بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: المنتخب من كتب ابن تيمية المؤلف: الشيخ علوي بن عبد القادر السقاف الجزء: الوفاة: معاصر المجموعة: ردود علماء المسلمين على الوهابية والمخالفين تحقيق: انتخبه وخدمه علوي بن عبد القادر السَّقَّاف الطبعة: سنة الطبع: المطبعة: الناشر: ردمك: ملاحظات: المنتخب من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية انتخبه وخدمه علوي بن عبد القادر السقاف
1 المحتويات 17 المقدمة القسم الأول [التوحيد والعقيدة] مسائل في: أسماء الله وصفاته، والإيمان والكفر، وبعض الفرق كالمرجئة والخوارج، وزيارة القبور، والجن والشياطين. 27 سؤال الله بصفاته والقسم بها جائز أما دعاء الصفة فكفر بالله. 28 الحلف بالنذر والطلاق ونحوهما هو حلف بصفات الله. 29 الإقسام على الله بشيء من مخلوقاته أو السؤال له به. 32 المضافات إلى الله نوعان: أعيان وصفات. 35 الصفات لها ثلاث اعتبارات مطلقة أو مضافة للعبد أو مضافة للرب. 36 معنى تردد الله عز وجل عن قبض نفس عبده المؤمن. 39 المراد بقولهم: الإيمان قول وعمل. 40 ما كان في القلب لا بد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح. 43 الإيمان والنفاق أصله في القلب والعمل دليل عليه وإذا حصل دليل الشيء حصل أصله المدلول عليه. 45 أصل العمل عمل القلب وما يتناوله لفظ: «السنة» في كلام السلف. 46 الكفر المطلق وكفر المعين. 47 تفصيل القول في حكم تارك الأركان الأربعة وبخاصة الصلاة. 53 التكفير المطلق لا يستلزم تكفير الشخص المعين. 55 المرجئة غلطوا في أصلين. 56 أصناف المرجئة وأوجه غلطهم والرد عليها.
2 59 من حجج المرجئة والرد عليها. 61 الرد على قول المرجئة: المراد بالإيمان التصديق. 68 أوجه معرفة زيادة الإيمان الذي أمر الله به. 71 كلام نفيس جدا لأبي ثور في رده على المرجئة. 73 المرجئة أخوف على هذه الأمة من الخوارج. 74 ألفاظ القرآن والحديث إذا عرف معناها الشرعي لم يحتج إلى اللغوي وفيه الرد على الخوارج والمرجئة. 77 الخوارج فارقوا أهل السنة والجماعة لجهلهم والرد عليهم. 79 فتوى شيخ الإسلام في النصيرية والدروز. 85 أهل السنة والجماعة لا يكفرون أهل القبلة بمطلق الذنوب. 87 زيارة قبور المسلمين نوعان: شرعية وبدعية. 90 وصول ثواب العبادات المالية والبدنية للميت. 92 جواز كتابة شيء من القرآن بالمداد المباح وغسله وشربه. 94 الشياطين تتصور لبعض الناس في صور الآدميين لتوقعهم في الشرك. 96 ليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجن في بدن المصروع وغيره. 97 أصناف الناس في مسألة دخول الجني في الإنسي. 100 تمثل الجن بالإنس ومن ذلك تمثلهم بابن تيمية نفسه. 104 سبب كثرة تصور الجن بصورة الكلب والقط الأسودان. القسم الثاني مسائل في: العلم والجهاد والسياسة الشرعية 107 الشرع والسياسة. 109 شيخ الإسلام يصف أهل زمانه وقت ظهور التتار. 111 انتقال الأمر من خلافة النبوة إلى الملك.
3 112 لا يصح أن يقال الخليفة هو الخليفة عن الله مثل النائب عنه. 115 الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أفضل الأعمال. 117 فروض الكفايات يقوم بها من قدر عليها إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها. 119 طلب العلم الشرعي فرض على الكفاية إلا فيما يتعين. 120 قتال الطائفة الممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة. 124 كل من خشي الله فهو عالم وليس كل عالم يخشى الله. 125 لو أفتى المفتي بالخطأ فالعقوبة لا تجوز إلا بعد إقامة الحجة ولا يجوز منعه من الفتيا مطلقا ولا حبسه. 127 ليس لأحد أن يحكم بين أحد إلا بحكم الله ورسوله. 128 الشرع المنزل والشرع المؤول والشرع المبدل. 132 الحكم بغير ما أنزل الله من أعظم أسباب تغيير الدول. 134 ترك العالم ما علمه من الحق واتباع حكم الحاكم. 136 المساجد هي مواضع الأئمة ومجامع الأمة. 138 أول من أحدث أيمان البيعة الحجاج بن يوسف الثقفي. 139 كثير من الناس إذا رأى المنكر جزع وهو منهي عن هذا. 141 الواجب في أمور الجهاد أن يعتبر برأي أهل الدين والدنيا. 141 طاعة الإمام العدل وغير العدل. 142 الحبس الشرعي ليس هو السجن في مكان ضيق. 144 من عادات الفرس والعجم في الإمارة والقتال التي دخلت على المسلمين. القسم الثالث مسائل في: الخلاف والاختلاف والإنكار، والتحزب المحمود والمذموم والبدعة والمصالح والمفاسد والإنصاف
4 149 الإنكار على من أظهر الفجور أو البدع ودعا إليها. 149 البدعة التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء. 150 مواقف المبتدع من النصوص التي تخالفه. 151 هجر العاصي والمبتدع بحسب الأحوال والمصالح. 152 الأمر بالجماعة والائتلاف والنهي عن البدعة والاختلاف وهجر المظهر لبدعته لمصلحة راجحة. 154 الموقف الوسط من هجران أهل البدع. 156 الفرق بين «خوارج المارقين» و «البغاة المتأولين». 160 أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الملل. 161 من أسباب ضلال المبتدعة بناؤهم دين الإسلام على مقدمات يظنون صحتها. 162 مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر. 162 المؤاخاة والمخالفة المشروع منها والممنوع. 166 التحزب المحمود والتحزب المذموم. 167 ليس لأحد أن يأخذ على أحد عهدا بموافقته على كل ما يريده. 173 التوسط في الحب والبغض والموالاة والمعاداة وفيه فوائد. 176 نصائح للدعاة. 178 كثير من الناس يجعل طائفته هم أهل السنة والجماعة. 180 مسألة رؤية الكفار ربهم يوم القيامة وما ينبغي مراعاته عند الخلاف. 185 أهل السنة والجماعة يتبعون الحق ويرحمون الخلق. 186 من علم منه الاجتهاد السائغ فلا يجوز أن يذكر على وجه الذم. 187 لا يجوز التفريق بين الأمة بأسماء مبتدعة لا أصل لها في الكتاب والسنة.
5 189 الفرق بين الباغي أو الظالم المتأول وغير المتأول. 190 كثير من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة ومعان مشتبهة. 191 أنواع الاختلاف. 194 الفعل إذا كان يفضي إلى مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة ينهى عنه. 195 ما نهي سدا للذريعة يباح لمصلحة راجحة. 197 من لا يمكنه ان يأتي بحسنة راجحة إلا ومعها سيئة دونها في العقاب ماذا يفعل؟ 202 فصل جامع في تعارض الحسنات والسيئات. 209 قاعدة عامة في تعارض وتزاحم المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات. 211 إذا اشتمل العمل على مصلحة ومفسدة. 212 العمل عند تكافؤ مصلحتين أو مفسدتين. 213 الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها. 214 اجتماع الخير والشر في الرجل الواحد. 215 اشتمال بعض الأعمال على الخير والشر في آن واحد وفيه كلام غريب! 218 أصناف الناس في غيبة الآخرين. 220 المباح بالنية الحسنة يكون خيرا وبالنية السيئة يكون شرا. 222 فعل المباح على وجه العبادة بدعة منكرة. القسم الرابع مسائل أصولية في: الاعتصام بالسنة وترك الابتداع، والإجماع والتقليد والتمذهب، والأمر والنهي، والأعياد والتشبه بالكفار، والمجمل والمطلق والعام...
6 227 ترك السنة يفضي إلى فعل البدعة وترك المأمور يفضي إلى فعل المحظور. 229 قاعدة فيما يجب من المعاوضات ونحو ذلك. 232 مسألة إجماع أهل المدينة. 234 هل لازم المذهب مذهب أم لا؟ 235 لا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص معين غير رسول الله (ص). 236 المنحرفون من أتباع الأئمة انحرافهم أنواع. 237 الأمر بالشيء هل يكون أمرا بلوازمه. 239 جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهي عنه. 241 كلام عجيب في أن القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بمجرد رأيه فهو ترجيح شرعي! 246 النزاع في الأحكام وخفاء العلم بما يوجب الشدة قد يكون رحمة. 247 إذا كان الشيء شعارا للكفار ثم اعتاده المسلمون وكثر فيهم هل تزول حرمته؟ 248 كل ما قاله (ص) بعد النبوة وأقر عليه ولم ينسخ فهو تشريع. 250 الحديث الضعيف يروى ويعمل به في الترغيب والترهيب لا في الاستحباب. 253 لا يعرف إجماع على ترك نص إلا وقد عرف النص الناسخ له. 254 لفظ الكلام والكلمة لا يستعمل في اللغة إلا مقيدا بمعنى الجملة التامة. 256 الأسماء ثلاثة أنواع: شرعي، ولغوي، وعرفي. 257 لفظ المجمل والمطلق والعام في اصطلاح الأئمة. 258 التسمية بمسائل أصول ومسائل فروع تسمية محدثة.
7 260 العموم ثلاثة أقسام والفرق بين مفهوم اللفظ المطلق وبين المفهوم المطلق من اللفظ. 263 أنواع الأعياد الزمانية. 265 الفرق بين الأمكنة التي قصد النبي (ص) الصلاة أو الدعاء عندها وبين ما فعل فيها ذلك اتفاقا. 268 تفريق مهم بين الإجزاء والإثابة. 270 ما أطلقه الله من الأسماء وعلق به الأحكام لم يكن لأحد أن يقيده إلا بدلالة من الله ورسوله. 272 لفظ الأمر إذا أطلق تناول النهي. القسم الخامس [مسائل متفرقة] 277 المخالطة المطلقة والانفراد المطلق خطأ. 278 ليس كل مركب ولباس وطعام لم يكن موجودا في عهد النبي لا يحل. 281 كل من ترك واجبا لم يعلم وجوبه أو فعل محظورا لم يعلم أنه محظور لم تلزمه الإعادة إذا علم. 283 الأجر على قدر منفعة العمل لا على قدر المشقة فقط. 286 الكذب والمعاريض. 288 من هم أهل الحديث. 290 الخروج للنزهة في الأماكن التي تشهد فيها المنكرات. 291 الفرق بين السماع والاستماع. 293 جنس الحاضرة أفضل من جنس البادية كما أن جنس العرب أفضل من جنس العجم. 295 سبب فضل العرب على غيرهم.
8 297 جنس العرب خير من غيرهم. 299 تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز. 302 البدعة في الحنابلة أقل منها في غيرهم. 303 حدود الشام والحجاز. 304 دفاع عن أبي حنيفة. 305 الورع المشروع والورع الواجب والورع الفاسد. 308 أصحاب السنن والمسانيد هل كانوا مجتهدين أم مقلدين؟ 310 تشكيل المصاحف وتنقيطها. 311 لا يقبل ما على وجه الأرض إلا الحجر الأسود. 312 قاعدة عظيمة في الجمع بين العبادات المتنوعة. 314 طريقة الإسلام في حساب السنة والشهر والأسبوع واليوم أقوم طريقة. 317 الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على استدارة وكروية الأفلاك. 322 أقسام الدعاوى وأن اليمين تارة تكون على المدعي وتارة تكون على المدعى عليه. 326 رسالة شيخ الإسلام إلى والدته يعتذر فيها عن بعده عنها لأمور دينية. 328 مشروعية التعزير بالعقوبات المالية. 330 كل بشر على وجه الأرض لا بد له من أمر ونهي. 331 ينبغي للمرأة أن تقول: إني أمتك بنت عبدك أو بنت أمتك مكان: إني عبدك ابن عبدك. 332 من توهم أن الفرض أن يقصد المصلي الصلاة في مكان لو سار على خط مستقيم وصل إلى عين الكعبة فقد أخطأ.
9 335 قاعدة فيما تشترك فيه اليمنى واليسرى من الأفعال وتختص به إحداهما. 336 ليس في الدنيا حرم ثالث لا بيت المقدس ولا غيره. 337 الإقامة في موضع تكون الأسباب فيه أطوع لله وأفعل للحسنات أفضل من الإقامة في موضع يكون حاله فيه دون ذلك. 338 الفساد في ترك إظهار المشروع أعظم من الفساد في إظهاره رياء. 341 تحزيب السور وكراهة القراءة بأواخر السور وأوساطها. 344 دعاء الغائب أعظم إجابة من دعاء الحاضر. 345 التقارب بين الألفاظ العبرية والعربية. 346 معنى اللهو الباطل المنهي عنه وأنه نهي كراهة لا نهي تحريم. 348 الحكمة في دفنه (ص) في بيته والفرق بين زيارة قبره وزيارة غيره من المسلمين. 352 لفظ الليل والنهار في كلام الشارع. 354 لا يجوز رفع الأصوات في الذكر والدعاء إلا حيث جاءت به السنة. 356 مسائل متفرقة في علاج من به مس من الجن ومن ذلك استخدام الضرب وقد فعله ابن تيمية كثيرا. 360 حكم قتل الجن. 362 هل غير العرب أكفاء للعرب في النكاح. 363 المرأة الحائض إذا طهرت قبل طلوع الفجر أو قبل غروب الشمس. 364 الجمع بين الصلوات للعذر. 366 الفرق بين القصر والجمع في الصلاة. 368 قصد زيارة المساجد التي بنيت بمكة غير المسجد الحرام بدعة. 369 السنة في زيارة مسجد وقبر النبي (ص). 372 زيارة القبور على وجهين: شرعية وبدعية.
10 374 أعدل الأقوال في قراءة المأموم خلف الإمام. 376 العمرة بعد الحج بدعة مكروهة لم يفعلها السلف. * * *
11 المقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. أما بعد: فإن كتب شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، «جمعت فأوعت: جمعت جميع الفنون النافعة، والعلوم الصحيحة، جمعت علوم الأصول والفروع، وعلوم النقل والعقل، وعلوم الأخلاق، والآداب الظاهرة والباطنة، وجمعت بين المقاصد والوسائل، وبين المسائل والدلائل، وبين الأحكام وبيان حكمها وأسرارها، وبين تقرير مذاهب الحق، والرد على جميع المبطلين. وامتازت على جميع الكتب المصنفة بغزارة علمها، وكثرته وقوته، وجودته وتحقيقه، بحيث يجزم من له اطلاع عليها وعلى غيرها أنه لا يوجد لها نظير يساويها أو يقاربها» (1)، فهي غزيرة المادة، جزيلة المباحث، سديدة المنهج، سهلة الأسلوب، عذبة الموارد، ناصعة البيان، واضحة التعبير، مشرقة الدلالة، تدرك فوائدها على غير مؤونة، ولا كد ذهن، ولا جهد فكر، من تصفحها وجدها مشبعة الفصول مستوعبة لأطراف الفنون، جامعة لشتيت الفوائد، ومنثور المسائل، قد استوعبت أصول العلوم، وأحاطت بفروعها، واستقصت غرائب مسائلها، وشواذها ونوادرها. وشيخ الإسلام رحمه الله كان عالم أمته، وإمام عصره وأوحد زمانه، وكان بحر العلم الزاخر، وبدر العلماء الزاهر، وكوكبهم اللامع، ونبراسهم الساطع، والذي يرجع إليه في المشكلات، ويستصبح بضوئه في المعضلات،
(1) من مقدمة الشيخ عبد الرحمن السعدي لكتاب «طريق الوصول إلى العلم المأمول». 17 وتشد إليه الرحال، وتضرب إليه أكباد الإبل، ويرحل إليه من أطراف البلدان، وإنه رحمه الله لبحر لا يسبر غوره، ولا ينال دركه، منقطع القرين، أعرف الناس بزمانه ورجالاته، وبفرقه ومذاهبه، وكان إذا تكلم في فن من الفنون قلت هو أعلم الناس بهذا الفن، وكتبه لا تخلو من علم من العلوم الدينية، بل وأكثر العلوم الدنيوية، وقد طبع أكثرها ولله الحمد في أكثر من مائة مجلد، وفقني الله لقراءة كثير منها وبخاصة مجموع الفتاوى. وقد انتخبت من جملة ما قرأت ما جمعته لك بين يديك وسميته «المنتخب». والمنتخب والمنتقى والمختار والمستصفى والمستخلص والمجتبى كلها بمعنى واحد، فتقول انتخبته وانتقيته واخترته واصطفيته واستخلصته واجتبيته. وقد صنف العلماء كتبا كثيرة باسم المنتخب والمنتقى والمختار والمجتبى، ومن ذلك: 1 - «المجتبى من السنن» للنسائي، وهو «السنن الصغرى». 2 - «المجتبى من المجتنى» لابن الجوزي. 3 - «المختار في أصول السنة» لأبي علي الحسن بن البنا الحنبلي. 4 - «المختارة» للضياء المقدسي. 5 - «المختار من تاريخ ابن الجزري» للذهبي. 6 - «المنتخب المسند» لعبد بن حميد. 7 - «المنتخب من زوائد البزار على الكتب الستة ومسند أحمد» لابن حجر العسقلاني. 8 - «المنتخب من السياق لتاريخ نيسابور» لإبراهيم الصريفيني. 9 - «منتخب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال» لعلاء الدين
18 المتقي الهندي. 10 - «المنتخب من كتاب منهاج المحدثين وسبيل طالبيه المحققين» لابن حجر العسقلاني. 11 - «المنتقى من منهاج الاعتدال» للذهبي. 12 - «المنتقى شرح الموطأ» لأبي الوليد الباجي. 13 - «المنتقى من كتاب مكارم الأخلاق ومعاليها» لأبي طاهر السلفي. 14 - «المنتقى من مسند المقلين» لدعلج السجزي. 15 - «المنتقى من السنن المسندة عن رسول الله (ص») لابن الجارود. 16 - «المنتقى في الأحكام» لعبد السلام ابن تيمية جد شيخ الإسلام. وغيرها كثير جدا، وأكثرهم كان يؤلف باسم المنتقى ومن أبرز من برع في الانتخاب والانتقاء شمس الدين الذهبي، فله رحمه الله أكثر من خمس وعشرين كتابا انتخبها وانتقاها ممن سبقه، عشرون منها بعنوان: «المنتقى» (1)، أشهرها «المنتقى من " منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال " (2)» لابن تيمية، ومن أشهر من قام باختيار وانتخاب مجموعة فوائد ومسائل من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، عالمان جليلان كل واحد منهما كان عالم عصره، الأول: الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب. والثاني: العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي.
(1) راجع كتاب «الذهبي ومنهجه في كتابه " تاريخ الإسلام "» لبشار عواد معروف، وكتاب «صفحات في ترجمة الحافظ الذهبي» لقاسم علي سعد، و «الحافظ الذهبي مؤرخ الإسلام» لعبد الستار أبو غدة. (2) وهو المطبوع حاليا بعنوان «منهاج السنة النبوية». 19 عرض مختصر لكتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب والشيخ السعدي، وكتابنا هذا «المنتخب» والفرق بينها: أولا: كتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب: قام الشيخ رحمه الله بتلخيص مسائل عدة بلغت خمس وثلاثين ومائة مسألة في مسائل عديدة، في التوحيد بجميع أنواعه، وفي الفقه وأصوله، والتفسير وعلومه، لخصها من غالب كتب شيخ الإسلام (1)، وقد عنونت بعنوان «المسائل التي لخصها الإمام محمد بن عبد الوهاب من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية»، وقد طبعت ضمن مجموعة مصنفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب قسم «ملحق المصنفات» في مائتي صفحة تقريبا، ومن خلال الاطلاع على هذه المسائل لم يظهر لي منهج الشيخ رحمه الله في جمعها، والذي يبدو لي أنه لم تكن له طريقة واحدة أو هدفا محددا في التلخيص، إنما هي مسائل عديدة رأى الشيخ أهميتها فحب أن يجمعها في كتاب واحد لينتفع بها الناس، أو ينتفع هو نفسه بها، وكما سبق فقد اشتملت هذه المسائل على كثير من العلوم، وإن كان أبرزها علم التوحيد والعقيدة، وبعض المسائل مما كان مثار جدل في عصر الشيخ، وقد يكون هذا مما دفعه لانتقائها. ثانيا: كتاب الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: وعنوانه «طريق الوصول إلى العلم المأمول بمعرفة القواعد المنوعة والضوابط والأصول»؛ «وهي قواعد وأصول منوعة في أصول الدين، وفي أصول الفقه والتفسير والحديث، وفي أصول الأحكام، وفي أصول الأخلاق والمناظرات، والرد على أهل الباطل» (2)، وقد بلغت هذه القواعد والأصول
(1) انظر: «مقدمة المحققين» لهذه المسائل ضمن مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات (ص 9). (2) من مقدمة المؤلف. 20 أكثر من ثمانمائة، طبعت في ثلاثمائة صفحة تقريبا. ومنهج الشيخ فيها واضح، فهو قد جمع ما يمكن أن يعد قاعدة أو ضابطا أو نحو ذلك، لذا فبعضها لا يتجاوز السطر الواحد بل أقل؛ مثل: 1 - الرجوع عن الدعوى مقبول، والرجوع عن الإقرار غير مقبول. 2 - يلزم الوفاء بالوعد. 3 - الاستدامة أقوى من الابتداء. وكثير منها أكثر من ذلك، بل قد يصل إلى عدة صفحات مما هو أقرب إلى الفوائد منه إلى الضوابط والقواعد، وإن كانت هذه مصطلحات متقاربة المعنى فكل قاعدة فائدة وكثير من الفوائد قواعد. ثالثا: كتاب «المنتخب من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية» وهو هذا الكتاب: وقد انتخبت فيه أكثر من ستين ومائة نخبة؛ من الفوائد والفرائد من أغلب كتب شيخ الإسلام المطبوعة، وأكثرها من «مجموع الفتاوى» لا يكاد يوجد منها شيء في الكتابين السابقين إلا اليسير وقد جعلته في خمسة أقسام: القسم الأول: في التوحيد والعقيدة. القسم الثاني: في العلم والجهاد والسياسة الشرعية. القسم الثالث: في الخلاف والإنكار والتحزب المحمود والمذموم، والبدعة والمصالح والمفاسد والإنصاف. القسم الرابع: مسائل أصولية في الاعتصام بالسنة وترك الابتداع والتقليد والتمذهب وغير ذلك. القسم الخامس: مسائل متفرقة.
21 وضابط ما جمعته: [مسائل قد تخفى على طلبة العلم إما علما أو عملا، ومسائل مهمة لكل عالم وداعية ومصلح وخاصة في هذا الزمان الذي كثرت فيه الأهواء وتنوعت الفتن، ومسائل متفرقة] (1). ومن البديهي القول أن هذا الأمر نسبي، فما كان مهما عند شخص قد لا يكون كذلك عند آخر، لكن حسبي أني اجتهدت في ذلك، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي، وإني لمأجور في الحالين إن شاء الله، كما أنه من البديهي القول بأن هناك فوائد جمة في كتب شيخ الإسلام فاتتني وفاتت من سبقني، فهي البحر لا يسبر غوره، ولا ينال دركه، وقد كان منهجي في هذا الكتاب كما يلي: 1 - قسمته إلى خمسة أقسام حسبما تقدم ذكره، وتحت كل قسم فصول عنونتها بما يناسب محتواها، وغالبا ما يكون العنوان مقتبسا من كلام شيخ الإسلام نفسه. 2 - جعلت كلام شيخ الإسلام هو الأصل وكل ما أضفته من تخريج أو تعليق ففي الهامش. 3 - تصرفت في بعض الموضوعات المطولة بحذف بعض الجمل واضعا مكانها نقطا لتدل على موضع الحذف دون أدنى إضافة في الأصل. 4 - أحلت كل نقل إلى موضعه من كتب ابن تيمية مع ذكر الجزء والصفحة. 5 - أحلت الآيات إلى مواضعها في القرآن الكريم.
(1) هناك مسائل مهمة في التوحيد والعقيدة، كأقسام التوحيد وإثبات الأسماء والصفات؛ وغيرها كثير جدا لا تجدها في «المنتخب»؛ لأنها من المسائل التي لا تخفى على طالب العلم. 22 6 - خرجت الأحاديث تخريجا موجزا. أسأل الله عز وجل أن ينتفع بهذا «المنتخب» ناخبه وقارئه وأن يكون ضياء لكل مصلح يريد الخير لأمته والنفع لنفسه، إنه جواد كريم. وأخيرا أشكر الأخوة الأفاضل الذين ساعدوني في مقابلة النص، كما أشكر أهل بيتي الذين وفروا لي الجو العلمي والوقت الذي أسهم في إخراج هذا الكتاب وغيره من الكتب مقدمين ذلك على متطالباتهم واحتياجاتهم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. أبو محمد علوي بن عبد القادر السقاف الظهران * * *
23 القسم الأول [التوحيد والعقيدة] مسائل في: أسماء الله وصفاته، والإيمان والكفر، وبعض الفرق كالمرجئة والخوارج، وزيارة القبور، والجن والشياطين.
25 سؤال الله بصفاته والقسم بها جائز أما دعاء الصفة فكفر بالله (إن الحلف بصفاته كالحلف به، كما لو قال: وعزة الله تعالى! أو: لعمر الله! أو: والقرآن العظيم! فإنه قد ثبت جواز الحلف بهذه الصفات ونحوها عن النبي (ص) والصحابة، ولأن الحلف بصفاته كالاستعاذة بها - وإن كانت الاستعاذة لا تكون إلا بالله في مثل قول النبي (ص): «أعوذ بوجهك» (1) و «أعوذ بكلمات الله التامات» (2) و «أعوذ برضاك من سخطك» (3) ونحو ذلك -، وهذا أمر متقرر عند العلماء) (4). (إن مسألة الله بأسمائه وصفاته وكلماته جائز مشروع كما جاءت به الأحاديث، وأما دعاء صفاته وكلماته فكفر باتفاق المسلمين؛ فهل يقول مسلم: يا كلام الله! اغفر لي وارحمني وأغثني أو أعني، أو: يا علم الله، أو: يا قدرة الله، أو: يا عزة الله، أو: يا عظمة الله ونحو ذلك؟! أو سمع من مسلم أو كافر أنه دعا ذلك من صفات الله وصفات غيره، أو يطلب من الصفة جلب منفعة أو دفع مضرة أو إعانة أو نصرا أو إغاثة أو غير ذلك؟!) (5).
(1) جزء من حديث رواه البخاري في (تفسير القرآن، باب قوله: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا...}، رقم 4628) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. (2) جزء من حديث رواه مسلم في (الذكر والدعاء، باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء، رقم 2708) من حديث خولة بنت حكيم رضي الله عنها، ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه برقم (2709). (3) جزء من حديث رواه مسلم في (الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، رقم 486) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (4) «مجموع الفتاوى» (35 / 273). (5) «الرد على البكري» (ص 79). 27 الحلف بالنذر والطلاق ونحوهما هو حلف بصفات الله (معلوم أن الحلف بصفات الله سبحانه كالحلف به، كما لو قال: وعزة الله، أو: لعمر الله، أو: والقرآن العظيم؛ فإنه قد ثبت جواز الحلف بهذه الصفات ونحوها عن النبي (ص) والصحابة، ولأن الحلف بصفاته كالاستعاذة بها؛ وإن كانت الاستعاذة لا تكون إلا بالله وصفاته في مثل قول النبي (ص): «أعوذ بوجهك» و «أعوذ بكلمات الله التامات» و «أعوذ برضاك من سخطك» ونحو ذلك، وهذا أمر مقرر عند العلماء (1). وإذا كان كذلك؛ فالحلف بالنذر والطلاق ونحوهما هو حلف بصفات الله، فإنه إذا قال: إن فعلت كذا فعلي الحج؛ فقد حلف بإيجاب الحج عليه، وإيجاب الحج حكم من أحكام الله وهو من صفاته، وكذلك لو قال: فعلي تحرير رقبة، وإذا قال: فامرأتي طالق وعبدي حر؛ فقد حلف بإزالة ملكه الذي هو تحريمه عليه، والتحريم من صفات الله كما أن الإيجاب من صفات الله، وقد جعل الله ذلك من آياته في قوله: {ولا تتخذوا آيات الله هزوا} (2)؛ فجعل حدوده في النكاح والطلاق والخلع من آياته، لكنه إذا حلف بالإيجاب والتحريم؛ فقد عقد اليمين لله كما يعقد النذر لله) (3). * * *
(1) تقدم نقل ذلك. (2) البقرة: 231. (3) «القواعد النورانية الفقهية» (ص 268). 28 الإقسام على الله بشيء من مخلوقاته أو السؤال له به (الإقسام على الله بشيء من المخلوقات أو السؤال له به: إما أن يكون مأمورا به إيجابا أو استحبابا، أو منهيا عنه نهي تحريم أو كراهة، أو مباحا لا مأمورا به ولا منهيا عنه. وإذا قيل: إن ذلك مأمور به أو مباح؛ فإما أن يفرق بين مخلوق ومخلوق، أو يقال: بل يشرع بالمخلوقات المعظمة أو ببعضها، فمن قال: إن هذا مأمور به أو مباح في المخلوقات جميعها؛ لزم أن يسأل الله تعالى بشياطين الإنس والجن، فهذا لا يقوله مسلم. فإن قال: بل يسأل بالمخلوقات المعظمة كالمخلوقات التي أقسم بها في كتابه؛ لزم من هذا أن يسأل بالليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى... وسائر ما أقسم الله به في كتابه. فإن الله يقسم بما يقسم به من مخلوقاته لأنها آياته ومخلوقاته، فهي دليل على ربوبيته وألوهيته ووحدانيته وعلمه وقدرته ومشيئته ورحمته وحكمته وعظمته وعزته؛ فهو سبحانه يقسم بها لأن إقسامه بها تعظيم له سبحانه. ونحن المخلوقون ليس لنا أن نقسم بها بالنص والإجماع، بل ذكر غير واحد الإجماع على أنه لا يقسم بشيء من المخلوقات وذكروا إجماع الصحابة على ذلك، بل ذلك شرك منهي عنه. ومن سأل الله بها لزمه أن يسأله بكل ذكر وأنثى، وبكل نفس ألهمها فجورها وتقواها، ويسأله بالرياح والسحاب والكواكب والشمس والقمر والليل والنهار والتين والزيتون...
29 ... ومعلوم أن السؤال لله بهذه المخلوقات أو الإقسام عليه بها من أعظم البدع المنكرة في دين الإسلام، ومما يظهر قبحه للخاص والعام. وإن قال قائل: بل أنا أسأله أو أقسم عليه بمعظم دون معظم من المخلوقات، إما الأنبياء دون غيرهم أو نبي دون غيره، كما جوز بعضهم الحلف بذلك أو بالأنبياء والصالحين دون غيرهم. قيل له: بعض المخلوقات وإن كان أفضل من بعض؛ فكلها مشتركة في أنه لا يجعل شيء منها ندا لله تعالى؛ فلا يعبد ولا يتوكل عليه ولا يخشى ولا يتقى ولا يصام له ولا يسجد له ولا يرغب إليه ولا يقسم بمخلوق، كما ثبت في «الصحيح» عن النبي (ص) أنه قال: «من كان حالفا؛ فليحلف بالله، أو ليصمت» (1)، وقال: «لا تحلفوا إلا بالله» (2)، وفي «السنن» عنه أنه قال: «من حلف بغير الله؛ فقد أشرك» (3). فقد ثبت بالنصوص الصحيحة الصريحة عن النبي (ص) أنه لا يجوز الحلف بشيء من المخلوقات، لا فرق في ذلك بين الملائكة والأنبياء والصالحين وغيرهم، ولا فرق بين نبي ونبي...
(1) رواه البخاري في (الشهادات، باب كيف يستحلف، رقم 2679، وفي الأدب، باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلا، رقم 6108)، ومسلم في (الأيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى، رقم 1646) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (2) [صحيح]. رواه أبو داود في (الأيمان والنذور، باب في كراهية الحلف بالآباء، 3248)، والنسائي في (الأيمان والنذور، باب الحلف بالأمهات، رقم 3769)؛ من حديث أبي رضي الله عنه. وانظر: «صحيح الجامع» (رقم 7249). (3) [صحيح]. رواه الترمذي في (النذور والأيمان، باب كراهية الحلف بغير الله، رقم 1535)، وأبو داود في (الأيمان والنذور، باب كراهية الحلف بالآباء، رقم 3251)، وأحمد في «المسند» (2 / 69)؛ من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وانظر: «صحيح الجامع» (6204). 30 ... وإذا كان الإقسام بغير الله والرغبة إليه وخشيته وتقواه ونحو ذلك هي من الأحكام التي اشتركت المخلوقات فيها؛ فليس لمخلوق أن يقسم به ولا يتقي ولا يتوكل عليه؛ وإن كان أفضل المخلوقات، ولا يستحق ذلك أحد من الملائكة والنبيين فضلا عن غيرهم من المشايخ والصالحين. فسؤال الله تعالى بالمخلوقات: إن كان بما أقسم به وعظمه من المخلوقات فيسوغ السؤال بذلك كله، وإن لم يكن سائغا لم يجز أن يسأل بشيء من ذلك، والتفريق في ذلك بين معظم ومعظم كتفريق من فرق [فزعم أنه] يجوز الحلف ببعض المخلوقات دون بعض، وكما أن هذا فرق باطل فكذلك الآخر. ولو فرق مفرق بين ما يؤمن به وبين ما لا يؤمن به؛ قيل له: فيجب الإيمان بالملائكة والنبيين، ويؤمن بكل ما أخبر به الرسول مثل منكر ونكير والحور العين والولدان وغير ذلك، أفيجوز أن يقسم بهذه المخلوقات لكونه يجب الإيمان بها، أم يجوز السؤال بها كذلك؟ فتبين أن السؤال بالأسباب إذا لم يكن المسؤول به سببا لإجابة الدعاء؛ فلا فرق بين السؤال بمخلوق ومخلوق، كما لا فرق بين القسم بمخلوق ومخلوق، وكل ذلك غير جائز؛ فتبين أنه لا يجوز ذلك كما قاله من قاله من العلماء، والله أعلم) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (1 / 289 - 296). 31 المضافات إلى الله نوعان: أعيان وصفات المضافات إلى الله نوعان: أعيان، وصفات: فالصفات إذا أضيفت إليه؛ كالعلم والقدرة والكلام والحياة والرضا والغضب ونحو ذلك دلت الإضافة على أنها إضافة وصف له قائم به ليست مخلوقة لأن الصفة لا تقوم بنفسها؛ فلا بد لها من موصوف تقوم به، فإذا أضيفت إليه علم أنها صفة له، لكن قد يعبر باسم الصفة عن المفعول بها؛ فيسمى المقدور قدرة والمخلوق بالكلمة كلاما والمعلوم علما والمرحوم به رحمة؛ كقول النبي (ص): «إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مئة رحمة...» (1)، ويقال للمطر والسحاب: هذه قدرة قادر وهذه قدرة عظيمة، ويقال في الدعاء: غفر الله لك علمه فيك؛ أي: معلومه. وأما الأعيان إذا أضيفت إلى الله تعالى؛ فإما أن تضاف بالجهة العامة التي يشترك فيها المخلوق، مثل كونها مخلوقة ومملوكة له ومقدورة ونحو ذلك؛ فهذه إضافة عامة مشتركة؛ كقوله: {هذا خلق الله} (2)، وقد يضاف لمعنى يختص بها يميز به المضاف عن غيره، مثل: بيت الله، وناقة الله، وعبد الله، وروح الله؛ فمن المعلوم اختصاص ناقة صالح بما تميزت به عن سائر النياق، وكذلك اختصاص الكعبة، واختصاص العبد الصالح الذي عبد الله وأطاع أمره، وكذلك الروح المقدسة التي امتازت بما فارقت به غيرها من الأرواح؛ فإن المخلوقات اشتركت في كونها مخلوقة مملوكة مربوبة لله يجري عليها حكمه وقضاؤه وقدره، وهذه الإضافة لا اختصاص فيها ولا فضيلة للمضاف على
(1) رواه البخاري في (الرقاق، باب الرجاء مع الخوف، 6469، 7 / 183) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) لقمان: 11. 32 غيره، وامتاز بعضها بأن الله يحبه ويرضاه ويصطفيه ويقربه إليه ويأمر به أو يعظمه ويحبه؛ فهذه الإضافة يختص بها بعض المخلوقات؛ كإضافة البيت والناقة والروح وعباد الله من هذا الباب... وهذا الأصل الذي ذكرناه من الفرق فيما يضاف إلى الله بين صفاته وبين مملوكاته أصل عظيم ضل فيه كثير من أهل الأرض من أهل الملل كلهم؛ فإن كتب الأنبياء (التوراة، والإنجيل، والقرآن، وغيرها) أضافت إلى الله أشياء على هذا الوجه وأشياء على هذا الوجه، فاختلف الناس في هذه الإضافة: فقالت المعطلة نفاة الصفات من أهل الملل: إن الجميع إضافة ملك، وليس لله حياة قائمة به، ولا علم قائم به، ولا قدرة قائمة به، ولا كلام قائم به، ولا حب ولا بغض، ولا غضب ولا رضى، بل جميع ذلك مخلوق من مخلوقاته، وهذا أول ما ابتدعته في الإسلام الجهمية، وإنما ابتدعوه بعد انقراض عصر الصحابة وأكابر التابعين لهم بإحسان... وقالت الحلولية: بل ما يضاف إلى الله قد يكون هو صفة له وإن كان بائنا عنه. بل قالوا: هو قديم أزلي؛ فقالوا: روح الله قديمة أزلية صفة لله، حتى قال كثير منهم: إن أرواح بني آدم قديمة أزلية وصفة لله، وقالوا: إن ما يسمعه الناس من أصوات القراء ومداد المصاحف قديم أزلي وهو صفة لله. وقال حذاق هؤلاء: بل غضبه ورضاه وحبه وبغضه وإرادته لما يخلقه قديم أزلي، وهو صفة الله وكلامه الذي سمعه موسى قديم أزلي، وأنه لم يزل راضيا محبا لمن علم أنه يطيعه قبل أن يخلق، ولم يزل غضبانا ساخطا على من علم أنه يكفر قبل أن يخلق، ولم يزل ولا يزال قائلا: يا آدم، يا نوح، يا إبراهيم؛ قبل أن يوجدوا وبعد موتهم، ولم يزل ولا يزال يقول: يا معشر الجن والإنس قبل أن يخلقوا وبعد ما يدخلون الجنة والنار. وأما سلف المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين
33 المشهورون بالإمامة فيهم كالأربعة وغيرهم، وأهل العلم بالكتاب والسنة؛ فيفرقون بين مملوكاته وبين صفاته؛ فيعلمون أن العباد مخلوقون، وصفات العباد مخلوقة، وأجسادهم، وأرواحهم، وكلامهم، وأصواتهم بالكتب الإلهية وغيرها، ومدادهم، وأوراقهم، والملائكة، والأنبياء وغيرها، ويعلمون أن صفات الله القائمة به ليست مخلوقة؛ كعلمه، وقدرته، وكلامه، وإرادته، وحياته، وسمعه، وبصره، ورضاه، وغضبه، وحبه، وبغضه، بل هو موصوف بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل؛ فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه ووصفه به رسله، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يتأولون كلام الله بغير ما أراده، ولا يمثلون صفات الخالق بصفات المخلوق؛ بل يعلمون أن الله سبحانه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله؛ بل هو موصوف بصفات الكمال، منزه عن النقائص، وليس له مثل في شيء من صفاته، ويقولون: إنه لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال، لم يزل متكلما إذا شاء بمشيئته وقدرته، ولم يزل عالما، ولم يزل قادرا، ولم يزل حيا سمعيا بصيرا، ولم يزل مريدا؛ فكل كمال لا نقص فيه يمكن اتصافه به فهو موصوف به، لم يزل ولا يزال متصفا بصفات الكمال منعوتا بنعوت الجلال والإكرام سبحانه وتعالى) (1) * * *
(1) «الجواب الصحيح» (2 / 158 - 164). 34 الصفات لها ثلات اعتبارات مطلقة أو مضافة للعبد أو مضافة للرب (الصفات لها ثلاث اعتبارات: تارة تعتبر مضافة إلى الرب، وتارة تعتبر مضافة إلى العبد، وتارة تعتبر مطلقة لا تختص بالرب ولا بالعبد، فإذا قال العبد: حياة الله وعلم الله وقدرة الله وكلام الله ونحو ذلك؛ فهذا كله غير مخلوق ولا يماثل صفات المخلوقين، وإذا قال: علم العبد وقدرة العبد وكلام العبد؛ فهذا كله مخلوق ولا يماثل صفات الرب، وإذا قال: العلم والقدرة والكلام؛ فهذا مجمل مطلق لا يقال عليه كله أنه مخلوق ولا أنه غير مخلوق؛ بل ما اتصف به الرب من ذلك فهو غير مخلوق، وما اتصف به العبد من ذلك فهو مخلوق؛ فالصفة تتبع الموصوف، فإن كان الموصوف هو الخالق؛ فصفاته غير مخلوقة، وإن كان الموصوف هو العبد المخلوق؛ فصفاته مخلوقة) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (12 / 66). 35 معنى تردد الله عز وجل عن قبض نفس عبده المؤمن سئل عن قوله (ص) فيما يروي عن ربه عز وجل: «وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته» (1): ما معنى تردد الله؟ فأجاب: هذا حديث شريف، قد رواه البخاري من حديث أبي هريرة، وهو أشرف حديث روي في صفة الأولياء، وقد رد هذا الكلام طائفة وقالوا: إن الله لا يوصف بالتردد، وإنما يتردد من لا يعلم عواقب الأمور، والله أعلم بالعواقب، وربما قال بعضهم: إن الله يعامل معاملة المتردد. والتحقيق: أن كلام رسوله حق وليس أحد أعلم بالله من رسوله ولا أنصح للأمة منه ولا أفصح ولا أحسن بيانا منه، فإذا كان كذلك كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس وأجهلهم وأسوئهم أدبا، بل يجب تأديبه وتعزيره، ويجب أن يصان كلام رسول الله (ص) عن الظنون الباطلة والاعتقادات الفاسدة، ولكن المتردد منا وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه ما يعلم عاقبة الأمور لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منا؛ فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، ثم هذا باطل؛ فإن الواحد منا يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب، وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد؛ فيريد الفعل لما فيه من المصلحة ويكرهه لما فيه من المفسدة، لا لجهله
(1) رواه البخاري في (الرقاق، باب التواضع، رقم 6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 36 منه بالشيء الواحد الذي يحب من وجه ويكره من وجه، كما قيل: الشيب كره وكره أن أفارقه فاعجب لشيء على البغضاء محبوب وهذا مثل إرادة المريض لدوائه الكريه، بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب، وفي «الصحيح»: «حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره» (1)، وقال تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم...} (2) الآية. ومن هذا الباب يظهر معنى التردد المذكور في هذا الحديث؛ فإنه قال: «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه»؛ فإن العبد الذي هذا حاله صار محبوبا للحق محبا له، يتقرب إليه أولا بالفرائض وهو يحبها، ثم اجتهد في النوافل التي يحبها ويحب فاعلها، فأتى بكل ما يقدر عليه من محبوب الحق؛ فأحبه الحق لفعل محبوبه من الجانبين بقصد اتفاق الإرادة بحيث يحب ما يحبه محبوبه ويكره ما يكرهه محبوبه، والرب يكره أن يسوء عبده ومحبوبه؛ فلزم من هذا أن يكره الموت ليزداد من محاب محبوبه. والله سبحانه وتعالى قد قضى بالموت؛ فكل ما قضى به فهو يريده ولا بد منه، فالرب مريد لموته لما سبق به قضاؤه، وهو مع ذلك كاره لمساءة عبده وهي المساءة التي تحصل له بالموت؛ فصار الموت مرادا للحق من وجه مكروها له من وجه، وهذا حقيقة التردد، وهو أن يكون الشيء الواحد مرادا من وجه مكروها من وجه، وإن كان لا بد من ترجح أحد الجانبين كما ترجح إرادة
(1) رواه البخاري في (الرقاق، باب حجبت النار بالشهوات، رقم 6487) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: «حجبت النار...»، ومسلم في (الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2823) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه بلفظ: «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات». (2) البقرة: 216. 37 الموت، لكن مع وجود كراهة مساءة عبده، وليس إرادته لموت المؤمن الذي يحبه ويكره مساءته كإرادته لموت الكافر الذي يبغضه ويريد مساءته) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (18 / 129 - 131). 38 المراد بقولهم: الإيمان قول وعمل (إن من قال من السلف: الإيمان قول وعمل أراد قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، ومن أراد الاعتقاد رأى أن لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر أو خاف ذلك فزاد الاعتقاد بالقلب، ومن قال: قول وعمل ونية؛ قال: القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأما العمل؛ فقد لا يفهم منه النية فزاد ذلك، ومن زاد اتباع السنة؛ فلأن ذلك كله لا يكون محبوبا لله إلا باتباع السنة، وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل، إنما أرادوا ما كان مشروعا من الأقوال والأعمال، ولكن كان مقصودهم الرد على «المرجئة» الذين جعلوه قولا فقط؛ فقالوا: بل هو قول وعمل. والذين جعلوه «أربعة أقسام» فسروا مرادهم كما سئل سهل بن عبد الله التستري عن الإيمان: ما هو؟ فقال: قول وعمل ونية وسنة؛ لأن الإيمان إذا كان قولا بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولا وعملا بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولا وعملا ونية بلا سنة فهو بدعة) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (7 / 171). 39 ما كان في القلب لا بد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح (أصل الإيمان في القلب، وهو قول القلب وعمله، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد، وما كان في القلب فلا بد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه، ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه، وهي تصديق لما في القلب ودليل عليه وشاهد له، وهي شعبة من مجموع الإيمان المطلق وبعض له؛ لكن ما في القلب هو الأصل لما على الجوارح؛ كما قال أبو هريرة رضي الله عنه: «إن القلب ملك، والأعضاء جنوده؛ فإن طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده» (1)، وفي «الصحيحين» عنه (ص) أنه قال: «إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب» (2). ولهذا ظن طوائف من الناس أن الإيمان إنما هو في القلب خاصة، وما على الجوارح ليس داخلا في مسماه، ولكن هو من ثمراته ونتائجه الدالة عليه، حتى آل الأمر بغلاتهم - كجهم وأتباعه - إلى أن قالوا: يمكن أن يصدق بقلبه ولا يظهر بلسانه إلا كلمة الكفر مع قدرته على إظهارها، فيكون الذي في القلب إيمانا نافعا له في الآخرة، وقالوا: حيث حكم الشارع بكفر أحد بعمل أو قول؛ فلكونه دليلا على انتفاء ما في القلب.
(1) [إسناده ضعيف]. رواه الطبراني في «مسند الشاميين» (738) من حديث عائشة رضي الله عنها بإسناد فيه عتبة بن أبي حكيم، وهو ضعيف. (2) رواه البخاري في (الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، رقم 52)، ومسلم في (المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، رقم 1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه). 40 وقولهم متناقض؛ فإنه إذا كان ذلك دليلا مستلزما لانتفاء الإيمان الذي في القلب امتنع أن يكون الإيمان ثابتا في القلب، مع الدليل المستلزم لنفيه، وإن لم يكن دليلا لم يجز الاستدلال به على الكفر الباطن. والله سبحانه في غير موضع يبين أن تحقيق الإيمان وتصديقه بما هو من الأعمال الظاهرة والباطنة؛ كقوله: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون. الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. أولئك هم المؤمنون حقا...} (1). وقال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} (2). فإذا قال القائل: هذا يدل على أن الإيمان ينتفي عند انتفاء هذه الأمور لا يدل على أنها من الإيمان. قيل: هذا اعتراف بأنه ينتفي الإيمان الباطن مع عدم مثل هذه الأمور الظاهرة؛ فلا يجوز أن يدعي أنه يكون في القلب إيمان ينافي الكفر بدون أمور ظاهرة: لا قول ولا عمل، وهو المطلوب - وذلك تصديق -، وذلك لأن القلب إذا تحقق ما فيه أثر في الظاهر ضرورة، لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر؛ فالإرادة الجازمة للفعل مع القدرة التامة توجب وقوع المقدور، فإذا كان في القلب حب الله ورسوله ثابتا استلزم موالاة أوليائه ومعاداة أعدائه: {لا تجدوا قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} (3)، {ولو كانوا يؤمنون
(1) الأنفال: 2. (2) النساء: 65. (3) المجادلة: 22. 41 بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء} (1)؛ فهذا التلازم أمر ضروري. ومن جهة ظن انتفاء التلازم غلط غالطون، كما غلط آخرون في جواز وجود إرادة جازمة مع القدرة التامة بدون الفعل، حتى تنازعوا: هل يعاقب على الإرادة بلا عمل؟ وقد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع، وبينا أن الهمة التي لم يقترن بها فعل ما يقدر عليه الهام ليس إرادة جازمة، وأن الإرادة الجازمة لا بد أن يوجد معها ما يقدر عليه العبد، والعفو وقع عمن هم بسيئة ولم يفعلها لا عن من أراد وفعل المقدور عليه وعجز عن حصول مراده، كالذي أراد قتل صاحبه فقاتله حتى قتل أحدهما؛ فإن هذا يعاقب لأنه أراد وفعل المقدور من المراد، ومن عرف الملازمات التي بين الأمور الباطنة والظاهرة زالت عنه شبهات كثيرة في مثل هذه المواضع التي كثر اختلاف الناس فيها. بقي أن يقال: فهل اسم الإيمان للأصل فقط، أو له ولفروعه؟ والتحقيق: أن الاسم المطلق يتناولهما، وقد يخص الاسم وحده بالاسم مع الاقتران، وقد لا يتناول إلا الأصل إذا لم يخص إلا هو، كاسم الشجرة؛ فإنه يتناول الأصل والفرع إذا وجدت، ولو قطعت الفروع لكان اسم الشجرة يتناول الأصل وحده) (2). * * *
(1) المائدة: 81. (2) «مجموع الفتاوى» (7 / 644 - 646). 42 الإيمان والنفاق أصله في القلب والعمل دليل عليه وإذا حصل دليل الشيء حصل أصله المدلول عليه (... وأيضا؛ فإن الله سبحانه وإن كان قد علم منهم - يعني: الذين لمزوا النبي - النفاق قبل هذا القول، لكن لم يعلم نبيه بكل من لم يظهر نفاقه، بل قال: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم} (1)، ثم إنه سبحانه ابتلى الناس بأمور يميز بين المؤمنين والمنافقين؛ كما قال تعالى: {وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين} (2)، وقال تعالى: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب} (3)، وذلك لأن الإيمان والنفاق أصله في القلب، وإنما الذي يظهر من القول والفعل فرع له ودليل عليه؛ فإذا ظهر من الرجل شيء من ذلك ترتب الحكم عليه، فلما أخبر سبحانه أن الذين يلمزون النبي (ص) والذين يؤذونه من المنافقين ثبت أن ذلك دليل على النفاق وفرع له، ومعلوم أنه إذا حصل فرع الشيء ودليله حصل أصله المدلول عليه؛ فثبت أنه حيثما وجد ذلك كان صاحبه منافقا، سواء كان منافقا قبل هذا القول أو حدث له النفاق بهذا القول. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون هذا القول دليلا للنبي (ص) على نفاق أولئك الأشخاص الذين قالوه في حياته بأعيانهم وإن لم يكن دليلا من غيرهم؟ قلنا: إذا كان دليلا للنبي (ص) الذي يمكن أن يغنيه الله بوحيه عن الاستدلال؛ فأن يكون دليلا لمن لا يمكنه معرفة البواطن أولى وأحرى.
(1) التوبة: 101. (2) العنكبوت: 11. (3) آل عمران: 179. 43 وأيضا؛ فلو لم تكن الدلالة مطردة في حق كل من صدر منه ذلك القول لم يكن في الآية زجر لغيرهم أن يقول مثل هذا القول، ولا كان في الآية تعظيم لذلك القول بعينه؛ فإن الدلالة على عين المنافق قد تكون مخصوصة بعينه وإن كانت أمرا مباحا، كما لو قيل: من المنافقين صاحب الجمل الأحمر وصاحب الثوب الأسود ونحو ذلك، فلما دل القرآن على ذم عين هذا القول والوعيد لصاحبه علم أنه لم يقصد به الدلالة على المنافقين بأعيانهم فقط، بل هو دليل على نوع من المنافقين. وأيضا؛ فإن هذا القول مناسب للنفاق، فإن لمز النبي (ص) وأذاه لا يفعله من يعتقد أنه رسول الله حقا، وأنه أولى به من نفسه، وأنه لا يقول إلا الحق، ولا يحكم إلا بالعدل، وأن طاعته طاعة لله، وأنه يجب على جميع الخلق تعزيره وتوقيره، وإذا كان دليلا على النفاق نفسه؛ فحيثما حصل حصل النفاق) (1) * * *
(1) «الصارم المسلول» (2 / 76 - 77). 44 أصل العمل عمل القلب وما يتناوله لفظ: «السنة» في كلام السلف (أصل العمل عمل القلب، وهو الحب والتعظيم المنافي للبغض والاستكبار. ثم قالوا: ولا يقبل قول وعمل إلا بنية، وهذا ظاهر؛ فإن القول والعمل إذا لم يكن خالصا لله تعالى لم يقبله الله تعالى. ثم قالوا: ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة؛ وهي الشريعة، وهي ما أمر الله به ورسوله؛ لأن القول والعمل والنية الذي لا يكون مسنونا مشروعا قد أمر الله به يكون بدعة ليس مما يحبه الله؛ فلا يقبله الله ولا يصلح، مثل أعمال المشركين وأهل الكتاب. ولفظ «السنة» في كلام السلف يتناول السنة في العبادات وفي الاعتقادات، وإن كان كثير ممن صنف في السنة يقصدون الكلام في الاعتقادات، وهذا كقول ابن مسعود وأبي بن كعب وأبي الدرداء رضي الله عنهم: «اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة»، وأمثال ذلك. والحمد لله رب العالمين، وصلواته على محمد وآله الطاهرين وأصحابه أجمعين) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (28 / 178). 45 الكفر المطلق وكفر المعين (والتحقيق في هذا: أن القول قد يكون كفرا؛ كمقالات الجهمية الذين قالوا: إن الله لا يتكلم ولا يرى في الآخرة؛ ولكن قد يخفى على بعض الناس أنه كفر، فيطلق القول بتكفير القائل؛ كما قال السلف: من قال القرآن مخلوق؛ فهو كافر، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة؛ فهو كافر، ولا يكفر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة كما تقدم، كمن جحد وجوب الصلاة والزكاة واستحل الخمر والزنا وتأول؛ فإن ظهور تلك الأحكام بين المسلمين أعظم من ظهور هذه، فإذا كان المتأول المخطىء في تلك لا يحكم بكفره إلا بعد البيان له واستتابته - كما فعل الصحابة في الطائفة الذين استحلوا الخمر -؛ ففي غير ذلك أولى وأحرى، وعلى هذا يخرج الحديث الصحيح: «في الذي قال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني في اليم؛ فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين» (1)، وقد غفر الله لهذا مع ما حصل له من الشك في قدرة الله وإعادته إذا حرقوه، وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع) (2) * * *
(1) رواه البخاري في (أحاديث الأنبياء، باب حدثنا أبو اليمان، 3478، والرقاق، 6481، والتوحيد، 7508) ومسلم في (التوبة، 2757) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه)، والبخاري في (أحاديث الأنبياء، 3481) ومسلم في (التوبة، 2756) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه). 46 تفصيل القول في حكم تارك الأركان الأربعة وبخاصة الصلاة (... وأما مع الإقرار بالوجوب إذا ترك شيئا من هذه الأركان الأربعة؛ ففي التكفير أقوال للعلماء هي روايات عن أحمد: أحدها: أنه يكفر بترك واحد من الأربعة، حتى الحج، وإن كان في جواز تأخيره نزاع بين العلماء، فمتى عزم على تركه بالكلية كفر... والثاني: أنه لا يكفر بترك شيء من ذلك مع الإقرار بالوجوب... والثالث: لا يكفر إلا بترك الصلاة... والرابع: يكفر بتركها وترك الزكاة فقط. والخامس: بتركها وترك الزكاة إذا قاتل الإمام عليها دون ترك الصيام والحج. وهذه المسألة لها طرفان: أحدهما: في إثبات الكفر الظاهر. الثاني: في إثبات الكفر الباطن. فأما الطرف الثاني؛ فهو مبني على مسألة كون الإيمان قولا وعملا كما تقدم، ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا إيمانا ثابتا في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة ولا يصوم من رمضان ولا يؤدي لله زكاة لا يحج إلى بيته؛ فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة ولا مع إيمان صحيح، ولهذا إنما يصف سبحانه بالامتناع من السجود الكفار؛ كقوله: {يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون. خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون
47 إلى السجود وهم سالمون} (1)... و «أيضا» في القرآن علق الأخوة في الدين على نفس إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، كما علق ذلك على التوبة من الكفر، فإذا انتفى ذلك انتفت الأخوة. و «أيضا»؛ فقد ثبت عن النبي (ص) أنه قال: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» (2)، وفي «المسند»: «من ترك الصلاة متعمدا؛ فقد برئت منه الذمة» (3). و «أيضا»؛ فإن شعار المسلمين الصلاة، ولهذا يعبر عنهم بها؛ فيقال: اختلف أهل الصلاة واختلف أهل القبلة، والمصنفون لمقالات المسلمين يقولون: «مقالات الإسلاميين، واختلاف المصلين»، وفي «الصحيح»: «من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ فذلك المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا» (4)، وأمثال هذه النصوص كثيرة في الكتاب والسنة. وأما الذين لم يكفروا بترك الصلاة ونحوها؛ فليس لهم حجة إلا وهي متناولة للجاحد كتناولها للتارك، فما كان جوابهم عن الجاحد كان جوابا لهم عن التارك، مع أن النصوص علقت الكفر بالتولي كما تقدم، وهذا مثل استدلالهم بالعمومات التي يحتج بها المرجئة؛ كقوله، «من شهد أن لا إله إلا
(1) القلم: 43 - 44. (2) [صحيح]. رواه الترمذي في (الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة، رقم 2621)، والنسائي في (الصلاة، باب الحكم في تارك الصلاة، رقم 463)، وابن ماجة في (إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة، رقم 1079)؛ من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه. وانظر: «صحيح الجامع» (رقم 4143). (3) [حسن]. رواه أحمد في «المسند» (6 / 421)، والطبراني في «الكبير» (20 / 117)، والبيهقي في «السنن» (7 / 304). (4) رواه البخاري بنحوه في (الصلاة، باب فضل استقبال القبلة، رقم 391، 393) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. 48 الله، وأن محمدا رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه... أدخله الله الجنة» (1)، ونحو ذلك من النصوص. وأجود ما اعتمدوا عليه قوله (ص): «خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة؛ فمن حافظ عليهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد: إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة» (2)، قالوا: فقد جعل غير المحافظ تحت المشيئة، والكافر لا يكون تحت المشيئة، ولا دلالة في هذا، فإن الوعد بالمحافظة عليها، والمحافظة فعلها في أوقاتها كما أمر؛ كما قال تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} (3)، وعدم المحافظة يكون مع فعلها بعد الوقت، كما أخر النبي (ص) صلاة العصر يوم الخندق، فأنزل الله آية الأمر بالمحافظة عليها وعلى غيرها من الصلوات. وقد قال تعالى: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا} (4)؛ فقيل لابن مسعود وغيره: «ما إضاعتها؟ فقال: تأخيرها عن وقتها. فقالوا: ما كنا نظن ذلك إلا تركها! فقال: لو تركوها لكانوا كفارا» (5).
