحه لكلام.
أمير المؤمنين (عليه السلام) واصفا معاوية (بالمستثقل النائم تكذبه أحلامه) ننقلها
بكاملها إتماما للفائدة، قال: " فإن معاوية لو رأي في المنام في حياة رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) أنه خليفة يخاطب بإمرة المؤمنين، ويحارب عليا على
الخلافة، ويقوم في المسلمين مقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما طلب
لذلك المنام تأويلا ولا تعبيرا، ولعده من وساوس الخيال، وأضعاث الأحلام، وكيف
وأنى له أن يخطر ذلك بباله وهو أبعد الخلق منه! وهذا كما يخطر للنفاط أن يكون
ملكا، ولا تنظرن إلى نسبه في المناقب بل انظر إلى (أن الإمامة نبوة مختصرة) وأن
الطليق المعدود في المؤلفة قلوبهم، المكذب بقلبه وإن آمن بلسانه، الناقص المنزلة
عند المسلمين، القاعد في أخريات الصف إذا دخل إلى مجلس فيه أهل السوابق من
المهاجرين، كيف يخطر ببال أحد أنها تصير فيه ويملكها، ويسمه الناس وسمها
ويكون للمؤمنين أميرا، ويكون هو الحاكم في رقاب أولئك العظماء من أهل الدين
والفضل!! وهذا من أعجب العجب أن يجاهد النبي قوما بسيفه ولسانه ثلاثا
وعشرين سنة، ويبعدهم عنه، وينزل القرآن بذمهم ولعنهم، والبراءة منهم، فلما
تمهدت له الدولة وصارت شريعة محكمة مات فشيد دينه الصالحون من أصحابه،
وأوسعوا رقعة ملته، وعظم قدرها في النفوس فتسلمها منهم أولئك الأعداء الذين
جاهدهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فملكوها وقتلوا الصلحاء والأبرار
وأقارب نبيهم الذين يظهرون طاعته وآلت تلك الحركة الأولى، وذلك الاجتهاد
السابق إلى أن كان ثمرته لهم! فليته كان يبعث ليرى معاوية الطليق وابنه، ومروان
وبنيه خلفاء يحكمون على المسلمين ".
448
قال أفيجوز في العقل والشرع أن يكون في موضع النبوة المختصرة ومن وصفه
هذا القائل بتلك الأوصاف القبيحة المنفرة، لعمرك إن هذا التلاعب في
الدين موجب للخسران المبين، ثم إذا حكم عبد الحميد بأن منعه للنبي
وقوله ذلك القول فيه كان بموجب ما فيه من الجفاء والجسوة فليحكم عليه
بأنه خالف النبي (صلى الله عليه وآله) في نصه على أمير المؤمنين
(عليه السلام) لذلك ولا يستبعد عليه إنكار النص ورده لأن هذا إن لم يكن
أسهل من الأول فهما متساويان، فإذا ثبت صدور أحدهما لا يستنكر منه
الآخر فما باله يغضب من قول الإمامية أنهم سمعوا النص على علي (عليه
السلام) من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فخالفوه وأنكروه وهو ينسب
عمر إلى أعظم من ذلك فحشا وأشد قبحا، ثم إنا قد ذكرنا من كلامه سابقا
ما أثبت مخالفة عمر للنصوص بالرأي فما باله يجيز المخالفة هناك ويتكلف
الاعتذار هنا! نعوذ بالله من مناواة الحق ومتابعة الهوى وليس الغرض هنا
ذكر جميع الأحداث لأن ذلك كله يحتاج ذكره وبيانه إلى كتاب مفرد، وإنما
الغرض هنا ذكر جملة من ذلك لإثبات ما ندعيه عليهم من ردهم نصوص
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولدفع استبعاد من استبعد عليهم مخالفة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في علي (عليه السلام) ورد نصه عليه
ولنوضح أن خلافهم للنبي (صلى الله عليه وآله) في هذا أسوة لباقي
مخالفاتهم إياه في غيره، فلذا نقتصر على ما ذكرناه لحصول الغرض به.

449
وأما ما صدر من غيرهما من مخالفات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
فنحن نشير إلى جملة منه.
فمنهم عثمان فإنه رد عمه الحكم بن أبي العاص إلى المدينة وقد حرم
رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليه سكناها بعد ما طرده عنها وحمى
الحمى لنفسه ولبني أبيه وولي مروان أمر الخلافة يفعل ما يشاء وهو فاسق ظالم
وأحرق المصاحف بالنار ونفى أبا ذر إلى الربذة وآثر أهل بيته بأموال الفئ
ومنع خيار الصحابة منها إلى غير ذلك من مخالفاته وفعلاته مما يزيد على فعل
الرجلين مراتب وتفصيله في كتب المطاعن كنهج الحق لجمال الدين الحلي
والشافي للمرتضى علم الهدى وغيرهما من الكتب (1) ولا عذر للقوم عنه في
أكثرها إلا بالاجتهاد وهو إثبات لدعوانا لا نقض علينا.
ومنهم عائشة أنكرت الوصية من النبي (صلى الله عليه وآله) إلى
أمير المؤمنين (عليه السلام) مع أنها قد حضرت ذلك (2) كما قال خزيمة بن
ثابت ذو الشهادتين في شعره المتقدم.
وصي رسول الله من دون أهله * وأنت على ما كان من ذاك شاهده
ثم لم يكفها ذلك دون أن خرجت عليه تقاتله وتجمع الجموع



(1) أجمل ابن أبي الحديد تلك المطاعن في الجزء الثاني من شرح نهج البلاغة من ص 11
69 وذكر هناك اعتذار القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني عنها في كتابه المغني في
الإمامة ورد الشريف المرتضى عليه في كتابه الشافي في الإمامة.
(2) جاء في صحيح البخاري 5 / 143 في باب مرض النبي (صلى الله عليه وآله)
من كتاب المغازي كما جاء ذلك في صحيح مسلم
أيضا 2 / 14 في الباب الوصية واللفظ لمسلم " ذكروا عند عائشة (رضي
الله عنها) أن عليا كان وصيا فقالت: متى أوصي إليه كنت مسندته إلى صدري أو
قالت: حجري فدعا بالطشت فقد انخنث في حجري وما شعرت أنه مات فمتى
أوصى إليه وفي البخاري: فكيف أوصي لعلي؟
450
إلى حربه وتدعو إلى نكث بيعته مع سماعها قول النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم): (ستقاتلينه يوما وأنت
ظالمة له وتنبحك في طريقك كلاب الحوئب) ومع روايتها ما روت فيه أنه
أحب الرجال إلى رسول لله، وما ذكرتها أم سلمة (رضي الله عنها) مما
اعترفت به من أقوال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه وأفعاله، وقد مر
هذا كله وسماعها قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأزواجه: (أيتكن
صاحبة الجمل الأزب تنبحها كلاب الحوئب يقتل حولها قتلى كثير كلهم في
النار وتنجو بعد ما كادت) (1) رواه ابن أبي الحديد عن المحدثين وقد
صححوه وأثبتوه وقد قدمنا في هذا المقام من القول ما يبل الغليل.
ومنهم الزبير يصلت سيفه لقتال أبي بكر يوم بويع له ويقول لا أحد أحق
بالخلافة من علي (2) (عليه السلام) ثم هو بعد ذلك يدعو إلى نكث بيعته
ويؤلب الناس على حربه وما أبعد ما بين الأمرين وقد سمع قول النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) في علي (عليه السلام): (ستقاتله يوما وأنت له
ظالم) (3) كل ذلك لأغراض الدنيا واتباع الهوى.
ومنهم سعد بن أبي وقاص فإنه رد حكم النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) إذ قسم غنائم بدر فساوى بين الناس فقال: أتعطي فارس القوم
الذي يحميهم كما تعطي الضعيف فقال النبي (صلى الله عليه وآله)
وهو غضبان: (ثكلتك أمك إنما تنصرون بضعفائكم) ثم هو يوم الشورى
يطعن على علي (عليه السلام) بالحرص على الخلافة مع روايته فيه عن النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم): (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا



(1) مستدرك الحاكم 3 / 157.
(2) شرح نهج البلاغة 9 / 191 عن الإستيعاب.
(3) انظر شرح نهج البلاغة 1 / 133 و 6 / 48 ومستدرك الحاكم 3 / 366.
451
نبي بعدي) ولذا تعجب منه ابن أبي الحديد (1) ولعمري أنه تعجب من غير
عجب فإن ديدن القوم مخالفة الرسول (صلى الله عليه وآله) فيما
يشتهون لكن تعجبه بمقتضى ما يدعيه فيهم من الديانة.
ومنهم طلحة وخبره مشهور ورده على رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) مذكور لما نزلت آية الحجاب ولقد قال له عمر بن الخطاب بعد ما
أدخله في الشورى: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مات وهو
ساخط عليك للكلمة التي قلتها لما نزلت آية الحجاب (2).
أقول وهذا القول من عمر قد صدر بعد قوله: إن رسول الله مات وهو
راض عن الستة جميعا، وهذا مثل قوله يوم السقيفة إن رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) قال: (الأئمة من قريش) ثم هو لما طعن تحسر على سالم
مولى أبي حذيفة لينصبه إماما وليس هو بقرشي فما ندري في أي رواية نصدق
عمر من رواياته وفي أي قول من أقواله يصيب أو أنه يقول في كل وقت ما
يقتضيه ويروي في كل حال ما يناسبه وهذا معلوم من سيرته.
ومنهم: سعد بن عبادة فإنه قد سمع حديث الولاية
لعلي (عليه السلام) من النبي (صلى الله عليه وآله) فخالفه وكتمه



(1) شرح نهج البلاغة 4 /.
(2) قال أبو عثمان الجاحظ في رسالته السفيانية: " الكلمة المذكورة إن طلحة لما نزلت آية
الحجاب قال بمحضر ممن نقل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما الذي
يعنيه من حجابهن اليوم وسيموت غدا فننكحهن ".
ثم قال الجاحظ: " لو قال لعمر قائل أنت قلت: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) مات وهو راض عن الستة فكيف تقول الآن لطلحة: إنه (عليه السلام)
مات ساخطا عليك للكلمة التي قلتها لكان قد رماه بمشاقصه ولكن من الذي يجسر
على عمر أن يقول له ما دون هذا فكيف هذا؟ " وانظر شرح نهج البلاغة 1 / 186.
452
لطلب الرياسة فلما فاته ما رجاه ذكره وصرح به فقال له ابنه قيس ما قال وقد
مضى ذكر خبره.
ومنهم أنس بن مالك فإن أمير المؤمنين (صلى الله عليه وآله
وسلم) حين استنشد الناس في الرحبة أيهم سمع رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) يقول يوم غدير خم من كنت مولاه فعلي مولاه فليشهد فشهد من
شهد ولم يشهد أنس فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) إنك قد حضرتها يا
أنس فقم واشهد فتعلل بالنسيان لكبر سنه ونكل عن الشهادة وليس بناس
فقال له أمير المؤمنين إن كنت كاذبا فرماك الله بها بيضاء لا تواريها العمامة
فأصابه الوضح فسئل عن سببه بعد فقال ذاك دعوة العبد الصالح علي بن أبي
طالب، ثم ذكر للسائل الحديث واعتذاره عن ترك الشهادة بالنسيان، وأنه
غير ناس وسئل مرة عن علي (عليه السلام) فقال: إني آليت ألا أكتم شيئا
سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه بعد يوم الرحبة، ذاك
رأس المتقين، سمعته من نبيكم (1) أفليس هذا صريحا في أنه قبل أن أصابه
الوضح بدعاء علي (عليه السلام) كان يكتم ما سمعه من رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) فيه، وأن نص الغدير من جملة المكتوم، وهل أوقع
الناس في الفتنة وصيرهم في الحيرة إلا كتمان قول النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) في علي (عليه السلام) قبل يوم الرحبة وإخفاء نصه عليه قبل ذلك
حتى كان ذكره، بعد ذلك غير مجد في رفع الحيرة عن العامة، والتصريح به غير
مزيل للفتنة لما الفه الناس من الشبهة.
ومنهم أبو هريرة: كان يروي قول النبي (صلى الله عليه وآله)
كان يروي قول النبي في علي (عليه السلام): (اللهم وال من والاه
وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله)



(1) شرح نهج البلاغة 4 / 74 و 19 / 217 وذكر ذلك ابن قتيبة في المعارف ص 580.
453
وهو مع ذلك مجمع على حربه وقتاله مع معاوية، ولم يكفه ذلك دون أن روى
الأحاديث المفتعلة في ذمه وتوصل إلى لعنه (1) ودع عنك مثل خالد بن الوليد
ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وأمثالهم من الجبابرة وتابعيهم من
المبغضين لعلي (عليه السلام) كأبي موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة
وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير في أضرابهم وأشباههم.
وأما ما نسب من مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله) إلى جماعة
من الصحابة معينين أو غير معينين.
فمنه مخالفة قوم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الخروج إلى أحد
وقد اختار (صلى الله عليه وآله) أن يقيم بالمدينة ثم مخالفة الرماة
الذين أقامهم على الثنية وأمرهم ألا يبرحوا عن مكانهم، وأخبرهم إنا لا نزال
بخير ما دمتم في موضعكم، فردوا نصه بالرأي وانصرفوا من مركزهم وبه
جرى على المسلمين ما جرى، وجرح النبي (صلى الله عليه وآله)
جروحا كثيرة، وعانى مشقة شديدة (2).
ومنه إنكار جملة من الأنصار علي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فعله
في قسمة غنائم هوازن حتى بلغه ذلك منهم فأمر سعد بن عبادة أن يجمعهم له
في موضع فقام فيهم خطيبا وأنبهم على ذلك ولامهم وأبان لهم حسن ما
فعله (3).
ومنه مخالفة قوم للنبي (صلى الله عليه وآله) حين قال في مرضه
(هلم اكتب لكم كتابا لا تضلون بعدي) فلم يقربوا إليه الدواة والبياض



(1) نقله ابن أبي الحديد في شرح النهج 4 / 68 و 69.
(2) انظر سيرة ابن هشام 4 / 64.
(3) سيرة ابن هشام 4 / 105.
454
ليكتب لهم ذلك الكتاب وقالوا مع العصيان القول ما قاله عمر حيث نسب
رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الهجر.
ومنه ما قال قوم إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غل لما افتقدوا
قطيفة من غنيمة بدر فأنزل الله تعالى: [وما كان لنبي أن يغل] (1) الآية.
ومنه قول قوم منهم أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أذن يعيبونه
بذلك يعني يصدق كل من أخبره بشئ فأنزل الله تعالى: [قل أذن خير
لكم] (2) الآية.
ومنهم الذين قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا
أرادوا قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) في العقبة عند منصرفة من تبوك
ودحرجوا الدباب لناقته لتنفر به وكان معه عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان
رضي الله عنهما أحدهما يسوق الناقة والآخر يقودها وكانوا اثني عشر رجلا
ثمانية من قريش وأربعة من العرب (3).
ومنهم اللامزون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " في الصدقات فإن
أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون) (4) إلى غير ذلك من
مخالفاتهم لله ولرسوله (صلى الله عليه وآله) مما صرح به القرآن
الكريم، وجائت به الأخبار، واحتوت عليه كتب السير والمغازي والتواريخ
والتفاسير، وفرارهم عن النبي (صلى الله عليه وآله) وإسلامهم إياه
إلى الأعداء مشهور في كثير من المشاهد قد بين في القرآن منها ما بين،



(1) آل عمران: 161 وانظر تفسير الرازي 9 / 70.
(2) التوبة: 61 وانظر تفسير الرازي 16 / 115.
(3) التوبة 74 وانظر تفسير الرازي 16 / 136 ومجمع البيان 5 / 16.
(4) التوبة: 58.
455
وأوضح منها ما أوضح، ولولا أن شرحه يطول لشرحناه وذكرنا جميع ذلك من
خلافهم.
ومنهم من طعن على النبي (صلى الله عليه وآله) في تأميره زيد بن
حارثة ثم طعنهم عليه بعد ذلك في تأميره أسامة بن زيد حتى قام خطيبا
ولا مهم وردعهم، ودع عنك البانين [مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين
المؤمنين] (1) والفرحين بمقعدهم خلاف رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) (2) والقائلين لا تنفروا في الحر) (3) ومن قال: اعدل يا محمد فإنك لم
تعدل، ومن قال يخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رادا عليه فعله.
أتجعل نهبي ونهب العبيد * بين عيينة والأقرع
فما كان بدر ولا حابس * يفوقان مرداس في مجمع
ولست بدون امرء منهما * ومن تخفض اليوم لا يرفع
وهو العباس بن مرداس السلمي (4) وغير ذلك مما يطول تعداده فما ظنك
بشرحه وكله مشروح في كتب الخصوم وقد ذكرنا من قبل رد الصحابة على
النبي (صلى الله عليه وآله) انتجاءه عليا يوم الطائف دونهم وقولهم
السئ فيه إذ ترك باب علي (عليه السلام) شارعا إلى المسجد حين سد
أبوابهم حتى أخبرهم إنما فعله عن الله لا عن نفسه وبالجملة إن تهمتهم للنبي



(1) التوبة: 107.
(2) التوبة: 81.
(3) التوبة: 81.
(4) وذلك لما أعطى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبا سفيان بن حرب وصفوان
بن أمية وعينيه بن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان منهم مائة من الإبل، وأعطى
عباس بن مرداس دون ذلك فقال الأبيات المذكورة فأتم له رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) مائة، انظر صحيح مسلم 3 / 108 كتاب الزكاة باب إعطاء المؤلفة
قلوبهم.
456
(صلى الله عليه وآله وسلم) ومخالفتهم إياه كثيرة لا تحصى وكل ذلك بآرائهم
وما أدتهم إليه أنظارهم فكيف يستبعد من هؤلاء إنكار النص على أمير
المؤمنين وهذه حالهم وهي كاشفة عن بذلهم الجهد وتحملهم المشاق في إخفاء
فضائل أمير المؤمنين وستر مناقبه وطلب التدليس فيها وتلبيسها على الناس
بإلقاء الشبه عليها وقصدهم إلى توهينها وتهجينها خصوصا الصدر الأول وقد
اعترف بذلك ابن أبي الحديد في صريح كلامه فإنه لما نقل حديث ذو الكلاع
الحميري حين سأل أبا نوح الحميري في صفين عن
عمار بن ياسر أهو مع أصحاب علي (عليه السلام) وقال
له: إن عمرو بن العاص حدثنا أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) قال: (يلتقي أهل الشام وأهل العراق وفي إحدى
الكتيبتين الحق وإمام الهدى ومعه عمار بن ياسر) فقال له أبو نوح: نعم إنه
لفينا، قال قلت: واعجباه من قوم يعتريهم الشك في أمرهم لمكان عمار
ولا يعتريهم الشك لمكان علي (عليه السلام) ويستدلون على أن الحق مع
أهل العراق لكون عمار بين أظهرهم ولا يعبأون بمكان علي (عليه السلام)
ويحذرون من قول النبي (صلى الله عليه وآله): (تقتلك الفئة الباغية)
ويرتاعون لذلك ولا يرتاعون لقوله (صلى الله عليه وآله): (اللهم
وآل من والاه وعاد من عاداه) ولا لقوله (صلى الله عليه وآله): (لا
يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق) وهذا يدلك على أن عليا (عليه
السلام) اجتهدت قريش كلها من مبدأ الأمر في إخمال ذكره وستر فضائله
وتغطية خصائصه حتى محى فضله ومرتبته من صدور الناس إلا قليلا انتهى
كلامه (1) وهو صريح في أن أئمته وتابعيهم من قريش كلها اجتهدوا في ستر
فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) وإخفاء مناقبه، ولعمري إن النص
بالإمامة عليه من جملة ذلك.، وإن الذي دعاهم إلى ستر مناقبه وخصائصه هو



(1) شرح نهج البلاغة 8 / 17.
457
بنفسه الداعي لهم إلى ستر النص عليه وتغطيته لما ذكره في كلامه وهو انمحاء
فضل علي (عليه السلام) ومرتبته من صدور الناس حتى لا يقول قائل
ظلموه إذ تقدموا عليه أو قدموا غيره، وهذا فضله وهذه مناقبه، وهذا النص
من النبي (صلى الله عليه وآله) عليه، فما بال ابن أبي الحديد يثبت
على القوم ستر ما لأمير المؤمنين (عليه السلام) من المناقب وبذل الجهد في
تغطية ما له من الخصائص ويأبى عن نسبة إنكار النص عليه بالإمامة إليهم
وإخفائه من أن العلة في كتمان النص أقوى، والداعي إلى ستره أشد،
والمقتضى للتغطية عليه في أمرهم أتم فنسبته إخفاء النص إليهم على ابن أبي
الحديد من ذاك ألزم لكنه يقتدي في العناد بأئمته وفي ستر الحق بسادته كما هو
الجاري في طبيعته ولما بيناه من فعل القوم بفضائل أمير المؤمنين (عليه
السلام) لولا شيوعها وانتشارها، وكثرتها واشتهارها، وعناية الله بصاحبها
لانطمست أعلامها، وعفت آثارها، وذهبت نضارتها، وخبت نارها لكنها
بحمد الله لم تزدد على الإخفاء إلا ظهورا، وعلى الستر إلا بروزا، وعلى
التهجين إلا علوا، وعلى التغطية إلا بهجة وسفورا، وعلى الإخماد إلا توقدا
ونورا، فجاء الأمر على خلاف ما حاولوا، واقتضت الحال عكس ما راموا،
فلما أعجزهم إعفاء رسوم تلك الفضائل، وأعياهم إطفاء أنوار تلك
المناقب، قصدوا إلى عيب المخصوص بها ونقصه، ونسبته إلى ما يشينه بما
زوروه وافتعلوه من تلقاء أنفسهم، فمرة رموه بالدعابة، ومرة بالتيه، وتارة
بالزهو، وأخرى بالتكبر، وغير ذلك من أنواع النقص مما صرحت العبر
ببراءة ساحته منه، ولم يزده في قلوب أهل الإيمان إلا جلالة قدر، ورفعة
شأن، وكل ما ذكرناه عن القوم وأضعافه مروي في كتاب خصمنا وكتب
أصحابه ومشبهيه مما لولا طول المقام بذكره والخروج عن المرام بسطره لرسمناه
وشرحناه، ومن أراده مبينا فليطلبه من الكتاب المشار إليه (1) وهذا الذي قالوه
.



(1) يعني شرح النهج
458
إذا تأمله الفطن الأريب وجده خارجا من مكنون بغض عظيم، وبارزا من
مخزون حقد جسيم، وعلم أنه ناش من لهب نار حسد قديم، ومتولد من
أصل وجد مقيم فكان الأمر كما قال أبو تمام حبيب بن أوس الطائي.
وإذا أراد الله نشر فضيلة * يوما أتاح لها لسان حسود (1)
وقد صح من هذه الجملة أن القوم ما كانوا يتقيدون بنصوص النبي
(صلى الله عليه وآله) فيما يخالف أغراضهم، ولا يعتنون بها فيما يضاد
مطالبهم، ولا يقدمون من قدمه ويؤخرون من أخره ولا يفضلون من
فضله، ويسودون من سوده، بل يقدمون من أحبوا تقديمه ويفضلون من
شاؤوا تفضيله، ويؤخرون من أحبوا تأخيره ويذمون من مدحه الله ورسوله
(صلى الله عليه وآله وسلم)، كل ذلك برأي منهم، وميل من نفوسهم، لا
بدليل شرعي، ولا بحكم إلهي والسبب في ذلك أنهم كانوا يؤثرون اتباع
أهوائهم على أوامر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونواهيه، ويقدمون
طاعة شهواتهم على طاعته وترك معاصيه، ويجعلون قضاء أوطارهم أولى من
استماع دعوته وإجابة مناديه، خصوصا في عترته وذوي قرابته ومواليه،
فاندفع الايراد، وثبت المراد، وهذا كله يرشد المتأمل إلى الحكم بصحة ما
قيل: إن في القوم من لم يدخلوا في دين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
دخول إيمان ويقين، ولم يتبعوه لطلب مرضاة الله، وإنما كان ذلك لأغراض
دنيوية، ومقاصد نفسية، ولذا تراهم لا يلتفتون من أقواله إلى ما لا يوافق
آراءهم، ولا يطابق مشتهاهم، بل يجعلون أمره كأمر واحد منهم فيرتكبون
خلافه بغير تجرح ولا تأثم، وقد أفصح بذلك القرآن الكريم والفرقان العظيم
حيث يقول تعالى: [لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا



(1) ديوانه 1 / 42.
459
قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا] (1) الآية وقوله تعالى: [يمنون عليك
أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هديكم للإيمان إن
كنتم صادقين] (2) فقد روى صحيحا أنها نزلت في رجل من الصحابة لأمر
جرى بينه وبين عمار بن ياسر في بناء مسجد النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) وهي قصة معروفة (3) إلى غير واحدة من الآيات الواضحات في هذا
المعنى، وهذا ينادي بأنهم لولا ما رأوا في الإسلام من العزة والسلطان
وانقياد الناس لهم واتساق الأمور لرفضوه، واتبعوا دين آبائهم وطريقة
أسلافهم، لكنهم رأوا في إظهار هذه الدعوة والتمسك بهذه الملة عظيم الملك
والمنعة وشديد القوة والغلبة، ومسارعة الناس لهم بالطاعة، وإنفاذ الأوامر
والنواهي، وانضم إلى ذلك انفتاح ممالك القياصرة والأكاسرة والفراعنة
والأتراك وغيرهم عليهم وتملكهم تلك الممالك العظام، فنالوا بذلك من
الرفعة والرئاسة ما لم ينله ملك قاهر، ولم يدركه سلطان ظاهر، وعلموا أن
في رفضهم هذا الدين ورجوعهم إلى دين آبائهم الماضين زوال هذه الرئاسة
الجليلة، وفوات هذه المنزلة النبيلة، وصيرورتهم أذلاء أذنابا تابعين غير
متبوعين، كما كانوا عليه في زمان الجاهلية، فلذا داموا على إظهار الدعوة
وتمسكوا ظاهرا بعرى الملة، وواظبوا على الإتيان من وظائف الإسلام بما يزيد
الناس فيهم وثوقا ولا يخالف لهم مما أرادوه غرضا كالصلاة والصيام والحج
وترك المستلذات من المأكل والمشارب والملابس كما قيل:
لئن صبرت عن لذة العيش أنفس * فما صبرت عن لذة النهي والأمر
وحثوا منها على ما يشدد لهم الأبهة ويقرر لهم قاعدة الإمارة كالجهاد



(1) النور 63.
(2) الحجرات: 17.
(3) انظر سفينة البحار 2 / 275 مادة (ع م ر).
460
وإقامة الحدود بمقتضى مرادهم، وجباية الأموال وإيثار من ميله إليهم يقوى
أمره ويشدده بها، والقلوب على ما انطوت عليه من أراده الدنيا، وطلب
العاجلة، وعدم الالتفات إلى العقبى وثواب الآجلة، فانتشر صيت الإسلام
وكثر الداخلون فيه، ورغبوا في التدين به، وضرب بجبرانه وشدت قواعد
أركانه، ولولا ذلك كله لأعفوا رسومه وطمسوا معالمه، وكان ذلك لإنجاز ما
وعد الله رسوله أن يظهر دينه ويفلج حجته وتصديق ما قاله النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) كما رواه الخصم وغيره (إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا
خلاق لهم في الآخرة) أو قال: (عند الله يوم القيامة) وفي رواية (بالرجل
الفاجر) (1) ومع ذلك فقد غيروا من أحكام الشريعة ما قدروا على تغييره
وفعلوا ما أوجبه اختلاف الأمة إلى آخر الدهر وهو إزاحتهم وصي الرسول
عن مقعده وبالله المستعان.
فإن قال قائل: فلم لم يضرب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
أعناقهم لما ردوا عليه حكمه وقوله لأن رد قول النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) كفر، وإذا لم يكن ذلك صادر ألزم إما أنهم لم يخالفوه أو أن مخالفته
بالرأي جائزة إذ لا مانع له في سلطانه من قتل من خالفه.
قلنا: هذه الشبهة هي التي جرأت القوم على خلاف النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) في حياته، وجسرتهم على رد نصوصه، حتى أنه (صلى الله
عليه وآله وسلم) أمر في حجة الوداع من لم يسق هديا بالإحلال وأن يجعلها
عمرة يتمتع بها إلى الحج وحث على ذلك غاية الحث وقال: (لو استقبلت
من أمري ما استبدرت ما سقت هديا) فعصاه كثير منهم ولم يحلوا وقالوا



(1) يعني بالخصم ابن أبي الحديد وقد روى هذه الرواية في شرح نهج البلاغة 2 / 309 هكذا:
(إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) وهي مروية في صحيح البخاري 5 / 75.
461
نخرج إلى الحج تقطر مذاكيرنا من المني كما في صحيح مسلم (1) وهذا عصيان
واستهزاء ولم يكونوا ساقوا هديا وسافر رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) في شهر رمضان فأفطر ولم يفطر جماعة ممن معه من الصحابة فقال:
(أولئك العصاة) يكررها ثلاثا رواه مسلم في صحيحه أيضا (2) وكثير من
ذلك وكما جرأت أولئك على خلاف النبي (صلى الله عليه وآله)
أوهمت أولياءهم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) سوغهم ذلك
حيث لم يعاقبهم على ردهم قوله وحكمه بما يقتضي ردعهم، وهذه شبهة
ضعيفة جوابها في كتاب الله تعالى وهو قوله: [ولو كنت فظا غليظ القلب
لانفضوا من حولك فاعف عنهم واصفح] (3) الآية فإن الله سبحانه وتعالى
أمره بالكف عنهم والعفو والصفح عن زلاتهم لئلا يتفرقوا عنه ويخذلوه فلا
يبقى معه إلا القليل: كما أمره الله تعالى بالكف عن المنافقين ودعائهم إلى
حرب المشركين وإعطائهم من الغنائم يؤلفهم بها ويستميلهم بذلك إلى قتال
العدو لتظهر كلمة الإسلام وتنتشر دعوته في الآفاق مع علمه (صلى الله عليه
وآله وسلم) بنفاق المنافقين، وشك المؤلفة قلوبهم فأجرى أولئك مجرى
هؤلاء على أنهم لم يظهروا جحود ربوبية الله ووحدانيته، ولا إنكار نبوة النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) وإنما كانت مخالفتهم في أمور أخر من الأحكام
وكان يردعهم على مخالفتهم إياه بأخشن الكلام كما قال لهم يوم الحديبية إذ
قال عمر فلم نعطي الدنية في ديننا؟: (ألستم أصحابي يوم أحد إذ تصعدون



(1) صحيح مسلم 4 / 38 كتاب الحج باب وجوب الإحرام وصحيح البخاري 8 / 162
كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب نهي النبي (صلى الله عليه وآله) على
التحريم إلا ما تعرف إباحته.
(2) صحيح مسلم 3 / 142 كتاب الصوم وفيه (أولئك العصاة) مرتين لا ثلاثا كما في
المتن.
462
ولا تلوون على أحد، ألستم أصحابي يوم كذا؟) يقرعهم بذلك ويبكتهم (1)
وإظهاره الغضب حين أراد أن يكتب الكتاب في رزية يوم الخميس فقال من
قال: إنه ليهجر وقوله: (قوموا عني فإنه لا ينبغي عند نبي تنازع) (2) وقوله
لسعد بن أبي وقاص: (ثكلتك أمك إنما تنصرون بضعفائكم) وهكذا
كان يردعهم بالكلام الغليظ ويعفو عما زاد عليه، والسر في ذلك ألا يتوهم
الناس أنه ملك جبار لا نبي حليم متواضع، ولو كان نبيا لما قتل قوما دعاهم
إلى دينه فأجابوه وانتصر بهم على عدوه بمجرد زلة أو خطيئة أو مخالفة له في
حكم، وهذا ليس من خلق الأنبياء بل من خلق الأنبياء التأني وغفران الزلة
وتوضيح الحكم عند المخالفة، وليس من خلقهم قتل أصحابهم في مثل
ذلك، فإن موسى قال له قومه: [أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما
جئتنا] وهذا الكلام فيه تشاؤم من موسى (عليه السلام) وتضجر
فأجابهم بما قصه الله تعالى: [عسى ربكم أن يهلك عدوكم] (3) الآية
وقالوا له: [اجعل لنا إلها كما لهم آلهة] (4) حين مروا بعد خروجهم من
البحر بقوم يعبدون شجرة، فأجابهم [إنكم قوم تجهلون] وهذه من أعظم
الجرائم لأنهم أرادوا منه أن يصيرهم مشركين وقالوا له: [اذهب أنت وربك
فقاتلا إنا ههنا قاعدون] (5) بعد امتناعهم عن دخول الأرض المقدسة،
وقولهم: [لن ندخلها أبدا ما داموا فيها] (6) وغير ذلك ومع هذه المخالفات
العظيمة من بني إسرائيل لموسى (عليه السلام) مما قصه الله في القرآن لم



(1) أنفه عمر (رضي الله عنه) من الصلح رواها عامة المحدثين وأرباب السير نذكر منهم
البخاري في صحيحة 2 / 81 ومسلم 5 / 175 كتاب الجهاد والسير النص والاجتهاد ص 170
(2) تقدم تخريجه.
(3) الأعراف: 129.
(4) الأعراف: 138.
(5) المائدة: 24.
(6) المائدة: 24.
463
يقتل موسى منهم أحدا ولا دعا عليه بالهلاك، وحال النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) في الرأفة والحلم أعظم من موسى، ألا تراه في أحد حين أصابه
الجراح والمشقة جعل يقول: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون) (1) وجعل
الدعاء لهم محل الدعاء عليهم، فكيف يقتل قوما مقرين بدينه بصدور مخالفة منهم في
قول أو فعل، وإنما يكون القتل والتأديب بارتكاب ما يوجب الحدود، فكان
النبي (صلى الله عليه وآله) يعمل معهم كعمل الأنبياء مع أصحابهم
وذلك من أوضح الأدلة على نبوته، فكان يعفو ويصفح عن قتل من خالفه،
وإن كان يجوز قتله لدفع توهم الناس أنه ليس بنبي، ولو كان كذلك لسار في
أصحابه سيرة الأنبياء في أصحابهم فتركه إياهم وصفحه عنهم من جملة ما
يثبت نبوته عند الناس، وقد عفى عن أهل مكة وكانوا مستحقين للقتل
وقال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) (2) وكم عفى عن مستحق للقتل لكنه مع
ذلك كله يردعهم باللسان وإظهار الغضب على الجرأة والمخالفة، فلو كان
خلافهم له جائزا لم يردعهم لكنه جمع بين الأمرين فزالت الشبهة بعون الله،
وكيف يجوز رد أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والله تعالى يقول:
[فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب
أليم] ويقول: [فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم
لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما] ويقول: [يا أيها
الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول
كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون] (3) وغيرها من
الآيات الواضحات في عدم جواز مخالفة الرسول (صلى الله عليه وآله)
والقرآن مملوء بها.



(1) رواه أكثر علماء السير.
(2) سيرة ابن هشام 4 / 40.
(3) الحجرات: 2.
464
وأما الدعوى الثانية: أعني أن هناك نصا من النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) على علي (عليه السلام) وقد خالفه القوم فلنا عليها وجوه من
الأدلة.
الأول: دلالة الأخبار الصحاح عند الخصم على المدعي.
فمنها: قول النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام)
(إن الأمة ستغدر بك من بعدي) فقد رواه ابن أبي الحديد عن أكثر
المحدثين ورواه غيره أيضا (1)، وهذا الحديث نص صريح في أن النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) عهد إليهم في علي (عليه السلام) عهدا وأنهم نقضوا
عهده فيه، لأنه لا يخفى على من له أدنى معرفة بأساليب كلام العرب فضلا
عن فاضل مدقق أن لفظ الغدر لا يستعمل إلا في نقض عهد متقدم، وقد
صرح بذلك الشهاب الفيومي في المصباح المنير وغيره من أهل اللغة، فلا
يقال: غدر فلان إلا إذا نقض عهدا معهودا، وأبطل عقدا معقودا يلزمه
الوفاء به، كما أن الوفاء الذي هو ضد الغدر معناه البقاء على مقتضى العهد
المتقدم، والاستمرار على موجب العقد السابق، فإذن ثبت من هذا القول
أن النبي (صلى الله عليه وآله) عهد إلى أصحابه عهدا فنقضوه بعد
وفاته، ولا عهد نقض في ذلك غير العهد بالخلافة، إذ لم يأخذ الصحابة من
على غيرها، ولم يناقضوه في سواها فصح أنه منصوص عليه وأن القوم خالفوا
النص بتعمد فكانوا غادرين وهو عين مدعانا، ولا يجوز أن يحمل ذلك على
ما وقع في أيام خلافة علي (عليه السلام) خاصة لوجوه ثلاثة.
الأول: إن الغدر منسوب إلى الأمة، والأمة في ذلك الوقت على الحقيقة



(1) شرح نهج البلاغة 4 / 107 و 6 / 45 وقد رواه الحاكم في المستدرك 3 / 140 و 142
والخطيب في تاريخ بغداد 11 / 216 والمتقي في كنز العمال 6 / 73 وقال: " أخرجه
ابن أبي شيبة والحارث والبزاز والحاكم والعقيلي والبيهقي ".
465
هم الصحابة ومن سواهم تبع لهم، فالغدر لا محالة صادر عنهم وواقع منهم
إذ لا مخالفة من غيرهم من جميع الناس إلا بسببهم ودعائهم، أو دعاء أحد
منهم إلى المخالفة كما هو معلوم عند أولي العقل والفطنة، فوجب أن يكونوا
هم المعينين بالغدر ورؤساء الجمل وصفين من جملتهم، اللهم إلا أن يتمحل
متمحل فيقول إن الصدر الأول من الصحابة ليسوا من الأمة فحينئذ يقال له
فهم إذن غير مسلمين لأن أمة النبي (صلى الله عليه وآله) من أقر
بالشهادتين وإذا لم يكونوا من الأمة كانوا من الكفار.
الثاني: إن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (بعدي) فجعل
ما بعده من الزمان الذي أوله وقت وفاته ظرفا لغدرهم فيعم جميع الأوقات،
والتخصيص بوقت يتوقف على المخصص ولا مخصص في المقام إلا رأي
الخصم وليس الرأي بمقبول.
الثالث: إنا إنما نتكلم على معنى الحديث وهو مفيد لثبوت العهد من
النبي (صلى الله عليه وآله) في علي (عليه السلام) إليهم لثبوت
الغدر منهم، وحيث ثبت الغدر ثبت لتوقفه عليه وذلك هو النص بالإمامة
ومن ادعى غيره فعليه البيان فتثبت الإمامة له في جميع الأوقات فمن زحزحه
عنها أو حال بينه وبينهما فهو غادر وقد وضح الأمر إلا أن يكذب ابن أبي
الحديد وأصحابه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيكفروا، وليس
ذلك بكثير عليهم في محبة أئمتهم.
ومنها ما رواه ابن أبي الحديد عن يونس بن حبيب (1) عن أنس بن
مالك قال: كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي بن أبي
طالب (عليه السلام) معنا فمرر بحديقة فقال علي يا رسول الله ألا ترى ما



(1) في شرح النهج " خباب ".
466
أحسن هذه الحديقة؟ فقال: (إن حديقتك في الجنة أحسن منها) حتى مررنا
بسبع حدائق يقول على ما قاله ويجيبه رسول الله بما أجابه، ثم إن رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) وقف فوقفنا فوضع رأسه على رأس علي فبكى
فقال علي (عليه السلام): ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: (ضغائن في
صدور قوم لا يبدونها لك حين يفقدوني) فقال: يا رسول الله أفلا أضع
سيفي على عاتقي فأبيد خضراءهم؟ قال: (بل تصبر) قال: فإن صبرت؟
قال: (تلاقي جهدا) قال: أفي سلامة من ديني؟ قال: (نعم) قال إذن
لا أبالي (1) وهذا الحديث نص في أن القوم كانت في صدور بعضهم ضغائن على
علي (عليه السلام) أخفوها في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وأنهم يبدونها له بعد فقدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وليس
ما أبدوه بعد النبي (صلى الله عليه وآله) إلا منعه من الخلافة
وجحدهم النص عليه وإخراجهم إياه ملببا ليدخل في بيعتهم، فبين رسول
الله (صلى الله عليه وآله) إن ذلك من فعلهم وقع لحقد وضغن في
قلوبهم على علي (عليه السلام)، فحينئذ إن كانوا علموا أنه الأحق بمقام
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من جهة نصه عليه فهو ما نقول من أنهم
لم يتقدموا على علي (عليه السلام) لجهل منهم باستحقاقه التقدم، ولا لعدم
اطلاع على النص عليه من النبي (صلى الله عليه وآله)، وإنما فعلوا
ذلك حسدا له وبغضا وهو المطلوب وإن كانوا لم يعلموا بشئ من ذلك ولا
وقع شئ منه وإنهم علموا أن الأمر بين المهاجرين شرع فلا يجوز نسبة
الضغن إليهم ورميهم بكتمان الحقد، وملاقاة أمير المؤمنين الجهد في صبره
على فعلهم، لكن ذلك كله ثابت لهم بأخبار الصادق الأمين فوجب أن
يكونوا جاحدين النص ولا يجوز أن يحمل الخبر على ما كان من أصحاب



(1) شرح نهج البلاغة 4 / 107.
467
الجمل وصفين والنهروان لأن عليا (عليه السلام) إذ ذاك لم يوص بالصبر ولم
يصبر، بل أمر بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين بصريح النصوص، ومنها
ما سبق ذكره فوضع السيف في نحورهم، وترك للسيدان لحومهم وجرعهم
كؤس المنية بحدود المشرفية، وإنما أمر بالصبر وصبر في تغلب الثلاثة على
الأمر فهم المعينون بالضغن بلا مرية.
ومنها ما رواه عن أبي جعفر الإسكافي أن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) دخل على فاطمة فوجد عليا نائما فذهبت تنبه فقال: (دعيه فرب
سهر له بعدي طويل ورب جفوة لأهل بيتي من أجله شديدة) فبكت
فقال: (لا تبكي فإنكما معي وفي موقف الكرامة عندي) (1) والتقرير قريب
مما مر ولقد صح ما أخبر به النبي (صلى الله عليه وآله) من حصول
الجفوة لأهل البيت في تأمر الثلاثة فإنهم لم يدعوا طليقا كيزيد بن أبي سفيان
ومعاوية وابن أبي سرح، ولا متهما ولا ظنينا كالوليد بن عقبة وسعيد بن
العاص ومروان بن الحكم وأشباه هؤلاء وأضرابهم، ولا متهتكا في دينه
معروفا بالهزل في الإسلام كأبي هريرة والمغيرة بن شعبة وأمثالها إلا ولوه ولاية
ونال من جهتهم إمارة جيش أو بلد وجباية، ولم يولوا أحدا من بني هاشم
شيئا من ذلك بل ما زالوا يبعدونهم، ويقصونهم ليكونوا محقورين ويهون
أمرهم على الناس، ويكونوا في زاوية الخمول فيصيروا منسيين غير
مذكورين، ومخفيين غير مشهورين، كل ذلك ليخفى فضل علي (عليه
السلام) لأن أهل البيت لو ظهروا لأظهروا فضله، ونشروا مناقبه، فمالت
الناس إليه، ورغب أهل الدين فيه، فانعكس على القوم ما أرادوا واختل
عليهم ما دبروا فلذا جفوهم وأقصوهم فكان ذلك من أجله، وهذا يرشدك
إلى بطلان ما اعتذر به ابن أبي الحديد وغيره تبعا لأسلافهم فقالوا: إن عليا



(1) نفس المصدر 4 / 107.
468
(عليه السلام) لو ولى الخلافة لانتقضت عليه العرب واختل أمر الملة، فإن
العرب لم يكونوا ليجتروا على خلافه إذا كان المهاجرون والأنصار في طاعته مع
ما تمكن في قلوب الناس من هيبته واشتهر فيما بين العرب من شجاعته
وبراعته وكيف تنقاد العرب لمن تقدم عليه وهم دونه في الحسب والنسب
بسبب طاعة الصحابة لهم ولا تنقاد لعلي (عليه السلام) لذلك مع جلالة
قدره وعظيم منزلته، وشدة موقعه من قلوب الناس، وعلو شأنه بشرف
النسب وكرم الحسب، وكونه من لب بيت السيادة ومخ بيضة الرئاسة من
آباؤه أولياء حرم الله، والذين هم أصحاب وقادة حجاج بيت الله، وأهل
السقاية والكرم، وإطعام الطعام، وأهل الرحلتين وأهل الحكومة بين العرب
قال الوليد الطائي في صفين.
شدوا فداء لكم أمي وأبي * فإنما الأمر غدا لمن غلب
هذا ابن عم المصطفى والمنتجب * تنمية للعلياء سادات العرب (1)
وكم مثل هذا قيل فيهم من الولي والعدو وفي الإسلام والجاهلية، هذا
مع السبق إلى الدين والقرابة القريبة من النبي (صلى الله عليه وآله)،
والشجاعة الفائقة، والجهاد العظيم، والعلم الغزير، والجود والسماحة،
والزهد والقناعة، وبالله أقسم قسما بارا أنه لو ولى الأمر بعد النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) ولم يخالفوا عليه وسلموا له الأمر، وألقوا إليه أزمة الرئاسة
لانساقت العرب إلى إجابته طوعا، ومشوا في طاعته ولو حبوا لكانت إمارته
عندهم نعمة مشكورة فضلا عن أن تكون إمرة مبرورة، ولكثر الشعر في
مدحه واسفر ليل سرورهم بولايته عن صبحه، ولم يتخلف أحد من العرب
عن طاعته، ولم يختلف اثنان منهم في إمامته، وقد ظهر من فرح المسلمين



(1) المصدر السابق 16 / 129، وبعدهما:
ليس بموصوم إذا نص النسب * أول من صام وصلى واقترب
469
ببيعته يوم بويع بعد قتل عثمان ما تواتر في الكتب نقله، وقيلت الأشعار
الكثيرة في السرور ببيعته، بل هو بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) وقد لقي ما لقي والمدائح تقال فيه والألسن تلهج به، والأيدي تشير
إليه ويؤنب الجماعة على عدولهم عنه ففي قول النعمان بن عجلان الأنصاري.
وليس أبو بكر لها خير قائم * وإن عليا كان أخلق بالأمر (1)
وفي قول أبي سفيان بن حرب
بني هاشم لا يطمع الناس فيكم * ولا سيما تيم بن مرة أو عدي
وما الأمر إلا فيكم وإليكم * وليس لها إلا أبو حسن علي
أبا حسن فاشدد بها كف حازم * فإنك بالأمر الذي تبتغي ملي (2)
وقول آخر (3):
ما كنت أحسب أن الأمر منصرف * عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم * وأعلم الناس بالآيات والسنن
وأقرب الناس عهدا بالنبي ومن * جبريل عون له في الغسل والكفن
من فيه ما في جميع الناس كلهم * وليس في الناس ما فيه من الحسن
ماذا الذي صدكم عنه فنعرفه * ها أن بيعتكم غبن من الغبن (3)



(1) هذا البيت من قصيدة روى منها الزبير بن بكار في الموفقيات ثمانية عشر بيتا كما في
شرح نهج البلاغة 6 / 31.
(2) شرح نهج البلاغة 6 / 17 عن الموفقيات للزبير بن بكار.
(3) هو بعض ولد أبي لهب كما في شرح نهج البلاغة 6 / 21 وقيل هو الفضل بن
العباس بن عتبة بن أبي لهب كما في الإستيعاب 3 / 67، ويرويها أبو جعفر الإسكافي
عن ابن إسحاق لأبي سفيان بن حرب - كما في شرح نهج البلاغة 13 / 232، وإذا
صح القول الأخير فالمظنون قويا أن " حرب " تصحيف " حرث " فيكون المراد أبا
سفيان بن الحارث بن عبد المطلب.
470
إلى غير ذلك مما لا يسع المقام نقله وهو مذكور في كتاب خصمنا وغيره،
فأنى تنتقض العرب على هذا لولا ما جرى عليه، وقد صرح هو (عليه
السلام) بهذا المعنى وبنينه فيما - رواه ابن أبي الحديد عن عوانة عن يزيد بن
جرير عن الشعبي عن شقيق بن سلمة أن عليا (عليه السلام) لما انصرف
إلى رحله بعد مبايعة عبد الرحمن لعثمان قال لبني أبيه: (يا بني عبد المطلب
إن قومكم عادوكم بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) كعداوتهم
النبي (صلى الله عليه وآله) في حياته، وإن يطع قومكم لا تؤمروا
أبدا، ووالله لا ينيب هؤلاء إلى الحق إلا بالسيف) وعبد الله بن عمر داخل
عليهم قد سمع الكلام كله فدخل وقال: يا أبا الحسن أتريد أن تضرب
بعضهم ببعض فقال: (اسكت ويحك لولا أبوك وما ركب مني قديما وحديثا
ما نازعني ابن عفان ولا ابن عوف) (1)، الخبر وهو مصرح بما قلناه أن جرأة
المتأخرين عليه إنما كانت بسبب الرجلين السابقين وما فعلاه من إخراجه عن
مقامه وسترهما فضائله ومزاياه، ولولا جرأتهما عليه وتقدمهما قبله لم يخالفه أحد
من الناس، ولا جسر على مقامه واحد من المسلمين، ولا رام التقدم
عليه في الأمر ابن حرة أبدا وقد تقدم قبل هذا من كلام معاوية
في كتابه جوابا لمحمد بن أبي بكر (رحمه الله) ما يصرح بهذا
المعنى، وبعد فهل رأيت أحدا من العرب خالفه حين بويع من تلقاء نفسه
بدون تسويل أحد من الصحابة وإملائهم لهم، وتزيينهم لهم فرقته ومخالفته
حتى يخالفه من تلقاء نفسه لو ولى الأمر عفوا بعد النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم)، هؤلاء أهل البصرة قد انقادوا إلى طاعته ورضوا ببيعته، وأطاعوا
عما له، ونفذت فيهم أحكامه وأوامره ونواهيه، ولم يسخط أحد إمارته، ولا



(1) شرح نهج البلاغة 9 / 54.
471
رد واحد منهم بيعته إلى أن جاءتهم عائشة وطلحة والزبير فتنوهم عن دينهم
وأدخلوهم في الضلالة وزينوا لهم الفرقة وشق العصا بالشبه والخدع فلولا
مجئ عائشة والزبير وطلحة وتحميلهم إياهم على نكث البيعة وخلع الطاعة
لكانوا ماضين عليها، ومستمرين على العمل بموجبها ومتحققين بها غير
مستنكفين عنها ولا مرتابين فيها، وأولئك أهل الشام لو لم يزين لهم معاوية
الشقاق ويعينه على ذلك عمرو بن العاص علم النفاق فيدعوهم إلى الخلاف
ويحملاهم على عدم الوفاق ويغمساهم في غمرات الغواية، ويسدا عليهم
طريق الهداية بما ألقيا في قلوبهم من التشبيهات والتسويلات وملأا به أسماعهم
من الأباطيل والأضاليل، وقرعا به آذانهم من الأقاويل الملفقة والأكاذيب ما
نازعه منهم منازع ولا صرفهم عن المسارعة إليه صارف، ولا منعهم عن
بيعته والقيام بواجب طاعته مانع، بل لو خيروا ابتداء قبل الشبه عليهم لما
اختاروا غيره ولا عدلوا به سواه، ولولا صفين لما كانت النهروان ولا ما بعدها
من الحروب، فالاختلاف على أمير المؤمنين إنما جاء من قبل أولئك ولولاهم
لأدت الناس جميعا إليه الطاعة، واستقاموا له غاية الاستقامة، وبذلوا له
الجهد في النصيحة، ثم لا تمضي برهة من الزمان حتى يتبين للناس في أمر
الإمامة الرغوة من الصريح، ويتضح لهم الظالم والمظلوم، ولكن أولئك
أفسدوا الأمر عليه ومنعوا العرب الثواب الجزيل في الاجتماع عليه، والطاعة
لأمره، وأدخلوهم في العقاب الأليم الطويل بالتفرق عنه ومعصيته، وسبب
ذلك كله الأولون كما سمعت وبذلك يصرح قوله في الخبر: (وإن يطع
قومكم لا تؤمروا أبدا) وذلك لصرف أولئك الأصحاب وجوه من أطاعهم
من الناس عن مودة أهل البيت وولايتهم، وذلك لشدة بغضهم لأمير
المؤمنين، فما زال أهل البيت في جفوة من القوم لأجله كما هو صريح قول
النبي (صلى الله عليه وآله) فاعتذارهم عن تقدمهم عليه بانتقاض
العرب عليه لو ولى الأمر بعد النبي (صلى الله عليه وآله) عذر باطل

472
وقول زائف لا يخفى وهنه وفساده، وبطلانه وكساده على أهل الفضل
والنهي، ولنقتصر في هذا المطلب هنا على هذا القدر من الكلام فإن فيه
الكفاية لذوي الانصاف والغنية لمن حاد عن مزلة الإسراف.
ومنها ما رواه عن كثير من المحدثين عن علي (عليه السلام) أن رسول
الله (صلى الله عليه وآله) قال له: (إن الله قد كتب عليك جهاد
المفتونين كما كتب على جهاد المشركين) قال: فقلت: يا رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) ما هذه الفتنة التي كتب علي فيها الجهاد؟ قال: (قوم
يشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وهم مخالفون السنة) فقلت: يا
رسول الله فعلام أقاتلهم وهم يشهدون كما أشهد؟ قال: (على الأحداث في
الدين ومخالفة الأمر) فقلت: يا رسول الله إنك كنت وعدتني الشهادة فاسأل
الله أن يعجلها لي بين يديك قال: (فمن يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين
أما إني وعدتك الشهادة وستستشهد تضرب على هذا فتخضب هذه فكيف
صبرك إذن)؟ قلت: يا رسول الله أليس ذا بموطن شكر قال: (أجل أصبت
فأعد للخصومة فإنك مخاصم) فقلت: يا رسول الله لو بينت لي قليلا،
فقال: (إن أمتي ستفتن من بعدي فتتأول القرآن، وتعمل بالرأي وتستحل
الخمر بالنبيذ، والسحت بالهدية، والربا بالبيع، وتحرف الكتاب عن
مواضعه، وتغلب كلمة الضلال، فكن جليس بيتك حتى تقلدها فإذا قلدتها
جاشت عليك الصدور، وقلبت لك الأمور تقاتل حينئذ على تأويل القرآن كما
قاتلت على تنزيله، فليست حالهم الثانية بدون حالهم الأولى) فقلت: يا
رسول الله فبأي المنازل أنزل هؤلاء المفتونين من بعدك أبمنزلة فتنة أم بمنزلة
ردة؟ فقال: (بمنزلة فتنة يعمهون فيها حتى يدركهم العدل) فقلت: يا
رسول الله أيدركهم العدل منا أم غيرنا قال: (بل منا بنا فتح الله وبنا يختم
وبنا ألف بين القلوب بعد الشرك، وبنا يؤلف بين القلوب بعد الفتنة)

473
فقلت: (الحمد لله على ما وهب لنا من فضله) (1) وهذا الحديث صريح في
إن القوم افتتنوا بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وضلوا وعملوا
بالرأي وحرفوا الكتاب، وفعلوا جميع ما ذكره النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) من استحلال المحرمات بالشبهات وهذا كله قبل تقلد علي الخلافة،
وإنه مأمور بالجلوس في بيته وترك نزاعهم حتى يتقلد الأمر فحينئذ يقاتل ولا
فتنة ولا ضلال بعد موت النبي (صلى الله عليه وآله) إلى تخلف أمير
المؤمنين (عليه السلام) إلا بتأخيره عن الخلافة وتقدم غيره عليه، فإذا لم
يكن عليه نص خالفوه، فمن أين جاءهم الضلال ووقعوا في الفتنة وعملوا
بالرأي وفعلوا ما ذكر في الخبر، فهو أصرح من الشمس الضاحية في رابعة
النهار فيما قاله الإمامية من ضلالتهم وذا مصداق قوله تعالى: [ألم أحسب
الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون] (2) ومن أعجب العجب
قول ابن أبي الحديد ودعواه بعد نقل هذا الخبر صراحته في مذهب المعتزلة ظنا
منه أن النبي (صلى الله عليه وآله) إنما عنى أهل الجمل
وصفين (3) وذلك من جملة غفلاته أو تغافله، ولو فكر لوجد الخبر واضحا
في إبطال مذهبه وفساد معتقده والله الهادي.
ومنها: ما رواه عن سدير الصيرفي عن أبي جعفر محمد بن علي قال
اشتكى على شكاة فعاده أبو بكر وعمرو خرجا من عنده فأتيا النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) فسألهما من أين جئتما قالا: عدنا عليا قال: (كيف
رأيتماه) قالا: رأينا لما به فقال: (كلا، إنه لن يموت حتى يوسع غدرا



(1) شرح نهج البلاغة 9 / 206.
(2) العنكبوت 2.
(3) شرح نهج البلاغة 9 / 208. قال: وفي قوله: " بمنزلة فتنة تصديق لمذهبنا ويعني
المعتزلة في أهل البغي ".
474
وبغيا وليكونن في هذه الأمة عبرة يعتبر به الناس من بعده) (1) وهذا الخبر
صريح في حصول الغدر بأمير المؤمنين (عليه السلام) من الأمة، وقد
علمت أن الغدر لا يكون إلا بنقض عهد سابق ويثبت المطلوب بمثلما تقرر في
الحديث الأول، ثم إنه (صلى الله عليه وآله) ذكر الغدر والبغي فيكون
الغدر إشارة إلى ما فعله به القوم بعد النبي (صلى الله عليه وآله) من
تقدمهم عليه في الخلافة والبغي إشارة إلى ما فعله تابعوهم من خلافه وحربه
بعد بيعة الناس له.
ومنها: ما رواه عن جابر الجعفي عن محمد بن علي قال: قال علي
(عليه السلام): (ما رأيت منذ بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله
وسلم) رخاء لقد أخافتني قريش صغيرا وأنصبتني كبيرا حتى قبض الله رسوله
(صلى الله عليه وآله) فكانت الطامة الكبرى، والله المستعان على ما
يصفون) (2) فلو قال قائل لابن أبي الحديد: أخبرنا عن هذه الطامة بعد
موت النبي (صلى الله عليه وآله) التي جعلها علي (عليه السلام)
أكبر من إخافة المشركين إياه وحربهم إياه في حياة رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) ما هي، أهي ترك الأولى كما ذكرت وليس كما ذكرت، فترك
الأولى لا يساوي بحرب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحرب ناصره
لأن ذا كفر، وترك الأولى غير حرام، فكيف يساوي الجائز بالكفر؟ فما ظنك
إذا زيد عليه وقيل إنه أكبر من الكفر، هذا ما لا يجوز اعتقاده، أم هي
إنكار القوم النص على علي (عليه السلام) من الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) وحجده ومخالفته كما نقول، وهو كما نقول، فيثبت النص وضلال
القوم بخلافه فما نره يجيب عن هذا السؤال فالعجب كل العجب منه إذ



(1) المصدر السابق 4 / 106.
(2) نفس المصدر 4 / 108.
475
يقول: لا نص على علي (عليه السلام) بالإمامة، مع نقله مثل هذه
الروايات وتصحيحه إياها، وجميعها يحمله على إرادة أهل الجمل وصفين
وهي تأبى هذا المحمل إباء ظاهرا وترده ردا بينا كما لا يخفى على ذي دربة
بأساليب الكلام، نعم بعضها يتضمن مع الأولين أهل الجمل وصفين.
ومنه ما رواه عن جعفر بن سليمان الضبيعي عن أبي هارون العبدي عن
أبي سعيد الخدري قال: ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي
(عليه السلام) ما يلقى بعده من العنت فأطال، فقال له علي: أنشدك الله
والرحم يا رسول الله لما دعوت الله أن يقبضني إليه قبلك قال: (كيف أسأله
في أجل مؤجل) قال: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فعلام
أقاتل من أمرتني بقتاله؟ قال: (على الحدث في الدين) (2) وصدر الخبر
وهو قوله: ما يلقى بعده من العنت، صريح أو ظاهر ظهورا بينا في إرادة ما
جرى عليه من القوم بعد النبي (صلى الله عليه وآله) من إزاحته عن
مقامه وإخراجهم الأمر عنه إلى غيره، ويؤكده قوله (عليه السلام): لما
دعوت الله أن يقبضني إليه قبلك، فإنه يعطي أن رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) وعده بملاقاة العنت بعد موته بلا فصل، فسأل النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) أن يدعو الله يقبضه إليه في حياته لئلا يصيبه ذلك العنت،
فأخبره النبي (صلى الله عليه وآله) إنه لا سبيل إلى ما طلب وإذا لم
يستحق ذلك المقام بنص الرسول (صلى الله عليه وآله) فلا عنت عليه
في التأخير عنه، ولا يعارض ذلك آخر الخبر وهو قوله: فعلام أقاتل الخ
لظهوره في إرادة من خالفه بعد البيعة له لأن الأولين لم يؤمر بقتالهم ولو أمر
فعل، فلا يكون العنت المذكور أصابه في أيامهم، لأنا نقول هو (عليه
السلام) مأمور بقتال الجميع الأولين والآخرين إذا وجد أعوانا لأن الجميع



(1) أيضا.
476
قد حصل منهم الحدث في الدين، والأصل في الحدث الأولون والآخرون
تابعوهم عليه والعنت أصاب أمير المؤمنين (عليه السلام) في الزمانين، ولذا
طلب الأعوان على حربهم من أول الأمر فلم يجد فكف عن الحرب لفقد شرط
تنجز الأمر لا لأنه غير مأمور بحربهم، إذ لو كان كذلك لما طلب الأعوان على
ذلك وقاتل الآخرين لوجود الأعوان له على قتالهم فكانت دلالة الخبر ظاهرة
أي الظهور فما ذكرناه فثبت مرامنا وصح قولنا أن هناك نصا معروفا عند
أكثر الصحابة من النبي (صلى الله عليه وآله) على علي (عليه
السلام)، وأنهم كتموه وخالفوه على عمد والأخبار التي تشير إلى هذا المعنى
كثيرة في كتاب الخصم لكنا نذكر الصريح فيه والقريب من الصريح، وسيأتي
ذكر شئ من هذا الباب عند ذكر النص على العترة إن شاء الله تعالى.
الوجه الثاني مما يدل على وجود النص وأن القوم خالفوه ما تواتر من
تظلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) وشكاياته من القوم بالتصريح، ورميه
إياهم بغصب حقه ونهب تراثه، وما ضارع هذا المعنى مما لا يجوز حمله على
أنه غير منصوص عليه مثل ترك الأولى وشبهه كما قال ابن أبي الحديد
وأصحابه وهي كثيرة جدا، نذكر منها قطعة صالحة نكتفي بها في المطلب.
فمنها قوله (عليه السلام) في الخطبة الموسومة بالشقشقية: " أما والله
لقد تقمصها ابن أبي قحافة وأنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى
ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير " إلى أن قال: - " فصبرت وفي العين
قذى وفي الحلق شجى أرى تراثي نهبا " الخطبة ودلالتها على المدعى من
وجهين.
الأول: قول علي (عليه السلام) أنه يعلم أن الخلافة حق له وأنه حين
تقمصها عالم بأنها حق علي (عليه السلام) وليس له فيها حق فيقال حينئذ
من أين علم أن خلافة النبي (صلى الله عليه وآله) حق لعلي (عليه

477
السلام) إن كان علم ذلك من الكتاب والسنة فهو النص الذي ندعيه وإن
كان من غيرهما فلا طريق لمعرفة ذلك سواهما، والعقل لا يستقل بمعرفة هذا
بتمامه، ولو فرض علمه به من جهة الدلالة العقلية كان ذلك نصا لأنها
كالدلالة الشرعية، ونص العقل كنص الشرع، والعلم من أينما حصل
وجب العمل به والتعويل عليه، ولا يختص وجوب الاعتماد عليه بحصوله
من طريق خاصة دون أخرى كما حقق في الأصول، ولا يدفع هذا السؤال
حمل الكلام على علمه بذلك من جهة الأفضلية لبقائه قائما كما هو، فيقال إن
كان علم أن عليا (عليه السلام) أفضل منه وأن الإمامة حق للأفضل من
الكتاب والسنة فذلك هو النص وثبت مطلوبنا، وإن كان ذلك من غيرهما
فالغير ليس بطريق إلى علم هذا أن مقتضى الكلام نفى استحقاقه
للخلافة بالمرة.
الثاني: قوله (عليه السلام) " أرى تراثي نهبا " فأثبت أن الخلافة ميراثه
من النبي (صلى الله عليه وآله) وأنه نهب، وأنه صبر على ذلك على
مضض عظيم ولم شديد، وهذا كالأول فإنه يقال من أين علم علي (عليه
السلام) أن خلافة النبي (صلى الله عليه وآله) تراث له لا حق فيها
لغيره، إن كان ذلك من قول النبي (صلى الله عليه وآله) أو من
الكتاب العزيز فهذا هو النص المدعى وإن كان من غيرهما فليس ذلك الغير
بطرق إلى معرفة ذلك وهو عندنا وعندكم لا يقول إلا عن الله ورسول (صلى
الله عليه وآله وسلم) ولا يتقول عليهما بالرأي وشبهه، فثبت أنه علم ذلك
من النص عليه وهو واضح، فبطل ما ذكره ابن أبي الحديد من حمله على
خلاف الأولى وفسد جميع ما قرره في ذلك، وقوله: إنه ليس بأبعد من تأويل
الإمامية قوله تعالى: [وعصى آدم ربه فغوى] (1) بالعدول عن الأولى (2)



(1) طه. 171.
(2) شرح نهج البلاغة 1 / 157.
478
إذ لا شباهة لهذا بما ذكرناه ولوجود العصمة
في آدم دون أبي بكر وقد مضى بيانه، ومن هذا يظهر أن قول أبي بكر:
وددت أني سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيمن هذا الأمر
فكنا لا ننازعه أهله تمويه.
ومنها قوله: (عليه السلام) فيها بعد أن ذكر عمر وإدلاء أبي بكر بالخلافة
إليه: - فصبرت على طول طول المدة وشدة المحنة) ومن المعلوم أنه لا محنة عليه إذا
لم يكن مظلوما في أخذ الخلافة منه، ولا يكون مظلوما إذا لم يكن منصوصا
عليه فخولف النص، وليس في ترك الأولى ما يبلغ إلى المحنة ولا لشئ مما
ذكره هناك.
ومنها قوله: لعبد الرحمن بن عوف لما بايع عثمان وعدل عنه: " ليس
هذا بأول يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون " (1)
والتظاهر معناه المعاونة على الظلم ولا يكون ذلك بترك الأولى وإنما يكون
بمخالفة النص.
ومنها قوله: في خطبة عند توجهه لحرب أهل البصرة: (فوالله ما زلت
مدفوعا عن حقي مستأثرا علي منذ قبض الله نبيه (صلى الله عليه وآله)
حتى يوم الناس هذا " (2) فهي صريحة في دفع القوم إياه عن حقه من بعد أن
قبض النبي (صلى الله عليه وآله) بغير فصل ومنها قوله: (عليه
السلام) في خطبة له: " زرعوا الفجور وسقوه الغرور وحصدوا الثبور " إلى
أن قال: " الآن إذ رجع الحق إلى أهله ونقل إلى منتقله " (3) فانظروا إلى
قوله زرعوا إلى آخره، فإنه صريح في نسبتهم إلى الضلالة ولا يختص



(1) أيضا 1 / 194.
(2) نهج البلاغة من الخطبة 6.
(3) نهج البلاغة من الخطبة 2.
479
بمعاوية وغيره من أهل الخلاف عليه أيام خلافته كما زعم ابن أبي الحديد لعدم
المخصص إذ ليس معه إلا الرجم بالغيب من مكان بعيد وقوله (عليه
السلام) (الآن) الخ مصرح بأن الحق كان عند غير أهله ومنها قوله (عليه
السلام) في خطبة: " ألا إن الشيطان قد ذمر حزبه واستجلب خيله ليعود
الجور إلى أوطانه ويرجع الباطل إلى نصابه " (1) وهو صريح في أن إمرة
السابقين عليه جور وباطل ومنها قوله (عليه السلام): في خطبة رواها ابن
أبي الحديد عن أبي الحسن المدايني عن عبد الله بن جنادة: (أما بعد فإنه لما
قبض الله نبيه (صلى الله عليه وآله) قلنا نحن أهله وورثته وعترته
وأولياؤه دون الناس لا ينازعنا سلطانه أحد ولا يطمع في حقنا طامع إذ انبرى
لنا قومنا فغصبونا سلطان نبينا فصارت الإمرة لغيرنا وصرنا سوقة يطمع فيها
الضعيف ويتعزز علينا الذليل فبكت الأعين منا لذلك وخشنت الصدور
وجزعت النفوس " (2) الخطبة وهي مصرحة بأن عليا (عليه السلام) وارث
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دون الناس ووليه وأن سلطان النبي قد
غصبه القوم منه، وأن أعين عترة الرسول (صلى الله عليه وآله) لم
تزل لذلك باكية وصدورهم ما زالت خشنة ونفوسهم جازعة، أفيكون هذا
كله لترك الأولى كما يدعيه الخصم أو يكون تارك الأولى غاصبا كلا ما هو إلا
لفعل محرم وارتكاب محظور وما ذاك إلا لمخالفة نص معلوم.
ومنها قوله (عليه السلام): في خطبة مثلها رواها المعتزلي عن
الكلبي: (إن الله لما قبض نبيه (صلى الله عليه وآله) استأثرت علينا
قريش بالأمر ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة) (3).



