بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبد الوهاب المؤلف: السيد محسن الأمين الجزء: الوفاة: 1371 المجموعة: ردود علماء المسلمين على الوهابية والمخالفين تحقيق: تحقيق وتخريج : حسن الأمين الطبعة: سنة الطبع: المطبعة: الناشر: مكتبة الحرمين - قم ردمك: ملاحظات: كشف الارتياب في اتباع محمد بن عبد الوهاب تأليف المغفور له السيد محسن الأمين حققه وأخرجه ولده حسن الأمين (الطبعة الثانية) 1382 ه - 1952 م
1 بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الناشر منذ خمس وثلاثين سنة طغت موجة الارهاب السعودي على الجزيرة العربية فحملت معها الحقد والسفك والدمار والتنكيل بالعرب والمسلمين فاستبيحت المحارم وسفكت الدماء وأهينت المقدسات وكفر المسلمون وعطلت شعائر الإسلام. وارتفعت الأصوات بالاستنكار في مختلف البقاع العربية والإسلامية وعقدت المؤتمرات وقامت الاحتجاجات باستنكار هذه الحركة الرجعية الآثمة التي تلبست لباس الاصلاح والغيرة على الدين فاصطبغت أيدي القائمين بها بدماء العرب والمسلمين منذ أن تحالف أبناء مؤسس الدعوة الوهابية محمد بن عبد الوهاب مع آل سعود فكانت غاراتهم المتتالية على نجد والحجاز والعراق وبقية بقاع الجزيرة العربية فسفكت بها دماء الآلاف من الأبرياء من الأطفال والنساء والرجال ودمرت المدن والقرى واعمل فيها القتل والنهب والسلب. وقامت أقلام العلماء والأدباء والشعراء بالذب عن حياض المقدسات الدينية وفضح أعمال البرابرة السعوديين الذين أعادوا إلى الذاكرة فظائع الغزو المغولي للديار الإسلامية وما ارتكبت فيه من آثام وجرائم ضد الحضارة والإنسانية. وكان في طليعة الكتب التي صدرت في ذلك الحين كتاب " كشف الارتياب في اتباع محمد بن عبد الوهاب " وهو هذا الكتاب بقلم المرحوم الوالد الذي استقصى فيه تاريخهم الحافل بالفضائح والمآسي والأجرام وفضح فيه أسطورة الاصلاح والتجديد التي زعموها وفند عقائدهم وافتراءاتهم على الإسلام والمسلمين بما ليس فيه زيادة لمستزيد. وقد آثار هذا الكتاب ضجة كبرى في العالمين الإسلامي والعربي يومذاك وألب عليهم الرأي العام وأوقعهم في حيرة من أمرهم لما فيه من الحجج الدامغة والبراهين الساطعة
3 وجعلهم يحشدون كل ما لديهم من أقلام مخدوعة ومأجورة للرد عليه واضطرهم بالتالي إلى التخفيف من غلوائهم ومحاولة استرضاء الرأي العام الإسلامي الذي ناصبهم العداء لا سيما بعد أن صدرت الفتاوى بعدم جواز أداء فريضة الحج لعدم أمان المسلمين على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم وكان موسم الحج هو المورد الوحيد لتأمين الموارد لهم بعد أن خرجوا من ديارهم حفاة عراة جائعين وبعد أن كان تاريخهم الدامي الذي يفاخرون به سلسلة من أعمال الغزو والسلب والنهب والتقتيل. - 2 - لقد هادن السعوديون الرأي العام العربي والإسلامي فترة وتظاهروا بالتوبة ثم عمدوا إلى شراء أقلام الكتاب والصحافيين المأجورة يسترون بها عوراتهم وجرائمهم بأموال المسلمين وذلك حرصا على استتباب الأمر لهم. ولما ظهر البترول في البلاد العربية التي اغتصبوها من أصحابها وأعطوا امتيازاتها للشركات الاحتكارية بأبخس الأثمان وأبطرتهم النعمة عادوا سيرتهم الأولى وانطلقوا يحملون معهم خيرات البلاد لينفقوها بالملايين وعشرات الملايين على الفسق والفجور وشرب الخمور وانتهاك الأعراض حتى انتشرت فضائحهم في الشرق والغرب وتحدثت عنها صحف العالم بينما ضنوا بالنزر اليسير منها على الشعوب التي ابتليت بحكمهم فتضورت جوعا. ولم يحرموا هذه الشعوب من خيرات البترول فحسب بل حرموها من أبسط ما يتمتع به الإنسان من كرامة بل حرموها من أبسط الحريات فلا حرية للمعتقد ولا حرية للعبادة ولا حرية للقول ولا حرية للكلام فالكتب والصحف محظورة إلا ما مجد السعوديين وأباح جورهم وأشاد بطغيانهم بينما تحرق كتب الإسلام الصحيح وتمزق أسفار الدين القويم وكشاهد على ذلك نروي ما فعله قاضيهم في محكمة الظهران سليمان بن عبيد عام 1955 من أمره بإحراق كتاب فقهي اسمه (دعائم الإسلام) كما فعلوا بكتاب (أبو الشهداء) للأستاذ عباس محمود العقاد الذي لم يكتفوا بمنعه بل صادروه وأحرقوه وكذلك فعلوا بكثير من الكتب والأسفار. وفي هذا العام أصدر شاب فاضل من أبناء القطيف التي نكبت بحكم السعوديين كتابا
4 أسماه (مؤمن قريش) فأمروا بإحراق الكتاب واختطفوا مؤلفه وأخفوه وكادوا يقضون عليه لولا الضجة التي ثارت عليهم من كل جانب فاكتفوا بسجنه وجلده. - 3 - سلط السعوديون زبانيتهم ممن أسموهم زورا " وبهتانا هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " على الناس فأمعنوا بهم تنكيلا، وهم الذين يحكمون بإحراق كتب الدين وتاريخ المسلمين وينكلون بالأحرار أمثال الكاتب الفاضل عبد الله الخنيزي ويفتنون بارتكاب الموبقات وإننا لنسأل عبد الملك بن إبراهيم رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأمين سرها عبد الله باشميل وجلاوزتهما كيف سكتوا عن مخازي أمرائهم وفجور حكامهم وفسق ملوكهم وتهتك كبرائهم ولم يروا في هذه الأعمال منكرا ينهون عنه. - 4 - لقد رأينا خدمة للحقيقة والتاريخ تجديد هذا الكتاب وإعادة طبعه وزيادة فصول جديدة عليه ونشره في الرأي العام العربي والإسلامي لإظهار حقيقة السعوديين خالية عن الزيف وعن بهرج الدعاية المضللة وبالله المستعان حسن الأمين
5 * نسب السعوديين (1) * لماذا يكفر السعوديون المسلمين ويستحلون دماءهم وأعراضهم وأموالهم؟! ولماذا لم يحارب السعوديون إلا العرب ولم يخربوا إلا ديارهم ولم ينتهكوا إلا حرماتهم؟! لماذا وقف السعوديون هذا الموقف المخزي من كارثة فلسطين فكانوا عونا للصهاينة على أهلها؟! لماذا أبى ملكهم عبد العزيز بن سعود أن يهدد بقطع النفط يوم كان هذا التهديد حاسما في منع تقسيم فلسطين، ولماذا رفض أن يساهم بدينار واحد في إنقاذ الأرض المقدسة، ولماذا رفض أن يبعث جيشا سعوديا مع جيوش العرب الداخلة إلى فلسطين؟ (2) ولماذا كان هذا الجيش السعودي جاهزا أبدا للهجوم على أي بلد عربي حين يقف هذا البلد موقفا حازما مع الاستعمار؟ كان المخلصون في كل مكان يحارون في الإجابة على هذه الأسئلة، وكان يندهشون لهذا التصرف السعودي اللئيم ولا يجدون له تفسيرا إلا أن طبيعة من الشر قد سيطرت على هذه السلالة فجعلتها سفاكة للدماء خائنة للعرب والمسلمين!. ولكن لماذا كان طبيعة الشر هذه لا توجه السعوديين إلا إلى العرب والمسلمين؟! لماذا لا توجههم إلى المستعمرين، إلى اليهود، إلى وجهة غير وجهة أذى الإسلام والعروبة؟! وها نحن اليوم نكشف حقيقة السعوديين ونفسر ما أعيى تفسيره الأذهان. إن السعوديين ليسوا عربا وليسوا مسلمين، ولكنهم تستروا بالعروبة وبالإسلام تغطية لإجرامهم وسترا لمؤامراتهم وتمويها لخياناتهم. وهذه هي القصة بكاملها تنشر وتطبع اليوم لأول مرة بعد أن عرفت وجالت على الأفواه قبل اليوم في نجد وفي الجزيرة، ولكن لم يكن يجرؤ أحد ممن عرفوها على التصريح بها وتداولها رهبة وخوفا، وها نحن إذ نقدمها للقارئ الكريم نضع حدا لهذا الزيف في التاريخ، ويا له من زيف!.
(1) مما استدركناه على الطبعة الأولى. (الناشر) (2) كان كل ما فعله عبد العزيز بن سعود أن أرسل إلى فلسطين - سترا للمظاهر - 700 بدوي حفاة عراة ببنادق بالية. أما الجنود وأما المدافع وأما المصفحات فقد كانت معدة لهدم مساجد أهل القطيف وتخريب بيوتهم ولذبح النخاولة في مدينة الرسول (ص). 6 ونترك الكلام الآن لشخصية نجدية جليلة نكتفي بأن نرمز إلى اسمها بالحرف (ح) خوفا من أن تمتد إليها يد البطش السعودي إذ لا تزال هذه اليد قادرة على الوصول إليها. قال الشيخ (ح): أقرأتم التاريخ المزور الذي رسمته وكتبته الأقلام المأجورة المستثمرة وأملته الضمائر الخائنة لقاء أرقام من المال، إنه أرقام بأرقام من الجمل المرصوفة الكاذبة الخائنة بأرقام من المال تبدأ بالألوف وتنتهي بالملايين، ذلكم التاريخ هو تاريخ آل سعود تاريخ اجتمع على وضعه وتزويره خونة سعوديون أين منهم مسيلمة الكذاب وسجاح من غربيين وشرقيين ومستشرقين والأنكى من ذلك والأدهى هو أن هؤلاء الخونة ربطوا تاريخ هذه الجزيرة العربية الحافل بالبطولات والأمجاد والتي شع منها نور المعرفة وبزغ من ربوعها فجر الحضارة وأشرق على الأفكار سناها، هذه الجزيرة العربية التي يرتبط تاريخ الشعوب الإسلامية بتاريخها، ربط هؤلاء الخونة المأجورون تاريخها بتاريخ آل سعود، التاريخ المزور الذي حشد المستعمرون وعملاؤهم من كتاب ومؤرخين كل جهودهم لتزويره وفرضه تاريخا على الجزيرة العربية وبالتالي على تاريخ الشعوب الإسلامية وبالنتيجة يفقد العرب والمسلمون كل تاريخهم الذي حفل بأنواع البطولات والعبقريات. ونحن هنا في قلب الجزيرة العربية لا يشرفنا أن يرتبط تاريخنا بتاريخ الأسرة الخائنة الفاجرة الأسرة التي تسللت في الظلام لتسطو على مقدراتنا ومقدساتنا وتستولي على السلطة بالقوة بدون مبرر وبالتالي تتآمر على تاريخنا وذلك بأن تزور لها تاريخا على حساب تاريخنا فتدعي لنفسها زورا وافتراء بأنها صانعة التاريخ الحديث في الجزيرة العربية ونحن أمس واليوم وفي الماضي والحاضر كأننا لا تاريخ لنا يذكر إلا على هامش تاريخ آل سعود. لذلك نرى لزاما علينا أن نصحح هذا الخطأ من تاريخنا ونمحو هذه الوصمة من جبينه الناصع الوضاء ونقدم آل سعود على حقيقتهم وكيف دخلوا البلاد حاكمين وما هو دورهم في هذه الحقب التي توالوا عليها منذ تسلمهم هذا العرش المتزعزع الذي توارثوه واحدا عن واحد ولدينا من الحقائق الواضحة والأدلة الناصعة ما تصفع كل مزور خائن.. بل تقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون وعلى اسم الله نمضي في تحقيقنا هذا. فمن هم آل سعود؟ إليك الجواب أيها القارئ:
7 في أمسية من أماسي عام 1937 كان ركب السير جون فلبي الانكليزي الشهير الذي صار الحاكم الفعلي للسعودية والموجه لسياستها والمدبر لأمورها - كان ركب فلبي هذا يدخل مدينة نجران في رحلته الشهيرة التي مضى فيها بعد ذلك إلى الربع الخالي، وكان في الركب رفيقا لفلبي أحد شيوخ النجديين الشيخ محمد التميمي. فما هو أن استراح فلبي من وعثاء السفر حتى راح يسأل في نجران عن أسرة يهودية وعن عميدها المسمى يوسف ليسلمه أمانة مالية مرسلة من الملك عبد العزيز بن سعود، ثم مضى فلبي يصحبه التميمي وسلم فلبي يوسف المذكور خمسمائة ريال فضية، من العملة المنقوش عليها اسم ماري تريز وهي العملة المتداولة في اليمن، وأبلغه تحيات الملك، وسأله عن حاجاته ليقضي منها ما يستطيع قضاءه وليرفع ما لا يستطيع قضاءه إلى الملك ليقضيه بنفسه. فشكر يوسف اليهودي فضل الملك وعاطفته ثم قدم إلى فلبي كتابا خطيا بعضه بالعربية وبعضه بالعبرية اسمه العربي (نبع نجران المكين في تراث أهله الأولين)، ولم يكن بعض ما في الكتاب مجهولا لدى كثير من الخاصة في نجد ولكن التفاصيل التي فيه كانت مثيرة حقا، وكلف يوسف اليهودي رسول الملك فلبي أن يهدي بالنيابة عنه هذا الكتاب إلى جلالة الملك السعودي تقديرا لعاطفته وصلاته المتكررة ليهود نجران بعامة وليوسف وأسرته بخاصة، وقد كان ما في الكتاب شيئا خطيرا حمل فلبي على أن يذاكر بشأنه زميله الانكليزي الآخر ه. ر. ب دقسن المعتمد البريطاني في الكويت، وأن يقررا معا وجوب طي الكتاب وعدم إظهاره حرصا على المصلحة الاستعمارية. يقول الشيخ محمد التميمي: لقد أغاظني هذا اليهودي يوسف وهو يحدثنا حديث المزري على العرب المستخف بالمسلمين، وقد كان يشير بذلك وبقوله إن العرب والمسلمين لا يصلحون لتولي أمور الناس، وبالإشادة بنجاح آل سعود - كان يشير إلى ما كنا نجهل تفاصيله يومذاك وإن علمنا مجمله عن الحقيقة في نسب آل سعود، هذه الحقيقة التي أخذنا على أنفسنا تقصيها بعد ذلك حتى عرفنا دقائقها من شيوخنا الذين عرفوها من شيوخهم دون أن يجرؤ أحد على كشفها جلية للناس أجمعين، بل ظل الذين يعرفونها يتهامسون بها همسا ويوصلها جيل إلى جيل ليأتي اليوم الذي يمكن الجهر بها من غير أن
8 يخشى الجاهر فتكا ولا بطشا وقد جاء والحمد لله هذا اليوم المنتظر: إن السعوديين من أصل يهودي إذ يرجعون بنسبهم إلى يهود نجران، ومن أبناء أعمامهم اليهودي النجراني يوسف المتقدم ذكره والفائز بصلات الملك السعودي ومبراته والذي يلتقي نسبه مع آل سعود في الجد السادس وقد تفرع الجميع من اليهودي سليمان اسلايم الذي كان له ولدان أحدهما اسمه (مقرن) وهو جد آل سعود بينما الولد الآخر جد يوسف وهذه هي التفاصيل: كان مقرن بن سليمان اسلايم يمتهن التجارة فيضطر للتجوال في البلاد العربية فيلاقي بسبب يهوديته متاعب وإهانات كان ينوء بها ولكنه كان يتغلب عليها فاتسعت تجارته وازدادت ثروته وتضخمت معاملاته فعزم على التوسع بتجارته إلى خارج الجزيرة والوصول إلى العراق والتعامل مع أهليه، وكان يرى أن يهوديته ستغري به العرب فيفتكون به أو يسلبونه، وطريقه إلى العراق ومن العراق مملوء بالعشائر فقرر أولا أن يستقر في بلدة معينة يتخذها ركيزة لأعماله المقبلة فاستقر في مدينة " عيينة " النجدية وهي اليوم خربة وتمتد شرقا مع طول الوادي إلى قرية الجبيلة وكان سكانها يوم حل فيها مقرن يناهزون الخمسين ألف نسمة وهي محاطة بكل من العشائر الآتية: عتيبة، قحطان، بنو مرة، بنو خالد، العجمان، سبيع، الدواسر، شمر، مطير، حرب، يام، تميم. وبعد أن توطد مقام مقرن في عيينة واكتسب هو وأسرته عاداتها الاجتماعية وألف تقاليدها الحياتية وأصبحوا لا يختلفون في شئ من تصرفاتهم وطراز عيشهم عن جميع العرب الساكنين داخل عيينة أو حولها عزموا على الانخراط نهائيا في الحياة العربية والانتماء إلى عشيرة من العشائر بحيث تضيع معالمهم الأصلية وتغيب حقيقتهم اليهودية، ولكن الأمر لم يكن سهلا على مقرن وأسرته فالقبائل تأبى الدخيل وتلفظه واستعرضوا أمامهم أسماء العشائر المعروفة فرأوا أن ما من قبيلة تحترم نفسها يمكن أن يذوبوا في غمارها، لذلك اتجه تفكيرهم إلى عشيرة من العشائر النكرة في المنطقة لكي لا ينكشف أمرهم أمام أهل العيينة وأمام العشائر المجاورة لها فوقع اختيارهم على عشيرة " المصاليخ " وهي فخذ صغير من أفخاذ قبيلة عنزة مشهور بين العشائر بتفاهته وعدم تحسسه بالحس القبلي والنعرة العشائرية بحيث لا يوجد منه سوى أقلية بجبل سنجار شمال العراق وأقلية
9 أخرى انصهرت في عشيرة الحسنة القاطنة في ضواحي الشام والتابعة لمشيخة ابن ملحم وكانت هذه الفكرة اليهودية محكمة كل الإحكام فاستطاع مقرن وأسرته أن يعايشوا (المصاليخ) وأن ينطووا بيهوديتهم في كيانها فيبرزوا وكأنهم منها وفيها وهكذا عاد (مقرن) اليهودي عربيا مسلما يقصد بتجارته إلى الأقاصي البعيدة محتميا بمظهره الجديد ومن مقرن هذا تحدر السعوديون واحدا بعد واحد. يقول الشيخ محمد التميمي: كان يوسف اليهودي لا يريد أن يبوح أمامي بحقيقة النسب الذي يربطه بآل سعود وكان يتكلم بالمعاريض وحرص على أن لا أعلم بحقيقة ما في الكتاب المهدى إلى فلبي (وكان في الكتاب تفاصيل للأحداث النجرانية وبعضها متعلق بالنسب السعودي). ولكن يوسف عاد بعد ذلك يتحدث بلا تحفظ أو بشئ من التحفظ فكان مما عرفناه منه أن آل سعود الأولين كانوا يعطفون عليهم ولم يتنكروا للرحم حتى جده الثالث داود، ثم عادوا يتجاهلونهم بعد ذلك ويحاولون الابتعاد عنه بسبب الظروف التي صار فيها آل سعود، إلى أن انتهى الأمر إلى عبد العزيز واستقرت به الحال واطمأن إلى المصير فعاود الاتصال بهم والعطف عليهم، وكان ما حمله إليه فلبي بعض ما كان يصلهم به ويغدقه عليهم. على أن عبد العزيز لم يسمح لهم في حال من الأحوال بأن يتصلوا به شخصيا وأن يعلنوا ما يجب ستره من صلاة القربى " انتهى ". والسعوديون بهذا النسب اليهودي العريق يشبهون اليهود الأتراك الذي عرفوا باسم " الدونمة "، وهم يهود سكنوا البلاد التركية لا سيما سلانيك، واضطرتهم ظروف الحياة إلى إعلان إسلامهم مع إبطان يهوديتهم فأطلق عليهم الأتراك اسم " الدونمة " تمييزا لهم عن المسلمين الصحيحي الإسلام. وقد استغل الدونمة هذا التظاهر بالإسلام أسوأ استغلال فأتاح لهم ما لم يكن يتاح من التغلغل في صفوف المواطنين والامعان تخريبا وكيدا. وقد أصبحوا مصدر الدسائس التي أحاقت بتركية، ولم تحل بها نكبة ولم تقم بها مؤامرة إلا وكان الدونمة رأسها. وبذلك كانوا كالسعوديين في العرب نسبا وحسبا ومناقب!! وبعد فهل عرفتم لماذا يقف السعوديون هذا الموقف اللئيم من العرب والمسلمين؟ وإذا أنكر السعوديون اليوم هذا النسب فإننا (؟)
10 مقرن، فالعرب حريصة على أنسابها وكل ما يتصل بهذه الأنساب لا سيما من كانوا في منزلة آل سعود، فمن هو جدكم يا آل سعود بعد مقرن؟. إنه اليهودي سليمان اسلايم (1).
(1) من طريف ما حدث عام 1949 أن نظم أحد الشعراء على سبيل المطايبة قصيدة على لسان الملك عبد الله يخاطب بها الملك عبد العزيز بن سعود بعنوان (إلى الملك الثري) فنظم الشاعر عبد المطلب الأمين هذه القصيدة على لسان الملك عبد العزيز يخاطب بها الملك عبد الله. يلومونني إني بخلت ولو رأوا * براميل بترول الرياض لا قصروا تفيض به الصحراء تبرا مذوبا * وتزهو به أرض الحجاز وتزهر ولم أر مثل النفط أما سواده * فمسك وأما الريح منه فعنبر غنينا به عن كل حاف مقمل * يجئ من الحجاج عريان يفخر تزود من كل الذنوب بماله * وجاء إلينا مفلسا يتطهر فديت بني الدولار من كل أشقر * وإن سكروا وقت الطعام و " خنزروا " أتونا بأكياس الريالات كلما * حردنا عليهم زودونا وأكثروا وبعد الجمال الجرب صارت تقلنا * " طنابيل " منها (هدسن) و (كرزلر) وكل حسان الأرض طوع أكفنا * نطير إليها أو إلينا تطير وكنا وعدنا جنة مثل هذه * تطوف علينا الحور فيها وتخطر نحارب أعداء الإله لأجلها * ونفني يهود الأرض أنى تجمهروا فلما كفانا (العم سام) جهادنا * قعدنا على جيراننا (نتمسخر) وما كان زهدا بالجنان قعودنا * ولكن طريق النفط للخلد أقصر يقولون لي أخلفت وعدك حينما * وعدت أن أفدي بني ليظفروا يريدون مني أن أكون سموءلا؟ * وذاك يهودي أذل وأحقر وما كنت إلا سيدا وابن سيد * أقر متى شئت الوعود وأنكر فإن تك عبد الله في ذا تلومني * فواعجبي مما تقول وتذكر فجدك قبلي قال للفاتح الذي * أناخ له في باب مكة عسكر جمالي جمالي إن للبيت ربه * يقيه إذا شاء العدو ويقهر علام أحامي عن فلسطين صارفا * فلوسي وبترولي أضيع وأهدر فلا والدي في مسجد القدس موسد * وليس لأجدادي بغزة أقبر ولكن نجدا يا أكارم موطني * أموت على الدهناء منها وأنشر فإن تقبلوني عاهلا دون مصرف * قبلت وإلا فاتركوني وثرثوا فليس لإسرائيل عندي مأرب * سوى خيبر لا كانت الدهر خيبر إذا طلبوها قلت أهلا ومرحبا * بأبناء أعمام علينا تغندروا في البيت العاشر إشارة إلى ما ينشده السعوديون عند الحرب: هبت هبوب الجنة * وين أنت يا باغيها ولم ينشدوا هذا النشيد إلا في حروبهم للعرب والمسلمين، لأنهم في كل أدوارهم لم يحاربوا إلا العرب والمسلمين. وفي البيت الرابع عشر إشارة إلى ما كان قاله عبد العزيز بن سعود من أنه يفدي أولاده من أجل فلسطين ثم كان حربا عليها. 11 * المقدمة الأولى * في تاريخ الوهابية وفيها فصول الفصل الأول إلى من ينسب مذهب الوهابية ومتى ظهر وكيف ظهر ومن اتبعه بعد ظهوره ومن هو أول من بذر بذور هذا المذهب: ينسب مذهب الوهابية إلى محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد ابن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف بن عمر بن بعضاد بن ريس بن زاخر بن محمد ابن علي بن وهيب التميمي. (وفي خلاصة الكلام) في أمراء البلد الحرام للشيخ أحمد بن زيني دحلان: ولد محمد بن عبد الوهاب سنة 1111 وتوفي سنة 1207 (1) فيكون عمره ستا وتسعين سنة (2) وأخذ في أول أمره عن كثير من علماء مكة والمدينة وكانوا يتفرسون فيه الضلال والإضلال وكان والده عبد الوهاب من العلماء الصالحين وكان يتفرس فيه ذلك ويذمه كثيرا ويحذر الناس منه وكذا أخوه سليمان بن عبد الوهاب أنكر عليه ما أحدثه وألف كتابا في الرد عليه. وكان في أول أمره مولعا بمطالعة أخبار مدعي النبوة كمسيلمة وسجاح والأسود العنسي وطليحة الأسدي وأمثالهم. وخلف محمد بن عبد الوهاب بعده أربعة أولاد وهم عبد الله وحسن وحسين وعلي فقام بالدعوة عبد الله أكبرهم ولما مات خلف سليمان وعبد الرحمن وكان سليمان متعصبا تعصبا شديدا في أمرهم فقتله إبراهيم باشا سنة 1233 وقبض على عبد الرحمن وأرسله إلى مصر فمات بها وخلف حسن عبد الرحمن وولي قضاء مكة أيام استيلاء الوهابيين عليها وعمر عبد الرحمن حتى قارب المائة وخلف عبد اللطيف وخلف كل من حسين وعلي أولادا كثيرة ولم يزل نسلهم باقيا بالدرعية إلى الآن يسمونهم أولاد الشيخ. وكان القائم بنصرة محمد بن عبد الوهاب ونشر عقيدته محمد ابن سعود ثم ولده عبد العزيز ثم ولده سعود " انتهى ملخصا ".
(1) يأتي في كلام الآلوسي 1206 (2) الذي في النسخة اثنتين وتسعين سنة لكنه لا يوافق تاريخ الولادة والوفاة. - المؤلف - 12 وسعود بن عبد العزيز هو الذي غزا العراق والحجاز ومنع المسلمين من الحج فانقطع الحج في زمانه عدة سنين كما سيأتي. وقال ملطبرون في جغرافيته المترجمة من رفاعة بك ناظر مدرسة الألسن وقلم الترجمة بمصر المطبوعة بمصر: أصل المذهب الوهابي إن العرب سيما أهل اليمن تحدثوا بأن راعيا فقيرا اسمه سليمان رأى في منامه كأن شعلة نار خرجت منه وانتشرت في الأرض وصارت تحرق من قابلها فقصها على معبر فعبرها بأن ولدا له يحدث دولة قوية فتحققت الرؤيا في حفيده محمد بن عبد الوهاب فلما كبر محمد صار محترما عند أهل بلده بسبب هذه الرؤيا التي لا يعلم أنها كانت أم لا فأول أمره بين مذهبه سرا فاتبعه جماعة ثم سافر إلى الشام فلم يتبعه أحد فرجع إلى بلاد العرب بعد أن غاب عنها ثلاث سنين وجاء إلى بلاد نجد وأظهر هذا المذهب فتبعه عليه سعود (1) وكان شهما حازما وتقوى كل منهما بالآخر فقوى سعود إمارته من طريق الدين باتباعه محمد بن عبد الوهاب على مذهبه وقوى ابن عبد الوهاب دعوته من طريق السيف باتباع سعود له وانتصاره به فكان سعود الأمير الحاكم وابن عبد الوهاب الرئيس الديني وصارت ذرية كل منهما تتولى مرتبة سلفها وبعد أن صار سعود حاكما على قبيلته تغلب على قبيلتين من اليمن ودان بهذا المذهب قبائل كثيرة من العرب وجميع أعراب نجد واختاروا مدينة الدرعية قاعدة بلادهم وهي في الجنوب الشرقي من البصرة وبعد خمس عشرة سنة اتسعت ولاية سعود وهو يطمع في الزيادة وكان يأخذ ممن يطيعه عشر المواشي والنقود والعروض بل والأنفس فيأخذ عشر الناس بالقرعة فجمع أموالا عظيمة وصار جيشه يربو على مائة وعشرين ألف مقاتل " انتهى ". وفي خلاصة الكلام: كان ابتداء ظهور محمد بن عبد الوهاب سنة 1143 واشتهر أمره بعد الخمسين فأظهر العقيدة الزائفة بنجد وقرأها فقام بنصره محمد بن سعود أمير الدرعية فحمل أهلها على متابعته فتابعوه وما زال يطيعه كثير من أحياء العرب حتى قوي أمره فخافته البادية وكان يقول لهم إنما أدعوكم إلى التوحيد وترك الشرك بالله. وعن كتاب تاريخ نجد لمحمود شكري الآلوسي إن ابن عبد الوهاب نشأ في بلد العيينة من بلاد نجد فقرأ على أبيه الفقه على مذهب أحمد بن حنبل وكان من صغره يتكلم بكلمات
(1) الصواب أن أول من تبعه محمد بن سعود كما مر عن خلاصة الكلام - المؤلف - 13 لا يعرفها المسلمون وينكر عليهم أكثر الذي اتفقوا لكنه لم يساعده على ذلك أحد فسافر من العيينة إلى مكة المشرفة ثم إلى المدينة فأخذ عن الشيخ عبد الله بن إبراهيم ابن سيف وشدد النكير على الاستغاثة بالنبي (ص) عند قبره ثم رحل إلى نجد ثم إلى البصرة يريد الشام فلما ورد البصرة أقام فيها مدة وأخذ فيها عن الشيخ محمد المجموعي وأنكر على أهلها أشياء كثيرة فأخرجوه منها فخرج هاربا ثم جاء بعد عدة تحولات إلى بلد حريملة من نجد وكان أبوه بها فلازمه وقرأ عليه وأظهر الانكار على مسلمي نجد في عقائدهم فنهاه أبوه فلم ينته حتى وقع بينهما نزاع ووقع بينه وبين المسلمين في حريملة جدال كثير فأقام على ذلك سنتين حتى توفي أبوه سنة 1153 فاجترأ على إظهار عقائده والإنكار على المسلمين فيما أطبقوا عليه وتبعه حثالة من الناس إلى أن غص أهل البلد من مقالاته وهموا بقتله فانتقل من حريملة إلى العيينة ورئيسها يومئذ عثمان بن أحمد بن معمر فأطمعه ابن عبد الوهاب في ملك نجد فساعده عثمان وأعلن النكير على المسلمين فتبعه بعض أهل العيينة وهدم قبة زيد بن الخطاب التي عند الجبيلة فعظم أمره وبلغ خبره سليمان بن محمد بن عزيز الحميدي صاحب الأحساء والقطيف وتوابعها فأرسل سليمان كتابا إلى عثمان يأمره فيه بقتله ويهدده على المخالفة فلم تسعه مخالفته فأرسل إليه وأمره بالخروج عن مملكته فقال له إن نصرتني ملكت نجدا فلم يسمع منه وخرج إلى الدرعية سنة 1160 (وهي بلاد مسيلمة الكذاب) وصاحبها يومئذ محمد بن سعود فتوسل بامرأة الحاكم إليه وأطمعه في ملك بلاد نجد فتبعه وبايعه على قتال المسلمين فكتب إلى أهل نجد ورؤسائهم وقضاتهم بطلب الطاعة فأطاعه بعضهم وبعضهم لم يحفل به فأمر أهل الدرعية بالقتال فأجابوه وقاتلوا معه أهل نجد والأحساء مرارا كثيرة حتى دخل بعضهم في طاعته طوعا أو كرها وصارت إمارة نجد جميعها لآل سعود بالقهر والغلبة ومات ابن عبد الوهاب سنة 1206 ثم مات محمد بن سعود فخلفه ولده عبد العزيز وقام بنصرة هذا المذهب وقاتل عليه وبلغت سراياه وعماله أقصى بلاد نجد ثم مات عبد العزيز فخلفه ولده سعود وكان أشد من أبيه في التوهب، منع المسلمين عن الحج وخرج على السلطان وغالى في تكفير من خالفهم ثم مات سعود وخلفه ابنه عبد الله " انتهى ". وفي خلاصة الكلام أن الوهابيين أرسلوا في دولة الشريف مسعود بن سعيد بن زيد المتوفى سنة 1165 ثلاثين من علمائهم فأمر الشريف أن يناظرهم علماء الحرمين فناظروهم
14 فوجدوا عقائدهم فاسدة وكتب قاضي الشرع حجة بكفرهم وسجنهم فسجن بعضهم وفر الباقون. ثم في دولة الشريف أحمد المتوفى سنة 1195 أرسل أمير الدرعية بعض علمائه فناظرهم علماء مكة وأثبتوا كفرهم فلم يأذن لهم في الحج " انتهى ملخصا ". وهذا المذهب وإن كان ظهوره وانتشاره في زمن محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر إلا أن بذره قد بذر قبل ذلك من زمن أحمد بن تيمية في القرن السابع وتلميذه ابن القيم الجوزية وابن عبد الهادي ومن نسج على منوالهم. وقد عثرنا فيه على رسالة لمحمد ابن إسماعيل الأمير اليمني الصنعاني المولود سنة 1059 والمتوفى سنة 1182 كما عن كتاب البدر الطالع للشوكاني، سماها تطهير الاعتقاد عن أدران الالحاد وسيأتي النقل عنها في محاله وهذا الرجل كان معاصرا لابن عبد الوهاب. وعن كتاب أبجد العلوم للصديق حسن خان القنوجي: كان المولى العلامة السيد محمد ابن إسماعيل الأمير بلغه من أحوال النجدي ما سره فقال قصيدته المشهورة: سلام على نجد ومن حل في نجد * وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي (1) ثم لما تحقق الأحوال من بعض من وصل إلى اليمن وجد الأمر غير خال من الأدغال وقال: رجعت عن القول الذي قلت في نجد * فقد صح لي عنه خلاف الذي عندي " انتهى " وعن محمد بن إسماعيل المذكور أنه قال في شرح القصيدة المذكورة المسمى بمحو الحوبة في شرح أبيات التوبة: لما بلغت هذه الأبيات نجدا يعني الأبيات الأولى وصل إلينا بعد أعوام رجل عالم يسمى الشيخ مربد بن أحمد التميمي وذلك في صفر سنة 1170 وحصل بعض كتب ابن تيمية وابن القيم بخطه ثم عاد إلى وطنه في شوال من تلك السنة
(1) وهي التي يقول فيها كما أورده في تطهير الاعتقاد: أعادوا بها معنى سواع ومثله * يغوث وودا ليس ذلك من ودي وقد هتفوا عند الشدائد باسمها * كما يهتف المضطر بالصمد الفرد وكم نحروا في سوحها من نحيرة * أهلت لغير الله جهلا على عمد وكم طائف حول القبور مقبلا * ويلتمس الأركان منهن بالأيدي - المؤلف - 15 وكان من تلاميذ ابن عبد الوهاب الذي وجهنا إليه الأبيات وكان تقدمه في الوصول إلينا الشيخ الفاضل عبد الرحمن النجدي ووصف لنا من حال ابن عبد الوهاب أشياء أنكرناها عليه من سفك الدماء ونهب الأموال وتجاريه على قتل النفوس ولو بالاغتيال وتكفيره الأمة المحمدية في جميع الأقطار فبقي معنا تردد فيما نقله الشيخ عبد الرحمن حتى وصل الشيخ مربد وله نباهة ومعه بعض رسائل ابن عبد الوهاب التي جمعها في وجه تكفير أهل الإيمان وقتلهم ونهبهم وحقق لنا أحواله وأفعاله فعرفنا أحواله أحوال رجل عرف من الشريعة شطرا ولم يمعن النظر ولا قرأ على من يهديه نهج الهداية ويدله على العلوم النافعة ويفقهه بل طالع بعض مؤلفات ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وقلدهما من غير اتقان مع أنهما يحرمان التقليد " انتهى ". وهذا يدل على أن محمد بن إسماعيل المذكور رجع عن مغالاته في التوهب ولعل رجوعه كان بعد تأليفه رسالة تطهير الاعتقاد لأن تلك الرسالة لا تقصر عن كتب ابن عبد الوهاب في المغالاة كما ستعرف. وقد تبع هذا المذهب من بعد ظهوره إلى اليوم بعض من ينسب إلى العلم من أهل السنة من غير النجديين حسنه في نظرهم ظهوره بمظهر ترك البدع مع ما يرونه من كثرة البدع لكن الافراط آفة تفسد أكثر مما تصلح (وكل يدعي وصلا بليلى) والبعض منهم لم يصل في تضليل المسلمين إلى حد التكفير واستحلال الدم والمال كالآلوسي صاحب تاريخ نجد فيما حكي عنه حيث قال بعد ذكر سعود بن عبد العزيز: إنه قاد الجيوش وأذعنت له صناديد العرب ورؤساؤهم بيد أنه منع الناس عن الحج وخرج على السلطان وغالى في تكفير من خالفهم وشدد في بعض الأحكام وحملوا أكثر الأمور على ظواهرها كما غالى الناس في قدحهم، والإنصاف الطريقة الوسطى لا التشديد الذي ذهب إليه علماء نجد وعامتهم من تسمية غاراتهم على المسلمين بالجهاد في سبيل الله ومنعهم الحج، ولا التساهل الذي عليه عامة أهل العراق والشامات وغيرهما من الحلف بغير الله وبناء الأبنية المزخرفة على قبور الصالحين والنذر لهم وغير ذلك مما نهى عنه الشارع، والحاصل إن الافراط والتفريط في الدين ليس مما يليق بشأن المسلمين بل الأحرى بهم اتباع ما عليه السلف الصالح وتكفير بعضهم لبعض مستوجب للمقت والغضب " انتهى ".
16 فتراه قد أنصف بعض الإنصاف في لوم الوهابيين على تكفير من خالفهم ومنع الناس عن الحج والخروج على السلطان وتسمية الغارة على المسلمين جهادا في سبيل الله ولكنه حاد عن الإنصاف في جعله الحلف بغير الله والبناء على قبور الصالحين مما نهى عنه الشارع لما ستعرف من أن النهي منه غير واقع وجعله النذر للصالحين لما ستعرف أيضا من أنه لا ينذر أحد لهم بل لله ويهدي الثواب إليهم، وربما يكون كثير من غير النجديين ممن ينسب إلى العلم ويميل إلى الوهابيين لا يصل في المغالاة إلى حد التكفير واستحلال المال والدم، والله العالم بأسرار عباده. * الفصل الثاني * (في حروب الشريف غالب أمير مكة المكرمة مع الوهابيين) (واستيلائهم على الحجاز في زمانه وما فعلوه في الحجاز) (والعراق وانقطاع الحج والزيارة في أيامهم) في خلاصة الكلام في أمراء البلد الحرام لأحمد بن زيني دحلان مفتي الشافعية أن الشريف غالبا غزا الوهابية ما ينوف عن خمسين غزوة من سنة 1205 إلى سنة 1220 فأرسل عليهم في سنة 1205 ستمائة مقاتل مع أخيه عبد العزيز مع قبائل كثيرة حتى وصل إلى عريق الدسم وملك عدة من قرى نجد وحاصر عنيزة قرية بسام ثم رجع (وفي سنة 1206) جهز جيشا بأمرة المذكور لقتال القبائل التي دخلت في دين عبد العزيز بن محمد بن سعود (1) فوصل به إلى تربة ثم إلى رينة ثم إلى بيشة فأطاعته كلها ثم عاد إلى مكة (وفي سنة 1208) غزا الوهابيين بجيش من العربان بأمرة عثمان المضايفي فصبح ابن قيحان بموضع يقال له عقيلان وحصلت ملحمة عظيمة انتصر فيها عثمان وأخذ جميع إبل ابن قيحان ثم هزمه ابن قيحان ولم ينتزع منه الإبل (وفي سنة 1209) جهز جيشا بإمرة أخيه عبد المعين لغزو هادي بن قرملة وكان ممن توهب فنذر به وهرب فقصد ابن قفطان من اتباع ابن سعود فحصره في قصره وقبض عليه وأرسله إلى الشريف غالب فسأله العفو فعفا عنه وأطلقه فلما وصل إلى بلده غدر وأظهر العصيان فدس إليه من قتله
(1) وهو الذي تأمر بعد موت أبيه محمد بن سعود الذي هو أول من اتبع محمد بن عبد الوهاب - المؤلف - 17 وقصد مواضع فيها من اتباع ابن سعود فقتل منهم ثم رجع إلى مكة (وفي سنة 1210) جهز جيشا بأمرة السيد ناصر فغزا جماعة من الوهابية فقتل ونهب وعاد سالما (ثم) جهز جيشا بأمرة السيد فهيد بن عبد الله وغزا جماعة من الوهابية وقبض على ثلاثة جواسيس أرسلهم هادي بن قرملة فقتل اثنين وأخبره الثالث بموضع القوم مخافة القتل فعفا عنه وجد في السير وفي اليوم الثاني وصل إلى محل هادي بن قرملة فقتل من أصحابه نحو المائة وانهزم الباقون ثم توجه على طريق الفرشة فصادف جماعة من قحطان بأمرة ابن قيحان وهو ممن توهب فقتل منهم ونهب وصادف ابن شذير من شيوخ قحطان غازيا فقتل من أصحابه خمسة وأربعين وأخذ ابن شذير وإبله وخمسة من الخيل وعشرين من جياد الركاب (ثم) جهز جيشا بأمرة أخيه عبد المعين فأرسل الجواسيس فوجد من يريده من العربان قد ترفع وأبعد لما سمعوا به فأبقى جماعة في تربة ورجع ثم جهز جيشا كثيفا بأمرة السيد ناصر حتى أتى الشماس فدهمهم جيش الوهابيين فجرت ملحمة عظيمة وقتل من الفريقين خلق كثير ورجع السيد ناصر إلى مكة (وفي سنة 1211) (1) جهز جيشا بأمرة السيد فهيد فأرسل سرية إلى الخرمة فقتلت منهم ثم أغار على قوم من حرب توهبوا ثم ارتحل إلى روغ النعام فدهمهم الحجيلاني أمير الخرج بجند كثير فوقعت ملحمة عظيمة قتل فيها كثير من الطرفين ثم غزا هادي بن قرملة بموضع يقال له البقرة فقتل منهم وأخذ فرس ابن قرملة وإبله ثم رجع إلى مكة (فجهز) له الشريف غالب جيشا وأمره بالرجوع فملك رينة ونهبها وأحرق دورها ثم أتى الجنينة وأرسل الجواسيس إلى قوم سماهم فأخبر بارتحالهم فعاد إلى مكة (وفي سنة 1212) جهز جيشا بأمرة السيد فهيد على قوم من
(1) في رسالة الفواكه العذاب لأحمد بن ناصر النجدي إحدى رسائل الهدية السنية الخمس المطبوعة بمطبعة المنار بمصر إن الشريف غالبا في سنة 1211 طلب من عبد العزيز بن سعود إرسال عالم لمناظرة علماء الحرم فأرسل صاحب الرسالة وذكر صورة المناظرة وأنه أذعن له علماء الحرم ولم يشر إليها في خلاصة الكلام بل أشار إلى وقوع مناظرة قبل ذلك في دولتي الشريفين مسعود ومساعد كما مر وأني لنا بتصديق إقرار علماء الحرم له بصحة معتقده وأنه غلبهم بشبهاته التي بان ضعفها وفسادها مما أوردناه في هذا الكتاب نعم يجوز أن تكون وقعت هذه المناظرة فلم يقنع ذلك النجدي بل بقي على إصراره وعناده. - المؤلف - 18 حرب في عريق الدسم توهبوا فغنم وعاد سالما (ثم) جهز جيشا بأمرة السيد مبارك فأغار على قوم من حرب توهبوا بموضع يقال له العلم فغنم مواشيهم وصادف في طريقه خمسة وأربعين من الوهابية فقتلهم وأراد الرجوع فمنعه الشريف غالب وأمده بجيش بأمرة السيد سعد فاجتمعا على صلبة وارتحلوا وأقاموا على مران وبثوا الجواسيس فبلغهم أن الوهابي جمع لهم ما لا طاقة لهم به فأرادوا الرجوع فمنعهم الشريف غالب وخرج بنفسه في جيش عظيم حتى وصل مران واجتمع بهما ثم أغار على قوم من قحطان وأخذ مواشيهم ثم أغار على ابن قرملة في القنصلية وقتل منهم مقتلة عظيمة وفر ابن قرملة منهزما ثم عاد إلى رينة وحاربها وقطع نخلها فطلب أهلها الصلح فعفا عنهم وارتحل إلى بيشة فأقر بها جماعة أطاعوه وفر آخرون فأحرق دورهم وارتحل إلى الخرمة فأبادها وجاءه خبر بقدوم الوهابيين في جمع عظيم فأتهم المخبر وبعد يومين أقبلوا في جموعهم والتحم القتال فقتل من الفريقين ما ينوف عن الفين ومن الأشراف نيف وأربعون وكانت الغلبة للوهابية ثم رجع إلى مكة. * صلح الشريف غالب مع الوهابية * (وفي سنة 1212 في جمادى الأولى) انعقد الصلح بين الشريف غالب وعبد العزيز ابن محمد بن سعود بعد مكاتبات وجعلوا حدودا للأراضي والقبائل التي تحت طاعة الشريف وطاعة ابن سعود وأخذت العهود والمواثيق بينهم على ترك الحرب وأن يحج الوهابيون ونودي بالأمان وحج من علمائهم حمد بن ناصر ومعهم شرذمة منهم ولم يحج أميرهم لأن سليمان باشا والي بغداد جهز عليه جيشا بأمارة علي بك كتخدا فحاصرهم لكنهم دسوا دسائس أفسدوا بها أهل العسكر وفر اميره هاربا (وفي سنة 1214) حج سعود بن عبد العزيز ومعه أناس كثير واجتمع بالشريف غالب في خيمة ضربت لهما بالأبطح (وفي سنة 1215) حج سعود أيضا ومعه جند يزيد على عشرين ألفا وأرسل قبل قدومه هدية للشريف غالب مع حمد بن ناصر وهي خمسة وثلاثون من الخيل وعشر من النوق العمانيات فقبلها الشريف وكافأهم عليها وكان قد احترس قبل قدومهم خوفا من غدرهم فبنى سور الطائف والأبراج التي في أطراف مكة ومداخلها وطلب كثيرا من القبائل وترس جميع المداخل والأبراج فلم يدخل سعود مكة بجيشه قبل الوقوف بل نزل
19 بعرفة (وفي الثاني عشر من ذي الحجة) وقع خصام بين عرب الشريف وقوم سعود أدى إلى القتال بالرصاص فمنع الشريف عربه وكف القتال ونزل الناس من منى قبل الزوال ثم رحل سعود إلى بلاده. * غزو الوهابية العراق سنة 1216 - 1225 وإعادتهما فاجعة كربلاء * يقول المؤلف: (وفي سنة 1216) جهز سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود الوهابي جيشا عظيما من أعراب نجد وغزا به العراق وحاصر كربلاء ثم دخلها عنوة واعمل في أهلها السيف ولم ينج منهم إلا من فر هاربا أو اختفى في مخبأ أو تحت حطب ونحوه ولم يعثروا عليه وهم جيران قبر ابن بنت رسول الله " ص " السبط الشهيد ونهبها وهدم قبر الحسين (ع) واقتلع الشباك الموضوع على القبر الشريف ونهب جميع ما في المشهد من الذخائر ولم يرع لرسول الله (ص) ولا لذريته حرمة وأعاد بأعماله ذكرى فاجعة كربلاء ويوم الحرة وأعمال بني أمية والمتوكل العباسي ويقول أهل العراق - وهم أعلم بما جرى في بلادهم -: أنه ربط خيله في الصحن الشريف وطبخ القهوة ودقها في الحضرة الشريفة. وقال العلامة السيد جواد العاملي صاحب مفتاح الكرامة وفي عصره كان غزوهم للعراق: إن سعودا الوهابي الخارج في أرض نجد اخترع ما اخترع في الدين وأباح دماء المسلمين وتخريب قبور الأئمة المعصومين فأغار في السنة المذكورة على مشهد الحسين (ع) وقتل الرجال والأطفال وأخذ الأموال وعاث في الحضرة المقدسة فأفسد بنيانها وهدم أركانها. (قال): وفي الليلة التاسعة من شهر صفر سنة 1221 قبل الصبح هجم علينا سعود الوهابي في النجف ونحن في غفلة حتى أن بعض أصحابه صعد السور وكادوا يأخذون البلد فظهرت لأمير المؤمنين عليه السلام المعجزات الظاهرة والكرامات الباهرة فقتل من جيشه كثير ورجع خائبا. (قال): وفي جمادى الآخرة سنة 1222 جاء الخارجي الذي اسمه سعود إلى العراق بنحو من عشرين ألف مقاتل أو أزيد فجاءت النذر بأنه يريد أن يدهمنا في النجف الأشرف غيلة فتحذرنا منه وخرجنا جميعا إلى سور البلد فأتانا ليلا فرآنا على حذر قد أحطنا بالسور بالبنادق والأطواب فمضى إلى الحلة فرآهم كذلك ثم مضى إلى مشهد الحسين (ع) على حين غفلة نهارا فحاصرهم حصارا شديدا فثبتوا له خلف السور وقتل
20 منهم وقتلوا منه ورجع خائبا وعاث في العراق وقتل من قتل وقد استولى على مكة المشرفة والمدينة المنورة وتعطل الحج ثلاث سنين. (قال): وفي سنة 1225 أحاطت الأعراب من عنزة القائلين بمقالة الوهابي بالنجف الأشرف ومشهد الحسين (ع) وقد قطعوا الطريق ونهبوا زوار الحسين (ع) بعد منصرفهم من زيارة نصف شعبان وقتلوا منهم جما غفيرا وأكثر القتلى من العجم وربما قيل إنهم مائة وخمسون وبقي جملة من الزوار في الحلة ما قدروا أن يأتوا إلى النجف كأنها في حصار والأعراب ممتدة من الكوفة إلى فوق مشهد الحسين (ع) بفرسخين أو أكثر " انتهى ". * انتقاض الصلح بين الوهابية والشريف غالب * في خلاصة الكلام إن سعودا ما زال يدس الدسائس بعد الصلح ويكاتب مشايخ الأعراب سرا كشيخ محايل وشيخ بارق فصارا يفسدان القبائل حتى انتقض الصلح وتوهب جميع قبائل الحجاز فأرسل الشريف إلى وزيره بالقنفذة أن يذهب لقتال شيخ محايل ففعل وحصل بينهما قتال شديد فهزمهم الوزير وملك ما في واديهم وأحرق ديارهم وعاد إلى القنفذة ثم بلغه أنهم رجعوا وتجمعوا وصاروا يراسلون أهل تلك الأطراف ويتهددون من لم يطعهم فأخبر بذلك الشريف فجهز جيشا عظيما بأمرة السيد منديل فغزا بني كنانة وقتل منهم مقتلة وجاء الخبر إن أهل حلى توهبوا فجهز الشريف غالب عليهم جيشا بأمرة السيد ناصر بن سليمان فقتل منهم كثيرا وغنم ثم رجعوا إلى مكة ومعهم بعض أهل حلى تائبين وطلبوا من الشريف أن يرسل معهم جيشا ففعل وأمر عليهم السيد منديل فبنى على حلى سورا وجعل فيها كثيرا من الذخائر خوف هجوم العدو وبعد ثمانية أشهر بلغه إقبال الوهابيين بأمرة رجل اسمه حشر وكان فاجرا ختالا وأرسلوا إلى شيخ حلى فاستمالوه على أنهم متى خرجوا لقتالنا تمنعهم من الدخول فأخرج السيد منديل بعض رجاله لقتالهم وبقي هو في البلد في خمسين مقاتلا فنشب القتال وقتل من الفريقين جماعة وانهزم الوهابيون خديعة وجعلوا لهم كمينا فخرج على جماعة الشريف وحجز بين الفريقين حر النهار وأظهر أهل حلى الخيانة فاضطر الشريف منديل إلى الخروج والرجوع إلى مكة (وبلغ) الشريف غالبا إن عربانا بساحل اليمن توهبوا فأرسل عليهم غزية بأمرة السيد
21 سعد القتادي فأغار على دمينة وغامد الفرعاء وقتل فيهم ونهب وأسر تسعة عشر رجلا (وكان) وزير القنفذة أبو بكر بن عثمان أذاقهم الويل في قتاله لهم فاحتالوا على قتله بأن أظهرت له الطاعة ثلاث قبائل وكاتبوه أن يأتيهم ليحاربوا معه الوهابيين وأضمروا القبض عليه إذا أتاهم فأقبل إليهم بمن معه من الجند فبادروه بالقتال فأظهره الله عليهم وقتل كثيرا منهم ونهب ثم اجتمع بعسكر السيد سعد وبلغه أن الوهابيين أقبلوا بجنود كثيرة وافترقوا فرقتين فتوجه في أثرهم فأقبلت فرقة تقاتل السيد سعدا فلما أشرفوا عليه عرفوا عجزهم فتركوه وأقبلت فرقة على القنفذة فأدركهم الوزير بموضع يقال له دكان فأثخن فيهم القتل والنهب ولم يسلم منهم إلا القليل. (وفي أوائل سنة 1217) جمع معدى بن شار شيخ محائل اثني عشر ألفا وقصدوا القنفذة على حين غفلة فخرج إليهم الوزير في سبعمائة رام وثلاثة عشر من الخيل فقتل منهم نحو الأربعمائة وجرح مائتين وأسر مائتين وهرب الباقون وأخذ سلاحهم ومواشيهم. وهذه الوقائع كانت في مدة الصلح لما وقع منهم من الغدر بإفسادهم القبائل حتى أفسدوا جميع إقليم اليمن وغيرهم (ولما) علم سعود أن إقليم اليمن سيصير تحت يده سلط سالم بن شكبان على قبائل زهران فشرع في إفسادهم وسلط عربانه عليهم فلما علم بذلك الشريف أرسل كتابا لعبد العزيز وسعود يطالبهما بالوفاء بالعهد فأرسل كل منهما كتابا يعتذر بأعذار واهية وإن هذه الشوائع أكاذيب من العربان لأجل نقض الصلح فأرسل الشريف رسولا إلى زهران ليعرف الحقيقة فأخبره إن ما بلغه حق فأرسل إلى الدرعية زوج أخته عثمان بن عبد الرحمن المضايفي والشريف عبد المحسن وابن حميد شيخ المقطة وغيرهم لتجديد الصلح فوصلوا الدرعية وأعطوا الكتب لعبد العزيز فرحب بهم وغدر المضايفي فطلب من عبد العزيز أن يخلي له المجلس ففعل وطلب منه الإمارة ليملكه مكة وذكر له أسماء شيوخ القبائل التي يريد التأمر عليها فكتب لهم كتبا أنه قد أقامه أميرا عليهم وأمره على الطائف وما حولها وكتب مع الوفد جوابا للشريف بمداهنة ظاهرية وهم لا علم لهم بما جرى بينه وبين المضايفي إلا أنهم لما خرجوا من الدرعية أنكروا على المضايفي مدحه لمذهب الوهابية فلما وصلوا العبيلاء وبينه وبين الطائف يوم وللمضايفي فيه حصن على جبل فبقي فيه وقال لهم أجئ في أثركم ودخل الحصن ونصب بيرقا ودق الزير وأرسل الكتب لشيوخ القبائل
22 القريبة منه فأطاعوه وكان في الطائف الشريف عبد المعين وكيلا عن أخيه الشريف غالب فأرسل إليه المضايفي كتابا يدعوه فيه إلى التوهب وأول من أطاعه من القبائل الطفحة ثم النفعة والعصمة فغزا بهم على الزوران فأطاعوه بعد قتال ثم غزا عوفا فكسروه ثم خرج على العرج فهزمهم وأحرق دورهم ونهب مواشيهم فجمع الشريف غالب ما ينوف عن ثلاثة آلاف وأرسلهم إلى الطائف. * هجوم الوهابيين على الطائف سنة 1217 * وخرج المضايفي من حصنه قاصدا الطائف فخرج إليه الشريف عبد المعين فاقتتلوا بوادي العرج تمام النهار فكان النصر للشريف عبد المعين وقتل من أصحاب المضايفي نحو الستين ولولا تحصنهم بالجبل ما سلم منهم أحد وأخذ ما معهم من إبل وذخائر وعاد إلى الطائف واستشهد من جماعة الشريف ثلاثة عشر ثم خرج إليهم الشريف غالب بنفسه قاصدا العبيلاء والتقى بأخيه عبد المعين وأحاطوا بالحصن ورموا عليه بالقنابر والمدافع فلم يقدروا عليه فرجعوا إلى الطائف ثم عادوا ثانيا فامتنع عليهم فعادوا إلى الطائف ثم خرج المضايفي ومن معه فأحاطوا بالطائف وجاءه مددا أمير بيشة سالم بن شكبان في عدد كثير ووقع القتال طول النهار وفي المساء تباعدوا عن السور وفي الصباح عادوا وتقاتلوا طول النهار وفي المساء عادوا إلى خيامهم بعدما قتل كثير منهم وفي تلك الليلة تفرق عن الشريف من معه من الأعراب وعالجهم على البقاء فامتنعوا وظهر خلل في السور والأبراج وارتحل جماعة من الأشراف إلى مكة وفي الغد أخبر الشريف بذلك وقيل له إن المضايفي وابن شكبان يريدان التوجه بمن معهم إلى مكة فأرسل من يكشف الخبر فأخبره أنه رآهم نازلين من ريع التمارة فتحقق عنده الخبر فأعطى العسكر ومن بقي معه من البوادي لكل واحد عشرة مشاخصة وحرضهم على القتال وتوجه هو إلى مكة عن طريق المثناة فوقع الفشل فيمن بالطائف وخرج رجل يسمى دخيل الله بن حريب فلحق بالوهابيين وأخبرهم بتوجه الشريف إلى مكة فرجعوا إلى الطائف وتقدمهم رجل من كبارهم يسمى عبد الله البويحيت مع دخيل الله وجاء إلى بيت إبراهيم الزرعة وهو من أعز أهل البلد وأغناهم فاتفق معه على مبلغ من المال يدفعه لسلامة أهل البلد فخرج عبد الله ليأتيهم بالأمان فرماه بعض أهل الطائف برصاصة من منارة فقتله فلما علمت الوهابية بذلك حملوا على السور ولم يوجد من يقدر على منعهم.
23 * دخول الوهابيين الطائف عنوة سنة 1217 وفظائعهم فيها * فدخلوا البلد عنوة (1) في ذي القعدة سنة 1217 وقتلوا الناس قتلا عاما حتى الأطفال وكانوا يذبحون الطفل الرضيع على صدر أمه وكان جماعة من أهل الطائف خرجوا قبل ذلك هاربين فأدركتهم الخيل وقتلت أكثرهم وفتشوا على من توارى في البيوت وقتلوه وقتلوا من في المساجد وهم في الصلاة ودخل نيف وعشرون رجلا إلى بيت الفتني ومائتا رجل إلى بيت الفعر وامتنعوا عن التسليم وقاتلوا ثلاثة أيام فراسلهم ابن شكبان بالأمان وقال أنتم في وجه ابن شكبان وعثمان وأعطوهم العهود فكفوا عن القتال فأرسلوا جماعة أخذوا منهم السلاح وقالوا لا يجوز للمشركين حمله ثم أمروهم بالخروج لمقابلة الأمير فأمر بقتلهم فقتلوا جميعا بقوز يسمى دقاق اللوز وكان في بيوت ذوي عيسى نحو الخمسين متترسين يرمون بالرصاص فأخرجوهم بالأمان على النفس دون المال فسلبوهم وأخرجوهم إلى وادي وج وتركوهم فيه مشكوفي السوأتين ومعهم النساء حتى رموا عليهم اطمارا بالية ثم عاهدوهم بعد ثلاثة عشر يوما على التوهب فصاروا يتكففون الناس فيعطى السائل الحفنة من الذرة يقضمها وصارت الأعراب تدخل كل يوم إلى الطائف وتنقل المنهوبات إلى الخارج حتى صارت كأمثال الجبال فأعطوا خمسها للأمير واقتسموا الباقي ونشروا المصاحف وكتب الحديث والفقه والنحو في الأزقة وأخبروا أن الأموال مدفونة في المخابئ فحفروا في موضع فوجدوا فيه مالا فعندها حفروا جميع بيوت البلد حتى بيوت الخلاء والبالوعات ثم ارتحل ابن شكبان وبقي عثمان أميرا على الطائف وكتبوا إلى سعود يخبرونه بذلك فسر به سرورا عظيما وكان مبرزا بالدهناء مسير سبعة أيام عن الدرعية يريد غزو العراق. * قصد الوهابية مكة سنة 1217 * فسار مسرعا إلى الحجاز والتقى بابن شكبان وأصحابه فأعادهم معه فلما وصلوا العييناء
(1) أما الجبرتي فإنه قال: في أواخر سنة 1217 أغار الوهابيون على الحجاز فلما قاربوا الطائف خرج إليهم الشريف غالب فهزموه فرجع إلى الطائف وأحرق داره وهرب إلى مكة فحاربوا الطائف ثلاثة أيام حتى دخلوها عنوة وقتلوا الرجال وأسروا النساء والأطفال وهذا دأبهم مع من يحاربهم. وهدم المضايفي قبة ابن عباس بالطائف الغريبة الشكل والوصف. 24 قرية على ثلاث مراحل من مكة وبلغ خبرهم أهل مكة والحجاج الذين بها من الآفاق خافوا واضطربوا لا سيما لما سمعوا بما جرى على الطائف وكان ممن حج فيها إمام مسقط سلطان بن سعيد ونقيب المكلى وجاء أمير الحاج الشامي عبد الله باشا العظم وأمير الحاج المصري عثمان بك قرجي ومعهما العساكر الكثيرة وشاع يوم التروية أن سعودا نزل عرفة فخاف الناس ثم ظهر كذب ذلك فلم يأت سعود في وقت الحج لكثرة الحجاج كثرة لم يسبق مثلها وبعد تمام الحج نادى منادي الشريف أن يخرج الناس إلى الجهاد فخرج شريف باشا والي جدة بعساكره فتقهقر سعود يومين وجمع الشريف أمراء الحجوج وطلب منهم محاربة الوهابية فلم يوافقوه معتلين بعدم الذخائر فتعهد لهم بها مجانا فلم يقبلوا وقالوا نكاتبه فأن رجع وإلا نحاربه فكاتبوه فأجابهم بالتهديد فاضطربت آراؤهم فطلب الشريف ثانيا منهم محاربته وقال في ركوبنا عليه ناموس للدولة وتكفل بكل ما يحتاجونه فلم يقبلوا وأعادوا الرسل ثانيا فأجابهم كالأول وتهدد من أقام منهم بمكة فوق ثلاثة أيام فعزموا على الرحيل وأعاد الشريف عليهم القول فلم يقبلوا فاجتمع أعيان مكة وذهبوا إلى أمير الحاج الشامي طالبين منه البقاء عشرة أيام فأبى وسافر خامس المحرم سنة 1218 وفي اليوم الثاني سافر أمير الحاج المصري ثم توجه شريف باشا إلى جدة وبقي الشريف غالب وحده فتوجه هو أيضا إلى جدة. " وقال الجبرتي " إن الشريف غالبا طلب من والي جدة وأمراء الحاج الشامي والمصري البقاء معه أياما لينقل ماله ومتاعه إلى جدة فأجابوه بعد أن بذل لهم مالا فبقوا معه اثني عشر يوما ثم ارتحلوا وارتحل بعد أن أحرق داره بمكة " انتهى ". فأرسل أخوه الشريف عبد المعين كتابا إلى سعود بطلب الأمان لأهل مكة وبذل الطاعة وأن يكون هو عامله فيها وذهب مع الرسول جماعة من أفاضل أهل مكة فاجتمعوا بسعود بوادي السيل على مرحلتين من مكة فقال لهم إنما جئتكم لتعبدوا الله وحده وتهدموا الأصنام ولا تشركوا فقال بعض علمائهم والله ما عبدنا غير الله فمد يده وقال عاهدتكم على دين الله ورسوله توالون من والاه وتعادون من عاداه والسمع والطاعة فعاهدوه فسر بذلك وأمر كاتبه فكتب لهم كتاب الأمان في كاغذ لا يزيد عن خمس أصابع فيه بعد البسملة: من سعود بن عبد العزيز إلى كافة أهل مكة والعلماء والأغوات
25 وقاضي السلطان السلام على من اتبع الهدى (1) أما بعد فأنتم جيران الله وسكان حرمه آمنون بأمنه إنما ندعوكم لدين الله ورسوله (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) فأنتم في وجه الله ووجه أمير المسلمين سعود بن عبد العزيز وأميركم عبد المعين بن مساعد فاسمعوا له وأطيعوا ما أطاع الله والسلام. فقرأه مفتي المالكية على الناس بعد صلاة الجمعة. * استيلاء الوهابية على مكة بدون حرب سنة 1218 * وفي ثامن المحرم وصل سعود (2) محرما فطاف وسعى ونحر من الإبل نحو المائة ونزل في بستان الشريف الذي في المحصب وفي اليوم الثاني لوصوله نادى مناديه باجتماع الناس غدا ضحوة النهار فاجتمعوا وصعد على أعلى درج الصفا والمفتي عن يمينه والقاضي عن شماله فحمد الله وأثنى عليه وقال الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وأنجز وعده وأعز جنده لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون الحمد لله الذي صدقنا وعده وسكت، " ثم قال " يا أهل مكة أنتم جيران بيته آمنون بأمنه وسكنى حرمه وأنتم في خير بقعة اعلموا أن مكة حرام ما فيها لا يحتلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا يعضد شجرها وإنما أحلت ساعة من نهار وإنا كنا من أضعف العرب ولما أراد الله ظهور هذا الدين دعونا إليه وكل يهزأ بنا ويقاتلنا عليه وينهب مواشينا ونشتريها منهم ولم نزل ندعو الناس للإسلام وجميع من تراه عيونكم ومن تسمعون به من القبائل إنما أسلموا بهذا السيف ورفع سيفه تجاه الكعبة. وقد كنت في هذا العام غازيا نحو العراق فلما سمعت ما وقع من المسلمين بغزوة الطائف وأقبلوا عليكم يغزونكم خفت عليكم من العربان والبادية فاحمدوا الله الذي هداكم للإسلام وأنقذكم من الشرك وأنا أدعوكم أن
(1) لم يكتب إليهم السلام عليكم لأنه لا يراهم مسلمين. (2) الذي في تاريخ الجبرتي أن الواصل مع عسكر الوهابيين إلى مكة هو عبد العزيز بن سعود وإن دخولهم إليها كان يوم عاشورا سنة 1218 بعد ارتحال الحاج والشريف غالب بيومين قال فولى الشريف عبد المعين أميرا على مكة والشيخ عقيلا قاضيا " انتهى " وفي رسالة عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب إن دخولهم مكة كان يوم السبت نصف النهار ثامن المحرم سنة 1318 وهو الصواب لأنه كان معهم. 26 تعبدوا الله وحده وتقلعوا عن الشرك الذي كنتم عليه وأطلب منكم أن تبايعوني على دين الله ورسوله وتوالون من والاه وتعادون من عاداه في السراء والضراء والسمع والطاعة. ثم جلس فبايعه الشريف عبد المعين ثم المفتي ثم القاضي ثم بقية الناس على طبقاتهم " ثم قال " انتظروني بعد صلاة العصر بين الركن والمقام لأبين لكم الدين وشرائط الإسلام ثم انصرف " فلما " كان العصر اجتمعوا فصعد على ظهر زمزم ومعه المفتي فجعل يعلمه وهو يعلم الناس ويقول: إعلموا أيها الناس أن الأمير سعودا يقول لكم أن الخمر والزنا حرام " إلى آخر ما قال " مما لا يجهله أحد: ثم قال لهم: في غد اهدموا القبب والأصنام حتى لا يكون لكم معبود غير الله. * هدم الوهابية القبور والقبب بمكة وحملهم الناس على معتقداتهم سنة 1218 * وفي الصباح بادر الوهابيون ومعهم كثير من الناس بالمساحي فهدموا أولا ما في المعلى من القبب وهي كثيرة ثم هدموا قبة مولد النبي " ص " ومولد أبي بكر وعلي وقبة السيدة خديجة " وفي تاريخ الجبرتي " أنهم هدموا أيضا قبة زمزم والقباب التي حول الكعبة والأبنية التي هي أعلى من الكعبة " انتهى " وتتبعوا جميع المواضع التي فيها آثار الصالحين فهدموها وهم عند الهدم يرتجزون ويضربون الطبل ويغنون ويبالغون في شتم القبور ويقولون إن هي إلا أسماء سميتموها حتى قيل إن بعضهم بال على قبر السيد المحجوب " وأما " أهل مكة فمشوا معهم خوفا فما مضى ثلاثة أيام إلا ومحوا تلك الآثار " ثم " نادوا بإبطال تكرار صلاة الجماعة في المسجد وأن يصلي الصبح الشافعي والظهر المالكي والعصر الحنبلي والمغرب الحنفي والعشاء من شاء وأن يصلي الجمعة المفتي " ثم " أمر بإحراق النارجيلات وآلات اللهو بعد كتابة أسماء أصحابها عليها ليعرف من أطاعه ووكل بذلك جماعة من قومه ومنع شرب التتن والتنباك وحمل الناس على ترك الاستغاثة بالمخلوقين وبناء القباب على القبور وتقبيل الأعتاب وغير ذلك مما يرونه بدعة أو شركا " وكان " ينزل من المحصب قبل الفجر ليحضر صلاة الصبح فسمع المؤذنين يؤذنون الأذان الأول ويصلون على النبي " ص " ويقولون يا أرحم الراحمين ويترضون عن الصحابة فقال هذا شرك أكبر ومنعهم منه " ثم " أمر علماء مكة أن يدرسوا عقيدة محمد بن عبد الوهاب المسماة كشف الشبهات فلم تسعهم المخالفة ثم طلب قبائل العرب الذين حول مكة فبايعوه وأخذ منهم
27 أموالا كثيرة زعم أنها نكال ووضع في القلعة مائتين من بيشة وأمر عليهم فهيدا أخا سالم ابن شكبان. * محاصرة الوهابية جدة ورجوعهم عنها * " وأرسل " كتابا لأهل جدة يطلب دخولهم في طاعته فأجابوه بأنا رعية الشريف فطاعتنا من طاعته وإن أطعناك هل تطلب منا شيئا من المال فأرسل يطلب منهم مائتي ألف ريال وستين ألف مشخص ومن القماش ما قيمته ستة آلاف ريال ووجه من يقبض ذلك ثم توجه بجيوشه إلى جدة فاستعد له الشريف غالب بالمدافع والقلل فجعلوا يحملون على السور وتشتتهم المدافع فينهزمون حتى قتل منهم خلق كثير فبقوا ثمانية أيام وجعل سعود يشتم عثمان المضايفي لأنه هو الذي أشار بمنازلة جدة ثم ارتحلوا إلى بلادهم ولم يدخلوا مكة " وقال " الجبرتي في سنة 1218 جاءت كتب إلى مصر من الشريف غالب وشريف باشا أن الوهابيين جلوا عن جدة ومكة لأنه بلغهم أن العجم زحفوا على بلادهم الدرعية وملكوا بعضها " انتهى " فغزا الشريف غالب أهل الوادي فقتل وأسر وفر أميرها ثم عاد إلى جدة. وفي أيام إمارة الشريف عبد المعين على مكة صارت العرب تقطع الطرق وتنهب في كل ناحية وليس عنده من الجند ما يدفعهم به. * دخول الشريف غالب مكة وخروج الوهابيين من الحجاز سنة 1218 * ثم إن الشريف غالبا عزم على دخول مكة وإخراج من فيها من الوهابيين فتوجه من جدة ومعه شريف باشا والي جدة وكثير من العسكر وثلاثة مدافع منها مدفع كبير أهداه له إمام مسقط فنزل بالزاهر وأرسل العسكر والعبيد فأحاطوا بقلعة جياد وفيها الجند الذي خلفه سعود ودخل الشريف مكة ومعه شريف باشا ولم ينازعه الشريف عبد المعين وبقي الذين في القلعة محصورين ثم هربوا ليلا " وأقبلت " هذيل لمبايعة الشريف وطلبوا الأمان لثقيف فلم يعطهم الأمان حتى يفارقوا المضايفي فأظهرت ثقيف ذلك ثم نكثت. وجهز الشريف عسكرا لمحافظة الزيماء وجهز جماعة لمحاصرة الطائف فأحاطوا بها مع ثقيف وحاصروا عثمان أكثر من شهر وضيقوا عليه فأمده سعود بالجنود فارتحل المحاصرون إلى قرن ثم عادوا إلى مكة ثم أرسل الشريف جندا إلى قرن فجاءهم جند كثير من قبل عثمان فعادوا إلى مكة ودخلت ثقيف في طاعة عثمان فجهز الشريف عليهم
28 عسكرا فقتل منهم وأخذ حلتهم ومواشيهم ثم توجه المضايفي وابن شكبان لقتال هذيل الشام فقتلوا من هذيل وسلبوا النساء ثم أرسلوا إلى بني مسعود وهم في جبلهم ليتوهبوا فلم يقبلوا ووقع القتال فقتل بنو مسعود من الوهابية نحو السبعمائة ثم صعد الوهابية الجبل وقتلوا من أدركوه ثم نزلوا ونادوا بالأمان فعاد إليهم من بقي من بني مسعود فأخذ منهم ابن شكبان غرامة شيئا كثيرا. ثم غزا المضايفي الأشراف بني عمرو أهل اللفاع وقامت الحرب بينهم حتى قتل من الأشراف ستة وعشرون ونهبوهم وسلبوا نساءهم حتى جردوها من الثياب فطلبوا الأمان وتوهبوا ثم أقبل المضايفي وابن شكبان لحصار مكة فلما وصلوا السيل نهبوا كل ما في طريقهم من المواشي واقتسموه وكان أمير الحاج الشامي سليمان باشا مملوك أحمد باشا الجزار فطلب منه الشريف غالب إبقاء طائفة من العسكر لحماية البلد الحرام ويقوم الشريف بلوازمهم فأبى ثم قبل بواسطة أمين الصرة أن يبقي مائة وخمسين مع مائة وخمسين جملا بما عليها من لوازم القتال. * محاصرة الوهابية جدة ثانيا ورجوعهم عنها * ثم دخلت سنة 1219 وفيها في المحرم أقبل ابن شكبان والمضايفي باثني عشر ألف مقاتل لحصار جدة فأراد الشريف غالب تحصين مكة لعلمه بعدم قدرتهم على جدة فنادى بالنفير العام فخرج الناس على طبقاتهم إلى الزاهر حاملين السلاح وبقوا هناك سبع ليال أما الذين حاصروا جدة فبقوا ثلاثة أيام يحملون عليها حملة واحدة فيفرقهم المدفع ويقتل منهم فينهزمون إلى خيامهم حتى قتل الكثير منهم وامتلأت الحفر والقنوات من جيفهم وكانوا يدفنون العشرة والعشرين في محل واحد فلما رأوا ذلك ارتحلوا وقتل عثمان في طريقه حيا من الأعراب وأخذوا إبلا للشريف غالب فجهز الشريف جيشا إلى الليث من طريق البر بقيادة بعض الأشراف مع مائة من خيل الأتراك بقيادة حسين آغا وجيشا من طريق البحر معه عشر من الداوات الكبار مشحونة بالذخائر والمدافع الكبار بقيادة مفرح آغا عتيق الوزير ريحان فوصل جيش البحر إلى الليث وأطاعه أهله بغير قتال وتلاه جيش البر وبعد ثلاثة أيام هجم عليهم أربعة آلاف من الوهابية فكانت ملحمة عظيمة انجلت عن انهزام الوهابية وقتل كثير منهم واستشهد الشريف حسن أمير الجيش البري وجمع بعض الأتراك رؤوس الوهابيين وأرسلها إلى الشريف فعلقت خارج مكة وهرع
29 الناس للنظر إليها ثم جهز الشريف جيشا إلى الليث فلم يجدوا فيها أحدا ثم جهز جيشا آخر فيه من الأتراك نحو مائتين وخمسين فارسا وأمرهم أن يقيموا بالمدرة مرابطين فبقوا فيها ثلاثة أشهر وتغير الهواء على الأتراك فمرضوا ورجع الكثير إلى مكة ولم يبق إلا أربعون فهجم عليهم المضايفي بغتة بأربعة آلاف مقاتل ونصر الله الأربعين على الأربعة آلاف فهزموهم وقتلوا فيهم قتلا ذريعا حتى وصلوا إلى الزيماء هاربين وأرسل الشريف خلفهم مائتين من الخيل فلم تلحقهم وأنعم الشريف على أولئك الأربعين (وجاءت الأخبار) أن عشرين من خيل الوهابية تصل إلى المغمس فتنهب إذا سنحت لها الفرصة من بادية الحرم فأرسل الشريف سرية فيها أربعة عشر فارسا وعشرون راميا فوصلوا إلى المغمس فلم يجدوا أحدا فلما اقبلوا على سولة رأوا ما ينوف عن خمسمائة فوقع الحرب بينهم وانتصر ذلك العدد القليل على الوهابية فأفنوا الكثير منهم وهزموهم هزيمة قبيحة وغنموا منهم وعادوا إلى مكة ومعهم الرؤوس على الرماح. * استيلاء الوهابية على ينبع سنة 1219 وإخراجهم منها * ثم إن بداي شيخ حرب وقومه توهبوا وحاصر هو وابن جبارة شيخ جهينة ينبع وأرسلا إبراهيم الرويتي إلى وزيرها محمد الحجري فخدعه وخوفه وصعب عليه الأمور ولم يكن عنده دراية بالحرب فطلب الأمان ولولا ذلك لم يقدروا عليه فدخلوا ينبع وقتلوا أهلها وتوجه وزيرها إلى جدة في البحر ثم أتى مكة ورمي عند الشريف بالخيانة فصلبه وتوجه الشريف إلى جدة وجهز عشر داوات كبارا بالذخائر والعساكر نصفها من عسكره ونصفها من الترك وفي أيام إقامته بجدة وصلها إبراهيم الرويتي فوجد معه أوراقا من بداي يفسد بها الرعية فأمر بصلبه فصلب ثلاثة أيام واستولى الجند المرسل إلى ينبع عليها بعد قتال ثلاثة أيام وقتلوا أصحاب ابن بداي قتلا ذريعا. * محاصرة الشريف غالب الطائف وحروبه مع الوهابية * ثم توجه الشريف غالب بعسكر عظيم وحاصر المضايفي في الطائف عشرة أيام ثم عاد إلى مكة وجاء عبد الوهاب أبو نقطة من قواد الوهابية إلى أرض اليمن حتى وصل الليث بجند كثير فخرج الشريف بجنوده إلى قتاله حتى أتى السعدية فوجد فيها جنود الوهابية
30 والتحم القتال فكان النصر أولا للشريف ثم انتصر الوهابية وقتل من الفريقين نحو الألفين لكن القتلى من الوهابية أكثر ثم انهزموا ولحقتهم خيل الشريف ثم عادوا إلى مكة ووصل المضايفي وابن شكبان إلى الزيما بجنود كثيرة ثم أتوا عرفة ودخل في دينهم بعض قريش وهذيل وقتلوا من لم يطعهم أو أسروه وهدموا عين زبيدة فقل الماء بمكة ثم انتقل كثير منهم إلى وادي مر وجعلوا ينهبون ويقتلون الوافدين إلى مكة. وجاء الحاج الشامي والمصري من طريق جدة وحج الناس ولم يحج أحد من الحجاز بسبب هذه الفتنة. * محاصرة الوهابية مكة سنة 1219 * والأعراب محاصرة مكة من جميع الجهات وكلم الشريف أمير الحاج الشامي إبراهيم باشا والي الشام أن يخرج لقتال الوهابية فأبى فطلب منه جمالا وعسكرا لإحضار القوت والذخيرة من جدة فوعد ثم أخلف (وجاء) ليلة خمسة فوارس وهو مقيم بالزاهر فصاحوا في أطراف العسكر وكبروا فخاف خوفا شديدا وكاتب المضايفي وصار يأتيه بعض الوهابية فيكرمهم ثم سافر فجر العشرين من ذي الحجة وأخذ معه العسكر الذي كان أبقاه أمير الحاج الشامي في السنة الماضية ولم يأذن له المضايفي في الرحيل حتى دفع له مائتي كيس فسكن الشريف روع أهل البلد وقام بحفظه بمن معه من الأعوان وترسه من الجوانب الأربعة. * اشتداد الغلاء بمكة عام 1219 * واشتد الغلاء والجوع لانقطاع الطرق وابتدأ من أواخر ذي الحجة سنة 19 واستمر إلى ذي القعدة سنة 20 فبلغت كيلة القمح والرز مشخصين والزبيب ثلاث ريالات ورطل السكر والشحم والزيت والبن واللحم والتمر ريالا والسمن ريالا ونصفا وباع أهل مكة جميع ما يملكونه بأبخس الأثمان ثم عدمت الأقوات بالكلية وأكل الناس الأدوية كبزر الخشخاش وزبيب الهوى والصمغ والنوى وبزر الحمر وشربوا الدم وأكلوا الجلود والسنانير والكلاب وكل حيوان. وكاتب جملة من الناس المضايفي وانسل بعضهم إليه ليلا وكاتبه بعض شيوخ العبيد الذين بيدهم القلعة فبلغ ذلك الشريف فسجن جماعة وقتل بعض شيوخ العبيد ودخل كثير من الأشراف في طاعة الوهابي.
31 * تشديد الوهابية الحصار على مكة * وفي المحرم سنة 1220 ارتحل الوهابيون الذين بالوادي إلى أطراف مكة فقاتلهم العبيد الذين في أبراج حول مكة من الظهر إلى الغروب وقتل من الوهابيين سبعة فتوجه الوهابيون إلى الحسينية وأخذوا مواشيها وقتلوا من أهلها أحد عشر رجلا وتوجهوا إلى العابدية لأنه بلغهم أن العبيد تركوا الأبراج وجاؤا إلى مكة لطلب الزاد فبلغ ذلك الشريف فأعادهم في الحال وأمدهم بمثلهم فسبقوا الوهابيين إليها ثم ارتحل المضايفي وابن شكبان بعدما بنوا حصنا بالمدرة وتركوا فيه حامية وكان قد بايعهم أكثر العربان الذين بأطراف مكة فأمروهم بقطع الجلب عن مكة فاجتهد الشريف في جمع الجمال وأرسلها إلى جدة لتأتي بالأقوات ومعها مائة فارس وعدد غيرهم وخرج معهم كثير من أهل مكة فرارا من الجوع حتى بلغ كراء الجمل سبعين قرشا إلى ثمانين وبلغ الشريف خروج بعض الوهابية عليهم فأمدهم بمائة فارس وجاء الخبر أن الذاهبين أولا خرج عليهم ثلاثة فرسان كانوا جواسيس ثم ظهر نحو عشرين فقتلوا بعضهم وفر الباقون ولما بلغوا المنتجى وهو جبل وجدوا في حصنه سبعة من الوهابيين فقتلوهم وجاؤا برؤوسهم إلى جدة ووردت أغنام إلى جدة فنهبها الوهابيون ثم رجعت القافلة إلى مكة وبلغ كراء البعير ثلاثين ريالا ثم أعاد الشريف القافلة إلى جدة مخفورة فذهبت وعادت سالمة ثم أعادها ثالثا ورابعا وخرج معها في المرة الرابعة من أهل مكة نحو ثلاثة آلاف ثم انقطع الطريق بالكلية وأحاطت الوهابية بمكة من جميع جوانبها فبقوا على ذلك شعبان ورمضان ثم أرسل الشريف جيشا على قوم من لحيان توهبوا فقتل منهم ثلاثة وأخذ خمسين بعيرا وفر الباقون. ثم جهز جيشا على المناعمة والمطارفة فولوا هاربين وغنموا منهم ثم جهز جيشا مكمل العدة ومعهم مدفع كبير على حصن المدرة وفيه جماعة من الوهابية فأحاطوا به ورموه بالقنابل وجاء مدد لمن فيه فطردهم عسكر الشريف وأرسل لهم الشريف مدفعا آخر وجاء قوم يريدون دخول الحصن فقاتلهم العسكر فانهزموا ثم هجموا على الحصن ووصل الترك إلى بابه فوجدوا عليه عشرة فقتلوا ستة وفر أربعة وأمدهم الشريف بمائتين مع مدفع ثم بلغهم أن المضايفي أمد أهل الحصن بثلاثة آلاف فعملوا متاريس فلما أقبلوا رموهم بالمدفع وقاتلوهم إلى آخر النهار فقتل من جيش المضايفي نحو الخمسين ولم يقتل أحد من جيش الشريف. وفي الليل أشار عليهم بعض
32 من خالطه الخوف بالعودة إلى مكة فعادوا فأدركتهم خيل الوهابية قبل دخول مكة ففر بعضهم وثبت البعض ووقعت بينهم ملحمة قتل فيها من عسكر الشريف عشرة ومن الوهابية جماعة من المشهورين وغنم عسكر الشريف منهم خيلا. ثم وصل سالم بن شكبان الطائف بخمسمائة واستقبله المضايفي وخيموا قرب جبال بني سفيان وأرسلوا إليهم وتهددوهم فأطاعوهم خوفا وجاءت مشايخهم إلى المضايفي وابن شكبان فطوقوهم بالحديد ووضعوا على كل سفياني عشرين ريالا وأخذوا سلاحهم فلما سمعت هذيل طلبت الأمان وحملت ما طلبوه من المال فقالوا لهم قد صح إسلامكم فقاتلوا أهل مكة المشركين وانزلوا من جبالكم واسكنوا تهامة وامنعوا القوت عن مكة فبلغ ذلك الشريف فأمر ببناء أبراج في الحسينية ثم ارتحل ابن شكبان والمضايفي. وبلغ الشريف أن الوهابية تريد أخذ القافلة الواردة من جدة فجهز جيشا لحمايتها وأصبح الجيش بالركابي فما ملؤا القرب حتى جاءهم الوهابية ووقع القتال على ظهور الخيل وصعد ثلاثون من عبيد الشريف على جبل وجعلوا يرمون بالبنادق فقتلوا عدة وانهزم الوهابيون وقتل أميرهم وقتل منهم جماعة مع ثمان من الخيل ونهبت بعض خيلهم ثم أحاط جماعة منهم بالعبيد الذين في الجبل ووقع بينهم القتال فقتل من الوهابيين سبعون ومن العبيد خمسة وعشرون وسلمت القافلة. ثم جمع سعود أمراءه منهم عبد الوهاب أبو نقطة أمير عسير وسالم بن شكبان أمير بيشة وعثمان المضايفي أمير الطائف وغيرهم وأمرهم بحصار مكة من جميع الجهات ومنع الأقوات عنها. فجاء المضايفي بخمسة آلاف وخيم في المضيق وأرسل عشرين فارسا يركضون فكبروا وطلبوا البراز فطلبتهم خيل الشريف ففروا. * محاصرة الوهابيين جدة وقطعهم الطرقات عنها وعن مكة واشتداد الغلاء سنة 1220 * ثم قصد جدة وأحاطوا بالسور ومعهم السلالم والمعاول فأبعدتهم حامية السور بالبندق والمدفع وقتلوا كثيرا منهم فانهزموا ثم ارتحلوا إلى المدرة وطلب المضايفي باقي العربان ورتبهم لقطع الطرقات: طريق جدة واليمن ووادي نعمان وحصن المدرة وانتقل هو
33 وأصحابه إلى طريق جدة يقتلون ويأسرون من يمر بهم من الحجاج وغيرهم وينادونهم يا مشركون ثم أمر أربعين من هذيل أن يكونوا بين مكة والحسينية يقطعون الطريق فأخذوا أربعة من أصحاب الشريف ومنعوا الناس من الاعتمار من التنعيم وقتلوا بعض المعتمرين عند الزاهر ثم ارتحل المضايفي من طريق جدة إلى الحسينية فجهز الشريف جماعة فالتقوا بهم بأسفل مكة ووقع القتال فانهزم الوهابيون وقتل منهم جماعة وقتل من جماعة الشريف السيد فواز الحسيني أمير المدينة وعاد أصحاب المضايفي إلى الحسينية فحاربوا من فيها يومين وملكوها وأرسل المضايفي يبشر سعودا بذلك وجاء ابن شكبان بزهاء خمسة آلاف وأبو نقطة بنحو عشرة آلاف فتكاملوا في الحسينية ثلاثين ألفا فاشتد الكرب على أهل مكة وزاد الغلاء حتى بلغت الكيلة من القمح والرز مشخصين ومن الزبيب ثلاث ريالات ورطل السكر والشحم والزيت ريالين والسمن والعسل ريالين ونصفا والتمر والبن ريالا واللحم نصف ريال والتنباك ستة ريالات ونصفا ونفدت النقود فاشتروا بالأثاث والحلي وباعوا ما قيمته مائة بعشرة واشتروا ما قيمته عشرة بمائة وأكلوا الجلود البالية والمطاط بعد حرقها بالنار والسنانير والكلاب وكل حيوان وشربوا الدم وأكلوا نباتا يسمى الاخريط فأثر فيهم ورما ثم يموتون وفنيت الأقوات فأكل الناس العقاقير والأدوية كما فعلوا سنة 1219 ومات كثير بالجوع وبعضهم مات وهو يمشي وترى الأطفال موتى في كل زقاق فهرع الناس إلى الحسينية من الطرق الصعبة خوفا من السطوة بهم فمنهم قتل ومنهم مات جوعا ومنهم وصل محمولا ولم يبقى بمكة إلا القليل ولا يتكامل الصف الأول عند الصلاة في المسجد الحرام وأغلقت الحوانيت. * صلح الوهابية مع الشريف غالب سنة 1220 * وجاء من الحسينية عبد الرحمن بن نامي أحد علماء الوهابية وتذاكر مع الشريف في الصلح على أن يأذن لهم في الحج ثم يرجعوا لبلادهم ويدخل الناس في الطاعة ويكون حكم مكة للشريف وشرط عليهم إعادة الحسينية وغرامة ما ذهب فيها من نفوس وأموال وغير ذلك مما رأى فيه الصلاح والرفق بأهل مكة وأن يخبروا سعودا بالصلح وينتظروا الجواب فدخلوا مكة وعاد إليها أهلها وتنازلت الأسعار وحج الوهابية وجعلوا يركضون في الطواف ويشيرون إلى الحجر الأسود بالمشاعيب والبواكير ووصل الحاج الشامي وأميراه
34 عبد الله باشا ومعه قوة زائدة عن العادة نحو ألف وخمسمائة خيال وقال سعود (1) لأميري الحاج الشامي والمصري ما هذه العويدات التي تأتون بها وتعظمونها يعني المحمل فقالوا جرت العادة بذلك علامة لاجتماع الحجاج فتوعدهم بتكسيرها إن جاؤوا بها ثانيا وشرط أن لا يأتوا بالطبل والزمر وأقام الوهابيون إلى حادي عشر المحرم سنة 1221 ثم ارتحلوا وأصيبوا مدة مقامهم بمكة بالجدري فمات كثير منهم حتى صاروا يدفنون في الحفرة الواحدة جماعة وكان الكثير منهم مدة إقامتهم بمكة يؤجرون أنفسهم لأهل مكة للاحتطاب وحمل القمائم ونزح المراحيض وغير ذلك وفي افتتاح هذه السنة وجه الشريف عماله على الأقطار فأرسل وزيرا إلى ينبع وأرسل مائتين من الأتراك إلى سواكن ومثلها إلى مصوع ونزل هو إلى جدة ورتب أمورها وأمر بإصلاح السور وعمارة الخندق وبناء برج على باب البوغاز المسمى بالعلم يمنع الداخل إلى المرسى أن قصده عنوة ثم وصل من الدرعية عشرون رجلا فيهم حمد بن ناصر أحد علمائهم وكان الشريف بجدة فأعطوه كتبا من سعود فيها إتمام أمر الصلح ونزل حمد إلى مسجد عكاش وجمع الناس وقرأ عليهم رسالة محمد بن عبد الوهاب التي يكفر فيها المسلمين وقبل الشريف بمنع جميع الأمور التي يعتقد الوهابية منعها، مرغما على ذلك فأمر بهدم القباب وترك شرب التنباك وعدم بيعه وبدخول الناس المسجد عند سماع الأذان لصلاة الجماعة وبتدريس رسائل ابن عبد الوهاب وترك تكرير الجماعة في المسجد الحرام والاقتصار على الأذان في المنائر وترك التسليم والتذكير والترحيم وأبطل ضرب نوبته ونوبة والي جدة فتوجه حمد بن ناصر إلى الدرعية يخبرهم بذلك وأرسل الشريف معه رسولا فرجع بالجواب والشريف باق بجدة فأعاد الجواب لهم وفي مدة غيابه في جدة وقعت فتنة بين الأتراك والعبيد فحضر إلى مكة واطفأها وعاقب من كان سببها فلما بلغ خبرها المضايفي فرح وذهب من الطائف إلى الدرعية ليخبر سعودا بذلك ويشنع على الشريف فلم يصادف قبولا عند سعود فرجع وأمر العربان بقطع الطرق مشاقة للشريف وكان سعود أعطاه إمارة العربان فارتفعت
(1) وقال الجبرتي إن سعودا في سنة 1222 توعد بحرق المحمل إن جئ به ثانيا وصاحب خلاصة الكلام قال إن ذلك كان سنة 20 كما سمعت مع أنه لم يظهر من كلامه إن سعودا حج تلك السنة بل ظاهره إنه لم يحج. 35 الأسعار بمكة لانقطاع الطرق فأخبر الشريف سعودا بذلك فأرسل إلى عثمان ومنعه فعاد الأمن وتراخت الأسعار ثم أمر الشريف ببناء حصن على رأس جبل الهندي وحصنه بالرجال والذخائر وكان مدة استيلائهم على مكة يصانعهم ويهدي لهم الأموال الجزيلة وكانت هداياه تصل إلى أكثر أمرائهم وعلمائهم وأعوانهم محافظة على نفسه وعلى أهل مكة وكان سعود وكثير من أمرائهم يحجون كل سنة بجنود كثيرة فيكرمهم الشريف ويهئ لهم الضيافات الكثيرة ومع ذلك كان يكاتب الدولة العثمانية سرا ويحثها على تعجيل تجهيز العساكر لإنقاذ الحرمين من الوهابية. وفي خلاصة الكلام: في هذه السنة كان أمير الحاج الشامي عبد الله باشا فلما وصل منزل هدية جاءه من الوهابي لا تأت إلا على ما شرطنا عليك في العام الماضي فرجع الحاج من هدية لم يحجوا أما المحمل المصري فأمر سعود بإحراقه ونادى مناديه بعد انقضاء الحج أن لا يأتي إلى الحرمين بعد هذا العام من يكون حليق الذقن وتلا في المناداة (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) فانقطع مجئ الحاج الشامي والمصري من هذا العام (1). * نهب الوهابية ذخائر الحجرة النبوية وهدم القباب بالمدينة المنورة سنة 1221 * وفيها أخذ الوهابي كل ما في الحجرة النبوية من الأموال والجواهر وطرد قاضيي مكة والمدينة وأقام لقضاء مكة الشيخ عبد الحفيظ ولقضاء المدينة بعض علمائها ومنعوا الناس من زيارة النبي (ص). وقال الجبرتي: لما استولى الوهابيون على المدينة المنورة هدموا القباب التي فيها وفي ينبع ومنها قبة أئمة البقيع بالمدينة لكنهم لم يهدموا قبة النبي (ص) وحملوا الناس على ما حملوهم عليه بمكة وأخذوا جميع ذخائر الحجرة النبوية وجواهرها حتى أنهم ملؤا أربع سحاحير من الجواهر المحلاة بالماس والياقوت العظيمة القدر ومن ذلك أربع شمعدانات من الزمرد
(1) هذا يدل على أنه منع غير الوهابيين من الحاج مطلقا ويدل عليه كلام بعض المؤرخين لأنه يرى أن جميع من ليس وهابيا مشركون وممن صرح بأن سعودا منع الناس عن الحج محمود شكري الآلوسي في تاريخ نجد على ما حكي عنه وهو غير متهم في حق الوهابيين. - المؤلف - 36 وبدل الشمعة قطعة ماس تضئ في الظلام ونحو مائة سيف لا تقوم قراباتها ملبسة بالذهب الخالص ومنزل عليها ماس وياقوت ونصابها من الزمرد واليشم ونحو ذلك ونصلها من الحديد الموصوف وعليها أسماء الملوك والخلفاء السالفين. وطرد الوهابية أغوات الحرم والقاضي الذي كان قد توجه لقضاء المدينة واسمه سعد بك وخدام الحرم المكي وقاضي مكة فتوجه مع الشاميين. وقال الجبرتي في حوادث سنة 1222 في هذه السنة أخبر الحجاج المصريون أنهم منعوا من زيارة المدينة المنورة. * انقطاع الحج من مصر والشام والعراق * قال العلامة السيد جواد العاملي في حوادث سنة 1222 إنه تعطل الحج ثلاث سنين كما مر فيكون ابتداء انقطاعه من العراق سنة 1220 وذكر الجبرتي في حوادث سنة 1222 أن منها انقطاع الحج الشامي والمصري (أقول) وكان ابتداء انقطاع الحج من الشام في سنة 1221 ومن مصر في سنة 1222 كما مر فيظهر أن الحج انقطع من العراق أربع سنين ومن الشام ثلاث سنين ومن مصر سنتين ولا يعلم هل انقطع بعد ذلك أو لا. * هجوم الوهابيين على سورية سنة 1225 * عن تاريخ الأمير حيدر الشهابي أنه في هذه السنة هجم عبد الله بن سعود الوهابي على بلاد حوران فنهب الأموال وأحرق الغلال وقتل الأنفس البريئة وسبى النساء وقتل الأطفال وهدم المنازل وعاث في الأرض فسادا حتى قيل إنه أتلف في تلك البلاد ما قيمته ثلاثة آلاف ألف درهم. وفي خلاصة الكلام أنه في هذه السنة أرسل الوهابيون جيشا إلى ناحية الشام فتوجه يوسف باشا المعدني إلى جهة المزيريب وحصن قلعتها واستعد لهم بجيش وحاربوهم وطردوهم. * الفصل الثالث في محاربة محمد علي باشا للوهابيين * ونأخذ ذلك من تاريخ الجبرتي وخلاصة الكلام في أمراء البلد الحرام لأحمد بن زيني دحلان: في سنة 1218 أرسلت الدولة العثمانية إلى محمد علي باشا والي مصر أن يرسل أربعة آلاف عسكري إلى الحجاز لمحاربة الوهابية وأنهم أرسلوا من جهة بغداد أربع بشوات مع
37 العساكر وأرسلوا إلى أحمد باشا الجزار والي عكا بالتوجه لمحاربتهم وفي سنتي 1222 و 23 أرسلت تحثه فاعتذر بأن هذا الأمر لا يتم بالعجلة ويحتاج إلى الاستعداد وفي سنة 1224 أرسلت له بذلك وأن يوسف باشا المعدني تعين للسفر إلى الحرمين عن طريق الشام وسليمان باشا والي بغداد تعين للسفر من ناحيته على الدرعية وفي سنة 1225 حضر عيسى آغا من قبل الدولة العثمانية إلى الإسكندرية ومعه مهمات وآلات مراكب ولوازم حرب لسفر الحجاز ومحاربة الوهابية وفي سنة 1226 اهتم محمد علي باشا بأمر الحجاز وإرسال العساكر إليه فسافر إلى السويس وحجز المراكب وكان عمل قبل ذلك مراكب بالسويس لهذا الغرض وأمر بعمل مراكب كبار لحمل الخيول ثم قلد ابنه طوسون باشا ساري عسكر الحجاز وعسكروا خارج مصر (1) ثم سافر طوسون في شهر رمضان من هذه السنة مع قسم من العسكر عن طريق البحر ومعه رئيس التجار السيد محمد المحروقي وأوصاه أبوه بالأخذ برأيه ومن العلماء الشيخ المهدي والسيد أحمد الطحطاوي وسافر القسم الآخر من العسكر عن طريق البر وكان الشريف غالب يراسل محمد علي باشا ويعده معاونة عساكره والمذكور أيضا يراسله فلما وصلت العساكر البحرية إلى ينبع البحر لم يعطوهم ماء ومنعهم المرابطون عند العين ورموا عليهم من القلعة بالمدافع والرصاص فأحاطوا بها وضربوا عليها بالقنابل وصعدوا إليها بالسلالم غير مبالين بالرصاص النازل عليهم فملكوها وقتلوا من بها سوى سبعة هربوا على خيولهم منهم وزير الشريف ونهبت ينبع وسبيت نساؤها على رواية الجبرتي وأرسل بعض الرؤوس إلى مصر ووصلت العساكر البرية إلى المويلح ثم اجتمعت بعساكر البحر وأخذوا ينبع البر بلا قتال وأتتهم العربان أفواجا فخلع عليهم طوسون ثم ملكوا قرية السويق قرية ابن جبارة وفر هاربا. واجتمع جماعة من كبار الوهابية فيهم عبد بن سعود والمضايفي في نحو من سبعة آلاف فارس عدى الرجالة وقصدوا تبييت العسكر فنذر بهم وخرج إليهم شديد شيخ الحويطات بفرسانه وطائفة من العسكر
(1) وبهذه الواسطة احتال على أمراء المماليك وقتلهم فإنه عمل موكبا عظيما لتجهيز العساكر وخروجها إلى الحجاز حضره أمراء المماليك وكان قد أسر إلى بعض أمرائه بقتلهم فلما توسطوا الموكب أغلقوا الأبواب أمامهم ووراءهم وقتلوهم عن آخرهم ولم يسلم منهم إلا من لم يحضر فبقي شريدا وصفت له مصر بقتلهم لأنهم كانوا أمراءها وينازعونه الملك. 38 فوافاهم قبل شروق الشمس ووقع القتال والوهابية ينادون هاه يا مشركون فانهزمت الوهابية وغنموا منهم سبعين هجينا وكانت الحرب بقدر ساعتين ثم انتقل العسكر إلى الصفراء والجديدة واجتمع مع الوهابية كثير من قبائل العرب فوقع القتال ثالث عشر ذي القعدة ووجد العسكر المصري متاريس فحاربوا عليها حتى أخذوها وصعدوا إلى الجبال فهالهم كثرة جيش الوهابية وسارت الخيل في مضيق الجبال وبقيت الحرب في أعاليها يوما وليلة فما شعر السفلانيون إلا والذين في الأعالي هابطون منهزمين فانهزموا جميعا وتركوا خيامهم وأثقالهم وساروا طالبين السفن التي كانوا أعدوها بساحل البريك احتياطا ووقع في قلوبهم الرعب وظنوا أن الوهابيين في أثرهم والحال أنهم لم يتبعوهم فازدحموا على السفن وذهب كثير منهم مشاة إلى ينبع البحر ورجع طوسون وخاصته والخيالة إلى ينبع البحر فبقوا فيها خمسة وعشرين يوما وبعد الإذن من محمد علي باشا حضر طوسون ومن معه إلى مصر ومعهم العلماء والمحروقي في أوائل سنة 1227 فسخط محمد علي باشا على العسكر وطرد الذين جاؤوا بغير إذن ولم يثنه ما وقع عن عزمه وشرع في تجهيز جيش آخر فبعث عسكرا من طريق البحر مع خزانداره الملقب بونابرته وأمره أن يكون هو وطوسوس في ينبع لمحافظتها وأرسل عسكرا مع صالح آغا إلى ينبع عن طريق البر وسافر عدة من عسكر المغاربة والعثمانيين إلى ينبع وجاءت عساكر كثيرة من الأتراك وعينت للسفر وقام هو بلوازمهم وصار يوالي إرسال العساكر برا وبحرا وأظهر العزم على السفر بنفسه إلى الحجاز فاجتمعت العساكر في ينبع ومعهم صناديق الأموال فأخذوا في تألف العربان واستمالتهم بالمال واستولت عساكر الأتراك على عقبة الصفراء والجديدة بدون حرب بل بالمخادعة والمصالحة مع العرب وتدبير شريف مكة الذي كان يكاتبهم سرا ويكاتبونه ويعملون بتدبيره ولم يجدوا بها أحدا من الوهابيين ثم وصلت عساكر الأتراك إلى المدينة المنورة ونزلوا بفنائها ثم إن كبراء العرب الذين استمالوهم ومنهم شيخ الحويطات أخبروا أن الهزيمة السابقة كانت من مقاتلة عرب حرب والصفراء المتوهبين وأنهم مجهودون والوهابية لا يعطونهم شيئا ويقولون قاتلوا عن دينكم وبلادكم فإذا بذلت لهم الأموال صاروا معكم وملكوكم البلاد فأرسل محمد علي بعض أمرائه ومعه صناديق الأموال والكسوة وأشاع الخروج بنفسه واستمر على إرسال النجدات وهو معسكر خارج باب النصر دائب على
39 تعليم العساكر يومي الاثنين والخميس فوصل الأمير ينبع البر وذهب شيخ الحويطات وجماعة إلى شيخ حرب ولم يزالوا به حتى وافقهم وجاؤا به إليه فأكرمه وخلع عليه وعلى شيوخ العربان فألبسهم الفرو والكسوة وشالات الكشمير وصب عليهم الأموال وأعطى شيخ حرب مائة ألف ريال فرانسة فرقها على عشيرته وخصه بثمانية عشر ألف ريال ورتب لهم العلوفات والمؤن ونقودا في كل شهر فأدخلوهم المدينة المنورة فاخرجوا من فيها من الوهابية واستولوا على قلعتها ونزل متولي القلعة من قبل الوهابية واسمه مضيان أو ابن مضيان على حكمهم فأرسلوه إلى مصر فأرسله محمد علي إلى إسلامبول فقتلوه وعلقوه على باب السراية وجاء جماعة إلى مصر معهم مفاتيح المدينة فزينت مصر وأرسل محمد علي المفاتيح إلى إسلامبول وأرسل البشائر إلى كافة بلاد الإسلام وحج سعود في هذا العام ثم رجع إلى بلاده مسرعا وكاتب الشريف العساكر الذين في ينبع فحضرت منهم طائفة إلى جدة من طريق البحر في المحرم سنة 1228 وملكوها بدون قتال وكان في قلعة مكة جماعة من الوهابية يسمونهم المهاجرين فلما بلغهم وصول العساكر إلى جدة هربوا ليلا وتوجه بعض عسكر جدة إلى مكة فأكرمهم الشريف ولما بلغ ذلك وهابية الطائف استولى عليهم الرعب فهربوا مع أميرهم المضايفي ووصلت البشائر إلى مصر فزينت خمسة أيام وأرسل محمد علي بشيرا إلى إسلامبول اسمه لطيف آغا فتلقاه أعيان الدولة في موكب عظيم ومعه مفاتيح زعموا أنها مفاتيح مكة والمدينة وجدة والطائف وقد وضعوها على صفائح الذهب والفضة إمامها البخور في مجامر الذهب والفضة وخلفها الطبول والزمور وضربوا لذلك مدافع وأنعم عليه السلطان وكبراء الدولة وسمي لطيف باشا وأنعمت الدولة على محمد علي وأهدته خنجرين وسيفا مجوهرة وعدة اطواخ بالباشوية لمن يريده وسأل الشريف مفتي المالكية الشيخ عبد الملك القلعي هل جعلتم تاريخا لانقضاء مدة الوهابية فقال " قطع دابر الخوارج " 1227 وأرسل محمد علي باشا ولده إسماعيل باشا إلى إسلامبول بالبشارة فأكرمته الدولة ثم عاد إلى مصر وبعد استقرار العساكر بمكة والطائف شنوا الغارات على طوائف الوهابية القريبين من الطائف حتى قتلوا كثيرا منهم وفرقوا جموعهم. * القبض على المضايفي * ثم قبضوا على المضايفي بناحية الطائف وكان قد جرد على (؟) إليه الشريف
40 غالب مع عساكر الأتراك والعربان ووقع الحرب وأصيب جواده وأصابته جراحة فنزل إلى الأرض واختلط بالعسكر فلم يعرفوه وارتفع الحرب بنزوله ثم خرج عنهم وسار نحو أربع ساعات فصادفه جند الشريف فقبضوا عليه فجعل الشريف في عنقه زنجيرا وكان المضايفي زوج أخت الشريف فاستاء منه وانضم إلى الوهابيين فكان أعظم أعوانهم وهو الذي كان يحارب لهم ويجمع قبائل العرب ويدعوهم عدة سنين ويوجه السرايا وهو الذي فتح الطائف وهو المحارب مع عرب حرب بناحية الصفراء الذي هزم عساكر طوسون وشتتهم كما مر وكان فصيحا متأنيا في الكلام عليه آثار الإمارة ومعرفة مواقع الكلام ثم أرسلوه إلى جدة ومنها إلى مصر والزنجير في عنقه وجاءت البشارة إلى محمد علي بالقبض على المضايفي وقد تهيأ للسفر إلى الحجاز فوصل جدة في أواخر شوال سنة 1228 وكانوا أرسلوا المضايفي فلم يره وبعد وصول المضايفي إلى مصر بثلاثة أيام أرسلوه مع ابن مضيان إلى إسلامبول فطافوا بهما فيها ثم قتلوهما. ولما وصل محمد علي باشا إلى جدة واجتمع بولده طوسون حضر الشريف غالب لمقابلته وجاءته رسل سعود الوهابي فقالوا الأمير سعود يطلب الافراج عن المضايفي ويفتديه بمائة ألف ريال فرانسة ويريد الصلح فقال أما المضايفي فأرسل إلى إسلامبول وأما الصلح فلا نأباه بشرط دفع كل ما صرفناه على العساكر من ابتداء الحرب إلى اليوم وإرجاع كل ما أخذه من ذخائر الحجرة النبوية ودفع ثمن ما استهلك منها وأن يأتي إلي لأتعاهد معه ويتم صلحنا وإن أبى فنحن ذاهبون إليه فقالوا أكتب له كتابا فقال لا أكتب لأنه لم يرسل معكم كتابا فكما جئتم بمجرد الكلام فعودوا به فلما أرادوا الانصراف جمع العساكر ونصبوا ميدان الحرب والرمي من البنادق والمدافع ليرى الرسل ذلك. ثم توجه محمد علي إلى مكة فاحتفل به الشريف غاية الاحتفال وبالغ في ضيافته وإكرامه مع شدة التحذر منه وأنزله وولده طوسون كلا في دار وكان الباشا يعظم الشريف غاية التعظيم ويقبل يده وتعاهد معه في جوف الكعبة على الوفاء وعدم الخيانة من الطرفين ومن تحذره منه إن حسن له توجه العساكر من جدة إلى الطائف بدون دخول مكة لئلا يحصل ضيق في الماء لكثرة الحاج ففعل ولم يكن مع الباشا في مكة من العساكر إلا قليل وكان عند الشريف عساكر موظفون نحو الألفين متفرقين قلقات في أطراف مكة
41 ومن العبيد نحو الألف في القلاع ولكن إذا جاء القدر لم ينفع الحذر. * القبض على الشريف غالب * وكان محمد علي باشا مأمورا من السلطنة بالقبض على الشريف غالب فتحير في ذلك لتحذر الشريف منه ولما بينهما من العهود فرأى أن يقبض عليه ابنه طوسون تخلصا من خلف العهد بزعمه فأظهر أن بينه وبين ابنه منافرة وذهب ابنه لجدة مظهرا أنه مغاضب لأبيه وكتب إلى الشريف أن يشفع له عنده ففعل فكتب الشريف إليه بالحضور فحضر وذهب الشريف للسلام عليه وليأخذه إلى أبيه فلما وصل إلى بيت طوسون وجد أكثر العساكر مجتمعة فلم ينكر ذلك لظنه أنهم جاؤوا للسلام فدخل على طوسون وتفرق أتباعه في الدهليز وقبل طوسون يده وعظمه ومنع الناس من الدخول على العادة ثم دخل عابدين بك من كبار العسكر فقبل يد الشريف وقبض على الجنبية ليأخذها من وسطه وقال أنت مطلوب للدولة فلم يجد بدا من التسليم فقال سمعا وطاعة أقضي أشغالي في ثلاثة أيام ثم أتوجه فقال لا سبيل إلى ذلك وأدخلوه إلى بيت آخر ولا يعلم أحد بشئ وذلك في أواخر ذي القعدة من سنة 1228 ومكة مملؤة بالحجاج وأرسل طوسون إلى أبيه يعلمه بذلك فاستشار الشيخ أحمد تركي الذي كانت هذه الحيلة بتدبيره وهو مطوف ذو عقل ودهاء وكان من المختصين بالشريف ويعتمد عليه في المهمات ويبعثه إلى دار السلطنة فلما قدم محمد علي الحجاز جعله ملازما له فوجده محمد علي ذا خبرة ودراية فقربه وصار يستشيره ولما رجع إلى مصر أمر نائبه بمكة باستشارته فقال إن الشريف له ثلاثة أولاد كبار فيخشى أن يحدثوا فتنة والقلاع بأيدي عبيدهم وعندهم عساكر موظفة فلا بد من الاحتيال للقبض عليهم فذهب الشيخ أحمد إلى الشريف غالب وقبل يده وقال افندينا يسلم عليكم ويقول لا تهتموا والقصد أن تقابلوا مولانا السلطان وترجعوا إلى ملككم ويكون مدة غيابكم أحد أولادكم نائبا عنكم فاطلبوهم واخبروهم بالحقيقة ليطمئنوا فصدقه وأمر بكتابة ورقة لهم ليحضروا وختمها فحضروا وقبض عليهم وقيل بل أرادوا الحرب لما علموا فتهددهم الباشا وأرسل إليهم الشريف فمنعهم عن ذلك وخدعهم الشيخ أحمد تركي فقال ليس على أبيكم بأس إنما هو مطلوب في مشاورة مع الدولة ويعود بالسلامة والباشا يريد أن يولي كبيركم نيابة عن أبيه حتى يرجع فانخدعوا وقاموا معه والله أعلم. وأشار الشيخ أحمد بتولية
42 الشريف يحيى ابن أخي الشريف غالب إمارة مكة قبل شيوع الخبر فأحضروه وألبسه محمد علي فرو سمور وشالا ثمينا وأحضر له صندوقا من المال وأركبوه على فرس مرخت ومشت القواسة بين يديه حتى أوصلوه إلى داره وعندها علمت الناس بحقيقة الحال وارتجت البلد وعزلت الأسواق خوفا من فتنة فلم يحصل شئ وفي الليل أرسلوا الشريف غالبا وأولاده مع أربعة عبيد طواشية إلى جدة ومعهم عسكر فأخذ العسكر ما في جيوبه ثم أرسلوا إلى مصر فوصلوها في المحرم سنة 1229 وضربوا لوصولهم عدة مدافع ودخل الشريف مصر بالإجلال والإكرام لكن منعت الناس من السلام عليه إلا خواص الباشا ثم أرسلوا حريمه إلى مصر واستولى الباشا على جميع موجودات الشريف فأخذ ما لا يحصيه إلا الله وأخرج حرمه وجواريه من داره بما عليهن من الثياب بعدما فتشوهن تفتيشا فاحشا. وفي خلاصة الكلام إن العساكر نهبت داره التي بجياد وأخذوا منها أموالا كثيرة وأخرجوا أهله منها بصورة شنيعة وحضر مرسوم من إسلامبول بإرجاع ما أخذ من الشريف فصالحوه عنه بخمسمائة كيس وكان أكثر من ذلك بكثير. وفي شعبان من هذه السنة أرسلوه مع أولاده وحريمه إلى سالونيك فأقام بها منفيا إلى أن توفي رحمه الله تعالى سنة 1221 وكان من دهاة العالم وكانت إمارته نحوا من سبع وعشرين سنة. * مداومة محمد علي باشا على حرب الوهابية * ثم استحضر الباشا من مصر سبعة آلاف عسكري وسبعة آلاف كيس وكان بناحية تربة امرأة مشهورة بالشجاعة تسمى غالية هي الأميرة على العرب واجتمع عندها كثير من أمراء الوهابية وجنودهم فأرسل إليها الباشا عسكرا سنة 1229 فهزمته شر هزيمة ثم أرسل إليها ابنه طوسون فحاربتهم ثمانية أيام ورجعوا منهزمين ونفرت العرب من الباشا بما صنعه مع الشريف غالب وانضم كثير من الأشراف إلى الخصم ووقع الغلاء بالحرمين. وفيها في ربيع الثاني مات سعود أمير الوهابية في الدرعية وتولى مكانه ابنه عبد الله وفية أرسل الباشا عساكر كثيرة إلى ناحية القنفذة برا وبحرا فاستولوا عليها وهرب من فيها من الوهابية ولم يجدوا فيها غير أهلها فقتلوهم فتجمعت قبائل عسير مع طامي أبي نقطة وحاصروا القنفذة ومنعوا عنها الماء فانهزمت العساكر وقتل كثير منهم فأرسل الباشا إليهم نجدة فهزموها.
43 في جمادى الثانية توجه بنفسه إلى الطائف لمحاربة الوهابية والعساكر والذخائر والأموال تأتيه من مصر وبلغت العشور بميناء جدة أربعة وعشرين لكا وجعل يستميل الناس بالمال وصالح الأشراف ومشايخ العربان الذين فروا منه ثم توجه من الطائف إلى كلاخ ووجه العساكر إلى جهات متفرقة ووجه ابنه طوسون إلى المدينة ثم عاد هو إلى مكة إلى أن حج. وفي افتتاح سنة 1220 عاد إلى الطائف ووقع بينه وبين الوهابية حروب كان النصر له فيها عليهم واستولى على تربة وبيشة ورينة وقتل الكثير من الوهابيين وتوجه إلى القنفذة من بلاد عسير فملكها وقبض على طامي أبي نقطة فإن الشريف راجحا بذل لابن أخي طامي مالا جزيلا ليقبض على عمه فصنع وليمة ودعاه إليها فقبض عليه فأرسلوه إلى مصر مغلولا ثم إلى إسلامبول فقتل. ولم يزل محمد علي باشا يجول في بلاد العرب ويقهر الخصوم ويبذل الأموال ويرتب الأمراء في كل موضع يستولي عليه إلى جمادى الأولى ثم عاد إلى مكة ورتب بها الأرزاق للأشراف وغيرهم وجدد دفاتر الجراية لأهل مكة وكانت انقطعت في زمن الوهابية وأبطل ما استولى عليه الأغنياء منها بالفراغات ورتبها ترتيبا جديدا ثم أقام حسن باشا الأرنؤطي نائبا عنه بمكة وتوجه إلى مصر فوصلها في رجب. * الصلح بين طوسون باشا والوهابية سنة 1230 ووفاة طوسون * وفي شعبان من هذه السنة تصالح طوسون وعبد الله بن سعود وترك عبد الله الحرب وأذعن للطاعة وجاء من الوهابية نحو عشرين شخصا إلى طوسون فأرسل اثنين منهم إلى أبيه بمصر فلم يعجبه الصلح ثم حضر طوسون إلى مصر في ذي القعدة وفي سنة 1231 توفي بالطاعون وعمره نحو عشرين سنة وولد له في غيابه مولود اسمه عباس وهو الذي ولي مصر بعد عمه إبراهيم باشا. وبقي أمر محمد علي باشا نافذا بالحجاز وعساكره في كل ناحية ونائبه بمكة حسن باشا ومستشاره بها الشيخ أحمد تركي والشريف شنبر ولم ينقطع إرسال العساكر من مصر إلى الحجاز. وفي أوائل سنة 1222 أرسل ولده إبراهيم باشا إلى الحجاز لإكمال محاربة الوهابيين والاستيلاء
44 على الدرعية فتوجه بعساكر وأموال وذخائر كثيرة حتى دخل مكة ثم خرج منها بالعساكر قاصدا الدرعية وجعل يملك كل أرض وصلها بلا معارض حتى وصل إلى موضع يسمى الموتان ووقع بينه وبين الوهابية حرب شديد وقتل منهم مقتلة عظيمة وأسر منهم وغنم خياما ومدفعين (وفي سنة 1223) أمده أبوه بعساكر أتراك ومغاربة وملك بلدا من بلاد الوهابية وقبض على أميرها ويسمى عتيبة ثم استولى على الشقراء وكان بها عبد الله ابن سعود فخرج هاربا إلى الدرعية ليلا وبينها وبين الشقراء يومان ثم استولى إبراهيم باشا على بلد كبير من بلادهم ولم يبق بينه وبين الدرعية إلا ثمان عشرة ساعة ثم زحف على الدرعية فملك جانبا منها وحاصر الوهابيين وأحاط بهم ثم غاب عن معسكره لأمر اقتضى ذلك فاغتنموا فرصة غيابه وكبسوا العسكر وقتلوا منهم عددا وافرا وأحرقوا " الجبخانة " ولما بلغ الخبر أباه أمده بالعساكر برا وبحرا مع قائد اسمه خليل باشا ولم يزل يتابع إرسال الذخائر والأموال حتى أنها بلغت أجرة الذخيرة مرة من ينبع إلى المدينة على جمال العرب خاصة خمسة وأربعين ألف ريال لكل بعير ستة ريالات ومن المدينة إلى الدرعية مائة وأربعين ألف ريال هذا في مرة واحدة ومثله مستمر. ولم يزل إبراهيم باشا يغير على أطرافهم ويشدد الحصار عليهم لما وصله المدد ازدادت قوته وحصل له معهم وقائع إلى أن استولى على الدرعية وكسر الوهابية وقبض على أميرهم عبد الله بن سعود وكثير من أقربائه وعشيرته واخرب الدرعية فسكن من بقي من أهلها الرياض ولما بلغ ذلك محمد علي باشا بمصر فرح فرحا شديدا وضرب لذلك نحو ألف مدفع وبلغ عدد المدافع التي ضربت أيام الزينة ثمانين ألف مدفع. وفي أول سنة 1234 أرسل إبراهيم باشا عبد الله بن سعود وكثيرا ممن قبض عليهم إلى مصر فدخلها وهو راكب على هجين وأمامه العسكر وخرج الناس للتفرج وضربوا عند دخوله المدافع فلما أدخل على محمد علي باشا قابله بالبشاشة وقام له وأجلسه إلى جانبه وقال له ما هذه المطاولة فقال الحرب سجال قال كيف رأيت إبراهيم باشا فقال ما قصر ونحن كذلك حتى كان ما كان قدره المولى قال إنا إن شاء أشفع فيك عند السلطان فقال المقدر يكون فخلع عليه وكان معه صندوق صغير مصفح فسأله ما فيه فقال فيه ما أخذه أبي من الحجرة أصحبه معي إلى السلطان فإذا فيه ثلاثة مصاحف متقنة وثلاثمائة حبة لؤلؤ
45 كبار وحبة زمرد كبيرة وبها شريط ذهب فقال له الذي أخذه أبوك من الحجرة أشياء كثيرة غير هذا فقال هذا الذي وجدته فإنه لم يستأصل كل ما في الحجرة لنفسه بل أخذ منه كبار العرب وأهل المدينة وأغوات الحرم وشريف مكة فقال صحيح وجدنا عند الشريف غالب أشياء من ذلك ثم أرسله في تاسع عشر المحرم مع أتباعه مخفورا إلى إسلامبول فطافوا به البلدة وقتلوه عند باب همايون وقتلوا أتباعه في نواح متفرقة (وفيها) أرسل محمد علي ابن أخته خليل باشا بعساكر إلى الحجاز فتوجه إلى يمن الحجاز واستولى عليه صلحا ثم صار محافظا لمكة وفيها في رجب وصل من أسري الوهابية نحو أربعمائة إلى مصر أرسلهم إبراهيم باشا بحريمهم وأولادهم ومعهم أولاد عبد الله بن سعود وبعد أن حج إبراهيم باشا توجه إلى مصر فوصلها في صفر سنة 1235 وأحضر من رؤساء الوهابية فشهروهم وقتلوهم واستقر ملك محمد علي باشا على مصر والحجاز ونجد. وكان قد هرب كثير من كبار الوهابية من إبراهيم باشا حين ملك الدرعية فلما ارتحل عنها رجعوا إليها منهم عمر بن عبد العزيز وتركي ابن أخي عبد العزيز ومشاري بن سعود وكان قبض عليه إبراهيم باشا فهرب من الحمراء فعمروا الدرعية ورجع أكثر أهلها وقدموا عليهم مشاريا المذكور فجهز محمد علي عسكرا له بإمرة حسين بك فقبضوا على مشاري وأرسلوه إلى مصر فمات في الطريق وتحصن الباقون في قلعة الرياض المعروفة عند المتقدمين بحجر اليمامة وبينها وبين الدرعية أربع ساعات فحاصرهم حسين بك ثلاثا فطلبوا الأمان فأمنهم وخرجوا إلا تركيا فهرب من القلعة ليلا فقيدهم وأرسلهم إلى مصر سنة 1236 ثم ملك تركي الرياض بعد سنين وثار عليه رجل من آل سعود اسمه مشاري فقتل تركيا وكان لتركي ولد اسمه فيصل كان عند قتل أبيه في الغزو فلما بلغه جاء برجال الغزو وقتل مشاريا واستقل بالملك واستفحل أمره وأشهر الدعوة التي كان عليها أسلافه فجهز محمد علي العساكر لقتاله مع خورشيد باشا فتوجه من المدينة سنة 1253 ومعه خالد بك ابن سعود وهو من أسري سنة 1233 كبر وتربى بمصر فاستحسن محمد علي أن يؤمره في نجد فلما وصل خورشيد إلى نجد حصل بينه وبين فيصل وقائع كثيرة إلى أن قبض على فيصل وأرسله إلى مصر سنة 1254 وأقام خالدا أميرا في الرياض ورجع فاستمر خالد في الإمارة سنتين ثم ظهر لأهل نجد عدم سلوكه الطريقة التي يرتضونها فثار عليه عبد الله بن ثنيان مع النجديين
46 وأرادوا الفتك به فهرب إلى مكة ثم مات وصار أمر نجد لابن ثنيان فلما بلغ ذلك فيصلا وهو محبوس بمصر قال لعباس باشا ابن طوسون باشا وكان يجتمع به لو وصلت إلى نجد لانتزعتها من ابن ثنيان وصرت خادما لأفندينا فاحتال عباس لإخراجه ليلا من القلعة فهرب بمن معه حتى وصلوا جبل شمر مقر إمارة ابن رشيد فأكرمهم وتوجهوا إلى القصيم فانضاف إليهم كثير منهم فقصدوا ابن ثنيان في الرياض فقاتلوه وحصروه إلى أن قبضوا عليه وحبسوه ثم قتل خنقا في الحبس سنة 1258 واستقل فيصل بالملك وفي سنة 1262 صدر الأمر من الدولة العثمانية بتجهيز العساكر لمحاربة فيصل بن تركي أمير الرياض لأنه استفحل أمره ويخشى أن يقع منه ما وقع من أسلافه، وأن يكون ذلك برأي الشريف محمد بن عون أمير مكة المكرمة فتوجه الشريف مع العساكر من المدينة حتى وصل جبل شمر فسار معه أميره ابن رشيد بكثير من القبائل ولما وصلوا القصيم أطاعهم أهله فخاف فيصل خوفا شديدا فأرسل لأهل القصيم أن يتوسطوا في الصلح على تأدية عشرة آلاف ريال في كل سنة فتم الصلح ورجع الشريف بالعساكر واستمر فيصل يدفع ذلك حتى مات سنة 1282 فقام بعده ابنه عبد الله فنازعه إخوته وانتزعوا الأمر منه وأقاموا أخاه سعودا ثم توفي فعادت الإمرة إليه إلى سنة 1300 ولكن ملكه ضعف لأن الدولة العثمانية انتزعت منه الحسا والقطيف وخرج عن طاعته أهل القصيم وأطاعوا الدولة العثمانية وأدوا لها الخراج وأميرهم منهم وخرج عن طاعته ابن رشيد أمير جبل شمر وقوي ملكه وأطاع الدولة العثمانية وأدى لها الخراج على قول صاحب خلاصة الكلام. والذي نعلمه أنه لم يكن يؤدي لها خراجا وإنما يهدي لها الخيل الجياد وغيرها وهي دائما في جانبه دون ابن سعود بل كان الشائع في ذلك العصر أن ابن سعود في جانب الانكليز. * الفصل الرابع فيما آل إليه أمر نجد وما فعله الوهابيون في الحجاز والعراق والشام في هذا الزمان * بعدما تقلص حكم محمد علي باشا عن بلاد نجد صار فيها إمارتان إحداهما لآل سعود مقرها القصيم وعاصمتها الرياض والأخرى لآل رشيد وعاصمتها حائل في جبل شمر وهو المعروف في القديم بجبل طئ وقوت الدولة العثمانية جانب إمارة آل الرشيد وصارت هي صاحبة الحول والطول في نجد وبخفارتها يسير الحاج العراقي والنجدي عن طريق حائل
47 بخاوة (خفارة) قدرها ثلاثون ريال فرنسة عن العربي وضعفها عن العجمي وليس للدولة العثمانية على نجد حكم سوى إنها في جانب آل الرشيد ومع ذلك فرعايا ابن رشيد كلهم أو جلهم على المذهب الوهابي بل لعل آل رشيد كانوا أيضا على هذا المذهب. وفي عهد السلطان عبد الحميد أنشأت الدولة العثمانية متصرفية في أطراف نجد غير متصرفية في أطراف نجد غير متصرفية القطيف فكان نصيبها الفشل وحاصر النجديون العساكر المرسلة لحمايتها فعادوا بأسوأ حال وألغيت تلك المتصرفية ثم إن ابن رشيد غلب آل سعود على أمرهم وأخرج الأمير عبد الرحمن الفيصل آل سعود والد سلطان نجد الحالي وولده عبد العزيز وأقرباءهم من الرياض عاصمة إمارتهم فأقاموا عند ابن صباح صاحب الكويت ثم إن عبد العزيز استنفر زهاء ثلاثين رجلا من قومه فركب كل منهم ذلولا وخرجوا من الكويت إلى نجد يستنفرون من مروا به من عشائرها في طريقهم فحارب ابن رشيد واستعاد إمارة آبائه منه ثم هجم في أيام الحرب الكبرى على عشائر شمر في جبلهم وأزال إمارتهم وكانت قد ضعفت بعد موت الأمير محمد ابن رشيد باختلافهم وقتل بعضهم بعضا وأخذ ابن سعود آخر أمير منهم وهو الأمير محمد ابن طلال وما بقي من آل رشيد أسراء وأبقاهم عنده. وفي هذه السنة وهي سنة 1346 حاول الأمير محمد بن طلال قتل الأمير سعود بن عبد العزيز على ما يقال فتسلق داره هو وأتباعه وعبيده فأخطأ مكانه فأمر سعود بقتلهم فقتلوا وهو عشرون شخصا. وما زال عبد العزيز سلطان نجد يتقوى شيئا فشيئا بذكائه ودهائه وعزمه وثباته ومساعدة التقادير له، وفي آخر عهد الاتحاديين استولى على متصرفية القطيف التي كانت لأجداده قبل وقبض على منصور باشا أحد كبراء القطيف لموالاته الدولة العثمانية ثم قتله خفية وسكتت الدولة العثمانية عنه لانشغالها بالفتن والحروب وصالحته كما صالحت إمام اليمن وعقدت معه اتفاقا اعترفت له فيه بإمارة نجد له ولذريته. ولما نشبت الحرب العامة ودخلت فيها الدولة العثمانية سنة 1332 ه 1914 م بقي ابن سعود على الحياد وتعاهد مع الانكليز واستمالت الدولة الانكليزية إليها الشريف حسين ابن علي أمير مكة ووعدته ومنته استقلال بلاد العرب وتعاهدت معه على ذلك كما تعاهدت مع الفرنساويين في الوقت نفسه على اقتسام بلاد العرب فساعدها الشريف حسين ورجال العرب مساعدة تذكر ولما وضعت الحرب العامة أوزارها سنة 1337 ه 1919 م ودخلت
48 جيوش الحلفاء سورية وبينها الجيوش العربية بقيادة الأمير فيصل أحد انجال الملك حسين ابن علي ثم كان إلى الجيوش البريطانية والعربية احتلال المدن الأربع دمشق وحلب وحمص وحماه وتوابعها ومنها حوران، والتصرف الإداري فيها بيد الحكومة العربية، وإلى الجيوش الافرنسية احتلال بيروت ولبنان وطرابلس وجبل عامل والأردن وتوابع ذلك وإلى الجنود البريطانية احتلال فلسطين وشرق الأردن وبعض حوران. وأعلن استقلال الحجاز ونودي بالشريف حسين ملكا عليه باسم ملك العرب ووافقت على ذلك الدول الكبرى وخطب باسمه على المنابر حتى في مدن سوريا وفلسطين ثم بويع بالخلافة في الحجاز وأكثر تلك المدن وأعلن استقلال نجد تحت سلطنة الأمير عبد العزيز آل سعود باسم سلطان نجد ووافقت على ذلك الدول العظمى وفي مقدمتها بريطانيا ومنحته راتبا لا يقل عن أربعين ألف ليرة انكليزية وبلغ مجموع ما دفعته له من ابتداء سنة 1917 إلى سنة 1923 ميلادية زهاء خمسمائة ألف واثنين وأربعين ألف جنيه انكليزي وكان ذلك أولا للمساعدة في الحرب ضد تركيا وبعد الحرب ليمتنع عن القيام ضد الحجاز والكويت والعراق وليساعد في ترويج سياستها الخاصة التي ترمي إلى إيجاد أحوال سلمية في بلاد العرب. صرح بذلك وزير المستعمرات مستر أمري وتناقلته صحف العالم ونقلناه بحروفه، وتعاهدت معه على أن إمارة نجد وملحقاتها له ولأولاده بشرط أن يكون الأمير اللاحق مختارا من السابق ولا يكون خصما معاديا للحكومة البريطانية بمخالفته لشروط هذه المعاهدة، وإن تساعده وذريته على أي دولة أجنبية تعتدي على بلادهم إذا كان الاعتداء بدون علمها ولا إعطائها الوقت الكافي لمراجعته في إزالة الخلاف المسبب للاعتداء وأن لا يعقد اتفاقا ولا معاهدة مع أي حكومة أو دولة أجنبية ويعد بعدم مفاوضة أحد في ذلك ويلتزم إعلام الحكومة البريطانية بكل تجاوز أو تعد على بلاده ويلتزم أن لا يبيع ولا يرهن ولا يؤجر ولا يتخلى عن شئ من أراضي بلاده ولا يمنح امتيازا لدولة أجنبية أو أحد رعاياها بدون رضا بريطانيا وبأن يتبع في ذلك نصائحها وبإبقاء الطرق الموصلة إلى البلاد المقدسة مفتوحة والمحافظة على الحجاج الذين يسلكونها وعدم الاعتداء على حكومات
49 جيرانه البحرين والكويت وقطر وعمان والمشايخ الذين تحت الحماية البريطانية. ونقلنا ذلك من مجموع مقالات صاحب المنار (الوهابية والحجاز) وأقيم الأمير عبد الله نجل الملك حسين أميرا على شرق الأردن وأطلق على إمارته إمارة الشرق العربي وجعلت تلك الإمارة له ولذريته. وبقيت الجنود البريطانية في المدن الأربع سنة كاملة ثم خرجت منها واستقلت بها الحكومة العربية تحت إمارة الأمير فيصل ثم وقع الاختلاف بينها وبين الافرنسيين بعد أن أقيم الأمير فيصل ملكا على سوريا وكانت وقعة ميسلون المشورة بين العرب من الدمشقيين وغيرهم وبين الافرنسيين التي انتهت بقتل جملة من العرب والافرنسيين وقتل يوسف بك العظمة وزير الحربية العربي بعدما أبدى بسالة تذكر واحتلال الجنود الافرنسية المدن الأربع وخروج الملك فيصل من سوريا سنة 1338 ه 1920 م ثم أقيم ملكا على العراق برأي الانكليز ومشورة العراقيين. * هجوم الوهابيين في الحجاز على عرب الفرع من قبيلة حرب * في سنة 1340 غزا الوهابيون عرب الفرع من قبيلة حرب في عقر دارهم في الحجاز ونهبوا المواشي فجاء النذير إلى أهل الفرع فلحقوهم واستخلصوا منهم ما نهبوه وقتلوا فيهم وغنموا جميع ما معهم وولوا منهزمين ومن جملة ما غنموه أعلام وبيارق فدفعوه إلى الملك حسين وانقطع مجئ أعراب نجد إلى الفرع لاكتيال التمر فحصل بذلك ضيق على أهل الفرع بسبب كساد تمورهم التي كان يشتريها النجديون. * قتل الوهابيين الحاج اليماني سنة 1341 * في هذه السنة التقى الوهابيون بالحاج اليماني وهو أعزل من السلاح وجميع آلات الدفاع فسايروهم في الطريق وأعطوهم الأمان ثم غدروا بهم فلما وصلوا إلى سفح جبل مشى الوهابيون في سفح الجبل واليمانيون تحتهم فعطفوا على اليمانيين وأطلقوا عليهم الرصاص حتى قتلوهم عن بكرة أبيهم وكانوا ألف إنسان ولم يسلم منهم غير رجلين هربا وأخبرا بالحال. وأراد الشيخ رشيد رضا صاحب المنار على عادته في تلفيق الأعذار عن أفعال الوهابيين الاعتذار عن
50 هذه الفعلة الشنعاء فقال في مجموعة مقالاته (الوهابيون والحجاز) (1): إن الملك حسينا كان أرسل حملة على منطقة عسير بعد وفاة السيد محمد علي الإدريسي الذي كان قد تخلى عنها لسلطان نجد وفي أثر تنكيل الوهابية بحملة هنالك وقعت حادثة حجاج اليمن الذين اعتقد الوهابيون إنهم نجدة منهم فأطلقوا عليهم الرصاص وبعد أن عرف الأمر اعتذر السلطان عبد العزيز للإمام يحيى عن هذا الخطأ واتفقا على حفظ المودة بينهم بتعويض مقبول معقول (انتهى). وهذا عذر فاسد بارد يراد به ستر فظائع الوهابيين في استحلالهم دماء المسلمين وتوجيه بأسهم وسطوتهم وأفواه بنادقهم كلها إلى قتال المسلمين خاصة وغزوهم كلما سنحت لهم فرصة وقتلهم بأنواع الغدر والبغي تارة في سورية وأخرى في الحجاز وثالثة في العراق ورابعة في اليمن وهيهات أن تستر هذه الأعذار الفاسدة فظائعهم وقد عرفها العام والخاص ولم تعد تخفى على أحد من الناس. يقول صاحب المنار إنهم اعتقدوهم نجدة وكيف ذلك وهم عزل من السلاح ولا يؤذون لهم بحمله في مملكة أجنبية ولو كانوا مسلحين ما استطاع الوهابية قتلهم ولكانوا أقصر باعا من ذلك وهل تخفى حالة الحجاج من حالة الغزاة المحاربين فكيف يمكن لعاقل أن يعتقد أو يظن أو يحتمل إنهم نجدة. وهل اعتقد الوهابيون في أعراب شرق الأردن أنهم نجدة حينما غزوهم في عقر دارهم واعملوا فيهم رصاص البنادق وحد السيوف وهل اعتقدوا في أهل العراق أنهم نجدة فتابعوا عليهم الغزو والقتل والنهب. وكيف ساغ للوهابيون وهم وحدهم المسلمون الموحدون الأبرار الأتقياء الورعون الذين تورعوا عن الفتيا في التلغراف لعدم النص فيه أن يقتلوهم قبل سؤالهم وتعرف حالهم ولكن حالهم كما قال الحسن البصري في أهل العراق: يسألون عن دم البقة ويستحلون دم الحسين. وكما اقتضت المصلحة الانكليزية والدهاء البريطاني أن يكون الشريف حسين ملك الحجاز والأمير ابن سعود سلطان نجد اقتضت ثانيا أن يكون السلطان ابن سعود أيضا ملكا على الحجاز مكان الملك حسين وأولاده عقيب امتناعه عن إمضاء المعاهدة البريطانية الحجازية.