(1) حديث رواه البخاري في (أحاديث الأنبياء، باب قوله: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم...}، رقم 3435)، ومسلم في (الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا، رقم 28)؛ من حديث عبادة بن الصامت. (2) [صحيح]. رواه النسائي في (الصلاة، باب المحافظة على الصلوات الخمس، رقم 461)، وأبو داود في (الصلاة، باب المحافظة على وقت الصلوات، رقم 425، وباب فيمن لم يوتر، رقم 1420)، وابن ماجة في (إقامة الصلاة، باب ما جاء في فرض الصلوات الخمس والمحافظة عليها، رقم 1401)؛ من حديث عبادة بن الصامت. وانظر: «صحيح الجامع» (3243). (3) البقرة: 238. (4) مريم: 59. (5) أورده ابن جرير في (التفسير، من كلام القاسم بن مخيمرة، وأورد بإسناده إلى ابن مسعود وأنه قيل له: ما كنا نرى ذلك إلا على الترك. قال: «ذاك الكفر». ورواه اللالكائي في «الاعتقاد» (1534)، وعبد الله بن أحمد في «السنة» (773)؛ بإسناد منقطع. 49 وكذلك قوله: {فويل للمصلين. الذين هم عن صلاتهم ساهون} (1): ذمهم مع أنهم يصلون؛ لأنهم سهوا عن حقوقها الواجبة من فعلها في الوقت وإتمام أفعالها المفروضة، كما ثبت في «صحيح مسلم» عن النبي [AHPH 1] (أنه قال: «تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا» (2)؛ فجعل هذه صلاة المنافقين لكونه أخرها عن الوقت ونقرها. وقد ثبت في «الصحيح» عن النبي (ص): أنه ذكر الأمراء بعده الذين يفعلون ما ينكر، وقالوا: يا رسول الله! أفلا نقاتلهم! قال: «لا، ما صلوا» (3)، وثبت عنه أنه قال: «سيكون أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها؛ فصلوا الصلاة لوقتها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة» (4)؛ فنهى عن قتالهم إذا صلوا، وكان في ذلك دلالة على أنهم إذا لم يصلوا قوتلوا، وبين أنهم يؤخرون الصلاة عن وقتها، وذلك ترك المحافظة عليها لا تركها. وإذا عرف الفرق بين الأمرين؛ فالنبي (ص) إنما أدخل تحت المشيئة من لم يحافظ عليها لا من ترك، ونفس المحافظة يقتضي أنهم صلوا ولم يحافظوا عليها، ولا يتناول من لم يحافظ؛ فإنه لو تناول ذلك قتلوا كفارا مرتدين بلا ريب، ولا يتصور في العادة أن رجلا يكون مؤمنا بقلبه، مقرا بأن الله أوجب عليه الصلاة، ملتزما لشريعة النبي (ص) وما جاء به، يأمره ولي الأمر بالصلاة فيمتنع حتى يقتل، ويكون مع ذلك مؤمنا في الباطن! قط لا يكون إلا كافرا، ولو قال [AHPH 1]
(1) الماعون: 4، 5. (2) رواه مسلم في (المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التبكير بالعصر، 622). (3) رواه مسلم في (الإمارة، باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع وترك قتالهم ما صلوا، رقم 1854) من حديث أم سلمة رضي الله عنها. (4) رواه مسلم في (المساجد، باب الندب إلى وضع الأيدي على الركب في الركوع ونسخ التطبيق، رقم 648) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. 50 أنا مقر بوجوبها غير أني لا أفعلها؛ كان هذا القول مع هذه الحال كذبا منه، كما لو أخذ يلقي المصحف في الحش ويقول: أشهد أن ما فيه كلام الله، أو جعل يقتل نبيا من الأنبياء ويقول: أشهد أنه رسول الله، ونحو ذلك من الأفعال التي تنافي إيمان القلب، فإذا قال: أنا مؤمن بقلبي مع هذه الحال؛ كان كاذبا فيما أظهره من القول. فهذا الموضع ينبغي تدبره؛ فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب، وعلم أن من قال من الفقهاء: إنه إذا أقر بالوجوب وامتنع عن الفعل لا يقتل، أو يقتل مع إسلامه؛ فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل، ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في «مسألة الإيمان»، وأن الأعمال ليست من الإيمان، وقد تقدم أن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب، وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع، سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان أو جزء من الإيمان كما تقدم بيانه. وحينئذ؛ فإذا كان العبد يفعل بعض المأمورات ويترك بعضها كان معه من الإيمان بحسب ما فعله، والإيمان يزيد وينقص، ويجتمع في العبد إيمان ونفاق؛ كما ثبت عنه في «الصحيح» أنه قال: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق؛ حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» (1).
51 وبهذا تزول الشبهة في هذا الباب، فإن كثيرا من الناس؛ بل أكثرهم في كثير من الأمصار لا يكونون محافظين على الصلوات الخمس ولا هم تاركيها بالجملة، بل يصلون أحيانا ويدعون أحيانا؛ فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق، وتجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة في المواريث ونحوها من الأحكام؛ فإن هذه الأحكام إذا جرت على المنافق المحض - كابن أبي وأمثاله من المنافقين -؛ فلأن تجري على هؤلاء أولى وأحرى. وبيان «هذا الموضع» مما يزيل الشبهة؛ فإن كثيرا من الفقهاء يظن أن من قيل: هو كافر، فإنه يجب أن تجري عليه أحكام المرتد ردة ظاهرة، فلا يرث ولا يورث ولا يناكح؛ حتى أجروا هذه الأحكام على من كفروه بالتأويل من أهل البدع، وليس الأمر كذلك؛ فإنه قد ثبت أن الناس كانوا «ثلاثة أصناف»: مؤمن، وكافر مظهر للكفر، ومنافق مظهر للإسلام مبطن للكفر، وكان في المنافقين من يعلمه الناس بعلامات ودلالات؛ بل من لا يشكون في نفاقه ومن نزل القرآن ببيان نفاقه - كابن أبي وأمثاله -، ومع هذا فلما مات هؤلاء ورثهم ورثتهم المسلمون، وكان إذا مات لهم ميت آتوهم ميراثه وكانت تعصم دماؤهم حتى تقوم السنة الشرعية على أحدهم بما يوجب عقوبته) (1) * * *
52 التكفير المطلق لا يستلزم تكفير الشخص المعين (إن المجتهد في مثل هذا - يعني: إنكار علو الله - من المؤمنين إن استفرغ وسعه في طلب الحق؛ فإن الله يغفر له خطأه وإن حصل منه نوع تقصير، فهو ذنب لا يجب أن يبلغ الكفر، وإن كان يطلق القول بأن هذا الكلام كفر كما أطلق السلف الكفر على من قال ببعض مقالات الجهمية، مثل القول بخلق القرآن أو إنكار الرؤية أو نحو ذلك مما هو دون إنكار علو الله على الخلق، وأنه فوق العرش؛ فإن تكفير صاحب هذه المقالة كان عندهم من أظهر الأمور، فإن التكفير المطلق مثل الوعيد المطلق، لا يستلزم تكفير الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة التي تكفر تاركها. كما ثبت في الصحاح عن النبي (ص) في الرجل الذي قال: «إذا أنا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم؛ فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين، فقال الله له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك. فغفر له» (1). فهذا الرجل اعتقد أن الله لا يقدر على جمعه إذا فعل ذلك أو شك، وأنه لا يبعثه، وكل من هذين الاعتقادين كفر يكفر من قامت عليه الحجة، لكنه كان يجهل ذلك، ولم يبلغه العلم بما يرده عن جهله، وكان عنده إيمان بالله وبأمره ونهيه ووعده ووعيده، فخاف من عقابه، فغفر الله له بخشيته. فمن أخطأ في بعض مسائل الاعتقاد من أهل الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر والعمل الصالح لم يكن أسوأ حالا من هذا الرجل؛ فيغفر الله
53 خطأه، أو يعذبه إن كان منه تفريط في اتباع الحق على قدر دينه، وأما تكفير شخص علم إيمانه بمجرد الغلط في ذلك؛ فعظيم. فقد ثبت في «الصحيح» عن ثابت بن الضحاك عن النبي (ص)؛ قال: «لعن المؤمن كقتله، ومن رمى مؤمنا بالكفر؛ فهو كقتله» (1). وثبت في «الصحيح» أن من قال لأخيه: يا كافر؛ فقد باء به أحدهما (2)، وإذا كان تكفير المعين على سبيل الشتم كقتله؛ فكيف يكون تكفيره على سبيل الاعتقاد؟! فإن ذلك أعظم من قتله؛ إذ كل كافر يباح قتله، وليس كل من أبيح قتله يكون كافرا، فقد يقتل الداعي إلى بدعة لإضلاله الناس وإفساده مع إمكان أن الله يغفر له في الآخرة لما معه من الإيمان؛ فإنه قد تواترت النصوص بأنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان) (3) * * *
54 المرجئة غلطوا في أصلين فهؤلاء (أهل الكلام المرجئة) غلطوا في «أصلين»: أحدهما: ظنهم أن الإيمان مجرد تصديق وعلم فقط، ليس معه عمل وحال وحركة وإرادة ومحبة وخشية في القلب، وهذا من أعظم غلط المرجئة مطلقا... والثاني: ظنهم أن كل من حكم الشارع بأنه كافر مخلد في النار؛ فإنما ذاك لأنه لم يكن في قلبه شيء من العلم والتصديق، وهذا أمر خالفوا به الحس والعقل والشرع، وما أجمع عليه طوائف بني آدم السليمي الفطرة وجماهير النظار؛ فإن الإنسان قد يعرف أن الحق مع غيره ومع هذا يجحد ذلك لحسده إياه، أو لطلب علوه عليه، أو لهوى النفس، ويحمله ذلك الهوى على أن يعتدي عليه ويرد ما يقول بكل طريق، وهو في قلبه يعلم أن الحق معه، وعامة من كذب الرسل علموا أن الحق معهم وأنهم صادقون، لكن إما لحسدهم وإما لإرادتهم العلو والرياسة، وإما لحبهم دينهم الذي كانوا عليه وما يحصل لهم به من الأغراض كأموال ورياسة وصداقة أقوام وغير ذلك؛ فيرون في اتباع الرسل ترك الأهواء المحبوبة إليهم أو حصول أمور مكروهة إليهم، فيكذبونهم ويعادونهم، فيكونون من أكفر الناس؛ كإبليس وفرعون، مع علمهم بأنهم على الباطل والرسل على الحق) (1). * * *
55 أصناف المرجئة وأوجه غلطهم والرد عليها «المرجئة ثلاثة أصناف»: الذين يقولون: الإيمان مجرد ما في القلب، ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب وهم أكثر فرق المرجئة... و «القول الثاني»: من يقول: هو مجرد قول اللسان، وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية. و «الثالث»: تصديق القلب وقول اللسان، وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم، وهؤلاء غلطوا من وجوه: أحدها: ظنهم أن الإيمان الذي فرضه الله على العباد متماثل في حق العباد، وأن الإيمان الذي يجب على شخص يجب مثله على كل شخص، وليس الأمر كذلك؛ فإن أتباع الأنبياء المتقدمين أوجب الله عليهم من الإيمان ما لم يوجبه على أمة محمد، وأوجب على أمة محمد من الإيمان ما لم يوجبه على غيرهم، والإيمان الذي كان يجب قبل نزول جميع القرآن ليس هو مثل الإيمان الذي يجب بعد نزول القرآن، والإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر به الرسول مفصلا ليس مثل الإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر به مجملا؛ فإنه لا بد في الإيمان من تصديق الرسول في كل ما أخبر، لكن من صدق الرسول ومات عقب ذلك لم يجب عليه من الإيمان غير ذلك، وأما من بلغه القرآن والأحاديث وما فيهما من الأخبار والأوامر المفصلة؛ فيجب عليه من التصديق المفصل بخبر خبر وأمر أمر ما لا يجب على من لم يجب عليه إلا الإيمان المجمل لموته قبل أن يبلغه شيء آخر. و «أيضا»؛ لو قدر أنه عاش؛ فلا يجب على كل واحد من العامة أن يعرف كل ما أمر به الرسول وكل ما نهى عنه وكل ما أخبر به، بل إنما عليه
56 أن يعرف ما يجب عليه هو وما يحرم عليه، فمن لا مال له لا يجب عليه أن يعرف أمره المفصل في الزكاة، ومن لا استطاعة له على الحج ليس عليه أن يعرف أمره المفصل بالمناسك، ومن لم يتزوج ليس عليه أن يعرف ما وجب للزوجة؛ فصار يجب من الإيمان تصديقا وعملا على أشخاص ما لا يجب على آخرين. ... فإذا قيل: الأعمال الواجبة من الإيمان؛ فالإيمان الواجب متنوع ليس شيئا واحدا في حق جميع الناس، وأهل السنة والحديث يقولون: جميع الأعمال الحسنة واجبها ومستحبها من الإيمان؛ أي: من الإيمان الكامل بالمستحبات ليست من الإيمان الواجب، ويفرق بين الإيمان الواجب وبين الإيمان الكامل بالمستحبات، كما يقول الفقهاء: الغسل ينقسم إلى مجزئ وكامل؛ فالمجزئ: ما أتى فيه بالواجبات فقط، والكامل: ما أتى فيه بالمستحبات، ولفظ الكمال قد يراد به الكمال الواجب وقد يراد به الكمال المستحب. وأما قولهم: إن الله فرق بين الإيمان والعمل في مواضع؛ فهذا صحيح، وقد بينا أن الإيمان إذا أطلق أدخل الله ورسوله فيه الأعمال المأمور بها، وقد يقرن به الأعمال، وذكرنا نظائر لذلك كثيرة، وذلك لأن أصل الإيمان هو ما في القلب، والأعمال الظاهرة لازمة لذلك، لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح، بل متى نقصت الأعمال الظاهرة كان لنقص الإيمان الذي في القلب؛ فصار الإيمان متناولا للملزوم واللازم وإن كان أصله ما في القلب، وحيث عطفت عليه الأعمال؛ فإنه أريد أنه لا يكتفي بإيمان القلب بل لا بد معه من الأعمال الصالحة... الوجه الثاني:... ظنهم أن ما في القلب من الإيمان ليس إلا التصديق فقط دون أعمال القلوب؛ كما تقدم عن جهمية المرجئة. الثالث: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون شيء من
57 الأعمال، ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه بمنزلة السبب مع المسبب ولا يجعلونها لازمة له، والتحقيق أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة، ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر؛ ولهذا صاروا يقدرون مسائل يمتنع وقوعها لعدم تحقق الارتباط الذي بين البدن والقلب...) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (7 / 195 - 204). 58 من حجج المرجئة والرد عليها (فإن قيل: فإذا كان الإيمان المطلق يتناول جميع ما أمر الله به ورسوله، فمتى ذهب بعض ذلك بطل الإيمان؛ فيلزم تكفير أهل الذنوب كما تقوله الخوارج، أو تخليدهم في النار وسلبهم اسم الإيمان بالكلية كما تقوله المعتزلة، وكلا هذين القولين شر من قول المرجئة؛ فإن المرجئة منهم جماعة من العلماء والعباد المذكورين عند الأمة بخير، وأما الخوارج والمعتزلة؛ فأهل السنة والجماعة من جميع الطوائف مطبقون على ذمهم. قيل: أولا: ينبغي أن يعرف أن القول الذي لم يوافق الخوارج والمعتزلة عليه أحد من أهل السنة هو القول بتخليد أهل الكبائر في النار؛ فإن هذا القول من البدع المشهورة، وقد اتفق الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين على أنه لا يخلد في النار أحد ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، واتفقوا أيضا على أن نبينا (ص) يشفع فيمن يأذن الله له بالشفاعة فيه من أهل الكبائر من أمته. ففي «الصحيحين» عنه أنه قال: «لكل نبي دعوة مستجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة» (1)، وهذه الأحاديث مذكورة في مواضعها... وأما قول القائل: إن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله؛ فهذا ممنوع، وهذا هو الأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان؛ فإنهم ظنوا أنه متي ذهب بعضه ذهب كله لم يبق منه شيء، ثم قالت «الخوارج والمعتزلة»: هو مجموع ما أمر الله به ورسوله، وهو الإيمان المطلق؛ كما قاله أهل الحديث؛ قالوا: فإذا
(1) رواه البخاري في (الدعوات، باب لكل نبي دعوة مستجابة، رقم (6304)، ومسلم في (الإيمان: باب اختباء النبي (ص) دعوة الشفاعة لأمته، رقم 199)؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 59 ذهب شيء منه لم يبق مع صاحبه من الإيمان شيء فيخلد في النار. وقالت «المرجئة» على اختلاف فرقهم: لا تذهب الكبائر وترك الواجبات الظاهرة شيئا من الإيمان؛ إذ لو ذهب شيء منه لم يبق منه شيء؛ فيكون شيئا واحدا يستوي فيه البر والفاجر، ونصوص الرسول وأصحابه تدل على ذهاب بعضه وبقاء بعضه؛ كقوله: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان» (1). ولهذا كان «أهل السنة والحديث» على أنه يتفاضل، وجمهورهم يقولون: «يزيد وينقص...» (2) * * *
(1) رواه بنحوه البخاري في (التوحيد، باب قول الله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة}، رقم 7440) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ومسلم في (الفتن وأشراط الساعة، باب في خروج الدجال، رقم 2940) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. (2) «مجموع الفتاوى» (7 / 222 - 223). 60 الرد على قول المرجئة: المراد بالإيمان التصديق (إن «المرجئة» لما عدلوا عن معرفة كلام الله ورسوله؛ أخذوا يتكلمون في مسمى «الإيمان» و «الإسلام» وغيرهما بطرق ابتدعوها، مثل أن يقولوا: «الإيمان في اللغة» هو التصديق، والرسول إنما خاطب الناس بلغة العرب لم يغيرها، فيكون مراده بالإيمان التصديق! ثم قالوا: والتصديق إنما يكون بالقلب واللسان أو بالقلب؛ فالأعمال ليست من الإيمان، ثم عمدتهم أن الإيمان هو التصديق قوله: {وما أنت بمؤمن لنا} (1)؛ أي: بمصدق لنا. فيقال لهم: «اسم الإيمان» قد تكرر ذكره في القرآن والحديث أكثر من ذكر سائر الألفاظ، وهو أصل الدين، وبه يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويفرق بين السعداء والأشقياء ومن يوالي ومن يعادي، والدين كله تابع لهذا، وكل مسلم محتاج إلى معرفة ذلك؛ أفيجوز أن يكون الرسول قد أهمل بيان هذا كله ووكله إلى هاتين المقدمتين؟! ومعلوم أن الشاهد الذي استشهدوا به على أن الإيمان هو التصديق أنه من القرآن، ونقل معنى الإيمان متواتر عن النبي (ص) أعظم من تواتر لفظ الكلمة؛ فإن الإيمان يحتاج إلى معرفة جميع الأمة فينقلونه، بخلاف كلمة من سورة، فأكثر المؤمنين لم يكونوا يحفظون هذه السورة؛ فلا يجوز أن يجعل بيان أصل الدين مبنيا على مثل هذه المقدمات، ولهذا كثر النزاع والاضطراب بين الذين عدلوا عن صراط الله المستقيم وسلكوا السبل وصاروا من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، ومن الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات؛ فهذا كلام عام مطلق. ثم يقال: «هاتان المقدمتان» كلاهما ممنوعة، فمن الذي قال: إن لفظ
(1) يوسف: 17. 61 الإيمان مرادف للفظ التصديق؟ وهب أن المعنى يصح إذا استعمل في هذا الموضع، فلم قلت: إنه يوجب الترادف؟ ولو قلت: ما أنت بمسلم لنا، ما أنت بمؤمن لنا؛ صح المعنى، لكن لم قلت: إن هذا هو المراد بلفظ مؤمن؟ وإذا قال: {وأقيموا الصلاة} (1)؟ ولو قال القائل: أتموا الصلاة، ولازموا الصلاة، التزموا الصلاة، افعلوا الصلاة؛ كان المعنى صحيحا، لكن لا يدل هذا على معنى: أقيموا؛ فكون اللفظ يرادف اللفظ يراد دلالته على ذلك. ثم يقال: ليس هو مرادفا له، وذلك من وجوه: أحدها: أن يقال للمخبر إذا صدقته: صدقه، ولا يقال: آمنه وآمن به؛ بل يقال: آمن له، كما قال: {فآمن له لوط} (2)، وقال: {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه} (3)، قال فرعون: {آمنتم له قبل أن آذن لكم} (4)، وقالوا لنوح: {أنؤمن لك واتبعك الأرذلون} (5)، وقال تعالى: {قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين} (6)، {فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون} (7) وقال: {وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون} (8)... الثاني: أنه ليس مرادفا للفظ التصديق في المعنى، فإن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال: كذبت، فمن قال: السماء فوقنا؛ قيل له: صدق، كما يقال: كذب، وأما لفظ الإيمان؛ فلا
(1) المزمل: 20. (2) العنكبوت: 26. (3) يونس: 83. (4) الأعراف: 123. (5) الشعراء: 111. (6) التوبة: 61. (7) المؤمنون: 47. (8) الدخان: 21. 62 يستعمل إلا في الخبر عن غائب، لم يوجد في الكلام أن من أخبر عن مشاهدة؛ كقوله: طلعت الشمس وغربت، أنه يقال: آمناه، كما يقال: صدقناه، ولهذا المحدثون والشهود ونحوهم يقال: صدقناهم، وما يقال: آمنا لهم؛ فإن الإيمان مشتق من الأمن؛ فإنما يستعمل في خبر يؤتمن عليه المخبر، كالأمر الغائب الذي يؤتمن عليه المخبر، ولهذا لم يوجد قط في القرآن وغيره لفظ آمن له إلا في هذا النوع، والاثنان إذا اشتركا في معرفة الشيء يقال: صدق أحدهما صاحبه، ولا يقال: آمن له؛ لأنه لم يكن غائبا عنه ائتمنه عليه، ولهذا قال: {فآمن له لوط} (1)، {أنؤمن لبشرين مثلنا} (2)، {آمنتم له} (3)، {يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين} (4)، فيصدقهم فيما أخبروا به مما غاب عنه وهو مأمون عنده على ذلك؛ فاللفظ متضمن مع التصديق معنى الائتمان والأمانة؛ كما يدل عليه الاستعمال والاشتقاق، ولهذا قالوا: {وما أنت بمؤمن لنا} (5)؛ أي: لا تقر بخبرنا ولا تثق به ولا تطمئن إليه ولو كنا صادقين؛ لأنهم لم يكونوا عنده ممن يؤتمن على ذلك؛ فلو صدقوا لم يأمن لهم. الثالث: إن لفظ الإيمان في اللغة لم يقابل بالتكذيب كلفظ التصديق؛ فإنه من المعلوم في اللغة أن كل مخبر يقال له: صدقت أو كذبت، ويقال: صدقناه أو كذبناه، ولا يقال لكل مخبر: آمنا له أو كذبناه، ولا يقال: أنت مؤمن له أو مكذب له؛ بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ الكفر، يقال: هو مؤمن أو كافر، والكفر لا يختص بالتكذيب، بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق لكن لا أتبعك، بل أعاديك وأبغضك وأخالفك ولا أوافقك؛ لكان كفره
(1) العنكبوت: 26. (2) المؤمنون: 27. (3) الأعراف: 123. (4) التوبة: 61. (5) يوسف: 17. 63 أعظم، فلما كان الكفر المقابل للإيمان ليس هو التكذيب فقط؛ علم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط، بل إذا كان الكفر يكون تكذيبا ويكون مخالفة ومعاداة وامتناعا بلا تكذيب؛ فلا بد أن يكون الإيمان تصديقا مع موافقة وموالاة وانقياد لا يكفي مجرد التصديق؛ فيكون الإسلام جزء مسمى الإيمان كما كان الامتناع من الانقياد مع التصديق جزء مسمى الكفر؛ فيجب أن يكون كل مؤمن مسلما منقادا للأمر، وهذا هو العمل... الرابع: أن من الناس من يقول: الإيمان أصله في اللغة من الأمن الذي هو ضد الخوف، فآمن؛ أي: صار داخلا في الأمن... وأما «المقدمة الثانية»؛ فيقال: إنه إذا فرض أنه مرادف للتصديق، فقولهم: إن التصديق لا يكون إلا بالقلب أو اللسان؛ عنه جوابان: أحدهما: المنع، بل الأفعال تسمى تصديقا؛ كما ثبت في «الصحيح» عن النبي (ص) أنه قال: «العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزني وزناها السمع، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى ذلك ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» (1). وكذلك قال أهل اللغة وطوائف من السلف والخلف، قال الجوهري: والصديق مثل الفسيق: الدائم التصديق، ويكون الذي يصدق قوله بالعمل. وقال الحسن البصري: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني؛ ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، وهذا من التصديق، وتسأل عن الدين؛ فالدين هو العبادة؛ فإنك لن تجد رجلا من أهل الدين ترك عبادة أهل الدين ثم لا يدخل
64 في دين آخر إلا صار دينا له، وتسأل عن العبادة والعبادة هي الطاعة، ذلك أنه من أطاع الله فيما أمره به وفيما نهاه عنه؛ فقد آثر عبادة الله، ومن أطاع الشيطان في دينه وعمله؛ فقد عبد الشيطان، ألا ترى أن الله قال للذين فرطوا: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان} (1)، وإنما كانت عبادتهم الشيطان أنهم أطاعوه في دينهم. وقال أسد بن موسى: حدثنا الوليد بن مسلم الأوزاعي، حدثنا حسان ابن عطية؛ قال: الإيمان في كتاب الله صار إلى العمل. قال الله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم...} (2) الآية، ثم صيرهم إلى العمل، فقال: {الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} (3)؛ قال: وسمعت الأوزاعي يقول: قال الله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} (4)، والإيمان بالله باللسان، والتصديق به العمل. وقال معمر عن الزهري: كنا نقول: الإسلام بالإقرار، والإيمان بالعمل، والإيمان: قول وعمل قرينان، لا ينفع أحدهما إلا بالآخر، وما من أحد إلا يوزن قوله وعمله؛ فإن كان عمله أوزن من قوله صعد إلى الله، وإن كان كلامه أوزن من عمله لم يصعد إلى الله. ورواه أبو عمرو الطلمنكي بإسناده المعروف. وقال معاوية بن عمرو: عن أبي إسحاق الفزاري، عن الأوزاعي؛ قال: لا يستقيم الإيمان إلا بالقول، ولا يستقيم الإيمان والقول إلا بالعمل، ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة. وكان من مضى من سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل؛ العمل من
65 الإيمان والإيمان من العمل، وإنما الإيمان اسم يجمع كما يجمع هذه الأديان اسمها ويصدقه العمل، فمن آمن بلسانه، وعرف بقلبه، وصدق بعمله؛ فتلك العروة الوثقى التي لا انفصام لها، ومن قال بلسانه، ولم يعرف بقلبه، ولم يصدق بعمله؛ كان في الآخرة من الخاسرين، وهذا معروف عن غير واحد من السلف والخلف: أنهم يجعلون العمل مصدقا للقول. وكذلك «الجواب الثاني»: أنه إذا كان أصله التصديق؛ فهو تصديق مخصوص، كما أن الصلاة دعاء مخصوص، والحج قصد مخصوص، والصيام إمساك مخصوص، وهذا التصديق له لوازم صارت لوازمه داخلة في مسماه عند الإطلاق؛ فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، ويبقى النزاع لفظيا: هل الإيمان دال على العمل بالتضمن أو باللزوم؟ ومما ينبغي أن يعرف أن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي، وإلا؛ فالقائلون بأن الإيمان قول من الفقهاء - كحماد بن أبي سليمان، وهو أول من قال ذلك، ومن اتبعه من أهل الكوفة وغيرهم - متفقون مع جميع علماء السنة على أن أصحاب الذنوب داخلون تحت الذم والوعيد، وإن قالوا: إن إيمانهم كامل كإيمان جبريل؛ فهم يقولون: إن الإيمان بدون العمل المفروض ومع فعل المحرمات يكون صاحبه مستحقا للذم والعقاب، كما تقوله الجماعة. ويقولون أيضا بأن من أهل الكبائر من يدخل النار كما تقوله الجماعة، والذين ينفون عن الفاسق اسم الإيمان من أهل السنة متفقون على أنه لا يخلد في النار؛ فليس بين فقهاء الملة نزاع في أصحاب الذنوب إذا كانوا مقرين باطنا وظاهرا بما جاء به الرسول، وما تواتر عنه أنهم من أهل الوعيد، وأنه يدخل النار منهم من أخبر الله ورسوله بدخوله إليها، ولا يخلد منهم فيها أحد، ولا يكونون مرتدين مباحي الدماء، ولكن «الأقوال المنحرفة» قول من يقول بتخليدهم في النار؛ كالخوارج والمعتزلة، وقول غلاة
66 المرجئة الذين يقولون: ما نعلم أن أحدا منهم يدخل النار؛ بل نقف في هذا كله. وحكي عن بعض غلاة المرجئة الجزم بالنفي العام. ويقال للخوارج: الذي نفى عن السارق والزاني والشارب وغيرهم الإيمان هو لم يجعلهم مرتدين عن الإسلام، بل عاقب هذا بالجلد وهذا بالقطع، ولم يقتل أحدا إلا الزاني المحصن، ولم يقتله قتل المرتد؛ فإن المرتد يقتل بالسيف بعد الاستتابة، وهذا يرجم بالحجارة بلا استتابة؛ فدل ذلك على أنه وإن نفى عنهم الإيمان فليسوا عنده مرتدين عن الإسلام مع ظهور ذنوبهم، وليسوا كالمنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر؛ فأولئك لم يعاقبهم إلا على ذنب ظاهر) (1) * * * *
67 أوجه معرفة زيادة الإيمان الذي أمر الله به (وزيادة الإيمان الذي أمر الله به والذي يكون من عباده المؤمنين يعرف من وجوه: أحدها: الإجمال والتفصيل فيما أمروا به؛ فإنه وإن وجب على جميع الخلق الإيمان بالله ورسوله، ووجب على كل أمة التزام ما يأمر به رسولهم مجملا؛ فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله، ولا يجب على كل عبد من الإيمان المفصل مما أخبر به الرسول ما يجب على من بلغه غيره... الوجه الثاني: الإجمال والتفصيل فيما وقع منهم، فمن آمن بما جاء به الرسول مطلقا فلم يكذبه قط، لكن أعرض عن معرفة أمره ونهيه وخبره وطلب العلم الواجب عليه، فلم يعلم الواجب عليه ولم يعمله، بل اتبع هواه، وآخر طلب علم ما أمر به فعمل به، وآخر طلب علمه فعلمه وآمن به ولم يعمل به، وإن اشتركوا في الوجوب، لكن من طلب علم التفصيل وعمل به؛ فإيمانه أكمل به، فهؤلاء ممن عرف ما يجب عليه والتزمه وأقر به، لكنه لم يعمل بذلك كله، وهذا المقر بما جاء به الرسول المعترف بذنبه الخائف من عقوبة ربه على ترك العمل أكمل إيمانا ممن لم يطلب معرفة ما أمر به الرسول ولا عمل بذلك ولا هو خائف أن يعاقب، بل هو في غفلة عن تفصيل ما جاء به الرسول (، مع أنه مقر بنبوته باطنا وظاهرا. فكلما علم القلب ما أخبر به الرسول فصدقه، وما أمر به فالتزمه؛ كان ذلك
68 زيادة في إيمانه على من لم يحصل له ذلك؛ وإن كان معه التزام عام وإقرار عام وكذلك من عرف أسماء الله ومعانيها فآمن بها؛ كان إيمانه أكمل ممن لم يعرف تلك الأسماء، بل آمن بها إيمانا مجملا أو عرف بعضها، وكلما ازداد الإنسان معرفة بأسماء الله وصفاته وآياته كان إيمانه به أكمل. الثالث: أن العلم والتصديق نفسه يكون بعضه أقوى من بعض، وأثبت وأبعد عن الشك والريب، وهذا أمر يشهده كل أحد من نفسه، كما أن الحس الظاهر بالشيء الواحد مثل رؤية الناس للهلال وإن اشتركوا فيها؛ فبعضهم تكون رؤيته أتم من بعض، وكذلك سماع الصوت الواحد وشم الرائحة الواحدة وذوق النوع الواحد من الطعام؛ فكذلك معرفة القلب وتصديقه يتفاضل أعظم من ذلك من وجوه متعددة! والمعاني التي يؤمن بها من معاني أسماء الرب وكلامه يتفاضل الناس في معرفتها أعظم من تفاضلهم في معرفة غيرها. الرابع: أن التصديق المستلزم لعمل القلب أكمل من التصديق الذي لا يستلزم عمله؛ فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به. الخامس: أن أعمال القلوب مثل محبة الله ورسوله وخشية الله تعالى ورجائه ونحو ذلك هي كلها من الإيمان، كما دل على ذلك الكتاب والسنة واتفاق السلف، وهذه يتفاضل الناس فيها تفاضلا عظيما. السادس: أن الأعمال الظاهرة مع الباطنة هي أيضا من الإيمان، والناس يتفاضلون فيها.
69 السابع: ذكر الإنسان بقلبه ما أمره الله به واستحضاره لذلك بحيث لا يكون غافلا عنه أكمل ممن صدق به وغفل عنه؛ فإن الغفلة تضاد كمال العلم والتصديق والذكر، والاستحضار يكمل العلم واليقين... الثامن: أن الإنسان قد يكون مكذبا ومنكرا لأمور لا يعلم أن الرسول أخبر بها وأمر بها، ولو علم ذلك لم يكذب ولم ينكر؛ بل قلبه جازم بأنه لا يخبر إلا بصدق ولا يأمر إلا بحق، ثم يسمع الآية أو الحديث، أو يتدبر ذلك، أو يفسر له معناه، أو يظهر له ذلك بوجه من الوجوه؛ فيصدق بما كان مكذبا به، ويعرف ما كان منكرا، وهذا تصديق جديد وإيمان جديد ازداد به إيمانه، ولم يكن قبل ذلك كافرا؛ بل جاهلا، وهذا وإن أشبه المجمل والمفصل لكون قلبه سليما عن تكذيب وتصديق لشيء من التفاصيل وعن معرفة وإنكار لشيء من ذلك، فيأتيه التفصيل بعد الإجمال على قلب ساذج، وأما كثير من الناس، بل من أهل العلوم والعبادات؛ فيقوم بقلوبهم من التفصيل أمور كثيرة تخالف ما جاء به الرسول وهم لا يعرفون أنها تخالف؛ فإذا عرفوا رجعوا، وكل من ابتدع في الدين قولا أخطأ فيه أو عمل عملا أخطأ فيه وهو مؤمن بالرسول، أو عرف ما قاله وآمن به لم يعدل عنه؛ هو من هذا الباب، وكل مبتدع قصده متابعة الرسول؛ فهو من هذا الباب، فمن علم ما جاء به الرسول وعمل به أكمل ممن أخطأ ذلك، ومن علم الصواب بعد الخطأ وعمل به؛ فهو أكمل ممن لم يكن كذلك) (1)
(1) «مجموع الفتاوى» (7 / 332 - 337). 70 كلام نفيس جدا لأبي ثور في رده على المرجئة (قال أبو ثور في رده على المرجئة كما روى ذلك أبو القاسم الطبري اللالكائي (1) وغيره: عن إدريس بن عبد الكريم؛ قال: سأل رجل من أهل خراسان أبا ثور عن الإيمان وما هو، أيزيد وينقص؟ وقول هو أو قول وعمل أو تصديق وعمل؟ فأجابه أبو ثور بهذا، فقال: سألت رحمك الله وعفا عنا وعنك عن الإيمان ما هو، يزيد وينقص، وقول هو أو قول وعمل أو تصديق وعمل؟ فأخبرك بقول الطوائف واختلافهم: «اعلم يرحمنا الله وإياك أن الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، وذلك أنه ليس بين أهل العلم خلاف في رجل لو قال: أشهد أن الله عز وجل واحد، وأن ما جاءت به الرسل حق، وأقر بجميع الشرائع، ثم قال: ما عقد قلبي على شيء من هذا ولا أصدق به: أنه ليس بمسلم، ولو قال: المسيح هو الله وجحد أمر الإسلام؛ ثم قال: لم يعقد قلبي على شيء من ذلك: أنه كافر بإظهار ذلك وليس بمؤمن، فلما لم يكن بالإقرار إذا لم يكن معه التصديق مؤمنا، ولا بالتصديق إذا لم يكن معه الإقرار مؤمنا حتى يكون مصدقا بقلبه مقرا بلسانه، فإذا كان تصديقا بالقلب وإقرارا باللسان؛ كان عندهم مؤمنا وعند بعضهم لا يكون مؤمنا حتى يكون مع التصديق عمل، فيكون بهذه الأشياء إذا اجتمعت مؤمنا، فلما نفوا أن يكون الإيمان بشيء واحد، وقالوا: يكون بشيئين في قول بعضهم، وثلاثة أشياء في قول غيرهم؛ لم يكن مؤمنا إلا بما أجمعوا عليه من هذه الثلاثة الأشياء، وذلك أنه إذا جاء بهذه الثلاثة الأشياء؛ فكلهم يشهد أنه مؤمن؛ فقلنا بما أجمعوا عليه من التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح. فأما الطائفة التي ذهبت إلى أن العمل ليس من الإيمان؛ فيقال لهم: ماذا
(1) «أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة» (4 / 849). 71 أراد الله من العباد إذ قال لهم: أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة: الإقرار بذلك أو الإقرار والعمل؟ فإن قالت: إن الله أراد الإقرار ولم يرد العمل؛ فقد كفرت عند أهل العلم، من قال إن الله لم يرد من العباد أن يصلوا ولا يؤتوا الزكاة؟ وإن قالت: أراد منهم الإقرار؛ قيل: فإذا كان أراد منهم الأمرين جميعا لم زعمتم أنه يكون مؤمنا بأحدهما دون الآخر، وقد أرادهما جميعا؟ أرأيتم لو أن رجلا قال: أعمل جميع ما أمر به الله ولا أقر به؛ أيكون مؤمنا؟ فإن قالوا: لا؛ قيل لهم: فإن قال: أقر بجميع ما أمر الله به ولا أعمل به؛ أيكون مؤمنا؟ فإن قالوا: نعم. قيل: ما الفرق؟ فقد زعمتم أن الله أراد الأمرين جميعا فإن جاز أن يكون بأحدهما مؤمنا إذا ترك الآخر جاز أن يكون بالآخر إذا عمل به ولم يقره مؤمنا، لا فرق بين ذلك. فإن احتج، فقال: لو أن رجلا أسلم فأقر بجميع ما جاء به النبي (ص)؛ أيكون مؤمنا بهذا الإقرار قبل أن يجيء وقت عمل؟ قيل له: إنما يطلق له الاسم بتصديقه أن العمل عليه بقوله أن يعمله في وقته إذا جاء، وليس عليه في هذا الوقت الإقرار بجميع ما يكون به مؤمنا، ولو قال: أقر ولا أعمل؛ لم يطلق عليه اسم الإيمان. قلت - يعني الإمام أبو ثور رحمه الله -: إنه لا يكون مؤمنا إلا إذا التزم بالعمل مع الإقرار، وإلا؛ فلو أقر ولم يلتزم العمل لم يكن مؤمنا». وهذا الاحتجاج الذي ذكره أبو ثور هو دليل على وجوب الأمرين: الإقرار والعمل، وهو يدل على أن كلا منهما من الدين، وأنه لا يكون مطيعا لله ولا مستحقا للثواب ولا ممدوحا عند الله ورسوله إلا بالأمرين جميعا، وهو حجة على من يجعل الأعمال خارجة عن الدين والإيمان جميعا) (1)
(1) «مجموع الفتاوى» (7 / 387 - 389). 72 المرجئة أخوف على هذه الأمة من الخوارج (دخل في «إرجاء الفقهاء» جماعة هم عند الأمة أهل علم ودين، ولهذا لم يكفر أحد من السلف أحدا من «مرجئة الفقهاء»، بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال لا من بدع العقائد؛ فإن كثيرا من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب؛ فليس لأحد أن يقول بخلاف قول الله ورسوله، لا سيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم وإلى ظهور الفسق، فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سببا لخطإ عظيم في العقائد والأعمال، فلهذا عظم القول في ذم «الإرجاء»؛ حتى قال إبراهيم النخعي: لفتنتهم - يعني: المرجئة - أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة (1). وقال الزهري: ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله من الأرجاء. وقال الأوزاعي: كان يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان: ليس شيء من الأهواء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء. وقال شريك القاضي - وذكر المرجئة؛ فقال -: هم أخبث قوم، حسبك بالرافضة خبثا، ولكن المرجئة يكذبون على الله. وقال سفيان الثوري: تركت المرجئة الإسلام أرق من ثوب سابري (2). وقال قتادة: إنما حدث الإرجاء بعد فتنة فرقة ابن الأشعث) (3)
(1) فرقة من الخوارج أتباع نافع بن الأزرق. (2) قال في «لسان العرب»: السابري من الثياب: الرقاق، وكل رقيق سابري. (3) «مجموع الفتاوى» (7 / 394 - 395). 73 ألفاظ القرآن والحديث إذا عرف معناها الشرعي لم يحتج إلى اللغوي وفيه الرد على الخوارج والمرجئة (ومما ينبغي أن يعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عرف تفسيرها وما أريد بها من جهة النبي (ص) لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم؛ ولهذا قال الفقهاء: «الأسماء ثلاثة أنواع»: نوع يعرف حده بالشرع؛ كالصلاة والزكاة. ونوع يعرف حده باللغة؛ كالشمس والقمر. ونوع يعرف حده بالعرف؛ كلفظ القبض، ولفظ المعروف في قوله: {وعاشروهن بالمعروف}، ونحو ذلك... فاسم الصلاة والزكاة والصيام والحج ونحو ذلك قد بين الرسول (ص) ما يراد بها في كلام الله ورسوله، وكذلك لفظ الخمر وغيرها، ومن هناك يعرف معناها، فلو أراد أحد أن يفسرها بغير ما بينه النبي (ص)؛ لم يقبل منه، وأما الكلام في اشتقاقها ووجه دلالتها؛ فذاك من جنس علم البيان، وتعليل الأحكام هو زيادة في العلم وبيان حكمة ألفاظ القرآن، لكن معرفة المراد بها لا يتوقف على هذا. واسم الإيمان والإسلام والنفاق والكفر هي أعظم من هذا كله؛ فالنبي (ص) قد بين المراد بهذه الألفاظ بيانا لا يحتاج معه إلى الاستدلال على ذلك بالاشتقاق وشواهد استعمال العرب ونحو ذلك؛ فلهذا يجب الرجوع في
74 مسميات هذه الأسماء إلى بيان الله ورسوله؛ فإنه شاف كاف؛ بل معاني هذه الأسماء معلومة من حيث الجملة للخاصة والعامة، بل كل من تأمل ما تقوله الخوارج والمرجئة في معنى الإيمان علم بالاضطرار أنه مخالف للرسول، ويعلم بالاضطرار أن طاعة الله ورسوله من تمام الإيمان، وأنه لم يكن يجعل كل من أذنب ذنبا كافرا، ويعلم أنه لو قدر أن قوما قالوا للنبي (ص): نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك ونقر بألسنتنا بالشهادتين؛ إلا أنا لا نطيعك بشيء مما أمرت به ونهيت عنه؛ فلا نصلي، ولا نصوم، ولا نحج، ولا نصدق الحديث، ولا نؤدي الأمانة، ولا نفي بالعهد، ولا نصل الرحم، ولا نفعل شيئا من الخير الذي أمرت به، ونشرب الخمر، وننكح ذوات المحارم بالزنا الظاهر، ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك، ونأخذ أموالهم، بل نقتلك أيضا ونقاتلك مع أعدائك؛ هل كان يتوهم عاقل أن النبي (ص) يقول لهم: أنتم مؤمنون كاملو الإيمان، وأنتم من أهل شفاعتي يوم القيامة، ويرجى لكم أن لا يدخل أحد منكم النار؟! بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به، ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك. وكذلك كل مسلم يعلم أن شارب الخمر والزاني والقاذف والسارق لم يكن النبي (ص) يجعلهم مرتدين يجب قتلهم، بل القرآن والنقل المتواتر عنه يبين أن هؤلاء لهم عقوبات غير عقوبة المرتد عن الإسلام، كما ذكر الله في القرآن جلد القاذف والزاني وقطع السارق، وهذا متواتر عن النبي (ص)، ولو كانوا مرتدين لقتلهم؛ فكلا القولين مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الرسول (. وأهل البدع إنما دخل عليهم الداخل لأنهم أعرضوا عن هذه الطريق، وصاروا يبنون دين الإسلام على مقدمات يظنون صحتها: إما في دلالة
75 الألفاظ، وإما في المعاني المعقولة، ولا يتأملون بيان الله ورسوله، وكل مقدمات تخالف بيان الله ورسوله؛ فإنها تكون ضلالا، ولهذا تكلم أحمد في رسالته المعروفة في الرد على من يتمسك بما يظهر له من القرآن من غير استدلال ببيان الرسول والصحابة والتابعين، وكذلك ذكر في رسالته إلى أبي عبد الرحمن الجرجاني في الرد على المرجئة، وهذه طريقة سائر أئمة المسلمين، لا يعدلون عن بيان الرسول إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا؛ ومن عدل عن سبيلهم وقع في البدع التي مضمونها أنه يقول على الله ورسوله ما لا يعلم أو غير الحق، وهذا مما حرمه الله ورسوله) (1) * * *
76 الخوارج فارقوا أهل السنة والجماعة لجهلهم والرد عليهم (الخوارج لهم أسماء، يقال لهم: «الحرورية»؛ لأنهم خرجوا بمكان يقال له حروراء، ويقال لهم: «أهل النهروان»؛ لأن عليا قاتلهم هناك، ومن أصنافهم: «الإباضية» أتباع عبد الله بن أباض، و «الأزارقة»: أتباع نافع بن الأزرق، و «النجدات»: أصحاب نجدة الحروري. وهم أول من كفر أهل القبلة بالذنوب بل بما يرونه هم من الذنوب، واستحلوا دماء أهل القبلة بذلك؛ فكانوا كما نعتهم النبي (ص): «يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان»، وكفروا علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان ومن والاهما، وقتلوا علي بن أبي طالب مستحلين لقتله، قتله عبد الرحمن بن ملجم المرادي منهم، وكان هو وغيره من الخوارج مجتهدين في العبادة، لكن كانوا جهالا فارقوا السنة والجماعة؛ فقال هؤلاء: ما الناس إلا مؤمن أو كافر، والمؤمن من فعل جميع الواجبات وترك جميع المحرمات؛ فمن لم يكن كذلك فهو كافر مخلد في النار. ثم جعلوا كل من خالف قولهم كذلك؛ فقالوا: إن عثمان وعليا ونحوهما حكموا بغير ما أنزل الله وظلموا فصاروا كفارا. ومذهب هؤلاء باطل بدلائل كثيرة من الكتاب والسنة؛ فإن الله سبحانه أمر بقطع يد السارق دون قتله، ولو كان كافرا مرتدا لوجب قتله؛ لأن النبي
77 (ص) قال: «من بدل دينه؛ فاقتلوه» (1)، وقال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إسلام، وزنا بعد إحصان، أو قتل نفس يقتل بها» (2). وأمر سبحانه بأن يجلد الزاني والزانية مئة جلدة، ولو كانا كافرين لأمر بقتلهما، وأمر سبحانه أن يجلد قاذف المحصنة ثمانين جلدة، ولو كان كافرا لأمر بقتله) (3) * * *
78 فتوى شيخ الإسلام في النصيرية والدروز (هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى بل وأكفر من كثير من المشركين، وضررهم على أمة محمد (ص) أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والفرنج وغيرهم؛ فإن هؤلاء يتظاهرون عند جهال المسلمين بالتشيع وموالاة أهل البيت، وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا بكتابه، ولا بأمر ولا نهي، ولا ثواب ولا عقاب، ولا جنة ولا نار، ولا بأحد من المرسلين قبل محمد (، ولا بملة من الملل السالفة؛ بل يأخذون كلام الله ورسوله المعروف عند علماء المسلمين يتأولونه على أمور يفترونها، يدعون أنها علم الباطن... فإنه ليس لهم حد محدود فيما يدعونه من الإلحاد في أسماء الله تعالى وآياته وتحريف كلام الله تعالى ورسوله عن مواضعه؛ إذ مقصودهم إنكار الإيمان وشرائع الإسلام بكل طريق مع التظاهر بأن لهذه الأمور حقائق يعرفونها... ولهم في معاداة الإسلام وأهله وقائع مشهورة وكتب مصنفة، فإذا كانت لهم مكنة سفكوا دماء المسلمين؛ كما قتلوا مرة الحجاج وألقوهم في بئر زمزم، وأخذوا مرة الحجر الأسود وبقي عندهم مدة، وقتلوا من علماء المسلمين ومشايخهم ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى... وصنف علماء المسلمين كتبا في كشف أسرارهم وهتك أستارهم، وبينوا فيها ما هم عليه من الكفر والزندقة والإلحاد الذي هم به أكفر من اليهود والنصارى ومن براهمة الهند الذين يعبدون الأصنام...
79 ومن المعلوم عندنا أن السواحل الشامية إنما استولى عليها النصارى من جهتهم، وهم دائما مع كل عدو للمسلمين؛ فهم مع النصارى على المسلمين، ومن أعظم المصائب عندهم فتح المسلمين للسواحل وانقهار النصارى؛ بل ومن أعظم المصائب عندهم انتصار المسلمين على التتار، ومن أعظم أعيادهم إذا استولى - والعياذ بالله تعالى - النصارى على ثغور المسلمين، فإن ثغور المسلمين ما زالت بأيدي المسلمين، حتى جزيرة قبرص يسر الله فتحها عن قريب وفتحها المسلمون في خلافة أمير المؤمنين «عثمان بن عفان» رضي الله عنه، فتحها «معاوية بن أبي سفيان» إلى أثناء المئة الرابعة. فهؤلاء المحادون لله ورسوله كثروا حينئذ بالسواحل وغيرها؛ فاستولى النصارى على الساحل، ثم بسببهم استولوا على القدس الشريف وغيره؛ فإن أحوالهم كانت من أعظم الأسباب في ذلك، ثم لما أقام الله ملوك المسلمين المجاهدين في سبيل الله تعالى؛ «كنور الدين الشهيد، وصلاح الدين» وأتباعهما، وفتحوا السواحل من النصارى وممن كان بها منهم، وفتحوا أيضا أرض مصر؛ فإنهم كانوا مستولين عليها نحو مئتي سنة، واتفقوا هم والنصارى؛ فجاهدهم المسلمون حتى فتحوا البلاد، ومن ذلك التاريخ انتشرت دعوة الإسلام للديار المصرية والشامية. ثم إن التتار ما دخلوا بلاد الإسلام وقتلوا خليفة بغداد وغيره من ملوك المسلمين إلا بمعاونتهم ومؤازرتهم؛ فإن منجم هولاكو الذي كان وزيرهم وهو «النصير الطوسي» كان وزيرا لهم بالألموت، وهو الذي أمر بقتل الخليفة وبولاية هؤلاء.
80 ولهم «ألقاب» معروفة عند المسلمين: تارة يسمون «الملاحدة»، وتارة يسمون «القرامطة»، وتارة يسمون «الباطنية»، وتارة يسمون «الإسماعيلية»، وتارة يسمون: «النصيرية»، وتارة يسمون: «الخرمية»، وتارة يسمون: «المحمرة»، وهذه الأسماء منها ما يعمهم ومنها ما يخص بعض أصنافهم، كما أن الإسلام والإيمان يعم المسلمين ولبعضهم اسم يخصه: إما لنسب، وإما لمذهب، وإما لبلد، وإما لغير ذلك. وشرح مقاصدهم يطول، وهم كما قال العلماء فيهم: ظاهر مذهبهم الرفض، وباطنه الكفر المحض، وحقيقة أمرهم أنهم لا يؤمنون بنبي من الأنبياء والمرسلين؛ لا بنوح، ولا إبراهيم، ولا موسى، ولا عيسى، ولا محمد؛ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولا بشيء من كتب الله المنزلة؛ لا التوراة، ولا الإنجيل، ولا القرآن، ولا يقرون بأن للعالم خالقا خلقه، ولا بأن له دينا أمر به، ولا أن له دارا يجزى الناس فيها على أعمالهم غير هذه الدار، وهم تارة يبنون قولهم على مذاهب الفلاسفة الطبيعيين أو الإلهيين، وتارة يبنونه على قول المجوس الذين يعبدون النور، ويضمون إلى ذلك الرفض... وقد دخل كثير من باطلهم على كثير من المسلمين، وراج عليهم حتى صار ذلك في كتب طوائف من المنتسبين إلى العلم والدين وإن كانوا لا يوافقونهم على أصل كفرهم... وقد اتفق علماء المسلمين على أن هؤلاء لا تجوز مناكحتهم، ولا يجوز أن ينكح الرجل مولاته منهم، ولا يتزوج منهم امرأة، ولا تباح ذبائحهم... ولا يجوز دفنهم في مقابر المسلمين، ولا يصلى على من مات منهم؛ فإن الله سبحانه وتعالى نهى نبيه (ص) عن الصلاة على المنافقين؛ كعبد الله بن أبي ونحوه، وكانوا يتظاهرون بالصلاة والزكاة والصيام والجهاد مع المسلمين ولا يظهرون
81 مقالة تخالف دين الإسلام؛ لكن يسرون ذلك، فقال الله: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} (1)؛ فكيف بهؤلاء الذين هم مع الزندقة والنفاق يظهرون الكفر والإلحاد؟! وأما استخدام مثل هؤلاء في ثغور المسلمين أو حصونهم أو جندهم؛ فإنه من الكبائر، وهو بمنزلة من يستخدم الذئاب لرعي الغنم؛ فإنهم من أغش الناس للمسلمين ولولاة أمورهم، وهم أحرص الناس على فساد المملكة والدولة، وهم شر من المخامر الذي يكون في العسكر؛ فإن المخامر قد يكون له غرض: إما مع أمير العسكر، وإما مع العدو، وهؤلاء مع الملة، ونبيها، ودينها، وملوكها، وعلمائها، وعامتها، وخاصتها، وهم أحرص الناس على تسليم الحصون إلى عدو المسلمين وعلى إفساد الجند على ولي الأمر وإخراجهم عن طاعته. والواجب على ولاة الأمور قطعهم من دواوين المقاتلة؛ فلا يتركون في ثغر ولا في غير ثغر؛ فإن ضررهم في الثغر أشد، وأن يستخدم بدلهم من يحتاج إلى استخدامه من الرجال المأمونين على دين الإسلام وعلى النصح لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم؛ بل إذا كان ولي الأمر لا يستخدم من يغشه وإن كان مسلما؛ فكيف بمن يغش المسلمين كلهم؟! ولا يجوز له تأخير هذا الواجب مع القدرة عليه؛ بل أي وقت قدر على
(1) التوبة: 84. 82 الاستبدال بهم وجب عليه ذلك. وأما إذا استخدموا وعملوا العمل المشروط عليهم؛ فلهم إما المسمى وإما أجرة المثل لأنهم عوقدوا على ذلك؛ فإن كان العقد صحيحا وجب المسمى، وإن كان فاسدا وجبت أجرة المثل، وإن لم يكن استخدامهم من جنس الإجارة اللازمة؛ فهي من جنس الجعالة الجائزة، لكن هؤلاء لا يجوز استخدامهم؛ فالعقد عقد فاسد، فلا يستحقون إلا قيمة عملهم، فإن لم يكونوا عملوا عملا له قيمة؛ فلا شيء لهم، لكن دماؤهم وأموالهم مباحة. وإذا أظهروا التوبة؛ ففي قبولها منهم نزاع بين العلماء: فمن قبل توبتهم إذ التزموا شريعة الإسلام أقر أموالهم عليهم، ومن لم يقبلها لم تنقل إلى ورثتهم من جنسهم؛ فإن مالهم يكون فيأ لبيت المال، لكن هؤلاء إذا أخذوا فإنهم يظهرون التوبة؛ لأن أصل مذهبهم التقية وكتمان أمرهم، وفيهم من يعرف وفيهم من قد لا يعرف؛ فالطريق في ذلك أن يحتاط في أمرهم، فلا يتركون مجتمعين، ولا يمكنون من حمل السلاح، ولا أن يكونوا من المقاتلة، ويلزمون شرائع الإسلام: من الصلوات الخمس، وقراءة القرآن، ويترك بينهم من يعلمهم دين الإسلام، ويحال بينهم وبين معلمهم... وسئل عن «الدرزية» و «النصيرية»: ما حكمهم؟ فأجاب: هؤلاء «الدرزية» و «النصيرية» كفار باتفاق المسلمين، لا يحل أكل ذبائحهم، ولا نكاح نسائهم؛ بل ولا يقرون بالجزية؛ فإنهم مرتدون عن دين الإسلام، ليسوا مسلمين ولا يهود، ولا نصارى، لا يقرون بوجوب الصلوات الخمس، ولا وجوب صوم رمضان، ولا وجوب الحج، ولا تحريم ما
83 حرم الله ورسوله من الميتة والخمر وغيرهما، وإن أظهروا الشهادتين مع هذه العقائد؛ فهم كفار باتفاق المسلمين. فأما «النصيرية»؛ فهم أتباع أبي شعيب محمد بن نصير... وأما «الدرزية»؛ فأتباع هشتكين الدرزي، وكان من موالي الحاكم، أرسله إلى أهل وادي تيم الله بن ثعلبة، فدعاهم إلى إلاهية الحاكم، ويسمونه «الباري، العلام» ويحلفون به، وهم من الإسماعيلية القائلين بأن محمد بن إسماعيل نسخ شريعة محمد بن عبد الله، وهم أعظم كفرا من الغالية، يقولون بقدم العالم، وإنكار المعاد، وإنكار واجبات الإسلام ومحرماته، وهم من القرامطة الباطنية الذين هم أكفر من اليهود والنصارى ومشركي العرب، وغايتهم أن يكونوا «فلاسفة» على مذهب أرسطو وأمثاله، أو «مجوسا»، وقولهم مركب من قول الفلاسفة والمجوس، ويظهرون التشيع نفاقا. والله أعلم. وقال ردا على نبذ لطوائف من «الدروز»: كفر هؤلاء مما لا يختلف فيه المسلمون؛ بل من شك في كفرهم فهو كافر مثلهم؛ لا هم بمنزلة أهل الكتاب ولا المشركين، بل هم الكفرة الضالون؛ فلا يباح أكل طعامهم، وتسبى نساؤهم، وتؤخذ أموالهم؛ فإنهم زنادقة مرتدون لا تقبل توبتهم، بل يقتلون أينما ثقفوا ويلعنون كما وصفوا، ولا يجوز استخدامهم للحراسة والبوابة والحفاظ، ويجب قتل علمائهم وصلحائهم لئلا يضلوا غيرهم، ويحرم النوم معهم في بيوتهم ورفقتهم والمشي معهم وتشييع جنائزهم إذا علم موتها، ويحرم على ولاة أمور المسلمين إضاعة ما أمر الله من إقامة الحدود عليهم بأي شيء يراه المقيم لا المقام عليه، والله المستعان وعليه التكلان» (1)
(1) «مجموع الفتاوى» (35 / 149 - 162). 84 أهل السنة والجماعة لا يكفرون أهل القبلة بمطلق الذنوب (ومن أصول أهل السنة: أن الدين والإيمان قول وعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، كما يفعله الخوارج؛ بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، كما قال سبحانه وتعالى في آية القصاص: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف} (1)، وقال: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين. إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} (2). ولا يسلبون الفاسق الملي (3) اسم الإيمان بالكلية، ولا يخلدونه في النار، كما تقول المعتزلة، بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان في مثل قوله تعالى: {فتحرير رقبة مؤمنة} (4).
(1) البقرة: 178. (2) الحجرات: 9، 10. (3) الذي على ملة الإسلام. (4) النساء: 92. 85 وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا} (1)، وقوله (ص): «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن» (2). ويقولون: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته؛ فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم) (3) (ولهذا قال علماء السنة في وصفهم «اعتقاد أهل السنة والجماعة»: أنهم لا يكفرون أحدا من أهل القبلة بذنب. إشارة إلى بدعة الخوارج المكفرة بمطلق الذنوب، فأما أصل الإيمان الذي هو الإقرار بما جاءت به الرسل عن الله تصديقا به وانقيادا له؛ فهذا أصل الإيمان الذي من لم يأت به فليس بمؤمن، ولهذا تواتر في الأحاديث: «أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان» (4)) (5)
(1) الأنفال: 2. (2) رواه البخاري في (المظالم والغصب، باب النهى بغير إذن صاحبه، 2475، وفي الأشربة، باب قول الله تعالى: {إنما الخمر والميسر}، 5578)، ومسلم في (الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان المعاصي ونفيه عن المتلبس بالمعصية، 57) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) «مجموع الفتاوى» (3 / 151 - 152) وهذا النص من العقيدة الواسطية له. (4) حديث صحيح. رواه الترمذي في (صفة جهنم، رقم 2598) بلفظ: «يخرج من النار»، ورواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي وابن ماجة بنحوه. (5) «مجموع الفتاوى» (12 / 474). 86 زيارة قبور المسلمين نوعان: شرعية وبدعية زيارة قبور المسلمين على وجهين: زيارة شرعية، وزيارة بدعية. فالزيارة الشرعية: أن يكون مقصود الزائر الدعاء للميت؛ كما يقصد بالصلاة على جنازته الدعاء له؛ فالقيام على قبره من جنس الصلاة عليه، قال الله تعالى في المنافقين: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} (1)؛ فنهى نبيه عن الصلاة عليهم والقيام على قبورهم لأنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهو كافرون، فلما نهى عن هذا وهذا لأجل هذه العلة وهي الكفر دل ذلك على انتفاء هذا النهي عند انتفاء هذه العلة. ودل تخصيصهم بالنهي على أن غيرهم يصلى عليه ويقام على قبره؛ إذ لو كان هذا غير مشروع في حق أحد لم يخصوا بالنهي ولم يعلل ذلك بكفرهم، ولهذا كانت الصلاة على الموتى من المؤمنين والقيام على قبورهم من السنة المتواترة؛ فكان النبي (ص) يصلى على موتى المسلمين وشرع ذلك لأمته، وكان إذا دفن الرجل من أمته يقوم على قبره ويقول: «سلوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل» (2). رواه أبو داود وغيره.