(1) نهج البلاغة من الخطبة 22.
(2) شرح نهج البلاغة 1 / 307.
(3) ستأتي هذه الخطبة بكاملها آخر الكتاب.
480
ومنها قوله في خطبة يذكر فيها أمر السقيفة (فنظرت فإذا
ليس لي معين إلا أهل بيتي فضننت بهم عن الموت،
وأغضيت على القذى، وشربت على الشجى، وصبرت على
أخذ الكظم، وعلى أمر من طعم العلقم) ومثل ذلك قوله
(عليه السلام): (لو جدت أربعين ذوي عزم) أفيجوز أن يكون هذا كله
لترك القوم الأولى وهل يطلب مؤمن رجالا ذوي عزم ولو أربعين ليقاتل رجلا
مسلما ترك الأولى أو يفعل هذا عاقل متدين؟ فكيف من هو مع الحق والحق
معه؟ أليس ذلك القول منه صريحا في استحقاق المتقدمين عليه القتال؟ وهل
يستحق القتل والقتال إلا من هو ظالم غاصب،؟ ولا يكون كذلك إلا أن
يكون على صاحب الأمر بنص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأما إذا لم
يكن كذلك بل كان الأمر جائزا له ولغيره وأن الراجح في الحكم أن يكون هو
ولي الأمر وولاية غيره مرجوحة لم يجز له ما طلبه لأن فاعل المرجوح لم يستحق
شيئا من اللوم فكيف يستحق أن يقاتل ويقتل؟ وأمير المؤمنين لا يفعل الحرام
ولا يطلبه فننتج من ذلك أن من طلب قتالهم كانوا مستحقين، وأن ذلك
لارتكابهم أمرا عظيما حلت به دماؤهم وما هو إلا رد النص ومخالفة الرسول
(صلى الله عليه وآله) إذ لا غيره هناك فتأمل.
ومنها قوله (عليه السلام): في كتاب كتبه لأخيه عقيل رواه ابن أبي
الحديد عن إبراهيم بن سعيد بن هلال الثقفي في كتاب الغارات: (اللهم
فاجز قريشا عني الجوازي فقد قطعت رحمي، وتظاهرت علي، ودفعتني عن
حقي، وسلبتني سلطان ابن أمي، وسلمت ذلك إلى من ليس مثلي في قرابتي
من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وسابقتي في الإسلام إلا أن يدعي
مدع ما لا أعرفه ولا أظن الله يعرفه، والحمد لله على كل حال) (1) وقوله



(1) كتابه (عليه السلام) إلى عقيل رواه ابن هلال الثقفي في الغارات ص 431 كما نقله
ابن أبي الحديد في شرح النهج عن الغارات 2 / 119.
481
(عليه السلام): (إلا أن يدعي مدع) الخ مشير إلى بطلان ما أثبته العامة
للثلاثة من الفضل في كل وقت، بل صريح في نفيه بشديد المبالغة لقوله:
(ولا أظن الله يعرفه) يعني أنه لم يكن في علم الله لهم فضل يماثلون به عليا
(عليه السلام) فضلا عن أن يكون برز ذلك للناس وظهر وصار معروفا،
فمن ادعى لهم ذلك فقد ادعى ما لا أعرفه لهم ولا يعرفه لهم فدعواه لهم مماثلتي
باطلة، ومنه يعلم أن الأخبار التي رواها الخصوم في التفضيل كلها باطلة
مزورة، وهذا ينضاف إلى ما بيناه أولا من الاستدلال على بطلانها فأين
يذهب بالقوشجي في قوله إن عليا (عليه السلام) قال: خير الناس أبو بكر
ثم عمر، كما مر أفلا يسمع هنا كيف نفى عنهم الفضل بالمرة، وبالغ
في تأكيد نفيه أشد المبالغة، وهو تصديق ما قلناه هناك.
ومنها قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما رواه الخصم عن أبي جعفر
الإسكافي عن جابر عن أبي الطفيل قال: سمعت عليا (عليه السلام
يقول: (اللهم إني أستعديك على قريش فأنهم قطعوا رحمي، وغصبوني
حقي، وأجمعوا على منازعتي أمرا كنت أولى به، ثم قالوا: إن من الحق أن
نأخذه ومن الحق أن نتركه) (1) فقد صرح في القول بغصب أقوم حقه
وبخطئهم في قولهم إن أخذهم الأمر حق وتركه له كذلك، ومعناه أنه ليس
من الحق أن يأخذوه كما قالوا، وإذا لم يكن أخذهم إياه حقا كان باطلا وباقي
الكلام كالأول.
ومنها ما رواه عن أبي القاسم البلخي عن سلمة بن كهيل عن
المسيب بن نجبة قال: بينا علي (عليه السلام) يخطب إذ قام أعرابي
فصاح: وامظلمتاه فاستدناه علي (عليه السلام) فلما دنا قال له: (إنما لك



(1) شرح نهج البلاغة 4 / 104 وهذا الكلمة من خطبة له (عليه السلام) تأتي آخر
الكتاب.
482
مظلمة واحدة وأنا قد ظلمت عدد المدر والوبر) (1).
ومنها مناشدته القوم يوم الشورى النصوص عليه من النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) وتصديق القوم إياه كخبر الغدير وخبر المنزلة وقصة براءة
وغير ذلك مما ذكرناه أولا، فقطع عبد الرحمن بن عوف كلامه ولم يلتفت إلى
تلك النصوص، ولم يعدل بها عن بيعة عثمان، وأضاف إلى ذلك تهديده
بالقتل إن لم يترك الاحتجاج، وينفذ لبيعة عثمان، وقد ذكر ابن أبي الحديد
أن ذلك مما استفاض في الروايات، وهذا من أدل الأدلة على ما ذكرناه من أن
القوم لم يعتنوا بنص النبي (صلى الله عليه وآله) وخالفوه تعمدا،
ويقوي قولنا إن الذي منعه من ذكر النص في يوم أبي بكر إن صح أنه لم
يذكره علمه بأنهم ينكرونه أو لا يلتفتون إليه، وربما يؤدي الأمر إلى قتله إن
أطال الخصام بالنصوص، وما ابن عوف باشد من عمر ولا عثمان بأرغب في
الخلافة من أبي بكر ولا بأقوى على ذلك منه، والأمر واضح، فبطل ما قال
ابن أبي الحديد من أن ذكر النص كان أسهل عليه حين ساموه البيعة من
التظلم والاستصراخ بالأحياء والأموات، وتبين أن تركه ذكر النص إن كان
أسلم له من كثير من الضرر.
ومنها قوله (عليه السلام): (حين أتوا به إلى أبي بكر ليبايع وهو ينظر
إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (ابن أم إن القوم استضعفوني
وكادوا يقتلونني) (2) فجعل نفسه بمنزلة هارون وجعلهم بمنزلة عبدة العجل،
وكفى بهذا وضوحا في تضليله إياهم، وقد روى الخصم هذا الكلام (3) وهو
صريح أيضا في أنه (عليه السلام) كان مجبورا على بيعة أبي بكر مهددا بالقتل



(1) أيضا 4 / 106.
(2) الشافي في الإمامة للشريف المرتضى 3 / 110 بتحقيقنا.
(3) يعني بالخصم ابن أبي الحديد وكثيرا ما يعبر عنه بذلك.
483
إن لم يبايع وهذا نص قول الإمامية.
ومنها قوله (عليه السلام) في خطبة: (حتى إذا اقبض الله رسوله
(صلى الله عليه وآله وسلم) رجع قوم على الأعقاب، وغالتهم السبل،
واتكلوا على الولائج، ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي أمروا
بمودته، ونقلوا البناء عن رص أساسه فبنوه في غير موضعه، معادن كل
خطيئة، وأبواب كل ضارب في غمرة قد ماروا في الحيرة وذهلوا في
السكرة، على سنة من آل فرعون من منقطع إلى الدنيا راكن أو مفارق للدين
مباين) (1) وهذا الكلام من أصرح الصريح في إرادة الأول واتباعه ووصلهم
غير الرحم تقديمهم غيره في مقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومنعهم
عليا (عليه السلام) من ذلك المقام، وهو الأقرب إلى الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم) وهجرهم السبب المأمورين بمودته تركهم قربى النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) وقد قال الله تعالى: [قل لا أسألكم عليه أجرا إلا
المودة والقربى] (2) ونقل البناء عن رص أساسه جعلهم الخلافة في غير
موضعها، ولا يجوز حمله على معاوية وأصحابه كما قاله ابن أبي الحديد لأن
الرجوع على الأعقاب متعقب في الكلام لقبض النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) لا فاصل بينهما إذ هو جواب الشرط فهو متصل به، وواقع بوقوعه،
ومعاوية قد تأخر أمره عن وقت قبض النبي (صلى الله عليه وآله)
بسنين، ومقتضى الجملة حصول الرجوع على الأعقاب بحصول موت النبي
(صلى الله عليه وآله) بلا فصل، فجعل الكلام لمعاوية وأصحابه ممتنع
من جهة الدلالة اللفظية إلا أن يدعي مدع ما لم يكن معروفا في العربية، ولا
مستعملا عند أهل اللسان، وأيضا قوله: (معادن كل خطيئة وأبواب كل



(1) نهج البلاغة من الخطبة 148.
(2) الشورى 23.
484
ضارب في غمرة) يبين أن الأولين هم المرادون لا معاوية لأن معاوية من
جملة الضاربين في الغمرات فهم بابه إذ لولاهم ما ولى معاوية الشام ولا تأمر
عثمان على المسلمين، ولولا قضية عثمان ما قوي معاوية على الخلاف
والنزاع وإيقاع الفتن، لكن ابن أبي الحديد يصرف القول عن معناه ويحرف
الكلم عن مواضعه محاماة على المشايخ وأنى له بذاك وقد لاح الصباح؟ فانظر
أيجوز أن يوصف بالرجوع عن الدين على الأعقاب وأنه معدن كل خطيئة،
وباب كل ضارب في غمرة المشبه لآل فرعون في ضلالهم مع باقي الأوصاف
من ترك الأولى وفعل المرجوح ولم يخالف نصا ولا غصب حقا ولا نهب ميراثا
ثابتا بكتاب الله وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كلا ما يجوز
ذلك إلا لمن تعمد خلاف الرسول (صلى الله عليه وآله)، وإنكار نصه
ونهب ميراثه من مستحقه على معرفة ويقين وذلك ما نقول.
ومنها قوله (عليه السلام): وقد سأله رجل من بني أسد: كيف دفعكم
قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به فقال للسائل: (قد استعلمت فاعلم،
أما الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسبا، والأشدون بالنبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) نوطا، فإنها كانت إثرة شحت بها نفوس قوم، وسخت
عنها نفوس آخرين، والحكم الله والمعود إليه) (1) وهذا الكلام في غاية
الوضوح في إرادة الأولين سؤالا وجوابا، لأن من البين أن مراد السائل
استعلام السبب الذي لأجله منعت قريش أهل البيت من مقام النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) بعد وفاته مع أنهم أحق به في جميع الأحوال من كل
أحد من الناس وأقامت في ذلك المقام غيرهم، والاستخبار عن علة ذلك
والدفع المسؤول عنه هو ما كان بعد قبض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
لأنه هو الفعل الحادث الذي تعلق السؤال بسبب حدوثه من القوم وما بعده



(1) نهج البلاغة الكلام 160.
485
إنما هو استمراره، وليس المقصود أولا وبالذات السؤال عن استمرار ذلك
الفعل إلا أن يدخل من جهة اللزوم فأتى الجواب على طبق السؤال بأنهم لم
يدفعونا عن هذا المقام ويستبدوا علينا به لسبب أوجب ذلك، ولا لعلة
اقتضته من طريق الشرع، وإنما كان ذلك لشح نفوسهم عن تسليم حقنا
إلينا، وقصدهم الاستيثار به علينا، وهذا القول من جملة مبطلات ما تعلل
به قوم من أن الأولين إنما عدلوا بالأمر عن أمير المؤمنين خوفا من انتقاض
العرب عليه، إذ لو كان ذلك من قصدهم فضلا عن أن يكون صحيحا
موجبا لما فعلوا لذكره (عليه السلام) فيما دعاهم إلى دفعه عن مقام أخيه
وابن عمه (صلى الله عليه وآله)، وإن خطأهم بعد فيه لكن ذلك لم
يكن، وقد عرفت ما قررناه أن الكلام سؤالا وجوابا لا يختص بيوم الشورى
كما ادعاه ابن أبي الحديد، بل لا يتوجه السؤال إليه إلا تابعا للأمر الأول ولا
الجواب إلا كذلك، على أنه لا يندفع عن المعتزلي المعاند الوهن في مذهبه بما
ادعاه لأنه إذا ثبت ظلم أهل الشورى عليا (عليه السلام) من جهة تقديمهم
في مقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غيره لأنه الأحق به من غيره ثبت
أن أهل السقيفة ظلموه لذلك بالاجماع إذ لا قول بالفصل بين عثمان ومن
قبله فكل من صحح بيعة عثمان صحح بيعة الشيخين وكل من أبطل بيعته
أبطل بيعتهما وبالعكس، فعلى صحة دعواه لا يصح مذهبه كما ترى.
ونحن نذكر هنا ما حكاه من سؤاله النقيب أبا جعفر العلوي وإجابة
النقيب إياه فإنه كلام جيد، وجواب متين، ونكتفي به في تمام تقرير الخبر قال
المعتزلي: وسألت أبا جعفر يحيى بن محمد العلوي نقيب البصرة وقت قرائتي
عليه عن هذا الكلام وكان (رحمه الله) على ما يذهب إليه من مذهب العلوية
منصفا وافر العقل، فقلت له: من يعني (عليه السلام) بقوله: (كانت
إثرة شحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين)؟ ومن القوم الذين
عناهم الأسدي بقوله: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟

486
هل المراد به يوم السقيفة أو يوم الشورى؟ فقال: يوم السقيفة، فقلت: إن
نفسي لا تسامحني أن أنسب إلى الصحابة عصيان الرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم) ودفع النص، فقال: وأنا فلا تسامحني أيضا نفسي أن أنسب
الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى إهمال أمر الإمامة، وأن يترك الناس
فوضى سدى مهملين، وقد كان لا يغيب عن المدينة إلا ويؤمر عليها أميرا
وهو حي ليس بالبعيد عنها. فكيف لا يؤمر وهو ميت لا يقدر على استدراك
ما يحدث، ثم قال: ليس يشك أحد من الناس أن رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) كان عاقلا كامل العقل، أما المسلمون فاعتقادهم فيه
معلوم، وأما اليهود والنصارى والفلاسفة فيزعمون أنه حكيم تام الحكمة،
سديد الرأي، أقام ملة وشرع شريعة، فاستجد ملكا عظيما بعقله وتدبيره،
وهذا الرجل العاقل الكامل يعرف طباع العرب وغرائزهم، وطلبهم بالثارات
الدخول (1) ولو بعد الأزمان المتطاولة، ويقتل الرجل من القبيلة رجلا من
بيت آخر فلا يزال أهل ذلك المقتول وأقاربه يطلبون القاتل ليقتلوه حتى
يدركوا ثأرهم منه، فإن لم يظفروا به، قتلوا بعض أقاربه وأهله، فإن لم
يظفروا بأحدهم قتلوا واحدا أو جماعة من تلك القبيلة، وإن لم يكونوا رهطه
الأدنين، والإسلام لم يحل طباعهم ولا غير هذه السجية المركوزة في
أخلاقهم، والغرائز بحالها فكيف يتوهم لبيب أن هذا العاقل وتر العرب
وعلى الخصوص قريشا وساعده على سفك الدماء وإزهاق الأنفس وتقلد
الضغائن ابن عمه الأدنى وصهره، وهو يعلم أنه سيموت كما يموت الناس
ويتركه بعده وعنده ابنته وعنده منها ابنان يجريان منه مجرى ابنين من ظهره حنوا
عليهما، ومحبة لهما، ويعدل عنه في الإمرة بعده ولا ينص عليه ولا يستخلفه
فيحقن دمه ودم بنيه وأهله باستخلافه؟ ألا يعلم هذا العاقل الكامل أنه إذا



(1) الذحول جمع ذحل وهو الثأر.
487
تركه وترك بنيه وأهله سوقة ورعية فقد عرض دماءهم للاراقة بعده، بل
يكون هو الذي قتلهم وأشاط بدمائهم، لأنهم لا يعتصمون بعده بأمر
يحميهم، وإنما يكونون مضغة للأكل وفريسة للمفترس، يتخطفهم الناس،
ويبلغ فيهم الأغراض، فأما إذا جعل السلطان فيهم والأمر إليهم فإنه يكون
قد عصمهم، وحقن دماءهم بالرئاسة التي يصولون بها، ويرتدع الناس عنهم
لأجلها، ومثل هذا معلوم بالتجربة، ثم ذكر لهذا مثالا وقال بعده: أفترى
ذهب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذا المعنى أم أحب أن
يستأصل أهله وذريته من بعده؟ وأين موضع الشفقة على فاطمة العزيزة عنده
الحبيبة إلى قلبه؟، أتقول إنه أحب أن يجعلها كواحدة من فقراء المدينة
تتكفف الناس، وأن يجعل عليا المكرم المعظم عنده الذي كانت حاله عنده
معلومة كأبي هريرة الدوسي وأنس بن مالك الأنصاري يحكم الأمراء في دمه
وعرضه ونفسه وولده فلا يستطيع الامتناع وعلى رأسه مائة ألف سيف تتلظى
أكباد أصحابها عليه؟ قد قتل أبناءهم وإخوانهم وآباءهم وأعمامهم (1) انتهى
المراد من كلامه.
أقول لم يكن لابن أبي الحديد من دفع إرادة أمير المؤمنين (عليه السلام)
ومن سأله يوم السقيفة إلا استبعاده صدور العصيان من الصحابة، وهذا وإن
كان في نفسه ليس بدليل معتمد، لأن الصحابة ليسوا بمعصومين عنده، بل
عند جميع الأمة، فقد عارضه استبعاد النقيب من النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) إهمال أمر الأمة وتركه دم عترته قريبا من السفك، وبعيدا من
الصيانة، وكل الشيعة على هذا الوجه يعولون، وهذا أقوى وأرجح وأقرب
إلى العقل السليم من الأول، وإن شئت قلت إن العقل لا يجوز صدور
خلافه عن النبي (صلى الله عليه وآله)، فهو على كل حال مقدم
عليه، ومن ذلك يثبت النص فافهم على أن استبعاد المعتزلي إرادة الأولين من



(1) شرح نهج البلاغة 9 / 248.
488
الكلام لما ذكره من السبب يستلزم استبعاده من إرادة أهل الشورى، لأنهم
منهم ومن أعوانهم ما خلا الزبير، وأيضا الشورى كانت بأمر من عقد الأمر
لأبي بكر في السقيفة ودفع عليا (عليه السلام) عنه، وهو عمر بن الخطاب
وهو الذي جعل أمر الشورى كله لعبد الرحمن بن عوف وما فعله ابن عوف
كله برأيه وعن أمره،، فالدافع عليا يوم الشورى عن مقام النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) هو بنفسه دافعه عنه يوم السقيفة، فإن لم يكن هو ومن
وازره على ذلك المقصودين من السؤال والجواب لم يبق أحد يقصد منهما ولا
يعني بهما فلزم أن يكون السؤال وقع لا عن أحد والجواب مثله، وهذا
محال، ولم يبق لأحد تشبث بقصد معاوية وأصحابه من القول، لأن أمير
المؤمنين (عليه السلام) ذكر حالهم بعد جوابه المذكور للأسدي بما هو نص
في أن الأسدي لم يقصدهم بسؤاله، وأن عليا (عليه السلام) لم يقصدهم
بجوابه، والخصم مقر بذلك، وإنما تردده بين إرادة الأولين وتابعيهم جميعا
ومنهم أهل الشورى وبين اختصاصه بأهلها كما سمعت في سؤاله هذا كله،
مضافا إلى ما ذكرناه من عدم اندفاع المحذور، لو صح ما قال.
ومنها الشعر المنسوب إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) بالاشتهار روى
منه ابن أبي الحديد أبياتا، (1) كذلك وذكره بعض الخصوم بتمامه، ونحن نذكره
كذلك وسببه على ما روى أن معاوية كتب إلى علي (عليه السلام) يفتخر
بأشياء يزعم أن فيها مفخرا فغضب علي (عليه السلام) وقال أيفتخر علي
ابن اكلة الأكباد اكتب إليه يا غلام:
محمد النبي أخي وصنوي * وحمزة سيد الشهداء عمي



(1) رواه ابن أبي الحديد 4 / 122 كما رواه غيره بتقديم وتأخير وزيادة ونقصان نذكر منهم
الحموي في معجم الأدباء 1 / 119، وابن طلحة الشافعي في مطالب السؤال ص 11
والسبط في التذكرة ص 62، وابن حجر في الصواعق 79 وابن كثير في البداية
والنهاية 8 / 8 الخ.
489
وجعفر الذي يضحي ويمسي * يطير مع الملائكة ابن أمي
وبنت محمد سكنى وعرسي * منوط لحمها بدمي ولحمي
وسبطا أحمد ولداي منها * فأيكم له سهم كسهمي
سبقتكم إلى الإسلام طرا * غلاما ما بلغت أوان حلمي
وصليت الصلاة وكنت طفلا * مقرا بالنبي في بطن أمي
وأوجب لي ولايته عليكم * رسول الله يوم غدير خم
فويل ثم ويل ثم ويل * لمن يلقى الإله غدا بظلمي
أنا البطل الذي لا تنكروه * بيوم كريهة وبيوم سلم
فقد صرح بقوله: وأوجب لي ولايته البيت، بدعوى النص عليه
يوم الغدير لأن ولاية النبي (صلى الله عليه وآله) الإمامة، وهذه
الأقوال المذكورة ومثلها من أقواله مما لم نذكره مصرحة بدعوى النص عليه
وبظلم من تقدمه في الخلافة، ونسبتهم إلى منع الحق وغصب الأمر ونهب
الميراث وغير ذلك، وهو عندنا وعند المعتزلة صادق لا يكذب، ولا يجوز
الشك في صحة قوله، ولا أظن الأشاعرة يجوزون تكذيبه وإن جوزوا
مخالفته، وجلها قيل في أيام خلافته حين كان له بعض القدرة على الإخبار عما
في نفسه على الأولين، وصار للسانه بعض الانبساط في التعبير عما في ضميره
منهم، وهو دليل ظاهر وشاهد عادل على بقاء اعتقاده فيهم الظلم، وأنه لم
يكن لهم عاذرا، وأن ذلك ليس من ترك الأولى في شئ، وهذا يبطل ما
ذكره ابن أبي الحديد من أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان في مبدأ الأمر
يظن أن العقد لغيره كان لغير نظر في المصلحة، وأنه لم يقصد به إلا صرف
الأمر عنه والاستيثار عليه فظهر منه ما ظهر من الامتناع والقعود في بيته إلى أن
صح عنده وثبت في نفسه أنهم أصابوا فيما فعلوه، وأنهم لم يميلوا إلى هوى،
ولا أرادوا الدنيا، وإنما فعلوا الأصلح في ظنونهم، وأنه لو ولى الأمر لفتقت
عليه العرب فتقا يكون فيه استئصال شافة الإسلام، وهدم أركانه، فأذعن

490
بالبيعة، وجنح إلى الطاعة، وأمسك عن طلب الإمرة، وإن كان على مضض
ورمض إلى آخر ما أتى به من الكلمات الواهنة.
وأقول هذا الرجل وإن كان أبطل ما دبر ونقض ما أبرم، وكفانا مؤنة
الجواب عما موه به من الزبرج في القول، بقوله: إن إمساك أمير المؤمنين
(عليه السلام) عن طلب الإمرة كان على مضض ورمض (1)، إذ لو كان
ثبت عنده أنهم أصابوا الحق لكان المضض والرمض منهم خطأ منه، وكيف
يحترق قلبه ويتألم من فعل قوم أصابوا الحق، وعملوا بالصواب وحفظوا الدين
عن صولة الكفار، وكلمة المسلمين عن الانتشار، ليس هذا من سجية
المؤمنين، ولا من خلق الصالحين، فكيف يصدر من سيدهم ومقتداهم ومن
هو أكثرهم عناء في إظهار الدين ونصر الإسلام والمسلمين، ونكاية
المشركين؟ بل الواجب لمثله (عليه الصلاة والسلام) أن
يسر ويفرح بما فعلوه إذ كان موافقا لغرضه، ويثني عليهم إذ كان ما
دبروه مطابقا لمقصده والمعروف من حاله (عليه السلام) إنه لا يحزن للدنيا ولا
يفرح لها ولا نظر له فيها وإنما حزنه وسروره للدين، ونظره الحق أين كان
وكيف كان، فمضضه ورمضه فيما فعلوه من تقديم الأول عليه لا بد أن
يكونا راجعين إلى أمر الدين، وما ذلك إلا لارتكابهم قبيحا لا حسن فيه،
وفعلهم خطأ لا صواب يلم به ويدانيه، فقد قضى ببقائهما المعتزلي على
أئمته إذ أقر بمضض علي (عليه السلام) ورمضه منهم وهذا كاف في إثبات
دعوانا عدم رضاه عنهم، وأن أمرهم غير صحيح عنده ولا جائز لديه،
فيكون كفه لعدم القدرة على انتزاع حقه منهم كما بينا مرارا، إلا أنا نتعرض
لذكر ما يرد على جمل كلماته فنقول: أما قوله: إن أمير المؤمنين كان يظن أن
عقد الأمر لغيره لم يقصد منه إلا صرف الأمر عنه الخ فجوابه إن أمير



(1) المضض: وجع المصيبة، والرمض هنا: احتراق القلب من شدة الألم.
491
المؤمنين ما كان يظن ذلك بل يتيقنه ويعلمه ويعتقده إلى أن انتقل إلى جوار
ابن عمه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مقعد صدق عند مليك
مقتد، ألا تراه يقول لعمر حين ألزمه ببيعة أبي بكر: اشدد له اليوم أمره
ليرده عليك غدا، وقوله لعبد الرحمن بن عوف حين عدل عنه بالبيعة
لعثمان: ما هو بأول يوم تظاهرتم فيه علينا، وقوله للأسدي في الخبر المذكور
من قريب: إنها إثرة شحت بها نفوس قوم، وغير ذلك من كلماته وقد سبق
ذكر جملة منها، وكيف يجهل ذلك أو يرتاب فيه وقد أخبره الصادق الأمين به
وعهد إليه بغدر القوم به، وما يرتكبون منه، وفصل له الأمر تفصيلا،
وأزاح عنه فيه غبار الظنة وأوصله فيه إلى درجة اليقين، وقد سبق بيان هذا
في الأخبار المتقدمة.
وأما قوله إلى أن صح عنده وثبت في نفسه أنهم أصابوا فيما فعلوه الخ
فجوابه أن يقال له: متى كان هذا في حياتهم أم بعد هلاكهم وهو في الحالين
يشكو ظلمهم ويحكم بغصبهم حقه ونهبهم تراثه، أفيجوز أن يقال في ميت
مضى على إصابة الحق وإحراز الدين أنه ظالم غاصب ناهب الميراث وما
شاكل هذه الكلمات لا يكون ذلك إلا ويكون القائل ظالما قد قال زورا
وافترى إفكا، وأنت تنزهه عن الظلم والكذب فصح أن الثابت عنده
والمستقر في نفسه أنهم أخطئوا فيما فعلوه ومالوا إلى الهوى وأرادوا الدنيا وأنه ما
صوبهم يوما من الدهر.
وأما قوله لو ولى الأمر لفتقت عليه العرب فتقا الخ فكلام مأخوذ عن
عمر ولقد أطال المعتزلي وأسهب في ذكره بما لا حاجة إليه من شرح أمر حرب
الجمل وصفين، وهذا القول قد عرفت جوابه فيما سبق بأحسن البيان
وسيأتي منه ذكر أيضا، ونقول هنا أخبرنا أي العرب أنف من إمرة علي (عليه
السلام)، واستنكف عنها؟ ألست رويت عن أبي بكر الجوهري أن الأنصار

492
لما فاتهم الأمر في السقيفة قالوا وقال أكثرهم: لا نبايع إلا عليا ورويت من
أشعارهم في ذلك الكثير الواسع مثل قول النعمان بن عجلان وكان من
أشرافهم.
وكان هوانا في علي وأنه * لأهل لها يا عمرو من حيث لا تدري (1)
ومثل: قول حسان بن ثابت في علي (عليه السلام):
سبقت قريشا بالذي أنت أهله * فصدرك مشروح وقلبك ممتحن
تمنت رجال من قريش أعزه * مقامك هيهات الهزال من السمن (2)
وغير ذلك مما ذكرناه فيما مضى، ورويت أن جماعة من الأنصار سعوا في
نقض بيعة أبي بكر ليبايعوا عليا ومعهم جماعة من المهاجرين، وقد مرت
الرواية والأنصار في ذلك الوقت هم ركن الإسلام، وبهم قامت الدعوة،
وحصلت للنبي (صلى الله عليه وآله) النصرة، وتم له بهم على
العرب الانتصار، ولما هدده عامر بن الطفيل بعسكره قال (صلى الله عليه
وآله وسلم) في جوابه: (يكفي الله منك وبنوا قيلة) (3) فمن يأنف من سائر
العرب ذلك الوقت ممن قدمه هؤلاء عليهم مع شهرته في الحسب والنسب
عند جميع العرب، ألست رويت أن العباس بن عبد المطلب وأبا سفيان بن
حرب عرضا على علي البيعة ورضيا له عليهما بالإمرة وهما إذ ذاك شيخا بني
عبد مناف ألست رويت أن خالد بن سعيد بن العاص طلب الإمرة لعلي
(عليه السلام) ورضي بإمرته عليه وهو من عمال النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) وأمراء أجناده، ومن أهل السبق إلى الإسلام، ومن أشراف بني عبد



(1) شرح نهج البلاغة 6 / 31 في ثمانية عشر بيتا نقلها ابن أبي الحديد عن الموفقيات
للزبير بن بكار كما تقدم.
(2) المصدر السابق 6 / 35 في أبيات نقلها ابن أبي الحديد عن الموفقيات.
(3) شرح نهج البلاغة 20 / 184 وكامل المبرد 2 / 324.
493
شمس؟ إلى غير ذلك مما يطول عده فمن هؤلاء العرب الذين أبوا ولاية
علي عليهم بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، دلنا عليهم حتى نعرفهم
فإنا ما رأينا أحدا من الناس استكبر عن ولاية علي (عليه السلام) عليه بعد
النبي (صلى الله عليه وآله) إلا أصحاب السقيفة ومن انضم إليهم،
وأهل الإحن والحقد على علي (عليه السلام) من قريش وأضرابهم، وداهنهم
قوم آخرون ممن حليت الدنيا في أعينهم طمعوا في أمور منتهم بها أنفسهم.
واتبعهم غوغاء الناس والعامة فحصلت لهم بذلك الغلبة ووهن الراغبون في
علي (عليه السلام) عن النصرة تواكلا وتخاذلا، ولولا هؤلاء: لم يختلف على
علي (عليه السلام) أحد ممن ذكرناهم فما ظنك بسائر العرب الذين ليس لهم
في أمر الخلافة حل ولا عقد، وأحب الأمراء إليهم من كان بهم ارفق،
أفرأيت لو أن هؤلاء بايعوا بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليا
وبايعه بنو هاشم وشيعتهم، وبايعه جماعة الأنصار يتخلف عن بيعته طلحة
وعثمان وابن عوف وابن أبي وقاص وأشباههم، وإذا بايعه كل هؤلاء يأبى
من بيعته ابن العاص وابن الوليد وابن أبي معيط إذن لضربت أعناقهم قبل أن
يرتد إليهم طرفهم، وتأبى عن طاعته العرب من الأعراب وغيرهم، أو
يفتقوا عليه مقدار خرق إبرة وقد سارت تحت راياته فرسان المسلمين من
المهاجرين والأنصار، فمن أولئك العرب الذين ينطقون في النقض عليه بعد
هذا بكلمة فضلا عن أن يفتقوا عليه فتقا يكون فيه استئصال شافة الإسلام
وكذا وكذا مما ذكره المعتزلي؟ ومن يستطيع منهم ذلك وهم لا يستطيعوا منه
شيئا في ولاية أبي بكر حيث نفذ حكمه من المهاجرين والأنصار أفعلي (عليه
السلام) عند العرب أدنى من أبي بكر نسبا وحسبا أم أبو بكر أنبه من علي
(عليه السلام) عند العرب ذكرا أم أشد بأسا وأقوى قلبا؟ فما هذا الكلام
الذي لا يتصوره عاقل ولا يتفوه به لبيب.
وأما قوله: جنح إلى الطاعة الخ فهو صحيح لكن على ما ذكره وأثبته من

494
المضض والرمض وذلك خارج عن قانون الرضا ولا شك عندنا أنه (عليه
السلام) أذعن بطاعتهم، وانقاد لأمرهم فيما يتعلق بأمور الإمارة حقنا لدمه
ودماء أهل بيته حيث لم يجد معينا يعينه ولا ناصرا ينصره، فلو امتنع بعد
ذلك عن بيعتهم لا هريق دمه كما فعل بابنه الحسين حذو النعل بالنعل فكان
تسليمه لهم وكفه عنهم كرها لا اختيارا، وليس النزاع في أنه سلم وكف
ظاهرا عن طلب الأمر، وإنما النزاع في أنه رضي طوعا لا جبرا فقد سلم
الحسن لمعاوية وكف الحسين عن منازعته بعد الحسن والمقطوع به أنهما ليسا
راضيين بخلافته وأمثال هذا كثير، ومما يؤكد أن القوم غير مصيبين عنده
امتناعه يوم الشورى على عبد الرحمن بن عوف عن المبايعة على سيرة
الشيخين، وقوله: بل على كتاب الله وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) وفي هذا إشارة بينة إلى أن في سيرتهما ما يخالف الكتاب والسنة وذلك
السر في امتناعه لا ما فهمه ابن أبي الحديد، وفي الكلام دلالة على أن
عبد الرحمن بن عوف ومن معه لا يريدون من يسير فيهم بكتاب الله وسنة نبيه
(صلى الله عليه وآله)، بل غرضهم فيمن يعمل فيهم بالرأي
ويؤثرهم بالمال، ويستشيرهم في الأحكام، وصريح هذا المعنى عدول القوم
عن نصوص الكتاب والسنة إلى ما يشتهون، وأوضح من ذلك قول أمير
المؤمنين (عليه السلام) في خطبة يحرض فيها أصحابه على قتال معاوية
وأصحابه: (سيروا إلى بقية الأحزاب، سيروا إلى نبذة الكتاب، سيروا إلى
قتال من يقاتل على دم حمال الخطايا) (1)، والمراد ببقية الأحزاب معاوية ومن
معه من قريش وبحمال الخطايا عثمان لا معاوية كما قال ابن أبي الحديد لأن
معاوية بزعمه يقاتل على دمه، وليس يقاتل أحد في صفين على دم معاوية لأنه
حي بين ظهرانيهم، وهو الذي أغواهم وساقهم بخدعه إلى الضلال وقادهم



(1) نفس المصدر 2 / 164 وفيه " انفروا " بدل " سيروا ".
495
إلى قتال إمامهم، فدعوى أن عليا (عليه السلام) صوب القوم في فعلهم
يوما ما من باب تقريب البعيد، وترويج الزيف وستر الظاهر المكشوف وإن
شئت قلت إنها من باب تجويز الممتنع وهو من فعل ابن أبي الحديد غير
مستنكر ولا بعيد، فما زال يدفع عنهم بالراح، ويبطل لأجلهم الحجج
الصحاح، ويرد للحماية عليهم دلالة الأدلة الصراح، وليس ذا من عمله
بمجد للمتأمل ولا بنافع عند المتبصرة، ولا بكاف في الذب عنهم لدى
المنصف المتدبر، فما أبين الصبح لذي عينين وهل يصلح العطار ما أفسد
الدهر.
ومما يدل على أن بعض الصحابة قد أحدثوا في الدين وغيروا أحكام
الكتاب وخالفوا السنة وخرجوا من العدالة دلالة صريحة ما صح في روايات
الخصوم من أخبار النبي (صلى الله عليه وآله) بدخول جماعة من
أصحابه النار لأنهم أحدثوا بعده ما أوجب لهم دخولها وهي كثيرة نذكر منها
بعضا تحصل به الحجة.
فمنها ما رواه الحميدي في الجمع بين الصحيحين بالسند عن سهل بن
سعد من المتفق عليه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله)
يقول: (أنا فرطكم على الحوض من ورد شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا
وليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم) قال أبو حازم
فسمع النعمان بن أبي العباس وأنا أحدثهم هذا الحديث فقال: هكذا
سمعت سهلا يقول قلت: نعم: قال: أشهد على أبي سعيد الخدري
لسمعته يزيد (وأقول إنهم من أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك
فأقول سحقا فسحقا لمن بدل بعدي).



(1) صحيح البخاري 7 / 205 كتاب الرقاق، باب الحوض و 8 / 87 أول كتاب الفتن.
496
وعنه من المتفق عليه بالسند عن ابن عباس قال: إن النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) قال: (ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات
الشمال فأقول يا رب أصحابي، فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك،
فأقول كما قال العبد الصالح، [وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما
توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد إن تعذبهم فإنهم
عبادك] (1) قال فيقال لي: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ
فارقتهم) (2).
وعنه من المتفق عليه بالسند عن أنس بن مالك قال: إن النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) قال: (ليردن على الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا
رأيتهم ورفعوا إلي رؤوسهم اختلجوا فلأقولن أي رب أصحابي أصحابي
فليقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) (3).
وعنه في أفراد مسلم بالسند عن ابن عمر قال إن النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) قال: (إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم أنتم)
قال عبد الرحمن: نكون كما أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله)
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (تتنافسون وتتحاسدون ثم
تدابرون ثم تتباغضون وتنطلقون إلى مساكن المهاجرين فتحملون بعضهم على
رقاب بعض) (4).
وفي صحيح البخاري (لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي ما أخذ القرون



(1) المائدة: من الآية 121.
(2) صحيح البخاري 4 / 110 كتاب بدأ الخلق.
(3) صحيح البخاري 1 / 207 كتاب الرقاق باب الحوض.
(4) هذا الحديث روي في صحاح السنن وانظر مسند الإمام أحمد ج 2 / 325 و 327 و 336
و 337 و 450 و 511 و 527 و ج 3 / 84، 9489.
497
قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع) وفي غيره: (لتتبعن سنن من كان قبلكم
شبرا) الخ (؟).
وفي صحيح الترمذي عن النبي (صلى الله عليه وآله): (لتركبن
سنن من كان قبلكم) (1).
وفي جامع العلوم لقدوة الحفاظ أبي عبد الله محمد بن معمر عن أبي بن
كعب قال: والله ما زالت هذه الأمة مكبوبة على وجهها منذ قبض رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم). هذه الأحاديث وأمثالها صريحة في أن
القوم بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رجعوا عن الدين على أعقابهم
القهقري وما نرى شيئا فعلوه بعد النبي (صلى الله عليه وآله) في
الدين أعظم من أخذ الخلافة من أهلها ومستحقيها ولو لم يكن هناك نص على
واحد بعينه وقد خالفوه واغتصبوا من ذي الحق حقه لما استوجبوا كل ذلك،
وفي هذه الأخبار تكذيب الأشاعرة في قولهم بنجاة كل صحابي وإن فعل ما
فعل من المعاصي، ودلت أيضا على صحة تظلم أمير المؤمنين (عليه
السلام) من القوم السابقين في محله وموضعه، فما ادعيناه عليهم قد وضح
بيانه وسطع برهانه والحمد لله على إنعامه بالهداية.
الوجه الثالث: مما يدل على وجود النص على أمير المؤمنين ما يخطر من
فلتات عمر فتارة يعترف بأن عليا مظلوم، وتارة بأنه منصوص عليه لكن
خولف النص لمصلحة، وتارة بأنه أولى بالأمر إلى غير ذلك.
فمنها ما رواه ابن أبي الحديد عن الزبير بن بكار الزبيري في كتاب
الموفقيات عن عبد الله بن عباس قال إني لأماشي عمر بن الخطاب في سكة
من سكك المدينة إذ قال لي: يا بن عباس ما أرى (2) صاحبك إلا مظلوما،



(1) الترمذي كتاب الفتن ب 18.
(2) في شرح النهج " ما أظن ".
498
فقلت في نفسي: والله لا يسبقني بها فقلت: يا أمير المؤمنين فاردد إليه
ظلامته، فانتزع يده من يدي ومضى (1) يهمهم ساعة ثم وقف، فلحقته
فقال: يا بن عباس ما أظنهم منعهم [من صاحبك] (2) إلا أنه استصغره
قومه، فقلت في نفسي هذه شر من الأولى، فقلت: والله ما استصغره الله
ورسوله إذ أمره أن يأخذ براءة من صاحبك (3)، فأعرض عني وأسرع فرجعت
عنه (4).
قلت: فما أدري ما يصنع ابن أبي الحديد بهذا الاعتراف، ثم انظر إلى
عذر عمر الذي أخذه من أبي عبيدة بأنه استصغره قومه، وهل في صغر السن
من نقص إذا كان العقل كاملا وقد قال الله تعالى في يحيى: (وآتيناه الحكم
صبيا) (5) وقال حكاية عن عيسى (عليه السلام) وهو في المهد (إني عبد الله
آتاني الكتاب وجعلني نبيا) (6) فلم يكن الصغر فيهما مانعا من الكمال،
ولذا ولياه على تبليغ براءة وائتمناه عليها وعزل أبي بكر من تبليغها ولم يكن كبر
السن نافعا، ولا صغره مانعا ولله در ابن عباس ما أوضح حجته، وأقوى
برهانه! ومنها ما رواه عن عبد الله بن عمر قال: كنت عند أبي وعنده نفر
من الناس فجرى ذكر الشعر فقال: من أشعر العرب فقالوا فلان وفلان
فطلع ابن عباس فقال عمر قد جاء الخبير، من أشعر العرب يا عبد الله؟
قال: زهير بن أبي سلمى، قال: فأنشدني ما تستجيده له، فقال: يا أمير



(1) وفيه " وقر يهمهم ".
(2) ما بين المعوقين ساقط من المتن.
(3) في الشرح " من أبي بكر ".
(4) شرح نهج البلاغة 6 / 54 وليس في الشرح " فأعرض عني وأسرع فرجعت عنه " ولا
شك أنها ساقطة من المطبوعة.
(5) مريم: 12.
(5) مريم: 29.
499
المؤمنين أنه مدح قوما من غطفان يقال لهم بنو سنان فقال:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم * قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
قوم أبوهم سنان حين تنسبهم * طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
إنس إذا أمنوا جن إذا فزعوا * مرزؤن بها ليل إذا جهدوا
محسدون على ما كان من نعم * لا ينزع الله عنهم ماله حسدوا
فقال عمر: قاتله الله لقد أحسن، ولا أرى هذا المدح يصلح إلا لهذا
البيت من هاشم لقرابتهم من رسول الله، فقال: ابن عباس وفقك الله يا
أمير المؤمنين فلم تزل موفقا، قال: يا بن عباس أتدري ما منع الناس
منكم؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، قال: لكني أدري، قال: ما هو؟
قال: كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة فتجحفوا الناس جحفا،
فنظرت قريش لأنفسها فاختارت ووفقت فأصابت فقال ابن عباس: أيميط
أمير المؤمنين عني غضبه فيسمع قال: قل ما تشاء، قال: أما قول أمير
المؤمنين بأن قريشا كرهت فإن الله قال لقوم: [ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله
فأحبط أعمالهم] (1) وأما قولك: إنا كنا نحجف فلو خجفنا بالخلافة خجفنا (2)
بالقرابة ولكنا قوم أخلاقنا مشتقة من خلق رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) الذي قال الله تعالى فيه: [وإنك لعلى خلق عظيم] (2) وقال
له: [واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين] (3). وأما قولك: إن قريشا
اختارت فإن الله تعالى يقول: [وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم
الخيرة] (4) وقد علمت يا أمير المؤمنين أن الله اختار من خلقه لذلك من



(1) محمد: 9.
(2) الخجف: الكبر.
(3) القلم: 4.
(4) الشعراء: 215.
القصص: 68.
500
اختار، فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها لوفقت وأصابت، فقال
عمر: على رسلك يا بن عباس أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشا في أمر
قريش لا يزول، وحقدا عليها لا يحول، فقال ابن عباس: مهلا يا أمير
المؤمنين لا تنسب قلوب بني هاشم إلى الغش فإن قلوبهم من قلب رسول الله
(صلى الله عليه وآله) الذي طهره الله وزكاه، وهم أهل البيت
الذين قال الله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت
ويطهركم تطهيرا] (1) وأما قولك: حقدا فكيف لا يحقد من غصب شيئه
ويراه في يد غيره، فقال عمر: أما أنت يا عبد الله فقد بلغني عنك كلام
أكره أن أخبرك به فتزول منزلتك به عندي، قال: ما هو يا أمير المؤمنين
أخبرني به فإن يكن باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه وإن يك حقا فإن
منزلتي عندك لا تزول به؟ قال: بلغني أنك لا تزال تقول أخذ هذا الأمر منا
حسدا وظلما قال: أما قولك حسدا - إلى أن قال -: وأما قولك ظلما فأمير
المؤمنين يعلم صاحب الحق من هو، ثم قال يا أمير المؤمنين ألم تحتج العرب
على العجم بحق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واحتجت قريش
على سائر العرب بحق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنحن أحق
برسول الله (صلى الله عليه وآله) من سائر قريش، فقال عمر: قم
الآن فارجع إلى منزلك فقام الخبر (2).
قلت والشاهد على المدعي في مواضع من الخبر.
الأول قول ابن عباس: إن الله اختار من خلقه لذلك من اختار، فإنه
صريح في أن هناك منصوصا عليه بالإمامة، معينا لها من الله ورسوله (صلى
الله عليه وآله وسلم) إذ لا علم لعمر ولا ابن عباس بأن الله اختار لهذا الأمر



(1) الأحزاب: 33.
(2) شرح نهج البلاغة 12 / 52.
501
واحدا معينا إلا من إخبار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك هو
النص، وابن عباس لم يقصر علم ذلك على نفسه، بل قال لعمر: وقد
علمت ذلك، فأتى بقد المفيدة لتحقق الفعل ولا منصوص عليه إلا علي
(عليه السلام)، وما يريد ابن عباس بما ذكر أحدا غيره.
الثاني قوله: فكيف لا يحقد من غصب شيئه ويراه في يد غيره، فإنه
صريح في أن الخلافة حق أهل البيت وقد أخذت منهم غصبا، وإذا لم يكن
هناك نص على واحد معين منهم بأن الخلافة له كيف يتحقق الغصب.
الثالث قوله: أخذ منا هذا الأمر حسدا وظلما، وتقريره كسابقه.
الرابع قوله: أمير المؤمنين يعلم صاحب الحق من هو، فإن علم عمر
بصاحب الحق ومن له الأمر بالتعيين بدون نص من الرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم) غير ممكن كما لا يخفى، فيجب أن يكون علمه بذلك من طريق
النص وذلك هو المطلوب ثم إن عمر لن ينكر شيئا مما ادعا ابن عباس عليه
علمه به فدل على أنه كان عالما به لكنه لما عرف العجز من نفسه عن جواب
حجة عبد الله بن العباس أمره بالرجوع إلى منزله حذرا منه أن يظهر من فساد
أمرهم أكثر مما أظهر، ثم إن في قول عمر: كرهت قريش أن تجتمع لكم
النبوة والخلافة، ما يشير إلى وجود النص لأنه يومي إلى أن قريشا علمت بأن
الخلافة في بني هاشم بأخبار النبي (صلى الله عليه وآله) فصرفوها
عنهم إلى من أرادوا مخالفة للنبي (صلى الله عليه وآله) هذا ما يتعلق
بالدلالة على مدعانا.
وأما ما يدل على بطلان كلام ابن أبي الحديد ورد دعواه من الخبر فهو في
مواضع.
الأول قول عمر: كرهت قريش إلى تمام الجملة، فإن صريحه ينطق بأن

502
قريشا لم تعدل بالخلافة عن بني هاشم لخوف أمر يحدث في الدين، ولا لحذر
ثلم يكون في الإسلام، وإنما كان ذلك لكراهة تأمير قرابة النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) وتشريفهم، وهو عين العداوة لهم.
الثاني قوله: فنظرت قريش لأنفسها، فإنه صريح في أن القوم لم يصرفوا
الخلافة عن بني هاشم نظرا منهم للدين، وحماية منهم على الإسلام، وإنما
فعلوا ذلك نظرا لأنفسهم في أمر دنياهم ليتشرفوا بالإمارة، وهذا كما ترى
مناقض لما تقدم من قول المعتزلي: إن القوم أرادوا بما فعلوا الدين لا الدنيا
ولم يميلوا إلى هوى، وأنهم نظروا في ذلك إلى مصلحة الإسلام، فقد كذب
قوله، والكلامان منافيان أيضا لما قاله المتكلم في الخبر السابق من أن المانع
لقريش من مبايعة علي (عليه السلام) استصغارها سنة، وعنه أخذ أتباعه
التنافي والتناقض في أقوالهم.
الثالث قوله: أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشا في أمر قريش الخ.
فإنه صريح في أن عمر كان مطلعا على كراهة بني هاشم لخلافته وخلافة
صاحبه، ومن استخلفهما ورضي بخلافتهما، وبقاء حقدهم عليهم.
الرابع قول ابن عباس، فكيف لا يحقد من غصب شيئه فإنه صريح في
حقد بني هاشم على من تولى الأمر دونهم وأخذ ذلك الشئ منهم وهذا كله
مضاد لقول ابن أبي الحديد: إن عليا (عليه السلام) رضي بخلافة
الرجلين، ورآها صلاحا أفيرضى علي (عليه السلام) ويحقد ابن عباس
وباقي بني هاشم وهم ذلك الوقت لا يطلبون الخلافة إلا له وليس فيهم من
يجيز لنفسه التقدم عليه في أقل الأمور.
الخامس قوله: أخذ منا هذا الأمر حسدا وظلما، وهو كسابقه في المعنى
وهذا الخبر مضمونه نص مذهب الإمامية فليصدق ابن أبي الحديد حديثه أو
يكذبه ففي كلا الأمرين لمنا عليه الفلج.

503
ومنها: ما رواه ابن عباس أيضا قال: خرجت مع عمر إلى الشام في
إحدى خرجاته فانفرد يوما يسير على بعيره فاتبعته، فقال: يا بن عباس
أشكو إليك ابن عمك سألته أن يخرج معي فلم يفعل ولا أزال أراه واجدا
أفيم تظن موجدته؟ قلت: يا أمير المؤمنين إنك لتعلم، قال: أظنه لا يزال
كئيبا لفوت الخلافة، قلت: هو ذاك إنه يزعم أن رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) أراد الأمر له، فقال: يا بن عباس وأراد رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) الأمر له فكان ماذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك أن رسول الله
(صلى الله عليه وآله) أراد أمرا وأراد الله غيره فنفذ مراد الله ولم ينفذ
مراد رسوله، أو كلما أراده رسول الله كان إنه أراد إسلام عمه (1) ولم يرده
الله فلم يسلم (2).
أقول غير خفي على ذوي الفطن أن معنى قول عبد الله بن عباس: إن
رسول الله أراد الأمر له أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) عين عليا (عليه
السلام) للخلافة وقصرها عليه من بعده، وهذا هو النص المدعي ودل الخبر
على أن عليا (عليه السلام) لا يزال واجدا على عمر وأن موجدته عليه لأنه
خالف أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيه ونصه عليه وعمر قد
أقر بجميع ذلك في الخبر مرتين صريحا.
والثالثة إشارة وادعاء مع ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) أراد غير ما أراد الله ولا أدري كيف ينسب إلى رسول الله (صلى الله



(1) المراد بعمه هنا أبو لهب فإن مسألة إسلام أبي طالب لم تثر إلا في زمن الأمويين،
وركز عليها العباسيون والدليل على ذلك أن معاوية على كثرة ما جرى بينه وبين أمير
المؤمنين (عليه السلام) من المراسلات والمساجلات لم يذكر ذلك لأنه لم يكن معروفا
لديه.
(2) شرح نهج البلاغة 2 / 87.
504
عليه وآله وسلم) إرادة ما لم يرده الله وهو الذي يقول الله فيه: [وما ينطق
عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى] (1) ويقول فيه: [ولو تقول علينا بعض
الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين] (2) ويقول فيه: [قل
إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي] (3) وغير ذلك ولا أدري أم أيريد بقوله ذلك
أن يقول بالجبر في الأفعال أو أنه لا يدري ما معنى الإرادة فيذهب إلى أن كلما
وقع فهو مراد الله فكفر أبي جهل عنده مراد الله ومخالف لإرادة رسوله (صلى
الله عليه وآله وسلم)، وكذلك كفر أبي لهب وأن عدم إسلامه مراد الله
ومخالف لمراد رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فخلافة أبي بكر وخلافته
أرادها الله ولم يردها رسوله (صلى الله عليه وآله)!! وها نحن نبين
معنى الإرادة ونشرح مفهومها فنقول: للإرادة في الكتاب والسنة معان ثلاثة.
الأول الإرادة الأمرية الصادر عنها التكاليف فهي الأمر بالشئ من حيث
المحبوبية وتقابلها الكراهة وهي النهي عن الشئ من حيث المبغوضية،
وعليها تدور الطاعة والمعصية والمخالفة والموافقة، وعليها يترتب الثواب
والعقاب، ومن الإرادة بهذا المعنى قوله تعالى: [يريد الله بكم اليسر ولا
يريد بكم العسر] (4) وقوله تعالى: [والله يريد أن يتوب عليكم] (5)
وقوله تعالى: [يريد الله أن يخفف عنكم] (6) على احتمال هذه الإرادة
مخالفتها ممكنة غير ممتنعة وضدها كذلك إذ لا جبر في التكليف على المكلفين،
والنبي (صلى الله عليه وآله) لا يخالف هذه الإرادة أبدا لأن مخالفتها



(1) النجم: 4.
(2) الحاقة: 45 و 46.
(3) الأعراف: 203.
(4) البقرة: 185.
(5) النساء: 27.
(6) النساء: 28.
505
معصية وهو معصوم عن العصيان، بل أرادته (صلى الله عليه وآله)
دائما تابعة لإرادة الله لا يعصي لله أمرا، فلما كان (صلى الله عليه وآله
وسلم) قد أراد عليا (عليه السلام) للأمر علمنا الله سبحانه وتعالى أراده
له بمعنى أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بنصبه فنصبه رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) كما تضمنه الخبر، وقول الشيخ مستلزم لأن رسول الله
قد خالف إرادة الله وعصى أمره لأن الله أمر بنصب أبي بكر وهو عين عليا
(عليه السلام) ونسبة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مخالفة أمر
الله كفر بما أنزل الله تعالى في محكم كتابه.
الثاني الإرادة الفعلية وهي عبارة عن إيجاد الشئ ومنه قوله تعالى:
[إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون] (1) ولا تعلق لهذه
الإرادة بأمر التكليف، ولا يستطيع أحد ردها ولا مخالفتها لأنها فعل من
افعال الله تعالى القادر على ما يشاء، ولا يجوز أن ينسب أحد إلى مخالفة هذه
الإرادة إذ لا قدرة لأحد على ذلك، حتى يقال: إن رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) أراد ما لم يرده الله.
الثالث الإرادة العلمية ومعناها علم الله بما يصدر من المكلف طاعة أو
معصية، ووقت ذلك ومكانه ومتعلقه لا بمعنى المحبوبية والمبغوضية وعليها
يحمل قوله تعالى: [فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد
أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا] (2) وقوله تعالى: [فمن يرد الله فتنته
فلن تملك له من الله شيئا] (3) وهي قد توافق الإرادة الأمرية كما في المطيع،



(1) النحل: 40.
(2) الأنعام: 125.
(3) المائدة: 41.
506
وقد تخالفها إذ لا ملازمة بينهما كما في العاصي، وبهذا البيان يرتفع الجبر في
الأفعال، وهذه الإرادة هي التي كانت متعلقة بهم فإن الله علم أنهم يخرجون
بسوء اختيارهم عن الطاعة وقبول الأمر الصادر من الله ومن رسوله (صلى الله
عليه وآله وسلم) بالائتمام بعلي (عليه السلام) والانقياد لطاعته بعد النبي
(صلى الله عليه وآله) فهم قد خالفوا إرادة الله الأمرية وإرادة رسوله
كذلك في أمر الإمامة، ووافقوا إرادة الله العلمية بأنهم يكونون عاصين فإذا
كان أراد من قوله في الخبر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أراد
أمرا وأراد الله غيره أن الرسول (صلى الله عليه وآله) أمر عن أمر الله
بطاعة علي (عليه السلام) من بعده وعلم الله إنا لا نطيعه في أمره فقد صدق
لكن ذلك لا ينفعه ولا يجدي له عند الله عذرا، وقد وضح لك أن الخبر
المذكور ناطق بصدور النص من النبي (صلى الله عليه وآله) على علي
(عليه السلام) وأن القوم قد خالفوه إحالة على المقادير، وبئست تلك
المعاذير، ومثل هذا الحديث ما قدمناه أولا من قول عمر في حديث ابن أبي
طاهر: ولقد أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يصرح به في
مرض موته فمنعته وقد مر عليك مبينا بأوضح بيان فراجعه.
ومنها ما رواه عن أبي بكر الجوهري مسندا عن ابن عباس قال مر عمر
بعلي (عليه السلام) وعنده ابن عباس بفناء داره فسلم فسألناه أين تريد؟
فقال: مالي بينبع، فقال علي (عليه السلام): أفلا نصل جناحك ونقوم
معك؟ قال: بلى؟ فقال لابن عباس: قم معه، قال: فشبك أصابعه في
أصابعي ومضى حتى إذا خلفنا البقيع، قال: يا بن عباس أما والله إن كان
صاحبك هذا لأولى الناس بالأمر بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) إلا أنا خفناه على اثنتين، قال ابن عباس: فجاء بمنطق لم أجد بدا
معه من مسألته عنه، فقلت: يا أمير المؤمنين ما هما؟ قال: خشيناه على

507
حداثة السن وحبه بني عبد المطلب (1) وهو صريح في المطلوب لأن أولوية
(عليه السلام) بالأمر لا يعلم إلا من جهة النص، ثم إن الخبر متضمن
لأمرين مخالفين لقول الخصوم.
الأول إن القوم لم يكونوا ناظرين إذ منعوا عليا (عليه السلام) من
خلافة الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى مصلحة تعود إلى الدين وإنما
هو لأمر راجع إلى هوى النفس وهو كون علي صغير السن، ومحبا لبني عبد
المطلب، وإن الأولى بالخلافة من يكون كبير السن ويكون مبغضا لبني عبد
المطلب، وأي مصلحة للدين في هذا.
الثاني إن القوم كانوا مبغضين لقرابة النبي (صلى الله عليه وآله)
بغضا شديدا حتى جعلوا بغضهم شرطا في الإمام وهذا يقتضي أنهم لم يقدموا
من قدموه إلا لعلمهم بشدة بغضه لقرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم)، وهذا عين ما تقوله الإمامية لا يزيدون عليه حرفا، فأين قول ابن
أبي الحديد وأمثاله: إن القوم لم يفعلوا ما فعلوا إلا النظر للدين؟ وما باله
يروي هذا الكلام ويغضي عن معناه كأنه لا يفهمه وهو أصرح من أن يخفى
على مثله؟ فالحمد لله الذي أظهر الحق لأهله.
ومنها ما رواه عن أبي بكر الجوهري قال: وحدثني أبو زيد قال: حدثنا
هارون بن عمر بإسناد رفعه إلى ابن عباس قال: تفرق الناس ليلة الجابية عن
عمر فسار كل واحد مع ألفه، ثم صادفت عمر تلك الليلة في مسيرنا
فحادثته فشكى إلي تخلف علي عنه، فقلت: لم يعتذر إليك؟ قال: بلى،
فقلت: هو ما اعتذر به، قال: يا بن عباس إن أول من ريثكم عن هذا
الأمر أبو بكر إن قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة، قلت: لم



(1) شرح نهج البلاغة 2 / 7 و 5 / 50 مع اختلاف في بعض الألفاظ.
508
ذاك يا أمير المؤمنين ألم ننلهم خيرا؟ قال: بلى ولكنهم لو فعلوا لكنتم عليهم
خجفا خجفا (1).
أقول: ما في هذا الخبر قد تضمنه حديث ابن عمر المتقدم وتوضيحه
يعرف مما ذيلنا به ذلك الخبر.
ومنها ما رواه أن عمر قال لعبد الله بن عباس يوما: ما منع
قومكم منكم، قلت: لا أعلم يا أمير المؤمنين، قال، اللهم غفرا إن
قومكم كرهوا أن تجتمع لكم النبوة والخلافة فتذهبوا في السماء بذخا وشمخا،
لعلكم تقولون: إن أبا بكر أراد الإمرة عليكم وهضمكم كلا، لكنه حضره
أمر لم يكن عنده أحزم مما فعل ولولا رأي أبي بكر في بعد موته لأعاد أمركم
إليكم، ولو فعل ما هناكم مع قومكم إنهم لينظرون إليكم نظر الثور إلى
جازره (2) أقول أي مصلحة للدين وأي صلاح للمسلمين في عدم اجتماع
النبوة والخلافة في بيت واحد؟ وأي مفسدة للدين وأهله في اجتماعهما في
ذلك البيت؟ وكيف تكره قريش ما أحبه الله من اجتماع النبوة والخلافة في
بيت واحد؟ ومتى وجدنا أحدا من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) تكبر وتجبر وخرج عن قانون التواضع وحيز الرزانة حتى ينسبهم إلى
ما لا يجوز أن ينسب إلى سائر المؤمنين! أليس هذا كله تصريحا بمخالفة الله
ورسوله (صلى الله عليه وآله)، وكاشفا عن بغض شديد لبني
هاشم، ثم إن الخبر مصرح بوجود النص على علي (عليه السلام)، وأن أبا
بكر إذ عهد إلى عمر إنما هو لهوى له فيه لا بجهله بصاحب الأمر من هو
وذلك في قوله: ولولا رأي أبي بكر في لأعاد إليكم أمركم، لأن الإضافة هنا
إما للملك أو للاختصاص، وعلى كلا الوجهين يفيد الكلام أن الأمر يعني



