أغذية و الأدوية نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

أغذية و الأدوية - نسخه متنی

اسحاق بن سلیمان اسرائیلی؛ محقق: محمد صباح

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: الأغذية والأدوية
المؤلف: الإسرائيلي
الجزء:
الوفاة: 320
المجموعة: طب
تحقيق: الدكتور محمد الصباح
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: 1412 - 1992 م
المطبعة:
الناشر: مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:
كتاب
الأغذية والأدوية

1
بسم الله الرحمن الرحيم

2
كتاب
الأغذية والأدوية
تأليف
إسحاق بن سليمان
المعروف بالإسرائيلي
المتوفى سنة 320 ه‍
تحقيق
الدكتور محمد الصباح
مؤسسة
عز الدين
للطباعة والنشر

3
جميع الحقوق محفوظة
لمؤسسة عز الدين
للطباعة والنشر
الطبعة الأولى
1412 - 1992
مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر

4
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
تكمن أهمية الصحة للانسان في أنها وراء تحقيق مطالبه كلها، والتي أجمع الحكماء انها لا تعدو أن
تكون اما لذة يحققها في دنياه، أو خيرا يرجوه في آخرته.
وإذا كان علم الطب يهدف إلى حفظ الصحة الموجودة، ورد الصحة المفقودة، فإنه اكتسب أهمية
بالغة، وأحيط بهالة من الجلالة ليس أدل عليها أكثر من الاختلاف القائم حول منشأه، حيث أنكر
كثيرون، يمثلهم جالينوس، قدرة عقل الانسان على ادراك هذا العلم الجليل، وأعادوه إلى قدرة الخالق
تعالى الذي ألهمه الناس.
وإذا كانت غاية الدواء هي مقاومة الداء ومعالجته لرد الصحة إلى حال العافية، فان الغذاء هو قوام
نماء الانسان والحفاظ على الصحة الموجودة وتحصينها ضد المرض.
إن الغذاء والدواء هما وجها صناعة الطب، " فيحاول صاحبها حفظ الصحة وبرء المرض بالأدوية
والأغذية بعد أن يتبين المرض الذي يخص كل عضو من أعضاء البدن والأسباب التي تنشأ عنها ". وهذا
من تعريف ابن خلدون لهذه الصناعة.
وطبيعي أن تكون الأغذية مقدمة على الأدوية في علاج الانسان لبدنه " فان استطاع الحكيم ان يعالج
بالأغذية دون الأدوية، فقد وافق السعادة " بتعبير الرازي، الطبيب الكبير.
بدأت صناعة الطب كإحدى الضرورات الانسانية المبكرة، إذ لا شك ان المرض هدد الانسان منذ
وجد، وغدا صلاحه من همومه الأولى.
ومع تطور هذه الصناعة وسطوعها عند بعض الشعوب، خاصة اليونان، كان للعرب والمسلمين
اهتمامات بها وإسهامات اعترف لهم بها غربيون كثر. وهي لا تقل عن تلك التي حققوها في الرياضيات

5
والفلك والأدب والفلسفة.
ومما عزز التوجه الطبي عندهم، إضافة إلى حث الاسلام إلى طلب العلم، دعوة صريحة من
نبيهم صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن: (تداووا عباد الله، فإن الله لم يضع داء الا وضع له دواء، غير واحد. قيل:
يا رسول الله وما هو؟ قال: الهرم).
ونلاحظ، هنا، أن الأطباء المسلمين استطاعوا، في وقت قصير، احراز قصب السبق في صناعة
الطب على اليونان الذين كانوا بالأمس يمدونهم بالمعارف الطبية. فهم، باعتراف يكاد يجمع عليه مؤرخو
العلوم، أضحوا حاملي لواء التطور الطبي إبان القرن الرابع الهجري، وبقوا مصدر علوم أطباء الغرب
طيلة القرون الوسطى، وامتد تأثيرهم هذا، في بعض الحالات، حتى عصر النهضة وما بعده.
وإذ نتكلم عن هذه الانجازات العملاقة، نتذكر أسماء الرازي، وابن سينا، وابن النفيس،
والزهراوي، وعلي بن العباس، وابن الجزار، وابن أبي أصيبعة، وعبد اللطيف البغدادي، وإسحاق بن
سليمان مؤلف كتابنا هذا.
إنه إسحاق بن سليمان، يكنى أبا يعقوب. شاع ذكره وطغت معرفته بالإسرائيلي. لم يحفظ لنا
المؤرخون سوى سنة وفاته وهي على الأرجح 320 ه‍. وقد عاش مائة سنة ونيف، لم يتزوج ولم يعقب
ولدا.
(كان طبيبا فاضلا بليغا عالما مشهورا بالحذق والمعرفة) هكذا عرف به ابن أبي أصيبعة. وهو الوحيد
الذي ترجم له باستثناء ما ذكره عنه صاحب (كشف الظنون) بشكل مقتضب جدا على عادته في إسناده
الكتب إلى مؤلفيها. واللافت، هنا، غياب ترجمته عن سائر كتب التراجم والتأريخ.
نشأ الإسرائيلي في مصر، وانتقل إلى القيروان بتونس، وسكن فيها، وأصبح ينسب إليها أيضا.
وهناك تعرف إلى الطبيب المشهور إسحاق بن عمران فلازمه وتتلمذ له.
لم يقتصر فضله على الطب، بل كان (بصيرا في المنطق، متصرفا في ضروب المعرفة) كما ورد في
طبقات الأطباء. وهذا ما نلمسه أيضا في عناوين بعض كتبه. ولعل أستاذيته للطبيب الشهير ابن الجزار
هي أبلغ دلالة على علو شأنه في علوم الطب وغيرها.
كانت تونس أثناء إقامته فيها تحت حكم زيادة الله بن الأغلب (1). وقد أورد ابن الجزار (2) نادرة سمعها



(1) آخر أمراء دولة الأغالبة بتونس. كان واليا لأبيه على صقلية. وإذ عزله أبوه وسجنه لميله إلى اللهو وعكوفه على الملذات،
بث إليه من قتله وتولى إفريقية (290 - 294 ه‍). وعاد إلى لهوه مهملا شؤون الملك.
(2) ذكرها ابن أبي أصيبعة في (طبقاته) نقلا عن كتاب ابن الجزار (أخبار الدولة) (ص 480).
6
من الإسرائيلي جرت له في مجلس زيادة الله هذا، تكشف عن مكانته عند هذا الحاكم، وتؤرخ ولو بصورة
غير مباشرة لشخصيته الهزلية، كما تبرز قدرة الإسرائيلي على الجدل والاقناع. واتبعها بنادرة ثانية مع أبي
عبد الله الشيعي (1) داعية المهدى (2). وكان هذا يستخدم مؤلفنا بصناعة الطب.
ترك إسحاق بن سليمان عددا من المؤلفات منها:
* كتاب الحميات، خمس مقامات. قال في كشف الظنون: (لم يوجد في هذا الفن مثله). وفى طبقات
الأطباء: (لم يوجد في هذا المعنى كتاب أجود منه). وعن لسان ابن رضوان: (أنا علي بن رضوان
الطبيب، ان هذا الكتاب نافع وجمع رجل فاضل، وقد عملت بكثير مما فيه فوجدته لا مزيد
عليه).
* كتاب الأغذية. كتابنا هذا. واقتصار العنوان فمن قبيل العادة التي كانت مألوفة، ولا يعنى خلوه من
الأدوية. ذكره ابن أبي أصيبعة باسم (كتاب الأدوية المفردة والأغذية)، وسماه ابن جلجل (في الغذاء
والدواء). وسيرد على لسان صاحبه أنه (كتاب الأغذية والأدوية).
* كتاب البول.
* كتاب الأسطقسات.
* كتاب الحدود والرسوم.
* كتاب بستان الحكيم. ذكر ابن أبي أصيبعة أن فيه مسائل من العلم الآلهي.
* كتاب المدخل إلى المنطق.
* كتاب المدخل إلى صناعة الطب.
* كتاب في النبض.
* كتاب في الترياق.
* كتاب في الحكمة.
* كتاب الأوائل والأقاويل. ذكره البغدادي في ايضاح المكنون، ذيل كشف الظنون.
لقد اشتهرت كتب الإسرائيلي، وكان هو يدرك أهميتها ويعتز بها كمآثر تخلد ذكره. من المرويات عنه
قوله: (لي أربعة كتب تحيي ذكري أكثر من الولد، وهي: كتاب الحميات، وكتاب الأغذية والأدوية،



(1) هو الحسين بن أحمد، يلقب بالمعلم، مهد لدولة العبيديين ونشر دعوتهم في المغرب. ثار على زيادة الله بن الأغلب وأجبره على
الفرار من إفريقية سنة 294 ه‍. (الاعلام: 2 / 230).
(2) هو عبيد الله بن محمد المهدى، أبو محمد، مؤسس دولة العلويين في المغرب. طرد الأغالبة وأسس مدينة (المهدية) ومات بها
بعد أن حكم أربعا وعشرين سنة. توفي سنة 322 ه‍. (الاعلام: 4 / 197).
7
وكتاب البول وكتاب الأسطقسات). ويبدو أنه كان أكثر اعتزازا بالأول منها، إذ قيل له: أيسرك أن لك
ولدا؟ قال: أما إذا صار لي كتاب الحميات، فلا). ومقصده واضح أن هذا الكتاب سيخلد ذكره أكثر
من الولد.
ومن دلائل اشتهار هذه الكتب أن يقوم طبيب شهير، عبد اللطيف البغدادي، باختصار ثلاثة منها
هي: الحميات، البول والنبض.
وإذا كان كتاب (الحميات) فريد نوعه، فإن كتاب (الأغذية) هذا هو من أجل ما كتب في هذا
الفن. ولسوف يجد القارئ ضخامة مادته ووفرة مباحثه وفائدة محتوياته. كما سيلمس حذق مؤلفه وعمق
درايته وجودة تصنيفه وعلو همته. إضافة إلى اعتماده التجريب وعدم تحرجه من الرد على بعض كبار أطباء
اليونان كديسقوريدس.
* * *
اعتمدنا في تحقيق هذا الكتاب مخطوطة مكتبة فاتح باستنبول رقم 3604 - 3607، في أربعة
أجزاء، منسوخة بخط عبد الله أحمد الباسقي سنة 708 - 709 ه‍. نشرها مصورة معهد تاريخ العلوم
العربية والاسلامية - جامعة فرنكفورت. في الصفحة الواحدة خمسة عشر سطرا، ويتراوح عدد الكلمات في
السطر الواحد بين ثمانية وإحدى عشرة كلمة. وهي نسخة مراجعة في هوامشها تصحيحات وتعليقات.
يبدأ الكتاب بما يلي: (بسم الله الرحمن الرحيم، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت. الباب الأول:
في السبب الذي دعا الأوائل إلى الكلام في طبائع الأغذية). وينتهي بما يلي: (نجزت المقالة الرابعة
وبتمامها تم الكتاب والحمد لله الملك الوهاب. الكاتب عبد الله الباسقي في رمضان سنة تسع وسبع مائة
حامدا ومصليا ومسلما).
كانت ثمة صعوبة في قراءة كثير من الكلمات لعدم تنقيطها، فقدمناها منقوطة بالشكل الكامل،
وضبطنا في الحواشي ما هو أحوج إلى الشرح أو التعريف. ثم وجدنا ضرورة إضافة بعض الكلمات،
استكمالا للمعنى، فوضعناها بين قوسين منكسرين دون الإشارة إليها خلا الأولى منها مع التنبيه إلى ما
يماثلها فيما بعد. ومما صادفناه في طريقة رسم الناسخ اختلافا في كتابة بعض الحروف، فجعلناها بالرسم
الذي نعرفه اليوم. من ذلك على سبيل المثال: الاستمرى بدل الاستمراء، الجزو بدل الجزء، غذا بدل
الغذاء.
هذا بالإضافة إلى أخطاء في النحو لم نشر إليها جميعا كيلا نثقل الحواشي بها. ولعل من يجد ضرورة
تصحيح كلمات قد لا نكون اهتدينا إلى صوابها، فليتفضل مشكورا، بتصويبها. وقد حرصنا على جعل
النص المتتابع للكتاب متناسبا والاخراج الجيد، ووضع التشديد وهمزة الابتداء، وفصل الاعداد مثل:
سبع مائة بدل سبعمئة.

8
وإني لآمل ان أكون قدمت إلى المكتبة العربية نصا فيه صلاح الناس نعتز بقيمته، بشكل ينسجم
مع متطلبات قارئ نقدر حاجته ونفخر بخدمته.
والله من وراء القصد.
ثم علمت من السيد الناشر، فيما بعد، أن ضرورات، لم يستطع ان يتجاوزها، قضت بحذف
كلمات أو جمل أو فقرات. ولم أستطع، بدوري، أن أمنع نحر الأمانة العلمية، فطلبت إليه تضمين
المقدمة هذه الصرخة كرد فعل للألم، فوافق مشكورا. ولعلي وجدت في حماسه للفكرة تأكيدا آخر على
مدى ضغط تلك الضرورات عليه، وهو الذي عرف بين الناشرين بانتصاره للعلم والحقيقة. (1)
إن متنفسي الوحيد المعوض هو ثقتي بحكمة القارئ الكريم ونباهته وفطنته، مما يساعده على تبين
ماهية هذه المقتطعات.
والحمد لله أولا وأخيرا.
بيروت 13 / 10 / 1990
د. محمد الصباح



(1) قضت الضرورة بحذف ما جاء في الأصل حول ما يتعلق بما حرمه الدين الاسلامي الحنيف، عملا بقوله تعالى:
1 - (.. إنما حرم عليكم الدم والميتة ولحم الخنزير) البقرة - 173.
2 - (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير..) البقرة - 219.
3 - (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) المائدة - 90.
الناشر
9
..

10
بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الأول
في السبب الذي دعا الأوائل
إلى الكلام في طبائع الأغذية
قال إسحاق بن سليمان: إن السبب الذي دعا الأوائل إلى الكلام في طبائع الأغذية هو انهم لما
عنوا بالبحث عن الصحة وأسبابها، والأمور الداعية إلى حفظها، وجدوا الأبدان مضطرة إلى أمرين:
أحدهما: إعطاؤها من الغذاء ما يصلحها مما به قوتها وقوامها، ولحاجتها إلى رد ما يتحلل منها
بوقود الحرارة الغريزية من باطنها وحرارة الهواء من ظاهرها. ولذلك احتاجت إلى إعطائها ما تقتضيه القوة
الطبيعية الشهوانية، المركبة فيها من الأغذية الموافقة لها.
والآخر: نفى ما يجتمع في الأبدان من قسم الغذاء المخالف لمزاجها، إذ لا سبيل إلى وجود نظير
ما يتحلل من جوهر الأبدان بعينه في الأغذية الموجودة، فيفسد ويتحلل لامتناع ذلك في الطبع، إذ ليس
جميع أجزاء الغذاء مشاكلة لجوهر البدن من قبل ان منه قسما هو جوهر الغذاء وهو المستحيل دما المتشبه
بالأعضاء التي به تغذيتها، وقسما هو ثفل الغذاء وأرضيته وهو الذي تنفيه الطبيعة عن الأبدان لاستغنائها عنه
في تغذية الأبدان.
ولما كان ذلك كذلك، ورأينا طبائع الناس في الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وتركيبها في
القوة والضعف والكثافة والسخافة (1) غير متكافئة ولا متساوية لان منها ما المستولي عليه الدم الخالص
النقي. ومنها ما الغالب على مزاجه المرتان (2) أو البلغم. ومنها المتكاثف المسام المستحصف الجلد



(1) السخافة: التحلل: الضعف في كل شئ. ومقابلها في هامش الأصل: (والتحلل).
(2) في الأصل: المرتين. والمرة. مزاج من أمزجة البدن، هو الصفراء أو السوداء.
11
العسير التحلل. ومنها المتخلخل المسام السريع التحلل. ومنها ما ببعض أعضائه آفة، احتجنا إلى الوقوف
على طبائع الأغذية واختلاف حالاتها في تنقلها ليكون ما يعطاه (1) كل صنف من الناس حسب ما يوافقه منها
إما مشاكلا وملائما لمن كان مزاجه معتدلا، وإما مخالفا أو مضادا لمن كان مزاجه قد زال عن الاعتدال إذ
كان غرض الطب وتمام عمله تثبيت المزاج الطبيعي على حالاته بما لاءمه وشاكله، ورد المزاج الحائد عن
الاعتدال إلى الحالة الطبيعية بما خالفه ونقص منه.
مثال ذلك: أنا نجعل ما يستعمله من كان الغالب على مزاجه الدم الخالص النقي أغذية معتدلة في
كميتها وكيفيتها جميعا ليكون الخلف المتولد عنها نظير ما يتحلل من الأبدان في طبائعها وجواهرها. ونجعل
ما يستعمله من كان الغالب على مزاجه خلط من الأخلاط الأخرى مثل إحدى المرتين أو البلغم أغذية مخالفة
لمزاجه وطبيعته لينقله من الزائد عليه إلى الناقص عنه ويرده إلى التوسط والاعتدال. مثال ذلك: أنا متى
رأينا في الغالب على مزاجه المرار الأصفر، جعلنا ما يستعمله من الغذاء ما يبرد مزاجه ويرطبه. ومتى رأينا
من الغالب على مزاجه البلغم، جعلنا ما يستعمله من الغذاء ما يسخن مزاجه ويجففه. ومتى رأينا من
الغالب على مزاجه المرة السوداء، جعلنا ما يستعمله من الغذاء ما يسخن مزاجه ويرطبه. الا أنه يجب أن
تكون كمية كيفية الغذاء الوارد على البدن، على حسب مقدار كمية كيفية مزاج البدن في صد كيفية الغذاء
إلى أي كيفية كانت لا أزيد ولا أنقص.
مثال ذلك: انه متى كان مزاج البدن حائدا عند الاعتدال إلى الحرارة مقدار درجة، أن يكون الغذاء
المستعمل حائدا عن الاعتدال إلى البرودة مقدار درجة. ومتى كان البدن حائدا عن الاعتدال إلى اليبوسة
مقدار درجتين، أن يكون الغذاء المستعمل حائدا عن الاعتدال إلى الرطوبة مقدار درجتين. وعلى هذا
الوزن والقياس يجب أن ينقل كل مزاج حائد عن الاعتدال إلى حاشية ما، أي حاشية كانت، حتى يرد إلى
التوسط والاعتدال. فقد بان من قوة كلامنا أن بين كل مزاجين متضادين مزاج معتدل، كما أن بين كل نوعين
من الأغذية، متضادين، نوعا متوسطا، والموافق من كل غذاء لمن كان مزاجه معتدلا لا يذم منه شئ
<و> ما كان من الأغذية كذلك، أعني ما كان معتدلا لا يذم منه شئ. وأما ما كان مزاجه رديئا حائدا
عن الاعتدال، كان ذلك له من جبلته وأول أمره، أو لعارض عرض له، فليس الموافق له من الغذاء ما
كان معتدلا، ولا ما كان مشاكلا لمزاجه، بل ما كان مخالفا لمزاجه وطبعه، إذ كان محتاجا إلى أن ينقل من
الحالة التي هو عليها إلى حالة هي أفضل وأعدل.
ونقل كل مزاج فإنما يكون بما خالفه ونافره. فإذا المعتدل ينتظم بمعنيين: أحدهما طبيعي عامي،
والاخر عرضي خاصي. والعامي: هو الجاري على مجرى الطباع المتوسط بين كل حاشيتين متضادتين