(1) التوبة: 84. (2) [صحيح]. رواه أبو داود في (الجنائز، باب الاستغفار عند القبر للميت في وقت الانصراف، رقم 2804) من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه. وانظر: «صحيح الجامع» (945، 4760). 87 وكان يزور قبور أهل البقيع والشهداء بأحد ويعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم» (1)... والأحاديث في ذلك صحيحة ومعروفة؛ فهذه الزيارة لقبور المؤمنين مقصودها الدعاء لهم. وهذه غير الزيارة المشتركة التي تجوز في قبور الكفار، كما ثبت في «صحيح مسلم» وأبي داود والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة؛ أنه قال: أتى رسول الله (ص) قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، ثم قال: «استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي، فاستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي؛ فزوروا القبور؛ فإنها تذكركم الآخرة» (2)؛ فهذه الزيارة التي تنفع في تذكير الموت تشرع ولو كان المقبور كافرا، بخلاف الزيارة التي يقصد بها الدعاء للميت؛ فتلك لا تشرع إلا في حق المؤمنين. وأما الزيارة البدعية؛ فهي التي يقصد بها أن يطلب من الميت الحوائج، أو
(1) رواه بنحوه مسلم في (الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها، رقم 974، 975) من حديث عائشة رضي الله عنها؛ دون قوله: «اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم». (2) رواه مسلم في (الجنائز، باب استئذان النبي ربه عز وجل بزيارة قبر أمه، رقم 976) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 88 يطلب منه الدعاء والشفاعة، أو يقصد الدعاء عند قبره لظن القاصد أن ذلك أجوب للدعاء؛ فالزيارة على هذه الوجوه كلها مبتدعة لم يشرعها النبي (ص)، ولا فعلها الصحابة لا عند قبر النبي (ص) ولا عند غيره، وهي من جنس الشرك وأسباب الشرك. ولو قصد الصلاة عند قبور الأنبياء والصالحين من غير أن يقصد دعاءهم والدعاء عندهم، مثل أن يتخذ قبورهم مساجد؛ لكان ذلك محرما منهيا عنه، ولكان صاحبه متعرضا لغضب الله ولعنته؛ كما قال النبي (ص): «اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، وقال: «قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما صنعوا (1)، وقال: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك» (2). فإذا كان هذا محرما وهو سبب لسخط الرب ولعنته؛ فكيف بمن يقصد دعاء الميت والدعاء عنده وبه، واعتقد أن ذلك من أسباب إجابة الدعوات ونيل الطلبات وقضاء الحاجات؟! وهذا كان أول أسباب الشرك في قوم نوح وعبادة الأوثان في الناس، قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، ثم ظهر الشرك بسبب تعظيم قبور صالحيهم» (3)
(1) رواه البخاري في (الصلاة، باب الصلاة في البيعة، رقم 436، 437)، ومسلم في (المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، رقم 530، 531، 532)؛ عن ابن عباس وعائشة وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، وعند بعضهم: «لعن الله اليهود والنصارى...». (2) رواه مسلم في (المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، رقم 532) من حديث جندب رضي الله عنه. (3) «مجموع الفتاوى» (1 / 165 - 167). 89 وصول ثواب العبادات المالية والبدنية للميت (وأما «القراءة، والصدقة» وغيرهما من أعمال البر؛ فلا نزاع بين علماء السنة والجماعة في وصول ثواب العبادات المالية؛ كالصدقة والعتق، كما يصل إليه أيضا الدعاء والاستغفار، والصلاة عليه صلاة الجنازة، والدعاء عند قبره. وتنازعوا في وصول الأعمال البدنية؛ كالصوم، والصلاة، والقراءة، والصواب أن الجميع يصل إليه؛ فقد ثبت في «الصحيحين» عن النبي (ص) أنه قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» (1)، وثبت أيضا: «أنه أمر امرأة ماتت أمها وعليها صوم أن تصوم عن أمها» (2)، وفي «المسند» عن النبي (ص) أنه قال لعمرو بن العاص: «لو أن أباك أسلم فتصدقت عنه، أو صمت، أو أعتقت عنه؛ نفعه ذلك» (3)، وهذا مذهب أحمد، وأبي حنيفة، وطائفة من أصحاب مالك، والشافعي. وأما احتجاج بعضهم بقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (4)؛ فيقال له: قد ثبت بالسنة المتواترة وإجماع الأمة أنه يصلى عليه، ويدعى له،
(1) رواه البخاري في (الصوم، باب من مات وعليه صوم، رقم 1952)، ومسلم في (الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت، رقم 1147) من حديث عائشة رضي الله عنها. (2) رواه البخاري في (الصوم، باب من مات وعليه صوم، برقم 1953)، ومسلم في (الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت، رقم 1148) من حديث ابن عباس رضي الله عنه. (3) [حسن]. رواه أحمد في «المسند» (2 / 182)، وأبو داود في (الوصايا، باب ما جاء في وصية الحربي) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بنحوه. وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (برقم 484). (4) النجم: 39. 90 ويستغفر له، وهذا من سعي غيره، وكذلك قد ثبت ما سلف من أنه ينتفع بالصدقة عنه والعتق، وهو من سعي غيره، وما كان من جوابهم في موارد الإجماع؛ فهو جواب الباقين في مواقع النزاع، وللناس في ذلك أجوبة متعددة. لكن الجواب المحقق في ذلك أن الله تعالى لم يقل: إن الإنسان لا ينتفع إلا بسعي نفسه؛ وإنما قال: {ليس للإنسان إلا ما سعى}؛ فهو لا يملك إلا سعيه ولا يستحق غير ذلك، وأما سعي غيره؛ فهو له، كما أن الإنسان لا يملك إلا مال نفسه ونفع نفسه، فمال غيره ونفع غيره هو كذلك للغير، لكن إذا تبرع له الغير بذلك جاز. وهكذا هذا إذا تبرع له الغير بسعيه نفعه الله بذلك، كما ينفعه بدعائه له والصدقة عنه، وهو ينتفع بكل ما يصل إليه من كل مسلم، سواء كان من أقاربه أو غيرهم، كما ينتفع بصلاة المصلين عليه ودعائهم له عند قبره) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (24 / 366 - 367). وانظر: (306، 313). 91 جواز كتابة شيء من القرآن بالمداد المباح وغسله وشربه (ويجوز أن يكتب للمصاب وغيره من المرضى شيئا من كتاب الله وذكره بالمداد المباح ويغسل ويسقى، كما نص على ذلك أحمد وغيره. قال عبد الله بن أحمد: قرأت على أبي، ثنا يعلى بن عبيد، ثنا سفيان، عن محمد بن أبي ليلى، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس؛ قال: «إذا عسر على المرأة ولادتها؛ فليكتب: بسم الله، لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} (1)، {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون} (2)) (3). قال أبي: ثنا أسود بن عامر بإسناده بمعناه، وقال: يكتب في إناء نظيف فيسقى. قال أبي: وزاد فيه وكيع: فتسقى وينضح ما دون سرتها. قال عبد الله: رأيت أبي يكتب للمرأة في جام أو شيء نظيف. وقال أبو عمرو محمد بن أحمد بن حمدان الحيري: أنا الحسن بن سفيان النسوي، حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه، ثنا علي بن الحسن بن شقيق، ثنا عبد الله بن المبارك، عن سفيان، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن سعيد بن
(1) النازعات: 46. (2) الأحقاف: 35. (3) [إسناده ضعيف]. رواه ابن أبي شيبة في (الطب، باب في الرخصة في القرآن يكتب لمن يسقاه، رقم 23498) من طريق ابن أبي ليلى به. قال عنه الحافظ في «التقريب»: صدوق سيىء الحفظ جدا. 92 جبير، عن ابن عباس؛ قال: «إذا عسر على المرأة ولادها؛ فليكتب: بسم الله، لا إله إلا الله العلي العظيم، لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله، وتعالى رب العرش العظيم، والحمد الله رب العالمين، {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها}، {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون}» (1). قال علي: يكتب في كاغذة، فيعلق على عضد المرأة. قال علي: وقد جربناه؛ فلم نر شيئا أعجب منه، فإذا وضعت تحله سريعا ثم تجعله في خرقة أو تحرقه) (2) * * *
(1) انظر ما قبله. (2) «مجموع الفتاوى» (19 / 64 - 65). 93 الشياطين تتصور لبعض الناس في صور الآدميين لتوقعهم في الشرك (المشركون الذين وصفهم الله ورسوله بالشرك أصلهم صنفان: قوم نوح، وقوم إبراهيم. فقوم نوح كان أصل شركهم العكوف على قبور الصالحين، ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم. وقوم إبراهيم كان أصل شركهم عبادة الكواكب والشمس والقمر. وكل من هؤلاء يعبدون الجن؛ فإن الشياطين قد تخاطبهم وتعينهم على أشياء، وقد يعتقدون أنهم يعبدون الملائكة وإن كانوا في الحقيقة إنما يعبدون الجن؛ فإن الجن هم الذين يعينونهم ويرضون بشركهم، قال تعالى: {ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون. قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون} (1). والملائكة لا تعينهم على الشرك لا في المحيا ولا في الممات ولا يرضون بذلك، ولكن الشياطين قد تعينهم وتتصور لهم في صور الآدميين؛ فيرونهم بأعينهم ويقول أحدهم: أنا إبراهيم، أنا المسيح، أنا محمد، أنا الخضر، أنا أبو بكر، أنا عمر، أنا عثمان، أنا علي، أنا الشيخ فلان. وقد يقول بعضهم عن
(1) سبأ: 40. 94 بعض: هذا هو النبي فلان أو هذا هو الخضر، ويكون أولئك كلهم جنا يشهد بعضهم لبعض، والجن كالإنس؛ فمنهم الكافر، ومنهم الفاسق، ومنهم العاصي، وفيهم العابد الجاهل؛ فمنهم من يحب شيخا فيتزيا في صورته ويقول: أنا فلان، ويكون ذلك في برية ومكان قفر، فيطعم ذلك الشخص طعاما ويسقيه شرابا أو يدله على الطريق أو يخبره ببعض الأمور الواقعة الغائبة، فيظن ذلك الرجل أن نفس الشيخ الميت أو الحي فعل ذلك، وقد يقول: هذا سر الشيخ، وهذه رقيقته، وهذه حقيقته، أو هذا ملك جاء على صورته. وإنما يكون ذلك جنيا؛ فإن الملائكة لا تعين على الشرك والإفك والإثم والعدوان) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (1 / 157 - 158). 95 ليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجن في بدن المصروع وغيره (وجود الجن ثابت بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق سلف الأمة وأئمتها، وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة، قال الله تعالى: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} (1)، وفي «الصحيح» عن النبي (ص): «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» (2)، وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل: قلت لأبي: إن أقواما يقولون: إن الجني لا يدخل في بدن المصروع! فقال: يا بني! يكذبون، هذا يتكلم على لسانه. وهذا الذي قاله أمر مشهور؛ فإنه يصرع الرجل فيتكلم بلسان لا يعرف معناه، ويضرب على بدنه ضربا عظيما لو ضرب به جمل لأثر به أثرا عظيما، والمصروع مع هذا لا يحس بالضرب ولا بالكلام الذي يقوله، وقد يجر المصروع وغير المصروع، ويجر البساط الذي يجلس عليه، ويحول آلات، وينقل من مكان إلى مكان، ويجري غير ذلك من الأمور، من شاهدها أفادته علما ضروريا بأن الناطق على لسان الإنسي والمحرك لهذه الأجسام جنس آخر غير الإنسان. وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجني في بدن المصروع وغيره، ومن أنكر ذلك وادعى أن الشرع يكذب ذلك؛ فقد كذب على الشرع، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك) (3)
(1) البقرة: 275. (2) رواه البخاري في (الاعتكاف، باب زيارة المرأة زوجها في اعتكافه، رقم 2038) من حديث صفية رضي الله عنها، ومسلم في (السلام، باب بيان أنه يستحب لمن رؤي خاليا بامرأة وكانت زوجته، رقم 2174) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (3) «مجموع الفتاوى» (24 / 276 - 277). 96 أصناف الناس في مسألة دخول الجني في الإنسي (... والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف: قوم يكذبون بدخول الجني في الإنس، وقوم يدفعون ذلك بالعزائم المذمومة؛ فهؤلاء يكذبون بالموجود، وهؤلاء يعصون بل يكفرون بالمعبود، والأمة الوسط تصدق بالحق الموجود وتؤمن بالإله الواحد المعبود وبعبادته ودعائه وذكره وأسمائه وكلامه، فتدفع شياطين الإنس والجن. وأما سؤال الجن وسؤال من يسألهم؛ فهذا إن كان على وجه التصديق لهم في كل ما يخبرون به والتعظيم للمسؤول؛ فهو حرام، كما ثبت في «صحيح مسلم» وغيره عن معاوية بن الحكم السلمي؛ قال: قلت: يا رسول الله! أمورا كنا نصنعها في الجاهلية: كنا نأتي الكهان. قال: «فلا تأتوا الكهان» (1). وفي «صحيح مسلم» أيضا عن عبيد الله، عن نافع، عن صفية، عن بعض أزواج النبي (ص)، عن النبي (ص)؛ قال: «من أتى عرافا فسأله عن شيء؛ لم تقبل له صلاة أربعين يوما» (2). وأما إن كان يسأل المسؤول ليمتحن حاله ويختبر باطن أمره وعنده ما
(1) رواه مسلم في (السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، رقم 537) من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه. (2) رواه مسلم في (السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، رقم 2230) من حديث بعض أزواج النبي (ص) بلفظ: «أربعين ليلة»، وعند أحمد في «المسند» بلفظ المؤلف. 97 يميز به صدقه من كذبه؛ فهذا جائز كما ثبت في «الصحيحين»: «أن النبي (ص) سأل ابن صياد، فقال: «ما يأتيك؟». فقال: يأتيني صادق وكاذب. قال: «ما ترى؟». قال: أرى عرشا على الماء. قال: «فإني قد خبأت لك خبيئا». قال: الدخ الدخ. قال: «اخسأ؛ فلن تعدو قدرك، فإنما أنت من إخوان الكهان» (1). وكذلك إذا كان يسمع ما يقولونه ويخبرون به عن الجن كما يسمع المسلمون ما يقول الكفار والفجار ليعرفوا ما عندهم فيعتبروا به، وكما يسمع خبر الفاسق ويتبين ويتثبت؛ فلا يجزم بصدقه ولا كذبه إلا ببينة؛ كما قال تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} (2)، وقد ثبت في «صحيح البخاري» عن أبي هريرة: أن أهل الكتاب كانوا يقرأون التوراة ويفسرونها بالعربية، فقال النبي (ص): «إذا حدثكم أهل الكتاب؛ فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه، وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه، وقولوا: {آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} (3) (4)
(1) رواه البخاري في (الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه، رقم 1355، وفي الجهاد والسير، باب كيف يعرض الإسلام على الصبي، رقم 3055)، ومسلم في (الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد، رقم 2931)؛ من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. ورواه مسلم في (الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد، رقم 2924) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (2) الحجرات: 6. (3) العنكبوت: 46. (4) [صحيح]. رواه أبو داود في (العلم، باب رواية حديث أهل الكتاب، رقم 3644)، وأحمد في «المسند» (4 / 136)؛ من حديث أبي نملة الأنصاري. وانظر: «السلسلة الصحيحة» (2800). ولم أجده في البخاري كما ذكر المؤلف. 98 فقد جاز للمسلمين سماع ما يقولونه ولم يصدقوه ولم يكذبوه. وقد روي عن أبي موسى الأشعري أنه أبطأ عليه خبر عمر وكان هناك امرأة لها قرين من الجن، فسأله عنه، فأخبره أنه ترك عمر يسم إبل الصدقة (1)، وفي خبر آخر أن عمر أرسل جيشا، فقدم شخص إلى المدينة، فأخبر أنهم انتصروا على عدوهم وشاع الخبر، فسأل عمر عن ذلك، فذكر له، فقال: هذا أبو الهيثم بريد المسلمين من الجن، وسيأتي بريد الإنس بعد ذلك. فجاء بعد ذلك بعدة أيام (2)) (3) * * *
(1) [إسناده ضعيف]. رواه الإمام أحمد في (فضائل الصحابة، رقم 304) بإسناد ضعيف. (2) أورده بدر الدين الشبلي في «آكام المرجان في أحكام الجان» (ص 139)؛ بدون سند. (3) «مجموع الفتاوى» (19 / 62 - 63). 99 تمثل الجن بالإنس ومن ذلك تمثلهم بابن تيمية نفسه (وقد يأمر الملك بعض الناس بأمر ويستكتمه إياه، فيخرج فيرى الناس يتحدثون به؛ فإن الجن تسمعه وتخبر به الناس، والذين يستخدمون الجن في المباحات يشبه استخدام سليمان، لكن أعطي ملكا لا ينبغي لأحد بعده وسخرت له الإنس والجن، وهذا لم يحصل لغيره، والنبي (ص) لما تفلت عليه العفريت ليقطع عليه صلاته؛ قال: «فأخذته، فذعته حتى سال لعابه على يدي، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد، ثم ذكرت دعوة أخي سليمان فأرسلته» (1)؛ فلم يستخدم الجن أصلا، لكن دعاهم إلى الإيمان بالله، وقرأ عليهم القرآن، وبلغهم الرسالة، وبايعهم كما فعل بالإنس. والذي أوتيه (ص) أعظم مما أوتيه سليمان؛ فإنه استعمل الجن والإنس في عبادة الله وحده وسعادتهم في الدنيا والآخرة، لا لغرض يرجع إليه إلا ابتغاء وجه الله وطلب مرضاته، واختار أن يكون عبدا رسولا على أن يكون نبيا ملكا؛ فداود وسليمان ويوسف أنبياء ملوك، وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد رسل عبيد؛ فهو أفضل، كفضل السابقين المقربين على الأبرار أصحاب
(1) رواه بنحوه البخاري في (الصلاة، باب الأسير والغريم يربط في المسجد، 461، وفي أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب}، 3423، وفي تفسير القرآن، باب قوله: {وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي}، 4808)، ومسلم في (المساجد، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة، 541)؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 100 اليمين. وكثير ممن يرى هذه العجائب الخارقة يعتقد أنها من كرامات الأولياء، وكثير من أهل الكلام والعلم لم يعرفوا الفرق بين الأنبياء والصالحين في الآيات الخارقة وما لأولياء الشيطان من ذلك من السحرة والكهان والكفار من المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع والضلال من الداخلين في الإسلام؛ فجعلوا الخوارق جنسا واحدا، وقالوا: كلها يمكن أن تكون معجزة إذا اقترنت بدعوى النبوة والاستدلال بها والتحدي بمثلها. وإذا ادعى النبوة من ليس بنبي من الكفار والسحرة؛ فلا بد أن يسلبه الله ما كان معه من ذلك، وأن يقيض له من يعارضه، ولو عارض واحد من هؤلاء النبي لأعجزه الله؛ فخاصة المعجزات عندهم مجرد كون المرسل إليهم لا يأتون بمثل ما أتى به النبي مما لم يكن معتادا للناس، قالوا: إن عجز الناس عن المعارضة خرق عادة. فهذه المعجزات عندهم، وهم ضاهوا سلفهم من المعتزلة الذين قالوا: المعجزات هي خرق العادة. لكن أنكروا كرامات الصالحين، وأنكروا أن يكون السحر والكهانة إلا من جنس الشعبذة والحيل، ولم يعلموا أن الشياطين تعين على ذلك، وأولئك أثبتوا الكرامات ثم زعموا أن المسلمين أجمعوا على أن هذه لا تكون إلا لرجل صالح أو نبي، قالوا: فإذا ظهرت على يد رجل كان صالحا بهذا الإجماع. وهؤلاء أنفسهم قد ذكروا أنها يكون للسحرة ما هو مثلها، وتناقضوا في ذلك كما قد بسط في غير هذا الموضع؛ فصار كثير من الناس لا يعلمون ما للسحرة والكهان وما يفعله الشياطين من العجائب، وظنوا أنها لا تكون إلا
101 لرجل صالح؛ فصار من ظهرت هذه له يظن أنها كرامة، فيقوى قلبه بأن طريقته هي طريقة الأولياء، وكذلك غيرهم يظن فيه ذلك، ثم يقولون: الولي إذا تولى لا يعترض عليه؛ فمنهم من يراه مخالفا لما علم بالاضطرار من دين الرسول، مثل: ترك الصلاة المفروضة، وأكل الخبائث كالخمر والحشيشة والميتة وغير ذلك، وفعل الفواحش، والفحش والتفحش في المنطق، وظلم الناس، وقتل النفس بغير حق، والشرك بالله، وهو مع ذلك يظن فيه أنه ولي من أولياء الله قد وهبه هذه الكرامات بلا عمل فضلا من الله تعالى، ولا يعلمون أن هذه من أعمال الشياطين، وأن هذه من أولياء الشياطين تضل بها الناس وتغويهم. ودخلت الشياطين في أنواع من ذلك؛ فتارة يأتون الشخص في النوم، يقول أحدهم: أنا أبو بكر الصديق، وأنا أتوبك لي وأصير شيخك وأنت تتوب الناس لي، ويلبسه، فيصبح وعلى رأسه ما ألبسه؛ فلا يشك أن الصديق هو الذي جاءه ولا يعلم أنه الشيطان، وقد جرى مثل هذا لعدة من المشايخ بالعراق والجزيرة والشام، وتارة يقص شعره في النوم فيصبح فيجد شعره مقصوصا، وتارة يقول: أنا الشيخ فلان؛ فلا يشك أن الشيخ نفسه جاءه وقص شعره. وكثيرا ما يستغيث الرجل بشيخه الحي أو الميت، فيأتونه في صورة ذلك الشيخ، وقد يخلصونه مما يكره؛ فلا يشك أن الشيخ نفسه جاءه، أو أن ملكا تصور بصورته وجاءه، ولا يعلم أن ذلك الذي تمثل إنما هو الشيطان لما أشرك بالله أضلته الشياطين، والملائكة لا تجيب مشركا. وتارة يأتون إلى من هو خال في البرية وقد يكون ملكا أو أميرا كبيرا
102 ويكون كافرا، وقد انقطع عن أصحابه وعطش وخاف الموت، فيأتيه في صورة إنسي ويسقيه ويدعوه إلى الإسلام ويتوبه، فيسلم على يديه ويتوبه ويطعمه ويدله على الطريق، ويقول: من أنت؟ فيقول: أنا فلان. ويكون من مؤمني الجن. كما جرى مثل هذا لي، كنت في مصر في قلعتها، وجرى مثل هذا إلى كثير من الترك من ناحية المشرق، وقال له ذلك الشخص: أنا ابن تيمية؛ فلم يشك ذلك الأمير إني أنا هو، وأخبر بذلك ملك ماردين، وأرسل بذلك ملك ماردين إلى ملك مصر رسولا وكنت في الحبس، فاستعظموا ذلك وأنا لم أخرج من الحبس، ولكن كان هذا جنيا يحبنا فيصنع بالترك التتر مثل ما كنت أصنع بهم لما جاؤوا إلى دمشق: كنت أدعوهم إلى الإسلام، فإذا نطق أحدهم بالشهادتين أطعمتهم ما تيسر، فعمل معهم مثل ما كنت أعمل، وأراد بذلك إكرامي ليظن ذاك أني أنا الذي فعلت ذلك. قال لي طائفة من الناس: فلم لا يجوز أن يكون ملكا؟ قلت: لا، إن الملك لا يكذب، وهذا قد قال: أنا ابن تيمية وهو يعلم أنه كاذب في ذلك) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (13 / 89 - 93). 103 سبب كثرة تصور الجن بصورة الكلب والقط الأسودان (وقد تنازع العلماء في شيطان الجن إذا مر بين يدي المصلي: هل يقطع؟ على قولين هما قولان في مذهب أحمد، كما ذكرهما ابن حامد وغيره: أحدهما: يقطع لهذا الحديث ولقوله لما أخبر أن مرور الكلب الأسود يقطع الصلاة: «الكلب الأسود شيطان» (1)؛ فعلل بأنه شيطان، وهو كما قال رسول الله (ص)؛ فإن الكلب الأسود شيطان الكلاب، والجن تتصور بصورته كثيرا وكذلك بصورة القط الأسود؛ لأن السواد أجمع للقوى الشيطانية من غيره، وفيه قوة الحرارة) (2) * * *
(1) رواه مسلم في (الصلاة، باب قدر ما يستر المصلي، رقم 510) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. (2) «مجموع الفتاوى» (19 / 52). 104 القسم الثاني مسائل في: العلم والجهاد والسياسة الشرعية
105 الشرع والسياسة (ثبت في «الصحيح» عن رسول الله (ص) أنه قال: «إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما مات نبي قام نبي، وأنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء يكثرون». قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «أوفوا بيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم» (1)، فلما صارت الخلافة في ولد العباس واحتاجوا إلى سياسة الناس وتقلد لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق، ولم يكن ما معهم من العلم كافيا في السياسة العادلة: احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع، وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين؛ حتى صار يقال: الشرع والسياسة، وهذا يدعو خصمه إلى الشرع وهذا يدعو إلى السياسة، سوغ حاكما أن يحكم بالشرع والآخر بالسياسة. والسبب في ذلك أن الذين انتسبوا إلى الشرع قصروا في معرفة السنة، فصارت أمور كثيرة: إذا حكموا ضيعوا الحقوق وعطلوا الحدود؛ حتى تسفك الدماء، وتؤخذ الأموال، وتستباح المحرمات، والذين انتسبوا إلى السياسة صاروا يسوسون بنوع من الرأي من غير اعتصام بالكتاب والسنة، وخيرهم الذي يحكم بلا هوى وتحرى العدل، وكثير منهم يحكمون بالهوى ويحابون القوي ومن يرشوهم ونحو ذلك. وكذلك كانت الأمصار التي ظهر فيها مذهب أهل المدينة يكون فيها من الحكم بالعدل ما ليس في غيرها من جعل صاحب الحرب متبعا لصاحب
(1) رواه البخاري في (أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، رقم 3455)، ومسلم في (الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول، رقم 1842) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 107 الكتاب ما لا يكون في الأمصار التي ظهر فيها مذهب أهل العراق ومن اتبعهم، حيث يكون في هذه والي الحرب غير متبع لصاحب العلم، وقد قال الله تعالى في كتابه: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم...} (1) الآية؛ فقوام الدين بكتاب يهدي وسيف ينصر: {وكفى بربك هاديا ونصيرا} (2). ودين الإسلام أن يكون السيف تابعا للكتاب، فإذا ظهر العلم بالكتاب والسنة وكان السيف تابعا لذلك كان أمر الإسلام قائما، وأهل المدينة أولى الأمصار بمثل ذلك، أما على عهد الخلفاء الراشدين؛ فكان الأمر كذلك، وأما بعدهم؛ فهم في ذلك أرجح من غيرهم، وأما إذا كان العلم بالكتاب فيه تقصير وكان السيف تارة يوافق الكتاب وتارة يخالفه؛ كان دين من هو كذلك بحسب ذلك) (3) * * *
(1) الحديد: 25. (2) الفرقان: 31. (3) «مجموع الفتاوى» (20 / 392 - 393). 108 شيخ الإسلام يصف أهل زمانه وقت ظهور التتار (... أما الطائفة بالشام ومصر ونحوهما؛ فهم في هذا الوقت المقاتلون عن دين الإسلام، وهم من أحق الناس دخولا في الطائفة المنصورة التي ذكرها النبي (ص) بقوله في الأحاديث الصحيحة المستفيضة عنه: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة» (1)، وفي رواية لمسلم: «لا يزال أهل الغرب» (2). والنبي (ص) تكلم بهذا الكلام بمدينته النبوية؛ فغر به ما يغرب عنها، وشرقه ما يشرق عنها، فإن التشريق والتغريب من الأمور النسبية؛ إذ كل بلد له شرق وغرب، ولهذا إذا قدم الرجل إلى الإسكندرية من الغرب يقولون: سافر إلى الشرق، وكان أهل المدينة يسمون أهل الشام أهل الغرب ويسمون نجد والعراق أهل الشرق... ... ومن يتدبر أحوال العالم في هذا الوقت يعلم أن هذه الطائفة هي أقوم الطوائف بدين الإسلام: علما، وعملا، وجهادا من شرق الأرض وغربها؛ فإنهم هم الذين يقاتلون أهل الشوكة العظيمة من المشركين وأهل الكتاب ومغازيهم مع النصارى ومع المشركين من الترك ومع الزنادقة المنافقين من الداخلين في الرافضة وغيرهم؛ كالإسماعيلية ونحوهم من القرامطة معروفة معلومة قديما وحديثا، والعز الذي للمسلمين بمشارق الأرض ومغاربها هو بعزهم...
(1) رواه البخاري في (الاعتصام بالسنة، باب قول النبي (ص): «لا تزال طائفة»، رقم 7311)، ومسلم في (الإيمان، باب نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد (، رقم 156)؛ من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. (2) في (كتاب الإمارة، باب قوله: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق»، رقم 1925) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. 109 وذلك أن سكان اليمن في هذا الوقت ضعاف عاجزون عن الجهاد أو مضيعون له، وهم مطيعون لمن ملك هذه البلاد، حتى ذكروا أنهم أرسلوا بالسمع والطاعة لهؤلاء، وملك المشركين لما جاء إلى حلب جرى بها من القتل ما جرى، وأما سكان الحجاز؛ فأكثرهم أو كثير منهم خارجون عن الشريعة، وفيهم من البدع والضلال والفجور ما لا يعلمه إلا الله، وأهل الإيمان والدين فيهم مستضعفون عاجزون، وإنما تكون القوة والعزة في هذا الوقت لغير أهل الإسلام بهذه البلاد، فلو ذلت هذه الطائفة - والعياذ بالله تعالى -؛ لكان المؤمنون بالحجاز من أذل الناس، لا سيما وقد غلب فيهم الرفض، وملك هؤلاء التتار المحاربون لله ورسوله الآن مرفوض، فلو غلبوا لفسد الحجاز بالكلية، وأما بلاد إفريقية؛ فأعرابها غالبون عليها، وهم من شر الخلق، بل هم مستحقون للجهاد والغزو، وأما المغرب الأقصى؛ فمع استيلاء الإفرنج على أكثر بلادهم، لا يقومون بجهاد النصارى هناك، بل في عسكرهم من النصارى الذين يحملون الصلبان خلق عظيم، لو استولى التتار على هذه البلاد؛ لكان أهل المغرب معهم من أذل الناس، لا سيما والنصارى تدخل مع التتار؛ فيصيرون حزبا على أهل المغرب. فهذا وغيره مما يبين أن هذه العصابة التي بالشام ومصر في هذا الوقت هم كتيبة الإسلام، وعزهم عز الإسلام، وذلهم ذل الإسلام، فلو استولى عليهم التتار لم يبق للإسلام عز ولا كلمة عالية ولا طائفة ظاهرة عالية يخافها أهل الأرض تقاتل عنه) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (28 / 530 - 534). 110 انتقال الأمر من خلافة النبوة إلى الملك (انتقال الأمر عن خلافة النبوة إلى الملك: إما أن يكون لعجز العباد عن خلافة النبوة، أو اجتهاد سائغ، أو مع القدرة على ذلك علما وعملا؛ فإن كان مع العجز علما أو عملا كان ذو الملك معذورا في ذلك، وإن كانت خلافة النبوة واجبة مع القدرة كما تسقط سائر الواجبات مع العجز كحال النجاشي لما أسلم وعجز عن إظهار ذلك في قومه، بل حال يوسف الصديق تشبه ذلك من بعض الوجوه، لكن الملك كان جائزا لبعض الأنبياء كداود وسليمان ويوسف. وإن كان مع القدرة علما وعملا، وقدر أن خلافة النبوة مستحبة ليست واجبة، وأن اختيار الملك جائز في شريعتنا كجوازه في غير شريعتنا؛ فهذا التقدير إذا فرض أنه حق فلا إثم على الملك العادل أيضا) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (35 / 25). 111 لا يصح أن يقال الخليفة هو الخليفة عن الله مثل النائب عنه (و «الخليفة»: هو من كان خلفا عن غيره، فعيلة بمعنى فاعلة، كان النبي (ص) إذا سافر يقول: «اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل» (1)، وقال (ص): «من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا» (2)... وفي القرآن الكريم: {سيقول لك المخلفون من الأعراب} (3)، وقوله: {فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله} (4). والمراد ب «الخليفة» أنه خلف من كان قبله من الخلق، والخلف فيه مناسبة، كما كان أبو بكر الصديق خليفة رسول الله (ص)؛ لأنه خلفه على أمته بعد موته، وكما كان النبي (إذا سافر لحج أو عمرة أو غزوة يستخلف على المدينة من يكون خليفة له مدة معينة؛ فيستخلف تارة ابن أم مكتوم وتارة غيره، واستخلف علي بن أبي طالب في غزوة تبوك. وتسمى الأمكنة التي يستخلف فيها الإمام «مخاليف»، مثل: مخاليف اليمن، ومخاليف أرض الحجاز، ومنه الحديث: «حيث خرج من مخلاف إلى
(1) رواه مسلم في (الحج، باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره، رقم 1342) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (2) رواه البخاري في (الجهاد والسير، باب فضل من جهز غازيا أو خلفه بخير، رقم 2843)، ومسلم في (الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب أو غيره، 1895)؛ من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه. (3) الفتح: 11. (4) التوبة: 81. 112 مخلاف» (1)، ومنه قوله تعالى: {وهو الذي جعلكم خلائف في الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم} (2)، وقوله تعالى: {ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا...} إلى قوله تعالى: {ثم جعلناكم خلائف في الأرض} (3)، ومنه قوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم...} (4) الآية. وقد ظن بعض القائلين الغالطين - كابن عربي - أن «الخليفة» هو الخليفة عن الله، مثل نائب الله، وزعموا أن هذا بمعنى أن يكون الإنسان مستخلفا... والله لا يجوز له خليفة، ولهذا لما قالوا لأبي بكر: يا خليفة الله! قال: لست بخليفة الله، ولكني خليفة رسول الله (ص)، حسبي ذلك. بل هو سبحانه يكون خليفة لغيره، قال النبي (ص): «اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا» (5)، وذلك لأن الله حي شهيد مهيمن قيوم رقيب حفيظ غني عن العالمين، ليس له شريك ولا ظهير،
(1) في «صحيح البخاري» (كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن، رقم 4342). قال أبو بردة: «بعث رسول الله (ص) أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن. قال: وبعث كل واحد منهما على مخلاف. قال: واليمن مخلافان». (2) الأنعام: 61. (3) يونس: 14. (4) النور: 55. (5) [صحيح]. الحديث بهذا اللفظ رواه الترمذي في (الدعوات، باب ما يقول إذا خرج مسافرا، رقم 3439) من حديث عبد الله بن سرجس رضي الله عنه، وفي (الدعوات، باب ما يقول إذا ركب الناقة، رقم 3447)، وأحمد في «المسند» (2 / 144) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. وانظر: «صحيح سنن الترمذي» (3 / 154). 113 ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، والخليفة إنما يكون عند عدم المستخلف بموت أو غيبة، ويكون لحاجة المستخلف إلى الاستخلاف، وسمي «خليفة» لأنه خلف عن الغزو، وهو قائم خلفه، وكل هذه المعاني منتفية في حق الله تعالى وهو منزه عنها؛ فإنه حي قيوم شهيد، لا يموت ولا يغيب، وهو غني يرزق ولا يرزق: يرزق عباده، وينصرهم، ويهديهم، ويعافيهم بما خلقه من الأسباب التي هي من خلقه، والتي هي مفتقرة إليه كافتقار المسببات إلى أسبابها؛ فالله هو الغني الحميد، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما، {يسأله من في السماوات كل يوم هو في شان} (1)، {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} (2)، ولا يجوز أن يكون أحد خلفا منه ولا يقوم مقامه؛ لأنه لا سمي له ولا كفء له، فمن جعل له خليفة؛ فهو مشرك به) (3) * * *
(1) الرحمن: 29. (2) الزخرف: 84. (3) «مجموع الفتاوى» (35 / 43 - 45). 114 الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أفضل الأعمال (معلوم أن الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أفضل الأعمال؛ كما قال (ص): «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله تعالى» (1)، وفي «الصحيح» عنه (ص) أنه قال: «إن في الجنة لمئة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض أعدها الله عز وجل للمجاهدين في سبيله» (2)، وقال (ص): «رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه» (3)، ومن مات مرابطا مات مجاهدا وجرى عليه عمله وأجرى عليه رزقه من الجنة وأمن الفتنة، والجهاد أفضل من الحج والعمرة؛ كما قال تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين. الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون. يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم. خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم» (4)، والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على
(1) [صحيح]. رواه الترمذي في (الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة، 2541)، وابن ماجة في (الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، 3973)؛ من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. وانظر: «صحيح الترمذي» (2 / 328). (2) رواه البخاري في (الجهاد والسير، باب درجات المجاهدين في سبيل الله، 2790، وفي التوحيد، باب وكان عرشه على الماء، 7423)، ومسلم في (الإمارة، باب ما أعده الله تعالى للمجاهدين في الجنة، 1848)؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) رواه مسلم في (الإمارة، باب فضل الرباط في سبيل الله عز وجل، 1913) من حديث سلمان رضي الله عنه. (4) التوبة: 19 - 22. 115 خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (35 / 160). 116 فروض الكفايات يقوم بها من قدر عليها إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها (خاطب الله المؤمنين بالحدود والحقوق خطابا مطلقا؛ كقوله: {والسارق والسارقة فاقطعوا} (1)، وقوله: {الزانية والزاني فاجلدوا} (2)، وقوله: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم} (3)، وكذلك قوله: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا} (4)؛ لكن قد علم أن المخاطب بالفعل لا بد أن يكون قادرا عليه والعاجزون لا يجب عليهم، وقد علم أن هذا فرض على الكفاية، وهو مثل الجهاد؛ بل هو نوع من الجهاد؛ فقوله: {كتب عليكم القتال} (5)، وقوله: {وقاتلوا في سبيل الله} (6)، وقوله: {إلا تنفروا يعذبكم} (7)، ونحو ذلك: هو فرض على الكفاية من القادرين، و «القدرة»: هي السلطان؛ فلهذا وجب إقامة الحدود على ذي السلطان ونوابه. والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد والباقون نوابه، فإذا فرض أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها وعجز من الباقين أو غير ذلك فكان لها عدة أئمة؛ لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود ويستوفي الحقوق، ولهذا قال العلماء: إن أهل البغي ينفذ من أحكامهم ما ينفذ من
(1) المائدة: 38. (2) النور: 2. (3) النور: 4. (4) النور: 4. (5) البقرة: 216. (6) البقرة: 190. (7) التوبة: 39. 117 أحكام أهل العدل، وكذلك لو شاركوا الإمارة وصاروا أحزابا لوجب على كل حزب فعل ذلك في أهل طاعتهم؛ فهذا عند تفرق الأمراء وتعددهم، وكذلك لو لم يتفرقوا، لكن طاعتهم للأمير الكبير ليست طاعة تامة؛ فإن ذلك أيضا إذا أسقط عنه إلزامهم بذلك لم يسقط عنهم القيام بذلك؛ بل عليهم أن يقيموا ذلك، وكذلك لو فرض عجز بعض الأمراء عن إقامة الحدود والحقوق أو إضاعته لذلك؛ لكان ذلك الفرض على القادر عليه. وقول من قال: لا يقيم الحدود إلا السلطان ونوابه إذا كانوا قادرين فاعلين بالعدل، كما يقول الفقهاء: الأمر إلى الحاكم، إنما هو العادل القادر، فإذا كان مضيعا لأموال اليتامى أو عاجزا عنها؛ لم يجب تسليمها إليه مع إمكان حفظها بدونه، وكذلك الأمير إذا كان مضيعا للحدود أو عاجزا عنها لم يجب تفويضها إليه مع إمكان إقامتها بدونه. والأصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه؛ فمتى أمكن إقامتها من أمير لم يحتج إلى اثنين، ومتى لم يقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها، فإنها من «باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، فإن كان في ذلك من فساد ولاة الأمر أو الرعية ما يزيد على إضاعتها؛ لم يدفع فساد بأفسد منه، والله أعلم) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (34 / 175 - 176). 118 طلب العلم الشرعي فرض على الكفاية إلا فيما يتعين (طلب العلم الشرعي فرض على الكفاية إلا فيما يتعين؛ مثل طلب كل واحد علم ما أمره الله به وما نهاه عنه؛ فإن هذا فرض على الأعيان كما أخرجاه في «الصحيحين» عن النبي (ص) أنه قال: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» (1)، وكل من أراد الله به خيرا لا بد أن يفقهه في الدين، فمن لم يفقهه في الدين لم يرد الله به خيرا، والدين: ما بعث الله به رسوله، وهو ما يجب على المرء التصديق به والعمل به، وعلى كل أحد أن يصدق محمدا (ص) فيما أخبر به ويطيعه فيما أمر تصديقا عاما وطاعة عامة، ثم إذا ثبت عنه خبر كان عليه أن يصدق به مفصلا، وإذا كان مأمورا من جهة بأمر معين كان عليه أن يطيعه طاعة مفصلة) (2) * * *
(1) رواه البخاري في (العلم، باب من يرد الله به خيرا، رقم 71)، وفي مواضع أخرى من «الصحيح»، ومسلم في (الزكاة، باب النهي عن المسألة، 1037)؛ من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه. (2) «مجموع الفتاوى» (28 / 80). 119 قتال الطائفة الممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة (أجمع علماء المسلمين على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة؛ فإنه يجب قتالها حتى يكون الدين كله لله. فلو قالوا: نصلي ولا نزكي، أو: نصلي الخمس ولا نصلي الجمعة ولا الجماعة، أو: نقوم بمباني الإسلام الخمس ولا نحرم دماء المسلمين وأموالهم، أو: لا نترك الربا ولا الخمر ولا الميسر، أو: نتبع القرآن ولا نتبع رسول الله (ص) ولا نعمل بالأحاديث الثابتة عنه، أو: نعتقد أن اليهود والنصارى خير من جمهور المسلمين وأن أهل القبلة قد كفروا بالله ورسوله ولم يبق منهم مؤمن إلا طائفة قليلة، أو قالوا: إنا لا نجاهد الكفار مع المسلمين، أو غير ذلك من الأمور المخالفة لشريعة رسول الله (ص) وسنته وما عليه جماعة المسلمين؛ فإنه يجب جهاد هذه الطوائف جميعها؛ كما جاهد المسلمون مانعي الزكاة، وجاهدوا الخوارج وأصنافهم، وجاهدوا الخرمية والقرامطة والباطنية وغيرهم من أصناف أهل الأهواء والبدع الخارجين عن شريعة الإسلام. وذلك لأن الله تعالى يقول في كتابه: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} (1)، فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب قتالهم حتى يكون الدين كله لله، وقال تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} (2)؛ فلم يأمر بتخلية سبيلهم إلا بعد التوبة من جميع أنواع الكفر، وبعد إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم
(1) البقرة: 193. (2) التوبة: 5. 120 تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} (1)؛ فقد أخبر تعالى أن الطائفة الممتنعة إذا لم تنته عن الربا فقد حاربت الله ورسوله، والربا آخر ما حرم الله في القرآن، فما حرمه قبله أوكد، وقال تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} (2). فكل من امتنع من أهل الشوكة عن الدخول في طاعة الله ورسوله؛ فقد حارب الله ورسوله، ومن عمل في الأرض بغير كتاب الله وسنة رسوله؛ فقد سعى في الأرض فسادا، ولهذا تأول السلف هذه الآية على الكفار وعلى أهل القبلة حتى أدخل عامة الأئمة فيها قطاع الطريق الذين يشهرون السلاح لمجرد أخذ الأموال، وجعلوهم بأخذ أموال الناس بالقتال محاربين لله ورسوله ساعين في الأرض فسادا؛ وإن كانوا يعتقدون تحريم ما فعلوه ويقرون بالإيمان بالله ورسوله. فالذي يعتقد حل دماء المسلمين وأموالهم ويستحل قتالهم أولى بأن يكون محاربا لله ورسوله ساعيا في الأرض فسادا من هؤلاء، كما أن الكافر الحربي الذي يستحل دماء المسلمين وأموالهم ويرى جواز قتالهم أولى بالمحاربة من الفاسق الذي يعتقد تحريم ذلك، وكذلك المبتدع الذي خرج عن بعض شريعة رسول الله (ص) وسنته واستحل دماء المسلمين المتمسكين بسنة رسول الله (ص) وشريعته وأموالهم هو أولى بالمحاربة من الفاسق؛ وإن اتخذ ذلك دينا يتقرب به إلى الله، كما أن اليهود والنصارى تتخذ محاربة المسلمين دينا تتقرب به إلى الله.
(1) البقرة: 279. (2) المائدة: 33. 121 ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أن هذه البدع المغلظة شر من الذنوب التي يعتقد أصحابها أنها ذنوب، وبذلك مضت سنة رسول الله (ص» (1) وقال أيضا: (كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم وغيرهم؛ فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر الصديق والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة، وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضي الله عنهما؛ فاتفق الصحابة رضي الله عنهم على القتال على حقوق الإسلام عملا بالكتاب والسنة. وكذلك ثبت عن النبي (ص) من عشرة أوجه الحديث عن الخوارج، وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة مع قوله: «تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم» (2)؛ فعلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه ليس بمسقط للقتال؛ فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله وحتى لا تكون فتنة، فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب. فأيما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء والأموال والخمر والزنا والميسر، أو عن نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته - التي لا عذر لأحد في جحودها وتركها - التي يكفر الجاحد لوجوبها؛ فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن
(1) «مجموع الفتاوى» (28 / 468 - 470). (2) جزء من حديث رواه البخاري في (فضائل القرآن، باب إثم من رآء في قراءة القرآن، 5058، وفي استتابة المرتدين، باب قتل الخوارج والملحدين، 6931)، ومسلم في (الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، 1064)؛ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. 122 كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء...) (1) وقال أيضا: (كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة؛ فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين وإن تكلمت بالشهادتين، فإذا أقروا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلوات الخمس وجب قتالهم حتى يصلوا، وإن امتنعوا عن الزكاة وجب قتالهم حتى يؤدوا الزكاة، وكذلك إن امتنعوا عن صيام شهر رمضان أو حج البيت العتيق، وكذلك إن امتنعوا عن تحريم الفواحش أو الزنا أو الميسر أو الخمر أو غير ذلك من محرمات الشريعة، وكذلك إن امتنعوا عن الحكم في الدماء والأموال والأعراض والأبضاع ونحوها بحكم الكتاب والسنة، وكذلك إن امتنعوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار إلى أن يسلموا ويؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وكذلك إن أظهروا البدع المخالفة للكتاب والسنة واتباع سلف الأمة وأئمتها؛ مثل أن يظهروا الإلحاد في أسماء الله وآياته، أو التكذيب بأسماء الله وصفاته، أو التكذيب بقدره وقضائه، أو التكذيب بما كان عليه جماعة المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين، أو الطعن في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، أو مقاتلة المسلمين حتى يدخلوا في طاعتهم التي توجب الخروج عن شريعة الإسلام، وأمثال هذه الأمور. قال الله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} (2)، فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله؛ وجب القتال حتى يكون الدين كله لله) (3)
(1) «مجموع الفتاوى» (28 / 502 - 503). (2) البقرة: 193. (3) «مجموع الفتاوى» (28 / 510 - 511). 123 كل من خشي الله فهو عالم وليس كل عالم يخشى الله (قال أبو حيان التيمي: «العلماء ثلاثة»: عالم بالله وبأمر الله، وعالم بالله ليس عالما بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس عالما بالله،؛ فالعالم بالله الذي يخشاه، والعالم بأمر الله الذي يعلم حدوده وفرائضه، وقد قال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (1)، وهذا يدل على أن كل من خشي الله فهو عالم، وهو حق، ولا يدل على أن كل عالم يخشاه؛ لكن لما كان العلم به موجبا للخشية عند عدم المعارض كان عدمه دليلا على ضعف الأصل؛ إذ لو قوي لدفع المعارض) (2) * * *
(1) فاطر: 28. (2) «مجموع الفتاوى» (7 / 539). 124 لو أفتى المفتي بالخطأ فالعقوبة لا تجوز إلا بعد إقامة الحجة ولا يجوز منعه من الفتيا مطلقا ولا حبسه (لو قدر أن المفتي أفتى بالخطأ؛ فالعقوبة لا تجوز إلا بعد إقامة الحجة، فالواجب أن تبين دلالة الكتاب والسنة على خطئه، ويجاب عما احتج به؛ فإنه لا بد من ذكر الدليل والجواب عن المعارض، وإلا؛ فإذا كان مع هذا حجة ومع هذا حجة لم يجز تعيين الصواب مع أحدهما إلا بمرجح) (1) وقال: (لو قدر أن العالم الكثير الفتاوى أفتى في عدة مسائل بخلاف سنة رسول الله (ص) الثابتة عنه وخلاف ما عليه الخلفاء الراشدون؛ لم يجز منعه من الفتيا مطلقا، بل يبين له خطؤه فيما خالف فيه، فما زال في كل عصر من أعصار الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين من هو كذلك؛ فابن عباس رضي الله عنهما كان يقول في «المتعة والصرف» بخلاف السنة الصحيحة، وقد أنكر عليه الصحابة ذلك ولم يمنعوه من الفتيا مطلقا؛ بل بينوا له سنة رسول الله (ص) المخالفة لقوله؛ فعلي رضي الله عنه روي له عن النبي (ص) أنه حرم المتعة، وأبو سعيد الخدري رضي الله عنه وغيره رووا له تحريمه لربا الفضل ولم يردوا فتياه لمجرد قولهم وحكمهم ويمنعوه من الفتيا مطلقا، ومثل هذا كثير؛ فالمنع العام حكم بغير ما أنزل الله وهو باطل باتفاق المسلمين) (2) وقال أيضا: (لو قدر أن العالم الكثير الفتاوى أخطأ في مئة مسألة لم يكن ذلك عيبا، وكل من سوى الرسول (ص) يصيب ويخطىء، ومن منع عالما من الإفتاء مطلقا وحكم بحبسه لكونه أخطأ في مسائل؛ كان ذلك باطلا
125 بالإجماع، فالحكم بالمنع والحبس حكم باطل بالإجماع؛ فكيف إذا كان المفتي قد أجاب بما هو سنة رسول الله (ص) وقول علماء أمته؟! ... إن المفتي لو أفتى في المسائل الشرعية «مسائل الأحكام» بما هو أحد قولي علماء المسلمين، واستدل على ذلك بالكتاب والسنة، وذكر أن هذا القول هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة دون القول الآخر في أي باب كان ذلك من مسائل البيوع والنكاح والطلاق والحج والزيارة وغير ذلك؛ لم يكن لأحد أن يلزمه بالقول الآخر بلا حجة من كتاب أو سنة، ولا أن يحكم بلزومه ولا منعه من القول الآخر بالإجماع؛ فكيف إذا منعه منعا عاما وحكم بحبسه؟! فإن هذا من أبطل الأحكام بإجماع المسلمين) (1) * * *
126 ليس لأحد أن يحكم بين أحد إلا بحكم الله ورسوله (ليس لأحد أن يحكم بين أحد من خلق الله؛ لا بين المسلمين، ولا الكفار، ولا الفتيان، ولا رماة البندق، ولا الجيش، ولا الفقراء، ولا غير ذلك؛ إلا بحكم الله ورسوله، ومن ابتغى غير ذلك تناوله قوله تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} (1)، وقوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} (2)؛ فيجب على المسلمين أن يحكموا الله ورسوله في كل ما شجر بينهم، ومن حكم بحكم البندق وشرع البندق أو غيره مما يخالف شرع الله ورسوله وحكم الله ورسوله وهو يعلم ذلك؛ فهو من جنس التتار الذين يقدمون حكم «الياساق» على حكم الله ورسوله، ومن تعمد ذلك؛ فقد قدح في عدالته ودينه، ووجب أن يمنع من النظر في الوقف، والله أعلم) (3) * * *
127 الشرع المنزل والشرع المؤول والشرع المبدل (لفظ الشرع في هذه الأزمنة «ثلاثة أقسام»: أحدها: الشرع المنزل، وهو الكتاب والسنة، واتباعه واجب، من خرج عنه وجب قتله، ويدخل فيه أصول الدين وفروعه، وسياسة الأمراء وولاة المال، وحكم الحكام، ومشيخة الشيوخ، وغير ذلك؛ فليس لأحد من الأولين والآخرين خروج عن طاعة الله ورسوله. والثاني: الشرع المؤول، وهو موارد النزاع والاجتهاد بين الأمة، فمن أخذ فيما يسوغ فيه الاجتهاد أقر عليه ولم يجب على جميع الخلق موافقته إلا بحجة لا مرد لها من الكتاب والسنة. والثالث: الشرع المبدل، مثل ما يثبت من شهادات الزور، أو يحكم فيه بالجهل والظلم بغير العدل والحق حكما بغير ما أنزل الله، أو يؤمر فيه بإقرار باطل لإضاعة حق، مثل أمر المريض أن يقر لوارث بما ليس بحق ليبطل به حق بقية الورثة؛ فإن الأمر بذلك والشهادة عليه محرمة، وإن كان الحاكم الذي لم يعرف باطن الأمر إذا حكم بما ظهر له من الحق لم يأثم؛ فقد قال سيد الحكام (ص) في الحديث المتفق عليه: «إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه؛ فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار» (1)) (2)
128 ... وقال أيضا: (اسم «السنة» و «الشريعة» قد يكون في العقائد والأقوال، وقد يكون في المقاصد والأفعال؛ فالأولى في طريقة العلم والكلام، والثانية في طريقة الحال والسماع، وقد تكون في طريقة العبادات الظاهرة والسياسات السلطانية؛ فالمتكلمة جعلوا بإزاء الشرعيات العقليات أو الكلاميات، والمتصوفة جعلوا بإزائها الذوقيات والحقائق، والمتفلسفة جعلوا بإزاء الشريعة الفلسفة، والملوك جعلوا بإزاء الشريعة السياسة، وأما الفقهاء والعامة؛ فيخرجون عما هو عندهم من الشريعة إلى بعض هذه الأمور، أو يجعلون بإزائها العادة أو المذهب أو الرأي. والتحقيق أن الشريعة التي بعث الله بها محمدا (ص) جامعة لمصالح الدنيا والآخرة، وهذه الأشياء ما خالف الشريعة منها فهو باطل، وما وافقها منها فهو حق؛ لكن قد يغير أيضا لفظ الشريعة عند أكثر الناس؛ فالملوك والعامة عندهم أن الشرع والشريعة اسم لحكم الحاكم، ومعلوم أن القضاء فرع من فروع الشريعة، وإلا؛ فالشريعة جامعة لكل ولاية وعمل فيه صلاح الدين والدنيا، والشريعة إنما هي كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه سلف الأمة في العقائد والأحوال والعبادات والأعمال والسياسات والأحكام والولايات والعطيات. ثم هي مستعملة في كلام الناس على ثلاثة أنحاء: شرع منزل؛ وهو ما شرعه الله ورسوله، وشرع متأول؛ وهو ما ساغ فيه الاجتهاد، وشرع مبدل؛ وهو ما كان من الكذب والفجور الذي يفعله المبطلون بظاهر من الشرع أو البدع أو الضلال الذي يضيفه الضالون إلى الشرع، والله سبحانه وتعالى أعلم. وبما ذكرته في مسمى الشريعة والحكم الشرعي والعلم الشرعي يتبين أنه ليس للإنسان أن يخرج عن الشريعة في شيء من أموره، بل كلما يصلح له؛ فهو في الشرع من أصوله وفروعه وأحواله وأعماله وسياسته ومعاملته وغير
129 ذلك، والحمد لله رب العالمين. وسبب ذلك أن الشريعة هي طاعة الله ورسوله وأولي الأمر منا، وقد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} (1)، وقد أوجب طاعته وطاعة رسوله في آي كثير من القرآن، وحرم معصيته ومعصية رسوله، ووعد برضوانه ومغفرته ورحمته وجنته على طاعته وطاعة رسوله، وأوعد بضد ذلك على معصيته ومعصية رسوله؛ فعلى كل أحد من عالم أو أمير أو عابد أو معامل أن يطيع الله ورسوله فيما هو قائم به من علم أو حكم أو أمر أو نهي أو عمل أو عبادة أو غير ذلك. وحقيقة الشريعة: اتباع الرسل والدخول تحت طاعتهم، كما أن الخروج عنها خروج عن طاعة الرسل، وطاعة الرسل هي دين الله الذي أمر بالقتال عليه؛ فقال: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} (2)؛ فإنه قد قال: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (3)، والطاعة له دين له، وقال النبي (ص): «من أطاعني؛ فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري؛ فقد أطاعني، ومن عصاني؛ فقد عصا الله، ومن عصى أميري؛ فقد عصاني» (4)، والأمراء والعلماء لهم مواضع تجب طاعتهم فيها، وعليهم هم أيضا أن يطيعوا الله والرسول فيما يأمرون؛ فعلى كل من الرعاة والرعية والرؤوس والمرؤوسين أن يطيع كل منهم الله ورسوله في حاله، ويلتزم شريعة الله التي شرعها له.
(1) النساء: 59. (2) البقرة: 193. (3) النساء: 80. (4) رواه البخاري في (الأحكام، باب قوله تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}، 7137)، ومسلم في (الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، 1835)؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 130 وهذه جملة تفصيلها يطول، غلط فيها صنفان من الناس: صنف سوغوا لنفوسهم الخروج عن شريعة الله ورسوله وطاعة الله ورسوله؛ لظنهم قصور الشريعة عن تمام مصالحهم جهلا منهم أو جهلا وهوى أو هوى محضا. وصنف قصروا في معرفة قدر الشريعة؛ فضيقوها حتى توهموا هم والناس أنه لا يمكن العمل بها، وأصل ذلك الجهل بمسمى الشريعة ومعرفة قدرها وسعتها، والله أعلم) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (19 / 307 - 310). 131 الحكم بغير ما أنزل الله من أعظم أسباب تغيير الدول (و «ولي الأمر» إن عرف ما جاء به الكتاب والسنة حكم بين الناس به، وإن لم يعرفه وأمكنه أن يعلم ما يقول هذا وما يقول هذا حتى يعرف الحق حكم به، وإن لم يمكنه لا هذا ولا هذا ترك المسلمين على ما هم عليه كل يعبد الله على حسب اجتهاده، وليس له أن يلزم أحدا بقبول قول غيره وإن كان حاكما. وإذا خرج ولاة الأمور عن هذا؛ فقد حكموا بغير ما أنزل الله، ووقع بأسهم بينهم؛ قال النبي (ص): «ما حكم قوم بغير ما أنزل الله؛ إلا وقع بأسهم بينهم» (1)، وهذا من أعظم أسباب تغيير الدول كما قد جرى مثل هذا مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا، ومن أراد الله سعادته جعله يعتبر بما أصاب غيره؛ فيسلك مسلك من أيده الله ونصره، ويجتنب مسلك من خذله الله وأهانه؛ فإن الله يقول في كتابه: {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز. الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} (2)؛ فقد وعد الله بنصر من ينصره، ونصره هو نصر كتابه ودينه ورسوله لا نصر من يحكم بغير ما أنزل الله ويتكلم بما لا يعلم؛ فإن الحاكم إذا كان دينا لكنه حكم بغير علم كان من أهل النار، وإن كان عالما لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه كان من أهل
(1) [حسن]. رواه ابن ماجة في (الفتن، باب العقوبات، 4009) بلفظ: «وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم»). ورواه أبو نعيم في «الحلية» (8 / 333). وفي سندهما ابن أبي مالك خالد بن يزيد، وهو ضعيف. ورواه الحاكم في «المستدرك» (4 / 540) بإسناد حسن. انظر: «السلسلة الصحيحة» (رقم 106). (2) الحج: 39 - 40. 132 النار، وإذا حكم بلا عدل ولا علم كان أولى أن يكون من أهل النار، وهذا إذا حكم في قضية معينة لشخص، وأما إذا حكم حكما عاما في دين المسلمين؛ فجعل الحق باطلا والباطل حقا، والسنة بدعة والبدعة سنة، والمعروف منكرا والمنكر معروفا، ونهى عما أمر الله به ورسوله، وأمر بما نهى الله عنه ورسوله؛ فهذا لون آخر يحكم فيه رب العالمين، وإله المرسلين، مالك يوم الدين، الذي {له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون} (1)، {الذي أرسل رسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا} (2)، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم) (3) * * *
(1) القصص: 70. (2) الفتح: 28. (3) «مجموع الفتاوى» (35 / 387 - 388). 133 ترك العالم ما علمه من الحق واتباع حكم الحاكم (متى ترك العالم ما علمه من كتاب الله وسنة رسوله واتبع حكم الحاكم المخالف لحكم الله ورسوله كان مرتدا كافرا، يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {المص. كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين. اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون} (1). ولو ضرب وحبس وأوذي بأنواع الأذى ليدع ما علمه من شرع الله ورسوله الذي يجب اتباعه واتبع حكم غيره؛ كان مستحقا لعذاب الله، بل عليه أن يصبر وإن أوذي في الله؛ فهذه سنة الله في الأنبياء وأتباعهم، قال الله تعالى: {ألم. أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} (2). وقال تعالى: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم} (3). وقال تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} (4). وهذا إذا كان الحاكم قد حكم في مسألة اجتهادية قد تنازع فيها
(1) الأعراف: 1 - 3. (2) العنكبوت: 1 - 3. (3) محمد: 31. (4) البقرة: 214. 134 الصحابة والتابعون فحكم الحاكم بقول بعضهم وعند بعضهم سنة لرسول الله (ص) تخالف ما حكم به؛ فعلى هذا أن يتبع ما علم من سنة رسول الله (ص) ويأمر بذلك ويفتي به ويدعو إليه ولا يقلد الحاكم. هذا كله باتفاق المسلمين. وإن ترك المسلم عالما كان أو غير عالم ما علم من أمر الله ورسوله (ص) لقول غيره كان مستحقا للعذاب، قال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} (1)، وإن كان ذلك الحاكم قد خفي عليه هذا النص - مثل كثير من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم تكلموا في مسائل باجتهادهم وكان في ذلك سنة لرسول الله (ص) تخالف اجتهادهم -؛ فهم معذورون لكونهم اجتهدوا و {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} (2)، ولكن من علم سنة رسول الله (ص) لم يجز له أن يعدل عن السنة إلى غيرها، قال تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعصي الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا} (3) (4) * * *
(1) النور: 63. (2) البقرة: 286. (3) الأحزاب: 36. (4) «مجموع الفتاوى» (35 / 372 - 374). 135 المساجد هي مواضع الأئمة ومجامع الأمة (كانت «مواضع الأئمة ومجامع الأمة» هي المساجد؛ فإن النبي (ص) أسس مسجده المبارك على التقوى؛ ففيه: الصلاة والقراءة والذكر وتعليم العلم والخطب، وفيه السياسة وعقد الألوية والرايات وتأمير الأمراء وتعريف العرفاء، وفيه يجتمع المسلمون عنده لما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم. وكذلك عماله في مثل مكة والطائف وبلاد اليمن وغير ذلك من الأمصار والقرى، وكذلك عماله على البوادي؛ فإن لهم مجمعا فيه يصلون وفيه يساسون؛ كما قال النبي (ص): «إن بني إسرائيل كان تسوسهم الأنبياء، كلما ذهب نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء تعرفون وتنكرون». قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «أوفوا ببيعة الأول فالأول، واسألوا الله لكم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم» (1). وكان «الخلفاء والأمراء» يسكنون في بيوتهم كما يسكن سائر المسلمين في بيوتهم، لكن مجلس الإمام الجامع هو المسجد الجامع، وكان سعد بن أبي وقاص قد بنى له بالكوفة قصرا وقال: اقطع عني الناس. فأرسل إليه عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة وأمره أن يحرقه، فاشترى من نبطي حزمة حطب وشرط عليه حملها إلى قصره، فحرقه؛ فإن عمر كره للوالي الاحتجاب عن رعيته، ولكن بنيت قصور الأمراء، فلما كانت إمارة معاوية احتجب لما خاف أن يغتال كما اغتيل علي، واتخذ المقاصير في المساجد ليصلي فيها ذو السلطان وحاشيته، واتخذ المراكب؛ فاستن به الخلفاء الملوك بذلك، فصاروا مع كونهم يتولون الحرب والصلاة بالناس ويباشرون الجمعة والجماعة والجهاد وإقامة الحدود لهم قصور يسكنون فيها ويغشاهم رؤوس الناس فيها، كما كانت
(1) رواه البخاري. تقدم تخريجه (ص 107). 136 «الخضراء» لبني أمية قبلي المسجد الجامع، والمساجد يجتمع فيها للعبادات والعلم ونحو ذلك) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (35 / 39 - 40). 137 أول من أحدث أيمان البيعة الحجاج بن يوسف الثقفي (... وأما أيمان البيعة؛ فقالوا: أول من أحدثها الحجاج بن يوسف الثقفي، وكانت السنة أن الناس يبايعون الخلفاء كما بايع الصحابة النبي (ص): يعقدون البيعة كما يعقدون عقد البيع والنكاح ونحوهما: إما أن يذكروا الشروط التي يبايعون عليها ثم يقولون: بايعناك على ذلك كما بايعت الأنصار النبي (ص) ليلة العقبة، فلما أحدث الحجاج ما أحدث من الفسق كان من جملته أن حلف الناس على بيعتهم لعبد الملك بن مروان بالطلاق والعتاق واليمين بالله وصدقة المال؛ فهذه الأيمان الأربعة هي كانت أيمان البيعة القديمة المبتدعة، ثم أحدث المستخلفون عن الأمراء من الخلفاء والملوك وغيرهم أيمانا كثيرة أكثر من ذلك، وقد تختلف فيها عاداتهم، ومن أحدث ذلك؛ فعليه إثم ما ترتب على هذه الأيمان من الشر) (1) * * *
(1) «القواعد النورانية الفقهية» (ص 245). 138 كثير من الناس إذا رأى المنكر جزع وهو منهي عن هذا (الإيمان له حلاوة في القلب ولذة لا يعدلها شيء البتة، وقد قال النبي (ص): «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار» (1). أخرجاه في «الصحيحين»، وفي «صحيح مسلم»: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا» (2). وكما أن الله نهى نبيه أن يصيبه حزن أو ضيق ممن لم يدخل في الإسلام في أول الأمر فكذلك في آخره؛ فالمؤمن منهي أن يحزن عليهم أو يكون في ضيق من مكرهم. وكثير من الناس إذا رأى المنكر أو تغير كثير من أحوال الإسلام جزع وكل وناح كما ينوح أهل المصائب، وهو منهي عن هذا؛ بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن العاقبة للتقوى، وأن ما يصيبه فهو بذنوبه؛ فليصبر، إن وعد الله حق، وليستغفر لذنبه، وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار.