(1) المصدر السابق 2 / 87 والخجف: الكبر، وقد تقدم.
(2) نفس المصدر 12 / 9.
509
الخلافة حق لأهل البيت وليس لغيرهم فيها نصيب، وكونها حقا لهم لا يعلم
إلا من النص ولا منصوص عليه منهم بعد النبي (صلى الله عليه وآله)
إلا علي (عليه السلام)، فتبين من القول أن أبا بكر إذ تأمر على أهل البيت
يعلم أن الحق لهم وكذلك من ولي الأمر بعده وقوله: ولو فعل ما هناكم مع
قومكم إلى آخره نص في أن أولئك الصحابة من المهاجرين كانوا معتمدين
مخالفة علي (عليه السلام) ومخالفة الرسول (صلى الله عليه وآله)
فيه، ومنطوين على عدم إطاعته إن ولي الأمر كائنا ما كان لبغض مقيم عليه
في قلوبهم، وحسد قديم له لا لصلاح الدين ولا لخوف انتقاض العرب،
ولا لغير ذلك مما قاله في بعض كلامه، وهذا القول منه من شواهد مدعانا
عليهم، فقد تبين صدق قولنا من قول عمر وثبت ما نقول إن القوم أخذوا
الخلافة وهم يعلمون أنها حق علي (عليه السلام) بنص الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم).
ومنها ما قال ابن أبي الحديد: حدثني الحسين بن محمد الشني قال:
قرأت على ظهر كتاب أن عمر نزلت به نازلة فقام لها وقعد وترنح لها وتقطر،
وقال لمن عنده معشر الحاضرين ما تقولون في هذا الأمر، فقالوا يا أمير
المؤمنين أنت المفزع والمنزع، فغضب وقال: [يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله
وقولوا قولا سديدا] (1) ثم قال: أما والله إني وإياكم لنعلم ابن بجدتها (2)
والخبير بها قالوا: كأنك أردت ابن أبي طالب: قال: وأنى يعدل بي عنه،
وهل طفحت حرة بمثله، قالوا: فلو دعوت به يا أمير المؤمنين، قال:
هيهات إن هناك شمخا من هاشم، وإثرة من علم ولحمة من رسول الله
(صلى الله عليه وآله) يؤتى ولا يأتي فامضوا بنا إليه، فأقصفوا نحوه



(1) الأحزاب: 70.
(2) القيامة: 36.
510
وأفضوا إليه، فألفوه في حائط له عليه تبان وهو يتركل على مسحاته ويقرأ:
[أيحسب الإنسان أن يترك سدى] (1) إلى آخر السورة، ودموعه تهمى على
خديه، فأجهش الناس لبكائه فبكوا ثم سكت وسكتوا فسأله عمر عن تلك
الواقعة فأصدر جوابها فقال عمر: أما والله لقد أرادك الحق ولكن أبى
قومك، فقال: يا أبا حفص خفض عليك من هنا وهنا: [إن يوم الفصل
كان ميقاتا] (2) فوضع عمر إحدى يديه على الأخرى وأطرق إلى الأرض
وخرج كأنما ينظر في رماد.
وهذا الخبر كما ترى مصرح بأن أمير المؤمنين كان ينسب القوم في تقدمهم
عليه إلى الظلم، ويعدهم بالمطالبة يوم الفصل، وحسبنا ذلك فيما ندعي،
وإنكار ابن أبي الحديد للخبر لأن عليا (عليه السلام) كنى عمر ولم يسمه
بالإمرة، ولأن عمر مضى إلى علي (عليه السلام) والعادة أن يرسل إليه
إنكار فاسد لأن العادة قد تختلف وينبغي أن يجعل هذا من جملة تواضع عمر
الذي كانوا يصفونه به، والخليفة قد يكنى خصوصا في مقام الحجة على أن ما
ادعاه من أن عليا (عليه السلام) ما كنى عمر في خلافته أبدا وإنما يدعوه
بإمرة المؤمنين دعوى ما أتى عليها بشهود وأحالها على السير والتوايخ، ولم
يذكر حديثا على ما ادعى، ولا ذكر في كتابه على كثرة ما ذكره من الأخبار
موضعا دعا فيه علي (عليه السلام) عمر بإمرة المؤمنين قط، وذلك أدحض
لحجته، مع أنه روى أن الزبير قد أدمى أنف آذن عمر لما حجبه عنه فلما لامه
عمر جعل يمطمط في كلامه يحكي كلام عمر أتفعل هكذا يا زبير! وقال
مغضبا: أتحتجب يا بن الخطاب (3) فلم يكنه فضلا عن أن يقول أمير المؤمنين



(1) النبأ: 17.
(2) شرح نهج البلاغة 2 / 79.
(3) المصدر السابق 12 / 45.
511
ولم نره طعن في صحة الرواية بمخالفة العادة، وبما فيها من الجرأة العظيمة
على عمر.
وروي أيضا أن عمر لما أراد أن يوصي بالشورى واحضر الستة وقال في
كل واحد ما قال إنه نظر إلى طلحة فقال: أقول أم أسكت؟ قال له طلحة:
قل فإنك لا تقول من الخير شيئا (1) ولم يستبعد ذلك بمخالفته العادة ولم ينكر
الرواية لتضمنها جرأة طلحة على عمر بهذا القول الغليظ، وليس علي (عليه
السلام) عند عمر وعند الناس بدون الزبير وطلحة حتى يحتمل عمر منهما
الجرأة الشديدة ولا يحتمل من علي (عليه السلام) في وقت من الأوقات أن
يكنيه ولا يدعوه بإمرة المؤمنين مع أن ذلك حال عن أدنى جرأة، فسبحان
الله لا يكون الرد بخلاف العادة إلا لما وافق قولنا من أخبارهم، فهذا دليل
عنادهم فقد بطل إنكاره.
ومنها ما رواه مرفوعا إلى ابن عباس قال: دخلت على عمر يوما فقال:
يا بن العباس لقد أجهد هذا الرجل نفسه في العبادة حتى نحلته رياء،
قلت: من هو، قال: هذا ابن عمك، يعني عليا (عليه السلام)،
قلت: وما يقصد بالرياء يا أمير المؤمنين؟ قال: يرشح نفسه بين الناس
للخلافة، قلت: وما يصنع بالترشيح قد رشحه لها رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) فصرفت عنه، قال: إنه كان شابا فاستصغرت العرب
سنه وقد كمل الآن، ألم تعلم أن الله لم يبعث نبيا إلا بعد الأربعين، قلت:
يا أمير المؤمنين أما أهل الحجي والنهي فإنهم ما زالوا يعدونه كاملا منذ رفع
الله منار الإسلام، ولكنهم يعدونه محروما مجذوذا، فقال: ما إنه سيليها بعد
هياط ومياط (2) ثم تزل فيها قدمه، ولا يقضي منها إربه، ولتكونن شاهدا



(1) نفس المصدر 1 / 185.
(2) يقال: ما زالوا في هياط ومياط: أي ما زالوا في ضجيج واختلاف ورواح ومجئ.
512
ذلك يا عبد الله ثم يبين الصبح لذي عينين، وتعلم العرب صحة رأي
المهاجرين الأولين الذين صرفوها عنه بادئ بدء، فليتني أراكم بعدي يا
عبد الله، إن الحرص محرمة وإن دنياك كظلك كلما هممت به ازداد عنك
بعدا.
قال ابن أبي الحديد: نقلت هذا الخبر من أمالي أبي جعفر محمد بن
حبيب (1).
قلت: وقد أعرب هذا عما في قلبه لأمير المؤمنين (عليه السلام) حتى رام
إبطال عباداته بنسبتها إلى الرياء ليحط قدره، ويزيل من القلوب منزلته،
ويسقط منها رتبته، ومع ذلك فقد أقر بالنص من الرسول على علي (عليه
السلام) حيث أنه اعترف بدعوى ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) قد رشح عليا (عليه السلام) للخلافة، والترشيح للشئ التأهيل له
وهو تعيينه لها، وذلك النص، بأنها قد صرفت عنه بعد نص النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) عليه، وأن أهل العقل والرأي الصحيح يعدونه محروما
مجذوذا من حقه، ولم ينكر من ذلك شيئا وذهب يتعلل في مخالفة النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) بما لم يزل يتعلل به من صغر السن وخوف العرب، وما
أدري ما يقول ابن أبي الحديد ومن على شاكلته إذا سئلوا أهم أعرف
بالمصالح وكمال الناس أم رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث أهل
عليا (عليه السلام) للخلافة وهو صغير السن، أفيقولون أن رسول الله
(صلى الله عليه وآله) أهله بغير أمر الله فأخطأ وأنهم أصابوا حيث
صرفوا الأمر إلى من هو أكبر منه سنا، أم يقولون إن رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) لا يعلم سن علي (عليه السلام)؟ أفليس في قوله هذا
تصريح بأنهم خالفوا نص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على علي



(1) شرح نهج البلاغة 12 / 80.
513
(عليه السلام) بآرائهم، وما أبعد قوله: فاستصغرت العرب سنة من
قوله، وتعلم العرب صحة رأي المهاجرين إلى آخره، فإن الأول يدل على أن
العرب هم الذين صرفوا الأمر عن علي لصغر سنه، والثاني يدل على أن
العرب قد أنكرت على المهاجرين صرف الأمر واعتقدوا بطلان رأيهم، وأنه
لا يبين للعرب صحة رأي المهاجرين الأولين، ويعلمونه إلا إذا تولى علي
(عليه السلام) الأمر وحاربه من يحاربه من بقية أولئك المهاجرين ومن
يتبعهم من الطلقاء وأبناء الطلقاء، والحاصل أن هذا الخبر مصرح بما نقول به
من وجود النص على علي (عليه السلام، فهو شاهد بدعوانا وكاشف عن
صحة مذهبنا بأوضح كشف وأصرح بيان.
ثم إن في قول عبد الله لعمر: أما أهل الحجي والنهي فما زالوا يعدونه
كاملا الخ إشارة ظاهرة إلى أن الذين قدحوا في كمال علي (عليه السلام
بصغر السن ليسوا من أهل العقل والتمييز، لأن أهل ذلك ما زالوا حاكمين
بكمال علي (عليه السلام) فلو كان هؤلاء القوم منهم لحكموا بحكمهم،
والأمر كما قال عبد الله بن العباس.
وأما قول عمر: إنه سيليها ثم تزل فيها قدمه الخ فلا يصح لأنه إن أراد
بزلة قدمه عدم طاعة أهل الضلال له فليس عليه في ذلك بأس عند الله ولا
تزل قدمه إذا كان على الحق بل زلت قدم من خالفه، فقد قاتل الكفار رسول
الله (صلى الله عليه وآله) فلم يضره في دينه ونبوته خلافهم له وقتالهم
إياه، وكذلك أمير المؤمنين لم تزل قدمه بقتال الضالين المكذبين، بل كانوا
هم الذين زلت أقدامهم عن الحق وكان هو الثابت القدم على الصراط القويم
والهدى الواضح، لأنه يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) على تنزيله، وإن أراد بزلة قدمه خروجه عن الحق فهو
يعلم أنه مع الحق وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمره بقتال

514
أولئك الأقوام ووعده أنه مع الحق حتى تمنى الشيخان تلك المنزلة وسألاها
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فما أدركاها، وقد مضى بيان ذلك ومن
هذا فهم عمر سيقاتلون عليا (عليه السلام) فقال ما قال.
وأما قضاء الإرب من الخلافة فإن كان يريد إرب الدنيا فليس لعلي
(عليه السلام) في الدنيا من إرب، وإن أراد عدم تمكنه من إقامة عمود
الحق لمخالفة الفجرة أمره فليس ذلك بضائر في دينه ولا بناقص ليقينه،
والدبرة على الضالين المكذبين ظفروا أو ظفر بهم.
وأما وعظه لابن عباس وهو يريد غيره فليته وعظ من خالف نص
الرسول على علي كما اعترف به.
ومنها ما رواه عن أبي بكر الأنباري في أماليه: إن عليا (عليه السلام)
جلس إلى عمر في المسجد وعنده قوم فلما قام عرض واحد بذكره ونسبه إلى
التيه والعجب، فقال عمر: حق لمثله أن يتيه، والله لولا سيفه لما قام عمود
الإسلام، وهو بعد اقضي الأمة وذو سابقتها وذو شرفها، فقال له ذلك
القائل: فما منعكم يا أمير المؤمنين عنه؟ قال: كرهناه على حداثة السن
وحبه بني عبد المطلب (1).
قلت وما رواه ابن أبي الحديد من طرق العامة مما يعطي هذا المعنى كثير
فلنقتصر على ذكر ما أوردناه لحصول الكفاية.
ثم الآن نتكلم على جملة أخبار هذا الوجه بكلام عام فنقول لمنكري
النص من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على علي (عليه السلام): قد
اشتملت هذه الأخبار على الإقرار بالنص تارة على علي (عليه السلام) وبأنه
أولى الناس بهذا الأمر وأحقهم به أخرى، وثالثة على أنه مظلوم والمظلوم لا



(1) شرح نهج البلاغة 12 / 82.
515
يكون إلا بأخذ حق له يختص به فيكون الخلافة على هذا حقه وأن المتقدم
عليه فيها ظالم له غاصب حقه، وأخرى بأنه محروم وهو مثل السابق،
وأخرى بأن الأمر له، وأخرى بأن شيئه قد غصب، فحينئذ إن كان عمر
علم بأن الخلافة حق لعلي (عليه السلام) وأنه صاحبها وأولى الناس وأحقهم
بها حتى يكون من اختزلها عنه غاصبا وظالما من نص الرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم) عليه بذلك، إما بالتعيين لها كما نقول، وكما تضمنته جملة من
أخبار هذا الباب من قول ابن عباس وعمر، أو بما استوضحه الرجل من
قصد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في إشاراته إليه، أو من جهة جمعه
للخصال الحميدة كالقرابة من النبي (صلى الله عليه وآله)، والعلم
والشجاعة والسبق إلى الدين وكثرة الجهاد، وعلم من قول النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) إن صاحب هذه الصفات هو الأولى بمقامه، فذلك هو
النص من الرسول على علي (عليه السلام) وثبت مدعانا وثبت مخالفتهم
لنص النبي (صلى الله عليه وآله) في توثبهم لأخذ الخلافة ومبادرتهم
إلى تحصيل الإمارة من مهاجرين وأنصار، وثبت رجوعهم على الأعقاب ما
خلا من كان مع أمير المؤمنين (عليه السلام)، وجاء تصديق قوله تعالى:
[أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم] (1) وصح ما نسبه عمر إليهم من
ظلمهم عليا وغصبهم حقه، وذلك هو مطلوبنا ومرادنا لا نزيد في القول على
هذا، وإن كان عمر علم ذلك من غير نص الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) فليس غير النص بطريق يعلم منه هذا فكيف ينسب إليهم الظلم
والغصب فيظلمهم بهذا النسبة، فأي الأمرين تختارون!
وأما اعتذاره عن مخالفة النص على علي (عليه السلام) بحداثة السن
فقد أجاب عنه ابن عباس وأجبنا عنه فيما تقدم، ونقول هنا: إن مقصودنا



(1) آل عمران: 144.
516
من إيراد أقوال عمر بيان أنهم خالفوا نص النبي (صلى الله عليه وآله)
على علي (عليه السلام) بآرائهم وأهوائهم وذلك إقرار منه بالمقصود واعتراف
بالمطلوب، فما زاد في عذره على أن أثبت حجتنا عليهم.
وأما اعتذاره بخوف انتقاض العرب فقد أجبنا عنه مرارا بأوضح بيان،
ونزيد في هذا المقام فنقول له: أخبرنا أي العرب وأي الناس استشيروا في
بيعة علي (عليه السلام) فأبوها؟ أم أي العشائر والقبائل بلغهم أن المهاجرين
والأنصار بايعوا عليا (عليه السلام) فردوا بيعته ولم يقبلوها؟ وهل جاء منعه
عن الخلافة إلا ممن حضر السقيفة، وهل وهن أمره عند الناس إلا منهم، وما
آفته غيرهم، فكيف ينسبون فعلهم إلى سواهم، ويحملونه غيرهم، ثم لو
سلمنا لك ما تدعي لأجبناك بأن اللازم عليكم طاعة النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) ومراعاة أمره وليس عليكم أن تضل العرب أو تهتدي، والله
سبحانه يقول: [يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا
اهتديتم] (1) فلم لا بايعتم عليا وأطعتم الله ورسوله فيه وقاتلتم من خالفه
حتى تذللوا له العرب فتستقيم له الأمور وتجتمع عليه الكلمة كما فعلتم ذلك
حين بايعتم غيره؟ وما لكم عصيتم وبدأتم بالمخالفة لتوهمكم أن غيركم ربما
بعصي؟ هذا كله مع ما في فعلكم من مخالفة قول النبي وحكمه باجتهادكم
ومن جوز لكم ذلك وسوغكموه [أألله أذن لكم أم على الله تفترون] (2).
وأما اعتذاره بحب بني عبد المطلب فهو أوهن الأعذار وأوهاها، فإنه لم
يقل أحد بأنه يشترط في الإمام أن يبغض قرابته ويكره عشيرته، فليس حب
الإمام ذوي قرابته قادحا في صحة إمامته حتى يكون ضده شرطا لها، ولو كان
ذلك قادحا في إمامة علي (عليه الصلاة والسلام) لوجب أن يكون قادحا في نبوة



(1) المائدة: 105.
(2) يونس: 29.
517
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن حبه لبني عبد المطلب متعالم مشهور،
وحثه الناس على إكرامهم تارة بالتخصيص وتارة بالتعميم، وشدة حنوه عليهم
أمر ظاهر معروف ومذكور لا يجوز أن يجهله سائر الناس فضلا عن عمر بن
الخطاب وعناية الله ببني عبد المطلب إكراما للنبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) واضحة مكشوفة حيث أمره الله أن يبدأ بإنذارهم، ويفتتح دعوة
الإسلام بدعائهم فقال: [وأنذر عشيرتك الأقربين] (1) وأوجب لهم حقا
عليه فقال: [وات ذا القربى حقه] (2) ثم أوجب لهم المودة على الأمة
إعظاما لهم وإجلالا، كل ذلك لتكريم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وتفخيمه، ولقد احتج ابن عباس على عمر بذلك فما استطاع إنكاره
في حديث عبد الله بن عمر السابق أن ابن عباس لما قام بعد قول عمر: قم
الآن فارجع إلى منزلك هتف به عمر لما انصرف: أيها المنصرف إني على ما
كان منك لراع حقك، فالتفت ابن عباس فقال: إن لي عليك يا أمير
المؤمنين وعلى كل المسلمين حقا برسول الله (صلى الله عليه وآله)،
فمن حفظه فحق نفسه حفظ، ومن أضاعه فحق نفسه أضاع، ثم مضى
فقال عمر لجلسائه، واها لابن عباس ما رأيته لاحى أحدا قط إلا خصمه،
فمن كان هذا شأنهم يجب أن يكون حبهم شرطا في الإمام لا مبطلا لإمامته،
وجعل بغضهم شرطا في صحة الإمامة مخالفة لله وردا لكتابه ومراغمة لرسول
الله (صلى الله عليه وآله).
وبعد فما يكون في حب الرجل عشيرته من النقص لمرتبته عن الإمامة إذا
لم يخف منه لذلك جور في حكم، ولا إيثار بمال، ولا حيف في قسمه، وأمير
المؤمنين بمعزل عن هذه التهمة، أو لم يأن لعمر بن الخطاب أن يعلم بطول



(1) الشعراء: 214.
(2) الاسراء: 26.
518
المعاشرة لعلي (عليه السلام) ما هو عليه من قوة الذين، وما هو فيه من
صحة اليقين، فيعلم بذلك أن حبه لبني أبيه لا يكون له صارفا عن اتباع
الحق، ولا مقتضيا له للميل والهوى، ولا داعيا للجور والحيف في شئ من
الأحكام، ودع ذا أليس قد علم من قول النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم): (علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار) وقوله (صلى
الله عليه وآله وسلم): (وأدر الحق معه حيث ما دار) (1) وقوله في قصة ما عز
(أما لو كان فيكم أبو الحسن ما أخطأتم) (2) وأمثالها أن عليا لا يعدل عن
الحق لقرابة، ولا يميل للباطل لحب أحد ولا لبغض أحد، فيكون إذن أجهل
الناس حيث يجهل ما كان ظاهرا كلا بل علم ذلك وتيقنه، وكيف لا وهو
يقول لا بن عباس في حديث رواه ابن أبي الحديد ينساق مساق ما ذكرناه في
المقام من الأخبار تركنا نقله بعد أن عاب عليا (عليه السلام) وانتقصه
بالدعابة، وجعلها مانعة من استحقاقه الإمامة وعاب غيره بما عابه قال: إن
أحراهم إن وليها أن يحملهم على كتاب ربهم وسنة نبيهم لصاحبك، أما إن
ولي الأمر حلمهم على المحجة البيضاء والصراط المستقيم، فانظر إلى
التناقض في هذه الأقوال.
ثم نجيب عن هذه الوجوه الثلاثة فنقول: إن الله حين أمر رسوله (صلى
الله عليه وآله وسلم) بنصب علي خليفة من بعده كان عالما بحداثة سنه،
وانتقاض العرب عليه إذا ولي الأمر لو انتقضوا وبحبه بني عبد المطلب،
وهو أعلم بالصلاح والفساد، فلو علم سبحانه بعدم صلاحيته للإمامة لتلك



(1) أما قوله (صلى الله عليه وآله): (علي مع الحق والحق مع علي) رواه الخطيب
في تاريخ بغداد 14 / 321 وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (وأدر الحق معه
حيث دار) رواه الترمذي 2 / 298 والفخر الرازي في التفسير 1 / 205. الخ.
(2) شرح نهج البلاغة 6 / 327 و 12 / 52.
519
الأمور لما أمر نبيه بنصبه [والله أعلم حيث يجعل رسالته]، فوضح من جملة
ما ذكرناه إن الاعتذار بحداثة السن، وانتقاض العرب، وحب بني عبد
المطلب اعتذار مضمحل فاسد لا عذر به في مخالفة النص.
وأما الاعتذار بالدعابة فهو باطل بالجواب العام عن الوجوه السابقة،
لأنه كما ترى شامل له، وما هو إلا اقتراح على الله وتطلب عليه، ولعمري
إن كانت طلاقة الوجه، وبشاشة اللسان، وسجاحة الأخلاق، وظهور
البشر للمؤمنين، وكثرة الحلم عيبا مانعا من الإمامة فيجب أن يكون الأنبياء
ظاهري الغضب، ذوي غلظة وفظاظة لا رفق فيهم لأن الإمامة منصبهم
بالأصالة، وذاك خلاف ما وصف الله به أنبياءه من الحلم والرأفة فقال في
إبراهيم (عليه السلام): (إن إبراهيم لحليم أواه منيب] (1) وقال في حق
نبينا (صلى الله عليه وآله): (بالمؤمنين رؤوف رحيم] (2) وقال في
حق قوم مدحهم: [أشداء على الكفار رحماء بينهم] (3) وقال: [أذلة
على المؤمنين أعزة على الكافرين] (4) وهذه صفة أمير المؤمنين فيجب أن
تكون شرطا في الإمام لوجودها في النبي الذي انتقلت الإمامة منه إلى
الإمام، ولو كانت الغلظة والشدة وصفا حسنا فضلا عن أن تكون شرطا
للإمام لما نهى الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها وجردها عنه في قوله
تعالى: [ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك فاعف عنهم]
الآية (5). وعذر ابن أبي الحديد عنه في أمر الدعاية ونسبة أمير المؤمنين إليها
بأنه خشن الطبع، وأن الكلمات القبيحة تخرج منه على مقتضى جبلته



(1) هود: 75.
(2) التوبة: 128.
(3) الفتح: 29.
(4) المائدة 54.
(5) آل عمران: 159.
520
كالكلمة التي قالها في مرض رسول الله (صلى الله عليه وآله) (1) يعني
بها قوله: " إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليهجر " وكقوله:
" متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حلال أنا
محرمهما ومعاقب عليهما متعة الحج ومتعة النساء " (2) وإنه لم يقصد بها ظواهرها
ولا يستطيع إلا إخراجها كما هي، فلم يكن قاصدا عيب علي بالدعابة وغير
ذلك من الأعذار الركيكة التي أطالها في مواضع من كتابه ليس بشئ وإن أراد
بالدعابة التي نسبها إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) المزاح الموجب للخفة كما
نسبه عمرو بن العاص ومعاوية إليه (3) فقد أبطل في دعواه بإجماع مواليه
ومعاديه، وإن عليا (عليه السلام): برئ من ذلك كبيرا وشابا وطفلا،
وما زال عليه بهاء الإيمان، وهيبة التقوى، ونضارة الورع، وخشونة
الدين، وذلة التواضع، وعزة الكمال، وخشوع الزهد، ورزانة العقل،
ورصانة الحلم، ونور العرفان، ورونق الحكمة، وضياء العلم، وجمال
العفة، وقميص الأمانة، ودرع الصيانة، وجلباب الديانة، وكمال
البصيرة، وهيئة الزعامة، ودلائل الشهامة، وأبهة الرئاسة، وجلالة
السيادة، بعيد الهمة عن همز كل هامز، ورفيع القدر عن لمز كل لامز، قال
صعصعة بن صوحان (4) في وصفه: كان فينا كأحدنا لين جانب وشدة



(1) شرح نهج البلاغة 1 / 183 و 2 / 27.
(2) نفس المصدر 1 / 182.
(3) قال ابن أبي الحديد: " أما ما كان يقول عمرو بن العاص في علي (عليه السلام)
لأهل الشام: " إن فيه دعابة " يروم أن يعيبه بذلك عندهم فأصل ذلك كلمة قالها
عمر فتلفقها حتى جعلها أعداؤه عيبا وطعنا عليه " (شرح نهج البلاغة 6 / 326).
وقال في الجزء الأول ص 25: " وعمرو بن العاص إنما أخذها عن عمر بن الخطاب
لقوله له لما عزم على استخلافه: لله أبوك لولا دعابة فيك.
(4) صعصعة صوحان العبدي أسلم على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم
يره لصغره ويعد هو وأخوه زيد من صوحان في أصحاب علي (عليه السلام) أما زيد
فاستشهد معه يوم الجمل، وقد روى ابن الأثير في أسد الغابة بترجمة زيد رواية عن
النبي (صلى الله عليه وآله) تدل على فضل عظيم وبشارة بالشهادة وأما
صعصعة فقد شهد مع علي (عليه السلام) حروبه الثلاثة ومات في أيام معاوية.
521
تواضع وكنا نهابه مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف على رأسه ولما قال
معاوية لقيس بن سعد بن عبادة: رحم الله أبا الحسن فلقد كان هشا بشا ذا
فكاهة، قال قيس: نعم كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يمزح
ويبسم إلى أصحابه، وأراك تسر حسوا في ارتغاء وتعيبه بذلك، أما والله لقد
كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين، قد مسه الطوى،
وتلك هيبة التقوى، ليس كما يهابك طغام أهل الشام، إلى غير ذلك مما
وصف به من الهيبة والوقار، روى ذلك ابن أبي الحديد وغيره من معتزلة
وأشاعرة، فليس مما نسبه عمر إليه في شئ، كما أن قول ابن العاص بهت
منه وزور وافتراء، والله ولي الجزاء، ودع ذا كله أليس في اعتذار عمر عن
تقدمه وتقدم صاحبه على أمير المؤمنين في الخلافة بما ذكره من الأعذار بعد
شهادته بأنها حقه وأنه أولى الناس بها دليل ظاهر على أنه كان رادا لنص
الرسول (صلى الله عليه وآله) بالرأي؟ وذلك هو المقصد. والمراد
وهو المدعى الذي نحن بصدد إثباته والله الهادي إلى الصواب.
قال ابن أبي الحديد بعد روايته الأخبار التي ذكرناها وغيرها مما أورده
هناك في المعنى: سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن محمد بن أبي زيد وقد قرأت
عليه هذه الأخبار، فقلت له: ما أراها إلا تكاد تكون دالة على النص،
ولكني استبعد أن تجتمع الصحابة على دفع نص رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) على شخص بعينه كما استبعد من الصحابة رد نصه على الكعبة
وشهر رمضان وغيرهما من معالم الدين، قال: فقال: أبيت إلا ميلا إلى

522
المعتزلة، وذكر عن النقيب المذكور أجوبة طويلة في دفع استبعاده من
الصحابة مخالفة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذكر أن ذلك خلاصة
ما حفظه من كلام النقيب، ونحن نستخلص من تلك الخلاصة زبدة
فنوردها وحاصل ذلك: أن القوم لم يذهبوا إلى أن الإمامة من معالم الدين
كالصلاة والصيام والحج وإنما كانوا يجرونها مجرى الأمور الدنيوية كتأمير الأمراء
وسياسة الرعية، وما كانوا يرون بأسا بمخالفة رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) في أمثال ذلك إذا رأوا مصلحة في المخالفة، كما أن رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) نص على إخراج أبي بكر وعمر في جيش أسامة فلم
يخرجا لما رأياه من المصلحة في التأخير، وأسقطوا سهم ذوي القربى من
الخمس وسهم المؤلفة قلوبهم بالرأي، وهما أدخل في باب الدين منهما في
أبواب الدنيا، وأن القوم كانوا يخالفون النبي (صلى الله عليه وآله)
وهو حي في أمثال ذلك، ولقد أوصاهم في مرضه (أن أخرجوا النصارى من
جزيرة العرب) فلم يخرجوهم حتى مضى صدر من خلافة عمر، وعملوا في
زمن أبي بكر برأيهم، وهم الذين هدموا المسجد بالمدينة، وحولوا المقام بمكة
عما وضعه فيه إبراهيم الخليل ونبينا (صلى الله عليه وآله) إلى ما
وضعته الجاهلية.
قلت: وكان المحول له عمر.
قال: ولم يقفوا على موارد النصوص، واقتدى بهم الفقهاء فرجح الكثير
منهم القياس على النص فاستحالت الشريعة إلى شريعة جديدة على ما أدى
إليه القياس، وأكثر ما كانوا يعملون بآرائهم فيما يجري مجرى الولايات
والتأمير وتقرير قواعد الدولة ولا يقفون مع نصوص الرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم) وتدبيراته إذا رأوا المصحلة في خلافة كأنهم يقيدون إطلاق
نصوصه بقيد غير مذكور لفظا، وليس ذلك يمكن بهم فيما هو جار مجرى

523
محض الدين كالصلاة والوضوء، مثل أن يقول النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) الوضوء شرط في الصلاة فيجمعوا على خلافه، وكذا في الصوم
والحج إذ لا غرض لهم فيه ولا يقدرون على إظهار مصلحة كانت خفيت على
النبي (صلى الله عليه وآله) بزعمهم كما أمكنهم إظهار ذلك في إمامة
علي (عليه السلام) من كراهية العرب له إما للوتر والثأر، وإما لمحض
الحسد والبغض، وإما لصغر السن وغير ذلك مما زعموه، وأسكتوا به من
يخاطبهم ويذاكرهم بنص الرسول (صلى الله عليه وآله) عليه،
وتعللوا مع إقرارهم بالنص في المبادرة إلى عقد الأمر لأبي بكر بخوف الفتنة،
ورجاء تداول الخلافة في بطون قريش فلا يختص بها قوم دون قوم إلى غير
ذلك من الزخارف التي ذكروها، وكان عمر جريا على مخالفة الرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم) في زمانه كما خالفه في وقت مرضه لما أمر بإحضار الدواة
وقال: (هلم اكتب لكم كتابا لا تضلون بعدي أبدا) فقال: إنه ليهجر
حسبنا كتاب الله، وإن الحاضرين افترقوا فصوب رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) فريق، وصوب عمر فريق، وهذا من اغرب الأمور، فمن
بلغت همته إلى مثل هذا كيف يبعد عليه رد نص النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) بعد موته على علي (عليه السلام) بالخلافة؟ ومن كان ينكر عليه
ذلك؟ مع أن ذاك أشد من مخالفة النص في الخلافة وأفضع، على أن الرجل
ما أهمل نفسه، بل أعد لذلك أعذارا وذلك أنه قال لقوم عرضوا له بحديث
النص: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) رجع عن ذلك بأمره أبا
بكر بالصلاة وأوهمهم أن ذلك يجري مجرى النص عليه بالخلافة، وقال يوم
السقيفة: رضيك رسول الله لديننا أفلا نرضاك لدنيانا؟ وأعانه على مثل ذلك
قوم افتعلوا كذبا كافتعاله وجعلوه كالناسخ لقول النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) (من كنت مولاه فهذا علي مولاه) فكان حال الصلاة والكعبة
والصوم والحج غير حال الخلافة.

524
قال ابن أبي الحديد بعد سرد كلام النقيب جميعه: إن النقيب لم يكن
إمامي المذهب، ولا كان يبرء من السلف، ولا يرتضي قول المسرفين من
الشيعة، ولكنه كلام أجراه على لسانه البحث والجدل بيني وبينه انتهى (1).
قلت: وأكثره وإن كان على قواعد القوم منطبقا وإنه كلام من يحملهم
على الخير لكنه كاف في دفع الاستبعاد واف بالمراد، وإلا فالوجه في مثل هذا
ما قدمناه من أن القوم كانوا يخالفون النبي (صلى الله عليه وآله) فيما
يحصل لهم فيه غرض دنيوي، لأنهم طلبوا الدنيا دون محض الدين وإقامتهم
على دعوة الإسلام إنما هي لحصول الغرض الأعظم هي الرئاسة الكبرى فما
كان يخرجهم في ظاهر الحال عند عامة المسلمين من الإسلام كترك الصلاة،
وتغيير القبلة، وأشباه ذلك لا يردون نص الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) عليه حفظا لأنفسهم من أن ينسبوا إلى الردة فترضخ رؤوسهم
بالجندل، أو يرجعوا أذنابا ويملكهم غيرهم، إن وافقهم الناس على تغيير
الشريعة، وما لم يكن بهذه المنزلة من الأمور الدينية والدنيوية فكثيرا ما غيروه
وبدلوه وادخلوا فيه ما ليس منه كالوضوء وما ادخلوا فيه من غسل الرجلين
والمسح على الخفين وغير ذلك، وكما أسقطوا من الأذان ما أسقطوا وزادوا فيه
ما زادوا أو كتحريم المتعتين وتجويز صوم شهر رمضان للمسافر وغير ذلك من
الأحكام التي غيروها في أبواب العبادات والمعاملات والمواريث والسياسات مما
يطول بذكره الكلام، ومن نظر كتب الفقه والحديث اطلع على ذلك، ثم إن
الأولين كانا بمكان مكين من البصيرة في الأمور الدنيوية فلازما مع ذلك كله ما
يصلحهما عند العامة، وواظبا على ما يوجب لهما صرف قلوب الخاصة،
فظلفا أنفسهما عن الملاذ الظاهرية، وعن الرغبة في المال وسلكا مسلك الزهد



(1) شرح نهج البلاغة 12 / 19 ولا يخفى أن ما نقله المؤلف من كلام النقيب هنا هو زبدة
كلام النقيب كما أشار إلى ذلك.
525
والقناعة، وأظهرا الخشوع والورع، وعمدا إلى من تقبل قوله العامة ومن
ينتصرون به إن خاصمهم مخاصم في أمر الخلافة فحملوهم على الرقاب،
وولوهم الولايات والأعمال، ووفروهم في العطاء، وحثوا لهم الأموال حثوا،
وأغمضوا عنهم في الحدود، وأسقطوا عنهم عقوبات الجنايات بالمدافعة
والرأي، فلذا أطيعا وبجلا في الحياة والممات، ولم يكن الثالث كذلك، بل
أراد أن يسلك مسلك الملوك مع ادعائه أنه في مقام النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) فجرى عليه ما جرى ولو أنهما فعلا مثل فعله لأصابهما مثل ما أصابه،
فليسا بأعز ناصرا منه، ولا أكثر نفرا، ولو فعل مثلما فعلا لنال من طاعة
العامة ما نالا، ولماذا لم يفرق ابن أبي الحديد بين أمر الخلافة وما يتعلق بها
من الأغراض الدنيوية، والشهوات النفسية، ولم يستلزم مخالفة النص فيها
الخروج عن الملة سند جمهور الصحابة، بل تزيد تقوية في الدين عندهم وبين
تغيير الكعبة وشهر رمضان الذي يوجب عند كافة المسلمين الارتداد والخروج
من دين الإسلام مع أنه لا يتعلق لهم به غرض، ولا يوجب لهم صلاح أمر
لو سلموا من الضرر إذا فعلوه، ألا تراهم إذا أمنوا في تحويل المقام عن
موضعه حولوه فاستبعد منهم تغيير النص في الخلافة كما استبعد
منهم تغيير الكعبة التي كان أهل الجاهلية يعظمونها ويهدون الهدي إليها فضلا
عن المسلمين، وشهر رمضان الذي هو عند أهل الإسلام بمنزلة الصلاة تارك
صومه كافر وأين هذا من ذاك؟ وهل يرتاب لبيب في الفرق بين الأمرين أو
يشك فطن في أن ما يتعلق بالخلافة من الأغراض غير ما يتعلق بالكعبة وشهر
رمضان؟ ثم اترك ذا جانبا واقض عجبا من ابن أبي الحديد فإنه يسمع من
يقول إنا ظلمنا عليا وغصبنا حقه لأنه صغير السن أو كذا مما ذكر فيجيبه بنفي
هذا الاعتراف ويقول: أنا استبعد منك ذلك كما استبعد منك أن تترك
الصلاة والصوم، أو تصلي لغير الكعبة، وهذه الشبهة الضئيلة المتهافتة هي
أيضا معتمد الأشاعرة في إنكار النص كما هي معتمد المعتزلة، وفي بعض

526
كلام القوشجي الذي نقلناه عنه سابقا إليها إشارة بينة، وهذا معتمد ضعيف
ومستند واه، لأن الاستبعاد ليس دليلا في نفسه فكيف يعارض به الدليل
القاطع بل يرجح عليه ولو عارضنا بالاستبعاد والاستغراب الأدلة الشرعية
لارتفع أكثر الشريعة لغرابته مثل الطواف والاحرام والسعي والهرولة، ورمي
الجمار، ولذا أنكره الزنادقة بأن الحكيم لا يأمر بمثل هذه الأفعال، والسجود
في الصلاة والوضوء لها ولذا أنكرها المشركون لاشتمالها على السجود وفيه
اعتلاء الأست على الرأس، وهو مستغرب وغير ذلك مما يعرفه المتتبع مما لا
يسع المقام ذكره، فبطل ما اعتمدوا عليه في إنكار النص من الاستبعاد
وثبت وجود النص من النبي (صلى الله عليه وآله) على علي (عليه
السلام) بالإمامة صريحا، وإنهم قد خالفوه وهو المراد وهذا آخر الطريق
الثاني.
وأما الطريق الثالث: وهو ظهور المعجز على يد علي (عليه السلام)
فمعروف مشهور ومعاجزة كثيرة.
فمنها: قلع باب خيبر وعجز عن حمله سبعون رجلا من الأقوياء. (1).
ومنها مخاطبة الثعبان على منبر الكوفة فسأل عنه فقال: إنه من حكام
الجن أشكل عليه مسألة فأجبته عنها (2).



(1) قلع علي (عليه السلام) لباب خيبر مروية في أكثر كتب السيرة النبوية والتاريخ نذكر
منها تاريخ الطبري في حوادث سنة 8، مسند الإمام أحمد ج 6 ص 8 والرياض
النضرة 2 / 88 وفيه اجتمع عليه سبعون رجلا فكان جهدهم أن أعادوا الباب "
وتاريخ الخطيب البغدادي 11 / 304 وفيه " وإنهم جربوه بعد ذلك فلم يحمله إلا
أربعون رجلا ". الخ.
(2) مخاطبة علي (عليه السلام) للثعبان ممكنة لا يمكن من يؤمن بالقرآن ردها خصوصا إذا
نظر إلى ما قصه الله علينا من قصص سليمان بن داود (عليه السلام) وكيف أن
(الذي عنده علم من الكتاب آتاه) الله ما لم يؤت عفريتا من الجن وعلي باب مدينة
علم سيد الأنبياء كما صح ذلك من طرف جمهرة علماء المسلمين، فلماذا نؤمن ببعض
الكتاب ونكفر ببعض! على أنه لا أثر لأمثال هذه الرواية في ردها وقبولها وصحتها
وعدم صحتها في العقيدة الحقة، والمذهب السليم.
527
ومنها رفع الصخرة العظيمة عن القليب وذلك أنه لما توجه إلى صفين مع
أصحابه أصابهم عطش عظيم، فأمرهم أن يحفروا بقرب دير فوجدوا صخرة
عظيمة عجزوا عن نقلها فنزل علي (عليه السلام) فاقتلعها ورمى بها مسافة
بعيدة فظهر قليب فيه ماء فشربوا، ثم أعادها ولما رأى ذلك صاحب الدير
أسلم (1).
ومنها محاربة الجن فقد روي أن جماعة من الجن أرادوا وقوع الضرر
بالنبي (صلى الله عليه وآله) حين مسيره إلى بني المصطلق فرد علي
(عليه السلام) كيدهم بما آتاه الله سبحانه (2).
ومنها رد الشمس له لما كان رأس النبي (صلى الله عليه وآله) في
حجره والوحي ينزل عليه وعلي لم يصل العصر، فما سرى عن النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) إلا وقد غربت الشمس فقال (صلى الله عليه وآله
وسلم): (اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس)
فطلعت الشمس بعد ما غربت فصلى العصر، قال في إسعاف الراغبين:
وحديث ردها صححه الطحاوي والقاضي في الشفاء، وحسنه شيخ الإسلام
أبو زرعة وتبعه غيره، وردوا على جمع قالوا إنه موضوع، وزعم فوات الوقت
بغروبها فلا فائدة لردها في محل المنع لعود الوقت بعودها كما ذكره ابن العماد
واعتمده غيره إلى أن قال: وعلى تسليم عدم عود الوقت نقول: كما أن



(1) انظر شرح نهج البلاغة 3 / 204 و 205.
(2) محاربة علي (عليه السلام) للجن ذكر شيئا منها ابن حجر في الإصابة 4 / 235
والكلام فيها كالكلام في مخاطبته (عليه السلام) للثعبان.
528
ردها خصوصية كذلك إدراك العصر أداء له خصوصية (1) انتهى.
أقول واعترف بحديث رد الشمس ابن أبي الحديد حتى نظمه في أشعاره
في مدح أمير المؤمنين (2) واعترف به القوشجي وبجميع ما ذكرناه وما نذكره
من المعاجز، وقول بعض العامة: لو كانت الشمس طلعت بعد ما غابت
لكان ذلك معلوما لكل الناس يشبه قول منكري انشقاق القمر للنبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) بأنه لو وقع لعلمه كل الناس، وما يجيبون به عن هذا
هو جوابنا عن ذاك.
ومنها اقتلاعه هبل من أعلا الكعبة ورميه به إلى الأرض قال ابن أبي
الحديد: وكان عظيما جدا (3).
ومنها إخباره بالمغيبات وذلك كثير حصره مفصلا يحتاج إلى كتاب مفرد
كإخباره عن قاتله ووقت قتله، وإخباره عن قتل الحسين (عليه السلام) في
كربلاء (4) وقوله في الخوارج: (إن مناياهم دون النهر والله لا يفلت منهم
عشرة ولا يقتل منا عشرة) وكإخباره عن ملك بني أمية، وإن له مدة
يسيرة (5) وعن ملك بني العباس (6) وإخباره جماعة من أصحابه بما يصيب كل
واحد منهم، وبأي قتلة يقتل كعمرو بن الحمق الخزاعي (7) وحجر بن عدي



(1) إسعاف الراغبين ص 162.
(2) بقوله.
يا من له ردت ذكاء ولم يفز * بنظيرها من قبل إلا يوشع
(3) شرح نهج البلاغة 1 / 21.
(4) أيضا 3 / 69 / و 7 / 48.
(5) أيضا تكرر ذلك في كلامه وخطبة في نهج البلاغة وغيرها.
(6) أيضا 7 / 48.
(7) أيضا 2 / 289 و 10 / 15.
529
الكندي (1) ورشيد الهجري (2) وجورية بن مسهر العبدي (3) وميثم
التمار (4) ومزرع (5) وقنبر (6) وغيرهم، وكإخباره عن الحجاج
وما يعمل في الكوفة (7) وإخباره أنه يضرب عنق أعشى باهلة (8) وإخباره
عن خراب البصرة على يد الزنج (9). وعن غرقها إلا الجامع،
وعن واقعة الترك (10) وسلامة أهل العراق منهم،
وعن القرامطة، وأخذهم الحجر الأسود من الكعبة (11)
وعن ملك بني بويه وأنه مائة سنة (12) وغير ذلك من الملاحم والوقائع
والحوادث المتفرقة مما يطول تعداده وقد اشتملت كتب المناقب والسير
والتواريخ عليه واشتمل كلامه المجموع في نهج البلاغة على كثير منه، ولنذكر
طرفا من الأخبار الواردة في هذا الباب لنزيد بها شرف هذا الكتاب المحتوي
على إثبات إمامة أهل بيت النبي الأنجاب، فنقول:



(1) كان (عليه السلام) قال له لما ضربه ابن ملجم: (كيف بك لو دعيت إلى البراءة مني
فكان كما قال (سلام الله عليه) والقصة مشهورة.
(2) أيضا 2 / 294.
(3) أيضا 2 / 290.
(4) أيضا 2 / 291.
(5) أيضا 2 / 249.
(6) قنبر مولى علي (عليه السلام) قتله الحجاج وكان علي (عليه السلام) قد أخبره بذلك.
(7) شرح نهج البلاغة 7 / 48.
(8) أيضا 2 / 289.
(9) أيضا 7 / 48 و 8 / 125 فما بعدها.
(10) أيضا 8 / 215 فما بعدها.
(11) انظر تفصيل ذلك في تاريخ الكوفة للبراقي.
(12) شرح نهج البلاغة 7 / 48.
530
قال ابن أبي الحديد: ذكر المدائني في كتاب الخوارج قال: لما خرج علي
(عليه السلام) إلى أهل النهر أقبل رجل من أصحابه ممن كان على مقدمته
يركض حتى انتهى إلى علي (عليه السلام)، فقال: البشرى يا أمير
المؤمنين، قال: ما بشراك؟ قال: إن القوم عبروا النهر لما بلغهم وصولك
فأبشر فقد منحك الله أكتافهم، فقال له: الله أنت رأيتهم قد عبروا؟
قال: نعم، فأحلفه ثلاث مرات في كلها يقول: نعم، فقال علي (عليه
السلام): (والله ما عبروه ولن يعبروه وإن مصارعهم لدون النطفة،
والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لن يبلغوا إلا ثلاث ولا قصر بوران حتى يقتلهم
الله، وقد خاب من افترى) قال: ثم أقبل فارس آخر يركض فقال كقول
الأول، فلم يكترث علي (عليه السلام) بقوله، وجاءت الفرسان تركض
كلها تقول مثل ذلك، فقام علي فجال في متن فرسه قال: فيقول شاب من
الناس والله لأكونن قريبا منه فإن كانوا عبروا النهر لأجعلن سنان هذا الرمح
في عينيه، أيدعي علم الغيب؟ فلما انتهى (عليه السلام) إلى النهر وجد
القوم قد كسروا جفون سيوفهم، وعرقبوا خيلهم، وجثوا على ركبهم،
وحكموا تحكيمة واحدة بصوت عظيم له زجل، فنزل ذلك الشاب فقال: يا
أمير المؤمنين إني كنت شككت فيك آنفا، وإني تائب إلى الله وإليك فاغفر
لي، فقال علي (عليه السلام): (إن الله هو الذي يغفر الذنوب
فاستغفره) (1) وقال المعتزلي: وروى جميع أهل السيرة أن عليا (عليه
السلام) لما طحن القوم طلب ذا الثدية طلبا شديدا وقلب القتلى ظهرا لبطن
فلم يقدر عليه، فساءه ذلك، وجعل يقول: (والله ما كذبت ولا كذبت
اطلبوا الرجل وإنه لفي القوم) فلم يزل يتطلبه حتى وجده.
قال: وروى إبراهيم بن ديزيل في كتاب صفين عن الأعمش عن



(1) أيضا 1 / 271
531
زيد بن وهب قال لما شجرهم علي (عليه السلام) بالرماح قال: (اطلبوا ذا
الثدية) فطلبوه طلبا شديدا حتى وجده في وهدة من الأرض تحت ناس من
القتلى فأتى به، فإذا رجل على ثدية مثل سبلات السنور، فكبر علي (عليه
السلام) وكبر الناس معه سرورا بذلك.
وروي في صفة استخراجه غير ذلك روى العوام بن حوشب عن أبيه عن
جده يزيد بن رويم قال: قال علي (عليه السلام): (يقتل اليوم أربعة
آلاف من الخوارج أحدهم ذو الثدية فاتبعه) فلما طحن القوم ورام استخراج
ذي الثدية فاتبعه أمرني أن اقطع له أربعة آلاف قصبة، وركب بغلة رسول
الله (صلى الله عليه وآله) وقال: (اطرح على كل قتيل منهم قصبة)
فلم أزل كذلك وأنا بين يديه وهو راكب خلفي والناس يتبعونه حتى بقيت في
يدي واحدة فنظرت إليه فإذا وجهه أربد وإذا هو يقول: (والله ما كذبت ولا
كذبت) فإذا خرير ماء عند موضع دالية (1) فقال: فتش هذا ففتشته،
فإذا قتيل قد صار في الماء وإذا رجله في يدي فجذبتها وقلت: هذه رجل
إنسان فنزل عن البغلة مسرعا فجذب الرجل الأخرى وجررناه حتى صار على
التراب فإذا هو المخدج فكبر علي (عليه السلام) بأعلا صوته ثم سجد،
فكبر الناس كلهم (2).
وروي أيضا في استخراجه غير ذلك.
قال وروى ابن هلال الثقفي في كتاب الغارات عن زكريا بن يحيى
العطار عن فضيل عن محمد بن علي قال قال لما قال: علي (عليه السلام):
(سلوني قبل أن تفقدوني فوالله لا تسئلوني عن فئة تضل مائة وتهدي مائة ما



(1) أيضا 2 / 267 و 276.
(2) شرح نهج البلاغة 2 / 275.
532
إلا أنبأتكم بناعقها وسائقها) فقام إليه رجل فقال: أخبرني كم في رأسي
ولحيتي من طاقة شعر فقال له علي (عليه السلام). لقد حدثني خليلي إن على
كل طاقة شعر من رأسك ملكا يلعنك وإن على كل طاقة من شعر من
لحيتك شيطانا يغويك، وإن في بيتك سخلا يقتل ابن رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) وكان ابنه قاتل الحسين يومئذ طفلا يحبو وهو سنان بن أنس
النخعي (1).
وروى الحسن بن محبوب عن ثابت الثمالي عن سويد بن غفلة أن عليا
(عليه السلام) خطب ذات يوم فقام رجل من تحت منبره فقال يا أمير
المؤمنين إني مررت بوادي القرى فوجدت خالد بن عرفطة قد مات فاستغفر
له فقال (عليه السلام) والله ما مات ولا يموت حتى يقود جيش ضلالة
صاحب لوائه حبيب بن حمار فقام رجل آخر من تحت المنبر فقال يا أمير
المؤمنين أنا حبيب بن حمار وإني لك شيعة ومحب فقال أنت حبيب بن حمار قال
نعم فقال له ثانية والله إنك لحبيب بن حمار فقال إي والله قال أما والله إنك
لحاملها ولتحملنها ولتدخلن بها من هذا الباب وأشار إلى باب الفيل بمسجد
الكوفة قال ثابت فوالله ما مت حتى رأيت ابن زياد وقد بعث عمر بن سعد
إلى الحسين بن علي (عليه السلام) وجعل خالد بن عرفطة على مقدمته
وحبيب بن حمار صاحب رايته فدخل بها من باب الفيل (2).
وروى محمد بن جبلة الخياط عن عكرمة عن زيد الأحمسي أن عليا (عليه
السلام) كان جالسا في مسجد الكوفة بين يديه قوم منهم عمرو بن حريث إذ
أقبلت امرأة مختمرة لا تعرف فوقفت فقالت لعلي (عليه السلام) يا من قتل
الرجال وسفك الدماء وأيتم الصبيان وأرمل النساء فقال (عليه السلام) وإنها



(1) أيضا 2 / 286.
(2) أيضا 2 / 287.
533
لهي هذه السلقلق الجلعة المجعة (1). وإنها لهي هذه شبيهة الرجال والنساء
التي ما رأت دما قط قال فولت هاربة منكسة رأسها فتبعها عمرو بن حريث.
فلما صارت بالرحبة قال لها والله لقد سررت بما كان منك اليوم إلى هذا
الرجل فادخلي منزلي حتى أهب لك وأكسوك فلما دخلت منزلة أمر جواريه
بتفتيشها وكشفها ونزع ثيابها لينظر صدقه فيما قاله عنها فبكت وسألته أن لا
يكشفها وقالت أنا والله كما قال لي ركب النساء وأنثيان كأنثي الرجال وما
رأيت دما قط فتركها وأخرجها ثم جاء إلى علي (عليه السلام) فأخبره فقال
إن خليلي رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخبرني بالمتمردين علي من
الرجال والمتمردات من النساء إلى أن تقوم الساعة.
وروى عثمان بن سعيد عن يحيى التيمي عن الأعمش عن إسماعيل بن
رجا قال قام أعشى باهلة وهو غلام يومئذ حدث إلى علي (عليه السلام) وهو
يخطب ويذكر الملاحم، فقال: يا أمير المؤمنين ما أشبه هذا الحديث بحديث خرافة
فقال (عليه السلام) إن كنت آثما فيما قلت يا غلام فرماك الله بغلام ثقيف،
ثم سكت، فقام رجال وقالوا: ومن غلام ثقيف يا أمير المؤمنين؟ قال:
غلام يملك بلدتكم هذه لا يترك لله حرمة إلا انتهكها، يضرب عنق هذا
الغلام بسيفه، فقالوا: كم يملك يا أمير المؤمنين؟ قال: عشرين إن
بلغها، قالوا: فيقتل قتلا أم يموت موتا؟ قال: بل يموت حتف أنفه بداء
البطن يثقب سريره لكثرة ما يخرج من جوفه، قال إسماعيل بن رجا: فوالله
لقد رأيت بعيني أعشى باهلة وقد أحضر في جملة الأسرى الذين أسروا من
جيش عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بين يدي الحجاج، فقرعه ووبخه،
واستنشده شعره الذي يحرض فيه عبد الرحمن على الحرب، ثم ضرب عنقه



(1) قال ابن أبي الحديد: " السلقلقة: السليطة، وأصله من السلق وهو الذئب،
والسلقة: الذئبة، والجلعة المجعة: البذية اللسان، والركب: موضع العانة ".
534
في ذلك المجلس (1).
روى محمد بن علي الصواف عن الحسين بن سفيان عن أبيه عن شهر بن
سدير الأزدي قال: قال علي لعمرو بن الحمق الخزاعي: أين نزلت يا
عمرو؟ قال: في قومي قال: لا تنزلن فيهم، قال: فأنزل في بني كنانة
جيراننا، قال: لا قال: فأنزل في ثقيف، قال: فما تصنع بالمعرة والمجرة
قال: وما هما؟ قال: عنقان من نار يخرجان من ظهر الكوفة يأتي أحدهما
على تميم وبكر بن وائل، فقل ما يفلت منه أحد، ويأتي العنق الآخر فيأخذ
على الجانب الآخر من الكوفة فقل من يصيب منهم، إنما تدخل النار فتحرق
البيت والبيتين قال: فأين أنزل؟ قال: انزل في بني عمرو بن عامر من
الأزد، قال: فقال قوم حضروا هذا الكلام: ما نراه إلا كاهنا يتحدث
بحديث الكهنة، فقال: يا عمرو إنك لمقتول بعدي وإن رأسك لمنقول وهو
أول رأس نقل في الإسلام، والويل لقاتلك، أما إنك لا تنزل بقوم إلا
أسلموك برمتك إلا هذا الحي من بني عمر بن عامر من الأزد فإنهم لن
يسلموك ولن يخذلوك، قال: فوالله ما مضت الأيام حتى تنقل عمرو بن الحمق
في خلافة معاوية في بعض أحياء العرب خائفا مذعورا حتى نزل في قومه من
بني خزاعة فأسلموه فقتل، وحمل رأسه من العراق إلى معاوية بالشام وهو أول
رأس حمل في الإسلام من بلد إلى بلد (2).
وروى إبراهيم بن ميمون الأزدي عن حبة العرني قال: كان جويرية بن
مصهر العبدي صالحا، وكان لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) صديقا،
وكان علي يحبه، ونظر يوما إليه وهو يسير فناداه: يا جويرية الحق بي فإني إذا
رأيتك هويتك، قال إسماعيل بن أبان فحدثني الصباح عن مسلم العرني قال:



(1) شرح نهج البلاغة 2 / 289.
(2) أيضا 2 / 290.
535
سرنا مع علي (عليه السلام) يوما فالتفت فإذا جويرية خلفه فناداه: يا
جويرية الحق بي لا أبا لك ألا تعلم أني أهواك وأحبك؟ قال: فركض نحوه
فقال له: إني محدثك بأمور فاحفظها، ثم اشتركا في الحديث سرا فقال له
جويرية: يا أمير المؤمنين إني رجل نسي فقال: أنا أعيد عليك الحديث
لتحفظه، ثم قال له في آخر ما حدثه إيه: يا جويرية أحب حبيبنا ما أحبنا
فإذا أبغضنا فأبغضه، وأبغض بغيضنا ما أبغضنا فإذا أحبنا فأحبه، قال:
فكان ناس ممن يشك في أمر علي (عليه السلام) يقولون: أتراه جعل
جويرية وصيه كما يدعي هو من وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) قال: يقولون ذلك لشدة اختصاصه به حتى دخل على علي (عليه
السلام) يوما وهو مضطجع وعنده قوم من أصحابه فناداه جويرية: أيها
النائم استيقظ فلتضربن على رأسك ضربة تخضب منها لحيتك، قال: فتبسم
أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: وأحدثك يا جويرية بأمرك، أما والذي
نفسي بيده لتقبلن إلى العتل الزنيم فليقطعن يدك ورجلك وليصلبنك تحت
جذع كافر قال: فوالله ما مضت الأيام على ذلك حتى أخذ زياد جويرية
فقطع يده ورجله وصلبه إلى جانب جذع بن مكعبر، وكان جذعا طويلا
فصلبه على جذع قصير إلى جانبه (1).
وروى إبراهيم في كتاب الغارات عن أحمد بن الحسن الميثمي قال: كان
ميثم التمار مولى علي بن أبي طالب عبدا لامرأة من بني أسد فاشتراه علي
(عليه السلام) منها وأعتقه، وقال له: ما اسمك؟ فقال: سالم، فقال:
إن رسول الله أخبرني أن اسمك الذي سماك به أبوك في العجم ميثم،
فقال: صدق الله ورسوله وصدقت يا أمير المؤمنين فهو والله اسمي، قال:
فارجع إلى اسمك ودع سالما فنحن نكنيك به، فكناه أبا سالم قال: وقد كان



(1) أيضا 2 / 290.
536
قد اطلعه علي (عليه السلام) على علم كثير وأسرار خفية من أسرار
الوصية، فكان ميثم يحدث ببعض ذلك فيشك فيه قوم من أهل الكوفة
وينسبون عليا (عليه السلام) في ذلك إلى المخرفة والايهام والتدليس، حتى
قال له يوما بمحضر من خلق كثير من أصحابه وفيهم الشاك والمخلص: يا
ميثم إنك تؤخذ بعدي وتصلب فإذا كان اليوم الثاني ابتدر منخراك وفمك دما
حتى يخضب لحيتك فإذا كان اليوم الثالث طعنت بحربة يقضي عليك فانتظر
ذلك والموضع الذي تصلب على باب دار عمرو بن حريث إنك لعاشر عشرة
أنت أقصرهم خشبة وأقربهم من المطهرة يعني الأرض ولأرينك النخلة التي
تصلب على جذعها ثم أراه إياها بعد ذلك بيومين، وكان ميثم يأتيها فيصلي
عندها ويقول: بوركت من نخلة لك خلقت ولي نبت، فلم يزل يتعاهدها
بعد قتل علي (عليه السلام) حتى قطعت فكان يرصد جذعها ويتعاهده
ويتردد إليه ويبصره، وكان يلقي عمرو بن حريث فيقول له: إني مجاورك
فأحسن جواري، فلم يعلم عمرو ما يريد فيقول له: أتريد أن تشتري دار
ابن مسعود أم دار ابن حكيم؟ قال: وحج في السنة التي قتل فيها فدخل
على أم سلمة (رضي الله عنها) فقالت له: من أنت قال: عراقي،
فاستنسبته فذكر لها أنه مولى علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقالت: أنت
هيثم قال: بل أنا ميثم، فقالت: سبحان الله، والله لربما سمعت رسول
الله (صلى الله عليه وآله) يوصي بك عليا (عليه السلام)، في جوف
الليل فسألها عن الحسين بن علي (عليه السلام)، فقالت: هو في حائط
له، قال: أخبريه أني قد أحببت السلام عليه ونحن ملتقون عند رب العالمين
إن شاء الله ولا أقدر اليوم على لقائه وأريد الرجوع، فدعت بطيب فطيبت
لحيته، فقال لها: أما إنها ستخضب بدم، فقالت: من أنبأك هذا؟ قال:
أنبأني سيدي، فبكت أم سلمة وقالت له: إنه ليس بسيدك وحدك وهو
سيدي وسيد المسلمين، ثم ودعته، فقدم الكوفة فأخذ وأدخل على

537
عبيد الله بن زياد، وقيل له: هذا كان من آثر الناس عند أبي تراب،
قال: ويحكم هذا الأعجمي، قالوا: نعم، قال له عبيد الله: أين ربك،
قال: بالمرصاد، قال: قد بلغني اختصاص أبي تراب بك، قال: قد كان
بعض ذلك فما تريد؟ قال: وإنه ليقال إنه قد أخبرك بما سيلقاك، قال:
نعم إنه أخبرني، قال: ما الذي أخبرك إني صانع بك؟ قال: أخبرني إنك
تصلبني عاشر عشرة وأنا أقصرهم خشبة وأقربهم من المطهرة، قال:
لأخالفنه، قال: ويحك كيف تخالفه إنما أخبر عن رسول الله، وأخبر رسول
الله (صلى الله عليه وآله) عن جبرئيل، وأخبر جبرئيل عن الله،
فكيف تخالف هؤلاء؟ أما والله لقد عرفت الموضع الذي أصلب فيه أين هو
من الكوفة، وإني لأول خلق الله ألجم في الإسلام بلجام كما تلجم الخيل،
فحبسه وحبس معه المختار بن أبي عبيدة الثقفي، فقال ميثم للمختار وهما في
حبس ابن زياد: إنك تفلت وتخرج ثائرا بدم الحسين (عليه
السلام) فتقتل هذا الجبار الذي نحن في حبسه، وتطأ بقدمك هذا على
جبهته وخديه، فلما أمر عبيد الله بن زياد بالمختار ليقتله طلع البريد بكتاب
يزيد بن معاوية إلى عبيد الله بن زياد يأمره بتخلية سبيله، وذاك أن أخته
كانت تحت عبد الله بن عمر بن الخطاب فسألت بعلها أن يشفع فيه إلى يزيد
فشفع، فأمضى شفاعته وكتب بتخلية سبيل المختار على البريد وقد أخرج
لتضرب عنقه فأطلق، وأما ميثم فأخرج بعده ليصلب، وقال عبيد الله:
لأمضين حكم أبي تراب فيه، فلقيه رجل فقال له ما كان أغناك عن هذا يا
ميثم فتبسم، وقال لها خلقت ولي غذيت فلما رفع على الخشبة اجتمع الناس
حوله على باب عمرو بن حريث، فقال عمر: ولقد كان يقول لي إني مجاورك
فكان يأمر جاريته كل عشية أن تكنس تحت خشبة وترشه وتجمر بالمجمر
تحته، فجعل ميثم يحدث بفضائل بني هاشم ومخازي بني أمية وهو مصلوب
على الخشبة، فقيل لابن زياد: قد فضحكم هذا العبد، فقال: الجموه،

538
فكان أول خلق الله الجم في الإسلام، فلما كان في اليوم الثاني فاضت منخراه
وفمه دما، فلما كان في اليوم الثالث طعن بحربة فمات، وكان قتل ميثم قبل
قدوم الحسين (عليه السلام) العراق بعشرة أيام (1).
قال إبراهيم:
وحدثني إبراهيم بن العباس النهدي قال حدثني مبارك البجلي عن أبي
بكر بن عياش قال: حدثني مجالد عن الشعبي عن زياد بن النضر الحارثي
قال: كنت عند زياد وقد أتي برشيد الهجري وكان من خواص أصحاب علي
(عليه السلام) فقال له زياد: ما قال خليلك لك إنا فاعلون بك؟ قال:
تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني، فقال زياد: أما والله لأكذبن حديثه،
خلوا سبيله، فلما أراد أن يخرج قال ردوه لا نجد شيئا أصلح مما قال لك
صاحبك إنك لا تزال تبغي لنا سوءا إن بقيت اقطعوا يديه ورجليه، فقطعوا
يديه ورجليه وهو يتكلم فقال: اصلبوه خنقا في عنقه، فقال رشيد: قد بقي
لي عندكم شئ ما أراكم فعلتموه، فقال زياد: اقطعوا لسانه فلما أخرجوا
لسانه ليقطع قال: نفسوا عني أتكلم كلمة واحدة فنفسوا عنه، فقال هذا
والله تصديق خبر أمير المؤمنين (عليه السلام) أخبرني بقطع لساني فقطعوا
لسانه وصلبوه (2).
وروى أبو داود الطيالسي عن سليمان بن زريق عن عبد العزيز بن
صهيب قال حدثني أبو العالية قال: حدثني مزرع صاحب علي بن أبي طالب
(عليه السلام) أنه قال: ليقبلن جيش حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم،
قال أبو العالية: فقلت له إنك لتحدثني بالغيب! فقال: احفظ ما أقوله لك
فإنما حدثني به الثقة علي بن أبي طالب (عليه السلام) وحدثني أيضا شيئا



(1) أيضا 2 / 291.
(2) أيضا 2 / 294.
539
آخر: (ليؤخذن رجل فليقتلن وليصلبن بين شرفتين من شرف المسجد)
فقلت: إنك لتحدثني بالغيب! فقال: احفظ ما أقول لك، قال أبو
العالية: فوالله ما أتت علينا جمعة حتى أخذ مزرع فقتل وصلب بين شرفتين
من شرف المسجد (1).
وروى محمد بن موسى العنزي قال: كان مالك بن ضمرة الرواسي من
أصحاب علي (عليه السلام) وممن استبطن من جهته علما كثيرا وكان أيضا
قد صحب أبا ذر فأخذ من علمه وكان يقول في أيام بني أمية: اللهم لا
تجعلني أشقى الثلاثة، فيقال له: وما الثلاثة فيقول رجل يرمي من فوق
طمار، ورجل تقطع يداه ورجلاه ولسانه ويصلب، ورجل يموت على
فراشه، فكان من الناس من يهزأ به ويقول: هذا من أكاذيب أبي تراب
قال: وكان الذي رمى به من طمار هاني بن عروة، والذي قطع وصلب
رشيد الهجري، ومات مالك على فراشه (2).
وقال نصر بن مزاحم: وحدثنا منصور بن سلام التميمي عن أبي عبيدة
عن هرثمة بن سليم، قال: غزونا مع علي (عليه السلام) صفين فلما نزل
بكربلاء صلى بنا فلما سلم رفع إليه من تربتها فشمها ثم قال: واها لك يا
تربة ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب، قال: فلما رجع هرثمة
من غزاته إلى امرأته جرداء بنت شمير وكانت من شيعة علي (عليه السلام)
حدثها هرثمة فيما حدث فقال لها: ألا أعجبك من صديقك أبي حسن لما
نزلنا كربلاء وقد أخذ حفنة من ترابها فشمها وقال: واها لك أيتها التربة
ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب وما علمه بالغيب فقالت المرأة
له: دعنا منك أيها الرجل إن أمير المؤمنين لم يقل إلا حقا، قال: فلما بعث



(1) أيضا 2 / 294.
(2) أيضا 2 / 295.
540
عبيد الله بن زياد البعث الذي بعثه إلى الحسين (عليه السلام) كنت في الخيل
الذي بعث إليهم، فلما انتهيت إلى الحسين وأصحابه عرفت المنزل الذي نزلنا
فيه مع علي (عليه السلام) والبقعة التي رفع إليه من تربتها والقول الذي قاله
فكرهت مسيري، فأقبلت على فرسي حتى وقفت على الحسين (عليه
السلام) فسلمت عليه وحدثته بالذي سمعت من أبيه في هذا المنزل، فقال
الحسين (عليه السلام) أمعنا أم علينا؟ فقلت: يا بن رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) لا معك ولا عليك تركت ولدي وعيالي أخاف عليهم من
ابن زياد؟ فقال الحسين: فول هربا حتى لا ترى مقتلنا فوالذي نفس حسين
بيده لا يرى اليوم مقتلنا أحد ثم لا يعيننا إلا دخل النار، قال: فأقبلت في
الأرض اشتد هربا حتى خفي على مقتلهم (1).
قال نصر: وحدثنا سعيد بن حكيم العبسي عن الحسن بن بكير عن
أبيه: إن عليا (عليه السلام) أتى كربلاء فوقف بها فقيل له: يا أمير
المؤمنين هذه كربلاء، فقال: ذات كرب وبلاء، ثم أومى بيده إلى مكان
فقال: ها هنا موضع رحالهم، ومناخ ركابهم، ثم أومى بيده إلى مكان آخر
فقال ها هنا مراق دمائهم ثم مضى إلى ساباط (2).
وروى قيس بن الربيع عن يحيى بن هاني المرادي عن رجل من قومه يقال
له: زياد بن فلان، قال: كنا في بيت مع علي نحن وشيعته وخواصه فالتفت
فلم ينكر منا أحدا، فقال: إن هؤلاء القوم سيظهرون عليكم فيقطعون
أيديكم، ويسملون أعينكم، فقال له رجل منا: وأنت حي يا أمير
المؤمنين، قال: أعاذني الله من ذلك، فالتفت فإذا واحد يبكي فقال له: يا
بن الحمقاء أتريد اللذات في الدنيا والدرجات في الآخرة إنما وعد الله



(1) أيضا 3 / 169 وصفين لنصر بن مزاحم 157.
(2) أيضا 3 / 17. وصفين 158.
541
الصابرين جميع ذلك ذكره ابن أبي الحديد في كتابه (1) وذكر غيره من هذا
الباب أضعافه فلنقتصر على ما ذكرناه لحصول الغرض به إذ لا منكر لهذا
الأمر من مطلعي الخصوم، وإذا كان علي (عليه السلام) ادعى الإمامة
وظهر المعجز على يديه وجب أن يكون إماما، لأنا قدمنا أن الإمامة تثبت
بالمعجز كما تثبت به النبوة.
وأجاب القوشجي عن هذا بعد اعترافه بصحته: بأنا لا نسلم أنه ادعى
الإمامة قبل أبي بكر ولو سلم فلا نسلم ظهور تلك الأمور في مقام التحدي.
أقول هذا الجواب تشبيه على الواضحات وتغطية للظاهرات فإن ادعاء
علي (عليه السلام) الإمامة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
واحتجاجه على الصحابة وتظلمه منهم إذ منعوه عن الخلافة بين مشهور،
وظاهر غير مستور، بل من متواترات الأمور، وقد سبق بيانه وسطع في
كلامنا المتقدم برهانه، وأشرقت شموسه وزهر تبيانه بحيث لا ينكره إلا
جاهل جاحد أو متعصب معاند.
وأما معجزاته، فمنها ما هو جار على سبيل الارهاص وهي التي في زمان
النبي (صلى الله عليه وآله) وأكثرها واقع بعد دعواه الإمامة فيكون
مقرونا بالتحدي، وكم كان يستدل على إمامته بذلك مثل قوله: (سلوني
قبل أن تفقدوني) (2) وقوله وهو شابك يديه على بطنه: (هذا سفط العلم



(1) أيضا 4 / 109.
(2) في الإستيعاب 3 / 40 عن سعيد بن المسيب قال: " ما كان أحد من الناس يقول:
سلوني غير علي بن أبي طالب " قال شيخنا الأميني في الغدير 6 / 195: " وما تفوه بهذا
المقال أحد بعد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلا وفضح ووقع في ربيكة وأماط بيده
الستر عن جهله المطبق " ثم ذكر (رحمه الله) نوادر وقعت لجماعة خانهم التوفيق
فتفوهوا بها ففضحوا أنفسهم، وظهر عجزهم وقد سئلوا عن أبسط المسائل أمثال
إبراهيم بن هشام المحزومي ومقاتل بن سليمان وقتادة وغيرهم.
542
هذا لعاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقوله (عليه السلام)
أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه) وقوله ما مضمونه
إن الله تعالى قال في طالوت: [إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم
والجسم] (1) فأوجب له التقدم عليهم بذلك، فهل ترون لمعاوية زيادة على علي
في العلم والجسم، ويكفي في ذلك قوله لأبي بكر وأصحابه: (فوالله يا
معشر المهاجرين لنحن أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم أما كان منا القارئ
لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بالسنة، المطلع بأمر الرعية، والله
إنه لفينا) أفليس هذا القول منه صريحا في دعواه الإمامة دون كل الناس
وتحديهم بالعلم وغيره، لكن الإعراض عن الحق والانصراف عن الحجة داء
لا دواء له، والله المستعان على ما يصفون، فظهر لك صحته ما قلناه
واندفاع جوابه، وأنت أيها الناظر المنصف إذا تأملت فيما حررناه وتبصرت
فيما سطرناه تبين لك أن مذهب الإمامية هو الحق الذي يحق اتباعه، قد أيدته
الآيات القرآنية، ونصرته الأخبار النبوية، وعضدته الأدلة الاعتبارية؟
وساعدته البراهين العقلية، والحمد لله على هدايته إيانا للحق الواضح
والطريق القويم وتوفيقه إيانا لنهج الصواب.