(1) (ما يعطاه): مستدركة في الهامش.
12
توسطا معتدلا مثل السخونة اللذيذة المتوسطة بين الحرارة والبرودة والليانة (1) المتوسطة بين الصلابة
والرخاوة.
وأما الخاصي: فهو ما كان معتدلا بالإضافة إلى كل مزاج حائد عن الاعتدال، فصار معتدلا
بإضافته إليه، ورده إلى التوسط والاعتدال.
مثال ذلك: أن الانسان متى كان صفراويا قد غلب على مزاجه الحرارة واليبوسة، كان المعتدل من
الأغذية عنده، والأفضل في صلاح حاله ما كان منها باردا رطبا ليقمع ببرده ورطوبته حدة حرارة مزاجه
العرضية ويرطب يبسه ويرده إلى التوسط والاعتدال. فقد بان ان المعتدل يقال على معنيين: إما معتدل
موافق ومشاكل لمن كان مزاجه صحيحا لملائمته له وزيادته فيه، وإما منافرا ومخالفا لمن كان مزاجه حائدا
عن الاعتدال لمضادته له ونقله إياه إلى التوسط والاعتدال.
وعلى هذا الوزن والمثال يجرى القياس في الأسنان (1) والأزمان والبلدان والمهن والعادات، لأنه لا
يشك أحد من الطبيعيين أن المعتدل من الأغذية عند الشبان غير المعتدل عند المشايخ. والمعتدل في زمان
الربيع غير المعتدل في زمان الخريف. والمعتدل في الصيف غير المعتدل في الشتاء. والمعتدل في
البلدان الشمالية غير المعتدل في البلدان الجنوبية. والمعتدل عند أهل الرياضة والتعب غير المعتدل عند
أهل الدعة والسكون، إذ كان أهل التعب والرياضة يحتاجون من الغذاء ما كان أغلظ وأعسر انهضاما وأبطأ
انحلالا من الأعضاء. وأهل الدعة والسكون يحتاجون من الغذاء إلى ما كان لطيفا سريع الانهضام سهل
التحلل من الأعضاء.
وأما تدبير الأبدان على حسب استحصافها وتخلخلها على هذا المثال، وذلك أنه متى كان البدن
متخلخلا سريع التحلل للبخارات جعلنا ما يستعمله صاحبه من الغذاء ما كان كثيرا في كميته، غليظا لزجا
في كيفيته، ليملأ المسام بكثرته ويشدها بغلظه ويعسر انحلاله منها لان الغذاء إذا كان قليلا رقيقا، مع سعة
المسام وتخلخلها، لم يؤمن عليه ان يتحلل أكثره ويخرج من المسام بسرعة ويعدم الأعضاء كثيرا من
الغذاء. وإذا كان الغذاء كثيرا غليظا ملا المسام وسدها وعسر انحلاله منها، ولم تحتج منه الا ما كانت
الطبيعة محتاجة إلى اخراجه.
ومتى كان البدن كثيفا مستحصفا مانعا للبخارات من التحلل والخروج، جعلنا ما يستعمله صاحبه
من الغذاء قليلا في كميته رقيقا سائلا في كيفيته، لان الغذاء إذا كان كثيرا غليظا مع ضيق المسام وكثافتها،
اجتمع في البدن من بقايا الانهضام الثالث الكائن في الأعضاء مقدار لا يؤمن معه حدوث علل مزمنة
وبخاصة أوجاع العصب والمفاصل. وإذا كان الغذاء رقيقا سيالا سهل خروجه من المسام الضيقة بسرعة
ولم يبق منه في البدن الا مقدار حاجة الطبيعة إليه في تغذية الأعضاء، وسلم البدن من أذيته.



(1) الليانة: ضد الخشونة.
(2) الأسنان: جمع السن وهو مقدار العمر.
13
فقد بان أن الغرض الذي قصدت به الأوائل الكلام على طبائع الأغذية، هو ان يكون الخلف
المتولد عنها نظير ما يتحلل من جواهر الأبدان المغتذية بها. ولذلك وجب ألا نقتصر في معرفة ما يجلب
الصحة ويديمها، بالوقوف على طبائع الأغذية فقط دون الوقوف على معرفة طبائع الأبدان المغتذية بها، لان
من وقف على معرفة طبائع الأغذية، ولو بلغ (1) في معرفته بها الغاية القصوى، ولم يقف مع ذلك على
طبائع الأبدان المغتذية بها، لم تتم له المعرفة بما يحفظ الصحة على الأصحاء، ولا بما يكسبها المرضى،
من قبل ان الأبدان تختلف كثيرا في مزاجاتها وتركيبها، وبحسب اختلافها يجب اختلاف أغذيتها. ولذلك
لزمتنا الحاجة إلى الوقوف على اختلاف الأبدان والاشراف على ما كان منها متخلخلا واسع المسام، أو
متكاثفا ضيق المسام، والنظر في مزاج البدن كله، وحال كل واحد من أعضائه هل هو على مزاجه الذي
يجب ان يكون عليه أم لا، لأنا نجد كثيرا من الناس مزاج بدنه أسخن من المقدار الذي يجب، ومزاج
معدته أبرد.
وربما كان الامر بخلاف ذلك وضده، حتى يكون البدن أبرد والمعدة أسخن. وكذلك الحال في
سائر الأعضاء. وقصد الأوائل في جميع الطرق التي يحفظون بها الصحة على الأصحاء ويكسبونها
المرضى قصدا سواء خلا استعمال الأغذية فان قصدهم فيها خلاف قصدهم في غيرها من قبل ان قصدهم
في جلب الصحة بالأدوية وغيرها هو مقابلة بالضد بالضد من اسخان أو تبريد أو استفراغ أو احتقان. وأما
الأغذية فليس كذلك لان قصدهم فيها بدءا ان يكون الغذاء ملائما ومشاكلا لمن كان مزاجه معتدلا، أو
مخالفا ومضادا لمن كان مزاجه حائدا عن الاعتدال.
ثم يقصدون، بعد ذلك، إلى أن يبلغ الطعام من الهضم والاستمراء (2) في المعدة والكبد جميعا
أفضل مراتبه. ثم يكون ما ينفذ منه إلى جميع البدن سهل النفوذ والجولان، موافقا لمزاج الأعضاء، سريع
الانقلاب إليها، قريب الشبه بها مشاكلا (3) في طبيعتها ومزاجها، من قبل ان كل موافق وملائم يغذو وينمي
وكل مخالف ومنافر مفسد مؤذ. ولذلك صار كل غذاء مخالف لطبيعة بدن أي حيوان كان، فأما أن لا يأكله
أصلا، وأما ان يأكله عند الفقر إليه من غير استلذاذ منه له. ولهذه الجهة اختص أكثر الحيوان بغذاء دون
غذاء غيره من الحيوان على قدر طبيعته ومزاجه.
ولجالينوس (4) في هذا فصل قال فيه:
ان كل غذاء من الأغذية لأي حيوان كان، أو نبات كان، فبينه وبين ذلك الحيوان أو النبات الذي
يغتذي به في خاصة طبيعته وملاءمة ومشاكلة. مثل الماء العذب المشاكل لطبيعة الأشجار والنبات وألقت (5)



(1) في الأصل: بالغ.
(2) استمرأ الطعام: وجده مريئا أو هنيئا وسائغا لا يعقبه ضرر.
(3) في الأصل: مشاكل.
(4) جالينوس (131 - 201): طبيب يوناني. صاحب الاكتشافات الهامة في التشريح. تأثر به أئمة أطباء العرب.
(5) ألقت: الفصفصة الرطبة من غلف الدواب، أو اليابسة منها. واحدة قتة.
14
والشعير المشاكل للخيل والحمير. واللحم النئ المشاكل للسباع. والخبز المحكم الصنعة، واللحم
المدبر بالطبخ المشاكل لمزاج الانسان. ولهذه الجهة صار الخربق (1) غذاء للسلوى (2). والشوكران (3) غذاء
للزرازير (4)، والكرسنة غذاء للبقر من غير أن يضر الخربق بالسلوى، ولا الشوكران بالزرازير، على عظم
ضررهما بالانسان. ومن قبل ذلك أيضا صار الافراد من الناس يستمرئون من الأطعمة ما لا يستمرئها أكثر
الناس اما لخصوصية طبع فيما بين الغذاء والمغتذي، واما لعارض في المعدة يعين على جودة الهضم
والاستمراء، لا لجودة الغذاء في نفسه. كما أنه قد يعرض كثيرا ان يفسد الهضم والاستمراء لا لرداءة (5)
الغذاء في نفسه، ولا لمخالفته لمزاج المغتذي، لكن لأسباب اتفاقية سنذكرها عن قرب في موضعها
الأخص بها إن شاء الله تعالى.



(1) الخربق: نبت كالسم يغشى ولا يقتل. هو سم للكلاب. واما للناس فمنه ما يقئ ومنه ما يسهل المعدة.
(2) طائر أبيض يعرف بالسماني.
(3) عشبة سامة لها أزهار بيضاء ورائحة مخمة
(4) واحدة الزرزور: عصفور كالقبر أملس الرأس.
(5) في الأصل: برداءة.
15
الباب الثاني
في وجود السبيل إلى الوقوف إلى طبائع الأغذية
قال إسحاق بن سليمان: أجمع الأوائل على أن الوقوف على طبائع الأغذية يكون بطريقين:
أحدهما التجربة، والآخر (1) القياس. وذلك أنه لا يشك أحد في التجربة أنها قد تدل على سرعة
الانهضام وإبطائه، وجودة الغذاء ورداءته، وملاءمته لمزاج بدن المغتذي أو مخالفته له، وموافقته للمعدة
أو إضراره بها، وتليينه للطبيعة أو حبسه لها. إلا أن الامر وإن كان كذلك، فليس يجب أن تكون التجربة
معراة من القياس، لان كثيرا ما يدخل أهلها الشبه والالتباس حتى يقودهم ذلك إلى الحيرة والشكوك،
من قبل أن الأغذية قد يختلف فعلها وانفعالها في الأبدان لثلاثة أوجه: إما لاختلاف طبائع البشر
ومزاجاتهم (2). وإما لاختلاف كيفية الغذاء في طبيعته وبسطه وتركيبه. وإما لاختلاف استعماله وضرره
واتخاذه. وذلك أنا كثيرا ما نشاهد الواحد من الأغذية محمودا في قوم ومذموما في غيرهم، ومطلقا
للبطن في قوم وحابسا لها في غيرهم. ومن أجل ذلك قال رجل من المبرزين المشهورين بمعرفة
الطبيعيات يقال له أرسسطراطس، قال قولا صدق به جميع من سمعه، ووافقه أيضا عليه جالينوس، وهو
أن قال أن بعض الناس يستمرئون لحم البقر وما شاكله من الأغذية الغليظة البطيئة الانهضام أكثر من
استمرائهم لحم الدراج والفراريج ومحمود السمك. وأن الغسل موافق لقوم محمود عندهم يقولون: أنه
مطلق للبطن مهيج للأمراض. وأن العدس والكرنب لا يحبسان الطبيعة في كل الناس، بل يفعلان (3)
ضد ذلك وعكسه في كثير من الناس.
ومن قبل ذلك وجب ألا يطلق القول في شئ من الأغذية بأنه ضار أو نافع، أو حابس للبطن،
أو مطلق له، وموافق للمعدة أو مؤذ لها دون الفحص عن ثلاثة وجوه: أحدها، معرفة طبائع أبدان
المستعملين للأغذية وتركيبها وأمزجتها. والثاني، معرفة اختلاف الأغذية في طبائعها وبسطها وتركيبها.
أعني ببسطها ما كان منها له قوى مختلفة مركبة. والثالث، كيفية انتقال الغذاء واستحالته في الأبدان.



(1) في الأصل: الأخرى.
(2) في كتب اللغة: أمزجة جمع مزاج. وكذا هي كلما وردت فيما بعد.
(3) في الأصل: يفعلا.
16
أعني بذلك سرعة انهضامه وبطئه وجودة غذائه ورداءته وملاءمته لمزاج بدن المغتذى به، أو مخالفته له،
لأنا متى فعلنا ذلك، ووقفنا على حقيقة ما شرطنا، اتضح لنا لم صار الغذاء الواحد موافقا لبعض الناس،
ومخالفا لغيرهم، ومسهلا للبطن في قوم وحابسا لها في خلافهم. ولم صار العسل سببا للصحة في قوم،
وعلة للمرض في قوم.
وأنا مبتدئ ببيان ذلك. وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه أنيب.
* * *
القول في طبائع الأبدان
أما طبائع الأبدان فمختلفة (1) لثلاثة وجوه: أحدها: من خلقتها وتركيبها. والثاني: من طبائعها
وأمزجتها. والثالث: لحال تعرض للمعدة في بعض الأوقات خارجة عن المجرى الطبيعي.
فأما اختلاف الأبدان في تركيبها فيكون على ضربين: وذلك أنه لا بد لكل بدن من أبدان البشر
من أن يبرز، من فم المرارة التي فيه، مجرى ينشعب شعبتين: إحداهما: أعظم من الأخرى، وأعظم
الشعبتين بالطبع من شأنها في أكثر الناس ان تصير إلى المعاء وتقذف فيه بأكثر المرار المنحدر عن
المرارة لتقطع ما يصل إلى المعاء من ثفل الغذاء. ويهيج المعاء إلى دفع ما يجتمع فيها من الأثفال.
وأصغر الشعبتين يصير إلى فم المعدة ويقذف فيه من المرارة مقدارا معتدلا ليعين إلى هضم الغذاء
ويجلو ما يجتمع في المعدة من الرطوبات الغليظة، وربما انعكس ذلك في بعض الناس حتى تكون
أصغر الشعبتين هي التي تنحدر إلى المعاء فيكون الناس (2) ينصب إليه من المرارة مقدارا أقل حتى
يضعف فعله هناك. ويغلب على الموضع البلغم ويغلظ فيه، ويغلب لون البلغم على لون البراز ويبعد
انحدار الأثفال بسرعة، ويخالف خروجها في أوقاتها الطبيعية، ويعرض لمن كانت هذه الحالة، في أكثر
الحالات، القولنج العارض من البلغم الغليظ، ويكثر في أمعائهم الدود وحب القرع والحيات الطوال.
ويصير أعظم الشعبتين إلى فم المعدة ويقذف فيه من المرار مقدارا أكثر حتى يعرض كثيرا، لمن كانت
هذه حاله، فساد ما يتناول من الطعام اللطيف السريع الانهضام، ويحسن استمراؤه لما يأخذ من الطعام
الغليظ يقاوم فعل المرار الكثير لثقله وبعد انقياده من غير أن يستحيل أو يتشكل بشئ من المرار حتى
تتمكن منه الحرارة الغريزية وتحتوي عليه وتستكمل فعلها فيه، فيجود هضمه ويحسن استمراؤه.



(1) في الأصل: فمختلف.
(2) كلمة (الناس) هنا جعلت السياق يضطرب. ويستعيد استقامته هكذا: (التي تنحدر إلى المعاء فيكون ما ينصب إليه..)،
ويبدو أن نظر الناسخ وقع سهوا على كلمة (الناس) الأولى بدل (ما) في السطر الذي هو بصدده.
17
فأما الطعام اللطيف فإنه، لخفته وسرعة انقياده، لا يمكنه مقاومة الكثير من المرار لكنه يستحيل
ويتشيط (1) بسرعة، وينتقل إلى طبيعة المرة حتى يصير هو وهي شيئا واحدا، فيتوهم من كانت هذه حاله
أن مزاجه ممرور وإن كان مزاج بدنه، على الحقيقة، مرطوبا لأنه قد يمكن أن يكون مزاج البدن مرطوبا
بلغمانيا، وما يجتمع في معدة صاحبه من المرار مقدارا أكثر، وذلك لسعة الشعبة التي تصير إلى المعدة
من المرارة وعظمها. ولذلك، قد يمكن أن يكون مزاج البدن ممرورا قوى الحرارة، وما يجتمع في معدة
صاحبه من المرار مقدارا أقل <و> (2) وذلك لضيق الشعبة التي تصير إلى المعدة من المرارة وصغرها، من قبل
أن حرارة المزاج إنما تكون من كثرة الجزء المري المخالط للدم الجوال معه إلى جميع البدن. وكثرة
اجتماع المرار في المعدة إنما تكون من سعة الشعبة المتصلة بها من المرارة. فربما كانت هذه الشعبة
واسعة والدم المري المخالط للدم الجوال معه في جميع البدن قليلا، فيكون ما ينصب من المرار إلى
المعدة مقدارا أكثر، ومزاج البدن في نفسه قليل المرار.
وربما كان الجزء المري المخالط للدم كثيرا والشعبة المتصلة بالمعدة من المرارة ضيقة فيكون
ما ينصب إلى المعدة من المرار مقدارا أقل ومزاج البدن في طبعه محرورا لكثرة الجزء المري المخالط
للدم.
وأما اختلاف الأبدان بحسب طبائعها وأمزجتها فيكون أيضا على ضربين: وذلك أن من الناس
من الحرارة على مزاجه أغلب إما طبعا منذ أول مرة، وإما عرضا حالا حادثا. ومنهم من البرودة على
مزاجه أغلب إما طبعا أيضا، وإما عرضا. فمن كانت الحرارة على مزاجه أغلب كان متى ورد إلى معدته
طعام لطيف رفعته الحرارة لخفته إلى أعلى المعدة، وبقي هناك طافيا عواما في الجزء العصباني من
المعدة البعيد من موضع الطبخ إذ موضع الطبخ من المعدة إنما هو الجزء اللحمي الأسفل منها المجاور
لحرارة الكبد والمرارة، فإذا لبث الطعام في أعلى المعدة زمانا حمي بقوة الغليان والبخار المتصاعد إليه
واستحال وتشيط، وانتقل من جنس المرار وأحدث في فم المعدة لذعا وألما، وولد عطشا قويا وجشاء
دخانيا.
ومتى ورد معدة من كانت هذه حاله طعام غليظ ثقيل بطئ الانهضام، قاوم الحرارة بغلظه وهبط
سفلا بثقله، واستقر في موضع الطبخ من المعدة، وتمكنت الحرارة منه واحتوت عليه وقوي فعلها فيه،
وجاد طبخه وكمل انهضامه.
وأما من كانت البرودة أغلب على مزاجه، فان الطعام إذا ورد إلى معدته لحقه ضربان من
الفساد، وذلك أنه إما أن يزلق بلزوجة البلغم ورطوبته وينحدر إلى المعي قبل كمال نضجه ولا يلبث فيها
إلا يسيرا، وإن وافى منها شيئا من الفضول الغليظة البلغمانية تفجج هناك وغلظ وعسر انحداره،



