هدى إلى دين المصطفى (جزء 1) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

هدى إلى دين المصطفى (جزء 1) - نسخه متنی

محمد جواد بلاغی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: الهدى إلى دين المصطفى
المؤلف: الشيخ محمد جواد البلاغي
الجزء: 1
الوفاة: 1328
المجموعة: مصادر عقائد أهل الكتاب وردودها
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع: 1405 - 1985 م
المطبعة:
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:
الهدى
إلى دين المصطفى

1
الهدى
إلى دين المصطفى (ص)
تأليف
" الإمام المجاهد "
الشيخ محمد جواد البلاغي
الجزء الأول
منشورات
مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
بيروت - لبنان
ص. ب 7120

3
الطبعة الثالثة
كافة الحقوق محفوظة ومسجلة للناشر
1405 ه‍ - 1985 م

4
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثانية
بقلم: الكاتب
المجيد العلامة المحقق الأستاذ
السيد توفيق الفكيكي المحامي
بعد أن وضعت الحرب الصليبية أوزارها التي دامت سجالا بين الإسلام
وأعدائه طوال قرنين من الزمن، حتى انتصر التوحيد على التثليث، وتم اندحار
الغزاة الأوروبيين، وانهزم فلولهم عبر البحار، فتطهرت بلاد العروبة والإسلام
ومقدساتها من أقدام الجيوش الصليبية التي هبت أوروبا عن بكرة أبيها بملوكها
ورهبانها وقوادها لتجهيزها ودفعها إلى الشرق الإسلامي لإخضاعها وتخضيد
شوكة دول الإسلام، وإذهاب ريحها، ومن ثم القضاء على تراث العروبة
ومواريث " الضاد " المجيدة، وقد شاء الله تعالى أن تذهب ريح جيوش الغزاة
بنصره العزيز، فانقلبت على أعقابها تجر ذيول الخيبة والخذلان وأضحى أكثرها
نصيب الحيتان والعقبان، بفضل جهاد أهل العقيدة والإيمان من حماة رسالة
القرآن، بيد أن أوروبا المنهزمة لم تنم عن ذحولها، ولم تنس في يوم من الأيام
ضحايا وأحزانها، فأخذت دولها وساستها وقساوستها يسلكون في ظلال السلم
سبل الكيد والمكر ما أمكنهم الكيد والدهاء لحبك المؤامرات وتأسيس الجمعيات
الهدامة في الديار العربية والإسلامية باسم المدارس التعليمية والخدمات
الإنسانية، وهي في الحقيقة مؤسسات تبشيرية في خدمة الاستعمار العقائدي
والسياسي معا، وفي فجر النهضة الصناعية في أوروبا أخذت، معجزات العلم
الحديث تزداد يوما بعد يوم، فكثرت الاختراعات المدهشة، وبذلك فقد
اشتدت قوى الشر في أوروبا، واستشرى كلب الاستعمار لأخذ الثأر التاريخي

5
الذي سببته الحروب الصليبية، أما الشرق الإسلامي فقد أصيب بداء الانقسام
والتجزئة في سبيل الوصول إلى العروش ودست الحكم وحب الإمارة، فخمدت
في المجموعة الإسلامية جذوة الإيمان الصحيح وحرارة العقيدة، وخيم الجهل
على ربوع الشرق، وتعدد السلاطين والأمراء، واستعذبوا الرقاد على أنغام
وعاظهم المنافقين، وقل الآمرون بالمعروف والناهون على المنكر، فغط الرعاة
والرعية في سبات عميق إزاء يقظة أوروبا وعجيج مخترعاتها المذهلة في البر
والبحر وأرجاء الجو، ولقاء نشاط جماعات الاستشراق والإرساليات التبشيرية
الاستعمارية، وكان جل مهمتها زعزعة عقائد الشباب العربي الإسلامي،
وزرع الشكوك في عقيدتهم وتعاليم دينهم وفي معجزة الإسلام الخالدة القرآن
الكريم.
وبتلك الأساليب السلمية تارة، وتارة بالقوة والتهديد تمكنت الدول
المسيحية الاستعمارية اجتياح الشرق الإسلامي، وعادت الحرب الصليبية
جذعة كما أفصحت قولة اللورد " اللنبي " حين دخل الشام، فوقف على قبر
صلاح الدين الأيوبي فقال مخاطبا له: " الآن انتهت الحرب الصليبية يا صلاح
الدين " إلا أن الحرب الصليبية لم تقتصر هذه المرة على الميادين العسكرية وإنما
استهدفت غزو العقول والأفكار والأرواح، وهذا أخطر وسائل الفناء للأمم
ومحوها من عالم الوجود وفي سبيل هذه الغايات الاستعمارية الفكرية قام دهاقين
السياسة الغربية وأجمعوا أمرهم على عقد المعاهدات السرية، والأحلاف المقدسة
لتقسيم الأقاليم الإسلامية وتجزئة البلاد العربية، وإلى جانب ذلك قاموا بتنظيم
قوافل المبشرين لتمهد للحرب الصليبية الحديثة إفساد العقول والقلوب، وتشويه
عقيدة الإسلام أو سلبها من صدور الشباب والشواب كما قال أحد المستشرقين
الفرنسيين في إحدى مؤتمراتهم: " إننا إن أخفقنا في تنصير شباب المسلمين في
المغرب فحسبنا زرع بذور الشكوك في عقيدتهم، وإفساد قلوبهم نحو القرآن "،
وهكذا فعلت المدارس الأجنبية التبشيرية في ديار الشرق الإسلامي، ونكتفي
بهذه الإشارة لأن الخوض في هذا الموضوع خارج عن غرض هذه المقدمة،
وغاية قصدنا من هذا المدخل الوجيز هي الإشارة العابرة إلى العوامل والدوافع
والحوافز التي حفزت كبار المصلحين المسلمين في فجر يقظة الشرق والنهضة

6
الإصلاحية التي عملت لإيقاظ الرقود في الشرق، وتجديد رسالة الإسلام والذود
عن حياضها وإحياء فلسفة القرآن المتطورة على كر العصور، وتعاقب الدهور،
فهي لا شرقية ولا غربية، بل جامعة بين الروحانية والمادية، كما يفرضه قانون
الحياة وسنة الوجود الإنساني، ونواميس الكون، لهذا سمي الإسلام دين
الفطرة، أي دين الإنسانية، فهو يحارب المادية ويطاردها إذا هي تجردت من
المعاني الروحية، كما يتنكر للروحانية الصرفة إذا ما جانبت الجوانب المادية
البريئة، وفي القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة، وفي أقوال وتعاليم أهل البيت
عليهم السلام كثير من الأمثلة والشواهد الرائعة الناطقة بهذه الحقيقة الكونية
الأزلية، ولا مجال لذكرها وسردها هنا.
كان في مقدمة الذين نذروا أنفسهم في صد التيارات التبشيرية ضد
الإسلام، دولة المصلح المجاهد الشجاع المرحوم فخر الشرق والإسلام السيد
جمال الدين الأفغاني وتلاميذه الأحرار، وعلى رأسهم مفتي ديار المصرية
العلامة الشهير الشيخ محمد عبده، ومن تخرج عليه من أفذاذ رجال العلم
المفكرين كالسيد رشيد رضا والسيد عبد الرحمان الكواكبي وأضرابهما من
الغيارى. ومن آثار السيد الأفغاني في مكافحة الالحاد كتابه المشهور في الرد على
الدهريين، وتبعه تلميذه الشيخ محمد عبده في صد هجوم المستشرقون وحملاتهم
على رسول الإسلام " ص "، وشريعة القرآن في كتابه " الإسلام والرد على
منتقديه "، و " الإسلام والنصرانية " وغيرهما، أما الكواكبي فحسبه كتابه القيم
" طبائع الاستبداد "، وكتابه " العروة الوثقى ".
أما في ديار الرافدين فقد انفرد بالكفاح والنضال فقيد الشرق الإمام الحجة
نصير الإسلام الشيخ محمد الجواد البلاغي، فجرد قلمه البليغ، وهو أقطع
بحجته من الحسام في وجوه الملحدين والمبشرين المستشرقين في الشرق والغرب،
وقد تضمنت مؤلفاته الكثيرة القيمة جهاده الطويل المبارك في الذب عن حقائق
الإسلام، وفي مقدمتها كتابه " الهدى إلى دين المصطفى " وهو هذا الكتاب،
وكتابه " الرحلة المدرسية " و " أنوار الهدى " و " نصائح الهدى " وغيرها مما سيأتي
تفصيلها.

7
الإمام البلاغي وملامح شخصيته ومقوماتها:
هو غصن كريم من الدوحة " البلاغية " الباسقة في سماء الفضل والشرف
وعلم أعلامها وشهاب فضلائها وأبدالها، بل كوكب دراريها الثاقبة الساطعة في
دياجير الأزمات الشديدة الحلكات، وظلمات المعضلات المدلهمات، فأسرته من
أعرق الأسر العراقية، وقبيلته ربيعة (1) خير القبائل العربية في جاهليتها
وإسلامها، وبيته من أرفع بيوت العلم والدين والأدب، فهو عربي أصيل،
وفي الذؤابة من تغلب الغلباء، نزاري العمومة، هاشمي الخؤلة، خالص
المعدن في نسبه وحسبه، فنشأ في حجر الفضيلة وترعرع وفطم على حب المكارم
والشناشن العربية الأصيلة، وتربى على أسس التربية الإسلامية الرفيعة، وقد
التزم بمحاسنها ومثلها العليا، فكان مثال العربي الصميم الصريح ونموذج المسلم
القرآني المثالي الصحيح الإيمان الصادق العقيدة الكامل الإنسانية بمعناها
الواسع، فإن أحب شئ لنفسه فعل الخير والسعي في سبيله، وأبغض الأشياء
عنده بل أنكر المنكرات، سطوات الشر والأشرار في المجتمع الإنساني، فكان
رحمه الله تعالى داعي دعاة الفضيلة ومؤسس المدرسة السيارة للهداية والإرشاد
وتنوير الأفكار بأصول العلم والحكمة وفلسفة الوجود، فقد أفطمت جوانحه
على معارف جمة، ووسع صدره كنوزا من ثمرات الثقافة الإسلامية العالية
والتربية الغالية، وقد نهل وعب من مشارع المعرفة والحكمة الصافية حتى أصبح
ملاذ الحائرين الذين استهوتهم أهواء المنحرفين عن المحجة البيضاء، وخدعتهم
ضلالات الدهريين والماديين، كما كان الملجأ الأمين لمن رام من المستشرقين
الاطمئنان بإزاحة الحجب عن وجه الحقيقة والحق، وللوصول إلى ساحل اليقين
كالمستشرق " المستر خالد شردراك " وأمثاله من أعلام الغرب الذين يهمهم
كشف المخبأ من أسرار المعارف المحمدية والحكمة المشرقية، حيث آنسوا فيه
ندرة المواهب العقلية والملكات النفسية القوية والطاقات الفكرية العجيبة،
وينابيعه الثرة العذبة المتفجرة من قلبه الكبير المتدفقة على لسانه الجارية على قلمه
السيال.



(1) وإليها ينتهي نسب " الكاتب ".
8
ومن ملامحه ومخائله الدالة على كماله النفسي هي فطرته السليمة وسلامة
سلوكه الخلقي والاجتماعي، وحدة ذكائه وقوة فطنته، وعفة نفسه ورفعة
تواضعه، وصون لسانه عن الفضول، ولين عريكته، ورقة حاشيته وخفة
روحه وأدبه الجم، وعذوبة منطقة، وفيض يده على عسره وشظف عيشه فهذه
السجايا والخصال هي أهم صفاته الكمالية، وقد ورثها - بحكم قانون الوراثة -
عن آباء آبائه البلاغيين البهاليل الكرام.
ومن مقومات شخصيته العلمية وملكته الفلسفية والأدبية كثرة ملازمته
لأساطين الفنون العربية وأئمة الفقه الإسلامي وجهابذة الفلسفة والكلام،
هؤلاء الفحول الذين كانت تحتضنهم مدينة " باب مدينة العلم " النجف
الأشرف وهي أعظم جامعة إسلامية لشتى الفنون والعلوم القديمة، أما العلوم
المتنوعة الحديثة فقد درسها على نفسه بالإضافة إلى اللغة الفارسية والإنجليزية
والعبرية ومن أشهر شيوخه الذين ارتشف ونهل من نميرهم الصافي هم حجج
الإسلام الشيخ محمد طه نجف، والحاج آغا رضا الهمداني، والأستاذ الأكبر
الشيخ محمد كاظم الخراساني، والميرزا محمد تقي الشيرازي القائد الروحي
للثورة العراقية الكبرى سنة 1920 م، وبعد أن ارتوى من تلك الينابيع
الفياضة والمناهل العذاب نضجت مواهبه وملكته الاجتهادية، فاستولى على زمام
الاجتهاد والاستنباط وصار إماما مجتهدا بجدارة واستحقاق ومجاهدا مضحيا
بالنفس والنفيس في خدمة الحق وإبطال الأباطيل ورفع راية الإسلام، حتى
أضحت داره كعبة القصاد ومدرسة النبهاء والفهماء، إذ امتازت بطابعها الخاص
وهو فن المناظرة والجدل، ودراسة قواعد الدفاع وطرق النضال العلمية
والفلسفية والأدبية في حومات المعارك الفكرية، كما كانت مدارس الاعتزال في
العصر العباسي إزاء أصحاب الأديان والمعتقدات المتطرفة وأهل الآراء والمذاهب
المخالفة لمذهب الاعتزال، وكانت مجاهدة الإمام البلاغي والمصابرة عليها
ومصاولاته الفكرية المجهدة في رد اعتراضات الملحدين، وطعون أهل الأهواء
أمثال جرجيس صال الإنكليزي، وصاحب كتاب " الهداية " المتكلف الضال مما
ساعد على اشتهار الإمام البلاغي وذيوع صيته في الشرق والغرب، حتى
أصبحت مدرسته مناخ العقليين الهائمين وراء الحقائق، وداره المتواضعة محط

9
المسترشدين المتبصرين من أرجاء الدنيا، بل علماء المعاهد الفلسفية، وأساتذة
الجامعات الكبرى العلمية.
جهاده وآثاره الخالدة:
إن المتتبع لسيرة عظماء الأمم وزعماء الشعوب وعباقرة الأقوام يجد أن سر
خلودهم كامن في عمق إيمانهم وقوة إرادتهم الحديدية، وفي صدق إخلاصهم
وشدة الصبر والمصابرة على مرارة الجهاد في سبيل إعلاء، كلمة الحق وإذلال
سلطان الباطل أو في سبيل الكفاح والنضال لإحياء المثل الأخلاقية الصحيحة
وتجديد العقائد السليمة، والتراث التاريخي العتيد الذي هو مصدر مفاخر
الأمم، ومحفزها إلى الارتقاء والتقدم، وهكذا يعمل قادة الفكر وأئمة الاصلاح
في كل وسط ومجتمع سواء منهم صاحب السيف أو القلم أو رب السيف والقلم
معا، أو الفيلسوف الحكيم والعالم الرباني العامل لنصرة العقيدة الحقة وإنقاذ
المجتمع من الظلمات إلى النور، فهؤلاء القادة القادة البررة قد خلقوا لأداء رسالة
الاصلاح كلما تردت المجتمعات البشرية وانطمست معالم الخير فيها، وشاعت
شرور الالحاد في صفوف أفرادها.
والمتدبر لسيرة الإمام البلاغي " رضوان الله عليه " منذ رفعت عنه تمائمه
حتى لحوقه بالرفيق الأعلى، يجدها قد حفلت بألوان عجيبة باهرة بالأعمال
المجيدة والمساعي الحميدة لرفع لواء الاصلاح ومنار العلم، وتجديد صرح
المعرفة وكشف الحجب التي أسدلتها يد الجهالة المظلمة في عهود الانحطاط على
جواهر حقائق الإسلام وقيامه بالدفاع المشكور عن محاسن ويسر الحنيفية السمحة
فإنه انعكف منذ عرف نفسه على الكتاب والدرس والاختلاف إلى دور العلم
ومجالس العلماء، وندوات الصلحاء حتى إذا استد ساعده (1)، ونضجت مداركه
وتوسعت معارفه، وشاع فضله وفواضله في أوساط الفضيلة والفضلاء، وأندية
العلم، والعلماء، اتجه بكليته مستضيئا بنور عقله الوهاج، وفكره النير المتوقد،
وبقوة إيمانه وصدق إخلاصه، ومن ثم بغزارة معارفه وآدابه، وجولات قلمه -
البلاغي - البارع إلى تخليد الغرر والدرر في بطون شتى الرسائل والكتب، وهو



(1) استد بالسين لا بالشين، ويخطأ من يلفظها بالشين.
10
من أجل قيامه بأداء رسالته وشغفه بشرف الجهاد في سبيلها قد آثر الانزواء عن
الناس لا يغادر غرفته ومكتبته اللهم إلا في أوقات الصلاة وزيارة الحرم
المقدس، وفي خروجه للسوق لتموين عائلته بالغذاء اليومي، وكان يحمله إليهم
بنفسه ويعتذر لمن يروم مساعدته بحمله عنه فيقول له: " رب العيال أولى
بعياله "، أما ما سوى ذلك فلا تجده يبرح غرفته تحيط به كتبه التي يرجع إليها
في تحقيقاته الفقهية والأصولية والكلامية، أو في تعقيبه وتعليقه على كتاب أو على
رأي من الآراء العلمية والفلسفية الحديثة، فتراه دائما مكبا ممعنا نظره في تحرير
الأجوبة على المسائل العويصة والمشاكل المعضلة التي ترده من أنحاء العراق
والأقطار البعيدة، أو تراه منهمكا في التأليف أو في شرح الأبحاث العقائدية أو
في تفسير آي القرآن الحكيم، وأسعد ساعاته هي التي يشغلها في المناقشة
والمحاورة مع طلابه فيما يدق ويغمض عليهم من دقائق الموضوعات المنطقية
والكلامية والفقهية، والفنون العربية وغيرها من أبواب المعرفة ومن محصول هذه
العزلة والانزواء قد زود المكتبة العربية والغربية بآثاره الجليلة القيمة، وسيأتي ذكر
المطبوع وغير المطبوع منها قريبا، وقد تتجلى للقارئ عظمة جهاده واجتهاده
واتساع ثقافته، والمعاصرة الفكرية الجبارة التي عاشها وسط تلك الزعازع
والأعاصير والتيارات التي هبت على المشرق الإسلامي من قبل شيوخ الزندقة
والإلحاد وأصحاب البدع والأهواء المردية، وتلك العظمة تنبئنا عنها كتبه.
1 - الرحلة المدرسية أو المدرسة السيارة.
2 - التوحيد والتثليث.
3 - البلاغ المبين.
4 - أنوار الهدى.
5 - نصائح الهدى.
6 - الهدى إلى دين المصطفى، وهو هذا، وسنخصه بالقول لأهمية
موضوعاته ومضامينه، فأما الرحلة المدرسية فقد دلت على خياله الواسع الوثاب
وتفكيره العميق وذوقه العالي وأسلوبه الروائي الحديث المبتكر، وقد دارت

11
بحوثه ومحاوراته على لسان جماعة من ذوي النزاعة والرجاحة لتمحيص الحقائق
وتنزيه العقائد من خلال الرسالات السماوية وتطورها التاريخي وبخاصة منذ
عهد التوراة والزبور والإنجيل والقرآن العظيم، وهو خاتمة الرسالات لهداية
البشر إلى فكرة التوحيد الخالص بعد أن اجتازت البشرية عبادة الأحجار
والأشجار والحيوانات والكواكب والآباء والأمهات إلى غير ذلك من صنوف
العبادات التي ما أنزل الله بها من سلطان. وإنما كانت من أثر الطفولة العقلية،
وقد حرر الإمام البلاغي " رضي الله عنه " هذه الفصول الفلسفية العقائدية
الدقيقة بقلم العالم النحرير المتمكن دون تحيز وتعصب وتحامل على أهل الأديان
والمذاهب المخالفة وبلغة سهلة واضحة يفهمها حتى سقيم الفهم وختمها
بخلاصة مهمة في إثبات أن دين الإسلام هو دين الفطرة وشريعة الإنسانية مهما
تقدمت الحياة وارتقت البشرية أو تطور وتجددت المذاهب الفلسفية
واختلفت الأجناس، ولا قوة للمبادئ المادية الإلحادية المظلمة على إطفاء نور
الإسلام الساطع الباهر وفي تعاليم الحنيفية سر سعادة الإنسانية المعذبة، هذه
هي الخطوط الأساسية لكتاب الرحلة المدرسية، ونظرا لقيمتها العقائدية
الفلسفية ومباحثها الكلامية الإسلامية وتبسيط علل خلق الكائنات، وعجائب
المخلوقات، من أجل ذلك اهتم بها الباحثون فترجمت لأكثر من لغة واحدة.
وهكذا تضمنت مؤلفاته التي أشرنا إليها آنفا وهي " التوحيد والتثليث "
و " أنوار الهدى " و " البلاغ المبين " فإنها قد عالجت فكرة التوحيد وإبطال عقيدة
الثالوث، وتفنيد آراء الماديين والدهريين وسائر مقالات الطبيعيين، ورد حملات
الحاقدين المغرضين واعتراضاتهم الفاسدة، وقام بتلك المجالدة والمجادلة القلمية
بأسلوبه اللين الهين مراعيا القاعدة المعروفة " مناظرك نظيرك " مع الأدب الجم،
والخلق الرفيع.
أما كتابه " نصائح الهدى " " ورسالته إلى من كان مسلما فصار بابيا " فكل
منهما قام على الدليل القاطع والحجة الدامغة، والحجاج المفحم المسكت، في
تسفيه أحلام أصحاب الدعوة البابية والبهائية بالمعقول والمنقول، وتزييف

12
عقيدتهم وإشهار زيفهم، ومن ثم بتسديد الحراب إلى صدر البهاء والباب،
وتلك الحراب هي البراهين الوضاءة التي أقامها " ر ح‍ " على هدم دعوتهم
وإبطال مزاعمهم ومفترياتهم وأوهامهم التي سطر دعاة الضلالة المانوية أسطارها
في " الأقدس " و " البيان " و " الألواح " (1) وغيرها من فنون هذيان المجان
وإخلاط ابن ديصان المجوسي وأضرابه من شيوخ الزندقة الذين كانوا وما زالوا
يتلونون كالحرباء في كل عصر ومصر بألوان براقة خداعة وبشعار جديد يتبطن
الإباحية والكفر والإلحاد كالحركة القرمطية بالأمس والشيوعية اليوم والغرض
المشترك لتلك الحركات الهدامة هي القضاء على معالم العروبة والإسلام.
ومن آثار جهاد الإمام البلاغي إثارة الرأي العام ضد البهائية في الكرخ
وإقامة الدعوى في المحاكم لمنع تصرفهم في الملك الذي استملوا عليه واتخذوه
كعبة لهم، وباصطلاحهم - حظيرة - لإقامة شعائر الطاغوت، وقضت المحاكم
بنزعه منهم، واتخذ مسجدا إسلاميا تقام فيه الصلوات الخمس والمآتم الحسينية
في ذكرى الطف والبطولات الرائعة.
وقد طبع من آثاره القلمية القيمة الخالدة:
1 - الهدى إلى دين المصطفى، وهو هذا الكتاب.
2 - الرحلة المدرسية أو المدرسة السيارة.
3 - أنوار الهدى.
4 - نصائح الهدى.
5 - رسالة التوحيد.
6 - أعاجيب الأكاذيب.
7 - البلاغ المبين في الإلهيات.



(1) هذه الكتب أهم كتب البهائية الضالة المضللة.
13
8 - أجوبة المسائل البغدادية في أصول الدين.
9 - الرسالة الأولى في نقض فتوى الوهابيين بهدم قبور المقدسة في مكة
المكرمة والمدينة المنورة.
10 - الرسالة الثانية في تفنيد فتواهم أيضا.
11 - رسالة في وضوء الإمامية وصلاتهم وصومهم، طبعت بالإنجليزية.
12 - العقود المفصلة في المسائل المشكلة.
13 - تعليقة على مباحث البيع من مكاسب شيخ المجتهدين الإمام
الأنصاري.
14 - آلاء الرحمان في تفسير القرآن، طبع منه الجزء الأول والثاني وهو
آخر مؤلفاته.
15 - رسالة في التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري عليه
السلام.
16 - رسالة في الاستدلال على صحة مذهب الإمامية عن طريق غيرهم.
17 - رسالة نسمات الهدى.
18 - رسالة في البداء.
أما المخطوطات منها:
1 - داعي الإسلام وداعي النصارى.
2 - رسالة في الرد على كتاب تعاليم العلماء.
3 - كتاب المصابيح في إبطال مذهب القاديانية.
4 - كتاب الشهاب في الرد على كتاب حياة المسيح " ص ".
5 - رسالة الرد على كتاب ينابيع الكلام لبعض المسيحيين.
6 - أجوبة المسائل التبريزية في الطلاق وتعدد الزوجات والحجاب وبعض

14
المسائل الأخرى.
7 - في الأصل العربي، وقد طبعت بالإنجليزية " وضوء الإمامية
وصلاتهم ".
8 - رسالة في القبلة وتعيين مواقع بعض البلدان المهمة في العالم من مكة
المكرمة.
9 - رسالة في مواقيت الإحرام.
10 - رسالة في ذبائح أهل الكتاب.
11 - رسالة في المتمم كرا.
12 - رسالة في الغسالة.
13 - رسالة في حرمة مس المصحف الشريف على المحدث.
14 - تعليقة على كتاب الشفعة من كتاب " الجواهر ".
15 - رسالة في منجزات المريض.
16 - رسالة في إقرار المريض.
17 - رسالة في الرضاع.
18 - رسالة في فروع الرضاع.
19 - رسالة في قاعدة على اليد ما أخذت.
20 - رسالة في إبطال العول والتعصيب.
21 - رسالة في التقليد.
22 - رسالة في الأوامر.
23 - رسالة في الخيارات.
24 - رسالة في صلاة الجمعة لمن سافر بعد الزوال.
25 - رسالة في تنجيس المتنجس إذا لوقي برطوبة.

15
26 - رسالة في اللباس المشكوك.
27 - رسالة في حالة العلم الإجمالي مع الأصول والنظر في جملة فروعه.
28 - رسالة في حرمة حلق اللحية.
29 - رسالة في أن من يدين بدين يلزم بمقتضى نحلته في مقام الحقوق.
30 - تعليقة على العروة الوثقى.
هذا التراث الضخم من آثاره القلمية، وثمراته الفكرية، يقول فيه
الأستاذ الشاعر الفحل السيد محمود الحبوبي مخاطبا المؤلف في رثائه:
دأبت بنشر ما سميت كتبا * ودين الله سماها دروعا
* * *
في هذه القصيدة وصف الشاعر قلم الإمام البلاغي وقد أجاد فقال:
فتى القلم الذي إن صر ألقى * صليل المشرفي له الخضوعا
وإن تحمله مختضبا مدادا * فماذا السيف مختضبا نجيعا
وإن رضع الدواة ترى شيوخ * الضلالة تتقي ذاك الرضيعا
وقد جاراه في هذه الحلبة الشاعر الفصيح الأستاذ صالح الجعفري فقال:
لا يفعل السيف مكسور القراب كما * قد كان يفعل إذ تستله القلم.
أدبه:
كان " رضوان الله عليه " من فحول الشعراء، وإن اشتهر بمؤلفاته
العلمية والفلسفية، غير أن الفضلاء من كبار الأدباء والشعراء يقرؤون له
بمكانته الأدبية، وشاعريته المطبوعة، فهو شاعر محسن مجيد، تزخر أشعاره
بالعواطف الوجدانية، والمشاعر الإنسانية والتأملات الروحية، وأكثر شعره كان
في أهل البيت عليهم السلام، أو في تهنئة خليل أو رثاء عالم جليل أو في حالة
الحنين إلى الأخلاء يحتمه عليه واجب الوفاء، وإما أن تهزه دواعي الدفاع عن
رأي علمي، أو شرح فكرة فلسفية بطريق المعارضة الشعرية، كما في قصيدته

16
العينية التي عارض فيها قصيدة الرئيس ابن سينا في النفس، ولم يكن " رحمه
الله " بالشاعر الفصال (1)، ولم يكن من الفقهاء المتزمتين الذين يتنكرون
للشعر ونظمه، ويرونه مزريا بالعلماء، بل كان كثير الاحترام للشعراء المناضلين
في سبيل الله الفضيلة الأخلاقية ونصرة المثل الإسلامية المثلى ووسيلة إذاعة فضائل
أئمة أهل البيت عليهم السلام والإشادة بمحاسنهم، بيد أنه بالرغم من سلاسة
شعره، وإشراق ديباجته، ورصانة تركيبه وفصاحة ألفاظه، ولطافة معانيه،
وحلاوة أسلوبه وطلاوته، فإنه لا يزاحم من حيث القوة الشاعرية المبدعة التي
امتازت بها الطبقة الأولى من فحول شعراء عصره كالسيد إبراهيم الطباطبائي
والسيد موسى الطالقاني والسيد المجاهد العلامة الكبير والشاعر الشهير السيد
محمد سعيد الحبوبي والشاعر الرقيق السيد جعفر الحلي وشاعر الرثاء والحماسة
المخترع السيد حيدر الحلي " عليهم رحمات الرحمان ".
ومن شعر الإمام البلاغي الذي سارت به الركبان، قصيدته التي نظمها
في الرد على قصيدة أحد علماء بغداد المنكرين لوجود الإمام الثاني عشر المنتظر
وغيبته عليه السلام ومطلعها:
أيا علماء العصر يا من لهم خبر * بكل دقيق حار في نعته الفكر
فأجابه الشيخ الجليل البلاغي " رضي الله عنه " بقصيدة طويلة بلغت
مائة وتسعة أبيات، وهي من عيون شعره، ومستهلها:
أطعت الهوى فيهم فعاصاني الصبر * فها أنا ما لي فيه نهي ولا أمر
ومنها:
أروح وقلبي للواعج والجوى * مباح وأجفاني عليها الكرى حجر
وفي أواخرها يقول:
وقد جاء في الآثار عن كل واحد * أحاديث يعيي عن تواترها الحصر
تعرفنا ابن العسكري وإنه * هو القائم المهدي والواتر الوتر



(1) الشاعر الفصال: الذي يتكسب بشعره.
17
ومن قصيدته العينية التي عارض فيها عينية الرئيس ابن سينا في النفس
ومطلعها:
نعمت بأن جاءت بخلق المبدع * ثم السعادة أن يقول لها " ارجعي "
خلقت لأنفع غاية يا ليتها * تبعت سبيل الرشد نحو الأنفع
الله سواها فألهمها فهل * تنحو السبيل إلى المحل الأرفع
ومنها:
فخذي هداك فتلك أعلام الهدى * زهر سواطع في الطريق المهيع
وتروحي بشذى الطريق وأملي * عقبى سراك إلى جناب الممرع
إلى آخرها وهي طويلة وذات معاني فلسفية عالية.
* * *
وقصيدته في ثامن شوال من سنة 1344 ه‍، وهو اليوم الذي هدمت فيه
قبور أئمة الهدى الأطهار عليهم السلام في البقيع، ومطلعها:
دهاك ثامن شوال بما دهما * فحق للعين إهمال الدموع دما
ومنها:
يوم البقيع لقد جلت مصيبته * وشاركت في شجاها كربلا عظما
وقوله من قصيدة غزلية:
مدت إلى رمل الحمى أعناقها * طلائع قد شاقني ما شاقها
تزف زفات الظليم نافرا * حيث الغرام قادها وساقها
وله " رحمه الله " مراسلات إخوانية، ومناظرات علمية، ومراجعات
شعرية مع العلامة البحاثة خالد الذكر السيد محسن الأمين العاملي " رضي الله
عنه " قد بسطها في موسوعتها الجليلة الموسوعة ب‍ " أعيان الشيعة " وفي الجزء
السابع عشر منها من ص 67 إلى ص 102، وفي ديوانه " الرحيق المختوم "،
وقد دلت تلك المراجعات على غزارة علم وأدب وعمق تفكير وسعة اطلاع،

18
وقد جمع سيدنا العاملي في موسوعته ورحيقه أشعار البلاغي الرائقة ومختلف فنونه
المختارة الفائقة " فراجعها ".
وكان من لدات الإمام وخلصائه المجاهد العلامة الكبير والشاعر النابغة
السيد محمد سعيد الحبوبي، وبعد وفاته رثاه الحجة بقصيدة دامعة، ومطلعها:
شاقك البرق فأسرعت سباقا * وتركت الصب يلتاع اشتياقا
نكتفي بهذه النماذج البلاغية الدالة على سائر روائعه وبدائعه.
ميلاده، ووفاته، وما قيل في رثائه:
اختلف في ولادته، فذهب سيدنا أبو الحسن المحسن الأمين العاملي
" رضي الله عنه "، إنه ولد في سنة 1285 ه‍، وتبعه بعض المترجمين له ومنهم
من ذهب أنه ولد في سنة 1280 ه‍، أما علامتنا الحجة الخريت الشيخ آغا بزرك
" أدام الله وجوده " فقد عين تاريخ ولادته في سنة 1282 ه‍ وهذا هو القول
الراجح عندي، لأنه من المتفق عليه إن الإمام البلاغي قد توفي وعمره " 70 " سنة،
أما تاريخ وفاته فكان في عام 1352 ه‍، وفي يوم 22 شعبان من تلك
السنة، وقد أجمع المترجمون له على ذلك، وكان قد ابتلى بداء السل ولكن الذي
قضي عليه هو مرض ذات الجنب، وما أن نعاه النعاة حتى ارتجت مدينة النجف
الأشرف فألقت بأفلاذها، وقذفت بسكانها على اختلاف طبقاتهم وهم يندبون
فقيد الإسلام، ونابغة الشرق، وقد اهتزت لفقده محافل الشرق وأندية
الغرب، وبكته محاريبه وصلواته وأقلامه ودفاتره ومؤلفاته وسار في تشييع جثمانه
آلاف من الجماهير يتقدمهم عظماء المجتهدين وأساطين العلم والأدب، وأقيمت
له الفواتح والمآتم وحفلات التأبين في أنحاء الرافدين وأرجاء بلاد " الضاد "
وديار الإسلام، وذكرته الجمعيات العلمية الغربية بالتمجيد والتقدير، وأثنت
على خدماته الجلي وجهوده الجبارة في نصرة الفضيلة، والدفاع عن عقيدته بما
أوتي من الحكمة وفصل الخطاب، ورثاه أكابر العلماء والأدباء بعيون الشعر
الحزين الدامع وفي طليعتهم خاله الأجل العلامة الفهامة سيد شعراء عصره

19
سيدنا وصديقنا المرحوم السيد رضا الهندي في قصيدته البليغة الرائعة،
ومستهلها:
إن تمسي في ظلم اللحود موسدا * فلقد أضأت بهن " أنوار الهدى "
ولئن يفاجئك الردى فلطالما * حاولت إنقاذ العباد من الردى
ومنها:
قد كنت أهوى إنني لك سابق * هيهات قد سبق " الجواد " إلى المدى
فليندب " التوحيد " يوم مماته * سيفا على " التثليث " كان مجردا
وليبك دين محمد لمجاهد * أشجت رزيته النبي محمدا
وليجر أدمعه اليراع لكاتب * أجراه في جفن الهداية مرودا
ومنها:
أأخي كم نثرت يداك من " الهدى " * بذرا فطب نفسا فزرعك أحصدا
إلى آخرها وهي طويلة وكلها من هذا النمط العالي.
ورثاه العالم الأديب المرحوم الشيخ محمد رضا المظفر في قصيدة مطلعها:
يا طرف جد بسواد العين أو فذر * ماذا انتفاعك بعد الشمس بالنظر
ومنها:
قد كان كالبدر في ليل الشتا ومضى * كالشمس معروفة بالعين والأثر
وفي رثائه قال العلامة المفضال السيد مسلم الحلي قصيدة منها هذا
البيت:
إني أرى الموت الزؤام ممثلا * للناس فعل الصيرف النقاد
وقال أحد معارفيه:
في ذمة الله نفس بالجهاد قضت * فكان آخر شئ فارقت قلم
وممن رثاه العالم الجليل الشيخ محمد تقي الفقيه، أحد علماء جبل عامل
بمرثية مختارة، منها:

20
أفنيت نفسك بالجهاد وطالما * بدمائها روى اليراع الظامي
حتى تراءت في الجنان مهيضة * هتف الملائكة " ادخلي بسلام " ومنها:
صيرت قلبك شمعة وحملته * ضوء أمام الدين للإعظام
فأدبته فإذا المدامع أسطر * والنور معناها البديع السامي
وقد أحسن أحد أدباء العربية فخاطبه في رثائه:
زودت نفسك في حياتك زادها * تقوى الإله وذاك خير الزاد
ووصفه أحد البارعين:
تحلى به جيد الزمان وأصبحت * تزان به الدنيا وتزهو الصحائف
ومن جملة من رثاه الأساتذة الأفاضل السيد محمود الحبوبي ومحمد صالح
الجعفري والشيخ محمد علي اليعقوبي (1)،، وغيرهم من أكابر الشعراء وأعلام
الأدب..
المترجمون له:
1 - الإمام ثقة الإسلام السيد محسن الأمين العاملي، في الجزء السابع
عشر من كتابه " أعيان الشيعة "، وفي ديوانه " الرحيق المختوم ".
2 - الحجة الخريت الشيخ آغا بزرك الطهراني في كتابه " أعلام الشيعة "
وفي كتابه " الذريعة إلى تصانيف الشيعة ".
3 - العلامة المؤرخ والأديب الكبير المرحوم الشيخ محمد السماوي في
كتابه " الطليعة في شعراء الشيعة ".
4 - العلامة الكبير المرحوم الشيخ على كاشف الغطاء في كتابه " الحصون
المنيعة ".



(1) القصيدة منشورة على الصحية 235 من ديوان اليعقوبي وعنوانها " الحجة البلاغي "، ومستهلها:
سلوا قبة الإسلام ماذا أمادها * متى قوضت منها الليالي عمادها
21
5 - الأستاذ السيد أحمد الحسيني في مقدمته لكتاب " الرحلة المدرسية "
للإمام البلاغي.
6 - المرحوم الشيخ الجليل محمد علي الأوردبادي في مجلة الهدى العمارية.
7 - الحجة الشيخ عباس قمي في كتابه " الكنى والألقاب ".
8 - الأستاذ الكبير عمر كحالة في كتابه " معجم المؤلفين " المجلد
الرابع.
9 - الأستاذ الكبير خير الدين الزركلي في كتابه " الأعلام " المجلد السادس
وأماكن أخرى من موسوعته.
10 - الأستاذ السيد حسن الحسيني اللواساني في آخر كتاب " آلاء
الرحمان في تفسير القرآن ".
11 - الأستاذ الجليل الشيخ محمد حسن آل ياسين في مقدمته لكتاب
البداء للإمام البلاغي.
12 - الأستاذ السيد عبد الوهاب الصافي في العدد الأول من السنة الثانية
من مجلة " الاعتدال ".
13 - الأستاذ محمد مهدي الآصفي في كتاب " أنوار الهدى " للإمام
البلاغي.
14 - صاحب كتاب " وقائع الأيام ".
15 - صاحب مجلة " الرضوان ".
16 - المرحوم الأستاذ الشيخ جعفر محبوبة في كتابه " ماضي النجف
وحاضرها " الجزء الثاني.
17 - الأستاذ محمد علي جعفر التميمي في كتابه " مشهد الإمام " الجزء
الثاني.
18 - الأستاذ الشيخ هادي الأميني في كتابه " معجم رجال الفكر والأدب

22
في النجف ".
19 - المرحوم العلامة الشيخ جعفر النقدي في كتابه المخطوط " الروض
النضير في شعراء القرن المتأخر والأخير ".
20 - الأستاذ الشيخ علي الخاقاني في كتابه " شعراء الغري " ج 2
ص 437.
21 - الأديب الباحث الأستاذ موسى الموسوي نجل العلامة الجليل
المرحوم السيد صادق الموسوي الهندي في كتابه المخطوط آل البلاغي.
22 - حجة الإسلام المرحوم الشيخ محمد حرز في كتابه " معارف الرجال
في تراجم العلماء والأدباء " ج 1 ص 196 - 200.
وغير هؤلاء الأساتذة والشيوخ الأفاضل ممن اغفلتهم الذاكرة ولم يخطروا
على البال وهم كثر.

23
هذا الكتاب
نعم هذا الكتاب يأتي على رأس مؤلفاته وتصانيفه القيمة، وفي قمة
ذخائره العلمية الغالية، بل هو أنفس نفائسه الفكرية، ومبدعاته العقلية وجاء
أقوى دليل على سعة معارفه، وأسطع برهان على إحاطته بتاريخ الأديان
والشرائع والعقائد تدلك على ذلك أبواب هذا الكتاب وفصوله، وغرائب
مسائله الشاهدة على ثقافته الناضجة، ثم إن هذه المباحث الضخمة الجليلة
والمتشعبة الأطراف التي بين دفتيه وبجزئيه، ونهوض الحجة " رحمه الله " في وجه
المفترين من كتاب الغرب وغيرهم ورد سهامهم المسمومة واعتراضاتهم المغرضة
المحمومة على قدس القرآن الكريم، هذا الجهاد المرير، والمصابرة عليه، وتلك
الجهود الجبارة المضنية والتضحيات الجسيمة التي لم يقم بأعبائها ومكروهها إلا
أصحاب الرسالات الإصلاحية، وإلا أهل العقيدة الراسخة واليقين الثابت لهي
أعظم برهان على مبلغ جهاد واجتهاد حجة الإسلام الإمام البلاغي مؤلف
" الهدى "، وإليك هذه الفقرات من مقدمته التي توج بها الكتاب وأبان فيها
الأسباب والدواعي لتأليفه:
"... وقفت على كتاب عربي أرخ طبعه بسنة ألف وثمانمائة وإحدى
وتسعين ميلادية، لم تذكر مطبعته ولا محلها ولا صاحبها، عنوانه أنه تعريب
هاشم العربي نزيل بلاد الفرنج حالا، عن اللغة الانكليزية لمقالة في الإسلام

24
لرجل ترجمه العرب بأنه جرجيس صال الإنكليزي مولدا ومنشأ، المولود في
أواخر القرن السابع عشر، وقد ألحق المعرب هذه المقالة بتذييل مستقل في
آخرها وتذييلات متفرقات في أثنائها ثم وقفت على كتاب آخر استعير له اسم
" الهداية " وهو يتألف من أربعة أجزاء، ومجموع صفحاتها " 1228 " صفحة
تم تأليفها بين سنة 1900 و 1904 م قد تكلف فيه الرد على كتابي " إظهار الحق
والسيف الحميدي " وقام بتأليف " الهداية " جماعة من علماء الغرب أو أحدهم
الحاقدين على الرسالة المحمدية المنيفة، وقد وجدت الكتابين الأولين على طريقة
ينكرها شرع التحقيق في البحث والأدب في الكلام، والأمانة في البيان، ولا
يرتضيها خدام المعارف المحافظون على فضلهم ورواج بضاعتهم المتحذرون من
وبال الانتقاد ووصمة ظهور الزيف والزيغ، وقد أحببت أن أشير إلى بعض ما
فيهما مما حاد عن الأمانة أو تاه في الغفلة خدمة مني للمعارف وإحقاقا للحق
وانتقادا للزيف ليثني من يريد الكتابة من جماح تعصبه ويأخذ في مزال الأقدام
وعثرات الأقلام بيد قلمه، وقد آثرت أن أجعل ذلك في خلال ما هو الأمثل
بنا، بل الواجب علينا من الإرشاد إلى سبيل الهدى ودين الحق وخالص الإيمان
وحقيقة العرفان، ودين الإسلام المتكفل بأعدل النظام وأحسن التمدن وأكمل
التهذيب لعامة البشر.. الخ ".
وفي " المقدمة السابعة " من الكتاب شرح " رحمه الله " طريقته وأدب
مناقشته وأسلوب جداله مع المعترضين على قدس القرآن وشريعة الإسلام،
وفصل شروط البرهان والجدل وأخبار الآحاد فقال: " لا يخفى على كل ذي
رشد ومعرفة بطريق البحث والمباحثة، إن مباحثة أهل الدين والاعتراض على
جامعتهم وأصل دينهم إنما يحسن ولا يعد خبطا ومراوغة عن الحق، إذا كان
البرهان عليهم بالمقدمات المنهية إلى بداهة العقل أو المسلمة عند عمومهم،
وإذا كان الجدل والالتزام لهم بما يعلم أنه من الدين الذي عكفوا عليه والقدر
الجامع بينهم لا بما كان رأيا أو رواية يختص به واحد أو آحاد من أهل ذلك
الدين لا يفيد علما ولا يذعن عموم أهل الدين بصحته أو أنه من دينهم، فإن
تشبث خصمهم بمثل هذا في الاحتجاج على جامعتهم كان ذلك حيادا عن الحق
لضعف الحجة وضيق الخناق، ولأجل هذا لم أعتمد في هذا الكتاب في البرهان

25
إلا على ما هو حقه من المقدمات البديهية لدى العقل والعقلاء، ولم أجادل عموم
النصارى وألزمهم في جامعة دينهم، والنصرانية التي عندهم إلا بما تسالموا
إلهاميته وصدوره عن الوحي، وهي كتب العهدين التي ذكرنا أنهم متفقون في
هذه القرون على نسبتها إلى الوحي والإلهام، وشرحنا أسماءها في المقدمة
الأولى، ولم أباحثهم خبطا بإزاء آحاد مفسريهم وعلمائهم، أو آحاد تقاليدهم
التي لا توجب في دينهم علما أو يأبى صحتها أغلبهم ".
وتمهيدا لهذه الطريقة الحكيمة التي التزم بها في مباحثة هؤلاء المعاندين
العاندين (1) قدم المقدمات الضرورية، وقعد القواعد الأساسية التي بنى عليها ما
يعجز حملة التوراة والأناجيل من الحجج والبراهين المستمدة من أسفارهم، فقد
جادل أهل التوراة بتوراتهم وأهل الإنجيل بإنجيلهم وخاطبهم بلسانهم ولغتهم،
ورموز مصطلحاتهم، ومن جملة موضوعات الجزء الأول من هذا الكتاب الحفيل
بالحقائق الناصعة: سيرة بني إسرائيل والملة النصرانية، سيرة بني إسرائيل
وتقلبهم في الشرك، وسيرة أصحاب المسيح وتلاميذه، والمعلمين في النصرانية
واضطرابهم واختلافهم، ولا حجة بكتب العهدين، وشهادة بعضها على بعض
بالتحريف، ومنها:
رسالة النبي " ص " والغاية المطلوبة منها، وعصمته في العقل والنقل
والاعتراضات على العصمة وأجوبتها، وفي نسبة المعاصي إلى الأنبياء والجواب
عليها وشؤون الأنبياء مع أقوامهم وموقف القرآن من تنزيههم، وفلسفة القرآن
في القذف، وفي المعجز والمعجزات والعهد الجديد يعارض دعوى المسيح " ع "
ومنها: الأناجيل تنسب التناقض للمسيح وحاشاه من ذلك، وفي حقيقة النسخ
في التوراة والإنجيل والقرآن، الناسخ والمنسوخ في شريعة نوح، دفع الاعتراضات
على القرآن من حيث العربية والعلوم الأخرى من بلاغية وتاريخية وفلكية وغير
ذلك من الفنون القرآنية العجيبة الباهرة.



(1) العاند: المنحرف عن جادة الحق والشرع.
26
ومن موضوعات الجزء الثاني المهمة.
1 - بشارة القرآن باكتشاف أمريكا.
2 - آية السماوات السبع وعلم الهيئة القديمة والحديثة.
3 - في اختلاف العهدين في التاريخ وأوهام المتكلف.
4 - اختلاف الأناجيل في التاريخ.
5 - اختلاف كتب العهد القديم وأوهام المتكلف.
6 - قصة الإسراء والعروج إلى السماء.
7 - نهي الإنجيل عن تسمية أكابر القساوسة والأحبار بالأب إلى غير ذلك
من أحكام الشرائع السابقة لشريعة الإسلام والكشف عن أسرار الآيات القرآنية
ورد شبهات المعترضين عليها أمثال المستشرق جرجيس صال الإنكليزي
وصاحب كتاب الهداية وغيرهما من أعداء التنزيل الحكيم والنور المبين، ومن
ذلك اعتراض صاحب الهداية المتكلف على القرآن العظيم من حيث وضع
الأرض الذي أشارت إليه الآية الكريمة من سورة الكهف " حتى إذا بلغ مغرب
الشمس وجدها تغرب في عين حمئة "، فاعترض صاحب الهداية المتكلف على
ذلك وجعله من الجهل بمبادئ علم الفلك، فقال الإمام البلاغي مؤلف الهدى
رادا له: " قلت لا يخفى أن المغرب أمر مبهم إضافي، وأن لكل ناحية مغربا،
وهو ما تغيب فيه الشمس عن تلك الناحية، والمغرب العمومي للمعمور القديم
(وهو آسيا وإفريقيا وأوروبا) إنما هو البحر أو بعضه في البحر المحيط،
فالشمس لا تغرب عن المعمور المعتد به من هذه القطع الثلاث إلا ويكون تمام
غروبها أو بعضه في البحر المحيط، والآية الكريمة تعرضت لسر الغيب الذي
أظهره الاكتشاف بعد قرون عديدة، وجرى التعبير في الآية عن البحر بالعين
مجازا، كما جرى التعبير في بليغ الكلام عن الفرات بالنطفة " وهي القطرة من
الماء " ونحوها وهو من محاسن المجازات في مقامها وبوصف هذه العين بكونها
حمئة ذات طين قد أشير إلى غيب " أمريكا " لأنه لا يكون تخصيص هذا البحر
ووصفه بكونه ذا طين إلا باعتبار الإشارة إلى أمريكا فلا تحسب أن وصف البحر

27
بكونه ذا طين كان باعتبار وجود الطين في قراره أو حافاته أو شواطئه، لأن كل
بحر وكل نهر وكل عين لا بد أن يكون في حافاته وقراره طين، فلا بد أن يكون
المراد هو الطين الذي في وسطه، ومقتضى المناسبة في وصف المحيط العظيم بأن
في وسطه طينا لا بد أن يكون المراد منه قطعة أمريكا، ألا ترى أن أقل الأقطار
لهذا المحيط يبلغ مائة وثمانين درجة كما في ناحية الدرجة السادسة والستين، وما
قاربها في العرض الشمالي، فما ظنك بالطين المناسب لوصف هذه البحرية،
أتراه يناسب أن يكون أمريكا " - راجع تفصيل البحث في أول الجزء الثاني -
صحيفة 3 وما بعدها.
* * *
وبعد: فإن هذا الكتاب بجزئيه من أهم المراجع للمشتغل في تاريخ
الأديان والمعتقدات للأجناس البشرية، وأصفى المصادر لرجال الفقه المقارن في
الشرائع السماوية، وأغزر الكتب في فن الجدل والمناظرة والمناقشة المنطقية،
هذا الفن الذي يحتاجه المحامون في ساحات العدل للدفاع وإفحام الخصوم في
القضايا الحقوقية العويصة، إذ يربي فيهم ملكة المجادلة، وأسلوب المحاورة في
ضوء الأقيسة العقلية المنطقية وطريقة استخدام الأدلة والشواهد والتمييز بين
صحيحها وسقيمها وقوة حجيتها، ومن محاسن هذا الكتاب وثمراته الشهية
فضح دسائس المبشرين الاستعماريين الحاقدين على الإسلام ورسوله
الكريم " ص " تلك الدسائس اللعينة التي سحر بها شبابنا الجامعيين
الماسونيين، فكان خطرهم أشد من خطر المستشرقين الراكضين في ركاب
الاستعمار باسم التبشير الديني.
هؤلاء الذين جالدهم الإمام " البلاغي " وجادلهم بالتي هي أحسن،
فبدد أوهامهم، وأظهر جهالاتهم، وأدحض حجتهم بالبرهان المفلج المقنع،
ولهذا فإن هذا الكتاب خزانة علم وعرفان لا غنى للمحامين الغيارى عن حقائق
الإسلام الحنيف، وشريعته السمحة ويسرها عن هذه الخزانة الغالية.
وبهذه المناسبة أنقل هنا ما حدثني به صديقي الثقة الأستاذ الجليل العلامة
الكبير السيد محمد تقي الحكيم عن أثر " الهدى " وبركته، فقال:

28
" كنت قد حضرت قبل عدة سنين ومعي المرحوم الشيخ محمد رضا المظفر
والأستاذ الأديب الكبير الشيخ محمد علي اليعقوبي، والشيخ محمد كاظم الشيخ
صادق الكتبي صاحب المكتبة والمطبعة الحيدرية في النجف الأشرف حفلة عظيمة
في الهند، وعرضت فيها أكداس من الكتب وكان كتاب (الهدى) من جملة تلك
الكتب، وشاهدت أحد موظفي السلك الدبلوماسي من لبنان يتجول بين
الكتب، فلفت نظره كتاب (الهدى) فأخذه وقبله ووضعه على رأسه متبركا
به، وقد سألناه عن علة ذلك؟ فقال: " كنت أحد طلاب المدارس الفرنسية في
لبنان، وقد لاحظت وسمعت من أساتذة تلك المدارس هجوما متواصلا على
انتقاد الدين الإسلامي وتسخيفه والحط من شأنه مجاهرة أمام الطلاب، وأنه
بطريق المصادفة اشترى كتاب " الهدى إلى دين المصطفى " فقرأه وأدمن في
قراءته، فكان لهذا الكتاب أثره البالغ في بقائه على إسلامه وتقوية عقيدته،
والمنافحة عنها أمام المشعوذين والدجالين من مناوئي الإسلام ومنتقديه جهلا
وظلما وبالزور والبهتان ".
وهذا المجد العلمي الباذخ والفضل الشامخ لا يدعيه صاحبه الإمام
البلاغي فتراه يتواضع تواضع الحكماء الزهاد بعدم ذكر اسمه وعنوانه على كتابه
هذا وغيره من مؤلفاته الخالدة، وإنما يكتفي بتسطير هذه الإشارة "... لأقل
خدمة الشريعة المقدسة... النجفي "، ثم يرجو كل من له اعتراض أو سؤال
يتعلق بالكتاب أو غيره من كتبه في أمر الدين وحقيقة الإسلام أن يتحفه بالمكاتبة
ليقدم له الجواب مقرونا بالشكر والاحترام، وختم رجاءه بتوقيعه " الأقل كاتب
الهدى ". وكان شعاره " رضي الله عنه " خدمة الحق وحده والدفاع عنه دون
أي اعتبار، ويتجلى شعاره المثالي هذا في كلمته الذهبية الحكيمة التي تفيض
بالصدق والإخلاص: " إن همي الوحيد هو خدمة الحق والدفاع عنه لوجه الله
تعالى سواء كان الدفاع على يدي أو على يد سواي "، وهذا هو شعار المصلحين
المؤمنين بالمثل العليا والذي رفعه إلى منازل الكرامة ومصاف الخالدين، أجل
هذا الشعار قد زهده في أن يضع اسمه ويرسم عنوانه على مؤلفاته الجليلة
الضخمة الآنفة الذكر.
هذا هو كتاب " الهدى " العظيم وصاحبه الفضيل البجيل، وسيقف

29
القراء الكرام على ما في " الهدى " من وجوه المعرفة ومعجزات الفكر السديد ما
يعنيهم عن الموسوعات الكبرى في العلم والفلسفة والفقه والتفسير والكلام
وتاريخ الشرائع والعقائد، وأدب الحجاج والجدل الوفير الرفيع.
رحم الله تعالى الإمام الحجة " محمد الجواد البلاغي " وأكرم مثواه، وأعلى
منازله في فراديس جنانه مع الصديقين والشهداء.
وأخيرا إنه لحظ عظيم وشرف كبير إن أقدم للقراء الأفاضل هذا الكتاب
الجليل البجيل بثوبه القشيب الجديد، وأنا أشعر بالتقصير والخجل حيث جرى
تحبير هذه المقدمة وأنا في مصيفي تتراوحني النوبات القلبية تارة، وآونة تشتد على
وطأة داء السكر، ولذا اضطررت على إيجازها خشية الإسهاب الممل، وخير
الكلام ما قل ودل، وإني لأتقدم بوافر الشكر للأخ النبيل الأستاذ محمد علي
البلاغي لما غمرني به من لطفه العميم، إذ اختارني لأداء هذا الواجب في خدمة
الدين والعلم والفضيلة.
والله في عون الجميع وهو المسدد للصواب.
نزيل لبنان - الشبانية 12 - 8 - 965. توفيق الفكيكي.

30
بسم الله الرحمن الرحيم
(قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ
هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى
الهدى إئتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين) (1) (ولن ترضى
عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن
اتبعت أهوائهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) (2)
(ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) (3)
اللهم فلك الحمد والشكر دائما أبدا كما أنت أهله، على أن هديت إلى الحق.
وأوضحت سبيل الرشد وأنرت البرهان على حين فترة من الرسل، فلطفت
وأنعمت بإرسالك صفوة الأنبياء وخاتم عدتهم والدليل على نبوتهم المبعوث بأتقن
شريعة وأوضع طريقة الداعي إلى الحق والهادي إلى الصواب محمد رسولك
الصادق الأمين الصادع بأمرك والمجاهد في سبيلك صلواتك عليه وعلى آله
الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين.
وبعد: فإني وقفت على كتاب عربي أرخ طبعه بسنة ألف وثمانمائة وإحدى



(1) سورة الأنعام 70.
(2) سورة البقرة 114.
(3) سورة آل عمران 79.
31
وتسعين ميلادية لم تذكر - كما هو المعتاد - مطبعته ولا محلها ولا صاحبها عنوانه أنه
تعريب هاشم العربي نزيل بلاد الإفرنج حالا عن اللغة الانكليزية لمقالة في
الإسلام لرجل ترجمه المعرب بأنه جرجيس صال الإنكليزي مولدا ومنشأ المولود
في أواخر القرن السابع عشر، وقد ألحق المعرب هذه المقالة بتذييل مستقل في
آخرها وتذييلات متفرقات في أثنائها.
ثم وقفت على كتاب آخر استعير له اسم الهداية قد تكلف فيه الرد على
كتابي إظهار الحق والسيف الحميدي فوجدت الكتابين الأولين على طريقة ينكرها
شرع التحقيق في البحث والأدب في الكلام والأمانة في البيان ولا يرتضيها خدام
المعارف المحافظون على فضلهم ورواج بضاعتهم المتحذرون من وبال الانتقاد
ووصمة ظهور الزيف والزيغ، وقد أحببت أن أشير إلى بعض ما فيهما مما حاد
عن الأمانة أو تاه في الغفلة خدمة مني للمعارف وإحقاقا للحق وانتقادا للزيف
ليثنى من يريد الكتابة من جماع تعصبه، ويأخذ في مزال الأقدام وعثرات الأقلام
بيد قلمه، وقد آثرت أن أجعل ذلك في خلال ما هو الأمثل بنا، بل الواجب
علينا من الإرشاد إلى سبيل الهدى ودين الحق وخالص الإيمان وحقيقة العرفان،
دين الإسلام المتكفل بأعدل النظام، وأحسن التمدن وأكمل التهذيب لعامة
البشر، وقربهم من الله وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
وقد رتبت كتابنا هذا على مقدمات ومقاصد وخاتمة.
" تنبيه " الظاهر أن مصنف المقالة السابق ذكرها هو الذي سماه الدكتور
سعادة في مقدمته على معرب إنجيل برنابا بالمستشرق سايل، وأن هذه المقالة
هي الكتابات التي ذكر أنه نشرها وسماها بالمباحث التمهيدية، وهو الذي سماه
صاحب إظهار الحق بالقسيس سيل، ونقل عن مقدمته لترجمة القرآن ثلاث جمل
متفرقة تكشف عن ملائمة طريقته في البحث وحسن الأدب والإنصاف على
خلاف ما قد يوجد في أثناء هذه المقالة، فأظن أن جملة مما تجاوز في هذه المقالة
عن حد البحث إلى سوء الأدب إنما هو من تصرف التعريب، أو أنه كان من
هفوات الجهل قبل أن يأخذ من المعارف بعض حظه. وتعريب المقالة المذكور
يشتمل على ثلاثمائة وإحدى وعشرين صحيفة وقد سميت صاحبها عند التعرض

32
لكلامه سايل وجعلت الإشارة إليها " ق "، وأما المعرب فالمظنون أنه موه باسمه
ومحله، ويظهر من حاله أنه ليس له وقوف على كتب العهدين كما ينبغي
للنصراني وإلا لما أقدم على كثير من أقواله كما ستعرف ذلك إن شاء الله من
متفرقات هذا الكتاب اللهم إلا أن يكون قد حاول الإغفال وأمن الانتقاد، وقد
سميته عند التعرض لكلامه " المتعرب " وأن تذييله المستقل يشتمل على خمس
وتسعين صحيفة من أواخر الكتاب وجعلت الإشارة إليه " ذ " وللتذييلات التي
في أثناء المقالة " قذ ".
وأما الكتاب المستعار له اسم الهداية فقد ذكر لي أنه تأليف جماعة من
النصارى لكن قد رسم في ختامه " يقول العبد الفقير " بالإفراد ولعله أقرب فإني
أستبعد أن يقدم جماعة من هذا الجيل المتنور بآدابه وحسن مباحثته على مثل ما
أقدم عليه مؤلفه كما ستطلع عليه إن شاء الله، وهو يشتمل على أربعة أجزاء
مطبوعة في مصر بمعرفة المرسلين الأمريكان، الجزء الأول من الطبعة الثانية سنة
1900 م يشتمل على ثلاثمائة وعشرين صحيفة، الجزء الثاني من الطبعة الثانية
سنة 1904 م يشتمل على ثلاثمائة صحيفة، الجزء الثالث مطبوع في سنة
1900 م يشتمل على ثلاثمائة وأربع صحائف، الجزء الرابع مطبوع في سنة
1902 م يشتمل على ثلاثمائة وأربع صحائف، وقد سميت مؤلفه عند
التعرض لكلامه " المتكلف "، وجعلت الإشارة إلى الكتاب " يه " وإلى الجزء
" ج " وإلى عدده بالرقم قبله.

33
المقدمة الأولى
لما كان من مباحثتي لهم الاحتجاج عليهم جدلا وإلزاما بما في العهدين
المنسوبين إلى الإلهام والوحي الإلهي عند عموم النصارى وخصوص البروتستانت
الذين منهم هؤلاء فلا بأس بذكر تفصيل كتبهما، والإشارة إلى الرموز المصطلح
عليها لأسمائها فالأول من العهدين هو المسمى بالعهد القديم وهو عبارة عن
تسعة وثلاثين سفرا خمسة منها منسوبة لنبي الله موسى عليه السلام تسمى
بالتوراة، والأسفار الباقية منسوبة إلى الوحي إلى من بعد موسى من الأنبياء إلى
ما قبل زمان المسيح عليه السلام بنحو ثلاثمائة وسبع وتسعين سنة وقد يسمى
جميع العهد القديم بالتوراة، واللسان الأصلي له إلى ما قبل سبي بابل هو
اللسان العبراني، ومن سبي بابل صار الأصل لبعضها هو اللسان الكلداني وهو
لسان بابل.
ثم ترجم العهد القديم إلى اللغة اليونانية بعناية سبعين أو اثنين وسبعين
من علماء اليهود لمائتين واثنتين وثمانين سنة أو وخمس وثمانين أو وست وثمانين
قبل المسيح على اختلاف الرواية في تاريخ الترجمة وأسبابها. قيل: وتمت في
اثنين وسبعين يوما وسميت بالترجمة السبعينية، ومقتضى النقل إنها كانت معتبرة
غاية الاعتبار فيما بين اليهود وقدماء المسيحيين، وإن مصنفي العهد الجديد ما
نقلوا الفقرات الكثيرة إلا عنها، وإن المسيح كان يخاطبهم عن الشريعة والأنبياء
من هذه الترجمة. وكذا استفانوس في خطابه لليهود. وكذا الذين تشتتوا في

34
البلاد ليبشروا بالمسيح باللغة اليونانية، ثم ترجم بعد ذلك إلى لغات كثيرة.
وهذه أسماء أسفاره ورموزها:
1 - " تك " لسفر التكوين وهو الأول من التوراة المنسوبة لموسى ويسمى
سفر الخليفة أيضا بمقتضى تسمية الترجمة السبعينية، ويسمى في العبرانية باسم
أوله " برنشيت ".
2 - " خر " لسفر الخروج وهو ثانيها بتسمية السبعينية، وفي العبرانية
يسمى بأوله " وآله شموت " أي وهذه أسماء.
3 - " لا " لسفر اللاويين وهو ثالثها بتسمية السبعينية، وفي العبرانية بأوله
" ويقرا " أي ودعا.
4 - " عد " لسفر العدد وهو رابعها بتسمية السبعينية، ويسمى في
العبرانية بأوله " ويدبر " أي وكلم.
5 - " تث " لسفر تثنية الاشتراع وهو خامسها بتسمية السبعينية وفي
العبرانية بأوله " اله " أي وهذه. ويسمى أيضا دباريم.
6 - " يش " لسفر يشوع أي يوشع.
7 - " قض " لسفر القضاة.
8 - " را " لكتاب راعوث.
9 - " 1 صم " صموئيل الأول.
10 - " 2 صم " لكتاب صموئيل الثاني.
11 - " 1 مل " لتاريخ الملوك الأول.
12 - " 2 مل " لتاريخ الملوك الثاني.
13 - " 1 أي " لتاريخ الأيام الأول.
14 - " 2 أي " لتاريخ الأيام الثاني.
15 - " عز " لكتاب عزرا.

35
16 - " نح " لكتاب نحيا.
17 - " اس " لكتاب استير.
18 - " اي " لكتاب أيوب.
19 - " مز " لمزامير داود أي الزبور.
20 - " أم " لأمثال سليمان.
21 - " جا " لكتاب الجامعة المنسوب لسليمان.
22 - " نش " لنشيد الأنشاد.
23 - " اش " لكتاب أشعيا.
24 - " ار " لكتاب ارميا.
25 - " مرا " لمرائي ارميا.
26 - " حز " لكتاب حزقيال.
27 - " دا " لكتاب دانيال.
28 - " هو " لكتاب هوشع.
29 - " يوء " لكتاب يوئيل.
30 - " عا " لكتاب عاموس.
31 - " عو " لكتاب عوبديا.
32 - " يون " لكتاب يونان أي يونس بن متى.
33 - " مي " لكتاب ميخا.
34 - " نا " لكتاب ناحوم.
35 - " حب " لكتاب حبقوق.
36 - " صف " لكتاب صفينا.

36
37 - " حج " لكتاب حجى.
38 - " زك " لكتاب زكريا.
39 - " مل " لكتاب ملاخي.
ولهذه الكتب في النسخ العبرانية ترتيب آخر من حيث التقديم والتأخير وأما
العهد الجديد فهو عند النصارى عبارة عما كتب بالإلهام والوحي الإلهي بعد
عيسى وهو عند البروتستنت سبعة وعشرون كتابا وها هي رموزها المصطلح
عليها:
1 - " مت " لإنجيل متي.
2 - " مر " لإنجيل مرقس.
3 - " لو " لإنجيل لوقا.
4 - " يو " لإنجيل يوحنا.
5 - " اع " لأعمال الرسل.
6 - " رو " لرسالة بولس إلى أهل رومية.
7 - " 1 كو " لرسالته الأولى إلى أهل كورنتوش.
8 - " 2 كو " لرسالته الثانية إليهم.
9 - " غل " لرسالته إلى أهل غلاطية.
10 - " أف " إلى أهل افسس.
11 - " في " إلى أهل فيلبى.
12 - " كو " إلى أهل كولوسي.
13 - " 1 تس " الأولى إلى أهل تسالونيكي.
14 - " 2 تس " الثانية إليهم.
15 - " 1 تي " الأولى إلى تيموثاوس.

37
16 - " 2 تي " الثانية إليه.
17 - " تي " إلى تيطس.
18 - " فل " إلى فليمون.
19 - " عب " إلى العبرانيين.
20 - " يع " لرسالة يعقوب.
21 - " 1 بط " لرسالة بطرس الأولى.
22 - " 2 بط " لرسالته الثانية.
23 - " 1 يو " لرسالة يوحنا الأولى.
24 - " 2 يو " لرسالته الثانية.
25 - " 3 يو " لرسالته الثالثة.
26 - " يه " لرسالة يهوذا.
27 - " رؤ " لرؤيا يوحنا المسماة بالمكاشفات والمشاهدات والجليان.
ولكل واحد من كتب العهدين فصول معدودة يسمونها الأصحاحات
تشتمل على فقرات معدودة بالرقم الهندي، فإذا أرادوا الإشارة إلى الفقرة
أشاروا إلى كتابها بما ذكرنا من الرموز ثم أشاروا إلى أصحاحها بعدده بالرقم
الهندي وجعلوا بعده نقطتين إحداهما فوق الأخرى هكذا ": " ثم أشاروا إلى
الفقرة بعددها بالرقم أيضا، مثاله إذا أردنا أن نشير إلى الفقرة الثالثة عشر من
الأصحاح الثالث من رسالة بولس إلى أهل غلاطية رسمنا هكذا " غل 3:
13 " وإذا أرادوا الإشارة إلى فقرات متعددة أشاروا إلى الأولى بنحو ما ذكرنا ثم
رسموا بعدها خطا عرضيا هكذا -، ورسموا بعده عدد الفقرة الأخيرة فيكون
الخط العرضي بمعنى إلى أو حتى مثال ذلك: إذا أردنا أن نشير إلى جملة هي من
الثامنة عشرة إلى نهاية الثالثة والعشرين من الأصحاح الحادي والعشرين من سفر
التثنية رسمنا هكذا " تث 21: 18 - 23 " وأن الكثير من اصطلاحنا في

38
الكتاب أن نذكر عدد الأصحاح صريحا ثم نشير إلى عدد الفقرات بالرقم، وأن
الذي حضرني من نسخ العهدين عند كتابة هذا الكتاب نسخ عديدة. الأولى
نسخة عبرانية مطبوعة في برلين سنة 1901 م يشتمل العهد القديم منها على
ألف وثلاثمائة وأربع وثمانين صحيفة والجديد على أربعمائة وست وثمانين.
" الثانية " نسخة عربية أشير في متنها إلى الكلمات التي زيدت في الترجمة
على الأصل العبراني واليوناني بطبعها بالحرف الصغير وإلى الكلمات التي لا توجد
في أقدم النسخ وأصحها بجعلها بين خطين هلاليين، وأشير في أسفل صحيفتها
إلى اختلاف العبرانية واليونانية والسامرية، وإلى اختلاف القراءات وأشير في
جانبها الأعلى إلى تكرر الكلمة والمضمون في العهدين وإلى تاريخ بعض
الحوادث المذكورة فيهما، وإن العهد القديم منها ليشتمل على ألف واثنتين وستين
صحيفة.
والجديد على ثلاثمائة وثمان وخمسين. وفي آخرها ما نصه، وكان
الفراغ من اصطناع صفائحه في شهر تموز من أشهر سنة 1870 مسيحية في
بيروت.
" الثالثة " نسخة عربية أيضا من الطبعة الثانية عشر في المطبعة الأمريكانية
في بيروت سنة 1905 م يشتمل العهد القديم منها على تسعمائة وعشرين
صحيفة والجديد على مائتين وخمسة وتسعين.
" الرابعة " نسخة عربية طبع دي ساراه هو جسون سنة 1811 م.
" الخامسة " نسخة فارسية مطبوعة في روكلين مدلبسيك سنة 1895 م
بنفقة الجمعية المشهورة به بريتيش وفورن بيبل سوسائيتي دار السلطنة لندن
يشتمل العهد القديم منها على ألف وثلاثمائة وثمان وثمانين صحيفة، والجديد
على أربعمائة وإحدى وعشرين.
" السادسة " نسخة فارسية أيضا بالحرف الصغير مساوية للتي قبلها في
عدد الصحائف والوضع والطبع بنفقة الجمعية المذكورة طبع العهد القديم منها
سنة 1901 م، والجديد سنة 1902.
" السابعة " نسخة فارسية أيضا العهد القديم منها يشتمل على أربعة

39
أجزاء في ثمان مائة وست وأربعين صحيفة بترجمة وليم كان قسيس اكستي ومعلم
العلم الإلهي باستعانة فاضل خان الهمداني بفرمان المجمع المشهور
بيونيتداسوشئت سند سكتلند مطبوعة بفرمان المجمع المذكور في دار السلطنة ادن
برغ بمطبعة تومس كنستبل سنة 1845 م، والعهد الجديد منها يشتمل على
خمسمائة واثنتين وثلاثين صحيفة بترجمة أفضل الفضلاء المسيحية هنري مرتن
قسيس إنكليسي وطبع بفرمان مجمع بريتطش اندفرن بيبل سسيتي في ادن برغ،
في المطبعة المذكورة أيضا سنة 1846 م.
" الثامنة " خمسة أسفار التوراة لموسى فارسية بترجمة تومارابنسن القسيس
مطبوعة في لندن بمطبعة رجاردواطس سنة 1839 م، وهي تشتمل على خمسمائة
وسبعين صحيفة.
" التاسعة " العهد الجديد " نسخة عربية تشتمل على أربعمائة صحيفة فرغ
من اصطناع صفائحها في مدينة نيويورك سنة 1846 م، وطبعت في مطبعة
المدرسة في أوكسفورد سنة 1869 م.
" العاشرة " العهد الجديد بالفارسية تشتمل على ستمائة وسبعة وعشرين
صحيفة بترجمة هنري مارتن المذكور من الطبعة الثالثة بمطبعة رجارد واطس في
لندن بإعانة مجمع بيبل سوسسيتي سنة 1837 م.

40
المقدمة الثانية
فيما يستخرج من العهدين من المدة التي تراخى فيها وحي كتبها، أما
التوراة فإن ابتداء وحيها لموسى كان في جبل حوريب، إذ كان موسى يرعى
غنم كاهن مدين " خر 3: 4 " ثم في مدين " خر 4: 19 " ثم في مصر في
دفعات متراخية بحسب الزمان إلى عبور بني إسرائيل البحر " خر 5 - 14 " ثم
في ماره " خر 15: 25 " ثم في برية سين حيث أنزل المن بعد الخامس عشر من
الشهر الثاني لخروجهم من مصر " خر 16 " ثم رفيديم " خر 17 " ثم في برية
سينا بعد الشهر الثالث لخروجهم من مصر " خر 19 " وتتابع الوحي في دفعات
متراخية في جبل سينا وبريته، إلى أن ارتحلوا منها في العشرين من الشهر الثاني
من السنة الثانية لخروجهم من مصر " عد 10: 12 " ثم في فبروت هتاوه
" عد 11 " ثم في حضروت " عد 12 " ثم في برية فاران " عد 13 "، وتتابع
الوحي هناك في سنين عديدة إلى أن مات هارون في جبل هور " عد 20: 23 -
29 " وكان موت هارون في أول الشهر الخامس من السنة الأربعين لخروجهم من
مصر " 33: 38 " ثم في عربات مواب ووضع لهم هناك شرائع وأحكام
" 28 - 36 " ثم في عبر الأردن في أول الشهر الحادي عشر من السنة الأربعين
لخروجهم من مصر " تث 1: 1 - 4 " فكانت مدة نزول الوحي والشريعة على
موسى بالتدريج والتعاقب من المدة التي كان فيها يرعى غنم كاهن مدين في
حوريب إلى أن توفي في أرض مواب ما يزيد على إحدى وأربعين سنة على أنه لم

41
يعرف من التوراة الوقت الذي أوحى فيه سفر التكوين إلى موسى ومقتضى
صراحة التوراة، إن كتابة موسى لها في كتاب وجمعها كان في آخر عمره الشريف
عند إتمام الشريعة كتب هذه التوراة وسلمها للكهنة وشيوخ بني إسرائيل وأمرهم
بوضعها بجانب تابوت عهد الرب " أنظر تث 31: 9 و 24 ".
وأما وحي أشعيا فقد كان متراخيا في أيام عزيا ويوثام واحاز وحزقيا ملوك
يهوذا " اش 1: 1 " وكانت مدة ملك هؤلاء الأربعة مائة وثلاثة عشر سنة " 2
أي 26 و 27 و 28 و 29 ".
وكذا وحي كتاب هوشع " هوا: 1 "، وكان وحي كتاب ارميا متدرجا
متراخيا من السنة الثالثة عشر لملك بوشيا، وأيام ملك يهواحاز ويهوياقيم
ويهوياكين إلى السنة الحادية عشر لملك صدقيا " 1 ر: 1 - 4 " وكانت هذه المدة
إحدى وأربعين سنة " 2 أي 34 و 63 "، وكان وحي كتاب حزقيال من السنة
الخامسة لسبي يهوياكين " حز 1: 2 " متدرجا إلى السنة السابعة والعشرين
" حز 29: 17 ".
وكان وحي كتاب دانيال متدرجا من أيام بخت نصر " دا 2 " إلى النسبة
الثالثة لكورش " دا 10: 1 " وهذه المدة تزيد بحسب التاريخ على الستين سنة
وكان وحي كتاب ميخا المورشتي متدرجا في أيام يوثام واحاز وحزقيا ملوك يهوذا
" مي 1: 1 " وكان ملك هؤلاء إحدى وستين سنة " 2 أي 27 و 28 و 29 "
وكان وحي كتاب حجى على قلته متدرجا من أول الشهر السادس من السنة
الثانية لملك داريوس " حج 1: 1 " إلى الرابع والعشرين من الشهر التاسع
" حج 5: 10 ".
وكان وحي كتاب زكريا متدرجا من الشهر الثامن من السنة الثانية
لداريوس الملك " زك 1: 1 " إلى الشهر التاسع من السنة الرابعة " زك 7:
1 " ثم لم يؤرخ وحيه بعد هذا في كتابه ولم يذكر في العهد القديم أن باقي كتبه
كان وحيها دفعة واحدة.
وكان عمر المسيح حينما اعتمد من يوحنا ونزل عليه الروح القدس نحو

42
ثلاثين سنة " لو 3: 21 - 24 "،، ومن المعلوم أن عمره الشريف حينما رفع
إلى السماء كان نحو ثلاثة وثلاثين سنة فتكون تعاليمه النبوية الإلهامية إلى ليلة
الجمعية التي هجم فيها عليه اليهود متدرجة حسبما ذكر في الأناجيل في مدة ثلاث
سنين.
وإذا عرفت هذه المقدمة فماذا تقول في قول المكلف في شأن القرآن الكريم
" يه ا ج ص 55 س 20 " وهو مخالف لكتب الوحي لأنها نزلت جملة، والقرآن
مقطع.
ثم انظر إلى تهور سايل " ق " ص 126 س 6 - 12 " فهل تراهما لم يطلعا
على ما في العهدين، أم حاولا الإغفال ليروجا أغراضهما، أفأمنا من رقيب
الحق، ومن الظرائف قول المتعرب " قذ ص 129 س 18 " اليهود يقولون إن
الناموس أعطى لموسى نجوما، وليت شعري أن التوراة في أعصار هؤلاء لم
تنحصر بنسخة حلقيا أو عزرا ليجهلوا ما فيها.

43
المقدمة الثالثة
فيما اتفق من صراحة بعض كتب العهدين بما يدل على مخالفة وضعها
وترتيبها لترتيب إلهامها ووحيها، فإن المزمور الثامن عشر كان إلهامه عندما أنقذ
الله داود من أيدي كل أعدائه ومن يد شاول، وإن المزمور الرابع والثلاثين كان
إلهامه عندما غير داود عقله قدام أبي مالك وهو قبل ذلك، وإن إلهام المزمور
الحادي والخمسين كان بعد ما تزوج داود بامرأة أوريا، وإلهام الثاني والخمسين
عندما أخبر دواغ الأدومي شاول بدخول داود إلى بيت أخي مالك وهو قبل ما
تقدم ذكره، وكذا إلهام المزمور السادس والخمسين، وكان إلهام المزمور السابع
والخمسين بعد إلهام المزمور التاسع والخمسين، وإن الهام التاسع والخمسين كان
عندما أرسل شاول من يراقب داود في البيت وهو قبل كل ما ذكر، وكان إلهام
المزمور المائة والثاني والأربعين عندما كان داود في المغارة وهو قبل أغلب ما ذكرنا
ومقارن لإلهام المزمور السابع والخمسين.
ويعرف ما ذكرنا من التقدم والتأخر ومخالفة الترتيب من ملاحظة عناوين
المزامير ومراجعة تاريخ أحوال داود من تاسع عشر صموئيل الأول إلى ثاني عشر
صموئيل الثاني.
وإن إلهام الإصحاح الحادي والعشرين من ارميا كان في أيام صدقيا آخر
ملوك يهوذا، وإلهام أوائل الثاني والعشرين في أيام يهوياقيم، وإلهام أواخره في

44
أيام ابنه كنياهو وهما قبل صدقيا، وإلهام الخامس والعشرين كان في السنة
الرابعة ليهوياقيم وهي قبل ملك كنياهو وصدقيا، وإلهام السادس والعشرين
كان في ابتداء ملك يهوياقيم، وهو قبل كل ما ذكرنا، ومثله إلهام السابع
والعشرين بحسب أوائله إلا أن فيه غلط واضح كما يشهد به الثامن والعشرون،
وإن إلهام الثاني والثلاثين كان في السنة العاشرة لصدقيا، وإلهام السادس
والثلاثين كان في السنة الرابعة ليهوياقيم، وإن إلهام الثالث والأربعين كان في
تحفنحيس في مصر بعد سبي بابل وانقراض مملكة يهوذا بمدة، وكذا إلهام الرابع
والأربعين، مع أن إلهام الخامس والأربعين يتعلق بالسنة الرابعة ليهوياقيم،
فراجع نص الأصحاحات المذكورة من ارميا مع تاريخ ملك يهوياقيم ويكنيا
وصدقيا ملوك يهوذا، في الثالث والأربعين إلى الخامس والأربعين من الملوك
الأول، والسادس والثلاثين من الأيام الثاني، وإن إلهام السادس والعشرين من
كتاب حزقيال كان في السنة الحادية عشر لسبيهم، مع أن إلهام أوائل التاسع
والعشرين كان في السنة العاشرة، وإلهام أواخره كان في السنة السابعة
والعشرين، مع أن إلهام الحادي والثلاثين كان في السنة الحادية عشر وكان إلهام
الأصحاح العاشر من كتاب دانيال في السنة الثالثة لكورش ملك فارس، وإلهام
الحادي عشر في السنة الأولى لداريوس المادي وهو قبل كورش، وبناء على ما في
النسخة السبعينية من ذكر كورش بدل داريوس يكون إلهام العاشر في السنة
الثالثة لكورش، وإلهام الحادي عشر في السنة الأولى له، ولعل التتبع في
العهدين يدلك على أكثر مما ذكرنا من مخالفة ترتيب الكتاب لترتيب إلهامه بل
لعل التنفير في خصوص توراة موسى يشهد بكثير من ذلك، بل لعل ما لا
شاهد عليه أكثر وأكثر، فلنكتف في هذه المقدمة على هذا المقدار.

45
المقدمة الرابعة
فيما ذكر في العهدين من الحالات الغريبة التي تعرض للأنبياء عند الوحي
إليهم، وتجلى الله وظهور جلاله لهم.
ففي التوراة أن إبراهيم لما أوحي إليه في شأن نسله وغربتهم وقع عليه
عند مغيب الشمس سبات ورعبة مظلمة " تك 15: 12 - 15 ".
وأن يعقوب لما رأى في الحلم السلم والملائكة، وخاطبه الرب واستيقظ
خاف وقال: ما أرهب هذا المكان " تك 28: 12 - 18 ".
وأما موسى فإنه وإن لم تذكر التوراة في شأنه شيئا عند ظهور الله له في
حوريب في عليقة النار في أول تكليمه إلا كونه غطى وجهه لأنه خاف أن ينظر
إلى الله " خر 3: 1 - 6 "، وكذا في جبل سيناء " خر 19 ".
لكن استفانوس الذي وصف بأنه مملوء من الإيمان والروح القدس والقوة
بحيث كان يصنع عجائب وآيات عظيمة في الشعب " 1 ع 6: 5 - 8 ".
قد ذكر أن موسى ارتعد ولم يجسر أن يتطلع عندما ظهر له ملاك الرب في
نار العليقة " 1 ع 7: 30 - 33 ".
وبولس الرسول العظيم عند النصارى ذكر في شأن ظهور جلال الله على
جبل سيناء حين ارتجف الجبل، إن المنظر كان مخيفا حتى قال موسى: أنا

46
مرتعب ومرتعد " عب 12: 21 ".
ويلزم من ذلك أن التوراة أهملت ذكر حال موسى في هذا الشأن، نعم
ذكرت في مقام آخر أن موسى قال لله: أرني مجدك، فقال: أجيز كل جودتي
قدامك ولا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني فيعيش وهو ذا عندي
مكان فتقف على الصخرة ويكون متى اجتاز مجدي إني أضعك في نقرة من
الصخرة وأسترك بيدي حتى اجتاز، ثم أرفع يدي فتنظر ورائي وأما وجهي فلا
برى " خر 33: 18 - 23 ".
والمعقول من هذا الكلام هو أن الطبيعة البشرية حتى من مثل موسى لا
نقوى على مشاهدة جلال الله ومجده من الوجهة الحقيقية المكنى عنها بأوجه وإنما
نقوى بمساعدة العناية الربانية على بعض المشاهدة من الوجهة المكنى عنها
بالوراء.
وذكرت التوراة أيضا أن السحابة غطت خيمة الاجتماع وملأ بهاء الرب
المسكن فلم يقدر موسى أن يدخل خيمة الاجتماع لأن السحابة حلت وبهاء
الرب ملأ المسكن " خر 40: 34 و 35 ".
ومقتضاه أن موسى مع مقامه النبوي وكونه كليم الله قد ضعف وأحجم
عن الإقدام على مشاهدة بهاء الله.
وقد اتفق للعهدين التعرض لبعض أحوال الأنبياء عند الوحي والمكاشفة
من تصرف الروح بهم على غير اختيارهم وسقوطهم لوجوههم ومقاساتهم الجهد
والشدة كوقوع الغيبة والإغماء عليهم واضطرابهم وغير ذلك عند مشاهدة آثار
الجلال والكبرياء.
فعن قول حزقيال لما رأى منظر شبه مجد الرب وخر على وجهه " حز 1
28 " فدخل في روح وأقامني على قدمي " حز 2: 2 "، وعن قوله أيضا
فحملني الروح وأخذني وذهبت برا في حرارة روحي ويد الرب كانت شديدة على
" حز 3: 14 ".
وأيضا وإذا بمجد الرب واقف هناك كالمجد الذي رأيته على نهر خابور

47
فخررت على وجهي فدخل في روحي وأقامني على قدمي " حز 3: 23 و 24 "
وأيضا، ومد شبه يد وأخذني بناصية رأسي ورفعني روح بين الأرض والسماء
" حز 8: 3 ".
وأيضا ثم دفعني روح وأتى بي إلى باب البيت " حز 11: 1 ".
وأيضا كانت على يد الرب فأخرجني بروح الرب وأنزلني في وسط البقعة
" حز 37: 1 ".
وعن قول دانيال في بعض رؤياه ومكاشفاته بالوحي، وسمعت صوت
إنسان بين أولاي فنادى وقال: يا جبرائيل فهم هذا الرجل فجاء إلي حيث
وقفت ولما جاء خفت وخررت على وجهي وإذ كان يتكلم معي كنت مسبخا على
وجهي إلى الأرض فلمسني وأوقفني على مقامي " دا 8: 16 - 19 ".
وأيضا ورأيت هذه الرؤيا العظيمة ولم تبق في قوة ونضارتي تحولت إلى
فساد ولم أضبط قوة، ولما سمعت صوت كلامه كنت مسبخا على وجهي ووجهي
إلى الأرض وإذا بيد لمستني وأقامتني مرتجفا على ركبتي وعلى كفي يدي وهو ذا
كشبه بني آدم لمس شفتي ففتحت فمي وتكلمت وقلت للواقف أمامي: يا
سيدي بالرؤيا، انقلبت على أوجاعي فكيف يستطيع عبد سيدي أن يتكلم مع
سيدي، وأنا فحالا لم تبق في قوة، ولم تبق في نسمة " دا 10: 7 - 18 ".
ومن الواضح أن سقوط حزقيال على وجهه ومرارته وحرارة روحه وشدة يد
الرب عليه، وتصرف الروح به لا باختياره، وكذا حالات دانيال المذكورة إنما
هي من انفعال الطبيعة البشرية واندهاشها وسقوط قواها لسطوة التجلي وهيبة
الجلال وعظمة الكبرياء.
وفي العهدين أيضا، أن إيليا لما سمع صوت الرب الخفيف المنخفض لف
وجهه بردائه " امل 19: 12 و 13 ".
وإن زكريا لما رأى ملاك الرب عن يمين مذبح البخور اضطرب ووقع عليه
الخوف " لو 1: 11 و 12 "، ولما خرج من الهيكل وهو لا يستطيع التكلم فهم
اليهود أنه قد رأى رؤيا " لو 1: 32 ".

48
ويفهم من ذلك أن انفعال الطبيعة البشرية واندهاشها عند التجلي كان
أمرا معلوما مقررا عند اليهود.
وفي العهد الجديد أن المسيح بعد اعتماده من يوحنا ونزول الروح القدس
عليه أصعده الروح وأخرجه إلى البرية وصار يقوده فيها مع الوحوش أربعين يوما
" أنظر إلى مت 4: 1 ومر 1: 12 و 13 ولو 4: 1 " وراجع التراجم
الفارسية وغيرها، وتغيرت هيئة وجهه عندما تجلى الله له بإرسال موسى وإيليا
" لو 9: 29 " واضطرب بالروح إذ أخبر أن واحدا من تلاميذه سيسلمه " لو
13: 12 " ولعل من هذا النحو كونه ليلة هجوم اليهود عليه في جهاد كما ترجم
بالفارسية والتركية بالاضطراب حتى صار عرقة كقطرات دم نازلة على الأرض
" لو 24: 44 " مع أن الوقت كان باردا يحتاج فيه إلى الاستدفاء والاصطلاء
بالنار " أنظر إلى مر 14: 67 ويو 18: 18 "، وإن بطرس قد وقعت عليه
غيبة وفسرت " ببيهوشي " وذلك حينما أوحي إليه حل جميع الحيوانات عند نزول
الزنبيل " ا ع 10: 10 ".
وكذا بولس حينما أوحي إليه بالخروج من أورشليم " ا ع 22: 17 " بل
وكذا عندما عرج به إلى السماء " 2 كو 12: 1 - 4 ".
وإن يوحنا ابن زبدي سقط في رؤياه كميت " روء 1: 17 " وكم وكم
تصرف به الروح وذهب به لا باختياره " أنظر إلى روء 1: 10 و 4: 2
و 17: 3 و 21: 10 ".
هذا كله مع أن كتب العهدين لم تستقص ذكر هذه الحالات للأنبياء عند
الوحي بدليل أن التوراة أهملت في شأن موسى ما ذكره استفانوس وبولس وأن
الأناجيل قد أهمل كل واحد منها كثيرا مما ذكره الآخر فضلا عن اختلافها
الكاشف عن عدم اطلاع كتبتها على حقيقة الحال.
وأن العهد القديم لم يذكر حالات أشعيا وارميا وهوشع وغيرهم من
الأنبياء إلى ملاخي، وما يعرض لهم عند الوحي والتجلي ولا تظن أنهم في ذلك
أعلا شأنا وأحسن حالا من إبراهيم ويعقوب وموسى وحزقيال ودانيال وزكريا

49
والمسيح وبطرس وبولس ويوحنا كلا.
نعم ذكر في العهد القديم لبعض أنبيائه عند الوحي والتنبي حالات
يستغربها العقل ولا يدنو مضمونها إلى الفهم.
منها أن أليشع النبي لما أراد يهو شافاط أن يسأل به الرب قال: إئتوني
بعواد، ولما ضرب العواد بالعود كانت عليه يد الرب فتنبأ عن قول الرب " 2
مل 3: 11 - 19 ".
ومنها أن صموئيل قال لشاول: إنك تصادف زمرة من الأنبياء نازلين من
المرتفعة وأمامهم رباب ودف وناي وعود وهم يتنبؤون فيحل عليك روح الرب
فتنبأ معهم، ولما جاؤوا إلى هناك إلى جبعة إذا بزمرة من الأنبياء لقيته فحل عليه
روح الله فتنبأ في وسطهم " 1 صم 10: 5 - 11 ".
وليت شعري ما مداخلة العود والعواد والدف والرباب والناي في النبوة.
وأيضا لما أرسل شاول رسلا لأخذ داود في الرامة ورأوا جماعة من الأنبياء
يتنبؤون، وصموئيل رئيس عليهم، فكان عليهم روح الله فتنبأوا هم أيضا،
وكذا الذين أرسلهم ثانيا وثالثا ذهب هو فكان عليه روح الله فخلع هو أيضا
ثيابه، وتنبأ أيضا أمام صموئيل وانطرح عريانا ذلك النهار كله وكل الليل " 1
صم 19: 20 - 24 ".
وليت شعري ما معنى هذا التنبي وحلول روح الله، وما مداخلة خلع
الثياب والتعري في النبوة، وما معنى ذلك، وهل يعدو هذا النحو أن يكون
ضربا من الخلاعة والتجانن فاحفظ هذه المقدمة على ذكرك فإن بعض المباحثين
للإسلام من النصارى كأنهم لم يطلعوا على ما فيها وإلا لما تفوهوا بما تفوهوا من
الشطط إن كانت لهم نفوس حرة.
" تذييل " في بعض ما ذكر في العهدين من أحوال بعض الأنبياء في التبليغ
عن أمر الله.
فمن ذلك ما في أخريات العشرين من أشعيا من أن الله أمر نبيه أشعيا أن
يمشي عريانا وحافيا بين الناس ثلاث سنين ليبلغ الناس ويقول لهم: هكذا

50
يسوق ملك آشور سبي مصر وجلاء كوش الفتيان والشيوخ عراة وحفاة ومكشوفي
الاستاه خزيا لمصر.
وما في السابع والعشرين من ارميا من أن الله أمر نبيه ارميا أن يصنع له
ربطا وأنيارا ويجعلها على عنقه كما يجعل نير الفدان على أعناق البقر ليبلغ الناس
ويقول: ادخلوا أعناقكم تحت نير ملك بابل.
وما في الرابع من حزقيال من أن الله أمر نبيه حزقيال أن يأكل كعكا من
خبز الشعير الذي يخبزه أمام عيون بني إسرائيل على الخرء الذي يخرج من
الإنسان ليبلغ ويقول: هكذا يأكل بنو إسرائيل خبزهم النجس بين الأمم الذين
أطردهم إليهم.
وما في أوائل الخامس من حزقيال أيضا من أن الله أمر نبيه حزقيال أيضا
من أن يحلق رأسه ولحيته ويقسم الشعر أثلاثا يحرق ثلثا ويضرب بالسيف حوالي
ثلث ويذرى الثلث الثالث إلى الريح ليبلغ ويقول إن ثلث أهل أورشليم يموتون
بالوباء والجوع، وثلث يسقط بالسيف، وثلث يذريه في كل ريح ويستل سيفا
وراءهم.
وما في الخامسة عشر إلى الثامنة عشر من الرابع والعشرين من حزقيال
أيضا من أن الله كلم نبيه حزقيال بأنه يأخذ منه شهوة عينيه وهي زوجته، وأمره
أن لا ينوح ولا يبكي ولا يعمل مناحة ويلف عصابته ويجعل نعليه في رجليه ولا
يغطي شاربه ولا يأكل من خبز الناس ليبلغ بني إسرائيل ويخبرهم أنه هكذا يقع
بهم.
وما في الثالثة من أول هوشع من أن الله أمر نبيه هوشع أن يأخذ لنفسه
امرأة زنا وأولاد زنا ونتيجة ذلك تعليله بأن الأرض قد زنت تاركة للرب وموعظة
بني إسرائيل بأسماء الذين ولدتهم له تلك المرأة وذكر زناها فراجع أول هوشع
وثانيه فإنه عجيب.
وما في ثالث هوشع أيضا من قول هوشع وقال لي الرب: اذهب أحبب
امرأة حبيبة صاحب وزانية كمحبة الرب لبني إسرائيل وهم ملتفتون إلى آلهة

51
أخرى، ومحبون لأقراص الزبيب فاشتريتها لنفسي بخمسة عشر شاقل فضة
وبحومر ولثك شعير وقلت لها: تقعدين أياما كثيرة لا تزني ولا تكوني لرجل وأنا
كذلك، لأن بني إسرائيل سيقعدون أياما كثيرة بلا ملك وبلا رئيس وبلا
ذبيحة، ومقتضى العهد القديم إن هؤلاء الأنبياء عملوا بما أمرهم به الله
للتبليغ.