(1) سورة البقرة آية: 247.
543
سؤال وجواب
إن قال قائل: إنكم حكمتم بأن عليا (عليه السلام) هو إمام الحق بعد
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنصه عليه وأنهم قد ظلموه وردوا نص
النبي (صلى الله عليه وآله) عليه بغير حجة ولا برهان، وهذا عندكم
رجوع على الأعقاب وخروج من الحق إلى الضلال، فما الذي منع أمير
المؤمنين من قتلهم وقتالهم مع أنه عندكم أشجع الخلق، وغيركم أيضا مقر
بشجاعته وأنتم تقولون لو قاتله أهل الأرض كلهم لغلبهم، والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر واجب؟ فإذ حكمتم بضلالهم لزمكم الحكم بخطأ علي
(عليه السلام) في ترك جهادهم، وعدوله عن قتالهم كما فعل بالناكثين
والقاسطين والمارقين، والحكم بصحة ما فعلوه قلنا له، لهذا السؤال وجوه
متعددة من الأجوبة كل منها كاف في دفعه وشاف في رفعه.
الأول أن عليا (عليه السلام) عندنا كما ذكرت من الشجاعة إلا أنه مع
ذلك لا يمكنه الجهاد بنفسه ولا القتال بمفرده لأنه بشر مكلف، وله شواغل
من الضروريات البدنية كالنوم والأكل والشرب وغيرها وله شواغل من لوازم
التكليف كالصلاة والصوم وغيرهما، ويشغله شأن عن شأن والنوم والصلاة
والأكل والشرب من الضروريات واللوازم الدائمة المستمرة على الإنسان لا
يخلو منها في اليوم والليلة أبدا، فليس بمنكر من القوم لو قاتلهم بنفسه أن

545
يفروا عنه في وقت تجرده لجلادهم ولا يلاقوه في معركة النزال ويتربصوا به
ساعة شغله ووقت تلبسه بما يمنعه من مدافعة خصمه وكف عدوه كالصلاة
والنوم فينتهزوا فيه الفرصة ويدركوا من قتله الإرب لعلمهم أنه واحد لا
حارس له ولا ممانع عنه، وقد علمت أن عبد الرحمن بن ملجم قتله في صلاته
مع علو كلمته واستمداد سلطنته، وانقياد جيوش المسلمين إلى أمره،
ووقوفهم على حدود طاعته، لا سيما في مثل تلك الأيام من زمان خلافته فإنه
اجتمعت إليه كلمة أصحابه واستقام له أودهم، فجمع الجموع وعقد
الرايات ليسير بهم إلى حرب معاوية ولم تكن بسطة يده وكثرة جنده مانعة من
قتله في وقت اشتغاله بصلاته، فكيف وهو واحد متفرد بنفسه وليس ابن
ملجم بأجرأ عليه من خالد بن الوليد والوليد بن عقبة وطلحة وعمرو بن
العاص وأسيد بن حضير وسالم مولى أبي حذيفة وأضرابهم وأشباههم ولا
بأشجع من أحدهم، ولا أشد بغضا لعلي (عليه السلام) وحقدا عليه من
واحد منهم، فلا امتناع من اقتحام بعض هؤلاء أو غيرهم أو جماعة منهم
عليه وقت نومه أو صلاته فيقتل حينئذ ولا مانع من أن ينازلوه أيضا فتلاقيه
منهم شرذمة وتأتي من ورائه طائفة وقوم عن يمينه وآخرون عن شماله فيبلغون
فيه الغرض، وهو مشغول بجلاد الفرقة التي هي أمامه وجائز أيضا أن يلجئوا
عند حملته عليهم إلى الدور، ويغلقوا الأبواب فيرمونه من أعلا السطوح
بالسهام والحجارة من كل الجوانب فيصيبوه قبل أن يصل إليهم، وكل هذا
ممكن غير ممتنع وقريب غير بعيد، فعلى هذا يكون قتاله إياهم منفردا تغريرا
بنفسه وإلقاء بيده إلى التهلكة، وذلك غير جائز شرعا ومن المعلوم المقرر عند
أهل العلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واسترجاع المظلمة من الظالم
يسقط وجوبه عند حصول الظن القوي بوصول الضرر إلى النفس فكيف مع
تيقنه؟ فلذلك لم يجز لأمير المؤمنين (عليه السلام) أن يقاتل القوم وهو
واحد، بل الواجب عليه الكف حتى يحصل التمكن ففعل ما وجب عليه؟؟

546
الثاني إنا وإن قلنا في علي (عليه السلام) من الشجاعة ما قلنا إلا أنه لم
يقل منا أحد بأنه أقوى بأسا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا
أمضى منه عزيمة في إنفاذ أمر الله، وقد علمت أن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) قد بقي في مكة ثلاث عشرة سنة من بعد المبعث وهو يؤذي ويشتم
ويكذب ويرتكب منه القبيح ويطلب قتله مع وجود جماعة عنده قد اتبعوه
ومنهم علي (عليه السلام) لكن لا يقومون بقتال أعدائه فلم يكلفه الله بجهاد
ولا أمره بقتال، بل أمره بالكف وذم من أراد فتح باب الحرب هناك من
أصحابه بقوله تعالى: [ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا
الصلاة فلما كتب عليهم القتال تولوا] (1) الآية فلما وجد الأعوان وحصل
الناصر بعد الهجرة أمره الله بقتالهم، فرسول الله (صلى الله عليه وآله)
أسوة (2) لأمير المؤمنين (عليه السلام) يجب عليه الكف عند عدم الناصر والجهاد
في طلب حقه عند وجود المعاون، لم يكن الله ليكلفه بما لم يكلف به النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) فيوجب عليه القتال بنفسه منفردا، ولو جاز
ذلك لوجب أن يكون أفضل من النبي (صلى الله عليه وآله) لأن شدة
المشقة في التكليف توجب زيادة الثواب وهذا باطل عندنا، واعتقاده كفر
صريح، بل المحقق أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل
المخلوقات، وأن تكليفه أشد مشقة من تكليف علي كوجوب المجاهرة
بالحق، ورفع التقية، ووجوب صلاة الليل عليه، وغير ذلك من خصائصه
المذكورة في كتب الفقه قال علي (عليه السلام) (إنما أنا عبد
لمحمد) لما قال له يهودي أنبي أنت؟ وعلي (عليه السلام) لم يقعد عما
وجب عليه فإنه طلب الناصر على ظالميه واستصرخ الناس للمعونة على



(1) النساء: 77.
(2) الأسوة: القدوة.
547
غاصبيه كما صح باتفاق النقل من طريق الرواية فلما لم يجد معينا يعينه، ولم
يظفر بمساعد يساعده كف متأسفا وأغضى حزينا، ألا تراه كيف يقول:
(فنظرت فإذا ليس لي معين إلا أهل بيتي، فضننت بهم عن الموت،
وأغضيت على القذى وشربت على الشجى (1) وأقواله في هذا المعنى كثيرة
قد تقدم جملة منها، فلم يزل كافا وهو يتجرع الغيظ والغصص كما كف النبي
(صلى الله عليه وآله) عن قتال أهل مكة قبل الهجرة إلى أن وجد
الأعوان على الحق بعد قتل عثمان فبادر إلى قتال من أراد إحياء الضلال،
واتخاذ دين الله عوجا، مشمر الذيل ماضي العزيمة، كادحا نفسه في إعلاء
كلمة الله، باذلا جهده في إقامة عمود الدين، مستفرغا وسعه في إزالة
الفساد من الأرض، ألا تسمع قوله: (والله لا أكون كالضبع تنام على اللدم
حتى يصل إليها طالبها ويختلها راصدها، ولكني أضرب بالمقبل إلى الحق
المدبر عنه، وبالسامع المطيع العاصي المريب أبدا حتى يأتي علي يومي) (2)
فكفه أولا ليس إلا لعدم وجود الناصر، وقتاله أخيرا لم يكن إلا لوجوده
المعين، وما كان كفه عن قتال الأولين تصويبا لهم فيما ارتكبوه، ولا تصحيحا
لما فعلوه، ومما يوضح هذا المعنى ويؤكده أن عليا (عليه السلام) مع مضي
عزيمته وإجماعه على قتال معاوية كف عن قتاله بعد رفع المصاحف في صفين
مع علمه وتصريحه لصحبه أن معاوية وأهل الشام لم يريدوا حكمها وإنما
رفعوها خديعة وذلك لمخالفة جماعة كثيرة من أصحابه أمره بالمضي في الجهاد
وطلبهم الموادعة، وميلهم إلى المحاكمة، وما ذاك إلا لأن من بقي على طاعته
من أصحابه لا يقوم في ذلك الوقت بقتال الخارجين منهم عن الطاعة، وقتال
أهل الشام، ثم كفه بعد تحكيم الحكمين عن قتال معاوية ومعاوية يغزوا
أطرافه، ويشن الغارات على أعماله، ويتغلب على بعض بلاده كمصر



(1) هذه الكلمة من خطبة له (عليه السلام) تأتي في آخر الكتاب.
(2) نهج البلاغة الخطبة 146.
548
وغيرها لم يكن عدولا عن نيته في قتاله، ولا رجوعا عن إيثار قتاله، ولا
ترددا في عزمه المصمم على حربه، ولكن لانتكاث عزم أصحابه،
وتكاسلهم عن إجابته، وتثاقلهم عن الخروج معه إلى حرب معاوية، لأنه
كان يحثهم على الشخوص، ويوبخهم على القعود عن الجهاد، ويقرعهم أشد
التقريع كقوله لهم: (يا أشباه الرجال ولستم بالرجال) (1) وقوله: (وددت أن
أصارف بكم معاوية أهل الشام مصارفة الدينار بالدرهم العشرة بواحد) (2)
وقوله (عليه السلام): (إذا دعوتكم إلى الجهاد في الصيف قلتم يمنعنا الحر،
وإذا دعوتكم في الشتاء قلتم يمنعنا القر، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون
فأنتم من السيف أفر (3) وغير ذلك من شديد أقواله فيهم، إلى أن أجابوه
وأصفقوا إصفاقا واحدا على طاعته فعقد الرايات وصمم العزم على مناهضة
معاوية بعد شهر رمضان فاغتاله ابن ملجم فتفرق الجمع، وتشتت الكلمة،
ولله أمر هو بالغه فما حاله في أمره الأول والآخر إلا واحدة يجاهد الظلمة عند
وجود الناصر، ويكف عنهم عند عدمه لا فرق بين حاليه ولقد كشف عن
هذا المعنى قوله في خطبه الشقشقية: (أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة
لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء ألا
يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت
آخرها بكأس أولها) (4) يقول لولا قيام الحجة على من الله بوجود الناصر
على إقامة الحق وإني مكلف بها عند القدرة لتركت قتال الناكثين والقاسطين
والمارقين كما تركت جهاد أئمتهم السابقين.
الثالث إن عليا (عليه السلام) وإن كان على ما هو عليه من الشجاعة



(1) نفس المصدر الخطبة 27.
(2) أيضا الخطبة 95.
(3) أيضا الخطبة 27.
(4) أيضا الخطبة 3.
549
لكن لم يكن عليه القتال مفروضا بعد موت النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) إلا وهو أمير متبع ورئيس مطاع، ولم يجز أن يكلف بالقتال منفردا،
والسر في ذلك أنه لو قاتل وحده لكان السامع بأمره من الناس يجريه مجرى
اللص المحارب أو المفسد المشاغب ولم يكن أحد يتوهم أنه مصيب في فعله،
ولا يذهب ذاهب إلى رشده في علمه، مع اتفاق الصحابة على التقاعد عن
نصرته، وخلود جملتهم إلى خذلانه، ولم يكن الله ليكلف وصي نبيه بما
تتسرع العقول لأجله إلى الحكم بخطئه، وتعجل الأفهام بسببه إلى نسبته
لارتكاب ما لا يحل له، بخلاف ما إذا نهض لجهاد القوم ومعه جماعة
معروفون بالخير والصلاح من خيارا لصحابة يمنعون حوزته، ويجالدون بين
يديه، فإن العقول تتسرع إلى اعتقاد إصابته الحق لقيام أولئك الرهط الأخيار
دونه وبذلهم الجهد في طاعته وقتال مخالفه، وينضاف إلى ذلك ما يعلمونه من
قربه من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما طرق أذانهم من أقواله
الجميلة فيه، فينشط إلى نصرته من يطلب الحق، ويدنو من إجابته من يحب
الصدق، وأقل الأمور أن يكون الناس بين مصوب له وواقف متردد بين
الأمرين، إلا أن الأكثر يكونون على تصويبه كما جرى له في أيام خلافته
ليسرع إلى نصرته من صوبه، ويقف عن قتاله من تردد في أمره وهو (عليه
السلام) طلب الناصر والمعين من ذوي السابقة فما أجابه إلا أربعة أو خمسة مما
لا تحصل بهم الكفاية ويقتلون في أول المنازلة، فكان يقول: (لو وجدت
أربعين ذوي عزم لناهضت القوم) وهذا هو السر في عدم إصغائه إلى قول أبي
سفيان بن حرب إذ عرض عليه نصرته لعلمه بأن الغرض لا يحصل بمثله،
وهذه الوجوه الثلاثة من جملة الأسرار التي لأجلها أوصاه النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) بالكف والصبر حتى يجد أربعين رجلا فصاعدا لا أقل من
الأربعين، وتخصيص الأقل بالأربعين من الأسرار الغيبية لم أجد إلى معرفتها
سبيلا إلا بالظن والتخمين، فعلمه مردود إلى أهله، فليس أمير المؤمنين

550
(عليه السلام) إذ لم يقاتل القوم بنفسه حين لم يجد الناصر مصوبا لهم ولا
مرتكبا للمحظور بترك الانكار لما بيناه من لزوم القبح في تكليفه بالقتال منفردا
فكان الواجب عليه إذ ذاك أن يصبر ويكف ففعل ما وجب عليه كما هو
شأنه.
الرابع إنه (عليه السلام) خاف من قتالهم بنفسه انمحاء دعوة
الإسلام، وارتداد العرب وذلك أن الناس حديثو عهد بجاهلية، ولم يرسخ
الإسلام في قلوبهم، على أن أكثرهم إنما أسلموا كرها وأنهم إذ جاءهم خبر
وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أظهر قوم الفرح، وارتدوا،
وآخرون انتظروا حال أهل المدينة من الصحابة هل يكون فيهم بعد النبي
(صلى الله عليه وآله) من يقوم بهذه الدعوة ويكون مطاعا متبوعا أم
لا؟ فإن لم يصر أحد بهذه المثابة ارتدوا ظاهرا، والأقل منهم من هو متمسك
بالاسلام بنية صحيحة إلا أن دوامها لا يكون إلا باستمرار الدين عند
أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)، ولا شك أن الجماعة الذين
توثبوا على أخذ حق أمير المؤمنين (عليه السلام) قد صحت عزائمهم في
قتاله إن نازعهم في الأمر ولم يسالمهم، فيلزم حينئذ من قتالهم بنفسه إما قتله
(عليه السلام) كما وجهناه في أول الوجوه، أو أن يبيدهم من جديد الأرض
فتجد العرب إلى ارتدادها سبيلا وتتخذ هذا الأمر على بطلان هذا الدين
حجة ودليلا ويعود الأمر إلى الجاهلية الأولى، ويفسد ما أصلحه النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم)، وينهدم ما بناه في ثلاث وعشرين سنة في ساعة
واحدة، وقد دل على ذلك ما رواه ابن أبي الحديد من أن فاطمة (عليه
السلام) حرضت أمير المؤمنين (عليه السلام) يوما على النهوض والوثوب
فسمع صوت المؤذن أشهد أن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
فقال لها: أيسرك زوال هذا النداء من الأرض؟ قالت: لا قال: فإنه ما

551
أقول لك (1) وقد ذكر (عليه السلام) ذلك كثيرا واعتذر لا عن تركه مناهضة
القوم بخوف أن تقع ثلمة في الإسلام لا تلتئم في جملة من خطبه وكلماته كما
هو مذكور في نهج البلاغة وغيره، ويكفي من ذلك هنا قوله في الخطبة التي
رواها أبو الحسن المدائني عن عبد الله بن جنادة وهو: (أما بعد، فإنه لما
قبض الله نبيه (صلى الله عليه وآله) قلنا، نحن أهله وورثته وعترته
وأولياؤه دون الناس لا ينازعنا سلطانه أحد، ولا يطمع في حقنا طامع، إذ
انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبينا (صلى الله عليه وآله) فصارت
الإمرة لغيرنا، وصرنا سوقة يطمع فينا الضعيف، ويتعزز علينا الذليل،
فبكت الأعين منا لذلك، وخشنت الصدور، وجزعت النفوس، وأيم الله
لولا مخافة الفرقة بين المسلمين وأن يعود الكفر، ويبور الدين لكنا على غير ما
كنا لهم) (2) الخطبة.
وفي أخرى رواها الكلبي: (إن الله لما قبض نبيه (صلى الله عليه وآله
وسلم) استأثرت علينا قريش بالأمر، ودفعتنا عن حق نحن أحق به من
الناس كافة، فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين،
وسفك دمائهم، والناس حديثو عهد بالاسلام، والدين يمخض مخض
الوطب يفسده أدنى وهن يعكسه أقل خلق) (3) الخطبة.. ذكرهما جميعا ابن
أبي الحديد في شرحه وهما صريحتان فيما نقول من اغتصاب القوم حقه
وميراثه، وإنه ترك قتالهم حذرا من زوال كلمة الإسلام، وعود الأمر إلى
إنكار الربوبية والرسالة، ومن المتيقن أن إنكار الإمام مع الإقرار بالله وبالنبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) وإن أوجب الضلال إلا أنه أقل قبحا وأهون



(1) شرح نهج البلاغة 11 / 113 و 20 / 326.
(2) رواها ابن أبي الحديد في شرح نهج البلادة 1 / 307. عن المدائني.
(3) رواها ابن أبي الحديد في الشرح 1 / 307 عن ابن الكلبي.
552
ضررا من إنكار الجميع، فهو قد ترك قتالهم ارتكابا لأقل الضررين في الدين
كما هو الواجب فيما إذا تعارض الضرران أن يرتكب أقلهما قبحا فأمير المؤمنين
فعل ما هو تكليفه في ذلك الوقت بخلاف حاله في زمان خلافته، فإنه ليس
هناك إلا إنكار الإمام والضرر الأعظم مأمون من وقوعه، فقاتل لرفع ذلك
الضرر عن الدين، وهذا كله بخلاف ما لو وجد في أول الأمر أعوانا
وأنصارا فإن كثيرا من الناس إذا رأوا انتصاره ينحازون إليه، ويكثرون عنده
لأن الناس مع الظاهر الغالب ومن في نفسه شك أو ريبة تزول فتبقى الدعوة
قائمة مستمرة، ومن ارتد من العرب بعث إليه من يقاتله من جنود المسلمين
فيستقيم أمر الملة، ولا يحصل الضرر بزوال كلمة الإسلام، لكنه لم يجد
الأنصار إذ طلبهم فكف وسكت حذرا من لزوم ذلك اللازم الأعظم ضررا
على الدين.
الخامس ما روي عن سيدنا أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق
(عليه السلام) من طرقنا حين سأل ألم يكن علي (عليه السلام) قويا في بدنه قويا
في أمر الله؟ فقال: بلى قيل: ما منعه أن يدفع أو يمتنع قال سألت فافهم
الجواب، منع عليا (عليه السلام) من ذلك آية من كتاب الله فقيل وأية آية
فقرأ: [لو تزيلوا] (1) الآية إنه كان لله تعالى ودائع مؤمنون في أصلاب قوم
كافرين ومنافقين، فلم يكن علي (عليه السلام) ليقتل الآباء حتى تخرج
الودائع فلما خرجت ظهر على من ظهر وقتله وكذلك قائمنا أهل البيت لن
يظهر أبدا حتى تخرج ودائع الله، فإذا خرجت يظهر على من يظهر فيقتله (2)
وفي هذا إشارة صريحة إلى أن عناية الله تعالى بإخراج المؤمن من حيز العدم إلى
عالم الوجود التكليفي أشد من عنايته بقتل الكافر وإزالة كفره، كما أن عنايته



(1) الفتح، 25.
(2) تفسير نور الثقلين 5 / 70 عن تفسير علي بن إبراهيم القمي.
553
بحفظ المؤمن وحقن دمه أشد من عنايته بقتل الكافر، ولذا كف الله أيدي
المسلمين من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قتال أهل
مكة، وأمره بالصلح لوجود رجال مؤمنين ونساء مؤمنات قد أخفوا إيمانهم
فلم يتميزوا من الكفار، فلو كان ثم قتال لقتلوا وأصاب السبي النساء،
فكان لآية المؤمنين والمؤمنات عن القتل والسبي أثر عند الله تعالى من قتل
الكافرين، وسبي الكفارات فقال تعالى: [وهو الذي كف أيديهم عنكم]
إلى قوله: [ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم
فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا
الذين كفروا منهم عذابا أليما] (1) وإذا جاز النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) ترك قتال الكفار لحفظ دم بعض المؤمنين، وصيانة بعض المؤمنات
عن السبي، فأولى بأن يجوز لعلي (عليه السلام) ترك القتال لخروج تلك
الذرية المؤمنين من أصلابهم، وهكذا لم تزل أفعاله (عليه السلام) تابعة
لأفعال رسول الله في كل الأحوال، وهذا بحمد الله ظاهر بين، فزال بهذه
الوجوه الإشكال وسقط السؤال، وذهب الإعضال، وتبين صدق مقالنا
وحقية مذهبنا، وسلامة طريقتنا من التعسف والميل عن الصواب،
والانحراف عن الصراط، وذلك بنعمة الله وفضله.
فائدة مهمة في بيان بطلان دعوى القوم أن رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) أمر أبا بكر بالصلاة وذلك من ثلاث جهات.
الأولى ما أشرنا إليه في مطاوي هذا الكتاب من إنكار أمير المؤمنين ذلك
ونسبته صدور الأمر بالصلاة إلى عائشة من تلقاء نفسها من غير رضا من النبي
(صلى الله عليه وآله) وقد روى الخصم (2) عن جملة من أصحابه ذلك



(1) الفتح 25.
(2) يعني بالخصم ابن أبي الحديد والرواية ذكرها في شرح نهج البلاغة 9 / 197 و 168 في
كلام نقله عن شيخه أبي يعقوب يوسف بن إسماعيل اللمعاني.
554
عن أمير المؤمنين وصححوه عنه ورووا عنه أيضا أن قول رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم): (إنكن كصويحبات يوسف) في عائشة وحفصة حيث
أمرت كل واحدة منهما بلالا أن يأمر أباها أن يصلي بالناس، يعني إن
صويحبات يوسف كذبن عليه في رميهن له بإرادة الفاحشة وإن المرأتين كذبتا
على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في تأمير أبويهما بالصلاة فإذا صح
عندهم النقل بهذا كله عن أمير المؤمنين (عليه السلام) كما هو عندنا وجب
أن تكون دعوى أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبا بكر بالصلاة
كاذبة لأن عليا (عليه السلام) ينكرها وهو لا ينكر حقا ولا يكذب صدقا
لأنه مع الحق دائما بنص الرسول (صلى الله عليه وآله) لا ينكر ذلك
ولا يرتاب فيه إلا من ليس بمؤمن ولا مسلم وحيث أن عليا أنكر صدور الأمر
من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأبي بكر بالصلاة وجب أن يكون
غير صادر ولا واقع وصح أن مدعيه مبطل.
الثانية إنهم اتفقوا على أن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة كانوا في بعث أسامة
إلا ما كان من شاذ متعصب من الرواة لا يعبأ به وقد اتفقت رواياتهم على أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد حثهم على المسير ونهاهم عن
التأخير كما قدمنا رواية ذلك، وهذا يدل على عدم جواز الأمر من النبي
(صلى الله عليه وآله) لأبي بكر بالصلاة وذلك إن أمر الحاضرين
بالصلاة خلف رجل يقتضي يقينا كونه حاضر البلد متمكنا شرعا وعقلا من
حضور المسجد غير ممنوع بشئ من الموانع، وليس يجوز ولا يعقل أن يأمر
الحاضرون بالصلاة خلف رجل غير حاضر البلد، ولا متمكن من الحضور
حالة الأمر في المسجد، لأنه قد وجب عليه السفر شرعا فهو ممنوع من حضور
المسجد، فلو ترك الرحيل وحضر البلد لكان عاصيا وإذا كان النبي (صلى

555
الله عليه وآله وسلم) قد أمر أبا بكر بالنفوذ كغيره في جيش أسامة ونهاهم عن
تأخير المسير، وحثهم على تعجيل الرحيل، ولعن المتخلف من المأمورين عن
الجيش، وعلم أنهم خرجوا من المدينة فكيف يجوز أن يصدر منه الأمر بصلاة
حاضري البلد خلف ذلك الرجل المسافر الذي أوجب عليه في تلك الحال
مفارقة البلد والبعد عنها وأي عاقل يخفي عليه التناقض الشديد والتمانع
البعيد بين الأمرين، وأي فطن يجوز صدور مثل هذا التناقض من عاقل
فكيف يصدر عن سيد المرسلين وأفضل المخلوقين حيث يقول لحاضري المدينة
صلوا في مسجدي خلف فلان الذي أوجبت عليه المسير حالة الصلاة إلى
الشام ونهيته عن اللبث في المدينة أو يقول للرجل الذي هذا حاله أحضر وقت
الصلاة في المسجد وصل بالناس وقد حرمت عليك في ذلك الوقت دخول
المدينة مضافا إلى أن رواياتهم مصرحة بأن أبا بكر وعمر كانا خارج المدينة في
الوقت الذي ادعوا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمر أبا بكر
بالصلاة فيه ففي الرواية التي قدمناها بعد قول النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم): (نفذوا بعث أسامة لعن الله من تخلف عنه) ويكرر ذلك ما نصه
فخرج أسامة واللواء على رأسه والصحابة بين يديه حتى إذا كان بالجرف (1)
نزل ومعه أبو بكر وعمر وأكثر المهاجرين ومن الأنصار أسيد بن حضير (2)
وبشير بن سعد وغيرهم من الوجوه فجاءه رسول أم أيمن يقول له ادخل فإن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) يموت فقام من فوره فدخل المدينة



(1) الجرف بضم فسكون: موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام (معجم
البلدان).
(2) أسيد بن حضير الأنصاري الأوسي، قال ابن الأثير بترجمته في أسد الغابة 1 / 92:
" كان أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) يكرمه ولا يقدم عليه أحدا " قال: " وله في
بيعة أبي بكر أثر عظيم " قال: " توفي في شعبان سنة عشرين وحمل عمر بن الخطاب
(رضي الله عنه) السرير حتى وضعه في البقيع وصلى عليه ".
556
واللواء معه، فجاء به حتى ركزه بباب رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) ورسول الله قد مات في تلك الساعة، فما كان أبو بكر وعمر يخاطبان
أسامة إلى أن ماتا بالأمير (1) وفي رواية أخرى رواها ابن أبي الحديد أيضا
وفيها بعد ذكر طعن القوم على النبي (صلى الله عليه وآله) في تأمير
أسامة على جلة الصحابة وخروج النبي (صلى الله عليه وآله) بعد أن
بلغه ذلك عنهم وخطبته فيهم وما قال فيها: (لأن طعنتم في تأميري أسامة
فقط طعنتم في تأميري أباه من قبل) (2) في كلام مر في أبحاث هذا الكتاب ما
هذا لفظه: وجاء المسلمون يودعون رسول الله (صلى الله عليه وآله)
ويمضون إلى عسكر أسامة بالجرف، وثقل رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) واشتد ما يجده فأرسل بعض نسائه إلى أسامة وبعض من كان معه
يعلمونهم ذلك، فدخل أسامة من معسكره والنبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) مغمور وهو اليوم الذي لدوه فيه فتطأطأ أسامة عليه فقبله ورسول الله
(صلى الله عليه وآله) قد اسكت فهو لا يتكلم فجعل يرفع يديه إلى
السماء ويضعهما على أسامة كالداعي له، ثم أشار إليه بالرجوع إلى عسكره
والتوجه لما بعثه فيه فرجع أسامة إلى عسكره، ثم أرسل نساء رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أسامة يأمرنه بالدخول ويقلن إن رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أصبح بارئا، فدخل أسامة من معسكره يوم
الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول فوجد رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) مفيقا فأمره بالخروج، وتعجيل النفوذ، وقال: (اغد علي بركة
الله) وجعل يقول: (أنفذوا بعث أسامة) ويكرر ذلك فودع رسول الله
وخرج ومعه أبو بكر وعمر، فلما ركب جاء رسول أم أيمن فقال إن رسول الله



(1) شرح نهج البلاغة 6 / 52.
(2) نفس المصدر 1 / 159 وعيون الأثر لابن سيد الناس 2 / 355.
557
(صلى الله عليه وآله) يموت فأقبل ومعه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة
فانتهوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين زالت الشمس من
هذا اليوم وهو الاثنين وقد مات واللواء مع بريدة بن الحصيب (1) فدخل
باللواء فركزه عند باب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو مغلق،
وعلي (عليه السلام) وبعض بني هاشم مشتغلون بإعداد جهازه (2)، وذكر في
آخر الخبر إقعاد الأنصار سعدا في السقيفة للبيعة، وسبق أبي بكر إياهم (3)
بها، وهذان الخبران مشهوران معلومان خصوصا عند الخصوم، وهما كما
ترى مصرحان بأن أبا بكر أقبل قبل أن يثقل مرض النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) وفي حال ثقله وحال موته كان خارج المدينة، وأنه لا يدخل إلا أحيانا
مع أسامة بن زيد ويخرج معه فكيف يأمره النبي (صلى الله عليه وآله)
أن يصلي بالناس في المسجد وهو قد أمره أن يأتم بأسامة خارج المدينة، وفي
الطريق التي أمرهم بسلوكهم ذهابا وإيابا أفيأمره بذا في حالة أمره بأن يؤم
الناس في المسجد، وهل يسع أن يقع مثل هذا التضاد والتعاند في أوامر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الحكيم مع استلزامه تكليف ما لا يطاق،
وكل ذلك لا يجري على مذهب المعتزلة ولا يتمشى على قواعدهم وهذا يدل
صريحا على بطلان ما ادعاه ابن أبي الحديد من أن أبا بكر كان يصلي بالناس



(1) بريدة بضم الباء وفتح الراء والدال ابن الحصيب - بضم الحاء المهملة والصاد
المهملة أيضا - الأسلمي أسلم حين مر به رسول الله (صلى الله عليه وآله)
وسلم مهاجرا هو ومن معه وكانوا ثمانين بيتا فصلى بهم رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) صلاة العشاء، ثم قدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد
أحد وشهد معه مشاهده، وكان من ساكني المدينة ثم تحول إلى البصرة وابتنى بها
دارا، ثم خرج منها غازيا إلى خراسان وأقام بمرو حتى مات ودفن بها، وبقي بها
ولده.
(2) شرح نهج البلاغة 1 / 160.
(3) المصدر السابق 2 / 52.
558
في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) والنبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) مريض يومين حتى قبض (صلى الله عليه وآله) (1)، ولم يكن
صلى إلا صلاة واحدة فقط ولا أدري متى صدر الأمر من النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) على أنه وقت الأمر المدعى غير حاضر المسجد ولا هو داخل
المدينة! وإنما هو خارج منها ونازل بالجرف ملزوم بالصلاة خلف أسامة، ولا
أدري من أخذوه ويعلم من هذا بطلان ما ذكره بعض محدثيهم من أن أبا بكر
ليس في جيش أسامة لأن تلك الرواية مع معارضتها ما صح عند أكثرهم كما
سمعته قد تضمنت أن أبا بكر كان معروفا بأنه خليفة النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) قبل موته وأنه بويع والنبي (صلى الله عليه وآله) حي
وهذا مخالف لما صح عليه الاتفاق من الأمة أن بيعة أبي بكر إنما وقعت في
السقيفة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فكيف تصح الرواية
المخالفة لاتفاق الأمة، ويبطل أيضا ما ذكره قاضي القضاة من استدلاله على
أن أبا بكر ليس في جيش أسامة بأن النبي (صلى الله عليه وآله) أمره
بالصلاة وهو رد للروايات الصحيحة بالمشكوك فيه واستدلال بالموهوم على
بطلان المعلوم، وليس الاستدلال على أن أبا بكر ليس في بعث أسامة بأن
رسول الله أمره بالصلاة بأولى من الاستدلال على أن رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) لم يأمره بها بأنه في ذلك البعث إن لم يكن هذا أولى، ثم
واعجباه من عبد الحميد المعتزلي في عدم اكتفائه لأبي بكر بصلاة واحدة كغيره
من الأقوام حتى ادعا له ما سمعت بعد روايته لذينك الخبرين فما أكذب دعواه
وما أشد تلبيسه، وأعظم تدليسه وما أكثر تلاعبه بدينه وحمايته على باطله،
وما أمضى عزيمته في تصحيح الأباطيل والأضاليل، وليس هذا بأغرب من
دعواه أن روح الله عيسى بن مريم (عليه السلام) كان يشرب الخمر، وكم
له مثل هذه الدعاوى.



(1) أيضا 10 / 184.
559
ومما يعجبني من كلامه في هذا المقام ما أورده في موضع من كتابه بعد
نقل رواية رواها هناك، وأنا أذكرها وأذكر كلامه بعدها في مطلبنا هذا ليتضح
للناظر صحة ما قلناه من أن هذا الرجل يعدل عن الحق على عمد وينصرف
عن الصواب على معرفة ويدخل في الباطل بغير شبهة.
قال روى الأرقم بن شرحبيل قال سألت ابن عباس: هل أوصى رسول
الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) قال في مرضه: (ابعثوا إلى علي فادعوه) فقالت عائشة: لو بعثت
إلى أبي بكر، وقالت حفصة: لو بعثت إلى عمر فاجتمعوا عنده جميعا هكذا
لفظ الخبر على ما أورده الطبري في التاريخ (1) ولم يقل فبعث رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) إليهما قال ابن عباس: فقال رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم): (انصرفوا فإن تكن لي حاجة أبعث إليكم) فانصرفوا، وقيل
لرسول الله (صلى الله عليه وآله) الصلاة فقال: (مروا أبا بكر أن
يصلي بالناس) فقالت عائشة إن أبا بكر رجل رقيق فمر عمر، فقال مروا
عمر فقال عمر ما كنت لأتقدم وأبو بكر شاهد، فتقدم أبو بكر فوجد رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خفا فخرج فلما سمع أبو بكر حركته تأخر
فجذب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثوبه فأقامه مكانه وقعد رسول
الله (صلى الله عليه وآله) فقرأ حيث انتهى أبو بكر قلت (2) عندي في
هذه الواقعة كلام ويعترضني فيها شكوك واشتباه إذا كان قد أراد أن يبعث إلى
علي عليه السلام) ليوصي إليه فنفست عائشة فسألت أن يحضر أبوها،
ونفست حفصة فسألت أن يحضر أبوها ثم حضرا ولم يطلبا فلا شبهة أن



(1) انظر تاريخ الطبري 4 / 1811 ليدن.
(2) القائل هو ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 13 / 34.
560
ابنتيهما طلبتاهما، هذا هو الظاهر، وقول رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) وقد اجتمعوا كلهم عنده: (انصرفوا فإن تكن لي حاجة بعثت
إليكم) قول من عنده ضجر وغضب باطن لحضورهما وتهمة للنساء في
استدعائهما فكيف يطابق هذا الفعل وهذا القول ما روي أن عائشة قالت: لما
عين أبوها للصلاة إن أبي رجل رقيق فمر عمر وأين ذلك الحرص من هذا
الاستعفاء والاستقالة؟ وهذا يوهم صحة ما تقوله الشيعة من أن صلاة أبي
بكر كانت عن أمر عائشة وإن كنت لا أقول بذلك ولا أذهب إليه، إلا أن
تأمل هذا الخبر ولمح مضمونه يوهم ذلك هذا كلامه وهو مصرح بإرادة
النبي (صلى الله عليه وآله) الوصية إلى علي (عليه السلام)
وباستفادته من الخبر مع ذلك صحة ما تقوله الشيعة من أن صلاة أبي بكر
كانت عن أمر عائشة، ثم يقول: أن لا يقول بذلك ولا يذهب إليه، وانظر
إلى قوله: إن قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) (انصرفوا) إلى
أن قال: قول من عنده ضجر وغضب باطن لحضورهما وتهمة للنساء في
استدعائهم، ثم هو يقول برضا رسول الله (صلى الله عليه وآله)
بخلافتهما ورضاه عن بنتيهما ومن يضجر رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) ويغضب من حضوره لئلا يسمع وصيته على شخص آخر ويتهم من
أحضره كيف يأمره بالصلاة بالناس وكيف يرض بتخلفه من بعده على أمته،
وكيف يكون راضيا على من أحضره، وهذا يدلك على أن هذا الرجل
وأشباهه يتركون العمل بأخبارهم إذا وافقت أقوال أئمتنا (عليهم السلام)
ومذاهب أصحابنا، ويضربون عنها صفحا، ولولا ذلك لما قال بعد فهمه
صحة قولنا من الخبر أنه لا يقول به ولا يذهب إليه وهذه الطريقة بعينها هي
التي أنكروا بها النص على أمير المؤمنين (عليه السلام) مع روايتهم الكثير
الوافر منه، وهي عين العصبية وإذا روي لهم ما يخالف مذهبنا وإن كان عمن
يحكمون بفسقه تلقوه بالقبول، وأذعنوا له تمام الاذعان، ورضوا به غاية

561
الرضا، وذلك دليل ما نسبناه إليهم من تعمدهم ارتكاب الخطأ وترك
الصواب، ولو أنهم تركوا التعصب والعناد وعملوا بما دل من أخبارهم على
صحة قولنا إذن لارتفع الخلاف، وحصل الائتلاف فإنها كثيرة ومخالفها
ضعيف، ولو لم يكن من ضعفه إلا الخلاف في صحته بيننا وبينهم بل بينهم
في بعضها والاتفاق على صحة الموافق منا ومنهم لكفى، فإن الاجتماع أقوى
أسباب الترجيح وأوثق المرجحات عند جميع الأصوليين، بل عند جميع الأمة
لا يشك فيه أحد لكنهم ارتكبوا خلاف التحقيق، وأخلدوا إلى الشك،
ونبذوا اليقين فقامت منهم سوق الخلاف على ساق فالحاكم الله بيننا وبينهم
يوم فصل القضاء.
الثالثة اختلاف رواياتهم الواردة في أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) أبا بكر بالصلاة لفظا ومضمونا بما يدل على كذبها وبطلانها واصطناعها
ووجوب رفع اليد عنها، ففي رواية ابن أبي مليكة عن عائشة: أن بلالا لما
نادى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصلاة قال قولوا له: (فليقل
لأبي بكر يصلي بالناس) وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد
خرج يتهادى بين علي (عليه السلام) والفضل بن العباس وأن أبا بكر أراد
التنحي عن مقامه لما أحس برسول الله (صلى الله عليه وآله) فدفعه
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأقامه مقامه، وقعد إلى جانبه فجعل
رسول الله (صلى الله عليه وآله) يكبر والناس يكبرون بتكبير أبي
بكر، قالت: فصلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالناس (1).
وفي الحديث المتقدم عن الأرقم عن ابن عباس أن رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) أمر أبا بكر ثم عمر بمشورة عائشة، وأن رسول الله خرج
فصلى بالناس، وفيه تصريح بمخالفة عمر لرسول الله (صلى الله عليه وآله



(1) أيضا: 13 / 34.
562
وسلم) حيث أمره بالتقدم فلم يتقدم وقدم أبا بكر، وأن أبا بكر تقدم بعد
نسخ أمره بالصلاة بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) عمر بها
فكانت صلاته بأمر عمر لا بأمر النبي (صلى الله عليه وآله) وهذا
المعنى مما لم يلتفت إليه ابن أبي الحديد ولا لحظه، إما لعدم تفطن أو لإخفاء
وكلا الخبرين دال على أن النبي (صلى الله عليه وآله) عزله من إمامة
الصلاة وجعله مسمعا الناس التكبير، وهذا يدل على أنه لو أمر أبا بكر
بالصلاة لما جاز عزله عنها لأنه يكون نسخا للأمر قبل تقضي زمان العلم به
وهو غير مجوز عند العدلية منا ومن المعتزلة، فآخر الحديثين يعارض أولهما
وكل منهما مخالف للآخر في كيفية صدور الأمر عن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) بالصلاة خلف الرجل مع ما في حديث الأرقم من النقص العظيم
على الشيخين الذي بينه ابن أبي الحديد وأوضحناه نحن وهو دليل واضح على
كذب الخبرين.
وفي الخبر الذي رواه الخصم بإسناده عن الزهري عن أنس بن مالك
قال: لما مرض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مرضه الذي مات فيه
أتاه بلال يؤذنه بالصلاة فقال بعد مرتين: (يا بلال قد أبلغت فمن شاء
فليصل بالناس ومن شاء فليدع) قال: ورفعت الستور عن رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) فنظرنا إليه كأنه ورقة بيضاء عليه خميصة له فرجع إليه
بلال فقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) قال: رأيناه بعد ذلك (1)
مخالفة للأولين في كيفية صدور الأمر وفي عدم خروج النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) وإن أبا بكر أتم الصلاة بالناس، فإن صح الأولان بطل هذا،
وإن صح هذا بطل الأولان لا محالة.
وفي حديث عبد الله بن عمر أنه جاء ابن أم مكتوم فأذن النبي (صلى الله



(1) أيضا 6 / 44.
563
عليه وآله وسلم) في مرضه الذي مات فيه بالصلاة الأولى فلم يستطع أن
يقوم من شدة المرض فقال له: (قل لأبي بكر يقيم للناس صلاتهم) وإن
عائشة طلبت من النبي (صلى الله عليه وآله) إقالة أبيها من ذلك،
وإن ابن أم مكتوم انتظر ما يكون من جواب رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) فقال له: (مر أبا بكر أن يقيم للناس صلواتهم) ولم يجب عائشة
بشئ فنظرت عائشة إلى حفصة وأشارت إليها أن تسأله أن يأمر أباها
فقالت: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لو أمرت عمر فصفق
رسول الله بيده وقال: (إنكن صويحبات يوسف) (1) مخالفة للجميع في أن
المؤذن للنبي (صلى الله عليه وآله) هو عبد الله بن أم مكتوم، وفي
كيفية صدور الأمر ومخالفة المرأتين رسول الله حتى أغضبتاه وهذا الخبر أكذب
الأخبار في هذا الباب ومن أشد مخالفته للأخبار الأول قوله في آخره: فكان
أبو بكر يقيم الناس صلاتهم أياما حتى قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم)، ووجه المخالفة اشتمال تلك الأخبار على أن الأمر كان في آخر مرض
النبي (صلى الله عليه وآله)، وأنه إنما ثقل عن الصلاة في آخر
مرضه، واشتمال هذا على وقوع الأمر أوساط مرض النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم)، وأن النبي (صلى الله عليه وآله)، قد ثقل عن الصلاة
في المسجد قبل موته بأيام، وجهة أخرى وهي عدم ذكره خروج النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) وعزله أبا بكر في شئ من الصلاة واشتمال
السابقة على ذلك.
وفي حديث الزهري إن أول شكوى رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) في بيت ميمونة وإنه قال لعبد الله بن عتبة: (قل للناس فليصلوا)
فلقي عمر فقال: صل بالناس فتقدم عمر فسمع النبي (صلى الله عليه وآله



(1) أيضا 9 / 198.
564
وسلم) فقال: (أليس هذا صوت عمر) قالوا نعم قال: (يأبى الله ذلك
والمسلمون فليصل بالناس أبو بكر) وفيه أن عائشة طلبت منه إقالة أبيها
وراجعته في ذلك مرتين أو ثلاثا فقال: (ليصل بالناس أبو بكر فإنكن
صويحبات يوسف) (1) وهو مخالف لجميع ما تقدم في جميع الوجوه فمن تأمل
هذه الأخبار واختلافاتها، وما فيها من التعارض والتدافع القاضيين عليها
باختلاق علم أنها مزورة مصنوعة، وتأكد عنده أن الصحيح ما رواه أصحابنا
مما مضمونه أن عائشة وحفصة لما ثقل مرض النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) أرسلتا إلى أبويهما تخبرانهما بذلك وهما خارج المدينة في جيش أسامة
فدخلا المدينة ليلا ومعهما أبو عبيدة بعد أن ذكروا لأسامة ما أذن لهم لأجله أن
يدخلوا وأمرهم أن يخفوا أنفسهم لئلا يرجع غيرهم من الجيش، وأنهم إن
عوفي النبي (صلى الله عليه وآله) وسلم رجعوا إلى معسكرهم وإن حدث به
حدث عرفوه حتى يدخل فيما يدخل فيه الناس، فلما كان وقت الصلاة
أرسلت عائشة إلى أبيها تأمره أن يتقدم إلى المحراب وأنها تأمر بلالا أن يأمر
الناس بالصلاة خلفه لتوهم الناس أن ذلك عن أمر رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) فيتم ما دبروا من الحيلة، وأن بلالا لما أتى يؤذن النبي
(صلى الله عليه وآله) بالصلاة قالت: لبلال إن رسول الله قد ثقل
ورأسه في حجر علي (عليه السلام) فمر أبا بكر ليصلي بالناس فلما رأت
حفصة ذلك قالت: مر عمر ليصلي بالناس، فسمع النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) ذلك منهما فقال: (إنكن كصويحبات يوسف) فأغمي عليه
فخرج بلال وهو يظن أن قول عائشة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) فقال: للناس صلوا خلف أبي بكر فتمت الشبهة، فلما أفاق النبي
(صلى الله عليه وآله) وسمع تكبير أبي بكر خرج متحاملا يتهادى بين



(1) أيضا.
565
علي والفضل بن العباس لتلافي الأمر وإزالة الشبهة فعزل أبا بكر ونحاه
قصدا لذلك فما زالت الشبهة ولا ذهبت.
وقد ذكر ابن أبي الحديد عن بعض أصحابه وهو شيخه أبو يعقوب
يوسف بن إسماعيل اللمعاني أن رجوع أبي بكر من جيش أسامة كان بإرسال
عائشة إليه بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يموت وأن خروج
النبي (صلى الله عليه وآله) في تلك الحال لما ذكرناه من قصده عزل
أبي بكر عن الصلاة لئلا تكون شبهة له في دعوى الخلافة فما تم له ما أراد،
ويصدق ذلك ما ورد في رواياتهم المتقدمة لقد أقر الرجل المزبور بأن جملة من
محدثيهم قائلون أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نحى أبا بكر وصلى
بالناس، وقال في موضع من كتابه: ثم جرى حديث صلاة أبي بكر بالناس
فتزعم الشيعة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يأمر بذلك، وأنه
إنما صلى بالناس عن أمر عائشة ابنته، وأن رسول الله خرج متحاملا وهو
مثقل فنحاه عن المحراب وزعم معظم المحدثين أن ذلك كان عن أمر رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقوله، ثم اختلفوا فمنهم من قال نحاه
وصلى هو بالناس، ومنهم من قال: بل ائتم بأبي بكر كسائر الناس، ومنهم
من قال كان الناس يصلون بصلاة أبي بكر وأبو بكر يصلي بصلاة رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) (1) انتهى.
قلت أما القول الأول فهو موافق لقول الشيعة ومن المحال أن يأمر النبي
(صلى الله عليه وآله) أبا بكر بالصلاة ثم يخرج متحاملا لينحيه ويعزله
بل المعروف أن فعله هذا يدل على أن صلاة أبي بكر ليست عن أمره، وأنه
إنما خرج على تلك الحال لإزالة الشبهة كما ذكرناه أولا، ويدل خروجه أيضا



(1) أيضا. 9 / 197.
566
على الحال المذكورة على أن في نفسه غضبا شديدا من فعل الرجل ومن أمره
لتقدم.
وأما الثالث فهو أيضا موافق لنا في عزل النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) أبا بكر عن الإمامة وجعله مبلغا يبلغ الناس التكبير للركوع
والسجود، إذ لا يجوز أن يكون في الصلاة إمامان، فهو راجع إلى القول
الأول فلم يبق إلا الثاني وهو مع ضعفه لمخالفته اتفاق معظم الأمة وقلة القائل
به لا يوافق شيئا من رواياتهم، فكيف يصح الاعتماد على هذه الروايات
والأقوال مع ما سمعته فيها من الاختلاف؟ ومن أين يحصل الظن فضلا
عن القطع بصحة دعوى القوم أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر أبا
بكر بالصلاة وحال رواياتهم التي استندوا إليها فيها وأقوالهم ما رأيت؟
فلا شك أنها بملاحظة الجهات الثلاث المذكورة تكون واضحة البطلان،
منهدمة الأركان، على أن بعض المصنفين قد نقل عن كثير من أهل الرواية
علماء المعتزلة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما ثقل جاء بلال
ليؤذنه بالصلاة فقالت عائشة: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
ثقيل قد أغمي عليه فلا تؤذه، وقل لأبي بكر فليصل بالناس فخرج إليه
فأخبره، فتقدم فسمع النبي (صلى الله عليه وآله) صوته فقال: (ما
هذا) فقالت عائشة أنا أمرت أبا بكر أن يصلي بالناس، فقال: (إنكن
صويحبات يوسف) وأخذ بيد علي يتوكأ عليه فخرج وأخرج أبا بكر من
الصلاة وصلى بالناس ومات من يومه وهذه الرواية توافق مضمون القصة
وتطابق خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) متحاملا في حال شدة
المرض، وهي مبطلة لدعواهم ويشهد لصحتها ما رواه ابن أبي الحديد عن شيخه
من أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما روى قال: (ليصل بهم
أحدهم) ولم يعين وكانت صلاة الصبح فخرج رسول الله (صلى الله عليه

567
وآله وسلم) وهو في آخر رمق يتهادى بين علي والفضل بن العباس حتى قام
في المحرب كما ورد في الخبر ثم دخل فمات ارتفاع الضحى هذا كلامه، وقد
سمعت السابق منه وقد ذكر ابن أبي الحديد أن هذا الشيخ كان شديد
الاعتزال ولم يكن يتشيع (1) وهذا القول دال أيضا على بطلان ما قاله: إن أبا
بكر صلى بالناس قبل موت النبي (صلى الله عليه وآله) بيومين، فهذا
حال صلاته وقد سمعت ما فيها من الكلام وبلغت إن شاء الله تعالى في إبطالها
غاية المرام.
واعلم أنه ليس مرادنا من إقامة الدليل على بطلان ما ادعوا من كون
صلاة الرجل عن أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنها لو صحت
أنها بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأوجب ذلك الإمامة أو
كانت معارضة للنصوص الواردة على إمامة علي (عليه السلام)، وإنما مرادنا
توضيح بطلان تلك الدعوى بالدليل، وبيان أن من تمسكوا بها واعتمدوا
عليها تمسكوا بغير متمسك واعتمدوا على غير معتمد لكنهم شبهوا بها على
ضعفاء العقول، وناقصي الروية، وشيدها من نصب العداوة لأهل البيت،
ورام التوصل إلى اغتصاب مقامهم، ولو أن ذلك كان صحيحا لم يقتض نصا
على إمامة الرجل لأن النبي (صلى الله عليه وآله) أمر جماعة كثيرة من
أصحابه يصلون بالناس فأمر تارة على المشايخ الثلاثة وغيرهم أبا عبيدة،
وأخرى عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد وتارة عليهم وعلى أبي عبيدة
معهم أسامة بن زيد وصلوا خلفهم، واستخلف على المدينة في غزواته وسفره
رجالا من أصحابه كابن أم مكتوم وغيره، واستخلف في غزوة تبوك عليها
أمير المؤمنين، واستخلف على مكة عتاب بن أسيد الأموي يصلي بالناس،
وغير هؤلاء ممن استعملهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) على



(1) شرح نهج البلاغة 9 / 199.
568
السرايا وعلى البلدان ولم يجعل أحد من مخالفينا صلاة أحد من أولئك بالناس
نصا على إمامته ولا مومية إليها، بل ولا يجعلون لواحد منهم فضلا بها ولا
يذكرونه بها في مدح ولا تشريف، فما الفارق بين صلاة أبي بكر بالناس لو
صح أنها بأمر الرسول (صلى الله عليه وآله) وبين صلاة أولئك
المذكورين، على أن الخصوم قد رووا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) صلى خلف عبد الرحمن بن عوف حيث انتهى (صلى الله عليه وآله
وسلم) إلى محل، وعبد الرحمن يصلي بقوم هناك (1) وهذا أعظم منزلة من
صلاة أبي بكر بالناس بأمره (صلى الله عليه وآله) وما
رأينا عمر ولا غيره جعلوا لعبد الرحمن خلافة بهذا فكيف أوجبت
صلاة الإشارة إلى أبي بكر بالخلافة فإن تقع من النصوص الواردة في
استخلاف أمير المؤمنين (عليه السلام)؟ ومن أي وجه تقوى على
معارضتها؟ هذا كله مع جواز أن يكون التقدم لأبي بكر ما لم يكن على
حاضرا أو متمكنا من الحضور، ومن المتفق عليه أن عليا (عليه السلام) لم
يكن حاضر المسجد وكان مشغولا بتمريض رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) لا يفارقه، خصوصا في ذلك الوقت الذي ثقل فيه حاله كما يدل
عليه ما في الروايات من أن النبي (صلى الله عليه وآله) خرج يتوكأ
عليه وعلى الفضل بن العباس، فصرحت الروايات لو صحت بأن أبا بكر لم
يأمر بالتقدم على علي (عليه السلام) لأنه مع النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) فيختص جواز تقديمه بما إذا لم يكن علي (عليه السلام) حاضرا كما
أن تأمير النبي (صلى الله عليه وآله) الأمراء على الجيوش إذا لم يكن
علي (عليه السلام) معهم فإذا كان معهم كان هو الأمير من قبله (صلى الله
عليه وآله وسلم) على الكل، وهذا على مجاراة الخصم وجه جامع تزول به
المعارضة بين النصين لو صحت المعارضة، والكل - بعون الله وتسديده -



(1) المصدر السابق 17 / 198.
569
ظاهر واضح والشك فيه زائل، والحمد لله على سلوك طريق الصواب.
المسألة الثانية (1) في النص على إمامة العترة المحمدية وينبغي أولا بيان معنى
العترة ومن يطلق عليه هذا اللفظ من هذه الأمة على الحقيقة فنقول: قال
الشهاب الفيومي في المصباح المنير: العترة نسل الإنسان، قال الأزهري:
وروى ثعلب عن ابن الأعرابي: إن العترة ولد الرجل وذريته وعقبه من صلبه
ولا تعرف العرب من العترة غير ذلك، ويقال: رهطه الأدنون ويقال:
أقرباؤه وعليه قول ابن السكيت: العترة والرهط بمعنى ورهط الرجل قومه
وقبيلته الأقربون انتهى وقد اختلفوا في عدد الرهط فقال الأكثر: هو ما دون
عشرة من الرجال ليس فيهم امرأة وهو قول أبي زيد، وقيل: من سبعة إلى
عشرة وقيل ما فوق العشرة إلى الأربعين وهو قول الأصمعي ونقله ابن فارس،
وقيل: هو بمعنى العشيرة وهو المنقول عن ابن السكيت وقريب منه على تأويل
قول ثعلب ذكر هذه الأقوال جميعها في المصباح (2) فعلى ما قال الأزهري وابن
الأعرابي في معنى العترة فالأمر ظاهر أن عترة النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) ذريته من فاطمة (عليها السلام) وعلى ما قيل أن العترة هي الرهط
فعلى جميع الأقوال في معنى الرهط تختص العترة ببني هاشم حتى على قول ابن
السكيت، لأن أقرب الناس إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنو
هاشم فهم قومه وعشيرته الأقربون على الحقيقة دون باقي بطون قريش فما
سواهم، إنما يقال له عترة النبي (صلى الله عليه وآله) على طريق
المجاز والتوسع في الألفاظ أو بالنسبة إلى الأبعد كالقرشي بالنسبة إلى باقي
بطون مضر، وكالمضري بالنسبة إلى الربيعي والأيادي، وكالنزاري بالنسبة
إلى القحطاني، وقد قال المعتزلي ذلك واعترف به قال: وعترة النبي (صلى



(1) لا يخفى أن المسألة الأولى كانت بعد الفصل الثاني مباشرة.
(2) المصباح المنير ص 534 في (عتر) وانظر تهذيب اللغة للأزهري 2 / 264
570
الله عليه وآله وسلم) أهله الأدنون ونسله، وليس بصحيح قول من قال إنهم
رهطه وإن بعدوا، وإنما قال أبو بكر يوم السقيفة أو بعده: نحن عترة رسول
الله (صلى الله عليه وآله) وبيضته التي تفقأت عنه، على طريق المجاز
لأنهم بالنسبة إلى الأنصار عترة له لا في الحقيقة، ألا ترى أن العدناني يفاخر
القحطاني، فيقول أنا ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليس
يعني أنه ابن عمه على الحقيقة وإنما هو بالإضافة إلى القحطاني ابن عمه (1)
انتهى.
وحكى أحمد بن يحيى الشيباني عن محمد بن عبد الجبار عن أبي العباس ثعلب عن
ابن الأعرابي: إن العترة ولد الضب وذريته من صلبه ولذلك سميت ذرية محمد
(صلى الله عليه وآله) من علي وفاطمة (عليهم السلام) عترة محمد
قال ثعلب: فقلت لابن الأعرابي: فما معنى قول أبي بكر في السقيفة: نحن
عترة رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: فإن قال أراد بلدته
وبيضته وعترة محمد (صلى الله عليه وآله) ولد فاطمة (2) انتهى.
قلت: ويؤيد ذلك أن عليا (عليه السلام) لما احتج على أبي بكر
وأصحابه بالقرابة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث احتجوا
هم بها على الأنصار لم يجيبوه بأنا وإياك جمعيا عترة الرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم) فلا مزية لك علينا في ذلك بل سلموا له القرابة دونهم وأجابوه
بغير ذلك من الأعذار كحداثة السن وغير ذلك مما تقدم في الرواية، وهو
ظاهر إن لم يكن صريحا في أن المعروف عند العرب بحيث لا ينكر أن العترة
هم الأدنون من الرجل نسبا والأشدون به نوطا دون الأباعد في النسب وإن
كانوا من القبيلة والعشيرة، وأن إطلاق لفظ العترة على غيرهم إنما هو على



(1) شرح نهج البلاغة 6 / 375.
(2) أيضا.
571
ضرب من المجاز فعترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هم الأقربون منه
وشيجة، والأدنون منه نسبا، من بني هاشم دون غيرهم من قريش، هذا
باعتبار اللغة العربية، وأما باعتبار العرف الشرعي فإن العترة هم أمير
المؤمنين (عليه السلام) وفاطمة وولداهما الحسن والحسين والأئمة من ذرية
الحسين (عليهم السلام) قال ابن أبي الحديد: وقد بين رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) عترته من هي لما قال: (إني تارك فيكم الثقلين) فقال:
(عترتي أهل بيتي) وبين من أهل بيته حين طرح عليهم كساء وقال حين
نزلت: [إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس]: (اللهم هؤلاء أهل بيتي
فأذهب الرجس عنهم) فإن قلت: فمن هي العترة التي عناها أمير المؤمنين
بهذا الكلام قلت: نفسه ووالده والأصل في الحقيقة نفسه، لأن ولديه تابعان
له ونسبتهما إليه نسبة الكواكب المضيئة مع طلوع الشمس المشرقة، وقد نبه
النبي (صلى الله عليه وآله) على ذلك بقوله: (وأبوهما خير منهما) (1)
انتهى.
قلت عني المعتزلي بالكلام قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في الخطبة
التي هذا الكلام من جملة شرحها: (وكيف تعمهون وفيكم عترة نبيكم)
وأما البيت فسيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقال في الصواعق: المراد باهل البيت والآل وذوي القربى في كل ما
جاء في فضلهم مؤمنو بني هاشم والمطلب وكان الثلاثة العترة فالألفاظ
الأربعة بمعنى واحد.
قلت لعمري إن الألفاظ الأربعة بمعنى واحد، لكن ليس المراد منها إلا
عليا وفاطمة وابنيهما كما قال به أكثر القوم من المتقدمين والمتأخرين كأبي عامر



(1) أيضا 6 / 376 وفيه (وأبوكما خير منكما) و 4 / 96.
572
الشعبي ويحيى بن يعمر وابن الأعرابي ومحمد بن طلحة الشافعي وظاهر الحسن
البصري، ويشهد لذلك ما روى أهل الصحاح ممن لا ينكر روايتهم معتزلي
ولا أشعري وهم الطبراني وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو الحسن البغوي في
تفسيره عن ابن عباس أنه لما نزلت: [قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في
القربى] (1) قالوا: يا رسول الله من قرابتك الذين نزلت فيهم الآية قال:
(علي وفاطمة وابناهما) ولفظ البغوي من هؤلاء الذين أمرنا الله بمودتهم قال:
(علي الخ) وغيره سيأتي على كثرته وهو مبطل لما قاله ابن حجر وما قال غيره
مما يخالف ما ذكرناه.
وروى الديلمي عن ابن أبي سعيد أنه يعني النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) قال: (اشتد غضب الله على من آذاني في عترتي) (2) وروى أبو
داود الطيالسي عن عبد الرحمن بن عوف (وأوصيكم بعترتي خيرا وأن
موعدكم الحوض) فالمعنى بهذا علي (عليه السلام) وفاطمة والحسن
والحسين (عليهم السلام)، وقد صح في أخبارهم أن الحسن والحسين ذرية
رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبنوه لصلبه وقد تقدم أن العترة ذرية
الرجل وعقبه من صلب.
فمن ذلك ما رواه الطبراني مرفوعا عن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم): (إن الله جعل ذرية كل نبي من صلبه وجعل ذريتي في صلب
علي بن أبي طالب) (3) وأخرج الطبراني وغيره أنه (صلى الله عليه وآله



(1) الشورى: 23.
(2) فيض القدير 1 / 515 وقال: " أخرجه الديلمي في الفردوس ومثله في إسعاف
الراغبين ص 114.
(3) إسعاف الراغبين ص 132 وفيض القدير 2 / 223 والصواعق ص 74 وفيه إخراج
الطبراني له.
573
وسلم) قال: (كل بني أم ينتمون إلى عصبتهم إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا
عصبتهم) (1).
قال محمد الصبان الشافعي في إسعاف الراغبين وفي رواية صحيحة (كل
بني أنثى عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فإني أنا أبوهم وعصبتهم) (2) إلى
غير ذلك ومما يدل على أن ذرية الحسين عترة النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) ما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي وآخرون عنه
(صلى الله عليه وآله) (المهدي من عترتي) (3) وما أخرج أحمد
والترمذي وأبو داود وابن ماجة عن النبي (صلى الله عليه وآله): (لو
لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله فيه رجلا من عترتي يملأها عدلا كما ملئت
جورا) (4) وأخرج الحاكم في صحيحه عنه (صلى الله عليه وآله):
(يحل بأمتي في آخر الزمان بلاء شديد من سلطانهم لم يسمع ببلاء أشد منه
حتى لا يجد الرجل ملجأ فيبعث الله رجلا من عترتي أهل بيتي يملأ الأرض
قسطا وعدلا) (5) الخبر.
وأخرج أبو نعيم عنه (صلى الله عليه وآله): (ليبعثن الله
رجلا من عترتي أفرق الثنايا أجلا الجبهة يملأ الأرض عدلا يفيض المال
فيضا) (6).



