بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: التوسل بالنبي (ص) وجهلة الوهابيون المؤلف: أبي حامد بن مرزوق الجزء: الوفاة: حي 1400 المجموعة: ردود علماء المسلمين على الوهابية والمخالفين تحقيق: الطبعة: سنة الطبع: 1396 - 1976 م المطبعة: الناشر: مكتبة اشيق - إستانبول - تركيه ردمك: ملاحظات: قد اعتنى بطبعه حسين حلمي بن سعيد استانبولي التوسل بالنبي وجهلة الوهابيين تأليف: أبي حامد بن مرزوق رحمه الله تعالى قد اعتنى بطبعه حسين حلمي بن سعيد استنبولي يطلب من المكتبة ايشيق بشارع دار الشفقة بفاتح 72 استانبول - تركية 1396 هجري 1976 ميلادي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الهادي عباده إلى الطريق الأقوم، المتفضل عليهم بنعمة الإسلام ودقائق الحكم، الناهي لهم عن التنازع في كتابه المحكم، والصلاة والسلام على أشرف مبعوث إلى جميع الأمم، سيدنا محمد القائل " إن أمتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم " وعلى آله وأصحابه نجوم الاهتداء لكل فصيح وأعجم. فهذه خلاصة علمية في عقائد محمد بن عبد الوهاب ومقلديه جمعت أكثر درها المنقول والمعقول من تحقيق علماء الإسلام الأعلام، وشيدت صرحها بتاريخ الإسلام، ودعمتها بكثير من آيات الكتاب الحكيم وسنته عليه الصلاة والسلام، فجاءت بحمد الله حصنا منيعا لا يرام. وقد رد بعض أتباع الأئمة الأربعة عليه وعلى مقلديه بتآليف كثيرة جيدة، وممن رد عليه من الحنابلة أخوه سليمان بن عبد الوهاب، ومن حنابلة الشام آل الشطي والشيخ عبد الله القدومي النابلسي في رحلته، وكلها مطبوعة، في ناحيتين: زيارة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، والتوسل به وبالصالحين من أمته، وقالوا: إنه مع مقلديه من الخوارج. وممن نص على هذا العلامة المحقق السيد محمد أمين بن عابدين في حاشيته " رد المختار على الدار المختار " في باب: " البغاة " والشيخ الصاوي المصري في حاشيته على الجلالين، لتكفيره أهل (لا إله إلا الله محمد رسول الله) برأيه، ولا شك أن التكفير سمة الخوارج وكل المبتدعة الذين يكفرون مخالفي رأيهم من أهل القبلة، ولا تفيد هذه الخلاصة من مرق إلى الجهة الأخرى، لأن العلماء قالوا إن البدعة إذا رسخت في قلب لا يرجع صاحبها عنها ولو رأى ألف دليل واضح وضوح الشمس يبطلها إلا إذا أدركته عناية الله، وإنما هي عاصمة إن شاء الله تعالى من لم يدخل في بدعهم. وتنحصر أمهات عقائد محمد بن عبد الوهاب ومقلديه في أربع: تشبيه الله سبحانه وتعالى بخلقه، وتوحيد الألوهية والربوبية، وعدم توقيرهم النبي صلى الله عليه وسلم،
1 وتكفير المسلمين، وهو مقلد فيها كلها أحمد بن تيمية، وهذا مقلد في الأولى الكرامية ومجسمة الحنابلة، ومقتد بهما وبالحروزبين في الرابعة، ومخترع توحيد الألوهية والربوبية الذي تفرع عنه عدم توقيرهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتكفير المسلمين أيضا. وثقة نقل دين الإسلام محصورة عندهم فيه وفي تلميذه ابن القيم وفي محمد ابن عبد الوهاب، فلا يثقون بأي عالم من علماء المسلمين ولا يقيمون له وزنا إلا إذا وجدوا في كلامه شبهة تؤيد هواهم، فدين الإسلام الواسع محصور علماؤه في الثلاثة، وأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم المرحومة المنتشرة منذ توسع الفتح الإسلامي في خلافة ذي النورين عثمان رضي الله تعالى عنه إلى عصرنا هذا في أكثر الربع العامر وهي أكثر الأمم جميعا أحبارا ومؤلفين، وهي أيضا ثلثا أهل الجنة كما في الحديث الصحيح محصورة فيهم وفي علمائهم الثلاثة، وكل من له إلمام بالعلم وطالع تآليف ابن القيم ورسائل ابن عبد الوهاب مجردا نفسه عن العاطفة متحليا بالإنصاف يجدهما مقلدين ابن تيمية في فهمه كله، مؤلهين هواه، ممتازا أولهما: بالمدافعة عن شواذ شيخه مدافعة معتوه، وما أجاد فيه الكتابة من الأبحاث العلمية أخذه من تحقيق من سبقه من علماء المسلمين وتشبع به ولم يعزه إلى محققيه (كما هي أمانة نقل العلم عن العلماء). والقارئ البسيط يظن تلك الإجادة منه، وإنما هو جماعة مطلع مقلد في جل الفروع الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه، وفي بعضها وفي أصول الدين أحمد بن تيمية متعصب لهما تعصبا جنونيا. وابن عبد الوهاب نشأ في محيط عوام فانتحل شواذ ابن تيمية على ما فيها من تضارب وتخبط والتهمها فصار بها إماما مجتهدا مجددا معصوما فهمه وكلامه عن الخطأ، مؤمنا موحدا كل من قلده، جهميا مشركا كل من خالف هواه، فيخرج بنتيجة واحدة وهي أن علم أصول الدين على غزارة مادته وكثرة مباحثه وبعض الفروع محصور في فهم أحمد بن تيمية، وفهمه معصوم من الخطأ، وكلامه عندهم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعلماء الإسلام الأولون والآخرون على كثرتهم ممثلون في شخصه، وحيث صار إماما قدوة للمفتونين به مع كونه من الخلف توفي سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. فإني سأنقل بحول الله تعالى وقوته كلامه في الأمهات الأربع من كتبه ورسائله ليراه الألباء فيتحققوا شذوذه عن السواد الأعظم، ثم أبطله مفصلا بالبراهين، وسيأتي شرح حال كل من الثلاثة.
2 حديث أخرجه الترمذي عنا ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ورواه الإمام أحمد والطبراني في الكبير وابن أبي خيثمة في تاريخه عن أبي بصرة الغفاري، رفعه في حديث " سألت ربي أن لا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها " والطبراني وحده وابن أبي عاصم في السنة عن مالك الأشعري رفعه " أن الله أجاركم من ثلاث خلال أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعا، وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق، وأن لا تجتمعوا على ضلالة " ورواه أبو نعيم والحاكم وابن منده ومن طريقه الضياء المقدسي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما رفعه: " أن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة أبدا، وأن يد الله مع الجماعة فاتبعوا السواد الأعظم فإن من شذ شذ في النار " ورواه عبد بن حميد وابن ماجة عن أنس رفعه " إن أمتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم "، ورواه الحاكم عن ابن عباس رفعه بلفظ " لا يجمع الله هذه الأمة على ضلالة ويد الله مع الجماعة، والجملة الثانية عند الترمذي وابن أبي عاصم عن ابن مسعود موقوفا في حديث " عليكم بالجماعة فإن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة، زاد غيره " وإياكم والتلون في دين الله ". قال المحدث العجلوني في كشف الخفا والإلباس: والحديث مشهور المنن وله أسانيد كثيرة وشواهد عديدة في المرفوع وغيره، فمن الأول " أنتم شهداء الله في الأرض "، ومن الثاني قول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه " إذا سئل أحدكم فلينظر في كتاب الله فإن لم يجده ففي سنة رسول الله فإن لم يجده فيها فلينظر فيما اجتمع عليه المسلمون، وإلا فليجتهد " إه. وإني أبتهل إلى الله تعالى أن يحفظ علي وعلى جميع المسلمين الإيمان إلى يوم ألقاه (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. يا الله).
3 الفصل الأول: في التجسيم عقيدة مقلدي محمد بن عبد الوهاب في الله سبحانه وتعالى التجسيم، وهو مقلد فيه أحمد بن تيمية، وهذا مقلد فيه الكرامية ومجسمة الحنابلة وهم مع مقلدهم، ومقلده لا يصرحون به بل يبرأون منه. وقد صرح به ابن تيمية مرة على منبر دمشق الشام فقال: ينزل كنزولي هذا، ونزل درجة من المنبر، وممن شاهد هذه القضية منه الفقيه الرحالة ابن بطوطة المغربي، ولكنهم يدندنون حوله ويلوكونه دائما بهذه الألفاظ: " في السماء، فوق سبع سماواته، على عرشه، استوى بذاته، استوى حقيقة، على عرشه بائن من خلقه "، فلو استظهروا بجميع أهل الأرض على إثبات أي لفظ من هذه الألفاظ بإسناد صحيح عن أي واحد من أتباع التابعين لم يستطيعوا ذلك فضلا عن إثباته عن التابعين، فضلا عن إثباته عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، فضلا عن إثباته عن الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله تعالى عليه وسلم، وحيث صارت لهم مادة تؤيدهم عليه فقد صرحوا به طبقا لسلفهم الكرامية ومجسمة الحنابلة، فيما طبعوه من كتبهم ك " كتاب السنة " المنسوب لعبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل وكتاب " النقض علي بشر المريسي " المنسوب لعثمان بن سعيد الدارمي و " طبقات ابن أبي يعلى "، وكتاب " السنة " جزء صغير مجزأ إلى ثلاثة أجزاء صغار، عنوانه على الأول: كتاب السنة للإمام أحمد بن حنبل، عني بتصحيحه والإشراف على طبعه لجنة من العلماء تحت رئاسة الشيخ عبد الله بن حسن بن حسين آل الشيخ، أمر بطبعه على نفقته وجعله وقفا لله تعالى الملك عبد العزيز آل سعود بالمطبعة السلفية بمكة المكرمة لصاحبيها عبد الفتاح قتلان ومحمد صالح تصيف سنة 1349 ه، وعنوانه على الثاني كتاب " السنة " تأليف عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل، وأهمل الثالث من العنوان.
4 رد العلامة شهاب الدين أحمد بن يحيى الحلبي على ابن تيمية في الجهة ذكر التاج السبكي في ترجمة العلامة شهاب الدين أحمد بن يحيى بن جبريل الكلابي الحلبي المتوفى سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة رسالة له نفيسة في الرد على ابن تيمية في مسألة الجهة، وساقها كلها = وهي في نحو ثلاثين صفحة مقدمته في نحو ست صفحات اقتطفت منها ما يأتي: قال: (فأقول) ادعى أولا أنه يقول بما قاله الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم، ثم أنه قال ما لم يقله الله تعالى ولا رسوله ولا السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ولا شيئا منه. فأما الكتاب والسنة فسنبين مخالفته لهما، وأما السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، فذكره لهم في هذا الموضع استعارة للتهويل وإلا فهو لم يورد من أقولهم كلمة واحدة، لا نفيا ولا إثباتا، وإذا تصفحت كلامه عرفت ذلك، اللهم إلا أن يكون مراده بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار مشايخ عقيدته دون الصحابة. وأخذ بعد هذه الدعوى في مدحه صلى الله تعالى عليه وسلم وفي مدح دينه وإن أصحابه أعلم الناس بذلك، والأمر كما قاله وفوق ما قاله، وكيف المدائح تستوفي مناقبه، ولكن كلامه كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: كلمة حق أريد بها باطل. ثم أخذ بعد ذلك في ذم الأئمة وأعلام الأمة، حيث اعترفوا بالعجز عن إداركه سبحانه وتعالى، مع أن سيد الرسل صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وقال الصديق رضي الله تعالى عنه: العجز عن درك الادراك إدراك، وتجاسر المدعي على دعوى المعرفة وإن ابن الحيض قد عرف القديم على ما هو عليه ولا غرور ولا جهل أعظم ممن يدعي ذلك، فنعوذ بالله تعالى من الخذلان. ثم أخذ
5 بعد ذلك في نسبة مذهب جمهور أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أنه مذهب فراخ الفلاسفة وأتباع اليونان واليهود، ستكتب شهادتهم ويسألون. ثم قال كتاب الله تعالى من أوله إلى آخره وسنة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة، مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في الله تعالى، أنه فوق كل شئ وعلى كل شئ وأنه فوق العرش وأنه فوق السماء. إبطال زعم ابن تيمية: أن الله فوق العرش حقيقة وقال في أثناء كلامه وأواخر ما زعمه: أنه فوق العرش حقيقة، وقاله في موضع آخر عن السلف فليت شعري أين هذا في كتاب الله تعالى على هذه الصورة التي نقلها عن كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم؟، وهل في كتاب الله تعالى كلمة مما قاله حتى يقول إنه فيه نص، والنص هو الذي لا يحتمل التأويل البتة؟ وهذا مراده، فإنه جعله غير الظاهر لعطفه له عليه وأي آية في كتاب الله تعالى نص بهذا الاعتبار؟، فأول ما استدل به قوله تعالى " إليه يصعد الكلم الطيب "، فليت شعري أي نص في الآية أو ظاهر على أن الله تعالى في السماء أو على العرش؟، ثم نهاية ما يتمسك به أنه يدل على علو يفهم من الصعود، وهيهات زل حمار العلم في الطين، فإن الصعود في الكلام كيف يكون حقيقة، مع أن المفهوم في الحقائق أن الصعود من صفات الأجسام؟، فليس المراد إلا القبول، ومع هذا لا حد ولا مكان. ثم أفاض العلامة المذكور في نقض ما احتج به ابن تيمية من المتشابه، وزعم أنه نص في أن الله تعالى فوق العرش حقيقة، وفي السماء، وعلى السماء، في نحو إحدى عشرة صفحة، ثم قال: فنقول له ما تقول فيما ورد من ذكر العيون بصفة الجمع وذكر
6 الجنب وذكر الساق الواحد وذكر الأيدي؟، فإن أخذنا بظاهر هذا يلزمنا إثبات شخص له وجه واحد عليه عيون كثيرة وله جنب واحد عليه أيد كثيرة، وله ساق واحد وأي شخص يكون في الدنيا أبشع من هذا؟ وإن تصرفت في هذا بجمع وتفريق بالتأويل فلم لا ذكره الله تعالى ورسوله وسلف الأمة؟ وقوله تعالى في الكتاب العزيز " الله نور السماوات والأرض "، فكل عالم يعلم أن النور الذي على الحيطان والسقوف وفي الطرق والحشوش، ليس هو الله تعالى ولا قالت المجوس بذلك. فإن قلت بأنه هادي السماوات والأرض ومنورهما، فلم لا قاله الله تعالى ولا رسوله ولا سلف الأمة؟. ثم أفاض معه أيضا في الآيات والأحاديث المتشابهة التي تمسك بها على مدعاه، ثم قال له: هل تأمن من المجسم أن يقول لك ظواهر هذه كثيرة تعدت الحصر أضعاف أحاديث الجهة؟، فإن كان الأمر كما يقولون في نفي الجسمية مع أنه لم يأت في شئ من هذه ما بين خلاف ظواهرها لا عن الله تعالى ولا عن رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا عن سلف الأمة، فحينئذ يكيل لك المجسم بصاعك ويقول لك لو كان الأمر كما قلت لكان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم. وإن قلت: إن العمومات قد بينت خلاف ظواهر هذه، لم تجد منها نافيا للجسمية إلا وهو ناف للجهة، ثم ما يؤمنك من تناسخي يفهم من قوله تعالى: " في أي صورة ما شاء ركبك " مذهبه، ومن معطل يفهم من قوله تعالى: " مما تنبت الأرض " مراده، فحينئذ لا تجد مساغا لما نقض به من ذلك إذا الأدلة الخارجة عن هذه الألفاظ.
7 إلزامه له في قوله: إن مقالة الشافعية والحنفية والمالكية يلزمها أن يكون ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم منها، بالكفر ثم صار حاصل كلامك: أن مقاله الشافعية والحنفية والمالكية يلزمها أن يكون ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم، أفتراهم يكفرونك بذلك أم لا، ثم جعلت أن مقتضى كلام المتكلمين أن الله تعالى ورسوله وسلف الأمة تركوا العقيدة حتى بينها هؤلاء فقل لنا إن الله ورسوله وسلف الأمة بينوها ثم أنقل عنهم أنهم قالوا كما تقول إن الله تعالى في جهة العلو لا في جهة السفل، وإن الإشارة الحسية جائزة إليه، فإذا لم تجد ذلك في كتاب الله ولا في كلام رسوله صلى الله عليه وسلم ولا في كلام أحد من العشرة ولا في كلام أحد من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم، فعد على نفسك باللائمة، وقل لقد ألزمت القوم بما لا يلزمهم. ثم قلت عن المتكلمين إنهم يقولون ما يكون على وفق قياس العقول فقولوه وإلا فانفوه، والقوم لم يقولوا ذلك بل قالوا صفة الكمال يجب ثبوتها لله تعالى وصفة النقص يجب نفيها عنه كما قاله الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه، قالوا: وما ورد من الله تعالى ومن رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، فليعرض على لغة العرب التي أرسل الله تعالى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم بلغتها كما قال تعالى: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه " فما فهمت العرب فافهمه ومن جاءك بما يخالفه فانبذ كلامه نبذ الحذاء المرقع واضرب بقوله حائط الحش.
8 عقيدة ابن تيمية التي خالف بها جماعة المسلمين وأساء القول فيهم في تلقفها من حثالة الملاحدة الطاعنين في القرآن ثم نعقد فصلا إن شاء الله تعالى عبد إفساد ما نزع به في سبب ورود هذه الآيات على هذا الوجه، فإنه إنما تلقف ما نزع به في مخالفة الجماعة وأساء القول على المسألة من حثالة الملاحدة الطاعنين في القرآن، وسنبين إن شاء الله تعالى ضلالهم، ويعلم إذا ذاك من هو من فراخ الفلاسفة واليهود، ثم لو استحيى الغافل لعرف مقدار علماء الأمة رحمهم الله تعالى، ثم هل رأى من رد على الفلاسفة واليهود والروم والفرس غير هؤلاء الذين جعلهم فراخهم؟، وهل اتكلوا في الرد على هذه الطوائف على قوم لا عقل لهم ولا بصيرة ولا إدراك؟، ثم يدرونهم يستدلون على إثبات الله تعالى في الحجاب على منكره بالنقل، وعلى منكري النبوة بالنقل، حتى يصير مضغة للماضغ وضحكة للمستهزئ، وشماتة للعدو وفرحا للحسود إه. ثم قال العلامة المذكور: ثم أفاد المدعي وأسند أن هذه المقالة (يعني في نفي الجهة لله تعالى) مأخوذة من تلامذة اليهود والمشركين، وذكر ابن تيمية إسنادها إلى لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال العلامة الراد: فيقال له: أيها المدعي أن هذه المقالة مأخوذة من تلامذة اليهود قد خالفت الضرورة في ذلك، فإنه ما يخفى على جميع الخواص وكثير من العوام أن اليهود مجسمة مشبهة، فكيف يكون ضد التجسيم والتشبيه مأخوذا عنهم؟، وأما المشركون فكانوا عباد أوثان، وقد بينت الأئمة أن عبدة الأصنام تلامذة المشبهة وأن أصل عبادة الصنم التشبيه، فكيف يكون نفيه مأخوذا عنهم، وأما الصابئة فبلدهم معروف وإقليمهم مشهور، وهل نحن منه أو خصومنا؟، وأما كون الجعد بن درهم من أهل حران، فالنسبة صحيحة، وترتيب هذا السند الذي ذكره سيسأله الله تعالى عنه، والله من رائه بالمرصاد، وليت لو أتبعه أن سند دعواه وعقيدته أن فرعون ظن أن إله موسى في السماء.
9 مخالفة ابن تيمية لعماء الإسلام قاطبة في تفسير قول الإمام مالك (الاستواء معلوم والكيف مجهول) ثم قال العلامة: ثم أخذ بعد ذلك في تصديق عزوته إلى المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم، وشرع في النقل عنهم فقال: قال الأوزاعي: كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه، فنقول له أول ما بدأت به الأوزاعي وطبقته ومن بعدهم، فأين السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار؟، وأما قول الأوزاعي فأنت قد خالفته ولم تقل به، لأنك قلت إن الله ليس فوق عرشه لأنك قررت أن العرش والسماء ليس المراد بهما إلا جهة العلو، وقلت المراد من فوق عرشه والسماء ذلك، فقد خالفت قول الأوزاعي صريحا مع أنك لم تقل قط ما يفهم، فإن قررت أن السماء في العرش كحلقة ملقاة في فلاة فكيف تكون هي بعد؟. ثم من أين لك صحة النقل عن الأوزاعي؟، وبعد مسامحتك في كل ذلك ما قال الأوزاعي: الله فوق العرش حقيقة، فمن أين لك هذه الزيادة؟. ونقل عن مالك بن أنس والثوري والليث والأوزاعي أنهم قالوا في أحاديث الصفات أقروها كما جاءت، فيقال له لم لا أمسكت على ما أمرت به الأئمة بل وصفت الله تعالى بجهة العلو ولم يرد بذلك خبر؟، ولو بذلت قراب الأرض ذهبا على أن تسمعها من عالم رباني لم تفرح بذلك، بل تصرفت ونقلت على ما خطر لك وما أمررت ولا أقررت ولا امتثلت ما نقلته عن الأئمة. وروى قول ربيعة ومالك الاستواء غير مجهول فليت شعري من قال إنه مجهول بل أنت زعمت أنه لمعنى عينته وأدرت أن تعزوه إلى الإمامين؟، ونحن لا نسمح لك بذلك، نم نقل عن مالك أنه قال للسائل: الإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا مبتدعا فأمر به فأخرج، فيقال له ليت شعري من امتثل منا قول مالك؟، هل امتثلناه
10 نحن حيث أمرنا بالإمساك وألجمنا العوام عن الخوض في ذلك؟، أو الذي جعله دراسته يلقيه ويلفقه ويلقنه ويكتبه ويدرسه ويأمر العوام بالخوض فيه، وهل أنكر على المستفتي في هذه المسألة بعينها وأخرجه كما فعل مالك رضي الله تعالى عنه فيها بعينها؟، وعند ذلك يعلم أن ما قاله عن مالك حجة عليه لا له إه. منشأ اعتقاد الجهة لله تعالى قياس الخالق على المخلوق وأؤمل من قاس قياسه فاسدا إبليس قد تقرر فيما تقدم أن هذه الطائفة مقلدي محمد بن عبد الوهاب مجسمة مكفرة، وأن مقلدهم محمد بن عبد الوهاب مقلد فيهما أحمد بن تيمية، وهذا مقلد فيهما الكرامية وطائفة من الحنابلة، وهذه الطائفة قال فيها ابن الجوزي الحنبلي: أنهم شانوا مذهب أحمد، وفضحوا ذاك الإمام بجهلهم، وإن مذهبه التنزيه ولكنهم اختلفوا وأنه أدرك منهم مشايخا، وأكثر من أدركه لا عقل له وصاحب الدار أدرى بما فيها. وتحقق من رسالة العلامة أحمد بن يحيى الكلابي الحلبي في رده على ابن تيمية إن ابن تيمية جازم بأن الله تبارك وتعالى في جهة العلو فوق العرش حقيقة مؤول للسماء بجهة العلو، وقد صرح بجهة العلو لله تبارك وتعالى في كتابه: " منهاج السنة "، مفسرا لقول الإمام مالك في: (الرحمن على العرش استوى)، الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، بأنه معلوم جلوسه تبارك وتعالى على العرش وكيفية جلوسه مجهولة، شاذا عن علماء الإسلام الأعلام الذين فسروه بأنه معلوم في لغة العرب، ولكن حيث كان الاستواء متعلقا بالله جل جلاله فكيفيته مجهولة، وقد صرح بالجسمية لله تعالى في كتابه العرش، كما ذكره صاحب " كشف الظنون " ناقلا له عن أبي حيان قال: ذكر فيه أن الله سبحانه وتعالى يجلس على العرش وقد أخلى مكانا يقعد معه فيه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، كما ذكر ذلك أبو حيان
11 في النهر في قوله سبحانه وتعالى (وسع كرسيه السماوات والأرض) قال التقي السبكي: وكتاب العرش من أقبح كتبه إ ه. ومن تجرد عن العاطفة وطالع تآليفه وتآليف تلميذه ابن القيم، وقد طبعت بإنصاف، يجد فيها هذه المصائب كلها، التجسيم واعتقاد الجهة لله وتكفير المسلمين المخالفين لرأيه، وغير ذلك كما يجدها مملوءة بنسبة هذا الوضر إلى السلف الصالح افتراء وتلبيسا وتهويلا على البسطاء فلو اجتمع معه الثقلان على إثبات التصريح بالجهة لله تعالى بإسناد صحيح عن أتباع التابعين لم يستطيعوا ذلك، فضلا عن إثباته عن التابعين، فضلا عن إثباته عن الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم، فضلا عن إثباته عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. ومن أثنى على هذا الرجل من المعاصرين له والمتأخرين عنه ونسبه إلى مذهب السلف الصالح، كالملا إبراهيم الكوراني على قاعدة وجوب تحسين الظن بالمسلم، لا سيما من انتسب إلى العلم، لم يطلع على تآليفه، وتضارب كلامه وتخليطه فيها، ومن دافع عنه وبرأه وجهل العلماء الذين ناظروه فأفحموه وردوا عليه بالتآليف فأجادوا، فهو إما جاهل مؤجر، كنعمان الآلوسي في كتابه " جلاء العينين في محاكمة الأحمدين " وأما جاهل مفتتن به، كصديق حسن خان ملك يهوبال، فإنه افترى على أهل الحديث كلهم وعلى الأشاعرة بأنهم تيمية، أي يعتقدون أن الله تبارك وتعالى في جهة العلو في كتابه: الانتقاد الرجيح في شرح الاعتقاد الصحيح)، الذي شرح به في زعمه عقيدة المحدث شاه ولي الله الدهلوي المطبوع على هامش، (جلاء العينين) قال فيه: ومن الذين أثبتوها (يعني الجهة لله) بالنقل أهل الحديث بأجمعهم والأشاعرة، وتسمية المتكلمين إياهم بالمجسمة والمشبهة تعصب منهم وتحكم إه. وقد بلغني أن صديق حسن هذا كان يجمع عنده طلبة العلم فيغدق عليهم المال، فيكتبون له ما يريد وينسبون إليه. ومحمد بن علي الشوكاني وسيأتي بسط حاله.
12 جمهور الأمة الإسلامية على تنزيه الله تعالى عن مشابهة الحوادث اتفق العقلاء من أهل السنة الشافعية والحنفية والمالكية وفضلاء الحنابلة وغيرهم على أن الله تبارك وتعالى منزه عن الجهة والجسمية والحد والمكان ومشابهة مخلوقاته. كلام أبي المعالي إمام الحرمين في " لمع الأدلة " في تنزيه الله تعالى عن مشابهة الحوادث كلام شارحها شرف الدين التلمساني قال أبو المعالي إمام الحرمين في كتابه: " لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة "، الرب سبحانه وتعالى تقدس عن الاختصاص بالجهات والاتصاف بالمحاذاة، لا تحده الأفكار ولا تحويه الأقطار ولا تكتنفه الأقدار، ويجل عن قبول بالحد والمقدار، والدليل على ذلك أن كل مختص بجهة شاغل لها، وكل متحيز قابل لملاقاة الجواهر ومفارقتها، ولك ما يقبل الاجتماع والافتراق حادث كالجواهر. وأطال الشيخ شرف الدين بن التلمساني في شرحها الكلام على ذلك إلى أن قال: والجواب الجملي عن الجميع، أي جميع متشابهات الكتاب والسنة التي تمسك بها مثبتو الجهة لله تعالى، إن الشرع إنما يثبت بالعقل فلا يتصور وروده بما يكذب العقل فإنه شاهده، فلو أتى بذلك لبطل الشرع والعقل معا إ ه. وقال العلامة سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد: وأما القائلون بحقيقة الجسمية والحيز والجهة، فقد بنوا مذهبهم على قضايا وهمية كاذبة تستلزمها وعلى ظواهر آيات وأحاديث تشعر بها، أما الأول فكقولهم: كل موجود فهو إما جسم أو حال في جسم، والواجب يمتنع أن يكون حالا في الجسم لامتناع احتياجه، فتعين كونه جسما وكقولهم: كل موجود إما متحيز أو حال في المتحيز، ويتعين كونه متحيزا لما مر، وكقولهم: الواجب إما متصل بالعالم وإما منفصل عنه، وأياما كان يكون في جهة منه، وكقولهم: الواجب إما داخل في العالم فيكون متحيزا أو خارج عنه فيكون في جهة
13 منه ويدعون في صحة هذه المنفصلات وتمام انحصارها الضرورة، والجواب: المنع كيف وليس تركيبها عن الشئ ونقيضه أو المساوي لنقيضه، وأطبق أكثر العقلاء على خلافها وعلى أن الموجود إما جسم أو جسماني، أوليس بجسم ولا جسماني، وكذا باقي التقسيمات المذكورة والجزم بالانحصار في القسمين إنما هو من الأحكام الكاذبة للوهم، ودعوى الضرورة مبنية على العناد والمكابرة أو على أن الوهميات كثيرا ما تشتبه بالأوليات. وأما الثاني فكقوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله)، (الرحمن على العرش استوى)، (إليه يصعد الكلم الطيب)، (ويبقى وجه ربك)، (يد الله فوق أيديهم)، ولتصنع على عيني)، (لما خلقت بيدي)، (والسماوات مطويات بيمينه)، (يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله) إلى غير ذلك، وكقوله عليه الصلاة والسلام للجارية: (أين الله) فقالت: في السماء، فلم ينكر عليها وحكم بإسلامها، وكقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا - الحديث)، (إن الله خلق آدم على صورته)، (إن الجبار يضع قدمه في النار)، (إنه يضحك إلى أوليائه)، (إن الصدقة تقع في كف الرحمن) إلى غير ذلك. والجواب أنها ظنيات سمعية في معارضة قطعيات عقلية، فيقطع بأنها ليست على ظواهرها، ويفوض العلم بمعانيها إلى الله تعالى مع اعتقاد حقيقتها جريا على الطريق الأسلم الموافق للوقف على " إلا الله " في قوله تعالى: " وما يعلم تأويله إلا الله "، أو تؤول تأويلات مناسبة موافقة لما عليه الأدلة العقلية، على ما ذكر في كتب التفاسير وشروح الأحاديث، سلوكا للطريق الأحكم الموافق للعطف في (إلا الله والراسخون في العلم). فإن قيل: إذا كان الدين الحق نفي الحيز والجهة، فما بال الكتب السماوية والأحاديث النبوية مشعرة في مواضع لا تحصى بثبوت ذلك، من غير أن يقع في موضع منها تصريح بنفي ذلك وتحقيق؟، كما كررت الدلالة على وجود الصانع ووحدت وعلمه وقدرته وحقيقة المعاد وحشر الأجساد في عدة مواضع، وأكدت غاية التأكيد مع أن هذا
14 أيضا حقيق بغاية التأكيد والتحقيق، لما تقرر في فطرة العقلاء، مع اختلاف الأديان والآراء من التوجه إلى العلو عند الدعاء ورفع الأيدي إلى السماء. أجيب: بأنه لما كان التنزيه عن الجهة مما تقصر عنه عقول العامة، حتى تكاد تجزم بنفي ما ليس في الجهة كان الأنسب في خطاباتهم والأقرب إلى صلاحهم والأليق بدعوتهم إلى الحق ما يكون ظاهرا في التشبيه، وكون الصانع في أشرف الجهات، مع تنبيهات دقيقة على التنزيه المطلق عما هو من سمات الحدوث، وتوجه العقلاء إلى السماء ليس من جهة اعتقادهم إنه في السماء بل من جهة أن السماء قبلة الدعاء، إذ منها تتوقع الخيرات والبركات وهبوط الأنوار ونزول الأمطار إه. وقال بعضهم: ليس في ذلك دليل على كونه في الجهة، وهذا لأنهم أمروا بالتوجه في الصلاة إلى الكعبة وليس هو في جهة الكعبة، وأمروا برمي أبصارهم إلى موضع سجودهم حالة القيام في الصلاة وليس هو في الأرض، وكذا حال السجود أمروا بوضع الوجوه على الأرض وليس هو تحت الأرض، فكذا هنا بل تعبد محض وخضوع وخشوع إ ه. تحقيق نفيس في نفي الجهة عن الله تعالى للإمام حجة الإسلام الغزالي وقال حجة الإسلام الغزالي: في كتاب " الإقتصاد في الاعتقاد " إنه تعالى ليس في جهة مخصوصة من الجهات الست، ومن عرف معنى لفظ الجهة ومعنى لفظ الاختصاص، فهم قطعا استحالة الجهة على غير الجواهر والأعراض، إذ الحيز معقول وهو الذي يختص الجوهر به، ولكن الخير إنما يصير جهة إذا أضيف إلى شئ آخر متحيز. فإن قيل نفي الجهة مؤد إلى محال، وهو إثبات موجود تخلو عنه الجهات الست ويكون داخل العالم ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه وذلك محال، قلنا: مسلم أن كل موجود يقبل الاتصال فوجوده لا منفصلا ولا متصلا به محال، وأن كل موجود
15 يقبل الاختصاص بجهة فوجوده مع خلو الجهات الست عنه محال، فأما موجود لا يقبل الاتصال. ولا الاختصاص بجهة فخلوه عن طرفي النقيض غير محال وهو كقول القائل: يستحيل موجود لا يكون عاجزا ولا قادرا ولا عالما ولا جاهلا، فإن المتضادين لا يخلو الشئ عنهما فيقال له: إن كان ذلك الشئ قابلا للمتضادين فيستحيل خلوه عنهما، أما الجدار الذي لا يقبل واحد منهما لأنه فقد شرطهما وهو الحياة فخلوه عنهما ليس بمحال، فلذلك شرط للاتصال والاختصاص بالجهات التحيز والقيام بالمتحيز، فإذا فقد هذا لم يستحل الخلو عن مضاديه إ ه. جواب نفيس للعلامة أبي عبد الله بن جلال عن قولهم: إنه لا داخل العالم ولا خارج العالم وسئل العلامة أبو عبد الله محمد بن جلال هل يقال: المولى تبارك وتعالى لا داخل العالم ولا خارج العالم. فأجاب بأنا نقول ذلك ونجزم به ونعتقد أنه لا داخل العالم ولا خارج العالم، والعجز عن الادراك إدراك، لقيام الدلائل الواضحة على ذلك عقلا ونقلا. أما النقل: فالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير). فلو كان في العالم أو خارجا عنه لكان مماثلا وبيان المماثلة واضح. أما في الأول فلأنه إن كان فيه صار من جنسه فيجب له ما وجب له. وأما الثاني فلأنه إن كان خارجا لزم إما اتصاله وإما انفصاله إما بمسافة متناهية أو غير متناهية وذلك كله يؤدي لافتقاره إلى مخصص. وأما السنة فقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " كان الله ولا شئ معه وهو الآن على ما كان عليه ". وأما الاجماع فأجمع أهل الحق قاطبة على أن الله تعالى لا جهة له، فلا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف. وأما العقل فقد اتضح لك اتضاحا كليا مما مر في بيات الملازمة في قوله تعالى: (ليس كمثله شئ). والاعتراض بأنه رفع للنقيضين ساقط، لأن التناقض إنما يعتبر حيث يتصف المحل بأحد النقيضين ويتواردان عليه، وأما حيث لا يصح تواردهما على المحل ولا يمكن الاتصاف بأحدهما فلا تناقض كما يقال مثلا: الحائط لا أعمى ولا
16 بصير، فلا تناقض لصدق النقيضين فيه لعدم قبوله لهما على البدلية، وكما يقال في الباري أيضا: لا فوق ولا تحت، وقس على ذلك إ ه. وقال الشيخ أبو حفص الفاسي في حواشي الكبرى: لا شك أن المعتقد هو أن الله تعالى سبحانه ليس في جهة، وقد أوضح الأئمة تقريره في الكتب الكلامية بما لا مزيد عنه، فهو سبحانه ليس داخل العالم ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه، وتوهم أن في هذا رفعا للنقيضين وهو محال، باطل، إذ لا تناقض بين داخل وخارج، وإنما التناقض بين داخل ولا داخل وليس خارج مساويا للداخل وإنما هو أخص منه، فلا يلزم من نفيه نفيه لأن نفي الأخص أعم من نفي الأعم، والأعم لا يستلزم الأخص. فإن قيل بم ينفرد هذا الأعم الذي هو داخل عن الأخص الذي هو خارج. قلنا: ينفرد في موجود لا يقبل الدخول ولا الخروج ولا اتصال ولا انفصال، وهذا يحمله العقل ولكن يقصر عنه الوهم، وقصور الوهم منشأ الشبهة ومثار دعوى الاستحالة إ ه. احتجاج ابن تيمية على إثبات الجهة الله تعالى وقد احتج ابن تيمية على إثبات الجهة لله تعالى مقلدا سلفه المجسمة بقوله تعالى حكاية عن فرعون: (يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا)، وقد ذكر ذلك في رسالته التي نقضها عصريه أحمد بن يحيى الكلابي مجملا فقال العلامة المذكور رادا عليه: ليت شعري كيف فهم من كلام فرعون أن الله تعالى فوق السماوات وفوق العرش، أما أن إله موسى في السماوات فما ذكره، وعلى تقدير فهم ذلك من كلام فرعون فكيف يستدل بظن فرعون مع إخبار الله تعالى عنه بأنه زين له سوء عمله وأنه حاد عن سبيل الله وأن كيده في ضلال، مع أنه لما سأل موسى عليه الصلاة والسلام بقوله: (وما رب العالمين) لم يتعرض موسى للجهة بل لم يذكر إلا أخص الصفات وهي القدرة على الاختراع ولو كانت الجهة ثابتة لكان التعريف بها أولى الإشارة الحسية من أقوى
17 المعرفات حسا وعرفا، وفرعون سأل بلفظ ما فكان الجواب بالتحيز أولى من الصفة. وغاية ما فهمه من هذه الآية واستدل به فهم فرعون فيكون عمدة هذه العقيدة كون فرعون ظنها وهو مشيدها، فليت شعري لم لا ذكر النسبة إليه كما ذكر أن عقيدة سادات أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الذين نبزهم بالجهمية لمخالفتهم هواه متلقاة من لبيد بن الأعصم اليهودي إ ه. وقد بين عقيدته فارا من شناعة مشيخة فرعون عليه وعلى أسلافه محاولا إلصاقها بموسى، برأه الله تعالى من ذلك، وصلى عليه في رسالته: " الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " ص 134 قال: فلولا أن موسى أخبره أن ربه فوق العالم لما قال: (أطلع إلى إله موسى)، وفي ص 144 منها قال: وحقيقة قول الجهمية المعطلة هو قول فرعون، وثرثر إلى أن قال: وكان ينكر أن يكون الله كلم موسى، أو لا يكون لموسى إله فوق السماوات. وقال في رسالته: " صفات الله وعلوه على خلقه " ص 211 كذب فرعون موسى في قوله " إن الله فوق السماوات "، والمفسرون متفقون على أن معنى قوله (وإني لأظنه كاذبا) في أن له إلها غيري بدليل قوله: (ما علمت لكم من إله غيري). قد تحقق عن علماء الإسلام إن معتقدي الجهة لله تعالى قاسوا الخالق على المخلوق وقد تحقق بما نقلته عن علماء الإسلام المحققين إن معتقدي الجهة لله تعالى قاسوا الخالق على المخلوق، وأنهم من العوام لم تستسغ عقولهم استحالة الجهة على الله تبارك وتعالى، وأنهم مؤولون كل ما يوهم جهة العلو لله تعالى من ظواهر الكتاب والسنة بما يوافق هواهم فيقولون: (استوى على العرش) جلس عليه واستوى على العرش بذاته، وحقيقته، وعلى عرشه بائن من خلقه، (وهو القاهر فوق عباده)، (ويخافون ربهم من فوقهم) بفوقية حقيقة و (آمنتم من في السماء) بأن
18 " من " معناها " الله " و " في " بمعنى " على " والسماء " بمعنى " العرش " يعني " آمنتم الله على العرش " فظفروا في التأويل ثلاث طفرات، وهكذا مفوضون فيما جاء من ذلك ضد رأيهم كقوله تعالى: (يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده)، وقوله تعالى: (تحيتهم يوم يلقونه سلام) وملاقوا ربهم) و (يد الله فوق أيديهم) وقوله تعالى: (فآتاهم الله من حيث لم يحتسبوا) وقوله تعالى: (وجاء ربك)، وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " إذا قام أحدكم في صلاته فلا يبصقن في قبلته فإن ربه بينه وبين الجدار "، وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديث القدسي: " إذا تقرب مني عبدي شبرا تقربت منه ذراعا وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة ". وهكذا فهم مؤولون مفوضون، والتأويل مباح لهم محظور على غيرهم، ومع هذا الخبط ينبزون المنزهين لله تعالى عن مشابهة بالجهمية، سبحان واهب العقول. ثبت ثبوتا لا يكابر فيه إلا غبي أن الأرض كروية وأن السماء محيطة تضبها من جميع جوانبها على أنه قد ثبت ثبوتا لا يكابر فيه إلا غبي أن الأرض كروية، وأن السماء محيطة بها من جميع جوانبها، وعليه فالعلو غير حقيقي بل هو نسبي، فما من علو لقوم إلا وهو سفل لآخرين، لأن الجهات التي هي الفوق والتحت واليمين إلى آخرها حادثة بإحداث الإنسان ونحوه مما يمشي على رجلين، فإن الفوق ما يحاذي رأسه من فوق والباقي ظاهر، ولما يمشي على أربع أو على بطنه ما يحاذي ظهره من فوقه، وأن النملة إذا مشت على سقف كان الفوق بالنسبة إليها جهة الأرض لأنه المحاذي لظهرها، والعجز عن إدراكه تعالى إدراك مأثور عن الصديق الأكبر أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وقد نقله العلماء في كتبهم: (والعجز عن إدراكه الصديق. قال هو الادراك والتحقيق) وقال آخر: (وكلما تخطره ببالك. فربنا منزه عن ذلك).
19 الفصل الثاني في توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية الذي اخترعه ابن تيمية وزعم أن جميع فرق المسلمين من المتكلمين عبدوا غير الله لجهلهم توحيد الألوهية ولم يعرفوا من التوحيد إلا توحيد الربوبية وهو الاقرار بأن الله خالق كل شئ وزعم أن هذا اعترف به المشركون، فكفر به جميع المسلمين وقلده فيه محمد بن عبد الوهاب كما قلده في غيره، لم يطلع عليه العلماء المعاصرون له والمتأخرون عنه الرادون عليه ردا سديدا في كثير من شواذه، ولو اطلعوا عليه لرشقوه بسهام علومهم الصائبة. وقد كتب فيه العلامة المرحوم السيد أحمد بن زيني دحلان المتوفى سنة أربع وثلاثمائة وألف في رسالته (الدرر السنية في الرد على الوهابية) نبذة وكتب فيه العلامة الشيخ إبراهيم السمنودي المنصوري المتوفى سنة أربع عشرة وثلاثمائة وألف في كتابه (سعادة الدارين في الرد على الفرقتين الوهابية والظاهرية) كلاما جيدا. وكتب فيه العلامة المرحوم الشيخ سلامة العزامي المتوفى سنة ست وسبعين وثلاثمائة وألف في كتابه (البراهين الساطعة في رد بعض البدع الشائعة) كلاما نفيسا نصه: (بيان أن منشأ الشبه الجهل بمعنى الإيمان والعبادة شرعا) فاعلم أن الإيمان هو التصديق بما علم مجئ النبي صلى الله عليه وسلم به واشتهر بين الخاصة والعامة اشتهارا يلحقه بالضروريات، وأن الكفر - نعوذ بالله منه - هو إنكار شئ من ذلك بعد أن يعلم المنكر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جاء به، وأن معنى العبادة شرعا هو الإتيان بأقصى الخضوع قلبا وقالبا، فهي إذن نوعان قلبية وقالبية، فالقلبية هي اعتقاد الربوبية أو خصيصة من خصائصها كالاستقلال بالنفع أو الضر ونفوذ المشيئة لا محالة لمن اعتقد فيه
20 ذلك، والقالبية هي الإتيان بأنواع الخضوع الظاهرية من قيام وركوع وسجود وغيرها مع ذلك الاعتقاد القلبي فإن أتى بواحد منها بدون ذلك الاعتقاد لم يكن ذلك الخضوع عبادة شرعا ولو كان سجودا، وإنما قال العلماء بكفر من سجد للصنم، لأنه أمارة على ذلك الاعتقاد لا لأنه كفر من حيث ذاته، إذ لو كان لذاته كفرا لما حل في شريعة قط فإنه حينئذ يكون من الفحشاء والله لا يأمر بالفحشاء. وقد كان السجود لغير الله عز وجل على وجه التحية والتكريم مشروعا في الشرائع السابقة وإنما حرم في هذه الشريعة، فمن فعله لأحد تحية وإعظاما من غير أن يعتقد فيه ربوبية كان آثما بذلك السجود، ولا يكون به كافرا إلا إذا قارنه اعتقاد الربوبية للمسجود له، ويرشدك إلى ذلك قوله عز وجل في يعقوب نبي الله وامرأته وبنيه حين دخلوا على يوسف: (وخروا له سجدا). قال ابن كثير تفسيرها: أي سجد له أبواه وإخوته الباقون وكانوا أحد عشر رجلا، وقد كان هذا سائغا في شرائعهم إذا سلموا على الكبير يسجدون له، ولم يزل هذا جائزا من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام، فحرم هذا في هذه الملة إ ه. المقصود منه، ويوضح لك ذلك أيضا أمره عز وجل الملائكة بالسجود لآدم، فكان سجودهم له عليه الصلاة والسلام عبادة للآمر عز وجل، وإكراما لآدم عليه الصلاة والسلام. بيان خطأ من قال من الملاحدة إن تعظيم الكعبة والحجر الأسود من الوثنية وجهل من قال بعدم التلازم بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وعدم كفاية الأول في النجاة ومن هذا تعلم أن تعظيم البيت بالطواف حوله، وتعظيم الحجر الأسود باستلامه وتقبيله والسجود عليه ليس عبادة شرعا للبيت ولا للحجر وإنما هو عبادة للآمر بذلك عز وجل الذي اعتقد الطائف ربوبيته سبحانه، فليس كل تعظيم الشئ عبادة له شرعا
21 حتى يكون شرعا، بل منه ما يكون واجبا أو مندوبا إذا كان مأمورا به أو مرغبا فيه، ومنه ما يكون مكروها أو محرما، ومنه ما يكون مباحا، ولا يكون التعظيم لشئ شركا حتى يقارنه اعتقاد ربوبية ذلك الشئ أو خصيصة من خصائصها له، فكل من عظم شيئا فلا يعتبر في الشرع عابدا له إلا إذا اعتقد فيه ذلك الاعتقاد. وقد استقر في عقول بني آدم ما داموا على سلامة الفطرة أن من ثبتت له الربوبية فهو للعبادة مستحق، ومن انتفت عنه الربوبية فهو غير مستحق للعبادة، فثبوت الربوبية، واستحقاق العبادة متلازمان فيما شرع الله في شرائعه وفيما وضع في عقول الناس، وعلى أساس اعتقاد الشركة في الربوبية بنى المشركون استحقاق العبادة لمن اعتقدوهم أربابا من دون الله تعالى سبحانه، ومتى انهدم هذا الأساس من نفوسهم تبعه ما بني عليه من استحقاق غيره للعبادة، ولا يسلم المشرك بانفراد الله تعالى باستحقاق العبادة حتى يسلم بانفراده عز وجل بالربوبية، وما دام في نفسه اعتقاد الربوبية لغيره عز وجل استتبع ذلك اعتقاده في هذا الغير الاستحقاق للعبادة، وذلك كان من الواضح عند أولي الألباب إن توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر في الوجود وفي الاعتقاد، فمن اعترف بأنه لا رب إلا الله كان معترفا بأنه لا يستحق العبادة غيره، ومن أقر بأنه لا يستحق العبادة غيره كان مذعنا بأنه لا رب سواه، وهذا الثاني هو معنى (لا إله إلا الله) في قلوب جميع المسلمين. ولذلك نرى القرآن في كثير من المواضع يكتفي بأحدهما عن الآخر، ويرتب اللوازم المستحيلة على انتفاء أي واحد منهما، ليستدل بانتفائها على ثبوته فانظر إلى قوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)، وقوله تعالى: (وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض) حيث عبر بالإله ولم يعبر بالرب. وكذلك في الميثاق الأول قال سبحانه: (ألست بربكم) ولم يقل بإلهكم،
22 واستفاض عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن الملكين يقولان للميت في قبره (من ربك)؟ ويكتفيان بالسؤال عن توحيد الربوبية ويكون جوابه بقوله: (الله ربي) كافيا، ولا يقولان له إنما اعترفت بتوحيد الربوبية وليس توحيد الربوبية كافيا في الإيمان. وهذا خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول لذلك الجبار (ربي الذي يحيي ويميت)، فيجادله بأنه كذلك يحيي ويميت إلى أن حاجه خليل الله بما يكذب دعوى ربوبيته فتندحض دعوى استحقاقه للعبادة. وفيما حكى الله عن فرعون أنه قال مرة: (ما علمت لكم من إله غيري)، ومرة أخرى: (أنا ربكم الأعلى). وبالجملة فقد أومأ القرآن العظيم والسنة المستفيضة إلى أن تلازم توحيد الربوبية والألوهية مما قرره رب العالمين، واكتفى سبحانه من عبده بأحدهما عن صاحبه لوجود هذا التلازم، والملائكة المقربون، وفهم الناس هذا التلازم حتى الفراعنة الكافرون، فما هذا الذي يفتريه أولئك المبتدعة الخراصون، فيرمون المسلمين بأنهم قائلون بتوحيد الربوبية دون توحيد العبادة وأنه لا يكفيهم ذلك في إخراجهم من الكفر وإدخالهم في الإسلام حتى تحقن دماؤهم؟ بل يستبيحون ذبح المسلم المسالم لهم وهو يقول: " لا إله إلا الله " ويقولون فيه إنه ما اعترف بتوحيد الألوهية، وإنما يعني توحيد الربوبية وهو غير كاف، فلا يقبلون ما دل عليه صريح كلامه، ويرفضون الاكتفاء بما اكتفى به الله من عبده يوم الميثاق الأول، وارتضته ملائكته حين يسأل العبد في قبره من الاعتراف بتوحيد الربوبية، حيث كان مستلزما لتوحيد الألوهية، وكان التصريح بما يفيد أحدهما تصريحا بما يدل على الآخر، فالناطق بلا إله إلا الله معترف بالتوحيد لله في ألوهيته وربوبيته جميعا، والقائل ربي الله معترف بكلا التوحيدين جميعا. والآن ألفت نظرك أيها المحقق إلى قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا.) الآية وهي في موضعين من كتاب الله تعالى ولم يقل إلهنا، وقول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لمن سأله عن وصية جامعة: (قل ربي الله ثم استقم)، ولم يقل إلهي بكفاية توحيد الربوبية في النجاة والفوز لاستلزامه توحيد الألوهية بشهادة الله رسوله. وإلى قوله تعالى: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو)، وقول
23 رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله). وإلى قوله صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد حين قتل من قال لا إله إلا الله إذ أهوى إليه بالسيف ظنه قالها تعوذا، والقرائين قوية على هذه الظن كما يعلم من تفصيل القصة، (يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله أشققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟) ولم يعتذر أسامة بأنه إنما عنى توحيد الربوبية، وهو غير كاف في الدخول في الإسلام وحقن الدم به ولم يعن توحيد العبادة، ففي ذلك كله وغيره مما لم نذكره أبين البيان. لأن القول بأحد التوحيدين قول بالآخر، وإنما جر هذا المبتدع ومن انخدع بأباطيله هذه أنه لم يحقق معنى العبادة شرعا كما يدل عليه استقراء موارد هذه اللفظة في كلام الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، فظن أن التوسل برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسائر الصالحين والاستغاثة بهم مع استقرار القلب على أنهم أسباب لا استقلال لهم بنفع ولا ضر وليس لهم من الربوبية شئ ولكن الله جعلهم مفاتيح لخيره ومنابع لبره وسحبا يمطر منها على عباده أنواع خيره، ظن أن ذلك وما إليه من الشرك المخرج عن الملة. ومن أرفقه التوفيق وفارقه الخذلان ونظر في المسألة نظر الباحث المنصف علم يقينا لا تخالطه ريبة أن مسمى العبادة شرعا لا يدخل فيه شئ مما عده من توسل واستغاثة وغيرهما، بل لا يشتبه بالعبادة أصلا فإن كل ما يدل على التعظيم لا يكون من العبادة إلا إذا اقترن به اعتقاد الربوبية لذلك المعظم أو صفة من صفاتها الخاصة بها. ألا ترى الجندي يقوم بين يدي رئيسه ساعة وساعات احتراما له وتأدبا معه فلا يكون هذا القيام عبادة للرئيس شرعا ولا لغة، ويقوم المصلي بين يدي ربه في صلاة بضع دقائق أو بعضها قدر ما يقرأ الفاتحة فيكون هذا القيام عبادة شرعا، وسر ذلك إن هذا القيام وإن قلت مسافته مقترن باعتقاد القائم ربوبية من قام له، ولا يقارن ذاك القيام هذا الاعتقاد إ ه.
24 نص كلام ابن تيمية في توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية في كتبه في أربعة مواضع وقد اطلعت على كلام لابن تيمية في توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية مفرق في أربعة مواضع من كتبه أذكره كله ليراه القراء ثم أبطله: (1) - قال في الجزء الأول من فتاواه ص 219 في تفسير قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) والمعنى أن صاحب الجد لا ينفعه منك جده، أي لا ينجيه ويخلصه منك جده وإنما ينجيه الإيمان والعمل الصالح، والجد هو الغنى وهو العظمة وهو المال، (إلى أن قال) فبين في هذا الحديث أصلين عظيمين أحدهما توحيد لربوبية وهو أن لا معطي لما منع الله ولا مانع لما أعطاه ولا يتوكل إلا عليه ولا يسأل إلا هو. والثاني توحيد الإلهية وهو بيان ما ينفع وما لا ينفع وأنه ليس كل من أعطى مالا أو دنيا أو رئاسة كان ذلك نافعا عند الله منجيا له من عذابه، فإن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الإيمان إلا من يحب (إلى أن قال): وتوحيد الإلهية أن يعبد الله ولا يشرك به شيئا فيطيعه ويطيع رسل ويفعل ما يحبه ويرضاه، وأما توحيد الربوبية فيدخل ما قدره وقضاه، وإن لم يكن مما أمر به وأوجبه أرضاه، والعبد مأمور بأن يعبد الله ويفعل ما أمر به وهو توحيد الإلهية ويستغفر الله على ذلك وهو توحيد له فيقول: (إياك نعبد وإياك نستعين) إه. (2) - وقال في الجزء الثاني من فتاواه ص 275: فإن المقصود هنا بيان حال العبد المحض لله تعالى الذي يعبده ويستعينه فيعمل له ويستعينه، ويحقق قوله: (إياك نعبد وإياك نستعين)، توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وإن كانت الإلهية تتضمن الربوبية والربوبية تستلزم الإلهية فإن أحدهما إذا تضمن الآخر عند الانفراد لم يمنع أن يختص بمعنا عند الاقتران كما في قوله: (قل أعوذ برب الناس الخ)، فجمع بين الاسمين فإن الإله هو المعبود الذي يستحق أن يعبد، والرب هو الذي يرب عبده إ ه.
25 (3) - وقال في الجزء الثاني من منهاج السنة ص 62 بعد ثرثرة ذم فيها جميع فرق المسلمين من المتكلمين مصرحا بأنهم عبدوا غير الله لجهلهم توحيد الألوهية وإثبات حقائق أسماء الله، ما نصه: فإنهم قصروا عن معرفة الأدلة العقلية التي ذكرها الله في كتابه فعدلوا عنها إلى طرق أخرى مبتدعة فيها من الباطل ما لأجله خرجوا عن بعض الحق المشترك بينهم وبين غيرهم، ودخلوا في بعض الباطل المبدع، وأخرجوا من التوحيد ما هو منه كتوحيد الإلهية، وإثبات حقائق أسماء الله وصفاته، ولم يعرفوا من التوحيد إلا توحيد الربوبية، وهو الاقرار بأن الله خالق كل شئ وهذا التوحيد كان يقر به المشركون الذين قال الله عنهم: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله)، وقال تعالى: (قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله، الآيات). وقال عنهم: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)، فالطائفة من السلف تقول لهم من خلق السماوات والأرض فيقولون الله، وهم مع ذلك يعبدون غيره، وإنما التوحيد الذي أمر الله به العباد هو توحيد الألوهية المتضمن توحيد الربوبية، بأن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا فيكون الدين كله لله إ ه. (4): وقال في رسالة أهل الصفة ص 34: توحيد الربوبية وحده لا ينفي الكفر ولا يكفي إ ه. أقول: قد لبس ابن تيمية في تآليفه على العامة وأشباههم من المتفقهة كثيرا بالسلف الصالح والكتاب والسنة لترويج هواه في سوقهم ولكنه في هذا الكلام صرح بهواه ولم يلصقه بهما ولا بالسلف وإني بحول الله وتوفيقه أكيل له بصاعه الذي لبس به على البسطاء تكيلا حقيقيا وافيا، مبرهنا فأقول كلامه هذا في الأربعة المواضع بالطل باثنين وثلاثين وجها.
26 الوجه الأول الأول: لم يقل الإمام أحمد بن حنبل الذي انتسب إليه كذبا لأصحابه: إن التوحيد قسمان: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وإن من لم يعرف توحيد الألوهية لا تعتبر معرفته لتوحيد الربوبية لأن هذا يعرفه المشركون، وهذا عقيدة الإمام أحمد مدونة في مصنفات أتباعه في مناقبه لابن الجوزي وفي غيره ليس فيه هذا الهذيان. الوجه الثاني الثاني: لم يقل أي واحد من أتباع التابعين لأصحابه إن التوحيد قسمان: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وإن من لم يعرف توحيد الألوهية لا يعتد بمعرفته لتوحيد الربوبية، فلو اجتمع معه الثقلان على إثباته عن أي واحد منهم لا يستطيعون. الوجه الثالث الثالث: لم يقل أي واحد من التابعين لأصحابه إن التوحيد ينقسم إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، فلو اجتمع معه الثقلان على إثباته عن أي واحد منهم لا يستطيعون. الوجه الرابع الرابع: لم يقل أي صحابي من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ورضي عنهم أن التوحيد ينقسم إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وإن من لم يعرف توحيد الألوهية لا يعتد بمعرفته لتوحيد الربوبية لأن هذا يعرفه المشركون، وإني أتحدى كل من له إلمام بالعلم أن ينقل لنا هذا التقسيم المخترع عنهم ولو برواية واهية.
27 الوجه الخامس الخامس: لم يأت في سنة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الواسعة التي هي بيان لكتاب الله عز وجل من صحاح وسنن ومسانيد ومعاجم، أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول لأصحابه ويعلمهم أن التوحيد ينقسم إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وإن من لم يعرف توحيد الألوهية لا يعتد بمعرفته لتوحيد الربوبية، لأن هذا يعرفه المشركون، فلو اجتمع معه الثقلان على إثبات هذا الهذيان عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بإسناد ولو واهيا لا يستطيعون. الوجه السادس السادس: بل كتب السنة طافحة بأن دعوته صلى الله عليه وسلم الناس إلى الله كانت إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وخلع عبادة الأوثان، ومن أشهرها حديث معاذ بن جبل لما أرسله النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى اليمن فقال له: (ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأخبرهم أن عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة - الحديث)، وروى الخمسة وصححه ابن حبان أنه صلى الله عليه وسلم أخبره أعرابي برؤية الهلال، فأمر بالصيام ولم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم إلا عن الاقرار بالشهادتين، وكان اللازم على هذيانه هذا أن يدعو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جميع الناس إلى توحيد الألوهية الذي جهلوه وأما توحيد الربوبية فقد عرفوه ويقول لمعاذا ادعهم إلى توحيد الألوهية، ويقول للأعرابي الذي رأى هلال رمضان هل تعرف توحيد الألوهية؟. الوجه السابع السابع: لم يأمر الله في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه عباده بتوحيد الألوهية، ولم يقل لهم إن من لم يعرفه لا يعتد بمعرفته لتوحيد الربوبية، بل أمر وهو:
28 الوجه الثامن الثامن: بكلمة التوحيد مطلقة، قال الله تبارك وتعالى مخاطبا نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم (فاعلم أنه لا إله إلا الله الله) وهكذا جميع آيات التوحيد المذكورة في القرآن مع سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن. الوجه التاسع التاسع: يلزم على هذا الهذيان على الله تبارك وتعالى لعباده حيث عرفوا كلهم توحيد الربوبية ولم يعرفوا توحيد الألوهية - أن يبينه لهم ولا يضلهم ولا يعذبهم على جهلهم نصف التوحيد ولا يقول لهم: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) نعوذ بالله من زلقات اللسان وفساد الجنان. الإله هو الرب، والرب هو الإله الوجه العاشر العاشر: الإله هو الرب والرب هو الإله فهما متلازمان يقع كل منهما في موضع الآخر، وكتاب الله تعالى طافح بذلك، وكذلك سنته عليه الصلاة والسلام. قال الله تبارك وتعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم)، وكان اللازم = على زعمه = حيث كانوا يعرفون توحيد الربوبية ولا يعرفون توحيد الألوهية أن يقول الله: (اعبدوا إلهكم)، وقال الله تعالى: (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه - الآية)، وكان اللازم = على زعمه = حيث كان النمرود يعرف توحيد الربوبية ويجهل توحيد الألوهية أن يقول الله تعالى: (ألم تر إلى الذي
29 حاج إبراهيم في إلهه) وكان اللازم - على زعمه = أن يقول الله في قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة) اتقوا إلهكم. وكان اللازم - على زعمه = أن يقول الله في قوله تعالى: (إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء)، هل يستطيع إلهك، وكان اللازم - على زعمه = أن يقول الله في قوله تعالى: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) ثم الذين كفروا بإلههم يعدلون لأن الرب يعرفونه، وهو شئ كثير في القرآن. الوجه الحادي عشر الحادي عشر: يلزم = على زعمه = عدم تبيين الذي لا ينطق عن الهوى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم للناس في دعوته لهم إلى الله تبارك وتعالى توحيد الألوهية الذي جهلوه وعدم تبيينه صلى الله عليه وسلم لهم ذلك، لا يخلو من أن يكون جهلا له أو كتمانا، وكلاهما مستحيل في حقه صلى الله تعالى عليه وسلم وكفر، نعوذ بالله من زلقات اللسان وفساد الجنان. الوجه الثاني عشر الثاني عشر: زعمه أن المشركين يعرفون توحيد الربوبية، أي يعرفون أن الرب هو الخالق الرازق المحيي المميت غير صحيح في مشركي العرب وحدهم فضلا عن مشركي جميع الأمم، وقد أخبر الله عنهم في آيات كثيرة بأنهم أنكروا البعث أشد الانكار وأنهم ما يهلكهم إلا الدهر، مرور الزمان، وقد اشتهر ذلك في أشعارهم. قال أحدهم: (أشاب الصغير وأفني الكبير كر الغداة ومر العشي)، واشتهر قولهم: (أرحام تدفع وأرض تبلع)، أيقول عاقل في هؤلاء مع هذا الكفر أنهم يعرفون توحيد الربوبية؟، ولو سلم أنهم يقرون بتوحيد الربوبية فإن مجرد الاقرار به لا يسمى توحيدا عند علماء الإسلام، ولو كان الاقرار بالربوبية توحيدا = كما زعم =
30 لكان تصديق عتاة قريش النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتكذيبهم بآيات الله تعالى توحيد ولا يقول بهذا عاقل. قال الله تعالى: (فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) ولو كان الاقرار بالربوبية توحيد = كما زعم = لكان علم عاد بالخالق لهم مع تكذيبهم آياته ورسوله هودا عليه الصلاة والسلام لما هددهم بالعذاب توحيدا، زاجرا لهم عن قولهم: (من أشد منا قوة أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون)، ولا يقول بهذا عاقل، أيقول عاقل في فرعون الذي قال: (أنا ربكم الأعلى) وقال: (يا أيها الناس ما علمت لكم من إله غيري) وقال لملأه: (إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون)، لما أجابه موسى عليه الصلاة والسلام عن سؤاله عن حقيقة رب العالمين قائلا هو: (رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين)، و (ربكم ورب آبائكم الأولين)، إنه يعرف توحيد الربوبية، أيقول عاقل في النمرود بن كنعان الذي ادعى الربوبية وحاج خليل الله عليه الصلاة والسلام في ربه وزعم أنه يحيي ويميت، إنه يعرف توحيد الربوبية؟، أيقول عاقل في الدهريين المنكرين وجود الإله وفي الثنوية المنكرين وجود إله واحد وفي الوثنية القائلين بكثرة الأرباب والآلهة وفي التناسخية وفي المزدكية والخرمية والبابية والماركسية، ويدعي في هذه الطوائف الضالة كلها إنها تعرف توحيد الربوبية؟، وكثير من سكان المعمورة دهريون طبائعيون إباحيون ملاحدة ينكرون وجود الرب، حتى من كان منهم متدينا بالمسيحية واليهودية كأهل أو ربا انسلخ أكثرهم منهما إلى الالحاد والإباحة ولا زال الالحاد والإباحة منتشرين في الأرض من بعد نوح عليه الصلاة والسلام، وعليهما أكثر سكان الربع العامر الآن. الوجه الثالث عشر الثالث عشر: قوله في تفسير قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد)، فبين في هذا الحديث أصلين عظيمين أحدهما: توحيد الربوبية والثاني توحيد الإلهية، كذب مكشوف يجوز على الأغبياء، ولا يخلو فاعل بين من كونه
31 النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، بين أن التوحيد ينقسم إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، أو الحديث نفسه بين نفسه، أو فهمه من الحديث ذلك، ولا شك أنه كذب مكشوف في الأول والثاني قطعا فإن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يبين في هذا الحديث أصلين عظيمين إلى آخر الهذيان، ولا الحديث بين ذلك، فانحصر فاعل بين في فهمه، وكان الواجب عليه للعامة وأشباههم التصريح بفهمه، بأن يقول لهم فهمت من هذا الحديث أصلين عظيمين الخ.. ولا يلبس عليهم بهذا الهراء، وباقي كلامه هنا ثرثرة لا تحتاج إلى تعليق. الوجه الرابع عشر الرابع عشر: يقال في قوله في الموضع الثاني (وإن كانت الإلهية تتضمن الربوبية والربوبية تستلزم الإلهية) هل قال الإمام أحمد بن حنبل الذي يقدسه عند غرضه هذا الكلام؟. الوجه الخامس عشر الخامس عشر: هل قاله أحد من أتباع التابعين رحمهم الله تعالى؟. الوجه السادس عشر السادس عشر: هل قاله أحد من التابعين رحمهم الله تعالى؟. الوجه السابع عشر السابع عشر: هل قاله أحد من الصحابة رضوان الله عليهم؟. الوجه الثامن عشر الثامن عشر: هل قاله النبي صلى الله تعالى عليه وسلم؟.
32 الوجه التاسع عشر التاسع عشر: هل قاله الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز؟. كتاب في تحريم علم المنطق الوجه العشرون العشرون: التضمن والالتزام من علم المنطق، وهو قد ألف كتابا في تحريمه، فقد صدق من قال فيه: إنه لا يدري ما يقول، وهو كثير التناقض في كلامه ولا يشعر. الوجه الحادي والعشرون الحادي والعشرون: يقال للمفتونين به وضحوا لنا هذا الكلام: (وإن كانت الإلهية تتضمن الربوبية والربوبية تستلزم الإلهية، فإن أحدهما إذا تضمن الآخر عند الانفراد لم يمنع أن يختص بمعناه عند الاقتران كما في قوله: قل أعوذ برب الناس الخ. وهل كان السلف الصالح الذين يلبس بهم على البسطاء يقولون هذا الهذيان ويعلمونه تلامذتهم؟، وهل قاله علماء الإسلام والمفسرون؟. الوجه الثاني والعشرون الثاني والعشرون: قوله في الموضع الثالث (فإنهم قصروا عن معرفة الأدلة العقلية التي ذكرها الله في كتابه)، دعوى كاذبة مقلوبة عليه فيقال له: إنما المقصر عن معرفة الأدلة العقلية التي ذكرها الله تعالى في كتابه أنت وأشياخك المجسمة، مبنية على إعجابه بنفسه وتأليهه هواه وازدرائه علماء الإسلام، وكل مائق يمكنه أن يقول: إن الناس
33 كلهم مخطئون: أو أن المتكلمين جميعا قصروا عن معرفة الأدلة العقلية الخ..، لأن الثرثرة لا ضريبة عليها، ولكن هل يضمن لهذره الصواب دائما؟. وكل من تصفح تآليفه يجد إعجاب برأيه وازدراءه للعلماء ماثلين أمام عينه في كل صفحة، والإعجاب واحتقار عباد الله من أوليات إبليس. الوجه الثالث والعشرون الثالث والعشرون: يقال له في قوله: (فعدلوا عنها إلى طرق آخر مبتدعة)، من أين لك إن علماء الإسلام كلهم عدلوا عن الأدلة العقلية التي ذكرها الله تعالى في كتابه إلى طرق أخرى مبتدعة، ومشيت أنت وحدك عليها فعصمت من الطرق المبتدعة؟، أبنص صريح من كتاب الله تعالى أو من سنة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم؟، فلو استظهر بالثقلين على أن يجد فيهما ما يصوب رأيه ويخطئ علماء الإسلام، لم يظفر بذلك. الوجه الرابع والعشرون الرابع والعشرون: قوله (فيها من الباطل ما لأجله خرجوا عن بعض الحق المشترك بينهم وبين غيرهم ودخلوا في بعض الباطل المبتدع وأخرجوا من التوحيد ما هو منه كتوحيد الإلهية وإثبات حقائق أسماء الله وصفاته)، كلام معمى ملبس فاسد مشتمل على خمسة أوجه كلها فاسدة: (الأول) " فيها " أي الطرق التي ابتدعها علماء الإسلام = زعمه = من الباطل أي الكفر ومن للتبعيض أي بعض الكفر، ما أي الذي لأجله خرجوا عن بعض الحق المشترك بينهم بينهم وبين غيرهم، أي خرجوا عن توحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات اللذين هما مع توحيد الربوبية مجموع الحق المشترك بينهم يعني جميع المسلمين، وبين غيرهم يعني نفسه، ودخلوا في بعض الباطل المبتدع، أي دخلوا في بعض الكفر المبتدع، (وأخرجوا من التوحيد ما هو منه كتوحيد الإلهية وإثبات حقائق أسماء الله وصفاته)، أي أخرجوا هذين القسمين من مجموع التوحيد الذي هو توحيد
34 الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات، وقد قلده محمد بن عبد الوهاب في هذا الموضع أيضا، فقسم التوحيد في بعض رسائله إلى ثلاثة أقسام، وتقدم في الموضع الأول والثاني والرابع من كلامه ما يدل صريحا على أن التوحيد ينقسم إلى قسمين فقط: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، فليتأمل الألباء هذا الخبط. (الثاني): الحق معنى من المعاني لا يصح تبعيضه والباطل كذلك، فتقويم كلامه هذا = على مقتضى زعمه = أن يقول: علماء الإسلام قاطبة خرجوا عن الحق الذي هو الإيمان، ودخلوا في الباطل الذي هو الكفر، أي كفروا، والعياذ بالله، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولم يقل عاقل من المسلمين إن الإيمان والكفر يتجزءان لذاتهما، فقد كفر المسلمين في أول هذا الكلام، وليس تكفيرهم بالتعبير بلفظ بعض في وسطه، وصرح بتكفيرهم في آخره كما سأحلله. (الثالث): قوله: (خرجوا عن بعض الحق المشترك بينهم وبين غيرهم) كلام يضحك منه المجانين قبل العقلاء، لأن معناه توحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات بضاعة مشتركة بينه وبين علماء الإسلام فخرجوا هم عن هذه الشركة باختيارهم وتركوها له خالصة. (الرابع): وهو أشد فسادا مما قبله قوله: (وأخرجوا من التوحيد ما هو منه كتوحيد الألوهية وإثبات حقائق أسماء الله وصفاته)، فإنه يدل على أن علماء الإسلام كلهم يعرفون أقسام التوحيد الثلاثة حق المعرفة، ومع ذلك أخرجوا منه قسمين عمدا وهما: توحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات، وأبقوا لأنفسهم توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون. (الخامس) قوله: (وإثبات حقائق أسماء الله وصفاته) تلبيس فاسد فإن الله تبارك وتعالى لم يكلف عباده بمعرفة (إثبات حقائق أسماء الله وصفاته)، ورسوله المبعوث رحمة للعالمين لم يأمر الناس لما دعاهم إلى الله بذلك، وإنما أمر الله عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وأمرنا تعالى أن ندعوه بأسمائه الحسنى ولم يأمرنا بإثبات حقائقها، وأمرنا باتباع نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم في جميع ما آتانا به من الأوامر واجتناب ما نهانا
35 عنه، وسلفنا الصالح الصحابة وأتباعهم وأتباع أتباعهم لما نشروا محاسن الدين الإسلامي على المعمورة لم يأمروا الناس بإثبات حقائق أسماء الله وصفاته، ومن شك في هذا أو كابر فليبرز لنا نقلا صحيحا عنهم يدل لهذيانه هذا، ومقصوده به حقائق صفات الله فقط، لأنه يعتقد في ظواهر القرآن والسنة المتشابهة أنها صفات لله حقيقة، فيقول: إنه تعالى استوى على عرشه حقيقة، وفوق العرش حقيقة، تقليدا لسلفه المجسمة، وقد تقدم رد ابن الجوزي عليهم بأن تسميتها صفات بدعة لم يقلها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا أصحابه، فأسماء الله تعالى مقحم بين المضاف والمضاف إليه. الوجه الخامس والعشرون الخامس والعشرون: قوله (ولم يعرفوا من التوحيد إلا توحيد الربوبية وهو الاقرار بأن الله تعالى خالق كل شئ، وهذا التوحيد كان يقر به المشركون الذين قال الله عنهم: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) وقال تعالى: (قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله - الآيات) وقال عنهم (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)، صريح في تكفير المتكلمين، متناول أيضا للصحابة فمن بعدهم إلى يوم القيامة إلا من قال برأيه، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله (أي ومحمد رسول الله) فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)، وصح عنه أيضا أنه قال (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فهو المسلم الذي له ما لنا وعليه ما علينا)، وصح عنه أيضا أنه قال لمولاه أسامة بن زيد رضي الله عنهما: (أقتله بعد ما قال لا إله إلا الله) فقال يا رسول الله إنما قالها خوفا من السيف فقال له (فهلا شققت عن قلبه حتى تعلم أنه قالها لذلك)، وصح عنه أيضا أنه قال: (إني لم أو مر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم)، وصح عنه أيضا أنه قال: (إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما). ودلت نصوص الشريعة المستفيضة
36 على أن الكفر أمر باطني لا يعلمه إلا الله فالحكم به على واحد من المسلمين خطير جدا، فكيف الحكم به على الأمة الإسلامية كلها؟، فهذا لا يتفوه به إلا من نزع من قلبه مخافة المنتقم الجبار، فقد برهن بهذا الكلام، على أنه مقتد بأسلافه الحروريين الذين كفروا كثيرا من سادات المسلمين الصحابة رضوان الله عليهم والأمة الإسلامية جمعاء إلا من وافقهم على هواهم، ولذلك جاء في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال فيهم: (هم شرار الخلق عمدوا إلى آيات نزلت في الكفار فحملوها على المؤمنين)، فهو في المائة الثامنة مجدد الربوع البالية يحمل الآيات الواردة في الكفار على المؤمنين كما حملها عليهم أسلافه كلاب النار، فالذي قال من العلماء إنه كفر ابن عربي وابن الفارض وابن سبعين فقط، والذي قال منهم إنه طعن في الشريف أبي الحسن الشاذلي، والذي قال إنه طعن في رجال الصوفية جميعا، والذي قال إنه كفر إمام الحرمين أبا المعالي الجويني وتلميذه أبا حامد الغزالي، كلهم صادقون، لأن كلا منهم اطلع على قبيحة من قبائحه المدسوسة المفرقة في كتبه ورسائله، ولم يطلعوا على كلامه هذا ولو اطلعوا عليه لتحققوا إنه كفر الأمة الإسلامية جمعاء، متكلمين وفقهاء ومحدثين وصوفية، في مقدمتها سلفها الصالح الصحابة والتابعون وأتباعهم رضوان الله عليهم. فإن قيل: منطوق كلامه في حكمه بالشرك خاص بفرق المتكلمين فكيف عممته في الأمة الإسلامية كلها، فادعيت إنه متناول للصحابة والتابعين وأتباعهم وللفقهاء والمحدثين والصوفية؟. قلت: الصحابة وعلماء التابعين وأتباعهم ومن بعدهم من علماء المسلمين كلهم متكلمون، والدليل عليه عشرة أوجه: (الأول) علم الكلام علم قرآني فإنه مبسوط في كلام الله تعالى بذكر الإلهيات والنبويات والسمعيات والثلاثة مجموعة، مع ذكر ما يتوقف عليه وجود الصانع من حدوث العالم المشار إليه بخلق السماوات والأرض والنفوس وغيرها والإشارة إلى مذاهب المبطلين والطبائعيين وإنكار ذلك عليهم والجواب عن شبه المبطلين المنكرين لشئ من ذلك، إمكانا أو وجودا، كقوله تعالى: (كما بدأنا أول خلق نعيده)، وقوله
37 تعالى: (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم)، وقوله تعالى: (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا)، وذكر حجج إبراهيم وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحكم لقمان وغير ذلك مما يطول ذكره، وتكلم فيه النبي صلى الله عليه وسلم كإبطاله اعتقاد الأعراب في الأنواء وفي العدوي وفي جوابه للأشعريين عن سؤالهم عن أول هذا الأمر، قال (كان الله ولم يكن شئ غيره - إلى آخر الحديث) وغير ذلك، وهو كسائر العلوم مركوز في طباع الصحابة الناصعة الصافية، ولاتفاقهم جميعا في العقيدة الإسلامية لم يحتاجوا إلى الكلام فيه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. تحقيق مطنب فيه للعلامة سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد قال العلامة سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد: الأحكام المنسوبة إلى الشرع منها ما يتعلق بالعمل وتسمى فرعية وعملية ومنها ما يتعلق بالاعتقاد وتسمى أصلية واعتقادية، وكانت الأوائل من العلماء ببركة صحبة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقرب العهد بزمانه وسماع الأخبار منه ومشاهدة الآثار مع قلة الوقائع والاختلافات مستغنين عن تدوين الأحكام وترتيبها أبوابا وفصولا وتكثير المسائل فروعا وأصولا إلى أن ظهر اختلاف الآراء والميل إلى البدع والأهواء، وكثرت الفتاوى والواقعات ومست الحاجة فيها إلى زيادة نظر والتفات فأخذ أرباب النظر والاستدلال في استنباط الأحكام وبذلوا جهدهم في تحقيق عقائد الإسلام، وأقبلوا على تمهيد أصولها وقوانينها وتلخيص حججها وبراهينا وتدوين المسائل بأدلتها والشبه بأجوبتها، وسموا العلم بها فقها وخصوا الاعتقاديات باسم الفقه الأكبر، والأكثرون خصوا العمليات باسم الفقه، والاعتقاديات بعلم التوحيد والصفات، تسمية بأشهر أجزائه وأشرفها، وبعلم الكلام، لأن مباحثه كانت مصردة بقولهم الكلام في كذا وكذا، ولأن أشهر الاختلافات فيه كانت مسألة كلام الله تعالى أنه قديم أو حادث، ولأنه يورث قدرة على الكلام في تحقيق الشرعيات، كالمنطق في الفلسفيات، ولأنه كثر فيه من الكلام مع المخالفين والرد عليهم
38 ما لم يكثر في غيره، ولأنه لقوة أدلته صار كأنه هو الكلام دون ما عداه، كما يقال للأقوى من الكلامين هذا هو الكلام، واعتبروا في أدلتها اليقين لأنه لا عبرة بالظن في الاعتقاديات بل في العمليات، فظهر أنه العلم بالقواعد الشرعية الاعتقادية المكتسب من أدلتها اليقينية، وهذا هو معنى العقائد الدينية، أي المنسوبة إلى دين محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، سواء توقف على الشرع أم لا وسواء كان من الدين في الواقع ككلام أهل الحق أم لا ككلام المخالفين، وصار قولنا هو العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية مناسبا لقولهم في الفقه إنه العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية، وموافقا لما نقل عن بعض عظماء الملة إن الفقه معرفة النفس ما لها وما عليها، وإن ما يتعلق منها بالاعتقاديات هو الفقه الأكبر، وخرج العلم بغير الشرعيات وبالشرعية الاعتقادية الشرعية الفرعية، وعلم الله تعالى، وعلم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بالاعتقاديات، وكذا اعتقاد المقلد فيمن يسميه علما، ودخل علم علماء الصحابة بذلك فإنه كلام وإن لم يكن، وسمي في ذلك الزمان بهذا الاسم، كما أن علمهم بالعمليات فقه وإن لم يكن ثمة هذا التدوين والترتيب، وذلك إذا كان متعلقا بجميع العقائد بقدر الطاقة البشرية مكتسبا من النظر في الأدلة اليقينية، أو كان ملكة يتعلق بها بأن يكون عندهم من المأخذ والشرائط ما يكفيهم في استحضار العقائد على ما هو المراد بقولنا العلم بالعقائد عن الأدلة، وإلى المعنى الأخير يشير قول المواقف إنه علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه، ومعنى إثبات العقائد تحصيلها واكتسابها بحيث يحصل الترقي من التقليد إلى التحقيق، أو إثباتها على الغير بحيث يتمكن من إلزام المعاندين، أو إتقانها وإحكامها بحيث لا تزلزلها شبه المبطلين إ ه. أقام الحجة على أربعين رجلا من اليهود المجسمة (الثاني): قد تكلم الفاروق رضي الله تعالى عنه في علم الكلام. ناظر أبا عبيدة ابن الجراح بسرغ في القدر، لما أراد أن يرجع إلى المدينة بمن معه من أجل طاعون عمواس، فحجه ومناظرتهما مسطرة في صحيح البخاري، وقطع حيدرة كرم الله وجهه الخوارج بالحجة وقطع دهريا وأقام الحجة على أربعين رجلا من اليهود المجسمة بكلام
39 نفيس مطنب، رواه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في الحلية، وقطع ابن عمه الحبر ابن عباس رضي الله عنهما الخوارج بالحجة أيضا، ولا يقول من له مسكة من عقل ودين في هؤلاء السادة من الصحابة أنهم ليسوا بمتكلمين أو ليسوا بفقهاء أو ليسوا بمحدثين. والعلم = كما قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس = ليس بكثرة الرواية وإنما هو نور يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء من عباده. قطع أياس بن معاوية القدرية (الثالث): قد قطع أياس بن معاوية القاضي القدرية، وقطع الخليفة العادل عمر عبد العزيز أصحاب شوذب الخارجي، وقطع ربيعة الرأي شيخ الإمام مالك غيلان القدري، وقطعه أيضا داود بن أبي هند، وقطع الإمام أبو حنيفة الضحاك الخارجي حين دخل الكوفة وأمر بقتل الرجال واسترقاق النساء والصبيان، وقطع أيضا سبعين من الخوارج دخلوا عليه وأرادوا قتله فتابوا من مذهبهم، وقطع أيضا جماعة من الدهريين دخلوا عليه، وقطع أيضا شيخ الرافضة المسمى بشيطان الطاق، وناظر جهم ابن صفوان فألزمه الحجة. ولا يقول من له مسكة من عقل ودين في هؤلاء السادة من التابعين أنهم ليسوا بمتكلمين أو ليسوا بفقهاء أو ليسوا بمحدثين. (الرابع): قد قطع الإمام أبو عمرو الأوزاعي غيلان القدري أيضا، وألف الإمام مالك رسالة في القدر في الرد على القدرية، قالوا وهي من خيار الكتب الدالة على سعة علمه، وناظر الإمام الشافعي حفصا الفرد المعتزلي فقطعه، وناظر أيضا بشرا المريسي فقطعه، ولا يقول من له مسكة من عقل ودين في هؤلاء الأئمة أنهم ليسوا بمتكلمين أو أنهم ليسوا بفقهاء أو ليسوا بمحدثين. (الخامس): قد صنف سيد المحدثين في زمانه محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى سنة ست وخمسين ومائتين كتابا في خلق أفعال العباد، وصنف المحدث نعيم بن حماد الخزاعي وهو من أقران الإمام أحمد المتوفى في حبس الوثق سنة ثمان وعشرين ومائتين
40 كتبا في الرد على الجهمية وغيرهم، وصنف المحدث محمد بن أسلم الطوسي المتوفى سنة اثنتين وأربعين ومائتين وهو من أقران الإمام أحمد أيضا في الرد على الجهمية. ليس علم الكلام محظورها على المحدث والفقيه وناظر الإمام أحمد بن حنبل المعتزلة في خلق القرآن، وقال الحنابلة إنه صنف كتابا في الرد على الجهمية، ولا يقول من له مسكة من عقل ودين في هؤلاء الأئمة أنهم ليسوا بمتكلمين أو ليسوا بفقهاء، وليس علم الكلام محظورا على المحدث والفقيه ولا علم الحديث محظورا على المتكلم والفقيه. فإن قيل: قد ذم علم الكلام جماعة من السلف فروي عن الشعبي أنه قال من طلب الدين بالكلام تزندق ومن طلب المال بالكيماء أفلس ومن حدث بغرائب الحديث كذب، وروي مثله عن مالك الإمام والقاضي أبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة، وأجاب الحافظ أبو بكر البيهقي عنه بقوله: إنما أرادوا بالكلام كلام أهل البدع، لأن عصرهم إنما كان يعرف بالكلام فيه أهل البدع، وأما أهل السنة فقلما كانوا يخوضون في الكلام حتى اضطروا إليه بعد، ويحتمل ذمهم له وجها آخر وهو أن يكون المراد به أن يقتصر على علم الكلام ويترك تعلم الفقه الذي يتوصل به إلى معرفة الحلال والحرام، ويرفض العمل بما أمر بفعله من شرائع الإسلام ولا يلتزم فعل ما أمر به الشارع وترك ما نهى عنه من الأحكام، قال: وقد بلغني عن حاتم الأصم، وكان من أفاضل الزهاد وأهل العلم أنه قال: الكلام أصل الدين والفقه فرعه والعمل ثمره فمن اكتفى بالكلام دون الفقه والعمل تزندق، ومن اكتفى بالعمل دون الكلام والفقه ابتدع، ومن اكتفى بالفقه دون الكلام والعمل تفسق، ومن تفنن في الأبواب كلها تخلص. وقد روي مثل كلام حاتم هذا عن أبي بكر الوراق. وما ورد عن الإمام الشافعي رضي الله عنه في ذم علم الكلام والمتكلمين ليس على إطلاقه وإنما هو في المبتدعة القدرية وغيرهم الذين جانبوا نصوص الشريعة، كتابا وسنة، وتعمقوا في الأهواء الفاسدة، وأما الكلام الموافق للكتاب والسنة الموضح لحقائق الأصول عند ظهور الفتنة فهو محمود عند العلماء قاطبة يستحيل ذم الشافعي له وقد كان يحسنه ويفهمه.