(1) صفحة 33 51 * هجوم الوهابيين على الحجاز وفظائعهم في الطائف سنة 1343 - 1924 * ففي أوائل هذه السنة هجم الوهابيون على الحجاز وحاصروا الطائف ومعهم الشريف خالد بن لؤي من أشراف مكة المعادين للملك حسين واحد عمال السلطان ابن سعود ثم دخلوها عنوة واعملوا في أهلها السيف فقتلوا الرجال والنساء والأطفال حتى قتلوا منها ما يقرب من الفين بينهم العلماء والصلحاء واعملوا فيها النهب وعملوا فيها من الفظائع ما تقشعر له الأبدان وتتفطر القلوب نظير ما عملوه في المرة الأولى كما سبق وممن قتلوا من المعروفين الشيخ عبد الله الزواوي مفتي الشافعية بصورة فظيعة وقتلوا جملة من بني شيبة سدنة الكعبة المكرمة كانوا مصطافين في الطائف وجاءت الأخبار بارتكابهم فظائع لا يليق ذكرها وأن السلطان ابن سعود لما سئل عنها لم ينكر وقوعها لكنه اعتذر بما وقع من خالد بن الوليد يوم فتح مكة وقول النبي (ص) (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد). ثم أخذوا ما وراء الطائف من المعاقل الحصينة وأهمها الهدى وكرى. * مهاجمة الوهابية شرق الأردن واستيلاؤهم على مكة * وفيها هجم جماعة من الوهابيين فجأة على أعراب شرقي الأردن الآمنين فهجموا على أم العمد وجوارها فقتلوا ونهبوا وما لبثوا إن ارتدوا مدحورين مأسورين لأن الطيارات والدبابات الانكليزية اشتركت في قتالهم مع عرب شرقي الأردن وانجلت المعركة عن قتل ثلاثمائة من الوهابيين وأسر جماعة كثيرة منهم وقتل مائتين وخمسين من أهل شرقي الأردن ثم أطلقت أسرى الوهابيين بأمر من الانكليز وأوصلوا إلى مأمنهم. وفي هذه السنة وهي سنة 1346 جاءت الأخبار بمهاجمة الوهابيين شرقي الأردن ووصولهم إلى معان بنحو من ثلاثين ألفا وأنهم أعلنوا الجهاد. * استيلاء الوهابيين على مكة المكرمة سنة 1343 * وفيها دخل الوهابيون مكة بغير قتال بعدما خرج الملك حسين وولده منها إلى جدة فنهبوا داره واستولوا على جميع ما يؤول إليه ثم أكره على التنازل عن الملك لولده الأمير علي وعلى الخروج من الحجاز إلى العقبة وبعد فتح الوهابيين الطائف ومكة حضر السلطان عبد العزيز بن سعود إلى مكة وقامت الحرب بينهم وبين الملك علي المتحصن في جدة وانقطع الحج في تلك السنة فاستحضر الملك علي إليه جماعة من السوريين من الضباط
52 وغيرهم واشترى الأسلحة والطيارات وصرف الأموال ولكن على غير جدوى وصادرت له الحكومة المصرية في الظاهر، أسلحة واردة في البحر من طريق مصر عملا بقانون الدول المتحايدة. وبقيت في يده أيضا المدينة المنورة وباقي سواحل الحجاز والحرب قائمة في الكل وجدة والمدينة تحت الحصار وأبوه وهو في العقبة يمده بالمال والرجال ثم نفي أبوه من قبل الانكليز من العقبة إلى جزيرة قبرص على دارعة بريطانية مع حرمه وخدمه ولم يحضر لوداعه أحد ممن كان يظهر له الصداقة غير ولده الأمير عبد الله ولما طال الحصار على الملك علي اضطر إلى صلح الوهابية فتم ذلك بتوسط قنصل الانكليز في جدة فخرج من جدة على دارعة أو باخرة بريطانية ودخلها الوهابية سنة 1344 واستولوا على مراكب أبيه البحرية وذهب هو إلى العراق فأقام عند أخيه الملك فيصل. ودامت الحرب ما يزيد عن سنة كاملة وأصبح ابن سعود سلطان نجد وملك الحجاز واستولى الوهابيون على المدينة المنورة والحجاز كله ودخلت جميع أعراب الحجاز تحت طاعتهم. وكان السلطان ابن سعود يعلن وهو يحارب الملك عليا إنه ما جاء إلى الحجاز إلا لينقذه من ظلم الأشراف ولا يريد تملكه وإنما يجعل مصيره راجعا إلى رأي عموم المسلمين فكانت هذه الأقوال جارية على عادات المتغلبين في دهائهم وسياساتهم لم يف منها بشئ. نعم عقد مؤتمرا بمكة دعا إليه الحكومات وأهل البلاد الإسلامية لإرسال مندوبين عنها فحضره طائفة منهم وامتنع آخرون وأرجعت الدولة الإيرانية مندوبها بعدما عينته لما بلغها ما فعل بأئمة البقيع واجتمع المؤتمر ولم يسفر عن نتيجة وبث السلطان ابن سعود الأمن في الحجاز وعاد الحج وأرسلت الحكومة المصرية عسكرها المعتاد مع أمير الحاج المصري وفي منى استاء الوهابيون من فعل العسكر المصري بعض ما يراه الوهابيون محرما فرشقوا العسكر بالحجارة فقابلهم العسكر برمي البنادق والمدفع فقتلوا جماعة من الوهابيين وقابلهم الوهابيون بالمثل فجرح جماعة من العسكر بينهم بعض الضباط وقتل بعضهم فأرسل السلطان ابن سعود ولده لإخماد الفتنة فلم يستطع فحضر هو بنفسه وأخمدها. وتفنن عماله في الاستفادة من أموال الحجاج فدخل عليه بذلك أموال عظيمة تعد بالملايين من الليرات (1).
(1) كان هذا قبل اكتشاف البترول وظلوا بعد اكتشافه يتوسلون بكل وسيلة لاستنزاف أموال الحجاج وفرض الضرائب عليهم. - الناشر - 53 * التاريخ يعيد نفسه * وقد جرى على الملك حسين من طرده من مقر ملكه إلى جدة ثم إلى العقبة ثم نفي الانكليز له إلى جزيرة قبرص ما جرى على سلفه الشريف غالب من خروجه من مكة ومحاصرته في جدة ونفيه إلى مصر ثم إلى سلانيك كما مر. وجرى على الطائف وأهله في هذا العصر نظير ما جرى عليهم في ذلك العصر وفعل الوهابيون في الحجاز في هذا العصر من هدمهم القباب والضرائح ومحوهم آثار سادات الإسلام ومنعهم الحرية المذهبية للمسلمين وإغاراتهم على بلاد المسلمين في العراق وسوريا نظير ما فعلوه في ذلك العصر فأن التاريخ كما يقولون يعيد نفسه. * هجوم الوهابيين على العراق * وقد تكرر هجوم الوهابيين على أطراف العراق سنة 1345 - 1346 بقيادة فيصل الدويش يقتلون وينهبون وكان نتيجة ذلك أن اشتكى العراقيون إلى الحكومة الانكليزية وقالوا لها إما أن تردعهم أو تترك العراقيين وإياهم ليدفعوا عن أنفسهم فخابرت معتمدها في البحرين ليخابر السلطان ابن سعود فكان جوابه أنه لا علم له بما جرى وسيسأل فيصل الدويش عن ذلك وما زال فيصل الدويش يشن الغارات على أعراب العراق المجاورة لنجد فينهب مواشيهم ويقتل فيهم وقد قرأنا اليوم في الجرائد خبر هجومه عليهم ونهبه وقتله لهم ومطاردة الطيارات البريطانية والجند العراقي لجنوده وإن السلطان ابن سعود أرسل لحكومة العراق يحذرها منه ويقول إنه خارج عن طاعته وغير قادر على ردعه (1).
(1) فاتنا أن نذكر في تاريخ الوهابية بعض أمور فنستدركها هنا نقلا عن خلاصة الكلام في أمراء البلد الحرام. وهي أن محمد بن سعود أمير الدرعية بعدما اتبع محمد بن عبد الوهاب واتخذه وسيلة لاتساع الملك وانقياد الأعراب له اتسع ملكه وملك أولاده من بعده حتى ملكوا جزيرة العرب وكان إذا أراد أن يغزو بلدة كتب كتابا بقدر الخنصر إلى الأعراب فيلبون دعوته ويتحملون على أنفسهم كل ما يحتاجون إليه وإذا نهبوا شيئا يدفعون إليه خمسه ويأخذون أربعة أخماس فإذا ملك القبيلة من العرب سلطها على من دنا منها وهكذا حتى ملك الشرق كله ثم إقليم الحسا والبحرين وعمان ومسقط وقرب ملكه من بغداد والبصرة هذا من جهة الشمال ثم ملك من الجنوب الحرار بأسرها ثم الخيوف ذوات النخيل والحربية والفرع وجهينة وملك ما بين المدينة المنورة والشام حتى قرب ملكه من الشام وحلب وملك العربان الذين بين الشام وبغداد وعربان المشرق والحجاز والقبائل التي حول الطائف ومكة ثم ملك الطائف ودخل مكة بالصلح سنة 1220 بعد حرب الشريف غالب معه نحوا من خمس عشرة سنة وعجزه عنه واستمر فيها إلى غاية سنة 1227 وحاربه محمد علي باشا حتى وصل ابنه إبراهيم باشا إلى الدرعية سنة 1233 54 * هدم الوهابيين القباب والمزارات بالحجاز عام 1343 * لما دخل الوهابيون إلى الطائف هدموا قبة ابن عباس كما فعلوا في المرة الأولى ولما دخلوا مكة المكرمة هدموا قباب عبد المطلب جد النبي " ص " وأبي طالب عمه وخديجة أم المؤمنين وخربوا مولد النبي " ص " ومولد فاطمة الزهراء " ع " ولما دخلوا جدة هدموا قبة حواء وخربوا قبرها كما خربوا قبور من ذكر أيضا وهدموا جميع ما بمكة ونواحيها والطائف ونواحيها وجدة ونواحيها من القباب والمزارات والأمكنة التي يتبرك بها ولما حاصروا المدينة المنورة هدموا مسجد حمزة ومزاره لأنهما خارج المدينة وشاع أنهم ضربوا بالرصاص على قبة النبي " ص " ولكنهم أنكروا ذلك ولما استولوا على المدينة المنورة خرج قاضي قضاتهم الشيخ عبد الله بن بليهد من مكة إلى المدينة في شهر رمضان سنة 1344 ووجه إلى أهل المدينة سؤالا يسألهم فيه عن هدم القباب والمزارات فسكت كثير منهم خوفا وأجابه بعضهم بلزوم الهدم وسيأتي ذكر السؤال والجواب إن شاء الله في فصل البناء على القبور. وإنما أراد بهذا السؤال تسكين النفوس لا الاستفتاء الحقيقي فأن الوهابيين لا يتوقفون في وجوب هدم جميع القباب والأضرحة حتى قبة النبي " ص " بل هو قاعدة مذهبهم وأساسه وبعد صدور هذا السؤال والجواب هدموا جميع ما بالمدينة ونواحيها من القباب والأضرحة والمزارات فهدموا قبة أئمة أهل البيت بالبقيع ومعهم العباس عم النبي " ص " وجدرانها وأزالوا الصندوق والقفص الموضوعين على قبورهم وصرفوا على ذلك ألف ريال مجيدي ولم يتركوا غير أحجار موضوعة على تلك القبور كالعلامة وهدموا قباب عبد الله وآمنة أبوي النبي " ص " وأزواجه وعثمان بن عفان وإسماعيل بن جعفر الصادق ومالك إمام دار الهجرة وغير ذلك مما يطول باستيفائه الكلام. وبالجملة هدموا جميع ما بالمدينة ونواحيها وينبع وغيرها من القباب والمزارات والأضرحة وكانوا قبل ذلك هدموا قبة حمزة عم النبي " ص " وشهداء أحد كما مر حتى أصبح مشهد حمزة والشهداء والجامع الذي بجانبه وتلك الأبنية كلها أثرا بعد عين ولا يرى الزائر لقبر حمزة اليوم إلا قبرا في برية على رأس تل من التراب وتريثوا خوفا من عاقبة الأمر عن هدم قبة النبي " ص " وضريحه التي حالها عندهم كحال غيرها أو أشد لشدة تعلق المسلمين بذلك وتعظيمهم له وأدلتهم الآتية
55 وفتواهم لا تستثني قبة نبي ولا غيره وما أعلنه سلطانهم في الجرائد من أنه يحترم قبة النبي " ص " وضريحه يخالف معتقداتهم جزما ولا يراد منه إلا تسكين الخواطر ومنع قيام العالم الإسلامي ضدهم ولو آمنوا ذلك ما توقفوا عن هدمها وإلحاقها بغيرها بل كانوا بدأوا بها قبل غيرها. وفي بعض اعتذاراتهم أنها قبة المسجد لا قبة النبي " ص "، ومنعوا الزوار من الدنو إلى قبر النبي " ص " وقبور أهل البيت " ع " ولمسها وتقبيلها وأقاموا حرسا بأيديهم الخيزران يمنعون الناس من ذلك إلا إذا قبضوا بعض الدراهم وكان لا يراهم أحد فيشيرون إلى الزائر بالدنو من ضريح النبي " ص " ولمسه وتقبيله والرجوع بسرعة. ولما شاع في الأقطار الإسلامية ما فعلوه في الحجاز بقبور أئمة المسلمين ومشاهدهم أكبر المسلمون ذلك واعظموه لا سيما ما فعلوه بقبة أئمة البقيع وجاءت برقيات الاحتجاج على ذلك من العراق وإيران وغيرها وعطلت الدروس والجماعات وأقيمت شعائر الحزن في هذه البلدان احتجاجا على هذا الأمر الفظيع.
56 * فصل * * من مخازي السعوديين (1) * أما مخازيهم فليست تنقضي * ولو انقضت وتناهت الأعداد ولو أن أشجار البسيط مراقم * والبر طرس والبحار مداد إننا حين نسرد فيما يلي بعض مخازي السعوديين نعترف بأننا أعجز من أن نلم بطرف منها ولكننا نورد ما نورده تدليلا على طبيعة الحياة التي يحياها السعوديون، ويحياها في ظلالهم الشعب العربي الذي قدر لهم أن يحكموه بأخس الوسائل وأحقر الأساليب وأفظع الطرق وأشدها همجية ووحشية ونذالة: * أرض الزيت والدماء * عام 1952 منح الدكتور بيير جرونفيل عقدا بسنتين ليعمل في مستشفى الملك سعود وذهب إلى المملكة وعندما انتهت مدة السنتين فتح عيادته الخاصة واستمر بها إلى وقت قريب، وفي خلال هذه المدة تجول في داخل البلاد. وهو هنا يتحدث عما أبصره بعينيه وسمعه بأذنيه في البلاد التي نكبت بحكم السعوديين: عدت من " المملكة السعودية " قريبا بعد إن كنت أزاول مهنة الطب في عدة بلدان مختلفة وصرح لي بالعمل حتى في البقاع البعيدة التي لا يصرح بدخولها إلا لعدد قليل جدا من غير العرب. ولن تجد في أية بقعة من بقاع العالم من الوحشية والمذابح والجوع مثل ما تجده " في السعودية " اليوم التي أصبحت تفوق قصص ألف ليلة وليلة الخرافية!. إن الزيت الموجود في باطن الأرض قد جذب الشركات الأمريكية، كما أن موقع " السعودية " الجغرافي جعلها حليفة مرتبطة أشد الارتباط بالولايات المتحدة الأمريكية التي أنشأت المطارات العسكرية وتكلفت الكثير في بناء القواعد والمؤسسات الحربية.. والثروة التي تنفق في سبيل الفساد
(1) مما استدركناه على الطبعة الأولى " الناشر " 57 والإفساد والترف وبناء القصور المجهزة بتكييف الهواء ووسائل اللهو والعبث المليئة بالرقيق والحريم التابع للملك سعود وعائلته، لم يكن لها ولو تأثير بسيط على مستوى الحياة العامة للشعب، التي تشبه حياة الحيوان والتي لا يمكن للمرء أن يصدقها أبدا، ولم تتحسن هذه الحياة منذ عدة قرون. * التمثيل بالإنسان الحي * فإذا خطر ببالنا مسألة الجريمة وكيفية العقاب نرى أن العربي الفقير الذي يتهم بالسرقة - وهي الجريمة الشائعة - يلقى القبض عليه ويودع في سجن حقير كاللحد ليس به نوافذ. ومن الناحية النظرية نجد أن البوليس هو السلطة التي تتولى عمل التحريات الخاصة بالجريمة المزعوم ارتكابها، ولكن التحريات تستدعي أناسا على جانب من الذكاء أكثر من رجال البوليس السذج البسطاء الذين معظمهم أميون لا يمكنهم القراءة أو الكتابة والطريقة المألوفة في معاملة المتهم هي أن يضرب بالسياط حتى يعترف، وإن لم يعترف، فهناك طريقة أخرى. وهي قلع الأظافر والكي بالنار وربط عضوه التناسلي في سلك معدني دقيق مع إطعامه أشياء مدرة للبول وتكبيل يديه، وتعذيبه، وسيعترف بعد ذلك! حتما!.. ولو في غيبوبته!، وقد أدخلت " على السعودية " وسائل هذا النوع من العذاب من قبل شخص جاء به جون فيلبي من العراق ووضعه مديرا للأمن العام ويدعى مهدي بك.. وفي إمكاني أن أذكر من نتائج الكشوف الطبية التي كنت أقوم بها أنه يكفي المتهم سبع جلدات (دون ما سواها) حتى يعترف سواء أكان مذنبا أو بريئا!. ثم يحضر المتهم بعد ذلك أمام " القاضي " وهو رجل الدين الجاهل الذي يصدر الأحكام ارتجالا في كل منطقة حسب مزاجه!. ومعظم هؤلاء " القضاة " الذين يكون تعيينهم الحقيقي تعيينا من الناحية السياسية، هم أميون مثل رجال البوليس سواء بسواء، فإذا تصادف إن كان مع المتهم ثمة نقود، (وهذا من النادر أن يحدث) فإن المتهم يمكن إنقاذه بالرشوة وتكون العقوبة في هذه الحالة مجرد ضربه عدد من السياط. ولكن النتيجة العادية من " المحاكمة " والمحاكمة كلها تتلخص في أن رجل الدين أو البوليس يقول: (أن المتهم قد اعترف بالجريمة!) هي صدور النطق بالحكم " السعودي " رأسا من القرآن الذي يصرفونه حسب أهوائهم،
58 وهذا بصرف النظر عما إذا كان السجين قد سرق ريالا واحدا أو تمرة أو قطعة رغيف لإنقاذ حياته من الجوع، فإن الحكم يستوي في ذلك، فإذا سرق لأول مرة فأن يده اليمنى يجب أن تقطع من ناحية المعصم، وإذا سرق مرة أخرى، فيجب أن تبتر رجله اليسرى، وثالث مرة تقطع قدمه من ناحية المفصل، ولا تظنوا أن فيما أقوله مبالغة فقد أشرفت بنفسي على بعض هذه العمليات المضحكة التي ذهب ضحيتها أحد الفقراء، أما اللص الحقيقي فذلك الحاكم الذي يأمر بقطع ثلاثة أعضاء من جسم الفقير العاطل عن العمل، وليس هناك ثمة خلاف " في تطبيق الحكم " كما قلت إذا كان المتهم قد سرق كسرة من الخبز ليطعم بها عائلته التي تموت جوعا، فأن " الحكم " لا يخفف وهو واجب التنفيذ في هذا الصدد!. وبصفتي طبيبا فقد كنت أحضر مئات من هذه " المحاكمات " العلنية وذلك لكي أعالج السجين بعد أن ينتهي معه هؤلاء الموظفون والعبيد. ولقد صممت على أن أعمل تقريرا عن هذه الوحشية إلى العالم الخارجي مهما كان في ذلك الأمر من مخاطرة. وقد أدخل الحكام أخيرا بعض التحسينات على هذه التشويهات في المدن الكبيرة فقط... فعندما تجري هذه التشويهات في إحدى المدن الكبيرة يحضر بعض الأطباء لاستعمال " ضاغطة الشرايين " ويعالج الضحية من الصدمة، ثم يأخذه بعد ذلك إلى الصيدلية.. تجري هذه " التحسينات " كما قلت في المدن التي يوجد بها عدد من الأجانب الذين يهزؤون ويبكون أحيانا لهذه المناظر المؤذية. أما في المدن الصغيرة، فأن الأيدي والأرجل تغمس في الزيت المغلي بعد قطعها لإيقاف نزيف الدم! وغالبا ما يموت الضحية، وأما في القرى البعيدة فإن السجين يترك ليعالج نفسه بنفسه، أي ليموت موتا بطيئا.. " وفي البلاد المتمدنة " التي يسيطر عليها الأمريكان، كالظهران مثلا، يعطى للسجين حقنة ضد (التيتانوس) وهي إحدى الوسائل التي تميز البلاد " المتمدنة " عن البلاد المتأخرة في المملكة العربية السعودية السعيدة!. وقد صرح لي شخص مطلع جدا ومن الحاشية بأنه (قد زاد عدد الذين قطعت أيديهم وأرجلهم عن 100 ألف رجل وطفل وامرأة منذ أن حل في البلاد حكم العائلة السعودية) فليتصور الأوربي مصير هؤلاء الناس وعائلاتهم.. بل ليتصور العرب الذين يهاجمون
59 الاستعمار الغربي ووحشيته، بينما يغمسون رؤسهم في رمال الصحراء عن مخازي بعضهم وهمجيتهم. * جريمة قتل * وإذا كانت الجريمة المرتكبة هي القتل (سواء كان صادرا عن إرادة أو غير إرادة) فلا تختلف عما إذا كان القتل مقصودا به مجرد الدفاع عن النفس أم لا!. فأن النظام السعودي لم يميز بين هذا وذاك! والعقاب يجب أن يطبق تطبيقا حرفيا وهذا على الفقير فقط كما أسلفت. * عقوبة الزنى * وعقوبة الزنى هي التي تبدو أكثر بربرية ووحشية من جميع العقوبات السعودية، - وإنني قد رأيت تنفيذ هذه العقوبة. ولكني لم أتحمل تنفيذها بهذا الشكل البشع على الرغم من طبيعتي كطبيب. فالمرأة الفقيرة التي يلقى القبض عليها بتهمة الزنى، تجرد من ثيابها حتى تصبح عارية ثم تربط بالحبال وتؤخذ إلى المدينة أو القرية لتجوب الطرقات ليتمكن كل إنسان من مشاهدتها، وفي الميدان الرئيسي حيث توجد حفرة ما، تدفن هذه المرأة هناك، وهي حية ما عدا رأسها الذي يكون مرتفعا نوعا ما عن سطح الأرض، ثم تحضر عربة محملة بالصخور إلى هذا الميدان ويتسلح كل فرد من الخدم والعبيد لرجم الفقيرة بهذه الصخور. ثم يقفون خارج دائرة معينة حول هذه المرأة، وعندما تعطى إشارة من رئيس الشرطة فأن هؤلاء القوم يبدأون بقذف الحجارة وتصويبها إلى هذه الضحية المسكينة، التي تكون قد ارتكبت الخطيئة لتطعم أطفالها، وتستمر هذه العملية حتى تموت هذه المرأة، ثم بعد ذلك يأخذون في إخراج الجثة الخاصة بهذه المرأة لإعادة دفنها من جديد بطريقة " صحيحة " هناك. ولا فرق في هذا التشريع بين الرجل والمرأة وغالبا ما يؤتى بالرجل والمرأة معا فيربطان ظهرا لظهر ويرجمان حتى الموت بالطريقة سالفة الذكر. هذا إذا كانا من الفقراء. أما الأمراء والكبار فإنهم يختطفون النساء والغلمان من الشوارع، دون حسيب أو رقيب وغالبا ما تذبح الضحية، بعد إتيان الفاحشة بها، وتعاد مذبوحة لترمى على عتبة باب أهلها. وماذا يفعل الأهل بعد ذلك؟.. ولمن الشكوى فالخصم هو الحاكم..
60 وليس هناك منازل علنية للدعارة وفي الحقيقة فإننا نجد أن الدعارة موجودة وتمارس بصورة وحشية في القصور.. * حكم العبيد! * وهناك حركة كبيرة في شراء وبيع الجواري والعبيد وليس هناك ثمة تحديد للجواري والعبيد من البنات وخاصة الملك وأمراء العائلة المالكة والأتباع. وأكبر سوق علني للرقيق موجود في مكة، ومن سخرية القدر أن هذه المدينة تعتبر من أقدس المدن العربية والإسلامية على الاطلاق. فهناك يمكن للعبيد من النساء أو الجواري (العبدة هي امرأة إفريقية أما غير الإفريقية فتعتبر جارية) أن تباع بثمن يتراوح بين (150 جنيها إلى 300 جنيه) وهذا يتوقف على مقدار جمالهن، أو جمالهم إذا كانوا ذكورا. وتذهب البنات إلى السوق بطرق مختلفة كثيرة فبعضهن قد اختطف من أطراف الجزيرة الصحراوية الفقيرة حيث كن يعشن عيشة الحيوانات.. والبنت الجميلة الجذابة التي يشتريها رجل سعودي غني، تعيش عيشة راضية وهناك عدد كبير من البنات يفضلن هذه العلاقة أو هذه العيشة الفخمة نسبيا على حياة القصور المفزعة. ومع ذلك فأن غالبية البنات اللائي يعرضن للبيع يحضرن إلى السوق بواسطة تجار الرقيق الذين يبيعونهن كما تباع المواشي. ويعمل تجار الرقيق على ربط هؤلاء البنات مع بعضهن بالسلاسل ثم يعرضن في السوق بالجملة (من خمسة إلى خمسين وستين) دفعة واحدة. والذين يرغبون في الشراء يعطى لهم الوقت الكافي الذي يرغبونه لفحص البضاعة، وتكون البنات لابسات ثيابهن ولكن لا يلبسن النقاب على وجوههن وهو النقاب الذي تلبسه المرأة السعودية، فالعبدة يجب أن تكشف وجهها! وإذا رغب المشتري شراء إحدى هؤلاء الفتيات، فأن الوسيط يخلي سبيلها ثم يأخذها المشتري إلى خيمته ليجري عليها اختبارا خاصا لفحص الثدي والسن والبطن وكافة أنحاء جسمها، فأن الدين السعودي يقول: (من اشتر ولم ير فله الخيار حتى يرى) والمشتري المرتقب يجوز له أن يصطحب معه طبيبا لفحص الفتاة ومعرفة ما بها من أمراض، وفي إحدى الحالات التي طلبت فيها للكشف على فتاة عمرها 15 سنة أراد أن يشتريها أمير سعودي معروف بالشذوذ الجنسي والتعذيب، فإنني لم أساعده بشهادة طبية في صالح الفتاة، وذلك حتى لا تقع هذه الضحية بين قبضتيه وعلى الرغم من الحقيقة وهي أن هذه الفتاة كانت ملائمة وحالتها الصحية لا بأس بها
61 فإنني قد أعطيتها شهادة طبية غير حسنة وألغيت بذلك صفقة البيع. إن سماسرة بيع الرقيق يحتفظون بهؤلاء العبيد والجواري ذكورا وإناثا في غرف قضبان حديدية في منازلهم الخاصة. وذلك ليضمنوا بقاء البكارة للنساء.. ومعظم هؤلاء الأرقاء اختطفوا أصلا من اليمن وقطر ودبي وعمان والبريمي والجنوب العربي وسوريا ولبنان والعراق والأردن وفلسطين والمناطق الصحراوية في الحجاز ونجد، ومتوسط ثمن الجارية الصحيحة البدن هو حوالي 1500 جنيه. ولكن ما يتكبده تاجر الرقيق في هذا الصدد هو مبلغ زهيد بخس دراهم معدودة كافية له لكي يستحوذ على مثل هذه الفتاة. وتعيش الجارية مع زوجات السعودي الحرائر!. (وعشرة من الجواري يعتبرون أقل عدد ملائم لرجل سعودي ثري) ويجب عليهن أن يعملن في المنزل. أما الزوجات فهن لا يعملن شيئا من الأعمال المنزلية. وإنني لم أر أي سعودي يمنع من شراء وحفظ هذه الجواري على الرغم من أنه كان هناك في الماضي بعض حالات تدل على تحرير الرقيق. وتسترا على الفضائح نلاحظ أن السعوديين يتشددون الآن في طرد غير العربيات من سوق الرقيق. وبإمكان أي واحد أن يحضر هذه الأسواق العلنية. إن المنظمات الدولية التي تتحرى تجارة الرقيق في السعودية حاولت من آن لآخر أن تتعرف على بعض الوسطاء الذين يعملون في تجارة الرقيق ولكنها لم تحاول منعه في السعودية، وإن حاولت فإنها لا يمكن أن تتمكن من منعه لوجود هذا الحكم العجيب، وبعض هؤلاء الأرقاء حاول شراء نفسه، وكان هؤلاء ممن لهم مقدرة على الاندماج بالوطنيين وأراد العيش في عالم أفضل من عالم العبيد.. ولكن كثيرا منهم اكتشف أمره، وكان عقابهم دائما هو القتل أو الخصي أمام العامة الذين يجتمعون في ميدان عام، ويتركون بعد ذلك ليموتوا، والفائدة التي تعود من شراء الجارية بدلا من استخدام امرأة تعمل بأجر زهيد جدا - هو أن هناك ثمة مخاطرة في الاتصال الجنسي ومزاولته مع خادمة ليست من العبيد، بينما يمكن للسيد أن يفعل ما يشاء مع أية فتاة تكون عبدة له أو جارية. وأيضا فإن العبد أو العبدة فيهما استثمار حسن. ذلك أن كثيرا من السعوديين يأخذون معهم خمسة أو ستة من العبيد في رحلاتهم ثم يبيعونهم أثناء السفر على طول الطريق كأنهم شيكات مع المسافرين، أو يعلمونهم قيادة السيارات وبعض الحرف لاستثمار حياتهم. ومسألة شراء زوجة ما (بقصد الزواج) هي في الواقع غير مأمونة العواقب إذا قورنت بشراء الجارية أو
62 المحظية ذلك لأن وجه المرأة يجب أن يكون مغطى دائما ولا يمكن للرجل أن يرى وجه المرأة العادية التي يريد أن يتخذها السعودي زوجة له.. وعلى ذلك فأن العريس المرتقب غالبا ما يستشير العجائز من أهل الحي نظير أجر معلوم وهن اللائي يخبرنه عن أجمل الفتيات.. حسب أذواقهن!. والزوج المأمول يتفاوض بعد ذلك مع والد الفتاة، ويمتد هذا التفاوض في الغالب إلى مدة سبعة أشهر. والفتاة الجميلة يدفع مهرها مبلغا يتراوح في حدود 265 جنيه.. ولن يحظى العريس بمعاينة زوجته المرتقبة قبل الليلة الأولى أو الثانية للزواج.. وغالبا ما يفر العريس أو العروس عندما يشاهد كل منهما الآخر. ومع ذلك فأن والد الفتاة يحجز لديه النقود التي دفعت له، وعلى العكس من ذلك إذا حدث أن هربت الفتاة بعد الزواج، وفي ذلك يكون والد الفتاة ملزما بأن يدفع إلى الزوج ضعف المبلغ الأصلي الذي دفعه مهرا لابنته. * أين تذهب الثروة * وكل ثروة البلاد التي لا يمكن تصديقها تذهب إلى سعود وعائلته الملكية، إلا البعض من هذه الثروة فهو يذهب في مشروعات لا تعود إلا على نفس العائلة السعودية وأتباعها بالمال الوفير. إن هذه الثروة الكبيرة لم تحدث أي تغيير في معيشة هؤلاء الناس أو حتى إصلاح الطرق البدائية الخربة.. ومتوسط منزل المواطن هو عبارة عن حجرة قذرة أو حجرتين. ويتكون الأثاث من كليم على الأرض وهو كل ما يمكن تدبيره كسرير وجميع المياه يجب أن تحمل بواسطة الصفائح من الآبار. أما المراحيض ودورات المياه فلم نسمع بها. والحمام أيضا غير موجود. وعلى الرغم من أن تعاليم القرآن تتطلب أن يغسل الشخص أذنيه ووجهه ويديه وأنفه وقدميه قبل أن يؤدي الصلاة وأن هناك خمس صلوات في اليوم على الرغم من كل ذلك فأن السعوديين الحكام يحاولون تجهيل شعبهم ليمر المواطن على هذا مر الكرام ويتمسح على هذه الأعضاء من جسمه ليلمسه مجرد اللمس فقط، لتفتك بهم الجراثيم الناتجة عن تراكم الأوساخ!. وقد لعب البنسلين دورا كبيرا في تخفيض بعض الأمراض مثل السيلان، ولكن الزهري الذي غالبا ما يكون وراثيا، لا يزال منتشرا، وهذه مشكلة مؤلمة.
63 وقد قدم الملك سعود بعض المستشفيات في بعض المدن الكبرى ولكنه لا يوجد ثمة شخص يدير هذه المستشفيات، وهذه المستشفيات بما فيها من معدات هائلة لا تزال شاغرة يعلوها الصدأ والتراب. وبمستشفى الملك سعود الخاص بالعائلة المالكة (يوجد أكثر من 300 أمير من الدم الملكي الذين غالبا ما تكون أمراضهم ناتجة عن التخمة أو السمنة أو الرغبة في اصطياد الممرضات) وهو غاص بالأطباء المتمرنين والموظفين الأميركان الذين يشتغلون هناك بأجور خيالية. أما أبناء الشعب فأن المرض يعتبر جزءا من حياتهم، فلا أطباء ولا عناية طبية.. ويعيش العربي هناك على وجبة واحدة من الرز والتمر، فإذا ما كان سعيدا فإنه يأكل مرة واحدة في الشهر قطعة من لحم الماعز. والأطفال الذين هم من أبناء الأغنياء يعطون في بعض الأحيان لبن الجمال، وإلا فإنهم أيضا يعيشون على الأرز والمياه، لأن معظم الأموال تذهب على الملذات الجنسية.. * على من تحرم الخمور؟! * وجميع المشروبات الروحية محرمة تماما " ولكن هذا على الشعب فقط " أما الأمراء ورجال الدين الوهابي، فإنهم يستوردونها أو يصادرونها ممن يستوردها ويشربونها شرب الهيم ويبيعون ما تبقى منها على التجار وزبائنهم. وفي الوقت نفسه فأن أي شخص من أبناء الشعب يضبط متلبسا ثملا أو يتملك زجاجة من الخمر فإنه يجلد بالسياط بلا رحمة ويسجن وينفى عن تلك المنطقة التي ضبط فيها.. وهذه " الممنوعات " تنطبق على المقاهي والبوفيهات الشعبية التي لا يمتلكها أمير أو أميرة أو ملك أو ملكة أو واحد من الأتباع أو أتباع الأتباع.. فتلك المقاهي (الشعبية) يجب أن تغلق خمس مرات في اليوم وذلك ليؤدي أفراد الشعب الصلاة طالبين من الله إطالة عمر العائلة المالكة! حيث يساق الشعب مرغما على " هذه الصلاة " من قبل جلاوزة الهيئة الدينية " الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر " لتدخله " بيوت الله " فيعتاد " على الطاعة طاعة الأمراء ".. أما قارورة الوسكي فتتراوح قيمتها بين 300 - 400 ريال، وجميع المشروبات متوفرة لأنها تجلب عن طريق الحكام ورجال الدين لبيعها على الشعب بباهظ الأثمان.. وليس هناك ثمة مسارح في البلاد كما أنه ليس هناك صحافة بالمعنى المفهوم، وليس هناك متاحف ولا نواد من أي نوع كان، والتدخين لا يسمح به، في الوقت الذي تستورد فيه الحكومة
64 هذا الدخان لتبيعه بأثمان باهظة وتأخذ من مستورديه رسوما خيالية، والحقيقة أن الدين السعودي لا يسمح بأي نوع من أنواع النشاط عدا نوع واحد في وقت الفراغ: " ذلك هو الصلاة "... والجهل في رأي الدين السعودي وحكومته " فضيلة " والمرأة " عار على أهلها " وتعليمها " جريمة ". * الحياة العامة * والناس هناك يضعون حولهم سياجا قدسيا كاذبا، ذلك أن كل إنسان يخاف من كرباج رجل البوليس والدين السعودي، ولكنهم في داخل جحورهم ومنازلهم العارية يفعلون كل ما يمكن أن يفعلوه.. إن كبارهم يلعبون الميسر مع مراقبة البوليس وتحت حماية الحكم نفسه، ويشتركون في اللذة الجنسية مع إحدى الجاريات التي يمتلكها شخص منهم، فإذا ما تصادف وضبط أحد آخر غير الذي يمتلك هذه الفتاة فأن العقاب يكون الجلد بالنسبة لهذه الجريمة.. وقد علمت من أحد المقربين للعائلة أن الأمراء يمارسون اللذة الجنسية مع قريباتهم وأقربائهم الصغار أيضا، ويبيعون الأفيون على الشعب ليدخنه، ولكن ثمة عقوبة موجودة في ذلك وهي الضرب بالسياط بشكل قاس. وهكذا يبيعون الأفيون ويجلدون المشتري. وقد يسمح بالرقص في بعض الأحيان حيث تقرع الطبول الموسيقية ولكن يمكن للرجل الرقص مع الرجال والنساء مع النساء. ولا يمكن للرجل السعودي أن يعطي صوته في الانتخابات حيث ليس هناك برلمان وليس هناك بالطبع اجتماع لهذا البرلمان، والانتخابات محرمة، والكلمة العليا فقط تصدر من البيت السعودي. وليس هناك سكك حديدية أو طرق ذات صفة مستديمة.. والسفر يكون بطريق السيارة والأوتوبيس على الطرق التي أنشئت بواسطة صب الزيت على الرمال.. ثم سويت بعد ذلك بالهراسة البخارية.. إن العواصف قد جعلت السكك الحديدية والأسفلت في الطرق الرئيسية غير صالحة، فقد يحدث أن تغطي تماما هذه الطرق بالرمال ثم لا يوجد لها أثر بعد ذلك.. وهذا ما يحدث لخطوط السكك الحديدية والطرق الرئيسية التي حاولوا أن ينشئوها في الماضي.
65 وأنه لمن الصعب حقا للرجل الغربي أن يفهم مقدار الشقاء والتعاسة التي يعيشها الناس في القرى البعيدة عن البلاد. والمرأة الحامل تستمر في السير حتى يأتيها المخاض ويرغمها على أن ترقد في الأرض في حفرة أو تحت جذوع الأشجار، وتضع طفلها. وبعد أن تنتهي من هذه الولادة تستمر في سيرها أو ترجع مرة أخرى إلى عملها إذا كانت فلاحة وفي نهاية اليوم تحمل طفلها وتأخذه معها إلى منزلها. ومثل هؤلاء النساء يتزوجن وهن في العاشرة أو الحادية عشرة من عمرهن (ويتزوج الرجل وهو في سن 13 إلى 18 سنة) وبمضي الوقت، عندما يصبحان في سن الثلاثين يكونان قد انتهيا من هذه الحياة. ولكن الذي يجب أن ندركه في هذا الصدد بشأن الطريقة القاسية التي تنجب هؤلاء النسوة بمقتضاها الأطفال التعساء، أو القدرة الموجودة في الرجل العربي على أن يشفى بعد ضربه أو جلده سبعين جلدة، فأن الرجل الأمريكي أو الأوربي قد يموت على الأرجح في مثل هذه الظروف من جلدة أو جلدتين. إن هؤلاء الناس قد تعودوا على مثل هذه الحياة الوحشية. والشئ الوحيد الذي يخفف كل هذه القيود وكل هذه الحياة المنخفضة المملة التي يسودها الفقر والعذاب هو الحياة الجنسية السعودية التي تعتبر من النسب العالمية في إنجاب الأطفال وكذلك استعمال المخدرات، وبإمكانك أن تقدر أن 80 بالمائة يموتون والباقي يعيش. فإذا كنت في بلاد " السعودية " العربية وأقمت هناك مدة مثل ما أقمت فسوف تلمس أن الحكومة قد قررت على أن تجعل الشعب في حالة من التأخر والانحطاط والتعاسة كما هم عليه الآن. * أين تذهب الأموال * وفيما عدا المدن الكبيرة، فليس هناك مدارس في البلاد، وليس هناك مشروعات لهذه المدارس. وأبناء الملك سعود لهم مدرسون خصوصيون وبينما نجد التعاسة والشقاء يخيمان على عدد كبير من المواطنين في البلاد نجد أن الكماليات الخيالية تسيطر على الحياة الموجودة في القصور الملكية. إن الزيت الموجودة في البلاد يقدر بثلاث أضعاف الزيت الموجود في الولايات المتحدة، وكل هذا الذهب السائل يعتبر ملكا خاصا لآل سعود!.
66 فليس " لجلالته " أن يعمل شيئا بصدد هذا الزيت وهذه الآبار " التي يمتلكها " إن رؤوس الأموال الأمريكية والموظفين الأمريكيين هم فقط كل شئ.. ولكن في النهاية وبمعنى آخر في نهاية كل عام يعطى الملك مئة مليون جنيه بالإضافة إلى ما يستحصل عليه بطرق أخرى. وكل هذه الأموال تهدر دون وعي، فالسيارات الكاديلاك تطلب بالعشرات، والطائرات الخاصة وكذلك آلات تكييف الهواء في القصور التي توجد في جميع أنحاء " مملكة العائلة " وكذلك السيارات المصفحة والمذهبة الملكية المكيفة بالهواء، التي تقابل الملك أينما حل في البلاد أو رحل، كل ذلك يتطلب أموالا باهظة وعملة صعبة ولكن.. لكل شئ نهاية.. * القصور والحريم * وآخر قصر ملكي انتهى من عمله في جدة تكلف تسعة ملايين جنيه وأمثاله في الرياض ومكة والمدينة والظهران.. وفي الوقت الحاضر يمتلك سعود 124 قصرا خاصا له بما فيها قصر آخر يبنى الآن في الدمام. ويتكون حريم سعود فقط من (3000) امرأة. وثلاثة من هؤلاء الزوجات يكن دائما على استعداد يوميا.. ومعظم النساء والجواري يتنافسن في اللون والعمر والجمال والحجم.. والسعوديون يعتبرون الحياة الجنسية لازمة مستلزمة من مستلزمات المظهر الملكي. وليس هناك من يعلم من موظفي القصور الرسمية ما هو عدد بنات الملك سعود (النساء ليس لهن أهمية قليلة بالنسبة للسعوديون، لدرجة أن الملك لا يهتم مطلقا بتعداد بناته). وقد قيل لي من مصدر موثوق أن الملك له 130 ولدا آنذاك. وسعود يهتم كثيرا بالأولاد.. فهو يلعب معهم ويمنح كلا منهم مرتبا ثابتا خياليا وعندما يبلغ عمر الابن سن ال 12 عاما يظهر ومعه عدد من سيارات الكاديلاك وعدد من الخدم والجواري والنساء والعبيد.. وعندما زارت السعودية الملكة ثريا ملكة إيران السابقة منذ عدة سنوات أهداها الملك سعود من المجوهرات ما يعادل مبلغ 0 0 0، 35 جنيه. وعدد من السيارات المذهبة. * السفه * وفي أثناء زيارته الأخيرة لواشنطن، أدهش موظفي المطاعم بالمنح التي كان يهبها
67 كساعات الذهب التي كان يخلعها على جميع الجرسونات وفي أثناء حكم الوالد عبد العزيز بن سعود عندما كان يسافر الأمراء السعوديون إلى بيروت وأوروبا كانوا ينفقون أموالا باهظة جدا من الذهب ولكن الملك سعود قد عمل على إيجاد مخصصات للبيت المالك، فجعل إخوانه الأمراء (وعددهم لا يحصى) يعيشون على مبلغ ثابت لكل منهم متوسطه (10500 جنيها شهريا) علاوة على المصاريف الأخرى التي يمكن أن تستحصل عن طريق المصاريف اللازمة لإدارة قصورهم وسياراتهم الكاديلاك والطائرات الخاصة والحريم الخ.. وقد عين سعود أخاه الأمير فيصل رئيسا للوزارة ووزيرا للخارجية بمرتب شهري قدره - 000، 100 جنيه في السنة وقد أعطى مثل هذا المرتب إلى أربعة آخرين من الأمراء الذين عينهم في وزارته. ومع ذلك فأن " مجلس الوزراء المستوزرين " هذا ليس إلا صورة ناطقة بلسان الحكم السعودي ووحشيته. والأمير فيصل يملك 000، 000، 5 جنيه عبارة عن عمارات سكنية في القاهرة فقط.. وهناك أمير آخر يبني الآن قصرا في مشارف القاهرة يطل على 14 عمارة سكنية بناها من قبل. ولو فرضنا جدلا أن بعض أمراء البيت السعودي قد يودون أن يعملوا بعض التحسينات لبلادهم فإنهم في نفس الوقت لا يريدون أن يشعروا الناس بأنهم بدأوا يعرفون معنى الديمقراطية أو معنى مشاركتهم في الثروة. وقد بنيت بعض المستشفيات القليلة جدا والمدارس الموجهة، وليس هناك أي فائدة لوجودها. وسعود بطئ التفكير بطئ الحركة، ليس لديه ما يؤهله ليتعامل ويتفرغ للمشكلات السعودية. وقد تعلم سعود من والده الطرق الوحشية التي كان يجريها والده في الصحراء. فهو لم يدخل مدرسة ما ولم يتعلم شيئا سوى القرآن، ولكنه تعلم كيف يكون لصا خطيرا ومزواجا شهيرا.. وقد ساعد والده على تقوية الرقابة حول المملكة العربية السعودية عن طريق قطع الرقاب للقبائل المعارضة والثائرة على الوضع الفاسد. والملك الحالي جاء بعد موت والده في عام 1953 وذلك بالنسبة لماضيه الشرير، فهو لا يمكنه أن يفهم أو يحاول أن يفهم المشاكل المعاصرة في بلاده، فمثلا، عندما دعي سعود إلى زيارة رسمية لشركة أرامكو حيث يعمل بها 000، 15 عامل من العرب هناك (هذا
68 هو كل العدد الذي يعمل في الصناعة في جميع أنحاء المملكة السعودية السعيدة) كان هناك مظاهرة بقيادة 000، 4 من العمال لمقابلة الموكب الملكي قبل وصوله بقليل وكنت بنفسي موجودا في الشركة في ذلك الوقت، وعلى ذلك فأنني شاهد عيان لما حدث عندما وصل الملك. عندما وصل سعود وحاشيته إلى بوابة الشركة بدأ العمال بالصياح: " فليسقط الظلم. فليسقط المستعمرون الأمريكان " وذلك في 9 - 6 - 1956. وهنا التفت سعود إلى رئيس الحرس وأعطاه أمرا: على الفور نزل الحراس الخصوصيون بين العمال وبدأوا بضرب المتظاهرين حتى أماتوا الكثير منهم. وتعتبر أرامكو بما فيها من الأمريكان الفنيين الشريان الحيوي للعرش السعودي وبدون هذه الشركة لا يمكنهم أن يستحوذوا على قطرة من الزيت من باطن الأرض كما أنه لا يمكنهم أن يديروا هذه الشركة بما فيها من الآلات المعقدة لأنهم لا يعلمون أبناء الشعب ولا يعتمدون عليهم، لسبب واحد هو أنهم يخشونهم، وفي الواقع أنه لكي يكون سعر الزيت منخفضا ومبلغ ال 100 مليون جنيه بعيدة عن أن يشترك فيها أحد، لا بد أن يكون معظم الشعب " المسعدن " جاهلا بما يجري في العالم الآخر من أحداث، ولكن الشعب يفهم واقعه تماما وهو يغلي كالبركان، رغم عدم تعليمه. وهذا هو السبب الذي من أجله لا توجد مدارس ولا أنظمة لإنشائها وهذا هو السبب الذي من أجله يسمح فقط بعدد قليل من الكتب والجرائد بدخول البلاد. ولكن على الرغم من هذا فأن الشعب كما قلت قد عرف مظاهر الحضارة الموجودة في الظهران على الأقل إحدى الوسائل التي يعيش فيها الأمريكان وهي التي بذرت البذرة الأولى وفتحت العيون. وسينتصر الشعب حتما.. " انتهى ما أورده الطبيب ". * كيف تحكم البلاد السعودية وتساس * قالت مجلة " العرفان " في الجزء الثالث من المجلد 42 بتوقيع: نصير الشعب: في العدد الثالث من مجلة " العرفان " الصادر في جمادى الأولى سنة 1373 كتب أحد أبناء القطيف كلمة تحت عنوان " كيف تحكم بلاد القطيف وتساس " وباعتباري أحد أبناء
69 الشعب السعودي يهمني جدا أن اقرأ عن بلادي الشئ الكثير، ولكن الذي استوقفني كثيرا في هذه الكلمة هو أن كاتبها تحدث عن القطيف وحدها وكيف تحكم وتساس من دولة الأمراء وقد بين الظلم الذي يقع على القطيف لكونها موطن الشيعة ليس إلا، وكان الأحرى به أن يكون أكثر علما ومعرفة بالأوضاع العامة التي يعانيها الشعب السعودي بصورة عامة بما في ذلك النجديون والحجازيون والإحسائيون ورجال القبائل البدو وأهالي نجران وغيرهم.. إن هذه المظالم التي ذكرها الكاتب لم تقتصر على أهل القطيف وحدهم لكونهم من مذهب غير مذهب حكومة الأمراء ولكن هذه المظالم تصيب هؤلاء الذين على دينهم بأعظم الأسهم وأكثرها جورا وتعسفا أن هؤلاء الذين يلتقطون النواة التي يرميها الحجاج أثناء الحج لم يكونوا إلا من النجديين وأبناء الحجاز وأن هذا الذي يصرخ من أعماقه (هللة يا حاج) لم يكن قطيفيا وإنما هو سني. إن القضية أوسع بكثير من هذه النظرة الضيقة للمسألة، إن هؤلاء يسمونهم علميا بالاقطاعيين والاوتوقراطيين أي رجال الحكم الرجعيين وإن همهم هو استغلال خيرات البلاد وامتصاص دم الشعب كما يمصه الاستعمار وشركاته الاستثمارية وهم لا يفرقون أبدا بين طائفة وأخرى وإنما همهم بالدرجة الأولى اكتناز الأموال وصرفها في الطرق التي لا يقرها دين ولا ضمير ولا إنسانية. أرجو أن يعرف صاحبنا جيدا أن المسألة أبعد عمقا من هذه السطحية التي عالج فيها كيفية الحكم في القطيف وكان الأحرى به أن يقول كيف تحكم هذه الملايين التي يخيم عليها الجهل والفقر والمرض والادواء الفتاكة الثلاثة ولا يزيد السني عن الشيعي ولا الحجازي عن الأحسائي. والحكومة لا تفرق بين هؤلاء أبدا في هذا الغرض البتة وأن الذي أصدر كتاب " هذه هي الأغلال " لم يكن قطيفيا وإنما كان نجديا من القصيم. وأن أعضاء " لجنة ممثلي العمال السعوديين " الذين اعتقلوا لكونهم من الأحرار الذين طالبوا بإيقاف " أرامكو " عند حدها وأودعوا سجن العبيد في الآي بي سي وكبلوا بالحديد الثقيل لم يكن بينهم شيعي واحد كما أعتقد فقد كان معظمهم من النجديين أبناء العمومة لدولة الأمراء وهؤلاء الذين أوقفوا في الحجاز منذ أيام وعددهم يربو على 350 شابا لم يكونوا من الشيعة أو من أهالي القطيف وهؤلاء الذين اعتقلوا في الرياض وعددهم أكثر
70 من ثمانين لم يكونوا إلا نجديين. وأن المطالب التي رفعها أهالي القطيف إلى الملك سعود أثناء توليه العرش والتي كانت بسيطة جدا للغاية ومن حق أي إنسان أن يطالب بها ومن بينها تمثيل القطيف في مجلس الشورى لكيما يتسنى للقطيفيين أن يفهموا الحكومة إذا كانت تريد الاصلاح، مشاكل البلاد وما تحتاجه من إصلاح وطالبوا أيضا بمساواة القضاء الشيعي بالقضاء السني وفتح المدارس والسماح للبعثات بالسفر إلى الخارج وفتح المستشفيات ورفع الرقابة عن الكتب الخارجية والسماح بحرية الاعتقاد دينيا كان أو غيره. أتعرف ماذا كان جواب الحكومة عليها؟ كان الصمت والصمت وحده وقد بقي وفد القطيف الذي انتخبه الشعب هناك ينتظر أياما طوالا في قصر الضيافة ليحظى بالجواب ولكن بدون جدوى. فهل اقتنعت يا عزيزي الكاتب بأن القضية لم تكن قضية معينة بالذات وإنما هي قضية عامة لأن الاصلاح الذي ينشده الشعب السعودي بمختلف طبقاته وعناصره ومذاهبه يختلف كل الاختلاف مع مصالح الطبقة الحاكمة الاستغلالية. ولو أنك سمعت بذلك التهديد الذي ألقاه في آذان وفد القطيف الأمير سعود ابن جلوى أظلم إنسان عرفته البشرية في قرنها العشرين. قال لهم: " إذا عدتم لها أي إذا عدتم للمطالبة بحقوقكم فسوف لا نبقي عليكم ولا نذر، وإنكم لا تثقون بالحكومة وإنكم مشاغبون " وقد قال مثل هذا لأعضاء لجنة ممثلي العمال السعوديين وقد قلنا سابقا إنهم لم يكونوا إلا سنيين. والآن دعني أعالج مطالب أهالي القطيف الحيوية.. وليعلم القارئ بأنني من أبناء السنة ونجدي قح ولكن هاتوا يدكم الكريمة يا أبناء شعبي لأشد عليها بقوة ولنعمل سوية في سبيل تمتعنا نحن الشعب بكل أجناسه بخيرات أرض أجدادنا: إذا علمنا أن الحكومة السعودية حكومة ملكية ونحن نعرف أن الحكومات التي تشارك أمم العالم في مجالسها الدولية ومنظماتها العالمية وتتبادل التمثيل مع كافة الحكومات يجب أن تتبادل التمثيل وتتجاوب بالأحاسيس مع شعوبها بالدرجة الأولى، وإذا كانت الحكومات الملكية تكون عادة دستورية، وكل القوانين المتعارف عليها تقر (أن الشعب مصدر السلطات) وإذا علمنا أن الحكومة لا يمكن أن تكون مستقلة ومعترف بها دوليا بين الشعوب الحرة إلا إذا كان شعبها حرا ومستقلا في تصريف شؤونه واختيار طريقة الحكم التي يريدها.
71 بقي أن نتسأل هل أن هذا متوفر لدينا نحن شعب المملكة السعودية؟ واقع الحال يؤكد عدم توفره وهل أن حكومة من الحكومات تحكم من الأمراء فمنهم الوزراء ومنهم حكام أكثر المناطق أهمية وبيدهم الحل والربط ومعفيون من كل الإجراءات النظامية التي تتحكم بمقدرات الشعب العربي. فإذا ما طالب الشعب العربي السعودي بمساواته بالشعوب العربية الأخرى فلا يعني هذا خروجا عن المألوف.. وإذا ما طالب القطيفيون بأن يمثلوا في مجلس الشورى وهذا من حقهم الطبيعي فهذا لا يعني بأية حال أنهم لا يثقون بالحكومة وإذا لم يطالب أهالي نجد والأحساء بذلك لا يعني هذا أيضا بأن القطيفيين أهل شغب. ولكن الواقع يا أصحاب الشأن أن الشعب السعودي بمختلف طبقاته متذمر من هذه الأوضاع الاجتماعية المتردية التي يتخبط بها وأن هذه المساوئ لا تؤثر على القطيفيين وحدهم بل هي تؤثر على الكل بدون استثناء بما في ذلك أهالي نجد والأحساء والحجاز " انتهى ". وقد علقت العرفان على هذه الكلمة بما يلي: نشرنا ما نشرناه عن القطيف لأنه لم يردنا من غير القطيف رسائل لننشرها، ولعل ذلك مرده الخوف من الانتقام مع أن أكثر الذين زاروا المملكة العربية السعودية حتى من الذين يقبضون من السعوديين يؤيدون ما جاء في هذه الرسالة وما قبلها من الرسائل ويروون العجائب والغرائب عن حالة الشعب السيئة في تلك البلاد التي يحتكر ذهبها الأسود الأمراء فينفقونه على الفساد والإفساد، وفي غير مواضعه ومواقعه دائما، ولذلك نجد المسبحين بحمدهم، والمطبلين والمزمرين لهم، طمعا في عطائهم، وأملا في نفعهم، ولا حبا بهم " انتهى ". * فضيحة في حريم الملك سعود * قالت مجلة آخر الساعة: حكاية تسربت من حريم الملك سعود في العربية السعودية. لقد قرر الملك سعود فجأة أن يطلق ابنه المدلل الأمير خالد من زوجته فريال. والسبب كما قال لي قادم من المملكة العربية السعودية أن الملك سعود الذي يقول إنه مسلم.. وإنه حامي الحرمين كان يغار من ابنه بسبب زواجه من فريال. وكانت هذه الغيرة تثير أعصاب الملك.. فلم يكن يتمالك نفسه وهو يراها تروح وتغدو أمام عينيه.. وكشف الملك " المسلم " عن مشاعره الخبيثة تجاه زوجة ابنه حتى أصبحت الفتاة
72 المسكينة حديث الحريم في قصر الناصرية.. قصر الملك في الرياض.. ولم يكن أمام الملك حتى يشفي نفسه من حالة الهستيريا التي كان يصاب بها كلما رآها أمام عينيه إلا أن يقرر تطليقها من ابنه.. ولم يضع في اعتباره أبدا أنها زوجة ابنه ولم تكن زوجته في يوم من الأيام.. وكما سمعت من القادم من المملكة العربية السعودية.. ذهبت فريال إلى لبنان لتقضي عدة أسابيع. ومنذ أسبوعين عادت إلى الرياض فلم تجد زوجها الأمير خالد في انتظارها.. واستدعاها الملك سعود ليقول لها بنفسه: ولدي خالد لا يصلح لأن يكون لك زوجا.. ثم سلمها الملك وثيقة الطلاق ومعها شيك بمبلغ مائة ألف ليرة لبنانية.. وبكت فريال وهي تقول للملك: ليش ما قلت الكلام ده " يا طويل العمر " قبل ما تيجي أنت بنفسك وتطلبني من أهلي؟ ولم يستطع الملك سعود.. الملك المتمسك كما يقول بتعاليم دينه الإسلامي.. أن يقول شيئا.. واضطرت فريال لأن تعود إلى لبنان دون أن تودع زوجها الذي تطلقت منه بأمر الملك. وبقية الحكاية.. تقول.. إن الملك سعود عندما زار لبنان وذهب ليخطب فريال لم يكن يريدها لابنه.. ولكنه كان يريدها لنفسه.. وسأل الملك عمها عن سنها وهو يقول له: - عمرها قد آش؟ وأجاب العم قائلا: 22 سنة! ولمعت عينا الملك ببريق عجيب.. ثم مسح شعيرات ذقنه كعادته براحة يده وهو يقول: إذن نزوجها لولدنا خالد..
73 ولم يفهم العم لماذا عدل الملك فجأة عن رأيه في طلب الزواج من فريال.. ولماذا قرر تزويجها من ابنه المدلل الأمير خالد؟ ولكن لبنان كله عرف السبب.. فالملك كما قال يفضل فيمن يختارها زوجة لنفسه أن يكون عمرها أقل من 18 سنة. وأنه وجد فريال أكبر سنا مما كان يعتقد. وكان إن قرر تزويجها من ابنه بدلا من أن يتزوجها هو " انتهى "! * ماذا يجري في السعودية * قالت الأهرام في عددها الصادر في 11 آيار سنة 1961 الذي يجري في السعودية الآن، هل هو غير طبيعي؟ - بالعكس، ذلك ما كان ينبغي أن يحدث بالضبط! وهل كان في تصور أحد مثلا أن القوى الرجعية الحاكمة في السعودية سوف تستسلم ببساطة للأفكار الجديدة المتحفزة للتغيير الثوري؟ هل كان في تصور أحد أنه يكفي أن يقال للملك سعود: " يا صحاب الجلالة، إن هذه الحياة التي تعيشها لم تعد تتفق مع طبيعة العصر ولقد بات محتما أن تتغير هذه الحياة. لم يعد مقبولا أن تحصل لنفسك وحدك من دخل بترول السعودية على مائة مليون جنيه استرليني، وأن تحصل أسرتك على مائة مليون أخرى غيرها، ثم لا يتبقى لسبعة أو ثمانية ملايين من البشر في مملكتهم غير الفتات الذي لا يرد الجوع! لم يعد مقبولا يا صاحب الجلالة أن يكون في قصرك أكثر من ألف جارية ومحظية وأن يكون لك من الأولاد والبنات ما يزيد على المائة كل منهم له مرتباته ومخصصاته وحاشيته وقصوره. إن البترول - يا صاحب الجلالة - ليس موردا ثابتا وإنما هو نبع سوف ينضب في يوم من الأيام، ومن صالح الشعب العربي في بلادك أن تنتهز فرصة تدفقه لبناء قاعدة للإنتاج تبقى وتدوم للشعب الباقي الدائم ". هل كان في تصور أحد أن الملك سعود، حين يسمع هذا الكلام مثلا، سوف يطرق برأسه مفكرا لوهلة، ثم يرفع رأسه ويقول:
74 - هذا حق، ولست أعرف كيف فات علي أمره، ولكن الفرصة لم تفت بعد. ثم يقوم جلالته فيعطي للشعب ما هو حق للشعب. ويحتفظ لنفسه بمليون واحد، أو حتى مليونين، وبقصر واحد، أو حتى قصرين، وبزوجة واحدة، أو حتى زوجتين. ثم يقول لمن حوله: اقتدوا بي حتى يعم الخير على الناس! * ذلك لم يحدث، ومن المستحيل حدوثه، لأنه هو غير الطبيعي وإنما الطبيعي هو ما جرى، وما يجري الآن فعلا! يحاول الملك أن يخادع تيار التطور ويماطله، ولقد ينجح - وقد نجح فعلا في تأجيل الصراع المحتوم سنتين أو ثلاث. لكن تأجيل الصراع لا ينهيه. ثم جاءت لحظة المواجهة التي لم يكن منها مفر. وانتفض الملك بكل غيظه وحقده وعدائه الذي يصل بغير تردد إلى حد القتل يحاول الانقضاض على تيار التطور. داس على مشاكله الصغيرة لكي يستجمع قواه للمعركة المريرة. لم يقف عند حد في حقده الأعمى. لم يتردد لحظة في الاصرار على القتل. من نماذج المشاكل التي داس عليها جلالته، خصومته مع أخيه الأمير فيصل. ومن المدهش مثلا أن الملك لم يتورع عن سؤال بعض أصدقائه الأمريكيين أن يتوسطوا بينه وبين أخيه لكي يفهم أن التغيير الذي يحوم حول الشرق العربي يهددهما معا.. وقد كان. تدخل أميركي بين ملك عربي، وبين أخيه الأمير العربي، ولم ينس الأميركي طبعا أن يحتسب عمولته في الوساطة، فأخذها في شكل إخراج السيد عبد الله الطريقي الذي كان وزيرا لشؤون البترول في الوزارة التي ألفها سعود في عنفوان خصومته لفيصل وبعد أن أقاله من الوزارة سنة 1960
75 وكان الملك قد استعمل " الطريقي " واجهة لتضليل الشباب الجديد المثقف في الجزيرة العربية وإيهامهم أنه مستعد للتغيير، لكن التغيير يجب أن يجئ تدريجا وخطوة بعد خطوة. ولقد كان الطريقي يعتبر الخبير الوحيد في شؤون البترول في مملكة سعود، وكانت خبرته في صدام مستمر طول الوقت مع المصالح البترولية المتحكمة في السعودية. ثم حدثت حكاية مثيرة في آخر جلسة لمجلس الوزراء السعودي، حضرها الملك سعود، قبل مرضه وطيرانه المفاجئ إلى أميركا، طلب الطريقي وزير شؤون البترول في وزارة سعود أن يتكلم في المجلس، وأعطاه الملك الكلمة، وقال الطريقي: " إن شركات البترول اليابانية أخطرتني بأن السيد كمال أدهم شقيق حرم الأمير فيصل طلب منها مليون من الدولارات مع عمولة مستمرة قدرها خمسة في المائة على أن يتكفل هو بحصولها على الامتيازات التي تقدمت لها " ثم استطرد الطريقي: " إن المسألة ليست مسألة كمال أدهم ولكني أعلم أن أسرة الأمير فيصل ذاتها تشترك معه في الحصول على هذه المبالغ الطائلة ". وقال الملك: هذا كلام خطير ولا بد أن نحقق فيه! وأحس عدد من الجالسين في قاعة اجتماع الوزارة أن ما قاله الطريقي لم يكن مفاجأة للملك وإنما كان الملك على علم بما سوف يقوله الطريقي بوسيلة أو بأخرى!. وتأجل الاجتماع. وفي هذه الفترة قرر سعود أن يهرب من المنطقة العربية كلها إلى أميركا وترك الأمور في السعودية لفيصل بعد تدخلات ووساطات. وعقد فيصل اجتماعا للوزارة بعد سفر سعود. وبدأ فيصل جلسة للوزارة بقوله: - أريد أسمع معكم مناقشات مجلس الوزراء في آخر جلسة حضرها الملك، حتى
76 نستأنف تصريف الأمور من حيث تركها جلالة الملك. ودخل أحد رجال حاشية فيصل يحمل جهاز التسجيل، والقاعدة في السعودية بسبب عدم وجود العدد الكافي من المختزلين والسكرتيرين، أن تسجل جلسات مجلس الوزراء على شريط كهربائي يحتفظ به الملك. وساد القاعة صمت ثقيل بينما وضع رجل الحاشية جهاز التسجيل على مائدة الاجتماع وركب الشريط عليه، وبدأت الأصوات، أصوات المناقشة في الاجتماع السابق، تتصاعد منه. وفجأة بدأ اتجاه الحديث المسجل يقترب من اللحظة المسرحية المثيرة. وسمع صوت السيد عبد الله الطريقي يطلب الكلمة، وصوت الملك يعطيها له ثم راح صوت السيد عبد الله الطريقي يوجه الاتهام إلى صهر الأمير فيصل وإلى أسرة الأمير فيصل.. والأمير هو الذي يجلس هذه اللحظة المسرحية المثيرة على رأس مجلس الوزراء. وكان فيصل طوال الوقت يوجه للطريقي نظرات لا أجد حاجة إلى وصفها! وانتهى التسجيل، وقال فيصل: لا أظن أني أستطيع أن أتعاون معك بعد هذا. وذهب الطريقي إلى بيته. وكانت الترتيبات في أميركا تجري. وعاد الملك، وقبل فيصل أن يستمر في العمل نائبا لرئيس الوزراء مع الملك الذي تمسك برئاسة الوزارة. وأعيد تشكيل الوزارة.. وخرج الطريقي " انتهى ". * كفاءات وظائف الدولة الكبرى عند السعوديين * 1 - في السلطة الإدارية: تنحصر السلطة الإدارية في الملك وأتباعه وتنحدر تدريجيا إلى وزارة الداخلية حتى تنتهي في الإمارات وكل أمير في بلد يعتبر حاكما إداريا ومعطى الصلاحيات التي بموجبها له الحق في قطع الرقاب والأيدي والأرجل والسجن مدى الحياة ونفي أي مواطن لأي بلد يختاره له وكل الدوائر الرسمية في حدود منطقة الأمير مربوطة به ولا يجوز لأي دائرة
77 أن تكتب لجهات اختصاصها إلا بعد أخذ موافقة الأمير واطلاعه على تفاصيل الموضوع مقدما وله الحق في الموافقة والرفض بدون إبداء الأسباب. وبالاختصار الأمير هو كل شئ في منطقته يحيي ويميت ويعز ويذل. ما هي مؤهلات الأمير لكي يفوز بهذه الصلاحيات الواسعة؟ أ - يجب أن يكون من خويان الملك القدامى أو خويان الأمير فيصل العتاق الذين خدموا في المعية السامية ما لا يقل عن عشر سنوات ونالوا شهادة البراءة من النار والثقة من الملك أو فيصل واجتازوا مرحلة الاختبار وأثبتوا أنهم لا يمتون إلى الشعب بصلة. والشئ الوحيد الذي يعرفونه عن الشعب هو أنه ملك آل سعود، استولوا عليه بالسيف وهم - أي الأمراء - خلائف آل سعود على هذا القطيع من الآدميين الذين لا حق له في الحياة إلا بإرادة سيده ومولاه الملك سعود. ب - أن يكون الأمير قد حمل السلاح وراء أحد آل سعود وقدم لهم الحذاء. ج - يشترط أن يكون الأمير من بيئة منحطة في المجتمع حتى يعتبر نفسه خادما حقيرا لآل سعود ويشعر بأنه شخص تافه ولولا فضل آل سعود وعطفهم عليه لم يصل لهذا المنصب الخطير ولا كان له مكان في الناس وشعوره هذا هو الدافع الذي يجعله يتفانى في الاخلاص لهم وتقديم آيات الولاء والطاعة لأنه يعلم أن مصيره مربوط برضاهم وبدونهم لا بقاء له وعلى هذا الأساس يكون شعوره نحو الشعب فلا هو من الشعب ولا الشعب منه. د - والأهم أن يكون الأمير أميا لا يقرأ ولا يكتب ولا يعرف سوى محل توقيعه على المعاملات. هذه هي مؤهلات الحاكم الإداري المسلط في السعودية على رقاب الشعب 2 - في السلطة القضائية: تنحصر السلطة القضائية في مفتي نجد الأكبر وهو اليوم كفيف البصر اسمه الشيخ محمد ابن إبراهيم من سلالة ابن عبد الوهاب ومنه تنحدر السلطة إلى رئاسة القضاة التي يقوم بها جلالته أما مؤهلات القاضي فيجب أن يكون قبل كل شئ وهابي الدين أما دراسته
78 فمحدودة، ولا تتعدى الاطلاع على مجموعة التوحيد النجدية ولا بد من التأكد من أن دراسته محصورة في المجموعة المذكورة. ويجب أن يحفظ الكثير منها عن ظهر قلب كأحكام ابن عبد الوهاب وأحاديثه ودعوته الأولى وكذلك يجب أن يطلع على تاريخ الدرعية بما فيه الأسباب التي أدت إلى فشل آل سعود في الدعوة السابقة، ولا يولى القضاء إلا من عرف بالعبودية للوضع القائم بغض النظر عن تحصيله العلمي ونزاهته واستقامته وكفاءته " انتهى ما كتبه فاضل نجدي ". * مشاهدات سائح سوداني * قال الشيخ عمر مرتضى من أبناء السودان: لقد زرت الجزيرة العربية 1376 ه وطفت بها من الظهران إلى الحجاز، فعرفت أثناء رحلتي الكثير عن أعمال طاغية الأحساء ابن جلوى، وزرت وادي بني مالك في الطائف البلد الذي أحرقه ابن سعود بأهله وماشيته وأشجاره. ورأيت كيف هدم آل سعود بيوت الرسول وآل الرسول وأصحاب الرسول ومنازل الوحي دون أن يخشوا الله ويتقوه أو يستحوا - على الأقل - ويتركوا هذه البيوت الطاهرة التاريخية التي تجلت بها أعظم المواقف الإنسانية - يتركوها - ولو من باب المحافظة على الآثار القديمة. ولكنني لما رأيت المنكر والترف والتبذير وسرقات الحكام والرشوات، ولما رأيت القصور الفاجرة والفسق فيها، وطريقة زواجهم اللاشرعية والتي هي زنى مستور، وكذلك توالدهم واقتناء الجواري والعبيد والظلم والطغيان وتفضيل اللصوص الكبار وتقطيع أيدي وأرجل الضعفاء وجلدهم في الطرقات الشئ الذي يبرأ منه الإسلام، أيقنت بعد ذلك أن من يخرب بيوت الله والأنبياء لا يتورع أبدا من أن يخرب بيوت شعبه.. فوالله لم يفعل قارون وفرعون وهامان، وجنودهم وقوم لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع - حسبما رأيت بعيني وسمعت من الشعب المقطعة أيديه بإذني - مثلما يفعل سعود وآله وخدمه بأرض الجزيرة التي كانت منبعا للرسالة الإنسانية والشجاعة والإيمان " انتهى ". * حول المؤتمر السعودي * في هذه الأيام ونحن نطبع هذا الكتاب " ذي الحجة 1381 " عمد السعوديون إلى طريقتهم التي درجوا عليها من التمويه على العالمين الإسلامي والعربي، والتظاهر بالغيرة والحمية فسخروا بعض من
79 نبذتهم أوطانهم وفضحتهم أعمالهم - سخروهم ليعاونوهم في استغلال موسم الحج بأن يجمعوا لهم ما أسموه بالمؤتمر الإسلامي، ففشل هذا المؤتمر فشلا ذريعا، وانكشف السعوديون وأذنابهم فيه انكشافا مريعا. وفي التعليق على مقررات المؤتمر المزعوم نشرنا هذه الكلمة في مجلة الحوادث البيروتية ونحن نضيفها إلى هذه الفصول: 1 - لا يجهل أحد حقيقة هذه الغيرة المفاجئة على الإسلام والمسلمين التي أظهرها اليوم الحكام السعوديون ولا ما هي البواعث التي حملتهم على الدعوة إلى مؤتمرهم، هذه البواعث التي هي أبعد ما تكون من الغيرة على الإسلام والدفاع عنه. 2 - تتحدث قرارات المؤتمر السعودي في مادتها الأولى عن أن الإسلام فوق العصبيات، فهل من الارتفاع فوق العصبيات أن يحرم فريق من المواطنين المسلمين في السعودية من أبسط حقوق المواطن لا لشئ إلا لأنهم لا يرون في بعض شؤونهم ما يراه رجل اسمه محمد بن عبد الوهاب. وهل من الارتفاع فوق العصبيات أن يهدم مسجد أهل القطيف وأن ينكل بهم، وأن تهدر إنسانية النخاولة وأن يصف المئات منهم وفيهم العلماء والمفكرون ويدعى الرعاع بالألوف ليبصقوا عليهم ويسخروا بهم ويمزقوا كراماتهم بكل ما أوتوا من نذالة. وهل من الارتفاع فوق العصبيات أن يحدث في موسم حج هذا العام، في نفس الوقت الذي كان يتشدق واضعو هذه القرارات بها، ما حدث من شتم ألوف الحجاج ومصادرة ما يحملونه من كتب دينية، والكتابة عليها بأنها صودرت لما فيها من الشرك.. ونصوص هذه الكتابة تحت يدنا. 3 - تتحدث المادة الثانية عن العدالة الاجتماعية فهل من العدالة الاجتماعية أن يركض معظم سكان السعودية وراء قشور البطيخ سدا لأرماقهم في حين يحيا الأمراء والكبراء السعوديون الحياة التي أصبحت فضيحة العرب الاجتماعية في العالم. 4 - توصي المادة الخامسة بإزالة جميع آثار الشرك والبدع المخالفة للإسلام ويؤسفني أن أقول بأن المسؤولين السعوديين قد استغفلوا المؤتمرين فدسوا عليهم هذا الكلام الخطير ولو كنا نعلم أن المؤتمرين يدركون خطورة ما قالوا لكان لنا معهم شأن آخر، ولكننا
80 نعلم حق العلم أن المؤتمرين كانوا قسمين: قسما مؤمنا مخلصا حقا ولكنه يجهل اللغة العربية أو يلم بها إلماما، وقد دفعه إخلاصه وإيمانه أن لا يتعمق بالنصوص وأن يكتفي بأن يحضر مؤتمرا إسلاميا ظاهره الغيرة على الإسلام. وقسما يعرف العربية ويعرف مرمى هذه الكلمات ولكن حقده الشخصي وأهواءه الأنانية جعلته يسترضي السعوديين ويسير معهم كما يشاؤون ولو كان في ذلك إهانة للعالم الإسلامي كله. وعند الحاج أمين الحسيني - الذي رضي لنفسه أن يكون بوق السعوديين الأكبر بعد إن كان مفتي المسلمين الأكبر - عند الحاج أمين الخبر اليقين.. ما هي آثار الشرك التي يريد السعوديون ومؤتمرهم أن يزيلوها من الإسلام؟! يؤسفنا أن نكشف حقيقة العقيدة السعودية التي ترى في المسلمين جميعا مشركين لأنهم يزورون بين الحين والحين أجداث أحبائهم، فالمسلم البيروتي الذي يعن له أن يزور قبر أب أو أخ أو صديق في مقبرة الباشورة هو عند السعوديين مشرك خارج عن الإسلام، والمسلم اللبناني يؤمن بقدسية الإمام الأوزاعي فيخطر له أن يشد الرحال للانحناء أمام قبره هو مشرك عند السعوديين الوهابيين. والمسلم الهندي والباكستاني والإيراني الذي يحب علي بن أبي طالب وولده الحسين والإمام أبا حنيفة والشيخ عبد القادر الكيلاني فيلم بقبر واحد منهم في العراق زائرا محييا هو مشرك عند السعوديين. والمسلم المغربي الذي تستهويه سجايا مولاي إدريس فيعرج على ضريحه الطاهر مسلما داعيا هو مشرك عند السعوديين. والمسلم المصري الذي يحترم قبر رأس الحسين وقبر السيدة زينب وقبر الإمام الشافعي فيدعو الله هناك هو مشرك عند السعوديين. والمسلم الدمشقي الذي يكبر صلاح الدين الأيوبي فيطوف بضريحه متحمسا هو مشرك عند السعوديين.
81 والمسلم الحلبي الذي يعتز بعبد الرحمن الكواكبي فيزور رمسه مكبرا هو مشرك عند السعوديين. والمسلم الحمصي الذي يقرأ الفاتحة على قبر خالد بن الوليد هو مشرك عند السعوديين. وهكذا قل عن كل المسلمين في كل البلاد الإسلامية الذين لا يرون رأي الأعرابي محمد ابن عبد الوهاب وجماعته السعوديين. هذه هي آثار الشرك التي يريد السعوديون الوهابيون إزالتها من الإسلام، وهذا هو موقفهم من المسلمين. ومن العجيب بل ليس من العجيب أن السعوديين الوهابيين منذ برزوا حتى اليوم ومنذ الساعة التي حملوا فيها السلاح حتى هذه الساعة لم يحاربوا إلا العرب ولم يسفكوا إلا دماء المسلمين، وأن رصاصة واحدة من رصاصهم الكثير لم تطلق على مستعمر أو صهيوني، وأن هبوب الجنة الذي يهتفون به في حروبهم لا يهب عليهم إلا في قتالهم للعرب والمسلمين. 5 - في سجون السعوديين اليوم كاتب كبير وعالم جليل اسمه عبد الله الخنيزي فهل لحكام الرياض أن يقولوا لنا لماذا سجنوه؟ وبأي ذنب جلدوه وعذبوه؟ وهل لهم أن يدلونا على مادة من مواد مؤتمرهم تجيز لهم فعل ما فعلوه ويفعلونه بهذا الرجل الفذ العبقري وبسكان القطيف والأحساء جميعا وبفريق من مجاوري المدينة المنورة؟ وهل من روح المؤتمر الإسلامي أن يعذب مفكر نحيل الجسم رقيق الشعور على أيدي حكام غلاظ الرقاب تنفر بطونهم حيث تختفي عقولهم؟ 6 - ليس هذا كل ما يقال في هذا المؤتمر.
82 * فصل * * في متفرقات من مقالات الوهابية واعتقاداتهم وتشدداتهم ومقالات مروجي دعوتهم وردها * الأول: توقفهم في (التلغراف) وفتواهم في شيعة الأحساء والعراق وفي المكوس فمن الطرائف ما نقلته الصحافة العربية من توقف علماء الوهابية في جواز استعمال التلغراف لأنه أمر حادث وإفتائهم بعدم جواز معارضة السلطان ابن سعود في أخذ المكوس مع فتواهم بأنها من المحرمات الظاهرة. قالت جريدة الرأي العام في العدد 4061 الصادر في 19 ذي القعدة سنة 1345 بدمشق ومثلها قالت جميع الصحف العربية: ورد على جلالة السلطان ابن سعود من بعض الوهابيين أسئلة تتعلق بالمحمل والهاتف والضرائب وغيرها فاستفتى علماء نجد فورد عليه منهم الأجوبة الآتية ننشرها ليطلع عليها الرأي العام الإسلامي وهي موقعة من نحو من أربعة عشر رجلا من علماء نجد منهم محمد بن اللطيف وسعد بن عتيق وسليمان بن سمحان وغيرهم. قالوا: أما بعد فقد ورد على الإمام سلمه الله تعالى سؤال من بعض الإخوان عن عن مسائل فطلب منا الجواب عنها فأجبناه بما نصه: أما مسألة البرق " التلغراف " فهو أمر حادث في آخر هذا الزمان ولا نعلم حقيقته ولا رأينا فيه كلاما لأحد من أهل العلم فتوقفنا في مسألته ولا نقول على الله ورسوله بغير علم والجزم بالإباحة والتحريم يحتاج إلى الوقوف على حقيقته (1) " وأما " مسجد حمزة وأبي رشيد فأفتينا الإمام وفقه الله بهدمهما على القوم. (إلى أن قالوا): وأما الرافضة: فأفتينا الإمام يلزمهم البيعة على الإسلام ويمنعهم من إظهار شعائر دينهم الباطل وعليه أن يلزم نائبه على الأحساء أن يحضرهم عند الشيخ ابن بشر ويبايعونه على دين الله ورسوله وترك الشرك من دعاء الصالحين من أهل البيت وغيرهم وعلى ترك سائر البدع في اجتماعهم على مآتمهم وغيرها مما يقيمون به شعائر مذهبهم الباطل ويمنعون من زيارة المشاهد
(1) هذا مثال من الاصلاح والتجديد الذي يدعيه قصار النظر للدعوة الوهابية " الناشر " 83 ويلزمون بالاجتماع على الصلوات الخمس هم وغيرهم في المساجد ويرتب الإمام فيهم أئمة ومؤذنين ونوابا من أهل السنة ويلزمون بتعليم الثلاثة الأصول (1) وتهدم المحال المبنية لإقامة البدع فيها (2) ويمنعون من إقامة البدع (3) في المساجد وغيرها ومن أبى قبول ما ذكر ينفى عن بلاد المسلمين (وأما رافضة القطيف) فيلزم الإمام أيده الله الشيخ ابن بشران يسافر إليهم ويلزمهم بما ذكرنا (وأما البوادي والقرى) التي دخلت في ولاية المسلمين فأفتينا الإمام بأن يبعث إليهم دعاة ومعلمين ويلزم نوابه بمساعدة الدعاة على إلزامهم بشرائع الإسلام (وأما رافضة العراق) الذين انتشروا وخالطوا بادية المسلمين فأفتينا الإمام بكفهم عن الدخول في مواطن المسلمين وأرضهم " وأما المكوس " فأفتينا أنها من المحرمات الظاهرة فأن تركها فهو الواجب عليه وإن امتنع فلا يجوز شق عصا المسلمين والخروج عن طاعته من أجلها حرر في 8 شعبان سنة 1345 " انتهى ". فهذا نموذج من فتاوى الوهابية فليتأمل فيه العاقل المنصف وليقايس بين تشددهم واستشكالهم في التلغراف خوفا من القول على الله ورسوله بغير علم وبين تساهلهم في المحرمات الظاهرة كالمكوس وإرخائهم العنان فيها لآخذها خوفا من شق عصا المسلمين بزعمهم. وهل أعوان الإمام غير الوهابية فأين شق عصا المسلمين " أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض " ولماذا لم يفتوا بعدم هدم قبور أئمة المسلمين وعظمائهم خوفا من شق عصا المسلمين ولماذا هدموها وألحقوا الإهانة بأهلها فأوغروا قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها حتى صار كل فرد منهم يتمنى خروجهم من الحجاز ولا يتأخر عن مقاومتهم في أول فرصة تمكنه أليس في هذا شق لعصا المسلمين وتفريق لكلمتهم. ولكنهم إذا اعتقدوا أن لا مسلم غيرهم كانوا قد شقوا بذلك عصا غير المسلمين بزعمهم. " وإذا " كانوا يستشكلون ويتوقفون في حكم التلغراف لأنه حادث لا يعلمون حقيقته فهلا توقفوا في كل حادث كالبندقية والمدفع والسيارة التي لا يعلمون حقيقتها وكيف تسير بلا مسير ظاهر ويركب فيها ابن سعود وأتباعه وكثير من الوهابية وهي أحدث من التلغراف إلى غير ذلك فكانوا بذلك كالخوارج الذين استشكلوا في قتل الخنزير الشارد
(1) التي في رسالة محمد بن عبد الوهاب (2) كالحسينيات (3) مثل قراءة التعزية - المؤلف - 84 في البر وقالوا إنه فساد في الأرض ولم يستشكلوا في قتل الصحابي المسلم الصائم في شهر رمضان وفي عنقه قرآن لأنه لم يوافقهم على تكفير علي بن أبي طالب وقتل زوجته معه وهي حامل وبقر بطنها. " وإذا " كانوا بكل هذا الورع في التوقف عن حكم التلغراف فهلا توقفوا عن استباحة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم وإخافة السبيل وكفروهم تقليدا لرجل يجوز عليه الخطأ. وتكفير المسلم عظيم كاستباحة ماله ودمه وعرضه واستندوا في ذلك إلى أمور اجتهادية يكثر فيها الخطأ وأدلة وأخبار ظنية قابلة للصدق والكذب فلو كانوا أهل ورع حقيقة كما يزعمون للزمهم أن يفاوضوا علماء المسلمين المنتشرين في أقطار الأرض ويباحثوهم ويجادلوهم بالإنصاف لا بالبنادق ويعقدوا مجتمعا عاما إسلاميا ويبسطوا المسائل المتنازع فيها على بساط البحث ويحكموا بينهم الكتاب والسنة المسلمة بين الكل حتى ينظروا لمن يكون الفلج لا أن ينحازوا في بادية نجد بين أعطان الإبل ويصدروا الفتاوى استنادا إلى أقوال تلقوها من أسلافهم الذين يجوز عليهم الخطأ يتوارثها اللاحق من السابق ولا يحيد عنها قيد شبر ثم يجبروا الناس على اتباعها بالسيف والسنان شاءوا أو أبو اعتقدوا أو لا (ما هكذا تورد يا سعد الإبل) وإذا لم يريدوا ذلك فليتركوا للناس اجتهادهم فإن مسائلهم التي خالفوا فيها المسلمين ليست ضرورية بل اجتهادية للبحث فيها والتأويل مجال ولم ينزل عليهم بها وحي ولا شافههم بها نبي وإنما أخذوها من أشياء زعموا دلالتها وعند غيرهم ما ينفيها ويمنع دلالتها. وكذلك فتواهم الجزافية في حق أهل البيت الطاهر الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا الذين دخلوا مدينة العلم النبوي من بابها وتمسكوا بالثقلين كما أمرهم نبيهم، ونبزهم بالرافضة، من شيعة الأحساء والقطيف من رعايا سلطانهم وشيعة العراق الذين يدخلون بلاد نجد، لمخالفتهم لهم في أمور اجتهادية يشاركهم في أكثرها سائر المسلمين ويحتمل في حق كل أحد فيها الإصابة والخطأ فالمصيب مأجور والمخطئ مع عدم تقصيره معذور مثل دعاء الصالحين وإقامة المآتم وزيارة المشاهد وليست من ضروريات الدين كوجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج فكيف يجبرون على البيعة على الإسلام وهم مسلمون يقرون لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة ويلتزمون بجميع ما جاء به من عند ربه مما اتفق عليه جميع المسلمين ويرجعون فيما اختلفوا فيه إلى أقوال أئمة أهل البيت الذين إن لم يكونوا فوق الأئمة الأربعة وفوق ابن عبد الوهاب في العلم فليسوا دونهم وكيف يمنعون
85 من إظهار شعائر دينهم فأن كان ذلك من الضروريات فهم يوافقون المسلمين عليها وإن كان في الاجتهاديات فباب الاجتهاد عندكم مفتوح فكيف جاز لكم الاجتهاد ومنع منه غيركم بالسيف والنفي من بلاد المسلمين وكيف يجوز إلزامهم بالصلاة خلف من قد يعتقدون ببطلان صلاته لترك البسملة التي هي جزء السورة عندهم أو غير ذلك من الأمور الاجتهادية وكيف يمنعون من الأذان وهو شعار الإسلام ويجعل لهم مؤذن من غيرهم وإلى أي دليل استندتم في هذه الفتوى. وبأي عدل وإلى أي دليل استندتم في منع شيعة العراق عن الدخول إلى بادية نجد والأرض لله تعالى لا لكم والناس كلهم عبيده وهلا أفتيتم الإمام بمنع الشيعة وباقي المسلمين المشركين بزعمكم عن حج بيت الله الحرام والله تعالى يقول (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض وكيف أن حكومتكم النجدية تبذل كل ما في وسعها لترغيب الناس في الحج لتعيش وتعيشون في الحجاز القاحلة لولا الحجاج. الثاني: في حكم الوهابية بوجوب إتلاف كتب المنطق وروض الرياحين ودلائل الخيرات وغيرها: قال عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في الرسالة الثانية من رسائل الهدية السنية الخمس: ولا نأمر بإتلاف شئ من المؤلفات إلا ما اشتمل على ما يوقع الناس في الشرك كروض الرياحين وما يحصل بسببه خلل في العقائد كعلم المنطق فإنه قد حرمه جمع من العلماء على أنا لا نفحص عن مثل ذلك وكالدلائل " يعني دلائل الخيرات " وهو كتاب مشهور معظم يشتمل على أدعية وأوراد. (قال) وما اتفق لبعض البدو من إتلاف بعض كتب أهل الطائف إنما صدر من بعض الجهلة وقد زجروا عن مثل ذلك. ونقول: أما روض الرياحين فلا نعرفه لنبدي رأينا فيه وأما علم المنطق الذي أمر بتعريبه من اليونانية المأمون العباسي ككثير من كتب العلوم العقلية والرياضية وكان له بذلك الفضل والذكر الجميل الخالد وتداوله المسلمون وألفوا فيه كثيرا ودرسوه من ذلك العصر إلى اليوم ولم يترك درسه متسم بالعلم، فقد ابتلي هذا العلم النفيس الذي يشحذ الأذهان ويفيد قوة الحجة من طرف الوهابية بما ابتليت به قبور الأنبياء والصلحاء فله أسوة بها ودليلهم على وجوب إتلاف كتبه أنه يحصل بسببه خلل في العقائد وأنه حرمه جمع من العلماء فليذكروا لنا من هو الذي اختلت عقيدته بسبب علم المنطق وهل يكون تحريم
86 جمع من العلماء إن صح النقل مجوزا لإتلاف كتبه المملوكة للغير بغير إذنه. على أننا لم نسمع تحريمه عمن يصح أن يعتمد على علمه سوى ما حكاه صاحب السلم عن بعض الجامدين بقوله: فابن الصلاح والنواوي حرما * وقال قوم ينبغي أن يعلما واعتذار صاحب المنار في الحاشية بقوله إنما حرموا بعض كتب المنطق القديمة الممزوجة بالفلسفة اليونانية الباطلة دون ما ألفه المسلمون، غير مجد لأن الكتب القديمة لا وجود لها حتى نشغل أنفسنا بتحريمها وتحليلها وكلام صاحب السلم كالصريح في عدم هذا التقييد والاعتذار عن إتلاف كتب أهل الطائف المساكين كالاعتذار عن قتل نفوسهم البريئة ونهبهم وسلبهم وتعذيبهم بأنه وقع من البدو الجاهلين فهو كالذي وقع من خالد بن الوليد وقال (ص) اللهم إني أبرأ إليك مما فعله خالد. وهؤلاء البدو هم الذين تسمونهم غزو الموحدين وهذه أفعالهم مع المسلمين وما يفيد زجركم لهم بعد خراب البصرة وذهاب النفوس والأموال بأيدي غزو الموحدين وإذا كان هذا فعلهم في كتب لا يعلمون ما هي ولا نفع لهم فيها فما حال النفوس والأموال التي وقعت في مخالبهم. الثالث: في كتاب (القديم والحديث) للكاتب الشهير محمد كرد علي الدمشقي من جملة مقال له في الوهابيين (1) ما لفظه: ورسالة عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب التي كتبها حين فتح الحرمين الشريفين شاهدة عدل على أنه برئ من تلك الافتراءات التي افتروها على عقائده وعقائد أبيه وبنوا عليها تلك الزلازل والقلاقل وأن مذهبه عين مذهب الأئمة المحدثين والسلف الصالحين وتلك الرسالة منقولة في إتحاف النبلاء من شاء الاطلاع عليها فليرجع إليها. (إلى أن قال): قال أحمد سعيد البغدادي في كتابه نديم الأدب: حقيقة هذه الطائفة أنها حنبلية المذهب وجميع ما ذكره المؤرخون عنها من جهة الاعتقاد محرف وفيه تناقض كلي لمن اطلع عليها بتأمل لأن غالب مؤرخي الشرقيين ينقلون عن الكتب الإفرنجية فأن كان المنقول عنه صاحب دراية مصدق تجد أن من يترجم كتابه يجعل الترجمة على قدر اللفظ فيضيع مزية الأصل وإن كان غير صادق الرواية فمن باب أولى ومن أراد أن يعرف جليا اعتقاد هذه الطائفة فليطالع كتب مذهب الإمام أحمد بن حنبل " رض " فإنه مذهبهم " انتهى ".
(1) صفحة 166 طبع مصر. 87 ونقول: الرسالة المشار إليها هي الرسالة الثانية من رسائل الهدية السنية وقد نسب فيها إلى المسلمين الشرك وأنواع الشرك وإنهم من أقبح المشركين وأجهلهم وإنهم مصرون على الاشراك والشرك الأكبر الذي يهدر الدم ويبيح المال وجعل قبور الصالحين أصناما وطواغيت تعبد وإن الخلاف بين الوهابية وبين الناس في إخلاص التوحيد وإنهم لما دخلوا مكة عبد الله وحده وإن الناس قبل ذلك لم تكن تعرف التوحيد والشرك وإن من بلغته دعوتهم ولم يتبعهم فهو كافر إلى غير ذلك في نحو من عشرين موضعا والرسالة لا تزيد على 15 صفحة وصرح فيها بأنهم يوجبون إتلاف كتب المنطق كما مر في الأمر الثاني وأنهم يجعلون قول يا رسول الله أسألك الشفاعة شركا موجبا لحلية الدم والمال مع اعترافهم بأن له الشفاعة يوم القيامة وقد نقلنا جملة من أقواله في تلك الرسالة في تضاعيف هذا الكتاب فما قول الأستاذ في هذه الشاهدة العدل التي استشهد بها على صحة عقائد ابن عبد الوهاب وابنه وبراءتهما من الافتراءات التي افتروها على عقائدها وبنوا عليها الزلازل والقلاقل وهل مذهب الأئمة المحدثين والسلف الصالحين تكفير جميع المسلمين وإباحة دمائهم وأموالهم ووجوب إتلاف كتب المنطق. والهدية السنية التي هذه الرسالة إحدى رسائلها طبعت مرارا بمطبعة المنار بمصر فليرجع إليها في شاهدة عدل. على أن ما نسب إلى عقائده وعقائد أبيه هو عين ما يصرحان به ليس فيه كذب ولا افتراء عليهما. أما ما نقله عن كتاب نديم الأدب، ففيه أنه لم يبق حاجة والحمد لله في معرفة عقائد الوهابية إلى أخذها من الكتب الإفرنجية ولا من ترجمتها فكتب الوهابية المتضمنة عقائدهم مطبوعة منتشرة يوزعونها مجانا وبذلك قد مزقوا أعذار من يبتغي الاعتذار عنهم وأما أن مذهبهم مذهب الإمام أحمد بن حنبل فهم وإن انتسبوا إليه لكنهم يصرحون كما عرفته في الباب الأول بأنهم لا يلتزمون بمذهبه ولا بغيره إذا بان لهم دليل على خلافه كما أنهم يصرحون على ما عرفت بكفر جميع من يخالفهم من المسلمين واستحلال دمه وماله والإمام أحمد بن حنبل برئ من ذلك. قال بعض أعاظم العلماء في كتاب كتبه إلينا ما صورته: قال لي بمصر بعض من يدعي العلم بالحديث: إن كتب الحنابلة هي كتب الوهابية فما تنكر منها وليس لك أن تؤاخذهم
88 إلا بما تجده صريحا في كتبهم ولا عبرة بنقل الخصم (1) فقلت ما تقول في القرامطة قال كفار ملاحدة قلت إنهم يزعمون أن مذهبهم مذهب أهل البيت وأن كتبهم كتبهم فهل تجد في كتب أهل البيت إلا الحق والنور؟ قال إن القرامطة كذبوا وهؤلاء نقلة التاريخ يثبتون كفر القرامطة وزورهم قلت وهل ترى قيام الحجة بنقل أهل التاريخ قال نعم فأن الشافعي صرح في الرسالة بأن نقلهم جماعة عن جماعة أحب إليه من نقل أهل الحديث واحدا عن واحد قلت إذا يجب أن تقبل مني من نقل المؤرخين المشاهدين للوهابية ما هو صريح في كفرهم، فسكت، فقلت له فعل المرء حجة ودليل عليه وإن كذبه لسانه فالقرامطة لما استحلوا دماء المسلمين وأموالهم لم تبق شبهة في كفرهم وكذلك سادتك، فغضب ولم يدر ما يقول، فقلت ما تقول فيما ورد في الخوارج ومروقهم وإنهم كلاب النار وشر قتلى تحت أديم السماء وغير ذلك؟ قال إن المجموع يفيد العلم القطعي بمروق الخوارج واستحقاقهم غضب الله، ولكنهم هم الذين قتلهم علي بالنهروان وليس الوهابية منهم. قلت بم استحق أولئك غضب الله أبكونهم يحقر الصحابة صلاتهم في جنب صلاتهم وصيامهم في جنب صيامهم؟ قال لا. قلت أبسبب زهدهم وتقشفهم؟ قال لا قلت بقولهم من قول خير البرية وبقراءتهم القرآن يقومونه كالقدح؟ قال لا. قلت فبماذا؟ فتلعثم فقلت ما ذاك إلا باستحلالهم دماء المسلمين وأموالهم وتكفيرهم لهم مع ادعائهم أنهم هم المسلمون وحدهم ولا شك أن من اتصف بما اتصفوا به يستحق ما استحقوا بتلك الصفة " انتهى ". وقد ظهر بذلك أيضا فساد أقوال من يريدون تبرير أعمال الوهابية وإنكار فظائعهم بأن الحامل لأهل عصرهم على نقل ما نقلوه عنهم وعلى ذمهم هو السياسة والانتصار لدولة الترك وأشراف مكة فنسبوا إليهم الفظائع في مكة والمدينة وكربلاء وغيرها لينفروا الناس منهم! فإنك قد عرفت فيما ذكرناه في تاريخهم وغيره من هذا الكتاب أن فظائعهم وأعمالهم في تلك الأماكن أصبحت معروفة متواترة كتواتر وجود مكة والمدينة وكربلاء والوهابية، وليست قابلة للشك والإنكار وكذا تكفيرهم المسلمين واستحلالهم أموالهم ودماءهم وجعلهم غزوهم جهادا في سبيل الله وبلادهم دار حرب أصبح غير قابل للاعتذار بعد تصريحهم به فيما نشروه من كتبهم المطبوعة التي نقلنا عباراتها وأشرنا إلى صفحاتها فيما مر.
(1) بعدما بيناه فيما سلف نقلا عن كتبهم المطبوعة من تكفيرهم جميع المسلمين وقول بعضهم إن كفرهم أصلي واستحلالهم دماءهم وأموالهم بل وأعراضهم لا يبقي مجال لهذا الكلام ولا احتياج إلى الجواب. - المؤلف - 89 * المقدمة الثانية * * في أمور مهمة يتوقف عليها المقصود من رد شبهات الوهابية * * الأول * أحكام الشرع الإسلامي منها ما هو ضروري كوجوب الصلاة والصوم وحرمة الزنا والكذب وهذا لا يحتاج إلى إقامة الدليل عليه ولا يجوز الاجتهاد بخلافه بل يخرج منكره عن الإسلام. ومنها ما هو نظري ككون أفعال العباد مخلوقة لله والكسب للعبد وكون صفات الله عين ذاته وثبوت الكلام النفسي ورؤية الله تعالى وأن الإمامة بالنص أو باختيار الأمة غير ذلك. هذا في الأصول وأما في الفروع فكحكم الشك في الصلاة والبناء على القبور وحكم ما لا نص فيه كالتدخين وغير ذلك وهذا يجب أخذه من أدلة الشرع: الكتاب والسنة والإجماع والعقل للقادر على ذلك وغيره يقلد القادر. ولا يجوز الحكم بضلالة أحد أو فسقه فضلا عن شركه وكفره لمخالفته في أمر اجتهادي أي ليس من ضروريات الدين ولا يجوز معارضته وممانعته وإجباره على اتباع قول غيره مما يخالف اجتهاده بل هو معذور في اجتهاده ما لم يكن مقصرا وللمخطئ أجر واحد وللمصيب أجران. روى البخاري في صحيحه عنه " ص " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر. وقال ابن تيمية في كتابه الذي سماه منهاج السنة (1) على ما حكي: قول السلف وأئمة الفتوى كأبي حنيفة والشافعي والثوري وداود بن علي وغيرهم لا يؤثمون مجتهدا مخطئا لا في المسائل الأصولية ولا في الفرعية " انتهى " فمن اجتهد في إباحة شئ كالتدخين أو استحبابه كالتبرك بقبة النبي " ص " وتقبيله وشد الرحال إلى زيارته أو أنه ليس ببدعة كالتحريم والتذكير ليس لمن اجتهد على خلافه معارضته وممانعته ولا تفسيقه وتضليله فضلا عن تكفيره وتشريكه لأن ذلك ليس من ضروريات الدين التي لا يجوز الاجتهاد فيها. * الثاني * الكتاب كلام الله تعالى المنزل على نبيه " ص " وهو قطعي السند لاتفاق المسلمين كافة
(1) ص 20 ج 3. 90 على أن ما بين الدفتين منزل منه تعالى، إما دلالته ففيه المحكم والمتشابه أو المجمل والمبين فالمحكم ما يكون ظاهر الدلالة ويسمى المبين. والمتشابه ما يكون غير ظاهر الدلالة بل المعاني فيه على السواء في الاحتمال ويسمى المجمل، ثم المبين قسمان: النص وهو ما لا يحتمل الخلاف، والظاهر وهو الراجح مع احتمال الخلاف. ويسمى المرجوح المقابل للظاهر: المؤل. وفي الكتاب أيضا العام والخاص والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ. ولا يجوز الاحتجاج من الكتاب بغير النص والظاهر إلا ما بينته السنة بعد ثبوتها أو الاجماع. كما لا يجوز العمل بالعام أو المطلق إلا بعد الفحص عن الخاص أو المقيد ولا بالدليل إلا بعد الفحص عن معارضه أو ناسخه لأن الدليل لا يكون دليلا بدون ذلك. وبسبب وجود هذه الأقسام الكثيرة في القرآن وغيرها أمكن لكل ذي قول حقا كان أو باطلا أن يستند في صحة قوله إلى ظاهر آية من القرآن. فربما استند إلى الحقيقة وغفل عن قرينة المجاز أو المطلق أو العام وغفل عن المقيد أو الخاص إلى غير ذلك. وقد جمع أحمد بن محمد بن المظفر الرازي من أعيان القرن السابع ومن علماء أهل السنة كتابا سماه " حجج القرآن " ذكر فيه من الآيات ما يمكن أن تحتج به كل فرقة لمذهبها وأقوالها المتباينة المتناقضة. ونحن نذكر مثالا من ذلك من جملة ما ذكره وما لم يذكره: فالوعيدية المنكرون للعفو الموجبون المؤاخذة على المعاصي يمكنهم الاستدلال بآية: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. والوعيدية القائلون برفع المؤاخذة بالكلية وإن الله لا يعاقب على المعصية لهم الاستناد إلى آية: يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا. والمثبتون للرؤية في الآخرة استندوا إلى آية: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة. والنافون إلى قوله: لا تدركه الأبصار. لن تراني. والجبرية إلى آيات كثيرة مثل: وخلق كل شئ. قل كل من عند الله. يريد الله أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة. يضل من يشاء ويهدي من يشاء. إن الله لا يهدي القوم الكافرين. فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء والعدلية إلى مثلها كقوله تعالى: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر. وما الله يريد ظلما للعباد. أو للعالمين. سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا " الآية ". فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا. قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا والقائلون بالتجسيم على الحقيقة بالجهة يستندون إلى الآيات التي فيها اليد والعين والوجه والنافون إلى آية: ليس كمثله شئ. والمجوزون المعصية على الأنبياء
91 إلى آيات: وعصى آدم. وظن داود إنما فتناه فاستغفر ربه " الآية ". فأنساه الشيطان ذكر ربه. سبحانك إني كنت من الظالمين. ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر والنافون إلى آية: لا ينال عهدي الظالمين والقائلون بخطاب الكفار بالفروع إلى عموم: يا أيها الناس اعبدوا ربكم. والنافون بخطاب: يا أيها الذين آمنوا. (والوهابية) استدلوا على عدم جواز دعاء غير الله والتشفع بغيره والاستغاثة به بآية: فلا تدعوا مع الله أحدا. لله الشفاعة جميعا " وغيرهم " بآية: فاستغاثه الذي من شيعته. ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك " الآية ". يا أبت استغفر لنا. ولا يشفعون إلا لمن ارتضى. من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه. يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين. أذكرني عند ربك أغناهم الله ورسوله. آتاهم الله ورسوله. وسيؤتينا الله من فضله ورسوله. * الثالث * السنة قول المعصوم أو فعله أو تقريره وشرط الاحتجاج بالفعل ظهور الوجه فلو فعل المعصوم شيئا وجهل وجهه علم عدم تحريمه مع تردده بين الوجوب والندب والكراهة ولم يثبت واحد منها ولا تثبت السنة لنا إلا بالخبر المتواتر وهو إخبار جماعة كثيرة يمتنع عند العقل تواطؤهم على الكذب أو المحفوف بقرائن توجب القطع بصدوره ولا يثبت بخبر الفاسق ولا مجهول الحال لعدم إفادته العلم وعدم الدليل على حجيته بل الدليل قائم على عدمها من قوله تعالى: إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا (الآية) والنهي عن اتباع الظن. (أما خبر الثقة العدل) مع عدم إفادته العلم فقد اختلف في حجيته فمنعها قوم لأصالة عدم حجية الظن وأثبتها آخرون واستدلوا بأدلة مذكورة في الأصول (وعلى) القول بحجيته لا بد من ثبوت العدالة إما بالعلم أو شهادة عدلين وفي كفاية العدل الواحد خلاف (والعدالة) ملكة تبعث على اجتناب الكبائر وعدم الاصرار على الصغائر وترك منافيات المروءة الكاشفة عن عدم مبالاة فاعلها بالدين. (وإثبات) عدالة من بعد عنا زمانهم من أصعب الأمور لانحصار الأمر في علمنا بها في أخبار الغير وهو مفقود غالبا إلا من أخبار البعض المستند على الظنون والاجتهادات التي تخطئ كثيرا لا على الممارسة والمعاشرة مع اختلاف الآراء فيما يوجب الجرح وما لا يوجبه ولذلك وقع الاختلاف كثيرا في الجرح والتعديل، فما عدله واحد جرحه آخر والقاعدة أن الجرح مقدم على التعديل لجواز اطلاع الجارح على
92 ما لم يطلع عليه المعدل. (فعلم) من هذا أن التسرع إلى القول بمضمون الخبر بمجرد وجوده في أحد كتب الحديث أو بمجرد قول واحد إنه صحيح وتخطئه الغير بذلك فضلا عن الحكم بكفره أو شركه خطأ محض. (ويشترط) لجواز العمل بالخبر عدم مخالفته لدليل قطعي مع إجماع المسلمين وسيرتهم أو نص القرآن أو نص خبر آخر متواتر بل وعدم مخالفته للمشهور بين علماء المسلمين مع كونه بمرأى منهم ومسمع وعدم معارضته بدليل أقوى منه بأحد الوجوه الآتية في الأمر الرابع. " والخبر " فيه الأقسام السابقة في الكتاب كلها وما يحتج به من الكتاب من تلك الأقسام يحتج به من الخبر، وما لا فلا " ويشترط " في العمل بالخبر ما اشترط في العمل بالكتاب مما مر في الأمر الثاني وبسبب وجود هذه هذه الأقسام في الخبر أمكن لكل ذي قول حق أو باطل الاستناد إلى ظاهر رواية كما يعرفه المتتبع لأقوال العلماء وأدلتهم، حتى أن البابية يحتجون على ضلالتهم بخبر أن المهدي يأتي بأمر جديد وقرآن جديد، (واتباع) المسيح المهدي القادياني يحتجون على ضلالهم بخبر لا مهدي إلا عيسى. " والحاصل " أن كل من يريد العناد والعصبية فله مدرك يتشبث به من الكتاب أو السنة ما لم يكن له حاجب من تقوى الله. والمنصف الطالب للحق لا يتمسك بظواهر الآيات والأحاديث ما لم يبحث عن معارضتها من عقل أو نقل أو إجماع وما لم يبحث عن سند الحديث ويستفرغ الوسع في فهم معناه * الرابع * الأخبار المتعارضة الواردة عن النبي " ص " كثيرة. وسبب التعارض إما كون بعضها مكذوبا فقد كثرت الكذابة عن النبي " ص " في عصره حتى قام خطيبا فقال ما معناه: قد كثرت علي الكذابة فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار. وبعد عصره تقربا إلى الملوك وترويجا للأهواء ومحافظة على الدنيا من طريق الدين وغير ذلك. وخبر الذي روى للمهدي العباسي وكان يحب اللعب بالحمام " لا سبق إلا في خف أو حافر أو جناح " فزاد أو جناح اتباعا لهوى المهدي فلما خرج قال المهدي أشهد أن قفاه قفا كذاب على رسول الله " ص "، خبر مشهور وكم أعطيت الجوائز ووليت الولايات واقطعت الاقطاعات على اختراع الروايات الموافقة للشهوات " وأما " الاشتباه لخطأ في فهم المراد أو سماع اللفظ أو الاطلاع على العام أو المطلق أو المنسوخ وعدم الاطلاع على الخاص أو المقيد أو الناسخ
93 أو غير ذلك. وللتعارض علاجات وردت بها الأخبار والروايات وقال بها علماء المسلمين " منها " العرض على كتاب الله والثابت من سنة رسول الله " ص " فيؤخذ بما وافق ويترك ما خالف " ومنها " الموافقة للإجماع أو السيرة أو المشهور بين علماء المسلمين أو الموافقة لما عليه الصحابة والتابعين " ومنها " الترجيح بحسب السند بكون رواته أوثق أو أحفظ أو أكثر أو الدلالة بكونه أظهر دلالة أو العبارة بكونها أفصح أو أحسن سبكا أو غير ذلك. * الخامس * الكتاب والخبر عربيان وفيهما كسائر كلام العرب الحقيقة والمجاز " فالحقيقة " (1) الكلمة المستعملة فيما وضعت له كقولك سمعت زئير الأسد في الغاب وتريد الحيوان المفترس " والمجاز " الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له لمناسبة ما وضعت له مناسبة موافقة للعرف غير مستهجنة (2) كقولك رأيت أسدا في الحمام وتريد رجلا شجاعا، والمناسبة بينهما الشجاعة. وقد كثر المجاز في كلام العرب جدا ومنه الكتاب والخبر بل أكثر كلام العرب مجاز " ومما " جاء منه في القرآن: يد الله فوق أيديهم. واصنع الفلك بأعيننا. ولتصنع على عيني. فإنك بأعيننا. ولو ترى إذ وقفوا على ربهم. يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله. كل شئ هالك إلا وجهه. أينما تولوا فثم وجه الله. ويبقى وجه ربك. الرحمن على العرش استوى. يخافون ربهم من فوقهم. فكان من ربه قاب قوسين أو أدنى. إلا من رحم ربك إلا من رحم الله. وغضب الله عليه. الله يستهزئ بهم وجاء ربك. و " القرينة " على المجاز في الكل عدم إمكان إرادة المعنى الحقيقي المستلزم للتجسيم والتحير. والوجود في مكان دون غيره وكونه محلا للحوادث " ومما " جاء منه في السنة حديث أبي هريرة: إن النار لا تمتلئ حتى يضع الله قدمه فيها. لقد عجب الله أو ضحك من فلان وفلانة والقرينة ما مر. " ولا بد " للمجاز من قرينة كقولنا في المثال المتقدم في الحمام لأن الحيوان المفترس لا يكون في الحمام عادة وقد تكون القرينة حالية لا مقالية فتخفى على بعض الأفهام ويقع فيها الاشتباه وقد يكثر استعمال اللفظ في
(1) فصلنا هذه الأمور ليفهمها من لم يطلع على معانيها فيعم النفع فلا ينسبنا أحد في ذلك إلى ذكر ما لا لزوم له لأنها مبينة في مواضعها (2) احتراز عن مثل استعمال الحائط في الرجل الطويل لمناسبة الطول فإنه مستهجن عرفا (المؤلف) 94 المعنى المجازي حتى يصير مجازا مشهورا لا يحتاج إلى قرينة غير الشهرة وقد يكثر حتى يبلغ درجة الحقيقة فيسمى منقولا. ثم المجاز قد يكون في الكلمة كما مر وقد يكون في الإسناد كأنبت الربيع البقل وصام نهاره وجرى النهر وبنى الأمير المدينة وغير ذلك فأسند الانبات إلى الربيع مجازا باعتبار أنه زمان له وحقه أن يسند إلى الله والصوم إلى النهار باعتبار أنه زمانه وحقه أن يسند إلى الشخص والجري إلى النهر باعتبار أنه مكانه وحقه أن يسند إلى الماء والبناء إلى الأمير باعتبار أنه سبب آمر وحقه أن يسند إلى البناء " ومما " جاء منه في القرآن الكريم " فما ربحت تجارتهم " أي فما ربحوا في تجارتهم " وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا " والذي زادهم هو الله والآيات سبب (يذبح أبناءهم) والذي ذبحهم أتباع فرعون وهو سبب آمر (ينزع عنهما لباسهما) والنازع هو الله وإبليس سبب " يوما يجعل الولدان شيبا " والجاعل هو الله واليوم سبب لكثرة أهواله " يا هامان ابن لي صرحا " والبناء فعل العملة وهامان سبب آمر " فلا يخرجنكما من الجنة " والمخرج الله، وإبليس سبب " ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن " والآكل أهل السنين وهي زمان للأكل " وأخرجت الأرض أثقالها " والمخرج الله والأرض مكان للإخراج. " ولا بد " للمجاز في الإسناد أيضا من قرينة لفظية أو عقلية كقول الموحد انبت الربيع البقل فأن كونه موحدا كاف في حمل كلامه على المجاز في الإسناد. ومثله لو قال المسلم الموحد يا رسول الله اغفر لي أو اشف ولدي أو طول عمري أو ارزقني أو رد غائبي أو نحو ذلك فيجب حمل كلامه على المجاز في الإسناد أي كن سببا في ذلك بشفاعتك ودعاء الله لي ويكفي قرينة على ذلك كونه مسلما موحدا ولا يجوز تخطئته في هذا اللفظ فضلا عن الحكم بكفره وشركه الموجب لحل دمه وماله إلا من غبي غير عارف بأساليب كلام العرب أو معاند. ثم إنه قد اختلف في المعاني الحقيقية لألفاظ كثيرة واردة في الكتاب والأخبار مثل صيغة افعل هل هي للوجوب أو الندب أو مشتركة بينهما، وصيغة لا تفعل هل هي للحرمة أو للكراهة أو مشتركة بينهما وكذا مادة الأمر والنهي وما يشتق منهما إلى غير ذلك مما تضمنته كتب الأصول، وكيفما قلنا فقد كثر استعمال اللفظين في الندب والكراهة كثرة مفرطة بحيث يصعب الحكم بالوجوب أو الحرمة بمجرد ورودهما إذ لعلهما صارا مجازا
95 مشهورا في ذلك خصوصا بملاحظة خصوصيات المقامات المبعدة للحمل على الوجوب أو التحريم. وفي الكتاب والخبر أيضا كسائر كلام العرب التصريح والكناية. " فالتصريح " كقولنا: فلان كريم و " الكناية " وهي ذكر اللازم وإرادة الملزوم كقولنا: كثير الرماد وجبان الكلب، كناية عن كرمه لأن الكرم يلزمه كثرة الطبخ للأضياف المستلزم كثرة الرماد ويلزمه كثرة الطراق المستلزم جبن الكلب عادة. وفي الكتاب والخبر أيضا كسائر كلام العرب المبالغات كقوله تعالى " عبدا مملوكا لا يقدر على شئ. يكاد البرق يخطف أبصارهم ". وقوله " ص ": لو أمرت أحدا بالسجود لأحد لأمرت المرأة بالسجود لزوجها. لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد. لا يزني الزاني وهو مؤمن " الحديث " (1) وقول علي " ع " ما زال رسول الله " ص " يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه وما زال يوصيني بالمرأة حتى ظننت أنه يحرم طلاقها وقال المتنبي: وضاقت الأرض حتى ظل هاربهم * إذا رأى غير شئ ظنه رجلا وقال الآخر: كفى بجسمي نحولا إنني رجل * لولا مخاطبتي إياك لم ترني وقال شاعر العرب: أنعى فتى الجود إلى الجود * ما مثل من أنعى بموجود أنعى فتى مص الثرى بعده * بقية الماء من العود وقال شاعرهم: عقيلية أما ملاث إزارها * فدعص وأما خصرها فبتيل وزادوا في المبالغة حتى قال قائلهم في وصف من يتغزل بها: تدخل اليوم ثم * تدخل أرادفها غدا وهذا باب متسع لا تمكن الإحاطة بأطرافه. ولم نر أحدا قال إنهم مهما بالغوا قد خرجوا عن طريقة العرب ومنهج كلامهم. " والمبالغة أيضا " واقعة في لساننا ومحاورتنا
(1) وفيه نفي الإيمان أيضا عن السارق وشارب الخمر والقاتل وسيأتي في الأمر السادس. - المؤلف - 96 بل في كل لسان. " ومن المبالغات " الواقعة في الكتاب والخبر تسمية الذنب أو العظيم منه: كفرا وفاعله كافرا ونحو ذلك كما يأتي في الأمر السادس، وإطلاق المعصية على فعل المكروه خصوصا إذا صدر من الأنبياء والأولياء ولكن ذلك كما قال بعض العظماء: بلسان الورع والتقوى لا بلسان الفقه والفتوى. ومنه المعاصي المنسوبة في القرآن إلى الأنبياء عليهم السلام بعد قيام الدليل على وجوب عصمتهم وامتناع صدور المعاصي منهم * السادس * ليست جميع المعاصي ولا الكبائر منها كفرا خلافا لما يحكى عن الخوارج لعدم الدليل على ذلك ومتى حكم بالإسلام لا يحكم بغيره إلا بيقين ومضت على ذلك سيرة النبي (ص) والصحابة والتابعين وتابعي التابعين ولو كانت المعاصي أو الكبائر منها كفرا لبطلت الحدود والتعزيرات ولم يبق لها ثمرة فإن المرتد يستتاب وإلا قتل فلا معنى لإقامة الحد عليه أو تعزيره وللزم الحكم بارتداد جميع الخلق الذين لا يسلمون من المعاصي بل والكبائر ولم ينج منه إلا القليل ولو كان كذلك لبينته العلماء في كتبها ونادت به الوعاظ والخطباء وعرفه كل أحد وصار من ضروريات الدين لشدة الحاجة إليه من عموم المكلفين وكون المرتد له أحكام خاصة به يلزم على كل مكلف معرفتها وترتيبها عليها (وروى) عبادة بن الصامت (1) عن النبي (ص): خمس صلوات كتبهن الله على العباد من أتى بهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وهذا دليل على أن ترك الصلاة ليس كفرا لأن الكفر لا يغفره الله " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " هذا إن لم يكن مستحلا لما ثبت وجوبه أو تحريمه بضرورة الدين وإلا كان كافرا (ولكن) قد يطلق على كثير من الذنوب اسم الكفر أو الشرك أو النفاق أو نحو ذلك تعظيما للذنب وتحذيرا منه وتشبيها لمؤاخذته لعظمها بمؤاخذة الكفر وبيانا لأن مقتضى الإسلام والإيمان أن لا يفعل ذلك الذنب أو لأنه ربما انجر بالآخرة إلى ذلك كما ورد أن في قلب المؤمن نكتة بيضاء فإذا عصى الله اسود منها جانب وهكذا إلى أن يتم سوادها فذلك الذي طبع الله عليه (كما) جاء التهديد
(1) الحديث في الهدية السنية ص 66. 97 بالنار واللعن على ترك بعض المستحبات أو فعل بعض المكروهات بيانا لتأكد الاستحباب حتى كأنها واجبة ولشدة الكراهة حتى كأنها محرمة أو لأن التهاون بها ربما ينجر إلى التهاون بالواجب وفعل المحرم كما ورد أن من ترك فرق شعره فرق بمنشار من نار. ونظير ذلك اللعن على فعل المكروه كلعن المحلل والمحلل له ولعن النائم في البيت وحده والمسافر وحده وآكل طعامه وحده كما يأتي في فصل اتخاذ القبور مساجد. وإطلاق المعصية على فعل المكروه كما في المعاصي المنسوبة إلى الأنبياء عليهم السلام على ما مر في الأمر الخامس (ومما) ورد من إطلاق الكفر ونحوه على الذنب في القرآن قوله تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فأن الله غني عن العالمين) (وفي الأحاديث) قوله (ص) لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض. اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت. أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم (روى الثلاثة مسلم) (1) وفي الجامع الصغير للسيوطي (2) عن الطبراني في الكبير: من أرضى سلطانا بما يسخط ربه خرج من دين الله. قال العزيزي في الشرح: إن استحل وإلا فهو زجر وتهويل " انتهى ". وقال الحفني في الحاشية: أي من كماله أو حقيقته إن استحل " انتهى " (وقوله ص) بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة (رواه مسلم). العهد بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (رواه أحمد وأهل السنن). بين العبد والكفر والإيمان الصلاة فإذا تركها فقد كفر وأشرك. من تركها - أي الصلاة - عمدا فقد خرج عن الملة. من تركها متعمدا فقد برئت منه الذمة " رواهما عبد الرحمن بن أبي حاتم في سننه " من ترك صلاة مكتوبة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله رواه أحمد " أنس عنه ص " لا دين لمن لا عهد له " أبو هريرة عنه ص " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يقتل حين يقتل وهو مؤمن (أبو هريرة عنه ص) علامة النفاق الكذب وسوء الخلق والخيانة (عبد الله بن عمر عنه ص) إن النفاق عبارة عن أربع: الخيانة والكذب والغدر والفجور (أبو هريرة عنه ص) المراء في القرآن كفر (وعنه ص) لا يفوت حضور الجماعة إلا منافقا (أبو ذر عنه ص) الرقي والتمائم من الشرك (أبو هريرة عنه ص) من قال مطرنا
(1) صفحة 402 الجزء الأول بهامش إرشاد الساري (2) ص 326 ج 2 98 بنوء كذا فهو كافر الرياء الشرك الأصغر (أبو سعيد عنه ص) الرياء شرك خفي (عمر عنه ص) كسب الربا شرك (شداد بن أوس عنه ص) من صلى يرائي فقد أشرك (ابن مسعود عنه ص) قتال المسلمين كفر (ابن عمر) نسبة المسلم إلى الكفر كفر (وهذا الأخير) منطبق على الوهابيين في نسبتهم المسلمين إلى الكفر وروى أحمد بن حنبل في مسنده (1) عنه (ص) إذا أحدكم قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما وروى عدة روايات بهذا المعنى أو قريبا منه (وروى) ذلك غيره أيضا (وما ذكرناه) أحسن وجه للجمع بين حديث عبادة المتقدم وهذه الأخبار ويرشد إليه حديث أبي هريرة السابق لا يزني الزاني الخ، حيث نفي الإيمان عنه في حال تلبسه بالمعصية لا مطلقا فدل على المراد أن تلبسه بالمعصية خلاف مقتضى الإيمان فنفي الإيمان عنه في تلك الحال مجاز تشبيها لمن لا يعمل بمقتضى إيمانه بغير المؤمن نظير لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد فتكون هذه الرواية شاهدا للجمع المذكور. (وحكم الوهابيون) بكفر تارك الصلاة أو الزكاة وإن لم يكن مستحلا واستحلوا القتل بترك بعض فرائض الإسلام أو شعائره على عادتهم في التسرع إلى تكفير المسلمين واستحلال دمائهم وتشددهم في ذلك اقتفاء بالخوارج الذين أشبهوهم من كل الوجوه كما يأتي في المقدمة الثالثة (فقالوا) في الرسالة الثالثة من رسائل الهدية السنية (2): اختلف العلماء في تارك الصلاة من غير جحود لوجوبها فذهب أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه ومالك إلى أنه لا يحكم بكفره واحتجوا بحديث عبادة المتقدم وذهب أحمد والشافعي في أحد قوليه وإسحاق بن راهويه وجماعة إلى أنه كافر وحكاه إسحاق إجماعا وقال ابن حزم سائر الصحابة والتابعين يكفرون تارك الصلاة مطلقا ويحكمون عليه بالارتداد وعد عشرة من الصحابة ثم قال ولا نعلم لهؤلاء مخالفا من الصحابة (قال) وأجابوا عن حديث عبادة أن المراد عدم المحافظة عليهن في أوقاتهن بدليل الآيات والأحاديث الواردة في تركها وأورد جملة مما مر ثم قال إن العلماء مجمعون على قتل تارك الصلاة كسلا إلا أبا حنيفة والزهري وداود فقالوا يحبس حتى يموت أو يتوب واحتجوا
(1) ص 18 ج 2 (2) ص 65 99 على قتله بقوله تعالى فاقتلوا المشركين إلى قوله فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم وبقوله (ص) أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة (الحديث) ثم ذكر رواية الترمذي: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن يتقبلوا قبلتنا وأن يأكلوا ذبيحتنا وأن يصلوا صلاتنا (الحديث) قال والمقصود فساد هذه الشبهة التي دسها من يدعي أنه من العلماء على الجهلة من الناس أن من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله إنه مسلم ولا يجوز قتله وإن ترك فرائض الإسلام ثم أطال في الاستشهاد بكلام الأجهوري والأذرعي والهيتمي وابن تيمية وغيرهم الدال على أن ترك بعض شعائر الإسلام موجب للمقاتلة كأهل القرية إذا تركوا الأذان أو الجماعة أو صلاة العيد أو غير ذلك وفي جملة ما نقله عن ابن تيمية (1) أيما طائفة ممتنعة عن بعض الصلوات المفروضة أو الزكاة أو الصيام أو الحج أو عن التزام تحريم الدماء والأموال (2) والخمر والزنا والميسر أو نكاح المحارم أو الجهاد أو ضرب الجزية أو غير ذلك فإنها تقاتل عليها وإن كان مقرة بها. " ونقول ": أما الأحاديث التي أطلق فيها الكفر على جملة المعاصي فقد عرفت أنه لم يرد بها الحقيقة للشواهد التي قدمناها من لزوم لغوية الحدود ورواية عقادة وحديث لا يزني الزاني وهو مؤمن وغيرها أما حمل ترك الصلاة في حديث عبادة على إرادة عدم المحافظة عليها في وقتها فلا شاهد عليها بل هو تخرص على الغيب بخلاف حمل الكفر على تعظيم الذنب فأن له نظائر وشواهد كثيرة كما عرفت ولا أقل من وقوع الشبهة فلا يجوز التهجم على الدماء مع وجودها وعدم صراحة النصوص " ومن الغريب " ما نقلوه عن إسحاق بن راهويه من حكاية الاجماع مع مخالفة عظماء أئمة المذاهب كأبي حنيفة والشافعي في أحد قوليه ومالك التي نقلوها في صدر الكلام كاستدلال ابن حزم عليه بقول نفر من الصحابة إن صح النقل عنهم مع عدم العلم بمذهب الباقين وهم ألوف وكقولهم العلماء مجمعون على قتل تارك الصلاة كسلا إلا أبا حنيفة والزهري وداود فما فائدة هذا الاجماع مع مخالفة هؤلاء الثلاثة. أما الاستدلال بآية فاقتلوا المشركين فغير صحيح لأن الإسلام قول باللسان وعمل بالأركان فمن كان مشركا وتشهد
(1) ص 81 (2) هذا ينطبق على الوهابية الممتنعين عن التزام تحريم دماء المسلمين وأموالهم (المؤلف) 100 الشهادتين ولم يأت بأعمال الإسلام لا يحكم بإسلامه بخلاف المسلم الموحد المولود على فطرة الإسلام الملتزم بأحكامه الفاعل لها إذا عصى بترك فرض يعتقد بوجوبه ويعلم أنه عاص بتركه. فالآية واردة في الأول لا في الثاني وكذلك ما أطالوا به بدون طائل من الاستشهاد بكلام فلان وفلان على أن ترك بعض شعائر الإسلام موجب للقتال لا شاهد فيه على حلية قتل تارك الفرائض كسلا فضلا عن كفره فإن صح جواز القتال على ترك بعض الشعائر حتى المستحبة كالآذان والجماعة لا ربط له بترك الفرض كسلا والحاصل أنه لا يجوز الإقدام والتهجم على دماء المسلمين بأخبار غير ظاهرة وبأقوال الأجهوري والأذرعي والحراني والهيتمي فليتق الله المتهجمون والمهورون. * السابع * الاجماع اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد " ص " على أمر ديني في عصر من الأعصار وهو حجة إما لما روي عنه " ص " لا تجتمع أمتي على خطأ أو لوجود معصوم بينهم بناء على عدم خلو العصر من معصوم كما يقوله أصحابنا وهو رئيس أهل الحل والعقد أو للكشف عن أن ذلك مأخوذ من صاحب الشرع كما يستكشف رأي المتبوع برأي اتباعه الذين لا يصدرون إلا عن رأيه فيعلم رأي أبي حنيفة باتفاق الحنفية والشافعي باتفاق الشافعية وغير ذلك وفي حكم الاجماع سيرة المسلمين والفرق بينهما أن الاجماع اتفاق قولي والسيرة إجماع عملي فيكشف عن أن ذلك مأخوذ عن صاحب الشرع يدا عن يد ويشمله: لا تجتمع أمتي على خطأ. والوهابية لا ينكرون حجية الاجماع وقد تكرر في كتبهم الاحتجاج به والرد على غيرهم بمخالفته وفي الرسالة الثالثة من رسائل السنية (1) ما نصه: والعلماء إذا أجمعوا فإجماعهم حجة لا يجتمعون على ضلالة " انتهى " ولكن الصنعاني من الوهابية أنكر في رسالته تطهير الاعتقاد إمكان وقوع الاجماع أو إمكان العلم به حيث قال (2) بعدما عرف الاجماع بأنه اتفاق مجتهدي أمة محمد " ص " على أمر بعد عصره: وعلى ما نحققه فالإجماع وقوعه محال فإن الأمة المحمدية قد ملأت الآفاق فعلماؤها لا ينحصرون ولا يتم لأحد معرفة أحوالهم فدعوى الاجماع بعد انتشار الدين وكثرة العلماء دعوى كاذبة كما قاله أئمة التحقيق " انتهى " وصدر كلامه دال على استحالة وقوعه وعجزه
(1) ص 60. (2) ص 19 101 ظاهر في عدم إمكان الاطلاع عليه وكلاهما فاسد فإن كثرة العلماء لا تمنع من اتفاقهم لا عقلا ولا نقلا والاطلاع عليه أيضا ممكن وواقع بملاحظة الفتاوى وعمل المسلمين وعدم نقل الخلاف وقرائن أخر: فإنا نعلم علما ضروريا باتفاق العلماء على أن البنتين لهما الثلثان في الميراث بالفرض إذا انفردن عن الإخوة لا النصف وإن لم نشافه جميع العلماء ونطلع على فتاواهم تفصيلا وأمثال ذلك في الشرعيات كثير كما نعلم علما ضروريا بإجماعهم على استحباب زيارة النبي " ص " وتعظيم قبره وحجرته ورجحان بنائها والتبرك به وبها وجواز بناء القبور وبناء القباب عليها لاستمرار سيرتهم على ذلك قولا وفعلا من الصدر الأول إلى اليوم وعدم نهي أحد عنه من الصحابة فمن بعدهم قبل الوهابية بل الإنصاف أنه ما من مسألة اتفق عليها المسلمون قولا وعملا من جميع المذاهب مثل هذه المسألة. * الثامن * الأصل الإباحة فيما لا نص فيه ولم يقم دليل على تحريمه لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ولقوله تعالى: (خلق لكم ما في الأرض جميعا) أي لانتفاعكم. وقوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وبعث الرسول كناية عن وصول الأحكام وإلا فمجرد البعث قبل تبليغ الأحكام لا تتم به الحجة. وقوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به. الآية) وأمثالها من الآيات. * التاسع * البدعة إدخال ما ليس من الدين في الدين ولا يحتاج تحريمها إلى دليل خاص لحكم العقل بعدم جواز الزيادة على أحكام الله تعالى ولا التنقيص منها لاختصاص ذلك به تعالى وبأنبيائه الذين لا يصدرون إلا عن أمره مع أنه قد ورد النص بأن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. وأما تشخيصها فهو مما يقع فيه الاشتباه فكم بدعة عدت سنة وبالعكس. وسبب الاشتباه أما خطأ في الدليل المستدل به على أن ذلك من الشرع أوليس منه أو تقليد من سنها لحسن الظن به مع أنه مبدع أو توهم أنه لا بد من ورود النص بها بالخصوص مع دخولها في عمومه أو إطلاقه كما وقع في زماننا من بعض المتشددين فقالوا إن القيام عند ذكر ولادة النبي " ص " بدعة لعدم ورود النص به والحال أنه يكفي فيه عموم ما فهم من
102 الشرع من لزوم احترام النبي " ص " ورجحان تعظيمه حيا وميتا بكل أنواع الاحترام التي لم ينص الشرع على تحريمها. ثم البدعة لا تكون بدعة إلا إذا فعلت بعنوان أنها من الدين فما قاله بعضهم من أن ما اصطلح عليه بعض المسلمين في هذه الأعصار من ترك الأعمال يوم الجمعة بدعة لأنه لم ينص الشرع على ذلك بل أمر بالعمل بعد قضاء صلاة الجمعة: اشتباه لأن الترك هنا بعنوان الراحة أو بعنوان مصلحة أخرى دينية أو دنيوية كإظهار حرمة يوم الجمعة وغير ذلك لا بعنوان أنه في نفسه عبادة وطاعة ومن ذلك توهم الوهابية أن التذكير والترحيم بدعة لأنه لم يكن في عهد النبي " ص " إذ يكفي في مشروعيته عموم ما دل على رجحان ذكر الله تعالى والصلاة على نبيه " ص " والدعاء ونحو ذلك وتخصيصه ببعض الأمكنة والأزمنة لفائدة مع عدم إتيانه بعنوان الخصوصية أي بعنوان أنه مأمور به بالخصوص في هذا الزمان والمكان لا يجعله بدعة وكذلك جملة أشياء مما جعلوه بدعة كما سيأتي بيان ذلك في الباب الأول. * العاشر * الأفعال تختلف أحكامها باختلاف القصد الموجب لاختلاف العنوان وتبدل الموضوع وباختلاف الأزمان والأمكنة والأحوال والأشخاص الموجب لذلك وهذا معنى ما اشتهر أن الأحكام تتغير بتغير الأزمان. أما اختلافها باختلاف القصد فكضرب اليتيم فإنه محرم بقصد الايذاء، راجح بقصد التأديب وكغيبة المسلم فإنها محرمة بقصد الانتقاص واجبة بقصد نهيه عن المنكر أو نصح المستشير أو إقامة الحق في مقام جرح الشاهد وكالسجود عند قبر النبي " ص " فإنه راجح مستحب بقصد الشكر لله تعالى على توفيقه لزيارته محرم بقصد السجود للنبي " ص " لعدم جواز السجود لغير الله تعالى إلى غير ذلك. وأما اختلافها باختلاف الأزمان والأشخاص والأحوال فكلبس الأزرق مثلا حيث يعد زينة في بعض الأزمان أو الأمكنة فيحرم على الزوجة في وقت الحداد ويستحب إذا أرادت التزين لزوجها وكلباس الشهرة ولباس النساء المحرم على الرجال وبالعكس فإنه يختلف باختلاف الأزمان والأشخاص والأمكنة وكدفن المؤمن الجليل القدر قريبا من المزبلة فإنه يعد إهانة له فيحرم وكإنزال الضيف الشريف في مرابط الدواب فإنه يعد إهانة مع إمكان غيره بخلاف المكاري وقد
103 يكون ترك القيام للشخص في زمان أو بلاد يعد إهانة له فيحرم وفي زمان آخر أو بلاد أخرى لا يعد فلا يحرم وملبوس الزهد ومأكوله يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال وكهدم قبور الأنبياء والأولياء وقبابهم ومشاهدهم فهب إنه كان منهيا عن البناء نهي كراهة أو تحريم إلا أن الهدم صار يعد في هذا الزمان إهانة لهم فيتعارض عنوان واجب وهو الهدم وعنوان محرم وهو الإهانة فيقدم الأهم ولا شك أن مراعاة عدم إهانة النبي أو الولي أهم من كل شئ. * الحادي عشر * قد يتعارض عنوان واجب مع عنوان محرم فيقدم الأهم كلمس بدن الأجنبية فإنه محرم لكن إذا توقف عليه إنقاذها من الغرق أو شفاؤها من المرض فيجوز أو يجب وكالنظر إلى عورة الغير فهو محرم ويباح للطبيب وكأخذ المكوس فهو محرم عند الوهابية وغيرهم لكن الوهابية في فتواهم المذكورة فيما مر قالوا إن تركها الإمام فهو الواجب عليه وإن امتنع فلا يجوز شق عصا المسلمين والخروج عن طاعته من أجلها. " أقول " وذلك لأن جمع كلمة المسلمين وعدم شق عصاهم أهم في نظر الشرع من عدم أخذ المكوس لأن المفسدة التي تترتب على شق عصا المسلمين أعظم من المفسدة المترتبة على أخذ المكوس وبناء على هذا كان يجب على الوهابية عدم التعرض لهدم قبور أئمة المسلمين الذي يسوء مئات الملايين من المسلمين تحن قلوبهم إلى هذه القبور ويسوءهم هدمها وتدميرها أفما كانت هذه المفسدة التي تشتت كلمة المسلمين وتسوءهم وتوقع الخصام والعداوة بينهم في هذه الأيام العصيبة التي تبدد فيها جمعهم ووهى ركنهم وضعف سلطانهم وفتحت بلادهم أعظم من مفسدة تحريم البناء على القبور إن كانت وأهم وأولى بالرعاية. أفما تقابل هذه المفسدة مفسدة شق عصا المسلمين؟ بلى والله بل هي أعظم منها وأفظع وأوجع لقلوب المسلمين فهلا أبقيتم هذه القبور ولو حرم عندكم إبقاؤها كما أبقيتم قبر النبي " ص " وإبقاؤه عندكم حرام مراعاة لأهم المصلحتين ودرءا لأعظم المفسدتين ومنعتم الناس من الدنو إليها ولمسها الذي هو عندكم شرك كما منعتم من لمس قبر النبي " ص " والدنو إليه مع أنكم لا ترون إبقاء القبور شركا غايته التحريم. * الثاني عشر * تكفير المقر بالشهادتين المتبع طريقة المسلمين واستحلال دمه وماله وعرضه عظيم
104 فلا يجوز الإقدام عليه واعتقاده استنادا إلى أمور نظرية اجتهادية يكثر فيها الخطأ وأخبار ظنية محتملة للكذب والتأويل كالاجتهادات والأخبار التي يستند إليها الوهابية في تكفير المسلمين ولا يجوز تكفير المسلم إلا بشئ قطعي يوجب خروجه عن دين الإسلام وكانت السيرة النبي " ص " والصحابة والتابعين وتابعي التابعين معاملة الناس على الاكتفاء بأظهار الشهادتين والالتزام بأحكام الإسلام. أخرج البخاري عنه " ص " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبيحتنا حرمت علينا دماؤهم وأموالهم. وعنه " ص " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله، وعنه " ص " من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، وعن أبي هريرة أنه " ص " أتي بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء فقال ما بال هذا قالوا يتشبه بالنساء فنفاه إلى البقيع فقيل يا رسول الله ألا تقتله فقال نهيت عن قتل المصلين. فيستفاد من هذه الأخبار أنه بعد إظهار الشهادتين يبنى على الإسلام ما لم يعلم شئ ينافيه ولا يلزم التفتيش والتجسس بل نهى الله تعالى عنه. ولسنا نقول إن المقر بالشهادتين الذي يصلي ويزكي لا يمكن الحكم بكفره مع ذلك لجواز أن يحكم بكفره مع ذلك كله كالخوارج والمجسمة ومنكر الضروري وغير ذلك لكنا نقول الاقرار بالشهادتين والتزام أحكام الإسلام كاف في الحكم بالإسلام حتى يثبت ما ينافيه باليقين والقطع لا بالاجتهادات الظنية والأخبار الظنية وحتى ينتفي احتمال التأويل وما كفر به الوهابية المسلمين لم تجتمع فيه هذه الشروط. * الثالث عشر * القول أو الفعل الصادر من المسلم وله وجهان على أحدهما يكون صحيحا وعلى الآخر فاسدا يجب حمله على الوجه الصحيح ولا يجوز حمله على الوجه الفاسد إلا مع العلم وعلى ذلك سيرة المسلمين وإجماعهم وبه انتظام أمر معاشهم ومعاملاتهم مثلا لو رأينا المسلم يضرب يتيما وأمكن أن يكون ضربه له تأديبا وإيذاء وجب حمله على الصحيح ولم تنتقض بذلك عدالته إن كان عدلا وكذا لو رأيناه يضاجع امرأة ولم نعلم أنها زوجته أو أجنبية أو يشرب شرابا أحمر ولم نعلم أنه خل أو خمر أو سجد ولم نعلم أن سجوده لله أو لمخلوق أو تزوج أو طلق أو باع أو وقف أو نذر أو ذبح ولم نعلم أن ذلك على وجه الصحة أو
105 الفساد وجب حمله على الصحيح إلا أن يعلم الفساد ولا يكفي الظن بالفساد فضلا عن الشك ولو صدر من المسلم فعل أو قول وله وجه أو معنى يوجب الارتداد وكان يمكن حمله على وجه أو معنى صحيح لا يوجب الارتداد لا يجوز الحكم بارتداده ووجب حمل فعله على الوجه الصحيح وقوله على المعنى الصحيح ولو كان احتمال قصده لذلك المعنى ضعيفا فضلا عما لو كان ظاهرا أو مساويا في الاحتمال فإذا استغاث مسلم بنبي أو ولي واحتمل أن تكون استغاثته لطلب أن يدعو له ويشفع له إلى الله لم يجز الحكم بارتداده لمجرد احتمال إرادته معنى يوجب الارتداد " وهكذا " لو قال ارزقني وعاف ولدي وانصرني على عدوي ونحو ذلك واحتمل إرادته طلب أن يكون واسطة وشفيعا فيسأل الله ذلك وأن إسناد الفعل إليه من باب إسناده إلى السبب كما في بنى الأمير المدينة لم يجز الحكم بشركه وارتداده فضلا عما لو علم إرادته ذلك أو كان ظاهر حاله ذلك باعتبار أنه مسلم يعلم أن هذه الأمور لا يقدر عليها غير الله تعالى. * الرابع عشر * في تحقيق معنى العبادة: العبادة في اللغة الذل والخضوع ومنه بعير معبد أي مذلل وطريق معبد أي مسلوك مذلل ونقلت في الشرع إلى معنى جديد أو أريد بها معنى خاص من المعاني اللغوية كما نقلت ألفاظ كثيرة غيرها كالصلاة والزكاة والصيام والحج التي كانت في اللغة لمطلق الدعاء والنمو والإمساك والقصد ونقلت في الشرع إلى معان جديدة وذلك لأن الألفاظ اللغوية قد تبقى في الشرع على معانيها القديمة كالبيع والشراء وقد تنقل عنها في الشرع إلى معان جديدة فإذا لم تنقل وجب حملها على معانيها القديمة إذا لم يعلم أنه أريد بها معنى خاص منها سواء وردت في الكتاب أو الخبر أو غيرهما وأما إذا نقلت عن المعاني الأولى إلى معان جديدة فلا بد من معرفة تلك المعاني بما ثبت عن الشارع فإن عرفت وجب الحمل عليها وإلا بقيت تلك الألفاظ مجملة وكذا لو علم عدم إرادة المعاني القديمة وأنها استعملت في المعاني الجديدة المحدودة مجازا فلا بد من معرفة تلك المعاني أيضا وإلا كانت من المجمل المحتاج إلى البيان فالعبادة بمعناها اللغوي الذي هو مطلق الذل والخضوع والانقياد ليست شركا ولا كفرا قطعا وإلا لزم كفر الناس جميعا من لدن آدم إلى يومنا هذا لأن العبادة بمعنى الطاعة والخضوع لا يخلو منها أحد فيلزم كفر المملوك والزوجة والولد والخادم والأجير والرعية والجنود بإطاعة المولى والزوج والأب والمخدوم
106 والمستأجر والملك والأمراء وجميع الخلق لإطاعة بعضهم بعضا بل كفر الأنبياء لإطاعتهم آباءهم وخضوعهم لهم وقد أوجب الله طاعة الأبوين وخفض جناح الذل لهما وقال لرسوله " ص " واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين وإطاعة الزوجة لزوجها حتى ورد لو أمرت أحدا بالسجود لأحد لأمرت الزوجة بالسجود لزوجها وإطاعة الأنبياء وجعل نبينا " ص " أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأمرنا بإطاعته وإطاعة أولي الأمر منا وقرنها بإطاعته تعالى إلى غير ذلك. ثم إنه ورد في الشارع إطلاق العباد والعبادة على مطلق المطيع والطاعة فورد أن العاصي عبد الشيطان وعبد الهوى " وقال تعالى " أفمن اتخذ إلهه هواه. اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله. مع ما ورد أنهم ما صاموا لهم ولا صلوا وإنما حرموا عليهم حلالا وأحلوا لهم حراما فاتبعوهم، وإن الإنسان عبد الشهوات، وإن من أصغى إلى ناطق فقد عبده فإن كان ينطق عن الله فقد عبد الله وإن كان ينطق عن غير الله فقد عبد غير الله ومن هذا القبيل قول رابعة العدوية: لك ألف معبود مطاع أمره * دون الإله وتدعي التوحيدا ولا ريب أن هذه الأمور التي سميت عبادة لا توجب الكفر والارتداد وإلا لم يسلم منه أحد والضرورة قاضية بخلافه. ثم إن من جملة العبادة السجود وقد أمر الله الملائكة بالسجود لآدم وسجد يعقوب وزوجته وبنوه ليوسف كما أخبر عن ذلك القرآن الكريم فدل على أن السجود ليس في نفسه قبيحا وممنوعا منه موجبا للشرك والكفر وإن سمي عبادة وإلا لم يأمر به الله تعالى وأنه ليس مثل اتخاذ الشريك للباري في جميع صفاته فإن هذا لا يعقل أن يأمر الله به أو يجيزه ولا يمكن أن لا يكون شركا وكفرا وعلم من ذلك أيضا أنه ليس مطلق الخضوع والتعظيم حتى السجود لغير الله قبيحا في نفسه وشركا وكفرا. ثم إنه ورد إطلاق العبادة على دعاء الله تعالى في القرآن بقوله تعالى ادعوني أستجب لكم. إن الذين يستكبرون عن عبادتي. والإخبار بقوله (ص) الدعاء مخ العبادة ولكن ليس المراد بالدعاء هنا معناه اللغوي قطعا وهو النداء وإلا لكان كل من نادى أحدا وسأله شيئا عابدا له بل المراد به نداء الله تعالى وسؤاله والقيام بغاية الخضوع والتذلل بين يديه
107 وإنزال حاجات الدنيا والآخرة به على أنه الفاعل المختار والمالك الحقيقي لأمور الدنيا والآخرة والمتصرف فيها كما يشاء فمن دعا مخلوقا على هذا النحو كان عابدا له أما من دعاه ليشفع له إلى الله بعد ثبوت أن الله جعل له الشفاعة فلا يكون عابدا له ولا فاعلا ما لا يحل. فظهر أنه ليس كل ما يطلق عليه اسم العبادة موجبا للشرك والكفر إذا وقع لغير الله بل ولا محرما إلا أن ينص الشارع على تحريمه كالسجود للشمس والقمر المنهي عنه في القرآن والسجود لغير الله المتفق على تحريمه وأن مطلق الخضوع والانقياد لغير الله لا يوجب ذلك ولو فرض أنه سمي عبادة وأن العبادة التي يترتب عليها ذلك ليست العبادة اللغوية بل عبادة خاصة لا يمكن معرفتها إلا ببيان الشارع وبدون بيانه تكون مجملة وأنه لا يجوز ترتيب حكم الشرك والكفر بل ولا التحريم على ما يسمى عبادة إلا إذا علم أنها من تلك العبادة الخاصة ومع الشك أو الظن لا يجوز ترتيب ذلك الحكم فإذا فرض ورود النهي عن عبادة غير الله فما علم أنه من المنهي عنه حرم وما لم يعلم لم يلحقه الحكم كالتكفير (1) والانحناء عند غير العرب ورفع اليد عند الجنود وكشف الرأس عند الإفرنج وغير ذلك للعلم بأن المنهي عنه ليس مطلق ما يسمى عبادة وخضوعا. ثم إن الذي علم ترتب حكم الشرك والكفر عليه من العبادات أو الاعتقادات أمور (الأول) اعتقاد المساواة لله تعالى في جميع الصفات أو أنه هو الله ولو بطريق الحلول. (الثاني) إنكار الشرائع وتكذيب الرسل وإن اعترف فاعله بتوحيد الله تعالى ولم يعبد وثنا بل بقي على شريعة منسوخة. (الثالث) ما ذكر مع عبادة الأوثان بما لم يأذن به الله تعالى بل نهى عنه من سجود ونحر وذبح لها وذكر اسمها عليه وطليها بدمه وتعظيم باعتقاد استحقاق ذلك بالاستقلال لرفعة ذاتية واعتقاد أن له تدبيرا واختيارا كما كان يفعله عبدة الأصنام سواء كان مع الاعتراف بوجود آله وعدمه.