(1) رواه البخاري في (الإيمان، باب حلاوة الإيمان، رقم 16، وباب من كره أن يعود في الكفر، رقم 21، وفي الإكراه، باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر، 6941)، ومسلم في (الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، 60)؛ من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (2) رواه مسلم في (الإيمان، باب الدليل على أن من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا، 34) من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه. 139 وقوله (ص): «ثم يعود غريبا كما بدأ» (1) يحتمل شيئين: أحدهما: أنه في أمكنة وأزمنة يعود غريبا بينهم ثم يظهر، كما كان في أول الأمر غريبا ثم ظهر، ولهذا قال: «سيعود غريبا كما بدأ». وهو لما بدأ كان غريبا لا يعرف ثم ظهر وعرف، فكذلك يعود حتى لا يعرف ثم يظهر ويعرف، فيقل من يعرفه في أثناء الأمر كما كان من يعرفه أولا. ويحتمل أنه في آخر الدنيا لا يبقى مسلما إلا قليل، وهذا إنما يكون بعد الدجال ويأجوج ومأجوج عند قرب الساعة، وحينئذ يبعث الله ريحا تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة ثم تقوم القيامة. وأما قبل ذلك؛ فقد قال (ص): «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم؛ حتى تقوم الساعة» (2)، وهذا الحديث في «الصحيحين» ومثله من عدة أوجه. فقد أخبر الصادق المصدوق أنه لا تزال طائفة ممتنعة من أمته على الحق، أعزاء، لا يضرهم المخالف ولا خلاف الخاذل، فأما بقاء الإسلام غريبا ذليلا في الأرض كلها قبل الساعة؛ فلا يكون هذا) (3) * * *
140 الواجب في أمور الجهاد أن يعتبر برأي أهل الدين والدنيا (الواجب أن يعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا دون أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين؛ فلا يؤخذ برأيهم ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا) (1) * * * طاعة الإمام العدل وغير العدل (الإمام العدل تجب طاعته فيما لم يعلم أنه معصية، وغير العدل تجب طاعته فيما علم أنه طاعة؛ كالجهاد) (2) * * *
141 الحبس الشرعي ليس هو السجن في مكان ضيق (إن «الحبس الشرعي» ليس هو السجن في مكان ضيق، وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، سواء كان في بيت أو مسجد أو كان بتوكيل نفس الخصم أو وكيل الخصم عليه، ولهذا سماه النبي (ص) أسيرا، كما روى أبو داود وابن ماجة عن الهرماس بن حبيب، عن أبيه؛ قال: أتيت النبي (ص) بغريم لي، فقال لي: «الزمه». ثم قال: «يا أخا بني تميم! ما تريد أن تفعل بأسيرك؟»، وفي رواية ابن ماجة: ثم مر بي آخر النهار، فقال: «ما فعل أسيرك يا أخا بني تميم؟» (1)، وهذا هو الحبس على عهد النبي (ص)، ولم يكن على عهد النبي (ص) وأبي بكر حبسا معدا لسجن الناس، ولكن لما انتشرت الرعية في زمن عمر بن الخطاب ابتاع بمكة دارا وجعلها سجنا وحبس فيها. ولقد تنازع العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم: هل يتخذ الإمام حبسا؟ على قولين: فمن قال: لا يتخذ حبسا؛ قال: يعوقه بمكان من الأمكنة أو يقام عليه حافظ، وهو الذي يسمى «الترسيم». ولهذا لما كان حضور مجلس الحاكم تعويقا ومنعا من جنس السجن والحبس تنازع العلماء: هل يحضر الخصم المطلوب بمجرد الدعوى، أم لا يحضر إذا كان ممن يتبذل بالحضور حتى يبين لمدعي الدعوى أصل؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد، «والثاني» قول مالك، «والأول» قول أبي حنيفة والشافعي. ومن العلماء من قال: الحبس في التهمة إنما هو للوالي والي الحرب دون القاضي، وقد ذكرها طائفة من أصحاب الشافعي؛ كأبي عبد الله الزبيري،
142 وأقضى القضاة الماوردي، وغيرهما، وطائفة من أصحاب أحمد المصنفين في «أدب القضاة» وغيرهم) (1) * * *
143 من عادات الفرس والعجم في الإمارة والقتال التي دخلت على المسلمين (... وأما القتال؛ فالسنة أيضا فيه خفض الصوت... وهذه الدقادق والأبواق التي تشبه قرن اليهود وناقوس النصارى لم تكن تعرف على عهد الخلفاء الراشدين ولا من بعدهم من أمراء المسلمين، وإنما حدث في ظني من جهة بعض ملوك المشرق من أهل فارس؛ فإنهم أحدثوا في أحوال الإمارة والقتال أمورا كثيرة، وانبثت في الأرض لكون ملكهم انتشر؛ حتى ربا في ذلك الصغير وهرم فيها الكبير، لا يعرفون غير ذلك، بل ينكرون أن يتكلم أحد بخلافه، حتى ظن بعض الناس أن ذلك من إحداث عثمان بن عفان، وليس الأمر كذلك؛ بل ولا فعله عامة الخلفاء والأمراء بعد عثمان رضي الله عنه... ولهذا ظهر في شعائر الجند المقاتلين شعائر الأعاجم من الفرس وغيرهم، حتى في اللباس وأعمال القتال والأسماء التي تكون لأسباب الإمرة مثل الألفاظ المضافة إلى دار؛ كقولهم: ركاب دار، وطشت دار، وخان دار؛ فإن ذلك في لغة الفرس بمعنى صاحب وحافظ، فإذا قالوا: جان دار؛ فالجان هي الروح في لغتهم، فالجان دار بمعنى حافظ الروح وصاحب الروح، وكذلك الركاب دار؛ أي: صاحب الركاب وحافظ الركاب، وهو الذي يسرج الفرس ويلجمه ويكون في ركاب الراكب، وكذلك صاحب الطشت الذي يغسل الثياب والأبدان، وكذلك برد دار وهو صاحب العتبة وهو الموكل بدار الأمير؛ كالحداد والبواب الذي يمنع من الدخول والخروج ويأذن فيه. وكذلك يقولون: جمدار، وسلاح دار، وجوكان دار، وبندق دار، ودوادار، وخزندار، واستادار: لصاحب الثياب الذي يحفظ الثياب وما يتعلق بذلك، ولصاحب السلاح، والجوكان، والبندق، والدواة، وخزانة المال والإستادنة، وهي التصرف في إخراج المال وصرفه فيما يحتاج إليه من الطعام
144 واللباس وغير ذلك. ويتعدى ذلك إلى ولاة الطعام والشراب، فيقولون: مرق دار؛ أي: صاحب المرقة وما يتعلق بها، وشراب دار لصاحب الشراب، ويقولون: مهماندار؛ أي: صاحب المهم، كما يقولون: مهمان خاناه؛ أي: بيت المهم والمهمة، وهو في لغتهم الضيف، أي بيت الإضافة، وصاحب الضيافة مهان دار لمثل رسول يرد على الأمير، والعيون الذين هم الجواسيس، ونحو ذلك ممن يتخذ له ضيافة ويوجد منه أخبار وكتب ويعطى ذلك ونحو ذلك. فإن الألف والنون في لغتهم جمع، كما يقولون: مسلمان، وفقيهان، وعالمان؛ أي: مسلمون، وفقهاء، وعلماء، ونحو ذلك قولهم: فراش خاناه؛ أي: بيت الفرس، والفراش يسمونه باللفظ العربي، ويقولون: زرد خاناه؛ أي: بيت الزرد...) (1) * * *
147 الإنكار على من أظهر الفجور أو البدع ودعا إليها «... من كان مظهرا للفجور أو البدع يجب الإنكار عليه ونهيه عن ذلك، وأقل مراتب الإنكار هجره لينتهي عن فجوره وبدعته، ولهذا فرق جمهور الأئمة بين الداعية وغير الداعية؛ فإن الداعية أظهر المنكر فاستحق الإنكار عليه، بخلاف الساكت؛ فإنه بمنزلة من أسر بالذنب، فهذا لا ينكر عليه في الظاهر، فإن الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة، ولهذا كان المنافقون تقبل منهم علانيتهم وتوكل سرائرهم إلى الله تعالى، بخلاف من أظهر الكفر» (1) * * * البدعة التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء «(البدعة» التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة؛ كبدعة الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة؛ فإن عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط وغيرهما قالوا: أصول اثنتين وسبعين فرقة هي أربع: الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة. قيل لابن المبارك: فالجهمية؟ قال: ليست الجهمية من أمة محمد (ص) (2). * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (23 / 342). (2) «مجموع الفتاوى» (35 / 414). 149 موقف المبتدع من النصوص التي تخالفه (... لا تجد قط مبتدعا إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه ويبغضها، ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها، ويبغض من يفعل ذلك...) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (20 / 161). 150 هجر العاصي والمبتدع بحسب الأحوال والمصالح (وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم؛ فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله؛ فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر؛ بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي (ص) يتألف قوما ويهجر آخرين، كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيرا من أكثر المؤلفة قلوبهم، لما كان أولئك كانوا سادة مطاعون في عشائرهم؛ فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير؛ فكان في هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم، وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة؛ كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (28 / 206). 151 الأمر بالجماعة والائتلاف والنهي عن البدعة والاختلاف وهجر المظهر لبدعته لمصلحة راجحة (إن الله أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن البدعة والاختلاف، وقال: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} (1)، وقال النبي (ص): «عليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة» (2)، وقال: «الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد» (3)... فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالا أو غاويا وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك، وإلا؛ فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وإذا كان قادرا على أن يولي في إمامة المسلمين الأفضل ولاه، وإن قدر أن يمنع من يظهر البدع والفجور منعه، وإن لم يقدر على ذلك؛ فالصلاة خلف الأعلم بكتاب الله وسنة نبيه الأسبق إلى طاعة الله ورسوله أفضل؛ كما قال النبي (ص) في الحديث الصحيح: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء؛ فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء؛ فأقدمهم هجرة،
(1) الأنعام: 159. (2) لم أجده بهذا اللفظ، لكن روى شطره الأول الترمذي في (الفتن عن رسول الله، باب ما جاء في لزوم الجماعة، 2165)، وروى شطره الثاني النسائي في (تحريم الدم، باب قتل من فارق الجماعة، 4020). انظر: «صحيح الجامع» (8065، 1848)، و «صحيح الترغيب والترهيب» (425). وروى النسائي في «الكبرى» (5 / 388) بلفظ: «فعليه بالجماعة؛ فإن يد الله فوق الجماعة». (3) [صحيح]. جزء من حديث رواه الترمذي في (الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة)، وأحمد في «المسند» (1 / 26)؛ من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وانظر: «السلسة الصحيحة» (430). 152 فإن كانوا في الهجرة سواء؛ فأقدمهم سنا» (1). وإن كان في هجره لمظهر البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره، كما هجر النبي (ص) الثلاثة الذين خلفوا حتى تاب الله عليهم. وأما إذا ولى غيره بغير إذنه وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية كان تفويت هذه الجمعة والجماعة جهلا وضلالا، وكان قد رد بدعة ببدعة) (2) وقال: (وتعلمون أن من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين: تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البين؛ فإن الله تعالى يقول: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} (3)، ويقول: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} (4)، ويقول: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} (5)... وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف وتنهى عن الفرقة والاختلاف. وأهل هذا الأصل: هم أهل الجماعة، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة» (6) * * *
(1) رواه مسلم في (المساجد، باب من أحق بالإمامة، رقم 637) من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه. (2) «مجموع الفتاوى» (3 / 285 - 286). (3) الأنفال: 1. (4) آل عمران: 103. (5) آل عمران: 105. (6) «مجموع الفتاوى» (28 / 51). 153 الموقف الوسط من هجران أهل البدع (الهجران قد يكون مقصوده ترك سيئة البدعة التي هي ظلم وذنب وإثم وفساد، وقد يكون مقصوده فعل حسنة الجهاد والنهي عن المنكر وعقوبة الظالمين لينزجروا ويرتدعوا، وليقوى الإيمان والعمل الصالح عند أهله؛ فإن عقوبة الظالم تمنع النفوس عن ظلمه وتحضها على فعل ضد ظلمه من الإيمان والسنة ونحو ذلك، فإذا لم يكن في هجرانه انزجار أحد ولا انتهاء أحد، بل بطلان كثير من الحسنات المأمور بها؛ لم تكن هجرة مأمورا بها، كما ذكره أحمد عن أهل خراسان إذ ذاك: أنهم لم يكونوا يقوون بالجهمية، فإذا عجزوا عن إظهار العداوة لهم سقط الأمر بفعل هذه الحسنة، وكان مداراتهم فيه دفع الضرر عن المؤمن الضعيف، ولعله أن يكون فيه تأليف الفاجر القوي، وكذلك لما كثر القدر في أهل البصرة، فلو ترك رواية الحديث عنهم؛ لاندرس العلم والسنن والآثار المحفوظة فيهم، فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيرا من العكس، ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل. وكثير من أجوبة الإمام أحمد وغيره من الأئمة خرج على سؤال سائل قد علم المسؤول حاله، أو خرج خطابا لمعين قد علم حاله؛ فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول (، إنما يثبت حكمها في نظيرها. فإن أقواما جعلوا ذلك عاما، فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به؛ فلا يجب ولا يستحب، وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات، وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية؛ فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية، بل تركوها ترك المعرض لا ترك المنتهي الكاره أو وقعوا فيها، وقد يتركونها ترك المنتهي الكاره، ولا ينهون عنها غيرهم ولا يعاقبون
154 بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها؛ فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجابا أو استحبابا؛ فهم بين فعل المنكر أو ترك النهي عنه، وذلك فعل ما نهوا عنه وترك ما أمروا به؛ فهذا هذا، ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والله سبحانه أعلم) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (28 / 212 - 213). 155 الفرق بين «الخوارج المارقين» و «البغاة المتأولين» «وأما جمهور أهل العلم؛ فيفرقون بين «الخوارج المارقين» وبين «أهل الجمل وصفين» وغير أهل الجمل وصفين ممن يعد من البغاة المتأولين، وهذا هو المعروف عن الصحابة، وعليه عامة أهل الحديث والفقهاء والمتكلمين، وعليه نصوص أكثر الأئمة وأتباعهم؛ من أصحاب مالك، وأحمد، والشافعي، وغيرهم. وذلك أنه قد ثبت في «الصحيح» عن النبي (ص) أنه قال: «تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق» (1)، وهذا الحديث يتضمن ذكر الطوائف الثلاثة، ويبين أن المارقين نوع ثالث ليسوا من جنس أولئك؛ فإن طائفة علي أولى بالحق من طائفة معاوية، وقال في حق الخوارج المارقين: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة» (2)، وفي لفظ: «لو يعلم الذين يقاتلونهم ما لهم على لسان نبيهم لنكلوا عن العمل» (3)، وقد روى مسلم أحاديثهم في الصحيح من عشرة أوجه، وروى هذا البخاري من غير وجه، ورواه أهل السنن والمسانيد، وهي مستفيضة عن النبي (ص) متلقاة بالقبول، أجمع عليها علماء الأمة من الصحابة ومن اتبعهم، واتفق الصحابة على قتال هؤلاء الخوارج.
(1) رواه مسلم في (الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، رقم 1065) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (2) رواه البخاري ومسلم. تقدم تخريجه (ص 122). (3) رواه مسلم في (الزكاة، باب التحريض على قتل الخوارج، 1066) بلفظ: «لاتكلوا» من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. 156 وأما «أهل الجمل وصفين»؛ فكانت منهم طائفة قاتلت من هذا الجانب، وأكثر أكابر الصحابة لم يقاتلوا لا من هذا الجانب ولا من هذا الجانب، واستدل التاركون للقتال بالنصوص الكثيرة عن النبي (ص) في ترك القتال في الفتنة، وبينوا أن هذا قتال فتنة. وكان علي رضي الله عنه مسرورا لقتال الخوارج، ويروي الحديث عن النبي (ص) في الأمر بقتالهم، وأما قتال «صفين»؛ فذكر أنه ليس معه فيه نص، وإنما هو رأي رآه، وكان أحيانا يحمد من لم ير القتال. وقد ثبت في «الصحيح» عن النبي (ص) أنه قال في الحسن: «إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» (1)؛ فقد مدح الحسن وأثنى عليه بإصلاح الله به بين الطائفتين: أصحاب علي، وأصحاب معاوية، وهذا يبين أن ترك القتال كان أحسن، وانه لم يكن القتال واجبا ولا مستحبا. و «قتال الخوارج» قد ثبت عنه أنه أمر به وحض عليه؛ فكيف يسوى بين ما أمر به وحض عليه، وبين ما مدح تاركه وأثني عليه؟! فمن سوى بين قتال الصحابة الذين اقتتلوا بالجمل وصفين وبين قتال ذي الخويصرة التميمي وأمثاله من الخوارج المارقين والحرورية المعتدين؛ كان قولهم من جنس أقوال أهل الجهل والظلم المبين، ولزم صاحب هذا القول أن يصير من جنس الرافضة والمعتزلة الذين يكفرون أو يفسقون المتقاتلين بالجمل وصفين، كما يقال مثل ذلك في الخوارج المارقين؛ فقد اختلف السلف والأئمة في كفرهم على قولين مشهورين، مع اتفاقهم على
(1) رواه البخاري في (الصلح، باب قول النبي للحسن بن علي ابني هذا سيد، 2704، وفي المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم 3629)؛ من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. 157 الثناء على الصحابة المقتتلين بالجمل وصفين والإمساك عما شجر بينهم؛ فكيف نسبة هذا بهذا؟! وأيضا؛ فالنبي (ص) أمر بقتال «الخوارج» قبل أن يقاتلوا، وأما «أهل البغي»؛ فإن الله تعالى قال فيهم: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} (1)؛ فلم يأمر بقتال الباغية ابتداء، فالاقتتال ابتداء ليس مأمورا به، ولكن إذا اقتتلوا أمر بالإصلاح بينهم، ثم إن بغت الواحدة قوتلت، ولهذا قال من قال من الفقهاء: إن البغاة لا يبتدئون بقتالهم حتى يقاتلوا، وأما الخوارج؛ فقد قال النبي (ص) فيهم: «أينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة» (2)، وقال: «لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» (3). وكذلك مانعو الزكاة؛ فإن الصديق والصحابة ابتدؤوا قتالهم، قال الصديق: والله؛ لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله (ص) لقاتلتهم عليه. وهم يقاتلون إذا امتنعوا من أداء الواجبات وإن أقروا بالوجوب. ثم تنازع الفقهاء في كفر من منعها وقاتل الإمام عليها مع إقراره بالوجوب؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد، كالروايتين عنه في تكفير الخوارج، وأما أهل البغي المجرد؛ فلا يكفرون باتفاق أئمة الدين؛ فإن القرآن
(1) الحجرات: 9. (2) تقدم قريبا. (3) تقدم قريبا. 158 قد نص على إيمانهم وأخوتهم مع وجود الاقتتال والبغي، والله أعلم) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (35 / 54 - 57). 159 أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الملل (كلما كان الإنسان أعظم رغبة في العلم والعبادة وأقدر على ذلك من غيره، بحيث تكون قوته على ذلك أقوى ورغبته وإرادته في ذلك أتم؛ كان ما يحصل له إن سلمه الله من الشيطان أعظم، وكان ما يفتتن به إن تمكن منه الشيطان أعظم، ولهذا قال الشعبي: كل أمة علماؤها شرارها؛ إلا المسلمين؛ فإن علماءهم خيارهم. وأهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الملل، وذلك أن كل أمة غير المسلمين فهم ضالون، وإنما يضلهم علماؤهم؛ فعلماؤهم شرارهم، والمسلمون على هدى، وإنما يتبين الهدى بعلمائهم؛ فعلماؤهم خيارهم، وكذلك أهل السنة أئمتهم خيار الأمة، وأئمة أهل البدع أضر على الأمة من أهل الذنوب، ولهذا أمر النبي (ص) بقتل الخوارج ونهى عن قتال الولاة الظلمة، وأولئك لهم نهمة في العلم والعبادة؛ فصار يعرض لهم من الوساوس التي تضلهم - وهم يظنونها هدى فيطيعونها - ما لا يعرض لغيرهم، ومن سلم من ذلك منهم كان من أئمة المتقين مصابيح الهدى وينابيع العلم؛ كما قال ابن مسعود لأصحابه: كونوا ينابع العلم، مصابيح الحكمة، سرج الليل، جدد القلوب، أحلاس البيوت، خلقان الثياب، تعرفون في أهل السماء وتخفون على أهل الأرض (1)) (2) * * *
(1) رواه الدارمي في مقدمة «السنن» (258). وفي إسناده محمد بن عون؛ متروك. (2) «مجموع الفتاوى» (7 / 284 - 285). 160 من أسباب ضلال المبتدعة بناؤهم دين الإسلام على مقدمات يظنون صحتها (وأهل البدع إنما دخل عليهم الداخل لأنهم صاروا يبنون دين الإسلام على مقدمات يظنون صحتها: إما في دلالة الألفاظ، وإما في المعاني المعقولة، ولا يتأملون بيان الله ورسوله، وكل مقدمات تخالف بيان الله ورسوله؛ فإنها تكون ضلالا، ولهذا تكلم أحمد في رسالته المعروفة في الرد على من يتمسك بما يظهر له من القرآن من غير استدلال ببيان الرسول والصحابة والتابعين، وكذلك ذكر في رسالته إلى أبي عبد الرحمن الجرجاني في الرد على المرجئة، وهذه طريقة سائر أئمة المسلمين: لا يعدلون عن بيان الرسول إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا، ومن عدل عن سبيلهم وقع في البدع التي مضمونها أنه يقول على الله ورسوله ما لا يعلم أو غير الحق، وهذا مما حرمه الله ورسوله، وقال تعالى في الشيطان: {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} (1)، وقال تعالى: {ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق} (2)، وهذا من تفسير القرآن بالرأي الذي جاء فيه الحديث: «من قال في القرآن برأيه؛ فليتبوأ مقعده من النار» (3)) (4) * * *
(1) البقرة: 169. (2) الأعراف: 169. (3) رواه البخاري في (أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، 3461). (4) «مجموع الفتاوى» (7 / 288). 161 مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر (مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، وإذا كان في المسألة قولان؛ فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به، وإلا؛ قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين، والله أعلم) (1) * * * المؤاخاة والمخالفة المشروع منها والممنوع (... أصل الأخوة أن النبي (ص) آخى بين المهاجرين والأنصار وحالف بينهم في دار أنس بن مالك، كما آخى بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف؛ حتى قال سعد لعبد الرحمن: خذ شطر مالي، واختر إحدى زوجتي حتى أطلقها وتنكحها. فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في مالك وأهلك، دلوني على السوق. وكما آخى بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء، وهذا كله في «الصحيح». وأما ما يذكر بعض المصنفين في «السيرة» من أن النبي (ص) آخى بين على وأبي بكر ونحو ذلك؛ فهذا باطل باتفاق أهل المعرفة بحديثه؛ فإنه لم يؤاخ بين مهاجر ومهاجر وأنصاري وأنصاري، وإنما آخى بين المهاجرين والأنصار، وكانت المؤاخاة والمحالفة يتوارثون بها دون أقاربهم؛ حتى أنزل الله تعالى: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} (2)؛ فصار الميراث
(1) «مجموع الفتاوى» (20 / 207). (2) الأنفال: 75. 162 بالرحم دون هذه المؤاخاة والمحالفة. وتنازع العلماء في مثل هذه المحالفة والمؤاخاة: هل يورث بها عند عدم الورثة من الأقارب والموالي؟ على قولين: أحدهما: يورث بها، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين؛ لقوله تعالى: {والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم} (1). والثاني: لا يورث بها بحال، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في الرواية المشهورة عند أصحابه، وهؤلاء يقولون: هذه الآية منسوخة. وكذلك تنازع الناس: هل يشرع في الإسلام أن يتآخى اثنان ويتحالفا كما فعل المهاجرون والأنصار؟ فقيل: إن ذلك منسوخ؛ لما رواه مسلم في «صحيحه» عن جابر: أن النبي (ص) قال: «لا حلف في الإسلام، وما كان من حلف في الجاهلية؛ فلم يزده الإسلام إلا شدة» (2)، ولأن الله قد جعل المؤمنين إخوة بنص القرآن، وقال النبي (ص): «المسلم أخو المسلم، لا يسلمه ولا يظلمه، والذي نفسي بيده؛ لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحبه لنفسه» (3)، فمن كان قائما بواجب الإيمان كان أخا لكل مؤمن ووجب على كل مؤمن أن يقوم بحقوقه،
(1) النساء: 33. (2) رواه مسلم في (فضائل الصحابة، باب مؤاخاة النبي (ص) بين أصحابه، رقم 2530) من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه. (3) روى شطره الأول البخاري في (المظالم والغضب، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، 2442)، ومسلم في (البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، 2580) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه. وروى شطره الثاني البخاري في (الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، 13)، ومسلم في (الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، 45) من حديث أنس رضي الله عنه. 163 وإن لم يجر بينهما عقد خاص؛ فإن الله ورسوله قد عقدا الأخوة بينهما بقوله: {إنما المؤمنون أخوة} (1)، وقال النبي (ص): «وددت أني قد رأيت إخواني» (2). ومن لم يكن خارجا عن حقوق الإيمان وجب أن يعامل بموجب ذلك؛ فيحمد على حسناته ويوالي عليها، وينهى عن سيئاته ويجانب عليها بحسب الإمكان، وقد قال النبي (ص): «انصر أخاك ظالما أو مظلوما». قلت: يا رسول الله! أنصره مظلوما؛ فكيف أنصره ظالما؟ ! قال: «تمنعه من الظلم؛ فذلك نصرك إياه» (3). والواجب على كل مسلم أن يكون حبه وبغضه وموالاته ومعاداته تابعا لأمر الله ورسوله؛ فيحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، ويوالي من يوالي الله ورسوله، ويعادي من يعادي الله ورسوله، ومن كان فيه ما يوالى عليه من حسنات وما يعادى عليه من سيئات؛ عومل بموجب ذلك، كفساق أهل الملة؛ إذ هم مستحقون للثواب والعقاب والموالاة والمعاداة والحب والبغض بحسب ما فيهم من البر والفجور؛ فإن {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} (4). وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، بخلاف الخوارج والمعتزلة، وبخلاف المرجئة والجهمية؛ فإن أولئك يميلون إلى جانب وهؤلاء إلى جانب، وأهل السنة والجماعة وسط، ومن الناس من يقول: تشرع تلك المؤاخاة والمحالفة،
(1) الحجرات: 10. (2) رواه مسلم في (الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، رقم 249) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: «وددت أنا قد رأينا إخواننا». (3) رواه البخاري في (الإكراه، باب يمين الرجل لصاحبه، 6952) بلفظ قريب من هذا من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. ورواه مسلم في (البر والصلة، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما، 4681) بلفظ آخر من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. (4) الزلزلة: 7، 8. 164 وهو يناسب من يقول بالتوارث بالمحالفة. لكن لا نزاع بين المسلمين في أن ولد أحدهما لا يصير ولد الآخر بإرثه مع أولاده، والله سبحانه قد نسخ التبني الذي كان في الجاهلية حيث كان يتبنى الرجل ولد غيره، قال الله تعالى: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم} (1)، وقال تعالى: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين} (2). وكذلك لا يصير مال كل واحد منهما مالا للآخر يورث عنه ماله؛ فإن هذا ممتنع من الجانبين، ولكن إذا طابت نفس كل واحد منهما بما يتصرف فيه الآخر من ماله؛ فهذا جائز، كما كان السلف يفعلون، وكان أحدهما يدخل بيت الآخر ويأكل من طعامه مع غيبته لعلمه بطيب نفسه بذلك؛ كما قال تعالى: {أو صديقكم} (3)) (4) * * *
(1) الأحزاب: 4. (2) الأحزاب: 5. (3) النور: 61. (4) «مجموع الفتاوى» (35 / 92 - 95). 165 التحزب المحمود والتحزب المذموم (أما لفظ «الزعيم»؛ فإنه مثل لفظ الكفيل والقبيل والضمين، قال تعالى: {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} (1)، فمن تكفل بأمر طائفة؛ فإنه يقال: هو زعيم، فإن كان قد تكفل بخير كان محمودا على ذلك، وإن كان شرا كان مذموما على ذلك. وأما «رأس الحزب»؛ فإنه رأس الطائفة التي تتحزب؛ أي: تصير حزبا، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان؛ فهم مؤمنون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم، سواء كان على الحق والباطل؛ فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان) (2) * * *
166 ليس لأحد أن يأخذ على أحد عهدا بموافقته على كل ما يريده (إذا جنى شخص؛ فلا يجوز أن يعاقب بغير العقوبة الشرعية، وليس لأحد من المتعلمين والأستاذين أن يعاقبه بما يشاء، وليس لأحد أن يعاونه ولا يوافقه على ذلك، مثل أن يأمر بهجر شخص فيهجره بغير ذنب شرعي، أو يقول: أقعدته أو أهدرته أو نحو ذلك؛ فإن هذا من جنس ما يفعله القساوسة والرهبان مع النصارى والحزابون مع اليهود، ومن جنس ما يفعله أئمة الضلالة والغواية مع أتباعهم، وقد قال الصديق الذي هو خليفة رسول الله (ص) في أمته: أطيعوني ما أطعت الله، فإن عصيت الله؛ فلا طاعة لي عليكم. وقد قال النبي (ص): «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (1)، وقال: «من أمركم بمعصية؛ فلا تطيعوه» (2). فإذا كان المعلم أو الأستاذ قد أمر بهجر شخص أو بإهداره وإسقاطه وإبعاده ونحو ذلك؛ نظر فيه، فإن كان قد فعل ذنبا شرعيا عوقب بقدر ذنبه بلا زيادة، وإن لم يكن أذنب ذنبا شرعيا لم يجز أن يعاقب بشيء لأجل غرض المعلم أو غيره. وليس للمعلمين أن يحزبوا الناس ويفعلوا ما يلقي بينهم العداوة
167 والبغضاء، بل يكونون مثل الأخوة المتعاونين على البر والتقوى؛ كما قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} (1). وليس لأحد منهم أن يأخذ على أحد عهدا بموافقته على كل ما يريده وموالاة من يواليه ومعاداة من يعاديه، بل من فعل هذا كان من جنس جنكزخان وأمثاله الذين يجعلون من وافقهم صديقا والي ومن خالفهم عدوا باغي؛ بل عليهم وعلى أتباعهم عهد الله ورسوله بأن يطيعوا الله ورسوله، ويفعلوا ما أمر الله به ورسوله، ويحرموا ما حرم الله ورسوله، ويرعوا حقوق المعلمين كما أمر الله ورسوله؛ فإن كان أستاذ أحد مظلوما نصره، وإن كان ظالما لم يعاونه على الظلم، بل يمنعه منه؛ كما ثبت في «الصحيح» عن النبي (ص) أنه قال: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما». قيل: يا رسول الله! أنصره مظلوما؛ فكيف أنصره ظالما؟! قال: «تمنعه من الظلم؛ فذلك نصرك إياه» (2). وإذا وقع بين معلم ومعلم أو تلميذ وتلميذ أو معلم وتلميذ خصومة ومشاجرة لم يجز لأحد أن يعين أحدهما حتى يعلم الحق؛ فلا يعاونه بجهل ولا بهوى، بل ينظر في الأمر، فإذا تبين له الحق أعان المحق منهما على المبطل، سواء كان المحق من أصحابه أو أصحاب غيره، وسواء كان المبطل من أصحابه أو أصحاب غيره؛ فيكون المقصود عبادة الله وحده وطاعة رسوله واتباع الحق والقيام بالقسط، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله
168 كان بما تعملون خبيرا} (1)، يقال: لوى يلوي لسانه: فيخبر بالكذب. والإعراض: أن يكتم الحق؛ فإن الساكت عن الحق شيطان أخرس. ومن مال مع صاحبه - سواء كان الحق له أو عليه -؛ فقد حكم بحكم الجاهلية وخرج عن حكم الله ورسوله، والواجب على جميعهم أن يكونوا يدا واحدة مع الحقي على المبطل، فيكون المعظم عندهم من عظمه الله ورسوله، والمقدم عندهم من قدمه الله ورسوله، والمحبوب عندهم من أحبه الله ورسوله، والمهان عندهم من أهانه الله ورسوله بحسب ما يرضى الله ورسوله لا بحسب الأهواء؛ فإنه من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه. فهذا هو الأصل الذي عليهم اعتماده، وحينئذ؛ فلا حاجة إلى تفرقهم وتشيعهم؛ فإن الله تعالى يقول: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} (2)، وقال تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} (3)، وإذا كان الرجل قد علمه أستاذ عرف قدر إحسانه إليه وشكره. ولا يشد وسطه لا لمعلمه ولا لغير معلمه؛ فإن شد الوسط لشخص معين وانتسابه إليه من بدع الجاهلية، ومن جنس التحالف الذي كان المشركون يفعلونه، ومن جنس تفرق قيس ويمن، فإن كان المقصود بهذا الشد والانتماء التعاون على البر والتقوى؛ فهذا قد أمر الله به ورسوله له ولغيره بدون هذا الشد، وإن كان المقصود به التعاون على الإثم والعدوان؛ فهذا قد حرمه الله ورسوله، فما قصد بهذا من خير؛ ففي أمر الله ورسوله بكل معروف
169 استغناء عن أمر المعلمين، وما قصد بهذا من شر؛ فقد حرمه الله ورسوله. فليس لمعلم أن يحالف تلامذته على هذا، ولا لغير المعلم أن يأخذ أحدا من تلامذته لينسبوا إليه على الوجه البدعي: لا ابتداء ولا إفادة، وليس له أن يجحد حق الأول عليه، وليس للأول أن يمنع أحدا من إفادة التعلم من غيره، وليس للثاني أن يقول: شد لي وانتسب لي دون معلمك الأول، بل إن تعلم من اثنين فإنه يراعي حق كل منهما، ولا يتعصب لا للأول ولا للثاني، وإذا كان تعليم الأول له أكثر كانت رعايته لحقه أكثر. وإذا اجتمعوا على طاعة الله ورسوله وتعاونوا على البر والتقوى لم يكن أحد مع أحد في كل شيء؛ بل يكون كل شخص مع كل شخص في طاعة الله ورسوله، ولا يكونون مع أحد في معصية الله ورسوله، بل يتعاونون على الصدق والعدل والإحسان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونصر المظلوم وكل ما يحبه الله ورسوله، ولا يتعاونون لا على ظلم ولا عصبية جاهلية، ولا اتباع الهوى بدون هدى من الله، ولا تفرق ولا اختلاف، ولا شد وسط لشخص ليتابعه في كل شيء ولا يحالفه على غير ما أمر الله به ورسوله. وحينئذ؛ فلا ينتقل أحد عن أحد إلى أحد، ولا ينتمي أحد لا لقيطا ولا ثقيلا ولا غير ذلك من أسماء الجاهلية؛ فإن هذه الأمور إنما ولدها كون الأستاذ يريد أن يوافقه تلميذه على ما يريد، فيوالي من يواليه، ويعادي من يعاديه مطلقا، وهذا حرام؛ ليس لأحد أن يأمر به أحدا ولا يجيب عليه أحدا، بل تجمعهم السنة وتفرقهم البدعة، يجمعهم فعل ما أمر الله به ورسوله وتفرق بينهم معصية الله ورسوله، حتى يصير الناس أهل طاعة الله أو أهل معصية الله؛ فلا تكون العبادة إلا لله عز وجل ولا الطاعة المطلقة إلا له سبحانه ولرسوله (.
170 ولا ريب أنهم إذا كانوا على عادتهم الجاهلية - أي: من علمه أستاذ كان محالفا له - كان المنتقل عن الأول إلى الثاني ظالما باغيا ناقضا لعهده غير موثوق بعقده، وهذا أيضا حرام وإثم، هذا أعظم من إثم من لم يفعل مثل فعله؛ بل مثل هذا إذا انتقل إلى غير أستاذه وحالفه كان قد فعل حراما، فيكون مثل لحم الخنزير الميت؛ فإنه لا بعهد الله ورسوله أوفى ولا بعهد الأول؛ بل كان بمنزلة المتلاعب الذي لا عهد له ولا دين له ولا وفاء، وقد كانوا في الجاهلية يحالف الرجل قبيلة، فإذا وجد أقوى منها نقض عهد الأولى وحالف الثانية - وهو شبيه بحال هؤلاء -؛ فأنزل الله تعالى: (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون. ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون. ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون. ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم «1). وعليهم أن يأتمروا بالمعروف ويتناهوا عن المنكر، ولا يدعوا بينهم من يظهر ظلما أو فاحشة، ولا يدعوا صبيا أمرد يتبرج أو يظهر ما يفتن به الناس، ولا أن يعاشر من يتهم بعشرته، ولا يكرم لغرض فاسد. ومن حالف شخصا على أن يوالي من والاه ويعادي من عاداه كان من جنس التتر المجاهدين في سبيل الشيطان، ومثل هذا ليس من المجاهدين في سبيل الله تعالى ولا من جند المسلمين، ولا يجوز أن يكون مثل هؤلاء من
(1) النحل: 91 - 94. 171 عسكر المسلمين؛ بل هؤلاء من عسكر الشيطان، ولكن يحسن أن يقول لتلميذه: عليك عهد الله وميثاقه أن توالي من والى الله ورسوله وتعادي من عادى الله ورسوله، وتعاون على البر والتقوى ولا تعاون على الإثم والعدوان، وإذا كان الحق معي نصرت الحق، وإن كنت على الباطل لم تنصر الباطل؛ فمن التزم هذا كان من المجاهدين في سبيل الله تعالى، الذين يريدون أن يكون الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا. وفي «الصحيحين»: أن النبي (ص) قيل له: يا رسول الله! الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء؛ فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا؛ فهو في سبيل الله» (1)، فإذا كان المجاهد الذي يقاتل حمية للمسلمين، أو يقاتل رياء للناس ليمدحوه، أو يقاتل لما فيه من الشجاعة؛ لا يكون قتاله في سبيل الله عز وجل حتى يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا؛ فكيف من يكون أفضل تعلمه صناعة القتال مبنيا على أساس فاسد ليعاون شخصا مخلوقا على شخص مخلوق؟! فمن فعل ذلك كان من أهل الجاهلية الجهلاء والتتر الخارجين عن شريعة الإسلام، ومثل هؤلاء يستحقون العقوبة البليغة الشرعية التي تزجرهم وأمثالهم عن مثل هذا التفرق والاختلاف؛ حتى يكون الدين كله لله والطاعة لله ورسوله...) (2) * * *
(1) رواه البخاري في (التوحيد، باب قوله تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين}، 7458)، ومسلم في الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، 1904)؛ من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. (2) «مجموع الفتاوى» (28 / 15 - 21). 172 التوسط في الحب والبغض والموالاة والمعاداة وفيه فوائد (الحمد والذم والحب والبغض والموالاة والمعاداة إنما تكون بالأشياء التي أنزل الله بها سلطانه، وسلطانه كتابه، فمن كان مؤمنا وجبت موالاته من أي صنف كان، ومن كان كافرا وجبت معاداته من أي صنف كان، قال تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون. ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} (1). ... ومن كان فيه إيمان وفيه فجور أعطي من الموالاة بحسب إيمانه ومن البغض بحسب فجوره، ولا يخرج من الإيمان بالكلية بمجرد الذنوب والمعاصي كما يقوله الخوارج والمعتزلة، ولا يجعل الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون بمنزلة الفساق في الإيمان والدين والحب والبغض والموالاة والمعاداة، قال الله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين...} إلى قوله: {إنما المؤمنون أخوة} (2)؛ فجعلهم إخوة مع وجود الاقتتال والبغي. ... وأما الشخص المعين؛ فيذكر ما فيه من الشر في مواضع: منها: المظلوم له أن يذكر ظالمه بما فيه، أما على وجه دفع ظلمه واستيفاء حقه كما قالت هند: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح، وأنه ليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، فقال لها النبي (ص): «خذي ما
(1) المائدة: 55، 56. (2) الحجرات: 9. 173 يكفيك وولدك بالمعروف» (1)... وقال تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} (2). ... ومنها أن يكون على وجه النصيحة للمسلمين في دينهم ودنياهم كما في الحديث الصحيح عن فاطمة بنت قيس لما استشارت النبي (ص) من تنكح؟ وقالت: إنه خطبني معاوية وأبو جهم؛ فقال: «أما معاوية؛ فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم؛ فرجل ضراب للنساء»، وروي: «لا يضع عصاه عن عاتقه» (3)؛ فبين لها أن هذا فقير قد يعجز عن حقك، وهذا يؤذيك بالضرب، وكان هذا نصحا لها وإن تضمن ذكر عيب الخاطب. وفي معنى هذا نصح الرجل فيمن يعامله ومن يوكله ويوصي إليه ومن يستشهده؛ بل ومن يتحاكم إليه وأمثال ذلك، وإذا كان هذا في مصلحة خاصة؛ فكيف بالنصح فيما يتعلق به حقوق عموم المسلمين من الأمراء والحكام والشهود والعمال: أهل الديوان وغيرهم؟! فلا ريب أن النصح في ذلك أعظم، كما قال النبي (ص): «الدين النصيحة، الدين النصيحة». قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم» (4). وقد قالوا لعمر بن الخطاب في أهل الشورى: أمر فلانا وفلانا، فجعل يذكر في حق كل واحد من الستة - وهم أفضل الأمة - أمرا جعله مانعا له من تعيينه.
174 وإذا كان النصح واجبا في المصالح الدينية الخاصة والعامة، مثل نقلة الحديث الذين يغلطون أو يكذبون، كما قال يحيى بن سعيد: سألت مالكا والثوري والليث بن سعد - أظنه - والأوزاعي عن الرجل يتهم في الحديث أو لا يحفظ؟ فقالوا: بين أمره. وقال بعضهم لأحمد بن حنبل: إنه يثقل علي أن أقول فلان كذا وفلان كذا. فقال: إذا سكت أنت وسكت أنا؛ فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم؟! ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة؛ فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين، حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف؛ فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع؛ فإنما هو للمسلمين هذا أفضل. فبين أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله؛ إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب؛ فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعا، وأما أولئك؛ فهم يفسدون القلوب ابتداء) (1) * * *
175 نصائح للدعاة (الواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحب الله ورسوله؛ وأن يبغض ما أبغضه الله ورسوله مما دل عليه في كتابه، فلا يجوز لأحد أن يجعل الأصل في الدين لشخص إلا لرسول الله (ص)؛ ولا لقول إلا لكتاب الله عز وجل. ومن نصب شخصا كائنا من كان فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو: {من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا} الآية، وإذا تفقه الرجل وتأدب بطريقة قوم من المؤمنين مثل: اتباع الأئمة والمشايخ؛ فليس له أن يجعل قدوته وأصحابه هم العيار، فيوالي من وافقهم ويعادي من خالفهم، فينبغي للإنسان أن يعود نفسه التفقه الباطن في قلبه والعمل به، فهذا زاجر. وكمائن القلوب تظهر عند المحن. وليس لأحد أن يدعو إلى مقالة أو يعتقدها لكونها قول أصحابه، ولا يناجز عليها، بل لأجل أنها مما أمر الله به ورسوله؛ أو أخبر الله به ورسوله؛ لكون ذلك طاعة لله ورسوله. وينبغي للداعي أن يقدم فيما استدلوا به من القرآن؛ فإنه نور وهدى؛ ثم يجعل إمام الأئمة رسول الله (ص)؛ ثم كلام الأئمة. ولا يخلو أمر الداعي من أمرين: الأول: أن يكون مجتهدا أو مقلدا، فالمجتهد ينظر في تصانيف المتقدمين من القرون الثلاثة، ثم يرجح ما ينبغي ترجيحه. الثاني: المقلد يقلد السلف؛ إذ القرون المتقدمة أفضل مما بعدها. فإذا تبين هذا فنقول كما أمرنا ربنا: {قولوا آمنا بالله} إلى قوله: {مسلمون}، ونأمر بما أمرنا به؛ وننهى عما نهانا عنه في نص كتابه وعلى
176 لسان نبيه (، كما قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه} الآية، فمبنى أحكام هذا الدين على ثلاثة أقسام: الكتاب والسنة والإجماع) (1) * * *
177 كثير من الناس يجعل طائفته هم أهل السنة والجماعة (كثير من الناس يخبر عن هذه الفرق بحكم الظن والهوى؛ فيجعل طائفته والمنتسبة إلى متبوعه الموالية له هم أهل السنة والجماعة، ويجعل من خالفها أهل البدع، وهذا ضلال مبين؛ فإن أهل الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله (ص)، الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فهو الذي يجب تصديقه في كل ما أخبر وطاعته في كل ما أمر، وليست هذه المنزلة لغيره من الأئمة، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله (ص)؛ فمن جعل شخصا من الأشخاص غير رسول الله (ص) من أحبه ووافقه كان من أهل السنة والجماعة، ومن خالفه كان من أهل البدعة والفرقة - كما يوجد ذلك في الطوائف من أتباع أئمة في الكلام في الدين وغير ذلك - كان من أهل البدع والضلال والتفرق. وبهذا يتبين أن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة، الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله (ص) وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله وأعظمهم تمييزا بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها [وأهل] معرفة بمعانيها واتباعا لها: تصديقا وعملا وحبا وموالاة لمن والاها ومعاداة لمن عاداها، الذين يروون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة؛ فلا ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم وجمل كلامهم إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول؛ بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه. وما تنازع فيه الناس من مسائل الصفات والقدر والوعيد والأسماء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك يردونه إلى الله ورسوله،
178 ويفسرون الألفاظ المجملة التي تنازع فيها أهل التفرق والاختلاف؛ فما كان من معانيها موافقا للكتاب والسنة أثبتوه، وما كان منها مخالفا للكتاب والسنة أبطلوه، ولا يتبعون الظن وما تهوى الأنفس، فإن اتباع الظن جهل، واتباع هوى النفس بغير هدى من الله ظلم) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (3 / 346 - 348). 179 مسألة رؤية الكفار ربهم يوم القيامة وما ينبغي مراعاته عند الخلاف قال رحمه الله في «رسالته إلى أهل البحرين» واختلافهم في صلاة الجمعة: والذي أوجب هذا أن وفدكم حدثونا بأشياء من الفرقة والاختلاف بينكم، حتى ذكروا أن الأمر آل إلى قريب المقاتلة، وذكروا أن سبب ذلك الاختلاف في «رؤية الكفار ربهم»، وما كنا نظن أن الأمر يبلغ بهذه المسألة إلى هذا الحد؛ فالأمر في ذلك خفيف. وإنما المهم الذي يجب على كل مسلم اعتقاده أن المؤمنين يرون ربهم في الدار الآخرة في عرصة القيامة وبعد ما يدخلون الجنة، على ما تواترت به الأحاديث عن النبي (ص) عند العلماء بالحديث؛ فإنه أخبر (ص) أنا نرى ربنا كما نرى القمر ليلة البدر والشمس عند الظهيرة، لا يضام في رؤيته (1). ... أما «مسألة رؤية الكفار»؛ فأول ما انتشر الكلام فيها وتنازع الناس فيها - فيما بلغنا - بعد ثلاث مئة سنة من الهجرة، وأمسك عن الكلام في هذا قوم من العلماء، وتكلم فيها آخرون؛ فاختلفوا فيها على «ثلاثة أقوال»، مع أني ما علمت أن أولئك المختلفين فيها تلاعنوا ولا تهاجروا فيها؛ إذ في الفرق الثلاثة قوم فيهم فضل وهم أصحاب سنة... والأقوال الثلاثة في «رؤية الكفار»:
(1) يشير إلى حديث: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته»: رواه البخاري في (مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر، 544)، ومسلم في (المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر، 633)؛ من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه. 180 أحدها: أن الكفار لا يرون ربهم بحال: لا المظهر للكفر، ولا المسر له... الثاني: أنه يراه من أظهر التوحيد من مؤمني هذه الأمة ومنافقيها وغبرات من أهل الكتاب، وذلك في عرصة القيامة، ثم يحتجب عن المنافقين فلا يرونه بعد ذلك... الثالث: أن الكفار يرونه رؤية تعريف وتعذيب - كاللص إذا رأى السلطان -، ثم يحتجب عنهم ليعظم عذابهم ويشتد عقابهم... فبالجملة؛ فليس مقصودي بهذه الرسالة الكلام المستوفي لهذه المسألة؛ فإن العلم كثير، وإنما الغرض بيان أن هذه «المسألة» ليست من المهمات التي ينبغي كثرة الكلام فيها وإيقاع ذلك إلى العامة والخاصة حتى يبقى شعارا ويوجب تفريق القلوب وتشتت الأهواء. وليست هذه «المسألة» فيما علمت مما يوجب المهاجرة والمقاطعة، فإن الذين تكلموا فيها قبلنا عامتهم أهل سنة واتباع، وقد اختلف فيها من لم يتهاجروا ويتقاطعوا، كما اختلف الصحابة رضي الله عنهم والناس بعدهم في رؤية النبي (ص) ربه في الدنيا، وقالوا فيها كلمات غليظة؛ كقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: من زعم أن محمدا رأى ربه؛ فقد أعظم على الله الفرية. ومع هذا؛ فما أوجب هذا النزاع تهاجرا ولا تقاطعا. وكذلك ناظر الإمام أحمد أقواما من أهل السنة في «مسألة الشهادة للعشرة بالجنة» حتى آلت المناظرة إلى ارتفاع الأصوات، وكان أحمد وغيره يرون الشهادة، ولم يهجروا من امتنع من الشهادة، إلى مسائل نظير هذه كثيرة.
181 وهنا آداب تجب مراعاتها: 1 - منها: أن من سكت عن الكلام في هذه المسألة ولم يدع إلى شيء؛ فإنه لا يحل هجره، وإن كان يعتقد أحد الطرفين؛ فإن البدع التي هي أعظم منها، لا يهجر فيها إلا الداعية دون الساكت؛ فهذه أولى. 2 - ومن ذلك: أنه لا ينبغي لأهل العلم أن يجعلوا هذه المسألة محنة وشعارا يفضلون بها بين إخوانهم وأضدادهم؛ فإن مثل هذا مما يكرهه الله ورسوله. 3 - وكذلك لا يفاتحوا فيها عوام المسلمين الذين هم في عافية وسلام عن الفتن، ولكن إذا سئل الرجل عنها أو رأى من هو أهل لتعريفه ذلك ألقى إليه مما عنده من العلم ما يرجو النفع به، بخلاف الإيمان بأن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة؛ فإن الإيمان بذلك فرض واجب لما قد تواتر فيها عن النبي (ص) وصحابته وسلف الأمة. 4 - ومن ذلك: أنه ليس لأحد أن يطلق القول بأن الكفار يرون ربهم من غير تقييد؛ لوجهين: أحدهما: أن «الرؤية المطلقة» قد صار يفهم منها الكرامة والثواب؛ ففي إطلاق ذلك إيهام وإيحاش، وليس لأحد أن يطلق لفظا يوهم خلاف الحق إلا أن يكون مأثورا عن السلف، وهذا اللفظ ليس مأثورا. الثاني: أن الحكم إذا كان عاما في تخصيص بعضه باللفظ خروج عن القول الجميل؛ فإنه يمنع من التخصيص، فإن الله خالق كل شيء ومريد لكل حادث، ومع هذا يمنع الإنسان أن يخص ما يستقذر من المخلوقات وما يستقبحه الشرع من الحوادث، بأن يقول على الانفراد: يا خالق الكلاب، ويا مريدا للزنا، ونحو ذلك، بخلاف ما لو قال: يا خالق كل شيء، ويا من كل
182 شيء يجري بمشيئته. فكذلك هنا لو قال: ما من أحد إلا سيخلو به ربه وليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان، أو قال: إن الناس كلهم يحشرون إلى الله فينظر إليهم وينظرون إليه؛ كان هذا اللفظ مخالفا في الإيهام للفظ الأول. فلا يخرجن أحد عن الألفاظ المأثورة، وإن كان قد يقع تنازع في بعض معناها؛ فإن هذا الأمر لا بد منه، فالأمر كما قد أخبر به نبينا (ص) والخير كل الخير في اتباع السلف الصالح والاستكثار من معرفة حديث رسول الله (ص) والتفقه فيه، والاعتصام بحبل الله، وملازمة ما يدعو إلى الجماعة والألفة، ومجانبة ما يدعو إلى الخلاف والفرقة؛ إلا أن يكون أمرا بينا قد أمر الله ورسوله فيه بأمر من المجانبة؛ فعلى الرأس والعين. وأما إذا اشتبه الأمر: هل هذا القول أو الفعل مما يعاقب صاحبه عليه أو ما لا يعاقب؟ فالواجب ترك العقوبة؛ لقول النبي (ص): «ادرؤوا الحدود بالشبهات؛ فإنك إن تخطىء في العفو خير من أن تخطىء في العقوبة» (1). رواه أبو داود، ولا سيما إذا آل الأمر إلى شر طويل وافتراق أهل السنة والجماعة؛ فإن الفساد الناشئ في هذه الفرقة أضعاف الشر الناشئ من خطأ نفر قليل في مسألة فرعية. وإذا اشتبه على الإنسان أمر؛ فليدع بما رواه مسلم في «صحيحه» عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: كان رسول الله (ص) إذا قام إلى الصلاة يقول: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما
183 اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» (1). وبعد هذا؛ فاسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه من القول والعمل، ويرزقنا اتباع هدي نبيه (ص) باطنا وظاهرا، ويجمع على الهدى شملنا، ويقرن بالتوفيق أمرنا، ويجعل قلوبنا على قلب خيارنا، ويعصمنا من الشيطان، ويعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. وقد كتبت هذا الكتاب وتحريت فيه الرشد، وما أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، ومع هذا؛ فلم أحط علما بحقيقة ما بينكم ولا بكيفية أموركم، وإنما كتبت على حسب ما فهمت من كلام من حدثني، والمقصود الأكبر إنما هو إصلاح ذات بينكم وتأليف قلوبكم. وأما استيعاب القول في «هذه المسألة» وغيرها وبيان حقيقة الأمر فيها؛ فربما أقول أو أكتب في وقت آخر إن رأيت الحاجة ماسة إليه، فإني في هذا الوقت رأيت الحاجة إلى انتظام أمركم أوكد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، وحسبنا الله ونعم الوكيل) (2) * * *
184 أهل السنة والجماعة يتبعون الحق ويرحمون الخلق (الخوارج هم أول من كفر المسلمين: يكفرون بالذنوب، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم، ويستحلون دمه وماله، وهذه حال أهل البدع، يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم فيها، وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة ويطيعون الله ورسوله؛ فيتبعون الحق، ويرحمون الخلق) (1) * * *
185 من علم منه الاجتهاد السائغ فلا يجوز أن يذكر على وجه الذم (من علم منه الاجتهاد السائغ؛ فلا يجوز أن يذكر على وجه الذم والتأثيم له؛ فإن الله غفر له خطأه، بل يجب لما فيه من الإيمان والتقوى موالاته ومحبته والقيام بما أوجب الله من حقوقه: من ثناء ودعاء وغير ذلك؛ وإن علم منه النفاق، كما عرف نفاق جماعة على عهد رسول الله (ص) مثل عبد الله بن أبي وذويه، وكما علم المسلمون نفاق سائر الرافضة: عبد الله بن سبأ وأمثاله، مثل عبد القدوس بن الحجاج، ومحمد بن سعيد المصلوب؛ فهذا يذكر بالنفاق، وإن أعلن بالبدعة ولم يعلم هل كان منافقا أو مؤمنا مخطئا ذكر بما يعلم منه؛ فلا يحل للرجل أن يقفو ما ليس له به علم، ولا يحل له أن يتكلم في هذا الباب إلا قاصدا بذلك وجه الله تعالى، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله؛ فمن تكلم في ذلك بغير علم أو بما يعلم خلافه كان آثما) (1) وقال: (وأهل السنة والجماعة يقولون: ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع وهو أن المؤمن يستحق وعد الله وفضله الثواب على حسناته، ويستحق العقاب على سيئاته، وأن الشخص الواحد يجتمع فيه ما يثاب عليه وما يعاقب عليه، وما يحمد عليه وما يذم عليه، وما يحب منه وما يبغض منه؛ فهذا هذا) (2). * * *
186 لا يجوز التفريق بين الأمة بأسماء مبتدعة لا أصل لها في الكتاب والسنة (وكذلك - أي من البدع - التفريق بين الأمة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله: مثل أن يقال للرجل: أنت شكيلي أو قرفندي. فإن هذه أسماء باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله (، ولا في الآثار المعروفة عن سلف الأئمة لا شكيلي ولا قرفندي، والواجب على المسلم إذا سئل عن ذلك أن يقول: لا أنا شكيلي ولا قرفندي؛ بل أنا مسلم متبع لكتاب الله وسنة رسوله. بل الأسماء التي قد يسوغ التسمي بها مثل انتساب الناس إلى إمام كالحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، أو إلى شيخ كالقادري والعدوي ونحوهم، أو مثل الانتساب إلى القبائل: كالقيسي واليماني، وإلى الأمصار كالشامي والعراقي والمصري. فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها، ولا يوالي بهذه الأسماء ولا يعادي عليها، بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم من أي طائفة كان. فكيف يجوز مع هذا لأمة محمد (ص) أن تفترق وتختلف، حتى يوالي الرجل طائفة ويعادي طائفة أخرى بالظن والهوى بلا برهان من الله تعالى، وقد برأ الله نبيه ( ص) ممن كان هكذا. فهذا فعل أهل البدع؛ كالخوارج الذين فارقوا جماعة المسلمين واستحلوا دماء من خالفهم. وأما أهل السنة والجماعة؛ فهم معتصمون بحبل الله، وأقل ما في ذلك أن يفضل الرجل من يوافقه على هواه وإن كان غيره أتقى لله منه، وإنما الواجب أن يقدم من قدمه الله ورسوله، ويؤخر من أخره الله ورسوله، ويحب ما أحبه
187 الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، وينهى عما نهى الله عنه ورسوله، وأن يرضى بما رضي الله به ورسوله، وإن يكون المسلمون يدا واحدة؛ فكيف إذا بلغ الأمر ببعض الناس إلى أن يضلل غيره ويكفره، وقد يكون الصواب معه وهو الموافق للكتاب والسنة، ولو كان أخوه المسلم قد أخطأ في شيء من أمور الدين؛ فليس كل من أخطأ يكون كافرا ولا فاسقا، بل قد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد قال تعالى في كتابه في دعاء الرسول (ص) والمؤمنين: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} (1)، وثبت في «الصحيح» أن الله قال: قد فعلت (2)... وكيف يجوز التفريق بين الأمة بأسماء مبتدعة لا أصل لها في كتاب الله ولا سنة رسوله (؟! وهذا التفريق الذي حصل من الأمة؛ علمائها ومشائخها، وأمرائها وكبرائها؛ هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى: {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء} (3). فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب) (4) * * *
(1) البقرة: 286. (2) رواه مسلم في (الإيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق، 126) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه. (3) المائدة: 14. (4) «مجموع الفتاوى» (3 / 415 - 421). 188 الفرق بين الباغي أو الظالم المتأول وغير المتأول (وكل من كان باغيا، أو ظالما، أو معتديا، أو مرتكبا ما هو ذنب؛ فهو «قسمان»: متأول، وغير متأول؛ فالمتأول المجتهد: كأهل العلم والدين، والذين اجتهدوا، واعتقد بعضهم حل أمور واعتقد الآخر تحريمها، كما استحل بعضهم بعض أنواع الأشربة وبعضهم بعض المعاملات الربوية، وبعضهم بعض عقود التحليل والمتعة، وأمثال ذلك؛ فقد جرى ذلك وأمثاله من خيار السلف؛ فهؤلاء المتأولون المجتهدون غايتهم أنهم مخطئون، وقد قال الله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}، وقد ثبت في «الصحيح» أن الله استجاب هذا الدعاء (1). وقد أخبر سبحانه عن داود وسليمان عليهما السلام أنهما حكما في الحرث وخص أحدهما بالعلم والحكم مع ثنائه على كل منهما بالعلم والحكم، والعلماء ورثة الأنبياء، فإذا فهم أحدهم من المسألة ما لم يفهمه الآخر لم يكن بذلك ملوما ولا مانعا لما عرف من علمه ودينه، وإن كان ذلك مع العلم بالحكم يكون إثما وظلما، والإصرار عليه فسقا، بل متى علم تحريمه ضرورة كان تحليله كفرا؛ فالبغي هو من هذا الباب) (2) * * *
(1) تقدم قريبا. (2) «مجموع الفتاوى» (35 / 75). 189 كثير من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة ومعان مشتبهة (الألفاظ التي ليست في الكتاب والسنة ولا اتفق السلف على نفيها أو إثباتها؛ فهذه ليس على أحد أن يوافق من نفاها أو أثبتها حتى يستفسر عن مراده؛ فإن أراد بها معنى يوافق خبر الرسول أقر به، وإن أراد بها معنى يخالف خبر الرسول أنكره. ثم التعبير عن تلك المعاني إن كان في ألفاظه اشتباه أو إجمال عبر بغيرها أو بين مراده بها، بحيث يحصل تعريف الحق بالوجه الشرعي؛ فإن كثيرا من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة ومعان مشتبهة، حتى تجد الرجلين يتخاصمان ويتعاديان على إطلاق ألفاظ ونفيها، ولو سئل كل منهما عن معنى ما قاله لم يتصوره فضلا عن أن يعرف دليله، ولو عرف دليله لم يلزم أن من خالفه يكون مخطئا، بل يكون في قوله نوع من الصواب، وقد يكون هذا مصيبا من وجه وهذا مصيبا من وجه، وقد يكون الصواب في قول ثالث) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (12 / 114). 190 أنواع الاختلاف (... أما أنواعه: فهو في الأصل قسمان: اختلاف تنوع، واختلاف تضاد. واختلاف التنوع على وجوه: منه: ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقا مشروعا، كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة حتى زجرهم عن الاختلاف رسول الله (ص)، وقال: «كلاكما محسن» (1)، ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان، والإقامة، والاستفتاح، والتشهدات، وصلاة الخوف، وتكبيرات العيد، وتكبيرات الجنازة... إلى غير ذلك مما قد شرع جميعه، وإن كان قد يقال: إن بعض أنواعه أفضل. ثم نجد لكثير من الأمة في ذلك من الاختلاف ما أوجب اقتتال طوائف منهم على شفع الإقامة وإيتارها ونحو ذلك، وهذا عين المحرم، ومن لم يبلغ هذا المبلغ؛ فتجد كثيرا منهم في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع والإعراض عن الآخر أو النهي عنه - ما دخل به فيما نهى عنه النبي (ص) -. ومنه: ما يكون كل من القولين هو في معنى القول الآخر؛ لكن العبارتان مختلفتان، كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود وصيغ الأدلة والتعبير عن المسميات وتقسيم الأحكام وغير ذلك، ثم الجهل أو الظلم يحمل على حمد إحدى المقالتين وذم الأخرى.