41 وقد ناظر بشرا المريسي وحفصا الفرد فقطعهما، وناظر أيضا إبراهيم بن إسماعيل بن علية في خبر الواحد وكان هذا ينكره فقطعه، وقال: ما ناظرت أحدا أحببت أن يخطئ إلا صاحب بدعة فإني أحب أن ينكشف أمر للناس رضي الله عنه. رد على المعتزلة فأجاد. (السادس): قد رد على المعتزلة فأجاد بالتأليف ثلاثة من علماء السنة من أقران الإمام أحمد بن حنبل الحارث المحاسبي والحسين الكرابيسي وعبد الله بن سعيد بن كلاب المتوفى بعد الأربعين ومائتين بقليل، ويمتاز الأول بإمامته أيضا في التصوف ولا يقول من له مسكة من عقل ودين في هؤلاء العلماء أنهم قصروا عن معرفة الأدلة العقلية التي ذكرها الله في كتابه فعدلوا عنها إلى آخر هذيانه، أوانهم ليسوا بمحدثين ولا بفقهاء. (السابع): قد صنف إماما أهل السنة والجماعة في عصرهما وبعده إلى يومنا هذا أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتريدي المصنفات العظيمة في الرد على طوائف المبتدعة والمخالفين للإسلام مملوءة بحجج المنقول والمعقول، وامتاز الأول بمناظراته العديدة للمعتزلة بالبصرة التي قل بها حدهم وقلل عددهم، وصنف أتباعهما من بعدهما المئات من المجلدات في الرد على المبتدعة والمخالفين للإسلام على تعاقب الأجيال. قام بالرد على المبتدعة المخالفين للإسلام وقام كثير فحول الأشاعرة بالرد على طوائف المبتدعة والمخالفين للإسلام بالتآليف الكثيرة والمناظرات العديدة بزوا بهما المعتزلة الذين هم أفحل طوائف المبتدعة كما بزوا غيرهم من المبتدعة والدهريين والفلاسفة والمنجمين في الحلبتين ورفعوا لواء مذهب الأشعري على المعمورة، أحسن قيام، وأبرزهم في نشره ثلاثة الأستاذ أبو بكر بن فورك وأبو إسحاق الأسفرائيني والقاضي الإمام أبو بكر الباقلاني، فالأولان نشراه في المشرق والقاضي نشره في المشرق والمغرب وتلامذتهم، فما جاءت المائة الخامسة إلا والأمة الإسلامية أشعرية وما تريدية لم يشذ عنها سوى نزر من المعتزلة ونزر من المشبهة وطائفة من الخوارج،
42 فهما الأمة الإسلامية، والأشعرية في عصره هم المقصودون المخصوصون بتكفيره هذا، لأنه موتور منهم، فقد قضوا على مذهب سلفه المجسمة ببغداد بمحاوراتهم ودروسهم ومحاضرهم وقضوا عليهم في مدن خراسان والمشرق بالمناظرات والدروس والتآليف، وغضبوا غضبة مضرية لابن عبد السلام فقاموا على الأشرف الأيوبي فأرجعوه إلى الحق خجلا، مستغفرا مما وقع منه في حق ابن عبد السلام من الجهل، وقاموا عليه بدمشق لما جهر ببعض شواذه فناظروه فأفحموه وردوا عليه بالتآليف فأجادوا وصدر في قمعه مرسوم السلطان محمد بن قلاوون، واحتمى بالأمراء لما طلب إلى مصر لمناظرته ومحاكمته فيما صدر منه فلم يحضر عند قاضي المالكية زين الدين بن مخلوف، وقد حقق إحدى علامتي سلفه الخوارج وهي حمل الآيات الواردة في الكفار على المسلمين، والثانية وهي قتل أهل الإيمان وترك أهل الأوثان وجدت فيه بالقوة، فلو وجد أنصارا يحاربون معه لاستحل دماء المالكية والشافعية والحنفية وفضلاء الحنابلة، وقد استعاض عنها لما فقدها بالبضاعة التي لا يرتكبها إلا سفلة الناس، وهي السب والقذف والتكفير. فحول المحدثين من بعد أبي الحسن الأشعري إلى عصرنا هذا أشاعرة، وكتب التاريخ والطبقات ناطقة بذلك وفرق هذه البضاعة في كتبه ورسائله تضليلا ملبسا على العامة وأشباههم بالسلف متقولا عليهم وعلى الأشعري وأتباعه، وفحول المحدثين من بعد أبي الحسن إلى عصرنا هذا أشاعرة وكتب التاريخ والطبقات ناطقة بذلك. ومن خصائص هذه الأمة المرحومة وتميزها عن جميع الأمم كثرة علمائها ومؤلفيها فلا تجد عالما محققا أو فقيها مدققا إلا وهو أشعري أو ماتريدي، وتآليفهم في العلوم المتنوعة من تفسير وحديث وأصول وفروع وغيرها شاهدة لهم، ولا تجد نفاجا مهذارا من المتأخرين إلا وهو سارق من درهم متشبع به، نعوذ بالله من نكران الجميل، لم يسجل التاريخ لمجسم أنه ناظر قدريا أو دهريا أو كتابيا، كما سجل للأشعرية والماتريدية ذلك، ولم يسجل للمجسمة أنهم ألفوا كتبا مبسوطة مبرهنة في الرد على مخالفيهم
43 ومخالفي دين الإسلام كما سجل ذلك للأشعرية والماتريدية، ولم يسجل لهم إنهم كانت لهم مجالس بالبحث والمناظرة في الفروع ومسائل الخلاف، فضلا عن مجالس البحث والمناظرة في الأصلين كما سجل ذلك لغيرهم من علماء المسلمين في مدائن المعمورة، حينما كانت الأمة الإسلامية قوية رافعة ألوية مجدها على المشرق والمغرب، ولم يسجل لفاضل حنبلي إنه أثنى على مجسم ثناء بليغا كما سجل ذلك لأبي الفضل التميمي الحنبلي على القاضي الإمام أبي بكر الباقلاني، فقد قالوا حضر يوم موت القاضي أبي بكر الباقلاني، أبو الفضل التميمي الحنبلي العزاء حافيا مع إخوته وأصحابه، وأمر أن ينادي بين يدي جنازته: هذا ناصر السنة والدين: هذا إمام المسلمين. هذا الذي كان يذب عن الشريعة ألسنة المخالفين. هذا الذي صنف سبعين ألف ورقة ردا على الملحدين، وقعد للعزاء مع أصحابه ثلاثة أيام فلم يبرح، وكان يزور تربته كل يوم جمعة، فهل يقول من له مسكة من عقل ودين في الملايين من الأشاعرة والماتريدية من أمة محمد صلى الله عليه وسلم المرحومة أنهم كلهم ليسوا بفقهاء أو ليسوا بمحدثين؟، وإنهم متكلمون قصروا عن معرفة الأدلة العقلية التي ذكرها الله تعالى في كتابة فعدلوا عنها؟، إلى آخر هذيانه، وجاء هو وحده في القرون المتأخرة فعرفها، نعوذ بالله من زلقات اللسان وفساد الجنان ومصارع الاعجاب بالنفس. يلزم من كلامه هذا إن المعتزلة عرفوا الأدلة العقلية التي ذكرها الله تعالى في كتابه (الثامن): يلزم من كلامه هذا أن المعتزلة الذين هم أفحل طوائف المبتدعة عرفوا الأدلة العقلية التي ذكرها الله تعالى في كتابه ولم يعدلوا عنها إلى طرق أخرى مبتدعة، فإنهم أول فرق المتكلمين نشأوا في آخر المائة الأولى للهجرة، فإن رأسهم عمرو ابن عبيد المتوفى سنة أربع وأربعين ومائة كان يجلس في حلقة سيد التابعين الحسن البصري الذي توفي سنة عشر ومائة، وقد زجر رضي الله تعالى عنه عمرو بن عبيد لما تيقن ضلاله فاعتزل عمرو مجلسه وجعل لنفسه حلقة جهر هو وأصحابه بعقائدهم فيها وناضلوا عليها واعتمدوا على العقليات وتعمقوا فيها ورفضوا كثيرا من سنته عليه الصلاة
44 والسلام، وتأولوا الباقي منها مع كتاب الله على ما يوافق أهواءهم فقالوا بمنزلة بين المنزلتين وبخلق القرآن، ونفوا صفات الله ونفوا رؤيته في الآخرة، وأنكروا عذاب القبر والميزان والصراط وغير هذه من السمعيات الثابتة في السنة وسموا أنفسهم عدلية. وفي صدر المائة الثالثة عضدهم المأمون على نشرها في الأمة بالقوة وبعده أخوه المعتصم وبعد هذا ابنه الواثق، فأكرهوا العلماء على القول بخلق القرآن وامتحنوا كثيرا منهم بالحبس والضرب والقتل، ولم يقاوموا المعتزلة بالمناظرات الحاسمة، وقاومهم المحاسبي وابن كلاب، وإنهم محقون في عقائدهم وفيما صنعوه وأن الجماهير من علماء آخرون من أهل السنة دونهم في الشهرة بالتآليف الجيدة، الحسين الكرابيسي والحارث المسلمين، من نشأتهم إلى زمن الأشعري مبطلون، لأنهم لم يعرفوا الأدلة العقلية التي ذكرها الله تعالى في كتابه، فيوقفوا بها تيار ضلالهم الذي انتشر في الأمة الإسلامية هذه المدة، وقد قطع في أثنائها أبو محمد الأذرمي باطلهم، بمناظرة وجيزة أمام الواثق، لم ينحسم بها تيار ضلالهم ولا بمنع المتوكل لهم من امتحان العلماء وتعذيبهم، وفسحه لأهل السنة بنشرها في الأمة، فقد ارجعوا حربهم لأهل السنة بعدها إلى حلبتين، حلبة أقلام بالتآليف، وحلبة مناظرات فردية نحو سبعين عاما، حتى جاء أبو الحسن الأشعري فخرب في البصرة وكرهم، وصرع بالمناظرات والتآليف باطلهم، وأجهز عليهم في كل مكان من الأرض تلامذته وتلامذة تلامذته وأتباعه، فهل يقول من له مسكة من عقل ودين أنهم حيث مكثوا مائتي سنة ينشرون ضلالهم أهانوا في أثنائهم علماء الإسلام بالحبس والضرب والقتل عرفوا الأدلة العقلية التي ذكرها الله تعالى في كتابه؟، وأن الآلاف المؤلفة من علماء الأمة في هذه المدة كلهم لم يعرفوها لأنهم لم يستطيعوا إيقاف تيار ضلالهم، إلا أبو محمد الأذرمي وأبو الحسن الأشعري وأتباعه فإنهم عرفوها، نعوذ بالله تعالى من زلقات اللسان وفساد الجنان.
45 لم يكفر الفقهاء ولا المحدثون المعتزلة مع ضلالهم وانحرافهم عن نهج السواد الأعظم ومع ضلالهم لم يكفر هم التابعون ولا أتباعهم ومع تعذيبهم للعلماء لم يكفرهم أيضا الفقهاء ولا المحدثون، وأقصى ما قاله فيهم أهل السنة جميعا: إنهم مبتدعة، وقد كان لهم مع انحرافهم عن نهج السواد الأعظم مواقف مشكورة في الرد على الملاحدة والزنادقة الذين كثروا، فطعنوا في صدر الخلافة العباسية في الشريعة الإسلامية بشتى الوسائل، بالمناظرات والتآليف، وقد ظهر منهم في المذهبين الشافعي والحنفي أعيان من العلماء، ففي الشافعية القاضي عبد الجيار الهمداني المتوفى سنة خمس عشرة وأربعمائة، وأبو لحسن الماوردي البصري المتوفى سنة خمسين وأربعمائة، وأبو يوسف القزويني المفسر المتوفى سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وفي الحنفية أبو بكر الحصاص الرازي المتوفى سنة سبعين وثلاثمائة، والزمخشري المتوفى سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، والمطرزي المتوفى سنة عشر وستمائة. (التاسع): قد قصر هو عن معرفة الأدلة العقلية التي ذكرها الله في كتابه وعدل عنها إلى طرق أخرى مبتدعة فقسم التوحيد إلى قسمين وثلاثة توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، أو هما مع توحيد الأسماء والصفات، ولم يقل الله هذا في كتابه العزيز ولا رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا السلف الذين يلبس بهم وزعم أن متشابهات القرآن والسنة كلها حقائق، وأن الله استوى على العرش حقيقة، وأنه فوقه حقيقة، وجوز قيام الحوادث به جل وعلا، وزعم أن كلامه تعالى قديم بالنوع حادث بالجزئيات وأن عرشه تعالى كذلك وكل هذا لم يقله الله تعالى في كتابه ولا رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا المسلمون أجمعون. (العاشر): تحقق بجميع ما تقدم أنه جاهل بأصول الدين جهلا مركبا، وأنه قد حكم على نفسه بالشرك وعبادة غير الله وهو لا يشعر، فصدق عليه المثل العربي (رمتني بدائها وانسلت).
46 الوجه السادس والعشرون السادس والعشرون: حمله قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله)، الواردة في المشركين على المسلمين فاسد، ودعواه أن المشركين، مع إنكارهم البعث واتخاذهم الأنداد والولد له تعالى يعرفون توحيد الربوبية، تقدم إبطالها، ومعنى الآية عند المفسرين ليسندن خلقها في الحقيقة ونفس الأمر أي الفطرة التي فطر الله الناس عليها إلى الله تعالى، فلو استظهر بالثقلين على إثبات أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سألهم عن ذلك فأجابوه بالقول لا يستطيعون. الوجه السابع والعشرون حمله قوله: تعالى (قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم) الواردة في المشركين على المسلمين فاسد السابع والعشرون: حمله قوله تعالى: (قل رب السماوات السبع ورب العرش العظيم) الواردة أيضا في المشركين على المسلمين فاسد أيضا، لأنهم لو كانوا يعرفون توحيد الربوبية، = كما زعم = ما أمر الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم بسؤالهم عن الأرض ومن فيها لمن هي وعن رب السماوات السبع ورب العرش العظيم وعمن بيده ملكوت كل شئ وهو يجيز ولا يجار عليه، ولكان الأمر بسؤالهم عن هذه الأشياء مع معرفتهم خالقها عبثا وأمرا بتحصيل الحاصل وهو محال منه تعالى ولو كانوا يعرفون توحيد الربوبية = كما زعم = ما كفروا به عز وجل وما أنكروا البعث وما اتخذوا له أندادا عبدوهم من دونه، ولو كانوا يعرفون توحيد الربوبية ما قال تعالى عنهم: (بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون)، أي فيما قالوا من إنكار البعث وفيما قالوا وفعلوا من الشرك باتخاذ الأنداد من دونه وغير هذا من أنواع الكفر، وإنما أمر الله سبحانه نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم بتوقيفهم على هذه الأشياء التي لا يمكنهم في الفطرة والعقل
47 السليم إنكارها، وأن أنكروها في الواقع، تبكيتا وإقامة للحجة عليهم، ولا يمكنه أن يثبت عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه سألهم عن هذه الأشياء وأجابوه قولا، ولو استظهر بجميع أهل الأرض. الوجه الثامن والعشرون حمله قوله تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) الثامن والعشرون: حمله قوله تعالى (وما يؤمن أكثرهم بالله ولا وهم مشركون، الواردة في المشركين على المسلمين فاسد أيضا، ومعناها عند المفسرين: (وما يؤمن أكثرهم بالله)، في إقرارهم بوجود الخالق (إلا وهم مشركون) باتخاذهم له أندادا عبدوهم من دونه أو باتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا، أو بقولهم واعتقادهم الولد له سبحانه، أو بقولهم لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، أو بغير ذلك. التعبير في جانب شركهم بالجملة الأشمية الدالة على الثبوت والدوام الواقعة حالا لازمة والتعبير في جانب شركهم بالجملة الاسمية الدالة على الثبوت والدوام الواقعة حالا لازمة، وفي جانب إيمانهم، أي إقرارهم بالجملة الفعلية الدالة على التجدد، دليل على أن شركهم دائم مستمر ملازم لهم، وأن إقرارهم غير دائم ولا مستمر، وإقرارهم بوجود الخالق الرازق المحيي المميت، مع ارتكابهم ما ينافيه مما تقدم من الأقوال والأفعال، دليل على أنه لا يكون توحيدا = كما زعم = ولا إيمانا لا لغة ولا شرعا، فإن الإيمان لغة هو (التصديق بالقلب مطلقا)، وشرعا (تصديق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيما علم مجبيئه به بالضرورة)، أي فيما اشتهر كونه من الدين بحيث يعلمه العامة من غير افتقار إلى نظر واستدلال، ويكفي الاجمال فيما يلاحظ إجمالا، ويشترط التفصيل فيما يلاحظ تفصيلا، وهذا هو المشهود وعليه الجمهور، والإقرار باللسان شرط في
48 إجراء الأحكام الدنيوية عند الإمام أبي منصور الماتريدي والأشاعرة وشطر منه عند أكثر الحنيفة، والعمل بالطاعات شرط في كماله عند الجمهور غير داخل في حقيقة، فليس الإيمان مجرد معرفة الله، بدون الاذعان والنطق باللسان = كما قال جهم بن صفوان = ولو كان مجرد المعرفة إيمانا بالله تعالى لكان إبليس مؤمنا لأنه عارف بربه يعرف أنه خالفه ومميته وباعثه ومعذبه، (قال رب بما أغويتني)، وقال: (انظرني إلى يوم يبعثون)، وقال: (خلقتني من نار وخلقته من طين)، ولكان الكفار مؤمنين بربهم، إذا أنكروا بلسانهم قال تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم)، فلم يجعلهم مع استيقانهم بأن الله تعالى واحد مؤمنين مع جحدهم بلسانهم. وقال تعالى: (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون)، وقال تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق)، فلم تنفعهم معرفتهم مع إنكارهم. وقال تعالى (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)، فلم تنفعهم معرفته صلى الله تعالى عليه وسلم مع كتمانهم أمره وجحودهم به، وليس الإيمان هو الاقرار باللسان فقط = كما قالت الكرامية = ولو كان هو الاقرار ما نفاه الله تعالى عن المنافقين في قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين)، وليس الإيمان مجموع الاعتقاد بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان = كما قالت الخوارج والمعتزلة =، عليه كفر اعتقاد القلب ولا تعلق له باللسان والأركان إلا أنه لما كان أمرا باطنا لا يوقف التصديق اعتقاد القلب ولا تعلق له باللسان والأركان إلا أنه لما كان أمرا باطنا لا يوقف عليه ولا يمكن بناء أحكام الشرع عليه جعل الشرع العبارة عما في القلب بالإقرار أمارة عليه وشرطا لإجراء الأحكام الدنيوية، كما قال عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) ومن أطلق اسم الإيمان على غير التصديق فقد صرفه عما هو المفهوم
49 منه في اللغة، ولو جاز ذلك لجار صرف كل اسم عن موضوعه في اللغة وفيه إبطال اللسان، ولم يصح حينئذ الاحتجاج بالقرآن. والدليل على صحة ما ذكرنا جواب النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام: (ما الإيمان؟) بقوله: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله = الحديث) وروي أن جبريل عليه السلام قال بعد ذلك: (فإذا قلت هذا فأنا مؤمن) قال (نعم) فلو كان الإيمان اسما لما وراء التصديق لكان تفسير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إياه بالتصديق خطأ وقوله نعم كذبا والقول به باطل. واستدل المحققون على أن الأعمال الصالحة خارجة عن حقيقة الإيمان بوجوه، أحدها أن الله سبحانه وتعالى فرق بين الإيماني وبين الأعمال في كثير من الآيات نحو قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، وقوله تعالى: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)، وقوله تعالى: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة)، وقوله تعالى: (تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله - الآية)، وغير هذه من الآيات. والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما سئل عن أفضل الأعمال قال: (إيمان بالله لا شك فيه وجهاد لا غلول فيه وحج مبرور)، وكذا في حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عن قلت أي الأعمال أفضل؟، قال: (الإيمان بالله ورسوله) قلت: ثم أي؟ قال (الصلاة لميقاتها) قلت ثم أي؟، قال (بر الوالدين)، ووجه ذلك أنه عطف الأعمال على الإيمان والعطف يقتضي المغايرة، وشرط الإيمان لصحة الأعمال في قوله تعالى: (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن)، والشرط غير المشروط لا محالة، وصح إيمان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وإيمان أصحاب قبل مشروعية الصلاة والصوم والزكاة والحج غيرها، ولو كانت الأعمال من أركان الإيمان لم يكن الإيمان موجودا بدون أركانه. (الثاني): إن الله تعالى جعل محل الإيمان القلب فقال: (إلا من أكره وقلبه
50 مطمئن بالإيمان)، وقال: (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم)، وقال: (كتب في قلوبهم الإيمان)، ومعلوم أن القلب محل الاعتقاد لا محل العمل. (الثالث): أن الله قال أثبت الإيمان مع الكبيرة، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص)، فسمى قاتل النفس عمدا عدوانا مؤمنا، والدليل على أن الاقرار ليس بإيمان نفي الله الأيمن عمن قال من المنافقين آمنا، قال تعالى: (الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم)، وقال تعالى: (قالت الأعراب آمنا، قل لو تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم). ومن حيث المعقول أنه لا وجود للشئ إلا بوجود ركنه، والإنسان مؤمن على التحقيق من حين آمن بالله إلى أن يموت بل إلى الأبد، وإنما يكون مؤمنا بوجود الإيمان وقيامه به حقيقة ولا وجود للإقرار في كل لحظة، فدل أنه مؤمن بما معه من التصديق القائم بقلبه الدائم بتجدد أمثاله، لكن الله تعالى أوجب الاقرار ليكون شرطا لإجراء أحكام الدنيا، إذا لا وقوف للعباد على ما في القلب فلا بد لهم من دليل ظاهر والله تعالى مطلع على ما في الضمائر فتجري أحكام الآخرة على التصديق بدون الاقرار، حتى أن من أقر ولم يصدق فهو مؤمن عندنا، وعند الله تعالى هو من أهل النار، ومن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه من غير عناد ولا تمكن فهو كافر عندنا، وعند الله تعالى مؤمن من أهل الجنة، إذا تقرر بهذا فالمتكلمون الذين عناهم خصوصا فحكم عليها بالشرك لزعمه تقصيرهم عن معرفة الأدلة العقلية التي ذكرها الله تعالى في كتاب وجهلهم توحيد الألوهية وإثبات حقائق أسماء الله وصفاته وعبادتهم غيره، هم الأمة الإسلامية المعاصرة له المالكية والشافعية والحنفية وفضلاء الحنابلة، لكونها كلها في أصول الدين على مذهبي الأشعري والماتريدي. ولا يخفى على كل من له مسكة من عقل ودين أنها صدقت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في كل ما جاء به من عند الله عز وجل مما علم مجيئه به بالضرورة صدقت بقلوبها وأقرت بألسنتها وعملت بجوارحها.
51 أين الأمة الإسلامية وأين الطائفة التي لا تزال ظاهرة على الحق إلى قيام الساعة فإذا كانت هذه الأمة التي انتشرت إذ ذاك في أكثر الربع العامر كلها في رأيه كافرة مشركة لأنها لم تعرف = في زعمه = توحيد الألوهية، فأين الألوهية، فأين الأمة الإسلامية وأين الطائفة التي لا تزال ظاهرة على الحق إلى قيام الساعة؟ كما في خبر الصادق صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا يتردد كل وقح مفتون به في جواب هذا السؤال أن يقول هي كلها أحمد بن تيمية ومقلدوه، ولا يتردد عاقل وقف على كلامه هذا أنه حكم على الملايين من أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بالكفر وما في قلوبهم لا يعلمه إلا الله، ولا يتردد أن يقول في حكمه هذا أنه باهت مرتكب جرما عظيما راجعا عليه، وهو تكذيبه لنصوص كتاب الله تعالى وصريح سنته عليه الصلاة والسلام الكثيرة، منها قوله صلى الله تعالى عليه وسلم لمولاه أسامة (هلا شققت عن قلبه حتى تعلم أنه قالها لذلك)، وقد فرع على حكمه الفاجر قوله وهو: الوجه التاسع والعشرون كذبه وتلبيسه في جملة واحدة أربع مرات التاسع والعشرون: (فالطائفة من السلف تقول لهم من خلق السماوات والأرض فيقولون الله)، وهو فاسد مشتمل على خمسة أوجه كلها فاسدة: (الأول): افتراؤه على طائفة من السلف سائلة للأشاعرة والماتريدية المعاصرين له افتراء مكشوفا مستحيلا لأن السلف يطلقون على خير القرون كما في الحديث الصحيح: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجئ أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته يشهدون قبل أن يستشهدوا ويحلفون قبل أن يستحلفوا ويظهر فيهم السمن وأقصى أمدهم آخر المائة الثالثة).
52 تورطه في الجهل بتفسير (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) أربع مرات (الثاني) افتراؤه على المعاصرين له افتراء مكشوفا مستحيلا بأن طائفة من السلف سألتهم قائلة: (من خلق السماوات والأرض)، والمسؤولون من الخلف، وعليهما. (الثالث): بين الطائفة السائلة وبين المسؤولين أكثر من أربعمائة سنة، وهذه المدة المديدة بينهما تحيل كون السائلين والمسؤولين في عالم الأشباح، وإنما يتعين فرض السؤال والجواب بينهما في عالم الأرواح وهو البرزخ والأرواح في هذا أما منعمة وأما معذبة فالمنعم منها مشغول بنعيمه والمعذب مشغول بعذابه فلا فائدة للسائل في سؤاله ولا للمجيب في جواب. (الرابع): لا وجود للطائفة السائلة ولا للمسؤولين في عالم الأشباح ولا في عالم الأرواح وإنما إعجابه برأيه وازدراؤه لعلماء الإسلام خيلا له سؤالهم، فهو وحد الطائفة المتخيلة للسؤال والمسؤولون المتخيلون في ذهنه هم المالكية والشافعية والحنفية وفضل الحنابلة المعاصرون له، وحقيقة هذا السؤال وتوضيحه هكذا: (أحمد بن تيمية الذي هو من الخلف يقول لكم يا مالكية ويا شافعية ويا حنفية ويا فضلاء الحنابلة) (من خلق السماوات والأرض)، والطائفة تطلق لغة على الواحد إلى الألف، فقد لبس وكذب في جملة واحدة أربع مرات، كذب ولبس بلفظها المحتمل للجمع والواحد، وكذب ولبس أيضا في قوله: (من السلف) وهو من الخلف، وكذب ولبس أيضا في قوله: (تقول) بالتاء المعينة للفظ الطائفة للجمع، وكذب ولبس أيضا في قوله: (لهم) أي للمسؤولين المتخيلين والحقيقة إنما هي: وإذا ما خلا الجبان بأرض * طلب الطعن وحده والنزالا فإن قيل مراده بالطائفة السلفية السائلة جماعة من التابعين، وبالمسؤولين المعتزلة
53 الذين وجدوا في زمانهم فهو على هذا صادق، قلت: هذا باطل بوجهين: الأول: لو قربه من الحق قليلا لسمي من الطائفة السلفية السائلة ولو واحدا وسمي من المعتزلة المسؤولين ولو واحدا، فركوبه فيهما جادة الابهام التي لا يسلكها إلا الملبسون والكائدون للإسلام دليل واضح على أنه لا سائل ولا مسؤول فهو المفتعل لهما جزما. الثاني: لو اجتمع معه الثقلان على النقل عن أي واحد من التابعين وأتباعهم ولو بإسناده واه أنهم قالوا للمعتزلة (من خلق السماوات والأرض) لم يستطيعوا ذلك بل لو اجتمع معه الثقلان على النقل عن أي صحابي من الصحابة الذين فتحوا البلدان ونشروا محاسن الدين الإسلامي على المعمورة ولو بإسناد واه أنهم كانوا يقولون للمجوس أو لغيرهم من طوائف الكفار (من خلق السماوات والأرض) لم يستطيعوا ذلك، بل لو اجتمع معه الثقلان على النقل عن سيد الكائنات صلى الله تعالى عليه وسلم ولو بإسناد واه أنه كان يقول للناس في دعوته لهم إلى الله (من خلق السماوات والأرض) لم يستطيعوا ذلك. (الخامس): المخاطب بسؤال المشركين في قوله تعالى (ولئن سألتهم)، هو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة، وأن الشرطية المقرونة بلام القسم ممكن وقوع شرطها وهو سؤالهم عن ذلك، وعدم وقوعه أي عدم سؤالهم عن ذلك عربية فمدخولها جائز الأمرين مستقبل معنى وأن كان ماضيا، ولم يرد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سألهم عن ذلك، ولذلك قال المفسرون إن المشركين يقولون: (الله) بالفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها، وهي العهد الذي أخذه عليهم في عالم الذر وبضرورة العقل السليم لا باللفظ، وعليه فقد تورط في الجهل أربع مرات: جعله نفسه في مقام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وحمله الآية الواردة في المشركين على المسلمين، وجعله مدخول إن الشرطية واجبا وهو جائز، وباللفظ، ولا يتردد العاقل في أن مخاطبة وسؤال المتخيل في الذهن يعد ضربا من الجنون.
54 الوجه الثلاثون جعله التوسل والاستغاثة والاستعانة عبادة للمتوسل به والمستغاث به والمستعان به الثلاثون: قوله: (وهم مع ذلك يعبدون غيره) فاسد أيضا ومعناه يقول أحمد بن تيمية الملبس بلفظ (الطائفة) والملبس أيضا المدعي أنه (من السلف) للمالكية والشافعية والحنفية ومستقيمي العقيدة من الحنابلة (من خلق السماوات والأرض فيقولون الله)، وهم مع اعترافهم بتوحيد الربوبية مشركون في رأيه لأنهم (يعبدون غيره)، أي يتوسلون بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وبالصالحين من أمته ويستغيثون ويستعينون بهم وكل من التوسل والاستعانة والاستغاثة عبادة غير الله تعالى في زعمه، وقد اعتمد في تكفير المسلمين بهذه الألفاظ على إرادة نفع جاه المتوسل به أو المستغاث به مثلا قياسا على عبدة الأوثان بجامع الإرادة المذكورة في كل، وهو قياس فاسد من ستة أوجه: إبطال قياسه الفاسد بستة أوجه (الأول) جهله حقيقة العبادة، فإن العبادة لغة: أقصى نهاية الخضوع والتذلل بشرط نية التقرب، ولا يكون ذلك إلا لمن له غاية التعظيم، فقد تبين منه أن العبادة لغة لا تطلق إلا على العمل الدال على الخضوع المتقرب به لمن يعظمه باعتقاد تأثيره في النفع والضر أو اعتقاد الجاه العظيم الذي ينفعه في الدنيا والآخرة، وهي التي نهى الله سبحانه وتعالى عن أن تقع لغيره وكفر من لم ينته عنها، وما قصر عن هذه المرتبة لا يقال فيه عبادة لغير الله، وشرعا: امتثال أمر الله كما أمر على الوجه المأمور به من أجل أنه أمر مع المبادرة بغاية الحب والخضوع والتعظيم، فاعتبر فيها ما اعتبر في اللغوية من الخضوع والتذلل والتعظيم، فاللغوية غير مقيدة بعمل مخصوص والشرعية مقيدة بالأعمال المأمور بها فكانت جارية على الأعم الأغلب في الحقائق الشرعية من كونها أخص من اللغوية، ومن أجل اختصاصها بالمأمور به خرجت عبادة اليهودي مثلا لأنه وإن تمسك بشريعة
55 إلا أنها لما كانت منسوخة كانت كأن لم تكن، وعبادة المبتدع في الدين ما ليس منه، فالله سبحانه لما نهى الكفار عما هم مشتغلون به من عبادة غيره، ووبخهم على وضع الشئ في غير محله وتعظيمهم غير أهله وبين لهم بالدلائل الواضحة عدم صلوحية ما اتخذوه من دونه لما اتخذوه إليه، وكان الحامل لهم على ذلك اتباع أهوائهم والاسترسال مع أغراضهم، وذلك مناف لعبوديتهم، إذا العبد لا يتصرف في نفسه بمقتضى شهوته وغرضه، وإنما يتصرف على مقتضى أمر سيده ونهيه، قصد سبحانه أن يخرجهم عن داعية أهوائهم واتباع أغراضهم حتى يكونوا عبيدا لله تعالى اختيارا كما هم عبيد له اضطرارا، فوضع لهم الشريعة المطهرة وبين لهم الأعمال التي تعبدهم بها والطرق التي توصلهم إلى منافعهم ومصالحهم على الوجه الذي ارتضاه لهم ونهاهم عن مجاوزة ما حد لهم حتى أن العبد إذا أخذ حظه من العمل المشروع لمصلحته فإنما أخذ من تحت الحد المشروع، وحصر الأعمال العبادية في أنواع التكاليف. فما كان منها مشروعا لمحض التعبد كانت صحته موقوفة على نية التقرب وما يساويها، وما كان مشروعا لتحصيل المصالح لم تتوقف صحته بمعنى الاعتداد به على ذلك، لكنه لا يقع عبادة إلا مع النية المذكورة، ومن خرج عن هذا الحد وعبد الله تعالى بغير تلك التكاليف فعمله رد، وهذا هو المسمى بالبدعة لأنه اخترع طريقة في الدين لم يسبق لها مثال، وإنما يطل عمله لأنه لغير داعية الشرع بل لاتباع الهوى وهو مخالف لقصد الشارع من وضع الشريعة، وهو الإخراج عن دائرة الهوى والرجوع والانقياد لله في جميع الأحوال، والمخالف لقصد الشارع باطل، فتبين من هذا أن العبادة الشرعية هي التكاليف التي اشتملت عليها الشريعة، سواء منها ما كان معقول المعنى أم غير معقول، إلا أن الثاني تتوقف صحته على النية بخلاف الأول فإنه يصح بمعنى يعتد به دونها، وإنما يتوقف كونه عبادة عليها، وأن ما خرج عن التكاليف الشرعية ليس من العبادة في شئ، وإن قصد فاعله به العبادة وإنما هو بدعة، وهل إخلاص العبادة لله تعالى من شوائب الحظوظ بأن يعمل العامل الطاعة امتثالا للأمر الوارد منه على لسان رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم لا لرجاء ثواب ولا لخشية عقاب ولا لتحصيل غرض عاجل. ولا شك أن هذه أعلى مراتب العبادة وأجل طرق السعادة، شرط صحة فيها وهو
56 مقتضى تعريفها الذي ذكرته، وإليه ذهب جمع من العلماء فقالوا من عبد الله طمعا في الجنة أو خوفا من النار لم يعبده، لأنه جعل حظه مقصدا والعمل وسيلة، والوسائل غير مقصودة لذاتها، إذ لو سقطت المقاصد أو توصل إليها بغيرها سقطت، وما كان هذا شأنه لا يستقيم أن يكون عبادة، ولهذا عد جماعة من السلف العامل للأجر عبد السوء وخديم السوء، أو شرط كمال وإليه ذهب جمع من العلماء منهم أبو إسحاق الشاطبي، وأطنبوا في ذلك، وخلاصة كلامهم أن مراعاة الحظ العاجل أو الأجل مع مراعاة المقاصد الأصلية التي راعاها الشارع لا يضر، وإنما المضر انفراد مراعاة الحظ عن امتثال الأمر، لأنه حينئذ عمل بالهوى المض، وطلب الحظ الأخروي كالعبادة خوفا من ناره أو طمعا في جنته ليس بشرك، إذ لا يعبد الحظ وأنما يعبد من بيده الحظ، وقصد الحظ الدنيوي فيها شرك أصغر وهو الرياء. وعلى هذا فشرط كونها عبادة نية التقرب للمعبود، فالسجود لا يكون عبادة ولا كفرا إلا تبعا للنية، فسجود الملائكة عليهم الصلاة والسلام لآدم عليه الصلاة والسلام عبادة الله، لأنه امتثال لأمره وتقرب وتعظيم له، والسجود للصنم كفر إذا قصد به التقرب إليه إذ هو عبادة لغير الله، وكذا يحكم عليه به عند جهل قصده أو إنكاره لأنه علامة على الكفر، والسجود للتحية معصية فقط في شرعنا، وقد كان سائغا في الشرائع السابقة بدليل سجود يعقوب وبنيه ليوسف عليهم الصلاة والسلام، فتحقق من تعريفي العبادة لغة وشرعا أن العبادة التذلل والتعظيم للمعبود، وعليه فليس كل تعظيم عبادة، وإن ضابط التعظيم المقتضي للعبادة هو أن يعتقد له التأثير في النفع والضر، أو يعتقد له الجاه التام والشهادة المقبولة بحيث ينفع في الآخرة ويستنزل به النصر والشفاء في الدنيا.
57 معنى الوسيلة لغة، والتوسل لا يسمى عبادة قطعا ولا يقال فيه عبادة وإنما هي وسيلة إليها، وسيلة الشئ غيره بالضرورة (الثاني) الوسيلة لغة كل ما يتقرب به إلى الغير، وسل إلى الله تعالى توسيلا عمل عملا تقرب به إليه، فتحقق منه أن التوسل لا يسمى عبادة قطعا ولا يقال فيه عبادة وإنما هو وسيلة إليها، ووسيلة الشئ غيره بالضرورة وهو واضح، فإن التوسل لا تقرب فيه للمتوسل به ولا تعظيمه غاية التعظيم، والتعظيم إذا لم يصل إلى هذا الحد لا يكون الفعل المعظم به عبادة، فلا يطلق اسم العبادة على ما ظهر من الاستعمال اللغوي إلا على ما كان بهذه المثابة من كون العمل دالا على غاية الخضوع منويا به التقرب للمعبود تعظيما له بذلك، التعظيم التام، فإذا اختل شئ منها منع الاطلاق، أما الدلالة على نهاية الخضوع فظاهر، لأن مناط التسمية لم يوجد، ولأن الناس من قديم الزمان إلى الآن يخضعون لكبرائهم ورؤسائهم بما يقتضيه مقامه الدنيوي عندهم ويحيونهم بأنواع التحيات ويتذللون بين أيديهم ولا يعدون ذلك قربة ولا يطلقون عليه اسم العبادة، وإنما يرونه من باب الأدب، وما ذاك إلا لكون ذلك الخضوع لم يبلغ نهايته والعظيم الناشئ عنه لم يبلغ غايته، وبهذا ظهر الفرق بين التوسل والعبادة، على أن (عبد) يتعدى بنفسه وتوسل يتعدى بحرف الجر. أوغل ابن تيمية في بيداء القياس الفاسد دفعتين وقد أوغل ابن تيمية في بيداء القياس الفاسد دفعتين، قياسه معاني هذا الألفاظ، توسل استعان، استغاث، تشفع، على العبادة، وقياسه المؤمنين المتوسلين بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم مثلا على عبدة الأوثان من دون الله بجامع إرادة الجاه في كل. فلينظر اللبيب إلى أين رماه جهله باللغة العربية، فإنه لو تأمل في قول القائل: اللهم إني أتوسل إليك بفلان، وأجراه على ما تدل عليه اللغة لوجد معناه، اللهم إني أتقرب
58 إليك وأتحبب إليك، فهو دال بجوهره على أن التقرب لله لا لمن يراد جاهه، ومن جهل الفرق بين عبد وتوسل كيف يصح له القياس في دين الله وإلحاق بعض الفروع ببعض، والقياس أصعب أنواع الاجتهاد، لكثرة ما يعتبر في أركانه من الشروط وما يرد عليه من المعارضات والمناقضات وغير ذلك من أنواع الاعتراضات، فلا يصفو مشربه إلا لأهل الاجتهاد ومن أحاط بمداركهم على اختلاف مراتبهم، ومن قصر عن تلك المراتب لا يسوغ له الجزم بالحكم المأخوذ منه في دانق فكيف بالحكم المأخوذ منه في تكفير المسلمين. حيث تحقق الفرق بين العبادة والتوسل فالعبادة فيها معنى زائد يناسب إناطة الحكم به (الثالث) حيث تحقق الفرق بين العبادة والتوسل، فالعبادة فيها معنى زائد يناسب إناطة الحكم به، وهو اشتمالها على الإعراض عن الله وإطلاق الإلهية على غيره وإقامته مقامه وخدمته بما يستحق أن يخدم، وقد أشار إلى هذا المعنى بعض فضلاء أهل السنة، وملخص كلامه: أن الشبهة الحاملة لعبدة الأوثان على عبادتها هي أنهم استصغروا أنفسهم فاستعظموا أن يعبدوا الله مباشرة، ورأوا من سوء الأدب أن يشتغل الحقير من أول وهلة بخدمة العظيم، وقربوا ذلك بأمر مستحسن في العادة، وهو أن الحقير لا ينبغي له أن يخدم الملك حتى يخدم عماله إلى أن يترقى لخدمته، وقال: وهذه هي الحاملة على التوسل إلى الله تعالى بمن له جاه عنده، إلا أن الشرع أذن في التوسل ولم يأذن في العبادة فكانت حاجة الكفار تندفع بما شرعه الله، إلا أن الله تعالى أعمى بصائرهم، ولو تنبهوا لأمر عادي آخر لأرشدهم، فإن الملك من ملوك الدنيا إذا استجاه له أحد بعظيم من وزرائه وتشفع له بذلك، ربما أقبل عليه وأخذ بيديه وقضى ما أراده منه، أما إذا عظم ذلك الوزير بما يعظم به الملك وعامله بمعاملته وأقامه في مقامه فيما يختص به الملك عن غيره، رجاء أن يقضي ذلك الوزير حاجته من الملك، فإن الملك إذا علم بصنيعه يغضب أشد الغضب، ولا يقتصر في العقوبة على قطع الرجاء من الحاجة بل يفتك به وبالوزير إن أحب ذلك، فمثال التوسل الأول ومثال العبادة الثاني فتأمل هذا المثال فإنه
59 واف بواقعة الحال، وبالله التوفيق والاعتصام. القاعدة المشهورة المطردة وهي إن استواء الفعلين في السبب الحامل على الفعل لا يوجب استواءهما في الحكم (الرابع) القاعدة المشهورة المطردة وهي: أن استواء الفعلين في السبب الحامل على الفعل لا يوجب استواءهما في الحكم، يدل على هاته القاعدة دلالة قطعية، أنه لو لم يكن الأمر كذلك بأن كان الاستواء في الحامل يوجب الاستواء في الحكم = كما ادعاه ابن تيمية = وقرره في قياسه التوسل على العبادة والمتوسل على عابد الوثن =، للزم إبطال الشريعة وتساوي الأعمال في الأحكام، واللازم باطل بالاتفاق وهو ضروري غني عن الاستدلال، وأما الملازمة فلما علم من أن الشريعة جاءت لإخراج العبد عن دائرة هواه حتى يكون بالاختيار عبدا لله، فالمعنى الذي يراعيه المكلف ويحمله على الفعل بالإقدام، إن كان مصلحة، أو الإحجام إن كان مفسدة، وإن راعته الشريعة له تفضلا من الله إلا أنها لم تستر سله مع أغراضه وأهوائه، فلم تبح له سلوك كل طريق يوصل إليها، بل أخذت بلجامه إلى الطرق النبي عينتها له ليتبين بذلك كونه عبدا لا يقدر على شئ حتى إذا أخذ حظه من العمل أخذه من تحت يد الشريعة، فالأكل مثلا يحمل عليه دفع ألم الجوع وسد الرمق وهو يحصل بكل ما يؤكل من طاهر ونجس حلال أو حرام، وقد عينت الشريعة طريقة بالاختيار بالحلال الطيب الطاهر، ومثله الشرب الذي يحمل عليه دفع ألم العطش خصته أيضا بالحلال الطيب، فالآكل والشارب من الحلال الطيب لدفع الألم وسد الرمق، مساو للآكل والشارب من الحرام النجس للغرض المذكور، فلو كان الاستواء في الحامل موجبا للاستواء في الحكم لما اختلف الحكم فيهما، فكان الأول آتيا بواجب أو مباح والثاني آتيا بحرام، ولكان الواجب استواءهما في الحلية أو الحرمة. وكذلك الوطئ إذا وقع لقضاء الشهوة ودفع دغدغة المني، فإن الزاني والناكح والمالك يشتركون في هذا السبب، مع أن فعل الأخيرين مباح وفعل الأول محرم، فلو
60 كان الاشتراك في الحامل مفض إلى الاشتراك في الحكم لزم استواؤهم في الحل والحرمة. ومثل ذلك اكتساب الأموال واقتناؤها، فإن الشرع عين لتحصيلها طرقا مخصوصة على وجوه مخصوصة، كالبيع والإجارة وما أشبه ذلك على شرائط عينها فيها تنعدم بانعدامها، ولا يحصل الاكتساب بفقدها، وحرم في ذلك طريق الغصب، وما كان من الطرق على غير الوجه المشروع، فالغاصب والمشتري مثلا مستويان في الحامل وهو الاكتساب ومختلفان في الحكم، ومثل ذلك يقع في العبادات المشروعة لقهر النفس والتوجه للواحد الحق فإنه عين لها طرقا مخصوصة يتقرب بها إليه فمن جاءه منها قربه وأسعده، ومن جاءه من غيرها طرده وأبعده وإن توجه بها إليه وقصده، فالعابد والمبتدع مشتركان في الحامل، وهو قصد التقرب مع اختلافهما في الحكم، فظهر بهذا صحة لزوم قلب الشريعة على تقدير القول بتساوي الأحكام عند الاشتراك في الأغراض فيتعين بطلانه وإذا بطل لزم صدق نقيضه، وهو أن الاشتراك في الغرض لا يوجب الاشتراك في الحكم. قد أداه جهله حقيقة العبادة إلى قياس فاسد وقد أداه جهله حقيقة العبادة إلى قياس آخر فاسد وهو قياسه ما لا عبادة فيه من نذر وذبح وطلب دعاء على ما فيه عبادة غير الله بجامع العبادة في كل. روى الحافظ ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله بسنده عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله تعالى عنه، قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: (تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها على أمتي فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم يحرمون ما أحل الله ويحلون ما حرم الله)، وساق فيه إسنادا إلى الحسن البصري رضي الله تعالى عنه أنه قال: (أول من قاس إبليس)، قال (خلقتني من نار وخلقته من طين)، وأسند أيضا عن ابن سيرين رضي الله تعالى عنه أنه قال: (أول من قاس إبليس وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس) إ ه.
61 الجمع في هذا القياس الفاسد بغير علة شرعية (الخامس): الجمع هذا القياس الفاسد بغير علة شرعية، لأن إرادة نفع الجاه من الأغراض التي تدعو النفوس إليها، فمن اتبعها اتبع نفسه إذ قد أعطاها مطلوبها. مسأل التوسل من فروع القاعدة المتقدمة وما كان من الأغراض النفسانية قد علم أن الشرع جعل لبعضه طرقا توصل إليه وحظر عليه ما سواها، فجعل لإرادة نفع الجاه طريق التوسل، وحرم طريق العبادة، وحينئذ فمسألة من فروع القاعدة المتقدمة، وقد بين فيها أن تلك الأغراض لا يجمع بها القياس لأن الشرع لم يعينها للتعليل ولا المكلف يقصد بها اتباع الشرع، إذ ليس الحامل له على ذلك الاتباع، فإن قيل: لا يسلم ابن تيمية أنه جمع في هذا القياس بالأغراض النفسانية، بل يزعم أنه جمع بعلة شرعية فإن تعليل العبادة الوثنية بنفع الجاه مما أومأ إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) وبها تمسك ابن تيمية ومقلده محمد بن عبد الوهاب في تكفير المسلمين المتوسلين وكرر الثاني لوكها في رسائله، فالجواب لا يتمسك بها فيه إلا غبي لأن العلة الشرعية المعتبرة في الجمع المراد بها علة الحكم من الوجوب والندب والتحريم والكراهة والإباحة لا علة نفس الفعل الحاملة لفاعله عليه. والقرآن العظيم إنما أشار إلى أن تعليلهم الذي عللوا به عبادتهم وحملهم عليها فاسد فهو باب التنبيه على ضلالهم وإنما يكون من قبيل العلة الشرعية لو قال الله تعالى حرمت عبادة الأوثان لإرادة نفع الجاه منها، وأومأ إلى ذلك أو نبه بمسلك من مسالك العلة عليه ولم يقل ذلك ولم يشر إليه بحال، بل أشار في مواضع كثيرة إلى أن العلة في تحريمها وتكفير فاعلها عدولهم بها عن خالقهم المستحق لها ووضعهم الشئ في غير محله بإذلال نفوسهم المملوكة لغير مالكها وتعظيمهم من لا يملك دفع الضر عن نفسه،
62 ثم لا يلزم من الايماء إلى فساد تعليل العمل أن يكون ذلك الفساد هو علة النهي، لأن فساد تعليل العمل يرجع إلى التخطئة في عمل ذلك العمل على ذلك القصد ولا إشعار فيه بحكم من توسل بنبي أو ولي أصلا. مما يدل على فساد هذا القياس (السادس) مما يدل على فساد هذا القياس، اشتراط العلماء قاطبة في صحة القياس كون المقيس غير غير منصوص عليه في الكتاب والسنة، والمقيس هنا = وهو التوسل = منصوص عليه كتابا وسنة، والقياس في مقابلة النص باطل بالإجماع، والتفرقة بين الحي والميت في جواز التوسل بالأول فيما يقدر عليه دون الثاني، لا وجه لها، لأن الحكم الشرعي منوط في هذه المسألة ببلوغ حد العبادة وعدمه، فإن بلغ الفعل إذا وقع لغير الله ذلك الحد كان كفرا وإلا فلا، سواء كان المتوسل به حيا أو ميتا، على أنها مورطة للمفرق في مذهب القدرية، وجارة له إلى المذهب الماديين الذين ينكرون وجود الإله ويعتقدون فناء الأرواح، وقد أجمع أهل الأديان السماوية على بقاء الأرواح. تهجمه على قلوب كثير من المسلمين وحكمه عليهم بالشرك تهجمه على قلوب المسلمين وحكمه عليهم بالشرك وتخبطه في تعريف العبادة وتغليطه العلماء المجيزين عطف الاتباع على لفظ الجلالة في (حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) وأبطال كلامه وكلام ابن القيم: قال في المجلد الثاني من فتاواه ص 271: ثم إن كثيرا من الناس يحب خليفة أو عالما أو شيخا أو أميرا فيجعله ندا الله، وإن كان قد يقول إنه يحبه لله، فمن جعل غير
63 الرسول تجب طاعته في كل ما يأمر به وينهي عنه، وإن خالف أمر الله ورسوله فقد جعله ندا، وربما صنع به كما تصنع النصارى بالمسيح، ويدعوه ويستغيث به ويوالي أولياءه ويعادي أعداءه مع إيجابه طاعته في كل ما يأمر به وينهى عنه ويحلله ويحرمه ويقيمه مقام الله ورسوله. فهذا من الشرك الذي يدخل أصحابه في قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا الله)، فالتوحيد والإشراك يكونان في أقوال القلب ويكونان في أعمال القلب. وفي ص 274 منه قال: والعبادة أصلها القصد والإرادة والعبادة إذا أفردت دخل فيها التوكل ونحوه، وإذا قرنت بالتوكل صار التوكل قسيما لها إه. في ص 304 منه قال: العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة إ ه. وفي ص 305 منه قال: والعبادة أصل معناها الذل أيضا يقال طريق معبد إذا كان مذللا قد وطئته الأقدام، لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة فإن آخر مراتب الحب هو التتيم إ ه. وفي ص 306 قال: في قوله تعالى: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين)، أي حسبك وحسب من اتبعك الله، ومن ظن أن المعنى، حسبك الله والمؤمنون معه، فقد غلط غلطا فاحشا كما قد بسطناه في غير هذا الموضع إ ه.
64 تهجمه على قلوب كثير من المسلمين وحكمه عليهم بالشرك أقول: قد هجم على قلوب كثير من المسلمين في هذا الثرثرة من قوله: ثم إن كثيرا من الناس يحب خليفة أو عالما أو شيخا أو أميرا إلى قوله: (فالتوحيد والإشراك يكونان في أقوال القلب)، فحكم عليهم بالشرك وما في القلوب لا يعلمه إلا علام الغيوب، وبالغ في حكمه الفاجر بقوله: (وإن كان قد يقول إنه يحبه لله، فهو كافر عنده وأن قال أنه يحبه لله، فهو لا يصدق أقوال المسلمين وظواهرهم، ولا يكتفي منهم با اكتفى به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم)، منهم في قوله: (إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم)، وقوله صلى الله عليه وسلم موبخا لمولاه أسامة لما قتل الأعرابي الذي كان مع المشركين بعد قوله: لا إله إلا الله حين رفع السيف عليه، معتذرا بأنه قالها خوفا من السيف، (هلا شققت عن قلبه حتى تعلم أنه قالها لذلك)، بل قال صلى الله تعالى عليه وسلم (من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله). قال الإمام البخاري ولم ينسبه إلى الكفر، وأما ما أخرجه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، فقد قال الحافظ ابن حجر في فتحه، في شرح قوله صلى الله تعالى عليه وسلم، (ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت) فيه ما نصبه: والتعبير بقوله: (فقد كفر أو أشرك) للمبالغة في الزجر والتغليظ في ذلك. ثم قال: فإن اعتقد في المحلوف به من التعظيم ما يعتقده في الله حرم الحلف به وكان بذلك الاعتقاد كافرا وعليه يتنزل الحديث المذكور إ ه.
65 " دعا " لفظ مشترك بين معان كثيرة وقوله: (ويدعوه)، أي يعبده بالتوسل به إلى الله، ودعا في لغة العرب لفظ مشترك بين هذه المعاني، العبادة كقوله تعالى: (وإن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا)، والنسبة كقوله تعالى: (ادعوهم لآبائهم)، أي انسبوهم إليهم، والنداء كقوله تعالى: (وادعوا شهداءكم) أي نادوهم، والسؤال كقوله تعالى: (ادعوني أستجب لكم)، أي اسألوني، والدعوة إلى الشئ كقوله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة)، والتمني ومنه: (ولهم ما يدعون)، والقول نحو قوله تعالى: (دعواهم فيها سبحانك اللهم)، والتسمية كقوله تعالى: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم) كدعاء بعضكم بعضا)، وليس في اللغة أن " دعا " تأتي بمعنى " توسل ". وقد تقدم تحقيق أن معنى التوسل غير معنى العبادة لغة وشرعا، وأنه كفر المتوسلين بجاه الصالحين بالقياس الفاسد وإذن فلا سبيل له على تفكيرهم في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا في إجماع المسلمين ولا في اللغة، أنما سبيله فيه سبيل الشيطان وفساد قوله: (فالتوحيد والإشراك يكونان في أقوال القلب ويكونان في أعمال القلب) ظاهر، فإن التوحيد والإشراك مصدران والمصدر معنى من المعاني، فكل منهما عبارة عن المعنى القائم بالقلب وهو الاعتقاد، ولم يقل عالم في اعتقاد القلب الذي هو معنى أنه قول فضلا عن كونه أقوالا، ولم يقل فيه أنه عمل فضلا عن كونه أعمالا، وإنما العمل للجوارح الظاهرة. لم يأت بطائل في محاولة تعريف العبادة في المواضع الثلاثة ثم حاول تعريف العبادة في ثلاثة مواضع فلم يأت بطائل، فقوله في الأول منها: (والعبادة أصلها القصد والإرادة) غير موجود في القاموس وشرحه تاج العروس،
66 وأصل الشئ غير ذلك الشئ فأصل العبادة غير العبادة، فليس هذا تعريفا للعبادة، وقوله: (والعبادة إذا أفردت دخل فيها التوكل ونحوه وإذا قرنت بالتوكل صار التوكل قسيما لها) فاسد من ثلاثة أوجه: الأول: التوكل محله القلب وهو من التوحيد ومن أعلى مقامات اليقين وأشرف أحوال المقربين، فإذا أكرم الله به عبدا وتحقق به فأخذه بالأسباب لا ينافيه، والعبادة وإن ارتكزت باعتبار ثمرتها وقبولها عند الله عز وجل على الإخلاص فيها، والإخلاص محله القلب أيضا فهي باعتبار حقيقتها التكاليف الشرعية الظاهرة، لأنها فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيما لربه، أو امتثال أمر الله كما أمر على الوجه المأمور من أجل أنه أمر مع المبادرة بغاية الحب والخضوع والتعظيم لله، والإخلاص شرط في سائر العبادات، وحقيقته سلامته من وصفين: الرياء والهوى، والإخلاص في التوحيد يضاده التشريك في الإلهية، وهو وضده يتواردان على القلب فهو محلهما. الثاني: يلزم من دخول التوكل فيها، إذا أفردت، أن يكون قسما منها مندرجا فيها كاندراج الاسم تحت الكلمة فإنه قسم منها وأخص منها. الثالث: يلزم من كونه قسيما لها إذا قرنت به أن يكون مقابلا لها، لأن قسيم الشئ هو ما يكون مقابلا للشئ ومندرجا معه تحت شئ آخر، كالاسم فإنه مقابل للفعل ومندرج معه تحت الكلمة التي هي أعم منهما، فتحقق من طرفي كلامه أن التوكل جزاء داخل تحت كل لا محالة فإن كان داخلا في العبادة فهي كل له، وإن كان قسيما لها فهو معها داخلان في توحيد الألوهية الذي اخترعه، فهو كل لهما، فقد حاول بهذا الكلام تعريف العبادة فأخطأه، ووقع وهو لا يشعر في علم المنطق الذي ذمه وحرمه. وقوله في الثاني: (العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة) هراء، ليس بتعريف للعبادة أيضا وفساد قوله: (من
67 الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة) ظاهر تقدم إبطاله، وليس قوله في الثالث (والعبادة أصل معناها الذل أيضا إلى آخر هذره) تعريفا للعبادة. إبطال زعمه عطف (ومن اتبعك) على محل الكاف في (حسبك) وقوله في (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) أي حسبك وحسب من اتبعك الله متعين عنده أي محل " من " جر معطوفا على محل الكاف في حسبك لأن الحسب = على زعمه = مختص بالله عز وجل، ولا يجوز عطفه على لفظ الجلالة، ولذلك قال: (ومن ظن أن المعنى حسبك الله والمؤمنون معه فقد غلط غلطا فاحشا)، والعطف بالواو عند جمهور النحاة لمطلق التشريك في الحكم فلا تدل على ترتيب ولا مصاحبة. فالعلماء الذين أجازوا عطف (ومن اتبعك) على لفظ الجلالة لم يقولوا والمؤمنون معه فلفظة (معه) مفتراة عليهم. وقوله: (كما قد بسطناه في غير هذا الموضع) حوالة على مجهول، وهي إحدى تلبيساته، وقد أكثر منها في تآليفه فلا بسط ولا موضع، وعادة العلماء إذا كسل أحدهم عن تحقيق مسألة وحولها يقول قد بسطتها في كتابي الفلاني أو استوفيت تحقيقها في باب كذا فيعين المحول عليه. ثرثرة ابن القيم المسهبة الفاشلة في المدافعة عن رأي شيخه في " الحسب " وقد بسطها مؤله هواه تلميذه ابن القيم في أول هديه بما نصبه: وقال تعالى: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين)، أي الله وحده كافيك
68 وكافي اتباعك فلا يحتاجون معه إلى أحد، وهنا تقديران أحدهما أن تكون الواو عاطفة لمن على الكاف المجرورة ويجوز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار على المذهب المختار وشواهده كثيرة وشبه المنع منه واهية. والثاني أن تكون الواو واو مع وتكون من في محل نصب عطفا على الموضع فإن حسبك في معنى كافيك، أي الله يكفيك ويكفي من اتبعك كما تقول العرب: حسبك وزيدا درهم، قال الشاعر: إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا * فحسبك والضحاك سيف مهند وهذا أصح التقديرين، وفيها تقدير ثالث أن تكون من في موضع رفع بالابتداء، أي ومن اتبعك من المؤمنين فحسبهم الله، وفيها تقدير رابع وهو خطأ من جهة المعنى، وهو أن يكون من في موضع رفع عطفا على اسم الله، ويكون المعنى حسبك الله واتباعك وهذا وإن قال به بعض الناس فهو خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه، فإن الحسب والكفاية لله وحده كالتوكل والتقوى والعبادة. قال الله تعالى: (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين)، ففرق بين الحسب والتأييد فجعل الحسب له وحده وجعل التأييد بنصره وبعباده، وأثنى الله سبحانه على أهل التوحيد والتوكل من عباده، حيث أفردوه بالحسب فقال تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)، ولم يقولوا حسبنا الله ورسوله. فإذا كان هذا قولهم ومدح الرب تعالى لهم بذلك، فكيف يقول لرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم الله وأتباعك حسبك، وأتباعه قد أفردوا الرب تعالى بالحسب ولم يشركوا بينه وبين رسوله فيه؟، فكيف يشرك بينهم وبينه في حسب رسوله؟، هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل. ونظير هذا قوله تعالى: (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا
69 الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون)، ولم يقل وإلى رسوله بل جعل الرغبية إليه وحده، كما قال تعالى: (فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب) فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب لله وحده، كما أن العباد والتقوى والسجود لله وحده، والنذر والحلف لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى، ونظير هذا قوله تعالى: (أليس الله بكاف عبده)، فالحسب هو الكافي، فأخبر سبحانه وتعالى أنه وحده كاف عبده، فكيف يجعل أتباعه مع الله في هذه الكفاية؟، والأدلة الدالة على بطلان هذا التأويل الفاسد أكثر من أن تذكر ههنا إ ه. إبطال هذه الثرثرة ملخصا في ثلاثة مباحث أقول: تتلخص هذه الثرثرة في ثلاثة مباحث، تأييده عطف من على محل الكاف الذي عينه شيخه، وزعمه بطلان عطفه على لفظ الجلالة، وزعمه اختصاص الحسب بالله عز وجل، فتأييده لما عينه شيخه وزعمه أنه المختار وأن شواهده كثيرة وأن شبه المنع منه واهية، وباطل، فلم يبرهن على كونه المختار، ولم يأت بشاهد واحد من شواهده الكثيرة التي ادعاها، ولم يبرهن على وهي شبهة واحدة من شبه المنع منها التي ادعاها، بل قوله في التقدير الثاني إنه أصح التقديرين واستشهاده عليه بقول العرب: حسبك وزيدا درهم، وقول الشاعر: فحسبك والضحاك سيف مهند حجة دامغة زعمه بطلان التقدير الربع، واختصاص الحسب بالله عز وجل، أن إعادة الجار في المعطوف على ضمير مجرور سواء كان الجار حرفا كقوله تعالى: (فقال لها وللأرض) و (وعليها وعلى الفلك)، وقولك مررت بك وبزيد، أو اسما كقوله تعالى: (قالوا نعبد إلهك وإله آبائك)، وقولك حسبك وحسب زيد درهم، لازمة عند جمهور نحاة البصرة، وعلل لزومها بأن الجار والضمير المجرور كالشئ الواحد. فإذا عطف عليه بدون إعادة الجار فكأنه عطف على بعض الكلمة. وقيل إن الضمير المجرور كالتنوين في شدة اتصاله بالكلمة فهو كجزء منها، فكما لا يصح العطف على التنوين لا يصح العطف على ما أشبهه، وقيل غير هذين، واقتصر
70 أبو البقاء العكبري في إعراب القرآن في إعراب (ومن اتبعك)، على كونه في محل نصب عطفا على محل الكاف في حسبك باعتبار معناها، أو في محل رفع عطفا على لفظ الجلالة، وضعف عطفه على الكاف في (حسبك) قائلا فيه، لا يجوز عند البصريين، لأن العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار لا يجوز إه. فتقرر بهذا ضعف عطف (من) على الكاف بدون إعادة الجار. وضعف تقديره الثالث أيضا وهو كون (من) في موضع رفع مبتدأ والخبر محذوف، أي فحسبهم الله، لأنه محوج إلى تقدير جملة واقعة خبرا له يكون بها معطوفا بعلى ما قبله عطف الجمل، وما لا يحوج إلى تقدير، وهو عطفه على لفظ الجلالة عطف المفردات أولى مما يحوج إلى تقدير. وتقرر أيضا وظهر به قوة المبحث الثاني وهو عطفه على لفظ الجلالة، وقوله في آخرها (والأدلة على بطلان هذا التأويل الفاسد أكثر من أن تذكر ههنا)، ودعوى جوفاء لم يبرهن على بطلان هذا التأويل ولو بدليل واحد منها حتى يقربها من الصحة، فضلا عن كونها أدلة أكثر من أن تذكر ههنا، وما كتبه من الآيات ليس من الدليل في شئ، لأن الدليل هو المرشد إلى المطلوب والمطلوب هنا على زعمه منع عطف (من) على لفظ الجلالة. وهل أرشد الله فيما ثرثر به من كتابه تعالى الذي يلبس به هو وشيخه على البسطاء إلى أن الحسب مختص به تعالى؟، فلا يسوغ إسناده لاتباع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بالعطف عليه، وهل أرشد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في سنته التي يلبسان بها على البسطاء إلى أن الحسب مختص بالله عز وجل؟، فلا يسوغ لكم يا أمتي إسناده إلى أصحابي، ولا يلزم من إسناده تعالى الحسب له والتشريك في تأييد رسول الله صلى الله تعالى وسلم بينه وبين المؤمنين في قوله تعالى: (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين)، اختصاص الحسب به تعالى ومنع عطف (من) على لفظ الجلالة عند العقلاء، بل هي دالة على ضعف
71 مختاره وقوة عطف الاتباع على لفظ الجلالة. ولا يلزم أيضا من ثناء الله تعالى على الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في تفويضهم أمورهم إليه تعالى في قولهم: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، وعدم قولهم (ورسوله) اختصاص الحسب به تعالى، وحظر إسناده لاتباع الرسول المؤمنين بالعطف على لفظ الجلالة، فاقتصارهم على كفاية الله لهم وإن كان من أعلى مقامات التوحيد ليس بدليل على اختصاص الحسب بالله، ومنع عطف الاتباع على لفظ الجلالة، وترك قولهم (ورسوله) عدم، والعدم ليس بدليل عند العقلاء، فترك قولهم (ورسوله) ليس بدليل على منع عطف الاتباع على لفظ الجلالة، واختصاص الحسب به تعالى، ولا ملازمة ولا محال بين قولهم: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، وعدم قولهم: (ورسوله)، ومدح الله تعالى لهم على تفويضهم أمورهم إليه، وبين عطف الاتباع على لفظ الجلالة، فاستنكاره ذلك منكر، ولا ملازمة أيضا بين إفراد الاتباع الرب بالحسب وعدم تشريكهم بينه تعالى وبين رسوله صلى الله عليه وسلم فيه في هذه الآية، وبين تشريكه تعالى بينه وبين أتباع رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم في الحسب في آية الأنفال عند من يعقل، فله تعالى أن يشرك معه من شاء من عباده في الإسناد، وهو جل وعلا المتفرد بالإيجاد والتأثير، والتشريك بواو العطف كثير في كتاب الله وسنة رسوله. قال تعالى: (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله)، وقال: (والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين)، وقال: (فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير)، وقال: (وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله). وفي الصحيحين أنه صلى الله تعالى عليه وسلم خطب الأنصار رضي الله عنهم في الجعرانة فقال: (يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي وكنتم عالة فأغناكم الله بي)، كلما قال شيئا قالوا الله ورسوله أمن. وفي الصحيحين أيضا أنه صلى الله تعالى عليه وسلم خطب المسلمين في حجة الوداع
72 يوم النحر فقال: (أي شهر هذا؟) قلنا الله ورسوله أعلم، قال: (أي بلد هذا؟) قلنا الله ورسوله أعلم، قال: (فأي يوم هذا؟) قلنا الله ورسوله أعلم. وفي صحيح الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قام على الباب ولم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهية، فقالت يا رسول الله: (أتوب إلى الله وإلى رسوله) صلى الله عليه وسلم، وقد تحقق بهذا أن استنكاره الثاني منكر، وأن قوله: (هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل) فاسد، وتشريكه تعالى في الايتاء بينه وبين رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، وإسناده الحسب إليه تعالى، وعدم إسناده للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وتشريكه أيضا في الايتاء بينه وبين رسوله صلى الله عليه وسلم وقصره تعالى الرغبة الكاملة عليه تعالى، وعدم إسناده للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله تعالى: (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله رسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله أنا إلى الله راغبون)، ليس بدليل على اختصاص الحسب به تعالى، ولا بدليل على اختصاص الرغبة به تعالى عند من يعقل، وإنما هو عدم دليل، فجعله تعالى الايتاء بينه وبين رسوله فيها، وإسناده للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، في قوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه)، ليس بدليل على اختصاص الحسب به تعالى، وإسناده تعالى الحسب له وعدم إسناده لرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ليس بدليل أيضا على اختصاصه به تعالى، فقوله: (فلم يقل إلى آخر الهراء..) عدم دليل لا دليل، وقصره تعالى الرغبة الكاملة عليه وعدم تشريك رسوله صلى الله عليه وسلم فيها، ليس بدليل على اختصاصها به تعالى، فقوله: (ولم يقل وإلى رسوله إلى آخر الهراء..) عدم دليل لا دليل، فقد ورطه تقليده شيخه في عدم الدليل كثيرا. ومنشأ تغليط العلماء المجوزين عطف الاتباع على لفظ الجلالة، توهمه أن العطف يفيد المشاركة في حصول ذلك المهم بين الله وبين الاتباع، والمشاركة في ذلك تنافي توحيد الربوبية، والجواب عن توهمه بوجهين: الأول على تسليم اختصاص بالحسب بالله عز وجل لا يلزم منه ضعف عطف الاتباع لفظ الجلالة، لأن إسناد هذا المهم إلى الله عز وجل على أنه الخالق للأفعال كلها المؤثر فيها، وإسناد إلى الاتباع
73 على أنهم السبب الظاهر فيها، وهذا لا يقدح في العقيدة ولا في جواز عطف الاتباع على لفظ الجلالة، فهو على حد قوله تعالى: (وما رميت ولكن الله رمى)، الثاني قال الإمام الرازي: الكل من الله تعالى إلا أن من أنواع النصرة ما يحصل لأبناء على الأسباب المألوفة المعتادة، ومنها ما يحصل بناء على الأسباب المألوفة المعتادة فلهذا الفرق اعتبر نصرة المؤمنين إ ه. وهو قريب من الأول وعليهما ففي الآية مدح عظيم للمؤمنين ودليل على شرفهم، فيؤخذ منها أنهم إذا اجتمعت قلوبهم مع شخص لا يخذلون أبدا، وليس في ذلك اعتماد على غير الله، لأن المؤمنين ما التفت إليهم إلا لإيمانهم، وكونهم حزب الله فرجع الأمر حقيقة إلى الله عز وجل. إني أتحدى كل متغال في ابن تيمية وإني أتحدى كل متغال في ابن تيمية أن ينقل نقلا صحيحا عن أي واحد من علماء السلف الصالح الذين يلبسون بهم على البسطاء أنه قال لا يجوز عطف الاتباع على لفظ الجلالة، لأن الحسب مختص بالله عز وجل. وقد ذكر المفسرون في تفاسيرهم عطف: (ومن اتبعك) على لفظ الجلالة ولم يضعفوه، أولهم الإمام أبو جعفر بن جرير حكاه عن بعض أهل العربية قال واستشهد لصحته بقوله تعالى: (حرض المؤمنين على القتال)، ومحيي السنة البغوي والنيسابوري والزمخشري وعزاه الفخر الرازي للفراء قائلا: إنه أحسن الوجهين، وصدر به القرطبي وعزاه للحسن البصري رضي الله عنه وقال: اختاره النحاس وغيره، وأبو حيان وقال إنه الظاهر، وعليه فسره الحسن البصري وجماعة، والبيضاوي ومحشيه الشهاب الخفاجي قائلا: وضعف في الهدى النبوي رفعه عطفا على اسم الله وقال إنما هو عطف على الكاف فإن المعنى عليه، ولا وجه لا فإن الفراء والكسائي رجحاه وما قله وما بعده يؤيده، والنسفي والخازن والخطيب والشربيني وأبو السعود، وهؤلاء
74 الأفاضل مع التابعي الجليل الحسن البصري الذي قالوا فيه: إنه من أفصح أهل زمانه، ليسوا بشئ = في رأي ابن تيمية وتلميذه = ما دام الاعجاب واحتقار عباد الله ملازمين لهما، وزعمه في الثالث اختصاص الحسب بالله عز وجل باطل بالكتاب والسنة والاستعمال. إبطال زعمه اختصاص الحسب بالله بالكتاب والسنة والاستعمال أما الكتاب فقد قال تعالى في سورة المائدة: (وإذا قيل لهم تعالوا ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا)، فقد أسند المشركون الحسب لعمل آبائهم الفاسد، فإن قيل هذا حكاه الله عن المشركين وقد ذمهم الله عليه، قلت: إنما ذمهم الله على تقليدهم آباءهم في عبادة غير الله وإعراضهم عن الإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وذم آباءهم على جهلهم وعدم اهتدائهم لطريق الحق، ولم يذمهم على لفظ الحسب فقط، وإذا ثبت في كتاب الله إسناد الحسب لعمل المشركين الخبيث استقلالا فهل يقول عاقل باستحالة إسناده لعمل المؤمنين الطيب اتباعا. وقال تعالى في سورة التوبة: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم)، قال تعالى في سورة المجادلة: (ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير)، فهل يقول عاقل بجواز إسناد الحسب لجهنم استقلالا، وحظر إسناده للمؤمنين اتباعا؟، وهل يقول عاقل إن إسناده تعالى في هاتين الآيتين ما هو مختص به لجهنم لكرمها عليه، وحظر إسناده لسادة الأمة الإسلامية رضوان الله تعالى عليهم اتباعا لهوانهم عليه، سبحان واهب العقول. وأما السنة فقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فأن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه) = أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم، وقال صحيح عن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه.