(1) هو وضع إحدى اليدين على الأخرى خضوعا كالذي يفعل في الصلاة - المؤلف - 108 * الخامس عشر * لا شك أن الله تعالى فاوت بين مخلوقاته في الفضل فجعل بعضها أفضل من بعض من الأزمنة والأمكنة والأحجار والآبار والحيوانات وبني آدم وغير ذلك ففي الأزمنة فضل شهر رمضان على سائر شهور السنة وجعل فيه ليلة القدر وجعلها خيرا من ألف شهر وجعل من أشهر السنة الاثني عشر أربعة حرما حرم فيها القتال وفضل يوم الجمعة على سائر الأيام وفضل ساعة منه على سائره. وفي الأمكنة فضل الكعبة على سائر بقاع الأرض وتعبد الناس بالحج إليها والطواف حولها ومكة والمقام وحجر إسماعيل والمسجد والمساجد الأربعة والمسجد الحرام منها على غيرها. وفي الأحجار فضل الحجر الأسود على غيره وتعبد الناس باستلامه وتقبيله وفي الآبار فضل بئر زمزم على غيره وفي الحيوانات فضل الخيل على غيرها وأمر بارتباطها وإكرامها وجعل الخير معقودا بنواصيها وجعل بعض دم الغزال مسكا وفي ذلك يقول الشاعر: فإن تفق الأنام وأنت منهم * فإن المسك بعض دم الغزال وفي بني آدم فضل الأنبياء على غيرهم ومحمدا (ص) على سائر الأنبياء والشهداء على غيرهم والعلماء على الشهداء وعلى بعض الأنبياء بل الشئ الواحد له فضل في حال دون حال فالكنيف لا فضل له وهو منتهى الخسة فإذا جعل مسجدا صار معظما عند الله وحرم تنجيسه ووجب تعظيمه وجلد الشاة يجعل نعلا وحذاء فيكون في منتهى الإهانة ويعمل جلدا للقرآن الكريم فيكون في منتهى الإكرام والإعظام كما قال الشاعر: أو ما ترى نوع الأديم فإنه * منه الحذاء ومنه جلد المصحف والرجل يكون كسائر الناس فيبعثه الله بالنبوة فتجب إطاعة أمره ونهيه أو ينصبه النبي " ص " بعده خليفة أو المسلمون فيدخل في قوله تعالى: أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم. ومن هذا القبيل البقعة من الأرض تكون كسائر البقاع فيدفن فيها نبي أو ولي فتكسب شرفا وفضلا وبركة بدفنه لم تكن لها من قبل ويجب احترامها وتحرم إهانتها لحرمة من فيها ومن احترامها قصدها لزيارة من فيها وبناء القباب عليها والحجر حولها لتقي زائريها من الحر والبرد وعمل الأضرحة لها التي تصونها عن كل إهانة وإيقاد المصابيح عندها لانتفاع زائريها واللاجئين إليها وجعل الخدمة والسدنة
109 وتقبيلها والتبرك بها ووضع الخلع عليها والمعلقات فوقها وغير ذلك. ومن إهانتها هدمها لها وهدم ما فوقها من البناء وتسويتها بالأرض وجعلها معرضا لوقوع القاذورات ووطئ الدواب والكلاب والآدميين وترويث وبول الدواب والكلاب وغير ذلك وما ورد مما يوهم المنافاة لذلك مما سيأتي في محله على فرض صحته مخصوص بغيرها أو منصرف بحكم التبادر إلى غيرها لما علم من الشرع من لزوم تعظيم أصحابها أحياء وأمواتا وهذا من تعظيمهم وحرمة إهانتهم أحياء وأمواتا وهذا منها وهل يشك في ذلك عاقل وهو يرى أن الله تعالى جعل احتراما لصخرة صماء بسبب وقوف إبراهيم الخليل عليه السلام عليها حين بنى البيت فقال واتخذوا مقام إبراهيم مصلى أفيجعل الله احتراما لمقام رجل خليله ولا يجعل احتراما لمدفن جسده أو مدفن جسد سيد أنبيائه. وإذا كان له هذا الاحترام فلماذا حرم تقبيله والطواف والتبرك به والصلاة عنده ودعاء الله تعالى كما يصلى عند مقام إبراهيم " ع " ويدعي فإن كان لتوهم أنه عبادة له كعبادة الأصنام فهو توهم فاسد لأن احترام من جعل الله له حرمة احترام لله وعمل بأمر الله وعبادة وإطاعة لله فهو كتقبيل الحجر الأسود وتعظيم الكعبة والحرم والمقام والمساجد والتبرك بماء زمزم وسجود الملائكة لآدم وإن كان لزعم ورود النهي فستعرف أنه لا نهي. * السادس عشر * الأحكام لا تغير الموضوعات فإذا كان الموضوع على حالة أو صفة قبل الحكم كان كذلك بعد الحكم وهذا من البديهيات الأولية التي لا يشك فيها من عنده أقل إلمام بالعلوم. مثلا إذا حرم الشرع شتم زيد أو أوجبه وكان الشتم في نفسه مع قطع النظر عن الحكم بتحريمه أو وجوبه إهانة لزيد لا يصير بعد التحريم أو الوجوب احتراما له وكذا لو أوجب إضافة زيد أو حرمها وكانت إضافته في نفسها إكراما له لا تصير بعد إيجابها أو تحريمها إهانة له وإذا كان تعظيم المخلوق واحترامه والتبرك به والقيام في خدمته بغاية الذل والخضوع وما أشبه ذلك عبادة له وشركا بالله تعالى فإذا أوجب الله تعالى تعظيم المخلوق واحترامه والتبرك به وإطاعته والذل والخضوع له ونحو ذلك لم يخرجه هذا الوجوب عن كونه عبادة وشركا بل يكون الله تعالى قد أوجب الشرك وعبادة المخلوق لما عرفت
110 من أن الحكم لا يغير الموضوع. إذا عرفت هذا فاعلم أن وجوب تعظيم المخلوق من جماد وإنسان واحترامه والتبرك به وإطاعته والقيام في خدمته بغاية الذل والخضوع وما ينتظم في هذا السلك ثابت في الشرع بلا شك ولا ريب، فقد أمر الله الملائكة بالسجود لآدم والولد بتعظيم الوالدين وخفض جناح الذل لهما وأمر بإطاعة الرسول وأولي الأمر منا بالائتمار بأمره والانتهاء عن نهيه وعدم رفع أصواتنا فوق صوته وأمر بتعظيم المساجد والكعبة والطواف بها وتعظيم المقام والحجر الأسود وبئر زمزم والتبرك بمائه وتعظيم الحرم إلى غير ذلك مما ورد في الشرع فلا بد حينئذ من التزام أحد أمرين إما القول بأنه ليس كل تعظيم عبادة وشركا أو القول بأن الله أمر بالشرك وعبادة غيره! ولما كان الشرك قبيحا منهيا عنه موجبا للخلود في نار جهنم يغفر الله ما دونه من الذنوب ولا يغفره بنص القرآن الكريم لم يمكن أن يأمر الله به فتعين القول بأنه ليس كل تعظيم عبادة موجبة للشرك.
111 * المقدمة الثالثة * في شبه الوهابيين بالخوارج وذلك من عدة وجوه: " أولا " كما أن الخوارج شعارهم " لا حكم إلا لله " وهي كلمة حق يراد بها باطل كما قال أمير المؤمنين علي " ع ". كلمة حق لمطابقتها قوله تعالى " إن الحكم إلا لله "، يراد بها باطل، وهو أنه لا إمارة لأحد ولا يجوز التحكيم في الأمور الدينية، وفرعوا عليه إن التحكيم الذي كان بصفين كان معصية وكفرا، مع أن التحكيم قد جاء في الشرع بقوله تعالى: " فإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها " وقال تعالى في جزاء الصيد: " يحكم به ذوو عدل منكم ". كذلك الوهابيون شعارهم: لا دعاء إلا لله، لا شفاعة إلا لله، لا توسل إلا بالله، لا استغاثة إلا بالله، ونحو ذلك. كلمات حق يراد بها باطل: كلمات حق لأن المدعو والمتوسل به حقيقة لدفع الضر وجلب النفع والمغيث الحقيقي ومالك أمر الشفاعة هو الله. يراد بها باطل وهو منع تعظيم من عظمه الله بدعائه والتوسل به ليشفع عند الله تعالى ويدعوه لنا وعدم جواز التشفع والاستغاثة والتوسل بمن جعله الله شافعا مغيثا وجعل له الوسيلة كما يبين في محله. وهي كجملة من كلماتهم المزخرفة كقولهم: لمن يقول يا محمد ويا فلان ويا فلان: هل الله أعطاك القوة أو محمد " ص "؟ فلا بد أن يقول الله فيقولون له لم لا تدعو الله وتدعو محمدا. وهذا تمويه وتضليل يراد به باطل، إذ لا يوجد أحد يعتقد أن محمدا " ص " أو غيره بيده الأمر أصالة وإنما هو التوسل وطلب الشفاعة ممن له الوسيلة والشفاعة، واعتراضهم هذا يرجع إلى الاعتراض على الله الذي جعل الشفاعة لمحمد " ص " وإلا فمتى جعلها له فعلينا أن نطلبها منه. ولو صح اعتراضهم هذا لتوجه على من يسأل الدعاء من الغير فيقال له: الله الذي يجيب دعاءك أو أخوك المؤمن؟ فلا بد أن يقول الله، فيقال له: لم لا تدعو الله وتطلب من أخيك أن يدعو لك؟ وكقولهم لمن يقبل ضريح النبي " ص " أو المنبر الموضوع في مسجده وفي مكان منبره: إنما تقبل حديدا أو خشبا جئ به من بلاد الإفرنج، ولم يعلموا أنه كما يحترم جلد الشاة بعمله جلدا للمصحف، والورق والمداد بكتابة المصحف عليه وبه، كذلك يحترم الحديد والخشب الذي وضع
112 على قبر النبي " ص " أو في مسجده وفي مكان منبره. ومر بيانه في الأمر الخامس عشر من المقدمة الثانية. " ثانيا " كما أن الخوارج متصلبون في الدين مواظبون على الصلوات وتلاوة القرآن والعبادة حتى اسودت جباههم من طول السجود، طالبون للحق كما قال أمير المؤمنين " ع ": لا تقاتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه، متورعون عن المحارم حتى بلغ من تورعهم أن إنسانا منهم ضرب خنزيرا بريا بسيفه فقالوا هذا فساد في الأرض، والتقط أحدهم تمرة من الطريق فوضعها في فمه فبادر آخر وطرحها من فمه. كذلك الوهابيون متصلبون في الدين يؤدون الصلاة لأوقاتها ويواظبون على العبادة ويطلبون الحق وإن أخطأوه ويتورعون عن المحرمات حتى بلغ من تورعهم أنهم توقفوا في استعمال " التلغراف " كما مر. وقد رأيت نجديا يصرف الريالات الجديدة بالقديمة بتفاوت، فأراد رجل أن يعطيه قديما وزيادة بجديد، فقال على الفور: لا، هذا ربا. وكان معه دلال يهودي، فلما فارقه قال له اليهودي: ادع لنا، فقال: " الله يهديك "، والتفت إلي وقال هذا يهودي. " ثالثا " كما أن الخوارج كفروا من عداهم من المسلمين وقالوا إن مرتكب الكبيرة كافر مخلد في النار واستحلوا دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم وقالوا إن دار الإسلام تصير بظهور الكبائر فيها دار كفر حتى أنهم قتلوا عبد الله بن خباب أحد أصحاب رسول الله " ص " صائما في شهر رمضان والقرآن في عنقه وقتلوا زوجته وهي حبلى وبقروا بطنها لأنه لم يتبرأ من علي بن أبي طالب، وقالوا له هذا الذي في عنقك يأمرنا بقتلك فذبحوه على شاطئ النهر حتى سال دمه في النهر. وكانوا إذا أسروا نساء المسلمين يبيعونهن فيما بينهم حتى أنهم تزايدوا في بعض الوقائع على امرأة جميلة وغالوا في ثمنها فقام بعضهم فقتلها وقال إن هذه الكافرة كادت تقع فتنة بسببها بين المسلمين، وقالوا للحسن بن علي يوم ساباط المدائن: أشركت يا حسن كما أشرك أبوك. كذلك الوهابيون حكموا بشرك من خالف معتقدهم من المسلمين واستحلوا ماله ودمه
113 وبعضهم استحل سبي الذرية كما سيأتي في الباب الأول ولم يخاطبوه إلا بقولهم يا مشرك وجعلوا دار الإسلام دار حرب ودارهم دار إيمان تجب الهجرة إليها وحكموا بقتال تارك الفرض وإن لم يكن مستحلا كما في الرسالة الثانية من رسائل الهدية السنية (1) ونقلوه فيها أيضا عن ابن تيمية (2). قال سليمان بن عبد الوهاب على ما حكي عنه في رسالته في الرد على أخيه محمد بن عبد الوهاب صاحب الدعوة الوهابية: قال ابن القيم: الخوارج لهم خاصيتان مشهورتان فارقوا بهما جماعة المسلمين وأئمتهم إحداهما خروجهم عن السنة وجعلهم ما ليس بسنة سنة والثانية أنهم يكفرون بالذنوب والسيئات ويترتب على ذلك استحلال دماء المسلمين وأموالهم وأن دار الإسلام دار حرب ودارهم هي دار الإيمان فينبغي للمسلم أن يحذر من هذين الأصلين الخبيثين وما يتولد عنهما من بغض المسلمين وذمهم ولعنهم واستحلال دمائهم وأموالهم وعامة البدع إنما تنشأ من هذين الأصلين " انتهى ". وهذا الذي ذكره بعينه موجود في الوهابية. " رابعا " كما أن الخوارج استندوا في شبهتهم هذه إلى ظواهر بعض الآيات والأدلة التي زعموها دالة على أن كل كبيرة كفر. كذلك الوهابيون استندوا في هذه الشبهة إلى ظواهر بعض الآيات والأدلة التي توهموها دالة على أن الاستغاثة والاستعانة بغير الله شرك وعلى غير ذلك من معتقداتهم كما يظهر من استشهاداتهم بالآيات التي لا دلالة فيها على معتقداتهم عند نقلنا لها. وسيأتي في الأمر العاشر عدة روايات تشير إلى ذلك. " خامسا " كما أن الخوارج استحلوا قتال ملوك الإسلام والخروج عليهم لأنهم باعتقادهم أئمة ضلال كذلك الوهابيون استحلوا قتال ملوك الإسلام وأمرائه لأنهم باعتقادهم أئمة ضلال ناصرون للشرك والبدع. " سادسا " كما أن الخوارج لا يبالون بالموت ويقدمون على الحرب لأنهم رائحون بزعمهم إلى الجنة حتى أن بعضهم طعن برمح فمشى والرمح فيه إلى طاعنه فقتله وهو يتلو: " وعجلت إليك ربي لترضى ". كذلك الوهابيون يظهرون بسالة وإقداما ولا يبالون بالموت لأنهم بزعمهم رائحون إلى الجنة ويقولون في حروبهم مع المسلمين:
(1) ص 65 - 86 (2) ص 81. 114 هبت هبوب الجنة * وين أنت يا باغيها " سابعا " كما أن الخوارج على جانب من الجمود والغباوة، فبينا هم يتورعون عن أكل تمرة ملقاة في الطريق ويرون قتل الخنزير الشارد في البر فسادا في الأرض، تراهم يرون قتل الصحابي الصائم وفي عنقه القرآن طاعة لله تعالى ويكفرون جميع المسلمين ويرون كل كبيرة كفرا. ولقيهم قوم مسلمون فسألوهم من أنتم؟ وكان فيهم رجل ذو فطنة، فقال اتركوا الجواب لي، قال: نحن قوم من أهل الكتاب استجرنا بكم حتى نسمع كلام الله ثم تبلغونا مأمننا. فقالوا لا تخفروا ذمة نبيكم فأسمعوهم شيئا من القرآن وأرسلوا معهم من يوصلهم إلى مأمنهم. وقالوا لعبد الله بن خباب الصحابي ما تقول في علي بن أبي طالب؟ فأثنى خيرا فقالوا إنك ممن يتبع الرجال على أسمائها وفعلوا معه ما تقدم. كذلك الوهابيون على جانب من الجمود. فبينا هم يحرمون الترحيم والتذكير لأنه بزعمهم بدعة وأمثال ذلك، ويتوقفون في " التلغراف " لعدم وقوفهم على نص فيه، ويحرمون التدخين ويعاقبون عليه، تراهم يكفرون المسلمين ويشركونهم ويستحلون أموالهم ودماءهم ويقاتلونهم بالبنادق والمدافع لطلبهم الشفاعة ممن جعل الله له الشفاعة وتوسلهم بمن له عند الله الوسيلة. " ثامنا " كما أن الخوارج قال بمقالتهم جماعة ممن ينسب إلى العلم لظهورهم بمظهر مقاومة أئمة الضلال ورفع الظلم الذي لا شك أنه كان موجودا في الجملة، وأنه لا حكم إلا لله، الكلمة التي قال عنها أمير المؤمنين علي " ع ": إنها كلمة حق يراد بها باطل كما مر. كذلك الوهابيون قال بمقالتهم جماعة ممن ينسب إلى العلم لظهورهم بمظهر رفع البدع التي لا شك في وجودها في الجملة وأنه لا عبادة ولا شفاعة إلا لله ولا استعانة ولا استغاثة إلا بالله. وهذه كتلك كلمة حق يراد بها باطل كما عرفت وستعرف. " تاسعا " كما أن الخوارج عمدوا إلى الآيات الواردة في المشركين فجعلوها في المسلمين والمؤمنين كذلك الوهابيون جعلوا الآيات النازلة في المشركين منطبقة على المسلمين. أما صدور ذلك من الخوارج فيدل عليه ما في خلاصة الكلام (1) مما هذا لفظه: روى
(1) صفحة 230 115 البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه في وصف الخوارج أنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها في المؤمنين وفي رواية أخرى عن ابن عمر عند غير البخاري أنه " ص " قال أخوف ما أخاف على أمتي رجل متأول للقرآن يضعه في غير موضعه " انتهى " وعن ابن عباس لا تكونوا كالخوارج تأولوا آيات القرآن في أهل القبلة وإنما نزلت في أهل الكتاب والمشركين فجهلوا علمها فسفكوا الدماء وانتهبوا الأموال. وأما صدور ذلك من الوهابيين فيدل عليه ما سيأتي عند نقل كلماتهم ومعتقداتهم من جعلهم الآيات الكثيرة النازلة في الكافرين والمشركين منطبقة على المسلمين مثل: أغير الله اتخذو وليا. أروني ماذا خلق الذين من دونه. قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون. إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا. أجعل الآلهة إلها واحدا. أجئتنا لنعبد الله وحده فلا تجعلوا لله أندادا. أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون. له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي يسردونها وهي نازلة في الكافرين والمشركين فيجعلونها منطبقة على المسلمين انطباقا تاما بغير مائز ولا فارق. " عاشرا " كما أن الخوارج سيماهم التحليق أو التسبيد كذلك الوهابيون سيماهم التحليق وعن النهاية في حديث الخوارج: التسبيد فيهم فاش هو الحلق واستئصال الشعر " انتهى ". " حادي عشر " كما أن الخوارج يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان كما أخبر النبي " ص " عنهم بما رواه في السيرة الحلبية (1) من قوله " ص " في الخوارج: يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم أو تراقيهم لا تفقهه قلوبهم ليس لهم حظ منه إلا تلاوة الفم وإنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان " الحديث ". كذلك الوهابيون يقتلون أهل الإسلام وحدهم ولم ينقل عنهم أنهم حاربوا أحدا سوى المسلمين. وفي قتلهم أهل الطائف أولا وآخرا بلا ذنب وقتلهم أهل كربلاء سنة 1216 وغزوهم بلاد الإسلام المجاورة لهم كالعراق والحجاز واليمن وشرقي الأردن وغيرها وقتلهم من ظفروا به من المسلمين وقتلهم نحو ألف رجل من اليمانيين جاؤوا لحج بيت الله الحرام سنة
(1) ص 140 ج 3 طبع عام 1320 بمصر. 116 1340 وذبحهم لهم ذبح الأغنام كما مر ذلك كله في تاريخهم، وعدم غزوهم للمستعمرين أو الصهيونيين وتوجيه بأسهم وحربهم كله إلى المسلمين والعرب أقوى شاهد على ذلك. " ثاني عشر " كما أن الخوارج كلما قطع منهم قرن كذلك الوهابيون كلما قطع منهم قرن نجم قرن فقد حاربهم محمد علي باشا واستأصل شأفتهم ووصل ولده إبراهيم باشا إلى قاعدة بلادهم الدرعية وأخربها ثم نجم قرنهم بعد ذلك وقطع ثم نجم وقطع مرارا.
117 * الباب الأول * * في ذكر جميع معتقدات الوهابية ومحور مذهبهم الذي يدور عليه الاجتهاد عند الوهابيين * الوهابيون سنيون وينتحلون مذهب الإمام أحمد بن حنبل إلا أنهم لا يلتزمون بتقليد أحد المذاهب الأربعة بل قد يجتهدون على خلافها. قال محمد بن إسماعيل الأمير اليمني الصنعاني المعاصر لابن عبد الوهاب وأحد مؤسسي المذهب الوهابي في رسالته تطهير الاعتقاد (1): وفقهاء المذاهب الأربعة يحيلون الاجتهاد من بعد الأربعة وإن كان هذا قولا باطلا وكلاما لا يقوله إلا من كان للحقائق جاهلا " انتهى ". وقال محمد بن عبد اللطيف أحد أحفاد ابن عبد الوهاب في آخر الرسالة الخامسة (2) من رسائل الهدية السنية مذهبنا مذهب الإمام أحمد بن حنبل ولا ندعي الاجتهاد وإذا بانت لنا سنة صحيحة عن رسول الله " ص " عملنا بها ولا نقدم عليها قول أحد كائنا من كان " انتهى ". وهذا هو الاجتهاد الذي أنكره في أول كلامه وقال به في آخره. وما هي السنة الصحيحة التي تبين له هل يشافهه بها رسول الله " ص " أو تكون متواترة خفيت على جميع أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم وبانت له؟! هذا مستحيل عادة أو هي خبر ظني الدلالة والسند أو السند فقط والله تعالى قد نهى عن العمل بالظن في كتابه وذم متبعه فهل يكون العمل بذلك الخبر الظني إلا بالاجتهاد الذي أنكره. وقال أبوه عبد اللطيف في إحدى رسائل الهدية السنية (3) أن محمد بن عبد الوهاب لا يرى ترك السنن والأخبار النبوية لرأي فقيه ومذهب عالم خالف ذلك باجتهاده. إلى أن قال: نعم عند الضرورة وعدم الأهلية والمعرفة بالسنن والأخبار وقواعد الاستنباط يصار إلى التقليد ولا يرى إيجاب ما قاله المجتهد إلا بدليل من الكتاب والسنة خلافا لغلاة المقلدين. وقال عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في الرسالة الثانية من رسائل الهدية السنية (4) ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق ولا أحد منا يدعيها إلا أنه إذا صح لنا نص جلي من
(1) صفحة 19 (2) صفحة 110 (3) صفحة 49 (4) صفحة 39 118 كتاب أو سنة غير منسوخ ولا مخصوص ولا معارض بأقوى منه وقال به أحد الأئمة الأربعة أخذنا به وتركنا المذهب كإرث الجد والإخوة فنقدم الجد بالإرث وإن خالفه مذهب الحنابلة. إلى أن قال: ولا نعترض على أحد في مذهبه إلا إذا اطلعنا على نص جلي مخالف لأحد الأئمة وكانت المسألة مما يحصل بها شعائر ظاهرة كإمام الصلاة فنأمن الحنفي والمالكي مثلا بالطمأنينة في الاعتدال والجلوس بين السجدتين لوضوح ذلك بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة فلا نأمره بالأسرار ولا مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض وقد اختار جمع من أئمة المذاهب الأربعة ما يخالف مذهب مقلده " انتهى " وهذا الأخير يخالف ما ذكره محمد بن عبد اللطيف وما حكاه أبوه عن محمد ابن عبد الوهاب فهذا يشترط في جواز الأخذ بالنص من الكتاب والسنة أن يقول به أحد الأئمة الأربعة ومحمد يقول لا نقدم على السنة قول أحد كائنا من كان وابن عبد الوهاب يرى إيجاب ما قاله المجتهد إلا بدليل. ثم إلزام صاحب المذهب بخلاف مذهبه فيما فيه شعائر ظاهرة خطأ فإنه إن كان معذورا لم يجب إلزامه بل لم يجز وإن لم يكن معذورا وجب إلزامه سواء كان فيه شعائر ظاهرة أو لا. * اعتقاد الوهابية وقدوتهم ابن تيمية في الله تعالى وصفاته * إعلم أن الوهابية ومؤسس دعوتهم محمد بن عبد الوهاب وباذر بذورها أحمد بن تيمية وتلميذه ابن القيم وأتباعهم ادعوا أنهم موحدون وأنهم باعتقادهم التي خالفوا بها جميع المسلمين حموا جناب التوحيد عن أن يتطرق إليه شئ من الشرك. وادعى الوهابيون أنهم هم الموحدون وغيرهم من جميع المسلمين مشركون كما سيأتي ولكن الحقيقة إن بن تيمية وابن عبد الوهاب وأتباعهما قد أباحوا حمى التوحيد وهتكوا ستوره وخربوا حجابه ونسبوا إلى الله تعالى ما لا يليق بقدس جلاله تقدس وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. فاثبتوا لله تعالى جهة الفوق والاستواء على العرش الذي هو فوق السماوات والأرض والنزول إلى سماء الدنيا والمجئ والقرب وغير ذلك بمعانيها الحقيقية، وأثبتوا له تعالى الوجه واليدين اليد اليمنى واليد الشمال والأصابع والكف والعينين كلها بمعانيها الحقيقية دون تأويل، وهو تجسيم صريح.
119 وحملوا ألفاظ الصفات على معانيها الحقيقية فاثبتوا لله تعالى المحبة والرحمة والرضا والغضب وغير ذلك بمعانيها الحقيقية من غير تأويل، وأنه تعالى يتكلم بحرف وصوت فجعلوا لله تعالى محلا للحوادث وهو يستلزم الحدوث كما بين في محله من علم الكلام. أما ابن تيمية فقال بالجهة والتجسيم والاستواء على العرش حقيقة والتكلم بحرف وصوت. وهو أول من زقا بهذا القول وصنف فيه رسائل مستقلة كالعقيدة الحموية والواسطية وغيرهما واقتفاه في ذلك تلميذاه ابن القيم الجوزية وابن عبد الهادي وأتباعهم ولذلك حكم علماء عصره بضلاله وكفره وألزموا السلطان بقتله أو حبسه فأخذ إلى مصر ونوظر فحكموا بحبسه فحبس وذهبت نفسه محبوسا بعدما أظهر التوبة ثم نكث. ونحن ننقل ما حكوه عنه في ذلك وما قالوه في حقه لتعلم ما هي قيمة ابن تيمية عند العلماء: قال أحمد بن حجر الهيتمي المكي الشافعي صاحب الصواعق في كتابه الجوهر المنظم في زيارة القبر المكرم في جملة كلامه الآتي في فصل الزيارة إن ابن تيمية تجاوز إلى الجناب المقدس وخرق سياج عظمته بما أظهره للعامة على المنابر من دعوى الجهة والتجسيم الخ وقال ابن حجر أيضا في الدرر الكامنة على ما حكي: أن الناس افترقت في ابن تيمية فمنهم من نسبه إلى التجسيم لما ذكره في العقيدة الحموية والواسطية وغيرهما من ذلك بقوله إن اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقية لله وإنه مستو على العرش بذاته فقيل له يلزم من ذلك التحيز والانقسام فقال أنا لا أسلم أن التحيز والانقسام من خواص الأجسام فألزم بأنه يقول بالتحيز في ذات الله. ومنهم من ينسبه إلى الزندقة لقوله إن النبي (ص) لا يستغاث به وإن في ذلك تنقيصا ومنعا من تعظيم رسول الله " ص " وكان أشد الناص عليه في ذلك النور البكري فإنه لما عقد له المجلس بسبب ذلك قال بعض الحاضرين: يعزر، فقال البكري: لا معنى لهذا القول فإنه إن كان تنقيصا يقتل وإن لم يكن تنقيصا لا يعزر ومنهم من ينسبه إلى النفاق لقوله في علي أنه كان مخذولا حيث ما توجه وأنه حاول الخلافة مرارا فلم ينلها وإنما قاتل للرياسة لا للديانة وأنه كان يحب الرياسة وأن عثمان كان يحب المال ولقوله: أبو بكر أسلم شيخا يدري ما يقول وعلي أسلم صبيا والصبي لا يصح إسلامه على قول، ولكلامه في قصة خطبة بنت أبي جهل وما نسبه من الثناء على قصة أبي
120 العاص بن الربيع وما يؤخذ من مفهومها فإنه شنع في ذلك فالزموه بالنفاق لقوله " ص ": لا يبغضك إلا منافق. ونسبه قوم إلى أنه يسعى في الإمامة الكبرى فإنه كان يلهج بذكر ابن تومرت ويطريه وكان ذلك مولدا لطول سجنه. وله وقائع شهيرة وكان إذا حوقق وألزم يقول لم أرد هذا إنما أردت كذا فيذكر احتمالا بعيدا " انتهى ". وعن منتهى المقال في شرح حديث لا تشد الرحال للمفتي صدر الدين أنه قال فيه: قال الشيخ الإمام الحبر الهمام سند المحدثين الشيخ محمد البرلسي في كتابه إتحاف أهل العرفان: وقد تجاسر ابن تيمية الحنبلي عامله الله تعالى بعدله وذكر تحريمه للسفر إلى زيارة النبي " ص " إلى أن قال حتى تجاوز الجناب الأقدس المستحق لكل كمال أنفس وخرق سياج الكبرياء والجلال وحاول إثبات ما ينافي العظمة والكمال بادعائه الجهة والتجسيم ونسبة من لم يعتقدهما إلى الضلالة والتأثيم وأظهر هذا الأمر على المنابر وشاع وذاع ذكره بين الأكابر والأصاغر. إلى آخر ما يأتي في فصل الزيارة وعن صاحب أشرف الوسائل إلى فهم الشمائل أنه قال في بيان إرخاء العمامة بين الكتفين. قال ابن القيم عن شيخه ابن تيمية أنه ذكر شيئا بديعا وهو أنه " ص " لما رأى ربه واضعا يده بين كتفيه أكرم ذلك الموضع بالعذبة. قال العراقي ولم نجد لذلك أصلا. أقول: بل هذا من قبيل رأيهما وضلالهما إذ هو مبني على ما ذهبا إليه وأطالا في الاستدلال له والحط على أهل السنة في نفيهم له وهو إثبات الجهة والجسمية لله تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا ولهما في هذا المقام من القبائح وسوء الاعتقاد ما يصم عنه الأذان ويقضي عليه بالزور والكذب والضلال والبهتان قبحهما الله وقبح من قال بقولهما. والإمام أحمد وأجلاء مذهبه مبرؤون عن هذه الوصمة القبيحة كيف وهي كفر عند كثيرين (انتهى). وعن المولوي عبد الحليم الهندي في حل المعاقد حاشية شرح العقائد كان تقي الدين ابن تيمية حنبليا لكنه تجاوز عن الحد وحاول إثبات ما ينافي عظمة الحق تعالى وجلاله فأثبت له الجهة والجسم وله هفوات أخر كما يقول إن أمير المؤمنين سيدنا عثمان رضي الله عنه كان يحب المال وإن أمير المؤمنين سيدنا عليا رضي الله عنه ما صح إيمانه فإنه آمن في حال صباه. وتفوه في حق أهل بيت النبي صلى الله عليه وعليهم ما لا يتفوه به المؤمن المحق وقد وردت الأحاديث الصحاح في مناقبهم في الصحاح، وانعقد مجلس في قلعة الجبل وحضر
121 العلماء الأعلام والفقهاء العظام ورئيسهم قاضي القضاة زين الدين المالكي وحضر ابن تيمية فبعد القيل والقال بهت ابن تيمية وحكم قاضي القضاة بحبسه سنة 705 ثم نودي بدمشق وغيرها من كان على عقيدة ابن تيمية حل ماله ودمه كذا في مرآة الجنان للإمام أبي محمد عبد الله اليافعي ثم تاب وتخلص من السجن سنة 707 وقال إني أشعري ثم نكث عهده وأظهر مرموزه فحبس حبسا شديدا ثم تاب وتخلص من السجن وأقام في الشام وله هناك واقعات كتبت في كتب التواريخ ورد أقاويله وبين أحواله الشيخ ابن حجر في المجلد الأول من الدرر الكامنة والذهبي في تاريخه وغيرهما من المحققين والمرام أن ابن تيمية لما كان قائلا بكونه تعالى جسما قال بأنه ذو مكان فإن كل جسم لا بد له من مكان على ما ثبت ولما ورد في الفرقان الحميد (الرحمن على العرش استوى) قال إن العرش مكانه ولما كان الواجب أزليا عنده وأجزاء العالم حوادث عنده اضطر إلى القول بأزلية جنس العرش وقدمه وتعاقب إشخاصه الغير المتناهية فمطلق التمكن له تعالى أزلي والتمكنات المخصوصة حوادث عنده كما ذهب المتكلمون إلى حدوث التعلقات " انتهى ". وعن اليافعي في مرآة الجنان أنه قال في ذكر فتنة ابن تيمية: وكان الذي ادعي عليه بمصر أنه يقول إن الرحمن على العرش استوى حقيقة وأنه يتكلم بحرف وصوت ثم نودي بدمشق وغيرها من كان على عقيدة ابن تيمية حل ماله ودمه (انتهى). وعن تاريخ أبي الفدافي حوادث سنة 705: وفيها استدعي تقي الدين أحمد بن تيمية من دمشق إلى مصر وعقد له مجلس وأمسك وأودع الاعتقال بسبب عقيدته فإنه كان يقول بالتجسيم " انتهى ". وجاء في المنشور الصادر بحقه من السلطان: وكان الشقي ابن تيمية في هذه المدة قد بسط لسان قلمه ومد عنان كلمه وتحدث في مسائل القرآن والصفات ونص في كلامه على أمور منكرات وأتى في ذلك بما أنكره أئمة الإسلام وانعقد على خلافه إجماع العلماء الأعلام وخالف في ذلك علماء عصره وفقهاء شامه ومصره وعلمنا أنه استخف قومه فأطاعوه حتى اتصل بنا أنهم صرحوا في حق الله بالحرف والصوت والتجسيم " انتهى ". وعن كشف الظنون عن بعضهم أنه بالغ في رد ابن تيمية حتى صرح بكفر من أطلق عليه شيخ الإسلام " انتهى ". وأما محمد بن عبد الوهاب فاقتفى هو وأتباعه في ذلك أثر ابن تيمية كما اقتفى أثره في
122 زيارة القبور والتشفع. والتوسل وغير ذلك وبنى على أساسه وزاد وقد أثبت ابن عبد الوهاب لله تعالى جهة الفوق والاستواء على العرش الذي هو فوق السماوات والأرض والجسمية والرحمة والرضا والغضب واليدين اليمنى والشمال والأصابع والكف كلها بمعانيها الحقيقية من دون تأويل. قال محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد الذي هو حق على العبيد على ما حكي عنه في باب قوله تعالى: " حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ": العشرون إثبات الصفات خلافا للأشعرية المعطلة. قال الشارح: الأشعرية الفرقة المنتسبة لأبي الحسن الأشعري أنكرت كثيرا من الصفات " منها " علو الله تعالى واستواؤه على عرشه بائنا عن خلقه ومحبته لعباده الصالحين ورحمته لهم رضاه وغضبه وغير ذلك خلافا لما جاء عن رسول الله " ص " وأصحابه وسائر السلف الصالحين ثم استدل على ذلك بالأحاديث فقال باب ما جاء في قوله تعالى: " وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة " (الآية) عن ابن مسعود رضي الله عنه جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله " ص " فقال يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السماوات في إصبع والأرضيين في إصبع والشجر على إصبع والماء على إصبع والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع فيقول إنا الملك فضحك النبي " ص " حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثم قرأ: " وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة " (الآية) وفي رواية لمسلم والجبال والشجر على إصبع ثم يهزهن فيقول أنا الملك أنا الله. وفي رواية للبخاري: يجعل السماوات على إصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع أخرجاه ولمسلم عن ابن عمر مرفوعا: يطوى الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول إنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوي الأرضين السبع ثم يأخذهن بشماله ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون. وروى عن ابن عباس ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم. وعن ابن مسعود بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام وبين كل سماء خمسمائة عام وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام وبين الكرسي والماء خمسمائة عام والعرش فوق الماء والله فوق العرش لا يخفى عليه شئ من أعمالكم أخرجه ابن مهدي وعن العباس بن عبد
123 المطلب رضي الله عنه قال رسول الله " ص " هل تدرون كم بين السماء والأرض قلنا الله ورسوله أعلم قال بينهما مسيرة خمسمائة سنة ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض والله تعالى فوق ذلك وليس يخفى عليه شئ من أعمال بني آدم أخرجه أبو داود وغيره وفيه مسائل: " الأولى " تفسير قوله تعالى (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة) " الثانية " إن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه " ص " لم ينكروها ولم يتأولوها " الثالثة " إن الحبر لما ذكر ذلك للنبي " ص " صدقه ونزل القرآن بتقرير ذلك " رابعا " وقوع الضحك منه " ص " لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم " الخامسة " التصريح بذكر اليدين وإن السماوات في اليد اليمنى والأرضين في الأخرى " السادسة " التصريح بتسميتها الشمال " انتهى ". وهو صريح في إثبات جهة الفوق لله تعالى والاستواء على العرش الذي هو فوق السماوات والأرض وإثبات المحبة والرحمة والرضا والغضب وإثبات اليدين والأصابع واليد اليمنى واليد الشمال والكف له تعالى كلها بمعانيها الحقيقية من دون تأويل ونسبة الأشعرية الذين يؤلونها إلى التعطيل وهو عين التجسيم الذي أطبق المسلمون على كفر معتقده لاستلزامه التركيب والتحيز والوجود في جهة دون جهة وكل ذلك يستلزم الحدوث كما قرر في محله ويلزم من إثبات المحبة والرحمة والرضا والغضب بمعانيها الحقيقية وهي ميل القلب ورقته وعدم هيجان النفس وهيجانها كونه تعالى محلا للحوادث الموجب حدوثه كما علم من علم الكلام مع أن حديث حبر اليهود عليه لا له فإن الضحك لم يكن لتصديق قول الحبر كما توهم بل للرد عليه فهو ضحك تعجب من نسبة ذلك إليه تعالى مع بطلانه في العقول ويدل عليه قراءته " ص " وما قدروا الله حق قدره أي ما قدروه حق قدره بنسبتهم إليه الجسمية والأعضاء. وأما أتباع محمد بن عبد الوهاب فاثبتوا لله تعالى جهة العلو والاستواء على العرش والوجه واليدين والعينين والنزول إلى سماء الدنيا والمجئ والقرب وغير ذلك بمعانيها الحقيقية.
124 ففي الرسالة الرابعة من الرسائل الخمس المسمى مجموعها بالهدية السنية (1) لعبد اللطيف حفيد محمد بن عبد الوهاب عند ذكر بعض اعتقادات الوهابية وأنها مطابقة لعبارة أبي الحسن الأشعري قال: وأن الله تعالى على عرشه كما قال: " الرحمن على العرش استوى " وأن له يدين بلا كيف كما قال: " لما خلقت بيدي بل يداه مبسوطتان " وأن له عينين بلا كيف وأن له وجها كما قال " ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام " وقال (2) ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله " ص " أن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول هل من مستغفر. " إلى أن قال " ويقرون إن الله يجئ يوم القيامة كما قال: " وجاء ربك والملك صفا صفا " وأنه يقرب من خلقه كيف شاء كما قال " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ". وفي الرسالة الخامسة لمحمد بن عبد اللطيف المذكور (3) ونعتقد أن الله تعالى مستو على عرشه عال على خلقه وعرشه فوق السماوات قال تعالى " الرحمن على العرش استوى " فنؤمن باللفظ ونثبت حقيقة الاستواء ولا نكيف ولا نمثل قال إمام دار الهجرة مالك ابن أنس وبقوله نقول، وقد سأله رجل عن الاستواء فقال: الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. (إلى أن قال) فمن شبه الله بخلقه كفر ومن جحد ما وصف به نفسه فقد كفر ونؤمن بما ورد من أنه تعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول الخ. (ونقول): يلزم من ذلك أحد أمرين: التجسيم أو القول بالمحال وكلاهما محال لأن حصول حقيقة الاستواء مع عدم الكيف محال بحكم العقل ومع الكيف تجسيم فلا بد من التأويل والمجاز والقرينة العقل. ومنه تعلم أن الكلام المنسوب إلى الإمام مالك لا يكاد يصح وحسن الظن به يوجب الريبة في صحة النسبة إليه وذلك لأن قوله الاستواء معلوم أن أراد أنه معلوم بمعناه الحقيقي فهو ممنوع بل عدمه معلوم بحكم العقل باستحالة الجسمية عليه تعالى واستحالة الاستواء الحقيقي بدون الجسمية وأن المراد بالمعنى المجازي فلا يصلح شاهدا لقوله: نثبت حقيقة الاستواء، ولا يكون السؤال عنه بدعة ولا يلزم الكيف حتى يقال إنه مجهول. ثم كيف يكون السؤال بدعة والتصديق بالمجهول محال وإن أراد أنا نؤمن به على حسب المعنى الذي أراده الله تعالى منه وإن لم نعلمه تفصيلا فإن كان يحتمل أنه أراد حقيقة الاستواء ففاسد لما عرفت من استحالته بحكم
(1) ص 97 (2) ص 99 (3) ص 105 طبع المنار بمصر. 125 العقل وإن كان الترديد بين المعاني المجازية فقط فأين حقيقة الاستواء التي أثبتناها. وإذا كان قول الإمام مالك عند هؤلاء قدوة وحجة في مثل هذه المسألة الغامضة فلم لم يقتدوا بقوله فيما هو أوضح منها وأهون وهو رجحان استقبال القبر الشريف والتوسل بصاحبه عند الدعاء حسبما أمر به مالك المنصور فيما مرت الإشارة إليه. " وكذا " الاعتقاد باليدين والعينين والوجه بدون الكيف فإن كانت بمعانيها الحقيقة لزم اعتقاد المحال لاستحالة المعاني الحقيقية بدون الكيف ومع الكيف يلزم التجسيم فلا بد من المجاز والتأويل والقرينة حكم العقل. وكذا بأنه تعالى ينزل إلى سماء الدنيا ويجئ يوم القيامة ويقرب من خلقه إن كان بمعانيها الحقيقية لزم التجسيم فلا بد من المجاز والتأويل لعين ما مر. قوله: فمن شبه الله بخلقه كفر، قلنا: إثبات حقيقة هذه الأشياء هي تشبيه له بخلقه فتكون كفرا لعدم إمكان إثباتها بدون التشبيه كما عرفت. قوله: ومن جحد ما وصف به نفسه فقد كفر، قلنا: جحود الصفة والإقرار بها حكم عليها والحكم على الشئ فرع معرفته فيلزم أولا أن نعرف ما أريد بهذا اللفظ هل هو معناه الحقيقي أو المجازي لنعرف ما وصف به نفسه فنقر به وإذا كان المعنى الحقيقي يستحيل إرادته كما بينا فلا يكون مما وصف به نفسه فلا يكون جحوده كفرا. ومن هنا تعلم فساد ما حكي عن محمود شكري الآلوسي في تاريخ نجد من أن الوهابيين يقرون آيات الصفات والأحاديث على ظاهرها ويكلون معناها إلى الله تعالى " انتهى " فإن إقرارها على ظاهرها يناقض إيكال معناها إلى الله كما هو واضح بل إيكالها إليه تعالى عبارة عن التوقف وعدم الحكم ببقائها على ظاهرها أما قول عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في الرسالة الثانية من رسائل الهدية السنية (1) أنه لا يلزم أن نكون مجسمة وأن قلنا بجهة العلو لأن لازم المذهب ليس بمذهب ففيه أن كون لازم المذهب ليس بمذهب إن صح فمعناه أن من ذهب إلى القول بشئ لا يجب أن يكون قائلا بلازمه إلا أنه إذا كان هذا اللازم باطلا كان ملزومه الذي ذهب إليه باطلا
126 لأن بطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم وإلا لبطلت الملازمة فمن قال بجهة العلو وإن لم يقل بالتجسيم إلا أنه لازم قوله فإذا كان التجسيم باطلا فالقول بجهة العلو خطأ وباطل مع أنك قد عرفت آنفا أن قدوتهم ومؤسس ضلالتهم ابن تيمية قد صرح بالجسمية وكفره علماء عصره لذلك وحكموا بقتله أو حبسه وإن مؤسس مذهبهم ابن عبد الوهاب اقتدى بابن تيمية في ذلك فأثبت اليدين اليمين والشمال والأصابع والكف وهم على طريقته لا يحيدون عنها قيد أنملة فلا ينفعهم التبري من القول بالتجسيم. * اعتقاد الوهابيين في النبي " ص " وسائر الأنبياء والصالحين وقبورهم * اعتقادهم في النبي (ص) أن الاستغاثة به وطلب الشفاعة منه إلى الله والتوسل به إليه بقول يا رسول الله أو يا رسول الله إشفع لي أو أتوسل بك إلى الله والتبرك بقبره والصلاة والدعاء عنده وتعظيمه كل ذلك شرك وكفر وعبادة للأصنام والأوثان موجبة لحل المال والدم وأنه يحرم السفر لزيارته ويجب هدم ضريحه وقبته ويحرم التبرك بتربته ولمس ضريحه وتقبيله وأن ضريحه صنم من الأصنام ووثن من الأوثان بل هو الصنم الأكبر والوثن الأعظم وكذلك سائر الأنبياء والصالحين، وفي خلاصة الكلام: (1) كان محمد بن عبد الوهاب يقول عن النبي " ص " إنه طارش، وإن بعض أتباعه كان يقول: عصاي هذه خير من محمد لأنه ينتفع بها في قتل الحية ونحوها ومحمد قد مات ولم يبق فيه نفع وإنما هو طارش ومضى، وكان يقال ذلك بحضرته أو يبلغه فيرضى وكان يقول: وجدت في قصة الحديبية كذا كذا كذبة " انتهى ". * اعتقادهم في عموم المسلمين * واعتقادهم في عموم المسلمين أنهم كفروا بعد إيمانهم وأشركوا بعد توحيدهم أو أنهم كفار بالكفر الأصلي بل شر من الكفار فيجب قتالهم وتحل دماؤهم وأموالهم، وعلى بعض الأقوال: تسترق ذراريهم، وهذا الكفر والشرك حصل منهم منذ ستمائة سنة قبل ابن عبد الوهاب، على ما في خلاصة الكلام، وأنهم أبدعوا في دين الإسلام. هذا محور مذهب الوهابية الذي يدور عليه.
(1) صفحة 230 127 أما كفرهم وشركهم فبعبادتهم الأنبياء والصالحين بل وغير الصالحين ممن يعتقدون فيهم الولاية وهم من فسقة الناس وعبادتهم قبورهم فكانوا بذلك كمشركي قريش وغيرهم عبدوا الأصنام والأوثان من الأحجار والأشجار وغيرها وعبدوا الملائكة والجن، كالنصارى الذين عبدوا المسيح وأمه، وذلك باستغاثتهم بالأموات ودعائهم لكشف الملمات والهتاف بأسمائهم والتشفع بهم إلى الله بقول: يا رسول الله أسألك الشفاعة ونحو ذلك، والنذر والذبح لهم وتعظيم قبورهم ببناء القباب عليها وعمل الأضرحة لها ووضع الجوخ وغيره عليها وعمل الستور لها وإسراجها وتخليقها والعكوف عليها كما كان المشركون يعكفون على أصنامهم، والنذر لها وتزيينها بالقناديل والذهب والفضة وغيرها وجعل الخدمة والسدنة لها وعمل أعياد ومواسم لها وتقبيلها والطواف حولها والتمسح بها وأخذ ترابها تبركا والصلاة عندها واتخاذها مساجد وشد الرحال إليها وكتب الرقاع عليها ونحو ذلك، فإن ذلك كله عبادة لها ولأهلها. وصرف شئ من أنواع العبادة لغير الله كصرف جميعها موجب للشرك والكفر. وفرعوا على ذلك وجوب هدم قبور الأنبياء والصالحين والقباب المبنية عليها وعدم جواز تعميرها وتعليق المعلقات فيها والوقف عليها بل هو باطل، وعدم جواز لمسها والتبرك بها والصلاة والدعاء عندها وإيقاد السرج عليها وغير ذلك. وقسموا التوحيد إلى توحيد الربوبية وهو الاعتقاد بأن الخالق الرازق المدبر للأمر هو الله. وتوحيد العبادة وهو صرف العبادة كلها إلى الله. قالوا ولا ينفع الأول بدون الثاني لأن مشركي قريش كانوا يعتقدون بالأول فلم ينفعهم لعدم إقرارهم بالثاني، كذلك المسلمون لا ينفعهم الاقرار بتوحيد الربوبية لعبادتهم الأنبياء والصالحين وقبورهم بنفس الأشياء التي كان المشركون يعبدون أصنامهم بها. وقالوا: الكفر نوعان مطلق ومقيد فالمطلق أن يكفر بجميع ما جاء به الرسول " ص " والمقيد أن يكفر ببعضه وهو كفر المسلمين الذين هم باعتقادهم مشركون، وقسموا الشرك إلى قسمين: أكبر وأصغر فالأكبر هو الذي تقدم والأصغر كالرياء والحلف بغير الله تعالى. وفرع الوهابية على هذا الاعتقاد الذي اعتقدوه من إشراك جميع المسلمين: وجوب
128 قتالهم واستحلال دمائهم وجعل بلادهم دار حرب وقتالهم جهادا في سبيل الله وبلادهم بلاد شرك تجب الهجرة منها إلى بلاد الإسلام التي أهلها وهابية موحدون كما كانت هذه الأشياء ثابتة في حق عبدة الأوثان والأصنام. قال محمد بن عبد الوهاب في رسالة ثلاثة الأصول (1): والهجرة فريضة على هذه الأمة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام وهي باقية إلى أن تقوم الساعة الخ. أما سبي ذراري المسلمين فهو مقتضى قواعد المذهب الوهابي الذي أساسه ومبناه ومحوره الذي يدور عليه التسوية بين عبدة الأصنام وبين المسلمين في الاشراك بالعبادة، وقد صرح الصنعاني في تطهير الاعتقاد في عدة مواضع بما يدل على ذلك حيث قال: (2) ومن فعل ذلك (أي الاستغاثة وما يجري مجراها) لمخلوق فهذا شرك في العبادة وصار من تفعل له هذه الأمور إلها لعابديه وصار الفاعل عابدا لذلك المخلوق وإن أقر بالله وعبده فأن إقرار المشركين بالله وتقربهم إليه لم يخرجهم عن الشرك وعن وجوب سفك دمائهم وسبي ذراريهم ونهب أموالهم. وقال في موضع آخر: (3) فمن رجع وأقر حقن عليه دمه وماله وذراريه ومن أصر فقد أباح الله منه ما أباح لرسول الله (ص) من المشركين " انتهى ". ويدل عليه ما حكاه الجبرتي في تاريخه في حوادث سنة 1217 كما تقدم نقله عنه في بعض الحواشي السابقة: أنهم لما دخلوا الطائف قتلوا الرجال وأسروا النساء والأطفال. قال: وهذا دأبهم مع من يحاربهم. وعن كتاب التوضيح لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب أنه قال: وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونساءهم وأن يتخذوهم عبيدا " انتهى ". ومر عن تاريخ الأمير حيدر أن الوهابيين في بعض حروبهم سبوا النساء وقتلوا الأطفال، ولكن في الرسالة الثانية من رسائل الهدية السنية (4): ومما نحن عليه إنا لا نرى سبي العرب ولم نفعله نقاتل غيرهم " كذا " ولا نرى سبي النساء والصبيان " انتهى " وهذا مناقض لقواعد مذهبهم ولما سمعت من كلام بعضهم، والتناقض في كلامهم غير عزيز كما يظهر لك من تضاعيف هذا الكتاب.
(1) صفحة (2) صفحة 7 (3) صفحة 12 طبع المنار بمصر (4) صفحة 40. 129 وأما إبداع المسلمين في الدين فبإحداثهم أشياء فيه لم تكن على عهد النبي " ص " والصحابة. وقالوا: البدعة وهي ما حدثت بعد القرون الثلاثة (أي قرن النبي " ص " وما بعده) مذمومة مطلقا. ذكره حفيد ابن عبد الوهاب في إحدى رسائل الهدية السنية (1) وذلك مثل المحاريب الأربعة في المساجد للأئمة الأربعة وجعل أربعة أئمة للصلاة من أهل المذاهب الأربعة والترحيم والتذكير الذي يفعل في المآذن ليلة الجمعة ويومها وليلة الاثنين وبين الأذان والإقامة وقبل الفجر (2) ورفع الصوت في مواضع الأذان كالمنائر بغير الأذان من قرآن أو صلاة على النبي " ص " أو ذكر بعد أذان أو في ليلة جمعة أو رمضان أو العيدين وقراءة حديث أبي هريرة قبل خطبة الجمعة والاجتماع على قراءة سيرة المولد الشريف النبوي وقراءة المولد النبوي بقصائد بألحان وتخلط بالصلاة عليه وبالأذكار والقراءة وتكون بعد التراويح والتظاهر باتخاذ المسابح والاجتماع على رواتب المشايخ برفع الصوت وقراءة الفواتح كراتب السمان والحداد وغيرهما وقراءة الفواتح للمشايخ بعد الصلوات الخمس وكصلاة الخمسة الفروض بعد آخر جمعة من رمضان ورفع الصوت بالذكر عند حمل الميت وعند رش القبر بالماء وكإتخاذ الطرائق وتعليق الأسلحة والبيارق في التكايا والزوايا وعمل الذكر المتعارف ونقر الدفوف وما يتخلل ذلك من الشهيق والنهيق والنعيق وتكرار لفظ الجلالة (الله الله) وغير ذلك. وأحرق الوهابية دلائل الخيرات بدعوى اشتمالها على البدعة أو الشرك. وفي خلاصة الكلام: (3) أن محمد بن عبد الوهاب كان ينهي عن الاتيان بالصلاة على النبي " ص " ليلة الجمعة وعن الجهر بها على المناير وأنه قتل رجلا أعمى كان مؤذنا صالحا ذا صوت حسن نهاه عن الصلاة على النبي " ص " في المنارة بعد الأذان فلم ينته فأمر بقتله فقتل. ثم قال: إن الربابة في بيت الخاطئة أقل إثما ممن ينادي بالصلاة على النبي " ص " في المنائر " انتهى " وذلك لأن الربابة في البيت الخاطئة لا يتجاوز إثمها صاحبها أما الصلاة على النبي " ص " بتلك الكيفية فهي بزعمه بدعة فيتعدى إثمها لكل من يقتدي بفاعلها. (ونقول): البدعة كما مر في المقدمات إدخال ما ليس من الدين في الدين كإباحة محرم
(1) ص 47 (2) وهذا جاء في سؤال ابن بليد الموجه إلى أهل المدينة كما يأتي (3) ص 23. - المؤلف - 130 أو تحريم مباح أو إيجاب ما ليس بواجب أو ندبه أو نحو ذلك سواء كانت في القرون الثلاثة أو بعدها وتخصيصها بما بعد القرون الثلاثة لا وجه له، ولو سلمنا حديث. خير القرون قرني الخ فإن أهل القرون الثلاثة غير معصومين بالاتفاق وتقسيم بعضهم لها إلى حسنة وقبيحة أو إلى خمسة أقسام ليس بصحيح بل لا تكون إلا قبيحة. ولا بدعة فيما فهم من إطلاق أدلة الشرع أو عمومها أو فحواها أو نحو ذلك وإن لم يكن موجودا في عصر النبي " ص " فتقبيل يد العالم أو الصالح أو الأبوين بقصد التعظيم والاحترام تقربا إليه تعالى جائز وراجح وإن لم يكن ذلك في عصره " ص " ولا ورد فيه نص خاص فإنه بعد أن صار نوعا من التعظيم عادة وفهم من أدلة الشرع رجحان تعظيم المؤمن بوجه العموم يكون جائزا وراجحا، وكذا القيام عند ذكر ولادة النبي (ص) أو ذكر اسم رجل عظمه الشرع هو من هذا القبيل ما لم يكن التعظيم بفعل حرمه الشرع كالغناء وآلات اللهو والكذب في المدح ونحو ذلك. كما أنه لا بدعة فيما فعل لا بقصد الخصوصية أو العبادة. ومنه يعلم عدم صحة الحكم بالبدعة في كل ما ذكروه وصحته في البعض فرفع الصوت بالأشياء المذكورة لا مانع منه لعموم أدلتها أو إطلاقها وعدم تقييدها برفع الصوت ولا بخفضه خصوصا إذا كان في رفع الصوت فائدة كالإعلان بذكر الله واتعاظ السامع ونحو ذلك، نعم لو فعلت بقصد الخصوصية والورود كانت بدعة، ودعوى أن السامع يتوهمها كذلك لا تسمع لأن السامع عليه الفحص وسؤال أهل المعرفة وكذا التذكير والترحيم يشمله عموم ذكر الله ودعائه والترحم على المؤمنين والصحابة ونحو ذلك. وعد ذلك بدعة، جمود وقلة فقه، فلو أن رجلا اصطلح على أن يصلي على النبي " ص " عند طلوع الشمس عشر مرات أو أن يكبر بعد العصر سبعين مرة مثلا أو نحو ذلك ولم يقصد أن هذا مأمور به بخصوصه لم يكن مبدعا في الدين بعد دلالة الأدلة الشرعية بعمومها أو إطلاقها على استحباب الصلاة على النبي " ص " في أي وقت كان واستحباب ذكر الله بالتكبير وغيره. ولو فرضنا أنه يلزم فعل العبادات بجميع الخصوصيات التي كان يفعلها النبي " ص " بها ولا يجوز فعلها بدونها بل تكون بدعة لكانت الصلاة بالطربوش أو الشال الهندي أو البنطلون أو العقال والمنديل بدعة، ولكانت الخطبة في الجمعة والعيدين بدون قلنسوة بدعة إذا فرض أنه " ص " كان يفعلها متقلنسا، وبقلنسوة بيضاء بدعة إذا فرض أنه كان يفعلها بقلنسوة حمراء مثلا، وهكذا، وهذا لا يقول به من عنده أدنى معرفة
131 بأدلة الشرع. وكأنهم منعوا الترحيم الذي يقال فيه يا أرحم الراحمين ارحمنا بجاه فلان لأن ذلك عندهم من التوسل الموجب للكفر، وستعرف فساده. والالتزام بقراءة حديث فيه فائدة أمام خطبة الجمعة لا ضرر فيه إن لم يفعل بقصد الورود. والاجتماع على قراءة سيرة المولد الشريف فيه تعظيم للنبي " ص " واستبشار بخبر ولادته التي كانت سببا لسعادتنا الأبدية فيشمله عموم ما دل على رجحان ذلك، وقراءة المولد مع قصائد وصلاة عليه لا مانع منها إن لم تشتمل على الغناء المحرم لعموم الأدلة، والتظاهر بحمل المسابح لا محذور فيه لما فيها من الفوائد من عد الأذكار الموظفة بعدد خاص فتكون كما ورد من العد على النوى الذي أشار إليه صاحب المنار في الحاشية. وقوله في الحاشية: أي اتخاذها شعارا يوهم أنه مطلوب شرعا، مردود بأنه لا يوهم ذلك عند ذي المعرفة، وغيره لا يضرنا وهمه ولا يلزمنا دفعه ولا يصير فعلنا بدعة بسببه، وقراءة الفواتح للمشايخ بعد الصلوات يراد بها إهداء الثواب إليهم فيعمها ما دل على جواز إهداء الثواب للميت واختيار أوقات الصلاة لأنها أفضل فيزداد الثواب. ومن ذلك تعلم أن قوله: فالربابة الخ مع ما فيه من سوء الأدب العظيم مبني على ما هو فاسد من كون رفع الصوت في المنارة بالصلاة بدعة وقد عرفت فساده، وأن الصلاة عليه (ص) مستحبة مطلقا مع رفع الصوت وبدونه على المنارة وغيرها فيجوز مطلقا إلا أن يقصد وروده في الشرع بهذه الكيفية وهذا لا يقصده أحد. والحاصل أن ما ثبت استحبابه على وجه العموم إذا التزم بكيفية منه لا من باب الخصوصية لا يكون ذلك بدعة. أما المحاريب الأربعة والأئمة الأربعة للصلوات الخمس فقد بينا في مقام آخر من هذا الكتاب أنه لو كان بدعة لكانت المذاهب الأربعة بدعة ومع كونها سنة فلا بد أن يكون سنة. أما اتخاذ الطرائق وما يتبعها مما عددوه إلى الشهيق والنهيق والنعيق وتكرار الجلالة الذي يشبه في كثير من حالاته نبح الكلاب فنحن نوافقهم في أنه من البدع القبيحة ومن تسويلات الشيطان. ثم قال حفيد ابن عبد الوهاب في إحدى رسائل الهدية السنية بعد كلامه السابق:
132 وأما ما لا يتخذ دينا ولا قربة كالقهوة وقصائد الغزل ومدح الملوك فلا ننهى عنه ويحل كل لعب مباح لأن النبي (ص) أقر الحبشة على اللعب يوم العيد ويحل الرجز والحداء وطبل الحرب ودف العرس وقد قال (ص): بعثت بالحنيفية السمحة لتعلم اليهود أن في ديننا فسحة (انتهى). وهنا نشكر للوهابية تسامحهم وتساهلهم في تحليل الأشياء المذكورة وعدم عدهم لها كفرا وشركا أو تحريمهم لها أو عدها بدعة كما حرموا التدخين وعاقبوا عليه وكما توقفوا في (التلغراف) كما مر وإذا كانوا يعلمون أنه (ص) بعث بالحنيفية السمحة فما بالهم يضيقون على العباد في الأمور الاجتهادية التي ليست من ضروريات الدين مع تجويزهم الاجتهاد ومخالفة جميع المذاهب الأربعة واعتقادهم أن المخطئ في اجتهاده مأجور. وتحريم التدخين ليس من ضروريات الدين ولم يرد فيه نص ولم يكن في زمن النبي (ص) وحاله حال القهوة التي يشربونها وصرحوا بحليتها فإن كان تحريم الدخان لعدم النص فالقهوة كذلك وإن كان للأضرار فلا يحرم على من لا يعتقد الضرر وإن كان للإسراف فالمدخنون يرتاحون إليه ويستعينون به على التسلي وتصفية الفكر وإن كان لأنه من الخبائث فليس بمأكول ولا مشروب حتى يعمه تحريم الخبائث لأن إضافة التحريم إلى الأعيان على حذف الفعل المناسب، فحرمت الخمر أي شربها، والميتة أي أكلها، وأمهاتكم أي نكاحها، والخبائث أي أكلها وشربها وغير ذلك. على أن الخبائث مجملة فما شك في دخوله فيها بقي على أصالة الحل. وبعد ذلك كله فالمجتهد في حلية التدخين ليس لنا معارضته أصاب أو أخطأ لأنه معذور وكذا كل ما ينقمونه على المسلمين لا يخرج عن أمور اجتهادية ليست ضرورية فكيف ساغ لهم معارضة المسلمين فيها بالسيف والسنان. وجعل الوهابية حالهم في الدعاء إلى مذهبهم وإلى تجديد التوحيد ورفع البدع حال رسول الله (ص) والأنبياء قبله في الدعاء إلى الإسلام والتوحيد فكما جاءت الأنبياء لتلزم الناس بالتوحيد وتمنعها من الشرك وترفع من بينها البدع وكما دعا النبي (ص) مشركي قريش ومن ضارعهم من عبادة الأوثان إلى إخلاص التوحيد واستحل دم ومال من أبى، فالوهابيون يدعون جميع المسلمين الذين هم جميعا عندهم من عبدة الأوثان إلى إخلاص التوحيد وترك الشرك والبدع ومن أبى ولم يتوهب حل ماله ودمه كما حل مال ودم عبدة الأصنام ومشركي قريش في زمن
133 النبي (ص). صرح بذلك محمد بن عبد الوهاب في كشف الشبهات وصرح به محمد بن إسماعيل الصنعاني في تطهير الاعتقاد كما سيأتي عند نقل كلامهما وغيرهما. والحاصل أن حكم الوهابيين بكفر جميع المسلمين وشركهم هو أساس مذهبهم ومحوره الذي يدور عليه لا يتحاشون منه وكتبهم مشحونة بالتصريح به تصريحا لا يقبل التأويل بل صرح به محمد بن عبد الوهاب في رسالتي أربع القواعد وكشف الشبهات كما سيأتي بأن شرك المسلمين أغلظ من شرك عبدة الأصنام لأن أولئك يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة وهؤلاء شركهم دائم في الحالتين ولأن أولئك يدعون مع الله أناسا مقربين عنده وأشجارا وأحجارا غير عاصية وهؤلاء يدعون معه أناسا من أفسق الناس، وصرح بذلك الصنعاني في رسالة تطهير الاعتقاد في عدة مواضع بل صرح في تلك الرسالة كما ستعرف بأن كفر المسلمين أصلي لا كفر ردة. وصرح بالتكفير بجملة مما كفر به الوهابية غيرهم ابن تيمية في رسالتي الواسطة وزيارة القبور كما ستعرف ومنه أخذ الوهابية تكفير المسلمين وعلى أساسه بنوا وزادوا وصرح بذلك أيضا الوهابية في عدة مواضع من رسائل الهدية السنية الخمس وغيرها وصرح به عبد اللطيف حفيد ابن عبد الوهاب فيما حكاه عنه الآلوسي في تاريخ نجد. وقد أطلق محمد بن عبد الوهاب في رسالة كشف الشبهات اسم الشرك والمشركين على عامة المسلمين عدى الوهابيين فيما يزيد عن أربعة وعشرين موضعا وأطلق عليهم اسم الكفر والكفار وعباد الأصنام والمرتدين والمنافقين وجاحدي التوحيد وأعدائه وأعداء الله ومدعي الإسلام وأهل الباطل والذين في قلوبهم زيغ والجهال والجهلة والشياطين وإن جهال الكفار عبدة الأصنام أعلم منهم وإن إبليس إمامهم ومقدمهم إلى غير ذلك من الألفاظ الشنيعة فيما يزيد عن خمسة وعشرين موضعا (1) وأطلق عليهم الصنعاني في تطهير الاعتقاد اسم الشرك فيما يزيد عن ثلاثين موضعا وأطلق عليهم اسم الالحاد والكفر والكفر الأصلي وإنهم عبدوا غير الله وزادوا على عبادة الأصنام وإنهم مثل أصحاب مسيلمة والسبائية واليهود والخوارج وأهل الجاهلية فيما يزيد عن خمسة عشر موضعا وأطلق اسم الإله والصنم والوثن والند لله على من يستغيثون ويتبركون به في نحو من عشرة مواضع (2)
(1) راجع صفحاتها من صفحة 57 إلى 72 تجد في كل منها شيئا كثيرا من ذلك (2) راجع صفحة 7 و 17 و 20 و 22 134 وأطلق أصحاب الهدية السنية على المسلمين اسم الشرك والإشراك والشرك بالله والشرك الأكبر وأعظم الشرك والشرك الوخيم ومتخذي الشريك والشرك الموجب لحلية المال والدم والمشركين والمشركات وأقبح المشركين وإنهم مشركون شاؤوا أو أبوا وإن شركهم أقبح وأشنع ممن قالوا: اجعل لنا ذات أنواط، وأعظم وأكبر من شرك الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا، وإن الوهابيين لما جاؤوا إلى مكة عبد الله وحده، فيما يزيد عن ستين موضعا، واسم الكفر والكفار وإنهم كاليهود والنصارى والسبائية وعباد الملائكة والشمس والقمر والقائلين اجعل لنا ذات أنواط بل شر منهم وعباد اللات والعزى وعباد الأصنام والأوثان وإن ما هم عليه هو دين الجاهلية، فيما يزيد عن عشرين موضعا، ووصفوهم بعبادة غير الله فيما يزيد عن عشرة مواضع وسموا من يتوسل ويتبرك بهم المسلمون وبقبورهم بالأصنام والأوثان والأنداد لله فيما يزيد عن اثني عشر موضعا (1) وسننقل في تضاعيف ما يأتي جملة من كلماتهم الصريحة في ذلك. وأطلق حفيد ابن عبد الوهاب على المسلمين اسم الكفر في ثلاثة مواضع، والشرك في أربعة، ومدعي الإسلام وأنهم يحبون مع الله محبة تأله وأنهم شر من جاهلية العرب وأن شركهم أشد وأشنع وأكبر من شركها وأنه لم يبلغ شرك الجاهلية الأولى شركهم، ونسبهم إلى الفساد وأنهم من أجهل الخلق وأضلهم وخارجون عن الإسلام وعابدون لغير الله وخارجون عن الملة، إلى غير ذلك من الألفاظ الشنيعة. وفي القصائد الملحقة بالهدية السنية تصريح بذلك في عدة مواضع يطول الكلام بنقلها. وفي خلاصة الكلام (2) كان محمد بن عبد الوهاب إذا اتبعه أحد وكان قد حج حجة الإسلام يقول له حج ثانيا فإن حجتك الأولى فعلتها وأنت مشرك فلا تقبل ولا تسقط عنك الفرض وإذا أراد أحد الدخول في دينة يقول له بعد الشهادتين اشهد على نفسك إنك كنت
(1) راجع الهدية السنية ص 10 إلى 15 و 19 و 20 و 22 إلى 28 و 30 إلى 34 و 36 و 37 و 41 و 42 و 45 و 53 و 55 إلى 57 و 59 و 61 إلى 63 و 65 و 86 إلى 93 و 95 و 102 إلى 105 و 107 ويوجد مواضع غير هذه كثيرة يجدها المتتبع. (2) ص 229 - 330 135 كافرا وعلى والديك أنهما ماتا كافرين وعلى فلان وفلان ويسمي جماعة من أكابر العلماء الماضين أنهم كانوا كفارا فإن شهد قبله وإلا قتله وكان يصرح بتكفير الأمة منذ ستمائة سنة ويكفر من لا يتبعه ويسميهم المشركين ويستحل دماءهم وأموالهم " انتهى " وفي خطبة سعود بمكة التي تقدمت تصريحات عديدة بأن جميع من عداهم من المسلمين هم مشركون وإنما يصيرون مسلمين باتباعهم إياهم مثل قوله: ولم نزل ندعو الناس للإسلام وجميع القبائل إنما أسلموا بهذا السيف. وقوله: فاحمدوا الله الذي هداكم للإسلام وأنقذكم من الشرك وأنا أدعوكم أن تعبدوا الله وحده وتقلعوا عن الشرك الذي كنتم عليه. وقد صرح بذلك محمود شكري الآلوسي في تاريخ نجد على ما حكي وهو غير متهم في حق الوهابيين، فقال: إن سعودا غالى في تكفير من خالف الوهابيين وإن علماء نجد وعامتهم يسمون غاراتهم على المسلمين بالجهاد في سبيل الله " انتهى ". وقد صرح بذلك صاحب المنار في مجموعة مقالاته (الوهابيون والحجاز) (1) فقال: كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب مجددا للإسلام في بلاد نجد بإرجاع أهله عن الشرك والبدع إلى التوحيد والسنة على طريقة شيخ الإسلام ابن تيمية " انتهى " وإذا كان هذا اعتقاد صاحب المنار في المسلمين فما باله يكرر في تلك المجموعة نداءه للمسلمين بقوله: أيها المسلمون إن الحجاز مهبط دينكم أيها المسلمون إلى متى أنتم غافلون أيها المسلمون إن الله لا يهلك المسلمين إلا بقتال بعضهم لبعض أيها المسلمون حسبكم ما بينا لكم، إلى غير ذلك، بل كان عليه أن يقول أيها المشركون المدعون للإسلام فما باله لا يبالي بالتناقض في كلامه ولعله يريد بالمسلمين خصوص أهل نحلته الوهابية. ومع كل هذه التصريحات التي لا تقبل التأويل والتي نشاهد أعمال الوهابية موافقة لها وسيرتهم عليها فإنهم لا يفترون عن غزو المسلمين والهجوم عليهم في عقر ديارهم وقتلهم وقتالهم كلما سنحت لهم فرصة وأمكنهم ذلك ومناداتهم بقول يا مشركون، نرى بعض الوهابيين وأتباعهم كصاحب المنار يريدون التبري من هذا المعتقد وستره لما رأوا بشاعته وشناعته وتقبيح الناس له ونفورهم عنهم وتشنيعهم عليهم بسببه، وهيهات. فممن رام ستر ذلك والتبري منه صاحب الرسالة الأولى من رسائل الهدية السنية فإنه
(1) ص 6 136 قال في تلك الرسالة (1): وأما ما يكذب علينا سترا للحق وتلبيسا على الخلق. إلى أن قال: وإنا نضع من رتبة نبينا " ص " بقولنا: النبي رمة في قبره وعصا أحدنا أنفع له منه. إلى أن قال: وإنا نكفر الناس على الاطلاق أهل زماننا ومن بعد الستمائة إلا من هو على ما نحن عليه ومن فروع ذلك أن لا نقبل بيعة أحد إلا بعد التقرر عليه بأنه كان مشركا وأن أبويه ماتا على الشرك بالله الخ فجميع هذه الخرافات جوابنا عنها سبحانك هذا بهتان عظيم فمن نسب إلينا شيئا من ذلك فقد كذب وافترى وأن جميع ذلك وضعه علينا أعداء الدين وإخوان الشياطين تنفيرا للناس عن الاذعان بإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة وترك أنواع الشرك الذي نص عليه بأن الله لا يغفره ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " انتهى ". وتراه في نفس اعتذاره الذي حاول فيه إنكار تكفير المسلمين صرح بتكفيرهم وتشريكهم بقوله: " تنفيرا للناس عن الاذعان بإخلاص التوحيد لله بالعبادة وترك أنواع الشرك " فحكم على الناس بأنهم مشركون بشرك العبادة، وإن من ينسب إلى الوهابية هذه الأشياء يريد تنفير الناس عن التوحيد وترك الشرك فكان بهذا الاعتذار شبيها بما يحكى أن رجلا قال لأعجمي لماذا تقلبون الذال زايا والقاف غينا فقال (كزب الزي يغول زلك)، وبما يحكى أن عالما قال لبعض أمراء الحرافشة: إن أهل هذه القرية يسبون الدين فمرهم بترك ذلك، فأمر الأمير مناديه أن ينادي: (يا أهل القرية اتركوا مسبة الدين ومن سب منكم الدين فالأمير يحرق دينه ودين دينه). وهؤلاء يصرحون بأن التوحيد لا يتم إلا بتوحيد العبادة وأن الناس مشركون وغير موحدين بتوحيد العبادة وأن الذي أحل دماء المشركين في زمن النبي " ص " وأموالهم ودماءهم وسبي ذراريهم هو شركهم في العبادة وأن المسلمين مثلهم بلا فرق. ومع ذلك يقولون: من نسب إلينا إنا نكفر الناس فقد كذب وافترى هذه خرافات هذا بهتان عظيم ومن نسب إلينا إنا نلزم المبايع الشهادة على نفسه وأبويه بالشرك فقد كذب وافترى وأتى بالخرافة والبهتان العظيم. هل هذا إلا التناقض الذي لا يرضى به لنفسه عاقل. ومن نسب إلينا إنا نكفر الناس فقد كذب وافترى وقصد بافترائه تنفير الناس عن الرجوع عن شركهم إلى إخلاص التوحيد. فهذا
(1) ص 6 137 هو الاعتذار الذي وضع صاحب المنار فوقه الخطوط المستطيلة ليكون عذر الوهابية بارزا جليا للأنظار. ومن يكون أساس مذهبهم ومحوره الذي يدور عليه كفر المسلمين وشركهم واستحلال أموالهم ودمائهم وسبي ذراريهم. وكتبهم مشحونة بالتصريح بذلك وقد طبع منها الألوف، ألا يخجلون من إنكاره والتبري منه بعبارة هي إقرار به ولئن صح عنهم قولهم عن النبي " ص " إنه طارش ومضى وإنه رمة في قبره وعصا أحدنا أنفع له منه أو لم يصح، فجعلهم قبر النبي " ص " وثنا وتعظيمه والتبرك به شركا ومنعهم من زيارته أو من شد الرحال إليها وغير ذلك لا يقصر عن هذا القول ومعتقده لا يستبعد منه قول ذلك. وممن رام ستر ذلك والتملص منه عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب فإنه قال في الرسالة الثانية من رسائل الهدية السنية (1): فإن قال منفر عن قبول الحق: يلزم من قطعكم إن من قال يا رسول الله أسألك الشفاعة، أنه مشرك مهدور الدم، أن يقال بكفر غالب الأمة لا سيما المتأخرين لتصريح علمائهم أن ذلك مندوب وشنوا الغارة على المخالف. قلت لا يلزم لأن لازم المذهب ليس بمذهب كما لا يلزم أن نكون مجسمة وأن قلنا بجهة العلو، ونقول فيمن مات: تلك أمة قد خلت ولا نكفر إلا من بلغته دعوتنا وقامت عليه الحجة وأصر مستكبرا معاندا كغالب من نقاتلهم اليوم وغير الغالب إنما نقاتله لمناصرته لمن هذه حاله ونعتذر عمن مضى بأنهم مخطئون معذورون والإجماع في ذلك ممنوع قطعيا ومن شن الغارة فقد غلط ولا بدع فقد غلط من هو خير منه عمر بن الخطاب في مسألة المهر فلما نبهته المرأة رجع بل غلط الصحابة والنبي بينهم فقالوا اجعل لنا ذات أنواط. ثم قال: فإن قلت هذا فيمن ذهل فلما نبه انتبه، فكيف بمن حرر الأدلة وعرف كلام الأئمة وأصر حتى مات؟! قلت: ولا مانع أن نعتذر له ولا نقول بكفره لعدم من يناضل في هذه المسألة في وقته بلسانه وسيفه وسنانه فلم تقم عليه الحجة بل الغالب على زمن المؤلفين المذكورين التواطؤ على هجر كلام أئمة السنة في ذلك رأسا، ومن اطلع عليه أعرض عنه، ولم تزل أكابرهم تنهي أصاغرهم عن النظر في ذلك، وقد رأى معاوية وأصحابه منابذة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وقتاله وهم مخطئون بالإجماع واستمروا على الخطأ حتى ماتوا، ولم يكفرهم أحد من السلف ولا فسقهم بل أثبتوا لهم أجر الاجتهاد.
(1) ص 40 138 ولا نقول بكفر من صحت ديانته وشهر صلاحه وورعه وزهده وبذل نفسه لتدريس العلوم النافعة والتأليف فيها وإن أخطأ في هذه المسألة كابن حجر الهيثمي فإنا نعرف كلامه في الدر المنظم (1) ونعتني بكتبه ونعتمد على نقله. أقول: اعتذاره عن لزوم تكفير غالب الأمة بل كلها عدى الوهابيين بأن لازم المذهب ليس بمذهب فذهابهم إلى أن من قال: يا رسول الله أسألك الشفاعة مشرك مهدور الدم وإن لزم منه تكفير غالب الأئمة لا سيما المتأخرين المصرحين بأنه مندوب إلا أنهم لا يقولون بهذا اللازم، غير صحيح: (أولا) مخالفته لتصريحاتهم التي لا تقبل التأويل. (ثانيا) أن تكفير غالب الأمة ليس بلازم المذهب بل هو عين المذهب فإن مذهبهم أن كل من توسل أو تشفع بمخلوق فقد أشرك فإذا كان المسلمون يفعلون ذلك فمذهبهم أنهم مشركون بطريق الصراحة ودلالة المطابقة لا بطريق اللزوم، وقياسه على المسألة التجسيم إن صحت قياس مع الفارق، فالقائل بجهة العلو لا يصرح بالتجسيم لكن يلزم من جهة العلو الجسمية ولكن لا يلزم أن يكون القائل بجهة العلو قائلا بالتجسيم لجواز أن يعتقد الشخص شيئا ولا يعتقد بلازمه بل إذا سئل عن لازمه يبرأ منه ولذلك لم يكن لازم المذهب مذهبا بخلاف ما نحن فيه إذ مذهب الوهابية أن المتشفع والمتوسل بغير الله مشرك، وهذا شامل بوجه العموم والدلالة المطابقية لمن يقول يا رسول الله إشفع لي لا بوجه الملازمة ولا يمكن الجمع بين القول بأن من تشفع بغير الله مشرك ومن قال يا رسول الله إشفع لي ليس بمشرك بل هو تناقض صريح محال بخلاف الجمع بين القول بجهة العلو والقول بعدم الجسم فإنه ممكن واقع. وإن أرادوا أنهم لا يكفرون من يعتقد رجحان التشفع إذا لم ينطق به، ففيه أولا أنه إذا كان سؤال الشفاعة كفرا وشركا لزم أن يكون معتقد جوازه كافرا مشركا وإن لم يتلفظ بالسؤال فهو كمن يعتقد السجود للصنم وإن لم يسجد. والكفر كما يكون بالأعمال يكون بالاعتقاد. ثانيا: أن هذا لو سلم لا ربط له بمسألة كون لازم المذهب ليس
(1) اسم كتابه الجوهر المنظم في زيارة قبر النبي المكرم لا الدر المنظم فالظاهر أنه وقع سهو في إبدال أحدهما بالآخر وهذا الكتاب هو الذي يرد فيه على ابن تيمية ويذمه بأقبح الذم وسيأتي نقل كلامه فيه في فصل زيارة القبور وهو الذي أشاروا إليه بقولهم فإنا نعرف كلامه الخ - المؤلف - 139 بمذهب. ثالثا: أنه لا يوجد بين المسلمين من لم يقل طول عمره يا رسول الله أسألك الشفاعة ولم يهتف باسمه ولم يستغث ولم يتوسل به ولم يفعل شيئا مما يرونه كفرا وشركا بل اعتقد جوازه فقط ولم يفعله، وهم قد قطعوا بأن من قال ذلك مشرك مهدور الدم كما صرحوا به في نفس السؤال، فقد قطعوا بأن جميع المسلمين مشركون مهدورة دماؤهم، ولم ينفع هذا الاعتذار مهما أكثر صاحب المنار فوقه من الخطوط المستطيلة ليزيد في ظهوره للأبصار وجلوته للأنظار. أما تقييده التكفير ببلوغ الدعوة الوهابية وقيام الحجة مع الاصرار مستكبرا معاندا فهو مخالف لما ذكره أبوه وغيره كما عرفت من إطلاق اسم الكفر والشرك والارتداد ونحو ذلك على عامه المسلمين من دون تقييد بذلك في مواضع تنبو عن الحصر بل عرفت تصريح الصنعاني أحد مؤسسي مذهبهم بأن كفر المسلمين أصلي لا ارتدادي، وكل ذلك مبطل لهذا العذر الواهي، وجميع الوهابيين لا يخاطبون المسلمين إلا بقولهم يا مشرك من غير نظر إلى قيام الحجة على المخاطب وعدمه، وسمعت بعض النجديين في مجلس صديقنا الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي بمحضر صديقنا الشيخ عبد الرزاق البيطار يقول: قرر الإخوان أن لا يخاطبوا أحدا إلا بقول يا مشرك حتى لو أراد أحدهم شراء لبن بعشر بارات فعليه أن يقول يا مشرك أعطني لبنا بعشر بارات، فمع كل هذه التصريحات لا ينفع هذا الاعتذار عن الوهابيين شيئا. أما اعتذاره عمن مضى بأنهم مخطئون معذورون لعدم بلوغ الدعوة لهم وتنظيره بغلط عمر في المهر والصحابة في ذات أنواط: ففيه أن معتقد الكفر والشرك غير معذور لقيام الحجة عليه من العقل والنقل قبل أن يخلق الله الوهابيين ولو كان معذورا لعذر عبدة الأصنام من أهل الجاهلية الذين ماتوا في الفترة ولم يقل أحد بعذرهم مع أن بلوغ الدعوة المعتبر إنما هو بلوغ الدعوة النبوية إلى التوحيد وترك عبادة الأوثان وهذا قد حصل ومع ذلك فقد بقي المسلمون مصرين على عبادة الأوثان بقولهم: نسألك الشفاعة يا رسول الله، وجهلهم بأنه شرك لا يكون عذرا كجهل من عبد الأصنام بعد الإسلام، والمجتهد معذور مثاب وإن أخطأ في الفروع لا في الأصول. ومن ذلك يظهر بطلان التنظير بغلط عمر في المهر لأنه في مسألة فرعية لا في مسألة اعتقادية توجب الشرك وأما التنظير بغلط الصحابة وبينهم النبي (ص) في ذات أنواط فنقول لو لم يرجعوا عن ذلك
140 لأشركوا فبطل التنظير. وأما اعتذاره عن عدم كفر من حرر الأدلة وعرف كلام الأئمة ومات مصرا: بأنه لم يكن في زمانه وهابية يناضلون باللسان والسيف والبنادق، فلم تقم عليه الحجة، فغير صحيح لما عرفت من أنه يكفي في قيام الحجة أدلة الشرع من العقل والنقل بعدما أكمل الله الدين وأتم الحجة قبل خلق الوهابية ثم إن هؤلاء المسلمين الذين يكفرهم الوهابية ويشركونهم، يعتقدون أن حججهم أقوى من حجج الوهابية وأن الوهابية مخطئون وكلهم يقولون لو ظهر لنا صحة أقوال الوهابيين لاتبعناها فكيف قامت عليهم الحجة وبقوا مصرين معاندين، اللهم إلا أن تكون حجة السيف والرصاص (وآية السيف تمحو آية القلم)، وليس مع الوهابية معجز تقوم به الحجة كما كان مع الأنبياء ولو كانت الحجة تقوم باللسان والسنان لما احتاج الأنبياء إلى المعجز كما لم يحتج إليه الوهابية، ولو كانت الحجة لا تقوم إلا بالسيف والسنان لكان الذين قبل منهم النبي (ص) الجزية ولم يجبرهم على الإسلام لقوله تعالى (لا إكراه في الدين) معذورين لأنهم لم تقم عليهم الحجة. ونسبته إلى علماء المسلمين إنهم تواطئوا على هجر كلام أئمة السنة والإعراض عنه افتراء وسوء أدب، وإذا كان منتهى قيام الحجة المناضلة باللسان والسيف والسنان، لم يكن معاوية وأصحابه معذورين، فقد ناضلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام باللسان والسيف والسنان فكيف عذرتهم الأمة وأثبتت لهم أجر الاجتهاد. وأما قوله لا نكفر من صحت ديانته الخ وإن أخطأ في هذه المسألة فكيف تصح ديانته ويعتمد على نقله وقد اعتقد الكفر والشرك وفعل ما يوجبه وما ينفعه مع ذلك التدريس والتأليف (إن الله لا يغفر أن يشرك به). وممن رام ستر الحقائق وإنكار تكفير الوهابيين للمسلمين بكلام هو إقرار واعتراف بتكفيرهم للمسلمين ولم يبال بالتناقض الصريح الواقع في كلامه وكلامهم الشيخ رشيد رضا صاحب المنار في مجموعة مقالاته (الوهابيون والحجاز) فإنه قال (1) إن الأمير فيصلا نجل السلطان عبد العزيز آل سعود نشر بلاغا في شوال سنة 1342 جاء فيه أن أهل نجد يوافقون إخوانهم أهل مصر والهند في وجوب عرض مسألة الخلافة على مؤتمر يمثل الشعوب الإسلامية تمثيلا صحيحا، وتعقبه صاحب المنار بقوله: فهذه تصريحات قطعية
(1) صفحة 37 141 ونصوص لا تحتمل التأويل بأن أئمة نجد وحكامها يعدون جميع الشعوب الإسلامية إخوانا لهم خلافا لما يفترى عليهم من عدم اعتراف النجديين لأحد بالإسلام غير الوهابيين " انتهى " ووصف في المجموعة المذكورة (1) مؤتمر الشورى المنعقد في الرياض في ذي القعدة سنة 1342 وأنه اجتمع فيه كبار علماء البلاد وزعماؤها ورؤساء الأجناد وقوادها وتذاكروا في أمر الحج وأن السلطان ابن سعود أجابهم بما معناه أن شريف مكة لا يمنعكم من الحج ولكنه يخشى وقوع فتنة في الموسم وفيه المسلمون كل جنس الخ ثم قال ما نصه: وفي تصريح السلطان عبد العزيز نص قطعي باعترافه هو وعلماء بلاده بإسلام جميع الشعوب الإسلامية والرغبة في التعارف والتواد معها، هذا كلامه " معزى ولو طارت " (2) فإذا كانت هذه تصريحات قطعية ونصوص لا تقبل التأويل من سلطان نجد وعلماء بلاده وحكامها بإسلام جميع الشعوب الإسلامية وأخوتها للوهابية وإذا كان في رسائل علماء بلاده التي طبعت بأمر جلالة ملك الحجاز وسلطان نجد كما كتب على ظهرها، وغيرها من رسائل ابن عبد الوهاب التي طبعها صاحب المنار. وفي كلام صاحب المنار نفسه تصريحات قطعية ونصوص لا تقبل التأويل كما بيناه فيما سبق بتكفير جميع المسلمين وإشراكهم عدى الوهابيين ومناداة بتكذيب هذه الدعوى وبأن مدعيها كمن يقول بأن مكة ليست بموجودة والوهابيون لم يوجدوا في الدنيا، كان كلام الوهابية ومنهم صاحب المنار متناقضا تناقضا صريحا قطعيا لا يقبل التأويل ومن لا يبالي بالتناقض الصريح في كلامه لا يتكلم معه فعند حاجتهم إلى المسلمين في ميدان السياسة وجلب القلوب يسمونهم إخوانهم ويعترفون بإسلامهم وعند بيان معتقدهم وأساس مذهبهم ونشر دعوتهم يكفرون المسلمين ويشركونهم بدون تحاش فهم في ذلك كالنعامة قيل لها احملي قالت أنا طائر قيل لها طيري قالت أنا جمل. وكأن صاحب المنار يرى من موجبات الأخوة وأهم أسباب التعارف بين الوهابيين والشعوب الإسلامية والتواد معها غزوها وشن الغارات عليها وقتلها كلما سنحت الفرصة لتتوثق عرى الأخوة ويتم التعارف وتكمل المودة.
(1) صفحة 38 - 41 (2) يقال إن رجلين رأيا غربانا واقعة على الأرض فقال أحدهما هذه غربان وقال الآخر هذه معزى ثم طارت فقال الأول أعلمت أنها غربان فقال له الثاني هي معزى ولو طارت - المؤلف - 142 وهذا حديث إجمالي عن اعتقادات الوهابية وتفصيل ذلك ورده في الباب الثاني والباب الثالث. وحيث ذكرنا معتقدات الوهابية إجمالا فيناسب أن نذكر هنا بعض ما يدل إجمالا على فساد شبهتهم في حكمهم بشرك جميع المسلمين، وهو ما رواه البخاري في باب الصلاة على الشهيد وعلامات النبوة والمغازي وذكر الحوض، ومسلم في فضائل النبي (ص)، وأبو داود في الجنائز، كذا النسائي (1) عن النبي (ص) إني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف الدنيا أن تنافسوا فيها وفي رواية لمسلم (2) أن تتنافسوا فيها وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من قبلكم. ولو كان الأمر كما زعم الوهابية من أن الناس أشركت كلها قبل ظهورهم وأنهم جاؤوا ليدعوهم إلى التوحيد للزم تكذيب هذه الأحاديث كلها. وقوله " ص " ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلدكم هذا أبدا ولكن ستكون له طاعة في بعض ما تحقرون من أعمالكم فيرضى بها. رواه أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة وهذا ينافي حكم الوهابيين بإشراك أهل مكة بل قالوا إنهم لم يروا بلدا تعبد فيه القبور والأموات مثل مكة. وقوله " ص " إن الشيطان قد أيس أن تعبد الأصنام بأرض العرب ولكن رضي منهم بما دون ذلك بالمحقرات وهي الموبقات، رواه الحاكم وصححه وأبو يعلى والبيهقي. وفي رواية أنه " ص " قال إن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب. ومكة والمدينة من جزيرة العرب قطعا. بل حكى في النهاية الأثرية عن أنس بن مالك أنه قال أراد بجزيرة العرب المدينة نفسها وهذا ينافي حكمهم بإشراك أهل الجزيرة العرب عدا نجد بعبادة الأوثان وقال " ص " إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها ذكره ابن الأثير في النهاية وفيه من المبالغة في ثبوت الإيمان ورسوخه في المدينة ما لا يخفى المنافي لما يدعيه الوهابية من رسوخ الكفر فيها وجعل بلادهم بلاد الإيمان.
(1) صفحة 31 (2) ص 160 ج 9 بهامش إرشاد الساري 143 * فصل * * من آثام الحكم السعودي * في موسم حج العام 1362 سفك السعوديون في مكة دم حاج إيراني جاء من بلاده يطوي المراحل تقربا إلى الله بالحج إلى بيته فتقرب السعوديون بقتله ظلما وعدوانا فسجلوا بذلك صفحة جديدة من صفحات غدرهم بالمسلمين واستهانتهم بدمائهم. ولقد كان لهذا الحادث ضجة كبرى شملت العالم الإسلامي وتركته في غليان شديد. وبعد أن تباهى السعوديون بفعلتهم تلك عادوا يحاولون التنصل منها بعد أن رأوا ما تركته من ثورة وهياج عليهم في كل مكان وإليك تفصيل الحادث وذيوله: * تفصيل الحادث * كان الحاج الإيراني عبده طالب بن حسين يطوف حول الكعبة محرما خاشعا فأصيب وهو في طوافه بدوار فانقض عليه الزبانية السعوديون وساقوه إلى ساحة الموت حيث قطعوا رأسه وأجروا دمه في أقدس بقعة إسلامية، ثم لم يخجلوا مما فعلوه فنشروا في جريدة أم القرى التي يصدرونها في مكة في عددها 990 بلاغا رسميا رقم 82 قالوا فيه: ألقت الشرطة القبض في بيت الله الحرام في يوم 12 ذي الحجة 1362 على المدعو عبده طالب بن حسين الإيراني من المنتسبين إلى الشيعة في إيران وهو متلبس بأقذر الجرائم وأقبحها وهي حمل القاذورات " العذرة "، وهو ويلقيها في المطاف حول الكعبة المشرفة بقصد إيذاء الطائفين وإهانة هذا المكان المقدس وبعد إجراء التحقيق بشأنه وثبوت هذا الجرم القبيح فقد صدر الحكم الشرعي بقتله وقد نفذ حكم القتل فيه في يوم السبت في 14 ذي الحجة 1362 ولذا حرر " انتهى ". هذا هو البلاغ الرسمي الوقح الذي برروا به جريمتهم، والحقيقة أن عقيدتهم في استحلال دماء المسلمين هي وحدها كانت الباعث لهم على استغلال الدوار الذي أصيب به الحاج الشهيد حيث شفوا إحنهم بإهراق دمه وقطع رأسه. * صدى الحادث * ولم يكد يعلن الحادث الذي شهده مئات الألوف من المسلمين والذي تناقلت خبره
144 أسلاك البرق في كل مكان حتى هاجت النفوس على السعوديين فقطعت إيران علاقتها معهم بعد أن قدمت احتجاجا صارخا، وثار البرلمان الإيراني، وإننا لننقل بعض ما جرى فيه عن جريدة " النهار " البيروتية الصادرة يوم السبت في 5 شباط سنة 1944. طهران - أثار بعض النواب ضجة حول إعدام الحاج الإيراني في الحجاز وسأل فريق منهم وزير الخارجية ماذا كان جواب الحكومة العربية السعودية على الاحتجاج الإيراني، فأجاب الوزير إن الحكومة الإيرانية تلقت جوابا حاولت فيه حكومة الحجاز تبرير عملها وقد عدت طهران هذا الجواب غير مرض وقررت أن ترد عليه بمذكرة شديدة اللهجة قبل أن تتخذ التدابير التي يتطلبها الموقف. وقالت " النهار " في نفس العدد: أذاع راديو أنقرة نقلا عن القاهرة أن حادثا خطيرا وقع بين إيران والمملكة العربية السعودية قد يؤدي إلى وقف العلاقات بين الدولتين. وقد تلقت جريدة " جمهوريت " رسالة من طهران جاء فيها إن حكومة الشاه بعثت بمذكرة إلى الحكومة العربية السعودية تحتج فيها احتجاجا شديد اللهجة على إعدام أحد الحجاج الإيرانيين. وتفصيل الحادث إن الحاج المذكور اتهم بانتهاك حرمة الكعبة المشرفة عمدا فاعتقل وحوكم فقضى الحاكم بإعدامه. وقد نفذ الحكم به فورا. والظاهر أن جواب الحكومة السعودية على احتجاج إيران عد في طهران غير مرض. ولم تكتف حكومة إيران بالاحتجاج إلى الحكومة السعودية بل قدمت مذكرة إلى الحكومة المصرية تلفتها فيها إلى خطورة الحادث بوصفها المكلفة حماية الحجاج الإيرانيين في البلاد العربية السعودية. وتقول صحف طهران في تعليقها على الحادث أن الديار المقدسة ليست ملكا لابن السعود وحكومته فعلى الأمم الإسلامية أن تؤمن سلامة أبنائها الذين يحجون إلى مكة المكرمة بإنشائها قوة مسلحة ذات طابع دولي " انتهى ". * تراجع السعوديين * والواقع أن النقمة على الحكم السعودي بسبب هذا الحادث بلغت ذروتها فاضطر السعوديون للتراجع
145 وحاولوا ستر فضيحتهم - ولكن هيهات - وإليك نموذجا مما نشروه، فقد جاء في العدد 1841 من جريدة " الرابطة الشرقية " ما يلي: القاهرة 4 - أوضحت الأوساط السعودية في القاهرة الحادث الإيراني السعودي الذي تأثر له العالم الإسلامي في الشرق الأوسط، وقد أعلنت أن الرجل المحكوم عليه بالموت ليس شيعيا بل مجوسيا لا ينتمي إلى مذهب من مذاهب الإسلام. وهذا الكافر تجرأ وستة عشر من رفاقه المجوسيين على تدنيس الكعبة المقدسة متحديا الإسلام. وحاول الحجاج تمزيقه ولكن رجال الأمن أقبلوا في الموعد وقبضوا على الكافرين وأحالوهم إلى محكمة دينية شرعية. وقد حكم عليهم جميعا بالموت، ولكن تدخل وزير العدل المصري - وكان يومذاك في مكة - قضى بقتل واحد وإبعاد الآخرين إلى إيران. وترى الأوساط السعودية في القاهرة أنه يجب اعتبار القضية مفروغا منها ما دامت أعلنت الحكم محكمة شرعية قانونية " انتهى ". وهكذا بعد أن نشروا بلاغا رسميا في أم القرى أكدوا فيه أن الشهيد هو شيعي عادوا هنا يقولون إنه مجوسي ثم صرحوا إنهم لم يكونوا يريدون أن يقتلوه وحده بل كانوا يريدون أن يقتلوا معه ستة عشر حاجا غيره، أما المحكمة الشرعية القانونية فهي من عرفت - فيما مر - كفاءتها ونزاهتها وعلمها. * رد المؤلف * وعلى أثر ما نشروه أذاع مؤلف هذا الكتاب بيانا قال فيه: * بيان حقيقة * لقد كثر اللغط حول مسألة الرجل الإيراني المسلم الموحد الحاج إلى بيت الله الحرام الذي قتل ظلما وعدوانا في حرم الله وأمنه الذي من دخله كان آمنا والذي يأمن فيه الطير والوحش " مكة المكرمة " بحجة لا تنطلي على الأطفال الرضع وأبانت عن أن قابليها ليسوا أهلا للحكم: هي أنه ألقى النجاسة في المسجد الحرام، والحقيقة أن سبب ذلك هو التعصبات المذهبية المعروفة وأن الرجل كان يطوف فغلب عليه الضعف فشهدوا عليه بأنه جاء ليلقي النجاسة في المسجد فحكم بقتله بدون سؤال ولا تحقيق كما أخبرنا بذلك
146 متواترا الحجاج الصادقون الذين شاهدوا الحادث، وهو لا يحتاج إلى إخبار مخبر بل كل من عنده أدنى ذرة من العقل لا يمكن أن يصدق بأن رجلا مسلما تحمل المشاق من بلاد بعيدة وصرف الأموال الكثيرة لأجل أن يلقي نجاسة في المسجد الحرام وهو معظم عنده أكثر من الذين حكموا بقتله، وإن كان غير مسلم فما الذي يدعوه لأن يسافر من شقة بعيدة ويصرف أموالا طائلة ليلقي نجاسة في مسجد المسلمين وما الذي يجنيه من وراء ذلك. والدولة الإيرانية ليست وحدها التي ستطالب بدم هذا المسلم البرئ بل سيطالب به بحق مائة وخمسون مليونا من المسلمين أو أكثر، هم بقدر الثلث من مجموع المسلمين.
147 * الباب الثاني * * في ذكر معتقدات الوهابية التي كفروا بها المسلمين وحججهم على ذلك وردها على وجه العموم * ناقلين لها من كتبهم المطبوعة المشهورة كرسالتي أربع القواعد وكشف الشبهات عن خالق الأرض والسماوات لمحمد بن عبد الوهاب، والثانية هي التي ألفها لأهل نجد حينما أتاهم بالدعوة وكتابهم الذي أرسلوه إلى شيخ الركب المغربي وذكره الجبرتي في تاريخه في حوادث سنة 1218 ورسالة تطهير الاعتقاد عن أدران الالحاد لمحمد بن إسماعيل الأمير اليمني الصنعاني المعاصر لابن عبد الوهاب ورسالتي الواسطة وزيارة القبور والاستنجاد بالمقبور لابن تيمية باذر البذر الأول لمذهب الوهابية والرسائل الخمس المسمى مجموعها بالهدية السنية وتاريخ نجد لمحمود شكري الآلوسي الذي ينقل فيه عن كتبهم وغير ذلك مع استيفاء نقل كلماتهم كلها وردها وإن أدى ذلك إلى الإطالة وبعض التكرار: قال محمد بن عبد الوهاب في رسالة أربع القواعد (1) ما حاصله: إن الخلاص من الشرك يكون بمعرفة أربع قواعد: الأولى أن الكفار الذي قاتلهم رسول الله (ص) مقرون بأن الله تعالى هو الخالق الرازق المدبر ولم يدخلهم ذلك في الإسلام لقوله تعالى (قل من يرزقكم) (الآية). " الثانية " أنهم يقولوا ما دعونا الأصنام وتوجهنا إليهم إلا لطلب القرب والشفاعة (والذين اتخذوا من دون الله أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) " الثالثة " أنه (ص) ظهر على قوم متفرقين في عبادتهم فبعضهم يعبد الملائكة وبعضهم الأنبياء والصالحين وبعضهم الأشجار والأحجار وبعضهم الشمس والقمر فقاتلهم ولم يفرق بينهم. الرابعة أن مشركي زماننا أغلظ شركا من الأولين لأن أولئك يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة وهؤلاء شركهم في الحالتين لقوله تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون.