52
المقدمة الخامسة
في نبذ من سيرة بني إسرائيل والملة النصرانية في ديانتهم نقلا من كتب
العهدين مع اختصار ما، ونقل بالمعنى في بعض الموارد.
أما بنو إسرائيل فقد ظهرت لهم من موسى الداعي لهم إلى التوحيد
معجزة العصا واليد البيضاء والعجائب في مصر وانشقاق البحر لهم وعبورهم
على اليابسة فيه، والمن والسلوى وإخراج الماء من الصخرة في حوريب وآثار
عظمة الله وقدرته على جبل سيناء " خر 4 - 19 " وبلغهم عن الله قوله: لا
تصنعوا معي آلهة فضة ولا تصنعوا لكم آلهة ذهب لا يكن لك آلهة أخرى
أمامي، ولا تصنع لك تمثالا منحوتا في السماء أو في الأرض أو في الماء ولا
تسجد لهن ولا تعبدهن.
فقالوا كلما تكلم به الرب نفعل فكتب موسى هذه الأقوال وغيرها وقرأها
عليهم تجديدا للعهد، فقالوا أيضا: كلما تكلم به الرب نفعل ونسمع " خر
20 - 24: 8 ".
وبلغهم أيضا لا تصنعوا لكم أوثانا ولا تقيموا لكم تمثالا منحوتا أو نصبا
ولا تجعلوا في أرضكم حجرا مصورا لتسجدوا له " لا 26: 1 " وبعد هذا كله
لم تمض سنة منه حتى ارتدوا عن عبادة الله وقالوا لهارون لما أبطأ علهم موسى في
جبل سينا اصنع لنا آلهة تسير أمامنا، فلما صنعوا العجل المسبوك من ذهب

53
حليهم قالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من مصر فسجدوا له
وذبحوا " خر 32: 1 - 9 ".
ولما أقاموا مع موسى في شطيم صار الشعب يزنون مع بنات مواب فدعون
الشعب إلى ذبائح آلهتهن فأكل الشعب وسجدوا لآلهتهن وتعلق إسرائيل ببعل
فغور " عد 25: 1 - 4 "
وكفى في تمردهم على الشريعة أنهم في مدة أربعين سنة لم يختنوا من ولد
منهم وبعدما عبروا الأردن في زمان يوشع صنع يوشع عن أمر الله سكاكين
صوان أو حادة، وفي العبرانية " صيريم " وختنهم بها " يش 5 "، ولم تمض مدة
كثيرة من موت يوشع حتى فعل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب وتركوه وساروا
وراء آلهة أخرى وسجدوا لها وعبدوا البعل وعشتاروت " قض 2: 11 - 14
و 3: 7 ".
ولم يزل بنو إسرائيل في زمن القضاة يعاودون إلى عمل الشر في عيني الرب
" قض 3: 11 و 4: 1 و 6: 1 و 13: 1 ".
وبعد موت جدعون رجعوا وزنوا وراء البعليم وجعلوا لهم بعل بريث إلهاء
" قض 8: 33 ".
وبعد موت بائير القاضي عادوا يعملون الشر في عيني الرب، وعبدوا
البعليم والعشتاروت وآلهة أرام وآلهة صيدون وآلهة مواب وآلهة عمون وآلهة
الفلسطينيين وتركوا الرب ولم يعبدوه " قض 10: 6 " وحاصل شأنهم أنهم
اختلطوا بالأمم المشركين وتعلموا أعمالهم وعبدوا أصنامهم وذبحوا بنيهم وبناتهم
للأوثان وأهرقوا دما زكيا دم بنيهم وبناتهم الذين ذبحوهم لأصنام كنعان
وتدنست الأرض بالدماء " مز 106: 35 - 39 ".
ولما مات سليمان انقسمت مملكة بني إسرائيل إلى قسمين فتبع رحبعام ابنه
سبطا يهوذا وبنيامين، وملكوه عليهم وانعزل عنه باقي الأسباط فملكوا عليهم
يربعام فعمل لرعيته عجلي ذهب وقال: هذه آلهتك يا إسرائيل ووضع واحدا في
بيت ايل والآخر في دان، وكان الشعب يصعدون إلى أحدهما حتى إلى دان

54
" امل 12 "، واستمر بنو إسرائيل هؤلاء وملوكهم على خطيئتهم وطريقة يربعام
" امل 15 و 16 " أي العكوف على عجول الذهب التي في بيت ايل ودان " 2
مل 10 " حتى إذا ملك اخاب شاعت في أيامه عبادة البعل حتى أنه كان للبعل
أربعمائة وخمسين نبيا، وللسواري أربعمائة نبي " امل 18: 19 " وقطعت
إيزابل الصيدونية أنبياء الرب إلا من أخفاه عوبديا " امل 18: 4 " حتى لم يبق
للرب نبي غير إيليا " امل 18: 22 و 19: 10 و 14 "، وحتى لم يبق من
مئات الألوف العديدة من بني إسرائيل من لم يعبد البعل إلا سبعة آلاف أو
أقل، ولعلهم كانوا من الأطفال الذين لا يميزون هذه الأمور " أنظر إلى امل
19: 18 "، واستمر بنو إسرائيل على خطيئتهم وطريقة يربعام إلى أن ملك
عليهم هوشع بن ايله " امل 22: - 2 مل 17 ".
وفي أيامه سباهم ملك آشور واسكن في ديارهم غيرهم، وقد كانوا
أخطأوا إلى الرب إلههم، واتقوا آلهة أخرى وسلكوا حسب فرائض المشركين
وعبدوا الأصنام ورفضوا فرائض الله وعهده وساروا وراء الباطل وصاروا باطلا
وتركوا جميع وصايا الله وعملوا لأنفسهم عجلين وسجدوا لجميع جند السماء
وعبدوا البعل " 2 مل 17 ".
وأما سبطا يهوذا وبنيامين فلما تثبتت مملكة رحبعام بن سليمان ترك شريعة
الرب هو وكل إسرائيل معه " 2 أي 12: 1 ".
وعمل يهوذا الشر أكثر من جميع ما عمل آباؤهم، وبنوا لأنفسهم
مرتفعات وانصابا وسوارى من آثار الشرك على كل تل مرتفع وتحت كل شجرة
خضراء، وكان أيضا مأبونون في الأرض، ففعل يهوذا حسب أرجاس المشركين
" امل 14: 22 - 24 ".
وفي السنة الخامسة لملك رحبعام نهب شوشق ملك مصر خزائن بيت
الرب وخزائن بيت الملك وأخذ كل شئ " امل 14: 25 و 26 ".
ثم ملك ابيابن رحبعام وسار في جميع خطايا أبيه التي فعلها قبله " امل
15: 3 ".

55
ولما ملك آسا ابنه عمل ما هو مستقيم، وأزال آثار الشرك، وأمر يهوذا
أن يعملوا حسب الشريعة والوصية " 2 أي 14: 2 - 6 " وأما المرتفعات فلم
تنزع من بني إسرائيل " 2 أي 15: 17 ".
ولإسرائيل أيام كثيرة بلا إله حق وبلا كاهن معلم وبلا شريعة، وفي
النسخة العبرانية بلا توراة " 2 أي 15: 3 ".
ثم ملك بهوشافاط ابنه وسار في طريق آسا أبيه وعمل المستقيم والمرتفعات
أيضا لم تنزع بل كان الشعب لم يعدوا بعد قلوبهم لإله آبائهم " 2 أي 20: 22
و 23 ".
ثم ملك بعده يهورام ابنه، وبعده ابنه أخزيا، وعملا الشر على نهج بيت
اخاب " 2 أي 21: 6 و 22: 3 و 4 ".
وبعد أخزيا ملكت أمه الخبيثة المشركة عثليا بنت عمري ملك إسرائيل
سبع سنين " 2 أي 22 ".
وهدم بنوها بيت الله وصيروا كل أقداس بيت الله للبعليم إلى أن نهض
يواش ويهوياداع الكاهن لتجديد بيت الرب وأقاموا بيت الله على رسمه على
مقداره وثبتوه " 2 أي 24: 7 و 12 و 13 ".
وبعدما قتلوا عثليا ملك يواش بن أخزيا، وعمل المستقيم في أيام
يهوياداع، ولما مات يهوياداع جاء رؤساء يهوذا، وسجدوا للملك يواش فسمع
لهم وتركوا بيت الرب إلههم، وعبدوا السواري والأصنام " 2 أي 24: 2
و 17 و 18 ".
ورجموا زكريا ابن يهوياداع بأمر الملك وقتلوه في دار بيت الرب لأنه ليس
روح الله فوعظهم ووبخهم وأراد إرجاعهم إلى الله فتركوا الرب إله آبائهم (2
أي 24: 20 - 24 ".
ثم ملك امصيا ابن يواش وأتى بآلهة ساعير وأقامهم له آلهة وسجد أمامهم
وأرقد لهم " 2 أي 25: 14 ".

56
وفي أيامه جاء يواش المشرك ملك إسرائيل ونهب كل الذهب والفضة
وجميع الآنية الموجودة في بيت الرب " 2 مل 14: 14 ".
ثم ملك بعد امصيا ابنه عزيا، وبعده ابنه يوثام، وكانا مستقيمين،
ولكن كان الشعب يفسدون بعد " 2 أي 27: 2 ".
ثم ملك احاز وسار في طريق ملوك إسرائيل وعمل أيضا تماثيل مسبوكة
للبعليم وهو أوقد في وادي هنوم، وأحرق بنيه في النار حسب رجاسات
المشركين، وترك يهوذا الرب إلههم، وأيضا ذبح آحاز لآلهة دمشق وقطع آنية
بيت الله وأغلق أبواب بيت الرب " 2 أي 28 ".
وأغلقوا أيضا أبواب الرواق وأطفأوا السرج ولم يوقدوا بخورا ولم يصعدوا
محرقة في القدس " 2 أي 29:. ".
وإذ ملك حزقيا فتح أبواب بيت الرب ودخل الكهنة إلى داخله،
وأخرجوا كل النجاسة التي وجدوها في الهيكل، واستمروا في تطهير بيت الرب
ثمانية أيام " 2 أي 29: 1 - 19 ".
ولما ملك بعده ابنه منسى عمل الشر حسب رجاسات المشركين، وبنى
المرتفعات التي هدمها أبوه وأقام مذابح للبعليم وعمل سواري وسجد لكل جند
السماء وبنى لها مذابح في داري بيت الرب، ولما ذاق وبال أمره من ملك آشور
رجع إلى الله فلما أنقذه أزال الآلهة الغريبة والأشباه من بيت الرب، وأمر يهوذا
أن يعبدوا الرب إلههم، ثم ملك بعده ابنه امون فعمل كل ما عمله أبوه أول
الأمر، ولم يرجع إلى الله كما رجع أبوه في الآخرة " 2 أي 33 ".
وملك بعده ابنه يوشيا وكان مؤمنا، وفي السنة الثانية عشر لملكه ابتدأ
يطهر يهوذا وأورشليم من السواري والمرتفعات والتماثيل والمسبوكات، وطهر
يهوذا وأورشليم وقطع تماثيل الشمس في كل أرض إسرائيل، وهدم بيوت
المأبونين التي عند بيت الرب، وبعد أن طهر الأرض وبيت الرب توجه لترميمه
وتسقيف البيوت التي أخربها يهوذا.
وعند إخراجهم الفضة المدخلة إلى بيت الرب قال حلقيا الكاهن لشافان

57
الكاتب قد وجدت سفر الشريعة " أي التوراة " في بيت الرب، فقال شافان
للملك قد أعطاني حلقيا الكاهن سفرا وقرأ فيه شافان أمام الملك، فلما سمع
الملك كلام الشريعة مزق ثيابه وأمر جماعة من خواصه قائلا: اذهبوا اسألوا
الرب من أجلي وأجل من بقي من يهوذا وإسرائيل على كلام السفر الذي وجد
لأنه عظيم غضب الرب الذي انسكب علينا من أجل أن آبائنا لم يحفظوا الرب
ليعملوا حسب كل ما هو مكتوب في هذا السفر، وجمع الملك كل رجال يهوذا
وكل الشعب من الصغير إلى الكبير والكهنة والأنبياء إلى بيت الرب وقرأ في
آذانهم كل كلام سفر العهد التي وجد في بيت الرب ووقف على منبره وقطع
عهدا مع الله عبادته وحفظ وصاياه وفرائضه حسب كلام العهد المكتوب في
هذا السفر " 2 مل 22 و 23 و 2 أي 24 ".
وإن صريح هذا الكلام وفحواه وشواهده ودلائله لتوضح أن ارتدادات
يهوذا وتقلباتهم في الشرك حتى جعلوا الأصنام في بيت المقدس ونجسوه وأخربوه
وأغلقوه وبقوا أياما كثيرة بلا إله حق ولا كاهن معلم ولا شريعة توراة لم تبق
سفرا للشريعة والتوراة بينهم إلى حد لم يقدر الملك عليه ولم يره ولم يسمع منه
شيئا مدة اثنتي عشرة سنة من ملكه وهو مؤمن يطلب الله والشريعة فإنه لو كان
للتوراة حينئذ وجود لكانت عنده منها نسخة يقرأ بها كل أيام حياته من أول
جلوسه على كرسي مملكته حسب ما هو الواجب في الشريعة على ملوك إسرائيل
" تث 17: 8 - 20 ".
ولكنه لما رأى ما ادعى حلقيا الكاهن أنه وجده في بيت الرب وسمع ما
فيه رأى شئ جديدا وسمع ما لم يكن معهودا له وحبسه هو والمؤمنون من
يهوذا من الحقائق التي غفلت عنها الأيام وخبتها عن دواهيها زوايا الخمول حتى
مزق الملك عند قراءته ثيابه واضطرب من أجل تضييعهم وجهلهم ما فيه،
وبذل العناية التامة في قراءته على جميع يهوذا وإسرائيل ليطلعوا على ما أضاعه
منهم الضلال، ويعودوا إلى ما ظفروا به من الشريعة التي لم يكونوا يعرفونها ولا
يجدون كتابها.
فكانت نسبة هذا الذي وجدوه إلى الشريعة الحقيقية موكولة إلى أمانة

58
حلقيا ولو كان لسفر الشريعة عندهم قبل هذا اسم أو رسم لما وقع أقل قليل من
هذا الاحتفال العظيم والتنبه إلى الشريعة بما ادعى حلقيا أنه وجده، وهذا مما لا
ينبغي أن يرتاب فيه من له حظ من الرشد والفهم.
قال المتكلف " يه 4 ج ص 134 " إن المراد بسفر الشريعة هاهنا هي
النسخة التي كانت موجودة في الهيكل بجانب تابوت عهد الرب حسب الأمر
الوارد " تث 31: 25 و 26 " وهذا لا ينافي وجود نسخ أخرى في أيدي الكهنة
واللاويين والشعب.
أقول: إن أراد من هذه النسخة أنها النسخة التي كتبها موسى وأمر بوضعها
بجانب تابوت العهد فيدعى في تكلفه أن احتفال يوشيا بها من أجل كونها تذكارا
لموسى ومن آثاره فليقل، وإن كان ما ذكرنا من أحوال يوشيا وأقواله أجنبيا عن
هذا الاحتمال أين كانت هذه النسخة وأين صارت، إذ نهب الفلسطينيون
التابوت من بني إسرائيل ووضعوه بقرب صنمهم داجون في اشدود ثم نقلوه إلى
حث ثم إلى عفرون ثم إلى بيت شمس ثم نقل إلى قرية يعاريم " 1 صم 84
7 " ثم نقله داود إلى بيت عوبيد الجتي، ثم إلى قرية مدينته " 2 صم 6 " ثم نقله
سليمان من صهيون مدينة داود إلى محراب البيت قدس الأقداس تحت جناحي
الكروبين " امل 8: 1 - 7 "، فإنه لم يجر لهذه النسخة في هذه المواضع
والتنقلات ذكر ولا اسم ولا رسم مع ما لها من الشأن المهم.
فإن قال: إنها كانت إذ ذاك في جوف التابوت قلنا: لم يكن في التابوت
حينما وضعه سليمان في قدس الأقداس إلا لوحا الشهادة " امل: 98 و 2 أي
5: 10 ".
وإن قال: إنها حين نهب التابوت كانت عند الكهنة، قلنا: ينبغي أن
يكون محلها بحسب الوظيفة في مكان التابوت تحت جناحي الكروبين في المسكن
من خيمة الاجتماع أنظر إلى " خر 40: 1 و 2 - وتث 31: 26 ".
وعلى هذا فلماذا لم يجر لها ذكر عند تحويل سليمان لخيمة الاجتماع وما
فيها، مع أن هذه النسخة أهم وأهم وأولى بالذكر من سائر أدوات خيمة

59
الاجتماع، وفي ذكرها البشارة الكبرى وبيان نعمة الله العظمى بجمع شمل
الشريعة المتبدد في جعل نسخة التوراة التي كتبها موسى على مقتضى وظيفتها إلى
جنب تابوت العهد الذي أنعم الله بإرجاعه من نهب المشركين إلى بيته المقدس
ففي ثاني الملوك الأول 3 وجاء جميع شيوخ إسرائيل وحمل الكهنة التابوت
واصعدوا تابوت الرب، وخيمة الاجتماع مع جميع آنية القدس التي في الخيمة
" 2 أي 5: 4 و 5 " فإن أبى المتكلف مكابراته إلا أن تكون النسخة المذكورة
وضعت على وظيفتها في محراب بيت المقدس على عهد سليمان بجانب التابوت،
قلنا: إن الموضع الذي عينه سليمان لتابوت العهد الذي تكون هذه النسخة إلى
جنبه هو المحراب قدس الأقداس تحت جناحي الكروبين " امل 8: 6 و 2 أي
5: 7 "، وكانت مساحة هذا المحراب عشرين ذراعا في مثلها " امل 6:
20 "، ومساحة جناحي الكروبين الملتقيين الذين يوضع التابوت تحت ملتقاهما
عشرة أذرع " امل 6: 24 - 28 " فيكون التابوت في وسط المحراب ومحل
نسخة التوراة المذكورة إلى جنبه.
وعلى هذا فهل تركها شوشق ملك مصر الذي نهب الذهب والفضة من
بيت الرب على عهد رحبعام، وهل يترك المحراب مع أن عمدة الذهب فيه
فرضناه تركها، فهل يتركها بنو إسرائيل ويهوذا في الأيام الكثيرة التي بقوا فيها
بلا إله حق وبلا كاهن ومعلم وبلا شريعة فرضناهم تركوها فهل يتركها
المشركون أولاد عثليا المشركة إذ هدموا بيت الرب وصيروا كل أقداسه للبعليم
حتى احتاج البيت إلى تجديده وإقامته على رسمه تمحلنا وفرضناهم تركوها، فهل
يتركها يواش المشرك إذ نهب كل الذهب والفضة وجميع الآنية الموجودة في بيت
الرب على عهد امصيا، فرضنا تركه فهل يتركها آحاز المشرك الذي قطع آنية
بيت الرب وأغلق أبوابه، وهل تركها قومه الذين وضعوا النجاسة في الهيكل
وأغلقوه وأطفأوا سرجه عنادا للتوحيد والشريعة افترى هؤلاء كلهم يتركون هذه
النسخة في محلها ويسمحون لها بالبقاء وهي أشد ما يكون مقاومة ومصادمة
لشركهم وضلالهم وأصنامهم وتماثيلهم، وقد بلغت في توبيخهم ولعنهم وذمهم
وسب آلهتهم، مبلغا لا يمكن في العادة أن يصبروا عليها ويتركوا لها وجودا وأثرا

60
كلا بل هي أول بأن تمد إليها يد الضلال من الهيكل الذي لا يقاومهم مثلها
ببيانه.
وأيضا لماذا لم توجد هذه النسخة عند إدخال الفضة إلى بيت الرب وما هو
السبب الذي أخر وجدانها إلى حين إخراج الفضة.
وأيضا لماذا لم يجدها حلقيا إلا بعد مضي ما يزيد على عشر سنين من ملك
يوشيا مع أن يوشيا ملك مؤمن يطلب الله والشريعة من أول أمره. وإن حلقيا
الكاهن لا ينفك عن كثرة الدخول إلى المحراب في الأسبوع مرة أقلا.
هذا وإن قال المتكلف: إن هذه النسخة غير التي كانت في زمان موسى
وأمر بوضعها إلى جنب التابوت، بل هي نسخة أخرى من سائر النسخ وضعت
مع التابوت على رسم الشريعة.
قلنا: كيف يتركها الذين هم قبل يوشيا من المشركين الذين عبثوا ببيت
الرب وأخربوه ونجسوه؟ وكيف لم يجدها حلقيا إلا بعد عشر سنين من ملك
يوشيا مع أنها نصب عيني الداخل إلى المحراب.
وأيضا فليعمل المتكلف فكره بما عنده من الفطانة، وليبين لنا أن هذه
النسخة إذا لم تكن بخط موسى وتذكارا له، بل كانت من سائر النسخ
الكثيرة، فما الوجه المقبول في احتفال يوشيا بها ذاك الاحتفال العظيم لو كان لها
أمثال كثيرة.
ثم ملك من بعد يرشيا إلى سبي بابل يهو آحاز ويهوياقيم ويهوياكين
وصدقيا وعملوا الشر " 2 مل 23 و 24 ".
وأما يهوذا في أيامهم فقد تكرر كلام ارميا النبي في توبيخهم على سلوكهم
وراء البعليم وسيرهم وراء آلهة أخرى حتى صارت آلهتهم بعدد مدنهم وبعدد
شوارع أورشليم " ار 7 و 8 و 9 و 11 و 12 و 16 ".
ولما رجعوا من سبي بابل وتوجهوا إلى عبادة الله والشريعة اجتمع كل
الشعب وقالوا لعزرا الكاهن: أن يأتي بسفر شريعة موسى التي أمر بها الرب

61
فأتى عزرا بالشريعة أمام الجماعة من الرجال والنساء وكل فاهم ما يسمع وقرأ
فيه من الصباح إلى نصف النهار وآذان الشعب نحو سفر الشريعة وجميع الشعب
بكواحين سمعوا كلام الشريعة، وفي اليوم الثاني اجتمع رؤساء آباء جميع
الشعب والكهنة واللاويون إلى عزرا ليفهمهم كلام الشريعة فوجدوا مكتوبا فيها
إن إسرائيل يسكنون في مظال في العيد في الشهر السابع فأخذوا في عمل المظال
" نح 8 ".
وقرأ أيضا في سفر موسى في آذان الشعب ووجدوا مكتوبا أن عمونيا
وموابيا لا يدخل في جماعة الله إلى الأبد، ولما سمعوا الشريعة فرزوا كل اللفيف
" نح 13 ".
قل فما هو السبب في أن ينفرد عزرا وحده بقراءة سفر الشريعة على ألوف
من بني إسرائيل جميع رجالهم ونسائهم وكل فاهم ما يسمع حتى الكهنة الذين
هم حملة الشريعة والتوراة بمقتضى الوظيفة الشرعية، ولماذا هرع إليه في اليوم
الثاني رؤساء آباء الشعب والكهنة واللاويون، ولماذا تنبهوا بسبب قراءته إلى
أمور لم تكن معهودة لهم، وبادروا إليها مبادرة مغتنم، أفيجوز مثل هذا؟ مع
فرض الوجود لنسخة أو أكثر في بني إسرائيل غير التي بيد عزرا كلا.
وأيضا لو كان بعد سبي بابل عند اليهود نسخ من التوراة، والشريعة لم
يكن محل ووجه لنزول الوحي على حزقيال في شريعة الكهنة، وقسمة الأرض
بين بني إسرائيل وغير ذلك من الشرائع التي تكلفت التوراة ببيانها " أنظر إلى حز
43 - 48 ".
تجد من الواضح أن ذلك بيان لما ليس في أيدي بني إسرائيل من
الشريعة.
ثم من بعد سبي بابل وإن لم يصرح بارتدادهم عن التوحيد إلا أنهم كانوا
يقولون من يفعل الشر فهو صالح في عيني الرب وبهم يسر " مل 2: 17 "
ويقولون: عبادة الله باطلة، وما الفائدة من أننا حفظنا شعائره " مل 3: 14 "
وإن كهنتهم احتقروا اسم الله " مل 1: 6 " وخانوا في الذبائح " مل 1: 7 -

62
14 " وحادوا عن الطريق واعثروا كثيرين بالشريعة، وأفسدوا عهد موسى " مل
2: 8 "، وكانت منهم فرقة يسمون بالصدوقيين، ينكرون القيامة وحياة
الأموات بعد الموت، وينكرون الملك والروح " ا ع 23، 8 ومت 22 ومر 2
ولو 20 ".
وقد شحنت الأناجيل من الكلام المنسوب للمسيح بتوبيخهم على تمردهم
على الله والشريعة ورياء كهنتهم وكتبتهم حتى تربصوا به من أجل ذلك الدوائر
ومع هذا كله هل يمكن للإنسان أن يتلقى من هذه الفرقة المتقلبة في ارتداداتها
هذا التقلب الذي طرق سمعك كتابا وشريعة عن الوحي والإلهام على حقيقته
الأولية بطريق يفيد اليقين بذلك كلا.
وأما أهل الديانة النصرانية في زمان المسيح فإن الكثيرين الذين آمنوا به في
عيد الفصح لما رأوا منه الآيات لم يأتمنهم على نفسه لأنه كان يعرف الجميع ولا
يحتاج لشاهد على ما في ضمير الإنسان " يو 2: 23 - 25 " ورجع عنه كثيرون
من تلاميذه ولم يعودوا وذلك بسبب وعظه وإرشاده وبيان رسالته " يو 16:
52 - 66 ".
والتلاميذ الاثني عشر مالوا إلى الرئاسة الدنيوية وتشاجروا في أنه من يكون
الأكبر بعد المسيح لما أخبرهم بما يجري عليه، وإنه ماض عنهم فوعظهم لذلك،
ووعدهم ومناهم بما يرغبهم في الائتلاف وعدم التشاجر " لو 22: 22 -
31 ".
واغتاظ عشرة منهم على المسيح من أجل ابني زبدى " مت 20: 24 "
ووبخهم على قلة إيمانهم " مت 16: 8 " وأنهم لا إيمان لهم " مر 4: 40 "
وليس لهم من الإيمان مثل حبة خردل " مت 17: 20 " ووصفهم الإنجيل
بغلظ القلوب " مر 6: 52 ".
وأخبر المسيح بأن كافتهم يشكون فيه ليلة هجوم اليهود عليه " مت 26:
31 " ويتفرقون عنه كل واحد إلى خاصته ويتركونه وحده " يو 16: 32 "
وطلب منهم أن يسهروا معه تلك الليلة فلم يفعلوا ولم يواسوه مع ما هو فيه من

63
الدهشة والاكتئاب حتى وبخهم على ذلك مرارا، ولما أمسكه اليهود حسب
الظاهر تركه التلاميذ كلهم وهربوا " مت 26: 36 - 57 ".
وإن من التلاميذ الاثني عشر يهوذا الاصطخريوطي كان بيده صندوق
أموال الفقراء " يو 12: 6 و 13: 29 "، وكان سارقا " يو 12: 6 " وهو
الذي اجترأ على تسليم المسيح إلى أعدائه، وباع دمه الشريف بقليل فضة أنظر
إلى أخريات الأناجيل وأول الأعمال.
وإن كبير التلاميذ بطرس صار ينتهر المسيح حتى قال له المسيح: إذهب
عني يا شيطان أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله بل بما للناس " مت 16: 22
و 23 "، وقد أنكر المسيح ثلاث مرات وابتدأ يلعن ويحلف أنه لا يعرفه " مت
26: 69 - 75 " مع أن المسيح أنذره بذلك فوعد المسيح أن لا ينكره ولو
اضطر إلى الموت معه " مت 26: 35 ".
هذا وأما ما كان بعد حادثة الصليب فإن التلاميذ الأحد عشر لم يصدقوا
اللواتي أخبرنهم بقيام المسيح من الأموات في اليوم الثالث بل عدوا كلامهن
كالهذيان " لو 24: 11 "،، حتى وبخهم المسيح على عدم إيمانهم وقساوة
قلوبهم لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام " مر 16: 14 "، مع أن في
الأناجيل أن المسيح كم وكم قدم لهم أنه يتألم من اليهود وفي اليوم الثالث يقوم
" أنظر من جملة ذلك أقلا إلى مت 16: 21 و 17: 23 و 20: 19 و 26:
32 "، " وغير ذلك في الأناجيل الأربعة "، حتى أن اليهود كانوا يعلمون
بكلامه هذا ويخشون عاقبته " مت: 27: 63 ".
وتذكر اليونانيون من المسيحيين على العبرانيين منهم بسبب الغفلة عن
طعام أراملهم " ا ع 6: 1 ".
ووقعت المشاجرة في الختان فتكلم بطرس ويعقوب في رفعه عن الأمم
بمجرد الاستحسان والتآلف للأمم في مقابلة تأكيد حكمه في التوراة وتأييده
وتعليم المعلمين المسيحيين من اليهودية فحصروا ما على الأمم من أحكام
الشريعة باجتناب المخنوق وما ذبح للأوثان والدم والزنا " ا ع 15: 1 - 30 ".

64
وإن برنابا وبولس اللذين اختارهما الروح القدس لعلمه " ا ع 13: 12 "
تشاجرا فيمن يأخذانه معهما للخدمة حتى فارق أحدهما الآخر " ا ع 13: 36 -
40 ".
وقد اختلف المعلمون في النصرانية واختلفوا في التعليم حتى صار بعضهم
يحذر الأمة من بعض " أنظر إلى رسائل بولس وبطرس ويهوذا ويوحنا " حتى قال
بعضهم في البعض الآخر: أنهم لا يخدمون المسيح بل بطونهم وبالكلام الطيب
والأقوال الحسنة، يخدعون قلوب السماء " رو 16: 18 "، وعن حسد وخصام
يكرزون بالمسيح " في 1: 15 " وأنهم ذئاب خاطفة " ا ع 20: 29 " ورسل
كذبة فعلة ماكرون مغيرون شكلهم إلى شبه رسل المسيح كالشيطان يغير شكله
إلى شبه ملاك نور " 2 كو 11: 13 و 14 " حتى أن كثيرين خرجوا وصاروا
أضداد للمسيح " 1 يو 2: 18 و 19 ".
وجميع الذين في آسيا ارتدوا عن بولس وبعض زاغ عن الحق وادعى إن
القيامة قد قامت " 2 تي 1: 15 و 18 ".
وإن من المعلمين إخوة كذبة ادخلوا خفية ودخلوا اختلاسا، وإن
المعتبرين أنهم شئ " كالتلاميذ الأحد عشر " مهما كانوا لا فرق بينهم وبين
هؤلاء.
وإن بطرس والنصارى العبرانيين في أنطاكية حتى برنابا استعملوا الرياء
والمداهنة، ولم يسلكوا باستقامة حسب حق الإنجيل " غل 2: 3 - 15 ".
وإن بولس قد استعمل الرياء، وختن تيموثاوس اليوناني على خلاف
تعليمه " ا ع 16: 1 - 4 ".
وإن يعقوب وجميع المشايخ في أورشليم تواطأوا مع بولس على استعمال
الرياء بإلزام بولس مع أربعة أشخاص بأحكام الناموس تمويها لإبطالهم لها
ومداهنة للأنوف والربوات من المؤمنين بالمسيح من اليهود الذين ينكرون إبطال
الناموس بمجيئ المسيح " ا ع 21: 2 - 27 ".

65
وإن بولس ليس له نظير مخلص بل الجميع يطلبون ما هو لأنفسهم لا ما
هو للمسيح " في 2: 20 و 21 ".
ويتضح من الأعمال ورسائل بولس أن تعليمه الرائج بين النصارى في
القرون المتأخرة كان ضدا لتعليم الرسل والمعلمين من العبرانيين الذين هم من
أهل الختان ولذا كثر تعرضه لهم وقد فهم وانتفاضهم وافتخاره عليهم حتى
ادعى العروج مرة إلى السماء الثالثة وأخرى إلى الفردوس " أنظر إلى الحادي عشر
والثاني عشر من كورنتوش الثانية ".
ومن ذلك تعليمه بكفاية الإيمان وحده في الفائدة وتعليم يعقوب بعدم
كفايته بدون الأعمال " أنظر إلى الحادي والعشرين من العبرانيين "، وإلى رسالة
يعقوب وخصوص ثانيها، وقد اختلف تعليم بولس في أكل ما ذبح للأوثان
الذي قرر الرسل حرمته واضطرب كلامه فيه، فتارة جعله يذبح للشيطان لا لله
ولا يريد أن يكون المؤمنون شركاء الشياطين لأنهم لا يقدرون أن يشربوا كأس
الرب وكأس شيطان ولا يشتركوا في مائدة الرب ومائدة شياطين أم نغير الرب
ألعلنا أقوى منه " 1 كو: 10 - 18 - 22 ".
وتارة رجع الامتناع منه من دون تحريم، لأنه معثرة للضعفاء أنظر " 1 كو
8 " ومن أجل ضمير الآخر الضعيف " 1 كو 10: 29 "، ثم ندم وقال:
لماذا يحكم في حريتي من ضمير آخر، فإذا كنت أتناول بشكر فلماذا يفترى علي
لأجل ما أشكر عليه " 1 كو 10: 29 و 30 ".
وعلى كل حال فهذه الأقوال المضطربة خلاف ومقاومة لما قرره الرسل من
التحريم المطلق كما مر، وعن بولس في بعض تعاليمه كل شئ طاهر للطاهرين
" تي 1: 15 " وكل خليقة الله جيدة، ولا يرفض شئ منها إذا أخذ مع
الشكر " 1 تي 4: 4 "، وهذه خلاف ومقاومة لما قرره الرسل من تحريم ما ذبح
للأوثان والمخنوق والدم.
وعنه أيضا في تعاليمه في شأن الناموس والعهد القديم ما لفظه فإنه يصير
إبطال الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها إذ الناموس لم يكمل شيئا

66
" عب 7: 18 و 19 ".
وعنه في شأن العهد القديم أيضا لو كان الأول بلا عيب لما طلب موضع
لثان - فإذا قال جديدا فقد عتق الأول، وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من
الاضمحلال " عب 8: 7 - 13 "، وهذا الكلام إذا أغمضنا النظر عن منافاته
لما في العهدين، وخصوص الكلام المنسوب للمزامير وملاخي والمسيح فإنه مناف
ومناقض لخصوص ما عن بولس نفسه من قوله كل الكتاب موحي به من الله
ونافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب الذي في البر لكي يكون إنسان الله
كاملا متأهبا لكل عمل " 3 تي 3: 16 و 17 ".
وقد طال الكلام في هذه المقدمة فاقتصرنا على ما ذكرنا لئلا يخرج الكتاب
عن وضعه وإن كان للمزيد مجال واسع.

67
المقدمة السادسة
قد وجدنا العمدة لمباحثي المسلمين من النصارى هو الاحتجاج عليهم بما
في كتب العهدين، وكأن هؤلاء المباحثين لم يفطنوا إلى أنه لا حجة لهم بها على
المسلمين لوجوه:
" الوجه الأول " أنه من المتعذر إيصال السند في كل واحد من هذه
الكتب إلى الأنبياء معادن الوحي والإلهام على سبيل التواتر المفيد لليقين في كل
طبقات النقل، فاستوضح بعض ذلك من المقدمة السابقة، وغاية ما عندهم هو
الاعتماد على حكم المجامع المتقلب في تمييز الكتاب الإلهامي من المكذوب،
والاستشهاد بمطابقة كلام القدماء، كما ستعرف ذلك من أشتات كلام
المتكلف.
" الوجه الثاني " أنه لا يتمكن معرفة رسالة الأنبياء السابقين وتعيين كتبهم
الصادرة عن الوحي معرفة يقينية إلا بسبب إخبار رسول الله خاتم المرسلين،
والقرآن الذي هو كلام الله بواسطة دلالة العقل على صدق رسول الله بدعواه
الرسالة، وإن القرآن الكريم هو كلام الله العظيم، فلو شككنا والعياذ بالله
بالرسول والقرآن كما يريدون لم تبق لنا معرفة بنبي مرسل ولا اسم كتاب إلهامي
فإن كتب العهدين بنفسها ووجوه مضامينها هي التي تصد عن الإذعان باتصال
سندها وصحة تواترها وصدورها عن الوحي والإلهام، وتمنع عن التصديق بنبوة

68
أنبيائها والوثوق بنقل دلائل نبوتهم لو صححت نسبتها إليهم، كم ستعرفه إن شاء
الله من متفرقات كتابنا، وخصوص ما يأتي إن شاء الله في بيان أنموذج النظر،
بل قلما يمر بك فصل إلا ويدلك إن شاء الله بأوضح دلالة على ما ذكرنا.
وأيضا إن القرآن الكريم والعقل السليم يدلان بأوضح دلالة على أن في
هذه الكتب شيئا كثيرا ليس من الالهام والوحي أصلا لمخالفتها لهما في أمور كثيرة
مخالفة لا تقبل التأويل، كما ستسمع تفصيل بعضه في محاله إن شاء الله،
وبذلك يسقط اعتبار مجموعها لو صحت نسبة المجموع إلى الوحي في الجملة.
" الوجه الثالث " شهادة بعضها على بعض بالتحريف صريحا، وإن حامى
بعض النصارى عن ذلك وكتبوا في كتبهم قولهم متى حرفت ولماذا حرفت؟ ومن
حرفها؟ ولأي غرض حرفها؟
فمن جملة الشهادات ما في الثالث والعشرين من ارميا في خطاب الشعب
36، أما وحي الرب فلا تذكروه بعد لأن كلمة كل إنسان تكون وحيه إذ قد
حرفتم كلام الإله الحي رب الجنود الهنا، هكذا ما اطلعنا عليه من التراجم
العربية ونصه في النسخة العبرانية. ومساء يهوه. لا تزكروا. عودكي. همسا
يهوه. لأيش. ووحى الله لا تذكروا بعد لأن وحي الله لرجل ديبارو وهفخيتيم
ايت.
كلامه وحرفتم.
دبرى ايلوهيم حييم يهوه صيباؤت ايلوهينو
كلام الإله الحي رب الجنود إلهنا.
وإن في ملاحظة ما ذكرناه من الأصل العبراني هاهنا والتراجم العربية
لشهادة أيضا على وقوع التحريف، وفي ثامن ارميا أيضا (8) كيف تقولون نحن
حكماء وشريعة الرب معنا حقا أنه إلى الكذب حولها قلم الكتبة الكاذب، ونصه
في النسخة العبرانية.
ايخاه توميروا حاخاميم انحنو وتوراة يهوه اتانوا أكم هنيه لشيقير كيف

69
تقولون حكماء نحن وشريعة الرب معنا لكن هوذا للكذب عاساه عيط شيقير
سوفيريم.
صنعها قلم كذب الكتبة.
وفي التاسع والعشرين من أشعيا (16) يا لتحريفكم، ونصه في الأصل
العبراني هافخيخيم.
وفي الثالث من رسالة بطرس الثانية 16 كما في الرسائل كلها أيضا متكلما
فيها عن هذه التي فيها أشياء عسرة الفهم يحرفها غير العلماء وغير الثابتين كباقي
الكتب أيضا لهلاك أنفسهم، وفيه شهادة بتحريف المعلمين للرسائل كما حرفوا
سائر الكتب.
ولا تظن أن هؤلاء المحرفين من الوثنيين لا اعتناء لهم بهذه
الكتب ولا غرض لهم بتحريفها، بل إنما هم المعلمون من اليهود، والمنتصرين
الذين يريدون بضلالهم أن يشوهوا تعليم الكتب فيحرفونها حسب أهوائهم.
وفي أول غلاطية (6) إني أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعا عن الذي
دعاكم بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر (7) ليس هو آخر، غير أنه يوجد قوم
يزعجونكم ويريدون أن يحولوا إنجيل المسيح.
وفي آخر رؤيا يوحنا 18 و 19 قد شدد في الدعاء على من يزيد في نبوة
كتابه أو ينقص منها.
وفي فحوى كلامه شهادة بأن للتحريف حسب الهوى حينئذ طغيان
مخوف.
" الوجه الرابع " شهادة بعض كتب العهدين على البعض الآخر
بالتحريف ضمنا وإشارة، وهو أن التوراة في ثامن عشر التثنية من العشرين إلى
الثانية والعشرين قد أعطت علامة لما ليس من كلام الله وما هو كذب على الله
والوحي وأن في العهدين لكثير من هذا القبيل الذي يعرف بهذه العلامة أنه ليس
من كلام الله ولا من الوحي والإلهام في شئ، كما ستسمع بعضه إن شاء الله

70
في المقدمة الثامنة في الفصل الرابع.
" الوجه الخامس " هو أنه يوجد من نتائج الجميع بين مضامين العهدين
موانع كثيرة من نبوة المسيح ورسالته وقداسته، بل يلزم منهما شرك موسى
وهارون وداود وأساف وسليمان والمسيح، وكفر ارميا واستحقاق هؤلاء للقتل،
كما سيمر عليك في محاله إن شاء الله، وأنهم لمقدسون عن مثل ذلك وكل ما
يشين.
" الوجه السادس " إنا قد وجدنا التبديل الصريح والتصرف الواضح في
العهدين في التراجم والمطابع وهو لا يعدو القسيسين ورؤساء الدين، فمن
جملة ذلك أن في النسخة العبرانية في الثامنة من رابع التكوين ما تعريبه الحرفي
وقال قايين لهابيل أخيه ولما صارا في الحقل قام قايين على هابيل أخيه فقتله.
وكثير من المترجمين لما رأى أن جملة وقال قايين لهابيل أخيه: جملة فارغة عن
المعنى ناقصة الفائدة لأجل احتياج القول إلى المقول ترجموها في مطابعهم هكذا.
وكلم قايين هابيل أخاه فبدلوا القول بالتكلم لأجل ما يترائى في التكليم من
الفائدة وجروا على هذا التبديل في أكثر ما رأينا من التراجم الفارسية وغيرها مع
إن الأصل العبراني هكذا:
ويأمر فأين ال هبل احيو
وقال قايين لهابيل أخيه
ولو كان الأصل وكلم لقيل " ويدبر ". وبعضهم كصاحب الترجمة
المطبوعة سنة 1811 م لما رأى التباين الكلي في اللغة العبرانية بين لفظ ما تعريبه
" وقال ": ولفظ ما تعريبه " وكلم " حاول أن يتستر في تصرفه فذكر هكذا
وقاول قايين هابيل أخاه.
وبعضهم لما وجد النسخة السامرية واليونانية تامة الكلام والفائدة لا سقط
فيها كما في العبرانية جعل ترجمة للعبرانية على طبقهما تصرفا وتقولا على العبرانية
فذكر في الترجمة وقال قاين لهابيل أخيه تعال نخرج إلى الحقل. نقله في إظهار
الحق عن التراجم القديمة والعربية المطبوعة سنة 1831 و 1848 م بعضهم زاد

71
في الترجمة من تلقاء نفسه تتميما للمعنى منهم تومارابنسن القسيس في ترجمته
للعبرانية بالفارسية المطبوعة في لندن بمطبعة رجارد واطس سنة 1829 م فقال
(وقايين هابيل برادر خود را گفت كه بيا) فزاد من نفسه لفظ كه بيا، ويلزم مما
ذكرنا حدوث النقصان المخل في العبرانية وإقدام مترجميها على التبديل أو الزيادة
لأجل تصحيحها فزادوا في الطنبور نغمة، وأيضا في الأصل العبراني في الثالثة
عشرة من ثاني عاموس ما نصه عن قول الله:
هنيه انوخي ما عيق تحخيم كاشير تاعيق:
ها هو أنا صار أواصر أو مضايق أو نحو ذلك تحتكم كما أو كالذي تصر أو
نحو ذلك هاعغالاه حملا أه لاه عامير.
العجلة الملآنة حزما أو حشيشا.
وفي العربية المطبوعة سنة 1811 لأجل هذا ها أنا أتمرغ تحتكم كما تتمرغ
العجلة المملوءة قصبا.
ونقل في إظهار الحق عن ترجمة عربية مطبوعة سنة 1844 م موافقة
العبرانية في مضمونها بما لفظها أنا ذا أصر تحتكم كما تصر العجلة المحملة
حشيشا. وعن نسخة فارسية أيضا مطبوعة سنة 1838 م (اينك من در زير شما
چسبيده شدم چنانچه آرابه برازاقد چسبيده ميشود).
ولما رأى كثير من المترجمين أن حقيقة مضمون هذا الكلام ومجازه بمكان من
السخافة بدلوه في أكثر ما رأيناه من التراجم العربية إلى ما لفظه، ها أنا ذا
أضغط ما تحتكم كما تضغط العجلة الملآنة حزما، ونحوها ما رأيناه من التراجم
الفارسية.
وأيضا قد زادوا على ترجمة العبرانية واليونانية ألفاظا اعترفوا بأنها ليس لها
وجود في الأصل العبراني واليوناني، وزعموا أنهم زادوها في الترجمة لأجل
الإيضاح، ورسموها بحرف صغير في بعض النسخ العربية المبنية على التأنق في
طبعها مع أن الكلمات الكثيرة من ذلك بحيث يعسر إحصاؤها في هذه المقدمة
كثرة لتأبى أن تكون أيضا حابل هي إتمام لمعنى ناقص أو زيادة على معنى تام

72
فراجع الكلمات المذكورة في أولى النسخ التي عددناها، وراجع الأصل العبراني
واليوناني.
ولنكتف في هذه المقدمة على هذا المقدار وإن كان قليلا من كثير ونحيل
بالزيادة على ذلك إلى محالها إن شاء الله وسوف نورد فيما يأتي بابا واسعا إن شاء
الله في هذه الشأن وندلك على سقوط المتكلف وغيره في تشبثاتهم وتكلفاتهم،
فإن وضع المقدمات لا يحتمل أكثر مما ذكرنا هاهنا وإن كان فيه كفاية بتوفيق الله
لذي الرشد.

73
المقدمة السابعة
لا يخفى على كل ذي رشد ومعرفة بطريق البحث والمباحثة، أن مباحثة
أهل الدين والاعتراض على جامعتهم وأصل دينهم إنما يحسن ولا يعيد خبطا
ومراوغة عن الحق إذا كان البرهان عليهم بالمقدمات المنتهية إلى بداية العقل أو
المسلمة عند عمومهم، وإذا كان الجدل والإلزام لهم بما يعلم أنه من الدين
الذي عكفوا عليه والقدر الجامع بينهم لا بما كان رأيا أو رواية يختص به واحد أو
آحاد من أهل ذلك الدين لا يفيد علما ولا يذعن عموم أهل الدين بصحته، أو
أنه من دينهم فإن تشبث خصمهم بمثل هذا في الاحتجاج على جامعتهم كان
ذلك منه حيادا عن الحق لضعف الحجة وضيق الخناق، ولأجل هذا لم أعتمد في
هذا الكتاب في البرهان إلا على ما هو حقه من المقدمات البديهية لدى العقل
والعقلاء، ولم أجادل عموم النصارى وألزمهم في جامعة دينهم والنصرانية التي
عندهم إلا بما تسالموا على إلهاميته وصدوره عن الوحي وهي كتب العهدين التي
ذكرنا أنهم متفقون في هذه القرون على نسبتها إلى الوحي والإلهام، وشرحنا
أسماءها في المقدمة الأولى. ولم أباحثهم خبطا بآراء آحاد مفسريهم وعلمائهم أو
آحاد تقاليدهم التي لا توجب في دينهم علما أو يأبى صحتها أغلبهم.
ولكن هلم الخطب في جملة من المباحثين لدين الإسلام وخصوص الثلاثة
الذين وعدناك بالتعرض لكلامهم في هذا الكتاب فإنهم قد دارت مباحثتهم
للإسلام على قطبين فاسدين في شرع البحث وأدب الكاتب.

74
" أحدهما " اعتمادهم في البرهان لدعاويهم في قبال الإسلام على كتب
العهدين التي يدعون إلهاميتها وصدورها عن الوحي.
وقد عرفت في المقدمة السادسة وتعرف إن شاء الله ما يبطل ذلك. وأن
تشبثهم بها في قبال الإسلام والمسلمين مما لا يليق بالمباحث وإن لم يقصد ببحثه
تحقيق الحق.
" وثانيهما " أنهم تشبثوا في مقام الجدل لدين الإسلام وإلزام عموم
المسلمين في جامعة دينهم بآراء بعض مفسريهم وروايات آحادهم مما لا يقبله
عمومهم ولا يذعنون بصحته ولا يعتمدون عليه في جامعتهم الإسلامية، أو
ترى هؤلاء المباحثين لم يفطنوا أو لم يسمعوا بأنه عرض لروايات آحاد المسلمين
مثلما قد عرض للأناجيل وتعاليم النصرانية بعد المسيح من الاختلافات
والتشويش والاضطراب حتى تعددت الأناجيل واختلفت اختلافا واضحا وحتى
تتابع النداء من أعمال الرسل والرسائل المدرجة في العهد الجديد بأن بطرس
ويهوذا ويوحنا وبولس يستغيثون ويحذرون الأمة من التعاليم المتشبعة من
المتنصرين، كما ملأ سمعك في أواخر المقدمة السادسة، وستسمع له زيادة إن
شاء الله على أنه لم ينحصر الاختلاف في أخبار آحاد المسلمين بتعمد الكذب من
بعض الوسائط بل كان منه ما نشأ من عدم التثبت والتفهم في السماع، ومنه ما
نشأ من خلل التوهم والنسيان، ومنه ما كان لأجل اختفاء القرائن المتصلة
والنقل بالمعنى، ولأجل هذا ترى المسلمين لم يأخذوا بها جميعا على سبيل
التسليم، ولم يطمسوا الحقائق بالإعراض عنها رأسا، بل تصدوا من قديم
الزمان إلى الوقت الحاضر وصنفوا الكتب الكثيرة لمحض البحث والتنقيب في
أحوال الرواة وجرحهم وتعديلهم وضبطهم وحفظهم وحسن سماعهم وأمانتهم
وسلامة عقيدتهم واتصال السند وانقطاعه، كل ذلك ليميزوا منها المتواتر باللفظ
أو بالمعنى فيكون لهم حجة في أصول الدين وفروعه، والذي لا يبلغ التواتر
بحثوا فيه عن سند الرواية وشهرتها وقبول أساطين العلم لها وعدم اضطرابها أو
مخالفتها للعقل أو الكتاب أو السنة ليعتمدوا في فروع الدين وأحكامه على ما
اطمأنوا بصحته وصدوره على وجهه منها وما وجدوه مضطربا أو مخالفا للعقل أو

75
الكتاب أو السنة ضربوا به الجدار في مقام العمل، نعم لأجل اختلاف آرائهم
في جهات الاطمئنان والوثوق على طبق القانون المذكور اختلفت فتاوى أئمتهم إذ
قد يثق أحدهم بما لا يثق به الآخر، فقد جرى دأب كل منهم على ما ينبغي
للباحث الطالب للحق بجده واجتهاده من عدم التقليد لغيره في بيان الصحيح
المطمئن الموثوق به ولو فرض أنه قررته عدة من المجامع بل كل منهم يبحث في
هذا الشأن بحسب القواعد الممهدة له ليتميز بنظره واجتهاده ما هو الصحيح
الموثوق به ولأجل مراعاتهم للقوانين المذكورة ترى المقبول المعمول عليه من أخبار
الآحاد أقل قليل، وأيضا قد جعلوا من الوجوه التي يعرف بها تخليط الرواي
وفساد عقيدته ما يجدونه في روايته من مخالفة العقل أو الوجدان أو الأمور المعلومة
أو الكتاب أو السنة.
وأما أقوال المفسرين فمنها ما هو رأي لهم أو مؤدي أخذهم من السير
والتواريخ التي لا تفيد علما، وهذا لا حجة فيه على الجامعة الإسلامية ولا جدل
أصلا كما بينا. ومنها ما كان رواية، فالاحتجاج أو الجدل بها في أصول الدين
وفروعه إنما يحسن ولا يعد خبطا ومرواغة إذ كان على القانون المتقدم ذكره في
الرواية.

76
المقدمة الثامنة
في محل البحث من الرسالة والنبوة، وفيها بابان وفيهما فصول:
الباب الأول
الفصل الأول منه في بيان حقيقة الرسول
النبي المرسل هو إنسان كامل يرسله الله إلى البشر ليكلمهم ويهديهم إلى
الصواب ويرشدهم إلى ما يحتاجون إليه في معرفة الله وطاعته والاحتراز عن
معصيته ويحملهم على ما فيه حفظ كمالاتهم ومصالحهم الشخصية والنوعية في
الدين والدنيا ويزجرهم عما يضرهم فيهما.
الفصل الثاني
في الغاية المطلوبة من إرساله
لا ينبغي أن يشك ذو رشد بأن ما ذكرناه هو الغاية المطلوبة من إرسال الله
للنبي. وتقريره بالبيان الواضح هو أن إرسال الله للنبي في دعوته رحمة من الله
ولطف من ألطافه بمن يدعوهم النبي ليقربهم إلى طاعة الله ويبعدهم عن معصيته
وينبههم من رقدة الغفلة وينقذهم من سورة الهوى والضلال ويحملهم على جادة
الهدى ودين الحق وقوانين العدل وحسن التمدن والاجتماع وآداب السياسة
لينالوا سعادة الدارين.

77
الفصل الثالث
في عصمته
وأول ما يلزم في تحصيل هذه الغاية الشريفة والغرض الحميد وحصول
هذا اللطف والرحمة أمران:
" أحدهما " كون الرسول معصوما في التبليغ غير متهم فيه، مع فرض
رسالته.
" وثانيهما " كونه معصوما عن الذنوب وارتكاب القبائح التي هي ضد لما
يدعو إليه من شريعة الهدى والصلاح.
" أما الأمر الأول " فقد اتفق عليه أهل الملل القائلون بالنبوة والرسالة
لوجه أوضحته لهم بداهة عقولهم، وليس حقيقته إلا تحصيل الغرض من
الرسالة وقبح نقضه بإرسال الكاذب والمخطئ في التبليغ.
" وأما الأمر الثاني " فحقيقة وجهه وحجته عين الوجه الأول وحجته وأن
خالف فيه اليهود والنصارى فإنه يقبح ويمتنع من الله القادر القدوس الغني العليم
الحكيم أن يجعل رحمته ولطفه في طريق يمنع عن فائدتهما ويصد عن منفعتهما،
مع إمكان أن يجعلهما في طريق لا يمنع عن حصول الغرض والفائدة ولا مفسدة
فيه، بل هو الناجح في تحصيل الغرض، ولبيان ذلك وجوه:
" الأول " إن إرسال النبي الذي يصدر منه الذنب والقبيح، ومخالفة

78
شريعة الحق ناقض للغرض المطلوب من إرساله، ونقض الغرض قبيح ببداهة
العقل ومنقصة فاضحة فهو ممتنع على الله، فإن الوجدان ليشهد بأن نفوس
البشر المحتاجة إلى الاستصلاح والترويض والإرشاد والتقريب إلى الله وشريعة
الحق لتنفر نفرة شديدة عن الانقياد إلى من يدعوها إلى الله والشريعة ويعظها
ويوبخها ويزجرها عن شهواتها إذا كان ممن يخالف الله والشريعة ويتمرد على
أحكامها وينقاد إلى شهواته وهواه مع إدعائه المعرفة والرئاسة الدينية، فلا
تصغى إلى إرشاده ولا تعتني به، فانظر بوجدانك إلى المذنب العاصي إذ جاءك
واعظا ومرشدا مؤدبا زاجرا لك عن اتباع هواك، فهل ينتج من إرشاده ووعظه
وزجره إلا أن يستهزء به ويقال له: كمل نفسك واصلحها وارشدها ثم التفت إلى
تكميل غيرك وإرشاده، وحينئذ ادع عليه الرئاسة وفضيلة الإرشاد وسيطرة
الزجر والتوبيخ. بل نقول: إن صدور الذنب والقبيح من الرسول الذي هو
الرأس والرئيس والقدوة في الدين، مؤيد ومحرك لدواعي سائر البشر إلى الإقدام
على الذنوب والتهاون بالشريعة لشهادة الوجدان بأن رئيس الدين إذا أذنب هان
على الناس اتباعه في الاقتحام في الذنوب، وتحركت شهواتهم وأهواؤهم إليها
وقد لهج الناس بقولهم الموافق للحكمة والتجربة " إذا فسد العالم فسد العالم "،
وعلى ذلك يلزم من صدور الذنب والقبيح ومخالفة الشريعة من الرسول حصول
الفساد من الجهة التي أراد الله برحمته ولطفه منها الصلاح، وحقيقة هذا ومعناه
أن يريد الله الصلاح لأجل رحمته ولطفه بعباده من الجهة التي هي أشد وادعى في
انتشار الفساد، وهل يرتاب عاقل في قبح ذلك وامتناعه على الله جل شأنه.
وانظر إلى الملوك فهل تراهم يرسلون إلى إصلاح رعاياهم المتمردة على
شريعة المملكة إلا من يطمئنون بعدم مخالفته لتلك الشريعة وقوانين الإصلاح
مهما أمكنهم لئلا تفسد الرعية بفساده، ولو وجدوا إلى المعصوم سبيلا لما عدلوا
عنه، وذلك لعين ما ذكرنا من قبح نقض الغرض، فهل ترى الملوك أنظر
لصلاح رعاياهم من الله لعباده.
" الوجه الثاني " إن إرسال الله للرسول المعصوم ممكن وحاجة الخلق في
الاهتداء إلى الحق وظهور الصلاح والانقياد إلى الرسول وعدم التنفر عنه داعية

79
إلى ذلك وهو مصلحة بلا مفسدة بل المفسدة بخلافه فيجب بمقتضى الحكمة
والرحمة واللطف فيمتنع إرسال غير المعصوم، أفيقال أن وجود المعصوم غير
ممكن؟ أو أن الله لا يعلم به؟ أو أن لا مصلحة في إرسال المعصوم؟ وأن في
إرساله مفسدة؟ أو أنه يجوز على الله القدوس الغني العليم الحكيم الاخلال
بالحكمة والعدول عبثا عما فيه الصلاح وحصول الغرض إلى ضده حاشا
وكلا؟.
" الوجه الثالث " دلالة الكتب المنسوبة بين المليين إلى الوحي والإلهام
بنحو يشير بمضمونه أو فحواه إلى ما ذكرنا من وجه دلالة العقل قال الله تعالى في
سورة البقرة 118 (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك
للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) وفاعل القبيح ظالم إذ
لا أقل من كونه ظالما لنفسه بإلقائها في تهلكة العقاب ورذيلة فعل القبيح، قال
الله تعالى في سورة فاطر 29: (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق
في الخيرات).
وفي سابع عشر التكوين " 1 " ظهر الله لابرام وقال له: أنا القدير سر
أمامي وكن كاملا فاجعل عهدي بيني وبينك فإن جعل الله للعهدين بينه وبين
إبراهيم متوقف على سير إبراهيم أمام الله، وكونه كاملا، وفي المزمور الخامس
والعشرين " 14 " سر الرب لخائفيه.
وفي الثالث من الأمثال " 32 " لأن الملتوي رجس عند الرب، أما سره
فعند المستقيمين. وفي الحادي عشر " 20 " كراهة الرب ملتووا القلب ورضاه
مستقيموا الطريق. وفي الخامس عشر أيضا " 29 " الرب بعيد عن الأشرار، وفي
ثالث رسالة بطرس الأولى " 22 " لأن عيني الرب على الأبرار وأذنيه إلى طلبتهم،
ولكن وجه الرب ضد فاعلي الشر. وفي خامس متى عن قول المسيح لتلاميذه
" 13 " أنتم ملح الأرض ولكن إن فسد الملح فبماذا يملح لا يصلح بعد لشئ إلا
لأن يطرح خارجا ويداس من الناس. وفي رابع عشر لوقا " 34 " ما يؤدي هذا
المضمون، وفي سادس متى " 24 " لا يقدر أحد أن يخدم سيدين لأنه إما أن

80
يبغض الواحد ويجب الآخر أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر لا تقدرون أن تخدموا
الله والمال ومثله في سادس عشر لوقا " 13 ". وعلى هذا كيف إذا يقدر على خدمة
الله ومعاناة المشاق في إرشاد خلقه وإصلاحهم من لا رادع له عن خدمة الهوى
والشهوات التي هي في الحقيقة خدمة الشيطان. وفي سادس عشر لوقا " 10 "
الأمين في القليل أمين أيضا في الكثير، والظالم في القليل ظالم أيضا في الكثير.
وقد تكرر نقل هذا المضمون عن المسيح بلطيف البيان والتقريب في
الخامس والعشرين من متى " 14 - 30 ". وتاسع عشر لوقا " 12 - 27 " وفي
ثامن يوحنا في شأن إبليس " 44 " لأنه كذاب وأبو الكذاب. وفي ثامن عشر متى
" 1 - 5 " وثاني مرقس " 23 - 26 " وسادس لوقا " 1 - 4 " إن المسيح لما
اعترض عليه اليهود بأكل تلاميذه في يوم السبت من الزرع وأنه لا يجوز فعل
مثله في السبت، احتج عليهم بأكل داود من خبز التقدمة الذي لا يحل إلا
للكهنة فلو لم يكن النبي معصوما، وأن داود برئ مما رمى به في شأن امرأة
أوريا لما صح من المسيح الاحتجاج بفعله ولكان يحاذر أن يجيبه اليهود بأن داود
أذنب وفعل الخطيئة في أكله من خبز التقدمة كما أخطأ في شأن امرأة أوريا وفعل
ذلك القبيح الشنيع.

81
الفصل الرابع
في ذكر الاعتراضات على هذا المقام وأجوبتها في
تحقيق الحق وكشف الالتباس
فإن قيل: إن كتب المليين المنسوبة إلى الوحي والإلهام لصريحة في صدور
المعصية والذنوب والقبائح من الأنبياء المرسلين.
قلنا: وهل بعد دلالة العقل وما ذكرناه عن الكتب المنسوبة إلى الإلهام
والوحي تجد مجالا للريب، فإنا إن لم نتمسك بهدى العقل فبماذا نعرف أن
الكتاب كتاب وحي جاء به النبي المرسل من عند الله، ولماذا نتغافل عما ذكرنا
عن الكتب من وضوح الدلالة على عصمة النبي مما يؤكد ببيانه الجلي حكم
العقل البديهي.
فإن قيل: فماذا نصنع بما أشرنا إليه مما يدل صريحا على صدور المعصية
والذنب من الأنبياء المرسلين.
" قلنا ": أما ما أمكن حمله على المعصية المجازية التي هي عبارة عن
ارتكاب خلاف الأولى ومخالفة الأمر الاستحبابي والارشادي، أو النهي التنزيهي
أو الارشادي فيجب حمله على ذلك لأجل قرينة العقل والنقل وحكمهما بالعصمة
كما يحمل ما جاء في الكتب المذكورة من نسبة الوجه والعين والأذن والأنف واليد
والرجل والقدم وباطن القدمين والضحك والركوب والطيران لله جل شأنه على
معان مجازية مناسبة لأجل حكم العقل بتنزهه تعالى شأنه عن الجسم، وأما ما لا
يمكن حمله على ما ذكرنا فإن العقل الذي هو دليلنا على معرفة الله والنبي والوحي

82
يدلنا على أن ذلك أجنبي عن الوحي والإلهام وإنما هو من فلتات الأقلام.
فإن قيل: إن أهل الكتاب يدعون أنه لا ريب في الإلهامية كتبهم المصرحة
بصدور الذنوب والمعاصي العظيمة من الأنبياء فهم لأجل ذلك يتأولون ما دل
على لزوم عصمة النبي من كتب الالهام ويمنعون ما اعتمدتم عليه في العصمة من
دلالة العقل.
قلنا: أولا قد طرق سمعك وسيتواتر عليك إن شاء الله من بيان هذا
المختصر ما يمنحك اليقين بأن الكثير من كتبهم أجنبي عن الوحي والإلهام فلا
يوثق بشئ منها في كونه إلهاميا، فضلا عن مصادمته للعقل والنقل في هذا
المقام.
" وثانيا " إن ما اعتمدنا عليه من دلالة العقل قد بلغ من البداهة إلى حد
تلجئهم فيه الفطرة إلى الاعتماد عليه فينطلق به لسانهم أحيانا من قيود
العصبية، فإن المتكلف وهو أقل من عرفناه إنصافا وأشد عصبية قد قال: (يه 3
ج ص 72) إن الأنبياء هم أناس أرسلهم المولى سبحانه وتعالى إلى شعبه
لإرشادهم إلى الحق اليقين وهدايتهم إلى الصراط المستقيم فكانوا حصنا منيعا من
الحاد الملوك والأمراء وواقيا لشر الفجار، وكانوا قدوة حسنة للصغير والكبير
والخطير والحقير.
وهذا اعتراف منه بمقتضى الجاء الفطرة بالغاية المطلوبة من إرسال
الأنبياء.
وقال أيضا ص 73: ويلزم أن يكون النبي تقيا خائفا لله سليم الفطرة
والفكرة ليستأمنه المولى على أقواله وليوحي إليه إرادته ومشيئته ويأمره بأن يبلغها
للورى فيسمع طائعا.
وهذا اعتراف منه بلزوم عصمة الأنبياء خصوصا عن مثل ما نسبته إليهم
كتب العهدين من فواضح القبائح كما سيمجه سمعك إن شاء الله في الفصول
الآتية في الباب الثاني من هذه المقدمة.
وأيضا قد تكرر من المتكلف في أجزاء كتابه تبعا لأمثاله سئ الطعن

83
بقدس رسول الله خاتم المرسلين صلوات الله عليه بنسبة المعصية والذنب له
لأجل أن يتشبثوا بوهم ذلك لنفي رسالته صلوات الله عليه، وعدم صلاحيته
لها، مع أن ما نسبوه له لو تساهل معهم الامتناع في فرضه لم يبلغ مبلغ ما نسبته
كتبهم لموسى وهارون وداود وسليمان وارميا والمسيح قدست أسرارهم.
دع اعتراف المتكلف وأمثاله فإني قد أوضحت الحجة على العصمة بفضل
الله لأهل هذه الأدوار السعيدة الذين حرروا أذهانهم من عبودية العصبية
والتقليد، وجعلوا قول الحق ضالتهم التي يطلبونها هداهم الله إلى الحق وأخذ
بأيديهم في مزال الأقدام.
وقد قال الله تعالى شأنه في سورة العنكبوت 69 (والذين جاهدوا فينا
لنهدينهم سبلنا).
وثالثا: إن أهل الكتاب قد اتفقوا على الاعتراف والتسليم بلزوم عصمة
الأنبياء في التبليغ، وحجتهم في ذلك ليست إلا نحو ما ذكرنا من دليل العقل في
رعاية الغاية المطلوبة من الرسالة وماذا تراهم يصنعون في ما ورد في كتبهم التي
ينسبونها إلى الوحي والإلهام من نسبة بعض الأنبياء إلى الكذب في تبليغ الوحي
على وجه الصراحة التي لا يحوم حولها مقبول التأويل، أتراهم يعدلون عن دليل
العقل ويقولون بكذب النبي في التبليغ تعبدا بما في كتبهم أم يعترفون بأن ما
ينادي بصراحته بكذب الأنبياء في التبليغ ليس من الوحي والإلهام بل هو
مدسوس فيه، ولئن غفلوا عن ذلك أو تغافلوا أو حاولوا الاغفال فإن رقيب
الحق لا بد أن يحصيه عليهم.
فقد ذكر في الثالث عشر من الملوك الأول " 11 - 30 " أن الشيخ النبي
الساكن في بيت ايل الموصوف " 20 - 22 " بأنه كان إليه كلام الرب للتبليغ قد
كذب على شمعيا رجل الله بدعوى الوحي وتكليم ملاك الرب له حتى حمله
بكذبه على الله وعليه، وخداعه بدعوى الوحي على مخالفة أمر الله وأوقعه في
هلكة النكال.
ومن الظرائف أن مترجم الترجمة العربية المطبوعة سنة 1811 م حاول أن

84
يجعل هذا النبي الساكن في بيت ايل من الكاذبين في أصل دعوى النبوة وأنه
لاحظ له في الوحي والنبوة الحقيقية لأجل أن يتخلص من الاعتراض عليهم
بكذب النبي الحقيقي في التبليغ فحرف الفقرة العشرين من ثالث عشر الملوك
الأول المذكورة وترجمها هكذا.
وبينما هما جالسان على المائدة يأكلان حتى وردت نبوة من عند الله إلى نبي
الله الذي رده النبي الكاذب.
مع أن مقتضى الأصل العبراني والكثير من التراجم العربية وغيرها هو أن
كلام الله الوارد في توبيخ رجل الله الذي جاء من يهوذا قد صار إلى الشيخ النبي
الساكن في بيت ايل الذي كذب على رجل الله. ونص الأصل العبراني هكذا:
ويهيهم. يشبيم. ال هشلحن. ويهيي. دبر. يهوه. ال. هنبئ.
وكانا جالسين إلى المائدة وكان كلام الله إلى النبي أشير. اشيبو ويقرأ.
ال أيش. هألوهيم. أشير باء ميهوده. لأمر الذي رده ودعا رجل إلا هنا الذي
جاء من يهوذا قائلا كه. أمر. يهوه يعن كي مريت في يهوه.
هكذا قال الله أداة تعليل أيضا عصيت فم أي قول وما في
معناه الله.
إلى آخر التوبيخ لرجل الله وهو ينادي بأن هذا الوحي والنبوة قد كان إلى
النبي ساكن في بيت ايل فزاد هذا المترجم على الأصل العبراني لفظ يأكلان،
ولفظ النبي الكاذب وبدل المعنى إلى ما شاء.
هذا وأن أليشع الرسول الذي ذكرت له المعجزات الباهرات في ثاني الملوك
الثاني وما بعده إلى التاسع والثالث عشر قد ذكر عنه في الثامن من الملوك الثاني
" 7 - 11 " أن بنهدد ملك آرام إذ كان مريضا أرسل حزائيل ومعه حمل أربعين
جملا من كل خيرات دمشق هدية إلى أليشع النبي ليسأله حزائيل عن لسان بنهدد
فيخبره أليشع بواسطة الوحي هل يشفى من مرضه (10) فقال له أليشع: وقل
له شفاء تشفى وقد أراني الرب إنه موتا يموت.
وقال أشعيا في شأن بعض الأنبياء: أنهم ضلوا بالخمر وابتلعتهم وتاهوا

85
من المسكر حتى ضلوا بالرؤيا وقلقوا في القضاء " اش 28: 7 ".
ومن الواضح أن ضلال النبي في الرؤيا التي هي نبوته مستلزم للكذب في
التبليغ بل نقول: إن ضلال النبي في النبوة أولى بعدم الجواز من الكذب في
التبليغ، وأن قلقه في القضاء الذي هو عبارة عن تبليغ حكم الله للمتخاصمين
إنما هو الكذب والخطأ في التبليغ.
وأن حزقيال الرسول قد ذكر عنه في السادس والعشرين من حزقيال " 7 -
13 " أنه ذكر عن قول السيد الرب أنه يجلب على صور نبوخذ راصر ملك بابل
فيهدم أبراجها ويقتل شعبها بالسيف، وينهبون ثروتها ويغنمون تجارتها ويهدون
أسوارها ويهدمون بيوتها البهيجة ويضعون حجارتها وخشبها وترابها في وسط
المياه.
وقد ذكر بعد هذا في التاسع والعشرين " 17 - 21 " عن كلام الرب ما
يدل على أنه لم يقع مقتضى الوعد السابق وأن نبوخذ راصر ملك بابل استخدم
جيشه خدمة شديدة على صور، ولم تكن له ولا لجيشه أجرة من صور لأجل
خدمته التي خدم بها عليها، لذلك هكذا قال السيد الرب ها أنا أبذل له أرض
مصر فيأخذ ثروتها وينهب غنيمتها فتكون أجرة لجيشه بل أعطيته أرض مصر
لأجل شغله الذي خدم.
" فإن قلت: " إن المتكلف قد ذكر يه 2 ج ص " 144 - 147 " عن
التواريخ ما يقتضي صدق النبوة الأولى والثانية.
قلت: قد رأينا اعتماده في ذلك على نقل الكتابيين مثل يوسيفوس
وبريدو. وجيروم. أن نبوخذ راصر استولى على صور كما في النبوة الأولى ولكن
لو سامحناه في صحة هذا النقل وما تكلفه في هذا المقام لكان فيما ذكره شهادة
صريحة كافية في كذب هذه النبوة المتضمنة لكون نبوخذ راصر وجيشه ينهبون
ثروة صور ويغنمون تجارتها " حز 26: 12 " فإنه اعترف لإصلاح النبوة الثانية
" حز 29: 18 " بأن نبوخذ راصر لم يجن من صور فوائد تذكر وأن ثروتها نزفت
من طول الحصار.

86
ونقل عن جيروم ما حاصله أن أهل صور لما رأوا طول الحصار نقلوا كل
ما كان ثمينا من ذهب وفضة وثياب وكل ما عند أشرافهم من الأمتعة الثمينة إلى
المراكب وذهبوا به إلى الجزائر، فلما فتحها نبوخذ راصر لم يجد فيها شيئا يقوم
مقام أتعابه، إنتهى انظر إلى " يه 2 ج ص 145 س 16 - ص 146 س 2 ".
فأين صار مع ذلك دعوى النبوة وتبليغ الرسول بأن نبوخذ راصر وجيشه
ينهبون ثروة صور ويغنمون تجارتها، وأين تكون التجارة المغتنمة مع حصار ثلاثة
عشر سنة، ونزوف الثروة ونقل الذهب والفضة والأمتعة الثمينة إلى الجزائر.
وحاصل ما عند المتكلف في هذا المقام هو أن الرسول لم يكذب في تبليغه
بكل ما قال في شأن صور، وإنما ظهر الكذب في أمرين لم يقعا وهما نهب ثروتها
وغنيمة تجارتها والكذب بهذين الأمرين سهل وإن كانا هما العمدة في هذا المقام،
فإن باقي النبوات ها هنا قد تمت بفضل الله على ما يقول يوسفيوس وأمثاله.
وأن المسيح قد ذكر عنه في ثاني عشر متى " 38 " حينئذ أجاب قوم من
الكتبة والفريسيين قائلين: يا معلم نريد أن نرى منك آية " 39 " فأجاب وقال
لهم: جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبي " 40 "
لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن
الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال انتهى.
وأن الأناجيل الأربعة لتكذب هذا الكلام في أمرين:
" الأول " ما عن قول المسيح جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تعطى له
إلا آية يونان النبي فإنه يكذبه ما ذكره متى بعد ذلك من وقوع الآيات
والمعجزات من المسيح " مت 14: 4 - 36 و 15: 28 - 32 و 17: 1 - 6
و 14 - 19 و 20: 29 - 34 و 21: 19 و 27: 45 و 51 - 55 " ونقل لوقا
هذا الكلام عن المسيح أيضا " لو 11: 29 " وأنه ليكذبه بما ذكره بعد ذلك من
وقوع الآيات والمعجزات " لو 13: 11 - 14 و 14: 2 - 5 و 17: 11 -
15 و 18: 35 - 43 و 22: 50 و 51 ".
وأيضا في ثامن مرقس 11 فخرج إليه الفريسيون وابتدأوا يحاورونه طالبين

87
منه آية من السماء لكي يجربوه 12 فتنهد بروحه وقال: لماذا يطلب هذا الجيل آية
الحق؟ أقول لكم لن يعطي هذا الجيل آية، وأنه ليكذبه بما ذكره بعد ذلك من
الآيات والمعجزات " مر 8: 13 - 20 و 22 - 26 و 9: 2 - 5 و 14 - 28
و 10: 46 - 52 و 11: 13 و 14 ".
ويكذبه أيضا ما ذكره يوحنا من إحيائه لعازر من الموت " يو 11 "، وقد
كان ذلك في أواخر أمر المسيح قريب الفصح الذي هجم به اليهود عليه " انظر
يو 12 و 13 ".
ويكذبه أيضا ما ذكر في أعمال الرسل أيضا من ظهور المعجزات والآيات
من الرسل لليهود " انظر أقلا إلى أوائل الثاني والثالث من الأعمال وخصوص
الثالثة والأربعين من الثاني ".
على كل حال لا ينفك القائلون بكون الأناجيل والأعمال كتب وحي
وإلهام عن لزوم كذب الرسول على الوحي لأنه كان الكلام المنسوب للمسيح
صادقا لزم كذب الرسل متى. ومرقس. ولوقا. ويوحنا. على الوحي فيما
ذكروا وقوعه بعد ذلك من الآيات وإن صدقوا في ذلك فالعكس.
الأمر الثاني: قوله هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام
وثلاث ليال فإنه يكذبه ما في آخريات الأناجيل الأربعة من أن المسيح أنزل عن
الصليب مساء يوم الجمعة عند استعداد اليهود للسبت ووضع في القبر والسبت
يلوح وقام من القبر حيا في صبح الأحد فلم يكن بقاؤه على هذا في قلب
الأرض إلا ليلتين ويوما تاما وجزئين قليلين من يومين " انظر مت 27: 57 -
63 و 28: 1 ومر 15: 42 و 16: 1 و 2 ولو 23: 53 و 54 و 24: 1
ويو 19: 31 و 42 و 20: 1 " فاختر أي الأمرين يكون كذبا في التبليغ أو
نقول: إن الكذب من متى الرسول بقوله ثلاث ليال أو يقال إنه زيادة وتحريف
في إنجيله وليست من وحيه.
قلنا: كيف وإنجيله متواتر النقل بزعم النصارى ولم يوضع على هاتين
الكلمتين حتى الآن علامة اختلاف النسخ، ومن الظرائف أن المتكلف قد أطال

88
الكلام وجهد في التكلف " يه 2 ج ص 215 - 218 " فلم يقدر أن يتكلف إلا
بدعوى توجيه اسم الثلاثة أيام على اليوم التام هو يوم السبت، والجزئين
القليلين من اليومين المحيطين به وهما آخر يوم الجمعة وأول يوم الأحد ولكنه لم
يستطع ولن يستطيع هو ولا غيره أن يتشبث بحيلة لتدبير أمر الثلاث ليال وإن
صرف الكلام عنها إلى الثلاثة أيام مع أن الجزء الأخير من يوم الجمعة والجزء
الأول من يوم الأحد لا يصلح كل منهما لقلته المقاربة للعدم أن يعبر عنه باليوم
حتى يقال ثلاثة أيام " انظر لو 24: 1 ويو 20: 1 ".
وعن بولس الرسول العظيم عند النصارى في خامس عشر كورنتوش
الأولى بعد ذكر قيامة الأموات وبيان كيفيتها والبرهان على إمكان وقوعها ما لفظه
" 51 " ذو ذا سر أقوله لكم لا نرقد كلنا ولكن كلنا نتغير، وعن النسخة
اليونانية كلنا لا نرقد " 52 " في لحظة في طرفة عين عند البوق الأخير فإنه سيبوق
ويقام الأموات عديمي فساد ونحن نتغير.
وعنه في رابع تسالونيكي الأولى " 15 " فإنا نقول لكم هذا بكلمة الرب
إننا نحن الأحياء الباقين إلى مجيئ الرب لا نسبق الراقدين " 16 " لأن الرب
نفسه يهتف بصوت رئيس ملائكة وبوق الله سوف ينزل من السماء والأموات في
المسيح سيقومون أولا " 17 " ثم نحن الأحياء الباقين سنخطف جميعا معهم في
السحب لملاقاة الرب في الهواء، وهكذا نكون كل حين مع الرب.
وليت شعري أين هذا الوعد السري لأهل كورنتوش، وأين ما قيل
بكلمة الرب لأهل تسالونيكي أوليس قد رقدوا جميعا هم وبولس رقدة طحنهم
فيها البلاء وتداولت عليها القرون.
وقد أطال المتكلف " يه 2 ج ص 226 - 230 " في محاولة التخلص من
هذه الورطة وكثر بالشواهد التي لا دخل لها بخياله، وخلاصة ما يتشبث به هو
أن قول بولس. نحن. ونرقد. ونرقد. وكلنا. ونتغير. وإننا. ونحوها مما
هو للمتكلم لا يراد منه إلا الأحياء الموجودين عند القيامة ولو بعد آلاف من
السنين لا يكون فيهم بولس المتكلم و الحاضرون من أهل كورنتوش وتسالونيكي
فنقول له: أيجوز أن يكون كلام الوحي وبيان الرسل وكشفهم للناس عن أسرار

89
لملكوت والمعارف النظرية جاريا على غير مجرى كلام العقلاء في محاوراتهم وعلى
وجه يعد فيه غلطا في بيان المراد، فمن هم الذين عناهم بقوله لا نرقد كلنا أو
كلنا لا نرقد ولكن كلنا نتغير.
وكذا قوله: ونحن نتغير، أترى يصح في الكلام أن يكون المتكلم خارجا
عن الحكم في هذه الأخبار، ويصح للمتكلم أن يقول: نحن الأحياء الباقين
إلى مجيئ الرب وهو والحاضرون ليس منهم.
وأما الاستشهاد المتكلف " يه 2 ج ص 227 س 10 " بقوله عليه الصلاة
والسلام: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، وقولهم نحن العرب نكرم الضيف
فإنما هو خلط وتشبث واه.
أفلا ترى أنه لا يصح في الكلام لمن لا يصف نفسه بالنبوة أن يقول نحن
معاشر الأنبياء، وكذا لا يصح للعجمي أن يقول: نحن معاشر العرب،
ولنفرض المثال على نهج المثل لا فنفرض الحكم بعدم التوريث من الآثار
الخاصة بالمتصف بالنبوة عند موته وفي أوان ثبوت الحكم، ولا يثبت لمن كان في
أوان الحكم منسلخا عن وصف النبوة، كما أن عدم سبق الراقدين والاختطاف
في السحب من الآثار الخاصة بمن كان حيا حين القيامة ولا يثبت لمن كان في
أوان القيامة منسلخا عن ذلك.
وعلى هذا فهل يصح أن يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورث إلا من
يريد إدخال نفسه في موضوع الحكم وهم الأنبياء المتصفين بالنبوة في أوان الموت
وتعلق الحكم دون من يفرض انسلاخه عن وصف النبوة في أوان تعلق الحكم
وقبله بمدة.
وأما قولهم نحن معاشر العرب نكرم الضيف، فمن المعلوم أنها قضية
نوعية غالبية لشهادة الوجدان بأن منهم من لا يكرم الضيف فلا تقاس عليها
كلمات بولس التي هي قضايا كلية لاستيعاب الأفراد.
ومع ذلك لا يصح، بل يقبح ويستهجن من العربي البخيل الذي لا
يكرم الضيف.

90
قوله نحن معاشر العرب نكرم الضيف ولقد ألجأنا إلى هذا التعمق بيان
الخلط في الأمثلة وإعطاء بعض القارئين حقهم من اكتشاف الحقائق بالتحقيق،
وحيث اتضح لك الخلف في هذه المواعيد المنقولة عن حزقيال والمسيح وبولس
كان ذلك من الكذب في التبليغ عن الله بحكم التوراة، ففي الثامن عشر من
التثنية " 20 ". وأما النبي الذي يطغى فيتكلم باسمي كلاما لم أوصه أن يتكلم به، أو
الذي يتكلم باسم آلهة أخرى فيموت ذلك النبي " أي يقتل " " 21 ".
وإن قلت في قلبك كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب " 22 " فما
تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب
بل يطغيان تكلم به النبي انتهى.
ولو خلع الناس العذار بالتأويل بمثل ما تكلفه المتكلف في مثل هذه
المقامات لما عرف كذب خبر من الأخبار ولبطلت علامة التوراة على كذب مدعي
النبوة على الله في التبليغ وكانت لغوا فإنه يمكن للسان المتغلب على الجنان
والوجدان أن يتلاعب في كل كلام بمثل هذه التأويلات.
وإذا وعيت ما ذكرنا فماذا ترى أهل الكتاب يقولون أفتراهم يرجعون عما
سلموه من دليل العقل على عصمة النبي في التبليغ ويقولون: إن النبي الساكن
في بيت ايل. واليشع. وحزقيال. والمسيح. وبولس ومتى ومرقس. ولوقا.
ويوحنا، رسل حق، ولا يضر في ذلك وقوع الكذب منهم في التبليغ، أم
يقولون: إن هذا الذي نسب في العهدين إلى هؤلاء مما يلزم منه الكذب في
التبليغ عن الله مكذوب عليهم مدسوس في الكتب الإلهامية.

91
الباب الثاني
من المقدمة الثامنة
في تحقيق الحال في نسبة المعاصي والذنوب إلى الأنبياء في الكتب المنسوبة
إلى الالهام وما ينبغي أن يقال في ذلك، وفي هذا الباب أيضا فصول:

92
الفصل الأول
في ذكر آدم وما يقال في شأنه
أما نبوته ففي القرآن الكريم بقوله تعالى في سورة آل عمران " 31 " (إن
الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين).
وأما ما جاء في شأنه فقد قال الله تعالى له كما في سورة البقرة " 33 " (يا
آدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه
الشجرة فتكونا من الظالمين) " 34 " فأزلهما الشيطان عنها.
وفي سورة طه 119 (وعصى آدم ربه فغوى).
فنقول: إن النهي قد يكون مولويا تحريميا يستحق مخالفة الذم والعقاب
على مخالفة مولاه التي هي المعصية القبيحة، وقد يكون مولويا على وجه الكراهة
والتنزيه مرخصا في مخالفته التي تسمى أيضا معصية إما مجازا وإما لأن اسم
المعصية أعم منها ومن مخالفة النهي التحريمي القبيحة.
وقد يكون إرشاديا كنواهي الطبيب للمريض التي لا يترتب على مخالفتها
إلا الوقوع في المشقة التي أرشد إلى التجنب عنها بالنهي، ولا يترتب على هذا
النهي من حيث مخالفة المولى ذم. ولا عقاب. ولا لوم. ولا قبح وإنما اللوم
على إلقاء النفس في المشقة التي أرشد بالنهي إلى اجتنابها، وتسمى هذه المخالفة
أيضا معصية إما مجازا وإما لأن اسم المعصية أعم منها ومن القسمين الأولين من
المخالفة.

93
وحينئذ فدلالة العقل والنقل على عصمة النبي تكون قرينة على أن المراد
من معصية آدم هي مخالفة النهي التنزيهي الكراهي أو النهي الإرشادي ومما يرشد
إلى كون النهي لآدم إرشاديا قوله تعالى في سورة طه 115: (يا آدم إن هذا
عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) 116 (إن لك أن لا
تجوع فيها ولا تعرى) 117 (وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى).
فإن التحذير والتخويف لآدم من عداوة إبليس بإخراجه من راحة الجنة
ونعيمها إلى التعب والجوع والظمأ ومقاساة شقاء العيش ليرشد ويقرب إلى
الذهن إن هذه هي العاقبة المحذورة من عداوة إبليس لآدم لإيقاعه في قبح
مخالفة نهي الله التحريمي ووبال ذنب المعصية وغضب الله.
ولو كانت هذه الأمور الأخيرة هي العاقبة المحذورة لكان ذكرها أنسب
بالتحذير وأدخل في الزجر عن المنهي عنه، وأتم في الحجة والبيان.
وقد يشهد له قوله تعالى في سورة البقرة 34: (فأزلهما الشيطان
فأخرجهما مما كانا فيه) حيث لم يقل جل شأنه: فأزلهما الشيطان فأوقعهما في
قبح المخالفة والذنب واستحقاق عقاب الله وغضبه.
ولو كان ذلك لازما لكان أولى بالذكر.
ومن هذا النحو من التحذير المذكور في القرآن ينكشف أن وصف آدم
بالظلم والغواية في أكله من الشجرة إنما هو لاغتراره بقول إبليس وظلمه لنفسه
بسبب إخراجها من نعيم الجنة إلى شقاء التعيش وعنائه، لا بسبب إيقاعها في
عقاب التحريم وغضب المخالفة لله، فليس من الظلم القبيح الذي يمنع من
نيل عهد الله كما تقدم في دلالة القرآن على العصمة.
وأما قوله تعالى حكاية عن آدم وحوا في سورة الأعراف 22: (ربنا إننا
ظلمنا أنفسنا فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)، فقد بينا وجه
ظلمه نفسه، وأنه ليس من نحو ظلم النفس بإيقاعها في قبح الذنب ونكال
العقاب.
وأما طلب المغفرة وحصول الخسران بعدمها فلا ينافي ما قدمنا ولا يلزم منه

94
الوقوع في الحرام، لأن العبد العارف خصوصا إذا كان من الأنبياء ليود أن
تكون كل أفعاله وتروكه موافقة لأمر الله ونهيه سواء كانا على جهة الحتم أو
الرجحان أو الإرشاد، فإن اتفق وقوعه في متابعة الميل الإنساني بغير المعصية
القبيحة وجد في نفسه أنه قد خسر الفوز في المرتبة المرغوبة له وحاد عن جادة
الصديقين وزل عن مقام المقربين فيفزع إلى الله مولاه في طلب المغفرة والرحمة
والتوبة ليعود ببركتها إلى مقامه الرفيع.
كما نفزع نحن معاشر عبيد العصا إلى التوبة عند ارتكاب الذنب العظيم
لأجل التخلص من العقاب ونكال الغضب، وعلى مثل ما ذكرنا جاء قوله في
سورة البقرة (فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم).
وأما قوله تعالى في سورة الأعراف 189 (هو الذي خلقكم من نفس
واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به
فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين) 190 (فلما
آتيهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتيهما فتعالى الله عما يشركون)، فإن نسبة
الشرك فيه لآدم مبنية على ما يذكره بعض المفسرين من قصة تسمية آدم وحوا
لولدها بعبد الحارث " أي إبليس " إجابة لاقتراحه ذلك عليهما.
وأن سوق الآيات ليأبى ذلك فإنها لو كانت واردة على هذه القصة لكان
الذي ينبغي أن يقال فيها فلما أتاهما صالحا جعلا له شريكا فيه فتعالى الله عما
يشركان، لأنه لم يكن الشريك بحسب القصة إلا واحدا وهو الحارث
" إبليس "، ولم يكن المشرك بحسبها إلا اثنين وهما آدم وحوا، وبحسبها أيضا
لا يعرف الوجه الصحيح في العدول عن قوله تعالى، فيه إلى قوله تعالى، فيما
أتاهما.
مع أنه قد جاء عن الرضا وهو الإمام الثامن من أهل البيت الذين هم
أحد الثقلين اللذين لا يفترقان، ولا يضل من تمسك بهما في تفسير الآية ما معناه
أن المراد بالصالح هو نوع الذرية التامة الخلقة على أحسن التقويم لا خصوص
ولد واحد فلما أتاهما صالحا من الذرية المشتملة على صنفين ذكرانا وإناثا جعل
ذلك الصنفان من الذكران والإناث لله شركاء من الأصنام وسائر المخلوقات التي

95
جعلوها بضلالهم آلهة مع الله فيما آتاهما من النعم والأموال والأولاد وغيرهما فقال
جل شأنه بحسب كثرة المعنى المراد من الصالح والضمير المثنى اللذين هما عبارة
عن صنفي الذكور والإناث " فتعالى الله عما يشركون " وليس في هذه الوجه من
التفسير ما هو خلاف الظاهر البدوي إلا رجوع الضمير المثنى في " جعلا وآتاهما "
التي بعدها على اسم الجنس الذي هو " صالحا " باعتبار اشتمالها على صنفين،
وإلا كون السياق يوهم ابتداء كون المرجع لضميري " جعلا وآتاهما " هو النفس
الواحدة مع زوجها.
وهذه المخالفة للظاهر البدوي هينة بالنسبة لتلك المحاذير التي نجدها على
الوجه الأول من تنزيل الآيتين على ما يدعى من القصة كما ذكرناه فتكون تلك
المحاذير قرينة واضحة على أن الظاهر هو ما ذكرنا معناه عن الإمام الرضا عليه
السلام ويشهد لذلك أيضا تعقيبه بقوله تعالى: (أيشركون ما لا يخلق شيئا
وهم يخلقون) حيث أوضح أن الشركاء في الآية هم جماعة من المخلوقين لا
خصوص إبليس كما يدعى في الآية، بل يوضحه الالتفات بالتوبيخ إلى المقصود
بالضمير في " جعلا وآتاهما " بقوله تعالى 193: (إن الذين تدعون من دون
الله عباد أمثالكم)، ويكشف عن قوله في سورة الأنعام 98 (وهو الذي
أنشأكم من نفس واحدة)، إلى قوله تعالى 100 (وجعلوا لله شركاء
الجن)، إلى قوله تعالى 102، (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل
شئ)، فإن التدبر في هذا كله يرشد بأوضح إرشاد إلى أن الموصوف بالشرك
والعنف عليه إنما هم المخلوقون من النفس الواحدة وإن اختلف التعبير عنهم
بالخطاب والغيبة والتثنية باعتبار صنفيهم، والجمع باعتبار كثرة المعنى، كل
ذلك بحسب ما يقتضيه صوغ البلاغة للكلام.
ولو تنزلنا عن هذا كله فلا أقل من أن يكون احتمالا مساويا للوجه الأول
فلا تبقى في الآية السابقة دلالة على نسبة الشرك لآدم.
هذا كله مع أن الرواية التي تشبث بها في تفسير الآية لقصة نسبة الشرك
لآدم إنما هي رواية قتادة عن الحسن عن سمرة وأن سندها لمطعون فيه من وجوه
أيسرها أن الحسن وقتادة لم يحتفلا بهذه الرواية ولم يفسرا الآية على مقتضاها كما

96
حكاه عنهما في مجمع البيان.
وعن الحسن في تنزيه الأنبياء للمرتضى (1)، وبهذا كله تعرف خبط
المتكلف وتحامله على القرآن ومبلغه حيث ادعى جازما.
يه 1 ج ص " 11 " أن رسول الله " ص " نسب إلى آدم في القرآن خطيئة
أخرى وهي الشرك متشبثا بهذه الرواية لتفسير الآية.



(1) طبع للمرة الثانية في النجف الأشرف - بالمطبعة الحيدرية.
97
الفصل الثاني
في ذكر نوح وما قيل في شأنه
أما نبوته ورسالته في القرآن فقد تكرر ذكرها، ويكفي منه قوله تعالى في
سورة هود 27: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه أني لكم نذير مبين).
وفي سادس التكوين " 9 " كان نوح رجلا بارا كاملا في أجياله وسار نوح
مع الله - " 13 " وقال الله لنوح، وفي أولى السابع، وقال الرب لنوح وفي الثامن
" 15 " وكلم الله نوحا " 20 "، وبني نوح مذبحا للرب في حادي عشر رسالة
العبرانيين " 7 " بالإيمان نوح لما أوحى إليه عن أمور لم تر بعد، وفي ثامن رسالة
بطرس الثانية " 5 " بل إنما حفظ الله نوحا ثامنا كارزا للبر.
وأما ما يقال في شأنه فقد دعا على قومه بالضلال، كما حكاه الله تعالى في
سورة نوح عن قوله " 24 " (ولا تزد الظالمين إلا ضلالا) فيقال إن هذا خلاف
الوظيفة النبوية، فإن الرسول المبعوث لهدى الخلق وصلاحهم لا يجوز له الدعاء
عليهم مهما كانوا بالفساد والانحراف عن الله وسبيل الحق.
قلنا: ليس الضلال المدعو به ذكر بل المراد منه إضاعة طريق الرشد
والتدبير في أمورهم وعوائدهم ليشتغلوا بحيرتهم في شؤونهم عن أذى الخلق
وإضلالهم عن الحق، فهو دعاء عليهم بالعقوبة الدنيوية لأجل صلاح غيرهم
فإن الضلال هو مطلق الإضاعة والتيه عن الطريق المطلوب، وتختلف أنحاء
أفراده التي تزاد منه باعتبار الأمر المضيع والطريق الذي ضل عنه.

98
ومن ذلك قوله تعالى في سورة البقرة 282: (أن تضل إحديهما فتذكر
إحديهما الأخرى) ولم تقم قرينة على أن المراد هاهنا بالضلال المدعو به هو
الضلال عن الله وسبيل الحق، بل إن قرينة العقل قاطعة بأن المراد منه غير
هذا، بل لو صدر هذا الكلام والدعاء من سائر الأتقياء المحبين للخير وصلاح
العباد وقلة الفساد واهتداء الخلق فضلا عن الرسل لكان صدوره منهم قرينة على
إرادة غير المعنى المدعى.
وأما دعاؤه على كفار قومه بالهلاك، كما حكاه الله جل شأنه في سورة نوح
27 (وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) 28 (إنك إن
تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا).
فقد أبدى وجهه وحكمته لما علمه من عند الله في شأنهم بالعلم النبوي
من سوء عاقبتهم، فكان من الحكمة والوظيفة النبوية أن يدعو عليهم كما
اقتضت الحكمة الإلهية إهلاكهم بالطوفان.
وأما ما حكاه الله في أمره في سورة هود بقوله تعالى 47 (ونادى نوح ربه
فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين) 48
(قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسئلن ما ليس لك به
علم أني أعظك أن تكون من الجاهلين) فإنه غير قادح بمقامه النبوي ووظيفة
رسالته أصلا، فإن غاية ما هناك سؤاله عن وجه الحكمة في غرق ولده مع سبق
وعد الله له بنجاة أهله معترفا في السؤال لله بأنه أحكم الحاكمين وأن وعده
الحق، فأبان الله له وجه الحكمة بأن الموعود بنجاتهم هم المؤمنون من أهله
الذين يحسن أن يضافوا إليه لاهتدائهم بهداه، وأن ولده الغريق ليس من أهله
الموعود بنجاتهم، أو أنه لا يليق أن يعد من أهل بيته لأنه عمل غير صالح ليس
على هدى أبيه، ثم وعظه الله على سؤاله عن الحكمة لأن الأولى بعلو مقامه هو
التسليم والتفويض لحكمة الله إجمالا لا سيما مع عرفانه بأن الله أحكم
الحاكمين، فأناب إلى الله من فعله خلاف الأولى، وخاف الانحطاط به عن
مراتب الصديقين ومقامات المقربين، وقال كما حكاه الله عنه 49: (رب إني
أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإن لا تغفر لي وترحمني أكن من

99
الخاسرين) للفوز بالمراتب العالية.
وإذا تدبرت ما ذكرنا ظهر لك خلل أقوال المتكلف " يه 1 ج ص 14
و 15 ".
وأما ما في تاسع التكوين " 21 " وشرب نوح من الخمر فسكر وتعرى
داخل خبائه.
فنقول فيه: قد روى مستفيضا عن أهل البيت عن النبي صلوات الله
عليهم أن الخمر ما حلت في دين قط، ويدل العقل بأوضح دلالة على أن شربها
والسكر بها الذي هو رأس الخلاعة والتهتك والشرور والمفاسد والخروج عن
حدود الإنسانية مناف لوظيفة النبي الداعي إلى الهدى والكمال والصلاح وحفظ
الشرف خصوصا وقد حفظ الله نوحا كارزا للبر " 2 بط 8: 5 ".
وحينئذ فلا بد من القول بأن قصة شرب نوح للخمر، وسكره ليست من
الوحي، والإلهام لما بيناه من لزوم عصمة النبي.
ومن الظرائف اضطراب كلام المتكلف في هذا المقام " يه 1 ج ص 13 -
18 " ولو أنه التزم بما ادعاه.
" يه 4 ج ص 168 " من أن الله لم ينزل على القدماء قبل موسى شريعة
بل اصطلح القدماء على عادات للجريان عليها في هذه الدنيا.
فقال: هاهنا بمقتضاه أنه لم تكن في زمن نوح شريعة بتحريم الخمر فلم
يفعل نوح بشربها خطيئة لاستراح هذا المتكلف فمن اضطرابه قوله:
" يه 1 ج ص 13 " لا ننكر أن شرب الخمر حرام وقوله فأنت ترى أنها
كانت جائزة والتوراة والإنجيل ناطقان بأنها حرام قطعا وشربها نوح دلالة على
ضعف الطبيعة البشرية.
فنقول له: أنت يا ذا الذي تقصر الحقائق على ما في العهدين، وإذ لا
تجد فيهما ما تذكره نبوة القرآن تصول عليه صولة المتحمس من أين لك من
العهدين أن الخمر كانت محرمة على عهد نوح خصوصا وقد ادعيت غفلة منك أو

100
إغفالا إن الله لم ينزل شريعة على القدماء وكيف تنفوه وتقول؟.
" يه 1 ج ص 18 س 16 " قد استفاق نوح من سكره، ولم يعد إلى هذه
الخطيئة.
قل عن أي كتاب إلهامي تنقل ذلك؟ أفتدعي أنت الإلهام لنفسك؟ أم
جاءك نوح وتاب على يدك من شربه للخمر؟
وأما قولك: فأنت ترى أنها كانت جائزة، والتوراة والإنجيل ناطقان بأنها
حرام قطعا.
فلماذا غفلت أو تغافلت عن اضطراب التوراة والإنجيل في هذا الشأن
فإنهما وإن وجد في مضامينهما ما يعطي حرمتها وقبحها سيما بالنسبة للأنبياء كما
سنسجله إنشاء الله في المقدمة العاشرة في موانع النبوة.
ولكن فيهما ما يناقض ذلك وينقض عليك قولك هذا.
قل فما معنى الأمر في شريعة تقريب القرابين أن يسكبوا معها سكيب خمر
للرب " انظر أقلا خر 29: 40 ولا 23: 13 وعد 15: 5 " وسكيب مسكر
للرب " عد 28: 7 "، وأكد حكم السكيب في التاسع والعشرين من العدد
وغيره أكثر من عشر مرات.
وكيف يكون الحرام قربانا لله؟ وكيف يأمر الله شعبه بأن يعدوا للقرابين
شيئا محرما وجوده مجلبة للغواية والشرور والفساد بل الرحمة وحكمة إصلاح
الناس يقتضيان الأمر بإعدامهما عن أعينهم خصوصا بني إسرائيل الذين لا حاجز
لهم من تقواهم عن التمرد على الله كما عرفت في المقدمة الخامسة.
وأيضا ما معنى دعاء موسى على بني إسرائيل إن لم يعمل بوصايا الله بقوله
في الثامن والعشرين من التثنية 39 كروما تغرس وتشتغل وخمرا لا تشرب ولا
تجنى لأن الدود يأكلها " 51 " ولا تبقى لك خمرا ولا قمحا ولا زيتا ".
وأيضا ما معنى دعائه لهم بالبركة في قوله في الثالث والثلاثين من التثنية
" 28 " تكون عين يعقوب إلى أرض حنطة وخمر وسماؤه تقطر ندى.