75 وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله كل المسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه التقوى ههنا بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) = رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه وحسنه، ولا يقول ذو عقل ودين إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما أسند الحسب لا كلات ولاحتقار المسلم أخاه كان غير عالم بأنه مختص بالله، وأن أحمد بن تيمية وتلميذه علما ذلك، نعوذ بالله من زلقات اللسان وفساد الجنان. وأما الاستعمال فقد ذكره في أثناء كلامه قال: (كما تقول العرب حسبك وزيدا درهم): إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا * فحسبك والضحاك سف مهند وبهذا تحقق بطلان قوله: (فإن الحسب لله وحده) فحسبه وشيخه جهلهما ما ذكرته من الأدلة. إبطال زعمه (الكفاية لله وحده) بالكتاب والسنة والاستعمال وبطلان قوله أيضا (والكفاية لله وحده) فإن الدليل على عدم اختصاصها بالله عز وجل، الكتاب والسنة والاستعمال، أما الكتاب: فقد قال تعالى في سورة النساء مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم ذاما أهل الكتاب على تزكيتهم أنفسهم: (أنظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا)، فقد أسند تعالى الكفاية إلى افترائهم عليه، وقال تعالى في سورة الإسراء: (إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا)، فقد أسند تعالى الكفاية لنفس المكلف، ومعلوم عند كل من له إلمام بالعربية أن كلا من افترائهم على الله، والنفس فاعل كفى ومسند إليه، وزيدت الباء في فاعل كفى لتأكيد الاتصال الإسنادي بالاتصال الإضافي. وأما إسناد الكفاية في سنته عليه الصلاة والسلام لغيره تعالى فكثير، فمنه قوله صلى
76 الله تعالى عليه وسلم: (كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما يسمع) حديث صحيح = رواه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقوله: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت) = رواه الإمام أحمد وأبو داود والحاكم والبيهقي عن ابن عمرو بن العاص بإسناد صحيح =، وقوله: (كفى بالمرء من الشر أن يشار إليه بالأصابع) = حديث حسن رواه الطبراني عن عمران بن حصين رضي الله عنهما =، وقوله: (كفى بالمرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع وكفى بالمرء من الشح أن يقول آخذ حقي لا أترك منه شيئا) = حديث صحيح رواه الحاكم عن أبي أمامة رضي الله عنه. وأما إسناد الكفاية لغيره تعالى في الاستعمال فقد تكفلت به كتب اللغة كالقاموس وشرحه، وتأتي كفى قاصرة بمعنى (حسب) والغالب على فاعلها أن يقترن بالباء لتأكيد الاتصال الإسنادي بالاتصال الإضافي نحو: (وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا)، ومتعدية لواحد بمعنى (قنع) كقوله تعالى: (ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف)، وقول الشاعر: قليل منك يكفيني ولكن * قليلك لا يقال له قليل ومتعدية لاثنين بمعنى (وقى) نحو (فسيكفيكهم الله)، (وكفى الله المؤمنين القتال). تلبيسه بالتوكل فرض في بحر لا ساحل له وقوله (كالتوكل) تلبيس وخوض في بحر لا ساحل له، والتوكل مشتق من لفظ الوكالة يقال وكل أمره إلى فلان، أي فوضه إليه واعتمد عليه فيه، ويسمى الموكل إليه وكيلا، ويسمى المفوض إليه متكلا عليه ومتوكلا عليه، وينتظم مقام التوكل من علم وعمل وحال، فالعلم أساسه، والعمل ثمرته، والحال التحقق به، وهو وسط بين طرفي العلم والعمل ومحل التوكل القلب، وهو من التوحيد، والأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل بالقلب ما دام العبد متحققا بأن التقدير من الله، فإن تعسر عليه شئ فتقديره تعالى، وإن اتفق له شئ فبتيسيره تعالى، وهو من أعلى مقامات اليقين، وأشرف أحوال المقربين،
77 وهو في نفسه غامض من حيث التعريف ولذلك اختلفت أقوال العلماء في حده. فمنها: هو الثقة بما عند الله، واليأس عما في أيدي الناس، شاق من حيث العمل ووجه غموضه من حيث الفهم أن ملاحظة الأسباب والاعتماد عليها شرك في التوحيد، والإعراض عنها بالكلية طعن في السنة وقدح في الشرع فإن غالب المأمورات الشرعية مبناها على الأسباب، والاعتماد على الأسباب من غير أن ترى أسبابا في تغير وجه العقل وانغماس في غمرة الجهل، فإن العاقل كيف يعتمد على شئ وهو لا يرى به، وتحقيق معنى التوكل على وجه يتفق فيه مقتضى التوحيد والعقل والشرع في غاية الغموض والعسر لا يقوى على كشفه إلا العلماء الربانيون، وما جاء في كتاب الله مثل قوله تعالى: (وعلى الله فليتوكل المؤمنون)، فهو بيان لفضيلة التوكل على الله، وكل ما ذكر في القرآن من التوحيد فهو تنبيه على قطع الملاحظة عن الأغيار والتوكل على الواحد القهار، وبهذا يعلم ما في كلامه من التلبيس والإجمال، ومثله فيهما قوله: (والتقوى)، ومحل التقوى أيضا القلب بدليل حديث الترمذي المتقدم في مبحث الحسب (التقوى ههنا)، وهي في اللغة بمعنى الاتقاء وهو اتخاذ الوقاية، والتقوى جماع الخيرات، ومنتهى الطاعات، والرهبة من مباديها، وقد تسمى التقوى خوفا وخشية ويسمى الخوف تقوى. والاتقاء التحرز بطاعة الله عن عقوبته، وأصل التقوى اتقاء الشرك، ثم بعده اتقاء المعاصي والسيئات، ثم بعده اتقاء الشبهات، ثم ندع بعده الفضلات، والمتقي من قام به هذا الوصف، وغاية التقوى البراءة من كل شئ سوى الله، ومبدؤها اتقاء الشرك بالله، وأوسطها اتقاء الحرام. وقد قيل فيها أقوال كثيرة، فمنها ما نسب لحيدرة كرم الله وجهه رضي عنه أنها، ترك الاصرار على المعصية، وترك الاغترار بالطاعة، ومنها منا نسب إلى ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: (اتقوا الله حق تقاته)، هو أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى. وقيل هي مجانبة كل ما يبعدك عن الله، والمتبع هو الذي اتقى متابعة الهوى،.
78 وقيل: الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا. وقوله (والعبادة) صحيح، فهو جل وعلا المستحق لما المختص بها وحده وقد تقدم الكلام عليها مفصلا. وقوله (فالرغبة لله وحده) غير صحيح، ف (رغب) يتعدى (بفى) فيكون بمعنى إرادة الشئ والحرص عليه والطمع فيه، ويتعدى (بعن) فيكون بمعنى الإعراض عنه والزهد فيه، ويحتملهما قوله تعالى: (وترغبون أن تنكحوهن)، ويتعدى (بالي) فيكون بمعنى الابتهال والضراعة والطمع، ومنه حديث الدعاء (رغبة ورهبة إليك) وقوله تعالى (ويدعوننا رغبا ورهبا)، أي طمعا وخوفا، وحديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت يا رسول الله (إن أمي أتتني راغبة أفأصلها، قال نعم) يحتمل (في) و (إلي) أي طامعة. إبطال زعمه (الرغبة لله وحده) والرغبة الكاملة لله وقوله تعالى (إنا إلى الله راغبون) الذي احتج به على اختصاص الرغبة به تعالى تضرع وطمع، بدليل ما قبله ولا حجة فيه على اختصاص الرغبة به تعالى بدليل جواب (لو) المقدر، أي (ولو أنهم رضوا ما أتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله، إلى آخرها) لكان خيرا لهم، ونزولها في المنافقين معلوم، ولا حجة أيضا في قوله تعالى: (وإلى ربك) وحده (فارغب) أي تضرع في السؤال، ولا تسأل غيره فإنه القادر على إسعافك لا غيره، على اختصاص الرغبة به تعالى وإنما دلت على أن الرغبة الكاملة لله عز وجل، أي اجعل رغبتك إليه خصوصا ولا تسأل إلا فضله متوكلا عليه (وعلى الله فليتوكل المؤمنون). قال العلامة أبو البقاء في كلياته: ولم يشتهر تعديتها بإلى إلا أن تضمن معنى الرجوع، ويكون معنى الرغبة الرجاء والطلب إ ه.
79 الإنابة أعم من التوبة والأوبة وقوله (والإنابة لله وحده) صحيح، وهي الرجوع إليه تعالى في جميع الأحوال، وهي أعم من التوبة والأوبة، لأن التوبة الرجوع عن المعصية إلى الله، والأوبة الرجوع عن الطاعة إليه تعالى، بأن لا يعتمد على طاعته بل على فضله وكرمه تعالى. السجود للصنم ليس بكفر لذاته وقوله (والسجود لله وحده) صحيح، والسجود في اللغة الخضوع والتطامن، وفي الشرع وضع الجبهة على الأرض على قصد عبادة الله، والتذلل معتبر في مفهومه العرفي دون اللغوي، والسجود للصنم ليس بكفر لذاته، وإنما كفر العلماء الساجد للصنم لأنه علامة اعتقاد إلهيته، ولو كان كفرا لذاته ما حل في شريعة أبدا، ولكان من الفحشاء، والله لا يأمر بالفحشاء، وقد أمر الله ملائكته عليهم الصلاة والسلام بالسجود لآدم عليه الصلاة والسلام، وقد كان سائغا لغير الله تعالى في الشرائع المتقدمة، بدليل سجود يعقوب وامرأته وأولاده ليوسف عليهم الصلاة والسلام، وهو ركن من أركان الصلاة، والصلاة عماد الدين وأعظم أركان الإسلام بعد كلمة الشهادة. وقوله: (والنذر لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى) تلبيس، كشفه إن حد النذر لغة الايجاب والالتزام، وحده بالمعنى الأعم من الجائز عند المالكية: إيجاب امرئ على نفسه لله تعالى أمرا، لحديث (من نذر أن يعصي الله تعالى فلا يعصه)، وإطلاق الفقهاء على المحرم نذرا إ ه، ومثله في الشمول قول صاحب الروض المربع من الحنابلة: إلزام مكلف مختار نفسه لله تعالى شيئا غير محال بكل قول يدل عليه، وتقسيم الحنابلة له إلى ستة أقسام منعقدة دليل على أنه ليس بقربة لذاته، ولا بعبادة.
80 تقسيم الحنابلة النذر إلى ستة أقسام منعقدة دليل على أنه ليس بقربة لذاته ولا عبادة والحديث الذي أشار إليه المالكية = أخرجه الإمام أحمد والبخاري والأربعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها = أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله تعالى فلا يعصه)، وهو متناول للإقسام الستة المذكورة في كتب الحنابلة، وينعقد نذر المعصية كشرب خمر عندهم على الأصح، وإن حرم الوفاء به ويكفر من لم يفعله كفارة يمين ويقضي الصوم غير صوم يوم حيض، وهو من مفردات الإمام أحمد رضي الله عنه، ودال على أن النذر في ذاته ليس بقربة ولا عبادة، ولو كان نذر تبرر تقسيمه. وحده بالمعنى الخاص عند الشافعية: إيجاب العبد على نفسه قربة لم يوجبها الله تعالى، وعند المالكية: التزام مسلم كلف قربة ولو غضبان، والتعريفان متحدان معنى، فحقيقة النذر على التعريفين اللغوي والشرعي: إيجاب الإنسان أو المسلم على نفسه ما لم يوجبه الله تعالى عليه، والفقهاء الحنفية قالوا: من نذر نذرا مطلقا أو معلقا بشرط، وكان من جنسه فرض وهو عبادة مقصودة ووجد الشرط المعلق به لزمه الوفاء بما سمى، كصلاة وصوم وصدقة ووقف واعتكاف واعتاق رقبة وحج ولو ماشيا إ ه. ولا تخفى دلالة هذا الكلام على كون النذر ليس بقربة لذاته، فتحقق بهذا اتفاق المذاهب الأربعة عليه، وتحققت مباينته للعبادة تمام المباينة بمقتضى تعريف كل منهما لغة وشرعا، فإن العبادة لغة: أقصى نهاية الخضوع والتذلل، ولا يكون ذلك إلا لمن له غاية التعظيم، وشرعا: امتثال أمر الله كما أمر على الوجه المأمور به من أجل أنه أمر مع المبادرة بغاية الحب والخضوع والتعظيم.
81 الفرق بين كون المسلم يوجب على نفسه طاعة لم يوجبها الله تعالى عليه وبين كونه يأتي بأقصى نهاية الخضوع والتذلل لله تعالى فالفرق بين كون العبد يوجب على نفسه طاعة لم يوجبها الله تعالى عليه، وبين كونه يأتي بأقصى نهاية الخضوع والتذلل لله ويمتثل أمره تعالى فيأتي بما أمره به على الوجه المأمور به من أجل أنه أمر مع المبادرة الخ. يعرفه صغار الطلبة، ونهي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عنه في حديث الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقوله (أنه لا يرد شيئا وإنما يستخرج به من البخيل)، وفي رواية: (لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئا)، وفي رواية: (لا يأتي بخير) محمول على من علم من نفسه عدم الوفاء بما التزمه، ومعنى (لا يأتي بخير) أنه لا يرد شيئا من القدر كما في الرواية الأخرى، ومعنى (يستخرج به من البخيل) أن البخيل لا يأتي بالنذر تطوعا محضا مبتدئا وإنما يأتي به في مقابلة غرضه الذي علق نذره عليه. قال ابن الأثير وقد تكرر في أحاديث النذر ذكر النهي عنه وهو تأكيد لأمره، ؟؟ ير عن التهاون به بعد إيجابه. قال ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه، وإسقاط لزوم الوفاء به، إذ كان بالنهي يصير معصية فلا يلزم، وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك أمر لا يجر لهم في العاجل نفعا ولا يصرف عنهم ضررا ولا يرد قضاء فقال: (لا تنذروا) على أنكم تدركون بالنذر شيئا لم يقدره الله لكم أو تصرفون به عنكم ما ؟؟ به القضاء عليكم، فإذا نذرتم ولم تعتقدوا هذا فاخرجوا عنه بالوفاء فإن الذي بذر موه لازم لكم إ ه. والحديث الذي رواه أبو داود: قال نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن ينحر إبلا ببوانة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال رسول
82 الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأصحابه (هل كان فيها من وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟)، فقالوا: لا، قال: (فهل كان فيما عيد من أعيادهم؟)، قالوا: لا، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: (أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله)، يدل على أن نذر الذبح في مكان لا وثن فيه ولا عيدا من أعياد الجاهلية جائز، وليس بعبادة للمنذور وهو النحر ولا للمنذور فيه وهو المكان. والحديث الذي رواه أبو داود أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف قال (أوفي بنذرك) يدل على أن النذر ليس بقربة لذاته ولا عبادة، لأن حكم الضرب بالدف دائر عند الفقهاء بين الجواز والكراهة والتحريم، وقد صار قربة بكونه على رأس النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فرحا بقدومه من الغزو سالما والفرح بسلامته صلى الله عليه وسلم واجب ومن الإيمان، فلذلك أمرها صلى الله عليه وسلم بالوفاء بنذرها، زاد رزين في جامعه قالت: ونذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا = مكان يذبح فيه أهل الجاهلية = فقال (هل كان بذلك المكان وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟) قالت: لا، قال: (هل كان فيه عيد من أعيادهم؟)، قالت: لا، قال: (أوفي بنذرك)، فأمرها بوفاء نذرها حيث كان في مكان لا وثن فيه ولا عيدا من أعياد الجاهلية. لو كان النذر والذبح لغير الله عبادة لذاتهما ما حلا في مكان أبدا ولو خاليا من أوثان الجاهلية وأعيادها فلو كان النذر والذبح لغير الله عبادة لذاتهما ما حلا في مكان أبدا ولو خاليا من أوثان الجاهلية وأعيادها، ولو كانا عبادة لغير الله لكان أمره صلى الله عليه وسلم لذلك الرجل بالنحر في بوانة، ولتلك المرأة بالذبح في ذلك المكان أمرا لهما بعبادة غير الله، ولتلك المرأة أيضا بالضرب بالدف على رأسه أمرا لها بعبادته صلى الله عليه وسلم، برأه الله من ذلك وصلى عليه.
83 والنذر لمخلوق نبي أو ولي عند الحنابلة دائر بين الكراهة والتحريم ولا كفر ولا إشراك فيه، قال ابن مفلح في فروعه ج 3 ص 755: وذكر الآدمي البغدادي: نذر شرب الخمر ونحوه لغو فلا كفارة فيه ونذر ذبح ولده يكفر. وقال ابن رزين في نذر المعصية إنه لغو، قال: ونذره لغير الله كنذره لشيخ معين حي للاستغاثة به وطلب الحوائج منه كحلفه بغيره، وقال غيره هو نذر معصية كما قال شيخنا = (يعني ابن تيمية) = وقال في شرح دليل الطالب: (فائدة) قال الشيخ = (يعني ابن تيمية) =: النذر للقبور أو لأهلها كالنذر لإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، والشيخ فلان نذر معصية لا يجوز الوفاء به، وإن تصدق بما نذره من ذلك على من يستحقه من الفقراء والصالحين كان خيرا له عند الله وأنفع. وقال من نذر إسراج بئر أو مقبرة أو جبل أو شجرة أو نذر له أو لسكانه أو المضافين إلى ذلك المكان لم يجز ولا يجوز الوفاء به إجماعا ويصرف في المصالح ما لم يعرف ربه، ومن الحسن صرفه في نظيره من المشروع وفي لزوم الكفارة خلاف إ ه. قال الشيخ سليمان بن عبد الوهاب في أول رسالته الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية رادا على أخيه بكلام ابن تيمية هذا: فلو كان الناذر كافرا عنده لم يأمره بالصدقة لأن الصدقة لا تقبل من الكافر بل يأمره بتجديد إسلامه ويقول خرجت من الإسلام بالنذر لغير الله إ ه. النذر للولي عند الشافعية صحيح يجب صرفه إليه والنذر للولي الحي عند الشافعية صحيح يجب صرفه إليه ولا يجوز صرف شئ منه لغيره، والنذر لولي ميت إن قصد الناذر الميت بطل نذره لأن الميت لا يملك، وإن قصد قربة أخرى كأولاده وخلفائه أو إطعام الفقراء الذين عند قبره أو غير ذلك من القرب صح النذر ووجب صرفه فيما قصده الناذر وإن لم يقصد شيئا لم يصح نذره،
84 إلا أن كانت عادة الناس في زمن الناذر ينذرون للميت ويريدون جهة مخصوصة وعلمها الناذر فينزل نذره عليها إ ه. ونذر ما لا يهدى للكعبة كالدراهم والثياب والطعام لنبي أو ولي عند المالكية صحيح، فإن قصد الناذر الفقراء الملازمين للمحل أو الخدمة وجب على بعثه إليهم، وإن قصد به نفع الميت تصدق به حيث شاء، وإن لم يكن له قصد حمل على عادة موضع ذلك الولي، ونذر ما يهدي للكعبة بغير لفظ هدي وبدنة كشاة وبقرة وجمل لولي يلزمه ولا يبعثه له بل يذبحه بموضعه ويتصدق به على الفقراء ولا يأكل منه ولا يطعم غنيا، وله إبقاؤه حيا والتصدق عليهم بقدر لحمه ويفعل به ما شاء، وهذا إذا قصد به المساكين بلفظ أو نية، فإن قصد به نفسه وعياله ونحوهم فلا يلزمه، ولا يضر في قصد زيارة ولي استصحاب حيوان ليذبح هناك للتوسعة على أنفسهم وعلى فقراء المحل من غير نذر ولا تعيين إ ه. النذر للمخلوق عند الحنفية لا يصح والنذر للمخلوق الحنفية لا يصح، ومع هذا لم يقولوا بكفر من نذر له إه، والله سبحانه هو المطلع على كل مكان والعالم بسرائر عباده ونياتهم. فجعل ابن عبد الوهاب النذر والذبح لغير الله من أنواع العبادة في رسالته الأصول الثلاثة جهل فادح وقوله محتجا على أن النذر لغير الله كفر،: ودليل النذر قوله تعالى: (يوفون بالنذر) فاسد من سبعة أوجه: الأول: جهله الدليل فإن الدليل هو المرشد إلى المطلوب ولا إرشاد في هذه الآية لرأيه أصلا لا في منطوقها ولا في مفهوما. الثاني: يستقيم دليله لو قال الله في كتابه: (النذر لغيري عبادة له ومن عبد غيري فقد كفر)، أو قال: (من نذر لغيري فقد كفر)، ولم يقل الله هذا في كتابه فقد وضع الآية في غير موضعها.
85 الثالث: لو نهى الله في كتابه عن النذر لغيره بصريح النهي لم يلزم منه كفر من نذر لغيره إجماعا، فكيف مع عدم نهيه عنه؟، وقد نهى الله في كتابه العزيز عن الربا والزنا وأكل أموال الناس بالباطل وحرمتها في دين الإسلام معلومة بالضرورة، وقد أجمع أهل الحق على عدم تكفير مرتكب واحد منها ما لم يكن مستحلا له. الرابع: جهله الأمر والنهي، والأمر والخبر، والفرق بينها وجهله الخبر والإنشاء والفرق بينهما، فإنه قال في أول كلامه: (وأنواع العبادة التي أمر الله بها)، وذكر سبعة عشر مثالا بعضها خبر وبعضها أمر وبعضها نهي، ثم قال في آخره: (وغير ذلك من العبادة التي أمر الله بها كلها لله فجعلها كلها أوامر)، وهذه الآية التي احتج بها على كفر من نذر لغير الله خبر، وليست أمرا، والأمر قسم من أقسام الانشاء، والإنشاء مقابل للخبر وقسيم له وهما مندرجان تحت الكلام الذي هو جنسهما، ولو فرضت أمرا فإن أهل الحق مجمعون على عدم تكفير من لم يمتثل أمر الله من المسلمين كتارك الصلاة مثلا ما لم ينكر وجوبه عليه، كما أنهم متفقون على عدم تكفير مرتكب ما نهى الله عنه صريحا في كتابه من المسلمين كأكل الربا والزنا ما لم يستحله. الخامس: جهله تفسير الآية فإن الله تبارك وتعالى لما وصف ثواب الأبرار في الآخرة مدح أعمالهم التي كانوا في الدنيا يعملونها فاستوجبوا بها ذلك النعيم بقوله: (يوفون بالنذر)، فهي مستأنفة مسوقة لبيان ما لأجله رزقوا ما ذكر من النعيم مشتملة على نوع تفصيل ما ينبئ عنه اسم الأبرار إجمالا، كأنه قيل: ماذا فعلوا في الدنيا حتى نالوا تلك الرتبة العالية؟، فقيل يوفون بما أوجبوه على أنفسهم فكيف بما أوجبه الله تعالى عليهم، وبهذا تحقق أنه ليس فيها شبه دليل لرأيه لا في منطوقها ولا في مفهومها فضلا عن الدليل. السادس: لا يلزم من مدحه تعالى للأبرار على وفائهم بما نذروه كفر من لم يوف ينذره أو نذر لمخلوق عند العقلاء. السابع: الآية وإن دلت على وجوب الوفاء بالنذر مبالغة في وصف الأبرار بأداء
86 الواجبات لأن من وفى بما أوجبه على نفسه كان لما أوجبه الله عليه أوفى، فلا يلزم من دلالتها على ما ذكر كفر مسلم واحد لم يوف بما أوجبه على نفسه من النذر لله تعالى أو نذر لمخلوق عند العقلاء فضلا عن تكفير جمع من المسلمين بذلك. وقوله في تكفير من ذبح لغير الله: ودليل الذبح قوله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)، باطل بخمسة أوجه: الأول: جهله الدليل فإنه المرشد إلى المطلوب والمطلوب في هذه الآية على رأيه كفر من ذبح لغير الله، ولا إرشاد في منطوقها ولا في مفهومها إليه أصلا. الثاني: المأمور والمخاطب فيها بالإتيان بفروع الشريعة خالصة لله تعالى هو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد أمر في سابقتها بأصولها بأن يبين للمشركين وأهل الكتاب ما هو عليه من الدين الحق الذي يدعون أنهم عليه، فحمل أمرها وخطابها الموجه إليه صلى الله تعالى عليه وسلم على من ذبح من أمته صلى الله تعالى عليه وسلم الغير الله وتكفيره بذلك تهجم على كتاب الله قبيح جدا. الثالث: ليس فيها شبه دليل على كفر من ذبح لغير الله لا في منطوقها ولا في مفهومها فضلا عن الدليل، وإن كانت أمته صلى الله تعالى عليه وسلم مأمورة بما أمر به صلى الله عليه وسلم من أصول الشريعة وفروعها. في معنى النسك، خمسة أقوال للمفسرين الرابع: في معنى النسك خمسة أقوال للمفسرين: فقيل كل ما يتقرب به إلى الله تعالى من صلاة وحج وذبح وغيرها، وقيل هو العبادة، وقيل هو أعمال الحج، وقال
87 مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك والسدي المراد به الذبيحة في الحج والعمرة، وقيل هو الذبح، وهذا والثلاثة قبله داخلة في الأول لأن ذبح الضحايا والهدايا مما يتقرب به إلى الله تعالى، فالآية دالة على أن العبد مطلوب منه الإخلاص لله في جميع الطاعات، ويؤكده قوله تعالى: (لله رب العالمين لا شريك له)، والإخلاص محله القلب، ولا يعلم كون العبد أخلص في طاعته أم لا إلا عالم السر والنجوى، فقصره النسك فيها على مطلق الذبح الذي هو خامس الأقوال فيها وتهجمه على قلوب الذابحين ومقاصدهم وحكمه عليهم بالكفر تورط في وحل الجهل دفعات. وضع للحديث في غير موضعه الخامس: يستقيم دليله لو صرح تعالى فيها بقوله مثلا: (الذبح لغيري عبادة له ومن عبد غيري فقد كفر)، أو قال: (من ذبح لغيري فقد كفر وأشرك) ولم يقل الله تبارك وتعالى هذا في كتابه، فهو متهجم عليه، واحتجاجه على كفر من ذبح لغير الله بقوله: ومن السنة: (لعن الله من ذبح لغير الله) وضع للحديث في غير موضعه، فاسد من ستة أوجه: الأول: جهله حقيقة الدليل فإنه المرشد إلى المطلوب والمطلوب في هذا الحديث على زعمه كفر من ذبح لغير الله ولا إرشاد لكفر من ذبح لغير الله في منطوق هذا الحديث ولا في مفهومه فإن منطوقه لعن من ذبح لغير الله تعالى ومفهومه عدم لعن من ذبح الله تعالى. الثاني: يحتج علماء الإسلام بخبر الآحاد الذي هو ظني الثبوت، والدلالة الصحيح بقسميه والحسن بقسميه في مسائل الحلال والحرام لا في تكفير المسلمين، وهذا الذي وضعه في غير موضعه بعض حديث وجملته: (لعن الله من لعن والديه، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثا، ولعن الله من غير منار الأرض) = أخرجه الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن علي رضي الله عنه = ولم يذكر الجامع الصغير درجته، والخطب سهل عند ابن عبد الوهاب، لأن التكفير الجزاف الذي أسسه لا ارتباط له
88 بكتاب الله ولا بالسنة فضلا عن درجة الحديث فيها ولا بما عليه السواد الأعظم، وإنما ارتباط بفهمه، فيه كفر من ذبح لغير الله، وبه يلزم تكفير كل من اللاعن لوالديه، والمؤوي للمحدث والمغير لمنار الأرض، وبه يلزم تكفير كل من لعنه النبي صلى الله عليه وسلم وهو في السنة كثير فمنه: (لعن الله الخامشة وجهها والشاقة جيبها والداعية بالويل والثبور)، و: (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش) و: (لعن الله النائحة والمستمعة) و: (لعن الله المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء) و: (لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها) و: (لعن الله الربا وآكله وموكله وكاتبه وشاهده وهم يعلمون) و: (لعن الله العقرب ما تدع نبيا ولا غيره إلا لدغتهم)، وبه يلزم تكفير الخمر ومال الربا والعقرب، وبه يلزم تكفير كل من خالفه ولو نبيا مرسلا، ولم يقل ذو عقل ودين بكفر أحد من المكلفين الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم غير الجاحد والمستحل لما هو معلوم في الدين بالضرورة، فضلا عن كفر الخمر ومال الربا والعقرب. الثالث: يلزم على فهمه هذا تكفير جميع المسلمين من أول الإسلام إلى قيام الساعة جزما لأن من من ألفاظ العموم وغير نكرة متوغلة في الابهام لا تتعرف بالإضافة فتفيد العموم أيضا. فالآلاف المؤلفة من الغنم والبقر والإبل المذبوحة والمنحورة من أول الإسلام إلى زمننا وإلى قيام الساعة في المدن والقرى والبادية يوميا للأكل، علاوة على ما يذبح في الولائم والحفلات وللضيوف وفرحا بقدوم السلطان وغير ذلك من المقتضيات، كلها مذبوحة لغير الله قطعا.
89 لم يقل ذو عقل ودين بحرمة الذبح لهذه الأغراض، فضلا عن تكفير الأمة الإسلامية ولم يقل ذو عقل ودين بحرمة الذبح لهذه الأغراض فضلا عن تكفير الأمة الإسلامية من أولها إلى آخرها بها فليست داخلة في الحديث جزما وإذن... فالرابع: يتعين حمله على من ذبح لغير الله معظما له بذكر اسمه على الذبيحة، فهو مبين لقوله تعالى: (وما أهل به لغير الله) المذكور في مواضع من كتابه، المعطوف على المحرمات. الخامس: يستقيم عند علماء الإسلام تكفير من ذبح لغير الله إذا ذكر اسم غير تعالى على ذبيحته معظما له كتعظيم الله، ومحل التعظيم القلب، ولا يحكم عليه بالكفر إلا بعد تحقق التعظيم المذكور منه. السادس: يصح دليله لو قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من ذبح لغير الله فهو كافر)، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم هذا فقد وضع سنته عليه الصلاة والسلام في غير موضعها، وصواب قول ابن القيم (والحلف لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى) بالله، وهو صحيح على مذهب الجمهور الذين يكرهون الحلف بغيره تعالى ولو معظما كالنبي صلى الله عليه وسلم والكعبة، غير صحيح على مذهب أمامه الذي يتعالى فيه في غير هوى شيخه الذي أصمه وأعماه. واليمين بالنبي صلى الله عليه وسلم عند الإمام أحمد وأصحابه منعقدة يلزم الحانث فيها الكفارة، قالوا لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم شطر الإيمان، وقد أقسم الله به في قوله: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون).
90 تحقيق الكلام على قوله تعالى: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى قال الله تبارك وتعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء) آلهة، تحقيق لحقية ما ذكر قبله من إخلاص الدين الذي هو عبارة عن التوحيد بيان بطلان الشرك الذي هو عبارة عن ترك إخلاصه، والموصول عبارة عن المشركين، ومحله الرفع على الابتداء خبره جملة: (إن الله يحكم بينهم)، والأولياء المعبودون من دونه تعالى: الملائكة وعيسى وعزير والأصنام وغيرها. وقوله تعالى حاكيا عنهم: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)، حال بتقدير القول من واو اتخذوا مبينة لكيفية إشراكهم وعدم خلوص دينهم، والاستثناء مفرغ من أعم العلل، وزلفى مصدر مؤكد على غير لفظ المصدر ملاق له في المعنى، أي والذين لم يخلصوا العبادة لله تعالى بل شابوها بعبادة غير قائلين: ما نعبدهم لشئ من الأشياء إلا ليقربونا إلى الله تقريبا: (إن الله يحكم بينهم) وبين خصمائهم الذين هم المخلصون للدين وحذف هذا لدلالة الحال عليه (فيما هم فيه يختلفون) من الدين الذي اختلفوا فيه بالتوحيد والإشراك، وادعى كل فريق صحة دينه: (إن الله لا يهدي)، لا يوفق للاهتداء إلى الحق الذي هو طريق النجاة (من هود كاذب كفار)، راسخ في الكذب مبالغ في الكفر والمراد أن من أصر على الكذب والكفر بقي محروما من الهداية، والمراد بهذا الكذب وصفهم لمعبوداتهم بأنها آلهة مستحقة للعبادة، والعلم الضروري حاصل بأن وصفهم لها بالإلهية كذب محض، وأما الكفر فيحتمل أن يكون المراد منه الكفر الراجع إلى الاعتقاد، وهو هنا كذلك لأن وصفهم لها بالإلهية كذب، واعتقادهم فيها الإلهية جهل وكفر.
91 ويحتمل أن يكون المراد به كفران النعمة، والسبب فيه أن العبادة نهاية التعظيم، ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه غاية الإنعام وذلك المنعم؟ هو الله سبحانه وتعالى وهذه المعبودات لا مدخل لها في الإنعام. فالاشتغال بعبادتها يوجب كفران نعمة المنعم الحق، فقد صرح الضالون بأنهم عبدوها من دون الله وعللوا عبادتهم لها بتعليل فاسد، وهو تقريبها لهم إلى الله أي عللوا فعلهم، وعلة القياس الشرعية أنما هي للحكم، أي بالتحريم أو الحلية مثلا، لا لنفس الفعل، كالحكم بحرمة شرب النبيذ قياسا على الخمر بجامع الاسكار في كل منهما، وهذا عند علماء الأصول أوضح من الشمس متفق عليه، وإنما يكون تعليل المشركين فعلهم علة شرعية لو قال تعالى مثلا: حرمت عبادة الأصنام لإرادة نفع الجاه منها أو أومأ إلى ذلك أو نبه بمسلك من مسالك العلة عليه، ولم يقل تعالى ذلك ولم يشر إليه بحال، بل أشار تعالى في مواضع كثيرة إلى أن العلة في تحريمها وتكفير فاعلها عدولهم بها عن خالقهم المستحق لها ووضعهم الشئ في غير محله، ومنها قوله تعالى هنا: (إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار)، فقد أخبر تعالى فيها بنفي الهداية عن الراسخ في الكذب المبالغ في الكفر منبها على فساد تعليلهم ومداومتهم على عبادة المخلوق بصيغة المبالغة، وابن تيمية صدقهم في تعليلهم الفاسد، فقاس المسلمين المتوسلين بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم عليهم، قال التوسل على العبادة والمتوسل على العابد للمخلوق، فأوغل في بيداء القياس الفاسد دفعتين بناهما على تعليلهم الفاسد، وما بني على الفاسد فاسد، ولم يصدق المسلمين في قولهم إنهم يحبون خليفة أو عالما أو شيخا لله تعالى، بل كفرهم وحمل عليهم قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله)، في كلامه الذي أبطلته سابقا، محققا مؤيدا رأى أسلافه الحروريين الحاملين للآيات الواردة في الكفار على المسلمين، معلوم عند كل عاقل أن التوسل عمل، والعبادة عمل آخر وقد تقدم الكلام عليهما مفصلا موضحا.
92 الوجه الحادي والثلاثون إبطاله زعمه: إن التوحيد الذي أمر الله به العباد هو توحيد الألوهية (الحادي والثلاثون) قوله: (وإنما التوحيد الذي أمر الله به العباد هو توحيد الألوهية المتضمن توحيد الربوبية بأن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا فيكن الدين كله لله - إلى آخر الثرثرة)، افتراء على كتاب الله عز وجل افتراء مكشوفا، فإن الله تبارك وتعالى إنما أمر عباده بالتوحيد أمرا مطلقا ولم يأمرهم (بتوحيد الألوهية المتضمن توحيد الربوبية) الذي اخترعه فشاق به رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتبع فيه غير سبيل المؤمنين، زيادة على افترائه على الله في كتابه العزيز. قال الله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) أي وحدوه وقال تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا)، أي وحدوه وقال تعالى: (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه)، وقال تعالى: (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني)، وقال تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله)، وأمثالها في كتاب الله كثير، كلها دالة دلالة صريحة على أن الله تبارك وتعالى أمر عباده بالتوحيد أمرا مطلقا. الوجه الثاني والثلاثون إبطال زعمه عدم كفاية توحيد الربوبية وحده وعدم نفيه الكفر بخمسة أوجه الأول: دل كلامه هذا على أن التوحيد مجزءا إلى جزئين، ويلزم منه تجزئة الكفر ولا يكفي) باطل بخمسة أوجه: الأول:؟ ل كلامه هذا على أن التوحيد مجز - أ إلى جزئين، ويلزم منه تجزئة الشرك إلى ذلك لأنه زعم سابقا في الموضع الثالث من كلامه فيه، إن بني آدم كلهم قد عرفوا توحيد الربوبية، وجهلوا توحيد الألوهية فيصدق عليهم على أنهم موحدون
93 وعير موحدين، موحدون لأنهم عرفوا نصف التوحيد وأقروا به وهو توحيد الربوبية = على زعمه =، وغير موحدين لأنهم جهلوا نصف التوحيد وهو توحيد الألوهية = على زعمه = وعليه فقد ارتكبوا نصف الشرك، فمقتضى عدله تعالى ورحمته لعباده أن يتنصف لهم الثواب والعذاب، فيثابون نصف ثواب الموحدين الخالصين، ويعذبون نصف عذاب المشركين الخالصين. الثاني: دل كلامه في الموضع الثالث الذي أبطلته سابقا على أن التوحيد مجزء إلى ثلاثة أجزاء: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات، قال فيه: (وأخرجوا من التوحيد ما هو منه كتوحيد الإلهية، وإثبات حقائق أسماء الله وصفاته، ولم يعرفوا من التوحيد إلا توحيد الربوبية)، وعلى هذا يكون التوحيد مثلثا، ويلزم منه تثليث الشرك، وعليه فمقتضى عدله تعالى ورحمة لعباده تثليث العذاب والثواب لهم فيعذبون ثلثي عذاب المشركين الخالصين، ويثابون ثلث ثواب الموحدين الخالصين، لأنهم ارتكبوا ثلثي الشرك بجهلهم توحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وأتوا بثلث التوحيد بمعرفتهم توحيد الربوبية. الثالث: تذبذبه في تقسيمه التوحيد في ثلاثة مواضع إلى قسمين، وفي موضع إلى ثلاثة أقسام يدل على جهله بأصول الدين، فإن قيل ليس هذا تذبذبا وإنما هو تغير في الاجتهاد ظهر له في اجتهاده في تلك المواضع أن التوحيد ينقسم إلى قسمين، وظهر له في ذلك الموضع أنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام، قلت: هذا فاسد فإن الاجتهاد إنما يكون في الفروع لا في الأصول. الرابع: يلزم على كلا التقسيمين أنه لا يوجد في بني آدم عامة وفي المسلمين سلفهم وخلفهم خاصة موحد خالص ولا مشرك خالص إلا من وافقه منهم على رأيه، فلو استظهر هو والمفتونون به بالثقلين جميعا على إثبات رأيه هذا عن أي واحد من السلف الذين يلبس بهم لم يتسطيعوا. الخامس: التوحيد لغة: الحكم بأن الشئ واحد، والعلم بأنه واحد واصطلاحا فسره بعض أهل السنة بأنه: إفراد العابد المعبود بالعبادة، أي تخصيصه بها.
94 التوحيد في كتاب التوحيد فسره أهل السنة بأنه (نفي التشبيه والتعطيل) قال الحافظ ابن حجر في فتحه في كتاب التوحيد فسره أهل السنة بأنه: نفي التشبيه والتعطيل. وقال الإمام أبو القاسم الجنيد: التوحيد: إفراد القديم من المحدث، وقالوا في تفسيره باعتبار العلم المدون أنه: (العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية)، أو (علم يبحث فيه عما يجب اعتقاده في حق الله تعالى وفي حق رسله عليهم الصلاة والسلام وإن لم تذكر براهين ذلك) أو (علم بأحكام الألوهية وإرسال الرسل وصدقهم في جميع أخبارهم وما يتوقف عليه شئ من ذلك خاصا به، وعلم أدلتها بقوة هي مظنة لرد الشبهات وحل الشكوك). فظهر أن التوحيد في جميع هذه التعاريف مصدر، والمصدر معنى من المعاني واجد لا يمكن تقسيمه لذاته وإنما يمكن تقسيمه باعتبار متعلقه، كما أن الكفر مصدر لا يمكن تقسيمه لذاته وإنما يقسم باعتبار متعلقه، وأصل الكفر تغطية الشئ تغطية تستهلكه، وشاع في ستر النعمة خاصة، وفي مقابلة الإيمان، والكفر الذي هو بمعنى الستر من باب ضرب والذي هو ضد الإيمان من باب نصر، ويتعدى هذا بالباء نحو (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله) والكفر الذي هو ضد الشكر يتعدى بنفسه، يقال: كفر نعمة الله، قال بعض أهل العلم: الكفر على أربعة أنحاء كفر إنكار بأن لا يعرف الله أصلا ولا يعترف به، وكفر جحود، وكفر معاندة، وكفر نفاق، من لقي ربه بواحد من هذه لم يغفر له، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فأما كفر الانكار فهو أن يكفر بقلبه ولسانه ولا يعرف ما يذكر له من التوحيد، وأما كفر الجحود فإن يعترف بقلبه ولا يقر بلسانه ككفر إبليس وأمية بن أبي الصلت، وأما كفر المعاندة فهو أن يعرف الله بقلبه ويقر بلسانه ولا يدين به ككفر أبي جهل وأضرابه، وأما كفر النفاق فالإقرار باللسان وعدم الاعتقاد بالقلب كالمنافقين الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
95 الشرك ينقسم باعتبار متعلقه إلى ستة أنواع وأشرك بالله كفر فهو مشرك ومشركي والاسم الشرك فيها. والشرك ينقسم أيضا باعتبار متعلقه إلى ستة أنواع: شرك الاستقلال وهو إثبات إلهين مستقلين كشرك المجوس، وشرك التبعيض وهو تركيب الإله من آلهة كشرك النصارى، وشرك التقريب وهو عبادة غير الله تعالى ليقربه إلى الله زلفى كشرك متقدمي الجاهلية، وشرك التقليد وهو عبادة غير الله تبعا للغير كشرك متأخري الجاهلية، وشرك الأسباب وهو إسناد التأثير للأسباب العادية كشرك الفلاسفة والطبيعيين ومن تبعهم على ذلك، وشرك الأغراض وهو العمل لغير الله وهو الرياء فحكم الأربعة الأولى: الكفر بالإجماع، وحكم السادس، والمعصية من غير كفر بالإجماع، وحكم الخامس: التفصيل، فمن اعتقد في الأسباب أنها تؤثر بطبعها فهو كافر بالإجماع، ومن اعتقد أنها تؤثر بقوة أودعها الله فيها، أو أنها أسباب عادية قد تتخلف عن مسببياتها والمؤثر في الأشياء حقيقة هو الله تبارك وتعالى فهو مسلم. مقالة المحقق المرحوم يوسف الدجوي في التوحيد وقد انتهيت بتوفيق الله من إبطال كثير من كلام ابن تيمية وابن القيم وبعض كلام ابن عبد الوهاب في توحيد الربوبية والألوهية والعبادة وملحقاتهما في هذا الفصل، واختمه بما كتبه العلامة المحقق المرحوم الشيخ (يوسف الدجوي) المتوفى سنة خمس وستين وثلاثمائة وألف في توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية قال رحمه الله: توحيد الألوهية - وتوحيد الربوبية جاءتنا رسائل كثيرة يسأل مرسلوها عن توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية ما معناهما وما الذي يترتب عليهما ومن ذا الذي فرق بينهما؟، وما هو البرهان على صحة ذلك أو بطلانه؟، فنقول وبالله التوفيق:
96 إن صاحب هذا الرأي هو ابن تيمية الذي شاد بذكره قال: إن الرسل لم يبعثوا إلا لتوحيد الألوهية وهو إفراد الله بالعبادة، وأما توحيد الربوبية وهو اعتقاد أن الله رب العالمين المتصرف في أمورهم فلم يخالف فيه أحد من المشركين والمسلمين بدليل قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله). ثم قالوا: إن الذين يتوسلون بالأنبياء ويتشفعون بهم وينادونهم عند الشدائد هم عابدون لهم قد كفروا باعتقادهم الربوبية في تلك الأوثان والملائكة والمسيح سواء بسواء، فإنهم لم يكفروا باعتقادهم الربوبية في تلك الأوثان وما معها بل بتركهم توحيد الألوهية بعبادتها، وهذا ينطبق على زوار القبور المتوسلين بالأولياء المنادين لهم المستغيثين بهم الطالبين منهم ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، بل قال محمد بن عبد الوهاب: (إن كفرهم أشنع من كفر عباد الأوثان، وإن شئت ذكرت لك عبارته المحزنة الجريئة)، فهذا ملخص مذهبهم مع الإيضاح، وفيه عدة دعاوى. فلنعرض لها على سبيل الاختصار، ولنجعل الكلام في مقامين فنتاحكم إلى العقل ثم نتحاكم إلى النقل، فنقول: قولهم = إن التوحيد ينقسم إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية تقسيم غير معروف لأحد قبل ابن تيمية، وغير معقول أيضا كما ستعرفه، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد دخل في الإسلام إن هناك توحيدين وأنك لا تكون مسلما حتى توحد توحيد الألوهية، ولا أشار إلى ذلك بكلمة واحدة، ولا سمع ذلك عن أحد من السلف الذين يتبجحون باتباعهم في كل شئ، ولا معنى لهذا التقسيم فإن الإله الحق هو الرب الحق، والإله الباطل هو الرب الباطل، ولا يستحق العبادة والتأليه إلا من كان ربا، ولا معنى لأن نعبد من لا نعتقد فيه أنه رب ينفع ويضر فهذا مرتب على ذلك كما قال تعالى: (رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته). فرتب العبادة على الربوبية، فإننا إذا لم نعتقد أنه رب ينفع ويضر فلا معنى لأن نعبده = كما قلنا = ويقول تعالى: (ألا يسجدوا الله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض)، يشير إلى أنه لا ينبغي السجود إلا لمن ثبت اقتداره التام، ولا معنى لأن يسجدوا لغيره. هذا هو المعقول، ويدل عليه القرآن والسنة.
97 أما القرآن فقد قال: (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا)، فصرح بتعدد الأرباب عندهم، وعلى الرغم من تصريح القرآن بأنهم جعلوا الملائكة أربابا. يقول ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب: إنهم موحدون توحيد الربوبية ونيس عندهم إلا رب واحد وإنما أشركوا في توحيد الألوهية، ويقول يوسف عليه السلام لصاحبي السجن وهو يدعوهما إلى التوحيد: (أأرباب متفر - قون خير أم الله الواحد القهار)، ويقول الله تعالى أيضا: (وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي)، وأما هم فلم يجعلوه ربا. ومثل ذلك قوله تعالى: (لكنا هو الله ربي)، خطابا لمن أنكر ربوبيته تعالى وانظر إلى قولهم يوم القيامة: (تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين)، أي في جعلكم أربابا = كما هو ظاهر = وانظر إلى قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قال وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا)، فهل ترى صاحب هذا الكلام موحدا أو معترفا؟. ثم انظر إلى قوله تعالى: (وهم يجادلون في الله)، إلى غير ذلك وهو كثير لا نطيل بذكره، فإذا ليس عند هؤلاء الكفار توحيد الربوبية = كما قال ابن تيمية =، وما كان يوسف عليه السلام يدعوهم إلا إلى توحيد الربوبية، لأنه ليس هناك شئ يسمى توحيد الربوبية وشئ آخر يسمى توحيد الألوهية عند يوسف عليه السلام. (فهل هم أعرف بالتوحيد منه ويجعلونه مخطئا في التعبير بالأرباب دون الآلهة؟)، ويقول الله في أخذ الميثاق: (ألست بربكم قالوا بلى)، فلو كان الاقرار بالربوبية غير كاف وكان متحققا عند المشركين ولكنه لا ينفعهم = كما يقول ابن تيمية =، ما صح أن يؤخذ عليهم الميثاق بهذا، ولا صح أن يقولوا يوم القيامة: (إنا كنا عن هذا غافلين)، وكان الواجب أن يغير الله عبارة الميثاق إلى ما يوجب اعترافهم بتوحيد الألوهية حيث إن توحيد الربوبية غير كاف = كما يقول هؤلاء =، إلى آخر ما يمكننا أن نتوسع فيه، وهولا يخفى عليك، وعلى كل حال فقد اكتفى منهم بتوحيد الربوبية، ولو لم يكونا متلازمين لطلب إقرارهم بتوحيد الألوهية أيضا.
98 ومن ذلك قوله تعالى (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله)، فإنه إله في الأرض ولو لم يكن فيها يعبده كما في آخر الزمان، فإن قالوا إنه معبود فيها أي مستحق للعبادة، قلنا إذا لا فرق بين الإله والرب فإن المستحق للعبادة هو الرب لا غير، ما كانت محاورة فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام إلا في الربوبية وقد قال: (أنا ربكم الأعلى) ثم قال: (لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين) ولا داعي للتطويل في هذا. وأما السنة فسؤال الملكين للميت عن ربه لا عن إلهه، لأنهم لا يفرقون بين الرب والإله، (فإنهم ليسوا بتيميين ولا متخبطين)، وكان الواجب على مذهب هؤلاء أن يقولوا لميت: من إلهك لا من ربك؟ أو يسألوه عن هذا وذاك. وأما قوله: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله)، فهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم إجابة لحكم الوقت مضطرين لذلك بالحجج القاطعات والآيات البينات،، ولعلهم نطقوا بما لا يكاد يستقر في قلوبهم أو يصل إلى نفوسهم، بدليل أنهم يقرنون ذلك القول بما يدل على كذبهم، وأنهم ينسبون الضر والنفع إلى غيره، وبدليل أنهم يجهلون الله تمام الجهل ويقدمون غيره عليه حتى في صغائر الأمور. وإن شئت فانظر إلى قولهم لهود عليه الصلاة والسلام: (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء). فكيف يقول ابن تيمية إنهم معتقدون أن الأصنام لا تضر ولا تنفع إلى آخر ما يقول؟. ثم انظر بعد ذلك في زرعهم وأنعامهم: (هذا لله بزعمهم وهذا لشر كائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم)، فقدموا شركاءهم على الله تعالى في أصغر الأمور وأحقرها.
99 وقال تعالى في بيان اعتقادهم في الأصنام: (وما نرى معكم شفعاء كم الدين زعمتم أنهم فيكم شركاء)، فذكر أنهم يعتقدون أنهم شركاء فيهم، ومن ذلك قول أبي سفيان يوم أحد: (اعل هبل)، فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: (الله أعلى وأجل). فانظر إلى هذا ثم قل لي ماذا ترى في ذلك التوحيد الذي ينسبه إليهم ابن تيمية ويقول إنهم فيه مثل المسلمين سواء بسواء وإنما افترقوا بتوحيد الألوهية؟. وأدل من ذلك كله قوله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم)، إلى غير ذلك مما يطول شرحه. فهل ترى لهم توحيدا بعد ذلك يصح أن يقال فيه إنه عقيدة؟. أما التيميون فيقولون بعد هذا كله أنهم موحدون توحيد الربوبية، وأن الرسل لم يقاتلوهم إلا على توحيد الألوهية الذي لم يكفروا إلا بتركه، ولا أدري ما معنى هذا الحصر مع أنهم كذبوا الأنبياء وردوا ما أنزل عليهم واستحلوا المحرمات وأنكروا البعث واليوم الآخر وزعموا أن الله صاحبة وولدا وأن الملائكة بنات الله (ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون)، ولذلك كله لم يقاتلهم عليه الرسل = في رأي هؤلاء = وإنما قاتلوهم على عدم توحيد الألوهية = كما يزعمون = وهم بعد ذلك مثل المسلمين سواء بسواء أو المسلمون أكفر منهم في رأي ابن عبد الوهاب. وما علينا من ذلك كله، ولكن نقول لهم بعد هذا على فرض أن هناك فرقا بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية = كما يزعمون = فالتوسل لا ينافي توحيد الألوهية فإنه ليس من العبادة في شئ لا لغة ولا شرعا ولا عرفا، ولم يقل أحد إن النداء أو التوسل بالصالحين عبادة، ولا أخبرنا الرسول صلى الله تعالى وسلم بذلك، ولو كان عبادة أو شبه عبادة لم يجز بالحي ولا بالميت.
100 ومن المعلوم أن المتوسل لم يطلب إلا من الله تعالى بمنزلة هذا النبي أو الولي، ولا شك في أن لهما منزلة عند الله تعالى في الحياة وبعد الممات. فإن تشبث متشبث بأن الله أقرب إلينا من حبل الوريد فلا يحتاج إلى واسطة، قلنا له: (حفظت شيئا وغابت عنك أشياء...)، فإن رأيك هذا يلزمه ترك الأسباب والوسائط في كل شئ، مع أن العالم مبني على الحكمة التي وضعت الأسباب والمسببات في كل شئ، ويلزمه عدم الشفاعة يوم القيامة وهي معلومة من الدين بالضرورة، فإنها على هذا الرأي لا حاجة إليها، إذ لا يحتاج سبحانه وتعالى إلى واسطة فإنه أقرب من الواسطة. ويلزم خطأ عمر بن الخطاب في قوله: (إنا نتوسل إليك بعم نبيك العباس الخ..)، وعلى الجملة يلزم سد باب الأسباب والمسببات والوسائل والوسائط، وهو خلاف السنة الإلهية التي قام عليها بناء هذه العوالم كلها من أولها إلى آخرها، ولزمهم على هذا التقدير أن يكونوا داخلين فيما حكموا به على المسلمين، فإنه لا يمكنهم أن يدعوا الأسباب أو يتركوا الوسائط بل هم أشد الناس تعلقا واعتمادا عليها. ولا يفوتنا أن نقول: إن التفرقة بين الحي والميت في هذا المقام لا معنى لها فإن المتوسل لم يطلب شيئا من الميت أصلا، وإنما طلب من الله متوسلا إليه بكرامة هذا الميت عنده أو محبته له أو نحو ذلك، فهل في هذا كله تأليه للميت أو عبادة له، أم هو حق لا مرية فيه، ولكنهم قوم يجازفون ولا يحققون كيف وجواز التوسل بل حسنه معلوم عند جميع المسلمين. وانظر كتب المذاهب الأربعة (حتى مذهب الحنابلة) في آداب زيارته صلى الله عليه وسلم تجدهم قد استحبوا التوسل به إلى الله تعالى، حتى جاء ابن تيمية فخرق الاجماع وصادم المركوز في الفطر مخالفا في ذلك العقل والنقل إه.
101 الفصل الثالث في عدم توقيرهم النبي صلى الله عليه وسلم من لم يعظم محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم بما يليق بمقامه فهو كافر التوقير العظيم، وتعظيم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من الإيمان فمن لم يعظمه صلى الله تعالى عليه وسلم بما يليق بمقامه فهو كافر، ومن رفعه في التعظيم إلى مقام الألوهية فهو كافر، وقد نهانا الله سبحانه في كتابه العزيز عن ندائه صلى الله تعالى عليه وسلم كنداء بعضنا لبعض ولم يخاطبه الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز إلا بصيغة الاحترام. وقال تعالى مثنيا عليه: (وإنك لعلى خلق عظيم) و (إنك لتهدي إلى صراط مستقيم)، وقال واصفا له بصفات عالية شريفة: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون)، وقال مخاطبا لقريش والعرب واصفا له بصفتين من صفاته تبارك وتعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم). قد قلدوا في عدم توقيره صلى الله عليه وسلم ابن تيمية في منعه شد الرحال لزيارة قبره صلى الله تعالى عليه وسلم وقد قلدوا في عدم توقيره صلى الله تعالى عليه وسلم ابن تيمية في منعه زيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وشد الرحال إليها وتحريمه قصر الصلاة في سفرها ومنعه التوسل بجاهه صلى الله تعالى عليه وسلم، هذا مع كونه ألف في تعظيمه صلى الله تعالى
102 عليه وسلم: (السيف المسلول على شاتم الرسول) طبع في حيدرآباد قال في أثنائه: (النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ليس كسائر الناس ف الحقوق بل خصوصياته لا تحصى إ ه.). الحكم عن أبويه صلى الله تعالى عليه وسلم بأنهما ماتا ليس من العقائد التي تجب على المسلم وزادوا عليه إيذاءه صلى الله تعالى عليه وسلم في أبويه وفي الصلاة عليه صلى الله تعالى عليه وسلم وفي الكتب المؤلفة فيها وفي أصحابها وفي المصلين عليه، ومنه تسويده صلى الله عليه وسلم في الصلاة أو في غيرها. وقد اعتقدوا أن كل ما فيه إجلاله صلى الله تعالى عليه وسلم من قول أو فعل فهو شرك وعبادة له من قائله أو فاعله، فسجلوا على أنفسهم للعالم الإسلامي أنه موتورون منه صلى الله تعالى عليه وسلم، يسوءهم ما فيه توقيرهم، ويسرهم ما فيه انتهاك حرمته صلى الله تعالى عليه وسلم، والحكم على أبويه صلى الله تعالى عليه وسلم بأنهما ماتا.. ليس من العقائد التي تجب على المسلم، فلو مات جاهلا مصيرهما لم يسأله الله تعالى عنهما، ولو مات معتقدا نجاتهما وهما في الواقع.. لا يؤاخذه الله تعالى على خطأه في هذا الاعتقاد فهو غير خاسر على كلا الأمرين، ولو مات معتقدا كفرهما وهما في الواقع مسلمان كان خاسرا. وقد قال عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه لأحد أصحاب شوذب الخارجي حين اعترف له بظلم قرابته للناس، فقال له الخارجي لم لا تلعنهم وتتبرأ منهم،: متى عهدك بلعن إبليس والتبري منه، فقال الخارجي لا أذكر بذلك، فقال عمر: إذا كان إبليس شر خلق الله تعالى لم يوجب الله لعنه عليك فلم تلعنه ولم تتبرأ منه، أفألعن وأتبرأ أنا من قرابتي وهم مسلمون. وقد نهى الله تعالى عليه وسلم عن سب الأموات في الحديث الذي أخرجه الأئمة
103 أحمد والبخاري والنسائي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا). ونهيه صلى الله عليه وسلم عن سب الأموات وفي الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده والترمذي عن المغيرة بإسناد حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء)، وقد هفا هفوة قبيحة ملا علي القارئ ألف رسالة في.. أبويه صلى الله تعالى عليه وسلم، فلم يكتف التيميون باعتقادهم. أبويه صلى الله تعالى عليه وسلم بل طبعوا هذا الرسالة، كأن رأي ملا علي القارئ الشاذ عن جماعة المسلمين عندهم وحي منزل من عند الله، وكأن إيمان المسلم عندهم لا يتم إلا بطبع هذه الرسالة ولا يتم إلا بالتشنيع والتشهير به صلى الله تعالى عليه وسلم بأن أبويه.. وقد أخبرني المرحوم الشيخ مصطفى الحمامي بأن التيميين لما منعوا كتابه " النهضة الاصلاحية، من دخول مملكتهم لرده على ملا علي القاري في نسبته عدم نجاتهما إلى الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة، دخل على قاضي قضائهم فقال له لم منعتم كتابي النهضة الاصلاحية وما فيه إلا الاصلاح، فقال له ما مذهبك؟، قال حنفي، فقال هذا ملا علي القاري منكم ألف رسالة في عدم نجاتهما وذكر أن ذلك موجود في الفقه الأكبر لإمامكم، فقال الحمامي: ملا علي القاري ليس بمعصوم من الخطأ وهذه المسألة ليست من عقائد الدين الواجبة على المسلم وليست موجودة في الفقه الأكبر، ونسبة هذا إلى الإمام أبي حنيفة غير صحيحة، وكأنكم سجلتم على أنفسكم للعالم الإسلامي بطبعكم رسالة القاري عداوتكم لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال له: ما تقول في: (الرحمن على العرش استوى)؟، فقال الحمامي: أقول كما قال إمام دار الهجرة: (الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة)، ولا أزيد على هذا، فقال له قل استوى بذاته؟، فقال الحمامي إن ثبتت هذه اللفظة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأنا أقولها وإن لم تثبت فأنا أضرب بها عرض الحائط. انتهى.
104 مسالك الحنفا في نجاة والدي المصطفى قال العلامة السيوطي في رسالته " مسالك الحنفاء في نجاة والدي المصطفى " ما نصبه: وسئل القاضي أبو بكر بن العربي عن رجل قال إن آباء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في النار، فأجاب بأن من قال ذلك فهو ملعون لقوله تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة)، قال ولا أذى أعظم من أن يقال عن أبيه إنه في النار. كان محمد بن عبد الوهاب ينهي عن الصلاة وذكر صاحب: (مصباح الأنام وجلاء الظلام في رد شبه البدعي النجدي التي أضل بها العوام) السيد علوي بن أحمد بن حسن بن السيد العارف بالله عبد الله بن علوي الحداد في كتابه المذكور، ثم السيد أحمد بن زيني دحلان في رسالته: (الدرر السنية في الرد على الوهابية): إن محمد بن عبد الوهاب كان ينهى عن الصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويتأذى من سماعها وينهى عن الإتيان بها ليلة الجمعة وعن الجهر بها على المنائر ويؤذي من يفعل ذلك ويعاقبه أشد العقاب حتى أنه قتل رجلا أعمى كان مؤذنا صالحا ذا صوت حسن نهاه عن الصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في المنارة بعد الأذان فلم ينته فقتله، ثم قال إن الربابة في بيت الخاطئة (يعني الزانية) أقل إثما ممن ينادي بالصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في المنائر، ويلبس على أصحابه بأن ذلك كله محافظة على التوحيد، وأحرق دلائل الخيرات وغيرها من كتب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ويتستر بقوله إن ذلك بدعة وأنه يريد المحافظة على التوحيد إ ه. قلت: لقد صدق السيدان وبرا فيما نقلاه عنه، فإن مقلديه لا زالوا ينفذون رأيه تاما غير منقوص بإتلاف كتب الصلوات ورمي مؤلفيها بالزندقة والإلحاد وقارئيها
105 بالشرك، وأخبرني ثقة في سنة سبع وسبعين وثلاثمائة وألف أن صوماليا تلميذا في مدرسة الحديث أنكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له طلبة المغاربة ومدرس هندي فيها يقال له عبد الحق، إن أحاديث كثيرة قد وردت في فضلها فقال إنه لا يعترف بالأحاديث، فقالوا له فما تقول في الآية القرآنية: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما)؟، فقال لهم: ومن هو هذا النبي.. إن القرآن لم يسمه، صرح هذا الخبيث بتكذيب أحاديث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والكفر به وبالقرآن الذي أنزل عليه وبمنزله في البلد المقدس في مدرسة يدرس فيها سنة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يقتل، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقد أفتى خادم الاستعمار والتيميين صاحب مجلة " المنار " بأن الصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد الأذان بدعة قبيحة فنتج عن فتواه فتنة بين أهل أرياف مصر وقدم سؤال بذلك للعلامة المحقق المرحوم الشيخ يوسف الدجوي فكتب مقالة نفيسة نشرت في مجلة الأزهر أبطل بها شقاشقه. وفي سنة دخول السعوديين لمكة المكرمة 1343 رأيت عند الاشراق وأنا ذاهب إلى المعلى رحلا من أهل مكة خارجا إلى المسعى من زقاق الميليبارية الضيق قائلا: اللهم صلى وسلم على سيدنا محمد، وصادفه نزول جماعة من الغطغط إلى الحرم فالتفت إليه رئيسهم حنقا مشيرا إليه بعصاه قائلا: (اذكرون ولا تعبدون)، فبهت الرجل خائفا منهم. وتعريب هاتين الجملتين هكذا: (اذكرونه ولا تعبدونه)، وهذا يدل على أنه قام في أدمغتهم الفاسدة أن كل من عظم النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه فهو عابد له، فهم منتكهون حرمته صلى الله عليه وسلم تطبيقا لما أسسه لهم شيخهم ابن عبد الوهاب في قوله: (محمد صلى الله تعالى عليه وسلم (طارش) أي أدى الرسالة وذهب فلا حرمة ولا قيمة له، نعوذ بالله من زلقات اللسان وفساد الجنان. ولذلك كره الصلاة عليه صلى الله تعالى عليه وسلم وتأذى من سماعها ونهى عنها
106 وقتل ذلك الصالح المؤذن الضرير لأجلها، وعليه فيذكرونه صلى الله تعالى عليه وسلم بمجرد اسمه بدون شئ يدل على احترامه حتى يطبقوا على أنفسهم نهيه تعالى الموجه للمنافقين والجفاة الأجلاف: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا): وهكذا أصحابه الكرام رضوان الله تعالى عليهم يقولون في الواحد منهم: قال فلان بدون صيغة تدل على احترامه كالترضية لأن كل ما يدل على تبجيله صلى الله عليه وسلم وتبجيل أصحابه وأئمة دينه وعلماء الإسلام من ألفاظ الاحترام غلو عندهم ينافي التوحيد، ولا يكون غلوا ولا منافيا للتوحيد إذا كان في ابن تيمية وابن عبد الوهاب فيقولون في كل منهما قال شيخ الإسلام قدس الله روحه ونور ضريحه تأليها لرأيهما. قال لي شريف فاسي: كنت أجلس عند مقام إبراهيم وكان يجلس بجانبي سعود العرافة من أعيانهم، وكان إذا جاء ووجدني قبله يصافحني ببشاشة واعتناء، وكان لي ورد من الصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أقرؤه كل يوم، فلما تحقق أني أصلي على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لي كالمنكر: لم لا تقرأ القرآن؟، فقلت: إني أقرؤه في وقت غير هذا، فقال: ما أراك إلا تصلي على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، قال ومن يومئذ صار يقابلني بفتور. وقد فسحوا للكتبيين في السنين الأولى من دخولهم الحجاز بجلب دلائل الخيرات الذي غير مهمش ومنعوا جميع نسخه المهمشة، وفي هذه السنين حظروا عليهم جلبه مطلقا مهمشا أو غير مهمش، وقد جلب منه عبد الصمد فدا أربعمائة نسخة فألزموه بإرجاعها إلى مصر أو يتلفونها فتركها لهم.
107 نشر هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إعلانا حذرت فيه الناس من دلائل الخيرات وفي سنة 1376 نشرت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمكة إعلانا للجمهور في (البلاد السعودية) حذرتهم فيه من دلائل الخيرات وأنه أشد ضررا على الأمة من كتب الزندقة والإلحاد وأن مؤلفه يهودي، فلينظر الألباء في هؤلاء الذين ورطهم الجهل المكعب في خمس مصائب: الأولى: منعهم كتابا مشتملا على الصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى بعض الآيات بدن استناد إلى برهان يسوغ لهم ذلك وينقذهم من إيذاء رسول صلى الله تعالى عليه وسلم وعداوته. الثانية: إعلانهم على صفحات الجرائد أن دلائل الخيرات ككتب الزنادقة مفسد لعقائد المسلمين بدون استناد إلى براهين تسوغ لهم هذا الاعلان وكان الواجب عليهم أن لا يفتانوا على الأمة الإسلامية التي تلقته بالقبول شرقا وغربا منذ خمسمائة عام ونيف بل يبينون لها إن كان عندهم علم ما فيه من الافساد المزعوم، ولكن حيث كانوا منفذين خطة إمامهم ابن عبد الوهاب فيه جازمين بأنهم هم الأمة الإسلامية وحدهم والإسلام ممثل فيهم مستندين إلى ما قاله لهم: (إن الأمة الإسلامية كفرت منذ ستمائة سنة)، فلا قدر ولا قيمة لها = على رأيه = ما دامت غير مؤلهة له معهم. الثالثة: لم يكتفوا في أذاه صلى الله تعالى عليه وسلم بمنع الكتبية من جلبه. الرابعة: لم يكتفوا في أذاه صلى الله تعالى عليه وسلم بأن سبب منعهم له ما فيه من التوسل بالأنبياء والصالحين، والتوسل بهم = في رأي إمامهم = الحراني شرك، بل ترقوا إلى أنه ككتب الزنادقة مفسد لعقائد المسلمين، نعوذ بالله من زلقات اللسان وفساد الجنان. الخامسة: لم يكتفوا بالطعن في مؤلفه على قاعدة أهل الرواية المبرزين في النقد (لو كان من أهلها)، بأنه مثلا غير ثقة في نقله أو أنه ذكر في أوله أحاديث موضوعة
108 في فضل الصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، بل طفروا إلى الطعن في دينه ونسبه بأنه كافر يهودي، ما أشد جهلهم وغلظتهم والجفاء والغلظة في الفدادين من حيث يطلع قرن الشيطان، وليوازنوا بين كتاب فيه صيغ كثيرة من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم التي حث الله عليها في كتابه العزيز منوها بقدر نبيه عنده مؤكدا مبتدئا بذاته الشريفة مثنيا بملائكته الكرام مناديا عباده المؤمنين آمرا لهم بها أمرا مطلقا، وبين رأي الحراني المتبع غير سبيل المؤمنين المجيزين التوسل بالأنبياء والصالحين ولا ريب أن كل من رزق فهما صحيحا وعقلا سليما لا يختار أن يكون في كفة الحراني النابذ لكتاب الله المشاقق لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الخارق لإجماع الأمة الإسلامية، بل يختار أن يكون في كفة الأمة الإسلامية ويحكم على دلائل الخيرات بأنه من أجل وأجمع الكتب المؤلفة في الصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ويحكم على صاحبه في الجملة بأنه من علماء المسلمين العاملين ويترحم عليه ولا يذكره إلا بخير محسنا ظنه به، وتحسين الظن بالمسلم واجب له على أخيه المسلم، ممتثلا أمره صلى الله تعالى عليه وسلم: (اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم) مجتنبا نهيه صلى الله تعالى عليه وسلم عن تتبع عثرات المسلمين. فقد أخرج الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (يا معشر من آمن بلسانه ولما يؤمن بقلبه لا تتبعوا عورات المسلمين ولا عثراتهم فإن من تتبع عثرات المسلمين تتبع الله عثرته ومن تتبع الله عثرته يفضحه ولو في جوف بيته)، مجتنبا أيضا تكفير أهل القبلة، عالما أن تكفيرهم شنشنة الخوارج. نهيه صلى الله عليه وسلم عن تتبع عثرات المسلمين فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما)، مجتنبا أيضا الطعن في أنساب الناس، فقد أخرج الإمامان أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (اثنتان
109 في الناس هما بهم كفر، الطعن في الأنساب والنياحة على الميت) صحيح. وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي مالك الأشعري رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة) حسن. وأخرج الإمام البخاري في التاريخ والطبراني عن جنادة بن مالك رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: (ثلاث من فعل أهل الجاهلية لا يدعهن أهل الإسلام: استسقاء بالكواكب، وطعن في النسب، والنياحة على الميت). وأخرج الحاكم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ثلاث من الكفر بالله شق الجيب والنياحة والطعن في النسب). ترجمة العلامة محمد بن سليمان الجزولي صاحب " دلائل الخيرات " فإن تاق الأحوذي إلى معرفة مؤلف دلائل الخيرات، فإنه الفقيه العلامة الصالح محمد بن سليمان المغربي الجزولي السملالي الشريف الحسني كان فقيها، يحفظ مختصر ابن الحاجب الفرعي. وألف في التصوف وجمع كتابه دلائل الخيرات بمدينة فاس، وبها لقيه العلامة الشهير أحمد زروق البرنسي، انقطع رحمه الله تعالى للعبادة بساحل المغرب أربعة عشر سنة، ورده نهارا أربعة عشر ألف بسملة وختمتين من دلائل الخيرات وليلا ختمة منه وربع القرآن، ثم خرج للانتفاع به وظهرت له كرامات، وتوفي سادس ربيع الأول عام سبعين وثمانمائة ثم بعد سبع وسبعين سنة من موته نقل من سوس إلى مراكش فدفن بها وقد وجدوه لما أخرجوه من قبره بسوس كهيئته يوم دفن لم يتغير منه شئ، وهو مترجم في ذيل ديباج ابن فرحون وغيره. وأكثر صيغ الصلوات التي في دلائله مأثورة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه الكرام، فإن وجد في روايات بعضها ضعف، فإن الآية الشريفة الآمرة بها أمرا مطلقا والأحاديث الصحيحة والحسنة الواردة في فضلها تجبره وتقويها، وإقبال
110 المسلمين شرقا وغربا على قراءته دليل على إخلاص صاحبه وصلاحه. وقد شرحه العلامة محمد المهدي بن أحمد الفاسي بشرح سماه " مطالع المسرات بجلاء دلائل الخيرات " مطبوع في مجلد " وحيث تحقق عن محمد بن عبد الوهاب ومقلديه في دلائل الخيرات أنه من أنكر المنكرات التي يجب عليهم إزالتها فإنهم إذا وجدوه عند أحد في المساجد أو في غيرها قاموا بتنفيذ خطة شيخهم فيه، وإذا وجدوه عند مسلم في حرم الله أخذوه منه قهرا بعد إشباعه شتما ببضاعة الشرك، ويعتقدون أنهم بهذا العمل مجاهدون مأجورون كأنهم فتحوا مدينة من مدائن الكفار، ولا ينكرون كتب الالحاد والزندقة الطاعنة في صميم الدين الإسلامي وفي رجاله، ولا المجلات المملوءة بالصور القبيحة المفسدة لأخلاق المسلمين تباع علنا في المكاتب. يسوء التيميين من يسود النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الصلاة يسوء التيميين من يسود النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في صلاة أو في غيرها ويرون ذلك منكرا عظيما لما سنه لهم ابن عبد الوهاب من النهي عن قول سيدنا ومولانا لمخلوق ولو نبيا، ولا يسوءهم ولا ينكرون ألفاظ الغلو والتعظيم تكال بمرأى منهم ومسمع للأمراء في الجرائد وفي غيرها بل لا ينكرون الصحف المملوءة بألفاظ التعظيم والسيادة للأجانب وللتجار ولمن هب ودب. وقد كان اللازم عليهم على ما سنه لهم شيخهم الانكار على الله تبارك وتعالى حيث قال: (فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير) ولكنهم يقرأونه ولا يجاوز.. نعوذ بالله من زلقات اللسان وفساد الجنان. وقد كان اللازم عليهم على ما سنه لهم شيخهم الانكار على الله تعالى حيث قال في يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام (وسيدا وحصورا)، بل الانكار عليه تبارك وتعالى حيث أثبت السيادة لكافر به (وألفيا سيدها لدى الباب)، نعوذ بالله من زلقات اللسان وفساد الجنان.
111 لم يعرفوا من السنة سوى قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (السيد الله)، وجهلوا جهلا مكعبا قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)، وقوله: (أنا سيد الناس يوم القيامة)، وقوله: (إن ابني هذا سيد)، وقوله: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)، وقوله: (هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين) يعني أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، وقوله: (قوموا لسيدكم)، وقوله: (من سيدكم يا بني سلمة)، وإقراره صلى الله تعالى عليه وسلم للأعرابي في قوله: يا سيد الرسل وديان العرب * أشكو إليك ذربة من الذرب وقول الفاروق رضي الله تعالى عنه (أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا). وجهلوا أيضا قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت الخ..)، وجهلوا قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (سيد الأيام يوم الجمعة فيه خلق آدم الحديث)، وقوله: (سيد الشهور شهر رمضان وأعظمها حرمة ذو الحجة). ترجيح المحققين من العلماء سلوك الأدب على امتثال الأمر وترجيح كثير من العلماء المحققين سلوك الأدب على امتثال الأمر أخذا من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في الصحيح: (ما منعك يا أبا بكر أن تثبت إذ أمرتك؟)، فقال رضي الله عنه ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، يعرفه كل من له إلمام بالعلم. ومعلوم لدى كل لبيب أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سيد المتواضعين فلا يعقل أن يقول لأمته سودني، ولا حجة في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (قولوا اللهم صل على محمد) على منع تسويده صلى الله تعالى عليه
112 وسلم سواء حمل الأمر فيه على الوجوب = كما قال العلماء = تجب الصلاة عليه صلى الله تعالى عليه وسلم في العمر مرة واحدة وكما قال الإمام الشافعي وجماعة تجب عليه في تشهد الصلاة، أم حمل على الاستحباب لأن الصلاة عليه شئ وكونها بلا تسويد أو به شئ آخر. فمن امتثل ظاهر الأمر وصلى عليه صلى الله عليه وسلم فقد أحسن، ومن سلك مسلك الأدب كالصديق الأكبر فسوده فقد أحسن. وما نسب إليه صلى الله تعالى عليه وسلم من أنه قال: (لا تسودوني في الصلاة)، قال العلماء باطل لا أصل له مفترى عليه صلى الله تعالى عليه وسلم. يسوء التيميين جدا قراءة الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما وقع في مولده من الآيات وقراءة شمائله الكريمة تعظيما لقدره صلى الله تعالى عليه وسلم يسوء التيميين جدا اجتماع الناس على سماع قراءة ما تيسر من القرآن وقراءة الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وما وقع في مولده من الآيات، وقراءة شمائله الكريمة، تعظيما لقدره صلى الله عليه وسلم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف، ثم مد طعام لها يأكلون وينصرفون، يرون هذا العمل منكرا عظيما تجب عليهم إزالته باليد، فإذا سمعوا بانسان عمل مولدا كبسوه ككبسهم المجتمعين على الفسق وشرب الخمر، وعمل المولد على الكيفية المذكورة وإن حدث بعد السلف الصالح فيه مخالفة لكتاب الله ولا لسنة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا لإجماع المسلمين، فلا يقول من له مسكة من عقل ودين بأنه مذموم فضلا عن كونه منكرا عظيما، وكون السلف الصالح لم يفعلوه صحيح، ولكنه ليس بدليل، وإنما هو عدم دليل، ويستقيم الدليل على كونه ممنوعا أو منكرا لو نهى الله تعالى عنه في كتابه العزيز، أو نهى عنه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في سنته الصحيحة، ولم ينه عنه فيهما.