(1) صفحة 1 - 4 - الموضوع عليها 24 - 27 - طبع المنار بمصر 148 وقال في رسالة كشف الشبهات (1) ما حاصله: أن التوحيد إفراد الله بالعبادة وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده فأولهم نوح (ع) أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا وآخرهم محمد (ص) الذي كسر صور هؤلاء الصالحين أرسله إلى قوم يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله لكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله يقولون نريد منهم التقرب إلى الله شفاعتهم عنده كالملائكة وعيسى ومريم وغيرهم من الصالحين فبعثه الله يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله لا يصلح منه شئ لملك مقرب ولا نبي مرسل فضلا عن غيرهما وإلا فهم يشهدون أن الله وحده هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر الأمر وأن السماوات والأرض وما فيها كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره لقوله تعالى (قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون. قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون. قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله قل أفلا تتقون. قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون الله قل فأنى تسحرون) فإذا عرفت أن إقرارهم هذا لم يدخلهم في التوحيد وأن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد (2) وكانوا يدعون الله ليلا ونهارا ومنهم من يدعو الملائكة لصلاحهم وقربهم إلى الله ليشفعوا له أو رجلا صالحا كاللات أو نبيا كعيسى عرفت أنه (ص) قاتلهم على هذا الشرك ودعاهم إلى إخلاص العبادة كما قال (فلا تدعوا مع الله أحدا. له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ) وأنه (ص) قاتلهم ليكون الدعاء والنذر والذبح والاستغاثة وجميع العبادات كلها لله وإن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام وإن قصدهم الملائكة والأنبياء والأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم وعرفت التوحيد
(1) صفحة 1 - 3 الموضوع عليها - 56 - 58 - طبع المنار بمصر (2) يأتي نظيره في كلام الصنعاني حيث يقول بل يسمونه معتقدا كما أن سائر كلامه متوافق معه - المؤلف - 149 الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الاقرار به المشركون وهو معنى لا إله إلا الله فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور ملكا كان أو نبيا أو وليا أو شجرة أو قبرا أو جنيا لا الخالق الرازق المدبر فأنهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما مر وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ " السيد " والمراد من كلمة التوحيد معناها لا مجرد لفظها والكفار الجهال يعلمون أن مراده " ص " بها هو إفراد الله بالتعلق والكفر بما يعبد من دون الله فإنه لما قال لهم قولوا لا إله إلا الله قالوا " اجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشئ عجاب " فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفرة بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشئ من المعاني والحاذق منهم يظن أن معناها لا يخلق ولا يرزق إلا الله فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بلا إله إلا الله. ثم قال: فإذا عرفت أن هذا الذي يسميه المشركون في وقتنا الاعتقاد هو الشرك الذي أنزل فيه القرآن وقاتل رسول الله " ص " الناس عليه فاعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل وقتنا بأمرين أحدهما أن الأولين لا يشركون إلا في الرخاء وأما في الشدة فيخلصون لله " وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم. أرأيتم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون. وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه إلى قوله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار. وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين. الثاني: أن الأولين يدعون مع الله أناسا مقربين نبيا أو ملكا ويدعون أشجارا وأحجارا مطيعة ليست عاصية وأهل زماننا يدعون مع الله أناسا من أفسق الناس يحكون عنهم الزنا والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك. وقريب من ذلك ما حكي عن محمود شكري الآلوسي في تاريخ نجد أنه حكاه عن ابن عبد الوهاب ولعله لخصه وانتخبه من مجموع كلماته فإنا لم نجد بهذه العبارات في كتبه المطبوعة. قال بعد ذكر الآيات الدالة على توحيد الله والرد على المشركين الذين يعبدون مع الله آلهة أخرى والشرك المراد بهذه الآيات ونحوها يدخل فيه شرك عباد القبور وعباد الأنبياء والملائكة والصالحين فإن هذا هو شرك جاهلية العرب الذين بعث فيهم عبد الله
150 ورسوله محمد " ص " فإنهم كانوا يدعونها ويلجئون إليها ويسألونها على وجه التوسل بجاهها وشفاعتها لتقربهم إلى الله زلفى كما حكى ذلك الله عنهم بقوله تعالى (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله " الآية ". والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " وغيرها من الآيات. ومعلوم أن المشركين لم يزعموا أن الأنبياء والأولياء والصالحين والملائكة شاركوا الله في خلق السماوات والأرض واستقلوا بشئ من التدبير والتأثير والإيجاد ولو في خلق ذرة من الذرات قال تعالى " ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قال حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون) فهم معترفون بهذا مقرون به لا ينازعون فيه ولذلك حسن موقع الاستفهام وقامت الحجة بما أقروا به من هذه الجمل ومجرد الاتيان بلفظ الشهادة من غير علم بمعناها ولا عمل بمقتضاها لا يكون به المكلف مسلما بل هو حجة على ابن آدم خلافا لمن زعم أن الإيمان مجرد الاقرار كالكرامية ومجرد التصديق كالجهمية وقد أكذب الله المنافقين فيما أتوا به وزعموه من الشهادة وسجل على كذبهم مع أنهم أتوا بألفاظ مؤكدة بأنواع التأكيدات قال تعالى (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك رسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) فأكدوا بلفظ الشهادة وإن اللام والجملة الأسمية فأكذبهم وأكد تكذيبهم بمثل ما أكدوا به شهادتهم سواء بسواء وزاد التصريح باللقب الشنيع وبهذا تعلم أن مسمى الاذعان لا بد فيه من الصدق والعمل ومن شهد أن لا إله إلا الله وعبد غيره فلا شهادة له إن صلى وزكى وصام قال تعالى (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) الآية (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض) الآية " انتهى ". والجواب: أما إجمالا: فإن جعله ما يصدر من المسلمين في حق الأنبياء من الاستغاثة بهم وطلب شفاعتهم الذي مرجعه إلى طلب الدعاء منهم والنذر والذبح لله والتصدق به وإهداء الثواب إليهم الذي توهم أنه نذر وذبح لهم وتعظيمهم وتعظيم قبورهم والتبرك بها وغير ذلك عبادة لهم ولقبورهم كعبادة الأصنام خطأ وغلط فإنه ليس المراد من العبادة التي لا تصلح لغير الله وتوجب الشرك والكفر إذا وقعت لغيره مطلق التعظيم والخضوع كما
151 مر مفصلا في المقدمات بل عبادة خاصة لم يصدر شئ منها من أحد من المسلمين. وأما تفصيلا فقوله في رسالة أربع القواعد إن الذين قاتلهم رسول الله (ص) مقرون بأن الله هو الخالق الرازق المدبر وأن ذلك لم يدخلهم في الإسلام فنقول لم يدخلهم في الإسلام لأنهم يكذبون رسول الله (ص) ويقولون إنه ساحر كذاب وينكرون جميع شرائعه ويدينون بدين الجاهلية وهذا كاف في كفرهم سواء تشفعوا بالأصنام وعبدوها أو لا فكيف يقاس بهم ويجعل مساويا لهم من يؤمن بالله وبرسوله وبأن جميع ما جاء به من عند الله حق لأنه يتشفع إلى الله تعالى بمن جعله شافعا ومشفعا ويتوسل إليه بمن جعل له الوسيلة سبحانك اللهم ما هذا التمويه والتضليل وليس موجب كفرهم تشفعهم بالأنبياء والصالحين كما زعم واستدلاله على ذلك بالآيتين واضح الفساد كما يأتي في الفصل الثاني من الباب الثالث. قوله إنه " ص " ظهر على قوم متفرقين في عبادتهم فقاتلهم ولم يفرق بينهم. نعم لم يفرق بينهم لاشتراكهم جميعا في تكذيبه وإنكار نبوته ورد ما جاء به من عند ربه والتمسك بأديان آبائهم الفاسدة وهؤلاء لا فرق بين أن يعبدوا ملكا أو نبيا أو صنما أو كوكبا أو لا يعبدوا. وإنما يتم لابن عبد الوهاب ما أراد لو كان بعضهم آمن بالنبي " ص " وصدق بجميع ما جاء به ولكنه بقي يتشفع إلى الله بنبي أو صالح فقاتله النبي " ص " ولم يفرق بينه وبين من يعبد الحجر والشجر والشمس والقمر وأني له بذلك. أما قوله في كشف الشبهات إن الله تعالى أرسل محمدا " ص " إلى قوم يتعبدون ويحجون ويتصدقون لكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله فيظهر فساده من وجوه: الأول: إنهم كانوا يتعبدون ولكن كانت عبادتهم كما أخبر الله تعالى عنه بقوله (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) المكاء التصفير والتصدية التصفيق. في الكشاف كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء وهم مشبكون بين أصابعهم يصفرون فيها يقصفوون " انتهى ". كانوا يتعبدون فيسجدون للأصنام التي نهى الله عن السجود لها ويقربون لها القرابين ويهلون عليها بأسمائها ويطلونها بدمائها هذه كانت عبادتهم ويحجون ولكنهم أحدثوا في الحج بدعا وقبائح كثيرة. منها: إنهم كانوا يطوفون عراة رجالا ونساء وعوراتهم بادية يتقربون إلى الله بذلك. وقصة المرأة التي ألزموها بذلك وكانت
152 جميلة ففعلت واجتمع أهل مكة للنظر إليها فطافت عارية ويدها على فرجها وهي تقول: اليوم يبدو بعضه أو كله * فما بدا منه فلا أحله. مشهورة فهؤلاء الذين انحصر كفرهم وشركهم في تشفعهم بالصالحين عن ابن عبد الوهاب (ويتصدقون) مع تكذيبهم الرسل فما تنفعهم صدقاتهم (ويذكرون الله) أحيانا إن صح ذلك وفي غالب أحوالهم أو كلها يعرضون عن ذكر الله ويذكرون أسماء أصنامهم كما كانوا يقولون (أعل هبل) وكانوا يذكرون أسماءها على ذبائحهم دون اسم الله. وما أدري لم لم يقل ابن عبد الوهاب ويصلون ويزكون ولا يزنون ولا ينكحون مع ما نكح آباؤهم ولا يشربون الخمر ولا يعملون الميسر ولا الأنصاب ولا الأزلام ولا يأكلون الربا ولا يئدون البنات ويفعلون جميع شرائط الإسلام حتى صلاة التراويح ولا يصدر منه إلا أمر واحد وهو التشفع بذوي المكانة عند الله وجعلهم وسائط بينهم وبينه كالملائكة وعيسى فلذلك قاتلهم النبي " ص " وحكم بشركهم وكفرهم أليس كذلك أيها الإخوان ألم يقل الله تعالى (وما كان صلاتهم عند البيت الإمكاء وتصدية) ألم يكونوا يكرهون فتياتهم على البغاء وهن يردن التحصن ألم يكونوا يفعلون جميع الموبقات والمنكرات وأفعال الجاهلية فكيف يسوغ لمحمد بن عبد الوهاب أن يقول إن رسول الله " ص " لم يقاتلهم إلا على تشفعهم إلى الله بالملائكة والأنبياء والصالحين. الثاني: إن حصره شرك وكفر من بعث إليهم النبي " ص " في جعلهم بعض المخلوقات وسائط وشفعاء عند الله جهل أو تمويه. أما مشركو قريش فإنهم وإن اعتقدوا أن الرازق الخالق المحيي المميت المدبر الأمر المالك ما في السماوات والأرض هو الله كما دلت عليه الآيات التي ذكرها إلا أنه لا شئ يدلنا على أنهم لا يعتقدون في الأصنام والأوثان ومعبوداتهم من الجن والإنس والملائكة أنه لا تأثير لها في الكون وأن التأثير وحده لله تعالى وهي شافعة فقط إذ يجوز أن يعتقدوا أن لها تأثيرا بنفسها بغير ما في الآيات المستشهد بها فتشفي المرضى وتنصر على الأعداء وتكشف الضر وغير ذلك وأنها تشفع عند الله حتما ولا يرد شفاعتها أو أن الله تعالى جعل لها قسطا من التأثير أو كله إليها بل ظاهر الآيات هو ذلك مثل قوله تعالى (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا) بل ظاهر قوله تعالى (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا) إنهم كانوا لا يسجدون لغير الأصنام ولا يعتقدون
153 إلها غيرها وظاهر قوله تعالى حكاية عن أهل جهنم (قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين) اعتقادهم إنها مساوية لرب العالمين وإن لم يكن من جميع الوجوه بل يخرج عنه الأمور المذكورة في الآيات المستشهد بها في كلام ابن عبد الوهاب وذلك كاف في الشرك والكفر وذلك أيضا ظاهر جميع الآيات الدالة على اتخاذهم آلهة من دون الله وشركاء لله ونحو ذلك. مثل (إن كاد ليضلنا عن آلهتنا. أئنا لتاركوا آلهتنا. أإفكا آلهة دون الله تريدون. أجعل الآلهة إلها واحدا. ويوم يناديهم أين شركائي الذين كنتم تزعمون. وقالوا آلهتنا خير أم هو. أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا. وقالوا لا تذرن آلهتكم. وما نحن بتاركي آلهتنا. فما أغنيت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله. الذين يجعلون مع الله إلها آخر. قل لو كان معه آلهة كما يقولون. واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا. واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا) إلى غير ذلك. وكيف يمكن حصر شركهم وكفرهم في جعلهم بعض المخلوقات وسائط وشفعاء عند الله وهم يكذبون رسول الله " ص " ويجعلونه ساحرا وينكرون ما جاء به من عند ربه من الأحكام والشرائع مع ظهور المعجزات على يديه ويتمسكون بدين الجاهلية كما مر أفلا يكفي هذا في كفرهم وشركهم وماذا ينفعهم الاقرار بوجوده تعالى والعبادة والحج والصدقة وذكر الله أن سلم صدور ذلك منهم وهل ينفي ذلك عنهم الكفر الذي أوضحناه ويحصر شركهم في تشفعهم بالصالحين؟ هيهات. وكيف يمكن حصر كفرهم في ذلك وقد بدلوا دين الله تعالى الذي جاءهم به إبراهيم " ع " فأحدثوا البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي والنسئ (1) وغير ذلك من مبتدعاتهم ومخترعاتهم وهذا أيضا كاف في كفرهم مع أنهم قد عبدوا الأصنام والأوثان والملائكة
(1) البحيرة: الناقة إذا نتجت خمسة أبطن فإن كان آخرها ذكرا بحروا أذنها أي شقوها وحرموا ركوبها ولا تطرد عن ماء ولا ترعى ولو لقيها المعيي لم يركبها (والسائبة) كان الرجل يقول إذا قدمت من سفري أو برأت من مرضي فناقتي سائبة فكانت كالبحيرة في تحريم الانتفاع (والوصيلة) كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكرا ذبحوه لآلهتهم فإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر (والحامي) الفحل كان إذا نتجت من صلبه عشرة أبطن قالوا قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى (والنسئ) كانوا إذا احتاجوا إلى القتال في شهر حرام قاتلوا فيه وأخروه إلى شهر غيره وجعلوه مكانه فتركوا فيه القتال. - المؤلف - 154 وجعلوهم شركاء لله تعالى وعبادتهم لهم مشاهدة معلومة ولم تكن تلك العبادة مجرد التشفع والتوسل بمن جعل الله له الشفاعة والوسيلة وما يجري ذلك مجرى ذلك كما موه به ابن عبد الوهاب (أما عبادتهم للأصنام والأوثان) فإنهم عمدوا إلى أصنام من حجر أو نحاس أو خشب أو غيرها على صور قوم صالحين متوهمة أو غيرهم عملوها بأيديهم وإلى أشجار فعبدوها من دون الله وسجدوا لها ونحروا وذبحوا لها وأهلوا بذبائحهم لها وذكروا أسماءها عليها دون اسم الله وطلوها بدمائها كما قال قائلهم: أما ودماء مائرات تخالها * على قنة العزى وبالنسر عندما وطلبوا منها كل ما يطلب من الله وأعرضوا عن عبادة الله فكانوا يقولون لا طاقة لنا على عبادة الله فنحن نعبدها لتقربنا إلى الله وهذا أيضا صريح في أن عبادتهم لها غير طلب الشفاعة منه وتشفعوا بها وخالفوا أمر الله وأنبيائه في نهيهم عن عبادتها وطلب شئ منها عنادا وعتوا وخالفوا مقتضى عقولهم الحاكمة لو رجعوا إليها بأنها جماد لا تضر ولا تنفع ولا تعقل ولا تسمع ولا تقرب ولا تشفع ولو كانت على صورة نبي أو صالح فإن الشافع هو النبي أو الصالح لا صورته الموهومة ولا تدفع عن أنفسها بول الثعالب عليها ولا تروث الدواب فوقها فقد كان لبعضهم صنم فجاء ثعلب فبال عليه فقال قائلهم: لرب يبول الثعلبان برأسه * لقد ذل من بالت عليه الثعالب ومنهم من عمل صنما من تمر فسجدوا له أول النهار وعبدوه فلما كان آخر النهار جاعوا فأكلوه. وكانوا يعينون أشياء من حرث ونتاج لله وأشياء منها لآلهتهم فإذا زكا ما جعلوه لله رجعوا فجعلوه للآلهة وإذا زكا ما جعلوه للأصنام تركوه وذلك قوله تعالى: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون) ولم يفعل أحد من المسلمين شيئا من ذلك مع نبي ولا ولي ولا قبر ولا غيره وإنما تشفع المسلمون بمن جعله الله شافعا وتوسلوا بمن جعل له الوسيلة وما التشفع سوى سؤال الدعاء الذي لا ينكره الوهابية وكذا الاستغاثة وما جرى مجراها لا تخرج عن سؤال الدعاء وأهدوا ثواب الصدقة بالمذبوح إلى النبي أو الولي الذي ثبت جواز إهداء الثواب إليه ولم يذكروا اسمه عليه بل اسم الله تعالى كما سيأتي تفصيل ذلك كله في الفصول المختصة بذلك. فهذه
155 الاعتقادات والأعمال والتكذيب للرسل هي التي قاتلهم النبي " ص " عليها ودعاهم إلى تركها لا على مجرد التشفع بنبي أو صالح والتوسل به إلى الله تعالى. وأما عبادتهم للملائكة فقد اتخذوهم أربابا من دون الله كما يدل عليه قوله تعالى في سورة آل عمران (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله) إلى قوله تعالى (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) وفي هذا دليل على أنهم فعلوا أو اعتقدوا بالنسبة إليها ما هو من خصائص الربوبية ولا يليق إلا بالله تعالى من سجود ونحوه من أنواع العبادات والاعتقادات وليس لنا ما يدل على أنه لم يصدر منهم إلا مجرد التشفع بالملائكة إلى الله. وذكر صاحب الكشاف في تفسير الآية أنه " ص " كان ينهي قريشا عن عبادة الملائكة واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح فلما قالوا له أنتخذك ربا قيل لهم ما كان لبشر " الآية " وقوله تعالى في ذيلها أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون دليل على أن المخاطبين كانوا مسلمين وهم الذين استأذنوه أن يسجدوا له " انتهى " وفي ذلك دليل على أن اتخاذهم الملائكة أربابا كان من هذا النسخ بإرادة عبادتهم لهم بالسجود وغيره كما أرادوا أن يتخذوه " ص " ربا ويسجدوا له. وكانوا يقولون في الملائكة إنهم بنات الله كما قالت اليهود والنصارى في عزير والمسيح إنهما ابنا الله وقد أخبر الله تعالى عنهم بذلك كله بقوله في سورة الزخرف (وجعلوا له من عباده جزءا. أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين. وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم. وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا. وقالوا لو شاء الله ما عبدناهم) ففي قوله تعالى لا يأمركم أن تتخذوا الملائكة أربابا دليل على فعلهم معها ما هو من خصائص الربوبية كما مر وقوله تعالى (لو شاء الله ما عبدناهم) صريح في عبادتهم لهم ولا شئ يدل على أنها كانت مجرد الاستغاثة والتشفع بل ما مر يدل على عدمه. وقوله بما ضرب للرحمن مثلا دليل على جعلهم لها مماثلة لله تعالى ومشابهة له لأن الولد مماثل للوالد ومن جنسه وكذلك قوله من عباده جزءا (قال صاحب الكشاف) فجعلوهم جزءا له وبعضا منه كما يكون الولد بضعة من والده وجزءا له " انتهى " وافتروا على الله في ذلك عدة افتراءات. " إحداها " نسبة الولد إلى الله تعالى " ثانيتها " نسبتهم إليه أخس النوعين الذي كانوا إذا بشر به أحدهم ظل وجهه مسودا وهو كظيم ووأده حيا " ثالثتها " جعلهم لها من الملائكة الذين هم من أكرم عباد الله
156 عليه فاستخفوا بهم " رابعتها " نسبتهم إلى الله تعالى أنه رضي لهم عبادة الملائكة. وبذلك ظهر أن كفرهم ليس مجرد استغاثتهم بالملائكة وتشفعهم وتوسلهم بهم وستعرف أن الملائكة ممن ثبتت لهم الشفاعة باعتراف الوهابية فالمتشفع بهم ليس مخطئا فضلا عن أن يكون مشركا وكذا المتشفع بالنبي " ص " ومن جعل الله له الشفاعة فليس مخطئا فضلا عن أن يكون مشركا فكيف يقاس من يستغيث ويتشفع ويتوسل بنبي أو وصي ليشفع له إلى الله تعالى بالمشركين في عبادتهم الملائكة وكون قريش لم تكن تعتقد في الملائكة أنها تخلق وترزق وتدبر الأمر من دون الله بدليل (قل من يرزقكم من السماء والأرض إلى قوله فسيقولون الله) لا يدل على أن كفرها وشركها لتشفعها وتوسلها واستغاثتها بالملائكة لأن الشرك يكون بغير اعتقاد الخلق والرزق مما مر في صدر الكلام ولو كان الصادر منها الاستغاثة بالملائكة والتشفع بها فقط لم يكن ذلك موجبا لشركها وكفرها وأما من عبد المسيح وأمه فلم يكن منه مجرد الاستغاثة والتوسل وطلب الشفاعة قطعا بل جعل المسيح " ع " إلها مستحقا لجميع صفات الألوهية وقد أخبر الله تعالى عنهم في القرآن تارة بأنهم قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وتارة قالوا إن الله ثالث ثلاثة المسيح أحدهم وذلك أنهم قالوا الأقانيم الثلاثة آله واحد وتارة أنهم اتخذوه وأمه إلهين من دون الله بقوله تعالى: (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) وتارة أن المسيح ابن الله فتسويه ابن عبد الوهاب بين من يستغيث ويتشفع ويتوسل من المسلمين إلى الله بنبي أو ولي جعل الله له الشفاعة والوسيلة وجعله مغيثا بدعائه وبين من يعبد المسيح وأمه تمويه وتضليل. وأما قوم نوح " ع " فقد فعلوا فعل مشركي قريش من تكذيب الرسل وإنكار ما جاءت به وعبادة غير الله كما أخبر بذلك عنهم القرآن الكريم وكفى ذلك في كفرهم ولم يرد في دليل قوي ولا ضعيف إن عبادتهم لغير الله كانت مجرد التشفع والتوسل إليه بالصالحين وإنهم كانوا يقيمون جميع شرائع الدين سوى هذه وإن نوحا " ع " ما بعث إلا لينهاهم عن التوسل بالصالحين والتشفع بهم وأي كتاب أو سنة نطق بذلك. بلى أنهم قد غلوا في الصالحين وعبدوهم بما نهى الله عنه كما أخبر الله عنهم في كتابه العزيز أما إنه لم يصدر منهم إلا مثل ما يصدر من المسلمين من الاستغاثة والتوسل والتشفع بالصالحين فهو تخرص على الغيب بل افتراء محض وكذا غيرهم من أمم الأنبياء عليهم السلام وظاهر
157 قوله تعالى حكاية عن قوم هود في خطابهم لهود " ع " (أن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) اعتقادهم بأنها قادرة مختارة بنفسها على الضر والنفع والاعتراء بسوء فظهر أن عبادة المشركين للأصنام لم تكن مجرد الاستغاثة والتوسل والتشفع إلى الله بذوي المكانة عنده كما توهم الوهابيون. وسيأتي كلام في مثل ذلك في رد كلام الصنعاني ويأتي له مزيد توضيح في الباب الثالث إن شاء الله. (قوله) فبعثه الله يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم الخ قد ظهر بطلانه مما مر فإن دين أبيهم إبراهيم الذي بعث محمد " ص " لتجديده ليس هو عبارة عن عدم التشفع بالصالحين ولا داخلا فيه. أما إنه ليس عبارة عن عدم التشفع بالصالحين فلان دين أبيهم إبراهيم الذي جدده لهم رسول الله " ص " وترك ما كانوا يفعلونه من المحرمات والموبقات التي مر بعضها كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي والنسئ والطواف بالبيت عراة ونكاح أزواج آبائهم والخمر والميسر وإكراه فتياتهم على البغاء ووأد بناتهم وسجودهم للأصنام وذكر أسمائها على ذبائحهم وتركهم الصلاة واستبدالها بالمكاء والتصدية وغير ذلك فهذا وأمثاله مما بدلوه من دين أبيهم إبراهيم هو الذي بعث رسول الله " ص " ليجدده لهم وأما إن عدم التشفع والتوسل بالصالحين ليس داخلا فيما جدده لهم فلأن ذلك وما يجري مجراه لم ينههم الرسول " ص " عنه فضلا عن أن يكون بعثه محصورا في ذلك بل أقرهم على التشفع والتوسل الذي هو نوع من طلب الدعاء منه بما حث عليه من سؤال الدعاء من المؤمنين وبما أخبرهم به من أن الله تعالى جعل له الشفاعة والوسيلة وأكرمه بذلك كما ستعرفه مفصلا في الفصول الخاصة بذلك ولا ينكره الوهابيون. قوله: ويخبرهم إن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله، هذا افتراء على الله وعلى إبراهيم عليه السلام فمتى أمر الله تعالى محمدا (ص) أن يخبرهم أنه لا يجوز طلب الشفاعة ممن له الشفاعة وإن طلبها محض حق الله لا يجوز طلبها من غيره ومتى أخبرهم محمد (ص) بأن لا يطلبوا منه الشفاعة بل الأمر بالعكس فقد أخبرهم بأنه الشفيع المشفع وصاحب الوسيلة ولازم ذلك أن يطلب منه ما جعله الله له ولم يقل لهم حين أخبرهم بذلك أن طلب الشفاعة منه شرك وكفر مع أنه أمرهم بطلب الدعاء من الغير، وطلب الشفاعة لا يخرج عن ذلك كما ستعرف وتشبث الوهابية للمنع بآية " لله الشفاعة جميعا. فلا تدعوا مع الله أحدا) ستعرف أنه من السخافة بمكان. فالذي أوجب شركهم وكفرهم وأحل
158 قتالهم تبديلهم دين الله وتكذيبهم رسله وعبادتهم الصور والتماثيل من دون الله لا مجرد التشفع بالصالحين إلى الله. وبذلك تعرف أن توحيد العبادة الذي جحدوه ليس هو عدم التشفع والتوسل بالصالحين إلى الله وأن هذا التشفع ليس عبادة لغير الله ولا منافيا لتوحيد الله في العبادة وأن ما يسميه المسلمون الاعتقاد لا محذور فيه فإنهم لم يعتقدوا في الأنبياء والصالحين إلا بما جعلهم الله له أهلا. قوله: وكانوا يدعون الله ليلا ونهارا ومنهم من يدعو الملائكة لصلاحهم وقربهم ليشفعوا له أو رجلا صالحا كاللات أو نبيا كعيسى. فيه أن دعاءهم الله ليلا ونهارا لم ينفعهم لأنهم بدلوا دينه وكذبوا رسله وعبدوا غيره بما نهى الله عنه لا بطلب الشفاعة ممن له الشفاعة. وعبادتهم للملائكة لم تكن مجرد تشفعهم بهم بل فعلهم معهم ما هو من خصائص الربوبية واعتقادهم مماثلتهم لله وأنهم بناته إلى غير ذلك كما مر مفصلا وعبادتهم للات الذي هو رجل صالح لم تكن مجرد التشفع به إلى الله بل السجود وأنواع العبادة لحجر زعموا أنه على صورته مع نهي الله لهم عن ذلك على لسان أنبيائه إلى غير ذلك مما مر. وعبادة النصارى لعيسى عليه السلام ليست مجرد التشفع به إلى الله بل أثبتوا له جميع صفات الإلهية كما مر وكيف يتوهم عاقل إن عبادتهم له مجرد التشفع به إن هذا لمخالفة للمحسوس وتكذيب للقرآن وتمويه وتضليل. قوله: وإنه قاتلهم ليكون الدعاء والنذر والذبح والاستغاثة وجميع العبادات كلها لله سيأتي الكلام على الأربعة المذكورة كل في فصله وما تقدم هنا حديث إجمالي وقد ظهر أن قوله: إن قصدهم الملائكة والأنبياء والأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم كذب وافتراء على الله وعلى رسوله بل الذي أحل دماءهم وأموالهم تبديلهم للدين وتكذيبهم له (ص) بعدما رأوا معجزاته ودلائل نبوته وعبادتهم للأصنام بالوجوه التي ذكرناها من دون أمر الله بل عنادا وخلافا عليه لا مجرد تشفعهم وتوسلهم بالصالحين. ومن ذلك يعلم انهدام وفساد كل ما بناه على هذا الأساس الفاسد من تفسير كلمة التوحيد التي دعا النبي (ص) المشركين إلى الاقرار بها بأن المراد بالإله فيها ما يعم من قصد لأجل الشفاعة ونحوها وأنه ليس المراد به الخالق الرازق المدبر فقط. لأنهم كانوا يعلمون أن ذلك لله وحده فإن المبنى في الكل واحد وهو توهم أن الاستغاثة والتشفع إلى الله بذوي
159 المكانة عنده يوجب اتخاذهم آلهة ويكون عبادة لهم وقد عرفت وستعرف مفصلا فساد هذا التوهم وسخافته وأن التشفع بذوي المكانة وما يجري مجراه ليس عبادة لهم ولا يوجب اتخاذهم آلهة لهم وأن قياسهم على عباد الأصنام والكواكب وعيسى ومريم والملائكة جهل أو عناد وأن تفضيل جهال مشركي قريش وعبدة الأصنام على المسلمين اليوم من أعظم الجهالات والافتراءات وأقبحها وأنه لا يظن ولا يحتمل أحد من المسلمين إن الإسلام هو التلفظ بكلمة التوحيد من دون اعتقاد معناها ولا يظن حاذق منهم ولا غيره أن معناها لا يخلق ولا يرزق إلا الله وكلهم يعلمون أن من كذب الرسل وخالفهم وعمل عمل عبدة الأصنام أو أنكر شيئا من ضروريات الدين كافر لكنهم لا يعتقدون أن من عظم الذي أمر الله بتعظيمه واستشفع بمن جعله الله شافعا وتوسل بمن جعل الله له الوسيلة كافر ومشرك مع أنه لم يخرج عن أمر الله وطاعته. فأي الفريقين أحق بنسبة الجهالة إليه لو كانوا يعلمون؟! وكذلك ظهر فساد قوله وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد فإن المسلمين الذين سماهم المشركين لا يعنون بلفظ السيد معنى ينافي العبودية الخالصة وإنما يعنون به أن له منزلة عند الله أوجبت امتيازه عن غيره وأن يقبل الله شفاعته ويسمع دعاء من تشفع به إليه كرما منه تعالى وفضلا فهم لم يثبتوا له إلا ما أثبته الله. أما الوهابية فنفوا عنه ما جعله الله له ونسبوا إلى المسلمين ما هم منه براء فكانوا أشبه بالمشركين الذين خالفوا الله ورسله ونسبوا إلى الرسل وأتباعهم ما هم منه براء. أما إطلاق السيد على غير الله تعالى بل والرب فلا مانع منه إذا لم يقصد به معنى ينافي العبودية الخالصة لله تعالى كما ستعرفه في الفصل الخاص به مفصلا وحاش لله أن يقصد به أحد من المسلمين معنى ينافي العبودية الخالصة لله تعالى. ومما ذكرنا تعلم فساد المحكي في تاريخ نجد عن ابن عبد الوهاب. وإذا كان المشركون لم يزعموا أن الأنبياء والأولياء والصالحين والملائكة شاركوا الله في خلق السماوات والأرض أو ذرة من الذرات كما قال فلا دليل يدلنا على أنهم لم يزعموا استقلالهم بشئ من التدبير والتأثير وآية (إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته) لا تنفي ذلك إذ لم يظهر منهم الاعتراف بذلك بل الظاهر والله أعلم أنه من قبيل الاحتجاج عليهم وإظهار بطلان معتقدهم أنها تكشف الضر وتمسك الرحمة فلا يدل على أنهم لا يعتقدون أنها كذلك وبذلك يحسن موقع الاستفهام فيكون إنكاريا لا تقريريا
160 وهم لم يقروا بجميع تلك الجمل مع أنهم كانوا يعبدون صور الأنبياء والصالحين لا أنفسهم وكانوا يقولون عن الملائكة أنها بنات الله ومن عبد المسيح يعتقد فيه ما يعتقد في الله كما مر ذلك كله وإذا كانوا لا يعتقدون في الأوثان ما ورد في الآيات مما أقروا به فلا دليل على أنهم لا يعتقدون غيره من صفات الربوبية كما مر مفصلا أما ما أطال به من قوله إن مجرد الاتيان بلفظ الشهادة الخ فهو تطويل بلا طائل فلسنا نكتفي بمجرد الاتيان بلفظ الشهادة كالكرامية ولكن أين العرش حتى تنقش وكون الإيمان مجرد التصديق عند الجهمية لا يظهر لذكره فائدة غير التطويل ومثله الاستشهاد بآية المنافقين التي لا مساس لها بما نحن فيه والإطالة في تفسيرها. ومما بيناه من عدم وقوع العبادة المنهي عنها من أحد من المسلمين لنبي ولا صالح ولا قبر ولا غيره تعرف انهدام ما بناه على ذلك من قوله: من شهد أن لا إله إلا الله وعبد غيره فلا شهادة له (ثبت العرش ثم انقش) وكذا الاستشهاد بباقي الآيات. ثم قال محمد بن عبد الوهاب في رسالة كشف الشبهات (1): إذا تحققت إن الذين قاتلهم رسول الله " ص " أصح عقولا واخف شركا من هؤلاء فاعلم أن لهؤلاء شبهة يوردونها على ما ذكرنا وهي من أعظم شبههم، ذكرها بعض أهل الأحساء في كتابه إلينا: وهي أن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله ويكذبون الرسول وينكرون البعث ويكذبون القرآن ويجعلونه سحرا ونحن نشهد الشهادتين ونصدق القرآن ونؤمن بالبعث ونصلي ونصوم فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟! (فالجواب) أنه لا خلاف بين العلماء أن من صدق رسول الله " ص " في شئ وكذبه في شئ أو آمن ببعض القرآن وجحد بعضه كافر كما قال الله تعالى: (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا)، ولما لم ينقد أناس للحج نزل فيهم: (ولله على الناس حج البيت إلى قوله ومن كفر " الآية ") فإذا كان من صدق الرسول في كل شئ وكذبه في شئ واحد كالبعث أو الصلاة أو الصيام فهو كافر حلال الدم والمال، فكيف إذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر، سبحان الله ما أعجب هذا الجهل. ثم استشهد بأن أصحاب
(1) ص 65 - 70 161 رسول الله " ص " قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون الشهادتين ويصلون ويؤذنون. (قال) فإن قال أنهم يقولون إن مسيلمة نبي قلنا هذا هو المطلوب إذا كان من رفع رجلا إلى رتبة النبي كفر وحل ماله ودمه ولم تنفعه الشهادتين والصلاة فكيف بمن رفع شمسان ويوسف أو صحابيا أو نبيا في مرتبة جبار السماوات والأرض كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون (قال) وبنو عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمن بني العباس كلهم يشهدون الشهادتين ويدعون الإسلام ويصلون الجمعة والجماعة فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم وإن بلادهم بلاد حرب وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين (قال) وإذا كان الأولون لم يكفروا إلا أنهم (كذا) جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول والقرآن وإنكار البعث وغير ذلك فما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب باب المرتد وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه وذكروا أنواعا كثيرة كل منها يكفر ويحل دم الرجل وماله حتى أنهم ذكروا أشياء يسيرة عند فعلها مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه أو على وجه المزح واللعب (قال) والذين نزل فيهم يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم كفرهم الله تعالى بكلمة مع أنهم في زمن الرسول " ص " يجاهدون معه ويصلون ويزكون ويحجون ويوحدون والذين نزل فيهم (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) كانوا مع رسول الله " ص " في غزوة تبوك وقالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح فتأمل هذه الشبهة وهي قولهم تكفرون المسلمين أناسا يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلون ويصومون ثم تأمل جوابها فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق (واستدل أيضا) بما حكاه الله تعالى عن بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم أنهم قالوا لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وقول ناس من الصحابة إجعله لنا ذات أنواط (1) فحلف " ص " إن هذا نظير قول بني إسرائيل اجعل لنا إلها. (ثم قال) وللمشركين شبهة أخرى يقولون أنكر النبي " ص " على أسامة قتل من قال لا إله إلا الله وقال أقتلته بعدما
(1) روى الترمذي عن أبي واقد الليثي خرجنا مع رسول الله " ص " إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله " ص " الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة " الآية " لتتبعن سنن من كان قبلكم. - المؤلف - 162 قال لا إله إلا الله (وقال) أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأحاديث أخرى في الكف عمن قال لا إله إلا الله (قال) ومراد هؤلاء الجهلة إن من قالها لا يكفر ولا يقتل ولو فعل ما فعل (وأجاب) بأن اليهود وبني حنيفة والذين حرقهم علي بن أبي طالب يقولون لا إله إلا الله وهؤلاء الجهلة يقولون من جحد شيئا من أركان الإسلام كفر وقتل ولو قالها فكيف إذا جحد التوحيد قال ولكن أعداء الله ما فهموا معنى الأحاديث (فأما) حديث أسامة فإنه قتل رجلا ادعى الإسلام لظنه أنه ما ادعاه إلا خوفا والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك وأنزل الله تعالى في ذلك (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا) أي تثبتوا ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبت معنى وكذلك الأحاديث الأخر. والدليل على هذا أن رسول الله " ص " الذي قال أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله وقال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله هو الذي قال في الخوارج أينما لقيتموهم فاقتلوهم لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلا حتى أن الصحابة يحقرون أنفسهم عندهم وتعلموا العلم من الصحابة فلم ينفعهم لا إله إلا الله ولا كثرة العبادة ولا ادعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة " انتهى ". وقال ابن عبد الوهاب أيضا فيما حكاه عنه الآلوسي في تاريخ نجد: الكفر نوعان، مطلق ومقيد، فالمطلق أن يكفر بجميع ما جاء به الرسول " ص "، والمقيد أن يكفر ببعضه، حتى أن بعض العلماء كفر من أنكر فرعا مجمعا عليه كتوريث الجد والأخت وإن صلى وصام، فكيف بمن يدعو الصالحين ويصرف لهم خالص العبادة ولبها وهذا مذكور في المختصرات من كتب المذاهب الأربعة. إلى أن قال: فتشبيه عباد القبور بأنهم يصلون ويصومون ويؤمنون بالبعث مجرد تعمية على العوام وتلبيس لينفق شركهم ويقال بإسلامهم وإيمانهم ويأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون " انتهى ". (والجواب) أن إنكار شئ مما جاء به النبي " ص " بعد العلم بأنه جاء به لكونه مما ورد في القرآن أو جاءت به السنة القطعية وصار من ضروريات الدين لا ريب في أنه تكذيب للنبي " ص " موجب للكفر وإذا وقع من مسلم حكم بارتداده ولا يحتاج إلى الإطالة وإكثار الشواهد عليه من الآيات وغيرها وذكر العلماء باب المرتد وغير ذلك الذي أطال به بدون طائل. إنما الكلام في أن الاستغاثة والتشفع والتوسل بالصالحين هل هي
163 موجبة لجحود التوحيد وللرفع في مرتبة جبار السماوات والأرض كما زعم وقد تبين بما شرحناه وأوضحناه في هذا المقام وغيره وفي الفصول المختصة بتلك الأمور أنه ليس فيها شئ مما ينافي التوحيد ولا توجب رفع مخلوق إلى رتبة جبار السماوات والأرض ولا تخرج عن طلب الدعاء ممن يرجى من الله إجابة دعائه لنا لما له من المنزلة عنده بإخلاصه في عبوديته. ولما قاس الوهابيون حال المسلمين المستغيثين بالصالحين على حال مشركي قريش فقالوا إن كليهما أقر بتوحيد الربوبية ولكنه تشفع واستغاث وتوسل بالمخلوقين فلم ينفعه إقراره بتوحيد الربوبية وإن النبي " ص " لم يقاتل عبدة الأوثان إلا على استشفاعهم بغير الله رجلا صالحا أو غيره فدل ذلك على أن الاستشفاع عبادة وعبادة غير الله شرك كما صرح به ابن عبد الوهاب في كلماته السابقة، توجه عليهم حينئذ اعتراض بعض أهل الأحساء بأن هذا قياس مع الفارق: فمشركوا قريش لا يشهدون الشهادتين ويكذبون الرسل والقرآن وينكرون البعث، وهذا هو الذي أوجب كفرهم وأحل قتالهم، ونحن نقر بذلك كله، فبطل القياس، نعم لو كان الصادر من الأولين مجرد الاستغاثة والاستشفاع وتعظيم القبور كان القياس صحيحا، ولكن الصادر منهم غير ذلك مما يوجب الكفر والشرك، ولا ينفع الجواب بأن من صدق الرسول في شئ وكذبه في شئ كفر، الذي لا ينكره أحد. ومن ذلك تعلم أن قوله: سبحان الله ما أعجب هذا الجهل، لا ينطبق إلا عليه خاصة. وأن قوله: كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون، ليس أحد أولى به منه. ومع كون الشواهد التي استشهد بها وأطال بذكرها لا حاجة إليها بل هي تطويل بلا طائل أكثرها غير صحيح في نفسه كدعواه إن الفاطميين المصريين بني عبيد قد أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم وإن بلادهم بلاد حرب، فإنه، ادعاء باطل وافتراء على العلماء، ولو كان ذلك صحيحا لتمسك به أعداؤهم خلفاء بني العباس وجعلوه من أعظم الحجج لهم فأخذوا فتاوى العلماء بذلك، ولو وقع ذلك لشاع وذاع ولذكره أهل السير والتواريخ ونقلة الأخبار مع أنه ليس له في كتبهم عين ولا أثر، ولما كان بنو العباس يعدلون عنه إلى كتابة محضر بعدم صحة نسبهم فقط، شهد فيه جماعة من العلماء خوفا على أنفسهم وامتنع من الشهادة الشريف الرضي، وقصته في ذلك مع القادر العباسي مشهورة ذكرها المؤرخون. ولا شئ أطرف من قوله: وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلاء
164 المسلمين، فإنا لا نعلم أحدا من المسلمين غزاهم، وهذه كتب التواريخ شاهدة بذلك وإنما استنجد آخر خلفائهم الملقب العاضد بنور الدين ملك الشام لما خاف على بلاده من الإفرنج، فأرسل إليه صلاح الدين الأيوبي، فكان انقراض دولتهم على يده بدون حرب ولا قتال ولا غزو بل على عادة الملوك في تغلبهم على ملك غيرهم إذا أنسوا منهم ضعفا، كما تغلب صلاح الدين على ملك مصر وخرج عن طاعة نور الدين مع أنه هو الذي أرسله وكان بمنزلة العامل عنده، ثم تغلب صلاح الدين على الشام بعد موت نور الدين وطرد ولده من الملك. وخبر ذلك في التواريخ مشهور، أفهذه أدلة محمد بن عبد الوهاب وهذا مبلغ علمه بالتاريخ؟! وقوله: غزاهم المسلمون طريف جدا فإنه مناف لتكفير الوهابية المسلمين وإشراكهم إياهم فإن المسلمين في عصر الفاطميين المصرين مثلهم في عصر الوهابيين لا يزيدون عنهم بشئ فقد كانوا في ذلك العصر يبنون القباب على القبور ويعظمونها ويتشفعون بالصالحين، فإن كان هؤلاء مشركين فأولئك مشركون، ولم يكن في عصر الفاطميين وهابية يغزون فكيف سماهم مسلمين. وهذا كقول صاحب المنار: أيها المسلمون. مع تصويبه اعتقاد الوهابية فيهم كما بيناه في غير هذا الموضع. ولكن هؤلاء عند حاجتهم للمسلمين يعترفون بإسلامهم وإذا استغنوا عن ذلك كفروهم وأشركوهم. نعم إن المسلمين أجمعوا على ضلالة الوهابيين وخروجهم من الجماعة وقتالهم وغزاهم المسلمون بأمر خليفة الإسلام حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين كما فصلناه في تاريخهم، فإن كان ذلك دليلا على الكفر الارتداد فهو دال على كفر الوهابية وخروجهم من الدين، كما أنك قد عرفت في الباب الأول أقوال العلماء في حق ابن تيمية قدوة الوهابية وباذر بذور مذهبهم وأول من زقا بالقول بالتجسيم وصنف فيه. فإجماع العلماء قائم على ضد قول ابن عبد الوهاب لا معه مع أنه لا قيمة لإجماع العلماء عنده وإن تظاهر بالتمسك به. أما قوله: إذا كان الأولون لم يكفروا إلا أنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسل وغير ذلك، فما معنى ذكر العلماء باب المرتد الخ: ففيه كما مر أن المعترض لم يقل إن الأولين لم يكفروا إلا أنهم جمعوا بين هذه الأشياء بحيث لو نقص واحد منها لم يكفروا وأنه ليس شئ سواها مكفرا بل لما قاس الوهابية حال المسلمين اليوم على حال مشركي قريش توجه عليهم الاعتراض بأن هذا قياس مع الفارق كما عرفت. نعم لو كان الصادر من الأولين مجرد الاستغاثة والتوسل والاستشفاع وتعظيم القبور كان القياس صحيحا ولكن الصادر منهم غير ذلك مما يوجب التكفير فلم يبق في ذلك دلالة على أن الاستشفاع ونحوه موجب للكفر وحينئذ فاستشهاده
165 يذكر العلماء باب المرتد تطويل بلا طائل كما عرفت لعدم إنكار أحد إمكان حصول الارتداد مع الاقرار بالشهادتين إنما الكلام في أن المتنازع فيه هو موجب للارتداد أم لا وهذا لا ينفع فيه ذكر العلماء باب المرتد. على أن جميع علماء المذاهب الذين ذكروا باب المرتد وبينوا ما يوجب الارتداد لم يذكروا من جملته الاستغاثة والاستشفاع بالصالحين فدل على إجماعهم على أنه ليس موجبا للارتداد وبطل بذلك زعم الوهابية. فما استشهد به شاهد عليه لا له. قوله: مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه. أقول: الذي ذكره علماء المذاهب في باب المرتد إن من تكلم بكلمة الكفر كقوله الله ثالث ثلاثة استهزاء أو عنادا كفر (1) لا مطلق من قالها كما يقتضيه إطلاق كلامه قصدا لتهوين أمر الارتداد. قوله: أو على وجه المزح واللعب ستعرف مما يأتي بعده شرح ذلك ورده وأنه خيانة في النقل وتدليس. ومن الغريب قوله بأن الذين نزل فيهم يحلفون بالله ما قالوا (الآية) كفرهم الله بكلمة مع أنهم في زمن الرسول (ص) يجاهدون معه ويصلون ويزكون ويحجون ويوحدون فإن هذه الآية مع كونها كغيرها من استشهاداته لا حاجة إلى الاستشهاد بها كما عرفت نزلت في المنافقين. ففي أسباب النزول للواحدي قال الضحاك: خرج المنافقون مع رسول الله (ص) إلى تبوك وكانوا إذا خلا بعضهم ببعض سبوا رسول الله (ص) وأصحابه وطعنوا في الدين فنقل ما قالوا حذيفة إلى رسول الله (ص) فقال (ص) يا أهل النفاق ما هذا الذي بلغني عنكم فحلفوا ما قالوا شيئا من ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية إكذابا لهم وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلا من جهينة ورجلا من غفار اقتتلا فظهر الغفاري على الجهني فنادى عبد الله بن أبي يا بني الأوس انصروا أخاكم فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فأخبر النبي (ص) فأرسل إليه فجعل يحلف بالله ما قال فنزلت الآية " انتهى " وفي الكشاف أقام رسول الله (ص) في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المنافقين المتخلفين فيسمع من معه منهم الجلاس بن سويد فقال الجلاس والله لئن كان ما يقول محمد حقا لإخواننا الذين خلفانهم وهم سادتنا وأشرافنا فنحن شر من الحمير فقال له عامر بن قيس الأنصاري أجل والله إن محمدا لصادق
(1) راجع الاقناع في حل ألفاظ أبي شجاع وحاشيته ص 229 ج 2 في الفقه الشافعي وحاشية الشرقاوي على شرح التحرير لزكريا الأنصاري ص 390 ج 2 في الفقه الشافعي أيضا (المؤلف) 166 وأنت شر من الحمار وبلغ ذلك رسول الله (ص) فاستحضره فحلف بالله ما قال فنزلت الآية " انتهى " وهي قوله تعالى يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا. ولكونها نزلت في المنافقين قال صاحب الكشاف: " كفروا بعد إسلامهم " أظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام " انتهى " والذي هموا به فلم ينالوه: الفتك برسول الله (ص) عند مرجعه من تبوك توافق خمسة من المنافقين على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي ذا صعد العقبة فرآهم عمار قائد ناقة النبي (ص) أو حذيفة سائقها ملثمون فقال إليكم إليكم يا أعداء الله فهربوا ذكره الواحدي عن الضحاك وذكره الزمخشري فهؤلاء هم الذين قال عنهم ابن عبد الوهاب إنهم يجاهدون ويصلون ويزكون ويحجون ويوحدون وما ينفعهم ذلك وهم منافقون يسبون رسول الله (ص) ويطعنون في الدين ويقولون في حقة (ص): سمن كلبك يأكلك ويحاولون قتله وإلقاءه عن راحلته إلى الوادي فجعلهم كالمسلمين الذين يستشفعون إلى الله تعالى ويستغيثون بالنبي (ص) الذي جعله شافعا ومغيثا على السواء. هذا علم ابن عبد الوهاب وهذه حججه وأدلته وكذلك قوله: إن آية أبا الله وآياته الخ نزلت فيمن قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح (1) تهوينا وتصغيرا وتخفيفا لعملهم، حتى يتسنى له تشبيه المسلمين بهم وهل ينفعهم ذلك وادعاؤهم المرح، والحال أنهم من المنافقين الذين أنزل الله تعالى فيهم " يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزؤا إن لله مخرج ما تحذرون ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبا لله وآياته ورسله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) في الكشاف: بينا رسول الله " ص " يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه هيهات هيهات فأطلع الله نبيه على ذلك فقال احبسوا علي الركب فأتاهم فقال قلتم كذا وكذا فقالوا يا نبي الله لا والله ما كنا في شئ من أمرك ولكن في شئ مما يخوض فيه الركب
(1) يتبين مما سيأتي في سبب نزول الآية إنهم لم يعترفوا بتلك الكلمة ولا ادعوا قولها لا على سبيل المزاح كما يدعيه ابن عبد الوهاب ولا غيره بل أنكروها بتاتا وادعوا أنهم كانوا يمزحون بشئ غيرها. ثم إنه هنا يقول ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح وفي صفحة 72 من كشف الشبهات يقول. كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه اللعب والمزح فجزم بذلك فتناقض كلاماه وكلاهما للواقع فانظر إلى تحريفه الأخبار ترويجا لمقاصده. - المؤلف - 167 ليقصر بعضنا على بعض السفر فنزلت الآية. وذكر نحوه الواحدي في أسباب النزول عن قتادة وأنهم قالوا يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب وذكر الواحدي أيضا عن زيد بن أسلم ومحمد بن وهب إن رجلا من المنافقين قال في غزوة تبوك ما رأيت مثل هؤلاء يعني النبي " ص " وأصحابه ارغب بطونا ولا أكذب السنا ولا أجبن عند اللقاء فأخبر النبي " ص " فاعتذر القائل بأنا كنا نخوض ونلعب فنزلت الآية " انتهى " أبهؤلاء يقاس المسلمون المتشفعون إلى الله تعالى بنبيه صاحب الشفاعة عنده. ثم يتبجح بقول: تأمل هذه الشبهة ثم تأمل جوابها فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق. وهو كما عرفت لم يأت بجواب ولا شبه جواب وكذا استشهاده بحلف النبي (ص) أن قول بعض الصحابة له اجعل لنا ذات أنواط نظير قول بني إسرائيل اجعل لنا إلها كما لهم آلهة لا محل له ولا فائدة فيه ومن الذي يشك في أن اتخاذ شجرة تناط بها الأسلحة وتعبد كما تعبد الأصنام هو نظير عبادة بني إسرائيل للأصنام وطلب بعض الصحابة ذلك من النبي (ص) هو نظير طلب قوم موسى منه ولكن هذا لا يثبت أن الاستغاثة والاستشفاع بالنبي (ص) نظير عبادة الأصنام. وأما جوابه عن قصة أسامة وتنظيره باليهود وبني حنيفة والذين حرقهم علي بن أبي طالب والخوارج فهو مبني على الأساس الفاسد الذي أسسه من جعل الاستشفاع والتوسل بالصالحين عبادة لهم وشركا فلا ينفع معها قول لا إله إلا الله وحيث عرفت فساد هذا الأساس تعرف فساد ما بني عليه وتعرف إن من وصفهم بأعداء الله وهو أحق بهذا الوصف منهم قد فهموا معنى الأحاديث وأفنوا أعمارهم في فهمها ودراستها وأنها تدل على أن من قال لا إله إلا الله حرم دمه إلا أن يثبت خروجه عن الإسلام بيقين ولا يجوز تكفيره واستحلال دمه بمجرد الظن والتخمين فاليهود أنكروا نبوة عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وآله وجميع شرائع الإسلام (وبنو حنيفة) الذين قتلهم خالد اعتل لقتلهم بمنع الزكاة التي وجوبها من ضروريات الدين التي يكفر منكرها والذين اتبعوا مسيلمة ادعوا فيه النبوة وارتدوا عن الإسلام. وجعله المسلمين أشد كفرا منهم باعتبار أن أولئك ادعوا النبوة في مسيلمة والمسلمون رفعوا المخلوقين إلى درجة الإلهية بسبب استغاثتهم وتشفعهم بهم من السخافة بمكان لما عرفت ولما هو أوضح من الشمس في رائعة النهار من أن استغاثة المسلمين واستشافعهم بذوي المكانة عنده تعالى وجميع ما يفعلونه ليس فيه شائبة
168 رفع المخلوق عن درجة العبودة إلى درجة الإلهية وقد أوضحنا ذلك مكررا فلا نطيل بإعادته. والذين حرقهم علي بن أبي طالب قالوا له أنت الله أما من توسل بنبي أو صالح إلى الله ودعاه واستغاث به ليدعوا الله له ويكون له شفيعا فلم يكفر ولم يشرك ولم ينكر ضروريا حتى يباح دمه إلا عند الجاهل الذي لا يفهم معنى الأحاديث وأما استشهاده بأخبار الخوارج وإن الرسول (ص) أمر بقتلهم لما ظهر منهم من مخالفة الشريعة ففيه أن الذي ظهر منهم هو تكفير المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم وإخافة السبيل وإشهار الحرب على المسلمين لشبهة دخلت عليهم أعظم أسبابها الجمود، وأشبه الناس بهم في هذا الزمان كما مر من يكفر المسلمين ويستحل دماءهم وأموالهم ويغزو بلاد الإسلام ويشهر الحرب على المسلمين ويخيف السبل بشبهة أنهم يستغيثون ويستشفعون بذوي المكانة عند الله وتوهم أن ذلك شرك بالله، والحال أنه ليس فيه من ذلك شائبة كما بيناه وأوضحناه فأي الفريقين أحق بأن يشبه بالخوارج لو كانوا يعقلون. (وأما قوله) فيما حكي عنه في تاريخ نجد أن بعض العلماء كفر من أنكر فرعا مجمعا عليه فهو اعتراف منه على نفسه وعلى أتباعه بالكفر فإنهم قد أنكروا فروعا فضلا عن الفرع الواحد مجمعا عليها بين المسلمين كالاستشفاع بالنبي " ص " وتعظيم قبره والتبرك به وغير ذلك مما خالفوا فيه عامة المسلمين بعد اتفاقهم وإجماعهم عليه أجيالا عديدة فتوى وعملا (قوله): فتشبيه عباد القبور الخ قد علمت مما بيناه وشرحناه أنه ليس في ذلك تشبيه بل هو الحق الذي لا شبهة فيه وأن تشبيه الوهابيين بأن الاستشفاع والتوسل بالنبي " ص " الذي جعله الله شافعا وجعل له الوسيلة كفر وشرك مجرد تعمية على العوام وتلبيس لتنفق ضلالتهم التي كفروا بها المسلمين ويأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون. ومما ذكره ابن عبد الوهاب في رسالة كشف الشبهات (1) أنه ما بعث الله نبيا بهذا التوحيد إلا جعل الله له أعداء كما قال (وجعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن) وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج كما قال تعالى (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم) فإذا عرفت أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه أهل فصاحة وعلم وحجج فالواجب عليك أن تعلم من دين الله ما يصير
(1) ص 59 - 61 طبع المنار بمصر. 169 لك سلاحا تقاتل هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل لأقعدن لهم صراطك المستقيم لآتينهم من بين أيديهم (الآية) ولكن إذا أقبلت على الله فلا تخلف (إن كيد الشيطان كان ضعيفا) والعامي من الموحدين يغلب ألفا من علماء هؤلاء المشركين فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان والسيف والسنان (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا) قال بعض المفسرين هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة. (ونقول) جعله علماء المسلمين كالشياطين الذين يصدون عن سبيل الله وقدحه في علومهم وكتبهم وحججهم لأنهم لا يوافقونه على معتقده الفاسد كجملة من كلماته الشنيعة في حقهم السابقة والآتية خروج عن جادة الأدب وعما أمر الله تعالى به نبيه " ص " من المجادلة بالتي هي أحسن والدعاء إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ولو كان له دليل واضح لاكتفى به ولم يحتج إلى سوء القول في علماء المسلمين وحماة الدين وما أحقه بما وصمهم به وأشد انطباقه عليه وعلى أتباعه. قال: وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر الله في كتابه جوابا لكلام احتج به المشركون في زماننا علينا (فنقول) جواب أهل الباطل من طريقين مجمل ومفصل أما المجمل فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة وهو قوله تعالى (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) وقد صح عنه " ص " إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم. مثال ذلك إذا قال لك بعض المشركين (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وإن الشفاعة حق والأنبياء لهم جاه عند الله أو ذكر كلاما للنبي " ص " يستدل به على شئ من باطلها وأنت لا تفهم معنى الكلام الذي ذكره فجاوبه بأن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتبعون المتشابه وكون كفر المشركين بتعلقهم على المخلوقين وتشفعهم بهم محكم وما ذكرت لي لا أعرف معناه ولكن أقطع أن (كلام ظ) الله لا يتناقض وأن كلام النبي لا يخالف كلام الله وهذا جواب سديد ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله فلا تستهونه فإنه كما قال تعالى ولا يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم.
170 (ونقول): ما أحقه بهذه الأوصاف التي وصف بها المسلمين. وأما إيصاؤه من يتبعه بأن يجعل كلام مخالفه من المتشابه ومعتقده هو من المحكم ليدخل مخالفه تحت (وأما الذين في قلوبهم زيغ " الآية ") فطريف جدا وما ندري ما الذي يجعل إلا أن أولياء الله لا خوف عليهم وكون الشفاعة حقا والأنبياء لهم جاه عند الله من المتشابه. (فالمتشابه) كما ذكرناه في الأمر الثاني من المقدمة الثانية ما لا يكون ظاهر المعنى لسبب من الأسباب وهذه الألفاظ معناها بين ظاهر فكيف جعلها من المتشابه. (قوله) أو ذكر كلاما للنبي " ص " يستدل به على شئ من باطلها " أي الشفاعة " فجاوبه الخ. هذا خطأ منه في تعليم الاحتجاج والمجادلة فإنه إذا كان الحديث مجملا متشابها والوهابي لا يفهم معناه مع كونه من أهل العلم والفهم فكيف يستدل به العلماء وأهل المعرفة والفهم وإذا فرض فالجواب عنه سهل مختصر وهو أنه لا دلالة فيه لإجماله من جهة كذا ولا يحتاج إلى هذه المقدمة الطويلة العريضة والتبجح الزائد بقوله فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة وقوله فهذا جواب سديد الخ. ولعله يكون ظاهر الدلالة والمخاطب لا يفهم معناه لكونه أعرابيا نشأ في البادية ولم يتعلم وإن كان قلبه محشوا بالتوحيد فكيف يسوغ لمحمد بن عبد الوهاب أن يعلمه هذا الجواب. أما السر في هذه الوصية فهو أنه لما منى أصحابه الموحدين أن الواحد منهم يغلب الألوف من المشركين وعلم أنهم لا بد أن يغلبوا في كثير من مجادلاتهم أراد أن يعلمهم طريقا يرفع به عن نفسه خلف الوعد والكذب فيما وعدهم ومناهم به ويتخلصون به عندما يجابون بجواب فيعجزون عن رده وهو أن يقولوا لخصمهم: هذا الذي ذكرته متشابه وما نعتقده محكم والمتشابه لا يجوز التمسك به ولا يعارض المحكم. فهذه طريقة يمكن التخلص بها في كل مقام ومن كل إيراد، ولم يعلم أن المتشابه لا يكون متشابها بمجرد الدعوى بل له أسباب لا بد لمن يدعي التشابه من بيانها مثل كونه مشتركا بين معنيين ولا قرينة على تعيين أحدهما أو أنه قامت قرينة على عدم إرادة المعنى الحقيقي ولم تعين المجازي ونحو ذلك. (ونظير هذه الوصية) ما حكي أن رجلا طلب للمحاكمة مع آخر فاسترشد صديقا له ما الذي ينبغي أن يفعله حتى لا يغلب فأوصاه باستعمال الانكار فلما حضر للمحاكمة ادعى عليه خصمه بمال فسأله القاضي عن اسمه فقال أنا منكر فقال هل أخذت منه هذا المال قال نعم ولكن أنا منكر فأمره القاضي بدفع المال فقال أنا منكر ولم يفهم المسكين أن الانكار بعد الاقرار لا يفيد. أما جعله كفرا شركا بتعلقهم على الصالحين
171 وتشفعهم بهم من المحكم فقد عرفت وستعرف بما لا مزيد عليه أنه من الوهي والوهن بمكان وأنه لا أحكام فيه بل هو رقم على الماء وإن جوابه لا شئ فيه من السداد. قال: (وأما المفصل) فإن أعداء الله لهم اعتراضات كثيرة يصدون بها الناس. منها قولهم نحن لا نشرك بالله بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق لا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا " ص " لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا عن عبد القادر أو غيره ولكن أنا مذنب والصالحون لهم جاه عند الله وأطلب من الله بهم فجاوبه بما تقدم وهو إن الذين قاتلهم " ص " مقرون بما ذكرت وبأن أوثانهم لا تدبر شيئا وإنما أرادوا الجاه والشفاعة واقرأ عليه ما ذكر الله في كتابه فإن قال إنها نزلت فيمن يعبد الأصنام فكيف تجعلون الصالحين أصناما فجاوبه بما تقدم فإذا أقر أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها لله وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة وأراد أن يفرق بين فعلهم وفعله بما ذكره فاذكر له أن الكفار منهم من يدعو الصالحين والأصنام ومنهم من يدعو الأولياء الذين قال الله فيهم (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب) ويدعون عيسى وأمه واذكر قوله تعالى (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون) فإن قال: الكفار يريدون منهم وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار المدبر لا أريد إلا منه والصالحون ليس لهم من الأمر شئ ولكن أرجو شفاعتهم فالجواب أن هذا قول الكفار بعينه (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. هؤلاء شفعاؤنا عند الله) " قال ": وهذه الشبه الثلاث هي أكبر ما عندهم. (ونقول) يظهر فساد ما أطال به بلا طائل مما قدمناه من أن الذين قاتلهم رسول الله " ص " لم يقاتلهم على مجرد التشفع بالصالحين إليه بل على عدم قبولهم أحكام الإسلام وتكذيبهم له مع ظهور المعجزات على يديه وارتكابهم الموبقات والعظائم وغير ذلك مما مر في صدر الكلام حتى من يعبد صور الصالحين من الأحجار المنحوتة أما قوله تعالى (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجعون رحمته ويخافون عذابه) فنزلت على ما ذكره المفسرون في قوم من العرب كانوا يعبدون الجن أو كانوا يعبدون الملائكة وقيل كانوا يعبدون عيسى وعزيرا واعترضه الطبري في تفسيره بما حاصله: إن
172 الآية دالة على وجودهم في عهد النبي " ص " وعزير وعيسى ليسا كذلك " انتهى " (وفي الكشاف): " أولئك " مبتدأ و (الذين يدعون) صفته و (يبتغون) خبره و (أيهم) موصولة بدل من واو يبتغون يعني أن آلهتهم أولئك يبتغون الوسيلة وهي القربة إلى الله الذين هم أقرب منهم وأزلف فكيف بغير الأقرب " انتهى " فالآية دالة على أنهم اتخذوهم آلهة من دون الله وعبدوهم وليس فيها ما يدل على أنه لم يصدر منهم في حقهم إلا طلب شفاعتهم عند الله والتوسل بهم إليه وإن اشتملت على لفظ الدعاء وإن المدعوين يبتغون إلى ربهم الوسيلة، لكن قوله لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا دال على أنهم كانوا يعتقدون فيهم القدرة على كشف الضر وتحويله عنهم بأنفسهم ولذلك عبدوهم واتخذوهم آلهة دون الله بدليل قوله تعالى: الذين زعمتم من دونه. ومع ذلك فقد كذبوا الرسل وعاندوهم. وأما من يعبد عيسى وأمه فحالهم أوضح وأظهر. والعجب كيف جعل عبادة عيسى وأمه وجعله إلها خالقا رازقا مدبرا للكون متحدا مع الله تعالى كمن يتشفع بصالح إلى الله! ما هذا إلا الجهل أو العناد. وكذلك جعله رجاء الشفاعة من الصالحين هو قول المشركين: ما نعبدهم إلا ليقربونا هؤلاء شفعاؤنا، واضح الفساد بما عرفت من صراحة الآيتين في وقوع عبادة منهم غير الشفاعة جعلت علة لها مرة وعطفت عليها أخرى والعلة غير المعلول ومقتضى العطف التغاير كما سيأتي في فصل الشفاعة. وقال الصنعاني في تطهير الاعتقاد (1) ما حاصله بعد حذف تكريرات كثيرة وتقديم وتأخير: التوحيد قسمان توحيد الربوبية والخالقية والرازقية ونحوها أي إن الله وحده هو الرب الخالق الرازق للعالم وهذا لا ينكره المشركون وتوحيد العبادة أي إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادات وعدم عبادة غيره معه وهذا الذي جعلوا لله فيه الشركاء ولفظ الشريك يشعر بالإقرار بالله تعالى. والرسل والأنبياء من أولهم وهو نوح إلى آخرهم وهو محمد بعثوا لتقرير توحيد الربوبية كقولهم (أفي الله شك. هل من خالق غير الله. أغير الله اتخذ وليا. أروني ماذا خلق الذين من دونه. أروني ماذا خلقوا من الأرض). استفهام تقرير لهم لأنهم به مقرون ولم ترد الآيات في الغالب إلا بصيغة استفهام التقرير. والدعاء إلى التوحيد العبادة وإخلاصها والنهي عن شركها. قال الله تعالى (ولقد بعثنا في
(1) صفحة 3 - 16 173 كل أمة رسولا أن اعبدوا الله) فأفاد أن جميع الأمم لم ترسل إليهم الرسل إلا لطلب توحيد العبادة (أن لا تعبدوا إلا الله. وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) وكل رسول أول ما يقرع به أسماع قومه (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره. أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون) ولم ترسل الرسل لطلب توحيد الربوبية لأن المشركين مقرون به بدليل قوله تعالى (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله. ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم. قل من يرزقكم) الآيات المتقدمة في كلام ابن عبد الوهاب. وكل مشرك مقر بأن الله خالقه وخالق السماوات والأرض ولهذا احتج عليهم الرسل بقولهم (أفمن يخلق كمن لا يخلق. إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له) والعبادة اعتقادية كالاعتقاد بالتوحيد ولفظية كالنطق بكلمته وبدنية كالصلاة ومالية كالزكاة. والعبادة أقصى باب الخضوع والتذلل ولم تستعمل إلا في الخضوع لله لأنه مول أعظم النعم فكان حقيقا بأقصى غاية الخضوع كما في الكشاف. ورأس العبادة وأساسها التوحيد الذي تفيده كلمته والمراد اعتقاد معناها وهو إفراد الله بالعبادة والإلهية والنفي والبراءة من كل معبود دونه لا مجرد قولها وقد علم الكفار هذا المعنى لأنهم أهل اللسان فقالوا (أجعل الآلهة إلها واحدا) وقالوا (أجئتنا لنعبد الله وحده) أي لنفرده بالعبادة دون الأوثان فأنكروا إفراده بالعبادة وعبدوا معه غيره واتخذوا له أندادا قال تعالى (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) أي وأنتم تعلمون أنه لا ند له وكانوا يقولون في تلبيتهم للحج: لبيك لا شريك لك * الا شريكا هو لك تملكه وما ملك فالمشركون إنما أشركوا في العبادة ولم يشركوا في توحيد الربوبية وكانت عبادتهم للأصنام هي اعتقادهم فيهم أنهم يضرون وينفعون ويقربونهم إلى الله زلفى ويشفعون لهم عنده فنحروا لهم النحائر وطافوا بهم ونذروا النذور عليهم وقاموا متذللين متواضعين في خدمتهم وسجدوا لهم ولم يعبدوهم بالخضوع لهم والتقرب بالنذور والنحر لهم إلا لاعتقادهم أنها تقربهم من الله زلفى وتشفع لهم لديه وقالوا وهم في النار: (تالله إن كنا لفي
174 ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين) مع أنهم لم يسووهم به من كل وجه ولا جعلوهم خالقين رازقين وكان المشركون منهم من يعبد الملائكة ويناديهم عند الشدائد ومنهم من يعبد أحجارا ويهتف بها عند الشدائد فبعث الله محمدا " ص " يدعوهم إلى إفراد الله بالعبادة كما أفردوه بالربوبية وأن لا يدعوا مع الله أحدا قال تعالى: له دعوة الحق (الآية) وقال (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) أي من شرط الصدق (كذا) بالله أن يفردوه بالتوكل كما يجب إفراده بالدعاء والاستغفار وهذه الحال التي أشرك بها السابقون بشرك العبادة هي بعينها حال المسلمين مع الأنبياء والصالحين وغيرهم فاعتقدوا فيهم أنهم يضرون وينفعون ويقربون إلى الله ويشفعون عنده فدعوهم ونادوهم في الشدائد والرخاء وهتفوا بأسمائهم واستغاثوا واستعانوا وتوسلوا وتشفعوا وحلفوا بهم وطلبوا منهم ما لا يطلب إلا من الله من عافية المريض وقدوم الغائب ونيل المطالب ونذروا لهم بأموالهم وأولادهم ونحروا على قبورهم وطافوا بها وتبركوا وتمسحوا بها فصار الذين يعتقدون في القبور والأولياء والفسقة والخلعاء مشركين كالذين يعتقدون في الأصنام لأنه قد حصل منهم ما حصل من أولئك وساووهم في ذلك بل زادوا في الاعتقاد والانقياد والاستعباد فلا فرق بينهم. وكما أن السابقين كانوا مقرين بتوحيد الربوبية ولم ينفعهم ذلك لأنهم مشركون بالعبادة فلم ينفعهم إقرارهم بالله لأنه نافاه فعلهم كذلك المسلمون وإن كانوا مقرين بتوحيد الربوبية لم ينفعهم إقرارهم لأنه نافاه عملهم. فالمشركون لم يتخذوا الأصنام ولم يعبدوها ولم يتخذوا المسيح وأمه والملائكة شركاء لله لأنهم أشركوهم في الخلق بل لأنهم يقربونهم إلى الله زلفى كما قالوه وإنهم شفعاء عند الله قال الله تعالى (قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون) فجعل اتخاذهم للشفعاء شركا ونزه نفسه عنه لأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه فكيف يثبتون شفعاء لهم لم يأذن الله لهم في شفاعة ولا هم أهل لها ولا يغنون عنهم من الله شيئا. فما يفعله المسلمون هو بعينه الذي كانت تفعله الجاهلية وإنما يفعلونه لما يسمونه وثنا وصنما وفعله القبوريون لما يسمونه وليا وقبرا ومشهدا والأسماء لا تغير المعاني فمن شرب الخمر وسماها ماء ما شرب إلا خمرا ولعل عقابه أشد للتدليس والكذب وقد ثبت في الأحاديث أنه يأتي قوم يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها وصدق " ص " فإنه أتى
175 طوائف من الفسقة يشربون الخمر ويسمونها نبيذا وأول من سمى ما فيه غضب الله وعصيانه بالأسماء المحبوبة عند السامعين إبليس فقال هل أدلك على شجرة الخلد فسمى الشجرة التي نهي آدم عن قربانها شجرة الخلد جذبا لطبعه إليها وتدليسا عليه بالاسم الذي اخترعه لها كما يسمي إخوانه المقلدون الحشيشة بلقمة الراحة وكما يسمي الظلمة ما يقبضونه من أموال عباد الله ظلما أدبا فيقولون أدب القتل أدب التهمة أدب المكاييل والموازين أو باسم النفاعة والسياقة وكذلك تسمية القبر مشهدا والرجل وليا لا يخرجه عن اسم الصنم والوثن لمعاملتهم لها معاملة المشركين للأصنام ويطوفون بهم طواف الحجاج بالبيت ويستلمونهم استلامهم لأركانه ويخاطبون الميت بالكلمات الكفرية كقولهم على الله وعليك ويهتفون بأسمائهم عند الشدائد وكل قوم لهم رجل ينادونه فأهل العراق والهند عبد القادر الجيلي وأهل التهائم يقولون يا زيلعي يا ابن العجيل وأهل مكة والطائف يا ابن العباس وأهل مصر يا رفاعي يا بدوي والسادة البكرية وأهل الجبال يا أبا طير وأهل اليمن يا ابن علوان وفي كل قرية أموات يهتفون بهم وينادونهم ويرجونهم لجلب الخير ودفع الضر وقد يعتقدون في بعض فسقة الأحياء وينادونه في الشدة والرخاء وهو عاكف على القبائح لا يحضر جمعة ولا جماعة ولا يعود مريضا ولا يشيع جنازة ولا يكتسب حلالا ويضم إلى ذلك دعوى التوكل وعلم الغيب ويجلب إبليس إليه جماعة قد عشش في قلوبهم وباض فيها وفرخ يصدقون بهتانه ويعظمون شأنه ويجعلون هذا ندا لرب العالمين ومثلا. فإفراد الله بتوحيد العبادة لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله والنداء في الشدائد والرخاء والاستعانة واللجأ والنذر والنحر وجميع أنواع العبادات من الخضوع والقيام تذللا والركوع والسجود والطواف والتجرد عن الثياب والحلق والتقصير كلها لله ومن فعل ذلك لمخلوق حي أو ميت أو جماد أو غيره ملكا أو نبيا أو وليا أو شجرا أو قبرا أو جنيا فهذا شرك في العبادة وصار من تفعل له هذه الأمور إلها لعابديه وصار بهذه العبادة أو أي نوع منها عابدا لذلك المخلوق وإن أقر بالله وعبده فإن إقرار المشركين بالله وتقربهم إليه لم يخرجهم عن الشرك وعن وجوب سفك دمائهم وسبي ذراريهم ونهب أموالهم ومن اعتقد في شئ من ذلك أنه ينفع أو يضر أو يقرب إلى الله أو يشفع عنده في حاجة من حوائج الدنيا بمجرد التشفع به والتوسل إليه تعالى إلا ما ورد في حديث فيه
176 مقال في حق نبينا " ص " (1) أو نحو ذلك فقد أشرك مع الله غيره واعتقد ما لا يحل اعتقاده كما اعتقد المشركون في الأوثان وصار حلال المال والدم كما حلت دماء المشركين وأموالهم قال الله تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك لا يقبل الله عملا شورك فيه غيره ولا يؤمن به من عبد معه غيره بل سمى الله الرياء في الطاعات شركا مع أن فاعلها ما قصد بها إلا الله وإنما أراد طلب المنزلة بها في قلوب الناس فلم تقبل وسماها شركا أخرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. عنه " ص " يقول الله تعالى (أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا وأشرك فيه معي غيري تركته وشركه) بل سمى الله التسمية بعبد الحارث شركا بقوله تعالى (فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما) أخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث سمرة عنه " ص " لما حملت حواء وكان لا يعيش لها ولد طاف بها إبليس وقال لا يعيش لك ولد حتى تسميه بعبد الحارث فسمته فعاش وكان إبليس تسمى بالحارث. ثم قال (2) فهؤلاء القبوريون والمعتقدون في جهال الأحياء وضلالهم سلكوا مسالك المشركين حذو القذة بالقذة فاعتقدوا فيهم ما لا يجوز أن يعتقد إلا في الله وجعلوا لهم جزءا من المال وقصدوا قبورهم من ديارهم للزيارة وطافوا حول قبورهم وقاموا خاضعين عندها وهتفوا بهم عند الشدائد ونحروا تقربا إليهم وهذه هي أنواع العبادات التي عرفناك ولا أدري هل فيهم من يسجد لهم ولا استبعد أن فيهم من يفعل ذلك بل أخبرني من أثق به أنه رأى من يسجد على عتبة باب مشهد الولي الذي يقصده تعظيما له وعبادة. وقال (3) فإن قلت القبوريون يقولون نحن لا نشرك بالله تعالى ولا نجعل له ندا والالتجاء إلى الأولياء ليس شركا قلت يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم لكن هذا جهل منهم بمعنى الشرك فإن تعظيمهم الأولياء ونحرهم النحائر لهم شرك وما يفعلونه عين ما فعله المشركون وصاروا به مشركين ولا ينفعهم قولهم نحن لا نشرك بالله شيئا لأن فعلهم أكذب قولهم. ثم قال: فإن قلت هم جاهلون إنهم مشركون بما يفعلونه قلت قد خرج الفقهاء في باب الردة أن
(1) المراد حديث سؤال الأعمى الآتي في الفصل الثالث في التوسل. - المؤلف - (2) ص 13 (3) ص 11. 177 من تكلم بكلمة الكفر يكفر وإن لم يقصد معناها وهذا دال على أنهم لا يعرفون حقيقة الإسلام ولا ماهية التوحيد فصاروا حينئذ كفارا كفرا أصليا ومن نادى الله ليلا ونهارا وسرا وجهارا وخوفا وطمعا ثم نادى معه غيره فقد أشرك في العبادة. ثم أورد سؤالا بأنهم إذا كانوا مشركين وجب جهادهم والسلوك فيهم ما سلكه (ص) في المشركين وأجاب بأنه ذهب إلى هذا طائفة من أهل العلم وقال إنه يجب دعاؤهم إلى التوحيد ويجب على العلماء بيان أن ما يفعلونه شرك وأنه عين ما كان يفعله المشركون لأصنامهم فإذا أبانت العلماء ذلك للأئمة والملوك وجب عليهم بعث دعاة إلى إخلاص التوحيد فمن رجع حقن عليه ماله ودمه وذراريه ومن أصر فقد أباح الله منه ما أباح لرسوله (ص) من المشركين ثم قال فإن قلت لا سواء لأن هؤلاء قد قالوا لا إله إلا الله وقد قال النبي (ص) أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وقال لأسامة قتلته بعدما قال لا إله إلا الله وهؤلاء يصلون ويصومون ويزكون ويحجون بخلاف المشركين قلت قد قال (ص) إلا بحقها وحقها إفراد الألوهية والعبودية لله والقبوريون لم يفردوا هذه العبادة فلم تنفعهم كلمة الشهادة فإنها لا تنفع إلا مع التزام معناها ولم ينفع اليهود قولها لإنكارهم بعض الأنبياء وبنو حنيفة كانوا يشهدون الشهادتين ويصلون لكنهم قالوا مسيلمة نبي فقاتلهم الصحابة وسبوهم فكيف بمن يجعل للولي خاصة الإلهية ويناديه للمهمات وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حرق أصحاب عبد الله بن سبأ وكانوا يشهدون الشهادتين ولكن غلوا في علي واعتقدوا فيه ما يعتقد القبوريون وأجمعت الأمة على أن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال لا إله إلا الله فكيف بمن يجعل لله ندا وإنكاره (ص) على أسامة قتله من قال لا إله إلا الله لأن من قالها من الكفار حقن ماله ودمه حتى يتبين منه ما يخالف ما قاله فإن تبين لم تنفعه هذه الكلمة كما لم تنفع اليهود ولا الخوارج مع عبادتهم التي يحتقر الصحابة عبادتهم إلى جنبها بل أمر (ص) بقتلهم وقال لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد وذلك لما خالفوا بعض الشريعة وكانوا شر القتلى تحت أديم السماء كما ثبتت به الأحاديث فإن قلت القبوريون ومن يعتقد في فسقه الناس وجهالهم من الأحياء يقولون نحن لا نعبد هؤلاء ولا نعبد إلا الله وحده ولا نصلي لهم ولا نصوم ولا نحج. قلت: هذا جهل بمعنى العبادة فإنها لا تنحصر فيما ذكرت
178 بل رأسها وأساسها الاعتقاد وقد حصل في قلوبهم ذلك بل يسمونه معتقدا ويصنعون له ما سمعت مما تفرع عن الاعتقاد من دعائهم وندائهم والتوسل بهم والاستغاثة والاستعانة والحلف والنذر وغير ذلك وقد ذكر العلماء أن من تزيا بزي الكفار صار كافرا ومن تكلم بكلمة الكفر صار كافرا فكيف بمن بلغ هذه الرتبة اعتقادا وقولا وفعلا " انتهى ". والجواب: إن تقسيمه التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد العبادة تطويل بدون طائل فإنه لا شك في وجوب توحيد الباري تعالى في ذاته وصفاته وعبادته وجميع ما هو من لوازم الربوبية وصفات الكمال ونفي صفات النقص عنه ولا يحتاج إلى كل هذا التطويل والتكرير الذي اعتادوه ولا إلى إلى إكثار الشواهد القرآنية عليه ولا إلى الاستشهاد بإياك نعبد وأمثالها وإنما الذي ينفع بيان ما هي العبادة التي لا تليق بغير الله وإذا فعلت لغيره توجب الشرك والكفر هل هي مطلق التعظيم والخضوع والنداء والدعاء والاستعانة والاستغاثة والتشفع والتوسل والنذر والذبح والنحر وغير ذلك ليكون ما يفعله المسلمون داخلا فيها أو عبادة خاصة وهم لم يأتوا على أن ما يفعله المسلمون داخل في ذلك ببينة ولا برهان بل البرهان على خلافه قائم لما بيناه مرارا عند الكلام على هذه الأمور إجمالا وتفصيلا من أن مطلقها ليس ممنوعا فضلا عن كونه كفرا وشركا وأن تعظيم من هو عظيم عند الله والخضوع له والاستغاثة والتشفع والتوسل بمن جعله الله مغيثا شافعا وجعل له الوسيلة كلها عبادة لله وأن النذر والذبح والنحر الذي يفعله المسلمون هو لله تعالى وعباده وطاعة له فجميع هذه الأمور سواء سميت عبادة أو لا لا تعد شركا ولا كفرا لأن الممنوع منه الموجب للشرك هي عبادة خاصة وهي ما كان عن غير أمر الله أو عنادا له أو بقصد الاستحقاق الذاتي كاستحقاق الله أو نحو ذلك مع أن قوله إن جميع الرسل بعثوا لتقرير توحيد الربوبية والدعاء إلى توحيد العبادة ولم يبعثوا للدعاء إلى توحيد الربوبية جهل محض فإن الأمم التي بعثت إليها الرسل منها من كان يعتقد في عيسى الإلهية ويثبت له جميع صفاتها كما مر في رد كلام ابن عبد الوهاب فكيف يقول إن جميع من بعثت إليهم الرسل موحدون بتوحيد الربوبية، ومنه يعلم فساد قوله إن من اتخذوا المسيح وأمه لم يتخذوهم لأنهم أشركوهم في الخلق بل لأنهم يقربونهم إلى الله زلفى ومنها من كان ينكر الله تعالى وينكر البعث وهم الذين قالوا كما حكى الله تعالى عنهم في كتابه العزيز: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيى وما يهلكنا إلا الدهر، ففي تفسير الطبري يقول الله مخبرا عن هؤلاء
179 المشركين أنهم قالوا وما يهلكنا فيفنينا إلا مر الليالي والأيام وطول العمر إنكارا منهم أن يكون لهم رب يفنيهم ويهلكهم. وفي مجمع البيان أي ما يميتنا إلا الأيام والليالي أي مرور الزمان وطول العمر إنكارا منهم للصانع. وفي تفسير الرازي أن الله حكى عنهم شبهتهم في إنكار القيامة وفي إنكار الإله القادر أما شبهتهم في إنكار القيامة فهي قولهم ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيى وأما شبهتهم في إنكار الإله الفاعل المختار فقولهم وما يهلكنا إلا الدهر يعني تولد الأشخاص إنما كان بسبب حركة الأفلاك الموجبة لامتزاجات الطبائع وإذا وقعت تلك الامتزاجات على وجه خاص حصلت الحياة وإذا وقعت على وجه آخر حصل الموت فالموجب للحياة والموت تأثير الطبائع وحركة الأفلاك ولا حاجة في هذا الباب إلى إثبات الفاعل المختار فهذه الطائفة جمعوا بين إنكار الإله وبين إنكار البعث والقيامة وفي تفسير النيشابوري، إنهم لم يقنعوا بإنكار المعاد حتى ضموا إليه إنكارا المبدأ قائلين وما يهلكنا إلا الدهر " انتهى ". ثم إن قوله تعالى اعبدوا الله ولا تعبدوا إلا الله ليس صريحا في طلب توحيد العبادة فقط لجواز أن يعبر باللازم عن الملزوم فيكون قد طلب إفراد الله بالعبادة وملزومه الذي هو إفراده بالربوبية. ثم إن تقسيمه العبادة إلى اعتقادية ولفظية وبدنية الذي اختصرناه. وقوله: إن العبادة أقصى غاية الخضوع وإن مستحقها الله تعالى لإيلائه أعظم النعم كما نقله عن الكشاف لا يظهر لذكره في هذا المقام فائدة بل هو تطويل بلا طائل كما هي عادتهم في التطويل بتكرر المعنى الواحد وإعادته مرارا كثيرة كما وقع في كلامه من تكرير القول بأن الأنبياء بعثوا للدعاء إلى توحيد العبادة لا توحيد الربوبية مرارا كثيرة وقد اختصرناه ووجه كون ذلك تطويلا بلا طائل أنه لا ينكر أحد إن الحقيق بغاية الخضوع والتذلل هو الله تعالى ولكن الذي ينفع هو إثبات أن كل خضوع وتذلل لغير الله هو عبادة له موجبة للشرك والكفر وأني لهم بذلك بل هو بكلامه هذا رد على نفسه فإنه جعل العبادة الخاصة بالله تعالى هي غاية الخضوع والتذلل فدل على أن مطلق الخضوع والتذلل ليس كذلك وتقسيم العبادة لا مساس له بما هو بصدده وكذا قوله إن رأس العبادة وأساسها التوحيد وإن المراد معنى كلمة الشهادة لا مجرد قولها تطويل بلا طائل إذ لا ينكر أحد ذلك ومن التطويل بلا طائل قوله وقد علم الكفار هذا المعنى الخ كما لا يخفى. أما رجز التلبية الذي استشهد به فهو عليه لا له فإنهم بعدما جعلوا الأصنام شركاء لله يعبدونها بأنواع العبادة التي نهى الله
180 عنها ولم يقع منها من أحد من المسلمين كما ستعرف لا ينفعهم قول: هو لك تملكه وما ملك. قوله: وكانت عبادتهم للأصنام اعتقادهم أنهم يضرون وينفعون الخ جعل تارة عبادة الأصنام هي اعتقاد أنهم يضرون وينفعون ويشفعون المتفرع عنه النحر لهم والطواف بهم والنذر عليهم والذل والخضوع والسجود لهم وتارة جعل عبادتهم هي الخضوع والتقرب بالنحر والنذر المتسبب عن اعتقاد الشفاعة ولا يخفى تهافت ذلك وتناقضه وسواء كانت عبادة الأصنام هي الاعتقاد المذكور المتفرع عنه تلك الأفعال أو تلك الأفعال المتفرعة عن الاعتقاد المذكور أو هما معا فقياس حال المسلمين بهم قياس فاسد وجهل محض كما علم مما مر في الرد على ابن عبد الوهاب. فالمشركون كذبوا الرسول " ص " وأنكروا ما جاء به ومنهم من قال عيسى هو الله. والمسلمون أقروا بالله وبرسوله وبكل ما جاء به فكيف يقاس أحدهما بالآخر وجعل مساويا له هل هذا إلا الضلال نعوذ بالله منه. والمشركون اعتقدوا في أحجار وأشجار وجمادات لا تضر ولا تنفع ولا تعقل ولا تسمع ولا تغيث ولا تشفع سواء كانت صور صالحين أو غيرهم فالشافع الصالح لا صورته أنها تضر وتنفع وتغيث وتشفع فتشفعوا واستغاثوا بها وعظموها ولم يجعل الله لها شيئا من ذلك بل نهى عن التشفع والاستغاثة بها وتعظيمها. والمسلمون اعتقدوا أن الأنبياء والصالحين ينفعون بدعائهم وشفاعتهم أحياء وأمواتا كما نصت عليه أحكام دينهم وأدلته التي ستعرفها والتي أثبتت لهم الشفاعة والدعاء ويضرون بترك ذلك وبالبعد عن نيل بركتهم وهو اعتقاد صحيح مطابق لأدلة الدين الإسلامي فطلبوا منهم ما جعله الله لهم من دعائه والشفاعة لديه. والمشركون عظموا ما لا يستحق التعظيم سواء كان صورة صالح متوهمة أو غيره فإن الصورة لا تستحق تعظيما فإنها إن كانت مجسمة فعملها حرام وإتلافها واجب وإن كانت غير مجسمة فعملها حرام أو مكروه وإتلافها واجب أو مستحب وطافوا وتبركوا بما لم يجعله الله مباركا. والمسلمون عظموا من أمر الله بتعظيمه حيا وميتا وجعله معظما من الأنبياء والصالحين وقبورهم وطافوا وتمسحوا وتبركوا بها لتشرفها بأجسادهم الشريفة كما تشرف الجلد المعمول للمصحف فهل يسوي بين هؤلاء وهؤلاء إلا جاهل مضل أو معاند. والمشركون عبدوا تلك الأحجار والأشجار بأنواع العبادات التي نهاهم الله تعالى عنها فسجدوا لها وذبحوا ونحروا لها مهلين بأسمائها على ذبائحهم دون اسم الله تعالى وطلوها بدمائها وأعرضوا عن عبادة الله بالكلية وقالوا لا قدرة لنا على
181 عبادته فنحن نعبدها لتقربنا إليه واعتقدوا أن لها شرفا ذاتيا واستحقاقا للعبادة بالاستقلال واختيارا وتدبيرا وكانوا يقولون (اعل هبل) قاصدين أن تكون كلمة الأصنام ودين الجاهلية هي العليا وكلمة الله ودين الإسلام هي السفلى فأجابهم النبي " ص " بقوله: (الله أعلى وأجل) فأعرضوا عن ذكر الله واكتفوا بذكرها وكذبوا الرسل الذين نهوهم عن عبادتها ولم يكتفوا بذلك بل بدلوا دين الله وغيروا أحكامه ومنهم من عبد الملائكة وسماهم بنات الله. والمسلمون لم يعبدوا نبيا ولا صالحا ولا قبره بل عبدوا الله وحده فلم يسجدوا لقبر ولا لولي ولم يذبحوا له ولم يذكروا اسمه على ذبيحتهم بل ذبحوا لله وحده وذكروا اسمه على المذبوح وأهدوا ثواب الصدقة بالذبيحة إليه فهل يسوي بين عمل المسلمين هذا وعمل المشركين إلا جاهل أو مكابر. وسيأتي لهذا مزيد توضيح في الباب الثالث ومر في رد كلام ابن عبد الوهاب في هذا الباب ما له علاقة بالمقام فراجع. ومن ذلك يظهر فساد استشهاده بآية إذ نسويكم برب العالمين، وإن المسلمين بتشفعهم وتبركهم وتعظيمهم لمن جعله الله شافعا مباركا عظيما لم يسووه برب العالمين. قوله: ومنهم من كان يعبد الملائكة ويناديهم عند الشدائد. قد عرفت في رد كلام ابن عبد الوهاب إن عبادتهم للملائكة لم تكن مجرد التوسل والتشفع الذي يقع مثله من المسلمين فلا نطيل بإعادته. قوله: وأن لا يدعوا مع الله أحدا ستعرف في فصل الدعاء أن المنهي عنه ليس هو ما يقع من المسلمين من طلب الشفاعة وأن آية له دعوة الحق لا دلالة فيها على شئ مما يزعمونه. قوله: كما عرف من علم البيان أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر. كيف ذكر ما قاله علماء البيان هنا ونسي ما قالوه في باب المجاز العقلي من أن قول أنبت الربيع البقل إذا صدر من المسلم كان مجازا عقليا من باب الإسناد إلى الزمان وإذا قاله الدهري كان حقيقة ولم يعمل به في طلب المسلمين من النبي أو الولي عافية المريض أو قدوم الغائب ونحو ذلك فيجعله مجازا عقليا من باب الإسناد إلى السبب وقرينته ظهور حال المسلم كما جعل أهل البيان انبت الربيع البقل مجازا عقليا وقرينته صدوره من مسلم بل كفر به المسلمين واستحل أموالهم ودماءهم. قوله: فاعتقدوا أنهم يضربون وينفعون تقدم الكلام على مثله آنفا فراجع. قوله: ويقربون إلى الله ويشفعون عنده. نعم يقربون إلى الله بدعائهم لنا ويشفعون لنا عنده. ودعاء المؤمن لأخيه فضلا عن النبي والشفاعة لا ينكرها الوهابية كما ستعرف أما الأحجار والأشجار فليست لها هذه الصفة فبطل القياس. قوله: فدعوهم إلى قوله وتمسحوا بها سيأتي الكلام
182 عليه مفصلا في الفصول الآتية إن شاء الله وباقي كلامه يفهم رده مما مر. قوله: فجعل اتخاذهم للشفعاء شركا سيأتي الكلام عليه مفصلا في فصل الشفاعة وإن هذه الدعوى محض افتراء على الله تعالى وإن اتخاذ الشفعاء الذين جعل الله لهم الشفاعة كنبينا " ص " هو عين إطاعة الله تعالى وإن جعله شركا من أعظم الموبقات وأقبح الافتراءات عليه تعالى وكذا بقية كلامه الذي من هذا القبيل. قوله: والأسماء لا تغير المعاني. نعم لا تغيرها فتسمية الوهابية الأنبياء والأولياء وقبورهم ومشاهدهم أوثانا لا تجعلها أوثانا وتسميتهم طاعة الله وما أمر به من تعظيم أوليائه والتشفع بهم شركا لا تجعله شركا وتسمية أنفسهم الموحدين لا تجعلهم كذلك بعدما نسبوا إلى الله التجسيم ولوازم الحدوث. وقياسه تسمية القبر مشهدا والرجل وليا بمن يسمي الخمر نبيذا والشجرة المنهي عنها شجرة الخلد والحشيشة لقمة الراحة والظلم أدبا قياس فاسد وجهل محض فالمسلمون سموا محل القبر مشهدا بكرم صاحبه على الله ومكانته عنده وشرفه لديه بإخلاصه له في العبودية وتشرفه بجسده تشرف الأديم والورق والمداد بكلام الله تعالى وسموا من أخلص لله في العبودية والطاعة وليا كما سماه الله تعالى بقوله (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا " الآية ". ألا أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وغير ذلك. نعم قد يطلق اسم الولي على من لا يستحق ذلك لكونه معتوها أو مشعوذا أو مع كونه جاهلا أو فاسقا ولكن هذا لا يوجب أن يكون إطلاقه على أهله خطأ وإثما. وكون بعض الناس قد يعتقد في فسقة الأحياء وجهالهم لا يوجب فساد اعتقادهم في شفاعة الأنبياء والأولياء وطلب دعائهم. أما استدلاله على كون ما يسمى مشهدا أو وليا هو وثن وصنم بأنهم يعاملونها معاملة المشركين للأصنام ويطوفون بهم طواف الحجاج بالبيت ويستلمونهم استلامهم لأركانه فيظهر فساده مما ستعرف في الفصول الآتية فإن طوافهم بقبورهم واستلامهم لها تبركا بها وبمن فيها لمكانتهم عند الله وشرفهم عنده بإخلاصهم له في العبودية وبذلهم أنفسهم في طاعته هو طاعة لله الذي جعلهم مباركين وميزهم عن عباده كما ميز البيت وأركانه وشرفها بالطواف والاستلام وهي أحجار وجماد لا تضر ولا تنفع ولا تعقل ولا تسمع ومن ذلك تعرف أنه لم يعامل أحد الأنبياء والأولياء وقبورهم معاملة الأصنام بل عاملوهم بما أمر الله أن يعاملوهم به وأن هتافهم بهم لطلب الدعاء والشفاعة الذي لا محذور فيه. أما قولهم على
183 الله وعليك فلا يراد به إلا على الله قضاء حاجتي وعليك الشفاعة عنده ودعاؤه في قضائها وهذا مقصد صحيح لا مغمز فيه ولا محذور ولا يريدون مساواته بالله تعالى في القدرة والطلب منه فهو نظير قوله تعالى: (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله) فكيف نسب الله الايتاء إليه وإلى رسوله على السواء في ظاهر اللفظ وأمر المسلمين أن يقولوا ذلك ولم يكن ذلك شركا وكان قوله على الله وعليك شركا وكفرا وهو مثله ونظيره ولو فرض جهل مقصدهم لوجب الحمل على ما ذكرنا لوجوب حمل أفعال المسلمين وأقوالهم على الصحيح مهما أمكن كما مر في المقدمات وكذا هتافهم بأسمائهم عند الشدائد لا يراد به إلا ذلك كما تكرر بيانه واتفاق أهل جميع بلاد الإسلام على المناداة بذلك واستمرار سيرتهم عليه أقوى دليل على إجماع المسلمين على ذلك وأخذ الخلف له عن السلف وإجماع المسلمين وسيرتهم حجة كما مر في المقدمات. أما قوله: إن إفراد الله بتوحيد العبادة لا يتم الخ فهو على إطلاقه بالنسبة إلى الدعاء والنداء والاستعانة والخضوع والتذلل وأمثال ذلك فاسد لما عرفت وستعرف من أن مطلق هذه الأمور لا يكون عبادة منهيا عنها أو موجبا للشرك وأن الممنوع منه ما كان خلافا على الله ومعاندة لأمره وتعبدا بما لم يأذن به وأن ما يفعله المسلمون خارج عن ذلك كله وأما النذر والنحر فيأتي كل منهما في فصله. قوله: من اعتقد في شئ من ذلك أنه ينفع أو يضر، مر الكلام في مثله ويشمل كلامه هذا من سأل رجلا أن يدعو له واعتقد أنه ينفعه بدعائه ومن اعتقد في شخص أنه يضره بدعائه عليه أو نحو ذلك ومن اعتقد في شخص حي أنه ينفعه ببره أو يضره بشئ من مضار الدنيا فيلزم كفر الجميع. قوله: أو يشفع عنده في حاجة من حوائج الدنيا بمجرد التشفع الخ سيأتي الكلام عليه في فصل الشفاعة. أما الحديث الذي قال إن فيه مقالا فهو حديث سؤال الأعمى الآتي في فصل التوسل حيث أمره النبي (ص) أن يتوسل به إلى الله وستعرف انتفاء كل مقال عنه وإذا كان التوسل به (ص) في حياته ومماته شركا وكفرا كما يقتضيه قوله حي أو ميت فيلزم القطع بكذب هذا الحديث لا أن يكون فيه مقال. أما استشهاده بالحديث القدسي: أنا أغني الشركاء الخ فغريب لأنه وارد في الرياء كما صرح به بعد ذلك وأنه تعالى لا يقبل عمل المرائي وتسمية الرياء شركا في الأخبار من باب المجاز والمبالغة كتسمية بعض الذنوب كفرا كما بيناه في الأمر الخامس من المقدمة الثانية وإلا فلم يقل أحد بأن المرائي صار كافرا مشركا حلال
184 المال والدم حتى يتوب ولا نظن أن الوهابيين يلتزمون بذلك وإن كان لا يستبعد شئ من جمودهم وتعسفهم وتعنتهم وقد صرح بعضهم في الرسالة الثانية من رسائل الهدية السنية (1) بأن الرياء لا يخرج عن الملة وأنه شرك أصغر ومن ذلك ظهر أن استشهاده أخيرا بتسمية الرياء شركا لا محل له، أما استشهاده بتسمية حواء ولدها بعبد الحارث بأمر من إبليس الذي تسمى الحارث وتسمية الله له شركا فعجيب فإن إبليس ما أراد بأمرها أن تسميه بعبد الحارث أي عبد الشيطان إلا أن يكون عبدا له كما هو عبد الله فإذا أطاعته حواء في ذلك فقد جعلت له شريكا فيما آتاها فهل يقاس بذلك المتشفع إلى الله بمن جعل الله له الشفاعة والمعظم لمن جعله الله عظيما والمتبرك بمن جعله مباركا إلى غير ذلك، قوله: والمعتقدون في جهال الأحياء وضلالهم. لا كلام لنا فيمن يعتقد في جهال الأحياء والأموات وضلالهم فنحن لا نعتقد فيهم ونخطئ من يعتقد فيهم وإنما كلامنا في الأنبياء والأولياء والصلحاء، قوله: فاعتقدوا فيهم ما لا يجوز أن يعتقد إلا في الله إلى قوله: ونحروا تقربا إليهم. قد عرفت أننا لم نعتقد فيهم إلا ما جعلهم الله له أهلا. وستعرف أنه لم يجعل أحد لهم جزءا من المال وإنما ينذر الصدقة وإهداء الثواب إليهم الذي ثبت جوازه في الشرع وأن زيارة قبور الأنبياء والصلحاء والقصد إليها مما يتقرب به إليه تعالى وأن الطواف حول قبورهم التي بوركت بهم كما بورك جلد الشاة والورق بالمصحف والخضوع عندها احتراما لأهلها لا محذور فيه هو إطاعة لله تعالى وأن الهتاف بأهلها عند الشدائد لطلب دعائهم وشفاعتهم لا مانع منه وأن النحر هو تقرب إلى الله لا إليهم وإنما يهدى ثواب الصدقة بالمنحور لهم وأنه ليس في شئ من ذلك شائبة العبادة لغيره تعالى. (أما السجود على العتبة) الذي حكاه عمن يثق به فالذي نظنه أن هذا المخبر رأى من يقبل العتبة فظنه سجودا وتقبيل العتبة كتقبيل الضريح تعظيما له وتبركا به لا مانع منه ولا محذور فيه، وإن أباه جمود الوهابية وتعنتهم وستعرف ذلك في فصل التبرك بقبور الصالحين باللمس والتقبيل وغير ذلك وإن صح ما نقل من السجود على عتبة مشهد الولي ولا نظنه صحيحا فيجب حمله على السجود لله تعالى شكرا له على التوفيق لزيارة النبي أو الولي التي ثبت أنها طاعة كما ستعرف إذ لا يظن ولا
(1) ص 25 185 ولا يحتمل بمسلم السجود لغير الله وهو يعلم أنه غير جائز فما دام له محمل صحيح لا يجوز حمله على الفاسد ولا يجوز الحكم بكفر فاعله كما مر في المقدمات، نعم الأرجح تركه لأنه موهم للسجود لغير الله، قوله: هذا جهل منهم بمعنى الشرك. قد ظهر بما عرفت وستعرف أنه أحق بنسبة الجهل إليه. قوله: فإن تعظيمهم الأولياء ونحرهم النحائر لهم شرك. بل تعظيم من عظم الله من الأنبياء والأولياء والصلحاء من أعظم الطاعات لله تعالى ونسبة فاعلها إلى الشرك وعدم تعظيمهم بل إهانتهم بهدم قبورهم وجعلها معرضا لكل هوان من أعظم الموبقات التي إن لم تكن كفرا لمخالفتها إجماع المسلمين بل ضرورة الدين لا تنقص عن الكفر والشرك وقد عرفت مما ذكرناه أن ما يفعله المسلمون بعيد عما فعله المشركون أكثر من بعد السماء عن الأرض وأن أفعالهم تصدق أقوالهم ولا تكذبها، قوله: خرج الفقهاء في باب الردة أن من تكلم بكلمة الكفر يكفر وإن لم يقصد معناها. قد مضى في رد كلام ابن عبد الوهاب أن الذي ذكره الفقهاء في باب الردة أن من تكلم بكلمة الكفر استهزاء أو عنادا أو اعتقادا كفر لا مطلق من قالها، قوله: وهذا دال على أنهم لا يعرفون حقيقة الإسلام ولا ماهية التوحيد بل ما عرفت دال على أنه ومن تبعه لا يعرفون حقيقة الإسلام ولا الشرك ويرمون المسلمين بما هم منه براء. وأفحش من هذا كله قوله: فصاروا حينئذ كفارا كفرا أصليا، افتراء تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هذا أن يكون المسلمون المقرون لربهم بالوحدانية ولنبيه بالرسالة والمقيمون الصلاة والمؤتون الزكاة والقائمون بجميع فروض الإسلام كفارا كفرا أصليا موجبا لحل دمائهم وأموالهم وأعراضهم، لماذا؟! لأنهم يسألون الشفاعة ممن جعل الله له الشفاعة ويستغيثون بمن جعله الله مغيثا ليدعو الله لهم في نجاح مطالبهم وهم لا يعتقدون إلا أنه نبي شرفه الله بالرسالة ولا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا إلا بأمر الله تعالى، قوله: فمن نادى الله إلى قوله: فإن الدعاء من العبادة الخ، ستعرف تفصيل الجواب عنه بما لا مزيد عليه في فصل الدعاء والاستغاثة وإن طلب الشفاعة والاستغاثة بمن جعله الله شافعا ومغيثا لا يدخل في ذلك وقد بان من ذلك انهدام ما بناه على هذا الوهم الفاسد من الأسئلة والأجوبة الفاسدة بقوله: إذا كانوا مشركين وجب جهادهم الخ. والسؤال الذي بعده المتضمن لقصة أسامة وجوابه المتضمن تشبيه المسلمين بطلبهم الشفاعة من النبي " ص " واستغاثتهم به ليدعو الله
186 لهم باليهود المنكرين بعض الأنبياء المتمسكين بشريعة منسوخة وببني حنيفة القائلين إن مسيلمة نبي أو الذين اعتل لقتلهم بمنع الزكاة التي وجوبها من الضروريات وبأصحاب عبد الله بن سبأ القائلين لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنت الله (1) وبمنكري البعث وبالخوارج الذين هم أشبه الناس بالوهابية كما عرفت في المقدمات والذين أنكروا حب علي بن أبي طالب وهو من ضروريات الإسلام واستحلوا دماء المسلمين وكفروهم كما أنكر الوهابيون حرمة قبر رسول الله " ص " ووجوب تعظيمه وهي من ضروريات الدين وجعلوه وثنا وصنما واستحلوا دماء المسلمين وكفروهم، قوله: هذا جهل بمعنى العبادة فإنها لا تنحصر فيما ذكرت بل رأسها وأساسها الاعتقاد الخ كأنه يريد أنهم يعتقدون فيهم أنهم يقدرون على ما يطلب منهم فيصنعون ما يتفرع عن الاعتقاد من الدعاء والنداء الخ، فنقول: هذا جهل منه واضح فالمتشفعون والمتوسلون من المسلمين بالأنبياء والأولياء والصالحين لا يعتقدون فيهم أنهم يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعا ولا ضرا وأن الأمر كله لله وإنما يعتقدون فيهم ما جعلهم الله له أهلا من الشفاعة والوسيلة وإجابة الدعاء وأنه ميزهم على غيرهم من الخلق وقربهم منه بطاعتهم له فمعتقد ذلك فيهم مصيب لا مخطئ فلذلك يدعونهم ليشفعوا لهم عند من جعل لهم الشفاعة ويتوسلون بهم إلى من جعل لهم الوسيلة ويستغيثون ويستعينون بهم ليسألوا الله في قضاء حوائجهم ويحلفون بهم لأن لهم قدرا وشأنا عند الله تعالى بإطاعتهم وستعرف في فصل الحلف أنه لا محذور فيه وينذرون النذور ويهدون ثوابها إليهم إلى غير ذلك فهذا الاعتقاد لا مساس له بالعبادة حتى يجعل اسها ورأسها والمتفرع عنه لا ضرر فيه ولا محذور، قوله: وقد ذكر العلماء أن من تزيا بزي الكفار صار كافرا، فمع إنا لم نر ذلك في كلام العلماء ولو فرض فلا دليل عليه وإنما يكون آثما. فيه أن قياسه بما يفعله المسلمون قياس فاسد لما عرفت من أن ما يصدر من المسلمين لا محذور فيه والعجب من هؤلاء تارة يجعلون ما ينسبونه إلى العلماء حجة وتارة يكفرون جميع المسلمين عالمهم وجاهلهم ولا يعبأون بما استمرت عليه سيرتهم جيلا بعد جيل، قوله: ومن تكلم بكلمة الكفر صار كافرا، أقول: قد عرفت أنهم يكفرونه بذلك إذا قالها استهزاء أو عنادا أو اعتقادا لا مطلقا كما يقتضيه كلامه. قوله: فكيف بمن بلغ هذه الرتبة اعتقادا وقولا وفعلا. قد عرفت أنه لم يعتقد إلا ما هو الواقع ولم يقل ولم يفعل إلا ما هو الصواب.
(1) إن صح ذلك، فقد ثبت أن عبد الله بن سبأ شخصية وهمية لا وجود لها إلا في الخيال، راجع كتاب عبد الله بن سبأ للسيد مرتضى العسكري. " الناشر " 187 وقال ابن تيمية في رسالة الواسطة (1) في جواب مسألة عن رجلين تناظرا فقال أحدهما لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله فإنا لا نقدر أن نصل إليه بغير ذلك: إن أراد أنه لا بد من واسطة تبلغنا أمر الله فهذا حق، إلى أن قال: وإن أراد أنه لا بد من واسطة في جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يكون واسطة رزق العباد ونصرهم وهداهم يسألونه ذلك فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجتلبون بهم المنافع ويجتنبون المضار، إلى أن قال: فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يسألهم غفران الذنب وهداية القلوب وتفريج الكروب وسد الفاقات فهو كافر بإجماع المسلمين، إلى أن قال: ومن أثبت مشايخ العلم والدين وسائط بين الله وخلقه كالحجاب بين الملك ورعيته يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه فالله إنما يهدي ويرزق بتوسطهم فالخلق يسألونهم وهم يسألون الله تأدبا أو لأن سؤالهم أنفع لقربهم فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل " انتهى ". والجواب: أن ما ذكره من القول بأنه لا بد من واسطة في جلب المنافع ودفع المضار أو إن المشايخ وسائط كالحجاب بين الملك ورعيته والله لا يهدي ولا يرزق إلا بتوسطهم غير موجود لأحد من المسلمين فسواء كان جعل ابن تيمية له كفرا وشركا صوابا أو خطأ لا يضر أحدا وذكره له تطويل بلا طائل فلا نطيل برده وإن كانت دعواه الاجماع على التكفير بالأول غير ثابتة ولا مستند لها ومن الذي عنون هذه المسألة الفرضية وتكلم على حكمها من المسلمين حتى يدعي إجماعهم على ذلك على أن مجرد سؤال غفران الذنب وتفريج الكرب ونحو ذلك لا يعد غلطا وخطأ وفضلا عن أن يكون شركا وكفرا لأنه محمول على الصحة من باب المجاز في الإسناد بإرادة الإسناد إلى السبب كما فصلناه في المقدمات وفي تضاعيف ما مر كما أن حكمه بكفر وشرك من أثبت المشائخ واسطة على النحو المذكور واستحلال دمه إن لم يتب. لو فرض وجود من يعتقد ذلك لا دليل عليه وهو تهجم على الدماء وتقول على الله لأن الظاهر مراده أنهم وسائط وشفعاء إلى الله في ذلك لا أنهم يفعلونه من أنفسهم كما صرح به في قوله: ومن أثبت مشايخ العلم إلى قوله: فالخلق
(1) ص 66 - 70 طبع المنار بمصر. 188 يسألونهم وهم يسألون الله تأدبا. ودعوى أنها كعبادة الأصنام والاعتقاد فيها يدفعها ما مر ويأتي مفصلا من أن عبادة الأصنام وإشراك عابديها ليس من هذا القبيل، نعم اعتقاد ذلك غلط وخطأ أما إن معتقده كافر مشرك فلم يقم عليه دليل أن لم يقم على عدمه. وذكر الجبرتي في حوادث سنة 1218 أن الوهابي أرسل كتابا إلى شيخ الركب المغربي ومعه أوراق تتضمن دعوته وعقيدته وفيها بعد المقدمة ما نصه: أن الرسول (ص) أخبرنا بأن أمته تأخذ مآخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع وثبت في الصحيحين وغيرهما عنه (ص) لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن. وأخبر في الحديث الآخر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قالوا من هي يا رسول الله قال من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي. إذا عرف هذا فمعلوم ما قد عمت به البلوى من حوادث الأمور التي أعظمها الاشراك بالله والتوجه إلى الموتى وسؤالهم النصر على الأعداء وقضاء الحاجات وتفريج الكربات التي لا يقدر عليها إلا رب الأرض والسماوات وكذلك التقرب إليهم بالنذر وذبح القربان والاستغاثة بهم في كشف الشدائد وجلب الفوائد إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله وصرف شئ من أنواع العبادة لغير الله كصرف جميعها لأنه سبحانه وتعالى أغنى الأغنياء عن الشرك ولا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا كما قال تعالى (فاعبدوا الله مخلصين له الدين إلا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) فأخبر سبحانه أنه لا يرضى من الدين إلا ما كان خالصا لوجهه وأخبر أن المشركين يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى ويشفعوا لهم عنده وأخبر أنه لا يهدي من هو كاذب كفار. وقال تعالى (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله إلى قوله: سبحانه وتعالى عما يشركون) فأخبر أنه من جعل بينه وبين الله وسائط يسألهم الشفاعة فقد عبدهم وأشرك بهم وذلك أن الشفاعة كلها لله (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه. فيومئذ لا تنفع الذين ظلموا معذرتهم. يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا) وهو لا يرضى إلا التوحيد (1) (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) فالشفاعة
(1) ولا موحد إلا الوهابيين فلا شفاعة إلا لهم. - المؤلف - 189 حق ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله كما قال (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا. ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك) فإذا كان الرسول (ص) وهو سيد الشفعاء وصاحب المقام المحمود وآدم فمن دونه تحت لوائه لا يشفع إلا بإذن الله لا يشفع ابتداء بل يأتي فيخر لله ساجدا فيحمده بمحامده يعلمه إياها ثم يقال إرفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع ثم يحد له حدا فيدخلهم الجنة فكيف بغيره من الأنبياء والأولياء وهذا الذي ذكرناه لا يخالف فيه أحد من العلماء المسلمين بل قد أجمع عليه السلف الصالح من الأصحاب والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم وأما ما حدث من سؤال الأنبياء والأولياء من الشفاعة بعد موتهم وتعظيم قبورهم ببناء القباب عليها وإسراجها والصلاة عندها واتخاذها أعيادا وجعل السدنة والنذور لها فكل ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بها النبي (ص) أمته وحذر منها كما في الحديث: لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان وهو " ص " حمى جناب التوحيد أعظم حماية وسد كل طريق يؤدي إلى الشرك فنهى أن يجصص القبر وأن يبني عليه كما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر وثبت فيه أيضا أنه بعث علي بن أبي طالب وأمره أن لا يدع قبرا مشرفا إلا سواه ولا تمثالا إلا طمسه ولهذا قال غير واحد من العلماء يجب هدم القباب المبنية على القبور لأنها أسست على معصية الرسول " ص " فهذا هو الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس وهو الذي ندعو الناس إليه ونقاتلهم عليه بعدما نقيم عليهم الحجة من كتاب الله وسنة رسوله " ص " وإجماع السلف الصالح من الأمة ممتثلين لقوله تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. إلى أن قال: ونعتقد أيضا أن أمة محمد المتبعين للسنة لا تجتمع على ضلالة وأنه لا تزال طائفة من أمته على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك " انتهى ". والجواب عما تضمنه هذا الكتاب مما روي عنه " ص " من اتباع هذه الأمة سنن الأمم قبلها كاليهود والنصارى: أنه لا يبعد أن يكون النبي " ص " أشار به إلى الوهابية فأولئك اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وقد ورد في الحديث أنهم ما صاموا لهم ولا صلوا وإنما أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا فاتبعوهم، وهؤلاء قلدوا محمد بن عبد الوهاب في كل ما يقوله فحرم عليهم حلالا كالتشفع والتوسل بذوي المكانة عند الله ونحو
190 ذلك وحلل لهم حراما وهو سفك دماء المسلمين واستباحة أموالهم وأعراضهم فاتبعوه بدون تحقيق ولا تمحيص للأدلة حتى كأن كلامه وحي منزل وهو ممن يجوز عليه الخطأ وأدلته التي يستدل بها كلها ضعيفة واهية كما بيناه في هذا الكتاب وهم يأخذونها بالقبول ولا يقبلون عليها ردا ولا في مقابلها دليلا ولا يحيدون عنها قيد أنملة ولا يزيدون عليها ولا ينقصون منها كلمة واحدة ويتوارثها آخرهم عن أولهم بلفظ واحد ومعنى واحد ويسمون أنفسهم بالسلفيين أي إنهم أتباع السلف وإذا أورد لهم شئ من أقوال السلف يخالف معتقدهم لا يتحاشون من نسبة قائله إلى الشرك والكفر ويقولون مقتدانا الكتاب والسنة فهم في خطأ على الحالين فإن أقوال السلف ليست وحيا منزلا ولا أصحابها معصومون من الخطأ حتى نقلدهم على كل حال وإذا جاز تقليدهم فما بالنا نقلدهم تارة ونكفرههم أخرى وستعرف في الفصول الآتية مخالفة السلف للوهابيين في الشفاعة والتوسل وزيارة القبور والبناء عليها وغير ذلك مما تجده في تضاعيف هذا الكتاب. وأما ما تضمنه الكتاب المذكور من الحديث القائل إن الفرقة الناجية هي من كان على مثل ما كان عليه الرسول " ص " وأصحابه فهو من البديهيات والضروريات التي لا تحتاج إلى الاستدلال بالأحاديث وإطالة الكلام إذ لا شك في أن متبع النبي " ص " ناج ومخالفه هالك وإلا لم يكن نبيا وقد قال الله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا. وما كان عليه النبي " ص " هو دين الإسلام وأصحابه اقتدوا به واتبعوه عليه فالميزان في الحقيقة هو ما كان عليه النبي " ص " فقط لأن اتباع أصحاب النبي " ص " المتبعين له اتباع له " ص " وإن خالفوه لم يجز اتباعهم وأي مسلم يشك في وجوب اتباع النبي " ص " دون غيره. اللهم إنا لا نتبع إلا طريقة رسولك وسنته ونبرأ إليك ممن خالفها ولو ظهر لنا أن الاستغاثة والتشفع والتوسل بذوي المكانة عندك وتعظيم قبور الأنبياء والصالحين تخالف سنة نبيك " ص " لكنا أول من تبرأ منها. وهذا ليس محلا للكلام ولا محطا للأنظار وإنما محل الكلام معرفة ما كان عليه النبي " ص " واتبعه عليه أصحابه فقد وقع الاختلاف الكثير فيه بين المجتهدين وعلماء المسلمين فما أثبته هذا نفاه ذلك (وكل يدعي وصلا بليلى) وكل يقول إن قوله هو ما كان عليه الرسول " ص " وأصحابه، لا يوجد من يقول إني لا أتبع ما كان عليه الرسول " ص " وأصحابه بل الصحابة أنفسهم اختلفوا في مسائل عديدة ليس هذا محل تفصيلها وستعرف أن الاستغاثة بذوي المكانة طلبا لدعائهم والاستشفاع بهم إليه والبناء على القبور والصلاة
191 عندها سيرة المسلمين خلفا عن سلف وسيرة الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وقد اعترف صاحب الكتاب بحجية إجماع السلف الصالح وإن الأمة لا تجتمع على ضلالة وتقييده الأمة بالمتبعين للسنة لا يظهر له معنى ولا فائدة إذ لا يوجد مسلم تظهر له سنة رسول الله " ص " ويقول لا أتبعها وإنما أراد بذلك أن يحفظ لنفسه خط الرجعة فيحصر اتباع السنة بالوهابيين فقط حينما يحتج عليه أحد بإجماع الأمة وأني له ذلك فإن ثبت قول الرسول " ص " لا تجتمع أمتي على ضلالة كان ذلك دالا على أن ما اتفقوا عليه هو من سنته وعلى طبق شريعته فهذا القيد الذي قيد به فضول فاسد. ومر في المقدمات أن سيرة المسلمين وإجماعهم كاشف عن أن ذلك مما كان عليه النبي " ص ". قوله: وهذا الذي ذكرناه لا يخالف فيه أحد من العلماء المسلمين وأجمع عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة ستعرف في الفصول الآتية عدم صحة هذه الدعوى وأن الذي أجمع عليه السلف الصالح وعلماء المسلمين خلاف ما عليه الوهابية. أما باقي الكتاب فيفهم رده مما مر في كلام ابن عبد الوهاب والصنعاني فإن كلماتهم كلها تدور على محور واحد. وعن تاريخ نجد لمحمود شكري الآلوسي أنه حكى عن عبد اللطيف حفيد ابن عبد الوهاب أنه قال: ذكر طرف من معتقد المغالين في القبور والصالحين. ونذكر لك طرفا من معتقد هؤلاء ليعلم الواقف عليه أي الفريقين أحق بالأمن إن كان الواقف ممن اختصه الله بالفضل والمن ولئلا يلتبس الأمر بتسميتهم لكفرهم ومحالهم تشفعا وتوسلا مع ما في التسمية من الهلاك المتناهي عند من عقل الحقائق. من ذلك محبتهم مع الله محبة تأله وخضوع ورجاء ودعاؤهم مع الله في المهمات والملمات والحوادث التي لا يكشفها ولا يجيب الدعاء فيها إلا الله والعكوف حول أجداثهم وتقبيل أعتابهم والتمسح بآثارهم طلبا للغوث واستجابة الدعوات وإظهار الفاقة وإبداء الفقر والضراعة واستنزال الغيوث والأمطار وطلب السلامة من شدائد البراري والبحار وسؤالهم تزويج الأرامل والأيامى واللطف بالضعفاء واليتامى والاعتماد عليهم في المطالب العالية وتأهيلهم لمغفرة الذنوب والنجاة من الهاوية وإعطاء تلك المراتب السامية. وجماهيرهم لما ألفت ذلك طباعهم وفسدت به فطرهم وعز عنه امتناعهم لا يكاد يخطر ببال أحدهم ما يخطر ببال آحاد المسلمين من قصد الله تعالى والإنابة إليه بل ليس ذلك عندهم إلا الولي الفلاني ومشهد الشيخ فلان حتى جعلوا الذهاب إلى المشاهد عوضا عن الخروج للاستسقاء والإنابة إلى الله
192 تعالى في كشف الشدائد والبلوى كل هذا رأيناه وسمعناه عنهم فهل سمعت من جاهلية العرب مثل هذه الغرائب التي ينتهي عندها العجب والكلام مع ذكي القلب يقظ الذهن قوي الهمة العارف بالحقائق ومن لا ترضى نفسه بحضيض التقليد في أصول الديانات والتوحيد وأما ميت القلب بليد الذهن وضيع النفس جامد القريحة ومن لا تفارق همته التشبث بأذيال التقليد والتعلق على ما يحكى عن فلان وفلان في معتقد أهل المقابر والتنديد فذاك فاسد الفطرة معتل المزاج وخطابه محض عناء ولجاج. ومن وقف على كتب المتصوفة ومناقب مشايخهم وقف على ساحل بحر من ضلالهم وفي حاشية البيجوري على السنوسية نقلا عن الدردير عن الشعراني أن الله وكل بقبر كل ولي ملكا يقضي حاجة من سأل ذلك الولي فقف هنا وانظر إلى ما آل إليه إفكهم فأين هذا من قوله تعالى (وإذا سألك عبادي عني " الآية " ادعوا ربكم تضرعا وخفية. فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب. أم من يجيب المضطر إذا دعاه. وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) وأي حجة في هذا الذي قاله الشعراني لو كانوا يعلمون ولكن القوم أصابهم داء الأمم قبلهم فنبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون. ومن هذا الجنس ما ذكره الشعراني في ترجمة شمس الدين الحنفي أنه قال في مرض موته من كانت له حاجة فليأت قبري ويطلب أن أقضيها له فإنما بيني وبينه ذراع من تراب وكل رجل يحجبه عن أصحابه ذراع من تراب فليس برجل وباب تصرف المشايخ والأولياء قد اتسع حتى سلكه جمهور من يدعي الإسلام من أهل البسيطة وخرقه قد هلك في بحاره أكثر من سكن الغرباء وأظلته المحيطة حتى نسي القصد الأول من التشفع والوساطة فلا يعرج عليه عندهم إلا من نسي عهود الحمى فعاد الأمر إلى الشرك في توحيد الربوبية والتدبير والتأثير ولم يبلغ شرك الجاهلية الأولى إلى هذه الغاية بل ذكر الله عز وجل أنهم يعترفون له بتوحيد الربوبية ويقرون به ولذلك احتج عليهم في غير موضع من كتابه بما أقروا به من الربوبية والتدبير على ما أنكروه من الإلهية. ومن عجيب أمرهم ما ذكره حسين بن محمد النعيمي اليمني في بعض رسائله إن امرأة كف بصرها فنادت وليها أما الله فقد صنع ما ترى ولم يبق إلا حبك " انتهى ". وروي أن بعض المغاربة قدموا مصر يريدون الحج فذهبوا إلى الضريح المنسوب إلى الحسين رضي الله عنه
193 بالقاهرة فاستقبلوا القبر وأحرموا ووقفوا وركعوا وسجدوا لصاحب القبر حتى أنكر عليهم سدنة المشهد وبعض الحاضرين فقالوا هذا محبة في سيدنا الحسين وكثير من علماء مصر يقول لا يدق وتد في القاهرة إلا بإذن السيد أحمد البدوي وقد اشتهر ما يقع من السجود على أعتاب المشهد وقصد التبرك مع ما فيه لا يمنع حقيقة العبادة الصورية ومن المعروف عندهم شراء الولدان من الولي بشئ معين يبقى رسميا جاريا يؤدي كل عام وإن كانت امرأة فمهرها أو نصف مهرها لأنها مشتراة منه ولا يمانع هذا إلا مكابر في الحسيات وإن فقد بعض أنواعه في بعض البلاد فكم له من نظائر وهذا أشد وأشنع مما ذكر جل ذكره عن جاهلية العرب (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا) " الآية ". وكذلك جعل السوائب باسم الولي لا يحمل عليها ولا تذبح وسوق الهدايا والقرابين إلى مشاهد الأولياء وذبحها حبا للشيخ وتقربا إليه وهذا وإن ذكر اسم الله عليه فهو أشد تحريما مما ذبح وذكر عليه اسم غير الله فإن الشرك في العبادة أكبر من الشرك بالاستعانة. ومن ذلك ترك الأشجار والكلأ والعشب إذا كان بقرب المشهد وجعله من ماله. ومنها الحج إلى المشاهد في أوقات مخصوصة مضاهاة لبيت الله فيطوفون حول الضريح ويستغيثون ويهدون لصاحب القبر ويذبحون وبعض مشايخهم يأمر الزائر بحلق رأسه إذا فرغ من الزيارة وقد صنف بعض غلاتهم كتابا سماه حج المشاهد. ومنها التعريف في بعض البلاد عند من يعتقدونه من أهل القبور فيصلون عشية عرفة عند القبر خاضعين سائلين والعراق فيه من ذلك الحظ الأكبر بل فيه البحر الذي لا ساحل له والمهامة التي لا ينجو سالكها ولا يكاد ومن نحوه عرف الكفر وظهر الشرك والفساد كما يعرف ذلك من له إلمام بالتواريخ ومبدأ الحوادث في الدين ومن شاهد ما يقع منهم عند مشهد علي والحسين وموسى الكاظم ومحمد الجواد رضي الله عنهم عند رافضتهم والشيخ عبد القادر والحسن البصري والزبير وأمثالهم رضي الله عنهم عند سنتهم من العبادات وطلب العطايا والمواهب والتصرفات وأنواع الموبقات علم أنهم من أجهل الخلق وأضلهم وأنهم في غاية من الكفر والشرك ما وصل إليها من قبلهم ممن ينتسب إلى الإسلام والله المسؤول أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويمحو هذه الضلالات حتى يعبد وحده فتسلم الوجوه له وتعود البيضاء كما كانت ليلها كنهارها " انتهى ".
194 ونحن نبين لك بأجلى بيان أن ما نسبه إلى المسلمين وإلى زوار قبور الأئمة والصالحين بعضه زور وبهتان وبعضه لا يستلزم الشرك ولا العصيان ليعلم الواقف عليه أي الفريقين أحق بالأمن وبتسميته بالمسلم الموحد المطيع لله ولرسوله والمتبع سنة نبيه (ص) إن كان الواقف ممن سلم من العصبية والعناد وتقليد الآباء والأجداد ولئلا يلتبس الأمر بتسميتهم لضلالهم ومحالهم توحيدا ولتعظيم من أمر الله بتعظيمه شركا وكفرا ولمخالفة السنة وإجماع المسلمين وطريقة السلف اتباعا للسنة وللسلف مع ما في ذلك من الهلاك المتناهي واستباحة الدماء والأموال التي حرمها الله تعالى عند من يعقل الحقائق. زعم أن المسلمين يحبون مع الله محبة تأله. نعم أنهم يحبون في الله ولله وبأمر الله وتلك لا تخرج عن محبة الله أما أنهم يحبون مع الله فإن أراد المعية في الوجود فلا محذور فيه وإن أراد المساواة لمحبة الله كما في قوله تعالى (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله) فالمسلمون مبرؤن من ذلك وأين محبة المشركين للأصنام وإطاعتهم لهم المخبر عنها في الآية كما عن قتادة ومجاهد وأكثر المفسرين الذين لا يستحقون محبة ولا إطاعة أو لرؤسائهم الذين كانوا يطيعونهم كما عن السدي من محبة المسلمين للأنبياء والأولياء والصلحاء التي هي محبة لله تعالى لأمره بها في كتابه العزيز وعلى لسان نبيه الكريم (ص) بقوله تعالى (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا. فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) وقرن حب رسوله (ص) بحبه في قوله (أحب إليكم من الله ورسوله) وعن أنس أن رسول الله (ص) قال (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) أخرجه البخاري ومسلم ولابن ماجة في سننه عن العباس بن عبد المطلب قال رسول الله (ص): ما بال أقوام يتحدثون فإذا رأوا الرجل من أهل بيتي قطعوا حديثهم والله لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبهم لله ولقرابتهم مني) وقال رسول الله (ص) في علي (ع) يوم خيبر (لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) أخرجه الشيخان وقال له (يا علي حبك إيمان وبغضك نفاق) إلى غير ذلك ولا يتم الحب لله تعالى إلا بحب هؤلاء لأن حبهم من حبه تعالى لأنه عن أمره ولأن المؤمن إنما يحبهم لأنهم عباد الله المطيعون لأمره المتفانون في طاعته المجاهدون بأموالهم وأنفسهم في سبيله ولإعلاء
195 كلمته وإحياء دينه فكلما كمل إيمان المؤمن وإسلامه كملت محبتهم في قلبه وهيهات أن يكمل إسلام المسلم وإيمانه بدون كمال محبتهم فمن جعل كمال محبتهم من أسباب الشرك كهذا الرجل وأهل نحلته فهو بعيد عن الإسلام والإيمان مستحق لسخط الرحمن بنص قوله (ص) لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده فحبهم مع الله لله ولقرابتهم من رسول الله (ص) من متممات الإسلام والإيمان فأي الفريقين أحق بالأمن أمن يجعل كمال حبهم من أسباب الشرك أم من يعتقده من متممات الإيمان كما جعله الله ورسوله. ومنه يعلم أن قوله: محبة تأله إفك وافتراء وأن ما يحكى عن كتاب التوحيد لابن عبد الوهاب من قوله: إن من حقق محبة مشركي زماننا لآلهتهم التي يسمونها بالأولياء يعلم يقينا أنهم يحبونها أكثر من محبتهم لله ويتصدقون لوجوهها مما لا يقدرون أن يتصدقوا بعشره في وجه الله - أيضا كذب وافتراء فليس أحد من المسلمين الذين سماهم مشركين يحب أحدا من الناس نبيا أو وليا إلا في حبه تعالى لكونه محبوبا له مقربا عنده بطاعته له تعالى فحبه حب لله غير خارج عنه فضلا عن أن يكون أكثر من حبه تعالى ولا يتصدق واحد لوجوههم وإنما يتصدق عنهم لوجهه تعالى فيهدي الثواب إليهم. قوله: وخضوع ورجاء أما الخضوع فحاصل ولا محذور فيه وأما الرجاء فيرجون منهم الدعاء والشفاعة ومنه تعالى إجابة دعائهم وقبول شفاعتهم وهذا لا محذور فيه أيضا وهو عين إطاعته تعالى وعبادته كما مر مرارا. قوله: ودعائهم مع الله في المهمات والملمات الخ قد عرفت أنهم لا يدعونهم لكشف المهمات ودفع الملمات ليكشفوها بأنفسهم وإنما هو طلب الدعاء والشفاعة. قوله: والعكوف حول أجداثهم، سمى زيارة قبورهم وتلاوة القرآن والصلاة والدعاء وطلب الحوائج من الله تعالى عندها والتبرك بها ونحو ذلك عكوفا تشبيها بالعكوف على الأصنام كما سماه غيره من أصحاب نحلته على ما مر وقد عرفت وستعرف أن ذلك كله مطلوب مرغوب فيه شرعا لا مانع منه ولا محذور فيه سواء سماه عكوفا أو لا. وقد روى البخاري في صحيحه لما مات الحسن بن الحسن ضربت امرأته على قبره قبة ولبثت هناك سنة كاملة. قوله: وتقبيل أعتابهم والتمسح بآثارهم، ستعرف في فصل التبرك بالقبور أن تقبيل الأعتاب والقبور والتمسح بها وبآثار الصالحين تبركا وتعظيما جائز وراجح لا مانع منه ولا محذور فيه طلبا للغوث بالشفاعة والدعاء واستجابة الدعاء
196 منه تعالى ببركة المكان والمكين. قوله: وإظهار الفاقة وإبداء الفقر والضراعة، وهذا لا مانع منه فالثلاثة حاصلة منا لله تعالى بلا ريب وإظهارها عند قبر النبي أو الولي لشرفه وحاصلة منا للنبي أو الولي لطلب دعائه وشفاعته. قوله: واستنزال الغيث والأمطار، لا مانع من ذلك ببركتهم ودعائهم وشفاعتهم وهو نظير ما يأتي من أن أهل المدينة قحطوا فقالت عائشة انظروا قبر النبي (ص) فاجعلوا منه كوة إلى السماء فمطروا. قوله: وطلب السلامة من شدائد البراري والبحار، ولا مانع منه بتسببهم بالدعاء والشفاعة وسيأتي في فصل الدعاء والاستغاثة استغاثة من أضل شيئا أو أراد عونا في أرض ليس فيها أنيس بقول يا عباد الله أعينوني أو أغيثوني ففيه طلب السلامة من شدائد البراري والبحار من غير الله تعالى. قوله: وسؤالهم تزويج الأرامل والأيامى إلى قوله: المطالب العالية، لا مانع من ذلك بطلب دعائهم وشفاعتهم ولو كان ظاهر اللفظ إسناد الأفعال إليهم حملا لفعل المسلم وقوله على الصحة من باب المجاز في الإسناد كما مر في المقدمات. قوله: وتأهيلهم لمغفرة الذنوب الخ هذا كذب وافتراء منه على المسلمين فكلهم يعلم أنه لا يغفر الذنوب ولا ينجي من الهاوية ولا يعطي المراتب السامية في الجنان إلا الله قد قرأوا ذلك في كتاب ربهم وعرفه عامتهم وخاصتهم وهيهات أن يؤهل أحد منهم أحدا من المخلوقين نبيا فمن دونه لمغفرة الذنوب وإنما يرجون بتوسلهم بالأولياء والصالحين وتشفعهم بهم وطلب دعائهم واستغفارهم وزيارة قبورهم ومحبة الرسول (ص) وأهل بيته أن يغفر الله لهم وينجيهم من الهاوية ويعطيهم المراتب السامية وقد وعد الله تعالى على لسان نبيه (ص) المتمسك بهم النجاة بقوله (ص) مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى. مثل أهل بيتي كمثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله كان آمنا. ولكن يأبى قصد ترويج الباطل لهؤلاء إلا الكذب والافتراء وقذف المسلمين بما هم منه براء. قوله: وجماهيرهم لما ألفت ذلك طباعهم وفسدت به فطرهم وعز عنه امتناعهم لا يكاد يخطر ببال أحدهم ما يخطر ببال آحاد المسلمين من قصد الله تعالى والإنابة إليه بل ليس ذلك عندهم إلا الولي الفلاني ومشهد الشيخ فلان حتى جعلوا الذهاب إلى المشاهد عوضا عن الخروج
197 للاستسقاء والإنابة إلى الله تعالى في كشف الشدائد والبلوى كل هذا رأيناه وسمعناه عنهم فهل سمعت من جاهلية العرب مثل هذه الغرائب التي ينتهي عندها العجب والكلام مع ذكي القلب ومن لا ترضى نفسه بحضيض التقليد في أصول الديانات والتوحيد وأما ميت القلب بليد الذهن ومن لا تفارق همته التشبث بأذيال التقليد والتعلق على ما يحكى عن فلان وفلان في معتقد أهل المقابر فذاك فاسد الفطرة وخطابه محض عناء. هذا أيضا افتراء منه على المسلمين فكلهم يعلم أن القادر المختار على كل شئ هو الله تعالى وحده وأن النبي فمن دونه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا إلا بإذن الله وأنه لا ينفع إلا قصده تعالى والإنابة إليه وهذا راسخ في نفوسهم خاطر دائما ببالهم مطابق لأفعالهم وأقوالهم وليس للولي ولا لمشهد الشيخ في نفوسهم شئ غير ما جعله الله له من البركة والشفاعة واستجابة الدعاء فيقصدون مشهده وينادونه طلبا لذلك الذي لا يخرج عن قصد الله تعالى والإنابة إليه كما لم يخرج سؤال الدعاء من المؤمن عن ذلك. وأما قوله: حتى جعلوا الذهاب إلى المشاهد عوضا عن الخروج للاستسقاء فهو كسابقه في أنه كذب وافتراء فكلهم يخرجون إلى الاستسقاء عند احتباس قطر السماء ويدعون الله مع ذلك في المشاهد المباركة كما يدعونه في المساجد وفي كل مكان هو مظنة إجابة الدعاء ولم نر ولم نسمع عنهم غير ذلك، نعم يوجد في الناس من يدعي الولاية لمن ليس أهلا لها ولكن لا يقاس به من أثبت الولاية لأهلها ودخل البيوت من أبوابها فيعمم الكلام لجميع المسلمين. ولكن الوهابية لما ألفت طباعهم شبهات ابن عبد الوهاب وفسدت بها فطرهم وعز عنها امتناعهم لا يكاد يخطر ببال أحدهم ما يخطر ببال آحاد المسلمين من احترام من جعل الله له الحرمة والتشفع والتوسل والتبرك بمن جعل الله له الشفاعة والوسيلة والبركة حتى جعلوا قبور الأنبياء والأولياء أصناما وأوثانا ومن عظمها وتبرك بها كافرا مشركا فهل سمعت من جاهلية العرب أو من أحد من أهل الملل والنحل مثل هذه الغرائب التي ينتهي عندها العجب، والكلام مع المسلم الذكي القلب المتبع طريقة المسلمين المنصف العارف بمنزلة الأنبياء والأولياء عند الله تعالى ورفيع درجتهم أما ميت القلب بليد الذهن جامد القريحة الذي
198 نبذ ما عليه المسلمون كافة وخالف إجماعهم وطريقتهم وجهل منزلة الأنبياء والأولياء وقصر بهم عن المرتبة التي جعلها الله لهم وتمحل وعاند ومن لا تفارق همته التشبث بأذيال التقليد لشخص واحد يجوز عليه الخطأ والتعلق على ما يقوله والاتباع لشبهة سنها وضلالة ابتدعها حتى كأنها وحي منزل فذلك ميت القلب بليد الذهن فاسد الفطرة وخطابه محض عناء. أما المتصوفة: فإذا فرض نقلهم بعض المناقب المكذوبة من مشايخهم فهل يوجب ذلك بطلان مناقب الأنبياء والأولياء على العموم ومع ذلك فالظاهر أنهم لا يعتقدون في مشايخهم الاستقلال في التصرف ولا يزيدون عن اعتقادهم أنهم عباد مكرمون ومع الشك يجب حملهم على ذلك لوجوب حمل أفعال المسلمين وأقوالهم على الصحة مع الإمكان. وما نقله عن حاشية البيجوري لا يوجب اعتقاده كفرا ولا شركا لأنه ممكن فيجب قبوله إذا دل عليه النقل وهب أن ناقله كاذب فلا يكون كافرا بل عاصيا. أما إمكانه: فلتواتر النقل بأنه تعالى يستعمل الملائكة في نظام عالم التكوين بلا حاجة منه إليهم. فلا مانع من أن يوكل الله تعالى ملكا لقضاء حوائج الخلق ولا يكون معتقده كافرا إذا كان مخطئا فضلا عن المصيب ولا ينافي ذلك الآيات التي ذكرها فمجيب الدعوة وقاضي الحاجة حقيقية هو الله تعالى كما أنه تعالى تارة قال (الله يتوفى الأنفس حين موتها. والله خلقكم ثم يتوفاكم) وتارة قال: قل يتوفاكم ملك الموت. الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم. الذين تتوفاهم الملائكة طيبين. توفته رسلنا. إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة. فكيف إذا توفتهم الملائكة. حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم. فكما لا تناقض بين هذه الآيات لا تناقض بين ما ذكره بعد صحة النقل المذكور. ومنه يعلم أنه أولى بنسبة نبذ كتاب الله وراء ظهره إليه. وما ذكره الشعراني في ترجمة الحنفي لا يوجب إسقاط حرمة الأنبياء والأولياء وشفاعتهم واستغفارهم ودعائهم ووسيلتهم رأسا وإذا تجاوز الشعراني في بعض شطحه لا يتعدى ذلك إلى غيره. وإذا اعتقد بعض الناس في المشايخ والأولياء الذين بعضهم من الدجالين والمحتالين أو المجانين ما لا ينبغي اعتقاده فليس لنا أن نأخذ بذنبهم غيرهم ممن اعتقد في الأنبياء والأولياء والصلحاء
199 الحقيقين. أما قوله: ولم يبلغ شرك الجاهلية إلى هذه الغاية فقد مر نظيره في كلام الصنعاني ومر الكلام عليه. وأما حكاية المرأة التي كف بصرها: فلا يقاس عليها غيرها مع أنه يمكن أن يلتمس لكلامها وجه صحيح إن صحت الحكاية وهو أن الله تعالى قد اقتضت مشيئته كف بصرها فلم يبق إلا أن تتوسل بهذا الولي وبحبه إلى الله ليرد عليها بصرها. أما ما حكاه عن بعض المغاربة فغير بعيد أنه من الأكاذيب نظر ما مر حكايته من أن رجلا صلى إلى ضريح ابن عباس وترك القبلة عامدا فإنا لم نر ولم ينقل لنا وقوع شئ من هذا في شئ من البلدان والأزمان ولو صح لم يقس عليه غيره وهو خاص بفاعله كقول من قال لا يدق وتد في القاهرة إلا بإذن السيد البدوي مع أن يقول هذا لا يصح أن يسمى عالما فهل إذا غلطت امرأة كف بصرها أو بعض المغاربة أو بعض علماء مصر نغلط كافة الأمة ونكفرهم. قوله: وقد اشتهر ما يقع من السجود على أعتاب المشهد، مر الكلام عليه في هذا الباب عند الرد على الصنعاني. قوله: لا يمنع حقيقة العبادة الصورية، المدار على العبادة الحقيقية لا الصورية والأعمال بالنيات أما شراء الولد بشئ معين والمرأة بشئ من مهرها فلم نسمع بذلك ولم نره ولو فرض صحته فيختص بفاعله مع أن له وجها صحيحا وهو قصد التصديق عن الولد أو المرأة بمال وإهداء ثواب الصدقة إلى الولي فيجب الحمل على الصحة ما أمكن ولا يوجب ذلك شركا ولا كفرا ولا يقاس بفعل جاهلية العرب الذين جعلوا لشركائهم نصيبا كما حكى الله تعالى عنهم كما مر الكلام على نظير ذلك في كلام الصنعاني فراجع. وأما السوائب فلم نرها ولم نسمع بها في شئ من بلاد الإسلام. وأما سوق الهدايا والقرابين إلى مشاهد الأولياء وذبحها فستعرف في فصل الذبح أنه يقصد ذبحها لله وتقربا إليه لا للشيخ وإنما يهدي ثواب الصدقة بها فجعله ذلك وإن ذكر اسم الله عليه أشد تحريما مما ذكر عليه اسم غير الله جهل محض وتعليله بأن الشرك في العبادة أكبر من الشرك بالاستعانة لا يكاد يظهر له معنى. أما ما ادعاه من ترك الشجر والعشب إذا كان بقرب المشهد فمع صحته لا مانع منه فترك الشجر لاستظلال الزائرين والمارة إكراما لصاحب المشهد وترك العشب لنزهتهم ورعي دوابهم. قوله: ومنها الحج إلى المشاهد في أوقات مخصوصة مضاهاة لبيت الله. أخذ هذا الكلام من ابن تيمية الذي قال في كتابه
200 منهاج السنة: الرافضة يعظمون المشاهد المبنية على القبور فيعكفون عليها مشابهة للمشركين ويحجون إليها كما يحج إلى البيت ومنهم من يجعل الحج إليها أعظم بل يسبون من لا يستغني بالحج إليها عن الحج الذي فرضه الله وهذا من جنس دين النصارى والمشركين الذين يفضلون عبادة الأوثان على عبادة الرحمن وقد صنف شيخهم المفيد كتابا سماه مناسك المشاهد جعل قبور المخلوقين تحج كما تحج الكعبة والبيت الحرام الذي جعله الله قياما للناس. ونقول: قد ثبت بما سنذكره في فصل الزيارة استحباب زيارة قبور الأنبياء والأولياء والصلحاء وشد الرحال إليها رغما عن تشددات ابن تيمية وأتباعه الوهابية فسواء سموا زيارتها حجا قصدا للتشنيع أو لم يسموها وسواء سمى ابن تيمية الصلاة لله ودعاءه عندها عكوفا أو لا، لا يضرنا شيئا وكون الزيارة في أوقات مخصوصة لا قبح فيه لأن تلك الأوقات مما ثبت فضلها وشرفها والله تعالى قد فاوت بين مخلوقاته في الفضل حتى الأزمنة كما مر في المقدمات فيتضاعف أجر الزيارة بفضل الزمان فقصدهم إلى التشنيع بذلك بأنه كالحج الذي هو في أوقات مخصوصة لا شناعة فيه إلا عليهم كقوله مضاهات لبيت الله وكقول ابن تيمية أنهم يحجون إليها كما يحجون إلى البيت فهم يزورونها اقتداء بنبيهم (ص) الذي سن الزيارة وفعلها واتبعه المسلمون عليها وسن شد الرحال إليها خلافا للوهابية كما ستعرف في فصل الزيارة فهم مقتدون بسنة نبيهم (ص) التي خالفها هو وشنع على من اقتدى بها فهم لم يبنوا كعبة يضاهون بها بيت الله لم يأذن الله ببنائها ولا بزيارتها بل ذهبوا لزيارة قبور أنبيائهم وأوليائهم حسبما أمرهم ربهم فسواء ضاهى ذلك بيت الله أو لم يضاهه لا ضرر فيه وهل هذه المشاهد المشرفة بشرف من فيها ليست بيوت الله؟! بل هي بيوت الله والكعبة بيت الله والمساجد بيوت الله وكلما كان عن أمر الله فهو لله، وستعرف في فصل البناء على القبور رجحان بناء المشاهد. والشيعة توجب الحج على كل من استطاع إليه سبيلا ولا تجعل شيئا مغنيا عنه لا زيارة مشهد ولا غيرها، وتسب من لا يعتقد ذلك، ومن نسب إليها غير ذلك فقد أفك وافترى. هذه كتبها الفقيه التي تعد بمئات الألوف وطبع منها الملايين شاهدة بذلك وناصة عليه حتى أنهم يوجبون القضاء عمن مات مستطيعا ولم يحج وحجاجها في كل عام من بلاد المشاهد وغيرها تنبو عن الحصر فإن كان الحج إليها أعظم أو مغنيا عن الحج المفروض كما
201 افتراه ابن تيمية فلماذا يتحملون كل هذه المشاق لأجل الحج. قوله: فيطوفون حول الضريح، نعم يطوفون تبركا به ولا ينكر بركته إلا من أعمى الله بصيرته. قوله: ويستغيثون، ستعرف في فصل الاستغاثة أنه لا محذور في ذلك. قوله: ويهدون لصاحب القبر ويذبحون. كلا بل يذبحون لله ويتصدقون على الفقراء ويهدون الثواب لصاحب القبر قوله: وبعض مشايخهم يأمر الزائر بحلق رأسه. أبى شيطان هؤلاء إلا أن يزين لهم ترويج ضلالتهم ولو بالكذب والافتراء فبعد أن سمى زيارة الأنبياء والأولياء حجا وأنها في أوقات مخصوصة كالحج وأنهم يطوفون ويهدون كالحجاج أراد أن يتمم حجهم بالفرية التي نقلها من أن بعض المشايخ يأمر الزائر بحلق رأسه، ما رأينا هذا ولا سمعنا به إن هذا إلا اختلاق وكان ينبغي له أن يتمم أحكام الحج من الاحرام ورمي الجمار والسعي وغير ذلك. أما قوله: وقد صنف بعض غلاتهم كتابا سماه حج المشاهد فمأخوذ من كلام ابن تيمية الذي سمعته على عادتهم في تقليد الخلف للسلف في كل ما يقول وهي فرية كفرية حلق الرأس، وابن تيمية كان بالشام والمفيد بالعراق وبينهما نحو ثلاثمئة سنة فأين رأى كتابه الموهوم المسمى حج المشاهد وأين رآه حفيد ابن عبد الوهاب المنحاز في بادية نجد نعم يوجد بعض الكتب التي فيها آداب الزيارة وفيها الأدعية التي يدعى بها الله تعالى في المشاهد أما كتاب حج المشاهد فهو من عنديات ابن تيمية وحفيد ابن عبد الوهاب والله تعالى يجزي كلا بعمله. قوله: ومنها التعريف في بعض البلاد عند من يعتقدونه من أهل القبور فيصلون عشية عرفة عند القبر خاضعين سائلين. أقول: هذا التعريف لم نسمع له بتعريف هو ثالث الفريتين أن يوم عرفة من الأيام الشريفة كيوم الجمعة وغيره من الأيام وقد ورد استحباب صومه والإكثار من دعاء الله تعالى فيه والخضوع وطلب الحاجات منه تعالى في أي موضع كان الإنسان وإذا كان ذلك في مكان شريف كالمسجد أو المشهد المشرف بمن فيه كان أولى وأفضل، فهذا الذي عابه على المسلمين ونسبهم فيه إلى الشرك والكفر. قوله: والعراق فيه من ذلك الحظ الأكبر الخ. وهذا أيضا مبني على أساسهم الفاسد الذي أسسوه من المنع من زيارة قبور الأئمة والأولياء وتعظيمهم وتعظيم قبورهم وبناء المشاهد والقباب لهم وعمل الضرائح وجعل الخدمة والسدنة والصلاة عند قبورهم ودعاء الله تعالى عندها والتوسل بأصحابها إليه تعالى في قضاء حوائج الدنيا والآخرة وما يجري هذا المجرى ولما كان تعظيم المسلمين لقبور أئمة أهل البيت في
202 العراق وهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بنجف الكوفة وولده الحسين السبط الشهيد بكربلاء والإمام موسى الكاظم وحفيده الإمام محمد الجواد في بغداد وابنه الإمام علي بن محمد الهادي وابنه الإمام الحسن العسكري في سامراء عليهم السلام والمواظبة على زيارتهم والصلاة ودعاء الله تعالى في مشاهدهم بالغا للغاية لما لهم عند الله تعالى من المكانة ولما لهم من الفضل العظيم في حماية الدين ونشر علوم سيد المرسلين. وكذلك قبر الشيخ عبد القادر الجيلاني والإمام أبي حنيفة ومعروف الكرخي في بغداد والحسن البصري والزبير أحد الصحابة العشرة في البصرة، عظم على هذا النجدي ذلك فقال إن في العراق من ذلك الحظ الأكبر والمهامة التي لا ينجو سالكها ولا يكاد. وأنى يكون المتمسك بولاية أهل البيت الطاهر وزائر قبورهم والمتعبد ربه بأنواع العبادة عندها غير ناج وهم سفينة النجاة التي من ركبها نجا ومن تخلف عنها هوى وباب حطة الذي من دخله كان آمنا بنص جدهم (ص)، وتكون النجاة محصورة في أهل نجد مطلع قرن الشيطان ومحل الزلازل والفتن والذين جعلوا دأبهم وديدنهم غزو بلاد الإسلام، ومن أعمالهم ذبح المجاورين لقبر ابن بنت رسول الله (ص) في كربلاء وهدم ضريحه وهتك حرمته وربط الخيل والدواب في صحنه ودق القهوة وإشعال النار في مشهده وفوق رأسه كما مر في تاريخهم. أما قوله: إن من نحو العراق عرف الكفر وظهر الشرك والفساد فيكذبه أن العراق ما زال ولم يزل مهبط الدين ومنبع الإيمان والإسلام وحب أهل البيت وموالاتهم ولم يظهر الكفر والفساد إلا من بلاد نجد بلاد مسيلمة وبلاد الوهابية المجسمة الذين ما فتئوا يعيثون في الأرض فسادا يسفكون الدماء وينهبون الأموال ويحتقرون المسلمين ويرمونهم بالكفر والشرك ويحتقرون الأنبياء والمرسلين وعظماء الدين يهدمون قبورهم ويجعلونها معرضا لدوس الأقدام وترويث الدواب والكلاب ووقوع القاذورات ويهينون من يزورها أو يحترمها أو يتبرك بها أو يصلي لربه عندها فأي فساد أعظم من هذا. وهم يقولون إن من العراق ظهر الفساد ومن نجدهم ظهر الصلاح وقد عرف صحة ما قلناه كل من له أدنى إلمام بتاريخ الوهابية وقدوتهم ابن تيمية ومبدأ حوادثهم في الدين. أما ما يقع من شيعة أهل البيت الطاهر الذين نبزهم بالرافضة عند مشاهد الأئمة الطاهرين بالعراق الذين حرم من حلاوة مودتهم ومحبتهم والفوز بولايتهم فلا يعدو عبادة الله تعالى وتوحيده والخضوع
203 لعظمته فالقاصدون لتلك المشاهد الشريفة منهم الزائر لقبورهم المعدد لمناقبهم ومآثرهم في خدمة الدين والإسلام ومنهم المصلي لربه الراكع الساجد الخاشع ومنهم الداعي لله تعالى القائم في خدمته الباكي من خشيته المتضرع إليه المتوسل والمتشفع إليه بمن أعطاهم الشفاعة وجعل لهم الوسيلة ومنهم الخاطب الواعظ الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر إلى غير ذلك من أنواع العبادات والطاعات لله تعالى، ولا يعبدون أحدا منهم بشئ مما حظره الله تعالى، ولكن الوهابيين لما اقتضى جمودهم وغباوتهم وعنادهم إن تعظيم القبور وأهلها والصلاة لله ودعاءه عندها والتشفع والتوسل بأهلها عبادة لغير الله موجبة للشرك والكفر عدوا فعل المسلمين بالعراق عند المشاهد كفرا وشركا وحيث قد بينا مرارا بما لا مزيد عليه خروج ذلك عن العبادة لغير الله الموجبة للشرك والكفر بل هو عين الطاعة لله تعالى ظهر أن عد ذلك شركا من أعظم الموبقات وأن من عده كذلك من أجهل الخلق وأضلهم بمخالفته لما أجمع عليه المسلمون خلفا عن سلف وأن مخالف إجماع المسلمين وسيرتهم ومثبت الوجه واليدين والعينين لله تعالى والاستواء على العرش الذي هو فوق السماوات على الحقيقة من دون تأويل أولى بغاية الكفر والشرك التي ما وصل إليها قبله أحد ممن ينتسب إلى الإسلام وأي شرك أو كفر أو عبادة لغير الله تعالى تحصل في مشاهد الأئمة بالعراق؟ وأول كلام يقال عند فتح أبواب مشاهدهم هو لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله جاء بالحق من عنده وصدق المرسلين الخ. ولا تشتمل الزيارات والأدعية التي تقرأ في تلك البقاع الطيبة إلا على توحيد الله تعالى وتمجيده والثناء عليه وما يشتمل منها على التوسل والتشفع وطلب الحوائج والعطايا والمواهب من صاحب القبر لا يخرج عن سؤال الدعاء والشفاعة الذي بينا في فصله جوازه ورجحانه وإذا فرغ الزائر من الزيارة يصلي لله تعالى ركعتين مستحبتين يهدي ثوابهما للمزور ويقول بعدهما كما هو مأثور عن أئمة أهل البيت الطاهر (اللهم إني صليت وركعت وسجدت لك وحدك لا شريك لك لأن الصلاة والركوع والسجود لا تكون إلا لك لأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت اللهم وهاتان الركعتان هدية مني إلى سيدي ومولاي (ويسمى المزور) اللهم فتقبلها مني بأحسن قبولك وأجرني على ذلك بأفضل أملي ورجائي فيك وفي وليك يا أرحم الراحمين).
204 ورجاؤه فيه تعالى الثواب والمغفرة وفي وليه الدعاء والشفاعة. والله المسؤول أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويمحو هذه الضلالات التي جاء بها هؤلاء ويرد عاديتهم عن المسلمين ويردهم إلى سبيل الرشد ويريح المسلمين من تشدداتهم وتعنتاتهم حتى تبقى السهلة السمحاء كما كانت وينزه الباري تعالى عن نسبة ما لا يليق بجلاله وتبقى البيضاء كما كانت ليلها كنهارها.