101
فهل يكون هذا كله مع كون الخمر محرمة، أوليس يعطي هذا أنها من
النعم المباحة ومتاعهم الشهي حتى يدعى عليهم بفقدانها ويدعى لهم بوجدانها.
وما معنى ما يذكر من أن داود النبي قسم على كل واحد من رجال بني
إسرائيل رغيف خبز وكأس خمر وقرص زبيب " 2 صم 6: 19 و 1 أي 6:
3 "، وما وجه إهداء زق الخمر إلى داود " 2 صم 16: 1 "، وما وجه
اسكاره لأوريا " 2 صم 11: 13 " أفلا يصح الاحتجاج بذلك لجواز شرب
الخمر كما ينقل عن المسيح الاحتجاج لجواز أكل تلاميذه من الزرع في يوم
السبت بأكل داود من خبز التقدمة الذي لا يحل إلا للكهنة " مت 18: 1 -
5 ".
وأيضا ما معنى المنقول من جلوس المسيح ووالدته وتلاميذه في قانا الجليل
في مجلس العرس الذي تسكب فيه الخمر وتدار الراح في الأقداح حتى يفعل
السكر بالألباب ما يفعل، وينال من العقول ما ينال، ولم يكف ذلك حتى
طلبت منه والدته إذ نفذ الخمر أن يصنع لهم بمعجزة خمرا، فعمل لهم ستة
أجران من الخمر الجيد وسقوا منه، وكان ذلك بعد أن اعتمد من يوحنا
بمعمودية التوبة، ونزل عليه الروح القدس، وتبعه اندرواس وبطرس
وننثائيل، وفيلبس " انظر إلى ثالث متى والثاني والثالث من يوحنا ".
وأيضا ما معنى المنقول عن كلام المسيح في شأن جيله في سابع لوقا " 32 "
يشبهون أولادا جالسين في السوق ينادون بعضهم بعضا ويقولون زمرنا لكم فلم
ترقصوا نحنا لكم فلم تبكوا 33 لأنه جاء يوحنا المعمدان لا يأكل خبزا ولا
يشرب خمرا فتقولون به: شيطان " 34 "، جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب
فتقولون: هو ذا إنسان أكول، وشريب خمر، ونحوه في حادي عشر متى.
أوليس صريح هذا الكلام وفحواه أن المسيح - وحاشاه - كثير الشرب
للخمر المسكر بخلاف يوحنا.
وأيضا ما معنى المنقول من قوله لتلاميذه بعد أن شرب من الكأس
وأعطاها لهم، وأقول لكم من الآن: لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك

102
اليوم حينما أشربه معكم جديدا في ملكوت أبي " مت 26: 29 ومر 14: 25
ولو 32: 18 " حيث عبر عن الخمر في هذا الكلام بعد أن شربها تعبير
الشريب المغرم بها المودع لها المتألم على فراقها.
وأيضا ما معنى المنقول عن الرسل من حصرهم اللازم على الأمم باجتناب
ما ذبح للأصنام والدم والمخنوق والزنا " اع 15: 29 ".
وإن اقترحت فوق هذا من صراحة العهدين ففي ثاني عشر التثنية " 17 "
لا يحل لك أن تأكل في أبوابك عشر حنطتك وخمرك وزيتك - " 18 " بل أمام
الرب إلهك تأكلها في المكان الذي يختاره الرب.
وفي رابع عشر التثنية " 23 " وتأكل أمام الرب إلهك في المكان الذي يختاره
ليحل اسمه في عشر حنطتك وخمرك وزيتك " 24 "، ولكن إذا طال عليك
الطريق حتى لا تقدر أن تحمله - 25 " فبعه بفضة وصر الفضة في يدك واذهب
إلى المكان الذي يختاره الرب إلهك " 26 " وأنفق الفضة في كل ما تشتهي نفسك
من البقر والغنم والخمر والمسكر وكل ما تطلب منك نفسك، ولك هناك أمام
الرب إلهك وافرح أنت وبيتك.
حتى جرى اليهود بعد رجوعهم من سبي بابل على تقديم رفائع الخمر،
وعشر الخمر إلى بيت المقدس حسب الشريعة " انظر نح 10: 37 و 39
و 13: 12 ".
فإن قلت لا أكتفي بهذه الصراحة حتى يحضر الإله في مجلس الشرب
ويسقي الناس الخمر بمجلس أنبيائه ورسله.
قلت: إن مزاعمك تقتضي وقوع ذلك فإن الذي زعمت في مقدمة الجزء
الأول من كتابك وغيرها أنه الإله الذي توشح الطبيعة البشرية ليرفع قدرها قد
ذكر الكتاب الذي تحامى عن الخدشة في الهاميته أنه قد جلس في قانا الجليل في
مجلس الشرب والسكر هو وعدة من رسله وسقى الناس زيادة على خمرهم إذ
عمل لهم بمعجزة سنة أجران من الخمر... اللهم إني أعوذ بقدسك وجلال
وجهك من التعرض لمثل هذا لغير الجدل الذي تدعو إليه ضرورة الوقت،

103
ومعارضة فلتات الأوهام إرشادا لعبادك المغرورين إلى الهدى والصواب.
فأقول للمتكلف ليعتبر السامع:
أفتقول إن التوراة والإنجيل ناطقان بأن الخمر حرام قطعا ويكون كل هذا
فيهما؟ أم تقول: إن هذا كله مدسوس في العهدين ليس من الوحي وكلام
النبوة في شئ؟ أم تقول: إن العهدين غير خاليين من التناقض والاضطراب
والتهافت.
وأما قوله المتكلف " يه 1 ج ص 14 "، أما المسيح فلم يشرب " أي من
الخمر " إلا شيئا لا يعتد به في عيد الفصح مرة في السنة حسب شريعة موسى.
فهو قول مخالف للأناجيل الرائجة في دلالتها على أن المسيح وحاشاه
شريب خمر كما تقدم أي كثير الشرب لها، وكونه حضر مجلس العرس المعقود
لشرب الخمر وعربدة السكر هو وعدة من تلاميذه وزادت في الطنبور نغمة إذ
ذكرت أنه عمل لهم بطلب والدته ستة أجران من الخمر الجيد، وحاشا قدسه
من هذا كله.
وأيضا أين يوجد من شريعة موسى حكم شرب الخمر في عيد الفصح،
أو ليست التوراة الرائجة هي التي يزعمون أنها كتاب شريعة موسى، وأن كل
ما لم يتذكر فيها لا حقيقة له.
وأما قول المتكلف عقيب كلامه المتقدم، فكان كل واحد من بني إسرائيل
يشرب شيئا طفيفا لا يعتد به في هذا العيد تذكارا لمراحمه تعالى.
فيحق أن يقال فيه أن سكر بني إسرائيل الذي استغاث منه أشعيا النبي في
الثامن والعشرين من كتابه، وذكر أن الأنبياء والكهنة ابتلعتهم الخمر وتاهوا من
المسكر حتى ضلوا في الرؤيا وقلقوا في القضاء، أيضا كان كله تذكارا لمراحمه
تعالى.
وعبد بنو إسرائيل العجل تذكارا لمراحمه تعالى، وزنوا ببنات مواب وذبحوا
لآلهتهن تذكارا لمراحمه تعالى، وعبدوا البعل والعشتاروت وآلهة الكنعانيين

104
وغيرهم تذكارا لمراحمه تعالى، وذبحوا أولادهم للأصنام تذكارا لمراحمه تعالى،
وجعلوا بيوت المأبونين عند بيت الرب تذكارا لمراحمه تعالى وخربوا بيت المقدس
ونجسوه تذكارا لمراحمه تعالى، وتمادوا على ارتداداتهم وأحوالهم المذكورة في
المقدمة الخامسة تذكارا لمراحمه تعالى، وأظرف من هذا كله أن المتكلف كان
شاعرا بما في العهدين من تلويث قدس الأنبياء وخصوص المسيح بشرب الخمر
فحاول أن يموه على البسطاء المغفلين ويلوث قدس خاتم المرسلين بشربها
فتشبث لذلك بأخبار آحاد لم يتحقق سندها ولم يفهم مدلولها، ولو أنها صحت
وكانت لها مداخلة في أصول الدين لكانت أجنبية عن مقصوده الممتنع عليه.
فقال " يه 1 ج ص 13 " إن محمدا شرب الخمر، وذكر عن ابن عباس
أن رسول الله " ص " أتى السقاية في مكة وقال اسقوني من هذا فقال العباس:
ألا نسقيك مما في البيوت؟ فقال " ص ": ولا لكن اسقوني مما يشرب منه
الناس فأتى بقدح من نبيذ فذاقه فقطب ثم قال هلموا وصبوا فيه الماء، ثم
قال: زد فيه مرة أو مرتين أو ثلاثا، ثم قال إذا صنع أحد منكم هكذا فاصنعوا
به وهكذا.
وذكر عن ابن مسعود أن رسول الله " ص " عطش وهو يطوف بالبيت فأتى
بنبيذ من السقاية فشمه ثم دعا بذنوب من ماء زمزم " أي دلو " فصب عليه ثم
شربه فقال له رجل: أحرام هذا يا رسول الله؟ فقال لا.
وقد غفل المتكلف أو تغافل عن أن اسم النبيذ مأخوذ من النبذ وهو
الطرح، قد كان النبيذ على قسمين:
" أحدهما " أن يطرح التمر أو الزبيب في الماء في الأواني التي تصبر على
التمادي إلى أن يبلغ حد الإسكار كأواني الدبا وهو القرع اليابس والمزفت وهي
أوان تطلى بالزفت، والحنتمة وهي أوان خزفية تدهن بالقلى ونحوها فيترك زمانا
طويلا إلى أن يبلغ حد الإسكار.
" وثانيهما " أن ماء الحجاز كان مرا مضرا فيطرح فيه لمداواة طعمه وطبعه
ما يتمكن الأعرابي منه في ذلك الزمان وهو قليل من التمر فإن ترقى فالزبيب

105
بمقدار الكف أو أقل يطرحونه في السقاء غدوة فيشربونه عشيا ويطرحونه عشيا،
فيشربونه غدوة، حينما يؤثر طعم التمر أو الزبيب في الماء حلاوة ما.
وقد تضافرت الأخبار الكثيرة بأن رسول الله " ص " كان ينهى عن نبيذ
الدبا والمزفت والحنتمة بسبب أنه يصبر عليه حتى يبلغ حد الإسكار، ويرخص
في نبيذ الأسقية وهو أن يطرح في السقاء كف ونحوه من التمر أو الزبيب فيشرب
في يومه أو صبيحة ليلته حينما يطيب طعم الماء بحلاوة التمر أو الزبيب لأن أسقية
البيوت لا تحتمل أن تشغل زمانا طويلا بالنبيذ، ولا تقوى على بقائه إلى أن
يختمر ويتعفن ويبلغ حد الإسكار.
انظر إلى مسند أحمد وغيره من كتب الحديث، فعلى المتكلف في تشبثه بما
ذكر من الحديثين أن صحافي الجامعة الإسلامية أن يعين دلالتهما على أن النبيذ
المذكور فيهما كان من القسم المسكر المخمر لا الذي ذكرنا أنه يطرح فيه قليل من
التمر أو الزبيب لمحض تطييب طعم الماء على عادة أهل الحجاز.
ونحن نقول: إن المتعين كون النبيذ فيهما من هذا القسم، لا القسم
المسكر لوجوه:
أولها: إنه لو كانت في مكة مصانع للنبيذ المسكر كمصانع أوروبا لما
وسعت كفاية الألوف العديدة من الحجيج في الأيام الكثيرة وهو يعطي مجانا
لهم، وكيف يقوى العباس على ذلك؟
وثانيها: إن السقاية في مكة كانت لإرواء الحجيج من العطش لا أنها
حانوت خمار.
وثالثها: إن هذه الواقعة إن كانت فإنما تكون بعد فتح مكة في أواخر أيام
النبي " ص "، ومقتضى الأخبار التي يذكرها المتكلف " يه 1 ج ص 23
و 24 " أن الخمر حرمت في أوائل الهجرة.
وفي ما ذكره عن ابن مسعود أن رسول الله " ص " قال فيما شربه أنه ليس
بحرام، مع أن حرمة النبيذ المسكر كانت حينئذ مقررة معلومة في الإسلام.

106
ورابعها: الذي يكشف الحجاب ما صح نقله عن جعفر الصادق وهو
الإمام السادس من أهل البيت حيث قال في نبيذ السقاية: أن العباس كانت له
حبله وهي الكرم، فكان ينقع الزبيب غدوة فيشربونه بالعشي وينقعه بالعشي
ويشربونه غدوة يريد أن يكسر به غلظ الماء على الناس.
وأما سر تقطيبه صلوات الله عليه في رواية ابن عباس فليس لأن النبيذ
الذي أعطي له كان من القسم المسكر، بل لأن حلاوة التمر والزبيب كانت
زائدة على المتعارف من نبيذ الأسقية، فإن الحلاوة إذا ظهر أثرها مع مرارة الماء
كانت من المهوعات فزاد عليها من الماء إلى أن ردها إلى النحو المتعارف،
وأرشدهم إلى أن هذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه هذا النحو من المشروب
لإصلاح طعم الماء.
ولو تنزلنا وفرضنا أن النبيذ المذكور في الروايتين كان من القسم المسكر
لكانتا دليلا على أنه صلوات الله عليه كان يعاف المسكر ويشمئز ويقطب وجهه
الشريف منه ولم يشربه حتى أخرجه عن موضوعه وصورته بإراقة الماء الكثير
عليه... أفبهذا يتشبث الكاتب ويقول بملئ فمه ومهوى قلمه أن رسول
الله " ص " شرب الخمر.
وقد فات المتكلف الشنب فإن في أخبار الآحاد التي لا تقيم لها الجامعة
الإسلامية وزنا ما يساعفه على مقصوده بعض المساعفة، فقد روى في مسند
أحمد أن رجلا كان إذا قدم المدينة أهدى لرسول الله " ص " خمرا فقد مرة
ومعه زق خمر ليهديه إلى رسول الله " ص " فقيل له: إن الخمر قد حرمت ولكن
ماذا يعمل الوهم من هذا الخبر في مقابلة متواترات الآثار ومعلومات السير بأن
قدس رسول الله لا تحوم حوله هذه الأوهام.
وقد جاء عنه صلوات الله عليه في مستفيض الحديث من طريق أهل
البيت قوله " ص ": أول ما نهاني عنه ربي شرب الخمر وعبادة الأوثان، وكفاك
أن مشركي قريش والعرب قد تمحلوا في تكذيب رسول الله " ص " وكابروا
الوجدان وغالطوا العيان بدعواهم أنه صلوات الله عليه مجنون ولو أنه صلوات

107
الله عليه كان يمكن أن يرمي بشرب الخمر والمسكر لتيسر لهم أن يقولوا بلا
مكابرة للوجدان إن ادعاءه " ص " للرسالة والوحي إنما هو من سورة الخمر
وعربدة السكر وخيالات الخمار، ولكنه كان صلوات الله عليه ولم يكن لقائل
فيه مغمز، فيا ذا الرشد والفكر الحر الذي لم يستأسر للعصبية والتقليد.
سألتك بفضيلة الصدق وشرف النفس هل كان من الرشد وأدب المكاتب
أن يتغاضى هذا المتكلف عما لوثت به الكتب الإلهامية في نحلته قدس الأنبياء
وخصوص المسيح بشرب الخمر وحضور مجلس السكر صريحا ويتشبث لتلويث
قدس رسول الله بهذه الأوهام، ولقد شذ بنا الكلام عن وضع المقدمة ولكنه
بفضل الله لم يشذ عن إحقاق الحق والهدى إلى الرشد.

108
الفصل الثالث
في شأن إبراهيم وما قيل فيه
أما رسالته ففي القرآن الكريم بقوله تعالى في سورة الحديد 260 (ولقد
أرسلنا نوحا وإبراهيم)، وقوله تعالى في سورة مريم 42 (واذكر في الكتاب
إبراهيم إنه كان صديقا نبيا) وقوله تعالى في سورة البقرة 118: (إني
جاعلك للناس إماما).
وأما دينه وإيمانه فيكفي فيه من القرآن قوله تعالى في سورة الأنعام 162
(قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من
المشركين).
وأما كتابه وبعض مضامينه، فقد أشار إليه بقوله تعالى في سورة النجم
370: (أم لم ينبأ بما في صحف موسى) 38 (وإبراهيم الذي) وفي - 56
وفي سورة الأعلى عند ذكر بعض المضامين العالية 18 (إن هذا لفي الصحف
الأولى صحف إبراهيم وموسى).
وفي ثاني عشر التكوين " 1 "، وقال الرب لابرام: إذهب من أرضك ومن
عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك " 2 " فأجعلك أمة عظيمة
وأباركك وأعظم اسمك وتكون بركة، (ومقتضى الأصل العبراني: وكن
بركة) " 3 "، وأبارك مباركيك ولا عنك اللعنة وتتبارك فيك جميع قبائل الأمم.
وفي سابع الأعمال عن قول استفانوس " 2 - 4 " إن هذا الخطاب كان

109
حينما كان إبراهيم بين النهرين في أرض الكلدانيين قبلما سكن حاران.
وفي سابع عشر التكوين " 9 - 14 " وقال الله لإبراهيم وجعل له شريعة
الختان وعهده ولذريته وخدمه وعبيده.
وفي الثامن عشر عن قول الله " 19 " لأني عرفته لكي يوصي بنيه وبيته من
بعده أن يحفظوا طريق الرب ليعملوا برا وعدلا.
وهذا هو حقيقة الرسالة في هذا المقام، ويوضح أمرها ما في السادس
والعشرين من التكوين عن قول الله لإسحاق " 5 " من أجل أن إبراهيم سمع
لقولي وحفظ ما يحفظ لي أوامري وفرائضي وشرائعي.
وفي العشرين من التكوين عن قول الله لأبي مالك " 7 " أن إبراهيم نبي
وفي العهدين خليل الله " 2 أي 20: 7 واش 41: 8 ويع 2: 23 ".
وأما ما ذكر في شأنه فقد قال الله في القرآن الكريم في سورة الأنعام 75
(وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) 76
(فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين)
77، (فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي
لأكونن من القوم الضالين) 78، (فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا
أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون).
قال المتكلف " يه 1 ج ص 20 " إن عبارة القرآن ناطقة بوقوعه " يعني
إبراهيم " في عبادة الأصنام.
فأقول: إن الآيات واضحة الدلالة على أن رؤية إبراهيم للكواكب
وملكوت السماوات والأرض كانت أول رؤية منه لها فقال ما ذكره القرآن فأما أن
يعتمد في ذلك على ما روى من أن أمه ولدته في مغارة خوفا عليه من النمرود فلما
ترعرع خرج من المغارة فرأى الكوكب إلى آخر المذكور، أو أنها أول رؤية كانت
في ابتداء تمييزه حال طفوليته الذي التفت به إلى عظمة شأن العالم العلوي
وأجرامه وفضيلة إشراقها ونورها، فإن الله علم منه أن فطرته السليمة في أول
تمييزه قد أشعرته بأن له إلها صانعا وربا معبودا، ولكنه بعد لم يوصله التدرب

110
بالنظر والتقدم بالتمييز ليقف عندها على اليقين، فرحمه الله
ولطف به وأراه ملكوت السماوات والأرض ليكون بالتدبر والتدرب في النظر من
الموقنين بالله، فصار ينظر عند رؤيتها بالنظر الصائب، ويسير متدرجا إلى حق
المعرفة على جادة الصواب فأدرك فضل العالم العلوي على السفلي، ثم أدرك
فضل النير على غيره، فإذا رأى الكوكب النير وقفت به الطفولية وعدم التقدم
بالتمييز عنده فلما أفل الكوكب سدده فكره فقال: لا أحب الآفلين ولا يكون
الإله متغيرا، ولما رأى القمر بازغا مشرقا يفوق نوره نور الكوكب وقفت به
الطفولية أيضا عنده فلما أفل أدرك أنه ضال في نظره، فطلب الهدى من إلهه:
فلما رأى الشمس بازغة بنورها الباهر وقفت به الطفولية أيضا، فلما أفلت أوصله
التدبر إلى الحق اليقين من العرفان وخالص الإيمان، حتى لم يمض له يومان من
أول تمييز الطفولية.
ويمكن أن يكون وقوفه المذكور وقوف شك وحيرة واستعلام فيكون قوله:
هذا ربي على سبيل الاستفهام، وقد أسقط حرف الاستفهام من الآيات جريا
على المتعارف من لسان العرب، كما يشهد له الكثير من شعرهم ونثرهم،
والأقرب أن وقوفه المذكور كان وقوف فرض وتقدير إلى أن يحصل له من النظر ما
يكشف عن الحق المبين، وعلى كل حال لم يقع من إبراهيم الشرك القبيح
المعاقب عليه حتى لو قلنا: بأن ما ذكرناه في شأنه كان في زمان مهلة النظر عند
أول التكليف بالمعرفة، فإن الإنسان لم يخلق عارفا بالله من أول أمره، بل جعل
الله له النظر لتحصل له فضيلة الجهاد في سبيله.
فإن قلت: من أين لك هذه الوجوه في الآيات؟ وهل هي إلا احتمال
وتخمين؟.
" قلت ": يدل عليها سوق الآيات والمتكرر في القرآن من قوله تعالى في
وصف إبراهيم " وما كان من المشركين ".
ثم أقول: هب أن هذه الوجوه احتمالات لا دليل عليها، ولكن مع
قيامها كيف يتجه للمتكلف أن يقول غير متأثم إن عبارة القرآن ناطقة بوقوع
إبراهيم في عبادة الأصنام.

111
وقال الله تعالى في سورة البقرة 262: (وإذا قال إبراهيم رب أرني كيف
تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي).
فقال المتكلف في هذا الشأن " يه 1 ج ص 20 س 4 " القرآن ناطق بأنه
يعني إبراهيم شك في قدرة الله.
أقول: ليت شعري أين سمع المتكلف وبصره وقلبه عن قول إبراهيم بلى
ولكن ليطمئن قلبي، أفيشك عاقل بأنه إذا اجتمع العقل والحس على أمر كان
أوقع في النفس وأثبت في الاعتقاد وأدخل في الاطمئنان من المعقول الصرف،
وصريح الآية أن إبراهيم كان يطلب هذه المرتبة من الاطمئنان والإيمان الكامل،
وإن كان إيمانه بقدرة الله ثابتا، ولأجل إيمانه وخلوص بيته في طلب الاطمئنان،
وأكمل أفراد الإيمان أعطاه الله مراده فقال تعالى له: خذ أربعة من الطير
فصرهن إليك الآية.
فانظر يا ذا الرشد والفكر الحر إلى ما ذكرناه في القرآن الكريم وإلى ما في
الخامس عشر من التكوين " 7 " وقال له: " أي الله لإبراهيم " أنا الرب الذي
أخرجك من أور الكلدانيين ليعطيك هذه الأرض لترثها " 8 " فقال أيها السيد
الرب بماذا أعلم أني أرثها؟
وقل أي المقامين أولى بأن يكون شكا في قدرة الله وصدقه في وعده.
فهل هو ما ذكر في القرآن الكريم من طلب إبراهيم الاطمئنان وأعلى
مراتب الإيمان زيادة على إيمانه المطلوب في شأن المعاد العظيم أمره؟ أم هو ما
ذكر في التوراة في شأن إعطاء الله أرض الكنعانيين لإبراهيم ليرثها فقال
إبراهيم: بماذا أعلم أني أرثها؟
فإنه صريح في أنه لا يحصل له العلم بمجرد قول الله بل يحتاج في ذلك إلى
شاهد يوجب له العلم بقدرة الله على ذلك أو صدقه في وعده مع أن إعطاء
الأرض لقوم بدل آخرين أمر سهل على التصديق.
ثم انظر أيضا استطرادا وتتميما لمتعلقات المقام في انتظام البرهان المذكور
في القرآن على إحياء الموتى لأجل اطمئنان إبراهيم ومناسبته للمبرهن عليه بقوله

112
تعالى: (فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن
جزءا ثم أدعهن يأتينك سعيا)، حيث أقام جل شأنه الحجة الحسية على إحياء
الموتى بعد تفرق أوصالهم بإحياء الطيور بعد موتها وتفرق أوصالها على النحو
العجيب والإعجاز الباهر.
وأمعن النظر في البرهان المذكور في خامس عشر التكوين ليحصل العلم
لإبراهيم بصدق وعد الله له بأنه يرث أرض كنعان وقدرته على ذلك " 9 " فقال
له: خذ عجلة ثلاثية، وعنزا ثلاثية، وكبشا ثلاثيا، ويمامة وحمامة " 10 " فأخذ
هذه كلها وشقها من الوسط وجعل شق كل واحد مقابل صاحبه، وأما الطير
فلم يشقه " 11 " فنزلت الجوارح على الجثث فكان ابرام يزجرها.
وقل: ماذا يفهم من مداليل هذه الفقرات من حاصل أمر الله وبرهانه
على صدقه في وعده وقدرته وأي نتيجة فيها مناسبة للمقام، أفلا تجدها حكاية
بتراء لا يفهم لها أول من آخر، ولا حاصل ولا فائدة، أفهكذا كلام الله العليم
الحكيم؟.
هذا وأما ما تشبث به المتكلف " يه 1 ج ص 20 س 7 " من الرواية عن
قول رسول الله نحن أولى بالشك من إبراهيم، فيكفي في ردها مخالفتها لنص
الكتاب بإيمان إبراهيم في قوله تعالى: (أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن
قلبي) فهذه الرواية كلا شئ.
وقال الله تعالى في سورة الأنبياء 63: (قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا
إبراهيم) 64 (قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون).
فقال المتكلف: " يه 1 ج ص 20 س 7 "، ورد في القرآن أنه " يعني
إبراهيم " كذب.
قلنا: إن قول إبراهيم بل فعله كبيرهم لم يخرج مخرج القطع والأخبار
الجدي، بل هو للتوبيخ والتبكيت إذ هو معلق على قوله إن كانوا ينطقون
وحاصله توبيخ المشركين على عبادة الأصنام، ومعناه أن أصنامكم إن كانوا
ينطقون ويملكون حراكا فقد فعله كبيرهم إذ لا وجه لنسبة هذا الفعل إلى دونه

113
مع عدمه المشاهدة وإن كانوا جمادا فلم تعبدون جمادا لا ينطق؟
ومن المعلوم أن الخبر المعلق على أمر يعلم المتكلم والمخاطب أنه غير واقع
ليس خبرا جديا حتى يقال إنه صدق أو كذب.
" فإن قلت ": إن هذا احتمال محض في الآية " قلت ": أولا كونه
احتمالا كاف في بطلان قول المتكلف وورد في القرآن أن إبراهيم كذب.
" وثانيا " أن دلالة العقل والنقل على عصمة النبي تعين دلالة الآية
عليه، وكونه المراد منها خصوصا مع صلاحية التركيب بدون تجوز أو خروج عن
القانون.
وأما الرواية التي ذكرها المتكلف في كذب إبراهيم ثلاث مرات فلا يصح
بها الجدل للمسلمين لما ذكرناه في المقدمة السابعة.
وقال الله تعالى حكاية عن إبراهيم في سورة الصافات 86: (فنظر نظرة
في النجوم 87 فقال إني سقيم)، وقد تشبث المتكلف هاهنا " يه 1 ج
ص 20 " برواية استنتج منها أن إبراهيم فعل حراما بنظره في علم النجوم
وكذب بقوله إني سقيم.
ولا يخفى أن الرواية لا يصح بها الجدل للمسلمين في جامعتهم بحكم
المقدمة السابعة، أما الآية الأولى فلا تدل إلا على أن إبراهيم نظر نظرة في
النجوم لا في علمها الذي لا يعلم أنه هل كان في زمانه محرما حتى عليه أم لا،
ولعلما كان نظره في النجوم نظر تفكر وتأمل في شأنه كما هو المعتاد للمتفكرين في
شؤونهم من نظرهم إلى السماء وإلى الأرض ونحو ذلك، كما يحكى عن المسيح
لما أتاه اليهود بالزانية ليرجمها انحنى إلى الأسفل وكان يكتب بإصبعه على الأرض
" يو 8: 6 ".
وأما قوله: إني سقيم فمن أين يعلم من القرآن أنه كان كذبا، ولماذا لا
يحمل على حقيقته.
وفي الثامن عشر والعشرين من التكوين أن إبراهيم قال عن سارة امرأته

114
إنها أخته لكن العشرين من التكوين عن قول إبراهيم " 12 " وبالحقيقة أيضا هي
أختي ابنة أبي، غير أنها ليست ابنة أمي فصارت لي زوجة.
وعلى ظاهر هذا لم يكذب بقوله أنها أخته، نعم قوله أنها أخته وسكوته
عن جهة الزوجية خصوصا مع شهادة المقام بإنكار كونها امرأته، وتعريضها
لطمع الغير فيها يمكن أن يكون مما أباحته ضرورة الوقت لإبراهيم حفظا
لنفسه، أو أنه كذب على الوحي لعصمة إبراهيم.

115
الفصل الرابع
في ذكر إسحق وما جاء في شأنه
أما نبوته فيكفي فيها من القرآن الكريم قوله تعالى في سورة مريم 50
(ووهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا)، وفي سورة النساء 161:
(وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب).
وفي السادس والعشرين من التكوين " 2 و 24 " أن إسحاق ظهر له الله
وكلمه بما كلمه.
وأما ما ذكر في شأنه ففي السادس والعشرين من التكوين " 7 " أنه قال عن
امرأته أنها أخته وهو خلاف الواقع لأنها بنت ابن عمه بتوئيل ابن ناحور من
ملكه بنت هاران " تك 11: 29 و 25: 20 " وكان هذا القول منه مخافة من
القتل فيمكن أن يكن جائزا لضرورة الوقت.
ولا يمكن أن يكون كذبا على الوحي لما ذكرناه من عصمة النبي، وعلى
هذا فلا وجه للوقيعة بقدس إسحاق لأجل هذا لإمكان أن يكون مباحا لضرورة
الوقت، ولماذا لا يكون ذلك في أقل الأمر احتمالا مانعا لأهل الكتاب عن
الإقدام على قداسة الأنبياء الصالحين، أفلا ترى ما نقله في إظهار الحق عن
القسيس وليم اسمت من علماء بروتستنت في كتابه المسمى بطريق الأولياء وكيف
قد أطال لسانه على إبراهيم وإسحاق من أجل ما نقل عنهما من قولهما عن
امرأتيهما أنهما أختاهما.

116
فقال في شأن إبراهيم ص " 99 " لعل إبراهيم لما أنكر كون سارة زوجة له
في المرة الأولى عزم في قلبه أنه لا يصدر منه مثل هذا الذنب لكنه وقع في شبكة
الشيطان السابقة مرة أخرى بسبب الغفلة.
وقال في شأن إسحاق ص " 168 " زل إيمان إسحاق لأنه قال لزوجته:
أنها أخته وص " 69 " يا أسفا أنه لا يوجد كمال في واحد من بني آدم غير الواحد
العديم النظير، والعجب أنه شبكة الشيطان التي وقع فيها إبراهيم وقع فيها
إسحاق أيضا، وقال عن زوجته: أنها أخته فيا أسفا أن أمثال هؤلاء المقربين
عند الله يحتاجون إلى الوعظ.
وقال المتكلف " يه 1 ج ص 19 " في شأن إبراهيم ولا ينكر أنه ترك
الأولى لضعف الطبيعة البشرية، فالمولى سبحانه وتعالى هو الكامل وحده
والنقص ملازم لكل إنسان مهما كان.
وقال في شأن إسحاق ص " 21 " فإذا كان هذا حال خليل الله وأنه لم
يسلم من الكذب فلا عجب إذا وقع إسحاق في ذات هذه الخطيئة فلم يقو على
التجربة لضعف الطبيعة البشرية.
فأقول: ليت شعري إذ بنوا على صحة هذه القصص وأنها من الوحي
الصادق، فلماذا لم يحتملوا أن مثل هذا الكذب كان على وجه من الضرورة
بحيث يكون مباحا أو واجبا على مثل إبراهيم وإسحاق حفظا من الهلكة والقتل
لنفس النبي الذي يفدى بجملة الناس.
هب أنه لا يجوز مثله في شرعنا ولكن لماذا لا يكون مباحا في شرع إبراهيم
وإسحاق خصوصا مع قولهم لم تكن شريعة للقدماء قبل موسى فينحصر تحريمه
عليهم بحكم العقل بقبح الكذب وأن قبحه مع الضرورة وخوف القتل على
النبي غير معلوم، ولماذا لا يحتملون ذلك فيتقون الله من الوقيعة في قدس
الأنبياء.
أفيقولون: إن الكذب بحسب كل حال وكل شريعة لا يمكن أن يكون
غير قبيح وجائزا أو واجبا لأجل بعض الضرورات والدواعي الراجحة، إذا

117
فكيف أمر الله موسى وشيوخ بني إسرائيل بمقتضى نقل التوراة الرائجة أن
يكذبوا على فرعون، ويقولون له: إن إله العبرانيين التقانا فالآن نذهب سفر
ثلاثة أيام في البرية لو نذبح للرب إلهنا " خر 3: 18 " فعمل موسى بهذا الأمر
وزاد على قول الله بقوله لئلا يصيبنا بالوباء أو بالسيف " خر 5: 3 " وبقوله:
لأن لنا عيدا للرب " خر 10: 9 "، مع أن الغرض الحقيقي والموعد بين الله
وموسى غير هذا بل هو ذهاب بني إسرائيل إلى أرض الموعد أرض الكنعانيين وما
والاها وخلاصهم من عبودية المصريين " انظر إلى ثالث الخروج أقلا 8 و 17 ".
وكأني بالمتكلف وغيره يقول: إن الغرض من سفر الثلاثة أيام ليس على
ما هو المعروف من هذا التركيب، بل المراد منه السفر الذي تقطع مسافته بالسير
المتوالي الدائم في اثنين وسبعين ساعة مثلا وهو صادق على السفر إلى أرض
الموعد فإن أقرب أرض الكنعانيين إلى رعمسيس منزل بني إسرائيل في مصر لا
يزيد مسافته عنها على الستين فرسخا، أي مائة وثمانون ميلا اعتياديا بكثير.
" قلت ": لئن سامحناهم في صدق ذلك وجاز من الله وموسى أن يريدا
هذا الغرض المعمى من هذه العبارة البعيدة عنه جدا في المحاورات لأجل
التعمية على فرعون وإن فهم من الكلام ما هو المتعارف منه مما يخالف المراد
فلماذا لا يجوز لإسحاق أن يعمى مراده بقوله عن امرأته أنها أخته ويريد أنها
أخته من حيث القبيلة والاتصال بالنسب كما سمى الأدومي أخا للإسرائيلي
باعتبار اجتماعهما في النسب بعيسو ويعقوب في إسحاق " تث 23: 7 ".
دع هذا وقل: كيف جاز للمسيح أن يقول لإخوته حيث لم يكونوا
يؤمنون به اصعدوا أنتم إلى هذا العيد، أنا لست اصعد بعد إلى هذا العيد لأن
وقتي لم يكمل بعد ثم صعد إلى ذلك العيد بالخفاء " يو 7: 1 - 11 ".
وأما قول طريق الأولياء: لا يوجد كمال في واحد من بني آدم غير الواحد
العديم النظير.
فأقول فيه: ويا أسفا ويا ليت كتبكم المنسوبة إلى الإلهام تركت قدس هذا
الواحد عن التلويث، كما سنذكر بعضه في الفصل الخامس عشر في عصمة
المسيح.

118
وفي السابع والعشرين من التكوين " 25 " أن يعقوب أحضر لإسحاق أبيه
خمرا فشرب.
أقول: قد تقدم في الفصل الثاني في عصمة نوح ما يتعلق باضطراب
المتكلف وتناقض العهدين في مسألة شرب الخمر.
فإن قال المتكلف هنا كما قال في شأن نوح إن إسحاق شرب الخمر ولما
أفاق تاب من هذه الخطيئة ولم يعد.
قلنا له: يا أيها الكاتب الماهر أين توجد توبة إسحاق من العهدين؟.

119
الفصل الخامس
في نبوة يعقوب وما قيل في شأنه
أما نبوته فيكفي فيها من القرآن الكريم النص عليها مع نبوة أبيه إسحاق
كما تقدم في أول الفصل السابق.
وفي الخامس والثلاثين من التكوين " 1 " قال الله ليعقوب " 9 ": وظهر الله
ليعقوب " 10 " وسماه إسرائيل " 11 " وقال له: وكذلك " تك 28: 13 ".
وأما ما ذكر في شأنه ففي السابع والعشرين من التكوين ما ملخصه أن
إسحاق أمر عيسى ابنه البكر أن يذهب إلى البرية ويتصيد له صيدا ويصنع له
أطعمة كما يجب ليباركه قبل أن يموت، فلما ذهب قام يعقوب بمشورة أمه رفقة
وأخذ من الغنم جديي معز وصنع لأبيه طعاما ولبس ثياب عيسى الفاخرة وألبس
يديه وملاسة عنقه جلود جديي المعز ليزور على أبيه إن رقبته ويديه مشعرة على ما
كانت عليه رقبة عيسى ويداه وتقدم لأبيه وقال كذبا: أنا عيسو بكرك قد فعلت
كما كلمتني قم اجلس وكل من صيدي لكي تباركني نفسك، وأحضر له خمرا
فشرب وقال إسحاق: هل أنت هو ابني عيسو؟ فقال يعقوب أنا هو فباركه
إسحاق، ومن جملة البركة أن دعا له بكثرة الحنطة والخمر فاستعمل يعقوب
بمقتضى التوراة الرائجة هذا الخداع والتزوير وكذب على أبيه أكثر من أربع
مرات حتى أوقعه مع كبر سنه وذهاب بصره في أذى الارتعاد العظيم جدا حيث
علم بالخديعة " تك 27: 33 ".

120
أقول: قد قدمنا لك في الباب الأول من هذه المقدمة ما يدل بأوضح دلالة
على أن مثل هذه المخادعة والتزوير والكذب المتكرر على الأب النبي العاجز
الكال البصر مناقضة لورود النبوة على يعقوب خصوصا مع دلالة هذا العمل
المذكور عنه على ضعف الإيمان والمعرفة بالله بسبب البناء على أن البركات الله التي
هي من مفاتيح النبوة وسلسلة عهده مع إبراهيم تستلب من الله ونبيه إسحاق
بمثل هذه المخادعات والتزويرات القبيحة، فلا بد من القول بكون هذه الحكاية
ليست من الوحي ولا صادقة مضافا إلى سخافتها في نفسها ومنافاتها لجلال الله
الحكيم الغني علام الغيوب لأنه إن فرضت هذه البركة وما يتبعها من الشؤون
العظيمة مقدرة من الله ليعقوب، كما عن وحي ملاخي عن قول الله أحببت
يعقوب وأبغضت عيسو " مل، 1: 2 و 3 "، وكما عن الوحي لامهما من قول
الرب لها وهي حبلى بهما، إن الكبير يكون عبدا للصغير " تك 25: 23
ورو 9: 11 و 12 ".
سألنا أهل العقول السليمة أنه هل يصح في حكمة علام الغيوب أن يقدر
هذه البركة التي هي زمام النبوة أو نفسها لمن تنسب له هذه المخادعات
والتزويرات والأكاذيب الناشئة عن ضعف الإيمان والمعرفة بالله أو عدمهما كما
ذكرنا، مع أن اللسان الكاذب مكرهة للرب " 1 م 6: 16 و 17 " وكراهة
الرب شفتا كذب " ا م 12: 22 "،، وكيف يجتمع هذا مع كون الله أحب
يعقوب؟
وأيضا في التاسع عشر من الأمثال " 5 " المتكلم بالأكاذيب لا ينجو " 9 "
المتكلم بالأكاذيب يهلك.
قال فكيف قدرت له هذه البركة العظيمة " انظر تك 27: 27 - 30 ".
هذا وإن فرض أن أمر هذه البركة موكول إلى جعل إسحاق وأنها تكون
حيثما يجعلها سواء كان مخدوعا أو مختارا.
سألنا أيضا أهل العقول السليمة كيف يوكل الله العليم الحكيم أمر هذه
البركة مع عظيم شأنها إلى جعل إسحاق، مع أن إسحاق أراد وعزم وجزم على

121
أن يجعلها ليعسو مبغوض الله ثم جعلها توهما وانخداعا بالكذب ليعقوب بتوهم
أنه عيسو فابتع الله إسحاق على وهمه، أفيعجز الله عن جعل البركة في محلها ولا
يعلم حيث يجعل رسالته؟.
أفيغفل العاقل عن كون هذه القصة خرافة مخالفة للعقل، مجعولة مكذوبة
على الوحي؟.

122
الفصل السادس
في نبوة يوسف وما جاء في شأنه
أما نبوته فيدل عليها من القرآن الكريم ذكر الله له في عداد الأنبياء الذين
فضلهم على العالمين من ذرية إبراهيم " انظر سورة الأنعام 84 - 86 ونص على
نبوتهم بقوله تعالى 89: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة).
وأما ما جاء في شأنه فقد قال الله تعالى في سورة يوسف في شأنه مع امرأة
العزيز 24 (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه).
فقال المتكلف " يه 1 ج ص 5 " إن القرآن نسب ليوسف ما هو منزه عنه
بقوله: ولقد همت به وهم بها أي قصدت مخالطته وقصد مخالطتها.
قلت أولا: من أين للمتكلف أن المراد قصد مخالطتها ولماذا لا يكون المراد
أنه هم بها ضربا ونحو ذلك من وجوه المدافعة عن قداسته.
" وثانيا " أن قوله تعالى: (وهم بها) معلق على عدم رؤيته لبرهان ربه
الذي هو العصمة. فمعنى الآية أنه لولا أن رأى برهان ربه وكان معصوما لهم
بها لأجل وجود الدواعي الكثيرة من شبابه وجمال المرأة ورغبتها فيه وخلو المكان
وألفتها.
ولعل المتكلف إنما لم يذكر في نقله للآية تتمتها، وهو قوله تعالى: (لولا أن
رأى برهان ربه) لأجل التفاته، إلا أن التتمة تنقض غرضه خصوصا ما في

123
التتمة من قوله تعالى: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء أنه من عبادنا
المخلصين) سيما وقد حكى الله عنه قبل الآية المذكورة قوله: (معاذ الله إنه
ربي أحسن مثواي).
وحكى جل شأنه عن المرأة 32 (أنا راودته عن نفسه فاستعصم) 51
(أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين) فصراحة القرآن تدل على نزاهة
يوسف في هذه الحادثة مطلقا.

124
الفصل السابع
في رسالة موسى وما قيل في شأنه
أما رسالته في القرآن الكريم فغنية عن البيان، ويكفي مما يدل على بعثته
ورسالته وكتابه ومعجزاته ودعوته ما اقتصه الله جل شأنه في سورة الأعراف
101 - 155 - ولا حاجة إلى بيان رسالته من العهدين فإنها العنوان والأساس
لهما.
وأما ما قيل في شأنه فقد قال الله جل اسمه في شأنه في سورة القصص
14 (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من
شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه
موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين 15 قال رب
إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم).
فقال المتكلف " يه 1 ج ص 41 " فقتل القبطي مع أنه لم يكن ذلك مباحا
له ولم يكن قتله على سبيل الخطأ بل كان قتل عمد وعدوان لقوله هذا من عمل
الشيطان. وقوله: (رب إني ظلمت نفسي) وقوله في سورة الشعراء 19:
(فعلتها إذا وأنا من الضالين).
أقول: لا يخفى إن بني إسرائيل حينئذ كانوا مؤمنين بالله موحدين له
يعرفونه باسمه المقدس (اهيه الذي اهيه. ويهوه إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب)
وهم شعب الله " انظر إلى ثالث الخروج " وأبناء الله أي أولياءه " خر 4: 23 "

125
وكان المصريون مشركين يعبدون البهائم " خر 8: 26 ".
فلما رأى موسى الذي من شيعته في الدين مع الذي من عدوه في الدين
يقتتلان حسن منه دفاع المشرك عن الموحد فوكزه فقضى عليه. ولا يتبين من
الآية أنه وكزه ليقتله بل سوقها يعطي أنه أراد به مجرد الضرب للدفاع فصادف
قتله خطأ فيجوز في نفس الواقعة أن يكون دفاع موسى للقبطي جائزا، ويجوز
أيضا أن يكون قتله جائزا ولو لأجل دفاع عابد الوثن عن الموحد خصوصا
والعادة تقضي أن يكون القبطي هو الظالم المعتدي لكون بني إسرائيل حينئذ
تحت عبودية المصريين القاسية وهذا الدفاع والقتل كان على حين غفلة من أهل
المدينة يمكن ستره في وقته بحيث لا يتعقبه ضرر فعلي ليكون حراما من هذه
الجهة، ولكن كان الأفضل لموسى تركه سترا على نفسه المقدسة أو على بني
إسرائيل من تجسس المصريين وتهمتهم أو أخبار الإسرائيلي إذا غضب وساء
خلقه، فلما مات القبطي وعلم موسى أنه وقع في خلاف الأفضل قال إنه من
عمل الشيطان يعني إغواء المصري على العدوان أو إغواء الإسرائيلي على المقاومة
أو إقدامه على خلاف الأفضل ليثير الشيطان شر المصريين على بني إسرائيل فقال
على وتيرة الصديقين الذين يفزعون من تركهم الأفضل (ربي إني ظلمت نفسي
فاغفر لي) ليعود إلى مقامه الرفيع فغفر له. وأما قوله (فعلتها إذا وأنا من
الضالين) فلا دلالة فيه على أنه فعل حراما لأنا قد قدمنا في الفصل الثاني من
عصمة نوح أن المعنى الموضوع له لفظ الضلال بل والمستعمل فيه غير مختص
بمعصية الله ومخالفة أمره ونهيه اللازمين بل هو إضاعة الطريق ويختلف باختلاف
متعلقه.
ومن الواضح أن النبي بعد أن يهديه الله بنور النبوة إلى الحق اليقين.
ويكشف له بمشاهداتها عن أسرار اللاهوت والملكوت يرى أنه كان قبلها كالميت
الذي أحياه الله.
والجماد الذي نعشه بروح القدس فيحق له أن يصف حاله فيما قبلها
بالضلال الذي هو إضاعة الطريق عما اهتدى إليه بنور الوحي.
فالظاهر من سوق الآية وما قبلها أن موسى لما أخبر فرعون بأنه رسول

126
رب العالمين وأمره بأن يرسل معه بني إسرائيل ألقى عليه فرعون جملة من الكلام
تتضمن أمرين " أحدهما " الامتنان عليه بتربيتهم وإيوائهم له " وثانيهما " التهكم
على دعواه الرسالة وإنكارها بأنهم هم الذين ربوه من الطفولية ولبث فيما بينهم
سنين من عمره وآخر أمره كفر نعمتهم وفعل فعل الأشرار فقتل منهم نفسا فمتى
جاءته النبوة فأجاب موسى عليه السلام بما معناه إني في آخر مكثي معكم حينما
فعلت الفعلة وقتلت النفس لم أكن رسولا بل كنت من الضالين عن هدى
الرسالة إلى الحق اليقين، ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني
من المرسلين.
وأما التربية والمكث بينكم فقد كان ذلك من آثار استعبادكم القاسي
لقومي المؤمنين أولاد الأنبياء، فتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل
" انظر سورة الشعراء 15 - 22 "، وهب أن ما ذكرناه مع وضوحه احتمالا في
الآيات والواقعة، فلماذا لا يمنع المتكلف من أن يقول جازما إن قتل موسى
للقبطي لم يكن مباحا ولم يكن خطأ بل كان قتل عمد وعدوان.
وقال الله تعالى في سورة الشعراء حكاية عن موسى لما أرسله إلى فرعون
11 (قال رب إني أخاف أن يكذبون 12 ويضيق صدري ولا ينطلق لساني
فأرسل إلى هارون 13 ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون 14 قال كلا فاذهبا
بآياتنا إنا معكم مستمعون).
فقال المتكلف " يه 1 ج ص 14 " إن هذا يدل على أنه لما أمر الله موسى
اعتذر عن التوجه بسبب العقدة التي في لسانه وقتله أحد المصريين فطلب من
المولى أن يرسل إلى أخيه هارون بأن يبلغ الرسالة والقصة مأخوذة من التوراة
وإنما دأب القرآن الاستخفاف بالخطايا فلم يذكر غضب الله على موسى كما ذكرته
التوراة، فموسى ترك الأفضل.
أقول: ليس في الآيات شئ من الدلالة على اعتذار موسى عن التوجه
إلى ما أرسل إليه، وإنما كان كلامه هذا حرصا على حصول الغرض من رسالته
وطلبا لليقين بحصوله بإبداء الموانع منه، ولم يطلب تحويل الرسالة عنه إلى
هارون إذ لا دلالة في قوله: أرسل إلى هارون على طلب الاستبدال به بل غاية

127
ما يدل على طلب الرسالة لهارون، وأن الموارد الأخر من القرآن لتشهد بأنه
طلب الرسالة لهارون معه ليكون ذلك أنجح لحصول الغرض، فقد حكى الله
عنه في سورة القصص قوله 34: (وهارون أخي هو أفصح مني لسانا فأرسله
معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون 35 قال سنشد عضدك بأخيك) وفي
سورة طه 30 (واجعل لي وزيرا من أهلي 31 هارون أخي 32 اشدد به
أزري 33 وأشركه في أمري - 36 قال قد أوتيت سؤلك يا موسى). بل يدل
في خصوص المورد ما تقدم من قوله تعالى: " كلا " أي لا تخف من القتل ولا
يصلون إليك بسوء فاذهبا بآياتنا فإن قوله تعالى: (فاذهبا بآياتنا) دال بواسطة
الفاء التفريعية على أن الأمر بذهابهما معا إجابة لمطلوب موسى وإيتاء لسؤله
بقوله: " فأرسل إلى هارون " وكاشف عن أن المطلوب لموسى هو إرسال هارون
معه لا الاستبدال به.
ولئن تنزلنا قلنا الذي المعرفة: أفلا يكون ما ذكرنا في دلالة الآيات
احتمالا يمنع المتكلف عن جزمه في دعواه ولكنه قد امتلأ سمعه وقلبه من
صراحة التوراة الرائجة في نقلها استعفاء موسى من الرسالة بلسان غير لين ولا
موافق للأدب فصار يحمل ذلك على عاتق القرآن وحاشا وكلا. ففي رابع
الخروج " 10 " فقال موسى للرب: استمع أيها السيد لست أنا صاحب كلام
منذ أمس ولا أول أمس ولا من حين كلمت عبدك، بل أنا ثقيل الفم واللسان
" 11 " فقال له الرب: من صنع للإنسان فما أو من يصنع أخرس أو أصم أو
بصيرا أو أعمى؟ أما هو أنا الرب " 12 " فالآن اذهب وأنا أكون مع فمك
وأعلمك ما تتكلم به " 13 " فقال استمع أيها السيد أرسل بيد من ترسل " 14 "
فحمى غضب الرب على موسى وقال: أليس هارون اللاوي أخاك أنا أعلم أنه
هو يتكلم إلى آخره.
وأنك لترى أن سوق الكلام القول المنسوب إلى موسى أخيرا: " استمع
أيها السيد أرسل بيد من ترسل " يعطي ما معناه أني لا أعتمد على هذا الوعد
ولا أصغي إلى هذه الحجة، بل اختر لرسالتك رسولا غيري. وحق أن يحمي
غضب الله لذلك اللهم إني أعوذ بك أن انسب مثل هذا لقدس رسولك

128
وكليمك موسى. وأن انسب لجلال وجهك أن ترسل من يرد عليك بمثل هذا
الرد.
وأما قول المتكلف فيما تقدم من كلامه إنما دأب القرآن الاستخفاف
بالذنوب فنقول فيه: إن القرآن الكريم كلام الله العليم الحكيم لم يجر على مجرى
العهدين الرائجين في الوقيعة بقدس موسى والأنبياء ونسبة فضائح الذنوب
والكفر إليهم كما سنذكر بعضه في هذه المقدمة إن شاء الله ولم يكن القرآن
ليجمع على العقل والنقل بين المتناقضين وهما الرسالة وقبائح الذنوب.
وأما قوله: إن موسى ترك الأفضل فهو من الظرائف أفما ذكر عنه في
التوراة في خطابه مع الله يعد من ترك الأفضل، أو أن ترك الأفضل يستدعي
غضب الله، ولعل المتكلف سمع من المسلمين بلفظ ترك الأفضل ولم يصل إلى
حقيقة المراد منه.
وأما ما ورد في القرآن الكريم في سورة الكهف 64 - 82 في الحكاية عن
شأن موسى والرجل الذي آتاه الله شيئا من علم الغيب من قوله تعالى:
(فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما) إلى قوله
تعالى: (وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرا) فقد حاول
المتكلف " يه 1 ج ص 42 " أن يجعل فيه قدحا بقدس موسى وأنى له ذلك.
ولنكشف نقاب الغفلة عن وجه هذه الآيات، فلا يذهب عليك أن الله
جلت عظمته وعظمت آلاؤه قد قسم رحمته وفضله على عباده حسبما اقتضته
حكمته في خلقه فأنعم على هذا العبد الصالح الذي يقال إنه الخضر بشئ من
علم الغيب وأسرار الحقائق، وأنعم على موسى كليمه فخصه في ذلك العصر
بسيادة الرسالة بالشريعة وحقائق العرفان بالله وقوانين السياسة المدنية والسيطرة
على تربية الناس وتأديبهم على ذلك بالدعوة إليه والاجراء له حسب فرصة
الوقت من الاجراء بالقول والفعل وعلى حكمة التمدن من مراعاة ظاهر الحال
وحجبه عن علم الغيب الذي لا مسيس له بحكمة وظيفته، فلما اجتمع موسى
مع ذلك العبد الصالح طلب منه أن يطلعه على شطر مما منحه الله من علم
الغيب ولم يتواطئا على أن يكون كل ذلك بأسرار الأفعال الجارية بحسب

129
ظواهرها على خلاف الشريعة التي جعل تبليغها وسيطرتها لموسى، فكان العبد
الصالح يفعل الأفعال على مقتضى حقائقها وأسرارها الغيبة، وكان موسى
يعترض فيها على مقتضى وظيفته في القوانين الشرعية والسياسات المدنية.
ولم يظهر من القرآن أن موسى كان مذعنا بعصمة ذلك العبد الصالح في
جميع أفعاله عن الخطأ والجهل ليكون الاعتراض من موسى عليه مناقبا للإذعان
بعصمته فيسوغ لموسى السكوت عما يخالف ظاهرة الشريعة إلى أن يخبره بسره
الغيبي، ولم يظهر من القرآن أن ذلك الرجل كان رسولا واجب العصمة. نعم
يظهر من القرآن أن موسى كان معتقدا بصدقه في دعواه بأن ما صدر من أفعاله
المشار إليها إنما هو لكشف غيبي، ووصول إلى حقائقها لا لغفلة أو خطأ في
شريعتها.
هذا ويجوز أن يكون اعتراض موسى على وجه الاستعلام عن الحقيقة
والاستكشاف لغيبها، ويكون قوله شيئا أمرا وشيئا نكرا، إنما هو بحسب
مزاعم الناس الذين لا يعلمون بحقيقة الرجل واطلاعه على بعض الغيب فلا
ينبغي لغير المتسرع في غفلاته أن يتوهم في دلالة الآيات شيئا من القدح بقدس
موسى.
ثم قال المتكلف في هذا المقام " يه 1 ج ص 42 " والظاهر أن محمدا أخذ
هذه القصة من أقوال أهل عصره أو من خرافات اليهود فإنه لا وجود لها في
التوراة التي هي أقدم كتاب في الدنيا.
قلت: من أين للمتكلف حصر الحقائق والوقائع التاريخية بما ذكر في
التوراة، ومن أين له أن التوراة أقدم كتاب في الدنيا؟ أفتقبل هذه الدعاوى
الكبيرة بلا برهان مقبول؟
وكأن المتكلف لا ينزه القرآن من الخرافات حتى يذكر ما في التوراة من
خوف الله من آدم أن يأكل من شجرة الحياة لأنه صار مثل الله في معرفة الخير
والشر " انظر تك 3: 22 ".
وأكل الملائكة من الزبد واللبن والعجل الذي قدمه لهم إبراهيم: " تك
18: 8 ".

130
ومصارعة يعقوب مع الله حتى أنه لم يقدر على يعقوب فطلب منه أن
يطلقه فلم يطلقه حتى باركه " انظر تك 32: 22 - 30 ".
ومخادعة صفوره لله حين التقى موسيى وطلب أن يقتله بعد أن أرسله
ووعده " انظر خر 4: 24 - 27 "، وفي هذا المقدار كفاية فإن الإكثار منه يخرج
عن حد البحث إلى سوء القالة.
وأما قوله تعالى في سورة الشعراء 42 (قال لهم موسى ألقوا ما أنتم
ملقون) فلم يكن قول موسى فيه لسحرة فرعون إذنا في السحر أو بعثا عليه
ليكون قد فعل حراما بذلك كما زعم المتكلف، بل إنما حقيقته اختياره التأخر في
إلقائه العصا عما صمموا عليه من السحر بإلقاء حبالهم وعصيهم، كما يفيده
قوله تعالى (ما أنتم ملقون) أي ما أنتم مصممون على إلقائه حيث جمعهم
فرعون ليقابلوا بسحرهم معجزة موسى، ويكشف عن ذلك قوله تعالى في سورة
الأعراف 112 (قالوا يا موسى أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين).
113 قال: ألقوا، وفي سورة طه 68 (قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن
نكون أول من ألقى 69 (قال بل ألقوا).
وإنا لنسأل المتكلف من أين أخذ قوله قال علماء الإسلام: إنه أذن لهم في
السحر، وإن السحر كان جائزا.
ولا نقل للمتكلف أن العهد القديم يذكر عن إيليا النبي أنه أمر أنبياء
البعل " صنم " أن يذبحوا له محرقة ويدعوا باسم آلهتهم ففعلوا ذلك باقتراحه
حسب العادة في عبادة المشركين من الصباح إلى الظهر قائلين: يا بعل أجبنا،
كل ذلك بمحضر إيليا وبني إسرائيل، وزاد إيليا على ذلك بقوله: ادعوا بصوت
عال لأنه إله لعله نائم ونحو ذلك، كل هذا ليظهر لهم معجزته " 1 مل 18:
23 - 30 ".
لأنا نقول لك أولا: لا قياس بين الأمرين فإن موسى لم يأذن بمقتضى
القرآن بالسحر ولا اقتراحه ابتداء ولا بعث عليه كما ذكرنا بخلاف ما يذكره
العهد القديم عن إيليا من أنه هو المقترح للعبادة الشركية للبعل والباعث عليها
فسماه إلها.

131
" وثانيا " إن المتكلف لا يتحاشى في هذا الحال عن أن يقول نعم إن إيليا
أخطأ هاهنا وتحمل إثم العبادة الشركية وفعل خلاف الأفضل دلالة على ضعف
الطبيعة البشرية كهارون وسليمان وغيرهما من الأنبياء.
وأما قوله تعالى في شأن موسى في سورة الأعراف 149 (ولما رجع موسى
إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى
الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه) فلم يعين القرآن أن أخذ موسى رأس
أخيه وجره إليه كان على وجه الإهانة والإذلال في التعزير بحسب متعارف ذلك
الوقت في بني إسرائيل، بل يجوز أن يكون بحسب المتعارف من أحوال بني
إسرائيل من أهون أوضاع العتاب فإن العهدين ليوضحان بنقلهما لسير بني
إسرائيل أنهم كان عندهم تمزيق الثياب عند الغضب والتألم بمنزلة الحولقة
والتمرغ على الأرض بمنزلة الاسترجاع " انظر أقلا إلى السقوط على الأرض
وتمزيق الثياب من أنبيائهم وملوكهم الذين هم أولى بالوقار والتحمل " تك 37:
29 و 34 وعد 14: 5 و 6 و 16: 4 و 22 و 45 و 20: 6 ويش 7: 6
و 2 صم 1: 11 و 3: 31 و 13: 31 و 2 مل 2: 12 و 5: 7 و 19: 1
و 22: 11 وخر 11: 1 ومت 26: 65 ".
وقد كان موسى حينئذ حريا بالغضب لله إذ شاهد ذلك الأمر العظيم من
قومه، وأن المتكلف " يه 2 ج ص 56 س 4 " جعل ما ذكره القرآن من فعل
موسى مع هارون من فعل السفهاء.
وانطر أنت إلى ما نذكره في هذا الفصل مما نسبته التوراة الرائجة لموسى في
خطابه مع الله وقل إنه كخطاب من يكون، وفي خامس الخروج " 22 " فرجع
إلى الرب وقال: يا سيدي لماذا أسأت إلى هذا الشعب لماذا أرسلتني؟.
وفي الثاني والثلاثين إذ عبد بنو إسرائيل العجل نسب إلى موسى أنه قال
لله " 32 " والآن إن غفرت خطيئتهم وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت.
وفي حادي عشر العدد " 11 " فقال موسى للرب لماذا أسأت إلى عبدك؟
حتى أنك وضعت ثقل جميع هذا الشعب علي " 12 " لعلي حبلت بجميع هذا

132
الشعب أو لعلي حتى تقول احمله في حضنك " 15 " فإن كنت تفعل بي هذا
فاقتلني قتلا.
ولما وعده الله بقول التوراة عند ذلك أن يخفف عنه ثقل بني إسرائيل
ويطعمهم اللحم شهرا من الزمان " 21 " فقال موسى ستمائة ألف هو الشعب
الذي أنا في وسطه، وأنت قلت أعطيهم لحما ليأكلوا شهرا من الزمان " 22 "
أيذبح غنم وبقر ليكفيهم أم يجمع لهم كل سمك البحر ليكفيهم " 23 " فقال
الرب لموسى هل تقصر يد الرب الآن ترى يوافيك كلامي أم لا إنتهى.
فانظر يا ذا المعرفة واللسان ولحن المحاورات ومواقع الأدب والجرأة
والطلب والشك والتهكم والسخرية وسوء الأدب في الكلام، والتفت إلى مواقع
هذا الكلام المنسوب لموسى مع الله وحاشاه.
وانظر أين الأقوال الأخيرة من قول الله في القرآن الكريم: (رب أرني
كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي).
أفقول إبراهيم هذا مع اعترافه بالإيمان وطلبه لاطمئنان قلبه بانضمام
الحس إلى العقل يكون شكا في قدرة الله، أم هذا القول المنسوب صدوره
لموسى بعد ما رأى من آيات الله العظيمة في مصر وبعد خروجهم منها ما رأى
سيما وقد رأى كيف أنزل الله عليهم المن في برية سين قبل ورودهم برية سينا
حسب كفاية بني إسرائيل وزيادة " خر 16: 1 - 6 " وبمقتضى التوراة أن هذا
الكلام المنسوب لموسى كان في قبروت هتاوه إذ اشتهى بنو إسرائيل اللحم بعد
أشهر من نزول المن " عد 11: 4 - 34 ".
ثم انظر أيها الفطن إلى أنه هل تليق هذه الأقوال والمخاطبات لله العظيم
بوظائف الأنبياء المرسلين لأجل ردع الناس عن مثل هذه الجرأة على الله،
وتعريفهم عظمة الله وحكمته وقدرته وتعليمهم أن أوامره نعمة وتكاليفه لطف
ونبوته عناية ورحمة ورسالته فضل منه وتحمل مشقاتها عبادة وجهاد في سبيله وأن
الذي يمحى من كتابه من الهالكين.
وذكرت التوراة عن قول الله في شأن موسى وهارون إنهما لم يؤمنا بالله

133
" عد 20، 12 " وعصيا قوله عد " 27: 14 " وخاناه " تث 32: 51 " حتى
أن موسى فرط بشفتيه " مز 106: 33 " وليت شعري ماذا فرط بشفتيه وحاشاه
ومع هذا كله والمتكلف يقول ويكتب " يه 1 ج ص 42 س 18 ".
أما التوراة فلم تذكر يعني في شأن موسى سوى أنه اعتذر بثقل لسانه،
ولعله يقول أيضا: أن اعتذار موسى كان بألين الكلام وأحسنه أدبا فيا لهفاه على
الناس لو كانت رسل الله إليهم ودعاتهم إلى الحق وإدلاؤهم إلى الله وهداتهم إلى
الرشد على مثل هذه الصفات وحاشا لله من ذلك.

134
الفصل الثامن
في رسالة هارون وما ذكر في شأنه
أما رسالته في القرآن الكريم فيكفي فيها قوله تعالى في سورة مريم 54
(ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا) وفي سورة قد أفلح 47 (ولقد
أرسلنا موسى وأخاه هارون).
وأما في العهدين ففي السابع من الخروج " 1 " فقال الرب لموسى انظر أنا
جعلتك إلها لفرعون وهارون أخوك يكون نبيك، ولئن أبيت هذا فيكفي من
التوراة صراحتها بأن الله كلم هارون في أمور الشريعة ولوازم الرسالة مع موسى
ومنفردا ففيها ما لفظه وكلم الله موسى وهارون وقال الله لموسى وهارون ما يزيد
على ثلاثة عشر موردا " انظر أقلا خر 7: 8 و 12: 43 ولا 11: 1 "، وكلم
الرب هارون " لا 10: 8 "، وقال الرب لهارون: " عد 18: 1 و 20 ".
وفي الثاني عشر من صموئيل الأول " 8 " أرسل الرب موسى وهارون وفي
المزمور الخامس عبد المائة " 26 " أرسل موسى عبده وهارون الذي اختاره وفي
المزمور السادس عبد المائة " 16 " وهارون قدوس الرب.
وفي التوراة أنه ظهرت على يده معجزة عصاه ويكفي من ذلك " خر 7:
10 و 20 " وأنه صنع الآيات أمام عيون الشعب " خر 4: 30 ".
وأما ما ذكر في شأنه فقد ذكرنا عن التوراة قولها في شأنه وشأن موسى قولها
أنهما لم يؤمنا بالله وعصياه وخاناه.

135
وفي الثاني والثلاثين من الخروج " 1 " ولما رأى الشعب أن موسى أبطأ في
النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون وقالوا له: قم اصنع لنا آلهة تسير
أمامنا.
" 2 " فقال لهم هارون انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم
وبناتكم وائتوني بها، فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها
هارون.
" 4 " فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالازميل وصنعه عجلا مسبوكا فقالوا
هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر.
" 5 " فلما نظر هارون بني مذبحا أمامه وقال غدا عيد الرب.
" 6 " فبكروا في الصباح واصعدوا محرقات وقدموا ذبائح.
فأقول: وإن ما تذكره التوراة من صنع هارون العجل إجابة لطلب بني
إسرائيل منه أن يصنع لهم آلهة، لهو بمنزلة الإخبار القولي الصريح بأن العجل
إلههم، وبمنزلة الدعوة الصريحة إلى عبادته، وزاد على ذلك في الصراحة بأن بنى
مذبحا أمام العجل ونادى بالعيد على الرسم المألوف للعبادة، بل إن بناءه
للمذبح ونداءه للعيد عبادة منه في الظاهر للعجل الذي تبانوا على أنه إلههم.
فإذا كان الاعتقاد في هذا المقام موافقا للقول والعمل، كان القول والعمل
عبادة ظاهرا وواقعا، وإن كان الاعتقاد مخالفا لهما كانا عبادة منه في محض
الظاهر، وينضم إلى قبحها قبح الإضلال للناس وحملهم على الشرك بالله كفعل
إبليس، وعلى كل حال فالتوراة الرائجة صريحة في أن هارون وحاشاه صنع
العجل ليتخذه بنو إسرائيل إلها لهم وعبده وأمر بعبادته ولم تتعرض لبيان أن
اعتقاده كان مخالفا للظاهر.
وقد أنكر المتكلف " يه 1 ج ص 35 " على صاحب السيف الحميدي قوله
ورد في سفر الخروج أن هارون صور العجل وعبده وأمر بني إسرائيل بعبادته
فجعل المتكلف هذا القول افتراء على هارون فرية كبرى.
فأقول: أولا لا يخفى على الغبي أن صاحب السيف الحميدي كان

136
باعتراضه منزها لهارون والتوراة الحقيقية عن هذه النسب، بل يقول إن هذه
الأقوال افتراء على هارون قدوس الله وعلى التوراة الحقيقية كتاب الله.
" وثانيا " إن قول التوراة الرائجة فلما نظر هارون بنى مذبحا أمامه ونادى
غدا عيد الرب قد بتره المتكلف عند نقله لهذا المقام ليموه اعتذاره البارد بأن
هارون طلب من بني إسرائيل أقراط الذهب ليصرفهم ويماطلهم في مطلوبهم إلى
أن يأتي موسى.
أجل فلماذا فعل وصنع العجل الذي أرادوه إلها؟ أوليس اللازم على
المؤمن فضلا عن النبي الرسول أن يبذل نفسه وما يعز عليه في المحاماة عن
التوحيد، ولماذا لما سمعهم يقولون عنه هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من
أرض مصر ورأى عكوفهم عليه على أنه إله بنى مذبحا أمامه ودعى للعيد.
وأن المتكلف هل يحصر العبادة بوضع خاص أو قول خاص، أوليس من
الواضح أن أولاها وأظهرها القول والإعلام بأن هذا إله، ثم التطوع له
وترتيب آثار الألوهية، وقد نسبت التوراة الرائجة كل هذا لهارون.
فيا أيها الذين لا يجوزون كذب النبي في التبليغ، ولا يجوزون على الله أن
يرسل النبي الكاذب في تبليغه كيف جوزتم على النبي الرسول أن يصنع وثنا لمن
يدعوه إلها ويدعو إلى الشرك بالله وعبادة الأوثان ويعين عليهما بفعله وجعلتم ما
تضمن ذلك من الوحي والإلهام.
وليت شعري كيف يجتمع هذا الذي تذكره التوراة في شأن هارون مع ما
ذكرته قبل ذلك من تكليم الله لموسى في شأن هارون أيضا وزيادة عنايته به في
استخدامه زيادة على النبوة والرسالة بتوظيفه للكهنوت والرئاسة الدينية للتقديس
وتكفير الخطايا وتعليم الشريعة وسدانة خيمة الاجتماع وزاد في العناية بالتفصيل
الضافي لثياب كهنوته للمجد والبهاء وتلوينها وتزيينها وترصيعها وكان هذا
التكليم المطنب على طور سينا في صعود موسى الذي تذكر التوراة أن هارون
صنع في أثنائه العجل إلها لبني إسرائيل وعبده ودعا لعبادته حينما أبطأ موسى في
النزول من الجبل " انظر إلى الثامن والعشرين من الخروج بتمامه ولاحظه مع " خر
24: 12 - 32: 9 ".

137
وأسأل المتكلف هل كان الله يعلم حينئذ بما يصنعه هارون من العجل
وعبادته والدعوة إليها وتساهل معه أو تقول غير ذلك تعالى الله علوا كبيرا.
وكيف ثم كيف يجوز العقل والعقلاء أن يرسل الله رسولا ويوظفه لخدمته
في الوظائف العظيمة وحفظ شريعته ويؤيده بإظهار عنايته به مع أن ذلك الرجل
يساعد على الضلال والشرك ثم يظهره أو يعتقده ويدعو إليه ويغوي المؤمنين.
أترى أن واحدا من ملوك الدنيا يعتني هذه العناية بمن يعلم أنه يضل
رعيته ويهيأ لهم التمرد على شريعته وسلطانه، أوليس أهون من ذلك أن يكون
الرسول موحدا في الظاهر والباطن محافظا على التوحيد والدعوة إليه ولكنه يكذب
قليلا أو كثيرا في تبليغ الأحكام التي لا تضر بأصل الإيمان وجوهر الشريعة.
ومن الظرائف فرار بعضهم كصاحب ميزان الحق إلى إنكار نبوة هارون
ورسالته فكابر في ذلك ما ذكرنا من صراحة العهدين.
ولقد صرف المتكلف فيما نحن فيه كلاما كثيرا لا ينفعه حتى في المغالطة
انظر إلى " يه 1 ج ص 36 و 37 ".
واستشهد أيضا حيرة منه بآيات كثيرة من القرآن الكريم تنقض عليه
بصراحتها غرضه.
ومنها قول الله جل اسمه في سورة طه 87 - 95 وآخرها قوله تعالى:
(ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمان فاتبعوني
وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى).
أفترى المتكلف توهم من هذه الآيات وخصوص الأخيرة أن معناها أن
هارون صنع العجل إلها لبني إسرائيل وإجابة لطلبهم ذلك منه، وبنى مذبحا
ودعى إلى العيد.
ثم إن المتكلف لما شعر بارتباكه في هذا المقام ولم يجد من طول كلامه طائلا
فر إلى الانتقاد بوهمه على القرآن ورسول الله ونسب " يه 1 ج ص 37 " الخلط
والغلط بتسميته صانع العجل المذكور بالسامري وجعلها من الجهل التام

138
بالتاريخ وبعلم توقيع البلدان وادعى بغفلته " يه 2 ج ص 55 " أنه لم يكن في
عصر موسى شئ يقال سامرة ولا سامرى.
فأقول: والذي دعى المتكلف إلى هذا التهور والإقدام ما في السادس
عشر من الملوك الأول في التراجم العربية الجديدة في ذكر عمري ملك إسرائيل
الذي ملك بعد سليمان بن داود بخمسين سنة تقريبا " 24 "، واشترى جبل
السامرة من شامر بوزنتين من الفضة وبنى على الجبل ودعى المدينة التي بناها
باسم شامر السامرة، فأضاف المتكلف إلى ذلك بوهمه مقدمتين إحداهما أنه لم
يقع في خلق الله في جميع الأمكنة والأزمنة منشأ للتسمية بالسامري حتى بنى
عمري مدينته المذكورة، " وثانيهما " أن القرآن تبع في تسميته صانع العجل
بالسامري لما ذكرناه عن الملوك الأول، وأن دعوى هاتين المقدمتين لتحتاج إلى
الإلهام ولعل المتكلف يدعيه ولم يختص بهذا بل سبقه إليه المتعرب " ذ ص 50 "
فادعى أنه لا يمكن أن يكون في بني إسرائيل على عهد موسى سامري وأن هذا
النعت لم ينعت به إلا بعد جلاء بابل.
إذا سمعت هذا فاعلم أنه كل ما جاء في العهد القديم من اسم السامرة
المذكورة فإنما لفظه في الأصل العبراني " شمرون "، وعلى ذلك جرت النسخة
الفارسية المطبوعة في ادن برغ سنة 1845 و 1846 حتى في العهد الجديد الذي
ترجمه هنري مارتن، وعليه أيضا جرت النسخة العربية المطبوعة سنة 1811 م
في العهد القديم منها. والترجمة العبرانية للعهد الجديد وجرت على نهج الأصل
العبراني للعهد القديم فسمت السامري " شمروني "، والسامرية " شمرونيت "
والسامريين " شمرونيم "، " انظر أقلا مت 10: 5 ويو 4: 4 و 9 و 8:
48 ".
ولا بد أن يتضح لك من ذلك أن سامرة وسامر تعريب شمرون في اللغة
العبرانية، وسامري تعريب شمروني، وسامريين تعريب شمرونيم.
وحينئذ فاعلم أنه لا ينحصر وجه التسمية بالسامري بالنسبة إلى ما بناه
عمري بعد زمان سليمان، بل إن من المدن التي افتتحها يوشع بن نون ووقعت
في سهم سبط زبولون مدينة شمرون، وكان لها ملك فلا بد أن تكون موجودة

139
في عصر موسى لقرب الزمان " انظر إلى يش 11: 1 و 12: 20 و 19:
15 " فيكون تعريبها سامرة، والمنسوب إليها سامري، وهذا كاف في جهل
المتكلف والمعرب.
ويبقى السؤال على كثير من تراجم العهدين بالعربية، وهو أنه لماذا عربوا
شمرون مدينة عمري بالسامرة وتركوا في التعريب شمرون التي افتتحها يوشع في
تراجمهم على حالها.
دع هذا فحقيقة الحال أن من أولاد يساكر ابن يعقوب من اسمه
" شمرون " " تك 46: 13 وعد 26: 24 وأي 7: 21 ".
وكان بنوه من عشائر بني إسرائيل المعدودين في الجند على عهد موسى
وسميت عشيرتهم في الأصل العبراني " هشمرونيم " " عدد 26: 24 "
وبمقتضى ما ذكرنا من التعريب يكون اسمهم في العربية السامريين وواحدهم
سامري، ولئن تهازل المتكلف معجبا بعلمه ومعارفه.
وقال " يه 1 ج ص 37 " لا نعلم من أين أتى هذا السامري هل نزل من
السماء أم طلع من الأرض؟
قلنا إنا لنعذرك في مبلغ اطلاعك وتهوراتك ونخبزك بمقتضى العهد
القديم أنه جاء من سبط يساكر من عشيرة " هشمرونيم " باللفظ العبراني
والسامريين بالعربي.

140
الفصل التاسع
في رسالة أيوب وما ذكر في شأنه
أما نبوته ورسالته في القرآن الكريم فيكفي فيها أن عده الله في عداد من
أوحى إليه من الرسل المبشرين والمنذرين لتقوم بهم الحجة " انظر إلى سورة
النساء 161 - 163.
وجاء في شأنه قوله تعالى في سورة ص 44: (إنا وجدناه صابرا نعم
العبد إنه أواب ".
وأما نبوته في العهدين فقد تكرر ذكر تكليم الله له ووحيه إليه " انظر أي
38: 1 و 40: 1 و 6 و 42: 7 ".
وما يدل على أنه كان عظيما عند الله يخلص نفسه ببره " مز 14: 14
و 20 " وأنه ليس مثله في الأرض رجل كامل ومستقيم يتقي الله ويحيد عن الشر
" أي 1: 8 و 2: 3 ".
وفي الخامس من رسالة يعقوب " 11 " قد سمعتم صبر أيوب.
ومع ذلك قد جاء عنه في العهد القديم من الاعتراض على أمر الله،
والضجر من ابتلائه، وسوء الأدب، في الاعتراض على الله والتألم من الوعظ
والإرشاد ما لا ينبغي أن يصدر من أجهل جهال الأشرار.
فقيل عنه إنه جعل القضاء ظلما بكلام بلا معرفة " أي 38: 2 " وصار

141
يطلب المحاكمة مع الله " أي 19: 7 و 23: 3 - 9 " ويعرض بنسبة الظلم
إليه تعالى الله عن ذلك " أي 10: 3 و 19: 7 " وإن الله نزع حقه " أي
27: 2 " ولفق فوق إثمه " أي 14: 17 ".
وانظر الكلام المنسوب له في السفر المسمى باسمه تجد العجب العجيب
" انظر أقلا أي 9: 21 - 24 و 28 - 35 و 10: 1 - 8 "، فهل يجتمع صدق
هذا النقل عنه مع صدق المنقول في رسالة يعقوب. قد سمعتم صبر أيوب،
وهل يجتمع هذا مع النبوة والرسالة التي من مهمات مقاصدها قطع مادة هذا
الفساد.

142
الفصل العاشر
في نبوة داود وما ذكر في شأنه
أما نبوته في القرآن الكريم فيكفي فيها قوله تعالى في سورة بني إسرائيل
(ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا ". وعده في جملة
الرسل الموحي إليهم كما في سورة النساء 161 - 163، (وانظر إلى سورة
الأنعام 84 - 90.
وأما في العهدين ففي الثالث والعشرين من صموئيل الثاني 1 وحي داود
ابن يسي ووحي الرجل القائم في العلا روح الرب تكلم بي وكلمته على لساني 3
قال إله إسرائيل إلي تكلم صخرة إسرائيل.
وفي ثاني عشر مرقس 36 لأن داود يدعوه بالروح القدس ربا، ونحوه في
الثاني والعشرين من متى.
وفي ثاني الأعمال 30 صرح ما عن بطرس بأن داود كان نيبا، وفي أول
رسالة العبرانيين المنسوبة إلى بولس استشهد بفقرات عديدة من المزامير وجعلها
قول الله.
وأما ما ذكر في شأنه ففي القرآن الكريم في سورة ص 20 (وهل أتيك
نبوء الخصم إذ تسوروا المحراب) 12 إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا
تخف خصمان بغى بعضنا على بعض - 22 إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة
ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني بالخطاب 23 قال لقد ظلمك بسؤال

143
نعجتك إلى نعاجه - وظن داود إنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب).
قال المتكلف يه 1 ج ص 47 كل من أوتي ذرة من الفهم جزم بأن هذه
الأقوال مأخوذة من التوراة.
يعني أنها مأخوذة من الحادي عشر من صموئيل الثاني حيث ذكر فيه أن
داود وحاشاه زنى بامرأة أوريا الحثي الذي هو من جنده المؤمنين على علم بأنها
امرأة أوريا وذات بعل فحملت منه وحاول أن يموه حملها منه ويلصقه بأوريا
زوجها ثم سعى في قتل أوريا، وقد تشبث المتكلف لدعوى مطابقة الآيات في
المراد لما ذكرنا عن صموئيل الثاني بأقوال بعض المفسرين حيث ذكروا في تفسيرها
نحو ما ذكر في صموئيل من الزنا وإلقاء أوريا للقتل وقد قدمناه في المقدمة
السابعة أن مثل هذه الأقوال لا تحتفل بها الجامعة الإسلامية ولا يصح الجدل
بها، وأن التشبث بها إنما هو من ضيق الخناق خصوصا مع مصادمتها لحكم
العقل بعصمة النبي ومعارضتها بما حكاه المتكلف " يه 1 ج ص 49 " عن تفسير
النسفي وغيره من أن داود وقعت عينه على المرأة فأحبها فسأل أوريا النزول له
عنها فاستحيا أن يرده ففعل فتزوجها.
وما نقله أيضا " يه 1 ج ص 50 " مما روى عن علي عليه السلام أنه قال
من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وهي حد
الفرية على الأنبياء فسمى عليه السلام رواة ذلك قصاصا وهم المعتمدون على
الخرافات التاريخية، وصرح بأنه فرية على النبي.
وروى الراوندي في قصص الأنبياء عن الإمام السادس من أهل البيت
جعفر بن محمد عليهما السلام روايتين بهذا المضمون وتبرئة ساحة داود عن هذا
الافتراء.
فمن الوهم البين قول المتكلف قبل ذكر الرواية عن علي عليه السلام إن
عليا لم يكن زجره إنكارا لحقيقة القصة بل لصرف الناس عن المثالب.
وليت شعري ألم يفهم المتكلف معنى قوله عليه السلام حد الفرية على
الأنبياء ولم ينظر إلى معنى الفرية في كتب اللغة، هذا وقد رويت أيضا في تفسير

144
الآيات روايات متعددة مختلفة المضمون وكلها معارضة لما ذكره أولا عن المفسرين
ومبرئة بجامع مضمونها لداود عن الزنا وما بعده، فانظر إلى كتاب تنزيه الأنبياء
للسيد المرتضى " قدس سره " (1).
فأقول: إن من كان له من الفهم ما يهديه إلى الصواب ليجزم بأن مدلول
الآيات مباين للقصة المذكورة في حادي عشر صموئيل الثاني، فإن دعوى أحد
الخصمين إن كانت على سبيل المثل لفعل داود كانت هي وجواب داود في
القضاء بمقتضى القرآن يدلان على أن الصورة محض الطلب والسؤال للنعجة من
دون أخذ لها أو تصرف بها قهرا أو اختلاسا وبمقتضى قانون المثل في مطابقته
للممثل أن لا يكون داود تصرف بامرأة أوريا، وحيث أن الروايات المفسرة
للآيات زيادة على تعارضها فيما بينها لم يبلغ بعضها الحد الذي يصح الاعتماد
عليه أو الجدل به حسب القانون الذي ذكرناه في المقدمة السابعة فصواب القول
في الآيات هو إنها لا دلالة فيها على أن الخصمين من أي نوع كانا، ولا على أن
محاكمتهما كانت صورية لأجل التوبيخ لداود، ولا على أنه تسرع في القضاء،
ولا على أن فتنته وامتحانه بأي نحو كانا، فمقتضى ظاهر اللفظ أن المخاصمة
غير صورية، ومقتضى أن داود آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب كما في سورة ص
19، وأنه عن أحكام الله لم يمل لأن الله هو علمه ولم ينس شريعة الله ولم يضل
عن وصاياه " مز 119: 112 و 109 و 110 " هو أنه لم يتسرع في الحكم ولم
يجر على غير قانونه الشرعي.
وأما فتنته فيجوز في معناها أن يكون داود قد امتحنه الله بدخول الخصوم
من غير الموضع المعتاد للدخول ومخاصمتهم في أمر غير مهم كثيرا حتى فزع وفكر
في ذلك، وأنه ما عسى أن يكون هذا الأمر فشغل بفزعه وفكره زمانا عن
وظيفته وطريقته في محراب العبادة من النوافل والتسابيح المندوبة فخر راكعا
مسارعة إلى وظيفته وأناب إلى الله عما يعده في تقواه واجتهاده في العبادة زلة
من زلات المتقين فطلب من الله المغفرة والعود إلى مقامه الرفيع ومنزلة الصديقين
فقال الله جل شأنه في أثر الآيات 24: (فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى



(1) طبع في المطبعة الحيدرية في النجف الأشرف.
145
وحسن مآب)، وكيف يكون له عند الله زلفى وحسن مآب إذا كان قد اتبع
هواه مدة من الزمان كما يزعمون إلى الزنا بذات البعل وتسبيبه قتل زوجها، وقد
قال الله له 25: (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن
سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب).
وأن هاتين الآيتين الأخيرتين يتحصل منهما برهان استثنائي على أن داود لم
يتبع الهوى فلم يفعل خطيئة، وتقريره هو أن كل من يتبع الهوى له عذاب
شديد بحكم الآية الأخيرة، لكن داود ليس له عذاب شديد بل له عند الله
زلفى وحسن مآب بحكم الآية التي قبلها، فينتج بالبداهة أن داود لم يتبع الهوى
فكيف تفسر الآيات السابقة؟ أو يتوهم في معناها ما يناقض هذه النتيجة، وإذا
تدبرت هذا كله عرفت صواب الشيخ السنوسي وجرأة المتكلف عليه " يه 1 ج
ص 53 س 16 "، وسيعلمون غدا من أصحاب الصراط السوي ومن
اهتدى.
وفي المزمور المائة والتاسع عشر 101 من كل طريق شر منعت رجلي لكي
أحفظ كلامك 102 عن أحكامك لم أمل، لأنك أنت الذي علمتني 110 أما
وصاياك فلم أضل عنها.
وليت شعري كيف يجتمع هذا المنسوب إلى الإلهام والوحي مع ما سنذكره
من العهدين مما يشدد القدح في قدس داود، وكيف لا يتناقضان؟ وكيف يكون
التناقض؟.
ففي الحادي عشر من صموئيل الثاني 2 وكان في وقت المساء أن داود قام
عن سريره وتمشى على سطح بيت الملك فرأى من على السطح امرأة تستحم
وكانت المرأة جميلة جدا 3 فأرسل داود وسأل عنها فقال واحد: أليست هذه
بثشيع بنت اليعام امرأة أوريا الحثى؟ 5 فأرسل داود رسلا وأخذها فدخلت اليه
فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها ثم رجعت إلى بيتها 5 وحبلت فأرسلت
وأخبرت داود وقالت: إني حبلى، فأرسل داود على أوريا وجاء به من الحرب
وأمره أن يذهب إلى بيته " وغرضه أن يقارب أوريا امرأته فيتموه أمر الحمل "
فلم يمض أوريا إلى بيته مواساة لأصحابه المتجردين للحرب في سبيل الله مع

146
تابوت الله، ولما مضى أوريا إلى الحرب كتب داود إلى رئيس جيشه أن يجعلوا
أوريا في وجه الحرب الشديدة ويرجعوا من ورائه ليقتل ففعلوا وقتل أوريا وأخبر
داود بموته فأرسل إلى امرأته المذكورة فضمها إلى بيته فولدت له ولدا من حمل
ذلك الزنا " 2 صم 11: 6 - 27 " فأرسل الله ناثان النبي إلى داود وقال له قد
كان في مدينة رجلان واحد فقير له نعجة واحدة عزيزة عليه، وآخر غني له غنم
وبقر كثيرة جدا فأخذ الغني نعجة الفقير وهيأها لضيفه فقال داود يقتل هذا
الرجل ويرد على الفقير النعجة أربعة أضعاف " وفي النسخة السبعينية سبعة
أضعاف " فأخبره ناثان بأن هذا مثل له ووبخه عن قول الله على أفعاله وأن الله
سيكافيه ويسلط عليه من أهل بيته من يزني بنسائه قدام جميع إسرائيل وأخبره
بأن الولد المولود له من هذا الزنا سيموت، ولما مرض الولد صام داود لأجله
وطلب من الله شفائه وبات مضطجعا على الأرض ولم يأكل خبزا " 2 صم 12 -
18 ".
وقد نسب إلى داود هاهنا خطيئة أخرى وهو حكمه على آخذ النعجة
بخلاف شريعة التوراة إذ قد جمع عليه بين القتل وغرامة أربعة أضعاف النعجة
أو سبعة لأنه إن كان قد سرقها غرم أربعة أضعافها ولكن لا يهدر دمه مطلقا إلا
إذا وجد ينقب فضرب ومات فإنه ليس له دم، ولكن إن أشرقت عليه الشمس
فله دم " خر 22: 1 و 2 "، وأما إن كان قد غصبها فليس عليه إلا أن يعوض
عنها ويزيد عليها خمس العوض ويكفر بكبش صحيح ذبيحة اثم " لا 6: 1 -
8 ".
وأيضا قد نسب له مع أبشالوم ابنه ما ينجر إلى الخطيئة والتساهل في
تأديبات الشريعة وحدودها مع الأشرار المفسدين في الأرض لمحض الهوى وحب
الولد " انظر 2 صم 15 - 18: 33 ".

147
الفصل الحادي عشر
في نبوة سليمان وما ذكر في شأنه
أما نبوته في القرآن الكريم فقد ذكره الله جل اسمه في عداد الأنبياء من
ذرية إبراهيم في سورة الأنعام 84 وقال تعالى بعد تعدادهم 89 (أولئك الذين
آتيناهم الكتاب والنبوة).
وذكره أيضا في سورة النساء في عداد الرسل الموحي إليهم المصرح
برسالتهم 161 - 163.
وأما في العهدين ففي الثالث من الملوك الأول 5 والأول من الأيام الثاني
7 ترائى الله لسليمان وقال له: اسأل ماذا أعطيك؟
وفي العهدين أيضا فقال الله لسليمان: " 1 مل 3: 11 و 12 ى 1:
11 "، وفي السابع من الأيام الثاني 12 ما حاصله أن الله ترائى ثانيا لسليمان
وقال له: قد سمعت صلاتك.
وفي سادس الملوك الأول 11 وكان كلام الرب إلى سليمان.
وفي الثامن والعشرين من الأيام الأول عن قول داود عن قول الله له 6
وقال: إن سليمان ابنك هو يبني بيتي ودياري لأني اخترته لي ابنا وأنا أكون له
أبا. ونحوه في الثاني والعشرين من الأيام الأول 9 و 10، وسابع صموئيل
الثاني.

148
وأما ما ذكر في شأنه ففي القرآن الكريم في سورة ص 29 (ووهبنا لداود
سليمان نعم العبد إنه أواب 30 إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد 31
فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارث بالحجاب 32 ردوها علي
فطفق مسحا بالسوق والأعناق).
قال المتكلف " يه 1 ج ص 43 "، قد ورد في القرآن ما يفيد أنه اشتغل
بالأمور الدنيوية التي ألهته عن عبادة الله - والآيات دالة على أن الخيل ألهته عن
الصلاة.
أقول: لا ينبغي أن ينكر أن اقتناء سليمان للخيل واختياره لأحوالها كان
من الخير الراجح، لأن اقتناءها كان بمقتضى الحال لتثبيت مملكة الإيمان
والاستعداد لدفاع طغيان الوثنيين وعدوانهم، وربما يدل عليه قوله أحببت حب
الخير فلا وجه للقطع بأنه كان من اللهو الدنيوي كما توهمه المتكلف بل هو على
ما ذكرناه نحو من أنحاء العبادة ومقدمات المحافظة على الموحدين والجهاد في
سبيل الله، ومن أين في دلالة الآيات ما يفيد أنه اشتغل بالنظر إلى الخيل عن
عبادة واجبة حتى فات وقتها ليكون قد أذنب وفعل قبيحا. فلماذا لم يحتمل
المتكلف أن ذكر الرب في الآية كان من التسابيح المندوبة التي يجوز تركها وإن
كان عمدا فضلا عن الاشتغال عنها بخير آخر، ولكنها لما كانت من وظائف
سليمان المعتادة في ذلك الوقت أسف على فوات وظيفتها بسبب ما يمكن تحويله
إلى وقت آخر.
ويمكن أن يكون معنى باقي الآيات إن لم يكن هو الظاهر منها أن سليمان
رد الخيل إلى محالها ليدرك وقت الوظيفة من الذكر المعتاد له، ولما توارت
بالحجاب وفات وقت الوظيفة قال: ردوا الخيل علي ليعود إلى الخير الأول
فطفق يمسح بسوقها وأعناقها لأحد أمرين: إما لأنه أحب أن يتواضع لله ويعمل
عمل المتولين لخدمة الخيل وسواسها، وإما لأن يتآلفها ليتمكن منها وتجري على
إرادته عند الركوب، وكيف كان فإن قول الله جل اسمه عند صدر القصة في
شأن سليمان " نعم العبد إنه أواب "، مانع عن حملها على وجه يقتضي وقوع
سليمان في المعصية.

149
وقال الله تعالى في سورة ص أيضا 33 (ولقد فتنا سليمان وألقينا على
كرسيه جسدا ثم أناب 34 قال رب اغفر لي...).
فقال المتكلف " يه 1 ج ص 45 " إن هذه العبارات دالة بصراحة اللفظ
على وقوعه أي سليمان في الخطيئة.
أقول: إن من معاني الفتنة هو الامتحان والابتلاء وقد اقتضت الحكمة
ابتلاء سليمان فألقى على كرسيه جسدا فشغله ذلك عن تسابيحه المندوبة
ووظائفه المعتادة ولم يفعل بذلك ذنبا ولو تركها عمدا وابتداء ولكن اجتهاد الأنبياء
في العبادة يأبى ذلك بل يعدونه من الخسران وأسباب عدم الترقي بالطاعة إلى
المراتب السامية، فساء سليمان ذلك وأناب إلى ربه واستغفره لتقصيره عن
وظيفته الذي يعده الصديقون من الزلل ونقصان الربح فغفر الله له، ولعل ما
ناله بالإنابة إلى الله أفضل مما فاته.
ومما ينبغي الاعتبار به أن المتكلف تقول على القرآن وهذه الآيات.
فقال " يه 1 ج ص 43 " غير متحرج حتى من انتقاد الناس، أنه ورد في
القرآن أن سليمان سمح بعبادة الأصنام في بيته.
وتشبث لكل ما ادعاه هاهنا كعادته بأخبار بعض القصاص " انظر إلى يه
1 ج ص 44 و 45 " وأنه ليعلم أن جمهور المسلمين والجامعة الإسلامية لا
يحتفلون بها، وأنه لحق أن يقال له ماذا تصنع؟ أو ما سمعت المثل ولن يصلح
العطار ما أفسد الدهر.
فإن في الحادي عشر من الملوك الأول 4 وكان في زمان شيخوخة سليمان
أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى ولم يكن قلبه كاملا مع الرب إلهه كقلب
داود أبيه 5 فذهب سليمان وراء عشتاروت آلهة الصيدونيين وملكوم رجس
العمونيين 6 وعمل سليمان الشر في عيني الرب ولم يتبع الرب تماما كداود أبيه 7
حينئذ بنى سليمان مرتفعة لكموش رجس الموابيين على الجبل الذي تجاه أورشليم
ولمولك رجس بني عمون وانظر إلى " 2 مل 23 مل: 13 ".