113 التيميون يتيهون دائما في بيداء العدم وهم دائما يتيهون في بيداء العدم الذي سنه لهم شيخهم الحراني، فتمسكهم على منعه بعدم فعل السلف له ليس بدليل، وإنما هو ذر الرماد في العيون، والحقيقة في كونه عندهم منكرا عظيما هي تعظيمه صلى الله تعالى عليه وسلم، وتعظيمه = في زعمهم = شرك ينافي التوحيد، وقد كذبهم الله تعالى في كتابه العزيز قال تعالى: (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه)، وقال تعالى: (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)، وكذبهم الأثر عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا نظر إلى البيت رفع يديه وقال: اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه واعتمره تشريفا وتكريما وتعظيما وبرا، عياذا بالله تعالى من فساد الجنان. حسن المقصد في عمل المولد قال العلامة السيوطي: في رسالته (حسن المقصد في عمل المولد) ما نصه: وقد سئل شيخ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل بن حجر عن عمل المولد، فأجاب بما نصه: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها، فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة، وإلا فلا، قال: وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى فنحن نصومه شكرا لله تعالى، فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما من به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم؟، وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق
114 قصة موسى عليه السلام في يوم عاشوراء، ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر، بل توسع قوم فنقلوه إلى يوم من السنة وفيه ما فيه، فهذا ما يتعلق بأصل عمله. وأما ما يعمل فيه فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما تقدم ذكره من التلاوة والإطعام والصدقة وإنشاد شئ من المدائح النبوية والزهدية المحركة القلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة، وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو وغير ذلك فينبغي أن يقال ما كان من ذلك مباحا بحيث يقتضي السرور بذلك اليوم لا بأس بإلحاقه به، وما كان حراما أو مكروها فيمنع وكذا ما كان خلاف الأولى إ ه. فتوى الحافظ ابن حجر بجواز عمل المولد وقول ابن حجر: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح، معناه: البدعة اللغوية، أي مستحدث غير خارج عن قواعد الشريعة بدليل قوله بعده: كان بدعة حسنة وإلا فلا، فإن تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة عند المحققين إنما يكون فيها، وأما البدعة الشرعية فلا تقسيم فيها ولا تكون إلا سيئة، واقتران عمل المولد بما يخالف الشرع الشريف يصيره منهيا عنه لغيره لا لذاته بدليل كلام ابن حجر الأخير. أول من أحدث عمل المولد قال السيوطي: وأول من أحدث عمل المولد صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن زين الدين على أحد الملوك الأمجاد والكبراء الأجواد، وكان له آثار حسنة، وهو الذي عمر الجامع المظفري يسفح قاسيون. قال ابن كثير في تاريخه: كان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالا هائلا وكان شهما شجاعا بطلا عاقلا عالما رحمه الله تعالى وأكرم مثواه، قال: وقد صنف له الشيخ أبو الخطاب بن دحية مجلدا في المولد النبوي سماه
115 (التنوير في مولد البشير النذير)، فأجازه على ذلك بألف دينار، وقد طالت مدته في الملك إلى أن مات وهو محاصر للإفرنج بمدينة عكا سنة ثلاثين وستمائة، محمود السيرة والسريرة. وقال سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان: كان يحضر عنده في الموالد أعيان العلماء والصوفية فيخلع عليهم ويطلق لهم، وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار، وكانت له دار ضيافة للوافدين من أي جهة على أي صفة فكان يصرف على هذه الدار في كل سنة مائة ألف دينار، وكان يفتك من الفرنج من كل سنة أسارى بمائتي ألف دينار، وكان يصرف على الحرمين والمياه بدرب الحجاز في كل سنة ثلاثين ألف دينار، هذا كله سوى صدقات السر، وحكت زوجته ربيعة خاتون بنت أيوب أخت الملك الناصر صلاح الدين أن قميصه كان من كرباس غليظ لا يساوي خمسة دراهم، قالت فعاتبته في ذلك، فقال: لبسي ثوبا بخمسة وأتصدق بالباقي خير من أن ألبس ثوبا مثمنا وأدع الفقير والمسكين إ ه. يسوء التيميين جدا اجتماع الناس لقراءة قصة الإسراء والمعراج يسوء التيميين جدا اجتماع الناس لسماع قراءة قصة الإسراء والمعراج ليلة أو يوم سبع وعشرين من رجب، ويرون ذلك منكرا عظيما يجب عليهم إزالته فيكبسون، من علموا أنه عمل ذلك ككبسهم محل الدعارة، وحجتهم في كونه منكرا عظيما كحجتهم في عمل مولده الشريف عدم فعل السلف له، وعدم فعل السلف له ليس بدليل على كونه مذموما فضلا عن كونه منكرا عظيما، والحقيقة في كونه عندهم منكرا عظيما تعظيمه صلى الله تعالى عليه وسلم بما أكرمه الله تعالى به وشرفه من مخاطبته تعالى له بلا واسطة وما رآه من الآيات الكبرى والخوارق العظيمة، وتعظيمه صلى الله تعالى عليه وسلم بما ذكر بدعة تنافي التوحيد = في زعمهم =، وتستقيم حجتهم = على زعمهم هذا = لو نهى الله في كتابه العزيز عن تعظيم نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم بما ذكر، أو نهى هو
116 صلى الله تعالى عليه وسلم في سنته أمته عن تعظيمه بما ذكر، ولم ينه عنه فيهما، فحجتهم داحضة، وزعمهم فاسد، وقد خص علماء الإسلام قصة الإسراء والمعراج بتآليف كثيرة، كما خصوا قصة مولده بذلك وبعد هذا فما يقول العقلاء في هؤلاء الذين يكرهون سماع سيرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وشمائله الكريمة في المولد وفي المعراج أشد كراهة وينكلون بمن يقرؤها ويسمعها؟ أهم محبون له صلى الله تعالى عليه وسلم أم كارهون، وقد قال صلى الله تعالى وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين)؟، فهل قصة مولده والعروج به إلى الملأ الأعلى إلا جزء من سيرته صلى الله تعالى عليه وسلم؟، وهل سيرته إلا جزء من سنته عليه الصلاة والسلام؟، وهل الصلاة عليه وسماع سيرته ومدحه إلا من محبته والإيمان به صلى الله تعالى عليه وسلم؟، نعوذ بالله من زلقات اللسان وفساد الجنان. وحيث تحقق أن ابن تيمية سن لهم انتهاك حرمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بزعمه أن تعظيم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بشد الرحال لزيارة قبره بدعة، وأن السفر لذلك معصية لا يجوز فيه قصر الصلاة، وزعمه أيضا أنه صلى الله عليه وسلم لا جاه له فلا يجوز التوسل به فإني ألخص ما في كتاب: (شفاء السقام في زيارة خير الأنام) للإمام المحقق أبي الحسن السبكي الذي رد به على ابن تيمية فشفى به صدور المؤمنين. ذكر ما في شفاء الأسقام قال رحمه الله تعالى: (الباب الأول) في الأحاديث الواردة في الزيارة نصا، وذكر فيه خمسة عشر حديثا صريحة فيها وتكلم عليها واحدا واحدا من طريق فن الرواية كلاما جيدا. وقال: إن الأحاديث التي جمعناها في الزيارة بضعة عشر حديثا مما فيه لفظ
117 الزيارة غير ما يستدل به لها من أحاديث أخر، وتضافر الأحاديث يزيدها قوة حتى أن الحسن قد يترقى بذلك إلى درجة الصحيح، والضعيف قسمان: قسم يكون ضعف راويه ناشئا من كونه متهما بالكذب ونحوه، فاجتماع الأحاديث الضعيفة من هذا الجنس لا يزيدها قوة، وقسم يكون ضعف راويه ناشئا من ضعف الحفظ مع كونه من أهل الصدق والديانة، فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه عرفنا أنه مما قد حققه ولم يختل فيه ضبطه له هكذا قاله ابن الصلاح وغيره، فاجتماع الأحاديث الضعيفة من هذا النوع يزيدها قوة وقد يترقى بذلك إلى درجة الحسن أو الصحيح إ ه. الباب الثاني: أفاض فيه في الأخبار والأحاديث قال رحمه الله تعالى: (الباب الثاني) فيما ورد من الأخبار والأحاديث دالا على فضل الزيارة وأن لم يكن فيه لفظ الزيارة، وذكر فيه حديث: (ما من أحد سلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام) وأسنده عن شيخه الحافظ الدمياطي إلى أبي داود في سننه وتكلم على رجال أبي داود من طريق فن الرواية كلاما جيدا. ثم قال: وقد اعتمد جماعة من الأئمة على هذا الحديث في مسألة الزيارة وصدر به أبو بكر البيهقي باب زيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو اعتماد صحيح واستدلال مستقيم إ ه. ثم قال: قد ذكر ابن قدامة من رواية أحمد ولفظه: (ما من أحد يسلم على عند قبري)، ثم ذكر أحاديث في الصلاة والسلام عليه، وفي عمله صلى الله تعالى عليه وسلم بمن يسلم عليه. ثم قال: فإن قيل ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا رد الله علي روحي). قلت: فيه جوابان أحدهما ذكره الحافظ أبو بكر البيهقي أن المعنى إلا وقد رد الله علي روحي يعني أنه صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ما مات ودفن رد الله عليه روحه لأجل سلام من يسلم عليه واستمرت في جسده صلى الله تعالى عليه وسلم، والثاني: يحتمل
118 أن يكون ردا معنويا وأن تكون روحه الشريفة مشتغلة بشهود الحضرة الإلهية والملأ الأعلى من هذا العالم فإذا سلم عليه أقبلت روحه الشريفة على هذا العالم فيدرك سلام من يسلم عليه ويرد عليه إ ه. قلت: وعن هذا الحديث أجوبة غير هذين ذكر الجميع العلامة الزرقاني في شرحه على المواهب اللدنية. الباب الثالث: أفاض فيه فيما ورد في السفر إلى زيارته صلى الله تعالى عليه وسلم صريحا قال: (الباب الثالث) فيما ورد في السفر إلى زيارته صلى الله تعالى عليه وسلم صريحا وبيان أن ذلك لم يزل قديما وحديثا، وممن روى ذلك عنه من الصحابة بلال ابن أبي رباح مؤذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ورضي الله عنه سافر من الشام إلى المدينة لزيارة قبره صلى الله تعالى عليه وسلم، روينا ذلك بإسناد جيد إليه وهو نص في الباب. وممن ذكره الحافظ أبو القاسم بن عساكر، وذكره الحافظ عبد الغني المقدسي في (الكمال) في ترجمة بلال، وممن ذكره أيضا الحافظ أبو الحجاج المزي. ثم قال: وقد استفاض عن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه أنه كان يبرد البريد من الشام يقول: سلم لي على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وممن ذكره ابن الجوزي ونقلته من خطه من كتاب (مثير العزم الساكن) قال: وذكره أيضا الإمام أبو بكر بن أبي عاصم النبيل ووفاته سنة سبع وثمانين ومائتين في مناسك له لطيفة جرده من الأسانيد ملتزما فيها الثبوت، ثم قال: واختلف السلف رحمهم الله في أن الأفضل البداءة بالمدينة قبل مكة أو بمكة قبل المدينة. وممن نص على هذه المسألة وذكر الخلاف فيها الإمام أحمد رحمه الله تعالى في
119 كتاب المناسك الكبير من تأليفه، وهذه المناسك رواها الحافظ أبو الفضل بن ناصر، ثم قال: وممن اختار البداءة بمكة ثم إتيان المدينة والقبر الإمام أبو حنيفة كما سنحكيه عنه في الباب الرابع. وقال أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة في باب ذهن أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ما أحد من أهل العلم قديما ولا حديثا ممن رسم لنفسه كتابا نسبه إليه من فقهاء المسلمين فرسم كتاب المناسك إلا وهو يأمر كل من قدم المدينة ممن يريد حجا أو عمرة أو لا يريد حجا ولا عمرة، وأراد زيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمقام بالمدينة لفضلها إلا وكل العلماء قد أمروه ورسموه في كتبهم، وعلموه كيف يسلم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكيف يسلم على أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما علماء الحجاز قديما وحديثا، وعلماء أهل العراق قديما وحديثا، وعلماء أهل الشام قديما وحديثا، وعلماء أهل خراسان قديما وحديثا، وعلماء أهل اليمن قديما وحديثا، وعلماء أهل مصر قديما وحديثا. وقال قريبا من هذا الكلام أبو عبد الله بن بطة العكبري الحنبلي في كتاب الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة في باب دفن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. ثم قال: وأبو بكر الآجري هذا قديم نوفي في المحرم سنة ستين وثلاثمائة، وكان ثقة صدوقا دينا وله تصانيف كثيرة، وحدث ببغداد قبل سنة ثلاثين ثم توطن مكة وتوفي بها، وإن بطة توقي في المحرم سنة سبع وثمانين وثلاثمائة بعكبرا من فقهاء الحنابلة، كان إماما فاضلا عالما بالحديث، وفقهه أكثر من الحديث، وصنف التصانيف المفيدة، وهكذا قال غيرهما. ثم قال: وأكثر عبارات الفقهاء أصحاب المذاهب ممن حكينا كلامهم في باب الزيارة يقتضي استحباب السفر لأنهم استحبوا للحاج بعد الفراغ من الحج الزيارة، ومن ضروريها السفر، وحكاية الأعرابي المشهورة التي ذكرها المصنفون في مناسكهم، وفي
120 بعض طرقها أن الأعرابي ركب راحلته وانصرف، وهذا يدل على أنه كان مسافرا، وقد ذكرها جماعة من الأئمة عن العتبي، واسمه محمد بن عبيد الله كان من أفصح الناس صاحب أخبار روايات للآداب، حدث عن أبيه وسفيان عيينة توفي سنة ثمان وعشرين ومائتين، وذكرها ابن عساكر في تاريخه وابن الجوزي في (مثير العزم الساكن)، وغيرهما بأسانيدهم إلى العتبي إ ه. الباب الرابع: أفاض في نصوص العلماء على استحباب زيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (الباب الرابع) في نصوص العلماء على استحباب زيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وبيان أن ذلك مجمع عليه بين المسلمين. قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: وزيارة قبره صلى الله تعالى عليه وسلم سنة بين المسلمين مجمع عليها وفضيلة مرغب فيها. ثم أفاض في نقل استحبابها عن أعيان من العلماء أتباع الأئمة الأربعة، فنقل ذلك عن الشافعية عن القاضي أبي الطيب الطبري، والمحاملي، والحليمي، والماوردي، والروياني، والقاضي حسين، والشيخ أبي إسحاق الشيرازي، ثم قال: ولا حاجة إلى تتبع كلام الأصحاب في ذلك مع العلم بإجماعهم وإجماع سائر العلماء عليه. وعن الحنفية: عن أبي منصور الكرماني في مناسكه، وعبد الله بن محمود في شرح المختار، وأبي الليث السمرقندي في فتاواه، والسروجي في الغاية. وعن الحنابلة: عن أبي الخطاب الكلو اذاني في الهداية، وأبي عبد الله السامري في المستوعب، ونجم الدين بن حمدان في الرعاية الكبرى. قال: وعقد ابن الجوزي في: (مثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن) بابا في زيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. وذكر فيه حديث ابن عمر وحديث أنس رضي الله تعالى عنهما، وموفق الدين
121 ابن قدامة في المغني. وذكر حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما من طريق الدارقطني ومن طريق سعيد بن منصور، وحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه من طريق أحمد: (ما من أحد يسلم علي عند قبري الخ..) وعن المالكية: عن أبي عمران الفاسي:، والشيخ ابن أبي زيد، وأبي الوليد بن رشد، وابن عطاء الله. أجاب عن حديث أبي داود (لا تجعلوا قبري عيدا) بثلاثة أجوبة ثم قال: فهذه نقول المذاهب الأربعة وكذلك غيرهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ثم قال: ولو استوعبنا الآثار وأقاويل العلماء في ذلك لخرجنا إلى حد الطول والملل، ثم ذكر حديث أبي داود: (لا تجعلوا قبري عيدا)، وأجاب عنه بثلاثة أجوبة: (1): يحتمل أن يكون المراد به الحث على كثرة زيارة قبره صلى الله تعالى عليه وسلم وأن لا يهمل حتى لا يزار إلا في بعض الأوقات كالعيد الذي لا يأتي في العام إلا مرتين. (2): ويحتمل أن يكون المراد، لا تتخذوا له وقتا مخصوصا لا تكون الزيارة إلا فيه، وزيارة قبره صلى الله تعالى عليه وسلم ليس لها يوم بعينه بل أي يوم كان. (3): ويحتمل أن يراد أن يجعل كالعيد في العكوف عليه وإظهار الزينة والاجتماع وغير ذلك مما يعمل في الأعياد، بل لا يؤتي إلا للزيارة والسلام والدعاء ثم ينصرف عنه، والله أعلم بمراد نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم إ ه.
122 الباب الخامس: أفاض فيه في كون الزيارة قربة بالكتاب والسنة والإجماع والقياس قال: (الباب الخامس) في تقرير كون الزيارة قربة وذلك بالكتاب والسنة والإجماع والقياس. أما الكتاب فقوله تعالى: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما)، دلت الآية على الحث على المجئ إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، والاستغفار عنده واستغفاره لهم، وذلك وإن كان ورد في حال الحياة فهي رتبة له صلى الله تعالى عليه وسلم لا تنقطع بموته تعظيما له. فإن قلت: المجئ إليه في حال الحياة ليستغفر لهم وبعد الموت ليس كذلك. قلت: دلت الآية على تعليق وجدانهم الله تعالى توابا رحيما بثلاثة أمور: المجئ واستغفارهم واستغفار الرسول. فأما استغفار الرسول فإنه حاصل لجميع المؤمنين لأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم استغفر للمؤمنين والمؤمنات، لقوله تعالى: (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات)، فقد ثبت أحد الأمور الثلاثة، وهو استغفار الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لكل مؤمن ومؤمنة، فإذا وجد مجيئهم واستغفارهم تكملت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ورحمته، وليس في الآية ما يعين أن يكون استغفار الرسول بعد استغفارهم، بل هي مجملة، والمعنى يقتضي بالنسبة إلى استغفار الرسول أنه سواء أتقدم أم تأخر، فإن المقصود إدخالهم لمجيئهم واستغفارهم تحت من يشمله استغفار النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وإنما يحتاج إلى المعنى المذكور إذا جعلنا: (واستغفر لهم الرسول) معطوفا على: (فاستغفروا الله)، أما إن جعلناه معطوفا على: (جاؤوك) لم يحتج إليه، هذا كله إن سلمنا أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا يستغفر بعد الموت، ونحن
123 لا نسلم ذلك لما سنذكره من حياته صلى الله تعالى عليه وسلم واستغفاره لأمته بعد موته، وإذا أنكر استغفاره، وقد علم كمال رحمته وشفقته على أمته فيعلم أنه لا يترك ذلك لمن جاءه مستغفرا ربه تعالى، فقد ثبت على كل تقدير أن الأمور الثلاثة المذكورة في الآية حاصلة لمن يجئ إليه صلى الله تعالى عليه وسلم مستغفرا في حياته وبعد مماته، والآية وإن وردت في أقوام معينين في حالة لحياة فتعم بعموم العلة كل من وجد فيه ذلك الوصف في الحياة وبعد الموت، ولذلك فهم العلماء منها العموم في الحالتين، واستحبوا لمن أتى قبره صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتلوها ويستغفر الله تعالى، وحكاية العتبي في ذلك مشهورة وقد حكاها المصنفون في المناسك من جميع المذاهب والمؤرخون، وكلهم استحسنوا ورأوها من آداب الزائر وما ينبغي له أن يفعله. وأما السنة: فما ذكرناه في الباب الأول والثاني من الأحاديث، وهي أدلة على زيارة قبره صلى الله تعالى عليه وسلم بخصوصه، وفي السنة الصحيحة المتفق عليها الأمر بزيارة القبور، وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)، وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: (زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة)، وقال الحافظ أبو موسى الأصبهاني في كتابه: (آداب زيارة القبور)، ورد الأمر بزيارة القبور من حديث بريدة وأنس وعلي وابن عباس وابن مسعود وأبي هريرة وعائشة وأبي بن كعب وأبي ذر رضي الله تعالى عنهم إ ه. فقبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سيد القبور داخل في عموم القبور المأمور بزيارتها. وأما الاجماع: فقد حكاه القاضي عياض في أول الباب الرابع، فزيارته صلى الله تعالى عليه وسلم مطلوبة بالعموم والخصوص لأن زيارة قبره صلى الله تعالى عليه وسلم تعظيم، وتعظيمه صلى الله تعالى عليه وسلم واجب، ثم ذكر أنه لا فرق في زيارته صلى الله تعالى عليه وسلم بين الرجال والنساء، وأما سائر القبور، فالإجماع على استحباب زيارتها الرجال وأفاض في تفصيل زيارتها للنساء.
124 وأما القياس: فعلى زيارته صلى الله تعالى عليه وسلم البقيع وشهداء أحد، وإذا استحب زيارة قبر غيره صلى الله تعالى عليه وسلم فقبره أولى لما له من الحق ووجوب التعظيم، فإن قلت: الفرق أن غيره يزار للاستغفار له لاحتياجه إلى ذلك = كما فعل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في زيارته أهل البقيع =، والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم مستغن عن ذلك. قلت: زيارته صلى الله تعالى عليه وسلم إنما هي لتعظيمه والتبرك به ولتنالنا الرحمة بصلاتنا وسلامنا عليه، كما أنا مأمورون بالصلاة عليه والتسليم وسؤال الوسيلة وغير ذلك مما يعلم أنه حاصل له صلى الله تعالى عليه وسلم بغير سؤالنا، ولكن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أرشدنا إلى ذلك لنكون بدعائنا له متعرضين للرحمة التي رتبها الله على ذلك. (فإن قلت): الفرق أيضا إن غيره لا يخشى فيه محذور، وقبره صلى الله تعالى عليه وسلم يخشى من الافراط في تعظيمه أن يعبد. (قلت): هذا كلام تقشعر منه الجلود، ولولا خشية اغترار الجهال به لما ذكرته فإن فيه تركا لما دلت عليه الأدلة الشرعية بالآراء الفاسدة الخيالية، وكيف نقدم على تخصيص قوله صلى الله تعالى عليه وسلم (زوروا القبور)، وعلى ترك قوله (من زار قبري وجبت له شفاعتي)، وعلى مخالفة إجماع السلف والخلف بمثل هذا الخيال الذي لم يشهد به كتاب ولا سنة، وهذا بخلاف النهي عن اتخاذه مسجدا، وكون الصاحبة احترزوا عن ذلك للمعنى المذكور لأن ذلك قد ورد النهي فيه. وليس لنا نحن أن نشرع أحكاما من قبلنا، (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله). فمن منع زيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، وقوله مردود عليه، ولو فتحنا باب هذا الخيال الفاسد لتركنا كثيرا من السنن بل ومن الواجبات، والقرآن كله والإجماع المعلوم من الدين بالضرورة وسير الصحابة والتابعين وجميع علماء المسلمين والسلف على وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والمبالغة في ذلك.
125 ومن تأمل القرآن العزيز وما تضمنه من التصريح والإيماء إلى وجوب المبالغة في تعظيمه وتوقيره والأدب معه، وما كانت الصحابة يعاملونه به من ذلك، امتلأ قلبه إيمانا، واحتقر هذا الخيال الفاسد واستنكف أن يصغي إليه، والله تعالى هو الحافظ لدينه، ومن يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلا هادي له. وعلماء المسلمين مكلفون بأن يبينوا للناس ما يجب من الأدب والتعظيم والوقوف عند الحد الذي لا يجوز مجاوزته بالأدلة الشرعية، وبذلك يحصل الأمن من عبادة غير الله تعالى، ومن أراد الله ضلاله من أفراد الجهال فلن يستطيع أحد هدايته، فمن ترك شيئا من التعظيم المشروع لمنصب النبوة زاعما بذلك الأدب مع الربوبية فقد كذب على الله تعالى، وضيع ما أمر به في حق رسله، كما أفرط وجاوز الحد إلى جانب الربوبية فقد كذب على رسل الله وضيع ما أمروا به في حق ربهم سبحانه وتعالى، والعدل حفظ ما أمر الله في الجانبين، وليس في زيارة المشروعة من التعظيم ما يفضي إلى محذور إ ه. وقسم زيارة القبور إلى أربعة أقسام، ثم قال إذا عرف هذا فزيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ثبت فيها هذه المعاني الأربعة، وأفاض في شرح المعاني الأربعة. وقال: والآثار في انتفاع الموتى بزيارة الأحياء وما يصل إليهم منهم وإدراكهم لذلك لا يحصر، ثم أطنب في نقل الآثار وأقوال العلماء في استحباب زيارة القبور وقال: إن من نذر زيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يلزمه الوفاء به عند الشافعية والمالكية، وأفاض في النذر. الباب السادس، أفاض فيه في كون السفر إليها قربة قال: (الباب السادس) في كون السفر إليها قربة وذلك من وجوه: (1): الكتاب العزيز وذكر الآية الشريفة (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك الخ) وقال: والمجئ صادق على المجئ من قرب وبعد بسفر وبغير سفر، ولا يقال إن
126 (جاؤوك) مطلق والمطلق لا دلالة له على كل فرد وإن كان صالحا لها لأنا نقول هو في سياق الشرط فيعم، فمن حصل منه الوصف المذكور وجد الله توابا رحيما. (2): السنة من عموم قوله: (من زار قبري) فإنه يشمل القريب والبعيد والزائر عن سفر وعن غير سفر كلهم يدخلون تحت هذا العموم لا سيما قوله في الحديث الذي صححه ابن السكن (من جاءني زائرا لا تعمله حاجة إلا زيارتي) فإن هذا ظاهر في السفر بل تمحيض القصد إليه وتجريده عما سواه، وحالة الموت مرادة منه إما بالعموم وإما أنها هي المقصود. (3): السنة أيضا لنصها على الزيارة، ولفظ الزيارة يستدعي الانتقال من مكان الزائر إلى مكان المزور كلفظ المجئ الذي نصت عليه الآية الكريمة، فالزيارة إما نفس الانتقال من مكان إلى مكان بقصدها، وإما الحضور عند المزور من مكان آخر، وعلى كل حال لا بد في تحقيق معناه من الانتقال، فالسفر داخل تحت اسم الزيارة، فإذا كانت كل زيارة قربة كان كل سفر إليها قربة. وأيضا فقد ثبت خروج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من المدينة لزيارة القبور، وإذا جاز الخروج إلى القريب جاز إلى البعيد، وثبت خروجه صلى الله تعالى عليه وسلم لقبور الشهداء، وإذا ثبت مشروعية الانتقال إلى قبر غيره فقبره صلى الله تعالى عليه وسلم أولى. (4): الاجماع لإطباق السلف والخلف فإن الناس لم يزالوا في كل عام إذا قضوا الحج يتوجهون إلى زيارته صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يفعل ذلك قبل الحج = هكذا شاهدناه وشاهده من قبلنا وحكاه العلماء عن الأعصار القديمة كما ذكرناه في الباب الثالث = وذلك أمر لا يرتاب فيه، وكلهم يقصدون ذلك ويعرجون إليه وإن لم يكن طريقهم، ويقطعون فيه مسافة بعيدة وينفقون فيه الأموال ويبذلون فيه المهج، معتقدين أن ذلك قربة وطاعة، وإطباق هذا الجمع العظيم من مشارق الأرض ومغاربها على ممر السنين وفيهم العلماء والصلحاء وغيرهم يستحيل أن يكون خطأ، وكلهم يفعلون
127 ذلك على وجه التقرب به إلى الله عز وجل، ومن تأخر عنه من المسلمين فإنما يتأخر بعجز أو تعويق المقادير مع تأسفه على ووده لو تيسر له، ومن ادعى أن هذا الجمع العظيم مجمعون على خطأ فهو المخطئ. (فإن قلت) إن هذا لا يسلمه الخصم لجواز أن يكون سفرهم ضم فيه قصد عبادة أخرى إلى الزيارة بل هو الظاهر = كما ذكر كثير من المصنفين في المناسك = أنه ينبغي أن ينوي مع زيارته التقرب بالتوجه إلى مسجده صلى الله عليه وسلم والصلاة فيه، والخصم ما أنكر أصل الزيارة إنما أراد أن يبين كيفية الزيارة المستحبة وهي أن يضم إليها قصد المسجد كما قاله غيره. (قلت) أما المنازعة فيما يقصده الناس، فمن أنصف من نفسه وعرف ما الناس عليه علم أنهم إنما يقصدون بسفرهم الزيارة من حين يعرجون إلى طريق المدينة ولا يخطر غير الزيارة من القربات إلا ببال قليل منهم، نم مع ذلك وهو مغمور بالنسبة إلى الزيارة في حق هذا القليل، وغرضهم الأعظم هو الزيارة، حتى لو لم يكن ربما لم يسافروا، فالمقصود الأعظم في المدينة الزيارة، كما أن المقصود الأعظم في مكة الحج أو العمرة وهو المقصود أو معظم المقصود من التوجه إليها، وإنكار هذا مكابرة، وصاحب هذا السؤال إن شك في نفسه فليسأل كل من توجه إلى المدينة ما قصد بذلك؟. (5): إن وسيلة القربة قربة، فإن قواعد الشرع كلها تشهد بأن الوسائل معتبرة بالمقاصد إ ه. ثم أفاض في هذا الوجه بأحاديث كثيرة وآيتين كلها دالة على أو وسيلة القربة قربة، ثم قال: (فإن قلت) قد يقول الخصم الزيارة قربة في حق القريب خاصة، أما البعيد الذي يحتاج إلى سفر فلا وحينئذ لا يكون السفر إليها وسيلة إلى قربة في حقه، وإنما تكون الوسيلة قربة إذا كانت يتوصل بها إلى قربة مطلوبة من ذلك الشخص المتوسل (قلت) الزيارة قربة مطلقا في حق القريب والبعيد، فإن الأدلة الدالة عليها غير مفصلة، ومن ادعى تخصيص العام بغير دليل قطعنا بخطئه. (فإن قلت) فالصلاة مطلقا قربة والسفر إليها ليس بقربة إلا إلى المساجد الثلاثة، (قلت) قد يكون الشئ قربة وانضمامه إلى غيره ليس بقربة، فالصلاة في نفسها قربة، وكونها في مسجد بعينه غير الثلاثة ليس بقربة، فالسفر إليه وسيلة إلى ما ليس بقربة. (فإن قلت) لو كانت وسيلة القربة قربة مطلقا لكان النذر قربة لأنه وسيلة إلى
128 إيقاع العبادة واجبة، والواجب أفضل من النفل، والنذر مكروه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال: (إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل)، (قلت) جعل النفل فرضا ليس بقربة بل هو مكروه لما فيه من الخطر والتعرض للإثم بتقدير الترك، ووقوع العبادة ممكن بغير النذر فلم يحصل بالنذر إلا التعرض للخطر والحرج، على إنا نقول إن وسيلة القربة قربة من حيث هي موصلة لذلك المطلوب، وقد يقترن بها أمر عارض يخرجها عن ذلك كالمشي إلى الصلاة في طريق مغصوب، والمدعى أن الفعل إذا كان مباحا ولم يقترن به إلا قصد القربة به كان قربة، وهذا لا يستثنى منه شئ. (فإن قلت) كيف تجزمون بهذا وقد اشتهر خلاف الأصوليين في أن الأمر بالشئ أمر بما لا يتم إلا به أولا، ومقتضى ذلك أن يجرى خلاف في أن وسيلة المندوب هل هي مندوبة أو لا؟ (قلت) سنبين في آخر الكلام أن كون الفعل قربة أعم من كونه مأمورا به، ثم أفاض في تفصيل (ما لا يتم المأمور به إلا به) وحقق إن الزيارة مأمور بها، والسفر إليها شرط في تحققها، وإن الجمهور على أن هذا السفر مأمور به واجب لوجوب مقصده في نحو أربع ورقات: الباب السابع: أفاض فيه في دفع شبه ابن تيمية قال: (الباب السابع) في دفع شبه الخصم وتتبع كلماته وفيه فصلان: (الأول): في شبهه، وله ثلاث شبه - إحداها: توهم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) دليلا على منع السفر للزيارة وليس كما توهمه، ونحن نذكر ألفاظ الحديث ثم نذكر معناه إن شاء الله تعالى، وهذا الحديث متفق على صحته، وذكر له عدة ألفاظ ثم قال: وإما معناه فاعلم أن هذا الاستثناء مفرغ، تقديره لا تشد الرحال إلى مسجد إلا إلى المساجد الثلاثة، أو لا تشد الرحال إلى مكان إلا إلى المساجد الثلاثة، ولا بد من أحد هذين التقدير ليكون المستثنى مندرجا تحت المستثنى منه، والتقدير الأول أولى لأنه جنس قريب، ولما سنبينه من قلة التخصيص أو عدمه على هذا التقدير.
129 ثم اعلم أن السفر فيه أمران: أحدهما غرض باعث عليه كالحج أو طلب العلم أو الجهاد أو زيارة الوالدين أو الهجرة وما أشبه ذلك، والثاني المكان الذي هو نهاية السفر كالسفر إلى مكة أو المدينة أو بيت المقدس أو غيرها من الأماكن لأي غرض كان، ولا شك أن شد الرحال إلى عرفة لقضاء النسك واجب بإجماع المسلمين، وليس من المساجد الثلاثة، وشد الرحال لطلب العلم إلى أي مكان كان جائز بإجماع المسلمين، وقد يكون مستحبا أو واجبا على الكفاية أو فرض عين، كذلك السفر إلى الجهاد، ومن بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام للهجرة وإقامة الدين، وكذلك السفر لزيارة الوالدين وبرهما وزيارة الإخوان والصالحين، وكذلك السفر للتجارة وغيرها من الأغراض المباحة، فإنما معنى الحديث أن السفر إلى المساجد مقصور على الثلاثة على التقدير الأول الذي اخترناه، أو أن السفر إلى الأماكن مقصور على الثلاثة على التقدير الثاني، ثم على كلا التقديرين إما أن يجعل المساجد أو الأمكنة غاية فقط وعلة السفر أمر آخر، كالاشتغال بالعلم ونحوه من الأمثلة التي ذكرناها فهذا جائز إلى كل مسجد وإلى كل مكان فلا يجوز أن يكون هو المراد. وقد يقال على بعد: إن خروج تلك المسائل بأدلة على سبيل التخصيص للعموم فلا يمنع من إرادته في الباقي، وهذا لو قيل به فتقدير المساجد أيضا أولى من تقدير الأمكنة لقلة التخصيص، إذا التخصيص على تقدير اضمار الأمكنة أكثر فيكون مرجوحا، ثم على هذا التقدير فالسفر بقصد زيارة النبي صلى تعالى عليه وسلم غايته مسجد المدينة لأنه مجاور للقبر الشريف، فلم يخرج السفر للزيارة عن أن يكون غايته أحد المساجد الثلاثة = وهو المراد على هذا التقدير =، وإما أن يجعل المساجد أو الأمكنة علة فقط، ويكون قد عبر بإلى عن اللام أو غاية وعلة من باب تخصيص العام بأحد حاليه، لأن غاية السفر قد يكون هو العلة وقد لا يكون، فيكون المراد النوع الأول وهو ما يكون علة مع كونه غاية، ومعنى كونه علة أنه يسافر لتعظيمها أو للتبرك بالحلول فيها أو بأن يوقع فيها عبادة من العبادات التي يمكنه إيقاعها في غيرها من حيث إن إيقاعها فيها أفضل من إيقاعها في غيرها، وكل ذلك إنما ينشأ من اعتقاد فضل في البقعة زائد على غيرها، فنهى عن ذلك إلا في المساجد الثلاثة، وهذا هو المراد. وغيرها من الأماكن
130 والمساجد لا يؤتى إلا لغرض خاص لا يوجد في غيره كالثغر للرباط الذي لا يوجد في غيره. وعلى هذا التقدير أيضا المسافر لزيارة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يدخل في الحديث، لأنه لم يسافر لتعظيم البقعة وإنما سافر لزيارة من فيها كما لو كان حيا وسافر إليه فيها أو في غيرها فإنه لا يدخل في هذا العموم قطعا. وملخص ما قلناه على طوله: إن النهي عن السفر مشروط بأمرين: (أحدهما) أن يكون غايته غير المساجد الثلاثة، (والثاني) أن يكون علته تعظيم البقعة، والسفر لزيارة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم غايته أحد المساجد الثلاثة، وعلته تعظيم ساكن البقعة لا البقعة فكيف يقال بالنهي عنه؟ بل أقول: إن للسفر المطلوب سببين: (أحدهما) ما يكون غايته أحد المساجد الثلاثة، (والثاني) ما يكون لعبادة وإن كان إلى غيرها، والسفر لزيارة المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم اجتمع فيه الأمران فهو في الدرجة العليا من الطلب، ودونه ما وجد فيه أحد الأمرين، وإن كان السفر الذي غايته أحد الأماكن الثلاثة لا بد في كونه قربة من قصد صالح، وأما السفر لمكان غير الأماكن الثلاثة لتعظيم ذلك المكان فهو الذي ورد فيه الحديث. ولهذا جاء عن بعض التابعين أنه قال: قلت لابن عمر إني أريد أن آتي الطور قال: إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمسجد الأقصى ودع الطور فلا تأته. وفي مثل هذا تكلم الفقهاء في شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة إ ه. وأفاض في أقوال العلماء في شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة في نحو ورقتين، ثم قال (فإن قلت): قد أكثرت من التفرقة بين قصد البقعة وقصد من فيها وسلمت إن قصد البقعة داخل تحت الحديث، والزيارة لا بد فيها من قصد البقعة فإن السلام والدعاء
131 يحصل من بعد كما يحصل من قرب وهو مقصود الزيارة (قلت) قصد البقعة لما اشتملت عليه وليس بمحذور ولا نقول بنفي الفضيلة عنه، وإنما قلنا ذلك في قصد البقعة لعينها أو لتعظيم لم يشهد به الشرع. على أنا نقول إنه لا يلزم من الزيارة أن يكون لبقعة مدخل في القصد الباعث بل تارة يكون ذلك مقصودا، وتارة يجرد قصد الشخص المزور من غير شعور بما سواه. وقوله إن مقصود الزيارة يحصل من بعد ممنوع فإن الميت يعامل معاملة الحي، فالحضور عنده مقصود، ألا ترى أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما خرج في ليلة عائشة إلى البقيع فقام فأطال ثم رفع يديه ثلاث مرات = الحديث المشهور = وفيه أن عائشة رضي الله عنها سألته فقال: إن جبرئيل أتاني فقال إن ربك عز وجل يأمرك أن تأتي أهل البقيع وتستغفر لهم، قالت فقلت كيف أقول لهم يا رسول الله قال قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون (رواه مسلم). فانظر كيف خرج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى البقيع بأمر الله تعالى يستغفر لأهله ولم يكتف بذلك بالغيبة، وهذا أصل في الإتيان إلى القبور لزيارة أهلها للاستغفار لهم، وقد سألت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كيف تقول تعني إذا فعلت كفعله وعلمها، وفي ذلك دليل على أنه يجوز لها وللنساء الإتيان إلى القبور لهذا الغرض لأن سؤالها ذلك كان بعد رجوعهما إلى البيت فلم يكن المقصود منه كيف أقول الآن وإنما معناه كيف أقول مرة أخرى، فلو كان لا يجوز لها ذلك لبينه لها وليس هذا المقصود هنا فإنا نذكره إن شاء الله تعالى في موضع آخر، وإنما المقصود هنا أن الحضور عند القبر لسبب زيارة من فيه والدعاء مطلوب وليس ذلك من باب قصد الأمكنة ولا دل الحديث على امتناعه ولا قال به أحد من العلماء إ ه. (وبعد هذا) قال المحقق: وقد أحضر إلي بعض الناس صورة فتاوى أربع منسوبة لبعض علماء بغداد في هذا ا؟؟ ن لا أدري هل هي مختلقة من بعض الشياطين
132 الذين لا يحسنون أو هي صادرة ممن هو متسم بسمة العلم وليس من أهله، وليس فيها كلها طائل وكلها خلط وذكر ما لا طائل تحته، والأقرب إنها مختلفة وإن مثلها لا يصدر عن عالم وإنما ذكرتها هنا لتضمنها النقل عن الشيخ أبي محمد والقاضي عياض الذي تعرضت هنا لإفساده. قال المحقق: (تنبيه) قد يتوهم من استدلال الخصم بهذا الحديث أن نزاعه قاصر على السفر للزيارة دون أصل الزيارة وليس كذلك بل نزاعه في الزيارة أيضا لما سنذكره في الشبهتين الثانية والثالثة وهما كون الزيارة على هذا الوجه المخصوص بدعة، وكونها من تعظيم غير الله المفضي إلى الشرك، وما كان كذلك كان ممنوعا، وعلى هاتين الشبهتين بنى كلامه وأصل الخيال الذي سرى إليه منهما لا غير وهو عام في الزيارة والسفر إليها. ولهذا ادعى أن الأحاديث الواردة في زيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كلها موضوعة، واستدل بقوله (لا تتخذوا قبري عيدا)، وبقوله: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، وبأن هذا كله محافظة على التوحيد، وأن أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد كما سنذكر لك في نص كلامه، وقد رأيت فتيا بخطه ونقلت منها ما أذكره قال فيها ومن خطه نقلت. (فتوى لابن تيمية في منع زيارة القبور) وأما السفر للتعريف عند بعض القبور، فهذا أعظم من ذلك فإن هذا بدعة وشرك فإن أصل السفر لزيارة القبور ليس مشروعا ولا استحبه أحد من العلماء، ولهذا لو نذر ذلك لم يجب عليه الوفاء به بلا نزاع بين الأئمة. (ثم قال): ولهذا لم يكن أحد من الصحابة والتابعين بعد أن فتحوا الشام ولا قبل ذلك يسافرون إلى زيارة قبر الخليل عليه الصلاة والسلام ولا غيره من قبور الأنبياء التي بالشام، ولا زار النبي صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا من ذلك ليلة أسرى به، والحديث
133 الذي فيه هذا قبر أبيك إبراهيم فانزل فصل فيه وهذا بيت لحم مولد أخيك عيسى انزل فصل فيه، كذب لا حقيقة له، وأصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذين سكنوا الشام أو دخلوا إليه ولم يسكنوه مع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وغيره لم يكونوا يزورون شيئا من هذا البقاع والآثار المضافة إلى الأنبياء. (ثم قال) ولم يتخذ الصحابة شيئا من آثاره مسجدا ولا رمزا غير ما بيناه من المساجد، ولم يكونوا يزورون غار حراء ولا غار ثور. (ثم قال) حتى أن قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يثبت عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لفظ بزيارته وإنما صح عنه الصلاة عليه السلام موافقة لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما). (ثم قال) ولهذا لم يكن على عهد الصحابة والتابعين مشهد يزار لا على قبر نبي ولا غير نبي فضلا عن أن يسافر إليه لا بالحجاز ولا بالشام ولا اليمن ولا العراق ولا مصر ولا المشرق. (ثم قال): ولهذا كانت زيارة القبور على وجهين: زيارة شرعية وزيارة بدعية، فالزيارة الشرعية مقصودها السلام على الميت والدعاء له إن كان مؤمنا، وتذكر الموت سواء كان الميت مؤمنا أم كافرا. (وقال بعد ذلك): فالزيارة لقبر المؤمن نبيا كان أو غير نبي من جنس الصلاة على جنازته يدعى له كما يدعى إذا صلى على جنازته، وأما الزيارة البدعية فمن جنس زيارة النصارى مقصودها الاشراك بالميت مثل طلب الحوائج منه أو به أو التمسح بقبره وتقبيله أو السجود له ونحو ذلك فهذا كله لم يأمر الله به ورسوله ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين ولا كان أحد من السلف يفعله لا عند قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا غيره. (ثم قال) ولم يكونوا يقسمون على الله تعالى بأحد من خلقه لا نبي ولا غيره ولا
134 يسألون ميتا ولا غائبا ولا يستغيثون بميت ولا غائب سواء كان نبيا أو غير نبي بل كان فضلاؤهم لا يسألون غير الله شيئا إ ه ما أردت نقله من كلام ابن تيمية رحمه الله من خطه وأنا عارف بخطه. (إبطال العلامة المحقق أبي الحسن السبكي لها) قال: وهو يدل على ما ذكرناه من أن نزاعه في السفر والزيارة جميعا غير أنه كلام مختبط في صدره ما يقتضي منع الزيارة مطلقا وفي آخره ما يقتضي أنها إن كانت للسلام عليه والدعاء له جازت، وإن كانت على النوع الآخر الذي ذكره لم تجز، وبقي قسم لم يذكره وهو أن تكون للتبرك به من غير إشراك به، فهذه ثلاثة أقسام: أولها السلام والدعاء له وقد سلم جوازه وأنه شرعي، ويلزمه أن يسلم جواز السفر له، فإن فرق في هذا القسم بين أصل الزيارة وبين السفر محتجا بالحديث المذكور فقد سبق جوابه. والقسم الثاني التبرك به والدعاء عنده للزائر، وهذا القسم يظهر من فحوى كلام ابن تيمية أنه يلحقه بالقسم الثالث ولا دليل له على ذلك بل نحن نقطع ببطلان كلامه فيه. وإن المعلوم من الدين وسير السلف الصالحين التبرك ببعض الموتى من الصالحين فكيف بالأنبياء والمرسلين؟، ومن ادعى أن قبور الأنبياء وغيرهم من أموات المسلمين سواء فقد أتى أمرا عظيما نقطع ببطلانه وخطئه فيه، وفيه حط لرتبة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى درجة من سواه من المسلمين، وذلك كفر متيقن فإن من حط رتبة النبي صلى الله عليه وسلم عما يجب له فقد كفر. (فإن قال) إن هذا ليس بحط ولكنه منع من التعظيم فوق ما يجب له، (قلت) هذا جهل وسوء أدب وقد تقدم في أول الباب الخامس الكلام في ذلك، ونحن نقطع بأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يستحق من التعظيم أكثر من هذا المقدار في حياته وبعد موته، ولا يرتاب في ذلك من كان في قلبه شئ من الإيمان.
135 وأما القسم الثالث وهو أن يقصد بالزيارة الاشراك بالله تعالى فنعوذ بالله منها وممن يفعلها ونحن لا نعتقد في أحد من المسلمين إن شاء الله تعالى ذلك، وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد)، ودعاؤه صلى الله تعالى عليه وسلم مستجاب، وقد أيس الشيطان أن يعبد في جزيرة العرب، فهذا شئ لا نعتقده في أحد ممن يقصد زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأما التمسح بالقبر وتقبيله والسجود عليه ونحو ذلك فإنما يفعله بعض الجهال ومن فعل ذلك ينكر عليه فعله ذلك وبعلم آداب الزيارة ولا ينكر عليه أصل الزيارة ولا السفر إليها، بل هو مع ما صدر منه من الجهل محمود على زيارته وسفره، مذموم على جهله وبدعته، وأما طلب الحوائج عند قبره صلى الله تعالى عليه وسلم فسنذكره في باب الاستغاثة بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم. ولنتكلم على الشبهة الثانية والثالثة اللتين بنى ابن تيمية كلامه عليهما، أما الشبهة الثانية وهي كون هذا ليس مشروعا وإنه من البدع التي لم يستحبها أحد من العلماء لا من الصحابة ولا من التابعين ومن بعدهم فقد قدمنا سفر بلال من الشام إلى المدينة لقصد الزيارة، وإن عمر بن عبد العزيز كان يجهز البريد من الشام إلى المدينة للسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، وإن ابن عمر كان يأتي قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فسلم عليه وعلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهم، وكل ذلك يكذب دعوى أن الزيارة والسفر إليها بدعة، ولو طولب ابن تيمية بإثبات هذا النفي العام وإقامة الدليل على صحته لم يجد إليه سبيلا، فكيف يحل لذي علم أن يقدم على هذا الأمر العظيم بمثل هذه الظنون التي مستنده فيها إنه لم يبلغه وينكر به ما أطبق عليه جميع المسلمين شرقا وغربا في سائر الأعصار مما هو محسوس خلفا عن خلف ويجعله من البدع. فإن قال إن الذي كان يفعله السلف من النوع الأول وهو السلام والدعاء له دون النوع الثاني والثالث، قلنا أما الثالث فلا استرواح إليه لأنا نبعد كل مسلم منه وأما النوع الأول والثاني فدعوى كون السلف كلهم كانوا مطبقين على النوع الأول وأنه شرعي، وكون الخلف كلهم مطبقين على الثاني وأنه بدعة من التخرص الذي لا يقدر على إثباته فإن المقاصد الباطنة لا يطلع عليها إلا الله تعالى، فمن أين له أن جميع السلف لم يكن أحد منهم يقصد التبرك أو أن جميع الخلف لا يقصدون إلا ذلك؟، ثم أنه قال فيما سنحكيه من كلامه أن أحدا لا يسافر إليها إلا لذلك، يعني لاعتقاده إنها قربة، وأنه
136 متى كان كذلك كان حراما، ولا شك أن بلالا وغيره من السلف وإن سلمنا أنهم ما قصدوا إلا السلام فإنهم يعتقدون ذلك قربة. فلو شعر ابن تيمية أن بلالا وغيره من السلف فعل ذلك لم ينطق بما قال ولكنه قام عنده خيال إن هذه الزيارة فيها نوع من الشرك ولم يستحضر أن أحدا فعلها من السلف فقال ما قال وغلط فيما حصل له من الخيال وفي عدم الاستحضار، ودعواه أنه لو نذر ذلك لم يجب عليه الوفاء به بلا نزاع بين الأئمة نحن نطالبه بنقل هذا عن الأئمة، وتحقيق أنه لا نزاع بينهم فيه، وبتقرير كون ذلك عاما في قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وغيره ليحصل مقصوده في هذه المسألة التي تصدينا لها، ومتى لم تحصل هذه الأمور الثالثة لا يحصل مقصوده، وليس إلى حصولها سبيل، ونحن قد نقلنا أن زيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تلزم بالنذر وعلى مقتضاه يلزم السفر إليها أيضا بالنذر على الضمد مما قال. وأما قوله إن الصحابة لما فتحوا الشام لم يكونوا يسافرون إلى زيارة قبر الخليل وغيره من قبور الأنبياء التي بالشام فلعله لأنه لم يثبت عندهم موضعها فإنه ليس لنا قبر مقطوع به إلا قبره صلى الله تعالى عليه وسلم. وأما قوله ولا زار النبي صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا من ذلك ليلة أسري به فلعله لاشتغاله بما هو أهم، وقد تحققنا زيارته صلى الله تعالى وسلم القبور بالمدينة وغيرها في غير تلك الليلة، فليس ترك زيارته في تلك الليلة دليلا على أن الزيارة ليست بسنة. فالتشاغل بالاستدلال بذلك تشاغل بما لا يجدي، وأما قوله إن الحديث الذي فيه هذا قبر أبيك إبراهيم فانزل فصل فيه وهذا بيت لحم مولد أخيك عيس انزل فصل، كذب لا حقيقة له، فصدق فيما قال. ثم أفاض في طرق هذا الحديث ثم قال: وإنما تكلمنا على هذا الحديث للتنبيه على الفائدة فيه، وليس بنا ضرورة إلى إثباته أو نفيه في تحقيق المقصود، ولما سبق أن عدم الزيارة في وقت خاص لا يدل على عدم الاستحباب، وقوله إن الصحابة لم يكونوا يزورون شيئا من هذه البقاع والآثار، فكلامنا إنما هو في زيارة ساكن البقعة لا في زيارة
137 البقعة وقد تقدم التنبيه على الفرق بينهما ثم إن هذه شهادة على نفي يصعب إثباتها وإن كنا مستغنين عن منعها وتسليمها. وقوله حتى أن قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هذا هو المقصود في هذه المسألة، وقوله له يثبت عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لفظ بزيارته، قد تقدم إبطال هذه الدعوى وتحقيق ثبوت الحديث فيها، وقوله ولهذا لم يكن على عهد الصحابة والتابعين مشهد يزار على قبر نبي ولا غير نبي فضلا عن أن يسافر إليه إلى آخر كلامه إن أراد ما يسمى مشهدا، فموضع قبره صلى الله تعالى عليه وسلم لا يسمى مشهدا وكلامنا إنما هو فيه، وإن أراد أنه لم يكن في ذلك الزمان زيارة لقبر نبي من الأنبياء فهذا باطل لما قدمناه، وبقية كلامه وتقسيمه الزيارة إلى شرعية وبدعية سبق الكلام عليه، وفيه اعتراف بمطلق الزيارة ويلزمه الاعتراف بالسفر إليها، ولا يمنع من ذلك كون نوع منها يقترن به من بعض الجهال ما هو منهي عنه، فمن ادعى أن الزيارة من غير انضمام شئ آخر إليها بدعة فقد كذب وجهل، ومن حرمها فقد حرم ما أحله الله تعالى، ومن أطلق التحريم عليها لأن بعض أنواعها محرم أو يقترن به محرم فهو جاهل. وهكذا من امتنع من إطلاق الاستحباب على الزيارة من حيث هي لوقوع بعض أنواعها من بعض الناس على وجه التحريم فهو جاهل أيضا فإن الصلاة قد تقع على وجه منهي عنه كالصلاة في الدار المغصوبة وما أشبه ذلك ولا يمنع ذلك من إطلاق القول بأن الصلاة قربة أو واجبة، فهكذا أيضا الزيارة من حيث هي قربة لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: زوروا القبور وإن كان بعض أنواعها يقع على وجه منهى عنه، فيكون ذلك الوجه منها منهيا عنه وحده، والحكم بالابتداع على هذا النوع لا يضرنا، ونحن نسلمه ونمنع من يفعله، والحكم بالابتداع على المطلق عين الابتداع. وأما الشبهة الثالثة، وهي إن من أصول الشرك بالله تعالى اتخاذ القبور المساجد كما قال طائفة من السلف في قوله تعالى: (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا)، قالوا: كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم وثم صوروا على صورهم تماثيل ثم طال عليهم الأمد فعبدوها، وتخيل ابن تيمية إن منع الزيارة والسفر إليها من باب المحافظة على التوحيد وإن فعلها مما
138 يؤدي إلى الشرك، وهذا تخيل باطل، لأن اتخاذ القبور مساجد والعكوف عليها وتصوير الصور فيها هو المؤدي إلى الشرك، وهو الممنوع منه، كما ورد في الأحاديث الصحيحة، كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، (يحذر ما صنعوا)، وقوله صلى الله تعال عليه وسلم لما أخبر بكنيسة بأرض الحبشة: (وأولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله). وأما الزيارة والدعاء والسلام فلا تؤدي إلى ذلك، ولذلك شرعه الله على لسان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما ثبت من الأحاديث المتقدمة عنه صلى الله تعالى عليه وسلم قولا وفعلا وتواتر واجما الأمة عليه، فلو كانت زيارة القبور من التعظيم المؤدي إلى الشرك كالتصوير ونحوه لم يشرعها الله تعالى في حق أحد من الصالحين، ولا فعلها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والصحابة في حق شهداء أحد والبقيع وغيرهم، وليس لنا أن نحرم إلا ما حرمه الله وإن تخيلنا أنه يفضي إلى محذور، ولا نبيح إلا ما أباحه الله وإن تخيلنا أنه لا يفضي إلى محذور، ولما أباح الزيارة وشرعها وسنها رسوله وحظر اتخاذ القبور مساجد وتصوير الصور عليها، قلنا بإباحة الزيارة، ومشروعيتها وتحريم اتخاذ القبور مساجد والتصوير فمن قاس الزيارة على التصوير في التحريم كان مخالفا للنص. قياس ابن تيمية زيارة القبور في التحريم على التصوير فاسد كما أن شخصا لو قال بإباحة اتخاذ القبور مساجد إذا لم يفض إلى الشرك كان مخالفا للنص أيضا، والوسائل التي لا يتحقق بها المقصود ليس لنا أن نجري حكم المقصود عليها إلا بنص من الشارع، فإن هذا من باب سد الذرائع الذي لم يقم عليه دليل، فالمفضي إلى الشرك حرام بلا إشكال، وأما الأمور التي قد تؤدي إليه وقد لا تؤدي فما حرمه الشرع منها كان حراما وما لم يحرمه كان مباحا لعدم استلزامه للمحذور، وهذه الأمور التي نحن فيها من هذا القبيل، حرم الشرع منها اتخاذ القبور مساجد
139 والتصوير والعكوف عليها، وأباح الزيارة والسلام والدعاء، وكل عاقل يعلم الفرق بينهما ويتحقق أن النوع الثاني إذا فعل مع المحافظة على آداب الشريعة لا يؤدي إلى محذور، وأن القائل بمنع ذلك جملة سدا للذريعة متقول على الله وعلى رسوله، منتقص ما ثبت لذلك المزور من حق الزيارة. (واعلم) أن ههنا أمرين لا بد منهما (أحدهما) وجوب تعظيم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ورفع رتبته عن سائر الخلق، (والثاني) إفراد الربوبية، واعتقاد أن الرب تبارك وتعالى منفرد بذاته وصفاته وأفعاله عن جميع خلقه، فمن اعتقد في أحد من الخلق مشاركة الباري تعالى في ذلك فقد أشرك وجنى على جانب الربوبية فيما يجب لها وعلى الرسول فيما أدى إلى الأمة من حقها، ومن قصر بالرسول عن شيء من رتبته فقد جنى عليه فيما يجب له وعلى الله تال بمخالفته فيما أوجب لرسوله، ومن بالغ في تعظيم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بأنواع التعظيم ولم يبلغ به ما يختص بالباري تعالى فقد أصاب الحق وحافظ على جانب الربوبية والرسالة جميعا، وذلك هو العدل الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، ومن المعلوم أن الزيارة بقصد التبرك والتعظيم لا تنتهي في التعظيم إلى درجة الربوبية، ولا تزيد على ما نص عليه في القرآن والسنة وفعل الصحابة من تعظيمه في حياته وبعد وفاته، وكيف يتخيل امتناعه إنا لله وإنا إليه راجعون. وهذا الرجل قد تخيل أن الناس بزيارتهم متعرضون للإشراك بالله تعالى، وبنى كلامه كله على ذلك وكل دليل ورد عليه يصرفه إلى غير هذا الوجه وكل شبهة عرضت له يستعين بها على ذلك، فهذا داء لا دواء إلا بأن يلهمه الله الحق، أيرى هو لما زار قصد ذلك وأشرك مع الله غيره؟. (الفصل الثاني في تتبع كلماته) وقد سبق تتبع ما نقلته من خطه في فتيا لم يسأل فيها عن الزيارة قصدا، بل جاء ذكرها تبعا للكلام في المشاهد والذي اتصل عنه بالدولة فتيا نقلت من خطه:
140 فتيا ابن تيمية التي اتصلت بيد السلطان في منعه زيارة قبر النبي صلى الله وسلم ومنعه شد الرحال إليها بسم الله الرحمن الرحيم ما تقول السادة العلماء أئمة الدين نفع الله بهم المسلمين في رجل نوى زيارة قبر نبي من الأنبياء مثل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وغيره فهل يجوز له في سفره أن يقصر الصلاة؟ وهل هذه الزيارة شرعية أم لا؟ وقد روي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (من حج ولم يزرني فقد جفاني ومن زارني بعد موتي كمن زارني في حياتي). وقد روي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا) أفتونا مأجورين. ج: الحمد لله. أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين فهل يجوز له قصر الصلاة على قولين معروفين: (أحدهما) وهو قول متقدمي العلماء من الذين لا يجوزون القصر في السفر المعصية كأبي عبد الله بن بطة وأبي الوفاء بن عقيل وطوائف كثيرين من العلماء المتقدمين أنه لا يجوز القصر في مثل هذا السفر لأنه سفر منهي عنه ومذهب مالك والشافعي وأحمد أن السفر المنهي عنه في الشريعة لا يقصر فيه. (والقول الثاني): إنه يقصر فيه وهذا يقوله من يجوز القصر في السفر المحرم كأبي حنيفة رحمه الله تعالى ويقوله بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد ممن يجوز السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين كأبي حامد الغزالي وأبي الحسين بن عبدوس الحراني وأبي محمد بن قدامة المقدسي، وهؤلاء يقولون إن هذا السفر ليس بمحرم لعموم قوله: (زوروا القبور)، وقد يحتج بعض من لا يعرف الأحاديث
141 بالأحاديث المروية في زيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كقوله: (من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي) - رواه الدارقطني وابن ماجة =. وأما ما يذكره بعض الناس من قوله: (من حج ولم يزرني فقد جفاني)، فهذا لم يروه أحد من العلماء وهو مثل قوله: (من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له على الله الجنة)، فإن هذا أيضا باطل باتفاق العلماء لم يروه أحد ولم يحتج به واحد، وإنما يحتج بعضهم بحديث الدارقطني، وقد احتج أبو محمد المقدسي على جواز السفر لزيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقبور الأنبياء بأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يزور مسجد قباء، وأجاب عن حديث: (لا تشد الرحال) بأن ذلك محمول على نفي الاستحباب. وأما الأولون فإنهم يحتجون بما في الصحيحين عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا)، وهذا الحديث اتفق الأئمة على صحته والعمل به، فلو نذر الرجل أن يصلي في مسجد أو مشهد أو يعتكف فيه أو يسافر إليه غير هذه الثلاثة لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة، ولو نذر أن يأتي المسجد الحرام بحج أو عمرة وجب عليه ذلك باتفاق العلماء، ولو نذر أن يأتي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو المسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف وجب عليه الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعي وأحمد، ولم يجب عند أبي حنيفة لأنه لا يجب عنده بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع، وأما الجمهور فيوجبون الوفاء بكل طاعة لما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله تعالى فليطعه ومن نذر أن يعصي الله تعالى فلا يعصه)، والسفر إلى المسجدين طاعة فلهذا وجب الوفاء به، وأما إلى بقعة غير المساجد الثلاثة فلم يوجب أحد من العلماء السفر إليه إذا نذره حتى نص العلماء على أنه لا يسافر إلى مسجد قباء لأنه ليس من الثلاثة، مع أن مسجد قباء يستحب زيارته لمن كان في المدينة، لأن ذلك ليس بشد رحل = كما في الحديث الصحيح =: (من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه كان كعمرة). قالوا: ولأن السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من
142 الصحابة والتابعين ولا أمر بها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة ولا جماع الأمة، وهذا مما ذكره أبو عبد الله بن بطة في (إبانته الصغرى) من البدع المخالفة للسنة والإجماع، وبهذا يظهر ضعف حجة أبي محمد فإن زيارة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لمسجد قباء لم تكن بشد رحل وهو يدلهم أن السفر إليه لا يجب بالنذر، وقوله: أن قوله لا تشد الرحال محمول على نفي الاستحباب يحتمل وجهين: أحدهما: أن هذا تسليم منه أن هذا السفر ليس صالح ولا قربة ولا طاعة ولا هو من الحسنات، فإذا من اعتقد في السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين أنها قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الاجماع، وإذا سافر لاعتقاده أنها طاعة كان ذلك محرما بإجماع المسلمين فصار التحريم من الأمر المقطوع به، ومعلوم أن أحدا لا يسافر إليها إلا لذلك وأما إذا قدر أن الرجل يسافر إليها لغرض مباح فهذا جائز. وليس من هذا الباب. الوجه الثاني: أن النفي يقتضي النهي، والنهي يقتضي التحريم، وما ذكروه من الأحاديث في زيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فكلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هي موضوعة لم يرو أحد من أهل السنن المعتمدة شيئا منها ولم يحتج أحد من الأئمة بشئ منها بل مالك إمام أهل المدينة النبوية الذين هم أعلم الناس بحكم هذه المسألة كره أن يقول زرت قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولو كان هذا اللفظ معروفا عندهم أو مشروعا أو مأثورا عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكرهه عالم المدينة. والإمام أحمد أعلم الناس في زمانه بالسنة لما سئل عن ذلك لم يكن عنده ما يعتمد عليه الأحاديث أبي هريرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)، وعلى هذا اعتمد أبو داود في سننه وكذلك مالك في الموطأ، روي عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا دخل المسجد قال: السلام عليك يا رسول الله. السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبت ثم ينصرف. وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (لا تتخذوا قبري
143 عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم)، وفي سنن سعيد بن منصور أن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رأى رجلا يختلف إلى قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يدعو عنده، فقال: يا هذا إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني)، فما أنت ورجل بالأندلس الاسواء. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال في مرض موته: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما فعلوا، قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا فهم دفنوه في حجرة عائشة خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحراء لئلا يصلي أحد عن قبره ويتخذوه مسجدا فيتخذ قبره وثنا. وكان الصحابة والتابعون لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد إلى زمان الوليد بن عبد الملك لا يدخل أحد إلى عنده لا لصلاة هنالك ولا لمسح بالقبر ولا دعاء هناك بل هذا جميعه إنما يفعلونه في المسجد، وكان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلموا عليه وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلي القبلة ولم يستقبلوا القبر وأما وقت السلام عليه فقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: يستقبل القبلة أيضا ولا يستقبل القبر. وقال أكثر الأئمة: بل يستقبل القبر عند السلام خاصة، ولم يقل أحد من الأئمة إنه يستقبل القبر عند الدعاء إلا في حكاية مكذوبة تروى عن مالك ومذهبه بخلافها، واتفق الأئمة على أنه لا يتمسح بقبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يقبله، وهذا كله محافظة على التوحيد، فإن من أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد = كما قال طائفة من السلف = في قوله تعالى: (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا)، قالوا هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا على صورهم تماثيل، ثم طال عليهم الأمد فعبدوها. وقد ذكر هذا المعنى البخاري في صحيحه عن ابن عباس، وذكره ابن جرير الطبري وغيره في التفسير عن غير واحد من السلف وذكره وثيمة وغيره في قصص الأنبياء من عدة طرق. وقد بسط الكلام على أصول هذه المسائل في غير هذا، وأول من وضع الأحاديث في السفر لزيارة المشاهد التي على القبور هم أهل البدع من الرافضة ونحوهم الذين
144 يعطلون المساجد ويعظمون المشاهد، يدعون بيوت الله التي أمر أن يذكر فيها اسمه ويعبد وحده لا شريك له، ويعظمون المشاهد التي يشرك فيها ويكذب فيها ويبتدع فيها ما لم ينزل الله به سلطانا فإن الكتاب والسنة إنما فيهما ذكر المساجد دون المشاهد كما قال الله تعالى: (قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين). وقال الله تعالى: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة: الآية)، وقال الله تعالى: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا)، وقال الله تعالى: (ولا تباشر وهن وأنتم عاكفون في المساجد)، وقال الله تعالى: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها الآية). وقد ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك) والله سبحانه وتعالى أعلم، كتبه أحمد بن تيمية. قال الإمام المحقق: هذا صورة خطه من أول الجواب إلى هنا. (إبطال العلامة المحقق السبكي لجل هذه الفتوى) قال قلت أما قوله: (من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين فهل يجوز له قصر الصلاة على قولين معروفين)، فيرد عليه فيه أسئلة: (أحدها) أن زيارة قبور الأنبياء والصالحين إما أن تكون عنده قربة أو مباحة أو معصية، فإن كانت معصية فلا حاجة إلى قوله (مجرد) فإن القولين في سفر المعصية سواء، تجرد قصد المعصية أم انضم إليه قصد آخر، وإن كانت قربة لم يجر فيها القولان بل يقصر بلا خلاف، وإن كانت مباحة فالمسافر لذلك له حالتان إحداهما أن يسافر معتقدا أن ذلك من المباحات المستوية الطرفين فيجوز القصر أيضا بلا خلاف ولا إشكال في ذلك كالسفر لسائر الأمور المباحة، والثانية: أن يسافر معتقدا أن ذلك قربة وطاعة وهذا سيأتي الكلام فيه وعلى تقدير أن يسلم له ما يقول يكون كلامه هنا مطلقا في موضع
145 التفصيل فهو على التقديرين الأولين خطأ صريح وعلى التقدير الثالث خطأ بالإطلاق في موضع التفصيل. (الثاني) أنه بنى كلامه في ذلك على أن هذا السفر مختلف في تحريمه، وقد قدمنا إنكار هذا الخلاف وأنه لم يتحقق صحته إلا ما وقع في كلام ابن عقيل، وقد قدمنا الكلام عليه وعلى تقدير صحته وعدم تأويله لم يتعرض فيه لقبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يجوز أن ينقل عنه فيه بخصوصه شئ مع إطباق الناس على السفر إليه. وابن تيمية نقل المنع من القصر فيه عن ابن بطة وابن عقيل وطوائف كثير بن من العلماء المتقدمين وهو مطلوب بتحقيق هذا النقل وتبيين هؤلاء الطوائف الكثير بن من المتقدمين. (الثالث) جعله المنع من القصر قول متقدمي العلماء كابن بطة وابن عقيل فجعل ابن عقيل من المتقدمين وجعل القول بجواز القصر قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وبعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد كالغزالي وغيره والغزالي في طبقة ابن عقيل بل تأخرت وفاته عنه فإن وفاة الغزالي في سنة خمس وخمسمائة ووفاة ابن عقيل في سنة ثلاث عشرة وخمسمائة فكيف يجعل ابن عقيل من المتقدمين والغزالي من المتأخرين، وليست طبقتهما بخافية عليه فإن كان مراده بجعله ابن عقيل من المتقدمين أن ينفق قوله عند العوام لاختياره إياه، وبجعله الغزالي من المتأخرين أن يضعف قوله عند العوام فليس هذا صنيع أهل العلم. (وقوله) إن (من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي) = رواه ابن ماجة = ليس كذلك لم أره في سنن ابن ماجة (وقوله): (من حج ولم يزرني فقد جفاني) لم يروه أحد من العلماء ليس بصحيح وقد قدمنا من رواه وإن كان ضعيفا. (وقوله) (لو نذر الرجل أن يصلي في مسجد أو مشهد أو يعتكف فيه أو يسافر إليه غير هذه الثلاثة لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة)، ليس بصحيح فإن في مذهب الشافعي وجهين مشهورين فما إذا نذر الاعتكاف في مسجد معين غير المساجد الثلاثة هل يتعين كما تتعين المساجد الثلاثة أولا؟.
146 (قوله) (حتى نص العلماء على أنه لا يسافر إلى مسجد قباء لأنه ليس من الثلاثة)، ليس كذلك عن العلماء كلهم، فإن المنقول عن الليث بن سعد أنه متى نذر مسجدا لزمه من المساجد الثلاثة وغيرها، والمنقول عن بعض المالكية أنه يجوز إعمال المطي لغير الناذر مطلقا، وحمل على ذلك إتيان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مسجد قباء فإنه كان بغير نذر، فهذا المذهبان يرد أن قوله إن العلماء نصوا على أنه لا يسافر إلى مسجد قباء. (وقوله) (قالوا ولأن السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أمر بها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة ولا جماع الأمة)، هذا من البهت الصريح وقد قدمنا من فعل ذلك من الصحابة والتابعين ومن استحبه من علماء المسلمين وأئمتهم فجحد ذلك مباهتة. (ثم قوله) (قالوا): وجعله ذلك على لسان غيره إن كان مراده التخلص من تبعته عند المخالفة فليس ذلك من دأب العلماء ثم هو مطلوب بنقل هذا القول برمته عن المتقدمين الذين نسبه إليهم أو عن بعضهم، ثم نسبة ذلك إلى غيره لا تخلصه لأنه إنما حكاه حكاية من يرتضيه وينتصر له ويفتي به العوام ويرغيهم على اعتقاده ولا يفرق العامي الذي يسمع هذه الفتيا بين أن يذكره عن نفسه أو يحكيه عن غيره. (وقوله): وهذا مما ذكره أبو عبد الله بن بطة في إبانته الصغرى، قلنا قد ذكرنا عن ابن بطة في الإبانة ما يخالف هذا في حق قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ورأيت من يذكر أن لابن بطة إبانتين وأن الذي نقله ابن تيمية من الصغرى والذي نقلناه من الكبرى، فإن صح ذلك وصح ما نقله ابن بطة في الصغرى فيحمل على غير قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم توفيقا بين الكلامين، وإن قال ابن بطة خلاف ذلك لم يلتفت إليه، قال المحقق: وحكى الخطيب في " تاريخ بغداد " كلام المحدثين في ابن بطة من جهة دعواه سماع ما لم يسمع، وحكى مع ذلك أيضا أنه كان شيخا صالحا مستجاب الدعوة فالله يسلمنا من إثمه وإنما أردنا أن نبين حاله ليعلم الناظر أنه على تقدير صحة النقل عنه ليس ممن يبعد في كلامه الخطأ.