(1) أي يحترق.
(2) الواو ساقطة في الأصل. وكل ما سيرد بين قوسين منكسرين هو كذلك، فلا نشير إليه.
(3) في الأصل: واستقرت.
18
واستحال إلى فساد، وأحدث أمغاصا ونفخا وقراقر. وإما أن يتفجج في المعدة لضعف الحرارة عن
طبخه، فيستحيل إلى الحموضة والعفونة ويحدث نفخا وقراقر وجشاء حامضا عفنا. فإن كانت العفونة
أغلب على الجشاء دلت على أن الفضل سوداوي (1)، وإن كانت الحموضة أغلب دلت على أن الفضل
بلغماني. وقد يختلف ذلك في الناس على حسب اختلاف صنوف البلغم، لان أصناف البلغم على
ضروب خمسة:
وذلك أن منه نوعا يعرف بالتفه أي لا طعم له. وهذا النوع هو الطبيعي ومسكنه العروق لكنه
جوال مع الدم في جميع البدن، من قبل أنه دم لم يكمل نضجه فيعذب، ولذلك صارت الطبيعة
تستعمله في تغذية البدن عند حاجتها إليه عند نقصان الدم ومنفعته للبدن أن به تكون سهولة الازدراد
وحركات المفاصل، وجولان الغذاء إلى جميع البدن، وخروج ما يخرج من فضول البدن.
ومنه نوع ثان: يميل إلى العذوبة قليلا قريب من طبيعة الدم، دال على حرارة قد قويت على
البلغم الطبيعي فزادت في هضمه، ونقلته إلى العذوبة.
ومنه نوع ثالث: مائل إلى الملوحة والبورقية قريب من طبيعة المرة الصفراء، دال على حرارة
قوية، قد أفرطت على رطوبة البلغم، وأسخنتها وصيرتها بورقية. ولذلك صار هذا النوع من البلغم زائدا
في شهوة الماء، وناقصا من شهوة الغذاء.
ومنه نوع رابع: مائل إلى الحموضة قريب من طبيعة المرة السوداء، دال على برودة زائدة قد
غلبت على البلغم ومنعت من كمال نضجه، ونقلته إلى الحموضة. ولذلك صار هذا الضرب من البلغم
ناقصا من شهوة الماء، وزائدا في شهوة الغذاء.
ومنه نوع خامس: يعرف بالزجاجي لأنه شبيه بالزجاج الأبيض المذاب نستغني عن ذكره في هذا
الموضع لأنه لا يغذو البدن أصلا، ولا يستحيل كاستحالة سائر صنوف البلغم، ولا يجول في البدن، ولا
ينقاد لفعل الطبيعة، وذلك لغلظه وقوة برده.
وكذلك المرة قد تتصنف على ضروب:
وذلك أن منها نوعا يعرف بالأشقر، لأنه لونه متوسط بين الصفرة والحمرة. وهو النوع الطبيعي
المتولد في أبدان الأصحاء ومسكنه ليس المرارة لان الطبيعة تستبشعه لمرارته (2) وحدته فحصرته في
موضع ولم ترسل منه مع الدم إلا مقدار حاجتها إليه في تقوية القوة الجاذبية في كل واحد من الأعضاء،
كما بشعت المرة السوداء لشدة حموضتها وقوة بردها ويبسها، فحصرتها في الطحال ولم ترسل منها مع



(1) في الأصل: سوداويا.
(2) في الأصل: لمرارة.
19
الدم إلا مقدار حاجة الطباع إليه في تقوية القوة الماسكة في كل واحد من الأعضاء.
ومنه نوع ثان خارج عن الطبيعي ومسكنه المعدة، وهو أربعة (1) ضروب: أحدها: المعروف
بالمحي لان لونه شبيه بلون مح البيض. والثاني: يعرف بالأصفر لان لونه شبيه بلون الزعفران الأصفر.
والثالث: يعرف بالكراثي لان لونه شبيه بلون الكراث. والرابع: يعرف بالزنجاري لان لونه صديدي على
لون صدأ النحاس المتزنجر.
فالمحي والأصفر من هذه الأربعة أقل حرارة ويبسا من النوع الطبيعي، لان تولدهما عن رطوبة
خالطت النوع الطبيعي المنصب إلى المعدة دائما فغيرت لونه من الشقرة إلى الصفرة. إلا أن الزعفران
أقوى حرارة وأكثر (2) يبسا من المحي قليلا لان زيادة صبغه دالة على أن الرطوبة التي خالطته كان فيها قلة
ورقة. ولذلك صار أقوى صبغا وأرق قواما من المحي كثيرا.
فأما الكراثي والزنجاري فهما أشد حرارة ويبسا من النوع الطبيعي كثيرا. والزنجاري (3) أشد
احتراقا وفسادا، ولهذه الجهة صار أقتل وأوجى (4) وأقرب من الهلاك.
وأما فساد الغذاء لسبب حال يحدث للمعدة خارجة عن الحال الطبيعي، فينقسم قسمين:
أحدهما: أنه ربما اتفق أن يكون في المعدة طعام قد تقدم وتوسط النضج، ثم تناول صاحبه
بعده طعاما ثانيا، إما ألطف من الطعام الأول، أو مساويا له، فإذا انهضم الطعام الأول وانحدر انحدارا
معه الطعام الثاني ضرورة، وهو على غاية من الفجاجة، فإذا صار إلى الكبد على فجاجته وغلظه،
أرسلته الكبد إلى الأعضاء وهو على حال من الفساد لا يؤمن معها أن يحدث عنها مع طول الأيام
الاستسقاء المعروف بالحمى. ولذلك وجب ألا يتناول الانسان شيئا من الغذاء إلا على نقاء من معدته
وخلوها من الغذاء وغيره.
والثاني (5): أنه ربما اتفق أن يقدم الانسان أمام طعامه غذاء غليظا بطئ الانهضام، ثم يستتم
طعامه بغذاء لطيف سريع الانهضام، فإذا انهضم الطعام اللطيف لخفته وسرعة انقياده، وحاول الخروج
منعه الطعام الغليظ عن الانحدار. فإذا لبث هناك زمانا طويلا انتقل إلى الدخانية وحبس المرار ممن كان
مزاج معدته محرورا. وإما إلى الحموضة والعفونة ممن كان مزاج معدته باردا. ولذلك صار من الواجب
أن يقدم الانسان أمام طعامه دائما طعاما لطيفا سريع الانحدار، ويستتم غذاءه بما كان أغلظ وأبطأ



(1) في الأصل: أربع.
(2) (أكثر): مستدركة خارج السطر.
(3) في هامش الأصل: لان تولدهما عن حرارة عرضية قوية، وافت المرار المنصب إلى المعدة دائما فشيطته وأحرقته وأذهبت بإشرافه
وحسنه. ولذلك صار أخبث وأخطر كثيرا.
(4) وجأ فلانا بالسكين أو بيده: ضربه في أي موضع كان.
(5) في الأصل: والثانية.
20
انحدارا، ليكون متى انهضم الطعام اللطيف وحاول الخروج، لم يعوقه عائق عن الانحدار.
فإن عارضنا معترض وقال: فما أنكرت أن يكون متى تناول الانسان طعاما لطيفا، ثم أتبعه بطعام
غليظ، أن الطعام اللطيف متى انحدر (1) وهم بالخروج، أحدر معه الطعام الغليظ ضرورة كما شرطت في
أعلى كلامي (2). أن المعدة متى يقدم فيها طعام قد توسط الهضم، وتناول صاحبه طعاما ثانيا، إن الطعام
الأول متى انهضم وحاول الخروج، انحدر معه الطعام الثاني ضرورة.
قلنا له: قابلت بالمحال من قبل أنا إنما شرطنا هذا الشرط متى كان الطعام الثاني ألطف من
الطعام الأول أو مساو له في اللطافة لأنه متى كان كذلك وانهضم الطعام الأول، أمكن (3) الطعام الثاني،
للطافته وليانته وسرعة انقياده، أن ينزلق وينحدر مع الطعام الأول ضرورة. فأما الطعام الغليظ فإنه إذا
أخذ بعد الطعام اللطيف، فانهضم الطعام اللطيف بسرعة، وحاول الخروج، مانع الطعام الغليظ القوة
الدافعة لغلظه، وبعد انقياده، ولم ينقاد لفعلها، وامتنع من الانحدار والخروج إلى أن ينهضم ويكمل
نضجه ويكتسب ليانة ورخاوة تزلقه وتعين القوة الدافعة على دفعه.
وأما اختلاف الأغذية على حسب طبائعها وذواتها (4) فينقسم قسمة أولية على ضربين: وذلك أن
منها بسيط ومنها مركب. أعني بالبسيط ما كانت قوته قوة واحدة مفردة وهو ما كان قوة جرمه وقوة رطوبته
المستخرجة منه بالطبخ قوة واحدة. وأعنى بالمركب ما كان له قوتان متضادتان (5)، وهو ما كان قوة جرمه
مخالفة لقوة جوهره ورطوبته فما كان منها قوته بسيطة مفردة كان طعم جرمه مشاكلا لطعم جوهره ورطوبته
المستخرجة منه بالطبخ وهو على ثمانية اقسام، أحدها: الحلو. والثاني: الدسم. والثالث: المالح.
والرابع: المر. والخامس: الحريف (1). والسادس: الحامض. والسابع: العفص. والثامن: التفه.
فأما الحلو، فإنه متى كان خالص الحلاوة، ولم تشبه حرافة (6) ولا لزوجة كان ألذ الطعوم عند
الطبيعة لقربه من طعم الدم وطبيعته، ولأنه يجلو ويغسل وينفى عن الحساسية ما يؤذيها ويلين البطن تليينا
معتدلا من غير استكراه للطبيعة، ولا عنف عليها. ولذلك صار فعله في سرعة الانهضام والانحدار عن
المعدة والمعاء فعلا معتدلا بطبيعته وذاته. وأما نفوذه في العروق فليس هو له في طبعه لكن بالعرض،
لان ذلك إنما يكون عن فاعل خارج عنه، لا عن فاعل من ذاته. وذلك أن الأعضاء لو لم تشتاق إليه
لاستلذاذها به بعذوبته، وتجذبه إليها قهرا، لكان من حكمه وطبعه ان يهيج المعاء إلى دفعه وإخراجه



(1) تعرضت هذه الكلمة لطمس نصفي. وما أثبتناه ينسجم مع السياق، ومع الحرفين الأول والأخير السالمين منها.
(2) في الأصل: كأمي. ولعلها كما أثبتنا.
(3) في الأصل: (أمكن في الطعام..) وظاهر أن حرف الجر مقحم هنا سهوا.
(4) هذه الكلمة غير موجودة في النص. وصادف أنها بداية صفحة. فأثبتناها من ذيل الصفحة التي قبلها.
(5) في الأصل: قوتين متضادتين.
(6) الحريف: الذي طعمه الحرافة. والحرافة: الطعم الذي يحرق اللسان ويلذعه كالبصل.
21
منها بسرعة لما فيه من قوة الجلاء والغسل. ولما كانت الأعضاء تجذبه إليها دائما صار ما يصل إلى
البدن من غذائه أكثر مما يصل من سائر الطعام، فإن كان مع ذلك ملززا (1) مكتنزا، كان بتقويته للأعضاء
أكثر، لطول لبثه فيها وبعد انحلالها منها. وإن كان فيه مع حلاوته لزوجة، مثل التمور، كان انحداره عن
المعدة أسرع ونفوذه في العروق أعسر من قبل أن معه، مع جلائه وغسله قوة تزلقه وتحدره بسرعة.
وأما ما نفذ منه في العروق، فإن انهضامه يعسر جدا ويطول لبثه في العروق، وذلك لغلظه ولزوجته،
وبهذا صار كثيرا ما يولد سددا في الكبد والطحال، ويستحيل بسرعة إلى العفونة والفساد ويولد حميات
مزمنة.
والفالوذجات داخلة في هذا الجنس أيضا لما فيها من الغلظ واللزوجة المكتسبة من الحنطة
والزيت، لان أغلظ ما تكون الحنطة إذا عملت بالزيت، ولذلك صارت الزلابية شر ما يؤكل من الحنطة.
فأما ما كان في طبيعته يابسا مثل عسل النحل، فإن فيه قوة حارة مكتسبة من طبيعة الحيوان الذي
يتولد منه. ولذلك صار يغسل غسلا قويا، وينقي الرطوبات الغليظة اللزجة. ولهذا صار إذا وافى قوة
البطن مستعدة لدفع التفل من أسفل ومقصرة عن تنفيذ الغذاء إلى الأعضاء، أعان القوة الدافعة على
انحدار التفل، وصار سببا قويا لاطلاق البطن. فإذا وافى قوة البطن متهيئة لتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء،
ومقصرة عن إحدار التفل إلى أسفل، فتح أفواه العروق بحدته وطرق (2) للغذاء وأعان على تنفيذه وكشف
رطوبة التفل، وجفف أكثرها ومنعه من الانحدار وصار سببا لحبس البطن. ولذلك اختلف فعل العسل
في الناس وصار في بعضهم مطلقا للبطن، حافظا للصحة، وفى بعضهم حابسا للبطن مهيجا للأمراض.
وأما ما كان من الأغذية دسما مثل اللوز وما شاكله، فمن خاصيته أنه يطفو بدءا على الطعام
كالدهن. فإذا اختلط بالطعام بقوة الغليان غلظه ومنعه من سرعة الانهضام حتى إذا أخذ الطعام في
الانهضام، لين خمل (3) المعدة بدهنيته وأزلق الطعام وأحدره بسرعة. فإذا صار إلى العروق وانتفخ فيها
وربا، منع من شهوة الطعام.
وأما ما كان من الأغذية مالحا فإن له قوة قطاعة تلذع المعاء وتؤذيها وتهيجها إلى دفع ما فيها
بسرعة. ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن ما كان من الأغذية حلوا وبورقيا فمن خاصيته قلة النفوذ
في العروق وسرعة الانحدار من المعاء. إلا أن البورقي أخص بذلك وأقوى فعلا لجهتين: إحداهما أنه،
لملوحته وتقطيعه، يلذع المعاء ويؤذيها ويهيجها إلى دفعه بسرعة. والثانية أنه، لبشاعته وقلة استلذاذ
الأعضاء به، لا يجذب إليها منه إلا اليسير جدا، فيبقى أكثره في المعاء ويثقلها ويوهنها فتهتاج إلى دفعه
ضرورة من غير لبث كثير. وأما الحلو فليس كذلك لان الأعضاء تستلذه وتجذب إليها منه مقدارا أكثر،



(1) يقال: لزز الله فلانا جعل خلقه ملززا أي مجتمعا شديدا.
(2) طرق الشئ: أي جعل له طريقا.
(3) خمل المعدة: زغبها.
22
فيقل ما يجتمع منه في المعاء ويخف حمله عليها، فلا تهتاج إلى دفعه بسرعة. ولذلك قال جالينوس:
إن الحلاوة تقلل التفل، والملوحة تكثره. أراد أن الغذاء المالح يجتمع منه في المعاء مقدار كثير لقلة ما
ينفذ منه في العروق إلى الأعضاء.
وأما ما كان من الأغذية مرا، فإن قوته وفعله شبيه بقوة المالح وفعله. إلا أنه أقل إضرارا بالمعدة
كثيرا لغلبة القبض على مزاجه.
وأما ما كان من الأغذية حريفا، فإن له لا محالة قوة قطاعة جديدة مشاكلة لقوة الأغذية المسهلة.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن ما كان من الأغذية حريفا أو بورقيا ففيه قوة قطاعة يفعل بها فعل
الأدوية المسهلة ويحدر البطن باستكراه للطبيعة وعنف عليها. ولذلك صار سبيله في الأبدان سبيل الدواء
لا سبيل الغذاء. إلا أن الحريف أخص بذلك وأقوى فعلا لان قوته أحد كثيرا.
فأما ما كان الأغذية حامضا فإن له قوة تقطع وتلطف من غير إسخان للبدن. إلا أن فعله يكون
على ضربين: وذلك أنه إن وافى في المعدة والمعاء رطوبات غليظة قطعها ولطفها وأحدرها. وإن وافى
البطن يابسا قليل الرطوبة، كان بتجفيف التفل وحبس البطن أولا وإليه أسبق، لان ذلك من خاصته
وطبعه. وإنما يفعل متى كانت حموضيته ساذجة بسيطة، إلا أن يخالطها شئ من اللزوجة مثل
التمر هندي والإجاص، فتكون معينة على إطلاق البطن دائما.
فأما ما كان من الأغذية عفصا، فإن فيه قوة قابضة تدبغ وتجفف وتغلظ الرطوبة. ولذلك صار
لمن احتاج إلى التدبير الملطف مذموما، لان من خاصيته أن يدبغ المعدة ويقويها ويحبس البطن بالطبع
دائما. وإن كان قد تهيأ فيه إطلاق البطن بالعرض. وذلك أنه إذا أخذ قبل الطعام، تمكن من فم المعدة
الأسفل وشده وقواه، ومنع الاسهال منعا قويا. فإذا أخذ بعد الطعام بقي طافيا في أعلى المعدة وعصره
كما يعصر الشئ بالمعصار، وأحدر ما في المعدة بسرعة وصار سببا لاسهال البطن، وبخاصة متى وافى
جرم المعدة ضعيفا عن حبس الغذاء، وكان ما تقدم من الأغذية من الأشياء الملطفة مثل الحلبة المنبتة
وسائر البقول المسلوقة المتخذة بالمري والزيت، لان هذه الأغذية إذا تقدمت وأخذ بعدها شئ قابض
انحدرت بسرعة وأعانت على الاسهال.
ولجالينوس في هذا قصة أخبر بها عن رجل خطيب كان يزعم أنه إذا أخذ الأشياء القابضة مثل
الكمثرى والتفاح والسفرجل، أسهلته إسهالا قويا. فقال جالينوس: إني لما سمعت هذا الرجل الشاعر
يقول أنه إذا أكل الأشياء القابضة أسهلته، فكرت في ذلك وأخمدت الفحص الذي يقع بالتجربة، ودنوت
بالحكمة إلى تجربة أخرى من هذا الرجل وسألته أن يصير غذاءه عندي يوما واحدا لأقف على الوقت
الذي يأكل فيه الطعام القابض، ومقدار ما كان يأكل منه، وسألته أن يجري غذاءه على عادته في سالف
أيامه ولا يغير من تدبيره شيئا. ففعل ذلك، ودخل الحمام بدءا ثم خرج وشرب ماء باردا فأقل منه. ثم
أكل حلبة منبتة وفجلا وأشباه ذلك مما عاده الناس إذا أكلوه قبل طعامهم، لانت طبائعهم، ثم شرب بعد

23
ذلك شرابا حلوا، ثم أكل ملوخية مسلوقة بمري وزيت وشئ من خمر، ثم تناول بعد ذلك دجاجا
وفراخا ولحم خنزير، ثم شرب بعد ذلك شربة أو شربتين من شراب، ثم لبث قليلا وتناول تفاحا قابضا
مخشنا وكمثرى كذلك. ثم تمشى قليلا، فاختلف اختلافا ذريعا، وأخذ يتعجب ويهزأ بالمتطببين.
فلما رأيت ذلك سألته أن يصير غذاءه عندي يوما (1) آخر، فأجابني إلى ذلك وهو مسرور. فلما
كان الغد (2) دخل الحمام كعادته وخرج، فقدمت إليه تفاحا قابضا مخشنا وكمثرى كذلك، وسألته أن
يتناول منهما ففعل ذلك، ثم أخذ سائر طعامه بعد ذلك أولا فأولا. فلما صنع ذلك لم يكن من فعل
التفاح والكمثرى به، بأن لم يسهلاه فقط لكن عقلا بطنه حتى لم يتحرك أصلا، فتعجب من ذلك
وسألني عن السبب فيه، فأعلمته أنه لما كان يأخذ الأغذية الخشنة القابضة بعد الأغذية التي تسهل
وترخي المعدة، كان ذلك سبب إسهال بطنه، فلما أخذ الأشياء القابضة الخشنة قبل الأشياء التي تسهل
وترخي المعدة لم يسهله شئ.
وذكر أيضا أنه خبره بخبر شاب من أصحابه كان شرب قبل ذلك بأيام سقمونيا (3) يسهله، فأقام
خمس (4) ساعات من النهار لم يسهله، فجعل يشكو معدته وانتفاخ بطنه. وشق ذلك عليه واشتد به جدا،
وأضر به إضرارا قويا، وأخذ يستغيث حتى أمرته يأكل تفاحا حامضا قابضا وكمثرى كذلك ورمانا. فساعة
تناول ذلك جاءه إسهال كثير واستراح مما كان فيه. فأحضر الشاب حتى خبره بذلك، ثم قلت له كذلك
يصيبك أنت أيضا إذا أكلت بعد طعامك غذاءا يقبض. والسبب في ذلك ضعف معدتك عن مسك
الطعام، فإذا عصر أعلاها أدنى شئ حلب كل ما فيها. فقال عند ذلك: قد صدقت، إن معدتي على
هذه الحال من الضعف، وإنما أكل الأغذية القابضة بعد طعامي هذا، إذ أهاجت معدتي للقئ، وكدت
أن أقئ لأني إذا أكلت بعد طعامي أشياء ترخي مثل الخبازي والمري والزيت، أخذني القئ من
ساعتي. فقلت له: قد أحسنت في القول، لان الأشياء التي ترخي تقلب ما في المعدة، والتي تقبض
تقوي المعدة وتشدها. ولهذا صار كثيرا ما نأمر من قد اجتمع في معدته مرار أصفر كثير، أن يأكل أشياء
حامضة مقبضة ليقطع ذلك الفضل ويحدره إلى أسفل.
وأما ما كان من الأغذية تفها لا طعم له مثل القرع وما شاكله، فان نفوذه في العروق يكون
أسرع، إلا أنه في حبس البطن وإطلاقه متوسط بين ذلك، من قبل أن ليس فيه من الحرافة ولا الملوحة
ولا غير ذلك من الطعوم المحدرة ما يكون بها مطلقا، ولا له من العفوصة أيضا ما يكون بها قابضا،
ولذلك صار متى وافى قوة البطن مستعدة لتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء، سال مع الغذاء فانماع (5) إلى جميع