150
وليت شعري هل عبادة الأوثان إلا أن يذهب ورائها ويعمل لها مثل ما
يعمله عبدتها لها كبناء المرتفعات ونحوه، وأن المتكلف قد هون هذا الأمر " يه 1
ج ص 43 " فقال ذكر في التوراة: إن النساء الغريبات أملن قلب سليمان حتى
بنى لآلهتهن المرتفعات.
ومن الاتفاق الظريف أن في العهدين كلمة تنقل عن قول الله قد لازمتها
العاقبة الغير المحمودة " وهي كلمة الابن ".
ففي رابع الخروج 22 يقول الرب إسرائيل ابني البكر 23 أطلق ابني
ليعبدني فكان عاقبة ذلك أن هؤلاء الذين قيل فيهم هذا قد تقلبوا في شركهم ما
شاؤوا كما سمعت في المقدمة الخامسة.
وفي الثامن والعشرين من الأيام الأولى في شأن سليمان اخترته لي ابنا وأنا
أكون له أبا.
ويقول الحادي عشر من الملوك الأول 5 - 8 إن هذا المختار مال قلبه إلى
الأوثان وذهب ورائها وعمل لها ما يعمله عبادها.
وفي ثالث متى في شأن المسيح 17 هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت
فكانت العاقبة ممن ينتمي إليه أن يقول إن الله ذو أقانيم ثلاثة فهو واحد وثلاثة.
هذا وقد نسب الحادي عشر من الملوك الأول إلى سليمان غير هذا من
المعاصي الكثيرة ومخالفات الشريعة، منها تزوجه بسبعمائة امرأة واتخاذه ثلاثمائة
من السراري " 1 مل 11: 3 ".
وقد حرمت التوراة على ملك بني إسرائيل كثرة النساء " تث 17: 17 "
ومنها تزوجه بالوثنيات وقد حرمته التوراة أيضا " خر 34: 16 وتث 7: 3
و 4 ".
ولا بد حينئذ من أن تكون مقاربة المرأة التي حرم التزويج بها من قسم
الزنا المحرم في التوراة " خر 20: 14 وتث 5: 18 ".
وعلى هذا فقد نسب إلى سليمان كثرة الزنا في كثير من عمره الشريف

151
وذلك من حيث تجاوزه المقدار الموظف له في الشريعة من النساء ومن حين تزوجه
بالمشركات.
فلينظر العاقل أنه هل يجوز في حكمة الله ولطفه أن يكون مثل من تنسب
له هذه الأمور نبيا بعث لإرشاد الخلق واختاره الله ابنا له وأوحى إليه مثل كتاب
الأمثال والجامعة المعدودين من كتب الوحي.

152
الفصل الثاني عشر
في نبوة اليسع وما ذكر في شأنه
أما نبوته في القرآن الكريم فقد ذكره في عداد الأنبياء الذين صرح بنبوتهم
في سورة الأنعام 86 - 89، وفي مقام آخر ظاهر في أنه لتعداد الأنبياء في سورة
ص 48.
وأما في العهدين فقد صرح بنبوته في أول التاسع من الملوك الثاني، وأما
ما ذكر في شأنه ففي الثامن من الملوك الثاني 7 - 9 أن بنهدد ملك آرام كان
مريضا فأرسل حزائيل مع هدية إلى أليشع ليسأله عن كلام الله أنه هل يشفى
من مرضه 10 فقال له أليشع: اذهب وقل له شفاء تشفى وقد أراني الرب أنه
يموت موتا.
وقد نسب إلى أليشع في ذل صريح الكذب على الوحي وكلام الله.
وفي السادس من الملوك الثاني 19 ما حاصله أن أليشع كذب على الجيش
الذي أرسله في طلبه ملك آرام ثلاث كذبات لم تلجأ إليها الضرورة كما ألجأت
إسحاق إلى قوله عن امرأته إنها أخته.

153
الفصل الثالث عشر
في نبوة ارميا وما ذكر في شأنه
أما نبوته ففي صريح السادس والثلاثين من الأيام الثاني 12 وثامن متى
17 وفي هذا المقدار كفاية لأهل الكتاب.
وأما ما ذكر في شأنه ففي العهدين في رابع كتابه المسمى ارميا عن قوله
10 فقلت آه يا سيد الرب حقا إنك خداعا خادعت هذا الشعب وأورشليم قائلا
يكون سلام وقد بلغ السيف النفس.
أقول: وليت شعري ماذا يقول المتكلف في هذا المقام؟ أيقول إن الله
جل شأنه متصف بهذا تعالى عن ذلك علوا كبيرا؟ أم يقولون إن هذا النبي
الموحى إليه بكثير من الغيب والمرسل لموعظة بني إسرائيل وإرشادهم لا معرفة
بالله ولم يسمع عن التوراة أقلا قولها إن الله ليس إنسانا فيكذب " عد 23:
19 ".
وفي خامس عشر صموئيل الأول 29 ونصيح إسرائيل لا يكذب أم
يقولون إن هذا النبي شاء أن يسب الله ويصفه بالكذب والخداع لينكشف
للناس علم الله وغناه وحكمته في إرساله، ولا أقل من أن يكون هذا الكلام
المعدود من الإلهام كذبا في تبليغ الناس وإرشادهم إلى العارف الحقة إذ نسب
هذه الصفة إلى الله تعالى، أم يقولون إن هذا الكلام وما يجري مجراه مكذوب
على الأنبياء مدسوس في كتب الوحي من تصرف الضلال أو من عبث الجهل،
فليعتبر ذو الرشد.

154
الفصل الرابع عشر
في نبوة حزقيال وما ذكر في شأنه
أما نبوته فضرورية عند أهل الكتاب والكتاب المنسوب إليه المشتمل في
أواخره على تبليغ الشريعة معدود من الكتب الإلهامية الصادرة عن الوحي وكلام
الله عند عامة أهل الكتاب ما عدا بقية السامريين.
وأما ما ذكر في شأنه فقد قدمنا عنه أنه أخبر في السادس والعشرين من
حزقيال عن قول السيد الرب في شأن تخريب نوبخذ راصر لصور ونهبه لثروتها
وغنيمة لتجارتها بتفصيل طويل الذيل، ثم ذكر عنه في التاسع والعشرين عن
كلام الرب إن نبوخذ راصر لم تكن له ولا لجيشه أجرة من صور وإن الله عوضه
عنها بمصر فراجع وافرض صحة ما تكلفه المتكلف ومع ذلك تجد ما بد من أن
يكون كذبا في التبليغ عن الله.

155
الفصل الخامس عشر
في رسالة المسيح وما قيل في شأنه
أما رسالته في القرآن الكريم فيكفي قول الله جل شأنه في سورة النساء
169: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما
المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله
ورسله ولا تقولوا ثلاثة إنتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له
ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا)، وقوله جل شأنه في
سورة المائدة 79: (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل
وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى
يؤفكون).
وأما رسالته في العهد الجديد فلا تحتاج إلى ذكر.
وأما ما ادعى في العهد الجديد من إشارة العهد القديم إليه وإلى نبوته
فسيأتي إن شاء الله إيضاح أن بعضها لا وجود له في العهد القديم، وبعضها لا
يمكن انطباقه عليه، وبعضها نص في سليمان بن داود وبعضها رموز تنطبق على
غيره كما تنطبق عليه، بل لعل انطباقها على غيره أولى.
وأما ما ذكر في شأنه فأمور:
" الأول " أن في سابع لوقا 34 وحادي عشر متى 19 ما يتضمن اعتراف
المسيح وحاشاه بأنه شريب خمر - أي كثير الشرب لها -، وفي السادس والعشرين

156
من متى 27 - 30، ورابع عشر مرقس 23 - 26 والثاني والعشرين من لوقا 17
و 18 ما يتضمن أنه حاشاه شرب الخمر وقال قول المودع لها المتأسف على
فراقها، وفي ثاني يوحنا 1 - 12 أنه وحاشاه حضر هو وتلاميذه في قانا الجليل
مجلس العرس الذي تشرب فيه الخمر ولما فرغت الخمر صنع لهم بطلب أمه ستة
أجران من الخمر الجيد فسقوا منه.
وليت شعري ما يصنع المتكلف وغيره بهذا إذا كانت الخمر حراما قطعا،
كما اعترف به المتكلف " يه 1 ج ص 13 "، وكذا سقيها كما في ثاني حبقوق
15، وكما سنوضحه إن شاء الله في موانع النبوة وبيان حرمتها خصوصا على
الأنبياء.
" الثاني " قد قدمنا في الفصل الرابع من الباب الثاني من هذه المقدمة
أنه قد ذكر عن قول المسيح في شأن معاصريه جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا
تعطى له آية إلا آية يونان النبي " مت 12: 39 ولو 11: 29 " الحق أقول
لكم لن يعطي هذا الجيل آية " مر 8: 12 ".
وذكرنا أن كل واحد من هؤلاء الثلاثة يذكر في إنجيله ما يكذب هذا
القول المنسوب إلى المسيح بنقله صدور الآيات بعد ذلك ويكذبه أيضا يوحنا
بواقعة إحياء العازر ويلزم من ذلك، أما نسبة الكذب إلى المسيح وحاشاه أو
كذب أصحاب الأناجيل فيما نقلوه من صدور الآيات بعد ذلك أو كذبهم في
نسبة هذا الكلام إلى المسيح أو كذب غيرهم في نسبة ذلك إليهم.
وأيضا ذكر عن قول المسيح لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام
وثلاث ليال، هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال
" مت 12: 40 ".
مع أن مقتضى الأناجيل الأربعة أنه لم يبق في قلب الأرض إلا ليلتين وهما
ليلة السبت وليلة الأحد ويوما كاملا وهو يوم السبت وشيئا يسيرا من يوم الجمعة
وشيئا يسيرا لا يذكر من يوم الأحد، فاختر لمن تنسب الكذب في هذا الأمر.
وأيضا في سابع يوحنا أن المسيح إذ كان في الجليل قريبا من عيد المظال

157
قال له إخوته أن يذهب إلى اليهودية ليرى تلاميذه أعماله، فقال لهم 8 اصعدوا
أنتم إلى هذا العيد أنا لست أصعد بعد إلى هذا العيد لأن وقتي لم يكمل بعد 9
قال لهم هذا ومكث في الجليل 10، ولما كان إخوته قد صعدوا صعد هو أيضا
إلى العيد.
وأيضا في حادي عشر متى عن قول المسيح في شأن يوحنا المعمدان 14
وإن أردتم أن تقلبوا فهذا هو إيليا المزمع أن يأتي مع أن في أول إنجيل يوحنا في
شأن يوحنا المعمدان 21 فسألوا إذا ماذا إيليا أنت؟ فقال: لست أنا وينتج من
هذين النقلين نسبة الكذب إلى أحد النبيين، إما إلى المسيح بقوله إن يوحنا هو
إيليا المزمع أن يأتي، وإما إلى يوحنا بقوله: إنه ليس إيليا مع أنه نقل عن قول
المسيح في شأن يوحنا، أنه نبي وأعظم من نبي " مت 11: 9 ".
" الثالث " في ثامن يوحنا عن قول المسيح إذ قال الفريسيون: أنت
تشهد لنفسك وشهادتك ليست حقا حيث قال 17.
وأيضا في ناموسكم مكتوب شهادة رجلين حق 18 أنا هو الشاهد لنفسي
ويشهد لي الأب الذي أرسلني وقد نسبوا إلى قدسه بهذا الكلام تمام الجهل
بحكم التوراة ومعرفة المكتوب وحكم القضاء شرعا وعرفا، فإن المدعي لا
يكون أحد الشهود البتة حتى عند الأوباش.
" الرابع " في ثالث عشر يوحنا بعد أن ذكر أخبار المسيح بأن واحدا من
تلاميذه سيسلمه 23، وكان متكئا في حضن يسوع واحد من تلاميذه كان يسوع
يحبه 24 فأومأ إليه سمعان بطرس أن يسأل من عسى أن يكون الذي قال عنه
25 فاتكأ ذاك على صدر يسوع وقال: يا سيد من هو انتهى، واعلم أن قوله
كان متكأ معناه أنه كان جالسا وشواهده من العهد الجديد كثيرة انظر أقلا إلى
" يو 2: 1 - 10 ومت 14: 19 و 15: 35 ومر 6: 39 ولو 9: 14
و 15 ويو 6: 10 و 11 ".
ولا تظن أن هذا التلميذ كان ابن أربع سنين أو ثلاث حتى لا يقبح
اتكاؤه وجلوسه في حضن المسيح، بل يدلك الحادي والعشرون من يوحنا 20 -

158
25 على أنه هو يوحنا بن زبدي الذي ينسب إليه هذا الإنجيل، وأنه قبل اتكائه
وجلوسه في حضن المسيح بنحو ثلاث سنين كان يصطاد السمك مع أبيه وأخيه
ويعمل في السفينة ويصلح الشباك " مت 4: 21 و 22 ومر 1: 19 و 20 "
فلا بد وأن يكون حين ما يدعى من جلوسه في حضن المسيح واتكائه على صدره
شابا في ريعان الشباب وغضارته، فانظر يا ذا الرشد والفهم الحر واعتبر في
أحوال البشر ونزاهة الأولياء وعفافهم وقل هل يجوز على قدس المسيح أن يجلس
في حضنه شاب غض في محفل من التلاميذ ويعطيه وجها حتى إذا أراد أن يكلمه
اتكأ على صدره كتغنج الفتاة المعجبة بجمالها المعتمدة على شغف زوجها بها.
أفهذا وضع رسول مرشد إلى الهدى والعفاف أم وضع... غفرانك الله
مما ذكرت فإني أردت إرشاد الجاهل وتنبيه الغافل وتنزيه مسيحك المقدس
ورسولك المكرم ليحيي من حي عن بينة.
" الخامس " في عاشر يوحنا في شأن المسيح 33 إجابة اليهود قائلين لسنا
نرجمك لأجل عمل حسن بل لأجل تجديف فإنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلها
34 أجابهم يسوع أليس مكتوبا في ناموسكم أنا قلت إنكم آلهة 35 أن قال:
آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله ولا يمكن أن ينقض المكتوب 36،
فالذي قدسه الأب وأرسله إلى العالم أتقولون له: إنك تجدف؟ لأني قلت: إني
ابن الله إنتهى.
فأقول في هذا الكلام وفرض نسبته إلى المسيح وحاشاه إن كان هذا
الاحتجاج بما في الناموس جدلا من المسيح لليهود وإسكاتا بما في ناموسهم لزم
أن يكون في ناموسهم ما ليس من الإلهام بل هو كذب عليه فجادلهم به المسيح
الزاما لهم وانتقادا عليهم، وهذا من شواهد التحريف الذي ادعيناه وإن كان
برهانا من المسيح لزم أن يكون معتقدا مصدقا بتعدد الآلهة وكثرتهم وحينئذ أين
يكون ما في التوراة ولا تذكروا اسم آلهة أخرى ولا يسمع من فمك " خر 23:
13 " لا يكن لك آلهة أخرى أمامي " تث 5: 7 " لتعلم أن الرب هو الإله
ليس آخر سواه، فاعلم اليوم وردد في قلبك أن الرب هو الإله في السماء من
فوق وعلى الأرض من أسفل ليس سواه " تث 4: 35 و 39 " أنا هو الرب

159
وليس إله معي " تث 32: 39 ".
وفي السابع عشر من الأيام الأول 20 يا رب ليس مثلك ولا إله غيرك.
وفي المزمور الثامن عشر 31 لأنه من هو إله غير الرب.
وفي الرابع والأربعين من أشعيا 6 هكذا يقول الرب ملك بني إسرائيل
وفاديه رب الجنود أنا الأول وأنا الآخر ولا إله غيري 8 هل يوجد إله غيري؟
إلى غير ذلك من العهدين.
وكيف أمكن أن ينقض هذا كله ويقال بتعدد الآلهة ولا يمكن أن ينقض
قول المزامير، أنا قلت: إنكم آلهة ولا يصرف عن ظاهره المدعى لأجل دلالة
العقل والنقل على توحيد الإله، هذا كله مع أن المزمور الثاني والثمانين المتضمن
لهذه الفقرة ظاهر بسوقه فضلا عن قرينة العقل في أن هذه الفقرة مسوقة للإنكار
لا للأخبار ففيه 2 حتى متى تقضون جورا وترفعون وجوه الأشرار سلا 5 و 3
أقضوا للذليل ولليتيم انصفوا المسكين والبائس نجوا المسكين والفقير من يد
الأشرار أنقذوا 5 لا يعلمون ولا يفهمون في الظلمة يتمشون تتزعزع كل أسس
الأرض 6 أنا قلت: إنكم آلهة وبنوا العلى كلكم 7 لكن مثل الناس تموتون
وكأحد الرؤساء تسقطون 8، قم يا الله دن الأرض لأنك أنت تمتلك الأمم
إنتهى.
فتأمل في أول هذا الكلام وآخره وسوقه وحصل بفهمك الحر معناه ثم تنبه
إلى أن العهدين مع ما تضمنا من توحيد الإله كما سمعت بعضه وستسمع إن
شاء الله في محاله باقيه، ومع نهي التوراة عن ذكر اسم آلهة أخرى، وأن لا
يسمع ذلك من الفم، قد ذكر فيها أن موسى إله لهارون " خر 4، 16 " وإله
لفرعون " خر 7، 1 ".
وفي العهد الجديد ما سمعت من الذين صارت لهم كلمة الله آلهة، أو
يرضي ذو الفكر السليم أن يكون هذا كله من الوحي الإلهي، أو كما يقول
المتكلف " يه 1 ج ص 38 " وغيرها تنزيل العليم الحكيم.

160
وأما رسل العهد الجديد فقد مر عليك في أواخر المقدمة الخامسة شئ مما
وصمهم به كتابهم.
فتبصر أيها العاقل فيما ذكرنا عن العهدين في شأن أنبيائهما وانظر نظر
الطالب للحق الراغب في السعادة الخائف من الهلكة، فهل ترى ذلك كله يمكن
أن يكن من الوحي الإلهي وتنزيل العليم الحكيم فإن الله عليك رقيب،
وللمتكلف كلام قد آن أوان التعرض له.
قال " يه ج ص 42 و 43 " إن الله عز وجل المذكور في التوراة قدوس
ظاهر يعاقب على أقل خطيئة بخلاف الإله المذكور عندهم " يعني المسلمين " فإنه
يتساهل بالخطايا ويغفرها وحاشا لله الحق من ذلك فإن عدله وقداسته يستلزمان
عقاب أصغر الخطايا ما لم يكفر عنها بالذبيحة.
أقول: أنا بفضل الله وبركة الإسلام دين الحق لنبرأ قلوبنا وألسنتنا
وأقلامنا وننزهها عن فرض تعدد الآلهة، ولكنا نقول: إن الله الذي لا إله إلا
هو العليم الغني الحكيم اللطيف الخبير اختار من خلقه بلطفه وحكمته وعلمه
بعباده رسلا مطهرين مقدسين بررة مبرئين عن الأرجاس والقبائح ليكونوا أدلاء
على معرفته، وهداة إلى الحق وقدوة للخلق باعثين لهم بما تقتضيه الحكمة
الإلهية، ومصلحة الوقت على التقوى والصلاح ليعرفوا الحق وينكروا الباطل،
ويهتدوا بهداهم إلى الرشد والعدل والصلاح فينالوا سعادة الدارين.
فإن صدر من هؤلاء الرسل المطهرين من خلال الأولى والأفضل ما يرونه
لحسن معرفتهم بجلال الله منافيا لما ينبغي للعبد العارف من الانقياد إلى مولاه
عدوا ذلك على أنفسهم زلة تحطهم عما يرغبون فيه من المقام الرفيع وفزعوا مما
صدر منهم إلى الله مولاهم بالتوبة وطلب المغفرة والرحمة وإن لم يفعلوا حراما
ويتركوا واجبا فيغفر لهم ذلك ولا يحطهم به عما يجتهدون له من رفيع المقام
وحسن الزلفى فإنه أكرم مسؤول وأوسع معط.
ونقول: إن الله تقدست أسماؤه أعلى شأنا وأوسع رحمة وعلما وأتقن حكمة
ولطفا من أن يرسل للغاية المذكورة من يكذب، أو يستعمل الخداع والتزوير،

161
أو يستهين بالرسالة ومواعيد الله، ويصفه بالإساءة، ويتحكم عليه بالمغفرة لمن
أشرك به، ويرضى بمحوه من كتابه، أو يصنع وثنا للعبادة ويعبده ويدعو
لعبادته أو يبرر نفسه ويصف الله جل شأنه بالجور ويطلب المحاكمة معه، أو
يزني بالمحصنات من نساء أصحابه المحامين عنه المجاهدين في سبيل الله،
ويحاول أن يلصق ولد الزنا بغير أبيه، ويسعى في قتل الزوج، أو يتزوج
بالمشركات والنساء الكثيرة المحرمة عليه في الشريعة بحيث وقع في أغلب عمره
بالزنا بهن ومال قلبه إلى الشرك وذهب وراء آلهة أخرى وعظم شعائر الأوثان
ومعابدها وهو معنى عبادتها، أو من يكذب في التبليغ عنه أو من يسميه
خداعا، أو من هو شريب الخمر المحرمة ويعين على شربها ويكذب ويصدر منه
ما لا يرضاه أولوا العفة ويقول بتعدد الآلهة تعالى الله عن ذلك وتقدست رسله
عن هذه الأوهام الباطلة.
وأما قول المتكلف إن عدل الله وقداسته يستلزمان عقاب أصغر الخطايا ما
لم يكفر عنها بالذبيحة فنقول فيه:
" أولا " أن رحمة الله وغناه يقتضيان الغفران للتائب المنيب إذا وجده مولاه
أهلا لذلك، وأين يذهب العبد إلا إلى مولاه الكريم الرحيم، نعم إن كانت
الخطيئة من نحو الظلم للعباد كان مقتضى العدل أن لا يضيع حق المظلوم وذلك
لا ينافي المغفرة للتائب إذا كان أهلا لها.
" وثانيا " إن كان العدل والقداسة يستلزمان ما ذكره فليوضح لنا هو أو
غيره وجها معقولا لحل الذبيحة لعقدة هذه الملازمة.
ثم إن أراد من الذبيحة ذبيحة العهد القديم فإن الله لغني عن جميع العالم
وعنها وعن رائحة السرور للرب " لا 1: 9 و 13 و 17 "، وإن كثرة المعاصي
المنسوبة للأنبياء في العهدين ليناسب تكفيرهم عنها بالذبائح ما في أول أشعيا عن
قول الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا 11 اتخمت من محرقات كباش وشحم
مسمنات.
وإن أراد ذبيحة العهد الجديد أعني المسيح المصلوب بزعمه سألناه أيضا
كيف يعقل أن تنحل بهذه الذبيحة عقدة ما ذكره من الملازمة.

162
وأيضا ما هو ومن هو المانع لله عن جوده ورحمته بغفران خطايا التائب
المنيب إلا بالتكفير بالذبيحة.
وأيضا ما حاجة الله إلى الفداء والتفكير حتى يجعل ابنه بزعمهم تعالى عن
ذلك عرضة للإهانة والصلب والاستهزاء كما يقول العهد الجديد مع ما كان عليه
المسيح بمقتضاه من الاضطراب والخوف والاكتئاب والبكاء وطلبه من الله أن تعبر
عنه كأس المنية " انظر مت 26: 36 - 46 ومر 14: 32 - 42 ولو 22:
39 - 45 ".
ومن الظرائف في مسألة الفداء أنه لما كان من أقوال التوراة ملعون من لا
يقيم كلمات هذا الناموس ليعمل بها " تث 27: 26 " جاء عن بولس في ثالث
غلاطيه 13 المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب
ملعون كل من علق على خشبة إنتهى.
أفليس للسائل أن يسأل عن الكيفية المعقولة لهذا الفداء والافتداء، وعن
موافقته لعدل الله وقداسته المستلزمين للعقاب على أصغر الخطايا، وعن كيفية
كون المسيح وحاشاه لعنة لأجلهم، وعن توقف فدائهم على كونه وحاشاه لعنة
مع الزعم بأنه ابن الله جل شأنه والأقنوم الثاني لله بل الإله الذي تقمص
الطبيعة البشرية ليرفع قدرها، وعن حسن ذلك وعدم منافاته لعدل الله
وقداسته، وعن جواز ذلك بالنسبة لمن يزعمونه إلها، وعن مناسبة ذلك
للمكتوب المشار إليه فإنه في الحادي والعشرين من التثنية 22 وإذا كان على
إنسان خطيئة حقها الموت فقتل وعلقته على خشبة 23 فلا تبت جثة على الخشبة
بل تدفنه في ذلك اليوم لأن المعلق ملعون من الله فلا تنجس أرضك إنتهى.
وانظر هل يسب المسيح أعداءه أكثر من هذا " فإن قيل " إن هذا المكتوب
المشار إليه غير هذا " قلنا " ها هما العهدان بأيدينا، فأين يكون المكتوب المشار
إليه فيهما.
ولم يكتف المتكلف بما ذكره هاهنا في سر الفداء وخيل له وهمه أن هذا من
الحقائق البينة والمعقولات الممكنة التي ينشرح لها العقل بالقبول فقال " يه 2 ج
ص 290 و 291 " وإذا قيل ما هي الغاية من تجسده وصلبه " قلنا " إن الغاية

163
هي أن يكفر عن خطايا كل من يؤمن به لأن الجميع أخطأوا واحتاجوا إلى من
يكفر عن خطاياهم لأننا إذا نظرنا إلى العالم رأينا أنه لم يسلم أحد من اقتراف
الخطيئة وعقاب الخطيئة هو الموت في جهنم إلى الأبد لأن المولى سبحانه وتعالى
طاهر قدوس وعدله يستلزم عقاب الخطيئة بهذه الكيفية، فالمسيح احتمل في
جسده ما كنا نستوجبه من العقاب، ووفى ما كان علينا من الدين رحمة منه لأن
الله هكذا أحب العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن بل
تكون له الحياة الأبدية، فطريقة الخلاص موافقة للعدل الإلهي ولكمالات الله.
أقول: أو تدري من يريد بالمتجسد المصلوب في كلامه هذا هو من تكرر
في مزاعمه في كتابه بأنه الإله الذي تقمص الطبيعة البشرية ليرفع قدرها فإن
أردت الإيضاح قال لك هو أقنوم الابن، فإن قلت: وما أقنوم الابن قال لك
إن الله لواحد والأقانيم ثلاثة الأب والابن والروح القدس والثلاثة هم واحد
فالله واحد ثلاثة فإن قلت: كيف يكون الواحد ثلاثة ومن الباذل ومن المبذول
إذا كان الثلاثة واحد ومن المصلوب ومن المتجسد قال لك اسكت ولا تكثر في
سؤالك فإن هذه الأمور لا يدركها العقل، وليست من وظيفته بل تؤاخذ من
تعليم القسوس المؤيدين بروح القدس بلا تعقل لها، فقد قال بولس الرسول:
لأنه إذا كان العالم في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة استحسن الله أن يخلص
المؤمنين بجهالة الكرازة، لأن جهالة الله أحكم من الناس وضعف الله أقوى
من الناس " 1 كو: 21 و 25 ".
فإن قلت له: إذا كان عقاب الخطيئة هو الموت في جهنم إلى الأبد لأن المولى
سبحانه وتعالى طاهر قدوس وعدله يستلزم عقاب الخطيئة بهذه الكيفية والمسيح
احتمل في جسده ما كنا نستوجبه من العقاب، ووفى ما كان علينا من الدين
رحمة منه، أفكان الوفاء أو المحتمل عنا من نحو العقاب الذي استوجبناه والدين
الذين كان علينا وهو الموت في جهنم إلى الأبد، وننسب هذا إلى المسيح الفادي
أم هو من غير هذا النحو، فإن كان من غير هذا النحو سألنا كيف وأنت
تقول: إن عدل الله الطاهر القدوس يستلزم العقاب بهذه الكيفية.
وأيضا أفلا يكون هذا الوفاء من المخادعة الجزافية.

164
وأيضا إذا كان هذا الفداء من الابن رحمة منه، أفلم يكن عند الأب
شئ من هذه الرحمة ليغفر لنا بدون تحمل ابنه لعقاب الخطيئة.
وأيضا من هو الأب؟ ومن هو الابن؟ وأنت تقول: إن الثلاثة واحد
وبالنتيجة يرجع الكلام إلى أن الأب تحمل ما تقول ولازم قولك إنه تحمل الموت
الأبدي في جهنم.
" قلت ": سيقول لك المتكلف هذا كلام تجديف فإنا نبشر لا بحكمة كلام
لئلا يتعطل صلب المسيح " 1 كو 1: 17 " فإن الكتاب يقول: صار المسيح
لعنة لأجلنا كما سمعت.
فإن قلت: إن لي على هذا الكلام وما ذكرته سابقا من نحوه
سؤالات كثيرة، قلت: أو على عهدة الجواب في مثل هذا وإني سائل مثلك وقد
أجبتك عن البعض بما أعلمه من حالهم ومقالهم وكتبهم، فجاهد في الله يهدك
إلى سبيله.
ونتيجة ما تقدم: أن العقل والنقل دالان بأوضح دلالة على لزوم عصمة
الرسول عن الخطايا والقبائح والتمرد على الله فلا يجتمع للكتاب المنسوب للوحي
والإلهام أن يصرح برسالة شخص ونبوته، ثم ينسب بصراحته له الفعل القبيح
عقلا أو شرعا، ودونك القرآن فهل تجد فيه ما هو صريح في نسبة الفعل الحرام
أو ترك الواجب أو فعل القبيح إلى من صرح برسالته خصوصا وقد نبهناك على
معاني ألفاظه ومرامي مقاصده ودلائل شواهده، ولئن وجد فيه ما يوهم ذلك
ابتداء فإن قرينة العقل والنقل وخصوص القرائن المتصلة لتكبح ذلك الوهم
وتصرف عنه إيهام اللفظ.
وأما العهدان فكم وكم ترى في صريحهما من نسبة الخطايا الكبائر
ومفضعات الجرائم إلى من صرحا بنبوتهم ورسالتهم ونزول الوحي للتبليغ
عليهم، ولا يجتمع لهما الصدق في وصفهم بالرسالة ونزول الوحي عليهم
للتبليغ ونسبتهم إلى ما ذكراه من الخطايا كما شرحنا بعضه في فصول هذا
الباب، فإن بداهة العقل والنقل لتحكم بكذبهما في أحد الأمرين لا محالة،

165
فاختر لنفسك فإن اخترت كذبهما في وصف هؤلاء بالرسالة لزم كذبهما على
الوحي بأجمعهما لأن مدارهما على رسالة موسى والمسيح وهما العمدة في محل
الكلام.

166
الفصل السادس عشر
في عصمة خاتم المرسلين محمد " ص "
وما يتعلق بها
اعلم أن المتكلف حاول أن يلوث قدس رسول الله " ص " بعبادة الأصنام
قبل النبوة والميل إلى ذلك بعدها فتشبث لذلك بآراء فاسدة وروايات آحاد
مضطربة متعارضة محفوفة بأسباب الوهن والخلل وصار يحمل على ذلك بتشهيه
واقتراحه بعض الآيات التي لا ربط لمدلولها بمراده، وسود بذلك وجه ست
صحائف " انظر يه 1 ج ص 60 - 65 "، وجاء في خلال ذلك بما يشوه وجه
التحقيق ويشين شرف الكاتب، وما ضره لو فاز مع ذلك بحسن الأدب أقلا،
فاستدل لعبادة الأصنام بقوله تعالى في سورة الضحى 7 (ووجدك ضالا
فهدى) وقال: فهذه العبارة ناطقة بأنه كان على عبادة عشيرته.
أقول: هل ترى المتكلف يدعي أن معنى الضلال في اللغة هي عبادة الأوثان أو عبادة ما
يعبده الأهل والعشيرة، أوليس يعلم كل مترعرع باللسان العربي أن معنى
الضلال مساوق لمعنى التيه وإضاعة الطريق، ويختلف المراد منه باعتبار متعلقه،
فيقال: ضل الرجل عن التوحيد إذا عبد غير الله وضل عن الشريعة إذا جهل
أحكامها أو خالفها، وضل عن الجادة إذا تاه، وضل عن الصواب إذا خبط
وخلط، وضل عن الرشد إذا تحير في أموره، وضد الضلال هو الهدى،
ويختلف المراد منه أيضا باعتبار متعلقه على نهج ما تقدم، فعلى المتكلف إن أراد
أن لا يضل في الدعوى أن يبين المراد بالضلال من صريح لفظ الآية حتى يدعى
أن العبارة ناطقة بمدعاه، بل نقول لماذا لا يكون المراد من الآية ووجدك قبل

167
النبوة وإعلان الوحي ضالا عما أوحى إليك من الشريعة المتكفلة لأحسن
التهذيب والتكميل وأتقن النظام للدين والدنيا فهداك الله إليها بنور النبوة
وإعلام الوحي ودفع عنك الحيرة فيما كنت تطلبه من الهدى إلى شريعة الحق
لتحمل عليها الناس.
وما المرجح لما يدعيه المتكلف على هذا لولا الهوى، ولماذا يخلط " يه 1 ج
ص 61 " بين الدين والشريعة فإن الخلاف الذي ذكره عن جامع الجوامع إنما
هو باعتبار الاختلاف بين شريعة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام
من حيث الناسخ والمنسوخ في الأحكام العملية، ولا اختلاف في دين هؤلاء ولا
غيرهم من الأنبياء من حيث التوحيد والمعارف اللاهوتية أصلا ولم يقل ذو رشد
باختلافهم في ذلك.
ثم قال المتكلف: من أقوى الأدلة على حيدانه " يعني رسول الله " ص "
عن عبادة الحق وميله إلى الأصنام هو مدحه لآلهة قريش وتقديم العبادة لها.
أقول: المنشأ في تشبث المتكلف في ذلك هي الرواية المقطوعة الفاحشة
الاضطراب المشوشة في نقلها وألفاظها حيث أرسلها بعض المفسرين، وهو أن
رسول الله (ص) قرأ في سورة النجم في مجلس لقريش فلما بلغ قول الله تعالى
19: " أفرأيتم اللات والعزى 20 ومناة الثالثة الأخرى " قرأ بعده (تلك
الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى) فلما سمعت قريش ذلك فرحوا به.
ومضى رسول الله في قراءته فقرأ السورة كلها وسجد في آخرها وسجد المسلمون
بسجوده. وسجد جميع من في المسجد من المشركين وقد سرهم ما سمعوا.
وكأن المتكلف يذعن بصدق هذه الحكاية أكثر من إذعانه بصدق ما في
العهدين حتى عدها من أقوى الأدلة، وكأن لم يشعر بأن أهل العلم والدراية
والنظر من المسلمين قد جبهوا هذه الحكاية بالرد، وسماها المرتضى خرافة وقال
النسفي: إن القول بها غير مرضي، وفي تفسير الخازن أن العلماء وهنوا أصل
القصة وذلك أنه لم يروها أحد من أهل الصحة، ولا أسندها ثقة بسند صحيح
أو سليم متصل، وإنما رواها المفسرون، والمؤرخون المولعون بكل غريب،
الملفقون من الصحف كل صحيح وسقيم، والذي يدل على ضعف هذه القصة

168
اضطراب رواتها، وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها، إنتهى كلامه.
أما ضعف سندها فمن جهات كثيرة معروفة في فن الدراية ومعرفة الرجال
لا يسع المقام إحصاءها، وأما انقطاع سندها فأقله أنه لا يتجاوز في طرقه عن
التابعين ومن دونهم إلا إلى ابن عباس مع أنه لم يكن مولودا في الوقت المجعول
للقصة أو كان ابن سنتين أو ثلاث.
وأما اضطرابها فقد جاء نقلها المضطرب على وجوه 1 إن النبي حين قرأها
كان يصلي 2 وأنه كان جالسا في نادي قومه 3 حدث نفسه بها فجرت على لسانه
4 كان يصلي عند المقام فنعس فألقى الشيطان ذلك على لسانه فتكلم. بها
فتعلق بها المشركون وحفظوها 5 أن الشيطان أخبرهم بأن نبي الله قد قرأها 6 أن
رسول الله لم يتنبه لذلك حتى أمسى وأتاه جبرائيل فقرأ عليه في جملة السورة ما
ألقاه الشيطان فقال جبرائيل: ما جئتك بهذا فأوحى الله إلى رسوله (وإن كادوا
ليفتنوك الآية)، فما زال مهموما مغموما حتى نزل عليه قوله تعالى: " وما
أرسلنا قبلك من نبي الآية " 7 أنه سهى فقرأها ففرح المشركون بذلك فقال: لا
إنما كان ذلك من الشيطان 8 أنه علق يتلوها فنزل جبرائيل فنسخها 9 قرأها بعد
قوله تعالى: " ومناة الثالثة الأخرى " 10 قرأها بعد قوله تعالى " قسمة ضيزي "
11 إنه تنبه لها عند قراءتها وقبل إكمال السورة ففزع وجزع فأوحى الله إليه الآية
السادسة والعشرين من السورة " وكما من ملك في السماوات الآية " الآية 12 لم
يتنبه حتى أتم السورة وسجد المشركون وحملوه فاشتدوا به بين قطري مكة يقولون
نبي بني عبد مناف 13 جاء في لفظها: إنهن لفي الغرانيق العلى وإن شفاعتهن
لترتجى 14، تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى 15، إن تلك
الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى 16 تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى
17 إنهن الغرانيق العلى 18 إن شفاعتهن ترتجى 19 وإنهن لهن الغرانيق العلى
وإن شفاعتهن التي ترتجى 20 تلك الغرانيق العلى وشفاعتهن ترتضى ومثلهن لا
ينسى 21 وهي الغرانيق العلى شفاعتهن ترجى 22، وإن شفاعتها لترجى،
وإنها لمع الغرانيق العلى 23 تلك إذا في الغرانيق العلى، تلك إذا شفاعة ترجى
24، تلك الغرانقة العلى وإن شفاعتهن ترتجى.

169
ويزيد الاضطراب في رواية هذه القصة ما في بعض نقلها من أن الله عزى
نبيه وفرج عنه بقوله تعالى في سورة الحج 51 (وما أرسلنا من قبلك من نبي
ولا رسول إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم
يحكم آياته والله عليم حكيم) فذكروا عن رواية ابن عباس في سبب نزولها أن
رسول الله (ص) تمنى من الله أن يقارب بينه وبين قومه فألقى الشيطان على
لسانه ما كان يحدث به نفسه ويتمناه 2.
عن ابن عباس أيضا أن أمنية رسول الله هي إسلام قومه 3 كان يتمنى
كف أذاهم 4 تمنى من الله أن لا يأتيه شئ يفرق عنه قريشا، وعلى هذا فالتمني
والأمنية من أفعال القلب 5.
عن ابن عباس أيضا إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه 6.
عن ابن عباس أيضا وغيره تمنى تلا وقرأ والأمنية التلاوة والقراءة 7.
عن مجاهد تمنى تكلم وأمنيته كلامه 8 لم يذكر تمني النبي (ص) في بعض
الروايات عن ابن عباس وغيره ولذا فسروا تمنى بتلى وأمنيته بتلاوته واستشهد
المفسرون بقول حسان:
تمنى كتاب الله أول ليلة * وآخره لاقى حمام المقادر
وقول الآخر:
تمنى كتاب الله آخر ليلة * تمني داود الزبور على رسل
وهذا بعض الاضطراب والاختلاف في أمهات المطالب من رواية هذه
القصة، ولو استقصينا الاختلاف في الألفاظ والمعاني لأدى طول الكلام إلى
الملل، وخرج الكتاب عن موضوعه، فانظر أقلا إلى الدر المنثور تفسير
السيوطي.
وإن فيما ذكرنا كفاية لمعرفتك أن الحق أبلج، والباطل لجلج.
ثم لنعطف الكلام إلى تطبيق الآية على المدعي من القصة فنقول أما على
تفسير التمني والأمنية فيها بالإرادة القلبية فلا تصلح لأن تكون تعزية عن الحزن

170
من أجل القول الذي ألقاه الشيطان كما يزعم لو فرضت مطابقتها لما ذكروه من
تمني رسول الله (ص).
وأما إذا جعلنا الأمنية بمعنى المتمني وهو الشئ الذي يتمناه الإنسان فلا
يطابق قوله تعالى (ألقى الشيطان في أمنيته) بعض المطابقة إلا ما ذكر من
أن الأمنية كانت إسلام قومه (ص).
فإن معنى ألقى الشيطان في المتمني هو أن يدخل فيه ما يضره ويشوشه، بل
نقول إن معنى قوله تعالى ألقى الشيطان في أمنيته لا بد أن يكون لتركيبه معنى
واحد عرفي مقرر وهو ما يرجع إلى موافقة المتمني أو مخالفته. وعلى كل حال لا
يطابق جميع ما قيل في بيان الأمنية. وهي أن يقارب الله بينه وبين قومه 2 إسلام
قومه 3 كف أذاهم 4 لا يأتيه من الوحي شئ يفرقهم عنه.
وأما تفسير التمني والأمنية بالتلاوة فهو شئ غريب لم يسمع له شاهد إلا
شاذ يقال إنه لحسان فلا يحسن حمل القرآن على لغة هذا شأنها.
وأيضا إن المروي عن ابن عباس وابن الزبير أن سورة الحج التي فيها هذه
الآية مدنية من دون استثناء لهذه الآية أفلا يعارض هذا ما روي من أن الآية
نزلت في مكة في مساء واقعة الغرانيق وفي حينها تعزية لرسول الله من أجلها لأنه
كان به رحيما؟ أم تقول إن الله الرحيم برسوله اللطيف بعباده آخر تعزية رسوله
عن ورطة الغرانيق ولم ينزل فيها الآية المذكورة إلا بعد مدة من السنين وتنقل في
الأمكنة وتقلب في الأحوال التي فات بها مقام التعزية والتدارك، دع هذا كله وقل
كيف يذعن عاقل بصدق هذه الحكاية خصوصا على مزاعم المتكلف مع
مناقضتها لما في خصوص المقام من سورة النجم في التنديد بالأصنام وبيان كونها
باطلا بقوله تعالى 23 (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباءكم ما أنزل الله بها
من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم
الهدى) وأن هذه الآية لتوضح أن حكاية الغرانيق وسجود المشركين في آخر
السورة مع رسول الله سرورا بمدح آلهتهم إنما هي تلفيق من غير تدبر افترى
المشركين يسجدون في آخر السورة فرحين مسرورين بعد ما سمعوا من التنديد
بآلهتهم. والتسفيه لهم بقوله تعالى (إن هي إلا أسماء الآية)، أفلم يكونوا

171
أهل اللسان والمعرفة بمحاوراته؟ أفتراهم لا يفهمون مواقع الكلام مثل...
على أن هذه الحكاية بأصلها وفروعها والاستشهاد لها مخالفة لنص القرآن في نفس
سورة النجم بقوله تعالى في شأن رسول الله: (3 وما ينطق عن الهوى 4 إن
هو إلا وحي يوحى).
فإن قلت فإذا فما يكون المعنى في الآية المذكورة قوله تعالى: (وما أرسلنا
من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى) الآية.
قلنا: والله أعلم الظاهر هو أن يكون المراد من الأمنية هو الشئ المتمني
كما هو الاستعمال الشائع في الشعر والنثر، كما أن الظاهر من التمني المنسوب
إلى الرسول والنبي كما يشهد به سوق الآيات هو أن يكون ما يناسب وظيفتهما
وهو تمني ظهور الهدى في الناس وانطماس الغواية والهوى وتأييد شريعة الحق
ونحو ذلك فيلقي الشيطان بغوايته بين الناس في هذا التمني الصالح ما يشوشه
ويكون فتنة للذين في قلوبهم مرض، كما ألقى بين أمة موسى من الضلال
والغواية ما ألقى، وألقى بين أتباع المسيح ما أوجب ارتداد كثير منهم وشك
خواصهم فيه واضطرابهم في التعاليم وأحكام الشريعة بعده كما مر عليك شرحه
في المقدمة الخامسة، وألقى بين قوم رسول الله ما أهاجهم على تكذيبه وحربه
وبين أمته ما أوجب الخلاف وظهور البدع. فينسخ الله بنور الهدى غياهب
الضلال وغواية الشيطان، فيسفر للعقول السليمة صبح الحق، ثم يحكم الله
آياته ويؤيد حجته بإرسال الرسل أو تسديد جامعة الدين القيم، وإذا نورت
فكرك بما ذكرناه عرفت شطط المتكلف " يه 3 ج ص 169 - و 2 ج ص 97 ".
" ورطات المتكلف " وإذا تبصرت بما شرحناه فلا تعجب من المتكلف إذ
جعل قصة الغرانيق السخيفة من أقوى أدلته فإنه قد أبدع في التحقيق وحرية
الضمير حيث قارن بين هذه القصة وبين ما جاء في العهد القديم في شأن
سليمان بن داود فقال " يه 1 ج ص 63 س 19 " لم يظهر نبي من الأنبياء
الصادقين مثل هذا التلاعب ومسايرة الناس على شركهم وعبادتهم الكاذبة ولا
مناسبة بين خطيئته " يعني قدس رسول الله وخرافة الغرانيق " وبين خطيئة سيدنا
سليمان، فسيدنا أباح لبعض نسائه الأجنبيات عبادة آلهتهن ولم يقع هو في هذه

172
العبادة إنتهى.
وينبغي له أن يقول أيضا تتميما لكلامه وأستغفر الله، ولا مناسبة أيضا
بينها وبين خطيئة سيدنا هارون فسيدنا هارون بقول التوراة صنع العجل إلها
يعبده بنو إسرائيل وبنى مذبحا أمامه ونادى غدا عيد للرب.
فأقول في شرح بعض كلامه إنك قد سمعت حكاية الغرانيق وهي القصة
التي تزداد بزعم المتكلف قوة إلى قوة بانقطاع سندها وضعفه وتناقض مضامين
روايتها وتلونها، وعدم التشاؤم آية التمني معها ومناقضة آية الأسماء والوحي لها
وتكذيب العلماء المحققين لها، وتسميتهم لها خرافة إلى غير ذلك.
وفي العهد القديم الذي هو عند المتكلف كتاب وحي إلهي وكلام الله
السميع العليم ما نصه أن سليمان أمالت نساءه المشركات قلبه وراء آلهة أخرى
فذهب وراء عشتاروت آلهة الصيدونيين وملكوم رجس العمونيين، وعمل الشر
في عيني الرب ولم يتبع الرب تماما كداود أبيه وبني المرتفعات قبالة أورشليم
لعشتاروت رجاسة الصيدونيين ولكموش رجاسة الموابيين ولملكوم كراهة بني
عمون " انظر إلى 1 مل 11: 4 - 8 و 2 مل 23: 13 ".
أفنقول إن في هذا شيئا من الشرك؟ فإن المتكلف يقول: حاشا وكلا بل
غاية الأمر أن سليمان أباح لبعض نسائه عبادة آلهتهن وماذا تقول للمتكلف لو قال
تلك إن هذه الإباحة من وظائف الأنبياء والعدل مع النساء الأجنبيات؟ وما
عساك تقول في سليمان وقد نص عليه العهد القديم عن قول الله إن سليمان هو
يبني بيتي ودياري لأني اخترته لي ابنا وأنا أكون له أبا " 1 أي 28: 6 ".
والمتكلف يقول " يه 1 ج ص 122 " إنه من كبار الأنبياء فلا يضر في
ذلك أنه ذهب وراء آلهة أخرى وعمل الشر ولم يتبع الرب وبنى مرتفعات
الأوثان، فليعتبر ذو الرشد والبصيرة.
ثم قال المتكلف " يه 1 ج ص 64 " كان محمد لا يتنكف عن التعبد بآلهة
قومه للتقرب منهم ثم ينقلب عليها لما يرى عدم الفوز بمرغوبه، فورد في سورة
بني إسرائيل 75 وإن كادوا ليفتنوك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره

173
وإذا لاتخذوك خليلا).
وذكر في سبب نزولها ثلاث روايات أو أربع متعارضة متناقضة كل واحدة
تذكر سببا مباينا لما تذكره الأخرى وكلها تنسب إلى ابن عباس انظر إلى الدر
المنثور وتفسير الخازن.
وأقول: وتزيد على ذلك في التعارض والتناقض رواية محمد بن كعب
القرضي إنها نزلت في أثناء سورة النجم في قصة الغرانيق المتقدم ذكرها.
ويا عجبا كيف يتشبث أحد بمثل هذه المتناقضات ويحاول أن يموه أمرها
اللهم إلا أن يكون لا يبالي بما يقول وما يقال فيه.
وإن المتكلف لم يذكر الآية التي بعد هذه الآية لأجل أنه شعر بأنها تنقض
غرضه الفاسد بمدلولها وهو قوله تعالى 76: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن
إليهم شيئا قليلا).
وإن الذي ينبغي تحصيله من معنى الآيتين بمقتضى لفظهما والنظر في
مقتضى الحال من الأمور المعلومة من حال رسول الله (ص) وقريش هو أنه لما
اشتدت وطأة رسول الله عليهم بالدعوة والتنديد بآلهتهم والتسفيه لهم في عبادتها
حتى اهتدى جملة منهم ومال إليه من لم تعمه العصبية صاروا يريدون منه الملاءمة
معهم والكف عن الدعوة والتعرض لآلهتهم ويتوسلون إلى ذلك مرة بالمشاغبة
ومرة بالاضطهاد ومرة بالاستشفاع بأبي طالب وغيره. وغرضهم من ذلك
بزعمهم الفاسد أن ينجر تركه لهم عن الدعوة وتبليغ الوحي إلى التساهل منه
والموافقة على أهوائهم التي هي افتراء على الله. فربما خطر على فكر رسول الله
(ص) احتمال الصلاح في متاركتهم زمانا قليلا استصلاحا لهم وسياسة في
الهدى وتلطفا في تحصيل الغرض فسدده الله إلى الصواب وثبته على الجد في
الدعوة والدوام عليها وأنزل عليه الآيتين المذكورتين تعريضا بإصرار المشركين
والامتنان عليه بتسديده إلى الصواب في كل حال، وحاصل الآيتين أن المشركين
قد كادوا باختلاف وسائلهم في طلب المتاركة من رسول الله ليحصل لهم ما
توهموه من الغرض الفاسد وهي الموافقة لأهوائهم أخيرا وقاربوا بذلك أن يفتنوه.

174
باحتمال الصلاح في المتاركة والكف شيئا قليلا عن الدوام في الدعوة التي أمره
الوحي بها فسدده الله وثبته على أن الصلاح إنما هو بالدوام على الدعوة ولولا هذا
التثبيت لكاد رسول الله أن يركن إليهم شيئا قليلا من المتاركة لاحتمال الصلاح
والنجاح، فلم يكن المشركون ليفتنوه ولكن كادوا، ولم يركن رسول الله إليهم
شيئا قليلا ولكن كاد.
فأين منطوق الآيتين ومرماهما من مقصود المتكلف المحال. وكيف لا يقبح
الاستشهاد بالأولى منهما على أن رسول الله لا يستنكف عن التعبد بآلهة قومه
أفيجري في الوهم أن القرآن يسمي التعبد بآلهة المشركين شيئا قليلا.
وقد ترقى المتكلف فصار يدعي أسباب النزول حسب هواه ومشتهاه
فصار يدعي أن بعض ما روي في سبب نزول الآية المتقدمة هو السبب في نزول
قوله تعالى في سورة بني إسرائيل 41: (ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في
جهنم ملوما مدحورا).
مع أنه لم يرد في ذلك عن المفسرين الذين عرفت حالهم في تفسير الآية
شئ من هذه الأوهام على أن صريح السوق فيما قبل هذه الآية وما بعدها ينادي
بأنها كأخواتها واردة لتعليم الناس وصايا الله من قبيل - إياك أعني واسمعي يا
جارة - انظر إلى إطراد الوصايا في هذه السورة من الآية الثالثة والعشرين إلى
الخامسة والأربعين حيث قال الله جل اسمه 23: (لا تجعل مع الله إلها آخر
فتقعد مذموما مخذولا 24 وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا
إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا
كريما).
أفيقول المتكلف إن الأمر بالإحسان بالوالدين كان المقصود منه رسول الله
مع أنه لم يدرك حياة أبويه. كلا بل أن السوق الجاري في هذه الآيات كالسوق
الجاري في كثير من خطاب التوراة وخصوص العشرين من الخروج 3 لا يكن
لك آلهة أخرى أمامي 4 لا تصنع لك تمثالا منحوتا 17. وكذا الثالث
والعشرين من الخروج والرابع والثلاثين 11 - 27 وغير ذلك فراجع.
ثم قال المتكلف " يه 1 ج ص 65 " لما كان المشركون يرون منه ميلا إلى

175
آلهتهم كانوا يطلبون منه أن يذكر شفاعتها، فكان كثيرا ما يجيب دعوتهم ثم
يرجع عن ذلك ويدعى أن الله نهاه فورد في سورة الأحزاب 1 (يا أيها النبي
اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما 2 واتبع ما يوحي
إليك من ربك). فلو لم يقترف ذنبا لما نهى عنه.
أقول: ومن الظرائف دعوى المتكلف أن المشركين كانوا يرون ميلا من
رسول الله إلى آلهتهم. وليت شعري هل وجدوا خصما دائم المثابرة لآلهتهم مثل
رسول الله فلا توحشه في ذلك وحدة ولا يصده عنه اضطهاد ولا تميله عنه
المطامع، كما لا يخفى ذلك على العدو والصديق، وأظرف من ذلك دعوى
المتكلف أن رسول الله كان كثيرا ما يجيب دعوة قريش إلى شركهم. وهل وجد
في الناس ضدا مقاوما للوثنية مثل رسول الله. وأن المتكلف ليعلم أنه لا يوافقه
على هذه الخرافة أحد من الناس، ولذا التجأ فيها إلى الاحتجاج الذي لا يخفى
حتى عليه وهنه وسخافته بقوله: فلو لم يقترف ذنبا لما نهى عنه.
أفيقول إن وصايا الشريعة ونواهيها لا تكون إلا بعد الوقوع في الذنب؟
أفلم يتدبر في شريعة التوراة؟ أفلم يتدبر في شرائع الملوك؟ أفلم يتدبر في
أحكام الموالي؟.
وأظرف من ذلك نقضه بنفسه لهذا التوهم حيث قال في تتميم دعواه
بزعمه، روي أن أبا سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا في
الموادعة التي كانت بينه وبينهم وقام منهم ابن أبي ومتعب بن قشير والجد ابن
القيس فقال له: ارفض ذكر آلهتنا وقل إن لها شفاعة وندعك وربك فادعى أن
الله أنزل عليه ذلك.
فهل ترى المتكلف لم يشعر أن هذه الرواية تنقض غرضه لصراحتها بأن
رسول الله قد جبههم في هذه الآيات بالرد وآيسهم من أمانيهم الكاذبة.
وفي تفسير البغوي: أنه شق على النبي قولهم وأمر عمر أن يخرجهم.
وفي تفسير النسفي: هم أن يقتلهم فنزلت (يا أيها النبي اتق الله) يعني في
قتلهم ونقض العهد، ولعله لو قيل للمتكلف إذا فمن يشهد لك على مدعاك؟

176
لقال: أليس في قرآنكم مكتوب شهادة رجلين حق أنا هو الشاهد لنفسي ويشهد
لي التعصب الذي يغريني ويورطني فإن من أوضح المعلومات التي لا يسترها غبار
التزوير والتلفيق أن رسول الله كان أثقل الناس وطأة على الأصنام وأشدهم ذما
لها وعيبا لعبدتها وتسفيها لأحلامهم، لا يفتر عن ذلك ولا يداهن بل كان هذا
هو العنوان لنهضته والقانون الأساسي لدعوته حتى عاداه في محض ذلك القريب
والبعيد ولاقى من الاضطهاد ما لاقى.
ثم قال المتكلف. ومما يشبه هذه الحادثة قوله في سورة الزمر 65 (لئن
أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين).
أقول: كأن المتكلف قد مناه وهمه بإحراز الموفقية في المنقولات
والمحسوسات حتى صار يعتمد على الحدس والتخمين. أو تراه لم يشعر بأن
صدر الآية الذي حذفه مما ينقض مرامه، فقد قال الله تبارك وتعالى: (ولقد
أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك الآية) وإن
الآية لتنادي بصراحتها إن هذا الخطاب قد خوطب به رسول الله كما خوطب به
كل من قبله من الأنبياء الموحي إليهم.
أفيقول: إن خطاب الأنبياء بذلك كان مما يشبه هذه الحادثة، أو لم يتدبر
ما في هذه السورة الشريفة من التشديد والتفنن في زجر المشركين عن شركهم
وتوبيخهم وبيان ضلالهم فيه، وفي المحاماة عنه والدعوة إليه، فمرة يزجرهم
الله بالحجة عليهم بالتجائهم بمقتضى فطرتهم إلى ناحية التوحيد حينما يضايقهم
الضر، ثم يرجعون إلى ضلالهم وإضلالهم في الرفاهية، كما في الآية الحادية
عشر.
ومرة باعترافهم بأن الخالق القادر هو الله مع عجز الأنداد عن النفع
والضر كما في الآية التاسعة والثلاثين.
مرة بضرب المثل فيما يشهد به الوجدان من اختلال النظام بالشركة
والشركاء كما في الآية الثلاثين.
ومرة يوبخهم ويقطع آمالهم ويخيب أطماعهم بتلقين رسول الله أعلامهم

177
بما أمره به من التوحيد وترك الأنداد وبيان النكال المعد للمشركين والبشرى
للمؤمنين كما في الآية الرابعة عشر إلى الآية الثانية والعشرين.
ومرة بتلقينه توبيخهم والإنكار عليهم بطمعهم في الموافقة لهم على الشرك
وآيسهم من أوهام أطماعهم بتلقينه أن الله قد توعده وجميع الأنبياء قبله بالوعيد
العظيم الشديد على الشرك فقال تعالى 64: (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها
الجاهلون 65 ولقد أوحينا إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت) الآية،
فجاء الخطاب في هذه الآية لرسول الله وإعلامه بما أوحى إليه وإلى الأنبياء الذين
من قبله مجيئ الحجة والبرهان على مضمون الآية التي قبلها وهو الإنكار على
المشركين فيما يدعونه إليه وتجهيلهم فيه، بل والبرهان على التوحيد ونفي الأنداد
المتقدم في مضامين الآيات التي قبلها، فأين المتكلف عن التبصر بهدى سورة
الزمر (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها).
ثم قال المتكلف في شأن رسول الله " ص "، وكما أنه كان يقدم على
المنكر المنهي عنه كان يتأخر عن أداء المأمور به لأنه كان يخشى بأس قومه ولما كان
يرى أن موافقتهم لم تأت بفائدة ولا ثمرة كان يتخلص من ذلك بأن يدعى أن
الله زجره فورد في سورة المائدة 71 (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك
وإن لم تفعل فما بلغت رسالته).
وعن الحسن: أن الله لم بعث رسوله ضاق ذرعا وعلم أن في الناس من
يكذبه فقال هذه العبارة.
أقول: أما رواية الحسن فزيادة على كونها معارضة مقطوعة السند.
مردودة بأن هذه الآية من سورة المائدة التي هي مدنية من آخر ما نزل من القرآن
حينما أظهر الله دينه وكسرت دعوة الحق شوكة الشرك وأخمدت نائرة المشركين فلا
ربط لها بأصل البعثة وتكذيب المشركين، بل أن صريح الآية ومرماها يناديان
بأنها تحث على أمر هو غير أصل الدعوة وتعظم أمره بيان أن تركه بمنزلة ترك
التبليغ لأصل الدعوة وإلا فأي معنى لقوله فإن لم تبلغ أصل الدعوة فما بلغت
أصل الدعوة.
وإن سألت عن مرمى الآية وقصدها " قلنا " لا يمتنع أن يكون رسول الله

178
قد يؤمر بأمر سياسي وتدبير اجتماعي وقانون إصلاحي غير متعلق بحادثة وقتية
يفوت الغرض منها بتأخير البيان ولا يكون في الوحي به تضييق بتعجيل التبليغ
فيتربص رسول الله في تبليغه فرصة التأثر ويراعى في تأخيره سياسة الفائدة ومجال
التنفيذ وعدم التشويش مراعاة لحكمة الوظيفة واعتمادا على توسعة الإطلاق
فيأتيه بيان التضييق والتعجيل بصورة الحث والتشديد إشعارا للعباد بأهمية ذلك
الأمر وتنويها بكبير شأنه في السياسة الدينية ونظام المدنية وانتظام الجامعة.
فلماذا لا يحمل المتكلف الآية على هذا الوجه الواضح؟ ولماذا يميل مع
الهوى؟ ويعتل بالقيل؟ بل لنا أن نقول: إن المأمور به إذا كان عظيم الأثر في
النظام العام كبير الفائدة في الاجتماع والجامعة، فقد تقتضي الحكمة في الإشعار
بأهميته والسياسة في تنفيذه وإجرائه وتثبيته في القلوب وجلبها إليه كما هو حقه
أن يقرن الله الوحي به إلى الرسول المبلغ له بالحث والتشديد على تعجيل تبليغه
ابتداء ومن دون سابقة له في الوحي فيجري الحث عليه على نحو فلسفي سياسي
في براعة البيان ليكشف عن حسن أثره في الدين، ومدخليته في الجامعة.
والشيعة من المسلمين يقولون: إن الآية نزلت في أمر رسول الله بنصب
علي خليفة على أمته من بعده وأخذ العهد له من الأمة بذلك وبالبناء عليه يتضح
انطباق الآية وحسن مرماها.
ثم إن المتكلف " يه 1 ج ص 66 - 68 " والمتعرب " تذ 65 " قد تعرضا لشأن
تزوج رسول الله بزينب بنت جحش التي كانت عند مولاه زيد بن حارثة
فاستفزهما ما فيهما إلى أن جاء في كلامهما بما يقبح حتى منهما فراجعه فإن الأوراق
لأشرف من أن يسود وجهها بنقله.
وهاك خلاصة الأمر في القضية لا يخفى أن زيدا كان غلاما لرسول الله
فجاء أبوه حارثة ليفكه من الرق ويأخذه فأبى زيد أن يتبعه رغبة في خدمة رسول
الله لما رآه من بره وعظيم شأنه فشكر له رسول الله ذلك وأعتقه وعامله في البر
معاملة الابن حتى دعاه الناس زيد بن محمد، وزوجه زينب بنت جحش، ثم
طلقها زيد ولما انقضت عدتها تزوجها رسول الله حسب قوانين الشريعة
المقدسة.

179
فاسأل المتكلف والمتعرب وأشباههما عن السبب في جرأتهما على رسول الله
في ذلك، فإن كان لأجل تزوجه بالمطلقة حيث منع العهد الجديد الرائج من
أصل الطلاق والتزوج بالمطلقة في حجة متهافتة وتعليل عليل لا يليق بعوام
الناس فضلا عن وحي الله للمسيح.
قلنا: من ذا الذي يوجب على رسول الله أن تكون أعماله وشريعته على
مقتضى العهد الجديد الرائج ولا سيما في هذا الحكم الذي قد تلجلج العهد
الجديد بحجته وتدافعت أقواله في نسخ مشروعيته حتى رفض تعليمه هذا عقلاء
أتباعه في هذه الأعصار المتنورة فجعلوا الطلاق شريعة متبعة كما يشهد به
الإحصاء، لأجل ما وجدوه في منع الطلاق من الضرر الباهظ بنظام المدنية
والاجتماع وصفاء العيش، وانتظام أمر العائلة، وحسن الأخلاق، والعدل،
والحرية من أقبح القيود.
وإن كان السبب هو تزوجه صلوات الله عليه بمطلقة من يدعى ابنه لأنها
تكون محرمة عليه بتا وإن لم يكن ابنا حقيقيا.
قلنا: من حرم ذلك؟ وفي أي شريعة جاء تحريمه هذه التوراة والعهد
الجديد الرائجان وشريعة اليهود وشريعة النصارى.
فإن قالا: إنه محرم بشريعة مشركي الجاهلية " قلنا " لا نضايق من يرضى
لنفسه أن يتشبث بمثل هذه الواهيات، ولكن أليس رسول الله قد جاء ليجعل
شرائع الجاهلية وعاداتها الوخيمة تحت قدميه ويجري بشريعة الحق كل الأمور
على حقائقها. فلماذا لا يصد المتكلف شئ مما يصد أدباء الكتاب؟ حتى كتب
في هذا المقام أكثر من ثلاث مرات أن رسول الله أخذ امرأة ابنه.
هذا وإن كان السبب هو مقدمات التزويج " قلنا " لم يذكر فيها القرآن
الكريم إلا قوله تعالى في سورة الأحزاب 37: " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه
وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه
وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا
يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا).

180
وأما الروايات المضطربة المختلفة فقد اقتصروا في الصحاح عن أنس على
أن زيدا جاء يشكو زينب إلى رسول الله وآل الأمر إلى طلاقها.
وفي رواية أبي سعيد عن زينب قالت: زوجني منه رسول الله فأخذته
بلساني فشكاني إلى رسول الله الحديث.
وفي رواية قتادة أن زيدا جاء رسول الله فقال له: إن زينب قد اشتد
لسانها علي، فهل ترى في هذه المقدمات شيئا ينتقد به، وقد أرسل المتكلف " يه
1 ج ص 66 " حسب أمانته وغرضه أن رسول الله أتى زيدا ذات يوم لحاجة
فأبصر زينب في درع وخمار وكانت جميلة فوقعت في نفسه وأعجبه حسنها فقال
سبحان مقلب القلوب وانصرف مع أنه قد جاء في رواية محمد بن يحيى بن حيان
أن رسول الله لما رأى زينب فجأة أعرض عنها ورجع.
وفي رواية الطبري وكان على الباب ستر من شعر فرفعت الريح الستر.
ونقول: لو تنازلنا وأعلمنا أخبار الآحاد فيما يتعلق بأصول الدين.
وأغمضنا عن اضطراب هذه الرواية واختلافها، وقبلنا ما أرسله المتكلف لقلنا
ماذا على النبي وغيره إذا وقع نظره اتفاقا ومن دون قصد على امرأة أجنبية وماذا
عليه إذا عرف بهذا الاتفاق حسن الحسن وقبح القبيح ووقع في نفسه موقعه،
وماذا عليه لو التفت إلى قدرة الله على التصرف بالقلوب، أيشترط في النبي أن
يكون في مثل هذه الموارد ينقلب الحسن في عينه قبيحا.
وأن المحرم القبيح هو النظر إلى الأجنبيات ريبة وتلذذا وهو معنى قول
الإنجيل الرائج كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بقلبه. وكذا معنى إذا
أعثرتك عينك ويدك " مت 5: 28 - 30 ".
" ورطات المتكلف " وقد تورط في هذا المقام بمقايساته فقال " يه 1 ج ص
66 س 9 " نعم إن داود وقع في خطيئة الزنا ولكن يوجد فرق جسيم بين
الأمرين فلم يأخذ داود امرأة ابنه.

181
أقول: وقد كشف لنا بكلامه هذا عن أنه لا منتهى لورطات الغفلة ولا
حد لفلتات العصبية، فلنصور لك هذه القصة على الرواية التي اشتهاها
المتكلف، ونذكر لك القصة التي قذف بها داود ملخصة من التفصيل الذي ذكر
في العهد القديم كتاب إلهامهم، وقايس أنت بينهما واحكم ولو ببعض
إنصافك ووجدانك.
فنقول: جاء في بعض الروايات المضطربة أن رسول الله أتى بيت زيد
غلامه ومعتقه فوقعت عينه على امرأته فوقعت في نفسه وأعجبته وأشعر بذلك
فطلقها زيد وقل طمعا ببر رسول الله وشكرا عليه، بل قل مصانعة لدنياه بل
قل باستدعاء من رسول الله فلما انقضت عدتها تزوجها رسول الله حسب تسويغ
شريعته المقدسة ولا تقل بأمر من الله ولا لأجل الحكمة التي سنبينها إن شاء الله
في مبحث النسخ.
وجاء في العهد القديم الذي هو كتاب وحي وإلهام عند أهل الكتاب أن
داود تمشى على السطح فرأى امرأة أوريا تستحم فسأل عنها فأخبر أنها امرأة
أوريا. ومن أوريا؟ هو أحد رجاله المؤمنين بالله الغازين للجهاد في سبيل الله
مع تابوت الله لنصرة دين الله. فهي في الحقيقة وديعة في حمى داود وظل جواره
وأمن رعايته فأرسل عليها وواقعها فحبلت وأخبرته بالحبل فأحضر زوجها من
الحرب ليدخل على امرأته فيلتصق به ذلك الحمل الذي هو من الزنا، وأسكره
أيضا لهذا الغرض فأبى ذلك المؤمن المجاهد الناصح أن يستريح إلى أهله ويأنس
بهم وذلك ليواسي تابوت الله والمجاهدين في سبيله، فتوصل داود إلى قتله بأن
أمر قائد العسكر أن يجعله في وجه الحرب الشديدة ويرجعوا عنه لكي يضرب
ويموت ففعلوا وجاهد أوريا صابرا محتسبا حتى قتل فسر قتله داود وضم امرأته
إلى بيته وولدت له من ذلك الحمل ولدا ولما مرض ذلك الولد جزع حتى بات
مضطجعا على الأرض باكيا لم يأكل ولم يشرب " 2 صم 11 و 12 " فدونك
المقايسة التي تورط بها المتكلف.
ثم إنه له في هذا المقام وللمتعرب " ذ ص 65 " كلاما يفضي استقصاؤه

182
إلى طول ممل وغايته أنهما وجدا في أنفسهما بعض القدرة على تلفيق بعض الألفاظ
فتكلما حسب ما تنضح به آنيتهما من دون نظر إلى العاقبة. وأقل ما فيه أنهما
فتحا به بابا قبيحا ولم يشعر بأن خصمهم ممن لم يلقنه دين الإسلام طهارة المسيح
وبراءته من بوادر العهد الجديد ليقول ويقول إذا رأى ما في سابع لوقا في شأن
المسيح 37 وإذا امرأة في المدينة كانت خاطئة إذ علمت أنه متكئ في بيت
الفريسي جاءت بقارورة طيب 38 ووقفت عند قدميه من ورائه باكية وابتدأت
تبل قدميه بالدموع وكانت تمسح بشعر رأسها وتقبل قدميه وتدهنهما بالطيب،
ولا سيما إذا سمع اعتراض الفريسي والجواب المحكي عن المسيح فإنه لينمق من
ذلك رومانا عشقيا، ومقامة وجدية وصالية يوشيها من مرامي ألفاظ القصة
ورموز شواهدها بمغازلات صبابتية، و مطارحات شوقية ودادية، وإشارات
غرامية، لم يقف العرجي وابن أبي ربيعة موقفها ولم يحظ امرء القيس بمثلها، ولم
يبح القيسان ببثها، ولم يصل نشيد الأنشاد إلى رموز محاوراتهم، ولود أن يكون
قسا إذ فتح إنجيل لوقا للسيدات باب هذه التوبة. فأين تذهب الأحلام وتشذ
العقول؟
ثم انظر " يه 3 ج ص 48 " تجد العجب من الإصرار على الغي. فإن
سألت عن معنى الآية الشريفة فحاصلها. وإذ تقول يا رسول الله للذي أنعم
الله عليه بالخلق السوي والإسلام وسائر النعم العظام، وأنعمت عليه بالبر
والعتق أمسك عليك زوجك واتق الله في شكواك منها أو بحس معاشرتك لها
عند إمساكك إياها ولا يحملك كلامها معك على أن تجور عليها زيادة على
التأديب المشروع.
وتخفي في نفسك يا رسول الله ما الله مبديه، فقد أعلمك أن زينب تكون
من أزواجك ولا بد من أن يكون ذلك. وتخشى الناس أن يقولوا جريا على
عوائد الجاهلية وضلالا وزورا إن رسول الله أخذ امرأة ابنه مع أن الناس لا
ينبغي أن تخشاهم فإنهم لا يضرونك بجهلهم ولا يحطون من شرف منزلتك
بأغاليطهم ولا يضلون من سدده الله بالهدى. والله أحق أن تخشاه فإنه هو
المالك للنفع والضر وهو الذي يحق الحق بكلماته ويتصرف في عباده بقدرته

183
ومشيئته وحكمته، فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها إبطالا لأضاليل الجاهلية
وعوائدهم الفاسدة في معاملتهم الأدعياء معاملة الأبناء الحقيقيين وتثبيتا للناس
على شريعة الحق اقتداء بك لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم
إذا قضوا منهن وطرا، وفارقوهن عن رغبة واختيار في طلاقهن.
هذا معنى ما ورد عن أهل البيت في تفسير الآية ولا أقل من أن يكون
احتمالا في معناها يكبح أغراض المغرضين.
" حديث الإفك " ومما ينبغي استطراده من هذا النحو أيضا تعرض
المتكلف " يه 1 ج ص 68 " والمتعرب " ذ 59 - 61 " لحديث الإفك إلا أن
المتعرب قد كشف عن مخبأه وأبدى نضحه لما في آنيته وإن كان عيالا في كل ما
جاء به على بعض افتراء اليهود والوثنيين في شأن ولادة المسيح الطاهرة ويزيدون
عليه بأن شواهد العادة الطبيعية تعضدهم وظواهر الأحوال تساعدهم بحيث
يباين ما يقولونه لحديث الإفك مباينة العادات الطبيعية لجزاف آلهتهم مضافا إلى
أن أصل حديث الإفك وتهمته الشخصية غير معلوم وإنما جاء برواية الآحاد التي
لا تفيد علما.
وأن القرآن الكريم لم يعين لها موردا خاصا وإنما جاء بعنوان عام. ولو
عرضنا الأمرين على اليهود والوثنيين لقال أهل الشرف والنفوس الحرة في حديث
الإفك لا يسوغ لنا الإقدام على التهمة والتخمين، وإن الاعتبار ليساعد فيه على
البراءة.
هذا وإن الوحي الصادق الإلهي الرادع عن سوء التهم والقاهر ببيان قدرة
الله على خلاف العادات الطبيعية.
والمكذب بنفوذ مشيئته لشواهد الحال قد أعلمنا بفضل الله ولطفه بالطهارة
والبراءة في المقامين والله الهادي إلى سواء السبيل.
وأما هزوء المتكلف والمتعرب في هذا المقام واعتراضهما على الإطناب في
تشديد النكير والموعظة في آيات الإفك فهما معذوران فيه، إلا إذا نبههما
الراصدون بروحانيتهم لسياسة الاجتماع والمدنية المتكشفون بوصول عقولهم أسباب

184
الائتلاف وارتباط العواطف وحفظ الشرف وناموس العفة. وفهموهما أن أضر
شئ في ذلك هو الإقدام على التهم في الأعراض. فإن الكلمة البادرة من ذلك
تفعل ما لا تفعله السيوف وتجني ما لا تجنيه الحروب فإنها تثلم في شرف القبيلة
ثلما لا يتدارك، وتسم عمومهم بالعار وسما لا ينمحى وتحطهم عن الكفاءة
لأقرانهم ومن دونهم، وتصد طالبي العفة عن الرغبة في نسائهم، وتوقع بينهما
العداوة وتنشب الشر والعداوة بينهم وبين القاذف وقبيلته وتلجأهم إلى قتل
البرئ وتغرس البغضاء في العائلة وتقطع علائق عواطفهم وتجرعهم غصص
النكد والكمد وتشتت الشمل المجتمع وتفرق بين الطفل وأمه، والوالد وولده،
والحبيب وحبيبه، إلى غير ذلك من المضار الفظيعة..
وانها لتنشأ عن كلمة يقدر عليها الكبير والصغير والرجل والمرأة والقوي
والضعيف والشريف والوضيع. تتفلت من ألسنة ضعفاء النفوس بأيسر غيظ
وأدنى سبب فيسرع انتشارها في الناس فلا يدركها كتمان ولا يمحو أثرها حيلة
ولا تدبير، فلا يرتق فتقها ولا يداوى جرحها وأنها مما لا يصد عنه سلطة حاكم
ولا يردع عن بوادرها قدرة متسلط ولا سيطرة مؤدب إلا النواميس الروحية
المكتسبة من التعاليم الإلهية. فلا غرو إذا إذا أطنب القرآن الكريم في الزجر
عن ذلك. وأخذ في الردع عنه بمجامع أسباب التهذيب والتأديب والتشديد في
النكير والتغليظ في العقوبة والتلطف في الموعظة وأن هذا لمن إعجاز القرآن الذي
لا يخفى إلا على الغبي أو المتعصب. فنور فكرك وخذ حظك من التهذيب
والكمال بالنظر إلى سورة النور " 4 - 26 " وأنها مع ما فيها من جوامع الكلم
وبواهر الحكم في حفظ النظام وتهذيب الأخلاق وفلسفة صون العائلة وإصلاحها
لم تبلغ ألفاظها ربع ما جاء في التوراة الرائجة في صيدلة البرص والقوبا " انظر
إلى الثالث عشر والرابع عشر من اللاويين " واسأل الحكماء والأطباء عن ذلك ما
لم يكن فيهم كاهن، ولقد أوجزنا وأجملنا في كشف أسرار الآيات الشريفة،
وأخرنا شرح ما تصل اليه عقولنا بعون الله من فوائدها إلى حين التعرض لما في
القرآن من الأخلاق الاجتماعية.
ولا ألوم المتكلف والمتعرب فيما جاء به في هذا المقام فإنهما قد أشربت

185
قلوبهما طريقة العهدين الرائجين في نسبة الفظائع والفواضح إلى الأنبياء وعائلتهم
ونشر ذلك عن لسان الوحي " انظر إلى التكوين 12: 14 - 20 و 19: 31 -
38 و 20: 2 - 17 و 26: 7 - 12 و 34: 1 - 12 و 34: 1 - 4 و 35: 22 و 38: 13 -
30 " وإلى سفر القضاة " 11: 1 - 3 و 14 - 20 و 16: 1 و 4 " وإلى
صموئيل الثاني " 11 و 12 و 13: 1 - 22 " وزادت النسخة السبعينية في
الطنبور نغمة إذ ذكرت في هذه الحكاية الشنيعة أن داود لم يحزن روح آمنون ابنه
لأنه أحبه لأنه بكره.
وأيضا " 16: 20 - 23 " وإلى هوشع " 1: 2 - 2: 4 و 3: 1 - 4 "
وإلى متى " 1: 3 و 5 و 6 " وإلى لوقا " 7: 37 و 38 " وإلى يوحنا " 13:
23 - 26 " غفرانك اللهم تقدست أنبياؤك الطاهرون وكتب وحيك المطهرة وإنما
أردت بذلك أن يعتبر من يتوجه إليك بنور هداك.
وأما تشهي المتكلف " يه 1 ج ص 69 " في تشبثه بالرواية المضطربة في
السبب لنزول قوله تعالى في أول سورة التحريم: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل
الله لك) فسيأتي إن شاء الله التعرض له عند التعرض لما في الآية الشريفة من
الفوائد في نظم العائلة.
ومال المتكلف " يه 1 ج ص 69 " من تأمل تاريخ محمد ظهر له أنه اشتهر
بالقسوة والحقد فكان يغتال بالغدر والعدوان من عارضه إلى آخره.
أقول: وقد استشهد لذلك بما يروى من قصة عصماء بنت مروان وأبي
عفك وكعب بن الأشرف وبني قريظة. وأبي رافع.
وليت شعري هل تعدو وظيفة رسول الله المبعوث لإعلاء كلمة الحق
وانتشار الصلاح وقمح الفساد والمفسدين أن يكون حسب إعلان الوحي شديد
الوطأة على أعداء الله المفسدين في الأرض كانوا عثرة في سبيل التوحيد
وإعلاء كلمة الحق وحسن النظام فكان إعدامهم بكل وسيلة من لوازم الاصلاح
النبوي وأحسنه ما لا يثير فتنة ولا ينشب حربا.
ولئن كان هذا من القسوة والحقد والعدوان فيا لهفاه ويا أسفاه على موسى

186
كليم الله. وماذا يقولون فيه إذ أمر بقتل ذكور الأطفال وموطوآت النساء من
سبي مديان ولم يبقوا إلا البنات الأطفال اللواتي لم يقربهن ذكر. وإنما أبقوهن
لانتفاعهم بهن لا رقة عليهن " عد 31: 17 و 18 " وقتل بأمره كل من في مدن
سيحون من الرجال والنساء والأطفال " تث 2: 34 " وكذا مملكة عوج ملك
باشان " تث 3: 5 و 6 ".
ويا لهفاه ويا أسفاه على يشوع بن نون إذ قتلوا وحرموا بأمره كل ما في
مدينة أريحا من رجل وامرأة وشيخ وطفل حتى الحيوانات " يش 6: 17 و 21 "
وكذا كل من في مدينة عاي مما عدا البهائم " يش 8: 26 و 27 " وكل نفس
بمقيده، ولبنه، ولخيش، وعجلون، وحبرون ودبير. وكل أرض الجبل
والجنوب والسهل والسفوح " يش 10: 28 - 41 " وكذا حاصور " يش 11:
11 ".
ومع ذلك ينسب الأمر بهذا كله إلى الله، بل إنه هو الذي شدد قلوب
المحاربين لبني إسرائيل من هؤلاء ليقع هذا الفعل بهم وبنسائهم وأطفالهم ولا
تكون عليهم رأفة ويحرموا ويبادوا كما أمر الرب موسى " يش 11: 20 ".
فإن قلت: إن التوراة قد أعلنت بحكمة هذا التحريم والإبادة وهي
المحافظة على أن لا يختلطوا مع بني إسرائيل فيردونهم أو يردون أبناءهم عن
عبادة الله إلى عبادة آلهتهم " تث 7: 3 و 4 و 20: 18 ".
قلت: أولا لئن جاز هذا كله بما فيه من العظائم، وصح من موسى
ويوشع حذرا من العاقبة في المستقبل وحماية للتوحيد من احتمال أن يغوى نسل
هؤلاء المبادين لبني إسرائيل الذين عرفت في المقدمة الخامسة أنهم لم يستقروا على
التوحيد في جيل من أجيالهم من زمان موسى إلى سبي بابل. فلماذا لا يجوز
لرسول الله المبعوث لمحو الشرك وإعلاء كلمة الحق أن يطهر الأرض من رجاسة
فلان وفلان وبني النضير الذين قد أسرفوا وأفرطوا في مقاومة الموحدين والتوحيد
بأقوالهم وأفعالهم، وجرأتهم وبغيهم وغدرهم ونكث العهد، ونصرة الشرك.
أفلم ينظر المتكلف في السير ليعرف ما جناه هؤلاء وعلى الخصوص بني
النضير الفجرة الذين أرادوا بغدرهم أن يؤيدوا كلمة الشرك ويمكنوا المشركين

187
من قتل الموحدين.
وثانيا: إن حكم التوراة الرائجة بالتحريم وإبادة كل نسمة حتى الأطفال
مختص بسبعة شعوب: الحثيين. والجرجاشيين. والأموريين والكنعانيين.
والفرزيين. والحويين. واليبوسيين. " تث 7: 1 - 5 و 20: 16 - 18 "،
وأما غير هؤلاء الشعوب من المحاربين لبني إسرائيل، فإن نساءهم وأطفالهم
وبهائمهم تكون غنيمة ولا يقتلون " تث 20: 12 - 15 ".
فنقول: إن المديانيين إن كانوا من الشعوب السبعة، فلماذا أبقى موسى
من إناثهم الأبكار اللواتي لم يعرفن مضاجعة ذكر اثنين وثلاثين ألفا " عد 31 -
35 " أفأمن موسى من أن يغوين بني إسرائيل ويرددنهم إلى عبادة غير الله؟
كيف ولا وإن المديانيات هن اللواتي أغوين بني إسرائيل في شطيم إذ زنوا بهن
وأكلوا من ذبائح آلهتهن وسجدوا لها وتعلقوا ببعل فغور " عد 25: 1 - 18
و 31: 16 ".
وهل كان هذا منه محاباة لبني إسرائيل حيث أعجبهم جمالهن وذاقوا لذة
الزنى بهن. ولئن كان هذا عن أمر الله فهاهنا يقول القائل نحو ما قاله المتكلف
" يه 1 ج ص 66 س 13 " حاشا لله القدوس الطاهر أن يصادق على العمل
الشهواني المنبعث عن لذة الزنى الموقع في الشرك. هذا وإن لم يكن المديانيون من
الشعوب السبعة فلماذا قتل موسى أطفالهم الذكور وهم يبلغون الوفا عديدة
بمقتضى قياس الابكار من الإناث.
وأيضا كيف أقدم يشوع لأجل سرقة من الغنيمة فأحرق عخان وبنيه
وبناتهم مع أنهم مؤمنون من نسل إبراهيم من بني إسرائيل شعب الله وهب أن
عخان سرق فما ذنب البنين والبنات وما ذنب حيواناته حتى أحرقوها أيضا هي
وكل ما له " يش 7: 24 و 25 ".
وأيضا في العهد القديم أن صموئيل النبي أمر شاول أن يقتل عماليق
رجلا وامرأة طفلا ورضيعا بقرا وغنما جملا وحمارا انتقاما وتشفيا منهم لأجل ما
عملوه ببني إسرائيل حين وقفوا لهم بالطريق عند صعودهم من مصر " 1 صم
15: 2 و 3 " بعد ما مضى ما يقرب من أربعمائة وخمسين سنة.

188
أفليس هذا من القسوة والحقد؟ وأعجب من هذا إن ذلك ينسب إلى أمر
الله وحاشا له أن يأمر بقتل الأطفال الذين لا ذنب لهم ولا تكليف عليهم بفعل
الغير قبل ما يزيد على أربعة قرون.
" ورطات المتكلف " فإنه قد قابل بين قتل رسول الله لمن عدهم وقد
عرفت مظاهرتهم للشرك على التوحيد وبين عفو داود عن قتل شاول ملك
إسرائيل، وهذا من المضحكات فإن العهد القديم يقول: إن شاول رجل
مؤمن موحد قد تنبأ مع الأنبياء ومسحه الله ملكا على إسرائيل لتخليصهم فكان
متجردا للجهاد في سبيل الله ونصرة التوحيد وكسر شوكة الشرك والمشركين
ويكفي في ارتداع داود عن قتله اعترافه بأنه مسيح الرب " انطر صموئيل الأول
من التاسع إلى الرابع والعشرين ".
ولكن لماذا لم يذكر المتكلف في المقابلة ما يذكره العهد القديم عن داود
وحاشاه من غدره بأوريا في زوجته ونفسه ذلك الغدر الفاحش، ولماذا لم يذكر ما
يذكره كتابهم عن موسى ويشوع وصموئيل كما ذكرناه؟ وليت شعري ماذا ترى
المتكلف يقول في تقولاته لو لم يكن مثل ما ذكرنا في كتبه التي ينسبها إلى
الوحي؟ أتقول: إنه لم يطلع عليها، كيف وقد كرس نفسه مبشرا في نحلته
عالما من الكتاب؟ أفلم ينظر في كتبه حتى في المكتب الابتدائي؟ أيكون مثل
هذا في هذا الجيل المتنور. ما عشت أراك الدهر عجبا.
" دعوى الخطأ " ثم قال المتكلف " يه 1 ج ص 71 " في شأن رسول
الله " ص " كثيرا ما كان يخطئ في أعماله.
واستشهد لذلك بآيتين الأولى قوله تعالى في سورة الأنفال 68 (ما كان
لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد
الآخرة والله عزيز حكيم).
وقد أرسل المتكلف حسب أمانته وترويج غرضه في نزول الآية رواية
مضمونها أن رسول الله أتى بأسارى بدر وفيهم عمه وابن عمه فاستشار أصحابه
وأظهر في لوائح كلماته وأمثاله ميله إلى استحيائهم وفدائهم فخير أصحابه
فاختاروا الفداء فنزلت هذه الآية.

189
أقول: ولئن تشهى المتكلف فيما أرسل روايته فإن الرواية في هذا الشأن
مضطربة ذات وجوه، فعن أبي عبيدة قال: نزل جبرائيل على النبي " ص " يوم
بدر فقال: إن ربك يخبرك إن شئت أن تقتل هؤلاء الأسارى، وإن شئت أن
تفادي بهم ويقتل من أصحابك مثلهم فاستشار أصحابه فقالوا: نفاديهم فنتقوى
بهم ويكرم الله بالشهادة من يشاء.
وفي رواية أن رسول الله كان كارها لاستحياء المشركين وآخذا الفداء حتى
رأى سعد بن معاذ كراهية ذلك في وجهه الشريف فرجح له قتلهم. وكذا
عمر بن الخطاب فاستحسن قولهما.
وفي رواية أخرى لما أمر رسول الله بقتل عقبة والنفر من الأسارى خافت
الأنصار أن يأمر بقتلهم جميعا فقاموا إليه واستوهبوهم منه ليأخذوا منهم الفداء،
وعلى كل حال فليس في صريح الآية ولا ظاهر سوقها إنكار على رسول الله ولا
توبيخ على فعله ولا تخطئة لعمله، وإنما لفظها وسوقها يعطي أن التوبيخ كان
للأمة حيث اختاروا عرض الحياة الدنيا من فداء الأسارى ولم يشددوا الوطأة على
أعداء الله فهي كقوله تعالى في سورة النساء 96: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم
السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا).
فإن قلت: فما ذكر النبي هاهنا قلت للأعلام بأن استحياء الأسارى والفداء
إنما هو للنبي ووظيفته الخاصة به يجري فيها بحسب ما يراه من الأصلح والأولى
والأنسب بالعزة، وليس لأحد أن يتعدى طوره بالتعرض في ذلك فكانت هذه
بيانا لمن له الوظيفة وزجرا لمن يتداخل فيها فضولا أو رغبة في المال، هذا على
مقتضى الرواية بأن الآية نزلت في الإبقاء على الأسارى بعد أسرهم. وأما إذا
أعرضنا عن الرواية لكونها من الآحاد المضطربة لفظا ومضمونا فلا تفيد علما ولا
ظنا بسبب النزول، فلنا أن نقول إن ظاهر الآية يقتضي كونها توبيخا على نفس
الأسر في أول الأمر وترك قتل المأسورين في أول الظفر بهم وهذا أمر لا ربط له
برسول الله لأنه وقع في أمكنة متباعدة وأوقات مختلفة عندما تشتت المشركون
بالهزيمة.
وأما ذكر النبي فلبيان حكم الحرب الشرعية التي يقوم بها النبي لتأييد

190
دعوته وإظهار شريعة الحق والتوبيخ للمجاهدين بأن هذه الحرب لا ينبغي
للمجاهد أن يميل فيها إلى عرض الحياة الدنيا، وليست مثل سائر حروبكم
المقصود منها الغلبة الوقتية ومطامع النهب وفداء الأسارى.
وأما إضافة الأسرى إلى النبي فلبيان علو شأنه وأنه أولى بأمرهم لأن سلطة
الأسر والغلبة إنما كانت ببركات رئاسته ودعوته ونجدته وشدته في ذات الله
واستجابة دعائه.
فإن قلت: إذا كانت المصلحة في عدم الأسر، بل الأولى إعدام
الأسارى وقتلهم، فلماذا لم يأمر رسول الله بقتلهم؟ ولماذا رضي للمسلمين
باستحيائهم وأخذ الفداء.
قلت: إن المصلحة وإن كانت كذلك أولا وبالذات إذلالا للشرك وتثبيتا
لنيات المجاهدين على الشدة في ذات الله وإعلاء كلمة التوحيد، ولكن لما علقت
آمالهم بفداء الأسارى وكان قتلهم جميعا بعد سكون الحرب يعده المشركون من
الغلظة والقسوة وسوء الولاية فتستحكم بذلك عقدة الأضغان ويشتد بذلك
تكالب المشركين على الإسلام والمسلمين، صارت المصلحة بتسويغ أخذ الفداء
تقوية للمجاهدين وتثبيتا لعزائمهم على الإقدام في الحرب وتسكينا لغوائل
الأضغان والأحقاد وصونا لكرم أخلاق رسول الله عن شطط قول المشركين
والمنافقين، ولعل هذا هو المراد من قوله تعالى في هذا المقام: (ولولا كتاب من
الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا).
وأما الآية الثانية التي استشهد بها المتكلف لدعواه فهو قوله تعالى في سورة
براءة 43: (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم
الكاذبين).
فاعلم أن ما بعدها من الآيات من الرابعة والأربعين إلى الثامنة والأربعين
لينادي بأن صورة العتاب فيها على الإذن لم تكن الملامة لرسول الله " ص " حتى
على ترك الأولى، وإنما حقيقتها ومرماها هو التوبيخ لهؤلاء القاعدين المستأذنين
بنحو من لحن الخطاب الموجه لرسول الله بيانا لضلالهم وموافقة إذنه صلوات الله

191
عليه لهم للصواب والسداد من حيث المصلحة الجهادية، وليس في عدمها من
الفائدة إلا افتضاحهم عند رسول الله وعلمه بكذبهم في التعلل بالمعاذير،
وصدق الصادقين في الجهاد، وفضيلتهم حيث أعدوا له عدته.
فسوق الآيات الخمس قرينة قاطعة على أن قوله تعالى (عفى الله عنك)
بنحو لا ربط له بتقدم الذنب وإنما هو جار على النحو المتعارف في التلطف
والعناية في الخطاب بتصديره بنحو من الدعاء والإكرام رفعا لحزازة ما في أثنائه
من صورة العتاب وصرفا لحزازته إلى من قصد به.
وبهذا تعرف ما في كلام المتكلف " يه 1 ج ص 72 - وكذا 73 " حيث
قال ومع ذلك فقالوا: إن الله عاتبه ولو كان الإله الحقيقي هنا لعاقبه أشد
العقاب، ففي التوراة لما أخذ عخان بعض الأشياء المحرمة ضرب الله الأمة
الإسرائيلية بتمامها وسلط عليها من هزمها، ولما كان أحد ملوك بني إسرائيل
يبقى واحدا من الذين أمر الله بإعدامهم عقابا لهم على خطاياهم كان يضربه
ضربة شديدة بخلاف الحال هنا فإذا اقترف محمد المنكر الذي يستوجب أشد
عقاب وأنكى عذاب يعاتبه الله ويلاطفه ويراعي خاطره. فأين عدل الله
وقداسته.
أقول: قد أقام المتكلف من حيث لا يشعر برهانا على براءة رسول الله
هاهنا من مخالفة أمر الله أو فعل ما لا يرضاه وإلا لعاقبه أشد العقاب أفتراه
يقول: إن الإله الحقيقي غير حاضر هاهنا، وإنه يشتهي أن يستهزئ بعدل الله
وقداسته كما يفتري على قدس رسوله. أو كما ينسب العهد القديم إلى الله
القدوس العادل أمورا تنافي العدل والقداسة ويمتنع صدورها من الله جل شأنه.
" منها " أن عخان سرق من الغنيمة فغضب الله على بني إسرائيل وسلط
عليهم الكفرة ونسب إليهم السرقة والخيانة مع أن المقام ينادي بأن عامة بني
إسرائيل لم يكن لهم علم بذلك ليؤاخذوا بترك النهي عن المنكر ومع ذلك
فأحرق عخان هو وبنيه وبناته وبهائمه وكل ما له بأمر الله تعالى الله عن ذلك
ومقتضى العادة لا بد أن يكون في بنيه وبناته من هو طفل غير مكلف أو لا يعلم
بالسرقة أو ضعيف لا يقدر على النهي عن المنكر فأي عدل يعاقب هؤلاء بذنب

192
غيرهم " انظر يش 7 ".
" ومنها " أن صموئيل النبي أمر شاول ملك إسرائيل عن أمر الله بأن يقتل
عماليق رجلا وامرأة طفلا ورضيعا عقابا لما فعله أسلافهم قبل أربعمائة سنة
تقريبا. وهب أن الكبار كفرة مستحقون للقتل، فأين يكون قتل الأطفال
والرضعان من العدل؟.
" ومنها " أن العهد القديم نسب إلى داود وحاشاه في شأن أوريا وامرأته ما
هو من أعظم الخطايا وأشنعها، فكان عقابه أن سلط عليه ابنه ليزني بنسائه،
ومع ذلك يقول ناثان النبي لداود الرب أيضا قد نقل عنك خطيئتك لا تموت
" 2 صم 12: 13 ". فهل يقول المتكلف هاهنا أين عدل الله في عدم عقابه
بالموت؟ وأين قداسته بعقابه بالزنا تعالى الله عما يقولون.
ثم قال في شأن رسول الله: كان دأبه مراعاة صاحب الجاه والشوكة وعدم
الاكتراث بالمسكين والفقير فمرة قطب في وجه الأعمى ولم يلتفت إليه مع أنه كان
آتيا ليتعلم منه ديانته، ولما عرف أن هذا لا يليق ادعى بأن الله وبخه، فورد في
سورة عبس 1 (عبس وتولى أن جاءه الأعمى 3 وما يدريك لعله يزكى 4 أو
يذكر فتنفعه الذكرى 5 أما من استغنى 6 فأنت له تصدى 7 وما عليك ألا يزكى
8 وأما من جاءك يسعى 9 وهو يخشى 10 فأنت عنه تلهى.. الخ).
روى أن ابن أم مكتوم أتى محمدا وهو يتكلم مع عظماء قريش وقال:
أقرأني وعلمني مما علمك الله فلم يلتفت إليه وقال في نفسه يقول هؤلاء
الصناديد إنما اتبعه الصبيان والسفلة فعبس في وجهه وأعرض عنه.
أقول: أما أولا فإن التشبث بهذه الرواية لما يدعيه باطل من وجوه:
" أولها " كون الرواية من رواية الآحاد التي قد عرفت حالها.
" ثانيها " كونها مقطوعة السند، فإن أقرب الرواة في سندها إلى الزمان
الذي تنسب إليه الحكاية هما ابن عباس وعائشة. وهما في ذلك الزمان إما أن لا
يكونا مولودين أو أنهما طفلان لا يميزان شيئا.
" ثالثها " كونها مضطربة النقل فإنه يروي عن عائشة تارة أن رسول الله

193
حين جاءه ابن أم مكتوم كان عنده رجل من عظماء المشركين، وتارة أنه كان في
مجلس في ناس من وجوه قريش منهم أبو جهل وعتبة بن ربيعة، وتارة أن اللذين
كانا عنده عتبة وشيبة.
وفي الرواية عن ابن عباس أنه لقي عتبة والعباس وأبا جهل، وفي الرواية
عن أنس أبي ابن خلف، وفي الرواية عن أبي مالك أمية بن خلف وفي الرواية
عن مجاهد عتبة بن ربيعة وأمية بن خلف، وفي رواية أخرى عنه أن رسول الله
كان مستخليا بصنديد من صناديد قريش، وفي الرواية عن الضحاك لقي رجلا
من أشراف قريش، وأن هذا الاضطراب مما يلحق الرواية بالخرافة.
" رابعها " كونها معارضة بما هو أحسن منها طريقا، فقد روى أن الذي
عبس في وجه الأعمى ونزلت فيه الآيات هو غير رسول الله ويدل على ذلك قوله
تعالى في السورة (وأما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى) فإنه
لا يصح أن يكون خطابا لرسول الله لأن كل أحد يعلم أنه لم يكن من وظيفة
رسول الله ولا خلقه ولا عادته ولا همته في الهدى أنه لا يبالي بتزكي أحد
بالإسلام. كيف وقد كان أقصى همته الدعوة إليه خصوصا لمن يقوي الدين
بإسلامهم. وليس كل خطاب في القرآن هو خطاب لرسول الله فإن فيه ما لا
شك بكونه خطابا لغيره كقوله تعالى في سورة القيامة المكية 34 (أولى لك
فأولى 35 ثم أولى لك فأولى).
" خامسها " أن ما في الرواية من سوء الخلق مع الأعمى ومداهنة قريش
مناقض لما هو المعروف من خلق رسول الله ولا سيما مع المسلم المسترشد
ومناقض أيضا لقوله تعالى في سورة القلم المكية 4 (وإنك لعلى خلق عظيم 9
ودوا لو تدهن فيدهنون). وقال تعالى في سورة آل عمران 153: (فبما رحمة
من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك).
" وأما ثانيا " فإنا لو تنزلنا مع المتكلف وفرضنا صحة ما تشبث به من
الرواية في نزول الآية لما خرج كلامه عن كونه افتراء على قدس رسول الله. فإن
من يفرض أنه أعرض مرة عن الأعمى مراعاة لبعض المصالح فأدبه الوحي أو
على زعم المتكلف عرف أن هذا لا يليق فتداركه.