(1) رواه البخاري في (أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، 3476) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. 191 ومنه: ما يكون المعنيان غيرين (1)، لكن لا يتنافيان؛ فهذا قول صحيح وهذا قول صحيح؛ وإن لم يكن معنى أحدهما هو معنى الآخر، وهذا كثير في المنازعات جدا. ومنه: ما يكون طريقتان مشروعتان، ورجل أو قوم قد سلكوا هذه الطريق وآخرون قد سلكوا الأخرى، وكلاهما حسن في الدين. ثم الجهل أو الظلم يحمل على ذم إحداهما أو تفضيلها بلا قصد صالح، أو بلا علم، أو بلا نية وبلا علم. وأما اختلاف التضاد؛ فهو: القولان المتنافيان: إما في الأصول، وإما في الفروع عند الجمهور الذين يقولون: «المصيب واحد»، وإلا؛ فمن قال: «كل مجتهد مصيب»؛ فعنده هو من باب اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، فهذا الخطب فيه أشد؛ لأن القولين يتنافيان، لكن نجد كثيرا من هؤلاء قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه حق ما أو معه دليل يقتضي حقا ما، فيرد الحق في هذا الأصل كله حتى يبقى هذا مبطلا في البعض كما كان الأول مبطلا في الأصل، كما رأيته لكثير من أهل السنة في مسائل القدر والصفات والصحابة، وغيرهم. وأما أهل البدعة؛ فالأمر فيهم ظاهر، وكما رأيته لكثير من الفقهاء أو لأكثر المتأخرين في مسائل الفقه، وكذلك رأيت الاختلاف كثيرا بين بعض المتفقهة وبعض المتصوفة وبين فرق المتصوفة، ونظائره كثيرة. ومن جعل الله له هداية ونورا؛ رأى من هذا ما يتبين له به منفعة ما جاء في الكتاب والسنة من النهي عن هذا وأشباهه؛ وإن كانت القلوب الصحيحة تنكر هذا ابتداء، لكن نور على نور.
(1) أي: متغايرين. 192 وهذا القسم - الذي سميناه اختلاف التنوع - كل واحد من المختلفين مصيب فيه بلا تردد، لكن الذم واقع على من بغى على الآخر فيه...) (1) * * *
(1) «اقتضاء الصراط المستقيم» (1 / 132 - 135). 193 الفعل إذا كان يفضي إلى مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة ينهى عنه (الفعل إذا كان يفضي إلى مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة ينهى عنه كما نهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة لما في ذلك من المفسدة الراجحة، وهو التشبه بالمشركين الذي يفضي إلى الشرك، وليس في قصد الصلاة في تلك الأوقات مصلحة راجحة لإمكان التطوع في غير ذلك من الأوقات. ولهذا تنازع العلماء في ذوات الأسباب؛ فسوغها كثير منهم في هذه الأوقات، وهو أظهر قولي العلماء؛ لأن النهي إذا كان لسد الذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، وفعل ذوات الأسباب يحتاج إليه في هذه الأوقات ويفوت إذا لم يفعل فيها فتفوت مصلحتها؛ فأبيحت لما فيها من المصلحة الراجحة، بخلاف ما لا سبب له؛ فإنه يمكن فعله في غير هذا الوقت؛ فلا تفوت بالنهي عنه مصلحة راجحة وفيه مفسدة توجب النهي عنه. فإذا كان نهيه عن الصلاة في هذه الأوقات لسد ذريعة الشرك لئلا يفضي ذلك إلى السجود للشمس ودعائها وسؤالها - كما يفعله أهل دعوة الشمس والقمر والكواكب الذين يدعونها ويسألونها -؛ كان معلوما أن دعوة الشمس والسجود لها هو محرم في نفسه أعظم تحريما من الصلاة التي نهى عنها لئلا يفضي إلى دعاء الكواكب. كذلك لما نهى عن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد - فنهى عن قصدها للصلاة عندها لئلا يفضي ذلك إلى دعائهم والسجود لهم -؛ كان دعاؤهم والسجود لهم أعظم تحريما من اتخاذ قبورهم مساجد) (1)
(1) «مجموع الفتاوى» (1 / 164 - 165). 194 ما نهي سدا للذريعة يباح لمصلحة راجحة (إن ما نهي عنه لسد الذريعة يباح للمصلحة الراجحة، كما يباح النظر إلى المخطوبة والسفر بها إذا خيف ضياعها كسفرها من دار الحرب، مثل سفر أم كلثوم، وكسفر عائشة لما تخلفت مع صفوان بن المعطل؛ فإنه لم ينه عنه إلا لأنه يفضي إلى المفسدة، فإذا كان مقتضيا للمصلحة الراجحة لم يكن مفضيا إلى مفسدة. وهذا موجود في التطوع المطلق؛ فإنه قد يفضي إلى المفسدة، وليس الناس محتاجين إليه في أوقات النهي لسعة الأوقات التي تباح فيها الصلاة، بل في النهي عنه بعض الأوقات مصالح أخر من إجمام النفوس بعض الأوقات من ثقل العبادة كما يجم بالنوم وغيره، ولهذا قال معاذ: إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي (1)، ومن تشويقها وتحبيب الصلاة إليها إذا منعت منها وقتا؛ فإنه يكون أنشط وأرغب فيها؛ فإن العبادة إذا خصت ببعض الأوقات نشطت النفوس لها أعظم مما تنشط للشيء الدائم، ومنها أن الشيء الدائم تسأم منه وتمل وتضجر، فإذا نهي عنه بعض الأوقات زال ذلك الملل، إلى أنواع أخر من المصالح في النهي عن التطوع المطلق؛ ففي النهي دفع لمفاسد وجلب لمصالح من غير تفويت مصلحة. وأما ما كان له سبب؛ فمنها ما إذا نهى عنه فاتت المصلحة، وتعطل على الناس من العبادة والطاعة وتحصيل الأجر والثواب والمصلحة العظيمة في دينهم ما لا يمكن استدراكه؛ كالمعادة مع إمام الحي، وكتحية المسجد، وسجود التلاوة، وصلاة الكسوف، ونحو ذلك، ومنها ما تنقص به المصلحة؛
(1) رواه البخاري في (المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن، 4342، وفي استتابة المرتدين، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم، 6923)، ومسلم في (الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، 1824). 195 كركعتي الطواف، لا سيما للقادمين، وهم يريدون أن يغتنموا الطواف في تلك الأيام والطواف لهم ولأهل البلد طرفي النهار) (1) * * *
196 من لا يمكنه أن يأتي بحسنة راجحة إلا ومعها سيئة دونها في العقاب ماذا يفعل؟ (إذا كان القائم بالملك والإمارة يفعل من الحسنات المأمور بها ويترك من السيئات المنهي عنها ما يزيد به ثوابه على عقوبة ما يتركه من واجب أو يفعله من محظور؛ فهذا قد ترجحت حسناته على سيئاته، فإذا كان غيره مقصرا في هذه الطاعة التي فعلها مع سلامته عن سيئاته؛ فله «ثلاثة أحوال»: إما أن يكون الفاضل من حسنات الأمير أكثر من مجموع حسنات هذا أو أقل؛ فإن كانت فاضلة أكثر كان أفضل، وإن كان أقل كان مفضولا، وإن تساويا تكافآ، هذا موجب العدل ومقتضى نصوص الكتاب والسنة في الثواب والعقاب. وهو مبني على قول من يعتبر الموازنة، والمقابلة في الجزاء، وفي العدالة أيضا، وأما من يقول: إنه بالكبيرة الواحدة يستحق الوعيد، ولو كان له حسنات كثيرة عظيمة؛ فلا يجيء هذا، وهو قول طائفة من العلماء في العدالة، والأول أصح على ما تدل عليه النصوص. ويتفرع من هنا «مسألة»، وهو ما إذا كان لا يتأتى له فعل الحسنة الراجحة إلا بسيئة دونها في العقاب؛ فلها صورتان: إحداهما: إذا لم يمكن إلا ذلك؛ فهنا لا يبقى سيئة، فإن ما لا يتم الواجب أو المستحب إلا به؛ فهو واجب أو
197 مستحب، ثم إن كانت مفسدته دون تلك المصلحة لم يكن محظورا؛ كأكل الميتة للمضطر ونحو ذلك من الأمور المحظورة التي تبيحها الحاجات؛ كلبس الحرير في البرد، ونحو ذلك، وهذا باب عظيم. فإن كثيرا من الناس يستشعر سوء الفعل ولا ينظر إلى الحاجة المعارضة له التي يحصل بها من ثواب الحسنة ما يربى على ذلك؛ بحيث يصير المحظور مندرجا في المحبوب أو يصير مباحا إذا لم يعارضه إلا مجرد الحاجة، كما أن من الأمور المباحة؛ بل والمأمور بها إيجابا أو استحبابا: ما يعارضها مفسدة راجحة تجعلها محرمة أو مرجوحة؛ كالصيام للمريض، وكالطهارة بالماء لمن يخاف عليه الموت، كما قال (ص): «قتلوه قتلهم الله! هلا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال» (1). وعلى هذا الأصل يبنى جواز العدول أحيانا عن بعض سنة الخلفاء، كما يجوز ترك بعض واجبات الشريعة وارتكاب بعض محظوراتها للضرورة، وذلك فيما إذا وقع العجز عن بعض سنتهم، أو وقعت الضرورة إلى بعض ما نهوا عنه؛ بأن تكون الواجبات المقصودة بالإمارة لا تقوم إلا بما مضرته أقل. وهكذا «مسألة الترك» كما قلناه أولا وبينا أنه لا يخالفه إلا أهل البدع ونحوهم من أهل الجهل والظلم. «والصورة الثانية»: إذا كان يمكن فعل الحسنات بلا سيئة، لكن بمشقة لا تطيعه نفسه عليها أو بكراهة من طبعه بحيث لا تطيعه نفسه إلى فعل تلك
198 الحسنات الكبار المأمور بها إيجابا أو استحبابا إن لم يبذل لنفسه ما تحبه من بعض الأمور المنهي عنها التي إثمها دون منفعة الحسنة؛ فهذا القسم واقع كثيرا في أهل الإمارة والسياسة والجهاد، وأهل العلم والقضاء والكلام، وأهل العبادة والتصوف، وفي العامة مثل من لا تطيعه نفسه إلى القيام بمصالح الإمارة - من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وأمن السبل، وجهاد العدو، وقسمة المال - إلا بحظوظ منهي عنها؛ من الاستئثار ببعض المال، والرياسة على الناس، والمحاباة في القسم، وغير ذلك من الشهوات، وكذلك في الجهاد: لا تطيعه نفسه على الجهاد إلا بنوع من التهور، وفي العلم: لا تطيعه نفسه على تحقيق علم الفقه وأصول الدين إلا بنوع من المنهي عنه من الرأي والكلام، ولا تطيعه نفسه على تحقيق علم العبادة المشروعة والمعرفة المأمور بها إلا بنوع من الرهبانية. فهذا القسم كثر في دول الملوك؛ إذ هو واقع فيهم، وفي كثير من أمرائهم وقضاتهم وعلمائهم وعبادهم - أعني أهل زمانهم -، وبسببه نشأت الفتن بين الأمة؛ فأقوام نظروا إلى ما ارتكبوه من الأمور المنهي عنها فذموهم وأبغضوهم، وأقوام نظروا إلى ما فعلوه من الأمور المأمور بها فأحبوهم، ثم الأولون ربما عدوا حسناتهم سيئات، والآخرون ربما جعلوا سيئاتهم حسنات، وقد تقدم أصل هذه المسألة، وهو أنه إذا تعسر فعل الواجب في الإمارة إلا بنوع من الملك؛ فهل يكون الملك مباحا كما يباح عند التعذر؟ ذكرنا فيه القولين؛ فإن أقيم التعسر مقام التعذر لم يكن ذلك إثما، وإن لم يقم كان إثما، وأما ما لا تعذر فيه ولا تعسر؛ فإن الخروج عن سنة الخلفاء اتباع للهوى. «فالتحقيق» أن الحسنات حسنات، والسيئات سيئات، وهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، وحكم الشريعة أنهم لا يؤذن لهم فيما فعلوه من
199 السيئات ولا يؤمرون به، ولا يجعل حظ أنفسهم عذرا لهم في فعلهم إذا لم تكن الشريعة عذرتهم؛ لكن يؤمرون بما فعلوه من الحسنات، ويحضون على ذلك ويرغبون فيه؛ وإن علم أنهم لا يفعلونه إلا بالسيئات المرجوحة كما يؤمر الأمراء بالجهاد، وإن علم أنهم لا يجاهدون إلا بنوع من الظلم الذي تقل مفسدته بالنسبة إلى مصلحة الجهاد. ثم إذا علم أنهم إذا نهوا عن تلك السيئات تركوا الحسنات الراجحة الواجبة لم ينهوا عنها؛ لما في النهي عنها من مفسدة ترك الحسنات الواجبة إلا أن يمكن الجمع بين الأمرين، فيفعل حينئذ تمام الواجب، كما كان عمر ابن الخطاب يستعمل من فيه فجور لرجحان المصلحة في عمله، ثم يزيل فجوره بقوته وعدله. ويكون ترك النهي عنها حينئذ؛ مثل ترك الإنكار باليد أو بالسلاح إذا كان فيه مفسدة راجحة على مفسدة المنكر، فإذا كان النهي مستلزما في القضية المعينة لترك المعروف الراجح؛ كان بمنزلة أن يكون مستلزما لفعل المنكر الراجح، كمن أسلم على أن لا يصلي إلا صلاتين كما هو مأثور عن بعض من أسلم على عهد النبي (ص)، أو أسلم بعض الملوك المسلطين وهو يشرب الخمر أو يفعل بعض المحرمات، ولو نهي عن ذلك ارتد عن الإسلام. ففرق بين ترك العالم أو الأمير لنهي بعض الناس عن الشيء إذا كان في النهي مفسدة راجحة وبين إذنه في فعله، وهذا يختلف باختلاف الأحوال؛ ففي حال أخرى يجب إظهار النهي: إما لبيان التحريم واعتقاده والخوف من فعله، أو لرجاء الترك، أو لإقامة الحجة بحسب الأحوال؛ ولهذا تنوع حال النبي (ص)
(1) «مجموع الفتاوى» (35 / 28 - 32). 201 فصل جامع في تعارض الحسنات والسيئات (إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما؛ فنقول: قد أمر الله ورسوله بأفعال واجبة ومستحبة؛ وإن كان الواجب مستحبا وزيادة، ونهى عن أفعال محرمة أو مكروهة، والدين هو طاعته وطاعة رسوله، وهو الدين والتقوى والبر والعمل الصالح والشرعة والمنهاج؛ وإن كان بين هذه الأسماء فروق، وكذلك حمد أفعالا هي الحسنات ووعد عليها، وذم أفعالا هي السيئات وأوعد عليها... وقال في المتعارض: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} (1)، وقال: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} (2)... ونقول: إذا ثبت أن الحسنات لها منافع وإن كانت واجبة؛ كان في تركها مضار، والسيئات فيها مضار، وفي المكروه بعض حسنات؛ فالتعارض إما بين حسنتين لا يمكن الجمع بينهما فتقدم أحسنهما بتفويت المرجوح، وإما بين سيئتين لا يمكن الخلو منهما فيدفع أسوأهما باحتمال أدناهما، وإما بين حسنة وسيئة لا يمكن التفريق بينهما؛ بل فعل الحسنة مستلزم لوقوع السيئة، وترك السيئة مستلزم لترك الحسنة؛ فيرجح الأرجح من منفعة الحسنة ومضرة السيئة.
(1) البقرة: 219. (2) البقرة: 216. 202 فالأول؛ كالواجب والمستحب، وكفرض العين وفرض الكفاية، مثل تقديم قضاء الدين المطالب به على صدقة التطوع. والثاني؛ كتقديم نفقة الأهل على نفقة الجهاد الذي لم يتعين وتقديم نفقة الوالدين عليه، كما في الحديث الصحيح: أي العمل أفضل؟ قال: «الصلاة على مواقيتها». قلت: ثم أي؟ قال: «ثم بر الوالدين». قلت: ثم أي؟ قال: «ثم الجهاد في سبيل الله» (1). وتقديم الجهاد على الحج كما في الكتاب والسنة متعين على متعين ومستحب على مستحب، وتقديم قراءة القرآن على الذكر إذا استويا في عمل القلب واللسان وتقديم الصلاة عليهما إذا شاركتهما في عمل القلب، وإلا؛ فقد يترجح الذكر بالفهم والوجل على القراءة التي لا تجاوز الحناجر، وهذا باب واسع. والثالث؛ كتقديم المرأة المهاجرة لسفر الهجرة بلا محرم على بقائها بدار الحرب، كما فعلت أم كلثوم التي أنزل الله فيها آية الامتحان: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات} (2)، وكتقديم قتل النفس على الكفر؛ كما قال تعالى: {والفتنة أكبر من القتل} (3)؛ فتقتل النفوس التي تحصل بها الفتنة عن الأيمان لأن ضرر الكفر أعظم من ضرر قتل النفس، وكتقديم قطع السارق ورجم الزاني وجلد الشارب على مضرة السرقة والزنا والشرب، وكذلك سائر العقوبات المأمور بها، فإنما أمر بها مع أنها في الأصل سيئة وفيها
(1) رواه البخاري في (الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير، 2782)، ومسلم في (الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، 85)؛ من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (2) الممتحنة: 10. (3) البقرة: 217. 203 ضرر لدفع ما هو أعظم ضررا منها، وهي جرائمها؛ إذ لا يمكن دفع ذلك الفساد الكبير إلا بهذا الفساد الصغير. وكذلك في «باب الجهاد» وإن كان قتل من لم يقاتل من النساء والصبيان وغيرهم حراما؛ فمتى احتيج إلى قتال قد يعمهم مثل الرمي بالمنجنيق والتبييت بالليل جاز ذلك، كما جاءت فيها السنة في حصار الطائف ورميهم بالمنجنيق، وفي أهل الدار من المشركين يبيتون، وهو دفع لفساد الفتنة أيضا بقتل من لا يجوز قصد قتله. وكذلك «مسألة التترس» التي ذكرها الفقهاء؛ فإن الجهاد هو دفع فتنة الكفر، فيحصل فيها من المضرة ما هو دونها، ولهذا اتفق الفقهاء على أنه متى لم يمكن دفع الضرر عن المسلمين إلا بما يفضي إلى قتل أولئك المتترس بهم جاز ذلك؛ وإن لم يخف الضرر، لكن لم يمكن الجهاد إلا بما يفضي إلى قتلهم؛ ففيه قولان... وأما الرابع؛ فمثل أكل الميتة عند المخمصة؛ فإن الأكل حسنة واجبة لا يمكن إلا بهذه السيئة ومصلحتها راجحة، وعكسه الدواء الخبيث؛ فإن مضرته راجحة على مصلحته من منفعة العلاج لقيام غيره مقامه، ولأن البراء لا يتيقن به، وكذلك شرب الخمر للدواء. فتبين أن السيئة تحتمل في موضعين: دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها، وتحصل بما هو أنفع من تركها إذا لم تحصل إلا بها، والحسنة تترك في موضعين: إذا كانت مفوتة لما هو أحسن منها، أو مستلزمة لسيئة تزيد مضرتها على منفعة الحسنة، هذا فيما يتعلق بالموازنات الدينية. وأما سقوط الواجب لمضرة في الدنيا وإباحة المحرم لحاجة في الدنيا؛ كسقوط الصيام لأجل السفر، وسقوط محظورات الإحرام وأركان الصلاة لأجل المرض؛ فهذا باب آخر يدخل في سعة الدين ورفع الحرج الذي قد
204 تختلف فيه الشرائع، بخلاف الباب الأول؛ فإن جنسه مما لا يمكن اختلاف الشرائع فيه وإن اختلفت في أعيانه، بل ذلك ثابت في العقل، كما يقال: ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين، وينشد: إن اللبيب إذا بدى من جسمه مرضان مختلفان داوى الأخطرا ... ويرجحون وجود السلطان مع ظلمه على عدم السلطان، كما قال بعض العقلاء: ستون سنة من سلطان ظالم خير من ليلة واحدة بلا سلطان... ... ثم الولاية وإن كانت جائزة أو مستحبة أو واجبة؛ فقد يكون في حق الرجل المعين غيرها أوجب أو أحب، فيقدم حينئذ خير الخيرين وجوبا تارة واستحبابا أخرى. ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر، بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض، وكان هو وقومه كفارا؛ كما قال تعالى: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به...} (1) الآية، وقال تعالى عنه: {يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار. ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم...} (2) الآية، ومعلوم أنه مع كفرهم لا بد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته، ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين الله؛ فإن القوم لم يستجيبوا له، لكن فعل
205 الممكن من العدل والإحسان، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك، وهذا كله داخل في قوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} (1). فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما؛ لم يكن الآخر في هذه الحال واجبا، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة. وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما؛ لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة، وإن سمى ذلك ترك واجب وسمى هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر، ويقال في مثل هذا: ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة أو لدفع ما هو أحرم، وهذا كما يقال لمن نام عن صلاة أو نسيها: إنه صلاها في غير الوقت المطلق قضاء... وهذا باب التعارض باب واسع جدا، لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم؛ فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة، أو يتبين لهم؛ فلا يجدون من يعنيهم العمل بالحسنات وترك السيئات لكون الأهواء قارنت الآراء.
206 ... فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل، وقد يكون الواجب في بعضها - كما بينته فيما تقدم -: العفو عند الأمر والنهي في بعض الأشياء؛ لا التحليل والإسقاط، مثل أن يكون في أمره بطاعة فعلا لمعصية أكبر منها، فيترك الأمر بها دفعا لوقوع تلك المعصية، مثل أن ترفع مذنبا إلى ذي سلطان ظالم فيعتدى عليه في العقوبة ما يكون أعظم ضررا من ذنبه، ومثل أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات تركا لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات؛ فيسكت عن النهي خوفا أن يستلزم ترك ما أمر الله به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر. فالعالم تارة يأمر، وتارة ينهى، وتارة يبيح، وتارة يسكت عن الأمر أو النهي أو الإباحة؛ كالأمر بالصلاح الخالص أو الراجح، أو النهي عن الفساد الخالص أو الراجح، وعند التعارض يرجح الراجح - كما تقدم - بحسب الإمكان، فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن؛ إما لجهله، وإما لظلمه، ولا يمكن إزالة جهله وظلمه؛ فربما كان الأصلح الكف والإمساك عن أمره ونهيه، كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر. فالعالم في البيان والبلاغ كذلك قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن، كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله (تسليما إلى بيانها... ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم؛ فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجبا في الأصل، والله أعلم.
207 ومما يدخل في هذه الأمور الاجتهادية علما وعملا أن ما قاله العالم أو الأمير أو فعله باجتهاد أو تقليد، فإذا لم ير العالم الآخر والأمير الآخر مثل رأي الأول؛ فإنه لا يأمر به، أو لا يأمر إلا بما يراه مصلحة ولا ينهى عنه؛ إذ ليس له أن ينهى غيره عن اتباع اجتهاده، ولا أن يوجب عليه اتباعه؛ فهذه الأمور في حقه من الأعمال المعفوة: لا يأمر بها ولا ينهى عنها، بل هي بين الإباحة والعفو. وهذا باب واسع جدا؛ فتدبره!) (1) * * *
208 قاعدة عامة في تعارض وتزاحم المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات (إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت؛ فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة؛ فينظر في المعارض له: فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورا به؛ بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الأحكام. وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما؛ بل إما أن يفعلوهما جميعا أو يتركوهما جميعا؛ لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر، بل ينظر: فإن كان المعروف أكثر أمر به وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه؛ بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله وزوال فعل الحسنات، وإن كان المنكر أغلب نهي عنه وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمرا بمنكر وسعيا في معصية الله ورسوله، وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما. فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي، حيث كان المعروف والمنكر متلازمين، وذلك في الأمور المعينة الواقعة. وأما من جهة النوع؛ فيؤمر بالمعروف مطلقا وينهى عن المنكر مطلقا، وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها ويحمد
209 محمودها ويذم مذمومها، بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات أكثر منه أو حصول منكر فوقه، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول أنكر منه أو فوات معروف أرجح منه. وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق؛ فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية، وإذا تركها كان عاصيا؛ فترك الأمر الواجب معصية، وفعل ما نهي عنه من الأمر معصية، وهذا باب واسع، ولا حول ولا قوة إلا بالله) (1) * * *
210 إذا اشتمل العمل على مصلحة ومفسدة (والعمل إذ اشتمل على مصلحة ومفسدة؛ فإن الشارع حكيم؛ فإن غلبت مصلحته على مفسدته شرعه، وإن غلبت مفسدته على مصلحته لم يشرعه؛ بل نهى عنه كما قال تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} (1)، وقال تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} (2)، ولهذا حرمهما الله تعالى بعد ذلك. وهكذا ما يراه الناس من الأعمال مقربا إلى الله، ولم يشرعه الله ورسوله؛ فإنه لا بد أن يكون ضرره أعظم من نفعه، وإلا؛ فلو كان نفعه أعظم غالبا على ضرره لم يهمله الشارع، فإنه (ص) حكيم، لا يهمل مصالح الدين ولا يفوت المؤمنين ما يقربهم إلى رب العالمين) (3) * * *
211 العمل عند تكافؤ مصلحتين أو مفسدتين (إن كل أمرين تعارضا؛ فلا بد أن يكون أحدهما راجحا، أو يكونا متكافئين، فيحكم بينهما بحسب الرجحان وبحسب التكافؤ، فالعملان والعاملان إذا امتاز كل منهما بصفات؛ فإن ترجح أحدهما فهو الراجح، وإن تكافئا سوي بينهما في الفضل والدرجة، وكذلك أسباب المصالح والمفاسد، وكذلك الأدلة، بأنه يعطى كل دليل حقه، ولا يجوز أن تتكافأ الأدلة في نفس الأمر عند الجمهور، لكن تتكافأ في نظر الناظر، وأما كون الشيء الواحد من الوجه الواحد ثابتا منتفيا؛ فهذا لا يقوله عاقل) (1) * * *
212 الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها (الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها؛ فهي تحصل أعظم المصلحتين بفوات أدناهما، وتدفع أعظم الفسادين باحتمال أدناهما، فإذا وصف المحتمل بما فيه من الفساد، مثل كونه من عمل الشيطان؛ لم يمنع ذلك أن يكون قد وقع به ما هو أحب إلى الشيطان منه، ويكون إقرارهم على ذلك من المشروع؛ فهذا أصل ينبغي التفطن له. والشيطان يوسوس لبني آدم في أمور كثيرة من المباحات؛ كالتخلي والنكاح وغير ذلك، وهو يجري من ابن آدم مجرى الدم؛ فلا يمكن حفظ جميع بني آدم من كل ما للشيطان فيه نصيب، لكن الشارع يأمر بالتمكن من ذلك، كما شرع التسمية والاستعاذة عند التخلي والنكاح وغير ذلك، ولو لم يفعل الرجل ذلك لم نقل: إنه يأثم بالتخلي ونكاح امرأته ونحو ذلك) (1) * * *
213 اجتماع الخير والشر في الرجل الواحد (إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور، وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة؛ استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا؛ كاللص الفقير، تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته. هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة) (1) * * *
214 اشتمال بعض الأعمال على الخير والشر في آن واحد وفيه كلام غريب! (اعلم أن من الأعمال ما يكون فيه خير لاشتماله على أنواع من المشروع، وفيه أيضا شر من بدعة وغيرها؛ فيكون ذلك العمل خيرا بالنسبة إلى ما اشتمل عليه من أنواع المشروع وشرا بالنسبة إلى ما اشتمل عليه من الإعراض عن الدين بالكلية، كحال المنافقين والفاسقين، وهذا قد ابتلى به أكثر الأمة في الأزمان المتأخرة؛ فعليك هنا بأدبين: أحدهما: أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطنا وظاهرا في خاصتك وخاصة من يطيعك، وأعرف المعروف وأنكر المنكر. الثاني: أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان، فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه؛ فلا تدعو إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه، أو بترك واجب أو مندوب تركه أضر من فعل ذلك المكروه، ولكن إذا كان في البدعة من الخير فعوض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان؛ إذ النفوس لا تترك شيئا إلا بشيء، ولا ينبغي لأحد أن يترك خيرا إلا إلى مثله أو إلى خير منه، فإنه كما أن الفاعلين لهذه البدع معيبون قد أتوا مكروها؛ فالتاركون أيضا للسنن مذمومون، فإن منها ما يكون واجبا على الإطلاق، ومنها ما يكون واجبا على التقييد، كما أن الصلاة النافلة لا تجب، ولكن من أراد أن يصليها يجب عليه أن يأتي بأركانها، وكما يجب على من أتى الذنوب من الكفارات والقضاء والتوبة والحسنات الماحية، وما يجب على من كان إماما أو قاضيا أو مفتيا أو واليا من الحقوق وما يجب على طالبي العلم، أو نوافل العبادة من الحقوق. ومنها: ما يكره المداومة على تركه كراهة شديدة.
215 ومنها: ما يكره تركه أو يجب فعله على الأئمة دون غيرهم وعامتها يجب تعليمها والحض عليها والدعاء إليها. وكثير من المنكرين لبدع العبادات والعادات تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك أو الأمر به، ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العبادات المشتملة على نوع من الكراهة، بل الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا قوام لأحدهما إلا بصاحبه؛ فلا ينهى عن منكر إلا ويؤمر بمعروف يغني عنه كما يؤمر بعبادة الله سبحانه وينهى عن عبادة ما سواه؛ إذ رأس الأمر شهادة أن لا إله إلا الله، والنفوس خلقت لتعمل لا لتترك، وإنما الترك مقصود لغيره، فإن لم يشتغل بعمل صالح، وإلا لم يترك العمل السئ أو الناقص، لكن لما كان من الأعمال السيئة ما يفسد عليها العمل الصالح نهيت عنه حفظا للعمل الصالح. فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله (ص)، كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد، ولهذا قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء أنه أنفق على مصحف ألف دينار أو نحو ذلك؛ فقال: دعهم؛ فهذا أفضل ما أنفقوا فيه الذهب. أو كما قال، مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة، وقد تأول بعض الأصحاب أنه أنفقها في تجويد الورق والخط، وليس مقصود أحمد هذا، إنما قصده أن هذا العمل فيه مصلحة وفيه أيضا مفسدة كره لأجلها، فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا، وإلا؛ اعتاضوا بفساد لا صلاح فيه، مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور من كتب الأسمار أو الأشعار أو حكمة فارس والروم. فتفطن لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية والمفاسد؛ بحيث تعرف ما مراتب المعروف ومراتب المنكر، حتى تقدم
216 أهمها عند الازدحام، فإن هذا حقيقة العلم بما جاءت به الرسل، فإن التمييز بين جنس المعروف وجنس المنكر أو جنس الدليل وغير الدليل يتيسر كثيرا. فأما مراتب المعروف والمنكر ومراتب الدليل؛ بحيث يقدم عند التزاحم أعرف المعروفين، وينكر أنكر المنكرين، ويرجح أقوى الدليلين؛ فإنه هو خاصة العلماء بهذا الدين. فالمراتب ثلاث: أحدها: العمل الصالح المشروع الذي لا كراهة فيه. والثاني: العمل الصالح من بعض وجوهه أو أكثرها: إما لحسن القصد، أو لاشتماله مع ذلك على أنواع من المشروع. والثالث: ما ليس فيه صلاح أصلا: إما لكونه تركا للعمل الصالح مطلقا، أو لكونه عملا فاسدا محضا) (1) * * *
217 أصناف الناس في غيبة الآخرين (من الناس من يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه وعشائره، مع علمه أن المغتاب بريء مما يقولون، أو فيه بعض ما يقولون؛ لكن يرى أنه لو أنكر عليهم قطع المجلس واستثقله أهل المجلس ونفروا عنه، فيرى موافقتهم من حسن المعاشرة وطيب المصاحبة، وقد يغضبون فيغضب لغضبهم فيخوض معهم. ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى: تارة في قالب ديانة وصلاح، فيقول: ليس لي عادة أن أذكر أحدا إلا بخير، ولا أحب الغيبة ولا الكذب، وإنما أخبركم بأحواله، ويقول: والله؛ إنه مسكين، أو: رجل جيد ولكن فيه كيت وكيت، وربما يقول: دعونا منه، الله يغفر لنا وله، وإنما قصده استنقاصه وهضما لجنابه، ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة، يخادعون الله بذلك كما يخادعون مخلوقاته، وقد رأينا منهم ألوانا كثيرة من هذا وأشباهه. ومنهم من يرفع غيره رياء؛ فيرفع نفسه، فيقول: لو دعوت البارحة في صلاتي لفلان؛ لما بلغني عنه كيت وكيت: ليرفع نفسه ويضعه عند من يعتقده، أو يقول: فلان بليد الذهن قليل الفهم. وقصده مدح نفسه وإثبات معرفته، وأنه أفضل منه. ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة؛ فيجمع بين أمرين قبيحين: الغيبة، والحسد، وإذا أثنى على شخص أزال ذلك عنه بما استطاع من تنقصه في قالب دين وصلاح، أو في قالب حسد وفجور وقدح؛ ليسقط ذلك عنه. ومنهم من يخرج الغيبة في قالب تمسخر ولعب ليضحك غيره باستهزائه ومحاكاته واستصغار المستهزأ به.
218 ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب، فيقول: تعجبت من فلان! كيف لا يفعل كيت وكيت؟! ومن فلان كيف وقع منه كيت وكيت وكيف فعل كيت وكيت؟! فيخرج اسمه في معرض تعجبه. ومنهم من يخرج الاغتمام، فيقول: مسكين فلان، غمني ما جرى له وما تم له. فيظن من يسمعه أنه يغتم له ويتأسف وقلبه منطو على التشفي به، ولو قدر لزاد على ما به، وربما يذكره عند أعدائه ليشتفوا به، وهذا وغيره من أعظم أمراض القلوب والمخادعات لله ولخلقه. ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر، فيظهر في هذا الباب أشياء من زخارف القول، وقصده غير ما أظهر، والله المستعان) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (28 / 236 - 238). 219 المباح بالنية الحسنة يكون خيرا وبالنية السيئة يكون شرا (المباح، بالنية الحسنة يكون خيرا، وبالنية السيئة يكون شرا، ولا يكون فعل اختياري إلا بإرادة، ولهذا قال النبي (ص) في الحديث الصحيح: «أحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن، وأصدق الأسماء: حارث وهمام، وأقبحها: حرب ومرة» (1). وقوله: «أصدق الأسماء: حارث وهمام»؛ لأن كل إنسان همام حارث، والحارث: الكاسب العامل، والهمام الكثير الهم - وهو مبدأ الإرادة - وهو حيوان، وكل حيوان حساس متحرك بالإرادة، فإذا فعل شيئا من المباحات؛ فلا بد له من غاية ينتهي إليها قصده. وكل مقصود إما أن يقصد لنفسه، وإما أن يقصد لغيره؛ فإن كان منتهى مقصوده ومراده عبادة الله وحده لا شريك له، وهو إلهه الذي يعبده لا يعبد شيئا سواه، وهو أحب إليه من كل ما سواه؛ فإن إرادته تنتهي إلى إرادته وجه الله، فيثاب على مباحاته التي يقصد الاستعانة بها على الطاعة، كما في «الصحيحين» عن النبي (ص) أنه قال: «نفقة الرجل على أهله يحتسبها صدقة» (2). وفي «الصحيحين» عنه أنه قال لسعد بن أبي وقاص لما مرض بمكة وعاده: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة،
(1) [صحيح]. رواه أبو داود في (الأدب، باب في تغيير الأسماء، 4950)، وأحمد في «المسند» (4 / 345)، والبخاري في «الأدب المفرد» (625 - صحيح الأدب المفرد)؛ من حديث أبي وهب الجشمي رضي الله عنه، وأوله في «صحيح مسلم» (2132). (2) رواه البخاري في (النفقات، باب فضل النفقة على الأهل، 5351، وفي الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية، 55)، ومسلم في (الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد، 1002)؛ من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه. 220 حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك» (1)، وقال معاذ بن جبل لأبي موسى: إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي (2). وفي الأثر: نوم العالم تسبيح) (3) * * *
(1) رواه البخاري في (الوصايا، باب أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس، 2742، وفي المناقب، باب قول النبي: «اللهم أمض لأصحابي هجرتهم»، 3936، وفي المغازي، باب حجة الوداع، 4409)، ومسلم في (الوصية، باب الوصية بالثلث، 1628)؛ من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. (2) رواه البخاري في (المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن، 4342، وفي استتابة المرتدين، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم، 6923)، ومسلم في (الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، 1824). (3) «مجموع الفتاوى» (7 / 43 - 44). 221 فعل المباح على وجه العبادة بدعة منكرة (من المعلوم أن الدين له «أصلان»؛ فلا دين إلا ما شرع الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، والله تعالى عاب على المشركين أنهم حرموا ما لم يحرمه الله وشرعوا دينا لم يأذن به الله. ولو سئل العالم عمن يعدو بين جبلين: هل يباح له ذلك؟ قال: نعم. فإذا قيل: إنه على وجه العبادة كما يسعى بين الصفا والمروة. قال: إن فعله على هذا الوجه حرام منكر، يستتاب فاعله، فإن تاب وإلا؛ قتل. ولو سئل عن كشف الرأس، ولبس الإزار، والرداء: أفتى بأن هذا جائز، فإذا قيل: إنه يفعله على وجه الإحرام كما يحرم الحاج. قال: إن هذا حرام منكر. ولو سئل: عمن يقوم في الشمس. قال: هذا جائز. فإذا قيل: إنه يفعله على وجه العبادة. قال: هذا منكر. كما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله (ص) رأى رجلا قائما في الشمس، فقال: «من هذا؟». قالوا: هذا أبو إسرائيل يريد أن يقوم في الشمس، ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم. فقال النبي (ص): «مروه؛ فليتكلم، وليجلس، وليستظل، وليتم صومه» (1)؛ فهذا لو فعله لراحة أو غرض مباح لم ينه عنه، لكن لما فعله على وجه العبادة نهى عنه. وكذلك لو دخل الرجل إلى بيته من خلف البيت لم يحرم عليه ذلك، ولكن إذا فعل ذلك على أنه عبادة كما كانوا يفعلون في الجاهلية: كان أحدهم إذا أحرم لم يدخل تحت سقف؛ فنهوا عن ذلك، كما قال تعالى:
(1) رواه البخاري في (الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية الله، 6704). 222 {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها} (1)؛ فبين سبحانه أن هذا ليس ببر وإن لم يكن حراما، فمن فعله على وجه البر والتقرب إلى الله كان عاصيا مذموما مبتدعا، والبدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن العاصي يعلم أنه عاص فيتوب، والمبتدع يحسب أن الذي يفعله طاعة فلا يتوب. ... فمن فعل ما ليس بواجب ولا مستحب على أنه من جنس الواجب أو المستحب؛ فهو ضال مبتدع، وفعله على هذا الوجه حرام بلا ريب) (2) * * *
225 ترك السنة يفضي إلى فعل البدعة وترك المأمور يفضي إلى فعل المحظور (لا تجد أحدا ترك بعض السنة التي يجب التصديق بها والعمل إلا وقع في بدعة، ولا تجد صاحب بدعة إلا ترك شيئا من السنة؛ كما جاء في الحديث: «ما ابتدع قوم بدعة؛ إلا تركوا من السنة مثلها» (1). رواه الإمام أحمد، وقد قال تعالى: {فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء} (2)، فلما تركوا حظا مما ذكروا به اعتاضوا بغيره فوقعت بينهم العداوة والبغضاء، وقال تعالى: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين} (3)؛ أي: عن الذكر الذي أنزله الرحمن، وقال تعالى: {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} (4)، وقال: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون} (5)؛ فأمر باتباع ما أنزل ونهى عما يضاد ذلك وهو اتباع أولياء من دونه، فمن لم يتبع أحدهما اتبع الآخر، ولهذا قال: {ويتبع غير سبيل المؤمنين} (6)، قال العلماء: من لم يكن متبعا سبيلهم كان متبعا غير
227 سبيلهم، فاستدلوا بذلك على أن اتباع سبيلهم واجب؛ فليس لأحد أن يخرج عما أجمعوا عليه. وكذلك من لم يفعل المأمور فعل بعض المحظور، ومن فعل المحظور لم يفعل جميع المأمور؛ فلا يمكن الإنسان أن يفعل جميع ما أمر به مع فعله لبعض ما حظر، ولا يمكنه ترك كل ما حظر مع تركه لبعض ما أمر، فإن ترك ما حظر من جملة ما أمر به فهو مأمور، ومن المحظور ترك المأمور؛ فكل ما شغله عن الواجب فهو محرم، وكل ما لا يمكن فعل الواجب إلا به فعليه فعله، ولهذا كان لفظ «الأمر» إذا أطلق يتناول النهي، وإذا قيد بالنهي كان النهي نظير ما تقدم) (1) * * *
228 قاعدة فيما يجب من المعاوضات ونحو ذلك (بذل المنافع والأموال سواء كان بطريق التعوض أو بطريق التبرع ينقسم إلى واجب ومستحب: وواجبها ينقسم إلى فرض على العين، وفرض على الكفاية: فأما ما يجب من التبرعات - مالا ومنفعة -؛ فله موضع غير هذا، وجماع الواجبات المالية بلا عوض أربعة أقسام مذكورة في الحديث المأثور: «أربع من فعلهن فقد برئ من البخل: من آتى الزكاة، وقرى الضيف، ووصل الرحم، وأعطى في النائبة» (1). ولهذا كان حد البخيل من ترك أحد هذه الأربعة في أصح القولين لأصحابنا، اختاره أبو بكر وغيره. فالزكاة هي الواجب الراتب التي تجب بسبب المال بمنزلة الصلاة المفروضة، وأما الثلاثة؛ فوجوبها عارض، فقرى الضيف واجب عندنا ونص عليه الشافعي، وصلة الأرحام واجبة بالإجماع؛ كنفقة الأقارب، وحمل العاقلة، وعتق ذي الرحم المحرم، وإنما الاختلاف فيمن تجب صلته، وما مقدار الصلة الواجبة، وكذلك الإعطاء في النائبة؛ مثل الجهاد في سبيل الله، وإشباع الجائع، وكسوة العاري، وقد نص أحمد على أنه لو صدق السائل لما أفلح من رده. وأما الواجبات المنفعية بلا عوض؛ فمثل تعليم العلم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونصر المظلوم، وهي كثيرة جدا، وعامة الواجب في منافع البدن، ويدخل فيها الأحاديث الصحيحة من حديث أبي ذر وأبي موسى
229 وغيرهما: «على كل سلامي من ابن آدم صدقة» (1)، وتدخل أيضا في مطلق الزكاة والنفقة في مثل قوله: {ومما رزقناهم ينفقون} (2)، كما نقل مثل ذلك عن السلف: الحسن البصري وغيره، وقال النبي (ص): «كل معروف صدقة» (3)، ويروى: ما تصدق عبد بصدقة أعظم من موعظة يعظ بها أصحابا له، فيتفرقون وقد نفعهم الله بها. ودلائل هذا كثيرة ليس هذا موضعه. وأما المنافع المالية وهو كمن اضطر إلى منفعة مال الغير؛ كحبل ودلو يستقي به ماء يحتاج إليه، وثوب يستدفىء به من البرد، ونحو ذلك؛ فيجب بذله، لكن هل يجب بذله مجانا، أو بطريق التعوض كالأعيان؟ فيه وجهان. وحجة التبرع متعددة؛ كقوله تعالى: {ويمنعون الماعون}؛ ففي «سنن أبي داود» عن ابن مسعود؛ قال: كنا نعده عارية القدر والدلو والفأس (4). وكذلك إيجاب بذل منفعة الحائط للجار إذا احتاج إليه على أصلنا المتبع لسنة رسول الله (ص)، وغير ذلك من المواضع. ففي الجملة ما يجب إيتاؤه من المال أو منفعته أو منفعة البدن بلا عوض له تفصيل في موضع آخر، ولو كان كثير من المتفقهة مقصرين في علمه، بحيث
230 قد ينفون وجوب ما صرحت الشريعة بوجوبه) (1) * * *
231 مسألة إجماع أهل المدينة (التحقيق في «مسألة إجماع أهل المدينة» أن منه ما هو متفق عليه بين المسلمين، ومنه ما هو قول جمهور أئمة المسلمين، ومنه ما لا يقول به إلا بعضهم. وذلك أن إجماع أهل المدينة على أربع مراتب: الأولى: ما يجري مجرى النقل عن النبي (ص)، مثل نقلهم لمقدار الصاع والمد، وكترك صدقة الخضروات والأحباس؛ فهذا مما هو حجة باتفاق العلماء... المرتبة الثانية: العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان؛ فهذا حجة في مذهب مالك، وهو المنصوص عن الشافعي... والمرتبة الثالثة: إذا تعارض في المسألة دليلان كحديثين وقياسين جهل أيهما أرجح، وأحدهما يعمل به أهل المدينة؛ ففيه نزاع؛ فمذهب مالك والشافعي أنه يرجح بعمل أهل المدينة، ومذهب أبي حنيفة أنه لا يرجح بعمل أهل المدينة... وأما المرتبة الرابعة: فهي العمل المتأخر بالمدينة؛ فهذا هل هو حجة شرعية يجب اتباعه أم لا؟ فالذي عليه أئمة الناس أنه ليس بحجة شرعية، هذا مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم، وهو قول المحققين من أصحاب مالك... ولو كان مالك يعتقد أن العمل المتأخر حجة يجب على جميع الأمة اتباعها وإن خالفت النصوص؛ لوجب عليه أن يلزم الناس بذلك حد الإمكان، كما يجب عليه أن يلزمهم اتباع الحديث والسنة الثابتة التي لا تعارض فيها وبالإجماع، وقد عرض عليه الرشيد أو غيره أن يحمل الناس على «موطئه»؛
232 فامتنع من ذلك، وقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وإنما جمعت علم أهل بلدي. أو كما قال. وإذا تبين أن إجماع أهل المدينة تفاوت فيه مذاهب جمهور الأئمة؛ علم بذلك أن قولهم أصح أقوال أهل الأمصار رواية ورأيا، وأنه تارة يكون حجة قاطعة وتارة حجة قوية وتارة مرجحا للدليل؛ إذ ليست هذه الخاصية لشيء من أمصار المسلمين. ومعلوم أن من كان بالمدينة من الصحابة هم خيار الصحابة؛ إذ لم يخرج منها أحد قبل الفتنة إلا وأقام بها من هو أفضل منه...) (1) * * *
233 هل لازم المذهب مذهب أم لا؟ (أما قول السائل: هل لازم المذهب مذهب أم ليس بمذهب؟ فالصواب: إن مذهب الإنسان ليس بمذهب له إذا لم يلتزمه؛ فإنه إذا كان قد أنكره ونفاه كانت إضافته إليه كذبا عليه، بل ذلك يدل على فساد قوله وتناقضه في المقال، غير التزامه اللوازم التي يظهر أنها من قبل الكفر والمحال مما هو أكثر، فالذين قالوا بأقوال يلزمها أقوال يعلم أنه لا يلتزمها، لكن لم يعلم أنها تلزمه، ولو كان لازم المذهب مذهبا للزم تكفير كل من قال عن الاستواء أو غيره من الصفات أنه مجاز ليس بحقيقة؛ فإن لازم هذا القول يقتضي أن لا يكون شيء من أسمائه أو صفاته حقيقة، وكل من لم يثبت بين الاسمين قدرا مشتركا لزم أن لا يكون شيء من الإيمان بالله ومعرفته والإقرار به إيمانا؛ فإنه ما من شيء يثبته القلب إلا ويقال فيه نظير ما يقال في الآخر، ولازم قول هؤلاء يستلزم قول غلاة الملاحدة المعطلين، الذين هم أكفر من اليهود والنصارى) (1) * * *
234 لا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص معين غير رسول الله (ص) (ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقول، ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول (ص) في كل ما يوجبه ويخبر به، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك؛ إلا رسول الله (ص). واتباع شخص لمذهب شخص بعينه لعجزه عن معرفة الشرع من غير جهته إنما هو مما يسوغ له، ليس هو مما يجب على كل أحد إذا أمكنه معرفة الشرع بغير ذلك الطريق، بل كل أحد عليه أن يتقي الله ما استطاع، ويطلب علم ما أمر الله به ورسوله؛ فيفعل المأمور، ويترك المحظور، والله أعلم) (1) * * *
235 المنحرفون من أتباع الأئمة انحرافهم أنواع (المنحرفون من أتباع الأئمة في الأصول والفروع... انحرافهم أنواع: أحدها: قول لم يقله الإمام ولا أحد من المعروفين من أصحابه بالعلم... الثاني: قول قاله بعض علماء أصحابه وغلط فيه... الثالث: قول قاله الإمام فزيد عليه قدرا أو نوعا... الرابع: أن يفهم من كلامه ما لم يرده، أو ينقل عنه ما لم يقله. الخامس: أن يجعل كلامه عاما أو مطلقا، وليس كذلك، ثم قد يكون في اللفظ إطلاق أو عموم فيكون لهم فيه بعض العذر، وقد لا يكون... السادس: أن يكون عنه في المسألة اختلاف فيتمسكون بالقول المرجوح. السابع: أن لا يكون قد قال أو نقل عنه ما يزيل شبهتهم مع كون لفظه محتملا لها. الثامن: أن يكون قوله مشتملا على خطأ. فالوجوه الستة تبين من مذهبه نفسه أنهم خالفوه، وهو الحق، والسابع خالفوا الحق وإن لم يعرف مذهبه نفيا وإثباتا، والثامن خالفوا الحق وإن وافقوا مذهبه؛ فالقسمة ثلاثية لأنهم إذا خالفوا الحق فإما أن يكونوا قد خالفوه أيضا أو وافقوه، أو لم يوافقوه ولم يخالفوه لانتفاء قوله في ذلك، وكذلك إذا وافقوا الحق؛ فإما أن يوافقوه هو، أو يخالفوه، أو ينتفي الأمران) (1)
236 الأمر بالشيء هل يكون أمرا بلوازمه (تنازع الناس في الأمر بالشيء: هل يكون أمرا بلوازمه، وهل يكون نهيا عن ضده مع اتفاقهم على أن فعل المأمور لا يكون إلا مع فعل لوازمه وترك ضده؟ ومنشأ النزاع أن الآمر بالفعل قد لا يكون مقصوده اللوازم ولا ترك الضد، ولهذا إذا عاقب المكلف لا يعاقبه إلا على ترك المأمور فقط، لا يعاقبه على ترك لوازمه وفعل ضده. وهذه المسألة هي الملقبة بأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقد غلط فيها بعض الناس؛ فقسموا ذلك إلى ما لا يقدر المكلف عليه؛ كالصحة في الأعضاء، والعدد في الجمعة، ونحو ذلك مما لا يكون قادرا على تحصيله، وإلى ما يقدر عليه؛ كقطع المسافة في الحج، وغسل جزء من الرأس في الوضوء، وإمساك جزء من الليل في الصيام، ونحو ذلك؛ فقالوا: ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وكان مقدورا للمكلف؛ فهو واجب. وهذا التقسيم خطأ؛ فإن هذه الأمور التي ذكروها هي شرط في الوجوب؛ فلا يتم الواجب إلا بها، وما لا يتم الواجب إلا به يجب على العبد فعله باتفاق المسلمين، سواء كان مقدورا عليه أو لا؛ كالاستطاعة في الحج واكتساب نصاب الزكاة، فإن العبد إذا كان مستطيعا للحج وجب عليه الحج، وإذا كان مالكا لنصاب الزكاة وجبت عليه الزكاة؛ فالوجوب لا يتم إلا بذلك، فلا يجب عليه تحصيل استطاعة الحج ولا ملك النصاب، ولهذا من يقول: إن الاستطاعة في الحج ملك المال - كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد -؛ فلا يوجبون عليه الاكتساب، ولم يتنازعوا إلا فيما إذا بذلت له الاستطاعة: إما بذل الحج، وإما بذل المال له من ولده...