(1) في الأصل: يوم.
(2) في الأصل: كالغد.
(3) السقمونيا: نبات يستخرج من تجاويفه رطوبة دبقة.
(4) في الأصل: خمسة.
(5) إنماع انمياعا الشئ: ذاب وتسيل، فهو مائع.
24
البدن للينه وسرعة انقياده. ومتى وافى البطن متهيئة لاحدار التفل من أسفل، أزلق التفل وأحدره بسرعة،
وأعان على إطلاق البطن. وإن وافى قوة البطن مقصرة عن تنفيذ الغذاء، وعن إحدار التفل جميعا، طفا
وعام واستحال إلى فساد، وولد نفخا وقراقر. وهذه خاصة التفه وفعله. ومتى كان طعمه بسيطا لم يشبه
طعم التفاهة. ومن أجل ذلك صار القرع مضرا بأصحاب القولنج (1)، فإن تركب وصار مع ذلك لزجا مثل
القطف والخبازي والملوخية، صارت له قوة مزلقة مرخية للمعدة. ولذلك صارت هذه الأغذية أسرع
خروجا وانحدارا من غيرها مما ليس سبيله سبيلها لما فيها من فضل الرطوبة واللزوجة، ولا سيما متى
مشى المتناول لها، بعد أخذه لها، مشيا رقيقا على أشياء تنخفض وتطأ من تحت قدميه، لان انحدارها
وخروجها مع الحركة أسرع منه مع الاضطجاع والسكون، وجودة انهضامها مع الاضطجاع والسكون أكثر
منه مع الحركة والمشي.
ومما هو داخل في هذا الجنس أيضا، الشراب الحلو والتوت والإجاص والمشمش والخوخ، إذا
كانت حلوة، والبطيخ لما فيها من فضل الرطوبة واللزوجة. إلا أن البطيخ دونها كلها لخاصتين: خاصة
تجمعه وإياها، وخاصة ينفرد بها دون غيره. فأما ما يجمعه وإياها فسرعة الانحدار والخروج. وأما التي
يختص بها دون غيره فإدرار البول لما فيه من الجلاء اليسير لصدق عذوبته وسلامتها من الحرافة
والمرارة. ولذلك صار منقيا للأوساخ من الجلد إذا اغتسل به. إلا أن جميع هذه الأغذية وما شاكلها مما
لا طعم له بين ولا رائحة ظاهرة، أو مما له عذوبة ولزوجة متوسطة بين ما يحبس ويطلق على ما بينا في
القرع آنفا من قبل أنها متى وافت قوة البطن مستعدة لتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء، سالت وانماعت مع
الغذاء إلى جميع البدن. ومتى وافت قوة البطن متهيئة لاحدار الثفل، زلقت مع الثفل، وأعانت على
إطلاق البطن. ومتى وافت القوة مقصرة عن الفعلين جميعا، وضعفت عن تنفيذ الغذاء وإحدار الثفل،
طفت وعامت واستحالت إلى العفونة وحبس السموم. وإنما ينبغي أن نستعمل هذه الأغذية في إطلاق
البطن متى كان الفضل رقيقا والثفل لينا. وأما متى كان الفضل غليظا والثفل شديدا فالحموضة أولى
بذلك منها. وليست الحموضة أيضا فقط، لكن الحرافة والملوحة والمرارة تستعمل في مثل ذلك.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن فعل الحموضة في تلطيف الفضول قريب من فعل
الحرافة. والفرق بينهما أن الحرافة تلطف وتسخن المزاج إسخانا قويا، والحموضة تلطف وتبرد تبريدا
بينا. ولذلك وجب أن تستعمل الأشياء الحريفة متى كان الفضل مائلا إلى البرودة والغلظ. وتستعمل
الأشياء الحامضة متى كان الفضل مائلا إلى الحرارة والكثافة. فأما ما كان من الأغذية قد خالطت حلاوته
شيئا من الحموضة وصيرته مرا، فإن فعله أيضا متوسط بين ما يطلق ويحبس، إلا أن أخص هذه الطعوم
بالرياح والنفخ والمنع من جودة الهضم التفاهة لغلبة الرطوبة المائية عليها ومن بعدها العذوبة. وأما
المرارة فتبعد عن ذلك لقلة رطوبتها وتوسطها الرطوبة واليبوسة.



(1) القولنج والقولنج والقولنج: مرض معوي يسبب الألم وحبس الثفل والريح. وقيل أنه القرحة.
25
وأما ما كان من الأغذية مركبا من قوتين متضادتين حتى تكون قوة جرمه مخالفة لقوة مائيته
ورطوبته، مثل أن تكون قوة جرمه أرضية فائضة، وقوة جوهره ورطوبته حديدة ملطفة كالعدس والكرنب
من النبات، والطيهوج والقنابز من الطير، لان قوة جرم كل واحد منها فائضة بطيئة الانهضام، وقوة مائيته
حديدة ملطفة سريعة الانهضام، ولذلك صار متى تناول الانسان جرم أحدها مع مرقته ورطوبته، طلبت
الرطوبة الانحدار والخروج لحدتها، ومنعتها قوة الجرم عن ذلك لشدة قبضها، وحدث بينهما مجاذبة
ومحاربة ومصارعة حتى تتولد عن ذلك أمغاص ورياح نافخة، لغليان الرطوبة المحتقنة، فلا يزال ذلك
دائما حتى يتفق لاحد الضدين الخروج فتبطل عاديته وأذيته. فإن اتفق أن تكون قوة البطن مستعدة
للانحدار، قوي فعل الرطوبة على فعل الجرم وانحدرت بسرعة بمعونة قوة البطن لها، لأنه متى صار
شيئان شيئا واحدا وكانت الأسباب متكافئة، فالغلبة للشيئين دون الواحد ضرورة، وكذلك إن اتفق أن
تكون قوة البطن متهيئة لحبس الطبيعة، قوي فعل الجرم على فعل الرطوبة، وعاقها عن الانحدار،
ودامت الأمغاص والرياح حتى يتهيأ انحدار أحد الضدين. فلهذه الجهة، صار العدس هابطا حابسا
للبطن في قوم، ومطلقا لها في غيرهم لأنه متى تناوله من كانت طبيعته قريبة القوة من الانحدار،
قوي فعل الرطوبة، وأعان على إطلاق البطن. ومتى تناوله من كانت طبيعته بعيدة القوة من الانحدار،
قوي فعل الجرم وأعان على حبس البطن، وولد رياحا ونفخا وقراقر مؤذية من غليان الرطوبة المحتقنة.
ومن قبل ذلك، وجب على من أراد استعمال شئ من هذه الأغذية أن يبتدئ بسلقه ويرمي
بمائه الذي سلقه به لتزول عنه حدة رطوبته ويلطف جرمه، ويظهر له تدبير محمود في حبس البطن. ومن
أحب أن يكون فعله في ذلك أقوى وتدبيره أحمد، فيسلقه مرتين أو ثلاثا ويرمي بالمياه التي يسلقه بها،
ثم يستعمله كيف أحب. فقد بان السبب الذي له صار العدس والكرنب يطلقان البطن في بعض الناس،
ويحبسانها في غيرهم.
وأما السبب الذي له صار العسل محمودا عند قوم يذكرون أنه ملين للبطن حافظ للصحة،
ومذموما (1) عند قوم يزعمون أنه حابس للبطن مهيج للأمراض. فإن ذلك يكون من قبل ملاءمته لمزاج
بدن المستعمل له، أو مخالفته له لان من شأن كل غذاء أن يزيد فيما شاكل مزاجه، ويقوي فعله،
وينقص مما خالف مزاجه، ويضعف فعله. والعسل في طبيعته حار يابس فهو إذا زائد في الحرارة واليبوسة
ومقو لفعلهما، وناقص من الرطوبة والبرودة ومزيل لفعلهما. والمرة الصفراء فهي حارة يابسة، فالعسل إذا
زائد فيها ومقو لفعلها. ولذلك، صار متى تناول العسل من كان ممرورا قد غلب على مزاجه الحرارة
واليبوسة، زاد في حرارته وصار هيولي للمرة الصفراء حتى يصير هو وهي شيئا واحدا ويصير سببا قويا
لتجفيف الثفل وحبس البطن، إلا أن يوافي في المعاء بعض الانجراد (2) فيلذعها بحدته ويسحجها (3) ويصير
شيئا عرضيا للاسهال الكائن من قروح الأمعاء.



(1) في الأصل: ومذموم.
(2) يقال: إنجرد الثوب: أي انسحق وبلي.
(3) سحج الشئ: قشره.
26
ومتى تناوله من كان بلغمانيا قد غلب على مزاجه البرودة والرطوبة، أسخن مزاجه وخفف رطوبته
الفضلية ورد مزاجه إلى التوسط والاعتدال، وصار سببا قويا لجلب الصحة واستدامتها، وبخاصة إذا وافى
في المعدة رطوبات فضلية، لأنه يجلوها ويغسل المعدة والمعاء ويهيجها لدفع ما فيها من أثفال الأغذية،
ويعين القوة على إطلاق البطن.
ولجالينوس في هذا فصل يذكر فيه أنه أتاه رجل يشكو فم معدته، فعلم مما وصف له أنه قد
اجتمع في معدته بلغم. فأمره أن يسلق كراثا وسلقا ويأكلهما بخردل. فلما فعل ذلك، قطع ذلك الطعام
ذلك البلغم بحدته وأحدر منه ثفلا كثيرا، وسكن عن الرجل جميع ما كان يعرض له في فم معدته. ثم
اتفق بعد ذلك أن الرجل أتخم من طعام حريف، وأحس في معدته بلذع، فأكل السلق مع الخردل يرجو
الانتفاع بهما، فزاد فيما كان عرض له من الحرافة واللذع، فدل بذلك على أن الأشياء تزيد فيما شاكلها
وتقويه، وتنقص ما ضادها وتضعفه. والله أعلم بحقائق الأمور.

27
الباب الثالث
في اختيار الأغذية بالقياس
قال إسحاق بن سليمان: وإذ قد أتينا على الشروط التي نتوصل بها إلى معرفة قوى الأغذية
بالتجربة، فقد بقي أن نخبر بالوجه الذي يختبر به بالقياس، إذ ليس بالتجربة وحدها يجب أن نلتمس
الوصول إلى ما قصدنا إليه، فأقول: إن الأغذية تختبر بالقياس من ثلاثة وجوه: أحدها: من طعومها
ومذاقاتها، والثاني: من روائحها، والثالث: من تركيبها وجوهريتها أعني بتركيبها مكانها في السخافة
والكثافة، والخفة والرزانة. وأعني بجوهريتها مكان الكيموس (1) المتولد عنها من اللزوجة والرقة والغلظ
واللطافة وسرعة الانهضام وبطئه.



(1) الكيموس في عبارة الأطباء: هو الطعام إذا انهضم في المعدة قبل أن ينصرف عنها ويصير دما. ويسمونه أيضا: الكيلوس. (اللسان
مادة كمس).
28
الوجه الأول من الباب الثالث
في معرفة الأغذية من طعومها ومذاقاتها
فأما طعوم الأغذية فإنها تنقسم قسمة أولية على ضربين: لان منها ما يفعل في حاسة الذوق ويؤثر
فيها، ومنها ما لا يفعل بالحاسة شيئا ولا يؤثر فيها. وما لا يفعل فهو الملقب بالتفه. وهو على ضربين:
إما جسما مركبا مثل بياض البيض وما شاكله، وإما جسما بسيطا مثل الماء وسائر العناصر. فإن كان
جسما مركبا كان دليلا على تكافؤ القوتين الفاعلتين فيه. أعني بالقوتين الفاعلتين: الحرارة والبرودة.
ولذلك صار توسط الحرارة والبرودة توسطا بينا، أو أميل إلى البرودة قليلا. وأما الكيفيتان المنفعلتان (1)،
أعني الرطوبة واليبوسة فتختلفان فيه على حسب غلظ رطوبته الجوهرية ولطافتها وتوسطها الغلظ واللطافة من
قبل أن جوهر الرطوبة متى كان أرضيا غليظا، كان الشئ في طبيعته يابسا مجففا، ونسب إلى البرودة
واليبوسة مثل التوتياء والشادنة والاسفيداج (2) وما شاكل ذلك. ومتى كان جوهر الرطوبة لطيفا هوائيا،
صار الشئ دهنا دسما ونسب إلى التوسط بين الكيفيات الأربع مثل الزيت العذب المعروف بالانفاق.
ومتى كان جوهر الرطوبة متوسطا بين اللطافة والغلظ، صار الشئ متوسطا بين ما يشد ويرخي، ونسب
إلى البرودة والرطوبة، مثل بياض البيض والجبن الطري.
وقد يختلف هذا الصنف فيما وصفناه به على حسب انحراف الرطوبة وميلها إلى إحدى
الحاشيتين دون الأخرى، لأنها متى كانت مائلة إلى الحاشية الأولى قريبة من الغلظ، صار الشئ لزجا
مغريا مثل الكمثرى والنشاستج. ومتى كانت مائلة إلى الحاشية الأخرى قريبة من اللطافة، صار الشئ
ملينا مثل الشمع المذاب والسمين من اللحم.
فأما إن كان ما لا يفعل في حاسة الذوق جسما بسيطا، لم يكن له أن يؤثر في حاسة الذوق
شيئا، لأنه بسيط والحاسة مركبة. والبسيط لا يفعل في المركب فعل المركب في المركب، من قبل أن
كل فاعل طبيعي ليس له أن يفعل إلا فيما كان مثله بالقوة ليخرجه إلى الفعل. ولا ينفعل أيضا إلا بما



(1) في الأصل: الكيفيتين المنفعلتين.
(2) التوتياء: حيوان بحري، بعض أنواعه يؤكل. والشادنة: حجر الدم كالياسمين والاسفيداج: كربونات الرصاص. (معرب).
29
كان مثله كذلك، أعني ألا يقبل إلا ما كان فيه بالقوة، وطعم البسيط، فغير ممكن ان يكون في المركب لا
بالقوة ولا بالفعل. ولذلك لا يقبله ولا يستحيل إليه كاستحالته إلى المركب مثله، لمشاكلته في التركيب.
ولذلك صار البزر قطونا (1) أكثر تبريدا لأبداننا وأقطع للعطش من الماء، وإن كان الماء في طبيعته أشد بردا
من البزر قطونا إذ كان خالص البرودة لأنه بسيط. ومن قبل ذلك اجتمعت الفلاسفة على أن العناصر لا
تغذو البدن أصلا ولا تتشبه بشئ من الأعضاء إلا بتوسط للنبات والدم، لان العناصر لقربها من النبات
تتشكل به وتنتقل إليه، والنبات لقربه من (2) الدم يتشكل به وينتقل إليه، والدم لقربه من أعضاء الحيوان
يتشكل بها وينتقل إليها، لان به قوتها وقوامها. فقد بان أن أبعد الأشياء من غذاء الحيوان العناصر أنفسها
إذ كانت بسيطة لا طعوم لها. ولذلك قبلت كل الطعوم وظهرت فيها كما يقبل ما لا لون له جميع الألوان
ويظهر فيه لان ما له لون فلونه يغلب عليه ويمنعه من قبول غيره من الألوان
ولذلك صارت الرطوبة الجليدية التي بها يكون البصر من العين لا لون لها، وصار اللسان لا
طعم له لأنه لو كان له طعم لما قبل الطعوم ولا تشكل بشئ منها لان طعمه كان يغلب على حسه ويمنعه
من قبول غيره من الطعوم إلا على المكابرة والغلبة. والدليل على ذلك أنا نجد من قد غلب على حاسة
الذوق منه المرار، كثير ما يذوقه قريبا من المرارة. وكذلك من قد غلب على حاسة لسانه البلغم المالح،
يجد كل ما يتطعمه قريبا من الملوحة. ولذلك صار الماء يقبل جميع الطعوم والألوان ويشكل بها من غير
أن يكسبها طعما ولا لونا، بل يزيل ألوانها وطعومها إذا غلب عليها من قبل أنه يحل كل ما مازجه ويبسطه
فيبسط قوته ضرورة ويتفرق ويضعف فعلها عند تفريق أجزائها. فمن البين أن الماء يخفي طعم ما له
طعم، ولون ما له لون من غير أن يكسبه لونا ولا طعما. والدليل على ذلك أنا إذا مزجناه بشئ له حلاوة
نقص من حلاوته وذهب بلذاذته، وإذا مزجناه بشئ فيه بشاعة، إما مالح وإما حامض وإما حريف،
نقص من بشاعته وأزال أكثرها عنه فأكسبه حالا يستلذ بها لان قوتها تضعف وتصير إلى حال لا تنافرها
الطباع كل المنافرة.
فقد بان أن العناصر لا طعوم لها عند حاسة الذوق، لأنها بسائط والحاسة مركبة. وأما ما يفعل
في حاسة الذوق، فينقسم بدءا على قسمين: وذلك أن منه ما يحدث في الحاسة لذة، ومنه ما يحدث
فيها أذى. وما يحدث فيها لذة فيفعل ذلك بقوة فيه ملينة تغسل وتجلو وتنفي عن الحاسة ما يؤذيها من
الأشياء الغليظة التي قد أجمدها البرد كالذي نشاهده في الحلاوة من التنقية والغسل والتليين لخشونة
اللسان، وبعد الحلاوة في ذلك الدسومة. ولذلك، صارت حاسة الذوق تستلذ الحلاوة وتسكن إليها
كسكون حاسة اللمس للفتورة المعتدلة المشاكلة لحرارة مزاج الانسان. ومزاج بدن الانسان حار رطب
باعتدال. وكل ما أحدث في حاسة اللمس أو حاسة الذوق لذة فهو حار رطب باعتدال. فالحلاوة إذا