194
هل يسوغ ممن يتقي فضيحة الافتراء أن يقول في شأنه كان دأبه مراعاة
صاحب الجاه والشوكة وعدم الاكتراث بالفقير والمسكين، فمرة قطب في وجه
الأعمى.
وليت شعري ألم يسمع المتكلف من قطعيات السير والتواريخ هتافها بأن
رسول الله " ص " كان من أول أمره إلى آخر عمره يعد الفقراء والمساكين خير
جليس وأحسن أنيس وأخص سمير، وأقرب بطانة حتى ساء ذلك أهل الشرف
وشق عليهم.
أفلم يسمع من القرآن الكريم إطراءه بمدح خلق رسول الله، أفلم يسمع
أقلا من الروايات التي تشبث بها هاهنا أن رسول الله كان شديد الاعتناء بابن أم
مكتوم لأن الله عاتبه فيه.
ومن الظرائف أن المتكلف أيد مزاعمه هذه بما أرسل روايته حسب مشتهاه.
من أن الأقرع وعيينة وجدا رسول الله جالسا مع صهيب وبلال وعمار وخباب
ونفر من ضعفاء المؤمنين فحقروهم وقالوا لرسول الله لو جلست في صدر
المجلس ونفيت عنا هؤلاء ورائحة جبابهم، وكانت لهم جباب صوف لها رائحة
ليس عليهم غيرها لجالسناك وأخذنا عنك، وأن وفود العرب تأتيك فنستحي أن
ترانا العرب مع هؤلاء إلا عبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا فإذا نحن فرغنا
فاقعدهم حيث شئت قال: نعم قالوا: فاكتب لنا بذلك عليك كتابا فأتى بصحيفة
ودعى عليا ليكتب فنزل قوله تعالى في سورة الأنعام 52 (ولا تطرد الذين
يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شئ وما
من حسابك عليهم من شئ فتطردهم فتكون من الظالمين).
فأقول: أما أولا كيف يجعل هذه الرواية مؤيدة لما توضح بطلانه، فأين
هو عن صراحتها بأن رسول الله كان يجلس مع هؤلاء كأحدهم ولا يكون في
مجلسه معهم صدر يختص به كعادة الأشراف، وإن انفصالهم عنه، واختصاص
بعض مجالسه بذوي الجاه كان متعسرا يتوصل طالبه إلى تحصيل قراره بكتابة
الصحائف.
فهل هذا شأن من دأبه مراعاة صاحب الجاه والشوكة وعدم الاكتراث

195
بالمسكين فأين الأفهام وأين التمييز؟
" وأما ثانيا " فإن هذه الرواية بسبب نزول هذه الآية مما لا يكاد أن
يصح لأنها قد رويت مضطربة بوجوه متناقضة وأحوال متفاوتة، فإن ذكر الأقرع
وعيينة وطلبهم من رسول الله مجالسته ليأخذوا عنه وذكرهم لوفود العرب عليه
يقتضي أن تكون الواقعة في المدينة بعد فتح مكة.
وكذا رواية الزبير بن بكار في أخبار المدينة خصوصا مع ذكر المؤلفة قلوبهم
فيها.
وعن ابن مسعود أن الذين طلبوا من رسول الله طرد الفقراء ليتبعوه هم
الملأ من قريش.
وعن عكرمة عد جماعة من قريش وأشراف الكفار من عبد مناف، وأنهم
توسطوا لطرد رسول الله للمساكين بأبي طالب فأشار عمر بطردهم فنزلت الآية
فأقبل عمر معتذرا من مقالته وهذا لا يكون إلا في مكة قبل الهجرة إلى غير ذلك
من الروايات المضطربة التي يلزم أيضا من ذكر سلمان الفارسي في بعضها كون
الواقعة في المدينة.
وأيضا فقد روى من طرق كثيرة أن سورة الأنعام نزلت بمكة جملة واحدة
فيكون ذلك منافيا لما يلزمه كون الآية نزلت في المدينة كمرسلة المتكلف، ومنافيا
أيضا لما يلزمه كون الآية نزلت مستقلة عن السورة لأجل سبب خاص، بل لعل
جميع روايات النزول تذكر أن هذه الآية نزلت في مكة أو غير المدينة، وأنها
نزلت في جملة السورة فلا يبقى في روايات أسباب النزول مع اضطرابها ووهنها
في نفسها، رواية غير معارضة بما يكذبها بمضمونه.
انظر أقلا إلى الدر المنثور تفسير السيوطي عند أول سورة الأنعام وعند
تفسير الآية المذكورة فالصواب أن يقال في الآية أنها نزلت لحسن التأديب
وتهذيب الأخلاق وخوطب بها النبي " ص " ككثير من خطاب القرآن من باب
" إياك أعني واسمعي يا جارة "، بل ككثير من خطاب التوراة.
ثم تعرض المتكلف " يه 1 ج ص 74 و 75 " لذكر آيات توهم صدور

196
الذنب من رسول الله وها نحن نذكرها ونذكر ما ينبغي أن يقال فيها.
الآية الأولى: قوله تعالى في سورة الإنشراح 2 (ووضعنا عنك وزرك 3
الذي أنقض ظهرك) فنقول: إن الوزر في اللغة هو ما يثقل ويتعب وبهذا
الاعتبار استعير للذنب اسم الوزر كما حسن أن يستعار للهم المجهد والغم
الباهظ ولقد كان رسول الله " ص " قبل البعثة في أشد ما يكون من الغم
والهم، وأثقله وأجهده لأجل ما يراه من ضلال الناس و أهوائهم المردية
وعوائدهم القبيحة وعباداتهم الباطلة ويتجرع من ذلك غصص النكد حتى أنه
صلوات الله عليه كان لأجل ذلك يحب العزلة ويلازم غار حراء مدة من السنة
مستوحشا من ضلال الناس معانيا لأعباء هذا الهم المبرح وعسر الحيرة وضيق
الصدر منتظرا لفرج الله ولطفه ورحمته والواسعة حتى شرح الله صدره ويسر أمره
وفتح له باب الهدى والرحمة بالوحي ووضع عنه أوزار الهم والعنا بالبعثة والرسالة
بالدعوة إلى الحق فوجد من ذلك انشراح الصدر، وروح الهدى وراحة الفرج،
ومسرة اليسر.
ويرشد إلى ذلك دلالة العقل والنقل على عصمة النبي، وكذا سوق
السورة في طرد الامتنان بقوله تعالى: (ألم نشرح لك صدرك) أي بالوحي
والنبوة بعد ما كان ضيقا بالهموم (ووضعنا عنك وزرك) أي ثقل الهم والغم
ببركة الأمر بالدعوة، (ورفعنا لك ذكرك)، أي بالرسالة وحقائق معارفها.
ويوضح ذلك تعليله المؤكد بقوله تعالى: (فإن مع العسر يسرا 6 إن مع
العسر يسرا)، فإن هذا التعليل إنما يناسب الفرج من الضيق وتيسير الأمور،
وإزاحة ثقل الهم الباهظ، ولا مناسبة له مع غفران الذنوب. على أنه لو كان ما
ذكرناه احتمالا مساويا في الآية لكفى في إبطال مزاعم المتكلف.
الآية الثانية: قوله تعالى في خطاب رسول الله في سورة الفتح 1 (إنا
فتحنا لك فتحا مبينا 2 ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته
عليك ويهديك صراطا مستقيما 3 وينصرك الله نصرا عزيزا).
وأن سوق الآيات يأبى أن يكون المراد من الذنب فيها هو معصية الله بل

197
المتعين بمقتضى مناسبة السوق أن يكون المراد ذنبه عند قريش والعرب من أجل
ما جاء به في دعوته الباهظة لأهوائهم الملاشية لدينهم الفاسد، وما قام به من
الدفاع عن حوزة دين الحق بالحروب التي أرغمت آنافهم وحطتهم عن جبروتهم
وطاغوتهم فإنه لا مناسبة بين الفتح المبين وغفران الذنوب التي هي معصية الله
ليكون الفتح سببا له، بل في السوق والمناسبة شهادة قاطعة بأن هذا الفتح سبب
لغفران ذنبه صلوات الله عليه عند قريش والعرب لما شاهدوه من عفوه وإحسانه
ولطفه، وأيقنوا به في صدقه في دعوته وأنه على بينة من ربه وأن غرضه الشريف
الحميد وراء دواعي الهوى وحب الرئاسة والسلطة والهوى في أمر الدين وإلا
لشدد في الانتقام والتشفي.
وقد رأوه على شدة ما جنوه عليه بضلالهم وطغيانهم وقبح معاملتهم له قد
أعرض عن أوتاره وثاراته التي عندهم، وفداها لكلمة التوحيد وملاشاة الأوثان
فصار بذلك أعدى أعدائه المحاربين له قبل الفتح يسير تحت ركابه ومرف لوائه
في حومة الحرب ولهوات الموت يقيه بنفسه ويجاهد بين يديه.
انظر أقلا إلى سيرة غزوة حنين القريبة من الفتح فأتم الله نعمته على
رسوله بهذا الفتح إذ جمع له من شذ عنه من قريش وغيرهم الذين كانوا عثرة في
سبيل التوحيد والإسلام وعقبة دون المسجد الحرام، وهداه صراطا مستقيما إلى
إقامة شعائر الحج وسنن أبيه إبراهيم ونشر دين الحق وبث الدعوة ونصره الله
نصرا عزيزا انقادت به جزيرة العرب للتوحيد وتخطتها الدعوة إلى مملكتي فارس
والروم.
ويمكن أن ينزل على هذا المعنى قوله تعالى في سورة المؤمن 57 (فاصبر
إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار).
وكذا قوله تعالى في سورة محمد " ص " 21 (فاعلم أنه لا إله إلا الله
واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) ويمكن أن يكون تعليما للأمة وإن كان
الخطاب للرسول كما قدمناه في قوله تعالى في سورة بني إسرائيل 24 (وبالوالدين
إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما الآية) ولو لم يكن في
سوق الآيات ما يدل على ما ذكرنا للزم حملها عليه بقرينة دلالة العقل والنقل

198
على عصمة الرسول.
وهب أن ما ذكرناه في الآيات احتمال محض فإنه يكفي في إبطال تكلف
المتكلف " يه 1 ج ص 74 " إذ ليس في الآيات مثل صراحة العهدين
بنسبة القبائح إلى الأنبياء كما سمعت منه في هذه المقدمة ما تمجه الأسماع.
" آداب القضاء " قال المتكلف " يه 1 ج ص 75 " ونقول أيضا: إنه
" يعني قدس رسول الله " ص " كان جائزا في أحكامه ولما ظهر له انحرافه رجع
عنه، كما ورد في سورة النساء 106 (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين
الناس بما أراك ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله إن الله كان غفورا
رحيما).
قال ابن عباس: نزلت هذه العبارة في رجل من الأنصار يقال له طعمة
سرق درعا من جار له يقال له قتادة بن النعمان وكانت الدرع في جراب فيه
دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى داره ثم خبأها
عند رجل من اليهود يقال له زيد بن السمين فالتمست الدرع من عند طعمة
فحلف بالله ما أخذها وما له به من علم فاتبع أصحاب الدرع أثر الدقيق حتى
انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها منه فقال اليهودي: دفعها إلي طعمة، وزاد في
الكشاف وشهد له جماعة من اليهود وجاء بنو ظفر قوم طعمة إلى محمد وسألوه أن
يجادل عن صاحبهم طعمة فهم محمد " ص " أن يعاقب اليهودي وأن يقطع يده
بلا حق وهو حرام وعلى كل حال فهو مذنب فلو لم يذنب لما استغفر ربه ولو كان
نبيا لعرف الحرامي الحقيقي من أول الأمر.
أقول: هب القصة على ما زاده في الكشاف وأنه ليس فيه إلا أن رسول
الله هم أن يعاقب اليهودي فنزلت عليه الآية قبل أن يفعل. فكيف يجترئ
المتكلف ويقول: إنه كان جائرا في أحكامه فإن هذه الكلمة تقال فيمن تكرر منه
الجور في الأحكام وكان عادة له، ثم إن الكشاف قال " وقيل إنه هم أن يقطع
يد اليهودي " وهذا مشعر بأنه لم يصح هذا القول عند الكشاف فلماذا يخون
المتكلف في النقل.
وأيضا أن هذه القصة قد تلونت روايتها واضطربت اضطرابا شديدا

199
يكشف عن كونها لا أصل لها فقد جاء في روايتها وجوه:
1 - ما نقله المتكلف أولا.
2 - ما زاده الكشاف.
3 - ما نسبه إلى القيل.
4 - إن المسروق منه رفاعة بن زيد من مشربته " محل في الدار ".
5 - عن ابن عباس أيضا والحسن نفر من الأنصار في بعض الغزوات سرقت
درع لأحدهم.
6 - السارق بشير بن أبيرق دعاه رسول الله فأنكر ورمى بالسرقة لبيد بن
سهل.
7 - رمى بها رجلا من اليهود.
8 - بنو أبيرق رموا بها لبيد بن سهل رجل له صلاح وإسلام.
9 - طعمة بن أبيرق استودعه رجل من اليهود درعا ودفنها بيده فأخذها.
طعمة فألقاها في بيت أبي مليك الأنصاري.
10 - طعمة سرق درعا لعمه كانت وديعة عندهم فقدم بها على يهودي.
11 - طعمة استودعه رجل من الأنصار مشربة له فيها درع فلما قدم لم
يجد الدرع فرمى بها طعمة يهوديا.
انظر إلى الدر المنثور تجد ما ذكرناه من الاضطراب قليلا من كثير ومع هذا
الاضطراب الفاحش لا يصح التشبث بهذه القصة لشئ.
فالآية الشريفة واردة في القضاء إشعارا للعباد بأن الله أنزل على رسوله
كتابا يهديه إلى الحكم بالحق وأدب رسوله بآداب القضاء ليسمع من للمتداعيين
كلامهما ويحكم بينهما بما أراه الله، ولا يكون طرفا في المخاصمة فلا يكون خصما
يخاصم الخائن ولا يجادل عنه، كما في قوله تعالى 107 (ولا تجادل عن الذين
يختانون أنفسهم).

200
وأما قول المتكلف فلو لم يكن مذنبا لما استغفر من ربه فهو شطط لأنه ليس
في الآية الشريفة أن رسول الله استغفر عن ذنب فعله وإنما في الآية قوله تعالى
(واستغفر الله) فيجوز أن يكون الاستغفار المأمور به هو الاستغفار للمبطل
من المتداعيين إشعارا للعباد برفع أضغان التداعي أو إشارة إلى أن مخاصمة
المبطل الخائن خروجه عن وظيفة القضاء وأمر يحتاج إلى الاستغفار، فما حال من
يجادل عن الخائنين كل ذلك ليتأدب قضاة الأمة بهذه الآداب كما جاء قوله تعالى
في خطاب رسول الله (وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو
كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما).
وأما قول المتكلف ولو كان نبيا لعرف الحرامي الحقيقي من أول الأمر فهو
شطط أيضا.
أما أولا فإن اضطراب رواية القصة لا يسمح لها بشئ من الثبوت حتى
يبنى على أساسها.
وثانيا: من أين يلزم في النبي أن يكون عالما بكل شئ من أول الأمر في
الأحكام والموضوعات بل إنما يعلم بسبب إعلام الوحي.
أفلم ينظر المتكلف في كتب وحيه أن يشوع النبي لم يكن يعلم بالسرقة من
الغنيمة؟ ولا بالسارق حتى أعلمه الوحي بالسرقة؟ وعين عخان بالقرعة
فاستنطقه فاعترف بالسرقة، ودله على موضع دفنها، " انظر سابع يشوع ".
وأن موسى كليم الله لم يعلم أن جلد وجهه صار يلمع في كلام معه " خر
34: 49 "، وقد يشاء الله أن لا يعلم رسله ببعض الأشياء إلى آخر الأمر
" ففي ثالث عشر مرقس 32 ":
وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بها أحد ولا الملائكة الذين في
السماء ولا الابن إلا الأب.
" شطط الغرور " قال المتكلف " يه 4 ج ص 251 و 252 " ارتياب محمد
في الله قال في القرآن (إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي...)، وقال أيضا:

201
(ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) واستنتج علماء المسلمين
من هاتين العبارتين أن محمدا مثل الأمة في حق صدور المعصية منه وتقدم في
الجزء الأول بعض أعماله ومقتضى القانون الذي وضعه المعترض وهو الشك في
الإله كفر، إن محمدا ورد في القرآن أنه شك وأشرك وخسر وكفر وافترى
وامترى وضل وجهل وكذب إلى غير ذلك.
أقول: وقد تشبث لهذه الجرأة على قدس رسول الله بما توهمه من قوله تعالى
في سورة يونس 94 (وإن كنت في شك مما أنزلنا إليك) - أي في نبأ نوح
وقومه ونبأ موسى وهارون مع فرعون -. (فاسأل الذين يقرؤن الكتاب من
قبلك).
وقوله تعالى: (فلا تكونن من الممترين، ولا تكونن من الذين كذبوا
بآيات الله فتكون من الخاسرين، ولا تكونن من المشركين ولا تدع من دون الله
ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين) ونحو ذلك.
فأقول أما قوله تعالى (قل إنما أنا بشر مثلكم)، فلا يفيد سوق الآية
ولا لفظها إلا تثبيت التوحيد ورفع أوهام الغلو برسول الله، وتمام الآية (يوحي
إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك
بعبادة ربه أحدا).
وأما قوله تعالى: (فلو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا)
فقد قدمنا لك في أوائل هذا الفصل دلالتها ومرماها فراجع.
وأما قوله تعالى: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك الآية)، فإن إن
الشرطية فيه للتعليق على فرض الشك والمراد من ذلك تلقين الحجة لرسول الله
فيما أوحي إليه وإعلامه بأن ما أوحي إليه في شأن نوح وقومه وموسى مذكور في
الكتب التي لم تطلع عليها أنت ولا قومك، بل لنا أن نقول أن صورة الخطاب
وإن كانت لرسول الله ولكن المقصود من ذلك قومه الذين لا اطلاع لهم على
الكتب السابقة.
ولا نجيب عن الآية الشريفة بأنها مثل ما يحكى عنه قول المسيح " إن

202
كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقا " يو 5: 31 " لأنه حكى عن قول
المسيح شهادته لنفسه وقوله أنا هو الشاهد لنفسي " يو 8: 18 " ولا دليل من
القرآن على أن رسول الله شك فيما أنزل إليه، كما تدل التوراة الرائجة على أن
موسى وحاشاه شك في وعد الله وأجاب بالاستهزاء والسخرية كما ذكرناه في
أواخر الفصل السابع في عصمة موسى فراجعه.
وأما النواهي الواردة في القرآن الكريم عن الشرك والامتراء والجهل
والمظاهرة للكافرين ونحو ذلك فهي مثل ما تذكره التوراة من النواهي الواردة
عن خطاب الله لموسى لا يكن لك آلهة أخرى أمامي. لا تسجد لهن ولا
تعبدهن لا تنطق باسم الرب إلهك باطلا. لا تقتل، لا تزن لا تسرق، لا
تشهد على قريبك شهادة زور، لا تشته امرأة قريبك " خر 20: 3 - 17 " لا
تضع يدك مع المنافق لتكون شاهد ظلم، لا تتبع الكثيرين إلى فعل الشر " خر
23: 1 و 2 ".
فإن كل من له فهم مبرء عن رجاسة العصبية ورذيلة الغرور يعلم أن
الخطاب بهذه النواهي لا يدل على أن المخاطب قد كان فعل الشئ المنهي عنه.
بل يعرف أنها إذا خوطب بها النبي فهي لتأسيس الشريعة وبيان تعاليمها للأمة
وقد بقي للمتكلف ما هو من قبيل هذا مما يتشبث له بأخبار الآحاد المضطربة
المردودة في الجامعة. وقد أخرنا التعرض لها إلى المحال المناسبة لذكرها على أن
الناظر العارف يتضح له وجه بطلانها مما شرحناه هاهنا والله الموفق.
وأن المتكلف قد غالطه وهمه بأن يدرك مقصوده في التمويه بالتشبث بأقوال
بعض المفسرين ونحوها مما لا تقيم له الجامعة الإسلامية وزنا فقال: " يه 3 ج
ص 5 " الشيطان قرين محمد، وتشبث بنقله عن بعض المفسرين قولهم: أنه
كان لرسول الله عدو من شياطين الجن كان يأتيه بصورة جبرائيل وأنه يسمى
الأبيض.
وليت شعري كيف ترى المتكلف يصول ويتحمس لو جاء في كتاب إلهامي
عند المسلمين أو سيرة تسالموا عليها أن الشيطان تصرف برسول الله كما جاء في
الأناجيل التي تسالم النصارى على إلهاميتها في شأن المسيح وحاشاه من أنه بعد أن

203
اعتمد من يوحنا بمعمودية التوبة وانفتحت السماوات وأتاه روح الله وروح
القدس مثل حمامة جسمية وصوت من السماء هذا هو ابني الحبيب الذي سررت
به وامتلأ من الروح القدس أصعده الروح إلى التربة أربعين يوما ليجرب من
إبليس.
أو تدري ما معنى ذلك؟ هو أن يروض نفسه ويؤدبها على مخالفة الشيطان
وهوى النفس الذي هو شبكته لئلا يقوى الشيطان عليه بالغواية.
فإن قلت: ما حاجة المسيح إلى التجربة من إبليس والتأديب للنفس عن
اتباع الهوى، مع أن المتكلف يزعم أنه ابن الله والأقنوم الثاني وهو والله واحد،
والإله الذي تقمص الطبيعة البشرية ليرفع قدرها، بل الكلمة الذي كان عند
الله وكان هو الله كل شئ به كان وبغيره لم يكن شئ فيه كانت الحياة والحياة
كانت نور الناس " يو 1: 1 - 5 ".
قلت: لا أدري ومن ذا الذي يدري؟ فاستمع إلى تمام الكلام فإن
الشيطان بعد تجربة الأربعين يوما أصعد المسيح إلى جبل عال وأراه جميع ممالك
المسكونة في لحظة من الزمان، وقال له إبليس: أعطيك هذا السلطان كله
واسجد لي، ثم جاء به من البرية إلى أورشليم وأقامه على جناح الهيكل وقال
له: إن كنت ابن الله فاطرح نفسك من هاهنا " مت 4: 3 - 11 " ولو 4: 3 -
13 ".
فإن قلت: إن من كان في مزاعم المتكلف وأصحابه بالمنزلة التي ذكرناها
عنهم من الألوهية ولوازمها كيف يطمع فيه إبليس أن يسجد له بعد تجربة
أربعين يوما، وإنا لنرى أن من كان من الصالحين فيه شئ من النعمة والتوفيق
الإلهي ليندحر عنه إبليس ولا يطمع في إغوائه إلا بالاختلاس والمخادعة من
ناحية التقوى، فكيف يطمع بالمسيح في السجود له؟ وكيف لم يجبه المسيح على
مزاعم المتكلف وأصحابه بقوله اخسأ يا شيطان فإني أنا الإله المستحق للسجود
ولي ملكوت كل الموجودات وبي كان كل شئ وبغيري لم يكن فهي في قبضة
سلطاني. ولماذا أخفي هذه الحقيقة والحال أنه لم يكن معهما أحد من اليهود
ليخاف منه، بل قال له: إنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه تعبد، ومن هو

204
إله المسيح ومعبوده إذا كان المسيح إلها.
وكيف يتصرف الشيطان بالإله؟ فمرة يصعده إلى جبل ومرة يأتي به من
البرية ويقيمه على جناح الهيكل. وكيف أراه كل المسكونة في لحظة من الزمان
أفلم يكن يراها من يقال: إنه إله؟ أفيكون الشيطان أقدر على ذلك من
الإله؟
قلت: لا أدري سل عما عندك في هذا الشأن ممن يبشر لا بحكمة كلام
ويقول استحسن الله أن يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة " 1 كو 1: 17 - 26 "
فإنا إذ قيدنا العقل بالتمييز بين الممكن والممتنع لم نستطع جوابا لسؤالك على
موضوعه، واستمع لباقي الكلام ولا تقطع اطراده فإن نص الرابع من لوقا 13
ولما أكمل إبليس كل تجربة " أي مع المسيح " فارقه إلى حين.
وفي النسخة المطبوعة سنة 1811 م مضى عنه إلى زمان.
وفي ترجمة هنري مارتن بالفارسية " مدتي أز وي جدا كشت "
وفي ترجمة بروس " تا مدتي أز أو جدا شد ".
ولم يعلم من الأناجيل مقدار زمان المفارقة، ولعله كان يوما وأهملت
الأناجيل ذكر الاقتران بعده كما أهمل كل من الأناجيل كثيرا مما ذكره الآخر.
وفي سادس عشر متى عن قول المسيح في شأن بطرس 23 اذهب عني يا
شيطان أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله بل بما للناس ونحوه في " مر 8: 33 "
مع أن بطرس هو الرسول المعطى له بناء الكنيسة ومفاتيح ملكوت السماوات
" مت 16: 17 - 20 " ورعاية الأمة " يو 21: 15 - 17 ".
وفي الثاني والعشرين من لوقا عن قول المسيح لسمعان بطرس في شأن
الصليب ومقدماته والقيامة من القبر 31 سمعان سمعان هو ذا الشيطان طلبكم
لكي يغربلكم كالحنطة.
وقد قدمنا لك في المقدمة الخامسة عن الأناجيل ما تذكره في شأن شكهم
بالمسيح عند حادثة الصليب، وعدم مواساتهم له بسهر ليلة وتفرقهم عنه،

205
وتركهم له وحده، وإنكار بطرسه له، وشكهم جميعا في قيامه من القبر، فإن
راجعته واطلعت على تفصيله تعرف أن الأناجيل تقول في شأنهم أنه لم يبق في
غربلة الشيطان لهم حبة حنطة على الغربال وأن لسان حالها لينشد في حقهم:
مخضت الوطاب على زبدة * فلم ألف إلا مخيضا صراحا
وفي الثاني عشر من كورنتوش الثانية عن قول بولس الرسول العظيم عند
النصارى 7 ولئلا ارتفع بفرط الإعلانات أعطيت شوكة في الجسد ملاك الشيطان
ليلطمني لئلا ارتفع من جهة هذا تضرعت إلى الرب ثلاث مرات أن يفارقني.
وفي ترجمة هنري مارتن بالفارسية " وأز اينجا كه مبادا أز غايت مشاهده
مغرور شوم نشتري در جسم بجهت بي قراري داده شد كه فرستاده شيطانست
تا مرا مشت زند كه مبادا مغرور شوم ".
وفي ترجمة بروس " خاري در جسم من داده شد فرشته شيطان تا مرا
لطمه زند مبادا زيادة سر افرازي نمايم ".
ثم انظر إلى الرابعة عشر من رابع غلاطية، وفي ثاني تسالونيكي الأولى
18 لذلك أردنا أن نأتي إليكم أنا بولس مرة ومرتين وإنما عاقنا الشيطان.
فلو أن أحدا قال للمتكلف إن كتاب وحكيم يقول: إن بطرس شيطان
ويقول الشيطان قرين بولس لما تعدى وحده في الجدل، وحاشا المسيح وحوارييه
مما نقلناه عن كتب المتكلف، ولكن انظر إلى المتكلف كيف يتغاضى عما ذكر
فيها وهو يقول: إنها كلام الله السميع العليم. ويتشبث للبهتان على قدس
رسول الله بأقوال من لا يتبع قوله في الدين والجامعة الإسلامية ولو تألف من
أمثاله ألف ألف مجمع فلا يعدو مثل كلامه هذا أن يكون عند الجامعة خرافة
مردودة.

206
المقدمة التاسعة
في بيان ما تثبت به الرسالة وتقوم به لله على الناس
الحجة وبيان ما يلزم فيها وما لا يلزم
يلزم فيها أن تكون مقتضية لتصديق المدعوين بالرسالة وإيمانهم بصدق
مدعيها بحسب حالهم ووقتهم كافية في الاحتجاج عليهم قاطعة لمعاذيرهم.
ويلزم أيضا أن تكون معلومة عند الدعوة وطلب التصديق أما بأن تكون
سابقة في الزمان ولكنها معلومة أو يمكن تحصيل العلم بها للمدعوين، كما لو
نص الرسول السابق المسلم الرسالة عند المدعوين بالنص الصريح المشخص
المعين على رسالة المدعي، وكان ذلك النص معلوما عند المدعوين أو يمكن لهم
تحصيل العلم به عند الفحص بشرط أن لا يكون محتملا للاشتباه والاشتراك
وإلا فلا حجة فيه، وإما أن تكون سابقة في الزمان على الدعوة مستمرة إلى
حينها، كما لو كفت أحوال مدعي الرسالة أخلاقه الحميدة في الشهادة على
صدقه في دعواه للمشاهد لها وغيره الذي يمكنه تحصيل العلم بها، وإما أن
تحدث عند الدعوة وطلب التصديق حسب ما تقتضيه الحكمة بشرط أن تكون
معلومة للمدعوين أو يمكنهم تحصيل العلم بها.
وإذا تبصرنا بهدى العقل وتصفحنا الكتب المنسوبة إلى الإلهام وجدناهما لا
يسمحان بأن نتشهى ونقترح على الحجة المذكورة أن تكون علة تامة لتصديق
كافة المدعوين وإيمانهم فعلا، لأن في الناس من المتعصبين من أوقعوا أنفسهم في
أسر العصبية وعبوديتها ونبذوا عقولهم وراء ظهورهم فلا يتنفعون بها، ومن

207
المقلدين من أماتوا بداء التقليد قلوبهم، وأعموا عيون بصائرهم، وهؤلاء لا
يستضيئون بنور عقولهم، ولا يوجهون نظرهم إلى طلب الحق ليهتدوا إليه
(وإن يروا كل آية لا يؤمنون بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن
يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا) الأعراف " 123 و 124 ".
وانظر إلى العهدين فكم ترى في نقلهما من هؤلاء أمما لم تنفع فيهم بواهر
المعجزات المتكررة والآيات المتظافرة مهما بلغت فلا يجدي معهم إلا أن يصرف
الله نفوسهم بقدرته القاهرة إلى الإيمان ويلجئهم بغير اختيار منهم عليه ويطبعهم
عليه كما يطبع الحجر الأبيض على البياض وهذا خلاف ما جرت عليه حكمة الله
في خلقه لعباده.
ولا يسمحان أيضا بأن تقترح في الحجة على الرسالة أن تكون دائما من
قسم الفعل المعجز الخارق للعادة فإن ذلك غير لازم بل يكفي نص الرسول
المسلم الرسالة عند المدعوين على رسالة الرسول الذي يدعوهم نصا معينا
مشخصا لا يحتمل الاشتراك والاشتباه وذلك لأجل حكم العقل بعصمة الرسول
في التبيلغ، فعصمة الرسول الناص حجة كافية في تصديق الرسول المنصوص
عليه وصدقه بدعواه الرسالة.
ويكفي أيضا أن يكون مدعي الرسالة على نحو يمتاز به عن سائر البشر في
تهذيب جميع أخلاقه واستجماعه لصفات الكمال وطهارته عن جميع الرذائل
والنقائص منزها عن الميل مع الهوى مبرءا عن الإثم والتخلق والتصنع والتزوير
فإن هذا كاف في الحجة على صدقه ومقتض لأن يؤمن به من لا تعم العصبية
عينيه أو يصم التقليد أذنيه.
وإن قلت: إن ذلك من نحو المعجز الخارق لعادة الطبيعة البشرية فلا
نضايقك فيما تقول.
وبمقتضى العهد الجديد أن إيمان الناس بيوحنا المعمدان كان على أحد
هذين الوجهين حتى أقبل عليه جمهور اليهود وغيرهم مصغين لبشائره ووعظه
معتمدين منه بمعمودية التوبة.

208
ففي عاشر يوحنا 41 أن يوحنا " المعمدان " لم يفعل آية واحدة مع أنه عن
قول المسيح نبي وأعظم من نبي " مت 11: 9 ولو 7: 26 " ومرسل من الله
" يو 1: 6 " وليس في الناس نبي أعظم منه " لو 7: 28 " وكان جميع الشعب
من بني إسرائيل ما عدا من كان يأكل الدنيا باسم الدين واثقين بأنه نبي " انظر
لو 20: 6 ومر 11: 32 "، وأن إيمانهم لا بد أن يكون على أحد الوجهين
إما لأجل نص أبيه زكريا عليه بأنه نبي الله العلي " لو 1: 76 ". وإما لأجل ما
كان عليه يوحنا من تهذيب الأخلاق واجتماع صفات الكمال وحسن جده
واجتهاده في خدمة الله وإرشاده عباده إلى الهدى والتوبة والطاعة وكونه القدوة في
جميع الكمالات وشرف النفس وطهارته العفة.
وأن كثيرا من أنبياء العهد القديم قد أذعن الناس بنبوتهم وأصغوا إلى
تبليغهم عن الله، مع أنه لم يذكر في العهدين أن ذلك كان مقترنا بعفل المعجز
أو النص المشخص اللذين هما حجة أيضا على الرسالة فتصفح العهدين في حال
صموئيل، وداود وسليمان، واشعيا، وارميا، وحزقيال، وهوشع،
ويوئيل، وعاموس، وعوبديا، ويونان، وميخا، وناحوم، وحبقوق،
وصفنيا، وحجى، وزكريا، وملاخي.
وتبصر في أن العهدين قد ذكرا من غير هؤلاء جملة من الأنبياء واستقصيا
في ذكر معجزاتهم.
فإن قلت: إن الكثير أو الكل من هؤلاء المذكورين قد ذكر العهدان في
شأنهم أنهم قد تنبأوا عن الوحي بأمور من الغيب فوقعت في المستقبل على نحو
ما أخبروا وهذا من نحو المعجز.
قلت: لماذا نسيت إن الحجة التي هي محل الكلام إنما هو ما كان مقتضيا
لتصديق الناس في أول أمر التبليغ وطلب التصديق وإن الذي تذكره لو صح
فإنما ينكشف كونه معجزا بعد وقوع ما أخبروا به على طبق الخبر وإن البعض
الكثير مما تشير إليه إنما تبين صدقه بمقتضى العهدين وانتفى عنه احتمال الكذب
بعد موت النبي الذي أخبر به بمدة أو بمآت من السنين، والبعض الآخر إنما
تبين صدقه بمقتضى العهدين وانتفى عنه احتمال الكذب بعد سنين من أول

209
الدعوة وطلب التصديق.
ومثل هذا لا يكون حجة على الرسالة لمن يطلب منهم التصديق في أول
التبيلغ، ولا يكون حينئذ مقتضيا لتصديقهم وإيمانهم، وأنه حينئذ لمردد بين
كونه دالا على صدق مدعي الرسالة في دعواه إذا وقع المخبر به وبين كونه دالا
على كذبه فيها إذا لم يقع، كما أعطت التوراة علامة على ذلك " تث 18: 21
و 22 ".
ولا يسمع العقل والنقل أيضا أن نقترح كون الحجة على الرسالة مشاهدة
لكل المدعوين أو المطلوب منهم الإيمان بذلك الرسول وإن كانوا أجيالا عديدة.
فإن المدار على حصول العلم بها على النحو الذي تكون به حجة كافية
للرسالة فإنه لا يجد العقل فرقا في كونها حجة بين كونها معلومة بالحس أو بالنقل
المتواتر، وعلى ذلك جرت حجج رسل العهدين.
فإن معجزات موسى إنما شاهدها جيله من بني إسرائيل مع أن الإيمان به
كان مطلوبا من أجيالهم، على أنه من البعيد عادة أن يكون جميع بني إسرائيل
رجالا ونساء قد شاهدوا معجزات موسى حينما كان الإيمان مطلوبا منهم. وأن
معجزات المسيح حتى أشياعه الخمسة آلاف من قليل الخبز والسمك إنما كانت
مشاهدة لبعض الناس في سوريا مع أن الإيمان به كان مطلوبا من جميع الناس في
شرق الأرض وغربها.
نعم: لا ننكر أن المعجزات يختلف حالها بالنقل المتواتر، فإن منها ما لا
يشك من نقلت له في كونها معجزة كانشقاق البحر الأحمر لبني إسرائيل وعبورهم
على اليابسة والماء عن يمينهم ويسارهم مع غرق فرعون وجنوده على أثرهم،
ومنها ما تختلج فيه الشكوك ولو تواتر نقل أصله وذلك مثل ما في ثالث يوحنا من
جعل المسيح للماء خمرا.
وما في سابع لوقا من إحياء المسيح ابن الأرملة في نايين من الموت.
وما في حادي عشر يوحنا من إحياء المسيح لعازر من الموت، فإن هذه
المقامات الثلاثة معرض للشكوك واحتمال التصنع والتواطئ فيها، ولا يرتفع

210
الشك في واقعة قلب الماء خمرا إلا بأن يخبر جماعة يبلغ عددهم حد التواتر المفيد
للعلم ويبينوا أنهم شاهدوا الماء في الأجران، وأنه انقلب في الحال خمرا مسكرا
من دون مداخلة عمل أو تصرف.
ولا يرتفع الشك أيضا في واقعتي إحياء الميتين المذكورين إلا بإخبار جماعة
يبلغ عددهم حد التواتر المفيد للعلم وهم من العارفين المميزين بين الموت وغيره
كالأطباء ونحوهم ويشهدون بأنهم شاهدوا موت الميتين يقينا ولم يكن يحتمل التصنع والاغماء ونحوه، أو يخبروا في واقعة لعازر بأنهم شاهدوه منتفخا منتنا
بانتفاخ الأموات ونتنهم ثم أحياه المسيح بعد ذلك.
فإن قلت: إذا كان بعض الذين تشملهم دعوة الرسول لم يشاهد المعجز
والحجة على الرسالة ولم يحصل له العلم به من النقل وإن جد واجتهد بالفحص
أو علم بمبدئه لكنه ليس من أهل التمييز بين كونه من قسم المعجز أو من قسم
السحر أو من قسم المهارة في الصناعة كما يشتبه على البريري الوحشي إذ رأى
الغونغراف انه هل هو من المعجز أو من السحر أو من ممكنات الصناعة؟ فهل
من كان على أحد هذه الأحوال مكلف بالإيمان بذلك الرسول ومعاقب على
عدمه، أو هو غير مكلف ولا معاقب.
قلت: أولا أما مثال البربري الوحشي فيمكن له تحصيل العلم والتمييز
بالرجوع إلى أهل الخبرة والتمييز الذين يركن إليهم في أموره ويطمئن بهم في
معلوماته على وجه يعلم ويميز كون الشئ المشار إليه معجزا أو سحرا أو من
ممكنات الصناعات البديعة.
وثانيا: إن في هذا المقام مخادعات للشيطان، ومغالطات للهوى ومخالسات
للعصبية، ومعثرات للتقليد قد ضل بسببها كثير من الناس، فمن فرض أنه لم
يقصر بجده في طلب الحق، ولم يصده عند انقياده إلى الشيطان أو الهوى أو
العصبية أو التقليد، وإنما حجبه عن الوصول إلى الحق قصوره وإن صدق في
الجد مبلغ جهده في طلبه فهذا الإنسان غير معاقب والله من ورائه محيط وهو
بكل شئ عليم لا يكلف نفسا إلا وسعها.
ولا يسمح العقل والنقل أيضا بأن نقترح على المعجز كونه من نحو خاص

211
لأن الغرض منه هو كونه دالا على صدق الرسول وحجة على الناس وأي نحو
منه كان وافيا بهذا الغرض.
صح في الحكمة أن يكون حجة على الرسالة فانظر إلى ما تضمنه العهدان
من اختلاف معجزات أنبيائهما وشواهدهم على الرسالة كمعجزات موسى لبني
إسرائيل ولفرعون، ومعجزات إيليا واليشع والمسيح.
بل قد توجب الحكمة الإلهية اختلافها مراعاة لمصلحة الوقت وحال
المدعوين بحسب أزمانهم وأحوالهم ومعرفتهم.
ولا يسمحان أيضا بأن نشترط في المعجز أن يكون معتضدا بالإشارة من
النبي السابق، لأن هذا الشرط يلزم منه بطلان النبوات بأجمعها فإن النبوة
الأولى منها لا إشارة إليها إذ ليس قبلها نبوة فتبطل فيبطل ما بعدها من النبوات
ولا ينفعها الإشارة من النبوة التي بعدها لأن مقتضى هذا الشرط أن النبوات
المتأخرة لا تثبت لكي تنفع إشارتها حتى يثبت ما قبلها بما له من الشروط.
ويكفي من العهدين في الدلالة على بطلان هذا الإشتراط ما دل منها على كفاية
المعجز في الدلالة على النبوة والرسالة.
ففي رابع الخروج " 1 - 10 " إن الله جعل لموسى آية العصا واليد
البيضاء حجة لرسالته على بني إسرائيل ومقتضية لإيمانهم به، وقد كفى ذلك
وآمن لأجله بنو إسرائيل " خر 4: 30 و 31 ".
وفي خامس يوحنا عن قول المسيح 16 لأن الأعمال التي أعطاني الأب
لأكملها هذه الأعمال بعينها التي أنا أعملها هي تشهد لي أن الأب قد أرسلني.
وفي ثاني الأعمال عن قول بطرس 22 يسوع الناصري رجل قد تبرهن
لكم من قبل الله بقوات عجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم كما إنكم
أيضا تعلمون.
ولا يسمح العقل والنقل أيضا بأن نقترح على المعجز أن لا يصدر إلا بعد
الطلب والاقتراح لأن الغرض منه على نحو الغرض من النص وإعجاز كمالات
الرسول إنما هو اقتضاؤه لإيمان المدعوين كما ذكرنا.

212
وهذا الغرض يحصل مع تقدمه على الطلب المدعوين فإنه قد تقتضي
الحكمة تقدمه تعظيما لشأن الرسول وبيانا لكرامته على الله.
وفي ثاني يوحنا في حديث قلب المسيح للماء بمعجزة خمرا 11 هذه بداءة
الآيات التي فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده فآمن به تلاميذه، ولمن تكن
بطلب المدعوين لأجل التصديق وإنما كانت بطلب أمه.
ولا يسمحان بأن نقترح على المعجز أن يصدر عند كل طلب واقتراح فإن
الطالب للحق بصدق النية يكفيه العلم بالمعجز الأول كما قدمنا، وأما المتمرد
المستهزء فإنه لا فائدة في صدور المعجز، ثانيا إجابة لاقتراحه وتشهيه ولا غاية
إلا جعل آيات الله عرضة للمستهزئين وهذا خلاف الحكمة في المعجز.
ففي سادس عشر متى عن قول المسيح لما جاءه الفريسيون والصدوقيون
فسألوه أن يريهم آية من السماء 4 جيل شرير فاسق يلتمس آية ولا تعطى له آية
إلا آية يونان النبي " وانظر مر 8: 11 و 12 ولو 11: 11 و 29 ".
ولا يسمحان بأن نقترح على الرسول أن يكون قادرا مختارا على الفعل
الآيات والمعجزات متى شاء ومتى طلبت منه لأنه إنسان لا يقدر بطبيعته إلا على
ما يقدر عليه سائر البشر.
وأما أمر الآيات فبيد الله يجريها على ما تقتضيه حكمته البالغة.
وفي خامس يوحنا 19 فأجاب يسوع وقال لهم الحق الحق أقول لا يقدر
الابن أن يعمل من نفسه شيئا 30 أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئا.
وفي سادس مرقس في شأن المسيح في وطنه 5 ولم يقدر أن يصنع هناك ولا
قوة واحدة.
المعجز ما هو؟
فالمعجز هو ما يظهره الله على يد رسوله من الفعل الخارق للعادة بحيث
يعجز عنه سائر البشر بما عندهم من دقائق الفلسفة والحذاقة في الصناعة والمهارة
في الفنون وبذلك يعرف أن الله هو الذي أظهره بقدرته الباهرة على يد الرسول

213
تصديقا لرسالته.
وأما شهادته بصدق الرسول في دعواه الرسالة فهو من المرتكزات في
الأذهان كما لا يخفى، وعليه كافة أهل الملل القائلين بالنبوات.
وإنا معاشر المسلمين قد بينا وجه ارتكازه في الأذهان إذ قد أوضحنا
البرهان في أصولنا على أن الله لا يظهر المعجز المذكور على يد الكاذب بدعوى
الرسالة لامتناع ذلك في عادة الله بحسب حكمته وغناه وقدسه جل شأنه لأن
إظهار المعجز على يد الكاذب بدعوى الرسالة قبيح، ويمتنع صدور القبيح من
الله القدوس، الغني، الحكيم، العليم.
وإلى الآن لم أطلع على ما عند أهل الكتاب من البرهان العقلي على
ذلك، وأن الاحتجاج له بالكتاب المنسوب إلى الإلهام لا يفيد شيئا وذلك لتوقف
ثبوت الإلهامية للكتاب على ثبوت الرسالة وهي متوقفة على معرفة الوجه لشهادة
المعجز على صدق دعوى الرسالة.
على أن كتب العهدين وإن ذكرت في بعض مضامينها شهادة المعجز على
الرسالة لكن في بعض مضامينها ما يعارض ذلك ويشوش بيانه ويكدر صفوه
فإنهما قد سميا المعجز بالآية. والقوة. والإعجوبة " انظر أقلا إلى خر 4: 8
و 7: 3 ويو 2: 11 وا ع 2: 22 وعب 2: 4 " ومع ذلك قد نسبا صدور
الآية والإعجوبة والقوة إلى الكاذبين بدعوى النبوة، وإلى الداعي للشرك وإلى
الدجال الأثيم " انظر أقلا إلى تث 13: 1 و 2 ومت 24: 24 ومر 13:
22 و 2 تس 2: 9 ".
فإن قلت: ومضافا إلى ذلك قد ورد في التوراة أن سحرة مصر وعرافيها
قد طرحوا عصيهم فصارت ثعابين كما فعل هارون " تك 7: 11 و 12 "
وفعلوا أيضا بسحرهم مثل ما فعل هارون، فاصعدوا الضفادع على أرض مصر
" تك 8: 6، 7 ".
وغاية الأمر أنهم لم يقدروا أن يخرجوا البعوض من أرض مصر وأن عصا
هارون ابتلعت عصيهم.

214
فكيف يعرف الناس أن فعل موسى وهارون كان من المعجز الخارج عن
طاقة البشر بما عندهم من الحكمة والفلسفة؟ وأنه فعل الله لأجل تصديقهما
بدعوى الرسالة.
وكيف يكون حجة من الله على صدق الرسالة؟ وهل يختلج في
أذهان الناس في مسابقة هذا الميدان إلا أن موسى كان أحذق وأتقن من السحرة
والعرافين في الحكمة وفن السحر، وقد جاء في العهد الجديد عن استفانوس
المملوء من الروح القدس أن موسى بواسطة تربيته في بيت فرعون تهذب بكل
حكمة المصريين، وكان مقتدرا في الأقوال والأعمال " ا ع 7: 22 ".
قلت: أعلي تحمل ثقل ما في العهدين الرائجين؟ أم قد ضمنت لك
صحة جميع ما فيها.
فسل وقل ما هو المائز بين المعجز الذي هو الحجة على الرسالة وبين
السحر؟ لكي أقول لك: إن المعجز هو ما كان على نحو يعترف غير العميان
بالعصبية والتقليد بأنه من الله لا من السحر. ونحوه وإن قال المتعصبون أو
المقلدون مكابرة وجهلا وعنادا أنه سحر ويختلف ذلك بحسب اختلاف الناس
في وقتهم ومحلهم ومعارفهم.
قال المتكلف " يه 1 ج ص 224 " المعجزة هي أمر خارق للعادة داعية
إلى الخير والسعادة " ص 225 " يلزم أن تكون نافعة ومفيدة أو كما قال السيد
الجرجاني داعية إلى الخير والسعادة. فمثل كلام الجمادات ككلام الحصى
والرمان والعنب وأسكفة الباب، وحيطان البيت وكلام الشجر وشهادة الذئب
لمحمد " ص " بالنبوة وكلام الظبية ليست بمعجزة فإنه لا فائدة للإنسان منها وهي
جديرة بأن تدرج في سلك الخرافات.
أقول: أولا قد قال المتكلف " ص 13 " لا ننكر أن شرب الخمر حرام
والتوراة والإنجيل ناطقان بأنها حرام قطعا.
وجاء في ثاني يوحنا 2 - 12 أن المسيح كان في مجلس العرس ولما نفد
خمرهم استدعت منه أمه أن يصنع لهم. بمعجزة خمرا " لئلا تتعطل عبادة السكر

215
ولا تحصل سكتة في عربدته وهذيانه وفواحش آثاره " فعمل لهم ستة أجران من
الخمر الجيد وكان ذلك بدء الآيات منه فآمن به تلاميذه.
فينتج من كلام المتكلف هذا وكلام يوحنا وحكايته. أنه لا يلزم في
المعجزة أن تكون داعية إلى الخير والسعادة، بل يجوز أن تكون مضرة في
الشريعة منتهكة لحرمتها مضطهدة لصلاحها داعية إلى مثل فواحش السكر
وشرور مجالسه المنعقدة له لتزيد في عربدته وتقوى انبعاث مفاسده وقبائحه ويقوم
الهرج والمرج من تتابع السكر واستحكام آثاره المعهودة قبحها على ساق، ولكن
المتكلف ينسى أو لا يدري بما يقول وما في كتب إلهامه.
وليت شعري ما الذي يريده المتكلف من منفعة المعجزة وفائدتها أكثر من
كونها مقتضية لاهتداء الخلق إلى صدق الدعوة وبر الإيمان، وهو معنى كونها
داعية إلى الخير والسعادة، وكل ما عدده من معاجز رسول الله من كلام الحصى
إلى كلام الظبية يفيد بإعجازه الصريح الباهر هذه الفائدة، ويمنح ببركته هذه
المنفعة على أكمل الوجوه إذ لا يحتمل فيه التصنع والتواطئ كدعوى إحياء الميت
من دون أن يبلى بالموت. وليت شعري ما الذي أراده بقوله إذ لا فائدة للإنسان
منها، أتراه يريد من فائدة المعجزة للإنسان أن تكون مثل إبقاء مجلس العرس
وإدامة شرب الخمر لتأخذ شدة السكر من العقول مأخذها وتؤثر حدته ما تؤثر
من مفاسدها.
وعليه فأية فائدة إذا في لعن المسيح لشجرة التين حتى يبست في الحال إذ لم
يجد فيها ثمرا يسد جوعه، وهل فيها إلا الضرر على مالكها إن كانت مملوكة،
أو على الفقراء والعابرين إن كانت من المباحثات " انظر مت 21: 18 - 23
ومر 11: 12 - 24 ".
وأية فائدة في صيرورة يد موسى برصاء، وأية فائدة في صيرورة عصا
موسى حية " انظر إلى خر 4: 2 و 3 و 6 و 8 و 30 "، وأية فائدة للإنسان في
أن عصا هارون أخرجت فروخا وأزهرت زهرا وأنضجت لوزا " عد 17: 8 "
وأية فائدة للإنسان في تكلم أتان بلعام ومراجعته في الجواب " عد 22: 28
و 30 ". وليت المتكلف إذ كتب كتابه كان له بعض الإلمام بكتب إلهامه، أو أنه

216
يظن أن في الناس من يكون له اطلاع عليها، أو أنه كان يحذر من عاقبة ما
يقوله، أو أنه احتشم الحقائق الإلهية والمآثر النبوية فعرف قدره ولم يوجه إليها
بضاعته من الجرأة واللسان البذي.

217
المقدمة العاشرة
في ذكر الموانع للنبوة والرسالة الشاهدة
على كذب ادعائها
وهي أمور " الأول " أن ينص النبي المعلوم النبوة على كذب المدعي للنبوة
والرسالة، فإن تصديق هذا المدعي تكذيب للنبي المعلوم النبوة في تبليغه لكذب
هذا المدعي وهو غير جائز بالعقل والنقل واتفاق المليين القائلين بالنبوات " ومثل
هذا " أن ينص النبي المعلوم النبوة على أن لا يكون نبي من هذه القبيلة أو من
هذا الصنف أو في الزمان الفلاني ويكون مدعي النبوة من هذه الأقسام.
ومثله أن ينص على انحصار النبوة بهذه القبيلة أو بهذا الصنف أو بهذه
البلاد أو بهذا الزمان ويكون مدعي النبوة من غيرها.
" المانع الثاني " أن يعطي النبي المعلوم النبوة علامة على كذب دعوى
النبوة وتنطبق تلك العلامة على مدعيها.
" المانع الثالث " أن يعترف مدعي النبوة ويخبر بنبوة شخص وينص هذا
الشخص على كذب ذلك المدعي للنبوة في دعواه لها لأنه إن كان هذا الشخص
نبيا حقا، فقد نص على كذب مدعي النبوة فيلزم تصديقه في ذلك وإن لم يكن
هذا الشخص نبيا فقد كذب مدعي النبوة في التبليغ عن الله بإخباره بنبوة هذا
الشخص، والعقل وإجماع أهل الملل حاكمان بأنه لا يكذب النبي في التبليغ.
" المانع الرابع " أن يكون مدعي النبوة فاعلا للإثم وما هو قبيح في العقل
أو في الشريعة التي يتدين بها لما قدمناه في الفصل الثالث من المقدمة الثامنة من

218
دلالة العقل والنقل على لزوم عصمة النبي، ومن جملة ذلك أن لا يظهر عليه
الكذب المحرم في تعاليمه واستشهاداته.
" المانع الخامس " أن لا يأتي في دعوته بما هو مخالف للعقل ومنه الدعوة
إلى الشرك وتعدد الآلهة وعبادة غير الله، فإن العقل لا يذعن بنبوة من هو على
خلاف هداه وبديهي حكمه، ويجحدها أشد الجحود، وأنا إن لم نتبع موازين
العقل فقد أضعنا رشدنا، وضللنا عن السبيل الهادي إلى الله ورسله وكتبه
والمعارف الحقة، وهل وراء العقل إلا الجهل؟ وهل بعد الحق إلا الضلال
المبين؟.
" المانع السادس " تناقض تعاليمه في بيان الحقائق وتناقض احتجاجه لها
بنحو لا يكون من النسخ للحكم السابق، فإن اللازم من ذلك كذبه في التبليغ
في أحد الأمرين المتناقضين وجهله في وجه الاحتجاج للأمور الإلهية.
" المانع السابع " شرب الخمر أم الشرور والقبائح والتهتك والخلاعة
المنافية لوظيفة الرسول وسفارته من قبل الله على الخلق لهداهم وتكميلهم
وتهذيبهم وإصلاح مدنيتهم وأخلاقهم، كما يدل عليه اعتبار العقل وتظافر
النقل، ففي القرآن الكريم في سورة المائدة 93 (إنما يريد الشيطان أن يوقع
بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة)
وفي سورة البقرة 216 (وإثمهما أكبر من نفعهما) أي الخمر والميسر.
وفي ثاني حبقوق 5 وحقا إن الخمر غادرة.
وفي رابع هوشع 11 الزنا والخمر والسلافة تخلب القلب.
وفي العشرين من الأمثال 1 الخمر مستهزئة المسكر عجاج ومن يترنح بهما
فليس بحكيم.
وفي الثالث والعشرين منه 20 لا تكن بين شريبي الخمر 29 لمن الويل لمن
الشقاء؟ لمن المخاصمات؟ لمن الكرب؟ لمن الجرح بلا سبب؟ لمن ازمهرار
العينين 30 للذين يدمنون الخمر الذين يدخلون في طلب الشراب الممزوج 31
لا تنظر إلى الخمر إذا احمرت حين تظهر حبابها في الكأس وساغت مرقرقة 32 في

219
الآخر تسلع كالحية وتلدغ كالأفعوان 33 عيناك تنظران الأجنبيات وقلبك ينطق
بأمور ملتوية 34 وتكون كمضطجع في قلب البحر أو كمضطجع على رأس
سارية 35 يقول ضربوني ولم أتوجع لقد لكأوني ولم أعرف متى استيقظ أعود
اطلبها بعد.
وفي خامس أشعيا 11 ويل للمبكرين صباحا يتبعون المسكر للمتأخرين في
العتمة تنهبهم الخمر 22 ويل للأبطال على شرب الخمر ولذي القدرة على مزج
المسكر، وفي الثامن والعشرين منه 1 ويل لأكليل فجر سكارى افرايم
المضروبين بالخمر 7 ولكن هؤلاء أيضا ضلوا بالخمر وتاهوا بالمسكر الكاهن
والنبي ترنحا بالمسكر ابتلعتهما الخمر تاها من المسكر ضلا في الرؤيا قلقا في
القضاء.
وانظر إلى تاسع عشر التكوين " 30 - 38 " وتبصر فيما جنته الخمر
بزعمهم على لوط البار " 2 بط 2: 7 و 8 " مما تقشعر منه الجلود وتشمئز منه
حتى نفوس الفساق.
وفي الحادي العشرين من التثنية " 18 - 21 " أن كون الولد سكيرا من
معايبه التي يشتكي بها والده عند شيوخ المدينة ليرجموه حتى يموت وينزع الشر.
وفي عاشر اللاويين 8 وكلم الرب هارون قائلا 9 خمرا ومسكرا لا تشرب
أنت وبنوك معك عند دخولكم إلى خيمة الاجتماع لكي لا تموتوا فرضا دهريا في
أجيالكم 10 وللتمييز بين المقدس والمحلل والنجس والطاهر 11 ولتعليم بني
إسرائيل جميع الفرائض التي كلمهم الرب بها بيد موسى.
وفي أول لوقا عن قول ملاك الرب لزكريا في تمجيد ابنه يوحنا المعمدان
ومدحه 15 لأنه يكون عظيما أمام الرب وخمرا ومسكرا لا يشرب.
وفي خامس افسس 18 ولا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلأوا
بالروح، وتأمل في أن العهد القديم قد أمر بأن النذير لله لا يشرب خمرا ولا
مسكرا وكل ما يعمل من جفنة الخمر بل أمر الامرأة الحاملة بالنذير بذلك " انظر
عد 6: 3 و 4 وقض 13: 14 ".

220
المقدمة الحادية عشرة
في وجوب النظر في دعوى الرسالة
ليعرف أمرها من حيث الصدق فيجب الإيمان بها أو الكذب فيجب
جحودها أو يبقى أمرها مرددا مجهول الحال فيجب العمل على ما يقتضيه العقل
وطريقة العقلاء في مثل هذه الموارد، ولعمري أن هذا المقام لهو الذي يرفع به
الشيطان راية الغواية ويستنهض جنده ويعد عدته ويرتب جيشه فيجعل الغفلة
على مقدمته، والعصبية على ميمنته، والتقليد على ميسرته، وحب الراحة على
القلب وحب الدنيا في الكمين والميل مع الهوى جاسوسه فيستخدم النفس الأمارة
وزيرا على هذا الجند لأنه طالما استسلس قيادها لغوايته وجربها في طاعته أعاننا
الله وجميع الراغبين في الحق على مكائد الشيطان ومخادعاته وهدانا بنور العقل
وبصيرة الهدى إلى الصواب إنه أرحم الراحمين.
اعلم هداك الله إلى الحق اليقين، وكفاك شر الشيطان اللعين أنه إذا قام
مدعي النبوة والرسالة ودعي إلى الإيمان به وقبول ما يدعيه من الوحي وأخبر أن
عدم الإيمان به مستلزم لوبال الضلال وموجب لأليم العقاب وشديد النكال فلا
شك أن هذه الدعوى قبل النظر في الشواهد والموانع محتملة للصدق والكذب
فيقع المدعو حينئذ بين أخطار ثلاثة لأنه إن تسرع إلى تصديقها من دون نظر
وتثبت في أمرها كان مخاطرا في ذلك لاحتمال كذبها في الواقع ولخوف ضرر
الضلال بالإيمان بها واتباع تعاليمها الفاسدة الكاذبة التي تعمى عن الحق، وإن
تسرع إلى تكذيبها من دون نظر وتثبت في أمرها كان مخاطرا أيضا في ذلك

221
لاحتمال صدقها في الواقع ولخوف الضلال بجحود الرسالة الحقة والعقاب
الشديد عليه وحرمانه بركة الإيمان بها ومنافع تعاليمها وإصلاحها وتكميلها
وسعادة تقريبها إلى الله والفوز العظيم، وإن بقي مترددا فيها متوقفا في شأنها من
دون نظر وتثبت في أمرها كان أيضا مخاطرا لاحتمال صدقها في الواقع ولخوف
العقاب على عدم الإيمان بها وحرمانه وخسرانه ما ذكرنا من منافعها العظيمة.
فلا رافع لهذه المخاطرات ولا مؤمن من مخاوفها العظيمة إلا اتباع هدى
العقل والاستضاءة بنوره في الجد والاجتهاد بالبحث والنظر في أمرها بشرط
مراقبة النفس في معاثر الميل مع الهوى، والرغبة في الدين المألوف وغوايات
العصبية وعمايات التقليد مع حسن التجرد في الجهاد، والتحذر عن هذه
المعاثر، فيجب على المدعو حينئذ بحكم العقل وطريقة العقلاء أعمال النظر في
أمر ما دعي إليه بالنحو الذي ذكرناه ليتخلص من هذه المخاطرات ويرفع الضرر
عن نفسه التي هي أعز الأنفس وأكرمها عليه، فضلا عن جلب النفع لها، فإنه
إن تثبت بهذا النحو من النظر الصادق كان فائزا بالسعادة إن أصاب ومعذورا
بحكم الشرع والعقل إن أخطأ وآمنا من العقاب بحكم العقل والشرع فإنه لا
يكف الله نفسا إلا وسعها.
فصل فيما يتعلق بكيفية النظر
لا يخفى أنه لا يجتمع في الواقع ونفس الأمر شاهد الرسالة مع المانع
منها، فإذا اجتمعا في الظاهر تبين كذب الكاشف عن أحدهما أو عنهما كليهما،
وأن الكاشف عنهما إما أن يكون هو الحس فيهما معا، وإما أن يكون هو النقل
فيهما معا. وإما أن يكون هو النقل في أحدهما والحس في الآخر.
وأن الذي يهم عموم الناس بعد رحلة خاتم المرسلين إلى سعادة الآخرة
إنما هو الكاشف النقلي في شأن الأنبياء الذين تنسب إليهم الدعوة إلى دينهم
وشرائعهم الواردة في إصلاح البشر في أمر دنياهم وآخرتهم، فلا بد وأن يكون
الكاشف النقلي هو النقل المتواتر المفيد للعلم، فإن غيره مما لا يفيد العلم لاحظ
له في المداخلة والحكومة في أصول الدين المبنية على الاعتقاد واليقين.
" النقل المتواتر " المفيد لليقين هو إخبار جماعة يذعن العقل المبرء عن

222
غواية العصبية وعماية التقليد بأنهم لو يتواطأوا على الكذب، وإذا كان النقل
متعدد الطبقات فلا بد من أن يكون متواترا في جميع طبقاته على هذا النحو
ليكون مقيدا لليقين وإلا فلا.
وليعلم الطالب للحق الراغب في الهدى الحريص على نجاته ودفع
المخاطرات العظيمة والمخاوف المهلكة عن نفسه أنه إذا بلغته دعوة الرسالة إلى
الإيمان بها واتباع شريعتها والاهتداء بتعاليمها. كان عليه أن يفحص جهد
قدرته عن النقل لشواهد تلك الرسالة وموانعها من معدنه وأهل خبرته.
وليلتفت إلى أنه لا ينبغي أن يعتمد في أمر الشواهد على من يحرص بتعصبه على
إخفائها حتى يلبسها بتمويهه ثوب الاستحالة والامتناع، أو من يحرص بتعصبه
لدعواها حتى يفرغها بتلفيقه في قالب بداهة الوجدان.
ولا يعتمد أيضا في أمر الموانع على من يدعوه الحسد والعناد إلى تخييلها
بأباطيله للعيان. أو من يدعوه الهوى إلى سترها بحجب الكتمان، بل ليعتبر
لتأييد الشواهد باعتراف الخصوم بنحو منها، وليعتبر لتأييد الموانع بالتزام جامعة
الاتباع بما يؤول إليها. ثم ليتثبت في أمر النقل ويدقق في جميع طبقاته لئلا
يكون فيها ما يمنع من كونه متواترا. ويحقق في سائر منقولات هذا النقل لئلا
يكون فيها ما يلزم منه كذبه وفساده ويكشف بنحو إجمالي عن فساد دعوى التواتر
فيه. وليحقق في شأن المنقول من الشاهد للرسالة والمانع منها حسب قانون
العقل الذي ذكرناه لئلا يشتبه عليه الشاهد بما ليس بشاهد والمانع وما ليس
بمانع.
وليحذر كل الحذر في هذا المقام العظيم كله من مخادعات الشيطان
ومهاجمات جنوده التي ذكرناها. بل يتجرد لمقاومة الشيطان محافظا على حدود
منعته فإن ميل الإنسان مع الهوى قد دل الشيطان على جميع عوراته التي يؤخذ
منها، فإن قصر الإنسان فيما شرحناه فأزل الشيطان عن الحق في مقام النظر
قدمه وثناه عن الهدى فلا يلومن إلا نفسه حيث استحق بتقصيره العقاب العظيم
واستوجب الحرمان وقرت بضلاله وهلاكه عين الشيطان. ذلك هو الخسران
المبين. أعاذنا الله من ذلك وكل طالب للهدى ودين الحق إنه ولي التوفيق.

223
فإن ثبتت عنده نبوة النبي فليعد النظر لأخذه بشريعته وتعاليمه فيهما ليميز
بين الحق منهما وبين ما زوره تلاعب الأيام عليهما، ثم يميز بين ما هو الثابت في
حقه منهما وبين ما هو منسوخ بشريعة صادقة من نبوة لاحقة ليعرف بصدق النظر
ما هو حكم الله الفعلي في حقه فيتعبد الله به ويطلب صلاحه وسعادته في
الدارين بسببه.
فصل: في أنموذج النظر
حسبما شرحنا من قوانينه تمرينا للذهن
إنا قد حاولنا إثبات النبوات وكتبها وشرائعها بحججها من غير توقف
لثبوت نبوة أو ثبوت آثارها على تصديق النبوة التي بعدها، فوجهنا النظر إلى نبوة
الأنبياء الذين هم قبل موسى فلم نجد لدعواهم النبوة وحجتها ولا لشرائعهم
ولا لكتبهم أثرا يعتد به في غير النبوات التي بعدهم ولئن كان لها أثر عند أهل
الملل من بعد موسى فإنما هو من نبواتهم وكتبها.
فوجهنا النظر إلى نبوة موسى وكتابه وشريعته وما حدث بعده من النبوات
والكتب والشرائع.
فنظرنا أولا في رسالة موسى وكتابه وشريعته فوجدنا معاصرينا من اليهود
متفقين في نقلهم على أن موسى ادعى الرسالة من الله وظهرت على يده
المعجزات العظيمة وأنزل الله عليه كتاب التوراة وبعثه بالشريعة، وأن التوراة
الدارجة الآن هو الكتاب المنزل من الله عليه لبيان الشريعة وغيرها.
وهم متفقون أيضا على أن هذه النقول قد تلقوها متواترة في أجيالهم
وطبقاتهم يدا عن يد إلى الجيل السامعين من موسى دعوى الرسالة المشاهدين
لمعجزاته، ويؤيد نقل اليهود المعاصرين ومن قاربهم نقل طبقات المسلمين
وطبقات النصارى عن طبقات اليهود ولكنه منقطع ينتهي في أثناء سلسلة التواتر
إلى طبقات اليهود دون غيرهم وذلك ظاهر فإن المسلمين أولهم من العرب
والعجم وجملة من الأمم الذين ينكرون نبوة موسى ومعجزاته وكذا النصارى في
أممهم.

224
بل نقول إن نقل المسلمين والنصارى لمعجزات موسى إنما أصله وحقيقة
مأخذه إنما هو الاعتماد على نبواتهم، ولذا ترى المسلمين لا يعرفون من
معجزات موسى إلا ما جاء في القرآن الكريم، فينحصر حصول التواتر بنقل
اليهود، وعلى كل حال فإن نقل اليهود يمكن باعتبار كثرتهم في أجيالهم أن يكون
من المتواتر ما لم يمنع من ذلك مانع أو نجد فيه ما يكذبه ويشهد بعدم كونه من
النقل المتواتر.
فوجهنا نظرنا إلى الفحص وابتدأنا بالنظر في الموانع فوجدنا في عاشر يوحنا
عن قول المسيح ما يقدح بعمومه في رسالة موسى ورعايته للأمة ويصمه بالعيب
المانع من النبوة فإنه بعد ما ذكر الرعاية الحميدة والاختلاس " يو 10: 1 - 6 "
قال 7 الحق أقول لكم إني أنا باب الخراف 8 جميع الذين أتوا قبلي هم سراق
ولصوص إنتهى.
إلا أنه يكفي في دفع هذا المانع توقف منعه على ثبوت نبوة المسيح والعلم
بأن هذا المنقول من قوله، بل يكفي في بطلانه عجالة أنه جاء في الأناجيل عن
أقوال المسيح ما يناقضه في شأن موسى، ويكفي من ذلك صراحتها بكون
المسيح متبعا لشريعة موسى عاملا بالفصح وأعياد التوراة آمرا باتباع أقوال الكتبة
لأنهم جلسوا على كرسي موسى " مت 23: 2 " جاعلا قول التوراة من عند
الله وتكليم الله لموسى وقول الرب " مت 22: 31 ومر 12: 26 ولو 20:
37 ".
فصرفنا النظر إلى تعاليم موسى لعلما يوجد فيها شئ من الموانع فنظرنا في
سند التوراة الدارجة التي هي بنقل اليهود كتاب تعاليمه فوجدناها مساوية
لدعوى موسى للرسالة وظهور المعجز على يده في اتفاق اليهود ودعواهم التواتر
على أن جميعها كتاب موسى عن الوحي، وأنهم قد تسلموا نقلها متواترا عن
أجيالهم يدا بيد إلى الجيل المعاصرين لموسى، فأحرزنا من ذلك أن هذا النقل
المتحد في الأمرين لا يمكن أن يذعن بتواتره في بعض منقولاته مع كذبه في
المنقول الآخر، فلزمنا في مقام النظر التفحص عن هذه المنقولات إذ لعل ما
يوجد فيها من الموانع ما هو مساو في السند لصورة الحجة فلا يبقى اعتماد على

225
هذا النقل المتساوي فيهما.
وإذ تفحصنا وجدنا في تعليم التوراة عن قول الله لا تذكروا اسم آلهة
أخرى ولا يسمع من فمك " خر 23: 13 " لتعلم أن الرب بهره هو الإله ليس
آخر سواه " تث 4: 35 " أنا أنا هو وليس إله معي " تث 32: 39 ".
ووجدنا أيضا في التوراة عن قول موسى عن قول الله إن موسى يكون إلها
لهارون " خر 4: 16 " وجعله إلها لفرعون " خر 7: 1 ".
وفي التوراة أيضا إن موسى استعفى من الرسالة بخطاب مع الله غير جار
على الأدب، ولم يثق بوعد الله حتى حمى غضب الله عليه، وقال لله لماذا أسأت
إلى هذا الشعب لماذا أرسلتني؟
وقال أيضا لماذا أسأت إلى عبدك؟
وقال في شأن عبدة العجل: والآن إن غفرت لهم وإلا فامحني من كتابك
الذي كتبت، وشك في قدرة الله على إشباع بني إسرائيل من اللحم وخاطب الله
بما يشبه الانكار لذلك.
وذكرت التوراة أيضا أن موسى وهارون لم يؤمنا بالله. وعصيا قوله.
وخاناه كما ذكرنا ذلك تفصيلا في الفصل السابع من المقدمة الثامنة، وهذا لا
يجتمع مع الرسالة كما ذكرناه في المقدمة المذكورة: مضافا إلى أن في التوراة
الرائجة ما يمتنع أن يكون من الإلهام كما سمعت فيما مضى وسيمر عليك إن شاء
الله، مضافا إلى شهادة ارميا: بأن شريعة الله وتوراته حولها إلى الكذب قلم
كذب الكتبة. كما سمعت في المقدمة السادسة، ثم تحققنا أيضا في خصوص
سند التوراة فوجدناه بحكم المقدمة الخامسة وشهادة المقدمة السادسة وأوليات
المقدمة الثالثة عشر فتحقق لنا أنه منقطع لا يمكن في العادة للعاقل أن يحتمل
اتصاله إلى موسى بل لا بد من أن يكون نقل مجموع التوراة الدارجة عن موسى
كاذبا لا اعتداد به.
فيتضح من ذلك أن دعوى اليهود تواتر نقلهم لدعوى موسى الرسالة
وظهور المعجز على يد غير صحيحة. وذلك لأجل التنافي بين منقولاتهم التي

226
يدعون فيها التواتر فيعلم كذب أحدهما أو كليهما إجمالا. ولأجل ظهور الكذب
على بعض منقولاته.
لكنا قلنا: يمكن أن تكون دعوى اليهود صادقة في اتصال النقل والتواتر
لدعوى موسى للرسالة وظهور المعجز على يده. وإن ظهر انقطاع النقل بل
والكذب في نقل التوراة. وذلك لأجل اكتشاف الداعي إلى الكذب في نقل
التوراة وهو حرص الكهنة ورؤساء الدين على إبقاء صورة الشريعة وآثار موسى
بعد تلاشيها وانطماسها بدواهي التقلبات والانقلابات المشروحة في المقدمة
الخامسة فلفقوها من أوهامهم ومن النقول المشتبه صدقها بكذبها وكابروا في حفظ
اسمها وعنوانها بدعوى تواترها.
ومع ذلك لا يعدو أمر موسى في دعواه الرسالة وظهور المعجز على يده من
حيث نقل اليهود أن يكون احتمالا وظنا لا يصلح أن يكون حجة في أصول
الدين.
ولو أن نقل اليهود له أفاد العلم وكان حجة لما ثبت عندنا إلا مجرد نبوة
موسى ولا أثر لذلك إلا وجوب الإيمان به فقط إذ لم تصل إلينا منه شريعة
معلومة ولا كتاب معلوم.
ثم وجهنا نظرنا إلى دعوة المسيح وإنجيله وتعليمه وشريعته فوجدنا
المعاصرين من النصارى متفقين في النقل على أنه ادعى الرسالة وظهرت على يده
المعجزات وأنزل عليه الإنجيل.
ومتفقين أيضا على أنهم قد تسلموا هذا النقل مسلسلا عن أجيالهم يدا
عن يد إلى الكثيرين من جيل المسيح السامعين لدعواه الرسالة والمشاهدين
لمعجزاته.
ومتفقين أيضا بهذا الاتفاق في النقل على أن الأناجيل الأربعة الدارجة هي
من تعاليم المسيح وأحواله الواقعية، وأنها قد كتبها رسل ملهمون عن الروح
القدس ادعوا الرسالة وظهر على يدهم المعجز وأنهم " أعني النصارى " تسلموا
هذا كله مسلسلا من نقل أجيالهم إلى الكثيرين السامعين من هؤلاء الرسل

227
دعواهم الرسالة، والمشاهدين لظهور المعجز على أيديهم، وأن هذه الكتب
الأربعة من كتابتهم.
ومتفقين أيضا بهذا الاتفاق على أن الأعمال الرسل، وأربعة عشرة رسالة
لبولس، وواحدة ليعقوب واثنتين لبطرس، وثلاثا ليوحنا وواحدة ليهوذا.
ورؤيا يوحنا على ما شرحناه في المقدمة الأولى هذه كلها كتب رسل
ملهمين ادعوا الرسالة وظهر على يدهم المعجز، وأنهم تسلموا هذا كله مسلسلا
من نقل أجيالهم إلى الكثيرين السامعين من هؤلاء الرسل دعوى الرسالة
المشاهدين لظهور المعجز على أيديهم، وإن هذه الكتب المذكورة من كتابتهم.
وجدنا النصارى المعاصرين أيضا يدافعون أشد المدافعة في أقوالهم
وكتاباتهم على الخدشة في سند هذه الأناجيل والكتب، ويحامون عنها بدعوى
تواتر النقل لكونها كتبا إلهامية صادرة من رسل ملهمين.
فقلنا لننظر أولا في الموانع عن رسالة المسيح وهؤلاء الرسل فوجدنا اليهود
يقدحون في نسب المسيح وولادته الطاهرة فتمتنع رسالته بحكم " تث 23: 2 "،
ويدل عليه اعتبار العقل فإن هذا الأمر منقصة منفرة للناس فيمتنع للرسالة التي
هي إتمام للحجة من الله على الناس أن يكون فيها مثل هذا الأمر المنفر.
وأيضا يصفون قدس المسيح بالضلال والسحر، وكذا بعض الوثنيين حتى
عدوا من كتبه كتاب الشعبذات والسحر، وأنه في مدة بقائه بمصر تعلم
النيرنجات، ويكيلون لباقي الرسل بنحو هذا المكيال.
فقلنا: لننظر أولا في الحجة على رسالة المسيح وموانعها الداخلية فإن تمت
الحجة لم تعارضها هذه الموانع الخارجية بل يوضح تمام الحجة كذب دعوى هذا
المانع.
فقد قضت العادة بأن كل من نهض لدعوة جديدة أو رئاسة جديدة محقا
كان أو مبطلا لا بد أن ينهض له مقاومون يرمونه بالعيب والضلال فاشتبه حق
هذا لقدح بباطله، وخصوصا أن قدح اليهود وغيرهم في نسب المسيح في غير
محله، لأن الذي يدعونه أمر غيبي، وإن كانت العادة تعضده إلا أن اليهود

228
معترفون بأن الله قادر على خلق الولد في رحم أمه من غير فحل.
وقد ظهرت قدرة الله في شأن آدم وحوا بأعظم من ذلك، وأن الطبيعة
التي سخرها الله بقدرته صالحة لمثل هذا.
فقد وجدنا في الحيوانات المعتاد تخلقها بآلات التناسل قد تتخلق بغيرها كما
هو المشاهد في " الفار " إذ يتخلق من الطين، والدجاج قد يبيض ويفرخ من غير
فحل، فإن أخبر نبي بتولد إنسان من غير فحل وجب تصديقه لإخبار الصادق
بأمر ممكن في قدرة الله جل شأنه مع صلاحية الطبيعة لمثله خصوصا مع وقوع ما
هو من هذا القبيل، هذا وإن لم يخبر به النبي فلا ينبغي أن يستلب حقه من
الإمكان والاحتمال وإن كان على خلاف العادة خصوصا إذا كانت المرأة الوالدة
من المعروفات بالدين والعفاف.
دع هذا فنظرنا في هذا الاتفاق من النصارى المعاصرين المتساوي في جميع
منقولاته على نحو أحد بحيث لا يمكن أن يكون متواترا في بعض منقولاته كاذبا
في المنقولات الأخر فوجدناه مختل الأركان متناقض المنقولات مضطربا فيها
مشتملا على ما يكذب بعضه بعضا وعلى واضحات الموانع من رسالة المسيح
ولنذكر لك من ذلك شيئا يسيرا. فإن الاستقصاء يفضي إلى السئام والملل
والخروج عن المقصود من وضع الكتاب والمقدمة. فاستمع من ذلك إلى أمور:
الأول: شهادة التاريخ بأن بعض منقولات هذا النقل ما ليس متواترا بل
هو منقطع قد تواطأ على صحته بعض السلف بتلفيق الأدلة والمؤيدات بزعمهم
فتبعهم الخلف واستعاروا له اسم التواتر.
ولنقتصر من نقل ذلك على ما نقله إظهار الحق فإنه الميسور تعجيله فقد
نقل من ذلك موارد:
المورد الأول عن جيروم في مقدمته على كتاب يهوديت إن سبعة كتب
وبعض الفقرات مما يدعي المعاصرون والمتأخرون تواتره قد كانت مشكوكة
فانعقد مجلس العلماء المسيحيين لتحقيق أمرها بأمر السلطان قسطنطين في بلدة
نائس " نيقية " سنة ثلاثمائة وخمس وعشرين فلم يتحقق وهي ست رسائل

229
العبرانيين، وبطرس الثانية، ويوحنا الثانية، والثالثة، ويعقوب، ويهوذا
والسابع رؤيا يوحنا بل سلم من دونها كتاب يهوديت " المردود عند البروتستنت "
قال: ثم انعقد مجلس " لوديسا " - اي لا وديقية - سنة ثلاثمائة وأربع وستين
فأوجب التسليم للست رسائل المذكورة، وأبقى رؤيا يوحنا على الشك إلى أن
انعقد مجلس " كارتهيج " - اي قرتاجنة - ستة ثلاثمائة وسبع وتسعين فسلم رؤيا
يوحنا.
والمتكلف لم تسعه المكابرة بتكذيب إظهار الحق ولا توهين جيروم لأنه
ادخره للاستشهاد بكلامه، وصرح " يه 1 ج ص 148 س 7 " بأنه كان مشهورا
بالتحقيق والتدقيق في عصره وهو الجيل الرابع للمسيح ولكنه لما ألجأه الوقت أن
يكتب شيئا ما قال " يه 1 ج ص 82 " مداولة المجالس في الكتب الموضوعة قال:
" يعني إظهار الحق " التأم مجلس العلماء المسيحيين للنظر في الكتب المشكوكة.
قلنا: يؤخذ من كلامه أنه لا خلاف في الكتب الموحى بها وهو الصواب إلى
أن قال المتكلف: ولم يحصل أدنى خلاف بين أعضاء المجلس النيقاوي على
صحة الكتب المقدسة إنتهى.
وأقول: كيف أخذ المتكلف من كلام إظهار الحق أو جيروم أنه لا خلاف
في الكتب الموحى بها مع تصريحه في النقل عن جيروم أن الكتب السبعة المذكورة
كانت مشكوكة وبقيت على الشك بعد المجلس الأول فسلم منها في المجلس
الثاني ستة وبقي السابع مشكوكا إلى المجلس الثالث.
أفيقول المتكلف: إن هذه الكتب السبعة ليست من الكتب الموحى بها هذا
وإن أراد المتكلف أن سكوت إظهار الحق أو جيروم عن الباقي من كتب العهد
الجديد يدل على أنها مسلمة في جميع الأعصار.
قلنا: متى سكت إظهار الحق أو جيروم أو غيرهم عن باقي الكتب كما
سنذكره في الموارد الآتية وأنها بمرأى المتكلف ومسمعه وقد تعرض لها، ولكني
أخبرك أن ظني القوي أن المتكلف لا يدري ماذا قال ههنا، وأما قوله: ولم
يحصل أدنى خلاف بين أعضاء المجلس النيقاوي على صحة الكتب المقدسة

230
فنقول فيه إن أراد من المجمع النيقاوي هو مجلس نائس المذكور.
قلنا: إن نقل جيروم أبعد عن التعصب من دعوى المتكلف وهو أعرف
بالأمور القريبة من عصره ومشهور بالتحقيق والتدقيق وهو مثبت والمتكلف نافي.
وإن أراد من المجمع النيقاوي غير مجلس نائس المذكور فلا يضرنا لأنا لا ننكر أن
مجامع النصارى قد اتفقت في بعض الأدوار على صحة هذه الكتب بل اتفقت في
أدوار كثيرة على صحة كتب كثيرة حتى نبغت فرقة البروتستنت في القرن السادس
عشر فانفردت بدعوى كذبها. وقد تعرض المتكلف أيضا للمجمع النيقاوي
المذكور " يه 3 ج ص 246 " فلم يجسر على مخالفة جيروم في النقل ولكنه تكلم
بما لا دخل له بالمقام كاستشهاده بكثرة الأساقفة على انتشار الديانة المسيحية وأن
الكتب الموحى بها هي التي تكتب بإلهام الروح القدس وإن كتاب يهوديت ليس
منها.
المورد الثاني: عن وارد كاتلك قال في كتابه: صرح جيروم في مكتوبه أن
بعض العلماء من المتقدمين كانوا يشكون في الباب الآخر من إنجيل مرقس،
وبعض القدماء كانوا يشكون في بعض الفقرات من الباب الثاني والعشرين من
لوقا، وعن المحقق نورتن في كتابه المطبوع في بلدة بوستن سنة 1837 ص 70.
في هذا الإنجيل " يعني مرقس " عبارة واحدة قابلة للتحقيق " وهي من الفقرة
التاسعة من الباب الأخير إلى آخر الإنجيل ".
والعجب من كريسباخ أنه ما جعلها معلمة بعلامة الشك في المتن وأورد
في شرحه أدلة على كونها إلحاقية " ثم نقل أدلته وقال " فثبت منها أن هذه العبارة
مشتبهة سيما إذ لاحظنا العادة الجبلية للكاتبين بأنهم كانوا ارغب في إدخال
العبارات من إخراجها إنتهى.
قال المتكلف " يه 1 ج ص 123 ": إن القول بأن العلماء كانوا يشكون في
الأصحاح الأخير من إنجيل مرقس هو افتراء محض غاية الأمر أن غريغوريوس
أسقف " نسا " في كبدوكية قال: ان إنجيل مرقس ينتهي بقوله " وخافوا "
" والصواب خائفات " وغض الطرف عن الاثنتي عشرة آية الأخيرة لأنه لم يجدها في
بعض نسخ الفاتيكان، ومن المؤكد أنها كانت موجودة في نسخ كريسباخ ولكنها

231
كانت مكتوبة بين قوسين.
فأقول: هب المتكلف كذب إظهار الحق أو وارد كاتلك أو معتمده جيروم
في شك بعض العلماء المتقدمين في آخر مرقس ولكنه اعترف بأن أسقف " نسا "
قد أخرج اثنتي عشرة فقرة من آخر مرقس جزما والاعتذار بأنه لم يجدها في بعض
نسخ الفاتيكان إعتذار واه لا محصل له إلا القدح بتثبت الأساقفة وقصورهم بل
وتقصيرهم في معرفة الحقائق والمحافظة على الكتب الإلهامية بزعمهم.
وينجر إلى القدح أيضا بسند العهد الجديد لأنه لم يكن لعموم الناس قبل
القرن السادس عشر حظ في تداوله، كما حدث بعد ذلك وإنما كان أمره مختصا
بالأساقفة ومن تحت أيديهم من القسوس وغيرهم، على أنه لم تكن قبل ناشئة
البروتستنت كتب تختص بعنوان الفاتيكان وإنما كان أمر الكتب في هرج ومرج
تسكن سورته المجامع وبعد مجلس كارتهيج أي قرطاجنة صار الفاتيكان وغيره
واجب التسليم إلى القرن السادس عشر.
وأيضا هب أن المتكلف كذب " نورتن " في نقله عن شرح كريسباخ ولكنه
اعترف بأن الفقرات المذكورة كانت مكتوبة في نسخته بين قوسين، ومن المعلوم
من الاصطلاح في رسم العهدين أن الجعل بين هلالين إنما هو علامة على أن ما
بينهما غير موجود في أصح النسخ وأقدمها وهو أعظم من الشك.
ومن أراد الحكومة بين المتكلف وبين وارد كاتلك ونورتن فليحقق في
كتابات جيروم وكريسباخ فان المتكلف قد أنكر الفقرة الثالثة من ثاني التكوين في
تقديس اليوم السابع وتبريكه " انظر يه 4 ج ص 174 س 3 " فهل يؤتمن بعد
ذلك على نقل؟.
المورد الثالث: عن " ص 205 " من المجلد السابع المطبوع سنة 1844 م
من كاتلك هولد كتب استادلن في كتابه أن كافة إنجيل يوحنا تصنيف طالب من
طلبة المدرسة الإسكندرية بلا ريب.
والمحقق برطشنيدر قال: إن هذا الإنجيل كله وكذا رسائل يوحنا ليست
من تصنيفه بل صنفها واحد في ابتداء القرن الثاني.

232
والمحقق المشهور كروتيس قال: إن هذا الإنجيل كان عشرين بابا فالحق
كنيسة افسس الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنا.
وعن هورن في الباب الثاني من القسم الثاني من المجلد الرابع من تفسيره
المطبوع سنة 1822 م أنه قال الحالات التي وصلت إلينا في باب زمان تأليف
الأناجيل من قدماء مؤرخي الكنيسة أبتر وغير معينة لا توصلنا إلى أمر معين،
والمشايخ القدماء الأولون صدقوا الروايات الواهية وكتبوها وقبل الذين جاؤوا
من بعدهم مكتوبهم تعظيما لهم، وهذه الروايات الصادقة والكاذبة وصلت من
كاتب إلى كاتب آخر وتعذر تنقيدها بعد انقضاء المدة إنتهى.
ولم يتعرض المتكلف للكلام على هذا النقل " انظر يه 1 ج ص 134 " إلى
آخره.
المورد الرابع: عن هورن " ص 206 و 207 " من المجلد الثاني من تفسيره
المطبوع سنة 1822 م، لا توجد في الترجمة السريانية الرسالة الثانية لبطرس،
ورسالة يهوذا، والرسالة الثانية والثالثة ليوحنا ومشاهدات يوحنا، ومن الآية
الثانية إلى الآية الحادية عشر من ثامن يوحنا، والآية السابعة من الباب الخامس
من الرسالة الأولى ليوحنا.
وعن وارد كاتلك " ص 37 " من كتابه المطبوع سنة 1841 م ذكر راجرس
وهو من أعلم علماء بروتستنت أسماء كثيرين من علماء فرقته الذين أخرجوا
الكتب المفصلة من الكتب المقدسة باعتقاد أنها كاذبة الرسالة العبرانية ورسالة
يعقوب، والرسالة الثانية، والثالثة ليوحنا، ورسالة يهوذا ومشاهدات يوحنا.
وقال داكتر بلس من علماء بروتستنت: إن جميع الكتب ما كانت واجبة
التسليم إلى عهد يوسى بيس واصر على أن رسالة يعقوب ورسالة يهوذا،
والرسالة الثانية لبطرس، والرسالة الثانية والثالثة ليوحنا ليست من تصنيفات
الحواريين، وكانت الرسالة العبرانية مردودة إلى مدة والكنائس السريانية ما
سلموا أن الرسالة الثانية لبطرس، والرسالة الثانية والثالثة ليوحنا، ورسالة
يهوذا وكتاب المشاهدات وما سلموا كونها واجبة التسليم وكذا حال كنائس

233
العرب لكننا نسلم.
وعن لارذر " ص 175 " من المجلد الرابع من تفسيره سرل وكذا كنيسة
أورشليم في عهده ما كانوا يسلمون كتاب المشاهدات، ولا يوجد هذا الكتاب
في الفهرست القانوني الذي كتبه.
ثم قال " ص 323 " إن مشاهدات يوحنا لا توجد في الترجمة السريانية
القديمة وما كتب عليه بارهي بريوس ولا يعقوب شرحا وترك " أي بدجسو " في
فهرسته الرسالة الثانية لبطرس والرسالة الثانية والثالثة ليوحنا ورسالة يهوذا
ومشاهدات يوحنا وهذا هو رأي السريانيين الآخرين.
وعن " ص 206 " من المجلد السابع من كاتلك هولد ان روز كتب " ص
161 " من كتابه أن كثيرا من محققي بروتستنت لا يسلمون كون كتاب
المشاهدات واجب التسليم.
وأثبت برويرا يوالد: بالشهادة القوية أن إنجيل يوحنا ورسائله وكتاب
المشاهدات لا يمكن أن تكون من تصنيف مصنف واحد.
وعن يوسى بيس في الباب الخامس والعشرين من الكتاب السابع من
تاريخه " قال " ديونيسيش أخرج بعض كتاب المشاهدات عن الكتب المقدسة
واجتهد في رده وقال: هذا كله لا معنى له وأعظم حجاب الجهالة وعدم العقل
ونسبته إلى يوحنا الحواري غلط ومصنفه ليس بحواري ولا رجل صالح ولا
مسيحي بل نسبه سرنتهن الملحد إلى يوحنا لكني لا أقدر على إخراجه عن الكتب
المقدسة لأن كثيرا من الأخوة يعظمونه الخ.
وعن يوسى بيس في الباب الثالث من الكتاب الثالث من تاريخه، أن
الرسالة الأولى لبطرس صادقة إلا أن الرسالة الثانية له ما كانت داخلة في الكتب
المقدسة في زمان من الأزمنة لكن كانت تقرأ رسائل بولس أربع عشر إلا أن
بعض الناس أخرج الرسالة العبرانية.
وفي الباب الخامس والعشرين من الكتاب المذكور، اختلفوا في أن رسالة
يعقوب ورسالة يهوذا والرسالة الثانية لبطرس، والرسالة الثانية، والثالثة ليوحنا

234
كتبها الأنجيليون أو أشخاص أخر كان أسماءهم هذه
وفي الباب الخامس والعشرين من الكتاب السادس من تاريخه أيضا نقل
قول ارجن في شأن الرسالة العبرانية الحال الذي كان على ألسنة الناس إن
بعضهم قالوا: إن هذه الرسالة كتبها كليمنت الذي كان بشب الروم وبعضهم
قالوا: ترجمها لوقا إنتهى كلام ارجن. قال: وأنكرها رأسا ارنيس بيشب ليس
الذي كان سنة 178 م وهب بوليتس الذي كان سنة 220 م نوتيس برسبتر
الروم الذي كان سنة 251 م وقال ترتولين برسبتر كارتهيج الذي كان سنة 200 م
إنها رسالة برنيا، وكيس برسبتر الروم الذي كان سنة 212 م عد رسائل بولس
ثلاثة عشر ولم يعد هذه الرسالة، وسائي برن بشب كارتهيج الذي كان سنة
248 م لم يذكر هذه الرسالة، وقال اسكالجر من كتب الرسالة الثانية لبطرس
فقد ضيع وقته.
وعن تاريخ البيبل المطبوع سنة 1850 م قال كروتيس: هذه الرسالة
رسالة يهوذا الأسقف الذي كان خامس عشر من أساقفة أورشليم في عهد سلطنة
ايدرين.
وعن يوسي بيس في الباب الخامس والعشرين من الكتاب السادس من
تاريخه:
قال ارجن في المجلد الخامس من شرح إنجيل يوحنا أن بولس ما كتب
شيئا إلى جميع الكنائس والذي كتبه إلى بعضها فسطران أو أربعة سطور.
والمتكلف لم يتمكن من إنكار هذه النقول ولا القدح بناقليها، وغاية ما
تمكن في مقابلة بعضها أنه لفق بعض الشواهد الواهية لصحة الكتب المذكورة
باستشهاد بعض الأشخاص ببعضها، وتصحيح بعضهم لها واشتمالها على اسم
الرسول المنسوبة إليه أو الوعظ وغير ذلك من التشبثات التي ليس فيها شئ
يشهد بعدم الجعل " انظر يه 1 ج ص 153 " إلى آخره على المتكلف قد غفل
أو تغافل عما هو الموضوع لكلام إظهار الحق فإنه أورد هذه النقول وغيرها
شواهد على عنوان الفصل الثاني من الباب الأول وهو أنه لا يوجد عند أهل
الكتاب سند متصل لكتاب من كتب العهد العتيق والجديد فكل ما فر إليه

235
المتكلف من الاستشهادات مما يؤكد دعوى إظهار الحق على أنا لو استقصينا في
التعرض لتلك الشواهد لأوضحنا سخافتها في نفسها ولكنها لا تمس غرضنا بوجه
ولو تمت بل تؤكد قولنا: إن دعوى النصارى المتأخرين تواتر كتبهم إلى المصادر
المدعاة لا أصل لها، بل أن النصارى مختلفون فيها، وأن من يريد منهم
التصحيح يحتاج إلى أعمال الظنون والاعتماد على تقليد آحاد الناس في أمر
مضى له تسعة عشر قرنا.
المورد الخامس: قد ذكر إظهار الحق أيضا في المقصد الثاني من الباب الثاني
شهادة كثير من محققيهم ومفسريهم وأئمتهم في أجيال مختلفة ونصهم على زيادة
كثير من العهد الجديد وأنه إلحاقي ليس منه " انظر المقصد الثاني المذكور من
الشاهد السابع والعشرين إلى آخره ".
والمتكلف لما أراد أن يتكلم على هذه الشواهد لم يتمكن من جحود نقلها
ولا القدح فيمن نقل عنهم فتستر بإهماله لذكر من نقلت عنه فموه بإظهار نسبتها
إلى إظهار الحق وصار يجيب عنها بالتلفيقات والتشبثات " انظر يه 3 ج ص
270 - 290 ".
ثم جعل استشهادات إظهار الحق المشار إليها استشهادا بأقوال المسيحيين
الضعيفة والآراء السقيمة وضرب المثل باعتقاد المتقدمين بكون الشمس متحركة
والأرض ثابتة وقد اتضح فساده.
إلى أن قال: ولا يخفى أن المعترض " يعني إظهار الحق " أورد كل رأي
سقيم وقول باطل قديم وما دري أن الدنيا في تقدم، فكل سنة تظهر حقائق جمة
بل انكشفت بالأبحاث الجديدة أمور مهمة إلى أن قال: ولو كان آدم كلادك أو
غيره من الجيل الماضي في هذا العصر لأقلعوا عن كثير من آرائهم الساقطة.
فأقول: أولا: إن المتكلف طالما ادعى أن كتبهم وصلت من السلف إلى
الخلف بالسند المتصل القوي " انظر أقلا عنوانه يه 3 ج ص 192 " ولم يجد ملجأ
في زعمه صحتها واتصال سندها في تسعة عشر قرنا إلا بقول فلان واستشهاد
فلان.
وثانيا: أن جل الذي استشهد بنقلهم إظهار الحق قد التجأ المتكلف في

236
كتابه إلى التشبث بآرائهم ونقولهم، انصر كتابه في أمثال هذه الموارد وراجع
إظهار الحق في هذا المقام.
نعم: هؤلاء وأمثالهم من سلف المتكلف عنه على حالتين متباينتين إن
استشهد إظهار الحق بكلامهم في مقام لا يتهمون به كانوا عند المتكلف من
الجهلة العارين عن الفهم والعلم " انظر يه 1 ج ص 95 س 6 ".
وكان ما ينقله من أقوالهم رأي سقيم وقول باطل قديم وآراء ساقطة " انظر
يه 3 ج ص 291 و 292 ". وإن استشهد بهم المتكلف لمزاعمه كانوا أئمة فضلاء
إثبات محققين مدققين، أنظر إلى مدحه لهم عندما يتشبث بأقوالهم وآرائهم.
وثالثا: أن صحة سند الكتاب وتواتر سلسلة إلى مصدره إنما هو أمر
تاريخي ولا وجهة للتقدم في فلسفته إلا مراجعة مأثورات القدماء المتصدين
للبحث عنه والتنقير فيما كان في زمانهم وما قاربه من أحواله وما جرياته. وعند
التعارض يحكم الاعتراف على الدعوى والاطمئنان على التهمة، ومن الوهم
الواضح قياس التاريخ بمسألة حركة الشمس أو الأرض فإن وجهة التقدم في
فلسفة هذا مباينة لما تقدم وإنما هي بمزاولة الرصد بالآلة وأعمال النظر في
الرياضيات والطبيعيات.
وقد صار المتكلف في هذا المقام أن رأى المجمع يوافقه في مزاعمه احتفل
بقراره وارتاح بالاستشهاد به كما في مجمع " ترنت " سنة 1537، وأن رأي المجمع
صدق على ما لا يوافقه أو شك فيما يزعم المتكلف إلهاميته قال لا يسوغ الاعتماد
على قرار ذلك المجمع.
وأن الكتاب الذي يكتب الوحي الإلهي ويتأيد بالمعجزات في غنى عن قرار
مجلس، " انظر يه 3 ج ص 246 و 247 ".
أقول: نعم إن كتابة الرسول أو إملاء للكتاب عن الوحي في غنى عن
قرار مجلس، ولكن يا حبذا لو صحت الأحلام. وكيف السبيل إلى العلم بأن
ما بأيدي الناس هو ذاك. وأن الكلام في المجامع على كتب العهدين يجري في
أمرين باهظين " أحدهما " اتصال سنده اتصالا علميا إلى مصدره الذي ينسب إليه

237
ومرجع هذا إلى محض التحقيق التاريخي " وثانيهما " أن مصدره كتبه عن إلهام
متأيد بالمعجزات ومرجع هذا إلى التحقيق التاريخي والنظري وأن المجمع العام
النيقاوي الأول المشتمل على ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا، لم يتحقق فيه صحة
السند لسبعة من الكتب التي يزعم النصارى المتأخرون تواترها في جميع الأجيال
إلى الرسل، بل أبقوها مشكوكة النسبة إلى مصادرها وهذا مما يوضح فساد
دعوى التواتر فيها.
ويكشف عن أن هذه الدعوى من إصرار المكابرات، بل يوهن قبول ما
بعده من المجامع لها ولا سيما إذا ادعت تواترها فإن هذه الأمور التاريخية البعيدة
العهد لا سبيل إلى حجتها بقول فلان واستشهاد فلان، ومن هو فلان؟ حتى لو
فرضنا أنا علمنا قطعا أنه هو القائل أو المستشهد، أهو نبي أم نخادع عقولنا
حتى إذا قيل إنه استشهد بفقرة نقول إن كلما يكتب على الورق معلوم النسبة إلى
الإلهام، أو قال: إن ليعقوب رسالة نقول إن كلما يكتب على الورق وهو رسالة
يعقوب مثلا، فإن هذه الأمور لا تثبت ثبوتا حقيقيا علميا إلا بقول المعصوم
الموحى إليه بأن هذا الكتاب المعين بالإشارة الحسية وهذه الألفاظ المخصوصة
هي كتاب فلان النبي.
أو يثبت ذلك بالتواتر المتصل في جميع الأجيال، أفيقول المتكلف إن سبعة
كتب من العهد الجديد الرائج هي متواترة وإن شك فيها في القرن الرابع
ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا من المنتخبين للمجمع العام للنظر في الديانة
النصرانية وكتبها نظرا أوليا أو ثانويا وقد قصروا وقصروا عن الوصول إلى التواتر
أو أنهم كابروا بإنكاره حتى بقي الشك مستمرا إلى مدة، أيكون مثل هذا في
التواتر؟.
نتيجة ما تقدم: أنه قد اتضح من نقل الموارد الخمسة المذكورة أن اتفاق
المتأخرين في النقل لا يصلح لأن يكون من التواتر المفيد للعلم لأجل ظهور
الخلاف في دعوى التواتر، ونقله في سبعة من الكتب وجملة من فقرات الكتب
الأخر.
وإن انعقاد المجامع في أجيال النصارى للنظر في أمور الكتب ولو ثانويا كما

238
يزعم المتكلف لهو مما يقرب أن اعتمادهم في كتبهم كان على التواطئ وقرار
المجلس ولو لأجل التشبث بالشواهد، وهذا مما يدع التواتر هباء منثورا. فإن
من أركان التواتر أن يكون الاتفاق على النقل مستندا إلى النقل المسلسل في
الأجيال إلى المصدر بحيث لا يحتمل أن يكون مستندا إلى التواطئ وقرار
المجامع أو البحث والتشبث بالشواهد والأمارات.
الأمر الثاني: أن الأناجيل التي يدعون تواتر نقلها إلى المصدر الإلهامي قد
وجدناها تكذبهم في دعواهم أن المسيح ادعى الرسالة العامة وظهر على يده
المعجز، وأن هذا متواتر في نقلهم.
ففي خامس عشر متى عن قول المسيح 24 فأجاب وقال: لم أرسل إلا إلى
خراف بيت إسرائيل الضالة.
وفي صراحة الأناجيل أيضا عن قول المسيح أنه لا يظهر على يده المعجز
والآية مدة حياته في الأرض إلا بقيامه من الأموات بعد مكثه في بطن الأرض
ثلاثة أيام، " انظر إلى مت 16: 4 ومر 8: 11 و 12 ولو 11: 11 و 29 ".
الأمر الثالث: إن الأناجيل التي يدعون تواتر نقلها إلى المصدر الإلهامي
قد وجدناها تبطل احتجاجهم بأن ظهور المعجز شاهد وبرهان على الصدق في
دعوى الرسالة، فقد صرحت بأن الآية والإعجوبة والقوة التي هي عبارة عن
المعجز تظهر على يد الكاذب في دعوى النبوة " انظر إلى متى 24: 24 ومر 13:
22 ".
أفيمكن أن يكون نقل النصارى متواتر في دعوى المسيح للرسالة العامة.
وفي ظهور المعجز على يده وفي الأناجيل المشتملة على ما يكذب ذلك ويبطل
الاحتجاج به. أم نتشهى ونقول إنه متواتر في بعض دون بعض مما ذكرنا وإن
كان النقل فيهما متساويا كتساوي دعوى التواتر.
الأمر الرابع: أن العهد الجديد الذي يدعي النصارى تواتره إلى المصدر
الإلهامي والأنبياء المرسلين. ويحامون أشد المحاماة عن الخدشة في تواتره وصحة
سنده. قد وجدناه قد تضمن ثلاثة مضامين.