237 والمقصود هنا الفرق بين ما لا يتم الواجب إلا به وما لا يتم الوجوب إلا به، وأن الكلام في القسم الثاني إنما هو فيما لا يتم الواجب إلا به؛ كقطع المسافة في الجمعة والحج ونحو ذلك؛ فعلى المكلف فعله باتفاق المسلمين، لكن من ترك الحج وهو بعيد الدار عن مكة، أو ترك الجمعة وهو بعيد الدار عن الجامع؛ فقد ترك أكثر مما ترك قريب الدار، ومع هذا؛ فلا يقال: إن عقوبة هذا أعظم من عقوبة قريب الدار. والواجب ما يكون تركه سببا للذم والعقاب، فلو كان هذا الذي لزمه فعله بطريق التبع مقصودا بالوجوب؛ لكان الذم والعقاب لتاركه أعظم، فيكون من ترك الحج من أهل الهند والأندلس أعظم عقابا ممن تركه من أهل مكة والطائف، ومن ترك الجمعة من أقصى المدينة أعظم عقابا ممن تركها من جيران المسجد الجامع، فلما كان من المعلوم أن ثواب البعيد أعظم وعقابه إذا ترك ليس أعظم من عقاب القريب؛ نشأت من ها هنا الشبهة: هل هو واجب أو ليس بواجب؟ والتحقيق أن وجوبه بطريق اللزوم العقلي لا بطريق قصد الأمر؛ بل الأمر بالفعل قد لا يقصد طلب لوازمه وإن كان عالما بأنه لا بد من وجودها، وإن كان ممن تجوز عليه الغفلة؛ فقد لا تخطر بقلبه اللوازم) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (20 / 159 - 161). 238 جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهي عنه (إن جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهي عنه، وإن جنس ترك المأمور به أعظم من جنس فعل المنهي عنه، وإن مثوبة بني آدم على أداء الواجبات أعظم من مثوبتهم على ترك المحرمات، وإن عقوبتهم على ترك الواجبات أعظم من عقوبتهم على فعل المحرمات... إن أعظم الحسنات هو الإيمان بالله ورسوله، وأعظم السيئات الكفر، والإيمان أمر وجودي؛ فلا يكون الرجل مؤمنا ظاهرا حتى يظهر أصل الإيمان، وهو شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله، ولا يكون مؤمنا باطنا حتى يقر بقلبه بذلك؛ فينتفي عنه الشك ظاهرا وباطنا مع وجود العمل الصالح، وإلا؛ كان كمن قال الله فيه: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} (1). ... والكفر: عدم الإيمان باتفاق المسلمين، سواء اعتقد نقيضه وتكلم به أو لم يعتقد شيئا ولم يتكلم، ولا فرق في ذلك بين مذهب أهل السنة والجماعة الذين يجعلون الإيمان قولا وعملا بالباطن والظاهر وقول من يجعله نفس اعتقاد القلب؛ كقول الجهمية وأكثر الأشعرية، أو إقرار اللسان؛ كقول الكرامية؛ أو جميعها؛ كقول فقهاء المرجئة وبعض الأشعرية؛ فإن هؤلاء مع أهل الحديث، وجمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنبلية، وعامة الصوفية، وطوائف من أهل الكلام من متكلمي السنة وغير متكلمي السنة من المعتزلة والخوارج وغيرهم: متفقون على أن من لم يؤمن بعد قيام الحجة عليه بالرسالة فهو
(1) سورة الحجرات: 14. 239 كافر، سواء كان مكذبا أو مرتابا أو معرضا أو مستكبرا أو مترددا أو غير ذلك وإذا كان أصل الإيمان الذي هو أعظم القرب والحسنات والطاعات؛ فهو مأمور به، والكفر الذي هو أعظم الذنوب والسيئات والمعاصي ترك هذا المأمور به، سواء اقترن به فعل منهي عنه من التكذيب أو لم يقترن به شيء، بل كان تركا للإيمان فقط؛ علم أن جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهي عنه. واعلم أن الكفر بعضه أغلظ من بعض؛ فالكافر المكذب أعظم جرما من الكافر غير المكذب؛ فإنه جمع بين ترك الإيمان المأمور به وبين التكذيب المنهي عنه، ومن كفر وكذب وحارب الله ورسوله والمؤمنين بيده أو لسانه أعظم جرما ممن اقتصر على مجرد الكفر والتكذيب، ومن كفر وقتل وزنا وسرق وصد وحارب كان أعظم جرما. كما أن الإيمان بعضه أفضل من بعض، والمؤمنون فيه متفاضلون تفاضلا عظيما، وهم عند الله درجات، كما أن أولئك دركات؛ فالمقتصدون في الإيمان أفضل من ظالمي أنفسهم، والسابقون بالخيرات أفضل من المقتصدين، {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم...} (1) الآيات، {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله} (2). وإنما ذكرنا أن أصل الإيمان مأمور به وأصل الكفر نقيضه، وهو ترك هذا الإيمان المأمور به، وهذا الوجه قاطع بين) (3)
(1) النساء: 95. (2) التوبة: 19. (3) «مجموع الفتاوى» (20 / 85 - 88). 240 كلام عجيب في أن القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بمجرد رأيه فهو ترجيح شرعي! (القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بمجرد رأيه؛ فهو ترجيح شرعي، فمتى ما وقع عنده وحصل في قلبه ما بطن معه أن هذا الأمر أو هذا الكلام أرضى لله ورسوله؛ كان هذا ترجيحا بدليل شرعي، والذين أنكروا كون الإلهام ليس طريقا إلى الحقائق مطلقا أخطأوا، فإذا اجتهد العبد في طاعة الله وتقواه كان ترجيحه لما رجح أقوى من أدلة كثيرة ضعيفة؛ فإلهام مثل هذا دليل في حقه، وهو أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة والموهومة والظواهر والاستصحابات الكثيرة التي يحتج بها كثير من الخائضين في المذاهب والخلاف وأصول الفقه... وقد قال النبي (ص): «الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء» (1)، ومن معه نور وبرهان وضياء كيف لا يعرف حقائق الأشياء من فحوى كلام أصحابها ولا سيما الأحاديث النبوية؟ فإنه يعرف ذلك معرفة تامة؛ لأنه قاصد العمل بها؛ فتتساعد في حقه هذه الأشياء مع الامتثال ومحبة الله ورسوله، حتى إن المحب يعرف من فحوى كلام محبوبه مراده منه تلويحا لا تصريحا. والعين تعرف من عيني محدثها إن كان من حزبها أو من أعاديها إنارة العقل مكشوف بطوع هوى وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا
(1) جزء من حديث رواه مسلم في (الطهارة، باب فضل الوضوء، 223) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه. 241 وفي الحديث الصحيح: «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته؛ كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها» (1)، ومن كان توفيق الله له كذلك؛ فكيف لا يكون ذا بصيرة نافذة ونفس فعالة؟! وإذا كان الإثم والبر في صدور الخلق له تردد وجولان؛ فكيف حال من الله سمعه وبصره وهو في قلبه؟! ... وأيضا؛ فإن الله فطر عباده على الحق، فإذا لم تستحل الفطرة شاهدت الأشياء على ما هي عليه، فأنكرت منكرها وعرفت معروفها، قال عمر: الحق أبلج لا يخفى على فطن. فإذا كانت الفطرة مستقيمة على الحقيقة منورة بنور القرآن؛ تجلت لها الأشياء على ما هي عليه في تلك المزايا، وانتفت عنها ظلمات الجهالات، فرأت الأمور عيانا مع غيبها عن غيرها. وفي «السنن» و «المسند» وغيره عن النواس بن سمعان، عن النبي (ص) قال: «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران، وفي السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وداع يدعو على رأس الصراط، وداع يدعو من فوق الصراط، والصراط المستقيم هو الإسلام، والستور المرخاة حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، فإذا أراد العبد أن يفتح بابا من تلك الأبواب ناداه المنادي: يا عبد الله! لا تفتحه؛ فإنك إن فتحته تلجه، والداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن» (2)؛ فقد بين في هذا الحديث العظيم - الذي
(1) رواه البخاري في (الرقاق، باب التواضع، 6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) [صحيح]. رواه الترمذي في (الأمثال، باب ما جاء في مثل الله لعباده، 2859)، وأحمد في «المسند» (4 / 182)؛ من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه. وانظر: «السنة» لابن أبي عاصم (18). 242 من عرفه انتفع به انتفاعا بالغا إن ساعده التوفيق واستغنى به عن علوم كثيرة - أن في قلب كل مؤمن واعظ، والوعظ هو الأمر والنهي والترغيب والترهيب. وإذا كان القلب معمورا بالتقوى انجلت له الأمور وانكشفت، بخلاف القلب الخراب المظلم، قال حذيفة بن اليمان: إن في قلب المؤمن سراجا يزهر. وفي الحديث الصحيح: «إن الدجال مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن قارىء وغير قارىء» (1)؛ فدل على أن المؤمن يتبين له ما لا يتبين لغيره، ولا سيما في الفتن، وينكشف له حال الكذاب الوضاع على الله ورسوله؛ فإن الدجال أكذب خلق الله، مع أن الله يجري على يديه أمورا هائلة ومخاريق مزلزلة، حتى إن من رآه افتتن به، فيكشفها الله للمؤمن حتى يعتقد كذبها وبطلانها. وكلما قوي الإيمان في القلب قوي انكشاف الأمور له وعرف حقائقها من بواطلها، وكلما ضعف الإيمان ضعف الكشف، وذلك مثل السراج القوي والسراج الضعيف في البيت المظلم، ولهذا قال بعض السلف في قوله: {نور على نور}؛ قال: هو المؤمن ينطق بالحكمة المطابقة للحق وإن لم يسمع فيها بالأثر، فإذا سمع فيها بالأثر كان نورا على نور؛ فالإيمان الذي في قلب المؤمن يطابق نور القرآن؛ فالإلهام القلبي تارة يكون من جنس القول والعلم، والظن أن هذا القول كذب، وأن هذا العمل باطل، وهذا أرجح من هذا أو هذا أصوب.
(1) رواه أحمد في «المسند» (3 / 250) واللفظ له من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، ومسلم في (الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفته وما معه، 5223) بلفظ: «كاتب وغير كاتب» من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه. 243 وفي «الصحيح» عن النبي (ص)؛ قال: «قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر» (1)، والمحدث: هو الملهم المخاطب في سره، وما قال عمر لشيء: إني لأظنه كذا وكذا؛ إلا كان كما ظن، وكانوا يرون أن السكينة تنطق على قلبه ولسانه. وأيضا؛ فإذا كانت الأمور الكونية قد تنكشف للعبد المؤمن لقوة إيمانه يقينا وظنا؛ فالأمور الدينية كشفها له أيسر بطريق الأولى؛ فإنه إلى كشفها أحوج، فالمؤمن تقع في قلبه أدلة على الأشياء لا يمكنه التعبير عنها في الغالب، فإن كل أحد لا يمكنه إبانة المعاني القائمة بقلبه، فإذا تكلم الكاذب بين يدي الصادق عرف كذبه من فحوى كلامه، فتدخل عليه نخوة الحياء الإيماني فتمنعه البيان، ولكن هو في نفسه قد أخذ حذره منه، وربما لوح أو صرح به خوفا من الله وشفقة على خلق الله ليحذروا من روايته أو العمل به. وكثير من أهل الإيمان والكشف يلقي الله في قلبه أن هذا الطعام حرام، وأن هذا الرجل كافر أو فاسق أو ديوث أو لوطي أو خمار أو مغن أو كاذب من غير دليل ظاهر، بل بما يلقي الله في قلبه. وكذلك بالعكس، يلقي في قلبه محبة لشخص، وأنه من أولياء الله، وأن هذا الرجل صالح، وهذا الطعام حلال، وهذا القول صدق؛ فهذا وأمثاله لا يجوز أن يستبعد في حق أولياء الله المؤمنين المتقين.
(1) رواه البخاري في (أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، 3469، وفي المناقب، باب مناقب عمر بن الخطاب، 3689) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم في (فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر، رقم 2398) من حديث عائشة رضي الله عنها. 244 وقصة الخضر مع موسى هي من هذا الباب، وأن الخضر علم هذه الأحوال المعينة بما أطلعه الله عليه، وهذا باب واسع يطول بسطه قد نبهنا فيه على نكت شريفة تطلعك على ما وراءها) (1) * * *
245 النزاع في الأحكام وخفاء العلم بما يوجب الشدة قد يكون رحمة (النزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفض إلى شر عظيم من خفاء الحكم، ولهذا صنف رجل كتابا سماه «كتاب الاختلاف»؛ فقال أحمد: سمه «كتاب السعة»، وإن الحق في نفس الأمر واحد، وقد يكون من رحمة الله ببعض الناس خفاؤه لما في ظهوره من الشدة عليه، ويكون من باب قوله تعالى: {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} (1). وهكذا ما يوجد في الأسواق من الطعام والثياب قد يكون في نفس الأمر مغصوبا، فإذا لم يعلم الإنسان بذلك كان كله له حلالا لا إثم عليه فيه بحال؛ بخلاف ما إذا علم، فخفاء العلم بما يوجب الشدة قد يكون رحمة، كما أن خفاء العلم بما يوجب الرخصة قد يكون عقوبة، كما أن رفع الشك قد يكون رحمة وقد يكون عقوبة، والرخصة رحمة) (2) * * *
246 إذا كان الشيء شعارا للكفار ثم اعتاده المسلمون وكثر فيهم هل تزول حرمته؟ (كان الصحابة يرمون بالقوس العربية الطويلة التي تشبه قوس الندف، وفتح الله لهم بها البلاد، وقد رويت آثار في كراهة الرمي بالقوس الفارسية عن بعض السلف لكونها كانت شعار الكفار، فأما بعد أن اعتادها المسلمون وكثرت فيهم وهي في أنفسها أنفع في الجهاد من تلك القوس؛ فلا تكره في أظهر قولي العلماء أو قول أكثرهم؛ لأن الله تعالى قال: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل} (1). والقوة في هذا أبلغ بلا ريب، والصحابة لم تكن هذه عندهم فعدلوا عنها إلى تلك؛ بل لم يكن لهم غيرها، فينظر في قصدهم بالرمي: أكان لحاجة إليها إذ ليس لهم غيرها، أم كان لمعنى فيها؟ ومن كره الرمي بها كرهه لمعنى لازم كما يكره الكفر وما يستلزم الكفر، أم كرهها لكونها كانت من شعائر الكفار فكره التشبه بهم؟ وهذا كما أن الكفار من اليهود والنصارى إذا لبسوا ثوب الغيار من أصفر وأزرق نهي عن لباسه لما فيه من التشبه بهم، وإن كان لو خلا عن ذلك لم يكره، وفي بلاد لا يلبس هذه الملابس عندهم إلا الكفار فنهي عن لبسها، والذين اعتادوا ذلك من المسلمين لا مفسدة عندهم في لبسها.
247 ولهذا كره أحمد وغيره لباس السواد لما كان في لباسه تشبه بمن يظلم أو يعين على الظلم، وكره بيعه لمن يستعين بلبسه على الظلم، فأما إذا لم يكن فيه مفسدة؛ لم ينه عنه) (1) كل ما قاله (ص) بعد النبوة وأقر عليه ولم ينسخ فهو تشريع (فكل ما قاله بعد النبوة وأقر عليه ولم ينسخ؛ فهو تشريع، لكن التشريع يتضمن الإيجاب والتحريم والإباحة، ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطلب؛ فإنه يتضمن إباحة ذلك الدواء والانتفاع به، فهو شرع لإباحته، وقد يكون شرعا لاستحبابه؛ فإن الناس قد تنازعوا في التداوي: هل هو مباح أو مستحب أو واجب؟ والتحقيق أن منه ما هو محرم، ومنه ما هو مكروه، ومنه ما هو مباح، ومنه ما هو مستحب، وقد يكون منه ما هو واجب، وهو ما يعلم أنه يحصل به بقاء النفس لا بغيره، كما يجب أكل الميتة عند الضرورة؛ فإنه واجب عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، وقد قال مسروق: من اضطر إلى أكل الميتة فلم يأكل حتى مات دخل النار. فقد يحصل أحيانا للإنسان إذا استحر المرض ما إن لم يتعالج معه مات، والعلاج المعتاد تحصل معه الحياة؛ كالتغذية للضعيف، وكاستخراج الدم أحيانا. والمقصود أن جميع أقواله يستفاد منها شرع، وهو (ص) لما رآهم يلقحون النخل قال لهم: «ما أرى هذا - يعني شيئا -»، ثم قال لهم: «إنما ظننت ظنا؛
248 فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله؛ فلن أكذب على الله» (1)، وقال: «أنتم أعلم بأمور دنياكم؛ فما كان من أمر دينكم فإلي» (2)، وهو لم ينههم عن التلقيح، لكن هم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم، كما غلط من غلط في ظنه أن (الخيط الأبيض) و (الخيط الأسود) هو الحبل الأبيض والأسود) (3) * * *
249 الحديث الضعيف يروى ويعمل به في الترغيب والترهيب لا في الاستحباب (قول أحمد بن حنبل: إذا جاء الحلال والحرام شددنا في الأسانيد، وإذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد، وكذلك ما عليه العلماء من العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال: ليس معناه إثبات الاستحباب بالحديث الذي لا يحتج به؛ فإن الاستحباب حكم شرعي؛ فلا يثبت إلا بدليل شرعي، ومن أخبر عن الله أنه يحب عملا من الأعمال من غير دليل شرعي؛ فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، كما لو أثبت الإيجاب أو التحريم، ولهذا يختلف العلماء في الاستحباب كما يختلفون في غيره، بل هو أصل الدين المشروع. وإنما مرادهم بذلك أن يكون العمل مما قد ثبت أنه مما يحبه الله أو مما يكرهه الله بنص أو إجماع؛ كتلاوة القرآن، والتسبيح، والدعاء، والصدقة، والعتق، والإحسان إلى الناس، وكراهة الكذب والخيانة، ونحو ذلك، فإذا روى حديث في فضل بعض الأعمال المستحبة وثوابها وكراهة بعض الأعمال وعقابها؛ فمقادير الثواب والعقاب وأنواعه إذا روى فيها حديث لا نعلم أنه موضوع جازت روايته والعمل به، بمعنى أن النفس ترجو ذلك الثواب أو تخاف ذلك العقاب، كرجل يعلم أن التجارة تربح، لكن بلغه أنها تربح ربحا كثيرا؛ فهذا إن صدق نفعه وإن كذب لم يضره، ومثال ذلك الترغيب والترهيب بالإسرائيليات والمنامات وكلمات السلف والعلماء ووقائع العلماء ونحو ذلك مما لا يجوز بمجرده إثبات حكم شرعي؛ لا استحباب ولا غيره، ولكن يجوز أن يذكر في الترغيب والترهيب والترجية والتخويف.
250 فما علم حسنه أو قبحه بأدلة الشرع؛ فإن ذلك ينفع ولا يضر، وسواء كان في نفس الأمر حقا أو باطلا، فما علم أنه باطل موضوع لم يجز الالتفات إليه؛ فإن الكذب لا يفيد شيئا، وإذا ثبت أنه صحيح أثبتت به الأحكام، وإذا احتمل الأمرين روي لإمكان صدقه ولعدم المضرة في كذبه، وأحمد إنما قال: إذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد، ومعناه أنا نروي في ذلك بالأسانيد وإن لم يكن محدثوها من الثقات الذين يحتج بهم، وكذلك قول من قال: يعمل بها في فضائل الأعمال، إنما العمل بها العمل بما فيها من الأعمال الصالحة مثل التلاوة والذكر والاجتناب لما كره فيها من الأعمال السيئة. ونظير هذا قول النبي (ص) في الحديث الذي رواه البخاري عن عبد الله ابن عمرو: «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا؛ فليتبوأ مقعده من النار» (1) مع قوله (ص) في الحديث الصحيح: «إذا حدثكم أهل الكتاب؛ فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم» (2)؛ فإنه رخص في الحديث عنهم، ومع هذا نهى عن تصديقهم وتكذيبهم، فلو لم يكن في التحديث المطلق عنهم فائدة لما رخص فيه وأمر به، ولو جاز تصديقهم بمجرد الإخبار لما نهى عن تصديقهم؛ فالنفوس تنتفع بما تظن صدقه في مواضع. فإذا تضمنت أحاديث الفضائل الضعيفة تقديرا وتحديدا مثل صلاة في وقت معين بقراءة معينة أو على صفة معينة؛ لم يجز ذلك لأن استحباب هذا الوصف المعين لم يثبت بدليل شرعي، بخلاف ما لو روي فيه من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله كان له كذا وكذا؛ فإن ذكر الله في السوق مستحب لما فيه من ذكر الله بين الغافلين...
(1) رواه البخاري في (أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، 3461). (2) رواه البخاري في (الشهادات، باب لا يسأل أهل الشرك عن الشهادة معلقا، وفي تفسير القرآن، باب {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا}، 4485) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 251 فأما تقدير الثواب المروي فيه؛ فلا يضر ثبوته ولا عدم ثبوته... فالحاصل أن هذا الباب يروى ويعمل به في الترغيب والترهيب لا في الاستحباب، ثم اعتقاد موجبه - وهو مقادير الثواب والعقاب - يتوقف على الدليل الشرعي) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (18 / 65 - 68). 252 لا يعرف إجماع على ترك نص إلا وقد عرف النص الناسخ له (كثير ممن يخالف النصوص الصحيحة والسنة الثابتة بلا حجة، إلا مجرد دعوى النسخ، وإذا طولب بالناسخ لم يكن معه حجة لبعض النصوص توهمه ترك العمل، إلا أن مذهب طائفته ترك العمل بها إجماع، والإجماع دليل على النسخ، ولا ريب أنه إذا ثبت الإجماع كان ذلك دليلا على أنه منسوخ؛ فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولكن لا يعرف إجماع على ترك نص إلا وقد عرف النص الناسخ له، ولهذا كان أكثر من يدعي نسخ النصوص بما يدعيه من الإجماع إذا حقق الأمر عليه لم يكن الإجماع الذي ادعاه صحيحا؛ بل غايته أنه لم يعرف فيه نزاعا، ثم من ذلك ما يكون أكثر أهل العلم على خلاف قول أصحابه، ولكن هو نفسه لم يعرف أقوال العلماء) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (28 / 111 - 112). 253 لفظ الكلام والكلمة لا يستعمل في اللغة إلا مقيدا بمعنى الجملة التامة (لفظ «الكلام» و «الكلمة» في لغة العرب، بل وفي لغة غيرهم لا تستعمل إلا في المقيد، وهو الجملة التامة، اسمية كانت أو فعلية أو ندائية، إن قيل إنها قسم ثالث. فأما مجرد الاسم أو الفعل أو الحرف الذي جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل؛ فهذا لا يسمى في كلام العرب قط كلمة، وإنما تسمية هذا كلمة اصطلاح نحوي، كما سموا بعض الألفاظ فعلا، وقسموه إلى فعل ماض ومضارع وأمر. والعرب لم تسم قط اللفظ فعلا؛ بل النحاة اصطلحوا على هذا، فسموا اللفظ باسم مدلوله؛ فاللفظ الدال على حدوث فعل في زمن ماض سموه فعلا ماضيا، وكذلك سائرها. وكذلك حيث وجد في الكتاب والسنة، بل وفي كلام العرب نظمه ونثره لفظ كلمة؛ فإنما يراد به المفيد التي تسميها النحاة جملة تامة؛ كقوله تعالى: {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا} (1)، وقوله تعالى: {وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا} (2)، وقوله تعالى:
(1) الكهف: 5. (2) التوبة: 40. 254 {تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} (1)، وقوله: {وجعلها كلمة باقية في عقبه} (2)، وقوله: {وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها} (3)، وقول النبي (ص): «أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل» (4). وقوله: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» (5)، وقوله: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت يكتب الله بها سخطه إلى يوم القيامة» (6)، وقوله: «لقد قلت بعدك أربع كلمات، لو وزنت بما قلته منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله مداد كلماته» (7)) (8)
(1) آل عمران: 64. (2) الزخرف: 28. (3) الفتح: 26. (4) رواه البخاري في (المناقب، باب أيام الجاهلية، 3841، وفي الأدب والرقاق)، ومسلم في (الشعر، 2256) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (5) رواه البخاري في (الدعوات، باب فضل التسبيح، رقم 6406)، ومسلم في (الذكر والدعاء، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، 2694) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (6) [صحيح]. رواه الترمذي في (الزهد، باب في قلة الكلام، رقم 2319)، وابن ماجة في (الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، 3969)؛ من حديث بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه. وانظر: «السلسلة الصحيحة» (888). (7) رواه مسلم في (الذكر والدعاء، باب التسبيح أول النهار وعند النوم، 2726) من حديث جويرية بنت الحارث رضي الله عنها. (8) «مجموع الفتاوى» (7 / 101 - 102). 255 الأسماء ثلاثة أنواع شرعي، ولغوي، وعرفي (ومما ينبغي أن يعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عرف تفسيرها وما أريد بها من جهة النبي (ص) لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم، ولهذا قال الفقهاء: «الأسماء ثلاثة أنواع»: نوع يعرف حده بالشرع؛ كالصلاة والزكاة، ونوع يعرف حده باللغة؛ كالشمس والقمر، ونوع يعرف حده بالعرف؛ كلفظ القبض، ولفظ المعروف في قوله: {وعاشروهن بالمعروف} ونحو ذلك، وروي عن ابن عباس أنه قال: «تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، من ادعى علمه فهو كاذب»، فاسم الصلاة والزكاة والصيام والحج ونحو ذلك قد بين الرسول (ص) ما يراد بها في كلام الله ورسوله، وكذلك لفظ الخمر وغيرها، ومن هناك يعرف معناها، فلو أراد أحد أن يفسرها بغير ما بينه النبي (ص) لم يقبل منه، وأما الكلام في اشتقاقها ووجه دلالتها؛ فذاك من جنس علم البيان، وتعليل الأحكام هو زيادة في العلم، وبيان حكمة ألفاظ القرآن؛ لكن معرفة المراد بها لا يتوقف على هذا) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (7 / 286). 256 لفظ المجمل والمطلق والعام في اصطلاح الأئمة (لفظ المجمل والمطلق والعام كان في اصطلاح الأئمة - كالشافعي، وأحمد، وأبي عبيد، وإسحاق، وغيرهم - سواء لا يريدون بالمجمل ما لا يفهم منه، كما فسره به بعض المتأخرين وأخطأ في ذلك، بل المجمل ما لا يكفي وحده في العمل به وإن كان ظاهره حقا؛ كما في قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} (1)؛ فهذه الآية ظاهرها ومعناها مفهوم، ليست مما لا يفهم المراد به؛ بل نفس ما دلت عليه لا يكفي وحده في العمل؛ فإن المأمور به صدقة تكون مطهرة مزكية لهم، وهذا إنما يعرف ببيان الرسول (، ولهذا قال أحمد: يحذر المتكلم في الفقه هذين «الأصلين»: المجمل والقياس. وقال: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس. يريد بذلك أن لا يحكم بما يدل عليه العام والمطلق قبل النظر فيما يخصه ويقيده، ولا يعمل بالقياس قبل النظر في دلالة النصوص هل تدفعه، فإن أكثر خطأ الناس تمسكهم بما يظنونه من دلالة اللفظ والقياس؛ فالأمور الظنية لا يعمل بها حتى يبحث عن المعارض بحثا يطمئن القلب إليه، وإلا؛ أخطأ من لم يفعل ذلك، وهذا هو الواقع في المتمسكين بالظواهر والأقيسة، ولهذا جعل الاحتجاج بالظواهر مع الإعراض عن تفسير النبي (ص) وأصحابه طريق أهل البدع، وله في ذلك مصنف كبير. وكذلك التمسك بالأقيسة مع الإعراض عن النصوص والآثار طريق أهل البدع، ولهذا كان كل قول ابتدعه هؤلاء قولا فاسدا، وإنما الصواب من أقوالهم ما وافقوا فيه السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان) (2)
(1) التوبة: 103. (2) «مجموع الفتاوى» (7 / 391 - 392). 257 التسمية بمسائل أصول ومسائل فروع تسمية محدثة (إن المسائل الخبرية قد تكون بمنزلة المسائل العملية، وإن سميت تلك «مسائل أصول» وهذه «مسائل فروع»؛ فإن هذه تسمية محدثة، قسمها طائفة من الفقهاء والمتكلمين، وهو على المتكلمين والأصوليين أغلب، لا سيما إذا تكلموا في مسائل التصويب والتخطئة. وأما جمهور الفقهاء المحققين والصوفية؛ فعندهم أن الأعمال أهم وآكد من مسائل الأقوال المتنازع فيها؛ فإن الفقهاء كلامهم إنما هو فيها وكثيرا ما يكرهون الكلام في كل مسألة ليس فيها عمل، كما يقوله مالك وغيره من أهل المدينة، بل الحق أن الجليل من كل واحد من الصنفين «مسائل أصول» والدقيق «مسائل فروع». فالعلم بوجوب الواجبات كمباني الإسلام الخمس، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة كالعلم بأن الله على كل شيء قدير وبكل شيء عليم، وأنه سميع بصير، وأن القرآن كلام الله، ونحو ذلك من القضايا الظاهرة المتواترة، ولهذا من جحد تلك الأحكام العملية المجمع عليها كفر، كما أن من جحد هذه كفر. وقد يكون الإقرار بالأحكام العملية أوجب من الإقرار بالقضايا القولية؛ بل هذا هو الغالب، فإن القضايا القولية يكفي فيها الإقرار بالجمل، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره. وأما الأعمال الواجبة؛ فلا بد من معرفتها على التفصيل لأن العمل بها لا يمكن إلا بعد معرفتها مفصلة، ولهذا تقر الأمة من يفصلها على الإطلاق،
258 وهم الفقهاء؛ وإن كان قد ينكر على من يتكلم في تفصيل الجمل القولية للحاجة الداعية إلى تفصيل الأعمال الواجبة وعدم الحاجة إلى تفصيل الجمل التي وجب الإيمان بها مجملة) (1) وقال أيضا: (والذين فرقوا بين الأصول والفروع لم يذكروا ضابطا يميز بين النوعين، بل تارة يقولون: هذا قطعي وهذا ظني، وكثير من مسائل الأحكام قطعي، وكثير من مسائل الأصول ظني عند بعض الناس، فإن كون الشيء قطعيا وظنيا أمر إضافي، وتارة يقولون: الأصول هي العلميات الخبريات والفروع العمليات، وكثير من العمليات من جحدها كفر؛ كوجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، وتارة يقولون: هذه عقليات وهذه سمعيات، وإذا كانت عقليات لم يلزم تكفير المخطىء؛ فإن الكفر حكم شرعي يتعلق بالشرع، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع) (2). * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (6 / 56 - 57). (2) «مجموع الفتاوى» (13 / 126). 259 العموم ثلاثة أقسام والفرق بين مفهوم اللفظ المطلق وبين المفهوم المطلق من اللفظ (العموم ثلاثة أقسام: 1 - عموم الكل لأجزائه: وهو ما لا يصدق فيه الاسم العام ولا أفراده على جزئه. 2 - عموم الجميع لأفراده: وهو ما يصدق فيه أفراد الاسم العام على آحاده. 3 - عموم الجنس لأنواعه وأعيانه: وهو ما يصدق فيه نفس الاسم العام على أفراده. فالأول: عموم الكل لأجزائه في الأعيان والأفعال والصفات؛ كما في قوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم} (1)، فإن اسم (الوجه) يعم الخد والجبين والجبهة ونحو ذلك، وكل واحد من هذه الأجزاء ليس هو الوجه، فإذا غسل بعض هذه الأجزاء لم يكن غاسلا للوجه لانتفاء المسمى بانتفاء جزئه. وكذلك في الصفات والأفعال إذا قيل: صل. فصلى ركعة وخرج بغير سلام، أو قيل: صم. فصام بعض يوم لم يكن ممتثلا؛ لانتفاء معنى الصلاة المطلقة والصوم المطلق، وكذلك إذا قيل: أكرم هذا الرجل. فأطعمه وضربه لم يكن ممتثلا؛ لأن الإكرام المطلق يقتضي فعل ما يسره وترك ما يسوؤه.
(1) المائدة: 6. 260 فلما قال النبي (ص): «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليكرم ضيفه» (1)، فلو أطعمه بعض كفايته وتركه جائعا لم يكن مكرما له؛ لانتفاء أجزاء الإكرام، ولا يقال: الإكرام حقيقة مطلقة، وذلك يحصل بإطعام لقمة، كذلك إذا قال: (خالفوهم)؛ فالمخالفة المطلقة تنافي الموافقة في بعض الأشياء أو في أكثرها على طريق التساوي؛ لأن المخالفة المطلقة ضد الموافقة المطلقة، فيكون الأمر بأحدهما نهيا عن الآخر، ولا يقال: إذا خالف في شيء ما فقد حصلت المخالفة، كما لا يقال: إذا وافقه في شيء ما فقد حصلت الموافقة. وسر ذلك الفرق بين مفهوم اللفظ المطلق وبين المفهوم المطلق من اللفظ، فإن اللفظ يستعمل مطلقا ومقيدا. فإذا أخذت المعنى المشترك بين جميع موارده مطلقها ومقيدها كان أعم من المعنى المفهوم منه عند إطلاقه، وذلك المعنى المطلق يحصل بحصول بعض مسميات اللفظ في أي استعمال حصل من استعمالاته المطلقة والمقيدة. وأما معناه في حال إطلاقه؛ فلا يحصل بعض معانيه عند التقييد، بل يقتضي أمورا كثيرة لا يقتضيها اللفظ المقيد. فكثيرا ما يغلط الغالطون هنا، ألا ترى أن الفقهاء يفرقون بين الماء المطلق وبين المائية المطلقة الثابتة في المني والمتغيرات وسائر المائعات، فأنت تقول عند التقييد: أكرم الضيف بإعطاء هذا الدرهم، فهذا إكرام مقيد، فإذا قلت: أكرم الضيف؛ كنت آمرا بمفهوم اللفظ المطلق، وذلك يقتضي أمورا لا تحصل بحصول إعطاء درهم فقط.
(1) جزء من حديث رواه البخاري في (كتاب الأدب، باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه، 6138)، ومسلم في (كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف، 48). 261 وأما القسم الثاني من العموم؛ فهو عموم الجميع لأفراده، كما يعم قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} (1) كل مشرك. والقسم الثالث من أقسام العموم: عموم الجنس لأعيانه، كما يعم قوله: «لا يقتل مسلم بكافر» (2) جميع أنواع القتل: المسلم والكافر) (3) * * *
(1) التوبة: 5. (2) جزء من حديث رواه البخاري في (كتاب العلم، باب كتابة العلم، رقم 111). (3) «اقتضاء الصراط المستقيم» (1 / 170 - 172). 262 أنواع الأعياد الزمانية (العيد يكون اسما لنفس المكان، ولنفس الزمان، ولنفس الاجتماع، وهذه الثلاثة قد أحدث منها أشياء. أما الزمان؛ فثلاثة أنواع، ويدخل فيها بعض بدع أعياد المكان والأفعال: أحدها: يوم لم تعظمه الشريعة أصلا، ولم يكن له ذكر في السلف، ولا جرى فيه ما يوجب تعظيمه؛ مثل أول خميس من رجب، وليلة تلك الجمعة التي تسمى الرغائب؛ فإن تعظيم هذا اليوم والليلة إنما حدث في الإسلام بعد المئة الرابعة، وروي فيه حديث موضوع باتفاق العلماء، مضمونه: فضيلة صيام ذلك اليوم وفعل هذه الصلاة المسماة عند الجاهلين بصلاة الرغائب، وقد ذكر ذلك بعض المتأخرين من العلماء من الأصحاب وغيرهم، والصواب الذي عليه المحققون من أهل العلم النهي عن إفراد هذا اليوم بالصوم، وعن هذه الصلاة المحدثة، وعن كل ما فيه تعظيم لهذا اليوم من صنعة الأطعمة وإظهار الزينة ونحو ذلك؛ حتى يكون هذا اليوم بمنزلة غيره من الأيام، وحتى لا يكون له مزية أصلا. وكذلك يوم آخر في وسط رجب يصلى فيه صلاة تسمى صلاة أم داود؛ فإن تعظيم هذا اليوم لا أصل له في الشريعة أصلا. النوع الثاني: ما جرى فيه حادثة كما كان يجري في غيره، من غير أن يوجب ذلك جعله موسما، ولا كان السلف يعظمونه؛ كثامن عشر ذي الحجة الذي خطب النبي (ص) فيه بغدير خم مرجعه من حجة الوداع؛ فإنه (ص) خطب فيه خطبة وصى فيها باتباع كتاب الله، ووصى فيها بأهل بيته كما روى ذلك
263 مسلم في «صحيحه» (1) عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، فزاد بعض أهل الأهواء في ذلك حتى زعموا أنه عهد إلى علي رضي الله عنه بالخلافة بالنص الجلي بعد أن فرش له وأقعده على فراش عالية، وذكروا كلاما وعملا قد علم بالاضطرار أنه لم يكن من ذلك شيء، وزعموا أن الصحابة تمالؤوا على كتمان هذا النص، وغصبوا الوصي حقه، وفسقوا وكفروا إلا نفرا قليلا. والعادة التي جبل الله عليها بني آدم ثم ما كان القوم عليه من الأمانة والديانة وما أوجبته شريعتهم من بيان الحق يوجب العلم اليقيني بأن مثل هذا ممتنع كتمانه... النوع الثالث: ما هو معظم في الشريعة؛ كيوم عاشوراء، ويوم عرفة، ويومي العيدين، والعشر الأواخر من شهر رمضان، والعشر الأول من ذي الحجة، وليلة الجمعة ويومها، والعشر الأول من المحرم، ونحو ذلك من الأوقات الفاضلة؛ فهذا الضرب قد يحدث فيه ما يعتقد أن له فضيلة، وتوابع ذلك ما يصير منكرا ينهى عنه، مثل ما أحدث بعض أهل الأهواء في يوم عاشوراء من التعطش والتحزن والتجمع وغير ذلك من الأمور المحدثة التي لم يشرعها الله تعالى ولا رسوله (، ولا أحد من السلف؛ لا من أهل بيت رسول الله (ص)، ولا من غيرهم...) (2) * * *
(1) أخرجه مسلم في (فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، رقم 2408). (2) «اقتضاء الصراط المستقيم» (2 / 617 - 624). 264 الفرق بين الأمكنة التي قصد النبي (ص) الصلاة أو الدعاء عندها وبين ما فعل فيها ذلك اتفاقا (الأمكنة التي كان النبي (ص) يقصد الصلاة أو الدعاء عندها؛ فقصد الصلاة فيها أو الدعاء سنة اقتداء برسول الله (ص) واتباعا له، كما إذا تحرى الصلاة أو الدعاء في وقت من الأوقات، فإن قصد الصلاة أو الدعاء في ذلك الوقت سنة كسائر عباداته وسائر الأفعال التي فعلها على وجه التقرب، ومثل هذا ما خرجاه في «الصحيحين» عن يزيد بن أبي عبيد؛ قال: كان سلمة ابن الأكوع يتحرى الصلاة عند الأسطوانة التي عند المصحف، فقلت له: يا أبا مسلم! أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة! قال: رأيت النبي (ص) يتحرى الصلاة عندها (1). وفي رواية لمسلم عن سلمة بن الأكوع: أنه كان يتحرى الصلاة موضع المصحف، يسبح فيه، وذكر أن رسول الله (ص) كان يتحرى ذلك المكان، وكان بين المنبر والقبلة قدر ممر الشاة (2). وقد ظن بعض المصنفين أن هذا مما اختلف فيه، وليس بجيد؛ فإنه هنا أخبر أن النبي (ص) كان يتحرى البقعة؛ فكيف لا يكون هذا القصد مستحبا؟! نعم، إيطان بقعة في المسجد لا يصلى إلا فيها منهي عنه كما جاءت به السنة، والإيطان ليس هو التحري من غير إيطان، فيجب الفرق بين اتباع النبي (ص) والاستنان به فيما فعله وبين ابتداع بدعة لم يسنها لأجل تعلقها به. وقد تنازع العلماء فيما إذا فعل فعلا من المباحات لسبب وفعلناه نحن تشبها به مع انتفاء ذلك السبب؛ فمنهم من يستحب ذلك ومنهم من لا
(1) رواه البخاري في (الصلاة، باب الصلاة إلى الأسطوانة، 502). (2) رواه مسلم في (كتاب الصلاة، باب دنو المصلي من السترة، 509). 265 يستحبه، وعلى هذا يخرج فعل ابن عمر رضي الله عنهما بأن النبي (ص) كان يصلي في تلك البقاع التي في طريقه لأنها كانت منزله، لم يتحر الصلاة فيها لمعنى في البقعة؛ فنظير هذا أن يصلي المسافر في منزله، وهذا سنة، فأما قصد الصلاة في تلك البقاع التي صلى فيها اتفاقا؛ فهذا لم ينقل عن غير ابن عمر من الصحابة؛ بل كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار يذهبون من المدينة إلى مكة حجاجا وعمارا ومسافرين، ولم ينقل عن أحد منهم أنه تحرى الصلاة في مصليات النبي (ص)، ومعلوم أن هذا لو كان عندهم مستحبا لكانوا إليه أسبق؛ فإنهم أعلم بسنته وأتبع لها من غيرهم، وقد قال (ص): «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (1). وتحري هذا ليس من سنة الخلفاء الراشدين، بل هو مما ابتدع، وقول الصحابي إذا خالفه نظيره ليس بحجة؛ فكيف إذا انفرد به عن جماهير الصحابة؟! أيضا؛ فإن تحري الصلاة فيها ذريعة إلى اتخاذها مساجد والتشبه بأهل الكتاب مما نهينا عن التشبه بهم فيه، وذلك ذريعة إلى الشرك بالله، والشارع قد حسم هذه العادة بالنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وبالنهي عن اتخاذ القبور مساجد، فإذا كان قد نهى عن الصلاة المشروعة في هذا المكان وهذا الزمان سدا للذريعة؛ فيكف يستحب قصد الصلاة والدعاء في مكان اتفق قيامهم فيه أو صلاتهم فيه من غير أن يكونوا قد قصدوه للصلاة
(1) [صحيح]. رواه أبو داود في (كتاب السنة، باب في لزوم السنة، 4607)، والترمذي في (كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، 2676)؛ من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. وانظر: «صحيح الترغيب والترهيب» (34). 266 فيه والدعاء فيه؟! ولو ساغ هذا لاستحب قصد جبل حراء والصلاة فيه، وقصد جبل ثور والصلاة فيه، وقصد الأماكن التي يقال: إن الأنبياء قاموا فيها، كالمقامين الذين بطريق جبل قاسيون بدمشق اللذين يقال: إنها مقام إبراهيم وعيسى، والمقام الذي يقال: إنه مغارة دم قابيل، وأمثال ذلك من البقاع التي بالحجاز والشام وغيرهما. ثم ذلك يفضي إلى ما أفضت إليه مفاسد القبور؛ فإنه يقال: إن هذا مقام نبي، أو قبر نبي أو ولي، بخبر لا يعرف قائله، أو بمنام لا تعرف حقيقته، ثم يترتب على ذلك اتخاذه مسجدا، فيصير وثنا يعبد من دون الله تعالى، شرك مبني على إفك، والله سبحانه يقرن في كتابه بين الشرك والكذب، كما يقرن بين الصدق والإخلاص...) (1) * * *
(1) «اقتضاء الصراط المستقيم» (2 755 - 758). 267 تفريق مهم بين الإجزاء والإثابة (الإجزاء والإثابة يجتمعان ويفترقان؛ فالإجزاء براءة الذمة من عهدة الأمر، وهو السلامة من ذم الرب أو عقابه، والثواب الجزاء على الطاعة وليس الثواب من مقتضيات مجرد الامتثال، بخلاف الإجزاء؛ فإن الأمر يقتضي إجزاء المأمور به لكن هما مجتمعان في الشرع؛ إذ قد استقر فيه أن المطيع مثاب والعاصي معاقب، وقد يفترقان فيكون الفعل مجزئا لا ثواب فيه إذا قارنه من المعصية ما يقابل الثواب، كما قيل: «رب صائم حظه من صيامه العطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر» (1)؛ فإن قول الزور والعمل به في الصيام أوجب إثما يقابل ثواب الصوم، وقد اشتمل الصوم على الامتثال المأمور به والعمل المنهي عنه، فبرئت الذمة للامتثال ووقع الحرمان للمعصية، وقد يكون مثابا عليه غير مجزىء إذا فعله ناقصا عن الشرائط والأركان، فيثاب على ما فعل، ولا تبرأ الذمة إلا بفعله كاملا. وهذا تحرير جيد أن فعل المأمور به يوجب البراءة، فإن قارنه معصية بقدره تخل بالمقصود قابل الثواب، وإن نقص المأمور به أثيب ولم تحصل البراءة التامة؛ فإما أن يعاد، وإما أن يجبر، وإما أن يأثم. فتدبر هذا الأصل؛ فإن المأمور به مثل المحبوب المطلوب، إذا لم يحصل تاما لم يكن المأمور بريئا من العهدة، فنقصه إما أن يجبر بجنسه أو ببدل، أو بإعادة الفعل كاملا إذا كان مرتبطا، وإما أن يبقى في العهدة كركوب المنهي عنه.
(1) حديث صحيح. رواه أحمد في «المسند» (2 / 373)، وابن ماجة في (الصيام، باب ما جاء في الغيبة والرفث للصائم) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وانظر: «صحيح الجامع» (3488، 3490). 268 فالأول: مثل من أخرج الزكاة ناقصا؛ فإنه يخرج التمام. والثاني: مثل من ترك واجبات الحج؛ فإنه يجبر بالدم، ومن ترك واجبات الصلاة المجبورة بالسجود. والثالث: مثل من ضحى بمعيبة أو أعتق معيبا أو صلى بلا طهارة. والرابع: مثل من فوت الجمعة والجهاد المتعين. وإذا حصل مقارنا لمحظور يضاد بعض أجزائه لم يكن قد حصل؛ كالوطىء في الإحرام فإنه يفسده، وإن لم يضاد بعض الأجزاء يكون قد اجتمع المأمور والمحظور؛ كفعل محظورات الإحرام فيه أو فعل قول الزور والعمل به في الصيام؛ فهذه ثلاثة أقسام في المحظور كالمأمور؛ إذ المأمور به إذا تركه يستدرك تارة بالجبران والتكميل، وتارة بالإعادة؛ وتارة لا يستدرك بحال. والمحظور كالمأمور: إما أن يوجب فساده فيكون فيه الإعادة أو لا يستدرك، وإما أن يوجب نقصه مع الإجزاء فيجبر أو لا يجبر، وإما أن يوجب إثما فيه يقابل ثوابه؛ فالأول كإفساد الحج، والثاني كإفساد الجمعة، والثالث كالحج مع محظوراته، والرابع كالصلاة مع مرور المصلي أمامه، والخامس كالصوم مع قول الزور والعمل به. فهذه المسائل مسألة الفعل الواحد والفاعل الواحد والعين الواحدة: هل يجتمع فيه أن يكون محمودا مذموما، مرضيا مسخوطا، محبوبا مبغضا، مثابا معاقبا، متلذذا متألما؛ يشبه بعضها بعضا؟ والاجتماع ممكن من وجهين، لكن من وجه واحد متعذر، وقد قال تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} (1)) (2)
(1) البقرة: 219. (2) «مجموع الفتاوى» (19 / 303 - 305). 269 ما أطلقه الله من الأسماء وعلق به الأحكام لم يكن لأحد أن يقيده إلا بدلالة من الله ورسوله (الاسم إذا بين النبي (ص) حد مسماه لم يلزم أن يكون قد نقله عن اللغة أو زاد فيه، بل المقصود أنه عرف مراده بتعريفه هو (ص) كيف ما كان الأمر؛ فإن هذا هو المقصود، وهذا كاسم الخمر؛ فإنه قد بين أن كل مسكر خمر فعرف المراد بالقرآن، وسواء كانت العرب قبل ذلك تطلق لفظ الخمر على كل مسكر أو تخص به عصير العنب لا يحتاج إلى ذلك؛ إذ المطلوب معرفة ما أراد الله ورسوله بهذا الاسم، وهذا قد عرف ببيان الرسول (، وبأن الخمر في لغة المخاطبين بالقرآن كانت تتناول نبيذ التمر وغيره، ولم يكن عندهم بالمدينة خمر غيرها، وإذا كان الأمر كذلك؛ فما أطلقه الله من الأسماء وعلق به الأحكام من الأمر والنهي والتحليل والتحريم لم يكن لأحد أن يقيده إلا بدلالة من الله ورسوله. فمن ذلك اسم الماء مطلق في الكتاب والسنة، ولم يقسمه النبي (ص) إلى قسمين: طهور وغير طهور؛ فهذا التقسيم مخالف للكتاب والسنة، وإنما قال الله: {فلم تجدوا ماء} (1)، وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع، وبينا أن كل ما وقع عليه اسم الماء فهو طاهر طهور، سواء كان مستعملا في طهر واجب أو مستحب أو غير مستحب، وسواء وقعت فيه نجاسة أو لم تقع إذا عرف أنها قد استحالت فيه واستهلكت، وأما إن ظهر أثرها فيه؛ فإنه يحرم استعماله لأنه استعمال للمحرم.
(1) النساء: 43، المائدة: 6. 270 ومن ذلك اسم الحيض، علق الله به أحكاما متعددة في الكتاب والسنة، ولم يقدر لا أقله ولا أكثره، ولا الطهر بين الحيضتين مع عموم بلوى الأمة بذلك واحتياجهم إليه، واللغة لا تفرق بين قدر وقدر، فمن قدر في ذلك حدا؛ فقد خالف الكتاب والسنة، والعلماء منهم من يحد أكثره وأقله ثم يختلفون في التحديد، ومنهم من يحد أكثره دون أقله، والقول الثالث أصح: أنه لا حد لا لأقله ولا لأكثره، بل ما رأته المرأة عادة مستمرة فهو حيض؛ وإن قدر أنه أقل من يوم استمر بها على ذلك فهو حيض، وإن قدر أن أكثره سبعة عشر استمر بها على ذلك فهو حيض، وأما إذا استمر الدم بها دائما؛ فهذا قد علم أنه ليس بحيض، لأنه قد علم من الشرع واللغة أن المرأة تارة تكون طاهرا وتارة تكون حائضا، ولطهرها أحكام ولحيضها أحكام) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (19 / 236 - 237). 271 لفظ الأمر إذا أطلق تناول النهي (إن لفظ «الأمر» إذا أطلق تناول النهي، ومنه قوله: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر} (1)؛ أي: أصحاب الأمر، ومن كان صاحب الأمر كان صاحب النهي ووجبت طاعته في هذا وهذا؛ فالنهي داخل في الأمر، وقال موسى للخضر: {ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا. قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا} (2)، وهذا نهي له عن السؤال حتى يحدث له منه ذكرا، ولما خرق السفينة قال له موسى: {أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا} (3) فسأله قبل إحداث الذكر، وقال في الغلام {أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا} (4) فسأله قبل إحداث الذكر، وقال في الجدار: {لو شئت لاتخذت عليه أجرا} (5) وهذا سؤال من جهة المعنى؛ فإن السؤال والطلب قد يكون بصيغة الشرط، كما تقول: لو نزلت عندنا لأكرمناك، وإن بت الليلة عندنا أحسنت إلينا، ومنه قول آدم: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} (6)، وقول نوح: {رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} (7)،
(1) النساء: 59. (2) الكهف: 69، 70. (3) الكهف: 71. (4) الكهف: 74. (5) الكهف: 77. (6) الأعراف: 23. (7) هود: 47. 272 ومثله كثير، ولهذا قال موسى: {إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني} (1)؛ فدل على أنه سأله الثلاث قبل أن يحدث له الذكر، وهذا معصية لنهيه، وقد دخل في قوله: {ولا أعصي لك أمرا} فدل على أن عاصي النهي عاص الأمر) (2) * * *
(1) الكهف: 76. (2) «مجموع الفتاوى» (7 / 175). 273 القسم الخامس [مسائل متفرقة]
275 المخالطة المطلقة والانفراد المطلق خطأ (لا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه، وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره؛ فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه: إما في بيته كما قال طاووس: نعم صومعة الرجل بيته يكف فيها بصره ولسانه، وإما في غير بيته. فاختيار المخالطة مطلقا خطأ، واختيار الانفراد مطلقا خطأ، وأما مقدار ما يحتاج إليه كل إنسان من هذا وهذا وما هو الأصلح له في كل حال؛ فهذا يحتاج إلى نظر خاص) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (10 / 426). 277 ليس كل مركب ولباس وطعام لم يكن موجودا في عهد النبي (ص) لا يحل (إن ما خلقه الله في سائر الأرض من القوت واللباس والمراكب والمساكن لم يكن كل نوع منه كان موجودا في الحجاز؛ فلم يأكل النبي (ص) من كل نوع من أنواع الطعام القوت والفاكهة، ولا لبس من كل نوع من أنواع اللباس، ثم إن من كان من المسلمين بأرض أخرى؛ كالشام، ومصر، والعراق، واليمن، وخراسان، وأرمينية، وأذربيجان، والمغرب، وغير ذلك عندهم أطعمة وثياب موجودة عندهم أو مجلوبة من مكان آخر، فليس لهم أن يظنوا ترك الانتفاع بذلك الطعام واللباس سنة لكون النبي (ص) لم يأكل مثله ولم يلبس مثله...؛ فإن الله يقول: {وقدر فيها أقواتها} (1)، وقال تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} (2)، وقال تعالى: {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه} (3)، وقال تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون} (4)، ولم تكن البغال موجودة بأرض العرب، ولم يركب النبي (ص) بغلة إلا البغلة التي أهداها له المقوقس من أرض مصر بعد صلح الحديبية، وهذه الآية نزلت بمكة، ومثلها في القرآن يمتن الله على عباده بنعمه التي لم تكن بأرض الحجاز؛ كقوله تعالى: {فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا. ثم شققنا الأرض شقا. فأنبتنا فيها حبا. وعنبا وقضبا. وزيتونا ونخلا. وحدائق غلبا. وفاكهة وأبا} (5)،
(1) فصلت: 10. (2) البقرة: 29. (3) الجاثية: 13. (4) النحل: 8. (5) النبأ: 24 - 30. 278 ولم يكن بأرض الحجاز زيتون، ولا نقل عن النبي (ص) أنه أكل زيتونا، ولكن لعل الزيت كان يجلب إليهم، وقد قال تعالى: {والتين والزيتون} (1) ولم يكن بأرضهم لا هذا ولا هذا، ولا نقل عن النبي (ص) أنه أكل منهما، وكذلك قوله: {وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين} (2)، وقد قال النبي (ص): «كلوا الزيت وادهنوا به؛ فإنه من شجرة مباركة» (3)، وقال تعالى: {الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غريبة يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار} (4)، وكذلك قوله: {حدائق غلبا} (5). وكذلك قوله في البحر: {لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها} (6)، وقوله: {وسخر لكم من الفلك والأنعام ما تركبون. لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون} (7)، ولم يركب النبي (ص) البحر ولا أبو بكر ولا عمر، وقد أخبر (ص) بمن يركب البحر من أمته غزاة في سبيل الله كأنهم ملوك على الأسرة - لأم حرام بنت
(1) التين: 1. (2) المؤمنون: 20. (3) [صحيح]. رواه الترمذي في (الأطعمة، باب ما جاء في أكل الزيت، 1851)، وابن ماجة في (الأطعمة، باب الزيت، 3319)؛ من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وانظر: «صحيح الجامع» (4498). (4) النور: 35. (5) النبأ: 30. (6) النحل: 14. (7) الزخرف: 12 - 13. 279 ملحان - وقالت: أدع الله أن يجعلني منهم. فقال: «أنت منهم» (1). وكانت سنة رسول الله (أنه يطعم ما يجده في أرضه، ويلبس ما يجده، ويركب ما يجده؛ مما أباحه الله تعالى، فمن استعمل ما يجده في أرضه فهو المتبع للسنة، كما أنه حج البيت من مدينته، فمن حج البيت من مدينة نفسه فهو المتبع للسنة وإن لم تكن هذه المدينة تلك. وهذا باب واسع قد بسطناه في غير هذا الموضع، وميزنا بين السنة والبدعة، وبينا أن السنة هي ما قام الدليل الشرعي عليه بأنه طاعة لله ورسوله، سواء فعله رسول الله (أو فعل على زمانه، أو لم يفعله ولم يفعل على زمانه لعدم المقتضى حينئذ لفعله أو وجود المانع منه) (2) * * *
(1) رواه البخاري في (الجهاد والسير، باب ركوب البحر، 2895)، ومسلم في (الأمارة، باب فضل الغزو في البحر، 1912، 1913). (2) «مجموع الفتاوى» (21 / 314 - 318). 280 كل من ترك واجبا لم يعلم وجوبه أو فعل محظورا لم يعلم أنه محظور لم تلزمه الإعادة إذا علم (كل من ترك واجبا لم يعلم وجوبه، فإذا علم وجوبه فعله، ولا تلزمه الإعادة فيما مضى في أصح القولين في مذهب أحمد وغيره. وكذلك من فعل محظورا في الصلاة لم يعلم أنه محظور ثم علم، كمن كان يصلي في أعطان الإبل، أو لا يتوضأ الوضوء الواجب الذي لم يعلم وجوبه؛ كالوضوء من لحوم الإبل، وهذا بخلاف الناسي؛ فإن العالم بالوجوب إذا نسي صلى متى ذكر، كما قال (ص): «من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها» (1)، وأما من لم يعلم الوجوب؛ فإذا علمه صلى صلاة الوقت وما بعدها ولا إعادة عليه؛ كما ثبت في «الصحيحين» أن النبي (ص) قال للأعرابي المسئ في صلاته: «ارجع فصل فإنك لم تصل» (2). قال: والذي بعثك بالحق؛ لا أحسن غير هذا؛ فعلمني ما يجزيني في صلاتي. فعلمه (ص) وقد أمره بإعادة صلاة الوقت ولم يأمره بإعادة ما مضى من الصلاة، مع قوله: «لا أحسن غير هذا». وكذلك لم يأمر عمرا وعمارا بقضاء الصلاة، وعمر لما أجنب لم يصل، وعمار تمرغ كما تتمرغ الدابة، ولم يأمر أبا ذر بما تركه من الصلاة وهو جنب، ولم يأمر المستحاضة أن تقضي ما تركت مع قولها: إني أستحاض حيضة شديدة منعتني الصوم والصلاة.
(1) رواه مسلم في (المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة، 1103) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه بلفظ: «من نسي صلاة أو نام عنها؛ فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها». (2) رواه البخاري في (الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم، 757) وفي غيره، ومسلم في (الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، 397) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 281 ولم يأمر الذين أكلوا في رمضان حتى تبين لهم الحبال البيض من السود بالإعادة، والصلاة أول ما فرضت كانت ركعتين ركعتين، ثم لما هاجر زيد في صلاة الحضر ففرضت أربعا، وكان بمكة وأرض الحبشة والبوادي كثير من المسلمين لم يعلموا بذلك الا بعد مدة، وكانوا يصلون ركعتين فلم يأمرهم بإعادة ما صلوا. كما لم يأمر الذين كانوا يصلون إلى القبلة المنسوخة بالإعادة مدة صلاتهم إليها قبل أن يبلغهم الناسخ؛ فعلم أنه لا فرق بين الخطاب المبتدأ والخطاب الناسخ، والركعتان الزائدتان إيجابهما مبتدأ وإيجاب الكعبة ناسخ، وكذلك التشهد وغيره إنما وجب في أثناء الأمر وكثير من المسلمين لم يبلغهم الوجوب إلا بعد مدة. ومن المنسوخ أن جماعة من أكابر الصحابة كانوا لا يغتسلون من الإقحاط (1)؛ بل يرون الماء من الماء؛ حتى ثبت عندهم النسخ، ومنهم من لم يثبت عنده النسخ، وكانوا يصلون بدون الطهارة الواجبة شرعا لعدم علمهم بوجوبها، ويصلي أحدهم وهو جنب) (2) * * *
(1) الإقحاط: الجماع بدون إنزال. (2) «مجموع الفتاوى» (23 / 37 - 39). 282 الأجر على قدر منفعة العمل لا على قدر المشقة فقط (ومما ينبغي أن يعرف أن الله ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس وحملها على المشاق، حتى يكون العمل كل ما كان أشق كان أفضل، كما يحسب كثير من الجهال أن الأجر على قدر المشقة في كل شيء، لا! ولكن الأجر على قدر منفعة العمل ومصلحته وفائدته، وعلى قدر طاعة أمر الله ورسوله؛ فأي العملين كان أحسن وصاحبه أطوع وأتبع كان أفضل، فإن الأعمال لا تتفاضل بالكثرة، وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب حال العمل. ولهذا لما نذرت أخت عقبة بن عامر أن تحج ماشية حافية؛ قال النبي (ص): «إن الله لغني عن تعذيب أختك نفسها، مرها فلتركب» (1)، وروي: أنه أمرها بالهدي، وروي بالصوم. وكذا حديث جويرية في تسبيحها بالحصى أو النوى، وقد دخل عليها ضحى ثم دخل عليها عشية، فوجدها على تلك الحال، وقوله لها: «لقد قلت بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لرجحت» (2). وأصل ذلك أن يعلم العبد أن الله لم يأمرنا إلا بما فيه صلاحنا، ولم ينهنا إلا عما فيه فسادنا، ولهذا يثني الله على العمل الصالح، ويأمر بالصلاح والإصلاح وينهى عن الفساد.
(1) رواه أحمد في «المسند» (4 / 143)، والترمذي في (الأيمان والنذور، باب ما جاء في كراهة الحلف بغير ملة الإسلام، 1464)؛ بلفظ: «إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا...»، وأصله في «البخاري» (كتاب الحج، باب المدينة تنفي الخبث، 1866)، ومسلم في (النذر، باب من نذر أن يمشي إلى الكعبة، 1644). (2) رواه مسلم في (الذكر والدعاء، باب التسبيح أول النهار وعند النوم، 2726). 283 فالله سبحانه إنما حرم علينا الخبائث لما فيها من المضرة والفساد، وأمرنا بالأعمال الصالحة لما فيها من المنفعة والصلاح لنا، وقد لا تحصل هذه الأعمال إلا بمشقة؛ كالجهاد، والحج، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وطلب العلم؛ فيحتمل تلك المشقة ويثاب عليها لما يعقبه من المنفعة، كما قال النبي (ص) لعائشة لما أعتمرت من التنعيم عام حجة الوداع: «أجرك على قدر نصبك» (1)، وأما إذا كانت فائدة العمل منفعة لا تقاوم مشقته؛ فهذا فساد، والله لا يحب الفساد. ومثال ذلك منافع الدنيا، فإن من تحمل مشقة لربح كثير أو دفع عدو عظيم كان هذا محمودا، وأما من تحمل كلفا عظيمة ومشاقا شديدة لتحصيل يسير من المال أو دفع يسير من الضرر كان بمنزلة من أعطى ألف درهم ليعتاض بمئة درهم، أو مشى مسيرة يوم ليتغدى غدوة يمكنه أن يتغدى خيرا منها في بلده. فالأمر المشروع المسنون جميعه مبناه على العدل والاقتصاد والتوسط الذي هو خير الأمور وأعلاها؛ كالفردوس؛ فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، فمن كان كذلك فمصيره إليه أن شاء الله تعالى. هذا في كل عبادة لا تقصد لذاتها؛ مثل الجوع، والسهر، والمشي. وأما ما يقصد لنفسه؛ مثل معرفة الله، ومحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه؛ فهذه يشرع فيها الكمال، لكن يقع فيها سرف وعدوان بإدخال ما ليس منها فيها، مثل أن يدخل ترك الأسباب المأمور بها في التوكل، أو يدخل
(1) رواه البخاري في (الحج، باب أجر العمرة على قدر النصب، 1787)، ومسلم في (الحج، باب بيان وجوه الإحرام أنه يجوز إفراد الحج والتمتع، 1211)؛ من حديث عائشة رضي الله عنها. 284 استحلال المحرمات وترك المشروعات في المحبة؛ فهذا هذا، والله سبحانه وتعالى أعلم) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (25 / 281 - 284). 285 الكذب والمعاريض (الكذب على الشخص حرام كله، سواء كان الرجل مسلما أو كافرا، برا أو فاجرا؛ لكن الافتراء على المؤمن أشد؛ بل الكذب كله حرام. ولكن تباح عند الحاجة الشرعية «المعاريض»، وقد تسمى كذبا؛ لأن الكلام يعني به المتكلم معنى، وذلك المعنى يريد أن يفهمه المخاطب، فإذا لم يكن على ما يعنيه فهو الكذب المحض، وإن كان على ما يعنيه ولكن ليس على ما يفهمه المخاطب؛ فهذه المعاريض، وهي كذب باعتبار الأفهام؛ وإن لم تكن كذبا باعتبار الغاية السائغة، ومنه قول النبي (ص): «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله: قوله لسارة: أختي، وقوله: {بل فعله كبيرهم هذا}، وقوله: {إني سقيم}» (1)، وهذه الثلاثة معاريض. وبها أحتج العلماء على جواز التعريض للمظلوم، وهو أن يعني بكلامه ما يحتمله اللفظ وإن لم يفهمه المخاطب، ولهذا قال من قال من العلماء: إن ما رخص فيه رسول (ص) إنما هو من هذا، كما في حديث أم كلثوم بنت عقبة عن النبي (ص) أنه قال: «ليس الكاذب بالذي يصلح بين الناس فيقول خيرا أو ينمي خيرا» (2)، ولم يرخص فيما يقول الناس أنه كذب؛ إلا في ثلاث: في الإصلاح بين الناس، وفي الحرب، وفي الرجل يحدث امرأته. قال: فهذا كله من المعاريض خاصة. ولهذا نفى عنه النبي (ص) اسم الكذب باعتبار القصد والغاية، كما ثبت
(1) رواه البخاري في (أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وأتخذ الله إبراهيم خليلا}، 3358)، ومسلم في (الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل، 2371)؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (2) رواه البخاري في (الصلح، باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس، 2692)، ومسلم في (البر والصلة، باب تحريم الكذب وبيان المباح منه، 2605)؛ بلفظ: «ليس الكذاب...». 286 عنه أنه قال: «الحرب خدعة» (1)، وأنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها، ومن هذا الباب قول الصديق في سفر الهجرة عن النبي (ص): هذا الرجل يهديني السبيل. وقول النبي (ص) للكافر السائل له في غزوة بدر: «نحن من ماء» (2)، وقوله للرجل الذي حلف على المسلم الذي أراد الكفار أسره: «إنه أخي» وعنى أخوة الدين، وفهموا منه أخوة النسب، فقال النبي (ص): «إن كنت لأبرهم وأصدقهم، المسلم أخو المسلم» (3)) (4) * * *
287 من هم أهل الحديث (ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه أو كتابته أو روايته؛ بل نعني بهم: كل من كان أحق بحفظه ومعرفته وفهمه ظاهرا وباطنا، واتباعه باطنا وظاهرا، وكذلك أهل القرآن. وأدنى خصلة في هؤلاء: محبة القرآن والحديث، والبحث عنهما وعن معانيهما، والعمل بما علموه من موجبهما؛ ففقهاء الحديث أخبر بالرسول من فقهاء غيرهم، وصوفيتهم أتبع للرسول من صوفية غيرهم، وأمراؤهم أحق بالسياسة النبوية من غيرهم، وعامتهم أحق بموالاة الرسول من غيرهم... وإذا تدبر العاقل وجد الطوائف كلها كلما كانت الطائفة إلى الله ورسوله أقرب كانت بالقرآن والحديث أعرف وأعظم عناية، وإذا كانت عن الله وعن رسوله أبعد كانت عنهما أنأى، حتى تجد في أئمة علماء هؤلاء من لا يميز بين القرآن وغيره، بل ربما ذكرت عنده آية، فقال: لا نسلم صحة الحديث، وربما قال لقوله عليه السلام كذا، وتكون آية من كتاب الله، وقد بلغنا من ذلك عجائب، وما لم يبلغنا أكثر... وحدثني ثقة أنه تولى مدرسة مشهد الحسين بمصر بعض أئمة المتكلمين رجل يسمى شمس الدين الأصبهاني شيخ الأيكي، فأعطوه جزء من الربعة، فقرأ: {بسم الله الرحمن الرحيم. ألمص}؛ حتى قيل له: ألف لام ميم صاد. فتأمل هذه الحكومة العادلة ليتبين لك أن الذين يعيبون أهل الحديث ويعدلون عن مذهبهم جهلة زنادقة منافقون بلا ريب، ولهذا لما بلغ الإمام أحمد عن «ابن أبي قتيلة» أنه ذكر عنده أهل الحديث بمكة، فقال: قوم سوء. فقام الإمام أحمد وهو ينفض ثوبه، ويقول: زنديق، زنديق، زنديق. ودخل بيته؛
288 فإنه عرف مغزاه) (1) * * *
289 الخروج للنزهة في الأماكن التي تشهد فيها المنكرات (ليس للإنسان أن يحضر الأماكن التي يشهد فيها المنكرات، ولا يمكنه الإنكار إلا لموجب شرعي، مثل أن يكون هناك أمر يحتاج إليه لمصلحة دينه أو دنياه لا بد فيه من حضوره، أو يكون مكرها، فأما حضوره لمجرد الفرجة وإحضار امرأته تشاهد ذلك؛ فهذا مما يقدح في عدالته ومرؤته إذا أصر عليه، والله أعلم) (1) * * *
290 الفرق بين السماع والاستماع ولما كان الغناء والضرب بالدف والكف من عمل النساء كان السلف يسمون من يفعل ذلك من الرجال مخنثا، ويسمون الرجال المغنين مخانيثا، وهذا مشهور في كلامهم. ومن هذا الباب حديث عائشة رضي الله عنها لما دخل عليها أبوها رضي الله عنه في أيام العيد وعندها جاريتان من الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أبمزمار الشيطان في بيت رسول الله (ص)؟! وكان رسول الله (ص) معرضا بوجهه عنهما، مقبلا بوجهه الكريم إلى الحائط؛ فقال: «دعهما يا أبا بكر؛ فإن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا أهل الإسلام» (1). ففي هذا الحديث بيان أن هذا لم يكن من عادة النبي (ص) وأصحابه الاجتماع عليه، ولهذا سماه الصديق مزمار الشيطان، والنبي (ص) أقر الجواري عليه معللا ذلك بأنه يوم عيد، والصغار يرخص لهم في اللعب في الأعياد، كما جاء في الحديث: «ليعلم المشركون أن في ديننا فسحة» (2)، وكان لعائشة لعب تلعب بهن ويجئن صواحباتها من صغار النسوة يلعبن معها، وليس في حديث الجاريتين أن النبي (ص) استمع إلى ذلك، والأمر والنهي إنما يتعلق بالاستماع لا بمجرد السماع، كما في الرؤية؛ فإنه إنما يتعلق بقصد الرؤية لا بما يحصل منها بغير الاختيار.