147 (وقوله) إن قول أبي محمد المقدسي أن قوله: (لا تشد الرحال) محمول على نفي الاستحباب: يحتمل وجهين: أحدهما: أن هذا تسليم منه إن هذا السفر ليس بعمل صالح ولا قربة ولا طاعة ولا هو من الحسنات، فإذا من اعتقد في السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين أنها قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الاجماع، اعلم أن هذا الكلام في غاية الابهام والفساد، أما الايهام فلأن بعض من يراه يتوهم أنه استنتج مما سبق انعقاد الاجماع على أن ذلك ليس بقربة، ونحن قد قدمنا عن الليث بن سعد وبعض المالكية ما يقتضي أن السفر إلى غير المساجد الثلاثة قربة فبطل دعوى الاجماع، ومقصود ابن تيمية إلزام أبي محمد المقدسي على قوله إن (لا تشد الرحال) محمول على نفي الاستحباب، وعلى تقدير إن هذا تسليم منه، إن هذا السفر ليس بعمل صالح، غاية ما يلزم من هذا إن هذا السفر ليس بقربة، وإن من اعتقد أنه قربة فقد خالف أبا محمد وأين ذلك من مخالفة الاجماع، وأما فساده فلأن أبا محمد إنما تكلم في جواز القصر ومقصوده إثبات الإباحة فإنها كافية فيه، فنفي توهم التحريم بحمل الحديث على نفي الفضيلة أي لا يستحب شد الرحال إلى مكان إلا إلى الثلاثة، ومع هذا لا بد فيه من تأويل لأن السفر مستحب لطلب العلم وغيره إلى غيرها، فالمقصود لا يستحب إليها من حيث هي وقد يكون هناك أمر آخر يقتضي الاستحباب أو الوجوب ولا مانع أن يكون قصد زيارة شخص مخصوص أو أشخاص مما يقتضي الاستحباب ولم يتعرض أبو محمد لذلك لأنه لم يتكلم فيه وإنما تكلم في جواز القصر فاقتصر على ما يكفي فيه وهو إثبات الإباحة. (وقوله) وإذا سافر لاعتقاده أنها طاعة كان ذلك محرما بإجماع المسلمين فصار التحريم من الأمر المقطوع به، هذا أيضا موهم وفاسد أما إيهامه فلأن كثيرا ممن يسمعه يظن أن هذا كلام مبتدأ ادعى فيه انعقاد الاجماع على التحريم وأن ذلك مقطوع به، وكأن ابن تيمية أراد ذلك وجعله معطوفا على إلزام الشيخ أبي محمد حتى إذا حوقق فيه يخلص من دركه بجعله معطوفا، وليس هذا دأب من يبغي الارشاد بل من يبغي الفساد، وأما فساده فلأنا لو سلمنا أن السفر ليس بطاعة بالإجماع فسافر شخص معتقدا أنه طاعة كيف يكون سفره محرما بإجماع المسلمين أو على قول عالم من علماء المسلمين
148 فإن من فعل مباحا معتقدا أنه قربة لا يأثم ولا يوصف ذلك بكونه محرما بل إن كان اعتقاده ذلك لما ظنه دليلا وليس بدليل، وقد بذل وسعه بذلك كان مثابا عليه بمقتضى ظنه وإلا كان جهلا ولا إثم عليه فيه ولا أجر وفعله موصوف بالإباحة على حاله، فمن أين يأتي وصفه بالتحريم وإنما يأتي هذا الكلام في المباح إذا فعله على وجه العبادة مع اعتقاده أنه ليس بعبادة فهذا يأثم به ويكون حراما لأنه تقرب إلى الله تعالى بما ليس بقربة عند الله تعالى ولا في ظنه. ومن هنا نشأ الغلط في هذه المسألة وهكذا سائر البدع، ومن ابتدع عبادة فعليه إثم ابتداعه لأنه أدخل في الدين ما ليس منه وإثم فعله لأنه تقرب بما يعتقد أنه ليس من الدين، وأما من قلده من العوام فإن كان ذلك مما يسوغ فيه التقليد كالفروع وفعله معتقدا أنه عبادة شرعية فلا إثم عليه، وإن كان مما لا يسوغ فيه التقليد كأصول الدين فعليه الإثم ومسألتنا هذه من الفروغ فلو فرضنا أنه لم يقل أحد باستحباب السفر وفعله شخص على جهة الاستحباب معتقدا ذلك لشبهة عرضت له لم يحرم ولم يأثم فكيف وكل الناس قائلون باستحبابه. (قوله) (ومعلوم أن أحدا لا يسافر إليها إلا لذلك) هذا يقتضي إن كلامه ليس في أمر مفروض بل في الواقع الذي عليه الناس وإن الناس كلهم إنما يسافرون لاعتقادهم إنها طاعة والأمر كذلك، ويقتضي = على زعمه = أن سفر جميعهم محرم بإجماع المسلمين فإنا لله وإنا إليه راجعون، أيكون جميع المسلمين في سائر الأعصار من سائر أقطار الأرض مرتكبين لأمر محرم مجمعين عليه؟. فهذا الكلام من ابن تيمية يقتضي تضليل الناس كلهم القاصدين لزيارة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومعصيتهم وهذه عثرة لا تقال ومصيبة عظيمة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. (وقوله): (وأما إذا قدر أن الرجل يسافر إليها لغرض مباح فهذا جائز وليس من هذا الباب)، مفهوم هذا الكلام أن غرض الزيارة ليس بمباح. (وقوله): (الوجه الثاني أن النفي يقتضي النهي والنهي يقتضي التحريم)، ظاهر صدر كلامه أن كلام أبي محمد يحتمل وجهين هذا ثانيهما، وإنما يتجه هذا
149 الوجه الثاني على سبيل الرد لقول أبي محمد، يعني أن حمله على نفي الاستحباب خلاف الظاهر لأنه نفي، والنفي يقتضي النهي، والنهي يقتضي التحريم، وجواب هذا بالدليل المانع من حمله على التحريم وتعين المصير إلى المجاز، على أن هذه العبارة فاسدة لأن النفي لا يقتضي النهي وإنما يستعمل فيه على سبيل المجاز، نعم! قد يقال بأن النهي يقتضي النفي على العكس مما قال، أما كون النفي يقتضي النهي فلا يقول به أحد وإنما مراده أنه نفي بمعنى النهي، وإذا عرف هذا فلأبي محمد أن قول لا شك أن حقيقة النفي خبر لا يقتضي تحريما ولا كراهة، والنهي له معنيان: أحدهما هو فيه حقيقة وهو التحريم والآخر هو فيه مجاز وهو الكراهة، فإذا صرف النفي عن حقيقته الخبرية إلى معنى النهي احتمل أن يستعمل في التحريم أو الكراهة وأياما كان فاستعماله فيه مجاز لأن الخبر غير موضوع له، فإن رجح استعماله في التحريم لبعض المرجحات كان ذلك من باب ترجيح بعض المجازات على بعض، وقد يكون ذلك الترجيح معارضا بترجيح آخر فلأبي محمد أن يمنع كون اللفظ المذكور حقيقة في التحريم أو ظاهرا فيه، فإن الخبر ليس مستعملا في لفظ النهي بل في معناه، ومعناه منقسم إلى الحقيقي والمجازي، فإن قبل النهي النفساني شئ واحد وهو طلب الترك الجازم المانع من النقيض وما سواه ليس بنهي حقيقة فإذا ثبت أن المراد بالخبر النهي ثبت التحريم، قلنا حينئذ يمنع أن المراد بالخبر النهي. (قوله): (إن ما ذكروه من الأحاديث في زيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث بل هي موضوعة لم يرو أحد من أهل السنن المعتمدة شيئا منها)، قد بينا بطلان هذه الدعوى في أول هذا الكتاب، وما روي عن مالك من كراهة قوله: (زرت قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم) بينا مراده في الباب الرابع، (وقد اختار المحقق فيه ما قاله أبو عمران وأبو الوليد بن رشد المالكيان، قالا: إنما كره مالك أن يقال زرنا قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، لأن الزيارة من شاء فعلها ومن شاء تركها وزيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم متأكدة ينبغي أن لا تذكر فيه كما تذكر في زيارة الأحياء الذين من شاء زارهم ومن شاء ترك، والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أشرف وأعلى من أن يسمى أنه يزار). (وقوله): (ولو كان هذا اللفظ مشروعا عندهم الخ..) كلام في غير محل
150 النزاع، لأن النزاع ليس في اللفظ ولم يسأل عنه وإنما هو في المعنى، وما ذكره عن أحمد وأبي داود ومالك في الموطأ فكله حجة عليه لا له لأن المقصود معنى الزيارة وهو حاصل من تلك الآثار. وأما حديث: (لا تتخذوا قبري عيدا) فقد تقدم الكلام عليه، وحديث: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، لا يدل على مدعاه لم نتخذه مسجدا فإن أراد قياس الزيارة عليه فقد سبق الكلام في ذلك، وهو أنه قاس المنصوص عليه المأمور به وهو الزيارة على اتخاذ القبور مساجد وقياس النص على النص باطل بإجماع العلماء فهو قياس فاسد. (وقوله): (فهم دفنوه في حجرة عائشة خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحراء لئلا يصلي أحد عند قبره ويتخذه مسجدا فيتخذ قبره وثنا)، هذا ليس بصحيح وإنما دفنوه في حجرة عائشة لما روي لهم: (أن الأنبياء يدفنون حيث يقبضون) بعد اختلافهم في أين يدفن فلما روي لهم الحديث المذكور دفنوه هناك، وهذا من الأمور المشهورة التي يعرفها كل أحد ولم يقل أحد أنهم دفنوه هناك للغرض الذي ذكره. (قوله): (وكان الصحابة والتابعون لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد إلى زمان الوليد بن عبد الملك لا يدخل أحد إلى عنده لا لصلاة هنالك ولا لمسح بالقبر ولا دعاء هناك). فنقول إن هذا لا يدل على مقصوده ونحن نقول إن من أدب الزيارة ذلك وننهى عن التمسح بالقبر والصلاة عنده، على أن تلك ليس مما قام الاجماع عليه فقد روى أبو الحسين يحيى بن أبي الحسن بن جعفر بن عبيد الله الحسيني في كتابه " أخبار المدينة "، قال: حدثني عمر بن خالد حدثنا أبو نباتة عن كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: أقبل مروان بن الحكم فإذا رجل ملتزم القبر فأخذ مروان برقبته ثم قال هل تدري ماذا تصنع؟ فأقبل عليه، فقال: نعم إني لم آت الحجر ولم آت اللبن إنما جئت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله، قال المطلب وذلك الرجل أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، قلت وأبو نباتة يونس بن يحيى ومن فوقه ثقات وعمر بن
151 خالد لم أعرفه فإن صح هذا الإسناد لم يكره مس جدار القبر وإنما أردنا بذكره القدح في القطع بكراهة ذلك. (قوله): (وكان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلموا عليه وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلي القبلة ولم يستقبلوا القبر)، هذا فيه اعتراف بدعاء السلف عند السلام، وتركهم الدخول إلى الحجرة مبالغة في الأدب، وتركهم استقبال القبر عند الدعاء = إن صح = لا يدل على إنكار الزيارة ولا على إنكار السفر لها. (قوله): (وأما وقت السلام عليه فقال أبو حنيفة رحمة الله تعالى: يستقبل القبلة أيضا)، وهو كذلك ذكره أبو الليث السمرقندي في الفتاوى عطفا على حكاية حكاها الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وقال السروجي الحنفي يقف عندنا مستقبل القبلة، قال الكرماني عن أصحاب الشافعي وغيره يقف وظهره إلى القبلة ووجهه إلى الحظيرة وهو قول ابن حنبل، واستدلت الحنفية بأن ذلك جمع بين عبادتين، وقول أكثر العلماء استقبال القبلة عند السلام وهو الأحسن والأدب فإن الميت يعامل معاملة الحي والحي يسلم عليه مستقبلا فكذلك الميت، وهذا لا ينبغي أن يتردد فيه. (وقوله): (وإن أكثر العلماء قالوا يستقبله عند السلام خاصة) التقييد بقوله خاصة يطلب بنقله بل مقتضى كلام أكثر العلماء من الشافعية والمالكية والحنابلة الاستقبال عند السلام والدعاء، ونقله استقبال القبلة في السلام عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى ليس في المشهور من كتب الحنفية بل غالب كتبهم ساكنة عن ذلك، وقد قدمنا عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى، أنه قال جاء أيوب السختياني فدنا من قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فاستدبر القبلة وأقبل بوجهه إلى القبر، وقال إبراهيم الحربي في مناسكه تولي ظهرك القبلة وتستقبل وسطه = يعني القبر = ذكره الآجري عنه في كتاب الشريعة وذكر السلام والدعاء. (قوله): (ولم يقل أحد من الأئمة إنه يستقبل القبر عند الدعاء إلا في حكاية مكذوبة تروى عن مالك ومذهبه بخلافها) إنكاره ذلك عن أحد من الأئمة باطل بما قدمته عن أبي عبد الله السامري الحنبلي صاحب كتاب المستوعب في مذهب أحمد أنه قال: يجعل القبر تلقاء وجه القبلة خلف ظهره، والمنبر عن يساره وذكر كيفية
152 السلام والدعاء إلى آخره، وظاهر ذلك أنه يستقبل القبر في السلام والدعاء جميعا. وهكذا أصحابنا وغيرهم إطلاق كلامهم يقتضي أنه لا فرق في استقبال القبر بين حالتي السلام والدعاء، وكذا ما قدمنا الآن عن إبراهيم الحربي وقد صرح أصحابنا بأنه يأتي القبر الكريم فيستدبر القبلة ويستقبل جدار القبر ويبعد من رأس القبر نحو أربع أذرع فيسلم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ثم يتأخر صوب يمينه فيسلم على أبي بكر رضي الله عنه، ثم يتأخر أيضا فيسلم على عمر رضي الله عنه ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ويتوسل به في حق نفسه ويستشفع به إلى ربه سبحانه وتعالى، ويقول حكاية العتبي ثم يتقدم إلى رأس القبر فيقف بين القبر والأسطوانة التي هناك ويستقبل القبلة ويحمد الله تعالى ويمجده ويدعو لنفسه ولوالديه ومن شاء بماء أحب. وحاصله أن استقبال القبلة في الدعاء حسن واستقبال القبر أيضا حسن، لا سيما حالة الاستشفاع به ومخاطبته، ولا أعتقد أن أحدا من العلماء كره ذلك ومن ادعى ذلك فليثبته، وبعد هذا قال المحقق إن الحكاية التي زعم ابن تيمية أنها مكذوبة على مالك وأن مذهبه بخلافها، ذكرها القاضي عياض في الشفاء في الباب الثالث في تعظيم أمره ووجوب توقيره وبره صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يعقبها بإنكار ولا قال إن مذهبه بخلافها، بل قال في الباب الرابع في فصل في حكم زيارة قبره صلى الله تعالى عليه وسلم قال مالك في رواية ابن وهب: إذا سلم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ودعا، يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة، ويدنو ويسلم ولا يمس القبر بيده، فهذا نص عن مالك من طريق أجل أصحابه وهو عبد الله بن وهب أحد الأئمة الأعلام صريح في أنه يستقبل عند الدعاء القبر لا القبلة. وذكر القاضي عياض أنه قال في المبسوط لا أي أن يقف عند القبر يدعو ولكن يسلم ويمضي، قلت فالاختلاف بين المبسوط ورواية ابن وهب في كونه يقف للدعاء، أولا وليس في الاستقبال وقد قدمنا عن كثير من كتب المالكية أنه يقف ويدعو ولم نر أحدا منهم قال بأنه إذا وقف عند القبر يستدبره ويدعو فكيف يحل لذي علم أن يدعي أن مذهب مالك بل مذهب جميع العلماء بخلاف الحكاية المذكورة ويجعل ذلك وسيلة
153 إلى تكذيبها وتكذيب ناقليها بمجرد الوهم والخيال من غير دليل إلا مجرد شئ في نفسه، وقد ذكر القاضي عياض إسنادها وهو إسناد جيد، وتكلم المحقق على رجال إسنادها واحدا واحدا، ثم قال: فانظر إلى هذا الحكاية وثقة رواتها وموافقتها لما رواه ابن وهب عن مالك، وحسبك ابن وهب، فقد قيل كان الناس بالمدينة يختلفون في الشئ عن مالك فينتظرون قدوم ابن وهب حتى يسألوه عنه ولنا ههنا طرق: (إحداها) الأخذ برواية ابن وهب فقط. (الثانية) الاعتراف بالروايتين وإن هذا ليس من الاختلاف في حلال وحرام ولا في مكروه فإن استقبال القبلة حسن واستقبال القبر حسن إ ه. قلت: قال الزرقاني في شرح المواهب: إذا سلكنا مسلك الترجيح على طريقة المحدثين جزمنا بتقديم رواية ابن وهب لاتصالها ومذهب المالكية عليها، على رواية القاضي إسماعيل في مبسوطه لأنه لم يدرك مالكا فهي منقطعة إ ه. قال المحقق: (الثالثة) لو ثبت له ما زعمه من استقبال القبلة خاصة وعدم استقبال القبر عند الدعاء فأي شئ يلزم من ذلك وهل لهذا مدخل في الزيارة؟، وقد طالعت عدة كتب من كتب المالكية فلم أر فيها عن أحد المنع من استقبال القبر في الدعاء ولا كراهة ذلك ولا أنه خلاف الأولى، والذي ادعى ابن تيمية أنه مذهب مالك ومذهب جميع العلماء في أنه إذا سلم مستقبل القبر وأراد الدعاء استدبر القبر ولأجله رد الحكاية المذكورة عنه لم نقله في شئ من كتب المالكية ولا من كتب غيرهم، وقد قدمت في الباب الرابع من كلام المالكية في الزيارة جملة وبقيت جملة أذكرها ههنا إ ه. ونقل عن أربعة من أعيان المالكية ما ينطبق على رواية ابن وهب، ابن حبيب، وابن يونس، واللخمي، وابن بشير، ثم ختم المحقق هذا الباب بقوله: ولو ثبت عن مالك وعن غيره أن الأولى استقبال القبلة في الدعاء لا القبر لم يكن في ذلك شئ من منع الزيارة ولا السفر ولا مانعا من تعظيم القبر ومن اعتقد ذلك فقد ضل، وكل ما ذكره بعد ذلك تقدم الجواب عنه وأنه لا يدل على مقصوده إ ه. قلت والحكاية التي زعم ابن تيمية أنها مكذوبة على مالك وأن مذهبه بخلافها، هي
154 أن أمير المؤمنين أبا جعفر المنصور العباسي ناظر مالكا في مسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال مالك يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله تعالى أدب قوما فقال: (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي الآية) ومدح قوما فقال: (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله الآية) وذم قوما فقال: (إن الذين ينادونك الآية)، وإن حرمته ميتا كحرمته حيا فاستكان لها أبو جعفر وقال يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم استقبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله قال الله تعالى: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم الآية) إ ه. قال الزرقاني والحكاية رواها أبو الحسن علي ابن فهر في كتابه " فضائل مالك " ومن طريقه الحافظ أبو الفضل عياض في " الشفاء بإسناد لا بأس به بل قيل إنه صحيح، فمن أين أنها كذب وليس في روايتها كذاب ولا وضاع؟ ولكنه لما ابتدع له مذهبا، وهو عدم تعظيم القبور ما كانت وإنها إنما تزار للاعتبار والترحم بشرط أن لا يشد إليها رحل، صار كل ما خالف ما ابتدعه بفاسد عقله عنده كالصائل لا يبالي بما يدفعه فإذا لم يجد له شبهة واهية يدفعه بها = بزعمه = انتقل إلى دعوى أنه كذب على من نسب إليه، مباهتة ومجازفة. وقد أنصف من قال فيه: علمه أكبر من عقله. وكتب المالكية طافحة باستحباب الدعاء عند القبر الشريف مستقبلا له مستدبر القبلة، وممن نص على ذلك منهم أبو الحسن القابسي وأبو بكر بن عبد الرحمن والعلامة خليل بن إسحاق في مناسكه إ ه. قلت: فاستقبال القبر الشريف في السلام والدعاء متفق عليه بين الأئمة الأربعة وأتباعهم، فقول ابن تيمية: وأما وقت السلام عليه فقال أبو حنيفة رحمه الله يستقبل القبلة أيضا، الذي سلمه له المحقق بقوله: هو كذلك ذكره أبو الليث السمرقندي في الفتاوى عطفا على حكاية حكاها الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وقال السروجي الحنفي: يقف عندنا مستقبل القبلة، قال الكرماني وعن أصحاب
155 الشافعي إلى قوله واستدلت الحنفية، باطل من أربعة أوجه: الأول هذا تلبيس وغش فلو كان أمينا على النقل عن الأئمة وأتباعهم محققا لقال: قال أبو حنيفة في رواية أبي يوسف أو محمد بن الحسن أو زف في الجامع الكبير مثلا ولكنه أرسل القول عن النعمان بلا زمام وهو غير صحيح عنه. الثاني مذهب الإمام أبي حنيفة وفحول أصحابه كزفر وأبي يوسف، دونه الإمام محمد بن الحسن الشيباني، ومن كتب هذا استمد جميع أتباعه، وقد قال المحقق السبكي بعد هذا: وذكر النقل في استقبال القبلة عن أبي حنيفة رحمه الله عنه ليس في المشهور من كتب الحنفية بل غالب كتبهم ساكتة عن ذلك. الثالث الكرماني والسروجي تابعان لأبي الليث، قال العلامة ملا علي القاري في " المنسك " المتوسط ما نصه: (ثم اعلم أنه ذكر بعض مشايخنا كأبي الليث ومن تبعه كالكرماني والسروجي أنه يقف الزائر مستقبل القبلة كذا رواه الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى). الرابع قال المحقق الكمال بن الهمام في فتح القدير: وما عن أبي الليث من أن الزائر يستقبل القبلة مردود بما روى أبو حنيفة رضي الله عنه في مسنده عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: من السنة أن تأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم من قبل القبلة وتجعل ظهرك إلى القبلة وتستقبل القبر بوجهك ثم تقول السلام عليك أيها النبي الخ إ ه. قال ملا علي القاري في منسكه المذكور: ويؤيده ما قال المجد اللغوي: روينا عن الإمام ابن المبارك قال: سمعت أبا حنيفة يقول قدم أيوب السختياني وأنا بالمدينة، فقلت لأنظرن ما ينصع، فجعل ظهره مما يلي القبلة ووجهه مما يلي وجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وبكى غير متباك فقام مقام فقيه إ ه. وقول المحقق: (واستدلت الحنفية بأن ذلك جمع بين عبادتين)، لعله بعضهم = وهو الكرماني = بدليل ما يأتي وهو استدلال فاسد، إذ كيف يكون استدبار النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في السلام عليه عبادة؟، واستدبار أي إنسان في السلام عليه شنعاء لا يرتكبها أدنى الناس مع مثله فكيف بمسلم مع نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم
156 نعوذ بالله تعالى من فساد الجنان ولعل صواب قول المحقق: وقول أكثر العلماء استقبال القبلة عند السلام، استقبال القبر. والخطأ من النساخ، ويدل له ما في الزرقاني على المواهب اللدنية بعد أن ذكر أن كتب المالكية طافحة باستحباب الدعاء عند القبر مستقبلا له مستدبرا القبلة فيه وفي السلام، أخذا برواية ابن وهب عن مالك قال: وإلى هذا ذهب الشافعي والجمهور ونقل عن أبي حنيفة. قال ابن الهمام وذكر كلام ابن الهمام السابق ثم قال وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة، وقول الكرماني مذهبه خلافه ليس بشئ لأنه حي ومن يأتي الحي إنما يتوجه إليه إ ه. وقول ابن تيمية في فتواه: (ولو نذر أن يأتي مسجد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو المسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف وجب عليه الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعي وأحمد ولم يجب عند أبي حنيفة لأنه لا يجب عنده بالنذر إلا ما كان منجسه واجب بالشرع) غير صحيح، فإني لم أر في كتب الحنفية نصا على أن هذا النذر لا يجب الوفاء به عند النعمان رضي الله عنه بل مقتضى قاعدته التي ذكرها يجب عليه الوفاء به، كالأئمة الثلاثة لأن الصلاة المنذورة في أحد المسجدين جنسها مفروض في الشريعة فكلامه حجة عليه. وقوله: (وقد بسط الكلام على أصول هذه المسائل في غير هذا)، إحدى تلبيساته التي يرتكز عليها كثيرا لسد الفراغ فلا بسط ولا مكان آخر له غير هذا فلو كان محققا لبسطه وبينه هنا ولم يحله إلى مكان لا يوجد إلا في مخيلته. وقوله: (وأول من وضع الأحاديث في السفر لزيارة المشاهد التي على القبور هم أهل البدع من الرافضة ونحوهم الذين يعطلون المساجد ويعظمون المشاهد يدعوهن بيوت الله التي أمر أن يذكر فيها اسمه ويعبد وحده لا شريك له ويعظمون المشاهد التي يشرك فيها ويكذب فيها ويبتدع فيها ما لم ينزل الله به سلطانا) تهويش مشتمل على أربع مسائل: الأولى: قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مشهد من المشاهد.
157 الثانية: أول من وضع الأحاديث لزيارة المشاهد الرافضة ونحوهم من أهل البدع. الثالثة: المسلمون المساجد. الرابعة: وعظموا المشاهد، ويمكن إرجاع الأربع إلى اثنتين: الأولى: البناء على القبور الذي كرر قوله بلفظ المشاهد. والثانية: أول من وضع الأحاديث لزيارة المشاهد هم الرافضة ونحوهم من أهل البدع. أما الأولى: وهي كون قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مشهدا من المشاهد فهي ظاهرة من تكريره لفظ المشاهد ولأن نص فتواه في قبره الشريف صلى الله تعالى عليه وسلم، ولأنه مبني عليه فهو عنده كسائر القبور والمشاهد، فإن قيل لم ينشأ على قبره صلى الله تعالى عليه وسلم بناء بعد دفنه حتى يصدق عليه أنه مشهد من المشاهد، وإنما دفن صلى الله تعالى عليه وسلم في بيته لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (ما دفن نبي قط إلا في مكانه الذي توفي فيه)، فالجواب عنه من وجهين: الأول: دفنه صلى الله تعالى عليه وسلم في بيته لا يمنع من تسمية ما عليه من البناء مشهدا، ومن كونه مبنيا عليه. الثاني: قد أنشى ء البناء حول قبره وقبري صاحبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ورضي عنهما في زمان الوليد بن عبد الملك لما عزم على توسعة المسجد وعلماء التابعين بالمدينة موجودون، فإن قيل إنما بنى الوليد الحجرة على قبورهم لئلا يصلي من كان بالمسجد خلفها إليها، قلت: هذا لا يمنع من صدق المشهد عليها ولا من صدق البناء على قبره صلى الله تعالى عليه وسلم من حيث إنه قبر كسائر القبور، ولهذا يصح أن يكون مستندا ودليلا لمن قال من العلماء بجواز البناء على القبر في الأرض المملوكة للمقبور أو لغيره بإذنه. وأما الثانية: وهي زعمه (أن أول من وضع الأحاديث لزيارة المشاهد هم الرافضة ونحوهم من أهم البدع) فهي دعوى باطلة. وأما الثالثة: وهي زعمه أن المسلمين عطلوا المساجد أي من الصلاة وذكر الله فيها فهي بهتان مكشوف سيجاز الله عليه جزاء الأفاكين.
158 وأما الرابعة: وهي زعمه أنهم عظموا المشاهد، أي المبينة على القبور فهي كذب مكشوف لأن تعظيمهم إنما هو لمن في المشاهد من الأنبياء والصالحين لا لذات المشاهد، وتعظيم من فيها من الأنبياء والصالحين إذا لم يتجاوز مراتبهم التي جعلها الله لهم فهو من الدين، والتعظيم محله القلب ولا يعلم ما فيه من الاعتدال والغلو في تعظيم المعظم إلا الله سبحانه وتعالى. فالمسلمون لا يعظمون قبره صلى الله تعالى عليه وسلم لذاته وإنما يعظمونه لساكنه عليه الصلاة والسلام، ولا يكابر في هذا إلا مطموس البصيرة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد)، ولا شك أن الله تبارك وتعالى قد استجاب دعاءه. (فقوله يدعون بيوت الله التي أمر أن يذكر فيها اسمه ويعبد وحده لا شريك له) ثرثرة مؤكدة للبهتان الذي لطخ به المسلمين. (وقوله): (ويعظمون المشاهد التي يشرك فيها ويكذب فيها إلى قوله فإن الكتاب)، تهجم مكرر على قلوب المسلمين المعظمين للأنبياء والصالحين وحكم فائل عليهم بالشرك والكذب والابتداع يعامله الله عليه بما يستحقه، وبهذره هذا تمسك مقلدوه تمسك الغريق بالغريق فنبزوا جميع المسلمين الزائرين للقبور ب (القبورية) و (عباد القبور). وحكم ابن عبد الوهاب بكفر أهل كل بلدة فيها قبة على قبر زاعما أنها صنم يعبد من دون الله كما في أول الفصل الثالث عشر من " مصباح الأنام وجلاء الظلام " للسيد الحداد، هكذا يقف هذا المفتتن به بفهمه ومقلديه في جانب والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وأمته المرحومة في جانب آخر. فالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أمر بزيارة القبور أمرا مطلقا ولم يقل لا تزوروها إلا للاعتبار = كما زعم هو = ولم يقل لا تزوروها إذا كان عليها مشاهد فإن المشاهد بعظم ويشرك فيها ويكذب فيها إلى آخر هذيانه، ولم يقل كل بلدة فيها قبة على قبر فأهلها مشركون كفار، فإن كان بناء المشاهد على القبور شركا وعبادة لها أو لمن فيها وزائر وتلك القبور المبني عليها مشركون عبدة لها، وعلم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هذا كله ولم يبينه لأمته بيانا شافيا وهو المبين للناس ما نزل إليهم، فقد كتم وحي الله،
159 ونسبة كتم الوحي إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كفر، وإن جهل النبي صلى الله عليه وسلم هذا كله وعلمه ابن تيمية ومقلدوه فهذه مصيبة لا يعتقدها ولا يتفوه بها من له مسكة من عقل ودين، فيلزم من كلامه هذا وكلام مقلده ابن عبد الوهاب الوقوع في إحدى المصيبتين لا محالة; إما تجهيل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وإما نسبة كتم الوحي إليه صلى الله تعالى عليه وسلم، نعوذ بالله من زلقات اللسان وفاسد الجنان. والأحاديث وردت في الحث على زيارة قبره صلى الله تعالى عليه وسلم وزعم هو أنها كلها باطلة، والمسلمون أجمعوا على أن زيارة قبره صلى الله تعالى عليه وسلم من أفضل القربات، وزعم هو أن قصد زيارة قبره عليه الصلاة والسلام على الكيفية التي يفعلها المسلمون منذ زمن السلف الصالح إلى وقتنا هذا وإلى قيام الساعة من نواحي المعمورة ضلال مبين، وإن شد الرحال إليها معصية لا يجوز قصر الصلاة فيه. والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله الحديث). وابن تيمية ومقلده قالا إنهم مشركون وإن قالوها لجهلهم توحيد الألوهية بتوسلهم بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والصالحين من أمته. والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (من استقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم الذي له ما لنا وعليه ما علينا)، وابن تيمية ومقلده قالا إنه مشرك وإن استقبل قبلتنا لجهله توحيد الألوهية. والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم جعل الأذان من شعائر الإسلام حاقنا للدم فكان صلى الله تعالى عليه وسلم إذا أرسل سرية يقول لهم: (إذا سمعتم الأذان فلا تغيروا عليهم)، ولم يقل لهم إذا وجدتم البناء على القبور فأغيروا عليهم، وابن عبد الوهاب قال كل بلدة فيها قبة على قبر فأهلها مشركون مهدرو الدم والمال وإن أذنوا وصلوا وصاموا. والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (لا هجرة بعد الفتح)، أي بعد فتحه صلى الله تعالى عليه وسلم مكة صارت دار إسلام إلى قيام الساعة بإجماع المسلمين، وابن
160 عبد الوهاب قال إنها دار شرك لأن أهلها لم يؤلهوا هواه. والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (أيس الشيطان أن يعبد المصلون بجزيرة العرب إلا بالتحريش بينهم) وابن عبد الوهاب قال إن مسلمي الجزير العربية ومسلمي الأرض كلهم مشركون عابدون لأنبياء والصالحين لجهلهم توحيد الألوهية بتوسلهم واستغاثتهم بهم. وقوله: (فإن الكتاب والسنة إنما فيهما ذكر المساجد دون المشاهد إلى آخر الثرثرة)، ليس بدليل على حرمة بناء المشاهد على القبور وإنما هو عدم دليل، فإن وجود المساجد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ليس بدليل على حرمة المشاهد، وعدم وجود المشاهد فيهما ليس بدليل على حرمة بنائها على القبور، وهذا المفتتن به يتيه دائما في بيداء العدم يعتقده دليلا وليس العدم بدليل عند العقلاء وإنما ينهض الدليل على حرمة المشاهد لو نهى الله عنها في كتابه العزيز ولم يأت فيه ذلك، وقد عزا في " الجامع الصغير، حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (نهى رسول الله تعالى عليه وسلم أنه يقعد على القبر وأن يجصص أو يبنى عليه) الاى؟ الإمام أحمد ومسلم وأبي داود والنسائي ولم يبين درجته وأخرجه الترمذي في سننه عن جابر أيضا وزاد: (وأن يكتب عليه) وقال حسن صحيح وهو محمول عند العلماء في القعود على القبر وتجصيصه والبناء عليه في غير الأرض الموقوفة على كراهة التنزيه، وأخرجه الحافظ أبو عبد الله الحاكم النيسابوري المتوفى سنة خمس وأربعمائة في مستدركه عن جابر أيضا من طريقين. وقال في الأولى هذا حديث على شرط مسلم، وقد خرج بإسناده غير الكتابة فإنها لفظة صحيحة غريبة. وقال في الثانية هذه الأسانيد صحيحة، وليس العمل عليها فإن أئمة المسلمين من الشرق إلى الغرب مكتوب على قبورهم وهو عمل أخذ به الخلف عن السلف إ ه وتعقب كلامه هذا الذهبي في تلخيصه للمستدرك بقوله: (قلت) ما قلت طائلا ولا نعلم صحابيا فعل ذلك وإنما هو شيء أحدثه بعض التابعين فمن يعدهم ولم يبلغهم النهي إ ه، وتعقبه هذا ضعيف لأن عدم علمه هو بصحابي فعل ذلك لا ينفي علم غيره من العلماء ذلك وعدم بلوغ النهي للتابعين ومن بعدهم، وهم ألوف مؤلفة بعيد عادة وإن جاز عقلا على أنه
161 بعد اعترافه بإحداث بعض التابعين لها دعوى على الجم الغفير من علماء الإسلام بعدم علمهم بالنهي عن الكتابة على القبور، وقد نقل العلامة ابن عرفة كلام الحاكم هذا وسلمه هو وتلميذه الحافظ البرزلي وابن ناجي، وتعقبه أيضا بعض الشيوخ قائلا لا يسلم له ذلك، لأن أئمة المسلمين لم يفتوا بالجواز ولا أوصوا أن يفعل ذلك بقبورهم بل تجد أكثرهم يفتي بالمنع ويكتب ذلك في تصنيفه، وغاية ما يقال إنهم يشاهدون ذلك ولا ينكرون ومن أين لنا أنهم يرون ذلك ولا ينكرون وهم ينصون في كتبهم وفتاويهم على المنع إ ه. وذكر المالكية في كتبهم أن الحافظ أبا بكر بن العربي ضعف في عارضته رواية النهي عن الكتابة على القبر قائلا: إن النهي الوارد في ذلك لما لم يكن من طريق صحيحة تسامح الناس فيه ولا فائدة فيه إلا تعليم القبر إ ه. وتعقب كلام الحافظ الحاكم أيضا العلامة ابن حجر في تحفته بقوله: " ويرد بمنع هذه الكلية وبفرضها فالبناء على قبورهم أكثر من الكتابة عليها في المقابر المسبلة كما هو مشاهد لا سيما بالحرمين ومصر ونحوها وقد علموا بالنهي عنه فكذا هي ". فإن قلت: هذا إجماع فعلي وهو حجة = كما صرحوا به =، قلت: ممنوع، بل هو أكثري فقط إذ لم يحفظ ذلك حتى عن العلماء الذين يرون منعه وبفرض كونه إجماعا فعليا فمحل حجيته كما هو ظاهر إنما هو عند صلاح الأزمنة بحيث ينفذ فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد تعطل ذلك منذ أزمنة إ ه. * * *
162 حكم البناء والكتابة على القبور في المذاهب الأربعة حكمها عند الشافعية (الشافعية): قالوا إن البناء على القبور في الأرض المملوكة له أو لغيره بإذنه مكروه كراهة تنزيه، وفي الأرض الموقوفة أو السمبلة حرام، والمسبلة هي التي اعتاد أهل بلد الدفن فيها، وقالوا إن وضع شئ يعرف به القبر مستحب، فالكتابة بقدر الحاجة = وهي التعريف باسم الميت مستحبة = ولا سيما على قبور الأولياء والصالحين فإنها لا تعرف إلا بذلك عند تطاول السنين، ويحمل النهي فيها على ما قصد به الزينة والمباهاة والصفات الكاذبة، وكتابة النظم والنثر عليه مكروه كراهة تنزيه، وكتابة القرآن وكل اسم معظم عليه حرام، ويجب هدم ما بني في الأرض الموقوفة أو المسبلة ولا يجوز هدم ما بني في غيرهما. وقال العلامة ابن حجر في تحفته في باب " الوصايا " وشمل عدم المعصية القربة كبناء مسجد ولو من كافر ونحو قبة على قبر نحو عالم في غير مسبلة (وتسوية قبره ولو بها). قال محشيه الشرواني عند قوله (وتسوية قبره ولوبها) ما نصه: خالفه النهاية هنا، وقال الشيخ على الشبراملسي والمعتمد ما ذكره في الجنائز إ ه، أي من جواز الوصية لتوسية وعمارة قبور الأنبياء والصالحين في المسبلة، وقالوا إن الشافعي رضي الله عنه قال: رأيت الولاة بمكة يأمرون بهدم ما بني منها، (أي على قبور المعلى) ولم أر الفقهاء يعيبون ذلك عليهم إ ه.
163 حكمها عند المالكية (المالكية) قالوا: إن البناء على القبر أو حوله في الأرض المملوكة له أو لغيره بإذنه وفي الأرض الموات حرام إن قصد به المباهاة، ومكروه كراهة تنزيه إن تجرد من هذا القصد، وجائز قصد التمييز إن كان يسيرا وجائز مطلقا عند أبي الحسن بن القصار البغدادي المتوفى سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة ما لم يقصد به المباهاة، وحرام في الأرض المحبسة إلا بقصد التمييز فجائز إن كان يسيرا، ويجب هدم ما بني في الأرض المحبسة ولا يجوز هدم ما بني في غيرها. والكتابة عليه مكروهة كراهة تنزيه، وحرام إن بوهي بها وجوزها بعضهم على قبور الصالحين. قال العلامة ابن حمدون محشي ميارة الصغير: وإذا جاز عند ابن القصار ومن تبعه بناء البيت على مطلق القبور في الأرض المملوكة وفي المباحة إن لم يضر بأحد بشرط أن لا تقصد المباهاة فيهما كان البناء بقصد تعظيم من يعظم شرعا أجوز. قال الشيخ سيدي عبد القادر الفاسي مجيبا من سأله عن البناء على ضريح مولانا عبد السلام بن مشيش: لم يزل الناس يبنون على مقابر الصالحين وأئمة الإسلام شرقا وغربا = كما هو معلوم = وفي ذلك تعظيم حرمات الله واجتلاب مصلحة عباد الله لانتفاعهم بزيارة أوليائه ودفع مفسدة المشي والحفر وغير ذلك والمحافظة على تعيين قبورهم وعدم اندراسها ولو وقعت المحافظة من الأمم المتقدمة على قبور الأنبياء لم تندرس بل اندرس أيضا كثير من قبور الأنبياء والأولياء لعدم الاهتمام بهم وقلة الاعتناء بأمرهم إ ه. حكمها عند الحنابلة (الحنابلة) قالوا: البناء على القبر ولو في ملكه مكروه كراهة تنزيه وهو في المسبلة أشد كراهة والقول بتحريم البناء في المسبلة هو الصواب، قال أبو حفص، تحرم الحجرة بل تهدم، والكتابة عليه مكروهة كراهة تنزيه، قال ابن مفلح
164 الحنبلي المتوفى سنة اثنتين وستين وسبعمائة الذي قال فيه زميله ابن القيم: (ما تحت أديم السماء أعلم بالفقه من ابن مفلح)، وقال له شيخه ابن تيمية (أنت مفلح لا ابن مفلح في فروعه ما نصه: ويكره البناء على القبر وأطلقه أحمد والأصحاب لاصقه أولا، وذكر صاحب المستوعب والمحرر لا بأس بقبة وبيت وحظيرة في ملكه لأن الدفن فيه مع كونه كذلك مأذون فيه، وقال في المستوعب ويكره = أي البناء على القبر = إن كانت مسبلة ومراده والله أعلم الصحراء. ثم قال ابن مفلح: وقال في الفصول: القبة والحظيرة والتربة إن كان في ملكه فعل ما شاء وإن كان في مسبلة كره للتضيق بلا فائدة ويكون استعمالا للمسبلة فيما لم توضع له إ ه = كتاب الجنائز ص 681 و 682 =. حكمها عند الحنفية (الحنفية) قالوا: يحرم البناء على القبر للزينة ويكره للأحكام بعد الدفن، ولا بأس بالكتابة عليه لئلا يذهب الأثر ولا يمتهن، قال العلامة السيد ابن عابدين في آخر تنقيح الحامدية ما نصه: (فائدة) وضع الستور والعمائم والثياب على قبور الصالحين والأولياء كرهه الفقهاء حتى قال في فتاوى الحجة وتكره الستور على القبور إ ه. ولكن نحن الآن نقول إن كان القصد بذلك التعظيم في أعين العامة حتى لا يحتقروا صاحب هذا القبر الذي وضعت عليه الثياب والعمائم ولجلب الخشوع والأدب لقلوب الغافلين الزائرين لأن قلوبهم نافرة عند الحضور في التأدب بين يدي أولياء الله المدفونين في تلك القبور كما ذكرنا من حضور روحانيتهم المباركة عند قبورهم فهو أمر جائز لا ينبغي النهي عنه، لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، فإنه وإن كان بدعة على خلاف ما كان عليه السلف ولكن هو من قبيل قول الفقهاء في كتاب الحج إنه بعد طواف الوداع يرجع القهقرى حتى يخرج من المسجد، لأن في ذلك إجلال البيت، حتى قال في منهاج السالكين: وما يفعله الناس من الرجوع القهقرى بعد الوداع فليس فيه سنة مروية ولا أثر محكي وقد فعله أصحابنا الخ إ ه = من كشف النور عن أصحاب القبور للشيخ عبد الغني النابلسي = إ ه.
165 خلاصة حكم البناء والكتابة على القبور في المذاهب الأربعة فخلاصة حكم البناء والكتابة على القبور في المذاهب الأربعة: إن البناء على القبور عند الشافعية والمالكية والحنابلة في الأرض الموقوفة والمسبلة حرام يجب هدمه عند المالكية والشافعية وأبي حفص الحنبلي، ومكروه كراهة تنزيه في المذاهب الثلاثة في الأرض المملوكة له أو لغيره بإذنه، ولا يجوز هدمه عند الشافعية والمالكية مسكوت عنه عند الحنابلة، وجائز في هذه عند ابن القصار المالكي وطائفة من الحنابلة، وحرام للزينة عند الحنيفة ومكروه للأحكام بعد الدفن وإن الكتابة عليها مستحبة عند الشافعية وجائزة عند الحنفية ومكروهة كراهة تنزيه عند المالكية والحنابلة إ ه. فقول ابن القيم في إغاثة اللهفان الذي نقله عنه كشاف القناع (يجب هدم القباب التي على القبور لأنها أسست على معصية الرسول) صحيح إن أراد به المبنية في الأرض الموقوفة، وإن كان على إطلاقه فهو خطأ لأن النهي عن البناء على القبور في الحديث محمول على كراهة التنزيه في غير الموقوفة والمسبلة عند العلماء، وحرمة البناء في هذه معلل بالتضييق على المسلمين، ولا تضييق في المملوكة ولا معصية في البناء فيها، ولا يجوز هدمه عند العلماء وإن كان خلاف السنة وليس بفقيه من أوجب الهدم في المكروه وجعله معصية، والواجب إنما يقابل الحرام لا المكروه، والإمام أحمد رضي الله عنه إنما روي عنه منع البناء في وقف عام، ولم يرو عنه وجوب هدم ما بني فيه. ويقال لابن تيمية فيما ذكره كشاف القناع عنه (إن تغشية قبور الأنبياء والصالحين بغاشية ليس مشروعا في الدين) وليس ممنوعا فيه، فلو استظهر بجميع المتشدقة على إثبات نهي خاص في كتاب الله وسنة رسول الله تعالى عليه وسلم عن هذه الجزئية بخصوصها لم يظهر به، وغاية ما يقال في تغشية القبور إنها ليست من عمل السلف، وليس ترك السلف لها دليلا على المنع الخاص، فقوله (ليس مشروعا في الدين) تلبيس.
166 البناء على القبور والكتابة عليها من زمن السلف واستفيد من كلام الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه وكلام الحافظ أبي عبد الله الحاكم أن البناء والكتابة على القبور من زمن السلف، فقول من قال من العلماء إنه إجماع عملي غير بعيد من الصواب. تعقب بعض مشايخ المالكية لكلام الحافظ عبد الله الحاكم خطأ من خمسة أوجه وتعقب بعض مشايخ المالكية لكلام الحافظ أبي عبد الله الحاكم خطأ من خمسة أوجه: الأول: إن أراد بالأئمة في قوله: (لأن أئمة المسلمين لم يفتوا بالجواز) اتباع الأئمة الأربعة فهو خطأ عليهم جميعا لأن الحنفية أطلقوا في كتبهم جواز الكتابة على القبور، والشافعية قالوا إن كانت للتعريف بالمقبور فهي مستحبة، والمالكية والحنابلة قالوا مكروهة كراهة تنزيه، وإن أراد بأئمة المسلمين الذين لم يفتوا بالجواز غيرهم فلم لم يبينه حتى ينظر فيه؟. الثاني قوله: (ولا أوصوا أن يفعل ذلك بقبورهم) عدم دليل لا دليل ودعوى عريضة على الجم الغفير من علماء المسلمين، فإنه لو ثبت عنهم كلهم بأنهم لم يوصوا بالكتابة على قبورهم لم يلزم من ذلك منع الكتابة على القبور. الثالث: إن أراد بقوله: (بل نجد أكثرهم يفتي بالمنع ويكتب ذلك في تصنيفه)، الكتابة على القبور فقد علمت بطلانه بما قررته، وإن أراد به البناء عليه فهو غير وارد على الحافظ أبي عبد الله الحاكم لأن كلامه في الكتابة على القبور لا في البناء عليها. الرابع: يقال في قوله: (وغاية ما يقال إنهم يشاهدون ذلك ولا ينكرون ومن أين
167 لنا إنهم يرون ذلك ولا ينكرون؟) ومن أين لنا إنهم أنكروا الكتابة على القبور لما رأوها؟. الخامس: تنصيصهم في كتبهم وفتاويهم على المنع إنما هو على البناء على القبور في الأرض الموقوفة أو المسبلة خاصة لا على الكتابة عليها، ولم يقل بحرمة الكتابة على القبور إلا الشافعية إذا كانت بقرآن أو اسم معظم، وتعقب العلامة ابن حجر في تحفته له منظور فيه، فاعترافه بأنه إجماع أكثري فقط كاف في الاحتجاج به، ومنعه وتعليله ضعيفان وتعطيل تنفيذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما ينهض حجة لو حدث البناء والكتابة على القبور في القرون المتأخرة وحيث وجدا في زمان السلف الصالح أهل الدين المتين المشهود لهم بالخيرية فنسبة تعطيله إليهم لا تليق. في فتوى ابن تيمية هذه من ادعاء النفي المطلق على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى السلف الصالح وعلى الأئمة والعلماء وادعاء إجماعهم واتفاقهم أحد عش زعما وفي فتوى ابن تيمية هذه الزاعم فيها منع قصد زيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وشد الرحال إليها من ادعاء النفي المطلق على الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والسلف الصالح وعلى أئمة الإسلام وعلمائه وادعاء إجماعهم واتفاقهم أحد عشر زعما: الأول زعمه: (أن السفر إلى بقعة غير المساجد) الثلاثة لم يوجب أحد من العلماء السفر إليه). الثاني زعمه: (أن السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين ولا أمر بها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين). الثالث زعمه: (أن من اعتقد السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين عبادة وفعلها فهو مخالف للسنة ولا جماع الأمة). الرابع زعمه: (أن من اعتقد في السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين أنه قربة
168 وعبادة وطاعة فقد خالف الاجماع). الخامس زعمه: أنه (إذا سافر لاعتقاده أن الزيارة طاعة كان ذلك محرما بإجماع المسلمين). السادس والسابع والثامن زعمه: (أن ما ذكره العلماء من الأحاديث في زيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث بل هي موضوعة لم يرو أحد من أهل السنن المعتمدة شيئا منها، ولم يحتج أحد من الأئمة بشئ منها) وعدم احتجاج أحد من الأئمة بشئ منها لو صح لا ينهض دليلا على ضعفها ولا على وضعها على أنه مجازفة. التاسع زعمه: (أن السلف من الصحابة والتابعين كانوا إذا سلموا على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلي القبلة ولم يستقبلوا القبر). العاشر زعمه: (أنه لم يقل أحد من الأئمة أنه يستقل القبر عند الدعاء إلا في حكاية مكذوبة تروى عن الإمام مالك). الحادي عشر زعمه: (أن الأئمة اتفقوا على أنه لا يتمسح بقبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يقبله)، وكل هذه المزاعم قد أبطلت وأقول أيضا في إبطال قوله: (وما ذكروه من الأحاديث في زيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث بل هي موضوعة) أنه ثرثرة دلت على بلبلته واضطراب فكره، لأنه حكم عليها، أولا بأنها كلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، ثم أضرب عن هذا الحكم وحكم عليها ثانيا بأنها كلها موضوعة، والموضوع قسيم للضعيف، فيحتمل أن يكون إضرابه عن الأول إضراب إبطال له، ويحتمل أن يكون إضراب انتقال عنه إلى الثاني ويبقى هو مسكوتا عنه، وهواؤه هذا إنما يركز على أحد الشقين فقط، إما أن يدعي إنها كلها ضعيفة، وإما أن يدعي إنها كلها موضوعة. وقد قال أئمة الحديث: إن الحديث الواحد إذا تعددت طرقه، وكلها ضعيفة يتقوى بعضها ببعض ويترقى بذلك إلى درجة الحسن فكيف بأحاديث، وهي قاعدة مطردة عندهم حققها العلامة المحقق في الباب الأول من شفاء السقام وغيره، وحقق فيه
169 إن الحديث الثالث صححه سعيد بن السكن، وقد ولد الحافظ أبو علي سعيد بن عثمان ابن السكن البغدادي نزيل مصر سنة أربع وتسعين ومائتين، وتوفي في محرم سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، وترجمته في الثانية عشرة من تذكرة الحفاظ للذهبي حافلة. وقد كان الواجب عليه علما وأدبا حيث شذ عن الأمة الإسلامية في هذه المسألة العظيمة ووقف برأيه في جانب وهي في جانب آخر أن يعين الواضع لأحاديث زيارته صلى الله تعالى عليه وسلم والزمن الذي وضعت فيه ولا يرسل الكلام جزافا، (هم الرافضة ونحوهم أهل البدع) ولو كان محدثا محققا متثبتا صادقا أمينا على نقل العلم لتكلم على أحاديث الزيارة (حيث تلقتها الأمة الإسلامية بالقبول وعملت بها) واحدا واحدا من طريق فن الرواية حتى يكون كلامه قريبا من الاعتدال ولا يرسل الكلام جزافا ويفتري على العلماء بأنهم اتفقوا على ضعفها ثم يضرب عن هذا ويجزم بأنها كلها موضوعة ولكن لا دواء لمن صرعه الاعجاب وازدراء عباد الله. الإجماعات والاتفاقات والسلف والأئمة بضاعة يلوكها كثيرا لسد الفراغ وهذه الإجماعات والاتفاقات والسلف والأئمة بضاعة لا توجد إلا في مخيلته يلوكها كثيرا لسد الفراغ والتهويل والتلبيس على العامة وأشباههم لتروج في سوقهم وقد راجت. تكذيب إمامه أحمد بن حنبل وقد كذب إمامه الذي يتغالى فيه عند غرضه أحمد بن حنبل رضي الله عنه من ادعى الاجماع مرة واحدة فكيف بمن يرسله جزافا عند كل هوى عنه له، قال ابن القيم في إعلام الموقعين المطبوع مع حادي الأرواح ج 2 ص 335. قال في رواية ابنه عبد الله من ادعى الاجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا هذه دعوى بشر المريسي والأصم، ولكن لا يقول: لا نعلم الناس اختلفوا أو لم يبلغنا، وفي رواية المروزي: كيف
170 يجوز للرجل أن يقول أجمعوا إذا سمعهم يقولون أجمعوا فاتهمهم، وفي رواية أبي طالب عنه هذا كذب ما علمه أن الناس مجمعون إ ه، فقد حكم عليه إمامه الذي يتغالى فيه بأنه كذاب متهم وشهد عليه بذلك نقل تلميذه المؤله لهواه. وأتحف القراء ببعض هذه الاتفاقات التي يرسلها جزافا، نقل عنه صاحب كشاف القناع أيضا في باب الجنائز أنه قال في كسوة القبر بالثياب: (اتفق الأئمة على أن هذا منكر إذا فعل بقبور الأنبياء والصالحين فكيف بغيرهم إ ه) وتغشية القبور بالثياب مستحدثة في القرون المتأخرة التي هو منها رقد تقدم قريبا ذكري لما نقله عنه صاحب كشاف القناع فيها أنها (ليست مشروعة في الدين)، وقلت في إبطال كلامه هناك إنه لو استظهر بجميع المتشدقة على إثبات نهي خاص في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم عن هذه الجزئية بخصوصها لم يظفر بذلك وهنا أتى بلون آخر من الهراء ادعى اتفاق الأئمة على أنها منكر، فيقال له من هؤلاء الأئمة المتفقون على أن تغشية القبور بالثياب منكر، ألا يسمي لنا إن كان صادقا ولو واحدا منهم، وقد تحققنا أن رأيه هو الأئمة كلهم. الدعاء عند قبر معروف الترياق المجرب وقال تلميذة ابن ملفلح في الجزء الأول من فروعه في صلاة الاستسقاء: قال إبراهيم الحربي: (الدعاء عند قبر معروف الترياق المجرب) وقال شيخنا: (قصد للدعاء عنده رجاء الإجابة بدعة لا قربة باتفاق الأئمة) وقال أيضا: (يحرم بلا نزاع بين الأئمة إ ه) فقد كذب على الأئمة دفعتين زعم في الكلام الأول أنهم اتفقوا على أن قصد قبر معروف للدعاء عنده رجاء الإجابة بدعة، وزعم في الثاني أنهم اتفقوا على حرمة ذلك، فيقال له من هؤلاء الأئمة المتفقون على أن قصد قبر معروف للدعاء عنده بدعة، والمتفقون أيضا على أن قصده للدعاء عنده حرام، إلا سمى لنا إن كان صادقا ولو واحدا منهم؟.
171 ترجمة إبراهيم الحربي وقد تحققنا أنه مفتر على أئمة الدين وإبراهيم الحربي منهم، فهو إبراهيم بن إسحاق الحربي البغدادي الإمام الحافظ ولد سنة ثمان وتسعين ومائة، سمع من كثير من أئمة الرواية، وتفقه على الإمام أحمد بن حنبل، وكان من جلة أصحابه إماما في العلم رأسا في الزهد عارفا بالفقه بصيرا بالأحكام حافظا للحديث مميزا لعلله. وقد أمر الإمام أحمد ابنه عبد الله أن يتعلم الفرائض منه، شهد له بالإمامة في العلم والرواية الحفاظ الكبار الدارقطني وثعلب والخطيب البغدادي توفي رحمه الله تعالى سنة خمس وثمانين ومائتين وترجمته في التاسعة من تذكرة الحافظ للذهبي حافلة، وحيث إنه حنبلي من خواص الإمام أحمد لم يقل فيه شيئا ولو كان غير حنبلي لما تورع عن ثلبه، ولو انفراد غير حنبلي من المتقدمين ب (قبر معروف الترياق المجرب) لما تردد هذا المفتتن به في سلقه بلسانه وتكذيبه كما كذب الإمام عبد الله بن وهب صاحب الإمام مالك الذي هو أجل وأقدم من إبراهيم الحربي، ورواة كثيرة من علماء الأمة، في سماعه من شيخه مالك، إن المسلم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يستقبل قبره الشريف ويستدبر القبلة في الدعاء، ولم يختص إبراهيم الحربي بقوله: (قبر معروف الترياق المجرب) فقد قاله البغداديون. قبر معروف ترياق مجرب قال الأستاذ الإمام أبو القاسم القشيري المتوفى سنة خمس وستين وأربعمائة في رسالته في ترجمة معروف: كان من المشايخ الكبار مجاب الدعوة يستشفى بقبره، يقول البغداديون: (قبر معروف ترياق مجرب) إ ه وتوفي معروف الكرخي رحمه الله تعالى على رأس المائتين قبل وفاة الإمام أحمد بأربعين سنة وحال معروف عنده لا يخلو من أمرين: إما أن يكون عنده من أولياء الشيطان، واعتقاده هذه فيه غير مستنكر على من طعن في سادات الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وجهلهم كما سيأتي بيانه في الفصل الرابع، وإما أن يكون عنده من أولياء الرحمن.
172 لا نص في كتاب الله وسنة رسوله ولا عن السلف الصالح على منع الدعاء عند قبر معروف وعلى هذا يقال: أي دليل قام عنده على أن قصد قبر معروف للدعاء عنده رجاء الإجابة بدعة حرام؟، أبنص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم اللذين يهول ويلبس بهما على البسطاء؟ أو نص عن السلف الصالح الذين يلبس بهم على الأغبياء؟ فلو استظهر بجميع متشدقة الأرض على وجود نص على هذا المفتري على أئمة الدين في هذه الثلاثة لم يظهر به، أو بوحي من الله إليه بذلك وليس بنبي فقد ختمت النبوة بمحمد عليه الصلاة والسلام؟، أو بوحي الشيطان إليه بذلك؟، وهذا هو المتعين. ويقال أيضا: أي دليل قام عنده في كتاب الله أو في سنة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أو عن السلف الصالح، على أن استجابة الدعاء عند قبر معروف أو غيره من أولياء هذه الأمة المرحومة المشهورين مستحيل وليس بقربة. استحباب الدفن في المقبرة التي يكثر فيها الصالحون والشهداء لتناله بركتهم قال ابن قدامة الحنبلي في مغنيه: فصل ويستحب الدفن في المقبرة التي يكثر فيها الصالحون والشهداء لتناله بركتهم وكذلك في البقاع الشريفة إه والمسلمون بعد البغدادين متفقون على صلاح معروف وقد تفضل الله سبحانه وتعالى على أولياء هذه الأمة المرحومة فأعطى أرواحهم بعد انتقالهم من الدنيا أقوى مما كان لهم في الدنيا، وكتاب الروح لتلميذه المؤله هواه شاهد عليه، ففيه العجب العجاب.
173 نبذة من كتاب الروح لابن القيم دامغة باطلة وإلى القراء نبذة منه قال في طبعة حيدر آباد الثالثة ص 127: (فصل) ومما ينبغي أن يعلم أن ما ذكرنا من شأن الروح يختلف بحسب حال الأرواح من القوة والضعف والكبر والصغر، فللروح العظيمة الكبيرة من ذلك ما ليس لمن هو دونها، وأنت ترى أحكام الأرواح في الدنيا كيف تتفاوت أعظم تفاوت بحسب تفارق الأرواح في كيفياتها وقواها وإبطائها وإسراعها والمعاونة لها، فللروح المطلقة من أسر البدن وعلائقه وعوائقه من التصرف والقوة والنفاذ والهمة والتعلق بالله ما ليس للروح المهينة المحبوسة في علائق الدين وعوائقه، فإذا كان هذا وهي محبوسة في بدنها فكيف إذا تجردت وفارقته واجتمعت فيها قواها وكانت في أصل شأنها روحا علية زكية كبيرة ذات همة عالية؟ فهذه لها بعد مفارقة البدن شأن آخر وفعل آخر، وقد تواترت الرؤيا من أصناف بني آدم على فعل الأرواح بعد موتها ما لا تقدر على مثله حال اتصالها بالبدن من هزيمة الجيوش الكثيرة بالواحد والاثنين والعدد القليل ونحو ذلك، وكم قد رؤي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر في النوم قد هزمت أرواحهم عساكر الكفر والظلم فإذا بجيوشهم مغلوبة مكسورة مع كثرة عددهم وعددهم وضعف المؤمنين وقلتهم، ومن العجب أن أرواح المؤمنين المتحابين المتعارفين تتلاقى وبينها أعظم مسافة وأبعدها فتتسالم وتتعارف فيعرف بعضها بعضا كأنه جليسه وعشيره فإذا رآه طابق ذلك ما كان عرفته روحه قبل رؤيته إ ه. قد كتب ابن كثير في آخر تفسير سورة الروم نبذة وأطنب فيها وأجاد الحافظ السيوطي في كتابه شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور وقد كتب في هذا الموضع ابن كثير في آخر تفسير سورة الروم نبذة، وأطنب فيه وأجاد وأفاد الحافظ العلامة جلال الدين السيوطي في كتابه شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور.
174 ومن أبوابه النفيسة قوله: باب أحوال الموتى في قبورهم وأنسهم فيها فهم يصلون فيها ويقرأون ويتزاورون ويتنعمون ويلبسون، وأفاض فيه بسوق الأحاديث والآثار وأقوال العلماء وحكاياتهم في نحو خمس صفحات كبار، وقوله باب زيارة القبور وعلم الموتى بزوارهم ورؤيتهم لهم، وأفاض في هذا الباب بسوق الأحاديث والآثار وأقوال علماء الإسلام وحكاياتهم في اثنتي عشرة صفحة كبيرة، وفي استيعاب الحافظ ابن عبد البر في ترجمة الصحابي الشهير بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه عن ولده عبد الله قال مات والدي بمرو وقبره بالحصين وهو قائد أهل المشرق ونورهم لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: أيما رجل مات من أصحابي ببلدة فهو قائدهم ونورهم يوم القيامة إ ه. الصحابي الشهير عبد الرحمن بن ربيعة المستشهد يستسقى به وفي الإصابة في ترجمة الصحابي الشهير عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي الملقب بذي النور رضي الله تعالى عنه أنه استشهد ببلنجر من أرض الترك ناحية باب الأبواب ودفن هناك فهم يستسبقون به إلى الآن إ ه. كرامة عظيمة للتابعي الجليل عقبة بن نافع الفهري وفي الإستيعاب والإصابة في ترجمة التابعي الجليل عقبة بن نافع الفهري أنه لما فتح إفريقية كان موضع القيروان فيها واديا كثير الأشجار غيضه مأوى للوحوش والحيات فأراد عقبة أن يبني فيه مدينة ينزل فيها جنده فوقف عليه ونادى: " يا أهل هذا الوادي إنا حالون فيه إن شاء الله تعالى فاظعنوا " ثلاث مرات، قالوا فما نرى حجرا ولا شجرا إلا يخرج من تحته دابة حتى فبطن بطن الوادي، ثم قال: انزلوا باسم الله "، رواه خليفة بن خياط بإسناد حسن إ ه. وأخبرني السيد حامد البلخي البدخشاني الساكن بالمدينة المنورة إنه لما رحل من بلده في أوائل هذا القرن إلى مدينة بخارى لطلب العلم وزار قبر الإمام محمد بن إسماعيل
175 البخاري بقرية خرتنك، وجد رائحة المسك الأذفر تنفح من تراب قبره، قال لي وهذا أمر متواتر عندهم هناك. الجواب الباهر في زوار المقابر وكتابه (الجواب الباهر في زوار المقابر) الذي ثرثر به في ثمان وثمانين صفحة وجرى فيه على سنن أسلافه الحروريين من حمل الآيات القرآنية الواردة في المشركين على المسلمين، وعلى تهويشه المعروف والخروج من شئ إلى شئ آخر، وخلاصته على رأيه ثلاث جمل فقط: قصد السفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بدعة وضلال. الزائرون للقبور المعظمون لأصحابها مشركون، المعظمون للأنبياء والأولياء المعتقدون كراماتهم مشركون، حري بتسميته: (الجواب العاثر) قال في مقدمته مخاطبا للسلطان بعدما حبس بسبب هذه الفتوى زاعما أنها مختصرة لأنهم استعجلوه في الجواب أن ولي الأمر أيده الله تعالى رسم أن أحضر له كتبا كثيرة من كتب المسلمين قديما وحديثا، تؤيد رأيه وهذر بتلبسه المعروف: (ولا يقدر أحد أن يذكر خلاف ذلك لا عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن أئمة المسلمين لا الأربعة ولا غيرهم، وإنما خالف ذلك من يتكلم بلا علم إلى آخر ثرثرته ودعواه الجوفاء التي لا تجوز إلا على البلداء والمغفلين). أقول: متحديا له ولجميع المفتونين به، لو استظهروا بجميع متشدقة الأرض على أن يثبتوا على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (قصد قبري لزيارته بدعة وضلال)، (والزائرون للقبور المعظمون لأصحابها مشركون)، (والمعظمون للأنبياء والأولياء المعتقدون كراماتهم مشركون) لم يستطيعوا ذلك، ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن أئمة المسلمين لا الأربعة غيرهم. وقوله في ص 14 منه (فصل قد ذكرت فيما كتبته من المناسك أن السفر إلى مسجده وزيارة قبره كما يذكره أئمة المسلمين في مناسك الحج عمل صالح مستحب) تلبيس، فإن السفر إلى مسجده صلى الله تعالى عليه وسلم للصلاة فيه لناذرها شئ واجب، ولا حجة له في الحديث الشريف: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد الخ..)، لأن
176 المعنى لا تشد لصلاة في مسجد بدليل ذكر مساجد فلا دلالة فيه على منع شد الرحال لزيارته صلى الله تعالى عليه وسلم أصلا لا في منطوقه ولا في مفهومه، والسفر لزيارة قبره صلى الله تعالى عليه وسلم شئ آخر مستحب باتفاق علماء المسلمين، وتجب عند الشافعية بالنذر، وأئمة المسلمين إنما صرحوا في مناسك الحج بأن زيارة قبره صلى الله تعالى عليه وسلم قصدا واستقلالا من أفضل القربات، ولم يقرنوا بينهما كما لبس في هذا الهراء، فقوله كما يذكره أئمة المسلمين في مناسك الحج، بهتان عليهم. وقوله في ص 29 منه (والسفر إلى البقاع المعظمة هو من جنس الحج، وثرثر مكررا هذا الهراء)، فالسفر إلى البقاع المعظمة من جنس الحج، والمشركون من أجناس الأمم يحجون إلى آلهتهم كما كانت العرب تحج إلى اللات والعزى ومناة، إلى أن قال: (ولهذا كانوا تارة يعبدون الله وتارة يعبدون غيره) تلبيس فاسد على كلا المعنيين للحج اللغوي والشرعي، لأن الحج لغة: القصد إلى الشئ مطلقا، وشرعا: قصد بيت الله الحرام لأداء أحد النسكين، فقصد بيت الله للطواف به وتقبيل الحجر الأسود والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفة والمشعر الحرام وغير ذلك، تعظيم لهذه المشاعر من حيث إنها وسيلة لتعظيم الله تبارك وتعالى، وقصد المدينة المنورة لزيارته صلى الله عليه وسلم تعظيم لقبره من حيث إن وسيلة للسلام عليه صلى الله تعالى عليه وسلم، وقصد أي مكان من الأمكنة المدفون فيها نبي أو صالح تعظيم للمكان من حيث إنه وسيلة لزيارة المدفون فيه فمنطوق كلامه تعظيم الأمكنة لذاتها وهو فاسد، لأن المقصد في الحج أو الاعتماد هو تعظيم الله تبارك وتعالى بامتثال أمره والكعبة وسائر المشاعر العظام وسائل لتعظيمه تعالى فتعظيمها ليس لذاتها وإنما هو تبع لتعظيم الله تبارك وتعالى، والمقصد في السفر إلى الأمكنة من فيها من الأنبياء والأولياء والأمكنة وسائل له، فتعظيمها ليس لذاتها وإنما هو تبع لتعظيم من دفن فيها، فجعله السفر إلى الأماكن المعظمة من جنس الحج فاسد، وقياسه زوار القبور على المشركين الذين يحجون لآلهتهم فاسد أيضا لأنه في مقابلة النص وهو أمره صلى الله تعالى عليه وسلم بزيارة القبور أمرا مطلقا، ولو كان السفر إليها معصية ومن جنس الحج = كما زعم = للزم أن يكون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قد أوقع أمته في الشرك لأنه لم يبين لهم أن السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين معصية وشرك، وللزم أيضا أن يكون تعظيم أعلام دينه تعالى والبدن التي تنحر بمنى أكرم على
177 الله من أنبيائه وأوليائه، ويكون الله تبارك وتعالى حيث قال إن تعظيمها من تقوى القلوب قد أوقع عباده في الشرك وحثهم عليه، نعوذ بالله من زلقات اللسان وفساد الجنان. ومعلوم عند كل من له إلمام بالعلم أن حرمة مطلق مؤمن عند الله تعالى أعظم من حرمة الكعبة فكيف بالأنبياء والأولياء. وقد جاءه هذا الغلط القبيح من زعمه: (أن تعظيم المخلوق شرك)، وهي قضية بدهية البطلان عند العقلاء، لأن التعظيم المقول بالتشكيك محله القلب، فهل نقب عن قلوب جميع الزائرين لقبور الأنبياء والأولياء؟، فتحقق من كل واحد منهم أنه يعبد ويؤله المزور المقبور، سبحان الله هذا بهتان عظيم على زائر واحد، فكيف به على جميع الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها؟، لا يتفوه به من له مسكة من عقل ودين. و (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) قصد به تمييز المساجد الثلاثة على غيرها من مساجد الأرض في الأفضلية، وكون الاستثناء مفرغا ومتصلا يعرفه كل من له إلمام بالعربية، فلو استظهر هو وجميع المفتونين به بجميع المتشدقة على إثبات منع السفر لزيارة الأنبياء والأولياء عن السلف الصالح الذين يلبس بهم على البسطاء لم يستطيعوا. وقوله عن أهل الجاهلية إنهم كانوا تارة يعبدون الله وتارة يعبدون غيره كذب مكشوف عليهم وهذا تاريخهم بين أيدينا. نم كرر لوك هذا الهذر في ص 37 منه قائلا: وهذا الذي ذكرنا من أن السفر إلى الأماكن المعظمة القبور وغيرها عند أصحابه كالحج عند المسلمين هو أمر معروف من المتقدمين والمتأخرين لفظا ومعنى، فإنهم يقصدون من دعاء المخلوق والخضوع له والتضرع إليه نظير ما يقصده المسلمون من دعاء الله تعالى والخضوع له والتضرع إليه، لكن كما قال تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله)، وهم يسمون ذلك حجا إليها، وهذا معروف عند متقدميهم، ومتأخريهم، ولذلك أهل البدع والضلال من المسلمين كالرافضة وغيرهم يحجون إلى المشاهد وقبور شيوخهم وأئمتهم ويسمون ذلك حجا ويقول داعيتهم السفر إلى الحج الأكبر ويظهرون علما للحج إليه إ ه).
178 أقول: ليتدبر الألباء معنى هذا الهذيان، (هو معرفو من المتقدمين والمتأخرين لفظا ومعنى)، ومعنى الاستدراك بالآية الشريفة وليعلموا أن قوله: (فإنهم يقصدون من دعاء المخلوق والخضوع له نظير ما يقصده المسلمون من دعاء الله تعالى والخضوع له) بهتان وإفك مبين على الزائرين للقبور، فإن مقاصد القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب، وليس هو بنبي أوحي إليه بمقاصدهم نعم! أوحى إليه بذلك شيخه.. وليتدبروا أيضا معنى قوله: (وهذا معروف عند متقدميهم ومتأخريهم)، وإن صح قوله: (ويسمون ذلك حجا ويقول داعيتهم إلى آخر الهراء) عن الرافضة وهو مطالب بإثبات صحته عنهم فهو على غيرهم من المسلمين بهتان قطعا يجازيه الله عليه جزاء الباهتين، والثرثرة ليست عليها ضريبة. كتابه الرد على الأخنائي الذي ثرثر به في 220 صفحة على منوال الجواب العاثر تماما وكتابه الرد على الأخنائي في عشرين ومائتي صفحة على منوال الجواب العاثر قال في ص 9 منه ما نصبه: ورأيت يدل على أن عنده نوعا من الدين كما عند كثير من الناس من نوع من الدين لكن مع جهل وسوء فهم وقلة علم حتى قد يجهل دين الرسول الذي هو يؤمن به ويكفر من قال بقول الرسول وصدق خبره وأطاع أمره وقد يجهل أحدهم مذهبه الذي انتسب إليه كما قد يجهل مذهب مالك وغيره من أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم، فإن هذه المسألة التي فيها النزاع - وهي التي أجبت فيها - وإن كانت في كتب أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما وقد ذكروا القولين، وأبو حنيفة مذهبه في ذلك أبلغ من مذهب الشافعي وأحمد، فهي في كلام مالك وأصحابه أكثر، وهي موجودة في كتبهم الصغار والكبار، ومالك نفسه نص على قبر نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بخصوصه إنه داخل في هذا الحديث، بخلاف كثير من الفقهاء فإن كلامهم عام، لكن احتجاجهم بالحديث وغيره يبين أنهم قصدوا العموم وكذلك بيانهم لمأخذ المسألة يقتضي العموم، فهذا المعترض وأمثاله لا عرفوا ما قاله أئمتهم وأصحاب
179 أئمتهم، ولا ما قاله بقية علماء المسلمين، ولا عرفوا سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين، ولا ما كان يفعله الصحابة والتابعون لهم بإحسان إ ه. ذهابة في تقديس فهمه إلى أقصى درجات الغطرسة وفي تحقير علماء المسلمين إلى أحط درجات الازدراء أقول: (أول الدن دردي) من وقع نظره من الأذكياء على هذه الثرثرة من غير ملاحظة كلامه السابق عليها واطلاع على فتواه التي أبطلها الإمام أبو الحسن السبكي لا يفهم منها إلا أمرين فقط، ذهابه في تقديس فهمه إلى أقصى درجات الغطرسة وفي تحقير علماء المسلمين إلى أحط درجات الازدراء، وهما زبدتها فقوله: (ورأيت كلامه) = يعني القاضي الأخنائي = يدل على أن عنده نوعا من الدين كما عند كثير من الناس نوع من الدين)، فاسد من سبعة أوجه: الأول: مجرد كلام الإنسان بقطع النظر عن كونه مسلما لا يدل على دينه سواء جعلت رأى علمية أو بصرية كما هو الظاهر لأن من لا دين له أصلا قد يتكلم بالكلام الطيب. الثاني: الدين يشمل أصول الشريعة وفروعها لأنه (وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى ما هو خير لهم بالذات قلبيا كان أو قالبيا كالاعتقاد والعلم والصلاة). الثالث: الدين له أنواع كثيرة من أصول الشريعة وفروعها على هرائه. الرابع: يقال له أي نوع من أنواع الدين رأيته عند القاضي الأخنائي أمن أصوله أو من فروعه؟. الخامس: المانح للعباد أنواع الدين كلها أصولا وفروعا هو الله تبارك وتعالى فقوله: (عنده نوع من الدين) دعوى جوفاء لا مبرر لها إلا غطرسته يصح أن يقابله الأخنائي بمثلها.
180 السادس: لم يكتف في دعوى البهتان بالأخنائي بل بهت ولطخ بها علماء المسلمين بقوله: (كما عند كثير من الناس نوع من الدين).. سبحان الله هذا بهتان عظيم على الأخنائي وحده فكيف به على علماء المسلمين؟ فهل جعله الله تعالى رقيبا على دين المسلمين ومنقبا عن قلوبهم فعلم ما فيها وأحصى أنواع دين كل واحد منهم؟، وليس الشتم من أخلاق العلماء وإنما يلجأ إليه من يعوزه العلم ووقاره ليسد به الفراغ. السابع: حيث ثبت أن هذا الهراء مجرد شتم لا مبرر له إلا غطرسته، أقول ينطبق عليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم). وقوله: (يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه وينسى الجذع في عينه)، وقوله: (طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله.. الحديث)، وقول الشاعر: وإذا أتتك مذمتي من ناقص * فهي الشهادة لي بأني كامل وأقول أيضا: لكل واحد من العلماء الذين سلقهم هذا الذي لا يعرف من تحقيق العلم إلا الشتم والتكفير والتحقير. سلمت وهل حي من الناس يسلم، وبعد اعترافه للأخنائي وغيره من علماء المسلمين بنوع من أنواع الدين استدركه عليهم بدعوى أخرى جوفاء بلغت في الغطرسة والحماقة منتهاهما، (لكن مع جهل وسوء فهم وقلة علم). لا يعرف من العلم إلا التحقير والتكفير والشتم ويقال على هرائه هذا إذا كان عند كل واحد من علماء المسلمين نوع واحد من أنواع الدين الكثيرة مشوب بجهل وسوء فهم وقلة علم فأي دين بقي له والتدافع في هذا الكلام ظاهر لكل لبيب، لأن الأخنائي أو غيره من علماء المسلمين إذا كان جاهلا بنوع واحد من أنواع الدين الكثيرة الممنوح له من الشيخ المتغطرس فهو أشد جهلا ببقية أنواعه المفقودة منه من باب أولى، فلا فهم عنده أصلا لا حسنا ولا سيئا، على أن قوله: (وسوء فهم) كلمة ذهبت في الغطرسة إلى منتهى غايتها، يعني أن فهم علماء المسلمين مشروعية شد الرحال لزيارة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، سيئ، وفهمه هو منع
181 ذلك حسن ويحق لي أن أتمثل فيه نيابة عن علماء المسلمين ب (رمتني بدائها وانسلت) والكلام صفة المتكلم. ويقال في (وقلة علم) ما تقدم، فليوازن العقلاء بين فهمه الأعوج في هذه المسألة وفهم علماء الإسلام جميعا، بقطع النظر عما يؤيدهم من أدلة الكتاب والسنة أيهما أقرب إلى الحق والمعقول؟. وقوله: (حتى قد يجهل دين الرسول الذي هو يؤمن به) طعن مكرر في الأخنائي تقدم إبطاله، وقوله: (ويكفر من قال بقول الرسول) تلبيس وكذب مكشوف على الأخنائي بأنه كفره. وقد قال (في زعمه) بمنع شد الرحال لزيارة قبر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو: (لا تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد)، أي كفره على فهمه من هذا الحديث منع شد الرحال لزيارة القبور، وقد تقدم أنه لا دلالة في هذا الحديث على منع شد الرحال لزيارتها لا في منطوقه ولا في مفهومه، والحقيقة أن الأخنائي ألزمه من استئذانه صلى الله تعالى عليه وسلم ربه في زيارة قبر أمه وغيرها من القبور بأحد أمرين: إما أن يقول بأنها حرام، وهذا ضلال وكفر، وإما أن يقول وبأنها مندوبة أو جائزة، وقد قامت عليه الحجة بهذا، وعبارته في رسالته المقالة المرضية في الرد على من ينكر الزيارة المحمدية: (وفي صحيح أنه صلى الله تعالى عليه وسلم استأذن ربه في زيارة قبر أمه فأذن له واجب في ذلك لما سأله). فعلام يحمل هذا القائل زيارته لقبر أمه وغيرها ومشيه الذي منه صدر؟، فإن حمله على التحريم فقد ضل وكفر، وإن حمله على الجواز أو الندب فقد لزمته الحجة وألقم الحجر إ ه. وقوله: (وصدق خبره) تهويش إذ كل مسلم يصدق خبره صلى الله تعالى عليه وسلم، وقوله: (وأطاع أمره) كذلك إذ كل مسلم يطيع أمره صلى الله تعالى عليه وسلم: (وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا)، ولم يأمر صلى الله تعالى عليه وسلم أمته المرحومة بطاعة ابن تيمية في فهمه، ولم ينهها عن مخالفة فهمه.
182 وقوله: (وقد يجهل أحدهم مذهبه الذي انتسب إليه. إلى قوله فإن هذه المسألة) طعن مكرر في الأخنائي وذهاب بنفسه إلى أقصى درجات الغطرسة. البهتان على شد الرحال لزيارة قبره صلى الله تعالى عليه وسلم بأن فيه نزاعا بين العلماء وقوله: (فإن هذه المسألة التي فيها النزاع إلى قوله بخلاف كثير) هراء معمى، فلا نزاع بين علماء الإسلام، وهم متفقون على أن شد الرحال لزيارة قبره صلى الله تعالى عليه وسلم من أفضل القربات فقوله (التي فيها النزاع) بهتان عليهم وجوابه فيها قد أبطله علماء المسلمين منهم الإمامان السبكي والأخنائي وغيرهما. وقوله: (وإن كانت في كتب أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما وقد ذكروا القولين) بهتان ثان على كتب المذهبين وعلى غيرهما، وهي في كتب المذهبين قول واحد وهو استحباب زيارة قبره صلى الله عليه وسلم. وقوله: (وأبو حنيفة مذهبه في ذلك أبلغ من مذهب الشافعي وأحمد) بهتان ثالث على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وقد تقدم تحقيقه. وقوله: (فهي في كلام مالك وأصحابه أكثر) بهتان رابع. وقوله: (وهي موجودة في كتبهم الصغار والكبار) بهتان خامس. وقوله: (ومالك نفسه نص.. إلى قوله بخلاف كثير) بهتان سادس، ولا يستحي هذا المفتون من كثرة البهتان على الأئمة وأصحابهم وأتباعهم، والحياء من الإيمان. وقوله: (بخلاف كثير من الفقهاء إلى قوله فهذا المعترض) هذيان لا يستحق التعليق. وقوله: (فهذا المعترض وأمثاله إلى آخر الهراء) بالغ في تزكية نفسه أقصى غاية الغطرسة وفي تحقير الأخنائي وغيره من العلماء أقصى غايته، سيجازيه الله تعالى عليهما
183 جزاء الباهتين المحتقرين عباد الله المتغطرسين، وقال في آخر ص 204: وهذا المعترض وأمثاله التفتوا إلى جانب لهم دون جانب التوحيد لله والنهي عن الشرك فوقعوا في الغلو والشرك فبقوا مشابهين للنصارى إ ه. حكمه على جميع علماء الإسلام بالشرك والكفر فقد حكم في هذا الهراء على جميع علماء الإسلام السابقين عليه والمعاصرين له والمتأخرين عنه بالشرك والكفر حيث التفتوا كلهم = في زعمه = إلى جانب التعظيم لهم، أي للأنبياء والأولياء، ولم يعرفوا توحيد الألوهية الذي أوحاه إليه الشيطان، فقد زعم أن الخلق كلهم عرفوا توحيد الربوبية وجهلوا توحيد الألوهية فكفروا بذلك، وقد أبطلت زعمه هذا في الفصل الثاني بوجوه كثيرة، وعبر عن المعرفة في الطرفين بالجانب، والأخنائي الذي ثرثر في الرد عليه بالهراء، وزعم أنه يجهل مذهب إمامه الذي انتسب إليه، ولا يعرف ما قاله إمامه وأصحاب إمامه ولا ما قاله بقية علماء المسلمين ولا يعرف سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين. وزعم أيضا أنه مشرك لتعظيمه، أي عبادته الأنبياء والأولياء بجهله توحيد الألوهية الذي أوحاه إليه إبليس فكفر به المسلمين ترجمه العلامة ابن فرحون ديباجه فقال: محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران السعدي المصري أبو عبد الله المعروف بابن الأخنائي الملقب تقي الدين سمع من أبي محمد الدمياطي وغيره وأكثر عن الدمياطي. وذكر أنه سمع من ابن عساكر بمكة المكرمة، كان فقيها فاضلا صالحا خيرا صادقا سليم الصدر، وكان بقية الأعيان وفقهاء الزمان له تآليف وأوضاع حسنة مفيدة، تولى قضاء القضاة المالكية بالديار المصرية، وكان من عدول القضاة وخيارهم عمر وأسند، مولده سنة ثمان وخمسين وستمائة وتوفي خمسين وسبعمائة إ ه، ورسالته المسماة بالمقالة المرضية في الرد على من ينكر الزيارة المحمدية مع اختصارها في غاية الأحكام والتحقيق، وهي مطبوعة في ضمن: (البراهين الساطعة في رد بعض البدع الشائعة) للعلامة المرحوم الشيخ سلامة العزامي.
184 الباب الثامن في التوسل والاستغاثة والتشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم قال الإمام العلامة أبو الحسن السبكي: (الباب الثامن في التوسل والاستغاثة والتشفع بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم)، اعلم أنه يجوز ويحسن التوسل والاستغاثة والتشفع بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ربه سبحانه وتعالى، وجواز ذلك وحسنه من الأمور المعلومة لكل ذي دين، المعروفة من فعل الأنبياء والمرسلين وسير السلف الصالحين والعلماء والعوام من المسلمين ولم ينكر أحد ذلك من أهل الأديان ولا سمع به في زمن من الأزمان، حتى جاء ابن تيمية فتكلم في ذلك بكلام يلبس فيه على الضعفاء الأغمار، وابتدع ما لم يسبق إليه في سائر الأعصار، ولهذا طعن في الحكاية التي تقدم ذكرها عن مالك فإن فيها قول مالك للمنصور استشفع به، ونحن قد بينا صحتها، ولذلك أدخلنا الاستغاثة في هذا الكتاب لما يعرض إليها مع الزيارة، وحسبك أن إنكار ابن تيمية للاستغاثة والتوسل قول لم يقله عالم قبله وصار به بين أهل الإسلام مثلة، وقد وقفت له على كلام طويل في ذلك رأيت من الرأي القويم أن أميل عنه إلى الصراط المستقيم ولا أتتبعه بالنقص والإبطال، فإن دأب العلماء القاصدين لإيضاح الدين وإرشاد المسلمين تقريب المعنى إلى أفهامهم وتحقيق مرادهم وبيان حكمه ورأيت كلام هذا هذا الشخص بالضد من ذلك فالوجه الإضراب عنه. التوسل به صلى الله تعالى عليه وسلم جائز قبل خلقه وبعد خلقه في مدة حياته في الدنيا وبعد موته وبعد البعث (وأقول): إن التوسل بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم جائز في كل حال قبل
185 خلقه وبعد خلقه في مدة حياته في الدنيا وبعد موته في مدة البرزخ وبعد البعث في عرصات القيامة والجنة، وهو على ثلاثة أنواع: (النوع الأول) أن يتوسل به، بمعنى أن طالب الحاجة يسأل الله تعالى به أو بجاهه أو بركته، فيجوز ذلك في أحوال الثلاثة وقد ورد في كل منها خبر صحيح، أما الحالة الأولى قبل خلقه فيدل لذلك آثار عن الأنبياء الماضين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين اقتصرنا منها على ما تبين لنا صحته، وهوما رواه الحاكم أبو عبد الله بن البيع في المستدرك على الصحيحين أو أحدهما (وساق إسناده إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي تعالى عنه)، قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: (لما اقترف آدم عليه السلام الخطيئة قال يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال الله تعالى يا آدم وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه، قال يا رب لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فعرفت أنك لم تضعف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك). فقال الله تعالى: صدقت يا آدم لأحب الخلق إلي وإذ سألتني بحقه فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن ابن زيد بن أسلم في هذا الكتاب، ورواه البيهقي أيضا في دلائل النبوة وقال تفرد به عبد الرحمن، وذكره الطبراني وزاد فيه، (وهو آخر الأنبياء من ذريتك). وذكر الحاكم مع هذا الحديث أيضا عن علي بن حماد العدل، وساق إسناده إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام: يا عيسى آمن بحمد وأمر من أدركه من أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم ولولاه ما خلقت الجنة والنار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه لا إله إلا الله فسكن. قال الحاكم: هذا حديث حسن صحيح الإسناد ولم يخرجاه انتهى ما قاله الحاكم، والحديث المذكور لم يقف عليه ابن تيمية بهذا الإسناد ولا بلغه إن الحاكم صححه
186 فإنه قال، أعني ابن تيمية، (أما ما ذكره في قصة آدم من توسله فليس له أصل ولا نقله أحد عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بإسناده يصلح الاعتماد عليه ولا الاعتبار ولا الاستشهاد). ثم ادعى ابن تيمية أنه كذب وأطال الكلام في ذلك جدا بما لا حاصل تحته بالوهم والتخرص ولو بلغه أن الحاكم صححه لما قال ذلك أو لتعرض للجواب عنه، وكأني به أن بلغه بعد ذلك يطعن في عبد الرحمن بن زيد بن أسلم راوي الحديث. ونحن نقول قد اعتمدنا في تصحيحه على الحاكم وأيضا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لا يبلغ في الضعف إلى الحد الذي ادعاه وكيف يحل لمسلم أن يتجاسر على منع هذا الأمر العظيم الذي لا يرده عقل ولا شرع وقد ورد فيه هذا الحديث، وسنزيد هذا المعنى صحة وتثبيتا بعد استيفاء الأقسام. وأما ما ورد من توسل نوح وإبراهيم وغيرهما من الأنبياء فذكره المفسرون واكتفينا عنه بهذا الحديث لجودته وتصحيح الحاكم له، ولا فرق في هذا المعنى بين أن يعبر عنه بلفظ التوسل أو الاستغاثة أو التشفع أو التجوه والداعي بالدعاء المذكور وما في معناه متوسل بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، لأنه جعله وسيلة لإجابة الله دعاءه، ومستغيث به والمعنى أنه استغاث الله به على ما يقصده، فالباء ههنا للسببية، وقد ترد للتعدية كما تقول من استغاث بك فأغثه، ومستشفع به ومتجوه به ومتوجه فإن التجوه والتوجه راجعان إلى معنى واحد. (فإن قلت): المتشفع بالشخص من جاء به ليشفع له فكيف يصح أن يقال يتشفع به، (قلت): ليس الكلام في العبارة وإنما الكلام في المعنى وهو سؤال الله بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم = كما ورد عن آدم وكما يفهم الناس من ذلك = وإنما يفهمون من التشفع والتوسل والاستغاثة والتجوه ذلك، ولا مانع من إطلاق اللغة هذه الألفاظ على هذا المعنى، والمقصود أن يسأل العبد الله تعالى بمن يقطع أن له عند الله قدرا ومرتبة، ولا شك أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم له عند الله قدر علي ومرتبة رفيعة وجاه عظيم، وفي العادة أن من كان له عند الشخص قدر بحيث إنه إذا شفع عنده قبل شفاعته، فإذا انتسب إليه شخص في غيبته وتوسل بذلك وتشفع به فإن ذلك الشخص يجيب السائل
187 إكراما لمن انتسب إليه وتشفع به، وإن لم يكن حاضرا ولا شافعا، وعلى هذا التوسل بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم قبل خلقه، ولسنا في ذلك سائلين غير الله تعالى ولا داعين إلا إياه، ويكون ذكر المحبوب أو العظيم سببا للإجابة = كما في الأدعية الصحيحة المأثورة =: (أسألك بكل اسم هو لك، وأسألك بأسمائك الحسنى، وأسألك بأنك أنت الله، وأعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك)، وحديث الغار الذي فيه الدعاء بالأعمال الصالحة، وهو من الأحاديث الصحيحة المشهورة، فالمسئول في هذه الدعوات كلها هو الله وحده لا شريك له والمسؤول به مختلف ولم يوجب ذلك إشراكا ولا سؤال غير الله، كذلك السؤال بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ليس سؤالا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، بل سؤال الله به، وإذا جاز السؤال بالأعمال، وهي مخلوقة، فالسؤال بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أولى، ولا يسمع الفرق بأن الأعمال تقتضي المجازاة عليها، لأن استجابة الدعاء لم تكن عليها وإلا لحصلت بدون ذكرها، وإنما كانت على الدعاء وليس هذا المعنى مما يختلف فيه الشرائع حتى يقال إن ذلك شرع من قبلنا، فإنه لو كان ذلك مما يخل بالتوحيد لم يحل في ملة من الملل، فإن الشرائع كلها متفقة على التوحيد، وليت شعري ما المانع من الدعاء بذلك؟ فإن اللفظ إنما يقتضي أن للمسئول به قدرا عند المسؤول، وتارة يكون المسؤول به أعلى من المسؤول، أما الباري سبحانه وتعالى، فكما في قوله من سألكم بالله فأعطوه. وفي الحديث الصحيح في حديث أبرص وأقرع وأعمى أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن الحديث وهو مشهور. وأما بعض البشر فيحتمل أن يكون من هذا القسم قول عائشة لفاطمة رضي الله تعالى عنهما: أسألك بمالي عليك من الحق، وتارة يكون المسؤول أعلى من المسؤول به، كما في سؤال الله تعالى بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم = فإنه لا شك أن للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم قدرا عنده ومن أنكر ذلك فقد كفر، فمتى قال: أسألك بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلا شك في جوازه، وكذا إذا قال بحق محمد صلى الله عليه وسلم، والمراد بالحق الرتبة والمنزلة، والحق الذي جعله الله تعالى على الخلق أو الحق الذي جعله الله تعالى بفضله له عليه = كما في الحديث الصحيح = قال: فما حق العباد على الله، وليس المراد بالحق الواجب فإنه لا يجب على الله شئ، وعلى هذا المعنى يحمل ما ورد عن بعض الفقهاء في الامتناع من إطلاق هذه اللفظة.