(1) بزرقطونا وقطوناء: حبة يستشفى بها.
(2) عبارة (النبات لقربه من): مستدركة في الهامش مع الإشارة إلى مكان تفويتها من النص.
30
حارة رطبة باعتدال. وأما ما يحدث في الحاسة أذى فإنه يفعل ذلك بقوة مؤذية مؤلمة للحاسة مفرقة
للاتصال. وذلك يكون إما بإفراط جمع، وإما بإفراط تفريق، لان الجمع المجاوز للاعتدال يجمع أجزاء
اللسان ويضغط بعضها ببعض، فيتفرق اتصالها وارتباطها.
ولذلك قال جالينوس أن اليبوسة متى كانت في الدرجة الرابعة فعلت فعل الحرافة. وأما إفراط
التفريق فيكون بقوة قطاعة تحل الرباطات وتفرقها. وهي على ضربين: إما أن تفرق وتسخن المزاج مثل
الحرافة والمرارة والملوحة، وإما أن تفعل ذلك من غير إسخان مثل الحموضة. وإنما اختلفت طعوم
الأغذية من قبل تغيير مزاجاتها، واختلاف تأثير القوتين الفاعلتين في القوتين المنفعلتين. أعني بالقوتين
الفاعلتين: الحرارة والبرودة، وأعنى بالقوتين المنفعلتين: الرطوبة واليبوسة. وذلك أن الحرارة إذا فعلت
في الرطوبة واليبوسة، أحدثت ضروبا من الطعوم، والدليل على ذلك أنا نجد أصل كل طعم من
عنصرين: أحدهما: رطب مائي، والاخر: يابس أرضى، كالذي نشاهده من الثمار في ابتداء لونها لأنا
نجدها إما رطبة مائية مثل القثاء والبطيخ وما شاكل ذلك، وإما يابسة أرضية مثل البلوط والرمان والتفاح
والخوخ وما شاكل ذلك، حتى إذا تمادى بها الزمان وقبلت جوهر الأرض ورطوبة الماء ولطافة الهواء
وطبختها الحرارة الغريزية من باطنها وحرارة الهواء من ظاهرها، انتعشت ونمت ولانت أرضيتها وانعقدت
رطوبتها وانتقلت إلى طعوم شتى على طبيعة النبات التي هي منه، ومقدار حرارته من برودته وكيفية
رطوبته الجوهرية في الغلظ واللطافة والتوسط بين ذلك.
ولذلك، صار انتقال الثمار على ضروب لان منها ما ينتقل من العفوصة إلى الحلاوة بلا توسط
طعم ثالث مثل التمر وما شاكله. ومنها ما لا ينتقل إلا بتوسط طعم ثالث مثل العنب فإنه لا ينتقل من
العفوصة إلى الحلاوة إلا بتوسط الحموضة لأنه ينتقل بدءا إلى الحموضة ثم إلى الحلاوة. وما كان انتقاله
بلا وسيط كان على ضربين: إما أن تثبت صلابة جرمه على حالتها وينتقل جوهره إلى الحلاوة مثل
الشاهبلوط (1) وما شاكله، وإما أن تتغير صلابة جرمه وتلين مع تغير جوهره وطعمه مثل الكمثرى والرمان،
والسبب في ذلك: أن العفوصة لما كانت في طبيعتها أرضية باردة يابسة، وجب أن يكون انتقالها على ما
هي عليه بما ضاد مزاجها وخالفه، والمضاد لمزاجها في الحرارة والرطوبة. إلا أن ذلك ربما كان عن قوة فعل
الحرارة فقط، أو عن كثرة، وربما كان عن زيادة الرطوبة وكثرتها، وربما كان عن قوة فعل الحرارة فقط،
أو عن كثرة الرطوبة معا. وليس معنى قولي عن قوة فعل الحرارة فقط، أو عن كثرة الرطوبة فقط هو أنه
قد يمكن في شئ من الثمار الانتقال عن العفوصة إلى طعم آخر بغير رطوبة تغذوه وحرارة تطبخ غذاءه،
إلا أنى لما رأيت الحرارة في بعض النبات ضعيفة جدا مثل الخشخاش والبزر قطونا وما شاكلهما، وفى
بعضه قوية جدا مثل الفلفل والثوم وما شاكلهما، وفى بعضه معتدلة مثل العنب والتين وما شاكلهما بسبب
انتقال ما كان من الثمر ضعيف الحرارة إلى كثرة الرطوبة فقط، وما كان منه قوي الحرارة بسبب انتقاله



(1) الشاه بلوط: شجرة الكستنة (فارسية).
31
إلى قوة فعل الحرارة فقط، وما كان منه معتدل الحرارة لسبب انتقاله إلى قوة فعل الحرارة وكثرة الرطوبة
معا. وكذلك فعلت الرطوبة أيضا. وذلك أنى لما رأيتها في بعض النبات غزيرة مثل القثاء والبطيخ، وفى
بعضه قليلة جدا مثل البلوط والشاهبلوط، وفى بعضه معتدلة مثل التفاح والسفرجل بسبب انتقال ما كان
منه غزير الرطوبة جدا إلى كثرة الرطوبة فقط، ولسبب انتقال ما كان منه معتدل الرطوبة إلى قوة فعل
الحرارة وكثرة الرطوبة معا.
وإذ قد بينا ذلك فنقول: إنه متى كان انتقال الثمرة عن عفوصتها لقوة فعل الحرارة فقط ثبتت
صلابة جرمه على حالها لقلة رطوبته، وانتقل جوهر الرطوبة إلى العذوبة لفعل الحرارة فيها مثل
الشاهبلوط وما شاكله، ومتى كان انتقاله عن عفوصتها الكثيرة الرطوبة وزيادتها تولد عن ذلك ثلاثة
ضروب من الطعوم: أحدها: العفوصة، والثاني: القبوضة، والثالث: الحموضة. وذلك أن الرطوبة
المغذية للثمار تختلف في جوهريتها على ثلاثة ضروب لان منها ما تكون أرضية غليظة، ومنها ما تكون
لطيفة إما رقيقة مائية وإما خفيفة هوائية، ومنها ما تكون لزجة متوسطة بين اللطافة والغلظ فما كان من
الثمر رطوبته غليظة أرضية ثبتت صلابة جرمه وعفوصة طعمه على حالتها ولم تنتقل إلا انتقال النمو فقط
مثل العفص والفوفل (1) وما شاكلهما. وما كان منه رطوبته لزجة متوسطة بين اللطافة والغلظ لان جرمه
قليلا وتغيرت بعض عفوصته وصار قابضا مثل البلوط وما شاكله. وما كان منه رطوبته لطيفة، انقاد لفعل
الطبيعة ولان واسترخى وانتقل إلى الحموضة، إلا أنه يكون على ضربين: إما أن تكون رطوبته مع
لطافتها مائية سيالة فتؤثر بها العفوصة وتكسبها قبضا يسيرا، فتصير لذلك حابسة للبطن مثل التفاح
والسفرجل وما شاكل ذلك. وإما أن تكون رطوبته لطيفة هوائية لدنة فتقهر العفوصة بلطافة حرارتها
ولدونتها وتكسب الثمرة لزوجة وحدة يسيرة، فتصير لذلك معينة على إطلاق البطن دائما مثل التمر هندي
والإجاص وما شاكلهما.
ولذلك صارت الحموضة ألطف وأغوص في المسام من قبل أن الأشياء الحامضة رطوبتها مياعة
سيالة تنفذ في المسام بسرعة. وبهذا صار فعلها في باطن الأجساد كفعلها في ظاهرها. وأما الأشياء
القابضة فرطوبتها لزجة غليظة قريبة من الأرضية تجفو عن المسام وتمتنع من النفوذ فيها. ولذلك صار
فعلها في ظاهر الأبدان أكثر من فعلها في باطنها. وكما أن الأشياء الحامضة ألطف من العفصة وأكثر
نفوذا في المسام لان رطوبتها متوسطة بين اللطافة والغلظ، ورطوبة العفصة مخصوصة بالأرضية والغلظ
منفردة بهما. ولذلك صار فعل الأشياء العفصة لا يتجاوز ظاهر البدن ولا ينفذ في مسامه أصلا، وإن كان
انتقال الثمرة عن عفوصتها لقوة فعل الحرارة وكثرة الرطوبة معا يولد عن ذلك خمسة ضروب من الطعوم:
أحدها: الحلاوة، والثاني: الدسومة، والثالث: الملوحة، والرابع: المرارة، والخامس: الحرافة.
والسبب في ذلك اختلافها في قوة الحرارة وضعفها أو توسطها واعتدالها وكثرة الرطوبة وقلتها وغلظها



(1) الفوفل والفوفل: ثمرة نبات في الهند يشبه جوزة الطيب. يستعمل لتطييب النكهة.
32
ولطافتها وتوسطها بين القلة والكثرة واللطافة والغلظ. وذلك أن الحرارة متى كانت في غاية الاعتدال
والتوسط، وكانت الرطوبة أيضا كذلك أعني في غاية التوسط بين القلة والكثرة، كمل طبخ الثمرة وجاد
هضمها وانتقلت إلى الحلاوة إلا أن انتقالها يكون على ضربين: إما أن يكون ذلك بتوسط طعم ثالث،
وإما أن يكون بلا وسيط. والسبب في ذلك أن جوهر الرطوبة متى كان لزجا غليظا أسرع انعقاد الثمرة
وانتقلت إلى الحلاوة دفعة بغير وسيط كانتقال التمر والتين والموز وغير ذلك.
ومتى كان جوهر الرطوبة رقيقا سيالا لطيفا بعد انعقادها وامتنع وانتقلت الثمرة بدءا إلى الحموضة
حتى إذا كمل انعقادها بدوام فعل الحرارة فيها انتقلت إلى الحلاوة مثل العنب والمشمش وما شاكلهما.
ولذلك صار التمر والتين والموز أكثر لزوجة وغلظا من العنب وما شاكله. وقد يستدل على ذلك من
الشاهد لأنا نجد جميع الرطوبات العذبة التي تطبخ في الشمس إذا كانت رقيقة سيالة قليلة الغلظ
واللزوجة بعد انعقادها وانتقلت إلى الحموضة، وإذا كانت غليظة لزجة انعقدت بسرعة وقويت حلاوتها.
فإن جاوزت الحرارة حد الاعتدال وصارت كأنها في آخر الدرجة الثانية وكان جوهر الرطوبة لطيفا لدنا
هوائيا، انتقلت الثمرة إلى الدهنية والدسومة مثل اللوز وجوز الهند وما شاكلهما. وإن كانت الحرارة بهذا
الوزن والمقدار وكانت الرطوبة يسيرة متوسطة بين اللطافة والغلظ، انتقلت الثمرة إلى الملوحة. ولذلك،
صار كل مالح حارا يابسا أرضيا في الدرجة الثالثة، وكانت الرطوبة يسيرة غليظة أرضية انتقلت الثمرة إلى
المرارة. ولذلك، صار كل مر حارا يابسا أرضيا في الدرجة الثالثة، فإن جاوزت الحرارة هذا الحد أيضا
وصارت إلى الدرجة الرابعة وكانت الرطوبة مع ذلك في غاية من اللطافة انتقلت الثمرة إلى الحرارة
وصارت نارية محرقة. ولذلك، صار كل حريف حارا يابسا في الدرجة الرابعة.
فقد بان من قوة كلامنا أن الملوحة والمرارة أكثر حرارة من الحلاوة الدسومة (1)، وأن الحرافة
أكثر الطعوم حرارة ويبوسة. وقد يستدل على ذلك من جهتين: إحداهما من فعلها، والأخرى من
انفعالها: أما من فعلها فلانا نجد الحلاوة تجلو جلاء معتدلا من غير استكراه للطبيعة ولا تفريق للاتصال
ويدل على ذلك استلذاذ الحاسة لها وسكونها عندها. وأما الملوحة والمرارة والحرافة فليس هي كذلك
لأنها تجلو جلاء غير معتدل بعنف على الطبيعة، ويدل على ذلك استكراه الطبيعة لها ونفور الحاسة منها
لتفريقها لاتصالها. والحرافة، فيما ذكرنا، أقوى فعلا وأسرع تأثيرا لان حرارتها نارية مشاكلة لحرارة النار.
وأما الملوحة فلان حرارتها في آخر الدرجة الثانية صار فعلها أضعف، ونفور الحاسة منها أقل. وأما
المرارة فلان حرارتها في الدرجة الثالثة توسط فعلها بين فعل الحرافة وفعل الملوحة لأنها أقوى من
الملوحة وأضعف من الحرافة. ولذلك صار نفور الحاسة منها أكثر من نفورها من الملوحة وأقل من
نفورها من الحرافة.



(1) في هامش الأصل: هو قد قال: أن الدسومة في آخر الثانية والملوحة في آخر الثالثة. وههنا قد خالف.
33
وأما من انفعالها فبما نجده من فعل النار في العسل وغيره من الأشياء الحلوة، لأنا نجد العسل
إذا طبخ بالنار وقوي فعل النار فيه وجاوز المقدار، قلت رطوبته وتغيرت حلاوته واكتسب ملوحة. فإذا زاد
فعل النار فيه تأثيرا وقارب الافراط، ازداد جفافا وانتقل إلى المرارة، فإذا أفرط فعل النار فيه حتى تفنى
أكثر رطوبته الجوهرية وتقارب العدم، صار حريفا.
وجميع القول: أن ما كان من الطعوم حريفا أو مرا أو مالحا كان مزاجه حارا، وما كان منها عفصا
أو قابضا أو حامضا كان مزاجه باردا، وما كان حلوا أو دسما أو تفها كان مزاجه معتدلا. وما كان من
الطعوم جوهره لطيفا كان إما دسما وإما حريفا وإما حامضا. وما كان منها جوهره غليظا كان إما حلوا وإما
عفصا وإما مرا. وما كان منها جوهره معتدلا متوسطا بين اللطافة والغلظ كان إما قابضا وإما مالحا وإما
تفها (1). فإذا تركبت أصناف لطافة الجوهر وغلظه واعتداله مع أصناف حرارة المزاج وبرودته، تولد من
ذلك تسعة ضروب من التركيب، ويكون منها تسعة ضروب من الطعام: أحدها: الحلاوة، وهي من
تركيب مزاج حار مع جوهر غليظ. والثاني: الدسومة، وهي من تركيب مزاج حار مع جوهر لطيف.
والثالث: التفاهة، وهي من تركيب مزاج معتدل مع جوهر معتدل. والرابع: الحموضة، وهي من تركيب
مزاج بارد مع جوهر لطيف تشوبه أرضية. والخامس: القبوضة، وهي من تركيب مزاج بارد مع جوهر
معتدل. والسادس: العفوصة، وهي من تركيب مزاج بارد مع جوهر غليظ. والسابع: الحرافة، وهي من
تركيب مزاج حار مع جوهر لطيف. والثامن: الملوحة، وهي من تركيب مزاج حار مع جوهر معتدل.
والتاسع: المرارة، وهي من تركيب مزاج حار مع جوهر غليظ.
ومتى سمعتني أقول في شئ من الأشياء: أنه حار أو بارد أو رطب أو يابس أو لطيف أو غليظ،
فإنما ذلك بإضافته إلى المزاج المعتدل لان الأوائل لما نظروا إلى جميع الطعوم وجدوها لا تخلو من أن
تكون إما لذيذة عند الحاسة، وإما غير لذيذة. فما كان منها لذيذا علموا أنه في غاية الاعتدال والتوسط
لأنه مشاكل لمزاج بدن الانسان. ولذلك لم تنافره الحاسة وتكرهه مثل الماء المعتدل الفتورة اللذيذ عند
حاسة اللمس. وما انحرف عن ذلك قليلا وأثر في الحاسة تأثيرا ما مثل الماء القوي الفتورة، علموا أنه
قد خالف بدن الانسان مخالفة يسيرة ونسبوه إلى الدرجة الأولى من الحرارة. وما زاد انحرافه على ذلك
قليلا وصار مثل الماء الحار القوى الحرارة، نسبوه إلى الدرجة الثانية من الحرارة، وما زاد انحرافه على ذلك
أيضا حتى ينافر الحاسة ولا تدانيه إلا كرها نسبوه إلى الدرجة الثالثة من الحرارة. وما زاد على ذلك وصار
محرقا ومفرقا للاتصال بسرعة مفسدا للمزاج، نسبوه إلى الدرجة الرابعة. وكذلك فعلوا في البرودة
والرطوبة واليبوسة.
ولما لم يجد الأوائل مرتبة يترقون إليها بعد الاحراق وتفرق الاتصال، وقفوا هناك وصيروا الدرج



(1) في الهامش هذا التعليق: لي: (كونه ها هنا قد جعل المر أغلظ جوهرا من المالح كما ذكر حنين، وقد وضعت على هذا
الموضع من كلام حنين خشية كرهنا شيئا منها).
34
أربعا. ولما لم يجدوا بين هذه الدرج الأربع أيضا إلا مراتب تخفى عن الحس وتلطف عند الفعل، لم
يمكن أن يوقعوا عليها اسما وصيروا لكل درجة ثلاث مراتب: أول وآخر ووسط. وقالوا أول الدرجة
ووسطها وآخرها. فقد بان مما قدمنا إيضاحه ان اللذيذ من الطعوم هو الملائم لمزاج بدن الانسان مثل
الحلاوة، أو قريب من الملاءمة مثل الدسومة، وبعدها التفاهة. وذلك أن الدسومة مجاورة لحد الاعتدال
إلى الحرارة قليلا، ولذلك صارت (1) حرارتها في آخر الدرجة الثانية. وأما التفاهة فناقصة عن حد
الاعتدال إلى البرودة قليلا، ولذلك صارت قريبة من البرودة في الدرجة الأولى.
فأما الطعوم غير اللذيذة (2) فهي البشعة المخالفة لمزاج بدن الانسان وهي على ضربين: إما
مخالفة بإفراط جمعها مثل العفوصة وبعدها القبوضة، وإما مخالفة بإفراط تفريقها وهي على ضربين: إما
مفرقة للاتصال من غير إسخان للبدن مثل الحموضة، وإما مفرقة ومسخنة مثل الحرافة وبعدها المرارة
وبعدها الملوحة. فقد بان واتضح أن الحلاوة والدسومة تحت جنس واحد من الحرارة والرطوبة. إلا أن
الفرق بينهما أن رطوبة الحلاوة لزجة غليظة قريبة من التوسط بين الغلظ واللطافة مشاكلة لرطوبة بدن
الانسان ورطوبة الدسومة لدنة لطيفة مشاكلة لرطوبة الهواء. ولذلك صارت الدسومة أخص الطعوم بتغذية
الحرارة الغريزية. ويستدل على ذلك من الشاهد لأنا نجد الزيت والدسم أخص الأشياء بتغذية النار
خارجا لان رطوبة الزيت والشحم مشاكلة لرطوبة الهواء، والهواء أقرب العناصر من طبيعة النار لما بينهما
من المجانسة والمشاركة بالفاعل الأكبر أعني الحرارة.
وأما الملوحة والمرارة والحرافة فإنها تحت جنس واحد من الحرارة واليبوسة إلا أن الفرق بينها (3)
أن رطوبة الحرافة لطيفة نارية، ورطوبة الملوحة متوسطة بين اللطافة والغلظ قريبة من الأرضية، ورطوبة
المرارة غليظة أرضية فيها قبض. فلذلك صارت أقل إضرارا بالمعدة من الملوحة والحرافة. فأما العفوصة
والقبوضة والحموضة فإنها تحت جنس واحد من البرودة واليبوسة إلا أن الفرق بينها (4) أن رطوبة العفوصة
يسيرة جدا غليظة أرضية ورطوبة القبوضة أغزر وأقرب إلى التوسط والاعتدال، ورطوبة الحموضة أكثر
غزارة وألطف إلا أنها على ضربين لان منها رقيقة مائية مثل رطوبة الرمان الحامض وحماض الأترج،
ومنها لزجة لدنة هوائية مثل رطوبة التمر الهندي والإجاص.
فأما التفاهة فإنها، وإن وافقت العفوصة والحموضة في جنس واحد من البرودة، فإن بينهما فرقان
بين من قبل أن الحموضة والقبوضة تدلان على اليبوسة دائما، والتفاهة تدل على الرطوبة دائما، وذلك
لان طعمها قريب من طعم الماء والماء بارد رطب فهي إذا باردة رطبة، ولذلك صار كل بارد رطب إما
تفها وإما مائلا (4) إلى العذوبة قليلا متوسطا بين التفاهة والحلاوة. فإذا الطعوم البسائط ثمانية لا أقل ولا
أكثر. أحدها: الحلاوة، والثاني: الدسومة، والثالث: الملوحة، والرابع: المرارة، والخامس: الحرافة،