291 وكذلك في اشتمام الطيب إنما ينهى المحرم عن قصد الشم، فأما إذا شم ما لم يقصده؛ فإنه لا شيء عليه، وكذلك في مباشرة المحرمات كالحواس الخمس؛ من السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس، إنما يتعلق الأمر والنهي من ذلك بما للعبد فيه قصد وعمل، وأما ما يحصل بغير اختياره؛ فلا أمر فيه ولا نهي. وهذا مما وجه به الحديث الذي في «السنن» عن ابن عمر: أنه كان مع النبي (ص) وسلم فسمع صوت زمارة راع، فعدل عن الطريق، وقال: هل تسمع؟ هل تسمع؟ حتى أنقطع الصوت (1). فإن من الناس من يقول بتقدير صحة هذا الحديث: لم يأمر ابن عمر بسد أذنيه؛ فيجاب بأنه كان صغيرا، أو يجاب بأنه لم يكن يستمع، وإنما كان يسمع، وهذا لا إثم فيه، وإنما النبي (ص) فعل ذلك طلبا للأفضل والأكمل، كمن اجتاز بطريق فسمع قوما يتكلمون بكلام محرم فسد أذنيه كيلا يسمعه؛ فهذا حسن، ولو لم يسد أذنيه لم يأثم بذلك، اللهم إلا أن يكون في سماعه ضرر ديني لا يندفع إلا بالسد) (2) * * *
292 جنس الحاضرة أفضل من جنس البادية كما أن جنس العرب أفضل من جنس العجم لفظ (الأعراب) هو في الأصل: اسم لبادية العرب، فإن كل أمة لها حاضرة وبادية، فبادية العرب الأعراب، ويقال: إن بادية الروم الأرمن ونحوهم، وبادية الفرس الأكراد ونحوهم، وبادية الترك التتار. وهذا - والله أعلم - هو الأصل؛ وإن كان قد يقع فيه زيادة ونقصان. والتحقيق أن سائر سكان البوادي لهم حكم الأعراب، سواء دخلوا في لفظ الأعراب أو لم يدخلوا؛ فهذا الأصل يوجب أن يكون جنس الحاضرة أفضل من جنس البادية؛ وإن كان بعض أعيان البادية أفضل من أكثر الحاضرة مثلا. ويقتضي أن ما انفرد به البادية عن جميع جنس الحاضرة - أعني في زمن السلف من الصحابة والتابعين -؛ فهو ناقص عن فضل الحاضرة، أو مكروه. فإذا وقع التشبه بهم فيما ليس من فعل الحاضرة المهاجرين كان ذلك إما مكروها، أو مفضيا إلى مكروه، وهكذا العرب والعجم. فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم، عبرانيهم وسريانيهم، روميهم وفرسيهم، وغيرهم. وأن قريشا أفضل العرب، وأن بني هاشم أفضل قريش، وأن رسول الله (ص) أفضل بني هاشم؛ فهو أفضل الخلق نفسا، وأفضلهم نسبا. وليس فضل العرب ثم قريش ثم بني هاشم لمجرد كون النبي (ص) منهم، وإن كان هذا من الفضل، بل هم في أنفسهم أفضل، وبذلك يثبت لرسول الله
293 (ص) أنه أفضل نفسا ونسبا، وإلا لزم الدور) (1) * * *
(1) «اقتضاء الصراط المستقيم» (1 / 374 - 375). 294 سبب فضل العرب على غيرهم (وسبب هذا الفضل - والله أعلم - ما اختصوا به في عقولهم وألسنتهم وأخلاقهم وأعمالهم، وذلك أن الفضل إما بالعلم النافع وإما بالعمل الصالح، والعلم له مبدأ، وهو: قوة العقل الذي هو الفهم والحفظ، وتمام، وهو: قوة المنطق الذي هو البيان والعبارة، والعرب هم أفهم من غيرهم وأحفظ وأقدر على البيان والعبارة، ولسانهم أتم الألسنة بيانا وتمييزا للمعاني جمعا وفرقا، يجمع المعاني الكثيرة في اللفظ القليل إذا شاء المتكلم الجمع، ثم يميز بين كل شيئين مشتبهين بلفظ آخر مميز مختصر، كما تجده من لغتهم في جنس الحيوان؛ فهم - مثلا - يعبرون عن القدر المشترك بين الحيوان بعبارات جامعة، ثم يميزون بين أنواعه في أسماء كل أمر من أموره: من الأصوات، والأولاد، والمساكن، والأطفال، إلى غير ذلك من خصائص اللسان العربي التي لا يستراب فيها. وأما العمل؛ فإن مبناه على الأخلاق، وهي الغرائز المخلوقة في النفس، وغرائزهم أطوع للخير من غيرهم؛ فهم أقرب للسخاء والحلم والشجاعة والوفاء وغير ذلك من الأخلاق المحمودة، لكن كانوا قبل الإسلام طبيعة قابلة للخير، معطلة عن فعله، ليس عندهم علم منزل من السماء ولا شريعة موروثة عن نبي، ولا هم - أيضا - مشتغلين ببعض العلوم العقلية المحضة؛ كالطب والحساب ونحوها، إنما علمهم ما سمحت به قرائحهم من الشعر والخطب، أو ما حفظوه من أنسابهم وأيامهم، أو ما احتاجوا إليه في دنياهم من الأنواء والنجوم أو من الحروب. فلما بعث الله محمدا (ص) بالهدى الذي ما جعل الله في الأرض ولا يجعل أمرا أجل منه وأعظم قدرا، وتلقوه عنه بعد مجاهدته الشديدة لهم، ومعالجتهم على نقلهم عن تلك العادات الجاهلية والظلمات الكفرية، التي كانت قد أحالت قلوبهم عن فطرتها، فلما تلقوا عنه ذلك الهدي العظيم زالت تلك
295 الريون (1) عن قلوبهم، واستنارت بهدي الله الذي أنزل على عبده ورسوله، فأخذوا هذا الهدي العظيم بتلك الفطرة الجيدة...) (2) * * *
(1) الريون: جمع رين، وهو الطبع الدنس. (2) «اقتضاء الصراط المستقيم» (1 / 399 - 400). 296 جنس العرب خير من غيرهم (جمهور العلماء على أن جنس العرب خير من غيرهم، كما أن جنس قريش خير من غيرهم، وجنس بني هاشم خير من غيرهم، وقد ثبت في «الصحيح» عنه (ص) أنه قال: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» (1). لكن تفضيل الجملة على الجملة لا يستلزم أن يكون كل فرد أفضل من كل فرد، فإن في غير العرب خلق كثير خير من أكثر العرب، وفي غير قريش من المهاجرين والأنصار من هو خير من أكثر قريش، وفي غير بني هاشم من قريش وغير قريش من هو خير من أكثر بني هاشم، كما قال رسول الله (ص): «أن خير القرون القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (2). وفي القرون المتأخرة من هو خير من كثير من القرن الثاني والثالث، ومع هذا؛ فلم يخص النبي (ص) القرن الثاني والثالث بحكم شرعي، كذلك لم يخص العرب بحكم شرعي، بل ولا خص بعض أصحابه بحكم دون سائر أمته، ولكن الصحابة لما كان لهم من الفضل أخبر بفضلهم، وكذلك السابقون الأولون لم يخصهم بحكم، ولكن أخبر بما لهم من الفضل لما اختصوا به من العمل، وذلك لا يتعلق بالنسب.
(1) رواه مسلم في (البر والصلة، باب الأرواح جنود مجندة، 2638) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وشطره الآخر في «البخاري» (كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله: {وأتخذ الله إبراهيم خليلا}، 3353). (2) رواه بنحوه البخاري في (الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، 2651)، ومسلم في (فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم، 4603)؛ من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهم. وعندهما أيضا من حديث أبي هريرة وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما. 297 والمقصود هنا أنه أرسل إلى جميع الثقلين: الإنس والجن، فلم يخص العرب دون غيرهم من الأمم بأحكام شرعية، ولكن خص قريشا بأن الإمامة فيهم، وخص بني هاشم بتحريم الزكاة عليهم، وذلك لأن جنس قريش لما كانوا أفضل وجب أن تكون الإمامة في أفضل الأجناس مع الإمكان، وليست الإمامة أمرا شاملا لكل أحد منهم، وإنما يتولاها واحد من الناس. وأما تحريم الصدقة؛ فحرمها عليه وعلى أهل بيته تكميلا لتطهيرهم ودفعا للتهمة عنه) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (19 / 29 - 30). 298 تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز (تقسيم الألفاظ الدالة على معانيها إلى «حقيقة، ومجاز»، وتقسيم دلالتها أو المعاني المدلول عليها إن استعمل لفظ الحقيقة والمجاز في المدلول أو في الدلالة؛ فإن هذا كله قد يقع في كلام المتأخرين، ولكن المشهور أن الحقيقة والمجاز من عوارض الألفاظ، وبكل حال؛ فهذا التقسيم هو اصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثلاثة، لم يتكلم به أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا أحد من الأئمة المشهورين في العلم؛ كمالك والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي، بل ولا تكلم به أئمة اللغة والنحو؛ كالخليل وسيبويه وأبي عمرو بن العلاء ونحوهم. وأول من عرف أنه تكلم بلفظ «المجاز» أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه، ولكن لم يعن بالمجاز ما هو قسيم الحقيقة، وإنما عنى بمجاز الآية ما يعبر به عن الآية، ولهذا قال من قال من الأصوليين - كأبي الحسين البصري وأمثاله - أنها تعرف الحقيقة من المجاز بطرق، منها نص أهل اللغة على ذلك بأن يقولوا: هذا حقيقة وهذا مجاز؛ فقد تكلم بلا علم، فإنه ظن أن أهل اللغة قالوا هذا، ولم يقل ذلك أحد من أهل اللغة ولا من سلف الأمة وعلمائها، وإنما هذا اصطلاح حادث، والغالب أنه كان من جهة المعتزلة ونحوهم من المتكلمين، فإنه لم يوجد هذا في كلام أحد من أهل الفقه والأصول والتفسير والحديث ونحوهم من السلف. وهذا الشافعي هو أول من جرد الكلام في «أصول الفقه»، لم يقسم هذا التقسيم ولا تكلم بلفظ «الحقيقة والمجاز»، وكذلك محمد بن الحسن له في المسائل المبنية على العربية كلام معروف في «الجامع الكبير» وغيره ولم يتكلم بلفظ الحقيقة والمجاز، وكذلك سائر الأئمة لم يوجد لفظ المجاز في كلام أحد منهم إلا في كلام أحمد بن حنبل؛ فإنه قال في كتاب «الرد على الجهمية» في
299 قوله: (إنا، ونحن) ونحو ذلك في القرآن: هذا من مجاز اللغة، يقول الرجل: إنا سنعطيك، إنا سنفعل؛ فذكر أن هذا مجاز اللغة. وبهذا احتج على مذهبه من أصحابه من قال: إن في «القرآن» مجازا؛ كالقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، وأبي الخطاب، وغيرهم، وآخرون من أصحابه منعوا أن يكون في القرآن مجاز؛ كأبي الحسن الخرزي، وأبي عبد الله بن حامد، وأبي الفضل التميمي بن أبي الحسن التميمي، وكذلك منع أن يكون في القرآن مجاز محمد بن خويز منداد وغيره من المالكية، ومنع منه داود بن علي، وابنه أبو بكر، ومنذر بن سعيد البلوطي وصنف فيه مصنفا. وحكى بعض الناس عن أحمد في ذلك روايتين، وأما سائر الأئمة؛ فلم يقل أحد منهم ولا من قدماء أصحاب أحمد: إن في القرآن مجازا، لا مالك ولا الشافعي ولا أبو حنيفة؛ فإن تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز إنما أشتهر في المئة الرابعة، وظهرت أوائله في المئة الثالثة، وما علمته موجودا في المئة الثانية اللهم إلا أن يكون في أواخرها، والذين أنكروا أن يكون أحمد وغيره نطقوا بهذا التقسيم قالوا: إن معنى قول أحمد: من مجاز اللغة؛ أي: مما يجوز في اللغة أن يقول الواحد العظيم الذي له أعوان: نحن فعلنا كذا، ونفعل كذا، ونحو ذلك. قالوا: ولم يرد أحمد بذلك أن اللفظ استعمل في غير ما وضع له. وقد أنكر طائفة أن يكون في اللغة مجاز، لا في القرآن ولا غيره؛ كأبي إسحاق الإسفراييني، وقال المنازعون له: النزاع معه لفظي، فإنه إذا سلم أن في اللغة لفظا مستعملا في غير ما وضع له لا يدل على معناه إلا بقرينة؛ فهذا هو المجاز وإن لم يسمه مجازا، فيقول من ينصره: إن الذين قسموا اللفظ حقيقة ومجازا قالوا: «الحقيقة» هو اللفظ المستعمل فيما وضع له، «والمجاز» هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له؛ كلفظ الأسد والحمار إذا أريد بهما البهيمة أو أريد بهما الشجاع والبليد، وهذا التقسيم والتحديد يستلزم أن يكون اللفظ قد
300 وضع أولا لمعنى، ثم بعد ذلك قد يستعمل في موضوعه وقد يستعمل في غير موضوعه، ولهذا كان المشهور عند أهل التقسيم أن كل مجاز؛ فلا بد له من حقيقة، وليس لكل حقيقة مجاز، فاعترض عليهم بعض متأخريهم وقال: اللفظ الموضوع قبل الاستعمال لا حقيقة ولا مجاز، فإذا استعمل في غير موضوعه؛ فهو مجاز لا حقيقة له. وهذا كله إنما يصح لو علم ان الألفاظ العربية وضعت أولا لمعان، ثم بعد ذلك استعملت فيها؛ فيكون لها وضع متقدم على الاستعمال، وهذا إنما صح على قول من يجعل اللغات اصطلاحية، فيدعي أن قوما من العقلاء اجتمعوا واصطلحوا على أن يسموا هذا بكذا وهذا بكذا، ويجعل هذا عاما في جميع اللغات، وهذا القول لا نعرف أحدا من المسلمين قاله قبل أبي هاشم بن الجبائي... والمقصود هنا أنه لا يمكن أحدا أن ينقل عن العرب بل ولا عن أمة من الأمم أنه أجتمع جماعة فوضعوا جميع هذه الأسماء الموجودة في اللغة ثم استعملوها بعد الوضع، وإنما المعروف المنقول بالتواتر استعمال هذه الألفاظ فيما عنوه بها من المعاني، فإن ادعى مدع أنه يعلم وضعا يتقدم ذلك؛ فهو مبطل، فإن هذا لم ينقله أحد من الناس، ولا يقال: نحن نعلم ذلك بالدليل؛ فإنه إن لم يكن اصطلاح متقدم لم يمكن الاستعمال) (1)
(1) «مجموع الفتاوى» (7 / 87 - 91). وقد تكلم شيخ الإسلام عن الحقيقة والمجاز في أكثر من موضع. 301 البدعة في الحنابلة أقل منها في غيرهم (أهل البدع في غير الحنبلية أكثر منهم في الحنبلية بوجوه كثيرة؛ لأن نصوص أحمد في تفاصيل السنة ونفي البدع أكثر من غيره بكثير... وفي الحنبلية أيضا مبتدعة؛ وإن كانت البدعة في غيرهم أكثر، وبدعتهم غالبا في زيادة الإثبات في حق الله، وفي زيادة الإنكار على مخالفهم بالتكفير وغيره؛ لأن أحمد كان مثبتا لما جاءت به السنة، منكرا على من خالفها، مصيبا في غالب الأمور، مختلفا عنه في البعض ومخالفا في البعض. وأما بدعة غيرهم؛ فقد تكون أشد من بدعة مبتدعهم في زيادة الإثبات والإنكار، وقد تكون في النفي، وهو الأغلب؛ كالجهمية، والقدرية، والمرجئة، والرافضة، وأما زيادة الإنكار من غيرهم على المخالف من تكفير وتفسيق؛ فكثير) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (20 / 186). 302 حدود الشام والحجاز (مدينة النبي (ص) من الحجاز باتفاق أهل العلم، ولم يقل أحد من المسلمين ولا غيرهم: إن المدينة النبوية من الشام، وإنما يقول هذا جاهل بحد الشام والحجاز، جاهل بما قاله الفقهاء وأهل اللغة وغيرهم، ولكن يقال: المدينة شامية، ومكة يمانية؛ أي: المدينة أقرب إلى الشام، ومكة أقرب إلى اليمن، وليست مكة من اليمن ولا المدينة من الشام. وقد أمر النبي (ص) في مرض موته: أن تخرج اليهود والنصارى من جزيرة العرب - وهي الحجاز -؛ فأخرجهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه من المدينة وخيبر وينبع واليمامة ومخاليف هذه البلاد، ولم يخرجهم من الشام؛ بل لما فتح الشام أقر اليهود والنصارى بالأردن وفلسطين وغيرهما، كما أقرهم بدمشق وغيرها. وتربة الشام تخالف تربة الحجاز، كما يوجد الفرق بينهما عند المنحنى الذي يسمى عقبة الصوان؛ فإن الإنسان يجد تلك التربة مخالفة لهذه التربة، كما تختلف تربة الشام ومصر، فما كان دون وادي المنحنى فهو من الشام، مثل معان، وأما العلى وتبوك ونحوهما؛ فهو من أرض الحجاز، والله أعلم) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (28 / 630 - 631). 303 دفاع عن أبي حنيفة (قال أبو يوسف رحمه الله وهو أجل أصحاب أبي حنيفة، وأول من لقب قاضي القضاة لما اجتمع بمالك وسأله عن هذه المسائل، وأجابه مالك بنقل أهل المدينة المتواتر، رجع أبو يوسف إلى قوله، وقال: لو رأى صاحبي مثل ما رأيت لرجع مثل ما رجعت. فقد نقل أبو يوسف أن مثل هذا النقل حجة عند صاحبه أبي حنيفة كما هو حجة عند غيره، لكن أبو حنيفة لم يبلغه هذا النقل، كما لم يبلغه ولم يبلغ غيره من الأئمة كثير من الحديث؛ فلا لوم عليهم في ترك ما لم يبلغهم علمه، وكان رجوع أبي يوسف إلى هذا النقل كرجوعه إلى أحاديث كثيرة اتبعها هو وصاحبه محمد، وتركا قول شيخهما لعلمهما بأن شيخهما كان يقول: إن هذه الأحاديث أيضا حجة إن صحت، لكن لم تبلغه. ومن ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره؛ فقد أخطأ عليهم، وتكلم إما بظن وإما بهوى) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (20 / 304). 304 الورع المشروع والورع الواجب والورع الفاسد (الورع المشروع المستحب الذي بعث الله به محمدا (؛ هو اتقاء من يخاف أن يكون سببا للذم والعذاب عند عدم المعارض الراجح، ويدخل في ذلك أداء الواجبات والمشتبهات التي تشبه الواجب وترك المحرمات والمشتبهات التي تشبه الحرام، وإن أدخلت فيها المكروهات قلت: نخاف أن تكون سببا للنقص والعذاب. وأما الورع الواجب؛ فهو اتقاء ما يكون سببا للذم والعذاب، وهو فعل الواجب وترك المحرم، والفرق بينهما فيما اشتبه: أمن الواجب هو أم ليس منه، وما اشتبه تحريمه: أمن المحرم أم ليس منه؟ فأما ما لا ريب في حله؛ فليس تركه من الورع، وما لا ريب في سقوطه؛ فليس فعله من الورع، وقولي عند عدم المعارض الراجح؛ فإنه قد لا يترك الحرام البين أو المشتبه إلا عند ترك ما هو حسنة موقعها في الشريعة أعظم من ترك تلك السيئة، مثل من يترك الائتمام بالإمام الفاسق فيترك الجمعة والجماعة والحج والغزو، وكذلك قد لا يؤدي الواجب البين أو المشتبه إلا بفعل سيئة أعظم إثما من تركه، مثل من لا يمكنه أداء الواجبات من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لذوي السلطان إلا بقتال فيه من الفساد أعظم من فساد ظلمه. والأصل في الورع المشتبه قول النبي (ص): «الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن ترك الشبهات استبرأ عرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام؛ كالراعي يرعى حول
305 الحمى يوشك أن يواقعه» (1)، وهذا في «الصحيحين»، وفي «السنن» قوله: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (2)، وقوله: «البر ما اطمأنت إليه النفس وسكن إليه القلب» (3)، وقوله في «صحيح مسلم» في رواية: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وإن أفتاك الناس» (4)، وأنه رأى على فراشه تمرة فقال: «لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها» (5). ... لكن يقع الغلط في الورع من ثلاث جهات: أحدها: اعتقاد كثير من الناس أنه من باب الترك؛ فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام لا في أداء الواجب، وهذا يبتلى به كثير من المتدينة المتورعة، ترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكاذبة وعن الدرهم فيه شبهة لكونه من مال ظالم أو معاملة فاسدة، ويتورع عن الركون إلى الظلمة من أجل البدع في الدين وذوي الفجور في الدنيا، ومع هذا يترك أمورا واجبة عليه إما عينا وإما كفاية وقد تعينت عليه؛ من صلة رحم، وحق جار ومسكين وصاحب ويتيم وابن سبيل، وحق مسلم وذي سلطان وذي علم، وعن أمر بمعروف ونهي عن
(1) رواه البخاري في (الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، 52)، ومسلم في (المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، 1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. (2) [صحيح]. رواه النسائي في (الأشربة، باب الحث على ترك الشبهات، 5711)، والترمذي في (صفة القيامة، باب منه، 2518)؛ من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما. ورواه أحمد في «المسند» (3 / 153) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وانظر: «الإرواء» (12، 2074). (3) [حسن]. رواه أحمد في «المسند» (4 / 227، 228)، والدارمي (2 / 245)، وأبو يعلى (1586)؛ من حديث وابصة رضي الله عنه. وأورده النووي في «الأربعين حديثا» وحسنه. (4) رواه مسلم في (البر والصلة، باب تفسير البر والإثم، 2553) من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه بلفظ: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس»، وأما لفظه: «وإن أفتاك الناس»؛ فهي جزء من الحديث السابق. (5) رواه بنحوه البخاري في (البيوع، باب ما يتنزه من الشبهات، 2055)، ومسلم في (الزكاة، باب تحريم الزكاة على رسول الله وعلى آله، 1017) من حديث أنس رضي الله عنه. 306 منكر، وعن الجهاد في سبيل الله إلى غير ذلك مما فيه نفع للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه، أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى، بل من جهة التكليف ونحو ذلك. وهذا الورع قد يوقع صاحبه في البدع الكبار؛ فإن ورع الخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم من هذا الجنس، تورعوا عن الظلم وعن ما اعتقدوه ظلما من مخالطة الظلمة في زعمهم، حتى تركوا الواجبات الكبار من الجمعة والجماعة والحج والجهاد ونصيحة المسلمين والرحمة لهم، وأهل هذا الورع ممن أنكر عليهم الأئمة، كالأئمة الأربعة، وصار حالهم يذكر في اعتقاد أهل السنة والجماعة. الجهة الثانية من الاعتقاد الفاسد أنه إذا فعل الواجب والمشتبه وترك المحرم والمشتبه؛ فينبغي أن يكون اعتقاد الوجوب والتحريم بأدلة الكتاب والسنة وبالعلم لا بالهوى، وإلا؛ فكثير من الناس تنفر نفسه عن أشياء لعادة ونحوها، فيكون ذلك مما يقوي تحريمها واشتباهها عنده، ويكون بعضهم في أوهام وظنون كاذبة، فتكون تلك الظنون مبناها على الورع الفاسد، فيكون صاحبه ممن قال الله تعالى فيه: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس} (1)، وهذه حال أهل الوسوسة في النجاسات؛ فإنهم من أهل الورع الفاسد المركب من نوع دين وضعف عقل وعلم) (2) * * *
(1) النجم: 23. (2) «مجموع الفتاوى» (20 / 137 - 140). 307 أصحاب السنن والمسانيد هل كانوا مجتهدين أم مقلدين؟ (سئل: هل البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وأبو داود الطيالسي، والدارمي، والبزار، والدارقطني، والبيهقي، وابن خزيمة، وأبو يعلى الموصلي؛ هل كان هؤلاء مجتهدين لم يقلدوا أحدا من الأئمة، أم كانوا مقلدين؟ وهل كان من هؤلاء أحد ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين. أما البخاري، وأبو داود؛ فإمامان في الفقه من أهل الاجتهاد. وأما مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وابن خزيمة، وأبو يعلى، والبزار، ونحوهم؛ فهم على مذهب أهل الحديث، ليسوا مقلدين لواحد بعينه من العلماء، ولا هم من الأئمة المجتهدين على الإطلاق، بل هم يميلون إلى قول أئمة الحديث؛ كالشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأمثالهم، ومنهم من له اختصاص ببعض الأئمة؛ كاختصاص أبي داود ونحوه بأحمد بن حنبل، وهم إلى مذاهب أهل الحجاز - كمالك وأمثاله - أميل منهم إلى مذاهب أهل العراق - كأبي حنيفة والثوري -. وأما أبو داود الطيالسي؛ فأقدم من هؤلاء كلهم، من طبقة يحيى بن سعيد القطان، ويزيد بن هارون الواسطي، وعبد الله بن داود؛ ووكيع بن الجراح، وعبد الله بن إدريس، ومعاذ بن معاذ، وحفص بن غياث، وعبد الرحمن بن مهدي، وأمثال هؤلاء من طبقة شيوخ الإمام أحمد. وهؤلاء كلهم يعظمون السنة والحديث، ومنهم من يميل إلى مذهب العراقيين؛ كأبي حنيفة والثوري ونحوهما؛ كوكيع، ويحيى بن سعيد، ومنهم
308 من يميل إلى مذهب المدنيين: مالك ونحوه كعبد الرحمن بن مهدي. وأما البيهقي؛ فكان على مذهب الشافعي منتصرا له في عامة أقواله. والدارقطني هو أيضا يميل إلى مذهب الشافعي وأئمة السنة والحديث، لكن ليس هو في تقليد الشافعي كالبيهقي، مع أن البيهقي له اجتهاد في كثير من المسائل، واجتهاد الدارقطني أقوى منه؛ فإنه كان أعلم وأفقه منه) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (20 / 39 - 41). 309 تشكيل المصاحف وتنقيطها (إن الصحابة لما كتبوا المصاحف كتبوها غير مشكولة ولا منقوطة؛ لأنهم إنما كانوا يعتمدون في القرآن على حفظه في صدورهم لا على المصاحف، وهو منقول بالتواتر محفوظ في الصدور، ولو عدمت المصاحف لم يكن للمسلمين بها حاجة، فإن المسلمين ليسوا كأهل الكتاب الذين يعتمدون على الكتب التي تقبل التغير، والله أنزل القرآن على محمد فتلقاه تلقيا وحفظه في قلبه، لم ينزله مكتوبا كالتوراة، وأنزله منجما مفرقا ليحفظ فلا يحتاج إلى كتاب... فكان النبي (ص) إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي (ص) كما أقرأه؛ فلهذا لم تكن الصحابة ينقطون المصاحف ويشكلونها، وأيضا كانوا عربا لا يلحنون؛ فلم يحتاجوا إلى تقييدها بالنقط، وكان في اللفظ الواحد قراءتان يقرأ بالياء والتاء مثل: يعلمون وتعلمون؛ فلم يقيدوه بأحدهما ليمنعوه من الأخرى. ثم إنه في زمن التابعين لما حدث اللحن صار بعض التابعين يشكل المصاحف وينقطها، وكانوا يعملون ذلك بالحمرة، ويعملون الفتح بنقطة حمراء فوق الحرف، والكسرة بنقطة حمراء تحته، والضمة بنقطة حمراء أمامه، ثم مدوا النقطة وصاروا يعملون الشدة بقولك: «شد»، ويعملون المدة بقولك «مد»، وجعلوا علامة الهمزة تشبه العين؛ لأن الهمزة أخت العين، ثم خففوا ذلك حتى صارت علامة الشدة مثل رأس السين، وعلامة المدة مختصرة كما يختصر أهل الديوان ألفاظ العدد وغير ذلك، وكما يختصر المحدثون أخبرنا وحدثنا، فيكتبون أول اللفظ وآخره على شكل «أنا» وعلى شكل «ثنا») (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (12 / 100 - 102). 310 لا يقبل ما على وجه الأرض إلا الحجر الأسود (ولما حج النبي (ص) استلم الركنين اليمانيين ولم يستلم الشاميين؛ لأنهما لم يبنيا على قواعد إبراهيم، فإن أكثر الحجر من البيت، والحجر الأسود استلمه وقبله، واليماني استمله ولم يقبله، وصلى بمقام إبراهيم ولم يستلمه ولم يقبله؛ فدل ذلك على أن التمسح بحيطان الكعبة غير الركنين اليمانيين وتقبيل شيء منها غير الحجر الأسود ليس بسنة، ودل على أن استلام مقام إبراهيم وتقبيله ليس بسنة، وإذا كان هذا نفس الكعبة ونفس مقام إبراهيم بها؛ فمعلوم أن جميع المساجد حرمتها دون الكعبة، وأن مقام إبراهيم بالشام وغيرها وسائر مقامات الأنبياء دون المقام الذي قال الله فيه: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} (1). فعلم أن سائر المقامات لا تقصد للصلاة فيها، كما لا يحج إلى سائر المشاهد ولا يتمسح بها، ولا يقبل شيء من مقامات الأنبياء ولا المساجد ولا الصخرة ولا غيرها، ولا يقبل ما على وجه الأرض؛ إلا الحجر الأسود) (2) * * *
(1) البقرة: 125. (2) «مجموع الفتاوى» (17 / 476). 311 قاعدة عظيمة في الجمع بين العبادات المتنوعة (إن جميع صفات العبادات من الأقوال والأفعال إذا كانت مأثورة أثرا يصح التمسك به لم يكره شيء من ذلك، بل يشرع ذلك كله كما قلنا في أنواع صلاة الخوف، وفي نوعي الأذان الترجيع وتركه، ونوعي الإقامة شفعها وإفرادها، وكما قلنا في أنواع التشهدات، وأنواع الاستفتاحات، وأنواع الاستعاذات، وأنواع القراءات، وأنواع تكبيرات العيد الزوائد، وأنواع صلاة الجنازة وسجود السهو، والقنوت قبل الركوع وبعده، والتحميد بإثبات الواو وحذفها، وغير ذلك، لكن قد يستحب بعض هذه المأثورات ويفضل على بعض إذا قام دليل يوجب التفضيل ولا يكره الآخر. ومعلوم أنه لا يمكن المكلف أن يجمع في العبادة المتنوعة بين النوعين في الوقت الواحد، لا يمكنه أن يأتي بتشهدين معا ولا بقراءتين معا ولا بصلاتي خوف معا، وإن فعل ذلك مرتين كان ذلك منهيا عنه؛ فالجمع بين هذه الأنواع محرم تارة ومكروه أخرى، ولا تنظر إلى من قد يستحب الجمع في بعض ذلك، مثل ما رأيت بعضهم قد لفق ألفاظ الصلوات على النبي المأثورة عن النبي (ص) واستحب فعل ذلك الدعاء الملفق، وقال في حديث أبي بكر الصديق المتفق عليه لما قال للنبي (ص): علمني دعاء أدعو به في صلاتي. فقال: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كبيرا»، وفي رواية: «كثيرا، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت؛ فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» (1). فقال: يستحب أن يقول: كثيرا، كبيرا، وكذلك يقول في أشباه هذا: فإن هذا ضعيف، فإن هذا أولا ليس سنة، بل خلاف المسنون؛ فإن النبي
(1) رواه البخاري في (الأذان، باب الدعاء قبل السلام، 834)، ومسلم في (الذكر والدعاء، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، 2705)؛ من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه. 312 (ص) لم يقل ذلك جميعه جميعا، وإنما كان يقول هذا تارة وهذا تارة، إن كان الأمران ثابتين عنه؛ فالجمع بينهما ليس سنة، بل بدعة وإن كان جائزا) (1) وقال أيضا: (من المتأخرين من سلك في بعض هذه الأدعية والأذكار التي كان النبي (ص) يقولها ويعلمها بألفاظ متنوعة - ورويت بألفاظ متنوعة - طريقة محدثة بأن جمع بين تلك الألفاظ واستحب ذلك، ورأى ذلك أفضل ما يقال فيها. مثاله الحديث الذي في «الصحيحين» عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله! علمني دعاء ادعو به في صلاتي. قال: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت؛ فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني؛ إنك أنت الغفور الرحيم» (2)، قد روي «كثيرا» وروي «كبيرا»؛ فيقول هذا القائل: يستحب أن يقول: كثيرا، كبيرا. وكذلك إذا روي: «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد» وروي: «اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته» وأمثال ذلك، وهذه طريقة محدثة لم يسبق إليها أحد من الأئمة المعروفين. وطرد هذه الطريقة أن يذكر التشهد بجميع هذه الألفاظ المأثورة وأن يقال: الاستفتاح بجميع الألفاظ المأثورة، وهذا مع أنه خلاف عمل المسلمين لم يستحبه أحد من أئمتهم، بل عملوا بخلافه؛ فهو بدعة في الشرع، فاسد في العقل) (3).
(1) «مجموع الفتاوى» (26 / 242 - 243). (2) تقدم قريبا. (3) «مجمع الفتاوى» (22 / 458). 313 طريقة الإسلام في حساب السنة والشهر والأسبوع واليوم أقوم طريقة (... وأما الحول؛ فلم يكن له حد ظاهر في السماء، فكان لا بد فيه من الحساب والعدد، فكان عدد الشهور الهلالية أظهر وأعم من أن يحسب بسير الشمس وتكون السنة مطابقة للشهور؛ ولأن السنين إذا اجتمعت فلا بد من عددها في عادة جميع الأمم؛ إذ ليس للسنين إذا تعددت حد سماوي يعرف به عددها، فكان عدد الشهور موافقا لعدد البروج، جعلت السنة اثني عشر شهرا بعدد البروج التي تكمل بدور الشمس فيها سنة شمسية، فإذا دار القمر فيها كمل دورته السنوية، وبهذا كله يتبين معنى قوله: {وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} (1)؛ فإن عدد شهور السنة وعدد السنة بعد السنة إنما أصله بتقدير القمر منازل، وكذلك معرفة الحساب؛ فإن حساب بعض الشهور لما يقع فيه من الآجال ونحوها إنما يكون بالهلال، وكذلك قوله تعالى: {قل هي مواقيت للناس والحج} (2). فظهر بما ذكرناه أنه بالهلال يكون توقيت الشهر والسنة، وأنه ليس شيء يقوم مقام الهلال البتة لظهوره وظهور العدد المبني عليه وتيسر ذلك وعمومه، وغير ذلك من المصالح الخالية عن المفاسد. ومن عرف ما دخل على أهل الكتابين والصابئين والمجوس وغيرهم في أعيادهم وعباداتهم وتواريخهم وغير ذلك من أمورهم من الاضطراب والحرج وغير ذلك من المفاسد ازداد شكره على نعمة الإسلام، مع اتفاقهم أن الأنبياء لم يشرعوا شيئا من ذلك، وإنما دخل عليهم ذلك من جهة المتفلسفة الصابئة
(1) يونس: 5. (2) البقرة: 189. 314 الذين أدخلوا في ملتهم وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله. فلهذا ذكرنا ما ذكرناه؛ حفظا لهذا الدين عن إدخال المفسدين، فإن هذا مما يخاف تغييره، فإنه قد كانت العرب في جاهليتها قد غيرت ملة إبراهيم بالنسيء الذي ابتدعته، فزادت به في السنة شهرا جعلتها كبيسا لأغراض لهم، وغيروا به ميقات الحج والأشهر الحرم حتى كانوا يحجون تارة في المحرم وتارة في صفر، حتى يعود الحج إلى ذي الحجة؛ حتى بعث الله المقيم لملة إبراهيم، فوافى حجه (ص) حجة الوداع، وقد استدار الزمان كما كان، ووقعت حجته في ذي الحجة، فقال في خطبته المشهورة في «الصحيحين» وغيرهما: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض: السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم: ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب مضر بين جمادى وشعبان» (1)، وكان قبل ذلك الحج لا يقع في ذي الحجة، حتى حجة أبي بكر سنة تسع كان في ذي القعدة، وهذا من أسباب تأخير النبي (ص) الحج، وأنزل الله تعالى: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم} (2). فأخبر الله أن هذا هو الدين القيم؛ ليبين أن ما سواه من أمر النسيء وغيره من عادات الأمم ليس قيما لما يدخله من الانحراف والاضطراب. ونظير الشهر والسنة اليوم والأسبوع؛ فإن اليوم طبيعي من طلوع الشمس إلى غروبها، وأما الأسبوع؛ فهو عددي من أجل الأيام الستة التي خلق
315 الله فيها السماوات والأرض ثم استوى على العرش، فوقع التعديل بين الشمس والقمر باليوم، والأسبوع بسير الشمس، والشهر والسنة بسير القمر، وبهما يتم الحساب، وبهذا قد يتوجه قوله: {لتعلموا} إلى {جعل}؛ فيكون جعل الشمس والقمر لهذا كله. فأما قوله تعالى: {وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا} (1)، وقوله: {الشمس والقمر بحسبان} (2)؛ فقد قيل: هو من الحساب، وقيل: بحسبان كحسبان الرحا، وهو دوران الفلك، فإن هذا مما لا خلاف فيه، بل قد دل الكتاب والسنة وأجمع علماء الأمة على مثل ما عليه أهل المعرفة من أهل الحساب من أن الأفلاك مستديرة لا مسطحة) (3) * * *
316 الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على استدارة وكروية الأفلاك (ثبت بالكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة أن الأفلاك مستديرة، قال الله تعالى: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر} (1)، وقال: {وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون} (2)، وقال تعالى: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون} (3). قال ابن عباس: في فلكة مثل فلكة المغزل. وهكذا هو في «لسان العرب»: الفلك الشيء المستدير، ومنه يقال: تفلك ثدي الجارية إذا استدار، قال تعالى: {يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل} (4)، والتكوير: هو التدوير، ومنه قيل: كار العمامة، وكورها إذا أدارها، ومنه قيل للكرة كرة، وهي الجسم المستدير، ولهذا يقال للأفلاك: كروية الشكل؛ لأن أصل الكرة كورة، تحركت الواو وانفتح ما قلبها فقلبت ألفا، وكورت الكارة إذا دورتها، ومنه الحديث: «إن الشمس والقمر يكوران يوم القيامة كأنهما ثوران في نار جهنم» (5)، وقال تعالى: {الشمس والقمر بحسبان} (6) مثل
317 حسبان الرحا، وقال: {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} (1)، وهذا إنما يكون فيما يستدير من أشكال الأجسام دون المضلعات من المثلث أو المربع أو غيرهما؛ فإنه يتفاوت لأن زواياه مخالفة لقوائمه، والجسم المستدير متشابه الجوانب والنواحي، ليس بعضه مخالفا لبعض. وقال النبي (ص) للأعرابي الذي قال: إنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك. فقال: «ويحك! إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، إن شأنه أعظم من ذلك، إن عرشه على سماواته هكذا» وقال بيده مثل القبة: «وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد براكبه» (2). رواه أبو داود وغيره من حديث جبير بن مطعم عن النبي (ص)، وفي «الصحيحين» عن أبي هريرة عن النبي (ص) أنه قال: «إذا سألتم الله الجنة؛ فاسألوه الفردوس؛ فإنها أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وسقفها عرش الرحمن» (3)؛ فقد أخبر أن الفردوس هي الأعلى والأوسط، وهذا لا يكون إلا في الصورة المستديرة، فأما المربع ونحوه؛ فليس أوسطه أعلاه، بل هو متساو. وأما إجماع العلماء؛ فقال إياس بن معاوية - الإمام المشهور قاضي البصرة من التابعين -: السماء على الأرض مثل القبة. وقال الإمام أبو الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي من أعيان العلماء المشهورين بمعرفة الآثار والتصانيف الكبار في فنون العلوم الدينية من الطبقة الثانية من أصحاب أحمد: لا خلاف بين العلماء أن السماء على مثال الكرة،
318 وأنها تدور بجميع ما فيها من الكواكب كدورة الكرة على قطبين ثابتين غير متحركين: أحدهما في ناحية الشمال، والآخر في ناحية الجنوب. قال: ويدل على ذلك أن الكواكب جميعها تدور من المشرق تقع قليلا على ترتيب واحد في حركاتها ومقادير أجزائها إلى أن تتوسط السماء، ثم تنحدر على ذلك الترتيب كأنها ثابتة في كرة تديرها جميعها دورا واحدا. قال: وكذلك أجمعوا على أن الأرض بجميع حركاتها من البر والبحر مثل الكرة. قال: ويدل عليه أن الشمس والقمر والكواكب لا يوجد طلوعها وغروبها على جميع من في نواحي الأرض في وقت واحد، بل على المشرق قبل المغرب. قال: فكرة الأرض مثبتة في وسط كرة السماء كالنقطة في الدائرة، يدل على ذلك أن جرم كل كوكب يرى في جميع نواحي السماء على قدر واحد، فيدل ذلك على بعد ما بين السماء والأرض من جميع الجهات بقدر واحد، فاضطرار أن تكون الأرض وسط السماء. وقد يظن بعض الناس أن ما جاءت به الآثار النبوية من أن العرش سقف الجنة وأن الله على عرشه مع ما دلت عليه من أن الأفلاك مستديرة متناقض أو مقتض أن يكون الله تحت بعض خلقه، كما احتج بعض الجهمية على إنكار أن يكون الله فوق العرش باستدارة الأفلاك، وأن ذلك مستلزم كون الرب أسفل، وهذا من غلطهم في تصور الأمر، ومن علم أن الأفلاك مستديرة وأن المحيط الذي هو السقف هو أعلى عليين، وإن المركز الذي هو باطن ذلك وجوفه - وهو قعر الأرض - هو «سجين» «وأسفل سافلين»؛ علم من مقابلة الله بين أعلى عليين وبين سجين، مع أن المقابلة إنما تكون في الظاهر بين العلو والسفل أو بين السعة والضيق، وذلك لأن العلو مستلزم للسعة والضيق
319 مستلزم للسفول، وعلم أن السماء فوق الأرض مطلقا، لا يتصور أن تكون تحتها قط وإن كانت مستديرة محيطة، وكذلك كلما علا كان أرفع وأشمل. وعلم أن الجهة قسمان: قسم ذاتي: وهو العلو والسفول فقط، وقسم إضافي: وهو ما ينسب إلى الحيوان بحسب حركته؛ فما أمامه يقال له أمام، وما خلفه يقال له خلف، وما عن يمينه يقال له اليمين، وما عن يسرته يقال له اليسار، وما فوق رأسه يقال له فوق، وما تحت قدميه يقال له تحت، وذلك أمر إضافي، أرأيت لو أن رجلا علق رجليه إلى السماء ورأسه إلى الأرض؛ أليست السماء فوقه وإن قابلها برجليه؟! وكذلك النملة أو غيرها لو مشى تحت السقف مقابلا له برجليه وظهره إلى الأرض؛ لكان العلو محاذيا لرجليه وإن كان فوقه، وأسفل سافلين ينتهي إلى جوف الأرض. والكواكب التي في السماء وإن كان بعضها محاذيا لرؤسنا وبعضها في النصف الآخر من الفلك؛ فليس شيء منها تحت شيء، بل كلها فوقنا في السماء، ولما كان الإنسان إذا تصور هذا يسبق إلى وهمه السفل الإضافي، كما احتج به الجهمي الذي أنكر علو الله على عرشه، وخيل على من لا يدري أن من قال: إن الله فوق العرش؛ فقد جعله تحت نصف المخلوقات، أو جعله فلكا آخر، تعالى الله عما يقول الجاهل. إذا تبين أنا نعرف ما قد عرف من استدارة الأفلاك؛ علم أن المنكر له مخالف لجميع الأدلة، لكن المتوقف في ذلك قبل البيان فعل الواجب، وكذلك من لم يزل يستفيد ذلك من جهة لا يثق بها؛ فإن النبي (ص) قال: «إذا حدثكم أهل الكتاب؛ فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم» (1)، وإن كون بعض الحركات
(1) [صحيح]. رواه أبو داود في (العلم، باب رواية حديث أهل الكتاب، 3644)، وأحمد في «المسند» (4 / 136) من حديث أبي نملة الأنصاري رضي الله عنه. وانظر: «السلسلة الصحيحة» (2800). 320 العالية سبب لبعض الحوادث مما لا ينكر، بل إما أن يقبل أو لا يرد) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (25 / 193 - 198). 321 أقسام الدعاوى وأن اليمين تارة تكون على المدعي وتارة تكون على المدعى عليه (الدعاوى التي يحكم فيها ولاة الأمور سواء سموا قضاة أو ولاة، أو تسمى بعضهم في بعض الأوقات ولاة الأحداث أو ولاة المظالم، أو غير ذلك من الأسماء العرفية الاصطلاحية؛ فإن حكم الله تبارك وتعالى شامل لجميع الخلائق، وعلى كل من ولي أمر الأمة أو حكم بين اثنين أن يحكم بالعدل والقسط، وأن يحكم بكتاب الله وسنة رسوله (ص)، وهذا هو الشرع المنزل من عند الله، قال الله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس} (1)، وقال تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} (2)، وقال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} (3)، وقال تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق} (4). فالدعاوى «قسمان»: دعوى تهمة، وغير تهمة: فدعوى التهمة: أن يدعى فعلا يحرم على المطلوب يوجب عقوبته؛ مثل قتل، أو قطع طريق، أو سرقة، أو غير ذلك من أنواع العدوان المحرم كالذي يستخفى به بما يتعذر إقامة البينة عليه في غالب الأوقات في العادة. وغير التهمة: أن يدعي دعوى عقد من بيع أو قرض أو رهن أو ضمان
(1) الحديد: 25. (2) النساء: 58. (3) النساء: 105. (4) المائدة: 49. 322 أو دعوى لا يكون فيها سبب فعل محرم؛ مثل دين ثابت في الذمة من ثمن بيع، أو قرض، أو صداق، أو دية خطأ، أو غير ذلك. فكل من القسمين قد يكون دعوى حد لله عز وجل محض؛ كالشرب والزنى، وقد يكون حقا محضا لآدمي؛ كالأموال، وقد يكون فيه الأمران؛ كالسرقة، وقطع الطريق. فهذان «القسمان» إذا أقام المدعي فيه حجة شرعية، وإلا؛ فالقول قول المدعى عليه مع يمينه لما روى مسلم في «صحيحه» عن ابن عباس؛ قال: قال رسول الله (ص): «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه»، وفي رواية في «الصحيحين» عن ابن عباس: أن النبي (ص) قضى باليمين على المدعى عليه. فهذا الحديث نص أن أحدا لا يعطى بمجرد دعواه، ونص في أن الدعوى المتضمنة للإعطاء تجب فيها اليمين ابتداء على المدعى عليه، وليس فيه أن الدعاوى الموجبة للعقوبات لا توجب إلا اليمين على المدعى عليه؛ بل ثبت عنه (ص) أنه قال للأنصار لما اشتكوا إليه لأجل قتيلهم الذي قتل بخيبر، وهو عبد الله ابن سهل، فجاء إلى النبي (ص) أخوه عبد الله وأبناء عمه حويصة ومحيصة وكان محيصة معه بخيبر، وقال: «أتحلفون خمسين يمينا وتستحقون قاتلكم؟». قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟! قال: «فتبريكم يهود بخمسين يمينا؟». قالوا: وكيف نأخذ بأيمان قوم كفار (1)؟ أخرجه أصحاب الصحاح والسنن جميعهم؛ مثل البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي. وفي رواية في «الصحيحين» قال: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته».
(1) انظر: «صحيح البخاري» (كتاب الأدب، باب إكرام الكبير ويبدأ الأكبر بالكلام والسؤال، 6142)، ومسلم (كتاب القسامة والمحاربين، باب القسامة، رقم 1669). 323 وقد ثبت في «صحيح مسلم» عن ابن عباس: أن النبي (ص) قضى بشاهد ويمين (1). رواه الترمذي وابن ماجة من حديث جابر، ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث أبي هريرة، وروي ذلك عن النبي (ص) من وجوه كثيرة، وهذه الأحاديث أصح وأشهر ما روي عن النبي (ص) في هذا الباب، وابن عباس الذي يروي عن النبي (ص): أنه قضى باليمين مع الشاهد، وأن هذا قضى به في دعاوى وقضى بهذا في دعاوى. وأما الحديث المشهور في ألسنة الفقهاء «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر» (2)؛ فهذا قد روي أيضا؛ لكن ليس إسناده في الصحة والشهرة مثل غيره، ولا رواه عامة أهل السنن المشهورة، ولا قال بعمومه أحد من علماء الملة؛ إلا طائفة من فقهاء الكوفة مثل أبي حنيفة وغيره؛ فإنهم يرون اليمين دائما في جانب المنكر، حتى في القسامة يحلفون المدعى عليه ولا يقضون بالشاهد واليمين، ولا يرون اليمين على المدعي عند النكول، واستدلوا بعموم هذا الحديث. وأما سائر علماء الملة من أهل المدينة ومكة والشام وفقهاء الحديث وغيرهم؛ مثل ابن جريج، ومالك، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد ابن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم؛ فتارة يحلفون المدعي، وتارة يحلفون المدعى عليه، كما جاءت بذلك سنن رسول الله (ص). والأصل عند جمهورهم أن اليمين مشروعة في أقوى الجانبين، والبينة عندهم اسم لما يبين الحق، وبينهم نزاع في تفاريع ذلك؛ فتارة يكون لوثا مع أيمان القسامة، وتارة يكون شاهدا ويمينا، وتارة يكون دلائل غير الشهود
(1) انظر: «صحيح مسلم» (كتاب الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد، 1712). (2) [حسن]. رواه البيهقي في «السنن» (10 / 252). وحسن إسناده الحافظ في «الفتح» (5 / 283). وفي «صحيح البخاري» و «مسلم» بلفظ: «اليمين على من ادعى عليه». 324 كالصفة للقطة. وأجابوا عن ذلك الحديث تارة بالتضعيف، وتارة بأنه عام وأحاديثهم خاصة، وتارة بأن أحاديثهم أصح وأكثر وأشهر؛ فالعمل بها عند التعارض أولى. وقد ثبت عن النبي (ص) أنه طلب البينة من المدعي واليمين من المنكر في حكومات معينة ليست من جنس دعاوى التهم) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (35 / 389 - 392). 325 رسالة شيخ الإسلام إلى والدته يعتذر فيها عن بعده عنها لأمور دينية (بسم الله الرحمن الرحيم من أحمد ابن تيمية إلى الوالدة السعيدة: أقر الله عينيها بنعمه، وأسبغ عليها جزيل كرمه، وجعلها من خيار إمائه وخدمه. سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته. فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين وإمام المتقين محمد، عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما. كتابي إليكم عن نعم من الله عظيمة ومنن كريمة وآلاء جسيمة نشكر الله عليها، ونسأله المزيد من فضله، ونعم الله كلما جاءت في نمو وازدياد، وأياديه جلت عن التعداد. وتعلمون أن مقامنا الساعة في هذه البلاد إنما هو لأمور ضرورية، متى أهملناها فسد علينا أمر الدين والدنيا، ولسنا - والله - مختارين للبعد عنكم، ولو حملتنا الطيور لسرنا إليكم، ولكن الغائب عذره معه، وأنتم لو اطلعتم على باطن الأمور؛ فإنكم - ولله الحمد - ما تختارون الساعة إلا ذلك، ولم نعزم على المقام والاستيطان شهرا واحدا، بل كل يوم نستخير الله لنا ولكم، وادعوا لنا بالخيرة؛ فنسأل الله العظيم أن يخير لنا ولكم وللمسلمين ما فيه الخيرة في خير وعافية. ومع هذا؛ فقد فتح الله من أبواب الخير والرحمة والهداية والبركة ما لم يكن يخطر بالبال ولا يدور في الخيال، ونحن في كل وقت مهمومون بالسفر، مستخيرون الله سبحانه وتعالى؛ فلا يظن الظان أنا نؤثر على قربكم شيئا من
326 أمور الدنيا قط، بل ولا نؤثر من أمور الدين ما يكون قربكم أرجح منه، ولكن ثم أمور كبار، نخاف الضرر الخاص والعام من إهمالها، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب. والمطلوب كثرة الدعاء بالخيرة؛ فإن الله يعلم ولا نعلم، ويقدر ولا نقدر، وهو علام الغيوب، وقد قال النبي (ص): «من سعادة ابن آدم: استخارته الله، ورضاه بما يقسم الله له، ومن شقاوة ابن آدم: ترك استخارته الله، وسخطه بما يقسم الله له» (1)، والتاجر يكون مسافرا فيخاف ضياع بعض ماله، فيحتاج أن يقيم حتى يستوفيه، وما نحن فيه أمر يجل عن الوصف، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته كثيرا كثيرا، وعلى سائر من في البيت من الكبار والصغار، وسائر الجيران والأهل والأصحاب واحدا واحدا، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما) (2) * * *
(1) [ضعيف]. رواه أحمد في «المسند» (1 / 168)، والترمذي في (القدر عن رسول الله، باب ما جاء في الرضا بالقضاء، 2151)، والحاكم في «المستدرك» (1 / 699)؛ كلهم من طريق محمد بن أبي حميد. وهو ضعيف. انظر: «السلسة الضعيفة» (1906). ورواه أبو يعلى في «مسنده» (2 / 60) من طريق عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبيد الله. وهو ضعيف أيضا. (2) «مجموع الفتاوى» (28 / 48 - 50). 327 مشروعية التعزير بالعقوبات المالية (التعزير بالعقوبات المالية مشروع في مواضع مخصوصة في مذهب مالك في المشهور عنه، ومذهب أحمد في مواضع بلا نزاع عنه، وفي مواضع فيها نزاع عنه، والشافعي في قول؛ وإن تنازعوا في تفصيل ذلك، كما دلت عليه سنة رسول الله (ص) في مثل إباحته سلب الذي يصطاد في حرم المدينة لمن وجده، ومثل أمره بكسر دنان الخمر وشق ظروفه، ومثل أمره عبد الله بن عمرو بحرق الثوبين المعصفرين؛ وقال له: أغسلهما؟ قال: «لا، بل أحرقهما» (1)، وأمره لهم يوم خيبر بكسر الأوعية التي فيها لحوم الحمر، ثم لما استأذنوه في الإراقة أذن؛ فإنه لما رأى القدور تفور بلحم الحمر أمر بكسرها وإراقة ما فيها؛ فقالوا: أفلا نريقها ونغسلها؟ فقال: «افعلوا» (2)؛ فدل ذلك على جواز الأمرين لأن العقوبة بذلك لم تكن واجبة. ومثل هدمه لمسجد الضرار ومثل تحريق موسى للعجل المتخذ إلها، ومثل تضعيفه (ص) الغرم على من سرق من غير حرز، ومثل ما روى من إحراق متاع الغال، ومن حرمان القاتل سلبه لما اعتدى على الأمير. ومثل أمر عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب بتحريق المكان الذي يباع فيه الخمر، ومثل أخذ شطر مال مانع الزكاة، ومثل تحريق عثمان بن عفان المصاحف المخالفة للإمام، وتحريق عمر بن الخطاب لكتب الأوائل، وأمره بتحريق قصر سعد بن أبي وقاص الذي بناه لما أراد أن يحتجب عن
328 الناس؛ فأرسل محمد بن مسلمة وأمره أن يحرقه عليه؛ فذهب فحرقه عليه. وهذه القضايا كلها صحيحة معروفة عند أهل العلم بذلك، ونظائرها متعددة. ومن قال: إن العقوبات المالية منسوخة، وأطلق ذلك عن أصحاب مالك وأحمد؛ فقد غلط على مذهبهما، ومن قاله مطلقا من أي مذهب كان؛ فقد قال قولا بلا دليل، ولم يجئ عن النبي (ص) قط ما يقتضي أنه حرم جميع العقوبات المالية؛ بل أخذ الخلفاء الراشدين وأكابر أصحابه بذلك بعد موته دليل على أن ذلك محكم غير منسوخ. وعامة هذه الصور منصوصة عن أحمد ومالك وأصحابه، وبعضها قول عند الشافعي باعتبار ما بلغه من الحديث. ومذهب مالك وأحمد وغيرهما أن العقوبات المالية كالبدنية تنقسم إلى ما يوافق الشرع وإلى ما يخالفه، وليست العقوبة المالية منسوخة عندهما، والمدعون للنسخ ليس معهم حجة بالنسخ؛ لا من كتاب ولا سنة) (1) * * *
329 كل بشر على وجه الأرض لا بد له من أمر ونهي (كل بشر على وجه الأرض؛ فلا بد له من أمر ونهي، ولا بد أن يأمر وينهى، حتى لو أنه وحده لكان يأمر نفسه وينهاها؛ إما بمعروف، وإما بمنكر؛ كما قال تعالى: {إن النفس لأمارة بالسوء} (1)؛ فإن الأمر هو طلب الفعل وإرادته، والنهي طلب الترك وإرادته، ولا بد لكل حي من إرادة وطلب في نفسه يقتضي بهما فعل نفسه ويقتضي بهما فعل غيره إذا أمكن ذلك؛ فإن الإنسان حي يتحرك بإرادته، وبنوا آدم لا يعيشون إلا باجتماع بعضهم مع بعض، وإذا اجتمع اثنان فصاعدا؛ فلا بد أن يكون بينهما ائتمار بأمر وتناه عن أمر، ولهذا كان أقل الجماعة في الصلاة اثنين، كما قيل: الاثنان فما فوقهما جماعة) (2) * * *
330 ينبغي للمرأة أن تقول: إني أمتك بنت عبدك أو بنت أمتك مكان: إني عبدك ابن عبدك سئل: (عن امرأة سمعت في الحديث: «اللهم إني عبدك، وابن عبدك، ناصيتي بيدك...» (1) إلى آخره، فداومت على هذا اللفظ، فقيل لها: قولي: اللهم إني أمتك، بنت أمتك... إلى آخره؛ فأبت إلا المداومة على اللفظ؛ فهل هي مصيبة أم لا؟ فأجاب: بل ينبغي لها أن تقول: اللهم إني أمتك، بنت عبدك، ابن أمتك؛ فهو أولى وأحسن، وإن كان قولها: عبدك ابن عبدك له مخرج في العربية كلفظ الزوج، والله أعلم) (2) * * *
331 من توهم أن الفرض أن يقصد المصلي الصلاة في مكان لو سار على خط مستقيم وصل إلى عين الكعبة فقد أخطأ (من توهم أن الفرض أن يقصد المصلي الصلاة في مكان لو سار على خط مستقيم وصل إلى عين الكعبة؛ فقد أخطأ، ومن فسر وجوب الصلاة إلى العين بهذا وأوجب هذا؛ فقد أخطأ، وإن كان هذا قد قاله قائل من المجتهدين؛ فهذا القول خطأ خالف نص الكتاب والسنة وإجماع السلف؛ بل وإجماع الأمة؛ فإن الأمة متفقة على صحة صلاة الصف المستطيل الذي يزيد طوله على سمت الكعبة بأضعاف مضاعفة وإن كان الصف مستقيما لا انحناء فيه ولا تقوس. فإن قيل: مع البعد لا يحتاج إلى الانحناء والتقوس كما يحتاج إليه في القرب، كما أن الناس إذا استقبلوا الهلال أو الشمس أو جبلا من الجبال؛ فإنهم يستقبلونه مع كثرتهم وتفرقهم، ولو كان قريبا لم يستقبلوه إلا مع القلة والاجتماع. قيل: لا ريب أنه ليس الانحناء والتقوس في البعد بقدر الانحناء والتقوس في القرب؛ بل كلما زاد البعد قل الانحناء، وكلما قرب كثر الانحناء، حتى يكون أعظم الناس انحناء وتقوسا الصف الذي يلي الكعبة، ولكن مع هذا؛ فلا بد من التقوس والانحناء في البعد إذا كان المقصود أن يكون بينه وبينها خط مستقيم بحيث لو مشى إليه لوصل إليها، لكن يكون التقوس شيئا يسيرا جدا، كما قيل: إنه إذا قدر الصف ميلا وهو مثلا في الشام كان الانحناء من كل واحد بقدر شعيرة؛ فإن هذا ذكره بعض من نص وجوب استقبال العين، وقال: إن مثل هذا التقوس اليسير يعفى عنه.