188 التوسل به بمعنى طلب الدعاء منه (الحالة الثانية) التوسل به بذلك النوع بعد خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم في مدة حياته، فمن ذلك ما رواه أبو عيسى الترمذي في جامعه في كتاب الدعوات، وساق إسناده إلى عثمان بن حنيف رضي الله تعالى عنه أن رجلا ضرير البصر، أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: ادع الله يعافيني، قال: إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال: فادعه، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي لتقضى لي اللهم شفعه في). قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر الخطمي. قال المحقق أبو الحسن السبكي: ورواه النسائي في اليوم والليلة، وابن ماجة في الصلاة، ورويناه في دلائل النبوة للحافظ أبي بكر البيهقي، قال هذا وزاد محمد بن يونس في روايته: (فقم وقد أبصر). قال البيهقي: ورويناه في كتاب الدعوات بإسناد صحيح وذكر روايات أخرى مؤداها واحد، قال أبو الحسن وقد كفانا الترمذي والبيهقي رحمهما الله تعالى بتصحيحهما مؤنة النظر في تصحيح هذا الحديث وناهيك به حجة في المقصود. فإن اعترض معترض بأن ذلك إنما كان لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم شفع فيه فلهذا قال له أن يقول: إني توجهت إليك بنبيك، قلت: الجواب من وجوه: (أحدها) سيأتي أن عثمان بن عفان وغيره استعملوا ذلك بعد موته صلى الله تعالى عليه وسلم وذلك يدل على أنهم لم يفهموا اشتراط ذلك. الثاني أنه ليس في الحديث أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بين له ذلك. الثالث أنه ولو كان كذلك لو يضر في حصول المقصود، وهو جواز التوسل إلى
189 الله تعالى بغيره، بمعنى السؤال بها = كما علمه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم = وذلك زيادة على طلب الدعاء منه فلو لم يكن في ذلك فائدة لما علمه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأرشده إليه ويقول له: إني قد شفعت فيك، ولكن لعله صلى الله تعالى عليه وسلم أراد أن يحصل من صاحب الحاجة التوجه بذل الاضطرار والافتقار والانكسار مستغيثا بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيحصل كمال مقصوده ولا شك أن هذا المعنى حاصل في حضرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وغيبته في حياته وبعد وفاته، فإنا نعلم شفقته صلى الله تعالى عليه وسلم على أمته ورفقه بهم ورحمته لهم واستغفاره لجميع المؤمنين وشفاعته، فإذا انضم إليه توجه العبد به حصل هذا الغرض الذي أرشد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الأعمى إليه. الحالة الثالثة: التوسل به صلى الله تعالى عليه وسلم بعد موته وأفاض فيه وأجاد (الحالة الثالثة) أن يتوسل بذلك بعد موته صلى الله تعالى عليه وسلم لما رواه الطبراني في المعجم الكبير، وساق إسناده إلى عثمان بن حنيف رضي الله تعالى عنه، أنه رأى رجلا يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي ابن حنيف فشكى ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضاة فتوضأ ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين، ثم قل: " اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك فيقضي حاجتي، وتذكر حاجتك ورح حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال له ثم أتى باب عثمان بن عفان رضي الله عنه فجاءه البواب فأدخله على عثمان ابن عفان رضي الله عنه فأجلسه معه وقضى حاجته ثم قال له ذكرت حاجتك حتى كان الساعة. وقال له أيضا: ما كانت لك من حاجة فاذكرها، وخرج الرجل من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيرا ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى
190 كلمته في. فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته ولكني شهدت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره.. = الحديث =، قال ابن حنيف: فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضرر قط. قال العلامة المحقق: والاحتجاج من هذا الأثر لفهم عثمان رضي الله عنه ومن حضره الذين هم أعلم بالله ورسوله وفعلهم. التوسل به بمعنى طلب الدعاء منه (النوع الثاني) التوسل به بمعنى طلب الدعاء منه وذلك في أحوال: إحداها: في حياته صلى الله تعالى عليه وسلم، وهذا متواتر والأخبار طافحة به ولا يمكن حصرها، وقد كان المسلمون يفزعون إليه ويستغيثون به في جميع ما نابهم كما في الصحيحين: أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قائما وقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله تعالى يغيثنا، فرفع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يديه ثم قال: " اللهم أغثنا اللهم أغثنا " فطلعت من ورائه سحابة متل الترس " فلما توسطت السماء فانتشرت ثم أمطرت قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتا.. = الحديث =. وأفاض في الآثار ثم قال: والأحاديث والآثار في ذلك أكثر من أن تحصى ولو تتبعتها لوجدت منها ألوفا، ونص قوله تعالى: (ولو أنهم إذا ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول..) الآية - صريح في ذلك، ولذلك يجوز ويحسن مثل هذا التوسل بمن له نسبة من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، كما كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إذا قحط استسقى بالعباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه ويقول: اللهم إنا كنا إذا قحطنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك يعم نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فاسقنا قال فيسقون = رواه البخاري من
191 حديث أنس = واستسقى به عام الرمادة فسقوا، وروى أنه لما استسقى عمر بالعباس وفرغ عمر من دعائه، قال العباس: اللهم إنه لم ينزل من السماء بلاء إلا بذنب ولا يكشف إلا بتوبة وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك صلى الله تعالى عليه وسلم، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا بالتوبة وذكر دعاء فما تم كلامه حتى ارتجت السماء بمثل الجبال. وكذلك يجوز مثل هذا التوسل بسائر الصالحين، وهذا شئ لا ينكره مسلم بل متدين بملة من الملل. فإن قبل: لم توسل عمر بن الخطاب بالعباس ولم يتوسل بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو بقبره؟. قلنا: ليس في توسله بالعباس إنكار للتوسل بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو بالقبر. وقد روي عن أبي الجوزاء قال: قحط أهل المدينة قحطا شديدا فشكوا إلى عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت: انظروا قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فاجعلوا منه كوى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف ففعلوا، فمطروا حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسمي عام الفتق، ولعل توسل عمر بالعباس رضي الله عنه لأمرين: (أحدهما): ليدعو كما حكينا من دعائه. (والثاني): أنه من جملة من يستسقى وينتفع بالسقيا، وهو محتاج إليها بخلاف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في هذه الحالة فإنه مستغن عنها، فاجتمع في العباس الحاجة وقربه من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وشيبه، والله يستحي من ذي الشيبة المسلم فكيف من عم نبيه صلى الله تعالى عليه ويجيب دعاء المضطر، فلذلك استسقى عمر بشيبته، فإن قال المخالف: إنا لا أمنع التوسل والتشفع لما قدمتم من الآثار والأدلة وإنما أمنع إطلاق التجوه والاستغاثة، لأن فيهما إيهام أن المتوجه به والمستغاث به أعلى من المتوجه عليه والمستغاث عليه. (قلتا): هذا لا يعتقده مسلم ولا يدل لفظ التجوه والاستغاثة عليه فإن التجوه من
192 الجاه والوجاهة، ومعناه علو القدر والمنزلة، وقد يتوسل بذي الجاه إلى من هو أعلى جاها منه، والاستغاثة، طلب الغوث، فالمستغيث يطل من المستغاث به أن يحصل له الغوث من غيره وإن كان أعلى منه. فالتوسل والتشفع والتجوه والاستغاثة بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وسائر الأنبياء والصالحين ليس لها معنى في قلوب المسلمين غير ذلك ولا يقصد بها أحد منهم سواه، فمن لم ينشرح صدره لذلك فليبك على نفسه نسأله العافية، وإذا صح المعنى فلا عليك في تسميته توسلا أو تشفعا أو تجوها أو استغاثة، ولو سلم أن لفظ الاستغاثة يستدعي النصر على المستغاث منه، فالعبد يستغيث على نفسه وهواه والشيطان وغير ذلك مما هو قاطع له عن الله تعالى بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وغيره من الأنبياء والصالحين متوسلا بهم إلى الله تعالى ليغيثه على من استغاث منه من النفس وغيرها، والمستغاث به في الحقيقة هو الله تعالى والنبي صلى الله عليه وسلم واسطة بينه وبين المستغيث. الثانية: بعد انتقاله صلى الله تعالى عليه وسلم (الحالة الثانية) بعد موته صلى الله تعالى عليه وسلم في عرصات القيامة بالشفاعة منه صلى الله تعالى عليه وسلم وذلك مما قام الاجماع عليه وتواترت الأخبار به. (الحالة الثالثة) المتوسطة في مدة البرزخ، وقد ورد هذا النوع فيها أيضا وساق إسناده فيه إلى الحافظ أبي بكر البيهقي، وإسناد هذا إلى مالك الدار، قال هذا: أصاب الناس قحط في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال يا رسول الله استسق الله لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتاه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في المنام، فقال ائت عمر فاقرأه السلام وأخبره أنهم مسقون، وقل له عليك الكيس الكيس، فأتى الرجل عمر فأخبره فبكى عمر رضي الله عنه ثم قال: يا رب ما آلو إلا ما عجزت عنه، ومحل الاستشهاد من هذا الأثر طلبه الاستسقاء من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد موته في مدة البرزخ ولا مانع، فإن دعاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لربه تعالى في هذه الحالة غير ممتنع، وقد وردت الأخبار على ما ذكرنا ونذكر طرفا منه، وعلمه صلى الله تعالى عليه وسلم بسؤال من يسأله ورد أيضا
193 ومع هذين الأمرين فلا مانع من أن يسأل الله صلى الله تعالى عليه وسلم الاستسقاء كما كان يسأل في الدنيا. النوع الثالث من التوسل (النوع الثالث) من التوسل أن يطلب منه ذلك الأمر المقصود، بمعنى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قادر على التسبب فيه، بسؤاله ربه وشفاعته إليه، فيعود إلى النوع الثاني في المعنى، وإن كانت العبارة مختلفة، ومن هذا قول القائل للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: أسألك مرافقتك في الجنة، قال أعني على نفسك بكثرة السجود، والآثار في ذلك كثيرة أيضا، ولا يقصد الناس بسؤالهم ذلك إلا كون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سببا وشافعا، وكذلك جواب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وإن ورد على حسب السؤال = كما روينا في دلائل النبوة للبيهقي بالإسناد إلى عثمان بن أبي العاص = قال: شكوت إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سوء حفظي للقرآن، فقال شيطان يقال له خنزب ادن مني يا عثمان، ثم وضع يده على صدري فوجدت بردها بين كتفي وقال: أخرج يا شيطان من صدر عثمان، قال: فما سمعت بعد ذلك شيئا إلا حفظته. فانظر أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالخروج للشيطان، للعلم بأن ذلك بإذن الله تعالى وخلقه وتيسيره، وليس المراد نسبة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الخلق والاستقلال بالأفعال، هذا لا يقصده مسلم فصرف الكلام إليه ومنعه من باب التلبيس في الدين والتشويش على عوام الموحدين، وإذ قد تحررت هذه الأنواع والأحوال في الطلب من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وظهر المعنى، فلا عليك في تسميته توسلا أو تشفعا أو استغاثة أو تجوها أو توجها، لأن المعنى في جميع ذلك سواء. (أما التشفع) فقد سبق في الأحاديث المتقدمة قول وفد بني فزارة للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: تشفع لنا إلى ربك، وفي حديث الأعمى ما يقتضيه أيضا، والتوسل في معناه، وأما التوجه والسؤال ففي حديث الأعمى والتجوه في معنى التوجه، قال تعالى في حق موسى عليه الصلاة والسلام: (وكان عند الله وجيها)، وقال في حق عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام: (وجيها في الدنيا والآخرة)، قال المفسرون: وجيها أي
194 ذا جاه ومنزلة عنده، وقال الجوهري في فصل وجه وجيها ذا جاه وقدر، وقال الجوهري أيضا في فصل جوه الجاه القدر والمنزلة وفلان ذو جاه وقد أو جهته ووجهته أنا، أي جعلت وجيها. وقال ابن فارس: فلان وجيه ذو جاه، إذا عرف ذلك فمعنى تجوه توجه بجاهه وهو منزلته وقدره عند الله تعالى اليه. (وأما الاستغاثة) فهي طلب الغوث وتارة يطلب الغوث من خالقه وهو الله تعالى وحده كقوله تعالى: (إذ تستغيثون ربكم)، وتارة يطلب ممن يصح إسناده إليه على سبيل الكسب، ومن هذا النوع الاستغاثة بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وفي هذين القسمين تعدى الفعل تارة بنفسه كقوله تعالى: (إذ تستغيثون ربكم)، (فاستغاثه الذي من شيعته)، وتارة بحرف الجر = كما في كلام النحاة = في المستغاث به، وفي كتاب سيبويه رحمه الله تعالى، فاستغاث بهم ليشتروا له كليبا، فيصح أن يقال: استغثت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم واستغثت بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم بمعنى واحد، وهو طلب الغوث منه بالدعاء ونحوه على النوعين السابقين في التوسل من غير فرق وذلك في حياته وبعد موته ويقول: استغثت الله واستغثت بالله، بمعنى طلب خلق الغوث منه، فالله تعالى مستغاث فالغوث منه خلقا وإيجادا. والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم مستغاث والغوث منه تسببا وكسبا، ولا فرق في هذا المعنى بين أن يستعمل الفعل متعديا بنفسه أو لازما تعدى بالباء، وقد تكون الاستغاثة بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم على وجه آخر وهو أن يقال: استغثت الله تعالى بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم = كما تقول = سألت الله تعالى بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فيرجع إلى النوع الأول من أنواع التوسل ويصح قبل وجوده وبعد وجوده، وقد يحذف المفعول به ويقال: استغثت بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم بهذا المعنى، فصار لفظ الاستغاثة بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم له معنيان: (أحدهما): أن يكون مستغاثا. (والثاني): أن يكون مستغاثا به، والباء للاستغاثة، فقد ظهر جواز إطلاق الاستغاثة والتوسل جميعا، وهذا أمر لا يشك فيه، فإن الاستغاثة في اللغة طلب الغوث،
195 وهذا جائر لغة وشرعا من كل من يقدر عليه بأي لفظ عبر عنه = كما قالت أم إسماعيل =: أغث إن كان عندك غواث. وقد روينا في المعجم الكبير للطبراني حديثا ظاهره قد يقدح في هذا وساق إسناد الطبراني إلى أبي بكر قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: قوموا نستغيث برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: (إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله عز وجل)، وهذا الحديث في إسناده عبد الله بن لهيعة، وفيه كلام مشهور فإن صح الحديث فيحتمل معاني: (أحدها): أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان قد أجرى على المنافقين أحكام المسلمين بأمر الله تعالى فلعل أبا بكر ومن معه استغاثوا بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ليقتله فأجاب بذلك، يعني أن هذا من الأحكام الشرعية التي لم ينزل الوحي بها وأمرها إلى الله تعالى وحده، والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أعرف الخلق بالله تعالى فلم يكن يسأل ربه تغيير حكم من الأحكام الشرعية ولا يفعل فيها إلا ما يأمره به، فيكون قوله: لا يستغاث بي عاما مخصوصا، أي لا يستغاث بي في هذا الأمر، لأنه مما استأثر الله تعالى به ولا شك أن من أدب السؤال أن يكون المسؤول ممكنا فكما إنا نسأل الله تعالى إلا ما هو في ممكن القدرة الإلهية كذلك لا نسأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلا ما يمكن أن يجيب إليه. (والثاني) أن يكون ذلك من باب قوله: ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم، أي أنا وإن استغيث بي فالمستغاث به في الحقيقة هو الله تعالى، وكثيرا ما تجئ السنة بنحو هذا من بيان حقيقة الأمر ويجئ القرآن بإضافة الفعل إلى مكتسبه كقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (لن يدخل أحدا منكم الجنة عمله)، مع قوله تعالى: (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون)، وقال صلى الله تعالى عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه: (لأن يهدي الله بك رجلا واحد)، فسلك الأدب في نسبة الهداية إلى الله تعالى، وقد قال سبيل الكسب، ومن هذا قوله تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم).
196 وأما قوله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت)، فالأحسن أن يكون المراد به التسلية، والحمل عن قلب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في عدم إسلام عمه أبي طالب، فكأنه قد قيل أنت وفيت بما عليك وليس عليك خلق هدايته، لأن ذلك ليس إليك فلا تذهب نفسك عليه. وبالجملة إطلاق لفظ الاستغاثة بالنسبة لمن يحصل منه غوث إما خلقا وإيجادا وإما تسببا وكسبا أمر معلوم لا شك فيه لغة وشرعا، ولا فرق بينه وبين السؤال فتعين تأويل الحديث المذكور، وقد قيل إن في البخاري في حديث الشفاعة يوم القيامة " فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو حجة في إطلاق لفظ الاستغاثة، ولكن ذلك لا يحتاج إليه، لأن معنى الاستغاثة والسؤال واحد، سواء عبر عنه بهذا اللفظ أم بغيره، والنزاع في ذلك نزاع في الضروريات وجوازه شرعا معلوم، فتخصيص هذه اللفظة بالبحث مما لا وجه، وإنكار السؤال بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم مخالف لما قدمنا من الأحاديث والآثار وما أشرنا إليه مما لم نذكره إ ه. هذا آخر الباب الثامن. قد اطلعت على ثرثرة لابن تيمية في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد اطلعت على ثرثرة لابن تيمية في التوسل بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أذكرها برمتها ثم أبطلها. قال في الجزء الأول من فتاواه ص 293 و 294 مسألة في التوسل بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم هل يجوز أم لا. الجواب: الحمد لله، أما التوسل بالإيمان به ومحبته وطاعته والصلاة والسلام عليه وبدعائه وشفاعته ونحو ذلك مما هو من أفعاله وأفعال العباد المأمور بها في حقه فهو مشروع باتفاق المسلمين، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يتوسلون به في حياته وتوسلوا بعد موته بالعباس عمه كما كانوا يتوسلون به، وأما قول القائل: اللهم إني أتوسل إليك
197 به، فللعلماء فيه قولان كما لهم في الحلف به قولان، وجمهور الأئمة كمالك والشافعي وأبي حنيفة على أنه لا يسوغ الحلف به كما لا يسوغ الحلف بغيره من الأنبياء والملائكة، ولا تنعقد اليمين بذلك باتفاق العلماء، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، والرواية الأخرى تنعقد اليمين به خاصة دون غيره، ولذلك قال أحمد في منسكه الذي كتب للمروزي صاحبه أنه يتوسل بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم في دعائه، ولكن غير أحمد قال: إن هذا إقسام على الله به ولا يقسم على الله بمخلوق، وأحمد في إحدى الروايتين قد جوز القسم به، فلذلك جوز التوسل به، ولكن الرواية الأخرى هي قول جمهور العلماء إنه لا يقسم به، فلا يقسم على الله به كسائر الملائكة والأنبياء، فإنا لا نعلم أحدا من السلف والأئمة قال: إنه يقسم على الله، كما لم يقولوا إنه يقسم بهم مطلقا، ولهذا أفتى أبو محمد بن عبد السلام أنه لا يقسم على الله بأحد من الملائكة والأنبياء وغيرهم، لكن ذكر له أنه روي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حديث في الإقسام به فقال: إن صح الحديث كان خاصا به، والحديث المذكور لا يدل على الإقسام به، وقد قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: (من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت)، قال: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، والدعاء عبادة، والعبادة مبناها على التوقيف والاتباع لا على الهوى والابتداع إ ه. أقول: كلامه من أول الجواب إلى قوله وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يتوسلون به، باطل بستة أوجه: الأول: هو السائل لنفسه أو أحد المفتونين به، وعلى كل فالسؤال غير محرر، وتحريره = على رأيه = أن يقول: هل يجوز التوسل بجاهه صلى الله تعالى عليه وسلم أم لا، لأنه زعم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لا جاه له فالتوسل بجاهه صلى الله تعالى عليه وسلم عنده شرك وعبادة للمتوسل به. والمتوسل بجاهه صلى الله تعالى عليه وسلم مشرك عابد له عليه الصلاة والسلام، لأنه = في زعمه = التفت إلى جانب تعظيم الرسول وأهمل جانب توحيد الألوهية الذي جهله جميع المسلمين ولم يعرفوا = في زعمه = إلا توحيد الربوبية الذي شاركهم فيه جميع الكفار، ويكون الجواب المطابق لرأيه أن يقول بإيجاز: لا يجوز ذلك فهذره
198 بما هو مشروع باتفاق المسلمين دس وتلبيس. الثاني: معنى التوسل والوسيلة لغة عام فالتوسل لغة التقرب، والوسيلة كل ما يتوسل به إلى المقصود وعلى هذا المفسرون، فقد حكى أبو جعفر بن جرير في تفسيره في معناها ثلاثة أقوال: القربة عن سبعة من علماء التابعين، والمسألة عن السدي، والمحبة عن ابن زيد، ومعلوم لكل لبيب أن القربة عامة، ولذلك اقتصر عليها البغوي في تفسيره والنيسابوري في تفسيره قال: ولهذا (أي لأجل عموم الوسيلة لغة) قد تسمى السرقة توسلا، وجعل منها اجتناب النواهي وامتثال الأوامر، والخطيب الشربيني قال في تفسيره: اطلبوا ما تتوسلون به إلى ثوابه والزلفى منه من فعل الطاعات وترك المعاصي، والزمخشري قال في تفسيره: كل ما يتوسل به أي يتقرب به من قرابة أو صنيعة أو غير ذلك إ ه. فتحقق بهذا عموم معنى التوسل والوسيلة، وعليه فتتناول قول الناس اللهم إني أتوسل إليك بفلان وتتناول أيضا يا فلان ادع الله لي، فإن طلب دعاء الغير وسيلة إلى الله تعالى إذ هو من قبيل الشفاعة. وتتناول أيضا إحضار من يتوسل به، ودعا الله بحضرته كإحضار الفاروق للعباس ابن عبد المطلب رضي الله تعالى عنهما، أو الإتيان به مجردا عن الدعاء رجاء أن ينصرهم الله تعالى بوجوده معهم في الحروب كما أشار الإمام البخاري إلى ذلك في صحيحه، حيث ترجم بما يدل على الاستعانة في الحروب بالضعفاء وأخرج فيه ما يدل على أن الاستعانة لمجرد الحضور. وتتناول أيضا زيارة الصلحاء لتعود بركتهم على الزائر فجميع هذا يقصد منه التوجه إلى الله تعالى والتقرب إليه بالمتوسل به ولا محذور في ذلك، ولا يعد عبادة للمتوسل به، وقد تقدم في بحث العبادة أن إرادة نفع الجاه المجردة عن التذلل لمن يراد جاهه ليست من العبادة في شئ، لأن التذلل والحالة هذه حقيقة إنما هو الله تعالى، والتوسل إليه تعالى بالمعظم عنده مما يقوي ذلك ويؤكده، فقصره التوسل المشروع على أفعاله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأفعال العباد جهل باللغة أو تحكم فيها لا مبرر له إلا هواه. الثالث: قوله (المأمور بها في حقه) افتراء على الله تعالى، فإنه تعالى لم يأمر في كتابه العزيز بالتوسل بأفعاله صلى الله تعالى عليه وسلم وأفعال العباد فقط بل أمر بالوسيلة إليه
199 أمرا مطلقا وقرنها بالجنسية، فهي عامة في الأقوال والأعمال والذوات شاملة لما ذكره، وللتوسل بذاته صلى الله عليه وسلم، أي جاهه الذي منعه وكفر به المسلمين المتوسلين بالقياس الفاسد فشاق الله ورسوله واتبع غير سبيل المؤمنين. ومن الآيات القرآنية الدالة على التوسل والتشفع بالمقربين لا سيما سيد المرسلين قوله تعالى: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين)، اتفق المفسرون على أنها نزلت في يهود خيبر. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان يهود خيبر يقاتلون غطفان كلما التقوا هزمت غطفان اليهود فعاذت اليهود بهذا الدعاء: اللهم إنا نسألك بحق هذا النبي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، فصاروا بعد إذا التقوا دعوا به فيهزمون غطفان، فلما بعث الله تعالى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم كفروا به فأنزل الله تعالى الآية، فليتدبر العقلاء هذه المكانة التي له صلى الله تعالى عليه وسلم عند ربه كيف كان يستجيب لمن هو كافر به، ويعلم تعالى أنه يكون من أشد الناس عداوة له وإيذاء، وكان ذلك قبل بروزه صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الوجود، فكيف وقد بعث رحمة للعالمين، فمن منع التوسل به صلى الله تعالى عليه وسلم فقد أعلم الناس أنه أسوأ حالا من اليهود. قال ابن القيم في بدائع الفوائد: إن اليهود كانوا يحاربون جيرانهم من العرب في الجاهلية ويستنصرون عليهم بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم قبل ظهوره فيفتح لهم وينصرون عليهم، فلما ظهر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كفروا به وجحدوا نبوته فاستفتاحهم به مع جحد نبوته مما لا يجتمعان، فإن كان استفتاحهم به لأنه نبي كان جحد نبوته محالا وإن كان جحد نبوته = كما يزعمون حقا = كان استفتاحهم به باطلا، وهذا مما لا جواب لأعدائه عنه البتة إ ه. ومن الآيات القرآنية الدالة على الطلب من المخلوق ولو لما لا يقدر عليه إلا الله إذا كان في مقام الكرامة للأولياء لقوله تعالى عن نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام: (يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين.. الآية)، فطلب من
200 الملأ، وهم الجن والإنس وفيهم مردة الشياطين، فأتى به الذي عنده علم من الكتاب ولم يتخلخل. وقد أجمع أهل العلم إن هذا من نوع الكرامة، والله تعالى ذكره، في كتابه العزيز في مقام الافتخار لذلك الرجل الصالح ولم يعتب على سليمان ولم يقل له لم دعوت غيري وأنا أقرب إليك من حبل الوريد، وعبيدي غير قادرين على هذا الأمر الذي لا يقدر عليه غيري، وذلك لأن نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام يعلم أن ذلك من التماس الأسباب، وهو من المشروع الذي أمر الله تعالى به وكذلك الطلب من الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أو من شهداء وصلحاء أمته إنما هو من نوع الكرامة والتسبب، والفاعل الحقيقي في ذلك هو الله تعالى، وكرامات الأولياء داخلة في معجزات الأنبياء لأنها بواسطتهم تكون للأولياء بسبب متابعتهم للأنبياء عليهم الصلاة والسلام. الرابع: قوله أيضا: (المأمور بها في حقه)، افتراء على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلو استظهر هو وجميع المفتونين به بالثقلين على إثبات إن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أمر بالتوسل بأفعاله وأفعال العباد فقط لم يستطيعوا ذلك. وحديث الأعمى نص صريح في التوسل بجاهه صلى الله تعالى عليه وسلم، وكذلك قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا، وقد أوله في رده على الأخنائي ص 198 بحذف مضاف قال ومعنى: (كنا نتوسل إليك بنبينا)، أي بدعائه وشفاعته، ولم يرد عمر بقوله: (كنا نتوسل إليك بنبينا)، أي نسألك بحرمته، وثرثر ثم قال: (وكثير من الناس يغلط في معنى قول عمر)، وكلامه هذا فاسد بأربعة أوجه: الأول: كلام أمير المؤمنين عمر نص في التوسل بجاهه صلى الله تعالى عليه وسلم لا يقبل التأويل. الثاني: الحذف على خلاف الأصل. الثالث: الإرادة محلها القلب ولا علم له بأن عمر لم يرد التوسل بحرمته صلى الله تعالى عليه وسلم إلا من وحي الشيطان إليه.
201 الرابع: لو كان فهمه عدم جواز التوسل بحرمته صلى الله تعالى عليه وسلم من كلام عمر هذا صحيحا، وفهم علماء الإسلام قاطبة الذين عبر عنهم بالكثير، وزعم أنهم غلطوا في معنى قول عمر منه جواز ذلك فاسدا لكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ملبسا موقعا رعيته والمسلمين جميعا في الشرك = برأه الله من ذلك =، ولكان الواجب عليه لرعيته = على مقتضى فهمه = أن يقول: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بدعاء نبيك وشفاعته، تلون وتخبط هذا المفتون في إبطال صريح توسل الفاروق بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فجعله هنا على حذف مضاف، وفي الثرثرة التي أنا بصدد إبطالها جعل توسله بالعباس وعدم توسله بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم دليلا على عدم جواز التوسل بجاهه صلى الله تعالى عليه وسلم = كما تلون وتخبط في كتبه في إبطال حديث الأعمى =، = وكما تلون وتخبط في الأسباب والموانع في رسالته الواسطة بين الخلق والحق =، وهي في خمسة أوراق، فقد جزم في أولها بأنه لا واسطة بين الخلق والخالق إلا بالرسالة، وناقض نفسه في وسطها فمشى على نهج أهل الحق فقال: (فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع إ ه). الخامس: (اللهم بحق السائلين عليك) الذي طفحت بذكره كتب الحنابلة نص صريح في التوسل بحرمته صلى الله تعالى عليه وسلم، فإن الحق هو الحرمة والمنزلة والجاه قطعا، أيكون يا عباد الله لكل مؤمن سائل حق وحرمة عند الله ولا يكون ذلك لسيد الوجود؟، إنها لا تعمى الأبصار. السادس: الصحاح والسنن والمسانيد مملوءة بالتبرك والتسبب بالذوات، فمن ذلك قول عروة بن مسعود الثقفي لقريش يوم الحديبية: لقد رأيت ملوك الروم وفارس وما رأيت قوما يعظمون صاحبهم مثل تعظيم أصحاب محمد لمحمد، أنه ليرمي بالنخامة فما تقع إلا في يد أحدهم فيدلك بها وجهه، ومن ذلك ازدحام الصحابة على وضوئه صلى الله تعالى عليه وسلم متبركين به، فكان الذي لا يصل إلى لمس أعضائه الشريفة للبلل يأخذ من بلل يد صاحبه، ومن ذلك قسم أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه شعر رأسه الشريف لما حلقه عام حجة الوداع بين الصحابة، وقد أخذ خالد بن الوليد رضي الله
202 تعالى عنه شعرات من شعر ناصيته صلى الله تعالى عليه وسلم وخاطها في قلنسوة ولبسها قال: فما حضرت زحفا مهما كثر العدو إلا وتبين النصر بين عيني، أيرزق خالد النصر على أعدائه بشعرات من شعره صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يتوسل إلى الله تعالى بجاهه. ومن ذلك أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مر على قبرين فقال: إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، ودعا بعسيب فشقه وجعل على كل قبر نصفا وقال لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا، ولا شك أن الجريد ذات، وليس هذا خاصا بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم حتى يقال إن ارتفاع العذاب عنهما بسببه صلى الله تعالى عليه وسلم، بل أجمع العلماء على العمل به في كل عصر، أيجوز التسبب بجريد النخل وهو ذات ولا يجوز التوسل والتسبب بذات سيد الوجود، فأي عقل لمن يمنع ذلك، ومن ذلك شرب مالك بن سنان رضي الله عنه دمه صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له صلى الله تعالى عليه وسلم: (لن تصيبك النار)، وشرب عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما دم حجامته صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له صلى الله تعالى عليه وسلم: (ويل لك من الناس وويل لهم منك لا تمسك النار إلا تحلة القسم) ولم ينكر فعله. ومن ذلك شرب أم أيمن بوله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال لها صلى الله تعالى عليه وسلم: (إنك لا تشتكي بطنك بعد يومك هذا)، فيا أمة الإسلام أيكون الدم والبول الخارجان من ذاته صلى الله تعالى عليه وسلم سببا لدفع النار والوجع عن شاربهما؟ ويمتنع التسبب والتوسل بذاته إلى الله تعالى؟ وهي من نور الله تعالى = كما في حديث جابر وغيره = فهل يعد المانع للتوسل بجاهه صلى الله تعالى عليه وسلم من الأعداء أو من الأصدقاء. وقوله: (وكان الصحابة رضي الله عنهم يتوسلون به) دليل على مشروعية التوسل به صلى الله تعالى عليه وسلم وأنه ليس بعبادة للمتوسل به = كما زعم =. وقوله: (في حياته) تقييد فاسد ودعوى كاذبة، لأن الأصل في كل مشروع للأمة كتابا أو سنة أن لا يتقيد بحياته صلى الله تعالى عليه وسلم ولا بزمن مخصوص بل على الاطلاق والتأبيد عند علماء الإسلام قاطبة، ولم يرد في الكتاب ولا في السنة ناسخ ولا مخصص ولا مقيد للتوسل به صلى الله تعالى عليه وسلم بعد مشروعيته، واتفاق العلماء
203 عليها، وفعل الصحابة رضوان الله عليهم له، حجة دامغة له، وتقييده مشروعيته بأفعاله صلى الله تعالى عليه وسلم وأفعال العباد، فاسد، لا مبرر له إلا هواه، ولو كان صحيحا لكان صلى الله تعالى عليه وسلم ملبسا على أمته المرحومة = برأه الله من ذلك وصلى عليه = ولكان الواجب عليه صلى الله عليه وسلم لنصح أمته والشفقة عليها أن يقول لهم: (لا تتوسلوا إلا بأفعالي وأفعالكم) ولا يوقعها في اللبس، وتقييده أيضا مشروعيته بحياته صلى الله تعالى عليه وسلم فاسد لا مبرر له إلا هواه، ولو كان صحيحا للزم منه تلبيسه صلى الله تعالى عليه وسلم على أمته المرحومة = برأه الله من ذلك وصلى عليه =، ولكان الواجب عليه لها لنصحها والشفقة عليها أن يقول: (لا تتوسلوا بي بعد وفاتي) ولا يوقعها في اللبس، على أنها دعوى كذبتها الأحاديث الثابتة في توسل الصحابة رضي الله عنهم به صلى الله تعالى عليه وسلم بعد وفاته كحديث عثمان بن حنيف رضي الله تعالى عنه، وقوله: (وتوسلوا بعد موته بالعباس عمه كان كانوا يتوسلون به)، تمسك على تقييده الفاسد بالعدم وهو جعله توسل الفاروق بالعباس عم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتركه التوسل بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم دليلا على منع التوسل به صلى الله تعالى عليه وسلم بعد وفاته، والترك عدم، والعدم ليس بدليل عند جميع العقلاء، وهذا يدل على جهله بالدليل وبأصول الفقه جهلا مركبا كما هو جاهل باللغة وأصول الدين. ولما كان هذا النوع من التوسل وهو خروجه صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المصلى وصلاته بهم ركعتين ودعاؤه لهم غير ممكن بعد انتقاله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الدار الآخرة، خرج أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه إلى المصلى والحق له في الاستسقاء بالناس كما كان صلى الله تعالى عليه وسلم يفعل، ولكنه تنازل عن حقه لعم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقدمه تعظيما لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتوقيرا ومبالغة منه في التوسل برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما استطاع، وإشادة بفضل أهل بيته صلى الله تعالى عليه وسلم ورضي عنهم. والعباس لما دعا توسل برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حيث قال: (وقد تقرب القوم بي إليك لمكاني من نبيك)، أي لقرابتي له، (فاحفظ اللهم نبيك في عمه)، يعني اقبل دعائي لأجل نبيك، ومن فهم من توسل الفاروق بالعباس أنه إنما توسل به
204 ولم يتوسل برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، لأن العباس حي، والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ميت، فقد فسد جنانه واستحوذ عليه شيطانه، على أن عمر رضي الله عنه لم يتوسل بالعباس من حيث ذاته وشكله وإنما توسل به من حيث قرابته من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. ولا ريب عند كل عاقل أن القرابة معنى من المعاني، فهي الوجاهة والمنزلة. ولا ريب أيضا عند كل من له مسكة من عقل ودين إن الوجاه صفة ملازمة لصاحبها، لا فرق بين وجوده في الدنيا وبين انتقاله إلى الآخرة، فوجاهته صلى الله تعالى عليه وسلم عند ربه ملازمة له في الدارين، وهذا مما لا يشك فيه إلا من استحوذ عليه الشيطان، كما أن حياته صلى الله تعالى عليه وسلم وحياة جميع إخوانه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قبورهم، لا يشك فيها مسلم. وقد استفاضت الأحاديث بذلك، فمن قال إنه صلى الله تعالى عليه وسلم انقطع جاهه بعد موته فهو مضاه لمن قال: انقطعت رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم بعد موته، ولا خلاف بين علماء الإسلام في كفر من قال بانقطاع رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم بعد موته. وقوله: (وأما قول القائل: اللهم إني أتوسل إليك بع فللعلماء فيه قولان): تلبيس وكذب مكشوفان. افتراؤه على العلماء بأن لهم في التوسل به صلى الله عليه وسلم قولين فالتوسل مشروع معروف لم ينكره أحد من أهل الملل، ولم يقل أحد من علماء الإسلام (فيه قولان): فهو قول واحد لعلماء الإسلام قاطبة، وهو الجواز ضم إليه رأيه الفاسد ولبس به على البسطاء وافترى على العلماء، فلو كان صادقا أمينا على نقل العلم عن العلماء لعزا كل قول منهما إلى قائله من العلماء الذين لبس بلفظهم، ولو كان صادقا محققا لبين القولين، هل هما مثلا بالجواز والمنع أو بالمنع والكراهة؟، ولو كان صادقا
205 محققا ما تركهما من غير توضيح ووثب إلى الثرثرة فيما لم يسأل عنه، وهو الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: (كما لهم في الحلف به قولان، إلى قوله ولذلك قال أحمد في منسكه الذي كتبه للمروزي) طفرة إلى غير مسؤول عنه قبل توضيحه المسؤول عنه وتلبيس، فإن الأكثرين من أصحاب وأتباع الإمام أحمد على لزوم الكفارة لمن حلف به صلى الله عليه وسلم وحنث واحتجوا له بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم شطر الإيمان، فاليمين تنعقد به. قال ابن قدامة في مغنيه: (فصل:) ولا تنعقد اليمين بالحلف بمخلوق كالكعبة والأنبياء وسائر المخلوقات، ولا تجب الكفارة بالحنث فيها، هذا ظاهر كلام الخرقي، وهو قول أكثر الفقهاء، وقال أصحابنا: الحلف برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يمين موجبة للكفارة، وروي عن أحمد أنه قال: إذا حلف بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فحنث فعليه الكفارة، قال أصحابنا: لأنه أحد شرطي الشهادة، فالحلف به موجب للكفارة كالحلف باسم الله إ ه. الأكثرون من أصحاب وأتباع الإمام أحمد على لزوم الكفارة لمن حلف به صلى الله تعالى عليه وسلم وحنث وقال ابن مفلح في الفروع ج 3 ص 703: وتلزم الكفارة حالفا بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم اختاره الأكثرون، والتزم ابن عقيل ذلك في كل نبي إ ه. وقوله: (ولذلك قال أحمد في منسكه الذي كتبه للمروزي إلى قوله ولكن غير أحمد)، ذكره الحنابلة في كتبهم وأخذوا منه جواز أو استحباب التوسل بالصالحين.
206 تنصيص الحنابلة في كتبهم على التوسل بالصالحين قال ابن مفلح في الفروع ج 1 ص 595: ويجوز التوسل بصالح وقيل يستحب، قال أحمد في منسكه الذي كتبه للمروزي إنه يتوسل بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم في دعائه، وجزم به في المستوعب وغيره إ ه. وقال في كشاف القناع: وقد استسقى عمر بالعباس ومعاوية بيزيد بن الأسود واستسقى به الضحاك مرة أخرى، ذكره الموفق والشارح، وقال السامري وصاحب التلخيص: لا بأس بالتوسل في الاستسقاء بالشيوخ والعلماء المتقين. وقال في المذهب يجوز أن يستشفع برجل صالح وقيل يستحب. قال أحمد في منسكه الذي كتبه للمروزي: إنه يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في دعائه، وجزم به في المستوعب وغيره إ ه. قال حامد الفقي في تعليقه على كشف القناع: يريد الإمام أحمد التوسل بطاعته واتباع هديه صلى الله تعالى عليه وسلم لا التوسل بجاهه وقد علق على كلام الإمام أحمد هذا حامد الفقي في الطبعة الجديدة من كشاف القناع بقوله: يريد الإمام رضي الله تعالى عنه: التوسل بطاعته اتباع هديه صلى الله تعالى عليه وسلم لا التوسل بجاهه = كما يفعله المبتدعون الغارقون في بحار الغفلة لتقليدهم الأعمى وهم لا يشعرون =، وهذا الذي حققه الإمام ابن تيمية رحمه الله وغيره من علماء السلف الصالح إ ه. هذا المؤجر كإمامه لا يحسن غير الشتم والتحقير لينظر الألباء كلام هذا المؤجر الذي لا يحسن من العلم إلا بضاعة شيخه الحراني
207 شتم علماء الإسلام وتكفيرهم وتحقيرهم، فأصحاب الإمام أحمد وأتباعه آلاف الفقهاء كانوا كلهم = في رأي هذا السفيه = مبتدعة غارقين في بحار الغفلة حيث لم يفهموا المراد من كلام إمامهم العربي الواضح، وهو (أنه يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في دعائه)، فحملوه على التوسل بجاهه صلى الله تعالى عليه وسلم غلطا منهم، ولم يشعروا بهذا الغلط العظيم حتى جاء إمامه الحراني في المائة الثامنة ففهم مراد الإمام أحمد وحققه، وبهتانه على علماء السلف الصالح، ولا أحد من علماء السلف والخلف أيضا قال بهذا فلفظ (وغيره إلى آخر الهراء) بهتان على السلف، ولو كان صادقا لسمى لنا ولو واحدا من هذا لغير المفرغ في صيغة التلبيس التي يتسنمها الدجالون الأفاكون وتروج عند الأغبياء. تلبيسه وخلطه بين التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والإقسام على الله به وقوله: (ولكن غير أحمد قال إن هذا إقسام على الله به إلى قوله وأحمد في إحدى الروايتين) تلبيس، فغير من صيغ التلبيس التي سنها هذا المفتون لمؤلهي رأيه، وهي متوغلة في الابهام باتفاق أهل اللسان، فمن هذا الغير الذي خلط بين التوسل بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والإقسام على الله به، ألا سمى لنا ولو واحد من هذا الغير الذي خالف أحمد حتى نعرض قوله على محك التحقيق. وقوله: (وأحمد في إحدى الروايتين قد جوز القسم به إلى قوله ولكن الرواية الأخرى عنه) تعليل فاسد: ومن أين له أن الإمام أحمد جوز التوسل به صلى الله عليه وسلم لأجل أنه قد جوز القسم به إلا من وحي الشيطان؟، وله آلاف الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد وأتباعه كلهم كانوا أغبياء؟، حيث إنهم لم يفهموا هذا التعليل من كلام الإمام أحمد الواضح حتى جاء هو في المائة الثامنة ففهمه؟. وقوله: (ولكن الرواية الأخرى عنه إلى قوله فإنا لا نعلم أحدا)، باطل لأنه لا ملازمة بين القسم به صلى الله عليه وسلم والإقسام على الله تعالى به، ومن أين له أن الإمام
208 أحمد قال في الرواية الأخرى التي هي قول جمهور العلماء إنه لا يقسم به صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه لا يقسم على الله به؟، ومن أين له أيضا أن جمهور العلماء القائلين بعدم جواز القسم به صلى الله تعالى عليه وسلم قالوا أيضا بعدم جواز الإقسام على الله تعالى به صلى الله تعالى عليه وسلم إلا من وحي الشيطان؟، وهل الآلاف المؤلفة من أتباع الإمام أحمد كانوا كلهم أغبياء، حيث لم يفهموا الملازمة بين عدم جواز القسم به صلى الله تعالى عليه وسلم في الرواية الأخرى لأحمد، وبين عدم جواز الإقسام على الله به صلى الله تعالى عليه وسلم حتى جاء هو في المائة الثامنة ففهمها؟. الجمهور على جواز الإقسام على الله تعالى وقوله: (فإنا لا نعلم أحدا إلى قوله ولهذا أفتى أبو محمد بن عبد السلام) باطل، فعدم علمه هو بذلك لا يستلزم نفي علم غيره بذلك، والجمهور على جواز الإقسام على الله تعالى ببعض مخلوقاته نبيا أو غيره، والدليل قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله عز وجل لأبره) = أخرجه الشيخان والإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن أنس رضي الله تعالى عنه =. وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) = رواه الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه =، ورواه الحاكم وأبو نعيم بلفظ: (رب أشعث أغبر تنبو عنه أعين الناس لو أقسم على الله لأبره)، ورواه البزار عن ابن مسعود بلفظ: (رب ذي طمرين لا يؤبه به لو أقسم على الله لأبره). وروى الشيخان وابن ماجة عن حارثة بن وهب: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ؟ متكبر). ورواه الترمذي عن أنس رضي الله تعالى عنه بلفظ: (رب أشعث أغبر لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك)، فلما كان يوم تستر انكشف الناس،
209 فقال المسلمون يا براء أقسم على ربك فقال: أقسم عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وألحقتني بنبيك، فحمل وحمل الناس معه فقتل مرزبان الزارة من عظماء الفرس وأخذ سلبه، فانهزم الفرس وقتل البراء رضي الله تعالى عنه. أهل الدلال يقسمون عليه تعالى ملاحظين ما أكرمهم به من نعمة الإيمان والتوفيق لطاعته فإن قيل لا دلالة في هذين الحديثين على جواز الإقسام على الله بمخلوق لأن المقسم به محذوف فيهما، ويتعين حمله على الله تبارك وتعالى، والتقدير لو أقسم على الله به فيتحد المقسم عليه والمقسم به. فالجواب: تعيين حمله على الله دون المخلوق يحتاج إلى دليل خاص، والأصل عدم اتحاد المقسم عليه والمقسم به، وعليهما فيجوز تقدير المحذوف لو أقسم على الله به، كما يجوز تقديره نبيا أو غيره كأقسمت عليك يا ربك بنبيك، أو بي مثلا، على أنهما يدلان صراحة على التنويه بعظمة المقسم ومنزلته عند الله تعالى، وأهل الدلال يقسمون عليه تعالى ملاحظين ما أكرمهم به من نعمة الإيمان والتوفيق لطاعته واثقين في فضله وكرمه بإجابة طلبهم. ذكر التستري عن معروف الكرخي أنه قال لتلامذته: إذا كان لكم إلى الله تعالى حاجة فأقسموا عليه بي، فأتي الواسطة بينكم وبينه الآن بحكم الوراثة عن المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم. وقوله: (ولهذا أفتى أبو محمد بن عبد السلام إلى قوله والحديث المذكور لا يدل على الإقسام به) غير عن ابن عبد السلام، فإنه رحمه الله تعالى جزم بأن الإقسام على الله تعالى خاص بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وتعقبه العلماء بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال. وقوله: (والحديث المذكور لا يدل على الإقسام به) صحيح أن قصد به حديث
210 الأعمى، فإنه إنما يدل على جواز التوسل به صلى الله تعالى عليه وسلم، ومعلوم لدى كل عاقل أن التوسل شئ والإقسام على الله تعالى شئ آخر، وفاسد إن قصد به الحديثين اللذين ذكرتهما، فلا يقول من له مسكة من عقل وفهم فيهما أنهما لا يدلان على الإقسام على الله تعالى. التوسل شئ، والإقسام على الله شئ آخر من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك محمول على الزجر والتغليظ وقد حمل العلماء الحديثين في قوله: (وقد قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى قوله والدعاء عبادة) على ما يأتي: قال الحافظ ابن حجر في فتحه في كتاب الإيمان: وقد أخرج الترمذي من وجه آخر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سمع رجلا يقول: لا والكعبة، فقال: لا تحلف بغير الله تعالى، فإني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) قال الترمذي حسن والحاكم صحيح والتعبير بقوله فقد كفر أو أشرك للمبالغة في الزجر والتغليظ في ذلك. وقد تمسك به من قال بتحريم ذلك. وقال أيضا في شرح قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت): - " وأما اليمين بغير الله تعالى وصفاته فقد ثبت المنع فيها، وهل المنع للتحريم قولان: المشهور عند المالكية أنه للكراهة والخلاف أيضا عند الحنابلة والمشهور عندهم للتحريم، وجمهور أصحاب الشافعي على أنه للتنزيه. وقال إمام الحرمين: المذهب القطع بالكراهة، وجزم غيره بالتفصيل: فإن اعتقد في المحلوف به من التعظيم ما يعتقده في الله تعالى حرم الحلف به وكان بذلك الاعتقاد كافرا، وعليه يتنزل الحديث المذكور إ ه ".
211 ومقصوده بالحديث المذكور: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، وبهذا يعلم ما في إطلاقه الاستدلال بالحديثين من المجازفة، ويلزم من مجازفته هذه أن يكون إمامه أحمد وأصحابه وأكثر أتباعه حيث جوزوا الحلف بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأوجبوا الكفارة على من حنث بذلك قد جوزوا الكفر والشرك للمسلمين نعوذ بالله من زلقات اللسان وفساد الجنان. الدعاء لفظ مشترك بين معان منها: العبادة وقوله: (والدعاء عبادة) ليس بصحيح، والدعاء لفظ مشترك بين معان منها: العبادة نحو: " ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك " والاستغاثة نحو: " وادعوا شهداءكم " والسؤال نحو: " ادعوني أستجب لكم " والقول نحو: " دعواهم فيها سبحانك اللهم "، والنداء نحو يوم يدعوكم، والتسمية نحو لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا، والنسبة كقوله تعالى: ادعوهم لآبائهم، أي انسبوهم إليهم. وقوله: (والعبادة مبناها على التوقيف والاتباع لا على الهوى والابتداع "، كلمة حق أريد بها باطل، أراد إن التوسل بجاه نبي أو صالح عبادة له وقد تقدم إبطاله في الفصل الثاني وفي هذا بالبراهين، فليس التوسل من العبادة في شئ، ولا يكون عبادة إلا إذا عظم المتوسل المتوسل به كتعظيم الله تعالى. الباب التاسع في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ورتب الكلام فيه على خمسة فصول وأفاض وأجاد قال الإمام العلامة أبو الحسن السبكي: الباب التاسع في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قد تضمنت الأحاديث المتقدمة أن روح النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ترد عليه وأنه يسمع ويرد السلام، فاحتجنا إلى النظر فيما قد قيل في ذلك بالنسبة إلى الأنبياء والشهداء وسائر الموتى، ورتب الكلام في هذا الباب على خمسة فصول:
212 الفصل الأول: فيما ورد في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وذكر أن الحافظ أبا بكر البيهقي صنف في ذلك جزءا وأفاض في سرد الأحاديث والتحقيق في ذلك في عشر صفحات. الفصل الثاني: حقق فيه حياة الشهداء. الفصل الثالث: حقق فيه سماع سائر الموتى وكلامهم وإدراكهم وعود الروح إلى الجسد في ثمان صفحات. الفصل الرابع قال: قد عرفت مقالات الناس في سائر الموتى وفي الشهداء، وعرفت أن القول فيهم بعود الروح إلى الجسد وبقائها فيه إلى يوم القيامة بعيد مخالف للحديث الصحيح أنها ترجع إلى جسده يوم القيامة. وعرفت أن النعيم حاصل الأرواح السعداء من الشهداء وغيرهم، والعذاب حاصل للأشقياء، فلعلك تقول ما الفرق حينئذ بين الشهداء وغيرهم؟، والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: إن إثبات الحياة للشهداء لا ينفي ثبوتها عن غيرهم، فالآيتان الكريمتان الواردتان في قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم)، ليس فيهما نفي هذا الحكم عن غيرهم، بل الرد على من يعتقد أنهم ليسوا كذلك، ونص عليهم لأن الواقعة كانت فيهم، الثاني: أنواع الحياة متفاوتة، حياة الأشقياء معذبين، أعاذنا الله تعالى منها، وحياة بعض المؤمنين من المنعمين، وحياة الشهداء أكمل وأعلى، فهذا النوع من الحياة والرزق لا يحصل لمن ليس في رتبتهم. وأما حياة الأنبياء فأعلى وأكمل وأتم من الجميع، لأنها للروح والجسد على الدوام على ما كان في الدنيا على ما تقدم عن جماعة من العلماء، ولو لم يثبت ذلك فلا شك في كمال حياتهم أيضا أكبر من الشهداء وغيرهم. أما بالنسبة إلى الروح فلكمال اتصالها ونعيمها وشهودها للحضرة الإلهية، وهي مع ذلك مقبلة على هذا العالم ومتصرفة فيه، وأما بالنسبة إلى الجسد فلما ثبت فيه من الحديث، وبالجملة كل أحد يعامل بعد موته كما كان يعامل في حياته، ولهذا يجب
213 الأدب مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد موته كما كان في حياته. وقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عني أنه قال: لا ينبغي رفع الصوت على نبي حيا ولا ميتا، وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها إنها كانت تسمع صوت الوتد يوتد والمسمار يضرب في بعض الدور المطنبة بمسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فترسل إليهم: لا تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عمل علي بن أبي طالب رضي الله عنه مصراعي داره إلا بالمناصع توقيا لذلك = هكذا رواه الحسيني في أخبار المدينة =. وهذا مما يدل على أنهم كانوا يرون أنه حي، وعن عروة قال وقع رجل في علي عند عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فقال له عمر: قبحك الله لقد آذيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في قبره، ومن نظر سير السلف الصالحين والصحابة والتابعين علم أنهم كانوا في غاية الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته كما كانوا في حياته وكانوا مع قبره الشريف كذلك. ثم قال: ولذلك كانت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين يغضون أصواتهم في مسجده صلى الله تعالى عليه وسلم تعظيما له. ففي البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال لرجلين من أهل الطائف: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولو جمعنا الأحاديث الصحيحة التي فيما ما كانت الصحابة عليه من تعظيم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتعظيم آثاره وأدبهم معه لجاءت مجلدات. ثم قال: الفصل الخامس، كان المقصود بهذا كله تحقيق السماع ونحوه من الأعراض بعد الموت، فإنه قد يقال إن هذه الأعراض مشروطة بالحياة، فكيف تحصل بعد الموت وهذا خيال ضعيف؟ لأنا لا ندعي أن الموصوف بالموت موصوف بالسماع، وإنما ندعي أن السماع بعد الموت حاصل لحي، وهو إما الروح وحدها حالة كون الجسد ميتا أو متصلة بالبدن حالة عود الحياة إليه، والإنسان فيه أمران: جسد ونفس، فالجسد إذا مات ولم تعد إليه الحياة لا نقول بقيام شئ من الأعراض المشروطة بالحياة
214 به وإن عادت الحياة إليه صح اتصافه بالسماع وغيره من الأعراض، والنفس باقية بعد موت البدن عالمة باتفاق المسلمين، حتى أن عائشة رضي الله عنها لما أنكرت سماع أهل القليب وافقت على العلم وقالت: إنما قال إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق، بل غير المسلمين من الفلاسفة وغيرهم ممن يقول ببقاء النفوس يقولون بالعلم بعد الموت، ولم يخالف في بقاء النفوس إلا من لا يعتد به، وليس مرادنا أنها واجبة البقاء = كما قال به بعض أهل الزيغ والإلحاد = ولا أنها تبقى دائما وإن كانت ممكنة فإنه قد يفنيها الله تعالى عند فناء العالم ثم يعيدها، وإنما المراد أنها تبقى بعد موت البدن، ثم بعد ذلك إن فنت أعيدت مع البدن يوم القيامة وإن لم تفن أعيد البدن ورجعت قال العلامة السيد علوي بن أحمد الحداد في كتابه مصباح الأنام وجلاء الظلام في الفصل الرابع عشر: أعلمني من حضر في صلاتهم يوم الجمعة بالدرعية شهرا والخطيب حسين الأعمى بن محمد بن عبد الوهاب يقول في خطبته الثانية: (ومن توسل بالنبي فقد كفر)، ومن أشهر مسائلهم التي يكفرون بها المسلمين: (يا رسول الله)، فكل من تلفظ بهذا الكلام فهو عندهم مشرك كافر، وحجتهم على تكفيره زعمهم أن فيه نداء الأموات، ونداء الأموات عندهم شرك. وقد كذبهم الحديث الصحيح وهو قوله صلى الله تعالى عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم: (إن القلب يحزن وإن العين تدمع وأنا عنك يا إبراهيم لمحزونون)، فيلزم على فهمهم الأعوج أن يكون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.. حيث نادى ميتا، = نعوذ بالله من زلقات اللسان وفساد الجنان =. وكذبهم أيضا ما ذكره ابن كثير في بدايته، وهو تيمي، إن شعار الصحابة رضوان الله عليهم يوم اليمامة (وا محمداه) فيلزم على فهمهم الأعوج أن يكون الصحابة رضوان الله عليهم.. حيث ناوا ميتا، = نعوذ بالله من زلقات اللسان وفساد الجنان =.
215 كشف حال ابن تيمية في دفع شبه من شبه وتمرد " دفع شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك إلى السيد الجليل الإمام أحمد، كتاب ألفه العلامة الشريف تقي الدين أبو بكر الحصني الدمشقي المتوفى سنة تسع وعشرين وثمانمائة أثبت فيه كثيرا من مسائل ابن تيمية التي حاد فيها عن طريق الحق ولو لم يكن فيه إلا مرسوم السلطان الناصر محمد بن قلاوون في شأن ابن تيمية لكان كافيا في كشف حال ابن تيمية لكل مسلم نور الله بصيرته، طبع في مطبعة عيسى الحلبي سنة خمسين وثلاثمائة وألف. وإني أنقل للقراء مقدمة كلامه في ابن تيمية، ثم مرسوم السلطان المذكور، ثم بعض شواذ ابن تيمية. قال رحمه الله تعالى: فاعلم أني نظرت في كلام هذا الخبيث الذي في قلبه مرض الزيغ المتتبع ما تشابه في الكتاب والسنة ابتغاء الفتنة، وتبعه على ذلك خلق من العوام وغيرهم ممن أراد الله عز وجل إهلاكه، فوجدت فيه ما لا أقدر على النطق به، ولا لي أنامل تطاوعني على رسمه وتسطيره، لما فيه من تكذيب رب العالمين في تنزيهه لنفسه في كتابه المبين، وكذا الازدراء بأصفيائه المنتخبين وخلفائهم الراشدين وأتباعهم الموفقين، فعدلت عن ذلك إلى ذكر ما ذكره الأئمة المتقون وما اتفقوا عليه من تبديعه وإخراجه ببعضه من الدين، فمنه ما دون في المصنفات ومنه ما جاءت به المراسيم العليات، وأجمع عليه علماء عصره ممن يرجع إليهم في الأمور الملمات والقضايا المهمات، وتضمنه الفتاوى الزكيات من دنس أهل الجهالات، ولم يختلف عليه أحد كما اشتهر بالقراءة والمناداة على رؤوس الأشهاد في المجامع الجامعة حتى شاع وذاع واتسع به الباع حتى في الفلوات، فمن ذلك نسخة المرسوم الشريف السلطاني ناصر الدنيا والدين محمد بن قلاوون رحمه الله تعالى وقرئ على منبر جامع دمشق نهار الجمعة سنة خمس وسبعمائة.
216 كلام التقي الحصني أيضا في ابن تيمية وقال العلامة تقي الدين الحصني في دفع شبه من شبه وتمرد: ومن قواعده المقررة عنده، وجرى عليها أتباعه التوقي بكل ممكن، حقا كان أو باطلا، ولو بالإيمان الفاجرة سواء كانت بالله عز وجل أم بغيره. وأما الحلف بالطلاق فإنه لا يوقعه البتة ولا يعتبره سواء كان بالتصريح أم الكناية أم التعليق أم التنجيز، وهذا مذهب الشيعة فإنهم لا يرونه شيئا، وإشاعته هو وأتباعه أن الطلاق الثلاث واحدة خز عبلات ومكر، وإلا فهو لا يوقع طلاقا على حالف به ولو أتى به في اليوم مائة مرة على أي وجه، سواء كان حثا أم منعا أم تحقيق خبر، فاعرف ذلك، وإن مسألة الثلاث إنما يذكرونها تسترا وخديعة، وقد وقفت على مصنف له في ذلك وكان عند شخص شريف زينبي وكان يرد الزوجة إلى زوجها في كل واقعة بخمسة دراهم، وإنما أطلعني عليه لأنه ظن أني منهم فقلت له: يا هذا أتترك قول الإمام أحمد وقول بقية الأئمة بقول ابن تيمية؟، فقال اشهد علي أني تبت وظهر لي أنه كذب في ذلك، ولكن جرى على قاعدتهم في التستر والتقية، فنسأل الله تعالى العافية من المخادعة فإنها صفة أهل الدرك الأسفل إ ه. وقوله: (ثم قاموا عليه سنة 726 بسبب مسألة الزيارة وحبس بالقلعة إلى أن مات بسنة 728)، أي علماء دمشق أيضا صحيح أيضا، فقد أفتى بأن شد الرحال إلى زيارة قبره صلى الله تعالى عليه وسلم بدعة ومعصية لا يجوز قصر الصلاة فيها، وقد رد عليه فيها علماء أعلام في مقدمتهم الإمام السبكي، وقد تقدم تلخيصي لكتابه. وقوله: (ونسبوه إلى التجسيم لما ذكره في عقيدته الحموية والواسطية وغيرهما إلى قوله وخطأ عمر بن الخطاب) صحيح أيضا، ولو لم يدل على تجسيمه من كلامه إلا زعمه أن اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقية لله تعالى، وأنه تعالى مستو على العرش بذاته لكفى.
217 قد افترى في هذا الزعم على الله تبارك وتعالى وعلى رسول صلى الله تعالى عليه وسلم وقد افترى في هذا الزعم على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى السلف الصالح الذين يلبس بهم على الأغبياء وأشباههم أربع مرات، تسميته للمذكورات بالصفات، وزعمه أنها حقيقية، وزعمه أنه تعالى مستو على العرش بصيغة اسم الفاعل، وبذاته، فلو استظهر بمشبهة الأرض جميعا على إثبات هذه الأربعة في كتاب الله عز وجل، أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عن أي واحد من السلف الصالح لم يستطع، وإلزام العلماء له بأنه قال بالتحيز في ذات الله تعالى صحيح، وعدم تسليمه كون التحيز والانقسام من خواص الأجسام دليل على نقصان عقله ومكابرته. قال الإمام المحقق أبو الحسن السبكي في طليعة رسالته: (الدرة المضية في الرد على ابن تيمية) ما نصه: أما بعد! فإنه لما أحدث ابن تيمية ما أحدث في أصول العقائد: ونقض من دعائم الإسلام الأركان والمعاقد، بعد أن كان مستترا بتبعية الكتاب والسنة مظهرا أنه داع إلى الحق هاد إلى الجنة، فخرج عن الاتباع إلى الابتداع وشذ عن جماعة المسلمين بمخالفة الاجماع، وقال بما يقتضي الجسمية والتركيب في الذات المقدسة وإن الافتقار إلى الجزء ليس بمحال، وقال بحلول الحوادث بذات الله تعالى، وإن القرآن محدث تكلم الله به بعد أن لم يكن، وأنه يتكلم ويسكت ويحدث في ذاته الإرادات بحسب المخلوقات، وتعدى في ذلك إلى استلزام قدم العالم (والتزامه) بالقول بأنه لا أول للمخلوقات، فقال بحوادث لا أول لها، فأثبت الصفة القديمة حادثة، والمخلوق الحادث قديما، ولم يجمع أحد هذين القولين في ملة من الملل ولا نحلة من النحل، فلم يدخل في فرقة من الفرق الثلاثة والسبعين، وكل ذلك وإن كافر كفرا شنيعا مما تقل جملته بالنسبة إلى ما أحدث في الفروع، فإن متلقى الأصول عنه وفاهم ذلك منه هم الأقلون والداعي إليه من أصحابه هم الأرذلون، وإذا حوققوا في ذلك أنكروه وفروا
218 منه، كما يفرون من المكروه، ونبهاء أصحابه ومتدينوهم لا يظهر لهم إلا مجرد التبعية للكتاب والسنة والوقوف عندما دلت عليه من غير زيادة ولا تشبيه ولا تمثيل إ ه. قال الحافظ ابن حجر في كتاب التوحيد وقال الحافظ ابن حجر في فتحه في كتاب " التوحيد " في شرح قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (وكان الله ولم يكن شئ قبله) ما نصه: تقدم في بدء الخلق بلفظ ولم يكن شئ غيره، وفي رواية أبي معاوية: (كان الله قبل كل شئ)، وهو بمعنى: (كان الله ولا شئ معه)، وهي أصرح في الرد على من أثبت حوادث لا أول لها (من رواية الباب) وهي من مستشنع المسائل المنسوبة لابن تيمية إ ه. تخطئته وطعنه في مسألة الطلاق الثلاث وقوله: (1) (وخطأ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب)، أراد به تخطئته له في إيقاعه الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثا بمحضر علماء الصحابة مهاجرين وأنصارا، فلا اختصاص للفاروق بالطعن والتخطئة فقد طعن وخطأ الصحابة الذين وافقوه عليها وخالف إجماعهم وإجماع من بعدهم من علماء الأمة، وقد ثرثر ابن القيم في هذه المسألة في هديه وتوقح وتغطرس ومدح نفسه، وشيخه الحراني قال في ج 4 ص 62 منه: وليس التحاكم في هذه المسألة إلى مقلد متعصب ولا هياب للجمهور، ولا مستوحش من التفرد إذا كان الصواب في جانبه، وإنما التحاكم فيها إلى راسخ في العلم قد طال فيه باعه وأسهب في إطراء نفسه. ثم قال: فقد توفي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن أكثر من مائة ألف عين، كلهم قد رآه وسمع منه، فهل يصح لكم عن هؤلاء كلهم أو عشرهم أو عشر عشرهم أو
219 عشر عشر عشرهم القول بلزوم الثلاث بفم واحد؟. ثم قال: لم يخالف عمر إجماع من تقدمه بل رأي إلزامهم بالثلاث عقوبة لهم إ ه. قوله وليس التحاكم في هذه المسألة إلى مقلد متعصب، يصدق عليه المثل: (رمتني بدائها وانسلت)، ولا شك عند كل عاقل أن التقليد والتعصب لعلماء خير القرون خير وأولى من تقليده وتعصبه للحراني الذي جاء في القرون المتأخرة عند الموازنة، والوقح الذي لم يتأدب بآداب الشرع الشريف، ومن آدابه مراعاة السواد الأعظم، كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم: (عليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)، خلق بعدم الهيبة من الجمهور وعدم الاستيحاس من التفرد، ومعاذ الله أن يكون الصواب في جانب الشاذ الطاعن في الأمة الإسلامية جمعاء سلفها وخلفها. وقوله: (وإنما التحاكم فيها إلى راسخ في العلم قد طال فيه باعه إلى آخر هذره)، بلغ في الغطرسة والتعاظم على خير القرون فمن بعدهم منتاهما؟. وقوله: (فقد توفي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن أكثر من مائة ألف الخ..)، رده الكمال ابن الهمام بما نصه: وقول بعض الحنابلة القائلين بهذا المذهب، (توفي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن أكثر من مائة ألف الخ) باطل.. أما أولا: فإجماعهم ظاهر فإنه لم ينقل عن أحد منهم أنه خالف عمر رضي الله تعالى عنه حين أمضى الثلاث، وليس يلزم في نقل الحكم الإجماعي عن مائة ألف أن يسمى كل ليلزم في مجلد كبير حكم واحد، على أنه إجماع سكوتي. وأما ثانيا: فإن العبرة في نقل الاجماع، نقل ما عن المجتهدين لا العوام، والمائة الألف الذين توفي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عنهم لا يبلغ عدة الفقهاء المجتهدين منهم أكثر من عشرين، كالخلفاء والعبادلة ومعاذ بن حبل وزيد بن ثابت وأبي هريرة رضي الله عنهم وقليل، والباقون يرجعون إليهم ويستفتون منهم.
220 وقد أثبتنا النقل عن أكثرهم صريحا بإيقاع الثلاث، ولم يظهر لم مخالف، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟، وعن هذا قلنا: لو حكم حاكم أن الثلاث بفم واحد واحدة لم ينفذ حكمه لأنه لا يسوغ الاجتهاد فيه فهو خلاف لا اختلاف، والرواية عن أنس رضي الله عنه بأنها ثلاث أسندها الطحاوي وغيره. وغاية الأمر أن يصير كبيع أمهات الأولاد أجمع على نفيه، وكن في الزمن الأول يبعن، وبعد ثبوت إجماع الصحابة رضي الله عنهم لا حاجة إلى الاشتغال بالجواب إ ه. وأما دعواه الاجماع القديم وإنه لم تجمع الأمة على خلافه فهي دعوى عجيبة غريبة، لا أدري كيف ساغ لابن القيم أن يتوكأ عليها ويتخذها حجة، مع أن انعقاد الاجماع لا يكن إلا إذا صح اشتهار الفتوى بما زعمه وبلوغها للكل والإقرار والسكوت عليها، وكل ذلك لم يثبت، وإنما أخذ ذلك من سياق رواية ابن عباس رضي الله عنهما وقد علمت ما فيه، على أنه لو صح أن فيه إجماعا قديما سابقا على مناداة عمر يلزم أن عمر خالف السنة الصحيحة وخالف الاجماع أيضا بمحض رأيه. ويلزم من أن كل من في عصر عمر، وكان موجودا وقت المناداة ووافقوه على ما أمضاه قد خالفوا السنة والإجماع أيضا، مع أن الذين وافقوه على ذلك هم جميع المجتهدين في عصره من الصحابة والتابعين، إذ لم ينقل عن أحد منهم أنه خالفه، فتكون الأمة قد أجمعت ثانيا على خلاف ما أجمعت عليه أولا، فيلزم أن تكون الأمة قد أجمعت على خطأ: أما أولا وأما ثانيا وكل ذلك باطل. وأما قوله: (ولكن رأي أمير المؤمنين أن الناس قد استهانوا بأمر الطالق الخ.) فهو قول باطل، لأن العقوبة لا يجوز أن تكون بما يخالف السنة والإجماع، وإحداث حكم على خلافهما وحاشا عمر أن يرى من المصلحة عقوبة الناس بإحداث حكم على خلاف السنة والإجماع، مع أن إحداث ذلك أكبر جرما مما فعله الناس لو صح إ ه، تحقيق شيخنا العلامة المرحوم محمد بخيت المطيعي، والشوكاني من المتشبعين بما لم يعطوا، المقدسين ابن تيمية، وهو أشد في هذه المسألة وقاحة وسفاهة من ابن القيم قال في نيل
221 أوطاره: والحاصل أن القائلين بالتتابع قد استكثروا من الأجوبة على حديث ابن عباس، (وكلها خارجة عن دائرة التعسف)، والحق أحق بالاتباع فإن كانت تلك المحاماة لأجل مذاهب الأسلاف فهي أحقر وأقل من أن تؤثر على السنة المطهرة، وإن كانت لأجل عمر بن الخطاب، فأين يقع المسكين من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟، ثم أي مسلم يستحسن عقله وعلمه ترجيح قول صحابي على قول المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ إ ه. قوله وكلها خارجة عن دائرة التعسف حجة عليه، ولعله أراد وكلها غير خارجة عن دائرة التعسف، فطمس الله بصيرته أو بصيرة صاحب المطبعة فحذف لفظة (غير). أين في السنة المطهرة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال من طلق امرأته ثلاثا بلفظ واحد فهو واحدة وقوله: فإن كانت تلك المحاماة إلى قوله وإن كانت لأجل عمر، مشتمل على سفاهة وتحقير صريحين للأمة الإسلامية جمعاء سلفها وخلفها وعلى افتراء على السنة المطهرة، فيقال له ولأشباهه الجعجاعين المتغطرسين، أين في السنة المطهرة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال من طلق امرأته ثلاثا بلفظ واحد فهو واحدة؟، فلو استظهرتم بمبتدعة الأرض جميعا على إثبات هذا عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم تستطيعوا. وقوله (وإن كانت لأجل عمر بن الخطاب فأين يقع المسكين من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم)، ازدراء صريح للفاروق الذي قال فيه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: (أن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه) = أخرجه الإمام أحمد والترمذي عن ابن عمر وأبو داود والحاكم عن أبي ذر وأبو يعلى والحاكم عن أبي هريرة والطبراني عن بلال ومعاوية =، ولعلماء الصحابة الذين وافقوه على وقوع الثلاث بلفظ واحد فلفظة المسكين دالة على ازدرائه بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم على رأي معبوده الحراني أن يكونوا كلهم مساكين، وقوله (ثم أي مسلم إلى آخر الهراء) كلمة حق أريد بها باطل، وتقويم قوله يستحسن عقله، ويسوغ له عقله وعلمه تقديم قول صحابي
222 الخ..، والأحسن والأخصر تعبيرا أن يقول لا يسوغ لأي مسلم أن يقدم قول صحابي على قول المصطفى صلى الله عليه وسلم. هو في زعمه مجتهد كبير ويوجب الاجتهاد في دين الله على جميع الناس وكل مسلم يقول بموجب هذا، = وهو في زعمه مجتهد كبير، ويوجب الاجتهاد في دين الله على جميع الناس حتى الغوغاء أتباع كل ناعق والأجلاف. وقد ازداد الأوباش المجتهدون في عصرنا هذا كثرة، وهاهم منتشرون في أنحاء المعمورة يفسرون كلام الله تعالى برأيهم، وينزلون السنة المطهرة على حسب أهوائهم، ويطعنون فيها، إذا صادمت أهواءهم ولو كانت متواترة أو صحيحة، وأسس اجتهادهم: وقاحة وجه حده يفلق الصخرا، وموضوعه وغايته: ادعاء السلفية للتلبيس على العامة، والطعن في أئمة الدين وعلمائه. فأركان اجتهادهم ثلاثة: الوقاحة وادعاء السلفية والطعن في العلماء الماضين، لا يتم ولا يكمل إلا بها، وهو بهذا الرأي الفاسد مصادم لحكمة الله تعالى في خلقه، فإنه عز وجل كما جعل الناس مختلفين في الألوان والألبسة جعلهم مختلفين في الفقر والغنى والعلم والجهل والصنائع والمهن، فلو جعلهم تعالى كلهم أغنياء أو فقراء أو علماء أو زراعين أو حدادين أو أو.. لم يعمز؟ الكون أبدا، ولو جعلهم تعالى كلهم مجتهدين لبطلت الآية الشريفة الدالة على سائل ومسؤول، (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، وبطل أيضا قوله تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)، وأولو الأمر هم العلماء المجتهدون، ومصادم لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: (ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب فرب مبلغ أوعى لها من سامع ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)، وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم أيضا: (قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم
223 يعلموا)، ومصادم أيضا للواقع فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم توفي عن أكثر من مائة ألف صحابي، والعلماء المفتون منهم لا يتجاوزن العشرين. وهذا الجمهور العظيم يرجع في الفتوى إليهم = كما اعترف بذلك ابن القيم في أول أعلام الموقعين =. من زعم أن كل واحد من الصحابة كان كغيره من علمائهم في العلم فهو مفتر أفاك ومن زعم أن كل واحد من هذا الجمهور كان كغيره من علمائهم فهو مفتر أفاك، ومن زعم أيضا أن علماء الصحابة كانوا يخبرون السائل بدليل مسألته من كتاب الله وسنة رسوله = كما ادعى هذا السخيف = فهو مفتر أفاك. ومن زعم أن جميع النوازل الفقيهة منصوص عليها في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو مفتر أفاك ومن زعم أيضا أن جميع النوازل الفقهية منصوص عليها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فهو مفتر أفاك، والاجتهاد عند علماء الإسلام قاطبة إنما هو في أحكام الحلال والحرام التي لا يوجد فيها نص في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولذلك عرفوه بأنه (بذل الوسع في استخراج مسألة غير منصوص عليها لإدخالها تحت قاعدة منصوص عليها). أما الأقذاع والغطرسة والسب والتكفير والتحقير لعباد الله تعالى فليس اجتهادا عند كل من له مسكة من عقل ودين وإنما هو بضاعة الشيخ الحراني ورثها منه المفتتنون به، واجتهاد هذا النفاج متمثل في أحسن تآليفه، وهو نيل الأوطار وإرشاد الفحول، فنيل الأوطار ملخص من فتح الباري وتلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير.