(1) في الأصل: صار.
(2) في الأصل: الغير لذيذة.
(3) في الأصل: بينهم.
(4) في الأصل: مائل.
35
والسادس: الحموضة، والسابع: العفوصة، والثامن: القبوضة.
وقد أخرج قوم القبوضة من هذه الأصول وصيروا التفاهة عوضا منها. وكانت حجتهم في ذلك أن
قالوا إنا وجدنا القبوضة من جنس العفوصة لا فرق بينهما إلا في القوة والضعف فقط. فإن وجب للقبوضة
أن تعد من الطعوم، وهي من نوع العفوصة، وجب أيضا من ذلك للعذوبة أن تعد من أصول الطعوم وإن
كانت من نوع الحلاوة فقد دلت البراهين على أن الحلاوة دالة على توسط واعتدال في الحرارة
والرطوبة. ولذلك شبهها الأوائل بطبيعة الماء الفاتر المشاكل لمزاج بدن الانسان. ومن قبل ذلك صارت
على سبيل الغذاء تغذو غذاء كثيرا، وعلى سبيل الدواء تذيب الفضول الغليظة وتنفيها عن الحاسة وتعدل
فيما بين الأشياء المختلفة لأنها تلين الاجزاء الصلبة برطوبتها، وتصلب الاجزاء الرخوة بلطف حرارتها،
ولذلك لم تتأذى بها الحاسة فتنافرها الطباع ولهذه الجهة اختصت بتغذية بدن الانسان دون غيرها من
الطعوم وبخاصة متى كان جرمها ملززا (1).
ومن أجل ذلك قال جالينوس: إن كل ما يغذو فلا بد من أن يكون فيه من الحلاوة مقدار ما، قل
ذلك أم كثر، على حسب قربه من الغذاء أو بعده منه، وكل ما لا يغذو فبعيد من الحلاوة ثم يختص بعد
ذلك بخواص شتى، من قبل أن المشاكل من جميع (2) الأشياء أبدا واحد (3) والمنافر كثير. مثال ذلك: أن
الحلاوة لا يشاكلها إلا ما كان قريبا من طعمها، وتنافرها طعوم شتى مثل الملوحة والمرارة والحرافة
والحموضة وغير ذلك. ولذلك صار غذاء الطعوم المخالفة للحلاوة تقل وتكثر على حسب قرب كل
واحد منها من الحلاوة وبعده منها لان الحلاوة الخالصة لما كانت أكثر الطعوم غذاء مما بعد منها. فإذا
<كان> ذلك كذلك، فقد بان أن الصادق المرارة لا يغذو أصلا، والمتوسط بين المرارة والحلاوة يغذو غذاء
متوسطا بين القلة والكثرة، ويقل ويكثر على حسب قربه من الحلاوة وبعده منها. وكذلك الحكم في كل
ما خالف الحلاوة من الطعوم إذ لا يمكن أن يكون في شئ من الطعوم المخالفة للحلاوة غذاء البتة إلا
أن يتركب مع شئ من الحلاوة.
ولجالينوس فصل في هذا قال فيه: إن كل ما كان مرا أو مالحا أو حريفا أو قابضا، فما يصل إلى
البدن من غذائه يسير جدا، وما لا طعم له فما يصل إلى البدن من غذائه أكثر لأنه أقرب إلى العذوبة،
وأخص الطعوم بالغذاء الحلاوة ولا سيما إذا كان الجرم الحامل لهذا ملززا لأنه أكثر ثباتا في الأعضاء
وأبعد انحلالا منها. ولعل ظانا يظن بجالينوس أنه لما قال: أنه ما كان من الأغذية حريفا أو مالحا أو مرا
فما يصل إلى البدن من غذائه يسير جدا، أنه قد صير لها مقدارا من الغذاء. وهذا ظن خطأ من قبل أنه
لم يتكلم عليها ههنا وهي بسائط، وإنما تكلم عليها وهي مركبة أراد أن ما كان ظاهره كذلك وعذوبته

36
خفية، فإن غذاءه على حسب ما فيه من يسير العذوبة لأنا قدمنا البراهين على فساد غذاء كل طعم ليس
له عذوبة، وأبعد الأشياء من الغذاء الأسطقسات لأنها بسائط كما بينا فيما سلف. فقد بان أن جميع
الطعوم المخالفة للحلاوة لا تغذو إلا على قدر ما فيها من يسير الحلاوة.
فأما ما كان منها منافرا للحلاوة، فإنه لا يغذو أصلا وذلك لبشاعته ومنافرته لمزاج بدن الانسان،
ولذلك احتالت الأوائل في (1) تركيب الطعوم بعضها ببعض وأدخلت على كل واحد منها ما يزيل عنه
بشاعته ويكسبه طعما نستلذه. ولهذه الجهة قال جالينوس أنه ليس يعجب أن يكون طعامان كل واحد
منهما في نفسه بشع غير لذيذ ولا مأكول، فإذا امتزجا واختلطا بضرب من ضروب الاختلاط، حدث
بينهما طعم لذيذ. وقال أيضا: وليس بمنكر أن يكون طعام هو في نفسه غير لذيذ فإذا خالطه شئ آخر
هو في نفسه غير طعام البتة، اكتسب حالا يستلذ بها مثل القرع فإنه مغث (2) غير لذيذ فإذا خالطه المري
والفلفل وما شاكل ذلك مما ليس بطعام أصلا، استفاد حالا صار بها لذيذا. فقد يستدل على ذلك من
الشاهد لأنا نجد الماء المحرق المفرط الحرارة والماء البارد المتناهي في البرودة كل واحد منهما منافرا
للطبيعة مؤذ للحاسة، فإذا امتزجا تولد عنهما حرارة لذيذة مشاكلة لطبيعة الحاسة. فإن عارضنا معارض
وقال كيف قال جالينوس: أن كل طعام مخالف للحلاوة لا يغذو أصلا وهو يقول: أن القرع والسلق
وسائر البقول المسلوقة المخالفة للحلاوة إذا خالطها المري والفلفل والخل وسائر ما شاكل ذلك،
صارت طعاما لذيذا، قلنا له: إن جالينوس لما قال أن الطعوم المخالفة للحلاوة لا تغذو لم يمنع أن
يتركب منها طعم لذيذ لأنه إنما قال لا تغذو وإن صارت إلى حال تستلذ، لان الغذاء ليس هو ما كان
لذيذا عند الحاسة فقط، بل إنما هو ما قبلته الأعضاء وهضمته ونقلته إلى طبيعة المغتذي وشبهته به،
والطعم هو ما أثر في حاسة الذوق تأثيرا لذيذا، كان ذلك التأثير، لو بشعا، لذيذا. والبقول المسلوقة فلم
تكتسب من المري والفلفل غذاء بل إنما اكتسبت (3) حالا يستلذ بها.
فأما الغذاء فإنما هو لها بما فيها من يسير الحلاوة وإن لطفت تلك الحلاوة وخفيت عن الحس،
ففيما أتينا به وقدمنا ذكره أبنا عن الحلاوة أنها ألذ الطعوم وأقربها من مزاج المغتذى بها لمشاكلتها لمزاج
بدن الانسان بالطبع لان الطعوم كما بينا على ضربين: إما مؤثرة في حاسة الذوق، وإما غير غير مؤثرة. فغير
المؤثرة (4) هي التفهة التي لا طعم لها، والمؤثرة تنقسم ثلاثة أقسام: إما منافرة لحاسة الذوق بإفراط
تفريقها المشاكلة في فعلها للماء المفرط الحرارة عند حاسة اللمس مثل الحرافة والمرارة والملوحة
المفسدة للحاسة بإفراط تقطيعها وتفريقها. وإما مؤذية للحاسة بإفراط جمعها المشاكلة في فعلها للماء
المفرط البرودة عند حاسة اللمس مثل العفوصة المؤلمة لحاسة الذوق بإفراط جمعها. وإما لذيذة عند
الحاسة باعتدالها وتليينها ونفيها عن الحاسة الفضول المؤذية لها المشاكلة للماء الفاتر اللذيذ الفتورة عند



(1) في الأصل: وتركيب.
(2) غثيت غثيانا وتغثت النفس: اضطربت حتى كادت تتقيأ.
(3) في الأصل: اكتسب.
(4) في الأصل: فالغير مؤثرة.
37
حاسة اللمس مثل الحلاوة وبعدها الدسومة. إلا أن الحلاوة تنقسم أربعة اقسام:
وذلك أن منها الحلاوة الخالصة المحضة وهي التي قد تكافأت فيها القوى الأربع وتوسطت
الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة مثل حلاوة السكر الطبرزذ (1).
ومنها حلاوة مشوبة بلزوجة وغلظ مثل حلاوة التمر والفالوذجات.
ومنها حلاوة مشوبة بتفاهة وهي التي قد زال جوهر رطوبتها عن الغلظ إلى الاعتدال، وعن القلة
إلى الكثرة، فقلت حرارتها وضعفت حلاوتها مثل حلاوة الرمان. ولذلك صار هذا الضرب أقل حرارة
وأكثر رطوبة من الحلاوة الخالصة.
ومنها حلاوة مشوبة بحرافة وهي التي قد زال جوهر رطوبتها عن الغلظ إلى اللطافة، وعن الكثرة
إلى القلة والجفاء فاكتسبت الحلاوة جوهرا (2) وحدة، مثل حلاوة عسل (3) النحل. ولهذه الجهة صار هذا
الضرب من الحلاوة أقوى جلاء (4) وأقل رطوبة من غيره كثيرا.
فإذا الحلاوة المحضة المعراة من الحرافة واللزوجة هي الدلالة على التوسط والاعتدال كأنها
شبيهة بمزاج بدن الانسان حار، رطب باعتدال في الدرجة الثانية. ولذلك صارت الأعضاء تستلذها وتقبل
منها أكثر من مقدار القوة على هضمه حتى أنه كثيرا ما يتبقى منها في أفواه العروق الدقاق، المتشعبة من
العرق الأعظم، التي في حدب الكبد المعروف بالأجوف، والعروق التي في باطنها، الذي يسميه
الأطباء البواب، حتى تلتقي أطرافها بقايا تزدحم هناك وتتضاغط يتولد منها في تلك المواضع سدد
وغلظ، ولا سيما متى وافت في تلك المواضع حسا متقدما وكان معها لزوجة وغلظ، مثل حلاوة التمر
والفالوذجات لان الفالوذجات تكتسب لزوجة وغلظا من الحنطة والزيت. وما كان من الحلاوة معه لزوجة
كان إضراره بالكبد والطحال أعظم كثيرا وذلك لجهتين: إحداهما: أن الشدة المتولدة عنها أغلظ وأعسر
برءا. والثانية: أنها بسرعة استحالتها وعفونتها، صارت زائدة في النفخ والقراقر مهيجة لنوائب الحميات
بسرعة الاستحالة إلى الدخانية وحبس المرار بالطبع، وبالعرض إلى العفونة والسدد.
ولذلك قال جالينوس: أنه متى كان في الكبد والطحال غلظ (5)، كان الضرر الداخل عليهما من
الحلاوة عظيما (6) جدا، طعاما كانت الحلاوة أو شرابا، وخاصة متى كان قد تقدم في هذه الأعضاء غلظا
وجشاء أو كان في أفواه عروقها الضيقة سدة. وقد يستدل على ذلك من عسل النحل لأنا نجده على ما
فيه من الحرافة والقوة على الجلاء والتلطيف مضرا بمن كانت هذه حاله لان الاكثار منه زائد في سدة
الكبد والطحال إلا أن تقمع قوة حلاوته بما يكسرها مما فيه قوة على التقطيع والتلطيف مثل الخل



(1) سكر طبرزد وطبرزل وطبرزن: السكر المعروف بسكر النبات أو السكر الفضي (فارسية).
(2) في الأصل: جوهر.
(3) فوق هذه الكلمة في الأصل كلمة (حرارة).
(4) في الأصل: العسل.
(5) في الأصل: غلظا.
(6) في الأصل: عظيم.
38
الثقيف (1) وما شاكله. ولذلك صار الاسكنجبين (2) من أخص الأشياء وأبلغها منفعة في علاج الغلظ
الكائن في جداول الكبد وعروق الطحال لأنه معين على تفتيح السدد العارضة فيها. ولذلك قال
جالينوس: ومن فضيلة الاسكنجبين أنه مع ما ليس فيه من البشاعة والكراهة ما في أكثر الأشياء الملطفة،
فإنه غير مضر بالمعدة بل ليس له بها اضرار أصلا إلا بمن قد أفرط على مزاج معدته اليبس. ولذلك صار
من أبلغ الأشياء في التدبير الملطف، فان كان معمولا بخل العنصلان (3)، فاق سائر الأدوية الملطفة
فضلا عن الأغذية. ومن قبل ذلك صار من الأفضل ألا يستعمل في علاج سدد الطحال خاصة من
الاسكنجبين إلا ما كان معمولا بخل العنصلان، من قبل أن الطحال أكثر قبولا لمضرة الأشياء الحلوة من
الكبد وذلك لجهتين: إحداهما: أن عروق الطحال أضيق، وفعل الطبيعة فيه أضعف من فعلها في
الكبد، لان الكبد مسكنها ومنها ينبوعها. فلما اجتمع للطحال، مع ضيق مجاريه، ضعف فعل الطبيعة
فيه، وجب أن تكون الحلاوة أشد إضرارا به منها بالكبد. والثانية: أن الطحال لما كان يجذب إليه عكر
الدم دائما بالطبع، كان ذلك عونا على غلظ السدة المتولدة فيه. ولذلك احتاج في العلاج له إلى
إسكنجبين العنصل لما فيه العنصلان من زيادة القوة على تقطيع الفضول اللزجة الغليظة.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: وإني لأشير على من أراد تلطيف فضول غليظة قد اجتمعت
في بدنه ألا يعدل عن خل العنصلان وشرابه. واستشهد على ذلك بأسباب جرت على يديه بالتجربة،
فقال: وإني لأعرف قوما لا يحصى عددهم صاروا إلى العافية والسلامة واستقامت لهم الصحة وخلصوا
من أوجاع المفاصل باستعمالهم خل العنصلان وشرابه. إلا أنه ينبغي لمن أراد بلوغ غايته في ذلك
بسرعة أن يجمع مع خل العنصلان حسن الرياضة وجودة التدبير في الأغذية الموافقة الملائمة للمغتذي،
وتقدير أوقات استعمالها، ولا يهمل ذلك فيجمع الضار مع النافع، ويطول تعبه قبل بلوغ غايته ومراده.
فأما الحلاوة المنسوبة إلى العذوبة، فلما كان الأغلب على رطوبتها الجوهرية الكثرة والرقة،
صارت أقل حرارة وأكثر رطوبة من الحلاوة المحضة. ولذلك نقصت حلاوتها وتوسطت بين طعم التفاهة
والحلاوة وقربت من طعم الماء. والدليل على ذلك أنا نجد جميع الرطوبات الحلوة إذا خالطها الماء
نقصت حلاوتها، وكلما غلب الماء عليها ازدادت حلاوتها نقصانا حتى حين (4) تقرب من طعم الماء.
ومن قبل ذلك صار ثمر الأشجار القصار القريبة من الأرض أقل حلاوة وأكثر مائية من ثمر الأشجار
الشامخة البعيدة من الأرض، من قبل أن الرطوبة المغذية للثمار المتصاعدة إليها من أرحام الأرض تصل
إلى ما قرب من الثمر من الأرض قبل كمال نضجها وانعقادها، ذلك لقرب المسافة بين الأرض والثمر.



(1) الثقيف: المتناهي في الحموضة، جاء في فقه اللغة للثعالبي: الخل: حامض، ثم ثقيف، ثم حاذق، ثم باسل.
(2) السكنجبين: شراب يتخذ من خل وعسل. (ومعجم متن اللغة، مادة سكن).
(3) العنصل والعنصل: البصل البري أو كراث يعمل منه الخل، شديد الحموضة يقال له: خل عنصلاني. (متن اللغة مادة عنص).
(4) (حين) مستدركة فوق السطر.
39
وأما ثمر الأشجار الشامخة، فإن الرطوبة المتصاعدة إليها من الأرض لا تصل إليها إلا بعد كمال نضجها
وقربها من الانعقاد والحلاوة، وذلك لبعد المسافة بين الأرض وبينها.
ففيما أتينا به دليل على أن العذوبة أقل حرارة وأزيد رطوبة من الحلاوة المحضة. ولذلك صارت
دونها في اللذاذة والفعل، وصار غذاؤها أقل، وانحلالها من الأعضاء أسرع. ومن قبل ذلك صارت
السدد المتولدة عنها أسهل انحلالا وأقرب بزوا (1) من السدد المتولدة عن الحلاوة المحضة. فإن اتفق
أن يكون جرمها مع ذلك ملززا صلبا مثل الكمثرى، صارت مغرية لأنها تكون من جنس الأعضاء
لاجتماع الصلابة والعذوبة فيها. وأما الحلاوة المنسوبة إلى الحرافة، فلما كان الأغلب على رطوبتها
القلة والحدة، وجب أن تكون حرارتها أكثر من حرارة الحلاوة المحضة، ورطوبتها أقل كثيرا، ولذلك
نسبت إلى الحرارة واليبس في آخر الدرجة الثالثة، إلا أنها لقرب حرارتها من التوسط والاعتدال، صار
فيها قوة تجلو وتغسل وتلطف وتنفي الفضول عن المعدة، وتنقي ما فيها من الرطوبات الغليظة العفنة،
وليبسها وقربها من الحرافة صار لها قوة تلذع المعاء وتهيجها إلى دفع ما فيها من ثفل الغذاء. ولذلك
صار انحدارها مع الثفل أخص بها من التطريق (2) للغذاء، وصارت السدد المتولدة عن الحلاوة المحضة
أقل كثيرا.
وأما الدسومة فتدل على حرارة وليانة في آخر الدرجة الثانية، ولذلك صارت قريبة من الحلاوة
في اللذاذة والجلاء والتحليل، لان فيها شيئا (3) من لطافة، إلا أن رطوبتها أغلظ كثيرا. ولذلك ثقلت على
الحاسة وعسر نفوذها في المسام وامتنع انهضامها وبعد انحلالها من الأعضاء، ذلك لدسمها ولزوجتها
وغلظ رطوبتها. ولهذه العلة صارت كثيرا ما تسد المسام وتحقن البخارات في باطن العروق والمواضع
الخالية (4) من البدن دائما حتى تغلي البخارات هناك وتحدث ألما ولذعا. وما يصل إلى البدن من غذاء
الدسومة قليل جدا من قبل أن اليسير منها إذا وصل إلى الأعضاء انتفخ فيها وربا وطال لبثه فيها، وقام
اليسير من غذائها مقام الغذاء الكثير من غيرها. ولذلك صارت زائدة في غلظ الكبد والطحال، وصارت
السدة المتولدة عنها عسيرة أكثر وجدا.
وللفاضل أبقراط في هذا قول قال فيه: إن الطعام الحلو والدسم يشبعان سريعا. أما الدسم
فلجهتين: إحداهما: أنه للزوجته ودهنيته يطفو على الطعام بدءا ويعوم عليه، ثم يختلط به ويغلظه
ويمنعه من الهضم. فإذا بدأ في الانهضام لين خمل المعدة وأزلق الطعام قبل تمام هضمه (5). والثانية:
أن الذي يصل منه إلى العروق والأعضاء أيضا ينتفخ فيها ويربو حتى يملأها ويسدها وتضطر القوة
الجاذبة للغذاء إلى السكون وتصير سببا قويا لقطع شهوة الطعام.