239
الأول: إن يسوع المتولد في بيت لحم من مريم العذراء المبشر به في العهد
الجديد هو ابن داود ومن نسله وداود أبوه انظر اقلا إلى لو 1: 32 واع 2: 30
ورو 1: 3.
الثاني: إن يسوع هو المسيح الموعود به. وهذا هو العنوان لدعواه الرسالة
انظر اقلا مت 16: 16 - 20 ومر 14: 61 و 62 ويو 4: 25 و 26.
الثالث: إن المسيح ليس ابن داود، ففي ثاني عشر مرقس 35 ثم أجاب
يسوع وهو يعلم في الهيكل كيف يقول الكتبة إن المسيح بن داود 36 لأن داود
نفسه قال بالروح القدس. قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك
موطئا لقدميك 37 فداود نفسه يدعوه بالروح ربا فمن أين هو ابنه ونحوه " مت
22: 41 - 36 ولو 20: 41 - 45 ".
ولا يخفى عليك أنا إذا أخذنا بالمضمون الأول، وهو أن يسوع بن داود
ومن نسله، مع المضمون الثاني، وهو أنه هو المسيح لموعود به، لزم كذب
المضمون الثالث، وهو أن المسيح ليس ابن داود، وإذا أخذنا بالمضمون الثاني
مع الثالث. لزم كذب المضمون الأول. وهو أن يسوع المذكور من نسل داود
وابنه، وإذا أخذنا بالمضمون الأول مع الثالث، لزم كذب المضمون الثاني وهو
أن يسوع هو المسيح فتبطل دعواه الرسالة لأنها معنونة بكونه المسيح الموعود به كما
لا يخفى، فليختر المتكلف إن أي هذه المضامين الثلاثة كاذب، مع أنه من
العهد الجديد المتواتر وكلام الله السميع العليم بزعم المتكلف.
وأيضا كيف يجعل داود له أربابا متعددة أحدهما يخاطب الآخر وكيف يحتج
المسيح بهذا القول وينسبه إلى الروح القدس، مع أنه جاء في العهد القديم عن
قول الله أنا أنا هو الرب وليس إله معي " تث 32: 39 " أنا الرب وليس آخر
" اش 45: 5 و 6 و 18 ".
فإن قلت: إن معنى الرب المراد به المسيح هاهنا هو المعلم، قلت أجل
فلماذا لا يكون المعلم ابن داود ومن نسله، دع هذه فإن هذا التفسير منك في
هذا المقام فضولا لا يقبلونه.

240
الأمر الخامس: إن الأناجيل التي يدعي النصارى تواترها عن المصدر
الإلهامي قد ذكرت عن المسيح احتجاجات واهية لا تليق بسائر الناس فضلا عن
رسل الله ذوي الحجة الواضحة والبيان الشافي الكافي.
منها: ما أسلفناه في الفصل الخامس عشر من المقدمة الثامنة عن قول
المسيح لما قال له الفريسيون: أنت تشهد لنفسك وشهادتك ليست حقا حيث
ذكر أنه قال: وأيضا في ناموسكم مكتوب شهادة رجلين حق أنا هو الشاهد
لنفسي ويشهد لي الأب الذي أرسلني " يو 8: 17 و 18 ".
فهل ترى أحدا من أوباش الناس يحتج لدعاويه بمثل هذا؟ أفيخفى على
أحد من الناس أن المدعي لا يكون أحد الشاهدين لا في القضاء الشرعي ولا
العرفي.
ومنها: ما أسلفناه أيضا من قول الإنجيل إن المسيح لما أجابه اليهود
قائلين لسنا نرجمك لأجل عمل حسن بل لأجل تجديف فإنك وأنت إنسان تجعل
نفسك إلها، أجابهم يسوع أليس مكتوبا في ناموسكم أنا؟ قلت أنكم آلهة " يو
10: 33 و 34 ".
فهل ترى إن واحدا من الموحدين يحتج بهذا الاحتجاج وينسب الناموس
المنسوب إلى الوحي إلى القول بالشرك وتعدد الآلهة؟ وقد أسلفنا ما في هذا من
الكلام فراجعه.
الاحتجاج للمنع من الطلاق
ومنها ما عن المسيح في احتجاجه للمنع من الطلاق.
ففي تاسع عشر متى 3 وجاء إليه الفريسيون ليجربوه قائلين له هل يحل
للرجل أن يطلق امرأته لكل سبب 4 فأجاب وقال لهم: أما قرأتم إن الذين
خلق من البدء خلقهما ذكرا وأنثى 5.
وقال: من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون
الاثنان جسدا واحدا 6 إذا ليسا بعد اثنين بل جسد واحد، فالذي جمعه الله لا
يفرقه إنسان 7.

241
قالوا له: فلماذا أوصى موسى أن يعطي كتاب طلاق فتطلق 8 قال لهم
إن موسى من أجل قساوة قلوبكم أذن لكم أن تطلقوا نساءكم ولكن من البدء لم
يكن هكذا 9 وأقول لكم: إن من طلق امرأته إلا لسبب الزنا وتزوج بأخرى
يزني " ونحوه مر 10: 2 - 10 ".
فأقول: أما الاستشهاد بأنه يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته فإنه إن
أريد منه الالتصاق بالمرأة أحيانا من أجل ضرورة التمتع والرغبة في النسل وتربية
الأولاد فليس ذلك إلا لأن الوالدين لا يصلحان لذلك، فهذا الالتصاق بالمرأة
كالتصاقه في أغلب أوقاته بنوع من التكسب وأعمال المعيشة فيترك لاسترزاقه منه
أباه وأمه وامرأته وولده، أفيصح أن يجعل التصاقه هذا به حجة على أنه لا يجوز
أن يفارقه ويتركه إذا استغنى عنه أو سقط عن الفائدة أو كان مضرا بنظام حياته
وصحته واستراحته. أو انقياده للشريعة ونواميسها.
وإن أريد بهذا الالتصاق تقديهما على إكرام الوالدين وبرهما اللازم،
والإعراض عنهما لأجلها، فهو استشهاد بعمل الأوباش الذين لم تؤدبهم
النواميس الروحية على إكرام الوالدين والبر بهما، ولا يبالون بإثم العقوق
ومنقصته فهم كالحمار إذا رأى الأتانة تبعها، ولم يبال بمن فوقه وما يراد منه.
فإنا نجد كثيرا منهم يلتصقون هكذا بالزواني اللاتي يختصون بهن بغير
زواج شرعي.
وأما الروحانيون المؤدبون بالشريعة فلا يقدمون نساءهم على إكرام
والديهم وبرهم ولا يتركونهم لأجلهن، وحاشا للوحي الإلهي أن يستشهد بعمل
الأوباش المخالفين لنواميس الشريعة.
وأيضا ما معنى أن الرجل وامرأته يصيران جسدا واحدا وأنهما ليسا بعد
اثنين. فما لنا نرى بعض الكلمات قد كابرت الأعداد على حقائقها فلم تعط
الوحدة والاثنينية والتثليث حقوقها من المعاني والحقائق. أفمن ماتت زوجته
أو طلقها لسبب الزنا يكون نصف جسد واحد، وإذا تزوج بأخرى يعود جسدا
واحدا أو يصير الثلاثة والأربعة والعشرة جسدا واحدا.

242
وأيضا ما معنى القول بأن ما جمعه الله لا يفرقه إنسان، مع أن الوجدان
شاهد على أن كثيرا مما جمعه الله يفرقه الإنسان كأجزاء الأجسام الصورية
والجوهرية وقد سوغت له الشريعة كثيرا من ذلك.
نعم إن جمع الله بين الرجل والمرأة بالزواج برابطة شرعية غير مؤقتة لا
يمكن أن يفرق بدون شريعة، ولكن الله قد شرع ذلك على يد موسى ثم نقول
لهذا المحتج: كيف تسوغ أنت طلاق المرأة إذا كانت زانية وبمقتضى حجتك أنها
صارت هي وزوجها جسدا واحدا وليسا بعد اثنين، وما جمعه الله لا يفرقه
إنسان.
وأيضا ما معنى قول المحتج بأن موسى من أجل قساوة قلوبكم إذن لكم
أن تطلقوا نساءكم ولكن من البدء لم يكن هكذا.
أفيقول إن موسى جاء بشريعة الطلاق من عند نفسه مداراة لقومه القساة
القلوب لا من عند الله؟ أم يقول: إن الله شرع الطلاق موقتا من أجل قساوة
القلوب؟ ولكن رفعت هذه الشريعة حيث تسلطت المملكة الروحية على قلوب
بني إسرائيل والعالم أجمع قدستهم روحانيتهم وأدبتهم على حسن الائتلاف
وعرفان الحقوق حتى تلاشت قساوة قلوبهم.
فنقول: يا حبذا لو صحت الأحلام فإنك إذا نظرت في تاريخ العالم
ورسوم هذه المملكة منذ حادثة الصليب وقبلها وبعدها حتى الوقت الحاضر
ونظرت إلى حوادث الوقت قلت مستعبرا:
قف بالمعاهد نبكي رسمها العافي * بمدمع من سويد القلب رعاف
والإجمال أجمل، وأيضا ما معنى احتجاج هذا المحتج بأنه لم يكن من البدء
هكذا، أفكلما لم يكن من البدء ينبغي أن لا تكون به شريعة مسوغة له إذا فإن
آدم وحوا كانا في البدء عريانين " تك 2: 25 " فينبغي أن لا تجيئ شريعة تسوغ
لبس الثياب، فإن قلت: قد عرض لهما من الأحوال ما يقتضي خلاف ذلك وقد
صنع الله لهما أقمصة من جلد وألبسهما " تك 3: 21 ".
قلنا: وقد عرض من الأحوال فيما بين الرجال ونسائهم ما لم يكن بين آدم

243
وحوا وقد شرع الله الطلاق على يد موسى " تث 24: 1 " وفي الكل لم يكن من
البدء هكذا.
وأيضا بناء على هذه الحجة ينبغي أن لا تجيئ شريعة بتسويغ الطلاق لعلة
الزنا، أو بتزوج الرجل إذا طلق امرأته لعلة الزنا أو إذا ماتت، ولا للمرأة أن
تتزوج إذا مات زوجها أو طلقها لعلة الزنا لأنه لم يكن من البدء هكذا، إذ لم
يجر شئ من ذلك بالنسبة لآدم وحوا.
أفهكذا يكون احتجاج الرسل وماذا يمنع الرسول من أن يقول: إني رسول
من الله بشريعة تحريم الطلاق إلا لعلة الزنا ولا يحتج بهذا الاحتجاج الواهي من
جميع أطرافه.
الزواج في القيامة: ومنها ما في العشرين من لوقا عن قول المسيح في
الاحتجاج على الصدوقيين 34 فأجاب وقال لهم يسوع أبناء هذا الدهر يزوجون
ويزوجون 35 ولكن الذين حسبوا أهلا للحصول على ذلك الدهر والقيامة من
الأموات لا يزوجون ولا يزوجون 36 إذ لا يستطيعون أن يموتوا أيضا لأنهم مثل
الملائكة وهم أبناء الله إذ هم أبناء القيامة، فانظر وتأمل وقل ما وجه التعليل
لعدم التزاوج في القيامة بأن القائمين من الموت لا يستطيعون أن يموتوا أيضا،
وما وجه الحجة الكافية في ذلك.
أفيمتنع الزواج عقلا أو عادة على من لا يموت من نوع الإنسان وقل ما
معنى نسبة الموت إلى استطاعتهم، وما معنى كونهم مثل الملائكة، فإن كان ذلك
بدعوى كونهم أرواحا مجردة فهو إنكار للقيامة من الأموات والمعاد الجسماني
الذي عليه صريح العهد الجديد، وما معنى كون أبناء القيامة أبناء الله فإن كان
مضمونه أن غير الأبرار لا يقومون من الموت كان ذلك مخالفا لصراحة الأناجيل
والعهد الجديد وإن كان الغرض منه التعرض لحال الأبرار فقط كان غير مطابق
للسؤال العام عن حال الأبرار وغيرهم، وإن كان المراد أن جميع الناس أبرارهم
وشرارهم يكونون في القيامة مثل الملائكة وأبناء الله فأين الدينونة وأين الجزاء
حسب الأعمال وأين جهنم النار التي لا تطفئ كما هو مكرر في صراحة العهد
الجديد وكيف يعقل ذلك.

244
القيامة من الأموات: ومنها ما في العشرين من لوقا عن قول المسيح أيضا
في الاحتجاج على الصدوقيين للقيامة من الأموات.
وأما أن الموتى يقومون فقد دل عليه موسى في أمر العليقة كما يقول الرب
إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب 38 وليس هو إله أموات بل إله أحياء لأن
الجميع عنده أحياء.
وانظر إلى " مت 22: 31 و 32 ومر 12: 36 و 37 ".
ولا يخفى أنه إن كان وجه هذا الاحتجاج أنه ليس في العالم موت ولا
أموات كما يشعر به قوله لأن الجميع عنده أحياء.
قلنا: هذا مخالف لضرورة الوجدان والعهدين مع أنه بهذا الوجه لا يدل
على القيامة من الموت، بل يدل على أنه ليس هناك أموات يقومون بل الجميع
عنده أحياء، وهذا خلاف المدعى فيكون البرهان المخالف للضرورة غير منطبق
على المدعي.
وإن كان الوجه في الاحتجاج هو أن الله لا يكون إله أموات وقد قال إنه
إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب فلا بد أن يكون ذلك باعتباره حياتهم بعد
الموت وتوجيهه أن المراد من الأموات هي أجسادكم المفارقة للأرواح، ومن
الأحياء أجسادهم التي فيها أرواحهم، فلا يكون الله إله أموات وأجساد خالية
من الأرواح لأنها جماد، فلا بد أن يكون القول بأن الله إلههم إنما هو باعتبار
قيامهم من الموت، وتلبس الروح بهم لخروجهم حينئذ عن كونهم جمادا.
قلنا: أولا لماذا لا يكون الله إلها للجماد؟ أوليس هو إله كل شئ وربه
وخالقه؟ أو لم يجئ في العهدين أنه إله صهيون " مز 147: 12 " وهي جماد وإله
الآلهة " مز 50: 1 ". وهي أصنام جاد وإله السماء " دا 2: 18 و 19 وروء 11: 13 ".
وثانيا: لو سلمنا أن كون الله إلها لإبراهيم وإسحاق ويعقوب إنما هو باعتبار
تعلق الأرواح بأبدانهم. لقلنا: من أين يدل ذلك على القيامة من الموت وتعلق
الأرواح بأبدانهم بعد الموت، ولماذا لا يكون ذلك باعتبار تعلق الأرواح بأبدانهم
قبل الموت، وهل يكون الاحتجاج على هذا التقدير إلا من قبيل التشهي

245
والمجازفات التي يجب أن تنزه الأنبياء عن غلطها.
وإن كان الوجه في الاحتجاج هو أن كون الله إلها لإبراهيم وإسحاق
ويعقوب إنما هو باعتبار وجود أرواحهم، فلو كانت أرواحهم منعدمة عند الموت
لما صح قول الله لموسى أنا إله إبراهيم إلى آخره.
فيدل هذا الخطاب من الله لموسى على أن أرواح إبراهيم وإسحاق
ويعقوب موجودة حين الخطاب لم تنعدم بموتهم.
قلنا: لو سلمنا إن الله ليس إلها للأجسام وأن الخطاب ليس باعتبار وجود
أرواحهم في حياتهم الأولى لكان الخطاب المذكور لا يدل إلا على وجود أرواحهم
حينئذ فلا يدل على قيامة الأجسام بعد بلائها من الموت.
وعلى كل حال لا تجد لهذا الاحتجاج ربطا بالمدعى وحاشا للأنبياء أن
يحتجوا بمثل هذه الحجج الواهية، ويا أسفاه على القيامة أن توقف أمرها على
مثل هذه الحجة، ويا أسفاه على توراة موسى إذ لا يوجد فيها من أمر القيامة
ذكر حتى ألجأت الحاجة إلى التشبث بمثل هذا.
ويا لهفاه على قدس المسيح إذ ينسب له مثل هذه الاحتجاجات. ولا
أقول لك ليست هذه الاحتجاجات من قول المسيح، بل أقول إنها ممن لا يعرف
وجه الاحتجاج ولا يميز بين الصحيح والغلط فهي أنسب ما تكون بمن يقول لا
بشر لا بحكمة كلام - استحسن الله أن يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة - لأن
جهالة الله أحكم من الناس " 1 كو 1: 17 - 26 " أو بمن يحتج على التثليث
بقول الله لموسى أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب.
ومن العجيب أن أصحابنا النصارى يكلفوننا بأن نذعن بأن الأناجيل
الأربعة هي الإنجيل الذي نزل على المسيح وصدقه القرآن الكريم وقال إنه نور
وهدى، فيا لهفاه على النور والهدى إن كان كما نرى.
الأمر السادس: إن الأناجيل التي يدعون تواتر سندها إلى رسل موحى
إليهم قد اختلفت اختلافا كثيرا يوضح أنها ليست من عند الله ويكفي ذلك
اختلافها الفاحش في نسب المسيح.

246
1 - ففي متى أن يوسف النجار الذي ينسب إليه المسيح هو ابن يعقوب،
وفي لوقا أنه ابن هالي.
2 - أوصل متى نسب يوسف النجار إلى سليمان بن داود وأوصله لوقا إلى
ناثا بن داود.
3 - جعل متى بين يوسف وداود خمسة وعشرين أبا وجعلهم لوقا أحد
وأربعين أبا.
4 - جعل متى في طرد النسب زربابل ابن شألتيئيل بن يكنيا، وذكر في
لوقا زربابل ابن شألتيئيل بن نيري فإن كان مرادهما من زربابل شخصا واحدا
فقد اختلفا في أسماء أجداده وعددهم إلى داود.
وأيضا ذكر متى: في طرد النسب ابيهود بن زربابل.
وذكر لوقا ريسا بن زربابل ولا يوجد هذان الإسمان في أولاد زربابل
الذين ذكروا في ثالث الأيام الأول " 19 و 20 " كما ذكر فيه أن زربابل هو ابن
فدايا ابن شألتيئيل.
ونقل إظهار الحق في الفصل الثالث من الباب الأول اعتراف جماعة من
المحققين مثل اكهارن، وكيسر، وهيس، وديوت، ووي نر وفرش وغيرهم
بأن متى ولوقا مختلفان اختلافا معنويا.
ونقل أيضا عن آدم كلارك في ذيل شرحه للباب الثالث من لوقا أنه نقل
التوجيهات لهذا الاختلاف وما رضى بها وتحير.
وأنه قال " ص 408 " من المجلد الخامس بعلم كل ذي علم أن متى ولوقا
اختلفا في نسب الرب اختلافا تحير فيه المحققون من القدماء والمتأخرين.
والمتكلف لما لم يوافق هواه هذا النقل ادعى أن المنقول عنهم جهلة " يه 1
ج ص 209 " وإن كانوا من أئمة أسلافه ولكن لا بد له أن يجعلهم من الأئمة
المحققين عندما يستشهد بكلامهم في كتابه كما هو ديدنه ومع هذا فقد ألجأه الأمر
إلى بعض الاعتراف وإن مزجه بشئ من المكابرات فقال " يه 1 ج ص 206 ".

247
كان العلماء والمحققون يظنون في مبدأ الأمر أنه يوجد تناقض بين إنجيل متى
وبين إنجيل لوقا في نسب المسيح ولكن ظهر لهم بأنه لا يوجد تناقض ولا
اختلاف.
ثم إنه تكلف الجواب عند هذه الاختلافات الباهظة فقال في الاختلاف
الأول ما حاصله أن متى كتب في إنجيله نسب يوسف النجار الحقيقي لأنه كتب
إنجيله للعبرانيين فجرى في النسب على الطريقة التي كانت مشهورة عندهم
" وهي رعاية النسب الحقيقي " فنسب يوسف إلى أبيه الحقيقي يعقوب وكذا سائر
آبائه الحقيقيين إلى إبراهيم.
وأن لوقا كتب في إنجيله نسب يوسف المجازي فنسبه إلى هالي مجازا لأن
هالي هو أب حقيقي لمريم ولما لم يكن لها أخ واقترن بها يوسف صار هالي أبا
مجازيا ليوسف فنسبه إليه لوقا.
ثم أخذ المتكلف في توجيه ما ذكره عن لوقا فتعثر حسبما يقتضيه التقحم
وهو يعد ذلك من تقدم الدنيا في المعارف وتنبه المتأخرين في الأمور التاريخية
بنباهتهم إلى ما غفل عنه المتقدمون، فلنوقفك على تناقض كلامه وسخافة
دعاويه التي تقدمت بها الدنيا.
1 - قال: بما أن العبرانيين لا يدخلون في جداول نسبهم النساء فإذا
انتهت العائلة بامرأة ادخلوا قرينها في النسب واعتبروه ابن والد قرينته وعلى هذا
كان المسيح حسب هذا الاصطلاح الجاري والعادة المرعية المتبعة ابن يوسف
" انظر يه 1 ج ص 204 " ثم لم يلبث أن ناقض هذا الكلام بقوله " ص 205 " بما
أن متى كتب إنجيله إلى العبرانيين جرى في النسب على الطريقة التي كانت
مشهورة عندهم " أي مراعاة النسب الحقيقي "، وبما أن لوقا " البشير كتب إنجيله
إلى اليونان جرى في النسب على المصطلح عليه عندهم.
فيتبين من كلامه الأخير أن مراعاة النسب الصوري المجازي إنما هو
اصطلاح اليونان وأن اليهود كانت الطريقة المشهورة عندهم إنما هي مراعاة
النسب الحقيقي وبالضرورة تكون مراعاة النسب المجازي ليست اصطلاحا
جاريا ولا عادة مرعية، وهب أن اصطلاح اليهود أنهم يعتبرون قرين

248
البنت الوحيدة ابن والدها، وبهذا كان يوسف ابنا لهالي أب قرينته مريم لكن
قل يا من يعرف ما يقول كيف صار المسيح على هذا الاصطلاح الجاري ابنا
ليوسف، فهل كان المسيح مقترنا بابنة يوسف الوحيدة أم هذا الغلط مما تقدمت
به الدنيا.
التناقض الثاني: قال " ص 205 " إن شألتيئيل رئيس عائلة سليمان
الشرعية " وذلك لأنه يتصل بسليمان بالولادة الحقيقية " أنظر ثالث الأيام الأول
فيتبين من كلامه هذا أن النسب الشرعي هو ما كان بالولادة الحقيقية الطبيعية ثم
ناقض هذا بقوله: إن لوقا نظر إلى أنه " يعني يوسف " الابن الشرعي لهالي
" وذلك باعتبار اقترانه بمريم ابنة هالي الوحيدة بناء على ما ادعاه من الاصطلاح
الجاري لليهود.
فنقول: لو سلمنا أن هذا اصطلاح جار لليهود ولم يناقضه المتكلف ببيانه
أن هذا إنما هو اصطلاح اليونان الذي جرى عليه لوقا لقلنا أين يكون هذا من
التوراة الرائجة التي هي كتاب الشريعة بزعمهم فإنها لا يوجد فيها ما هو من
هذا القبيل، إلا أن الرجل إذا مات وليس له ابن تزوج أخوه بزوجته، والبكر
الذي تلده يقوم باسم أخيه الميت لئلا يمحى اسمه من إسرائيل " تث 25: 5 -
10 ".
التناقض الثالث: قد تكرر من المتكلف أن كون يوسف ابنا شرعيا لهالي
بسبب اقترانه بابنة هالي الوحيدة مريم، ثم ناقضه بمنام رآه أو خيال توهمه.
فحاول أن يطبق البنوة على ما ذكرناه عن شريعة التوراة في سفر التثنية
فادعى أن متان المذكور جدا ليوسف في نسب متى هو من نسل سليمان حقيقة
وخلف يعقوب وأن متثات المذكور جدا ليوسف في نسب لوقا كان من سبط يهوذا
من عائلة أخرى " وظاهره أنه ليس من نسل سليمان والا لادعى ذلك " ولما مات
متان تزوج امرأته متثات فولد منها هالي، فصار يعقوب وهالي أخوين من الأم
ثم مات هالي بدون عقب فتزوج أخوه يعقوب بامرأته فولدت منه يوسف فكان
ابن هالي حسب شريعة التثنية.
وليت شعري عن أي تاريخ يذكر ذلك ولو كان لهذه القصة على طولها أثر

249
في التاريخ لما تحير المتقدمون في هذا المشكل ولكنها خيال تخيله بعد ما كتب أن
بنوة يوسف لهالي باعتبار اقترانه بابنته الوحيدة مريم.
ويدل على ذلك أن إظهار الحق رد هذه السفسطات بقوله: إن هذا
التوجيه لا يصح إلا إذا ثبت من التواريخ المعتبرة أن مريم بنت هالي إنتهى.
والمتكلف لم يقدر أن يتشبث في قبال هذا بشئ من التواريخ بل ألجأته
الضرورة إلى قوله " ص 213 " قد أقمنا البراهين القوية على أنها بنت هالي.
قلت: ولم يأت بشئ سوى دعواه أن اصطلاح اليهود أن ينسبوا قرين
البنت الوحيدة إلى والدها، ثم ناقض هذه الدعوى وجعل هذا من اصطلاح
اليونان.
وأن الطريقة المشهورة عند اليهود في النسب خلافه وهي رعاية الولادة
الحقيقية ولذا جرى عليها متى لأنه كتب إنجيله لليهود، وهب أن ما ذكره
اصطلاح لليهود فمن أين يثبت أن والد مريم اسمه هالي وأن مريم كانت بنته
الوحيدة وأن لوقا نسب يوسف إلى هالي بهذا الاعتبار، وأن مثل المتكلف في هذه
البراهين القوية كمثل بعض المغفلين حيث قال لزوجته ليلى: إن في دارنا سارقا
فقالت له: من أين علمت ذلك؟ فقال: إن الناس يقولون إن السارق إذا
دخل الدار لا يحسون به وأنا الآن لا أحس بشئ، بل لم يقل هذا المغفل أن
السارق اسمه فلان وله بنت وحيدة اسمها فلانة وقد اقترن بها فلان فنسبه فلان
الآخر إلى والدها ولم يقل إن هذه المزاعم مما تقدمت بها الدنيا كاكتشاف
التلغراف، والفونغراف، والماكينات البديعة والهيئة الجديدة، ومما يشبه من
أقوال المتكلف هذا النحو أن إظهار الحق نقل عن إنجيل يعقوب الذي لا يقصر
عن كونه تاريخا قديما من الفروق الأولى، أنه صرح أن أبوي مريم " يهوياقيم
وعانا ".
فقال المتكلف مما تقدمت به الدنيا " ص 213 " على أنه إذا روت التواريخ
أن مريم كانت ابنة اليوقيم أو الياقيم فهما مشتقان من هالي أو " إلى " فإن الياقيم
مركبة من اليا وكلمة قيم.

250
وأيضا نقل إظهار الحق أن " اكتساين " قال: إنه صرح في بعض الكتب
التي كانت توجد في عهده " إن مريم عليها السلام من قوم لاوي " فلا تكون من
أولاد ناثان، بل ولا داود ولا يهوذا واحتج إظهار الحق لصدق ذلك بصراحة
إنجيل لوقا بأن اليصابات امرأة زكريا كانت من بنات هارون " لو 1: 5 "
وصراحته بأن مريم نسيبة اليصابات " لو، 1: 36 " ثم دفع احتمال أن قرابتهما
من النساء بما ذكره عن التوراة في السادس والثلاثين من العدد من أن كل رجل
يتزوج من عشيرته وسبطه وكذلك المرأة فيتعين أن تكون مريم قرابة اليصابا
وشريكتها في النسب من جهة الرجال فتكون من بنات هارون فيعتضد بذلك
نقل اكتساين.
والمتكلف لم يتعرض لنقل اكتساين ولم يحر وفيه جوابا ولكن تعرض
لاحتجاج إظهار الحق فجوز لبني إسرائيل أن يتزوج كل واحد من غير سبطه
لكي يجوز أن تكون قرابة مريم لليصابات من جهة النساء فلا يتعين كونها
كاليصابات من بنات هارون، واحتج لذلك بأن هارون نفسه اقترن بامرأة من
سبط يهوذا.
وليت شعري أتقول إن المتكلف لم يشعر بأن تزوج هارون في سبط يهوذا
لا يعارض إظهار الحق لأن هارون فعله قبل نزول الشريعة بل قبل خروجهم
من مصر بمدة وإظهار الحق يحتج بشريعة جاءت بمقتضى التوراة بعد موت هارون
بمدة وبعدما أخف بنو ماكير بن منسى ارض جلعاد وطردوا الأموريين منها.
نعم: لو كان للمتكلف إلمام بشئ نم العلم ومعرفة بالعهدين وموفقية في
الاحتجاج لقال على إظهار الحق أن الشريعة التي أشار إليها في السابع والثلاثين
من العدد لا تدل على المنع بالكلية من تزوج كل من الرجل والمرأة في غير سبطه
وإنما يدل على منع البنت الوحيدة الوارثة أن تتزوج في غير سبطها لئلا يتحول
نصيب سبط من الأرض إلى سبط آخر.
بل إن صدر السابع والثلاثين من العدد ليشير إلى أنه كان يجوز في شريعة
موسى أن تتزوج المرأة الوارثة في غير سبطها ولكن موسى نسخ هذا الحكم في
البنت الوارثة عند مطالبته بنات صلفحاد بسهم أبيهن من أرض جلعاد، أفتظن

251
أن المتكلف فر من هذا الاحتجاج سترا لما فيه من الإشارة إلى وقوع الناسخ
والمنسوخ في شريعة موسى.
ثم ادعى المتكلف " ص 213 " أن اليهود كانوا يسمون مريم بنت هالي.
قلنا: عن أي تاريخ قديم تنقل ذلك ومن ذا قاله من القدماء فإنا لا نقبل
أقوال أمثالك ممن تقدمت بمعارفهم الدنيا، ولماذا تحير المتقدمون في رفع
الاختلاف بين متى ولوقا لو كان لما تدعيه أثر هم أولى بالاطلاع عليه لقرب
عهدهم منه وعلى دعواك نقول: لماذا كان العلماء والمحققون يظنون في مبدأ الأمر
أنه يوجد تناقض بين إنجيل متى ولوقا في نسب المسيح لو كان لما تدعيه أثر.
" نتيجة ما تقدم " أنه قد اتضح مما تقدم أن كون والد مريم اسمه هالي وأن
نسبة لوقا ليوسف إلى هالي باعتبار أن يوسف قرين ابنته الوحيدة مريم، وأنه
ابن شرعي له من أضغاث الأحلام التي كلما أراد المتكلف أن يلفقها سقط
وتعرقل.
" زربابل وابيهود وريسا " لما ادعى المتكلف أن زربابل المذكور في متى " 1:
13 " هو الرجل المذكور في لوقا (3: 27 " توجه عليه الاعتراض بأن متى انهى
إليه نسب يوسف بابيهود، ولوقا أنها بريسا، ولا يوجد في أبناء زربابل
المذكورين في ثالث الأيام الأول فإن نصفه 19 وبنو زربابل مشلام وحنينا
وشلومية أختهم 20 وحشوبه، واوهل، وبرخيا، وحسديا، ويوشب حسد
خمسة إنتهى.
فقال المتكلف " ص 205 " غير مبال أن ابيهود ابن زربابل الأكبر وريسا
ابنه الأصغر ليموه على البسطاء أنهما معروفان من أولاد زربابل بحيث يتميز
الأكبر من الأصغر، ولكنه لما رأى أنه يطالب بما ذكرناه عن ثالث الأيام الأول
وهو يقول: إن كل العهد القديم كلام الله السميع العليم ولا يقدر أن يقول
فيه كما يصف علماء أسلافه بالجهل إذا خالفوه فيما هم أدرى به وأولى.
قال قلنا ليس الأمر كما ذكر " يعني إظهار الحق " فإنه يعلم من سفر الأيام
الأول " ص 3 " ومن لوقا أيضا أن ابن زربابل هو رفايا ولكنه ذكر في لوقا بلفظه

252
ريسا وذكر في متى ابيهود وهو المذكور في الأيام الأول بعوبديا، وفي لوقا بيهوذا
والمشابهة قوية بين هذه الألفاظ، كما لا يخفى على المتأمل، ولا سيما في الأصل
العبري.
ولعله إذا قلنا له ما معنى هذا الكلام يقول: انكم معاشر المسلمين لا
دراية لكم بالعهدين ولا وقوف لكم على الأمور الجديدة التي تقدمت بها الدنيا
فنقول: إذا إنا نطلب من أهل الدراية من اليهود والنصارى أن يراجعوا متى
ولوقا، والأيام الأول ويلاحظوا مواقع هذه الأسماء فيها ويخرجوا كلام المتكلف
عن شبه كلام المبرسمين ويسألونه أن المشابهة القوية بين ألفاظ هذه الأسماء هل
أوجبت وقوع الغلط في الإلهام أو في الكتب المتواترة أو أعطت حرية للمتكلم
والكاتب أن يفعلا ما يشاءآن.
" ابيهود واضطراب المتكلف " ولما اعترض إظهار الحق بأن ابيهود المذكور
في متى ولدا لزربابل لم يذكر من أبنائه في ثالث الأيام الأول، سنح للمتكلف
" يه 2 ج ص 190 " أن يعدل عن جوابه ها هنا بتشابه الحروف بين ابيهود
وعوبيد ولا سيما في الأصل العبراني، بل أجاب هناك بأن اليهود كانوا يسمون
الشخص الواحد بأسماء متعددة فأعرضنا عن هذه الدعوى وهذا الاضطراب
ولكنه قال بعده: على أنه إذا صرف النظر عن ذلك قلنا إن البشير متى ذكر
النسب من زربابل إلى المسيح من الجداول المحفوظة عند اليهود ثم أخذ يبالغ في
حفظ اليهود لجداول أنسابهم.
فنقول: إنا نسأل المتكلف وأعوانه عن مراده من هذه العبارة أفيقول إن
الروح القدس الذي ألهم متى والإنجيل الذي هو كلام المسيح العليم قد اعتمد
في النسب من زربابل إلى المسيح على جدول اليهود لأنهم كانوا يحافظون عليها،
فلا عليه إذا أخطأوا فيها فإنه اعتمد عليهم ولا عليه إذا أخطأ بخطأهم أم
يقول: إن متى أصاب بصوابهم ولكن الخطأ في سفر الأيام الأول وإن كان أيضا
كلام الله السميع العليم وإلهام الروح القدس للأنبياء. أو أن المتكلف لم يدر ما
قال هنا، ولا يعرف وجه اعتذاره وهو يستدعي المسامحة فيه.
" ريسا واضطراب المتكلف " ولما تعرض " يه 2 ج ص 253 " لذكر ريسا

253
الذي جزم ها هنا جزم العارف الخبير بأنه الابن الأصغر لزربابل ناقضه هناك
وقال جازما: إن لفظة ريسا لقب زربابل لأن معناها الأمير والرئيس فكأن لوقا
قال: يوحنا هو ابن زربابل الأمير، أما يوحنا فهو المسمى في سفر أخبار الأيام
الأول بحنينا، ولا يخفى ما في هذه الأسماء من الاتحاد والتشابه.
أقول: ومع هذا التناقض والاضطراب بقي مصرا على أن مريم هي من
ذرية الأصغر من أولاد زربابل، وليت شعري ألم ينكشف له بالوحي أو بالمنام أو
بتقدم الدنيا يوما فيوما بالمعارف أن مريم من ذرية الأكبر كما انكشف له أخيرا أن
ريسا هو لقب زربابل لا اسم ولده الأصغر، كما ادعاه ها هنا.
وأيضا إذا كان يوحنا الذي جعله لوقا ابنا لريسا هو حنينا المذكور في الأيام
الأول من أبناء زربابل، فنقول: إن لوقا ذكر ابن يوحنا يهوذا ولم يذكر في الأيام
الأول من أولاد حنينا من اسمه يهوذا؟ فماذا يقول المتكلف: من هو الذي
اقترن ببنت وارثه فصار ابنا شرعيا لوالدها الحقيقي؟.
" زربابل ونيري " ولما جزم المتكلف بأن زربابل المذكور في متى هو ذات
زربابل المذكور في لوقا توجه عليه الإشكال باختلاف متى ولوقا في نسبه، فمتى
نسبه إلى يكنيا إلى سليمان بن داود، ولوقا نسبه إلى شألتيئيل بن نيري إلى ناثان
بن داود، فحاول المتكلف أن يتخلص من هذا بدعوى أن متى كتب النسب
الحقيقي لزربابل، ولوقا كتب النسب المجازي له باعتبار اقتران أبيه شألتيئيل
بابنه نيري الوحيدة رئيس عائلة ناثان بن داود وذلك أما لأن لوقا كتب إنجيله
إلى اليونان فجرى في النسب على اصطلاحهم كما زعمه المتكلف مرة، وأما لأن
ذلك عادة مرعية متبعة عند اليهود كما زعمه مرة أخرى حسب ما تقدم في
اضطرابه في هذا الشأن وتناقض كلامه فيه.
وقد استشهد من الآثار القديمة والعهد القديم على صحة نسبة الرجل إلى
والد امرأته الوحيدة، وذكر لذلك أمثلة لا تساعده على وهمه " انظر ص 206 -
209 ".
فنقول من أين له أن نيري لم يخلف ولدا وأن شألتيئيل اقترن بابنته

254
فصار ابنه واتحد فرعا عائلة ناثان وعائلة سليمان كما زعم، ومتى رأى هذا
المنام؟ ولماذا لم يطف على القدماء هذا الطيف؟ وعلى كالوين مقتدى فرقة
بروتستنت.
وأما ما استشهد به فعلى أقسام " منها " ما كان من قسم نسبة الولد إلى جده
الحقيقي من جهة الأب أو من جهة الأم، وذلك مثل ما وجد في كتابات الآثار
القديمة في " بالميرا " حيث ذكر فيها ان " ارانيس " أب " اليالامينيس " مع أنه جده
الأعلى وأن " اليالامينيس " هو ابن بانوس حفيد موسيموس حفيد ارانيس المذكور
" انظر ص 208 ".
ومثل تسمية صدقيا بابن يوشيا " از: 3 و 37: 1 " مع أنه ابن يهوياقيم ابن
يوشيا " 1 أي 3: 16 " ومثله أن يائير ابن سجوب وأباه سجوب بن حصرون
سميا بني ماكير أبي جلعاد مع أنه جدهما للأم " انظر 1 أي 2: 21 - 24 " ومثله
أن شيشان لم يكن له بنون فأعطى بنته امرأة ليرجع المصري عبده فأدرج الأولاد
في نسب سبط يهوذا باعتبار أمهم.
وهذه الأمثلة كلها لا ربط لها بدعوى المتكلف أن الرجل ينسب عادة
واصطلاحا وشرعا إلى والد قرينته، وأين هذا من هذه الأمثلة فإنه لم يقع فيها
إلا جعل الجد أبا وابن الابن أو البنت ابنا وهو كذلك وإن كان المتفاهم منه من
كان بلا واسطة.
" ومنها " ما كان من قسم التبني بالتربية، كما اتخذت ابنة فرعون موسى
ابنا لها " خر 2: 10 ".
واتخذ مردخاي استير ابنة " اس 2: 7 " واتخذت نعمى عوبيد ابنا " را 4:
17 " وهذا القسم لا يدرجه أحد في النسب ولذا نسب العهد القديم موسى إلى
أمه الحقيقية يوكابد " خر 6: 20 "، واستير إلى أبيها الحقيقي ابيجائل " اس 2:
15 "، وعوبيد إلى أمه الحقيقية راعوث " را 4: 13 و 15 "، وأي شهادة لهذا
القسم بنسبة الرجل إلى والد قرينته في جدول النسب.
" وقسم منها " لا يمكن بمقتضى شريعة التوراة أن ينزل على ما يدعيه

255
المتكلف ليشهد له وذلك أن حيرام أو حورام الذي أبوه رجل صوري قد ذكر في
ثاني الأيام الثاني 14 أنه ابن أرملة من بنات دان.
وفي سابع الملوك الأول 14 وهو ابن أرملة من سبط نفتالي، فإنه لا يمكن
للمتكلف أن يدعي إن نسبة هذه الأرملة إلى أحد السبطين المذكورين كانت
لأجل أن أباها أوجدها اقترن بامرأة وارثة من ذلك السبط فنسب إلى والد قرينته
وسبطها.
فإن شريعة التوراة من قبل أربعمائة وأربعين سنة تقريبا قد منعت البنت
الوارثة أن تتزوج في غير سبطها " انظر عد 36: 6 - 10 ".
فالأولى أن يعد هذا الاختلاف في نسبة الأرملة إلى السبطين من أغلاط
العهد القديم أو تلاعب الزمان به كما وقع في ثاني الأيام الأول 17 وابيجايل
ولدت غماسا وأبو غماسايثر الإسماعيلي.
ووقع في السابع عشر من صموئيل الثاني 25 وغماسا ابن رجل اسمه يتر
الإسرائيلي الذي دخل إلى ابيجايل بنت ناحاش، وزيادة على الاختلاف
بالإسرائيلي والإسماعيلي فقد قال هنا إن ابيجايل بنت ناحاش، وفي ثاني الملوك
الأول " 13 - 17 " قال إنها بنت يسى أخت داود فراجع المقامين في النسخ
العبرانية والعربية وغيرهما.
" نتيجة باهظة للمتكلف " فإنه ينتج من تكلفاته المشحونة بالتناقض
والأوهام كما عرفت أن المسيح متولد بواسطة أمه تولدا حقيقيا من يهوياكين " يكنيا "
وأبيه يهوياقيم، وقد قال العهد القديم في شأن يهوياقيم المذكور. هكذا قال
الرب عن يهوياقيم ملك يهوذا لا يكون له جالس على كرسي داود " ار 36:
30 ".
وقال في شأنه أيضا أو شأن ابنه كنياهو " يهوياكين ويكنيا "، هكذا قال
الرب اكتبوا هذا الرجل عقيما رجلا لا ينجح في أيامه لأنه لا ينجح من نسله
رجل يجلس على كرسي داود وحاكما بعد في يهوذا " ار 22: 30 " وحينئذ كيف
يجتمع هذا مع ما في لوقا في شأن المسيح عن قول ملاك الرب ويعطيه الرب

256
الإله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية " لو
1: 32 و 33 " فكيف إذا يعطي المسيح كرسي داود أبيه ويملك على بيت
يعقوب وهو على توجيه المتكلف من نسل يهوياقيم ويهوياكين حقيقة.
فإن قلت: إن المتكلف قد وجه ذلك " يه 1 ج ص 223 و 224 " بزعمه ما
ملخصه أن المقصود من كرسي داود المعطى للمسيح هو المملكة الروحية التي قد
تسلطن بها المسيح في شرق الأرض وغربها وهي التي تقوم بالمحبة والطهارة
والسلام وإزالة الشحناء والخصام وهي المملكة التي لا تزول إلى الأبد فشبهت
تقريبا للأذهان بمملكة داود.
قلت: لم يكن الوعد الذي في لوقا لمريم على وجه التشبيه وأن الرب يعطيه
مثل كرسي داود حتى يقال بأنه شبهت مملكة المسيح الروحية بمملكة داود
الدنياوية تقريبا للأذهان، بل الوعد هو إعطاء الرب للمسيح كرسي داود أبيه
وقد سبق عن ارميا عن الوحي أن كرسي داود لا يكون لنسل يهوياقيم ويكون
يهوياقيم أو يهوياكين عقيما لا ينجح من نسله رجل يجلس على كرسي داود،
وينبغي أن يكون المراد من كونه عقيما هو كونه عقيما عن الخير في ذريته وإلا
فالوعد كاذب، فإن كلا من يهوياقيم ويهوياكين له نسل كثير بمقتضى العهدين
إلى زمان المسيح وبعد المسيح، فقل: كيف يكون عقيما عن الخير في ذريته من
يكون من نسله مثل المسيح الذي يعطيه كرسي المملكة الروحية إلى الأبد.
وأما قول المتكلف: إن ملكوت المسيح روحية تقوم بالمحبة والطهارة
والسلام وإزالة الشحناء والخصام وهي المملكة الباقية التي لا تزول.
فنقول فيه: يا حبذا لو جلس المسيح على كرسي هذا الملكوت قرنا واحدا
فقد دللناك من العهد الجديد في أواخر المقدمة الخامسة على أن تلاميذه ونصارى
قرنه لم يخضعوا لهذه المملكة ولم تنفذ فيهم أحكامه الروحية كل النفوذ حسب
قوانينها، وأما فيما تأخر عن قرنه فلا يخفى محل هذه المملكة مع ما جرى في
جميع القرون والأدوار إلى الوقت الحاضر من المخاصمات والمشاحنات
والاضطهاد وسفك الدماء وانتشاب الحروب الفظيعة إلى غير ذلك من الأحوال
والأفعال التي تلاشى جميع ما ذكره من أركان المملكة الروحية وقوانينها، كما

257
يشهد به التاريخ والوجدان ولو أطلق عنان القلم فيما جرى في خصوص القرن
الحاضر لسجل من الأفعال والأحوال تاريخا مشجيا، ويا للأسف أنا لا نرى
لهذه المملكة نفوذا حتى على من يعد نفسه من جندها المتجردين بزعمه لتثبيتها.
" تتمة " وعلى ما ادعاه المتكلف من اتصال نسب المسيح الحقيقي من قبل
أمه من زربابل إلى سليمان إلى داود إلى يهوذا بن يعقوب يتوجه سؤال
واستفسار، وهو أن إلهام متى ووحيه في طرد النسب لم يتعرض للأمهات إلا
لثامار، وراحاب، وراعوث، وامرأة أوريا، أفترى الروح القدس يريد أن
ينبه من نظر في العهد القديم على مواقع الكلام في نسب المسيح، فإن قلت
يريد أن ينبه على الأمهات اللاتي لسن من بني إسرائيل، قلت: فلماذا أهمل ذكر
نعمة العمونية، أم رحبعام بن سليمان " 2 أي 12: 13 و 1 مل 14: 21 ".
ومن اختلاف نقلها عن قول المسيح للكتبة والفريسين الذين طلبوا أن
يروا منه معجزة جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تعطى له آية إلا آية يونان
النبي، ومع ذلك تنقل صدور المعجزات العظيمة.
ومن اختلافها نقلها عن قوله إنه يبقى في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث
ليال، مع نقلها ما يقتضي أنه لم يبق في قلب الأرض إلا سواد ليلتين وبياض
يوم واحد وجزئين قليلين جدا من يومين آخرين، وقد أسلفنا الكلام في هذا
في الفصل الرابع من المقدمة الثامنة.
" إيليا ويوحنا والمسيح " ومن اضطراب الأناجيل نقلها عن قول المسيح في
حق يوحنا المعمدان بأنه هو إيليا المزمع أن يأتي " مت 11: 14 " وأنه نبي وأعظم
من نبي وأنه لم يقم بين المولودين من النساء نبي أعظم منه إلا المسيح " مت 11:
9 - 12 ولو 7: 26 و 29 ".
مع أنها نقلت عن يوحنا المعمدان نفسه قوله بأنه ليس إيليا يو 1:
21 ".
فكيف يقول المسيح عن يوحنا أنه إيليا المزمع أن يأتي ويقول مع ذلك
يوحنا الذي هو نبي وأعظم من نبي أنه ليس إيليا، فأي الأقوال إذا كاذب أو

258
ناشئ عن الجهل أو تلاعب الأيام.
وقد حاول المتكلف " يه 1 ج ص 222 " رفع هذا التناقض بدعوى أن
المراد من مجيئ إيليا في كلام المسيح وكلام ملاخي إنما هو مجيئ من يشبه إيليا
التشتي وفيه روحه وهو يوحنا المعمدان لكثرة شبهه بايليا، وأن يوحنا المعمدان
إنما أنكر كونه إيليا التشتي الحقيقي الذي كان معاصرا لليشع النبي فلا يناقض
إخبار المسيح بأن يوحنا هو إيليا المجازي.
أقول: قد جاء في رابع ملاخي 5 ها أنا ذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل
مجيئ يوم الرب العظيم والمخوف.
فهل ترى في هذا الكلام أمارة المجاز والتشبيه خصوصا مع النص على
تعريف إيليا بالنبي إشارة إلى وصفه المعهود المميز له.
دع هذا بل نقول إن يوحنا هل كان يعلم أن إيليا الذي بشر به ملاخي
هو إيليا المجازي المشابه لإيليا الحقيقي، أو أنه يجهل ذلك فإن كان يجهل ذلك
فكيف يكون أعظم الأنبياء كما يقول المسيح وإن كان يعلم بذلك فهل كان يعلم
بأنه هو إيليا المجازي الذي بشر به ملاخي، أو أنه يجهل ذلك. فإن كان يجهل
ذلك كان أعظم الأنبياء جاهلا بوظيفته وبشارة الكتب به، ويكون المتكلف
وأشباهه أعرف منه بمقاصد كتب الوحي، هذا وإن كان يوحنا يعلم بأنه هو إيليا
المجازي الذي بشر به ملاخي فلماذا لم يرفع هذا الوهم عن الخلق الكثير من
الفريسيين وغيرهم الذين آمنوا به واعتمدوا منه بمعبودية التوبة وأذعنوا بنبوته
ولماذا لا يقول لهم حسب وظيفته أن إيليا النبي الذي يرسل إليكم قبل مجيئ يوم
الرب إنما هو شخص يشبه إيليا في أحواله الشريفة وهو أنا ولا تتوهموا من بشارة
ملاخي أن إيليا الحقيقي الذي ارتفع في العاصفة هو الذي يرسل إليكم قبل
مجيئ يوم الرب.
فلا يصدكم هذا الوهم في انتظار إيليا الحقيقي عن الإيمان بالمسيح،
وهذه هي الوظيفة اللازمة على من جاء ليهئ طريق الإيمان بالمسيح لا أنه
يبقيهم على وهمهم في انتظار إيليا الحقيقي بل يغريهم بالجهل ويقول لهم لست

259
إيليا مع أنه معناه المقارب للصراحة بشهادة الحال والسؤال أنه ليس إيليا الذي
ينتظرونه ويسألونه عنه حسب بشارة ملاخي فكان ذلك منه صدا لهم عن الإيمان
بالمسيح ومعثرة فيه بل لا يسلك من يريد منع الناس عن الإيمان بالمسيح طريقا
أنجح من هذا فقد بقي الفريسيون متعلقين بهذه الشبهة.
فما للمتكلف يحامي عن الأناجيل التي لا يخفى حالها ويحاول اصلاح
اضطرابها وتناقضها بما يلزم منه نسبة الجهل إلى يوحنا المعمدان أو مخالفته لوظيفته
حيث يغريهم بالجهل ويصدهم عن الإيمان بالمسيح، مع أن يوحنا لم يكن مداهنا
في تعاليمه، أو لم يكن أيسر على المتكلف أن يقول: إن التناقض جاء من خلل
الأناجيل الرائجة وبما ذكرناه تعرف مواقع الوهن في كلامه " يه 1 ج ص 222 ".
" يوحنا ومعرفته برسالة المسيح " واعطف على ذلك اضطرابها بل تناقضها
في معرفة يوحنا المعمدان برسالة المسيح وجليل شأنه من حين نزول الروح
القدس عليه بل قبل ذلك وأن يوحنا كان يعمد الناس بمعمودية التوبة وقبلما يتبع
المسيح واحد من تلاميذه أشار إلى شخص المسيح وقال هو ذا حمل الله الذي
يرفع خطية العالم هذا هو الذي قلت عنه يأتي بعدي قد صار قدامي، إني قد
رأيت روح الرب نازلا مثل حمامة من السماء فاستقر عليه وأنا لم أكن أعرفه لكن
الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي الذي ترى الروح نازلا ومستقرا عليه فهذا
هو الذي يعمد بالروح القدس وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله ومن
أجل شهادة يوحنا هذه صار اثنان من تلاميذه تلاميذ للمسيح ودعا أحدهما أخاه
بطرس فتلمذ عليه، ثم دعا المسيح فيلبس ونثنائيل فحصل له بعض التلاميذ،
وحينئذ لم تكن صدرت منه آية بل بعد ذلك صدرت منه بداءة الآيات التي
صنعها في مجلس العرس في قانا الجليل " انظر يو 1: 29 - 2: 12 ".
وأن يوحنا قبل أن يلقى في السجن صرح لتلاميذه بما حاصله أن ذات
يسوع الذي شهد له هو المسيح الآتي بما له من الصفات وأن الأب قد دفع كل
شئ في يده والذي لا يؤمن به لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله " يو 3:
22 - 36 ".
فأنظر وقل كيف يجتمع هذا كله مع ما في حادي عشر متى 2.

260
أما يوحنا فلما سمع في السجن بأعمال المسيح أرسل اثنين من تلاميذه 3
وقال له: أنت هو الآتي أم ننتظر آخر 4 فأجاب يسوع وقال لهما: اذهبا واخبرا
يوحنا بما تسمعان وتنظران 5 العمى يبصرون - وطوبى لمن لا يعثر في.
وفي سابع لوقا بعد أن ذكر بعض المعجزات وإحياء ابن الأرملة في نايين
قال 18 فأخبر يوحنا تلاميذه بهذا كله 19 فدعا يوحنا اثنين من تلاميذه وأرسل
إلى يسوع قائلا أنت هو الآتي أم ننتظر آخر إلى آخر ما تقدم.
قال المتكلف " يه 4 ج ص 250 " إن مقصود يوحنا من إرسال التلميذين
هو لكي ينظرا بأعينهما أعمال المسيح ويؤمنا به.
قلت: طريق ذلك في الهدى والارشاد أن يقول لهما يسوع هو المسيح الموعود
به فإني نبي أخبركم بذلك عن الله وقد رأيت روح الله قد استقر عليه وعرفتم
أنتم دعوته ومعجزاته فآمنوا به ولكي يزداد إيمانكم وتطمئن قلوبكم فاذهبوا
وعاينوا معجزاته الباهرات.
وأما الكلام الذي ذكرناه عن متى ولوقا فهو أجنبي بسوقه ولفظه وشواهده
عما يزعمه المتكلف.
كيف وصريح لوقا أن التلاميذ هم الذين أخبروا مرشدهم يوحنا بمعجزات
المسيح ولا يصح أن يكون تلاميذ يوحنا إلى حين دخوله في السجن لم يكونوا من
المؤمنين بالمسيح، كيف وقد كان يوحنا يلهج وينادي بالبشارة بالمسيح قبل أن
يعتمد المسيح منه ويحل عليه روح القدس أفيترك تلميذيه إلى حين دخوله في
السجن وهما لم يؤمنا بالمسيح حق الإيمان.
وأيضا إن كان إرساله التمليذين لأجل ما يزعمه المتكلف فهو الواجب على
النبي المرشد أن يقول لهما: ما يسددهما ويهديهما إلى الإيمان إذا شاهد
المعجزات، أم يجعل أمامهم عثرة الكلام المنبئ عن شكه في أن يسوع هو
المسيح الآتي ويغرس في أذهانهما انتظار آخر غيره.
وأيضا لماذا يقول لهما المسيح اذهبا وأخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران ويعدد
معجزاته ويبين دعوته بقوله والمساكين يبشرون، بل اللازم بمقتضى زعم

261
المتكلف أن يحتج عليهما لا على يوحنا.
والحاصل: إن الكلام المذكور في متى ولوقا لا يحتمل من المعنى في محاورات
العقلاء وخصوص الأنبياء إلا أن يكون قد تيقن من المعجزات ما هو مصدق
للدعوة وحجة عليها، ولما كان في السجن لم يمكنه إلا أن يرسل تلميذيه ليكشفا
عن حقيقة الدعوة وأن يسوع هل يدعي أنه المسيح الموعود به أو أنه نبي قبل
المسيح فكان الجواب منه ليوحنا ببيان ما هو المعهود من معجزات المسيح الموعود
به وبشارته، وهذا مناقض لما مر عن يوحنا.
" وانظر " يه 1 ج ص 241 س 2 " تجده صريحا بالاعتراف بأن يوحنا
أرسل التلميذين لأجل حاجته لا لمحض حاجتهما في الإيمان.
والمتكلف يرضى بأن يكون كلام يوحنا جاريا على غير النهج العقلائي في
الغرض بل يجعل في طريق الهدى والإرشاد معثرة الشك والضلالة ويكون جواب
المسيح على خلاف الغرض وفضولا زائدا، كل ذلك محاماة منه عن الأناجيل
وإن كانت موهونة من جهات كثيرة.
" يوحنا والمسيح أيضا " واعطف على ذلك أن الأناجيل تقول مرة إن يوحنا
من بطن أمه يمتلئ من الروح القدس " لو 1: 15 " ولما جاءت مريم وهي حامل
بالمسيح إلى اليصابات وهي حامل بيوحنا وسلمت عليها ارتكض يوحنا جنين
اليصابات في بطنها ابتهاجا، وامتلأت من الروح القدس وباركت مريم
وجنينها، وقال: من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إلي " لو 1: 40 - 45 ".
وهذا صريح في أن اليصابات وجنينها يوحنا يعرفان المسيح حق المعرفة وبما
له من الوظيفة وهو جنين في بطن أمه، وأن المسيح قبل أن ينزل الروح القدس
ويحل عليه جاء إلى يوحنا ليعتمد بمعموديته فمنعه يوحنا قائلا أنا محتاج أن اعتمد
منك وأنت تأتي إلي " مت 3: 13 و 14 ".
وهذا ينادي بأنه يعرف يسوع بأنه المسيح حق المعرفة ويدل على ذلك أيضا
أنه كان يبشر بالمسيح ويقول للشعب المعتمدين منه أنه سيأتي من يعمدكم
بالروح القدس " مت 3: 11 ومر 1: 7 و 8 ولو 3: 15 و 16 " بل أشار

262
للشعب بأنه قائم في وسطكم " يو 1: 26 ".
فانظر أفلا يناقض هذا ما ذكرته الأناجيل من أن يوحنا وهو في السجن
أرسل يستعلم من المسيح أنه هو الآتي " يعني المسيح الموعود به " أم ينتظر آخر كما
تقدم كما يناقض ما ذكرته عن قول يوحنا أيضا وأنا لم أكن أعرفه لكن الذي
أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي الذي ترى الروح نازلا ومستقرا عليه فهذا هو
الذي يعمد بالروح القدس " يو 1: 33 ".
وهذا صريح في أن يوحنا لم يكن يعرف بأن يسوع هو المسيح إلا بعد أن
نزل روح القدس واستقر على يسوع. أفلا يناقض هذا أقلا قول يوحنا ليسوع
أنا محتاج أن اعتمد منك وأنت تأتي إلي، مع أن هذا الكلام كان قبل أن يعتمد
يسوع من يوحنا، وقبل أن ينزل الروح القدس ويستقر عليه وقد أطال المتكلف
ها هنا في الكلام ولكنه لم يدر ما يقول " انظر يه 1 ج ص 240 ".
" الأعميان والأعمى " ومن تناقض الأناجيل واضطرابها أنها ذكرت فيما هم
خارجون " أي المسيح وتلاميذه " من أريحا تبعه جمع كثير وإذا أعميان جالسان على
الطريق فلما سمع أن يسوع مجتاز صرخا قائلين ارحمنا ارحمنا يا سيد يا ابن داود
فوقف يسوع وناداهما ما تريدان أن أفعل بكما؟ قالا: يا سيد تنفتح أعيننا،
فتحنن يسوع ولمس أعينهما فللوقت أبصرت أعينهما فتبعاه " مت 20: 29 -
34 "، ثم اضطرب نقلها وتخالف وتناقض في عدد من فتحت عينه وعوفي من
عماه في هذه الواقعة.
فذكرت ثانيا وفيما هو " أي المسيح " خارج من أريحا مع تلاميذه وجمع غفير
كان بارتيماوس الأعمى ابن تيماوس جالسا على الطريق يستعطي فلما سمع أنه
يسوع، ثم ساقت القصة مع هذا الأعمى الواحد على نحو ما تقدم " أنظر مر
10: 46 - 52 ونحوه لو 18: 35 - 43 ".
وناقضت ما تقدم أيضا إذ ذكرت أن هذه القصة كانت لما اقترب المسيح
من أريحا ثم بعد ذلك دخلها واجتاز فيها " انظر لو 18: 35 و 19: 1 ".
وقال المتكلف " يه 1 ج ص 232 " لو أفادت عبارة مرقس الحصر لثبت

263
التناقض وهي لا تفيده مطلقا.
وذكر هذا الأعمى لأنه كان ابن رجل مشهور طحنته صروف الزمان
والقادر على فتح عيني أعمى قادر على فتح عيني غيره وغيره، وعلى كل حال فلا
تناقض مطلقا، فالتناقض يتحقق إذا قال أحدهم: إن المسيح فتح عيني
بارتيماوس، ثم قال الآخر: إن المسيح لم يفتح عيني بارتيماوس ولم يحصل
شئ من ذلك.
قلنا: قد اعترف المتكلف ببعض الحق من حيث لا يشاء وهو قوله: لو
أفادت عبارة مرقس الحصر لثبت التناقض فنقول إن مثلها في مثل موردها يفيد
الحصر ولا بد أن يريده المتكلم بها إن كان ممن يعرف كيف يتكلم فإنه إذا كانت
الواقعة كما في متى أن الأعميين كانا مقترنين في الجلوس والاستعلام
عن المسيح والاستغاثة به وانتهار الجمع لهما، وعودهما في لجاجة الاستغاثة
والصراخ ووقوف المسيح لهما، وسؤاله لهما، وجوابهما له، وشفائه لهما،
واتباعهما له فمن كمال العي والشطط لمن يريد أن يسجل تاريخ معجزات
المسيح ويمجده بها وينوه بها للناس أن ينقل الواقعة على غير وجهها ورونقها
ومجدها ويترك بعض مضمونها وهي واقعة واحدة، كيف وهم يقولون إن
المسجل لهذه الواقعة هو إلهام الروح القدس تنويها بمجد المسيح ولا يلزم أن
نقول هو الروح القدس.
بل إن واحدا من المؤرخين العارفين إذا أراد أن ينوه بمجد الواقعة التاريخية
وكان عالما بالواقعة على النحو المذكور في متى لا يمسخها إلى النحو المذكور في
مرقس، فهل يرضى الملك على مؤرخ كتب تاريخ حربه وفتحه وموفقيته في
الحرب الفلاني في اليوم الفلاني في الساعة الفلانية أن يكتب في تاريخه أن الملك
لاقى الفليق الفلاني وجرى بينهما كيت وكيت ثم لاشاه واستولى على معسكره،
هذا وهو عالم أن الملك جرت له هذه الواقعة بتفصيلها مع فيلقين اثنين ولاشاهما
معا بموفقيته وقوته، وهل يرتضي الناس من هذا المؤرخ تاريخه الأبتر على
الخصوص إذا كان كتبه لتبشير رعية الملك والاحتجاج على خصومه وترهيبهم
بقوته وسطوته، كلا ولا يفعل المؤرخ ذلك إلا إذا كانت الواقعة على ما كتب أو

264
كان جاهلا بحقيقتها.
وبما ذكرناه تعرف أن أسلوب مرقس يقتضي الحصر فإن الحصر لا ينحصر
بأداة خاصة بل إن بعض السوق من الكلام ومقتضى الواقعة أظهر من الأداة في
الحصر.
ولعل المتكلف شعر بذلك فندم على اعترافه فإن عبارة مرقس لو أفادت
الحصر لناقضت ما في متى، فعدل وناقض كلامه الأول بقوله " فالتناقض يتحقق
إذا قال أحدهم إن المسيح فتح عيني بارتيماوس، ثم قال الآخر إن المسيح لم
يفتح عيني بارتيماوس " فنقول له إن التناقض متحقق بين ما في متى ومرقس كما
هو متحقق بين كلاميك شئت أو أبيت.
وأيضا ماذا يفيد إذا كان بارتيماوس ابن رجل مشهور، فهل فتح عيني
الفقير من أب وجد ليس بمعجزة ينبغي ذكرها والتمجيد بها. هب أن مرقس
صح منه أن يراعي كون بارتيماوس ابن رجل مشهور ولذا ذكر اسمه، فما بال
لوقا ذكر الواقعة أيضا مع أعمى واحد ولم يذكر اسمه، ومن أين للمتكلف أن
بارتيماوس ابن رجل مشهور طحنته صروف الزمان.
فهل شارك كتبة الأناجيل في الإلهام كما واساهم بالتناقض، هب انا
سامحناه في ذلك فماذا يصنع بالتناقض في هذه الواقعة فإن في متى ومرقس أنها
وقعت بعد خروج المسيح من أريحا، وفي لوقا أنها وقعت عندما اقترب من أريحا
ثم دخلها كما أشرنا إليه ولكن المتكلف لا يبالي من أن يقول وعلى كل حال فلا
تناقض.
" المجنون والمجنونان " وجاء في متى أنه لما جاء المسيح إلى العبر إلى كورة
الجرجسيين استقبله مجنونان خارجان من القبور هائجان جدا حتى لم يكن أحد
يقدر أن يجتاز من تلك الطريق، ولما أراد شفاءهما طلب منه الشياطين التي فيهما
إن يأذن لها بالخروج إلى قطيع خنازير كان هناك فأذن لها وخرجت منهما ودخلت
في الخنازير فألقت نفسها في البحر وماتت فهرب الرعاة إلى المدينة وأخبروا
بقصتها وقصة المجنونين فخرج أهل المدينة وطلبوا من المسيح أن ينصرف عنهم
" مت 8: 28 - 34 ".

265
وفي مرقس وجاؤا " أي المسيح وتلاميذه " إلى عبر البحر إلى كورة
الجدريين، ولما خرج من السفينة للوقت استقبله من القبور إنسان به روح نجس
كان مسكنه القبور، وذكر القصة المتقدمة بتمامها مع مجنون واحد " مر 5: 1 -
21 ".
وفي لوقا وساروا إلى كورة الجدريين التي هي مقابل الجليل، ولما خرج إلى
الأرض استقبله رجل من المدينة كان به شياطين، وساق القصة نحو مرقس مع
مجنون واحد.
قال المتكلف " يه 1 ج ص 233 " إن مرقس ولوقا اقتصرا على ذكر
المجنون الذي كان أشد هياجا وعربدة.
وثانيا أنهما اقتصرا على ذكر المجنون الذي كان من الأمم، وصرفا النظر
عن اليهودي.
وثالثا إن الذي ذكراه كان من المهذبين والمترجح أنه كان من ذوي اليسار
وذا شهرة إلى آخر ما ذكره.
قلت: من أين له إن أحد المجنونين اللذين ذكرا في متى كان أشد هياجا
وكان من المهذبين وذوي اليسار والشهرة وإن المجنون الآخر كان يهوديا مع أن
متى وصفهما معا بشدة الهياج ومنع الناس عن الاجتياز في الطريق وسائر الأحوال
المذكورة في القصة.
ومرقس ولوقا ذكرا مجنونا واحدا ومهما وصفاه بشدة الحال لا يزيد عما ذكره
متى في المجنونين معا، وأن متى ومرقس ولوقا لم يتعرضوا في كلامهم ولا إشعارا
بكون المجنونين أو أحدهما من الأمم أو اليهود، أو الخاملين أو المهذبين وعلى أن
هذه كلها دعاو لا أصل لها حتى في أضغاث الأحلام فإنها لا تصلح لرفع
التناقض والاضطراب بين نقل متى ونقل مرقس ولوقا.
وزد على ذلك أن متى ذكر الواقعة في كورة الجرجسيين ولسان القصة
يقتضي كونها قريب المدينة " وهي جرجسا " قريب مقابرها ومسارحها وجرف
البحيرة.

266
ومرقس ولوقا ذكراها في كورة الجدريين ولسان القصة أيضا يقتضي كونها
قريب المدينة " وهي جدرة " وقريب مسارحها ومقابرها وجرف البحيرة فقد
تناقضوا أيضا في محل الواقعة ومقتضى خارطات الجغرافيين أن بين جدرة
وجرحسا نحو عشرة أميال إنكليزية، وأن جدرة تحت ولاية هيردوس وجرجسا
تحت ولاية فيلبس، ويزداد الاضطراب وظهور الغلط في القصة بملاحظة
الخارطات فإن كون القصة قريبة من المدينة قريبة من البحيرة إنما يناسب كونها في
كورة الجرجسيين لأن جرجسا كذلك، وأما جدرة فهي بعيدة عن البحيرة نحو
أربعة أميال.
وكذا ذكر لوقا للجبل الذي كانت ترعى فيه الخنازير وألقت نفسها منه إلى
البحر، لأن هكذا جبل موجود قرب جرجسا والبحيرة ولا يوجد جبل قرب
جدرة والبحيرة، ولكن ذكر العشر مدن في لوقا إنما يناسب كون الواقعة في
جدرة وكورة الجدريين، لأن العشر مدن قريبا منها ومن ولايتها دون جرجسا،
ولذا ترى النصارى يذكرون في حاشية متى قراءة الجدريين.
وفي حاشيتي مرقس ولوقا قراءة الجرجسيين أو الجرشيين فاعتبر. وفي هذا
القدر كفاية للمتبصر.
" الأمر السابع " إن الأناجيل التي يدعون تواترها إلى الوحي والمصدر
الإلهامي قد نسبت لقدس المسيح أمورا لا تنفك عن كونها موانع من النبوة
والرسالة فاسمع بعضها.
1 - " تناقض الكلام " فقد ذكرت عن المسيح أنه قال: إن كنت أشهد لنفسي
فشهادتي ليست حقا " يو 5: 31 " وذكرت عن قوله أيضا: إن كنت أشهد
لنفسي فشهادتي حق لأني أعلم من أين أتيت وإلى أين أذهب؟ " يو 8: 14 "
ولا خفاء في تناقض هذين الكلامين وكذب أحدهما وهو مانع من النبوة.
وقد حاول المتكلف " يه 1 ج ص 241 و 242 " أن يرفع هذا التناقض وإذ
كلف نفسه من ذلك ما لا يطاق ضاعت عليه مجار الكلام وروابطه ومضامين
العهدين، وأطال فيه بما لا يسمن ولا يغني من جوع فقال كان يجب على صاحب

267
إظهار الحق لتوضيح المعنى أن يورد الفقرة الثالثة عشر من ثامن يوحنا وهي،
فقال له الفريسيون أنت تشهد لنفسك شهادتك ليست حقا 14 أجاب يسوع
وقال لهم وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق، ثم قال المتكلف تفريعا على
ذلك، فترى أن الكلام اللاحق لا ينافي الكلام السابق فإن معنى قوله وإن كنت
أشهد لنفسي أي إذا شهدت على سبيل الفرض والتقدير فشهادتي حق.
ثم أخذ المتكلف في التفرقة بين معنى إن وإذا وأطال في الكلام، فكانت
نتيجة التفرقة أنه جعل إذا ولو في موضع أن عندما تكلف بتكرار الكلام
وتقليبه.
فأقول: لا يخفى على من له أدنى فهم أن الفقرة التي أوجب على إظهار الحق
ذكرها لا تنفعه شيئا ولو ملأ من تكرارها كتبا أو نادى بها بأعلى صوته ألف ألف
مرة صارخا فقال له الفريسيون إلى آخره.
وأما فراره إلى الفرض والتقدير فلا يخلصه من التناقض بل يقال له: أليس
التقدير المذكور مناقض لقوله إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقا، ومن
أين جاء بالفرض والتقدير مع ما حكي بعد ذلك بيسير عن قول المسيح.
وأيضا في ناموسكم مكتوب أن شهادة رجلين حق أنا هو الشاهد لنفسي
ويشهد لي الأب الذي أرسلني " يو 8: 17 و 18 ".
ثم قال المتكلف وعلى كل حال فكلمة " أن " لا تفيد وقوع الفعل بل لو وقع
لما وجد أدنى منافاة.
قلنا: إن كلتا الفقرتين مصدرتان بقوله إن كنت أشهد لنفسي ويقول
الإنجيل كما تقدم أنه شهد لنفسه وقال أنا هو الشاهد لنفسي.
فأين إلى أين الفرار بالفرض والتقدير وما يجدي مع تحقق التناقض بين
التقديرين أيضا.
نعم إن قال المتكلف إن هاتين الفقرتين خاليتان من المعنى كقولي بل لو
وقع الفعل لما وجد أدنى منافاة.

268
قلنا له: لا تنفك صورة الكلام عن التناقض أيضا وإن لم يكن هناك
معنى مقصود.
2 - " تناقض الكلام أيضا " ومن ذلك ما في تاسع عشر متى عن قول
المسيح لما قال له بعض الناس أيها المعلم الصالح أنكر عليه هذا القول 17 وقال
لماذا تدعونني صالحا ليس أحد صالحا إلا واحد هو الله.
ومثله في مرقس " 10: 18 " ولوقا " 18: 19 " وهذا مناقض لما يحكى من
قوله الإنسان الصالح " مت 12: 35 ولو 6: 45 "، وقوله أنا هو الراعي
الصالح أما أنا فإني الراعي الصالح " يو 10، 11 و 14 ".
والمتكلف " يه 4 ص 285 " تكلم على قوله لماذا تدعونني صالحا بما ينزه
القلم عن شططه في التوحيد وصحة الكلام، ويكفي في المناقضة ما يحكى من
قوله الإنسان الصالح.
3 - " تناقض الكلام أيضا " ومن ذلك ما في ثاني عشر متى عن قول المسيح
30 من ليس معي فهو علي ومن لا يجمع معي فهو يفرق، وكذا " لو 11، 23 "
وهذا ناقض لما يحكى عن قوله فيمن لم يتبع طريقته، من ليس علينا فهو معنا
" مر 9: 40 ولو 9: 50 ".
4 - تناقض التعاليم " فمن ذلك ما ذكر في متى عن قول المسيح ما
حاصله أنه لا حسن في صوم تلاميذه ما دام موجودا معهم، ولا فائدة في
صومهم بل لا محل له وهو كنوح بني العرس مع وجود العريس بينهم وكجعل
رقعة جديدة على ثوب عتيق يصير الخرق بها أردأ، وكجعل الخمر الجديدة في
زقاق عتيقة تنشق بها الزقاق وتتلف وتنصب الخمر " مت 9: 14 - 18 ومر 2:
18 - 23 ولو 5: 23 - 38 ".
فإن هذا مناقض لما حكي عن المسيح في خطابه لتلاميذه بما حاصله أن
الصوم من أركان الإيمان وأن بعض الكرامات والمراتب العالية لا تنال إلا به
وبالصلاة، وأن بعض الشياطين لا تخرج إلا بالصوم والصلاة، ولذا لم يقدر
التلاميذ على إخراج ذلك الشيطان. " انظر مت 17: 14 - 22 ومر 9: 14 - 30 ".

269
5 - " تناقض التعاليم أيضا " ومن ذلك ما في ثامن عشر لوقا عن تعليم
المسيح لتلاميذه 1 وقال لهم أيضا مثلا في أنه ينبغي أن يصلي كل حين ولا يمل،
وضرب المثل بقاض ظالم مع امرأة لا ينصفها من خصمها فأزعجته بالإلحاح
فأنصفها لأجل إلحاحها فالله ينصف سريعا مختاريه الصارخين إليه نهارا وليلا
" انظر لو 18: 1 - 8 ".
وضرب أيضا مثلا بمن يلج في الطلب فيعطى لأجل لجاجته " لو 11: 5 -
9 ".
وأيضا أمر بالتضرع في كل حين " لو 21: 36 " وهو نفسه كان ليلة هجوم
اليهود عليه يصلي بأشد لجاجة " لو 22: 44 " وهذا كله مناقض لما في سادس متى
عن تعليم المسيح 7 وحينما تصلون لا تكرروا الكلام باطلا كالأمم فإنهم يظنون
أنه بكثر كلامهم يستجاب 8 فلا تتشبهوا بهم لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه
قبل أن تسألوه فإن هذا نهي عن الدوام في التضرع والدعاء وبيان لكونه باطلا
من عوائد الأمم الوهمية وأنه لا فائدة فيه فإن الله يعلم بالحاجة قبل أن يسأل.
6 - " التناقض في التعليم أيضا " فإن التعليم والتعليل لعدم تكرار الدعاء
في الحاجة بأن الله يعلم بها قبل أن يسأل مناقض لأصل مشروعية الصلاة
وخصوص الصلاة الربانية وخصوص التكرار فيها بقوله لا تدخلنا في تجربة لكن
نجنا من الشرير فإن ما بعد لكن وما قبلها بمعنى واحد مضافا إلى أنه لا بد أن
يتكرر هذا الدعاء بتكرار الصلاة الربانية في الشهر أو السنة أو في العمر مرات
عديدة وبحسب هذا التعليل يكون تكرارها أيضا باطلا.
7 - " التناقض بين التعليم والعمل " وأيضا هذا التعليم والتعليل مناقض لما
تذكره الأناجيل من فعل المسيح نفسه ليلة هجوم اليهود عليه فإنه كرر الدعاء في
طلبه من الله عبور كأس المنية عنه وكان هذا الدعاء هو صلاته كرره ثلاث مرات
" انظر مت 6: 39 - 45 " وانظر إلى السابع عشر من يوحنا فكم تجد فيه دعاء
مكررا باللفظ أو المعنى.
8 - " التناقض أيضا بين التعليم والعمل " فقد ذكرت الأناجيل عن تعليم

270
المسيح بحفظ الوصايا ومن جملتها إكرام الأم " مت 19: 19 ومر 10: 19 ولو
18: 20 " فإنه يناقضه ما يحكى من معاملته مع أمه.
ففي ثاني عشر 46 وفيما هو يكلم الجموع إذ أمه وإخوته قد وقفوا خارجا
طالبين أن يكلموه 47 فقال له واحد هو ذا أمك وإخوتك واقفين خارجا طالبين
أن يكلموك 48 فأجاب وقال للقائل له من هي أمي؟ ومن هم إخوتي؟ 49 ثم
مد يده نحو تلاميذه وقال ها أمي وأختي 50 لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في
السماوات فهو أخي وأختي وأمي ونحوه " مر 3، 31 - 35 ولو 8، 19 - 21 "
أفلم يكن من إكرام الأم الذي أوصى الله به أن يقوم لها ويكلمها ويطيب قلبها
برؤيته وليتهم نقلوا أنه اعتذر منها بدون أن يهينها بقول من هي أمي ويندد
بقداستها بكلام مفهومه أنها ليست ممن يعمل مشيئة الله، أفيقولون أنها لم تكن
من المؤمنين به العاملين بمشيئة الله، أم يقولون إن محالفة الاكرام المذكور في
الوصية هو أن يقوم لها ويكثر ضربها على رأسها وعينيها، وأما ما دون هذا
فليس من مخالفة الوصية.
" المتكلف والمتعرب " وعلى هذا كان على المتكلف والمتعرب أن يعدا في
كتابيهما من أغلاط القرآن الكريم وصف المسيح بالبر بوالدته " سورة مريم 33 "
ويقولان إن الإنجيل يذكر أنه قابل دعواتها بالانتهار واستهان بها وندد بقداستها،
ولا يتجه عليهما في ذلك كما يتوجه في فاحش غلط المتكلف " يه 2 ج ص 35
و 93 " حيث نسب الغلط إلى قدس القرآن في قوله تعالى في شأن مريم " يا أخت
هارون " فجعل المتكلف هذا القول من أعظم الأغلاط يكرره بلجاجة " انظر مت
26: 39 ولو 22: 41 - 45 " ولا أقل من كونه توهما منه أو إيهاما بأن القرآن
الكريم أراد بذلك هارون أخا موسى النبي، فكأن الله لم يخلق هارون غيره ولا
عمران غير أبيه أو إن الله نهى عن أن تكنى امرأة بأخت هارون أو أن هذا كله
أخذت به مريم أخت موسى امتيازا من الله. وزاد المتعرب على ذلك " ذ ص
49 " حيث اعترض على القرآن بأن دعى مريم بابنة عمران وأخت هارون.
فقال غير مبال: وهي في الإنجيل بنت الياقيم.
فقبحا للغرور وتعسا للاقتحام وأين يوجد في الإنجيل نسب مريم إلا ذكر

271
كونها نسيبة اليصابات واليصابات من بنات هارون.
نعم: لما اختلف متى ولوقا في نسب يوسف النجار وتحير في ذلك قدماء
النصارى فر بعض المتأخرين إلى محض المكابرة بدعوى أن لوقا نسب يوسف
النجار إلى والد مريم وهو " هالي " وحروفه تشابه حروف " إلي " وهو يشبه أن
يكون مقتطعا من الياقيم فبخ بخ للدنيا في سعادتها بالتقدم بمثل هذه الأوهام وقد
قدمنا قريبا ما فيها.
9 - " التناقض أيضا بين التعليم والعمل ".
ذكر الإنجيل عن المسيح أنه علم بمذمة الكذب وقال إن إبليس كذاب
وأبو الكذاب " يو 8 - 44 ".
ويناقضه ما ذكره الإنجيل أيضا وقرف به قدس المسيح إذ نسب إليه ما هو
كذب صريح حيث ذكر أن إخوة المسيح قالوا له اصعد إلى هذا العيد فأجابهم
اصعدوا أنتم إلى هذا العيد أنا لست اصعد بعد إلى هذا العيد لأن وقتي لم يكمل
بعد، ولما كان إخوته صعدوا حينئذ صعد هو إلى العيد لا ظاهرا بل كأنه في
الخفاء " يو 7، 8 - 11 " وهذه التناقضات المذكورة هي من أعظم الموانع من
النبوة والرسالة.
" الأمر الثامن " أن الأناجيل قرفت قدس المسيح بمنافيات العفة وما هو من
أعمال الفساق المتهتكين وهو بالبداهة من موانع النبوة والرسالة وذلك كمجيئ
الامرأة الخاطئة إلى المسيح وأنها وقفت عند قدميه من ورائه باكية وابتدأت تبل
قدميه بالدموع وكانت تمسحها بشعر رأسها وتقبل قدميه وتدهنهما بالطيب، وأن
المسيح كان راضيا مستحسنا لعملها هذا حتى ضرب الأمثال للفريسي الذي
أنكر ذلك وفضلها عليه بأنها غسلت رجليه بالدموع ومسحتهما بشعر رأسها ولم
تكف عن تقبيلهما منذ دخلت " انظر لو 7 و 36 - 47 ".
وكجلوس يوحنا ابن زبدى في حضن المسيح حتى إذا استشفع به بطرس
وطلب منه أن يسأل المسيح عن السر اتكأ يوحنا على صدر المسيح وسأله وقد
قدمنا هذا في الفضل الخامس عشر من المقدمة الثامنة وبينا بمقتضى الأناجيل أن

272
يوحنا حينئذ لم يكن طفلا بل كان شابا في ريعان الشباب وغضارته
" الأمر التاسع " ذكرت الأناجيل أن المسيح وحاشاه شريب خمر " أي كثير
الشرب لها " لو 7: 32 - 35 ومت 11: 17 - 20 " وأنه قال في الخمر قول
المودع المولع المتلهف " مت 26، 27 و 29 ومر 14: 23 و 35 ولو 22، 17
و 18 " وأنه حضر مجلس العرس المنعقد للسكر وإذ نفذ خمرهم عمل لهم بمعجزة
ستة أجران من الخمر " يو 2: 1 - 11 ".
وقد قدمنا في المقدمة العاشرة ما يعلم منه أن شرب الخمر والرضاء به
والإعانة عليه من موانع النبوة.
" الأمر العاشر " أن هذه الأناجيل التي يدعون تواترها إلى مصدر إلهامي
ويسميها المتكلف كلام الله السميع العليم قد قرفت قدس المسيح إذ حكت عنه
ما يرجع إلى القول بتعدد الآلهة " انظر يو 10، 33 - 37 " وكذا تعدد الأرباب
" انظر مت 22، 41 - 46 " ومر 12: 35 - 38 ولو 20: 41 - 45 " وقد ذكرنا
هذا الأخير في الأمر الرابع وذكرنا عن العهد القديم ما يدل على توحيد الرب بل
جاء في مرقس عن قول المسيح وتعليمه الرب إلهنا رب واحد " مر 12: 29 "
وقدمنا حكاية تعدد الآلهة في الفصل الخامس عشر من المقدمة الثامنة وذكرنا
دلالة العهد القديم على توحيد الإله والنهي عن ذكر اسم آلهة أخرى وأن لا
يسمع ذلك من الفم.
وأيضا جاء في سابع عشر يوحنا تكلم يسوع بهذا ورفع عينيه نحو السماء
وقال أيها الأب قد أتت الساعة مجد ابنك ليمجدك ابنك.
أيضا 2 إذ أعطيته سلطانا على كل جسد ليعطي حياة أبدية لكل من
أعطيته 3 وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك،
ويسوع المسيح الذي أرسلته.
وعلى هذا فتكون الأناجيل قد قرفت قدس المسيح بأمرين " أحدهما " القول
بتعدد الآلهة والأرباب وهو الشرك " وثانيهما " تناقض تعاليمه مرة بالتوحيد وأخرى
بالشرك وحاشا قدسه من كل ذلك.

273
وفي هذا المقدار كفاية ولولا أن الاستقصاء يحمل على التحامل وإرادة
سوء القالة لزدناك.
نتيجة ما ذكرنا أن النصارى يدعون تواتر نقلهم في أمرين " أحدهما " أن
عيسى عليه السلام ادعى الرسالة العامة وظهر على يده المعجز " وثانيهما " أن
الأناجيل كتب إلهامية من أنبياء ادعوا النبوة وظهر على يدهم المعجز قد اتضح
لك أن دعوى التواتر ونقله في الأمر الثاني لا يكاد يصح بل يشهد بنفسه على
كذبه ومع ذلك فلا يبقى للبصير وثوق واعتماد على دعواهم ونقلهم للتواتر
وزيادة على هذا أن هذا الأمر الثاني لا يكاد يصح بل يشهد بنفسه على كذبه ومع
ذلك فلا يبقى للبصير وثوق واعتماد على دعواهم ونقلهم للتواتر وزيادة على هذا
إن هذا الأمر الثاني الذي ينقلون تواتره ويدعونه بأشد إصرار ليكذب الأمر
الأول في دعوى الرسالة العامة وظهور المعجز. وكون المعجز حجة على الصدق
في دعوى الرسالة بل يصرح بظهوره على يد الكاذب في دعوى النبوة بل يظهر
على يد الكافر كالدجال، ومع ذلك فقد أكثر من ذكر ما هو مانع من نبوة
المسيح أشد المنع.
وهل ترضى للعاقل مع هذا كله أن يخدع نفسه ويجانب عقله ويتساهل في
دينه ويركن إلى نقلهم ودعواهم التواتر في هذا الوجه، ولا سيما أن قرار الديانة
والاعتماد على كتبها كان مبنيا عند أسلافهم على قرار المجامع، وهذا مما يلاشي
الاطمئنان بالتواتر فإن مبناه على عدم احتمال المواطاة فكيف وأن المجامع هي
أمارة المواطاة. فعلى طالب الهدى أن يتوقى ويتحذر من أن يستهويه السراب إلى
مهالك التيه، بل يلزم الجادة الموصلة إلى المنهل المأنوس والمورد الهني.