224 والحافظ ابن حجر مؤلف هذين الكتابين، مع كونه خيرا من هذا المتشبع الجفاخ، قد عرف قدره ولم يتعد طوره، فلم يدع هذا المنصب العظيم، لعلمه بأنه إنما جميع كتابيه من كلام من تقدمه من العماء، وأولئك العلماء الذين استفاد منهم هذه الثروة العظيمة كلهم من أتباع الأئمة الأربعة لم يفه أي واحد منهم بهذه الأحموقة، وهي ادعاء الاجتهاد المطلق، لعلمهم أن من تقدمهم من مشايخهم ومشايخ كانوا أعلم وأتقى لله منهم، ولا يرتكبها أي واحد منهم، والذي جمعه في أصول الفقه مضخما اسمه زاعما أنه إرشاد الفحول، (والفحول لا يحتاجون إلى إرشاده) وإنما الإرشاد للحيارى، إنما جمعه من كلام فحول من المقلدين للأئمة الأربعة كالآمدي وابن الحاجب وابن السبكي وغيرهم ممن لا يلحق هذا المتغطرس غبار أي واحد منهم، وما كانوا متغطرسين ولا محتقرين لعباد الله تعالى، وقد تحقق من تعريف الاجتهاد أنه ليس بكثرة الحفظ للمسائل، ولا بحكاية أقوال العلماء في التآليف والمذاكرة ومن ظن كهذا الجفاخ أنه يحصل بهاتين معا أو بإحداهما، فهو جاهل جهلا مكعبا، فتتنازله وهو المجتهد الكبير عند نفسه إلى نقل العلم عن المقلدين والاحتجاج بأقوالهم في كتابيه دليل على انحطاط رتبته عنهم بكثير، وهل ينزل من في الثريا إلى من في الثرى؟، وهل هذا إلا عين التناقض؟. ولقد كان من اللازم لاجتهاده المزعوم أن يقعد قواعد كالإمام المطلبي، ويستنبط من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فروعا مخالفة لفروع الأئمة المتبوعين يبرهن بها على أنه مجتهد بحق، ولا يحشر نفسه في كتيبة العلماء المقلدين لهم ولا يستظل بظلهم أصلا ولكن قد تحقق كل عاقل أنه ليس عنده إلا بضاعة قدوته الحراني التكفير. شحنه تآليفه بأقوال العلماء المقلدين للأئمة الأربعة مع ادعائه الاجتهاد المطلق تناقض قبيح فإن كان مجتهدا كما زعم فكيف ساغ له تقليد المقلدين للأئمة الأربعة والثقة بأقوالهم، وإن كان المقلدون للأئمة الأربعة كفارا = في زعمه = فكيف ساغت له الثقة
225 في دين الله تعالى بأقوال الكفار، والواثق في دين الله بقول الكافر؟... وقد كفر الأمة الإسلامية جمعاء اتباع الأئمة الأربعة وشبهها باليهود والنصارى تشبيها فاسدا في تفسيره عند قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله). تكفيره الأمة الإسلامية جمعاء فلو كان عالما وللعلم وقار لحجزه علمه عن تكفير مسلم واحد، فضلا عن تكفير أمة بأسرها، ولو كان في قلبه مثقال ذرة من خوف الله تعالى، لما أقدم على تكفير مسلم واحد، فضلا عن تكفير أمة بأسرها، ولو كان عنده حياء، (والحياء من الإيمان)، ما كفر مسلما واحدا فضلا عن تكفير أمة بأسرها، وفيها من العلماء والفضلاء والمفسرين والمحدثين والفقهاء والمتكلمين والفلاسفة والأولياء والعباد الزهاد ما أدهش التاريخ وأنطق أعداء الإسلام بفضل الإسلام، (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقى يضل عن سبيل الله وكل من امتلأ أنانية وكبرا فلا بدان يحتقر المسلمين (إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير). (2) - وخطأ أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أيضا في الفتوى التي زعم أنه سئل عنها: (أيما أفضل مكة أو المدينة فأجاب (مكة أفضل بالإجماع وكتبه أحمد بن تيمية الحنبلي)، وقد تقدم هذا في كلام العلامة الحصني قال: وفي هذه الفتوى رمز إلى عدم الاعتداد بقول عمر رضي الله تعالى عنه فإنه من القائلين بأن المدينة أفضل من مكة إ ه. وذكر العلامة ابن حجر الهيتمي في فتاواه الحديثية عن بعض العلماء المعاصرين
226 لابن تيمية أنه سمع على منبر جامع الجبل بالصالحية، وقد ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إن عمر له غلطات وبليات وأي بليات إ ه. وقوله: وخطأ عليا كرم الله وجهه في سبعة عشر موضعا خالف فيها نص الكتاب، ونسبوه أيضا إلى النفاق لقوله هذا في علي كرم الله وجهه، ولقوله أيضا فيه إلى قوله وقال: إن عثمان كان يحب المال)، غير مستنكر على من رمز إلى تكفير الصديق الأكبر وجهل الفاروق وعلماء الصحابة وطعن في إجماعهم أن يقول في حيدرة كرم الله وجهه أكثر من هذا. وقد ذكر العلامة الهيتمي في فتاواه الحديثية عن بعض العلماء المعاصرين لابن تيمية إنه ذكر حيدرة في مجلسه فقال: إنه أخطأ أكثر من ثلاثمائة موضع، ونسبة العلماء له إلى النفاق مأخوذة من قوله كرم الله وجهه: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق) = أخرجه الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه عنه =. وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: (كنا نعرف المنافقين ببغضهم عليا)، وقوله: (والصبي لا يصح إسلام على قول) بهتان، وعلماء الإسلام متفقون على صحة إسلام الصبي، ولو كان صادقا لعزا هذا القول لقائله حتى ينظر فيه، ولكن النصب لحيدرة خصوصا ولبني هاشم عموما، وسيأتي البرهان عليه فيما استخرجه من خطله من منهاجه.
227 وغير مستنكر على من جهل الفاروق وعلماء الصحابة ولم يبال بإجماعهم في مسألة الطلاق أن يقول في الذي تستحي منه ملائكة الرحمن: أنه يحب المال وغير مستنكر أيضا على من جهل الفاروق وعلماء الصحابة ولم يبال بإجماعهم على أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع ثلاثا، أن يقول في الذي تستحي منه ملائكة الرحمن أنه كان يحب المال. كتابه (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) لون آخر من الطعن في الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم وكتابه (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) لون آخر من الطعن في الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم والأئمة المتبوعين رحمهم الله تعالى. وكان العلامة عبد الله بن زيدان الشنقيطي يقول فيه: إنه وضع الملام لا رفعه، ومن لامهم حتى يرفع الملام عنهم؟، وقد صدق رحمه الله تعالى، وتوضيحه أن الناس في الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وفي من بعدهم من الأئمة المتبوعين، ثلاث طوائف، رافضة وخوارج وأهل السنة، فالرافضة والخوارج تجاوزتا في الصحابة والأمة الإسلامية حد الملام إلى التكفير، فالرافضة كفروا الصحابة إلا عليا وأولاده فإنهم غلوا في تقديسهم إلى درجة التأليه، وكفروا الأمة الإسلامية جمعاء، والخوارج كفروا كثيرا من الصحابة والأمة الإسلامية جمعاء وقد سوا الشيخين فلا كلام في هاتين الطائفتين، وأهل السنة عوام ومتعلمون، فالعوام يحترمون الصحابة الأئمة المتبوعين، ولا شعور لهم بلوم أي واحد منهم أصلا، والمتعلمون يعلمون أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ومن بعدهم من أئمة الدين ليسوا بمعصومين من الخطأ ويعلمون أن صوابهم أكثر من خطئهم وخيرهم أكثر من شرهم ويعلمون هذه المسائل التي خطأ فيها الخلفاء الراشدين.
228 وقال في كل واحدة منها إن السنة لم تبلغه ولم يلوموهم ولم يجمعوا ذلك في كتاب وينشروه بين العامة، تأدبا معهم، فتحقق بهذا أنه هو الذي وضع الملام عليهم، وحاول رفعه بجعجعته هذه، وهيهات رفعه فإن رفع الواقع محال، ولا يرفعه عنهم قوله في آخر صفحة 8: (وهؤلاء - يعني الخلفاء - كانوا أعلم الأمة وأفقهها وأتقاها وأفضلها فمن بعدهم أنقص منهم). ففحوى كلامه هذا أنهم ناقصون بدليل: (فمن بعدهم أنقص منهم)، وليس العلم بكثرة الرواية، وإنما هو نور يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء من عباده = كما قال إمام دار الهجرة =، وهو الفهم بدليل قوله صلى الله تعالى عليه وسلم (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين). والغالب إن من يحفظ كثيرا يكون أقل علما، والخلفاء الأربعة محفوظ كل واحد منهم من السنة قليل جدا بالنسبة لحفاظ الصحابة وكل واحد منهم أعلم ممن يحفظها منهم، وهكذا يطرد فيمن بعدهم من التابعين وأتباعهم، وهلم جرا، وهذا الإمام أحمد بن حنبل قالوا: كان يحفظ مليونا من الأحاديث، أي باعتبار تعدد طرقها، وكان يذعن للإمام الشافعي الذي كان أقل حفظا لها منه ويأخذ بركابه. وقد قال الإمام أحمد: ما من صاحب محبرة إلا وللشافعي عليه منة، وكان الإمام الشافعي يقول له وللإمام عبد الرحمن بن مهدي: إذا رأيتما حديثا صحيحا فأعلماني به. وكان التابعي الشهير سليمان بن مهران الأعمش أحفظ للسنة من أبي حنيفة الذي هو من أقرانه، وقد قال مرة للإمام أبي حنيفة معترفا بفضله: أنتم الأطباء ونحن الصيادلة، وطلب من أبي حنيفة لما أراد الحج أن يكتب له مناسكه، وقال الإمام مالك لمن سأله عن الإمام أبي حنيفة بعد اجتماعية به: (رأيت رجلا لو استدل لك على هذه السارية أن تكون ذهبا لأقام عليها الحجة)، والأمثلة لا تحصى يعرفها الممارس للعلم. ومصداق ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (رب مبلغ أوعى لها من سامع ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).
229 تحقق أنه لا فائدة في كتابه هذا يستفيدها العامة ولا المتعلمون سوى تنقيصه لأئمة الدين كلهم صحابة وغيرهم وبهذا تحقق أنه لا فائدة في كتابه هذا يستفيدها العامة ولا المتعلمون سوى تنقيصه لأئمة الدين كلهم صحابة وغيرهم، وإظهار عظمته وكماله عليهم جميعا للمفتونين به. والدليل على هذا ما ذكر العلامة الحصني في (دفع شبه من شبه وتمرد)، بعد ذكر تفرقة ابن تيمية بين حياة النبي صلى الله عليه وسلم وموته النبي أخذها عن اليهود في تجويزه التوسل به بدعائه فقط في حياته، ومنعه ذلك بعد موته. قال: ويقطع الواقف عليها أو على بعضها بأن القائلين بالتفرقة من متغالي أهل الزيغ والزندقة، وإن ابن تيمية الذي كان يوصف بأنه بحر في العلم لا يستغرب فيه ما قاله بعض الأئمة عنه من أنه زنديق مطلق. وسبب قوله ذلك أنه تتبع كلامه فلم يقف له على اعتقاد حتى أنه في مواضع عديدة يكفر فرقة ويضللها، وفي آخر يعتقد ما قالته أو بعضه، مع أن كتبه مشحونة بالتشبيه والتجسيم، والإشارة إلى الازدراء بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والشيخين وتكفير عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وأنه من الملحدين، وجعل عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما من المجرمين وأنه ضال مبتدع. ذكر ذلك في كتاب له سماه: (الصراط المستقيم والرد على أهل الجحيم)، وقد وقفت في كلامه على المواضع التي كفر فيها الأئمة الأربعة. وكان بعض أتباعه يقول إنه أخرج زيف الأئمة الأربعة، يريد بذلك إضلال هذه الأمة لأنها تابعة لهم في جميع الأقطار والأمصار وليس وراء ذلك زندقة إ ه.
230 وقوله: (ونسبوه إلى الزندقة لقوله: إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا يستغاث به)، وتقدم تقريره بالحج القاطعة في كلام الإمام السبكي، وفي كلامي. وقوله: (ونسبه قوم إلى السعي في الإمامة إلى قوله وكان إذا حوقق)، غير مستنكر هذا منه ولكن بينه وبين ابن تومرت من الفرق كما بين السماء والأرض في كل شئ، فأفعل التفضيل لا يدخل بينهما. وقوله: (وكان إذا حوقق وألزم إلى قوله ودار بينه وبين أبي حيان كلام)، دليل على جهله وانطوائه على غرض سئ. ولم نر ولم نسمع في التاريخ الإسلامي أن البدعي إذا ناظر سنيا فألزمه السني الحجة، قال لم أرد هذا وإنما أردت كذا ويذكر احتمالا بعيدا روغان الثعلب، فإما أن يرجع إلى الحق وهم قليل وإما أن يسكت ويبقى مصرا على ضلاله. وقد ناطر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الحروريين فألزمهم الحجة فافترقوا على ثلاث فرق: فرقة رجعت إلى حيدرة كرم الله وجهه، وفرقة بقيت متحيرة، وفرقة صممت على الضلال ومحاربة أمير المؤمنين حيدرة كرم الله وجهه. وناظر أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه صاحبي شوذب الخارجي فألزمهما الحجة فرجع أحدهما إلى الحق وتاب، وصمم الآخر على ضلاله. وناظر الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه الزنادقة فقطعهم فتابوا على يده، وناظر أيضا أصحاب الضحاك الخارجي فقطعهم ولم يرجعوا عن عقيدتهم، وناظر الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه كلا من حفص الفرد وبشر المريسي فألزمهما الحجة ولم يرجعا عن ضلالهما، وناظر أبو محمد الأذرمي القاضي أحمد بن أبي داود رئيس المعتزلة إمام الواثق فأفحمه ولم يرجع عن عقيدته، وناظر الإمام أبو الحسن الأشعري شيخه الجبائي فألزمه الحجة ولم يجرع عن اعتزاله، وناظر القاضي أبو بكر الباقلاني جماعة من المعتزلة في رؤية الله تعالى وغيرها عند الصاحب بن عباد فأفحمهم ولم يرجعوا عن اعتزالهم.
231 دليل على جهله وانطوائه على غرض سئ ويدل على جهله وانطوائه على غرض سئ في مراوغته للعلماء عند محاققتهم له بقوله لم أرد هذا وإنما أردت كذا ويذكر احتمالا بعيدا. ما ذكره العلامة الحصني في: (دفع شبه من شبه وتمرد) في آخر صحة 34 قال: ثم شرع في كلام العلماء ويعلق في مسودا؟ حتى ظن أنه صار له قوة في التصنيف والمناظرة وأخذ يدون ويذكر أنه جاءه استفتاء من بلد كذا، وليس لذلك حقيقة فيكتب عليها صورة الجواب ويذكر ما لا ينتقد عليه وفي بعضها ما يمكن أن ينتقد، إلا أنه يشير إليه على وجه التلبيس بحيث لا يقف على مراده إلا حاذق عالم متفنن، فإذا ناظر أمكن أن يقطع مناظره إلا ذلك المتفنن القطن إ ه. وفي صفحة 36 منه قال: أنه يذكر في بعض مصنفاته كلام رجل من أهل الحق ويدس في غضونه شيئا من معتقده الفاسد فيجري عليه الغبي بمعرفة كلام أهل الحق فيهلك، وقد هلك بسبب ذلك خلق كثير، وأعمق من ذلك أنه يذكر إن ذلك الرجل ذكر ذلك في الكتاب الفلاني وليس لذلك الكتاب حقيقة وإنما قصده بذلك انفضاض المجلس، ويؤكد قوله بأن يقول ما يبعد أن هذا الكتاب عند فلان ويسمي شخصا بعيد المسافة، كل ذلك خديعة ومكر وتلبيس لأجل خلاص نفسه، ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله إ ه. لا تناقض عند أبي حيان في مدحه لابن تيمية أولا وذمه له ثانيا والمفتتنون بالحراني يسجلون على أبي حيان تناقضه، قالوا إنه مدح إمامهم مدحا بليغا، ولما جهل إمام النحويين سيبويه نافره وذمه، ويفتخرون بهذا الهذيان الذي صبه
232 قدوتهم على عمر بن بشر: (يفشر سيبويه، وما كان نبي النحو، وأخطأ في الكتاب في ثمانين موضعا لا تفهمها أنت). ولا تناقض عند أبي حيان، أما مدحه له ولا فهو مبني على تحسين الظن وعلى الشهرة الكاذبة والدعاية التي جعلها لنفسه ونشرها له الغوغاء، وأما ذمه بعد ذلك فلما انكشف له من عقيدته وعجرفته وغطرسته. وقد مدح عمرو بن الأهتم التميمي ابن عمه الزبرقان بن بدر عنه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال الزبرقان: يا رسول الله إنه حسدني فترك كثيرا من فضائلي فذمه عمر وذما بليغا، وقال: والله يا رسول ما كذبت في الأولى ولقد صدقت في الثانية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحرا). كان مائق يستطيع أن يقول لمناظره أخطأ فلان أو إمامك في مائة أو ألف مسألة لا تفهمها أنت لأن الكلام لا ضريبة عليه وقد دل هذا الهذيان على جهله وغطرسته وحمقه، فلو عقلوا لم يفتخروا به ولستروه كما تستر الهرة خرأها، إذا مائق يمكنه أن يقول لمناظره أخطأ إمامك في مائة أو إلف مسألة في الفقه مثلا لا تفهمها أنت ويسفه عليه بهذا الهذيان أو بأشد منه يفشر.. وما كان إمام نبي.. وفي استطاعة أبي حيان أن يقول له مثل هذا الهراء أو أكثر منه لأن الكلام ولا ضريبة عليه ولكنه ليس بسفيه ولا متغطرس، وهو عالم بفنه العربية غير مدافع قد أخذها عنه بمصر أعيان العلماء واعترفوا بفضله، منهم الإمام أبو الحسن السبكي، ولا يلحق ابن تيمية غباره وغبارهم فيها، فلو قال قائل إن ابن تيمية لا يعرف العربية، فضلا عن فهمه كتاب الإمام سيبويه وتخطئته بدليل خطأه القبيح في حديث: (لا تشد الرحال الخ..) في حمله له على منع زيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مخالفا للأمة الإسلامية، وغيره، وقد تقدم إظهار جهله فيه وفي غيره بالعربية، وبدليل ما ذكره التاج
233 السبكي في طبقاته الكبرى في ترجمة المحدث أبي الحجاج المزي، قال إنه كان بارعا في العربية نحوا وتصريفا، قال: وكان الذين يقرأوه عليه يلحنون فيردهم، وكان ابن تيمية يقرأ عليه فليحن، لكان صادقا. قول العلامة ابن حجر الهيتمي في ابن تيمية سئل عنه في فتاواه الحديثية فأجاب بقوله: ابن تيمية عبد خذله الله تعالى وأضله وأعماه وأصمه وأدله وبذل صرح الأئمة الذين بينوا فساد أحواله وكذب أقواله، ومن أراد ذل فعليه بمطالعة كلام الإمام المجتهد المتفق على إمامته وجلالته وبلوغه مرتبة الاجتهاد أبي الحسن السبكي وولده التاج والشيخ الإمام العز بن جماعة وأهل عصرهم وغيرهم من الشافعية والمالكية والحنفية. ولم يقصر اعتراضه على متأخري الصوفية بل اعترض على مثل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، والحاصل أن لا يقام لكلامه وزن بل يرمى في كل وعز وحزن يعتقد فيه إنه مبتدع ضال ومضل جاهل غال، عامله الله تعالى بعدله وأجارنا من مثل طريقة وعقيدته. وأفاض في ذكر أعيان من الصوفية طعن فيهم ثم قال: ولا زال يتتبع الأكابر حتى تمالأ عليه أهل عصره وبدعوه، بل كفره كثير منهم، وقد كتب إليه بعض أجلاء أهل عصره علما ومعرفة سنة خمس وسبعمائة: من فلان إلى شيخ الكبير العالم إمام أهل عصره = بزعمه = أما بعد، فإنا أحببناك في الله زمانا، وأعرضنا عما يقال فيك إعراض الفضل إحسانا، إلى أن ظهر لنا خلاف موجبات المحبة بحكم ما يقتضيه العقل والحس، وهل يشك في الليل عاقل إذا غربت الشمس؟، وإنك أظهرت إنك قائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله تعالى أعلم بقصدك ونيتك، ولكن الاخلاص مع العمل ينتج ظهور القبول، وما رأينا آل أمرك
234 إلا إلى هتك الأستار والأعراض باتباع من لا يوثق بقوله من أهل الأهواء والأغراض، فهو سائر زمانه يسب الأوصاف والذوات ولم يقنع بسب الأحياء حتى حكم بتكفير الأموات. ولم يكفه التعرض على من تأخر من صالحي السلف حتى تعدى إلى الصدر الأول ومن له أعلى المراتب في الفضل، فيا ويح من هؤلاء خصماؤه يوم القيامة، وهيهات أن لا يناله غضب وآنى له بالسلامة. وذكر سماعه منه تخطئة الخليفتين عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وقد تقدم، ثم قال: فيا ليت شعري من أين يحصل لك الصواب إذا أخطأ علي بزعمك كرم الله وجهه وعمر بن الخطاب؟، والآن قد بلغ هذا الحال إلى منتهاه والأمر إلى مقتضاه ولا ينفعني إلا القيام في أمرك ودفع شرك، لأنك قد أفرطت في الغي ووصل أذاك إلى كل ميت وحي، وتلزمني الغيرة شرعا الله تعالى ولرسوله ويلزم ذلك جميع المؤمنين وسائر عباد الله المسلمين بحكم ما يقوله العلماء وهم أهل الشرع، وأرباب السيف الذين بهم الوصل والقطع، إلى أن يحصل منك الكف عن أعراض الصالحين رضي الله عنهم أجمعين إ ه. وقال العلامة الهيتمي بعد هذا مباشرة: واعلم أنه خالف الناس في مسائل نبه عليها التاج السبكي وغيره، فمما خرق فيه الاجماع قوله في (علي الطلاق) أنه لا يقع عليه بل عليه كفارة يمين ولم يقل بالكفارة أحد من المسلمين قبله، وأن طلاق الحائض لا يقع، وكذا الطلاق في طهر جامع فيه، وأن الصلاة إذا تركت عمدا لا يجب قضاؤها، وأن الحائض يباح لها الطواف بالبيت ولا كفارة عليها، وأن الطلاق الثلاث يرد إلى واحدة، وكان هو قبل ادعائه ذلك نقل إجماع المسلمين على خلافه، وأن المكوس حلال لمن أقطعها، وأنها إذا أخذت من التجار أجزأتهم عن الزكاة وإن لم تكن باسم الزكاة ولا رسمها، وأن المائعات لا تنجس بموت حيوان فيها كالفأرة، وأن الجنب يصلي تطوعه بالليل، ولا يؤخره إلى أن يغتسل قبل الفجر وإن كان بالبلد، وأن شرط الواقف غير معتبر بل لو قف على الشافعية صرف إلى الحنفية وبالعكس وعلى القضاة صرف إلى الصوفية في أمثال ذلك من مسائل الأصول، مسألة الحسن والقبح التزم كل ما يرد عليها،
235 وأن مخالف الاجماع لا يكفر ولا يفسق، وأن ربنا سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا محل الحوادث تعالى الله عن ذلك وتقدس، وأنه مركب تفتقر ذاته افتقار الكل للجزء تعالى الله عن ذلك وتقدس، وأن القرآن محدث في ذات الله تعالى الله عن ذلك، وأن العالم قديم بالنوع ولم يزل مع الله مخلوقا دائما فجعله موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار تعالى الله عن ذلك. وقوله بالجسمية والجهة والانتقال وأنه بقدر العرش لا أصغر ولا أكبر تعالى الله عن هذا الافتراء الشنيع القبيح والكفر البراج الصريح وخذل متبعيه وشتت شمل معقديه. وقال إن النار تفنى، وأن الأنبياء غير معصومين، وإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا جاه له يتوسل به، وإن إنشاء السفر إليه بسبب الزيارة معصية لا تقصر الصلاة فيه وسيحرم ذلك يوم الحاجة ماسة إلى شفاعته، وإن التوراة والإنجيل لم تبدل ألفاظهما وإنما بدلت معانيهما إ ه. فإن قيل إن المحدث ابن ناصر الدمشقي المتوفى سنة 842 قد ألف مجلدا سماه: " الرد الوافر على من زعم أن من سمى ابن تيمية شيخ الإسلام كافر "، ودافع فيه عن ابن تيمية، ونفى عنه ما يذم به، وسرد فيه ستا وثمانين عالما كل قد أطرى ابن تيمية. الرد الوافر لابن ناصر الدين ليس برد وهو باطل بأربعة عشر وجها قلت: ليس برد فضلا عن كونه وافرا وهو باطل بأربعة عشر وجها: الأول: - خلوه من الركنين الأهمين، وهما المردود عليه وموضوع الرد، والتسمية واسم الراد لا يفيدان شيئا. الثاني: - تركه للركنين الأهمين يدل على أنه ليس بعالم ولا يعرف معنى الرد. الثالث: - سرده في صدره طبقات المعدلين والمجرحين من الصدر الأول إلى الذهبي التي هي خارجة عن موضوع كتابه يدل على ذلك.
236 الرابع: إطراؤه للذهبي بقوله: إمام الجرح والتعديل والمعتمد عليه في المدح والقدح، وإنه كان عالما بالتفريع والتأصيل فقيها في النظريات له دربة بمذاهب الأئمة وأرباب المقالات، خارج أيضا عن موضوع كتابه دال على غباوته. وقد صدق في إمامه الذهبي ولكنها في أحد الشقين، الجرح، وما كان الذهبي يعرف الفروع ولا الأصول فضلا عن كونه عالما بالتفريع والتأصيل، وما كان يعرف مطلق النظريات فضلا عن كونه فقيها فيها، وما كان له دربة بمذهب إمامه المطلبي، فضلا عن دبته بمذاهب الأئمة الآخرين، فضلا عن دربته بمقالات أصحاب المقالات. الخامس: إن وقف على ما قاله ابن الوردي والتاج السبكي وغيرهما في الذهبي من أنه طعن في المعاصرين له والسابقين عليه من فحول علماء الإسلام للهوى والمخالفة في الرأي فمدحه له تعصب ممقوت باطل وإن لم يقف عليه فمدحه له مبني على جهل مركب وكلاهما مصيبة. السادس: - هذا العدد الذي زعم أنهم مدحوا ابن تيمية وسموه شيخ الإسلام مفتعل من المفتتنين به. السابع: - لو صح عنهم كلهم أنهم مدحوه وسموه بذلك لا يجديه شيئا لأنه تحلية، والتحلية لا تكون إلا بعد التخلية، فيحمل اطراؤهم له على أول أمره لما كان متسترا بالسلف متظاهرا بالتنسك والعفة، ولما انكشف حاله رجع بعض ممن كان أطراه، فذمه كابن الزملكاتي وأبي حيان، ولا يجدي ابن ناصر شيئا لأنه لا يلاقي موضوع كتابه، فكان عليه أن يذكر كلام المردود عليه الذي كفر به العلماء الذين سموه شيخ الإسلام، ويحلله تحليلا علميا يظهر به فساد للالياء، ثم بعد ذلك يسرد العلماء الذين سموه بذلك إن شاء. أما صنيعه هذا فهو دال على جهله مفيد للمفكر لابن تيمية ولمن على رأيه فيه، غير مفيد للذين ينتظرون ويفهمون معنى الرد، لأنه ما زاد على أن قال لهم الذين كفرهم فلان لتسميتهم ابن تيمية شيخ الإسلام هم فلان وفلان إلى آخرهم، فتحقق بهذا إن كتابه محشو بشيئين طبقات المعدلين والمجرحين، وأسماء الذين مدحوا ابن تيمية ولا رد فيه أصلا فالرد في واد وهو في واد آخر.
237 الثامن: - مما هو مفتعل قطعا من المفتتنين بالحراني إدخاله الإمام ابن دقيق العيد في المثنين عليه، وهو باطل بوجهين: الأول: - ابن دقيق العيد توفي سنة ثلاث وسبعمائة، وابن تيمية إنما دخل مصر سنة خمس وسبعمائة. الثاني: - الكلام الذي زعم المفتعل مدح ابن دقيق العيد به ابن تيمية بعضه مؤداه الكفر وبعضه أقرب إلى ذم ابن تيمية من مدح مما يدل على منتهى غباوة المفتعل، وهاهو: (ما كنت أظن أن الله بقي يخلق مثلك)، وركاكة هذا الكلام في المبنى وفساده في المعنى يدركهما كل من له إلمام بالعلم. ولا ريب أنه صريح في تعجيز القدرة الإلهية، لأن معناه نفي ظنه خلق الله تعالى مثل فلان، ونفي ظنه ذلك تعجيز للقدرة الإلهية، وتعجيز القدرة الإلهية كفر، فيستحيل صدور هذا الكلام من أي عالم فضلا عن الإمام ابن دقيق العيد الذي تسنم فنون العلم، وزعم المفتعل أيضا أن ابن دقيق العيد سئل بعد انقضاء المجلس عن ابن تيمية فقال: (هو رجل حفظه)، فقيل له: فهلا تكلمت معه؟، فقال: (هذا رجل يحب الكلام وأنا أحب السكوت)، هذا الكلام أقرب إلى ذم ابن تيمية من مدحه، لأن الحفظة معناه كثير الحفظ ولا يلزم من كثرة حفظه قوة علمه وفهمه، والذي يحب الكلام يهذر، والمهذار يغلط كثيرا ولا بد، والذي يحب السكوت صوابه أكثر من خطئه في العادة المستمرة، رحم الله عبدا قال خيرا فغنم أو سكت فسلم. وزعم أيضا أن ابن دقيق العيد قال: (لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا العلوم كلها بين عينيه يأخذ منها ما يريد ويدع ما يريد)، وهذا باطل مستحيل صدوره من ابن دقيق العيد، فابن تيمية لا يعرف إلا علم الحديث على مجازفته في الطعن في الأحاديث التي لا توافق هواه وسوء فهمه لها، وغيره من العلوم إنما هو متهجم عليه. قال التاج السبكي: في طبقاته في ترجمة ابن دقيق العيد: " إنه كان لا يزيد في القول لجميع الناس الكبير والصغير الأمير والمأمور، على: (يا إنسان)، ما عدا الباحي وابن الرفعة، فإنه كان يقول للأول، يا إمام وللثاني: يا فقيه ".
238 التاسع: - يكذبه (وإن لم يطلع على كتب ابن تيمية) قيام علماء دمشق عليه مرارا وإفحامهم له وتضليلهم له وتسجيل ذلك عليه الذي يسارت؟ به الركبان واشتهر اشتهار الغزالة، فمحال جهله له فهو تيمي قطعا. العاشر: - يكذبه أيضا ما سجله وأثبته من مصائب ابن تيمية العلامة تقي الدين الحصني في كتابه: " دفع شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك إلى السيد الجليل الإمام أحمد ". الحادي عشر: - يكذبه أيضا كتب ابن تيمية طبعت الآن فمن تجرد عن العاطفة وتحلى بالإنصاف وطالعها كلها يجد فيها المصائب التي نسبها العلماء إليه. الثاني عشر: - المكفر كفر ابن تيمية لما اطلع على كلامه وكفر كل من سماه شيخ الإسلام، وابن ناصر الدين اشتغل بالقشور وأهمل لباب الموضوع وروحه، ولقد كان الواجب عليه أولا أن يذكر كلام ابن تيمية الذي كفره به المكفر، ويحله تحليلا علميا يبين به فساد فهم المكفر له به بيانا شافيا وثانيا يبين به أن الذين سموه شيخ الإسلام محقون في هذه التسمية. الثالث عشر: - المكفر لابن تيمية ولمن سماه شيخ الإسلام كان مع ابن ناصر الدين في دمشق، توطنها بعد القاهرة، وكان كلما عرض عليه كلام ابن تيمية كفره بمرأى ومسمع من ابن ناصر، فكان الواجب عليه للمدافعة عن الحراني أن يذهب إليه ويناظره في الكلام الذي كفر به ابن تيمية، حتى يفحمه ويبين للناس جهله وتطرفه، وهو ابن البلد والمكفر غريب طارئ عليها، ولا يطلب الطعن والنزال في الخلاء ووراء الجدران، فعدوله عن كبح تطرفه بالمناظرة إلى سرد طبقات المعدلين وسرد أسماء المادحين للحراني الخارجين عن موضوع الكتاب دليل على جبنه وإفلاسه من العلم. الرابع عشر: - لو كانت عقيدة ابن تيمية على نهج أهل الحق صحيحة مستقيمة، وكتبه خالية من التلبيس ومخالفة أهل الحق نظيفة سليمة، ومدحه أهل الأرض جميعا، ما نفعه ذلك شيئا، لأن مدحهم له لا يضمن له الصواب في الأقوال والاستقامة في الأعمال
239 وثبات قلبه على الإيمان في سائر الأزمان والأحوال والخلو من الأخلاق الذميمة المردية لغير الأنبياء من الرجال، بل مدحهم له قطع عنقه بالإعجاب الذي عن عيوب نفسه أصمه وأعماه، والازدراء لعباد الله الذي في مهوى هواه أرداه. وقد أثنى الصحابة يوم أحد على قزمان بالشجاعة فقال لهم عليه الصلاة والسلام: (أنه من أهل النار)، فتعجبوا من ذلك، فلما قال لقومه لما بشروه بالجنة: (أنها جنة من حرمل وقتل نفسه)، تحققوا صدقه عليه الصلاة والسلام. وقال الصحابة يوم خيبر لعبده صلى الله عليه وسلم الذي قتل: (هنيئا له الجنة)، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: (كان إن العبادة التي غلها لتشتعل عليه نارا). ومر صلى الله تعالى عليه وسلم على أبي هريرة ورجل من الأنصار والرجال بن عنفوة الحنفي فقال لهم: (ضرس أحدكم في جهنم مثل جبل أحد) وكان الرجال قدم في وفد بني حنيفة فأسلم وحفظ سورا كثيرة من القرآن، قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: فما زلت أنا وصاحبي الأنصاري خائفين من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغنا إن الرجال ارتد عن الإسلام واتبع مسيلمة الكذاب. المكفر لابن تيمية ولمن سماه شيخ الإسلام هو علاء الدين البخاري تلميذ العلامة السعد التفتازاني والمكفر لابن تيمية ولمن سماه شيخ الإسلام هو علاء الدين البخاري تلميذ السعد التفتازاني المتوفى بدمشق الشام سنة إحدى وأربعين وثمانمائة. تكفير العلاء البخاري أيضا لمحيي الدين ابن عربي قال السخاوي في (الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع في ترجمته): وكان ممن يقبح ابن عربي ويكفره وكل من يقول بمقاله وينهي عن النظر في كتبه، (ووصفه
240 بالزهد وإنه كانت له منزلة كبيرة عند السلطان) قال: وشرع في إبراز ذلك = أي تكفير ابن عربي =، ووافقه أكثر من حضر إلا البساطي، فإنه قال إنما ينكر الناس عليه ظاهر الألفاظ التي يقولها، وإلا فليس في كلامه ما ينكر إذا حمل لفظه على معنى صحيح بضرب من التأويل، وانتشر الكلام بين الحاضرين في ذلك. قال شيخنا وكنت مائلا مع العلاء، وإن من أظهر لنا كلاما يقتضي الكفر لا نقره عليه، وكان من جملة كلام العلاء الانكار على من يعتقد الوحدة المطلقة، ومن جملة كلام البساطي: أنتم ما تعرفون الوحدة المطلقة، فاستشاط العلاء غضبا وصاح: أنت معزول ولو لم يعزلك السلطان، = أي من القضاء لأن البساطي كان أحد القضاة الأربعة =، بل قيل أنه قال له صريحا كفرت. ثم قال السخاوي إنه دار بين شيخه ابن حجر والبساطي بعض كلام (ولم يبينه)، وإن البساطي تبرأ من مقالة ابن عربي وكفر من يعتقدها، (وذكر كلاما كثيرا حاصله أن العلاء وابن حجر كانت لهما منزلة عند السلطان قهرا بها البساطي). ثم ذكر أن العلاء انتقل إلى دمشق الشام فتوطنها وحصلت له بها حوادث، منها أنه كان يسأل عن مقالات ابن تيمية التي انفرد بها، فيجيب بما يظهر له من الخطأ فيها وينفر عنه قلبه، إلى أن استحكم أمره عنده فصرح بتبديعه ثم بتكفيره، ثم صار يصرح في مجلسه بأن من أطلق على ابن تيمية أنه شيخ الإسلام فهو بهذا الاطلاق كافر، واشتهر ذلك فانتدب حافظ الشام ابن ناصر الدين لجمع كتاب سماه: " الرد الوافر على من زعم أن من أطلق على ابن تيمية أنه شيخ الإسلام كافر "، وقال في آخر ترجمته: وكان يقول: ابن تيمية كافر، وابن عربي كافر، إ ه. استسمان السخاوي لكتاب ابن ناصر الدين دليل على أنه مثله واستسمان السخاوي لكتاب ابن ناصر الدين دليل على أنه مثله، ومن يطلع على كتابه " الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع " يجده قد طعن في كل فاضل محقق،
241 وممن طعن فيهم شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وأما السيوطي فقد جرده من الفضائل ووسمه بالرذائل، وقد علم العقلاء تبرير السيوطي عليه بالتفنن في العلوم وكثرة التآليف، بعض العلماء الرادين على ابن تيمية والمناظرين له وقد أبطلت كثيرا من فاسد كلام ابن تيمية بما لم يسبقني إليه أحد في علمي، واذكر من رد عليه وناظره من العلماء المعاصرين له والمتأخرين عنه. فممن رد عليه من الشافعية ردا محكما ونقض رسالته الحموية في الجهة العلامة شهاب الدين أحمد بن يحيى الحلبي المتوفى سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، وقد لخصت رده سابقا. وناظره العلامة محمد بن عمر بن مكي صدر الدين بن المرحل المتوفى سنة ستة عشر وسبعمائة. قال التاج السبكي في طبقاته الكبرى: وله مع ابن تيمية المناظرات الحسنة، وبه حصل عليه التعصب من أتباع ابن تيمية وقيل فيه ما هو بعيد عنه، وكثر القائل فارتاب العاقل إ ه. قلت: صدق التاج، لقد رماه ابن كثير في بدايته بالقبائح وقذفه، فالله يجازى جزاء القاذفين الأفاكين. وناظره فأفحمه العلامة كمال الدين الزملكاني المتوفى سنة سبع وعشرين وسبعمائة، ورد عليه برسالة في مسألة الطلاق وأخرى في مسألة الزيارة. ورد عليه العلامة عز الدين بن جماعة وشنع عليه. والإمام المحقق أبو الحسن السبكي رد عليه بشفاء السقام في زيارة خير الأنام، والدرة المضيئة في الرد على ابن تيمية، ونقد الاجتماع والافتراق في مسائل الإيمان والطلاق، والنظر المحقق في الحلف بالطلاق المعلق، والاعتبار ببقاء الجنة والنار، وكلها مطبوعة، توفي الإمام السبكي سنة ست وخمسين وسبعمائة.
242 والعلامة الشريف تقي الدين الحصني الدمشقي المتوفى سنة تسع وعشرين وثمانمائة ب: (دفع شبه من شبه وتمرد، ونسب ذلك إلى السيد الجليل الإمام أحمد) وهو مطبوع. والعلامة ابن حجر الهيتمي المتوفى سنة أربع وسبعين وتسعمائة ب: (الجوهر المنظم في زيارة القبر المعظم) وهو مطبوع. ورد عليه من المالكية المعاصرين له في الزيارة العلامة عمر بن أبي اليمن اللخمي الشهير بالتاج الفاكهاني المتوفى بالإسكندرية سنة أربع وثلاثين وسبعمائة ب: (التحفة المختارة في الرد على منكر الزيارة)، وقاضي القضاة العلامة محمد السعدي المصري الأخنائي المتوفى سنة خمسين وسبعمائة برسالة محكمة سماها: (المقالة المرضية في الرد على من ينكر الزيارة المحمدية) وهي مطبوعة ضمن البراهين الساطعة في رد بعض البدع الشائعة للعلامة الشيخ سلامة العزامي الشافعي المتوفى سنة تسع وسبعين وثلاثمائة وألف. ورد عليه في مسألة الطلاق العلامة عيسى أبو الروح الزواوي المتوفى بالقاهرة سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة.
243 حال محمد بن عبد الوهاب عند العلماء المعاصرين له والمتأخرين عنه تقدم في المقدمة إن أمهات عقيدته منحصرة في أربع، تشبيه الله سبحانه وتعالى بخلقه، وتوحيد الألوهية والربوبية، وعدم توقيره النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وتكفيره المسلمين، وإنه مقلد فيها كلها حمد بن تيمية، وهذا مقلد في الأولى الكرامية ومجسمة الحنابلة، مقتد بهما وبالحروبين في الرابعة، ومخترع توحيد الألوهية والربوبية الذي تفرع عنه عدم توقيره النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وتكفيره المسلمين. وقد فرق ابن تيمية تكفيره المسلمين في كتبه تلبيسا وتحت ستار الكتاب والسنة والسلف وأئمة السنة والأئمة. المزيف، وهذا صرح بتكفيرهم وجعل رأي ابن تيمية أصلا بني عليه رسائله المؤلفة في التوحيد قالوا: كان محمد بن عبد الوهاب ينهي عن الصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويتأذى من سماعها، وينهى عن الإتيان بها ليلة الجمعة، وعن الجهر بها على المنائر، ويؤذي من يفعل ذلك ويعاقبه أشد العقاب حتى أنه قتل رجلا أعمى كان مؤذنا صالحا ذا صوت حسن، نهاه عن الصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في المنارة بعد الأذان فلم ينته فأمر بقتله فقتل. ثم قال إن الربابة في بيت الخاطئة، يعني الزانية أقل إثما ممن ينادي بالصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في المنائر، ويلبس على أصحابه بأن ذلك كله محافظة على التوحيد، وأحرق دلائل الخيرات وغيرها من كتب الصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ويتستر بقوله: إن ذلك بدعة وإنه يريد المحافظة على التوحيد، وكان يمنع أتباعه من مطالعة كتب الفقه والتفسير والحديث، وأحرق كثيرا منها وأذن لكل
244 من اتبعه أن يفسر القرآن بحسب فهمه، فكان كل واحد منهم يفعل ذلك، ولو كان لا يحفظ القرآن ولا شيئا منه، وأمرهم أن يعملوا ويحكموا بما يفهمونه، وجعل ذلك مقدما على كتب العلم ونصوص العلماء. وكان يقول في كثير من أقوال الأئمة الأربعة ليست بشئ، وتارة يتستر فيقول إن الأئمة على حق ويقدح في أتباعهم الذين ألفوا وحرروا مذاهبهم فيقول إنهم ضلوا وأضلوا، وتارة يقول إن الشريعة واحدة، فما لهؤلاء جعلوها مذاهب أربعة؟، هذا مصري وشامي وهندي، يعني بذلك أكابر علماء الحنابلة وغيرهم ممن لهم تآليف في الرد عليه. فكان ضابط الحق عنده ما وافق هواه وإن خالف النصوص الشرعية وإجماع الأمة، وضابط الباطل عنده ما لم يوافق هواه وإن كان على نص جلي أجمعت عليه الأمة. قلت: هذا الذي قالوه عنه يطبقه الآن مقلدوه أتم تطبيق، ولا سيما الطعن في الأئمة وعلماء الإسلام، وادعاء الاجتهاد والتمسك بالكتاب والسنة، فإنه بضاعتهم التي تروج في سوق العامة ولا يحسنون غيرها، ما عدا الاحراق لكتب الفقه والتفسير والحديث فإنا لم نعلمه حصل منهم في بهذا العصر. نعم! يتلفون الكتب المخالفة لهواهم الرداة عليهم جزما، وما عدا الحكم بما يفهمونه فإنهم الآن يحكمون في المدن والقرى ظاهرا بمذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، وكان ينتقص النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كثيرا بعبارات مختلفة ويزعم أن قصده المحافظة على التوحيد، فمنها قوله: إنه طارش، وهو في لغة أهل نجد بمعنى الشخص المرسل من قوم إلى آخرين، فمراده أنه صلى الله تعالى عليه وسلم حامل كتب أي غاية أمره أنه كالطارش الذي يرسله الأمير أو غيره في أمر للناس ليبلغهم إياه ثم ينصرف. ومنها أنه قال: نظرت في قصة الحديبية فوجدت بها كذا وكذا كذبة إلى غير ذلك مما يشبه هذا، حتى أن أتباعه كانوا يفعلون مثل ذلك أيضا ويقولون مثل قوله، بل
245 أقبح مما يقول ويخبرونه بذلك فيظهر الرضا وربما أنهم قالوا ذلك بحضرته فيرضى به، حتى أن بعض أتباعه كان يقول: عصاي هذه خير من محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، لأنها ينتفع بها في قتل الحية ونحوها، ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم قد مات، ولم يبق فيه نفع أصلا وإنما هو طارش وقد مضى. قال بعض من ألف في الرد عليه إن ذلك كفر في المذاهب الأربعة بل هو كفر عند جميع أهل الإسلام إ ه. وقالوا أيضا: كان أخوه سليمان بن عبد الوهاب من أهل العلم فكان ينكر عليه إنكارا شديدا في كل ما يفعله أو يأمر به ولم يتبعه في شئ مما ابتدعه. وقال له يوما: كم أركان الإسلام يا محمد بن عبد الوهاب؟ فقال: خمسة، فقال له: أنت جعلتها ستة السادس من لم يتبعك فليس بمسلم هذا عندك ركن سادس للإسلام. قال له رجل يوما: كم يعتق الله كل ليلة في رمضان؟ فقال له: يعتق في كل ليلة مائة ألف وفي آخر ليلة يعتق مثل ما أعتق في الشهر كله، فقال الرجل: لم يبلغ من اتبعك عشر عشر ما ذكرت، فمن هؤلاء المسلمون الذين يعتقهم الله تعالى وقد حصرت المسلمين فيك وفيمن اتبعك؟، فبهت. ولما طال النزاع بينه وبين أخيه خاف سليمان أن يأمر بقتله فارتحل إلى المدينة المنورة وألف رسالة في الرد عليه وأرسلها له فلم ينته، وألف كثير من علماء الحنابلة وغيرهم رسائل في الرد عليه وأرسلوها له فلم ينته. وقال له رجل آخر، وكان رئيسا على قبيلة لا يقدر أن يسطو عليه، ما تقول إذا أخبرك رجل صادق ذو دين وأمانة وأنت تعرف صدقه بأن قوما كثيرين قصدوك وهم وراء الجبل الفلاني فأرسلت ألف خيال ينظرون القوم الذين وراء الجبل فلم يجدوا أثرا ولا أحدا منهم بل ما جاء تلك الأرض أحد منهم؟، أتصدق الألف أم الواحد الصادق عندك؟، فقال: أصدق الألف، فقال له الرجل: إن جميع المسلمين من العلماء
246 الأحياء والأموات في كتبهم يكذبون ما أتيت به ويزيفونه فنصدقهم ونكذبك فلم يعرف جوابا لذلك. وقال له رجل آخر: هذا الدين الذي جئت به متصل أم منفصل فقال له حتى مشايخي ومشايخهم إلى ستمائة سنة كلهم مشركون، فقال له الرجل: إذا دينك منفصل لا متصل، فعمن أخذته؟ فقال: وحي إلهام كالخضر، فقال له إذا ليس ذلك محصورا فيك، كل واحد يمكنه أن يدعي وحي الالهام الذي تدعيه. ثم قال له: إن التوسل مجمع عليه عند أهل السنة حتى ابن تيمية فإنه ذكر فيه قولين، ولم يذكر أن فاعله يكفر بل حتى الرافضة والخوارج وكافة المبتدعة يقولون بصحة التوسل به صلى الله تعالى عليه وسلم، فلا وجه لك في التكفير أصلا، فقال له محمد بن عبد الوهاب إن عمر استسقى بالعباس ولم يستسق بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم. ومقصد محمد بن عبد الوهاب بذلك أن العباس كان حيا، وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ميت فلا يستسقى به، فقال له الرجل: هذا حجة عليك.. فإن استسقاء عمر بالعباس إنما كان لإعلام الناس بصحة الاستسقاء والتوسل بغير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكيف تحتج باستسقاء عمر بالعباس وعمر هو الذي روى حديث توسل آدم بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم قبل أن يخلق؟. فالتوسل بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان معلوما عند عمر وغيره وإنما أراد عمر أن يبين للناس ويعلمهم صحة ت التوسل بغير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فبهت وتحير وبقي على عماوته إ ه. أقول: لا مقصد لمحمد بن عبد الوهاب وإنما هو كالصدأ حاك رأي إمامه ابن تيمية الذي ورطه استسقاء عمر بالعباس في الجهل مرتين، احتجاجه على منع التوسل بالجاه بالعدم، وتفرقة بين الحي فأجاز التوسل به فيما يقدر عليه، والميت فمنع التوسل به أي بجاهه وحقه وإن كان نبيا، فإلزام هذا المحاور لابن عبد الوهاب إنما يتوجه حقيقة على
247 ابن تيمية، وقد فات هذا المحاور أن يقول لابن عبد الوهاب أيضا: احتجاجك بالعدم على منع التوسل بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والصالحين من أمته تقليدا لابن تيمية فاسد، لأن عدم توسل عمر بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم في هذه القصة لا يلزم منه تكفير المتوسلين بل ولا منع التوسل به صلى الله تعالى عليه وسلم وبالصالحين من أمته، فإن العدم ليس بدليل عند جميع العقلاء، فالاحتجاج به دليل على جهل إمامك الحراني بأصول الفقه والدليل. وفاته أيضا أن يقوله له: تكفيرك للمسلمين المتوسلين تقليدا لابن تيمية، إما بنص من كتاب الله أو من سنة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم صريح عليه، وإما بإجماع، ولا نص فيهما على تكفير المتوسلين، ولا إجماع عليه، بل نصوصهما دالة على جواز التوسل، والإجماع منعقد أيضا على جوازه. فشيخك الحراني مشاقق لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم متبع غير سبيل المؤمنين. وفاته أيضا أن يقول له: منعه التوسل بجاهه صلى الله تعالى عليه وسلم وجاه الصالحين من أمته، وتفرقته بين الحي والميت فيه لا سند لهما لا فهمه الفاسد، فلو استظهرتم بالثقلين على إثباتهما عن أي واحد من السلف الذين اتخذتموهم مجنا لأهوائكم الفاسدة لم تستطيعوا، فضلا عن إثباتهما عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الذي تتشدقون باتباع سنته، فضلا عن إثباتهما من كتاب الله تعالى الذي تزعمون إنكم متمسكون به. فنحن نطالبكم ونتحداكم بإثباتهما عن واحد من هذه الثلاثة، ولاشتهار ابن عبد الوهاب وأتباعه بتكفير المتوسلين بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والصالحين اعتقد كثير من العلماء الذين لم يطلعوا على كلام ابن تيمية في التوسل أن ابن عبد الوهاب هو الشاذ عن الأمة الإسلامية فيه. وقد رد على محمد بن عبد الوهاب علماء كثيرون معاصرون له ومتأخرون عنه،
248 ولا زالت سهام الرد من علماء الإسلام مشارقة ومغاربة مسددة إليه إلى وقتنا هذا، وفي طليعة الرادين عليه المعاصرين له حنابلة الأحساء، وجميع الردود إنما تتوجه حقيقة إلى ابن تيمية. العلماء الرادون على ابن عبد الوهاب المعاصرون له والمتأخرون عنه إلى وقتنا هذا فمن الرادين عليه والناصحين له: 1 - شيخه محمد بن سليمان الكردي الشافعي بتقريظ لرسالة أخيه سليمان بن عبد الوهاب ورسالة مجموعهما في نحو ثلاثة أوراق، وقد تفرس فيه شيخه هذا أنه ضال ومضل كما تفرس فيه ذلك شيخه محمد حياة السندي ووالده عبد الوهاب. 2 - ورد عليه شيخه العلامة عبد الله بن اللطيف الشافعي بكتاب سماه: تجريد سيف الجهاد لمدعي الاجتهاد. 3 - ورد عليه العلامة عفيف الدين عبد الله بن داود الحنبلي بكتاب سماه: الصواعق والرعود في عشرين كراسا، قال العلامة علوي بن أحمد الحداد: كتب عليه تقاريظ أئمة من علماء البصرة وبغداد وحلب والأحساء وغيرهم، تأييدا له وثناء عليه، قال: ولو وقفت عليه قبل هذا ما ألفت كتابي هذا، ولخصه محمد بن بشير قاضي رأس الخيمة بعمان. 4 - ورد عليه العلامة المحقق محمد بن عبد الرحمن بن عفالق الحنبلي بكتاب عظيم سماه: تكهم المقلدين بمن ادعى تجديد الدين، رد عليه في كل مسألة من المسائل التي ابتدعها بأبلغ رد، ثم مسألة عن أشياء تتعلق بالعلوم الشرعية والأدبية بسؤالات أجنبية عن كتاب الرد أرسلها له، منها أسئلة كثيرة من علم البيان تتعلق بسورة: (والعاديات)، فعجز عن الجواب عن أقلها فضلا عن أجلها.
249 5 - ورد عليه العلامة أحمد بن علي القباني البصري الشافعي برسالة في نحو عشرة كراريس زيف بها رسالة له. 6 - ورد عليه العلامة عبد الوهاب بن أحمد بركات الشافعي الأحمدي المكي. 7 - ورد عليه الشيخ عطاء المكي برسالة سماها الصارم الهندي في عنق النجدي 8 - ورد عليه الشيخ عبد الله بن عيسى المويسي 9 - ورد عليه الشيخ أحمد المصري الأحسائي. 10 - ورد عليه عالم من بيت المقدس بكتاب سماه: السيوف الصقال في أعناق من أنكر على الأولياء بعد الانتقال. 11 - ورد عليه السيد علوي بن أحمد الحداد بكتاب سماه: السيف الباتر لعنق المنكر على الأكابر، في نحو مائة ورقة. 12 - ورد عليه الشيخ محمد بن الشيخ أحمد بن عبد اللطيف الأحسائي. 13 - ورد عليه العلامة عبد الله بن إبراهيم ميرغني الساكن بالطائف سماه: تحريض الأغبياء على الاستغاثة بالأنبياء والأولياء. 14 - قال السيد علوي بن أحمد الحداد: وقد رأيت أمام مقام إبراهيم بمكة الشيخ محمدا صالحا الزمزمي الشافعي، جمع كتابا في هذا المعنى في نحو عشرين كراسا. 15 - وقال السيد المذكور أيضا: ورأيت له وصلنا الطائف العلامة طاهرا سنبلا الحنفي ألف كتابا في ذلك سماه: الإنتصار للأولياء الأبرار. 16 - وقال السيد المذكور أيضا: ورأيت جوابات للعلماء الأكابر من المذاهب الأربعة لا يحصون من أهل الحرمين الشريفين والأحساء والبصرة وبغداد وحلب واليمن وبلدان الإسلام، نثرا ونظما، أتى إلي بمجموع رجل من آل ابن عبد الرزاق الحنابلة الذين في الزيارة والبحرين فيه رد علماء كثيرين ونحن على ظهر سفر فلم يمكني نقله فطالعته كله.
250 17 - وقال السيد المذكور أيضا: وأتى إلينا الشيخ المحدث صالح الفلاني المغربي بكتاب ضخم فيه رسالات وجوابات كلها من العلماء أهل المذاهب الأربعة الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة يردون على محمد بن عبد الوهاب بالعجب، وقد أمرنا بنسخ هذا المجلد لنا. 18 - ورد عليه العلامة السيد المنعمي لما قتل ابن عبد الوهاب جماعة لم يحلقوا رؤوسهم بقصيدة طنانة مطلعها: أفي حلق رأسي بالسكاكين والحد * حديث صحيح بالأسانيد عن جدي 19 - ورد عليه العلامة السيد عبد الرحمن من أكابر علماء الأحساء بقصيدة طنانة عدة أبياتها سبع وستون مطلعها: بدت فتنة كالليل قد غطت الافقا * وشاعت فكادت تبلغ الغرب والشرقا 20 - ورد عليه العلامة السيد علوي بن الحداد بكتاب سماه: مصباح الأنام وجلاء بالظلام، في رد شبه البدعي النجدي التي أضل بها العوام، وهو مطبوع بالمطبعة العامرة سنة 1325 وما تقدم من التآليف مذكور فيه. 21 - ورد أخيه سليمان بن عبد الوهاب عليه المسمى ب: الصواعق الإلهية مطبوع. 22 - ورد العلامة المحقق شيخ الإسلام بتونس إسماعيل التميمي المالكي المتوفى سنة 1248 وهو في غاية التحقيق والإحكام نقض به رسالة لابن عبد الوهاب مطبوع في تونس. 23 - ورد العلامة المحقق الشيخ صالح الكواش التونسي وهو رسالة مسجعة محكمة نقض بها رسالة لابن عبد الوهاب مطبوع ضمن سعادة الدارين في الرد على الفرقتين. 24 - ورد العلامة المحقق السيد داود البغدادي الحنفي جيد مطبوع. 25 - ورد الشيخ ابن غلبون الليبي على قصيدة الصنعائي التي مدح بها ابن عبد
251 الوهاب بقصيدة طنانة من بحرها ورويها مذكورة في سعادة الدارين عدة أبياتها أربعون بيتا مطلعها: سلامي على أهل الإصابة والرشد * وليس على نجد ومن حل في نجد 26 - ورد السيد مصطفى المصري البولاقي أيضا على قصيدة الصنعاني التي مدح بها ابن عبد الوهاب بقصيدة طنانة من بحرها ورويها مذكورة في سعادة الدارين عدة أبياتها مائة وستة وعشرون مطلعها: بحمد ولي الحمد لا الذم استبدي * وبالحق لا بالخلق للحق استهدي 27 - ورد السيد الطباطبائي البصري أيضا على قصيدة الصنعاني التي مدح بها ابن، عبد الوهاب بقصيدة طنانة من بحرها ورويها ذكر صاحب سعادة الدارين أبياتا منها وسهام هذه القصائد الصائبة هي التي أرجعت الصنعاني إلى كتيبة أهل الحق فقال: " رجعت عن القول الذي قلت في النجدي ". 28 - سعادة الدارين في الرد على الفرقتين الوهابية ومقلدة الظاهرية، للعلامة الشيخ إبراهيم السمنودي المنصورين المتوفى في العقد الثاني من هذا القرن وهو مطبوع في مجلدين 29 - رد مفتي مكة السيد أحمد دحلان المتوفى سنة (1304) المسمى " الدرر السنية " مطبوع. 30 - رد الشيخ يوسف النبهاني المسمى " شواهد الحق في التوسل بسيد الخلق " مطبوع في مجلد. 31 - رد جميل صدقي الزهاوي البغدادي المسمى " الفجر الصادق " مطبوع. 32 - إظهار العقوق ممن منع التوسل بالنبي والولي الصدوق للشيخ المشرفي المالكي الجزائري. 33 - ألف العلامة المرحوم مفتي فاس الشيخ المهدي الواز؟ ني رسالة في جواز التوسل رد بها على محمد عبده الذي منع ذلك.
252 34 - رد الشيخ مصطفى الحمامي المصري المسمى " غوث العباد ببيان الرشاد " مطبوع. 35 - رد الشيخ إبراهيم حلمي القادري الإسكندري المسمى " جلال الحق في كشف أحوال أشرار الخلق " جيد مطبوع في الإسكندرية سنة 1355. 36 - رد العلامة الشيخ سلامة العزامي المتوفى سنة 1379 المسمى " البراهين الساطعة " جيد مطبوع. 37 - النقول الشرعية في الرد على الوهابية للشيخ حسن الشطي الحنبلي الدمشقي مطبوع. 38 - رسالة له أيضا في تأييد مذهب الصوفية والرد على المعترضين عليهم مطبوعة. 39 - رسالة في حكم التوسل بالأنبياء والأولياء للشيخ محمد حسنين مخلوف مطبوعة. 40 المقالات الوفية في الرد على الوهابية للشيخ حسن خزبك مطبوعة. 41 - الأقوال المرضية في الرد على الوهابية رسالة صغيرة للشيخ عطا الكسم الدمشقي. وردود أهل السنة عليهم نظيفة خالية من السب والتكفير عكس ردودهم فإنها مملوءة بذلك، وقد رأيت قصيدة لرجل منهم يقال له ابن سحمان مات قريبا هجا بها الشيخ إبراهيم من الشيخ عبد اللطيف آل مبارك التميمي المالكي الأحسائي منتصرا لصديق حسن خان القنوجي. ولا يستغرب منهم هذا فإنها البضاعة التي ورثوها من إمامهم الحراني لا بد لهم منها لنسد الفراغ ولا يلجأ إليها إلا من يعوزه العقل والعلم ووقاره. 42 - وقد ورد بقصيدة طنانة من بحرها ورويها العلامة الشيخ عبد العزيز القرشي العلجي المالكي الأحسائي المتوفى بعد الستين من هذا القرن عدة أبياتها 95 ومطلعها:
253 ألا أيها الشيخ الذي بالهدى رمى * سترجع بالتوفيق خظا ومغنما ومن يك مسعاه النفيس لربه * سعى النصر في مسعاه أيان يمما مقالات العلامة الدجوي في الرد على التيميين في التوسل 43 - وأحسن وأجود من كتب في الرد عليهم في مسألة التوسل بالأنبياء والصالحين في عصرنا هذا العلامة المرحوم الشيخ يوسف الدجوي سلسلة مقالات نشرت في مجلة الأزهر حين كانت تسمى نور الإسلام أذكرها بتصرف فيها. حكم التوسل بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم س: نرجو من فضيلتكم التكرم بإزاحة الستار عن موضوع اهتزت له الآراء ونطاحت من أجله الجماعات رغبة في تمكين عرى العقيدة التي أقلقت بال الكثير وهذا الموضوع هو التوسل بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الله تعالى فقد تكلم في هذا الموضوع الكثير وذهبوا فيه مذاهب شتى حتى أن بعضهم يقول إنه إشراك.. الخ. ج: إن التوسل بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم جائز ونافع وكان ينبغي ألا يكون فيه شبهة وقد ورد في الأحاديث الصحيحة = كما ستقف عليه = عندما نفيض القول فيه بعد ولكن (نغيث) أولئك الملهوفين (الذين توسلوا إلينا) بكلمة موجزة تأتي على الموضوع إجمالا ونرجئ القول في التفصيل وبيان الأدلة إلى عدد آخر فنقول: إن تلك الطائفة ارتكبت شططا وكفرت المسلمين لأوهى الأسباب غلطا، والتكفير أمر كبير لا يصح لمسلم يشفق على دينه أن يقدم عليه خصوصا للمستدلين والمتأولين،
254 وإني لا أدري كيف يكفرون من يقول: إن الله خالق كل شئ، وبيده ملكوت كل شئ، وإليه يرجع الأمر كله، والمتوسل ناطق بهذا في توسله، فإن المتوسل إلى الله تعالى بأحد أصفيائه قائل إنه لا فاعل إلا الله، ولم ينسب إلى من توسل به فعلا ولا خلقا، وإنموا أثبت له القربة والمنزلة عند الله تعالى، وهي ثابتة لا شك فيها، وبها يشفع صلى الله تعالى عليه وسلم للخلائق يوم القيامة، وبهذا الاعتقاد الراسخ الذي يكاد يكون فطريا في النفوس كلها ذهبت الخلائق يوم القيامة إلى الأنبياء والمرسلين ليشفعوا لهم عند الله تعالى، على أن المؤمن قد خرج من تلك الوساوس بمقتضى إيمانه بأن الله تعالى ليس له شريك، وأن لا إله إلا هو، حتى أننا لو رأيناه أسند شيئا لغير الله عز وجل، علمنا بمقتضى إيمانه إنه من الإسناد المجازي لا الحقيقي. وقد قررنا ذلك في نحو قوله (أنبت الربيع البقل) وفرقنا بين صدوره من المؤمن وصدوره من الكافر فالمستغيث لا يعتقد أن المستغاث به من الخلق مستقل في أمر من الأمور غير مستمد من الله تعالى أو راجع إليه، وذلك شئ مفروغ منه، ولا فرق في ذلك بين الأحياء والأموات، فإن الله خالق كل شئ ولا تأثير عندنا لشئ في شئ بنفسه فهذا هو ما عليه جماعة أهل الحق. وقد قال تعالى: (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر)، وقال تعالى: (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه)، وقال تعالى: (فارزقوهم منه) الخ ما هو في الكتاب والسنة، وهو كثير في لسان الشرع ومعروف في بديهة الفطرة. وأعجب العجب أنهم لا يتحاشون الإسناد إلى الجمادات ولا يمتنعون منه فيقولون: أرواني الماء وأشبعني الخبز ونفعني الدواء، فإذا سمعوا مثل ذلك الإسناد إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قامت قيامتهم وتبجح سفهاؤهم، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، وإنا نسألهم: (وهم أكثر الناس تراميا على الناس) هل تعتقدون إن من تسألونه في قضاء حاجاتكم خالق مع الله مستقل؟، فإذا اعتقدتم ذلك كنتم أولى بالإشراك، وإن قلتم إننا نذهب إليه ونسند له الفعل والإعطاء والمنع على سبيل المجاز والتسبب فإن الله تعالى جعله
255 من الأسباب التي يجري عندها الخير ويخلقه، قلنا لكم إننا كذلك فلا فرق بيننا وبينكم، وإن فرقتم بين الأحياء والأموات قلنا لا فرق فإن الفاعل في كل ذلك هو الله تعالى لا الحي ولا الميت، وإذا كان المتوسل في الحقيقة إنما توسل بمنزلة المتوسل به عند الله تعالى، والفاعل هو الله عز وجل لم يكن هناك معنى للتفرقة بين الحي والميت فإن منزلته ميتا كمنزلته حيا، على أن تلك التفرقة لا ينبغي صدورها من مؤمن فضلا عن عالم فإن الأرواح بعد موتها باقية مدركة فاهمة على نحو ما كانت عليه في حياتها أو أشد، ولذلك يتساءلون عن الأحياء ويفرحون ويحزنون بما يكون منهم ويدعون لهم إلى آخر ما جاء في السنة. وقد دعا آدم عليه الصلاة والسلام غيره لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة المعراج، وقد شرع لنا أن نخاطبهم خطاب الحاضر المشاهد في قولنا: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين) ونخاطب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في كل صلاة بقولنا: (السلام عليك أيها النبي)، وتعرض أعمالنا عليه صلى الله تعالى عليه وسلم فإن وجد خيرا حمد الله تعالى وإن وجد شرا استغفر لنا، بل تعرض أعمالنا على آبائنا وأهلينا كما جاء في السنة، وقد رأي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم موسى عليه الصلاة والسلام يصلي في قبره ورآه في السماء السادسة وراجعه صلى الله تعالى عليه وسلم في أمر الصلاة وذكر له حال أمته، وقد بلغنا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم السلام عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقد اجتمعت الأنبياء في بيت المقدس ليلة المعراج وخطبوا وقالوا وفعلوا، وسمع بعض الصحابة ذلك الميت الذي ضرب خباءه على قبره يقرأ سورة الملك الخ ما جاء في السنة الغراء. وقد أثبت ابن تيمية، وهو مرجعهم الوحيد ومؤسس مذهبهم، كرامات الأولياء في كتبه، وكذلك ابن القيم، وهو من أئمتهم، أثبت في كتاب الروح أن الروح القوية كروح أبي بكر رضي الله تعالى عنه ربما هزمت جيشا إلى آخر ما قال، وكذلك الشوكاني، وهو من أئمتهم أيضا، أثبت جواز التوسل به صلى الله تعالى عليه وسلم بل بغيره من الأولياء والعلماء ورد على من قال يقصر الجواز عليه صلى الله عليه وسلم (كالعز بن عبد السلام) فإن المدرك فيه واحد، وهو مزية المتوسل به وقربه ومنزلته عند الله، وإن كان
256 الشوكاني متناقضا وغالطا في التطبيق في أشياء كثيرة، على أنه لا يتخبط تخبط هؤلاء ولا يجهل جهلهم. وقد أثبت التبرك بالآثار في نيل الأوطار، وعلى كل حال فلا يتم مذهبهم إلا إذا أثبتوا أن من نادى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو توسل به فقد جعله إلها مع الله. فإن قالوا إن ذلك من لوازم النداء والاستغاثة، قلنا لهم إنكم إذا أول المشركين وأكبر الضالين، فإنكم أكثر الناس استغاثة بالمخلوق، وقد قلنا ذلك إلزاما ليجعلوا الإيمان قرينة على ما يصدر من المؤمن، وليس يتم لهم مذهب أيضا إلا إذا قالوا: إن الأرواح قد فنيت بالموت وكذبوا الكتاب والسنة التي أثبتت الحياة للأرواح كلها (حتى أرواح الكفار كما في حديث القليب وغيره) أو قالوا إنها باقية لكن ضاعت منزلتها عند الله تعالى ولا تستطيع أن تدعو الله تعالى في أمر من الأمور، أو سلبت منها قوتها وجميع مواهبها فلا يمكنها أن تعمل شيئا وكذبوا بذلك صرائح ما جاء عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والسلف الصالح اتباعا لوساوسهم، فإذا قالوا ذلك وحالفوا المعقول والمنقول كانوا أجهل الجاهلين وأضل الضالين، ولا نطيل معهم القول في هذه العجالة بأكثر من هذا وإنا والله نحب أن يكون المؤمنون إخوة كالبنيان يشد بعضه بعضا قائلين: (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم)، اسأل الله تعالى أن يزيل الشحناء والبغضاء التي نحلق الدين من قلوب المسلمين وأن يرشد إخواننا المخالفين إلى ما فيه الخير والهدى، وألا يجعلهم فتنة للناس بمنه وكرمه، يوسف الدجوي من هيئة كبار العلماء بالأزهر. التوسل وجهلة الوهابيين كتبنا في العدد الثامن كلمة موجزة في التوسل بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وحذرنا غلاة الوهابية ومن حذا حذوهم من تكفير المسلمين وقلنا لهم إن التكفير أمر عظيم لا ينبغي لمن يشفق على دينه أن يسارع إليه وذكرنا من الأدلة على جوازه ما يخضع له المنصف ولا يماري فيه إلا الجاهل المتعسف، فجاءتنا رسائل من جهلة الوهابيين كلها
257 سب وإقذاع وليس فيها غير ذلك ولا غرو، فسلاح السفهاء بذاءة اللسان لا قوة البرهان. وإني أبادر فأقول: إن كل ما يجد القارئ في مقالي هذا من كلمة لاذعة فإنا لا نقصد بها إلا سفهاءهم وأراذلهم، وحاشا أن نقصد منهم عاقلا أو كاملا، فإن سبق القلم بغير ذلك فهو على غير قصد منا وإنما جرنا إليه جهل الجاهلين وجمود الجامدين: وجرم جره سفهاء قوم * فحل بغير جانيه البلاء وقد خيل لأولئك السفهاء أنهم سينسفون الحق وأهله بسفاهتهم التي لا تزيدهم عندنا إلا صغارا واحتقارا، ولا نقيم لها وزنا وإن تفننوا فيها، وكم في كلامنا من إشارات لم يفهموها ورموز لم يدروا المراد منها وإن ظنوا أنهم مبرزون فيما يكتبون. إن العصافير لما قام قائمها * توهمت أنها صارت شواهينا ويعز علي أن أقول: إن مجلة أم القرى: (وإنا نحترمها كل الاحترام) كان فيها مقال طويل الذيل من هذا القبيل، وللحق والإنصاف نقول إنه جاءنا رسالة من بعض المكيين تحت إمضاء (ا. د) سلك فيها الكاتب مسلك الأدب، ولم يقذع أقذاع أولئك الزعانف، وربما نشرناها وعلقنا عليها تحقيقا للحق وإبطالا لباطل. أما اليوم فنقول: ليعلم القارئ الكريم أن إسناد الفعل تارة يكون لكاسبه كفعل فلان كذا وتارة يكون لخالقه كفعل الله كذا، والكل حقيقة في اللسان العربي، وقد جاء ذلك في القرآن الشريف: (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) و (من يهد الله فهو المهتدي) ومع هذا فقد قال: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) وهو كثير معروف. فإن منع أولئك الجهال الإسناد على وجه الاكتساب فهم مجانين، وإن ادعوا أن الواقع في كلام الناس هو الإسناد للخالق لا للكاسب فهي دعوى كاذبة لم يقم عليها برهان، وقد استباحوا بها دماء المسلمين جهلا وضلالا، ومن منع الإسناد على وجه الكسب سقطت مخاطبته وانقطع الكلام معه.
258 فمثلا: الغوث من الله خلق وإيجاد، ومن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تسبب وكسب، وهذا على فرض إننا طلبنا الغوث منه صلى الله تعالى عليه وسلم مع أننا لم نفعل ذلك، ولو فعلناه لصح على طريق التسبب والاكتساب بطلب الدعاء منه عليه الصلاة والسلام وقد قالت أم إسماعيل عندما سمعت الصوت (أغث إن كان عندك غواث) فأسندته إليه على سبيل الكسب، فكيف يجوز مع هذا تكفير المسلمين واستباحة دمائهم وأموالهم بالتوسل والاستغاثة؟ (حتى على اصطلاحهم الذي نوافقهم على والنزاع في معان لا في ألفاظ). وقد جاء في الحديث الصحيح: (من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه)، وقد قال الله تعالى: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا): فإذا كان هذا في رجل لم يكن منه إلا مجرد السلام الذي هو تحية المسلمين. فكيف بمن يتجاسر على خيار الأمة المحمدية ويكفرهم بالتوسل بالأنبياء والصالحين بشبه أوهى من بيت العنكبوت؟، (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين). ومن المقرر أن اليقين لا يزول بالشك وأنه يؤول للمسلم من وجه إلى سبعين وجها = كما نص عليه النووي وغيره من العلماء =، ولست أدري هل يأخذ هؤلاء بظواهر العبارات أم بالمقصود منها؟، فإن كان التعويل عندهم على الظواهر كان قول القائل: (أنت الربيع البقل، وأرواني الماء، وأشبعني الخبز) شركا وكفرا. وإن كانت العبرة بالمقاصد والتعويل على ما في القلوب التي تعتقد أنه لا خالق إلا الله، وإن الإسناد لغيره إنما هو لكونه كاسبا له أو سببا فيه، لا لكونه خالقا له، لم يكن شئ من ذلك كله كفرا ولا شركا، ولكن القوم متخبطون، خصوصا في التفرقة بين الحي والميت على نحو ما يقولون (كأن الحي يصح أن يكون شريكا لله دون الميت) أو كأن الأرواح تستمد قوتها وسلطانها من الأشباح لا العكس، ولكنهم ليسوا أهل منطق ولا برهان.
259 ثم انضم إلى ذلك الصلف المذموم والكبرياء الممقوت، فبماذا نخاطبهم وعلى أي قاعدة نحاورهم؟، ولكننا نكتب لغيرهم عسى أن نقيه شر سمومهم التي ينفثونها فيما يكتبون، تبعا لأسلافهم مطبقين الآيات التي نزلت في الكفار على المسلمين، مع أن الشاذ عن جماعة المسلمين أولى بالتكفير منهم وأقرب إلى الخطأ والضلال. وهل يرضون أن نقول لهم إنكم مخالفون لسلف الأمة وخلفها اتباعا لمن قبلكم؟. ثم نطبق عليكم قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا)، (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله)، (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله). وعندنا من ذلك شئ كثير، وهل لنا أن نأخذ بظاهر هذا الحديث؟ وهو أصح مما تأخذون به فنقول: إنكم كفرتم عندما رميتم المسلمين بالكفر، أو نقول إنكم من أولئك الذين يحقر أحدنا صلاته بجنب صلاتهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، أو نقول إنكم من أولئك الخوارج الذين قال فيهم عبد الله بن عمر = كما في صحيح البخاري = " أنهم عمدوا إلى آيات نزلت في المشركين فجعلوها في المسلمين "، أو نطبق عليكم قوله عليه الصلاة والسلام في أسلافكم الحروريين: (يقتلون أهل الإيمان ويتركون أهل الأوثان)، أو نقول: (ولا نريد إلا أولئك الفظاظ الغلاظ الجامدين الجاهلين)، إنكم أعداء الله حيث أثبتم له الجهة وشبهتموه بخلقه. وأعداء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حيث لم توقروه ولم تراعوا حرمته، وأعداء أولياء الله حيث حقرتموهم كل التحقير، وأعداء جميع المسلمين حيث استحللتم دماءهم وأموالهم حتى قتل أطفالهم من نبات وبنين وذلك شئ نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم مع أكفر الكفرة وأفجر الفجرة إلى آخر فظائعكم وشنائعكم. فيا أيها الناس اتقوا الله في المسلمين، فنحن أحوج إلى الوئام والاتحاد أمام العدو
260 الذي أجمعنا جميعا على كفره وعداوته، بل اتقوا الله في أنفسكم، واعلموا أن النفس أمارة بالسوء وإن من اتبع هواه ضل عن سبيل الله ولو سلكنا مسلككم واتبعنا خطتكم وقابلنا السيئة بالسيئة لقلنا لمن يريد نصحكم = ونحن يائسون منكم =: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا؟، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون؟ إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا)، وعلى نهجكم كان يمكننا أن نسير ولكن ديننا أعز علينا من أعراضنا التي نهشتموها ودمائنا التي استبحتموها، ولعمر الله لقد صيرتم الإسلام بذلك نارا مضطرمة على وجه الأرض لا دين يسر وسلام كما جعله الله، بل صار دين جهالة وجمود مع أن نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم). وإنا لنعلم أن الفرق الضالة كلها تستدل بالقرآن على نحلها ونزعاتها، فلا يغرنكم ما تستدلون به من الآيات في غير محل الاستدلال مطبقين إياها على المسلمين خطأ وجها = كما فعل أسلافكم = فإن ذلك لا يغني عنكم من الله شيئا. والناجي من نجاه الله تعالى: (من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا). ولا أدري لماذا قامت قيامتكم؟، وقد قلنا نعتقد في توسلنا إن الله هو الفاعل، ولسنا نطلب من غيره فعلا ولا عملا، ولكن نسأله بمنزلة النبي عنده، وتلك المنزلة ثابتة له في الدنيا والآخرة، وبها نذهب إليه للشفاعة يوم القيامة وذكرنا وجوها أخرى هي في غاية الوضوح لا داعي لا عادتها، وسنفيض بعد فيما يقنع المناظر ويقحم المكابر، فما ذلك الشرك الذي شغفتم بذكره؟، وما ذلك التكفير الذي جننتم برمي المسلمين به؟. وسنذكر من أدلة التوسل ما يلقمكم الحجر ونبين لكم أن آية: (وإن استنصروكم في الدين)، ما ذكرناها إلا لما قاله بعض أئمتكم وستسمعونه بعد، ولأننا لا نستبعد منكم شيئا مما يعقل ولا يعقل، ولأن التفرقة بين الأحياء والأموات في هذا المقام غير صحيحة، فإن الطلب من الله والفعل لله لا من المستغاث به على أنه يستطيع أن ينفعنا بدعائه على ما نوضحه أتم توضيح.
261 ولنقتصر على هذا ونورد لكم شيئا عن الأرواح وعلمها بعد الموت مما قاله ابن القيم، وشيئا عن التوسل مما قاله الشوكاني، = وهما من أئمة الوهابية الذين يرددون كلامهم في كل موطن =، بل ما تراه لهم من علم أو ما يشبه العلم، فإنما هو لابن تيمية وابن القيم والشوكاني واحدا بعد واحد كالببغاء أو كالحاكي للصوت (الفنوغراف)، وليتهم كان لديهم من الأمانة (ما للفنوغراف) وهذا هو كلام ابن القيم في الأرواح بعد موتها: عمل الأرواح بعد الموت قال ابن القيم في كتاب الروح: إن للأرواح المطلقة من أسر البدن وعلائقه وعوائقه في التصرف والقوة والنفاذ والهمة وسرعة الصعود إلى الله تعالى والتعلق به سبحانه وتعالى ما ليس للروح المهينة المحبوسة في علائق البدن وعوائقه بسبب انغماسها في شهواتها. فإذا كان هذا في عالم الحياة الأرضية، وهي محبوسة في بدنها، فيكف إذا تجردت عنه وفارقته؟ واجتمعت فيها قواها وكانت في أصل نشأتها روحا عالية زكية كبيرة ذات همة عالية، فهذه لها بعد مفارقة البدن شأن آخر وفعل آخر. وقد تواردت الرؤى في أصناف بني آدم على فعل الأرواح بعد الموت أفعالا لا تقدر على مثلها حال اتصالها بالبدن في هزيمة الجيوش الكثيرة بالواحد، والفيالق بالعدد القليل جدا ونحو ذلك، وقد رؤي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما في النوم، وقد هزمت أرواحهم عساكر الكفر والظلم، فإذا بجيوشهم مغلوبة مكسورة مع كثرة عددهم وضعف المؤمنين وقلتهم، هذا ما قاله ابن القيم، فانظر فيه مع ما يقول هؤلاء ولا تنس أنه ليس لهم علم ولا شبه علم إلا ما يقوله ابن تيمية وابن القيم، وإنهم قاصرو الاطلاع كما أنهم قاصرو العقل.