(1) بزا بزورا وبز بزا: غلبه وقهره.
(2) طرق له: جعل له طريقا.
(3) في الأصل: شئ.
(4) (الخالية) مكررة في الأصل.
(5) في هامش الأصل: (يكفي من هذا أنه إذا أكل مع الخبز طفا فوقه فملأ المعدة وأمات الشهوة بملئه لها).
40
وأما الحلو فلان الأعضاء لالتذاذها به تجذب إليها منه مقدارا أكبر حتى تملأ عروقها وجداولها
وتستغني عن استفادة غذاء ثان (1) بسرعة. وأما المرارة فتدل على حرارة في الدرجة الثالثة ويبوسة في
الدرجة الثانية، من قبل أن الغالب على رطوبتها الأرضية والغلظ. ولهذا صار فيها قبض بين إلا أنها،
لقوة حرارتها، صار لها قوة قطاعة مخففة للرطوبات ملطفة للفضول الغليظة الكائنة في الجداول والعروق.
ومن قبل ذلك صارت معينة على إدرار الطمث منقية لظاهر الجسد من الأوساخ والفضول إذا طليت عليه
من خارج والذي ينال البدن من غذائها يسير (2) جدا لبعدها من العذوبة والحلاوة، إلا أنها تنهض الشهوة
للغذاء وذلك لجهتين: إحداهما: أنها بقوتها القطاعة تفتح أفواه العروق وتلطف الأغذية أو تخفف
أكثرها. والثانية: أنها بما فيها من قوة القبض تجمع أجزاء الغذاء حتى يصير جسمه أقل ومواضعه
أصغر، فتخلو أكثر العروق من الغذاء، وتهتاج القوة إلى جذب ما يملأها ضرورة.
وأما الحرافة فتدل على حرارة في الدرجة الرابعة، ويبوسة في آخر (3) الدرجة الثالثة أو في أول
الرابعة. ولذلك صار لها قوة مشاكلة لقوة النار في الاحراق. ولهذه الجهة صارت أكالة قطاعة ملطفة
تلطيفا أكثر من سائر الطعوم. ومن قبل ذلك صارت من الأشياء الملطفة للطبيعة المنهضمة لشهوة الطعام
لأنها بتقطيعها وتلطيفها تنقي أفواه العروق وتفتحها وتجفف أكثر رطوبة الغذاء حتى يكون ما يصير إلى
الأعضاء من غذائه يسيرا (4). ولذلك صارت (5) نسبتها إلى الدواء أقرب من نسبتها إلى الغذاء.
وأما الملوحة فتدل على حرارة ويبوسة في آخر الدرجة الثانية، إلا أن رطوبتها متوسطة بين
اللطافة والغلظ قريبة من الأرضية. ولذلك صار لها قوة لذاعة تغسل وتلين خشونة البدن وتذيب الرطوبات
بدءا وتحللها ثم تجففها أخيرا. ولذلك صارت تجفف اللحم الرخو وتصلبه.
وأما الحموضة فتدل على برودة ويبوسة في الدرجة الثالثة. إلا أن في رطوبتها الجوهرية رقة ولطافة
مع أرضية يسيرة. ولذلك صارت تغوض (6) وتقطع الفضول وتنبه الشهوة للغذاء، وذلك لثلاث جهات:
إحداها: أنها ببردها وقبضها، تجمع جسم الطعام ويصير مقداره أقل مما كان عليه فيخلو أكثر العروق
منه عند لبثه في المعدة فتنبه (7) القوة الجاذبة للغذاء إلى ملء ما خلا من العروق. والثانية: أنها لما كانت
مشاكلة للفضل (8) السوداوي الولد لشهوة الغذاء في طبيعته وطعمه، صارت زائدة فيه ومقوية لفعله.
والثالثة: أنها بتقطيعها وتلطيفها، تلطف الغذاء وتجفف أكثر رطوبته فيقل مقداره في العروق ويخلو
أكثرها منه، فتنبه القوة الجاذبة إلى أن تملأ ما خلا منها ومن خاصتها أنها متى وافت في المعدة فضولا
غليظة قطعتها وأحدرتها بسرعة، ومتى وافت المعدة قليلة الرطوبة خالية من الفضول، صار التجفيف



(1) في الأصل: ثاني.
(2) في الأصل: يسيرا.
(3) (آخر) مكررة في الأصل.
(4) في الأصل: يسير.
(5) في الأصل: صار.
(6) غاض الشئ: نقص.
(7) (للفضل) مكررة في الأصل.
(8) في الأصل: (وتنبيه). وهو تصحيف.
41
وحبس البطن أولى بها وأخص.
وأما التفاهة فلما كان طعمها قريبا من طعم الماء لم يمكن أن يكون للغذاء المتولد عنها كيفية
بينة ولا فعل ظاهر أكثر من ترطيب المعدة وتسكين العطش فقط. ولذلك صارت أسرع انهضاما وأقل
غذاء من العذوبة. وأما مقدار غذائها من اللطافة والغلظ، وبسرعة الانحدار وبطئه والتوسط بين ذلك،
فعلى مقدار كثافة الجرم الحامل لها وسخافته ولينه من صلابته ولزوجته ورقته. ولذلك صار الغذاء
المتولد عن القرع والغذاء المتولد عن الكمأة (1) أغلظ من الغذاء المتولد عن القطف لكثافة جرم الكمأة
وغلظه، ولين القطف ورطوبته، وتوسط جرم القرع بينهما جميعا.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن كل طعام تفه لا طعم له كان ذلك له من طبعه مثل الكمأة
أو مكتسبا من الصنعة والعمل مثل الترمس العذب، فقد يعرض له من سرعة الانهضام وبطئه والتوسط
بين ذلك على حسب اختلاف جرمه في الصلابة والليانة الغلظ واللطافة واللزوجة والهشاشة، لأنه متى
كان لطيفا لزجا مثل القطف كان انهضامه أسرع وانحداره أبعد، ومتى كان متوسطا بين اللطافة والغلظ
مثل القرع والكمأة لم تظهر له حال بينة في سرعة الانهضام وبطئه، لأنه يكون متوسطا بين السرعة
والابطاء، ويختلف في ذلك على قدر قربه من إحدى الحاشيتين وبعده منها. ولذلك صار القرع أسرع
انهضاما من الكمأة لقربه من لطافة القطف، والكمأة أبعد انهضاما لقربها من غلظ الترمس.
وأما العفوصة، فإن رطوبتها لما كانت خالصة الأرضية وجب أن يكون بردها ويبسها في آخر
الدرجة الثالثة قريبة من الرابعة. ولذلك صار غذاؤها يسيرا (2) جافا قحلا. ولهذه الجهة صارت مغلظة
للفضول مذمومة في التدبير الملطف، إلا أنها منبهة لشهوة الغذاء، من قبل أنها، بشدة قبضها تجمع
أجزاء الغذاء جمعا كثيرا حتى يقل مقداره ويخلو أكثر العروق منه، وتفتقر القوة الجاذبة للغذاء إلى طلب
ما تملأ به خلاءها، ولأن من خاصة العفوصة التقوية والتجفيف، ولذلك صارت متى وافت المعدة خالية
من الغذاء تمكنت من فمها الأسفل وقوته وشدته ومنعت من الاسهال منعا قويا، ومتى وافت المعدة
ممتلئة من الغذاء لطفت بغلظها على الطعام وجمعت أعلى المعدة جمعا قويا وعصرته كما يعصر الشئ
بالمعصار، وأحدرت ما فيها بسرعة وصارت سببا عرضيا لاطلاق البطن، وبخاصة متى وافت جرم المعدة
في نفسه رخوا ضعيفا عن حبس ما يقدم من الغذاء سريع القبول لتأثير القبوضة، أو كان ما يقدم من
الأغذية من الأشياء الملينة للطبيعة.
ولهذه الجهة، قال جالينوس: إن العفوصة تنبه الشهوة للغذاء من قبل أنها في الابتداء تعصر
أعلى المعدة وتحدر ما فيها فتخلو من الغذاء وتفتقر إلى ما يملأها. فإذا انحدرت وصارت إلى العروق
جمعت ما فيها من رطوبة الغذاء وصيرت مقداره أقل مما كان عليه حتى تخلو أكثر العروق من الغذاء



(1) في الأصل: (القرع) مكررا.
(2) في الأصل: يسير.
42
وتفتقر إلى ما يملأها.
وللفاضل أبقراط في هذا فصل قال فيه: إن المرارة والحرافة والحموضة والعفوصة تنبه الشهوة
للغذاء. أما المرارة والحرافة، فلأنهما تفتحان أفواه العروق وتلطفان الغذاء وتجففان كثيرا منه فتخلو
العروق وتفتقر إلى ما يملأها. فأما العفوصة فلأنها تجمع الغذاء وتصغر مقدار جسمه فيخلو أكثر المعدة
والعروق منه وتفتقر إلى ما يملأها. وأما الحموضة، فللجهتين جميعا. وأما القبوضة، فإن فعلها وانفعالها
مشاكل (1) لفعل العفوصة وانفعالها، إلا أنها ألطف قليلا لان رطوبتها الجوهرية متوسطة بين اللطافة
والغلظ. ولذلك صارت أغوص وأنفذ في المسام. وأما العفوصة فلان رطوبتها أرضية عسير نفوذها من
المسام، وصار فعلها لا يتجاوز ظاهر الأبدان أصلا، والله تعالى أعلم.



(1) في الأصل، مشاكلا.
43
الوجه الثاني من الباب الثالث
في معرفة الأغذية من روائحها
أما روائح الأغذية فقد اختلفت الأوائل فيها على ضروب لان منهم من قال أن لها دلائل تساوي
دلائل الطعوم، ومنهم من قال أن لها دلائل إلا أنها ضعيفة لا يوثق بمثلها.
فأما الذين أوجبوا لها دلائل فقالوا: إنا وجدنا البخارات تؤثر في حاسة الشم كتأثير الطعوم في
حاسة الذوق، لأنا لم نجد فعل الحرافة والحموضة في حاسة الشم بدون فعلها في حاسة الذوق، فكان
في ذلك دليل على أن للروائح من الدلائل مثلما للطعوم من الدلائل.
فقال لهم من خالفهم في ذلك ورد عليهم، أن الأصل الذي عليه قستم هذا القياس فاسد،
والمقدمات التي قدمتموها لاستخراج النتيجة غير صحيحة، لأنكم أجزتم علة في غير معلولها، وصيرتم
الدليل عليها بغير أثرها. وذلك أنكم جعلتم دليلكم على دلالة حاسة الشم على طبائع الأغذية فعل
الحرافة والحموضة في الحاسة من التلذيع والتقطيع، فقدمتم مقدمة خارجة عن وجه القياس، لان
التقطيع والتلذيع ليسا بمحسوسات للشم فيدلان عليه. بل إنما هما محسوسات للمس لان لكل حاسة
محسوسات تختص بها لا تجاوزها إلى غيرها، مثل الألوان والاشكال التي هي محسوسات البصر،
والأصوات والنغم التي هي محسوسات للسمع، والروائح والبخارات التي هي محسوسات للشم،
والتقطيع والتلذيع والحرارة والبرودة التي هي محسوسات للمس. وكل واحدة من هذه الحواس تنفرد
بعضو واحد لا يتجاوزه إلى غيره خلا حاسة اللمس فإنها تشمل الأعضاء الآلية. ولهذا ما صارت العين
تحس الألوان والاشكال بطبعها وجوهريتها، وتحس بالتلذيع والتقطيع بما فيها من قوة اللمس بالعصب
الذي فيها، فليس من حيث ما حست الألوان والاشكال أحست التلذيع لأنها حست الألوان والاشكال
بقوتها البصرية الروحانية، وأحست التقطيع والتلذيع بما فيها من العصب الحاس. والدليل على ذلك أنا
نجدها تحس بألم الدواء إذا جعل فيها. وهي بطبائعها وجواهرها، وتحس غير محسوس (1) مغمضة لا
تبصر شيئا. وكذلك اللسان والاذن والخياشيم، فإنما تحس محسوساتها المخصوصة بها بطبائعها



(1) في الأصل: محسوسا.
44
وجواهرها، وتحس غير محسوساتها مثل الحرارة والبرودة والتلذيع والتقطيع بما فيها من قوة اللمس وحس
العصب. فقد بان أن الخياشيم، وإن أحست بتلذيع الحرافة والحموضة، فإنها لا تدرك ذلك بجوهرية
الشم، بل إنما تدركه بما فيها من حس اللمس.
ففي هذا دليل على فساد ما أصلتموه وبطلان ما قدمتموه إذ طلبتم علة من غير أثرها وأجريتموها
في غير معلولها.
وأما الذين قالوا أن لها دلائل إلا أنها غير موثوق بها، فإنهم قالوا إن الروائح، وإن كانت تدل
على شئ من طبائع الأغذية، كانت (1) دلالتها ليست كدلالة الطعوم، من قبل أن اللسان قد تأتيه من
الدماغ، من بين جميع الحواس، ست عصبات يقوى بها على إدراك محسوساته على الحقيقة. ولذلك
صار لحاسة الذوق مع تمييزها للطعوم، أن تميز أيضا بين المشاكل والمخالف، والموافق والمنافر.
فأما حاسة الشم، فليست كذلك من قبل أنه ليس يأتيها من الدماغ إلا عصبة واحدة، والذي
يأتيها من ذلك أيضا ليس بالكثير. ولذلك، لم تصل إلى إدراك محسوساتها على الحقيقة، بل إنما
أدركت منها أجناسها فقط. أعني بأجناسها حواسها وأطرافها التي هي الطيب والمنتن. وأما ما بين ذلك
من الوسائط والأنواع، فإنها لم تفرق بينها ولا ميزتها على الحقيقة. ولذلك، لم يوقع الفعل عليها
اسما، لان الحاسة، لجفائها وغلظها، لم تؤدى إلى الفعل حقيقة محسوساتها. ولذلك اضطر إلى أن
يسمي أطراف الروائح وحواشيها التي أدركنا باسمها مشتقة من أسماء الطعوم فقال طيب وكريه.
وأما الوسائط التي بينها، فإنه لم يوقع عليها اسما لكنه نسبها إلى حواملها فقال رائحة المسك
ورائحة العنبر وغير ذلك. ومن قبل ذلك أيضا لم تميز الحاسة الروائح المركبة من جواهر مختلفة كما
ميزت حاسة البصر (2) الألوان المركبة من أصباغ مختلفة بل إنما أدركت ما كان جوهره بسيطا مفردا.
والسبب في ذلك أن حاسة الشم في نفس بطون الدماغ بعيدة عن الخياشيم وموضع المشم، والدليل
على ذلك أن إنسانا لو أخذ شيئا له رائحة قوية، ثم قربه من خياشيمه وألصقه بها، لما اشتم له رائحة
دون أن يتنفس الهواء ويستنشقه ويجذبه إليه حتى يصل بخاره إلى الدماغ. ولذلك لم يمكن أن يصل
إلى حاسة الشم من الشئ المشموم إلا بخاره المتحلل منه في الهواء فقط، لا الشئ في نفسه، من
قبل أن الهواء إذا أحاط بالبخار وقبله (1) إليه نقله إلى الدماغ بالاستنشاق وأوصل قوته إلى الروح النفساني
الذي في الدماغ. فإن كان المشموم بسيطا من جوهر واحد وكان مع ذلك ذكيا قبله الروح النفساني
بالموافقة والمشاكلة. وإن كان كريها قبله بالانفعال له على سبيل الغلبة والقهر له، كانفعال الماء البارد
للنار، وذلك مقاس من الشاهد لان إنسانا لو أخذ فتيلتين مشتعلتين وأطفأ (2) إحداهما وترك حمرة النار



(1) في الأصل: كان.
(2) (البصر) مكررة في الأصل.
(3) قبل الشئ: أخذه.
(4) في الأصل: وطفى.
45
وقوتها فيها، ثم صرها دون الفتيلة المشتعلة مقدار عرض إصبع أو إصبعين، لنظر إلى النار في الفتيلة
المشتعلة العليا تنعكس راجعة إلى أسفل لتتصل بحمرة الفتيلة المطفأة وتتمكن منها وتشتعل فيها. فإن
هو إذا أطفأ الفتيلة المشتعلة لم تطلها النار ولم تتصل بها ولم تؤثر فيها دون أن تدخل في وسط النار
حتى تحتوي عليها وتفعل فيها فعل الضد في الضد. وكلما ازدادت الفتيلة المطفأة بردا قبل دخولها في
نار الفتيلة المشتعلة كان أبعد لانفعالها.
فقد بان واتضح أن حاسة الشم تدرك الشئ الذكي بالموافقة والمشاركة، وتدرك الكريه
بالانفعال. ولذلك صارت جميع الروائح إذا كانت مركبة من جواهر مختلفة لم يصل إلى الروح النفساني
الذي في بطن الدماغ إلا أحد جواهره التي هو مركب منها وبخاصة متى كان مركبا من جوهر ذكى موافق
للروح النفساني وجوهر كريه مخالف له لان الجوهر الموافق تصل قوته إلى الحاسة قبل وصول قوة
الجوهر المخالف وذلك لجهتين:
إحداهما: أن الجوهر الذكي دليل على أن الحرارة الغريزية قد قويت على تلطيفه ونفت عنه
فضوله وغلظه وصار لطيفا سريع التحلل مع البخار. ولذلك وصل إلى الروح النفساني بسرعة. وأما
الجوهر المخالف الكريه، فهو دليل على ضعف فعل الطبيعة فيه وتركها لفضوله الغليظة الجامدة راكدة.
ولذلك ثقل وعسر انحلاله مع البخار. ولهذا لم يصل إلى الروح النفساني منه إلا ما لا مقدار له عند
الحس بعد مدة طويلة.
والثانية: أن الروح النفساني لما كان في نفسه لطيفا روحانيا وكان في نفس بطون الدماغ بعيدا
من مواضع الشم، لم يمكن أن يصل إليه من الشئ المشموم إلا روحانيته فقط دون جسمانيته. ولذلك
لا يقبل من الشئ إلا ما شاكل جوهره وطبيعته إذ كان قبوله قبول موافقة ومشاكلة على ما بينا، إلا أن
يكون الجوهر المخالف أقوى فعلا وأظهر تأثيرا فيقبله لقهره له وغلبته عليه.
وأما حاسة الذوق، فليست (1) كذلك من قبل أنها تباشر المحسوس نفسه بجوهريته وجسمانيته
وجميع جواهره المخالف منها والموافق قبل أن يتصل ذلك بالروح النفساني والذي في بطون الدماغ،
فيفعل كل جوهر منها في الحاسة بخاصته وطبعه، ولذلك صار كثيرا ما يخفى الجوهر الموافق عند
الجوهر المخالف لان الحاسة التي في نفس اللسان، وإن قبلت الشئ الموافق بسرعة، فإنها قبل أن
توصل قوته إلى الروح النفساني الذي في نفس بطون الدماغ ما قد أثر فيها الجوهر المخالف وفعل
فيها فعلا لا يمكن معه أن يظهر فعل الجوهر الموافق مفردا. ومن قبل ذلك صارت الأشياء المركبة من
جواهر مختلفة تظهر عند حاسة الشم بخلافها عند حاسة الذوق، لان حاسة الشم إنما يصل إليها من
المشموم بخاره المتحلل منه في الهواء فقط. ولذلك، لا يمكن أن يصل إليها منه إلا ألطف ما فيه