(1) كنز العمال 6 / 220 وذكر أن الطبراني أخرجه.
(2) إسعاف الراغبين ص 133 ورواه في كنز العرفان 6 / 220 بحروف رواية الصبان
وأشار إلى إخراج الطبراني له.
(3) سنن الترمذي 2 / 36 وفيه (من أهل بيتي) سنن أبي داود 7 / 134.
(4) مسند أحمد / 99 و 3 / 10 و 28 و 37 و 70.
(5) مستدرك لحاكم 4 / 465.
(6) حلية الأولياء 3 / 101.
574
وأخرج أحمد والماوردي أنه (صلى الله عليه وآله) قال: (أبشروا
بالمهدي رجل من قريش من عترتي يخرج في اختلاف من الناس وزلزال فيملأ
الأرض عدلا وقسطا) (1) الخبر إلى غير ذلك وكل هذه الأخبار مصرحة بأن
المهدي من عترة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمهدي من ذرية
الحسين (عليه السلام) كما سنبينه، فيكون ذرية الحسين من عترة رسول الله
(صلى الله عليه وآله) وذوي قرباه وأهل بيته وآله، وبهذا يبطل ما
ذكره المعتزلي من اختصاص العترة بعلي (عليه السلام) والحسن والحسين،
نعم إن أريد أنهم الأصل في العترة والأئمة بعدهم تابعون لهم في ذلك كان
صحيحا لا إشكال فيه، لأن وصلتهم بالنبي (صلى الله عليه وآله)
بسبب أولئك الكرام صلوات الله عليهم أجمعين.
والإمامة يختص بها العترة بهذا المعنى الخاص لا بما يفيده أصل اللغة
العربية فيختص بها أطائب عترة علي (عليه السلام) وأبرار ذريته، لأن
هؤلاء هم عترة النبي (صلى الله عليه وآله) شرعا كما ذكرناه، وقد
أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى هذا في خطبة رواها المعتزلي عن شيخه
الجاحظ عن أبي عبيدة وهي طويلة ومحل الاستدلال منها قوله (عليه السلام):
(ألا إن أبرار عترتي، وأطائب أرومتي، أحلم الناس صغارا، وأعلم الناس
كبارا ألا وإنا أهل بيت من علم الله علمنا، وبحكم الله حكمنا، ومن قول
صادق سمعنا فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا) الخطبة (2) حيث جعل
الاقتداء بهم كالاقتداء ورتب عليه الاهتداء، وهذا الكلام مشير إلى أهل
الطهارة والعلم الغزير والحلم الواسع من ذريته (عليه السلام)، ولم يكن



(1) كل ما ذكره المؤلف ابتداء من رقم 5 إلى هنا نقله المؤلف من إسعاف الراغبين ص
133 فما بعد فلاحظ.
(2) شرح نهج البلاغة 1 / 276 والبيان والتبين للجاحظ 1 / 175.
575
بهذا الوصف إلا أئمتنا المعروفون ذرية الحسين (عليهم السلام)، لأنهم
تميزوا عن جميع الذرية المحمدية والسلالة الحيدرية بغزارة العلم وسعة
الحلم، وصحة اليقين، وصدق النية، والزهد في الدنيا، شهد بذلك هم
أولياؤهم وأعداؤهم ومن قال بإمامتهم ومن لم يقل بها، هذا دليل واضح على
صحة مذهب الإمامية من أصحابنا ومبطل لما سواه من مذاهب فرق الشيعة
وغيرهم، فالأئمة الأحد عشر من ذرية أمير المؤمنين هم العترة بالمعنى
الخاص، فما ورد من النصوص الدالة على إمامة العترة فهو مختص بهم دون
غيرهم من باقي الذرية، وكما يختص بهم ما ورد من النص على العترة كذلك
يختص بهم ما ورد من النص على ذوي القربى وأهل البيت والآل بالمعنى
الخاص لاتفاق الألفاظ الأربعة في المعنى كما سمعت، والذي يدل على أن
العترة بالمعنى الأخص مختص بالأئمة دون سائر ذرية الرسول (صلى الله عليه
وآله وسلم) ما رواه ابن أبي الحديد عن حلية الأولياء فيما تقدم من قول النبي
(صلى الله عليه وآله) وليقتد بالأئمة من بعدي فإنهم عترتي خلقوا من
طينتي) الخبر فإنه صريح في أن العترة هم الأئمة وأن الأئمة هم العترة، وأن
من ليس من العترة ليس بإمام، ومن ليس بإمام ليس من العترة لإفادة
الحمل ذلك لأنه في القضية المذكورة بمعنى حمل الشئ على الآخر على أنه هو
هو لا الحمل المشهور ومثله قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث
الثقلين (كتاب الله وعترتي أهل بيتي) لمعلومية أن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) لم يأمر الأمة بالتمسك إلا بمن كان من الذرية معروفا بالطهارة والعلم
والزهد والورع، معلوما بملازمة القرآن، غير مخالف لأحكامه ولا صادف عنه
إلى غيره من رأي أو قياس أو غير ذلك، ولا يكون كذلك إلا من اجتباه الله
وهداه وسدده وأيده، وهذه صفة الإمام على ما يقول أصحابنا، وليس كل
الذرية الفاطمية على الوصف لأن منهم من قاصر العلم، ومنهم من
لا علم له، ومنهم من ليس مرضيا مذهبه ولا محمودا هديه، فليس يجوز أن

576
يأمر النبي (صلى الله عليه وآله) بالتمسك بمثل هؤلاء، ولما كان
العترة يختص بها من أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بالتمسك به،
وهو يختص بمن جمع أوصاف الإمامة كان الأئمة هم العترة والعترة هم
الأئمة، وهم أهل البيت أيضا، ويدل عليه أيضا قول أمير المؤمنين في
الخطبة التي قدمنا ذكرها: (فإنه لما قبض الله نبيه (صلى الله عليه وآله
وسلم) قلنا نحن أهله وورثته وعترته) (1) لظهور أنه (عليه السلام) لا
يريد باستحقاق الإمامة وخلافة النبي (صلى الله عليه وآله) إلا نفسه
وولديه دون باقي بني هاشم كأخيه عقيل وغيره، وسيأتي في ذكر النصوص ما
يعاضد هذا الدليل ويزيد هذا المعنى توضيحا وبيانا، وقول النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) في المهدي (رجلا من عترتي) يعني أنه من الأئمة، لأنا
نقول إنه خاتمهم وتمام عدتهم فلا نقض علينا به إذ ليس يتعين أن المراد به
رجلا من ذريتي، لأن المعنى الأول يقتضيه فصح من هذا أن كلما ورد من
النصوص القرآنية والنبوية الدالة على إمامة العترة أو ذوي القربى أو أهل
البيت أو الآل أو وجوب مودتهم أو التمسك بهم أو عصمتهم عن مقارفة
الذنوب فيراد بهم الأئمة (عليهم السلام) فهو شامل لهم بالتبعية وإن كان
موردها في أمير المؤمنين (عليه السلام) والحسنين بالأصالة للمماثلة الحاصلة
والمشابهة الصحيحة، وسيأتي للفظ ذوي القربى وأهل البيت والآل زيادة
توضيح وتصريح في ذكر الأدلة إن شاء الله بما يزيد شبهات المشبهين فترقب.
إذا تقرر هذا فلنذكر النصوص على العترة، واعلم أنها أنواع.
فمنها ما ورد بلفظ الإمامة وما ورد بلفظ التمسك ومنها ما ورد بلفظ
السيادة، ومنها ما ورد بلفظ المودة والمحبة وغير ذلك، وسنذكرها مفصلة.



(1) حلية الأولياء 1 / 86.
577
فما ورد بلفظ الإمامة الحديث المتقدم عن الحلية وهو قول النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) (من سره أن يحيى حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة
عدن التي غرسها ربي فليوال عليا من بعدي وليوال وليه وليقتد بالأئمة من
بعدي فإنهم عترتي، خلقوا من فاضل طينتي، ورزقوا فهما وعلما فويل
للمكذبين من أمتي القاطعين فيهم صلتي لا أنالهم الله شفاعتي وهذا
الخبر صريح في النص على إمامة العترة الطاهرة بما لا مزيد عليه من الصراحة
وذلك من وجوه.
الأول إيجابه الاقتداء بهم ولا يجب الاقتداء عينا إلا بالإمام.
الثاني تسميتهم أئمة وهو أصرح الألفاظ في الإمامة العامة، إذ من
المعلوم أنه لا يريد هنا مطلق الأئمة كإمام الجماعة وإمام الحاج وأمراء البلدان
والجيوش والفقهاء ولا يحتمل كلامه ذلك لأن وصفهم بأنهم عترته وما بعده
من الأوصاف موجب لإخراج المذكورين منهم، ويخصص الأئمة بالخلفاء
المستحقين لمقامه.
الثالث خلقهم من فاضل طينته فإنه يدل على الوصلة التامة والمماثلة
الخاصة كما ذكرنا سابقا في خلق علي من نور النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) وذلك يقتضي كونهم قائمين مقامه وحالين في منزلته وحيث امتنعت
فيهم النبوة لختمها به فهم قائمون مقامه في الإمامة فيكونون خلفاءه على
الأمة.
الرابع قوله: (رزقوا فهما وعلما) فإنه مصرح بأنهم كانوا مستحقين
للإمامة لأن الله اختصهم بالفهم والعلم فهم أحق بمنصب الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم) وأولى بخلافته ممن ليس له هذه الصفة وفيه إشارة إلى أنه لا
يجوز لمن يجهل شيئا من أمر الأمة في دينهم أن يكون إماما وهو حقيقة قول
أصحابنا ونصه.

578
الخامس قوله: (فويل للمكذبين من أمتي) الخ فإنه صريح في أن من
كذب بإمامتهم فقد استحق الويل وقطع صلة النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم)، وكان أهلا لحرمان الشفاعة والخلود في الهاوية، فهو في مقابلة
المقتدي فإنه مستحق لأن يحيى حياة النبي (صلى الله عليه وآله)
ويموت مماته ويدخل جنة عدن التي غرسها ربه وأي نص أصرح من هذا
النص في الإمامة لولا تنكب القوم الطريق وسلوكهم في المضيق.
ومنه قول النبي (صلى الله عليه وآله) للحسن والحسين (عليهما
السلام): (أنتما الإمامان ولأمكما الشفاعة) في حديث رواه في المناقب مختصر
مناقب الحافظ أبي عبد الله محمد بن يوسف البلخي الشافعي نقلا من
مسند أحمد بن حنبل (1) وهو صريح في المطلوب لا يحتاج إلى بيان.
وما ورد بلفظ التمسك الخبر المتواتر وهو قول النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) في خطبته: (أيها الناس إنما أنا بشر مثلكم يوشك أن يأتيني
رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم ثقلين كتاب الله فيه الهدى
والنور فتمسكوا بكتاب الله عز وجل وخذوا به وأهل بيتي، أذكركم الله في
أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي) وفي رواية:
(إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي) والروايتان بهذا اللفظ لمسلم بن
الحجاج القشيري في صحيحه (2) وأما لفظ أحمد بن حنبل فهذا: (إني
أوشك أن أدعى فأجيب وإني تارك فيكم الثقلين كتاب الله حبل ممدود من
السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن
يفترقا حتى يردا على الحوض فانظروا بما تخلفوني فيهما) (3) ولفظ ابن أبي



(1) مسند الإمام أحمد
(2) صحيح مسلم / كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل علي بن أبي طالب.
(3) مسند الإمام أحمد 3 / 17 و 5 / 181.
579
الحديد: (خلفت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي حبلان ممدودان
من السماء إلى الأرض لا يفترقان حتى يردا على الحوض) وفي رواية: (قد
خلفت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وأهل بيتي) إلى تمام
الأول وفيه زيادة (حوضي ما بين بصرى وصنعاء عدد آنيته عدد النجوم إن
الله مسائلكم كيف خلفتموني في كتابه وأهل بيتي) وهذا اللفظ للزهري
وذكره في حديث الغدير وهذا الخبر على اختلاف لفظ رواته صريح في النص
على العترة بالإمامة وإنه (صلى الله عليه وآله) عهد بذلك إلى الناس
حين تحقق دنو انتقاله من الدنيا إلى الرفيق الأعلى، ألا ترى إلى قوله (صلى
الله عليه وآله وسلم) (يوشك أن يأتيني رسول ربي) و (أوشك أن أدعى
فأجيب) فإنه مشعر بذلك ومنبه لهم على قرب رحيله عنهم، لأن أوشك فعل
معناه المقاربة ومشارفة الأمر، وأصرح منه في ذلك قوله (صلى الله عليه وآله
وسلم) في رواية أبي الفتوح أسعد بن أبي الفضائل في كتابه الموجز في فضل
الخلفاء الأربعة: (أيها الناس إني قد نبأني اللطيف الخبير أنه لن يعمر نبي إلا
نصف عمر النبي الذي كان قبله، وإني لأظن بأني أدعى فأجيب) الخبر (1)
فأوصاهم بالتمسك بالكتاب والعترة، ولا معنى للتمسك إلا الأخذ بأحكامهما
والرجوع إليها عند الاختلاف، فهذا معنى الإمامة، فالكتاب الإمام
الصامت، والعترة الإمام الناطق، كل منهما يصدق صاحبه، فلا يجوز لأحد
مخالفة واحد منهما وبين (صلى الله عليه وآله) أن التمسك بهما عاصم
من الضلالة ومخالفتهما موجبة للهلاك، وصرح بأنهما حبلان ممدودان من
السماء إلى الأرض، فهما وصلة بين الله وبين خلقه، من اقتدى بهما توصل
إلى مرضاة الله، ومن تركهما باء بسخط من الله، إذ لا سبب إلى الله بعد



(1) لم اعثر على كتاب الموجز لأبي الفتوح والخبر المشار إليه رواه الهيثمي في مجمع الزوائد
5 / 164.
580
النبي (صلى الله عليه وآله) غيرهما، فأي دليل على الإمامة ووجوب
الطاعة وتحريم عصيان العترة أدل من هذا وبه يبطل قول من قال: إن النبي
(صلى الله عليه وآله) لم يوص، أفليست هذه وصية صريحة وإيجاب
طاعة للعترة على الناس ظاهرا، فأبلغ شاهد من هذا يريد منا الخصوم كابن
أبي الحديد وأشباهه من المنكرين النص وتأمل إلى قوله (صلى الله عليه وآله
وسلم) (أذكركم الله في أهل بيتي) ويكررها ثلاثا وقوله: (فانظروا كيف
تخلفوني فيهما) وقوله: (إن الله مسائلكم كيف خلفتموني في كتابه وأهل
بيتي) فإنك تجده صريحا في التوصية بطاعتهم، والانقياد لأمرهم، وتحريم
مخالفتهم، والتوعد عليها بأعظم القول، وأبلغ الوصية، افترى الوصية
بالإمامة تحتاج إلى أكثر من هذا اللفظ أو تزيد على هذا القول حتى يقال: إن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يوص إلى أحد بعينه بعد إقرارهم
بصدور هذا الكلام عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ وفي قوله: (صلى الله
عليه وآله وسلم): (لا يفترقان حتى يراد علي الحوض) إيماء بل دلالة على بقاء
الإمامة واستمرارها إلى انقضاء زمان التكليف، وإنها لا تنقطع وقد بين هذا
في مقدمة الكتاب بأحسن بيان.
واعلم إنما أبطلت دلالة هذه الأدلة على الإمامة عند المخالفين، وقالوا:
لا وصية ولا نص من النبي (صلى الله عليه وآله) على أحد بعينه،
مع وضوحها وكونهم ذوي فطن شبهة خلافة الثلاثة وتقدمهم ووثوقهم في
الصحابة على جهل وتقليد واتباعهم السواد الأعظم فقابلوا الصريح في
خلافهم بالأغراض ونظروا إليه نظرا اغماض فقد لعمري تركوا الحق
وسفهوا الهدى [ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد
تثبيتا].
وما ورد بلفظ السيادة الحديث المتواتر وهو قول النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) للحسن والحسين: (هما سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير

581
منهما) (1) وفي بعض الروايات بصورة الخطاب (أنتما سيدا شباب أهل الجنة
وأبوكما خير منكما) (2) ولفظ المسند لأحمد بن حنبل عن حذيفة بن اليمان:
(إن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وفاطمة سيدة نساء
العالمين) (3) فلفظ الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة متفق عليه وقد
تقدم من البيان إن السيادة بمعنى الرئاسة والطاعة كما يقال: فلان سيد بني
فلان يعني رئيسهم المطاع فيهم وأكرمهم، وأصل السيادة الملك، ومنه سمي
مالك العبد سيده، وسمي الزوج سيدا للمرأة لأنه يملك أمرها، ثم استعمل
اللفظ في المجد والشرف، كل ذا نص عليه أهل اللغة، وبالجملة فالسيد إذا
أطلق في العرف العام من دون قرنية دل على الرئاسة والمجد والشرف وإذا
أطلق شرعا ولم تكن ثمة قرنية تعين أحد معانيه فإنه يفهم منه مالك الأمر
الذي تجب طاعته، فلما كان الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة كان
معنى ذلك أنهما أشرف أهل الجنة، ولا يجوز أن يكونا أشرف أهل الجنة وهما
في الدنيا مشروفان، بل يجب أن يكونا في الدنيا هما الرئيسان المطاعان
ليحصل لهما الشرف العالي بعد أبويهما محمد وعلي صلوات الله عليهما وآلهما،
فهذا القول من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهما إظهارا لإمامتهما إذ لا
يكون سيد في الجنة إلا وهو السيد في الدنيا ويشهد لذلك صريحا قول النبي
(صلى الله عليه وآله) في حديث ذكره كثير من المحدثين ورواه المعتزلي
في شرحه (سادة أهل المحشر سادة أهل الدنيا أنا وعلي وحسن وحسين وحمزة
وجعفر) (4) فقد ثبت بهذا الحديث أن الحسن والحسين سيدا أهل الدنيا كما



(1) إسعاف الراغبين 115 و 116 وسنن ابن ماجة باب فضائل الصحابة ومستدرك الحاكم
3 / 167.
(2) شرح نهج البلاغة 6 / 376.
(3) أسد الغابة 5 / 574 وحلية الأولياء 4 / 190 ومسند أحمد 5 / 391.
(4) شرح نهج البلاغة 15 / 72. ومستدرك الحاكم / 211.
582
أنهما سيدا أهل الجنة فيكونان الرئيسين الذين تجب طاعتهما.
فإن قيل: لفظ السيادة لا يدل على ملك الأمر والرئاسة في هذا
الحديث وإنما يدل على المجد والشرف فيستفاد منه الأفضلية فقط، لأن حمزة
وجعفر ليسا عندكم بإمامين، وقد أثبت لهما النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) السيادة فلو كان المراد بها هنا الإمامة لأخرجهما النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) منها لأنه لازم على قولكم وحيث لم يخرجهما وجب أن يكون أراد
(صلى الله عليه وآله) بالسيادة هنا الأفضلية دون الرئاسة العامة.
قلنا: إنا قد بينا أن لفظ السيادة له معان متعددة وأن الأصل فيه ملك
الأمر، وأنه إذا أطلق بدون قرينة انصرف إلى هذا المعنى، وإن قامت قرينة
على بعض معانيه انصرف إليه بسببها، فالقرينة هنا في حمزة وجعفر المعينة
لإرادة المجد والشرف من سيادتهما قائمة وهي الاتفاق الحاصل من الأمة على
أنهما ليسا بإمامين فتنصرف السيادة المنسوبة إليهما إلى الأفضلية تقديما للدليل
القاطع على الظاهر وذلك بخلاف الحسن والحسين فإن جميع الشيعة يقولون
بإمامتهما من جهة النص وقوم من الصحابة والتابعين قائلون بها فلا قرينة
تصرف معنى السيادة فيهما إلى غير الرئاسة العامة التي هي بمعنى الإمامة.
وقولك: يلزم على قولكم أن السيادة بمعنى الإمامة إخراج حمزة وجعفر
منها لأنهما ليسا بإمامين عندكم.
قلنا لا يلزم ذلك فإنه غاية الأمر لزوم استعمال اللفظ المشترك في كلا
معنييه على قولنا ولا بأس به فقد أجازه جملة من الأصوليين ويشهد لصحته
وروده في القرآن الكريم قال الله تعالى: [هو الذي يصلي عليكم وملائكته] قوله
تعالى: [إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه

583
وسلموا تسليما] (1) فجمع في اللفظ بين صلاة الله وهي الرحمة وبين صلاة
الملائكة وهي الاستغفار واستعمل اللفظ فيهما معا على اختلافهما فزال الايراد
ثم يقال ويلزم على قولك أيضا ما نريده لأنا نوجب الإمامة للأفضل ويفهم
من كلام قوم من العامة القرب إلى اختيار ذلك فإذا كان الحسنان أفضل
الناس وجبت لهما الإمامة وكان الخبر نصا على إمامتهما، وما ذكره المعتزلة من
جواز تقديم المفضول على الأفضل قد أبطلناه فيما سبق، ثم إن الخبر نص في
أفضلية أمير المؤمنين والحسنين وحمزة وجعفر على جميع الصحابة ومن بعدهم
وبذلك قال ابن أبي الحديد وجمع كثير من أصحابه والمعتزلة كجعفر بن مبشر
وبشر بن المعتمر وأبي موسى وسائر قد ماء البغداديين من المعتزلة، وأبي
القاسم البلخي وأبي الحسين الخياط وهو شيخ المتأخرين من معتزلة بغداد،
وأبي جعفر الإسكافي والتفضيل عندهم مرتب بين الخمسة فالأفضل علي ثم
الحسن ثم الحسين ثم حمزة ثم جعفر ثم بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان (2).
قال أبو جعفر الإسكافي في هذا المقام: والمراد بالأفضل أكرمهم عند الله
، وأكثرهم ثوابا، وأرفعهم في دار الجزاء منزلة (3).
وقال ابن أبي الحديد: أعجبني هذا المذهب وسررت بأن ذهب الكثير
من شيوخنا إليه.
قلت: ويدل على أفضلية حمزة وجعفر على ما سوى علي والحسنين من
الصحابة قول النبي (صلى الله عليه وآله) (خير الناس حمزة وجعفر)
وعلى ما رواه أبو الفرج الاصفهاني وغيره من محدثي القوم وقوله (صلى الله عليه
وآله وسلم) لجعفر: (اشبهت خلقي وخلقي) ذكره ابن أبي الحديد



(1) الأحزاب: 33.
(2) شرح نهج البلاغة 1 / 7.
(3) المصدر السابق.
584
وغيره (1) وقوله (صلى الله عليه وآله): (حمزة سيد الشهداء) وهو
خبر مشهور بل متواتر وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لجعفر: (خلق
الناس من أشجار شتى وخلقت أنا وجعفر من شجرة واحدة) أو قال:
(طينة واحدة رواه أبو الفرج أيضا (2) وغيره.
ولما قدم جعفر من الحبشة وقد فتحت خيبر التزمه وجعل يقبل عينيه
ويقول: (ما أدري بأيهما أنا أشد فرحا بقدوم جعفر أم بفتح خيبر) ذكره
جملة من المحدثين (3) وما أولانا هنا بذكر أبيات في هذا المعنى لحسان بن ثابت
من قصيدة يرثي بها جعفر وأصحابه بمؤتة قال في جملتها:
رأيت خيار المسلمين تواردوا * شعوب وخلق بعدهم يتأخر
غداة غدوا بالمؤمنين يقودهم * إلى الموت ميمون النقيبة أزهر
أغر كضوء البدر من آل هاشم * أبي إذا سيم الظلامة أصعر
وكنا نرى في جعفر من محمد * وقارا وأمرا حازما حين يأمر
وما زال في الإسلام من آل هاشم * دعائم صدق لا ترام ومفخر
هم جبل الإسلام والناس حولهم * رضام إلى طود يطول ويقهر
بها ليل منهم جعفر وابن أمه * علي ومنهم أحمد المتخير
وحمزة والعباس منهم ومنهم * عقيل وماء العود من حيث يعصر
بهم تفرج الغماء في كل مأزق * عماس إذا ما ضاق بالناس مصدر
هم أولياء الله أنزل حكمه * عليهم وفيهم والكتاب المطهر



(1) أيضا 15 / 72 و 19 / 221.
(2) شرح نهج البلاغة 5 / 72 عن مقاتل الطالبين.
(3) منهم ابن هشام في السيرة 3 / 232 وأبو عمر في الإستيعاب 1 / 210 وابن الأثير في
أسد الغابة 1 / 287.
585
روى ذلك محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب المغازي (1) وما أدري ما
تصنع الأشاعرة في هذا الحديث الذي صرح بأفضلية حمزة وجعفر على
أئمتهم؟ وما ذا يقولون فيه وقد رواه محدثوهم كالديلمي وغيره ولفظه في روايته
(نحن بنو عبد المطلب سادات أهل الجنة أنا وحمزة وجعفر والحسن والحسين
والمهدي) مع أنهم يقولون إن أفضل الصحابة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان،
ويبنون على ذلك ثبوت إمامتهم وهذا الحديث وغيره يبطل ما زعموه، ولازم
ذلك بطلان إمامة مشائخهم كما ترى وما عسى أن أقول في الفريقين فإن كلا
منهما فارق الصواب وتاه في غمرات الشك والارتياب.
ثم نرجع إلى إتمام الكلام واستيفاء المرام في إثبات النص على السبطين
بالإمامة فنقول: ومما يصرح بما ذكرناه من ذهاب قوم من الصحابة إلى إمامة
الحسنين من جهة النص ما رواه ابن أبي الحديد قال: لما تقاعس محمد يوم
الجمل وحمل علي بالراية فضعضع أركان عسكر الجمل دفع إليه الراية وقال
امح الأولى بأخرى وهذه الأنصار معك وضم إليه خزيمة بن ثابت ذا
الشهادتين في جمع من الأنصار كثير منهم من أهل بدر فحمل حملات كثيرة أزال
بها القوم عن مواقفهم وابلا بلاء حسنا فقال خزيمة بن ثابت لعلي (عليه
السلام) أما أنه لو كان غير محمد اليوم لافتضح إلى أن قال وقالت الأنصار:
يا أمير المؤمنين لولا ما جعل الله للحسن والحسين ما قدمنا على محمد أحدا
من العرب، فقال علي (عليه السلام): " أين النجم من الشمس والقمر
أما إنه قد أغنى وابلا وله فضله " إلى أن قال: فقالوا: يا أمير المؤمنين
إنا والله ما نجعله كالحسن والحسين ولا نظلمهما له ولا نظلمه لفضلهما عليه



(1) سيرة ابن هشام 4 / 18 وشرح نهج البلاغة 15 / 63 والأبيات من قصيدة مطلعها:
تأوبني ليك؟؟ بيثرب أعسر وهم - إذا نوم الناس - مسهر
وانظر ديوان حسان ص 179.
586
حقه قال: فقال خزيمة بن ثابت فيه:
محمد ما في عودك اليوم وصمة * ولا كنت في الحرب الضروس مغردا
أبوك الذي لم يركب الخيل مثله * على وسماك النبي محمدا
وأنت بحمد الله أطول غالب * لسانا وأنداها بما ملكت يدا
وأقربها من كل خير تريده * قريش وأوفاها إذا قال موعدا
وأطعنهم صدر الكمي برمجه * وأكساهم للهام عضبا مهندا
سوى أخويك السيدين كلاهما * إمام الورى والداعيان إلى الهدى
الأبيات.. (1) فأثبت خزيمة (رحمه الله) لهما الإمامة بمحضر من الأنصار
وغيرهم من الصحابة، ولا يجوز ذلك لغير نص إذ على القول بأن الإمامة لا
تثبت إلا باختيار المسلمين، ولا يكون الإمام إماما إلا بالبيعة من نفر تثبت
بمبايعتهم له الإمامة والحسن والحسين إذ ذاك غير إمامين إذ لم تجر لهما بيعة ولا
وقع للمسلمين اختيار فيهما فيكون إثبات الإمامة لهما غير جائز، ولكان أمير
المؤمنين (عليه السلام) والصحابة لا يقرون خزيمة على ذلك، لكنه أثبت
لهما الإمامة وهو ذو الشهادتين وقرره علي (عليه السلام) الذي لا يقرر على
باطل قط وخيار الصحابة فيجب أن يكون استفاد إمامتهما من النص وباقي
الجماعة مطلعون على ذلك فلنا ما قرروه على ما قال فيثبت المطلوب، وما
ذلك النص إلى ما نذكره ها هنا وأمثاله مما رواه الصحابة.
وروى ابن أبي الحديد أيضا عن نصر بن مزاحم في حديث قال: قام
الأعور الشني إلى علي (عليه السلام) في صفين فقال: يا أمير المؤمنين زاد
الله في سرورك وهداك، نظرت بنور الله فقدمت رجالا وأخرت رجالا عليك
أن تقول وعلينا أن نفعل أنت الإمام فإن هلكت فهذان يعني حسنا وحسينا



(1) شرح نهج البلاغة 1 / 245.
587
الحديث (1) والأمر فيه كالأول فإنه أثبت للحسن والحسين الإمامة، فإن كان
من حيث البيعة لهما فلم تجر لهما بيعة على الناس في ذلك الوقت، وإن كان
لنص معلوم عن النبي (صلى الله عليه وآله) بين الصحابة والتابعين،
أو لأن الإمامة ميراث النبي (صلى الله عليه وآله) فهي لأقرب الناس
إليه وهما الأقرب، فقد ثبت ما نقول وتقرير أمير المؤمنين (عليه السلام) إياه
مع باقي الجماعة الأخيار حجة ظاهرة في المقصود.
وما ورد بلفظ المودة فقوله تعالى: [قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة
في القربى] (2) وينبغي أولا أن نذكر من المراد بالقربى ثم نبين بعد ذلك دلالة
الآية على الإمامة.
فنقول قد ذكرنا في بيان العترة ما يدل من الأخبار صريحا على أن القربى
علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وابن أبي الحديد قد وافقنا
على ذلك وأثبت أن القربى في الآية هم العترة، وقد سمعتن النقل عنه
هنالك أن العترة مختصة بمن ذكرناهم دون باقي العشيرة وسائر الذرية،
وتقدم عن ابن حجر في الصواعق: إن القربى مؤمنو بني هاشم والمطلب،
وقال صاحب المواهب: المراد بالقربى من ينسب إلى جده الأقرب عبد
المطلب، وقال ابن عطية: قريش كلها قربى، وقال في إسعاف الراغبين:
وفي الآية تفسير آخر وهو أن المعنى ولكن أسألكم أن تودوني وتكفوا عني
أذاكم بسبب ما بيني وبينكم من القرابة انتهى (3) ولا ريب في بعد هذا المعنى
أو عدم كونه مقصودا من اللفظ، لأنه لو كان هذا هو المراد تعين أن تكون
الآية خاصة بقريش أو ببعضهم على ما يقتضيه معنى القرابة في اللغة فيكون



(1) أيضا.
(2) الشورى: 23.
(3) إسعاف الراغبين: 105.
588
الخطاب لهم خاصة دون باقي الأمة فلا تجب عليهم مودة النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) من هذه الآية لفقدان سببها فيهم وهو القرابة بين النبي
(صلى الله عليه وآله) وبينهم، وهذا باطل قطعا والاتفاق على أن
الخطاب في الآية لجميع الأمة حاصل فالوجه المذكور فاسد باليقين.
وأخبرني بعض الإخوان عن بعض أهل التعصب أنه كان يقول: أن
المراد بالقربى العمل والمعنى قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة فيما يقربكم إلى
الله وهو أقرب إلى اللفظ من سابقه لكنه مقدوح فيه بما ذكره جماعة من أهل
اللغة من أن القربى لا يستعمل إلا في الزحم كالقرابة، والقرابة فيما يقرب إلى
الله تعالى ذكره في المصباح المنير وتبطل هذه الأقوال جميعها غير الأول بما قدمنا
في معنى العترة من قول النبي (صلى الله عليه وآله) لما نزلت الآية
فسئل من قرابتك الذين نزلت فيهم الآية؟ قال: (علي وفاطمة وابناهما) وما
رواه السدي عن أبي مالك عن ابن عباس في قوله تعالى: [ومن يقترف
حسنة نزد له فيها حسنا] (1) قال: " المودة لآل محمد " (2) ومما يدل صريحا
على إخراج قريش من القربى واختصاصها بمن ذكرنا ما رواه ابن أبي الحديد
فيما قدمناه عن أحمد بن حنبل من قول النبي (صلى الله عليه وآله):
(قدموا قريشا ولا تقدموها) قال: (أيها الناس أوصيكم بحب ذي قرباها
أخي وابن عمي علي بن أبي طالب) (3) فخصص (صلى الله عليه وآله
وسلم) ذا القربى بعلي (عليه السلام) وأخرج سائر قريش وبني هاشم
منها.



(1) الشورى: 23.
(2) الصواعق ص 101 وقال: " أخرجه أحمد عن ابن عباس " وفي الكشاف / عن
السدي.
(3) شرح نهج البلاغة 9 / 172.
589
أما فاطمة والحسن والحسين فهم مثل أمير المؤمنين لم يقل أحد
باختصاصه (عليه السلام) دونهم بالقرابة وما رواه أيضا عن أحمد بن حنبل
من قول النبي (صلى الله عليه وآله): (إني قائل لكم قولا غير محاب
فيه لقرابتي إن السعيد كل السعيد حق السعيد من أحب عليا في حياته وبعد
موته) (1) فخص القرابة بعلي (عليه السلام) كما ترى فصح من هذا كله أن
المراد بالقربى علي وفاطمة والحسن والحسين ومن حل محلهم من الأئمة كما
ذكرناه في العترة، فمعنى القربى ذي القربى ومعنى المودة المحبة، وقد ورد في
لزوم محبة أهل البيت أحاديث كثيرة بلغت حد التواتر فمنها ما تلوناه عليك
فيما سبق.
ومنها ما رواه الترمذي والحاكم وصححه على شرط الشيخين عن ابن
عباس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أحبوا الله لما
يغنيكم به وأحبوني بحب الله وأحبوا أهل بيتي بحبي) (2).
وأخرج الحاكم عن أبي هريرة أن النبي (صلى الله عليه وآله)
قال: (خيركم خيركم لأهلي من بعدي) (3) وأخرج ابن سعد والملا في سيرته
أنه (صلى الله عليه وآله) قال: (استوصوا بأهل بيتي خيرا فإني
أخاصمكم عنهم غدا ومن أكن خصمه أخصمه ومن أخصمه خصمه الله) (4)



(1) رواه المحب في ذخائر العقبى ص 92 وقال: " أخرجه أحمد ".
(2) إسعاف الراغبين ص 111 وقال: رواه الترمذي والحاكم وصححه على شرط
الشيخين " والظاهر أن ما في المتن نقله المؤلف (رحمه الله) عن الإسعاف.
(3) إسعاف الراغبين ص 111 وقال: " أخرجه الحاكم عن أبي هريرة ".
(4) رواه المحب في الذخائر ص 18 وقال: " أخرجه أبو سعد والملا في سيرته " والصحيح " عن
أبي سعد " كما في ذخائر العقبى فإني فحصت عن هذه الحديث في طبقات ابن سعد فحصا
دقيقا فلم أجده بهذا اللفظ والذي فيه كما في ج 2 ق 2 ص بسنده عن أبي سعيد الخدري.
590
وقال في إسعاف الراغبين: وروي أنه (صلى الله عليه وآله) قال:
(الزموا مودتنا أهل البيت فإنه من لقي الله عز وجل وهو يودنا دخل الجنة
بشفاعتنا والذي نفسي بيده لا ينفع عبدا عمله إلا بمعرفة حقنا) (1).
وروى الديلمي والطبراني والبيهقي وأبو الشيخ بن حيان مرفوعا أنه
(صلى الله عليه وآله) قال: (لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من
نفسه وتكون عترتي أحب إليه من عترته وأهلي أحب إليه من أهله وذاتي أحب
إليه من ذاته) (2).
وفي الاسعاف وروى أبو الشيخ عن علي (عليه السلام) قال خرج
رسول الله (صلى الله عليه وآله) مغضبا حتى استوى على المنبر فحمد
الله وأثنى عليه ثم قال: (ما بال رجال يؤذنني في أهل بيتي والذي نفسي
بيده لا يؤمن عبد حتى يحبني ولا يحبني حتى يحب ذريتي) (3).
وروى أحمد مرفوعا: (من أبغض أهل البيت فهو منافق).
وعن أبي سعيد أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (لا يبغضنا أهل
البيت أحد إلا أدخله الله النار) رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين (4).
وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة أنه (صلى الله عليه وآله) قال
في حسن وحسين (عليه السلام): (اللهم إني أحبهما وأحب من
يحبهما) (5).



(1) إسعاف الراغبين ص 113.
(2) إسعاف الراغبين 113.
(3) إسعاف الراغبين 113.
(4) أيضا ص 114.
(5) الذي في صحيح مسلم 7 / 129 كتاب فضائل الصحابة باب فضائل الحسن والحسين
رضي الله عنهما هكذا: " عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه
قال لحسن: (اللهم إني أحبه فأحبه واحبب محبيه) اه ".
591
وروى الترمذي وأحمد عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم): (من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان
معي في درجتي يوم القيامة) (1) والأحاديث في هذا الباب لا تحصى كثرة
وكلها مصرحة بوجوب حبهم وتحريم بغضهم واستحقاق مبغضهم دخول
النار.
قال الفخر الرازي: إن أهل بيته يعني النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) ساووه في خمسة أشياء إلى أن قال وفي المحبة قال الله تعالى:
[فاتبعوني يحببكم الله] (2) وقال تعالى: [قل لا أسألكم عليه أجرا إلا
المودة في القربى] (3).
واعلم أنه يفهم من هذه الأخبار أن المحبة واجبة لمن ذكرناهم دون
قريش وسائر بني هاشم وبعضها مصرح بذلك لتخصيص المحبة فيها بعلي
وفاطمة والحسنين فيحمل عليه غيره وأيضا لو وجبت المودة لقريش وبني هاشم
كافة لوجبت معرفتهم لأنها هنا مودة خاصة بمعنى المتابعة لهم ومخالفة من
يخالفهم، وليست بمودة عامة كمودة سائر المؤمنين بعضهم لبعض من حيث
الإيمان والأخوة في الدين وإذا كانت المودة هنا بمعنى المتابعة التامة كما سنبينه
وحيث معرفة متعلقها لأن من ليس بمعروف ليس بمتبوع فليس بمحبوب، بل
مطلق المحبة إذا وجبت وجب أن يعرف من وجبت له وليس تجب معرفة أحد
من ذوي رحم النبي (صلى الله عليه وآله) بالإجماع غير الأئمة وفاطمة
(عليهم السلام) فيتعين أن يكونوا هم المعينين بالمودة والمخصوصين بالقربى
والمجتبين للمتابعة دون من سواهم، إذا تحققت ذلك فاعلم أن الآية دالة



(1) نقله في إسعاف الراغبين ص 116 عن الترمذي وأحمد.
(2) آل عمران: 31.
(3) الشورى: 23 وقد مر هذا منقولا عن تفسير الرازي.
592
على إمامة ذوي القربى من جهة وجوب مودتهم ولزوم محبتهم، وحقيقة المحبة
الميل إلى المحبوب وإيثار مرضاته ومحبوباته على مرضاة النفس ومحبوباتها،
والتأدب بآداب المحبوب والتخلق بأخلاقه كما يشير إليه قوله تعالى: [قل إن
كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله] وهذه الحالة هي المتابعة أو أنها
تستلزمها، وقد قال الصبان الشافعي في معنى المحبة: إن المحبة المعتبرة
الممدوحة هي ما كانت مع اتباع سنة المحبوب (1) وبالجملة أن المحبة الحقيقية
إما أنها نفس المتابعة للمحبوب لأنها عبارة عن الميل إليه وانجذاب النفس إلى
طلب رضاه ومرجعها إلى طاعة المحب للمحبوب، وإما أنها مستلزمة للمتابعة
يجعلها حالة في النفس لأجلها يطلب مراضي المحبوب ويجتنب لها مسخوطاته
إلا أن الأول هو المراد من الآية لأنه تعالى أراد المودة الخاصة التي هي بمعنى
الموالاة لهم وقبول أقوالهم والأخذ بها ويوضح هذا المعنى أنه تعالى أوجب مودة
ذوي القربى على المكلفين ولا يكلف الله العباد ما لا يطيقون لأنه قبيح عقلا
ومنفي شرعا، ومن المتيقن أن المكلفين قادرون على المودة التي هي بمعنى
المتابعة وليسوا بقادرين على تحصيل تلك الحالة التي تدعوا إلى المتابعة لأنها من
فعل الله لا من فعل المكلف فلا يستطيع أحد أن يلقي في نفسه محبة أحد ولا
بغض أحد، وإنما تحدث المحبة بأسباب أخر خارجة عن نفس إرادة الإنسان
كما قال الله تعالى: [ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا
تميلوا كل الميل] (2) فلا تكون المحبة بهذا المعنى مطلوبة من المكلف لعدم
قدرته عليها وقبح تكليف الإنسان بما ليس في وسعه، والحاصل أن هذه المودة
قبل حصولها لا تطلب من المكلف لخروجها عن طاقته وبعد حصولها له لا
معنى لطلبها منه، لأنه تحصيل حاصل وهو ممتنع، ولأن المطلوبية تقتضي



(1) إسعاف الراغبين ص 118.
(2) السناء: 129.
593
التكليف وهو يستلزم المشقة ولا مشقة في المودة بعد حصولها، وإنما المشقة في
تركها فلا فائدة في التكليف بها حينئذ فيتعين أن المطلوب هو المودة بالمعنى
الأول، أعني المتابعة لأنها هي المقدور عليها والحصول المشقة فيها وتعلق فائدة
التكليف وهو بيان المطيع من العاصي بها، فالتكليف بها حسن ويشير إلى ما
ذكرنا قول النبي (صلى الله عليه وآله) فيما رواه ابن خالويه: (من
مات على حب آل محمد مات شهيدا ألا ومن مات على حب آل محمد مات
مؤمنا ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى
زوجها) (1) لعدم حصول الإيمان وغيره من المذكورات بدون المتباعة في
القول والعمل إذ لو كان المراد غير المتابعة من المحبة في الخبر لاستحق ما ذكر
الفساق بل الكفار إذا حصل لهم حالة تقتضي الميل إلى آل محمد وهذا باطل
البتة، فالمعنى من مات على متابعة آل محمد مات شهيدا الخ نعم المودة بمعنى
المتابعة يحصل منها المعنى الآخر لأن متابعة شخص لآخر وقبول قوله ورضاه
بحكمه مما يبعث على زيادة الميل إليه والأخذ عنه واقتفاء آثاره في أفعاله فإذا
تكررت صارت صفة حاصلة في النفس حتى تصير ملكة كباقي الملكات لا
ينكر هذا ذو روية، ومن جملة ما حررناه تبين وتعين أن المراد بالمودة في القربى
هي متابعتهم، وإذا وجبت متابعتهم في الأقوال والأفعال وجب أن يكونوا هم
الأئمة إذ لا مفروض طاعته غير الإمام ولا يجب اتباعه على التعيين إلا الرئيس
العام، على أن حمل الآية على المعنى الثاني من المودة لا يضرنا في الاستدلال
بها على المقصود، لأن فرض المتابعة وفرض ما لأجله تحصل المتابعة سيان في



(1) ونقله كل من الزمخشري والرازي في تفسير آية المودة من تفسيريهما وعلق الرازي على
هذا الحديث بقوله: " آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هم الذي يؤل أمرهم
إليه، فكل من كان أمرهم إليه أشد وأكمل كانوا هم الآل، ولا شك أن فاطمة
وعليا والحسن والحسين كان التعلق بينهم وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) أشد التعلقات وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر فوجب أن يكونوا هم الآل ".
594
إفادة إيجاب الطاعة وإنما ذكرنا ما ذكرنا لبيان أن المودة في الآية لا يصح جعلها
بمعنى الحالة المستلزمة للمتابعة لمكان المطلوبية ولا يطلب غير المقدور وإلا
فالآية على الإطلاق تدل على مطلوبنا.
ومما يناسب المقام ما أخرجه السلفي عن محمد بن الحنفية في قوله عز
وجل: [إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا] (1) أنه
قال: لا يبقى مؤمن إلا وفي قلبه ود لعلي (عليه السلام) وأهل بيته، قال
في الإسعاف: وذكر النقاشي في تفسيره أنها نزلت في علي (2) (عليه السلام)
فيكون المراد أن محب علي وأهل بيته لا بد أن يكون مؤمنا، وأن المؤمن لا
محالة يكون مودا لهم ومبغضهم ليس بمؤمن البتة فصح أن الإيمان لا يتم إلا
بمتابعتهم، وما لا يتم الإيمان إلا بمتابعته فهو إمام بلا شك.
وما ورد بلفظ الاعتصام ما أخرجه الثعلبي في تفسير قوله تعالى:
[واعتصموا بحبل الله جميعا] عن جعفر الصادق أنه قال: (نحن حبل
الله) وهو مناسب لما تقدم من جعل النبي (صلى الله عليه وآله)
الكتاب والعترة حبلين ممدودين (3) وفي معناه ما رواه في الاسعاف عن جماعة
من أصحاب السنن عن عدة من الصحابة أن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) قال: (مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجئ ومن تخلف
عنها هلك)، وفي رواية (غرق)، وفي أخرى (زج في النار) قال: وفي
أخرى عن أبي ذر زيادة وسمعته يقول: (اجعلوا أهل بيتي منكم مكان



(1) رواه المحب في الرياض 2 / 207 عن محمد بن الحنفية كما في المتن: " أخرجه
الحافظ السلفي، وكذلك رواه ابن حجر في الصواعق ص 102 والشبلنجي في
نور الأبصار ص 112.
(2) إسعاف الراغبين ص 110.
(3) الصواعق ص 90 كما في المتن وإسعاف الراغبين ص 110.
595
الرأس من الجسد ومكان العينين من الرأس ولا يهتدي الرأس إلا بالعينين). (1)
أقول: وهذه الأحاديث مصرحة بوجوب اتباع العترة والاقتداء بهم،
ناصة على نجاة متبعهم وهلاك مخالفهم، وأن الهداية لا تحصل إلا بهم، لأن
الاعتصام والركوب وجعلهم كالعينين من الرأس كله كناية عن متابعتهم
وعبارة عن الأخذ بقولهم لا معنى له غير ذلك، وهذه هي الإمامة بعينها إذ لا
يجب على المكلفين متابعة غير الإمام، فهذه من أوضح النصوص على إمامة
العترة وبطلان أقوال جميع من سواهم من الناس مما يخالف أقوالهم وفسادها،
لأن من عمل بقول غيرهم أو مخالفهم في قول أو عمل فقد ترك الاعتصام
بحبل الله وتخلف عن سفينة النجاة، وتبع العجز وترك الرأس ومن كان
كذلك زج في النار فأين يذهب بابن أبي الحديد وأصحابه والأشعري وفريقه
ومن أعرض عن أهل البيت، وقدم عليهم غيرهم، وفضله عليهم مع
علمهم بورود هذه الأدلة أليسوا بذلك قد تعمدوا الهلاك واقتحموا في غمرة
الضلال فتراهم يكفرون من لعن أحدا من الصحابة ولا يكفرون معاوية
وتابعيه إذ لعنوا أمير المؤمنين (عليه السلام) وأولاده وهو تاج الصحابة وسيد
المسلمين مع اشتهار قول النبي (صلى الله عليه وآله) فيه بينهم (من
سبك فقد سبني ومن سبني فقد سب الله) (2) وهذا من أدل الأدلة على تركهم
العمل بمضمون ما رووه في حق أهل البيت (عليه السلام)، وإعراضهم عنه
على عمد، ومن أعجب الأمور إنكارهم النص عليهم والوصية من النبي
(صلى الله عليه وآله) وأي نص أصرح من هذه النصوص وأي وصية
أبلغ من هذه الوصية؟ وما أدري لو أراد أحد أن يوصي بمتابعة آخر عند
هؤلاء ماذا يقول بأجلا من هذه الأقوال ينطق كلا، ولكنهم مالوا عن الحق



(1) إسعاف الراغبين ص 111.
(2) مستدرك الحاكم 3 / 121.
596
وأعرضوا عنه صفحا.
ومما ورد في أن الولاية والوصية والوارثة في أهل البيت قول أمير المؤمنين
في بعض خطبه في النهج: (لا يقاس بال محمد من هذه الأمة أحد ولا
يسوي بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا هم أساس الدين وعماد اليقين إليهم
يفئ الغالي وبهم يلحق التالي ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية
والوراثة الآن إذ رجع الحق إلى أهله ونقل إلى منتقله) (1) الخطبة والمراد
بالولاية ولاية النبي (عليه السلام) على الأمة بقوله تعالى: [النبي أولى
بالمؤمنين من أنفسهم] (2) وهذه هي الإمامة، والمراد بالوصية وصية النبي
(عليه السلام) بمتابعتهم ونصه عليهم بالإمامة، والمراد بالوراثة وراثة العلم
والمنزلة وهي الإمامة إذ لا نبوة بعد النبي (صلى الله عليه وآله)،
وليس كما ذكره ابن أبي الحديد من أن الوصية ليست النص والخلافة، بل
هي أمور أخر كما تقدم ذكره عنه إذ لا تمدح ولا فضيلة في الوصية بدون
الخلافة من الأمور التي عظمها هناك، وليس مقصود أمير المؤمنين (عليه
السلام) من الكلام كله إلا إظهار إمامة الآل وتقدمهم على جميع الأمة بسبب
ولاية الرسول (صلى الله عليه وآله) ووصيته إليهم بالأمر، ولهم
بالطاعة من الأمة والمتابعة، ولو كان غير ذلك لما كان فيه عظيم خطر يوجب
ألا يقاس بهم أحد، فقد أوصى النبي (صلى الله عليه وآله) إلى كثير
من أصحابه، في أمور عهد إليهم في أشياء كثيرة كسلمان وأبي ذر وحذيفة
وعمار حين قال له: (تقتلك الفئة الباغية) (3) وغيرهم من الصحابة يطول
تعدادهم وعهد إلى جملة من الأنصار أن يقاتلوا مع علي الناكثين والقاسطين



(1) نهج البلاغة من الخطبة 2.
(2) الأحزاب: 6.
(3) صحيح البخاري كتاب الطلاق. وكتاب الجهاد والسير وصحيح مسلم كتاب الفتن
8 / 185 فما بعدها من عدة طرق.
597
والمارقين كما روي عن أبي أيوب الأنصاري (1) وقد روى المعتزلي وغيره،
ذلك ولم يقل أحد أنهم أوصياء رسول الله (صلى الله عليه وآله)
لذلك، وعهد إلى عائشة والزبير (2) أنهما يخرجان إلى قتال علي (عليه
السلام) وهما له ظالمان، وأخبر عائشة أنها تركب الجمل الأزب وتنبحها
كلاب الحوأب يقتل حولها قتلى كثير كلهم في النار وتنجو بعد ما كادت رواه
المعتزلي (3) وغيره، وأخبر معاوية على ما رووا أنه يلي الأمة ويتخذ السنة
بدعة والبدعة سنة (4) إلى غير ذلك، ولم يصر أحد من هؤلاء وصي رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك فليس المراد من الوصية إلا النص
والخلافة، لأنهما هم المتبادران من قولنا: فلان وصي النبي، وأيضا أن مقام
المدح يقتضي اختصاص الممدوح بتلك الصفة دون غيره، ومن المعلوم أن
أمير المؤمنين (عليه السلام) قصد اختصاص أهل البيت بهذا الوصف



(1) عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأبي أيوب الأنصاري بقتال الناكثين
والقاسطين والمارقين مروي في كثير من الكتب منها مستدرك الحاكم 3 / 139 وأسد
الغابة 4 / 34 وتاريخ بغداد للخطيب 8 / 340 و 13 / 186 في حديث طويل لعلقمة
والأسود مع أبي أيوب الأنصاري، والهيثمي في مجمع الزوائد 7 / 238 و 9 / 235.
(2) تقدم عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأم المؤمنين عائشة بقول
لأزواجه: (أيتكن صاحبة الجمل الأدبب) الخ وقوله لها: (إياك أن تكوني أنت) قد
تقدم كما تقدم عهده (صلى الله عليه وآله وسلم) للزبير: (أما إنك ستقاتله وأنت
ظالم له).
(3) شرح نهج البلاغة 9 / 191 ورواه ابن عبد البر في الإستيعاب 4 / 461 بعين الألفاظ
المذكورة في المتن إلا أنه ذكر مكان " الأزب " " الأدبب " ومعنى الأدبب الطويل الوبر
وفي بعضها " الأذنب " وهو طويل الذنب.
(4) شرح نهج البلاغة 4 / 79 قال روى العلاء بن حريز القشيري أن رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) قال لمعاوية: (لتتخذن يا معاوية البدعة سنة والقبيح حسنا
أكلك كثير وظلمك عظيم).
598
وأخويه دون من سواهم من الأمة كما يصرح بذلك قوله في أول الكلام: (لا
يقاس بآل محمد من هذه الأمة أحد ولا يسوي بهم من جرت نعمتهم عليه)
ثم ذكر ما لهم من الأوصاف التي اختصوا بها ولم تكن في غيرهم حتى يصح ما
قاله من عدم مقايسة غيرهم بهم وعدم تسويته بهم فقال: (هم أساس الدين)
إلى آخر الأوصاف التي من جملتها أن فيهم الوصية، ولو شاركهم غيرهم في
هذه الصفات إذن لارتفع المدح بزوال الاختصاص، ولم يقع الكلام موقعه
والوصية ببعض الأمور كما ذكر الخصم لا يختصون بها لما ذكرناه من إيصاء النبي
(صلى الله عليه وآله) بأمور مخصوصة لأناس كثير من أصحابه
بالخصوص ولجملتهم بقوله: (خلفت فيكم الثقلين) وقوله: (أخرجوا
المشركين من جزيرة العرب حتى لا يبقى فيها إلا مؤمن) أو قال: (مسلم
موحد وأجيزوا الوفد بمثل ما أجيزه) وقوله: (كفنوني في كذا وكذا وادخلوا
علي فوجا فوجا للصلاة علي) ولقريش خاصة بقوله: (أوصيكم بالأنصار
خيرا فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم) (1) وكثير من أمثال هذا، ولما
كانت الوصية ببعض الأمور ليست مما تميزوا بها عن غيرهم واختصوا بها دون
من سواهم وجب حمل الوصية على ما لم يشاركهم فيه غيرهم، وليس إلا
النص والخلافة وثبت المطلوب وأما قول ابن أبي الحديد: لعلها أي تلك
الأمور إذا لمحت أشرف وأجل يعني من النص والخلافة، فهو باطل مخدوش
إذ لا منصب أجل من الإمامة، ولا منزلة أشرف من الخلافة، فإنها مقام
الأنبياء ومنزلته الأولياء الأصفياء قال الله تعالى لإبراهيم: [إني جاعلك للناس



(1) هذه الوصايا وردت عنه (صلى الله عليه وآله) في كثير من الكتب وقد مر
حديث الثقلين، وقوله (صلى الله عليه وآله): (أخرجوا المشركين من جزيرة
العرب " رواه الطبري في تاريخه 6 / 1806 ليدن، وابن أبي الحديد في شرح نهج
البلاغة 13 / 31 عن تاريخ الطبري.
599
إماما] (1) فمن عظمها عنده قال: [ومن ذريتي] يعني واجعل من ذريتي إماما
فكان فرحه بها أعظم من فرحه بالنبوة لسر لا يعلمه ابن أبي الحديد ولا
أصحابه وقال تعالى لداود: [يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض] (2) فأي
مقام أشرف وأعلا من مقام يمن الله على أنبيائه الكرام بجعلهم من أهله
وإعطائهم إياه، ولعمري ما عرف ابن أبي الحديد وأصحابه قدر الإمامة، بل
ولا فهموا معناها وإنما فهموا منها ما فهمه بعضهم حيث جعلها من أمور
الدنيا ولم يدر أنها الشرف الأسنى، والمقام الأعلى الذي لا يصلح له إلا
الأنبياء وكرام الأوصياء، وأن جميع الأمور الدينية والدنيوية تبع لها،
والأعمال مشروطة بها ومنوط صحتها بمعرفتها، وأن (من مات ولم يعرف
إمام زمانه مات جاهليا) ولو عرف المعتزلي ذلك حق المعرفة لما تفوه بما قال
ولما حكم بأن غير المنصب من الله والمنصوص عليه من رسول الله أهل
للإمامة، فقد لعمر الله جهل هو وأصحابه مقامها، وصغر وأقدرها، وهونوا
أمرها، وحقروا جلالتها، ووضعوا شرفها، وجعلوا أمرها إليهم وزمامها
بأيديهم، وهي التي جعلها الله لرسله وأوصيائهم، واختص بها أنبيائه
والأصفياء من أوليائهم فقال: [وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا] وكذلك
الوراثة كما ذكرنا ليس كما قال ابن أبي الحديد: إنها وراثة العلم خاصة، لما
بيناه في لفظ الوصية لأن الكلام يقتضي اختصاصهم بالوراثة دون سائر الأمة
وعدم مشاركة أحدهم فيها، إذ لولا ذلك لما كانوا هم الوارثين خاصة، بل
هم شركاء غيرهم وحملها على وراثة العلم يزيل الاختصاص فإن كثير من
الصحابة قد أخذوا عن النبي (صلى الله عليه وآله) علما ورواية
كعبد الله بن مسعود وسلمان وأبي ذر والمقداد وعمار وأبي بن كعب وجابر بن



(1) البقرة: 120.
(2) ص: 26.
600
عبد الله وزيد بن ثابت وعبد الله بن العباس في أضرابهم وأشباههم وقد روى
الخصم حديث: (العلماء ورثة الأنبياء) (1) فأي مزية لأهل بيت النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم)، وأية خصوصية لهم في شئ شاركهم فيه جمع كثير من
الناس وساهمهم فيه جم غفير من الأمة حتى يقال لهم وراثة النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) دون غيرهم، والحال إن غيرهم قد قاسمهم إياها وأخذ
نصيبه منها، فوجب لهذا حمل الوراثة على المنزلة والعلم معا ليثبت الاختصاص
وعلى المال أيضا لبطلان رواية (لا نورث) كما سبق بيانه فتبين أن منزلة النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) ميراث لهم كما أن جميع ماله وعلمه لهم فهم
خلفاؤه وأولياؤه وسفراؤه ويصدق هذا قول الله تعالى: [وأولوا الأرحام
بعضهم أولى ببعض في كتاب الله] (2) على أنا لو قبلنا قول ابن أبي الحديد لم يكن
الكلام خارجا عن الدلالة على ما نقول، لأن أهل البيت إذا كانوا وارثين على
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجب أن يكونوا خلفاؤه لوجوب الرجوع
إليهم في الحلال والحرام والقضايا والأحكام لأن علم النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) عندهم وغيرهم خلو منه، وإذا وجب الاقتداء بهم في أحكام
الدين وجب أن يكونوا هم الأئمة لأن المقتدى به عندنا هو الإمام، ومن
ليست له هذه المنزلة إذا ادعى الإمامة فهو ظالم غاصب ومتقول كاذب
ولاشتراط الأعلمية عندنا في الإمامة كما بين من قبل ويثبت المقصود، وليس
لأحد أن يترك الاقتداء بهم ويعدل عنهم إلى غيرهم لأنه يكون تاركا للعمل
بقول النبي (صلى الله عليه وآله) تعمدا لأن علمه عندهم فمن أخذ
يقول من خالفهم فقد خالف النبي (صلى الله عليه وآله) يقينا،
فتثبت لهم بذلك الإمامة قطعا والله الهادي وقوله (عليه السلام): (الآن إذ



(1) رواه البخاري في صحيحه 1 / 24 كتاب العلم باب العلم قبل القول والعلم.
(2) الأنفال: 75.
601
رجع الحق إلى أهله) الخ صريح في أن الخلافة قبل أن يملك هو أمرها ظاهرا
كانت في غير أهلها فهي مغصوبة منهوبة وهو نص مذهبنا وبالله المستعان.
ومما ورد في المعنى قول أمير المؤمنين في بعض خطبة في النهج: (نحن
شجرة النبوة، ومحط الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعادن العلم، وينابيع
الحكم، ناصرنا ومحبنا ينتظر الرحمة، وعدونا ومبغضنا ينتظر السطوة) (1)
وهذه الخطبة ظاهرة في أن أهل البيت وارثو منزلة الرسول وعلمه وحكمه لأن
قوله: (نحن شجرة النبوة) يشير به إلى أن ميراث النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) قد صار لهم لأنه (صلى الله عليه وآله) منهم إذ ليس يجوز
أن يريد أنهم أنبياء لأن النبوة قد ختمت بنبينا (صلى الله عليه وآله)
وكذلك قوله: (ومحط الرسالة) فإن مقام رسالة النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) صار لهم فهم المؤدون عنه إلى الأمة أحكام الدين التي بعث بها،
والحافظون لها ألا تسمع إلى قول النبي (صلى الله عليه وآله): (لا
يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني) وفي حديث مضى قبل أنه قال لعلي (عليه
السلام: (وأنت تؤدي عني) وقوله في حديث رواه أحمد والترمذي
والنسائي وابن ماجة عن جيش بن جنادة قال قال رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم): (علي مني وأنا من علي ولا يؤدي عني إلا علي) (2) فهم خلفاؤه
وأمناؤه وخلصاؤه وسفراؤه وليس يريد أنهم رسل لأن الرسالة كملت
برسولنا محمد (صلى الله عليه وآله) وأما قوله: (ومختلف الملائكة)
فلأن الأئمة (عليه السلام) تنزل عليهم الملائكة وتخاطبهم وليس ذلك ببدع
فقد خاطبت الملائكة مريم بما حكاه الله تعالى: [يا مريم إن الله اصطفاك
وطهرك] الآية وقول جبرئيل لها: [إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما



(1) نهج البلاغة من الخطبة 107.
(2) رواه الترمذي 2 / 229 وفيه (ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي).
602
زكيا] (1) وخاطبت سارة بما قصه الله قالوا: [أتعجبين من أمر الله رحمة الله
وبركاته عليكم أهل البيت] (2) فلا يمتنع في خلفاء النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) ما جاز في حق سارة ومريم، وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) لعلي (عليه السلام) في حديث مر ذكره: (إنك ترى ما أرى
وتسمع ما أسمع إلا أنك لست بنبي) وهو صريح في المطلب ويدل عليه
أيضا قوله تعالى: [إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة
ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أوليائكم في
الحياة الدنيا والآخرة] (3) الآيتين فهم أولئك إذ لا غيرهم من الأمة هكذا،
وباقي الخطبة ظاهر المعنى وهو ينادي بنجاة متبعهم وهلاك معاديهم، ويصرح
بأنهم وارثو منازل الرسول ومراتبه وذلك هو المراد.
ومما ورد بأنهم أوتوا من فضل الله ما حسدهم الناس عليه قوله تعالى:
[أم يحسدون الناس على ما أتاهم الله من فضله] (4) فقد ذكر ابن أبي الحديد
إن الآية نزلت في علي (عليه السلام) (5) وذكر في إسعاف الراغبين عن بعضهم
في الآية عن الباقر أنه قال: (أهل البيت هم الناس) (6) وهذه الآية صريحة في
إمامة أهل البيت، وأنها هي الشئ الذي أتاهم الله إياه من فضله وحسدهم
الناس عليه، لأن الناس لم يحسدوهم على مال أوتوه ولا ثروة حصلوها ولا
جواهر اختزنوها، وإنما حسدوهم على الخلافة ونازعوهم في الإمامة، فالآية
دالة على أن الله آتاهم الإمامة وجعلها فيهم وذلك ظاهر.