262 التوسل في رأي الشوكاني وقال الشوكاني = وهو عندهم معتبر =: قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض فتاواه ما لفظه: (والاستغاثة بمعنى أن يطلب من الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيه مسلم، ومن نازع في هذا المعنى فهو إما كافر وإما مخطئ ضال). أقول: فليكن النزاع فيما هو اللائق به وما يقدر عليه وفيما لا يليق به ولا يقدر عليه، ولا شك أنه قادر على أن يدعو لنا وهو في البرزخ = كما قال في الحديث الذي ستعلم صحته =: (تعرض علي أعمالكم فإن وجدت خيرا حمدت الله وإن وجدت شرا استغفرت لكم) ولنرجع إلى تتميم كلام الشوكاني، قال الشوكاني: (وأما التشفع بالمخلوق فلا خلاف بين المسلمين أنه يجوز طلب الشفاعة من المخلوقين فيما يقدرون عليه من أمور الدنيا)، = هذا ما قاله =. وإني أكرر لفت نظرك إلى أنه يجب أن يكون البحث إذا في تحقيق ما يقدر عليه وما لا يقدر عليه، وقد علمت أنه قادر على أن ينفعنا وهو في البرزخ بدعائه كما كان في الدنيا، فليكن محل النزاع هو كونه قادرا أو غير قادر، على أنه لا وجه للشرك على كل حال. ثم قال الشوكاني وفي سنن أبي داود أن رجلا قال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: إنا نستشفع بالله عليك ونستشفع بك على الله، فقال: (شأن الله أعظم من ذلك إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه)، فأقروه على قوله ونستشفع بك على الله، وأنكر عليه قوله: نستشفع بالله عليك إلى أن قال: وأما التوسل إلى الله سبحان بأحد من خلقه في مطلب يطلبه العبد من ربه، فقد قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام:
263 إنه لا يجوز التوسل إلى الله تعالى إلا بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، إن صح الحديث فيه، ولعله يشير إلى الحديث الذي أخرجه النسائي في سننه والترمذي في صحيحه وابن ماجة وغيرهم، أن أعمى أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أصبت في بصري، فادع الله لي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (توضأ وصل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد يا محمد إني أستشفع بك في رد بصري اللهم شفع النبي في)، وقال: (فإن كان لك حاجة فمثل ذلك)، فرد الله بصره، وإني ألفت نظرك إلى قوله: (فإن كان لك حاجة فمثل ذلك). ثم قال الشوكاني: وعندي أنه لا وجه لتخصيص جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم = كما زعمه الشيخ عز الدين بن عبد السلام = لأمرين: الأول = ما عرفناك به من إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم. والثاني - أن التوسل إلى الله بأهل الفضل والعلم هو في التحقيق توسل بأعمالهم الصالحة ومزاياهم الفاضلة، إذ لا يكون الفاضل فاضلا إلا بأعماله. فإذا قال القائل: اللهم إني أتوسل إليك بالعالم الفلاني فهو باعتبار ما قام به من العلم، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حكى عن الثلاثة الذين دخلوا الغار فانطبقت عليهم الصخرة إن كل واحد منهم توسل إلى الله بأعظم عمل عمله فارتفعت الصخرة، فلو كان التوسل بالأعمال الفاضلة غير جائز أو كان شركا كما يزعمه المتشددون في هذا الباب كابن عبد السلام ومن قال بقوله من أتباعه لم تحصل الإجابة من الله لهم ولا سكت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن إنكار ما فعلوه بعد حكايته عنهم، وإني أرجوك أن تمعن النظر في جعله ابن عبد السلام متشددا مع قوله بجواز التوسل به صلى الله تعالى عليه وسلم، غاية الأمر أنه قصر ذلك عليه. ثم قال الشوكاني: وبهذا تعلم أن ما يورده المانعون للتوسل إلى الله تعالى بالأنبياء والصالحين من نحو قوله تعالى: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)، ونحو قوله تعالى: (فلا تدعوا مع الله أحدا)، ونحو قوله تعالى: (له دعوة
264 الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ) ليس بوارد، بل هو من الاستدلال على محل النزاع بما هو أجنبي عنه. فإن قولهم (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) مصرح بأنهم عبدوهم لذلك، والمتوسل بالعالم مثلا لم يعبده بل علم أن له مزية عند الله بحمله العلم فتوسل به لذلك. وكذلك قوله تعالى: (فلا تدعوا مع الله أحدا) فإنه نهى أن يدعى مع الله غيره، كأن يقول يا الله يا فلان، والمتوسل بالعالم مثلا لم يدع إلا الله، وإنما وقع منه التوسل إليه بعمل صالح عمله بعض عباده، كما توسل الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة بصالح أعمالهم. وكذلك قوله تعالى: (والذين يدعون من دونه) الآية فإن هؤلاء دعوا من لا يستجيب لهم، ولم يدعوا ربهم الذي يستجيب لهم، والمتوسل بالعالم مثلا لم يدع إلا الله ولم يدع غيره دونه ولا دعا غيره معه، فإذا عرفت هذا لم يخفف عليك دفع ما يورده المانعون للتوسل من الأدلة الخارجة عن محل النزاع. إلى أن قال: والمتوسل بنبي من الأنبياء أو عالم من العلماء لا يعتقد أن لمن توسل به مشاركة لله جل جلاله في أمر، ومن اعتقد هذا لعبد من العباد سواء كان نبيا أم غير نبي فهو في ضلال مبين. وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله تعالى: (ليس لك من الأمر شئ)، (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا)، فإن هاتين الآيتين مصرحتان بأنه ليس لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أمر الله شئ، وأنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فكيف يملك لغيره؟، وليس فيهما منع التوسل به أو بغيره من الأنبياء والأولياء والعلماء. وقد جعل الله لرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم المقام المحمود مقام الشفاعة العظمى وأرشد الخلق إلى أن يسألوه ذلك ويطلبوه منه وقال له: (سل تعط واشفع تشفع).
265 إلى أن قال: وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم لما نزل قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين، يا فلان بن فلان لا أملك لك من الله شيئا، يا فلانة بنت فلان لا أملك لك من الله شيئا فإن هذا ليس فيه إلا التصريح بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لا يستطيع نفع من أراد الله ضره ولا ضر من أراد الله نفعه، وأنه لا يملك لأحد من قرابته فضلا عن غيرهم شيئا من الله تعالى، وهذا معلوم لكل مسلم وليس فيه إلا يتوسل به إلى الله تعالى، فإن ذلك هو طلب الأمر ممن له الأمر وإنما أراد الطالب أن يقدم بين يدي طلبه ما يكون سببا للإجابة ممن هو متفرد بالعطاء والمنع، هذا كلام علمائهم الذين يقدمونهم على علماء المذاهب الأربعة، على أن لهم مع هذا شذوذا لا نوافقهم عليه في كثير من المواضع، ولكن أتباعهم الذين لم يتذوقوا العلم إلا منهم ولا يتشدقوا بما يشبه الحق إلا بفضل كتبهم التي لا يستقون الدين والهدى إلا منها وليس وراءها لديهم علم ولا دين يجب عليهم ألا يخالفوهم في ورد ولا صدر، وأن يكون كلامهم حجة عليهم، كما كان الحجة لهم. ويكفي هذا اليوم، وسنذكر من الأدلة الصحيحة الصريحة ما يدل على أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يجوز التوسل به قبل وجوده وبعد في الدنيا وفي البرزخ وفي عرصات القيامة. وقد وعدناهم في كلمتنا الأولى بذكر الأدلة وتمام التفصيل ولكنهم قوم لا يفقهون، وكثيرا ما تراهم إذا أرادوا أن يردوا علينا أو على غيرنا قرروا مذهبهم (ونحن أعرف به منهم) متخيلين أن الأدلة يرد عليها بالدعاوى غير المبرهنة. وحيث عجزوا عن الاستدلال، فلنتبرع نحن بإقامة الأدلة على فساد كل دعاويهم، (حتى دعوى التفرقة بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية) وإن كان عجز المدعي عن إثباتها كافيا في سقوطها، فلينتظروا ما يخزيهم في الأعداد المقبلة إن شاء الله تعالى. يوسف الدجوي من هيئة كبار العلماء
266 التوسل وجهلة الوهابيين قلنا في العدد السابق: إنه لا بأس أن نتوسل بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ونستغيث به في حياته وبعد مماته، لأن التوسل إنما هو بمنزلته عند الله، وهي ثابتة له في الدنيا والآخرة، والمطلوب منه هو الله تعالى، على أنا لو طلبنا من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتشفع لنا عنده تعالى لصح عقلا ونقلا، فإنه يمكنه وهو في البرزخ أن يسأل الله لنا كنا كان يسأله في حياته. وقد قلنا إن الأرواح بعد الموت باقية فاهمة مدركة، بل نقلنا عن إمامهم ابن القيم إن للروح بعد مفارقة الجسد أعمال تعملها (في هذا العالم) لا يمكنها أن تعملها حال اتصالها بالبدن إلى آخر ما نقلناه عنه، وهو معقول جدا، فإن الأرواح لم تستمد قوتها من الأشباح حتى تذهب قواها وخصائصها بمفارقتها، بل الأشباح هي التي تستمد حياتها وأفاعيلها من الأرواح، فما هذا الاشتباه الذي أدى إلى قلب الحقائق ومصادمة المعقول والمنقول؟، على أن تخصيص الجواز بالحي دون الميت أقرب إلى إيقاع الناس في الشرك، فإنه يقتضي أن للحي فعلا يستقل به دون الميت، فأين هذا من قولنا إن الفعل في الحقيقة لله لا للحي ولا للميت؟. ومن أمعن النظر في كلامهم لم يفهم منه إلا مذهب المعتزلة في الأحياء ومذهب الذين يئسوا من أصحاب القبور في الأموات، وعلى كل حال فالغفلة عن الفاعل الحقيقي وتخيل أن الفاعل غيره أظهر في الأحياء منه في الأموات. وقد نقلنا لك كلام الشوكاني = وهو من أئمتهم = في التوسل ورده على العز ابن عبد السلام في تخصيص جواز ذلك بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقال: إنه لا فرق بينه وبين غيره. ولنقل على سبيل التنزل عسى أن ينقطع النزاع بيننا وبينهم: لماذا لا تجعلون التوسل بالولي أو النبي توسلا بعمله الصالح؟ فإنك تتوسل بالولي من حيث هو ولي
267 مقرب إلى الله تعالى وما تقرب إليه إلا بما أحبه من صالح الأعمال. وسؤال الله بالأعمال الصالحة مجمع على جوازه منا ومنكم، وستسمعون أكثر من هذا " ولنذكر لكم عبارة ابن قدامة = وهو من كبار الحنابلة الذين أنتم على مذهبهم = وقد قال فيه ابن تيمية: إنه لم يدخل الشام بعد الأوزاعي أفضل منه، فلعله يحرك منكم الإنصاف أو يذكركم بمذهبكم إن كان لكم مذهب = كما تدعون =، نريد أن نحاكمكم إلى العقل تارة وإلى ما قاله الشوكاني وابن القيم وأئمة الحنابلة تارة أخرى، وليت شعري هل يفيد شئ من هذا؟: (بكل تداوينا فلم يشف ما بنا). وقد قال الله في حق قوم أشربوا في قلوبهم التعصب والعناد: (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا). وسر ذلك كما بين الله إنهم كانوا يتكبرون في الأرض بغير الحق، وأي تكبر أعظم من تكبر من يحتقر جميع المسلمين ويعتقد أن لا ناجي غيره؟، ولكنا نكتب لغير جهلة الوهابيين كي نقيه من عدواهم، وللمنصفين منهم كي يرجعوا إلى الحق. أما عبارة ابن قدامة الحنبلي في مغنيه الذي هو من أجل كتب الحنابلة أو أجلها على الاطلاق فهاك نصها: قال في صفة زيارته صلى الله تعالى عليه وسلم في صفحة (590) من الجزء الثالث: تأتي القبر فتولي ظهرك للقبلة، وتستقبل وسطه وتقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه. إلى أن قال: اللهم أجزعنا نبينا أفضل ما جازيت به أحد من النبيين والمرسلين وابعثه المقام المحمود الذي وعدته يغبطه به الأولون والآخرون، إلى أن قال: اللهم إنك قلت وقولك الحق: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم
268 الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) وقد أتيتك مستغفرا من ذنوبي مستشفعا بك إلى ربي، فانظر إلى استشفاعه به وهو في قبره الذي يحرم الوهابيون شد الرحال إلى زيارته، وأظن أنهم لا يجر أون على التفرقة بين الاستشفاع والتوسل وإن كنا لا نستبعد منهم ما يعقل وما لا يعقل، كما نعتقد أنهم لا يفهمون ما يفهمه الناس من أن الزائر يستغفر والرسول يستغفر أيضا وهو في البرزخ، وإلا فلا معنى لإيراد هذه الآية ولا بعد في استغفاره بعد موته. فقد ورد في الحديث الصحيح: (تعرض علي أعمالكم) أي بعد الموت (فإن وجدت خيرا حمدت الله وإن وجدت شرا استغفرت لكم)، وقد أطال المناوي وغيره في تصحيح هذا الحديث. فأنت ترى إثبات الاستغفار لنا بعد وفاته صلى الله تعالى عليه وسلم؟؟ الحديث، وفي شرح المقنع المطبوع مع المغني صفحة 495 مثله بالحرف وفيه زيادة على ذلك نصها: روى الدارقطني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: (من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي)، وفي رواية: (من زار قبري وجبت له شفاعتي) إ ه. والدارقطني من أعظم المحدثين تحريا وأكثرهم تشددا في الحديث. وقد وافق على حديث الزيارة كغيره من الحفاظ النقاد كما بينه السبكي في شفاء السقام بما لا مزيد عليه. فهذا كلام الحنابلة الأول المتبعين لمذهب الإمام أحمد المتمسكين بسنة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومحبته كسائر علماء المذاهب. ولنذكر لك بعد هذا شيئا مما وعدنا به من أدلة التوسل من السنة الصحيحة فنقول: جواز التوسل وحسنه معلوم لكل ذي دين، وكأنه مركوز في الفطر الإنسانية أن يتوسل إلى الله بأنبيائه وأصفيائه والمقربين لديه، ولذلك يذهب الناس إلى الأنبياء كي
269 يشفعوا لهم لمنزلتهم عنده تعالى، وإن كان الله أقرب إليهم من حبل الوريد، واتباع كل نبي كانوا يتوسلونه إلى الله بذلك النبي. وقد ثبت التوسل به صلى الله تعالى عليه وسلم قبل وجوده وبعد وجوده في الدنيا وبعد موته في مدة البرزخ، وبعد البعث في عرصات القيامة، أما التوسل به قبل وجوده فيدل له ما أخره الحاكم وصححه ولم يتعقبه الذهبي في كتابه الذي تعقب به الحاكم في مستدركه. وقد صح عن مالك الإمام أيضا على ما رواه القاضي عياض في الشفاء أن آدم عليه الصلاة والسلام لما أكل من الشجرة توسل إلى الله بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال له: من أين عرفت محمدا ولم أخلقه فقال: وجدت اسمه مكتوبا بجنب اسمك فعلمت أنه أحب الخلق إليك، فقال الله: إنه لأحب الخلق إلي وإذ توسلت به فقد غفرت لك، وقال مالك للمنصور وقد سأله: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فقال له الإمام مالك: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك إلى الله ووسيلة أبيك آدم يشير إلى ذلك الحديث. وقال المفسرون في قوله تعالى: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا): إن قريظة والنضير كانوا إذا حاربوا مشركي العرب استنصروا عليهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان فينتصرون عليهم، وهو مروي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما، فأنت تراهم سألوا الله به قبل وجوده. وأما التوسل به بعد وجوده في حياته فلا أظن أن أحدا يماري فيه، فقد كانوا يذهبون إليه في كل شدة إذا أجدبوا أو نزلوا منزلا فلم يجدوا به ماء، وعندما يمسهم ضرا أو كرب مما لا يسعنا الإفاضة فيه الآن، وإن أنكره منكر ملأنا له الدنيا أدلة وبراهين، وإن سموا بعضه استغاثة فلا ضرر فإنه يثبت المطلوب بالطريق الأولى ويرد عليهم على كل حال، والنزاع ليس في ألفاظ وعبارات = كما قلنا في العدد السابق =، ولكن نسوق لك الآن حديثا صحيحا أخرجه الترمذي وصححه والنسائي والبيهقي والطبراني بأسانيد صحيحة = اعترف بها الحفاظ (حتى الشوكاني).
270 رووا جميعا بن عثمان بن حنيف رضي الله تعالى عنه أن رجلا أعمى جاء إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو جلوس معه، فشكا إليه ذهاب بصره فأمره بالصبر، فقال ليس لي قائد، وقد شق علي فقد بصري، فقال له: (ائت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قل اللهم إني أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي لتقضى لي اللهم شفعه في) في وفي رواية (فإن كان لك حاجة فمثل ذلك)، قال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرق بنا المجلس حتى دخل علينا بصيرا كأنه لم يكن به ضر، هذا هو الحديث الصحيح الصريح الذي يقطع النزاع. ولكن السخيف المتعصب لا يعدم خيالا فاسدا وكلاما فارغا، وقد قال الله تعالى (وكان الإنسان أكثر شئ جدلا) فلننتظر حتى يتخيل. وإني ألفت نظرك إلى قوله عليه الصلاة والسلام (فإن كان لك حاجة فمثل ذلك وإلى ندائه صلى الله وسلم وهو غائب، ونداء الأموات شرك عند الوهابيين). وأما التوسل به بعد وفاته فيمكننا أن نستدل عليه بهذا الحديث، فإن قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (فإن كان لك حاجة فمثل ذلك) صريح في جوازه بلا قيد ويدل له أيضا ما رواه الطبراني والبيهقي والترمذي بسند صحيح بن عثمان بن حنيف رضي الله تعالى عنه أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان زمن خلافته في حاجة له فكان له يلتفت إليه، فرجا عثمان بن حنيف أن يكلمه في شأنه، فعلمه الدعاء المذكور فتوضأ وصلى ثم دعا به كما علمه، ثم جاء إلى باب عثمان فأخذه الخادم وأدخله عليه فأجلسه بجانبه على الطنفسة ثم قضى حاجته وقال له: وإذا عرضت لك حاجة فأتنا، فلما قابل الرجل عثمان ابن حنيف قال له: جزاك الله خيرا، وما كان ينظر في حاجتي حتى كلمته فيها، فقال له: والله ما كلمته ولكني كنت مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فدخل علمه أعمى وذكر الحديث. هذا وقد توسل صلى الله تعالى عليه وسلم بالأنبياء بعد موتهم كما في الحديث الصحيح، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، وكانت ربت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
271 دخل عليها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فجلس عند رأسها ثم قال: رحمك الله يا أمي بعد أمي وذكر ثناءه عليها، ثم كفنها ببردته وأمر بحفر قبرها، قال: فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيده، وأخرج ترابه بيده فلما فرغ دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فاضطجع فيه ثم قال: (الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ووسع لها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين) = أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط وابن حبان والحاكم بسند صحيح =. وروى ابن أبي شيبة عن جابر رضي الله تعالى عنه مثل ذلك، وروي مثله ابن عبد البر عن ابن عباس رضي الله عنهما ورواه أبو نعيم في الحلية عن أنس رضي الله تعالى عنه. ثم نقول: إنهم كانوا يتبركون بآثاره صلى الله تعالى عليه وسلم وبعد موته، فقد ثبت أنه كان له صلى الله تعالى عليه وسلم جبة عند أسماء بنت أبي بكر كانوا يستشفون بها، ولا معنى لهذا إلا أنهم كانوا يتوسلون بآثاره إلى الله تعالى فيشفيهم ببركتها، والتوسل يقع على وجوه كثيرة لا على وجه واحد = كما يفهمه هؤلاء =، أفتراهم يتوسلون بآثاره ولا يتوسلون به، وفي الباب شئ كثير لعلنا نذكره بعد. أما توسل عمر بالعباس حين استسقى به دون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلكون ذلك هو سنة الاستسقاء ولكون العباس من ذوي الحاجات للمطر، أو لكون عمر أراد أن يبين للناس أنه يجوز التوسل بغيره صلى الله تعالى عليه وسلم لفضله أو لقرابته منه عليه الصلاة والسلام، أو لخوفه على ضعفاء المسلمين وعوامهم إذا تأخر المطر بعد التوسل، أو ليدلهم على أن التوسل بالمفضول جائز مع وجود الفاضل وإلا فعلي أفضل من العباس وكذا عمر، على أن البيهقي في دلائل النبوة أخرج ما يأتي، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن مالك الدار خازن عمر رضي الله عنه قال: أصاب الناس قحط في زمان عمر فجاء رجل قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال يا رسول الله: استسق الله لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتاه رسول الله تعالى عليه وسلم في المنام،
272 فقال: ائت عمر فاقرأه السلام واخبره أنهم مسقون وقل له عليك الكيس الكيس، فأتى الرجل عمر فأخبره فبكى عمر رضي الله عنه، ثم قال: يا رب ما آلوا إلا ما عجزت عنه، ومحل الاستشهاد في هذا الأثر طلبه الاستسقاء من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد موته وإقرار عمر إياه على ذلك. هذه وأحب أن تتذكر ما قلناه من أن المسؤول هو الله تعالى لا فاعل غيره ولا خالق سواه، وإنما نسأله بمنزلة حبيبه لديه ومحبته له، وذلك شئ ثابت لا يتغير في الدنيا ولا في الآخرة ومن شك في منزلته صلى الله تعالى عليه وسلم عند ربه جل وعلا فقد كفره على أن قول عمر بمحضر من الصحابة إنا نتوسل إليك بعم نبيك يدل على جواز التوسل بالمنزلة وإلا لم يكن له معنى، وأي حاجة إليه إذا كان المقصود دعاء العباس؟، أما التوسل به في عرصات القيامة فلا حاجة للإطالة فيه فإن أحاديث الشفاعة بلغت مبلغ التواتر، وفيها أن الناس يذهبون إلى الأنبياء يطلبون منهم الشفاعة إلى آخر ما هو معروف. والخلاصة: أنه مما لا شك فيه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم له عند الله قدر علي ومرتبة رفيعة وجاه عظيم، فأي مانع شرعي أو عقلي يمنع التوسل به؟، فضلا عن الأدلة التي تثبته في الدنيا والآخرة، ولسنا في ذلك سائلين غير الله تعالى ولا داعين إلا إياه، فنحن ندعوه بما أحب أيا كان، فتارة نسأله بأعمالنا الصالحة لأنه يحبها، وتارة نسأله بمن يحبه من خلقه كما في حديث آدم السابق وكما في حديث فاطمة بنت أسد الذي ذكرناه، وكما في حديث عثمان بن حنيف المتقدم، وتارة نسأله بأسمائه الحسنى كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (أسألك بأنك أنت الله) أو بصفته أو فعله كما في قوله في الحديث الآخر: (أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك) وليس مقصورا على تلك الدائرة الضيقة = كما يعتقد الجاهلون =، وسر ذلك أن كل ما أحبه الله صح التوسل به، وكذا كل من أحبه من نبي أو ولي وهو واضح لدى كل ذي فطرة سليمة ولا يمنع منه عقل ولا نقل بل تضافر العقل والنقل على جوازه، والمسؤول في ذلك كله الله وحده لا شريك له لا النبي ولا الولي الحي ولا الميت: (قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا).
273 وإذا جاز السؤال بالأعمال، فبالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أولى، لأنه أفضل المخلوقات، والأعمال منها، والله أعظم حبا له صلى الله تعالى عليه وسلم من الأعمال وغيرها. وليت شعري ما المانع من ذلك؟، واللفظ لا يفيد شيئا أكثر من أن للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم قدرا عند الله تعالى، والمتوسل لا يريد غير هذا المعنى، ومن ينكر قدره عند الله فهو كافر كما قلنا، ولو كنا مثلهم نأخذ بالظنة ونسارع إلى تكفير المسلمين لأمكننا أن نقول لهم: إن من لا يعرف قدر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أولى بالإشراك ممن عرفه، ومن استباح دماء المسلمين أقرب إلى الضلال ممن استبرأ لدينه وعرضه. وبعد فمسألة التوسل تدور على عظمة المسؤول به ومحبته، فالسؤال بالنبي إنما هو لعظمته عند الله أو لمحبته إياه، وذلك مما لا شك فيه، على أن التوسل بالأعمال متفق عليه منا ومنهم، فلماذا لا نقول إن من يتوسل بالأنبياء أو الصالحين هو متوسل بأعمالهم التي يحبها الله تعالى؟، وقد ورد بها حديث أصحاب الغار فيكون من محل الاتفاق، ولا شك أن المتوسل بالصالحين إنما يتوسل بهم من حيث إنهم صالحون فيرجع الأمر إلى الأعمال الصالحة المتفق على جواز التوسل بها كما قلنا في صدر المقالة. يوسف الدجوي من هيئة كبار العلماء التوسل والاستغاثة لا تزال الرسائل ورادة علينا بشأن التوسل طلبا للتوضيح والإسهاب، وقد ذكر بعض مرسليها إن من الناس من يكفر المتوسلين برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذي سنتوسل به جميعا يوم القيامة على ما نطقت به الأحاديث الصحيحة، ولو قالوا إن في المسألة تفصيلا أو أن بعض العبارات التي يقولها المتوسلون أو الزائرون ينبغي التحاشي عنها وتعليمهم ما يصح أن يقولوه في توسلهم أو عند زيارتهم، لقبلنا منهم ذلك وشكرناهم عليه، ولكنهم أفرطوا كل الافراط فرأينا أن نفيض القول في ذلك، فلعلنا بزيادة التقرير والتكرير نزيل تلك العقيدة التي هي أخطر شئ على الإسلام والمسلمين، ولنجعل الكلام معهم في مقامين حتى نفحمهم بالمعقول والمنقول فنقول:
274 الكلام معهم من جهة الدليل العقلي وما نضطر إليه من الدليل النقلي: قبل الحوض في الموضوع نشترط عليهم أن يصبروا صبر المرتاضين بصناعة المنطق العارفين بقوانين المناظرة، فلا يخرجوا عن الفرض الذي نفرضه حتى نتم الكلام فيه، وأن يعرفوا موضوع البحث فلا ينتقلوا عنه إلى غيره وسنفرض الفروض كلها ثم نبطلها واحدا واحدا، ولينظروا حتى لا يختلط المعقول بالمنقول ولا المنقول بالمعقول وسنوفي كلا حقه إن شاء الله تعالى وعسى أن لا يكونوا بعد ذلك ممن يسلم المقدمات وينازع في النتيجة فنقول: هؤلاء إن كانوا يمنعون التوسل والاستغاثة ويجعلونهما شركا من حيث إنهما توسل واستغاثة، فاستغاثة المظلوم بمن يرفع ظلمه إذا شرك، واستغاثة الرجل بمن يعينه في بعض شؤونه شرك، واستغاثة الملك بجيشه في الحروب شرك، واستغاثة الجيش بالملك فيما يصلح أمره شرك، بل نقول يلزمهم على هذا الفرض إن طلب المعونة من أرباب الحرف والصنائع التي لا غنى للناس عنها شرك، وطلب المريض للطبيب شرك، بل يلزم بناء على تلك الكليات التي تقتضيها الحيثية إن استغاثة الرجل الإسرائيلي بسيدنا موسى عليه الصلاة والسلام وإجابته إياه كما قال تعالى: (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه)، شرك، إلى غير ذلك مما لا يقول به عاقل فضلا عن فاضل. هذا كله إن كانوا يقولون إنها شرك من حيث إنها استغاثة بغير الله تعالى كما فرضنا، فإن قالوا إن الاستغاثة والتوسل بالأموات شرك دون الأحياء، قلنا لهم: لا معنى لهذا بعد أن سلمتم إن الاستغاثة بغير الله من الأحياء ليست بشرك، وبعد ما ورد به القرآن ووقع عليه الاجماع في كل زمان ومكان، ولا معنى لأن يكون طلب الفعل من غير الله شركا تارة وغير شرك تارة أخرى، فإن فيه نسبة الفعل لغير الله على كل حال، وأن قالوا إننا لا نعتقد التأثير الذاتي للحي، فإن وجد ذلك الاعتقاد فيه كان شرعا وإلا فلا، قلنا: فلا فرق إذا بين الأحياء والأموات فتفرقتكم بين الحي والميت تحكم لا دليل عليه من العقل ولا من النقل.
275 فلو استظهرتم بالثقلين على إثباتها عن السلف الذين جعلتموهم مجنا لأهوائكم الفاسدة لم تستطيعوا فضلا عن إثباتها عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فضلا عن إثباتها من كتاب الله، وإن كان مناط المنع هو تلك السببية الظاهرة التي تفهم من ظواهر الألفاظ، وجب أن يكون ذلك كله شركا، حتى طلب الرجل من أخيه أن يعينه في الحمل على دابته أو بناء داره أو حفر نهره إلى غير ذلك كما أوضحنا في الفرض الأول، فإن قالوا إننا ننسب تلك الأفعال والتأثيرات إلى الأحياء معتقدين أن الخلق والإيجاد ليس إلا الله تعالى وأن الحي ليس له إلا الكسب. قلنا كذلك من يطلب من الأموات أو يتوسل بهم، والقرآنية فيهما واحدة وهو إيمانه بأن الله بيده ملكوت السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله وإن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا خالق غيره ولا موجد سواه، وإن كان سر المنع عندهم هو أن الميت لا يقدر على شئ مما طلب منه فنقول لهم: أولا لا يلزم من ذلك أن يكون الطلب شركا بل عبثا فقط، والاستغاثة بالأحياء أقرب إلى الشرك منه بالأموات، لأنها أقرب إلى اعتقاد تأثيرهم في الاعطاء والمنع بمقتضى الحس والمشاهدة لولا نور الإيمان وساطع البرهان ثانيا - تقول لهم ما معنى قولكم إن الميت لا يقدر على شئ وما سره وباطنه عندكم، إن كان ذلك لكونكم تعتقدون أن الميت صار ترابا جسما وروحا، فما أضلكم في دينكم وما أجهلكم بما ورد عن نبيكم بل عن ربكم من ثبوت حياة الأرواح وبقائها بعد مفارقة الأجسام، ولو كانت أرواح الكفار، فمناداة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لرؤساء قريش في بدر: (يا عمرو بن هشام ويا عتبة بن ربيعة ويا فلان بن فلان إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم). فقيل له صلى الله عليه وسلم تخاطب قوما جيفوا فقال: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) في السنة أشهر من نار على علم، ومناداته صلى الله عليه وسلم لأهل القبور ومخاطبته لهم فيها كذلك، وعذاب القبر ونعيمه مما تواتر في الشريعة الإسلامية، قرآنا وسنة، وإثبات المجئ والذهاب إلى الأرواح إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة التي جاء بها الإسلام وأثبتتها الفلسفة قديما وحديثا.
276 ولنقتصر هنا على هذا السؤال: أيعتقدون أن الشهداء أحياء عند ربهم كما نطق القرآن بذلك أم لا؟ فإن لم يعتقدوا فلا كلام لنا معهم، لأنهم كذبوا القرآن حيث يقول: (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون)، (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون)، وإن اعتقدوا ذلك فنقول لهم: إن الأنبياء وكثير من صالحي المسلمين الذين ليسوا بشهداء كأكابر الصحابة أفضل من الشهداء بلا شك، فإذا ثبتت الحياة للشهداء فثبوتها لمن هو أفضل منهم أولى، على أن حياة الأنبياء مصرح بها في الأحاديث الصحيحة. وقد رأى صلى الله تعالى عليه وسلم موسى عليه الصلاة والسلام يصلي في قبره، ورآه في السماء السادسة وأمره بالرجوع إلى ربه، وطلب التخفيف لما فرض الله عليه وعلى أمته خمسين صلاة في اليوم والليلة مرارا حتى صارت خمسا. ورأى في تلك الليلة أيضا آدم وإبراهيم ويحيى وعيسى ويوسف وهارون عليهم الصلاة والسلام فهذا كله يثبت حياة الأرواح وأنه لا شك فيها. فإذا نقول حيث ثبتت حياة الأرواح بالأدلة القطعية التي قدمنا بعضها فلا يسعنا إلا إثبات خصائصها، فإن ثبوت الملزوم يوجب ثبوت اللازم كما أن نفي اللازم يوجب نفي الملزوم كما هو معروف. وأي مانع من الاستغاثة بها والاستمداد منها كما يستعين الرجل بالملائكة في قضاء حوائجه، أو كما يستعين الرجل بالرجل، وأنت بالروح لا بالجسم إنسان، وتصرفات الأرواح على نحو تصرفات الملائكة لا تحتاج إلى مماسة ولا آلة فليست على نحو ما يعرف من قوانين التصرفات عندنا فإنها من عالم آخر،: (ويسئلونك عن الروح قبل الروح من أمر ربي)، وماذا يفهمون من تصرف الملائكة أو الجن في هذا العالم؟ ولا شك أن الأرواح لها من الاطلاق والحرية ما يمكنها من إجابة من يناديها
277 وإغاثة من يستغيث بها كالأحياء سواء بسواء، بل أشد وأعظم. وقد ذكرنا لك فيما سبق عن ابن القيم أن الأرواح القوية كروح أبي بكر وعمر ربما هزمت جيشا إلى آخر ما ذكرناه، فإن كانوا لا يعرفون إلا المحسوسات ولا يعترفون إلا بالمشاهدات فما أجدرهم أن يسموا طبيعيين لا مؤمنين، على أننا نتنزل معهم ونسلهم لهم أن الأرواح بعد مفارقة الأجساد لا تستطيع أن تعمل شيئا، ولكن نقول لهم: إذا فرضنا ذلك وسلمناه جدلا فلنا أن نقرر أنه ليست مساعدة الأنبياء والأولياء للمستغيثين بهم من باب تصرف الأرواح في هذا العالم على نحو ما قدمنا، بل مساعدتهم لمن يزورهم أو يستغيث بهم بالدعاء لهم كما يدعو الرجل الصالح لغيره، فيكون من دعاء الفاضل للمفضول أو على الأقل من دعاء الأخ لأخيه، وقد علمت أنهم أحياء يشعرون ويحسون ويعلمون، بل الشعور أتم والعلم أعم بعد مفارقة الجسد لزوال الحجب الترابية وعدم منازعات الشهوات البشرية. وقد جاء في الحديث: إن أعمالنا تعرض عليه صلى الله تعالى عليه وسلم فإن وجد خيرا حمد الله وإن وجد غير ذلك استغفر لنا. لنا أن نقول إن المستغاث به والمطلوب منه الإغاثة هو الله تعالى، ولكن السائل يسأل متوسلا إلى الله بالنبي أو الولي في قضاء حاجته، فالله هو الفاعل والسائل سأله تعالى ببعض المقربين لديه الأكرمين عليه فكأنه يقول: أنا من محبيه (أو محسوبيه) فارحمني لأجله، وسيرحم الله كثيرا من الناس يوم القيامة لأجل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وغيره، من الأنبياء والأولياء والعلماء بالشفاعية. وبالجملة فإكرام الله لبعض أحباب نبيه لأجل نبيه بل بعض العباد لبعض أمر معروف غير مجهول، فمن ذلك الذين يصلون على الميت ويطلبون من الله أن يكرمه ويعفو عنه لاحلهم بقولهم:
278 وقد جئناك شفعاء فشفعنا فيه، ومن ذلك أيضا إكرام الغلامين اليتيمين باستخراج الكنز من تحت جدارهما لصلاح أبيهما. ومن ذلك أيضا إلحاق الذرية الناقصين في الأعمال بدرجات آبائهم الكاملين فيها. والمقصود من ذلك كله إثبات أن الله يرحم بعض العباد ببعض على أن توجه الإنسان إلى النبي أو الولي والتجاءه إليه تحس به روح النبي والولي تمام الاحساس وهو كريم ذو وجاهة عند الله تعالى. وقد قال تعالى في كليمه موسى عليه الصلاة والسلام: (وكان عند الله وجيها)، وقال تعالى في عيسى عليه الصلاة والسلام: (وجيها في الدنيا والآخرة)، فتعتني تلك الروح بذلك الملتجئ أشد الاعتناء في تسديده وتأييده والدعاء له هي والملائكة الذين يجلونها يحبون مسرتها ورضاها. والأنبياء والأولياء محبوبون للملائكة بدليل قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبدا نادى جبريل في السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه) إلى آخر الحديث وإن الملائكة عليهم الصلاة والسلام لتقول للذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا: (نحسن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة)، كما نص على ذلك القرآن الشريف، وذلك سر التوجه إلى الأولياء وزيارتهم لتتنبه أرواحهم لحال الزائر وتلتفت إلى معونته بما أعطاهم الله تعالى من الخصائص، كما تنفع أخاك بما أعطاك الله من قوة أو وجاهة أو مكانة أو ثروة أو أعوان أو أنصار إلى آخره، وإن الإنسان هو هو في الدنيا والآخرة من حيث روحه التي هي باقية في العالمين، وليس الإنسان إنسانا إلا بها كما شرحنا والأمر جلي، (ولكنها الأهواء عمت فأعمت). ولنرجئ تتميم المقام الثاني، فربما طال الكلام فيه لعدد آخر إن شاء الله تعالى. والخلاصة: أن المستغيث لا يكفر إلا إذا اعتقد الخلق والإيجاد لغير الله تعالى، والتفرقة بين الحي والميت لا معنى لها، فإنه إن اعتقد الايجاد لغير الله كفر، على خلاف
279 للمعتزلة في خلق الأفعال وإن اعتقد التسبب والاكتساب لم يكفر، وأنت تعلم أن غاية ما يعتقد الناس في الأموات هو أنهم متسببون ومكتسبون كالأحياء، لا أنهم خالقون موجدون كالإله، إذ لا يعقل أن يعتقد فيهم الناس أكثر من الأحياء وهم لا يعتقدون في الأحياء إلا الكسب والتسب، فإذا كان هناك غلط فليكن في اعتقاد التسبب والاكتساب لأن هذا هو نهاية ما يعتقده المؤمن في المخلوق كما قلنا وإلا لم يكن مؤمنا، والغلط في ذلك ليس كفرا ولا شركا، ولا نزال نكرر على مسامعك أنه لا يعقل أن يعتقد في الميت ذلك ليس كفرا ولا شركا، ولا نزال نكرر على مسامعك أنه لا يعقل أن يعتقد في الميت أكثر مما يعتقد في الحي، فيثبت الأفعال للحي على سبيل التسبب ويثبتها للميت على سبيل التأثير الذاتي والإيجاد الحقيقي، فإنه لا شك أن هذا مما لا يعقل. فغاية أمر هذا المستغيث بالميت بعد كل تنزل أن يكون كمن يطلب العون من المقعد غير عالم أنه مقعد، ومن يستطيع أن يقول إن ذلك شرك؟، على أن التسبب مقدور للميت وفي إمكانه أن يكتسبه كالحي بالدعاء لنا، فإن الأرواح تدعو لأقاربها كما في الحديث الشريف إذ بلغهم عنهم ما يسوءهم فيقولون: (اللهم راجع بهم ولا تمتهم حتى تهديهم) بل الأرواح يمكنها المعاونة بنفسها كالأحياء، ويمكنها أن تلهمك أو ترشدك كالملائكة إلى غير ذلك على ما شرحناه، وكثيرا ما انتفع الناس برؤيا الأرواح في المنام ولعلنا نعود إليه. يوسف الدجوي من هيئة كبار العلماء التوسل والاستغاثة جاءنا خطاب مطول بإمضاء: (مسلم بمكة)، أطال فيه صاحبه وأعاد وأبدى وأكثر وكرر ظنا منه أنه أتى بالقواصم، وقد ألح في طلب الإجابة حتى قال في آخر: (يا فضيلة الشيخ أرجوك وأناشدك الله الذي لا إله إلا هو إلا ما حققت هذا الموضوع وأنصفت فيه). ونحن نلخص ما جاء فيه من الأسئلة معرضين عما فيها من غمز مشوب بأدب وتعريض نسامحه فيه فنقول وبالله التوفيق:
280 س - هل جاء في السنة أن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم علم الناس أن يسألوا الصالحين من الأموات ويطلبوا منهم الدعاء؟ أرجو أن تذكروا ولو حديثا واحدا الجواب: ونحن نقلب عليه السؤال أولا فنقول: هل جاء في السنة أن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم نهى الناس عن أن يسألوا الصالحين ويطلبوا منهم الدعاء؟، أرجو أن تذكر لنا ولو حديثا واحدا. وثانيا نقول له: إن جواز الأشياء لا يتوقف على ورود الأمر بها بل على عدم النهي عنها كما هو معروف ومقرر في علم الأصول، فكل ما لم يرد فيه نص بالحظر فهو مباح. وقد علمنا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في سنته الصحيحة أن ما أمرنا به فعلنا ولم نتركه وما نهى عنه اجتنبناه ولم نفعله وما سكت عنه فهو عفو. فهذه هي قواعد العلم الذي يعرفه العلماء. وأما شبهة الموت فهي واهية لأنكم فيها بين أمرين: إما أن تنكروا إدراك الأموات وعلمهم ودعاءهم وسماعهم، وإما أن تقروا بذلك. فإن أنكرتموه ملأنا لكم الدنيا أدلة وبراهين على ثبوت ذلك لهم مثل دعاء آدم وإبراهيم وغيرهما من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة المعراج كما في الصحيحين وغيرهما، وكما في حديث: (تعرض علي أعمالكم فإن وجدت خيرا حمدت الله وإن وجدت غير ذلك استغفرت لكم) وكما في حديث عرض أعمال الأحياء على الأموات ودعائهم لهم. وقد ذكره ابن تيمية نفسه في فتاويه واعترف به ابن القيم كل الاعتراف وقرره أتم التقرير. ومن محاسن المصادفات في هذا ما يقرره الأوروبيون الآن مما يوافق ذلك، وقد
281 قرره قبلهم بعشرات القرون الفلاسفة الأقدمون مثل أفلاطون وغيره من الفلاسفة، فالمسألة متفق عليها بين علماء الدين وعلماء الدنيا، أو نقول بين المسلمين وغير المسلمين، أو نقول بين أهل الأثر والنقل، وبين أهل الفلسفة والعقل، أما إذا اعترف الوهابيون بأن للأموات إدراكا وعلما وسماعا وأنهم يدعون ويردون السلام إلى غير ذلك، كما ورد في السنة ثم منعوا طلب ذلك منهم كانوا متناقضين، أو نقول كانوا ممن يسلم المقدمات وينازع في النتيجة، أو ممن يقطع اللوازم عن ملزوماتها وهو مما لا يقول به عاقل فضلا عن فاضل، على أننا ذكرنا في ذلك ما يقطع الشغب من أصله والمراء من أسه، وذلك هو الحديث الصحيح الذي رويناه عن عثمان بن حنيف في التوسل به في حياته صلى الله تعالى عليه وسلم وبعد مماته وقد قال فيه: يا محمد: اشفع لي عند ربك، ولا معنى لشفاعة إلا الدعاء الذي يكون منه صلى الله تعالى عليه وسلم. وفي الحديث الصحيح: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وفي حديث آخر: بحق نبيك والأنبياء قبله، فالتوسل بالصالحين والدعاء ثابت وواقع. وقد قلنا في بعض ما كتبناه، لا معنى لكون هذا شركا = كما يقوله الوهابيون =، فإن الحي إذا طلب من الميت الذي هو حي بروحه متمتع بلوازم الحياة وخصائصها فإنما يطلب منه على سبيل التسبب والاكتساب لا على سبيل الخلق والإيجاد، لأنه ليس من المعقول أن يرفعه عن رتبة الحي، وهو إذا طلب من الحي فإنما يطلب منه على هذا الوجه لا على جهة الخلق والإيجاد، والطلب من المخلوق على سبيل التسبب ليس شركا ولا كفرا، فلا معنى لتكفير المسلمين بذلك. ولو فرضنا أن الميت لا عمل له، فإن خطأ المنادي أو المستغيث على هذا الفرض إنما هو في اعتقاد السببية لا الألوهية، واعتقاد السببية في غير الله ليس هو اعتقاد الإلهية كما يظنه الجاهلون، وقد عرفت مما قدمناه أنه ليس غلطا أيضا وإنما الغالطون هم الوهابيون، وإن كان التوسل بمنزلة عند الله فالأمر واضح، لأن الموت لا يغير المنزلة عند الله تعالى.
282 س: هل الرسول صلى الله عليه تعالى عليه وسلم أهمل نوعا من التوسل إلى الله تعالى أو ترك شيئا مما يقرب إلى الله تعالى؟. ج: لم يهمل الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا مما يقرب إلى الله تعالى، ولا ترك نوعا من أنواع التوسل. وقد علمنا التوسل في حديث عثمان بن حنيف المتقدم، بل توسل هو بحق وحق الأنبياء قبله، وعرفنا أن آدم عليه الصلاة والسلام توسل به قبل وجوده، وقد بين ذلك كله في الأعداد السابقة وبعد، فماذا عسى أن يدل ذلك للسائل، فلو فرضنا أن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لم يتوسل بالصالحين لأمكن أن يقال إن مقامه أرفع من كل مقام، على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان غريقا في العبودية، وكان أعلم خلق الله بإطلاق الربوبية وسعتها وبأن الكل عبيدها وتحت قهرها وليس هناك إلا فضلها الواسع وكرمها الشامل، وأنه لا بد من ظهور ذل العبودية على كل أحد، وذلك من تعظيم الربوبية، ويعلم صلى الله تعالى عليه وسلم إن عبيد السيد المطلق لهم منازل عنده، وإن لكل منهم مزية لديه، وإن المقتضى لعطائه تعالى إنما هو العبودية له عز وجل، فلا بد أن يكون بينهم ارتباط العبيد وتبادل المنافع، وعلى هذا قام بناء الكون، كان صلى الله تعالى عليه وسلم أعرف الناس بذلك كله، فطلب الدعاء من عمر وأمر عمر أن يطلب الدعاء من أويس القرني، وسأل الله تعالى بحق الأنبياء قبله كما في حديث فاطمة بنت أسد، وأمرنا أن نتوسل به إذا عرضت لنا حاجة إلى الله تعالى، فقال لذلك الأعمى: (فإن كان لك حاجة فمثل ذلك) وقد فعلها الرجل الذي كان يتردد على عثمان بن عفان في خلافته، وقد بينا ذلك أتم بيان، على أننا نريد منكم أن لا تكفروا المسلمين بمثل هذا العمل الذي لا شئ فيه، ونكتفي منكم أن تقولوا إنه مباح أو خلاف الأولى أو مكروه (إذا أردتم). ولو قلتم ذلك لاحتملناه منكم وإن كان غير صحيح، ولكن قومك يا حضرة السائل الذي يظن منه أنه منصف وغير متعصب يعملون على خلاف ذلك. س: هل ثبت ما يروي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم: (ما تركت شيئا يقربكم
283 إلى الله إلا بينته لكم)؟ وإذا كان ثابتا فهل الطلب من الأموات أن يدعوا للأحياء مما قاله الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وأمر به وفعله أم لا؟. ج: نعم! ثبت أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال ذلك، ودعاء الأموات داخل في دعاء الأخ لأخيه الذي لا يمكنكم أن تمنعوه، وقد عرفتنا السنة الصحيحة أنه لا فرق بين الحي والميت في ذلك، وأن الميت يدعو كما يدعو الحي على ما سبق، فإن الموت ليس فناءا أو عدما كما يظنه الجاهلون وإنما هو انتقال من دار إلى دار: لا تظنوا الموت موتا إنه * لحياة وهو غايات المنى لا ترعكم هجمة الموت فما * هو إلا نقلة من هاهنا ولا نزال نكرر أنه قد دعا آدم عليه الصلاة والسلام وغيره من الأنبياء لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يدعو لأمته في البرزخ، بل آباؤنا يدعون لنا على ما عرفت وتعرف، على أننا نكتفي منكم أن تقولوا إنه مباح لا قربة أو على الأقل لا تكفروا به المسلمين، كما فعل إمامكم محمد بن عبد الوهاب على ما في الهدية السنية وغيرها. وقد قلنا فيما كتبناه في العدد الثالث من هذه السنة أنه لا وجه لذلك، ولو قد إن الميت لا يمكنه أن يدعو أو يفعل شيئا فإن الغلط على هذا الفرض يكون غلطا في اعتقاد التسبب لا إلهية ولا نزال نكرر أن معتقد السببية في المخلوقات لا وجه لتكفير ولا معنى له، فإن من يجعل غير السبب سببا يكون جاهلا لا كافرا، ويكفي هذا. س: هل بين الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ما أمر به من الوسيلة في آية المائدة عملا بقوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك الآية أم لا،؟. ج: هذا السؤال غير محرر وتقويمه هكذا: هل بين الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم الوسيلة التي أمر بها المؤمنون في سورة المائدة)؟ فإن المأمور بالوسيلة في هذا
284 السورة مباشرة هم المؤمنون لا الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وحده. وإن قلنا إنه صلى الله تعالى عليه وسلم يدخل في عموم خطابها. وقوله في تمام سؤاله: (عملا بقوله تعالى): (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك)، جهل وتهويش، فإن الأمر والخطاب في هذه الآية خاص بالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في تبليغه رسالة الله ووحيه الله إلى جميع الخلق، فهو حشور تكرار لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم قد بلغ ما أمرت به أمته من الوسيلة وبينها في سنته بيانا شافيا. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: من حدثك أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كتم شيئا مما أنزل إليه فقد كذب ثم قرأت: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) الآية = أخرجاه في الصحيحين =. فالوسيلة واضحة المعنى ظاهرة الدلالة، والقرآن عربي نزل بلغة العرب، ولا وجه لقصركم إياها على نوع خاص فإنه قول بلا دليل، على أنه لا داعي لذلك كله فقد ثبت التوسل مصرحا به في حديث عثمان بن حنيف وغيره، وقد جاء في آخر الحديث المذكور: (فإن كما له حاجة فمثل ذلك)، وقد عمل به في زمان عثمان بن عفان رضي الله عنه، كما بيناه فيما سبق من الأعداد. س: هل يلزم من عدم دعاء الأموات ومخاطبتهم بغير المشروع إنكار كرامتهم؟: وإذا قلتم بالتلازم فبينوا لنا وجهه بالبرهان، واذكروا لنا عن الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين من قال بجواز هذا النوع من التوسل. ج: نعم من كان مثلكم ينكر وجاهة الأنبياء والصالحين عند الله تعالى يجب أن ينكر كرامات الأموات، فإنه إذا لم يكن لهم وجاهة عند الله تعالى، ولا يمكنهم أن يدعوا لنا ولا تستطيع أرواحهم أن تفعل شيئا كما هو اعتقادكم، فأي كرامة تكون لهم بعد
285 ذلك؟ وما معنى إثباتكم إياها وقد نفيتم عنهم كل عمل؟، وكفرتم المتوسل إلى الله تعالى بجاههم، فأي شئ يبقى بعد ذلك؟. وأما طلبكم منا ذكر من جوز ذلك من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين فنقول إن الأمة كلها قبل ابن تيمية وبعده على هذا الجواز، ونتحداكم فنقلب السؤال عليكم فنقول. هل يمكنكم أن تذكروا لنا عن الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين من منع ذلك النوع من التوسل وقال إنه شرك؟، أليست المذاهب كلها مجمعة على توسل الزائرين لقبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم به صلى الله تعالى عليه وسلم؟، وقد ذكرنا لكم نص الحنابلة في ذلك وكذلك جميع الأئمة، ولا سلف ولا سند لكم فيما تقولون بل جميع العلماء يصرحون بأن ذلك مطلوب من كل زائر لا جائز فقط فهذا هو الاجماع، وقد مر من الأدلة العقلية والنقلية ما يكفي ويشفي، ثم نقول لكم ألم يعترف ابن القيم بأن الروح القوية لها من الأعمال بعد الموت ما لا تستطيعه حالة حياتها في الدنيا؟. وقد وصل الأمر إلى أئمتكم أنفسهم، فأنتم في إثبات كرامات الأولياء وغيرها متناقضون تارة مع الهوى وتارة مع الحق. ويرحم الله من قال: المبطل لا بد أن يتناقض شاء أم أبى، وأما تضليلنا إياكم فإنما هو لسلوككم نهج أسلافكم الحروريين كلاب النار بتكفيركم المسلمين واستباحة دمائهم وأموالهم. . وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في ذمهم، ولو قلتم إن الأولى أن يرجع الناس في كل أمورهم إلى الله تعالى بلا واسطة، أو قلتم إن هناك مقاما تسقط فيه الأسباب والوسائط، كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لجبريل عليه الصلاة والسلام، (أما إليك فلا)، عندما قال له (ألك حاجة)، لو قلتم ذلك وسلكتم هذا المسلك لم ننكر عليكم ولم نشتد في مناقشتكم.
286 ولو كان لكم رأي في المسألة غير التكفير لقلنا مجتهدون ظنوا ظنا وإلى الله أمرهم وكم مجتهد أخطأ، ولكن أولئك الذين أخطأوا لم يقدسوا أنفسهم هذا التقديس ولم يحملوا الناس على رأيهم بالسيف لأنهم يجوزون أن يكون الحق في جانب غيرهم ويعلمون ما جاء عن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم من أن (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) وإن من قال لأخيه المسلم: (يا كافر إن كان كما قال وإلا رجعت عليه)، ولم يرض الإمام مالك من المنصور العباسي بأن يحمل الناس على الموطأ وهو هو عند مالك، ولا من الرشيد أيضا أن يلزم الناس بما فيه احتراما للأمة وعلمائها واتهاما لنفسه، شأن أئمة الهدى وورثة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، والجاهل لا يعرف غير تعظيم نفسه، والعالم لا يعرف غير تعظيم ربه ومن تعظيم الله تعظيم من عظمه الله تعالى (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب). ثم قال السائل: لا يمكننا أن نسيغ توجه المسلم العارف بربه الأنس بذكره إلى عبد من عباده، انتقل من عالم إلى آخر لا يعلم حاله فيه إلا الله تعالى، يسأله ويخاطبه بعد أن كان متلذذا بخطاب الله تعالى ومناجاته، ولا يخفى عليكم حديث أم العلاء في صحيح البخاري، وفيه: إنها شهدت لمهاجري وهو أبو السائب توفي عندها فقالت: أما شهادتي عليك لقد أكرمك الله)، وأن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم قال لها: (وما يدريك إن الله أكرمه) إلى غير ذلك من الأحاديث من أمثاله، وكلها تدل على أن الأموات قد أفضوا إلى ما قدموا، وأنه لا يجوز لنا أن نحكم لأحد حكما جازما بأنه من أهل الجنة أو من أهل النار إلا ما ورد النص بأنهم من أهل الجنة أو من أهل النار، كما ورد في أهل بدر وبعض الصحابة كعكاشة ابن محصن. وأقول إن حضرة السائل أدمج في هذا الكلام الخطابي أشياء لا نتركها بل نناقشه الحساب فيها، أما التمويه بذكر المسلم إلى ربه وتلذذه بذكره فهو لذيذ في الأسماع يكاد يأخذ بمجامع النفوس، ولكن هذا مقام تحقيق علمي لا ينفع فيه التمويه ولا تفيد فيه الخطابة. وقد قلنا فيما سبق: لو كان رأيهم أن هذا هو مقام الكمال لم نتعرض له، ولكنهم
287 كغروا المسلمين المتوسلين برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والصالحين من أمته، فأين هذا مما يقوله السائل؟، فإن كان يريد أن الاشتغال بذكر الله تعالى ومناجاة أولى فليس الخلاف بيننا وبينه في الأولوية، ولكن الناس درجات بعضها فوق بعض، فلا حرج على من يلتفت للأسباب والوسائط، عالما أن الله تعالى هو الأول والآخر، فهو ممد كل شئ والمفيض على كل شئ، وإليه يرجع الأمر كله، ولا على من ترك الأسباب ثقة بالمسبب فكان غريقا في قدرته ناظرا إلى حكمته، فلا حرج على ذاك ولا على هذا. وإن صح أن تقول إن بعضهم أفضل من بعض، وهل ما ذكره السائل من حديث التلذذ والأنس الذي قطعه خطاب الأموات صحيح أم هو تمويه أو خيال؟، ولماذا لا يقول مثل ذلك في الطلب من الأحياء؟، أليس الأنس بالله ومناجاته خيرا من الطلب من الأحياء أيضا؟، ولو كان المطلوب منه وزيرا أو ملكا أو خليفة) أم التفضيل الذي ذكره لا يتحقق إلا بين الطلب من الله تعالى والطلب من الأموات؟. وقد أدمج في كلامه ما يلهج به كثير من الجهلة من أن الميت لا ندري حاله ولا ما مات عليه، وسوء ظن كبير بالمسلمين بل بالله تعالى. فنلفت نظر السائل إلى أن من عاش على شئ مات عليه كما في الحديث الشريف، فهذه هي سنة الله الغالبة، وما عدا ذلك فشاذ لا يقاس عليه لحكمة يعلمها هو. ثم نقول: إن الأمور في هذا العالم مبنية على الظن حتى الأمور الشرعية والأحكام الفقهية، وعلى هذا يجب أن نغسل أمواتنا ونكفنهم ونصلي عليهم وندفنهم في مقابر المسلمين ونورث ورثتهم أموالهم إلى غير ذلك، ولسنا على اليقين الذي يريده السائل من أمرهم: (ولكن ذلك اليقين لم يشترطه أحد)، فعلينا أن تعد من عاش في حياته على خير وصلاح من أهل الخير والصلاح بعد موته، ولا يجوز لنا غير ذلك اتباعا لتلك الوساوس التي ما أنزل الله تعالى بها من سلطان. وليت شعري، هل إذا رمينا أحدهم بأن أباه لا ندري ما حاله أمسلم هو أم كافر
288 أفيغضب أم لا؟ وهل يريد أن لا نعمل شيئا إلا على جزم ويقين، إذا يختل أمر هذا الوجود وتبطل أحكامه. أما حديث عثمان بن مظعون الذي أشار إليه السائل، فالمراد منه أنه ينبغي الخوف من سعة التصريف الإلهي وإن مرتبة العبودية لا تتخطى مقام الرجاء والضراعة. وأم العلاء قد قطعت على الله تعالى أنه مكرمه على سبيل الجزم فأخرجت ذلك مخرج الشهادة. وأظن أنها لو شهدت له بالدين والصلاح لتغير جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال في آخر الحديث: وإني لأرجو له الخير، فهل يفرق السائل بين رجاء الخير وظن الخير؟، ولماذا لم يذكر لنا ما أخرجه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه؟. قال: مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: وجبت، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال: وجبت. فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ما وجبت: قال: هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أو ما أخرجه عن عمر رضي الله تعالى عنه قال قال: رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: (أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة) فقلنا: وثلاثة، قال: وثلاثة، فقلنا: واثنان قال: واثنان). ثم لم نسأله عن الواحد، أو ما أخرجه أيضا من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في شهداء أحد: (أنا شهيد على هؤلاء). ثم نقول للوهابية جميعا لماذا لم تذكروا أو تؤمنوا بما أخرجه البخاري أيضا من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (والله ما أخشى عليكم الشرك ولكن أخشى أن تبسط
289 عليكم الدنيا فتنافسوها) إلى آخره ما أنتم إلا مناوئون مكذبون للذي لا ينطق عن الهوى في قوله: هذا بحكمكم على أمته صلى الله تعالى عليه وسلم بالشرك الذي لا يخافه عليهم واستباحتكم دماءهم وأموالهم. ونقول له أيضا: يكفينا الظن وتحسين الظن بعامة المسلمين مطلوب شرعا فيكف بالخاصة الصالحين منهم، وأما الجزم الذي تريده فلم يقله أحد من العلماء. ثم قال السائل: وإن من المجازفة أن تزيد على حسن الظن فيمن لم يرد فيهم شهادة من المعصوم، ونحن نقول له: إن من المجازفة أن تسئ الظن بمن لم يرد فيهم ذم عن المعصوم، خصوصا من ظهرت عليه علامات الخير والصلاح أو ظهرت له كرامات في حياته وبعد مماته، وتجويز أن يكون قد تغير حاله هو من سوء الظن بالمسلمين بل بالله تعالى كما أنه عقوق للآباء والأجداد، وما معنى الزيادة التي زدتها حضرتك، وليس ذلك كله إلا أثرا لحسن الظن ومبنيا عليه. ثم قال السائل: وكم أكون مسرورا جدا إذا عثرت لنا على نص صريح في هذا النوع من الوسيلة. وأقول: ذكرنا من الأدلة العقلية والنقلية الشئ الكثير وقد كان يكفيه حديث واحد على ما يقول. وقد قلنا إن من يثبت الحياة والإدراك والعلم الأرواح ثم يمنع التوسل والاستغاثة بها متناقض غاية التناقض قاطع للملزوم عن لوازمه، وقد ذكرنا إجماع الأئمة على التوسل به صلى الله تعالى عليه وسلم عند زيارته ولو لم يكن في الموضوع إلا حديث عثمان بن حنيف لكان كافيا شافيا، وعلى الجملة فقد أجمعت الشرائع كلها والفلاسفة الأقدمون والفلاسفة العصريون، أو نقول المسلمون والأوروبيون والأمريكيون والهندوس على إثبات الحياة ولوازمها للأرواح، وعلى أن لها من الاطلاق وسعة التصرف ما لم يكن لها حال حياته في هذا العالم، وهو عين ما قرره ابن القيم في كتاب الروح، اسأل الله تعالى أن يزيل عنا حجاب المادة وكثافة الطبيعة وظلمة الأشباح بمنه وكرمه. يوسف الدجوي من هيئة كبار العلماء بالأزهر
290 افتراء ابن القيم على الله في كتابه العزيز وعلى كليمه موسى عليه الصلاة والسلام وقال ابن القيم أيضا في كتابه، الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص 193 ما نصه: فداء التعطيل هو الداء العضال الذي لا دواء له ولهذا حكى الله عن إمام المعطلة فرعون أنه أنكر على موسى عليه الصلاة والسلام ما أخبر به من أن ربه فوق السماوات: (يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا) واحتج الشيخ أبو الحسن الأشعري في كتبه على المعطلة بهذه الآية، وقد ذكرنا لفظه في غير هذا الكتاب، وهو (اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية في إثبات العلو) = انتهى بشينه ومينه =. أقول: لقد افترى على الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وافترى على كليمه موسى عليه الصلاة والسلام افتراء مكشوفا لكل مسلم يقرأ القرآن، وصرح بكل وقاحة وبدون حياء، والحياء من الإيمان، فرمى برجيع تشبيه كليم الله موسى عليه الصلاة والسلام في قوله (إن فرعون أنكر على موسى ما أخبر به من أن ربه فوق السماوات)، فقد قص الله تعالى محاورة كليمه موسى عليه الصلاة والسلام لفرعون، لعنه الله تعالى في عدة سور من كتابه العزيز وبينها أحسن بيان. استفاد عقيدته بأن ربه في السماوات أو فوق السماوات أو استوى على العرش بذاته أو حقيقته أو فوق عرشه بائن من خلقه في شيخه وشيخ شيخه الشيطان ومن فرعون ولم يذكر تعالى أن موسى عليه الصلاة والسلام قال في محاورته لفرعون: (أن ربي فوق السماوات أو فوق العرش) فاعتقاده بأن ربه في السماوات أو فوق السماوات،
291 أو استوى على العرش بذاته، أو حقيقته، أو يقعد نبيه معه على العرش يوم القيامة، أو فوق عرشه بائن من خلقه، إنما استفاده من وحي شيخه وشيخ شيخه الشيطان ومن فرعون، ولم يستفده من وحي الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وكل مصيبة تشبيه يلطخون بها علماء الإسلام فهي دون تلطيخ رسل الله عليهم الصلاة والسلام بهاء فقوله: (واحتج الشيخ أبو الحسن الأشعري في كتبه إلى آخر الهراء) بهتان على الإمام أبي الحسن الأشعري، وقد دسوا في إبانته رجيع تشبيههم. ابن القيم كذاب في كل ما يعزوه إلى الأشعري واتباعه نفيا وإثباتا وقد تقدم في حاله أنه كذاب في كل ما يعزوه إلى الإمام الأشعري وأتباعه من العقائد نفيا وإثباتا، وجيوشه المجتمعة على حرب... هم مشايخه المجسمة جزما، والمعطلة الجهمية شئ واحد، ومقصوده بهم الأشاعرة والماتريدية جزما، أي الشافعية والحنفية والمالكية وفضلاء الحنابلة، والأمة الإسلامية في زمنه وقبله وبعده إلى زمننا هذا متمثلة فيهم، فليتبصر العقلاء في هذا المجسم الذي لأجل تجسيمه افترى على الله تعالى، وافترى على كليمه موسى عليه الصلاة والسلام، وافترى على الإمام أبي الحسن الأشعري، ونبز الأمة الإسلامية المنزهة لله تعالى عن الجهة والتجسيم بالتعطيل والتهجيم واتباع فرعون، وليكل له بعد هذا ألفاظ الاطراء كما كيلت لشيخه، إذا علم هذا: من المحال أن تكون هذه الأمة المحمدية الممدوحة محصورة في أقلية مكفرة لها 1 - فمن المحال أن تكون هذه الأمة المرحومة الممدوحة في كتاب الله تعالى بأنها خير أمة أخرجت للناس محصورة في أقلية مكفرة لها.
292 2 - وأن يكون الصحابة الذين أثنى الله تعالى عليهم في كتابه العزيز في آيات كثيرة وأثنى عليهم رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ونهى وحذر من سبهم وأذاهم، على الباطل. 3 - وأن يكون المكفرون لهم، على الحق. 4 - وأن يكون المبغضون المكفرون الذين أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم على الحق. 5 - وأن يكون السواد الأعظم من أمته صلى الله تعالى عليه وسلم المستغفرون لهم المترضون عنهم، على الباطل. 6 - وأن يطرد السواد الأعظم من أمته صلى الله تعالى عليه وسلم عن حوضه عليه الصلاة والسلام ويرده الأقلون المبدلون السبابون المكفرون. 7 - وأن يكون الأقلون المبدلون المكفرون ثلثي أهل الجنة. 8 - وأن يكون الأقلون المزدرون عباد الله المكفرونهم المشبهون الله جل جلاله بخلقه المفترون على كتابه وعلى سنة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى السلف الصالح وعلى أئمة الدين وعلمائه، على الحق. 9 - وأن يكون جمهور الأمة الإسلامية المنزهون الله جل وجلاله عن مشابهة المخلوقات، على الباطل. 10 - وأن يكون شيخ المجسمة محمد بن كرام وحده على الحق، والأمة الإسلامية المنزهة لله تعالى عن مشابهة المخلوقات كلها، على الباطل. 11 - وأن يكون المفسر المقام المحمود بجلوس النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مع ربه على العرش، صادقا، ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذي فسره بالشفاعة كاذبا. 12 - وأن يكون جماعة المسلمين المفسرون المقام المحمود بالشفاعة اتباعا لرسول
293 الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذي فسره بها، مخطئين، والمروزي المفسرة بجلوس النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مع الله تعالى على العرش، مصيبا. 13 - وأن تكون الأمة الإسلامية كلها مخطئة في عملها واعتقادها إن شد الرحال إلى زيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قربة. 14 - وأن يكون أحمد بن تيمية وحده في قوله واعتقاده إن شد الرحال إلى زيارة قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم معصية لا يجوز قصر الصلاة فيه، مصيبا. 15 - وأن تكون الأمة الإسلامية المجوزة التوسل برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبغيره من الأنبياء والصالحين المثبتة لجاهه وجاههم عند الله تعالى أحياء وأمواتا كلها مخطئة مشركة. 16 - وأن يكون أحمد بن تيمية المفرق بين الحي والميت في التوسل المجيزة بالأول فيما يقدر عليه المانعة بالثاني مطلقا النافي لجاه ومنزلة الأنبياء والصالحين عند الله تعالى، مصيبا موحدا. 17 - وأن يكون أحمد بن تيمية في تقسيمه التوحيد إلى توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وفي زعمه أن المسلمين كلهم جهلوا توحيد الألوهية ولم يعرفوا إلا توحيد الربوبية الذي شاركهم في معرفته جميع الكفار، مصيبا موحد والأمة الإسلامية كلها صحابة وغيرهم إلى يوم القيامة مخطئة مشركة في زعمه حيث جهلوا توحيد الألوهية ولم يعرفوا من التوحيد إلا توحيد الربوبية. 18 - وأن يكون أحمد بن تيمية في تقسيمه التوحيد إلى: توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، وفي زعمه معرفة جميع الثقلين توحيد الربوبية، وفي زعمه جهل الأمة الإسلامية توحيد الألوهية، عالما بهذه الثلاثة، ومحمد بن عبد الله الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله تعالى عليه وسلم جاهلا أو كاتما لما أنزل عليه من وحي الله حيث لم يعلم أمته تقسيم التوحيد إلى الألوهية وتوحيد الربوبية، ولم يعلمهم توحيد
294 الألوهية حتى يعصمهم به من الشرك ولم يقل لهم إن توحيد الربوبية قد شارككم في معرفته جميع الكفار، نعوذ بالله تعالى من زلقات اللسان وفساد الجنان. ابن تيمية في تقسيمه التوحيد إلى قسمين وقد أبطلت تقسيمه التوحيد والزعمين فيه في الفصل الثاني من هذا الكتاب بوجوه كثيرة مفصلة مبرهنة، وأزيد هنا فأقول: كل من له إلمام بالعلم يعلم أنه في هذا التقسيم للتوحيد وفي الزعمين مفتر على الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز مشاقق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم متبع غير سبيل المؤمنين. أما افتراؤه على الله فإنه تعالى لم يأمر عباده بتوحيد الألوهية لجهلهم له دون توحيد الربوبية لعلمهم إياه، بل أمرهم بالتوحيد أمرا مطلقا. قال تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) وهكذا جميع الآيات التي ذكر فيها التوحيد لم تقيد بتوحيد الألوهية. وأما مشاققته لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإن سنته عليه الصلاة والسلام بيان لكتاب الله تعالى. تواتر الأحاديث في أنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر الناس بكلمة التوحيد أمرا مطلقا بدون تقيد ولا تقسيم وقد استفاضت وتواترت بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم ما كان يدعو الناس إلى توحيد ألوهية الذي جهلوه فعبدوا الأصنام دون توحيد الربوبية لذي علموه كلهم
295 = على زعمه = وما كان يعلم أصحابه توحيد الألوهية، وما كان يأمر الدعاة المبعوثين من أصحابه إلى الناس بذلك، بل تواترت بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يأمرهم ويخبرهم بكلمة التوحيد مطلقا وينهاهم ويحذرهم عن قتل من قالها. فمنها حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله) = رواه الشيخان =، ولم يقل عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يعرفوا توحيد الألوهية). ومنها حديث وفد عبد القيس، قالوا: يا رسول الله إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام فأمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة فأمرهم بالإيمان بالله وحده. قال: (أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم) قال: (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس). وقال: (احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم) = رواه الشيخان عن ابن عباس =، ولم يقل عليه الصلاة والسلام في تفسير الإيمان لهم بأنه توحيد الألوهية. ومنها حديث أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا غزا قوما لم يغز حتى يصبح فإذا سمع أذانا أمسك وإن لم يسمع أذانا أغار بعد ما يصبح) = رواه الإمامان أحمد والبخاري =، فجعل عليه الصلاة والسلام الأذان عاصما للدم والمال. ومنها حديث أسامة رضي الله عنه في قتله الأعرابي بعد ما قال: لا إله إلا الله فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: (كيف تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة؟)، فقال:
296 يا رسول الله إنما قالها خوفا من الصيف، فقال له صلى الله تعالى عليه وسلم: (فهلا شققت عن قلبه حتى تعلم أنه قالها لذلك) وجعل صلى الله تعالى عليه وسلم يكرر عليه: (كيف لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟) قال أسامة: حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ = رواه الشيخان =. وأبلغ منه حديث المقداد رضي الله تعالى عنه أنه قال: يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من المشركين فقطع إحدى يدي بالسيف ثم لاذ مني بشجرة وقال لا إله إلا الله، أفأقتله يا رسول الله بعد ما قالها؟، قال: (لا تقتله)، فقلت: يا رسول الله إنه قطع إحدى يدي، ثم قال ذلك بعد أن قطعها أفأقتله؟ قال: (لا تقتله فإن فتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلة قبل أن يقول كلمته التي قال) = رواه الشيخان = وحديث ابن عمر رضي الله عنهما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد مرتين) وكان صلى الله تعالى عليه وسلم أرسله إلى بني جذيمة، فقتل منهم ناسا، قالوا صبأنا لم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا متأولا = رواه الإمامان أحمد والبخاري =. وحديث معاذ رضي الله تعالى عنه لما بعثه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى اليمن فقال له: (إنك تأتي أقواما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم إلى آخره) = رواه الإمام البخاري =. وحديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله تعالى عليه وسلم: (ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة) = رواه الشيخان =. وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر). وفي الصحيحين أيضا من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه
297 وسلم أنه قال: (لا يرمي رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبها كذلك). وفي الصحيحين أيضا عن ثابت بن الضحاك رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (من قذف مؤمنا بالكفر فهو كقتله). وفي الصحيح من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (أيما رجل قال لأخيه: (يا كافر فقد باء به أحدهما). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (كفوا عن أهل لا إله إلا الله لا تكفروهم بذنب فمن كفر أهل لا إله إلا الله فهو إلى الكفر أقرب) = رواه الطبراني =. وعنه أيضا قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: (خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير) = رواه الترمذي =، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا. وأما اتباعه سبيل غير المؤمنين: فإن الصحابة عموما والخلفاء الراشدين الذين حث صلى الله تعالى عليه وسلم على اتباع سنتهم بقوله (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ) خصوصا لم يكونوا في تعليم التابعين يفرقون لهم بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، بل ما كانوا يخوضون في أصول الدين إلا نادرا، وإنما يخوضون ويتناظرون في العمل أي الفروع، وكانوا في دعوتهم الأمم إلى الإسلام يقسمون لهم التوحيد إلى توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، وهكذا التابعون وأتباعهم، ولذلك قال إمام دار الهجرة: ما أدركت الناس يخوضون إلا فيما تحته عمل.
298 ومن المحال أيضا صدق محمد بن عبد الوهاب في زعمه أن الأمة الإسلامية كفرت منذ ستمائة سنة 19 - ومن المحال أن يكون محمد بن عبد الوهاب صادقا في قوله إن الأمة الإسلامية كفرت منذ ستمائة سنة، ومحمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى كاذبا في قوله: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة). ومن المحال أيضا صدق محمد بن عبد والوهاب في حصره هذه الطائفة فيه وفي مقلديه 20 - ومن المحال أيضا صدق محمد بن عبد الوهاب في حصره الطائفة التي على الحق فيه وفي مقلديه، وكذب الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله تعالى عليه وسلم في إطلاقه وعدم تقييد لها بزمان ومكان وأناس. ومن المحال أيضا صدق محمد بن عبد الوهاب في قوله إن أهل جزيرة العرب مشركون قبوريون 21 - ومن المحال أيضا صدق محمد بن عبد الوهاب في قوله: إن أهل جزيرة العرب كلهم صاروا مشركين قبوريين عبدوا الأنبياء والأولياء بتوسلهم واستغاثتهم بهم، وكذب الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله: أيس الشيطان أن يعبده المصلون بجزيرة العرب إلا بالتحريش بينهم.
299 ومن المحال أيضا كذب الذي لا ينطق عن الهوى 22 - ومن المحال أيضا كذب الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله: (لا هجرة بعد الفتح) الذي دل كما قال علماء الإسلام على أن مكة لا تزال بعد فتحه صلى الله تعالى عليه وسلم لها دار إسلام إلى قيام الساعة، وصدق محمد بن عبد الوهاب ومقلديه في زعمهم أن مكة دار شرك حتى يفتحوها هم. 23 - ومن المحال أيضا كذب الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله: إن الله تبارك وتعالى حرم مكة منذ خلقها وإنها لم تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حرمتها كما كانت)، وصدق محمد ابن عبد الوهاب ومقلديه في زعمهم أن مكة دار شرك لا حرمة لها يحل القتال فيها. ومن المحال أيضا تنقيب محمد بن عبد الوهاب عن قلوب المتوسلين وعلمه بمقاصدهم 24 - ومن المحال أيضا أن ينقب محمد بن عبد الوهاب عن قلوب المسلمين المتوسلين برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والصالحين من أمته ويشق بطونهم فيعلم أنهم عبدوا المتوسل به من دون الله تعالى فيحكم عليهم بالشرك والكفر، والذي لا ينطق عن الهوى صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم. ومن المحال أيضا صدق وتوحيد محمد بن عبد الوهاب 25 - ومن المحال أيضا صدق وتوحيد محمد بن عبد الوهاب في زعمه أن التوسل بالأنبياء والصالحين شرك، وكذب وشرك الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله تعالى عليه وسلم في توسله بالأنبياء قبله وأمره بالتوسل به.
300 ومن المحال أيضا أن يكون محمد بن عبد الوهاب في حظره التوسل بالأنبياء والصالحين وزعمه شرك المتوسل بهم منقبا على الحق 26 - ومن المحال أيضا أن يكون محمد بن عبد الوهاب في حظره التوسل بالأنبياء والصالحين وزعمه شرك المتوسل بهم، على الهدى والحق، والأمة الإسلامية المتوسلة بهم على الضلال والباطل. ومن المحال أيضا أن يكون محمد بن عبد الوهاب في قوله وحكمه على المسلمين المتوسلين بالأنبياء والصالحين بالشرك صادقا 27 - ومن المحال أيضا أن يكون محمد بن عبد الوهاب في قوله وحكمه على المسلمين المتوسلين بالأنبياء والصالحين بالشرك صادقا، والذي لا ينطق عن الهوى صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله: (عليكم بالجماعة وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية وفي قوله: (إن الله تعالى لا يجمع أمتي على ضلالة ويد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار) كاذبا. أحاديث في أفضليته هذه الأمة على سائر الأمم وقد وردت أحاديث كثيرة في خيرية وأفضلية هذه الأمة على سائر الأمم، وفي أفضلية نبيها على سائر المخلوقات، وفي كونها مرحومة، وفي كثرتها ودخولها الجنة، أخرج الشيخان والإمام أحمد والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجئ أقوام
301 تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته)، وأخرجه مسلم أيضا عن عائشة رضي الله تعالى عنهما بلفظ (خير الناس القرن الذي أنا فيه ثم الثاني ثم الثالث). وأخرجه الطبراني عن ابن مسعود أيضا بلفظ: (خير الناس قرني ثم الثاني ثم الثالث ثم يجئ أقوام لا خير فيهم)، وأخرجه الطبراني أيضا والحاكم عن جعدة بن هبيرة رضي الله تعالى عنه بلفظ: (خير الناس قرني الذي أنا فيهم ثم الذين يلونهم والآخرون أرذال). وأخرجه الشيخان والترمذي والحاكم أيضا عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما بلفظ: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يكون بعدهم قوم يخونون قوم يخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون وينذرون ولا يفون ويظهر فيهم السمن) وكل رواياته صحيحة. وهذه الخيرية معتبرة في الصحابة رضوان الله تعالى عليهم بالنسبة إلى التابعين في جميعهم، ومعتبرة في التابعين على أتباعهم في مجموعهم، وخيرية الأمة تستلزم خيرية نبيها وأفضلية دينها إذا لا شك أن خيرتهم بحسب كمال دينهم المستلزم لكمال نبيهم وإن صفاته أعلى وأجل وذاته أفضل وأكمل، كما صرح به قوله تعالى: (فبهداهم اقتده)، فإنه تعالى وصف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالأوصاف الحميدة، ثم أمره أن يقتدي بجميعهم وذلك يستلزم أن يأتي بجميع ما فيهم من الخصال الحميدة فاجتمع فيه صلى الله تعالى عليه وسلم ما تفرق فيهم. وفي حديث الشفاعة العظمى وانتهائها إليه صلى الله تعالى عليه وسلم بعد تنصل كل منهم واعترافه بأنه ليس أهلا لها التصريح بذلك أيضا، وكذلك الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وهو (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة) وهو عند أحمد والترمذي وابن ماجة عن أبي سعيد بزيادة (ولا فخر وبيدي
302 لواء الحمد ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر وأنا أول شافع ومشفع ولا فخر). وعند الترمذي عن أنس رضي الله تعالى عنه: (أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكسى حلة من حلل الجنة ثم أقوم عن يمين العرش ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك غيري)، وهو صريح في دخول آدم كحديث البخاري وغيره: (أنا سيد الناس يوم القيامة)، وحديث: (أنا سيد العالمين) = صححه الحاكم = وبذلك تعلم أفضليته على الملائكة لأن آدم أفضل منهم بنص الآية. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: جلس أناس من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون قال بعضهم: إن الله اتخذ إبراهيم خليلا. وقال آخر: موسى كلمه الله تكليما. وقال آخر: فعيسى كلمة الله وروحه. وقال آخر: آدم اصطفاه الله، فخرج عليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقال: قد سمعت كلامكم وعجبكم أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وموسى نجي الله وهو كذلك، وعيسى روح الله وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر) = رواه الترمذي وغيره = وهذا صريح في شموله الأنبياء والملائكة. وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى كنت من القرن الذي كنت فيه) = رواه الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه =.
303 وروى الإمام مسلم عن واثلة بن الأسقع رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: (أن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم)، وأخرج الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى) قالوا ومن يأبى؟ قال: (من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى)، وأخرج الترمذي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: (أن الله لا يجمع أمتي على ضلالة ويد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار)، وأخرج أبو داود عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن أمتي أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل). وأخرج الترمذي والإمام أحمد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: (مثل أمتي كمثل المطر لا يدرى آخره خير أم أوله). وأخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم عن بريدة والطبراني عن ابن عباس وعن ابن مسعود وعن أبي موسى قالوا: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: (أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون منها من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم). وأخرج الشيخان عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا أو سبعمائة ألف متماسكين آخذ بعضهم بيد بعض لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم وجوههم على صورة القمر ليلة البدر) . وأخرج الترمذي عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: (وعدني ربي أن يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب ومع كل ألف سبعون ألفا وثلاث حثيات من حثيات ربي). والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.