205 * الباب الثالث * * في تفصيل الأمور التي كفر بها الوهابية المسلمين ورد كل واحد منها بخصوصه * حيث ظهر لك أن منشأ شبه الوهابيين في حكمهم بشرك جميع المسلمين وكفرهم واستحلال دمائهم وأموالهم هو زعمهم أنهم يعبدون القبور بتعظيمهم لها بالتقبيل والطواف والتمسح وبناء القباب والإسراج وغير ذلك من أنواع التعظيم وأنهم يعبدون الأموات بدعائهم لهم وطلبهم منهم قضاء حوائجهم وأنهم ينذرون وينحرون لهم كما كان أهل الجاهلية يفعلون مثل ذلك مع أصنامهم فكان ذلك عبادة لغير الله وشركا به وقد عرفت فساد ذلك بوجه العموم في الباب السابق فلنتكلم على كل واحد من هذه الأمور التي هي منشأ شبهتهم بخصوصه مضافا إلى ما مر في الباب السابق لأن أكثرها يختص بما لا يشاركه فيه غيره وذلك في ضمن فصول. * الفصل الأول في الشفاعة * إعلم أن طلب الشفاعة من الأنبياء والصالحين والملائكة الذين أخبر الله تعالى أن لهم الشفاعة مما منعه الوهابيون وجعلوه كفرا وشركا صرح بذلك ابن عبد الوهاب في كلامه المتقدم في رسالة أربع القواعد التي قال إن الخلاص من الشرك يتم بها بقوله: الثانية أنهم يقولون ما دعونا الأصنام وتوجهنا إليهم إلا لطلب القرب والشفاعة. وفي رسالة كشف الشبهات. بقوله: لكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله يقولون نريد منهم القرب إلى الله وشفاعتهم عنده. وقوله: ومنهم من يدعو الملائكة لصلاحهم وقربهم إلى الله ليشفعوا له أو رجلا صالحا كاللات أو نبيا كعيسى. وقوله: إن قصدهم الملائكة والأنبياء والأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم، وفيما حكاه الآلوسي عنه حيث جعل طلب الشفاعة مثل شرك جاهلية العرب وفي كلامه الأخير في كشف الشبهات الذي علم به الاحتجاج على المسلمين بقوله: إن الذين قاتلهم (ص) مقرون بما ذكرت وبأن أوثانهم لا تدبر شيئا وإنما أرادوا الجاه والشفاعة وأنهم ما أرادوا
206 ممن قصدوا إلا الشفاعة وإن طلب الشفاعة من الصالحين هو بعينه قول الكفار ما نعبدهم إلا ليقربونا. هؤلاء شفعاؤنا عند الله إلى غير ذلك، والصنعاني في كلامه السابق حيث جعل من جملة عبادة المشركين الأصنام اعتقادهم أنها تشفع عنده وجعل من جملة عبادة الأنبياء والصالحين اعتقاد ذلك والتشفع بهم. قوله: فجعل اتخاذهم للشفعاء شركا ونزه نفسه عنه لأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه فكيف يثبتون شفعاء لهم لم يأذن لهم الله لهم في شفاعة ولا هم أهل لها ومن اعتقد في حي أو ميت أنه يقرب إلى الله أو يشفع عنده في حاجة من حوائج الدنيا بمجرد التشفع به فقد أشرك مع الله غيره واعتقد ما لا يحل كما اعتقد المشركون في الأوثان وصار حلال المال والدم وجعل من جملة الشرك الاعتقاد في شئ أنه يشفع في حوائج الدنيا بمجرد التشفع، والوهابيون في كتابهم إلى شيخ الركب المغربي بقولهم: فأخبر أن من جعل بينه وبين الله وسائط يسألهم الشفاعة فقد عبدهم وأشرك بهم إلى قولهم: فالشفاعة حق ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله وجعلهم سؤال الأنبياء والأولياء الشفاعة بعد موتهم شركا وعبادة للأوثان. وفي الرسالة الثانية من رسائل الهدية السنية (1) ونثبت الشفاعة لنبينا محمد (ص) يوم القيامة ولسائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال حسبما ورد ونسألها من المالك لها والإذن فيها بأن نقول اللهم شفع نبينا محمدا (ص) فينا يوم القيامة أو اللهم شفع فينا عبادك الصالحين أو ملائكتك أو نحو ذلك مما يطلب من الله لا منهم فلا يقال يا رسول الله أو يا ولي الله أسألك الشفاعة أو غيرها مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى فإذا طلبت ذلك في أيام البرزخ كان من أقسام الشرك إذ لم يرد بذلك نص من كتاب أو سنة ولا أثر من السلف الصالح بل ورد الكتاب والسنة وإجماع السلف أن ذلك شرك أكبر قاتل عليه رسول الله (ص). وفي الرسالة الأولى من رسائل الهدية السنية إن الشفاعة وإن كانت حقا في الآخرة فلها أنواع مذكورة في محلها ووجب على كل كل مسلم الإيمان بشفاعته (ص) بل وغيره من الشفعاء فهي ثابتة بالوصف لا بالشخص ما عدا الشفاعة العظمى فإنها لأهل الموقف عامة وليس منها ما يقصدون فالوصف من مات لا يشرك بالله شيئا كما في البخاري من حديث أبي هريرة (رض) لكل نبي دعوة مستجابة
(1) ص 42 207 وإني خبأت دعوتي شفاعة لأمتي وهي نائلة منكم إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا إلى أن قال: وإذا كانت بالوصف فرجاؤها من الله ودعاؤه أن يشفع فيه نبيه هو المطلوب قال: فالمتعين على كل مسلم صرف همته إلى ربه بالإقبال إليه والاتكال عليه والقيام بحق العبودية له فإذا مات موحدا استشفع الله فيه نبيه بخلاف من أهمل ذلك وتركه وارتكب ضده من الاقبال إلى غير الله بالتوكل عليه ورجائه فيما لا يمكن وجوده إلا من عند الله والالتجاء إلى ذلك الغير مقبلا على شفاعته متوكلا عليها طالبا لها من النبي " ص " أو غيره فإن هذا بعينه فعل المشركين واعتقادهم ولا نشأت فتنة في الوجود إلا بهذا الاعتقاد. إلى أن قال: ولهذا حسم جل وعلا مادة الشفاعة عن كل أحد بغير إذن الإله وحده فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه لا ملك ولا نبي ولا غيرهما. إلى أن قال: ولهذا قال عز من قائل (قل لله الشفاعة جميعا. وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) وطلبها من غير الله في هذه الدار زعم بعدم تعلقها بالإذن من الله والرضا عن المشفوع له وقال تعالى (ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع. وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع) والعبرة في القرآن بعموم اللفظ لا بخصوص السبب " انتهى ". وقال محمد بن عبد الوهاب أيضا في رسالة أربع القواعد (1): الشفاعة شفاعتان منفية ومثبتة فالمنفية ما كانت تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا انفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون) والمثبتة هي التي تطلب من الله والشافع مكرم بالشفاعة والمشفوع له من رضي الله قوله وعمله بعد الإذن كما (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) " انتهى " وفصل في مقام آخر ما أجمله هنا فقال في رسالة كشف الشبهات (2) عند تعليمه أتباعه الاحتجاج على غيرهم في تتمة كلامه السابق، فإن قال (أي بعض المشركين من المسلمين الذين لا يقولون بمقالة الوهابية) أتنكر شفاعة رسول الله " ص " وتبرأ منها فقل لا بل هو الشافع والمشفع وأرجو شفاعته لكن الشفاعة كلها لله (قل لله الشفاعة جميعا) ولا يشفع لأحد إلا من بعد أن يأذن الله فيه (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) وهو لا يرضى إلا التوحيد
(1) ص 25 (2) ص 62 طبع المنار بمصر. - المؤلف - 208 فإذا كانت الشفاعة كلها لله ولا تكون إلا بعد إذنه ولا يشفع النبي " ص " ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيه ولا يأذن إلا لأهل التوحيد (1) فالشفاعة كلها لله فأطلبها منه وأقول اللهم لا تحرمني شفاعته اللهم شفعه في وأمثال هذا فإن قال النبي " ص " أعطي الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله " كذا " فالجواب أن الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا وقال " فلا تدعو مع الله أحدا " وأيضا الشفاعة أعطيها غير النبي " ص " فصح أن الملائكة والأولياء يشفعون فإن قلت الله أعطاهم الشفاعة وأطلبها منهم رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكرها الله تعالى في كتابه وإن قلت لا بطل قولك هذا. وقال ابن تيمية في رسالة زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور (2) في تتمة كلامه المتقدم في الباب الثاني: وإن قال أنا أسأله لكونه أقرب إلى الله مني ليشفع لي في هذه الأمور لأني أتوسل إلى الله به كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه فهذا من أفعال الذين يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء يستشفعون بهم في مطالبهم والمشركين الذين أخبر الله عنهم أنهم قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى وقال تعالى: " أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون. قل لله الشفاعة جميعا. ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع. من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " فبين الفرق بينه وبين خلقه فإن من عادة الناس أن يستشفعوا إلى الكبير من كبرائهم بمن يكرم عليه فيسأله ذلك الشفيع فيقضي حاجته أما رغبة وأما رهبة وأما حياء وأما مودة وأما غير ذلك والله سبحانه لا يشفع عنده أحد حتى يأذن هو للشافع فلا يفعل إلا ما شاء الله وشفاعة الشافع من إذنه فالأمر كله له. إلى أن قال: وقد أمرنا أن نصلي على النبي " ص " في الدعاء وجعل ذلك من أسباب إجابة دعائنا " انتهى ". " ونقول " الشفاعة من الشفيع عبارة عن طلبه من المشفوع إليه أمرا للمشفوع له فشفاعة النبي " ص " أو غيره عبارة عن دعائه الله تعالى لأجل الغير وطلبه منه غفران الذنب وقضاء الحوائج فالشفاعة نوع من الدعاء والرجاء. وحكى النيسابوري في تفسير قوله تعالى " من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له
(1) ولا موحد إلا الوهابيون فلا شفاعة إلا لهم (2) ص 156. 209 كفل منها عن مقاتل أنه قال: الشفاعة إلى الله إنما هي الدعوة لمسلم لما روي عن النبي (ص) من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال له الملك ولك مثل ذلك فذلك النصيب والدعوة على المسلم بضد ذلك (انتهى) وحينئذ فطلب الشفاعة من الغير كطلب الدعاء منه وقد ثبت جواز طلب الدعاء من أي مؤمن كان واعترف بذلك الوهابية وقدوتهم ابن تيمية في طلبه من الحي بل هو من ضروريات دين الإسلام وحينئذ فيجوز طلب الشفاعة إلى الله تعالى من كل مؤمن فضلا عن الأنبياء والصالحين وفضلا عن سيد المرسلين. ولو قيل أن الشفيع لا بد أن يكون له قدر وجاه عند المشفوع إليه. فنقول: إن الله تعالى جعل حرمة لكل مؤمن يرجى قبول شفاعته واستجابة دعائه فلم يبق فرق، على أنه قد ورد ثبوت الشفاعة لآحاد المؤمنين وللملائكة وأنها ليست من خواص الأنبياء وثبتت شفاعة الملائكة بما أخبر الله تعالى عنهم بقوله (الذين يحملون العرش ومن حوله إلى قوله ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم وقهم السيئات) " الآية " قال الرازي في تفسيره: هذه تدل على حصر الشفاعة من الملائكة للمذنبين كما وقعت الشفاعة من النبي " ص " وغيره من الأنبياء وأمره الله تعالى بها فقال واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات وحكى عن نوح أنه قال رب أغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات " انتهى " وفيه تصريح بأن الشفاعة لا تزيد عن الدعاء وطلب المغفرة كما قلناه. فظهر أن الشفاعة والدعاء من واد واحد وكذا طلبهما من الغير وليس حتما على الله قبول الشفاعة ولا إجابة الدعاء وإنما ذلك من ألطافه ومنه ورأفته بعباده فجعل لهم وسائل كثيرة إلى نيل رضاه وعفوه وخيره وبره وهذا منها ولا شفاعة إلا بإذنه ورضاه كما قال تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) وغير ذلك. وظهر أن طلب الشفاعة من النبي " ص " بل ومن آحاد المؤمنين في دار الدنيا أحياء وأمواتا ليشفعوا في الدنيا في أمور الدنيا والآخرة أو يوم القيامة جائز لا محذور فيه لأنها من قبيل الدعاء فيرجع طلبها إلى التماسه وذلك جائز من الأحياء بالاتفاق أما طلب
210 الدعاء من الأموات فمنعه ابن تيمية والوهابية والحق جوازه كما يأتي في الفصل الثالث. والأخبار الواردة في ثبوت الشفاعة للنبي " ص " يوم القيامة وأنه الشفيع المشفع ولغيره مستفيضة أو متواترة رواها البخاري ومسلم وغيرهم. مثل من سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي يوم القيامة. من سمع الأذان ودعا بكذا حلت له شفاعتي يوم القيامة. أعطيت خمسا وعد منها الشفاعة. أنا أول شافع وأول مشفع. أتاني آت من ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة. يدخل بشفاعتي رجال من أمتي أكثر من بني تميم. إن الله يقول فرغ الشافعون من الشفاعة شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين. يجلس المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا فيأتون آدم فيعتذر بخطيئته ثم إبراهيم " ع " فيعتذر بثلاث كذبات كذبهن ثم موسى " ع " فيعتذر بقتل النفس ثم عيسى " ع " فيقول لست هناك فيقول الله سبحانه بعد أن أسجد له إشفع تشفع (الخبر) ومن أدلة شفاعته لنا بعد موته " ص " حديث وفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم. إلى قوله: وما رأيت من شر استغفرت لكم، لما عرفت من أن الشفاعة لا تزيد عن الدعاء لنا والاستغفار وإذا كان " ص " يستغفر لنا بعد موته جاز لنا أن نطلب منه الاستغفار الذي هو الشفاعة بعينها. وشفاعة النبي " ص " يوم القيامة لا ينكرها الوهابية فلا حاجة إلى إكثار الأدلة عليها وإنما منعوا من جواز طلبها منه " ص " في الدنيا وإن كانت ثابتة له وقد أعطاه الله الشفاعة وهو الشفيع المشفع وجعلوه شركا وكفرا. ومرجع شبهتهم في ذلك على ما يستفاد من مجموع كلماتهم التي سمعتها إلى أن طلب الشفاعة من النبي " ص " عبادة له وكل عبادة لغير الله شرك (أما الثاني) فلوجوب توحيد الله في العبادة كما يجب توحيده في الخالقية والرازقية (وأما الأول) فلأن شرك الكفار الذين بعث إليهم رسول الله " ص " كان بطلبهم الشفاعة من الأصنام بدليل قوله تعالى (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا. ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا) ولأنهم لا ينكرون توحيد الخالقية والرازقية لكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله يقولون نريد منهم التقرب إلى الله وشفاعتهم عنده ولا يفرق النبي " ص " بين من كان يدعو الملائكة ليشفعوا له أو رجلا صالحا كاللات أو نبيا كعيسى أو يدعو غيرهم فقاتل الكل فهذا دليل على أن التشفع بالنبي
211 أو الصالح شرك كالتشفع بغيره. ويدل أيضا على عدم جواز طلب الشفاعة من غير الله قوله تعالى (لله الشفاعة جميعا. من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) وإذا كانت الشفاعة كلها لله لم يجز طلبها من غيره وقوله تعالى (فلا تدعوا مع الله أحدا) وطلب الشفاعة من النبي " ص " دعاء له فيكون منهيا عنه مع كون الدعاء عبادة بنص الكتاب والسنة بل مخها كما يأتي وإذا كان طلب الشفاعة دعاء والدعاء عبادة كان شركا فالجمع بين ثبوت الشفاعة له " ص " وعدم جواز طلبها منه أن يقول المستشفع به " ص " اللهم شفعه في أو لا تحرمني شفاعته أو ارزقني شفاعته أو نحو ذلك وهذا معنى قولهم فالشفاعة حق ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله. ويفهم مما مر عن الرسالة الأولى من الهدية السنية الاحتجاج لذلك بأن طلب الشفاعة من غير الله في الدنيا مناف لكونه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه وإلا لمن ارتضى. والجواب عن شبهتهم هذه أنها شبهة سخيفة فطلب الشفاعة ليس عبادة للمطلوب منه وشرك أهل الجاهلية الذي أحل دماءهم وأموالهم لم يكن سببه اتخاذهم الشفعاء كما زعموا وليس في الآيتين المستشهد بهما إن الموجب لشركهم هو تشفعهم ولا أن عبادتهم لهم هي تشفعهم بهم بل الآيتان صريحتان في أن عبادتهم لهم كانت غير التشفع فإنه جعل في الآية الأولى العبادة علة التقريب الذي هو الشفاعة والعلة غير المعلول ببديهة العقول وعطف في الآية الثانية قول هؤلاء شفعاؤنا على قوله ويعبدون والعطف يقتضي تغاير المعطوف والمعطوف عليه كما قرر في علم العربية مع أن عبادتهم لهم بغير التشفع من السجود والإهلال بأسمائها وغير ذلك مشاهدة معلومة كما ذكرناه مرارا وقد ذكرنا مرارا أن قوله تعالى والذين اتخذوا من دون الله أولياء " الآية " ويعبدون من دون الله " الآية " صريح في أن عبادتهم لها كانت مع الإعراض عن الله والمخالفة لأمره. وقوله: ما لا يضرهم ولا ينفعهم إشارة إلى أنهم عبدوا أحجارا وأشجارا هي من الجمادات وطلبوا منها النصر والشفاعة ولم يجعل الله لها ذلك ولو كانت على صور قوم صالحين، فلا يقاس بها من جعله الله شافعا وقادرا على الشفاعة ولا من تشفع به بمن تشفع بها ويجب على قياس قولهم بمنع يا رسول الله إشفع لي بل يقول اللهم شفعه في أو ارزقني شفاعته أن يمنعوا يا فلان ادع لي بل يقول اللهم أجب دعاءه في أو ارزقني دعاءه لي مع اعترافهم بجوازه ومنعه، ويشبه الأكل من القفا أي إيصال اللقمة إلى الفم من وراء الرقبة. أما جعل طلب الشفاعة منافيا لكونه لا يشفع
212 عنده أحد إلا بإذنه فستعرف فساده عند رد هذا الكلام وقد ظهر من ذلك فساد قول ابن عبد الوهاب: إن طلب الشفاعة من الصالحين هو بعينه قول الكفار ما نعبدهم إلا ليقربونا هؤلاء شفعاؤنا، لما عرفت من صراحة الآيتين في مغايرة العبادة لطلب الشفاعة. وبطلان ما يفهم من قوله أنهم يقولون ما دعونا الأصنام وتوجهنا إليهم إلا لطلب القرب والشفاعة. وقوله: لكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله يقولون نريد منهم القرب إلى الله وشفاعتهم عنده الدال على أن سبب الشرك طلب الشفاعة لما عرفت من صراحة القرآن ودلالة الوجدان على خلافه وبطلان قوله ومنهم من يدعو الملائكة ليشفعوا له أو صالحا كاللات أو نبيا كعيسى. وقوله: ومنهم من يدعو الصالحين والأولياء لما عرفت في الباب الثاني من أن دعاء الملائكة لم يكن بطلب شفاعتهم بل عبادتهم بغير ذلك وقول إنهم بنات الله ودعاء اللات لم يكن بالتشفع به لأنه رجل صالح بل بعبادة حجر على صورته الموهومة بالسجود وغيره والتشفع بذلك الحجر الذي لم يجعل الله له شفاعة ولو كان على صورة صالح مزعومة، ودعاء عيسى " ع " لم يكن مجرد التشفع به بل اعتقاد أنه هو الله الخالق الرازق بأحد الوجوه التي سبق بيانها وأي جهل أعظم من جعل الاشراك بعيسى مجرد التشفع به وهل يمكن صدوره من عاقل فضلا عن عالم. وقوله: إن قصدهم الملائكة والأنبياء والأولياء يريدون شفاعتهم هو الذي أحل دماءهم وأموالهم قد عرفت أنه كذب وافتراء وإن الذي أحل ذلك تكذيبهم للرسل وإنكارهم للشرائع وعبادتهم للأوثان بغير مجرد التشفع وكذلك جعله طلب الشفاعة مثل شرك جاهلية العرب وإن الذين قاتلهم " ص " إنما أرادوا الجاه والشفاعة. ومما يدل على أن عبادتهم كانت غير طلب الشفاعة ما حكاه الوهابية أنفسهم في الرسالة الثالثة من الهدية السنية (1) عن الإمام البكري عند قوله تعالى قل من يرزقكم من السماء والأرض " الآية " من قوله: فإن قلت إذا أقروا بذلك فكيف عبدوا الأصنام قلت كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام عبادة الله والتقرب إليه لكن بطرق مختلفة ففرقة قالت ليس لنا أهلية عبادة الله بلا واسطة لعظمته فعبدناها لتقربنا إليه زلفى وفرقة قالت الملائكة ذو منزلة عند الله فاتخذنا أصناما على هيئتها لتقربنا إليه زلفى وفرقة قالت جعلنا
(1) ص 58 213 الأصنام قبلة لنا في العبادة كما أن الكعبة قبلة في عبادته وفرقة اعتقدت أن لكل ملك (كذا) شيطانا موكلا بأمر الله فمن عبد الصنم حق عبادته قضى الشيطان حوائجه بأمر الله وإلا أصابه الشيطان بنكبة بأمر الله " انتهى " (والعجب) أن المستشهد بهذا الكلام من الوهابية قال بعد نقله: فانظر إلى كلام هؤلاء الأئمة وتصريحهم بأن المشركين ما أرادوا ممن عبدوا إلا التقرب إلى الله وطلب شفاعتهم عنده " انتهى " ولم يدر أن عبادة غير الله لا يحتاج التكفير بها إلى الاستشهاد بكلام أحد سواء كانت بقصد التقرب إلى الله وطلب شفاعتهم أو بدون ذلك ولكن الذي ينفع إثبات إن طلب الشفاعة عبادة أو إن ما يفعله المسلمون هو عين ما كان يفعله عبدة الأصنام والكلام الذي استشهد به صريح بخلافه فليس في المسلمين من يعتقد بواحدة مما كانت تعتقده تلك الفرق، هذا في رد زعمهم أن طلب الشفاعة عبادة وأما استدلال ابن عبد الوهاب على عدم جواز طلب الشفاعة من غير الله بآية لله الشفاعة جميعا وآية فلا تدعوا مع الله أحدا فاستدلال فاسد، أما آية لله الشفاعة جميعا فليس معناها أن الله وحده هو الذي يشفع وغيره لا يشفع لأنه تعالى لا يشفع عند أحد وثبت أن الأنبياء والصالحين والملائكة يشفعون عنده وليس معناها أنه لا يجوز طلب الشفاعة ممن جعله الله شافعا بل معناها والله العالم إن الله مالك أمرها فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) ولا يشفع إلا لمن ارتضاه الله (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) وصدر الآية هكذا (أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا " الآية ") فهو في مقام الرد على الذين اتخذوا الأصنام والأحجار شفعاء إلى الله تعالى وقالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله مع أنهم لا يملكون شيئا فكيف يملكون الشفاعة ولا عقل لهم حتى يشفعوا وفي الكشاف (من دون الله) من دون إذنه (قل لله الشفاعة جميعا) أي هو مالكها فلا يستطيع أحد شفاعة إلا بشرطين أن يكون المشفوع له مرتضى وأن يكون الشفيع مأذونا وها هنا الشرطان مفقودان جميعا " انتهى ". وحكى الطبري عن مجاهد (لله الشفاعة جميعا) أي لا يشفع أحد إلا بإذنه " انتهى ". فحمل ابن عبد الوهاب واتباعه له على أن معناه طلب الشفاعة من الله وحده وعدم طلبها من المخلوق وإن كان له أن يشفع حمل مستهجن مستقبح لا يساعد عليه اللفظ ولا
214 فهم أهل العرف ولم يذكره أحد من المفسرين ولا تقتضيه الحكمة ولا يخرج عن التمحل والتحكم والعبث فكأن الله تعالى يقول اطلبوا من الناس كل ما يقدرون عليه واطلبوا منهم الدعاء لكم الذي لا تخرج الشفاعة عنه بل هي نفسه ولكن لا يجوز لكم ومحظور ومحجور عليكم أن تطلبوا من النبي " ص " أن يشفع لكم في الدنيا أو في الآخرة ويدعو الله لكم وإن كانت له الشفاعة وقد أعطاه الله إياها وهو الشفيع المشفع وإذا طلبتموها منه فقد كفرتم وأشركتم فانظر أيها المنصف هل يحسن أن يصدر ذلك من عاقل وهل يصدر إلا من سفيه جاهل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وأما آية تدعو مع الله فستعرف في فصل الدعاء أنها أجنبية عن المقام مع أنه لو صح الاستدلال بها على عدم جواز طلب الشفاعة من العبد لصح الاستدلال بها على عدم جواز طلب الدعاء منه لأن كلا منهما دعاء لغير الله يشمله قوله تعالى (فلا تدعوا مع الله أحدا) فأي فارق بين قول يا فلان إشفع لي ويا فلان ادع لي، وطلب الدعاء من الغير لا ينكره الوهابية ولا قدوتهم ابن تيمية إذا كان من الحي كما ستعرف مع شمول الآية له. وجاء في أحاديث كثيرة صلوا علي فإن صلاتكم تبلغني، وسيأتي حديث صلوا علي ثم اسألوا الله لي الوسيلة فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي يوم القيامة. والصلاة منا الدعاء ومنه تعالى الرحمة ورفع الدرجة فقد طلب منا " ص " أن ندعو له برفع الدرجة وإعطاء الوسيلة وهو كطلبنا منه الشفاعة بأن يدعو الله أن يغفر ذنوبنا ويدخلنا جنته فكيف صار طلبه منا توحيدا وطلبنا منه شركا ونحن أحوج إلى شفاعته ودعائه منه إلى دعائنا فأي فارق بينهما لولا الجمود وقلة الإنصاف. أما جعل الصنعاني من جملة عبادة المشركين الأصنام اعتقادهم أنها تشفع عند الله ومن جملة عبادة الأنبياء والصالحين اعتقاد ذلك والتشفع بهم ففاسد لأن اعتقاد المشركين في الأصنام أنها تشفع وطلبهم منها الشفاعة خطأ وغلط إذ لم يجعل الله لها شفاعة سواء كانت على صورة صالح أو غيره فإن الشافع هو الصالح لا الحجر الذي على صورته كما عرفت بخلاف الاعتقاد بأن الأنبياء والصالحين يشفعون فإنه صحيح مطابق للواقع ليس فيه خطأ ولا غلط فضلا عن كونه عبادة وشركا وكذلك التشفع بهم، على أن الاعتقاد في حجر أو شجر أنه يشفع وطلب الشفاعة منه لم يعلم كونه عبادة له إنما هو خطأ وغلط، والمشركون لم يعلم أن هذا سبب في شركهم لأنه لم يصدر منهم وحده بل صدر معه ما هو كاف في
215 الشرك والكفر من إنكار الرسل والشرائع والعبادة للأصنام بغير ما ذكر كما بيناه غير مرة وتعليل الصنعاني وغيره كون اتخاذ الشفعاء شركا بأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه فاسد فإن قوله إلا بإذنه مثبت للشفاعة فكيف يكون اتخاذ الشفعاء الذين جعل الله لهم الشفاعة وأذن لهم فيها شركا. وقوله: فكيف يثبتون شفعاء لهم لم يأذن الله لهم في شفاعة ولا هم أهل لها، رد عليه فاتخاذ الشفيع الذي ذمهم الله عليه هو اتخاذ حجر أو شجر أو صورة شفيعا مع أن الله لم يجعل لها شفاعة ولا هي أهل لها أما الأنبياء الذين أثبت الله لهم الشفاعة التي هي نوع من الدعاء كما عرفت وجعلهم أهلا لها كما تواترت به الأخبار ودل عليه قوله تعالى (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى. من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه. ما من شفيع إلا من بعد إذنه. يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا. ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له. لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) قال البيضاوي: عهدا من الإيمان والعمل الصالح أو إذنا فيها " انتهى " (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) في تفسير البيضاوي: إلا من شهد بالحق بالتوحيد، والاستثناء متصل إن أريد بالموصول كل ما عبد من دون الله لاندراج الملائكة والمسيح فيه ومنفصل إن خص بالأصنام " انتهى " فهذه الآيات مثبتة للشفاعة جزما مع إذن الله ورضاه ولسنا نطلب منهم أن يشفعوا لنا قهرا وحتما على الله ومثبتة لشفاعة من اتخذ عند الرحمن عهدا ومن شهد بالحق فلا ذم على طلب الشفاعة منهم ولا شرك فيه. وظهر من ذلك بطلان قول الصنعاني إن الاعتقاد في حي أو ميت أنه يقرب إلى الله أو يشفع عنده في حاجة من حوائج الدنيا بمجرد التشفع والتوسل إليه تعالى شرك كالاعتقاد في الأوثان، وقوله بمجرد التشفع لا يظهر له معنى ولا للتقييد به فائدة فإنه إن أراد منه أنه يشفع بغير إذن الله ويجبر الله على قبول شفاعته فهذا لا يعتقده مسلم ولا يقول به أحد فما فائدة هذا التقييد وكيف رتبوا عليه استحلال دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم. نعم لا يبعد أن يكون عبدة الأصنام يعتقدون مثل ذلك في أصنامهم وأوثانهم كما بيناه في غير هذا الموضع وإن أراد أنه يشفع بمجرد التشفع ويشفعه الله لأن الله أذن له إذنا عاما في الشفاعة عندما يتشفع به أحد ووعده قبول شفاعته لكل من يتشفع به فهذا أيضا لا يعتقده أحد من المسلمين وإن كان ممكنا وجائزا إن دل عليه النقل وإنما يقولون إن الله
216 تعالى جعل النبي (ص) شافعا ومشفعا كما دلت عليه صحاح أخبارهم لكن لا بلا قيد ولا شرط فقد يتشفع به أحد ويشفع له وقد لا يشفع له لأنه ليس أهلا للشفاعة أو لأن الله لم يأذن له أن يشفع فيه وقد يأذن له في الشفاعة وقد لا يأذن والأمر كله لله تعالى. نعم كلهم يطلبون منه الشفاعة التي هي نوع من الدعاء رجاء أن يشفع فيشفعه الله وليس ذلك حتميا قطعيا فجعل ذلك كالاعتقاد في الأوثان التي ثبت بصريح العقل ونص الشرع عدم قدرتها على الشفاعة والدعاء وعدم جواز طلبها منها خطأ واضح فما فائدة هذا التقييد؟ أبمثل هذا تستحل دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم. ومما ذكرنا يعلم أن قولهم في الكتاب إلى شيخ الركب المغربي بعد ذكر آية ويعبدون من دون الله " الآية ". فأخبر أن من جعل بينه وبين الله وسائط يسألهم الشفاعة فقد عبدهم وأشرك بهم، تقول على الله وافتراء عليه فالله تعالى في هذه الآية أثبت لهم شيئين عبادتهم الأصنام وقولهم هؤلاء شفعاؤنا وأخبر أنهم أشركوا ولم يخبر إن عبادتهم هي طلب الشفاعة ولا أن طلبهم هو الشرك بل أخبر بأن عبادتهم الأصنام غير قولهم ذلك لاقتضاء العطف المغايرة كما مر وقد أبطلوا في كتابهم المذكور احتجاجهم بآية أن الشفاعة لله جميعا بذكرهم معها الآيات الآخر تفسيرا لها وهي من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه. لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا. فبينت أن معنى كون الشفاعة كلها لله أنها لا تكون إلا بإذنه وليس لأحد أن يشفع قهرا عنه وبدون رضاه ويلجئه إلى قولها حياء أو خوفا أو غير ذلك كما يقع بين المخلوقين لا أن معناها عدم جواز طلب الشفاعة ممن له الشفاعة. أما ذكرهم في جملة الآيات المستدل بها على إبطال طلب الشفاعة من غير الله آية فيومئذ لا تنفع الذين ظلموا معذرتهم فغريب لأن هذه الآية لا ربط لها بطلب الشفاعة وإنما تدل على عدم قبول عذر أو توبة بعد الموت من الظالمين. ولكن هؤلاء يظنون أن تكثيرهم لسرد الآيات يدل على أنهم شديدو التمسك بالقرآن. أما قولهم وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد بعد ذكر آية فيومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا، فنعم هو والله لا يرضى إلا التوحيد ولا تكون الشفاعة إلا لأهل التوحيد كما أنه لا يرضى بنسبة الشرك إلى أهل التوحيد لطلبهم الشفاعة ممن جعل الله له الشفاعة ولا ينفع الناسبين تسمية أنفسهم بالموحدين. أما قولهم: فالشفاعة حق ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله فإذا كانت حقا فما المانع من طلبها أفيجعل الله طلب الحق باطلا وشركا، تعالى
217 الله عن ذلك فطلب الحق لا يكون إلا حقا وطلب الباطل لا يكون إلا باطلا والتقييد بقولهم في دار الدنيا دال على جواز طلبها في الآخرة كما يدل عليه حديث تشفع الناس بالأنبياء واعتذار كل منهم ثم تشفعهم بمحمد (ص) الآتي نقله، وإذا كان طلبها شركا لم يجز في الدنيا ولا في الآخرة وهل منع الناس من الشرك في الدنيا وأبيح لهم الشرك في الآخرة! قولهم: فإذا كان رسول (ص) وهو سيد الشفعاء لا يشفع إلا بإذن الله فكيف بغيره لا يظهر له معنى بل تطويل بلا طائل ولا علاقة له بالمقصود فمن الذي ينكر أن الرسول (ص) لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إلا بأمر الله ولا يشفع إلا بإذن الله فضلا عن غيره فهذا ليس محل نزاع بيننا وبينهم إنما النزاع في أن طلب الشفاعة من الرسول (ص) الذي جعل الله له الشفاعة من بعد إذنه وتفضله وهدايته وتعليمه له كيفية الشفاعة وتحديده له حدا، هل يكون طلبنا الشفاعة منه التي جعلها الله له وأذن له فيها شركا وكفرا ومعصية أو لا؟ فهل إذا انتفت الشفاعة إلا بإذن الله يكون طلبها شركا وكفرا وما وجه الملازمة ومن الذي يقول إنه (ص) يشفع قهرا على الله ولكن كل ما يذكره سلفهم لا بد أن يذكره خلفهم ولو لغير فائدة فانظر رعاك الله بعين البصيرة والإنصاف إلى هذه الاستدلالات الواهية التي بها استحلوا دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم هل يسوغ التمسك بها والتهجم على الدماء والأموال والأعراض بمثلها. قولهم: وهذا الذي ذكرناه لا يخالف فيه أحد من العلماء المسلمين وأجمع عليه السلف الصالح من الأصحاب والتابعين والأئمة الأربعة وأتباعهم فيا ليت شعري من هو الذي قال وأفتى من علماء المسلمين بأن طلب الشفاعة من رسول الله " ص " كفر وشرك ومتى أجمع على ذلك علماء المسلمين وفي أي عصر من الأعصار وقع ذلك وفي أي كتاب وجدوه منقولا وهل أحد عنون هذه المسائل قبل الوهابيين وابن تيمية حتى يدعى فيها الاجماع أو عدم الخلاف ومن هو الذي أفتى بها من الأصحاب أو التابعين ومن الذي أفتى بها من الأئمة الأربعة وأين موضعها من كتب الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة غير الوهابية ليدلونا على مكانها إن كانوا صادقين. وكيف خالف أتباع الأئمة الأربعة أئمتهم فيها واتبعهم الوهابية خاصة. والدعاى ما لم تقيموا عليها * بينات أبناؤها أدعياء فدعواهم هذه افتراء منهم على علماء المسلمين وعلى الأصحاب والتابعين وعلى الأئمة الأربعة وأتباعهم بل الاجماع حاصل من الأنبياء والمرسلين ومن الصحابة والتابعين على
218 خلاف ما يقوله الوهابية فقد تشفع وتوسل رسول الله " ص " بمن قبله من الأنبياء وتشفع الأصحاب بالنبي " ص " وبفتح كوة بين قبره وبين السماء وتشفع عمر بالعباس كما سيأتي ذلك كله في الفصل الثالث في التوسل ويأتي في هذا الفصل أنه " ص " أقر الأعرابي على قوله إنا نستشفع بك على الله وفي الفصل الثاني أنهم طلبوا من النبي " ص " بعد موته أن يستسقي لهم فسقوا. ومما تقدم تعلم فساد كلام صاحب الرسالة الثانية من الهدية السنية حيث أثبت الشفاعة للنبي " ص " يوم القيامة ولسائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال ومنع من طلبها منهم وقال إنها تطلب من الله فقد بان لك أنه لا مانع من طلبها منهم بعد أن ثبتت لهم الشفاعة وأن منع طلبها منهم جهل وغباوة أو عناد ومكابرة أما تعليله كون طلب ذلك في البرزخ شركا بأنه لم يرد به نص من كتاب أو سنة أو أثر من السلف الصالح فغريب لأن عدم ورود النص والأثر من السلف لا يستلزم كونه شركا بشئ من وجوه الاستلزام بل لا يستلزم تحريمه فضلا عن كونه شركا لما عرفت في المقدمات من أصالة الإباحة فيما نص فيه. قوله: بل ورد الكتاب والسنة وإجماع السلف إنه شرك أكبر، قاتل عليه رسول الله " ص "، افتراء على الكتاب والسنة لما عرفت مفصلا من ورودها كلها بخلاف ما قالوه وإنه " ص " لم يقاتل أحدا على الاستشفاع بمن له الشفاعة وكذا كلام صاحب الرسالة الأولى منها يظهر فساده مما مر فإنه اعترف بأن الشفاعة حق في الآخرة وأنه يجب على كل مسلم الإيمان بها وبشفاعة سائر الشفعاء فمنع طلبها بعد الاعتراف بها تمحل وعناد وما لفقه للمنع من طلبها لا يخرج عن العناد كقوله إن لها أنواعا مذكورة في محلها وإنها ثابتة بالوصف وهو من مات لا يشرك بالله شيئا لا بالشخص عدى الشفاعة العظمى فإنها لأهل الموقف عامة وتفريعه على ثبوتها بالوصف لزوم طلبها من الله بأن يشفع فيه نبيه فإن ذلك كله تمحل في تمحل فما هي تلك الأنواع التي يدعيها والحال أن الشفاعة مرجوة لكل مذنب لم يشرك بالله كما دل عليه حديث أبي هريرة الذي ذكره تصديقا لقوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به وقد جاء عنه " ص " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي وثبوتها بالوصف لا بالشخص لا يظهر له معنى محصل وكأنه يريد به أن من ثبتت له معلوم بالوصف وهو عدم الشرك لا بالشخص وهو زيد أو عمرو مثلا لجواز أن لا يموت على التوحيد فكيف يطلب الشفاعة ولا يخفى
219 ما في ذلك من التمحل والتعسف فإذا كانت الشفاعة ثابتة بصفة عدم الشرك حال الموت فكل موحد يرجو ثبوتها له فما المانع من أن يطلبها وما وجه الملازمة بين ثبوتها بالوصف وعدم جواز طلبها من غير الله فإن كان وجهه عدم العلم بثبوت الوصف فذلك لا يقتضي المنع من طلبها رجاء لثبوته ولا يقتضي كون طلبها شركا وكفرا ولا يلزم على من طلب شيئا أن يكون عالما بحصوله وبتحقق شروطه وهل هذا إلا مكابرة وتضييق فيما وسع الله فيه. وقوله إنها ثابتة بالوصف لا بالشخص ما عدى الشفاعة العظمى فإنها لأهل الموقف عامه، أيضا لا يظهر له معنى محصل فإن أراد أن هناك شفاعتين عظمى لأهل الموقف عامة مشركهم وموحدهم وغيرها لخصوص الموحدين نافى قوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به وقوله لا يشفعون إلا لمن ارتضى فإذا كان الله لا يغفر للمشرك ولا يرتضيه فما معنى هذه الشفاعة وما فائدتها. قوله: وليس منها ما يقصدون، إذا كانت لأهل الموقف عامة فما وجه خروج ما يقصدون عنها وإذا كانت لمن مات غير مشرك فالمتشفع يرجو أن يكون كذلك. قوله: فالمتعين على كل مسلم صرف همته إلى ربه، إلى قوله: طالبا لها من النبي أو غيره. هذا تمويه وتضليل فالمتشفع بمن جعله الله شافعا لم يصرف همته إلا إلى ربه ولم يقبل إلا إليه ولم يتكل إلا عليه ولم يفعل شيئا ينافي القيام بحق العبودية له بل ذلك من تمام القيام بحقها لأنه عن أمر الله الذي جعله شافعا فنحن لم نطلب منه إلا ما جعله الله له وما جعله له إلا ليطلب منه كما كان طلب الدعاء من الغير كذلك مع عدم الفرق بينهما فنسبة المسلمين إلى أنهم بطلبهم الشفاعة من النبي " ص " أهملوا ذلك والتجأوا إلى غير الله مقبلين على شفاعته متوكلين عليها افتراء عليهم وكيف يتصور عاقل إن طلب الشفاعة إلى الله في غفران الذنب ونيل الخير منه تعالى ممن جعل الله له الشفاعة هو إعراض عن الله والتجاء إلى غيره وتوكل على غيره وكيف لم يكن طلب الدعاء من الغير كذلك وطلب الشفاعة لا يخرج عن طلب الدعاء والكل من الله وإلى الله وفي الله. قوله: فإن هذا بعينه فعل المشركين واعتقادهم قد عرفت بما كررناه مرارا أنه لا مساس لذلك بفعل المشركين ولا باعتقادهم فإنهم كذبوا الرسل وعبدوا الأصنام وأعرضوا عن عبادة الله واعتقدوا الشفاعة فيمن لم يجعل الله له شفاعة وعظموا من لا يستحق التعظيم من تمثال وشجر ونحوه. قوله: ولا نشأت فتنة في الوجود إلا بهذا الاعتقاد، لا يجوز دخول لا النافية على الماضي إلا
220 مكررة أو مسبوقة بنفي، واعتقاد أن النبي " ص " شافع مشفع وصاحب الوسيلة عند الله وأنه يستغفر للمذنبين من أمته بعد وفاته كما أخبر عن نفسه (1) وأنه مجاب الدعوة وأن دعاءه لنا أرجى في الإجابة من دعائنا لأنفسنا هو عين الحق والصواب. فجعله سببا لكل فتنة نشأت في الوجود ضلال وخذلان نعوذ بالله منه. نعم إن اعتقاد الوهابيين أن ذلك كفر وشرك واستحلالهم به الدماء والأموال كان سببا لكل فتنة في الوجود بغزوهم بلاد الإسلام وإراقتهم الدماء ونهبهم الأموال وتفريق كلمة المسلمين وكسر شوكتهم وزيادتهم ضعفا إلى ضعفهم فإنا لله وإنا إليه راجعون. قوله: ولهذا حسم مادة الشفاعة عن كل أحد بغير إذن الإله، لا يتوهم عاقل ولا جاهل إن الشفاعة تكون بغير إذن الله وقهرا عليه فالتعبير بقوله حسم مادة الشفاعة بغير إذنه لا مناسبة له ولا محل فحسم المادة يكون بنفي كل شفاعة والله تعالى بآية من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه قد أثبتت الشفاعة بإذنه ونفاها بغير إذنه فلم يحسم مادتها وما وجه الربط بين هذه العلة والمعلول فإذا كان الله تعالى قد نفى الشفاعة بغير إذنه أو حسم مادتها بغير إذنه كما يقول هذا الوهابي فهل يلزم أن يكون طالب الشفاعة من النبي " ص " الذي جعل الله له الشفاعة وأذن له فيها كافرا ومشركا. وهل طالب الشفاعة من النبي " ص " يقول له إشفع لي قهرا على الله رضي أم أبى أذن أم لم يأذن، بالدبوس كدين الوهابية. كلا فانظر رعاك الله إلى هذه التعليلات وإلى هذه النتائج والمقدمات التي استحلوا بها الدماء والأموال واعجب ثم أعجب. قوله: ولهذا قال لله الشفاعة جميعا قد عرفت أن المراد بها أنه تعالى مالك أمرها فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه فلا تزيد عن الآية الأولى. أما قوله تعالى: وما نرى معكم شفعاءكم الخ، فالمراد بشفعائهم الأصنام والأحجار التي كانوا يزعمون أنها شركاء فيهم ولها نوع اختيار معه تعالى وتصرف في الكون وهي جماد لا الأنبياء والمرسلين الذين لا يعتقد مسلم فيهم شيئا من ذلك سوى ما جعله الله لهم من الشفاعة عنده والمنزلة لديه فإنهم حاضرون مع أممهم يشفعون لها ولم يتقطع ما بينهم وبينها ولا ضلت عنهم لا سيما نبينا محمد " ص " الذي هو وسيلة الخلق يوم القيامة دون الأنبياء قوله: وطلبها من غير الله في هذه الدار
(1) بقوله ووفاتي خير لكم فما رأيت من خير حمدت الله عليه وما رأيت من شر استغفرت لكم كما مر في المقدمات. - المؤلف - 221 زعم بعدم تعلقها بالإذن الخ لا ندري ولا المنجم يدري لماذا كان طلبها في هذه الدار زعما بعدم تعلقها بإذن الله ولماذا كان تعلقها بإذن الله منافيا لطلبها وبأي وجه يدل قولنا يا رسول الله إشفع لي على إرادة إشفع لي رغما عن الله وقهرا عليه وبدون إذنه وهل إذا طلبنا منه الشفاعة يمتنع ويستحيل ولا يمكن أن يستأذن ويشفع فيكون طلب الشفاعة منافيا لتعلقها بالإذن ونفي الولي والشفيع في الآيتين يراد به النفي المقيد الذي هو من دون الله وفي قباله وبغير أمره وإذنه لا مطلق الشفيع الثابت بالاستثناء في قوله تعالى إلا بإذنه وبالضرورة من دين الإسلام ولا مطلق الولي الثابت بقوله تعالى (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا " الآية " وغير ذلك. قوله: والعبرة في القرآن بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. كلام لا يرتبط بالمقصود ولا يثمر غير التطويل بلا طائل سمعه ولم يعرف موضعه فسواء كانت الآيتان واردتين في مورد خاص أو لا لا تدلان على منع طلب الشفاعة ممن جعل الله له الشفاعة كما عرفت. أما قول ابن عبد الوهاب إن الشفاعة شفاعتان منفية ومثبتة وجعله المنفية ما تطلب من غير الله واستشهاده على ذلك بآية لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والمثبتة ما تطلب من الله فهو تخرص على الغيب وتفسير للقرآن بالرأي والهوى وبغير الوجه الذي يجب أن يفسر به فإن قوله تعالى ولا شفاعة، عام أو مطلق يجب تخصيصه أو تقييده بالآيات الأخر مثل (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى. من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) لوجوب حمل العام على الخاص والمطلق على المقيد كما بيناه في المقدمات فيحمل قوله ولا شفاعة على الشفاعة لغير من يرتضى كالمنكر له تعالى أو المشرك به أو من يشفع بغير إذنه أو نحو ذلك أما حمل قوله تعالى ولا شفاعة على نفي الشفاعة المطلوبة من غير الله فلا دليل عليه ولا يساعده العرف مع أنه تعالى أمر بالإنفاق من قبل أن يأتي لا شفاعة فيه والمراد به يوم القيامة فهو تعالى نفى الشفاعة في يوم القيامة ولم ينف الشفاعة المطلوبة في الدنيا ولا يمكن أن يراد بهذا اللفظ نفي الشفاعة في الدنيا. وقد ظهر مما مر ويأتي في فصل الدعاء فساد قول ابن عبد الوهاب في تعليمه الاحتجاج: إن الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا أي إن تطلبها منه وقال فلا تدعوا مع الله أحدا، لما ستعرف من أن الدعاء المنهي عنه في الآية لا يشمل طلب الشفاعة كما لا يشمل طلب الدعاء التي هي نوع منه ولا يمكن أن يكون شاملا لذلك إذ يكون محصله إن الله تعالى أباح لك
222 أن تطلب من كل أحد ما أعطاه الله إياه إلا الشفاعة فحجر عليك طلبها من النبي " ص " وأن أعطيها تحكما من غير فارق إلا توهم كون طلبها عبادة وهو توهم سخيف كما عرفت وهذا لا يليق أن يصدر من سفيه فضلا عن رب العزة جل وعلا. وظهر أيضا أن قوله في تعليمه الاحتجاج: الشفاعة أعطيها غير النبي " ص " فصح أن الملائكة والأولياء يشفعون فإن قلت: الله أعطاهم الشفاعة وأطلبها منهم رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكرها الله تعالى في كتابه - كلام فارغ لا يرجع إلى محصل بل هو افتراء على الله تعالى وعلى كتابه فمتى ذكر الله تعالى في كتابه إن طلب الشفاعة من الصالحين عبادة وفي أي سورة أم في أي آية ورد هذا أم أي مفسر ذكر ذلك؟! غاية ما عند ابن عبد الوهاب إن اللات اسم رجل صالح وإن المشركين كان لهم صنم على صورته وإنهم قالوا ما نعبد الأصنام إلا ليقربونا إلى الله وإن الله قال عنهم ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا وقد اتضح لك إن ذلك أبعد مما يرومه ابن عبد الوهاب من السماء عن الأرض لصراحة الآيات كما مر في عبادتهم الأصنام وإنها غير طلب الشفاعة وإنهم طلبوا الشفاعة من الصنم الذي هو حجر لا من الصالح الذي ذلك الحجر على صورته وكون بعض الأصنام المعبودة كانت على صورة موهومة لرجل صالح لا يوجب أن يكون الصادر منهم مجرد التشفع برجل صالح ولا يرتبط به ولا يستلزمه بشئ من وجوه الاستلزام فجعله طلب الشفاعة من الصالحين رجوعا إلى عبادتهم التي زعم أنه تعالى ذكرها في كتابه قريب من الهذيان فالملائكة والأولياء وإن ثبتت لهم الشفاعة كما سبق إلا أن من سألهم الشفاعة والاستغفار له لا يكون عابدا لهم ولا يزيد على من يسأل أخاه الاستغفار له. والذين أشركوا من العرب بعبادتهم الملائكة لم يشركوا بطلبهم منهم الشفاعة بل اتخذوهم أربابا وقالوا إنهم بنات الله كما مر. ثم إن ابن عبد الوهاب صرح فيما يأتي في فصل الدعاء والاستغاثة بأن طلب المقدور من غير الله تعالى ليس شركا ولا محرما وإنما الموجب للشرك أن يطلب من غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله وحينئذ فمنعه من طلب الشفاعة من النبي " ص " مع اعترافه بأن له الشفاعة وأنه يقدر عليها ولو بعد الاستئذان من الله تعالى وأنه الشفيع المشفع تناقض ظاهر كما سيأتي بيانه وما الذي فرق بين الشفاعة وغيرها حتى منع الله تعالى من طلب الشفاعة من غيره وإن كان قادرا عليها وجوز طلب الدعاء من المؤمن الذي هو مثلها وغير ذلك مما
223 يقدر عليه هل هو إلا نسبة التحكم إلى الله تعالى والعبث تعالى الله عن ذلك. أما كلام ابن تيمية في رسالة زيارة القبور الذي فتح به هذا الباب للوهابية بقوله: وإن قال أنا أسأله لكونه أقرب إلى الله مني ليشفع لي وجعله التشفع والتوسل إلى الله كما يتوسل إلى السلطان بخواصه من أفعال الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم شفعاء والمشركين وعبدة الأصنام الذين قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا واستشهاده على ذلك بآيات الشفاعة وزعمه أنه تعالى بين الفرق بينه وبين خلقه ففساده أوضح من أن يبين بعدما أثبت الله الشفاعة رأفة بالمذنبين من عباده ليتسببوا إلى نيل رضاه وعفوه وجعلها لمن يكرم عليه من أنبيائه وأوليائه كما يستشفع ويتوسل إلى السلطان بخواصه ومن يكرم عليه لكن السلطان يقضي حاجته رغبة أو رهبة أو حياء أو غير ذلك والله تعالى يقضي حاجته كرما ورحمة ورأفة ولا ينافي ذلك كونه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه وإن الأمر كله له والذين أخبر الله عنهم إنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله لم يكن ذلك لأجل طلبهم منهم الشفاعة بل إنهم أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا فاتبعوهم كما جاء في بعض الأخبار فهو نظير قوله تعالى اتخذ إلهه هواه والذين عبدوا الأصنام وقالوا هؤلاء شفعاؤنا تشفعوا بأحجار لا تعقل ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع فذمهم الله تعالى بقوله أم اتخذوا من دون الله شفعاء وبين وجه ذمهم بقوله أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون فجعل التشفع بأنبياء الله وأوليائه الذين يعقلون ويملكون أمر الشفاعة حيث إنه تعالى جعل لهم الشفاعة وملكهم أمرها وأذن لهم فيها كالتشفع بالأصنام التي لا تعقل ولا تملك شفاعة جهل محض. وما بينه ابن تيمية في تفسير (لله الشفاعة جميعا. ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع. من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) من الفرق بين الشفاعة عند الله وعند خلقه يبطل استدلالهم بآية لله الشفاعة جميعا على عدم جواز طلبها من غير الله لأنه ذكر في وجه الفرق أن عادة الناس أن يستشفعوا إلى الكبير بمن يكرم عليه فيقضي حاجته رغبة أو رهبة أو حياء أو مودة أو غير ذلك والله تعالى لا يشفع عنده أحد حتى يأذن هو للشافع فلا يفعل إلا ما شاء الله وشفاعة الشافع من إذنه والأمر كله له فهذا معنى إن الشفاعة كلها لله لا أنه لا يجوز طلبها من غيره. هذا مع دلالة جملة من الأخبار على جواز طلب الشفاعة من النبي " ص " وغيره في دار
224 الدنيا لأمور الدنيا والآخرة فعن صحيح مسلم عن عبد الله بن عباس عن النبي " ص " ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا (1) إلا شفعهم الله فيه. وعن صحيح مسلم عن عائشة عن النبي " ص " ما من ميت يموت يصلي عليه أمة من الناس يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه وهذان الخبران يدلان على جواز الشفاعة في الدنيا من آحاد المؤمنين وأنها لا تختص بالآخرة ولا بالأنبياء فهل إذا أوصي رجل جماعة من إخوانه أربعين أو مائة أن يقوموا على جنازته ويشفعوا فيه أو يصلوا عليه ويشفعوا فيه يكون مشركا وآثما مخطئا عند محمد بن عبد الوهاب واتباعه لأنه طلب منهم الشفاعة وخالف قوله تعالى فلا تدعوا مع الله أحدا كما يكون طالبها من النبي " ص " كذلك، سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم. وعن الترمذي عن أنس سألت النبي " ص " أن يشفع لي يوم القيامة فقال أنا فاعل قلت فأين أطلبك قال أولا على الصراط قلت فإن لم ألقك قال عند الميزان قلت فإن لم ألقك قال عند الحوض فإني لا أخطي هذه المواضع. فهذا أنس قد طلب الشفاعة من النبي " ص " في دار الدنيا ولم يطلبها من الله كما يريد ابن عبد الوهاب وأقره النبي " ص " على ذلك أفهل كان أنس بذلك آثما ومشركا والنبي " ص " أقره على معصيته وشركه وابن عبد الوهاب وحده موحدا أم إن النبي " ص " لم يسمع بقوله تعالى: لله الشفاعة جميعا. ولا تدعوا مع الله أحدا. ولذلك لم ينه أنسا عن طلب الشفاعة منه أو سمعه النبي " ص " ولم يفهم معناه وفهمه محمد بن عبد الوهاب وأتباعه لأنهم أعلم بكتاب الله تعالى من رسول الله " ص " وأصحابه. وقد طلب سواد بن قارب وهو من الصحابة الشفاعة من النبي " ص " كما سيأتي في الفصل الثالث في التوسل: فكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة * بمغن فتيلا عن سواد بن قارب ولم ينكر عليه رسول الله " ص " ولم ينهه ولم يقل له لم طلبت الشفاعة مني ودعوت غير
(1) بناء على إشراك جميع المسلمين يلزم أن يكون الأربعون من أعراب نجد حتى تقبل شفاعتهم. - المؤلف - 225 الله فأشركت مع أن الشفاعة كلها لله ولا يجوز أن يدعى أحد مع الله فادع الله واطلب الشفاعة منه وقل يا الله شفعه في كما يقوله ابن عبد الوهاب. وفي السيرة الحلبية (1) عن ابن إسحاق في كتاب المبدأ إن تبعا الحميري آمن بالنبي " ص " وكتب كتابا فوصل إلى النبي " ص " بعد مبعثه وفيه إن لم أدركك فاشفع لي يوم القيامة ولا تنسني وإن النبي " ص " قال مرحبا بتبع الأخ الصالح ثلاث مرات " انتهى " ولو كان هذا شركا وكفرا لوجب أن ينكره لا أن يرحب بصاحبه ثلاثا ويسميه الأخ الصالح ولو أنكره لنقل عنه. وقال ابن تيمية في رسالة زيارة القبور (2) ما لفظه: في الحديث أن أعرابيا قال للنبي " ص " جهدت الأنفس وجاع العيال وهلك المال فادع الله لنا فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله فسبح رسول الله صلى الله عليه وآله حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال ويحك إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك. قال فأقره على قوله إنا نستشفع بك على الله وأنكر عليه نستشفع بالله عليك لأن الشافع يسأل المشفوع إليه والعبد يسأل ربه ويستشفع إليه والرب تعالى لا يسأل العبد ولا يستشفع به " انتهى " فإقرار النبي " ص " له على قوله إنا نستشفع بك على الله دليل على جواز طلب الشفاعة من النبي " ص " في دار الدنيا وأنه ليس فيها شائبة منع. واتضح فساد قول الوهابيين إن الشفاعة حق ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله فقد أقر النبي " ص " على طلبها منه في دار الدنيا لأمور الدنيا ولغيرها ومع هذا كله يعاند الوهابيون ويصرون ويتمحلون ويخالفون صريح السنة ليستحلوا دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم ويزعمون أنهم بها يتمسكون فإنا لله وإنا إليه راجعون. لا يقال: الذي أنكره الوهابية طلب الشفاعة من النبي " ص " في دار الدنيا بعد موته وهذه الروايات كلها في طلب الشفاعة من الأحياء فلا يتم الاستدلال. لأنا نقول الدليل الذي استدلوا به على عدم جواز طلب الشفاعة في دار الدنيا وأنها شرك إن تم لا يفرق بين طلبها من الحي وطلبها من الميت وهو قوله تعالى لله الشفاعة جميعا فلا تدعوا مع الله أحدا. مع أنها قد وردت أخبار في طلب الشفاعة منه " ص " بعد موته. وهي ما سيأتي من أن ابن حنيف علم رجلا أن
(1) ص 88 ج 2 (2) ص 155 226 يقول في دعائه في خلافة عثمان يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك أن تقضي حاجتي ويذكر حاجته وأنه فعل ذلك فقضيت حاجته. وما رواه المفيد في المجالس عن ابن عباس أن أمير المؤمنين " ع " لما فرغ غسل النبي " ص " كشف الإزار عن وجهه ثم قال بأبي أنت وأمي طبت حيا وطبت ميتا. إلى أن قال: بأبي أنت وأمي اذكرنا عند ربك واجعلنا من همك ثم أكب عليه فقبل وجهه. وفي خلاصة الكلام: صح أنه لما توفي " ص " أقبل أبو بكر رضي الله عنه فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله وقال بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا اذكرنا يا محمد عند ربك ولنكن من بالك " انتهى " وهذا استشفاع به " ص " في دار الدنيا بعد موته. كل هذا والوهابية وأتباعهم يزعمون أنهم سلفيون متمسكون بأقوال السلف وبأقوال الصحابة. وفي خلاصة الكلام: عن شرح المواهب للزرقاني أن الداعي إذا قال اللهم إني أستشفع إليك بنبيك يا نبي الرحمة إشفع لي عند ربك استجيب له " انتهى " وسيأتي في فصل التوسل من جملة الدعاء الذي ذكره العلماء في باب آداب الزيارة خطابا له " ص " جئناك لقضاء حقك إلى قوله والاستشفاع بك فليس لنا يا رسول الله شفيع غيرك فاستغفر لنا وأشفع لنا الخ ويأتي هناك أن كثيرا من علماء المذاهب الأربعة ذكروا في كتب المناسك عند ذكر الزيارة استحباب التشفع به (ص). * الفصل الثاني * * في دعاء غير الله تعالى والاستغاثة والاستعانة به وطلب الحوائج منه * وهذا مما صرح الوهابية وقدوتهم ابن تيمية بأنه موجب للشرك والكفر ففي الرسالة الثانية من رسائل الهدية السنية (1) أن قول أدركني أو أغثني أو اشفني أو انصرني على عدوي ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى إذا طلب في أيام البرزخ كان من أقسام الشرك وادعى ورود الكتاب والسنة وإجماع السلف إن ذلك شرك أكبر قاتل عليه رسول الله (ص) وصرح بذلك ابن تيمية في كلامه المتقدم في الباب الثاني المنقول عن رسالة الواسطة وصرح به في رسالة زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور في عدة مواضع وهي جواب لمن سأله عمن يزور القبور ويستنجد بالمقبور في مرض به أو بفرسه أو بعيره يطلب إزالة ذلك ويقول يا سيدي أنا في جيرتك أنا في حسبك فلان ظلمني فلان قصد أذيتي ويقول إن المقبور يكون
(1) ص 40 227 واسطة بينه وبين الله تعالى. وفيمن يستغيث بشيخه يطلب تثبيت قلبه من ذلك الواقع وفيمن يجئ إلى شيخه ويستلم القبر ويمرغ وجهه عليه ويمسح القبر بيديه ويمسح بهما وجهه وأمثال ذلك وفيمن يقصده بحاجته ويقول يا فلان ببركتك أو يقول قضيت حاجتي ببركة الله وبركة الشيخ وفيمن يعمل السماع ويجئ إلى القبر فيكشف ويحط وجهه بين يدي شيخه على الأرض ساجدا وفيمن قال إن ثم قطبا غوثا جامعا في الوجود. ومما جاء في الجواب قوله (1): من يأتي إلى قبر نبي أو صالح ويسأله حاجته ويستنجده مثل أن يسأله أن يزيل مرضه أو يقضي دينه أو نحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل فهذا شرك صحيح (صريح ظ) يجب أن يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل ثم ذكر (2) عن وثيمة وغيره أن ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا أسماء قوم صالحين من قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم طال عليهم الأمد فاتخذوا تماثيلهم أصناما وكان العكوف على القبور والتمسح بها وتقبيلها والدعاء عندها هو أصل الشرك وعبادة الأوثان ولهذا قال النبي (ص): (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد) إلى أن قال (3): وهذا ما يظهر الفرق بين سؤال النبي (ص) والرجل الصالح في حياته وسؤاله بعد موته وفي مغيبه وذلك أنه في حياته لا يعبده أحد في حضوره إلى أن قال (4): ولم يكن أحد من سلف الأمة في عصر الصحابة ولا التابعين ولا تابعي التابعين يتخيرون الصلاة والدعاء عند قبور الأنبياء ويسألونهم ولا يستغيثون بهم لا في مغيبهم ولا عند قبورهم وكذلك العكوف قال ومن أعظم الشرك أن يستغيث الرجل بميت وغائب كما ذكره السائل ويستغيث به عند المصائب يا سيدي فلان كأنه يطلب منه إزالة ضره أو جلب نفعه وهذا حال النصارى في المسيح وأمه وأحبارهم ورهبانهم ومعلوم أن خير الخلق وأكرمهم على الله نبينا محمد (ص) واعلم الناس بقدره وحقه أصحابه ولم يكونوا يفعلون شيئا من ذلك لا في مغيبه ولا بعد مماته. وقال ابن تيمية أيضا في رسالة القبور (5): وقول كثير من الضلال: هذا أقرب إلى الله مني وأنا بعيد من الله لا يمكنني أن أدعوه إلا بهذه الواسطة ونحو ذلك - من أقوال المشركين فإن الله تعالى يقول (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان)
(1) صفحة 156 (2) صفحة 161 (3) صفحة 262 (4) صفحة 162 طبع المنار بمصر (5) صفحة 157. 228 إلى أن قال: وأمر الله العباد أن يقولوا (إياك نعبد وإياك نستعين) وأخبر عن المشركين أنهم قالوا إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ثم يقال لهذا المشرك أنت إذا دعوت غير الله فإن كنت تظن أنه أعلم بحالك وأقدر على عطاء سؤالك أو ارحم بك فهذا جهل وضلال وكفر وإن كنت تعلم أن الله أعلم وأقدر وأرحم فلم عدلت عن سؤال غيره، إلى أن قال: وإن كنت تعلم أنه أقرب إلى الله منك وأعلى درجة فهذا حق لكن كلمة حق أريد بها باطل فإنه إذا كان أقرب منك وأعلى درجة فإنما معناه أن يثيبه الله ويعطيه أكثر مما يعطيك ليس معناه أنك إذا دعوته كان الله يقضي حاجتك أعظم مما يقضيها إذا دعوت أنت الله فإنك إن كنت مستحقا للعقاب ورد الدعاء فالنبي والصالح لا يعين على ما يكرهه الله وإن لم يكن كذلك فالله أولى بالرحمة والقبول وإن قلت هذا إذا دعا الله أجاب دعاءه أعظم مما يجيبه إذا دعوته كما تقول للحي ادع لي وكما كان الصحابة يطلبون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء فهذا مشروع في الحي دون الميت إلى آخر ما يأتي في هذا الفصل. وقال ابن تيمية أيضا في رسالة زيارة القبور (1) ما حاصله: مطلوب العبد إن كان مما لا يقدر عليه إلا الله فسائله من المخلوق مشرك من جنس عباد الملائكة والتماثيل ومن اتخذ المسيح وأمه الآهين مثل أن يقول لمخلوق حي أو ميت اغفر ذنبي أو انصرني على عدوي أو اشف مريضي أو عافني أو عاف أهلي أو دابتي أو يطلب منه وفاء دينه من غير جهة معينة أو غير ذلك وإن كان مما يقدر عليه العبد فيجوز طلبه منه في حال دون حال فإن مسألة المخلوق قد تكون جائزة وقد تكون منهيا عنها قال الله تعالى (فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب) وأوصى النبي (ص) ابن عباس إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله وأوصى طائفة من أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئا فكان سوط أحدهم يسقط من كفه فلا يقول لأحد ناولني إياه وقال فهذه المنهي عنها والجائزة طلب دعاء المؤمن لأخيه الخ. وصرح محمد بن عبد الوهاب في كلامه السابق في الباب الثاني بأن دعاء غير الله والاستغاثة بغير الله موجب للارتداد عن الدين والدخول في عداد المشركين وعبدة
(1) صفحة 153 - 155 طبع المنار بمصر. 229 الأصنام واستحلال المال والدم إلا مع التوبة بقوله: إن النبي " ص " قاتل المشركين لتكون جملة أشياء كلها لله وعد منها الدعاء والاستغاثة وغير ذلك من كلماتها السابقة. وقال في رسالة كشف الشبهات (1) عند تعليمه الاحتجاج على المسلمين المشركين بزعمه فإن قال (أي الخصم من المسلمين الذي هو مشرك بزعمه): أنا لا أعبد إلا الله والالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة فقل له أنت تقر إن الله فرض عليك إخلاص العبادة فبين لي هذا الذي فرض عليك فإنه لا يعرف العبادة ولا أنواعها فبينها له بقوله تعالى (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) إذا عملت بهذا هل هو عبادة فلا بد أن يقول نعم والدعاء مخ العبادة فقل إذا دعوت الله ليلا ونهارا خوفا وطمعا ودعوت في تلك الحاجة نبيا أو غيره هل أشركت في عبادة الله فلا بد أن يقول نعم فقل له وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك وإلا فهم مقرون أنهم عبيد الله تحت قهره وإن الله هو الذي يدبر الأمر ولكن دعوهم والتجؤا إليهم للجاه والشفاعة ثم قال فإن قال أنا لا أشرك بالله حاشا وكلا والالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك فقل إذا كنت تقر أن الله حرم الشرك أعظم من الزنا وأن الله لا يغفره فما هو فإنه لا يدري فقل كيف تبرئ نفسك من الشرك ولا تعرفه فإن قال الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبدها فقل ما معنى عبادتها أتظن أنهم يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق وتدبر أمر من دعاها فهذا يكذبه القرآن يعني قوله تعالى (قل من يرزقكم من السماء والأرض الآية) أو هو قصد خشبة أو حجر أو بنية أو غيره يدعون ذلك ويذبحون له ويقولون إنه يقربنا إلى الله زلفى ويدفع عنا ببركته وهذا هو فعلكم عند الأحجار والبنايا التي على القبور وغيرها وأيضا قولك الشرك عبادة الأصنام هل تريد إن الشرك مخصوص بهذا وإن الاعتماد على الصالحين ودعاءهم لا يدخل في هذا فهذا يرده ما في القرآن من كفر من تعلق على الملائكة وعيسى والصالحين. وقال في الرسالة المذكورة أيضا (2): ولهم شبهة أخرى وهي ما ذكر النبي (ص)
(1) صفحة 62 - 64 طبع المنار بمصر (2) صفحة 70 طبع المنار بمصر 230 أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم ثم بنوح ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى فكلهم يعتذر حتى ينتهوا إلى رسول الله (ص) فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركا، قال: والجواب أن نقول سبحان من طبع على قلوب أعدائه فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه) وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب وغيره في أشياء يقدر عليها المخلوق ونحن أنكرنا استغاثة العباد عند قبور الأولياء أو في غيبتهم في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله فاستغاثتهم بالأنبياء يوم القيامة يريدون منهم أن يدعوا الله أن يحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف وهذا جائز في الدنيا والآخرة أن تأتي عند رجل صالح تقول له ادع الله لي كما كان أصحاب رسول الله (ص) يسألونه في حياته وأما بعد مماته فحاش وكلا أنهم سألوا ذلك بل أنكر السلف على من قصد دعاء الله عند قبره فكيف بدعائه نفسه. ثم قال (1) ولهم شبهة أخرى وهي قصة إبراهيم لما ألقي في النار اعترض له جبرائيل في الهواء فقال ألك حاجة فقال أما إليك فلا فلو كانت الاستغاثة شركا لم يعرضها على إبراهيم. وأجاب بأن جبرائيل عرض عليه أن ينفعه بأمر يقدر عليه فإنه كما قال الله فيه (شديد القوى) فلو أذن له أن يأخذ نار إبراهيم ويلقيها في المشرق أو المغرب أو يضيع إبراهيم عنهم في مكان بعيد أو يرفعه إلى السماء لفعل وهذا كرجل غني يعرض على رجل محتاج أن يقرضه أو يهبه فيأبى ويصبر حتى يأتيه الله برزق لا منة فيه لأحد فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون " انتهى ". وصرح الصنعاني في كلامه السابق في الباب الثاني بأن من فعل ذلك أي الدعاء والنداء والاستعانة والالتجاء لمخلوق فقد أشرك في العبادة وصار من تفعل له هذه الأمور إلها لعابديه سواء كان ملكا أو نبيا أو وليا أو شجرا أو قبرا أو جنيا أو حيا أو ميتا وصار بهذه العبادة أو أي نوع منها عابدا لذلك المخلوق وإن أقر بالله وعبده ولم يخرجه إقراره وعبادته عن الشرك وعن وجوب سفك دمه وسبي ذراريه ونهب أمواله كما لم يخرج المشركين. وذكر الصنعاني في تطهير الاعتقاد سؤال استغاثة الناس بآدم عليه الناس يوم القيامة بما يقرب مما تقدم عن ابن عبد الوهاب إلا أنه قال فإن قلت الاستغاثة قد ثبتت في
(1) ص 71 231 الأحاديث فإنه قد صح إن العباد يستغيثون بآدم الخ وقال بدل ليست شركا ليست بمنكر وقال قلت هذا تلبيس فإن الاستغاثة بالمخلوقين الأحياء فيما يقدرون عليه لا ينكرها أحد. إلى أن قال: وإنما الكلام في استغاثة المقبورين وغيرهم بأوليائهم وطلبهم منهم أمورا لا يقدر عليها إلا الله تعالى من عافية المريض وغيرها. إلى أن قال: نعم استغاثة العباد يوم القيامة وطلبهم من الأنبياء إنما يدعون الله تعالى يفصل بين العباد بالحساب حتى يريحهم من هول الموقف وهذا لا شك في جوازه أعني طلب الدعاء لله تعالى من بعض عباده لبعض وأمرنا سبحانه أن ندعوا للمؤمنين ونستغفر لهم يعني قوله تعالى (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان). قال: وقد قالت أم سليم رضي الله عنها يا رسول الله خادمك أنس ادع الله له وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يطلبون الدعاء منه " ص " وهو حي وهذا أمر متفق على جوازه والكلام في طلب القبوريين من الأموات أو من الأحياء الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا أن يشفوا مرضاهم ويردوا غائبهم وينفسوا على حبلاهم ويسقوا زرعهم ويدروا ضروع مواشيهم ويحفظوها من العين ونحو ذلك من المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى هؤلاء الذين قال الله فيهم والذين تدعون من دون الله لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون. إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم وصرح بذلك الوهابية في كتابهم إلى شيخ الركب المغربي المتقدم في الباب الثاني. ثم إن حاصل استدلال الوهابيين على عدم جواز دعاء غير الله تعالى بنحو الاستغاثة والاستعانة وطلب الحوائج على أحد الوجوه المبينة في صدر الجواب وإنه كفر وشرك أكبر كدعاء الأصنام على ما يفهم من كلماتهم المار ذكرها وكما في الرسالة الثالثة من رسائل الهدية السنية (1) إنه تعالى قال (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا. له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ. والذين تدعون من دون الله لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون. إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم. والذين تدعون من دون الله ما يملكون من قطمير. والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ " الآية ". قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا
(1) ص 86 232 تحويلا. أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه. ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك " الآية ". إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم " الآية ". ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له " الآية "). وقال الصنعاني في تنزيه الاعتقاد وقد سمى الله الدعاء عبادة بقوله (ادعوني أستجب لكم. إن الذين يستكبرون عن عبادتي الآية) وفي الهدية السنية (2) عنه " ص " الدعاء مخ العبادة رواه الترمذي وفي رواية الدعاء هو العبادة ثم قرأ " ص " وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي " الآية " رواه أحمد وأبو داود والترمذي " انتهى ". ومن هتف باسم نبي أو صالح عند الشدائد كقول يا رسول الله يا ابن عباس بدون أن يتبعه بشئ أو قال إشفع لي إلى الله في حاجتي أو أستشفع بك إلى الله في حاجتي أو نحو ذلك أو قال اقض ديني أو اشف مريضي أو نحو ذلك فقد دعا ذلك النبي والصالح والدعاء عبادة بل مخها كما عرفت فيكون قد عبد غير الله وصار مشركا إذ لا يتم التوحيد إلا بتوحيده تعالى في الإلهية باعتقاد أن لا خالق ولا رازق غيره وفي العبادة بعدم عبادة غيره ولو ببعض العبادات وعباد الأصنام إنما أشركوا بعدم توحيد الله في العبادة كما مر مفصلا. والجواب: إن الدعاء والاستغاثة بغير الله يكون على وجوه ثلاثة، الأول: أن يهتف باسمه مجردا مثل أن يقول يا محمد يا علي يا عبد القادر يا أولياء الله يا أهل البيت ونحو ذلك. الثاني: أن يقول يا فلان كن شفيعي إلى الله في قضاء حاجتي أو ادع الله أن يقضيها أو ما شابه ذلك. الثالث: أن يقول اقض ديني أو اشف مريضي أو انصرني على عدوي وغير ذلك. وليس في شئ من هذه الوجوه الثلاثة مانع ولا محذور فضلا عما يوجب الاشراك والتكفير لأن المقصود منها طلب الشفاعة وسؤال الدعاء سواء صرح بذلك كما في الوجه الثاني أو لا كما في الوجهين الباقيين للعلم بحال المسلم الموحد المعتقد إن من عدا الله تعالى لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا فبسبب ذلك نعلم أنه لم يقصد سوى طلب الشفاعة والدعاء ولو فرض أننا جهلنا قصده لوجب حمله على ذلك سواء صدر من عارف أو عامي لوجوب حمل أفعال المسلمين وأقوالهم على الصحة مهما أمكن حتى يعلم الفساد
(1) ص 86 233 وعدم جواز تكفير المقر بالشهادتين إلا بما يوجب كفره على اليقين وعدم جواز التهجم على الدماء والأموال والأعراض بغير اليقين كما مر في المقدمات فيكون ذلك هو المحذوف المطلوب من المدعو في الوجه الأول ويكون إسناد الفعل إلى المدعو مجازا في الإسناد في الوجه الثالث من باب الإسناد إلى السبب لكونه بدعائه وشفاعته سببا في ذلك كما في بنى الأمير المدينة وشفى الطبيب المريض فإن ذلك صحيح في لغة العرب كثير فيها وفي القرآن الكريم وهو المسمى عند علماء البيان بالمجاز العقلي وهو إسناد الفعل إلى غير ما هو له من سبب أو غيره، والقرينة عليه هنا ظاهر حال المسلم فإن كون المتكلم به مسلما يعتقد ويقر بأن من عدا الله تعالى لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا إلا بإقدار الله تعالى يكفي قرينة على ذلك ولهذا ذكر علماء البيان أن مثل انبت الربيع البقل إذا صدر من الدهري كان حقيقة وإذا صدر من المسلم كان مجازا عقليا كما تقدم تفصيله في المقدمات وأي فارق بين انبت الربيع البقل وبين ما نحن فيه فليكن هذا الإسناد كإسناد الرزق وما يجري مجراه إلى غير الله تعالى في قوله تعالى (فارزقوهم منها. ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله. وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله) والإغناء لا يقدر عليه إلا الله فكيف نسبه إلى الرسول " ص " وجعله شريكا لله في ذلك وهل هو إلا كالرزق الذي لا يقدر عليه إلا الله تعالى وهم قد جعلوا قول ارزقني: شركا وكفرا وقد نسب الله تعالى إلى عيسى عليه السلام الخلق وإبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله بقوله حكاية عنه (إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله) فكيف جاز نسبة ذلك إليه ولم يكن كفرا ولا شركا ولم يجز نسبة شفاء المريض وقضاء الدين والرزق ونحو ذلك إلى النبي أو الولي بإذن الله فإن كان المانع أنه لا يقدر عليه إلا الله فالكل كذلك وإن كان عدم القدرة بعد الموت فهي حاصلة بما دل على حياة الأنبياء بل وغيرهم في عالم البرزخ. وإلى ما ذكرناه أشار عالم المدينة السمهودي الشافعي في كتابه وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى (1) بقوله: وقد يكون التوسل به (ص) بطلب ذلك الأمر منه بمعنى أنه " ص " قادر على التسبب فيه بسؤاله وشفاعته إلى ربه فيعود إلى طلب دعائه وإن اختلفت العبارة
(1) صفحة 421 ج 2 طبع عام 1326 بمصر. 234 ومنه قول القائل له أسألك مرافقتك في الجنة " الحديث " ولا يقصد به إلا كونه " ص " سببا وشافعا " انتهى " وفي قول القائل أسألك مرافقتك في الجنة في الحديث المشار إليه رد لما توهموه من كفر من قال اشف مريضي وانصرني على عدوي ونحوه حتى ادعى ابن تيمية إجماع المسلمين على ذلك كما مر في الباب الثاني فمرافقته في الجنة لا يقدر عليها غير الله نظير غفران الذنب وشفاء المريض بل لو فرض أنه ليس ظاهر حال القائل ما ذكرنا وتساوى الاحتمالان أو ضعف الاحتمال الصحيح لم يجز الحكم بالكفر والشرك لوجوب الحمل على الصحة ولو مع الاحتمال الضعيف وعدم جواز التكفير إلا مع اليقين، نعم لو قصد في الوجه الأول والثالث إن المستغاث به هو الفاعل لذلك اختيارا واستقلالا بدون واسطته تعالى وإقداره فالمسلمون منه براء ولكنه لا يوجد بين المسلمين أحد يقصد ذلك نعم ربما يوجد من لا يخطر بباله شئ تفصيلا فيجب حمله أيضا على الوجه الصحيح من طلب الدعاء والشفاعة دون غيره لأنه وإن لم يقصد ذلك ولم يلتفت إليه تفصيلا إلا أنه مقصود له إجمالا ولهذا لو سئل أنك هل تعتقد أنه قادر على ذلك بلا واسطته تعالى لقال كلا لا اعتقد ذلك وتبرأ ممن يعتقده ولو قيل له هل مرادك طلب الدعاء والشفاعة لقال نعم. وحيث ظهر أن مرجع ذلك إلى طلب الشفاعة وسؤال الدعاء، فنقول: أما الشفاعة فمضى الكلام فيها في الفصل السابق وأنها لا تخرج عن سؤال الدعاء، وأما سؤال الدعاء فلا مانع منه عقلا ولا شرعا من حي ولا ميت أما من الحي فاعترف الوهابيون (والمنة لله) بجوازه ولم يجعلوه شركا ولا كفرا ولا بدعة صرح بذلك ابن عبد الوهاب الصنعاني وقبلهما ابن تيمية. قال ابن تيمية في رسالة زيارة القبور (1) ثبت عنه صلى الله عليه وآله (ما من رجل يدعو له أخوه بظهر الغيب دعوة إلا وكل الله بها ملكا كلما دعا لأخيه دعوة قال الملك ولك مثل ذلك) ومن المشروع في الدعاء إجابة غائب لغائب (2) ولهذا أمر " ص " بالصلاة عليه وطلب الوسيلة له ففي الحديث إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ثم صلوا علي فإن من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا ثم اسألوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون ذلك العبد فمن
(1) صفحة 155 (2) كأن صوابه ومن المشروع في إجابة الدعاء دعاء غائب لغائب - المؤلف - 235 سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي يوم القيامة. ويشرع طلب الدعاء ممن هو فوقه ودونه فإن النبي صلى الله عليه وآله ودع عمر إلى العمرة وقال لا تنسنا من دعائك يا أخي وثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وآله ذكر أويس القرني وقال لعمر إن استطعت أن يستغفر لك فافعل وفي الصحيحين كان بين أبي بكر وعمر " رض " شئ فقال أبي وبكر لعمر استغفر لي لكن في الحديث إن أبا بكر ذكر أنه حنق على عمر وثبت في الصحيحين أن الناس لما أجدبوا سألوا النبي صلى الله عليه وآله أن يستسقي لهم فدعا الله لهم فسقوا " انتهى " ثم ذكر حديث الأعرابي الذي قال للنبي " ص " ادع لنا ولم ينكر عليه وقد مر في فصل الشفاعة. والجواب عن احتجاجهم على عدم جواز دعاء غير الله والاستعانة والاستغاثة به بآية فلا تدعوا مع الله أحدا وما ذكر معها - إن الدعاء في اللغة مطلق النداء قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) ويطلق الدعاء على سؤال الله تعالى والرغبة إليه وطلب حوائج الدنيا والآخرة منه باعتقاد أنه مالك أمر الدنيا والآخرة وبعبارة أخرى باعتقاد ألوهيته واستحقاقه العبادة والتعبد والخضوع له بذلك إطاعة لأمره وإطلاق الدعاء على ذلك أما لأنه أحد أفراد المعنى اللغوي أو لصيرورته حقيقة عرفية في ذلك أو مجازا مشهورا وقد ورد في الشرع الحث على دعاء الله تعالى وطلب حوائج الدنيا والآخرة منه وسمي عبادة قال الله تعالى (ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) وقال زين العابدين علي ابن الحسين " ع " في دعائه بعد ذكر الآية (فسميت دعاءك عبادة وتركه استكبارا وتوعدت عليه دخول جهنم داخرين) حتى ورد أن الدعاء مخ العبادة أو هو العبادة كما ذكروه في احتجاجهم وبمضمونه عدة روايات. وإنما كان كذلك لما فيه من إظهار نهاية الخضوع والتذلل لله تعالى والافتقار إليه وأن الأمور كلها بيده ولهذا أمر بالدعاء وحث عليه مع أنه أعلم بحوائجنا منا وارأف بنا من كل أحد ولكنه أراد أن نظهر له غاية الخضوع والعبودية وننزل به حوائجنا جليلها وحقيرها حتى ورد أنه أوحى إلى موسى " ع " يا موسى اسألني حتى علف دابتك وقوت يومك أو ما هذا معناه. ولا شك أن مطلق الدعاء والمناداة وطلب الحاجة من غير الله لا يكون عبادة ولا ممنوعا منه فمن دعا رجلا ليأتي إليه أو ليعينه وينصره أو ليناوله شيئا أو يقضي له حاجة
236 لم يكن عابدا له ولا آثما. فقوله تعالى (فلا تدعوا مع الله أحدا) لا يراد به مطلق الدعاء قطعا بل دعاء خاصا وهو الدعاء المساوي لدعاء الله تعالى باعتقاد أن المدعو قادر مختار مساو لله في ذلك كما كان غير المسلمين يفعلون ذلك في معابدهم أو دعاء من نهى الله عن دعائه من الأصنام والأوثان التي هي أحجار وأشجار لا تعقل ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع ولا تسأل ولا تشفع كما كان يفعله المشركون في الكعبة أو دعاء الملائكة والجن الذين كانوا يعبدونهم ويعتقدون أن لهم تأثيرا في الكون مع الله بأنفسهم أو يشفعون عنده اضطرارا بحيث لا يرد شفاعتهم أو نحو ذلك مما لم يجعله الله لهم وكذلك قوله " ص " الدعاء مخ العبادة أو هو العبادة لا يراد به مطلق الدعاء بل دعاء خاص كما أريد بالآية الكريمة بل لا يبعد أن يراد بالدعاء فيه خصوص دعاء الله تعالى أي إن دعاء الله تعالى مخ عبادة الله تعالى وذلك لاشتماله على نهاية الذل والخضوع والعبادة أقصى نهاية الخضوع والذل لأنها مأخوذة من قولهم طريق معبد أي مذلل فتكون الألف واللام فيه نائبة عن الإضافة فهي عهدية لا جنسية. وآيات (والذين تدعون من دون الله لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون. إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم) دالة على أنهم كانوا يعتقدون أنهم قادرون على نصرهم بأنفسهم لا بدعائهم وشفاعتهم وإلا لم تكن الآيتان ردا عليهم ولكان لهم أن يقولوا إنهم وإن لم يقدروا على نصرنا بأنفسهم فهم قادرون عليه بالتسبب بدعاء الله لنا الذي وعد إجابة الدعاء ونحن لم نطلب منهم غير ذلك وأنهم وإن كانوا عبادا أمثالنا فهم قادرون على أن يشفعوا لنا عند الله الذي جعل لهم الشفاعة بإذنه فيستأذنونه ويشفعون هذا إن كانوا من الأنبياء أو الصلحاء. إذا عرفت ذلك ظهر لك أن من دعا نبيا واستغاث به فذلك لا يدخل في الدعاء المنهي عنه في الآية لأن هذا الدعاء والاستغاثة لا يخرج عن طلبه منه أن يدعو الله له أو يشفع له عنده الذي هو في معنى الدعاء فمن طلب ذلك مع اعتقاد أن الأمر فيه لله إن شاء أجاب دعاءه وقبل شفاعته وإن شاء رد لا يدخل في النهي قطعا بعد ما عرفت أن المنهي عنه ليس مطلق الدعاء بل دعاء مخصوص مع أن طلب الدعاء والشفاعة ممن جعل الله له ذلك لا يخرج عن دعاء الله تعالى وعبادته وتعظيم شأنه والتوسل إليه بأنواع الوسائل وفي ذلك مبالغة في التضرع إليه والطلب منه الذي علم أنه يحبه ويرضاه وأنه مخ العبادة له. والمعنى
237 في الآية ظاهرة في المساواة، ومن يدعو النبي " ص " ليدعو الله له ويشفع إليه في حاجته لم يدعه مع الله ولم يساوه به بل في الحقيقة دعا الله الذي أمر بطلب الدعاء من الغير وجعل له الشفاعة وليس المراد بالمعية مجرد المشاركة في الوجود وإلا لحرم دعاء غير الله في المساجد أو مطلقا مع الله بأن يقول يا الله اغفر لي ويا فلان اسقني ماء وحينئذ فقول يا محمد ادع لي الله أو أشفع لي عنده الذي هو في معنى ادعه لا يزيد عن قوله يا فلان اسقني ماء. وبعبارة أخرى: معنى مع الله أن يكون دعاؤه في عرض دعاء الله لا في طوله. والأصنام لو فرض أن دعاءها ليس كذلك فالله نهى عن دعائها بكل حال لأنها جماد ولأن دعاءها خلاف على الله وتكذيب للرسل. ودعاء باقي المعبودات كعيسى والملائكة والجن هو مثل دعاء الله قطعا فعيسى (ع) اتخذ شريكا في الربوبية والملائكة والجن اعتقد أن لهم قدرة وتأثيرا مع الله كما مر. أما قوله تعالى (له دعوة الحق) " الآية " فمعناه والله العالم إن المدعو بحق هو الله تعالى وما يدعون من دونه من حجر أو شجر أو نبي يعتقدون إلهيته كعيسى فيدعونه ليرزقهم ويدخلهم الجنة ويفعل معهم فعل الرب مع عبيده أو ملك أو جني يعتقدون أن له تأثيرا مع الله أو شفاعة اضطرارية أو غير مردودة أو نحو ذلك لا يستجيبون لهم أما الأحجار والأشجار فلأنها جماد لا تقدر على شئ سواء كانت على صورة صالح أو لا لأن الدعاء والشفاعة للصالحين لا لصورهم وأما من يدعى فيه الإلهية أو التأثير مع الله من ملك أو جني فلأنه ليس إلها أو لا تأثير له ولا يبعد أن يكون المراد الأصنام خاصة وأن تكون واردة في مشركي قريش ولذلك شبه حالهم بباسط كفيه إلى الماء يطلب منه أن يبلغ فاه والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه، وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم وأين ذلك من طلب الدعاء من الصالحين الذين أمر الله بطلب الدعاء منهم ودلت الآيات والأخبار على حياتهم بعد الموت وقدرتهم على ذلك وسؤال الشفاعة منهم التي جعلها الله لهم وأخبر أنهم قادرون عليها وبذلك ظهر جليا أن قياس دعاء الصالحين على دعاء الأصنام والأوثان وعيسى ومريم وغير ذلك قياس باطل وتوهم فاسد.
238 إذا عرفت هذا فلنعد إلى الجواب عن كلماتهم السابقة كل منها على حدة. أما قول ابن تيمية بشرك من يسأل النبي أو الصالح إزالة مرضه أو قضاء دينه أو نحو ذلك ولزوم قتله إن لم يتب ففاسد لما عرفت من عدم جواز التهجم على تكفير المسلم واستحلال دمه بغير اليقين ووجوب حمل قوله وفعله على الصحيح مهما أمكن ولا يقين هنا لوجود المحمل الصحيح وهو إرادة الإسناد إلى السبب بالدعاء والشفاعة وإن مثل ذلك وارد في كلام العرب والقرآن الكريم. وأما روايته إن ودا وسواعا الخ أسماء قوم صالحين فلما ماتوا عكفوا على قبورهم إلى أن اتخذوا تماثيلهم أصناما فهو حجة عليه لا له فإن موجب تكفيرهم اتخاذ تماثيلهم أصناما لا التبرك بقبورهم. قوله: وكان العكوف على القبور والتمسح بها وتقبيلها والدعاء عندها هو أصل الشرك وعبادة الأوثان. يأبى الخذلان الذي أصاب ابن تيمية إلا أن يسمي المداومة على زيارة قبور الأنبياء والصلحاء بالعكوف تنظيرا له بالعكوف على الأصنام وستعرف في فصل الزيارة إن استحباب زيارة قبر النبي " ص " وقبور سائر الأنبياء والصلحاء ودعائه تعالى عندها من ضروريات دين الإسلام وإذا ثبت استحباب ذلك ثبت استحباب الاكثار منه فإنه لا سرف في الخير كما لا خير في السرف فسواء سماه ابن تيمية عكوفا أو غيره لا يضر إلا نفسه أما جعله ذلك أصل الشرك وعبادة الأوثان. فإن أراد به أنه سبب تام في ذلك ففساده ظاهر لما نشاهده من تعظيم المسلمين قبور الأنبياء والصالحين وتبركهم بها أجيالا عديدة ومع ذلك لم يتخذوا صورهم وتماثيلهم أصناما. وإن كان يقول إن هذا التعظيم والتبرك عبادة للقبور كما تقول الوهابية فقد رجع عن قوله إنه أصل الشرك وعبادة الأوثان وسببه (وإن أراد) أنه قد يؤدي إلى عبادة الأوثان والشرك كما أدى في قوم نوح الذين اتخذوا صور الصالحين أوثانا بعد ما عظموا قبورهم وتبركوا بها فهذا لا يوجب تحريمه كما أنه إذا أدى ظهور المعجزة أو الكرامة على يد نبي أو صالح إلى اتخاذه إلها لا يكون إظهارهما محرما بعد وجود الأدلة من العقل والنقل على عدم إلهيته القاطعة للعذر (وإن أراد) بكونه أصل الشرك إنه نفسه شرك وعبادة للأوثان كما تقوله الوهابية فقد علم فساده بما أقمناه من البراهين على أنه ليس كذلك وبوجود الفرق الواضح بينه وبين عبادة الأصنام. أما قوله: ولهذا قال " ص " اللهم
239 لا تجعل قبري وثنا يعبد فتخرص على الغيب فمن الذي أخبره إن علة قوله " ص " ذلك: الخوف من أن يصل تعظيم قبره والتبرك به وتقبيله إلى اتخاذه وثنا يعبد بل هو دعاء بأن يعصم أمته من اتخاذ قبره وثنا يعبد بما كانت تعبد به الجاهلية أوثانها لا بمجرد تعظيم المسلمين له وتبركهم به الذي قد بينا مرارا أنه ليس عبادة له. أما تفرقته بين سؤال النبي والصالح في حياته وسؤاله بعد موته أو في مغيبه بأنه في حياته لا يعبده أحد في حضوره فما يضحك الثكلى (أولا) إن السبائية - كما يزعمون - قد عبدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب " ع " في حضوره حتى حرقهم بالنار فزاد ذلك اعتقادهم بإلهيته لما سمعوه منه لا يعذب بالنار إلا رب النار المحمول على الكراهة في غير المقام الذي يناسبه شدة العقاب أو غيره من المحامل (ثانيا) احتمال أن يترتب على فعل المباح أو الراجح أمر محرم، لا يوجب تحريمه وإلا لحرم جميع ما في الكون من فعل. قوله: ولم يكن أحد من سلف الأمة في عصر الصحابة ولا التابعين ولا تابعي التابعين يتخيرون الصلاة والدعاء عند قبور الأنبياء، ما أهون الدعاوي المنفية وتتابع أدوات النفي على ابن تيمية إذا حاول ما طبع عليه من انتقاص قدر الأنبياء والصلحاء كأنما الله تعالى أوجده في جميع العصور واطلع على كل كائنات الدهور وإنا نسأله هل كان مالك ابن أنس إمام دار الهجرة والذي قيل فيه لا يفتي ومالك في المدينة وحجة الله على خلقه بشهادة الإمام الشافعي (1) من سلف هذه الأمة ومن التابعين أو تابعي التابعين حين قال لأبي جعفر المنصور وقد سأله قائلا يا أبا عبد الله استقبل القبلة وادعو أم أستقبل رسول الله (ص) فقال لم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم " ع " إلى يوم القيامة بل استقبله واستشفع به " الحديث " وهل أنكر أحد ذلك على مالك من علماء المدينة وهي ملأى بالتابعين وتابعي التابعين أو من علماء سائر الأقطار وهل تحتاج فضيلة المكان المدفون فيه جسد النبي صلى الله عليه وآله سلم وهو سيد الكائنات وأشرف ولد آدم إلى رواية خاصة ونص مخصوص وإذا ثبتت فضيلته ثبتت فضيلة الصلاة فيه أفيلزم مع ذلك أن ينزل ملك على ابن تيمية يخبره بفضيلة الصلاة في المكان الفاضل. ولكن تكفير المسلمين واستحلال أموالهم ودمائهم تكفي فيه الظنون والأوهام وسرد الدعاوى المنفية بلا دليل وسيأتي في فصل التوسل إن جميع أصحاب المناسك من علماء الإسلام ذكروا استحباب
(1) كما في خلاصة تهذيب الكمال ص 313 طبع مصر. 240 المجئ إلى قبر رسول الله (ص) والدعاء: اللهم إنك قلت في كتابك ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك الخ. وتقدم مجئ رجل إلى قبره (ص) وسؤاله أن يستسقي لأمته فسقوا، قوله: ولا يستغيثون بهم لا في مغيبهم ولا عند قبورهم، هذه الدعوى يكذبها مضافا إلى ما تسالم عليه المسلمون خلفا عن سلف من الاستغاثة بالأنبياء والصالحين وطلب الشفاعة منهم كما يظهر مما ذكرناه في تضاعيف هذا الكتاب ما ذكره عالم المدينة السمهودي الشافعي في كتابه وفاء الوفا حيث قال في كلامه الآتي في الفصل الثالث إن الاستغاثة بالنبي (ص) من فعل الأنبياء والمرسلين وسير السلف الصالحين وما ذكره في خاتمة الباب الثامن (2) من استغاثة جماعة من السلف به " ص " بعد وفاته حيث قال: خاتمة في نبذ مما وقع لمن استغاث بالنبي " ص " أو طلب منه شيئا عند قبره فأعطي مطلوبه ونال مرغوبه مما ذكره الإمام محمد بن موسى بن النعمان في كتابه مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام فمن ذلك ما قال: اتفق لجماعة من علماء سلف هذه الأمة من أئمة المحدثين والصوفية والعلماء بالله المحققين. قال محمد بن المنكدر أودع رجل أبي ثمانين دينارا وخرج للجهاد وقال له إن احتجت انفقها وأصاب الناس جهد من الغلاء فأنفقها فقدم الرجل وطلبها فقال له عد إلي غدا وبات في المسجد يلوذ بقبر النبي " ص " مرة وبمنبره مرة حتى كاد أن يصبح، يستغيث بقبر النبي " ص " - إلى آخر القصة وقال: الإمام أبو بكر ابن المقري كنت أنا والطبراني وأبو الشيخ في حرم رسول الله " ص " وأثر فينا الجوع فلما كان وقت العشاء حضرت قبر النبي " ص " وقلت يا رسول الله الجوع، إلى أن قال: فدق الباب علوي معه غلامان مع كل واحد زنبيل فيه شئ كثير وقال أشكوتم إلى رسول الله " ص " فإني رأيته في المنام فأمرني أن أحمل بشئ إليكم ثم ذكر السمهودي بعد نحو من نصف ورقة أن هذه الواقعة رواها ابن الجوزي في كتابه الوفاء بإسناده إلى أبي بكر المقري قال وقال ابن الجلاد دخلت المدينة وبي فاقة فتقدمت إلى القبر وقلت ضيفك فغفوت فرأيت النبي (ص) فأعطاني رغيفا فأكلت نصفه - إلى آخر القصة.
(1) ص 425 ج 2. 241 وقال أبو الخير الأقطع وذكر نحوه، وقال أبو عبد الله محمد بن أبي زرعة الصوفي، سافرت مع أبي ومع أبي عبد الله بن خفيف إلى مكة فأصابتنا فاقة شديدة فدخلنا المدينة فأتى أبي الحظيرة وقال يا رسول الله أنا ضيفك الليلة، إلى أن قال: فقال رأيت رسول الله (ص) فوضع في يدي دراهم - إلى آخر القصة. وقال أحمد بن محمد الصوفي، تهت في البادية ثلاثة أشهر فانسلخ جلدي فدخلت المدينة وجئت إلى النبي (ص) فسلمت ثم نمت فرأيته (ص) في النوم فقال لي جئت قلت نعم وأنا جائع وأنا في ضيافتك قال افتح كفيك فملأهما دراهم فانتبهت الخ.. ثم نقل السمهودي ما يزيد على عشر وقائع من هذا القبيل ومنها واقعتان نقلهما عن نفسه يطول الكلام بذكرها فليطلبها من أرادها. ويستفاد من ذلك أيضا أن الاستغاثة بالنبي (ص) عليها سيرة المسلمين خلفا عن سلف بدون تناكر بينهم فيكشف عن أن ذلك مأخوذ من صاحب الشرع كما عرفت في المقدمات مع أنه لا يحتاج جواز الاستغاثة إلى ورود الدليل بل المانع عليه إقامة الدليل، قوله: ومن أعظم الشرك الخ. قد عرفت أنه لا شرك فيه بوجوب حمله على الوجه الصحيح فضلا عن كونه من أعظم الشرك، قوله: وهذا حال النصارى في المسيح وأمه وأحبارهم ورهبانهم. بل هذا حال الوهابية في أتباعهم رؤساءهم على غير بصيرة ولا هدى فأشبهوا الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله الذين ورد فيهم أنهم ما صاموا لهم ولا صلوا وإنما حرموا عليهم حلالا وأحلوا لهم حراما فاتبعوهم ومما مر تعلم فساد قوله إن خير الخلق إلى قوله ولا بعد مماته. قوله: وقول كثير من الضلال هذا أقرب إلى الله مني وأنا بعيد لا يمكنني أن أدعوه إلا بهذه الواسطة من أقوال المشركين الخ. أما قول هذا أقرب إلى الله مني فصحيح ليس فيه شئ من الضلال فإن درجات الناس متفاوتة في القرب منه تعالى بالطاعة الذي هو بمعنى القرب المعنوي تشبيها بقرب المكان وأما قول لا يمكنني أن أدعوه إلا بهذه الواسطة فلا يقوله ولا يعتقده أحد من المسلمين فضلا عن أن ينسب إلى كثير من الضلال ولم نسمع إلى الآن من أحد ولا عنه أنه يقول ذلك بل يدعون الله مرة بلا واسطة ومرة بواسطة نعم قد يقولون إن هذا أقرب إلى الله مني فدعاؤه أرجى للإجابة من دعائي وهذا لا بأس به ولا مانع منه فقد ثبت أن
242 دعاء الغير أرجى للإجابة ولو لم يكن أقرب وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى (ع) " ادعني على لسان لم تعصني به " كما كانت الصلاة على النبي " ص " التي أمرنا الله تعالى بها في الدعاء من أسباب إجابته كما صرح به ابن تيمية في كلامه السابق والله تعالى قادر على إجابة الدعاء بدون الصلاة على النبي " ص " فكيف أمر بها لتكون سببا في إجابة الدعاء ولم يكن ذلك منافيا لقربه من الداعي وكان التشفع إليه بذوي المكانة الذين جعل الله لهم الشفاعة منافيا لذلك. وخلاصة القول إن الله تعالى أمر عباده بدعائه ووعدهم الإجابة قصدا لتذللهم وتعبدهم له من دون حاجة منه إلى دعائهم مع قدرته على أن يعطيهم بدون دعاء مع رأفته بهم لكنه أراد أن يتعبدوا له بأنواع التعبد والتذلل ويتوسلوا إليه وجعل لهم من لطفه بهم ورحمته أسبابا لنيل فضله ونعمه مثل الصلاة على النبي " ص " في دعائهم والتشفع إليه بذوي المكانة عنده ومن ذلك إعطاؤه الشفاعة لذوي الشفاعة مع عدم حاجة منه إلى شئ من ذلك ولو فرض أن أحدا قال لا يمكنني أن أدعوه إلا بهذه الواسطة لكان مخطئا وغالطا ولم يكن مشركا وكافرا كما يزعمه ابن تيمية وأتباعه الوهابية، أما استدلاله بآية وإذا سألك عبادي عني " الآية " على إمكان دعاء الله بلا واسطة فمن فضول الكلام فإنه لا ينكر أحد إمكان ذلك وأنه تعالى قريب ممن دعاه ولكن لا ينافي ذلك كون بعضهم أقرب من بعض ولا كون دعاء الغير أرجى للإجابة، أما استشهاده بآية إياك نعبد وآية إنما نعبدهم ليقربونا فلا محل له فلا أحد يعبد غير الله ولا يستعين بغيره وإنما هو سؤال الدعاء والشفاعة الذي لا يخرج عن عبادته تعالى والاستغاثة به لأنه عن أمره، قوله: إن كنت تظن أنه أعلم بحالك وأقدر على عطاء سؤالك أو أرحم بك فهذا جهل وضلالة وكفر ليس في المسلمين من يعتقد هذا فذكره فضول وتطويل بدون طائل، قوله: وإن كنت تعلم أن الله أعلم وأقدر وأرحم فلم عدلت عن سؤاله إلى سؤال غيره. لم يعدل أحد عن سؤاله تعالى إلى سؤال غيره وإنما هو طلب الدعاء والشفاعة الذي لا يخرج عن سؤاله تعالى لأنه عن أمره كما مر، ونقول له: النبي " ص " يعلم أن الله تعالى أعلم بحاله وأقدر على عطاء سؤاله وأرحم به من عمر فلم عدل عن سؤاله إلى سؤال عمر وقال له حين ودعه إلى العمرة لا تنسنا من دعائك يا أخي حسبما رويت وإذا كان " ص " يعلم ذلك فلماذا طلب منا أن نصلي عليه ونسأل الله تعالى له الوسيلة ولماذا لم يطلبها هو من الله ولماذا أمر عمر أن يسأل أويسا القرني أن يستغفر له ولماذا قال أبو بكر لعمر استغفر لي ولماذا لم يطلب أبو بكر
243 المغفرة منه تعالى بغير واسطة عمر والله تعالى أعلم بحاله وأقدر على عطاء سؤاله وأرحم به من عمر ولماذا سأل الناس النبي " ص " أن يستسقي لهم لما أجدبوا ولم يستسقوا بأنفسهم والله تعالى أعلم بحالهم وأقدر على عطاء سؤالهم وأرحم بهم من النبي " ص " وقد روى ذلك كله ابن تيمية فيما مر قريبا واعترف به وهو هنا يقول فلم عدلت عن سؤاله إلى سؤال غيره وإن كان يزعم أن المسلمين يسألون غيره تعالى لأنه القادر المختار الفاعل لما يشاء فهذا افتراء على المسلمين لما عرفت من أن ذلك لا يخرج عن طلب الدعاء وسؤال الشفاعة. ويكاد الإنسان يقضي عجبا من تمحلات هؤلاء وتهافت كلامهم، قوله: وإن كنت تعلم أنه أقرب إلى الله منك فإنما معناه أنه يثيبه أكثر مما يثيبك لا أنك إذا دعوته يقضي الله حاجتك أعظم مما يقضيها إذا دعوت أنت الله. نعم إن دعاء الغير للعبد أرجى في الإجابة من دعائه نفسه كما مر فلهذا ينبغي له الجمع بينهما ومنه يعلم أنها كلمة حق لم يرد بها إلا الحق، قوله: فإنك إذا كنت مستحقا للعقاب ورد الدعاء فالنبي والصالح لا يعين على ما يكرهه الله وإلا فالله أولى بالرحمة والقبول، مما يضحك الثكلى فإنك قد عرفت أن المطلوب من النبي أو الصالح الدعاء والشفاعة التي لا تخرج عن الدعاء وهو قد سلم إن طلب الدعاء من الغير مشروع فيقال له إذا كنت مستحقا للعقاب ورد الدعاء فالذي تسأله الدعاء لك لا يعين على ما يكرهه الله وإلا فالله أولى بالقبول والرحمة فلماذا تسأل الغير أن يدعو لك أولم يعلم ابن تيمية إن مستحق العقاب قد يرحمه الله تعالى بالدعاء من الغير الذي هو أرجى في الإجابة ومستحق رد الدعاء قد يجيب الله دعاء غيره فيه ويقال له أيضا إذا كان العبد مستحقا للعقاب ورد الدعاء فلماذا أمر الله تعالى بالدعاء على وجه العموم والله تعالى لا يأمر بما يكرهه ولا يعين عليه ولم لم يرحم بدون دعاء وشفاعة ولم أمر في الدعاء بالصلاة على النبي (ص) وجعلها سببا لقبوله ولم جعل الشفاعة وأذن فيها وكون الله أولى بالرحمة والقبول لا ينافي التوسل إليه بدعاء الغير بل هذا من أتم أسباب رحمته ورأفته، قوله: وإن قلت هذا إذا دعا الله أجاب دعاءه أعظم مما يجيبه إذا دعوته. قد عرفت أن هذا هو الحاصل من المسلمين الذي أمر به الشرع ودل عليه النقل لا غيره. ومما ذكر تعلم فساد تفصيله في رسالة زيارة القبور بين طلب ما لا يقدر عليه إلا
244 الله وما يقدر عليه غيره فإذا كان المطلوب هو الدعاء والشفاعة لم يكن المطلوب غير مقدور وكلما طلب فيه غير المقدور يجب حمله على طلب الدعاء والشفاعة حملا لفعل المسلم على الصحة فالتفصيل المذكور ساقط من أصله. وأما قوله: إن مسألة المخلوق قد تكون جائزة وقد تكون منهيا عنها فإن أراد بالنهي نهي الكراهة والتنزيه لا نهي المنع والتحريم فله وجه بمعنى أنه لا ينبغي مسألة الناس والاستعانة بهم مع إمكان الاستغناء عنهم. وسمع بعض أئمة أهل البيت عليهم السلام من يقول اللهم لا تحوجني إلى خلقك فنهاه وقال ما معناه أنه لا بد من احتياج الخلق بعضهم لبعض ولكن قل اللهم لا تحوجني إلى لئام خلقك. وإن أراد غير ذلك فهو مردود عليه ولكن ذلك كله خارج عما نحن فيه فإن كلامنا في الاستغاثة بالمخلوق ليكون شافعا إلى الله ووسيلة إليه ولا شك أن ذلك راجح لا كراهة فيه إذا كان المستغاث أهلا لذلك فإن ذلك لا يخرج عن عبادة الله ودعائه والاستغاثة به بل هو المستغاث حقيقة والله تعالى يحب دعاءه والتوسل إليه بكرام خلقه لأن ذلك من أنواع العبادة له والتذلل له وإلا فالله تعالى قادر على أن يعطينا بدون دعائنا وتوسلنا وتضرعنا ويعفو عنا بغير شفاعة شفيع فلماذا أمرنا بالدعاء وقبل شفاعة الشفعاء وأذن لهم فيها. وأما ما ذكره ابن عبد الوهاب في تعليمه الاحتجاج من قوله أنت تقر أن الله فرض عليك إخلاص العبادة إلى قوله فإنه لا يعرف العبادة ولا أنواعها فجوابه أن علماء المسلمين أعرف بربهم وبعبادته وأنواعها منه ونسبته لهم إلى الجهل بالعبادة وأنواعها جهل وسوء أدب وتخرص على الغيب وإذا كان لا يعرف العبادة ولا أنواعها فكيف جزم بأنه لا بد أن يقول إن الدعاء عبادة وإنه مخ العبادة، قوله: إذا دعوت الله ودعوت في تلك الحاجة نبيا أو غيره هل أشركت في عبادة الله الخ. قد علم بما بيناه أنه ليس كل دعاء عبادة وأن من يدعو غير الله في حاجة من نبي أو صالح حي أو ميت ليدعو الله له في قضاء حاجته ويشفع له عنده ليس بعابد لذلك النبي أو الصالح وليس مشركا في عبادة ربه أحدا ولا خارجا عن دعاء الله وعبادته فلا نطيل بإعادته، قوله: وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء قد عرفت أيضا إن عبادتهم لهم كانت بالسجود والذبح والإهلال بأسمائهم على الذبائح والالتجاء إلى الأحجار والأشجار للجاه والشفاعة التي نهى الله عن الالتجاء إليها على لسان أنبيائه ولم يجعل فيها صفة تصحح الالتجاء إليها ولا جاه لها عنده
245 سواء قصد طلب شفاعتها أو التجئ إليها لأنها فاعلة بنفسها ولأنها جمادات لا قدرة لها على شئ أصلا ولا تسمع ولا تعقل، أو بعبادة ملك أو جني واعتقاد أن له تأثيرا مع الله وقدرة بنفسه لم يجعلها الله له. قوله: إذا كنت تقر إن الله حرم الشرك الخ. فما هو فإنه لا يدري. قوله: لا يدري حكم على غائب وتخرص على الغيب وما الذي حرمه أعلمه أنه لا يدري وهل الله أشركه في علم الغيب بل الشرك الذي حرمه الله تعالى معلوم معروف عند جميع المسلمين لا يجهله عوامهم فضلا عن علمائهم فنسبتهم إلى أنهم لا يعرفون معنى الشرك افتراء باطل وإساءة أدب مع علماء الأمة الذين قال رسول الله (ص) فيهم علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل أو أفضل من أنبياء بني إسرائيل ومع الأمة عموما التي قال الله تعالى عنها إنها خير أمة أخرجت للناس فجعلهم يجهلون معنى الشرك ويعرفه أعراب نجد فقط، وقد عرفت أن الشرك والكفر يتحقق بأحد الأمور المتقدمة في الأمر الرابع عشر من المقدمة الثانية وما في حكمها وتحقق الشرك بذلك أوضح من أن يبين أو يجهله مسلم. ويمكن أن نقلب هذا الاستدلال على ابن عبد الوهاب وأتباعه، فنقول: لأحدهم أنت تقر إن الله فرض عليك إخلاص العبادة وحرم عليك الشرك فبين لنا هذا الذي فرض عليك وحرم عليك فإنه لا يعرف العبادة ولا أنواعها فإن قال إخلاص العبادة هو أن لا يدعو غير الله ولا يستغيث إلا بالله ولا ينحر ولا يذبح إلا لله والشرك دعاء غير الله والتشفع والاستغاثة به فقل له هل مطلق دعاء غير الله وندائه عبادة فإن قال نعم فقل له إذا لا يسلم أحد من الشرك وإن قال بل هو دعاء مخصوص فقل بينه لي فإن قال هو دعاء غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فقل فلماذا كفرتم المسلمين في طلب الشفاعة من النبي (ص) وهو قادر عليها وهو الشفيع المشفع فإنه لا يهتدي إلى جوابه. وقل له هل كل تعظيم عبادة موجبة للشرك فإن قال نعم فقل إذا تعظيم الأبوين وتعظيم النبي (ص) في حياته شرك وكفر وإن قال هو تعظيم مخصوص فقل له بينه لي فإنه لا يعرفه فقل له إنه تعظيم غير الله بما نهى عنه الله وكان مساويا لتعظيم الله وهذا لا يفعله مسلم. وقل له هل كل ذبح ونذر لغير الله أو هو ذبح ونذر مخصوص فلا بد أن يقول إنه نذر وذبح مخصوص فقل له فما هو فأن قال هو نذركم وذبحكم للأولياء فقل إذا نذرنا أن نذبح شاة
246 ونتصدق بها على الفقراء فهل هذا النذر والذبح لله أو لغير الله فلا بد أن يقول إنه لله فقل له وكذلك النذر والذبح الذي تزعمون أنه للولي هو نذر وذبح لله ليتصدق به على الفقراء ويهدي ثوابه للنبي أو الولي. قوله: أتظن أنهم يعتقدون إن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق الخ فيه إنهم وإن لم يعتقدوا أنها تخلق وترزق إلا أنهم عبدوها وعظموها بما نهاهم الله عنه واعتقدوا أن لها شرفا ذاتيا واختيارا وتدبيرا كما أوضحناه مرارا فلا نطيل بإعادته وليس هذا هو فعل المسلمين عند الأحجار والبنايا التي على القبور وغيرها كما زعم وتوهم على ما سبق مفصلا فأين الاستغاثة بذوي المكانة عند الله ودعاؤهم من عبادة الأصنام وأين فعل المسلمين من فعل عباد الأصنام، فالمسلمون بتعظيمهم من أمر الله بتعظيمه وتبركهم بمن أثبت الله له البركة واستغاثتهم وتشفعهم بمن جعله مغيثا وشافعا وطلبهم دعاءه واستغفاره لهم لم يعبدوا غير الله تعالى ولم يعظموا غير الله ولم يستغيثوا إلا بالله ولم يدعوا غير الله لأن كل ما كان عن أمر الله تعالى فهو إطاعة له ولو تعلق بالمخلوقين واشتمل على تعظيمهم كما كان سجود الملائكة لآدم ويعقوب وأولاده ليوسف وتعظيم الكعبة والطواف بها والحجر الأسود وتقبيله واستلام الأركان وتعظيم حجر إسماعيل ومقام إبراهيم والصلاة عنده وتعظيم الحرم والمساجد وهي جمادات كلها عبادة لله تعالى وتعظيما له. قوله: هل تريد إن الشرك مخصوص بهذا أي عبادة الأصنام وإن الاعتماد على الصالحين ودعاءهم لا يدخل في هذا فهذا يرده ما في القرآن من كفر من تعلق على الملائكة وعيسى والصالحين. وقد عرفت أن الكفر من تعلق على الملائكة لم يكن لمجرد التشفع بهم وطلب دعائهم وأن كفر من تعلق على عيسى لأنه جعله إلها مستحقا لجميع صفات الألوهية لا مجرد الاستغاثة به بطلب دعائه وشفاعته فراجع فتعبيره بالتعلق المجمل وعدم بيانه المراد منه جهل أو تضليل فأين هذا ممن استغاث بنبي أو ولي فطلب دعاءه وشفاعته. وأما من تعلق على الصالحين: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر التي ورد أنها أسماء قوم صالحين فقد أقام لهم تماثيل من أحجار يعبدها ويسجد لها ويذبح الذبائح ويهل بها لها ويذكر أسماءها عليها ويطليها بدمائها ويتقرب بها إلى تلك الأحجار ويستغيث بها ويعتقد أن لها تأثيرا وقدرة إلى غير ذلك ولم يكن منه مجرد الاستغاثة والتشفع إلى الله بأصحابها
247 الذين هم قوم صالحون ولهم مكانة عند الله بل تشفع واستغاث بأحجار على صورهم الموهومة لم يجعل الله لها حرمة ولا شفاعة ولم يقتصر على ذلك بل زاد عليه أنواعا من العبادة كما مر مرارا وأين هذا من الاستغاثة والتوسل بالنبي أو الولي. قوله: في جواب استغاثة الناس بالأنبياء يوم القيامة الدالة على أنها ليست شركا: سبحان من طبع على قلوب أعدائه فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها الخ. ونقول: سبحان من طبع على قلبه فجعله لا يلتفت إلى التناقض والتهافت في كلامه فإنه كما عرفت في الفصل الثاني يمنع من طلب الشفاعة من النبي " ص " ويجعله شركا ويوجب طلبها من الله تعالى بقوله اللهم شفعه في أو ارزقني شفاعته مع تسليمه بأنه " ص " قادر عليها وأن له الشفاعة وأنه الشفيع المشفع وهنا يقول لا ننكر الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه فأي جهل وتناقض وتهافت أعظم من هذا وهو مع ذلك يقول سبحان من طبع على قلوب أعدائه مع أنك عرفت مرارا أن الاستغاثة الحاصلة بالمخلوق ليست إلا فيما يقدر عليه وهو الدعاء والشفاعة وإن عبر بقوله ارزقني واشف مريضي وغير ذلك كما مر آنفا (لا يقال) إنما منع من طلب الشفاعة من النبي " ص " تمسكا بقوله تعالى إن الشفاعة لله جميعا. فلا تدعوا مع الله أحدا فيكون عدم جواز طلبها منه وإن كان قادرا عليها لنص شرعي تعبدي وهو الآيتان الشريفتان (لأنا نقول) معنى الآية الأولى كما عرفت في الفصل الأول ليس عدم جواز طلب الشفاعة منه " ص " بل إنه تعالى مالك أمرها فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه وإلا لمن ارتضى ولا يلجئه أحد إلى قبول شفاعته كما يقع من المخلوقين والمنهي عنه في الآية الثانية دعاء مخصوص لا مطلق الدعاء كما عرفته في هذا الفصل. وأول كلامه بالنسبة إلى الاستغاثة وغيرها مطلق شامل للمقدور وغيره مع أنه في مقام البيان ولكن لما اعترض عليه بالاستغاثة بالأنبياء يوم القيامة التي لم يجد لها جوابا قيد حينئذ الاستغاثة الممنوعة بغير المقدور وإلا فما باله لم يقيدها من أول الأمر ويسلم من الاعتراض مع كونه في مقام البيان. ومنه يظهر بطلان جواب الصنعاني السابق الراجع إلى التفصيل بين الاستغاثة بالحي فيما يقدر عليه وغيرها لما عرفت من أن الاستغاثة الحاصلة لا تخرج عن المقدور. قوله: وأما بعد مماته فحاش وكلا إنهم سألوا ذلك فيه أنه يناقض قوله الأول: ونحن أنكرنا استغاثة العباد عند قبور الأنبياء والأولياء أو في غيبتهم في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله فإنه يدل على أن الموجب للإنكار كونها لا يقدر عليها إلا الله وحينئذ
248 فلا فرق بين طلبها من الحي أو الميت فلو طلب من الحي ما لا يقدر عليه إلا الله لكان شركا عنده وقوله وأما بعد مماته فحاش وكلا الخ يدل على عدم جواز طلب شئ من الميت مطلقا ولو كان مما يقدر عليه غير الله كالدعاء والشفاعة وهو تناقض ظاهر فتارة جعل المناط عدم قدرة غير الله وتارة الحياة والموت والغيبة والحضور. كما أن تقييد الصنعاني بالأحياء مشعر بعدم جواز الاستغاثة بالأموات حتى في المقدور. وكيف كان فقد عرفت أن التفصيل بين ما يقدر عليه غير الله وما لا يقدر عليه إلا الله لا يرجع إلى محصل بعد ما كان المراد سؤال الدعاء وطلب الشفاعة المقدورين فكما أن استغاثة الناس بالأنبياء يوم القيامة يريدون منهم أن يدعوا الله أن يحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف واستغاثة المسلمين بهم في الدنيا يريدون منهم أن يدعوا لله ويشفعوا عنده حتى يقضي حوائجهم وهذا أمر مقدور لهم بعد مماتهم ومن ذلك يعلم فساد تفرقته بين استغاثة إبراهيم بجبرائيل عليهما السلام لو فعلها واستغاثتنا بالنبي " ص " بأن الأولى استغاثة في أمر مقدور بخلاف الثانية لأن الثانية هي أيضا في أمر مقدور وهي طلب الدعاء والشفاعة وليس فيها عبادة وشرك لو كان يفقه. كما أن التفصيل بين الاستغاثة بالأحياء والاستغاثة بالأموات ولو في المقدور لغير الله تحكم محض لم يأت الصنعاني عليه بدليل ولم يزد ابن عبد الوهاب في دليله على قوله فحاش وكلا إنهم سألوا ذلك بل أنكر السلف على من قصد دعاء الله عند قبره فضلا عن دعائه نفسه وهي دعوى مجردة عن الدليل لم يأت عليها بشاهد ولا أثر مروي بل عرفت أنها دعوى كاذبة وإن الأمر بالعكس فإنهم أنكروا على من لم يدع الله عند قبره ولم يستقبله في دعائه ويتوسل به كما وقع لمالك إمام دار الهجرة مع المنصور العباسي وإن سيرة السلف والخلف دعاء الله تعالى عند قبره الشريف والتبرك به فمن هم السلف الذين يزعم ابن تيمية وابن عبد الوهاب أنهم أنكروا على من دعا الله تعالى عند قبر النبي " ص " وهل مالك إمام المذهب وإمام دار الهجرة الذي قيل فيه لا يفتي ومالك في المدينة والذي قال فيه الإمام الشافعي حجة الله على خلقه لا يعد منهم فظهر بذلك أن ما قاله افتراء على السلف وأنه لا فرق بين طلب الدعاء منه " ص " في حياته وبعد وفاته وأن التفرقة بينهما محض جمود أو عناد وأن ما هو شرك لا يمكن أن يكون توحيدا وبالعكس.
249 ومما يدل على جواز الاستغاثة بغير الله من النقل ما في خلاصة الكلام أنه رواه ابن السني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله " ص " إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد يا عباد الله احبسوا فإن لله عبادا يجيبونه. وفي حديث آخر رواه الطبراني أنه " ص " قال إذا أضل أحدكم شيئا أو أراد عونا وهو بأرض ليس فيها أنيس فليقل يا عباد الله أعينوني وفي رواية أغيثوني فإن لله عبادا لا ترونهم وقال إن الفقهاء ذكروا ذلك في آداب السفر " انتهى " وهو موجود في كتب أصحابنا أيضا وأورده بعض الوهابية في الرسالة الأولى من رسائل الهدية السنية ببعض التغيير (1). قال: ومما استدل به علينا في جواز دعوة غير الله قوله " ص " وأورد الحديث الأول لكنه قال احبسوها بدل احبسوا. قال: وفي رواية إذا أعيت فليناد يا عباد الله أعينوا. ثم أجاب بأجوبة طويلة جلها لا يرجع إلى محصل ولا يليق أن يسطر ولا يرتبط بالمقصود فلذلك أعرضنا عن نقله. ومما ذكره: القدح في السند برواية الطبراني له في الكبير بسند منقطع عن عقبة وإن النووي عزاه لابن السني وفي إسناده معروف بن حسان قال ابن عدي منكر الحديث مع أن أخذ الفقهاء له بالقبول وذكرهم مضمونه في آداب السفر وإيراد أئمة الحديث له في كتبهم كالطبراني والنووي مغن عن تصحيح سنده لو سلم ما قاله وكيف خفي على الفقهاء والمحدثين أن مضمونه شرك أو حرام وظهر ذلك لأعراب نجد. وأجاب صاحب المنار في الحاشية بأن المتبادر إن النداء لمن عساه يوجد من الناس في الفلاة ولم يره وهو معتاد " انتهى " ولما كان الحديث المذكور في رسالة الوهابية إشارة إلى ما رواه الطبراني والنووي كما نص عليه صاحب الرسالة عند قدحه في السند كان تأويل صاحب المنار هذا مصادما لصريح الحديث فإن قوله: فإن لله عبادا لا ترونهم صريح أو كالصريح في أنهم ليسوا ممن يرى لدلالة المضارع على الاستمرار ودلالة التأكيد بأن على تحقق وجودهم وكذا قوله فإن لله عبادا يجيبونه دال على أن وجودهم وإجابتهم محقق أو غالب لا محتمل احتمالا بعيدا أو مقطوع بعدمه كما هو حال الفلاة والأرض التي ليس فيها أنيس ولو أراد ذلك لقال فليناد لعله يوجد أحد يجيبه أو نحو ذلك. وفي خلاصة الكلام: صح عن بلال بن الحارث رضي الله عنه أنه ذبح شاة عام القحط المسمى عام الرمادة فوجدها هزيلة فصار يقول وا محمداه وا محمداه " انتهى " وظاهر الحال
(1) ص 30 250 أنه استغاثة به " ص " لا ندبة. قال: وصح أيضا أن أصحاب النبي " ص " لما قاتلوا مسيلمة الكذاب كان شعارهم وا محمداه وا محمداه " انتهى " وهو أظهر من السابق في الاستغاثة لأنه وقع في حياته " ص ". قال: وفي الشفا للقاضي عياض إن عبد الله بن عمر خذلت رجله مرة فقيل له اذكر أحب الناس إليك فقال وا محمداه فانطلقت رجله " انتهى " وهو من نوع الاستغاثة. أما ما يروى من أن أبا بكر قال قوموا نستغث برسول الله من هذا المنافق فقال " ص " أنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله فهو على تقدير صحة سنده محمول على أن المستغاث به الحقيقي هو الله تعالى لأنه القادر المختار الفاعل لما يشاء فقال بذلك تواضعا لله تعالى فهو نظير (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) وقوله " ص " ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم. فلا يعارض ما دل على جواز الاستغاثة ووقوعها كما مر مع أنه خارج عن محل النزاع فإن الذي يعارض فيه الوهابيون كما صرحوا به الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله واستغاثتهم برسول الله " ص " من ذلك المنافق كانت في أمر مقدور قطعا وهو دفع مفسدة نفاقه بضربه أو قتله أو غير ذلك. * الفصل الثالث * * في التوسل إلى الله تعالى بالأنبياء والصلحاء * وهذا يكون على وجوه (أحدها) أن يقول أتوسل به إلى الله أو أتوجه به إليه أو أتشفع أو أقدمه بين يدي حاجتي أو نحو ذلك (ثانيها) أن يقول أسألك بفلان أو بحق فلان أو بحقه عليك أو بجاهه عندك أو ببركته أو بحرمته عندك أو نحو ذلك (ثالثها) أن يقول أقسمت عليك أو أقسم عليك بفلان أو نحو ذلك وكلها تؤول إلى شئ واحد وهو جعله وسيلة وواسطة بينك وبين الله تعالى لما له من المنزلة عنده والكرامة لديه. والوجهان الأخيران يدخلان في الإقسام على الله بمخلوق الذي يأتي في الفصل الرابع وذكرناهما هنا لعدم خروجهما عن التوسل وكونهما من أنواعه. والتوسل بأنواعه مما منعه الوهابية وجعلوه شركا لأنه نوع من التشفع الممنوع عندهم والموجب للشرك ولجريان أدلتهم فيه. وقد صرح بذلك محمد بن عبد الوهاب في المحكي عنه في كتاب التوحيد حيث قال بعد ذكر آية (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب) بين فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين ففيها بيان إن هذا الشرك الأكبر (انتهى) وصرح به أيضا الصنعاني في تطهير الاعتقاد حيث قال في جملة كلامه المتقدم في الباب الثاني بأن من توسل
251 بمخلوق فقد أشرك مع الله غيره واعتقد ما لا يحل اعتقاده كما اعتقد المشركون في الأوثان وعد من جملة العبادة الموجبة للشرك والكفر التوسل بالمخلوق. وقد صرح ابن تيمية في كلامه المتقدم في الفصل الأول في الشفاعة بأن من توسل بعظيم عند الله كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه فهذا من أفعال الكفار والمشركين. وقال في مقام آخر من رسالة زيارة القبور (1): وأما قول بجاه فلان عندك أو ببركة فلان أو بحرمة فلان عندك افعل بي كذا فهذا يفعله كثير من الناس لكن لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين وسلف الأمة إنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء ولم يبلغني عن أحد من العلماء في ذلك ما أحكيه إلا ما رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد بن عبد السلام أنه لا يجوز فعل ذلك إلا للنبي (ص) إن صح الحديث في النبي (ص) ثم قال قد روى النسائي والترمذي وغيرهما أنه (ص) علم بعض أصحابه أن يدعو فيقول (اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك نبي الرحمة يا محمد يا رسول الله إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها لي اللهم فشفعه في) فإن هذا الحديث قد استدل به طائفة على جواز التوسل به (ص) في حياته وبعد مماته قالوا وليس في التوسل دعاء المخلوقين ولا استغاثة بالمخلوق وإنما هو دعاء واستغاثة به تعالى لكن فيه سؤال بجاهه كما في سنن ابن ماجة عن النبي (ص) في دعاء الخارج للصلاة (اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا) إلى آخر ما يأتي في الفصل الرابع قالوا فسأله بحق السائلين عليه وبحق ممشاه إلى الصلاة والله تعالى قد جعل على نفسه حقا بقوله (وكان حقا علينا نصر المؤمنين. كان على ربك وعدا مسؤولا) قال: وفي الصحيح عن معاذ بن جبل عن النبي (ص) حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم وجاء في غير حديث كان حقا على الله كذا وكذا كقوله في حديث شارب الخمر فإن عاد في الثالثة أو الرابعة كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال وهي عصارة أهل النار وقالت طائفة ليس في هذا جواز التوسل به في مماته وبعد مغيبه بل في حياته بحضوره كما في صحيح البخاري أن عمر رضي الله عنه استسقى بالعباس فقال اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون وقد بين عمر إنهم كانوا يتوسلون به في حياته
(1) ص 164 252 فيسقون وذلك التوسل به إنهم كانوا يسألونه أن يدعو الله لهم فيدعو لهم ويدعون معه فيتوسلون بشفاعته ودعائه. إلى أن قال: فهذا كان توسلهم به ولما مات توسلوا بالعباس وما كانوا يستسقون به بعد موته ولا في مغيبه ولا عند قبره ولا قبر غيره. إلى أن قال: ولم يذكر أحد من العلماء أنه يشرع التوسل والاستسقاء بالنبي والصالح بعد موته ولا في مغيبه ولا استحبوا ذلك في الاستسقاء ولا الانتصار ولا غير ذلك من الأدعية والدعاء مخ العبادة ومبناها على الاتباع لا الابتداع " انتهى ". ونقول: التوسل ثابت بنص القرآن العظيم قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) وهي بعمومها شاملة لكل توسل إليه تعالى بما يكرم عليه. وقد دلت الأخبار الكثيرة على ثبوت الوسيلة للأنبياء والأوصياء والصالحين وقد مر قول النبي " ص " اسألوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون ذلك العبد ويأتي في فصل الحلف بغير الله قوله " ص " عن الخوارج يقتلهم خير الخلق والخليقة وأقربهم عند الله وسيلة. والمراد بالوسيلة الدرجة والمكانة عنده تعالى ولذلك يتوسل ويتشفع به إليه. والتوسل بذوي المكانة عند الله تعالى أحياء وأمواتا من سنن المرسلين وسيرة الصالحين بأي وجه كان من الوجوه الثلاثة السابقة (1) بل هو ثابت في الشرائع السابقة. فعن القسطلاني في شرح صحيح البخاري عن كعب الأحبار إن بني إسرائيل كانوا إذا قحطوا استسقوا بأهل بيت نبيهم " انتهى " وليس فيه شائبة شئ من العبادة الموجبة للشرك أو المنهي عنها فإن التوسل لو كان عبادة وكل عبادة لغير الله شرك لأن صرف شئ من أنواع العبادة لغير الله كصرف جميعها كما هو محور كلام الوهابية لم يتفاوت الحال بين التوسل بالحي والميت وقد ثبت جواز التوسل بالحي كما اعترف به ابن تيمية في كلامه السابق وصرحت به الأحاديث السابقة التي أوردها وفيها أمره بالتوسل به " ص " إلى الله تعالى وبسؤاله بحق السائلين عليه وبحق ممشى المصلي إلى الصلاة وصرحت بالحق على الله وبالتوسل بالنبي " ص " وبالعباس وجاء ذلك في الأخبار الآتية أيضا وفيها
(1) ولا يخرج عنها ما ذكره ابن تيمية في كلامه الآنف الذكر من أن توسلهم به " ص " في حياته أنهم يسألونه الدعاء لهم فيدعو ويدعون معه فيتوسلون بشفاعته ودعائه فإنه إذا جاز التوسل بعمله من الشفاعة والدعاء جاز التوسل به نفسه " ص " وإن كان تفسيره للتوسل بذلك قصدا لتوهين أمره غير صحيح بل معناه ما ذكرناه في مآل الوجوه الثلاثة السابقة. - المؤلف - 253 قول عمر في العباس هذا والله الوسيلة إلى الله والمكان منه وإذا ثبت أن التوسل بالحي ليس عبادة ولا شركا فالتوسل بالميت كذلك لعدم تعقل الفرق فإن جواز التوسل به إلى الله إن كان لمكانته عند الله فهي لم تذهب بالموت وإن كان التوسل به لأجل أن يدعو الله فهو ممكن في حق الميت ولو فرض عدم إمكانه لم يوجب الشرك بل يكون مثل طلب المشي من المقعد بزعم أنه صحيح كما بيناهما مرارا فالتفرقة بين التوسل بالأحياء والأموات تحكم محض وجمود بحت وقد فهم الصحابة الذين هم أعلم بالسنة من ابن تيمية وأتباعه عدم الفرق وأمر مالك إمام المذهب أبا جعفر المنصور أن يتوسل بالنبي " ص " ويستشفع به بعد موته وقال هو وسيلتك وسيلة أبيك آدم كل هذا والوهابية يراوغون ويتمحلون ويكفرون المسلمين بما لم يجعله الله مكفرا فإذا قيل لهم هذا قد ثبت في الشرع قالوا ثبت في حق الأحياء الحاضرين دون الأموات والغائبين. كأن الله جوز عبادة الأحياء الحاضرين والإشراك بهم ولم يمنع إلا من عبادة الأموات والغائبين. ويمنع ابن تيمية من التوسل بالنبي " ص " بعد موته ويعده بدعة ويقول ثبت في الحياة والحضور دون الغيبة وبعد الموت. ونقول لهم: هل زالت حرمة رسول الله " ص " بعد موته وبطلت مكانته عند الله ولم يعد مقربا لديه إذا فلماذا يعلن باسمه في المآذن في اليوم والليلة خمس مرات وعلى رؤوس المنابر وفي الصلوات كلها مفروضها ومسنونها مقرونا باسمه تعالى في الكل ولماذا يصلى عليه كلما ذكر ولماذا ولماذا؟!. وإذا كان التوسل به بعد موته وفي غيبته أيام حياته شركا فكيف صار في حياته وحضوره عبادة وتوحيدا فما يكون شركا لا يكون توحيدا وبالعكس. فإن قلتم الفارق ورود النص بالأمر به في الحياة وعدم وروده في غيره. قلنا النص لا يوجب التفريق في الشئ الواحد بين فرديه بحسب الزمان فيجعل أحدهما شركا في زمان وتوحيدا في آخر وإذا كان التوسل شركا قبل الأمر لم يجز الأمر به ولا يمكن أن يغيره لأن الحكم لا يغير الموضوع وإذا لم يكن شركا قبل الأمر فهو كذلك في الحياة والحضور والغيبة وبعد الموت وأين قياسكم الذي تتمسكون به في أحكام الدين وكيف ضاق عن هذا الحكم فتورعتم عن الاستدلال به فيه لتستحلوا دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم مع أن العلة في التوسل هنا ظاهرة وهي الجاه والمكانة عند الله فتعم كل ذي جاه ومكانة عنده بإطاعته له تعالى ويخرج عن القياس المستنبط العلة ويلحق بمنصوصها بل العلة في ذلك
254 قطعية وهي المكانة الحاصلة بالقرب والطاعة لما هو المعلوم ضرورة ونصا من أنه ليس بين الله وبين أحد هوادة وإن أكرم العبادة عنده أتقاهم وليس أحد خيرا من أحد إلا بالتقوى فتوقف ابن تيمية في ذلك معتلا بأنه لم ينقل توسلهم به بعد موته ولا في مغيبه وتورعه عنه خوفا من الابتداع جمود في غير محله وكذا ما نقله عن ابن عبد السلام من عدم تجويز ذلك إلا للنبي " ص " معلقا على صحة الخبر فيه وينبغي لهؤلاء أن يقتصروا على التوسل به في حياته وحضوره في المدينة دون مكة وفي يوم كذا وشهر كذا وسنة كذا وساعة كذا وفصل كذا دون الباقي أبمثل هذه الأدلة الواهية الواهنة تستحل دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم ويحكم بكفرهم وشركهم وأن دارهم دار حرب. ومما يكذب ما زعمه ابن تيمية من أنه لم يذكر أحد من العلماء أنه يشرع التوسل بالنبي والصالح بعد موته ولا استحبوا ذلك ما نقل عن أئمة المذاهب الأربعة وعلمائها من التوسل به " ص " في مماته ورجحان ذلك واستحبابه قال السمهودي في وفاء الوفا (1) وغيره في غيره: قال عياض في الشفا بسند جيد عن ابن حميد أحد الرواة عن مالك فيما يظهر قال ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله " ص " فقال مالك يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله تعالى أدب قوما فقال لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي (الآية) ومدح قوما فقال إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله (الآية) وذم قوما فقال إن الذين ينادونك من وراء الحجرات " الآية " وإن حرمته ميتا كحرمته حيا فاستكان لها أبو جعفر فقال يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله " ص " فقال لم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة بل استقبله واستشفع به فيشفعك الله قال الله تعالى ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم (الآية) " انتهى " وفي خلاصة الكلام ذكره أي الحديث القاضي عياض في الشفا وساقه بإسناد صحيح وذكره الإمام السبكي في شفاء السقام في زيارة خير الأنام والسيد السمهودي في خلاصة الوفا والعلامة القسطلاني في المواهب اللدنية والعلامة ابن حجر في تحفة الزوار والجوهر المنظم وذكره كثير من أرباب المناسك في آداب زيارة النبي " ص " قال العلامة ابن حجر في الجوهر المنظم رواية ذلك عن الإمام جاءت بالسند الصحيح الذي لا
(1) ج 2 ص 422 255 مطعن فيه وقال العلامة الزرقاني في شرح المواهب ورواها ابن فهد بإسناد جيد ورواها القاضي عياض في الشفا بإسناد صحيح رجاله ثقات ليس في إسنادها وضاع ولا كذاب قال: ومراده بذلك الرد على من نسب إلى مالك كراهية استقبال القبر (انتهى) قال السمهودي فانظر هذا الكلام من مالك وما اشتمل عليه من أمر الزيارة والتوسل بالنبي " ص " واستقباله عند الدعاء وحسن الأدب التام معه (انتهى) فهذا قول مالك إمام المذهب مخاطبا به المنصور الخليفة العباسي حتى استكان لكلامه مع أنه خليفة الوقت وسلطانه مبينا به أن حرمة رسول الله " ص " ميتا كحرمته حيا مخاطبا له بخطاب التوبيخ بقوله لم تصرف وجهك عنه، ناصا على حسن التوسل به ورجحانه وأنه الوسيلة للخلق ووسيلة أبيهم آدم آمرا له باستقبال قبره والتشفع به ضامنا له عليه الشفاعة ناصا على أن آية ولو أنهم إذ ظلموا (الآية) عامة للحياة والممات. كل هذا وابن تيمية يقول إنه لم يشرع التوسل بالنبي والصالح بعد موته ولا استحبوا ذلك ويتورع ويخاف من الابتداع بزعمه ويقول الدعاء مخ العبادة ومبناها على الاتباع لا الابتداع ولا يتورع عن نسبة لوازم التجسيم إليه تعالى وعن تكفير المسلمين ونسبتهم الشرك، ثم حكى السمهودي عن أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن الحسين السامري الحنبلي في المستوعب في آداب زيارة النبي " ص " أنه يجعل القبر تلقاء وجهه والقبلة خلف ظهره والمنبر عن يساره ويقول في دعائه: اللهم إنك قلت في كتابك لنبيك عليه السلام ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك " الآية " وإني قد أتيت نبيك مستغفرا فأسألك أن توجب لي المغفرة كما أوجبت لمن أتاه في حياته اللهم إني أتوجه إليك بنبيك " ص " وذكر دعاء طويلا، ثم قال: وقال أبو منصور الكرماني من الحنفية إن كان أحد أوصاك بتبليغ التسليم تقول: السلام عليك يا رسول الله من فلان بن فلان يستشفع بك إلى ربك بالرحمة والمغفرة فاشفع، وقال السمهودي في وفاء الوفا (1) ما لفظه: وفي كلام أصحابنا، يعني الشافعية أن الزائر يستقبل الوجه الشريف في السلام والدعاء والتوسل، انتهى محل الحاجة، وفي خلاصة الكلام (2) والدرر السنية، كلاهما لأحمد بن زيني دحلان: قال العلامة ابن حجر في كتابه الخيرات الحسان في مناقب الإمام أبي حنيفة النعمان في الفصل الخامس والعشرين الإمام الشافعي أيام هو ببغداد كان
(1) ج 2 ص 425 (2) ص 252 256 يتوسل بالإمام أبي حنيفة " رض " يجئ إلى ضريحه يزور فيسلم عليه ثم يتوسل إلى الله تعالى به في قضاء حاجاته قال وقد ثبت أن الإمام أحمد توسل بالإمام الشافعي (رض) حتى تعجب ابنه عبد الله ابن الإمام أحمد فقال له أبوه إن الشافعي كالشمس للناس وكالعافية للبدن ولما بلغ الإمام الشافعي أن أهل المغرب يتوسلون إلى الله بالإمام مالك لم ينكر عليهم (انتهى) وفي صواعق المحرقة، لابن حجر أن الإمام الشافعي (رض) توسل بأهل البيت النبوي حيث قال: آل النبي ذريعتي * وهم إليه وسيلتي أرجو بهم أعطى غدا * بيدي اليمين صحيفتي (انتهى) فهذا الإمام مالك إمام المالكية والسامري الحنبلي والكرماني الحنفي وعلماء الشافعية قائلون بحسن التوسل والتشفع به " ص " بعد موته والإمام الشافعي توسل بأهل البيت بعد موتهم وتوسل بالإمام أبي حنيفة بعد موته وأقر أهل المغرب على توسلهم بالإمام مالك بعد موته وأحمد توسل بالشافعي بعد موته فضلا عن النبي " ص " وكل هؤلاء من أئمة المذاهب الأربعة وعلمائها. وابن تيمية يقول إنه لم يذكر أحد من العلماء أنه يشرع التوسل بالنبي والصالح بعد موته. وفي خلاصة الكلام: المرجح عند الحنابلة جواز التوسل بالنبي " ص " بعد موته لصحة الأحاديث الدالة على ذلك فيكون المرجح عندهم موافقا لما عليه أهل المذاهب الثلاثة. قال: وأما ما ذكره الآلوسي في تفسيره من أن بعضهم نقل عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه أنه منع التوسل فهو غير صحيح إذ لم ينقله عنه أحد من أهل مذهبه بل كتبهم طافحة باستحباب التوسل ونقل المخالف غير معتبر. قال: وقد بسط الإمام السبكي نصوص المذاهب الأربعة في استحباب التوسل في كتابه شفاء الأسقام في زيارة خير الأنام فراجعه. قال: وفي المواهب اللدنية للإمام القسطلاني وقف أعرابي على قبره الشريف " ص " وقال: اللهم إنك أمرت بعتق العبيد وهذا حبيبك وأنا عبدك فاعتقني من النار على قبر حبيبك فهتف به هاتف يا هذا تسأل العتق لك وحدك هلا سألت العتق لجميع الخلق يعني من المؤمنين (الخبر). قال: ثم قال في المواهب عن الحسن البصري وقف حاتم الأصم على قبره " ص " فقال: يا رب إنا زرنا قبر نبيك " ص "
257 فلا تردنا خائبين " الخبر ". وقال ابن أبي فديك وهو من أتباع التابعين ومن الأئمة الثقات المشهورين ومن المروي عنهم في الصحيحين وغيرهما: سمعت بعض من أدركت من العلماء والصلحاء يقول بلغنا إن من وقف عند قبر النبي " ص " فقال هذه الآية (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) وقال صلى الله عليك يا محمد حتى يقولها سبعين مرة ناداه ملك صلى الله عليك يا فلان ولم تسقط له حاجة. قال: وهذا الذي نقله في المواهب عن ابن أبي فديك رواه عنه البيهقي. قال: ومما ذكره العلماء في آداب الزيارة أنه يستحب أن يجدد الزائر التوبة في ذلك الموقف الشريف ويستشفع به " ص " إلى ربه عز وجل في قبولها ويكثر الاستغفار والتضرع بعد تلاوة: ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم " الآية " ويقولون (نحن وفدك يا رسول الله وزوارك جئناك لقضاء حقك والتبرك بزيارتك والاستشفاع بك مما أثقل ظهورنا فليس لنا يا رسول الله شفيع غيرك نؤمله ولا رجاء غير بابك نصله فاستغفر لنا واشفع لنا عند ربك واسأله أن يمن علينا بسائر طلباتنا). قال: وفي الجوهر المنظم أيضا إن أعرابيا وقف على القبر الشريف وقال: (اللهم إن هذا حبيبك وأنا عبدك والشيطان عدوك فإن غفرت لي سر حبيبك وفاز عبدك وغضب عدوك وإن لم تغفر لي غضب حبيبك ورضي عدوك وهلك عبدك وأنت يا رب أكرم من أن تغضب حبيبك وترضي عدوك وتهلك عبدك اللهم إن العرب إذا مات فيهم سيد أعتقوا على قبره وإن هذا سيد العالمين فاعتقني على قبره يا أرحم الراحمين) فقال له بعض الحاضرين يا أخا العرب إن الله قد غفر لك بحسن هذا السؤال. قال: وذكر كثير من علماء المذاهب الأربعة في كتب المناسك عند ذكرهم زيارة النبي " ص " أنه يسن للزائر أن يستقبل القبر الشريف ويتوسل إلى الله تعالى في غفران ذنوبه وقضاء حاجاته ويستشفع به " ص " قالوا ومن أحسن ما يقول ما جاء عن العتبي وهو مروي أيضا عن سفيان بن عيينة وكل منهما من مشايخ الشافعي رضي الله عنه قال العتبي كنت جالسا عند قبر رسول الله " ص " فجاء أعرابي فقال السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول. وفي رواية: يا خير الرسل إن الله أنزل عليك كتابا صادقا قال فيه: ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما وقد
258 جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي. وفي رواية: وإني جئتك مستغفرا ربك عز وجل من ذنوبي ثم بكى وأنشأ يقول: يا خير من دفنت بالقاع أعظمه * فطاب من طيبهن القاع والاكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه * فيه العفاف وفيه الجود والكرم ثم استغفر وانصرف فغلبتني عيناي فرأيت النبي " ص " في المنام فقال يا عتبي إلحق الأعرابي فبشره إن الله غفر له فخرجت خلفه فلم أجده " انتهى " وذكر حكاية الأعرابي هذه السمهودي في وفاء الوفا وسيأتي نقلها في فصل الزيارة وحكى السمهودي (1) عن السبكي أن الآية دالة على الحث بالمجئ إليه " ص " والاستغفار عنده واستغفاره لهم وهذه رتبة لا تنقطع بموته وقد حصل استغفاره لجميع المؤمنين لقوله تعالى استغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات فإذا وجد مجيئهم واستغفارهم تكملت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ولرحمته وقوله واستغفر لهم معطوف على جاؤوك فلا يقتضي كون استغفاره بعد استغفارهم مع إنا لا نسلم أنه لا يستغفر بعد الموت لما سبق من حياته ومن استغفاره لأمته بعد الموت عند عرض أعمالهم عليه ويعلم من كمال رحمته أنه لا يترك ذلك لمن جاءه مستغفرا ربه " انتهى " ثم قال في خلاصة الكلام: قال العلامة ابن حجر في الجوهر المنظم روى بعض الحفاظ عن أبي سعيد السمعاني أنه روى عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنهم بعد دفنه " ص " بثلاثة أيام جاءهم أعرابي فرمى بنفسه على القبر الشريف على ساكنه أفضل الصلاة والسلام وحثا من ترابه على رأسه وقال يا رسول الله قلت فسمعنا قولك ووعيت عن الله ما وعينا عنك وكان فيما أنزله عليك ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم " الآية " وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي إلى ربي " الخبر " قال وجاء ذلك عن علي أيضا من طريق أخرى " انتهى " وفي وفاء الوفا (2) قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن موسى بن النعمان في مصباح الظلام إن الحافظ أبا سعيد السمعاني ذكر فيما روينا عن علي بن أبي طالب قال قدم علينا أعرابي وذكر مثله ثم قال في خلاصة الكلام ويؤيد ذلك ما صح عنه " ص " حياتي خير لكم تحدثون وأحدث لكم ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم ما رأيت من خير حمدت الله وما رأيت من شر استغفرت لكم (انتهى).