(1) مريم: 19.
(2) هود: 73.
(3) فصلت: 30 - 31.
(4) النساء: 54.
(5) نهج البلاغة من الخطبة القاصعة 190.
(6) إسعاف الراغبين ص 109.
603
وأما الأقوال والأفعال الدالة على تعظيم أهل البيت وجلالة شأنهم،
ورفعة قدرهم، والمشيرة إلى أنهم خلفاء النبي (صلى الله عليه وآله)
الراشدون، والمومية إلى أنهم الأئمة المرضيون، فكثيرة نذكر منها جملة
وافرة.
فمنها قوله تعالى: [إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا]
إلى قوله تعالى: [إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا] (1) فقد
صح في الرواية أن هذه السورة نزلت في حق علي وفاطمة والحسن والحسين
حين جادوا بقوتهم ثلاث ليال على المسكين واليتيم والأسير وهم مع ذلك
يصومون النهار، قال ابن أبي الحديد مشيرا إلى علي (عليه السلام) وفيه أنزل
قوله تعالى: [ويطعمون الطعام على حبة مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم
لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا] (2) انتهى فانظر إلى ما وصفهم
الله تعالى به في هذه الآيات من الأوصاف الجليلة، وإلى ما مدحهم به من
الخصال الجميلة من كونهم أبرارا وأنهم يوفون بالنذر، ويخافون يوم القيامة
وخوف الآخرة من وصف أهل الإيمان الكامل كما أن عدم خوفها من
وصف أهل الكفران قال تعالى: [يستعجل بها الذين كفروا والذين آمنوا
مشفقون منها ويعلمون أنها الحق] (3) ووصفهم بالسخاء والجود وهو إطعام
الطعام على حبه أي في وقت حاجتهم إليه وذلك غاية الجود، ووصفهم
بصفاء النية وصدق؟؟ وأنهم لم يقصدوا بفعلهم إلا وجهه الكريم ورجاء
ما عنده من الثواب الجسيم، ولم يريدوا بما فعلوا جزاء ولا محمدة من
المسكين والأسير واليتيم، ثم انظر إلى ما وعدهم الله من الثواب الجزيل وما
أعد لهم من العطاء العميم بقوله: [فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة



(1) الدهر: 9 / 10.
(2) شرح نهج البلاغة 1 / 21.
(3) الشورى: 18.
604
وسرورا وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا] (1) إلى آخر الآيات المشتملة على
ذكر ما أعد لهم من أفضل الهبات، فهل رأيت وليا من الأولياء غيرهم جمعت
له في القرآن هذه الصفات، أو صفيا من الأصفياء سواهم حين أعدت لهم
هذه العطيات، وهل هذه الأوصاف إلا أوصاف النبيين والمرسلين؟ فإنهم
وإن لم يكونوا أنبياء ورسلا فإنهم كانوا من سبلهم سالكين، ولمآثرهم
ولمراتبهم ومنازلهم وارثين أفليس في ذلك كله إشارة إلى إمامتهم، وإيماء إلى
خلافتهم، إن لم تكن دلالة واضحة وعلامة لائحة.
ومنها ما رواه ابن أبي الحديد عن ابن ديزيل في كتاب صفين عن بعل بن
بعيد الحنفي عن إسماعيل السدي عن زيد بن أرقم قال: كنا مع رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في الحجرة يوحى إليه ونحن ننتظره حتى
اشتد الحر فجاء علي بن أبي طالب ومعه فاطمة والحسن والحسين (عليه
السلام) فقعدوا في ظل حائط ينتظرونه، فلما خرج رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) رآهم فأتاهم ووقفنا نحن مكاننا ثم جاء إلينا وهو يظلهم
بثوبه ممسكا بطرف الثوب وعلي ممسك بطرفه الآخر، وهو يقول:
(اللهم إني أحبهم فأحبهم اللهم إني سلم لمن سالمهم وحرب
لمن حاربهم) (2) قال: فقال ذلك ثلاث مرات ورواه الحاكم في مستدركه
أيضا وهو شاهد بأن مقام الرسول لهم حيث جعل سلمهم سلمه وحربهم
حربه.
ومنها ما رواه أحمد بن حنبل عن النبي (صلى الله عليه وآله):
(إذا ذهب النجوم ذهب أهل السماء وإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض)
وفي رواية صححها الحاكم على شرط الشيخين: (النجوم أمان لأهل الأرض



(1) الدهر: 8 فما بعدها.
(2) شرح نهج البلاغة 3 / 207 ومستدرك الحاكم 3 / 149.
605
من الغرق وأهل بيتي أمان لأهل الأرض من الاختلاف).
وأخرج جماعة عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (النجوم أمان
لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأمتي) وفي أخرى: (أهل بيتي أمان لأهل
الأرض فإذا هلك أهل بيتي جاء أهل الأرض من الآيات ما كانوا
يوعدون) (2).
قال فسي الاسعاف: وقد يشير إلى هذا المعنى قوله تعالى: [وما كان
الله ليعذبهم وأنت فيهم] (2) أقيم أهل بيته مقامه في الأمان لأنهم منه وهو منهم
كما ورد في بعض الطرق انتهى (3) وهذا دال على أنهم خلفاؤه والقائمون
مقامه وتدل أيضا، على وجود إمام منهم في كل زمان قائم مقام النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) ليحصل به الأمان لأهل الأرض من الذهاب
والاختلاف، وهو عين ما نقول وقد تقدم ذكر هذه الأخبار وتمام تحقيقها في
مقدمة الكتاب.
ومنها ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) أنه قال في حسن وحسين: (اللهم إني أحبهما وأحب من
يحبهما) (4) وروى الترمذي عن أسامة أنه (صلى الله عليه وآله) أجلس
الحسن والحسين يوما على فخذيه وقال: (هذان ابناي وابنا ابنتي اللهم إني
أحبهما فأحبهما) (5) وروى عن أنس بن مالك أن النبي (صلى الله عليه وآله



(1) نقله المحب في ذخائر العقبى ص 17 عن فضائل أحمد ومستدرك الحاكم 3 / 149.
(2) الأنفال: 33.
(3) إسعاف الراغبين ص 130.
(4) الترمذي 2 / 240 وفيه " وركيه " مكان " فخذيه " وفيه " فأحبهما وأحب من يحبهما ".
(5) المصدر السابق 2 / 306.
606
وسلم) سئل أي أهل بيتك أحب إليك؟ فقال: (الحسن والحسين) (1).
وروى الطبراني وابن أبي شيبة أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال
فيهما: (اللهم إني أحبهما فأحبهما وأبغض من أبغضهما) (2).
وروى ابن عساكر وابن مندة عن أنس أن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) قال: (الحسن والحسين ريحانتاي من الدنيا) (3) ومثله في
الصحيحين عن ابن عمر، ومن هذا الباب كثير من الأحاديث المروية في
صحاح القوم مما لا ينكر روايتهم ابن أبي الحديد ولا غيره، ولا يرتاب فيها،
وليسوا من الشيعة الذين قال إنه لا يحفل بروايتهم ولا يلتفت إليها وكلها دالة
على تفضيل الحسن والحسين لأن محبة النبي (صلى الله عليه وآله) لهما
يلزم منها محبة الله لهما إذ لا يحب النبي (صلى الله عليه وآله) إلا من
يحبه الله ومحبة الله لهما يلزم منها كثرة ثوابهما، وذلك هو الفضل فيجب لهما
الإمامة إذ لا يجوز تقديم المفضول على الأفضل، وأيضا إن تلك الأقوال من
النبي (صلى الله عليه وآله) تقتضي وجوب محبتهما على الأمة وولايتهما
وتشير إلى عدم رضاه بتقدم غيرهما عليهما.
ومنها ما رواه ابن عساكر وابن مندة أن فاطمة أتت بابنيها فقالت: (يا
رسول الله هذان ابناك فورثهما شيئا) فقال: (أما حسن فله هيبتي وسؤددي
وأما حسين فله جرأتي وجودي) وفي رواته: (أما الحسن فقد نحلته حلمي
وهيبتي وأما الحسين فقد نحلته نجدتي وجودي) (4) فهذا الحديث يصرح بأن



(1) كنز العمال 6 / 221 وقال: " أخرجه الطبراني وابن أبي شيبة ".
(2) كنز العمال 6 / 220 وقال: " أخرجه ابن عساكر ".
(3) صحيح البخاري ط المنيرية 7 / 11 كتاب الأدب، و 5 / 100 كتاب بد الخلق
باب مناقب الحسن والحسين، وصحيح مسلم.
(4) كنز العمال 6 / 220 وقال: " أخرجه ابن مندة " وابن عساكر والوجه الثاني في ص
221 وقال: " أخرجه ابن عساكر ".
607
الحسن والحسين قد ورثا خصال النبي الحميدة فيكونان وارثي مقامه كما ورثا
أخلاقه.
ومنها ما رواه ابن أبي شيبة وأحمد وجماعة من أصحاب الصحاح عن
بريدة قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخطب إذ جاء
الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران ويقومان فنزل (صلى
الله عليه وآله وسلم) وحملهما واحدا من ذا الشق وواحد من ذا الشق ثم
صعد المنبر فقال: (صدق الله: إنما أموالكم وأولادكم فتنة إني نظرت إلى
هذين الغلامين يمشيان ويعثران فلم أصبر فقطعت كلامي ونزلت إليهما) (1).
وأخرج الحاكم عن ابن عباس قال أقبل النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) وقد حمل الحسن على رقبته فلقيه رجل فقال: نعم المركب ركبت يا
غلام، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (ونعم الراكب) (2).
وروى الترمذي عن يعلى بن مرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم): (حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسينا حسين سبط
من الأسباط) (3).
وعن زيد بن أبي زياد قال خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله)
من بيت عائشة فمر على بيت فاطمة فسمع حسينا يبكي فقال: (ألم تعلمي



(1) هذا الحديث خرجه جماعة من المحدثين والمفسرين كابن جرير في تفسيره 28 / 81
والسيوطي في الدر المنثور في تفسير سورة التغابن والترمذي 5 / 354 والحاكم في
المستدرك 1 / 287 وابن الأثير في أسد الغابة 2 / 12 الخ..
(2) مستدرك الحاكم 3 / 170.
(3) الترمذي 2 / 307.
608
أن بكاءه يؤذيني) (1) عن البراء بن عازب قال رأيت رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) حامل الحسين على عاتقه وهو يقول: (اللهم إني أحبه
فأحبه) ومثل ذلك روي في الحسن (2).
وروى النسائي بسنده عن عبد الله بن شداد عن أبيه قال: خرج علينا
رسول الله (صلى الله عليه وآله) لصلاة العشاء وهو حامل الحسين
فتقدم النبي (صلى الله عليه وآله) للصلاة فوضعه ثم كبر وصلى
فسجد بين ظهراني صلاته سجدة فأطالها قال فرفعت رأسي فإذا الصبي على
ظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو ساجد فرجعت إلى سجودي
فلما قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلاته قال: الناس يا
رسول الله سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث
أمر، وأنه يوحى إليك فقال (صلى الله عليه وآله): (كل ذلك لم
يكن ولكني ارتحلني الحسن فكرهت أن أعجله حتى ينزل) (3) وقريب (4) منه
رواه ابن سعد عن عبد الله بن الزبير وزاد فيه ولقد رأيته يعني النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) وهو راكع يفرج له يعني الحسن بين رجليه حتى يخرج
من الجانب الآخر (5) فانظر إلى هذا التعظيم الجليل من النبي (صلى الله عليه



(1) رواه المحب في ذخائر العقبى ص 143.
(2) صحيح البخاري 5 / 100 ط المنيرية كتاب المناقب باب مناقب الحسن والحسين
أخرجه عن البراء وفيه " والحسن بن علي على عاتقه " بدل " حامل الحسين " ولكن
في مستدرك الحاكم 3 / 177 عن أبي هريرة " وهو حامل الحسن والحسين ".
(3) سنن النسائي 1 / 170 وفيه " وهو حامل حسنا وحسينا " وفيه " ولكن ابني ارتحلني ".
(4) ذخائر العقبى ص 132.
(5) رواه في إسعاف الراغبين ص 130 عن تفسير الثعلبي وفي الصواعق ص 56
والرياض النضرة 2 / 209 رواه الزمخشري في الكشاف كما في
المتن.
609
وآله وسلم) للحسن والحسين، أتراه يرضى أن يكونا سوقه يتأمر عليهما
غيرهما أو ما في هذا التبجيل منه لهما إشعار بإرادته تقديمهما وتنبيه للأمة على
تعظيمهما وتفخيمهما وتسليم الأمر إليهما وانقياد الناس إلى حكمهما بلى والله فيه
دليل ظاهر وبيان واضح وزاهر.
ومنها ما رواه الثعلبي عن علي (عليه السلام) قال شكوت إلى رسول
الله (صلى الله عليه وآله) حسد الناس فقال لي: (أما ترضى أن
تكون رابع أربعة أول من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين وأزواجنا
عن أيماننا وشمائلنا وذريتنا خلف أزواجنا).
وروى الطبراني عن أبي رافع أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال
لعلي: (أنا أول أربعة يدخلون الجنة أنا وأنت والحسن والحسين وأزواجنا
خلف ذرياتنا).
وروى أيضا عن علي (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) قال: (أول من يرد على الحوض أهل بيتي ومن أحبني من أمتي) (1).
وروى الديلمي مرفوعا (من أراد التوسل وأن تكون له عندي يد أشفع
له بها يوم القيامة فليصل أهل بيتي ويدخل السرور عليهم) (2) وهذه
الأحاديث كما ترى ظاهرة في مشاركة أهل البيت للنبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) في مزاياه وصريحة في اتصالهم به في آخرته كما أنهم متصلون به في
دنياه لا يزايلهم، ولا يزايلونه ولا يفارقهم ولا يفارقونه فهم أول وارد عليه
حوضه، وهم الداخلون معه جنته، والراقون على إثره درجته، وإن من



(1) كنز العمال 6 / 218 وقال: " أخرجه الطبراني عن أبي رافع " ومثله في إسعاف
الراغبين ص 130.
(2) الصواعق ص 150 وقال: " أخرجه الديلمي ".
610
وصلهم وادخل السرور عليهم كانت له يد على النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) يستحق بها شفاعته ويستوجب بها عنايته أفليس في هذا دلالة على
أنهم أولى بمقام الرسول (صلى الله عليه وآله) وإشارة إلى أنهم أحق
بخلافته من كل أحد والأحاديث في تبجيلهم وتفضيلهم كثيرة في كتب
الخصوم استقصاؤها يوجب الاطناب والملال وليس هذا بكتاب حديث وإنما
هو كتاب استدلال فالاقتصار على ما ذكرنا أولى وفيه كفاية للعقلاء وسيأتي
جملة من النصوص نذكرها في مقامات تليق بها فارتقب.

611
تحقيق مقام وإيراد كلام لبلوغ مرام
الأئمة اثنى عشر إماما لا يزيدون ولا ينقصون لما استفاض عند الخصوم
من قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا يزال أمر الناس ماضيا ما
وليهم اثنى عشر إماما كلهم من قريش) وما روي عن عبد الله بن مسعود
أنه قال إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عهد إلينا أنه يكون بعده اثنى
عشر خليفة (1) ولتواتر النقل عندنا في ذلك عن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) وعن علي (عليه السلام) ودعوى قوم من الخصوم أن النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) قال: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا) (2)
باطلة وكثير منهم يبطل هذا الحديث الذي لا شك في بطلانه، والمعتزلة كافة
يبطلون هذه الدعوى ولا ريب أن هذا حديث موضوع، ويكفي في رده
حديث: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) (3) وهو متفق



(1) حديث الاثني عشر خليفة رواه كثير من المحدثين بطرقهم عن ابن مسعود وعبد الله بن
عمرو بن العاص وجابر بن سمرة باختلاف يسير في بعض الألفاظ كالبخاري في
صحيحه 1 / 127 كتاب الأحكام ومسلم في صحيحه 6 ص 3 في كتاب الإمارة باب
الناس تبع لقريش، والإمام أحمد في مسنده 1 / 389 و 406 و 5 / 89 و 90 و 92 و 94
و 99 و 106 و 108 وأبو نعيم في الحلية 4 / 333 والترمذي 2 / 35 الخ.
(2) هذا الحديث موقوف على رواية وهو سفينة والعدد غير صحيح والخلل في كلام
المعصوم محال.
(3) هذا الحديث متواتر وقد تقدم في أول الكتاب.
613
عليه وصريحة أن لكل زمان إماما تجب معرفته ولا تجب معرفة ملك جائر البتة
كما أوضحناه سابقا، والأحاديث المتفق عليها في المهدي وأنه خليفة رسول الله
(صلى الله عليه وآله) حقا، وبالجملة بطلان تلك الدعوى ظاهر لا
يحتاج إلى تطويل القول فيه ما بيناه في المقدمة من وجوب استمرار الإمامة وما
أقمنا عليه من الأدلة وأول الأئمة الاثني عشر وسيدهم أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب (عليه السلام)، ثم ابنه الحسن، ثم أخوه الحسين، ثم ابنه
علي بن الحسين زين العابدين، ثم ابنه محمد بن علي الباقر ثم ابنه جعفر بن
محمد الصادق، ثم ابنه موسى بن جعفر الكاظم، ثم ابنه علي بن موسى
الرضا، ثم ابنه محمد بن علي الجواد المعروف بالتقي، ثم ابنه علي بن محمد
الهادي الموصوف بالنقي، ثم ابنه الحسن بن علي الزكي العسكري، ثم ابنه
المنتظر المهدي سمي جده النبي (صلى الله عليه وآله) وقد تواتر النقل
عندنا عن النبي (صلى الله عليه وآله) بأسمائهم وأنهم الأئمة من
بعده، ووصفهم لجماعة من أصحابه منهم جابر بن عبد الله الأنصاري،
وأخبره أنه يدرك محمد بن علي الباقر وأمره أن يقرأه عنه السلام ففعل (1)
والقصة مشهورة عند مخالفينا، وفضل هؤلاء الأئمة عند خصومنا مشهور،
وفي مصنفاتهم مذكور، قد ذكرهم ابن أبي الحديد في ذكره مفاضلة هاشم
وعبد شمس بجميل الذكر وأثنى عليهم بأحسن الثناء وذكرهم أبو العباس
الدمشقي في تاريخه ووصفهم بالإمامة ومدحهم بالعلم والشهامة وذكر لهم
جملة من الكرامات والإخبار عن المغيبات والكلام على أسرار القلوب



(1) نور الأبصار ص 143 وقال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 15 / 277: " هو
سيد فقهاء الحجاز ومنه ومن ابنه جعفر تعلم الناس الفقه، وهو الملقب بالباقر، باقر
العلم، لقبه به رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يخلق بعد، وبشر به،
ووعد جابر بن عبد الله برؤيته، وقال: (ستراه طفلا فإذا رأيته فأبلغه عني
السلام) فعاش جابر حتى رآه وقال له ما وصي به ".
614
المضمرات وصنف محمد بن طلحة الشامي كتاب مطالب السؤل في ذكرهم
ونعتهم، وصاحب كتاب الفصول المهمة صنفه في وجوب معرفتهم،
وعلي بن عيسى الأربلي جمع كتاب كشف الغمة في جمع مناقبهم وفضائلهم،
وذكرهم محمد بن علي الصبان الشافعي في إسعاف الراغبين، ووصفهم
بالأوصاف الجليلة مع شدة عداوته للشيعة وكثرة تعصبه عليهم كما يعرفه منه
من رأى كتابه المشار إليه وذكرهم ابن خلكان في تاريخه بجميل الذكر وكم
فاضل من مخالفينا صنف في فضائلهم، وكم من مؤلف من خصومنا ألف في
جمع مناقبهم.
وأما أصحابنا فقد صنفوا في ذلك وجمعوا منه الكثير الواسع، وهذا
يدلك على عظيم عناية الله بأئمتنا الطاهرين، حيث أجرى مدحهم على
السن أوليائهم وأعدائهم، وهذا أدل دليل على إمامتهم، وأوضح برهان على
رئاستهم، وأنها من الله تعالى عند من تأمل وأنصف، وقد اشتهر من
كراماتهم واستجابة دعائهم ومعاجزهم، وعلمهم بالأسرار وإخبارهم عن
المغيبات ما هو مذكور في كتب التواريخ والسير وكتب الأخبار من الخاصة
والعامة، وليس هذا الكتاب مصنفا لذكر الفضائل ولا لجمع المناقب فمن
أرادها فليطلبها من الكتب التي سميناها وغيرها فإن هذا الكتاب إنما هو
مصنف لإثبات النص عليهم بالإمامة وأردنا من هذا الكلام بيان أنهم
معروفون بالفضل والعلم موصوفون بالجود والحلم عند الولي والخصم،
فليس من أنكر إمامتهم أنكرها لجهل بفضلهم ولا لعدم معرفته بشرفهم
ومجدهم وقربهم من النبي (صلى الله عليه وآله) وطيب أصلهم، ولا
لخفاء خصالهم الحميدة وجمل فعلهم، وكيف يخفى فضل أهل البيت على
القوم وهم قد رووا في حقهم عن النبي (صلى الله عليه وآله) ما مر
عليك في هذا المصنف من الأخبار على كثرتها مع ما سيأتي ذكره منها، وهذا
كله جزء مما رووه في فضلهم، ولا بأس بذكر بعض الأحاديث في هذا المقام مما

615
يستدل به على فضل أئمتنا الكرام.
روى ابن حجر في الصواعق أن النبي (صلى الله عليه وآله)
قال: (من أحب أن ينسئ الله أجله وأن يمتع بما خوله فليخلفني في أهلي
خلافة حسنة فمن لم يخلفني فيهم بتر عمره وورد علي يوم القيامة مسودا
وجهه) (1).
وروى أحمد بن حنبل عن العباس بن عبد المطلب أن النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) صعد المنبر فقال: (من أنا) قالوا أنت رسول الله قال:
(أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه
وجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة
وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا) (2) وروى أحمد والمحاملي عن عائشة أنها
قالت قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (قال جبرائيل قلبت مشارق
الأرض ومغاربها فلم أجد أفضل من محمد (صلى الله عليه وآله)،
وقلبت مشارق الأرض ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم) (3)
فبنوا هاشم أفضل الناس بمقتضى الخبر، والأئمة صفوتهم فإنهم أعلام بني
هاشم، ونجوم بني عبد المطلب، فلهم الشرف الأعظم والمجد الأقدم،
ولقد أجاد أبو فراس الحمداني (4) حيث يقول في خطاب بني العباس من
قصيدة طويلة.



(1) الصواعق ص 111.
(2) رواه الترمذي 2 / 69 والمظنون أن المؤلف رحمه الله نقله عن مناقب أحمد.
(3) رواه في فيض القدير / 499 بحروف ما في المتن.
(4) أبو فراس الحمداني: الحارث بن سعيد بن حمدان ابن عم سيف الدولة شاعر مبرز
شهد له المتنبي بالتقدم، وفيه يقول الصاحب بن عباد: " بدئ الشعر بملك - يعني
امرء القيس وختم بملك - يعني أبا فراس " والبيت المذكور من قصيدته المعروفة
بالشافية وأولها:
الحق مهتضم والدين مخترم * وفئ آل رسول الله مقتسم
يروى أنه دخل معسكر الخليفة العباسي وشهر خلفه أكثر من خمسمائة سيف وأنشد
القصيدة وخرج، له وقائع معلومة مع الروم، واسر عدة مرات وله أشعار في أسره قتل
سنة 357 في واقعة جرت بينه وبين ابن أخته أبي المعالي بن سيف الدولة.
616
ليس الرشيد كموسى في القياس ولا * مأمونكم كالرضا إن أنصف الحكم
ولما قال معاوية لعبد الله بن العباس بعد موت الحسن إنك اليوم زعيم
بني هاشم قال: عبد الله أما والحسين فيهم فلا (1) ولما قال معاوية لعبد الله بن
جعفر إنك سيد بني هاشم، قال له عبد الله إن الحسن والحسين هما سيدا بني
هاشم لا يدافعان (2) وقال مرة وقد قال له معاوية كلاما يفضله فيه وأباه
جعفرا على الحسن والحسين وأبيهما: هما خير مني وأبوهما خير من أبي وأمهما
خير من أمي.
وروى في إسعاف الراغبين أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال:
(يرد علي الحوض أهل بيتي ومن أحبهم كهاتين) يعني السبابتين (3).
وروى الطبراني أن عليا (عليه السلام) قال لمعاوية: (إياك وبغضنا
فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا يبغضنا ولا يحسدنا أحد
إلا ذيد عن الحوض يوم القيامة بسياط من نار) (4) قال: وقال في الاسعاف
بعد ذكر جملة من الأخبار في محبة أهل البيت: علم من الأحاديث السابقة
وجوب محبة أهل البيت، وتحريم بغضهم التحريم الغليظ، وبلزوم محبتهم
صرح البيهقي والبغوي بل نص عليه الشافعي في ما حكى من قوله:



(1) في محاورة بين معاوية وعبد الله بن جعفر.
(2) شرح نهج البلاغة 6 / 697.
(3) إسعاف الراغبين 113.
(4) أيضا ص 114 وقال: " رواه الطبراني في الأوسط ".
617
يا آل بيت رسول الله حبكم * فرض من الله في القرآن أنزله
يكفيكم من عظيم الفخر أنكم * من لم يصل عليكم لا صلاة له (1)
وقال الفخر الرازي: " إن أهل بيته يعني النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) ساووه في خمسة أشياء في الصلاة عليه وعليهم في التشهد وفي السلام
يقال في التشهد السلام عليك أيها النبي وقال تعالى: [سلام على آل
ياسين] (2) وفي الطهارة قال الله تعالى: [طه] أي يا طاهر وقال تعالى:
[ويطهركم تطهيرا] (3) وفي تحريم الصدقة وفي المحبة قال تعالى: [فاتبعوني
يحببكم الله] (4) وقال تعالى [قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في
القربى] (5) انتهى (6).
وقال محيي الدين ابن عربي.
ولائي إليكم آل طه فريضة * على رغم أهل البعد يورثني القربا
فما طلب المبعوث أجرا على الهدى * بتبليغه إلا المودة في القربى
رواه عنه في الإسعاف (7)، فهذه شهادة الفضلاء من أهل السنة على
فضل أئمتنا ووجوب محبتهم، ومساواتهم النبي (صلى الله عليه وآله)
في الخصائص والمزايا، وكفى بذلك لنا تصديقا.
فإن قيل: لم قصرتم الإمامة في ذرية الحسين دون ذرية الحسن وهما جميعا



(1) أيضا من 119.
(2) الصافات: 130.
(3) الأحزاب: 33.
(4) آل عمران: 31.
(5) الشورى: 23.
(6) إسعاف الراغبين ص 117 نقله عن الرازي.
(7) أيضا ص 117 والصواعق ص 89.
618
سبطا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم خصصتم بها من ذكرتم،
دون باقي ذرية الحسين.
قلنا: أما جعلنا الإمامة في ذرية الحسين دون ذرية الحسن وهما معا ابنا
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلنا عليه دليلان.
الأول إن الإمامة لا شك أنها منصب رسول الله ومقامه وميراثه فصارت
بعده لعلي (عليه السلام) بنصه عليه ثم صارت بعد علي للحسن والحسين
(عليه السلام) مشتركين فيها بنص رسول الله عليهما إلا أن التقدمة للحسن
لأنه الأكبر سنا ثم صارت بعده للحسين خالصة لا يشركه فيها غيره فوجب
أن تكون بعده للأقرب إليه لآية: [وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض]
فمحال ترجع إلى ولد الحسن، وهي ميراث الحسين، والإمام يجب أن يكون
أقرب الناس إلى الإمام الذي قبله ولولا وجود النص على الحسين من النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) ومن علي (عليه السلام) لجعلناها بعد الحسن
للأكبر من ولده ولم تصر للحسين ولا لأحد من ذريته، ولكن النص عليه قد
ورد فكان هو الإمام بعد الحسن، فالإمامة يجب أن تكون في عقبة للآية.
الثاني تواتر الأخبار عندنا عن النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي
والحسن والحسين (عليه السلام) إن الإمامة بعد الحسين تكون في ذريته
وكتب أصحابنا مملوءة من ذلك، وبهذين الدليلين يبطل مذهب الزيدية
والكيسانية ومن شابههم.
وأما تخصيص الإمامة بمن ذكرناهم فلوجوه.
الأول تواتر الأخبار عندنا عن النبي (صلى الله عليه وآله) وعن
علي بأسمائهم وأنهم فلان بن فلان وفلان بن فلان إلى آخرهم، وتلك

619
الأخبار مودعة في كتب أصحابنا فوجب اتباع ما قاله النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم).
الثاني تواتر النص عندنا عن كل سابق على لا حقه، وقد علمت أن
الإمامة عندنا دائرة مدار النص، وقد أوضحنا بطلان الاختيار فيها في أول
الكتب فيجب الحكم بإمامة من ذكرنا نص النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) عليهم ونص بعضهم على بعض.
الثالث إنك قد علمت فيما مضى إنا أقمنا الدليل على اشتراط الأعلمية
في الإمام وأنه لا يجوز أن يكون في رعيته من هو أعلم منه ولم نجد من ذرية
الحسين ولا من ذرية الحسن أعلم من هؤلاء القوم، فإنهم ما سألوا عن
شئ إلا أجابوا فيه، واستخرجوه من كتاب الله تعالى وبثوا من العلوم ما لم
يحط به أحد ومن أخبار الماضين ما لم يعلمه من قرأ كتب الأولين مع تصريحهم
بأنهم لم يجدوا لعلومهم حملة، فلو أنهم وجدوا من يحمل علومهم لبرز عنهم
من العلم ما يكون الظاهر الآن من علومهم على كثرته عشر عشر عشره
واستغفر الله من النقصان، فإن العبارة لا تؤدي عنه والعقول لا تحيط
بكنهه، فقولنا على جهة التقريب فقد قالوا لمن سألهم عن الألف باب التي
علمها رسول الله أمير المؤمنين (عليه السلام) فانفتح من كل باب ألف
باب (1) وإنها صارت إليكم فكم نروي منها عنكم فقالوا: (إنكم ترون منها



(1) في كنز العمال 6 / 392 عن علي قال: " علمني رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) ألف باب كل باب يفتح ألف باب) وقال: " أخرجه أبو أحمد الفرمني في
جزئه، وفي رواية الثعلبي في قصص الأنبياء ص 567 " علمني ألف باب من
العلم فتشعب لي من كل باب ألف باب " ذكر ذلك في قصة أهل الكهف، وفي كنز
العمال 6 / 405 عن ابن عباس: " علمه ألف ألف كلمة كل كلمة تفتح ألف
كلمة ".
620
عنا بابا أو بابين) وهم في كل ما قالوا وجميع ما بينوا من الأحكام في الحلال
والحرام والقصص والأخبار لم يكونوا ناقلين له عن أستاذ ولا محدث، بل
يلقيه كل سابق منهم إلى لاحقه إلى أن ينتهي إلى النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم)، لا يرجعون في علومهم إلا إليه لا إلى رأي ولا قياس كغيرهم من
بني أبيهم، ومن جملة الناس وقد أقر بأعلميتهم على من سواهم من إخوانهم
وأعمامهم جميع العلماء وصنفت الكتب في فضائلهم دون غيرهم من الذرية
الحسينية والحسنية من الخاصة والعامة فلا يذكر غيرهم من القبيلين إلا
بالعرض والاستطراد، وملئت التواريخ بذكر كراماتهم ووصف علومهم دون
بني أبيهم كما ذكرنا في أول الكلام، ومن أراد الاطلاع على ذلك فعليه
بالكتب التي أشرنا إليها وغيرها مما ذكر فيه أخبار الماضين، وحيث كانوا أعلم
أهل أزمنتهم وجب أن يكونوا هم الأئمة.
الرابع اجتماع الخصال الحميدة فيهم من الزهادة والعبادة والكرم
والحلم واستجابة الدعوة والعفة والصيانة مما لم يجتمع بعضها لأحد من
الناس، قال ابن أبي الحديد في مفاخرة هاشم وعبد شمس: " ومن الذي
يعد من قريش أو من غيرهم ما يعده الطالبيون عشرة في نسق كل واحد منهم
عالم زاهد ناسك شجاع جواد طاهر زاك، فمنهم خلفاء مرشحون ابن ابن
ابن ابن هكذا إلى عشرة وهم الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن
جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي، وهذا لم يتفق لبيت من بيوت
العرب ولا من بيوت العجم (1) وقال في موضع آخر: وأين أنتم عن علي بن
الحسين بن علي بن أبي طالب الذي يقال له: علي الخير، وعلي الأغر، وعلي
العابد، وما أقسم على الله بشئ إلا وأبر قسمه؟ وأين أنتم عن موسى بن
جعفر بن محمد، وأين أنتم عن علي بن محمد بن الرضا لابس الصوف طول



(1) شرح نهج البلاغة 15 / 273.
621
عمره مع سعة أمواله وكثرة ضياعه وغلاته (1) وقال في موضع آخر:
وجعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه ويقال إن أبا حنيفة كان من
تلامذته، وكذلك سفيان الثوري وحسبك بهما في هذا الباب إلى أن قال
ومن مثل علي بن الحسين زين العابدين، وقال الشافعي في الرسالة في إثبات
خبر الواحد: وجدت علي بن الحسين وهو أفقه أهل المدينة يعول على أخبار
الآحاد (2) انتهى. ما أردنا نقله من كلام المعتزلي وهو مصرح بما ذكرنا في
أئمتنا ونسبناه إليهم من الأوصاف، واجتماع الخصال الحميدة فيهم مما لم
يتفق لغيرهم، وأعظم الأمور أن محمد بن إدريس الشافعي يستند في صحة
قوله إلى فعل إمامنا علي بن الحسين ويجعله حجة.
وروى ابن خلكان في تاريخه عن أبي العباس محمد بن يزيد المبرد في
كتاب الكامل ما مثاله يروي عن رجل من قريش لم يسم لنا قال: كنت
أجالس سعيد بن المسيب فقال لي يوما: من أخوالك؟ فقلت: أمي فتاة،
فكأني نقصت في عينه، وذكر مجئ سالم بن عبد الله بن عمر ثم بعد قيامه
إتيان القاسم بن محمد بن أبي بكر إلى أن قال، فأمهلت شيئا حتى جاءه
علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) فسلم عليه ثم نهض
قلت: يا عم من هذا فقال: هذا الذي لا يسع مسلما أن يجهله هذا علي بن
الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) الخبر (2) فانظر إلى قول
سعيد في علي بن الحسين فإنك تجده يكاد أن يصرح بإمامته على ما نقول بل
هو مصرح بها لأن من لا يسع المسلمين جهله واجبة معرفته عليهم، وليس
تجب على المسلمين بعد معرفة الله ورسوله معرفة أحد إلا الإمام.
وقال في المناقب مختصر مناقب الحافظ أبي عبد الله محمد بن يوسف



(1) نقل ذلك عن الرسالة المذكورة ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 15 / 273 و 274
(2) الكامل للمبرد 1 / 311.
622
البلخي الشافعي في ترجمة الحسين (عليه السلام) مشيرا إلى أئمتنا بعد أن
ذكرهم قال بعض أهل العلم: " علوم أهل البيت لا تتوقف على التكرار
والدرس ولا يزيد يومهم فيها على ما كان بالأمس لأنهم المخاطبون في أسرارهم
المحدثون في النفس فسماء معارفهم وعلومهم بعيدة عن الادراك واللمس،
ومن أراد سترها كان كمن أراد ستر وجه الشمس، وهذا مما يجب أن يكون
ثابتا مقررا في النفس، فهم يرون عالم الغيب في عالم الشهادة ويقفون على
حقائق المعاني في خلوات العبادة، وتناجيهم ثواقب أفكارهم في أوقات
أذكارهم بما تسنموا به غارب الشرف والسيادة، وحصلوا بتوجههم إلى جناب
القدس ما بلغوا به منتهى السؤال والإرادة، فهم كما في نفوس أوليائهم
ومحبيهم وزيادة، فما تزيد معارفهم في زمان الشيخوخة على معارفهم في زمن
الولادة، وهذه أمور تثبت لهم بالقياس والنظر، ومناقب واضحة الحجول
والغرر، ومزايا تشرق إشراق الشمس والقمر، وسجايا تزين عنوان التواريخ
وعنوان الأثر فما سألهم مستفيد أو ممتحن فوقفوا ولا أنكر منكر أمرا من الأمور
إلا عرفوا، ولا جرى معهم غيرهم في مضمار شرف إلا سبقوا، وقصر
مجاريهم وتخلفوا، سنة جرى عليها الذين سلفوا وأحسن اتباعها الذين
خلفوا، وكم عاينوا في الجدال والجلاد أمور فتلقوها بالرأي الأصيل والصبر
الجميل، فما استكانوا وما ضعفوا فبهذا وأمثاله سموا على الأمثال وشرفوا
تعدم الشقاشق إذا هدرت شقاشقهم وتصغي الأسماع إذا قال قائلهم، ونطق
ناطقهم ويكثف الهواء إذا قيست به خلائقهم ويقف كل ساع عن شأوهم،
فلا يدرك فائتهم ولا تنال طرائقهم، سجايا منحهم بها خالقهم، وفاز بها
صادقهم فسر بها أولياؤهم وأصدقاؤهم وحزن لها مباينهم ومفارقهم انتهى
أقول والكلام في أوصافهم متسع قال فيه كل قائل بما أحسن، ونطق منه كل



(3) أيضا 15 / 278.
(4) أيضا 15 / 274.
623
ناطق بما أتقن، وقدرهم فوق ما قيل فيهم، وشأنهم فاق مدح مادحيهم،
فلنكتف من القول في ذلك بهذه الجملة ففيها ما يبل الغليل ويشفي العليل.
واعلم أنه ليس في الذرية النبوية من له جميع هذه الأوصاف غير من
ذكرناهم بالاتفاق، فوجب أن يختصوا بالإمامة دون غيرهم من إخوانهم
وأعمامهم، وبهذا كله يبطل مذهب الإسماعيلية والفطحية ومن ضارعهم
مثل مذهب أصحاب جعفر الكذاب بن علي الهادي وغيرهم.

624
توضيح مقال لدفع إشكال
المهدي هو ابن الحسن العسكري وهو مختف عن الناس لا يعرفون شخصه وهو
يعرفهم وأنه باق حتى يأذن الله له في الظهور والقيام بالسيف فيطهر الله
الأرض به من الفساد، ويملأها به قسطا وعدلا كما ملئت من الظلمة ظلما
وجورا كما تواترت به الأخبار النبوية، وينزل عيسى بن مريم إليه ويصلي
خلفه، ويملك سبع سنين كما وردت به الأخبار، ثم يكون بعده ما شاء الله
أن يكون من الكرة، وليس هذا موضع تفصيل تلك الأمور، وإنما هو مقام
إثبات الإمامة له، والبقاء بالدليل.
أما إنه ابن الحسن العسكري فبإجماع الإمامية وتواتر أخبارهم، أنه ابنه
وأن مولده قبل وفاة أبيه بأربع سنين وقد قال بذلك جماعة من مخالفينا
كمحيي الدين ابن عربي في فتوحاته وعبد الوهاب الشعراني في كتابه اليواقيت
والجواهر والشيخ حسن العراقي وعلي الخواص وأبي العباس الدمشقي وهؤلاء
من أكابر السنة والمذكورون قبل أبي العباس من أهل التصوف المعدودين عند
خصومنا من الأولياء.
قال الشعراني في الكتاب المذكور: المهدي من ولد الإمام الحسن
العسكري ومولده ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين وهو باق
حتى يجتمع بعيسى سن مريم، هكذا أخبرني الشيخ حسن العراقي المدفون

625
فوق كوم الريش المطل على بركة الرطل بمصر المحروسة عن الإمام المهدي
حين اجتمع به ووافقه على ذلك سيدي على الخواص رحمهما الله تعالى
انتهى.
وقال محيي الدين مسافر بن عربي: إنه لا بد من خروج المهدي (عليه
السلام) لكن لا يخرج حتى تمتلأ الأرض جورا وظلما فيملأها قسط وعدلا
وهو من عترة رسول الله (صلى الله عليه وآله) من ولد فاطمة جده
الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) ووالده الإمام الحسن
العسكري بن الإمام علي النقي بالنون بن الإمام محمد التقي بالتاء بن الإمام
على الرضا بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد
الباقر بن الإمام زين العابدين علي بن الإمام الحسين بن الإمام علي بن أبي
طالب يواطئ اسمه اسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يبايعه
المسلمون بين الركن والمقام إلى آخر (1) ما قال وقد نقل بعض أصحابنا عن



(1) كل ما نقل هنا عن الفتوحات المكية لابن عربي واليواقيت والجواهر للشعراني نقله
المؤلف رحمه الله عن إسعاف الراغبين للصبان المالكي ص 141 وانظر نور الأبصار
للشبلنجي ص 170 وقد نظم شيخنا الإمام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء
عطر الله مرقده ما نقله المؤلف هنا في رائيته العصماء التي رد بها على الرائية الغفل التي
أرسلت من أحد علماء بغداد إلى جماعة من علماء النجف الأشرف يشكك فيها بوجود
الإمام المهدي عجل الله فرجه عليه فرد عليه جماعة منهم بقصائد على وزن قصيدته وقافيتها
فندوا بها أقواله وبددوا حججه قال رحمه الله:
قال رحمه الله:
وحسبي بمحي الدين نقضا فإن في * الفتوح عليك النقض قد جاء والنصر
وكم في يواقيت الجواهر جوهر * به عاد شعرانيكم وله الفخر
لواقح أنوار له انظر فإن للعراقي * فيه قصة عدوها نضر
وصدقه فيه الخواص علي من * كراماته لا يستطاع لها ذكر
وتجد القصيدة كاملة في إلزام الناصب 2 / 107.
626
حجة الإسلام أبي حامد الغزالي في بعض كتبه أظنه المنخول مثل ذلك، لكن
الكتاب لا يحضرني لأنقل عبارته.
وقال أبو العباس الفصل الحادي عشر في ذكر الخلف الصالح الإمام أبي
القاسم محمد بن الحسن العسكري رضي الله عنه عند وفاة أبيه خمس سنين
آتاه الله فيها الحكمة كما أوتيها يحيى وكان مربوع القامة، حسن
الوجه، والشعر، أقنى الأنف، أجلا الجبهة إلى أن قال - واتفق العلماء على أن
المهدي هو القائم في آخر الوقت، وقد تعاضدت الأخبار على ظهوره
وتظاهرت الروايات على إشراق نوره، وستسفر ظلمة الأيام والليالي
بسفوره، وينجلي برويته الظلم انجلاء الصبح عن ديجوره، ويسير عدله في
الآفاق فيكون أضوء من البدر المنير في مسيره انتهى وكذلك ذكره جماعة من
أهل التاريخ كشمس الدين ابن خلكان فقد ذكر أنه محمد بن الحسن
العسكري وأثبت مولده في التاريخ المتقدم، وذكر أنه الرجل الذي تدعي
الإمامية أنه إمامهم الثاني عشر وذكره ابن زولاق في تاريخه، هكذا إلا أنه
زعم أن مولده قبل التاريخ المذكور وكذلك غيرهما من أهل التواريخ والسير،
وقد تلخص من هذا كله إن ولادة المهدي الذي هو ابن الحسن العسكري
وقعت يقينا وحصلت جزما فلا التفات لمن أنكر ذلك عصبية وعنادا كابن أبي
الحديد وأمثاله من أصحابه وغيرهم، ومن هذا يعلم بطلان ما ذكره في
إسعاف الراغبين من أن المهدي من ذرية الحسن السبط بن أمير المؤمنين
(عليه السلام) ويعلم منه أيضا وهن قوله: إن رواية كونه من ذرية الحسين
واهية (1) بل قوله هو الواهي ولعلهم رأوا في رواية أنه من ولد الحسن يعني به
العسكري فظنوه الحسن السبط فأخطئوا فقد روى ابن قتيبة في كتاب غريب
الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (إن المهدي من ذرية



(1) إسعاف الراغبين ص 137.
627
الحسين) (1) ورواه أيضا قاضي القضاة عن كافي الكفاة إسماعيل بن عباد
بإسناد متصل به (عليه السلام) فلا محيص عن القول به.
وأما اختفاؤه فلخوفه من الطواغيت أن يفعلوا به كما فعل بآبائه وليخرج
وليس في عنقه بيعة لأحد من الظلمة.
وأما عدم معرفة الناس لشخصه ومكانه فلخوف الإذاعة فإذا عرف
شخصه ومحله قصد من الجائرين بالإيذاء.
وأما بقاؤه حتى يؤذن له في الظهور فلوجوه.
الأول اتفاق الإمامية عليه وموافقة جملة من المخالفين لهم على صحته كما
سمعت.
الثاني تواتر الأخبار عن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة بعد
المفروغية من إثبات كون قولهم حجة باثبات إمامتهم بما ذكرناه من النصوص
المتقدمة، والوجوه المتعددة.
الثالث إنا قدمنا في أول الكتاب أنه لا يجوز خلو زمان من أزمنة
التكليف من إمام يكون حجة لله على خلقه، وبينا هنا أن الأئمة اثنى عشر،
وأنه تمام عدتهم فوجب الحكم ببقائه لئلا يكون زمان التكليف خاليا من
الحجة لله على خلقه، على إنا نقول لهم إن جماعة من مؤرخيكم قد أثبتوا
ولادته كما قلنا فنحن نطالبكم باثبات موته، وبالدلالة على موضع مدفنه،
وليس لهم حجة على ذلك إلا الشبهة التي تمسك بها منكروا ولادته أو بعضهم
وهي مخالفة العادة والطبع، فإن العادة قد قضت بأنه لا يعيش أحد هذا

628
العمر الطويل والطبيعة الإنسانية لا يمكن بقاء شخص منها هذه المدة والعمر
الطبيعي مائة وعشرون سنة، وهذه الشبهة منقوضة عليهم ومقلوبة بما صح
في كتبهم وتواريخهم من بقاء خلق كثير أضعاف ما ذكروه للعمر الطبيعي،
فقد ذكر أن آدم (عليه السلام) عاش ستمائة سنة، وأن نوحا بنص القرآن
لبث من قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، بعد مبعثه قبل الطوفان، وأنه بعث
وله خمسون سنة وقيل أربعمائة سنة، وعاش بعد الطوفان ثلاثمائة سنة
فعمره يكون على الرواية الأولى ألفا وثلاثمائة سنة، وعلى الثانية ألفا وستمائة
وخمسين سنة، وأن عمر سام ستمائة سنة، وعمر أرفخشد أربعمائة سنة
وخمس وستون سنة، وأن عمر شالخ بن أرفخشد أربعمائة وثلاثون سنة وأن
كالب بن يوفنا عاش ألف سنة في بني إسرائيل وأن انوش بن شيث عاش
تسعمائة وخمسا وستين سنة، وابنه قينان عاش سبعمائة وعشرين سنة وابنه
مهلاييل عاش تسعمائة وخمسا وستين سنة، وإدريس رفع وهو ابن ثلاثمائة
وخمس وستين وبقي أبوه بعد رفعه خمسمائة وخمسا وثلاثين سنة، وعاش
متوشلخ بن إدريس تسعمائة واثنين وثمانين سنة وابنه لمك سبعمائة سنة،
وذكر في أنوار التنزيل أن لقمان الحكيم عاش ألف سنة، وصح أن لقمان بن
عاد عاش عمر سبعة أنسر.
قال القرماني أبو العباس في تاريخ الدول وقد اختلف الناس في عمر
النسر وعامتهم أنه يعيش خمسمائة سنة، فعلى هذا إن لقمان عاش ثلاثة
آلاف وخمسمائة سنة، قال: وقيل إنه عاش ثلاثة آلاف وثمانمائة سنة، لأنه
قبل أن يأخذ النسور له ثلاثمائة سنة انتهى أقول وقد ذكر شعراء العرب لقمان
هذا إشارة وتصريحا قال سالم بن عوانة الضبي في أبيات له.
لا تهزئي مني ربيب فما * في ذاك من عجب ولا سخر
أولم ترى لقمان أهلكه * ما اقتات من سنة ومن شهر

629
وبقاء نسر كلما انقرضت * أيامه عادت إلى نسر
ما طال من أمد على لبد * رجعت محاربة إلى قصر
وقال التابعة الذبياني:
أمست قفارا وأمسى أهلها احتملوا * أخنى عليها الذي أخنى على لبد
يعني به نسر لقمان وغير ذلك.
وذكر القرماني أيضا أن عوج بن عناق عاش مثل عمر لقمان بن عاد على
الرواية الأولى.
وكثير من العرب عاش عمرا طويلا فمنهم عبيد بن شريد الجرهمي عاش
ثلاثمائة وخمسين سنة، وروي عنه أنه رأى من عاش ألف سنة، وأن
الربيع بن ضبيع الفزاري عاش قريبا من أربعمائة سنة، وأن سويا الكاهن
عاش ثلاثمائة سنة، وأن شداد بن عاد عاش تسعمائة سنة، وعاش أكثم بن
صيفي التميمي ثلاثمائة سنة، وعاش المستوغر عمرو بن ربيعة أحد بني
سعد بن زيد مناة التميمي ثلاثمائة وعشرين سنة، وعاش الحارث بن كعب
مائة وستين سنة، وعاش دريد بن زيد النهدي القضاعي أربعمائة سنة وستا
وخمسين سنة، وعاش زهير بن جناب العذري الكلبي مائتين وعشرين سنة،
وعاش ذو الإصبع حرثان بن محرث العدواني أحد بني قيس عيلان بن مضر
ثلاثمائة سنة، وعاش معدي كرب الحميري عمرا طويلا حتى قال.
أراني كلما أفنيت عمرا * أتاني بعده يوم جديد
يعود بياضه في كل فجر * ويأبى لي شبابي ما يعود
وعاش أبو الطمحان القيني حنظلة بن الشرفي الكناني مائتي سنة، وعاش
عبد المسيح بن بقيلة الغساني ثلاثمائة وخمسين سنة، وعاش النابغة الجعدي
قيس بن كعب من بني عامر بن صعصعة مائة وثمانين سنة، على رواية ابن
الكلبي ومائتي سنة على رواية ابن دريد عن أبي حاتم، وغير هؤلاء ممن عاش

630
عمرا طويلا كثيرا لو أردنا ذكر جميع من يمكننا ذكره، وكل من انتهى إلينا
خبره لطال الكلام فأين العادة؟ وأين العمر الطبيعي؟ فإذا صح عند
خصومنا جواز الزيادة على العمر الطبيعي وخرق العادة فيمن ذكرناهم على
كثرتهم ومن تركنا ذكره أكثر كيف يمنعون ذلك في المهدي دون غيره لتلك
العادة المنخرمة المنخرفة؟ ما هو إلا تشبت بما لا يجدي نفعا ثم إنهم أثبتوا أن
الخضر حي موجود إلى أن يقوم المهدي (عليه السلام) وهو قبل النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) بزمان طويل لأنه كان على مقدمة ذي القرنين الأكبر
الذي كان في زمن إبراهيم الخليل (عليه السلام) على رواية المسعودي في
أخبار الزمان، وقيل هو إيليا بن ملكا بن فالغ بن عابر، وقيل الخضر بن
ميشا بن أفرائيم بن يوسف الصديق، وعلى كل حال فهو قبل نبينا (صلى الله
عليه وآله وسلم) بمدة طويلة وصححوا أن معمر أبا الدنيا علي بن عثمان بن
الخطاب الهمداني حي موجود من زمان نبينا إلى أن يقوم المهدي وأثبتوا أن
الدجال حي موجود إلى قيام المهدي، ونزول عيسى من المساء فيقتلانه،
وأن إلياس حي موجود في السحاب فإثباتهم طول البقاء لهؤلاء وإنكارهم
البقاء منهم للمهدي عناد صرف، وتعصب محض لا حجة عليه، وبعد فما
ينكرون من أن يكرم الله نبيه محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما أكرمه
بأن يعمر رجلا من عترته إلى وقت معلوم عنده كما فعل بغيره؟ على أن لازم
ما رووه عن النبي (صلى الله عليه وآله) من قوله: (لتحذون حذو
الأمم من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقدة) وقوله: (ليكونن فيكم ما كان
في الأمم قبلكم) أو ما أشبه هذا اللفظ أن يكون في أولياء هذه الأمة
معمرون كما كان في أولياء الأمم السالفة، وفي هذا كفاية لصحة بقائه (عليه
السلام) إلى وقت معلوم عجل الله فرجه وسهل مخرجه، وجعلنا من أنصاره
وأكرمنا بجواره.
وأما الشبهة في استتاره بأنه كيف يكون موجودا ولا يعرف بشخصه

631
فمندفعه بأن الخضر موجود عندهم قطعا وهو لا يعرف بشخصه، وذكر
شيخهم الأكبر مسافر بن عربي أن إلياس يجتمع مع الخضر عند سد يأجوج
ومأجوج وفي مكة وعرفات، روى ذلك عنه القرماني في تاريخ الدول ومن
المتفق عليه أنه لم يكن أحد من الناس يعرف الخضر وإلياس بشخصيهما فما
المانع أن يكون المهدي كذلك؟ ثم من المتفق عليه أيضا أن الدجال موجود ولم
يكن أحد يعرفه بشخصه ولا ادعى أحد من الناس معرفته فكيف يجوز أن
يخفى الخضر وإلياس والدجال على الناس ولا يعرفون أشخاصهم ولا يجوز
ذلك في غيرهم وهو المهدي لولا التعسف وتمحل المحال، وقد ورد في كلام
أمير المؤمنين (عليه السلام) ما يصرح بوجود هذا الإمام المنتظر واستتاره عن
البشر وأنه حجة الله على خلقه وخليفة أنبيائه.
فمنه ما في خطبة أومي فيها إلى الملاحم قال في جملتها: (هذا أبان
ورود كل موعود ودنو من طلعة ما لا تعرفونه، ألا وإن من أدركها منا يسرى
فيها بسراج منير، ويحذو فيها على مثال الصالحين ليحل فيها ربقا ويعتق فيها
رقا ويصدع شعبا ويشعب صدعا في سترة عن الناس لا يبصر القائف أثره،
ولو تابع نظره، ثم ليشحذن فيها قوم شحذ القين النصل يجلي بالتنزيل
أبصارهم، ويرمي بالتفسير في مسامعهم، ويغبقون كأس الحكمة بعد
الصبوح) (1) انتهى.
فانظر إلى قوله (عليه السلام) بعد ذكر أوصاف القائم (في سترة من
الناس لا يبصر القائف أثره) فإنك تراه أصرح شئ في مدعانا وأوضح قول
في مرامنا.
وأما قول ابن أبي الحديد بعد اعترافه بدلالة الكلام على استتار هذا



(1) نهج البلاغة من الخطبة 148.
632
الإنسان المشار إليه: وليس ذلك بنافع للإمامية في مذهبهم، وإن ظنوا أن
ذلك تصريح بقولهم وذلك لأنه من الجائز أن يكون هذا الإمام يخلقه الله تعالى
في آخر الزمان ويكون مستترا وله دعاة يدعون إليه ويقررون أمره ثم يظهر
بعد ذلك الاستتار، ويملك الممالك ويقهر الدول ويمهد الأرض كما ورد في
الخبر (1) فباطل غاية البطلان والكلام نافع لنا في مذهبنا غاية النفع وجواز أن
يكون هذا الإمام يخلقه الله تعالى في آخر الزمان معارض بجواز أن يكون خلقه
قبل زمان ابن أبي الحديد، بما يربى على المئات من السنين ويزيد، وقد أقمنا
البرهان على وجوب وجوده في الأرض أثبتنا النقل على حصول ولادته منا ومن
الخصوم، ونحن لا ننكر ما أجازه لو كان الخلف لم يوجد، ولم يولد، ولا
يضرنا في الحجة نحن ندعي أنه (عليه السلام) خلق فكان على المعتزلي أن
يقيم دليلا على منع إيجاده، وإبطال ميلاده وأنى له بذاك؟ وإذا كان يجوز أن
يكون ولد والأخبار منا ومنهم وردت بوقوع ذلك الجائز الذي لم يقدر الخصم
على منعه وجب أن يكون استتار المنتظر من وقت ميلاده إلى وقت ظهوره في
هذه الأزمان لا في ذلك الزمان الذي ادعاه المعتزلي، على أنه لو كان كما ذكر
لم يكن الإمام مستترا عن الناس لأن من يبث الدعاة إلى الخلق يدعونهم إلى
طاعته ومبايعته ويطلبون منهم الانقياد إلى أمره والوثوب إلى نصرته ليس
بمستتر عن الناس، بل مظهر لهم نفسه مبدلهم أمره معرف لهم شأنه ملق
إليهم خبره، ومن كان هذا شأنه كيف لا يبصر القائف أثره ولو تابع نظره،
ودعاته يشيرون إليه ويدلون الناس عليه، وإنما يصح الاستتار الذي عناه أمير
المؤمنين وصرح به في الوقت الذي ليس لهذا الإمام ابن السادة الكرام داع
يدعو الناس إلى مبايعته ولا مشير يشير إليه ويدل عليه، فهو مخفى الأثر
ولذلك أنكر وجوده من أنكر كهذا القائل، وهذه الحال لم تكن إلا في هذه



(1) شرح نهج البلاغة 9 / 128.
633
الأزمان التي تغلب فيها على أهل الإيمان أهل البغي والعدوان، وذوو الكفر
وأولياء الشيطان لا الزمان الذي يدعى فيه لذلك الإمام، وينادى باسمه بين
الخاص والعام، فإن ذلك وقت أسفار العدل بسفوره، وظهور صبح الحق
بظهور نوره، وانهزام ليل الباطل وزوال ديجوره، بضياء نهار الهدى وسناء
تنويره.
ذاك وقت أيامنا فيه بيض * والليالي غر كليل العروس
وليت شعري كيف خفي على المعتزلي هذا المعنى من الظهور والخفاء
فلم يعرف الظاهر من المستور وأما قوله كما ورد في الخبر، فهو متعلق بقوله:
تملك الممالك إلى آخر الكلام لا بقوله: يخلقه الله في آخر الزمان إذ لا خبر
بذلك عندهم، ولو كان ثمة خبر ولو من أضعف الأخبار لصال به علينا
وجال لكن لم يجد إلى ذلك سبيلا فرجع إلى الاستدلال بالإمكان، وترك ما
حصل وكان.
ومنه قوله في خطبة أخرى يشير إلى الخلف الصالح: (قد لبس للحكمة
جنتها وأخذها بجميع أدبها، من الاقبال عليها والمعرفة بها والتفرغ لها فهي
عند نفسه ضالته التي يطلبها وحاجته التي يسأل عنها فهو مغترب إذا اغترب
الإسلام، وضرب بعسيب ذنبه وألصق الأرض بجرانه، بقية من بقايا
حجته، خليفته من خلائف أنبيائه) الخطبة (1) فقوله (عليه السلام):
(مغترب إذا اغترب الإسلام) دال على استتار ذلك الإمام إذا عاد الإسلام
غريبا كما بدأ غريبا دل عليه الحديث النبوي، وصار كالبعير البارك الذي
يضرب الأرض بأصل ذنبه وهو المراد بالعسيب، ويلصق الأرض بصدره وهو
جرانة فلا يكون له تصرف ولا نهوض، وكل ذا كناية عن عود الإسلام



(1) نهج البلاغة من الخطبة 180.
634
مغلوبا مقهورا معطلة حدوده، مضيعة أحكامه، فيكون غريبا في الناس لا
يعرف لاستيلاء أهل الضلالة على ذوي الهدى، وغلبة الظلمة المغيرين
لأحكام الشريعة الغراء، والعالمين في الناس بالشهوات والأهواء فيغترب
حينئذ الحجة الذي هو بقية حجج الله وخليفة خلائف أنبيائه، فلا يعرف
بشخصه ولا يدرى أين موضعه، وهذا الكلام كما ترى صريح في وجود هذا
الرجل واستتاره في زمان دولة أهل الجور والفساد، وأنه حجة الله، وخليفة
الخلفاء وهو عين ما قلناه من أنه ختام الأئمة، فإن بقية الحجج، وخليفة
الخلفاء آخرهم بلا خفاء.
وأما ما ذكره ابن أبي الحديد عن الصوفية أن المراد به ولي الله، فإن كان
مرادهم به الإمام لأنه عندنا حجة الله ووليه على عباده لا ولي على العباد غيره
فذلك قولنا، وإن أرادوا به غير الإمام وهو القطب عندهم الذي تدور عليه
الأوتاد والأبدال فذلك مما لا برهان عليه ولا دليل وهو من الخرافات التي
أحدثها الصوفية بآرائهم وأهوائهم، والحق أن القطب بالمعنى الذي ذكروه
وهو الخليفة الذي نحن نعنيه لا قطب غيره، فجعلهم إياه غيره من وساوس
النفوس، ولا يطلق لفظ الحجة في كلام أمير المؤمنين على الصوفي الكبير
الذي سموه قطبا حاش لله.
وأما ما نقله عن أصحابه أن المراد به العلماء الذي يتم الإجماع (1) وأن
أمير المؤمنين (عليه السلام) يشير إلى صفات كل واحد منهم، فبعيد ظاهر
الفساد، إذ من اليقين أنه لا يطلق لفظ الحجة والخليفة على غير الإمام العام
في كلام النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي وأولاده، وعلى المدعي
إثبات ذلك، نعم ورد في كلامهم إطلاق لفظ العالم على الإمام، وهو عكس ما
قاله المعتزلة كما ورد عنهم (لا تخلوا الأرض من عالم)، و (لا تكون إلا وفيها



(1) شرح نهج البلاغة 10 / 96 ونقله المؤلف (رحمه الله) ملخصا.
635
عالم) وهو في أحاديثنا كثير، ثم إن الكلام يعطي بصريحه أن المراد به شخص
واحد على الحقيقة لا جماعة واحدهم هكذا، ويعطي أيضا بالصريح أن ذلك
الشخص مغترب غير معروف بين الناس، وإذا كان مما لا يتم الإجماع بدونه
عند الناس لزم أن يكون معروفا عندهم غير مجهول فلم يكن مغتربا البتة،
فأين إذن مصداق قوله عليه السلام (مغترب) الخ.
وأما ما ذكره عن الفلاسفة من أن المراد بالحجة هو العارف عندهم،
فذاك مما لا يعرف ولا يلتفت إليه وهل يرضى عاقل أو يتصور فاهم أن يكون
أراد أمير المؤمنين (عليه السلام) بحجة الله خليفة خلفاء أنبيائه مثل أبي
نصر الفارابي (1) وأبي علي بن سينا (2) وأبي البركات البغدادي (3) وشهاب
الدين يحيى السهروردي (4) وأشباههم من أكابر فلاسفة الإسلام الذين أكثر
أقوالهم مخالفة لنصوص الكتاب والسنة وإجماع المسلمين؟ فهؤلاء هم
العارفون بالفلسفة، ولو كان مثل هؤلاء هو المقصود لما صدق قوله (عليه