274
" المقدمة الثانية عشرة "
في النسخ في الشريعة الإلهية وفيها فصول
الفصل الأول في ماهيته وحقيقة المراد منه في الاصطلاح
النسخ في الاصطلاح هو رفع الله للحكم الشرعي بتشريع حكم آخر
مخالف له، وحقيقته هو أن الله اللطيف بعباده العليم بأحوالهم ومصالحهم في
جميع الأزمنة وتقلبات الأمور قد يشرع حكما باعتبار مصلحة يعلم أن لها أمدا
منتهيا وحدا محدودا إلا أنه جلت حكمته لم يبين حده لعباده وإن كان مخزونا في
علمه فإذا انقضى أمد تلك المصلحة وأمد الحكم المنبعث عنها شرع الحكم الثاني
على مقتضى المصلحة المتجددة.
فقولنا النسخ رفع الحكم الأول إنما هو تسامح في الكلام باعتبار دلالة
دليله في ظاهر الحال على بقائه في جميع الأزمان، وإلا فالحكم الأول مرتفع في
الواقع بنفس انتهاء مصلحته المحدود بحدها عند الله.
ولا ينبغي أن يتوهم ذو شعور بأن القائلين بإمكان النسخ في الشرائع
ووقوعه يقولون بأن الله يريد في أول تشريع الحكم دوامه أبد الآباد ثم يعدل عن
ذلك ويشرع حكما آخر تعالى الله عن ذلك.
" الفصل الثاني: في إمكانه "
لا يخفى أن الله القادر على جعل الشريعة وتشريع الأحكام لقادر على أن
يجعل حكمين لزمانين مثلا، فإذا انقضى زمان الحكم الأول أعلن لعباده
بواسطة رسله تشريع الحكم الثاني. ولا نجد من ذلك مانعا بل لا مانع كما

275
ستعرف إن شاء الله.
وهاك كشف الحقيقة فإنا إذا نظرنا إلى حكمة الله ولطفه بعباده وعلمه
باختلاف أحوالهم وتقلبات أطوارهم وغناه عنهم وعن جميع العالم:
حكمت علينا عقولنا وفهمنا وجداننا بأن أحكامه الشرعية في العبادات
والعادات والسياسات إنما هي لاقتضاء مصالح العباد في طهارة نفوسهم وقربهم
من حضرته وتهذيب أخلاقهم، وانتظام اجتماعهم ومدنيتهم، وسهولة انقيادهم
إلى الطاعة والأدب.
ومن الواضح أن الناس قد تختلف وجوه مصالحهم وتتغير بحسب الأزمان
لأنهم بشر متغيرون بحسب الأعصار وتقلب الأحوال في الأخلاق والعادات
والقوة والضعف، واللين والقسوة، وسهولة الانقياد إلى الطاعة والتمرد
والابتداء في الانقياد والتمرن عليه، إلى غير ذلك من الاختلاف الذي لا يخفى
على الفطن.
وبالضرورة يكون ما شرع لمناسبة أخلاق هذه الأجيال لا يناسب الأجيال
المخالفة لها في الأخلاق وما يناسب الأجيال القوية لا يناسب الضعيفة وما شرع
لمناسبة الأجيال السهلة الانقياد إلى الطاعة لا يناسب الأجيال المتمردة، وما
يناسب المتمرن لا يناسب المبتدئ، وما يناسب القاسي لا يناسب اللين.
حكي في الأناجيل أن اليهود اعترضوا على المسيح في منع الطلاق إلا لعلة
الزنى، وعارضوه بورود الطلاق في شريعة موسى مطلقا، فقال لهم: إن موسى
من أجل قساوة قلوبكم أذن لكم أن تطلقوا نساءكم ولكن من البدء لم يكن
هكذا " مت 19: 7 و 8 ونحوه مر 10: 2 - 7 ".
وانظر أيضا ما هو البديهي من الأحكام العرفية فإن ما يجعله حكماء
العقلاء من الشرائع والقوانين لإصلاح اجتماع الرعية ومدنية مملكتهم وانتظام
أدبهم لا بد من أن يكون في أول أمر التشريع وخصوص حال الانقلاب أيسر
وأسهل على الرعية مما تقتضيه المصلحة عند تمرنهم على الانقياد لشريعة المملكة
وذلك لحكمة نفوذ الشريعة السهلة على القبول حتى تتمرن الرعية على الانشراح

276
بالتشريع وإجراء المشروع، وهذه مصلحة مهمة يحفظ بحكمتها سائر المصالح.
وإذا توجهت بعقلك ووجدانك إلى ما ذكرنا حكمت بالبداهة بإمكان
النسخ في الشرائع الإلهية بل تحكم بلزومه بمقتضى الحكمة واللطف في بعض
الموارد، فإن استوضحت وقلت كل حكم شرعي يراعي فيه معدل المصلحة
لكافة البشر والقدر الجامع الذي تتساوى فيه جميع أطوار الناس وأخلاقهم في
جميع الأزمان فلا يبقى محل للنسخ.
قلنا: إن من الأمور ما لا تختلف جهته باختلاف الأزمان والأحوال كالزنى
مثلا، وهذا لا يعتريه النسخ لحرمته، وأما ما تختلف جهته بحسب الأعصار
والأحوال كما ذكرنا فإن كنت تقول بجواز مراعاة معدل المصلحة فيه من غير
لزوم فذلك لا ينافي ما ذكرناه لإمكان وقوع النسخ وإن كنت تقول بلزومه
سألناك أولا ما هو الملزم به ومن الملزم؟ ونبهناك ثانيا إلى أن سياحة الفكر في
تقلب الأحوال البشر بحسب الأعصار والأخلاق والعادات حسبما شرحنا بعضه
لتكشف لكل مميز وتعرفه بأن مراعاة معدل المصلحة على ما تقول لا تنفك عن
حرمان أكثر الناس من بركات اللطف بهم ومقتضيات مصالحهم، وما هو
الداعي لذلك مع إمكان أن يعمهم اللطف باستيفاء بركات مصالحهم على
مقتضى الحكمة من دون مانع ولا فساد.
فإن قلت إذا فما بال اليهود والنصارى ينكرون إمكان النسخ ووقوعه حتى
أن بعض كتابهم ليشددون النكير على القول بالنسخ ويبالغون في امتناعه على
جلال الله.
قلت: إن كان شكك من هذه الجهة فإنا نشكرك على إبدائها فاعلم أنا لم
نبخس اليهود والنصارى في ابتداء الأمر حقهم من حس الظن ولأجل ذلك
تتبعنا كتبهم التي ينسبونها إلى الإلهام والوحي ونظرنا في نحلهم التي عكفوا عليها
وشريعة جامعتهم في يهوديتهم أو نصرانيتهم فوجدنا اليهودية قد كثر فيها النسخ
نقلا عما قبلها ونسخا لما تقدمها ونسخا لما جاء فيها ووجدنا النصرانية الرائجة قد
بنى أساسها وسيج بنيانها ودار محورها على دعوى معنى النسخ الذي نقول به بل
على ملا شاة الشريعة السابقة وأحكامها، ولم نجد وجها صحيحا لما تذكره عنهم

277
إلا المنافرة مع النون والسين والخاء في اسم النسخ، وإنا لا نضايقهم في الاسم
بل نسمي هذا الذي نقول بإمكانه ووقوعه بالاسم الذي يسمون به رفع الشرائع
الموجود في كتبهم التي ينسبونها إلى الوحي الإلهي ونقتصر في مدعانا على مثل ما
وقع في الشرائع التي ينسبونها إلى الله.
وأن السير في كلمات بعض كتابهم في هذا المقام وخصوص المتكلف " به 4
ج ص 155 - 194 " قد كشف لنا عن منشأ الاشتباه أو مبدأ الحياد في المغالطة
والتمويه، وهو أنهم تخيلوا بوهمهم أو خيلوا بتمويههم أن النسخ الذي يدعي
المسلمون وقوعه في الشرائع هو رفع الحكم الشرعي مع إبطال غايته الأصلية
التي شرع لأجلها وهي مصلحة العباد إبطالا جزافيا من غير نظر إلى تجدد
مصلحة أخرى تناسب خلافه فكأنهم لم يسمعوا ولم يفطنوا من هتاف الصريح
من كلمات المسلمين وكتاباتهم قولهم بأن الله الغنى الحكيم شرع الشرائع لطفا منه
بعباده ورحمة لهم برعاية مصالحهم بأنواعها حسب ما تقتضيه حكمته وعلمه بما
يناسبها من الأحكام بحسب اختلاف الأحوال والأوقات، وعلى ذلك فقد
تقتضي الحكمة واللطف تبديل الحكم الأول إلى ما هو أنسب منه في الزمان
الثاني بالمصحلة والغاية المطلوبة في التشريع، وهذا التبديل إنما هو لأجل
المحافظة على الغاية التي شرع الحكم الأول لأجلها وهذا هو النسخ عند
المسلمين وإن فرض أن شريعة الحكم الثاني هي جوهر شريعة الحكم الأول
باعتبار الغاية المطلوبة من التشريع، وأن الأولى ترمز وتشير إلى الثانية لكونها
أنسب باللطف والرحمة بحسب الوقت والحال، فإن كل الشرائع الإلهية متحدة
في غايتها المرعية ولكن أليست الأحكام المتبادلة فيها مختلفة بالنوع والحقيقة فنحن
نصفهما بالناسخ والمنسوخ بلحاظ هذا الاختلاف.
مثاله بأن نتكلم على طريقة القائلين بسر الفداء فنقول إن الله قد شرع
بلطفه ورحمته في التوراة أحكاما لمصالح العباد في البر والتأديب والتكفير
والخلاص والتكميل واستمرت على ذلك ألفا وخمسمائة سنة تقريبا ولكن لما
كانت هذه الغايات تحصل فيما بعد ذلك على أحسن وجه وأتم حصول فرضا
بسبب الإيمان بالمسيح وبركة سر الفداء وذبيحة الفادئ الكريم رفعت ذوات

278
الأحكام الخاصة التي كانت في شريعة موسى وخفف ثقلها الباهظ وبدلت شدتها
بسهولة الراحة والإباحة، وهذا من وادي النسخ الذي يقول به المسلمون. ولا
يشك فاهم أو غبي في أن أحكام التوراة قد بدلت في النصرانية الرائجة في
الصورة والماهية وهم يقولون إن ذلك يوحي من الله وعليه فهو النسخ الذي
يقول به المسلمون.
وهبنا قلنا ما يقوله المتكلف " يه 4 ج ص 184 " إن الشريعة الموسوية
بمنزلة البذر والمسيحية بمنزلة الشجرة والثمرة، وأن المسيحية جوهر الموسوية
وفذلكتها ولكننا لا نخادع عقولنا ووجداننا ونقول إنها هي من حيث الأحكام
ولا نكون من هذا أضحوكة بقولنا، وعلى كل حال فإن كتاب الله منزه عن
الناسخ والمنسوخ.
فاضغ لما نتلوه عليك من الكتب التي ينسبونها إلى الله والوحي واحفظ ما
ذكرناه لك في معنى النسخ الذي نقول به وحاسبهم حسابا يسيرا وجادلهم بالتي
هي أحسن.
ولنذكر لك مما جاء في كتب وحيهم مما لا محيص عن كونه بمعنى النسخ
الذي نقول به، وإن أبوا تسميته نسخا.
ثم نذكر لك أيضا من كتب وحيهم موارد كثيرة لا يسميها المسلمون في
الاصطلاح الغالب نسخا ولكنها يرد عليها كلما اعترض به اليهود والنصارى على
النسخ فاستمع لذلك إن شاء الله.
1 - الناسخ والمنسوخ في شريعة نوح
بمقتضى نقل التوراة جاء في سابع التكوين " 2 و 8 " وكذا الثامن 20 إن
الله ذكر لنوح قبل الطوفان البهائم الطاهرة والتي ليست بطاهرة والمراد من غير
الطاهرة ما لا يجوز أكله ولا تقديمه للقرابين والمحرقات.
ثم جاء في تاسع التكوين في ذكر ما بعد الطوفان عن قول الله لنوح 3 كل
دابة حية تكون لكم طعاما كالعشب الأخضر، وهذا يدل على جواز الأكل لكل
دابة حية بخلاف الشريعة السابقة.

279
وحاول المتكلف " يه 4 ج ص 167 " أن يتخلص من هذا فقال المراد
بقوله تعالى كل دابة حية كل الحيوانات الطاهرة. وأغرب في تشبثات الاستشهاد
ولعله إذ علم أن في تاسع التكوين المذكور " 10 و 12 و 15 و 16 " ما يبطل دعواه
هذه ويوضح أن وصف الحياة غير وصف الطهارة هرب إلى دعوى أن المراد من
لفظ كل هو البعض، ولكن مراجعة الموارد المشار إليها من تاسع التكوين تنادي
بأن المراد من " كل " هو العموم على أن الدعوى بإرادة معنى " بعض " من لفظ
" كل " ناشئة من الوهم والاستشهاد لها بالقرآن الكريم ناشئ من الخطأ في
الفهم.
2 - التوراة وشريعة نوح والحيوانات
ثم نسخت التوراة هذه الإباحة العامة في شريعة نوح لأكل كل دابة حية
كالعشب الأخضر وحرمت كثيرا من الحيوانات " أنظر حادي عشر اللاويين ورابع
عشر التثنية ".
3 - التوراة وما قبلها في التزوج بالأخت
فحرمت التوراة التزوج بالأخت وإن كانت من الأب وحده " لا 18 و 9 "
مع أنها ذكرت أن سارة امرأة إبراهيم كانت أخته من أبيه " تك 20: 12 " ولا
تضع إلى تحريف الترجمة المطبوعة سنة 1811 حيث حرفت وترجمت الأخت
بالقريبة التي نعم بنت العم ونحوها ليتخلص من هذا الاعتراض فإن نص
الأصل العبراني (وجم امنه أختي بت أبي هوا أخ لا بت أمي وتهي لي لا يشه) أي
وأيضا أختي بنت أبي هي لكن لا بنت أمي وصارت لي امرأة ولو كان الذي في
الأصل العبراني بمعنى القريبة لقال " شاري ".
4 - أيضا الجمع بين الأختين في التزويج
فحرمته التوراة " لا 18: 18 " مع أنها ذكرت أن يعقوب تزوج براحيل
على أختها ليئة " تك 29: 23 و 30 " وبقيتا عنده مجتمعتين مدة من السنين " انظر
تك 29 - 35 ".

280
5 - التزوج بالعمة
فحرمته التوراة " لا 18: 12 و 20: 19 " مع أنها ذكرت أن أبا موسى
وهو عمران بن قهات بن لاوي " خر 6: 16 - 19 " قد أخذ عمته يوكابد بنت
لاوي التي ولدت له في مصر امرأة له " انظر خر 2: 1 - 11 و 6: 20 وعد 26:
29 " ينكشف لك الخطأ في مكابرة المتكلف وخبطه " يه 4 ج ص 8 - 10 " في
احتمال كون يوكابد ليست عمة عمران.
وبيان النسخ في هذه الموارد الثلاثة هو أنه لا بد أن تكون لإبراهيم
ويعقوب وعمران شريعة إلهية أباحت لهم هذا التزويج المذكور وقد نسختها
التوراة، هذا هو مراد إظهار الحق ولم يقل إن التوراة نفسها حكمت بجواز
تزويج هؤلاء النبيين وسبطهما ثم نسخته كما توهمه المتكلف.
ثم أجاب " يه 4 ج ص 167 " بأنه لم ينزل الله على آدم ولا على إبراهيم
شريعة بجواز تزوج الأخت الغير الشقيقة ثم حرمتها موسى وإنما هذا الزواج
كان من العادات التي اصطلح عليها القدماء قبل الشريعة موسى، وقال ص
168 لم ينزل الله على القدماء شريعة ثم نسخها موسى، بل اصطلح القدماء
على عادات للجريان عليها في هذه الدنيا. وقال ص 169 إن زواج عمران كان
قبل نزول الشريعة.
أقول: من أين للمتكلف إن القدماء لم تكن لهم شريعة مطلقا أو في
خصوص الزواج، مع أنه لا يشهد لدعواه هذه كتاب ينسب إلى الإلهام أم جاءه
الوحي بذلك؟ أم يقول إن رحمة الله ولطفه لم يسعا الذين قبل موسى، كما
وسعا بني إسرائيل المتمردين.
ثم إن قال إنه لم تكن قبل موسى للقدماء شريعة مطلقا.
" قلنا ": إن التوراة لتكذبك في ذلك فإنها تقول إن الله جعل لنوح شريعة
صنعة الفلك ومن يحمله فيه من الأناسين والحيوانات، وشريعة الحيوانات
الطاهرة والنجسة والضرورة يكون من الشريعة بناء المذبح وإصعاد المحرقات
" انظر تك 6 و 7 و 8 ".

281
وجعل لإبراهيم شريعة الختان " تك 17: 9 - 15 ".
وتقول التوراة أيضا إن ملكي صادوق ملك شاليم كان كاهنا لله العلي
ولأجل ذلك أعطاه إبراهيم عشر الغنيمة " انظر تك 14: 18 - 21 " فقل ما
معنى الكهانة إن لم تكن شريعة، وما وجه العشر الذي أخذه من إبراهيم
أتقول إنه كان عشرا ملوكيا كلا بل إن سابع العبرانيين يفصح عن كونه عشرا
شرعيا كاشفا عن عظمة ملكي صادوق الذي أعطاه إبراهيم إياه، أفترى
المتكلف ينكر هذا كله ويقول إن الله ترك القدماء هملا كالبهائم بلا شريعة ولا
نعمة، أم يقول إنه لم تكن للقدماء شريعة في خصوص الزواج؟ فنقول له أترك
الله عباده وعاداتهم في الزواج وإن تسافدوا تسافد البهائم؟ دع عنك المشركين
ولكن التوراة تقول: منذ ولد انوش بن شيث ابتدأ يدعى باسم الرب وذلك
بعد خلق آدم بمائتين وثمانين سنة " انظر تك 4: 26 و 5: 3 - 7 ".
فالمؤمنون من ذلك الزمان إلى زمان إبراهيم وآل إبراهيم فرضنا إن الله لم
يجعل لهم شريعة في الزواج وتركهم وعاداتهم، ولكن هل كان الله راضيا لهم
بتلك العادات التي اصطلحوا عليها لأجل مناسبتها لمصلحة وقتهم أو كان
ساخطا لها، فإن كان ساخطا لها فلماذا لم ينههم عنها ويشرع لهم ما يناسب
مصلحة وقتهم.
وقد أوحى الله إلى إبراهيم وخاطبه في أمور كثيرة وكذا يعقوب ولو أن
الله يخاطبهم بقدر ما تذكرة التوراة عن خطاب الله لموسى في تفصيل ثياب
هارون والكهنة " خر 28: 2 - 42 " أو صيدلة البرص " لا 13 و 14 " لكفي في
جعل الشريعة لهم، أم لم تكن فرصة للرحمة واللطف بخليله وآل خليله كفرصة
طور سيناء أو مصارعة يعقوب " تك 32: 24 - 29 " إلا بقدر الختان المؤلم الذي
تخلص منه النصارى. هذا وإن كان الله راضيا بتلك العادات على ما ذكرنا فهي
شريعة إلهية لهم.
وأيضا فإن الله سمى سارة بأنها امرأة إبراهيم مرارا عديدة أفلا يكفي هذا
في إمضاء زواجها فيكون شريعة " انظر أقلا تك 17: 15 و 19 " دع هذا كله
ولكن نبه المتكلف بأنه جاء في السادس والعشرين من التكوين عن قول الله 5

282
من أجل أن إبراهيم سمع لقولي وحفظ ما يحفظ لي أوامري وفرائضي
وشرائعي، وسله هل يقول بعد هذا لم ينزل الله على القدماء شريعة أم يقول إن
المراد بهذا كله شريعة الختان الواحدة.
يعقوب وليئة
ثم سله ما وجه العذر والتخلص عن جمع يعقوب للأختين بقوله " يه 4 ج
ص 158 " إن مسألة يعقوب هي أنه خطب راحيل فمكر به أبوها وأعطاه ليئة
غير أنه استمر على خدمته فأعطاه راحيل.
أتراه يقول إن ليئة لم يكن نكاحها صحيحا بل كان فاسدا بحسب عادة
الوقت لأن يعقوب كان مخدوعا بها ودخل عليها بزعم أنها راحيل ولم يعرف أنها
ليئة حتى أصبح فلا يكون تزوجه براحيل معها من الجمع بين الأختين. نعم إن
قال ذلك لم نعترض عليه بأنه يلزم أن يكون اقترانه الفاسد بليئة زنى فيكون
يعقوب وحاشاه زانيا مدة حياة ليئة ويكون أولاده منها روابين وشمعون ولاوي،
ويهوذا، ويساكر، وزبولون أولاد زنى والعياذ بالله لا يدخلون في جماعة الله إلى
الجيل العاشر " تث 23: 2 ".
ولا نقول إذا كيف دخل في جماعة الله جيلهم الرابع والخامس وإن منهما
موسى كليم الله، وهارون قدوس الله، واللاويون حملة تابوت الله، وخدام
مسكنه وزعماء كهنوته وحفظة شريعته.
فأنا بحسب ما ألفناه من أدب المتكلف لا نأمن أن يقول لم ينزل على
القدماء شريعة بتحريم الزنى، أو يقول نعم وقع يعقوب في خطيئة الزنى هذه المدة
المديدة دلالة على ضعف الطبيعة البشرية ثم تاب من خطيئته وزيادة على ذلك
إن المولى القدوس العادل سلط عليه ابنه روابين فزنى بزوجته بلهة أم أولاده
دان، ونفتالي، " تك 35: 22 " انظر يه 1 ج ص 13 و 18 و 66 ويقول أيضا
إن أولاد الزنى الذين لا يدخلون في جماعة الرب هم العمونيون والموابيون " انظر
يه 3 ج ص 263 ".

283
رسول الله وإظهار الحق والمتكلف
والمتكلف من وغر صدره أو قل من حرية ضميره لما رأى إلزام إظهار الحق
لهم بالنسخ في تزوج عمران بعمته وتحريم ذلك في شريعة موسى لم يلتفت إلى
مراد إظهار الحق وهو أنه إن كانت هذه الحكاية صحيحة فلا يمكن عادة لعمران
الموحد لله ابن قهات بن لاوي بن يعقوب نبي الله ابن إسحاق نبي الله ابن
إبراهيم خليل الله أن يتزوج على غير شريعة تلقاها من آبائه الأنبياء في إباحة هذا
التزويج وصحته.
فيلزم من ذلك وقوع النسخ في شريعة موسى، يل توهم المتكلف إن
إظهار الحق يحاول التنديد بطهارة ولادة موسى كليم الله فصار يقابله بخرافات
القصص ثم زاد في الافتراء بالتعرض لقدس رسول الله في تزويجه بمطلقة غلامه
زيد بن حارثة الذي لشدة رأفة رسول الله به صار الناس يدعونه زيد ابن
محمد، فقال غير مبال بالانتقاد عليه " يه 4 ج ص 169 ".
وماذا نقول: فيمن ادعى أن الله أجاز له أن يتخذ امرأة ابنه وجعل ذلك
قانونا ويا حبذا لو نسخ هذا القانون فإن ذلك كان أحق بالنسخ، لأنه قانون
وخيم ومبدأ ذميم لأنه يسوغ الاقتران بزوجة الابن ولكنه لم ينسخه فهو وصمة
باقية مدى الدهور.
فنقول له الحق لا أنت، يقول إن الله جل شأنه شاء أن يمحق باطل
الجاهلية ويلاشي خرافاتهم ويقلع مفاسدها، وحيث كانوا يرتبون آثار الابن
الحقيقي على الدعي جهلا منهم وزورا يلزم منه مفاسد لا تحصى منها معاملة
الدعي لأرحام من يدعي به ونسائه معاملة المحارم الحقيقية في الخلطة والتكشف
مع أنه ليس هناك علقة واقعية ولا رحم ماسة تصده عن النظر إليهن بالفحشاء
والأقدام على المكروه مع كثرة الفرص وعدم الاحتشام في الخلطة فهو كحرامي
البيت المذكور في المثل، وأن الغالب على الأدعياء كونهم من أمكنة نائية فلا
تعرف نجابتهم من سوء منبتهم ولؤم عنصرهم.
فأوحى الله إلى رسوله الصادق بأمره الذي لم يستعف من رسالته ولم يضجر

284
من أحكامه أن يبطل هذه العادة الذميمة بتبليغه قول الله في سورة الأحزاب 4
(وما جعل أدعيائكم أبنائكم ذلك قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي
السبيل) 5 (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آبائهم فإخوانكم
في الدين ومواليكم).
وأمره أيضا تثبيتا لإبطال هذه العادة الوخيمة بأن يكون أول عامل بشريعة
الحق ومقاوم لخرافات الجاهلية ليكون أسوة للمؤمنين ويرتفع ببركته حرج
الأباطيل، وقد قدمنا الكلام في هذا الشأن في الفصل الخامس عشر في عصمة
رسول الله.
ومن عدم موفقية المتكلف في كتابه أن لهج بهذا الافتراء وتسميته لزيد ابنا
لرسول الله حتى أن الغافل ليحب أن يعرف أن هذا هو الابن البكر لرسول الله
أو من سائر أولاده، وهل كانت أمه مبغوضة أو ميتة، فإن الغافل لا يخطر في
خياله أن أحدا يصر على الافتراء بهذا المقدار من الإصرار ولا سيما في كتاب
يطبع وينشر في العالم لنصرة الديانة في مقابلة أمة عظيمة راسخة القدم في العلوم
الدينية ولكن.
لا تنتهي الأنفس عن غيها * ما لم يكن منها لها زاجر
وبماذا يأتي وينفر المغفلين من قومه إلا بهذا التمويه فإن قدس رسول الله
ليس لقائل فيه مغمز.
" سؤال " هل تقدر أن تكشف ما هو المنشأ في إصرار المتكلف على إلصاق
الدعي بمن يدعى به حتى صار يضجر من هذه الشريعة التي محقت باطل
الأدعياء وردت الأمور إلى حقائقها.
6 - نسخ التوراة لحكمها في محرقة السهو
جاء في رابع اللاويين عن الشريعة الموضوعة في جبل سيناء " 13 - 22 "
أنه إذا سهى كل جماعة إسرائيل وأخفى أمر عن المجمع وعملوا واحدة من
مناهي الرب يقرب المجمع ثورا ذبيحة خطيئة محرقة، مع تفصيل في كيفية

285
تقديمه وحرقه من دون ذكر في الشريعة لتقدمه أو سكيب أو ذبيحة أخرى.
وجاء في الخامس عشر من العدد عن الشريعة الموضوعة في برية فاران
" 24 - 26 " في حكم هذا الموضوع المتقدم بأن يقدموا مع الثور المذكور تقدمة
وسكيبا وتيسا، وهو نسخ للحكم بكفاية الثور في الشريعة الأولى.
قال المتكلف " يه 4 ج ص 192 " إن الذبائح متنوعة فالعبارة في سفر
اللاويين عن ذبيحة الإثم، وفي سفر العدد عن ذبيحة الإثم مع النذور كما
يتضح لمن طالع العبارتين.
أقول يتضح من مطالعة العبارتين وكلام المتكلف هذا أحد أمرين أما
أنه لم يطالع العبارتين وإنما تحكم فيهما على نقل إظهار الحق المجمل، وأما أنه لا
يبالي بما يقول وما يظهر عليه اعتمادا على أن المسلمين وغالب النصارى لا
ينظرون في التوراة نظر مستقص في أحكامها، ولا أقول إنه لم يفهم معنى التوراة
لأنه لا يخفى حتى على الغبي أنه لا دخل للنذور ولا ربط فيما بعد الثانية
والعشرين من خامس عشر العدد أصلا وليس فيها ما يوهم ذلك، وهاك نص
العبارة 24 فإن عمل خفية عن أعين الجماعة سهوا يعمل كل الجماعة ثورا
واحدا ابن بقر محرقة لرائحة سرور للرب مع تقدمته وسكيبة كالعادة وتيسا واحدا
من المعز ذبيحة خطيئة 25 فيكفر الكاهن عن كل جماعة بني إسرائيل فيصفح
عنهم لأنه كان سهوا.
7 - أيضا امرأة الأخ
وقد حرمت التوراة امرأة الأخ من دون استثناء في الشريعة الموضوعة في
جبل سيناء " لا 18: 16 و 20: 21 " ثم بعد أربعين سنة تقريبا نسخت هذا
التحريم العام في الشريعة الموضوعة على عبر الأردن وأوجبت على أخي الزوج
الميت الذي لم يخلف ولدا أن يتزوج بامرأة أخيه الميت ليقيم له نسلا فإن أبى
تقدمه المرأة إلى الشيوخ وتخلع نعله وتبصق في وجهه أمام الشيوخ ويدعى اسمه
بيت مخلوع النعل " تث 25: 5 - 11 ".
ولئن حاول المتكلف أن يجعل الحكم الثاني من قبيل التخصيص للحكم

286
الأول لا من النسخ، فإنا سنوضح بعون الله أن ما كان بيانه بعد العمل بالعام
فهو من الناسخ لا من المخصص، وقد بقي الحكم الأول على عمومه أربعين سنة
تقريبا وكلها وقت العمل، فإن بني إسرائيل كانوا مئات الألوف وقد كثر فيهم
الموت، وبالضرورة يتفق عندهم في كل سنة كثير من موارد الحكم العام
بأنواعها.
8 - التوراة وداود وعمر اللاويين
جاء في شريعة التوراة مرة أن اللاوي الذي يوظف لخدمة المسكن وخيمة
الاجتماع يكون من ابن ثلاثين سنة إلى خمسين كما في رابع العدد من النسخة
العبرانية وتراجمها، وجاء مرة أخرى أنه يكون من ابن خمس وعشرين سنة " عد
8: 24 و 25 " وحيث أنا لم نتحقق من التوراة العبرانية أن أي الحكمين كان
متقدما ولم يظهر لنا أن رفع الأول منهما كان بعد العمل به أو قبله فلم نجزم
هاهنا بأن أحدهما ناسخ للآخر، خصوصا وقد خالفتها الترجمة السبعينية فإنها
ذكرت الخمس وعشرين سنة في المقامين فلا اختلاف، وعلى كل حال فلا بد من
استمرار العمل على الخمس وعشرين سنة أو الثلاثين إلى أن نسخة داود النبي
وجعل الموظف من اللاويين لخدمة المسكن، وخيمة الاجتماع يكون من ابن
عشرين سنة فما فوق، ففي الثالث والعشرين من الأيام الأول 24 هؤلاء بنو
لاوي حسب بيوت آبائهم رؤوس الآباء حسب إحصائهم في عدد الأسماء
حسب رؤوسهم عاملوا العمل لخدمة بيت الرب من ابن عشرين سنة فما فوق
25 لأن داود قال قد أراح الرب إله إسرائيل شعبه فسكن في أورشليم إلى الأبد
26 وليس للاويين بعد أن يحملوا المسكن وكل آنية لخدمته 27 لأنه حسب كلام
داود الأخير عد بنو لأي من ابن عشرين سنة فما فوق.
ولست أدري ماذا يقول المتكلف ها هنا؟ أيقول إن الله جل شأنه وضع
الحكم الأول محدودا في سابق علمه بمصلحته الموقتة، ثم لما تجددت حال أخرى
ومصلحة أخرى أعلن الله لنبيه داود ما يناسبها من الحكم كما ذكر في كلام داود
ثم ليقل مع ذلك وعلى كل حال فلا ناسخ ولا منسوخ كما لهج به، أم يقول إن
هذا تصرف من داود بالشريعة بغير حق وقد أخطأ فيه كما أخطأ في شأن أوريا

287
وامرأته وكان هذا الخطأ منه بعد قوله في الكلمات الإلهامية التي هي كلام الله
السميع العليم حفظت طرق الرب ولم أعص إلهي لأن جميع أحكامه أمامي
وفرائضه لا أحيد عنها وأكون كاملا معه وأتحفظ من إثمي (2 صم 22: 22
و 23 ومر 18: 21 - 23 ".
وأخطأ أيضا بنو إسرائيل، وعزرا، وحجي وزكريا، الأنبياء إذ جروا
على فعل داود وتركوا شريعة موسى فوظفوا للخدمة في المسكن من اللاويين من
كان ابن عشرين سنة فما فوق " عز 3: 8 ".
9 - 11 التوراة وحزقيال والمحرقة اليومية
جاء في التوراة أن محرقة كل يوم خروفان حوليان أحدهما للصباح،
وثانيهما لما بين العشائين. وتقدمة كل واحد من الخروفين عشر الأيفة من دقيق
ملتوت بربع الهين من زيت وسكيبة ربع الهين " عد 28: 3 - 9 ".
وجاء في حزقيال أن محرقة كل يوم حمل حولي يعمل صباحا صباحا
وتقدمته سدس الأيفة دقيق وثلث الهين لرش الدقيق " حز 46: 13 - 16 ".
فنسخ شريعة محرقة الليل " 2 " ومقدار الدقيق " 3 " ومقدار الزيت في تقدمة
الصباح.
12 - 16 وأيضا محرقة السبت
فقد جاء في التوراة أنها خروفان حوليان وتقدمتها عشران من دقيق ملتوت
بزيت مع سكيبة " عد 28: 9 ".
وجاء في حزقيال أن محرقة السبت ستة حملان وكبش وتقدمتها أيفة.
للكبش. وهين زيت للأيفة وللحملان عطية يد الرئيس " حز 46: 4 و 5: 1 "
فنسخ حكم الخروفين " 2 " ومقدار التقدمة للكبش " 3 " وما يناسب الدقيق من
الزيت " 4 " ورفع حكم السكيب " 5 " زاد عطية الرئيس في تقدمة الحملان.
17 - 21 وأيضا محرقة رأس الشهر
فقد جاء في التوراة أنها ثوران وكبش واحد وسبعة خراف حولية وتقدمتها

288
لكل ثور ثلاثة أعشار من دقيق ملتوت بزيت وللكبش عشران ولكل خروف
عشر وسكائبهن نصف الهين من الخمر للثور وثلث الهين للكبش وربع الهين
للخروف، ويضاف إلى ذلك تيس من المعز ذبيحة خطيئة " عد 28: 11 -
16 ".
وفي حزقيال ثور واحد وستة وحملان وكبش. والتقدمة أيفة للثور وأيفة
للكبش وللأيفة هين من زيت وللحملان ما تناله يد الرئيس " حز 46: 6 و 7 "
فنسخ حكم الثورين والخراف " 2 " وتقدمة الثور والكبش " 3 " وما يناسب الدقيق
من الزيت " 4 " وحكم السكيب " 5 " وزاد عطية الرئيس في تقدمة الحملان.
22 - 25 وأيضا محرقة الفصح
وذكرت التوراة لمحرقات سبعة أيام الفصح وتقدماتها لكل يوم نحو ما
ذكرت لمحرقات أول الشهر " عد 28: 16 - 25 ".
وفي حزقيال أن لكل يوم سبعة ثيران وسبعة كباش وتيسا ذبيحة خطيئة،
وتقدماتها أيفة للثور وايفة للكبش وهين من زيت للأيفة " حز 45: 23 و 24 "،
فنسخ حكم الذبائح " 2 " وتقدمتها " 3 " وما يناسبها من الزيت " 4 " وحكم
السكيب.
26 - 29 وأيضا محرقات عيد المظال
فذكرت التوراة فيه محرقات السبعة أيام مختلفات العدد أكثرها في اليوم
الخامس عشر من الشهر السابع ثلاثة عشر ثورا وكبشان وأربعة عشر خروفا
حوليا مع تيس ذبيحة خطيئة، وتقدمتها لكل ثور ثلاثة أعشار من دقيق ملتوت
بزيت وعشران لكل كبش وعشر لكل خروف، وينقص العدد في الأيام فيكون
في اليوم السابع سبعة ثيران وكبشين وأربعة عشر خروفا، وتقدماتها وسكائبها
على نحو ما تقدم " عد 29: 12 - 39 ".
وفي حزقيال أن الرئيس يعمل في سبعة أيام عيد المظال محرقة نحو ما
يعمله في عيد الفصح " حز 45: 25 " فنسخ حكم الذبائح " 2 " وتقدماتها " 3 "
وما يناسبها من الزيت " 4 " وحكم السكيب.

289
وأيضا ما هو للرئيس وما عليه وعليك تعداد ما فيه من النسخ
لم يجئ في التوراة شريعة التقدمة للرئيس على إسرائيل ولم تجعل عليه
بإزاء ذلك المحرقات وتقدماتها وسكيبها في الأعياد والشهور والسبوت والمواسم
بل ذكرت التوراة أن هارون يأخذ من جماعة بني إسرائيل تيسين لذبيحة خطيئة
وكبشا لمحرقة " لا 16: 5 " وأن القرابين وذبائح السلامة وذبائح الكفارة وذبائح
الخطيئة والإثم، وسائر التقدمات يقدمها بنو إسرائيل بأنفسهم " انظر سفر
اللاويين من أوله إلى السادس منه ". وكان حق الكهنة على إسرائيل الساعد
والكرش من الذبائح والباكورات " تث 18: 3 و 4 " وقرابينهم وتقدماتهم،
وذبائح خطاياهم، وذبائح آثامهم، والابكار، والباكورات وحق بني لاوي على
إسرائيل هي العشور " عد 18: 8 - 22 ". وقد جاء في حزقيال ضد هذه
الشرائع فجعل على بني إسرائيل تقدمة للرئيس سدس الأيفة من حومر الحنطة
والشعير أي من سدس العشر من الحومر وبث من الزيت أي عشر الكر، وشاة
واحدة من مائتين. وجعل على الرئيس بإزاء ذلك المحرقات وتقدماتها وسكيبها
في الأعياد، والشهور والسبوت كل مواسم بيت إسرائيل، وهو يعمل ذبيحة
الخطيئة والتقدمة والمحرقة وذبائح السلامة للكفارة عن بيت إسرائيل " حز 45:
17 ".
وعلى هذا فإن كان ما ذكرناه عن حزقيال صادرا عن وحي إلهي كما نسبه
إلى قول السيد الرب فلا محيص فيه عن القول بالنسخ في هذه الشرائع المختلفة
المتباينة، أو يقول بأنه من التشويش وتلاعب الأيام الطارئ على العهد القديم
كما بنى عليه إظهار الحق كلامه.
ولكن المتكلف لا يرضى بشئ من ذلك ويقول النسخ مناف لحكمة الله
وعلمه " يه 4 ج ص 155 " وكتاب الله منزه عن الناسخ والمنسوخ " يه 4 ج ص
184 "، ويقول " يه 1 ج ص 91 و 177 " ما حاصله إنه لما كان حزقيال مع بني
إسرائيل في سبي بابل ذكر لهم الهيكل والفرائض المقدسة ليؤكد لهم أن المولى
سيعيدهم إلى وطنهم وتشويقا لهم إلى تلك الأوقات السعيدة.
وثانيا: إن عبارته نبوية استعارية يشير بها إلى أمجاد المسيح فأطلق الهيكل

290
على كنيسة المسيح. وعلى كل حال فلا يوجد أدنى تناقض بين أقواله وسفر العدد
لاختلاف الموضوع فإن حزقيال لم يأت بما ينافي شريعة موسى.
أقول: قد ذكرنا لك موارد المناقضة والمنافات بين ما يذكر عن شريعة
حزقيال وشريعة موسى، فطابق أنت لأجل الاستيضاح ما بين الخامس
والأربعين والسادس والأربعين من حزقيال وما بين شريعة التوراة وخصوص الثامن
والعشرين والتاسع والعشرين من العدد وقل ما ترضاه لك حرية ضميرك ومجد
فهمك وشرف صدقك ومعرفتك وانظر إلى أنه هل يرضى لك ذلك أن تقول لا
نسخ ها هنا ولا تناقض ولا منافاة بل إن عبارة حزقيال نبوية استعارية تشير إلى
أمجاد ملكوت المسيح فأطلق الهيكل على كنيسة المسيح أم تقول بابتداء فهمك
وأول فطرتك أين هذه المقامات وأين الهيكل وأين الكنيسة بل لا بد للكلام من
معنى، وللإشارة قانون يميزها عن الهذيان، وأن للكلمات نقادا وللحقائق رصادا
وليس كل الناس أبناء الحياد عن الصواب ولا سيما هذه الأجيال المتنورة.
30 و 31... التوراة والمسيح والطلاق والتزوج بالمطلقة.
شرعت التوراة طلاق الرجل لامرأته إذا لم تجد نعمة في عينه لأنه وجد
فيها عيب شئ وشرعت أيضا تزوج رجل آخر بهذه المطلقة " تث 24: 1 - 4 "،
ونسخ الإنجيل هذا الحكم بقوله عن المسيح من طلق امرأته إلا لعلة الزنى
يجعلها تزني ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني " مت 5: 32 و 19: 19 ومر 10: 11
و 22 ولو 16: 18 ".
وقد حاول المتكلف في تبديل الإنجيل لشريعة التوراة في الطلاق والتزوج
بالمطلقة أن يجعله من قسم التخصيص المصطلح لا من قسم النسخ " انظر يه 4
ج ص 170 و 171 " فأطال وحرف وخلط فراجعه. وهذا أما من عدم الوصول
إلى الفارق المعنوي المميز بين التخصيص والنسخ، وأما من الفرار إلى التمويه
والمغالطات.
فاعلم أن التخصيص في الاصطلاح هو أن يأتي المتكلم في خطابه بلفظ
عام ولكنه لا يريد منه العموم لجميع أفراده بل يريد بعضها، وحينئذ يلزمه في

291
قانون التفيهم وصحة الخطاب أن يأتي على وفق مراده من العام بالمخصص
المتصل أو المنفصل ليكون بيانا للمراد قبل أن يحضر وقت العمل من المخاطب
فينكشف بالمخصص ويتبين مقدار ما أراده من العام في أول الأمر وحين
الخطاب.
مثاله: أن يقول المتكلم أكرم الكتاب وهو يريد من عموم الكتاب من لم
تكن عادته التمويهات ومزخرفات الأباطيل، فعليه في قانون البيان أن يقول
متصلا أو منفصلا قبل حضور وقت الاكرام المأمور به لا تكرم كتاب التمويهات
والأباطيل. فالتخصيص المصطلح هو البيان لإرادة البعض من أفراد العام في
أول الخطاب.
وأما إذا تأخر ورود الخاص عن وقت العمل بالعام واستمر العام على
عمومه مئات من السنين وصح العمل بجميع أفراده اعتمادا على عموم لفظه في
هذه المدة كما في شريعة التوراة في الطلاق فليس ذلك من التخصيص المصطلح
بل إنما هو نسخ ورفع للحكم عن بعض أفراد العام بعد إرادة المتكلم لعمومه
فإنه لو ملم يرد عمومه على طبق اللفظ لوجب عليه في الحكمة أن يبين مقدار مراده
من أفراد العام قبل حضور وقت العمل، ولا يؤخره عن ذلك، فإنه يكون هذا
التأخير مغريا بالجهل مقصرا في بيان المراد عند الحاجة إلى البيان ولا شكر في قبح
ذلك في حكمة الكلام وصواب المحاورات.
فيكشف ورود الخاص قبل وقت العمل عن إرادة بعض أفراد العام حين
الخطاب وهو معنى التخصيص المصطلح.
ويكشف تأخر الخاص عن وقت العمل عن أن العموم مراد من حين
الخطاب إلى حين مجيئ الخاص فيكون الخاص رافعا لحكم العام المراد على
عمومه وهذا من حقيقة النسخ الذي كشفنا عن معناه في أول المقدمة، فإن صح
صح النسخ بجميع أقسامه ولو كان النسخ باطلا لكان هذا باطلا أيضا لأن
الجهة فيهما واحدة وهي رفع الحكم الثابت والشريعة السابقة.
ولا يخفى أن حكم التوراة في الطلاق عام لكل عيب في المرأة حتى عيب

292
سوء الخلق والخلقة ولم يبين تخصيصه في التوراة ولا من موسى بعيب الزنى بل
عمل بنو إسرائيل بالعموم وصاروا يطلقون من لم تجد نعمة في أعينهم لكل عيب
إلى زمان المسيح، كما يشهد بذلك الإنجيل الرائج في نقله لكلام المعترضين على
المسيح في أمر الطلاق وإقرار المسيح لاعتراضهم، وجوابه بأن موسى جوز لهم
ذلك من أجل قساوة قلوبهم " مت 19: 1 - 9 ومر 10: 2 - 6 " وهذا هو
النسخ، فإن فر المتكلف من تسميته نسخا، واقترح الخلط في الاصطلاح
بتسميته تخصيصا جاريناه، وقلنا: إن محل كلامنا هذا النحو من التخصيص.
ومن الظرائف المؤنسة أن المتكلف قد نسي موضوع الكلام في هذا المقام
وهو الطلاق فعقبه كالمستنتج بقوله:
وقد أقام المسيح دليلا مقنعا باهرا على أن المولى سبحانه وتعالى خلق لآدم
حواء ولو كان تعدد الزوجات جائزا لخلق له امرأتين ولكن المولى سبحانه وتعالى
هو العليم الحكيم يضع كل شئ في محله ويعرف ما يكون سببا في عمار البيوت
وما يعجل بخرابها غير أن الإنسان زاغ عن شريعة الله لفساده وانحرافه وقسوته
وتكبره وإعجابه بنفسه.
فنقول أولا: ما ربط هذا الكلام بمسألة الطلاق ونسخه، وأي تعلق له
بما قبله من الكلام.
وثانيا: ما ربطه بالاحتجاب المنسوب إلى المسيح فإنه مع ما ذكرنا فيه من
الوهن مسوق لعدم التفريق بين الرجل وامرأته " انظر مت 19: 4 - 7 ".
وثالثا: إن هذا النحو من الاحتجاج يبطل عليهم مشروعية رهبانيتهم
وترك الزواج فيقال لهم لو كانت الرهبانية وترك الزواج جائزا لما خلق الله لآدم
زوجة، ولكن الله هو العليم يعلم ما يكون سببا في تناسل البشر وحفظ النوع
غير أن الإنسان يبتدع ما لم ينزل الله به من سلطان.
ورابعا: إن هذا الاحتجاج من المتكلف إنما تكون له صورة غير قبيحة
إذا قلنا بوجوب تعدد الزوجات عقلا وفي كل شريعة، وأما إذا قلنا بالجواز فلا
يصلح هذا الاحتجاج حتى لمغالطة، إذ نقول: إن الله اختار لآدم أحد

293
الأمرين الجائزين، بل لا بد أن يكون على أحد الأمرين الجائزين على كل
حال.
وخامسا: قد قلنا في هذا الاحتجاج المقنع الباهر: يقتضي أنه لا يجوز
لبس الثياب لأن الله خلق آدم وحواء عريانين وبقيا على ذلك مدة من الزمان،
فلو كان لبس الثياب جائزا لخلق لهما ثيابا من أول الأمر، ولكنه لم يكن من
البدء هكذا.
" فإن قلت ": إن الله قد صنع لهما بعد ذلك أقمصة من جلد.
" قلت ": وقد شرع الله لموسى شريعة الطلاق، وبقيت هذه الشريعة
باعتراف المتكلف نحو ألف وخمسمائة سنة والكل من الله وفي الكل لم يكن من
البدء هكذا.
وأما قوله ولكن المولى هو العليم الحكيم يضع كل شئ في محله إلى آخره
فأمر المتكلف دائر فيه بين أمرين إما أنه لا يبالي بما يقول ولا دراية له لا من
العهد القديم ولا من أهل العلم بأن تعدد الزوجات كان جائزا قبل المسيح في
الشريعة، وعلى جوازه نصت التوراة. سامحناه فيما فعله إبراهيم ويعقوب لزعمه
الفاسد أنه لم تكن قبل موسى شريعة.
ولا نقول له إن جدعون النبي بدلالة تكرر كلام الله معه كما في السادس
والسابع من القضاة قد كانت له نساء كثيرات " قض 8: 30 ".
وكذا داود النبي وسليمان، لأنا قد ألفنا من أدب المتكلف أن يقول إن
هؤلاء فعلوا خلاف الشريعة وأخطأوا وتابوا فعاقبهم المولى. ولكنا نقول له إن
التوراة صريحة في جواز تعدد الزوجات " انظر تث 21: 15 - 18 " فكيف وضع
الله هذه الشريعة؟ أتراه يريد أن يخرب بيوت شعبه وأبنائه بل ابنه البكر " خر 4:
22 و 23 وار 31: 9 ".
وإما أن يكون المتكلف يعرف ذلك من التوراة والعهد القديم ولكنه كما
يظهر من أواخر كلامه هاهنا قد نخسه ما ينقل من عقيدة " ماني كيز " وأصحابه
حيث يقولون إن الذي أعطى موسى التوراة وكلم الأنبياء الإسرائيلية ليس باله
بل شيطان من الشياطين أو الإله الثاني خالق الشر نقله إظهار الحق في الجزء

294
الثاني عن تاريخ " بل " وتفسير " لاردنر "، أو أنه أخذ ذلك مما عن قول " بولس "
فإنه يصير إبطال الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها " عب 7: 18 "،
فإنه لو كان الأول بلا عيب لما وجد موضع لثان " عب 8: 7 ".
أو من القول المنسوب للمسيح الحق، الحق أقول لكم إني أنا باب الخراف
جميع الذين جاءوا قبلي هم سراق ولصوص " يو 10: 7 و 8 "، أو مما نقله " وارد
كاتلك " عن كتاب للوطر " من قوله نحن لا نسلم موسى ولا توراته لأنه عدو
عيسى.
وقوله إنه أستاذ الجلادين انظر إلى الوجه الحادي عشر من الفصل الرابع
من الباب الأول من إظهار الحق، أو قول " سايل " والرسالة المنسوبة " لعبد
المسيح الكندي " إن الله تساهل مع اليهود فأعطاهم أحكاما غير صالحة وفرائض
لا يحيون بها.
ثم من ذا الذي عناه بقوله غير أن الإنسان زاغ عن شريعة الله إلى آخر
كلامه، أتراه يعني موسى النبي في شريعة تعدد الزوجات، أم جدعون وداود،
وسليمان الأنبياء، أم جميع الناس من يعقوب ومن قبله ومن بعده من بني
إسرائيل أو أنبيائهم إلى زمان تحريمه في النصرانية.
وأما ادعاءه خراب البيوت بتعدد الزوجات فباطل بالوجدان لما نرى عليه
المسلمين منذ أربعة عشر قرنا.
بل إذا أعطيت الحكمة حقها من التدبر دلت بأوضح دلالة على أن الله
الرؤوف العليم الحكيم لم يكن ليخلق النساء أكثر من الرجال بأضعاف كما
يشهد به الإحصاء. ثم يشرع في أمرهن شريعة توجب حرمان أكثرهن عن
قضاء الوطر من الشهوة المقلقة التي أودعها الله فيهن ويسبب بشريعته تعطيلهن
عن فائدة التناسل التي جعل فيهن قابليتها مع أنها أشرف الفوائد وأحبها إلى
الإنسان فيبقين بمقتضى الشريعة في نكد عيش العزوبة والترمل حتى يترتب على
ذلك ما يترتب من العواقب الذميمة انظر إلى حوادث البشر ولولا محذور سوء
القالة لأشرنا إلى جملة منها، ولم يكن الله ليعطل الرجال عن بركة التناسل إذا
عقمت نساؤهم أو يئسن من المحيض أو مرضن مرضا مزمنا.

295
32 و.. الحلف
لم تمنع التوراة من الحلف والقسم بل أمرت بعدم نقضه " عد 30: 2 ".
وقد منع الإنجيل منه بالكلية " مت 5: 33 - 38 ".
33 و 34 و... القصاص والسياسة
وقد شرعتها التوراة ونهت عن الاشفاق فيها " خر 21: 23 - 25 ولا 24:
19 و 20 وتث 19: 21 ".
35 و 36 و... الدفاع والمطالبة بالأموال
وشرعت التوراة دفاع السارق ولو بقتله والمطالبة بالأموال وغراماتها
والمحاكمة فيها انظر إلى الثاني والعشرين من الخروج.
ونهى الإنجيل الرائج عن القصاص والسياسة والدفاع والمطالبة بالأموال،
وجعل ذلك من مقاومة الشر بالشر " مت 5: 38 - 42 ولو 6: 29 ".
37 و... الصوم
وقد كثر في العهد القديم ذكره والتقرب والتضرع به إلى الله " قض 20
26 ومر 35: 13 واش 58: 3 - 7 وزك 7: 5، 6 " وغير ذلك، وكذا في
العهد الجديد " مت 4: 2 " وكان تلاميذ المعمدان يكثرون منه. وقد أبطله
نقل الإنجيل عن المسيح وألغاه عن تلاميذه ما دام موجودا فيهم وضرب الأمثال
لعدم مناسبته " انظر مت 9: 14 - 18 ومر 2: 18 - 23 ولو 5: 33 - 39 ".
38 و... الإنجيل والإنجيل بشارة الرسل
في الإنجيل أن المسيح أوصى تلاميذه في أول الأمر حين أرسلهم للتبشير
بقوله إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا بل اذهبوا بالحرى
إلى خراف إسرائيل الضالة " مت 10: 5 و 6 ".
ويؤيد هذا الحكم وظهوره في الدوام ما عن قوله المسيح لم أرسل إلا إلى
خراف بيت إسرائيل الضالة. ثم نسخ هذا الحكم ورفعه بما عن قوله للتلاميذ

296
أيضا فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس
وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به " مت 28: 19 و 20 ".
وقوله أيضا: اذهبوا إلى العالم أجمع واكروزا بالإنجيل للخليفة كلها " مر
16: 15 ".
" تنبيه " جاء في الإنجيل أن المسيح أمضى شريعة موسى على متبعيه وثبتها
وأمر باتباعها بقوله للجموع وتلاميذه، على كرسي موسى جلس الكتبة
والفريسيون فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه " مت 23: 1 - 3 ".
ومقتضى إنجيل " متى " إن هذا الكلام كان في " أورشليم " قبل الفصح
الذي جرت فيه حادثة الصليب بيومين " انظر مت 23 - 26: 2 " فيكون في
أواخر أيام المسيح على الأرض وبناء عليه تكون شريعة التوراة شريعة المسيح
باعتبار هذا الإمضاء والتثبيت والأمر بالاتباع لها، فكل نسخ جاء بعد هذا من
الرسل لشريعة التوراة يرجع في الحقيقة إلى نسخ شريعة موسى والمسيح.
39 و... والتوراة والرسل والختان
وهو شريعة الله لإبراهيم وذريته ومتبعيه وعلامة عهده معهم " تك 17:
9 - 15 ".
وشريعة موسى " لا 12: 3 " وقد جعله شرطا في جواز الأكل من الفصح
" خر 12: 43 - 49 " وقد استمرت هذه الشريعة إلى أن ختن بها المسيح " لو 2:
21 " وبقيت مستمرة ما دام في الأرض وبعد ذلك مدة في زمان الرسل، ثم
نسخه الرسل ورفعوا وجوبه عن المؤمنين من الأمم في ضمن ما رفعوه في المشورة
بينهم " انظر خامس عشر الأعمال "، ثم نسخه " بولس " ورفعه رفعا كليا " انظر
رومية 3: 1 و 30 و 4: 10 - 13 و 1 كو 7: 18 - 20 وغل 6: 15 ".
وقد أطال المتكلف في كلامه في هذا المقام ولم يأت فيه إلا بتناقض أطرافه
وسوء الحياد عن الجواب " انظر يه 4 ج ص 175 و 176 ".
قلنا: أيها الكاتب إن الختان الذي كان واجبا في شريعة إبراهيم وشريعة

297
موسى إلى شطر من أيام الرسل إما أن تقول فيه إن وجوبه مختص بذرية إبراهيم
وإن شريعة التوراة لا تعم غير بني إسرائيل، ونسامحك عما في هذه الدعوى من
مخالفة العهدين، وإما أن تقول بأن شريعته عامة لكل الناس وإنه علامة عهد
الإيمان بين الله وبين المؤمنين.
وعلى كل تقدير فقل هل هو إلى الآن واجب على نحو وجوبه الأول. وإن
الرسل لم يتعرضوا لرفع وجوبه بوجه من الوجوه وغاية ما بينوا أنه لا يخلص
بدون الإيمان، أو تقول إنه الآن ومن زمان مشورة الرسل في شأنه غير واجب
بوجوب شريعته السابقة بل رفع ثقله لأنه كان رمزا إلى المعمودية والمعمودية تشير
إلى الغسل بدم المسيح، وقد انقضى زمان الرمز وجاء زمان الخلاص المرموز
إليه. أجب بأحد الأمرين ثم اعرف أين تقول فلا ناسخ ولا منسوخ.
عبد المسيح الكندي
ومن الظرائف المؤنسة أنه قد ظهرت في القرون المتأخرة رسالة نصرانية
تنسب لعبد المسيح الكندي وأنه كان في زمان بني العباس ومن جملة ما فيها قوله
إن الله جل اسمه لما كان مزمعا أن يدخل بني إسرائيل الذين هم ولد إبراهيم
إلى أرض مصر ولم يزل عالما أن الشره سوف يحملهم على ارتكاب الفواحش التي
حرمها عليهم ونجس أهلها جعل هذا سببا لمن أراد ارتكاب الفاحشة من امرأة
مصرية نظرت إلى هذه العلامة التي في جسده وهي الختان فامتنعت ولم تواته
فوسمهم الله بهذه السمة لهذه العلة.
أقول: وغرضه من هذا الكلام هو أن يعتذر عن تركهم للختان بمجرد
المشورة في رفعه مصانعة للأمم مع أنه عهد الله الذي يحفظ في الأجيال. وعلامة
العهد بينه وبين المؤمنين، والذي لا يختتن يقطع من شعبه لأنه نكث عهد الله
" تك 17: 9 - 15 ".
وشريعة موسى وشرط في عمل الفصح والأكل منه كما أشرنا إليه، ولكن
هذا الرجل لو لم يعتذر لكان خيرا لأدبه مع أنبياء العهدين ولاعتذراه مثل مشهور
في الشعر فإنه حاول أن يتخلص من اللوم بكذبة ينسب فيها أنبياء العهدين إلى

298
غاية الجهل بالحقائق، وأسرار الأحكام من " يوشع " النبي إلى رسل العهد
الجديد ويكون هو أعرف منهم بوجوه الأحكام وحقائق الشريعة، وإذ عرف
المجيب هذه العلة فليقل لماذا جاء في كتب إلهامهم أن الله أمر يوشع أن يختن بني
إسرائيل من ابن أربعين سنة فما دون فحملهم هذا الأذى الشديد وعرضهم
لفتك العدو بهم قبل ما يبرأون من جراحة الختان وقال بختانهم اليوم دحرجت
عنكم عار مصر وهي " غرلة الشرك " هذا كله وقد مضى لهم من خروجهم من
مصر أربعون سنة " انظر يش 5، 2 - 10 " ولماذا لم يتنبه باقي أنبياء بني إسرائيل
إلى هذه العلة في الختان ليرفعوه؟ ولماذا لم يخبرهم الروح القدس بذلك؟ ولماذا لم
يرفعه المسيح لهذه العلة ويحتج بها لرفعه كما احتج للنهي عن الطلاق مع أن
صورة الاحتجاج بها أوجه من صورة حجة الطلاق الواهية كما عرفت.
وأيضا لماذا أمر التلاميذ والجموع بحفظ ما يقوله الكتبة والعمل به لأنهم
جلسوا على كرسي موسى مع أنه يعلم أنهم يشددون في وجوب الختان. ولماذا لم
يرفعه الرسل لأجل هذه العلة بل أبقوا شريعته بعد المسيح مدة تزيد على خمسة
عشر سنة، ولماذا لما أرادوا دفعه عن الأمم مصانعة بالتخفيف عنهم لم يحتجوا
لرفعه بهذه العلة بل تشبثوا لرفعه بمجرد استحسانهم للتخفيف عن الأمم ورفع
الثقل عنهم " انظر خامس الأعمال بتمامه ".
وأيضا صرح العهد الجديد عن قوله " بولس " إن إبراهيم أخذ علامة الختان
ختما لبر الإيمان الذي كان في العزلة " رو 4: 11 " ولم يعلله بولس بما ذكره هذا
الرجل تمويها من دون تدبر.
وأيضا لماذا لم يحتج بولس بهذه العلة مع أنه لهج في كتبه برفعه وتقلب في
وجوه الاحتجاج لذلك.
هذا وإني أحاشي الحواريين من التعرض لرفع الختان وإنما هو ممن حاول
أن يستجلب الأمم إلى رئاسته ولو بهدم الشريعة، وإنما نسبته لهم جدلا لمن
ينسبه لهم، ويتضح مما ذكرنا أن هذا الرجل يدعي معرفته بشئ جهله الأنبياء
والمسيح ورسل العهد الجديد، وإذا اتضح ما ذكرنا فإني أرجو رجاء ناصح من
عموم النصارى وخصوص المقلدين لأكابرهم أن لا يقبلوا قول أكابرهم حتى

299
يفصحوا عنه ولا أقل من مطابقته مع العهدين التي هي كتب إلهام عندهم،
فإني على يقين بأن العهدين على ما فيهما مباينان لأكثر أقوال الأكابر مبطلان
حججهم ودعاويهم، ولا يخفى على عاقل أن الله جل شأنه لا يقبل من العباد
عذرهم عن ضلالهم بقولهم: أطعنا ساداتنا وكبرائنا واعتمدنا على أقوالهم في
الدين والإيمان، كيف وقد اتضح بفضل الله مصادمة أقوال الأكابر لكتب
العهدين التي هي دستور ديانتهم كما عرفته وتعرفه إن شاء الله من متفرقات هذا
الكتاب.
فإن تقدم الناس في الطبيعيات والرياضيات والصنائع ليبشرهم بالتقدم في
معرفة حقائق الدين وأصول معارفه إذا نظروا وبحثوا في جميع مقدماتها ولم
يعتمدوا على قول فلان وفلان، والمجمع الفلاني، والمصلح الفلاني، قال الله
تعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ".
فليعتبر ذو الرشد بأقوال المتكلف في كتابه وأنه كيف كان يراها قبل أن
يطلع على هذا الكتاب الذي خدمنا به الحق وطالبيه، أفلم يكن يراها ببادئ
نظرة واضحة الصواب قوية الحجة سديدة الشواهد، وأني أسأله بفضيلة الصدق
كيف يراها بعد ما اطلع على كتابنا مع أني لم أستقص ذكر ما فيها؟ أفلم يحصل
له الشك في صوابها أقلا.
اللهم أنعم على عبادك بهداك وخذ بأيديهم بتوفيقك إلى الصراط المستقيم
إنك أرحم الراحمين.
40 و... الحيوانات النجسة والمحرم أكلها
لا يخفى أن التوراة قد حرمت لحوم كثير من الحيوانات وصرحت بنجاستها
ونجاسة حيواناتها " انظر إلى الحادي عشر من اللاويين والرابع عشر من التثنية
وقد سبق شئ من ذلك في شريعة نوح بمقتضى نقل التوراة إجمالا " تك 8:
20 ".
وقد أبيحت هذه المحرمات وحكم بطهارتها في العهد الجديد بما عن
بطرس " ا ع 10: 11 - 17 " واتفاق الرسل " ا ع 15: 28 و 29 " وعن " بولس "

300
" رو 14: 14 و 20 وتي 1: 15 واتي 4: 4 ".
وقد أورد المتكلف في مكابرته لإظهار الحق ها هنا كلاما طويلا لم يفز فيه
حتى بحسن الأدب " انظر يه 4 ج ص 171 - 173 ".
وأن لسان الحال من إظهار الحق ليقول له أيها الكاتب المنصف البصير إني
أقول إن الحيوانات التي نجستها التوراة وحرمت لحمها قد طهرها العهد الجديد
حكاية عن رسله وأباح أكل لحمها فنسخ حكم التوراة وبدله يحكم مخالف له،
وأنت تقول إن العهد الجديد صادر عن وحي الله إلى الرسل، وإن أحكامه
أحكام الله، وكذا التوراة فلا محيص لك عن القول بالنسخ في الأحكام الإلهية
وليس من جوابي أن تقول تعصب أعمى. موسوسين. جوهر الدين سلام.
فرح. محبة. خرافات. ضلال. بل الجواب إما أن تقول بأن التنجيس وتحريم
الأكل اللذين في شريعة التوراة هما حكم الله لمصلحة أو لا لمصلحة ثم رفعه الله
في العهد الجديد وبدله على لسان رسله بالإباحة والطهارة لأجل طهارة المؤمنين
بالمسيح وبرهم وخلاصهم ببركة سر الفداء وذبيحة الفادي الكريم وتعليقه على
الخشبة أو ما تشتهي من الأسباب، ونسمح لك بأن لا تسمي هذا نسخا بل
سمه بما تشتهي إذا كان المعنى محفوظا، وإما أن تقول بمحضر أصحابك المنصفين
لا بمحضر غيرهم من المتعصبين إن الحيوانات التي نجستها التوراة وحرمت أكل
لحمها لم يبدل حكمها في العهد الجديد بالطهارة والإباحة ولا يدل كلام الرسل
ولا كلام " بولس " على شئ من ذلك بل إن حكمها المذكور في التوراة باق على
حاله لم يرفع ولم يبدل، فإن ردوا عليك وقالوا لك إذا فمن أين جاءت الإباحة
العامة والطهارة العامة في الديانة النصرانية الرائجة بين جميع النصارى في
أجيالهم، فتنبه من غفلتك وأعد النظر في كل ما قلته في كتابك وأنب إلى الحق
وإن اتفقوا على تصديقك فقل فيما بينهم متحمسا بملء فمك متناسيا لما قدمناه من
أمثلة النسخ.
كما كتبته في كتابك " 4 ج ص 156 و 157 " أن الديانة الصحيحة منزهة
عن وصمة النسخ، وأن الله العالم بالظاهر والباطن وأميال الناس وأحوالهم أنزل
كتابه المقدس منزها عن الناسخ والمنسوخ، ثم اضرب ما تشتهي من الأمثال

301
والهج في مجلسك بقولك، وعلى كل حال فلا ناسخ ولا منسوخ.
نعم: لا تقل ذلك بمحضر المتعصبين المطلعين على العهد الجديد الذين
يعطون الكلام حقه في أخذ معانيه على النهج العقلائي في المحاورات خصوصا
الكلام المنسوب إلى الإلهام، ولا يجعلون صريحه رموزا جزافية على مقتضى
شهواتهم فإنهم يحضرون لك من العهد الجديد نسخا عديدة من تراجمكم
ومطابعكم ويرونك ويقرأونك ما في حادي عشر الأعمال عن وحي " بطرس " 5
أنا كنت في مدينة يافا أصلي فرأيت في غيبة رؤيا إناء نازلا مثل ملاءة عظيمة
مدلاة بأربعة أطراف من السماء فأتى إلي 6 فتفرست فيه متأملا فرأيت دواب
الأرض والوحوش والزحافات وطيور السماء 7 وسمعت صوتا قائلا لي قم يا
بطرس اذبح وكل 8 فقلت كلا يا رب لأنه لم يدخل في فمي قط دنس أو نجس
9 فأجابني صوت ثانيا من السماء ما طهره الله لا تنجسه أنت 10 وكان هذا على
ثلاث مرات. وفي خامس عشر الأعمال عن حكم الرسل وكتابتهم بعد
الاجتماع والمشورة 28 لأنه قد رأى الروح القدس ونحن أن لا نضع عليكم ثقلا
أكثر غير هذه الأشياء الواجبة 29 أن تمتنعوا عما ذبح للأصنام وعن الدم
والمخنوق والزنى.
وعن " بولس " في رابع عشر رومية 14 أني عالم ومتيقن في الرب يسوع أن
ليس شئ نسجا لذاته إلا من يحسب شيئا نجسا فله هو نجس 20 كل الأشياء
طاهرة.
وفي رابع " تيموثاوس " الأولى 4 لأن كل خليقة الله جيدة ولا يرفض شئ
إذا أخذ مع الشكر 5 لأنه يقدس بكلمة الله والصلاة.
وفي أول " تيطس " 14 لا يصغون إلى خرافات يهودية ووصايا أناس
مرتدين عن الحق 15 كل شئ طاهر للطاهرين، وأما للنجسين وغير المؤمنين
فليس شئ طاهرا بل قد تنجس ذهنهم أيضا وضميرهم، أفنقول بعد هذا
وعلى كل حال فلا ناسخ ولا منسوخ؟
إلا أن ينقدح في ضميرك شئ من هذا المنقول عن الرسل لأجل تعاضد

302
ظهوره في التنديد بالشريعة السابقة وتبكيتها على حكمها بالتحريم والتنجيس كما
يعطيه قولهم ما طهره الله فلا تنجسه أنت، ليس شئ نجسا بذاته كل الأشياء
طاهرة كل خليقة الله جيدة لا يصغون إلى خرافات يهودية إلى آخره.
وفي ثاني " كولوسي " 20 إذا إن كنتم قد متم مع المسيح عن أركان العالم
فلماذا كأنك عائشون في العالم تفرض عليك فرائض 21 لا تمس لا تذق، ولا
تجس 22 التي هي جميعها للفناء في الاستعمال حسب وصايا وتعليم الناس؟
وسيأتي إن شاء الله ما يشبه هذا.
41 و 42 و... الذبائح وأحكام الكهنة
ذكرت التوراة أحكاما كثيرة في الذبائح والمحرقات وأحكام الكهنة هارون
وبنيه في أجيالهم " انظر إلى الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من سفر الخروج
وإلى سفر اللاويين بتمامه " وقد رفعت هذه الأحكام كلها وبدلت بمقتضى
المكتوب في العهد الجديد عن الرسل انظر أقلا من السابع إلى نهاية العاشر من
رسالة العبرانيين.
ولقد شذ الكلام ها هنا بالمتكلف " انظر يه 4 ج ص 177 - 181 " وكان
الذي عليه أن يجيب بإحدى كلمتين، إما أن يقول إن الأحكام المشار إليها لم
ترفع بل هي باقية في شريعة الحق على ما كانت عليه إلى الآن، وإما أن يقول
إنها رفعت من زمان الرسل كما يقول العهد الجديد لأجل حصول الغاية التي
كانت تلك الأحكام ترمز وتشير إليها، ودعه يقول بعد هذا فلا ناسخ ولا
منسوخ في كتب الله.
43 و... السبت والأحد والسابع والأول
لا يخفى أن يوم الأحد هو اليوم الأول من الأسبوع كما يشهد به اسمه
وانظر " مت 28: 1 ومر 16: 2 و 9 ولو 24: 1 ويو 20: 1 و 19 ". ويوم
السبت هو اليوم السابع من الأسبوع وهو الذي استمر من لم يرتد إلى الوثنية من
بني إسرائيل على تعظيمه وتقديسه والاستراحة فيه حسب الوصية من عهد موسى
إلى الوقت الحاضر، وكذا المؤمنون بالمسيح وخواصه إلى حادثة الصليب " انظر

303
لو 23: 56 " ولم يذكر أن المسيح أبطله، وإنما عارضه اليهود إذ شفي فيه
المرضى فجعلوا ذلك منه نقضا للسبت، وقد أخطأوا ولم يتدبروا أن مثل هذا لا
يعد من الأعمال المحرمة في السبت ولا يكون نقضا له، ولذا احتج عليهم
المسيح بذلك " أنظر مت 12: 3 و 11 و 12 ولو 13: 15 و 16 ".
نعم: نقض النصارى حكمه المؤكد في مواضع كثيرة من التوراة وصرح
بنسخ حكمه ورفعه ما عن " بولس " في ثاني " كولوسي " 16 فلا يحكم عليكم
أحد في أكل ولا شرب أو من جهة عيد أو هلال أو سبت.
وفي رابع غلاطية في صرف أنظار الغلاطيين عن الناموس بعد أن ذكر في
الثالث ما ذكر قال 9 وأما الآن إذ عرفتم الله بل بالحري عرفتم من الله فكيف
ترجعون أيضا إلى الأركان الضعيفة الفقيرة التي تريدون أن تستعبدوا لها من
جديد 10 أتحفظون أياما وشهورا وأوقاتا وسنين 11 أخاف عليكم أن أكون قد
تعبت فيكم عبثا.
وقد أطال المتكلف هاهنا " انظر يه 4 ج ص 173 - 175 " وحاصل ما
عنده إن الله يطلب من الإنسان سبع وقته، وإن معنى السبت الراحة وهو ينطبق
على أول الأسبوع كما ينطبق على سابعه وقد تخصص يوم السبت بيوم قيامة
المسيح وهو يوم الأحد ومعنى الوصية السابقة في التوراة هو أن نحفظ سبع وقتنا
فلم يقل " يعني الله جل اسمه " أذكر اليوم السابع لتقدسه، وكذا لم يقل الكتاب
إن الرب بارك اليوم السابع بل قال إن الرب بارك يوم السبت وقدسه " انظر ص
174 س 3 و 4 ".
أقول: " أولا " بعد الإغماض " عما هو معلوم نسأل المتكلف أن السبت الذي
في شريعة التوراة هل كان معينا باليوم السابع أو مخيرا فيه بين أسباع الأسبوع
وأيامه أو مخيرا فيه بين اليوم الأول والسابع، فإن كان معنيا باليوم السابع كان
تبديله بيوم آخر وهو الأول نسخا إن كان التبديل عن وحي وإلا كان ضلالا،
وإن كان مخيرا فيه بين أسباع الأسبوع كان أيضا تعيينه بيوم الأحد نسخا لحكم
التخيير أو ضلالا، وكذا إن كان مخيرا فيه بين الأول والسابع.
" وثانيا " إن النظر في التوراة الرائجة يكشف عن أن المتكلف لم ينظر إليها

304
أو لم يفهم ما فيها أو أنه قد أقدم على التمويه اقتحاما وغرورا من دون نظر إلى
العواقب.
فإن نص التوراة في ثاني التكوين 1 فأكملت السماوات والأرض وكل
جندها 2 وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل فاستراح في اليوم
السابع من جميع عمله الذي عمل 3 وبارك الله اليوم السابع وقدسه لأنه فيه
استراح من جميع عمله الذي عمل الله خالقا.
أنظر الأصل العبراني والتراجم وفكر في نفسك واطلب من الله هداك
ونجاة نفسك التي هي أعز الأنفس عليك، ولا تقل إذا كيف يقول المتكلف " لم
يقل الكتاب إن الرب بارك اليوم السابع " ولا تقل كيف يكون هذا وقد طبع
كتاب المتكلف بمعرفة المرسلين الأمريكان، ولا تقل " شنشنة أعرفها من أخزم "
فإن هؤلاء لهم وظائف يخدمونها، وقد درت أرزاق الجمعيات وتوفرت الأموال،
وأمنوا وبال العواقب، وزيادة على هذا قد باعوا هذا الكتاب بالذهب فعليك
بنفسك.
وفي العشرين من الخروج 8 أذكر يوم السبت لتقدسه 9 ستة أيام تعمل
وتصنع جميع عملك 10.
وأما اليوم السابع ففيه سبت عطلة للرب إلهك لا تصنع عملا ما أنت
وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك 11 لأن في
ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها واستراح في اليوم
السابع لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه، ونحوه في الحادي والثلاثين من
الخروج أيضا " 12 - 18 ".
ولا يخفى على الفاهم والغبي إذا نظر إلى مجموع ما ذكرناه هاهنا عن ثاني
التكوين والعشرين من الخروج أن يوم السبت إلي أوصت التوراة بتقديسه
والاستراحة فيه إنما هو اليوم السابع الذي ذكرت التوراة نفسها في شأنه في ثاني
التكوين أن الله بارك اليوم السابع وقدسه لأنه استراح فيه من عمله. ثم ذكرت
في العشرين من الخروج لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل

305
ما فيها واستراح في اليوم السابع، لذلك بارك الرب يوم السبت " أي يوم
الراحة " وهو السابع كما يفهمه من هذا الكلام كل أحد.
44 و... الناموس والعهد الجديد
لا كلام للنصارى في أن الله أنزل على موسى شريعة مدونة في كتاب اسمه
التوراة واتفقوا على أن ذلك الكتاب هو أسفار التوراة الخمسة الموجودة بأيدي
الناس بلا زيادة ولا نقصان، وفيها أن الله يكلم موسى بالشريعة وجها لوجه كما
يكلم الرجل صاحبه " خر 33: 11 " وفما إلى فم وعيانا لا بالألغاز " عد 12: 8 "
وفيها عن قول الله فتحفظون فرائضي وأحكامي التي إذا فعلها الإنسان يحيى بها
" لا 18: 5 ".
وعن قول موسى الإلهامي وأي شعب هو عظيم له فرائض وأحكام عادلة
مثل كل هذه الشريعة التي أنا واضع أمامكم اليوم " تث 4: 8 ".
وفي المزمور التاسع عشر 7 ناموس الرب كامل.
وفي المزمور المائة والتاسع عشر 93 إلى الدهر لا أنسى وصاياك لأنك بها
أحييتني 142 وشريعتك حق و 151 قريب أنت يا رب وكل وصاياك حق 128)
وفي كل شئ مستقيمة.
وفي العشرين من حزقيال 11 وأعطيتهم فرائضي وعرفتهم أحكامي التي
إن عملها الإنسان يحيى بها.
وانظر إلى عدد 13 و 21 وفي تاسع نحميا 13 وأعطيتهم أحكامها مستقيمة
وشرائع صادقة فرائض ووصايا صالحة، وفي ثاني ملاخي 4 فتعلمون أني
أرسلت إليكم هذه الوصية لكون عهدي مع " لاوي " قال رب الجنود 5 كان
عهدي معه للسلام والحياة وأعطيته إياهما للتقوى فاتقاني ومن اسمي ارتاع هو
شريعة الحق كانت في فيه.
وفي خامس " متى " عن قول المسيح 17 لا تظنوا أني جئت لأنقض
الناموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمل - 19، فمن نقض إحدى هذه

306
الوصايا الصغرى وعلم الناس، هكذا يدعى أصغر في ملكوت السماوات.
وفي الثالث والعشرين أيضا 1 حينئذ خاطب الجموع وتلاميذه 2 قائلا على
كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون 3 فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه
وافعلوه.
وقد سمعت عن الرسل أقوالهم في نسخ أحكام التوراة نسخا يقارب
ملاشاتها، وقد جاءت المجاهرة بملاشاتها فيما عن " بولس " في عاشر العبرانيين 9
ينزع الأول ليثبت الثاني.
وفي ثالث " غلاطية " 13 المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة
لأجلنا 23 ولكن قبل ما جاء الإيمان كنا محروسين تحت الناموس مغلقا علينا إلى
الإيمان العتيد أن يعلن 24 إذ قد كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح لكي نتبرر
بالإيمان 25 ولكن بعد ما جاء الإيمان لسنا بعد تحت مؤدب، وهذا كلام ليس
فيه خدشة بشرف التوراة بل غاية ما فيه أنه ادعى وجها لملاشاة أحكامها
والاطلاق المريح من القيود الباهظة للأميال والشهوات، ولكن قد تقدم قريبا
عن رابع " غلاطية " 8 - 11 ما يشير إلى التوراة ويبين أنها أركان ضعيفة فقيرة.
وتقدم قبله عن ثاني " كولوسي " 21 و 22 ما مضمونه أن الحكم بنجاسة
بعض الأشياء وحرمة أكلها إنما هو من وصايا الناس وتعليمهم ومن الفرائض
التي جميعها للفناء.
وتقدم قبل هذا أيضا عن أول " تيطس " 14 ما مضمونه أن الحكم بنجاسة
بعض الأشياء هو من الخرافات اليهودية ووصايا المرتدين عن الحق.
وفي سابع العبرانيين 18 فإنه يصير إبطال الوصية السابعة من أجل ضعفها
وعدم نفعها 19 إذ الناموس لم يكمل شيئا.
وفي ثامن العبرانيين أيضا 7 فإنه لو كان الأول بلا عيب لما طلب موضع
لثان 13 فإذا قال جديدا فقد عتق الأول، وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من
الاضمحلال، وفي هذا المقدار كفاية وإن كان في الرسائل المنسوبة إلى " بولس "
في العهد الجديد أضعاف ذلك، على أنه مناقض لما عن قول " بولس " نفسه في

307
ثالث " تيموثاوس " الثانية 16 كل الكتاب موحى به من الله ونافع للتعليم
والتوبيخ للتقويم والتأديب الذي في البر 17 ليكون إنسان الله كاملا متأهبا لكل
عمل صالح.
" تنبيه " إن ما ذكرناه عن " بولس " في " رومية " و " غلاطية " إنما كان خطابا
لليهود المؤمنين بالمسيح لينصرفوا عن العمل بالناموس، هذا وقد فر المتكلف
هاهنا كعادته إلى سر الفداء " انظر يه 4 ج ص 183 و 184 " وكأنه لا يدري أنه
لا ينفعه الفرار إذ لا بد من أن يقال له إن أحكام الناموس هل كانت باقية على
" بولس " واتباعه أم ارتفعت ولو لأجل سر الفداء ولا بد أن يقول بالثاني وهو
النسخ فإن ما عن " بولس " يصرح بأن المسيح نقض العداوة مبطلا بجسده
ناموس الوصايا في فرائض " أف 2: 5 " لأنه إن تغير الكهنوت فبالضرورة يصير
تغير للناموس " عب 7: 12 ".
45 و 46 و 47 و... الرسل وبولس وما ذبح للأوثان والمخنوق والدم
قد تقدم عن خامس عشر الأعمال عن الرسل أنهم بعد ما رفعوا قيود
التوراة وثقلها ونسخوها بمشورتهم أبقوا منها أربعة أشياء أوجبوا الامتناع عنها
وهي ما ذبح للأوثان، والدم والمخنوق والزنى " ا ع 15: 28 و 29 " وقد رفع ما
عن " بولس " وجوب الامتناع عن ثلاثة منها بعموم قوله كل شئ طاهر
للطاهرين، وكل خليقة الله جيدة ولا يرفض شئ منها إذا أخذ مع الشكر وغير
ذلك مما تقدم ولكنه اضطرب كلامه في خصوص ما ذبح للأوثان، فتارة رجح
الامتناع عنه من أجل ضمير الأخ الضعيف " 1 كو 8: 1 - 13 ".
وتارة منع منه بقوله: " إنما يذبحونه للشيطان فلست أريد أن تكونوا أنتم
شركاء الشياطين لا تقدرون أن تشتركوا في مائدة الرب، ومائدة شياطين أم نغير
الرب ألعلنا أقوى منه " كو 10: 20 - 23 " ثم قال بعد ذلك لماذا يحكم في
حريتي من ضمير آخر فإن كنت أنا أتناول بشكر فلماذا يفترى علي لأجل ما
اشكر عليه " 1 كو 10: 29 و 30 ".

308
" تنبيه " اعلم أن الاصطلاح الأغلب أو الغالب هو النسخ رفع الله
للحكم الشرعي بعد وقت العمل به وقد ذكرنا في الجدل أمثلة ما وقع منه في
العهدين وهي وإن عددناها سبعة وأربعين مثالا على سبيل الإجمالي لكنها تنحل
إلى ألوف من الأمثلة وبقيت هاهنا أمثلة من العهدين منها ما لا تدل الواقعة
المذكورة على أن رفع الحكم فيها كان قبل وقت العمل.
وصاحب " إظهار الحق " جعل هذين القسمين من النسخ ولا مخالفة بينه
وبين الاصطلاح الأغلب إلا في أمر اصطلاحي يرجع إلى مجرد التسمية، وعلى كل
حال فما سنذكره من الأمثلة المقدمة في توهم المنع والمكابرة بدعوى الجهة المانعة
بل هي أولى بالامتناع بحسب مزاعم المتكلف لأن رفع الحكم فيها لم يمض له
زمان كثير من حين تشريعه، ومنه ما لا يبلغ الساعة والساعتين والمتكلف
يتضجر ويشدد النكير على رفع الحكم قبل أن تمضي لتشريعه مدة طويلة " انظر
يه 4 ج ص 184 س 10 - 14 "، بل إن سوق كلامه المشار إليه وما قبله يعطي
أنه يجوز رفع الحكم بل ملاشاة الشريعة السابقة بعد ألف وخمسمائة سنة، ولا
يجوز بعد شهر أو يوم، فهذه الأمثلة حجة عليه وعلى المتعرب في كلامه " ذ "
" ص 46 س 14 - ص 47 س 2 " ولكنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية،
وهاك ما نذكره من الأمثلة.
1 - نوح والحيوانات
جاء في سادس التكوين عن قول الله لنوح 18 ولكن أقيم عهدي معك
فتدخل الفلك أنت وبنوك وامرأتك ونساء بنيك معك 19 ومن كل حي كل ذي
جسد اثنين من كل تدخل الفلك لاستبقائها معك تكون ذكرا وأنثى 20 من
الطيور كأجناسها، ومن البهائم كأجناسها، ومن كل دبابات الأرض كأجناسها
اثنين من كل تدخل إليك لاستبقائها.
وفي سابع التكوين أيضا 1 وقال الرب لنوح ادخل أنت و جميع بيتك إلى
الفلك لأني إياك رأيت بارا في هذا الجيل 2 من جميع البهائم الطاهرة معك سبعة
سبعة ذكرا وأنثى ومن البهائم التي ليست بطاهرة اثنين ذكرا وأنثى 3 ومن طيور
السماء أيضا سبعة سبعة ذكرا وأنثى لاستبقاء نسل على وجه كل الأرض، فقد تبدل

309
في شريعة الله لنوح حكم البهائم الطاهرة وطيور السماء ورفع حكمها الأول وهو
إدخال اثنين منها وبدل بحكمها الثاني وهو إدخال سبعة سبعة.
وفي سابع التكوين أيضا 13 في ذلك اليوم الذي عينه دخل " نوح "
و " سام " و " حام " و " يافث " بنو نوح وثلاث نساء بنيه معهم إلى الفلك 14 هم
وكل الوحوش كأجناسها، وكل البهائم كأجناسها، وكل الدبابات التي تدب
على الأرض كأجناسها، وكل الطيور كأجناسها، كل عصفور كل ذي جناح
15 ودخلت إلى نوح اثنين اثنين من كل جسد فيه روح حياة 16 والداخلات
دخلت ذكرا وأنثى من كل ذي جسد كما أمره الله. وهذا الخبر يوافق الحكم
الأول ويخالف الحكم الثاني فهل هو كاشف عن حكم ثالث رافع للثاني أو
كاشف عن أن الأول هو الحكم الثاني والثاني هو المنسوخ أو...
وقد حاول المتكلف أن يفر من هذا الاختلاف إلى غير النسخ فقال " يه 1
ج ص 186 و 4 ج ص 192 " إن الأمر الأول كان على وجه الاجمال بأن قال له
خذ لك زوجين من كل البهائم والطيور ولم يبين إذا كانت طاهرة أو غير طاهرة
ثم أوضح بعد ذلك بسطرين بأن يأخذ من الطاهرة سبعة لاستبقائها ولتقديم
الذبائح منها فهو تفصيل بعد إجمال وتقييد بعد إطلاق ولك أن تجعله من الجمع
ثم التقسيم وهو جمع متعدد تحت حكم ثم تقسيمه أو الجمع مع التفريق
والتقسيم.
أقول: لا يخفى أن التفصيل بعد الاجمال أو التقسيم بعد الجمع أو الجمع
مع التفريق والتقسيم إنما هو أن يأتي الكلام مجملا مبهما في بعض مضامينه من
حيث المقدار أو النوع أو الكيفية ونحو ذلك فيأتي الكلام الثاني مبينا ومفصلا
لإبهام الأول من دون مضادة لمضمونه كما يقول القائل أرسل العسكر مع إبهام
الكيفية ثم يفصلها ويقسمهم بقوله أرسل أمراءهم ركبانا وسائرهم مشاة، أو
يقول ادخل إلى الفلك من كل الحيوانات فيبهم المقدار ثم يفصله ويبينه بقوله
ثانيا.
ادخل من الطاهر والطيور بأجناسها من كل سبعة ومن غيرهما من كل
اثنين، وأما إذا قال من كل جنس اثنين فقد بين العدد ولم يبهمه، فإذا قال بعد

310
ذلك ادخل من الطاهر والطير سبعة سبعة ومن غيرهما اثنين اثنين فلا يكون ذلك
من الإجمال والتفصيل أو الجمع والتقسيم، كما لا يخفى على من يفهم معاني
هذه الألفاظ، وذلك لأجل المضادة في الكلام الثاني مع الأول من حيث العدد
وتوضيح المقام هو أن وجوه التوفيق المدعاة بين الكلامين هاهنا هي ثلاثة:
الأول: التفصيل والتقييد بعد الاجمال والاطلاق وقل التقسيم بعد الجمع أو
الجمع مع التقسيم والتفريق، ولكن هذا النحو ها هنا موقوف على كون الكلام
الأول مجملا مبهما مطلقا من حيث العدد وذلك بأن نجعل قوله اثنين منسلخا
عن معنى العدد بل هو بمعنى ذكر وأنثى وإن كانت ألفا فيأتي قوله سبعة واثنين
بيانا وتقسيما لما أبهم من عدد الطيور والبهائم الطاهرة وغيرها وقل حينئذ إنه
تفصيل بعد الإجمال إلى آخره، ولكن هذا الوجه باطل لأمور أما " أولا " فلأنه لم
يسمع في كلام العقلاء استعمال لفظ اثنين منسلخا عن معنى العدد فهل سمعت
عاقلا يقول أكلت من الطيور اثنين وهو لا يريد العدد بل يرد ذكرا وأنثى وإن
كانت عشرة، وأما " ثانيا " فلأنه قد صرح وبين الاثنين ذكرا وأنثى وكانت ذكرا
وأنثى، وأما " ثالثا " فلأن كل فاهم لما يسمع ويقرأ ليفهم أن المتكرر خمس
مرات من قوله ذكرا وأنثى إنما هو بيان لإجمال المعدود بالعدد المبين في الكلامين
على حد سواء.
" الوجه الثاني ": العموم والخصوص بأن يكون قوله في الأمر الأول من كل
ذي جسد اثنين، وكذا قوله اثنين من كل تدخل إليك عاما للطير والطاهر وغيره
فخصصه الكلام الثاني ببيان أن الطاهرة والطير يدخل منها سبعة وهذا خطأ
منشأه الخبط والخلط بين التخصيص والنسخ فإن التخصيص إنما هو إخراج
بعض أفراد العام عن الحكم قبل وقت العمل به، أما رفع الحكم عن جميعها
فهو النسخ ولا يمكن البناء هاهنا على التخصيص في حكم الطيور لأنه حكم في
الأمر الأول بأن يدخل من الطيور بأجناسها اثنين من كل جنس وحكم في الأمر
الثاني على الطيور بأجناسها بأن يدخل منها سبعة سبعة فلا يكون حكم الطيور في
الأمر الثاني تخصيصا لحكمها في الأمر الأول أو بالعكس وذلك لأجل تساوي
الموضوعين في الكلام، فليس أحدهما أعم والثاني أخص كما هو شرط العموم

311
والخصوص وما هو إلا النسخ رضي المتكلف أو أبى.
" الوجه الثالث ": النسخ ولا أقل من لزومه في حكم الطيور، وهو كاف في
المطلوب.
ثم نقول مداعبة للمتكلف " أفق " فإن الأمر الأول والأمر الثاني في الداخل
إلى الفلك كانا في زمان نوح قبل الطوفان فكان عليك أن تبين الزمان الفاصل
بين مجملهما ومفصلهما كما تزعم هل كان يوما أو سنة أو عشرا، ولم يكن صدور
الأمرين بكتابة التوراة ليكون ورود التفصيل بعد الاجمال بسطرين.
ولقد أطلنا الكلام حرصا على إيضاح الحقائق والتنبيه على مواقع الخبط لا
على المثال فإن فيما ذكرنا كفاية.
2 - امتحان الله لإبراهيم
في الثاني والعشرين من التكوين 1 وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن
إبراهيم فقال له: يا إبراهيم فقال ها أنا ذا 2 فقال خذ ابنك وحيدك الذي تحبه
إسحاق واذهب إلى أرض المرايا واصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول
لك، ومعنى المحرقة أن يذبحه ويحرقه قربانا لله كما يدل عليه باقي الكلام إلى
أن قال 9 فلما أتيا الموضع الذي قال له الله بنى هناك إبراهيم المذبح ورتب
الحطب وربط إسحاق ابنه ووضعه على المذبح فوق الحطب 10 ثم مد إبراهيم
يده وأخذ السكين ليذبح ابنه 11 فناداه ملاك الرب من السماء وقال إبراهيم
إبراهيم فقال ها أنا ذا 12 فقال لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئا فرفع ما
تقدم من الأمر بالذبح والاحراق بإصعاد إسحاق محرقة. وقد صرح إظهار الحق
بأن هذا المثال من النسخ قبل العمل الكاشف عن كون الأمر الأول امتحانيا.
ومن الظرائف ان المتكلف توهم ان مراد إظهار الحق كون النسخ هاهنا في
ذات نقل التوراة لقصة إبراهيم هذه فأخذ ينكر عليه بعد فضول من الكلام " يه
4 ج ص 185 و 186 " ويعترض عليه بقوله في أوائل بحث النسخ بأن النسخ لا
يطرأ على القصص.
أقول: وإن لسان الحال من إظهار الحق ليقول للمتكلف يا أيها الرجل

312
الذي لم يسمح لنفسه ببقاء صفة جميلة لها إني أقول كما قلت في أول مبحث
النسخ إن النسخ لا يطرأ على القصص، وكل من يميز الكلام يعرف أن مرادي
هو أن القصة من حيث أنها قصة وحكاية لا تكون ناسخة ولا منسوخة، لأن
النسخ إنما هو في الأحكام الإلهية، وأني لم أقل إن ذات قصة التوراة ناسخة أو
منسوخة بل قلت ما لا يخفى حتى على الأغبياء.
إن قصة التوراة نقلت إن الله أمر إبراهيم بذبح ابنه محرقة ثم رفع هذا
الحكم وبدله ونسخه قبل العمل، فقل أيجوز رفع الحكم الأول وتبديله لكونه
محدودا بمصلحة الامتحان لكي نقول لك إذا فكل حكم محدود بمصلحته فإذا
انتهى حده يبدله الله ويجعل مكانه ما تقتضيه المصلحة الأخرى وهذا هو النسخ
أم تقول إنه لا يجوز رفع الحكم الأول وإن كان محدودا بمصلحة الامتحان
والتوراة كاذبة أو غالطة في نقلها لذلك، فإنه لو كان الأول بلا عيب لما طلب
موضع لثان " عب 8: 7 ".
وأعلم أن خبيث القول وبذي اللسان لينقصان من فضيلة الصواب
وحسن الفطنة، فكيف بهما إذا تعقبا شطط الباطل وخبط الجهل، وكم وكم
أوصى العهد الجديد بالسلام والوداعة، والطهارة، احشفا وسوء كيله، كبر
مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون.
3 - عمر اللاوي الموظف للمسكن
ذكرت التوراة العبرانية في رابع العدد " 3 - 47 " في سبعة موارد حكم الله
بأن اللاوي الموظف لخدمة المسكن يكون من ابن ثلاثين سنة إلى خمسين وذكرت
أيضا في ثامن العدد " 24 و 25 " حكم الله بأن الموظف المذكور يكون من ابن
خمس وعشرين سنة إلى خمسين، فأحد الحكمين تبدل إلى الآخر لا محالة، فإن
كان بعد العمل بالأول فهو النسخ بالاصطلاح الغالب. وإن كان قبل العمل
فهو نسخ أيضا باصطلاح إظهار الحق وجماعة. وعلى كل حال فإن الجهات التي
يتشبثون بها لامتناع النسخ جارية في هذا سواء سميناه نسخا أو لم نسمه.
قال المتكلف " يه 4 ج 191 و 192 " كان اللاوين في عصر موسى

313
يخدمون من سن " 25 " في الخدم الخفيفة أما وفت مهمات نقل خيمة الاجتماع
الثقيلة في أثناء ارتحالهم فكان يلزم الحال إلى رجال أقوى فاختلاف العبارات
لاختلاف الاعتبارات، ومما يؤيد ذلك أنه بعد أن بني الهيكل خف العمل وقبل
في خدمة الرب من كان عمره نحو 20 سنة فقط، فربنا وضع كل شئ في محله
فعين الأعمال الشاقة للأشداء الذين في عنفوان شبابهم، والأعمال الخفيفة
لغيرهم فلا ناسخ ولا منسوخ.
قلنا: إن من يلتزم بأن كتابة التوراة مرتبة على ترتيب نزولها فلا بد له من
أن يقول أن حكم الله المتقدم هو كون الموظف لخدمة المسكن من كان ابن ثلاثين
سنة إلى خمسين وقد عدهم موسى على هذا المنوال فكان المعدودون ثمانية آلاف
وخمسمائة وثمانين " عد 4: 46 - 49 ".
وفي سابع العدد " 1 - 10 " إن موسى أعطى القرابين التي قدمت بعد
إقامة المسكن للاويين الموظفين للخدمة حسب أمر الله، وأنهم تطهروا وكفر
عنهم هارون وأتوا إلى خدمتهم كما أمر الرب " عد 8: 21 و 22 " وبعد ذلك كله
ذكر التوراة إن الله كلم موسى قائلا: هذا ما للاويين من ابن خمس وعشرين
سنة فصاعدا يأتون ليتجندوا أجنادا في خدمة خيمة الاجتماع. ومن ابن خمسين
يرجعون من جند الخدمة ولا يخدمون بعد يؤازرون إخوتهم في خيمة الاجتماع
لحرس حراسة، لكن خدمة لا يخدمون " عد 8: 23 - 26 ".
فإن كان المتكلف يلتزم بأن ترتيب كتابه على ترتيب حوادثه فعليه أن يقول
إن الحكم المذكور أخيرا هو المتأخر في التشريع وله أن يقول إن الحكمة في ذلك
هو إنه لما قرب ارتحال بني إسرائيل وكانت خيمة الاجتماع إلى عمل كثير في
الارتحال والنزول رفع الله الشريعة الأولى وأضاف إلى المعدودين من كان ابن
خمس وعشرين سنة إلى ثلاثين ليساعدوهم في الخدمة كما شرع أن يساعدهم في
الحراسة أبناء الخمسين فما فوق. هذا وإن كان لا يلتزم المتكلف بأن كتابة
التوراة على ترتيب حوادثها فلا تقبل دعواه أن شريعة الخمس وعشرين سنة هي
المتقدمة إلا بدليل يدل على ذلك.
ثم نقول: ن أراد المتكلف بما ذكرنا من كلامه هو التخلص من تبديل أحد

314
الحكمين بالآخر بل يدعي أنه لم تكن إلا شريعة واحدة، وهو كون الموظفين
للخدمة من ابن خمس وعشرين سنة إلى الخمسين ولكن يختص أبناء الثلاثين فما
فوق بالخدمة الشاقة.
قلنا: لا يكاد يفهم ذلك من التوراة إلا بطريقة الرمز الجزافية التي يهرب
إليها المتكلف. مع أن الدعوى المعهودة هي أن العهد القديم رمز للعهد
الجديد. لا أن التوراة ترمز إلى أحكامها، مع أن التوراة تجبهه بالرد لتصريحها
في الأول بأن جميع اللاويين الذين عدهم موسى وهارون وكل الداخلين ليعملوا
عمل الخدمة كانوا من ابن ثلاثين سنة إلى خمسين عد 4: 46 - 49: وإن التزم
المتكلف بتبديل أحد الحكمين المذكورين بالآخر وفر إلى قوله اختلاف العبارات
لاختلاف الاعتبارات فإنا لا نضايقه في التسمية بل نقول في النسخ إن المصالح
قد تتغير وربنا يضع كل شئ في محله واختلاف العبارات لاختلاف
الاعتبارات.
" ومن ورطات المتكلف " قوله ولما بنى الهيكل خف العمل وقبل في خدمة
الرب من كان عمره نحو 20 سنة فقط، فينبغي أن يوقظ ويقال له إن توظيف
ابن العشرين سنة قد جعلت شريعته في أيام " دا د " انظر 1 أي 23: 24 - 28
وكان ذلك قبل بناء الهيكل بما يزيد على إحدى عشرة سنة. فإن الهيكل شرع في
بنائه " سليمان " في السنة " الرابعة لملكه وكمل بناه في السنة الحادية عشرة " انظر 1
مل 6: 1 و 37 و 38 ". ولم يجئ في العهد القديم ذكر لشريعة توظيف ابن
العشرين سنة بعد ما ذكرنا لا في أيام " سليمان " ولا ما بعده إلا في أيام " عزرا "
بعد سبى بابل " عز 3: 8 ".
فإن سألت وقلت إن للمتكلف طريقا في التخلص عن هذا المثال للنسخ
وذلك بأن يقول: إن كل ما جاء في النسخة العبرانية في رابع العدد بتحديد
عمر اللاوي الموظف بثلاثين سنة إلى خمسين قد جاء بدله في الترجمة السبعينية
تحديده من الخمس وعشرين سنة إلى خمسين وأن الترجمة السبعينية ذكر أنها كانت
في غاية الاعتبار كما أشرنا إليه صحيفة 5 ونوه بها المتكلف " يه 4 ج ص 90 -
92 " فبناء عليها لا مخالفة بين رابع العدد وثامنه في هذا الحكم، فلماذا لم

315
يسلك المتكلف هذا الطريق في الفرار عن إلزام إظهار الحق.
قلنا: لو أن المتكلف يلتفت إلى هذا التخلص لما تشبث به لأنه يبين عليه
ما يكابر في ستره، وهل كيف يسمح بأن ينبه على مثل هذا الاختلاف الباهظ
بين العبرانية والسبعينية مع أنه يقول تارة أن الأصل العبراني هو المعول عليه " يه
4 ج ص 16 ".
ويحامي عن دعوى تواتره في كثير من كتابه وتارة ينوه بالترجمة السبعينية
ويجعلها هي المعتمد لليهود والمسيح والرسل ويجعل تواريخها شاهدة لتواتر التوراة
" يه 4 ج ص 90 - 92 ".
فإن قلت: وأيضا يصادمه ما في الثالث والعشرين من الأيام الأول 1 و 2
فإن فيه أن " داود " لما شاخ وملك ابنه " سليمان " عد اللاويين للمناظرة على بيت
الله من ابن ثلاثين سنة " قلت " لا يتوقف المتكلف لأجل ذلك ولو تعلق له غرض
بتقديم السبعينية هاهنا لقال غير مبال إن " داود " أخطأ وخالف الشريعة فعاقبه
المولى، بل لا بد له أن يقول ذلك فإنه قال فيما تقدم من كلامه إن توظيف ابن
الثلاثين في زمان موسى كان لقرب ارتحال بني إسرائيل وحاجة نقل الخيمة إلى
رجال أقوياء فربنا وضع كل شئ في محله، وإن عد " داود " من ابن الثلاثين
سنة كان في زمان الاستراحة وعدم الحاجة إلى نقل المسكن فهو في غير محله،
وربنا وضع كل شئ في محله.
4 - حزقيال وتكليفه
في العهد القديم إن الله جل شأنه أمر نبيه " حزقيال " بأن يأكل كعكا من
خبز الشعير يخبزه أمام عيون بني إسرائيل على الخرء الذي يخرج من الإنسان لأنه
هكذا يأكل بنو إسرائيل خبزهم النجس بين الأمم، فاستغاث " حزقيال " إلى الله
فرفع عنه هذا الحكم وبدله بغيره وقال له انظر قد جعلت لك خثى البقر بدل
خرء الإنسان " حز 4: 12 - 16 ".
أجاب المتكلف " يه 4 ج ص 191 " بعد أن ذكر نبوة " حزقيال " بضيق بني
إسرائيل " حز 4: 17 " فقال فالنبي استغاث الله فأجاب صلواته وحقق طلبته،

316
وعلى كل حال فلا ناسخ ولا منسوخ، ولولا ضيق المقام لزدنا الكلام وعلى
المطالع أن يمعن النظر في هذه الآيات فيجد بطلان دعوى المعترض.
أقول: فيا أيها المطالع سألتك بفضيلة الكمال وزينة الأدب أن تطالع كل
الرابع من " حزقيال " وإن شئت فكل كتاب " حزقيال " لتقول أين تجد من ذلك
بطلان ما يقوله إظهار الحق، فهل في كلام " حزقيال " أو في كلام المتكلف برهان
على أن حكم الله لم يتبدل في شأن " حزقيال " أو هل إذا تبدل الحكم بسبب
الدعاء لا يكون تبدلا.
وليت شعري أن المتكلف قد استحسن الجواب في هذه المقامات بقوله
وعلى كل حال فلا ناسخ ولا منسوخ، فلماذا يتكلف الجواب بغيره.
" تكملة " قال المتكلف يه 4 ج ص 156 ولعمري إن الناسخ والمنسوخ إذا
وجدا في قانون أو دستور أو في كتاب كان أعظم وصمة يوصف بها هذا القانون
أو الدستور أو الكتاب، ولذا كانت الديانة الصحيحة الحقيقية وكتبها المنزلة
منزهة عن هذه الوصمة - 157 - فماذا تقول في ملك الملوك ورب الأرباب
العليم الحكيم هل يعقل أو يتصور إن يأتي بقانون قابل للنسخ والنقص والتغيير
والتبديل كل ساعة أو أن لا جرم إن هذا بمنزلة قولنا عن المولى الحكيم العليم إنه
جاهل عديم التروي وعديم التفكر والتبصر - تعالى الله عما يقول الجاهلون
علوا كبيرا - 58 افأن أعمال الله منذ الأزل منزهة عن التناقض والتشويش.
أقول: ليت شعري ماذا يصنع من يقول هذا الكلام وماذا يقول فيما
ذكرناه عن العهدين من تبديل أحكام الله ونسخها فيما ذكرناه من الأمثلة التي
ترجع إلى ألوف من موارد النسخ. وماذا يقول في خصوص أمر الله " إبراهيم "
بذبح ولده محرقة. وتكليف " حزقيال " بأن يخبز مأكوله على خرء الإنسان وكيف
قد تبدل هذان الحكمان ولم يمض عليهما أربعون سنة ولا ألف وخمسمائة سنة،
بل إنما مضى عليهما أيام أو ساعات ثم تبدلا. وكذا شريعة " نوح " في إدخال
الحيوانات معه إلى الفلك.
واستمع أيضا لما نتلوه عليك من العهدين حيث تضمنا أن الله جل شأنه
بدل ما وعد وأخبر بأنه قضاه وقدره إلى الأبد، وبدل الحكم الشرعي اللازم لهذا

317
المقدر الموعود به.
فينحاس وكهنوت نسله الأيدي
فقد ذكرت التوراة في الخامس والعشرين من العدد 10 فكلم الرب
" موسى " قائلا 11 " فيناس " ابن " العازرا " ابن " هارون " الكاهن قد رد غضبي
عن بني إسرائيل بكونه غار غيرتي في وسطهم حتى لم أفن بني إسرائيل بغيرتي 12
لذلك قل ها أنا ذا أعطيه ميثاقي السلام 13 فيكون له ولنسله من بعده ميثاق
كهنوت أبدي.
وجاء في سابع العبرانيين عن " بولس " 11 فلو كان بالكهنوت اللاوي
كمال إذا الشعب أخذ الناموس عليه. ماذا كانت الحاجة بعد إلى أن يقوم
كاهن آخر على رتبة ملكي " صادوق " ولا يقال على رتبة " هارون " 12 لأنه إن
تغير الكهنوت فبالضرورة يصير تغير للناموس أيضا.
وانظر إلى بقية الاصطلاح، فليقل المتكلف كيف تغير الكهنوت الذي هو
أبدي بوعد الله وقضائه وعطائه وحكمه الشرعي لنسل " فينحاس " وإنا لنسأل
المتكلف أن الله عندما وعد وأعطى الميثاق بهذا الكهنوت الأبدي لنسل
" فينحاس " هل كان عالما بأن هذا الكهنوت ليس فيه كمال وأن الحاجة تمس إلى
أن يقوم كاهن آخر من غير اللاويين وأنه تعالى شأنه مزمع على أن يغير الكهنوت
وينقله من بني " فينحاس " بل " واللاويين " إلى كاهن آخر، فإن أجاب وقال نعم
إن الله كان عالما بذلك كله.
" قلنا ": إذا كيف جوزتم على الله أن يعطي عهدا وميثاقا بالكهنوت الأبدي
لنسل " فينحاس " مع علمه بأن ها هنا الكهنوت ليس فيه كمال، ومع علمه بأنه
ينقض هذا الميثاق ويقع الخلف في الوعد لأجل مسيس الحاجة إلى تغيير
الكهنوت وقيام كاهن آخر ليس من نسل " فينحاس ".
فإن قال المتكلف: يجوز نقض الميثاق وخلف الوعد الأبدي بعد ألف
وخمسمائة سنة لأن ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال " عب 8: 13 " قلنا
لأن رضيتم لأنفسكم بهذا القول فإن في العهد القديم أيضا ما يدل على أنه وقع

318
الخلف للوعد الأبدي والتبديل للحكم بعد يوم أو ساعة أو أقل.
2 - عالي وكهنوت بيته
ففي ثاني صموئيل الأول أن رجل الله قال لعالي الكاهن عن قول الله 30
لذلك يقول الرب إله إسرائيل إني قلت إن بيتك وبيت أبيك يسيرون أمامي إلى
الأبد، فوعد الله وأخبر بأنه قضى وقدر أن بيت " عالي " وبيت أبيه يسيرون أمامه
جل شأنه في وظيفة الكهنوت إلى الأبد، ولكن قال رجل الله أيضا على الأثر،
والآن يقول الرب حاشا لي فإن أكرم الذين يكرمونني والذين يحتقرونني يصغرون
31، هو ذا تأتي أيام أقطع فيها ذراعك وذراع بيت أبيك إلى آخر ما يشرح فيه
ابتلاءهم وحرمانهم من وظيفة الكهنوت.
ومن الظرائف أن المتكلف أطال الكلام " يه 4 ج ص 176 " في شأن زوال
الكهنوت عن بيت " عالي "، واعتذر تبعا لكتابه بفسق أولاد " عالي " وقال في قبال
إظهار الحق هل مقصود المعترض أن تبقى الإمامة في بيت " عالي " بعد اقتراف
ابنيه الفسق.
قلنا: هل يخفى على أحد أن حقيقة اعتراض إظهار الحق هو أنه كيف
قبلتم من كتبكم صراحتها بأن الله أخبر بأنه قضى وقدر أمرا أبديا وهو مقرون
بحكم شرعي بل أحكام عديدة ترجع إلى وظائف الكهنوت، ثم ينقض الله
هذا القضاء المبرم ويرفع أحكامه، أفتقول: إن الله حين قضى ذلك الأمر
المؤبد المقرون بالأحكام الشرعية المؤبدة بتأبيده لم يكن عالما بأن ابني " عالي "
سيفسقون وإلا لما قضى قضاء أبديا ثم نقضه تعالى الله عن ذلك.
3 - مملكة شاول
وفي ثالث عشر صموئيل الأول 13 فقال " صموئيل " " لشاول ": انحمقت
لم تحفظ وصية الرب إلهك التي أمرك بها، لأنه الآن ثبت الله مملكتك على
إسرائيل إلى الأبد 14، والآن مملكتك لا تقوم انتخب الله له رجلا حسب
قلبه.