(1) ج 3 ص 411 (2) ج 2 ص 412 259 فهذه أقوال علماء المذاهب الأربعة وسيرة المسلمين خلفا عن سلف متفقة على التبرك بقبر النبي " ص " والتوسل والاستشفاع به " ص " سيما عند قبره ودعا الله عنده وأخبارهم ورواياتهم طافحة بذلك. وابن تيمية يقول لم يذكر أحد من العلماء أنه يشرع التوسل بعد موته ولا استحبوا ذلك. أما أئمة أهل البيت الطاهر النبوي فأدعيتهم المأثورة عنهم التي تبلغ حد التواتر طافحة بالتوسل بجدهم " ص " وبآله وبحقه وحقهم والإقسام عليه تعالى بهم وهم أعرف بسنة جدهم وبأحكام ربهم من ابن تيمية وابن عبد الوهاب وأتباعهم من أعراب نجد فهم باب مدينة علم المصطفى وورثة علمه والذين أمرنا بأن نتعلم منهم ولا نعلمهم لأنهم أعلم منا. فمنه قول أمير المؤمنين " ع " في الصحيفة العلوية التي جمعها الشيخ عبد الله السماهيجي من ادعيته " ع " في الدعاء الذي علمه أويسا (وبحق السائلين لك والراغبين إليك والمتعوذين بك والمتضرعين إليك وبحق كل عبد متعبد لك في بر أو بحر أو سهل أو جبل) وفي دعائه " ع " عند لقاء العدو وبمحمد رسول الله " ص " أتوجه (وبعد الثامنة من صلاة الليل) اللهم إني أسألك بحرمة من عاذ بك منك ولجأ إلى عزك واستظل بفيئك واعتصم بحبلك ولم يثق إلا بك (وبعد الزوال) وأتقرب إليك بمحمد عبدك ورسولك وأتقرب إليك بملائكتك المقربين وأنبيائك المرسلين (وفي اليوم السادس عشر) وأتوجه إليك اللهم لا إله إلا أنت بنبيك محمد النبي (وفي اليوم الثالث والعشرين) أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة صلى الله عليه وآله الطيبين الأخيار يا محمد إني أتوجه بك إلى الله ربك وربي في قضاء حاجتي. وفي دعاء الحسين بن علي " ع " يوم عرفة المستفيض نقله عنه. اللهم إنا نتوجه إليك في هذه العشية التي شرفتها وعظمتها بمحمد نبيك ورسولك وخيرتك من خلقك. وقول علي بن الحسين زين العابدين " ع " في الصحيفة الكاملة التي كفى دليلا على صحة نسبتها بلاغة ألفاظها فضلا عن صحة أسانيدها وعظيم شهرتها في دعائه " ع " إذا دخل شهر رمضان: اللهم إني أسألك بحق هذا الشهر وبحق من تعبد لك فيه من ابتدائه إلى وقت فنائه من ملك قربته أو نبي أرسلته أو عبد صالح اختصصته (وفي يوم عرفة) بحق من انتجبت من خلقك وبمن اصطفيته لنفسك بحق من اخترت من بريتك ومن اجتبيت لشأنك بحق من وصلت طاعته بطاعتك ومن جعلت معصيته كمعصيتك بحق من قرنت موالاته بموالاتك ومن نطت معاداته بمعاداتك. وفي دعائه عند زيارة جده أمير المؤمنين " ع ": اللهم فاستجب دعائي واقبل ثنائي واجمع بيني وبين أوليائي بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن
260 والحسين والأئمة المعصومين من ذرية الحسين. (وفي الدعاء الثلاثين) من أدعية الصحيفة الخامسة له " ع " اللهم فإن وسيلتي إليك محمد وآله وبعدهم التوحيد (وفي الدعاء الأربعين) وأتوجه إليك وأتوسل إليك واستشفع إليك بنبيك نبي الرحمة محمد " ص " وأمير المؤمنين علي ابن أبي طالب وفاطمة الزهراء والحسن والحسين عبديك وأمينيك الخ إلى غير ذلك مما يطول الكلام باستقصائه إذ قلما يوجد دعاء من الأدعية المأثورة عن أئمة أهل البيت " ع " على كثرتها لا يوجد فيه شئ من هذا القبيل وكفى به حجة دامغة لمن أنكر ذلك. ومن أنواع التوسل به " ص " في حياته وبعد موته تقديم الصلاة عليه قبل الدعاء الذي ورد أنه من أسباب إجابة الدعاء كما اعترف به ابن تيمية فيما نقلناه عنه في فصل الاستغاثة وجرت عليه سيرة المسلمين وأصبح من ضروريات الدين فإنه لا معنى له إلا التوسل به " ص " وبالصلاة عليه إلى الله في إجابة الدعاء. ومن أنواع التوسل به " ص " استقبال قبره الشريف وقت الدعاء فإنه في الحقيقة توسل به " ص " وبقبره الشريف وقد جرت عليه سنة المسلمين خلفا عن سلف وقرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل وأفتى باستحبابه الإمام مالك إمام دار الهجرة في قوله للمنصور لم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله تعالى بل استقبله واستشفع به كما مر. وفي خلاصة الكلام: ذكر علماء المناسك أن استقبال قبره الشريف " ص " وقت الزيارة والدعاء أفضل من استقبال القبلة قال العلامة المحقق الكمال ابن الهمام أن استقبال القبر الشريف أفضل من استقبال القبلة وأما ما نقل عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه أن استقبال القبلة أفضل فمردود بما رواه الإمام نفسه في مسنده عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال من السنة استقبال القبر المكرم وجعل الظهر للقبلة وسبقه إلى ذلك ابن جماعة فنقل استحباب استقبال القبر الشريف عن الإمام أبي حنيفة أيضا ورد قول الكرماني أنه يستقبل القبلة وقال ليس بشئ قال في الجوهر المنظم ويستدل لاستقبال القبر أيضا بأنا متفقون على أنه " ص " حي في قبره يعلم زائره وهو " ص " لو كان حيا لم يسع الزائر إلا استقباله واستدبار القبلة فكذا يكون الأمر حين زيارته في قبره الشريف ثم نقل قول مالك للمنصور المشار إليه آنفا. ثم قال: قال العلامة الزرقاني في شرح المواهب إن كتب المالكية طافحة باستحباب الدعاء عند القبر مستقبلا له مستدبرا للقبلة ثم نقل عن مذهب الإمام أبي حنيفة والشافعي " ره " والجمهور مثل ذلك. قال: وأما مذهب الإمام
261 أحمد ففيه اختلاف بين علماء مذهبه والراجح عند المحققين منهم أنه يستقبل القبر الشريف كبقية المذاهب " انتهى محل الحاجة من خلاصة الكلام " ومر ما نقله السمهودي عن أبي عبد الله السامري الحنبلي وعن كثير من علماء المذاهب الأربعة في كتب المناسك إن الزائر يستقبل القبر ويستدبر القبلة وقال السمهودي أيضا في وفاء الوفا (1) قال عياض قال مالك في رواية ابن وهب إذا سلم على النبي " ص " ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة. قال: وفي رواية نقلها عياض عن المبسوط أنه قال لا أرى أن يقف عند القبر يدعو لكن يسلم ويمضي قال السمهودي قلت وهي مخالفة أيضا لما تقدم في مناظرة المنصور لمالك وكذا لما نقله ابن المواز أنه قيل لمالك فالذي يلتزم أترى له أن يتعلق بأستار الكعبة عند الوداع قال لا ولكن يقف ويدعو قيل له وكذلك عند قبر النبي " ص " قال نعم. ثم قال: نقل ابن يونس المالكي عن ابن حبيب أنه قال ثم أقصد القبر من وجاه القبلة فادن منه وسلم على رسول الله " ص " واثن عليه وعليك السكينة والوقار فإنه " ص " يسمع ويعلم وقوفك بين يديه الخ. قال: وقال النووي في رؤوس المسائل عن الحافظ أبي موسى الإصبهاني أنه روى عن مالك أنه قال إذا أراد الرجل أن يأتي قبر النبي " ص " فيستدبر القبلة ويستقبل النبي " ص " ويصلي عليه ويدعو. قال: وقال إبراهيم الحربي في مناسكه تولي ظهرك القبلة وتستقبل وسطه يعني القبر. قال: وروى أبو القاسم طلحة بن محمد في مسند أبي حنيفة بسنده عن أبي حنيفة قال جاء أيوب السختياني فدنا من قبر النبي " ص " فاستدبر القبلة وأقبل بوجهه إلى القبر وبكى بكاء غير متباك. قال: وقال المجد اللغوي روي عن الإمام الجليل أبي عبد الرحمن عبد الله بن المبارك قال سمعت أبا حنيفة يقول قدم أيوب السختياني وأنا بالمدينة فقلت لأنظرن ما يصنع فجعل ظهره مما يلي القبلة ووجهه مما يلي وجه رسول الله " ص " وبكى غير متباك فقام مقام رجل فقيه. ثم قال: قلت فهذا يخالف ما ذكره أبو الليث السمرقندي في الفتاوي عطفا على حكاية حكاها الحسن بن زياد عن أبي حنيفة من أن المسلم عليه " ص " يستقبل القبلة وقال السروجي الحنفي يقف عندنا مستقبل القبلة قال الكرماني الحنفي يقف عند رأسه بين المنبر والقبر مستقبل القبلة. قال: وعن أصحاب الشافعي وغيره يقف وظهره إلى القبلة ووجهه إلى الحظيرة وهو قول ابن حنبل. قال:
(1) ص 423 ج 2 262 وقال محقق الحنفية الكمال ابن الهمام ما نقل عن أبي حنيفة أنه يستقبل القبلة مردود بما روى أبو حنيفة في مسنده عن ابن عمر قال من السنة أن تأتي قبر رسول الله " ص " من قبل القبلة وتجعل ظهرك إلى القبلة وتستقبل القبر وتسلم وقال ابن جماعة في منسكه الكبير ومذهب الحنفية إلى أن قال ثم يدور إلى أن يقف قبالة الوجه المقدس مستدبر القبلة فيسلم وشذ الكرماني فقال يقف للسلام مستدبر القبر مستقبل القبلة وتبعه بعضهم وليس بشئ ثم حكى السمهودي عن السبكي أنه قال: وقول أكثر العلماء هو الأحسن فإن الميت يعامل معاملة الحي والحي يسلم عليه مستقبلا فكذلك الميت وهذا لا ينبغي أن يتردد فيه ثم حكى عن المطري أنه لما أدخل بيت رسول الله " ص " وحجرات أزواجه في المسجد وقف الناس مما يلي وجه النبي " ص " واستدبروا القبلة للسلام عليه قال السمهودي وذلك لتعذر استقبال الوجه الشريف قبل إدخال البيت في المسجد ثم قال فاستدبار القبلة في هذه الحالة مستحب كما في خطبة الجمعة والعيدين وسائر الخطب المشروعة كما قاله ابن عساكر في التحفة. إلى أن قال: وفي كلام أصحابنا (يعني الشافعية) إن الزائر يستقبل الوجه الشريف في السلام والدعاء والتوسل ثم يقف مستقبل القبلة والقبر عن يساره والمنبر عن يمينه فيدعو أيضا (انتهى وفاء الوفا). وفي الرسالة الأولى من رسائل الهدية السنية اختلفوا في التوسل إليه تعالى بشئ من مخلوقاته هل هو مكروه أو حرام والأشهر الحرمة " انتهى " (وفي الرسالة الثانية) منها وأما التوسل وهو أن يقول القائل اللهم إني أتوسل إليك بجاه نبيك محمد " ص " أو بحق نبيك أو بجاه عبادك الصالحين أو بحق عبدك فلان فهذا من أقسام البدعة المذمومة ولم يرد بذلك نص كرفع الصوت بالصلاة على النبي " ص " عند الأذان (انتهى) فذاك حكى تحريمه وهذا جعله بدعة ولم يجعله شركا (والحمد لله) كما مر عن الصنعاني وقد عرفت مما تقدم ورود النصوص الصريحة بذلك واتفاق المسلمين عليه فتوى وعملا حتى بلغ إلى حد الضرورة فجعله من البدعة جمود بارد وتشدد في غير محله كرفع الصوت بالصلاة على النبي (ص) عند الأذان فإن الصلاة عليه (ص) إذا كانت سنة لم يكن رفع الصوت بها بدعة وكان فاعلها مخيرا بين رفع الصوت وخفضه والاخفات بها لإطلاق الدليل ويلزم على قياس قوله إن نبحث عن مقدار الصوت بها الذي كان في عصر السلف فلا نزيد عليه ولا ننقص لئلا نقع في البدعة ومع الجهل نتركها بالكلية لعدم العلم بما ليس بدعة
263 * الفصل الرابع * * في الإقسام على الله بمخلوق أو بحق مخلوق ونحوه * مثل أقسمت عليك أو أقسم عليك بفلان أو بحق فلان أو سألتك أو أسألك بفلان وهذا داخل في التوسل المذكور في الفصل السابق وإنما أعدنا ذكره في فصل خاص لكونه نوعا مخصوصا من التوسل وللوهابية كلام فيه بعنوانه الخاص وأدلة خاصة به وهو مما منعه الوهابية وحرموه على عادتهم في التشدد والتضييق على عباد الله فيما وسع الله فيه عليهم وعدم رضاهم بتعظيم من عظمه الله ما وجدوا لذلك حيلة ولا ندري هل يجعلونه كفرا وشركا لا يستبعد منهم ذلك بعد أن جعلوا سؤال الشفاعة من النبي (ص) شركا مع تسليمهم بأن الله أعطاه الشفاعة وأنه الشفيع المشفع كما مر بيانه في محله وقد جعل الصنعاني التوسل كفرا وشركا كما مر وهذا منه ومر في أواخر الفصل السابق إن بعض الوهابية جعل التوسل بدعة وبعضهم قال إن الأشهر تحريمه وفي الرسالة الأولى من رسائل الهدية السنية المنسوبة لعبد العزيز بن محمد بن سعود إن الإقسام على الله بمخلوق منهي عنه باتفاق العلماء (1) قال وهل هو نهي تنزيه أو تحريم قولان أصحهما إنه كراهة تحريم واختاره العز بن عبد السلام في فتاويه ثم نقل عن أبي حنيفة أنه قال لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به وأكره أن تقول بمعاقد العز من عرشك أو بحق خلقك وعن أبي يوسف بمعاقد العز من عرشك هو الله فلا أكره هذا وأكره بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك ثم حكى عن القدوري أن المسألة بحق المخلوق لا تجوز لأنه لا حق للمخلوق على الخالق. قال: صاحب الرسالة وأما قوله وبحق السائلين عليك ففيه عطية العوفي وفيه ضعف ومع صحته فمعناه بأعمالهم لأن حقه تعالى عليه طاعته وحقهم عليه الثواب والإجابة (انتهى). وقال: صاحب المنار في الحاشية: المتبادر من معنى هذه الجملة إنها سؤال لله تعالى بوعده للسائلين أن يستجيب دعاءهم بمثل قوله (ادعوني أستجب لكم). ونقول: الإقسام على الله تعالى بكريم عليه من نبي أو ولي أو عبد صالح أو عمل صالح أو غير ذلك نوع من التوسل الذي تقدم الكلام فيه في الفصل الثالث وبينا جوازه ورجحانه
(1) يا عجبا لهؤلاء تارة يستدلون باتفاق العلماء وإجماعهم وتارة بقول الصنعاني أحد مؤسسي مذهبهم أن وقوعه محال كما مر في المقدمات. - المؤلف - 264 وأنه ليس ببدعة وأنه محبوب لله تعالى وأنه تعالى يحب أن يتوسل إليه عبده بأنواع الوسائل وكلها لا تخرج عن دعائه وعبادته ومن أجل ذلك جعل الله الشفاعة التي لا ينكرها الوهابية وقبلها وأذن فيها وإلا فأي حاجة له إلى الشفيع وهو أعلم بحال عبده وأرأف به وانحنى عليه من كل أحد فجعل الشفاعة كرامة للشفيع ورحمة بالمشفوع به ولأنها نوع من عبادته ودعائه والتضرع إليه فهو يحب ذلك كله سواء كان من العبد نفسه أو على لسان غيره ولذلك قبل الدعاء بلسان الغير بل جعله أرجى للإجابة. وقول صاحب الرسالة إن الإقسام على الله بمخلوق منهي عنه باتفاق العلماء جزاف من القول ولم يأت بما يثبته سوى ما نقله عن أبي حنيفة وأبي يوسف وابن عبد السلام والقدوري كأن علماء الإسلام في جميع الأعصار والأمصار انحصرت في هؤلاء الأربعة وأين فتوى الشافعي ومالك وأحمد ابن حنبل لم لم ينقلها إن كانوا موافقين وأين فتوى باقي العلماء الذين لا يحصي عددهم إلا الله هل اطلع على فتواهم فوجدهم موافقين أو لا فكيف تجرأ على دعوى اتفاقهم وكيف يدعي الاتفاق بفتوى أربعة أحدهم القدوري وابن عبد السلام وسلفه محمد بن إسماعيل الصنعاني ينكر تحقق الاجماع بعد عصر الصحابة كما مر في المقدمات. وإذا كنت تريد أن تعرف مبلغ هؤلاء من العلم والتثبت والتورع في النقل وغيره فخذ لك نموذجا من هذا وإذ عرفت أن الأقسام على الله بمخلوق لا يخرج عن التوسل به إلى الله تعالى فكان يلزم على الوهابية أن يجعلوه شركا كما جعلوا التوسل لكنهم يلقون الفتاوى جزافا ويفرقون بين المتفقات ويوافقون بين المتفرقات. والحق أنه لا كراهية ولا تحريم في ذلك بل هو راجح مستحب لأنه نوع من دعاء الله تعالى وعبادته الثابت رجحانه بعموم أدلة الدعاء ولم يثبت شئ يخرجه عن العموم بل وردت النصوص فيه بالخصوص. مثل ما مر في الفصل الثالث مما رواه الحاكم وصحح إسناده والطبراني من قول آدم عليه السلام يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي وما رواه الحاكم في الكبير والأوسط من قول رسول الله (ص) اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي. وما سيأتي قريبا من قول أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا وقد ورد في أدعية أئمة أهل البيت عليهم السلام أسألك بمعاقد العز من عرشك بكثرة وهو ينفي احتمال الكراهية كما أنه ورد في أدعيتهم عليهم السلام الإقسام على الله بالمخلوق وقد مر في الفصل الثالث وهم أحق
265 بالاتباع وأعلم بسنة جدهم (ص) من ابن عبد الوهاب وأمثاله. أما استدلال القدوري على تحريمه بأنه لا حق للمخلوق على الخالق فباطل. أولا لأن الإقسام على الله بالمخلوق لا يلزم أن يقال فيه أسألك بحق فلان عليك بل يكفي بحق فلان أو بفلان فإن الحق في اللغة الأمر الثابت الواجب من حق يحق حقا إذا ثبت فتارة يكون ثابتا للإنسان في نفسه من فضل وعلم وشرف وعبادة وزهادة وغير ذلك وتارة يثبت له على غيره. ثانيا دعواه أنه لا حق للمخلوق على الخالق إن أريد أن له عليه حقا حتميا إلزاميا شاء أو أبى وتسلطا كحق الدائن على المديون فمسلم، لكن هذا لا يقول به أحد وإن أريد أن له عليه حقا جعله الله على نفسه وأكرم به عبده فأي مانع منه وأي دليل يقتضي نفيه بل الدليل على ثبوته موجود قال الله تعالى (وكان حقا علينا نصر المؤمنين كان على ربك وعدا مسؤولا) أفنترك قول الله تعالى في كتابه ونتبع قول القدوري والطناجري. وفي الجامع الصغير للسيوطي (1) من رواية الطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان عن معاذ حق على الله عون من نكح التماس العفاف عما حرم الله. وفي النهاية الأثيرية الحق ضد الباطل ومنه الحديث (أتدري ما حق العباد على الله) أي ثوابهم الذي وعدهم به فهو واجب الانجاز ثابت بوعده الحق (انتهى) ومر في الفصل الثالث ما ذكره ابن تيمية من حديث كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال وقوله جاء في غير حديث كان حقا على الله كذا وكذا وما نقله في الصحيح حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم وما حكاه من رواية ابن ماجة في دعاء الخارج للصلاة اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا الخ وفي خلاصة الكلام (2) أنه رواه ابن ماجة بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص) من خرج من بيته إلى الصلاة فقال اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وأسألك بحق ممشاي هذا إليك فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك فأسألك أن تعيذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، أقبل الله عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك. قال: وذكره الجلال السيوطي في
(1) ص 230 ج 2 طبع مصر (2) ص 420 266 الجامع الكبير وكثير من الأئمة في كتبهم بل قال بعضهم ما من أحد من السلف إلا وكان يدعو به. قال: ورواه ابن السني بإسناد صحيح عن بلال مؤذن رسول الله (ص) وفيه اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق مخرجي، مع بعض التفاوت (قال) ورواه الحافظ أبو نعيم في عمل اليوم والليلة من حديث أبي سعيد بلفظ رواية ابن السني " انتهى " فإذا كان الله تعالى ورسوله قد صرحا بالحق على الله تعالى فهل نتركه ونتبع قول القدوري والمغرفي أيها الوهابيون. ومع كل هذا التصريح من الله تعالى ورسوله فهم يتمحلون في رد الأحاديث بالقدح في إسنادها أو مفادها لأنه يعظم عليهم أن يعظموا أحدا ممن عظم الله فيردون ما دل على ذلك بكل وسيلة ترويجا لشبهتهم وتمسكا بها (أما) قدح صاحب الرسالة في حديث بحق السائلين عليك بأن فيه عطية العوفي وفيه ضعف فمردود. حكى الحافظ ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب (1) عن ابن سعد أنه قال وكان ثقة إن شاء الله وله أحاديث صالحة وحكى فيه عن الدوري عن ابن معين أنه صالح " انتهى ". وفي خلاصة تذهيب الكمال في أسماء الرجال للحافظ أحمد بن عبد الله الأنصاري (2): عطية ابن سعد بن جنادة العوفي أبو الحسن الكوفي عن أبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس وعنه ابناه عمر والحسن وإسماعيل ابن أبي خالد ومسعر وخلق، ضعفه الثوري وهشيم وابن عدي، وحسن له الترمذي أحاديث " انتهى " وحكى في الحاشية عن التهذيب: قال أبو حاتم وابن سعد ومع ضعفه يكتب حديثه " انتهى " وفي تهذيب التهذيب عن ابن عدي وأبي حاتم إنه مع ضعفه يكتب حديثه " انتهى " فدل ذلك على أن أحاديثه مقبولة ليس فيها مناكير والذين ضعفوه لم يضعفوه إلا لكونه من شيعة علي عليه السلام فرموه بما رموه به " ففي تهذيب التهذيب " عن ابن عدي أنه كان يعد مع شيعة أهل الكوفة " وفيه أيضا " قال أبو بكر: البزار كان يعده في التشيع روى عنه جلة الناس، وقال الساجي ليس بحجة وكان يقدم عليا على الكل " انتهى " فدل على أن سبب القدح تقديمه عليا على الكل وكفى به قدحا عندهم. وفيه عن ابن سعد بسنده عن عطية قال لما ولدت أتى أبي عليا ففرض لي في مائة وقال ابن سعد خرج عطية مع ابن الأشعث فكتب الحجاج إلى محمد بن القاسم أن يعرضه على سب علي فإن لم يفعل فاضربه أربعمائة سوط واحلق لحيته فاستدعاه فأبى أن يسب فأمضى حكم الحجاج فيه
(1) راجع ج 7 صفحة 224 - 226 طبع الهند. (2) راجع صفحة 226 طبع مصر 267 " انتهى " أفهذا الذي هذه حاله وصفته في التصلب في الدين وصبره على البلاء خوفا من الله تعالى يصدق في حقه قول ابن حبان كما حكاه عنه في تهذيب التهذيب إنه سمع من أبي سعيد أحاديث فلما مات جعل يجالس الكلبي فإذا حدث الكلبي عن رسول الله (ص) يحفظه وكناه أبا سعيد ويروي عنه فإذا قيل له من حدثك بهذا يقول حدثني أبو سعيد فيتوهمون أنه الخدري وإنما أراد الكلبي " انتهى " ولعل الكلبي كان يكنى بأبي سعيد أو هو كناه به كما يدل عليه ما في تهذيب التهذيب عن الكلبي أنه قال قال لي عطية كنيتك بأبي سعيد فأنا أقول حدثنا أبو سعيد. وما عليه إذا كنى الكلبي بأبي سعيد وأخبره بذلك فإذا توهموا أنه الخدري فما ذنبه ولو كان مراده التدليس لم يخبر الكلبي بذلك هذا إن صح النقل لكن الغالب على الظن أنه افتراء فمن يتحمل ضرب أربعمائة سوط وحلق لحيته ولا يسب عليا هل يتعمد إبدال الكلبي بأبي سعيد ليتوهموا أنه الخدري إن هذا ما لا يكون وما الذي يدعوه إلى ذلك " وابن حبان " هذا هو الذي قال في حق الإمام علي بن موسى الرضا إمام أهل البيت في عصره الذي حين روى لعلماء نيسابور حديث سلسلة الذهب المشهور كتب عنه ذلك الحديث من أهل المحابر والدوي ما ينوف عن عشرين ألفا وكان المستملي أبو زرعة ومحمد بن أسلم الطوسي والناس ما بين صارخ وباك ومتمرغ في التراب ومقبل لحافر بغلته. فقال ابن حبان في حقه كما في كتاب الأنساب للسمعاني المطبوع ببلاد ألمانيا: يروي عن أبيه العجائب كان يهم ويخطئ (انتهى) وتعقبه بعض العلماء في الحاشية بقوله: أنظر إلى هذه الجرأة العظيمة من هذا المغرور وكيف يوهم ويخطئ ابن رسول الله ووارث علمه أحد علماء العترة النبوية وإمامهم المجمع على غزارة علمه وشرفه وليت شعري كيف ظهر لهذا الناصبي الذي أفنى عمره في علم الرسوم لأجل الدنيا حتى نال بها قضاء بلخ وغيرها وهم علي بن موسى الرضا وخطؤه وبينهما نحو مائة وخمسين عاما لولا بغض القربى النبوية التي أمر الله بحبها ومودتها وأمر رسوله عليه السلام بالتمسك بها قاتلهم الله أنى يؤفكون " انتهى " ومما يدل على وثاقة عطية رواية جلة الناس عنه كما اعترف بها البزار وكثرة من روى عنهم ورووا عنه من الصحابة وغيرهم " ففي تهذيب التهذيب: روى عن أبي سعيد وأبي هريرة وابن عباس وابن عمرو وزيد بن أرقم وعكرمة وعدي ابن ثابت وعبد الرحمن بن جندب وقيل ابن جناب. روى عنه ابناه الحسن وعمر والأعمش
268 والحجاج بن أرطاة وعمرو بن قيس الملائي ومحمد بن جحادة ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ومطرف بن طريف وإسماعيل بن أبي خالد وسالم بن أبي حفصة وفراس بن يحيى وأبو الجحاف وزكر بن أبي زائدة وإدريس الأودي وعمران البارقي وزياد بن خيثمة الجعفي وآخرون " انتهى " وقد أورد حديثه أئمة الحديث في صحاحهم كالبخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجة القزويني كما يدل عليه وضع صاحب مختصر تذهيب الكمال على اسمه رمز (بخ دت ق) الذي هو رمز إلى هؤلاء أما قول صاحب الرسالة ومع صحته فمعناه بأعمالهم الخ فلا يظهر له معنى محصل ومع ذلك ففيه اعتراف بثبوت الحق لهم على الله بمعنى الثواب والإجابة وجواز القسم به وقول صاحب المنار في الحاشية أن المتبادر من هذه الجملة إنها سؤال لله تعالى بوعده للسائلين أن يستجيب دعاءهم الخ لا ينفي الحق على الله تعالى بل يؤيده وهو ما جعله على نفسه بوعده الصادق من إجابة دعاء من دعاه. * الفصل الخامس في الحلف بغير الله تعالى * وهذا منعه الوهابية وبعضهم جعله شركا على الاطلاق وبعضهم شركا أصغر فمن صرح به بأنه شرك على الاطلاق الصنعاني في تطهير الاعتقاد فإنه بعدما ذكر أن القبوريين سلكوا مسالك المشركين حذو القذة بالقذة وعد أعمالهم الموجبة لذلك قال (1) ويقسمون بأسمائهم بل إذا حلف من عليه حق باسم الله تعالى لم يقبل منه فإذا حلف باسم ولي من أوليائهم قبلوه وصدقوه وهكذا كانت عبادة الأصنام (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) وفي الحديث الصحيح (من حلف فليحلف بالله أو ليصمت) وسمع رسول الله (ص) رجلا يحلف باللات فأمره أن يقول لا إله إلا الله - وهذا يدل على أنه ارتد بالحلف بالصنم فأمره أن يجدد إسلامه فإنه قد كفر بذلك " انتهى ". ثم قال (2) بعدما ذكر أن رأس العبادة وأساسها الاعتقاد وقد حصل في قلوبهم ذلك بل يسمونه معتقدا ويصنعون له ما سمعته تفرع عن الاعتقاد وعد من جملته الحلف وفي الرسالة الأولى من رسائل الهدية السنية
(1) صفحة 14 (2) صفحة 15 (3) صفحة 25 269 الشرك شركان أكبر وله أنواع ومنه الذي تقدم (يعني طلب الشفاعة من المخلوق والتوسل وغيره) وأصغر كالرياء والسمعة ومنه الحلف بغير الله لما روى ابن عمر رضي الله عنه عن رسول الله " ص " من حلف بغير الله فقد أشرك أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم وصححه ابن حبان وقال " ص " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت أخرجه الشيخان قال والشرك الأصغر لا يخرج عن الملة وتجب التوبة منه " انتهى ". ونقول قد وقع القسم بغير الله تعالى من الله تعالى ومن النبي " ص " ومن الصحابة والتابعين وجميع المسلمين خلفا عن سلف. أما من الله تعالى فإنه قد أقسم في كتابه العزيز بكثير من مخلوقاته كما أقسم بذاته وبعزه وجلاله مثل قوله تعالى (والعصر إن الإنسان لفي خسر. والعاديات ضبحا فالموريات قدحا فالمغيرات صبحا. والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا فالسابقات سبقا فالمدبرات أمرا. والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا. والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا. والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالملقيات ذكرا. والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين. والضحى الليل إذا سجى. والليل إذا يغشى. والنهار إذا تجلى. والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها. والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع. والسماء ذات الحبك. والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود. والسماء والطارق. والنجم إذا هوى. والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر هل في ذلك قسم لذي حجر. ن والقلم وما يسطرون. والطور وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور. لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة. لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ووالد وما ولد. فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم. فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس. لا أقسم بيوم الدين. فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون. فلا أقسم بالشفق والليل وما وسق والقمر إذا اتسق. لعمرك إنهم في سكرتهم يعمهون) - لا يقال صدوره من الله تعالى لا يستلزم جواز
270 صدوره منا فهو لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. لأنا نقول: إنا نريد أن صدوره منه تعالى يدل على أنه لا قبح فيه لأنه تعالى منزه عن فعل القبيح فلا يكون صدوره منا قبيحا ونعم القدوة الله تعالى وإذا كان الله تعالى قد جعل لنفسه شريكا وأشرك بالشرك الأصغر (تعالى عن ذلك) فما على من اقتدى به في ذلك بأس. وقول القسطلاني في إرشاد الساري (1): لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه ليعجب به المخلوقين ويعرفهم قدرته لعظيم شأنها عندهم ولدلالتها على خالقها وأما المخلوق فلا يقسم إلا بالخالق قال: ويقبح من سواك الشئ عندي * وتفعله فيحسن منك ذاكا (انتهى) كلام قشري لما عرفت من أن ما يقبح من العبد لكونه شركا أصغر وتشبيها للخلق في العظمة به تعالى لا يمكن أن يحسن منه تعالى إذ صدوره منه تعالى لا يخرجه عن تلك الصفة إن كانت والشعر الذي أورده لا يرتبط بما نحن فيه كما لا يخفى، وأما من النبي (ص) فعلا وتقريرا فمما رواه مسلم في صحيحه (2) أنه جاء رجل إلى النبي (ص) فقال يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا فقال أما وأبيك لتنبأنه أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل البقاء (الحديث) وروى مسلم أيضا في كتاب الإيمان (3) أنه جاء رجل إلى رسول الله " ص " من أهل نجد يسأل عن الإسلام فقال رسول الله " ص " خمس صلوات في اليوم والليلة وصيام شهر رمضان والزكاة ومع كل واحدة يقول: هل علي غيرها وهو " ص " يقول لا إلا أن تطوع فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه فقال رسول الله " ص " أفلح وأبيه إن صدق أو دخل الجنة وأبيه إن صدق (وحكى) القسطلاني في إرشاد الساري (4) عن ابن عبد البر أن هذه اللفظة منكرة غير محفوظة تردها الآثار الصحاح " انتهى " (أقول) بل يعضدها حديث أما وأبيك لتنبأنه قال وقيل إنها مصحفة من قول والله. وقال القسطلاني وهو محتمل ولكن مثل هذا لا يثبت بالاحتمال لا سيما وقد ثبت من لفظ أبي بكر الصديق في قصة السارق الذي سرق حلي ابنته فقال وأبيك ما ليلك بليل سارق أخرجه في الموطأ وغيره (انتهى) " قال القسطلاني " وأحسن الأجوبة ما قاله البيهقي وارتضاه النووي وغيره أن هذا اللفظ كان يجري على ألسنتهم من غير أن
(1) صفحة 358 ج 9 (2) صفحة 419 ج 4 (3) صفحة 224 - 227 ج ل بهامش إرشاد الساري (4) صفحة 357 ج 9 271 يقصدوا به القسم أو إن التقدير أفلح ورب أبيه (انتهى) " وفيه " أن العرب تقصد به القسم وإلا كان إتيانه عبثا وهذرا والحذف لا دليل عليه وقال أبو طالب عم النبي (ص) كذبتم وبيت الله نبزي محمدا * ولما نطاعن دونه ونناضل سمع ذلك رسول الله (ص) ولم ينكره " وأما الحلف بغير الله من الصحابة والتابعين وجميع المسلمين " فقد سمعت قول أبي بكر وأبيك ووقع الحلف من الكل بلفظ لعمري أو لعمر أبيك ونحو ذلك في الشعر والنثر بكثرة لا يمكن معها ضبطه وهو قسم باتفاق أهل اللغة وحلف بالعمر بفتح العين وهو الحياة أو الدين كما فسره أهل اللغة بل جعله النحويون نصا في القسم قال ابن مالك في ألفيته: وبعد لولا غالبا حذف الخبر * حتم وفي نص يمين ذا استقر وقال ابنه في الشرح الثاني خبر المبتدأ الصريح في القسم نحو لعمرك لأفعلن (انتهى) وكذا ذكر ابن هشام في كتبه وغيرهم من النحويين " ففي كتاب علي إلى معاوية " لعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمن (وفي كتاب آخر له إليه) فلعمري لو كنت الباغي لكان لك أن تخوفني " وفي كتاب معاوية إليه " فإن كنت أبا حسن إنما تحارب عن الإمارة والخلافة فلعمري لو صحت لكنت قريبا من أن تعذر في حرب المسلمين وللحسين بن علي (ع): لعمرك إنني لأحب دارا * تحل بها سكينة والرباب وقال ولده علي بن الحسين (ع) من كلام يخاطب به أهل الكوفة ولعمري ما هي منكم بنكر (ع) أخوه علي بن الحسين الأكبر يوم كربلاء: أنا علي بن الحسين بن علي * نحن وبيت الله أولى بالنبي ولما سمع عبد الله بن عمر العنسي وكان من عباد أهل زمانه رواية عمرو بن العاص عن النبي " ص " أن عمارا تقتله الفئة الباغية خرج ليلا فأصبح في عسكر علي وحدث الناس بقول عمرو وقال من جملة أبيات: والراقصات بركب عامدين له * إن الذي جاء من عمرو لمأثور ما في مقال رسول الله في رجل * شك ولا في مقال الرسل تحيير رواه نصر بن مزاحم في كتاب صفين مسندا عن رجاله " ومما " يدل على جواز الحلف
272 بغير الله من العظماء ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده عن عائشة قال لها مسروق سألتك بصاحب هذا القبر ما الذي سمعت من رسول الله (ص) يعني في حق الخوارج قالت سمعته يقول إنهم شر الخلق والخليفة يقتلهم خير الخلق والخليقة أقربهم عند الله وسيلة. فإن قوله سألتك بصاحب هذا القبر بمنزلة قوله أقسمت عليك به ولا فرق بين أن يقول القائل أقسم بفلان وأقسم عليك بفلان (وقوله) وأقربهم عند الله وسيلة من أدلة جواز التوسل كما مر. أما حديث من حلف بغير الله فقد أشرك فهو في مسند أحمد عن ابن عمر كان يحلف: وأبي فنهاه النبي (ص) قال من حلف بشئ دون الله فقد أشرك وقال الآخر وهو شرك " انتهى " (1) أما المنقول عن الترمذي وصححه الحاكم فهو أن ابن عمر سمع رجلا يقول لا والكعبة فقال لا تحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله " ص " يقول من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك " وهو " محمول أما على الكراهة الشديدة وإطلاق الشرك عليه من باب المبالغة بيانا لشدة الكراهة فقد ورد اللعن على فعل المكروه كلعن المحلل والمحل له كما بيناه في مقام آخر ويؤيده قوله في الرواية كان يحلف وأبي الدال على أن ذلك كان عادة له مستمرة فهو شبه الإعراض عن الله تعالى ويؤيده ما في الروايات الأخر كما يأتي كانت قريش تحلف بآبائها وقول عمر وأبي وأبي " قال القسطلاني " في إرشاد الساري شرح صحيح البخاري (2) بعد نقل رواية الترمذي والتعبير بذلك يعني الكفر والشرك للمبالغة في الزجر والتغليظ وهل النهي للتحريم أو للتنزيه؟ المشهور عند المالكية الكراهة وعند الحنابلة التحريم وجمهور الشافعية إنه للتنزيه وقال إمام الحرمين: المذهب القطع بالكراهة وقال غيره بالتفصيل فإن اعتقد فيه من التعظيم ما يعتقده في الله حرم وكفر بذلك الاعتقاد وإن حلف لاعتقاد تعظيم المحلوف به على ما يليق به من التعظيم فلا يكفر (انتهى). وأما على الحلف بالأصنام كما يشير إليه الحديث الآنف الذكر في كلام الصنعاني فيمن حلف باللات مما
(1) كذا وجدنا هذه العبارة في المسودة ولم تحضرنا نسخة مسند أحمد عند تبييضها فلتراجع - المؤلف - (2) ص 358 ج 9. 273 يدل على أن ذلك كان يقع منهم بعد إسلامهم لقرب عهدهم بالشرك لكن ذلك لا يتأتى على رواية أحمد لأن فيها أنه كان يحلف وأبي أو على الحلف بغير الله باعتقاد مساواته لله تعالى أو على الحلف بالبراءة ونحوها كأن يقول إن فعل كذا فهو يهودي أو برئ من الإسلام أو من الله أو من رسوله فإنه إما محرم فقط أو موجب للكفر إن قصد الرضا بذلك إذا فعله ولكنه لا يتأتى على رواية أحمد كما عرفت أو على الحلف في مقام القضاء والمرافعة لإثبات حق أو نفيه الذي لا يجوز بغير الله تعالى وجعله شركا لتأكيد التحريم أو غير ذلك من المحامل فإن جواز الحلف بغير الله في غير ذلك قطعي بل من ضروريات الإسلام يعرف جوازه الخواص والعوام والنساء والصبيان ولو كان حراما لاشتهر اشتهار الشمس في رائعة النهار لكثرة الابتلاء به ولم يخف على الناس كلها ويظهر للوهابية وحدهم وستعرف اتفاق الأئمة الأربعة على الجواز. أما حديث النهي عن الحلف بالآباء فرواه أحمد في مسنده أيضا كما رواه الشيخان وصدره أن النبي (ص) سمع عمر وهو يقول وأبي وفي الرواية وأبي وأبي مكررا فقال إن الله ينهاكم الخ وفي رواية لمسلم الاقتصار على من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله. قال: وكانت قريش تحلف بآبائها فقال لا تحلفوا بآبائكم وهو كالذي سبق محمول إما على الكراهة أو على عدم الانعقاد فيكون إرشاديا كما في النهي عن بيع الغرر، أي بيع المجهول أي أنه لا يترتب عليه آثار اليمين من وجوب الوفاء ولزوم الكفارة بمخالفته وغير ذلك أو على الحلف في مقام المرافعة أو غير ذلك. قال النووي: في شرح صحيح مسلم (1) في شرح إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فيه النهي عن الحلف بغير أسمائه تعالى وصفاته وهو عند أصحابنا. يعني الشافعية مكروه وليس بحرام (انتهى). وصرح الخطيب الشربيني الشافعي في الاقناع بأن اليمين بالمخلوق مكروه ومثله عن شرح المنهاج وأفتى أحمد بن حنبل الذي ينسب الوهابية أنفسهم إليه ويقولون إنهم على مذهبه بجواز الحلف بالنبي (ص) وأنه ينعقد لأنه أحد ركني الشهادة فهذا إمامهم ومقلدهم وأحد أئمة مذاهب الإسلام الأربعة يفتي بجواز الحلف بالمخلوق وانعقاده وهم يجعلونه شركا أو شركا أصغر. قال الشعراني في ميزانه: ومن ذلك قول أحمد إنه لو حلف بالنبي (ص) انعقد يمينه فإن حلف لزمته الكفارة (انتهى) بل الأئمة الأربعة قائلون بجواز الحلف بالنبي
(1) ص 119 ج 7 بهامش إرشاد الساري. 274 (ص) بل وغيره من المخلوقات لكنه مكروه إنما الخلاف في انعقاد الحلف بالنبي (ص) ولزوم الكفارة بالحنث. والحاصل أن الحلف بالله تعالى له أحكام خاصة لا تترتب على غيره كفصل الخصومات به وترتب الإثم والكفارة على مخالفته. ومذهب أئمة أهل البيت عليه السلام جواز الحلف بغير الله تعالى عدا البراءة فيحرم الحلف بها ولكنه لا ينعقد بغير الله تعالى ولا تسقط به الدعوى. أما قول الصنعاني أنه إذا حلف من عليه حق باسم الله لم يقبل منه وإذا حلف باسم ولي قبلوه وصدقوه. فجوابه أنه إنما يصدر ذلك من عوام الناس وجهالهم، وأهل المعرفة براء منه فهل تستحل دماء المسلمين وأموالهم لأمر يصدر من بعض جهالهم مع كونه أيضا لا يوجب شركا ولا كفرا وإن كان خطأ. وأما استشهاده بحديث من حلف باللات فأمره (ص) أن يقول لا إله إلا الله فعجيب فإنه ما حلف باللات إلا على عادته التي كانت له قبل الإسلام من جعلها آلهة وعبادتها من دون الله وهي حجر لا تضر ولا تنفع وليس لها شرف يصحح الحلف بها فأمره بقول لا إله إلا الله ردعا له عن ذلك الحلف فقياسه الحلف بعظيم عند الله على ذلك بمكان من الغرابة سواء كان ذلك موجبا للكفر أو لا. أما قوله: رأس العبادة وأساسها الاعتقاد الخ فقد مر الكلام عليه في الباب الثاني. * الفصل السادس * * في التعبير عن غيره تعالى بالسيد والمولى ونحو ذلك بصيغة الخطاب وغيره * وهذا أيضا مما جعله الوهابية موجبا للشرك ففي الرسالة الأولى من رسائل الهدية السنية (1) بعدما ذكر تحريم عمارة القبور قال ويضاف إلى عمارتها دعاء أصحابها، إلى أن قال: وخطابهم يا سيدي يا مولاي إفعل كذا وكذا، وبهذا عبدت اللات والعزى إلى آخر ما قال وتقدم في الباب الثاني قول محمد بن عبد الوهاب وإنما يعنون. أي المشركون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد وفي خلاصة الكلام إن محمد بن عبد الوهاب يزعم أن من قال لأحد مولانا أو سيدنا فهو كافر. ونقول: إطلاق لفظ السيد على غير الله تعالى ونداؤه به صحيح لا محذور فيه فإنه لا يراد به الملكية الحقيقية المساوية لملكيته تعالى ولا يقصد أحد من المسلمين ذلك ولو فرض
(1) ص 28 275 إنا جهلنا قصدهم لوجب حمل كلامهم على الصحيح وقد ورد إطلاق السيد على غيره تعالى في القرآن الكريم بقوله تعالى في يحيى بن زكريا (وسيدا وحصورا. وألفيا سيدها لدى الباب) وفي كلام النبي (ص) بما يبلغ حد التواتر. روى البخاري في الأدب المفرد من حديث جابر عنه (ص) من سيدكم يا بني سلمة قالوا الجد بن قيس. وعن أبي هريرة عنه (ص) أنا سيد ولد آدم يوم القيامة. وفي رواية أنا سيد ولد آدم ولا فخر. وعن عائشة عنه (ص) أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب. وعن أبي سعيد الخدري عنه (ص) الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. وعن الترمذي عن فاطمة أخبرني النبي (ص) إني سيدة نساء العالمين. وعن أبي نعيم الحافظ في حلية الأولياء عنه (ص) ادعوا لي سيد العرب عليا. وعن الحلية أيضا أنه (ص) قال لعلي مرحبا بسيد المؤمنين. وعن عائشة أنه (ص) سار الزهراء فقال لها أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين. وعنه (ص) سادات النساء أربعة: خديجة وفاطمة ومريم وآسية. وفي الفائق للزمخشري (1) قال (ص) لأصحابه أرأيتم لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا كيف يصنع به فقال سعد بن عبادة والله لأضربنه بالسيف ولا انتظر أن آتي بأربعة شهداء فقال رسول الله " ص " انظروا إلى سيدنا هذا ما يقول وروي إلى سيدكم (وفي النهاية) في الحديث قالوا يا رسول الله من السيد فقال يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام قالوا فما في أمتك من سيد قال بلى من آتاه الله مالا ورزق سماحة فأدى شكره وقلت شكايته في الناس. قال: وفيه أنه " ص " قال للحسن بن علي إن ابني هذا سيد. وفيه أنه قال للأنصار قوموا إلى سيدكم يعني سعد بن معاذ " انتهى " وأشار بذلك إلى ما رواه أحمد بن حنبل (2) بسنده عن أبي سعيد الخدري نزل أهل قريضة على حكم سعد بن معاذ فأرسل إليه رسول الله " ص " فأتاه على حمار فلما دنا قريبا من المسجد قال " ص " قوموا إلى سيدكم أو خيركم (الحديث) ورواه البخاري (3) نحوه (وكذلك في كلام الصحابة) فعن البخاري عن جابر أن عمر كان يقول إن أبا بكر سيدنا وأعتق سيدنا يعني بلالا. وعن أبي بكر أنه قال أتقولون هذا شيخ قريش وسيدهم (وعن علي) أنا سيد البطحاء. وفي الفائق
(1) صفحة 308 طبع الهند (2) صفحة 22 ج 3 (3) صفحة 146 ج 9 إرشاد الساري 276 للزمخشري قالت أم الدرداء حدثني سيدي أبو الدرداء. وفي النهاية في حديث عائشة كان سيدي رسول الله " ص " الخ. هذا وفي بعض الأخبار ما يوهم عدم جواز إطلاق السيد على غير الله. أورد السيوطي في الجامع الصغير عن الديلمي في مسند الفردوس عن علي: السيد الله وأورد العزيزي في شرح الجامع الصغير عن مسند أبي داود أنه جاء وفد بني عامر إلى النبي " ص " فقالوا أنت سيدنا فقال السيد الله (الحديث). والجمع بينه وبين ما مر باختلاف القصد في معنى السيد أو بأنه قال ذلك تواضعا أي السيد الحقيقي هو الله. وفي النهاية: أي هو الذي تحق له السيادة كأنه كره أن يحمد في وجهه وأحب التواضع " انتهى ". وكذا ما ورد من النهي عن قول السيد: عبدي وأمتي، روى البخاري في حديث (1) ولا يقل أحدكم عبدي، أمتي. وفي رواية لمسلم لا يقولن أحدكم عبدي فإن كلكم عبيد الله. وفي رواية لأبي داود والنسائي فإنكم المملوكون والرب الله مع قوله تعالى (والصالحين من عبادكم وإمائكم. عبدا مملوكا. اذكرني عند ربك) فهذه المناهي للتنزيه قصدا للتواضع (وحاش لله) أن يقصد المسلمون من إطلاق لفظ السيد على غير الله تعالى معنى ينافي إخلاص العبادة كيف وهم يعلمون أن ما عداه لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعا ولا ضرا إلا بأمره تعالى وإرادته وإقداره. فقول ابن عبد الوهاب وإنما يعنون بلفظ الإله ما يعني المشركون بلفظ السيد افتراء على المسلمين فلا يريد المسلمون الذين سماهم المشركين بلفظ السيد غير ما أريد في الاستعمالات الواردة في كلامه تعالى وفي كلام النبي " ص " والصحابة التي مر نقلها من الرئيس والأفضل ونحو ذلك. أما ما يريده المشركون بلفظ الإله فقد عرفت بما بيناه مرارا أنه يخالف ذلك فراجع. * الفصل السابع في النحر والذبح * وهذا مما كفر به الوهابية المسلمين ونسبوهم إلى الشرك فزعموا أنهم يذبحون وينحرون للأموات والقبور ويقربون لها القرابين وأن ذلك كالذبح والنحر للأصنام الذي كانت تفعله أهل الجاهلية الموجب للشرك. صرح بذلك ابن عبد الوهاب في كلامه المتقدم في
(1) ص 312 ج 4 إرشاد الساري. 277 الباب الثاني المنقول عن رسالته كشف الشبهات حيث قال إن النبي " ص " قاتل المشركين لتكون جملة أشياء لله تعالى وعد منها الذبح وقال في الرسالة المذكورة (1) في أثناء كلام له علم به أصحابه كيف يحتجون على غيرهم: فقل هل الصلاة والنحر لله عبادة إذ يقول (فصل لربك وانحر) فلا بد أن يقول نعم فقل إذا نحرت لمخلوق نبي أو جني أو غيرهما هل أشركت في هذه العبادة غير الله فلا بد أن يقول نعم فقل المشركون هل كانوا يعبدون الملائكة والصالحين واللات وغيرها فلا بد أن يقول نعم فقل وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء وإلا فهم مقرون أنهم عبيد الله تحت قهره. وصرح بذلك الصنعاني في عدة مواضع من كلامه المتقدم في الباب الثاني. كقوله: إن إفراد الله بتوحيد العبادة لا يتم إلا أن تكون أشياء لله وعد منها النحر. وقوله: إن تعظيمهم الأولياء ونحرهم لهم النحائر شرك والله تعالى يقول (فصل لربك وانحر) أي لا لغيره كما يفيده تقديم الظرف. وقوله: إن النحر على القبر بعينه الذي كانت تفعله الجاهلية لما يسمونه وثنا وصنما وفعله القبوريون لما يسمونه وليا وقبرا ومشهدا الخ. وقوله: ونحرهم النحائر لهم شرك. وقال الصنعاني في رسالة تطهير الاعتقاد أيضا فإن قال إنما نحرت لله وذكرت اسم الله عليه فقل إن كان النحر لله فلأي شئ قربت ما تنحره من باب مشهد من تفضله وتعتقد فيه هل أردت بذلك تعظيمه إن قال نعم فقل له هذا النحر لغير الله بل أشركت مع الله تعالى غيره وإن لم ترد تعظيمه فهل أردت توسيخ باب المشهد وتنجيس الداخلين إليه أنت تعلم يقينا أنك ما أردت ذلك أصلا ولا أردت إلا الأول ولا خرجت من بيتك إلا قصده. إلى أن قال: فهذا الذي عليه هؤلاء شرك بلا ريب " انتهى " وصرح بذلك الوهابيون في كتابهم إلى شيخ الركب المغربي المتقدم في الباب الثاني حيث عدوا من جملة أسباب الشرك التقرب إلى الموتى بذبح القربان. ونقول: النحر والذبح " قد يضاف لله تعالى " فيقال ذبح لله ونحر لله ومعناه أنه نحر لوجهه تعالى امتثالا لأمره وتقربا إليه كما في الأضحية بمنى وغيرها والفداء في الاحرام والعقيقة وغير ذلك وهذا يدخل في عبادته تعالى أو نحر باسمه تعالى فذكر اسمه على المنحور وهذا لا ربط له بالعبادة إنما هو شرط في حلية الذبيحة مع التفطن لقوله تعالى ولا
(1) صفحة 62 طبع المنار بمصر. 278 تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " وقد يضاف إلى المخلوق " فيقال ذبحت الدجاجة للمريض ونحرت البعير أو ذبحت الشاة للأضياف أو ذبحت كذا لفلان تريد الذي أمرك بالذبح وهذا لا محذور فيه. وقد يضاف إلى المخلوق بقصد التقرب إليه كما يتقرب إلى الله طلبا للخير منه مع كونه حجرا وجمادا لا يضر ولا ينفع ولا يعقل ولا يسمع سواء كان تمثالا لنبي أو صالح أو غير ذلك ومع نهي الله تعالى عن ذلك ويذكر اسمه على المنحور والمذبوح ويعرض عن اسم الله تعالى فيجعل نظيرا لله تعالى وندا له ويطلى بدم المنحور أو المذبوح قصد التقرب إليه مع كون ذلك عبثا ولغوا نهى عنه الله تعالى كما كان يفعل المشركون مع أصنامهم وهذا قبيح منكر بل شرك وكفر سواء سمي عبادة أو لا. وهذا ما توهم الوهابية أن المسلمين يفعلون مثله للأنبياء والأوصياء والصلحاء فينحرون ويذبحون لهم عند مشاهدهم أو غيرها ويقربون لهم القرابين كما كان عبدة الأصنام والأوثان يفعلون ذلك بأصنامهم وأوثانهم وهو توهم فاسد فإن ما يفعله المسلمون لا يخرج عن الذبح والنحر لله تعالى لأنه يقصد إني أذبح هذا في سبيل الله لأتصدق بلحمه وجلده على الفقراء أو مطلق عباد الله وأهدي ثواب ذلك لرب المشهد. والذبح الذي يقصد به هذا يكون راجحا وطاعة لله تعالى وعبادة له سواء أهدي ثواب ذلك لنبي أو ولي أو أب أو أم أو أي شخص من سائر الناس ونظيره من يقصد إني أطحن هذه الحنطة لأعجنها وأخبزها وأتصدق بخبزها على الفقراء وأهدي ثواب ذلك لأبوي فأفعاله هذه كلها طاعة وعبادة لله تعالى لا لأبويه ولا يقصد أحد من المسلمين بالذبح لنبي أو غيره ما كانت تقصده عبدة الأوثان من التقرب إليها بالذبح لها ولا يفعل ما كانت تفعله من ذكر اسمها على الذبيحة والإهلال بها لغير الله وطليها بدمها مع نهي الله تعالى لهم عن ذلك ولو ذكر أحد من المسلمين اسم نبي أو غيره على الذبيحة لكان ذلك عندهم منكرا وحرمت الذبيحة. فليس الذبح لهم بل عنهم بمعنى أنه عمل يهدى ثوابه إليهم كسائر أعمال الخير أو لهم باعتبار ثوابه ولذلك لا ينافيه قولهم ذبحت لفلان أو أريد أن أذبح لفلان أو عندي ذبيحة لفلان، لو فرض وقوعه فالمقصود في الكل كونها له باعتبار الثواب وهذا كما يقال ذبحت للضيف أو للمريض أو لفلان الأمر بالذبح أو نحو ذلك بل لو قصد بالذبح امتثال أمر الآمر به من المخلوقين وطلب رضاه وأتى به على وجهه من شرائط الذبح الشرعية لم يكن بذلك آثما ولا عابدا للآمر ولا مشركا مع أنه لو وقع مثل ذلك امتثالا لأمره تعالى كما في الأضحية ونحوها لكان عبادة له تعالى كما مر. وكل من
279 يأمرهم السلطان ابن سعود بالذبح أو النحر من خدمه وعبيده وأتباعه حالهم كذلك مع أنهم هم الموحدون الوحيدون. والحاصل أن المسلمين لا يقصدون من الذبح للنبي أو الولي غير إهداء الثواب أما العارفون منهم فحالهم واضح في أنهم لا يقصدون غير ذلك وأما الجهال فإنما يقصدون ما يقصد عرفاؤهم ولو إجمالا حتى لو فرض وقوع إضافة الذبح إلى النبي أو الولي كما مر فليس المقصود إلا كون ثوابها له لا يشك في ذلك إلا معاند. ولو سألنا عارفا أو عاميا أيا كان: هل مرادك الذبح لصاحب المشهد تقربا إليه كما كان المشركون يذبحون لأصنامهم أو مرادك إهداء الثواب له؟ لقال معاذ الله أن أقصد غير إهداء الثواب ولو فرضنا أننا شككنا في قصده أو خفي علينا وجه فعله لما جاز لنا أن نحمله إلا على الوجه الصحيح لوجوب حمل أفعال المسلمين وأقوالهم على الصحة حتى يعلم الفساد ولم يجز لنا أن ننسبه إلى الشرك ونستبيح دمه وماله وعرضه بمجرد ظننا أن قصده الذبح لها كالذبح للأصنام لما عرفت في المقدمات من وجوب الحمل على الصحة مهما أمكن (1). أما إهداء ثواب الخيرات والعبادات إلى الأموات فأمر راجح مشروع لم يمنع منه كتاب ولا سنة بل وردت به السنة في صحاح الأخبار وقامت عليه سيرة المسلمين وعملهم في كل عصر وزمان من عهد النبي (ص) والصحابة إلى اليوم وهذا منه ولا أظن الوهابية يخالفون فيه ومن أولى بالهدايا من أنبياء الله وأوليائه روى مسلم في صحيحه في باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه بعدة أسانيد عن عائشة أن رجلا أتى النبي " ص " فقال يا رسول الله إن أمي افتلتت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت تصدقت أفلها أجر إن تصدقت عنها قال نعم. قال: النووي في الشرح: نفسها نائب فاعل أو مفعول به أي ماتت فجأة. ثم قال وفي هذا الحديث أن الصدقة عن الميت
(1) قال الشيخ محمد عبده الشهير في كتابه الإسلام والنصرانية ص 55 إن من أصول الأحكام في الدين الإسلامي البعد عن التكفير وإن مما اشتهر بين المسلمين وعرف من قواعد أحكام دينهم أنه إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد حمل على الإيمان ولا يجوز حمله على الكفر " انتهى " فما رأي الأستاذ صاحب المنار في الجمع بين هذا الكلام الصادر ممن يسميه الأستاذ " الإمام حكيم الإسلام " وبين أقوال أسياده الوهابية الذين ينشر لهم كتب دعوتهم التي يكفرون بها المسلمين ويستحلون دماءهم وأموالهم بقولهم يا رسول الله إشفع لي إقض حاجتي مع أنه لو احتمل الكفر من وجه واحد فهو يحتمل الإيمان من مائة وجه كما تعلمه من تضاعيف هذا الكتاب. - المؤلف - 280 تنفع الميت ويصله ثوابها وهو كذلك بإجماع العلماء (انتهى). وروى أحمد بن حنبل في مسنده عن عائشة أن رجلا قال للنبي " ص " إن أمي افتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت لتصدقت فهل لها أجر إن أتصدق عنها قال نعم. وروى أحمد بن حنبل أيضا عن ابن عباس أن بكرا أخا بني ساعدة توفيت أمه وهو غائب عنها فقال يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها فهل ينفعها إن تصدقت بشئ عنها قال نعم فقال أشهدك أن حائط المخرف صدقة عليها. وعن أحمد وأبي داود والترمذي أن النبي " ص " ذبح بيده وقال اللهم هذا عني وعن من لم يضح من أمتي. وعن سيف وأبي داود إن عليا كان يضحي عن النبي " ص " بكبش وكان يقول أوصاني إن أضحي عنه دائما. وعن علي أن النبي " ص " أوصاني أن أضحي عنه. وعن بريدة أن امرأة سألت النبي " ص " هل تصوم عن أمها بعد موتها وهل تحج عنها قال نعم. وعن ابن عباس أنه قال تفي البنت نذر أمها. وروي أن العاص بن وائل أوصى بالعتق فسأل ابنه النبي " ص " عن العتق له فأمر به. وعن عائشة أن النبي " ص " قال عند الذبح: اللهم تقبل من محمد وآل محمد وأمته وهذا أمر لا يشك أحد من المسلمين في جوازه وعليه جرت سيرتهم خلفا عن سلف وقد سمعت دعوى النووي إجماع العلماء عليه فهذا حال الذبح والنحر عن الأنبياء والأولياء الذي أعظم الوهابية أمره واستحلوا لأجله الدماء والأموال والأعراض لا يخرج عن مندوبات الشرع ومستحباته ومن ذلك يظهر فساد قول الصنعاني: إن كان النحر لله فلأي شئ قربت ما تنحره من باب المشهد الخ فإن اختيار الذبح في جوار المشهد. (أولا) لطلب زيادة الثواب لتشرف البقعة بمن فيها إن كان نبيا أو وليا فيزداد ثواب العمل بذلك لما ورد من أن الأعمال يتضاعف أجرها لشرف الزمان المكان وإنكار شرف المكان بشرف المكين إنكار للضروري (ثانيا) لما كان المراد إهداء الثواب إليه ناسب كون هذا العمل الذي هو عبادة وصدقة لله في المكان الذي فيه قبره لأن الهدية يؤتى بها عادة للمهدى إليه نظير قراءة القرآن عند قبره وإهداء ثواب القراءة إليه وليس في ذلك منافاة للدين ولا محذور لأن ذلك إن لم يكن راجحا فلا أقل من كونه مباحا (ثالثا) إن مريد الذبح يأتي غالبا للزيارة التي هي راجحة ومشروعة سواء بعدت المسافة أو قربت كما ستعرف في فصل الزيارة فيحضر ما يريد ذبحه وإهداء ثوابه إلى المزور معه وليس في واحد من هذه الوجوه الثلاثة محذور ولا مانع ولا منافاة للحنيفية السهلة السمحاء التي تشدد فيها الوهابيون تشدد الخوارج. وظهر
281 أيضا فساد قوله إن أردت بذلك تعظيمه فهذا النحر لغير الله بل أشركت مع الله تعالى غيره وإن لم ترد فهل أردت توسيخ باب المشهد الخ فإن مراده لا يخرج عن الوجوه الثلاثة المذكورة مع أنه لو أراد بذلك إظهار تعظيمه بإهداء الثواب إليه وأنه أهل لذلك الذي لا يظهر إلا بالذبح عند مشهده لم يكن فيه محذور ولا منه مانع أليس هو أهلا للتعظيم ومحلا لإهداء الثواب إلا أن يكون كل تعظيم لمخلوق شركا وكفرا كما تقتضيه حجج الوهابية فيعمهم الشرك أترى لو أن السلطان ابن سعود أو أحد عظماء أعراب نجد زاره أمير من الأمراء فأتى بالإبل والغنم ونحر وذبح لضيافة زائره وإكرامه وإظهار تعظيمه وذكر اسم الله على الذبيحة يكون كافرا ومشركا لأنه ذبح لغير الله وقصد بالذبح تعظيم المذبوح له؟! كلا حتى لو كان هذا الأمير الزائر ظالما لم يكن في الذبح له قصدا لتعظيمه كفر ولا شرك مع أنه ليس أهلا للتعظيم فكيف بمن هو أهل لكل تعظيم حيا وميتا كالأنبياء والمرسلين والأولياء الصالحين. فقوله هذا شرك بلا ريب إفك وافتراء بلا ريب. وظهر أيضا فساده ما موه به ابن عبد الوهاب من قوله هل الصلاة والنحر لله عبادة إذ يقول فصل لربك وانحر الخ الذي حاصله إن النحر لله عبادة لله فالنحر للمخلوق عبادة للمخلوق فإذا نحرت لمخلوق فقد أشركت في هذه العبادة غير الله كما أشرك الذين كانوا يذبحون للأوثان فإن النحر والذبح الذي يفعله المسلمون نحر وذبح لله بالوجه الذي بيناه وتوهم أنه مثل نحر عبدة الأصنام فاسد كما عرفته بما لا مزيد عليه والنحر لله معناه كونه لوجه الله وامتثالا لأمره فيما يكون مأمورا به وباسمه في مطلق النحر. قال في الكشاف: وانحر لوجهه وباسمه إذا نحرت مخالفا لهم في النحر للأوثان " انتهى " وما يفعله المسلمون جامع للأمرين فيذكر عليه اسم الله وينحر للصدقة وإهداء الثواب بخلاف ما ينحر للأوثان الذي يذكر اسمها عليه ويقصد به التقرب إليها لا إلى الله. مع أن النحر في الآية ليس متعينا لإرادة نحر الأنعام (ففي الكشاف) أنه نحر البدن وقيل هي صلاة الفجر بجمع والنحر بمنى وقيل صلاة العيد والتضحية وقيل جنس الصلاة، والنحر وضع اليمين على الشمال " انتهى " (وفي مجمع البيان) بعدما ذكر أنها صلاة العيد ونحر الهدي والأضحية عن عطاء وعكرمة وقتادة أو صلاة الفجر بجمع ونحر البدن بمنى عن سعيد بن جبير ومجاهد نقل عن الفراء أن معناه صل لربك الصلاة المكتوبة واستقبل القبلة بنحرك، تقول العرب: منازلنا تتناحر أي هذا ينحر هذا أي يستقبله وأنشد:
282 أبا حكم هل أنت عم مجالد * وسيد أهل الأبطح المتناحر أي ينحر بعضه بعضا قال وأما ما رووه عن علي " ع " أن معناه ضع يدك اليمنى على اليسرى حذاء النحر في الصلاة فمما لا يصح عنه لأن جميع عترته الطاهرة قد رووا عنه أن معناه ارفع يديك إلى النحر في الصلاة أي حال التكبير ثم أورد الروايات الدالة على ذلك. * الفصل الثامن في النذر لغير الله * وهذا مما صرح ابن تيمية قدوة الوهابية بعدم جوازه فإنه سئل في ضمن السؤال المتقدم في الفصل الثاني عمن ينذر للمساجد والزوايا والمشائخ حيهم وميتهم بالدراهم والإبل والغنم والشمع والزيت وغير ذلك يقول إن سلم ولدي فللشيخ علي كذا وكذا وأمثال ذلك. فأجاب بأنه قال علماؤنا لا يجوز أن ينذر لقبر ولا للمجاورين عند القبر شيئا من الأشياء لا من درهم ولا من زيت ولا من شمع ولا من حيوان ولا غير ذلك كله نذر معصية وقد ثبت في الصحيح عنه (ص) من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه واختلف العلماء هل على الناذر كفارة يمين على قولين (انتهى). وصرح الوهابية بأنه موجب للشرك صرحوا به في كتابهم إلى شيخ ركب الحاج المغربي المتقدم في الباب الثاني حيث جعلوا من جملة أسباب الشرك التقرب إلى الموتى بالنذور باعتبار أنه نوع من العبادة وصرف شئ من العبادة لغير الله كصرف جميعها. وصرح به الصنعاني في تطهير الاعتقاد في كلامه المتقدم في الباب الثاني بقوله بعد ما عد أشياء منها النذر: ومن فعل ذلك لمخلوق فهذا شرك في العبادة وصار من تفعل له إلها الخ. وقوله بعد ما ذكر أن اعتقاد النفع والضر في المخلوق أو الشفاعة شرك فضلا عمن ينذر بماله وولده لميت أو حي إلى قوله فهذا هو الشرك بعينه الذي كان عليه عباد الأصنام والنذور بالمال على الميت هو بعينه الذي كانت تفعله الجاهلية. وقال في الرسالة المذكورة (1) فإن قلت هذه النذور والنحائر ما حكمهما وأجاب بأن الأموال عزيزة على أهلها والناذر ما أخرج من ماله إلا معتقدا لجلب نفع أكثر منه أو دفع ضرر ولو عرف بطلان ما أراده ما أخرج درهما فالواجب تعريفه بأنه إضاعة لماله ولا ينفعه ما يخرجه ولا يدفع عنه ضررا وقد قال " ص " إن النذر لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل ويجب رده إليه ويحرم قبضه ولأنه تقرير للناذر على
(1) ص 16 283 شركه إلى آخر ما ذكره من هذا القبيل. وقال في موضع آخر من تلك الرسالة (1) أنه يجب على العلماء بيان أن ذلك الاعتقاد الذي تفرعت عنه النذور والنحائر والطواف بالقبور شرك محرم وأنه عين ما كان يفعله المشركون لأصنامهم. والجواب عن هذا كالجواب عن سابقه من النحر والذبح بأن من ينذر لنبي أو ولي أو رجل صالح دراهم أو خلافها لا يقصد إلا نذر الصدقة وإهداء ثوابها إلى النبي أو الولي أو الصالح ولا يقصد التقرب إليه بالنذر بل التقرب إلى الله تعالى وكيف يقصد التقرب إليه وهو يعلم أنه ميت لا يمكنه الانتفاع بالمنذور لا بأكله إن كان طعاما ولا بصرفه إن كان نقودا ولا بلبسه إن كان ثيابا ولا بشئ من الانتفاع مهما كان المنذور مع وجوب حمل أفعال المسلمين وأقوالهم على الصحة مهما أمكن وعدم جواز التهجم على الدماء والأموال والأعراض بمجرد الظنون والأوهام كما مر في المقدمات فلا يزيد هذا النذر على من نذر لأبيه أو أمه أو حلف أو عاهد أن يتصدق عنهما كما روي عنه (ص) أنه قال للبنت التي نذرت لأبيها عملا (ف) بنذرك فإن كان النذر للآباء والأمهات كفرا كان هذا كفرا وإلا فلا. واختبار بعض الأمكنة للنذر طلبا لشرف المكان حتى يتضاعف ثواب العبادة كما يختار بعض الأزمنة لبعض العبادات لا بأس به بل لا بأس بتخصيص بعض الأمكنة كما يستفاد مما روي عن ثابت بن الضحاك عن النبي " ص " أن رجلا سأله إنه نذر أن يذبح ببوانة فقال هل كان فيها وثن يعبد قال لا قال فهل كان فيها عيد من أعيادهم فقال لا فقال ف بنذرك. وفي القاموس بوانه كثمامة هضبة وراء ينبع. وفي النهاية الأثيرية في حديث النذر أن رجلا نذر أن ينحر إبلا ببوانة هي بضم الباء وقيل بفتحها هضبة من وراء ينبع (انتهى) وكأن سؤاله " ص " عن أنه هل كان فيها وثن يعبد أو عيد من أعياد الجاهلية خشية أن يكون النذر جاريا على عادة أهل الجاهلية لقرب العهد بهم وإن كان السائل مسلما فقد قالوا له " ص " اجعل لنا ذات أنواط وهم مسلمون وقال أصحاب موسى له حين مروا على قوم يعكفون على الأصنام اجعل لنا إلها كما لهم آلهم أو أنه إذا كان فيها وثن يعبد أو عيد من أعيادهم يكون النذر مرجوحا فلا ينعقد لأن شرطه الرجحان أو تساوي الطرفين والله أعلم. وقد ظهر بذلك بطلان ما قاله ابن تيمية ناقلا له عن علمائهم من عدم جواز النذر
(1) ص 12 284 للقبر ولا للمجاورين وعده نذر معصية حتى فرط بعضهم فيما نقله عنه فأوجب على الناذر كفارة يمين. أما النذر للقبر فلا يفعله أحد بل ولا لصاحب القبر وإنما النذر لله والصدقة به عن صاحب القبر بمعنى إهداء ثوابه إليه ولو فرض صدور ما يوهم خلاف ذلك فهو محمول عليه حملا لفعل المسلم على الصحة كما مر وأما النذر للمجاورين فإن المجاورة عند القبر لا مانع منها شرعا لو لم تكن راجحة طلبا لشرف البقعة التي تشرفت بصاحب القبر وإنكار شرف القبر مصادمة للضرورة ويكفي في رده دفن الصاحبين عند النبي " ص " حتى عد ذلك منقبة عظيمة لهما ومنع بني أمية وبعض أمهات المؤمنين من دفن الحسن عند جده قائلين أيدفن عثمان في أقصى البقيع ويدفن الحسن عند جده وإصرار بني هاشم على ذلك حتى كاد يؤدي إلى إراقة الدماء كما سنبينه في غير هذا الموضع. والمجاورون عند القبر عباد الله يجوز التصدق عليهم كالتصدق على غيرهم إن لم يكن أولى ولم يخرجوا بمجاورتهم عن استحقاق الصدقة وليست المجاورة عند القبر عبادة له حتى تكون محرمة لما بيناه مرارا من أنه ليس كل تعظيم واحترام عبادة وقياس ابن تيمية ذلك فيما مر من كلامه في الفصل الثاني على ما ذكروه من أن ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا أسماء قوم صالحين من قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم طال عليهم الأمد فاتخذوا تماثيلهم أصناما قياس فاسد فإن أولئك صوروا صورهم في المساجد وكانوا يصلون إليها ثم اتخذوها أوثانا وعبدوها فسبب عبادتهم لها تصويرهم تلك الصور وصلاتهم إليها لا احترام قبورهم وليس في المسلمين من يفعل مثل فعلهم ومجرد احتمال أن يؤدي الشئ إلى محرم لا يوجب تحريمه وإلا لم يبق في الدنيا حلال. كما ظهر بذلك بطلان ما هول به اليماني في أمر النذر فجعل أخذه حراما وتقريرا للمشرك على شركه وقد عرفت بما ذكرنا صحة النذر وأنه لا يزيد عن نذر الصدقة عن الميت الثابت جوازه ورجحانه وأنه لا يحرم أخذه وأنه ليس فيه شئ من الشرك حتى يكون أخذه تقريرا للشرك وأن النفع حاصل به وهو الثواب منه تعالى والضرر يندفع به كما يندفع بالصدقة إذ هو لا يخرج عنها. أما الحديث الذي استشهد به فمع فرض سلامة سنده وإن قال صاحب المنار في الحاشية أنه متفق عليه من حديث ابن عمر يجب طرحه لمخالفته العقل والنقل فمن نذر أن يتصدق بمال أو ينفقه في سبيل الله أو نحو ذلك فقد أتى
285 له نذره بخير الدنيا والآخرة ودفع عنه الله به ضرر الدنيا والآخرة فلا يمكن أن يحكم " ص " بأنه لا يأتي بخير. * الفصل التاسع * * في بناء القبور والبناء عليها وتجصيصها وعقد القباب فوقها وعمل الصندوق والخلعة لها * وهذا مما حرمه الوهابية وأوجبوا هدم القبور والقباب التي عليها والبناء الذي حولها بل جعلوا ذلك شركا وكفرا. وصرح الصنعاني في تطهير الاعتقاد بأن المشهد بمنزلة الوثن والصنم في كلامه المتقدم في الباب الثاني بقوله: إن ما كانت تفعله الجاهلية لما يسمونه وثنا وصنما هو الذي يفعله القبوريون لما يسمونه وليا قبرا ومشهدا وذلك لا يخرجه عن اسم الوثن والصنم الخ. وصرح بذلك الوهابيون في كتابهم إلى شيخ الركب المغربي المتقدم هناك بقولهم: إن ما حدث من تعظيم قبور الأنبياء وغيرهم ببناء القباب عليها وغير ذلك من حوادث الأمور التي أخبر عنها النبي " ص " بقوله لا تقوم الساعة حتى يلحق الحي من أمتي بالمشركين وحتى يعبد فئام من أمتي الأوثان. وزعم الوهابيون أن البناء على القبور بدعة حدثت بعد عصر التابعين. وقال قاضي قضاتهم عبد الله بن سليمان بن بليهد في مقالته التي نشرتها جريدة أم القرى في عدد جمادى الثانية سنة 1345 لم نسمع في خير القرون إن هذه البدعة حدثت فيها بل بعد القرون الخمسة (انتهى). واتبع الوهابية في ذلك قدوتهم وباذر بذور مذهبهم أحمد بن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية التي عنه أخذ وبه اقتدى. قال: ابن القيم على ما حكي عنه في كتابه زاد المعاد في هدى خير العباد (1) ما حاصله: أنه يجب هدم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا وطواغيت تعبد من دون الله ولا يجوز إبقاؤها بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوما واحدا فإنها بمنزلة اللات والعزى أو أعظم شركا عندها وبها يجب على الإمام صرف الأموال التي تصير إلى هذه المشاهد والطواغيت في الجهاد ومصالح المسلمين كما أخذ النبي " ص " أموال اللات وكذا يجب عليه هدم هذه المشاهد وله أن يقطعها للمقاتلة أو يبيعها ويستعين بأثمانها
(1) ص 661 286 على مصالح المسلمين وكذا حكم أوقافها فإن الوقف عليها باطل وهو مال ضائع فيصرف في مصالح المسلمين (انتهى). ولذلك هدم الوهابيون ما استطاعوا هدمه من مشهد الحسين (ع) وقبره الشريف أيام استيلائهم على كربلاء وهدموا قبة أئمة البقيع من أهل البيت الطاهر عند استيلائهم على المدينة المنورة في المرة الأولى وفي هذه المرة وهدموا قبورهم الشريفة وسووها بالأرض وشوهوا محاسنها وتركوها معرضا لوطأ الأقدام ودوس الكلاب والدواب وكذلك قبر سيد الشهداء حمزة بأحد وقبته والمسجد الذي عنده وقبور سائر الصحابة والتابعين وغيرهم في مكة المكرمة والمدينة المنورة وجميع الحجاز كما فصلناه في المقدمة الأولى في تاريخ الوهابية لكنهم في المرة الثانية لما عزموا على هدمها أرادوا أن يظهروا مبررا وعذرا لعملهم في هدم قباب أئمة المسلمين وقبورهم وإنكار فضلها وفضل أهلها وإهانة من أوجب الله تعظيمه واحترامه حيا وميتا بإهانة قبره من نبي أو ولي أو صديق أو شهيد عملا بشبهتهم الواهية من أن تعظيمها عبادة لها وأنها صارت كالأصنام تعبد من دون الله تعالى وأنه تعالى نهى عن البناء على القبور فأرسلوا قاضي قضاتهم المسمى الشيخ عبد الله بن بليهد إلى المدينة المنورة في شهر رمضان سنة 1344 وبعد دخوله المدينة وجه إلى علمائها هذا السؤال: * السؤال الموجه إلى علماء المدينة في هدم القبور * ما قول علماء المدينة زادهم الله فهما وعلما في البناء على القبور واتخاذها مساجد هل هو جائز أم لا وإذا كان غير جائز بل ممنوع منهي عنه نهيا شديدا فهل يجب هدمها ومنع الصلاة عندها أم لا وإذا كان البناء في مسبلة كالبقيع وهو مانع من الانتفاع بالمقدار المبني عليها فهل هو غصب يجب رفعه لما فيه من ظلم المستحقين ومنعهم استحقاقهم أم لا وما يفعله الجهال عند هذه الضرائح من التمسح بها ودعائها مع الله والتقرب بالذبح والنذر لها وإيقاد السرج عليها هل هو جائز أم لا وما يفعل عند حجرة النبي " ص " من التوجه إليها عند الدعاء وغيره والطواف بها وتقبيلها والتمسح بها وكذلك ما يفعل في المسجد من التحريم والتذكير بين الأذان والإقامة وقبل الفجر ويوم الجمعة هل هو مشروع أم لا أفتونا مأجورين وبينوا لنا الأدلة المستند إليها لا زلتم ملجأ للمستفيدين. * وهذا هو نص الجواب المنسوب لعلماء المدينة * أما البناء على القبور فهو ممنوع إجماعا لصحة الأحاديث الواردة في منعه ولهذا أفتى
287 كثير من العلماء بوجوب هدمه مستندين على ذلك بحديث علي أنه قال لأبي الهياج ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله " ص " أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته رواه مسلم وأما اتخاذ القبور مساجد والصلاة فيها وإيقاد السرج عليها فممنوع لحديث ابن عباس لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج رواه أهل السنن (1) وأما ما يفعله الجهال عند الضرائح من التمسح بها والتقرب إليها بالذبائح والنذور ودعاء أهلها مع الله فهو حرام ممنوع شرعا لا يجوز فعله أصلا وأما التوجه إلى حجرة النبي " ص " عند الدعاء فالأولى منعه كما هو معروف من معتبرات كتب المذهب ولأن أفضل الجهات جهة القبلة وأما الطواف والتمسح بها وتقبيلها فهو ممنوع مطلقا وأما ما يفعل من التذكير والترحيم والتسليم في الأوقات المذكورة فهو محدث هذا ما وصل إليه علمنا " انتهى ". ولسنا نعتقد ولا نظن أن جميع علماء المدينة المنورة موافقون على هذا الجواب وما فيه من الحجج الواهية كما ستعرف وإنما هو من الوهابية وإليهم وألفاظه ألفاظهم متوافقة مع عبارات رسائلهم التي نقلنا جملة منها وجل علماء المدينة ساكتون خائفون من نسبة الاشراك إليهم الذي به تستحل دماؤهم وأموالهم وأعراضهم فإن وافق موافق منهم فخوفا من السوط والبندق. ونحن نتكلم على بطلان هذه الفتوى ودليلها. فنقول: يرجع استدلالهم على ذلك إلى أمور " الأول " الاجماع المشار إليه بقولهم: البناء على القبور ممنوع إجماعا " والجواب " بطلان دعوى الاجماع بل هو جائز إجماعا لاستمرار عمل المسلمين عليه من جميع المذاهب في كل عصر وزمان عالمهم وجاهلهم مفضولهم وفاضلهم أميرهم ومأمورهم رجالهم ونسائهم سنيهم وشيعيهم قبل ظهور الوهابية توافقوا عليه في جميع الأجيال والأعصار والأمصار والنواحي والأقطار بدون منع ولا إنكار والسيرة إجماع عملي يشملها ما دل على حجية الاجماع لكشفها كشفا قطعيا لا يعتريه شك عن أن ذلك مأخوذ من صاحب الشرع ومتبوع المسلمين كما مر في المقدمات فلا يتطرق إليها بعض الشبهات الموردة على الاجماع وليس في الإسلام أمر حصلت فيه السيرة حصولها في هذا الأمر واتفق عليه جميع المسلمين
(1) هذه العبارة في رسائل الوهابية وهذا مما يدل على أن الجواب من الوهابية وإليهم - المؤلف - 288 من كل فرقة ولا يضر بهذه السيرة ما قد يوجد في بعض الكتب مما ينقله الوهابيون من القول بالمنع استنادا إلى بعض الروايات الشاذة التي لا عامل بها أو لا دلالة فيها أو لم تثبت صحتها غفلة منهم عن هذه السيرة المستمرة التي سبقتهم ولحقتهم فأقوالهم مردودة بها كما يرد القول المسبوق بالإجماع والملحوق به ولعلنا نشير إليها فيما سيأتي إن شاء الله تعالى وقد اعترف بهذه السيرة الصنعاني في رسالته تطهير الاعتقاد (1) حيث أورد على نفسه سؤالا بأن هذا أمر عم البلاد وطبق الأرض شرقا وغربا بحيث لا بلدة من بلاد الإسلام إلا وفيها قبور ومشاهد بل مساجد المسلمين غالبها لا تخلو عن قبر أو مشهد. ولا يسع عقل عاقل إن هذا منكر يبلغ إلى ما ذكرت من الشناعة ويسكت عليه علماء الإسلام الذين ثبتت لهم الوطأة في جميع جهات الدنيا. وأجاب بأنك إن أردت الإنصاف وتركت متابعة الأسلاف وعرفت أن الحق ما قام عليه الدليل لا ما اتفق عليه العوالم جيلا بعد جيل فاعلم أن هذه الأمور صادرة عن العامة الذين إسلامهم تقليد الآباء بلا دليل ولا يسمعون من أحد عليهم من نكير بل ترى من يتسم بالعلم ويدعي الفضل وينتصب للقضاء والفتيا والتدريس أو الولاية أو المعرفة أو الإمارة والحكومة معظما لما يعظمونه مكرما ما يكرمونه ولا يخفى أن سكوت العالم أو العالم على وقوع منكر ليس دليلا على جوازه. قال: ولنضرب لك مثلا المكوس المعلوم من ضرورة الدين تحريمها قد ملأت الأرض حتى في أشرف البقاع أم القرى تقبض المكوس من القاصدين لأداء فريضة الإسلام وسكانها من العلماء والحكام ساكتون. قال وهذا حرم الله أفضل بقاع الدنيا بالاتفاق وإجماع العلماء أحدث فيه بعض ملوك الشراكسة هذه المقامات الأربعة التي فرقت عبادات المسلمين وصيرتهم كالملل المختلفة بدعة قرت بها عين إبليس وصيرت المسلمين ضحكة للشياطين وقد سكت الناس عليها ووفد علماء الآفاق والأبدال والأقطاب إليها أفهذا السكوت دليل على جوازها هذا لا يقوله من له إلمام بشئ من المعارف كذلك سكوتهم على هذه الأشياء الصادرة من القبوريين. إلى أن قال ما حاصله: لو فرض أنهم علموا بالمنكر وسكتوا لما دل سكوتهم على جوازه لأن مراتب الانكار ثلاثة إذا تعذرت واحدة وجبت الأخرى. الانكار باليد
(1) ص 17 - 19 طبع المنار بمصر. 289 ثم باللسان ثم بالقلب فإذا مر عالم بمن يأخذ المكوس لم يستطع الانكار باليد ولا باللسان فيجب على من رآه ساكتا أن يعتقد أنه أنكر بقلبه فإن حسن الظن بالمسلمين أهل الدين والتأويل لهم ما أمكن واجب فالداخلون إلى الحرم الشريف والمشاهدون لمقامات المذاهب الأربعة معذورون عن الانكار إلا بالقلب كالمارين على المكاسين والقبوريين فهذه الأمور أسسها من بيده السيف ودماء العباد وأموالهم وأعراضهم تحت لسانه وقلمه فكيف يقوى أحد على دفعه (انتهى). وفيه اعتراف بوقوع السيرة على أكمل وجوهها وأتمها بحيث لم يقع في الإسلام سيرة مثلها بما اختصرناه من عباراته فضلا عما أطال به من باقي عباراته المسجعة كعادته وعادة أصحابه الوهابية وقد اعترف في جوابه بوقوع ذلك من جميع طبقات الناس من العوام والعلماء والفضلاء والقضاة والمفتين والمدرسين والأولياء والعارفين والأمراء والحكام بدون نكير ولم يخرج عنه باعترافه طبقة من الطبقات فأي سيرة أقوى من هذه وأشمل. أما جوابه بأن الحق ما قام عليه الدليل لا ما اتفقت عليه الأجيال ففيه أن اتفاق الأمة جيلا بعد جيل دليل قطعي لا دليل أقوى منه حتى يعارضه. وقوله: إن سكوت العالم أو العالم على منكر ليس دليلا على جوازه فيه أن ذلك إذا علم أنه منكر والبناء على القبور محل النزاع فأنتم تدعونه منكرا ونحن نقول إنه معروف ونستدل بسيرة المسلمين الكاشفة بوجه القطع عن أخذه من صاحب الشرع فإذا سكت العلماء والعالم عن أمر مع قدرتهم على الانكار علمنا أنه ليس منكرا. أما المثل الذي ضربه من أخذ المكوس حتى في مكة المكرمة وسكوت العلماء. ففيه أنه قياس مع الفارق. (أولا) إن الآخذين للمكوس هم الحكام وذوو الشوكة وحدهم والبانون للقبور وللقباب عليها والمعظمون لها المتبركون بها هم جميع طبقات الناس فبطل القياس. (ثانيا) إن المكوس أمور دولية تعارض فيها الحكام الذين تخاف سطوتهم لمنافاة تركها لمصلحتهم وإخلاله بأمور دولتهم بخلاف بناء القبور وتعظيمها فإنها أمور دينية صرفة مرجعها العلماء وأهل الدين فسكوت العلماء عن الأول لا يدل على الرضا بخلاف الثاني. (ثالثا) إن العلماء وجميع المتدينين غير ساكتين عن الاجهار بتحريم المكوس وذم قابضها وتفسيقه والتجنب عنها وعدها من السحت يجيبون بذلك كل من يسألهم ويثبتونه في كتبهم ويتحدثون به في مجتمعاتهم وها هو يصرح بتحريمه في رسالته هذه ويندد بفاعليه ويذمهم أشد الذم مع
290 وجوده في زمانهم وعدم قدرته على منعه وها هي رسالته تطبع وتنشر في الآفاق ولا يخاف طابعها وناشرها من الحكام الآخذين المكوس أفيقال بعد هذا إنهم ساكتون نعم هم ممسكون عن المنع لعدم قدرتهم، كما أمسك الإخوان الوهابيون المجددون ما انمحى من آثار الإسلام والرافعون البدع والمحرمات بالسيف والسنان، عن منع حكومتهم من أخذ المكوس المحرمة عندهم في جدة وغيرها حتى عن التتن والتنباك المحرم تدخينه عندهم والمعاقب مدخنه وأخذت في العام الماضي من كل قاصد لحج بيت الله الحرام ليرة عثمانية ذهبا وفي هذا العام أزيد من ذلك عدا عما شاركت به أصحاب الجمال والسيارات والبيوت والباعة وغير ذلك. والإخوان ساكتون لعدم قدرتهم على المنع لكنهم يصرحون بالتحريم وإن كانوا قادرين فقد تركوا أعظم واجب في الدين. أما تمثيله بالمقامات الأربعة ففساده أظهر من مسألة المكوس فإن المكوس مما قام على تحريمها إجماع المسلمين بل ضرورة الدين وأنكرها جميع العلماء وأهل الدين إن لم يكن باليد فباللسان مع أنها أمور دولية يخاف منكرها كما عرفت وليس كذلك المقامات الأربعة فلم يسمع عن أحد إنكارها قبل الوهابية مع كونها دينية صرفة ولم يقم دليل على كونها بدعة محرمة كما قام على تحريم المكوس فإن جعل مقامات أربعة لأئمة أربعة يقلدهم أربعة أخماس المسلمين ويرون أقوالهم وفتاواهم حجة وجلهم إلا من شذ يمنع الاجتهاد بعدهم ليس فيه شئ من البدعة فهو كاصطلاح أهل بلد على أن يصلي بهم أربعة أشخاص أحدهم يوم كذا أو في مكان كذا أو صلاة كذا والآخر في خلاف ذلك مع كون الكل صالحين للإمامة وجعلهم لكل واحد محرابا أو مسجدا فإنه ليس منكرا ولا بدعة ولا إدخالا في الدين ما ليس منه لدخوله في عموم جواز الصلاة في أي مسجد كان وأي محل كان وعموم جواز الصلاة خلف أي إمام كان بعد اعتقادهم وتصريحهم بأن ذلك ليس بأمر واجب وإن لكل ذي مذهب أن يصلي خلف من شاء منهم وكل ما دخل في عموم أو إطلاق خرج عن البدعة وليس كل ما لم يكن في زمن النبي " ص " من الهيئات وبعض الكيفيات ولا كل ما لم يرد به بخصوص نص بدعة بعد دخوله في عمومات أدلة الشرع وإطلاقاتها كما مر في المقدمات. وجعل المحاريب للأئمة الأربعة لا يزيد على جعل المذاهب أربعة وكتب المذاهب أربعة والمنتمين إليها أربعة والمفتين من أهل المذاهب أربعة فإن كان ذلك بدعة فليكن هذا بدعة لأن كلا من ذلك لم يكن على عهد رسول الله
291 " ص " وإن كان جعل أربعة مقامات لأهل المذاهب كل إمام منهم يصلي في واحد منها بدعة فما رسمه الوهابية بعد استيلائهم على الحجاز في المرة الأولى وهذه المرة بأن يصلي الصبح الشافعي والظهر المالكي والعصر الحنبلي والمغرب الحنفي والعشاء من شاء - بدعة لأن ذلك لم يكن على عهد رسول الله " ص " وإن كان المانع منه تكرار صلاة الجماعة في المسجد فأي مانع من تكرارها ولم ترد فيه آية ولا رواية مع أن تكرار الخير خير وإن كانت حجتهم في منع التكرار أنه لم يكن على عهد النبي " ص " والخلفاء فمع وجوده " ص " من الذي يأتم بغيره ومع وجود خليفة المسلمين لا ينبغي الائتمام بغيره فلا يقاس بذلك هذا الزمان. فظهر بطلان قوله أن الداخلين إلى الحرم كالمارين على المكاسين والقبوريين لوضوح الفرق بين المكس وغيره كما ذكرناه مع أن قياسه البناء على القبور بالمقامات الأربعة أيضا باطل لأن البناء على القبور اتفق على فعله قبل الوهابية جميع طوائف المسلمين بدون استثناء وأما المقامات الأربعة فاختص بفعلها جل طوائف المسلمين لا كلها. قوله: فإن حسن الظن بالمسلمين أهل الدين والتأويل لهم ما أمكن واجب. إذا كان يعترف بوجوب حسن الظن بالمسلمين والتأويل لهم مهما أمكن فما باله يسئ الظن بهم في استشفاعهم أو استغاثتهم بالأنبياء والصالحين وغيرها ويكفرهم ويشركهم بذلك ويجعل شركهم شركا أصليا ويستحل بذلك دماءهم وأموالهم وأعراضهم مع أن التأويل لهم ممكن هين واضح حتى في مثل ارزقني وعاف مريضي بإرادة طلب الشفاعة وسؤال الدعاء كما فصلناه فيما مضى. (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون). ثم إنهم في هذه الفتوى المنسوبة لعلماء المدينة عللوا الاجماع بصحة الأحاديث وهو تعليل عليل لأن صحة الحديث في نظرهم ودلالته عندهم وخلوه من المعارض لا توجب ذلك في نظر غيرهم فكيف يدعي الاجماع لدعوى صحة الحديث مع أنك ستعرف عدم صحته وعدم دلالته فإن أرادوا أن الاجماع واقع وعلة وقوعه صحة الأحاديث فالعلماء أجمعوا لما رأوا صحة الأحاديث فهو تخرص وتهجم على الغيب بغير دليل وكيف يدعي إجماع العلماء وقد توالت الأحقاب والأجيال على بناء القبور من جميع المسلمين على تفاوت طبقاتهم ونحلهم ومذاهبهم بدون منكر ومعارض إلا من شذ ممن سبقته السيرة ولحقته كما عرفت آنفا فلو كان ذلك مجمعا عليه لما وقعت السيرة التي هي أقوى من الاجماع
292 على خلافه. قولهم: ولهذا أفتى كثير من العلماء بوجوب هدمه. إذا كان مجمعا على تحريمه فلماذا أفتى كثير من العلماء بوجوب هدمه ولم لم يفتوا كلهم بوجوب هدمه ما هذا التناقض والتهافت في هذه الفتوى الواهية (الثاني) من أدلتهم حديث أبي الهياج المتكرر ذكره في كلمات الوهابية والمتقدم ذكره في الفتوى المنسوبة لعلماء المدينة. والجواب عنه: القدح فيه سندا ومتنا. أما سنده ففيه وكيع وهو مع كثرة ما مدحوه به قال في حقه أحمد ابن حنبل أنه أخطأ في خمسمائة حديث حكاه الحافظ ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب (1) عن عبد الله بن أحمد عن أبيه وقال في آخر ترجمته (2) قال محمد بن نصر المروزي كان يحدث بآخره من حفظه فيغير ألفاظ الحديث كأنه كان يحدث بالمعنى ولم يكن من أهل اللسان (انتهى). وفي سنده سفيان الثوري وهو مع كثرة ما مدحوه به أيضا نقل في حقه ابن حجر في تهذيب التهذيب (3) عن ابن المبارك قال حدث سفيان بحديث فجئته وهو يدلسه فلما رآني استحيى وقال نرويه عنك وذكر في ترجمة يحيى القطان (4) قال أبو بكر سمعت يحيى يقول جهد الثوري أن يدلس علي رجلا ضعيفا فما أمكنه قال مرة حدثنا أبو سهل عن الشعبي فقلت له أبو سهل محمد بن سالم فقال يا يحيى ما رأيت مثلك لا يذهب عليك شئ. وفي سنده حبيب بن أبي ثابت وهو مع توثيقهم له قال ابن حجر في تهذيب التهذيب (5) قال ابن حبان كان مدلسا وقال العقيلي غمزه ابن عون وقال القطان له غير حديث عن عطاء لا يتابع عليه وليست بمحفوظة. إلى أن قال: وقال ابن خزيمة في صحيحه كان مدلسا وقال ابن جعفر النحاس كان يقول إذا حدثني رجل عنك بحديث ثم حدثت به عنك كنت صادقا (6) قال ونقل العقيلي عن القطان قال حديثه عن عطاء ليس بمحفوظ قال العقيلي وله عطاء أحاديث لا يتابع عليها. وفي سنده أبو وائل وهو الأسدي شقيق بن سلمى الكوفي بدليل رواية حبيب بن أبي ثابت عنه فقد ذكر ابن حجر في تهذيب التهذيب أنه ممن يروي عنه وليس هو القاص عبد الله بن بحير. وكان ابن وائل
(1) الجزء 11 صفحة 125 (2) ج 11 صفحة 130 (3) ج 4 صفحة 115 (4) ج 11 صفحة 218 طبع الهند (5) ج 3 صفحة 179 (6) هذا هو التدليس وهو أن يروي عن رجل لم يلقه وبينه وبينه واسطة فلا يذكر الواسطة - المؤلف - 293 هذا منحرفا عن علي (ع) مبغضا له وقد قال رسول الله " ص " لعلي (ع) لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (1) ومنهم. أي المنحرفين عن علي (ع) أبو وائل شقيق بن سلمى كان عثمانيا يقع في علي (ع) ويقال إنه كان يرى رأي الخوارج ولم يختلف في أنه خرج معهم وأنه عاد إلى علي (ع) منيبا مقلعا روى خلف بن خليفة قال أبو وائل خرجنا أربعة آلاف فخرج إلينا علي فما زال يكلمنا حتى رجع منا الفان وروى صاحب كتاب الغارات عن عثمان بن أبي شيبة عن الفضل ابن دكين عن سفيان الثوري قال سمعت أبا وائل يقول شهدت صفين وبئس الصفين كانت قال وروى أبو بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود قال كان أبو وائل عثمانيا (انتهى) ويؤيد انحرافه عن علي (ع) ما حكاه ابن حجر في تهذيب التهذيب (2) أنه قال عاصم ابن بهدلة قيل لأبي وائل أيهما أحب إليك علي أو عثمان قال كان علي أحب إلي ثم صار عثمان (انتهى). هذا شأن سند الحديث. وأما متنه ففيه (أولا) أنه شاذ انفرد به أبو الهياج بل قال السيوطي في شرح سنن النسائي (3) أنه ليس لأبي الهياج في الكتب إلا هذا الحديث الواحد (انتهى). (ثانيا) أنه لا دلالة فيه على شئ مما زعموه من عدم جواز البناء على القبور بل هو وارد في الأمر بالتسطيح والنهي عن التسنيم فإن المشرف وإن كان معناه العالي إلا أن التسنيم نوع من العلو أو معنى من معانيه. ففي القاموس الشرف محركة العلو ومن البعير سنامه (انتهى) فالمشرف يشمل بإطلاقه أو بوضعه العالي بالتسنيم وبغيره إلا أن قوله ألا سويته قرينة على إرادة التسنيم من الأشراف لأن التسوية التعديل. ففي المصباح المنير: استوى المكان اعتدل وسويته عدلته. وفي القاموس سواه جعله سويا (انتهى) فقوله إلا سويته يعين أن المراد من الأشراف ما يقابل التسوية وليس هو إلا التسنيم فإن مطلق العلو لا يقابل التسوية لجواز أن يكون عاليا مستويا فلا يناسب مقابلة العالي بالمستوى بل اللازم أن يقول إلا جعلته لاطئا أو نحو ذلك وإرادة الهدم من التسوية غير صحيحه ولا يساعد عليها عرف ولا لغة لأن التسوية ليس معناه الهدم ولا تستعمل فيه إلا بأن يقال سويته بالأرض أو نحو ذلك مع أن التسوية
(1) ج 1 صفحة 370 طبع مصر (2) ج 4 صفحة 362 (3) صفحة 286 ج ل 294 بالأرض ليست من السنة بالاتفاق للاتفاق على استحباب رفع القبر عن الأرض في الجملة وعلى كل حال فلا دلالة فيه على عدم جواز البناء على القبور ولا ربط له بذلك فيجعل علو القبر نحو شبر ويجعل عليه حجرة أو قبة. والحاصل أنه سواء جعلنا معنى قوله ولا قبرا مشرفا إلا سويته ولا قبرا مسنما إلا سطحته وأزلت سنامه كما هو الظاهر. أو ولا قبرا عاليا إلا وطيته، لا ربط لذلك بالبناء على القبور. وما ذكرناه في معنى الحديث هو الذي فهمه منه العلماء وأئمة الحديث. وروى مسلم في صحيحه في كتاب الجنائز (1) بسنده عن ثمامة قال كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بقبره فسوي ثم قال سمعت رسول الله " ص " يأمر بتسويتها ثم روى حديث أبي الهياج ومن الواضح أن قوله فأمر فضالة بقبره فسوي أي سطح ولم يجعله مسنما وكذا قوله سمعت رسول الله " ص " يأمر بتسويتها أي تسطيحها وليس المراد أنه أمر به فهدم لأنه لم يكن مبنيا ولا المراد أنه أمر به فسوي مع الأرض لأن ذلك خلاف السنة للاتفاق على استحباب تعليتها عن الأرض في الجملة كما عرفت فتعين أن يراد به التسطيح فكذا خبر أبي الهياج الذي عقب به مسلم وساقه مع هذا الحديث في مساق واحد وذلك دليل على أنه حمل قوله ولا قبرا مشرفا إلا سويته على معنى ولا قبرا مسنما إلا سطحته. وقال النووي: في الشرح قوله يأمر بتسويتها وفي الرواية الأخرى ولا قبرا مشرفا إلا سويته فيه أن السنة أن القبر لا يرفع عن الأرض رفعا كثيرا ولا يسنم بل يرفع نحو شبر ويسطح وهذا مذهب الشافعي ومن وافقه (انتهى) فحمل التسوية على التسطيح وعدم رفع القبر كثيرا كما ترى. ومن العجيب أن بعض الوهابيين في رسالته المسماة بالفواكه العذاب إحدى رسائل الهدية السنية الحاوية لمناظرة مؤلفها النجدي مع علماء الحرم الشريف بزعمه في عهد الشريف غالب سنة 1211 استدل على عدم جواز البناء على القبور بحديثي فضالة وأبي الهياج المذكورين مع أنهما كما عرفت واردان في التسطيح ولا مساس لهما بعدم جواز البناء حتى لو سلمنا أن حديث أبي الهياج يدل على عدم الرفع كثيرا كما فهمه النووي في كلامه السابق فلا دلالة له على عدم جواز البناء على القبور فلو جعل علو القبر نحو شبر وبني عليه حجرة
(1) ج 4 صفحة 312 بهامش إرشاد الساري 295 لم يكن ذلك منافيا للحديث المذكور كما عرفت ولكن هؤلاء يسردون الأحاديث ويجعلونها دالة على مرادهم بالسيف ومن أبى كفر وأشرك " معزا ولو طارت " وقال القسطلاني: في إرشاد الساري شرح صحيح البخاري (1): روى أبو داود بإسناد الصحيح أن القاسم ابن محمد بن أبي بكر قال دخلت على عائشة فقلت لها اكشفي لي عن قبر النبي " ص " وصاحبيه فكشفت عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء أي لا مرتفعة ولا لاصقة بالأرض كما بينه في آخر الحديث (انتهى). ثم قال القسطلاني: ولا يؤثر في أفضلية التسطيح كونه صار شعار الروافض لأن السنة لا تترك بموافقة أهل البدع فيها ولا يخالف ذلك قول علي رضي الله عنه أمرني رسول الله " ص " أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته لأنه لم يرد تسويته بالأرض وإنما أراد تسطيحه جمعا بين الأخبار نقله في المجموع عن الأصحاب (انتهى). وقال الترمذي: باب ما جاء في تسوية القبور ولم يقل في هدم القبور ثم أورد حديث أبي الهياج وظاهر أنه لم يحمل التسوية فيه إلا على التسطيح لأن ذلك هو معناها لغة وعرفا ولا ربط له بعدم جواز البناء عليها مع أن الوهابيين في الرسالة الآنفة الذكر (2) أو ردوا هذا الذي ذكره الترمذي دليلا على عدم جواز البناء. (الثالث) من أدلتهم ما أشار إليه ابن بليهد في سؤاله الموجه لعلماء المدينة من قوله وإذا كان البناء في مسبلة كالبقيع الخ. وفيه أن تسبيلها أي وقفها في سبيل الله مقبرة للمسلمين دعوى بلا دليل إذ لم ينقل ناقل أن أحدا وقفها لذلك فهي باقية على الإباحة الأصلية ولو فرض وقفها مقبرة فليس على وجه التقييد بعد جواز الانتفاع بها إلا بقدر الدفن وعدم جواز البناء زيادة على ذلك حتى على قبر عظيم عند الله يصون البناء قبره عما لا يليق وينتفع به الزائرون لقبره ويستظلون به من الحر والقر عند زيارته وقراءة القرآن والصلاة والدعاء لله تعالى عند قبره الثابت رجحانه كما ستعرف ذلك كلا في محله ولا أقل من الشك في كيفية الوقف لو فرض محالا حصوله فيحمل بناء المسلمين فيه على الصحيح لوجوب حمل أفعالهم وأقوالهم على الصحة مهما أمكن وكذا لو فرض محالا إننا علمنا أنها كانت مملوكة فلا مناص لنا عن حمل البناء فيها على الوجه الصحيح الذي هو
(1) ج 2 صفحة 468 (2) صفحة 84 296 ممكن لا يعارضه شئ وحينئذ فيكون هدمها ظلما محرما وتصرفا في مال الغير بغير رضاه وقد وقفها البانون وجعلوها مسبلة لانتفاع المسلمين الزائرين واستظلالهم بها وعمل البر فيها من الدعاء والصلاة وغيرها فهدمها ظلم للبانين والمسلمين ومنع لهم عن حقهم فما أوردوه دليل لهم هو دليل عليهم على أن كتب التواريخ والآثار دالة على أن أرض البقيع كانت مباحة أو مملوكة لا مسبلة. ففي وفاء الوفا للسمهودي (1) روى ابن زبالة عن قدامة ابن موسى أن أول من دفن رسول " ص " بالبقيع عثمان بن مظعون. قال: وروى أبو غسان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه لما توفي إبراهيم ابن رسول الله " ص " أمر أن يدفن عند عثمان بن مظعون فرغب الناس في البقيع وقطعوا الشجر فاختارت كل قبيلة ناحية فمن هنالك عرفت كل قبيلة مقابرها. قال: وروى ابن أبي شبة عن قدامة بن موسى كان البقيع غرقدا (2) فلما هلك عثمان بن مظعون دفن بالبقيع وقطع الغرقد عنه " انتهى " فهذا نص على أن البقيع كان مواتا مملوءا بشجر الغرقد فاتخذه المسلمون مدافن لموتاهم ورغبوا فيه حين دفن النبي " ص " ولده إبراهيم فيه فأما أن تكون كل قبيلة ملكت قسما منه بالحيازة أو بقي على أصل الإباحة فأين التسبيل والوقف فيه أيضا (3) قال ابن شبة فيما نقله عن أبي غسان قال عبد العزيز دفن العباس بن عبد المطلب عند قبر فاطمة بنت أسد ابن هاشم في أول مقابر بني هاشم التي في دار عقيل " انتهى " فدل على أن قبر العباس وقبور أئمة أهل البيت كانت في دار عقيل فأين التسبيل والوقف وأي شئ سوغ التخريب والهدم وما قيمة هذه الفتوى المزيفة المبنية على هذا السؤال. وفيه أيضا (4) روى ابن زبالة عن سعيد بن محمد بن جبير أنه رأى قبر إبراهيم عند الزوراء قال عبد العزيز بن محمد وهي الدار التي صارت لمحمد بن زيد بن علي " انتهى " وذلك يدل على أن هذه الدار كانت مملوكة. وفيه أيضا (5) عن ابن شبة عن عبد العزيز أن سعد بن معاذ دفنه رسول الله " ص " في طرف الزقاق الذي بلزق دار المقداد بن الأسود وهو المقداد بن عمرو وإنما تبناه الأسود ابن عبد يغوث الزهري وهي الدار التي يقال لها دار ابن أفلح في أقصى البقيع عليها جنبذة " انتهى ". وفي القاموس: الجنبذة وقد تفتح الباء أو هو لحن كالقبة " انتهى " وهذا
(1) ج 2 صفحة 84 (2) شجر مخصوص ولذلك قيل بقيع الغرقد - المؤلف - (3) صفحة 96 ج 2 (4) صفحة 85 ج 2 (5) صفحة 100 ج 2 297 صريح في أنها كانت دارا مملوكة وكان عليها قبة وسيأتي في فصل الكتابة على القبور أن عقيلا لما حفر في داره بئرا وجد حجرا مكتوبا فيه هذا قبر أم حبيبة بنت صخر ابن حرب وفي رواية أخرى أنه وجده في دار علي بن أبي طالب فدل على أن محل قبرها كان مملوكا وكل هذه الأخبار مع دلالتها على الملك تدل على جواز البناء حول القبور والدفن في محل البناء وإن سيرة المسلمين على ذلك. (الرابع) من أدلتهم الأحاديث الناهية عن البناء على القبور. روى مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن حفص بن غياث عن ابن جريح عن أبي الزبير عن جابر نهى رسول الله " ص " أن يجصص القبر وأن يبنى عليه (1). وروى الترمذي عن عبد الرحمن ابن الأسود عن محمد بن ربيعة عن ابن جريح عن أبي الزبير عن جابر نهى رسول الله " ص " أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ. وروى أبو داود من حديث جابر أن رسول الله " ص " نهى أن يجصص القبر أو يكتب عليه أو يزاد عليه. وروى أيضا عن أحمد بن حنبل عن عبد الرزاق عن ابن جريح عن أبي الزبير عن جابر عن النبي " ص " نهى أن يقعد على القبر وأن يجصص وأن يبنى عليها. وروى ابن ماجة عن زهير ابن مروان عن عبد الرزاق عن أيوب عن أبي الزبير عن جابر نهى رسول الله " ص " عن تجصيص القبور. وروى أيضا عن محمد بن يحيى عن محمد بن عبد الله الرقاشي عن وهب عن عبد الرحمن بن زيد عن القاسم بن مخيمرة عن أبي سعيد أن النبي " ص " نهى أن يبنى على القبور. وروى النسائي عن هارون بن إسحاق عن حفص عن ابن جريح عن سليمان ابن موسى وأبي الزبير عن جابر نهى رسول الله " ص " أن يبنى على القبر أو يزاد عليه أو يجصص زاد سليمان بن موسى أو يكتب عليه. وروى أيضا عن يوسف بن سعيد عن حجاج عن ابن جريح عن أبي الزبير عن جابر نهى رسول الله " ص " عن تقصيص القبور (2) أو يبنى عليها أو يجلس عليها أحد. ويحكى عن عمر أنه رأى قبة على قبر ميت فقال نحوها عنه وخلوا بينه وبين عمله يظله أو دعوه يظله عمله.