(1) الفارابي نسبة إلى فاراب التركية: أبو نصر محمد بن طرخان الحكيم المشهور ولد
في فاراب ونشأ بها ثم انتقلت به الأسفار إلى بغداد وحلب ودمشق وتوفي بها سنة 339
ويلقب بالمعلم الثاني له كتب في الفلسفة والحكمة تخرج بها الحكماء كالرئيس أبي علي بن
سينا وغيره.
(2) ابن سينا أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا الملقب بالشيخ والرئيس ولد في بخارى
من مؤلفاته الإشارات والقانون توفي بهمدان سنة 458.
(3) المراد بأبي البركات كمال الدين بن عبد الرحمن سكن بغداد وكان من أئمة النحو ثم
اعتزل الناس وانقطع للعبادة إلى أن توفي سنة 577.
(4) شهاب الدين السهروردي عمرو بن محمد بن عبد الله كان من أهل الرياضة والتصوف
والعبادة وكان معاصرا للناصر العباسي، أما يحيى السهروردي فهو يحيى بن حبش ولقبه
بهاء الدين صاحب كتاب حكمة الاشراق اتهم بانحلال العقيدة فأفتى فقهاء حلب بقتله
فقتل سنة 785 بأمر الملك الظاهر بن صلاح الدين وعمره ستة وثلاثون سنة والله العالم
بحاله وإلى الله ترجع الأمور.
636
السلام): (مغترب) لأن هؤلاء وأمثالهم معروفون غير منكورين وظاهرون
غير مستورين ومعظمون عند العامة غير مغتربين وبهذا أيضا يبطل قول
المعتزلة لأن العلماء الذين ادعوا أن الإجماع لا يتم إلا بهم معلومين غير
مجهولين إن أرادوا مثل الجاحظ والجبائيين والقاضي عبد الجبار وأبي القاسم
البلخي وثمامة بن أشرس وأبي الهذيل العلاف وإبراهيم بن سيار النظام
وواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وأبي الحسين الخياط (1) وأمثالهم ممن يطول
تعدادهم وكلهم مذكورون في طبقاتهم، معروفون عند أصحابهم فأين هم
والاغتراب؟ وهل يجوز أن يكون مثل الجاحظ وهو المبغض لأمير المؤمنين
(عليه السلام) حجة الله على خلقه، وخليفة أنبيائه؟ أو يجوز أن يكون أمير
المؤمنين (عليه السلام) أراد بتلك الأوصاف مثله وأمثاله؟ ومن هذا بطل ما
ادعاه المعتزلي من جواز إطلاق الحجة والخليفة على العارف والولي عند
الفلاسفة وأهل التصرف، وعلى العالم مثل أبي الهذيل عند المعتزلة وتبين أن
ذلك قول منهم بألسنتهم وهوى قلوبهم، وأن كلام أمير المؤمنين (عليه
السلام) لا يوافق قول أحد منهم، وإنما هو يوافق ما نقول لا سيما والمنصف
المتأمل إذا ضم كلام علي (عليه السلام) بعضه إلى بعض علم أنه يريد بهذه
الأوصاف رجلا من ذريته، وهو الذي عناه في كلامه الأول بقوله: (ألا وإن
من أدركها منا) إلى آخره وقد اعترف المعتزلي بذلك حيث قال: وليس يبعد
عندي أن يريد به القائم من آل محمد (صلى الله عليه وآله) في آخر
الوقت إذا خلقه الله تعالى وإن لم يكن الآن موجودا فإنه ليس في الكلام ما
يدل على وجوده الآن، وقد وقع اتفاق الفرق من المسلمين أجمعين على أن
الدنيا والتكليف لا ينقضي إلا عليه (2) انتهى وحيث أقر أن المراد هو القائم من
آل محمد (صلى الله عليه وآله) فلا يضرنا ما قال من أنه لم يكن مخلوقا



(1) مر ذكر هؤلاء.
(2) شرح نهج البلاغة 10 / 96.
637
لأن هذا القول قد دللنا قبل على إبطاله، وبينا في هذه الخطبة وجه الدلالة
على فساده واسترحنا من كلفة الجواب هنا على هذه الهينمة بما قدمناه فتذكر.
ومنه قوله (ع) في حديث كميل بن زياد: (اللهم بلى لا تخلو الأرض
من قائم لله بحجة إما ظاهرا مشهورا أو مستترا مغمورا لئلا تبطل حجج الله
وبيناته) (1) فهذا الكلام نص صريح في أن الإمام القائم لله بحجته لا تخلو
الأرض منه، وهو إما أن يكون ظاهرا مشهورا يعرفه الناس تشير إليه
الأكف، وإما أن يكون مستترا مغمورا لا يعرف بشخصه، وأن الإمامة لا
تنقطع من الأرض إذ بانقطاعها يجب بطلان حجج الله وبيناته، وذلك محال
ممتنع، فانقطاع الإمامة مثله، وحيث لا إمام ظاهر على الوجه المذكور في
الكلام من بعد أبي محمد الحسن بن علي العسكري وجب الحكم بوجود إمام
مختف من بعده، وما هو إلا صاحبنا إذ لم يدع أحد من الناس ذلك لغيره،
فوجب أن يكون هو القائم بحجة الله المستتر، وفي هذا كفاية لصحة قولنا،
ومما يدل على عناد ابن أبي الحديد قوله في شرح هذا الكلام: (وهذا يكاد
يكون تصريحا بمذهب الإمامية إلا أن أصحابنا يحملونه على أن المراد به
الأبدال الذين وردت الأخبار النبوية عنهم أنهم في الأرض سائحون إلى آخر
كلامه) (2) وما أدري كيف قال هذا ولا نعرف الأبدال الذين يقول بهم؟ وأن
الكلام لا يشير إلى ما ذكره قطعا وجزما ولا شك أنه لا يدري ما يقول وأنت
خبير ببطلان كلامه بعد الإحاطة بما سبق من القول، وقد قررنا في مسألة
عدم جواز خلو الأرض من الإمام في جميع أزمنة التكليف تقريرا شافيا في
هذا الحديث ينفعك هنا فراجع.
ومنه قوله (ع) في خطبة له: (فانظروا أهل بيت نبيكم فإن لبدوا



(1) نهج البلاغة الحكمة 147.
(2) شرح نهج البلاغة 8 / 351.
638
فالبدوا، وإن استنصروكم فانصروهم، فليفرجن الله الفتنة برجل منا أهل
البيت بأبي ابن خيرة الإماء لا يعطيهم إلا السيف هرجا هرجا) موضوعا
على عاتقه ثمانية حتى تقول قريش لو كان هذا من ولد فاطمة لرحمنا يغريه الله
ببني أمية حتى يجعلهم حطاما ورفاتا: [ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا
تقتيلا سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا] الخطبة.
قال ابن أبي الحديد فإن قيل من هذا الرجل الموعود به الذي قال (عليه
السلام) (بأبي ابن خيرة الإماء) قيل: أما الإمامية فيزعمون أنه إمامهم
الثاني عشر وأنه ابن أمة اسمها نرجس، وأما أصحابنا فإنهم يزعمون أنه
فاطمي يولد في مستقبل الزمان لأم ولد، وليس بموجود الآن (1) انتهى.
قلت: نحن والحمد لله قاطعون بذلك غير زاعمين، قد وضحت به
حجتنا وقامت عليه أدلتنا كما ترى.
فإن قيل: لم استتر هذا الإمام من الظلمة ولم لا يظهر فيقاتلهم
ويجالدهم.
قلنا: قد قدمنا من القول في جواب قعود أمير المؤمنين (عليه السلام)
عن القتال في زمن الثلاثة ما يكفي في الجواب هنا عن هذا الايراد ونزيد عليه
في هذا المقام فنقول: أخبرونا عن أنبياء الله ورسله حين عمل قومهم
بالمعاصي وكفروا بالله كقوم نوح وقوم إبراهيم وقوم لوط، وعن بني إسرائيل
حين عبدوا العجل بمشهد من هارون ولم يقاتلوهم وغير أولئك ممن عصوا الله
وأفسدوا في الأرض ولم تقاتلهم الأنبياء لم لا قاتلوهم وجالدوهم فما تجيب به
عن هذا هو جوابنا عن إيرادك فاختر من الجواب ما شئت فإن قيل: إنما
وجب نصب الإمام لإقامة الملة ومنع حوزة الإسلام، وأخذ الحقوق، وإقامة



(1) نفس المصدر 7 / 59.
639
الحدود، وجباية الفئ وجهاد المشركين، وقتال الباغين، وإرشاد العباد،
ورفع الفساد، ولا خفاء أن المستتر المتواري لا تحصل به هذا المصالح فأي
فائدة في إمام مستتر.
قلنا: صدقت في قولك: إن الإمام منصوب لهذه المصالح لكن لا يجب
عليه القيام بها إلا إذا سلمت له الرعية المقادة، وبسطت له يد الطاعة لو
وجد ممن يطيعه أعوانا ينتصر بهم على من يعصيه من الأمة، فأما إذا منعته
الرعية طاعتها ولم تلق له زمام قيادها، بل تركت نصرته وإخافته ولم يجد من
أهل طاعته من يقوم بنصرته على أهل المعصية فإنه لا يجب عليه القيام بجميع
تلك المصالح كما ذكرت، وجاء منع اللطف من قبل الرعية حيث فوتوا
أنفسهم منه بكفهم يد الإمام عن التصرف، ولم يلزم من ذلك بطلان إمامة
الإمام المنصوب من الله لأن سبيله سبيل النبي، فكما أن النبي (عليه
السلام) مبعوث لتلك المصالح وغيرها ولا تبطل نبوته بعدم القدرة على القيام
بها لعدم طاعة الرعية له كما ذكرنا في الكلام على الايراد الأول ولم يقتض ذلك
عدم وجود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكذلك لا تبطل إمامة الإمام
إذ كانت من الله بمنع الرعية إياه عن التصرف، ولا يلزم من ذلك عدمه لأن
الإمامة خلافة عن النبوة وما لا يبطل به الأصل لا يبطل به الفرع، وهذا
كاف في الجواب عن ترك أئمتنا (عليهم السلام) بعد الحسين القتال
وقعودهم عن مجاهدة الظلمة، وقولك أي فائدة في إمام مستتر؟ قلت: بلى
فيه فائدة جليلة ولطف ظاهر وذلك أن المكلفين إذا علموا أن في العالم إماما
مختفيا وأنه سيظهر فينتصف للمظلوم من الظالم ويرد الحقوق إلى أهلها
ويعاقب العاصين وجوزوا ظهوره في كل وقت، فإنهم يكونون إلى الصلاح
أقرب ومن الفساد أبعد، فهذه فائدة من أعظم الفوائد في وجود الإمام
المستتر، وذلك بخلاف ما إذا علموا أن ليس في العالم إمام بذلك الوصف
فإنهم يكونون على طرف النقيض من الأول، والحاصل أن وجود الإمام لطف

640
وتصرفه لطف آخر وعدم حصول الثاني لمانع لا يقتضي عدم الأول، وهنا
وجه آخر وهو أن نقول أن الفائدة في نصب الإمام مطلقا قيام حجة الله به
على المكلفين بحيث لا يستطيع المكلف العاصي أن يقول لم أجد من يرشدني
إلى الحق، فإنه يقال لهم عن الله إني نصبت لكم من يرشدكم إلى سبيلي،
ويوضح لكم ما اختلفتم فيه من ديني، فلم عصيتموه وأخفتموه؟ ولم لا
أطعتم أمره وقبلتم قوله ووازرتموه؟ فلا تكون لهم على الله حجة وقد نصب
لهم منهم من يهديهم إلى مراشدهم وأزاح علتهم بتعيين من يدلهم على
سبيل مراضيه، بل تكون لله عليهم الحجة البالغة وإلى هذا يشير قوله
تعالى: [فلله الحجة البالغة] (1) ويصرح به قول أمير المؤمنين (عليه
السلام) (اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة) إلى قوله: (لئلا
تبطل حجج الله وبيناته) (2) وهذه كما ترى فائدة عظيمة فاندفع الايراد وزالت
الشبهة وظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون.
ولنذكر جملة من الأحاديث الواردة في حق الخلف المنتظر عجل الله فرجه
من طرق الخصوم زيادة على ما مضى.
أخرج الطبراني عن النبي (صلى الله عليه وآله): (المهدي منا
يختم الدين به كما فتح بنا).
وأخرج أحمد ومسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله): (يكون في
آخر الزمان خليفة يحثوا المال حثوا) (3).
وأخرج الطبراني مرفوعا إليه (صلى الله عليه وآله) (يلتفت
المهدي وقد نزل عيسى (عليه السلام) كأنما يقطر من شعره الماء فيقول



(1) الأنعام 149.
(2) نهج البلاغة من الحكمة 147.
(3) صحيح مسلم 6 / 3 كتاب الفتن من عدة طرق.
641
المهدي تقدم فصل بالناس فيقول عيسى إنما أقيمت الصلاة لك فيصلي خلف
رجل من ولدي) (1) وفي صحيح ابن حبان في إمامة المهدي نحوه قال في
إسعاف الراغبين وصح مرفوعا: (ينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم
المهدي تعال صل بنا فيقول لا إنما بعضكم أئمة بعض تكرمة الله لهذه
الأمة) (2) وهذا يبطل ما قاله ابن عربي أن عيسى يتقدم فيصلي بالناس على
سنة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم).
وروى ابن ماجة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (لو
لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يملك رجل من أهل بيتي
يملك جبل الديلم والقسطنطينية) (3) زاد في روايات (ورومية ومروية).
قلت: وهذه الأخبار وما قبلها تنطق نطقا فصيحا بأن المهدي من ولد
رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعترته ومن ذريته ومن نسل فاطمة
البتول وهي كثيرة متظافرة، ومنها يعلم فساد ما افتعله بعض الخصوم أنه لا
مهدي إلا عيسى، وما زوره بعض آخر المهدي من ولد العباس عمي.
قال ابن حجر في الصواعق الأظهر أن خروج المهدي قبل نزول عيسى
(عليه السلام)، وقيل بعده وقد تواترت الروايات عن النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) بخروجه وأنه من أهل بيته، وأنه يملأ الأرض عدلا وأنه يساعد
عيسى على قتل الدجال، بباب لد بأرض فلسطين، وأنه يؤم هذه الأمة،
ويصلي عيسى خلفه، وأكثر الروايات متفقه على تحقق ملكه سبع سنين إلى



(1) إسعاف الراغبين ص 135.
(2) نقل ذلك عن الفتوحات المكية الصبان في إسعاف الراغبين ص 143.
(3) سنن ابن ماجة أبواب الجهاد باب ذكر الديلم ونقل هذه الرواية عن ابن ماجة الصبان
في إسعاف الراغبين ص 136 وقال بعدها: " زاد في رواية: ورومية ومروية " كما في
المتن.
642
أن قال: وإنه بعد أن تعقد له البيعة بمكة يسير منها إلى الكوفة، ثم يفرق
الجنود إلى الأمصار، وأن السنة من سنينه تكون مقدار عشر سنين وأنه يبلغ
سلطانه المشرق والمغرب وتظهر له الكنوز ولا يبقى في الأرض خراب إلا
يعمره (1).
قال مقاتل بن سليمان ومن تبعه من المفسرين في قوله تعالى: [وأنه
لعلم للساعة] (2): إنها نزلت في المهدي.
وقال ابن عربي بعد ذكر ما نقلناه أولا عنه في نسب المهدي وبيعة
المسلمين له بين الركن والمقام، قال: يشبه رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) في الخلق بفتح الخاء وينزل عنه في الخلق بضمها إذ لا يكون أحد
مثل رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أخلاقه أسعد الناس به أهل
الكوفة، يقسم المال بالسوية، ويعدل به في الرعية يمشي الخضر بين يديه،
يعيش خمسا أو سبعا أو تسعا يقفوا أثر رسول الله (صلى الله عليه وآله)
لا يخطئ له ملك يسدده من حيث لا يراه، يفتح المدينة الرومية بالتكبير مع
سبعين ألفا من المسلمين، يشهد الملحمة العظمى مأدبة الله بمرج عكا، يعز
الله به الإسلام بعد ذله، ويحييه بعد موته، ويضع الجزية ويدعو إلى الله
بالسيف فمن أبى قتل، ومن نازعه خذل، يحكم بالدين الخاص عن
الرأي إلى أن قال: واعلم أن المهدي إذا خرج يفرح به جميع المسلمين
خاصتهم وعامتهم، وله رجال إلهيون يقيمون دعوته وينصرونه هم الوزراء
له، يتحملون أثقال المملكة عنه، ويعينونه على ما قلده الله إلى آخر ما
قال (3).
وقد ذكروا من علامات ظهوره انكساف القمر في أول ليلة من شهر



(1) الصواعق 98.
(2) الزخرف: 61.
(3) نقله عن الفتوحات المكية في إسعاف الراغبين ص 142 فما بعدها.
643
رمضان، والشمس يوم النصف منه، وقريب منه مروي من طرقنا عن أهل
البيت (1).
ومن علامات ظهوره (عليه السلام) خروج الدجال والسفياني ولا يخفى
عليك أن أخبار ظهور المهدي وعلاماته وتفصيل الأمور التي تجري من حين
ظهوره إلى حين وفاته كثيرة، وهي مذكورة في محالها كغيبة الصدوق وغيبة
النعماني وغيبة شيخ الطائفة وغيرها من كتب أصحابنا المصنفة في هذا
الشأن، من أرادها لم تفته والغرض هنا إثبات إمامة الخلف المنتظر وتصحيح
خروجه من روايات المخالفين وأقوالهم، وقد أوردنا ما فيه بل في بعض
الكفاية لمن تدبر وأنصف ولله الحمد والمنة على التوفيق.
المسألة الثالثة في بيان ثبوت عصمة الأئمة (عليهم السلام) وقد علمت في
مسألة شروط الإمام معنى العصمة وأن حقيقتها لطف يفعله الله بالمكلف بحيث
يؤمن بسببه من ارتكاب الذنوب واقتراف المعاصي كبائرها وصغائرها، ومن
الخطأ في الأحكام عمدا وسهوا وتأويلا، ويحكم بإصابته الحق في جميع أفعاله
وأقواله، وأصحابنا جازمون بعصمة أئمتنا الاثني عشر (عليه السلام)
كجزمهم بعصمة الأنبياء، وأما المخالفون فمنهم من وافقنا على عصمة أمير
المؤمنين (عليه السلام)، وليس من حيث اشتراط العصمة في الإمام وهذا
قول أبي محمد الحسن بن متوية من المعتزلة قال ابن أبي الحديد: نص أبو
محمد بن متوية في كتاب الكفاية على أن عليا (عليه السلام) معصوم وإن لم
يكن واجب العصمة، ولا العصمة شرطا في الإمامة، لكن أدلة النصوص
قد دلت على عصمته والقطع على باطنه ومغيبه وأن ذلك أمر اختص هو به
دون غيره من الصحابة انتهى (2) ووافقنا على عصمة المهدي محيي الدين



(1) إسعاف الراغبين ص 146 عن السيرة الحلبية.
(2) شرح نهج البلاغة 1 / 8.
644
مسافر بن عربي قال في الفتوحات المكية نقلا عنه: إنه يعني المهدي يحكم بما
ألقى إليه ملك الإلهام من الشريعة، وذلك أنه يلهم الشرع المحمدي فيحكم
به كما أشار إليه حديث (المهدي يقفوا أثري لا يخطئ) فأخبرنا (صلى الله
عليه وآله وسلم) أنه متبع لا مبتدع، وأنه معصوم في حكمه فعلم أنه يحرم
عليه القياس مع وجود النصوص التي منحه الله إياها على لسان ملك
الالهام، بل حرم بعض المحققين القياس على جميع أهل الله لكون رسول الله
(صلى الله عليه وآله) مشهودا لهم فإذا شكوا في صحة حديث أو حكم
رجعوا إليه في ذلك فأخبرهم بالأمر الحق يقظة ومشافهة (1).
أقول وهذا الكلام يعطي عصمة باقي أئمتنا عنده أيضا، لأن أهل الله
عنده كما ترى معصومون عن الخطأ في الأحكام وهو يقر بأن أئمتنا من أفضل
أهل الله على الوجه الذي ينحو إليه بهذا اللفظ ويعلم ذلك من قوله في ذكر
نسب المهدي: إنه ابن الإمام الحسن العسكري بن الإمام علي النقي (2) الخ،
وقد مر ذكره وبعصمة الاثني عشر صرح حجة الإسلام الغزالي في بعض
كتبه كما ذكره عنه بعض أصحابنا من أهل الاطلاع والتثبت في النقل، وقد
وضح من ذلك أن القول بعصمة هؤلاء الأصفياء ليس مما اختص به
أصحابنا، بل بعض مخالفينا يقول به وإن كان لغير الوجه الذي يقول به
أصحابنا، وأما سائرهم فينكرون عصمة أئمتنا الكرام، والعجب من ابن
أبي الحديد حيث أنكر عصمة أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال في مواضع
إنه عنه غير معصوم مع حكمه في كثير من المواضع بأن عليا (عليه
السلام) مع الحق (3) دائما، وهل العصمة إلا ذلك، وليس هذا التناقض



(1) نقله عن الفتوحات المكية في إسعاف الراغبين ص 145.
(2) كذلك ص 145.
(3) شرح نهج البلاغة. 9 / 88 و 10 / 270 و 18 / 72.
645
بغريب في كلامه فإنه قد اشتمل على الجم الغفير من ذلك، وقد نبهنا على
كثير منه سابقا.
إذا عرفت هذا فاعلم أن الدليل على عصمة أئمتنا (عليه السلام) من
وجوه ثلاثة.
الأول دليل اللزوم وبيانه إنا قد دللنا أولا في مسألة شروط الإمام على
أن العصمة شرط في الإمام، ودللنا في مسألتي النص على أن هؤلاء هم
المنصوص عليهم بالإمامة، فلزم من ذلك أن يكونوا معصومين إذ لا شئ
من الإمام غير معصوم، وهؤلاء أئمة بالنص فيكونون معصومين، وحاصل
هذا الدليل أن العصمة شرط في الإمام والاثني عشر المذكورون هم الأئمة
بالنص فتجب لهم العصمة.
الثاني دليل الكتاب وهو قوله تعالى: [إنما يريد الله ليذهب عنكم
الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا] (1) والرجس هنا الذنب بالاتفاق
ونحن نبين وجه استفادة العصمة من الآية ثم نبين من المعنى بها أما الأول
فلأن إرادة الله إذهاب الرجس عن أهل البيت وتطهيرهم من الذنوب إما أن
يكون المراد بها الإرادة التي يتعقبها الفعل ويصدر عنها إذهاب الرجس
والتطهير منه، وإما أن يكون المراد إرادة الله منهم أن يطهروا أنفسهم من
الرجس التي هي بمعنى الأمر التكليفي، والثاني غير مراد من الآية لوجهين.
الأول إن المقصود من الآية كما هو ظاهر اختصاص أهل البيت بهذا
الأمر دون الناس وإذا كان المراد منها أمر لا بتطهير أنفسهم من الذنوب زال
الاختصاص، فإن اجتناب الذنوب مطلوب من جميع المكلفين فلا خصوصية
في هذا لأهل البيت فوجب لموضع الاختصاص أن يكون المراد هو الأول ومنه



(1) الأحزاب: 33.
646
تثبت العصمة.
الثاني إن الآية وردت مورد المدح ولا مدح في مطلوبية اجتناب الذنوب
وإنما المدح في إذهابها عن المكلف وتطهيره من مقارفتها وهو المعنى الأول
فوجب أن يكون هو المراد لئلا يخرج ما هو مدح عن كونه مدحا فيثبت
بذلك العصمة لمن عناهم الله بهذه الآية.
وأما أهل البيت المعنيون بهذه الآية فهم بالأصل النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين ويدخل باقي الأئمة فيهم بالتبعية
كما أرشدت إليه الأخبار الواردة في المهدي، وقول النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) فيه تارة (إنه من عترتي) وتارة (من أهل بيتي) إذ لا يصح أن يكون
المهدي من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعترته وأبوه وآباؤه
ليسوا من العترة ولا من أهل البيت، ونسبه إنما اتصل بالنبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) من جهتهم، بل يجب أن يثبت لهم من قرب النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) ما ثبت له وزيادة لما لهم من قرب الولادة من الرسول
(صلى الله عليه وآله)، وأقل الأمور المساواة فصح من ذلك دخول
الأئمة (عليهم السلام) في أهل البيت المعنيين بهذه الآية ونزول الآية فيمن
ذكرنا مما اشتهر بين أهل العلم، وصح عند أعيان المفسرين، وشاع عند
الأمة، وصرح به المعتزلي فيما نقلناه عنه في بيان معنى العترة، وتظافرت به
الروايات من الفريقين وتواترت به الأخبار من الطرفين، ولم ينكره محقق ولا
ارتاب فيه فاضل ولم يدخل معهم غيرهم في هذه الآية إلا شاذ من متعصبي
الخصوم، وهو ابن حجر في الصواعق حيث زعم أن المراد بالبيت في الآية ما
يشتمل بيت نسب النبي (صلى الله عليه وآله) وبيت سكناه فتشمل
الآية أزواجه، ونقل هذا بعضهم عن الزمخشري والبيضاوي (1) وهو قول



(1) نقله الصبان في الاسعاف ص 108 عن الكشاف وتفسير البيضاوي بواسطة الصواعق
المحرقة.
647
فاسد من وجوه.
الأول مخالفته الشهرة العظيمة التي كادت تكون إجماعا من الأمة مع قلة
القائل به من ذوي التحقيق فيكون باطلا.
الثاني إن الآية صريحة في عصمة المعنيين بها كما قررناه واعترف به
الخصوم، ونقله في الاسعاف عن البيضاوي حيث قال المراد بالرجس
الذنب، وبالتطهير التطهير من المعاصي (1) ومن الواضح البين أنه لم يقل أحد
من الأمة بعصمة أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) فيخرجن من
مدلول الآية على هذا الوجه بالاجماع حتى من القائل بدخولهن لاعترافه
بدلالتها على العصمة كما سمعت عن البيضاوي، وهذا من أبين الوجوه على
خروج الأزواج من الآية وعدم شمولها لهن.
الثالث أن المعروف من العرب الذين نزل القرآن بلسانهم أن مرادهم
من قولهم أهل بيت فلان قرابته النسبية لا من كان منه بسبب منقطع ووصلة
مستعارة كالزوجة والعبد والأمة، قال في المصباح المنير: والأهل أهل البيت
والأصل فيه القرابة انتهى ومن مارس كلام العرب عرف صحة ما قلناه فإن شواهده في
كلامهم كثير قال الفرزدق.
إن الذي سمك السماء بني لنا * بيتا دعائمه أعز وأطول
بيت زرارة محتب بفنائه * ومجاشع وأبو الفوارس نهشل
لا يحتبى بفناء بيتك مثلهم * أبدا إذا عد الفعال الأكمل
ومن البين أنه لم يرد بيت السكنى وإنما أراد بيت النسب، وقال بعض
ولد أبي لهب.



(1) إسعاف الراغبين ص 105 عن تفسير البيضاوي.
648
وأنا الأخضر (1) من يعرفني * أخضر الجلدة في بيت العرب
من يساجلني يساجل ماجدا * يملأ الدلو إلى عقد الكرب
برسول الله وابني بنته * وبعباس بن عبد المطلب (2)
ومن اليقين أنه لم يرد ببيت العرب بيت سكناهم وإنما أراد بيت نسبهم،
وقال لبيد العامري.
فبنى لنا بيتا رفيعا سمكه * فسما إليه كهلها وغلامها
ولا شبهة في أنه لا يريد بيت السكنى وإنما يريد بيت الشرف والحسب،
وقال آخر.
ألا يا بيت بالعلياء بيت * ولولا حب أهلك ما أتيت
ألا يا بيت أهله واعدوني * كأني كل ذنبهم جنيت
أراد بيت النسب كما ذكره بعض الأفاضل وقال عبيد الله بن كثير
السهمي.
لعن الله من يسب عليا * وحسينا من سوقة وإمام
أيسب المطهرون جدودا * وكرام الآباء والأعمام
يأمن الطير والحمام ولا يأمن * آل الرسول عند المقام



(1) الأخضر: الأسمر وكانت العرب تفتخر بالسمرة.
(2) الشعر للفضل بن عتبة بن أبي لهب كما في شرح نهج البلاغة 5 / 55 وفيه: " وابني
عمه " وفي الأغاني 14 / 171 وأصلها من السجل وهو الدلو الملئ كان الرجلان يستقيان
فأيهما غلب صاحبه كان الفوز له، والكرب حبل يشد به عراقي الدلو، يقال: إن
الفرزذق مر بالفضل وهو ينشد هذه الأبيات فقال: أنا أساجلك فلما قال:
برسول الله وابني عمه البيت..
قال الفرزدق أعض الله من يساجلك بما أبقت المواسي من بظر أمه وفي رواية: " بما
ألقت المواسي الخ.
649
طبت بيتا وطاب أهلك أهلا * أهل بيت النبي والإسلام
رحمة الله والسلام عليهم * كلما قام قائم بسلام (1)
وهو مصرح بأن آل النبي وأهل بيته قرابته النسبية وأن بيت النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) بيت نسبه لا بيت سكناه وقال طارق بن عبد الله
النهدي وهو يذكر عليا (عليه السلام) عند معاوية وكان معاوية قد نال من
علي (عليه السلام) عند دخول طارق هذا عليه فأجابه طارق بكلام منه
قوله: أما بعد فإن ما كان نوضع فيما أوضعنا فيه بين يدي إمام تقي
عادل، مع رجال من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أتقياء
مرشدين ما زالوا منارا للهدى ومعالم للدين خلفا عن سلف، مهتدين أهل
دين لا دنيا كل الخير فيهم، واتبعهم من الناس ملوك وأقيال وأهل بيوتات
وشرف ليسوا بناكثين ولا قاسطين إلى آخر ما قال رواه في كتاب الغارات (2)
فقوله أهل بيوتات، يريد الأنساب الجليلة لا بيوت السكنى وهذا كثير في
كلامهم شعرا ونثرا، فصح منه أن أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) قرابته لا أزواجه، نعم إنا لا ننكر إطلاق لفظ الأهل على الأتباع
فتدخل فيهم الأزواج والموالي على جهة التجوز والقلة دون الحقيقة، لكن
الأكثر والأصل ورود الأهل في القرابة ومنه في القرآن كثير قال الله تعالى:
[فاحمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك] وزوجته ليست معهم لأنها من
المغرقين وقال تعالى حكاية عن نوح: [إن ابني من أهلي] (3) وهو صريح
في المدعى إذ ليس يجوز أن يكون المراد أن ابني من أزواجي أو مماليكي، بل



(1) معجم الشعراء للمرزباني ص 348، وشرح نهج البلاغة 15 / 256 قال ذلك وقد
سمع خالد بن عبد الله القسري يسب عليا والحسنين (عليهم السلام).
(2) الغارات ص 541 في قصة مفارقة النجاشي الشاعر لعلي (عليه السلام) وقد نقلها
في شرح نهج البلاغة 4 / 87 - 92 عن الغارات أيضا.
(3) هود: 45.
650
يتعين أن يكون المراد أن ابني من قرابتي وأولادي فيكون الأهل هم القرابة
التي أخصها الأولاد، وقوله تعالى في حق أيوب (عليه السلام): (وآتيناه
أهله ومثلهم معهم] (1) وفي آية أخرى [ووهبنا له أهله ومثلهم معهم] (2) نص
في المطلوب لأن المردود على أيوب أولاده لا زوجته باتفاق المفسرين وأهل
السيرة والتواريخ وأما قوله تعالى: [فأنجيناه وأهله إلا امرأته] (3) فلا
حجة فيه لجواز أن يكون الاستثناء فيه منقطعا مثله في [فسجد الملائكة كلهم
أجمعون إلا إبليس] (4) والزوجة داخلة في الأهل مجازا لعلاقة المجاورة كما
يحتمل أيضا في دخول إبليس في الملائكة وهذا ما لا ننكره لكن لا يحتمل عليه
اللفظ عند الإطلاق وعدم القرنية وأما قوله تعالى في حكاية خطاب الملائكة
لسارة [رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت] فلا حجة فيه أيضا لأن الخطاب
ليس لسارة وحدها بل المعني إبراهيم وأهل بيته ودخول سارة فيهم لم يكن من
جهة الزوجية خاصة بل جاز أن يكون دخولها فيهم من جهة النسب فإن سارة
لها قرابة قريبة بإبراهيم (عليه السلام) لأنها ابنة عمه وتذكير الضمير يدل
على المدعى فاتضح من هذا البيان أن الأزواج لسن داخلات في أهل البيت
المذكورين في الآية لاختصاصها ببيت النسب دون بيت السكنى.
الرابع تذكير الضمير العائد إلى أهل البيت في [عنكم] و
[يطهركم] فإنه قرينة على أن المراد أقرباء النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) دون أزواجه وإلا لقال عليكن ويطهركن إجراء له مجرى سابقه من
الكلام ولا حقه فإن الضمائر فيه كلها مؤنثة وإذا لم يؤنث الضمير وجب أن
يفصل الكلام عما قبله وعما بعده ولا اعتراض علينا بقوله تعالى: [إذ رأى



(1) الأنبياء: 84.
(2) ص: 43.
(3) النمل: 57.
(4) هود: 73.
651
نارا فقال لأهله امكثوا] (1) والخطاب لزوجته لأن ذلك تجوز محض من
وجهين الأول تذكير المؤنث الثاني خطاب الواحد بخطاب الجمع ولولا قيام
القرنية على إرادة المجاز دون الحقيقة لوجب حمل اللفظ على الجمع المذكر
وصرفه إلى الأقرباء لأنه المتبادر منه والتبادر علامة الحقيقة لكن صرفتنا عن
ذلك القرنية وهي اتفاق أهل التفسير وأهل السيرة والتاريخ على أنه لم يكن
مع موسى (عليه السلام) حين الخطاب إلا زوجته فتعين كون الخطاب لها
وحمل على المجاز لتعينه فيه من الوجهين المذكورين فأحرى أن يكون كذلك في
الوجه الثالث وليس الأمر في المقام كهذا فإن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) حين نزول الآية معه أقاربه وأزواجه واللفظ في الأول حقيقة وفي
الآخر مجازا ولا قرينة تعين المجاز فوجب صرفه إلى الحقيقة والسياق ليس
بقرينة لمعارضته بتذكير الضمير وهو من الأدلة الظاهرية وذاك ليس من الأدلة
وإن كان فهو من أدلة الإشارات ودلالة الظواهر أقوى فيجب تقديمها عليها
باتفاق الأصوليين وأيضا إن قوله تعالى: [إذ قال لأهله امكثوا] ليس فيه
اشتباه لعدم تقدم مؤنث في اللفظ وتأخر حتى يشتبه الحال في أن المراد بهذا
المذكر هو ذلك المؤنث أم غيره فجاز فيه التجوز لعدم الاشتباه وفي آية التطهير
اشتباه لتقدم مؤنث عليها وتأخره عنها، واحتمال اللفظ إذا ذكر لإرادة
المتقدم وغيره فلو أراد بها المتقدم لأنث الضمير لرفع الاشتباه ولم يأت
بالمجاز، لأن التجوز لا يجوز عند الاشتباه لعدم القرينة الصارفة عن
الحقيقة لما فيه من التعمية والاغراء بالجهل الممتنعين على الحكيم جلا وعلا
وحيث ذكر والمقام يقتضي أن لو أراد الأزواج لأنث عرفنا يقينا أنه لا يريدهن
من الخطاب فخرجن من الآية جزما وهذا مبطل للسياق الذي ادعوه وقالع
لأساس التعلق به في المقام.



(1) طه: 10.
652
قال بعض أصحابنا: ومتى قيل إن صدر الآية وما بعدها في الأزواج
فالقول فيه أن هذا الأمر لا ينكره من عرف عادة الفصحاء في كلامهم فإنهم
يذهبون من خطاب إلى غيره ويعودون إليه والقرآن من ذلك مملوء وكذلك
كلام العرب وأشعارهم.
أقول: ويدل عليه صريحا قوله تعالى في سورة لقمان: [وإذ قال لقمان
لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم] (1) ثم ذهب في
الكلام إلى معنى آخر فقال: [ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على
وهن] (2) وساق القول إلى أن استوفى المراد منه ثم عاد إلى إتمام المعنى
الأول وهو موعظة لقمان لابنه فقال: [يا بني إنها إن تك مثقال حبة من
خردل] (3) إلى أن أتى بتمام الكلام المطلوب، فتراه انتقل في القول من معنى
إلى غيره ثم عاد إلى الأول بعد استكمال الثاني فهو كالآية التي يتكلم في
دلالتها، ومثل هذا في القرآن موجود من تأمل فيه عرف مواضعه، وذكرنا
منه هذا الموضع لرفع استبعاد الجاهلين الذين يتعللون بسياق الآية وهم لا
يفقهون ظواهر العربية فضلا عن دقائقها وأسرارها.
الخامس وهو العمدة الروايات المتواترة من الفريقين على أن الآية نزلت
في النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة والحسن والحسين، وفي
بعضها ذكر الأربعة خاصة ولا شك أن النبي (صلى الله عليه وآله) هو
الأصل في ذلك ولأجله شرف الأربعة وذريتهم، والروايات في هذا المرام
متكثرة نحن نذكر منها جملة يحصل بها اليقين للمتأمل المنصف.
روى جميع المفسرين وأهل السيرة أنه لما نزل قوله تعالى: [قل تعالوا
ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل] (4) الآية



(1) لقمان: 13. (2) لقمان: 14.
(3) لقمان: 16. (4) آل عمران: 61.
653
فدعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نصارى نجران إلى المباهلة فوعدوه
في غد فلما أصبحوا جاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وهو محتضن
الحسين آخذ بيد الحسن وفاطمة خلفه وعلي (عليه السلام) خلفهم وهو
يقول: (اللهم هؤلاء أهلي إذا أنا دعوت فأمنوا) قال جابر بن عبد الله
(رضي الله عنه) (أنفسنا) محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله)
وعلي (وأبنائنا) الحسن والحسين و (نسائنا) فاطمة صلوات الله عليهم
أجمعين (1) ورواه الحاكم في مستدركه عن علي بن عيسى عن الشعبي مرسلا
ورواه عن ابن عباس وقال: صحيح على شرط مسلم، ورواه أبو داود
الطيالسي عن شعبة عن الشعبي مرسلا (2).
وروى أحمد بن حنبل والطبراني والثعلبي عن أبي سعيد الخدري قال قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أنزلت هذه الآية في خمسة في وفي
علي وحسن وحسين وفاطمة) يريد آية التطهير وروى ابن أبي شيبة وأحمد
والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه، عن
أنس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يمر ببيت فاطمة إذا
خرج إلى صلاة الفجر يقول (الصلاة أهل البيت إنما يريد الله ليذهب عنكم
الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (3) وروى ابن مردويه عن أبي سعيد
الخدري أن النبي (صلى الله عليه وآله) جاء أربعين صباحا إلى باب
فاطمة يقول: (السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته الصلاة يرحمكم
الله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) وفي



(1) رواه السيوطي في الدر المنثور عن جابر في تفسير الآية.
(2) مستدرك الحاكم 3 / 150.
(3) رواه عن ابن أبي شيبة المتقي في كنز العمال 7 / 103 ورواه أحمد في المسند 3 / 253
والطبري في تفسيره 22 / 5، وأخرجه عن ابن المنذر والطبراني السيوطي في الدر المنثور في
تفسير آية التطهير.
654
رواية له عن ابن عباس سبعة أشهر (1) وفي رواية لا بن جرير وابن المنذر
والطبراني ثمانية أشهر (2).
وروى ابن خالويه النحوي في كتاب الآل وأبو بكر الخوارزمي في كتاب
المناقب عن بلال بن حمامة قال: طلع علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) ذات يوم متبسما ضاحكا ووجهه مشرق كدارة القمر فقام إليه
عبد الرحمن بن عوف فقال: يا رسول الله ما هذا النور؟ قال: (بشارة أتتني
من ربي في أخي وابن عمي وابنتي، فإن الله زوج عليا فاطمة وأمر رضوان
خازن الجنان فهز شجرة طوبى فحملت رقاقا يعني صكاكا بعدد محبي أهل
بيتي، وأنشأ تحتها ملائكة من نور ودفع إلى كل ملك صكا فإذا استوت
القيامة بأهلها نادت الملائكة بالخلائق فلا يبقى محب لأهل البيت إلا دفعت
إليه صكا فيه فكاكه من النار، فصار أخي وابن عمي وابنتي فكاك رقاب
رجال ونساء من أمتي) وجه الدلالة من الخبر تفسير النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) أهل البيت بعلي وفاطمة في آخر الحديث وهو قوله (صلى الله
عليه وآله وسلم) (فصار أخي وابن عمي وابنتي) (3) الخ فكانا هما المرادين
بقوله (محبي أهل بيتي) وقوله (فلا يبقى محب لأهل البيت) والأمر ظاهر.
وروى الحاكم عن ابن عباس قال سمعت رسول الله يقول بأذني وإلا
صمتا: (أنا شجرة وفاطمة حملها وعلي لقاحها والحسن والحسين ثمارها ومحبوا
أهل البيت ورقها وكلنا في الجنة حقا حقا) وجه الدلالة ظاهر وغني عن البيان



(1) نقل الرواية الأولى عن ابن مردويه السيوطي في الدر المنثور عن أبي سعيد الخدري
كما نقل عنه الرواية الثانية في تفسير آية التطهير عن ابن عباس ولكنه ذكر مكان
" سبعة "، " تسعة " والتصحيف بينهما قريب.
(2) انظر الدر المنثور.
(3) تاريخ بغداد 4 / 210.
655
لصراحته أن أهل البيت هم أهل تلك الشجرة الزكية، وهذا الخبر ينصر ما
قلناه أولا أن المراد بأهل البيت أهل بيت النسب لا بيت السكنى فتأمل.
وروى الثعلبي في تفسيره بالإسناد عن أم سلمة أن النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) كان في بيتها فأتته فاطمة ببرمة فيها خزيرة فقال لها (ادعي
زوجك وابنيك) فجاءت بهم فطعموا ثم ألقى عليهم كساء له خيبريا فقال:
(اللهم هؤلاء أهل بيتي وعترتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا)
فأنزل الله تعالى: [إنما يريد الله] الآية قالت: فأخذ فضل الكساء
فغشاهم به، ثم أخرج يده وألوى بها إلى السماء وقال: (اللهم هؤلاء أهل
بيتي وحامتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا) فأدخلت رأسي البيت
وقلت أنا معكم يا رسول الله فقال إنك إلى خير إنك إلى خير (1).
وذكر أبو حمزة الثمالي في تفسيره حدثني شهر بن حوشب عن أم سلمة
قالت جاءت فاطمة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) تحمل خزيرة لها
فقال ادعي زوجك وابنيك فجاءت بهم فطعموا ثم ألقى عليهم كساء له
خيبريا وقال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي وعترتي فأذهب عنهم الرجس
وطهرهم تطهيرا) فقلت يا رسول الله وأنا معهم قال: (أنت إلى خير) (2).
وروى الثعلبي في تفسيره أيضا بإسناده عن مجمع قال دخلت مع أمي
على عائشة فسألتها أمي أرأيت خروجك يوم الجمل قالت: إنه كان قدرا من
الله فسألتها عن علي (عليه السلام) فقالت تسأليني عن أحب الناس كان إلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله) لقد رأيت عليا وفاطمة وحسنا
وحسينا وجمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بثوب عليهم ثم قال:



(1) نقله عن تفسير الثعلبي الطبرسي في مجمع البيان 8 / 357 والبرمة: القدر من
الحجر.
(2) نقله الطبرسي في المجمع 8 / 356 عن تفسير أبي حمزة.
656
(اللهم هؤلاء أهل بيتي وحامتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا)
قالت فقلت: يا رسول الله أنا من أهلك قال: (تنحي فإنك إلى خير) (1)
قال أبو علي الطبرسي: أخبرنا السيد أبو الحمد قال حدثنا الحاكم أبو القاسم
الحسكاني قال حدثونا عن أبي بكر السبيعي قال حدثنا أبو عروبة الحراني قال
حدثنا ابن مصفى قال حدثنا عبد الرحمن بن واقد عن أيوب بن سيار عن
محمد بن المنكدر عن جابر قال نزلت هذه الآية على النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) وليس في البيت إلا فاطمة والحسن والحسين وعلي: [إنما يريد الله
ليذهب عنكم الرجس أهل البيت] فقال النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم): (اللهم هؤلاء أهلي) قال وحدثنا السيد أبو الحمد قال حدثنا
الحاكم بقوله بإسناده عن زاذان عن الحسن بن علي (عليه السلام)
قال لما نزلت آية التطهير جمعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإياه في
كساء لأم سلمة خيبري ثم قال: (اللهم إن هؤلاء أهل بيتي وعترتي) (2).
وعن أبي سعيد الخدري قال لما نزل قوله تعالى: [وأمر أهلك بالصلاة]
الآية كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يأتي باب فاطمة وعلي تسعة
أشهر عند كل صلاة فيقول: (الصلاة رحمكم الله إنما يريد الله ليذهب عنكم
الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (3) ومثله روى عن أبي بردة وأبي
رافع (4) وقال في إسعاف الراغبين، روى من طرق عديدة صحيحة أن رسول
الله (صلى الله عليه وآله) جاء ومعه علي وفاطمة وحسن وحسين قد
أخذ كل واحد منهما بيده حتى دخل فأدنى عليا وفاطمة وأجلسهما بين يديه



(1) انظر مجمع البيان 8 / 358.
(2) مجمع البيان 8 / 357.
(3) رواه السيوطي في الدر المنثور ولكن روى " ثمانية أشهر " مكان " تسعة " نعم روى
ذلك عن ابن عباس في تفسير آية التطهير.
(4) مجمع الزوائد 9 / 169 عن أبي برزة وقال: " رواه الطبراني ".
657
واجلس حسنا وحسينا كل واحد منهما على فخده ثم لف عليهم كساء ثم تلا
هذه الآية: [إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم
تطهيرا] وقال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم
تطهيرا] قال: وفي رواية: (اللهم هؤلاء آل محمد فاجعل صلواتك
وبركاتك على آل محمد كما جعلتها على إبراهيم إنك حميد مجيد) قال وفي
رواية أم سلمة قالت فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه من يدي فقلت وأنا
معكم يا رسول الله قال: (إنك من أزواج النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) (1).
أقول هذه الرواية والرواية المتقدمة عن عائشة من أوضح الأدلة على
خروج الأزواج من الآية الشريفة بل من حقيقة مفهوم الأهل كما ترى وإن
كان كل الروايات المذكورة صريحة في ذلك وهي كثيرة وطرقها متعددة
ويؤيدها قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث السقيفة: (يا معشر
المهاجرين الله الله لا تخرجوا سلطان محمد عن داره وبيته إلى بيوتكم ودوركم
ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أهل
البيت أحق بهذا الأمر منكم) الخبر وقد مر ولم يقل أحد من الصحابة لأمير
المؤمنين (عليه السلام) حين ادعا أن الخلافة إذا كانت له كانت في دار النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) وبيته وإذا خرجت عنه لم تكن في بيت النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) ولا داره، وذكر أنه ومن يؤل إليه أهل النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) وأنهم أهل البيت إن دارك غير دار النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم)، ولم يجبه منهم مجيب بأن أهل النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) أزواجه وأن أهل بيته نساؤه لا أنتم، بل سلموا له الدعوى



(1) إسعاف الراغبين: 137.
658
واعتذروا عن أخذ حقه بما اعتذروا مما هو مذكور هناك ومبين فيما مضى،
ويستفاد من هذا اتفاق الصحابة على أن أهل البيت في الآية المراد بهم النبي
(صلى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة والحسن والحسين وأن البيت فيها
بيت النبوة والرسالة وأنها مختصة بهم لا يشاركهم فيها غيرهم، فبطل بذلك
ما ادعاه قوم من مشاركة الأزواج لهم (1) وفسد ما ادعاه عكرمة من
اختصاص الآية بالأزواج لمخالفته الإجماع (2) سابقا ولاحقا، وكذا ما ادعاه
بعض الخصوم من دخول أقارب النبي (صلى الله عليه وآله) وباقي
بناته في الآية، وروايتهم في العباس وبنيه لا تساعد على ذلك لأن فيها ستر
العباس وبنيه بملاءة ودعا لهم بالستر من النار (3) وهذا غير إذهاب الرجس
والتطهير من الذنب وليست النجاة من النار مختصة باهل آية التطهير حتى
يدخل فيها من دعا له النبي (صلى الله عليه وآله) بالستر من النار،
وإنما اختصوا بالعصمة من الذنوب، فالرواية على فرض صحتها لا تدل



(1) قال النيسابوري في غرائب القرآن ج 21 / 10 بعد أن ذكر اختصاصها باهل العبا
بالاتفاق " يغلب على الظن دخولهن فيهم ".
(2) نقل ذلك الطبري في تفسيره ج 21 ص 5 - 7 عن عكرمة بعد أن روى بعدة طرق
عن أبي سعيد الخدري وعائشة وأنس وأم سلمة وأبي الحمراء، وواثلة بن الأصقع وأبي
هريرة وعمر بن أبي سلمة وسعد بن أبي وقاص أن المعنيين بهذه الآية رسول الله وعلي
وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم وروى أيضا أن أم سلمة لما رأت أن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تجلل هو وهم بالكساء قالت: يا رسول الله أدخلني
معهم، أو أنا منهم قال: (مكانك أنت على خير).
(3) الظاهر أن الرواية وضعت تزلفا لبني العباس ليقابلوا بها حديث الكساء ليرغموا بذلك
أنوف أبناء عمهم من العلويين حيث لم يجدوا طريقا لرد حديث الكساء لتواتره واشتهاره
وانتشاره وحيث أن الواضع لم يجد من يشهد له بالتصديق استشهد بالجمادات وهي أن
النبي حيث وضع الملاءة على العباس وبنيه ودعا لهم بالستر من النار أمنت على دعائه
أسكفة الباب وحوائط البيت ثلاثا (انظر إسعاف الراغبين ص 107).
659
بشئ من الدلالات على دخول العباس وبنيه في الآية، ولسنا نخرج العباس
وبنيه وباقي بني عبد المطلب من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله)
بالمعنى العام، لأن قرابتهم إلى النبي ثابتة، وإنما نخرجهم من أهل البيت
الذين نزلت فيهم الآية، وقد تقدمت الرواية بهذا المضمون عن عبد الله بن
العباس كما إنا أخرجناهم من العترة بالمعنى الخاص كما شهدت به جملة من
الأخبار المروية هنا مثل حديث أم سلمة وخبر زاذان عن الحسن (عليه
السلام) مضافا إلى ما سبق في محله وكذلك نخرجهم من الآل على هذا المعنى
أي من الآل المختصين بخلافة النبي (صلى الله عليه وآله) والمشاركين
له في خصائصه إلا ما يختص بالنبوة، وعلى المعنى العام في أهل البيت يخرج
قول زيد بن أرقم أهل البيت من حرم الصدقة بعده يعني النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) وهم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس في رواية
مسلم والنسائي إن صحت الرواية وإلا ففيها إشكال من جهة أن من حرمت
عليه الصدقة لا يختص بالمذكورين بل هو شامل لجميع بني هاشم فيدخل بنوا
الحارث بن عبد المطلب وبنوا أبي لهب إلا أن يريد بما ذكره التمثيل، وعلى
كل حال فلا معارضة بها لتلك الأخبار المتواترة فتعين ما قلنا فيها واندفع
جميع الايرادات وتبين صحة الوجه في اختصاص الآية بمن ذكرنا، ويعضده
أيضا ما رواه أبو بكر الجوهري في كتاب السقيفة بإسناده عن أبي كعب
الحارثي في خبر طويل يذكر فيه كلاما جرى بين علي وعمار وعائشة وحفصة
وسعد بن أبي وقاص وبين عثمان بن عفان وفيه فتقدم عثمان فصلى بهم فلما
كبر قالت امرأة من حجرتها: " يا أيها الناس " ثم تكلمت وذكرت رسول
الله (صلى الله عليه وآله) وما بعثه الله به ثم قالت: " تركتم أمر الله
وخالفتم عهده " ونحو هذا ثم صمتت، وتكلمت امرأة أخرى بمثل ذلك فإذا
هما عائشة وحفصة، قال فسلم عثمان ثم أقبل على الناس وقال: إن هاتين
لفتانتان يحل لي سبهما، وأنا بأصلهما عالم، فقال له سعد بن أبي وقاص:

660
أتقول هذا لحبائب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (1) الخبر فانظر إلى
قول سعد في الرد على عثمان أتقول هذا لحبائب رسول الله فإنه قاض بأن
الأزواج لسن داخلات في آية التطهير عند جميع الصحابة، ولا كان دخولهن
فيها معروفا فيما بينهم، ولو كان ذلك كذلك لكان الواجب أن يحتج سعد
على عثمان بالآية ويقول له أتقول هذا لأهل البيت الذين أذهب الله عنهم
الرجس وطهرهم تطهيرا فإنه أوضح في الحجة على عثمان حيث ادعا عليهما
المعصية التي أحلت له سبهما وعرض بأصلهما كأنه يريد الهجنة، أي إنهما
ليستا من ذوات الشرف في النسب أو غير ذلك، فكان الاحتجاج عليه في رد
قوله بما يصرح بطهارتهما عن الذنب ألزم فضلا عن أن يكون أولى من
الاحتجاج بأنهما حبائب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإن كونهما من
الحبائب لا يمنع صدور الذنب منهما فإن عثمان أيضا بزعم سعد من أحباء
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يكن ذلك مانعا من صدور الذنب منه
عنده، وإلا لما أنكر عليه قوله على أن عثمان ما ادعا عليهما إلا صدور
العصيان منهما المجوز سبهما وعلمه بضعف أصلهما، فرد قوله بشهادة الله لهما
بالتطهير أصرح في قطع حجته وإبطال دعواه، فترك سعد الاحتجاج بالآية لهما
وتركهما الاحتجاج بها لأنفسهما مع شدة الاحتياج إلى ذلك لكثرة ما شتمتا
عثمان وشتمهما كما رواه الخصوم دليل صريح على أن الأزواج غير داخلات
فيها وكذا قول عمر لابن عباس، إنما عنيت عظيمكم أهل البيت (2) وقول
المغيرة بن شعبة أتنظران خيل الحلبة من أهل هذا البيت وسعوها في قريش
تتسع (3) دالان على أن أهل البيت قرابة النبي (صلى الله عليه وآله)
النسبية لا الأزواج، وأن ذلك هو المعروف بين أصحاب النبي (صلى الله



(1) شرح نهج البلاغة 9 / 5 عن الجوهري.
(2) في محاورة جرت بينهما (انظر شرح نهج البلاغة 12 / 20).
(3) شرح نهج البلاغة 6 / 43.
661
عليه وآله وسلم)، ويزيد ذلك وضوحا ما جرى بين عائشة وعلي (عليه
السلام) يوم الجمل من المخاصمات وتصريحه للناس بارتكابها المعصية وما
جرى بينهما وبين عبد الله بن العباس من الملاحات حين دخل عليها بعد
الهزيمة، وما جرى بينها وبين عمار بن ياسر من المجادلة ونسبة الكل منهم
إياها إلى ارتكاب المعصية ولم تحتج على واحد منهم لبرائتها من المعصية بآية
التطهير كما كان دائما يحتج بها علي وولده، ويحتج لهم بها شيعتهم، ولو
وجدت شبهة تتعلق بها في دخولها في الآية وتصول بها على الطهارة لسارعت
إليها وسبقت في انتهاز فرصتها كل سابق ولا دلت بها إلى الناس، لكنها لم
تجد إلى هذا سبيلا وشواهد هذا كثيرة جدا وقد مر جملة منها متفرقا في الكتاب
وفيما ذكرناه هنا كفاية مقنع فقد أتينا فيه كما ترى بالفصل ليس بالهزل،
وأوضحنا فيه نهج الحق، وأزحنا تعللات أهل الشك، ومنه تعلم أنه ليس
في الصحابة ولا في أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) من يدعي أن
آية التطهير يدخل فيها الأزواج فضلا عن كونهن مختصات بها كما قال
عكرمة، وأن إدخالهن فيها إنما هو قول مولد من بعض المتعصبين قصد به
إبطال احتجاج أهل الحق على عصمة علي وفاطمة وأبيهما حتى يساوي بينهم
وبين من خالفهم وخاصمهم من أئمته ليحتمل الخطأ في كلا الطرفين فيرجع
حينئذ إلى.
ونسكت عن حرب الصحابة * فالذي جرى بينهم كان اجتهادا مجردا
وهيهات هيهات وأنى له بذاك وقد أسفر الصبح وصرح الحق عن النصح
ومما يدل على عصمتهم من الكتاب أيضا قوله تعالى: [سلام على آل
ياسين] (1) فالمروي عن ابن عباس أن المراد بهم آل محمد، وبه قال الفخر
الرازي (2) وجماعة من مخالفينا: والآل بالمعنى العام هم أهل الرجل وهم



(1) الصافات: 130.
(2) تفسير الرازي 26 / 163.
662
ذووا قرابته كما ذكر في المصباح المنير وقد يطلق على المشايعين والأتباع، وعليه
جرى قوله تعالى: [ادخلوا آل فرعون أشد العذاب] (1) وأما الآل بالمعنى
الخاص فهم ذرية الرجل وولده وخاصته من أقاربه، قال الله تعالى: [فقد
آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما] (2) فالذين آتاهم الله
الكتاب والحكمة والملك العظيم من ذوي إبراهيم ولده وذريته وإن دخل فيهم
لوط، فذلك لأنه ابن أخيه كما رواه أبو علي الطبرسي عن ابن عباس وابن
زيد وجمهور المفسرين (3) لا جميع أقاربه بالاتفاق، وقال تعالى: [إن الله
اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين] (4) والمصطفى من
إبراهيم ولده ومن عمران ولداه موسى وهارون لا الأقارب ولا الزوجات
وقال تعالى: [فلما جاء آل لوط المرسلون] (5) أتوا لوطا وخاصة أهله فهم
آله وأما قوله تعالى: [إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته] (6) فيحتمل
انقطاع الاستثناء أو دخول المرأة من حيث المجاورة أو إطلاقه هنا على الأتباع
والأشياع فتدخل الزوجة والمملوك لا المعنى الخاص، وبالجملة الآل كالأهل
في معاينه بل قال بعض إنه هو بنفسه أبدلت هاؤه ألفا وآل محمد (صلى الله
عليه وآله وسلم) الذين شاركوه في الصلاة عليه وفي التسليم والطهارة
ووجوب المودة هم علي وفاطمة والحسن والحسين كما ذكرنا في بيان العترة
وذوي القربى والأهل ويدخل باقي الأئمة بالتبعية كما أوضحناه هناك، ويدل
عليه صريحا ما مر من قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في علي وفاطمة



(1) غافر: 46.
(2) النساء: 54.
(3) مجمع البيان 8 / 380 وفيه " ابن أخته " بدل " ابن أخيه ".
(4) آل عمران: 332.
(5) الحجر: 61.
(6) الحجر: 59.
663
والحسنين حين نزلت آية التطهير: (اللهم هؤلاء آل محمد فاجعل صلواتك
وبركاتك على آل محمد كما جعلتها على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) (1) واستفادة
العصمة من الآية من جهة أن السلام بمعنى السلامة وهي البراءة من العيوب
والنجاة من الذنوب كما قال تعالى: [قيل يا نوح اهبط بسلام منا] (2)
وقال: [سلام على نوح (3) سلام على إبراهيم (4) سلام على موسى
وهارون] (5) فالمعنى سلامة لآل محمد أي سلموا من العيوب سلامة وبرئوا
من الذنوب براءة والسلامة من الذنوب هي العصمة.
ومما يدل عصمتهم من الكتاب أيضا قوله تعالى: [قل لا أسألكم عليه
أجرا إلا المودة في القربى] (6) فإنا قد بينا أولا إنها نازلة في أئمتنا وأمهم
فاطمة وأبيهم علي (عليه السلام) وبينا أيضا أن المودة هنا بمعنى المتابعة
وأقمنا على ذلك الأدلة هناك ويشهد للمعنين جميعا ما رواه الحاكم أبو القاسم
الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفصيل مرفوعا إلى أبي أمامة
الباهلي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن الله خلق
الأنبياء من أشجار شتى وخلقت أنا وعلي من شجرة واحدة فأنا أصلها وعلي
فرعها وفاطمة لقاحها والحسن والحسين ثمارها وأشياعنا أوراقها فمن تعلق
بغصن من أغصانها نجى ومن زاغ عنها هوى ولو أن عبدا عبد الله بين الصفا
والمروة ألف عام ثم ألف عام ثم ألف عام حتى يصير كالشن البالي ثم لم
يدرك محبتنا كبه الله على منخريه في النار) ثم تلا: [قل لا أسألكم عليه



(1) إسعاف الراغبين ص 106.
(2) هود: 48.
(3) الصافات: 59.
(4) الصافات: 109.
(5) الصافات: 120.
(6) الشورى: 23.
664
أجرا إلا المودة في القربى] (1) والتعلق بمعنى المتابعة البتة وإذا كانت متابعتهم
واجبة على الإطلاق من دون تقييد بحال دون حال وجب أن يكونوا معصومين
من الخطأ في جميع الأحوال، ومنزهين عن ارتكاب المعاصي بلا إشكال،
ولولا ذلك لوجب تقييد طاعتهم بما قيد به طاعة الأوبين بقوله تعالى:
[وإن جاهداك على أن تشرك بالله شيئا فلا تطعهما] (2) إذ لا يجوز إطاعة
المخطئ ولا متابعة العاصي بنص الكتاب، وحيث أطلق وجوب متابعتهم
ولزوم مودتهم دل على الشهادة لهم بالعصمة والطهارة من الأرجاس والأدناس
والأمر ظاهر.
وأما من السنة فالذي يدل على عصمة أئمتنا كثير منه ما يعم الجميع ومنه
ما يختص بأمير المؤمنين فأما الذي يختص به.
فمنه قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (علي مع الحق والحق مع
علي يدور معه حيثما دار) فإن هذا الحديث نص في عصمة علي (عليه
السلام) إذ قد علمت أن ليس العصمة إلا ملازمة الحق والصواب وعدم
الخطأ في الأقوال والأفعال فإذ شهد له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه
على الحق في جميع أحواله كانت تلك شهادة له بالعصمة عن الذنوب وعن
الخطأ في الأحكام والقول والفعل، لأن العاصي ليس على الحق والمخطي
ليس معه وكان أمير المؤمنين مصيبا للحق وملازما له كان معصوما
بالضرورة.
فمنه قول النبي (صلى الله عليه وآله) فيه يوم غدير خم في
الحديث المتواتر الذي رواه خصومنا عن جملة من الصحابة: (اللهم وال من
والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيثما



(1) رواه عن الحسكاني الطبرسي في مجمع البيان 5 / 49 ط مكتبة الحياة.
(2) لقمان: 15.
(3) تاريخ الخطيب 14 / 621 وتفسير الرازي 1 / 205.
665
دار) (1) فإنه صريح في عصمته لأن وجوب موالاته ونصرته على الإطلاق
تستلزم ملازمته للحق فهي شهادة له بالعصمة، ولو صحت منه المعصية لم
تجب موالاته في كل حال إذ لا يجوز موالاة العاصي ولا نصرته، بل الواجب
الانكار عليه بالنص والاجماع لكن موالاة علي (عليه السلام) واجبة مطلقا
بصريح الخبر فوجب أن يكون معصوما وإلا لوجب لو صدرت منه المعصية
خذلانه ومعاداته في حال وجوب نصرته وموالاته وهذا متناقض، وأما قوله
(صلى الله عليه وآله وسلم): (وأدر الحق معه حيثما دار) فدلالته على
العصمة أوضح من الشمس في رابعة النهار وتقريره كتقرير الحديث الأول.
ومنه قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما رواه الحافظ أبو
نعيم وأحمد بن حنبل: (من أحب أن يحيى حياتي ويموت ميتتي ويتمسك
بالقضيب من الياقوتة التي خلقها الله تعالى بيده ثم قال لها كوني فكانت
فليتمسك بولاء علي بن أبي طالب) ولفظ أحمد (من أحب أن يتمسك
بالقضيب الأحمر الذي غرسه الله في جنة عدن بيمينه فليتمسك بحب علي بن
أبي طالب) (2) وفي حديث آخر رواه الحافظ (من سره أن يحيى حياتي ويموت
مماتي ويسكن جنة عدن التي غرسها ربي فليوال عليا من بعدي وليوال وليه) (3)
والتمسك والموالاة هي المتابعة كما أوضحناه فيما مضى، وإذا كان متابعة علي
(عليه السلام) واجبة على الإطلاق وجب أن يكون ملازما للحق على كل
حال وهي العصمة.
ومنه الأحاديث الواردة في وجوب محبته، وأن محبته محبة الله وطاعته طاعة.
الله، وفي بعضها أن محبه محب رسول الله وهي كثيرة، وقد تقدمت ونشير