319
4 - موت حزقيا وشفاؤه
وفي الثامن والثلاثين من " أشعيا " " 1 - 9 و 2 مل 20: 1 - 12 " أن
" حزقيا " ملك يهوذا مرض للموت فجاء إليه " أشعيا " النبي وقال له: هكذا
يقول الرب أوص بيتك لأنك تموت ولا تعيش فصلى " حزقيا " واستغاث إلى الله
وبكى فلم يخرج " أشعيا " النبي إلى المدينة الوسطى حتى كان كلام الرب إليه
قائلا: قل لحزقيا هكذا يقول الرب قد سمعت صلاتك ها أنا ذا أضيف إلى
أيامك خمس عشرة سنة، وأعطه علامة برجوع الظل إلى الوراء عشر درجات.
وليت شعري ماذا يقولون هاهنا؟ أيقولون: إن قول الله وأخباره بأن
" حزقيا " يموت ولا يعيش كان عن مشيئة وإرادة لموته، ثم عدل عن ذلك
بواسطة الصلاة؟.
أم يقولون: بأن الله لما أراد موت " حزقيا " لم يكن عالما بأنه يصلي
ويستغيث به؟ أم يقولون بأن الله يخبر بأنه يفعل شيئا في المستقبل وهو لا يريد
أن يفعله ولا يفعله؟ أم يقولون: بأن النبي كذب بذلك على الله كما أعطت
التوراة عن كلام الله علامة على كذب النبي في مثل ذلك " تث 18: 21 و 22 ".
فإن قلت: ألستم معاشر المسلمين تقولون باستجابة الدعاء وفي قرآنكم
في سورة المؤمن قول الله 62: (ادعوني استجب لكم)، وفي سورة الرعد 39
(يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب).
قلنا: لا نجوز مثل هذا وإن يقول الله أفعل هذا الشئ الخاص ثم لا
يفعله، ولو لأجل الصلاة والدعاء وغير ذلك.
وأما الآيات الشريفة فسنبين لك إن شاء الله عند التكلم في معارف القرآن
أنها أجنبية عن مثل هذا التناقض والتشويش ونسبة النقائص إلى جلال الله
وقدسه تعالى شأنه.
ويتضح لك أن قوله تعالى: " وعنده أم الكتاب " رافع لحجاب الوهم عن
حقائق العرفان وفذلكات المعقول.
وليعلم أن إظهار الحق لم يقل إن الصلاة واستجابة الدعاء من الناسخ

320
والمنسوخ كما توهمه المتكلف، بل لا يخفى أن مراده هو أن " أشعيا " أخبر " حزقيا "
بأن الله أوجب عليه الوصية إلى أهل بيته معجلة لأنه يموت ولا يعيش، ولا بد
أن يرتفع هذا الحكم الذي كان معجلا لأجل ضيق الوقت بسبب الزيادة في عمر
" حزقيا " خمس عشرة سنة.
فلماذا لا يقول المتكلف في هذه الأمثلة الأربعة أن ملك الملوك ورب
الأرباب لا يعقل ويتصور أن يقضي قضاء أبديا أو يقدر أمرا إلى الأبد أو يخبر
بوقوع شئ ويقرن كل ذلك بحكم شرعي ويكون كل هذا قابلا للنقض
والخلف والتبديل بعد مدة أو ساعة أو يوم، أفليست أعمال الله هاهنا منزهة
منذ الأزل عن التناقض والتشويش، ومعلومة عند الرب منذ الأزل جميع أعماله
" ا ع 15: 18 " أفهاهنا ينبغي أن يقال ما قاله المتكلف، أم في النسخ الذي
تنادي في بيان حقيقته ألسنة المسلمين وأقلامهم، وتبين بصراحتها لكل ذي فهم
وكل مستقيم بأنه على نحو معقول لا تلزم فيه هذه المحاذير، ويوضحون بأنواع
الإيضاح أن مبناهم فيه وحقيقته هو أن الله يعلم منذ الأزل بما يناسب من
الأحكام لمصالح العباد المختلفة بحسب الأزمان والأحوال فجعل في مخزون علمه
لكل مصلحة ما يناسبها في اللطف والحكمة من الأحكام المحدودة بحدها ثم
إظهار الله أحكامه لعباده بواسطة أنبيائه غير محدودة بحدودها المعلومة عنده
لحكمة اقتضت ذلك، فإذا انقضى حدها المخزون في علمه أشعر عباده أيضا
بالحكم المناسب للمصلحة المتجددة على ما كان مكنونا في علمه جلت آلاؤه ولا
يجوزون النسخ فيما لو قال الله إن هذا الحكم دائم أبدا، وكذا لو قال: إن هذا
الحكم ثابت في حق العباد إلى سنة مثلا فإنهم لا يجوزون نسخه قبل السنة
لحصول التناقض والتشويش بين الأجل وإبطاله بالنسخ قبل انتهائه.
أترى المتكلف لا يعلم بهذا كله من مذهب المسلمين؟ أو أنه يعلم ولكنه
ماذا يصنع في أمر انعقدت عليه المجامع، وكلف نفسه مؤنة تمويهه إغماضا عن
العاقبة.
ثم إنه قد ضجر من كثرة تعداد الأمثلة في إظهار الحق لما في العهدين من
النسخ فشذ به الضجر إلى تعداد الأضداد المتقابلة " انظر يه 4 ج ص 192

321
و 193 " وكأنه قد طالع في ذلك الوقت كتاب المحاسن والأضداد " للجاحظ " فعلق
ذلك في مخيلته، وحق له أن يضجر فإنه ألف من المنقول عن الرسل و " بولس "
نسخهم للشريعة جملة واحدة فيما عن قولهم ما طهره الله فلا تنجسه أنت ولا
نضع عليكم ثقلا أكثر من هذه الأشياء الامتناع عما ذبح للأوثان والدم والمخنوق
والزنى كل شئ طاهر للطاهرين كل خليقة الله جيده إذا أخذت مع الشكر فإنه
يصير إبطال الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها.
ومن هنا قال القسيس " سايل " ق. ص 226 وكذا كاتب الرسالة المنسوبة
لعبد المسيح إن الله تساهل مع اليهود فأعطاهم فرائض غير صالحة وأحكاما لا
يحيون بها.
فيا من لم يسلب التعصب رشده أفهذه الأقوال في شأن الشريعة توافق
حكمة الله ولطفه وعلمه، ويكون النسخ على ما أوضحه المسلمون من حقيقته
منافيا لحكمة الله وعلمه كما يزعمه المتكلف " يه 4 ج ص 155 ".
ثم انظر فهل ترى هذه الأقوال تعطي ما يقوله المتكلف " يه 4 ج ص
158 " إن الديانة اليهودية هي ذات الديانة المسيحية، والمسيحية هي ذات
اليهودية فإن أعمال الله منذ الأزل منزهة عن التناقض والتشويش.
أو إنها كما عن " بولس " لو كان الأول بلا عيب لما طلب موضع لثان.
وكما عن " يعقوب " الرسول أرى أن لا يثقل على الأمم لأن " موسى " منذ
أجيال قديمة له في كل مدينة من يكرز به إذ يقرأ في المجامع في كل سبت " ا ع
15: 19 و 21 " فهل ترى لهذا الكلام مرمى إلا أنه يحث على ترويج أمر المسيح
بالتخفيف الموافق لأميال الأمم وأهوائهم. وأن " موسى " له من يروجه وقد
استوفى حظه من الترويج.
إنكار المتكلف ما في العهد الجديد
ومع هذا كله ينكر المتكلف ما قاله إظهار الحق من أن المنقول عن
الحواريين أنهم نسخوا أحكام التوراة العملية غير الأربعة، وعن " بولس " أنه

322
نسخ ثلاثة منها أيضا ويقول " يه 4 ج ص 193 " إن هذا إفك مبين فأتوا
ببرهانكم إن كنتم من الصادقين.
فبولس كان من أعظم المناضلين عن العفة والتقوى وهو الذي قال: " أنا
فريسي " يعني أنه عريق في الديانة الإسرائيلية وعلى كل حال فأيد أقوال الرسل
لأنه لم يأت أحدهم منهم شيئا إلا بوحي الروح القدس.
ويقول أيضا " يه 1 ج ص 273 " إن الرسول يعني " بولس " لم يقل إن
الشريعة الموسوية ضعيفة معيبة غير نافعة حاشاه من ذلك.
أقول: إذا فمن هو الذي قال في سابع العبرانيين 18 فإنه يصير إبطال
الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها 19 إذ الناموس لم يكمل شيئا،
وفي الثامن 7 فإنه لو كان الأول بلا عيب لما طلب موضع لثان، وغير ذلك مما
تقدم.
ويقال: إن بعض الحيوانات الوحشية إذا رأى الناس وخاف منهم وأراد
أن يتستر عن عيونهم أدخل رأسه في الرمل وأبقى سائر بدنه بارزا وذلك لأجل
توهمه بأنه إذا كان لا يرى الناس لدفن عينيه، فالناس أيضا لا يرونه وإن كان
بارزا لهم، وهل تراه إذ قال له الناس: رأيناك، يقول: إن هذا إفك مبين
فأتوا ببرهانكم إن كنتم من الصادقين.
دع هذا وهب أن ما عن " بولس " يناضل عن العفة والتقوى، وهب أنه
أيد أقوال الرسل لأنه لم يأت أحد معهم، إلا بوحي من الروح القدس، ولكن
قل هل أبقت كلماتهم التي طرقت سمعك في هذه المقدمة أثرا لأحكام التوراة
العملية، أم لاشتها جملة ولا نكلفك أن تقول إن ذلك كان بنحو العيب لها
وبيان عدم النفع فيها وطلبا للتخفيف موافقة لأهواء الأمم واستمالة لقلوبهم لأن
" موسى " قد استوفى حقه من الترويج.
فإن قلت: إذا كان معنى النسخ بالنحو الذي كشفت عنه من مراعاة
المصالح بمناسباتها من الأحكام المخزونة في علم الله، وكان تبديل الشرائع
المنسوبة إلى العهدين بهذا الشيوع البالغ إلى حد الملاشاة، إذا فما هو الوجه في

323
إصرار المتكلف وأمثاله على إنكار وقوع النسخ في أحكام الله بهذا الإنكار.
قلت: إن شئت أن تتعجب فتعجب، وإن شئت قلت إنهم قد
استحسنوا وألفوا راحة نحلتهم وإطلاقهم من قيود الشرائع بسر الفداء فحصنوا
دوامها بدعوى امتناع النسخ في الأحكام الإلهية مقاومة لما يدهمهم من النبوات
بشريعة الحق المصلحة لأسباب الكمال ونظام المدنية وسعادة الدارين.
وخلاصة الكلام معهم مع ما تراه من التفاوت والاختلاف الباهظ بين
الديانة اليهودية حسب العهد القديم وبين الديانة النصرانية حسب العهد الجديد
هو أن قولهم إن الديانة اليهودية هي ذات الديانة المسيحية أي النصرانية الرائجة
وبالعكس إن أرادوا منه أنهما متحدتان في الأحكام العملية فهو باطل بالوجدان
إذ لا يخفى على أحد أنه ليس في النصرانية الرائجة شئ من أحكام التوراة
العملية، وإن أرادوا أنهما متحدتان من حيث الإيصال إلى المعارف الحقة وشرائع
التكميل وحفظ المدنية والسعادة، وإن اختلفتا في الأحكام العملية رعاية لمصلحة
الحال والوقت، بل هذا الاختلاف ناشئ من اتحادهما في رعاية الغاية
المطلوبة.
قلنا: بعد غض النظر عن المباحثات في مضامين هذا الكلام، إنا معاشر
المسلمين جميعا لنقول تبعا لرسول الله وكتاب الله أن الإسلام متحد مع الشريعة
الموسوية الحقيقية، والمسيحية الحقيقية، وكل شريعة حق من حيث الغاية
المطلوبة، وإن اختلف معهما في بعض الأحكام العملية رعاية للغاية الصالحة.
ولو قلنا: بأن اليهودية والنصرانية الرائجتين هما الحقيقيتان وإن كتبهما
لرائجة هي الكتب الأصلية لقلنا: إن الإسلام أكمل منهما في أسباب الوصول
إلى الغاية والترقي في كمالاتها كما يشهد بذلك خلو التوراة الرائجة من معارف
القيامة والثواب الدائم النعيم والعذاب الأليم اللذين هما أولى بالرغبة والرهبة ولم
يقع الترغيب للطاعة في التوراة إلا بطفيف من زخارف الدنيا الفانية التي طالما
تنعم بها المشركون بأضعاف ما حصل عليه الموحدون. ولم يقع الترهيب فيها.
والتخويف من وبال المعصية، والتمرد على الله إلا بالفقر، والآلام المنقضية
والموت المحتوم على العباد مما يشترك به الناس برهم وفاجرهم..

324
وكما يشهد بذلك أيضا خلو الإنجيل عن مناسبات المصالح من الأحكام
بل قد ألغى لوازم الاصلاح وضروريات المدنية من قوانين السياسة وأحكام
الدفاع حتى اضطر جميع متبعيه إلى مخالفته بتشريعها في ممالكهم حسب ما
استحسنه عقلاؤهم وإن لم يكن مستندا إلى الوحي الإلهي، وأيضا أن المسيح
قضى ثلاث سنين من نبوته واليهود في أشد المضايقة له وبالضرورة لا يمكنه في
ذلك نشر ما عنده من التعاليم المخالفة للأهواء.
وغاية ما يذكر في الإنجيل أنه كان يعلم بمكارم الأخلاق والذم لرياء
المترئسين في الدين ومخالفتهم للشريعة، وهذا مما تنشرح له قلوب العامة
ويقبلون إليه، ومع ذلك كان يفر بتعليمه هذا من مكان إلى مكان، وناهيك ما
يقوله الإنجيل من أنه لم يستطع أن يجاهر بأن " قيصر " الوثني في ذلك الوقت لا
يستحق أخذ الجزية من بني إسرائيل الموحدين، بل كان يوري ويتحرف فيه
حينما سأله اليهود ونصبوا له بذلك شبكة ليعرقلوه بالجواب " انظر مت 22: 15
- 22 ومر 12: 13 - 18 ولو 20 20 - 26 " بل كان بنفسه يعطي الجزية لقيصر
مت 17: 24 - 27 ".
اللعنة على من لا يقيم الناموس
فإن قلت: إن لليهود حجة شرعية على امتناع النسخ للشرعية الموسوية
وذلك لقول التوراة ملعون من لا يقيم كلمات هذا الناموس ليعمل بها " تث 27:
26 ".
قلنا: من شروط صحة الاحتجاج بذلك أن تكون التوراة متواترة متصلة
السند غير محرفة وهذا واضح البطلان كما يعرف من متفرقات كتابنا وخصوص
المقدمة السادسة فقد ذكرنا فيها شهادة كتاب " ارميا " في موضعين منه بتحريف
اليهود للتوراة وكلام الله، وشهادة كتاب " أشعيا " بتحريف اليهود، وكذا المقدمة
الخامسة فقد أوضحنا فيها انقطاع سند التوراة وستأتي إن شاء الله زيادة الايضاح
لذلك في المقدمة الثالثة عشر، وكذا المقدمة العاشرة فقد أوضحنا فيها بطلان
دعوى اليهود تواتر التوراة إلى " موسى " عليه السلام. هذا كله مضافا إلى ما في

325
متفرقات كتابنا من بيان الموانع الداخلية في التوراة الرائجة من صحة سندها إلى
الوحي.
ومن شروط صحة الاحتجاج بما تذكره أيضا دلالته على أنه لا تجيئ بعد
ذلك من شريعة إلهية بواسطة نبي حق تجب طاعته وسماع قوله وليس فيما تذكره
شئ من الدلالة على ذلك أما " أولا " فلأن المحتمل كون اللعنة المذكورة على من
لا يقيم الكلمات المذكورة في السابع والعشرين من التثنية. وتلك الكلمات
وأحكامها ثابتة في دين الإسلام على أكمل وجه وأما " ثانيا " فلو فرضنا أن اللعنة
على مخالفة كل أحكام الناموس فإنما هي على المتمردين على أحكام الناموس ممن
يجب عليهم العمل به لا على الدين يخالفونه لأجل اتباعهم لشريعة حق إلهية
يجب اتباعها لمناسبة إحكامها لمصالح الزمان المتأخر. كيف وأن التوراة تخبر بأن
بني إسرائيل خافوا من هيئة خطاب الله لموسى بالشريعة وطلبوا غير هذه الهيئة
فاستحسن الله كلامهم وأخبرهم بمجيئ نبي مثل " موسى " يجعل الله كلامه في
فمه فيكلم الناس بكل ما يوصيه الله به ويجب اتباعه والذي لا يسمع له يطالبه
الله.
انظر تث 18: 15 - 20 وهل هذا إلا نبي يأتي بشريعة تجب طاعتها.
الأبد في التوراة والعهد القديم
فإن قلت: ولهم حجة شرعية أخرى على المسلمين وهي أن كثيرا من
شريعتهم قد نصت التوراة على أنه أبدي والى الأبد وذلك كالكهنوت الهاروني
وكثير من شرايعه ومتعلقاته، وكذا الأعياد والسبت. فيمتنع ما جاء به الإسلام
من نسخ هذه الأمور.
قلنا: وإن الاحتجاج بهذا متوقف على صحة السند للتوراة الرائجة، وقد
ذكرنا أنه لا سبيل إلى ذلك، ومتوقف أيضا على دلالة ما تذكره في الأصل
العبراني على التأبيد مدى الليالي والأيام وليس كذلك كما يشهد به التتبع في
العهد القديم العبراني. فإن كل ما قيل في تعريبه. فريضة أبدية، فإنه في
الأصل العبراني " حقت عولم " وما قيل في تعريبه " كهنوت أبدية " فإنه في الأصل
" كهونة لحقت عولم " وما قيل فيه. فريضة دهرية. فإنه في الأصل " حقت
عولم. وحق عولم. ولحق عولم " وما قيل يه " عهد أبدي. وميثاق أبدي " فإنه في

326
الأصل " بريت عولم " وما قيل فيه إلى الأبد فإنه في الأصل " لعولم وعد عولم " هذا
وقد قالت التوراة في بعض العبيد إنه يخدم سيده إلى الأبد، وفي الأصل العبراني
" لعولم خر 21: 6 " وأن صموئيل قالت أمه بحسب نذرها له في خدمة بيت
الرب إنه يقيم هناك إلى الأبد، وفي الأصل " ويشب شم عد عولم 1 صم 1:
22 " مع أنه نذر هاله هو أن تعطيه للرب كل أيام حياته 1 صم 1: 11.
وفي المزامير حد عن الشر وافعل الخير واسكن إلى الأبد " ع لعولم مز 37:
27 ".
وفي المزمور المائة والتاسع عشر 44 فاحفظ شريعتك دائما إلى الدهر وإلى
الأبد " ع لعولم وعد " 93 إلى الدهر لا أنسى وصاياك " ع لعولم ".
وهذا قليل من كثير تعرف به أن لفظ " عولم " في العبرانية غير مختص
بالتأييد إلى آخر الزمان ولا يدل على ذلك بل غاية ما نسلم من دلالته على دوام
الشئ مدة استعداده المجعول له. فالعبد يخدم مدة عمره ما لم يتلف السيد
عينه أو سنه، و " صموئيل " يسكن أمام الرب مدة عمره. وفاعل الخير يسكن
مدة عمره والشريعة بحفظها، والوصايا لا ينساها مدة عمره، والأحكام
المذكورة في الاعتراض تدوم ما دامت الشريعة الموسوية قائمة لم تنسخ بشريعة
النبي المماثل لموسى كما أخبرت به التوراة تث 18: 15 - 20.
على أن لنا أن نقول إن لفظ " عولم " في التوراة جاء منكرا غير مقرون
بعلامة التعريف وهي الهاء في العبرانية، فلا يدل إلا على زمان من الأزمنة،
وأما التعريف في العربية فإنما هو من المترجمين.
استئناف للكلام مع المتكلف
قال " يه 4 ج ص 159 " الاعتقاد بالنسخ هو أن يأتي للانسان بطريقة أو
مبدأ ثم ينسخه ويدعي أنه من عند الله وهو مناف للعقل السليم والذوق
المستقيم والديانة الصحيحة منزهة عنه وبريئة منه، نعم: لا ننكر أن تجسد
الكلمة الأزلية هو فوق عقولنا ولكنه موافق للعقل، والقرآن ناطق بأن المسيح
كلمة الله وروح منه أخذا جسدا من مريم بدون واسطة بشرية بل حبل به بالروح

327
القدس، وهذا الاعتقاد موافق للعقل والنقل بل أظهر تنزه صفات الله عن
النقص والعيب وأنه لا يبرئ المذنب إلا إذا استوفى حقه وعدله، أما الاعتقاد
بالنسخ فإنه يحط بصفات حكمته وعلمه وإرادته ومشيئته وشتان بين العقيدتين.
أقول: قد بينا لك معنى النسخ وكشفنا لك عن حقيقته بما يتضح به لك
توهم المتكلف أو مغالطته في تعريفه له، وكشفنا لك عن كونها أنسب بحكمة
الله ولطفه في مراعاة مصالح العباد المختلفة بحسب الأحوال والأوقات على وجه
عرفت أن الناسخ والمنسوخ سابقان في علم الله، صادران عن مشيئته وإرادته
منبعثان عن حكمته ولطفه وعلمه منذ الأزل بمناسبات الأحوال والأوقات،
فجعل جل شأنه كلا من الناسخ والمنسوخ بإزاء مصلحته وحده بحدها في
مكنون علمه، فأظهرهما لعباده بواسطة أنبيائه على مقتضى حكمته البالغة
ورحمته الواسعة فلا نضجر سمعك بتكرار بيانه، وإن كانت مضامينه تسبيحا لله
ببيان حكمته ولطفه وعلمه ومراحمه بعباده بما يرتاح به العقل السليم ويستعذبه
الذوق المستقيم، وقد قدمنا لك في الأمثلة المتعددة عن العهدين صراحتها على
مذاق المتكلف بأن " نوحا " و " وموسى " و " داود " و " حزقيال " و " المسيح " والرسل
و " بولس " كل واحد من هؤلاء قد جاء بحكم تشريعا أو إمضاء، ثم نسخه
ويدعي أنه من عند الله.
وهلم واعجب من اقتحام المتكلف وتهوره فإنه أحرز الموفقية في أقواله في
النسخ، فاقتحم بقوله: " نعم لا ننكر أن تجسد كلمة الله الأزلية هو فوق عقولنا
ولكنه موافق للعقل "، فسله وقل له: إذا كان ذلك فوق عقولكم فكيف تحكم
بموافقته للعقل، وإذ حكمت بأنه موافق للعقل فكيف يكون فوق عقولكم.
أو تدري ما هو تجسد الكلمة عند المتكلف هو أن الإله أقنوم الابن،
ثالث الثالوث الذي هو واحد حقيقة، وثلاثة حقيقة، قد تجسد في الأرض
وتوشح الطبيعة البشرية فأخذ جسدا من مريم وبقي أقنوم الأب وأقنوم الروح
القدس في السماء، وبعد ثلاثين سنة انفتحت السماء ونزل أقنوم الروح القدس
على شكل حمامة جسمية وحل على أقنوم الابن المتجسد، وبقي الأب في السماء
وصار أقنوم الابن المتجسد وأقنوم الروح القدس الحال عليه في الأرض يجرب

328
من إبليس أربعين يوما إلى أن ذهب به إبليس إلى جبل عال وأراه جميع ممالك
المسكونة في لحظة وأطمعه بأن يعطيها له على أن يسجد الإله المتجسد لإبليس،
ثم جاء به إبليس من البرية إلى " أورشليم " وأوقفه على جناح الهيكل ممتحنا له،
ثم بقي بعد ذلك ثلاث سنين يقاسي الاضطهاد من الناس حتى إذا دنا وقت
الصليب حزن وبكى وتضرع إلى أقنوم الأب في أن تعبر عنه كأس المنية، ولكن
الأب لم يشأ ذلك، وإذ آلمه الاضطهاد قال للأب إلهي إلهي لماذا تركتني؟ وإذ دنا
منه الموت صرخ بصوت عظيم وقال يا أبتاه في يديك استودع روحي، وأسلم
الروح ودفنوه، وفي اليوم الثاني أقامه الله من الأموات وارتفع إلى السماء وجلس
عن يمين الله، هذا كله جرى على الكلمة المتجسدة والإله الذي توشح الطبيعة
البشرية ليرفع قدرها.
اسمع هذا ولا تقل كيف وكيف فإن هذا بزعم المتكلف مما يهتز له العقل
السليم طربا، ويتطعم به الذوق السليم استلذاذا، غفرانك اللهم سبحانك
وتعاليت، وليس هذا مقام التعرض لما في ذلك فدعه إلى مجيئ محله إن شاء الله
وإن كان ما فيه لا يخفى على من عرف جلال الله وأقر له بالقدرة والوحدانية.
وأما قول المتكلف: بأن القرآن ناطق بأن المسيح كلمة الله وروح منه،
فاستمع لموقف ذلك من سياق القرآن الكريم، وانظر إلى أنه هل يسعف
المتكلف بشئ من الموافقة، أم أنه يجبهه بالمقاومة ويجاهر بإبطال مزاعمه
ودحض أضاليله.
قال الله جل اسمه في سورة النساء 169 (يا أهل الكتاب لا تغلوا في
دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته
ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم
إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض
وكفى بالله وكيلا 170، لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله). ومعنى كون
المسيح كلمة الله هو كونه أثرا لقوله تعالى " كن " على خلاف العادة في تناسل
البشر، ولا تحسب أن معنى ذلك يوافق ما في كتب إلهام المتكلف فإن فيها ما
نصه: وكان الكلمة الله " يو 1: 1 " والمتكلف يقول: " يه 2 ج ص 38 س 4 "

329
أن الكلمة الأزلية هي الله كما استشهد به المتكلف " ص 290 " وأين والآية
الشريفة تكافح ذلك وتعلن بالتوحيد، وبطلان التثليث، وتنزه الله عن نسبة
الولد إليه تعالى شأنه، وتصرح بأن المسيح عبد الله، ولن يستنكف من ذلك.
وعلى مثل هذا جاء قوله تعالى (وروح منه) فإن المراد أنه روح مخلوقة لله
أودعت في " مريم " لا بواسطة نطفة وتوالد عادي، بل هي من ناحية قدرة الله
الباهرة، وليس كما يحاول المتكلف جريا على كتابه القائل: الله روح " يو 4:
24 ".
وأما الرب فهو الروح " 2 كو 3: 17 " بل هي على نحو قول الله تعالى في
شأن " آدم " (ونفخت فيه من روحي) الحجر " 29 وص 72 " وعلى نحو قول
التوراة عن قول الله تعالى: " لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد " " تك 6: 3 ".
ثم إن المتكلف بعد اعترافه أولا بأن تجسد الكلمة الأزلية فوق العقول
أقدم على مصادمة العقل والنقل فحكم بأنه موافق لهما، ولم يكتف بذلك بل
قال: إن تجسد الكلمة " وهو بالنحو الذي شرحناه لك " أظهر تنزه صفات الله
عن النقص والعيب، وكأنه لو لم تنفصل الكلمة أقنوم الابن عن الأب،
ويتجسد على الأرض ويجري عليه ما ذكرنا من كتب إلهامهم من تصرف إبليس
به، وأطماعه بممالك المسكونة ليسجد له وتوارد الاضطهادات عليه، بل كان
الله واحدا قهارا عزيزا غير مثلث ولا متجزء ولا مضطهد لكانت صفاته غير
منزهة عن النقص والعيب، سبحانك اللهم وتعاليت.
وأما قول المتكلف: إن الله لا يبرء المذنب إلا إذا استوفى حقه، وعدله،
فليت الكامل والناقص والفاهم والغبي يسألونه كيف أظهر تجسد الكلمة أن الله
لا يبرئ المذنب إلا إذا استوفى حقه وعدله، فهل يقول: إن العقل والأنبياء
والعهد القديم قد قصروا في بيان هذه الحقيقة أو قصروا عنه.
المتكلف وسر الفداء
أم يريد المتكلف ما يلهج به من سر الفداء، وأن الله استوفى حقه من
الخاطئين وعدله باضطهاد الفادي الكريم وذبيحته فإنه قال " يه 2 ج ص 291 "

330
وعقاب الخطيئة هو الموت في جنهم إلى الأبد لأن المولى سبحانه وتعالى قدوس
طاهر وعدله يستلزم عقاب الخطيئة بهذه الكيفية، فالمسيح احتمل في جسده ما
كنا نستوجبه من العقاب ووفى ما كان علينا من الدين " و 4 ج ص 247 " أن
الكلمة الأزلية أو ابن الله بموته، وفى للعدل الإلهي حقه " وص 279 " أن الله
سبحانه وتعالى حكم في كتابه العزيز بأن كل نفس تخطئ موتا تموت في جهنم
النار إلى الأبد لأن عدله يستلزم هذا القصاص لقداسته التي لا تحد ولمقته الخطيئة
مقتا شديدا فلا يمكن أن يغض الطرف عن قصاص الخاطئ لقداسته وكراهته
الخطيئة " وص 280 " إن الله سبحانه وتعالى أظهر رحمته ومحبته بتجسد الكلمة
الأزلية فلبس هذا الجسد وكان يلزم أن يكون الفادي طاهرا قدوسا منزها عن
النقص حتى يفي للعدل الإلهي حقه ويخلص الخطاة، فالمسيح " يسوع " قام بهذا
الأمر وقدم نفسه فداء عنا، فالعدل الإلهي كان يستوجب عقابنا وموتنا " أي في
جهنم النار إلى الأبد " فمات الفادي الكريم عوضا عنا، ووفى للعدل الإلهي
حقه.
فدفق في حفظ هذه المضامين على ذهنك وقل للمتكلف لماذا لا يمكن لله
أن يغض الطرف عن قصاص الخاطئ.
مغفرة الله ورحمته وجوده
ومن ذا الذي يمنعه عن المغفرة للخاطئ بجوده ورحمته الواسعة كما
يعاقب بعدله وقداسته، أفلم يكن له نصيب من جود الفادي الكريم
ورحمته أفلم يقل العهد القديم إن الله إله رحيم ورؤوف غافر الإثم
والمعصية والخطيئة " خر 43: 6 و 7 " ونحوه " عد 14: 18 " وغفور وكثير الرحمة
لكل الداعين إليه " مز 86: 5 " والذي يغفر جميع ذنوبك " مز 103: 3 " ومن هو
إله مثلك غافر الإثم وصافح عن الذنب " مي 7: 18 " وللرب إلهنا الراحم
والمغفرة " دا 9: 9 " وإله غفران " نح 9: 17 " وعن قوله تعالى: " أنا هو الماحي
ذنوبك لنفسي وخطاياك لا اذكرها " اش 43: 25 " قد محوت كغيم ذنوبك
وكسحاب خطاياك " اش 44: 22 ".
وفي المزمور الخامس والعشرين 7 اذكرني أنت من أجل جودك يا رب وفي

331
الحادي والثلاثين 19 ما أعظم جودك الذي ذخرته لخائفيك، وفي تاسع زكريا
17 ما أجوده، أفلم يمكن لله جل جلاله أن يتصف بهذه الصفات إلا أن
تتجسد الكلمة على الأرض ويجري عليها ما جرى من الاضطهاد ثم أجمع في
ذهنك ما تقدم من كلمات المتكلف مع قوله " يه 2 ج ص 38 س 4 " إن الكلمة
الأزلية هو الله.
وقوله " 4 ج ص 285 " المسيح هو الله، وقوله " 3 ج ص 171 "
المسيحيون يعتقدون بأن الذات العلية والكلمة الأزلية والروح القدس هم الله
الواحد الأحد، وخذ حاصل هذه الأقوال في ذهنك ثم ليقرر لك المتكلف أو
بعض محبيه بقية كلامه في سر الفداء ولا تدعه يطوي الكلام على غره، بل دقق
في السؤال منه وجادله بكلامه، فإذا قال: إن الله أظهر رحمته ومحبته بتجسد
الكلمة، فقل له: إن عليك أن لا تعمى بل تقول حسب كلامك، وأول
" يوحنا " إن الله أظهر رحمته ومحبته بتجسده.
وإذا قال: فالمسيح احتمل في جسده ما كنا نستوجبه من العقاب نقل
له: إنك قلت إن الكلمة الأزلية هي الله، والمسيح هو الله، فعليك أن تقول
واستغفر الله، فالله احتمل في جسده ما كنا نستوجبه من العقاب " وهو الموت في
جهنم النار إلى الأبد " تعالى الله عن ذلك، فينتج من كلامك أن الله لا يمكن أن
يغض الطرف عن قصاص الخاطئ لعدله وقداسته فلا يمكن أن يغفر ويمحو
حسب رحمته ومحبته، فلم يجد حيلة لمخادعة عدله وقداسته إلا أن يتجسد
ويحتمل في جسده ما يستوجبه الخاطئ من العقاب، أترى لو جعل الإيمان
والتقديس في ناحية، وجعلت خرافات الكفر في ناحية، ففي أي الناحيتين
يكون هذا الكلام، فإن قال لك المتكلف، إن الفادي الذي احتمل في جسده
ما كنا نستوجبه من العقاب هو غير الله، فقل له " أولا ": هذا مناقض لقولك
ومعتقدك بأن الفادي هو المسيح الذي هو الكلمة الأزلية التي هو الله، ثم قل له
هل من عدل الله القدوس العادل أن يعاقب غير الخاطئ وكيف أمكن أن يغض
الطرف عن قصاص الخاطئ، أوليس قد قال كتابكم أن النفس التي تخطئ
هي تموت " حز 18: 4 و 20 " وكل واحد يموت بذنبه كل إنسان يأكل الحصرم

332
تضرس أسنانه " ار 031 30 ".
فهل ترى أحدا من ملوك الأرض يقبل من أحد الأبرياء أن يحتمل بالرغبة
ما على المقصر من الصلب والإعدام، ولو أن الملك قبل ذلك وأجرى على البرئ
قصاص المقصر وترك المقصر آمنا في تمرده لعده العقلاء ملكا قاسيا وحشيا لا
يبغض الخطيئة على الخصوص إذا كان البرئ يطلب من الملك أن تعبر عنه
كأس القصاص ويبكي ويحزن ويكتئب ويقول: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ فإن
قال: إن الفادي الكريم لم يحتمل قصاص الخاطئ حسبما يقتضيه العدل الإلهي
وهو الموت في جهنم النار إلى الأبد، وإنما احتمل ألم الصلب والاضطهاد
والموت في أقل من ثلاثة أيام ثم أقامه الله من الأموات مكرما ممجدا ورفعه إلى
السماء فجلس عن يمين الله فقل له " أولا ": إذا كان الفادي الكريم هو الكلمة
الأزلية التي هي الله، والمسيح الذي هو الله فمن هو الذي أقامه الله؟ ومن هو
الذي جلس عن يمين الله؟.
و " ثانيا " إذا كان عدل الله وقداسته ومقته للخطيئة يستلزم عقاب الخاطئ
بالموت في جهنم النار إلى الأبد، فلماذا تنازل عدل الله إلى كون القصاص يوما
وبعض يومين؟ فهل كان العقاب الذي هو لازم العدل مالا أحوجت ضرورة
الوقت إلى تعجيل استيفائه بالتنزيل الفاحش، أم كان هذا التنازل واستيفاؤه
من البرئ محاباة للأثمة الخاطئين، كيف وكتابكم يقول إن الله ليس عنده محاباة
" انظر 2 أي 19: 7 ورو 2، 11 وابط 1: 17 " بل النفس التي تخطي هي
تموت، هذا كله مع أن الابن إن كان قد أعطى وعدا للأب بهذا الفداء الذي
عرفت موقعه من العدل والقداسة ومقت الخطيئة، فبمقتضى كتابكم أنه قد
استعفى واستقال من هذه المعاملة مع الأب لما قرب وقت الاستيفاء ولم يردها،
وقال: وهو حزين جدا يا أبتاه إن أمكن فلتغبر عني هذه الكأس " مت 26: 38
و 39 " وكان يصلي لكي تعبر عنه الساعة إن أمكن، وقال: يا أبا الأب كل شئ
مستطاع لك فأجز عني هذا الكأس " مر 14: 35 و 36 " وجثا على ركبتيه وصلى
قائلا يا أبتاه إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس، وظهر له ملاك من السماء يقويه
وإذ كان في جهاد كان يصلي بأشد لجاجة وصار عرقه كقطرات دم نازلة على

333
الأرض " لو 22: 41 - 43 " ولكن لما رأى الحال قد اقتضى التصميم على هذا
القصاص والاستيفاء تنازل عن إرادته التي لا تقيده، ثم قل للمتكلف عودا على
بدء وكرر عليه في السؤال وان ضجر من هو الكلمة، ومن هو الاله العادل،
ومن هو الأب ومن هو الابن؟ ومن هو الاله الذي تقمص الطبيعة البشرية؟ ومن
هو الله؟ ومن هو الفادي؟ ومن هو المسيح؟ ألست تقول هم الله الواحد الأحد،
والمسيح هو الله، فعليك بقانون البيان والايضاح في الكلام خصوصا في المعارف
اللاهوتية أن تقول واستغفر الله ان الله العادل القدوس الذي يمقت الخطيئة
ويستلزم عدله عقاب الخطيئة بالموت في جهنم النار إلى الأبد هو الذي احتمل ما
تقولونه وفدى الخاطئين لأنه أراد أن يظهر رحمته ومحبته ولا يمكنه أن يغض
الطرف عن قصاص الخاطئ لقداسته، فوقعت المخادعة للعدل والقداسة
بالتجسد والتنازل بالفداء والقصاص، فإن قال لك أن الفادي غير الله فكرر
عليه السؤال بما قلناه في قولنا " أولا، وثانيا " فإن قال لك كما قال سابقا ان تجسد
الكلمة الأزلية فوق عقولنا، فقل له: هبك رضيت بأن تعبد الله بما هو فوق
عقولكم ولكن لماذا تتكلم في النسخ بذلك الكلام الفاحش مع أن إظهار الحق
فضلا عن غيره من المسلمين قد كشف لك عن حقيقته وأوضح لك معقولها وانها
متقضى لطف الله بعباده وحكمته وعلمه بالمصالح ومقتضياتها واصلاح عباده على
طبقها وقد أوقفك على مواقعه في العهدين. ولماذا لم تكتف بتكرار قولك. وعلى
كل حال فلا ناسخ ولا منسوخ.
الإسلام والمتكلف
ثم إن المتكلف بعد ان أودع كتابه مثل هذه الطامات التي تشوه وجه
المعقول والمنقول وتخالسهما بالجحود لحقيقة العدل والتوحيد والحكمة والجبروت
وكثير من صفات الجلال صار يستنتج الغلط من الغلط.
فقال بعد كلامه الأخير " يه 4 ج ص 280 " فلا شئ من الدينونة على
الذين في المسيح يعني ينسب الينا بر المسيح بالإيمان، فالمسيح حفظ الشريعة
فبالايمان به ينسب الينا حفظها، والمسيح مات فبالايمان به ينسب الينا موته فكما
انه بآدم الأول دخلت الخطيئة فبآدم الثاني دخل البر فيكون الله عادلا في تبريرنا

334
لأنه عدله استوفى حقه فصار عدله ورحمته متساويين فلا تفاوت بينهما وهذا
بخلاف المسلمين الذين يرتكنون على رحمة الله في الخلاص ويغضون الطرف عن
عدله وعن كونه منتقما جبارا فأنت ترى أن طريقة خلاصهم واهية واهنة فاسدة
بعيدة عن العقل السليم، أما وهنها فلأنها غير مؤسسة إلا على أوهام باطلة
كارتكانهم على رحمة الله فقط، وغضهم الطرف عن عدله وقداسته ومقته
للخطيئة " ص 181 ".
ومما يدل على فساد الطريقة الإسلامية أيضا أنها تستلزم أن رحمة الله أعظم
من عدله، والعقل السليم لا يقبلها.
أقول: فأين صار العدل الإلهي إذا كان لا شئ من الدينونة على الذين
في المسيح، وبأي عدل وحكمة ينسب إليهم بره، كيف وكتابهم يقول: إن الله
يغفر الإثم والخطيئة، ولكن لا يبرئ إبراء " خر 34: 7 وعد 14: 18 ونا 1:
3 ".
وما معنى أن حفظ المسيح للشريعة ينسب إليهم وبأي عدل يكون ذلك
وبأية حكمة؟ فهل كان جعل الشريعة لأجل حاجة الله إلى العمل بها حتى يقال
إن عمل بعض الناس يسد حاجة الله ويغني عن عمل غيره، وبناء على هذا
الغلط أيضا لا يصح أن يكون عمل واحد ينسب إلى غيره، أوليس يعلم كل
ذي عقل أن تشريع الشريعة إنما هو لطف من الله بعباده جميعا ليتكلموا
ويتقدسوا بالعمل بها ويصلح به اجتماعهم وينالوا سعادة الدارين، ولولا ذلك
لكان من أفحش الظلم إلزام كل أحد بالعمل بها.
وأفحش منه توقف الإقالة منها على الفداء كما عن قول " بولس " المسيح
افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا، وحاصله أن الله جل شأنه برر
المجرم بحمل عقابه ولعنته على البرئ البار " كذى العريكوي غيره وهو راتع "
أفهذا عدل الله عند المتكلف؟ وكيف استوفى عدله حقه وممن استوفاه وعلى أي
نحو جزاف استوفاه، أيستوفي عقاب مليونات لا تحصى من الخلق وهو موتهم في
جهنم النار إلى الأبد بموت بار يوما وبعض يومين، ويكون هذا من العدل
واستيفاء الحق.

335
فهل سمعت عن الملوك المتمدنة أنه وقع في شرائعهم الإصلاحية أو
قصاصاتهم العرفية مثل ذلك؟ وهل سمعت أنه وقع عند التجار حينما يلتجأون
إلى التنزيل مثل ذلك؟ وكيف يكون المستوفي بهذا النحو عادلا منتقما جبارا فلو أن
ملكا أرضيا عصته رعيته، ولا شوا شريعته، وسفكوا الدماء وهتكوا الحريم،
ونهبوا الأموال، وتعدوا الحدود فأراد أن يعطي عدله حقه، فقدم ابنه البري
ليفدي رعيته المقصرين المتمردين من عقابهم العظيم بضربة لابنه فاستعفاه الابن
وبكى وتوسل إليه في أن تعبر عنه كأس الفداء فلم يسمع له بل ضربه ضربة
واحدة وإن كانت مؤلمة بدلا عما تستوجبه الرعية بجرائمها من الإعدام والحبس
والتبعيد، وجعلهم بعد ذلك وهم على عاداتهم الوخيمة مبررين قد آمنوا وبال
العقاب واطمأنوا بدستور الفداء، أفنقول إن هذا الملك عادل قدوس يمقت
الخطيئة، وقد استوفى عدله حقه فهو منتقم جبار أم تقول وعلى قول المتكلف إن
الأب والابن واحد يرجع المثال إلى أن الملك ضرب نفسه ليستوفي عدله حقه
ويفدي رعيته حسبما ذكرنا.
ومع هذا كله والمتكلف يقول " يه 1 ج ص 274 " إن عند المسلمين عهد
الأعمال، ومن سوء الحظ لا يوجد عندهم عهد النعمة عهد الخلاص.
فنقول: الحمد لله على عظيم نعمته ولطفه إذ شرع لنا شريعة الحق،
وعرفنا صالح الأعمال ووسائل القرب منه والفوز برضاه، وسدد جامعتنا لحفظ
الشريعة، ووفقنا للقول الثابت في توحيده وتقديسه، وهدانا إلى معرفة عدله
وقدرته وقدسه لنخشاه، ومواقع رحمته وغفرانه لننيب إليه بالرجاء، وعصمنا من
مخادعات النفس الأمارة، ومغالطات الهوى ومخالسات الشيطان فلا زالت نعم
الله وألطافه علينا ظاهرة وباطنة، ومن عظيم توفيقنا وحسن حظنا أن الشيطان
الرحيم قد نكص عن عرفان جامعتنا خاسئا. فلم يمزج توحيدنا بالشرك، ولم
يغالطنا بالتمرد على الشريعة الإلهية وملاشاتها ولم يدس في معرفتنا بجلال الله
وقدسه لوازم النقص والعجز، وأغاليط الوثنية، وخرافات البوذية.
ولا ألوم المتكلف إذ لم يعرف طريقة خلاص المسلمين، فلا يخفف على
طالبي الهدى إن المسلمين يقولون اقتداء بقرآنهم كتاب الله، واهتداء بأنوار

336
شريعتهم، وتمسكا بعروة العقل الوثقى إن الله جل شأنه عادل قدوس عزيز ذو
انتقام وغفور رحيم غني حميد، فإن انتقم من ذات الخاطئ المجرم وعاقبه بجرمه
فهو عادل لأجل استحقاق المجرم للعقاب، وإن غفر له وسامحه فذلك من رحمته
وفضله وغناه من عقابه، فمعاملة المجرم بالعدل وحده إنما هي العقاب فالعدل
هو المخوف الذي ترتعد منه فرايص المجرمين، وإنما يرجى الخلاص بالرحمة من
الله الغني، وهذا من أوضح البديهيات.
وما كنت أحسب ذا شعور يقول: إن المجرم ينبغي أن يرجو خلاصه من
عدل الله، وإذا رجاه من رحمته يكون قد جعل رحمته أعظم من عدله فتتفاوت
صفاته جل شأنه.
ولماذا لا يقول المتكلف إذا رجونا الخلاص من عدل الله يكون عدله أعظم
من رحمته فتتفاوت صفاته؟ ولماذا لم يفهم المتكلف أن ما ذكره من تنازل عدل الله
وجريه على خلاف مقتضاه لما أظهر الله رحمته ومحبته بتجسد الكلمة هو الذي
يستلزم أن تكون رحمة الله أعظم من عدله، ليس هذا فقط، بل يرجع إلى أن
محبته ورحمته قد غالطت عدله، وخادعته وقهرته حتى جرى على خلاف
مقتضاه، وتنازل إلى مقتضاها تعالى الله عن ذلك وتقدس.
معارف القرآن والمتكلف
ولكن المتكلف يقول " يه 2 ج ص 299 " إن القرآن اتخذ من الكتاب
المقدس بعض صفات الله وكمالاته إلا أنه لا يعرفها حق المعرفة كما هي مدونة
في مصدرها الأصلي فلا يعرف عدل الله الذي اقتضى تجسد الكلمة الأزلية
واحتمال الصلب للتكفير عن خطايا كل من يؤمن به فإن القرآن يتوهم أن رحمة
الله أوسع من عدله كأنه يوجد تفاوت بين صفاته جل شأنه.
قلنا: إن كنت قد نزهت ذهنك عن وصمة العصبية والتقليد، كما هو
الأمل الوطيد بالمعاصرين المتنورين، فقد أوضحنا لك لزوم الشطط في بناء
الخلاص على العدل خصوصا إذا كان بنحو تجسد الكلمة والفداء باحتمال
القصاص على النحو الذي يكرره المتكلف مما يتهافت من جميع أطرافه على نسبة

337
النقض لذات الله جل شأنه بل والجحود لحقيقة إلهيته.
ولو أن القرآن اتخذ صفات الله من كتابهم لكان ربما اعتمد في احتجاجاته
على قول الكتاب بتعدد الآلهة " انظر يو 10: 31 - 37 " وبتعدد الأرباب " انظر
مت 22: 41 - 46 ومر 12: 35 - 38 ولو 20: 41 - 45 " أو ما ترى القرآن
قد بنى أساس دعوته وقانونها على إبطال هذه الخرافات وإرغامها ولقال فيما قال
إن الله حزن وتأسف في قلبه " تك 6: 6 و 7 ومز 78: 40 واش 63: 10 واف
4: 30 " ولقال: إن جماعة رأوا الله وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق
الشفاف " خر 24: 10 و 11 ".
ولما قال (1) (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف
الخبير)، ولقال: إن الله صارع بعض الناس إلى الصباح فلم يقدر عليه وطلب
منه أن يطلقه " تك 32: 24 - 31 ".
ولما قال (2) (ليس كمثله شئ) (3) (وهو القاهر فوق عباده)، ولقال يا رب
لماذا أسأت إلى هذا الشعب؟ لماذا أرسلتني " خر 5: 22 " لماذا أسأت إلى عبدك
" عد 11: 11 " ولقال: يا أيها السيد الرب حقا إنك خداعا خادعت هذا
الشعب وأورشليم قائلا: يكون سلام وقد بلغ السيف النفس " ار 4: 10 ".
ولم يقل (4): (إن الله لا يخلف الميعاد (5) ومن أوفى بعهده من الله)،
ولقال الله محبة " 1 يو 4: 8 و 16 "، ولقال لأبشر لا بحكمة كلام إن الله
استحسن أن يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة " 1 كو: 17 و 21 " وفي الترجمة
المطبوعة سنة 1811 م بحماقة الكرازة، ولم يقل (6) (ادع إلى سبيل ربك
بالحكمة والموعظة الحسنة) ولقال إن جهالة الله، أو تحامق الله أحكم من



(1) الأنعام: 103.
(2) الشورى: 9.
(3) الأنعام: 18.
(4) آل عمران: 7.
(5) التوبة: 112.
(6) النحل: 126.
338
حكمة الناس، ولم ينوه في كثير من مضامينه بحكمة آلله ولم يقل (1) (يؤتي
الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ولكنه ما ينطق عن الهوى
إن هو إلا وحي يوحى).
وأما قول المتكلف: " إن القرآن لا يعرف عدل الله الذي اقتضى تجسد
الكلمة إلى خره ". فقد بينا لك أين يكون هذا من عدل الله وتنزيهه وتوحيده،
وأين القرن وما يزعمونه من تجسد الكلمة، وكيف والقرآن هو المقاوم لذلك
والمنادي بتوحيد الله وتقديسه وبطلان التثليث والثالوث.
المتكلف والبرهمية والبوذية
وإن أراد المتكلف من يعرف ذلك فعليه بمصدره الأصلي وأساس تعليمه
وهي عقائد البراهمة والبوذيين وكتبهم كما ذكره " بطرس " البستاني في دائرة
المعارف فقد ذكر في الجزء الخامس منها ص 375 أن " برهم " هو المعبود الأول
عند الهنود وكثيرا ما يجعلون " برهم " اسما للأقانيم الثلاثة المؤلف منها ثالوث
الهنود وهي برهما " و " وشنو " و " سيوا " ويسمى برهم " فتش " أي الكلمة. وأما
برهما فهو نفس برهم معبود الهنود بعد أن شرع في أعماله. وهو الأقنوم الأول
من الثالوث الهندي أي أن برهم ينبثق من نفسه في ثلاثة أقانيم كل مرة في
أقنوم. فالأقنوم الأول الذي يظهر به أول مرة هو " برهما " والثاني " وشنو "
والثالث " سيوا "، ثم ذكر ما عندهم من التجسد. وفي ص 376 ذكر أن ألقاب
" سيوا " عندهم هي. السيد. والرب. والخالق. والمنتقم وفي ص 659 ذكر
عن البوذية أمورا يعتقدونها في تجسد " بوذه " وأحواله منها 1 عزمه في السماء
الرابعة على التخليص واختياره أن يولد من " مايا " حال كونها عذراء 2 تجربة
" المارا " له وهو معبود الحب والخطيئة والموت وتغلبه على سحره وأهواله 3 عند
ظهوره لإجراء عمله تقاطر إليه رجال ونساء من جميع الأصناف وأكثر الحكام
يتبعوه هم ورعاياهم 4 عمل آيات كثيرة واختار في آخر أمره من النساء وكيلات
له 5 كان " اتندا " تلميذه المحبوب 6 يعتقد البعض أنه تسجد تاسع لوشنوء وأنه



(1) البقرة: 272.
339
أصلح البرهمية بإدخاله فيها قانون إيمان بسيطا. وإبداله عاداتها وشرايعها
القاسية بشرايع أدبية ذات لين ورفق، فالبوذية ديانة بسيطة أدبية عقلية مضادة
للفلسفة والاحتفالات وحرفة الكهنة. سهلة المراس تدعو جميع الناس إليها.
مسهلة للجميع طريق الخلاص. ولها عدة مجامع في أمر الدين وانظر أيضا إلى
سو سنة " سليمان " " ص 55 و 56 ".
الفداء عند المسلمين
فإن قلت: أليس عند المسلمين معنى معقول للفداء، وهلا يمكن لبعض
الأولياء أن يكون فاديا، قلت: أما على ما يقوله المتكلف فمعاذ الله، نعم كل
من أعلن بدعوة الحق، وجاهر بمقاومة الباطل، وأبدى صفحته للاضطهاد في
سبيل الله، لا تأخذه في الهدى إلى الحق لومة لائم، فهو فاد لمن يهتدي بنور
هداه، وأن من الفادين من أقدم في الجهاد في سبيل الله على تحمل أنواع
الاضطهاد وبذل النفس والأعزة للقتل لأجل علمه بأنه إن لم يعل كلمة الحق
بالظفر فإنه يعليها بتحمله الاضطهاد، وأن اضطهاده وقتله وسوء المعاملة له مما
يعلي كلمة الدين ويوضح نهج الحق وينبه الناس على ضلالة قاتليه ومضطهديه،
ولكن لا يمكن لنا أن نسمي المسيح فاديا بهذا المعنى لأجل تصريح كتاب الله بأنه
ما قتل ولا صلب بل هو فاد بالمعنى الأول.
الفصل الثالث: في وقوع النسخ
اعلم أن كلما ذكرناه من العهدين من أمثلة وقوع النسخ فإنما يتيسر لنا
الاحتجاج به على سبيل الجدل والإلزام لمتبعهما وذلك لعدم علمنا بكون الناسخ
والمنسوخ فيهما من الأحكام الإلهية، وبعبارة أخرى لما كنا نعلم بانقطاع سندهما
ووقوع التحريف فيهما لم يسغ لنا أن نقول على ما فيهما هذا حكم إلهي ناسخ،
وهذا حكم إلهي منسوخ.
نعم: برهاننا على وقوعه ما في القرآن الكريم في سورة آل عمران في الحكاية
عن قول المسيح في دعوته 44 (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) وكذا ما
نعلمه إجمالا في أنحاء العبادات السابقة حيث قيدها الإسلام بكونها عربية،

340
وكذا ما نعلمه من وقوع الناسخ والمنسوخ في الشريعة الإسلامية بما دل عليه
القرآن الكريم كما سنشير إليه إن شاء الله، وقد أكثر الناس في ذلك وخلطوا،
فلنستأنف الكلام في تتبع بعض الكلمات المتكلف ليتضح لك حالها وحاله فيها.
المتكلف والنسخ
وقد افتتح كلامه في بحث النسخ بقوله " يه 4 ج ص 155 " مما اختصت
به الديانة الإسلامية مما يشين ويعيب مسألة الناسخ والمنسوخ، فمن تحرى في
القرآن وتفاسيره رأى أن الناسخ والمنسوخ فاش فيه بحيث يكاد أن لا تخلو سورة
منه، فكان ذلك موجبا لتشويش الذهن واضطراب الفكر، فإذا طالع الإنسان
بقصد الفائدة تاه في هندس الظلمات، ووقع في الالتباسات والإيهامات،
وصعب عليه التمييز بين الأحكام التي يجب أن يعول عليها وبين الأحكام التي لا
يجوز الاعتماد عليها.
أقول: أما دعواه اختصاص الديانة الإسلامية بالنسخ، فقد ظهر لك
ظهور الشمس في رابعة النهار من الأمثلة المتقدمة، كونها دعوى باطلة لا يسترها
التمويه.
وإن العهد القديم قد ذكر وقوع التناسخ في شريعة " نوح " كما في المثال
الأول، وجاء في شريعته النسخ لما قبلها، كما في المثال الثاني إلى المثال الخامس
والتناسخ فيها كما في المثال السادس إلى المثال التاسع والعشرين، وإن شريعة
الإنجيل قد جاء فيها النسخ لما قبلها كما في المثال الثلاثين إلى المثال السابع
والثلاثين والتناسخ فيها أيضا كما في المثال الثامن والثلاثين.
وإن شريعة العهد الجديد قد جاء فيها النسخ لما قبلها كما في المثال التاسع
والثلاثين إلى المثال الرابع والأربعين، والتناسخ فيها أيضا كما في المثال الخامس
والأربعين إلى السابع والأربعين، وانظر إلى ما ذكرنا في التنبيه، والمتكلف
يقول: وعلى كل حال فلا ناسخ ولا منسوخ، على أن المتكلف قد اتبع في هذه
الدعوى قول السيوطي في الإتقان اتباعا من دون تدبر، ولم يدر أنه لا يلزم
السيوطي مثل ما يلزمه.

341
قال في الإتقان في المسألة الثانية من النوع السابع والأربعين في النسخ ما
لفظه " النسخ مما خص الله به هذه الأمة لحكم منها التيسير "، ولا تحسب أن
السيوطي يدعي أنه لم يقع النسخ في الشرائع مطلقا حتى نسخ البعض من
أحكام الشريعة السابقة بالشريعة اللاحقة، كيف وأن القرآن الكريم صريح بأن
المسيح يحل لبني إسرائيل بعض الذي حرم عليهم كما تقدم، بل غاية دعوى
السيوطي أن نسخ الشريعة الواحدة لبعض أحكامها مما خص الله به هذه الأمة
في شريعتها، وغاية ما يعترض به على السيوطي في هذه الدعوى هو أنها دعوى
لأمر غائب لا يكتفي فيها بالظنون، بل تحتاج إلى حجة قاطعة صادرة عن علام
الغيوب.
نعم: لا يلزمه ما يلزم المتكلف من وقوع التناسخ في الشرائع السابقة
بمقتضى العهدين كما ذكرناه، وذلك لجواز أن يقول السيوطي لا حجة علي
بالعهدين لعدم صحة سندهما إلى الإلهام، ولكن أين يفر المتكلف عن لزوم ما
في العهدين، كما ذكرنا أمثلته.
وأما قول المتكلف: فمن تحري القرآن وتفاسيره رأى أن الناسخ والمنسوخ
فاش فيه.
فلو أراد فيه الأمانة والتحقيق وترك التمويه والتلبيس لكان عليه أن يبين ما
في القرآن من الناسخ والمنسوخ بالبيان الكافي المنطبق على معنى النسخ في الجامعة
الإسلامية، ثم يقول ما عنده.
وأما التشبث بأقوال المفسرين فتشبث سخيف، لأن الحقائق غير مربوطة
بأقوالهم، وأن كثيرا من أقوالهم هاهنا ناشئ عن آراء ضعيفة وأوهام مردودة،
فقد ذكرنا من تفسير الخازن عن قول العلماء إنهم قرنوا المفسرين " باعتبار الكثير
منهم " وساووهم بالمؤرخين حيث وصفوهم جميعا بأنهم مولعون بكل غريب
ملفقون من الصحف كل صحيح وسقيم.
ولنقتصر فيما يهمنا في المقام على ما أشار إليه في الإتقان، وإن كان قليلا
من كثير، فقد نقل عن ابن " الحصار " قوله ولا يعتمد في النسخ قول عوام
المفسرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين.

342
العلماء والمفسرون
إعلم أن من الناس من كانوا ذوي فهم ثاقب وفكر صائب وقريحة متوقدة
فإذا توجهوا إلى العلوم انهمكوا فيها انهماك المنهوم، فلا يزالون يجدون في إتقان
مقدماتها وأحكام مبانيها باذلين جهدهم في الغوص على دررها ورفع حجب
الجهل وأغاليطه عن وجوه حقائقها، يزنون المنقول بالمعقول ويردون الفروع إلى
الأصول. فالذين فازوا بهذه الفضيلة هم المستحقون لاسم العلماء، ومن
الناس قوم مالوا إلى العلم وقعدت بهم الهمم وقصور الاستعداد عن طلب
الغاية العلياء، فارتضوا من الفضيلة أن ينسبوا إلى فن من الفنون، واكتفوا من
الملكات بكثرة الحفاظ فاقتنعوا بالمنقول والأخذ من الأفواه وسواد الكتابات، ولم
يكن همهم في ذلك إلا تكثير بضاعتهم، ووفور محفوظاتهم، وغرابة منقولاتهم
من غير التفات إلى التحقيق، ولا وصول إلى الحقائق، ولا انتقاد لما يسمعون،
ولا تدبر لما يقولون ويكتبون ورواج بضاعتهم سهولة أخذ الهمج الرعاع عنهم،
وموافقة خبطهم لأهواء المدلسين، ومن هؤلاء كثير من المفسرين والمحدثين
الذين وقف العلماء لهم بالمرصاد، ونبهوا على خبطهم وخطأهم، كما ذكرناه عن
تفسير الخازن.
المفسرون والنسخ
وقد ذكر في الإتقان مما أورده المكثرون في النسخ أقساما وأمثلة لا يخفى
أنها ليست من النسخ الذي هو محل الكلام في شئ، بل إن جعلها منه إنما هو
من فلتات الأوهام، وسوء التخليط، وعدم التدبر.. فمن ذلك جعلهم من
أقسام النسخ كلما جاء في الشريعة المقدسة مبطلا لضلالات الجاهلية وعوائدهم
الذميمة، وكأنهم لم يسمعوا من العلماء أن النسخ إنما هو رفع الله لحكمه السابق
بإعلان حكمه اللاحق حسب اقتضاء المصلحة والإصلاح، فإن رضي المتكلف
أن يعد ما ذكروه من قسم النسخ لزمه على رأيه أن تكون أحكام التوراة كلها
ناسخة، ولكنه مع ذلك لا يبالي أن يقول: وعلى كل حال فلا ناسخ ولا
منسوخ.
ومن ذلك جعلهم جميع الآيات المادحة على الإنفاق والنادبة إليه منسوخة

343
بآية الزكاة، وهذا وهم فاحش، فإن حسن الإنفاق والندب إليه من محكمات
الشريعة ومستحسنات العقل، لما فيه من كرم الأخلاق واستحكام التقوى
وحسن الاجتماع. ودوام العواطف، وحفظ النوع، وليت شعري من أين
توهموا أن آية الزكاة ناسخة لآيات الانفاق، فهل ترى في قوله تعالى: (خذ من
أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)، وهل تشم منه رائحة المنافاة لآيات
الانفاق.
ومن ذلك جعلهم من بابا الناسخ والمنسوخ مثل قوله تعالى: (والعصر
إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا..)، وقوله تعالى: (والشعراء يتبعهم
الغاوون إلا الذين آمنوا)، فتوهموا أن الاستثناء ناسخ لما قبله. وهل هذا إلا
من الخلط والخبط بين الاستثناء والتخصيص المتصل بالكلام، وبين النسخ
المصطلح، ولئن رضي المتكلف بعد هذا من النسخ الذي يندد به على قدس
القرآن، فماذا يقول إذن فيما يوجد منه كثيرا في العهدين، أيقول مع ذلك وعلى
كل حال فلا ناسخ ولا منسوخ.
ومن ذلك جعلهم من المنسوخ قوله تعالى في سورة التين 80: (أليس الله
بأحكم الحاكمين).
وكذا قوله تعالى في سورة البقرة 77: (وقولوا للناس حسنا) فقالوا إن
الآيتين منسوختان بآية السيف وهو توهم ظاهر، فإن الآية الأولى لا ينبغي لأحد
أن يتوهم فيها النسخ لأن مضمونها إخبار بأحسن الأساليب عن أن الله أحكم
الحاكمين، وهو كذلك جل شأنه في الأزل والأبد.. فإن قيل إنها منسوخة
باعتبار لازم معناها وهو الأمر التفويض والتسليم، قلنا: أين لفظها وسوقها من
هذا المعنى؟ أفليس قبلها قوله تعالى (فما يكذبك بعد بالدين) وإن السوق
ليشهد بأن نظرها متوجه إلى المكذب بالدين، وأين هذا من الأمر بالتسليم
والتفويض، ولو سلمنا ذلك لقلنا إن آية السيف والجهاد الواجب من حكم الله
الذي يجب التفويض والتسليم له.
وأما الآية الثانية فهي حكاية عما عهده لبني إسرائيل وأمرهم به، فأين
وأين هي من آية السيف، بل لو كانت خطابا لهذه الأمة لكانت من المحكمات

344
التي لا تقبل النسخ، فإنها آمرة بتهذيب الأخلاق وحسن الخطاب الذي هو من
مصلحات النظام، وصون اللسان عن منقصة الفحش والبذاء، ولأجل ما
ذكرنا غلط ابن الحصار من جعلها منسوخة بآية السيف.
ومن ذلك ما يحكم أن " هبة الله بن سلامة الضرير " أخطأ في قوله تعالى في
سورة الدهر (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) وقال: إن
حسن الاطعام فيها وجوازه منسوخة بالنسبة لأسرى المشركين فقالت له ابنته
أخطأت فقد أجمع المسلمون على أن الأسير يطعم ولا يموت جوعا، فأذعن
بالخطأ وكان هو الناقل لهذه الحكاية.
ومن ذلك اضطرابهم في الخطأ في قوله تعالى في سورة الأعراف 198
(خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)، فقال " ابن العربي " إن أول
الآية وآخرها منسوخ بآية السيف، بناء على أن المراد بالعفو ما يرادف الصفح،
وقال بعض: إن أولها منسوخ بآية الزكاة، بناء على أن المراد بالعفو هو الفضل
من الأموال، وكلا القولين خطأ لأنه إن حملنا العفو على معنى الفضل من
الأموال لم تكن آية الزكاة مضادة له ولا ناسخة، فإن الزكاة من العفو والفضل
من الأموال، بل يكون كل من الآيتين شارحا للأخرى، فكأنه قيل خذ من
أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها، وهي من العفو والفصل من الأموال،
هذا وإن حملنا العفو على معنى الصفح فإن معناه المسامحة وترك الانتقام عما مضى
من الإساءة، وهو من مكارم الأخلاق التي يصلح بها الاجتماع وتتألف القلوب
وتقوم بها الحجة، ويتبصر بها الغافل ورياضة نفسانية، وسياسة اقتصادية تتقدم
بها شريعة الحق إلى الانتشار ولا مضادة للعفو كما أوضحناه، ولا منافاة له مع
آية السيف، فانظر إلى آية السيف وهو قوله تعالى في سورة براءة 5: (فإذا
انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم
واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن
الله غفور رحيم) وانظر إلى ما قبل الآية وما بعدها من أول السورة إلى الثانية
عشر فهل تجد في اللفظ أو المعنى أو السوق نهيا عن فضيلة العفو عما سبق من
الإساءة، أو أن الله جل اسمه يقول: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة

345
فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم 11 فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة
فإخوانكم في الدين) وإنك لتجد من صراحة الآيات أن قتل المشركين لم يكن
لأجل الانتقام منهم ولا للمؤاخذة لهم على إساءتهم السابقة، بل إنما هو لأن
المشركين رجس نجس ومعثرة في سبيل التوحيد وانتشار شريعة الحق والعدل
ونظام المدنية، وزيادة على ضلالهم قد توغلوا بالعداوة للتوحيد والموحدين
وأنهضهم ضلالهم وجبروتهم لإيذاء المؤمنين وحربهم مبلغ جهدهم، ولم تنفع
فيهم الحجج الواضحة والمواعظ الناصحة، ولأجل ذلك قال الله جل شأنه
أمهلوهم مدة الأشهر الحرم تأكيدا للحجة ومهلة للنظر واستمالة إلى الهدى
والتوبة، ثم ضايقوهم بعد هذا بالقتل والحصار تطهيرا للأرض من رجسهم
وحياطة للتوحيد وشريعة الحق من كيدهم، أو ينيبوا إلى الإسلام فيتطهروا
بقداستهم ويستنيروا بهداه، وحينئذ فخلوا سبيلهم، وليس لكم أن تؤاخذوهم
بإساءتهم معكم أيام شركهم فإن الله غفور رحيم.
فلا بد لكم حينما يسلمون أن تعفوا وتصفحوا عما سبق منهم فإنهم حينئذ
إخوانكم في الدين.
فالآيات الكريمة مؤكدة لحكم العفو والصفح، وصريحة في أن قتلهم
ومحاصرتهم قبل إسلامهم إنما هما لتنفيذ شريعة الحق، الداعية إلى مكرمة العفو
والصفح.
فأين الآية الشريفة من معارضة الأمر بالعفو ونسخه، وقس على ذلك كلما
جاء في القرآن الكريم من الأمر بالعفو والصفح عن المشركين، فإذا أمعنت
النظر في فلسفة هذه الحقيقة، وأوصلك التدبر إلى معرفة ما فيها من الحكم
الباهرة في تربية البشر دعوتهم إلى شريعة الحق والعدل وتأديبهم بها، فإنك
تعرف اشتباه " ابن العربي " في دعواه أن آية السيف المذكورة نسخت مائة وأربعة
وعشرين آية.
وتعرف أيضا خطأ المتكلف والتعرب في اتباعهما له على ذلك " يه 4 ج ص
161 وذ ص 44 و 45 ".
وتعرف أيضا مبلغ تعصب المتعرب وضلاله، وأني لأظن ظنا قويا أنهما لم

346
يطلعا على الآيات التي أشار إليها " ابن العربي " وإنما اتبعا مجمل كلامه لموافقته
لأهوائهما، وسنتعرض إن شاء الله لشرح مضامين هذه الآيات عند التعرض لما
في القرآن الكريم من التعليم بمكارم الأخلاق والحكمة البالغة في إظهار دين
الحق فترتاح إلى نفحات الهدى واليقين وتعرف نسبه الآيات المشار إليها من آية
السيف المذكورة.
ومن الاشتباه والخلط ما ينقل من دعوى " ابن العربي " أن آخر آية السيف
قد نسخ أولها، وها قد تلوناها عليك، وذكرنا لك صراحتها وسوقها، وقد
عرفت في أوائل المقدمة معنى النسخ، فهل تجد لهذه الدعوى وجها مقبولا.
ومن العجب أن الإتقان قد نقل قبل هذا عن " ابن العربي " نفسه قوله بأن
ما يخصص باستثناء أو غاية ليس من المنسوخ، وذلك كقوله تعالى: (إن
الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا فاعفوا واصفحوا حتى يأتي أمر الله) فكيف
إذن يقول: إن أول آية السيف منسوخ بآخرها وهو قوله تعالى: (فإن تابوا
وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم).
ومن الاشتباه ما عن " ابن العربي " أيضا في قوله الله تعالى في سورة المائدة
104 (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)
حيث قال: " أي اهتديتم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " فجعل هذا ناسخا
لقوله تعالى: " عليكم أنفسكم " زاعما أن معناه لا تتعرضوا لغيركم بالأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا توهم فإنه لا دلالة في الآية على ذلك أصلا،
بل معناها نحو ما قاله الكشاف عليكم أنفسكم وما كلفتم من إصلاحها
والسلوك بها في نهج الهدى وذلك باتباع دين الحق والشريعة المقدسة والتأدب
بآدابها، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن من تركهما مع القدرة
عليهما فليس بمهتد، بل إن تركهما حينئذ من الضلال المقابل للهدى، ومع ذلك
فليت شعري من أين لابن العربي تقييد الاهتداء وتفسيره بخصوص الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن أخذه من روايات الآحاد فإن ما رواه الكشاف
في هذا المقام عن " ابن مسعود " و " أبي ثعلبة " عن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم لصريح بخلاف ما يدعيه ابن العربي من النسخ.

347
ومن هذا النحو اعتماد بعض على رواية من الآحاد فقال إن قوله تعالى:
(واتقوا الله حق تقاته) منسوخ بقوله تعالى: (واتقوا الله ما استطعتم)، وقد
نقل في الإتقان القول بأن الآية الأولى من المحكم الذي لم ينسخ، وذهب
المحققون كالكشاف وغيره إلى أن الآيتين بمعنى واحد فلا معارضة بينهما حتى
تمكن دعوى النسخ.
فإن معنى قوله تعالى: (اتقوا الله ما استطعتم) اتقوا الله جهد قدرتكم
ومبلغ استطاعتكم، وهذا هو تقوى الله حق تقاته، إذ لا يصح الأمر بتقوى الله
فوق القدرة والاستطاعة، ولا معنى لذلك. وهذا كاف في رد الرواية لمخالفتها
لحكم العقل، وبهذا تعرف وهن كلام المتكلف " يه 4 ج ص 162 " ولو أنه
يسمع كلاما " لهيان ابن بيان " لحمله على عاتق حقائق الإسلام وجامعته وقال: ما
شاء هواه هذا وأن جملة مما اختار في الإتقان كونه من الناسخ والمنسوخ لهو أيضا
محل منع، وسنتعرض إن شاء الله لتحقيق ذلك بالبيان الواضح عند التعرض
لبيان شرائع القرآن الكريم.
وبما ذكرنا هاهنا تعرف أن ما سرده المتكلف " يه 4 ج ص 166 " من
تعداد السور التي ادعى فيها وجود الناسخ أو المنسوخ، أو كليهما إنما هو دعوى
لا حقيقة لها، وإنما اتبع بها نقل الإتقان عن بعضهم في المسألة الخامسة.
وأعلم أنا لا نتحاشى من وجود الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم بل قد
دللناك في أوائل المقدمة على أن النسخ قد تقتضيه الحكمة الإلهية ومراعاة
المصلحة، ولكنا قصدنا هاهنا تحقيق الحق، ودفع أغاليط الأوهام عن شرائع
القرآن الكريم وآدابه، وقمع تهويلات المتكلف وتمويهاته وإكثاره الكاذب! وبما
ذكرنا تعرف خطأ المتكلف في قوله المتقدم " فكان ذلك موجبا لتشويش الذهن
واضطراب الفكر ".
شروط الفتيا
أفلا يعلم أن كل من يعد نفسه مفتيا في شريعة من الشرائع، ويدعي
رياسة العلم بها ليس له أن يستريح من حيث يتعب الكرام، بل لا بد له أن

348
يجتهد في الاطلاع على كتابها الذي هو أساسها، ليعرف منه العام والخاص،
والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ. ليستنتج من ذلك
الأحكام الفعلية، ويميز موضوعاتها لئلا يكون في فتياه كحاطب ليل وخابط
عشواء.
أفلا ترى أنه لا يصح لرباني اليهود أن يتصدر للفتوى بمقتضى دينه ويفتي
بتقديس كل بكر فاتح رحم للرب اعتمادا على " خر 13: 2 و 22: 29 و 30 وتث
15: 19 " من دون أن يفحص ليطلع على الحكم بالفداء " خر 13: 13 و 15
و 34: 20 ولا 27: 27 وعد 3: 12 و 39 - 48 و 8: 16 - 18 و 18: 15 -
18 ".
فيعرف من هذا كله العام والخاص، والمجمل والمبين، والمطلق والمقيد
والناسخ والمنسوخ.
ويتدبر حكم الفداء لبكر الحمار من " خر 13: 13 و 34: 20 ولا 27:
27 وعد 3: 41 و 45 ".
ولا يصح له أن يفتي في العبد العبراني على مقتضى " لا 25: 39 - 42 "
من دون أن يتحقق بيان الحكم من " خر 21: 2 - 7 وتث: 12 - 18 "، ولا
يصح له أن يفتي بحرمة أرملة الأخ على مقتضى " لا 18: 12 و 20: 21 " من
دون أن يطلع بالفحص على " تث 25: 5 - 10 ".
ولا يصح له أن يفتي بحد عمر اللاوي لخدمة مسكن الرب على مقتضى
" لا 4 " حتى يطلع بالفحص على " لا 8: 44 و 45 ".
ويفحص عن سند التوراة العبرانية والسبعينية، ويتدبر في فتواه بالاطلاع
على " 1 أي 23: 3 و 24 و 27 وعز 3: 8 " فيتعرف من ذلك الصحيح والغلط
والمحرف والناسخ والمنسوخ.
ولا يصح له أن يفتي في ذبائح الأيام والسبوت والأعياد والمواسم
ومقاديرها، وممن تكون وعلى من تجب حتى يطلع بالفحص على " حز 45: 13
46 - 16 " ليعرف الناسخ والمنسوخ والصحيح والغلط، وهذا المقدار كاف في
الأنموذج.

349
وكذا لا يصح لقس النصارى أن يعتمد في فتواه بأحكام التوراة على
إمضاء المسيح لها، وأمره بحفظ أقوال الكتبة والعمل بها لأنهم على كرسي
" موسى " جلسوا " مت 23: 2 و 3 " من دون أن يستقصي العهد الجديد
بالفحص ليطلع ما يحكي عن المسيح من تحريم الطلاق والتزوج بالمطلقة " مت
19: 9 " وما يحكي عن " بطرس " من تحليله لأكل جميع الحيوانات المحرمة في
التوراة " ا ع 10: 11: 17 ".
وما يحكي عن التلاميذ من رفعهم وجوب الختان وقيود التوراة إلا أربعة:
الامتناع عما ذبح للأوثان، والدم، والمخنوق، والزنى " ا ع 15: 23 - 30 "،
ولا يصح له أيضا على أساسهم أن يفتي بوجوب الامتناع عن هذه الأربعة ما لم
يوصله الفحص إلى الإباحة العامة المنقولة عن أقوال " بولس " " رو 14: 14 وأتى
4: 4 وتي 1: 15 " وحتى يستنتج نتيجة من الأقوال المشوشة المضطربة المنقولة
عن " بولس " في أكل ما ذبح للأوثان " 1 كو 8: ي 1 - 13 و 10: 19 - 22
و 29 و 30 ".
ولا يفتي بكفاية الإيمان في النجاة أو بلزوم الأعمال حتى يوفق بما عنده بين
الأقوال المنسوبة إلى " بولس " " عب 9 و 10 و 11 " وبين ما يضادها من الأقوال
المنسوبة إلى " يعقوب " يع 2 و 3 ".
وعلى مثل هذا وبخ علي عليه السلام رجلا تصدر للفتيا مع جهله بالناسخ
والمنسوخ، كما استشهد به المتكلف " يه 4 ج ص 156 " ولو لم يكن في الشريعة
إلا ناسخ واحد لكفى جهله في لزوم التورع عن الفتيا، ولم يكن جهل ذلك
الرجل بالناسخ والمنسوخ من أجل كثرتهما بل لأجل كونه عاطلا من زينة العلم
مؤثرا راحة الجهل وإن كان صاحبا لأبي موسى.
فإن قلت: إن لي سوء الآن " أحدهما " هو أنه لم لو يوجب النسخ تشويشا
فما هذا النزاع القائم في أمر الناسخ والمنسوخ في القرآن بين المكثر والمقلل،
" وثانيهما " هو أنه لماذا لا يوجد في النصرانية مثل هذا التشويش وهذا النزاع،
قلنا في السؤال الأول: إن التشويش لم يجئ من ذات النسخ ولم يوجب تشويشا
في الشريعة، فإن الناسخ والمنسوخ معلومان معروفان عند الأئمة والمجتهدين في

350
تحقيق الأحكام الشرعية العارفين بموارد الشريعة ومصادرها، والمعول عليهم بين
الملة في معرفة أحكامها، بحيث لا تشتبه عليهم مواردهما، ولا تلتبس عليهم
مصادرهما.
وأما النزاع الذي تراه فإنما أوجبه خبط الاشتباه بين ما سماهم الإتقان
بعوام المفسرين، وذكر الخازن عن العلماء أنهم قرنوهم بالمؤرخين المولعين بكل
غريب كما تقدم.
وماذا على الحقائق إذا تشعب فيها أوهام غير المحققين، وهل من حقيقة لم
نتشعب فيها الأوهام ولم تكثر في سبيل عرفانها معاثر الجهل، وسيمر عليك
شئ من ذلك إن شاء الله في أوائل المقدمة الثالثة عشرة.
ثم نقول في السؤال الثاني: إن النصارى قد جاءهم نسخ الشريعة عن
" بولس " جملة واحدة بعنوان الملاشاة للشريعة جملة واحدة، وبعد هذه الاستراحة
التامة من الشريعة وأحكامها ومعرفتها، فلا حاجة إلى إمعان النظر في كلمات
المسيح والرسل للاطلاع على ما فيها من موارد النسخ الجزئي، ولا داعي لهم
إلى مرور الأفكار عليهم ليثور منها غبار الأوهام، ومع ذلك أفلا تنظر إلى النزاع
العظيم والمثابرة التي قامت بين البروتستنت والكاثوليك حتى جرت إلى سفك
الدماء وشديد الاضطهاد وشنايع الأفعال والأقوال، فإن المنشأ في ذلك مكافحة
الأوهام من أجل مكافحة رسالة " يعقوب " المشددة في حفظ الأعمال وعدم كفاية
الإيمان، مع رسالة " بولس " إلى العبرانيين المصرة على التعليم بترك حفظ
الناموس وبكفاية الاتكال على الإيمان وسر الفداء.
حتى قال " لوطر " مصلح البروتستنت على ما نقله المتكلف " يه 3 ج ص
109 " إن معلمي الخطيئة يعني " الكاثوليك " يضايقوننا بموسى فلا نريد أن نسمع
موسى ولا نراه لأنه أعطى لليهود ولم يعط لنا نحن الأمم والمسيحيون فعندنا
إنجيلنا فهم يريدون أن يهددونا بواسطة موسى وهيهات.
وقال أيضا " ميلانختون " قد نسخت الوصايا العشر، فقال المتكلف في
الاعتذار عن كلام " لوطر " وجرئته على " موسى " إن سببه هو أن الكاثوليك

351
تطرفوا في حفظ الأعمال الصالحة، وتوهموا أن الله يقبلنا بسببها، وأن خلاصنا
متوقف عليها، فتطرف " لوطر " كذلك في رفضها.
وما أشبه قول المتكلف هذا بالأقوال المنسوبة إلى مردة بني إسرائيل فيما عن
قول الله جل اسمه في ثالث " ملاخي " 13 أقوالكم اشتدت علي وقلتم ماذا قلنا
عليك 14 عبادة الله باطلة، وما المنفعة من أننا حفظنا شعائره.
منسوخ التلاوة
وأما ما ذكره المتكلف " يه 4 ج ص 164 و 165 " من منسوخ التلاوة فعقبه
" ص 165 و 166 " بوساوس هواه، وكذا المتعرب " ذ ص 48 و 49 " فإنما اتبعا
فيه بعض المفسرين اتباعا لم يقد إليه إلا الهوى وفرط الغواية مع أن السيوطي
نقل عن " القاضي أبي بكر " في الانتصار عن قوم إنكار هذا النحو من النسخ،
لأن الأخبار فيه أخبار آحاد ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد
لا حجة فيها إنتهى.
وأين أخبار الآحاد من إثبات القرآن المبني على القطع في الجامعة
الإسلامية، بل إنك لا ترى في القرون العديدة جماعة أو واحدا من المسلمين
يعتمدون في أمر القرآن على غير اليقين، أو يحتفلون في شأنه بأخبار الآحاد
احتفالا دينيا أساسيا، نعم ربما يذكر بعض المحدثين شيئا من ذلك ذكرا
تاريخيا، وقد ذكر في الإتقان في شأن منسوخ التلاوة روايات عشرة منها عن راو
واحد وهو " أبو عبيدة " وكلها تدل على أن ما نسبته إلى القرآن ليس من منسوخ
التلاوة وإنما هو مما أضاعته الأمة.
وأن خصوص روايات " عائشة " و " حميدة " و " مسلمة بن مخلد " من جملة هذه
العشرة لصريحة في ذلك، ورواية عائشة التي ذكرها في منسوخ الحكم والتلاوة
صريحة أيضا في ذلك.
وقد اضطرب من جملة الروايات العشر روايتا " زر بن حبيش " و " خالة أبي
أمامة " في لفظ آية الرجم كما اضطرب في لفظها وشأن عمر معها ما أخرجه
" الحاكم " و " النسائي " و " ابن الضريس " وما ذكره الإتقان عن البرهان على أن هذه

352
الروايات مردودة أيضا بوجهين " الأول ": هو أن ما زعمت كونه من القرآن لا
نجد له نسبة مع القرآن إلا كنسبة القحمة البالية مع ترصيع تاج الملك.
" الثاني " هو أن نقلها لضياع كثير من القرآن من الأمة ليكذبه قول الله
جل اسمه في سورة الحجر 6 - 10 (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)
فيجب تكذيبها بحكم القرآن الكريم.
وليس في روايات الإتقان ما هو صريح بنسخ التلاوة إلا ما أخرجه
" الطبراني " عن " ابن عمر "، وأين هذه الرواية من القبول في الجامعة الإسلامية
ولا سيما في شأن القرآن الكريم.
فإن قلت: أليس يشهد لما تنكره قوله تعالى في سورة البقرة 100: (ما
ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) فإن صراحة هذه الآية تدل على
أن الحفظ الموعود به في الآية المتقدمة إنما هو بالنسبة إلى غير الإنساء قلت: الآية
تضمنت الإنساء قبل انقطاع الوحي، وتكفلت بالإتيان بخير من المنسوخ
والمنسي أو مثله فهي تدل على أن الله لا ينسخ ولا ينسى عند انقطاع الوحي،
بل إنما ينسخ أو ينسى آية حيث يوحي بعدها خيرا منها أو مثلها فهذه الآية كآية
الحفظ مكذبة لزعم الزاعمين أن ما تضمنته هذه الروايات من القسم الذي
أنساه الله بعد انقطاع الوحي ونسخ بذلك تلاوته، وعلى هذه الرواية أين يكون
الإتيان بخير منها أو مثلها؟ وأين يكون حفظ الذكر مع أن هذه الرويات وأمثالها
قد أفرطت في الإكثار حتى جعلت مقدار الذاهب من القرآن أكثر من الموجود،
فتتبع كتب المحدثين الذين لا هم لهم في تحقيق الحقائق، وإنما همهم حفظ
أساطير الأثر والتاريخ، فيكتبون كل ما يسمعون أو يجدون، ويوكلون أمر
التحقيق إلى أهله، ويحملون الفقه إلى من هو أفقه منهم.
وأن آية الحفظ للذكر لتدل على أن الإنسان لا يقع بالنسبة إلى القرآن
الكريم الموعود بحفظه، فتدل على أن المقصود بالنسخ والإنساء في آيتهما هو ما
أوحى من الآيات في الشرائع السابقة، فنسخ بعضها وعفت بعضها عواصف
الأيام حتى جعلته نسيا منسيا، كما يشهد لذلك سوق الآية مع التي قبلها وهو
قوله تعالى: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين أن ينزل عليكم

353
من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو فضل عظيم، ما ننسخ
من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) فإن قلت: المراد بالآية هنا هو ما
كان من القرآن، قلت: من أين لك أن تخالف سياق القرآن وتتحكم عليه بغير
علم؟ أفتقول: إن ما في الكتب الإلهية السابقة لا يسمى في القرآن آية؟ مع أن
الله جل اسمه قد سمى في القرآن ما جاء في الكتب الإلهية السابقة بالآية
والآيات ومدح من يتلوها فقال تعالى بعد ذم أهل الكتاب في سورة آل عمران
109: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم
يسجدون).
وقال تعالى في سورة مريم بعد ذكر النبيين السابقين 59: (إذا تتلى
عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا 60 فخلف من بعدهم خلف أضاعوا
الصلاة...)، وقال تعالي في سورة الزمر 71: (ألم يأتكم رسل منكم يتلون
عليكم آيات ربكم...)، فاتضح لك أن القول بمنسوخ التلاوة أخذا من
الروايات المشار إليها مما لاحظ له بشئ من التحقيق والصواب لوجوه عديدة...
وأما قوله تعالى في خطاب رسوله في سورة الأعلى 6: (سنقرئك فلا
تنسى 7 إلا ما شاء الله...)، فلا يمكن حمله على حقيقة الاستثناء ووقوع مشيئة
الله لنسيان القرآن إلى حد الخروج عن الانتفاع به، وذلك لأنه مناف لوعد الله
في الآية المتقدمة بحفظ الذكر، ومستلزم لبطلان الوعد والامتنان بقوله تعالى:
(سنقرئك فلا تنسى..) بل إنه ليكون مثل قولك سأعطيك ولا آخذ منك
إلا ما أشاء أن آخذه منك، بل ومناف لما اتفق عليه المليون من عصمة الرسول
في التبليغ، ولازمه أن لا يذهب منه بالنسيان بعض ما يوحى إليه، فيكون نظر
الاستثناء إلى عروض النسيان زمانا يسيرا لا ينافي الوعد بحفظ الذكر، ولا يضاد
الامتنان بعدم النسيان ولا ينافي العصمة في التبليغ، هذا إن جوزنا على الرسول
هذا المقدار من النسيان كما ذهب إليه بعض المحدثين.
وأما إذا منعناه أيضا كما هو مذهب المحققين فتكون فائدة الاستثناء هو
تسديد الأذهان بدوام إشعارها وتمرينها على الاذعان بعموم قدرة الله وتسلط
مشيئته، مع إيضاح وجه الامتنان في الوعد بعدم النسيان، وذلك ببيان أن عدم

354
النسيان ليس لأمر ذاتي في الرسول فيثور من ذلك ضلال الغلو وإنما هو منحة من
الله وبيده مشيئة النسيان وإن لم يكن يشاؤه لأجل إجراء حكمة الرسالة، وبهذا
تعرف فساد تشبث المتعرب " ذ ص 38 ".
وقد عن لنا أن نختم الجزء الأول تعجيلا لإنجاز مطبوعه حامدين لله
على آلائه، شاكرين له على أن هدانا بلطفه للحق، ووفقنا بفضله لنصرته
متوسلين إليه بحرمة أنبيائه وأضفيائه عليهم الصلاة والسلام أن يوفق عباده
للأخذ بحظهم في رشدهم، والنظر في أمرهم، ويجمعهم على كلمة الحق،
وجامعة الصواب أنه ولي التوفيق وهو أرحم الراحمين.
وأن ضرورة التنبيه على شطط الأضاليل، وغفلات الجهل وفلتات
التعصب، وقبائح الجرأة قد ألجأت القلم الغير أن للحق إلى ما نملك منعه عنه
ابتداء، ولنا عنه في بيان الهدى أحسن مندوحة نتجافى فيها عن التعرض للنحل
ولكن القلم جرى ولسان حاله يقول: إن الإغضاء عن العادي على الحق خور
ووهن، وتخلية سبيل المضلين خذلان للدين القيم، ومعاونة على الضلال
والإثم والعدوان، وعقوق للأخوان من البشر، وقعود عن نصرتهم على عادية
الشبهات ووساوس الغواية، وذلك مما يأباه الدين والعواطف ويحظره العقل
والشرع، وما في إحقاق الحق من غضاضة وإن غيظ المضل، على أهلها جنت
براقش، والحديث شجون.
سقوني وقالوا لا تغن ولو سقوا * جبال شروري ما سقوني لغنت
" وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ".
وسيأتي إن شاء الله المقدمة الثالثة عشرة في أوائل الجزء الثاني في
ضمن فصول " والله المستعان، وهو حسبي ".

355
/ 1