(1) زاد بعض الوهابية في رسالة الفواكه العذاب (وأن يكتب عليه) راجع صفحة 83 من الهدية السنية طبع المنار بمصر وليست هذه الزيادة في الرواية راجع صحيح مسلم بهامش إرشاد الساري جزء 4 ص 314 (2) تقصيصها تشييدها بالقصة وهي الجص - المؤلف - 298 والجواب " أولا " أنها ضعيفة السند. فحفص بن غياث وإن وثقوه لكنهم قدحوا في حفظه وقالوا إنه مدلس. ففي تهذيب التهذيب لابن حجر قال يعقوب ثقة ثبت إذا حدث من كتابة ويتقى بعض حفظه. وقال أبو زرعة ساء حفظه بعدما استقضي وقال داود ابن رشيد: حفص كثير الغلط وقال ابن عمار كان لا يحفظ حسنا وذكر الأشرم عن أحمد ابن حنبل أن حفصا كان يدلس وقال ابن سعد كان ثقة مأمونا كثير الحديث يدلس وقال أبو عبيد الآجري عن أبي داود كان حفص بآخره دخله نسيان " انتهى " وكيف يكون ثقة مأمونا من يدلس. وابن جريح وإن مدحوه فقد قدحوا في روايته وحفظه وقالوا إنه مدلس قال ابن حجر في تهذيب التهذيب في حقه، قال أبو بكر بن خلاد عن يحيى ابن سعيد كنا نسمي كتب ابن جريح كتب الأمانة وإن لم يحدثك بها ابن جريح من كتابه لم ينتفع به وقال الأثرم عن أحمد إذا قال ابن جريح قال فلان وقال فلان وأخبرت جاء بمناكير وإذا قال أخبرني وسمعت فحسبك به وقال المخراقي عن مالك كان ابن جريح حاطب ليل وقال عثمان الدارمي عن إسماعيل بن داود عن ابن معين ليس بشئ في الزهري وقال جعفر بن عبد الواحد عن يحيى بن سعيد كان ابن جريح صدوقا فإذا قال حدثني فهو سماع وإذا قال أخبرني فهو قراءة وإذا قال قال فهو شبه الريح وقال الدارقطني تجنب تدليس ابن جريح فإنه قبيح التدليس لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح (1) مثل إبراهيم ابن يحيى وموسى بن عبيدة وغيرهما وقال ابن حبان كان يدلس " انتهى ". وأبو الزبير قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: قال عبد الله بن أحمد قال أبي كان أيوب يقول حدثنا أبو الزبير وأبو الزبير أبو الزبير قلت لأبي يضعفه قال نعم وقال نعيم بن حماد سمعت ابن عيينة يقول حدثنا أبو الزبير وهو أبو الزبير أي كأنه يضعفه وقال هشام بن عمار عن سويد ابن عبد العزيز قال لي شعبة تأخذ عن أبي الزبير وهو لا يحسن أن يصلي وقال نعيم بن حماد سمعت هشيما يقول سمعت من أبي الزبير فأخذ شعبة كتابي فمزقه وقال محمود بن غيلان عن أبي داود قال شعبة ما كان أحد أحب إلي أن ألقاه بمكة من أبي الزبير حتى لقيته ثم سكت وروى أحمد بن سعيد الرباطي عن أبي داود الطيالسي قال: قال شعبة لم يكن في الدنيا أحب إلي من رجل يقدم فأسأله عن أبي الزبير فقدمت مكة فسمعت منه فبينا أنا
(1) فيترك ذكر المجروح فيخيل لآخذ الحديث إنه صحيح وهو ضعيف - المؤلف - 299 جالس عنده إذ جاءه رجل فسأله عن مسألة فرد عليه فافترى عليه فقلت له يا أبا الزبير تفتري على رجل مسلم قال إنه أغضبني قلت ومن يغضبك تفتري عليه، لا رويت عنك شيئا وقال محمد بن جعفر المدائني عن ورقاء قلت لشعبة مالك تركت حديث أبي الزبير قال رأيته يزن ويسترجح في الميزان وقال يوسف بن عبد الأعلى سمعت الشافعي يقول أبو الزبير يحتاج إلى دعامة وقال ابن أبي حاتم سألت أبي عن أبي الزبير فقال يكتب حديثه ولا يحتج به قال وسألت أبا زرعة عن أبي الزبير فقال روى عنه الناس قلت يحتج بحديثه قال إنما يحتج بحديث الثقات وقال ابن عيينة كان أبو الزبير عندنا بمنزلة خبز الشعير إذا لم نجد عمرو بن دينار ذهبنا إليه. وعبد الرحمن بن الأسود ذكره ابن حجر في تهذيب التهذيب ولم يوثقه، ومحمد بن ربيعة، قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: قال الساجي فيه لين وتبعه الأزدي ونقل عن عثمان بن أبي شيبة قال جاءنا محمد بن ربيعة فطلب إلينا أن نكتب عنه فقلنا نحن لا ندخل في حديثنا الكذابين " انتهى ". وعبد الرزاق في حديث أبي داود المراد به الصنعاني بقرينة روايته عن ابن جريح وهو مع مبالغتهم في مدحه وتوثيقه رموه بالتشيع والكذب حكاه في تهذيب التهذيب. وحديث ابن ماجة الأول رواته قبل أبي الزبير مجاهيل وأبو الزبير قد علمت حاله. والثاني في سنده وهب وهو مجهول. وعبد الرحمن بن زيد قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب: قال أبو طالب عن أحمد ضعيف وقال أبو حاتم عن أحمد إنه ضجع (1) في عبد الرحمن وقال الميموني عن أحمد إنه ضعف أمر عبد الرحمن قليلا وقال روى حديثا منكرا وقال الدوري عن ابن معين ليس حديثه بشئ وقال البخاري وأبو حاتم ضعفه علي ابن المديني جدا وقال أبو داود زيد بن أسلم كلهم ضعيف وقال أيضا أنا لا أحدث عن عبد الرحمن وقال النسائي ضعيف وقال ابن عبد الحكيم سمعت الشافعي يقول ذكر رجل لمالك حديثا منقطعا فقال اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد يحدثك عن أبيه عن نوح وقال خالد بن خداش قال لي الداوردي ومعن وعامة أهل المدينة لا ترد عبد الرحمن إنه كان لا يدري ما يقول وقال أبو زرعة ضعيف وقال أبو حاتم ليس بقوي في الحديث وقال ابن حبان كان يقلب الأخبار فاستحق الترك وقال ابن سعد كان ضعيفا جدا وقال ابن خزيمة
(1) في الصحاح التضجيع في الأمر التقصير فيه - المؤلف - 300 ليس هو ممن يحتج أهل العلم بحديثه لسوء حفظه وقال الساجي عن الربيع عن الشافعي قيل لعبد الرحمن بن زيد حدثك أبوك عن جدك أن رسول الله (ص) قال إن سفينة نوح طافت بالبيت وصلت خلف المقام ركعتين قال نعم قال الساجي وهو منكر الحديث وقال الصحاوي حديثه عند أهل العلم بالحديث في النهاية من الضعف وقال الجوزجاني أولاد زيد ضعفاء وقال الحاكم وأبو نعيم روى عن أبيه أحاديث موضوعة وقال ابن الجوزي اجمعوا على ضعفه " انتهى " (وحديثا) النسائي مع مشاركتهما في ضعف السند الذي فصلناه لباقي الأحاديث المشتركة معهما في رجال السند في سند الثاني منهما حجاج وهو حجاج بن محمد الأعور بقرينة روايته عن ابن جريح ففي تهذيب التهذيب أنه يروي عنه وهو وإن وثقه بعضهم لكن ذكر ابن حجر في تهذيب التهذيب أنه خلط في آخر عمره وذكر ما يدل على أنه حدث في حال اختلاطه قال وذكره أبو العرب القيرواني في الضعفاء بسبب الاختلاط. (ثانيا) إنها مضطربة المتن مع اشتراك روايات مسلم والنسائي والترمذي في ابن جريح عن أبي الزبير عن جابر ورواية أبي داود معها في جابر القاضي بأنها رواية واحدة (ووجه الاضطراب) إن في بعضها الاقتصار على التجصيص وفي بعضها زيادة البناء عليه وفي آخر التجصيص والكتابة والوطأ وفي ثالث التجصيص والكتابة والزيادة عليه وفي آخر البناء عليه بدل الكتابة وفي بعضها البناء والزيادة والتجصيص والكتابة وفي بعضها القعود والتجصيص والبناء وفي بعضها الاقتصار على الكتابة كما يأتي في الفصل العاشر وفي بعضها التقصيص والبناء والجلوس ثم إنه تارة عبر بالجلوس عليها وتارة بالقعود وتارة بأن توطأ والقعود عليها لا يخلو من إجمال (قال السندي) في حاشية سنن النسائي قيل أراد القعود لقضاء الحاجة أو للإحداد والحزن بأن يلازمه ولا يرجع عنه أو أراد احترام الميت وتهويل الأمر في القعود عليه تهاونا بالميت والموت أقوال (وروي) أنه رأى متكئا على قبر فقال لا تؤذ صاحب القبر قال الطيبي هو نهي عن الجلوس عليه لما فيه من الاستخفاف بحق أخيه وحمله مالك على الحدث لما روي أن عليا كان يقعد عليه " انتهى " (وكذلك الزيادة عليه لا تخلو من إجمال لعدم ظهور المراد بالزيادة قال السندي في حاشية سنن النسائي (أو يزاد عليه) بأن يزاد على التراب الذي خرج منه أو بأن يزاد طولا وعرضا عن قدر جسد الميت ألميت " انتهى " (والعجب) أن صاحب رسالة الفواكه العذاب
301 قال: ونهى " ص " أن يزاد عليها غير ترابها وأنتم تزيدون التابوت والجوخ ومن فوق ذلك القبة العظيمة المبنية بالأحجار والجص " انتهى " ولم يعلم أن النهي عن زيادة التراب لا يدل على النهي عن وضع التابوت والجوخ وعمل القبة عند من يفهم معاني الألفاظ سيما عند من يبالغ في الاقتصار على مدلول الألفاظ كالوهابية في بعض حالاتهم مع أن النهي عن زيادة التراب هو للكراهة كما ستعرف ولا يعلم سره ولا حكمته ولا يشمل ذلك وضع التابوت والجوخ وبناء القبة لا لغة ولا عرفا فإن الزيادة على الشئ تكون من جنسه وسنخه فلو قال المولى لعبده لا تزد على هذا السمن أو الزيت أو اللبن فلا يفهم منه أنك لا تضع فوقه صندوقا أو ماعونا أو ثوبا أو لا تبن فوقه بيتا أو لا تنصب خيمة لأن ذلك لا يعد زيادة عليه لغة ولا عرفا فعمل الصندوق ووضع الجوخ وعقد القبة كلها من احترام القبر الذي ثبت أن له حرمة وشرفا بمن حل فيه فهو راجح لا محذور فيه. (ثالثا) إن النهي أعم من الكراهة والتحريم وهب أنه ظاهر في التحريم لكن كثرة استعماله في الكراهة كثرة مفرطة مضافا إلى فهم العلماء منه الكراهة هنا يضعف هذا الظهور (قال النووي) في شرح صحيح مسلم في هذا الحديث كراهة تجصيص القبر والبناء عليه وتحريم القعود هذا مذهب الشافعي وجمهور العلماء " إلى أن قال " قال أصحابنا تجصيص القبر مكروه والقعود عليه حرام وكذا الاستناد إليه والاتكاء عليه وأما البناء فإن كان في ملك الباني فمكروه وإن كان في مقبرة مسبلة فحرام نص عليه الشافعي والأصحاب قال الشافعي في الأم رأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما بني ويؤيد الهدم قوله ولا قبرا مشرفا إلا سويته " انتهى " (والحق): الكراهة في الكل كما هو مذهب أئمة أهل البيت وفقهائهم لعدم ظهور النهي في مثل هذه المقامات في التحريم مع كثرة استعماله في الكراهة كثرة مفرطة. (هذا) إذا لم يترتب على بناء القبر منفعة ولم يكن تعظيمه من تعظيم شعائر الدين لكونه قبر نبي أو ولي أو نحو ذلك لما ستعرف من توافق المسلمين من عهد الصحابة إلى اليوم على تعمير قبور الأنبياء والأولياء ومنها قبر النبي (ص) وحجرته التي دفن فيها وكراهة البناء والتجصيص مذهب الشافعي كما عرفت إلا أن يكون البناء في مقبرة مسبلة مع أن بعضهم قال إن الحكمة في النهي عن التجصيص كون الجص أحرق بالنار وحينئذ فلا بأس بالتطيين كما نص عليه الشافعي " انتهى " نقله السندي في حاشية سنن النسائي وذلك يناسب الكراهة لكن الشافعي حرم القعود مع أنه مسوق مع البناء
302 والتجصيص في هذه الأخبار بسياق واحد فالأولى فيه الكراهة ويدل عليها ما مر من الرواية عن علي أنه كان يقعد على القبر وكذلك حمل الشافعي عدم زيادة التراب وعدم رفع القبر كثيرا على الاستحباب قال السيوطي في شرح سنن النسائي: قال الشافعي والأصحاب يستحب أن لا يزاد القبر على التراب الذي أخرج منه لهذا الحديث (يعني حديث أو يزاد عليه لئلا يرتفع القبر ارتفاعا كثيرا " انتهى " (أما) ما حكاه عن الأئمة أنه رآهم بمكة يأمرون بهدم ما يبنى فلعله لزعمهم أنها مسبلة وقد عرفت في جواب الدليل الثالث أنه لا دليل على الوقف والتسبيل وأنه يجب حمل البانين على الصحة حتى يعلم الفساد ولم يعلم وحينئذ فيكون الهدم محرما لأنه تصرف في مال الغير بغير إذنه أما ما أيد به النووي من قوله ولا قبرا مشرفا إلا سويته فلا تأييد فيه لما عرفت من أن المراد به النهي عن التسنيم وعدم جواز إرادة الهدم من التسوية ومن ذلك يظهر أن استشهاد بعض الوهابيين في رسالة الفواكه العذاب بقول النووي قال الشافعي في الأم الخ شاهد عليه لا له فإن الشافعي يقول بكراهة البناء إذا كان في ملكه والوهابيون يحرمونه مطلقا وقد استشهد صاحب الرسالة أيضا بكلام الأذرعي وابن كج الذي لا يرجع إلى دليل غير مجرد التهويل بقوله إنه مضاهاة للجبارة والكفار وأي فائدة في قال فلان وقال فلان (ومما) مر ويأتي يظهر الجواب عن المحكي عن عمر من أمره بتنحية القبة " أي الخيمة " عن القبر وقوله دعوه يظله عمله فإنه بعد تسليم ثبوته وحجيته محمول على الكراهة أو صورة عدم النفع فيكون تضييعا للمال كما يرشد إليه قوله دعوه يظله عمله أي لا نفع له في ذلك وإنما ينفعه عمله ويعارضه ما مر في الباب الثاني. ويأتي في فصل اتخاذ المساجد من رواية البخاري أنه لما مات الحسن بن الحسن ضربت امرأته القبة على قبره سنة. (رابعا) إن هذه الأحاديث مع الغض عن ضعف أسانيدها ودلالتها واضطراب متنها منصرفة إلى غير ما يكون تعميره وتشييده والبناء فوقه من تعظيم شعائر الله وحرماته لكون صاحبه نبيا أو وليا أو صالحا ولكونها بنيت لمصالح في الدين مهمة. منها أن تكون علامة ومنارا للقبر الذي ندب الشرع إلى زيارته كما يأتي في فصل الزيارة وحفظا له عن الاندراس. وقد علم رسول الله " ص " قبر عثمان بن مظعون بصخرة وضعها عليه (روى)
303 ابن ماجة (1) بسنده عن أنس بن مالك أن رسول الله " ص " أعلم قبر عثمن بن مظعون بصخرة (قال السندي) في الحاشية أي وضع عليه الصخرة ليتبين بها وفي الزوائد هذا إسناد حسن وله شاهد من حديث المطلب بن أبي وداعة رواه أبو داود (انتهى) وفي وفاء الوفا (2) روى أبو داود بإسناد حسن عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن بعض الصحابة لما مات عثمن بن مظعون ودفن أمر النبي " ص " رجلا أن يأتي بحجر فلم يستطع حمله فقام إليه رسول الله (ص) وحسر عن ذراعيه (قال الراوي) كأني أنظر إلى بياض ذراعي رسول الله (ص) حين حسر عنهما ثم حمله فوضعه عند رأسه وقال أتعلم به قبر أخي وادفن إليه من مات من أهلي (قال) ورواه ابن شبة وابن ماجة وابن عدي عن أنس والحاكم عن أبي رافع وروى قبل ذلك عن محمد بن قدامة عن أبيه عن جده لما دفن النبي (ص) عثمان أمر بحجر فوضع عند رأسه (الحديث) ثم حكى عن عبد العزيز بن عمران أنه قال سمعت بعض الناس يقول كان عند رأس عثمن بن مظعون ورجليه حجران. وهو يرشد إلى جواز فعل كل ما يكون علامة ومنارا للقبر " قال " وعن شيخ من بني مخزوم يدعى عمر قال كان عثمان بن مظعون أول من مات من المهاجرين فلحد له رسول الله (ص) وفضل حجرا من حجارة لحده فحمله رسول الله (ص) فوضعه عند رجليه فلما ولي مروان بن الحكم المدينة مر على ذلك الحجر فأمر به فرمي به وقال والله لا يكون على قبر عثمان بن مظعون حجر يعرف به فأتته بنو أمية فقالوا بئسما صنعت: عمدت إلى حجر وضعه النبي فرميت به بئسما عملت فمر به فليرد فقال أما والله إذ رميت به فلا يرد ثم قال (3) وروى ابن زبالة عن ابن شهاب وغيره أن رسول الله (ص) جعل أسفل مهراس (4) علامة على قبر عثمان بن مظعون ليدفن الناس حوله (إلى أن قال) فلما استعمل معاوية مروان بن الحكم على المدينة حمل المهراس فجعله على قبر عثمان (انتهى) (وكفى) بهذا الفعل دليلا على ما كان عليه مروان من الاستهانة بالدين وكأن الوهابية في هدمهم قبور الأئمة والصحابة الصالحين أرادوا الاقتداء به. (ويأتي) في فصل الزيارة رواية أن فاطمة بنت رسول (ص) كانت تزور قبر حمزه
(1) صفحة 243 ج ل (2) صفحة 85 ج 2 (3) صفحة 100 ج 2 (4) في القاموس المهراس حجر منقور يتوضأ منه - المؤلف - 304 ترمه وتصلحه وقد تعلمته بحجر وذلك يدل على استحباب مرمة القبر وحفظه من الاندراس وعمل ما يكون علامة ودليلا عليه فإذا ثبت استحباب ذلك فكلما كان أبلغ في حفظه وعدم اندراسه كبناء القبة عليه كان أولى بالاستحباب فإن هذا بمنزلة العلة المنصوصة ومنه يعلم أن القبور يمتاز بعضها عن بعض بامتياز أصحابها في الدين وعدم بناء القباب ونحوها في ذلك العصر للعسر الحاصل للمسلمين واحتياجهم إلى صرف الأموال إن وجدت فيما هو أهم، من الجهاد وإعاشة المسلمين فلا يقاس به العصر المتأخر عن ذلك الذي اتسعت فيه أحوال المسلمين " وكما " كان النبي " ص " وأصحابه يقنعون من العيش بالبلغة وبيوتهم لاطئة مبنية باللبن وسعف النخل ومسجده المعظم عريش كعريش موسى وخطبته في الجمعة والعيد أولا إلى جذع ثم عمل له منبر ولم يكن المنبر يمتاز كثيرا عن الجذع بغير الهيئة فلما قويت شوكة الإسلام واتسعت حال المسلمين واستولوا على كنوز كسرى وقيصر تغيرت حالهم في اللباس والمأكل والمشرب والمسكن ووسعوا المسجدين النبوي والمكي وأجادوا بناءهما وبناء الحجرة الشريفة وسائر المساجد، ولم يكونوا بشئ من ذلك عاصين ولا مبدعين كذلك بنوا على قبور عظماء الدين تعظيما لشأنهم كما فهموه من أحكام دينهم تصريحا وتلويحا. ولو سلمت الكراهة في سائر القبور لا تسلم في قبور الأنبياء وعظماء الشهداء كحمزة سيد الشهداء " ومنها " أن تكون حفظا للقبر الذي ثبتت حرمته في الشرع عن دخول الدواب والكلاب ووقوع القاذورات عليه " والقبور " الشريفة اليوم في البقيع وغيره بعدما ارتكبه الوهابيون من الأعمال الوحشية في حقها، معرض لهذا كله. (ومنها) استظلال الزائرين بها من الحر والقر عند إرادة الزيارة والصلاة بجانبها التي ثبت رجحانها بشرف المكان والدعاء عندها وقراءة القرآن الذي ثبت أنه أرجى للإجابة وأوفر في الثواب ببركتها وبركة من حل فيها والتدريس فيها وإلقاء المواعظ وغير ذلك من الفوائد فهي بهذا الاعتبار داخلة في المواضع المعدة للطاعات كالمساجد والمدارس والرباطات " ومنها " أن في بنائها وتشييدها تعظيما لشعائر الإسلام. " خامسا " إنها مع الغض عما ذكر مهجورة متروكة لم يعمل بها أحد من المسلمين قبل الوهابية ومن ضارعهم من عهد الصحابة إلى يومنا هذا وما هذا حاله من الأحاديث لا يعمل به
305 ولا يعول عليه ولو فرض صحة سنده باعتراف الوهابية فضلا عن غيرهم ففي الرسالة الأولى من رسائل الهدية السنية المنسوبة لعبد العزيز بن محمد بن سعود (1) إن الحديث إذا شذ عن قواعد الشرع لا يعمل به فإنهم قالوا إن الحديث الصحيح الذي يعمل به إذا رواه العدل الضابط عن مثله من غير شذوذ ولا علة " انتهى " وأي شذوذ عن قواعد الشرع أعظم من مخالفة عمل المسلمين من الصدر الأول إلى اليوم من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وسائر المسلمين وأي علة أكبر من ذلك ومن عمل بها أو ببعضها لم يحملها إلا على الكراهة أو خصها بما لا يكون تعميره من إقامة شعائر الدين كقبور الأنبياء والأولياء الصالحين. " أما عدم العمل بها " فمن وجوه " أحدها " إن الكتابة المشتمل عليها بعضها لم يعمل بها أحد كما ستعرف في فصلها " ثانيا " إن قبور الأنبياء التي حول بيت المقدس كقبر داود عليه السلام في القدس وقبور إبراهيم وبنيه إسحاق ويعقوب ويوسف الذي نقله موسى من مصر إلى بيت المقدس عليهم السلام في بلد الخليل كلها مبنية مشيدة قد بني عليها بالحجارة العادية العظيمة من قبل الإسلام وبقي ذلك بعد الفتح الإسلامي إلى اليوم " فعن " ابن تيمية في كتابه الصراط المستقيم إن البناء الذي على قبر إبراهيم الخليل عليه السلام كان موجودا في زمن الفتوح وزمن الصحابة إلا أنه قال كان باب ذلك البناء مسدودا إلى سنة الأربعمائة " انتهى " ولا شك أن عمر لما فتح بيت المقدس رأى ذلك البناء ومع ذلك لم يهدمه وسواء صح قول ابن تيمية إنه كان مسدودا إلى الأربعمائة أو لم يصح لا يضرنا لأنه يدل على عدم حرمة البناء على القبور وقد مضت على هذا البناء الأعصار والدهور وتوالت عليه القرون ودول الإسلام ولم يسمع عن أحد من العلماء والصلحاء وأهل الدين وغيرهم قبل الوهابية إنه أنكر ذلك أو أمر بهدمه أو حرمه أو فاه في ذلك ببنت شفة على كثرة ما يرد من الزوار والمترددين من جميع أقطار المعمور. وبذلك يظهر بطلان زعم الوهابية أن البناء على القبور حدث بعد عصر التابعين وقول ابن بليهد إنه حدث بعد القرون الخمسة ويكذبه أيضا مضافا إلى ما يأتي في بناء الحجرة الشريفة النبوية ما سيأتي في فصل اتخاذ المساجد على القبور من وجود المسجد على قبر حمزه في المائة الثانية وما مر في هذا الفصل عند رد دليلهم الثالث من أن قبر العباس وأئمة أهل البيت كانت في دار
(1) ص 31 طبع المنار بمصر. 306 عقيل مع عدم الفرق بين البناء الحادث والمستمر وإن قبر إبراهيم ابن رسول الله " ص " كان في دار محمد بن زيد بن علي وإن قبر سعد بن معاذ في دار ابن أفلح وإن عليه جنبذة أي قبة في زمن عبد العزيز ابن محمد الذي هو من أهل المائة الثانية بتصريح السمهودي كما يأتي في فصل اتخاذ المساجد على القبور (ثالثها) إنها قد بنيت الأبنية على القبور في عهد الصحابة ومن بعدهم قبل المائة الخامسة وأولها قبر النبي (ص) فإنه قد دفن في حجرة مبنية ودفن فيها صاحباه. ويظهر من السيرة النبوية لأحمد بن زيني دحلان إن ذلك كان بشبه وصية منه " ص " حيث قال: (1) واختلفوا في موضع دفنه " ص " فقال أبو بكر " رض " سمعت رسول الله " ص " يقول ما مات نبي قط إلا يدفن حيث تقبض روحه فقال علي وأنا أيضا سمعته رواه الترمذي وابن ماجة وفي رواية الموطأ ما دفن نبي قط إلا في مكانه الذي توفي فيه " انتهى " ولو كان البناء على القبور محرما وواجب الهدم لهدمها الصحابة قبل دفنه " ص " فيها أو دفنوه " ص " في مكان لا بناء فيه إذ لا يتصور فرق بين البناء السابق واللاحق ولم يقل أحد بالفرق. ولو كانت بمنزلة الأصنام كما يزعم الوهابيون لم يكن فرق بين البناء السابق واللاحق مع أنهم قد بنوها لاحقا بنى عليها عمر بن الخطاب حائطا وهو أول من بناها وبنت عائشة حائطا بينها وبين القبور وكانت تسكنها وتصلي فيها قبل الحائط وبعده وبذلك يبطل قولهم بعدم جواز الصلاة عند القبور وبناها عبد الله بن الزبير ثم سقط حائطها فبناه عمر بن عبد العزيز ثم لما وسع المسجد في خلافة الوليد بنى على البيت حظارا وفي رواية أنه هدم البيت الأول ثم بناه وبنى حظارا محيطا به وتولى ذلك عمر ابن عبد العزيز وأزر الحجرة بالرخام ثم أعيد تأزيرها في زمن المتوكل الخليفة العباسي ثم جدد في زمن المقتفي ثم عمل في زمنه للحجرة مشبك من خشب الصندل والأبنوس على رأس جدار عمر بن عبد العزيز ثم لما سقط حائط الحجرة في دولة المستضئ أعيد بناؤه ثم لما احترق الحرم الشريف سنة 654 شرعوا في تجديد الحجرة الشريفة في دولة المستعصم آخر ملوك بني العباس وأكمل تعميرها من آلات وصلت من مصر في عهد الملك المنصور ايبك الصالحي وأخشاب من صاحب اليمن الملك المظفر ثم أكمل تعميرها في أيام الملك المنصور قلاوون الصالحي صاحب مصر فعملت أول قبة على الحجرة الشريفة وهي القبة
(1) ص 400 ج 3 بهامش السيرة الحلبية طبع عام 1330 بمصر. 307 الزرقاء بناها أحمد بن عبد القوي ناظر قوص سنة 678 ثم جددت في أيام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون ثم في أيام الملك الأشرف سنة 765 ثم جددت في دولة الظاهر جقمق سنة 853 ثم جدد بناء الحجرة الشريفة سنة 881 في دولة الملك الأشرف قاتباي صاحب مصر وعمل عليها قبة سفلية تحت القبة الزرقاء ثم لما احترق الحرم الشريف ثانيا سنة 886 أعيد بناء الحجرة الشريفة وعمل عليها قبة عظيمة بدل القبة الزرقاء والتي تحتها وذلك في دولة الملك الأشرف قاتباي ثم جدد بناؤها سنة 891 في دولة الملك الأشرف ولم يزل ملوك بني العباس يجددون ما انهدم منها وكذلك ملوك بني عثمان وقد جددت في عهد السلطان عبد المجيد منهم كما سيأتي تفصيل ذلك كله. " ومما بني في عهد الصحابة " وبعده قبل المائة الخامسة ما ذكره السمهودي في وفاء الوفا كما سيأتي في فصل الكتابة على القبور إن عقيلا لما حفر بئرا في داره وجد حجرا مكتوبا عليه هذا قبر أم حبيبة فدفن البئر وبنى عليه بيتا وإن ابن السائب قال دخلت البيت فرأيت القبر " وبنى " الرشيد قبة على قبر أمير المؤمنين " ع " كما عن عمدة الطالب وغيره وكان الرشيد في المائة الثانية ثم تتابع البانون في بنائها إلى اليوم وفيها يقول الحسين بن الحجاج الشاعر المشهور المتوفى سنة 391 في مطلع قصيدة: يا صاحب القبة البيضا على النجف * من زار قبرك واستشفى لديك شفي وعن الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد أن الكاظم عليه السلام دفن في مقابر الشونيزية خارج القبة وقبره هناك مشهور يزار وعليه مشهد عظيم فيه القناديل وأنواع الآلات والفرش ما لا يحد " انتهى " فيدل على وجود قبة عند دفن الكاظم عليه السلام وهو سنة 183 وعلى وجود مشهد في عصر الخطيب المولود سنة 392 ولا بد أن يكون حدوثه قبل عصره " وذكر " المؤرخون وعلماء الأثر وجل من كتب في التراجم أن الأئمة زين العابدين والباقر والصادق عليهم السلام دفنوا في قبة الحسن عليه السلام والعباس رضوان الله عليه بالبقيع وكانت وفاة زين العابدين " ع " سنة 59 ووفاة الباقر عليه السلام في أوائل المائة الثانية في العشر الثاني منها ووفاة الصادق " ع " سنة 148 كما ذكروا بناء القباب والمشاهد على جملة من القبور قبل المائة الخامسة " مثل " أن الإمام علي بن موسى الرضا دفن في القبة التي دفن فيها هارون الرشيد بطوس في دار حميد بن قحطبة
308 الطائي ويظهر أن الذي بنى تلك القبة على الرشيد هو ولده المأمون وكان كما عن السيوطي أمارا بالعدل فقيه النفس يعد من كبار العلماء " انتهى " وكان عصره حافلا بالعلماء وأئمة الدين منهم الإمام علي بن موسى الرضا إمام أهل البيت ووارث علوم جده وآبائه الذي كان يصدر المأمون عن رأيه وعمل له الرسالة الذهبية ومسائله له مشهورة في مشكلات علوم الدين ولما رآه يتوضأ والغلام يصب على يديه الماء قال له يا أمير المؤمنين لا تشرك بعبادة ربك أحدا فصرف الغلام. فلو كان البناء على القبور محرما لنهاه عن بناء القبة على قبر الرشيد مع أنه لم ينهه بل أوصى أن يدفن في تلك القبة ومنهم الإمامان الشافعي وأحمد من أئمة المذاهب الأربعة وسفيان بن عيينة وغيرهم ولم ينقل أن أحدا أنكر عليه مع أنهم أنكروا عليه القول بخلق القرآن وصبروا على الحبس والضرب ولم يوافقوه عليه " ومثل " أن نهشل بن حميد الطوسي بنى قبة على قبر أبي تمام حبيب بن أوس الطائي الشاعر المشهور المتوفى سنة 230 بالموصل " وأنها " بنيت قبة على قبر بوران بنت الحسن بن سهل المتوفاة سنة 271 وإن معز الدولة البويهي المتوفى سنة 393 دفن أولا في داره ثم نقل إلى مشهد بني له في مقابر قريش إلى غير ذلك مما يقف عليه المتتبع ويطول الكلام باستقصائه وكل ذلك يكذب ما زعمه الوهابية من أن البناء على القبور حدث بعد المائة الخامسة ويبين أنهم يرسلون الكلام على عواهنه ويكيلون الدعاوى جزافا ويدل على مبلغهم من العلم وجهلهم بالتاريخ. وعن تاريخ الخلفاء للسيوطي أن المتوكل في سنة 236 أمر بهدم قبر الحسين وهدم ما حوله من الدور وأن يعمل مزارع ومنع الناس من زيارته وخرب وبقي صحراء وكان المتوكل معروفا بالنصب فتألم المسلمون من ذلك وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد وهجاه الشعراء فمما قيل في ذلك: تالله إن كانت أمية قد أتت * قتل ابن بنت نبيها مظلوما فلقد أتاه بنو أبيه بمثله * هذا لعمري قبره مهدوما أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا * في قتله فتتبعوه رميما وعن المسعودي أن المتوكل أمر في سنة 236 المعروف بالديزج بالمسير إلى قبر الحسين بن علي وهدمه وإزالة أثره وأن يعاقب من وجده به فبذل الرغائب لمن يقدم على
309 ذلك فكل خشي عقوبة الله فأحجم فتناول الديزج مسحاة وهدم أعالي قبر الحسين فحينئذ أقدم الفعلة على العمل ولم يزل الأمر على ذلك حتى استخلف المنتصر " انتهى " (وهذا) صريح في أن قبر الحسين " ع " كان مبنيا بناء عاليا مشيدا لقوله فهدم أعالي القبر وأن هدم قبور عظماء الدين كان معلوما عند المسلمين قبحه ومغروسا ذلك في نفوسهم فلذلك لم يقدم الناس على هدم قبر الحسين " ع " مع بذل الرغائب ولذلك قبح جميع المسلمين فعل المتوكل وكتبوا هجاءه على الحيطان وعد فعله هذا من قبائحه الشنيعة وذمه بذلك كل من كتب في التاريخ فالوهابية اقتدوا في أعمالهم بالمتوكل المعروف بالنصب الذي ساء جميع المسلمين بعمله هذا كما ساؤا هم جميع المسلمين بعملهم ثم أخذه الله أخذ عزيز مقتدر فسلط عليه الأتراك فقتلوه برأي ولده المنتصر شر قتلة. ومن ذلك كله يعلم أن البناء على القبور لاحقا وسابقا غير محرم وأنه راجح إذا كان على قبر نبي أو ولي أو عالم أو عابد أو غيرهم ممن يكون تعظيمه من تعظيم شعائر الله تعالى وهذا الوجه مما يهدم كل أساس بنى عليه الوهابية شبهاتهم ولا يرتاب فيه إلا مكابر معاند فإنك إذا أحطت علما بما سردناه عليك من تاريخ بناء الحجرة الشريفة النبوية من مبدأ أمرها إلى يومنا هذا وما بني على قبور الصحابة والأئمة والأولياء والصلحاء والشعراء والأمراء وبعض النساء وغيرهم علمت أن المسلمين عموما من الصدر الأول إلى اليوم من جميع النحل والمذاهب الإسلامية متفقون على جواز البناء على القبور وعقد القباب عليها عدى الوهابية فإنهم مخالفون لما عليه الأمة الإسلامية جمعاء ولمذهب السلف الذين يتغنون دائما بأنهم متبعون له حيث علمت أن الصحابة جميعا ومنهم الخلفاء الأربعة اتفقوا على دفنه " ص " في بيته وحجرته التي كان يسكنها مع زوجته عائشة وهي مبنية مسقفة ولو كان البناء على القبور غير جائز لما خفي على الصحابة عموما ولو حرم ابتداء لحرم استدامة ثم دفن أبو بكر وعمر مع النبي " ص " في تلك الحجرة وعد ذلك أعظم منقبة لهما ثم بنت عائشة حائطا في تلك الحجرة بينها وبين القبر الشريف وقد رويتم أنه " ص " قال خذوا ثلثي دينكم عن عائشة ثم جدد بناء الحجرة الشريفة عمر بن الخطاب وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز صالح بني أمية وعادلهم وزاهدهم ومعيد رونق الخلافة بعدما صارت ملكا عضوضا ورافع السب عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وراد
310 فدك إلى أولاد فاطمة تورعا ثم تتابع ملوك الإسلام وأمراؤهم في بناء الحجرة الشريفة والقبة المنيفة جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن وعصرا بعد عصر وخلفا عن سلف متقربين بذلك إلى الله راجين ثوابه مفتخرين به أمام رعاياهم وكان في أعصارهم وفي المدينة المنورة من العلماء والصلحاء وأهل الفضل والدين ما لا يحصى عددهم ولم يسمع من أحد أنه لامهم على هذا الفعل أو خطأهم فيه أو منعهم منه من العلماء الذين كانت لهم الكلمة النافذة عند الملوك والأمراء وليس ترك ذلك شيئا مخلا بسلطنتهم وسياستهم للملك حتى يخافهم العلماء فيه بل هو أمر ديني محض لا يخالفهم فيه ملك ولا أمير ولا يخرج قصد الملوك والأمراء في ذلك عن أحد أمرين طلب الثواب منه تعالى والفخر عند الناس وكل ذلك لا يتم لهم مع نهي العلماء عنه وتحريمه فإذا لم يكن هذا الأمر الذي اتفق عليه الصحابة من صدر الإسلام والتابعون وتابعو التابعين وعلماء المسلمين وعامتهم وملوكهم وصعاليكهم خلفا عن سلف وجيلا بعد جيل قطعيا ولا إجماعيا ففي أي حكم في الشريعة يمكن دعوى القطع والإجماع وإذا لم يكن السلف قدوة في مثل هذا ففي أي شئ يقتدى بهم ويقول المرء عن نفسه أنه سلفي على عادة الوهابيين. " رابعها " إن حرمة قبور الأنبياء والصلحاء بل كل مسلم وفضلها وشرفها وبركتها ملحق بالضروريات عند الصحابة والتابعين وتابعيهم وجميع المسلمين لا يرتاب في ذلك أحد كما سيأتي في الفصل الثالث عشر وإذا كان لها حرمة ومنزلة وشرف وبركة عند الله تعالى وجب أو رجح فعل كل ما يوجب احترامها وتعظيمها من زيارتها والبناء عليها وحفظها عن دوس الإقدام وروث الدواب والكلاب وغير ذلك لأن ذلك من تعظيم شعائر الله وحرماته وحرم كل ما يوجب إهانتها واحتقارها وامتهانها من هدمها وهدم حجرها وقبابها وجعلها معرضا لوطأ الأقدام وروث الدواب والكلاب ووقوع القاذورات فإن ذلك كله لا شك أنه إهانة لها ولأهلها فإذا ثبت ذلك وجب طرح كل حديث ناه عن البناء على القبور أو آمر بهدمها لو فرض وجوده أو تخصيصه بغير قبور الأنبياء والأولياء والعلماء والصلحاء لأن ذلك إهانة لهم وقد دل العقل والنقل على حرمة إهانتهم ووجوب تعظيمهم أحياء وأمواتا. " لا يقال " إنما يكون تعظيم تلك القبور راجحا لو لم يكن كفرا وشركا بكونه عبادة لها كعبادة الأصنام " لأنا نقول " بعد ما ثبت أن لها شرفا وحرمة عند الله تعالى بما
311 بيناه لا يكون تعظيمها عبادة لها ولا كفرا ولا شركا بل تعظيمها تعظيم لله تعالى وعبادة له كتعظيم الكعبة والحرم والحجر الأسود والمساجد والمقام وكل شئ أمر الله بتعظيمه من المخلوقات وقياس ذلك بعبادة الأصنام التي لم يجعل الله لها حرمة بوجه من الوجوه قياس فاسد كما أوضحناه مرارا. " لا يقال " إنما يكون بناؤها والبناء عليها تعظيما لها لو لم يرد النهي الموجب لكونه محرما ولا تعظيم بمحرم وإنما يكون هدمها وهدم ما بني عليها إهانة لو لم يرد الأمر به الموجب لكونه طاعة وهو عين الاحترام لها ولأصحابها بتنفيذ ما أمر الله به فيها " لأنا نقول " كون بنائها والبناء عليها في نفسه احتراما لها ولأصحابها وهدمها وهدم ما بني عليها في نفسه إهانة لها ولأصحابها عرفا مع قطع النظر عن ورود النهي والأمر مما لا يشك فيه أحد وبعدما ثبت بالدليل القطعي السابق وجوب احترامها وحرمة إهانتها لا يمكن أن يكون النهي عن البناء والأمر بالهدم شاملا لها بل هو إما مطروح أو خاص بغيرها أو مصروفا إليه لأن الظن لا يعارض اليقين. " خامسها " إن وجوب مودة أهل البيت عليهم السلام واحترامهم وحرمة إهانتهم أحياء وأمواتا مما نطق به الكتاب العزيز في قوله تعالى " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " وفسرت الآية مع ظهورها في نفسها السنة النبوية بأن المراد بالقربى هم أهل البيت الطاهر النبوي مما لا يسع المقام ذكره فلا ينافي ذلك تمحلات ابن تيمية وتأويلاته على عادته في الاجتهاد في محو كل فضيلة ومنقبة لأهل البيت الطاهر إما بإنكار الحديث ولو استفاض واشتهر أو تواتر أو بتأويله أو بدفعه بالاستبعادات (1) ونطقت بها
(1) كما دفع حديث " إن قتل علي لعمرو بن عبد ود يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين " تارة بتضعيف سنده وإنه موضوع وتارة بأنه كيف يكون قتل كافر أفضل من عبادة الثقلين ومنهم الأنبياء وأخرى بأن عمرو بن عبد ود لم يعرف له ذكر إلا في هذه الغزوة. ورده صاحب السيرة الحلبية بأن قلته كان فيه نصرة للدين وخذلان الكافرين وبأن عمرو بن عبد ود قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد أحدا فلما كان يوم الخندق خرج معلما جعل له علامة يعرف بها ليرى مكانه " انتهى " وأي عمل من الأعمال يعادل ضربته لعمرو بن عبد ود يوم الخندق حين عبر الخندق معلما يطلب البراز فجبن عنه الناس كلهم إلا علي وأي خذلان كان يقع على الإسلام لو لم يقتل علي عمرا فبتلك الضربة أعز الإسلام وقويت شوكته واشتد ساعده وابن تيمية يوهن أمرها ويصغره " إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره " - المؤلف - 312 السنة الطاهرة كما في حديث الثقلين وغيره مما ليس هذا محل ذكره ومن مودتهم واحترامهم احترام قبورهم وحفظها بالبناء عليها عن أن تداس بالأقدام أو تكون معرضا لدخول الدواب والكلاب إليها وتوسيخها وتنجيسها ووقوع القاذورات عليها وعدم إهانتهم بهدم قبورهم وقبابهم المشيدة فإن هدم قبر النبي أو الولي يعد في العرف إهانة له وأي إهانة. واحترام المؤمن فضلا عن النبي واجب حيا وميتا ومن احترامه ميتا النهي عن الجلوس على قبره والاتكاء عليه والاستناد إليه ووطئه بالأقدام كما مر في هذا الفصل وفي وفاء الوفا (1) روى ابن زبالة ويحيى من طريقه من غير واحد منهم عبد العزيز بن أبي حازم ونوفل بن عمارة قالوا كانت عائشة تسمع صوت الوتد والمسمار يضرب في بعض الدور المطيفة بالمسجد فترسل إليهم لا تؤذوا رسول الله (ص). قالوا وما عمل علي مصراعي داره إلا بالمناصع (2) توقيا لذلك. (وقال) قبل ذلك أن عمر قال إن مسجدنا هذا لا ترتفع فيه الأصوات وقال أبو بكر لا ينبغي رفع الصوت على نبي حيا ولا ميتا (انتهى) ولا يخفى تبدل العناوين بحسب الزمان والمكان والأشخاص فتتبدل لذلك الأحكام. (فالأخبار) المتوهم دلالتها على خلاف ذلك مهجورة متروكة عند جميع المسلمين أو مصروفة إلى غير قبورهم الشريفة وقبابهم المنيفة والأسئلة التي أوردناها على الوجه الرابع يمكن أن تورد هنا والجواب الجواب. * بناء الحجرة الشريفة والقبة المنيفة النبوية من ابتداء أمرها إلى اليوم * أما ما وعدنا به من شرح وتفصيل بناء الحجرة الشريفة والقبة المنيفة النبوية من ابتداء أمرها إلى يومنا هذا فنقول: كانت الحجرة الشريفة التي دفن فيها رسول الله (ص) هي البيت الذي كانت تسكنه عائشة أم المؤمنين قال السمهودي في وفاء الوفا (3) كان من لبن وجريد النخل ثم حكى عن عمران بن أبي أنس أن بيوت النبي (ص) كانت أربعة بلبن لها حجر من جريد (قال) وبيت عائشة أحد الأربعة ثم حكى عن رواية ابن سعد أنه لم يكن عليه حائط زمن النبي (ص) وأن أول من بنى عليه جدارا عمر بن الخطاب (قال) وليحمل على أن حجرة
(1) ص 398 ج ل (2) في القاموس النصع مثلثة جلد أبيض أو ثوب " انتهى " وليس فيه ما يناسب المقام غير هذا - المؤلف - (3) ص 383 - 390 ج ل طبع مصر. 313 الجريد التي كانت مضافة له أبدلها عمر بجدر، جمعا بين الروايات (انتهى) وبقيت عائشة ساكنة في ذلك البيت بعد دفن النبي (ص) ودفن أبي بكر وعمر فلما دفن عمر بنت بينها وبين القبور جدارا فكان عمر أول من بنى جدار الحجرة الشريفة وثنته عائشة (قال السمهودي) في وفاء الوفا (1) روى ابن زبالة عن عائشة (رض) أنها قالت ما زلت أضع خماري وأتفضل في ثيابي حتى دفن عمر فلم أزل محتفظة في ثيابي حتى بنيت بيني وبين القبور جدارا (قال) وعن المطلب كانوا يأخذون من تراب القبر فأمرت عائشة بجدار فضرب عليهم وكانت في الجدار كوة فكانوا يأخذون منها فأمرت بالكوة فسدت " قال " وقال ابن سعد في طبقاته بسنده عن مالك بن أنس قسم بيت عائشة باثنين: قسم كان فيه القبر وقسم تكون فيه عائشة وبينهما حائط فكانت عائشة ربما دخلت حيث القبر فضلا فلما دفن عمر لم تدخله إلا وهي جامعة عليها ثيابها (ثم قال) قال عبيد الله بن أبي يزيد كان جداره قصيرا بناه عبد الله بن الزبير " انتهى " فهؤلاء هم السلف الذين يزعم الوهابية أنهم قدوتهم ويسمون أنفسهم السلفية وهؤلاء أصحاب رسول الله " ص " الذين يزعم الوهابية أنهم على طريقتهم عملا بقوله " ص " إن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة إلا واحدة وهي من كان على مثل ما هو عليه وأصحابه. " ثم قال السمهودي " قال الأقشهري قال أبو زيد بن شبة قال أبو غسان بن يحيى بن علي بن عبد الحميد وكان عالما بأخبار المدينة ومن بيت كتابة وعلم: لم يزل بيت النبي " ص " الذي دفن فيه هو وأبو بكر وعمر ظاهرا حتى بنى عمر بن عبد العزيز عليه الحظار المزور الذي هو عليه اليوم حين بنى المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك وإنما جعله مزورا كراهة أن يشبه تربيعه تربيع الكعبة وأن يتخذ قبلة فيصلى إليه. (أقول) وذلك أنه جعل الحظار بهيئة التربيع ولما انتهى إلى الزاويتين اللتين من جهة الشمال أخذ منهما خطين مائلين حتى التقيا في جهة الشمال وحدث منهما زاوية خامسة وذكر هذا الحظار النووي فيما سيأتي عنه في الفصل الحادي عشر " ثم " حكى السمهودي (2) عن رواية ابن سعد أنه انهدم الجدار الذي على قبر النبي " ص " في زمان عمر بن عبد العزيز فأمر بعمارته " وعن " رواية ابن زبالة أنه جاف بيت النبي " ص " من شرقيه فأمر عمر بن عبد العزيز ابن ورد أن يكشف
(1) ج ل ص 385 (2) ص 386 ج ل 314 عن الأساس فظهر قدمان فقال له عبيد الله بن عبد الله بن عمر أيها الأمير لا يرو عنك فتانك قدما جدك عمر بن الخطاب ضاق البيت عنه فحفر له في الأساس " وفي رواية البخاري " من حديث هشام بن عروة إن القائل لهم ذلك هو عروة " قال السمهودي " وروي عن المطلب أنه لما سقط الجدار من شق موضع الجنائز أمر عمر " يعني ابن عبد العزيز " بقباطي فخيطت ثم ستر بها وأمر أبا حفصة وناسا معه فبنوا الجدار " وفي رواية " أن عمر بن عبد العزيز دعا وردان البناء فبناه بعد ما ستر بالقباطي ومزاحم مولى عمر يناوله قال (1) ويستفاد من ذلك أن السبب في هذا البناء سقوط الجدار ولعله بسبب المطر كما يشير إليه بعض الروايات " ويدل " بعض الروايات التي نقلها إن سبب البناء أن الناس كانوا يصلون (2) إلى القبر فأمر به عمر بن عبد العزيز فهدم الحائط ورفع حتى لا يصل إليه أحد وبعضها أن الوليد بن عبد الملك لما اشترى حجر أزواج النبي " ص " كتب إلى عمر ابن عبد العزيز أن اهدمها ووسع بها المسجد فهدمها فلما أن بنى البيت على القبر وهدم البيت الأول ظهرت القبور الثلاثة (أقول) والظاهر أن عمر بن عبد العزيز لما انهدم حائط الحجرة الشريفة بناه ثم لما وسع المسجد أزال بناء الحجرة كله وبناه جديدا وجعل لها حظارا. " قال " السمهودي (3) وهذا البناء لم يبلغ به عمر بن عبد العزيز سقف المسجد اتفاقا بل فوقه شباك من خشب متصل بسقف المسجد. قال (4) وروى ابن زبالة عن محمد بن هلال وعن غير واحد من أهل العلم أن بيت رسول الله " ص " الذي فيه قبره وهو بيت عائشة الذي كانت تسكنه وأنه مربع مبني بحجارة سود وقصة " أي جص " وبابه مسدود بحجارة سود وقصة ثم بنى عمر بن عبد العزيز على ذلك البيت هذا البناء الظاهر " وقال " السمهودي (5) إنه لم ير للبيت عند انكشافه في العمارة التي أدركها بابا ولا موضع باب ورآه مربعا مبنيا بالأحجار السود المنحوتة (وحكى السمهودي) عن بعض العلماء في سبب ستر القبور ما وقع من وصية الحسن (ع) أن تحمل جنازته ويحضر بها قبر النبي (ص) فظن طائفة أن الحسين (ع) يريد دفنه في الحجرة فمنعوه وقاتلوه فلما كان عبد الملك أو غيره سدوا وستروا (ثم قال) وفيما قدمناه أشعار بأن موضع القبور
(1) ص 388 ج ل (2) من الوصول - المؤلف - (3) ص 404 ج ل (4) ص 388 ج ل (5) ص 401 ج ل. 315 كان مسقفا تحت سقف المسجد كما يأتي التصريح به ولهذا لما انكشف سقف المسجد رأوا ما بين الحظار الظاهر والحجرة ولم يروا جوف الحجرة ثم استدل له بحديث جعل الكوة من قبر النبي " ص " إلى السماء حتى لا يكون بينهما سقف وقد تقدم " إلى أن قال " ثم اطلعنا في العمارة التي أدركناها على وجود سقف جعل بعد الحريق وعلى آثار السقف الذي كان قبله " ثم " حكى (1) عمارة أبي البختري والي المدينة لهارون الرشيد التي كشف فيها سقف المسجد مما يلي الحجرة الشريفة فوق القبر في جمادى الأولى سنة 193 فوجد فيه سبعين خشبة مكسورة فأدخل مكانها خشبا صحاحا " انتهى " فهذه أيضا تصلح أن تعد من جملة عمارة الحجرة باعتبار أنها فوقها " ثم " حكى (2) عن ابن النجار أنه قال إن المتوكل في خلافته أمر إسحاق بن سلمة وكان على عمارة الحرمين من قبله أن يؤزر الحجرة بالرخام ففعل وكانت خلافة المتوكل سنة 232 وتوفي سنة 247 " وقال السمهودي " إن تأزير الحجرة بالرخام له ذكر في كلام يحيى بن عباد وذكر الخبر عن حجر كان في بيت فاطمة كان رسول الله (ص) يصلي إليه إذا دخل على فاطمة وكانت فاطمة عليها السلام تصلي إليه وولدت الحسنين عليهما السلام عليه وسيأتي في الفصل الرابع عشر. " قال راوي الحديث " ولم يزل ذلك الحجر نراه حتى عمر الصانع المسجد ففقدناه عندما أزر القبر بالرخام وكان الحجر لاصقا بجدار القبر قريبا من المربعة " قال السمهودي " قال بعض رواة كتاب يحيى: الصانع هذا هو إسحاق بن سلمة كان المتوكل وجه به على عمارة المدينة ومكة " انتهى " وحكى السمهودي (4) عن ابن النجار إنه في خلافة المقتفي سنة 548 جدد ذلك جمال الدين وزير بني زنكي وجعل الرخام حول الحجرة الشريفة قامة وبسطه (وحكى) في موضع آخر (4) عن ابن النجار أن جمال الدين الأصفهاني الوزير المذكور عمل للحجرة الشريفة مشبكا من خشب الصندل والأبنوس وأداره حولها مما يلي السقف أي على رأس الجدار الذي بناه عمر بن عبد العزيز فإنه لم يبلغ السقف كما مر " انتهى " " وحكى أيضا " (5) عن ابن النجار أنه قال في كتابه الدرة الثمينة: في سنة 548 سمعوا صوت هدة في الحجرة فأخبروا أمير المدينة القاسم بن مهنى الحسيني فقال ينزل من يرى
(1) ص 398 - 399 ج ل (2) ص 408 ج ل (3) ص 408 ج ل (4) ص 405 ج ل (5) ص 406 ج ل 316 هذه الهدة فاختاروا عمر النسائي شيخ شيوخ الصوفية بالموصل فوجد ردما أما من السقف أو من الحيطان فأزاله " قال " وقال إنه من سنة 554 إلى زمانه لم يقع دخول إلى الحجرة وقد توفي سنة 642 (ولكن) حكى السمهودي عن الأقشهري بسنده عن الرحال أحمد بن عاث إنهم منذ قريب أربعين سنة سمعوا بالمدينة هدة في الحجرة الشريفة فكتب في ذلك إلى الخليفة فاستشار الفقهاء فأفتوا أن يدخلها رجل فاضل من القومة على المسجد فاختاروا بدر الضعيف وهو شيخ فاضل من بني العباس يصوم النهار ويقوم الليل فدلي فوجد الحائط الغربي قد سقط وهو حائط دون الحائط الظاهر فصنع له لبن من تراب المسجد فبناه وكانت رحلته سنة 612 وقد قال قريبا من أربعين سنة فيكون ذلك في حدود 570 ويكون في دولة المستضئ. ثم احترق الحرم الشريف النبوي على ما ذكره السمهودي (1) نقلا عن المؤرخين ليلة الجمعة أول شهر رمضان سنة 654 بسبب أن أحد الفراشين دخل إلى حاصل المسجد ومعه نار فعلقت في بعض الآلات وأعجزه طفيها واحترق الحاصل والفراش والمسجد كله ولم يسلم سوى القبة التي أحدثها الناصر لدين الله سنة 576 لحفظ ذخائر الحرم لكونها بوسط صحن المسجد وبقيت سواري المسجد قائمة كأنها جذوع النخل إذا هبت الرياح تتمايل وذاب الرصاص من بعض الأساطين فسقطت ووقع السقف الذي كان على أعلى الحجرة على سقف بيت النبي (ص) فوقعا جميعا في الحجرة الشريفة وكتبوا بذلك للخليفة المستعصم بالله أبي أحمد عبد الله بن المستنصر بالله في شهر رمضان فوصلت الآلات والصناع مع ركب العراق في الموسم وابتدئ بالعمارة أو سنة 655 وأرادوا إزالة ما وقع من السقوف على الحجرة الشريفة فلم يجسروا واتفق رأي أمير المدينة منيف بن شيحة بن هاشم بن قاسم بن مهنئ الحسيني وأكابر أهل الحرم أن يطالع الخليفة المستعصم بذلك فكتبوا إليه فلم يأت الجواب للاشتغال بفتنة التتر فتركوا الردم بحاله وأعادوا سقفا محكما فوقه على الحجرة الشريفة من ألواح ثخينة جدا من الساج الهندي وسمروا بعضها إلى بعض على قوائم من خشب وجعلوه أربع قطع كل قطعة كالباب العظيم وجعلوا عند ملتقى كل قطعتين مقصات من حديد وكلبوا بعضها إلى بعض تكليبا محكما وجعلوا تحته
(1) ص 427 - 432 ج ل. 317 ثلاث جزم من الساج الهندي تحمله ولم يجعلوا في تلك الألواح دهونا ولا نقوشا ولا كتابة غير أن النجار كتب اسمه على طرف السقف نقرا وكذلك سقف المسجد المحاذي للحجرة الشريفة مما يلي هذا السقف جميعه من الساج النقي ليس عليه دهان ولا نقوش فسقفوا في سنة 655 الحجرة الشريفة وبعض المسجد ثم دخلت سنة 656 فكان في المحرم منها استيلاء التتار على بغداد وقتل الخليفة فوصلت الآلات من مصر والمستولي عليها يومئذ الملك المنصور نور الدين علي بن الملك المعز عز الدين ايبك الصالحي ووصلت آلات وأخشاب من صاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن منصور بن عمر بن علي بن رسول فعملوا إلى باب السلام ثم عزل صاحب مصر آخر سنة 657 وتولى مكانه مملوك أبيه الملك المظفر وقتل بعد نحو أحد عشر شهرا ولم تتم عمارة المسجد وتولى مكانه الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحي البندقداري فكمل في أيامه سقف المسجد. " وقال السمهودي " إن السلطان المذكور لما حج سنة 667 أراد أن يجعل على الحجرة الشريفة مقصورة فعملها وأرسلها سنة 668 وعمل لها أبوابا وكانت نحو القامتين فزاد عليها الملك العادل زين كتبغا في 694 شباكا دائرا عليها حتى وصلها بسقف المسجد وقد صارت هذه المقصورة تعرف بالحجرة الشريفة وأبوابها وقناديلها بأبواب الحجرة وقناديلها. ثم عملت القبة الزرقاء وهي (أول قبة) عملت على الحجرة الشريفة " قال السمهودي " في وفاء الوفا (1) لم يكن قبل حريق المسجد الأول وما بعده على الحجرة الشريفة قبة بل كان حول ما يوازي الحجرة النبوية في سطح المسجد حظير مقدار نصف قامة مبنيا بالآجر تمييزا للحجرة الشريفة عن بقية سطح المسجد واستمر ذلك إلى سنة 678 في أيام الملك المنصور قلاوون الصالحي فعملت (القبة الزرقاء) وهي مربعة من أسفلها مثمنة من أعلاها بأخشاب أقيمت على رؤوس السواري وسمر عليها ألواح من خشب ومن فوقها ألواح الرصاص وفيها طاقة يرى المبصر منها سقف المسجد الأسفل وحولها على سقف المسجد ألواح رصاص ويحيط بها وبالقبة درابزين خشب مكان الحظير الآجر. (قال) ورأيت في الطالع السعيد الجامع أسماء الفضلاء والرواة بأعلى الصعيد في ترجمة الكمال أحمد بن البرهان عبد القوي الربعي ناظر قوص أنه بنى على الضريح النبوي
(1) ص 435 ج ل. 318 هذه القبة المذكورة قال وقصد خيرا وتحصيل ثواب (انتهى) (أقول) ولم ينقل عن أحد من أهل العلم والدين الذين كانوا في زمانه أنهم أنكروا ذلك لكون البناء على القبور وعقد القباب عليها شركا أو محرما وكانت البلاد الإسلامية سيما الحرمين الشريفين غاصة بالعلماء " أما " ما حكاه السمهودي في وفاء الوفا من قول بعضهم أنه أساء الأدب بعلو النجارين ودق الخشب فخارج عن المقام إن لم يكن مؤيدا لما نقوله من وجوب احترام قبر النبي (ص) ومخالفا لما تقوله الوهابية أو هو لازم قولهم من سقوط حرمة قبره (ص) مع أن هذا القول جمود وغباوة من قائله لأن علو النجارين ودق الخشب ليس فيه قلة احترام للمرقد الشريف لأنه مقدمة وواسطة لإعلاء شأنه ورفع مناره فهو عين الاعظام والاحترام مع أن الضرورات تبيح المحذورات فما هو إلا كصعود أمير المؤمنين علي عليه السلام على منكب النبي (ص) يوم فتح مكة لإلقاء الأصنام عن ظهر الكعبة. ولو كان ذلك منافيا للأدب لما أوصى الصاحبان أن يدفنا بجنب النبي (ص) ولما نفذ الصحابة هذه الوصية مع استلزامها الضرب بالمساحي والمعاول والدق العنيف بجنب القبر الشريف مع أن أم المؤمنين كانت تسمع صوت الوتد والمسمار يضرب في بعض الدور المطيفة بالمسجد فترسل إليهم لا تؤذوا رسول الله (ص) كما مر في هذا الفصل وسيأتي عن كتاب تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة إن باني هذه القبة قلاوون الصالحي ولعل الاشتباه حصل من بنائها في أيامه (قال السمهودي) وقد جددت في أيام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون فاختلت الألواح الرصاص عن وضعها فخشوا من كثرة الأمطار فجددت وأحكمت في أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد سنة 765 وقال قبل ذلك أنه حصل خلل في سقف الروضة الشريفة وسقف المسجد في دولة الظاهر جقمق فجدد ذلك في سنة 853 وما قبلها على يد الأمير برد بك الناصر المعمار وغيره (قال) وظهر في بعض أخشابها خلل سنة 881 فعضدها متولي العمارة الشمس بن الزمن بأخشاب سمرت معها وقلع ما حولها من ألواح الرصاص التي على أعلى السطح بينها وبين الدرابزين المتقدم ذكره فوجدوا الأخشاب حولها قد تأكلت فأصلحوها وأعادوا الألواح وأضافوا إليها كثيرا من الرصاص وجددوا الدرابزين وكانت مياه الأمطار تتسرب من بين تلك الألواح وتصل إلى سقف الحجرة الشريفة وأثرت في الشباك الذي بأعلى حائز عمر بن عبد العزيز فتأكل بعضه فأصلحه وفي الستارة التي على سقف الحجرة الشريفة فتأكل بعضها " وذكر "
319 السمهودي أيضا في وفاء الوفا (1) ما يستفاد منه: أنه لما ورد شاهين الجمالي المدينة المنورة منصرفه من جدة أروه الحائز المخمس على الحجرة الشريفة لانشقاق فيه قديم فتقرر أنه ليس بضروري لأنه شق قديم في طول الحائط لا في عرضه مملوء بالجص والحائط ليس عليه سقف ثم في سنة 881 وردت المراسيم من الملك الأشرف قاتباي صاحب مصر بتفويض أمر العمارة للجناب الشمسي بن الزمن (إلى أن قال) ثم كان ما تقدم من نقض الرخام المؤزر به جدار الحجرة الظاهرة وتجديده فظهر الشق المتقدم ذكره وهو انشقاق قديم سد الأقدمون خلله بكسر الآجر وأفرغوا فيه الجص وبيضوه بالقصة فانشق البياض من رأس وزرة الرخام إلى رأس الجدار فقشروا البياض وأخرجوا ما في خلله من الجص والآجر فظهر بناء الحجرة المربع الذي هو جوف البناء المخمس المذكور وظهر شق في جدار الحجرة الداخل تدخل اليد فيه فعقدوا لذلك مجلسا حضره العلماء والقضاة والمشائخ والخدام وشيخهم وقر رأيهم على الهدم والبناء فشرعوا في الهدم والتنظيف وظهر من وصف البناء الداخل ما قدمناه من كونه مربعا بأحجار منحوته ولا باب فيه ولا موضع باب وتبين ما في الجدار الداخل من الانشقاق في موضعين فعزم متولي العمارة على هدم جدار الحجرة الداخل من جهة الشام بأجمعه فبدأ برفع السقف الذي وجد على الحجرة نفسها ثم عزموا على عقد قبة سفلية " أي تحت القبة الزرقاء المقدم ذكرها " على جدار الحجرة الداخل رعاية للإتقان والإحكام فشرعوا في هدم الجدار الشامي والشرقي من البناء الداخل فوجدوا في بعض الجدر لبنا غير مشوي طول اللبنة أرجح من ذراع وعرضها نصف ذراع وسمكها ربع ذراع وطول بعضه وعرضه وسمكه واحد وهو نصف ذراع " قال " وظهر لي أن السلف لما بنوا الحجرة الشريفة بالأحجار لقصد الإحكام وكان ما عدى الأساس منها مبنيا باللبن في عهده " ص " وضعوا في البناء بعض اللبن بين الأحجار للبركة والعجب إن الشق لم يظهر إلا في الجهة الخالية من اللبن والذي يظهر أن تلك الجهة سقطت وأعيدت لاختلاف البنائين حتى أن الجدار الشرقي لم يكن مبنيا بالحجارة الموجهة إلا من داخله دون خارجه وكتبوا محضرا وأرسلوه إلى ملك مصر الحال ثم هدموا من الجدار القبلي مما يلي المشرق جانبا نحو أربعة أذرع حتى بلغوا به
(1) ص 442 - 453 ج 1 320 أرض الحجرة وهدموا من الجدار الغربي مما يلي الشام نحو خمسة أذرع حتى بلغوا به الأرض وذلك ليتأتى لهم إحكام القبة التي عزموا عليها ولم يبق من أركان الحجرة الشريفة سوى مجمع جداري القبلة والمغرب ثم هدموا من علو ما بقي من الجدارين المذكورين نحو خمسة أذرع فلم يبق من بناء الحجرة إلا ما فضل منهما وراموا تربيع القبة فعقدوا قبوا على نحو ثلث الحجرة من جهة الشرق لأنها من تلك الجهة أطول وعقدوا القبة على ما بقي من الحجر بالأحجار المنحوتة من الحجر الأسود وكملوها بالأبيض وارتفاعها من داخل أرض الحجرة الشريفة إلى أعلاها المغروز فيه هلالها اثنا عشر ذراعا بذراع العمل وارتفاع حائطها عن طرف القبو الذي بني عليه الحائط ذراعان إلا ثلث بذراع العمل وبيضوا تلك القبة وجميع جدرانها من خارجها بالجص ونصبوا بأعلاها هلالا من نحاس وهو قريب من سقف المسجد الأول فإن هذه القبة تحته فصار على القبر الشريف قبتان هذه القبة والقبة الزرقاء التي فوقها وكان شروعهم في هدم الحجرة الشريفة في الحادي عشر أو الرابع عشر من شهر شعبان سنة 881 وشروعهم في إعادة بناء الحجرة في السابع عشر منه من السنة المذكورة وفراغهم من بناء الحجرة والقبة سابع شوال من تلك السنة ثم احترق ذلك كله في حريق المسجد الثاني " انتهى ما يستفاد من كلام السمهودي ". * الحريق الثاني في المسجد النبوي الشريف وعمل القبة البيضاء * قال السمهودي (1) ما حاصله: أنه في الثلث الأخير من سنة 886 ليلة الثالث عشر من شهر رمضان احترق مسجد النبي (ص) في المدينة المنورة وبسبب ذلك أن رئيس المؤذنين شمس الدين محمد بن الخطيب قام يهلل حينئذ بالمنارة الشرقية اليمانية المعروفة بالريسية وصعد المؤذنون بقية المنائر وقد تراكم الغيم فحصل رعد قاصف أيقظ النائمين وسقطت صاعقة أصاب بعضها هلال المنارة المذكورة فأودت بحياة الرئيس ومات لحينه صعقا وسقطت في المسجد ولها لهيب كالنار فأصابت سقف المسجد الأعلى بين المنارة
(1) ص 544 ج ل. 321 الرئيسية وقبة الحجرة النبوية فثقبته ثقبا كالترس وعلقت النار فيه وفي السقف الأسفل ونودي بالحريق في المسجد فاجتمع أمير المدينة الشريف زين الدين فيصل الجمازي وأهلها وصعد أهل النجدة بالمياه لإطفائها فعجزوا عن ذلك فحاولوا قطعها بهدم بعض ما أمامها فسبقتهم ومات بسبب ذلك بضعة عشر نفسا واحترقت المنارة الرئيسية واحترقت ثياب الرئيس بعد موته وصار المسجد كالتنور واستولى الحريق على جميع سقفه وحواصله وما فيه من خزائن الكتب إلا اليسير الذي أمكنهم إخراجه ولما اشتعلت النار في السقف المحاذي للحجرة الشريفة ذاب الرصاص من القبة التي بسقف المسجد الأعلى واحترقت أخشابها وما يحاذيها من السقف الأسفل والشباك الدائر على حائز عمر بن عبد العزيز وسقط ما سقط من ذلك على القبة السفلى فلما أصبحوا بدؤا بإطفاء ما سقط على القبة المذكورة فسلمت وسقط من المسجد مائة وبضع وعشرون أسطوانا وما بقي أثرت فيه النار وسلمت الأساطين اللاصقة بجدار الحجرة واحترقت المقصورة التي كانت حول الحجرة الشريفة والمنبر وغير ذلك وكتبوا إلى سلطان مصر الملك الأشرف قاتباي بذلك ونظفوا ما حول الحجرة الشريفة وأداروا عليها جدارا من الآجر في موضع المقصورة المحترقة وجعلوا فيها شبابيك وطاقات وأبوابا (ولما) وصل الرسول إلى مصر وعلم سلطانها بذلك عظم عليه وأمر بتنظيف المسجد واهتم في أمر العمارة وأمر بإبطال عمائره المكية وبتوجه القيم عليها الأمير سنقر الجمالي صحبة الحاج الأول بما يزيد عن مائة صانع مع كثير من الدواب والجمال وصحبته وصحبة أخيه الشجاعي شاهين والأمير قاسم الفقيه شيخ الحرم الشريف عشرون ألف دينار وشرع السلطان في تجهيز الآلات والمؤن حتى كثرت في الطور وينبع والمدينة الشريفة وجهز شمس الدين بن الزمن متولي العمارة الأولى في ربيع الأول سنة 887 ومعه أكثر من مائتي جمل ومائة دابة وأزيد من ثلاثمائة صانع وشرعوا في الهدم والتعمير فعمروا المسجد وجعلوا على ما يحاذي الحجرة الشريفة وما حوله قبة عظيمة على دعائم بأرض المسجد وعقود من الآجر وهي (القبة البيضاء) بدلا عن القبة الزرقاء التي كانت قبل الحريق (والظاهر أنهم بنوها من الحجر أو الآجر لا من الخشب) وكانت تلك على رؤوس السواري وجعلوا تلك الدعائم في موازاة الأساطين التي كان بينها درابزين المقصورة وأحدثوا أسطوانا في جانب مثلث الحجرة من بناء عمر بن عبد العزيز ليشتد به
322 العقد الذي عليه القبة في تلك الناحية وزادوا دعامتين وعقدا إلى جانب الأسطوانتين اللتين في جهة الوجه الشريف خشية من سقوط القبة وأبدلوا بعض الأساطين بدعائهم وأضافوا إلى بعضها أسطوانة أخرى وعقدوا العقود المتصلة بهذه القبة من المشرق والشام وجعلوها قبوا بدل السقف وأعادوا ترخيم الحجرة الشريفة وما حولها وأزالوا البناء الذي عمله أهل المدينة في موضع المقصورة المستديرة بالحجرة الشريفة وأبدلوا ما يلي القبلة من ذلك بشبابيك من النحاس وبأعلاها شبكة من شريط النحاس كهيئة الزرد وجعلوا لبقيتها مما يلي الشام مشبكا مشاجرا من الحديد وفاصلا عن يمين المثلث الحجرة ويساره فيه بابان وكمل تعمير المسجد في أواخر شهر رمضان عام 888 ثم إن القبة تشققت من أعاليها فرممت ثم تشققت ولم يفد فيها الترميم فأرسل الملك الأشرف - الشجاعي شاهين الجمالي لما اشتمل عليه من الفضل والنبل وإصابة الرأي وفوض إليه النظر في أمرها فورد المدينة الشريفة في موسم عام 891 فاقتضى الحال هدم أعالي القبة فاتخذوا في الطاقات المحيطة بجوانبها سقفا يمنع من سقوط ما يهدم منها إلى أرض الحجرة الشريفة ثم شرع في هدمها وإعادتها بحيث لم يرفع كسوة الحجرة الشريفة فجاءت القبة حسنة مع الاتقان حتى أنه استصحب الجبس من مصر واستعمله في البناء وكملت في عام 892 ثم حكى عن ابن النجار أنه قال ولم يزل الخلفاء من بني العباس ينفذون الأمراء على المدينة الشريفة ويمدونهم بالأموال لتجديد ما ينهدم من المسجد النبوي (ولا شك أن الحجرة الشريفة وقبتها من جملة ذلك) فلم يزل ذلك متصلا إلى أيام الناصر لدين الله أي الخليفة في زمنه فإنه ينفذ في كل سنة من الذهب العين الأمامي ألف دينار لعمارة المسجد وينفذ من الصناع عدة لكون مادتهم مما يأخذونه من الديوان ببغداد من غير هذه الألف وينفذ من الحديد والرصاص والآلات شيئا كثيرا (قال) ولما انتقل أمر المدينة الشريفة إلى ملوك مصر لم يزل ملوكها يهتمون بعمارة هذا المسجد الشريف " انتهى ما اقتطفناه من كلام السمهودي في وفاء الوفا الذي كان عمل القبة البيضاء بدل الزرقاء في عصره " ولم يزل ملوك بني عثمان الذين كانت إليهم الخلافة الإسلامية يبعثون بالأموال الكثيرة لعمارة قبر النبي (ص) وحجرته وقبته ومسجده وقد جدد عمارة المسجد والقبة الشريفة النبوية بالبناء المحكم الموجود اليوم منهم السلطان عبد المجيد وابتدأ بذلك سنة 1270 واستمر في تعميره نحو
323 أربع سنين والبناء الذي كان قبله تعمير السلطان قاتباي سلطان مصر وأمر ببناء قبة أئمة البقيع بعين البناء الذي تبنى به قبة جدهم صلى الله عليه وعليهم وسلم فعارض في ذلك أهل المدينة ومنعوا من بناء قبة أئمة البقيع وتغييرها واعتلوا بأن حولها قبور آبائهم وأجدادهم ويصيبها ضرر بواسطة الهدم والتعمير كما أنه لما عمل في زماننا شباك لضريحهم الشريف بإصفهان من الفولاذ الدقيق الصنعة وبأعاليه الأسماء الحسنى بالخط الجميل المذهب واستأذنت الدولة الإيرانية من الدولة العثمانية في وضعه على ضريحهم المقدس فأذنت لها وجاء به السيد علي القطب رحمه الله إلى جدة عارض أهل المدينة في وضعه على الضرائح المقدسة فبقي في جدة ثلاثة أعوام حتى بذل الإيرانيون مبلغا عظيما من المال لأهل المدينة فرضوا بنقله ووضعه ولما حمل إلى المدينة المنورة أرادوا إزالة الصندوق الخشب الموضوع على القبور الشريفة ووضعه مكانه فمنع أهل المدينة من ذلك بحجة أن الصندوق الخشب وقف لا يجوز تغييره فاضطروا إلى وضعه خارج الصندوق فنقصت ألواحه الفولاذية بسبب ذلك فاضطروا إلى إكماله بقطعة من الخشب بعد دهنها بما يقرب من لونه والكتابة عليها وقد رأيت القطعة الخشبية ظاهرة فيه مقصرة عنه في الرونق عند تشرفي بزيارة المدينة المنورة بعد الحج عام 1321 وبعد ذلك عند تشرفي بزيارتها من دمشق وبقي هذا الشباك حتى أزاله الوهابية عام 1343 حين استيلائهم على المدينة المنورة وهدمهم لقبة أئمة البقيع وقبورهم المقدسة وتشويههم لمحاسن تلك البقعة الشريفة في التاريخ المتقدم وبما بيناه وأوضحناه من أن بناء الحجرة الشريفة كان قبل موت النبي (ص) ومنهم فهم ما رووه عنه إيصاؤه بدفنه فيها وتتابع الصحابة والتابعون وتابعوهم والمسلمون إلى يومنا هذا في بنائها وبناء القباب عليها ظهر لك بطلان ما ذكره محمد بن إسماعيل اليماني في رسالته تطهير الاعتقاد بقوله: فإن قلت هذا قبر رسول الله صلى الله عليه وآله قد عمرت عليه قبة عظيمة أنفقت فيها الأموال " قلت " هذا جهل عظيم بحقيقة الحال فإن هذه القبة ليس بناؤها منه (ص) ولا من أصحابه ولا من تابعيهم وتبع التابعين ولا من علماء أمته وأئمة ملته بل هذه القبة من أبنية بعض ملوك مصر المتأخرين وهو قلاوون الصلاحي المعروف بالملك المنصور في سنة 678 ذكره في تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة فهذه أمور دولية لا دليلية يتبع فيها الآخر الأول " انتهى " وذلك
324 أن هذه القبة وإن بناها قلاوون الصلاحي إلا أنه تبع في بنائه أصحاب النبي (ص) الذين دفنوه في حجرة مبنية ثم بنتها عائشة وعمر وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز وتتابع المسلمون في بنائها وفيهم التابعون وتابعو التابعين وعلماء الأمة وأئمة الملة وكانوا يستشيرون العلماء والأئمة في ذلك بل تكتب إليهم العلماء وتطلب منهم ذلك كما عرفته في تضاعيف ما ذكرناه من تاريخ بناء الحجرة من مبدئه إلى منتهاه وبذلك تعلم أنها أمور دليلية لا دولية كما زعم. فتحصل من مجموع ما ذكرناه أن تعظيم قبر النبي " ص " وقبور سائر الأنبياء ببناء القباب عليها وعمل الشباك والكسوة وغير ذلك مما يأتي راجح شرعا لا مانع منه ولا يعد عبادة لها كما توهمه الوهابية لأنها مما أمر الله بتعظيمه فتعظيمها عبادة لله وطاعة له كما بيناه في فصل مطلق تعظيم القبور (أما) باقي ما اشتملت عليه الفتوى من اتخاذ القبور مساجد وإسراجها والتمسح والطواف بها وتقبيلها فسيأتي الكلام عليها في الفصول الخاصة بها وأما الذبح والنذر ودعاء أهلها فقد مر الكلام عليها كل في فصله الخاص به وأما التوجه إلى حجرة النبي (ص) عند الدعاء فمر الكلام عليه في آخر فصل التوسل وأما التذكير والترحيم في الأوقات المذكورة فمر عليه الكلام في الباب الأول. * الفصل العاشر في الكتابة على القبور * وهذا مما منعه الوهابية محتجين بما رواه ابن ماجة عن عبد الله بن سعيد عن حفص بن غياث عن ابن جريح عن سليمان بن موسى عن جابر نهى رسول الله (ص) أن يكتب على القبور شئ وبما مر في الفصل التاسع من رواية الترمذي نهى رسول الله " ص " أن تجصص القبور وأن يكتب عليها ورواية أبي داود أنه " ص " نهى أن يجصص القبر أو يكتب عليه ورواية النسائي نهى رسول " ص " أن يبنى على القبر إلى قوله: أو يكتب عليه. والجواب (أولا) بضعف السند فحديث ابن ماجة في سنده حفص بن غياث وابن جريح وقد علمت حالهما في الفصل التاسع وفيه سليمان بن موسى عن جابر وهو مرسل (قال ابن حجر) في تهذيب التهذيب أرسل سليمان بن موسى عن جابر وقال ابن معين سليمان بن موسى عن جابر مرسل وقال أبو حاتم في حديثه بعض الاضطراب وقال البخاري عنده مناكير وقال النسائي ليس بالقوي في الحديث وقال في حديثه شئ " انتهى " وباقي الأحاديث قد عرفت حالها في الفصل التاسع والحاكم وإن صحح بعضها كما ستعرف فالجرح مقدم على التعديل فهذا حال الأحاديث التي يعتمد عليها الوهابية في مخالفة سيرة المسلمين
325 وتضليلهم (ثانيا) إنها محمولة على الكراهة في صورة لا يكون للكتابة فائدة أما مع الفائدة ليعرف فيتعاهد بالزيارة والاستغفار وإهداء ثواب القراءة وغير ذلك فلا وقرينة الكراهة جمعها مع غيرها مما ثبتت كراهته كما مر في الفصل التاسع ويمكن حمل الكتابة على كتابة الآيات القرآنية وأسماء الله تعالى خوفا عليها من الإهانة (ثالثا) إنه لم يعمل بها أحد من المسلمين وعملهم مخالف لها وما هذا حاله من الأخبار لا حجة فيه باعتراف الوهابية لاشتراطهم في حجية الخبر عدم الشذوذ والعلة كما مر في الفصل التاسع وكفى بما ذكر شذوذا وعلة " قال " محمد بن عبد الهادي المعروف بالسندي في حاشية سنن النسائي (1) عند قوله أو يكتب عليه، قال الحاكم بعد تخريج هذا الحديث في المستدرك الإسناد صحيح وليس العمل عليه فإن أئمة المسلمين من الشرق والغرب يكتبون على قبورهم وهو شئ أخذه الخلف عن السلف وتعقبه الذهبي في مختصره بأنه محدث ولم يبلغهم النهي " انتهى " وهذا الاعتذار الذي ذكره الذهبي ليس بصحيح إذ من أين لنا العلم بأنه لم يكن في الزمن الأول مع أنه يكفي اتفاقهم عليه في عصر من الأعصار لأنه يصير بذلك إجماعا فكيف باتفاقهم أعصارا وقرونا متعددة. وقوله لم يبلغهم النهي مقطوع بفساده فهذا النهي كان معلوما عند العلماء ولولاهم لم يصل إلينا (ويدل) على استمرار السيرة على الكتابة على القبور من عهد بعيد ما في وفاء الوفا عن المسعودي في مروج الذهب أن أبا عبد الله جعفر بن محمد بن علي بن الحسين توفي سنة ثمان وأربعين ومائة ودفن بالبقيع مع أبيه وجده قال وعلى قبورهم في هذا الموضع من البقيع رخامة عليها مكتوب (بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله مبيد الأمم ومحيي الرمم هذا قبر فاطمة بنت رسول الله (ص) سيدة نساء العالمين وقبر الحسن بن علي وعلي بن الحسين بن علي وقبر محمد بن علي وجعفر بن محمد عليهم السلام) " انتهى " وذكر ما يقتضي أنه حين ذكر هذا كان في سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة " وفيه " عن ابن شبة عن زيد بن السائب عن جده قال لما حفر عقيل بن أبي طالب في داره بئرا وقع على حجر منقوش مكتوب فيه هذا قبر أم حبيبة بنت صخر بن حرب فدفن عقيل البئر وبنى عليه بيتا قال ابن السائب فدخلت ذلك البيت فرأيت فيه ذلك القبر (ثم قال السمهودي) روى ابن شبة عن محمد بن يحيى قال سمعت من يذكر
(1) ص 285 ج ل. 326 أن قبر أم سلمة " رض " بالبقيع حيث دفن محمد بن زيد بن علي وأنه كان حفر فوجد على ثمانية أذرع حجرا مكسورا مكتوبا في بعضه أم سلمة زوج النبي " ص " فبذلك عرف أنه قبرها وأمر محمد بن زيد بن علي أهله أن يدفنوه في ذلك القبر بعينه (قال) وروى ابن زبالة عن إبراهيم بن علي بن حسن الرافعي قال حفر لسالم البانكي مولى محمد بن علي فأخرجوا حجرا طويلا فإذا فيه مكتوب هذا قبر أم سلمة زوج النبي (ص) فأهيل عليه التراب وحفر لسالم في موضع آخر " قال " وعن حسن بن علي بن عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي أنه هدم منزله في دار علي بن أبي طالب قال فأخرجنا حجرا مكتوبا فيه هذا قبر رملة بنت صخر فسألنا عنه فائدا مولى عبادل فقال هذا قبر أم حبيبة بنت أبي سفيان قال ويخالفه ما تقدم من أن قبرها في دار عقيل ولعله تصحف بعلي " انتهى " ويتضح من ذلك جليا إن الكتابة على القبور سيرة المسلمين من عهد الصحابة وما بعدهم فعقيل من الصحابة وقد وجد الحجر المكتوب على قبر أم حبيبة ومحمد بن زيد وجده على قبر أم سلمة. * الفصل الحادي عشر * * في اتخاذ المساجد على القبور واتخاذها مساجد * إعلم أنه قد ورد في بعض الأخبار ما يفيد النهي عن ذلك " روى النسائي " أخبرنا قتيبة حدثنا عبد الوارث بن سعيد عن محمد بن جحادة عن أبي صالح عن ابن عباس: لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج (وروى ابن ماجة) حدثنا أزهر بن مروان ثنا عبد الوارث ثنا محمد بن جحادة عن أبي صالح عن ابن عباس لعن رسول الله (ص) زوارات القبور (ورواه) ابن ماجة بأسانيده عن سفيان عن عبيد الله بن عثمان بن خثيم عن عبد الرحمن بن بهمان عن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أبيه مثله. حدثنا محمد بن خلف العسقلاني أبو نصر ثنا محمد بن طالب ثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة مثله (ورواه أبو داود) بلفظ زوارات القبور على ما نقله ابن تيمية في رسالة زيارة القبور وكذا ابن ماجة كما سمعت (وفي صحيح البخاري) باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور: لما مات الحسن بن الحسن بن علي ضربت امرأته القبة على قبره سنة ثم رفعت ثم ذكر حديث عائشة عن النبي (ص) لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدا قالت ولولا ذلك لأبرزوا قبره غير أني أخشى أن يتخذ مسجدا
327 (ورواه مسلم) إلا أنه قال مساجد فلولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا (ورواه) مسلم والنسائي أيضا إلى قوله قالت وفي بعضها يحذر مثل ذلك (وفي رواية) لمسلم قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " وفي رواية له " ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك (وروى النسائي) بسند فيه قتادة عن سعيد بن المسيب (1) لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (وبسنده) لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (وروى) البخاري أن أم سلمة وأم حبيبة ذكرتا كنيسة رأتاها بالحبشة اسمها مارية فذكرتا من حسنها وتصاويرها فيها فقال رسول الله " ص " أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصورة أولئك شر الخلق عند الله (ورواه) مسلم والنسائي نحوه قالا فيها تصاوير وقالا عند الله يوم القيامة (وعن الموطأ) وغيره عنه (ص) اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (وأول) من فتح باب اتخاذ القبور مساجد للوهابية هو ابن تيمية ككثير من معتقداتهم فإنه بعد ما أورد في رسالة زيارة القبور (2) روايات الموطأ ومسلم وأبي داوود وغيرها مما مر قال ولهذا قال علماؤنا لا يجوز بناء المسجد على القبور ثم قال إن الآيات والأخبار الواردة في المساجد لم يرد مثلها في المشاهد بل ورد النهي عن اتخاذ القبور مساجد ولعن من يفعل ذلك " انتهى " ويأتي تمامه في الفصل الثالث عشر ولا يخفى أن تشدد ابن تيمية في أمر المشاهد إنما هو حنق منه على الشيعة الذين لا يألوا جهدا في التعصب عليهم بالباطل فإن الرجل لا يقف به تعصبه عند حد وقد بلغ به حنقه على أتباع أئمة أهل البيت الطاهر إن أنكر جملة من مناقب أمير المؤمنين (ع) وفضائله المتواترة حتى فضل ضربته يوم الخندق كما فصلناه في فصل البناء على القبور وجاء في كتابه الذي سماه منهاج السنة بالغرائب ومما
(1) قتادة رمي بالقدر وبأنه حاطب ليل يأخذ عن كل أحد وبأنه حدث عن ثلاثين رجلا لم يسمع منهم إلى غير ذلك مما حكاه ابن حجر في تهذيب التهذيب ثم قال: قال إسماعيل القاضي في أحكام القرآن: سمعت علي بن المديني يضعف أحاديث قتادة عن سعيد بن المسيب تضعيفا شديدا وقال أحسب أن أكثر ما بين قتادة وسعيد فيها رجال " انتهى " ولعلنا لو بحثنا عن باقي أسانيد هذه الأخبار نجد فيها أمثال هذا كثيرا لكن لم يتسع لنا الوقت للبحث عن جميعها - المؤلف - (2) ص 159 - 106 طبع المنار بمصر. 328 جاء فيه بشأن المشاهد قوله: الرافضة بدلوا دين الله فعمروا المشاهد وعطلوا المساجد مضاهاة للمشركين ومخالفة للمؤمنين، ومر له كلام آخر بشأن المشاهد في أواخر الباب الثاني. والله تعالى وعباده يعلمون أنه غير صادق في ذلك فالشيعة وحدها لم تعمر المشاهد بل شاركها في ذلك جميع المسلمين حتى الناصبة أمثال ابن تيمية وذلك معلوم مشاهد لا يشك فيه أحد. والشيعة لم تعطل المساجد، هذه بلادهم ومدنهم وقراهم مساجدها معمورة تقام فيها الصلوات والجماعات في جميع أقطار المعمور " ثم " إنه يظهر من مجموع كلماته هذه أنه يحمل جعل القبور مساجد على ما يعم الصلاة عندها وفي مشاهدها وبناء مسجد عليها ويحمل على الأخير النهي عن اتخاذ المساجد عليها كما يظهر من قوله: ولهذا قال علماؤنا الخ وتبعه على ذلك تلميذه ابن القيم الجوزية فإنه قال في كتابه زاد المعاد (1) على ما حكي عنه ما ملخصه أن النبي " ص " حرق مسجد الضرار وأمر بهدمه فكذلك مشاهد الشرك أحق بذلك وأوجب والوقف لا يصح على غير بر ولا قربة فيهدم المسجد إذا بني على قبر كما ينبش الميت إذا دفن في المسجد فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر بل أيهما طرأ على الآخر منع منه وكان الحكم للسابق " انتهى ". واعتمادا على هذه الأحاديث هدم الوهابية المسجد الذي عند قبر سيد الشهداء حمزه بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وآله بأحد بعدما هدموا القبة التي على القبر وأزالوا تلك الآثار الجليلة ومحوا ذلك المسجد العظيم الواسع فلا يرى الزائر لقبر حمزه اليوم إلا أثر قبر على تل من التراب لاعتقادهم إن ذلك محرم بل شرك وكفر واستندوا في فتواهم المنسوبة إلى علماء المدينة بعدم جواز اتخاذ القبور مساجد والصلاة فيها المتقدمة في الفصل التاسع إلى الحديث الأول من هذه الأحاديث كما عرفت ولم يبنوا ما هو مرادهم من اتخاذها مساجد ولعل مرادهم ما يظهر من ابن تيمية كما تقدم فإنه قدوتهم وأول باذر لبذور مذهبهم " والجواب " عن الحديث المذكور الذي استندوا في فتواهم إليه ومنه يعلم الجواب عن الباقي: " أولا " بعدم صحة السند على رواية النسائي (فعبد الوارث) وإن وثقوه لكن رموه بأنه كان يرى القدر (أي الاعتزال) ويظهره وإنه ذم لبدعته وإنه لولا الرأي لم يكن به بأس وإن الحسن بن الربيع قال كنا نأتي عبد الوارث بن سعيد
(1) ص 16 ج 2 329 فإذا حضرت الصلاة تركناه وخرجنا وإن أبا علي الموصلي قال قلما جلسنا إلى حماد بن زيد إلا نهانا عن عبد الوارث نقل ذلك كله ابن حجر في تهذيب التهذيب (وأبو صالح) مردد بين ميزان البصري وبين باذام مولى أم هاني بنت أبي طالب (والثاني) مقدوح فيه ففي تهذيب التهذيب في ترجمة ميزان البصري أبي صالح روى الترمذي في كتاب الجنائز من طريق عبد الوارث بن سعيد عن محمد بن جحادة عن أبي صالح عن ابن عباس وذكر الحديث ثم قال فجزم ابن حبان إن اسم أبي صالح هذا ميزان ولم يذكر المزي ميزان هذا لأنه مبني على أن أبا صالح المذكور في الحديث هو مولى أم هاني كما صرح بذلك في الأطراف ويؤيده أن علي بن مسلم الطوسي روى هذا الحديث عن شعيب عن محمد بن شحادة سمعت أبا صالح مولى أم هاني فذكر هذا الحديث وجزم بكونه مولى أم هاني الحاكم وعبد الحق في الأحكام وابن القطان وابن عساكر والمنذري وابن دحية وغيرهم " انتهى " وقال في ترجمة باذام أبي صالح مولى أم هاني: قال أحمد كان ابن مهدي ترك حديث أبي صالح وقال أبو حاتم يكتب حديثه ولا يحتج به وقال النسائي ليس بثقة وقال ابن عدي لم أعلم أحدا من المتقدمين رضيه وقال ابن المديني عن القطان عن الثوري قال الكلبي قال لي أبو صالح كلما حدثتك كذب وقال العقيلي المغيرة يعجب ممن يروي عنه وقال عبد الحق في الأحكام أن أبا صالح ضعيف جدا وقال الجوزقاني إنه متروك ونقل ابن الجوزي عن الأزدي أنه قال كذاب وقال الجوزجاني كان يقال له ذو رأي غير محمود وقال أبو أحمد الحاكم ليس بالقوي عندهم وقال ابن حبان يحدث عن ابن عباس ولم يسمع منه " انتهى " ولا يفيد مع هذا قول ابن حجر في تهذيب التهذيب وثقة المجلي وحده لأن الجرح مقدم على التعديل (هذا) على رواية النسائي وأما على رواية ابن ماجة الثانية (فعبد الله بن عثمان) وإن وثقه بعضهم قال النسائي مرة ليس بالقوي وقال ابن حبان كان يخطئ وعن ابن معين أحاديثه ليست بالقوية وعن علي بن المديني منكر الحديث ذكر ذلك كله ابن حجر في تهذيب التهذيب (وابن بهمان) وإن ذكره ابن حبان في الثقات إلا أن ابن المديني قال لا نعرفه. كذا في تهذيب التهذيب (وأما) على رواية ابن ماجة الثالثة ففي ميزان الاعتدال للذهبي محمد بن طالب عن أبي عوانة الوضاح لا يعرف روى عنه محمد بن خلف العسقلاني فقط " انتهى " " فهذه " حال الروايات التي يستند إليها الوهابية في
330 فتاواهم ويكفرون بها المسلمين ويستحلون دماءهم وأموالهم وأعراضهم ويدعون أنهم هم الموحدون وغيرهم المشركون فتأملوا ذلك أيها المنصفون (ثانيا) باضطراب المتن مع وحدة السند في الكل الدال على أنها رواية واحدة فهو على رواية النسائي زائرات القبور بصيغة اسم فاعل والمتخذين عليها المساجد والسرج وعلى رواية ابن ماجة زوارات القبور بصيغة المبالغة وبدون تلك الزيادة وأي اضطراب في المتن أعظم من ذلك (ثالثا) بعدم الدلالة على ما توهموه من عدم جواز الصلاة عند القبور وفي مشاهدها وبناء مسجد عليها إذ الظاهر أنه إشارة إلى ما في رواية كنيسة الحبشة من قوله إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصورة أولئك شر الخلق عند الله فاللام في قوله والمتخذين عليها المساجد للعهد ولما كان سبب الذم في رواية كنيسة الحبشة هو اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد بتلك الحالة وهي تصويرهم الصورة وعبادتها والصلاة والسجود إليها أو إليها وإلى القبر كما يصلى إلى الوثن ويسجد له على ما هو الظاهر من تلك الرواية كان سببه في رواية والمتخذين عليها المساجد هو هذا وكما تكون رواية كنيسة الحبشة مفسرة للروايات التي أطلق فيها لعن اليهود وغيرهم على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد تكون مفسرة لهذه الرواية إذ الروايات يفسر بعضها بعضا ويرشد إلى ذلك قوله في رواية مسلم المتقدمة أن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد إلا فلا تتخذوا القبور مساجد الخ فعقب النهي عن اتخاذها مساجد لما حكاه عمن كان قبلهم فدل بأجلى دلالة على أن المنهي عنه من اتخاذها مساجد هو ما كان من هذا السنخ ويرشد إليه أيضا ما في رواية الموطأ من تعقيبه ذم من اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد لقوله اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد الدال على أن المراد من اتخاذها مساجد الصلاة إليها والسجود لها كما يصلي إلى الأوثان ويسجد لها ويدل عليه قوله في رواية البخاري ومسلم ولولا ذلك لأبرزوا قبره غير أني أخشى أو غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا لظهوره في أن معنى اتخاذه مسجدا السجود إليه لا اتخاذ المسجد حوله وبذلك يظهر عدم صحة الاستدلال على ما زعموه برواية كنيسة الحبشة ولا بالروايات الأخر إذ الظاهر أن المراد في الجميع واحد وهو النهي عما كان يفعله السابقون من الصلاة إلى قبور الأنبياء والصلحاء وصورها الموضوعة في قبلة المصلي والسجود لها كما يصلي إلى الوثن ويسجد له وهذا لا يفعله أحد من المسلمين ولا يجيزه أما الصلاة لله تعالى عند قبر أو
331 في مشهد طلبا لزيادة الثواب بشرف المكان الذي ثبت شرفه فلا مانع منه ولو لم يكن راجحا لم يكن محرما ولا تتناوله هذه الأخبار ولا تدل عليه كما لا تتناول مجرد وجود القبر في قبلة المصلي من دون قصد الصلاة إليه أو الصلاة فوق قبر نعم هو مكروه كما يشير إليه عنوان البخاري المتقدم واستشهاده بضرب القبة على قبر الحسن ويمكن حمل جعل المساجد على القبور على السجود عليها فإنه مكروه كما عرفت وكما يفهم من عنوان البخاري السابق ولا ينافيه اللعن فإنه لتشديد الكراهة إذ هو لغة: الطرد، وفاعل المكروه مطرود عن الثواب الحاصل له بتركه امتثالا لأمره تعالى وقد ورد لعن المسافر وحده والآكل طعامه وحده والنائم في البيت وحده وورد لعن الله المحلل والمحلل له وتسمية المحلل بالتيس المستعار رواه ابن ماجة (1) بأسانيده عن ابن عباس وعلي وعقبة بن عامر عنه (ص) قال السندي في حاشية سنن ابن ماجة المحلل من تزوج مطلقة الغير ثلاثا لتحل له والمحلل له هو المطلق والجمهور على أن النكاح بنية التحليل يقتضي عدم الصحة وأجاب من يقول بصحته إن اللعن قد يكون لخسة الفعل فلعل اللعن ها هنا لأنه هتك مروءة وقلة حمية وخسة نفس أما بالنسبة إلى المحلل له فظاهر وأما المحلل فإنه كالتيس يعير نفسه بالوطأ لغرض الغير وتسميته محللا يؤيد القول بالصحة " انتهى " ونسبته إلى الجمهور أن النكاح بنية التحليل يقتضي عدم الصحة منظور فيه " قال " الخطيب الشربيني في الاقناع (2) على مذهب الشافعي لو نكح بشرط أنه إذا وطئ طلقها أو فلا نكاح بينهما وشرط ذلك في صلب العقد لم يصح النكاح (إلى أن قال) ولو تواطأ العاقدان على ذلك قبل العقد ثم عقدا بذلك القصد بلا شرط كره (وفي الحاشية) قوله لم يصح النكاح وعليه حمل حديث لعن الله المحلل والمحلل له وهذا عندنا (أي الشافعية) وأما عند المالكية فعلى ظاهره فلا يصح التحليل مطلقا بهذا الشرط سواء وقع في صلب العقد أو قبله (انتهى) وأنت ترى أن ذلك كله مع التصريح بالاشتراط لا مجرد النية كما فهم من كلام السندي مع أن الرواية مطلقة ولا دليل على التقيد ونظيره إطلاق الكفر على جملة من المعاصي مع أنها ليست كذلك كما مر في المقدمات " قال القسطلاني " في إرشاد الساري شرح صحيح البخاري إنما صور أوائلهم ليتأنسوا بها ويتذكروا أفعالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم ويعبدون
(1) ص 305 ج ل (2) ص 148 ج 2 332 الله عند قبورهم ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم ووسوس لهم الشيطان إن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها فحذر النبي (ص) عن مثل ذلك (إلى أن قال) وهو " أي قوله بنوا على قبره مسجدا " مؤول على مذمة من اتخذ القبر مسجدا ومقتضاه التحريم لا سيما وقد ثبت اللعن عليه لكن صرح الشافعي وأصحابه بالكراهة وقال البندينجي المراد أن يسوى القبر مسجدا فيصلى فيه وقال إنه يكره أن يبنى عنده مسجد فيصلى فيه إلى القبر وأما المقبرة الداثرة إذا بني فيها مسجد ليصلى فيه فلم أر فيه بأسا لأن المقابر وقف وكذا المسجد فمعناهما واحد قال البيضاوي لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما لشأنهم ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها واتخذوها أوثانا منع المسلمين من مثل ذلك فأما من اتخذ مسجدا في جوار صالح وقصد التبرك بالقرب منه لا للتعظيم ولا للتوجيه إليه فلا يدخل في الوعيد المذكور " انتهى " " وقال السندي " في حاشية سنن النسائي: اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد أي قبلة للصلاة يصلون إليها أو بنوا مساجد عليها يصلون فيها ولعل وجه الكراهة إنه قد يفضي إلى عبادة نفس القبر سيما في الأنبياء والأخيار وقال في موضع آخر مراده أن يحذر أمته أن يصنعوا بقبره ما صنع اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم من اتخاذهم تلك القبور مساجد أما بالسجود إليها تعظيما لها أو بجعلها قبلة يتوجهون في الصلاة إليها قيل ومجرد اتخاذ مسجد في جوار صالح غير ممنوع " انتهى " وقال النووي في شرح صحيح مسلم قال العلماء إنما نهى النبي " ص " عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدا خوفا من المبالغة في تعظيمه والافتتان به فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية ولما احتاجت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والتابعون إلى زيادة في مسجد رسول الله " ص " حين كثر المسلمون وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه ومنها حجرة عائشة " رض " مدفن رسول الله " ص " وصاحبيه بنوا على القبر حيطانا مرتفعة مستديرة حوله لئلا يظهر في المسجد فيصلي إليه العوام ويؤدي إلى المحذور ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر ولهذا قال في الحديث ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا " انتهى " " أقول " وكل هذه الكلمات متوافقة على أن المحرم من اتخاذ القبور مساجد هو السجود إليها تعظيما أو جعلها قبلة أو نحو ذلك كما يدل عليه
333 قول عائشة فلولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا والمراد بإبراز قبره هدم الحجرة الشريفة التي عليه وجعله بارزا ظاهرا يراه الناس. وإن الصلاة إلى القبر لا بهذا القصد مكروهة وإن اتخاذ مسجد بجوار صالح لا محذور فيه وإن أخبار كنيسة الحبشة ظاهرة في ذمهم على تصوير الصور وعبادتها كما هو المألوف عند النصارى " وقول " النووي إنهم لما احتاجوا إلى زيادة في المسجد بنوا على القبر حيطانا مرتفعة الخ الظاهر أنه إشارة إلى الحظار الذي بناه عمر بن عبد العزيز على الحجرة الشريفة وجعله مزورا من جهة الشمال بالصفة التي ذكرها النووي لأن حيطان الحجرة كانت محيطة بالقبر الشريف من أول الأمر كما مر في الفصل التاسع فقوله ثم بنوا جدارين أي بعد الفراغ من عمل الحظار المربع. ومما يدل على أن النهي في هذه الأخبار مراد به الكراهة ذكر زائرات القبور أو زوارات القبور وتخصيص اللعن بهن دون الزائرين المحمول على الكراهة كما ستعرف تفصيل الكلام في فصل الزيارة وهذا دليل آخر على جواز اللعن من الشارع على فعل المكروه. فتحصل من ذلك أن هذه الأخبار بعد تسليم صحة أسانيدها لا ربط لها بما يحاوله الوهابية من عدم جواز البناء حول قبور الأنبياء وعقد القباب فوقها ووجوب هدمها (أولا) لأنه ليس أحد من المسلمين يجعل ذلك مسجدا (ثانيا) لو فرض فلا دلالة لتلك الأخبار على عدم جوازه كما عرفت بل ولا على كراهته إذ المسجد يكون خارجا عن محل القبر ومحل القبر لا يصلى عليه ولا يجعل مسجدا وجعل المسجد بجوار قبر نبي أو صالح لا مانع منه كما عرفت من تصريح علماء المسلمين بذلك والممنوع منه الصلاة إليه تعظيما له أو السجود له ولا يفعل ذلك أحد من المسلمين إنما يسجدون لله تعالى ويصلون إلى القبلة " ومما يدل " بأقوى دلالة لا يمكن لأحد دفعها على أن اتخاذ مسجد حول القبر جائز ومستحب ما فعله المسلمون وتتابعوا عليه في سائر الأعصار من توسيع مسجد النبي صلى الله عليه وآله حتى صار قبره الشريف وحجرته المنيفة في وسط المسجد بعدما كانت بجانبه الشرقي فأصبح المسجد محيطا بها وذلك في خلافة الوليد بن عبد الملك وبقي كذلك إلى اليوم بمرأى من علماء الأمة وصلحائها في كل عصر وكان المتولي لتوسيعه عمر بن عبد العزيز صالح بني أمية وفاضلهم وعادلهم الذي قال في حقه ابن سعد صاحب الطبقات
334 كان ثقة مأمونا له فقه وعلم وورع وروى حديثا كثيرا وكان إمام عدل حكاه ابن حجر في تهذيب التهذيب وقال في تهذيب التهذيب: قال ميمون بن مهران ما كانت العلماء عند عمر إلا تلامذة وقال نوح بن قيس سمعت أيوب يقول لا نعلم أحدا ممن أدركنا كان آخذ عن النبي صلى الله عليه وآله منه وقال أنس ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله " ص " من هذا الفتى إلى غير ذلك من المدح العظيم الذي مدحه به ولم يسمع أن أحدا من العلماء والفقهاء نهاه عن ذلك ولا أفتى بتحريمه ولا جعله شركا وكفرا لا في عصره ولا بعد عصره إلى اليوم قبل الوهابية وبذلك يعلم كذب قول ابن القيم السابق أنه لا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر الخ فإن فيه ردا على أجلاء الصحابة الذين هم أعلم بسنة رسول الله " ص " منه ومن قدوته والذين يتغنى دائما هو وقدوته وأتباعهما بأنهم أتباعهم في دعواهم إنهم سلفيون والذين يعتقد إنهم كالنجوم بأيهم اقتدى اهتدى في جعلهم قبره " ص " في وسط المسجد بعد توسيعه وعلى جميع المسلمين إلى اليوم الذين رضوا بذلك وأقروه فيلزم تخطئة الأمة جمعاء من عصر الصحابة إلى اليوم وتصويب الوهابية وحدهم. وما بال الوهابية لم يهدموا المسجد الذي حول قبر النبي " ص " ويجعلوا قبره الشريف خارجا عن المسجد وأقروا هذا المحرم المؤدي إلى الشرك والكفر وقد صار الحجاز بأيديهم ولهم فيه الحول والطول واكتفوا بإقامة بعض جنودهم حول الضريح المقدس بأيديهم عصي الخيزران يمنعون الناس من الدنو إلى القبر الشريف ولمسه وتقبيله ومن لم يمتنع قرعوه بالخيزران وربما قرعوا بالخيزران على القبر الشريف إعلاما للزائر الغير الملتفت أن لا يدنو من القبر كما حدثنا بذلك جملة من الزوار ولا يمكنون أحدا من الدنو إلا ببذل بعض القطع الفضية فيشيرون إليه من طرف خفي إذا لم يرهم أحد فإن كان المانع لهم خوف هياج الرأي العام الإسلامي فقد هاج عليهم بهدمهم لمشاهد أئمة المسلمين ولم يبالوا. ومما يدل على جواز بناء المساجد عند قبور الصالحين أو على قبورهم تبركا بهم قوله تعالى (وقال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا) في الكشاف " قال الذين غلبوا على أمرهم " من المسلمين وملكهم وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم لنتخذن على باب الكهف مسجدا يصلي فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم " انتهى " ونحوه عن تفسير الجلالين عن السنوي في معالم التنزيل قال المسلمون نبني عليهم مسجدا يصلي فيه الناس لرب
335 العالمين " انتهى " وعن ابن عباس قال المسلمون نبني عليهم مسجدا يصلي فيه الناس لأنهم على ديننا " انتهى " وعن النيشابوري في غرائب القرآن (الذين غلبوا على أمرهم) وملكهم المسلم لأنهم بنوا عليهم مسجدا يصلي فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم حفظا لتربتهم " انتهى " وفي مجمع البيان (قال الذين غلبوا) يعني الملك المؤمن وأصحابه وقيل أولياء أصحاب الكهف من المؤمنين وقيل رؤساء البلد عن الجبائي (لنتخذن عليهم مسجدا) متعبدا وموضعا للعبادة والسجود يتعبد الناس فيه تبركا بهم ودل ذلك على أن الغلبة كانت للمؤمنين " انتهى " فقد حكى الله تعالى مقالة المسلمين من غير رد عليهم ولا إنكار لعله ذكرها في معرض المدح فيكون ذلك تقريرا لها وأنا حكى الله تعالى قصص الماضين لتعتبر بها هذه الأمة وتقتدي بالحسن منها وتتجنب القبيح. ومن الغرائب ما يحكى عن شارح كتاب التوحيد لابن عبد الوهاب أنه قال بعد ذكر الآية هذا دليل على أن الذين غلبوا هم الكفار إذ لو كانوا مؤمنين ما أرادوا أن يتخذوا على قبور الصالحين مسجدا لأن النبي " ص " لعن فاعل ذلك " انتهى " فكأن معتقدات الوهابية عند هذا الرجل وحي منزل فلذلك تكون ناسخة للقرآن الكريم ويجب حمله عليها ولا يجوز تطبيقها عليه وهل يلتفت إلى هذا الاحتمال السخيف بعد إطباق المفسرين على خلافه ومنهم ابن عباس ترجمان القرآن وإمام المفسرين ومخالفته لظاهر الآية وسياقها كما يفهم مما مر مع أن ظاهر قوله تعالى (إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا) إن الجميع كانوا متفقين على البناء الذي يحرمه الوهابية وإنما كان التنازع في كيفيته فالوهابيون بمنعهم البناء على القبور قد خالفوا المسلمين والكافرين وقد نجى الله ذلك الملك المسلم ورعيته المسلمين في حياتهم فلم يكن في زمانهم وهابية وإلا لكفروهم بعد إسلامهم وشركوهم بعد توحيدهم لبنائهم مسجدا على أهل الكهف وتبركهم بهم لكنهم لم يسلموا من الوهابيين بعد موتهم وبعد إن مضى على موتهم ألوف مؤلفة من السنين فكفروهم بعدما صاروا ترابا في قبورهم. ومما يدل على جواز بناء المساجد على القبور ما في وفاء الوفا للسمهودي (1) عن ابن
(1) ص 88 ج 2 336 شبة عن عبد العزيز بن عمران بسنده إلى محمد بن علي بن أبي طالب في حديث ذكر فيه وفاة فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب. إلى أن قال: فلما توفيت خرج رسول الله " ص " فأمر بقبرها فحفر في موضع المسجد الذي يقال له اليوم قبر فاطمة " الحديث " قال السمهودي وقوله في موضع المسجد الخ يقتضي أنه كان على قبرها مسجد يعرف به في ذلك الزمان " انتهى " (وقوله) في موضع المسجد الخ الظاهر أنه من كلام ابن الحنفية المتوفى سنة 81 فيكون المسجد قبل ذلك وفي وفاء الوفا (1) قال عبد العزيز الغالب عندنا إن مصعب بن عمير وعبد الله بن جحش دفنا تحت المسجد الذي بني على قبر حمزه " انتهى " وقال قبل ذلك (2) سيأتي عن عبد العزيز بن عمران إنه كان على قبر حمزه قديما مسجد وذلك في المائة الثانية " انتهى ". * الفصل الثاني عشر * * في الاسراج على القبور * وهذا مما منعه الوهابية محتجين بالحديث المتقدم في الفصل السابق (لعن الله زوارات القبور أو زائرات القبور المتخذين عليها المساجد والسرج) واستنادا إلى هذه الرواية منع الوهابيون إضاءة قبر النبي " ص " هذه السنة أعني سنة 1346 بعدما كانوا يضيئونه في العام الماضي على ما أخبرنا به الحجاج (والجواب عن هذا الحديث بضعف السند كما بيناه في الفصل السابق ومع تسليم السند فهو محمول على صورة عدم المنفعة لانصرافه إلى ذلك فيكون تضييعا للمال أو على غير قبور الأنبياء والأولياء الذين دل الشرع على رجحان تعظيمهم أحياء وأمواتا أما إسراجها لقراءة القرآن والأدعية والصلاة وانتفاع الزائرين والبائتين فيها فليس مكروها ولا محرما للنفع الظاهر في ذلك فيكون من التعاون على البر والتقوى المأمور به في الكتاب المجيد ويكون نظير ما حكي عن الترمذي أنه روى عن ابن عباس أن النبي " ص " دخل قبرا ليلا فأسرج له سراج قال العزيزي في شرح الجامع الصغير (1) في شرح قوله (والسرج): محل ذلك حيث لا ينتفع بها الأحياء " إلى
(1) ص 115 ج 2 (2) ص 105 ج 2 (3) ص 198 ج 3. 337 أن قال " فإن كان هناك من ينتفع به صح ذلك " انتهى " وقال السندي في حاشية سنن النسائي: والنهي عنه لأنه تضييع مال بلا نفع " انتهى " فدل على أنه لا نهي حيث يكون هناك نفع (وقال) الشيخ الحنفي في حاشية الجامع الصغير يحرم إسراج القنديل على قبر ولي ونحوه حيث لم يكن من ينتفع به لما فيه من إضاعة المال لا لغرض شرعي " انتهى ". * الفصل الثالث * * في الدعاء والصلاة عند القبر الشريف وغيره والتوجه إليه عند الدعاء * وهذا أيضا مما منعه الوهابية وجعلوه شركا وكفرا (وقال) قدوتهم ابن تيمية في رسالة زيارة القبور (2) إن الصحابة كانوا إذا جاؤوا عند قبر النبي صلى الله عليه وآله يسلمون عليه فإذا أرادوا الدعاء لم يدعوا الله مستقبلي القبر الشريف بل ينحرفون ويستقبلون القبلة ويدعون الله وحده كما في سائر البقاع " أي لا يتوسلون بالنبي ص " (إلى أن قال) ولهذا لم يذكر أحد من أئمة السلف أن الصلاة عند القبور وفي مشاهدها مستحبة ولا أن الصلاة والدعاء هناك أفضل منهما في غيرها بل اتفقوا كلهم على أن الصلاة في المساجد والبيوت أفضل منها عند قبور الأنبياء والصالحين سميت مشاهد أو لم تسم ثم ذكر بعض الآيات والأخبار الواردة في المساجد كقوله تعالى إنما يعمر مساجد الله وقوله (ص) من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة وقال إنه لم يرد مثلها في المشاهد " انتهى " (ونقول) يدل على جوازه الصلاة والدعاء عند قبر النبي (ص) وقبور سائر الأنبياء والصالحين عموم وإطلاق ما دل على جواز الصلاة والدعاء في كل مكان ويدل على رجحان ذلك ما فهم من الشرع من رجحان الصلاة والدعاء ومطلق العبادة في كل مكان ثبت شرفه في الشرع ولا شك في تشرف المكان بالمكين الموجب لتشرف قبر رسول الله " ص " بحلول جسده الشريف فيه ويدل عليه عمل المسلمين خلفا عن سلف ويدل على رجحان الدعاء عند قبر النبي " ص " قوله تعالى ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله " الآية " الشامل لحالتي الحياة والموت وأن حرمته (ص) ميتا كحرمته حيا كما قاله مالك للمنصور على ما مر في التوسل وذكر جميع علماء المسلمين من أهل المذاهب له في كتب
(1) ص 159 - 160 338 المناسك وذكرهم الدعاء المشتمل على الاستشهاد بالآية المذكورة ولنعم ما قال شمس الدين الجزري في الحصن الحصين على ما حكي عنه: إن لم يجب الدعاء عند النبي (ص) ففي أي موضع يستجاب " انتهى " وسيأتي في فصل زيارة القبور إن فاطمة عليها السلام كانت تزور قبر عمها حمزة في كل جمعة فتصلي وتبكي عنده (وفي رواية) أنها كانت تزور قبور الشهداء بأحد اليومين والثلاثة فتصلي هناك وتدعو وتبكي وابن تيمية يقول لم يذكر أحد من أئمة السلف إن الصلاة عند القبور وفي مشاهدها مستحبة (وأما استقباله " ص " عند الدعاء) فلا مانع منه لقوله تعالى أينما تولوا فثم وجه الله بل هو راجح بقصد التبرك بمواجهته المرجو معها استجابة الدعاء وبقصد التوسل والتشفع به الثابت رجحانه كما بيناه في تضاعيف ما مر بل يدل قول الإمام مالك للمنصور المتقدم في فصل التوسل على أن استقباله " ص " أفضل من استقبال القبلة أو مساو له ولا ينافي ذلك ما دل على أن أفضل الجهات جهة القبلة لأن العام يخصص والمطلق يقيد وفي قول المنصور لمالك أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله (ص) دلالة واضحة على أن الدعاء عند القبر الشريف كان مشهورا معروفا لا يشك أحد في رجحانه وإنما الذي توقف فيه المنصور إن استقبال القبلة حال الدعاء أفضل أم استقبال القبر (أما) قول ابن تيمية: لم يقل أحد من أئمة المسلمين إن الصلاة والدعاء عند القبور وفي مشاهدها أفضل منها في غيرها فيكذبه خبر مالك إمام دار الهجرة مع المنصور المشار إليه وأما كون الصلاة والدعاء عند القبور وفي مشاهدها أفضل منهما في غيرهما فيكفي فيه ما دل على شرف تلك البقاع بشرف من دفن فيها الذي صار ملحقا بالضروريات في شرع الإسلام كما شرف جلد الشاة بكونه جلدا للمصحف وما الذي يمنع من الصلاة لله عندها والأرض كلها لله تعالى وقد قال النبي " ص " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا والصلاة جائزة في كل بقاع الأرض سيما الشريفة منها بعد أن تكون لله تعالى والممنوع منه الصلاة إلى القبر تعظيما له أو السجود له كما مر في فصل اتخاذ المساجد على القبور أما الصلاة بقربه تبركا بالمكان المدفون فيه فلا مانع منها لثبوت شرف المكان بالمكين ضرورة كما تكرر ذكره والعبادة لله لا للقبر كما أن الصلاة لله في المسجد طلبا لشرف المكان مستحبة وليست عبادة للمسجد فالمسلمون يصلون
339 عند قبور شرفت بمن دفن فيها لتنالهم بركة أصحابها الذين جعلهم الله مباركين كما يصلون عند المقام الذي هو حجر شرف بملامسة رجل إبراهيم الخليل (ع) لقوله تعالى (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) الذي يفهم منه إن سبب اتخاذ المصلى عنده تبركه بقيامه عليه ويدعون الله عندها لشرفها أيضا بمن دفن فيها فيكون دعاؤهم عندها أرجى للإجابة كالدعاء في المسجد أو الكعبة أو أحد الأمكنة أو الأزمنة التي شرفها الله ولكن ابن تيمية تعود بسرد الدعاوى المنفية بلا دليل بل مصادمة للضرورة وتتابع أدوات النفي لترويج مدعياته كما أن دعواه اتفاق أئمة السلف كلهم على أن الصلاة في البيوت أفضل منها عند قبور الأنبياء والصالحين دعوى مجردة عن الدليل فمن هو الذي صرح بذلك من أئمة السلف فضلا عن كلهم فليأتنا بواحد منهم إن كان من الصادقين (وعن الخصائص الكبرى للسيوطي) في قصة المعراج عن النبي " ص " قال فركبت ومعي جبرئيل فسرت فقال انزل فصل ففعلت فقال أتدري أين صليت بطيبة وإليها المهاجرة ثم قال انزل فصل ففعلت فقال أتدري أين صليت صليت بطور سيناء حيث كلم الله موسى ثم قال انزل فصل ففعلت فقال أتدري أين صليت صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى " انتهى " ومنه يفهم أن محل ولادة عيسى ينبغي الصلاة فيه كطيبة وطور سيناء لفضله وبركته بولادة عيسى فيه أفلا يكون المكان الذي بورك بوجود جسد النبي " ص " فيه مباركا مستحقا لاستحباب الصلاة وعبادة الله تعالى فيه ولا يكون مكان ولادة النبي " ص " مستحقا لأن يتبرك به بل مستحقا للهدم والمحو كما فعلته الوهابية به " وقال ابن القيم " تلميذ ابن تيمية في كتابه زاد المعاد على ما حكي عنه: إن عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم إلى ذبح الولد آلت إلى ما آلت إليه من جعل آثارهما ومواطئ أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين ومتعبدات لهم إلى يوم القيامة " انتهى " فإذا كانت آثار إسماعيل وهاجر لأجل ما مسهما من الأذى مستحقة لجعلها مناسك ومتعبدات فآثار أفضل المرسلين الذي قال ما أوذي نبي قط كما أوذيت لا تستحق أن يعبد الله فيها وتكون عبادة الله عندها والتبرك بها شرا وكفرا! وقد كانت عائشة ساكنة في الغرفة التي دفن فيها النبي " ص " وبقيت ساكنة فيها بعد دفنه ودفن صاحبيه وكانت تصلي فيها وذلك يبطل قول الوهابية بعدم جواز الصلاة عند القبور كما مر في فصل البناء على القبور.