332 فيقال له: فهذا معنى قولنا: إن الواجب استقبال الجهة، وهو العفو عن وجوب تحري مثل هذا التقوس والانحناء، فصار النزاع لفظيا لا حقيقة له؛ فالمقصود أن من صلى إلى جهتها فهو مصل إلى عينها وإن كان ليس عليه أن يتحرى مثل هذا، ولا يقال لمن صلى كذلك أنه مخطىء في الباطن معفو عنه؛ بل هذا مستقبل القبلة باطنا وظاهرا، وهذا هو الذي أمر به، ولهذا لما بنى أصحاب رسول الله (ص) مساجد الأمصار كان في بعضها ما لو خرج منه خط مستقيم إلى الكعبة لكان منحرفا وكانت صلاة المسلمين فيه جائزة باتفاق المسلمين. وبهذا يظهر حقيقة قول من قال: إن من قرب منها أو من مسجد النبي (ص) لا تكون إلا على خط مستقيم؛ لأنه لا يقر على خطأ. فيقال: هؤلاء اعتقدوا أن مثل هذه القبلة تكون خطأ، وإنما تكون خطأ لو كان الفرض أن يتحرى استقبال خط مستقيم بين وسط أنفه وبينها، وليس الأمر كذلك، بل قد تقدم نصوص الكتاب والسنة بخلاف ذلك. ونظير هذا قول بعضهم إذا وقف الناس يوم العاشر خطأ أجزأهم؛ فالصواب أن ذلك هو يوم عرفة باطنا وظاهرا، ولا خطأ في ذلك؛ بل يوم عرفة هو اليوم الذي يعرف فيه الناس، والهلال إنما يكون هلالا إذا استهله الناس، وإذا طلع ولم يستهلوه؛ فليس بهلال، مع أن النزاع في الهلال مشهور هل هو اسم لما يطلع وإن لم يستهل به، أو لما يستهل به؟ وفيه قولان معروفان في مذهب أحمد وغيره، بخلاف النزاع في استقبال الكعبة. ويدل على ذلك أنه لو قيل بأن على الإنسان أن يتحرى أن يكون بين وسط أنفه وجبهته وبينها خط مستقيم؛ قيل: فلا بد من طريق يعلم بها ذلك؛ فإن الله لم يوجب شيئا إلا وقد نصب على العلم به دليلا، ومعلوم أن طريق العلم بذلك لا يعرفه إلا خاصة الناس مع اختلافهم فيه، ومع كثرة الخطأ في
333 ذلك ووجوب استقبال القبلة عام لجميع المسلمين؛ فلا يكون العلم الواجب خفيا لا يعلم إلا بطريق طويلة صعبة مخوفة مع تعذر العلم بذلك أو تعسره في أغلب الأحوال) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (22 / 209 - 212). 334 قاعدة فيما تشترك فيه اليمنى واليسرى من الأفعال وتختص به إحداهما (والأفعال نوعان: أحدهما: مشترك بين العضوين (1). والثاني: مختص بأحدهما. وقد استقرت قواعد الشريعة على أن الأفعال التي تشترك فيها اليمنى واليسرى تقدم فيها اليمنى إذا كانت من باب الكرامة؛ كالوضوء، والغسل، والابتداء بالشق الأيمن في السواك، ونتف الإبط، وكاللباس، والانتعال، والترجل، ودخول المسجد والمنزل، والخروج من الخلاء، ونحو ذلك. وتقدم اليسرى في ضد ذلك؛ كدخول الخلاء، وخلع النعل، والخروج من المسجد. والذي يختص بأحدهما إن كان من باب الكرامة كان باليمين؛ كالأكل، والشرب، والمصافحة، ومناولة الكتب وتناولها، ونحو ذلك، وإن كان ضد ذلك كان باليسرى؛ كالاستجمار، ومس الذكر، والاستنثار، والامتخاط، ونحو ذلك) (2) * * *
(1) الأيمن والأيسر. (2) «مجموع الفتاوى» (21 / 108 - 109). 335 ليس في الدنيا حرم ثالث لا بيت المقدس ولا غيره (ليس في الدنيا حرم لا بيت المقدس ولا غيره إلا هذان الحرمان، ولا يسمى غيرهما حرما كما يسمي الجهال، فيقولون: حرم المقدس، وحرم الخليل؛ فإن هذين وغيرهما ليسا بحرم باتفاق المسلمين، والحرم المجمع عليه حرم مكة، وأما المدينة؛ فلها حرم أيضا عند الجمهور، كما استفاضت بذلك الأحاديث عن النبي (ص)، ولم يتنازع المسلمون في حرم ثالث إلا في «وج» وهو واد بالطائف، وهو عند بعضهم حرم، وعند الجمهور ليس بحرم) (1) وقال أيضا: (وليس ببيت المقدس مكان يسمى «حرما» ولا بتربة الخليل، ولا بغير ذلك من البقاع؛ إلا ثلاثة أماكن: أحدها: هو حرم باتفاق المسلمين، وهو حرم مكة شرفها الله تعالى. والثاني: حرم عند جمهور العلماء، وهو حرم النبي (ص) من عير إلى ثور، بريد في بريد؛ فإن هذا حرم عند جمهور العلماء؛ كمالك، والشافعي، وأحمد، وفيه أحاديث صحيحة مستفيضة عن النبي (ص). والثالث: «وج»، وهو واد بالطائف؛ فإن هذا روي فيه حديث رواه أحمد في «المسند» وليس في الصحاح، وهذا حرم عند الشافعي لاعتقاده صحة الحديث، وليس حرما عند أكثر العلماء، وأحمد ضعف الحديث المروى فيه فلم يأخذ به، وأما ما سوى هذه الأماكن الثلاثة؛ فليس حرما عند أحد من علماء المسلمين؛ فإن الحرم ما حرم الله صيده ونباته ولم يحرم الله صيد مكان ونباته خارجا عن هذه الأماكن الثلاثة) (2). * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (26 / 117 - 118). (2) «مجموع الفتاوى» (27 / 14 - 15). 336 الإقامة في موضع تكون الأسباب فيه أطوع لله وأفعل للحسنات أفضل من الإقامة في موضع يكون حاله فيه دون ذلك (الإقامة في كل موضع تكون الأسباب فيه أطوع لله ورسوله وأفعل للحسنات والخير، بحيث يكون أعلم بذلك وأقدر عليه وأنشط له أفضل من الإقامة في موضع يكون حاله فيه في طاعة الله ورسوله دون ذلك، هذا هو الأصل الجامع؛ فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم... وهكذا لو كان عاجزا عن الهجرة والانتقال إلى المكان الأفضل التي لو انتقل إليها لكانت الطاعة عليه أهون، وطاعة الله ورسوله في الموضعين واحدة، لكنها هناك أشق عليه؛ فإنه إذا استوت الطاعتان فأشقهما أفضلهما. وأما إذا كان دينه هناك أنقص؛ فالانتقال أفضل له، وهذا حال غالب الخلق؛ فإن أكثرهم لا يدافعون، بل يكونون على دين الجمهور) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (27 / 39 - 41). 337 الفساد في ترك إظهار المشروع أعظم من الفساد في إظهاره رياء (ومن كان له ورد مشروع من صلاة الضحى، أو قيام ليل، أو غير ذلك، فإنه يصليه حيث كان، ولا ينبغي له أن يدع ورده المشروع لأجل كونه بين الناس، إذا علم الله من قلبه أنه يفعله سرا لله مع اجتهاده في سلامته من الرياء، ومفسدات الإخلاص؛ ولهذا قال الفضيل بن عياض: ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك. وفعله في مكانه الذي تكون فيه معيشته التي يستعين بها على عبادة الله خير له من أن يفعله حيث تتعطل معيشته، ويشتغل قلبه بسبب ذلك فإن الصلاة كلما كانت أجمع للقلب وأبعد من الوسواس كانت أكمل. ومن نهى عن أمر مشروع بمجرد زعمه أن ذلك رياء، فنهيه مردود عليه من وجوه: (أحدها): أن الأعمال المشروعة لا ينهى عنها خوفا من الرياء، بل يؤمر بها وبالإخلاص فيها، ونحن إذا رأينا من يفعلها أقررناه، وإن جزمنا أنه يفعلها رياء، فالمنافقون الذين قال الله فيهم: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا} (1)، فهؤلاء كان النبي (ص) والمسلمون يقرونهم على ما يظهرونه من الدين، وإن كانوا مرائين، ولا ينهونهم عن الظاهر، لأن الفساد في ترك إظهار المشروع أعظم من الفساد في إظهاره رياء، كما أن
(1) النساء: 142. 338 فساد ترك إظهار الإيمان والصلوات أعظم من الفساد في إظهار ذلك رياء، ولأن الإنكار إنما يقع على الفساد في إظهار ذلك رئاء الناس. (الثاني): لأن الإنكار إنما يقع على ما أنكرته الشريعة، وقد قال رسول الله (ص): «إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أن أشق بطونهم» (1)، وقد قال عمر بن الخطاب: من أظهر لنا خيرا أحببناه، وواليناه عليه وإن كانت سريرته بخلاف ذلك، ومن أظهر لنا شرا أبغضناه عليه، وإن زعم أن سريرته صالحة. (الثالث): إن تسويغ مثل هذا يفضي إلى أن أهل الشرك والفساد ينكرون على أهل الخير والدين إذا رأوا من يظهر أمرا مشروعا مسنونا، قالوا: هذا مراء، فيترك أهل الصدق والإخلاص إظهار الأمور المشروعة، حذرا من لمزهم وذمهم، فيتعطل الخير، ويبقى لأهل الشرك شوكة يظهرون الشر، ولا أحد ينكر عليهم، وهذا من أعظم المفاسد. (الرابع): إن مثل هذا من شعائر المنافقين، وهو يطعن على من يظهر الأعمال المشروعة، قال الله تعالى: {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم} (2). فإن النبي (ص) لما حض على الإنفاق عام تبوك جاء بعض الصحابة بصرة كادت يده تعجز من حملها، فقالوا: هذا مراء،
(1) رواه البخاري في (المغازي، باب بعث علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد لليمن، رقم 4351)، ومسلم في (الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، رقم 1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (2) التوبة: 79. 339 وجاء بعضهم بصاع، فقالوا: لقد كان الله غنيا عن صاع فلان، فلمزوا هذا وهذا، فأنزل الله ذلك (1)، وصار عبرة فيمن يلمز المؤمنين المطيعين لله ورسوله، والله أعلم) (2) * * *
(1) رواه بنحوه البخاري في (تفسير القرآن، باب قوله: {الذين يلمزون المطوعين}، رقم 4668)، ومسلم في (الزكاة، باب الحمل بأجرة يتصدق بها، رقم 1018) من حديث أبي مسعود رضي الله عنه. (2) «مجموع الفتاوى» (20 / 174 - 176). 340 تحزيب السور وكراهة القراءة بأواخر السور وأوساطها (إذا كانت التجزئة بالحروف محدثة من عهد الحجاج بالعراق؛ فمعلوم أن الصحابة قبل ذلك على عهد النبي (ص) وبعده كان لهم تحزيب آخر؛ فإنهم كانوا يقدرون تارة بالآيات، فيقولون: خمسون آية، ستون آية. وتارة بالسور، لكن تسبيعه بالآيات لم يروه أحد ولا ذكره أحد؛ فتعين التحزيب بالسور. فإن قيل: فترتيب سور القرآن ليس هو أمرا واجبا منصوصا عليه، وإنما هو موكول إلى الناس، ولهذا اختلف ترتيب مصاحف الصحابة رضي الله عنهم، ولهذا في كراهة تنكيس السور روايتان عن الإمام أحمد: إحداهما: يكره لأنه خلاف المصحف العثماني المتفق عليه. والثانية: لا يكره كما يلقنه الصبيان؛ إذ قد ثبت عن النبي (ص) أنه قرأ بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران. قيل: لا ريب أن قراءة سورة بعد سورة لا بد أن يكون مرتبا، أكثر ما في الباب أن الترتيب يكون أنواعا، كما أنزل القرآن على أحرف، وعلى هذا؛ فهذا التحزيب يكون تابعا لهذا الترتيب، ويجوز أيضا أن يكون هذا التحزيب مع كل ترتيب، فإنه ليس في الحديث تعيين السور. وهذا الذي كان عليه الصحابة هو الأحسن؛ لوجوه: أحدها: أن هذه التحزيبات المحدثة تتضمن دائما الوقوف على بعض الكلام المتصل بما بعده، حتى يتضمن الوقف على المعطوف دون المعطوف عليه، فيحصل القارئ في اليوم الثاني مبتدئا بمعطوف؛ كقوله تعالى: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} (1)، وقوله: {ومن يقنت
(1) النساء: 24. 341 منكن لله ورسوله} (1)، وأمثال ذلك، ويتضمن الوقف على بعض القصة دون بعض - حتى كلام المتخاطبين - حتى يحصل الابتداء في اليوم الثاني بكلام المجيب؛ كقوله تعالى: {قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا} (2). ومثل هذه الوقوف لا يسوغ في المجلس الواحد إذا طال الفصل بينهما بأجنبي، ولهذا لو ألحق بالكلام عطف أو استثناء أو شرط ونحو ذلك بعد طول الفصل بأجنبي لم يسغ باتفاق العلماء، ولو تأخر القبول عن الإيجاب بمثل ذلك بين المتخاطبين لم يسغ ذلك بلا نزاع، ومن حكى عن أحمد خلاف ذلك فقد أخطأ، كما أخطأ من نقل عن ابن عباس في الأول خلاف ذلك، وذلك أن المنقول عن أحمد أنه فيما إذا كان المتعاقدان غائبين، أو أحدهما غائب والآخر حاضرا؛ فينقل الإيجاب أحدهما إلى الآخر، فيقبل في مجلس البلاغ، وهذا جائز، بخلاف ما إذا كانا حاضرين والذي في القرآن نقل كلام حاضرين متجاورين؛ فكيف يسوغ أن يفرق هذا التفريق لغير حاجة؟! بخلاف ما إذا فرق في التلقين لعدم حفظ المتلقن ونحو ذلك. الثاني: أن النبي (ص) كانت عادته الغالبة وعادة أصحابه أن يقرأ في الصلاة بسورة ك (ق) ونحوها، وكما كان عمر رضي الله عنه يقرأ ب «يونس» و «يوسف» و «النحل»، ولما قرأ (ص) بسورة «المؤمنين» في الفجر أدركته سعلة، فركع في أثنائها وقال: «إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي، فأخفف لما أعلم من وجد أمه به» (3).
(1) الأحزاب: 31. (2) الكهف: 75. (3) رواه البخاري في (الأذان، باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي، 710)، ومسلم في (الصلاة، باب أمر الأئمة تخفيف الصلاة في تمام، 470)؛ من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. 342 وأما «القراءة بأواخر السور وأوساطها»؛ فلم يكن غالبا عليهم، ولهذا يتورع في كراهة ذلك، وفيه النزاع المشهور في مذهب أحمد وغيره، ومن أعدل الأقوال قول من قال: يكره اعتياد ذلك دون فعله أحيانا؛ لئلا يخرج عما مضت به السنة وعادة السلف من الصحابة والتابعين. وإذا كان كذلك؛ فمعلوم أن هذا التحزيب والتجزئة فيه مخالفة السنة أعظم مما في قراءة آخر السورة ووسطها في الصلاة، وبكل حال؛ فلا ريب أن التجزئة والتحزيب الموافق لما كان هو الغالب على تلاوتهم أحسن. و «المقصود» أن التحزيب بالسورة التامة أولى من التحزيب بالتجزئة) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (13 / 409 - 412). 343 دعاء الغائب للغائب أعظم إجابة من دعاء الحاضر (دعاء الغائب للغائب أعظم إجابة من دعاء الحاضر؛ لأنه أكمل إخلاصا وأبعد عن الشرك؛ فكيف يشبه دعاء من يدعو لغيره بلا سؤال منه إلى دعاء من يدعو الله بسؤاله وهو حاضر؟! وفي «صحيح مسلم» عن النبي (ص) أنه قال: «ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة؛ إلا وكل الله به ملكا كلما دعا لأخيه بدعوة قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثله» (1). وذلك أن المخلوق يطلب من المخلوق ما يقدر المخلوق عليه، والمخلوق قادر على دعاء الله ومسألته؛ فلهذا كان طلب الدعاء جائزا، كما يطلب منه الإعانة بما يقدر عليه والأفعال التي يقدر عليها. فأما ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى؛ فلا يجوز أن يطلب إلا من الله سبحانه، لا يطلب ذلك لا من الملائكة ولا من الأنبياء ولا من غيرهم، ولا يجوز أن يقال لغير الله: اغفر لي، واسقنا الغيث، وانصرنا على القوم الكافرين، أو اهد قلوبنا، ونحو ذلك) (2) * * *
(1) انظر: «صحيح مسلم» (كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب، 2732) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. (2) «مجموع الفتاوى» (1 / 328 - 329). 344 التقارب بين الألفاظ العبرية والعربية (الألفاظ العبرية تقارب العربية بعض المقاربة كما تتقارب الأسماء في الاشتقاق الأكبر، وقد سمعت ألفاظ التوراة بالعبرية من مسلمة أهل الكتاب؛ فوجدت اللغتين متقاربتين غاية التقارب، حتى صرت أفهم كثيرا من كلامهم العبري بمجرد المعرفة بالعربية) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (4 / 110). 345 معنى اللهو الباطل المنهي عنه وأنه نهي كراهة لا نهي تحريم (اللذة التي لا تعقب لذة في دار القرار ولا ألما، ولا تمنع لذة دار القرار؛ فهذه لذة باطلة؛ إذ لا منفعة فيها ولا مضرة، وزمانها يسير، ليس لتمتع النفس بها قدر، وهي لا بد أن تشغل عما هو خير منها في الآخرة، وإن لم تشغل عن أصل اللذة في الآخرة. وهذا هو الذي عناه النبي (ص) بقوله: «كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل؛ إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته امرأته؛ فإنهن من الحق» (1). ... ولكن ما أعان على اللذة المقصودة من الجهاد والنكاح؛ فهو حق، وأما ما لم يعن على ذلك؛ فهو باطل لا فائدة فيه، ولكن إذا لم يكن فيه مضرة راجحة لم يحرم ولم ينه عنه، ولكن قد يكون فعله مكروها لأنه يصد عن اللذة المطلوبة؛ إذ لو اشتغل اللاهي حين لهوه بما ينفعه ويطلب له اللذة المقصودة لكان خيرا له، والنفوس الضعيفة كنفوس الصبيان والنساء قد لا تشتغل - إذا تركته - بما هو خير منها لها، بل قد تشتغل بما هو شر منه أو بما يكون التقرب إلى الله بتركه؛ فيكون تمكينها من ذلك من باب الإحسان إليها والصدقة عليها، كإطعامها وإسقائها... ومحبة النفوس للباطل نقص، لكن ليس كل الخلق مأمورين بالكمال، ولا يمكن ذلك فيهم، فإذا فعلوا ما به يدخلون الجنة لم يحرم عليهم ما لا يمنعهم من دخولها) (2)
(1) [صحيح بنحوه]. رواه الترمذي في (فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله، 1637)، والنسائي في (الخيل، باب تأديب الرجل فرسه، 3578)، وأبو داود في (الجهاد، باب في الرمي، 2513)، والنسائي في (كتاب عشرة النساء، رقم 52). والحديث أورده الألباني في «ضعيف أبي داود» و «الترمذي» و «النسائي»، ولكن انظر: «السلسة الصحيحة» (315)، وليس هو في «صحيح مسلم» كما ذكر المؤلف. (2) «الاستقامة» (2 / 153 - 157). 346 وقال أيضا: (وقد قال النبي (ص): «كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل؛ إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبة امرأته؛ فإنهن من الحق» (1)، وهذا اللهو الباطل من أكل المال به كان أكلا بالباطل، ومع هذا فيرخص فيه كما يرخص للصغار في اللعب، وكما كان صغيرتان من الأنصار تغنيان أيام العيد في بيت عائشة والنبي (ص) لا يستمع إليهن ولا ينهاهن، ولما قال أبو بكر: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله (ص)؟! قال النبي (ص): «دعهما يا أبا بكر؛ فإن لكل قوم عيدا، وإن هذا عيدنا» (2)؛ فدل بذلك على أنه يرخص لمن يصلح له اللعب أن يلعب في الأعياد، وإن كان الرجال لا يفعلون ذلك، ولا يبذل المال في الباطل) (3) * * *
(1) [صحيح]. تقدم قريبا. (2) رواه البخاري في (الجمعة، باب سنة العيدين لأهل الإسلام، 952، وفي المناقب، باب مقدم النبي وأصحابه المدينة، 3931)، ومسلم في (صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه، 892) من حديث عائشة رضي الله عنها. (3) «مجموع الفتاوى» (30 / 216). 347 الحكمة في دفنه (في بيته والفرق بين زيارة قبره وزيارة غيره من المسلمين (إن سنة المسلمين أن يدفنوا في الصحراء تحت السماء، كما كان هو (ص) يدفن أصحابه في البقيع، ولم يدفن أحدا منهم تحت سقف في بيت، ولا بنى على أحد منهم سقفا ولا حائطا؛ بل قد ثبت عنه في «الصحيح» أنه نهى أن يبنى على القبور (1)، وهو (ص) دفن في بيته تحت السقف، وذلك لما بينته عائشة رضي الله عنها من أنه لو دفن في الصحراء لخيف أن يتخذ قبره مسجدا (2)؛ فإن عامة الناس لما في قلوبهم من تعظيمه (ص) قد يقصدون الصلاة عنده، بل قد يرون ذلك أفضل لهم من الصلاة في مكان آخر، كما فعل أهل الكتاب حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ورأوا الصلاة عندها أفضل من الصلاة عند غيرها لما في النفوس من الشرك، والذين يفعلون ذلك يرون أنهم يتقربون بذلك إلى الله تعالى، وأن ذلك من أفضل أعمالهم، وهم ملعونون، قد لعنهم الله ورسوله؛ كما قال (ص): «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (3)... فلما كان دفنه في بيته من خصائصه لئلا يتخذ قبره مسجدا؛ فهو (ص) قد نهى أن يتخذ قبره عيدا؛ أي: يجتمع عنده في أوقات معتادة، فقال: «صلوا علي
(1) كما في «صحيح مسلم» (كتاب الجنائز، باب النهي عن تجصيص القبور، 970) عن جابر رضي الله عنه؛ قال: نهى رسول الله (ص) أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه. (2) كما في «صحيح البخاري» (كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، 1330) عنها عن النبي (ص) قال في مرضه الذي مات فيه: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدا». قالت: ولولا ذلك؛ لأبرزوا قبره؛ غير أني أخشى أن يتخذ مسجدا. (3) انظر الذي قبله. 348 حيثما كنتم؛ فإن صلاتكم تبلغني» (1)؛ فكذا زيارة قبر غيره من عموم المؤمنين للسلام عليه والدعاء له لا يفضي إلى أن يتخذ قبره مسجدا وعيدا ووثنا، وأما هو (؛ فقد دفن في بيته لئلا يتخذ قبره مسجدا، ومقصود الزيارة في حق غيره إنما هو السلام عليه والدعاء له، كالصلاة على جنازته، والرسول (ص) قد أمرنا أن نسلم عليه في صلاتنا ونصلي عليه، وصلاتنا وسلامنا يصل إليه حيث كنا، وهذا لم نؤمر به في حق غيره على الخصوص، فغيره إذا زرنا قبره قد يحصل له من دعائنا له ما لا يحصل بدون ذلك من غير مفسدة فيه، كالصلاة على جنازته، وأما هو (؛ فلا يحصل له بزيارتنا فائدة، بل ولا تمكن زيارة قبره؛ فإنه دفن في بيته، وحجب قبره عن الناس، وحيل بين الزائر وبين قبره؛ فلا يستطيع أحد أن يزور قبره كما تزار سائر القبور، وإنما يمكن الوصول إلى مسجده، ومسجده مبني قبل القبر، والعبادة فيه عبادة لله في بيته، ليس ذلك زيارة للقبر، ولهذا لم ينقل عن أحد من السلف أنه تكلم بزيارة قبره، فإن ذلك غير ممكن، ولهذا كرهها من كرهها؛ لأن مسماها باطل، وإنما الممكن الصلاة والسلام عليه في مسجده، وذلك مشروع في جميع البقاع، ليس هو من زيارة القبور، فأما إذا صلينا عليه وسلمنا عليه في مسجده وغيره من المساجد لم نكن زرنا قبره، ولكن كثير من المتأخرين صاروا يسمون الدخول إلى مسجده مع السلام عليه عند الحجرة زيارة لقبره، وهذه التسمية مبتدعة في الإسلام، ومخالفة للشرع والعقل واللغة، لكن قد شاعت وصارت اصطلاحا لكثير من العلماء، وصار منهم من يقول: زيارة قبره مستحبة بالإجماع، والزيارة المستحبة بالإجماع هي الوصول إلى مسجده والصلاة والسلام عليه فيه وسؤال الوسيلة ونحو ذلك؛ فهذا مشروع بالإجماع في مسجده، فهذه هي الزيارة
(1) [صحيح]. رواه أبو داود في (المناسك، باب زيارة القبور، 2042)، وأحمد في «المسند» (2 / 367)؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وانظر: «صحيح الجامع» (7226). 349 لقبره المشروعة بالإجماع؛ فالمعنى المجمع عليه حق، ولكن تسمية ذلك زيارة لقبره هو محل النزاع. وكذلك تنازعوا: هل يستقبل الحجرة أو يستقبل القبلة؟ كما ذكر في موضعه؛ فإنا مأمورون بالصلاة والسلام عليه وسؤال الوسيلة له في كل مكان، وذلك يحصل به أعظم من مقصود الزيارة لقبره لو كانت ممكنة مع أنها مظنة اتخاذ قبره مسجدا وعيدا، ولما كانت مظنة اتخاذ قبره عيدا ومسجدا؛ حجب قبره عن الناس، ومنعوا من هذه الزيارة، فما بقي يمكن أن يتخذ قبره لا مسجدا ولا وثنا ولا عيدا، فلما كان الخير الذي يقصد بزيارة القبور والمصلحة يحصل بالصلاة والسلام عليه وطلب الوسيلة له في أي مكان أفضل مما يحصل عند القبور؛ لم يكن في الزيارة فائدة تخص بها، وفيها مفسدة، وهو كونها ذريعة إلى الشرك، فلهذا فرق بينه وبين غيره، كما نهي عن اتخاذ القبور مساجد وعن اتخاذ قبره عيدا، مع أن المساجد يعبد الله فيها، لكن إذا كانت على القبور كانت مظنة الشرك. والصلاة والسلام عليه عند قبره حسن، لكن لو تمكن الناس من ذلك اتخذوه عيدا، وصاروا ينتابونه بجماعتهم في أوقات كالأعياد، وأفضى ذلك إلى الشرك؛ فلهذا نهي عنه، ولما نهي عنه منع أصحابه الناس من ذلك، فما بقي أحد يمكنه أن يزور قبره كما تزار سائر القبور، وإنما يمكن دخول مسجده، وهذا هو الذي يعنيه الناس بزيارة قبره، وهي تسمية غير مطابقة، وهذا من أحسن ما يعلل به كراهة من كره أن يقال: زرت قبره؛ فإن الزيارة المعروفة للقبور هي في قبره مما ليس بمقدور ولا مأمور، بل قد فرق الله بين قبره وبين سائر القبور من جهة المأمور به ومن جهة المنهي عنه، فقبره عنده مسجده المؤسس على التقوى، الذي شرع للناس السفر إليه، وغيره ليس عند قبره مسجد يسافر إليه، بل قد يكون عنده مسجد ينهى عنه، وأما النهي؛
350 فقبره لا يمكن أحدا أن يفعل عنده منكرا، بل ولا يصل إليه، بخلاف قبر غيره) (1) * * *
(1) «قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق» (ص 67 - 71). 351 لفظ الليل والنهار في كلام الشارع (لفظ «الليل والنهار» في كلام الشارع إذا أطلق؛ فالنهار من طلوع الفجر؛ كما في قوله سبحانه وتعالى: {أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل} (1)، وكما في قوله (ص): «صم يوما وأفطر يوما» (2)، وقوله: «كالذي يصوم النهار ويقوم الليل» (3)، ونحو ذلك؛ فإنما أراد صوم النهار من طلوع الفجر، وكذلك وقت صلاة الفجر وأول وقت الصيام بالنقل المتواتر المعلوم للخاصة والعامة والإجماع الذي لا ريب فيه بين الأمة، وكذلك في مثل قوله (ص): «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح؛ فأوتر بركعة» (4)، ولهذا قال العلماء - كالإمام أحمد بن حنبل وغيره -: إن صلاة الفجر من صلاة النهار. وإما إذا قال الشارع (ص): «نصف النهار»؛ فإنما يعني به النهار المبتدىء من طلوع الشمس، لا يريد قط - لا في كلامه ولا في كلام أحد من علماء المسلمين بنصف النهار - النهار الذي أوله من طلوع الفجر؛ فإن نصف هذا يكون قبل الزوال، ولهذا غلط بعض متأخري الفقهاء - لما رأى كلام العلماء أن الصائم المتطوع يجوز له أن ينوي التطوع قبل نصف النهار، وهل يجوز له
(1) هود: 114. (2) رواه البخاري في (الصوم، باب صوم الدهر، وباب صوم يوم وإفطار يوم، وباب صوم داود، 1976، 1978، 1980)، ومسلم في (الصيام، باب النهي عن صوم الدهر، 1159)؛ من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. (3) جزء من حديث رواه البخاري في (الأدب، باب الساعي على الأرملة، 6006) من حديث صفوان بن أسلم رضي الله عنه. (4) رواه بنحوه البخاري في (الصلاة، باب الحلق والجلوس في المسجد، 472، 473، وفي الجمعة، باب ما جاء في الوتر، 991)، ومسلم في (صلاة المسافرين، باب صلاة الليل مثنى مثنى، 749)؛ من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. 352 بعده؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد - ظن أن المراد بالنهار هنا نهار الصوم الذي أوله طلوع الفجر، وسبب غلطه في ذلك أنه لم يفرق بين مسمى النهار إذا أطلق وبين مسمى نصف النهار؛ فالنهار الذي يضاف إليه نصف في كلام الشارع وعلماء أمته هو من طلوع الشمس، والنهار المطلق في وقت الصلاة والصيام من طلوع الفجر) (1) * * *
353 لا يجوز رفع الأصوات في الذكر والدعاء إلا حيث جاءت به السنة (إن رفع الأصوات في الذكر المشروع لا يجوز إلا حيث جاءت به السنة؛ كالأذان والتلبية ونحو ذلك؛ فالسنة للذاكرين والداعين ألا يرفعوا أصواتهم رفعا شديدا، كما ثبت في «الصحيح» عن أبي موسى أنه قال: كنا مع رسول الله (ص)، فكنا إذا علونا على شرف كبرنا فارتفعت أصواتنا، فقال: «يا أيها الناس! أربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا قريبا، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» (1). وقد قال تعالى: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين} (2)، وقال عن زكريا: {إذ نادى ربه نداء خفيا} (3)... وفي هذا من الآثار عن سلف الأمة وأئمتها ما ليس هذا موضعه؛ كما قال الحسن البصري: رفع الصوت بالدعاء بدعة. وكذلك نص عليه أحمد ابن حنبل وغيره، وقال قيس بن عباد - وهو من كبار التابعين من أصحاب علي عليه السلام -، روى عنه الحسن البصري؛ قال: كانوا يستحبون خفض الصوت عند الذكر، وعند الجنائز، وعند القتال. وهذه المواطن الثلاثة تطلب النفوس فيها الحركة الشديدة ورفع الصوت عند الذكر والدعاء؛ لما فيه من الحلاوة ومحبة ذكر الله ودعائه، وعند الجنائز
354 بالحزن والبكاء، وعند القتال بالغضب والحمية، ومضرته أكبر من منفعته، بل قد يكون ضررا محضا، وإن كانت النفس تطلبه كما في حال المصائب) (1) * * *
355 مسائل متفرقة في علاج من به مس من الجن ومن ذلك استخدام الضرب وقد فعله ابن تيمية كثيرا (... وأما من سلك في دفع عداوتهم [يعني: الجن] مسلك العدل الذي أمر الله به ورسوله؛ فإنه لم يظلمهم، بل هو مطيع لله ورسوله في نصر المظلوم وإغاثة المهلوف والتنفيس عن المكروب بالطريق الشرعي التي ليس فيها شرك بالخالق ولا ظلم للمخلوق، ومثل هذا لا تؤذيه الجن؛ إما لمعرفتهم بأنه عادل، وإما لعجزهم عنه، وإن كان الجن من العفاريت وهو ضعيف فقد تؤذيه، فينبغي لمثل هذا أن يحترز بقراءة العوذ؛ مثل آية الكرسي، والمعوذات، والصلاة، والدعاء، ونحو ذلك مما يقوي الإيمان ويجنب الذنوب التي بها يسلطون عليه؛ فإنه مجاهد في سبيل الله، وهذا من أعظم الجهاد؛ فليحذر أن ينصر العدو عليه بذنوبه؛ وإن كان الأمر فوق قدرته؛ فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فلا يتعرض من البلاء لما لا يطيق. ومن أعظم ما ينتصر به عليهم آية الكرسي... ... فقد جرب المجربون الذين لا يحصون كثرة أن لها من التأثير في دفع الشياطين وإبطال أحوالهم ما لا ينضبط من كثرته وقوته، فإن لها تأثيرا عظيما في دفع الشيطان عن نفس الإنسان وعن المصروع وعن من تعينه الشياطين؛ مثل أهل الظلم والغضب، وأهل الشهوة والطرب، وأرباب السماع المكاء والتصدية، إذا قرئت عليهم بصدق؛ دفعت الشياطين، وبطلت الأمور التي يخيلها الشيطان، ويبطل ما عند إخوان الشياطين من مكاشفة شيطانية وتصرف شيطاني؛ إذ كانت الشياطين يوحون إلى أوليائهم بأمور يظنها الجهال من كرامات أولياء الله المتقين، وإنما هي من تلبيسات الشياطين على أوليائهم المغضوب عليهم والضالين.
356 والصائل المعتدي يستحق دفعه سواء كان مسلما أو كافرا، وقد قال النبي (ص): «من قتل دون ماله؛ فهو شهيد، ومن قتل دون دمه؛ فهو شهيد، ومن قتل دون دينه؛ فهو شهيد» (1)، فإذا كان المظلوم له أن يدفع عن مال المظلوم ولو بقتل الصائل العادي؛ فكيف لا يدفع عن عقله وبدنه وحرمته؟! فإن الشيطان يفسد عقله ويعاقبه في بدنه، وقد يفعل معه فاحشة إنسي بإنسي، وإن لم يندفع إلا بالقتل؛ جاز قتله... فهذا من أفضل الأعمال، وهو من أعمال الأنبياء والصالحين؛ فإنه ما زال الأنبياء والصالحون يدفعون الشياطين عن بني آدم بما أمر الله به ورسوله، كما كان المسيح يفعل ذلك، وكما كان نبينا (ص) يفعل ذلك... وقد ثبت في «الصحيحين» حديث الذين رقوا بالفاتحة، وقال النبي (ص): «وما أدراك أنها رقية؟» (2)، وأذن لهم في أخذ الجعل على شفاء اللديغ بالرقية، وقد قال النبي (ص) للشيطان الذي أراد قطع صلاته: «أعوذ بالله منك، ألعنك بلعنة الله التامة - ثلاث مرات -» (3)، وهذا كدفع ظالمي الإنس من الكفار والفجار؛ فإن النبي (ص) وأصحابه وإن كانوا لم يروا الترك ولم يكونوا يرمون
357 بالقسي الفارسية ونحوها مما يحتاج إليه في القتال؛ فقد ثبت عن النبي (ص) أنه أمر بقتالهم، وأخبر أن أمته ستقاتلهم، ومعلوم أن قتالهم النافع إنما هو بالقسي الفارسية، ولو قوتلوا بالقسي العربية التي تشبه قوس القطن لم تغن شيئا؛ بل استطالوا على المسلمين بقوة رميهم؛ فلا بد من قتالهم بما يقهرهم. وقد قال بعض المسلمين لعمر بن الخطاب: إن العدو إذا رأيناهم قد لبسوا الحرير وجدنا في قلوبنا روعة. فقال: وأنتم؛ فالبسوا كما لبسوا. وقد أمر النبي (ص) أصحابه في عمرة القضية بالرمل والاضطباع ليرى المشركين قوتهم، وإن لم يكن هذا مشروعا قبل هذا؛ ففعل لأجل الجهاد ما لم يكن مشروعا بدون ذلك. ولهذا قد يحتاج في إبراء المصروع ودفع الجن عنه إلى الضرب، فيضرب ضربا كثيرا جدا، والضرب إنما يقع على الجني ولا يحس به المصروع حتى يفيق المصروع ويخبر أنه لم يحس بشيء من ذلك، ولا يؤثر في بدنه، ويكون قد ضرب بعصا قوية على رجليه نحو ثلاث مئة أو أربع مئة ضربة وأكثر وأقل، بحيث لو كان على الإنسي لقتله، وإنما هو على الجني، والجني يصيح ويصرخ ويحدث الحاضرين بأمور متعددة كما قد فعلنا نحن هذا وجربناه مرات كثيرة يطول وصفها بحضرة خلق كثيرين. وأما الاستعانة عليهم بما يقال ويكتب مما لا يعرف معناه؛ فلا يشرع، لا سيما إن كان فيه شرك؛ فإن ذلك محرم، وعامة ما يقوله أهل العزائم فيه شرك، وقد يقرؤون مع ذلك شيئا من القرآن ويظهرونه، ويكتمون ما يقولونه من الشرك، وفي الاستشفاء بما شرعه الله ورسوله ما يغني عن الشرك وأهله. والمسلمون وإن تنازعوا في جواز التداوي بالمحرمات كالميتة والخنزير؛ فلا يتنازعون في أن الكفر والشرك لا يجوز التداوي به بحال؛ لأن ذلك محرم في كل حال، وليس هذا كالتكلم به عند الإكراه؛ فإن ذلك إنما يجوز إذا كان
358 قلبه مطمئنا بالإيمان، والتكلم به إنما يؤثر إذا كان بقلب صاحبه، ولو تكلم به مع طمأنينة قلبه بالإيمان لم يؤثر، والشيطان إذا عرف أن صاحبه مستخف بالعزائم لم يساعده، وأيضا؛ فإن المكره مضطر إلى التكلم به، ولا ضرورة إلى إبراء المصاب به؛ لوجهين: أحدهما: أنه قد لا يؤثر أكثر مما يؤثر من يعالج بالعزائم، فلا يؤثر بل يزيده شرا. والثاني: أن في الحق ما يغني عن الباطل) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (19 / 53 - 61). 359 حكم قتل الجن (إن قتل الجن بغير حق لا يجوز كما لا يجوز قتل الإنس بلا حق، والظلم محرم في كل حال، فلا يحل لأحد أن يظلم أحدا ولو كان كافرا، بل قال تعالى: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} (1)، والجن يتصورون في صور الإنس والبهائم، فيتصورون في صور الحيات والعقارب وغيرها، وفي صور الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير، وفي صور الطير، وفي صور بني آدم (2)، كما أتى الشيطان قريشا في صورة سراقة بن مالك بن جعشم لما أرادوا الخروج إلى بدر، قال تعالى: {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم}، إلى قوله: {والله شديد العقاب} (3). وكما روى أنه تصور في صورة شيخ نجدي لما اجتمعوا بدار الندوة هل يقتلوا الرسول أو يحبسوه أو يخرجوه؟ كما قال تبارك وتعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر
(1) المائدة: 8. (2) روى مسلم في مقدمة الصحيح بإسناده إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله: «إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب فيتفرقون فيقول الرجل منهم سمعت رجلا أعرف وجهه ولا أدري ما اسمه يحدث». (3) رواه الطبري في «التفسير» من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وفي «التاريخ» من مرسل عروة، وروى نحوه الطبراني في «الكبير» من رواية رفاعة بن رافع وفي إسناده عبد العزيز بن عمران ضعفه الهيثمي. انظر: «تفسير الطبري» (14 / 7 - شاكر) و «المعجم الكبير» (5 / 41). 360 الله والله خير الماكرين} (1)، فإذا كان حيات البيوت قد تكون جنا فتؤذن ثلاثا فإن ذهبت وإلا قتلت، فإنها إن كانت حية قتلت، وإن كانت جنية فقد أصرت على العدوان بظهورها للإنس في صورة حية تفزعهم بذلك، والعادي هو الصائل الذي يجوز دفعه بما يدفع ضرره ولو كان قتلا، وأما قتلهم بدون سبب يبيح ذلك فلا يجوز) (2) * * *
(1) رواه الطبري في «التفسير» (13 / 494 - شاكر)، وفي «التاريخ» (2 / 370)، وللقصة شواهد تتقوى بها عند أحمد في «المسند» (1 / 330)، و «مصنف عبد الرزاق» (5 / 389)، والحاكم وغيرهم. (2) «مجموع الفتاوى» (19 / 44 - 45). 361 هل غير العرب أكفاء للعرب في النكاح (وما ذكره كثير من العلماء من أن غير العرب ليسوا أكفاء للعرب في النكاح؛ فهذه مسألة نزاع بين العلماء؛ فمنهم من لا يرى الكفاءة إلا في الدين، ومن رآها في النسب أيضا؛ فإنه يحتج بقول عمر: «لأمنعن ذوات الأحساب إلا من الأكفاء» (1)؛ لأن النكاح مقصوده حسن الألفة فإذا كانت المرأة أعلى منصبا اشتغلت عن الرجل، فلا يتم به المقصود، وهذه حجة من جعل ذلك حقا لله حتى أبطل النكاح إذا زوجت المرأة بمن لا يكافئها في الدين أو المنصب، ومن جعلها حقا لآدمي قال: إن في ذلك غضاضة على أولياء المرأة وعليها والأمر إليهم في ذلك. ثم هؤلاء لا يخصون الكفاءة بالنسب، بل يقولون: هي من الصفات التي تتفاضل بها النفوس؛ كالصناعة واليسار والحرية وغير ذلك، وهذه مسائل اجتهادية ترد إلى الله والرسول؛ فإن جاء عن الله ورسوله ما يوافق أحد القولين فما جاء عن الله لا يختلف، وإلا؛ فلا يكون قول أحد حجة على الله ورسوله) (2) * * *
(1) رواه الدارقطني في «السنن» (3719)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (12838)، وعبد الرزاق في «المصنف». (2) «مجموع الفتاوى» (19 / 28). 362 المرأة الحائض إذا طهرت قبل طلوع الفجر وقبل غروب الشمس (قال الصحابة؛ كعبد الرحمن بن عوف وغيره: إن المرأة الحائض إذا طهرت قبل طلوع الفجر صلت المغرب والعشاء، وإذا طهرت قبل غروب الشمس صلت الظهر والعصر. وهذا مذهب جمهور الفقهاء؛ كمالك، والشافعي، وأحمد) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (24 / 25). 363 الجمع بين الصلوات للعذر (المواقيت لأهل الأعذار ثلاثة، ولغيرهم خمسة؛ فإن الله تعالى قال: {أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل} (1)؛ فذكر ثلاثة مواقيت، والطرف الثاني يتناول الظهر والعصر، والزلف يتناول المغرب والعشاء، وكذلك قال: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} (2)، والدلوك: هو الزوال في أصح القولين... وأيضا؛ فجمع النبي (ص) بعرفة ومزدلفة يدل على جواز الجمع بغيرهما للعذر، فإنه قد كان من الممكن أن يصلي الظهر ويؤخر العصر إلى دخول وقتها، ولكن لأجل النسك والاشتغال بالوقوف قدم العصر) (3) وقال في موضع آخر: (... وقال أحمد بن حنبل: يجوز الجمع إذا كان لشغل. قال القاضي أبو يعلى: الشغل الذي يبيح ترك الجمعة والجماعة. وقال الشيخ موفق الدين ابن قدامة المقدسي مبينا عن هؤلاء: وهو المريض ومن له قريب يخاف موته، ومن يدافع أحدا من الأخبثين، ومن يحضره طعام وبه حاجة إليه، ومن يخاف من سلطان يأخذه أو غريم يلازمه، ولا شيء معه يعطيه، والمسافر إذا خاف فوات القافلة، ومن يخاف ضررا في ماله، ومن يرجو وجوده، ومن يخاف من غلبة النعاس حتى يفوته الوقت، ومن يخاف من شدة البرد. وكذلك في الليلة المظلمة إذا كان فيها وحل؛ فهؤلاء يعذروا وإن تركوا الجمعة والجماعة، كذا حكاه ابن قدامة في «مختصر الهداية»؛ فإنه يبيح لهم الجمع بين الصلاتين على ما قاله
(1) هود: 114. (2) الإسراء: 78. (3) «مجموع الفتاوى» (24 / 25 - 26). 364 الإمام أحمد بن حنبل والقاضي أبو يعلى. والصناع والفلاحون إذا كان في الوقت الخاص مشقة عليهم، مثل أن يكون الماء بعيدا في فعل صلاة، وإذا ذهبوا إليه وتطهروا تعطل بعض العمل الذي يحتاجون إليه؛ فلهم أن يصلوا في الوقت المشترك فيجمعوا بين الصلاتين، وأحسن من ذلك أن يؤخروا الظهر إلى قريب العصر فيجمعوها ويصلوها مع العصر؛ وإن كان ذلك جمعا في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر، ويجوز مع بعد الماء أن يتيمم ويصلي في الوقت الخاص، والجمع بطهارة الماء أفضل، والحمد لله وحده) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (21 / 458). 365 الفرق بين القصر والجمع في الصلاة (سئل عن الجمع، وما كان النبي (ص) يفعله؟ فأجاب: وأما الجمع؛ فإنما كان يجمع بعض الأوقات إذا جد به السير وكان له عذر شرعي، كما جمع بعرفة ومزدلفة، وكان يجمع في غزوة تبوك أحيانا، كان إذا ارتحل قبل الزوال أخر الظهر إلى العصر ثم صلاهما جميعا، وهذا ثابت في «الصحيح». وأما إذا ارتحل بعد الزوال؛ فقد روي أنه كان صلى الظهر والعصر جميعا كما جمع بينهما بعرفة، وهذا معروف في السنن، وهذا إذا كان لا ينزل إلى وقت المغرب، كما كان بعرفة لا يفيض حتى تغرب الشمس، وأما إذا كان ينزل وقت العصر؛ فإنه يصليها في وقتها؛ فليس القصر كالجمع، بل القصر سنة راتبة، وأما الجمع؛ فإنه رخصة عارضة، ومن سوى من العامة بين الجمع والقصر؛ فهو جاهل بسنة رسول الله (ص) وبأقوال علماء المسلمين. فإن سنة رسول الله (ص) فرقت بينهما، والعلماء اتفقوا على أن أحدهما سنة، واختلفوا في وجوبه، وتنازعوا في جواز الآخر؛ فأين هذا من هذا؟! وأوسع المذاهب في الجمع بين الصلاتين مذهب الإمام أحمد؛ فإنه نص على أنه يجوز الجمع للحرج والشغل بحديث روي في ذلك، قال القاضي أبو يعلى وغيره من أصحابنا: يعني إذا كان هناك شغل يبيح له ترك الجمعة والجماعة جاز له الجمع، ويجوز عنده وعند مالك وطائفة من أصحاب الشافعي الجمع للمرض، ويجوز عند الثلاثة الجمع للمطر بين المغرب والعشاء، وفي صلاتي النهار نزاع بينهم، ويجوز في ظاهر مذهب أحمد ومالك الجمع للوحل والريح الشديدة الباردة ونحو ذلك.
366 ويجوز للمرضع أن تجمع إذا كان يشق عليها غسل الثوب في وقت كل صلاة، نص عليه أحمد، وتنازع العلماء في الجمع والقصر: هل يفتقر إلى نية؟ فقال جمهورهم: لا يفتقر إلى نية، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب أحمد، وعليه تدل نصوصه وأصوله. وقال الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد: إنه يفتقر إلى نية، وقول الجمهور هو الذي تدل عليه سنة رسول الله (ص)، كما قد بسطت هذه المسألة في موضعها، والله أعلم) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (24 / 27 - 28). 367 قصد زيارة المساجد التي بنيت بمكة غير المسجد الحرام بدعة (... وأما زيارة المساجد التي بنيت بمكة غير المسجد الحرام؛ كالمسجد الذي تحت الصفا، وما في سفح أبي قبيس، ونحو ذلك من المساجد التي بنيت على آثار النبي (ص) وأصحابه، كمسجد المولد وغيره؛ فليس قصد شيء من ذلك من السنة، ولا استحبه أحد من الأئمة، وإنما المشروع إتيان المسجد الحرام خاصة، والمشاعر: عرفة، ومزدلفة، والصفا، والمروة، وكذلك قصد الجبال والبقاع التي حول مكة غير المشاعر عرفة ومزدلفة ومنى، مثل جبل حراء، والجبل الذي عند منى الذي يقال إنه كان فيه قبة الفداء ونحو ذلك؛ فإنه ليس من سنة رسول الله (ص) زيارة شيء من ذلك، بل هو بدعة، وكذلك ما يوجد في الطرقات من المساجد المبنية على الآثار والبقاع التي يقال إنها من الآثار، لم يشرع النبي (ص) زيارة شيء من ذلك بخصوصه، ولا زيارة شيء من ذلك) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (26 / 144). 368 السنة في زيارة مسجد وقبر النبي (ص) (وإذا دخل المدينة قبل الحج أو بعده؛ فإنه يأتي مسجد النبي (ص) ويصلي فيه، والصلاة فيه خير من ألف صلاة فيما سواه؛ إلا المسجد الحرام، ولا تشد الرحال إلا إليه وإلى المسجد الحرام والمسجد الأقصى، هكذا ثبت في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة وأبي سعيد، وهو مروي من طرق أخر. ومسجده كان أصغر مما هو اليوم، وكذلك المسجد الحرام، لكن زاد فيهما الخلفاء الراشدون ومن بعدهم، وحكم الزيادة حكم المزيد في جميع الأحكام. ثم يسلم على النبي (ص) وصاحبيه؛ فإنه قد قال: «ما من رجل يسلم علي؛ إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام» (1). رواه أبو داود وغيره، وكان عبد الله بن عمر يقول إذا دخل المسجد: «السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت. ثم ينصرف» (2)، وهكذا كان الصحابة يسلمون عليه، ويسلمون عليه مستقبلي الحجرة مستدبري القبلة عند أكثر العلماء؛ كمالك، والشافعي، وأحمد. وأبو حنيفة قال: يستقبل القبلة. فمن أصحابه من قال: يستدبر الحجرة، ومنهم من قال: يجعلها عن يساره. واتفقوا على أنه لا يستلم الحجرة، ولا يقبلها، ولا يطوف بها، ولا يصلي إليها، وإذا قال في سلامه: السلام عليك يا رسول الله، يا نبي الله، يا خيرة الله
369 من خلقه، يا أكرم الخلق على ربه، يا إمام المتقين؛ فهذا كله من صفاته - بأبي هو وأمي (ص) -، وكذلك إذا صلى عليه مع السلام عليه؛ فهذا مما أمر الله به. ولا يدعو هناك مستقبل الحجرة؛ فإن هذا كله منهي عنه باتفاق الأئمة، ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك، والحكاية المروية عنه أنه أمر المنصور أن يستقبل الحجرة وقت الدعاء كذب على مالك، ولا يقف عند القبر للدعاء لنفسه؛ فإن هذا بدعة، ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده يدعو لنفسه، ولكن كانوا يستقبلون القبلة ويدعون في مسجده، فإنه (ص) قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد» (1)، وقال: «لا تجعلوا قبري عيدا، ولا تجعلوا بيوتكم قبورا، وصلوا علي حيثما كنتم؛ فإن صلاتكم تبلغني» (2)، وقال: «أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة؛ فإن صلاتكم معروضة علي». فقالوا: كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت (أي: بليت)؟! قال: «إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» (3). فأخبر أنه يسمع الصلاة والسلام من القريب وأنه يبلغ ذلك من البعيد، وقال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما فعلوا. قالت عائشة: ولولا ذلك؛ لأبرز قبره، ولكنه كره أن يتخذ مسجدا» (4) أخرجاه في «الصحيحين») (5)
370 زيارة القبور على وجهين: شرعية وبدعية (وزيارة القبور على وجهين: زيارة شرعية، وزيارة بدعية. فالشرعية المقصود بها السلام على الميت والدعاء له كما يقصد بالصلاة على جنازته فزيارته بعد موته من جنس الصلاة عليه؛ فالسنة أن يسلم على الميت ويدعو له، سواء كان نبيا أو غير نبي، كما كان النبي (ص) يأمر أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم» (1)، وهكذا يقول إذا زار أهل البقيع ومن به من الصحابة أو غيرهم، أو زار شهداء أحد وغيرهم. وليست الصلاة عند قبورهم أو قبور غيرهم مستحبة عند أحد من أئمة المسلمين، بل الصلاة في المساجد التي ليس فيها قبر أحد من الأنبياء والصالحين وغيرهم أفضل من الصلاة في المساجد التي فيها ذلك باتفاق أئمة المسلمين؛ بل الصلاة في المساجد التي على القبور إما محرمة وإما مكروهة. والزيارة البدعية: أن يكون مقصود الزائر أن يطلب حوائجه من ذلك الميت، أو يقصد الدعاء عند قبره، أو يقصد الدعاء به؛ فهذا ليس من سنة النبي (ص)، ولا استحبه أحد من سلف الأمة وأئمتها؛ بل هو من البدع المنهي عنها باتفاق سلف الأمة وأئمتها، وقد كره مالك وغيره أن يقول القائل: زرت قبر النبي (ص)، وهذا اللفظ لم ينقل عن النبي (ص)؛ بل الأحاديث المذكورة في هذا
371 الباب مثل قوله: «من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له على الله الجنة»، وقوله: «من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي، ومن زارني بعد مماتي حلت عليه شفاعتي» ونحو ذلك؛ كلها أحاديث ضعيفة بل موضوعة، ليست في شيء من دواوين الإسلام التي يعتمد عليها، ولا نقلها إمام من أئمة المسلمين: لا الأئمة الأربعة، ولا غيرهم...) (1) * * *
372 أعدل الأقوال في قراءة المأموم خلف الإمام (أعدل الأقوال في القراءة خلف الإمام أن المأموم إذا سمع قراءة الإمام يستمع لها وينصت لا يقرأ بالفاتحة ولا غيرها، وإذا لم يسمع قراءته بها يقرأ الفاتحة وما زاد، وهذا قول جمهور السلف والخلف، وهو مذهب مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل وجمهور أصحابه، وهو أحد قولي الشافعي، واختاره طائفة من محققي أصحابه، وهو قول محمد بن الحسن وغيره من أصحاب أبي حنيفة. وأما قول طائفة من أهل العلم؛ كأبي حنيفة وأبي يوسف: أنه لا يقرأ خلف الإمام لا بالفاتحة ولا غيرها، لا في السر ولا في الجهر؛ فهذا يقابله قول من أوجب قراءة الفاتحة ولو كان يسمع قراءة الإمام، كالقول الآخر للشافعي وهو الجديد، وهو قول البخاري وابن حزم وغيرهما، وفيها قول ثالث: أنه يستحب القراءة بالفاتحة إذا سمع قراءة الإمام، وهذا مروي عن الليث والأوزاعي، وهو اختيار جدي أبي البركات. ولكن أظهر الأقوال قول الجمهور؛ لأن الكتاب والسنة يدلان على وجوب الإنصات على المأموم إذا سمع قراءة الإمام، وقد تنازعوا فيما إذا قرأ المأموم وهو يسمع قراءة الإمام: هل تبطل صلاته؟ على قولين، وقد ذكرهما أبو عبد الله بن حامد على وجهين في مذهب أحمد، وقد أجمعوا على أنه فيما زاد على الفاتحة كونه مستمعا لقراءة إمامه خير من أن يقرأ معه؛ فعلم أن المستمع يحصل له أفضل مما يحصل للقارئ مع الإمام، وعلى هذا؛ فاستماعه لقراءة إمامه بالفاتحة يحصل له به مقصود القراءة وزيادة تغني عن القراءة معه التي نهي عنها، وهذا خلاف إذا لم يسمع؛ فإن كونه تاليا لكتاب الله يثاب بكل حرف عشر حسنات خيرا من كونه ساكتا بلا فائدة؛ بل يكون عرضة
373 للوسواس وحديث النفس الذي لا ثواب فيه، فقراءة يثاب عليها خير من حديث نفس لا ثواب عليه، وبسط هذا له موضع آخر) (1) * * *
(1) «مجموع الفتاوى» (18 / 20 - 21). 374 العمرة بعد الحج بدعة مكروهة لم يفعلها السلف (إن الاعتمار من مكة وترك الطواف ليس بمستحب؛ بل المستحب هو الطواف دون الاعتمار، بل الاعتمار فيه حينئذ هو بدعة لم يفعله السلف، ولم يؤمر بها في الكتاب والسنة، ولا قام دليل شرعي على استحبابها، وما كان كذلك؛ فهو من البدع المكروهة باتفاق العلماء. ولهذا كان السلف والأئمة ينهون عن ذلك؛ فروى سعيد في «سننه» عن طاووس أجل أصحاب ابن عباس؛ قال: الذين يعتمرون من التنعيم ما أدري أيؤجرون عليها أم يعذبون؟ قيل: فلم يعذبون؟ قال: لأنه يدع الطواف بالبيت، ويخرج إلى أربعة أميال ويجيء، وإلى أن يجيء من أربعة أميال قد طاف مئتي طواف، وكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي في غير شيء. قال أبو طالب: قيل لأحمد بن حنبل: ما تقول في عمرة المحرم؟ فقال: أي شيء فيها؟ العمرة عندي التي تعمد لها من منزلك، قال الله: {وأتموا الحج والعمرة لله} (1)، وقالت عائشة: إنما العمرة على قدره. يعني: على قدر النصب والنفقة، وذكر حديث علي وعمر: إنما إتمامها أن تحرم بها من دويرة أهلك. قال أبو طالب: قلت لأحمد: قال طاووس: الذين يعتمرون من التنعيم لا أدري يؤجرون أو يعذبون؟ قيل له: لم يعذبون؟ قال: لأنه ترك الطوف بالبيت، ويخرج إلى أربعة أميال، ويخرج إلى أن يجيء من أربعة أميال قد طاف مئتي طواف، وكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي في غير شيء؛ فقد أقر أحمد قول طاووس هذا الذي استشهد به أبو طالب لقوله. رواه أبو بكر في «الشافي».
(1) البقرة: 196. 375 وذكر عبد الرزاق بإسناده عن مجاهد؛ قال: سئل علي وعمر وعائشة عن العمرة ليلة الحصبة، فقال عمر: هي خير من لا شيء. وقال: هي خير من مثقال ذرة. وقالت عائشة: العمرة على قدر النفقة. وعن عائشة أيضا قالت: لأن أصوم ثلاثة أيام أو أتصدق على عشرة مساكين أحب إلي من أن أعتمر العمرة التي اعتمرت من التنعيم. وقال طاووس: فمن اعتمر بعد الحج ما أدري أيعذبون عليها أم يؤجرون؟ وقال عطاء بن السائب: اعتمرنا بعد الحج، فعاب ذلك علينا سعيد بن جبير. وقد أجازها آخرون؛ لكن لم يفعلوها...) (1) * * * تم " المنتخب " ولله الحمد،،،