(1) مرت مصادر هذا الحديث.
(2) حلية الأولياء 1 / 86 و 4 / 174.
(3) نقله عن مناقب أحمد كما في المتن المحب في الرياض 2 / 215.
666
هاهنا إلى بعض.
فمنها قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في رواية الحافظ عن أبي
بردة الأسلمي (إن الله قد عهد إلي في علي عهدا فقلت: يا رب بينه لي قال
اسمع إن عليا راية الهدى) إلى أن قال: (وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين
من أحبه فقد أحبني ومن أطاعه أطاعني فبشره بذلك فقلت قد بشرته يا
رب) إلى أن قال: (وقد دعوت له فقلت اللهم أجل قلبه واجعل ربيعه
الإيمان بك، قال قد فعلت) الخبر (1) ومثله قوله (صلى الله عليه وآله
وسلم) في حديث أحمد في حق علي. (وأما الخامسة فإني لست أخشى
عليه أن يعود كافرا بعد إيمان ولا زانيا بعد إحصان) (2) الخبر وقوله (صلى
الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام) في حديث أحمد: (من أحبك
أحبني وحبيبي حبيب الله وعدوك عدوي وعدوي عدو الله) (3) وقوله (صلى
الله عليه وآله وسلم) في حديث أحمد أيضا: (أوصيكم بحب ذي قرباها
أخي وابن عمي علي بن أبي طالب لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق من
أحبه أحبني) (4) الخبر وغير ذلك من الأخبار وهي ظاهرة في الشهادة بعصمته
وأظهرها في المطلب.
الأول لأنه إذا كان طاعة علي (عليه السلام) طاعة الله مطلقا وجب أن
يكون دائما على الحق والصواب في جميع الأمور لا يجوز عليه الخطأ في الحكم
إذ لو أخطأ في الحكم أو ارتكب معصية في قول أو فعل لم تكن طاعته طاعة
الله، بل الأمر يكون بالعكس لكن طاعته طاعة الله بنص الخبر فهو معصوم



(1) حلية الأولياء 1 / 66.
(2) أيضا 10 / 211. ولكنه يختلف قليلا عما في المتن ولعله منقول من مكان آخر من
الحلية.
(3) قال المحب في الرياض 2 / 216: " أخرجه أحمد في المناقب ".
(4) رواه المحب في الرياض 2 / 214 وقال: " أخرجه أحمد في المناقب ".
667
من ارتكاب القبيح، ويدل أيضا على أنه لا يعمل بالاجتهاد كغيره لأن
المجتهد لا يصيب دائما وعلى مصيب دائما فهو ليس بمجتهد فيكون علمه نقلا
من الرسول (صلى الله عليه وآله) وإلهاما من الله تعالى، وأكثر
أخبار الباب مصرحة بهذا المعنى فلنستغن ببيانه هنا عن تكريره فتأمل، وقوله
(صلى الله عليه وآله) (واجعل ربيعه الإيمان) نص في العصمة على
قول المعتزلة والربيع هو الجدول، وهو النهر الصغير كأنه (صلى الله عليه وآله
وسلم) يريد واجعل مشربه أو مورده الإيمان والإيمان عند المشار إليهم فعل
الواجبات واجتناب الكبائر والصغائر عندهم مكفرة لا تنافي العصمة لأنها لا
توجب الذم، وإذا كان علي (عليه السلام) بنص الخبر ملازما للإيمان كما
يصرح به قوله بعد الدعاء (قد فعلت) والإيمان عندهم لا يتم إلا باجتناب
القبيح الذي يستحق فاعله الذم وجب أن يكون معصوما منه، وإني لأعجب
من ابن أبي الحديد حيث يروى مثل هذا الخبر الواضح في عصمة علي (عليه
السلام) ثم يقول في مواضع كثيرة من كتابه: " إن عليا ليس بمعصوم "
ويعدله بعمر تارة ويقول: " إن الرجلين ليس ولا واحد منهما عندنا بمعصوم
ولم يفرق بين من لم يعبد إلا الله، ولم يجر عليه اسم فسق أبدا وبين من عبد
الأوثان وجرى عليه اسم الكفر والعصيان، وأخطأ في كثير من الأحكام فيا لله
للمسلمين أيقاس هذا بذاك وهل تستوي الظلمات والنور، لكن الرجل
وامناله؟؟ تاهوا في أودية الجهل وسلكوا الطريق الوعر وهم يحسبون أنهم يحسنون
صنعا أعاذنا الله والمؤمنين من طاعة الهوى.
وأما لفظ المحبة الوارد في الأخبار المذكورة فهو مفيد للعصمة لما بيناه
مرارا من أن المحبة لعلي (عليه السلام) إذا وجبت على الإطلاق وكانت
كمحبة الله والرسول (صلى الله عليه وآله) وجب أن يكون منزها عن
فعل القبيح إذا العاصي لا تجب محبته البتة، وعلي (عليه السلام) تجب محبته
مطلقا فهو لا يعصي أبدا وهو المطلق. (*)

668
ومنه قول النبي (صلى الله عليه وآله) في رواية الحافظ أبي
نعيم: (يا معشر الأنصار ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا)
قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (هذا علي فأحبوه بحبي وأكرموه
بكرامتي) (1) الخبر، ومعنى ذلك طاعته بطاعة رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) والخبر صريح في أن التمسك بعلي (عليه السلام) عاصم من
الضلال أبدا فوجب أن يكون معصوما إذ لو ارتكب قبيحا لم يكن التمسك
به عاصما من الضلال لكنه عاصم فليس بمرتكب قبيحا ومثله قول النبي
(صلى الله عليه وآله) في حديث أنس (أنه يعني عليا راية الهدى
ومنار الإيمان وإمام أوليائي ونور جميع من أطاعني) (2) وقوله في رواية أبي
بردة: (إن عليا راية الهدى) الخبر وتابع راية الهدى يجب أن يكون مهتديا ولو
كان علي (عليه السلام) ممن يعصون لم يكن راية الهدى ولم يكن اقتفاؤه
عاصما من الضلال لكنه راية الهدى بالنص فيجب أن يكون معصوما من
الضلال.
ومنه الأخبار الواردة في أن عليا (عليه السلام) كنفس رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) وأنه منه ومخلوق من نوره المعتضدة على كثرتها بنص
القرآن الحكيم مثل قوله (صلى الله عليه وآله) (لأبعثن إليكم رجلا
كنفسي وفي رواية عديل نفسي) وقوله (صلى الله عليه وآله) (إن
عليا مني وأنا من علي) (3) وقوله (صلى الله عليه وآله) (كنت أنا وعلي
نورا بين يدي الله عز وجل) إلى أن ذكر قسمة (4) ذلك النور فقال: (جزء أنا وجزء



(1) حلية الأولياء 1 / 63 وشرح نهج البلاغة 9 / 170.
(2) شرح نهج البلاغة 9 / 169.
(3) أيضا 1 / 6 و 9 / 168 وحديث أبي برزة رواه أبو نعيم في الحلية 1 / 66.
(4) أيضا 9 / 167.
669
علي (عليه السلام) (1) ومثل ذلك قوله (صلى الله عليه وآله) في تشبيه
علي بالأنبياء: (من أراد أن ينظر إلى نوح في عزمه) إلى آخر الخبر (2) والأخبار
في هذا المعنى كثيرة قد تقدمت وإذا كان علي (عليه السلام) من نور رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعديل نفسه وشبيها بالأنبياء كان معصوما
مثله ومثلهم، إذ لم تخرج من مشابهة النبي (صلى الله عليه وآله) إلا
النبوة فيبقى الباقي حاصلا له ومن جملته العصمة فيكون علي معصوما ولذا
قال (عليه السلام): (والله ما ظللت ولا ضل بي ولا زللت ولا زل بي)
وصدق وهو الأمين المصدق فإنه ما زال على الحق ما حاد عنه ولا حال ولم
يفارقه ولم يزايله طرفة عين والأخبار الواردة في المعاني المذكورة والمشابهة لها
والقريبة منها متعددة واسعة، وقد ذكرنا جلها وما ذكرناه هنا من التقسيم
أصل يرجع إليه في ارجاع كل حديث مما لم نذكره هنا إلى بابه فلنقتصر على ما
رسمناه ففيه بلوغ المراد، وتحصيل المطلب، وكفاية المنصف، ومقنع المتدبر
في هذا الباب والمعاند لا دواء له من الحجة.
وأما ما يشتمل على جميع الأئمة من النصوص الشاهدة لهم بالعصمة.
فمنه الخبر المتواتر وهو حديث الثقلين وقول رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) فيه: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله
وعترتي أهل بيتي فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) وهذا اللفظ في
بعض طرق هذا الحديث عن زيد بن أرقم وقد ذكرنا بعض طرقه وألفاظه فيما
مضى وهذا الحديث على جميع ألفاظه دال على عصمة العترة من وجهين.
الأول شهادة النبي (صلى الله عليه وآله) بعصمة المتمسك بهم



(1) أيضا 9 / 171 عن مسند أحمد وفضائله قال: " وذكره صاحب الفردوس وزاد فيه:
(ثم انتقلنا حتى صرنا في عبد المطلب فكان لي النبوة ولعلي الوصية).
(2) مر هذا الحديث.
670
من الضلال دائما ولو جاز عليهم الخطأ وارتكاب المعاصي لما كان اتباعهم
عاصما من الضلالة مطلقا كما قررناه مرارا فوجب أن يكونوا مأمونين من الخطأ
منزهين عن مقارفة الخطايا وتلك هي العصمة.
الثاني شهادة النبي (صلى الله عليه وآله) لهم بأنهم مع القرآن لا
يفارقونه ولا يفارقهم (1)، والمراد من ذلك أنهم ملازمون لأحكامه، والقرآن
حق لا ريب فيه والملازم له دائما على الحق في كل أحواله لا يجوز عليه الخطأ
إذ لو جاز عليه الخطأ لم يكن ملازما للقرآن، ولزوم الصواب دائما هو العصمة، ويلزم
من ذلك علمهم بالقرآن من جهة التوقيف النبوي بنقل السابق إلى اللاحق، أو الإلهام
الإلهي ليكونوا مطلعين على مقاصد الله من جهة القطع والتنصيص لا من
جهة الاجتهاد والنظر والأخذ بالظواهر، فإن ذلك لا يوجب الإصابة بل
خطؤه أكثر من صوابه ولذا اشتهر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
(إن من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) فلو أن أهل البيت يعلمون
أحكام القرآن من طريق الاجتهاد لم يكونوا ملازمين لحكم القرآن لجواز الخطأ
في الاجتهاد، وحيث كانوا ملازمين له بنص النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) وجب أن يكون اطلاعهم به من طريق اليقين ومن الجهة التي لا تغير
فيها ولا اختلاف، فهذا الحديث شاهد على عصمتهم وعلمهم بحقيقة
أحكام القرآن، وأنه لا يخالفهم ولا يخالفونه، وأن علمهم لا يختلف ولا
يزول، وكفى به دليلا على المدعى، ولذا ورد عنهم صلوات الله عليهم:
(لا تقلبوا عنا ما يخالف القرآن وما خالف كتاب الله فإنا لم نقله) وفي ذلك
بطلان ما ادعته الغلاة والمفوضة وأهل المقالات الفاسدة ممن ينسب إلى الشيعة



(1) يشير إلى قوله (صلى الله عليه وآله): (هذا علي مع القرآن والقرآن مع علي لا
يفترقان حتى يردا علي الحوض) كما في الصواعق ص 75 وغيره وحديث الثقلين قد مرت
مصادره.
671
وتزييف ما أوردوه من الأحاديث المزورة التي يوهم ظواهرها ما ادعوا فيجب
لذلك ردها أو تأويلها بما يوافق القرآن فلا تغتر بما ينمقه أهل الجهالة مما
يخالف هذا، ويسطرونه من زخرف القول وسرابه يشبهون به على ضعفاء
الشيعة ويضلونهم عن طريق الهداية زين لهم سوء أعمالهم، ولنرجع إلى
المطلب فنقول: إن الحديث يدل على أن غير العترة غير ملازم للقرآن في جميع
أحواله ولا موافق له في جميع أموره، وأنه يصيب حكمه تارة ويخطئه
تارات، وأن المخالف لهم مخالف للقرآن لا محالة.
ومنه الأخبار الواردة في وجوب محبتهم ولزوم مودتهم، وتحريم بغضهم
على جهة الإطلاق والعموم، وقد قدمنا جملة منها مثل قول النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) في رواية الترمذي والحاكم عن ابن عباس: (أحبوا الله لما
يغنيكم به، وأحبوني بحب الله، وأحبوا أهل بيتي بحبي) (1) وقوله (صلى
الله عليه وآله وسلم) في رواية: (الزموا مودتنا أهل البيت فإنه من لقي الله
عز وجل وهو يودنا دخل الجنة) (2) الخبر وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم)
في رواية أبي الشيخ عن علي (عليه السلام): (والذي نفسي بيده لا يؤمن
عبد حتى يحبني ولا يحبني حتى يحب ذريتي) وقوله (صلى الله عليه وآله
وسلم) في رواية أحمد: (من أبغض أهل البيت فهو منافق) (3) إلى غير ذلك
مما يعطي هذا المعنى ويصرح؟ وهي على كثرتها دالة على عصمتهم من جهة
أن لزوم المحبة على الإطلاق ووجوب المودة على العموم يقتضي كون المحبوب
على الصواب في جميع الأحوال، إذ لا تجوز محبة العاصي ولا مودة المخطئ



(1) الترمذي 2 / 308 وفيه: (لما يغذوكم به من نعمه) ومستدرك الحاكم 3 / 149.
(2) إسعاف الراغبين ص 113.
(3) أيضا ص 114 وفي ذخائر العقبى ص 18 (لا يحبنا إلا مؤمن تقي ولا يبغضنا إلا
منافق شقي).
672
لأنهما بمعنى المتابعة كما مر عليك بيانه.
ومنها ما رواه جماعة من أصحاب الصحاح عن عدة من قول النبي
(صلى الله عليه وآله): (مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن
تخلف عنها هلك) (1) وفي رواية (غرق) وما شابهه من الأحاديث، والمراد منه
إن من تابعهم نجا ومن خالفهم أو سلك غير سبيلهم هلك، وإذا كانت
متابعتهم موجبة للنجاة، ومخالفتهم وسلوك غير سبيلهم موجبين للهلاك
وجب أن يكونوا على الحق دائما وأن مخالفهم على الباطل وكونهم على الحق
والهدى لا يفارقونه هو العصمة فالخبر صريح في الشهادة لهم بالعصمة،
وكل هذه الأدلة تعطي أن علمهم لا يختلف، وأنه ليس من طريق الاجتهاد
وإلا لاختلف وحصل فيه الخطأ أحيانا فلم يكونوا على الحق دائما، وما
يعطي هذا المعنى من الأحاديث النبوية كثير من طرق الخصوم قد ذكرنا كثيرا
منه سابقا.
وأما ما يدل على عصمة العترة من كلام أمير المؤمنين فكثير.
فمنه قوله (عليه السلام) في خطبة له: (فأين يتاه بكم فكيف
تعمهون وبينكم عترة نبيكم وهم أزمة الحق والسنة الصدق فأنزلوهم بأحسن
منازل القرآن وردوهم ورد الهيم العطاشى) الخطبة (2) وكل من قوله: (وهم
أزمة الحق والسنة الصدق) ظاهر في عصمة العترة، وقوله: (فأنزلوهم بأحسن
منازل القرآن) صريح فيها، والتقرير في الجميع على سبيل ما تقدم.
ومنه قوله (عليه السلام) في خطبته: (نحن شجرة النبوة، ومحط



(1) إسعاف الراغبين ص 111 وقال: " رواه جماعة من أصحاب السنن عن جماعة من
الصحابة وأخرجه الحاكم في المستدرك 3 / 151 بإسناده إلى أبي ذر وفيه: " ومن تخلف
عنها غرق ".
(2) نهج البلاغة من الخطبة 85.
673
الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعادن العلم، وينابيع الحكم ناصرنا ومحبنا
ينتظر الرحمة، وعدونا ومبغضنا ينتظر السطوة) (1) وهي صريحة في كونهم على
الحق دائما وهو المراد بالعصمة.
ومنه قوله (عليه السلام) في خطبته: (انكم لن تعرفوا الرشاد حتى
تعرفوا الذي نبذه) إلى أن قال: (والتمسوا ذلك من عند أهله، فإنهم
عيش العلم، وموت الجهل يخبركم حكمهم عن علمهم، وصمتهم عن
منطقهم، وظاهرهم عن باطنهم، لا يخالفون الدين، ولا يختلفون فيه، فهو
بينهم شاهد صادق، وصامت ناطق) (2) وهذا الكلام يشير به إلى نفسه
وولده فإنه كثيرا ما يسلك هذا المسلك، وتارة يصرح وهو دال على ما ذكرناه
من وفور علمهم، وإنه ليس على جهة الاجتهاد، وإلا لوقع بينهم الاختلاف
كسائر المجتهدين، ودال على العصمة من الخطأ خصوصا قوله: (لا يخالفون
الدين) والتوجيه كما مر.
ومنه قوله (عليه السلام) في خطبته (ونشهد ألا إله غيره، وأن محمدا
عبده ورسوله أرسله بأمره صادعا) إلى قوله (عليه السلام): (ومضى رشيدا
وخلف فينا راية الحق، من تقدمها مرق، ومن تخلف عنها زهق ومن لزمها
لحق، دليلها مكيث الكلام بطي القيام، سريع إذا قام، فإذا ألنتم له
رقابكم، وأشرتم إليه بأصابعكم جاءه الموت فذهب به) إلى أن قال:
(ألا إن مثل آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كمثل نجوم السماء إذا
خوى نجم طلع نجم) (3) الخطبة أراد براية الحق القرآن وبدليلها هو نفسه
(عليه السلام)، ودليل راية الحق لا يجوز أن يكون مخطئا للصواب، إذ لو



(1) أيضا من الخطبة 107.
(2) أيضا من الخطبة 145.
(3) أيضا من الخطبة 98.
674
أخطأ لما كان دليلا لراية الحق، ثم صرح بأن هذا الأمر يصير من بعده
لولده واحدا بعد واحد بقوله: (ألا إن مثل آل محمد (صلى الله عليه وآله
وسلم) كمثل نجوم السماء) الخ فبين أنه لا بد في كل زمان من دليل للقرآن
من آل محمد كلما مات إمام خلفه من ذريته إمام، وليست تنقطع دلالة القرآن
منهم بموته، وهم كالنجوم التي لا يزال منها غارب وشارق أبدا ما بقي
الزمان، وفيه دليل على علمهم بالقرآن من طريق اليقين لا النظر الذي تارة
يخطئ وتارة يصيب، وعلى بقاء الإمامة فيهم حتى ينقطع التكليف، وهذا
صريح مذهب الإمامية، وهو مضمون حديث الثقلين، ومثل هذا في كلامه
الكثير الواسع من أراده لم يفته، وقد تبين مما حررناه ووضح مما قررناه في هذا
الكتاب صحة مذهب الإمامية الاثني عشرية، وثبات أقدامهم على الصراط
السوي، والمنهج الجلي لمتانة أدلتهم، وقوة حجتهم واعتراف خصومهم
بدليلهم، وثبت ضعف ما سواه من المذاهب والأقاويل الفاسدة التي ليس
عليها من دليل، ولا لأربابها في إثباتها بالحجة الثابتة من سبيل، سوى
زخارف ما أنزل بها من سلطان، وشبه من القول لا يحصل بها وثوق ولا
اطمئنان، فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فالحمد لله الذي هدانا لهذا
المذهب الواضح، وألهمنا دليله وأسلكنا سبيله وعرفنا برهانه، وأوضح لنا
بيانه، وفهمنا عرفانه، وأرشدنا إلى التمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام
لها وهي ولاية أهل بيت الرسول المصطفى الذين أولهم أخوه وابن عمه علي
المرتضى وآخرهم الإمام المنتظر، والنور الأزهر، صاحب عصرنا وإمام زماننا
المهدي بن الحسن العسكري عجل الله فرجه، وجعلنا من الموالين
لأوليائهم، والمعادين لأعدائهم إلى يوم النشور، ونسأل الله بمنه ولطفه، أن
يثبتنا على هذا المسلك المنير، ويميتنا على هذا الطريق القويم، ولنختم كتابنا
هذا بذكر شئ من الأحاديث الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
من طريق أصحابنا في النص على الأئمة الاثني عشر ثم نعقب ذلك بنقل

675
خطبة من خطب أمير المؤمنين تحتوي على بيان جملة من المطالب التي خضنا
فيها وبالله الاستعانة.
روى الشيخ الصدوق رئيس المحدثين أبو جعفر محمد بن علي بن
الحسين بن موسى بن بابويه القمي في كتاب إثبات الغيبة ورفع الحيرة (1)
قال: حدثنا محمد بن علي ماجيلويه رضي الله عنه قال: حدثني عمي
محمد بن أبي القاسم عن محمد بن علي الكوفي عن محمد بن سنان عن
المفضل بن عمر عن جابر بن يزيد الجعفي عن سعيد بن المسيب عن
عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
(لعن المجادلون في دين الله على لسان سبعين نبيا ومن جادل في آيات الله فقد
كفر قال الله عز وجل: [ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك
تقلبهم في البلاد] (ومن فسر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب،
ومن أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض، وكل بدعة ضلالة
سبيلها إلى النار) وقال عبد الرحمن بن سمرة فقلت: يا رسول الله أرشدني
إلى النجاة، فقال: (يا بن سمرة إذا اختلفت الأهواء وتفرقت الآراء فعليك
بعلي بن أبي طالب، فإنه إمام أمتي وخليفتي عليهم من بعدي، وهو الفاروق
الذي يميز بين الحق والباطل، من سأله أجابه، ومن استرشده أرشده، ومن
طلب الحق عنده وجده، من التمس الهدى لديه صادفه ومن لجأ إليه أمنه،
ومن استمسك به نجاه، ومن اقتدى به هداه.
يا بن سمرة سلم منكم من سلم له ووالاه وهلك من رد عليه وعاداه.
يا بن سمرة إن عليا مني روحه من روحي وطينته من طينتي وهو أخي
وأنا أخوه، وهو زوج ابنتي فاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين



(1) يريد باثبات الغيبة كتاب إكمال الدين وإتمام النعمة المشهور وهكذا جرت عادة
الأوائل أن يسموا كتبهم بأكثر من واحد.
676
وإن منه إمامي أمتي وابني وسيدي شباب أهل الجنة الحسن والحسين وتسعة
من ولد الحسين تاسعهم قائم أمتي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما
وجورا).
قال: الصدوق حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل (رحمه الله) قال:
حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي قال: حدثنا موسى بن عمران النخعي
عن عمه الحسين بن يزيد عن الحسن بن علي بن سالم عن أبيه عن أبي حمزة
عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم): (إن الله تبارك وتعالى اطلع على الأرض اطلاعة فاختارني
منها فجعلني نبيا، ثم اطلع الثانية فاختار منها عليا وجعله إماما، ثم أمرني
أن اتخذه أخا ووليا ووصيا وخليفة ووزيرا، فعلي مني وأنا من علي، وهو
زوج ابنتي وأبو سبطي الحسن والحسين أئمة يقومون بأمري، ألا وإن الله
تبارك وتعالى جعلني وإياهم حججا على عباده وجعل من صلب الحسين أئمة
يقومون بأمري، ويحفظون وصيتي التاسع منهم قائم أهل بيتي، ومهدي أمتي
أشبه الناس بي في شمائله وأقواله وأفعاله يظهر بعد غيبة طويلة، وحيرة
مضلة فسيعلن أمر الله ويظهر دين الله عز وجل يؤيد بنصر الله وينصر
بملائكة الله ويملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما) (1).
وقال: حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل قال: حدثني محمد بن أبي
عبد الله قال: حدثنا موسى بن عمران النخعي عن عمه الحسين بن يزيد عن
علي بن بي حمزة الثمالي عن أبيه عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه
عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم): (حدثني جبرئيل عن رب العزة جل جلاله أنه قال: من علم أنه
لا إله إلا أنا وحدي، وأن محمدا عبدي ورسولي، وأن علي بن أبي طالب



(1) إكمال الدين 250.
677
خليفتي، وأن الأئمة من ولده حججي أدخلته الجنة برحمتي وأنجيته من النار
بعفوي و - بحت له جواري، له كرامتي وأتممت عليه نعمتي، وجعلته من
خاصتي وخالصتي، إن ناداني لبيته وإن سألني أعطيته، وإن سكت ابتدأته،
وإن أساء رحمته، وإن فر مني دعوته وإن رجع إلى قبلته، وإن قرع بابي فتحته
ومن لم يشهد ألا إله إلا أنا وحدي ولم يشهد أن محمدا عبدي ورسولي أو شهد
بذلك ولم يشهد أن علي بن أبي طالب خليفتي أو شهد بذلك ولم يشهد أن
الأئمة من ولده حججي فقد حجد نعمتي وصغر عظمتي وكفر بآياتي وكتبت
إن قصدني حجبته وإن سألني حرمته وإن ناداني لم أسمع ندائه وإن دعاني لم
استجب دعاءه وإن رجاني خيبته وذلك جزاؤه مني وما أنا بظلام للعبيد) فقام
جابر بن عبد الله الأنصاري فقال يا رسول الله ومن الأئمة من ولد علي بن أبي
طالب (عليه السلام) قال: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ثم
سيد العابدين في زمانه علي بن الحسين ثم الباقر محمد بن علي وستدركه يا
جابر فإذا أدركته فاقرأه مني السلام، ثم الصادق جعفر بن محمد، ثم
الكاظم موسى بن جعفر، ثم الرضا علي بن موسى، ثم التقي محمد بن
علي، ثم النقي علي بن محمد، ثم الزكي الحسن بن علي، ثم ابنه القائم
بالحق المهدي، إنه الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما،
هؤلاء يا جابر خلفائي وأوصيائي وأولادي وعترتي من أطاعهم فقد أطاعني
ومن عصاهم فقد عصاني ومن أنكرهم وأنكر واحدا منهم فقد أنكرني بهم
يمسك الله عز وجل السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه وبهم يحفظ الأرض أن
تميد بأهلها).
وقال: حدثنا علي بن أحمد (رضي الله عنه) قال: حدثنا محمد بن أبي
عبد الله الكوفي عن موسى بن عمران عن عمه الحسين بن يزيد عن
الحسن بن علي بن أبي حمزة عن أبيه عن يحيى بن القاسم عن الصادق
جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله

678
وسلم): (الأئمة بعدي اثنى عشر أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم القائم
المهدي هم خلفائي وأوصيائي وأوليائي وحجج الله على أمتي، المقر بهم
مؤمن والمنكر لهم كافر) (1).
وقال: حدثنا علي بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن أبي عبد الله البرقي
عن أبيه عن جده أحمد بن أبي عبد الله عن أبيه محمد بن خالد عن محمد بن
داود عن محمد بن الجارود العبدي عن اصبغ بن نباتة قال: خرج علينا أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب ويده في يد ابنه الحسن وهو يقول: (خرج علينا
رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات يوم ويدي في يده هكذا وهو
يقول: (خير الخلق بعدي وسيدهم أخي هذا وهو إمام كل مسلم، ومولى
كل مؤمن بعد وفاتي ألا وإني أقول إن خير الخلق بعدي وسيدهم ابني هذا
وهو إمام كل مؤمن، ومولى كل مسلم، بعد وفاتي ألا وإنه سيظلم بعدي
كما ظلمت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخير الخلق وسيدهم بعد
الحسن ابني أخوه الحسين المظلوم بعد أخيه المقتول في أرض كربلاء، أما إنه
وأصحابه من سادات الشهداء يوم القيامة ومن بعد الحسين تسعة من صلبه
خلفاء الله في أرضه وحججه على عباده، وأمناؤه على وحيه، وأئمة
المسلمين، وقادة المؤمنين، وسادة المتقين، وتاسعهم قائمهم الذي يملأ الله
به الأرض نورا بعد ظلمها وعدلا بعد جورها وعلما بعد جهلها، والذي بعث
محمدا أخي بالنبوة واختصني بالإمامة وقد نزل بذلك الوحي من السماء على
لسان الروح الأمين جبرئيل ولقد سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) وأنا عنده عن الأئمة بعده فقال للسائل: (والسماء ذات البروج إن
عددهم بعدد البروج، ورب الليالي والأيام والشهور، إن عدتهم بعدة
الشهور) فقال السائل من هم يا رسول الله فوضع رسول الله (صلى الله عليه



(1) أيضا 252.
679
وآله وسلم) يده على رأسي فقال: (أولهم هذا وآخرهم المهدي من والاهم
فقد والاني، ومن عاداهم فقد عاداني، ومن أحبهم فقد أحبني، ومن
أبغضهم فقد أبغضني، ومن أنكرهم فقد أنكرني، ومن عرفهم فقد عرفني،
بهم يحفظ الله دينه، وبهم تعمر بلاده، وبهم ترزق عباده، وبهم ينزل القطر
من السماء، وبهم تخرج بركات الأرض، هؤلاء أصفيائي وخلفائي وأئمة
المسلمين وموالي المؤمنين) (1).
وقال: حدثنا محمد بن علي ماجيلويه (رحمه الله) قال: حدثنا علي بن
إبراهيم عن أبيه عن علي بن معبد عن الحسين بن خالد عن علي بن موسى
الرضا عن أبيه عن آبائه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
(من أحب أن يستمسك بديني ويركب سفينة النجاة بعدي فليقتد بعلي بن
أبي طالب، وليعاد عدوه وليوال وليه، فإنه وصيي وخليفتي على أمتي في حياتي
وبعد وفاتي، وهو أمير كل مسلم وأمير كل مؤمن بعدي، قوله قولي وأمره
أمري ونهيه نهيي وتابعه تابعي وناصره ناصري وخاذله خاذلي) ثم قال (صلى
الله عليه وآله وسلم): (من فارق عليا بعدي لم يرني ولم أره يوم القيامة،
ومن خالف عليا حرم الله عليه الجنة وجعل مأواه النار، ومن خذل عليا
خذله الله يوم يعرض عليه، ومن نصر عليا نصره الله يوم يلقاه ولقنه حجته
عند المنازلة) ثم قال (صلى الله عليه وآله): (والحسن والحسين إماما
أمتي بعد أبيهما، وسيدا شباب أهل الجنة، وأمهما سيدة نساء العالمين،
وأبوهما سيد الوصيين، ومن ولد الحسين تسعة أئمة تاسعهم القائم من
ولدي، طاعتهم طاعتي ومعصيتهم معصيتي، إلى الله أشكو المنكرين
لفضلهم والمضيعين لحقهم بعدي وكفى بالله وليا وناصرا لعترتي وأئمة أمتي



(1) أيضا 253.
680
ومنتقما من الجاحدين لحقهم وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) (1).
وقال: حدثنا أحمد بن زياد قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم عن
أبيه عن علي بن معبد عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن علي بن موسى
الرضا عن أبيه عن آبائه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
(أنا سيد من خلق الله وأنا خير من جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وحملة العرش
وجميع ملائكة الله المقربين وأنبياء الله المرسلين، وأنا صاحب الشفاعة
والحوض الشريف، وأنا وعلي أبوا هذه الأمة من عرفنا فقد عرف الله عز
وجل ومن أنكرنا فقد أنكر الله عز وجل، ومن علي سبطا أمتي وسيدا شباب
أهل الجنة الحسن والحسين، ومن ولد الحسين (عليه السلام) تسعة طاعتهم
طاعتي ومعصيتهم معصيتي تاسعهم قائمهم ومهديهم) (2).
وقال: حدثنا أبي (رضي الله عنه) قال: حدثنا سعد بن عبد الله قال:
حدثنا يعقوب بن يزيد عن حماد بن عيسى عن عبد الله بن مسكان عن
أبان بن خلف عن سليم بن قيس الهلالي عن سلمان الفارسي (رضي الله
عنه) قال: دخلت على النبي (صلى الله عليه وآله) وسلم وإذا الحسين بن
علي على فخذه وهو يقبل عينيه ويلثم فاه ويقول: (أنت سيد ابن سيد أنت
إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمة، أنت حجة ابن حجة أبو حجج تسعة من
صلبك تاسعهم قائمهم) (3).
ومثل هذه الأخبار من طرق أصحابنا ذكر جميعه يحتاج إلى كتاب مفرد
أضعاف كتابنا هذا، وكلها كما تصرح بإمامة أئمتنا الاثني عشر، وتنص على
خلافتهم وقصر الإمامة فيهم دون غيرهم، تنادي بعصمتهم عن الخطأ



(1) أيضا 253.
(2) أيضا 254.
(3) أيضا 255.
681
ولزومهم الحق حيث نطقت بأن طاعتهم طاعة الله وطاعة رسوله، والتمسك
بهم موجب للنجاة وكل ذلك دال على العصمة كما قررنا سابقا.
وروى الصدوق أيضا من طريق الخصم ما يقارب هذا المعنى عن ابن
مسعود وجابر بن سمرة بطرق متعددة نحن نقتصر على ذكر بعض منها قال
(رحمه الله) حدثنا أحمد بن الحسن القطان قال: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن
محمد بن إبراهيم بن أبي الرجا (1) البغدادي قال: حدثنا محمد بن عبدوس
الحراني قال: حدثنا عبد الغفار بن الحكم قال: حدثنا منصور بن أبي الأسود
عن مطرف عن الشعبي عن عمه قيس بن عبيد قال: كنا جلوسا في حلقة
فيها عبد الله بن مسعود فجاء أعرابي فقال: أيكم عبد الله قال عبد الله بن
مسعود: أنا عبد الله قال: هل حدثكم نبيكم كم يكون بعده من خلفاء
قال: نعم اثنى عشر عدة نقباء بني إسرائيل (2).
قال: (رحمه الله) حدثنا أبو علي أحمد بن الحسن بن علي عبدويه قال:
حدثنا أبو يزيد محمد بن يحيى بن خلف المروزي الرقي في شهر ربيع الأول
سنة الثانية والثلاثمائة قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي في سنة ثمان
وثلاثين ومائتين المعروف بإسحاق بن راهويه قال: حدثنا يحيى بن يحيى
قال: حدثنا هشام بن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال: بينا نحن عند
عبد الله بن مسعود نعرض مصاحفنا عليه إذ يقول له شاب: هل عهد إليكم
نبيكم كم يكون من بعده خليفة قال: إنك لحدث السن وإن هذا ما سألني
عنه أحد قبلك، نعم عهد إلينا نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) إنه يكون
من بعده اثنى عشر خليفة بعدد نقباء بني إسرائيل (3).



(1) في الاكمال " الرجال " بدل " الرجا ".
(2) إكمال الدين 265.
(3) أيضا 265.
682
وقال: حدثنا أحمد بن الحسن القطان قال: حدثنا أبو علي محمد بن
علي بن إسماعيل السكري المروزي قال: حدثنا سهل بن عمار النيسابوري
قال: حدثنا عمرو بن رزين بن عبد الله قال: حدثنا سفيان عن سعيد بن
عمر عن الشعبي عن جابر بن سمرة قال: جئت مع أبي إلى المسجد ورسول
الله (صلى الله عليه وآله) يخطب فسمعته يقول: (يكون من بعدي
اثنى عشر) يعني أميرا ثم خفض من صوته فلم أدر ما يقول فقلت لأبي ما
قال: قال قال: (كلهم من قريش) (1).
وقال (رحمه الله) حدثنا عبد الله بن محمد الصائغ قال: حدثني أبو
الحسن أحمد بن محمد بن يحيى القصراني قال: حدثني أبو علي بشر بن
موسى بن صالح قال: حدثنا أبو الوليد خلف بن الوليد البصري عن
إسرائيل عن سماك قال: سمعت جابر بن سمرة السوري يقول: سمعت
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (يقوم من بعدي اثنى عشر أميرا)
ثم تكلم بكلمة لم أفهمها فسألت القوم قالوا: قد قال: (كلهم من
قريش) (2) نحمد الله الذي سدد مذهبنا وأفلج حجتنا وأرشدنا إلى سبيل
الهدى.
وهذه خطبة أمير المؤمنين التي اشتملت على كثير من المطالب التي تكلمنا
فيها روى إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي في كتاب الغارات (3) عن
رجاله عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه قال خطب علي (عليه السلام) بعد فتح



(1) أيضا 267.
(2) إكمال الدين 267.
(3) نقلها ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 6 / 94 عن كتاب الغارات للثقفي وانظر
الغارات ص 302 والظاهر من رواية الثقفي أن هذا الخطاب قرء بالنيابة عن أمير المؤمنين
(عليه السلام).
683
مصر وقتل محمد بن أبي بكر فقال: (أما بعد فإن الله بعث محمدا نذيرا
للعالمين وأمينا على التنزيل شهيدا على هذه الأمة وأنتم معاشر العرب يومئذ
على شر دين، وفي شر دار، منيخون على حجارة خشنة، وحيات صم،
وشوك مبثوث في البلاد، وتشربون الماء الخبيث، وتأكلون الطعام الخبيث،
تسفكون دماءكم، وتقتلون أولادكم، وتقطعون أرحامكم، وتأكلون أموالكم
بينكم بالباطل، سبلكم خائفة، والأصنام فيكم منصوبة، ولا يؤمن أكثركم
بالله إلا وهم مشركون، فمن الله عز وجل عليكم بمحمد فبعثه الله إليكم
رسولا من أنفسكم بلسانكم فعلمكم الكتاب والحكمة والفرائض والسنة،
وأمركم بصلة أرحامكم، وحقن دمائكم، وصلاح ذات البين، وأن تؤدوا
الأمانات إلى أهلها، وأن توفوا بالعهد ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، وأن
تعاطفوا وتباروا وتباذلوا وتراحموا، ونهاكم عن التناهب والتظالم والتحاسد
والتباغي والتقاذف، وعن شرب الحرام، وبخس المكيال، ونقص الميزان،
وتقدم إليكم ألا تزنوا ولا تربوا ولا تأكلوا أموال اليتامى ظلما ولا تعثوا في
الأرض مفسدين ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، وكل خير يدني إلى
الجنة ويباعد من النار أمركم به، وكل شر يدني إلى النار ويباعد من الجنة
نهاكم عنه، فلما استكمل مدته توفاه الله سعيدا حميدا فيا لها مصيبة خصت
الأقربين، وعمت المسلمين، ما أصيبوا قبلها بمثلها ولن يعاينوا بعدها
أختها، فلما مضى لسبيله تنازع المسلمون الأمر بعده، فوالله ما كان يلقى في
روعي (1) ولا يخطر ببالي أن العرب تعدل هذا الأمر بعد محمد عن أهل بيته،
ولا أنهم منحوه عني، فما راعني (2) إلا انثيال الناس على أبي بكر
وأجفالهم (3) ليبايعوه، فأمسكت يدي (4) ورأيت أني أحق بمقام محمد (صلى الله



(1) الروع بضم الراء: الخلد.
(2) راعني: أفزعني تقول للشئ الذي يفجؤك ما راعني إلا كذا.
(3) أجفالهم: ذهابهم مسرعين.
(4) أمسكت يدي: أي امتنعت من البيعة.
684
عليه وآله وسلم) في الناس ممن تولى الأمر من بعده، فلبثت بذاك ما شاء الله
حتى رأيت راجعة من الناس رجعت عن الإسلام تدعوا إلى محق دين (1)
الله، وملة محمد (صلى الله عليه وآله) فخشيت إن لم أنصر الإسلام
وأهله أن أرى فيه ثلما وهدما يكون المصاب بهما علي أعظم من فوت ولاية
أموركم التي إنما هي متاع أيام قلائل ثم تزول وما كان منها كما يزول
السراب، وكما ينقشع السحاب، فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فبايعته
ونهضت في تلك الأحداث حتى زاغ الباطل وزهق وكانت كلمة الله هي العليا
ولو كره الكافرون (2) فتولى أبو بكر تلك الأمور وسدد وقارب واقتصد،
وصحبته مناصحا وأطعته فيما أطاع الله فيه جاهدا، وما طمعت أن لو حدث
به حدث وأنا حي أن يرد إلى الأمر الذي بايعته فيه طمع مستيقن، ولا
يئست منه يأس من لا يرجوه، ولولا خاصة ما كان بينه وبين عمر لظننت
أنه لا يدفعها عني، فلما احتضر بعث إلى عمر فولاه فسمعنا وأطعنا
وناصحنا، وتولى عمر الأمر فكان مرضي السيرة، ميمون النقيبة، حتى إذا
احتضر قلت في نفسي، لن يعدلها عني وليس بدافعها لغيري فجعلني



(1) محق الدين إبطاله.
(2) وذلك ما حاصله أن بعض المرتدين من العرب أرادوا بيات المدينة وبلغ المسلمين ذلك
فاستعدوا للأمر فخرج علي (عليه السلام) بنفسه مع المسلمين لحمايتها وكان على نقب
من أنقابها فما لبثوا إلا قليلا حتى طرق القدم المدينة غارة مع الليل فما ذر قرن الشمس إلا
وقد ولوهم الأدبار وغلبوهم على عامة ظهرهم ورجعوا ظافرين فهذا ما أشار إليه (عليه
السلام) وكأنه جواب لمن يقول إنه عمل لأبي بكر وجاهد بين يديه فبين عذره في ذلك
وقال إنه لم يكن كما ظنه القائل ولكنه من باب دفع الضرر عن الدين والمسلمين وهذا
واجب على كل حال ونقله ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 17 / 154 عن تاريخ
الطبري وانظر تاريخ الطبري 3 / 244 ط الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم حوادث 11
سنة 11.
685
سادس ستة فما كانوا لولاية واحد منهم أشد كراهية لولايتي عليهم، كانوا
يستمعون عند وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحاج (1) أبا بكر
وأقول يا معشر قريش إنا أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم أما كان فينا من
يقرأ القرآن ويعرف السنة ويدين يدين الحق فخشي القوم إن أنا وليت عليهم
ألا يكون لهم من نصيب ما بقوا فأجمعوا إجماعا واحدا فصرفوا الولاية إلى
عثمان وأخرجوني منها رجاء أن ينالوها ويتداولوها إذ يئسوا أن ينالوها من
قبلي، ثم قالوا هلم فبايع وإلا جاهدناك فبايعت مستكرها وصبرت محتسبا
فقال قائلهم: يا بن أبي طالب إنك على هذه الأمر لحريص فقلت: أنتم
أحرص مني وأبعد أينا أحرص أنا الذي طلبت تراثي وحقي الذي جعلني الله
ورسوله (صلى الله عليه وآله) أولى به أم أنتم حين تضربون وجهي
دونه وتحولون بيني وبينه، فبهتوا والله لا يهدي القوم الظالمين، اللهم إني
أستعينك (2) على قريش فإنهم قطعوا رحمي وأكفؤا إنائي (3) وصغروا منزلتي
وأجمعوا على منازعتي حقا كنت أولى به منهم فسلبونيه ثم قالوا ألا إن في الحق
أن تأخذه وفي الحق أن تمنعه فاصبر كمدا أو مت أسفا (4) فنظرت فإذا ليس
معي رافد ولا ذاب ولا ناصر ولا مساعد إلا أهل بيتي فضننت بهم عن
المنية، فأغضيت على القذى وتجرعت ريقي على الشجى، وصبرت من كظم
الغيظ على أمر من العلقم، وألم للقلب من حز الشفار، حتى إذا نقمتم على
عثمان أتيتموه فقتلتموه، ثم جئتموني لتبايعوني فأبيت عليكم وأمسكت يدي
فنازعتموني وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها وازدحمتم علي حتى
ظننت أن بعضكم قاتل بعض، أو إنكم قاتلي، فقلتم بايعنا لا نجد



(1) في شرح النهج " لجاج ".
(2) وفيه " استعديك ".
(3) وفيه " وأضاعوا إياي ".
(4) وفيه " أسفا حنقا ".
686
غيرك، ولا نرضى إلا بك بايعنا لا نفترق ولا نختلف فبايعتكم ودعوت
الناس إلى بيعتي، فمن بايع طوعا قبلته ومن أبى لم أكرهه وتركته، فبايعني
فيمن بايعني طلحة والزبير ولو أبيا ما أكرهتهما كما لم أكره غيرهما فما لبثا إلا
يسيرا حتى بلغني عنهما أنهما خرجا من مكة متوجهين إلى البصرة في جيش ما
منهم رجل إلا قد أعطاني الطاعة، وسمح لي بالبيعة، فقد ما على
عاملي، وخزان بيت مالي وعلى أهل مصري الذين كلهم على
بيعتي وفي طاعتي فشتتوا كلمتهم وأفسدوا جماعتهم، فقتلوا طائفة منهم غدرا
وطائفة صبرا ومنهم طائفة غضبوا لله فشهروا سيوفهم، وضربوا بها حتى لقوا
الله عز وجل صادقين، والله لو لم يصيبوا منهم إلا رجلا واحدا معتمدين
لقتله لحل به قتل ذلك الجيش بأسره، فدع ما أنهم قتلوا من المسلمين أكثر
من العدة التي دخلوا بها عليهم وقد أدال الله منهم فبعدا للقوم الظالمين، ثم
إني نظرت في أمر أهل الشام فإذا اعراب أحزاب وأهل طمع جفاة طغاة
يجتمعون من كل أوب ممن كان ينبغي أن يؤدب وأن يولي عليه، ويؤخذ
علي يديه، ليسوا من المهاجرين ولا الأنصار ولا التابعين بإحسان، فسرت
إليهم فدعوتهم إلى الطاعة والجماعة فأبوا إلا شقاقا وفراقا، ونهضوا في وجوه
المسلمين ينظمونهم بالنبل، ويشجرونهم (1) بالرماح، فهناك نهدت (2) إليهم
بالمسلمين فقاتلتهم، فلما أعضهم السلاح ووجدوا ألم الجراح رفعوا المصاحف
يدعونكم إلى ما فيها، فأنبئكم أنهم ليسوا بأهل دين ولا قرآن، وأنهم
رفعوها مكيدة وخديعة ووهنا وضعفا فامضوا على حقكم وقتالكم، فأبيتم
علي وقلتم: اقبل منهم فإن أجابوا إلى الكتاب جامعونا على ما نحن عليه من
الحق، وإن أبوا كان أعظم لحجتنا عليهم، فقبلت منهم، وكففت



(1) يشجرونهم بالرماح: يطعنونهم.
(2) نهدت: نهضت.
687
عنهم، فكان الصلح بينكم وبينهم على رجلين يحييان ما أحيى القرآن،
ويميتان ما أمات القرآن، فاختلف رأيهما، وتفرق حكمهما ونبذا ما في
القرآن، وخالفا ما في الكتاب، فجنبهما الله السداد ودلاهما في الضلالة،
فانحرفت فرقة منا فتركناهم ما تركونا حتى إذا عاثوا في الأرض يقتلون
ويفسدون أتيناهم فقلنا ادفعوا إلينا قتلة إخواننا ثم كتاب الله بيننا وبينكم،
قالوا: كلنا قتلهم، وكلنا استحل دماءهم وشدت علينا خيلهم ورجالهم
وصرعهم الله مصارع الظالمين، فلما كان ذلك من شأنهم أمرتكم أن تمضوا
من فوركم ذلك إلى عدوكم فقلتم: كلت سيوفنا، ونفذت نبالنا، ونصلت
أسنة رماحنا، وعاد أكثرها قصدا (1) فارجع بنا إلى مصرنا لنستعد بأحسن
عدتنا فإذا رجعت زدت في مقاتلنا بعدد من هلك منا وفارقنا فإن ذلك أقوى
لنا على عدونا فأقبلت بكم حتى إذا أظللتم على الكوفة أمرتكم أن تنزلوا
بالنخيلة، وأن تلزموا معسكركم، وأن تضموا قواصيكم، وأن توطنوا على
الجهاد أنفسكم، ولا تكثروا زيارة أبنائكم ونسائكم، فإن أهل الحرب
لمصابروها، وأهل التشمير فيها الذين لا يتفادون من سهر ليلهم، ولا ظمأ
نهارهم، ولا خمص بطونهم، ولا نصب أبدانهم، فنزلت طائفة منكم معي
معذرة، ودخلت طائفة منكم المصر عاصية فلا من بقي منكم صبر، وثبت
ولا من دخل المصر عاد ورجع، فنظرت إلى معسكري وليس فيه خمسون
رجلا فلما رأيت ما أتيتم دخلت إليكم، فلما أقدر على أن تخرجوا إلى يومنا
هذا فما تنظرون؟ أما ترون أطرافكم قد انتقصت وإلى مصركم قد فتحت؟
وإلى شيعتي بها قد قتلت؟ وإلى مسالحكم تعرى؟ وإلى بلادكم تغزى؟ وأنتم
ذووا عدد كثير وشوكة وبأس شديد، فما بالكم يا لله أنتم فمن أين تؤتون!
وما لكم تؤفكون ولو إنكم عزمتم وأجمعتم لم تراموا، إلا أن القوم تراجعوا



(1) القصد جمع قصدة وهي القطعة المتكسرة.
688
وتناشبوا وتناصحوا وأنتم قد ونيتم وتغاششتم وافترقتم ما أنتم عندي على هذا
بسعداء فانتهوا وأجمعوا على حقكم وتجردوا لحرب عدوكم قد بدت الرغوة عن
الصريح وبين الصبح لذي عينين إنما تقاتلون الطلقاء وأبناء الطلقاء، وأولي
الجفاء من أسلم كرها وكان لرسول الله أنف (1) الإسلام كله حربا، أعداء
الله والسنة والقرآن، وأهل البدع والأحداث، ومن كان بوائقه تتقى وكان
على الإسلام مخوفا أكلة الرشا، وعبدة الدنيا لقد أنهى إلي أن ابن النابغة لم
يبايع معاوية حتى أعطاه وشرط له أتية هي أعظم مما في يده من سلطانه، ألا
صفرت يد هذا البائع دينه بالدنيا، وخزيت أمانة هذا المشتري نصرة فاسق
غادر بأموال المسلمين، وإن فيهم من شرب فيكم الخمر وجلد الحد، يعرف
بالفساد في الدين، وبالفعل السئ، وإن فيهم من لم يسلم حتى رضخ له
رضيخة (2) فهؤلاء قادة القوم ومن تركت ذكر مساويه من قادتهم مثل من
ذكرت منهم، بل هو شر ويود هؤلاء الذين ذكرت لو ولوا عليكم فأظهروا
فيكم الكفر والفساد والفجور والتسلط بجبرية، واتبعوا الهوى وحكموا بغير
الحق، ولأنتم على ما كان فيكم من تواكل وتخاذل خير منهم وأهدى سبيلا،
فيكم العلماء والفقهاء والنجباء والحكماء، وحملة الكتاب، والمتهجدون
بالأسحار، وعمار المساجد بتلاوة القرآن، أفلا تسخطون وتهتمون أن
ينازعكم [الولاية عليكم سفهاؤكم، والأشرار الأرذال منكم فاسمعوا
قولي، وأطيعوا] (3) أمري فوالله لأن أطعتموه لا تغووا، وإن عصيتموه لا
ترشدوا خذوا للحرب إهبتها وأعدوا عدتها، فقد شبت نارها، وعلا
سناؤها، وتجرد لكم فيها الفاسقون كي يعذبوا عباد الله، ويطفئوا نور الله،



(1) أنف كل شئ أوله.
(2) الرضيخة: العطية القيلة تعطى للإنسان يصانع عن شئ آخر يطلب منه كالأجر
والمراد قوم من المؤلفة قلوبهم أسلموا بعد الفتح.
(3) ما بين المعقوفين ساقط من المتن.
689
إلا أنه ليس أولياء الشيطان من أهل الطمع والمكر والجفاء بأولي بالجد في
غيهم وضلالهم من أهل البر والزهادة والإخبات في حقهم وطاعة ربهم، والله
لو لقيتهم فردا وهم ملأ الأرض ما باليت، ولا استوحشت، وإني من
ضلالتهم التي هم فيها والهدى الذي نحن فيه لعلى ثقة وبينة ويقين وبصيرة
وإني إلى لقاء ربي لمشتاق، ولحسن ثوابه لمنتظر، ولكن أسفا يعتريني وحزنا أن
يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها فيتخذوا مال الله دولا وعبادة خولا،
والفاسقين حزبا، وأيم الله لولا ذلك لما أكثرت تأنيبكم (1)، وتحريضكم
ولتركتكم إذ ونيتم (2) حتى ألقاهم بنفسي متى حم إلى لقائهم، فوالله إني لعلى
الحق، وإني للشهادة لمحب، فانفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم
وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) (3) ولا تثاقلوا إلى
الأرض فتقروا (4) بالخسف (5) وتبوروا بالذل، ويكن نصيبكم الأخسر أن أخا
الحرب اليقظان، ومن ضعف اودي، ومن ترك الجهاد كان كالمغبون
المهين.
اللهم اجمعنا وإياهم على الهدى وزهدنا وإياهم في الدنيا، واجعل الآخرة
خيرا لنا ولهم من الأولى.
انتهت الخطبة الجليلة وأولها المشتمل على ذكر الثلاثة مصرح بنصب الله
ورسوله (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين إماما وخليفة، وأن الخلافة



(1) التأنيب: أشد اللوم.
(2) ونيتم: فترتم.
(3) التوبة: 41. والفاء من كلام الإمام متصلة بالآية الكريمة.
(4) تثاقلوا بالتشديد أصله تثاقلوا.
(5) تقروا بالخسف: تعترفوا بالضيم وتبوروا: تهلكوا وفي رواية نهج البلاغة " تبوئوا "
أي ترجعون به.
690
ميراثه من النبي (صلى الله عليه وآله)، وهو قوله (عليه السلام)
(أنا الذي طلبت تراثي وحقي الذي جعلني الله ورسوله (صلى الله عليه وآله
وسلم) أولى به) وهو نص مذهب أصحابنا الإمامية وابن أبي الحديد يروي
هذه الخطبة ويصححها ويعدل عما اشتملت عليه فلا يعمل به، ولا يلتفت
إليه كما هي عادته فيما يدل على مذهب الحق ويهدي إلى سبيله، من الإعراض
عنه، وترك دليله، وصرح أنه لم يبايع أبا بكر إلا لخوفه على الإسلام من
ارتداد من ارتد من العرب لا لأنه صحيح الإمامة وإلا لبايعه قبل ذلك، وصرح
بأن السبب الذي دعا القوم إلى منعه من الخلافة علمهم أنه إذا وليها لن
ينالوها أبدا، وإذا كانت في غيره رجوا تداولها بينهم، وصرح أيضا بأنه بايع
عثمان مستكرها حين قال له القوم: بايع وإلا جاهدناك ولم يجد عليهم
ناصرا، وصرح أن أولئك الجماعة من الظلمة حيث قال بعد ذكر حديثهم
معه فبهتوا والله لا يهدي القوم الظالمين، وهم في الحكم عند الخصوم سواء
وكذا عندنا.
وأما قوله في أبي بكر سدد وقارب واقتصد فنحن نقول بذلك فإن أبا بكر
لم يكن كثير الظلم للرعية ولسنا نقول إنه مثل عثمان في أحداثه ومعاوية في
ظلم الناس وإنما الداء الدوي فيه قعوده في منصب غيره بعلم منه وكذلك
قوله (عليه السلام) في عمر فكان مرضي السيرة ميمون النقيبة يريد أنه كان
عند الناس كذلك، وكان مراده من وصف الرجلين مقابلتهما بعثمان ليبين أن
سيرتهما كانت مرضية عند المخاطبين بخلاف عثمان فإنه كان غير مرضي
السيرة وظهر منه ما أوجب عند العامة قتله بما نقموه عليه من أفعاله مع ما في
ذلك من التقية واستصلاح العامة بمدح الرجلين وإبطال دعوى معاوية في
زعمه الطلب بدم الثالث لأن قتله إنما كان لما نقمه عليه الناس من مخالفة
الشيخين في السيرة فليس لمعاوية أن يطالب بدم رجل قتل بسبب أعدائه وهذا
من أحسن الاستصلاح والطف الاحتجاج.

691
وأما قوله (عليه السلام) (والله لو لم يصيبوا منهم إلا رجلا واحدا
متعمدين لقتله لحل به قتل ذلك الجيش بأسره) فهو وإن كان في الظاهر
مشكلا من جهة جواز قتل الجماعة بالواحد من غير دية ما زاد عن واحد
والمعروف في الحكم أنه لو اشترك جماعة في قتل رجل كان لوليه أن يقتل
واحدا من أولئك القوم والباقون يدفعون إلى ورثته ما زاد من ديته على قدر ما
عليه من دية المقتول الأول أو يقتل القاتلين جميعا ويدفع إلى ورثة الجميع ما
زاد عن دية الواحد مقسطا عليهم لكنه في الحقيقة ظاهر ومطابق للشرع لأن
مراده من التعمد استحلال قتل المؤمن أو قتله لإيمانه ولا خلاف أن قاتل
النفس على أحد هذين الوجهين مستحق للخلود في النار لأنه يكون مرتدا فلا
فرق حينئذ بين أن يكون القاتل واحدا أو جماعة قلوا أو كثروا فهذا فقه كلامه
(عليه السلام) وهو الحق الذي لا مرية فيه وقوله (عليه السلام): (فما لكم
تؤفكون) يعني تصرفون عن الحق أو عن طاعة أمري، أو عن قتال عدوكم
وحماية حوزتكم ونصر من كان على ما أنتم عليه وحفظ البلاد التي في أيديكم
لئلا يملكها عدوكم وهذا أنسب بالسياق، والكلام تعجب من تقاعدهم عن
الجهاد حتى طمع فيهم العدو وتجري على أخذ أطرافهم وبلدانهم مع معرفتهم
أنهم على الحق وأن عدوهم على الباطل وذلك موضع العجب إذ يعجز أهل
الحق عن القيام به والجهاد دونه ويقوم أهل الباطل دون باطلهم يجالدون
وقوله: (بدت الرغوة عن الصريح) مثل لزوال الشبهة وانكشاف الحال عن
فسق معاوية وتابعية ووجوب قتالهم لبغيهم وضلالهم وعدم عملهم بالكتاب
العزيز فلا حجة في ترك جهادهم والرغوة الزبد الذي يعلوا اللبن ومثله
قوله: (وبين الصبح لذي عينين) وهو كناية أيضا عن وضوح الأمر وظهوره
يقول بأن للبصير استحقاق معاوية وأصحابه القتل لنبذهم الحق واقتحامهم في
غمرة الباطل.
وقوله (ع): (ألا صفرت يد هذا البائع دينه) صفرت كتعبت خلت من

692
ثمن ما باعه وهو إشارة إلى قصة عمرو بن العاص ومعاوية حيث شرط عمرو
على معاوية لما دعاه إلى معونته على حرب أمير المؤمنين أن يعطيه مصر طعمة
له ولولده فتبا له كأنه يظن أن معاوية لا يزول ملكه ولا يتغير أمره، ولقد
لبث عمرو قليلا فهلك ولم يف له معاوية بجميع ما شرط له ولم يعط ولده
مصر بعد ارتحاله إلى الجحيم والعذاب الأليم، وهكذا حال القوم سجيتهم
الغدر وشيمتهم المكر وبضاعتهم التي يبثونها في الناس الكذب يخدعون به
الطغام، ويجلبون به اللئام كجلب الأغنام، فبعدا لهم كما بعدت ثمود.
وقوله: (وخزيت أمانة هذا المشتري نصرة فاسق غادر بأموال
المسلمين) خزيت أي ذلت وهانت من باب تعب أيضا.
قوله: (حتى رضخت له رضيخة) رضخت مبينا للمفعول من رضخ
كنفع والرضيخة فعيلة بفتح الفاء مال ليس بالكثير أي لم يسلم حتى جعلت له
عطية يسيرة أسلم لأجلها لا رغبة في الإسلام وهو معاوية وقادة القوم
رؤسائهم الذين رضخت لهم الرضائخ على الإسلام جماعة منهم أبو سفيان وابناه معاوية
ويزيد، وحكيم بن حزام بن خويلد، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام بن
المغيرة، وحويطب بن عبد العزي، وصفوان بن أمية وعمير بن وهب الحميان،
وعينة بن حصن الفزاري والأقرع بن حابس التميمي وعباس بن مرداس السلمي،
وجماعة غيرهم أيضا وهم المؤلفة قلوبهم الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن الكريم
وذكرهم أهل السير.
قوله: (تواكل وتخاذل) وهو اتكال القوم بعضهم على بعض وخذلان
بعضهم بعضا فتضيع بذلك أمورهم وتنتشر كلمتهم ويحصل فيهم الوهن
والضعف عن مقاومة عدوهم، ولم شعثهم وشعب صدعهم، والتهجد قراءة
القرآن في جنح الليل في الصلوات، والمنازعة كالمجاذبة وهي طلب كل
واحد ما في يد آخر.

693
وقوله: (فوالله لأن أطعتموه لا تغووا وإن عصيتموه لا ترشدوا) ضمير
المفعول في الفعلين يعود إلى قوله أمري وهو صريح في ملازمته الصواب في
جميع الأحوال ومصاحبته للرشد في جميع الأقوال، وإن من أطاع أمره هدى
إلى الحق ومن عصاه فارق الرشد، وهذه هي العصمة التي ندعيها له وللأئمة
من ولده وأقمنا عليها الشواهد الصحيحة وأثبتنا عليها الحجج القائمة
ومثله قوله: (فوالله إني لعلى الحق) والتأنيب التلويم على القعود عن
الجهاد، والتحريض دعاؤهم إلى الحرب وإغراؤهم بها، وونيتم من الونى
أي ضعفتم وفترتم، والتثاقل إلى الأرض كناية عن عدم النهوض إلى إصلاح
أمرهم وجهاد عدوهم فتقروا بالخسف أي بالهوان قال الشاعر.
ولا يقيم على ضيم يراد به * إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته * وذا يشج فلا يرثى له أحد
وتبوءوا بالذل ترجعون ملابسين له، واودي هلك أي من ضعف عن
عدوه هلك لضعفه عن المدافعة والمغبون الخاسر، والمهين الذليل المحتقر،
والزهد ترك زهرة الدنيا وأدناه كما روي عن الصادق (عليه السلام) (طلب
الحلال) والزهد في الشئ الرغبة عنه، والميل إلى غيره، وبقي في الخطبة
أشياء قد نبهنا عليها فيما سبق من مباحث هذا الكتاب وإشارات إلى أمور
يطول شرحها وقد تكفلت ببيانها كتب السير والتواريخ فهي لا تخفى على من
له اطلاع بها وما رمنا إثباته هنا قد انتهى وبلغنا بحمد الله في توضيحه إلى
الغاية القصوى وفقنا الله للعمل بما يرضيه وعصمنا عن التهجم على معاصيه
وثبتنا على دينه القويم، وهدانا إلى صراطه المستقيم، ورزقنا صدق النية
وأعطانا خير الأمنية، وبصرنا سبيل الهدى ودلنا على سفينة النجاة التي من
ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق وهوى، وختم لنا بالسعادة وأماتنا على الملة
وأحيانا حياة طيبة وجعلنا للصالحين رفيقا، ورفعنا عنده في الجنة درجة،

694
وأتانا من الخير نصيبا وقربنا إليه زلفى، ورزقنا شفاعة نبينا وسيدنا محمد
المصطفى وآله الكرام المشفعين في يوم الجزاء، وسقانا من حوضه بكأسه
الأوفى شربة لا ظمأ بعدها أبدا اللهم أجب دعوتنا، وانصر ملتنا وأفلج
حجتنا وعجل فرج ولينا وانصرنا به نصرا عزيزا، وافتح لنا به فتحا مبينا
بحق نبيك وحبيبك خاتم الأنبياء وآله النجباء، إنك على كل شئ قدير
وبالإجابة جدير، وقد وقع الفراغ من تأليف هذا الكتاب وجمعه وتحريره
وزبره وتنميقه وسطره في اليوم الحادي عشر من شهر ذي القعدة الحرام من
سنة 1295 والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله
الطاهرين إلى يوم الدين، ثم انتقل من السواد إلى البياض بعد إمضاء العزيمة
والانتهاض على يد مؤلفة الفقير إلى الله علي بن عبد الله في اليوم 19 من شهر
رجب الأصب سنة 1296 والحمد لله على نعمة الختام والفوز بالكمال والتمام
كما تم تنقيحه وتصحيحه، وتخريج مصادره، والتعليق عليه على يد العبد
الفقير إلى الله الغني عبد الزهراء الحسيني الخطيب في أيام آخرها أول شعبان
سنة 1402 أثناء إقامتي في قرية الدراز في البحرين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

695
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه الأبيات لخادم مصنف الكتاب في تاريخه ومدح المصنف قلتها بعد
نسخ الكتاب وأنا الأقل خادم المصنف وتلميذ المؤلف تراب أقدام العلماء
أحمد بن محمد بن سرحان البحراني (1).
منار الهدى يهدي لمن هو يبصر * ويكمد أعداء إلى الحق ينكر
عباراته در تألق نورها * وألفاظه شهب لدى الدر تزهر
معانيه أقمار تجاوب مثلها * وأبوابه حاطت بها فهي تبهر
أجل من الشافي (2) وإن كان سابقا * فكم حاز فضلا لا حق متأخر
مقدمة فيه حوت جل كنهه * وفصلان كالبدرين بل هما أنور
به ذبلت من دوحة الشرك أغصن * وحل بها جدب فها هي تحسر
وقامت به للدين راية رفعة * على شمس هذا الأفق تعلو وتفخر
أقام لما قد كاد من دين أحمد * يمال ومن نص الخلافة ينكر
لقد أثبتت بالنص فيه إمامة * لخير الورى وهو الوصي المطهر
وعترته الهادين في كل ريبة * غيوث الورى شبه الأهلة نور



(1) ناظم الأبيات ابن أخت المؤلف كما في الذريعة.
(2) يريد الشافي في الإمامة للشريف المرتضى وهذا من المبالغة في الشعر وإلا فكل من كتب
في الإمامة فمن الشافي استمد وعليه اعتمد.
697
فيا قد رعاك الله لست بماين * ولا مدع ما ليس فيك فافخر
رضعت ثدي العلم مذ كنت يافعا * وجاريت فيه أهله لست تقصر
حوى صدرك الواعي العلوم بأسرها * فها هي في الآفاق تنمو وتنشر
فيا لك من صدر حوى كل حكمة * وأسرار علم الله فيه تستر
فعلمك مشهور وفضلك ظاهر * وجاهك أجلى من سنى البدر أنور
وربيت في حجر البلاغة لم تزل * تجاوب فيها أهلها ثم تقهر
فها أنت بحر العلم في العصر كله * فليس سواك اليوم بالفضل يذكر
وردت حياض المجد عند صفائها * فأرويت منها صافيا لا يكدر
منار الهدى ألفته طالبا به * نجاة من الباري فهيهات تخسر
لقد قلت فيه مادحا ومؤرخا * منار الهدى يشفي الصدور ويبهر
1295.

698
/ 1