340 * الفصل الرابع عشر * * في تعظيم القبور وأصحابها والتبرك بها بما لم ينص الشرع على تحريمه من لمس وتقبيل لها ولأعتاب مشاهدها وتمسح بها وطواف حولها ونحو ذلك * وهذا مما منعه الوهابية وكفروا به المسلمين وأشركوهم وسموهم القبوريين وعباد القبور ونحو ذلك صرح به الصنعاني في كلامه السابق في الباب الأول حيث عد الطواف بالقبور والتبرك والتمسح بها من موجبات الشرك وإنه كفعل الجاهلية للأصنام والأوثان والوهابيون في كتابهم إلى شيخ الركب المغربي المتقدم هناك حيث جعلوا تعظيم قبور الأنبياء والأولياء ببناء القباب والإسراج والصلاة عندها وغير ذلك من الشرك وعبادة الأوثان وصرح بذلك أيضا غير من ذكر. (ونقول) تعظيم قبور الأنبياء والصلحاء بل سائر المؤمنين وأصحابها أحياء وأمواتا بما لم ينص الشرع على تحريمه (1) راجح عقلا وشرعا لا مانع منه ولا محذور فيه لأنه من تعظيم شعائر الدين (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) ولم يدل دليل على تحريمه فيبقى داخلا في العموم مع حكم العقل بحسن تعظيم كل قريب إلى الله حيا وميتا ولا يعد ذلك عبادة لها كما توهمه الوهابية لأنه ليس كل تعظيم أو خضوع أو تذلل بقيام أو غيره يكون عبادة ويوجب شركا وكفرا أو يكون محرما فقد عرفت في المقدمات أن العبادة المنهي عنها لغير الله والتي توجب الشرك والكفر ليست العبادة اللغوية قطعا التي تشمل مطلق التعظيم والخضوع وأن تعظيم القبور ومن فيها والقيام والخضوع عندها لا يدخل في ذلك بل تعظيمها عبادة وطاعة لله تعالى لأن تعظيم من عظمه الله طاعة لله وعبادة وتعظيم له وخضوع له كما مر في المقدمات وليس عبادة للمعظم موجبة للشرك والكفر (أما) إن الأنبياء والصلحاء ممن يستحق التعظيم عنده تعالى وإن لهم حرمة وشأنا وشرفا وفضلا وبركة أحياء وأمواتا فلأنهم أنبياء الله ورسله الذين اختارهم واجتباهم برسالته وميزهم على جميع خلقه وجعلهم أمناء شرعه ودينه والصالحون هم أحباء الله المطيعون لأمره ونهيه فحرمتهم أحياء وأمواتا لا يشك فيها مسلم وهو عند المسلمين ملحق بالضروريات
(1) مثل السجود لها والصلاة إليها كما يصلى إلى الوثن - المؤلف - 341 فالنبي والصالح لا تسقط حرمته بموته وقد قال الإمام مالك للمنصور كما مر في فصل التوسل أن حرمة النبي (ص) ميتا كحرمته حيا واعترف الوهابية في الرسالة الثانية من رسائل الهدية السنية بأن رتبة النبي " ص " أعلى مراتب المخلوقين وأنه حي في قبره حياة برزخية وأن من أنفق نفيس أوقاته بالصلاة عليه فقد فاز بسعادة الدارين وإن كان المنقول عنهم كما مر أنهم يقولون النبي طارش وعصا أحدنا أنفع له منه إلا أن ضرورة دين الإسلام تقضي بخلاف هذا وأن المكان يتشرف بالمكين وينال به الفضل والبركة وإذا ثبتت حرمة الأنبياء والصالحين أحياء وأمواتا فبدفنهم في مكان يكتسب ذلك المكان شرفا وفضلا وبركة ويستحق التعظيم كما يستحق جلد الشاة التعظيم بجعله جلدا للمصحف وينال البركة والفضل بمجاورة المصحف فيجب تعظيمه وتحرم إهانته وتنجيسه وكما أن من احترام المصحف احترام جلده فمن احترام الأنبياء والصلحاء احترام قبورهم المتشرفة بأجسادهم الشريفة فتعظيم هذه القبور واحترامها هو بأمر الله الذي جعلها محترمة معظمة لأنها قبور أنبيائه ورسله الذي أمر باحترامهم وتعظيمهم فيكون عبادة لله تعالى لأن كلما كان عن أمر الله فهو طاعة وعبادة لله وذلك كتعظيم الأخ في الله واحترامه والأبوين وخفض جناح الذل لهما والمسجد والكعبة والحرم والمقام والحجر بكسر الحاء والحجر الأسود وغيرها (والحجر) هو منزل إسماعيل وأمه عليهما السلام ومدفنهما فإن إبراهيم عليه السلام لما ذهب بهاجر وإسماعيل إلى مكة عمد بها إلى موضع الحجر وأمرها أن تتخذ فيه عريشا ولما ماتت دفنها إسماعيل في الحجر فلما مات إسماعيل وعمره مائة وثلاثون عاما دفن مع أمه في الحجر ذكر ذلك قطب الدين الحنفي في تاريخ مكة نقلا عن الأزرقي (1) وقد أوجب الله احترام النبي " ص " غاية الاحترام فقال يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض (ولو كان) احترام قبور الأنبياء والصلحاء عبادة لها وشركا لكان تعظيم الكعبة والطواف بها والحجر الأسود وتقبيله والحجر والمقام والمساجد والمشاعر والأبوين وإطاعتهما وخفض جناح الذل لهما وغض الأصوات عند رسول الله " ص " وخفضه جناحه لمن اتبعه من المؤمنين وسجود الملائكة لآدم وسجود إخوة يوسف وأبويه له وتعظيم الجنود لأمرائهم والصحابة للنبي " ص " وللخلفاء والأنبياء لآبائهم وأماتهم وقيامهم وخضوعهم لهم والوهابية للسلطان ابن سعود وغير ذلك كله عبادة لغير الله وشركا ولم يسلم من الشرك
(1) راجع ص 22 و 27 من تاريخ مكة بهامش خلاصة الكلام. 342 نبي فمن دونه " لا يقال " التعظيم الذي نص الشرع عليه وأمر به لا كلام لنا فيه إنما لكلام فيما لم ينص عليه الشرع (لأنا نقول) إذا فرض أن كل تعظيم عبادة وكل عبادة لغير الله شرك يكون الله تعالى قد أمر بالشرك ورضيه وأحبه وذلك باطل لقبح الشرك عقلا ونقلا (إن الله لا يغفر أن يشرك به) ولا يمكن أن يرخص الله تعالى في الشرك، وورد الأمر به لا يرفع الشركية لأن ما هو شرك قبل الأمر لا يصير توحيدا بالأمر به إذ الحكم لا يغير الموضوع كما مر في المقدمات مع أنه كما يقال بورود الشرع بتعظيم هذه المذكورات يقال بوروده بتعظيم قبور الأنبياء والصالحين لما عرفت من أن فضلها وبركتها الموجب لتعظيمها ثابت بضرورة الشرع وكيف أمر الله بتعظيم المقام وما هو إلا صخرة تشرفت بقيام إبراهيم عليه السلام عليها حين بناء البيت وبأثر قدمه ولم تكن وثنا معبودا ولا معظمها كافرا ولا مشركا وكان معظم قبر إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام وقبر محمد (ص) سيد ولد آدم الذين حويا جسديهما الشريفين كافرا ومشركا سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم. وتوهم ورود النهي عن تعظيم القبور بينا فساده في محاله " ويكفي " في حرمة القبور وشرفها وفضلها وبركتها إيصاء الصاحبين أن يدفنا مع النبي " ص " وقد عد دفنهما معه أعظم منقبة لهما ولو كانت القبور ليس لها حرمة وشرف ولا ترجى بركتها وبركة جوارها فما الموجب لذلك ولما أراد بنو هاشم تجديد العهد بالحسن بن علي " ع " بجده " ص " وظن بنو أمية وأعوانهم أنهم يريدون دفنه عند جده لبسوا السلاح ومنعوهم أشد المنع قائلين أيدفن عثمان في أقصى البقيع ويدفن الحسن عند جده وإذا لم يكن للقبر حرمة ولا شرف وبركة ترجى فلماذا يأتي بنو هاشم بجنازة الحسن ليجددوا به عهدا بجده " ص " بوصية منه وهل هذا إلا عين التوسل والتبرك بالنبي " ص " وبقبره بعد الموت الذي أنكره الوهابية وجعلوه شركا وهل أشرك الحسن " ع " وبنو هاشم بفعلهم هذا وجهلوا معنى التوحيد الذي عرفه أعراب نجد إذا لم يكن للقبور شرف وحرمة فلماذا يتأسف بنو أمية لدفن عثمان في أقصى البقيع ويمنعون من دفن الحسن عند جده كل ذلك دال على شرف البقعة وفضلها عند عموم المسلمين بشرف من فيها وإن الدفن فيها طلبا لشرفها وبركتها أمر راجح مطلوب محبوب تراق دونه الدماء وتزهق النفوس " وحينئذ " فقياسهم تعظيم قبور الأنبياء والصالحين بتعظيم الأصنام والأوثان التي لم يجعل الله لها حرمة
343 ونهى عن تعظيمها سواء كانت صور قوم صالحين أو غيرها قياس فاسد وجهل فاضح (وقال) صاحب المنار في مجموعة مقالاته (الوهابيون والحجاز) ما معناه: إن تعظيم القبور تعظيما دينيا من أعمال الشرك (ثم قال) حدثني الشريف محمد شرف عدنان باشا حفيد الشريف عبد المطلب الذي كان اعقل رجل في شرفاء مكة أنه رأى رجلا في مسجد ابن عباس بالطائف يصلي مستقبل القبر مستدبر القبلة فظنه أعمى وجاء ليحوله إلى القبلة فرآه بصيرا وأبى أن يتحول فأمر بإخراجه (إلى أن قال) ما حاصله: إن تعظيم القبور تعظيما دينيا كان سببا لمنكرات كثيرة وإن استحلال المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة كفر وخروج عن الملة (انتهى). وقد عرفت مما بيناه وأوضحناه أن تعظيم قبور الأنبياء والصالحين تعظيما دينيا من الأمور المندوب إليها في الشرع كتعظيم نفس الأنبياء والصالحين وأن حرمتهم أمواتا كحرمتهم أحياء وأنه كتعظيم جلد الشاة المعمول جلدا للمصحف لا يشك في ذلك إلا جاهل أو معاند وما حكاه عن هذا الشريف لم نسمع بمثله في شئ من بلاد الإسلام لا من الخواص ولا من أجهل العوام ولا نظنه إلا فرية وأن فرض صدقة لا يوجب أن يكون كل تعظيم شركا وكفرا فهل إذا عظمت السبائية عليا (ع) وأوصلته إلى درجة الألوهية (1) يكون كل تعظيم له شركا. ويدخل في حكمه على استحلال المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة بأنه كفر وخروج من الملة تعظيم قبر النبي " ص " والتبرك به فإن المسلمين قد أجمعوا على ذلك في جميع الأعصار والأمصار قولا وعملا حتى وصل إلى حد الضرورة ولم يخالف فيه غير الطائفة الوهابية. وأما التبرك بقبر النبي " ص " بلمس وتقبيل وتمسح به وطواف حوله ونحو ذلك فالحق جوازه ورجحانه لما ستعرف من الأدلة الكثيرة الدالة عليه " أما " علماء أهل السنة فاختلفوا في جوازه واستحبابه وكراهته ولكن من كرهه إنما كرهه بزعم منافاته للأدب كما ستعرف قال السمهودي في كتاب وفاء الوفا (2) قال النووي لا يجوز الطواف بقبره (ص) ويكره الصاق البطن والظهر بجدار القبر قاله الحليمي وغيره قال ويكره مسحه باليد وتقبيله بل الأدب أن يبعد منه كما يبعد منه لو حضر في حياته هذا هو
(1) إن صح ذلك (2) ص 442 - 445 ج 2 344 الصواب الذي أطبق عليه العلماء ومن خطر بباله أن المسح باليد ونحوه أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وأقوال العلماء وفي الأحياء مس المشاهد وتقبيلها عادة النصارى واليهود قال الزعفراني وضع اليد على القبر ومسه وتقبيله بدعة من البدع التي تنكر شرعا وروي أن أنس بن مالك رأى رجلا وضع يده على قبر النبي " ص " فنهاه وقال ما كنا نعرف هذا على عهد رسول الله " ص " وقد أنكره مالك والشافعي وأحمد أشد الانكار وقال بعض العلماء إن قصد بوضع اليد مصافحة الميت يرجى أن لا يكون به حرج ومتابعة الجمهور أحق وفي تحفة ابن عساكر ليس من السنة أن يمس جدار القبر المقدس ولا أن يقبله ولا يطوف كما يفعل الجهال بل يكره ذلك ولا (1) يجوز والوقوف من بعد أقرب إلى الاحترام ثم روى من طريق أبي نعيم بسنده أن ابن عمر كان يكره أن يكثر مس قبر النبي " ص " قال البرهان بن فرحون بعد ذكره وهذا تقييد لما تقدم وهو عن ابن عمر في القبر نفسه فالجدر الظاهرة أخف إذا لم يكثر منه وعن تأليف ابن تيمية قيل لأحمد بن حنبل أنهم يلصقون بطونهم بجدار القبر وأهل العلم من أهل المدينة لا يمسونه ويقومون ناحية ويسلمون فقال نعم هكذا كان ابن عمر يفعل وقال أبو بكر الأثرم قلت لأحمد بن حنبل قبر النبي " ص " يلمس ويتمسح به قال لا أعرف هذا قلت فالمنبر قال أما المنبر فنعم قد جاء فيه شئ يروونه عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن ابن عمر أنه مسح المنبر ويروونه عن سعيد بن المسيب في الرمانة أي رمانة المنبر قبل احتراقه ويروى عن يحيى بن سعيد شيخ مالك أنه حيث أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر فمسحه ودعا فرأيته استحسن (2) ذلك قال السروجي الحنفي لا يلصق بطنه بالجدار ولا يمسه بيده وعن كتاب أحمد بن سعيد الهندي فيمن وقف بالقبر لا يلصق به ولا يمسه ولا يقف عنده طويلا وقال ابن قدامة من الحنابلة لا يستحب التمسح بحائط قبر النبي (ص) ولا يقبله وحكى العزيز بن جماعة عن كتاب العلل والسؤالات
(1) أولا " ظ " (2) يحتمل رجوع الضمير في استحسن إلى مالك ويحتمل إلى ابن حنبل - المؤلف - 345 لعبد الله بن أحمد بن حنبل سألت أبي عن الرجل يمس منبر رسول الله (ص) ويتبرك بمسه ويقبله ويفعل بالقبر مثل ذلك رجاء ثواب الله تعالى قال لا بأس قال العز بن جماعة وهذا يبطل ما نقل عن النووي من الاجماع وقال السبكي في الرد على ابن تيمية إن عدم التمسح بالقبر ليس مما قام الاجماع عليه فقد روى أبو الحسين يحيى بن الحسين بن جعفر في أخبار المدينة عن عمر بن خالد عن أبي نباته عن كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب أقبل مروان بن الحكم فإذا رجل ملتزم القبر فأخذ مروان برقته ثم قال هل تدري ماذا تصنع فقال إني لم آت الحجر ولم آت اللبن إنما جئت رسول الله " ص " سمعت رسول الله " ص " يقول لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ولكن أبكوا عليه إذا وليه غير أهله قال المطلب وذلك الرجل أبو أيوب الأنصاري وقال السمهودي في مقام آخر (1) رواه أحمد بسند حسن عن عبد الملك بن عمرو عن كثير بن زيد عن داود بن أبي صالح وذكر مثله إلا أنه لم يذكروا اللبن " قال " ورواه الطبراني في الكبير والأوسط وتقدم في المبحث الثاني تمريغ بلال وجهه على القبر لما جاء لزيارته " ص " " قال " وفي تحفة ابن عساكر من طريق طاهر بن يحيى عن الحسيني عن أبيه عن جده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي قال لما رمس رسول الله " ص " جاءت فاطمة فوقفت على قبره وأخذت قبضة من تراب القبر ووضعتها على عينها وبكت وأنشأت تقول: ماذا على من شم تربة أحمد * أن لا يشم مدى الزمان غواليا صبت علي مصائب لو أنها * صبت على الأيام عدن لياليا قال وذكر الخطيب ابن حملة أن ابن عمر كان يضع يده اليمنى على القبر الشريف وأن بلالا وضع خده عليه " إلى أن قال " ولا شك أن الاستغراق في المحبة يحمل على الإذن في ذلك والمقصود من ذلك كله الاحترام والتعظيم والناس تختلف مراتبهم في ذلك كما كانت تختلف في حياته فأناس حين يرونه لا يملكون أنفسهم بل يبادرن إليه وأناس فيهم أناة والكل محل خير وقال الحافظ ابن حجر استنبط بعضهم من مشروعية تقبيل الحجر الأسود جواز تقبيل كل من يستحق التعظيم من آدمي وغيره " إلى أن قال " ونقل عن
(1) ص 410 ج 2 346 ابن أبي الصيف اليماني أحد علماء مكة من الشافعية جواز تقبيل المصحف وأجزاء الحديث وقبور الصالحين ونقل الطيب الناشري عن المحب الطبري أنه يجوز تقبيل القبر ومسه قال وعليه عمل العلماء الصالحين وأنشد: أمر على الديار ديار ليلى * أقبل ذا الجدار وذا الجدار وما حب الديار شغفن قلبي * ولكن حب من سكن الديارا وعن أبي خيثمة عن مصعب بن عبد الله عن إسماعيل بن يعقوب التيمي كان ابن المنكدر يصيبه الصمات فكان يقوم كما هو يضع خده على قبر النبي " ص " فعوتب في ذلك فقال إنه يصيبني خطرة فإذا وجدت ذلك استشفيت بقبر النبي " ص " وكان يأتي موضعا من المسجد في الصحن فيتمرغ فيه ويضطجع فقيل له في ذلك فقال إني رأيت النبي " ص " في هذا الموضع أراه قال في النوم " انتهى ما أردنا نقله وفاء الوفا " وبذلك ظهر أن جملة ممن كره الصاق البطن والظهر والمسح باليد أو إكثاره والتقبيل وإطالة الوقوف إنما قال به لمنافاته الأدب والاحترام بزعمه كما يدل عليه قول الحليمي بل الأدب أن يبعد منه الخ وقول ابن عساكر والوقوف من بعد أقرب إلى الاحترام وما حكي عن ابن عمر من كراهته إكثار المس لا أصل المس فكأنه رأى أن في إكثار المس سوء أدب وكذا إطالة الوقوف التي في كتاب الهندي لا لكونه عبادة وكيف يتوهم فيما جعل منافيا للاحترام أنه عبادة وبعضهم كرهه لزعم أنه بدعة كما في كلام الزعفراني ويدل عليه قول مالك ما كنا نعرف هذا على عهد رسول الله (ص) وقول ابن عساكر ليس من السنة وقول أحمد هكذا كان ابن عمر يفعل وقول الغزالي إنه عادة النصارى واليهود وغير ذلك من كلماتهم وكذلك منع الطواف به لزعم أنه بدعة أو لشبهة بالطواف بالكعبة المشرفة وكيف كان فليس في شئ من كلماتهم أنه عبادة للقبر كما تزعمه الوهابية " والتحقيق " أنه لا كراهة ولا تحريم في شئ من ذلك إذ لا يقصد به سوى التبرك وهو جائز وراجح إذ لا يشك مسلم بأن القبر الذي حول جسد النبي " ص " مبارك قد نالته بركة جسده سيما إذا قلنا بحياته البرزخية في قبره التي لا تنكرها الوهابية كما مر في المقدمات وإذا كان كذلك فلا مانع من التبرك بقبره الشريف بجميع أنواع التبرك من تقبيل ولمس والصاق بدن وطواف حوله وغير ذلك (قال) قاضي القضاة تقي الدين أبو الحسن السبكي في محكي
347 كتابه شفاء السقام في زيارة خير الأنام الذي يرد به على ابن تيمية: نحن نقطع ببطلان كلامه " أي ابن تيمية " وإن المعلوم من الدين وسيرة السلف الصالحين التبرك ببعض الموتى من الصالحين فكيف بالأنبياء والمرسلين ومن ادعى أن قبور الأنبياء وغيرهم من الموتى المسلمين سواء فقد أتى أمرا عظيما نقطع ببطلانه وخطائه وفيه حط لرتبة النبي (ص) إلى درجة غيره من المؤمنين وذلك كفر بيقين فإن من حط رتبة النبي (ص) عما يجب له فقد كفر (فإن قال) إن هذا ليس بحط ولكنه منع من التعظيم فوق ما يجب له (قلت) هذا جهل وسوء أدب ونحن نقطع بأن النبي (ص) يستحق من التعظيم أكثر من هذا المقدار في حياته وبعد موته ولا يرتاب في ذلك من في قلبه شئ من الإيمان " انتهى ". وتوهم أن ذلك أو بعضه بدعة توهم فاسد لما عرفت في المقدمات من أنه يكفي في كون الشئ سنة دخوله في عمومات أدلة الشرع وفحاويها ولا يلزم النص عليه بخصوصه وقد فهم ضرورة من الشرع أن في القبر الذي ضم جسد سيد ولد آدم وأشرف المخلوقات بركة وأن له فضلا وذلك كاف في جواز التبرك به بجميع أنواع التبرك التي يرجى بها نيل بركته وما مر عن أحمد من أنه كان ينكره أشد الانكار معارض بما مر من حكاية ولده عنه الترخيص فيه وقوله هكذا كان ابن عمر يفعل لا يدل على ترجيحه لفعله ولا يبعد أن يكون ترك ابن عمر له لظنه أن غيره أقرب إلى الأدب مع أنه معارض بما مر من أنه كان يضع يده على القبر وأنه كره إكثار المس لا أصله وكراهته الاكثار لظن منافاته الأدب ومعارض بما مر من التزام أبي أيوب الأنصاري للقبر ورده على مروان ذلك الرد ومن تمريغ بلال وجهه ووضع خده عليه ووضع الزهراء ترابه على عينها واستشفاء ابن المنكدر به بوضع خده عليه وبالموضع الذي رآه فيه في النوم بتمرغه واضطجاعه فيه والاستشفاء أعظم من التبرك ولذلك أجازه أبو الصيف أحد علماء مكة والمحب الطبري وقال إن عليه عمل العلماء كما مر مع أن ابن عمر وسعيد ابن المسيب ويحيى ابن سعيد شيخ مالك تبركوا بمسح المنبر كما مر الذي نال البركة بجلوس رسول الله (ص) برهة من الزمان فكيف بقبره الذي بورك بوجود جسده الشريف على ممر الدهور والأعوام ولذلك استنبط بعض العلماء من تقبيل الحجر الأسود جواز تقبيل كل من يستحق التعظيم من حجر وغيره وقد قال عمر إني لأقبلك وإني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله " ص " يقبلك ما قبلتك رواه ابن ماجة ولذلك جوز أحد علماء مكة
348 تقبيل المصحف وأجزاء الحديث كما مر وتقبيل المصحف عليه عمل المسلمين كلهم جيلا بعد جيل وروي أن النبي " ص " طاف راكبا وكان يستلم الركن بمحجنه ويقبل المحجن (1) رواه مسلم (2) وابن ماجة (3) وإذا جاز تقبيل المحجن لملامسة الركن أفلا يجوز تقبيل قبر حل فيه رسول الله " ص " " لا يقال " إنما يجوز تقبيل المحجن اقتداء بفعل رسول الله (ص) ولو رأيناه يقبل القبر ما توقفنا في جوازه والعبادة مبناها على الاتباع (لأنا نقول) استفدنا من تقبيله المحجن الذي تبرك بملامسة الركن جواز تقبيل كل مستحق للتعظيم على نحو ما استفاد ذلك بعض العلماء من تقبيل الحجر الأسود كما مر وحكى القسطلاني في إرشاد الساري (4) عن أصحاب المذاهب استلامه باليد وتقبيلها والإشارة إليه باليدين وتقبيلهما (ولو) كان تقبيل قبر النبي (ص) عبادة له أو للقبر لكان تقبيل يده أو بدنه الشريف في حياته وبعد موته عبادة له لعدم تصور الفرق مع أنه قد روى أحمد بن حنبل في مسنده (5) بسنده عن ابن عمر أنه قبل يد النبي " ص " " وقد " قبل سواد بن غزية بطن رسول الله " ص " في غزوة بدر نقله في السيرة الحلبية (6) وأقره (ص) على ذلك وقبل كشحه سواد بن عمرو ولم ينهه رواه أبو داود كما في السيرة الحلبية (وفيها أيضا) عن الخصائص الصغرى: من خصائصه (ص) أنه ما التصق ببدنه مسلم وتمسه النار " أقول " وليس ذلك إلا ببركة بدنه الشريف فمن التصق بقبره الذي بورك بالتصاقه ببدنه الشريف يرجى له ذلك (وأخرج) ابن ماجة في سننه أن أبا بكر قبل النبي " ص " وهو ميت " وعن " كفاية الشعبي وفتاوى الغرائب ومطالب المؤمنين وخزانة الرواية ما هذا لفظه: لا بأس بتقبيل قبر الوالدين لأن رجلا جاء إلى النبي " ص " فقال يا رسول الله إني حلفت أن أقبل عتبة باب الجنة وجبهة حور العين فأمره أن يقبل رجل الأم وجبهة الأب قال يا رسول الله إن لم يكن أبواي حيين قال قبل قبرهما قال فإن لم أعرف قبرهما قال خط خطين انو أحدهما قبر الأم والآخر قبر الأب فقبلهما فلا تحنث في يمينك " ومر " في فصل الدعاء والاستغاثة تمسح الناس بالعباس لما استسقى به عمر فسقوا (وعن القاضي
(1) بكسر الميم وسكون الحاء المهملة ونون عصا محنية الرأس - المؤلف - (2) صفحة 380 ج 5 بهامش إرشاد الساري (3) صفحة 115 ج 2 (4) صفحة 161 ج 2 (5) صفحة 23 ج 2 (6) صفحة 171 ج 2 طبع عام 1320 349 عياض) في شرح الشفا أنه رئي ابن عمر واضعا يده على قبر النبي " ص " من المنبر ثم وضعها على جبهته. أفيجوز التبرك بمقعد النبي " ص " من المنبر ولا يجوز التبرك بقبره الذي ضم جسده الشريف (أما قول الغزالي) إن مس المشاهد وتقبيلها عادة النصارى واليهود فيرده ما سمعت من أنه عادة المسلمين أيضا أكابرهم وأصاغرهم وكونه عادة النصارى واليهود لا يصير دليلا على منعه بعد أن ثبت من الشرع جوازه كما عرفت (أما) توهم أن اللمس أو كثرته والصاق البطن والظهر وإطالة الوقوف منافية للآداب فتوهم فاسد لأن فعل ذلك بقصد التبرك من تمام الأدب والاحترام وكذا إكثاره وإطالة الوقوف طلبا لزيادة البركة والثواب ليس فيه شئ من منافيات الآداب (أما الطواف بالقبر) فإن أريد به أنه مأمور به بخصوصه وأنه عبادة خاصة كالطواف بالكعبة فهو تشريع محرم لكن هذا لا يقصده أحد وإنما يقصد الطائف حصول البركة بل المبالغة في حصولها حتى لا يبقى جانب من القبر إلا وتناله بركته وكونه شبيها بالطواف بالكعبة لا يوجب حرمته فإنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى ليس كل شبيه بالعبادة يكون ممنوعا وإلا لحرم تقبيل الآدمي رحمة وتقبيل الميت لمشابهته تقبيل الحجر الأسود ولا يقول به أحد (وفي تاريخ مكة المكرمة) المسمى بالإعلام بأعلام بيت الله الحرام لقطب الدين الحنفي (1) عن قصص الأنبياء أن إبراهيم عليه السلام لما جاء لزيارة ولده إسماعيل بمكة جاءته زوجة إسماعيل بحجر وهو حجر المقام الذي بنى عليه الكعبة فجلس عليه فغاصت رجلاه في الحجر فغسلت شقيه الأيمن والأيسر وأفاضت الماء على رأسه وبدنه وانصرف فلما جاء إسماعيل وجد رائحة أبيه فسأل زوجته فأخبرته وقالت هذا موضع قدميه فقبل موضع قدم أبيه من الحجر وحفظه يتبرك به إلى أن بنى عليه فيما بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام الكعبة (انتهى) فهل كفر أيها الوهابيون إسماعيل بتقبيله موضع قدم أبيه وتبركه بحجر وقف عليه أبوه وهل هذا الحجر بوقوف إبراهيم " ع " عليه صار أشرف من بقعة ضمت جسد سيد الأنبياء محمد (ص) التي جعلتم تقبيلها والتبرك بها شركا وكفرا (والعجب) أن الوهابيين منعوا الناس من التبرك بالبناء الذي على مقام إبراهيم عليه السلام ومن لمسه وتقبيله وأخبرنا في هذه السنة أن بعض الحجاج لمس القفل
(1) ص 24 بهامش خلاصة الكلام طبع مصر 350 الذي على باب المقام فضربوه ضربا مبرحا أدى به إلى قذف الدم والخطر على الحياة فالمقام الذي بلغ من فضله عند الله تعالى ببركة وقوف خليله إبراهيم عليه أن أمر بأن يتخذ مصلى بقوله (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) لا يستحق أن يتبرك بما جاوره عند الوهابيين لقد ردوا بفعلهم هذا على الله وحادوه وعملوا بضد ما أمر به (وروى) السمهودي في وفاء الوفا (1) عن يحيى بن عباد أنه روى أن بيت فاطمة الزهراء لما أخرجوا منه فاطمة بنت حسين وزوجها حسن بن حسن وهدموا البيت بعث حسن ابنه جعفر وكان أسن ولده وقال أنظر الحجر الذي من صفته كذا وكذا هل يدخلونه في بنيانهم فرصدهم حتى رفعوا الأساس وأخرجوا الحجر فأخبر أباه فخر ساجدا وقال ذلك حجر كان رسول الله (ص) يصلي إليه إذا دخل إلى فاطمة أو كانت فاطمة تصلي إليه الشك من يحيى وقال علي بن موسى الرضا ولدت فاطمة عليها السلام الحسن والحسين (ع) على ذلك الحجر قال يحيى ورأيت الحسين بن عبد الله بن عبد الله بن الحسين ولم أر فينا رجلا أفضل منه إذا اشتكى شيئا من جسده كشف الحصى عن الحجر فيتمسح به الحديث ومر تمامه في الفصل التاسع في تفصيل بناء الحجرة الشريفة فإذا كانت هذه حرمة حجر نال البركة بولادة الزهراء ولديها الحسنين عليه وبصلاتها أو صلاة أبيها " ص " إليه وهذه حال خيار السلف الذين يدعي الوهابية الاقتداء بهم بالنسبة إليه وهم في قرنه أو القريب منه الذي رووا أنه خير القرون فكيف بتربة ضمت جسد أبيها وجسدها الشريفين ألا يحق التبرك والتمسح والاستشفاء بها وطلب الحوائج من الله عندها أيها الإخوان؟ في وفاء الوفا (2) نقلا عن ابن شبة عن عبد العزيز بن عمران في حديث أنه لما توفيت فاطمة بنت أسد نزل النبي " ص " فاضطجع في اللحد وقرأ فيه القرآن ثم نزع قميصه فأمر أن تكفن فيه وقال ما أعفي أحد من ضغطة القبر إلا فاطمة بنت أسد قيل يا رسول الله ولا القاسم قال ولا إبراهيم وكان إبراهيم أصغرهما " قال " وروى ابن شبة عن جابر بن عبد الله أنه لما أخبر " ص " بوفاتها نزع قميصه فقال إذا غسلتموها فاشعروها إياه تحت أكفانها وأنه تمعك في اللحد فقيل يا رسول الله رأيناك صنعت شيئين ما رأيناك صنعت مثلهما نزعك قميصك وتمعكك في اللحد قال أما قميصي فأريد أن لا تمسها النار أبدا
(1) ص 408 ج ل (2) ص 88 ج 2 351 إن شاء الله تعالى وأما تمعكي في اللحد فأردت أن يوسع الله عليها في قبرها (قال) وروى ابن عبد البر عن ابن عباس أنها لما ماتت ألبسها رسول الله " ص " قميصه واضطجع معها في قبرها فقالوا ما رأيناك صنعت ما صنعت بهذه فقال إنه لم يكن بعد أبي طالب أبر لي منها إنما لبستها قميصي لتكسى من حلل الجنة واضطجعت معها ليهون عليها (انتهى) فهذا صريح في حصول البركة لقبرها رضوان الله عليها باضطجاعه (ص) وتمعكه فيه بحيث صار ذلك موجبا لرفع ضغطة القبر عنها التي لم يسلم منها ولد رسول الله (ص) الرضيع وفي حصول البركة للقميص بمماسة جسد رسول الله " ص " بحيث تفيد مماسته لبدنها نجاتها من النار واللبس من حلل الجنة فكيف ينكر بعد هذا إن لمس قبره الذي تبرك وتشرف بملامسة جسده المبارك الشريف ومجاورته موجب للبركة ونيل خير الدنيا والآخرة ويجعل كفرا وشركا لولا الخذلان والحرمان. وفي وفاء الوفا (1) عن عبد الواحد بن محمد بن عبد الرحمن بن عوف أنه أوصي أن يدفن عند عثمان بن مظعون فدفن هناك (وفيه) أنه روى ابن سعد في طبقاته عن أبي عبيدة بن عبد الله أن ابن مسعود قال ادفنوني عند قبر عثمان ابن مظعون (انتهى) وذلك قصدا إلى التبرك بجواره ولأن النبي أمر بدفن ابنه إبراهيم عنده كما في وفاء الوفا. قال السمهودي في وفاء الوفا (2) انعقد الاجماع على تفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة حتى على الكعبة وأجمعوا على تفضيل مكة والمدينة على سائر البلاد واختلفوا أيهما أفضل فذهب عمر بن الخطاب وابنه عبد الله ومالك بن أنس وأكثر المدنيين إلى تفضيل المدينة وأحسن بعضهم فقال الخلاف في غير الكعبة فهي أفضل من المدينة ما عدى ما ضم الأعضاء الشريفة إجماعا قال وحكاية الاجماع على تفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة نقله القاضي عياض والقاضي أبو الوليد الباجي قبله كما قال الخطيب بن جملة ونقله أبو اليمن بن عساكر وغيرهم مع التصريح بالتفضيل على الكعبة ونقل التاج الفاكهي نفي الخلاف عن ذلك (انتهى) وهل نالت المدينة المنورة هذا الفضل العظيم حتى صارت أفضل من مكة أو ما عدى الكعبة إلا بوجود النبي (ص) فيها حيا وميتا وإذا كان محل القبر الشريف
(1) ص 89 ج 2 (2) ص 19 ج 1 352 صار يفضل على الكعبة المعظمة ويدعى على ذلك الاجماع أفلا يستحق أن يعظم ويتبرك به؟ ويكون تعظيمه والتبرك به شركا وكفرا كعبادة الأصنام! (وعقد السمهودي) عدة فصول أورد فيها ما روي في الحث على حفظ أهلها وإكرامهم وأنهم جيرانه (ص) والتحريض على الموت بها والدعاء بذلك وعلى المجاورة بها والدعاء لها ولأهلها وعصمتها من الدجال والطاعون والأحاديث الواردة في تحريمها وغير ذلك وغير خفي أنها إنما حازت كل هذه الفضائل بتشرفها بهجرته " ص " إليها وسكناه بها حيا وميتا وإلا كانت كسائر البلاد فإذا كانت إنما حازت هذا الشرف به " ص " وبقبره الشريف أفلا يسوغ أن يتبرك بقبر من هذه بركته وهذه حرمته عند الله تعالى؟ ويكون التبرك به شركا وكفرا! " وعن " الصديق حسن الحنبلي عن الإمام مالك أنه مع ضعفه وكبر سنه لم يركب قط في أرض المدينة وكان يقول لا أركب في مدينة فيها جثة رسول الله " ص " مدفونة " انتهى " ومع كل هذا يجعل الوهابيون التبرك بقبر رسول الله (ص) شركا وكفرا. ومن ذلك يظهر أن قول بعض الوهابيين في الرسالة الثالثة من رسائل الهدية السنية خطابا لأهل مكة: من جمع بين سنة رسول الله (ص) في القبور وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه وبين ما أنتم عليه اليوم من فعلكم مع قبر أبي طالب والمحجوب وغيرهما وجد أحدهما مضادا للآخر مناقضا له إلى آخر ما قال - أحق بأن يقلب عليه فيقال: من جمع بين منعكم من تعظيم قبر النبي (ص) والتبرك والتمسح به وبين ما قدمناه مما أثر عن النبي (ص) وأصحابه وجد أحدهما مضادا للآخر مناقضا له (وأما) استشهاد الوهابيين بخبر يغوث ويعوق ونسر التي هي أسماء قوم صالحين فلا شاهد فيه لأن الذم ليس على التبرك بهؤلاء الصالحين وبقبورهم بل على عبادة صورهم فقد ذكر المفسرون أن الآباء تبركت بهم والأبناء عبدت صورهم فالذم للأبناء على العبادة لا للآباء على التبرك. * الفصل الخامس عشر * * في اتخاذ الخدمة والسدنة لقبور الأنبياء والأولياء والصلحاء واتخاذها أعيادا * وهذا مما منعه الوهابية وصرحوا في كتابهم لشيخ الركب المغربي المتقدم في الباب الثاني بأن اتخاذها أعيادا وجعل السدنة لها شرك وكفر وعبادة للقبور لزعمهم أن كل
353 تعظيم لها فهو عبادة وأنها صارت بذلك أصناما وأوثانا وأن جعل الخدمة والسدنة لها كما كان يجعل المشركون السدنة لأوثانهم. وهذا جهل منهم لما بيناه مرارا في الفصول السابقة وفي تضاعيف كلماتنا من أن تعظيم من يستحق التعظيم واحترام من هو أهل للاحترام ليس عبادة له ما لم يعظم بشئ من خواص الربوبية كالسجود ونحوه وأن تعظيم المشركين لأصنامهم بجعل السدنة لها وغيره تعظيم لغير من عظمه الله ولمن نهى الله عن تعظيمه ولم يجعل له حرمة لكونه حجرا أو شجرا ونحو ذلك سواء كان على صورة نبي أو صالح أو لا أما قبور الأنبياء والصلحاء فقد شرفها الله وأوجب تعظيمها بتضمنها لجسد وليه ونبيه فمن عظمها فقد عظم الله تعالى وأطاع أمره ومن تعظيمها جعل السدنة والخدمة لها ليحفظوها من وقوع القاذورات والأوساخ عليها ويعينوا زوارها على حوائجهم ويسرجوا حولها ويفرشوا لمن أراد عبادة الله عندها بصلاة أو قراءة قرآن أو دعاء أو ذكر أو غير ذلك مما أمر الله به وشرعه في كل زمان ومكان سيما الأمكنة الشريفة كمشاهد الأنبياء والصلحاء (وأما) اتخاذها أعيادا فقال ابن تيمية في رسالة زيارة القبور (1): وفي السنن عنه (ص) أنه قال لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغني (أقول) وأورد هذا الحديث السمهودي في وفاء الوفا (2) هكذا: لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا " الحديث " (وفي رواية له) بدل وصلوا علي الخ فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم (وفي رواية) لا تتخذوا بيتي عيدا ولا بيوتكم مقابر ثم قال ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء. ومع تسليم سند هذا الحديث فقوله لا تتخذوا قبري عيدا لا يخلو من إجمال قال السمهودي: قال الحافظ المنذري يحتمل أن يكون المراد به الحث على كثرة زيارة قبره " ص " وأن لا يهمل حتى يكون كالعيد الذي لا يأتي في العام إلا مرتين قال ويؤيده قوله لا تجعلوا بيوتكم قبورا أي لا تتركوا الصلاة فيها حتى تجعلوها كالقبور التي لا يصلى فيها. قال السبكي ويحتمل لا تتخذوا له وقتا مخصوصا ويحتمل لا تتخذوه كالعيد في الزينة والاجتماع وغير ذلك بل لا يؤتى إلا للزيارة والسلام والدعاء " انتهى " (وروى) السمهودي في وفاء الوفا أن رجلا كان يأتي كل غداة فيزور قبر النبي (ص) ويصلي عليه
(1) ص 159 (2) ص 416 ج 2 354 ويصنع من ذلك ما انتهزه عليه علي بن الحسين بن علي عليهم السلام فقال ما يحملك على هذا قال أحب التسليم على النبي (ص) فقال أخبرني أبي عن جدي أن رسول الله (ص) قال لا تجعلوا قبري عيدا " الحديث " (قال) فهذا يبين أن ذلك الرجل زاد في الحد فيكون علي بن الحسين موافقا لمالك في كراهة الاكثار من الوقوف بالقبر وليس إنكارا لأصل الزيارة أو أنه أراد تعليمه أن السلام يبلغه مع الغيبة لما رآه يتكلف الاكثار من الحضور (انتهى) وأما جعل التذكار لمواليد الأنبياء والأولياء الذي يسميه الوهابية بالأعياد والمواسم بإظهار الفرح والزينة في مثل يوم ولادتهم التي كانت نعمة من الله على خلقه وقراءة حديث ولادتهم كما يتعارف قراءة حديث مولد النبي " ص " وطلب المنزلة والرفعة من الله لهم وتكرار الصلوات والتسليم على الأنبياء والترحم على الصلحاء فليس فيه مانع عقلي ولا شرعي إذا لم يشتمل على محرم خارجي كغناء أو فساد أو استعمال آلات اللهو أو غير ذلك كما يفعل جميع العقلاء وأهل الملل في مثل أيام ولادة عظمائهم وأنبيائهم وكل ذلك نوع من التعظيم الذي إن كان صاحبه أهلا للتعظيم كان طاعة وعبادة لله تعالى وليس كل تعظيم عبادة للمعظم كما بيناه مرارا فقياس ذلك بفعل المشركين مع أصنامهم قياس فاسد. * الفصل السادس عشر * * في تزيين المشاهد بالذهب والفضة والمعلقات والحلي والكسوة ونحو ذلك * وهذا أيضا مما منعه الوهابية ولذلك نهبوا جميع ذخائر الحجرة الشريفة النبوية وجواهرها عند استيلائهم على المدينة المنورة سنة 1221 كما مر في الفصل الثاني من المقدمة الأولى ونقلنا هناك عن تاريخ الجبرتي بيان أنواع الجواهر التي نهبوها من الحجرة الشريفة وقدرها. وقد صوب الجبرتي في تاريخه نهبهم لها وقال إنما وضعها ضعفاء العقول من الأغنياء والملوك الأعاجم وغيرهم ثم بين أنها لا ينبغي أن تكون للنبي (ص) لزهده في الدنيا وأنه بعث ليكون نبيا لا ملكا وذكر أحاديث واردة في عرض الدنيا عليه وإبائه " ص " وفي زهده وأنها إن كانت صدقة فهي محرمة عليه وعلى آله وأنه لا نفع فيها مع بقائها على حالها فالأرجح صرفها على المحاويج إلى غير ذلك من التلفيقات. ومثله ما يحكى
355 من احتجاج الوهابية على منعها بأنها لغو وعبث وأنها مما لا ينتفع به الميت واحتجوا في الرسالة الثالثة من رسائل الهدية السنية على عدم جواز كسوة القبور بأن رسول الله " ص " نهى أن يزاد عليها غير ترابها وأنتم تزيدون التابوت ولباس الجوخ الخ وفحاوى كلامهم دالة على أن ذلك كفر وشرك لأنهم يجعلونه مثل ما كان يعمل مع الأصنام (والجواب) أن فعل ذلك نوع من تعظيم هذه القبور الشريفة واحترامها التي ثبت رجحان تعظيمها واحترامها من تضاعيف ما تقدم ثبوتا لا شك فيه وتوهم الوهابية أن ذلك شرك وعبادة توهم فاسد لما بيناه مرارا وتكرارا من أنه ليس كل احترام وتعظيم عبادة ودعوى أن ذلك لم يكن في عهد الصحابة والتابعين مدفوع بأنه ليس كلما لم يكن في عهدهم يكون محرما لأصالة الإباحة في كل ما لم ينص الشرع على تحريمه كما قرر في الأصول ولا يخفى أن الأزمان مختلفة والعادات فيها متفاوتة ففي مبدأ الإسلام كانت أحوال المسلمين ضيقة فكانت الحال تقتضي استعمال الملابس الخشنة والمآكل الجشبة وعدم رفع البناء وإتقانه وتزيينه وبناء المساجد باللبن والجذوع وسعف النخل كما بنى النبي (ص) مسجده الشريف بالمدينة ولما انتشر الإسلام واتسعت أمور الناس واستعمل الأكثر من الخلفاء أطيب المأكول وأحسن الملبوس وأتقن الناس بناء الدور وزينوها كان من الراجح المستحسن إتقان بناء المسجد كما فعله المسلمون واستمروا عليه إلى اليوم ومنها المسجد الشريف النبوي والمسجد الحرام والمسجد الأقصى فإن ذلك إعلاء لشأن الإسلام وتعظيما لشعائر الدين ورفعا لمقام بيوت الله تعالى عن أن تكون دون بيوت خلقه وليس لأحد أن يقول بناء مسجده (ص) على الحالة التي هو عليها اليوم محرم لأنه لم يكن في زمانه " ص " للوجه الذي قدمناه كذلك حجرته الشريفة كانت أولا باللبن والجذوع وجريد النخل ثم بنيت بالحجارة والقصة ثم صار بناؤها يحسن ويزين بحسب اختلاف الأزمان والأحوال لأنه صار تحسينها وتزيينها نوعا من احترامها وتعظيمها ولم يكن الزمان الأول مقتضيا لذلك لما كانت عليه أحوال الناس. ودعوى أن ذلك إسراف بلا فائدة لا للميت ولا لغيره يدفعه أن الاسراف مالا يترتب عليه منفعة والمنفعة هنا حاصلة وهي احترام الميت وتعظيمه وإعزاز الإسلام وتعظيم شعائره وكبت معانديه وغير ذلك من الفوائد العظيمة التي لا يعادلها شئ ويرخص في جنبها كل غال. وتصويب الجبرتي نهبهم لها
356 جهل محض فإن هذه الذخائر موقوفة لتوضع بالحجرة الشريفة وتكون زينة لها وليست ملكا له ولا صدقة. وزهد النبي " ص " في الدنيا لا ربط له بالمقام فإن قال قائل إن وقفها على الحجرة النبوية غير جائز قلنا هو جائز لجريان سيرة المسلمين بل جميع أهل الأديان على ذلك ولأن في وقفها تعظيما لشعائر الدين فلا يكون سفها بل هو أمر راجح مطلوب شرعا له فائدة عظيمة. مع أنه ثبت ذلك في حق الكعبة المعظمة قبل الإسلام واستمر ذلك بعد الإسلام إلى اليوم فليثبت مثله في حق الحجرة النبوية ومشاهد الأنبياء والأئمة فإن العلة في الجميع واحدة والجهة واحدة من دعوى الاسراف واللغوية وعدم الفائدة (فعن المسعودي) في مروج الذهب كانت الفرس تهدي إلى الكعبة أموالا وجواهر في الزمان الأول وكان ابن ساسان بن بابك أهدى غزالين من ذهب وجواهر وسيوفا وذهبا كثيرا إلى الكعبة (وفي مقدمة ابن خلدون) (1) قد كانت الأمم منذ عهد الجاهلية تعظم البيت والملوك تبعث إليه بالأموال والذخائر كسرى وغيره وقصة الأسياف وغزالي الذهب الذين وجدهما عبد المطلب حين احتفر زمزم معروفة وقد وجد رسول الله (ص) حين افتتح مكة في الجب الذي كان فيها سبعين ألف أوقية من الذهب مما كان الملوك الملوك يهدون للبيت فيها ألف ألف دينار مكررة مرتين بمأتي قنطار وزنا وقال له علي بن أبي طالب يا رسول الله لو استعنت بهذا المال على حربك فلم يفعل ثم ذكر لأبي بكر فلم يحركه هكذا قال الأزرقي (وفي البخاري) بسنده إلى أبي وائل قال جلست إلى شيبة بن عثمان وقال جلس إلي عمر بن الخطاب فقال هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين قلت ما أنت بفاعل قال ولم؟ قلت فلم يفعله صاحباك فقال هما اللذان يقتدى بهما وخرجه أبو داود وابن ماجة وأقام ذلك المال إلى كانت فتنة الأفطس وهو الحسن بن الحسين بن علي بن علي زين العابدين حين غلب على مكة سنة 199 فأخذ ما في خزائن الكعبة وبطلت الذخيرة من الكعبة من يومئذ " انتهى " (وقال القسطلاني في إرشاد الساري (2) حكى الفاكهي أنه (ص) وجد فيها يوم الفتح ستين أوقية " انتهى " " وفي " وفاء الوفا (3) تكلم السبكي في حكم قناديل الكعبة وحليتها والقناديل التي حول
(1) ص 418 (2) ص 152 ج 3 (3) ص 422 ج ل 357 الحجرة الشريفة وألف في ذلك كتابا فأورد حديث البخاري وغيره في كنز الكعبة وما تضمنه من إقرار النبي (ص) له بمحله ثم أبي بكر بعده ورجوع عمر لذلك لما ذكره به ابن شيبة وقال هما المرآن يقتدى بهما قال فهذا الحديث عمدة في مال الكعبة وهو ما يهدى إليها أو ينذر لها وما يوجد فيها من الأموال قال ابن بطال إنما ترك لأنه يجري في مجرى الأوقاف وفي ذلك تعظيم للإسلام وترهيب للعدو وقال الحافظ ابن حجر يحتمل أن يكون النبي (ص) إنما تركه رعاية لقلوب قريش كما ترك بناء الكعبة على قواعد إبراهيم ويؤيده ما رواه مسلم عن عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ولجعلت بابها بالأرض " انتهى وفاء الوفا " وعلى كل حال يثبت المطلوب من جواز الابقاء إن لم يكن واجبا وإذا كان النبي (ص) تركه رعاية لقلوب قريش أفلا يلزم الوهابية أن يتركوا ذخائر الحجرة النبوية ومشاهد أئمة المسلمين وذخائرها رعاية لقلوب مئات ملايين المسلمين إن كانوا ممن يقتدي به (ص) كما يزعمون (وفي) وفاء الوفا (1) حيث تركه النبي " ص " لهذه العلة ثم تركه أبو بكر ثم عمر بعد الهم به ورجوعه عن ذلك ثم من بعده فهو إجماع على تركه فلا نتعرض له لما يترتب عليه من الشناعة " انتهى " " وقال " قطب الدين الحنفي في تاريخ مكة المكرمة (2)، قال الشريف التقي الفاسي في شفاء الغرام يقال إن إن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة القرشي أول من علق في الكعبة السيوف المحلاة بالذهب والفضة ذخيرة للكعبة ثم نقل عن الأزرقي في أشياء أهديت للكعبة منها أن عمر بن الخطاب لما فتح مدائن كسرى كان مما بعث إليه هلالان فبعث بهما فعلقهما في الكعبة وبعث السفاح بالصفحة الخضراء فعلقت في الكعبة والمأمون بالياقوتة التي تعلق في كل موسم بسلسلة من الذهب فعلقت في وجه الكعبة وبعث المتوكل بشمسية من ذهب مكللة بالدر الفاخر والياقوت الرفيع والزبرجد تعلق بسلسلة من الذهب في وجه البيت في كل موسم وأهدى المعتصم قفلا لباب الكعبة فيه ألف مثقال ذهبا في سنة 219 " إلى أن قال " وذكر الفاكهي أن مما أهدي إلى الكعبة طوقا من ذهب مكللا بالزمرد والياقوت مع ياقوتة كبيرة خضراء أرسله ملك الهند لما أسلم سنة 259 فعرض أمره على المعتمد فأمر بتعليقها في البيت الشريف فعلقت قال التقي
(1) ص 423 ج ل (2) ص 41 بهامش خلاصة الكلام طبع مصر. 358 الفاسي ومما علق بعد الأزرقي قصبة من فضة فيها كتاب بيعة جعفر ابن أمير المؤمنين المعتمد على الله وبيعة أبي أحمد الموفق بالله ابن أخي المعتمد وقدم بها الفضل بن العباس في موسم 261 وكان وزن الفضة 360 درهما وعليها ثلاثة أزرار بثلاث سلاسل من فضة فعلقت مع تعاليق الكعبة " إلى أن قال " ثم لما وقعت الفتن بمكة أخذت تلك التعاليق من الكعبة وصرفت في ذلك " قال " وكانت الملوك ترسل بقناديل الذهب وتعلق في الكعبة وقد وصل سنة 984 من السلطان مراد بن سليم العثماني ثلاثة قناديل ذهب مرصعة بالجواهر ليعلق اثنان منها في سقف الكعبة المعظمة والثالث في الحجرة الشريفة تجاه الوجه الشريف فعلقت " انتهى " (وأما) كسوة الكعبة المعظمة (ففي تاريخ مكة لقطب الدين الحنفي (1) ذكر الأزرقي وابن جريح أن أول من كسى الكعبة تبع الحميري من ملوك اليمن في الجاهلية تعظيما لها واسمه أسعد رأى في منامه أنه يكسوها فكساها الأنطاع ثم رأى أنه يكسوها فكساها من حبر اليمن وجعل لها بابا يغلق " انتهى " (وفي إرشاد الساري) قيل أول من كساها تبع الحميري الخصف والمعافر والملاء والوصائل وذكر ابن قتيبة إنه كان قبل الإسلام بتسعمائة سنة وفي تاريخ ابن أبي شيبة أول من كساها عدنان بن أدد وزعم الزبير أن أول من كساها الديباج عبد الله بن الزبير وعند إسحاق عن ليث بن سليم كانت كسوة الكعبة على عهد رسول الله (ص) الأنطاع والمسوح وروى الواقدي أنه كسي البيت في الجاهلية الأنطاع ثم كساه النبي (ص) الثياب اليمانية ثم كساه عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان القباطي ثم كساه الحجاج الديباج وروى أبو عروبة في الأوائل له عن الحسن أول من ألبس الكعبة القباطي النبي (ص) وذكر الأزرقي فيمن كساها أبا بكر وكساها معاوية الديباج والقباطي والحبرات فكانت تكسى الديباج يوم عاشورا والقباطي في آخر رمضان وكساها يزيد بن معاوية الديباج الخسرواني والمأمون الديباج الأحمر يوم التروية والقباطي أول رجب والديباج الأبيض في سبع وعشرين من رمضان وهكذا كانت تكسى في زمن المتوكل وكسيت زمن الناصر العباسي السواد من الحبرات فهي تكسى ذلك إلى اليوم ولم تزل الملوك تتداول كسوتها إلى أن وقف عليها الصالح إسماعيل ابن الناصر محمد بن قلاوون سنة نيف وخمسين وسبعمائة قرية تسمى بيسوس وأول
(1) ص 45 بهامش خلاصة الكلام. 359 من كساها من ملوك الترك الظاهر بيبرس صاحب مصر (انتهى) " وفي تاريخ مكة " لقطب الدين الحنفي عن الأزرقي بسنده عن ابن مليكة قال كان يهدى للكعبة هدايا شتى فإذا بلي منها شئ جعل فوقه ثوب آخر ولا ينزع مما عليها شئ وكانت قريش في الجاهلية ترافد في كسوة البيت فيضربون على القبائل بقدر احتمالهم من عهد قصي بن كلاب حتى نشأ أبو ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم وكان مثريا يتجر في المال فقال لقريش أنا أكسو الكعبة وحدي سنة وجميع قريش سنة وكان يفعل ذلك إلى أن مات فسمته قريش العدل لأنه عدل قريشا وحده في كسوة البيت وقيل لبنيه بنو العدل (وقال أيضا) أخبرني محمد بن يحيى عن الواقدي عن إسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيشة عن أبيه قال كسى النبي (ص) البيت الثياب اليمانية ثم كساه عمر وعثمان القباطي وكان يكسى كل سنة كسوتين أولا الديباج يوم التروية والثانية القباطي يوم السابع والعشرين من شهر رمضان فلما كانت خلافة المأمون أمر أن تكسى ثلاث مرات الديباج الأحمر يوم التروية والقباطي أول رجب والديباج الأبيض في عيد الفطر واستمر الحال على هذا كل دولة بني العباس ثم صارت كسوة الكعبة تأتي تارة من سلاطين مصر وتارة من سلاطين اليمن إلى أن اشترى الملك الصالح ابن الملك الناصر قلاوون قريتين بمصر ووقفهما على كسوة الكعبة وهما بيسوس وسندبيس واستمرت سلاطين مصر ترسل كسوة الكعبة في كل عام وعند تجدد كل سلطان يرسل مع الكسوة السوداء كسوة حمراء لداخل البيت وكسوة خضراء للحجرة الشريفة النبوية مكتوب على الكل كلمة الشهادتين فلما فتح السلطان سليم مصر والشام جهزت كسوة المدينة على العادة وأمر باستمرار كسوة الكعبة على المعتاد ثم خربت القريتان الموقوفتان على كسوة الكعبة ولم يف ريعهما بها فأمر أن تكمل من الخزائن السلطانية ثم أضاف إلى القريتين قرى أخرى ووقفها (انتهى). وأما كسوة الحجرة الشريفة النبوية ففي وفاء الوفا للسمهودي بعد ما ذكر تأزيرها بالرخام وعمل الشباك المتخذ من خشب الصندل بأعلى جدارها حكى عن ابن النجار أنه قال ولم تزل على ذلك حتى عمل لها الحسين ابن أبي الهيجاء صهر الصالح وزير الملوك المصريين ستارة من الديبقي الأبيض وعليها الطروز والجامعات المرقومة بالإبريسم الأصفر والأحمر ونيطها وأدار عليها زنارا من الحرير الأحمر مكتوبا عليه سورة يس وغرم عليها مبلغا عظيما فمنعه أمير المدينة قاسم بن مهنا من تعليقها حتى يستأذن المستضئ العباسي
360 فلما جاء الإذن علقها نحو العامين ثم جاءت من الخليفة ستارة من الإبريسم البنفسجي عليها الطرز والجامات البيض المرقومة وعلى دوران جاماتها أسماء الخلفاء الأربعة وعلى طرازها اسم المستضئ فبعث الأولى إلى مشهد علي ووضعت هذه مكانها ثم أرسل الإمام الناصر ستارة من الإبريسم الأسود وطرزها وجاماتها من الإبريسم الأبيض فعلقت فوقها وبعد أن حجت أم الخليفة أرسلت ستارة من الإبريسم الأسود على شكل الأولى فعلقت فوقها فصارت ثلاثا " انتهى ما حكاه عن ابن النجار " قال وهو يقتضي أن ابن أبي الهيجاء أول من كسى الحجرة وفي كلام رزين أنه لما حج الرشيد ومعه الخيزران أمرت بتخليق مسجد النبي " ص " وتخليق القبر وكسته الزنانير وشبائك الحرير. وأما قناديل الذهب والفضة وغيرها التي تعلق حول الحجرة الشريفة ففي وفاء الوفا أنه لم ير في كلام أحد ابتداء حدوث ذلك قال إلا أن ابن النجار قال وفي سقف المسجد الذي بين القبلة والحجرة على رأس الزوار إذا وقفوا معلق نيف وأربعون قنديلا كبارا وصغارا من الفضة المنقوشة والساذجة واثنان بلور وواحد ذهب وفيها قمر من فضة مغموس في الذهب وهذه تنفذ من الملوك وأرباب الحشمة والأموال. وقال السمهودي: واستمر عمل الملوك وأرباب الحشمة إلى زماننا هذا على الاهداء إلى الحجرة الشريفة قناديل الذهب والفضة ثم ذكر السمهودي حال ما يهدى من القناديل وعدده وما جرى له مفصلا مما يطول بذكره الكلام وإن بعض أمراء المدينة لما أراد أخذ شئ منه أقام الناس عليه النكير (وقال أيضا) وأما حكم هذه المعاليق ونحوها من تحلية الصندوق والقائم الذي بأعلاه فحكم معاليق الكعبة الشريفة وتحليتها ثم نقل عن السبكي أنه قال وأما الحجرة الشريفة فتعليق القناديل فيها أمر معتاد من زمان ولا شك أنها أولى بذلك من غيرها وكم من عالم وصالح قد أتى للزيارة ولم يحصل من أحد إنكار لذلك فلهذا وحده كاف في جواز ذلك واستقراء الأدلة فلم يوجد فيها ما يدل على المنع ولم نر أحدا قال بالمنع فما وقف من ذلك إكراما لذلك المكان صح وقفه وإن اقتصر على إهدائه صح أيضا كالمهدى للكعبة وكذا المنذور له " انتهى " * الفصل السابع عشر في زيارة القبور * وقد منع ابن تيمية من زيارة النبي " ص " وحرمها مطلقا مع شد الرحال وبدونه فضلا عن زيارة غيره. حكى ذلك عنه القسطلاني في إرشاد الساري وابن حجر الهيتمي في
361 الجوهر المنظم وقال بل زعم حرمة السفر لها إجماعا وأنه لا تقصر فيه الصلاة وسيأتي نقل كلامهما. وبعض الوهابيين حرم شد الرحال إليها وحينئذ فيقع الكلام فيها في مبحثين: أصل مشروعيتها وشد الرحال إليها. * المبحث الأول في أصل مشروعية زيارة القبور وفيه مقامان * المقام الأول في زيارة قبر النبي " ص " وتدل على مشروعيتها أدلة الشرع الأربعة (الأول الكتاب العزيز) وقوله تعالى ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما فإن الزيارة هي الحضور الذي هو عبارة عن المجئ إليه " ص " سواء كان لطلب الاستغفار أو بدونه والتسليم لا يدخل في معناها وإذا ثبت رجحان ذلك في حال حياته ثبت بعد مماته. قال السبكي فيما حكاه عن السمهودي في كتاب وفاء الوفا (1): والعلماء فهموا من الآية العموم لحالتي الموت والحياة واستحبوا لمن أتى القبر أن يتلوها قال وحكاية الأعرابي في ذلك نقلها جماعة من الأئمة عن العتبي واسمه محمد بن عبيد الله بن عمر وأدرك ابن عيينة وروى عنه وهي مشهورة حكاها المصنفون في المناسك من جميع المذاهب واستحسنوها ورأوها من أدب الزائر وذكرها ابن عساكر في تاريخه وابن الجوزي في مثير الغرام الساكن وغيرهما بأسانيدهم إلى محمد بن حرب الهلالي قال دخلت المدينة فأتيت قبر النبي " ص " فزرته وجلست بحذائه فجاء أعرابي فزاره ثم قال: يا خير الرسل إن الله أنزل عليك كتابا صادقا قال فيه ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم " الآية " إلى آخر ما في فصل التوسل ثم ذكره السمهودي هذه القصة بطريقين آخرين عن علي " ع " لا نطيل بذكرها فليطلبهما من أرادهما. " الثاني السنة " والأحاديث الواردة في ذلك كثيرة نقلها السمهودي في وفاء الوفا (2) ونقلها غيره ونحن ننقلها منه وربما نترك بعض أسانيدها وقد تكلم هو على أسانيدها بما فيه كفاية.
(1) ص 411 ج 2 (2) ص 394 - 403 ج 3 362 " 1 " الدارقطني في السنن وغيرها والبيهقي وغيرهما بالأسانيد من طريق موسى ابن هلال العبدي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال رسول الله " ص " من زار قبري وجبت له شفاعتي. " 2 " البزار من طريق عبد الله بن إبراهيم الغفاري عن عبد الرحمن بن زيد عن أبيه عن ابن عمر عن النبي " ص " من زار قبري حلت له شفاعتي. " 3 " الطبراني في الكبير والأوسط والدارقطني في أماليه وأبو بكر بن المقرئ في معجمه من رواية مسلمة بن سالم الجهني عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن سالم عن ابن عمر قال رسول الله " ص " من جاءني زائرا لا تحمله حاجة إلا زيارتي كان حقا علي أن أكون له شفيعا يوم القيامة. قال: والذي في معجم ابن المقري من جاءني زائرا كان له حقا على الله عز وجل (1) أن أكون له شفيعا يوم القيامة. قال: وأورد الحافظ ابن السكن هذا الحديث في باب ثواب من زار قبر النبي " ص " من كتابه السنن الصحاح المأثورة ومقتضى ما شرطه في خطبته أن يكون هذا الحديث مما أجمع على صحته " انتهى " وهو بإطلاقه شامل للزيارة في الحياة وبعد الموت. " 4 " الدارقطني والطبراني في الكبير والأوسط وغيرهما من طريق حفص بن داود القاري عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر قال رسول الله " ص " من حج فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي قال ورواه ابن الجوزي في مثير الغرام الساكن بسنده وزاد وصحبني ورواه ابن عدي في كامله بسنده بهذه الزيادة ورواه أبو يعلى بسنده بدون الزيادة وفي بعض الروايات من حج فزارني في حياتي ورواه الطبراني في الكبير والأوسط من طريق عائشة بنت يونس امرأة الليث عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر قال رسول الله " ص " من زار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي. أقول: ورواه بلفظه الأول السيوطي في الجامع الصغير عن أحمد في مسنده وأبي داود والترمذي والنسائي عن الحارث. " 5 " ابن عدي في الكامل من طريق محمد بن محمد بن النعمان عن جده عن مالك عن
(1) فيه ثبوت الحق للعبد على الله عز وجل الذي أنكره الوهابية كما مر في الفصل الرابع وفاتنا ذكره هناك. - المؤلف - 363 نافع عن ابن عمر قال رسول الله " ص " من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني قال السبكي وذكر ابن الجوزي له في الموضوعات سرف منه. " 6 " الدارقطني في السنن من طريق موسى بن هارون عن محمد بن الحسن الجيلي عن عبد الرحمن بن المبارك عن عون بن موسى عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال رسول الله " ص " من زارني إلى المدينة كنت له شهيدا وشفيعا. " 7 " أبو داود الطيالسي عن سوار بن ميمون أبي الجراح العبدي عن رجل من آل عمر عن عمر سمعت رسول الله " ص " يقول من زار قبري أو قال من زارني كنت له شفيعا أو شهيدا " الحديث ". " 8 " أبو جعفر العقيلي من رواية سوار بن ميمون عن رجل من آل الخطاب عن النبي " ص " من زارني متعمدا كان في جواري يوم القيامة " الحديث ". " 9 " الدارقطني وغيره من طريق هارون بن قزعة عن رجل من آل حاطب عن حاطب قال رسول الله " ص " من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي " الحديث ". " 10 " أبو الفتح الأزدي من طريق عمار بن محمد عن خاله سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال رسول الله " ص " من حج حجة الإسلام وزار قبري وغزا غزوة وصلى في بيت المقدس لم يسأله الله عز وجل فيما افترض عليه. " 11 " أبو الفتوح بسنده من طريق خالد بن يزيد عن عبد الله بن عمر العمري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال رسول الله " ص " من زارني بعد موتي فكأنما زارني وأنا حي ومن زارني كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة. " 12 " ابن أبي الدنيا من طريق إسماعيل بن أبي فديك عن سليمان بن يزيد الكعبي عن أنس بن مالك أن رسول الله " ص " قال من زارني بالمدينة كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة وفي رواية كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة ورواه البيهقي بهذا الطريق ولفظه من زارني محتسبا إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة. " 13 " ابن النجار في أخبار المدينة بسنده عن أنس قال رسول الله " ص " من زارني ميتا فكأنما زارني حيا ومن زار قبري وجبت له شفاعتي يوم القيامة وما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني فليس له عذر.
364 " 14 " أبو جعفر العقيلي بسنده عن ابن عباس قال رسول الله (ص) من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي ومن زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيدا أو قال شفيعا. (15) بعض الحفاظ في زمن ابن منده بسنده عن ابن عباس قال رسول الله " ص " من حج إلى مكة ثم قصدني في مسجدي كتبت له حجتان مبرورتان قال والحديث في مسند الفردوس. " 16 " يحيى بن الحسن بن جعفر الحسيني في أخبار المدينة بسنده عن علي (ع) قال رسول الله (ص) من زار قبري بعد موتي فكأنما زارني في حياتي ومن لم يزرني فقد جفاني وروى ابن عساكر بسنده عن علي من زار قبر رسول (ص) كان في جوار رسول الله (ص). " 17 " يحيى أيضا بسنده عن رجل عن بكر بن عبد الله عن النبي (ص) من أتى المدينة زائرا لي وجبت له شفاعتي يوم القيامة " الحديث " (انتهت الأحاديث التي أوردها السمهودي) وهي مع كثرتها يعضد بعضها بعضا وتعضدها الأحاديث الآتية في تضاعيف ما يأتي مع أنه لا حاجة لنا إلى الاستدلال بها للسيرة القطعية وعمل المسلمين البالغ حد الضرورة. وفي الرسالة الأولى من رسائل الهدية السنية أن الأحاديث التي رواها الدارقطني في زيارة قبره عليه الصلاة والسلام كلها مكذوبة موضوعة باتفاق غالب أهل المعرفة منهم ابن الصلاح وابن الجوزي وابن عبد البر وأبو القاسم السهيلي وشيخه ابن العربي المالكي والشيخ تقي الدين وغيرهم ولم يجعلها في درجة الضعيف إلا القليل وكذلك تفرد بها الدارقطني عن بقية أهل السنن والأئمة كلهم يروون بخلافه وأجل حديث روي في هذا الباب حديث أبي بكر البزار ومحمد بن عساكر حكاه أهل المعرفة بمصطلح الحديث كالقشيري والشيخ تقي الدين وغيرهما. (أقول) دعوى إن هذه الأحاديث على كثرتها كلها مكذوبة دعوى كاذبة لا يعضدها دليل وابن الجوزي وإن أورد بعضها في الموضوعات فقد أورد البعض الآخر في كتابه مثير الغرام الساكن واعتمد عليه كما مر في الحديث الرابع مع أن الحديث الخامس الذي جعله موضوعا تعقبه الإمام السبكي فيه وقال إن ذكره له في
365 الموضوعات سرف منه كما مر كما تعقبه غيره في جملة من الأحاديث التي عدها في الموضوعات وباقي من نقل عنهم لعلهم كابن الجوزي إن صح نقله وأما قدوته الشيخ تقي الدين بن تيمية فحاله معلوم في التعصب لآرائه وأهوائه ومصادمته الضرورة في نصرها وتكذيب الأحاديث المشهورة التي يعضدها العقل والنقل تبعا لشهوة نفسه وأوضح برهان على ذلك تكذيبه حديث (ضربة علي يوم الخندق) بالاستبعادات والدعاوى الباطلة حتى تبعه في ذلك صاحب السيرة الحلبية كما فصلناه في بعض حواشي فصل البناء على القبور مع أنه لم يعلم دعواه الوضع في جميعها. (قوله) ولم يجعلها في درجة الضعيف إلا القليل يكذبه ما عرفت في الحديث الثالث أنه أورده الحافظ ابن السكن في كتابه السنن الصحاح المأثورة الذي ذكر في خطبته أنه لا يذكر فيه إلا ما أجمع على صحته. (قوله) تفرد بها الدارقطني عن بقية أهل السنن يكذبه أنه روى جملة منها غير الدارقطني من أهل السنن وغيرهم كالبيهقي والبرار والطبراني وأبو بكر بن المقرئ والحافظ ابن السكن وابن عدي وأبو يعلى والإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن الجوزي والعقيلي والأزدي وأبو الفتوح وابن أبي الدنيا وابن النجار ويحيى بن الحسن كما عرفت وابن عساكر باعتراف الوهابية (وإذا) كان تفرد الراوي بالرواية يوجب طرحها فما بال الوهابية لم يطرحوا حديث أبي الهياج وقد تفرد به راويه على ما عرفته في فصل البناء على القبور ولكن الحديث المؤدي إلى استحلال دماء المسلمين وأموالهم لا يطرح ولو تفرد به راويه أما الأحاديث الكثيرة الدالة على تعظيم النبي (صل) واستحباب زيارته الثابتة بالعقل والنقل وإجماع المسلمين البالغ حد الضرورة فتستحق الطرح بدعوى تفرد الدارقطني بها ويلتمس لها الوجوه والتأويلات لطرحها عند الوهابية لأنهم يعظم عليهم تعظيم من عظمه الله ومخالفة قول قدوتهم ابن تيمية وابن عبد الوهاب. " قوله " والأئمة كلهم يروون بخلافه هذه دعوى كاذبة كالأولى فمن هم الأئمة الذين رووا أن زيارة النبي " ص " لا تستحب أو لا يستحب شد الرحال إليها غير ما توهمه الوهابية من أحاديث شد الرحال التي ستعرف في هذا الفصل سخافة توهمهم فيها وقد عرفت أن الأئمة رووا هذه الأحاديث كما رواها الدارقطني ولم يرووا بخلافه وفيهم أجلاء أئمة الحديث كابن حنبل وأبي داود والترمذي والنسائي والطبراني والبيهقي وغيرهم " وقد " رويت في ذلك أحاديث كثيرة تكاد تبلغ حد التواتر عن أئمة أهل البيت الطاهر
366 رواها عنهم أصحابهم وثقاتهم بالأسانيد المتصلة الصحيحة موجودة في مظانها (وتدل) عليه أيضا الأحاديث الدالة على أن النبي " ص " يرد سلام من يسلم عليه التي اعترف بها الوهابية وقدوتهم ابن تيمية ومر طرف منها في المقدمات في حياة النبي (ص) بعد موته قال السبكي فيما حكاه عنه السمهودي في وفاء الوفا (1) بعد ذكر ما يدل على أنه (ص) يسمع من يسلم عليه عند قبره ويرد عليه عالما بحضوره عند قبره: وكفى بهذا فضلا حقيقا بأن ينفق فيه ملك الدنيا حتى يتوصل إليه من أقطار الأرض " انتهى " ومنه يعلم صحة الاستدلال به على شد الرحال. (الثالث الاجماع) من المسلمين خلفا عن سلف من عهد النبي " ص " والصحابة إلى يومنا هذا عدا الوهابية قولا وعملا بل أن استحباب زيارة قبور الأنبياء والصالحين بل وسائر المؤمنين ومشروعيتها ملحق بالضروريات عند المسلمين فضلا عن الاجماع وسيرتهم مستمرة عليها من عهد النبي (ص) والصحابة والتابعين وتابعيهم وجميع المسلمين في كل عصر وفي كل صقع عالمهم وجاهلهم صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم. وإنكار ذلك مصادمة للبديهة وإنكار للضروري. قال السمهودي في وفاء الوفا (2) نقلا عن السبكي: قال عياض زيارة قبره (ص) سنة بين المسلمين مجمع عليها وفضيلة مرغوب فيها (انتهى) قال السبكي وأجمع العلماء على استحباب زيارة القبور للرجال كما حكاه النووي بل قال بعض الظاهرية بوجوبها واختلفوا في النساء وامتاز القبر الشريف بالأدلة الخاصة به ولهذا أقول إنه لا فرق بين الرجال والنساء وقال الجمال الريمي يستثنى أي من محل الخلاف قبر النبي (ص) وصاحبيه فإن زيارتهم مستحبة للنساء بلا نزاع كما اقتضاه قولهم في الحج يستحب لمن حج أن يزور قبر النبي " ص " وقد ذكر ذلك بعض المتأخرين وهو الدمنهوري الكبير وأضاف إليه قبور الأنبياء والصالحين والشهداء " انتهى " وفي وفاء الوفا (3) كيف يتخيل في أحد من السلف المنع من زيارة المصطفى " ص " وهم مجمعون على زيارة سائر الموتى فضلا عن زيارته (ص) " انتهى " وصنف قاضي القضاة الشيخ تقي الدين أبو الحسن السبكي الذي تشهد مؤلفاته بغزارة علمه في القرن الثامن كتابا في فضل الزيارة وشد الرحال إليها ردا على
(1) ص 404 ج 2 (2) ص 412 ج 2 (3) ص 417 ج 2 367 ابن تيمية سماه شفاء السقام في زيارة خير الأنام ونقل عنه السمهودي في وفاء الوفا شيئا كثيرا ونقل عنه غيره ونقلنا عنه بواسطة السمهودي وغيره " ومما " قاله السبكي في مقدمته على ما حكي عنه أن من أعظم القرب إلى رب العالمين زيارة سيد المرسلين والسفر إليها من أقطار الأرضين كما هو معروف بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها على ممر السنين وأن مما ألقى الشيطان في هذا الزمان على لسان بعض المخذولين التشكيك في ذلك وهيهات أن يدخل ذلك في قلوب الموحدين وإنما هي نزعة من مخذول لا يرجع وبالها إلا عليه ولا يترتب عليها إلا ما ألقى بيده إليه شريعة الله محكمة ظاهرة وشبه الباطل على شفا جرف هائرة " انتهى " ومر في الباب الأول ما يدل على أن مراده ابن تيمية. " وعن منتهى المقال " في شرح حديث لا تشد الرحال للمفتي صدر الدين أنه قال فيه: قال الشيخ الإمام الحبر الهمام سند المحدثين الشيخ محمد البرلسي في كتابه إتحاف أهل العرفان وقد تجاسر ابن تيمية الحنبلي عامله الله بعدله وادعى أن السفر لزيارة قبر النبي " ص " حرام وأن الصلاة لا تقصر فيه لعصيان المسافر به وأطال في ذلك بما تمجه الأسماع وتنفر عنه الطباع وقد عاد شؤم كلامه عليه (إلى أن قال) وخالف الأئمة المجتهدين في مسائل كثيرة واستدرك على الخلفاء الراشدين باعتراضات سخيفة حقيرة فسقط من أعين علماء الأمة وصار مثله بين العوام فضلا عن الأئمة وتعقب العلماء كلماته الفاسدة وزيفوا حججه الداحضة الكاسدة وأظهروا عوار سقطاته وبينوا قبائح أوهامه وغلطاته " انتهى " ومر بعض كلامه في حقه عن الباب الأول وعن شهاب الدين أحمد الخفاجي المصري في نسيم الرياض شرح شفاء القاضي عياض أنه قال بعد ذكر حديث لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد: إعلم أن هذا الحديث هو الذي دعا ابن تيمية ومن تبعه كابن القيم إلى مقالته الشنيعة التي كفروه بها وصنف فيها السبكي مصنفا مستقلا وهي منعه زيارة قبر النبي " ص " وشد الرحال إليه وهو كما قيل: لمهبط الوحي حقا ترحل النجب * وعند ذاك المرجى ينتهي الطلب فتوهم أنه حمى جانب التوحيد بخرافات لا ينبغي ذكرها فإنها لا تصدر عن عاقل فضلا عن فاضل " انتهى ". وعن الملا علي القاري في المجلد الثاني من شرح الشفا أنه قال: قد فرط ابن تيمية من
368 الحنابلة حيث حرم السفر لزيارة النبي " ص " كما أفرط غيره حيث قال كون الزيارة قربة معلوم من الدين وجاحده محكوم عليه بالكفر ولعل الثاني أقرب إلى الصواب لأن تحريم ما أجمع العلماء فيه بالاستحباب يكون كفرا لأنه فوق تحريم المباح المتفق عليه في هذا الباب " انتهى ". وقال أحمد بن حجر الهيتمي المكي الشافعي صاحب الصواعق في كتابه الجوهر المنظم في زيارة القبر المكرم على ما حكي عنه وقد ذكره صاحب كشف الظنون قال فيه بعد ما استدل على مشروعية زيارة قبر النبي " ص " بعدة أدلة منها الاجماع ما لفظه (1) فإن قلت كيف تحكي الاجماع على مشروعية الزيارة والسفر إليها وطلبها وابن تيمية من متأخري الحنابلة منكر لمشروعية ذلك كله كما رآه السبكي في خطه وقد أطال ابن تيمية في الاستدلال لذلك بما تمجه الأسماع وتنفر عنه الطباع بل زعم حرمة السفر لها إجماعا وأن لا تقصر فيه الصلاة وأن جميع الأحاديث الواردة فيها موضوعة وتبعه بعض من تأخر عنه من أهل مذهبه " قلت " من هو ابن تيمية حتى ينظر إليه أو يعول في شئ من أمور الدين عليه وهل هو إلا كما قال جماعة من الأئمة الذين تعقبوا كلماته الفاسدة وحججه الكاسدة حتى أظهروا عوار سقطاته وقبائح أوهامه وغلطاته كالعز بن جماعة: عبد أضله الله وأغواه وألبسه رداء الخزي وأرداه وبوأه من قوة الافتراء والكذب ما أعقبه الهوان وأوجب له الحرمان ولقد تصدى شيخ الإسلام وعالم الأنام المجمع على جلالته واجتهاده وصلاحه وإمامته التقي السبكي قدس الله روحه ونور ضريحه للرد عليه في في تصنيف مستقل أفاد فيه وأجاد وأصاب وأوضح بباهر حججه طريق الصواب " ثم قال " هذا وما وقع من ابن تيمية مما ذكر وإن كان عثرة لا تقال أبدا ومصيبة يستمر شؤمها سرمدا ليس بعجيب فإنه سولت له نفسه وهواه وشيطانه أنه ضرب مع المجتهدين بسهم صائب وما درى المحروم أنه أتى بأقبح المعائب إذ خالف إجماعهم في مسائل كثيرة
(1) ص 13 طبع عام 1279 بمصر. 369 وتدارك على أئمتهم سيما الخلفاء الراشدين باعتراضات سخيفة شهيرة حتى تجاوز إلى الجناب الأقدس المنزه سبحانه عن كل نقص والمستحق لكل كمال أنفس فنسب إليه الكبائر والعظائم وخرق سياج عظمته بما أظهره للعامة على المنابر من دعوى الجهة والتجسيم وتضليل من لم يعتقد ذلك من المتقدمين والمتأخرين حتى قام عليه علماء عصره وألزموا السلطان بقتله أو حبسه وقهره فحبسه إلى مات وخمدت تلك البدع وزالت تلك الضلالات ثم انتصر له أتباع لم يرفع الله لهم رأسا ولم يظهر لهم جاها ولا بأسا بل ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (انتهى) (أما المنقول) من فعل الصحابة فسيأتي في المبحث الثاني أن عمر لما قدم المدينة من فتوح الشام كان أول ما بدأ بالمسجد وسلم على رسول الله (ص). وفي وفاء الوفا للسمهودي (1) روى عبد الرزاق بإسناد صحيح أن ابن عمر كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي (ص) فقال السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه (قال) وفي الموطأ من رواية يحيى بن يحيى أن ابن عمر كان يقف على قبر النبي (ص) فيصلي (فيسلم ظ) على النبي " ص " وعلى أبي بكر وعمر وعن ابن عون سأل رجل نافعا هل كان ابن عمر يسلم على القبر قال نعم لقد رأيته مائة مرة أو أكثر من مائة كان يأتي القبر فيقوم عنده فيقول السلام على النبي السلام على أبي بكر السلام على أبي وفي مسند أبي حنيفة عن ابن عمر من السنة أن تأتي قبر النبي (ص) من قبل القبلة وتجعل ظهرك إلى القبلة وتستقبل القبر بوجهك ثم تقول السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. أخرجه الحافظ طلحة بن محمد في مسنده عن صالح بن أحمد عن عثمان بن سعيد عن أبي عبد الرحمن المقري عن أبي حنيفة عن نافع عن ابن عمر " انتهى " (أما المنقول) من فعل سائر المسلمين ففي وفاء الوفا (2) ذكر المؤرخون والمحدثون منهم ابن عبد البر والبلاذري وابن عبد ربه أن زياد ابن أبيه أراد الحج فأتاه أبو بكرة أخوه وهو لا يكلمه فأخذ ابنه فأجلسه في حجره ليخاطبه ويسمع زيادا فقال إن أباك فعل وفعل وأنه يريد الحج وأم حبيبة زوج النبي (ص) هناك فإن أذنت له فأعظم بها مصيبة وخيانة لرسول الله " ص " وإن حجبته
(1) ص 409 ج 2 (2) ص 410 ج 2 370 فأعظم بها حجة عليه فقال زياد ما تدع النصيحة لأخيك وترك الحج فيما قاله البلاذري وقيل حج ولم يزر من أجل قول أبي بكرة وقيل أراد الدخول عليها فذكر قول أبي بكرة فانصرف وقيل إنها حجبته " قال السبكي " والقصة على كل تقدير تشهد لأن زيارة الحاج كانت معهودة من ذلك الوقت وإلا فكان يمكنه الحج من غير طريق المدينة بل هي أقرب إليه لأنه كان بالعراق ولكن كان إتيان المدينة عندهم أمرا لا يترك (انتهى) " لا يقال " نحن نسلم بأن إتيان المدينة أمر راجح مستحب ولكن بقصد الصلاة في المسجد والزيارة تبع والذي نمنعه إتيانها بقصد الزيارة " لأنا نقول " المعروف بين المسلمين من عهد الصحابة إلى اليوم إتيان المدينة بقصد الزيارة هذا الذي جرت عليه سيرتهم وعملهم لا يخطر ببالهم غيره ولا يدور في خلدهم سواه وأما قصد المسجد وكون الزيارة تبعا فشئ لم يكن يعرفه أحد قبل الوهابية ولو كان لحرمة قصد الزيارة بالسفر أصل في الشرع لشاعت وذاعت وعرفها جميع المسلمين وكانت وصلت إلى حد الضرورة لاحتياج الجميع إلى معرفتها ولكانت قامت بها الخطباء والوعاظ وبينتها العلماء وحذروا الناس منها لئلا يقصدوا بسفرهم الزيارة فيقعوا في الحرام الموجب للعقاب من حيث قصدوا الثواب ولكان بينها أصحاب كتب المناسك الذين لم يهملوا شيئا يتعلق بالحج والزيارة من المستحبات فضلا عن هذا الأمر المهم الموقع في الحرام (أما المنقول) عن أئمة المذاهب الأربعة ففي وفاء الوفا (1) بعد ما ذكر اختلاف السلف في أن الأفضل البدأة بالمدينة أو بمكة حكى عن الإمام أبي حنيفة إن الأحسن البدأة بمكة وإن بدأ بالمدينة جاز فيأتي قريبا من قبر رسول الله (ص) فيقوم بين القبر والقبلة (انتهى) وأما ما يحكى عن مالك أنه كره أن يقال زرنا قبر النبي " ص " فهو على فرض صحته محمول على كراهة التلفظ بهذا اللفظ لبعض الوجوه التي ذكروها مما لا نطيل بنقله، لا لكراهة أصل الزيارة مع أن العلماء ناقشوه في كراهة هذا اللفظ كالسبكي وابن رشد على ما في وفاء الوفا وذكر السمهودي في وفاء الوفا (2) أقوال الشافعية في استحباب زيارة النبي " ص " ثم قال والحنفية قالوا إن زيارة قبر النبي (ص) من أفضل المندوبات والمستحبات بل تقرب من درجة
(1) ص 411 ج 2 (2) ص 415 ج 2 371 الواجبات قال وكذلك نص عليه المالكية والحنابلة وأوضح السبكي نقولهم في كتابه في الزيارة " انتهى ". (الرابع) دليل العقل فإنه يحكم بحسن تعظيم من عظمه الله تعالى والزيارة نوع من التعظيم وفي تعظيمه (ص) بالزيارة وغيرها تعظيم لشعائر الإسلام وإرغام لمنكريه وقد ثبت رجحان زيارته " ص " في حياته والوصول إلى خدمته فكذلك بعد مماته خصوصا بعد الالتفات إلى ما ورد من حياته البرزخية وقد مضى في فصل التوسل قول مالك إمام دار الهجرة للمنصور أن حرمة النبي (ص) ميتا كحرمته حيا وليس في العقل شئ يمنع من الزيارة أو يوجب قبحها بل فيه ما يحسنها من تعظيم من عظمه الله واحترام من هدى الناس إلى سبيل الرشاد وكان سبب سعادتهم في الدارين. * المقام الثاني في زيارة سائر القبور * قد ثبت أن النبي " ص " كان يزور أهل البقيع وشهداء أحد (وروى) ابن ماجة (1) بسنده عنه " ص " زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة " وبسنده " عن عائشة أنه " ص " رخص في زيارة القبور (وفي) حاشية السندي عن الزوائد أن رجال إسناده ثقات (وبسنده) عنه (ص) كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة (ورواه) مسلم (2) إلى قوله فزوروها (وروى) النسائي ونهيتكم عن زيارة القبور فمن أراد أن يزور فليزر (وزار) النبي " ص " قبر أمه وهي مشركة بزعم الخصم (روى) مسلم في صحيحه (3) وابن ماجة (4) والسنائي (5) بأسانيدهم عن أبي هريرة زار النبي " ص " قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال " ص " استأذنت ربي في أن استغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم بالموت (قال) النووي في شرح صحيح مسلم هو حديث صحيح بلا شك (وروى) مسلم (6) أنه كلما كانت ليلة عائشة من رسول الله (ص) يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول (السلام عليكم دار قوم مؤمنين وآتاكم ما توعدون) وعلم " ص " عائشة حين قالت
(1) ص 245 ج ل (2) ص 325 ج 4 بهامش إرشاد الساري (3) ص 325 ج 4 بهامش إرشاد الساري (4) ص 245 ج ل (5) ص 286 ج ل (6) ص 318 ج 4 بهامش إرشاد الساري. 372 له كيف أقول لهم يا رسول الله قال قولي " السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين " " الحديث " رواه مسلم " وعن بريدة " كان رسول الله " ص " يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول السلام على أهل الديار وفي رواية السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين والمسلمات الحديث رواه مسلم " وقد " مر في المقام الأول زيارة ابن عمر لقبر الشيخين مرارا كثيرة " وحكى " السمهودي في وفاء الوفا (1) عن الحافظ زين الدين الحسيني الدمياطي إن زيارة قبور الأنبياء والصحابة والتابعين والعلماء وسائر المؤمنين للبركة أثر معروف قال وقد قال حجة الإسلام الغزالي كل من يتبرك بمشاهدته في حياته يتبرك بزيارته بعد موته ويجوز شد الرحال لهذا الغرض " انتهى " " إلى أن قال " وقد روي عن النبي " ص " أنه قال آنس ما يكون الميت في قبره إذا زاره من كان يحبه في دار الدنيا وعن ابن عباس ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام وروي من زار قبر أبويه في كل جمعة أو أحدهما كتب بارا وإن كان في الدنيا قبل ذلك بهما عاقا " انتهى " وسيأتي في آخر هذا الفصل أحاديث زيارة فاطمة عليها السلام قبر حمزة وشهداء أحد كل جمعة أو بين اليومين والثلاثة وكفى بفعلها عليها السلام دليلا وحجة. * المبحث الثاني في شد الرحال إلى زيارة القبور * وقد منع الوهابية من شد الرحال إلى زيارة النبي " ص " فضلا عن غيره وقد عرفت أن ابن تيمية في مقام تشنيعه على الإمامية قال إنهم يحجون إلى المشاهد كما يحج الحاج إلى البيت العتيق، وما هو حجهم إلا قصدهم زيارتها فسماه حجا إرادة لزيادة التهويل والتشنيع كما هي عادته " وفي " الرسالة الثانية من رسائل الهدية السنية لعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، وتسن زيارة النبي " ص " إلا أنه لا يشد الرحل إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه وإذا قصد مع ذلك الزيارة فلا بأس (انتهى) (واحتج) الوهابية لذلك برواية البخاري عن أبي هريرة عن النبي " ص " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول " ص " والمسجد الأقصى " ورواه " مسلم في الحج والصلاة إلا أنه قال
(1) صفحة 413 ج 2 373 مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى " ورواه " النسائي في سننه مثله إلا أنه قدم المسجد الحرام " ورواه " أبو داود في الحج " وفي رواية لمسلم " تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد وفي رواية له إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد مسجد الكعبة ومسجدي ومسجد إيليا. " والجواب " عن هذه الأخبار أن الحصر فيها إضافي لا حقيقي أي لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد إلا إلى هذه الثلاثة لأن هذا الاستثناء مفرغ قد حذف فيه المستثنى منه وكما يمكن تقديره لا تشد الرحال إلى مكان يمكن تقديره إلى مسجد لكن الثاني هو المتعين لأن ذلك هو المفهوم عرفا من أمثال هذه العبارة وللاتفاق على جواز السفر وشد الرحال إلى أي مكان كان للتجارة وطلب العلم والجهاد وزيارة العلماء والصلحاء والتداوي والنزهة والولاية والقضاء وغير ذلك مما لا يحصى ولو قيل إن هذا خصص بالدليل للزم تخصيص الأكثر وهو غير جائز كما تقرر في الأصول. " والحاصل " أنه لا يشك من عنده أدنى معرفة في أن المراد بقوله لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد أو إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد أنه لا يسافر إلى غيرها من المساجد لا أنه لا يسافر إلى مكان مطلقا على أنه لا يفهم من هذه الأحاديث حرمة السفر إلى باقي المساجد بل هي ظاهرة في أفضلية هذه المساجد على ما عداها بحيث بلغ من فضلها أن تستحق شد الرحال والسفر إليها للصلاة فيها فإنها لا تشد الرحال وتركب الأسفار وتتحمل المشاق إلا للأمور المهمة لا أن من سافر للصلاة في مسجد طلبا لإحراز فضيلة الصلاة فيه يكون عاصيا وآثما وكيف يكون آثما من يسافر إلى ما هو طاعة وعبادة فالمسجد ببعده لم يخرج عن المسجدية والصلاة فيه لم تخرج عن كونها طاعة وعبادة إذ هو مسجد لكل أحد فكيف يعقل أن يكون السفر للصلاة فيه إثما ومعصية فالسفر للطاعة لا يكون إلا طاعة كما أن السفر للمعصية لا يكون إلا معصية وكيف تكون مقدمة المستحب محرمة ويدل على ذلك أن النبي " ص " والصحابة كانوا يذهبون كل سبت إلى مسجد قبا وبينه وبين المدينة ثلاثة أميال أو ميلان ركبانا ومشاة لقصد الصلاة فيه ولا فرق في السفر بين الطويل والقصير لعموم النهي لو كان. روى البخاري في صحيحه (1) أن النبي (ص) كان يأتي مسجد قبا كل سبت ماشيا وراكبا
(1) صفحة 332 ج 2 إرشاد الساري. 374 وأن ابن عمر كان يفعل كذلك " وفي رواية " كان رسول الله " ص " يزوره راكبا وماشيا (وروى) النسائي في سنه أنه كان رسول الله (ص) يأتي قبا راكبا وماشيا وأنه قال من خرج حتى يأتي هذا المسجد مسجد قبا فصلى فيه كان له عدل عمرة وفي إرشاد الساري عن ابن أبي شيبة في أخبار المدينة بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص لأن أصلي في مسجد قبا ركعتين أحب إلي من أن آتي بيت المقدس مرتين لو يعلمون ما في قبا لضربوا إليه أكباد الإبل وهذا نص من سعد على استحباب ضرب أكباد الإبل إليه الذي لا يكون إلا بالسفر إليه من مكان بعيد (وروى) الطبراني من توضأ فأسبغ الوضوء ثم غدا إلى مسجد قبا لا يريد غيره ولا يحمله على الغدو إلا الصلاة في مسجد قبا فصلى فيه أربع ركعات كان له أجر المعتمر إلى بيت الله. نقله في إرشاد الساري وسيأتي في آخر هذا الفصل أحاديث إن فاطمة (ع) كانت تزور قبر عمها حمزه بين اليومين والثلاثة وكل جمعة وفيه دلالة على جواز السفر للزيارة واستحبابه لعدم تعقل الفرق بين السفر الطويل والقصير. وبين أحد والمدينة نحو مما بينها وبين قبا أو أزيد ويدل على شد الرحال الحديث الخامس المتقدم من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني والزيارة بعد الحج لا تكون إلا بشد الرحال وأظهر فيما قلناه الحديث الآخر لمسلم: تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد بصيغة الإثبات أي إن هذه المساجد الثلاثة تستحق وتستأهل شد الرحال إليها لعظم فضلها فهي حقيقة وجديرة بذلك وشاد الرحال إليها لا يكون عناؤه ضائعا وتعبه خائبا أو فائدته قليلة بل يحصل من الثواب على ما يقابل تعبه وزيادة " قال القسطلاني " في إرشاد الساري شرح صحيح البخاري (1) في شرح قوله لا تشد الرحال أي إلى مسجد للصلاة فيه ثم قال وقد بطل بما مر من التقدير المعتضد بحديث أبي سعد المروي في مسند أحمد بإسناد حسن مرفوعا لا ينبغي للمطي أن تشد رحاله إلى مسجد تبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام والأقصى ومسجدي هذا - قول ابن تيمية حيث منع من زيارة قبر النبي (ص) وهو من أبشع المسائل المنقولة عنه ومن جملة ما استدل به على دفع ما ادعاه غيره من الاجماع على مشروعية زيارة النبي " ص " ما نقل عن مالك إنه كره أن يقول زرت قبر النبي (ص) وأجاب عنه المحققون من أصحابه إنه كره اللفظ أدبا لا أصل الزيارة فإنها من أفضل
(1) ص 329 ج 2 375 الأعمال وأجل القرب الموصلة إلى ذي الجلال وإن مشروعيتها محل إجماع بلا نزاع قال فشد الرحال للزيارة أو نحوها كطلب علم ليس إلى المكان بل إلى من فيه وقد التبس ذلك على بعضهم كما قاله المحقق التقي السبكي فزعم أن شد الرحال إلى الزيارة في غير الثلاثة داخل في المنع وهو خطأ كما مر لأن المستثنى إنما يكون من جنس المستثنى منه كما إذا قلت ما رأيت إلا زيدا أي ما رأيت رجلا واحدا إلا زيدا لا ما رأيت شيئا أو حيوانا إلا زيدا " انتهى " وقال القسطلاني في موضع آخر (1) الاستثناء مفرغ والتقدير لا تشد الرحال إلى موضع ولازمه منع السفر إلى كل موضع غيرها كزيارة صالح أو قريب أو صاحب أو طلب علم أو تجارة أو نزهة لأن المستثنى منه في المفرغ يقدر بأعم العام لكن المراد بالعموم هنا الموضع المخصوص وهو المسجد " انتهى " " وقال النووي " في شرح صحيح مسلم في شرح قوله لا تشد الرحال الخ (2) فيه بيان عظيم فضيلة هذه المساجد الثلاثة ومزيتها على غيرها لكونها مساجد الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ولفضل الصلاة فيها " إلى أن قال " واختلف العلماء في شد الرحال واعمال المطي إلى غير المساجد الثلاثة كالذهاب إلى قبور الصالحين وإلى المواضع الفاضلة ونحو ذلك فقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا هو حرام وهو الذي أشار القاضي عياض إلى اختياره والصحيح عند أصحابنا وهو الذي اختاره إمام الحرمين والمحققون أنه لا يحرم ولا يكره قالوا والمراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى هذه الثلاثة خاصة وقال في موضع آخر (3) في هذا الحديث فضيلة هذه المساجد الثلاثة وفضيلة شد الرحال إليها لأن معناه عند جمهور العلماء لا فضيلة في شد الرحال إلى مسجد غيرها وقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا يحرم شد الرحال إلى غيرها وهو غلط " انتهى " " وقال السندي " في حاشية سنن النسائي إن السفر للعلم وزيارة العلماء والصلحاء وللتجارة غير داخل في حيز المنع " انتهى " وقال السمهودي في وفاء الوفا (4) ويستدل بقوله تعالى ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم " الآية " على مشروعية السفر للزيارة بشموله المجئ من قرب ومن بعد وبعموم من زار قبري وقوله في الحديث الذي صححه ابن السكن من جاءني زائرا. وإذا ثبت أن الزيارة قربة فالسفر إليها
(1) ص 333 ج 2 (2) ص 37 ج 6 بهامش إرشاد الساري (3) ص 111 ج 6 بهامش إرشاد الساري (4) ص 414 ج 2 376 كذلك وقد ثبت خروج النبي " ص " من المدينة لزيارة قبور الشهداء فإذا جاز الخروج للقريب جاز للبعيد وقبره " ص " أولى وقد انعقد الاجماع على ذلك لإطباق السلف والخلف عليه وأما حديث لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد فمعناه لا تشدوا الرحال إلى مسجد إلا إلى المساجد الثلاثة إذ شد الرحال إلى عرفة لقضاء النسك واجب بالإجماع وكذلك سفر الجهاد والهجرة من دار الكفر بشرطه وغير ذلك وأجمعوا على جواز شد الرحال للتجارة ومصالح الدنيا وقد روى ابن شبة بسند حسن أن أبا سعيد يعني الخدري ذكر عنده الصلاة في الطور فقال قال رسول الله " ص " لا ينبغي للمطي أن تشد رحالها إلى مسجد يبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى فهذا الحديث صريح فيما ذكرناه على أن في شد الرحال لما سوى هذه المساجد الثلاثة مذاهب نقل إمام الحرمين عن شيخه أنه أفتى بالمنع قال وربما كان يقول يكره وربما كان يقول يحرم وقال الشيخ أبو علي لا يكره ولا يحرم " إلى أن قال " وقال الماوردي من أصحابنا (يعني الشافعية) عند ذكر من يلي أمر الحج فإذا قضى الناس حجهم سار بهم على طريق مدينة رسول الله " ص " رعاية لحرمته وقياما بحقوق طاعته وذلك وإن لم يكن من فروض الحج فهو من مندوبات الشرع المستحبة وعبادات الحجيج المستحسنة وقال القاضي الحسين إذا فرغ من الحج فالسنة أن يأتي المدينة ويزور قبر النبي (ص) وقال القاضي أبو الطيب ويستحب أن يزور النبي (ص) بعد أن يحج ويعتمر وقال المحاملي في التجريد ويستحب للحاج إذا فرغ من مكة أن يزور قبر النبي (ص) وقال أبو حنيفة إذا قضى الحاج نسكه مر بالمدينة (إلى أن قال) وفي كتاب تهذيب المطالب لعبد الحق سئل الشيخ أبو محمد بن أبي زيد في رجل استؤجر بمال ليحج به وشرطوا عليه الزيارة فلم يستطيع أن يزور قال يرد من الأجرة بقدر مسافة الزيارة وقال في موضع آخر (1) وممن سافر إلى زيارة النبي " ص " من الشام إلى قبره (ع) بالمدينة بلال ابن رباح مؤذن رسول الله " ص " كما رواه ابن عساكر بسند جيد عن أبي الدرداء قال لما رحل عمر بن الخطاب من فتح بيت المقدس فصار إلى جابية سأله بلال أن يقره بالشام ففعل قال ثم إن بلالا رأى في منامه النبي (ص) وهو يقول ما هذه الجفوة يا بلال أما آن لك أن تزورني
(1) ص 408 ج 2 377 يا بلال فانتبه حزينا وجلا خائفا فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبي (ص) فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه فأقبل الحسن والحسين فجعل يضمهما ويقبلهما فقالا له يا بلال نشتهي أن نسمع أذانك فلما قال الله أكبر ارتجت المدينة فلما قال أشهد أن لا إله إلا الله ازدادت رجتها فلما قال أشهد أن محمدا رسول الله خرجت العواتق من خدورهن وقالوا بعث رسول الله " ص " فما رئي بالمدينة بعده " ص " أكثر باكيا وباكية من ذلك اليوم قال وقال الحافظ عبد الغني وغيره لم يؤذن بلال بعد النبي (ص) إلا مرة واحدة في قدومه المدينة لزيارة قبر النبي (ص) وقال قال السبكي ليس اعتمادنا على رؤيا المنام فقط بل على فعل بلال سيما في خلافة عمر والصحابة متوافرون ولا تخفى عنهم هذه القصة ورؤيا بلال النبي " ص " مؤكدة لذلك (قال) وقد استفاض عن عمر بن عبد العزيز إنه كان يبرد البريد من الشام يقول سلم لي على رسول الله " ص " وذلك في زمن صدر التابعين وممن ذكر ذلك عنه الإمام أبو بكر بن عمرو بن عاصم التبيل ووفاته في المائة الثالثة قال في مناسكه: وكان عمر بن عبد العزيز يبعث بالرسول قاصدا من الشام إلى المدينة ليقرئ النبي (ص) السلام ثم يرجع قال وفي فتوح الشام إن عمر لما صالح أهل بيت المقدس وقدم عليه كعب الأحبار وأسلم وفرح بإسلامه قال له هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبر النبي (ص) وتتمتع بزيارته فقال نعم ولما قدم عمر المدينة كان أول ما بدأ بالمسجد وسلم على رسول الله (ص) وقال في موضع آخر (1) كانت الصحابة يقصدون النبي " ص " قبل وفاته للزيارة. بقي الكلام في أن جواز زيارة القبور مخصوص بالرجال أو عام لهن وللنساء. قد عرفت في الفصل الحادي عشر ورود بعض الروايات في لعن زائرات القبور أو زوارات القبور وهذه الأخبار بعد تسليمها فقد عرفت القدح في سندها بالضعف وفي متنها بالاضطراب في ذلك الفصل محمولة على الكراهة لتخصيص اللعن فيها بالزائرات أو
(1) ص 417 ج 2 378 الزوارات دون الزائرين فإن زيارة القبور جائزة عند الوهابية بدون شد الرحال كما عرفت فلم يبق وجه لتخصيص اللعن بالزائرات إلا الكراهة لمنافاتها لكمال الستر المطلوب في المرأة سيما على رواية زوارات بصيغة المبالغة الدالة على أن المنهي عنه كثرة الزيارة التي لا تناسب شدة طلب الستر في النساء ولو حمل على أن ذلك كان قبل نسخ النهي عن زيارة القبور على ما مر كما توهم بعضهم لنافاه التعبير بالزائرات أو الزوارات لأن النسخ إن كان ففي الرجال والنساء واحتمال بقائهن تحت النهي كما حكاه السندي في حاشية سنن النسائي لقلة صبرهن واستقر به هو بعيد جدا مناف للسيرة وعمل المسلمين وقاعدة الاشتراك بين الرجال والنساء في الأحكام. قال العزيزي في شرح الجامع الصغير (1) عند شرح قوله " ص " (لعن الله زوارات القبور) قال العلقمي قال الدميري قال صاحب المهذب والبيان من أصحابنا لا يجوز للنساء زيارة القبور لظاهر هذا النهي قال النووي وقولهما شاذ في المذهب والذي قطع به الجمهور إنها مكروهة كراهة تنزيه " انتهى " ويدل على جواز زيارة النساء للقبور بل استحباب زيارتهن قبور الأنبياء والشهداء ما في وفاء الوفا (2) روى ابن أبي شبة عن أبي جعفر أن فاطمة بنت رسول الله " ص " كانت تزور قبر حمزه ترمه وتصلحه وقد تعلمته بحجر (وروى) رزين عنه أن فاطمة كانت تزور قبور الشهداء بين اليومين والثلاثة (ورواه) يحيى بنحوه عن أبي جعفر عن أبيه علي بن الحسين وزاد فتصلي هناك وتدعو وتبكي حتى ماتت (وروى) الحاكم عن علي أن فاطمة كانت تزور قبر عمها حمزه كل جمعة فتصلي وتبكي عنده (انتهى وفاء الوفا). " ويظهر " أن الوهابية بعدما أباحوا للنساء زيارة القبور في العام الماضي منعوهن منها في هذا العام فقد أخبرنا الحجاج إن النساء منعت من الدخول إلى البقيع في هذا العام بدون استثناء وكأنهم بنوا على هذا الاحتمال الضعيف الذي ذكره السندي وقال به صاحب
(1) صفحة 198 ج 3 (2) صفحة 112 ج 2 379 المهذب والبيان من بقائهن تحت النهي فظهرت لهم صحته هذا العام بعدما خفيت عنهم في العام الأول " يمحو الوهابية ما يشاؤن ويثبتون وعندهم أم الكتاب ". لسنا نعارضهم في اجتهادهم أخطأوا فيه أم أصابوا ولكننا نسألهم ما الذي سوغ لهم حمل المسلمين على اتباع اجتهادهم المحتمل الخطأ والصواب بل هو إلى الخطأ أقرب لمخالفته لما قطع به الجمهور ولم ولم يقل به إلا الشاذ كما سمعت والأمور الاجتهادية لا يجوز المعارضة فيها كما بيناه في المقدمات وما بالهم يسلبون المسلمين حرية مذاهبهم في الأمور الاجتهادية ويحملونهم على اتباع معتقداتهم فيها بالسوط والسيف. كما زادوا في طنبور تعنتهم هذه السنة نغمات فعاقبوا الناس على البكاء عند زيارة قبر البني " ص " أو أحد القبور ومنعوهم منه والبكاء أمر قهري اضطراري لا يعاقب الله عليه ولا يتعلق به تكليف لاشتراط التكليف بالقدرة عقلا ونقلا ومنعوا من القراءة في كتاب حال الزيارة ومن إطالة الوقوف فمن رأوا في يده كتاب زيارة أخذوه منه ومزقوه أو أحرقوه وضربوا صاحبه وأهانوه ومن أطال الوقوف طردوه وضربوه (حدثني) بعض الحجاج الثقات أنه تحيل لقراءة الزيارة من الكتاب بأن فصل أوراقا منه وجعلها في القرآن وجلس يظهر قراءة القرآن ويزور فاتفق أنه أشار غفلة بالسلام نحو قبر النبي (ص) فدفعوه حتى أخرجوه من المسجد وأخذوا تلك الأوراق ومزقوها وأمثال هذا مما صدر منهم في حق الحجاج في مسجدي مكة والمدينة ومسجد الخيف والبقيع وغيرها مما سمعناه متواترا من الحجاج كثير يطول الكلام بنقله. * استدراك * - 1 - في بعض ما يحكى عن ابن تيمية من المعتقدات التي فاتنا ذكرها عند ذكر معتقده في صدر الباب الأول: ففي كتاب دفع شبه التشبيه والرد على المجسمة من الحنابلة لأبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي الواعظ المشهور عند ذكر الآيات التي ظاهرها التجسيم (قال) ومنها قوله تعالى (ثم استوى على العرش) إلى أن قال: قال ابن حامد (2) الاستواء مماسة وصفة لذاته
(1) في حاشية الكتاب: هو شيخ الحنابلة الحسن بن حامد بن علي البغدادي الوراق المتوفى سنة 403 كان من أكبر مصنفيهم له شرح أصول الدين فيه طامات " انتهى " - المؤلف - 380 والمراد القعود وقد ذهبت طائفة من أصحابنا إلى أن الله تعالى على عرشه ما ملأه وأنه يقعد نبيه على العرش وفي الحاشية (1) ما لفظه: قال الجلال الدواني في شرح العضدية: وقد رأيت في بعض تصانيف (ابن تيمية) القول به أي بالقدم النوعي في العرش " انتهى " وقال الشيخ محمد عبده فيما علقه عليه: وذلك أن ابن تيمية كان من الحنابلة الآخذين بظواهر الآيات والأحاديث القائلين بأن الله استوى على العرش جلوسا فلما أورد عليه أنه يلزم أن يكون العرش أزليا لما أن الله أزلي وأزلية العرش خلاف مذهبه قال إنه قديم بالنوع أي إن الله لا يزال يعدم عرشا ويحدث آخر من الأزل إلى الأبد حتى يكون له الاستواء أزلا وأبدا. ولننظر أين يكون الله بين الإعدام والإيجاد هل يزول عن الاستواء فليقل به أزلا فسبحان الله ما أجهل الإنسان وما أشنع ما يرضى به لنفسه " انتهى المنقول في الحاشية " فانظر إلى قول الحنابلة سلف ابن تيمية الذين يدين بمذهبهم أن الله مستو على العرش استواء مماسة وقعود وأنه ما ملأ العرش بل العرش أكبر منه وأنه يجلس معه نبيه على العرش تشبيها بالملك الذي يجلس معه وزيره على السرير وإلى قول ابن تيمية إن العرش قديم بالنوع حادث بالشخص تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا (وفي كتاب دفع شبه التشبيه) أيضا عند ذكر الأحاديث التي ظاهرها التجسيم (2) الحديث التاسع عشر روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي " ص " ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير يقول من يدعوني فأستجيب له " قال ابن حامد ": هو على العرش بذاته مماس له وينزل من مكانه الذي هو فيه وينتقل. وهذا رجل لا يعرف ما يجوز على الله. ومنهم من قال يتحرك إذا نزل وما يدري أن الحركة لا تجوز على الله وقد حكموا عن الإمام أحمد ذلك وهو كذب عليه " انتهى ". " وفي الحاشية " حكى ذلك أبو يعلى في طبقاته عن أحمد بطريق أبي العباس الإصطخري وعجيب من " ابن تيمية " كتبه في معقوله غير منكر ما يرويه حرب ابن إسماعيل الكرماني صاحب محمد بن كرام في مسائله عن أحمد وغيره في حقه سبحانه أنه يتكلم ويتحرك ونقل أيضا " يعني ابن تيمية " عن نقض الدارمي ساكتا أو مقرا: الحي
(1) صفحة 19 طبع دمشق (2) صفحة 46 طبع دمشق. 381 القيوم يفعل ما يشاء ويتحرك إذا شاء ويهبط ويرتفع إذا شاء ويقبض ويبسط ويقوم ويجلس إذا شاء لأن إمارة ما بين الحي والميت التحرك وكل حي متحرك لا محالة وكل ميت غير متحرك لا محالة بل يروى عنه نفسه " يعني ابن تيمية " أنه نزل درجة وهو يخطب على المنبر في دمشق وقال: ينزل الله كنزولي هذا، على ما أثبته ابن بطوطة من مشاهداته في رحلته وقال الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة: ذكروا أنه ذكر " أي ابن تيمية " حديث النزول فنزل عن المنبر درجتين، فقال كنزولي هذا فنسب إلى التجسيم " انتهى ". - 2 - مما يتعلق بالاستغاثة ما عن الإستيعاب أنها وقعت مشاجرة بين بني عامر في البصرة فبعث عثمان أبا موسى الأشعري إليهم فلما طلع عليهم صاحوا يا آل عامر فلما سمع النابغة الجعدي برز مع قومه فقال أبو موسى ما شأنك قال سمعت دعوة قومي فأجبتها فعزره أبو موسى بسياط فقال النابغة أبياتا من جملتها: فيا قبر النبي وصاحبيه * ألا يا غوثنا لو تسمعونا ألا صلى إلهكم عليكم * ولا صلى على الأمراء فينا والنابغة من الصحابة ولما قال: بلغنا السماء مجدنا وجدودنا * وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا قال له النبي (ص) إلى أين؟ قال إلى الجنة بك يا رسول الله ودعا له النبي (ص) فقال لا فض فوك. ومما يتعلق بالاستغاثة ما جاء في قصة قارون أنه لما خسف به استغاث بموسى " ع " فلم يغثه وقال يا أرض ابلعيه فعاتبه الله حيث لم يغثه وقال له استغاث بك فلم تغثه ولو استغاث بي لأغثته. - 3 - مما يتعلق بالتوسل ما عن السيوطي أن النبي " ص " استسقى فلما نزل الغيث قام رجل من كنانة فقال: لك الحمد والحمد ممن شكر * سقينا بوجه النبي المطر دعا الله خالقه دعوة * إليه وأشخص منه البصر
382 أغاث به الله عليا مضر * وهذا العيان لذاك الخبر وكان كما قاله عمه * أبو طالب أبيض ذو غرر فلم تك إلا ككف الرداء * أو أسرع حتى رأينا الدرر به قد سقى الله صوب الغمام * ومن يكفر الله يلقى الغرر فقال النبي (ص) إن يك شاعر يحسن فقد أحسنت. فقوله: سقينا بوجه النبي المطر. وقوله: أغاث به الله عليا مضر. وقوله: وكان كما قاله عمه الخ الذي هو إشارة إلى قوله وأبيض يستسقى الغمام بوجهه. وقوله: به قد سقى الله صوب الغمام كلها دالة على حسن التوسل والاستغاثة بالنبي (ص) لأنه سمعها ولم ينكرها بل استحسنها. - 4 - مما يتعلق بالإقسام على الله بمخلوق ما ذكره ابن خلكان في تاريخه قال حكى سفيان الثوري عن طارق بن عبد العزيز عن الشعبي قال كنا بفناء الكعبة أنا وابن عمر وابن الزبير وأخوه مصعب وعبد الملك بن مروان وذكر دعاء كل منهم أن يعطى متمناه فأعطيه فكان من دعاء عبد الله بن الزبير (أسألك بحرمة عرشك وحرمة وجهك وحرمة نبيك عليه السلام). - 5 - مما يتعلق بالنذر ردا على استشهاد الصنعاني بحديث أن النذر لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من النخيل ما رواه صاحب الكشاف والبيضاوي وغيرهما في تفسير قوله تعالى (يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا " الآية ") عن ابن عباس أن الحسن والحسين عليهما السلام مرضا فعادهما رسول الله (ص) في ناس معه فقالوا يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما أن برءا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا (الحديث) قالوا ما حاصله إن عليا (ع) استقرض ثلاثة أصوع من شعير فطحنت فاطمة صاعا واختبزته فجاءهم عند الافطار مسكين فآثروه وجاءهم في
383 اليوم الثاني يتيم فآثروه وفي اليوم الثالث أسير فآثروه فنزل جبرئيل وقال خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك فاقرأه السورة (انتهى). - 6 - مما يتعلق بالتبرك بمنبر النبي (ص) وبآثاره ما ذكره السمهودي في وفاء الوفا (1) عن الأقشهري عن يزيد بن عبد الله بن قسيط رأيت رجالا من أصحاب رسول الله (ص) إذا خلا المسجد يأخذون برمانة المنبر الصلعاء التي كان رسول الله (ص) يمسكها بيده ثم يستقبلون القبلة ويدعون. قال: وفي الشفاء لعياض عن أبي قسيط والعتبي رحمهما الله كان أصحاب رسول الله " ص " إذا خلا المسجد حبسوا رمانة المنبر التي تلي القبر بميامنهم ثم استقبلوا القبلة يدعون " انتهى ". * مستدركات الطبعة الأولى * - 7 - لم يكن نسب السعوديين اليهودي مجهولا في نجد، بل كان الكثيرون يعرفونه ويعرفون كيف تظاهر السعوديون بالعروبة والإسلام سترا لأغراضهم ومطامعهم. وممن أشار إلى هذا النسب الشاعر النجدي الشهير " حميدان الشويعر " الذي كان يجيد نظم الأشعار الشعبية المعبرة عن أحاسيس مواطنيه. ولما تحالف محمد بن سعود مع محمد بن عبد الوهاب واستحلا دماء العرب والمسلمين، لم يستطع هذا الشاعر السكوت على المحنة التي حكمت سلالة اليهود برقاب النجديين وغير النجديين من حملة الإسلام وحفدة العروبة.. وكان هذا الشاعر يقيم ببلدة في أواسط نجد تسمى " اوشيقر " تقع قريبا من جبل يدعى " عوصاء " كان يتردد عليه " حميدان "، فقيل له يوما: لا تذهب إلى هذا الجبل لأن ذئابا تجوبه فتفترس الناس. فضحك الشاعر قائلا: مسكينة هي الذئاب، إنها مظلومة منذ عهد يوسف بن يعقوب ثم أنشد:
(1) ص 441 ج 2 384 ما أخشى ذيبا في عوصا * أخشى عودا في الدرعيه (1) قولا (2) حق وفعلا (3) باطل * وسلاحا (4) كتب مطوية خلى هذا يذبح هذا * وهوا (5) جالس في الزوليه (6) دم يهودا (7) في عروقا (8) * من أصول عبرانية دعوتهم للدين الكاذب * ما هي دعوه محمديه - 8 - لكي نعرف ما قدمه السعوديون في الحرب الفلسطينية يكفي أن نأخذ هذه الفقرة من مذكرات القائد طه الهاشمي الذي كان رئيسا للجنة العسكرية المنبثقة سنة 1947 - 1948 عن جامعة الدول العربية للإشراف على حرب فلسطين. وقد نشر هذه المذكرات في جريدة الحارس البغدادية، قال الهاشمي: إن الحكومة السعودية أبرقت للجنة العسكرية عن أسلحة معدة لإنجاد فلسطين موجودة في (سكاكة) بالصحراء السعودية، فأرسلت الحكومة السورية طيارات عسكرية فأحضرت تلك الأسلحة لدمشق وسلمتها إلى المصنع الحربي التابع للجيش السوري لفرزها وتبويبها، فإذا هي أسلحة عتيقة متعددة الأنواع والأشكال، فيها الموزر والشنيدر والمارتيني الخ وفيها بنادق فرنسية وانكليزية وعثمانية ومصرية ويونانية ونمساوية، وكلها بدون جبخانة وكلها مصدئة (خردة) لا تصلح لقتال... ثم قال الهاشمي: إنهم وجدوا بين هذه الحدايد بنادق مما تعبأ بالكحل من فوهتها وتدك من الفوهة أيضا، وإنها من مخلفات حملة الجيش المصري على الوهابيين في أوائل القرن التاسع عشر.. " انتهى ". وليس هذا فقط فإن رؤساء الوفود العربية في هيئة الأمم المتحدة أرسلوا عشية الموافقة
(1) عود: أي شيخ، والدرعية هي البلدة التي اتخذها ابن سعود وابن عبد الوهاب قاعدة لهما (2) قوله (3) فعله (4) سلاحه (5) هو (6) السجادة (7) اليهود (8) عروقه. 385 على قرار تقسيم فلسطين عام 1948 برقية إلى الملك السعودي يلحون عليه بإصدار تصريح - مجرد تصريح - يهدد فيه بقطع البترول إذا صوتت أمريكا على التقسيم واعترفت بإسرائيل. فماذا كان رد الملك؟ كان إن أعطى تصريحا معاكسا قال فيه: " إن المصالح الأمريكية في السعودية محمية، وإن الأمريكيين هم من " أهل الذمة "، وإن حمايتهم وحماية مصالحهم واجب منصوص عليه في القرآن الكريم! " وهكذا تم تقسيم فلسطين وإقامة إسرائيل واعتراف أمريكا بالدولة المغتصبة بعد إعلان قيامها بدقيقة واحدة!. * الخاتمة * ولنقطع الكلام على هذا القدر من الرد حامدين المولى تعالى على توفيقه لإكمال هذا الكتاب وكان الفراغ من تسويده في أواخر شهر رمضان المبارك سنة 1346 من الهجرة بقرية شقرا من جبل عامل ووقع الفراغ من تبييضه وإعادة النظر فيه في أواسط ربيع الأول سنة 1347 بمدينة دمشق المحمية والحمد لله وحده وصلى الله على رسوله محمد وآله وسلم. ومن تجديده وإعادة طبعه على يد ولد المؤلف حسن الأمين في بيروت سنة 1382.
386 * العقود الدرية * في رد شبهات الوهابية تأليف المغفور له: السيد محسن الأمين حققه وأخرجه: ولده حسن الأمين (الطبعة الثانية) 1382 ه - 1962 م
387 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين (وبعد) فهذه القصيدة المسماة " بالعقود الدرية في رد شبهات الوهابية " نظم الفقير إلى عفو ربه الغني محسن الأمين الحسيني العاملي تجاوز الله عن سيئاته. اشجاك ربع عند برقة ثهمد * أقوى فبت مسهدا لم ترقد لعب الزمان به وبان قطينه * من رائح منهم وآخر مغتدي أم هل شجيت بذي الأراك لساجع * فوق الغصون من الأراك مغرد أم هل حننت إلى نوازل بالحمى * رقدوا وبت لهم بليل الأرمد غادين قد زموا المطي لواغبا * حتى أناخوها بأعلى الأثمد وبقيت بعدهم لذكر فراقهم * تبكي بدمع للخدود مخدد أم هل بكيت على الشباب وعصره * أم هل صبوت إلى الحسان الخرد مثل الغصون بها القدود تمايلت * ولها الثياب كأنها الورق الندي ترمي لواحظها المريضة في الحشا * عن قوس حاجبها سهام مسدد وتسل من بين الجفون صوارما * مشحوذة تزري بكل مهند ما عاد دمع العاشقين موردا * إلا لحمرة خدها المتورد باتت بليلة نائم ما مسها * سهد وبت لها بليل مسهد من كل واضحة الجبين اسيلة * الخدين خود بضة المتجرد بيض نواعم كالغصون اوانس * عين نوافر كالظباء الشرد حملت من الارداف أحقافا ومن * اعطافها مثل الغصون الميد ما كان حظ الصب يوم وداعها * بالرمل الا لمحة المتزود دع ذكر أيام الصبا ومواقفا * لك عند رسم المنزل المتأبد
388 واهجر أحاديث الغرام وصبوة * بعد المشيب لذات قد املد * * * قم وابك منتحبا لما قد حل * بالإسلام من وهن وفرط تبدد أبناؤه متشاكسون عراهم * محلولة ما بينهم لم تعقد زرعوا وكان الغير حاصد زرعهم * يا ويح أيد زرعها لم تحصد وملوكه أمسى يقوض ملكهم * أبدا بسيف عنهم لم يغمد فرحون باسم مملك لكنه * لسواه كالمملوك والمستعبد ويقوم فيهم من يسمى مصلحا * بين البرية وهو عين المفسد أو مرشدا هو أحوج الأقوام لو * عقل الأمور إلى اتباع المرشد معبوده إما هوى أو درهم * فسوى الدراهم والهوى لم يعبد أو من يذم مقلدا لكنه * لو كان يعلم ليس غير مقلد أو من يقلد دينه فيهم إلى * شخص لآثام الورى متقلد أو من يثير ضغائنا ما بينهم * كادت تماث كأنها لم توجد ويقوم باسم الدين يوقد نارها * بغيا ولولا بغيه لم توقد يقلي أخاه به ويظهر بغضه * ويقوم مفتريا عليه ويعتدي أو من يروج في الأنام ضلالة * ويخالها رشدا وإن لم يرشد في كل شارقة عرين يستباح * على الآساد من مستأسد في كل غاربة لهم حصن * يخرب بعد حصن بالخراب مهدد في كل ناحية لهم شمل يبدد * بعد شمل قبل ذاك مبدد في كل يوم نحوهم سهم يسدد * أثر سهم للنحور مسدد قد أصبحوا ما بين ثاو خامل * دان وآخر في البلاد مشرد يمسي ويصبح دهره من حيرة * والطرف بين مصوب ومصعد أين الألى فتحوا الحصون وقلدوا * بالسيف طوق الذل كل مقلد
389 من كل قرم للكفاح معاود * بشبا الصفاح على القراع معود يمشي إلى الهيجاء مشية مسرع * (عجلان ذا زاد وغير مزود) لم يكف ما قد حل بالإسلام * من ضيم تذوب له صخور الجلمد وتقسم المستعمرين بلاده * ووقوف سطوتهم له بالمرصد وتتابع الحملات من أطرافه * قصدا لهدم أساسه المتوطد حتى أتت أعراب نجد تبتغي * نكأ القروح وفعل ما لم يحمد جاءت مجددة لدين محمد * زعمت وتنفي عنه كل مجدد جاءت لتهدي الناس وهابية * كلا وهل يهديك غير المهتدي من عصبة فيها الجمود سجية * لم يلف فيها قط من لم يجمد لولا المساعي الأجنبية ما اغتدى * في الناس لابن سعودها من مسعد لولا سيوف الغرب لم يك نجمه * في الشرق يوما طالعا بالأسعد * * * فرغت من التوطيد للإسلام لم * تترك من الإسلام غير موطد قد مهدت شرع النبي ولم تدع * في الأرض شيئا منه غير ممهد وبها طريق الدين صار معبدا * لم يبق منه قط غير معبد لم يبق في الأقطار من متمجس * من فضل دعوتها ولا متهود ما أن ترى بين الورى من فاجر * عاص ولا من شارب ومعربد ردت عن الإسلام كل معاند * وحمته من باغ عليه ومعتد ومحت من الإسلام كل ضلالة * أو بدعة أو شبهة من ملحد شنت على المستعمرين جميعهم * غاراتها في كل قفر فدفد شهرت بمصر والعراق وجلق * والهند أسيافا له لم تغمد في المغرب الأدنى علت راياته * والمشرق الأدنى كذا في الأبعد فتحت أقاصي أرض إشبيلية * وتخوم أندلس حوتها باليد قد حررت شرق البلاد وغربها * بسيوفها من غاصب مستعبد طردت عن الإسلام كل محاول * فتح البلاد وغيره لم تطرد
390 قد جردت في الفاتحين سيوفها * لا يقطع الهندي غير مجرد لم تبق من مستعمر في أرضه * أو فاتح لبلاده متمرد ينسى بها عهد الفتوح وما جري * فيه فمثل فتوحها لم يعهد ردت إلى العرب الكرام فخارهم * ولهم أعادت كل مجد اتلد وعلى سواهم وجهت حملاتها * وعليهم في دارهم لم تعتدي هذا الحجاز جميعه في كفها * بجباله ورماله والأنجد ولها القصيم وحائل ومرابع الدهناء * تقتل من تشاء ولا تدي * * * لم يبق غير قبور آل محمد * شيدت ضلالا في بقيع الغرقد وقبور آباء النبي وصحبه * بوجودها الإسلام لم يتمهد فإذا محت ما شيد من بنيانها * لم يبق في الإسلام غير مشيد أمسى بها التوحيد مفقودا فمذ * هدمت فما في الكون غير موحد فعدت عليها كالوحوش ضواريا * وغدا ستتبعها بقبر محمد ما قبر أحمد عندها أمسى سوى * صنم لقد ضلت ولما تهتد كلا لعمر الله هدم قبورهم * هدم لصرح بالفخار ممرد قد حاولت والله مكمل نوره * إطفاء نور ساطع لم يخمد جرت على الإسلام أعظم ذلة * بفعالها وأتت بكل تمرد ساءت جميع المسلمين بفعلها * ورمت قلوبهم بحر موقد ساءت أمام المسلمين محمدا * وإليه في قرباه لم تتود ساءت إله العرش فيهم فاغتدت * منه بمنزلة القصي المبعد لم يكف ما صنعت بهم أعداؤهم * بحياتهم من كل فعل أنكد حتى غدت بعد الممات خوارج * في الظلم بالماضين منهم تقتدي لم تحفظ المختار في أولاده * وسواهم من أحمد لم يولد وهم الأئمة للورى والعترة * الهادون حقا قدوة للمقتدي لم تحفظ المختار في آبائه * من أصيد متفرع من أصيد
391 لم تحفظ المختار في أعمامه * من كل قرم بالعلى متفرد لم تحفظ المختار في أصحابه * وهم الذين بهم غدونا نقتدي لم تحفظ المختار في أزواجه * ولهن منه حرمة لم تجحد هدمت قبابا فوقهم قد شيدت * معقودة من فوق أشرف مرقد فوق الإمام السيد الحسن الزكي * ابن النبي ابن الإمام السيد والعابد السجاد زين العابدين * بن الحسين الراكع المتهجد والباقر العلم ابنه والصادق * القول المفضل جعفر بن محمد والسيد العباس عم محمد * رب المفاخر والعلى والسؤدد والحبر عبد الله حبر الأمة * البحر الخضم ومرشد المسترشد وصحابة الهادي الذين بنصرهم * للدين قد فازوا بأعذب مورد والناصر المختار والد طالب * عم النبي وحمزة المستشهد والمطعم الحجاج عفوا سيد * البطحاء معطي الرفد للمسترفد وخديجة الغراء أم المؤمنين * ومن سمت شرفا مقام الفرقد والطهر آمنة وعبد الله يا * لله لليوم الفظيع الأسود وامام طيبة مالك وضريح * إسماعيل نجل الصادق المتعبد قوم لهم أسمى مقام أدركوا * قصب السباق به برغم الحسد سبقوا البرية في الفضائل من مسود * قد غدا ما بينهم ومسود ولهم من النسب الصراح صراحه * شرف قد اشتركوا به في القعدد من كل فذ ماله من مشبه * أو كل ندب في الفضائل مفرد ولأمهات المؤمنين مكانة * حكمت ببر في الورى وتودد وبقبر حواء وهدم ضريحه * باب المذمة عنهم لم يوصد أم الأنام تعق بعد وفاتها * من فعل أبناء عليها تعتدي ساؤا بذلك نسل آدم كله * ولآدم جاءوا بما لم يحمد * * * يا قبة بثرى البقيع منيعة * شأت الفراقد والسهى في مصعد
392 ولقبة الأفلاك دون منالها * شأو الظليع غدا وسير المجهد شعت بها أنوار آل محمد * بسنا على طول الزمان مخلد من كل فذ في البرية مغتذ * در النبوة بالإمامة مرتدي في بقعة ودت نجوم سمائها * في الأرض من حصبائها لو تغتدي والشمس ترمقها بناظر حاسد * ويرد عنها البدر مقلة أرمد كف الثريا قاصر عن نيلها * أبدا وعنها الشمس قاصرة اليد تعتز بالفضل العظيم المعتلي * وتطول بالشرف القديم الأتلد عاثت بشامخها اكف جفاتهم * يا للابا والدين عيث المفسد هدمت معاولهم رفيع بنائها * ومحت محاسنها بذاك المعهد عجبا لأحداث الزمان وما أتت * فذئابه داست عرينة ملبد أمعالم الإسلام تمحى جهرة * والمسلمون بمنظر وبمشهد قد نال قبر السبط شبه فعالهم * في القبح من متوكل متمرد ولما تقدم من قبيح فعالهم * في كربلاء زمانه لم يبعد أبقى له ولهم مخازي جمة * مهما يطل زمن بها تتجدد زعمت بأن الدين أوجب هدمها * لرواية جاءت بمسند أحمد يدعو أبا الهياج حيدر أنني * لك باعث فانهض بأمري وأجهد كان النبي بمثل ذلك باعثي * وبذي الوصية آمري ومزودي لا تبق قبرا مشرفا إلا وقد * سويته فاقصد لذلك وأعمد لو أنه قد صح إسناد لها * ليست تعارض سيرة لم تجحد إني وليس طريقها بمصحح * وبواضح التوثيق لم تتأيد فيه المدلس والذي كثر الخطا * منه ومن بغض ابن عم محمد (1) وبها أبو الهياج منفرد وليس * له سوى هذا الحديث المفرد سويته معناه مستويا لقد * صيرته لا ذا سنام يغتدي هذا هو المعنى إذا متعلق * لم يذكروه له بغير تلدد
(1) يعلم تفسيره وتفسير غيره مما فصلناه في كشف الارتياب فراجع. 393 في الذكر سواها وسوى قد أتى * أبدا سوى هذابه لم يقصد فمفاده نهي عن التسنيم بالتسطيح * أمر فاتبعه ترشد وعليه أورده دليلا مسلم * بصحيحه فبمثله فاستشهد وبذلك النووي فسره كذاك * القسطلاني الإمام الأوحدي سويته ما أن يفيد هدمته * في العرف إلا عند ذي فهم ردي كلا ولا سويته بالأرض يفهم منه ذو فهم صحيح جيد مع أن هذا لم يقله مسلم * والرفع بالإجماع سنة مهتدي مع أنه لو تم ليس بشامل * للقبة المعلاة فوق المشهد إذ كان مخصوصا بنفس القبر لم * يشمل بناء حوله في الأجود * * * هيهات هدم قبور عترة أحمد * يا ويلها عن أحمد لم يسند يا للرجال لهول خطب فادح * أذكى القلوب بغلة لم تبرد أعراب نجد تبتغي تعليمنا * وتقوم فينا في مقام الرشد جهلت لعمر الله سنة أحمد * وإلى مدينة علمه لم تقصد كم قد روى الراوون عنه رواية * كذبا ولم يخشوا عقاب الموعد فلذاك قام بهم خطيبا قائلا * للناس قول تهدد وتوعد كثرت علي من الورى كذابة * عصت الإله وللهدى لم تنقد يا قوم من يكذب علي تعمدا * فليتخذ في النار أسوأ مقعد ولكم رأوا لفظ العموم وما دروا * لفظ الخصوص ولا اهتدوا للمقصد كم قد رووا من مات فهو معذب * ببكاء من يبكي ولم يتجلد عمر رواه وخطأته أمه * في ذاك لم تشكك ولم تتردد كم مجمل ومبين ومعمم * ومخصص أو مطلق ومقيد كم من مجاز للحقيقة مشبه * أو من صريح كالكناية يغتدي كم شابه المندوب محتوما ومن * مكروهه المحظور لم يتجرد كم سنة في الناس تحسب بدعة * ما النص شرط في خصوص المورد
394 وتفاوت الأفهام فيما قد روى * الراوون في الأخبار غير محدد تخد الإله هواه في القرآن قد * جاءت وتلك حقيقة لم تقصد عبد الذي أصغى إلى متكلم * متكلما لكنه لم يعبد والكفر أطلق في معاصي جمة * ما كفرت كإباق عبد أنكد * * * أوليس أمة أحمد إجماعها * فيه الصواب وحجة لم تردد وعلى ضلال كلها لم تجتمع * فيما رويتم في الحديث المسند مضت القرون وذي القباب مشيدة * والناس بين مؤسس ومجدد في كل عصر فيه أهل الحل * والعقد الذين بغيرهم لم يعقد لم ينكروا أبدا على من شادها * شيدت ولا من منكر ومفند من قبل أن تلد ابنها تيمية * أو يخلق الوهاب بعض الأعبد أفأي إجماع لكم أقوى على * أمثاله من مورد لم يورد فبسيرة للمسلمين تتابعت * في كل عصر نستدل ونقتدي أقوى من الاجماع سيرتهم ومن * قد حاد عنها فهو غير مسدد هيهات ليس نبيا ابن بليهد * في الناش لم يخطئ ولم يتعمد كلا ولا العلماء قد حصرت به * هي في بقاع الأرض ذات تعدد كلا ولا من وافقوه لخوفهم * أو جهلهم من خائف ومقلد والجل من علماء طيبة ساكت * للخوف مكفوف اللسان مع اليد * * * دفن النبي المصطفى في حجرة * شات الكواكب في العلى والسؤدد والمسلمون تجد في تعظيمها * ما بين بان منهم ومشيد من ذلك العهد القديم ليومنا * تعظيمهم لضريحه لم ينفد لم يهدم الأصحاب حجرة أحمد * وهم الهداة وقدوة للمقتدي بل لم تزل مبنية وبناؤها * في كل عصر لم يزل يتجدد إن لم يجز فوق القبور بناؤنا * لم لم تهدم قبل حجرة أحمد ما كان ممنوعا لنا إحداثه * إبقاؤه عن ذاك غير مجرد
395 مع أنهم قد أحدثوا بنيانها * متتابعا من بعد دفن محمد زوج النبي بنت عليها حائطا * بين القبور وبينها لم يعهد وابن الزبير لها بنى وكذلك * الفاروق ثم سميه فلنقتد يروي فتى سمهود ذلك عنهم * بوفائه فعلى الوفاء تعود جهلوا تراهم ما علمتم أم غدوا * متساهلين وأنتم بتشدد وتتابع البانون في بنيانها * وغدت لأهل الدين أعظم مقصد لضريح أحمد حرمة ماردها * غير الجهول وغير ذي الطبع الردي من في الورى يا صاح يجحد قدره * هيهات شامخ قدره لم يجحد إني ودفن الصاحبين بجنبه * قد جاوراه كلاهما في ملحد قد عد أعظم رتبة وفضيلة * في الكون يوما مثلها لم يعدد وبنو أمية قد أبت دفن ابنه * الحسن الزكي بجنبه في مرقد قالت أيدفن ثالث الخلفاء في * أقصى البقيع وفي مكان مبعد والسبط يدفن عند تربة جده * لنقاتلن بذابل ومهند وتجمعوا مع من يلف لفيفهم * من مبرق يبغي القتال ومرعد ويقول مروان أيدفن ها هنا * حسن وهذا السيف تحمله يدي لو لم يكن شرف القبور فما الذي * يدعو إلى هذا المقيم المقعد وكذا ضرائح آله فلها الذي * لضريح جدهم برغم الحسد * * * قد كان بالثقلين أحمد موصيا * فيما رواه أحمد في المسند وهما كتاب الله ثم العترة * الهادون حقا للطريق الأرشد فهما هما تالله لن يتفرقا * حتى ورود الحوض يوم المورد وهما هما قد ضل من لا يهتدي * بهما ومن بهداهما لا يقتدي إن احترامهما على كل الورى * فرض بهذا النص لم يتقيد أجر الرسالة ود قربى أحمد * ما ذاك فعل المخلص المتودد والله ألزمنا احترام نبيه * وذوي المكانة والمقام الأمجد
396 زمن الحياة وفي الممات كليهما * في غابر الأزمان والمتجدد لا ترفعوا أصواتكم عن صوته * لا تجهروا بالقول في ذاك الندي في عهد أم المؤمنين كرامة * وتد بدار حوله لم يوتد كانت تقول لهم فلا تؤذوا * رسول الله من وتد بدار موتد عقد القباب على قبور ذوي الهدى * فيه احترام ذوي القبور الهمد وكذلكم هدم القباب إهانة * لهم غدا في رأي كل مسدد والله يغضب والنبي لفعل من * يبغي إهانتهم بأمس أو غد والفعل مهما يختلف عنوانه * فالحكم مختلف بغير تردد ليس الذي سمى المعظم سيدا * بمعنف في قوله يا سيدي والمصطفى قد قال سيدنا وسيدكم * لسعد ذي المقام الأسعد ما أسقط الرحمن حرمة مؤمن * بعد الممات وفضله لم يفقد هل إذ يموت المرء يعدم فضله * فلم الصلاة على النبي محمد تعظيم قبر معظم لا منع * فيه وجعل خدام تروح وتغتدي يعتز ساكنه بحفاد له * بين الورى ويهان إن لم يحفد * * * زعموا البناء محرما إذ أنها * أرض مسبلة لكل موسد من كان شاهد منكم تسبيلها * أو وقفها بين الورى فليشهد هذا افتراء منكم وتحكم * إن قد تم فطنابه لم ينقد بل إن ما يروى نفي تسبيلها * عنها وأبطل شاهد المستشهد دفن ابن مظعون بها من بعدما * كانت مواتا طبقت بالغرقد من بعده الهادي بها دفن ابنه * من غير ما وقف وبالهادي اقتدي والناس قد دفنوا بها من بعده * من غير تسبيل ولا وقف بدي قطعوا بها ما كان من شجر وما * وقفوا لأجل الدفن وقف مؤبد هب أنهم وقفوا فلم يك وقفهم * بالمنع عما قلتم بمقيد
397 لكن ما هدمتوه مسبل * في الإثم هادمه يروح ويغتدي * * * عبد القبور المسلمون بزعمكم * كلا فغير إلهنا لم نعبد إن احترام القبر تعظيم لمن * في القبر من مولى عظيم أمجد قستم بها الأصنام إن قياسكم * يا قوم بالأصنام غير مسدد فاؤلائكم عبدوا الحجارة كي تقر * بهم ونحن لغيره لم نعبد سجدوا مع الباري لها وتعبدوا * جهلا ولم نسجد ولم نتعبد ليس احترام ذوي القبور عبادة * لذوي القبور ولا لها في مورد كل احترام لو يكون عبادة * في الخلق عم الشرك كل موحد والله ألزمنا احترام مساجد * أفهل يكون عبادة للمسجد كم حرمة لمقام رجل خليله * جعل الإله لصخرة من جلمد والشرع جاء محسنا تقبيلنا * للبيت والحجر الأصم الأسود وإطاعة الأبوين فرض لازم * كإطاعة الباري القديم الموجد لهما جناح الذل فاخفض لا تقل * أف وبالغ في الإطاعة وأجهد ولآدم سجد الملائك كلهم * دون الخبيث فذم من لم يسجد وليوسف يعقوب مع أبنائه * سجدوا له قدما سجود تعمد ما كان شركا لا يكون نزاهة * النص أورد فيه أو لم يورد أو كان توحيدا فليس بكائن * شركا فأنقص من مقالك أو زد الحكم للموضوع ليس مغيرا * بالحكم لم ينقص ولما يزدد * * * الله فاضل بين مخلوقاته * ليس التراب مساويا للعسجد شهر الصيام على الشهور مفضل * فيه قبول عبادة المتعبد وكذلك الأسبوع يفصل بعضه * بعضا كذا الساعات فاكفف واهتد والشمس فضلها الإله على السهى * والبدر ليس مساويا للفرقد
398 والليث ليس به يساوي أرنب * والصقر ليس مماثلا للهدهد والأرض في شرف البقاع تفاوت * هل مكة أمست تعد كصرخد والمسجد الأقصى المبارك حوله * كسواه أم هل حانة كالمعبد إن القبور كمن حوته تفاوتت * في الفضل والشرف القديم الأتلد ذم الألى اتخذوا القبور مساجدا * من ذي التنصر قبل والمتهود معناه نهي عن سجود فوقها * أو جعلها لك قبلة في المسجد فبذاك أضحت وهي غير المدعى * وعلى الكراهة حملها لم يبعد أو عن عبادتهم لصورة صالح * بكنيسة في قبلة المتعبد قد كن أزواج النبي رأينها * يوما لدى الأحباش فانظر تهتد وكذاك متخذا عليها مسجدا * منه الكراهة قط لم تستبعد كرهت على القبر الصلاة لدى * جميع المسلمين ففوقه لا تسجد وعلى القبور إذا بنينا مسجدا * منا الصلاة على المقابر تغتدي وبجمعه مع زائرات للقبور * ترى الكراهة فيه ذات تؤيد أما البناء لمسجد من حولها * قصد الصلاة فما له من مفسد من فوق أهل الكهف قد تخذ * غلبوا عليهم مسجدا لم يعهد والمسلمون بحول قبر محمد * قد ما بنوا للناس أفضل مسجد وبيوت أزواج النبي به لقد * دخلت لدى توسيعه المتجدد والنهي عن إسراجها لو صح * فالتنزيه منه ليس بالمستبعد إذ لا تكون به منافع للورى * من قارئ أو زائر متردد ولأنه عبث وإسراف بلا * نفع فيلزم صرفه في الأفيد والنهي عن كتب عليها جاء في * خبر ضعيف نادر لم يعضد * * وكذا الصلاة لدى القبور تبركا * بذوي القبور فليس بالصنع الردي إن الأئمة من سلالة أحمد * ثقل النبي وقدوة للمقتدي قالوا الصلاة لدى محل قبورنا * في الفضل تعدل مثلها في المسجد
399 عنهم روته لنا الثقات فبالهدى * منهم إذا شئت الهداية فاقتد شرف المكان بذي المكان محقق * وأخو الحجى في ذاك لم يتردد خير عبادة ربنا في مثله * من غيره فإليه فاعمد واقصد وكذلكم طلب الحوائج عندها * من ربنا أرجى لنيل المقصد إن القبور بساكنيها شرفت * فلساكنيها منزل لم يحجد بركاتها ترجى لداع إنها * بركات شخص في الضريح موسد لا بدع أن كان الدعاء إليه فيها * صاعدا وبغيرها لم يصعد طلب الحوائج عند قبر مفضل * عند الإله وبالفعال مسود كسؤالها من ربنا في مسجد * أو في زمان فاضل لم يردد * * * والنهي جاء عن الصلاة إلى * القبور كما رواه أحمد في المسند لكنه إن صح غير المدعى * وكذلك منه حرمة لم تقصد لكنما منه الكراهة قد بدت * للفهم في النظر الصحيح الجيد * * * والنهي عن تجديدها لا تبنين * على القبور وفوقها لا تقعد إن صح كان على الكراهة حمله * متوجها فاحمل عليها ترشد ذكر القعود على القبور مؤيد * دعوى الكراهة وهو خير مؤيد لكنها في غير من تعظيمه * تعظيم ربك والنبي محمد تالله ما فهم الشمول لمثلها * إلا الغبي أو الغوي المعتدي * * * حللتم دم كل شخص مسلم * ورميتم بالشرك كل موحد بل أنتم أولى بكفرانكم * قد قلتم في الله قول مجسد في كل ليلة جمعة هو نازل * فيما زعمتم فوق ظهر المسجد وبغير تأويل على العرش استوى * والعقل في التأويل لم يتردد إن الخوارج قبلكم قد كفروا * من كان يوما مثلهم لم يجمد
400 أشبهتموهم في جميع صفاتكم * حتى رأينا أمس يظهر في غد وفعلتم بالمسلمين كفعلهم * بالصائم المتعبد المتهجد والمصطفى المختار أخبر عنهم * بمروقهم من دينه بتعمد وكذلك المختار أخبر عنكم * إذ قال في نص الحديث المسند في شامنا بارك وفي يمن لنا * يا ربنا والعيش فيها ارغد في صاعنا بارك وفي مد لنا * وكذا مدينتنا وظلك فامدد قالوا وفي نجد؟ فعاود قوله * من غير تنقيص وغير تزيد قالوا وفي نجد؟ فجاوب قائلا * لهم مقال الحانق المتهدد من نجد الشيطان يطلع قرنه * في أرض نجدكم له من منجد مأوى الزلازل أرض نجدكم بها * فتن ترى من كل شخص مفسد هذا مقال المصطفى في نجدكم * هيهات ما إن نجدكم بالأرشد فالحق يا إخوان ليس بمنجد * والدين والإيمان ليس بمنجد لو يعلم التوحيد منحصرا بها * لدعا لها بدعائه المتعدد أو يعلم الاشراك حتما كائنا * فيما عداها في الدعا لم يجهد تالله ليس بهين تكفير من * بالله آمن والنبي محمد والسفك للدم وانتهاك محارم * منه وجعلك مسلما كالملحد وإخافة للمسلمين وتركهم * ما بين مقتول وبين مصفد للرأي من شخص خطاه وجهله * بين البرية ليس بالمستبعد قد قلدته الرأي وهابية * من مرعد ما بينهم أو مزبد * قالوا شفاعة أحمد حق وإن * تسأله إياها بشرك تلحد من قال في الدنيا له اشفع لي إلى * الباري فهذا الشرك دون تردد بل قل إياه رباه شفع أحمدا * فينا غدا واقبل شفاعة أحمد
401 من يدع أحمد للشفاعة فهو من * عباد أحمد وهو غير موحد حيث الدعاء عبادة بل مخها * بنظيره الإنسان لم يتعبد لا تدع من أحد مع الباري ولا * تعبد سوى الباري وربك فاعبد قلنا الدعاء عبادة فيمن دعا * المخلوق مثل الواحد المتفرد لكن من يدعو المشفع قائلا * يا سيدي اشفع لي له لم يعبد لا تدع من أحد مع الباري به * معنى العموم من دعا لم يقصد ليس المعية في الوجود مرادة * كاغفر ذنوبي واغسلن يا ذا يدي لو كان دعا عبادة من دعي * بين الأنام موحد لم يوجد من جاء يدعو شافعا لشفاعة * لم يدع من عبد دعاء السيد بل كان من قال اسقني هو عابد * وكذاك قول انصر صديقك واعضد كيف الشفاعة حقة وسؤالها * شرك تعجب للجهالة وازدد ما كان حقا لا يكون سؤاله * شركا فأنقص من مقالك أو زد قالوا وشرك الجاهلية قولهم * صنما لغير شفاعة لم نعبد كذبوا فشرك الجاهلية لم يكن * طلب الشفاعة من شفيع مفرد بل كذبوا رسل الإله وكتبه * وآتوا بدين غير ذاك مجدد عبدوهم كي يشفعوا عبدوا * وقالوا هم لنا الشفعاء يوم الموعد العطف والتعليل بينهما قضى * فيما قضى بتغاير وتعدد عبدوا الحجارة طالبين شفاعة * منها وليس لها الشفاعة تغتدي إن أصبحت صورا لعبد صالح * أو غيره لشفاعة لم تعدد لا يقدرون على عبادة ربهم * زعموا لذا عبدوا المصور باليد والبعث أنكره فريق منهم * والقول في عيسى شهير المقصد قالوا دعاء القادرين على الذي * منهم يراد مجوز لم يردد لكنما الممنوع إن تدعوهم * فيما استطاعتهم له لم توجد كدعاء ميت في القضاء لحاجة * لم يستطعها غير رب سرمد كشفا المريض ورد شخص غائب * ونمو زرع بعد لما يحصد
402 قلنا فكيف جعلتم من أحمد * طلب الشفاعة مثل فعل الملحد والله أعطاه الشفاعة فاغتدى * ذا قدوة وهو المشفع في غد هذا التناقض لا تناقض مثله * لنظيره الأسماع لم تتعود أبمثل هذا الجهل قد حللتموا * سفك الدماء وما لكم من مسند إن الذي يأتي لباب مليكه * متشفعا بوزيره لم يردد أفإن تشفعنا بأشرف خلقه * طرا إليه نلم به ونفند إن الصحابة بالنبي تشفعوا * ورجوا شفاعته بيوم المورد هذا سواد قد تشفع واستغاث * بقوله في شعره المتردد كن لي شفيعا يوم ما لي شافع * يغني فتيلا لا ولا من مسعد * * * كفرتم من يستغيث بميت * ذي منزل عند الإله السرمد وزعمتم طلب الحوائج منهم * شركا بدا من طالب مستنجد إني وليس سوى التشفع بالمقرب * عند ربك في نجاح المقصد طلب الحوائج ليس شركا إنما * تلك الشفاعة فاتخذها تسعد حتى الذي قد أسند الأفعال * للمخلوق فهو حقيقة لم يسند في المسلمين الحال تشهد أنهم * قصدوا التجوز في انتساب المسند كبنى الأمير مدينة أو انبت * البقل الربيع بغير ذا لم تشهد فالاستغاثة والدعاء تشفع * بالمستغاث وليس ذا بتعبد ثم التشفع لا يراد به سوى * طلب الدعا من صالح مستنجد إن كان ليس بقادر في زعمكم * فيكون مثل سؤال مشي المقعد أو كان يقدر وهو أصوب لم يكن * شركا وليس مريده بمفند فالروح تشفع عند ربك إنها * موجودة في علمه لم تفقد لا تحسبن من في سبيل الله قد * قتلوا من الموتى ولا تستبعد وترد روح محمد فيرد تسليم * امرئ يهدي السلام ويبتدي بل لا يمر على القبور مسلم * فيما رووا وسلامه لم يردد
403 صلوا علي وأكثروا فصلاتكم * يا قوم تبلغني وتأتي مرقدي وعلي تعرض دائما أعمالكم * بعد الممات وإنني في ملحدي إن كان من شر أكن مستغفرا * لكم وإن خيرا شكرت وأحمد فإذا استغثنا بالنبي وآله * في كشف معضلة وأمر مجهد نسب الضلال لنا وهم شفعاؤنا * عند الإله ونجدة المستنجد ما ساغ في دفع اليسير دعاؤهم * ويسوغ في دفع العذاب السرمد هذا التحكم لا تحكم مثله * هذا مقال الجاهل المتعند * * * قالوا التوسل بالعباد محرم * كذبوا وقد ضلوا سبيل المهتدي هذا الكتاب كتاب ربك ناطق * إن التوسل من نجاح المقصد أبدا إلى الله الوسيلة فابتغوا * في الذكر جاءت حجة لم تردد لو أنهم جاؤوك إذ ظلموا كفت * عن كل نص أو حديث مسند فازوا بمغفرة الإله لهم وما * ردوا وأنت لدى الدعاء لم تردد حال الحياة وفي الممات كليهما * فبواحد من ذاك لم تتقيد إن التوسل بالنبي لدى الحياة * وفي الممات وقبل وقت المولد جاءت به الأخبار وهي كثيرة * قد ضل من بضيائها لا يهتدي فلقد توسل آدم بمحمد * وبآله ومحمد لم يوجد وتوسل الأعمى بحق محمد * فغدا بصيرا وهو لما يفقد وتوسل الأصحاب بعد محمد * بمحمد متحقق لم يجحد سألوه بعد الموت يستسقي لهم * فسقوا به وكأنه في المشهد وبكوة بين السماء وقبره * مطروا بغيث مثله لم يعهد وقضى ابن عفان عقيب توسل * بالمصطفى المختار حاجة مجتدي وبعمه العباس يستسقي لهم * عمر فكان دعاؤه لم يردد بالأنبياء وبه (1) توسل أحمد * إذ رام يدفن أمه (2) في ملحد
(1) أي بنفسه بقوله بحق نبيك والأنبياء قبلي اغفر لأمي فاطمة بنت أسد (2) أي فاطمة بنت أسد ويسميها أمه. 404 وبصالح الأعمال قد نقل البخاري * التوسل في الحديث المسند (1) هذا يسير من كثير قد أتى * فدع المرا ومن التوسل فازدد وهو الوسيلة دون كل الأنبيا * يوم المعاد ونجدة المستنجد فبه توسل دائما وبآله * وبخير أصحاب له واستنجد فهم الوسيلة للإله بما لهم * عند الإله من المقام الأوحد وارفض مقالة جاهل ومعاند * واهجر طريقة جامد ومقلد قالوا قريب ربنا من عبده * ويجيب داعيه ولم يتبعد أدنى إليه من الوريد يقول * ادعوني أجبكم عنكم لم ابعد فلم التوسل والتشفع بالورى * ادع الإله وغيره لا تقصد قلنا فكيف الله قال لنا اطلبوا * لكم الدعا من غيركم بتأكد حتى النبي محمد طلب الدعا * من غيره فيما رووا عن أحمد هل كان ذلك يا ترى من بعده * عن ربه أو إنه لم يبعد * * * الحلف بالمخلوق شرك عندهم * والله نعم المقتدى للمقتدي فالله في القرآن صرح مقسما * بالخلق في قسم له متعدد بالتين والزيتون والبلد الأمين * وبالضحى الضاحي وليل أربد والعاديات النازعات الناشطات * السابحات السابقات لمقصد بالفجر أقسم والليالي العشر والشفع * الذي بالوتر أصبح يبتدي والمصطفى وأبيك قال بمورد * وأبيه أيضا قالها في مورد وكذا ببيت الله أقسم عمه * فاقر وهو بمسمع وبمشهد وأبيك فاه بها أبو بكر ومن * قالوا لعمرك جمعهم لم يعدد وأتى بمخلوق كذاك بحقه * قسم على الباري فلا تتشدد وبقول مسروق سألتك بالذي * في القبر إقناع لكل مفند
(1) في خبر الثلاثة الذين انسد عليهم الغار فتوسل كل بعمل صالح عمله فانفرجت عنهم الصخرة. 405 والنهي عن حلف بغير الله مح * مول على فصل الخصومة يغتدي أو حلفهم باللات والعزى كما * قد كان يفعله الجهول المعتدي والحمل فيه على الكراهة ممكن * واللعن في المكروه لم يستبعد * * * ندب زيارة أحمد في قبره * أعظم بندب في النصوص مؤكد فهو الوسيلة في المعاد وفي الدنا * نعم الشفيع ونعم جدوى المجتدي من زار قبري قد رووا وجبت له * مني الشفاعة للإله ويسعد من زار قبري عند حج كالذي * منه الزيارة في حياتي تغتدي ولقد جفاني من يحج ولم يكن * لي زائرا من أبيض أو أسود من زارني وإلى المدينة جاءني * كنت الشهيد له شفيعا في غد من زارني متعمدا جاورته * يوم القيمة جيرة بتعمد من حج مكة ثم أصبح قاصدا * لي بالزيارة زائرا في مسجدي ثنتان من مبرور حج خالص * كتبا له الجزاء يوم الموعد وافى بلال من دمشق لطيبة * متحملا ليزور قبر محمد لما رآه في المنام معاتبا * فأفاق ذا وجل بطرف مسهد وأتى إليه باكيا وممرغا * وجها عليه بغلة لم تبرد قد جاء يروي ذلك ابن عساكر * عنه بإسناد قوي جيد قد كان صالح آل مروان (1) الذي * في الأجر من رب السما لم يزهد يمضي بريدا للسلام على النبي * لغير ذاك بريده لم يبرد زار النبي لأمه قبرا ولم * تسلم بزعم الخصم أو تتشهد نص رواه مسلم بصحيحه * هل بعد هذا النص من متردد زوروا القبور رواه أيضا مسلم * عنه فهل من مسلم لا يقتدي وكذا زيارة غيره من آله * ومن الصحاب وكل فذ وحدي
(1) عمر بن عبد العزيز 406 وحديث لا تشدد لغير ثلاثة * رحلا يراد به خصوص المسجد شد الرحال إلى الثلاثة وحدها * ولغيرها من مسجد لا تشدد مع أن معناه تأكده لها * لكنه للغير لم يتأكد وإلى قبا كم كان يأتي المصطفى * مشيا وطورا راكبا فبه اقتد لا فرق في الأسفار بين بعيدها * لو صح ما قلتم وما لم يبعد ومضى إلى الشهدا بأحد زائرا * فزر القبور ودع مقال مندد والبضعة الزهراء كانت دائما * تأتي لزورة عمها المستشهد ندب زيارات القبور مؤكد * بعدت عن الزوار أم لم تبعد ندب تأكد للرجال وللنسا * أو للنساء الندب غير مؤكد وعلى البناء توقفت في الحر * والبرد الشديد لزائر متردد لولا البنا درست معالمها وما * عرفت ولا يوما لموضعها اهتدي ومقدمات المستحب جميعها * في الندب عنها حكمه لم يزدد لعن الرسول لزائرات للقبور * إلى حقيقة لفظه لم يقصد وكذاك متخذ المساجد فوقها * والسرج في الليل البهيم الأربد إن صح فهو سوى محل نزاعنا * منه الكراهة قط لم تستبعد والنهي مخصوصا غدا بالزائرات * من النساء لغاية لم تجحد وهي التستر والحجاب فوجهه * التنزيه فاعدل في مقالك واقصد فشريكه في النهي محمول على * التنزيه في الرأي الأصح الأرشد واللعن في المكروه جاء بكثرة وكذا نظائره فلا تستبعد لعن المحلل والمحل له ولا * تحريم فيه على الأصح الأجود * * * حسن تمسحنا بقبر محمد * قصد التبرك فاتبعه تحمد وضعت على العينين فاطم تربه * وبكته فعل الواله المتوجد تقبيله حسن وليس محرما * بل كان تعظيما كتقبيل اليد شرف الأديم إذا يجاور مصحفا * ويهان حيث تراه نعلا يغتدي
407 ما جاور المسك الذكي ذكا به * منه الأريج قضية لم تردد إن الكنيف إذا يعمر مسجدا * يسمو إلى شرف سمو المسجد فالأرض إن أمست ضريحا للنبي * أو الوصي تنل عظيم السؤدد وإذا يجاورها حديد ثم أو * خشب ففيه الفضل غير محدد والمنبر المنسوب للهادي يشر * فه بتشريف له متأكد إن الصحابة بالنبي تبركوا * ببصاقه ووضوئه في مشهد أفقبره الحاوي مقدس جسمه * عن ذاك ينقص لا إذا لم يزدد ما كان يركب مالك في طيبة * قصدا لتعظيم النبي محمد في قبر فاطمة تمرغ أحمد * كيما يبارك ترب ذاك المرقد وكذا يجعل قميصه كفنا لها * دفع العذاب عن التي في الملحد * * * وكذا توجهنا لقبر محمد * عند الدعاء تشفع بمحمد لا منع فيه لذي البصيرة والذي * غطى بصيرته العمى لا يهتدي أفتى به المنصور قدما مالك * إذ جاء يسأله ولم يتردد أستقبل الوجه الشريف لدى الدعا * أم قبلة جعلت لكل موحد فأجابه لم أنت وجهك صارف * عنه بل استقبله واسأل واجهد لك منه خير وسيلة كانت به * لأبيك آدم في الزمان الأتلد قالوا القبور غدت لديكم وهي * كالأصنام فرق بينها لم يوجد للقبر نذركمو وذبحكمو له * كالذبح للأصنام من متعمد كلا فلم يذبح ولم ينذر لها * من مسلم في دينه متقيد لكنما الفقراء خصهم بها * وثوابها أهدى لرب المشهد * * * راموا من البدع الخلاص فأوقعوا * بأشد منها في العقاب وأنكد إياك والإفراط فالإفراط * كالتفريط كل منهما لم يحمد ويل لمن أمسى يدخن بينهم * فله العقاب الجم غير مصرد
408 يا قوم إن حرمتم التدخين عن * بعض اجتهاد منكم وتشدد فلغيركم فيه اجتهاد مثله * في حكمه الأقوال لم تتوحد وبالاجتهاد غدا الثواب مقررا * فسد الدليل عليه أو لم يفسد فلم العقاب عليه منكم أيها * الإخوان والإجماع لما يعقد إن جاز في الشرع اجتهاد للورى * فالمنع عنه خطيئة لم تحمد فدعوا اجتهاد المسلمين فكلهم * في ذاك يعذر عند ربك في غد لذوي الإصابة أجرهم متعددا * للمخطئين الأجر لم يتعدد إن كان برهان فجيئونا به * باللين لا ببنادق ومهند ادع الأنام إلى السبيل بحكمة * وبحسن موعظة ولا تتشدد للدين لا إكراه فيه فقد بدا * رشد وغي منه للمسترشد إن الشريعة سهلة سمحاء ما * جاءت بعسر لا ولا بتشدد الحق بالبرهان يظهر للورى * إن كان، لا تحت القنا المتقصد * * * هب أن تشييد القبور محرم * وله أدلة ديننا لم تعضد أفليس مصلحة الزمان تجيزه * فبفاسد قد جاز دفع الأفسد فدعوا المفيد من الأمور بزعمكم * لضرورة وتمسكوا بالأفيد وعن المكوس سكتم من خوفكم * شق العصا ووقوعكم في المفسد هلا سكتم عن قبور هدمها * أذكى القلوب بمضرم لم يخمد سئتم جميع المسلمين بفعلكم * فلهم قلوب حرها لم يبرد والناس حاقدة عليكم كلها * لم يلف بين الناس من لم يحقد وسررتم الشيطان في أفعالكم * بتبدد للشمل بعد تبدد * * * أبهذه الأيام وهي عصيبة * سود يشيب لهن فود الأمرد والمسلمون لكل شخص منهم * مما عراهم عبرة المتنهد عضدت بمصقول الشبا شجراتهم * لكن بغير أكفهم لم تعضد
409 عضدت ولم يوجد لها من عاضد * واها لها معضودة لم تعضد قمتم بإيغار الصدور وجئتم * تورون نار غضاضة لم تخمد وملأتم الأقطار من غزواتكم * في كل عامرة وقفر فدفد وبها يفل الحد من إخوانكم * بغيا ويشحذ حد سيف الأبعد وأبحتم قتل النفوس تعمدا * فلكم تحق عقوبة المتعمد والعرب إنهم هم الأحرار قد * وضعت عليهم ربقة المستعبد قف بالحجاز وعج على مصر وفي * سورية أنظر والعراق له أقصد (1) تلق الفواجع أحدقت في حيث لا * جلد لذي لب ولا متجلد واعطف على اليمن المبارك هل ترى * بين القبائل فدية للمفتدي من كان يرجو الخير للإسلام عن * يدكم وللعرب الكرام المحتد فهو الغبي وكيف يرجو الخير من * أهل الجمود سوى الغبي الأجمد والله ليس بغافل عن فعلكم * لكنه أمسى لكم بالمرصد فتوقعوا عقبى جنايتكم بدنياكم * وفي أخراكم فكأن قد * * * إنا نوحد ربنا وعلى سوى * التوحيد فيه قلوبنا لم تعقد ننفي الشريك وكل ند عنه جل * وعز من متفرد متوحد لم يتخذ حاشاه صاحبة ولا * ولدا ونشهد أنه لم يولد ولقد شهدنا بالنبي المصطفى * وبغيره من بعده لم نشهد ولآله الأطهار وإلينا ومن * أعدائهم نبرأ ولم نتردد وبكل ما قد جاء آمنا ولم * نحفل بقول مفند ومندد ونعظم الهادي وكل معظم * حيا وميتا باللسان وباليد ونعظم القبر الذي قد ضمه * فيه تشرف واعتلى للفرقد ونزوره متبركين بتربه * فيه جلاء الطرف لا بالأثمد وبلثمه وبلمسه يجلى الصدا * عند المحب له عن القلب الصدي زره على رغم الجهول فإنه * غيث الورى وإليه رحلك فاشدد
(1) كان ذلك قبل خمس وثلاثين سنة في عنفوان طغيان الاستعمار " الناشر " 410 وبه لحط الذنب كن متوسلا * نعم الوسيلة للفقير المجتدي وهو الشفيع بحيث كل الأنبياء * لم يشفعوا عند المهيمن في غد واسأل من الرحمن ربك عنده * الحاجات تعط مناك فيه وتسعد قم عنده لله ربك داعيا * تبكي بدمع للخدود مخدد قل يا إلهي ارحم به وبآله * واغفر ذنوبي ربنا وتغمد والثم ثراه فإنه خير الثرى * وانشق شذا مسك به وتزود خير من الركن المقبل تربه * وكذا من الحجر الأصم الأسود ولقد تشفعنا به وبآله * لله في نيل المنى والمقصد ولقد برئنا من فعال عصابة * هدمت ضرائح آل بيت محمد إن كان شركا فعلنا هذا فلا * خير بتوحيد سواه مجدد تم بحمده تعالى نظمها ضحوة يوم الجمعة الرابع من شهر جمادى الثانية سنة 1345 وانتهينا من إعادة النظر فيها غدوة يوم السبت التاسع من شهر ربيع الأول سنة 1347 هجرية والحمد لله على توفيقه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. وتم تجديد طبعها على يد ولد المؤلف حسن الأمين في بيروت سنة 1382