(1) في الأصل: فليس.
46
وأسرع تحللا مع البخار وبخاصة متى كان الجوهر المتحلل مع البخار موافقا للروح النفساني، لان
الروح الموافقة له تستلذه وتستطيبه وتسكن له.
وأما حاسة الذوق، فإنها لما كانت بلقاء جرم المحسوس بجواهره المختلفة، قوي فعل المخالف
منها على الموافق لان الحاسة تسكن عند الجوهر (1) الموافق وتهدأ عن الحركة لاستلذاذها ومشاكلته لها،
وتقلق وتضطرب عند الجوهر المخالف وتكثر حركتها لما بينهما من المنافرة. والدليل على ذلك: أنا نجد
الورد لذيذا عند حاسة الشم، كريها عند حاسة الذوق، من قبل أن الذي يتحلل منه مع البخار بسرعة
ويصل إلى حاسة الشم لطيفة ومحمودة. وأما جوهره الغليظ الكريه العفص، فلقوة أرضيته، يعسر تحلله
مع البخار جدا. ولذلك لا يتحلل منه إلا ما لا مقدار له عند الحاسة. ومن قبل ذلك يخفى ولا يظهر إلا
بالقرب من فناء الجوهر اللطيف.
وللفيلسوف (2) في كتابه المعروف بكتاب (النفس) في هذا فصل قال فيه: إن الشم ليس هو كسائر
الحواس، من قبل أن كل حاسة من الحواس تدرك اللذيذ من محسوساتها والكريه والوسائط التي بين
اللذيذ والكريه جميعا، كالبصر فإنه يدرك البياض والسواد وما بينهما من الألوان. والذوق يدرك الحلو
والمر وما بينهما من الطعوم. وأما الشم فليس كذلك لأنه إنما يدرك الرائحة الطيبة والكريهة فقط، ولا
يدرك ما بينهما من الوسائط. ولذلك لم يفصل بين رائحة المر والمسك، والصبر والعنبر إلا أن نعلم أن
بعضها طيب وبعضها كريه، ولا نعلم فصولها الغاشمة لها المميزة لبعضها من بعض، لان الحاسة لما
ضعفت عن إدراكها لم تدل على كيفياتها، ولما لم تدل على كيفياتها (3) لم تقف على صفتها، ولما لم تقف على
صفتها، لم يقف (4) العقل على تسميتها فاشتق لها اسما من الطعوم وقال: طيب وكريه. وقد نستدل
على ذلك من الحيوان الذي لا أشفار (5) له تنطبق على عينيه ويريح الروح الحيواني البصري حتى يجتمع
ويقوى، ولذلك لا يبصر جيدا لدوام انفتاح عينيه وخسائها (6) لكثرة ما يتحلل من الروح الحيواني منها
بدوام ملاقاة نور الشمس له واستغراقه لنورها (7). وهذا موجود في دواب البحر لأنها خاسئة الأعين، من
قبل أن ليس لها أشفار تطبقها على أعينها فتريح الروح الحيواني ليقوى ويخرج على زاوية حادة صنوبرية.
وكذلك حاسة الشم لا تميز الروائح على الحقيقة لخسائها وغلظها وبعدها من موضع الشم. فإن
قال قائل: فإذا كان الشم إنما يدرك محسوساته بالاستنشاق فكيف صار ما لا مناخر له من الحيوان يشتم؟
قلنا له: إن المجاري التي يشتم بها الحيوان الذي لا مناخر له ليس عليها مانع يمنع من وصول الهواء



(1) في الأصل: الجواهر.
(2) يقصد أرسطو. وعدم تسميته له تدل على مدى انتشار آراء أرسطو في أوساط مفكري العرب وعلمائهم وتأثرهم بها.
(3) أضيفت فوقها، في الأصل، كلمة (يصل).
(4) في الهامش عبارة: (لم يدل على كيفياتها ولما لم يدل على كيفياتها).
(5) الشفر والشفر جمع أشفار: منبت الشعر في الجفن وليس هو من الشعر في شئ، وربما يراد به. (متن اللغة مادة شفر).
(6) خسأ البصر: كل وأعيا.
(7) في الأصل: لنوره.
47
الحامل للرائحة إلى الروح النفساني الذي في بطون الدماغ، ولذلك يشتم من غير استنشاق. وأما
الحيوان ذوات المناخر ففي أعلى مناخرها حجاب يمنع الهواء من النفوذ إلا بالاستنشاق ليدفع ذلك
الحجاب ويصل الهواء الحامل للرائحة إلى الروح النفساني الذي في بطون الدماغ. وكذلك ما كان من
الحيوان على عينه أجفان تنطبق عليها لا يبصر حتى يفتح عينيه ويرفع الأجفان المنطبقة عليها. وأما ما
كان من الحيوان لا جفن له، فإنه لا يحتاج إلى ذلك لان عينيه مفتوحتان دائما. ولذلك يكل روحه
النفساني ويضعفها ويخلق لدوام تعبه ولا يميز من الألوان إلا أطرافها وحواشيها فقط، أعني البياض
والسواد ويخسأ عن تمييز ما لطف من الألوان وقرب بعضها من بعض.
فإن قال قائل: فإذا كان الروح النفساني الذي في أعين من لا أشفار له من الحيوان يخلق ويجفو
بدوام حركتها وكثرة تعبها، فلم لا كانت الروح النفساني الذي بها يكون الشم في الحيوان الذي ليس
على مجرى الشم منه غطاء يخلق ويكل لدوام حركته وتعبه، وقلة راحته؟.
قلنا: إن المعارضة فاسدة من قبل أن الشعاع البصري يبرز من الحدقة وينفذ في الهواء حتى
يصل إلى محسوساته ويدركها، ولذلك يكل ويخلق ويخسأ. وأما الروح الذي يكون به الشم فليست
كذلك، لان محسوساتها تصل إليها إلى مواضعها في بطون الدماغ ولذلك لا تتعب ولا تكل وتخلق ولا
يلحقها (1) ما يلحق الشعاع البصري من الكل.
وإذا صرنا إلى هذا الموضع من كلامنا واتضح الخلاف بين حاسة الشم وحاسة الذوق في
إدراكهما لمحسوساتهما ودلالتهما عليهما، فنحن أحق بأن نصف أنواع البخارات ونخبر بقواها وأفعالها.
فأقول: إن البخار ينقسم في جنسه ثلاثة أقسام: أحدها: بخار ساكن لا حركة له ولا رائحة. والثاني:
بخار سريع الحركة شديد الرائحة قوى التأثير في الهواء. والثالث: بخار متوسط بين الحاشيتين لأنه،
وإن كان متحركا مؤثرا في الهواء ذا رائحة، فإن فعله في ذلك قريب من الاعتدال.
وما كان من البخار ساكنا لا حركة له ولا رائحة البتة، كان دليلا على جوهر أرضى غليظ ثقيل
عسير التحلل في الهواء بعيد الانطباع فيه. وما كان كذلك لم يوقف منه على حالة معلومة في حرارة
وبرودة، إلا أنه وإن لم ينبئ عن نفسه في طبيعته وذاته، فإن في ضعف حركته وقلة تأثيره في الهواء، ما
دل على غلظه وبرده. ولذلك لم يتحلل منه من البخار ما يؤثر في الهواء تأثيرا ما. وأما ما كان منه سريع
الحركة قوي الرائحة شديد التأثير في الهواء، فإنه دليل على أن جوهره جوهر لطيف غواص سريع النفوذ
في المسام، قوي الحرارة. وذلك لان كل بخار سريع الحركة شديد التأثير في الهواء، فهو دليل على قوة
حرارة فيه تحلل البخارات وتلطفها. وهذا الضرب من البخار ينقسم قسمين: لان منه ما هو، مع قوته
وكثرة تأثيره في الهواء، لطيف معتدل المزاج موافق للروح النفساني. ومنه ما هو مختلف المزاج غير



(1) (يلحقها) مضافة في الهامش.
48
موافق للروح النفساني. وما كان منه غير موافق للروح النفساني كان دليلا على كثرة فضوله وفساده
وخروجه عن الحال الطبيعية ومنافرته لمزاج بدن الانسان. ويستدل على ذلك من بشاعته وكراهة رائحته
وفساد جوهره في نفسه، إما لحرارة خارجة عن الطباع المعتدل، وإما لرطوبة عفنة. فإن كان فساده
لحرارة خارجة عن الطبع المعتدل صار منتنا لان من شأن الحرارة إذا كانت كذلك ان تحدث في رطوبات
الشئ غليانا وتنتن فضوله من غير أن تنقي منها شيئا، فيتولد عن ذلك بخارات غليظة منتنة كريهة الرائحة
عند الحاسة.
وما كان هذا سبيله، كان غذاؤه مذموما جدا كثير الفساد، مولدا للعفونات المفسدة للمعدة
المتبخرة إلى الرأس. وقد يستدل على أن الحرارة الخارجة عن الطباع تفعل مثل ذلك ما نشاهده من
الحيوان إذا عدم حرارته الغريزية، وسكن تحريكها له، ونفيها للفضول عنه. وإن كان فساده عن رطوبة
عفنة صار سهكا زهيما وكان غذاؤه أيضا مذموما.
كما قال جالينوس: إن ما كان من الأغذية زهيما أو سهكا أو كريه الرائحة أو الطعم، فغذاؤه ردئ
مذموم، إلا أن الامر، وإن كان كذلك، فغذاؤه أقل رداءة من غذاء الأشياء المنتنة كثيرا. وقد يستدل
على ذلك من السمك لأنا نجده ما دام طريا وحرارته الغريزية باقية فيه، فهو ذميم من غير نتن. فإذا زال
عنه قوة فعل الحرارة الغريزية صار منتنا، وغذاؤه إذا كان ذميما أفضل من غذائه إذا كان منتنا. وإن كان
البخار موافقا للروح النفساني كان دليلا على اعتدال جوهره وقوة فعل الحرارة فيه، وتصفيتها لأثفالها
ونفيها لجميع الفضول الفاسدة عنه، ويستدل على ذلك من ذكاء رائحته وعطريته واستلذاذ الروح
النفساني به.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن ما كانت له رائحة ذكية، أو تطعمت فيه عطرية، فجوهره
لا محالة جوهر لطيف قوى الحرارة. إلا أن حرارته دون حرارة البشع الكريه الرائحة، ودون ما كانت له
حرافة يلذع بها جميع ما يلقاه ويسخن إسخانا بينا. ولذلك صارت الحاسة تسكن عنده وتميل إليه وتقلق
عند الكريه الرائحة وتضطرب لاستبشاعها له ونفورها منه. فإن كان في الذكي الرائحة مع لذاذته فضل
يبس قليل كان أعطر له وإذكاء لرائحته وأكثر موافقة للروح النفساني من غيره. وذلك لجهتين: إحداهما:
أن ما كان رطبا غليظا، غلظت رطوبته البخار ومنعنه من الوصول إلى الدماغ بسرعة. والثانية: أن الروح
النفساني في طبيعته يابس، ولذلك صار الكافور، مع قوة برده، ذكي الرائحة جدا، وذلك لقلة رطوبته
وغلبة اليبس على مزاجه.
وأما ما كان من النوع الثالث المتوسط بين الحاشيتين، فإنه وإن كانت حركته ضعيفة وتأثيره
قليلا، فإنه دليل على توسطه اللطافة والغلظ. وهو على ضربين: إما أن يكون جوهره كثير الفضول
فيكون بشعا كريها عند الحاسة دالا على فساد جوهره وضعف فعل الحرارة الغريزية فيه، إلا أنه لا محالة
حار وإن كانت الحرارة فيه ضعيفة. ويستدل على ضعف حركته من قلة تأثيره في الهواء. وإما أن يكون

49
جوهره معتدلا قليل الفضول موافقا للروح النفساني فيكون ذكيا لذيذا دالا على اعتدال في نفسه وقوة
فعل الحرارة الغريزية فيه وتلطيفها له ونفيها لفضوله إلا أنه يكون على ضربين: إما أن يكون مزاجه باردا
ضعيف التأثير في الهواء مثل البنفسج والصندل (1) الأحمر وما شاكلهما. وإما معتدلا مثل الخيريين (2) وما
شاكلهما.
فإن عارضنا معترض وقال: ما السبب الذي له صار الذكي الرائحة من هذا النوع باردا، والكريه
الرائحة حارا، وقد اتفقا جميعا في ضعف الحركة وقلة الرائحة؟.
قلنا: من قبل أن البشاعة لا تكون دائما إلا عن حرارة خارجة عن الطباع تثير فضول الشئ من
غير أن تنقي منها شيئا. وإما عن رطوبة عفنة. ومن أي النوعين كان، فقد امتنع أن يكون باردا لان
البرودة لا تحدث مع الغليان والتثوير، بل مع قلة الحركة وكثرة السكون.
وجماع القول: أن الروائح تنقسم في جنسها على قسمين: إما ساكنة عديمة الحركة حتى لا
تظهر لها رائحة البتة فتدل على جوهر غليظ أرضى منيع الانحلال في الهواء، فلا ينبئ من ذاته على
شئ من طبيعته لا لحرارة ولا لبرودة. وإما متحركة ظاهرة التأثير والفعل، فتكون على ضربين: إما
ضعيفة الحركة قريبة من التوسط والاعتدال فتدل على جوهر كذلك، أعني جوهرا متوسطا معتدلا. وإما
قوية الحركة والتأثير فتدل على قوة الحرارة وشدتها إلا أنها على ضربين: إما لذيذة ذكية الرائحة فتدل
على اعتدال جوهر الشئ ومزاجه وموافقته لمزاج الروح النفساني. وإما بشعة كريهة فتكون على
ضربين: إما منتنة فتدل على ضعف الحرارة الغريزية وقوة الحرارة الغريبة، وإما زهمة (3) فتدل على
غليان رطوبة عفنة.
فإن قال قائل: وكيف يمكن أن يكون في نوع من أنواع الأشجار حرارة غريبة دائمة، وكل شئ
فيه حرارة غريبة فله بطبعه حرارة جوهرية، والجوهر أسبق من العرض. وإذا كان كذلك وجب أن يكون
لكل ما كان منتنا حرارة جوهرية يكون بها ذكيا حتى إذا زالت عنه حرارة الجوهرية فسد وصار منتنا كالذي
نشاهده من الحيوان لأنا نجده عند اعتدال مزاجه وقوة حرارته الغريزية، يكون ذكيا غير منتن. وإذا فارقته
حرارته الغريزية فسد وصار منتنا.
قلنا له: قد كنا قدمنا في ابتداء كلامنا في هذا الكتاب أن الاعتدال يكون على ضربين: إما طبيعيا
عاميا مثل الاعتدال الواقف بين حاشيتي النقيض، وإما اعتدالا خاصيا خارجا عن الطباع، وهو ما اختص
به شئ دون شئ فكان به معتدلا وله صالحا. وإن كان في الطباع مذموما فاسدا مذموما مثل الفلفل



(1) الصندل: شجر خشبه طيب الرائحة مرغوب فيه. أحره الأحمر ثم الأصفر وأبرده الأبيض.
(2) الخيري: المنثور، نوع من الرياحين منه الأحمر والأصفر وغيرهما.
(3) يد زهمة: يد دسمة فيها رائحة الشحم.
50
والزنجبيل والعاقر قرحا وما شاكل ذلك مما هذا سبيله، وإن كان في ذاته حائدا عن الاعتدال لافراط حره
ويبسه، فإنه معتدل محمود عند من كان مزاجه بلغمانيا لموافقته له وإصلاحه لشأنه. وكذلك حرارة ما
كان منتنا، لأنها وان كانت خارجة عن الطباع المعتدل، فإنها فيما هي فيه إذ بها صلاحه وثبات ذاته،
لان بها ما كان كذلك. ففيما أتينا به من الدلائل كفاية على أن الروائح لا تدل على طبائع الأشياء إلا
دلائل جنسية عامية تنبئ عن أطراف الأشياء وحواشيها فقط. ولذلك لم تتميز الوسائط التي بين
الحواشي والأطراف ولم توصل حقيقتها إلى الفعل فتوقع عليها اسما.
فإن عارضنا معترض بالألوان وقال: ما بال الألوان لا تدل على طبائع الأشياء، وحاسة البصر
ألطف الحواس وأوصلها إلى محسوساتها على الحقيقة. والدليل على ذلك: أنا نجدها تميز حواشي
الألوان وما بينها من الوسائط وتوصل حقيقتها إلى الفعل. ولذلك أوقع عليها الفعل اسما.
قلنا له: إن حاسة البصر، وإن كانت ألطف الحواس وأكثرها إدراكا لمحسوساتها على الحقيقة،
فإن من خاصيتها ألا تدرك من الأشياء إلا ألوانها وأشكالها فقط، والألوان والاشكال فأعراض غريبة في
الأشياء تزول عن حواملها من غير فسادها لأنها غير جوهرية ولا طبيعية. وما كان كذلك فغير ممكن فيه
الدلالة على طبيعة ما هو فيه. والدليل على ذلك أنا نجد الشئ الواحد بألوان مختلفة وأشكال متغيرة،
ولا يزيله اختلافه ذلك عن طبيعته وذاته مثل الورد فإنا نجده أبيض وأحمر وهو في طبيعته بارد يابس.
وكذلك الخيري نجده بألوان مختلفة لا تحصى، وهو في طبيعته واحدي الطبع. وكذلك الحكم في
الاشكال فإنا نجد الشئ الواحد يتشكل بأشكال كثيرة، وهو واحدى الطبع مثل العنب، فإنا نجده مدورا
ومستطيلا وصنوبريا، وهو في طبيعته حار رطب. فقد بان أن الألوان والاشكال أعراض غريبة فيما هي
فيه. ولذلك ارتفع عنها الانباء عن طبيعة ما هي فيه.
وأما الطعوم فليست كذلك لأنها وإن كانت أعراضا، فإن كل واحد منها حافظ لطبيعة ما هو فيه،
مقوم لنوعيته وذاته لحفظ الحرارة لطبيعة النار، والبرودة لطبيعة الماء، والرطوبة لطبيعة الهواء، واليبوسة
لطبيعة الأرض على ما بينا وأوضحنا في كتابنا في الأسطقسات (1). ومما يدل على ذلك أنا لا نجد طعما
واحدا لشيئين مختلفي (2) الطباع، ولا طبيعة واحدة لطعمين مختلفين. مثال ذلك: أنا لا نجد الحلاوة
موجودة في حار وبارد، ولا برودة موجودة في عفص ومالح. وكذلك القياس جار في كل الطعوم على
سبيل واحد. فإن قال قائل: فكيف أوجبت للطعوم الدلائل على طبائع ما هي فيه، ونحن نجد الحلاوة
في الرمان والعسل وهما مختلفي الطباع، لان العسل في طبيعته حار يابس في الدرجة الثانية والرمان حار
في الدرجة الأولى رطب في الثانية.
قلنا له: غاب عنك ما ذهبنا إليه لان في قوة كلامنا ما ظننت بنا أنا أوجبنا للطعوم تقويم ذات



(1) الأسطقس والإسطقس: العنصر (يونانية). والأسطقسات عند الأقدمين أربعة: الماء والهواء والنار والتراب.
(2) في الأصل: مختلفين.
51
المطبوعات وليس الامر كذلك، بل إنما أوجبنا لها تقويم ذات الطباع في المطبوعات، لان الحلاوة
البسيطة دالة أبدا دائما على حرارة ورطوبة باعتدال في أي ما كانت من المطبوعات، وإنما اختلفت
الأشياء الحلوة بما شاب الحلاوة من الطعوم المخالفة لها مثل العسل فإنه إنما خالف الرمان بما فيه من
الحرافة واليبوسة، وما في الرمان من التفاهة والرطوبة. ولذلك قلت حلاوة الرمان وصار عذبا وضعفت
حرارته وصار معتدلا رطبا.

52
الوجه الثالث من الباب الثالث
في الوقوف على معرفة الأغذية من أجرامها وجواهرها
أما أجرام الأغذية فتختلف على ثلاثة ضروب: لان منها الرطب اللين الشديد الرخاوة مثل البطيخ
والتوت وما شاكلهما. ومنها القحل الجاف الشديد الصلابة مثل الجاورس (1) وبعده العدس. ومنها
المتوسط بين هاتين الحاشيتين مثل الخبز المحكم الصنعة واللحم الكامل النضج.
فما كان منها لينا رخوا كان انهضامه أسرع، وانقلابه إلى الدم أسهل، وقربه من التشبه بالأعضاء
أسلس، إلا أنه أسرع الأغذية استحالة إلى الفساد، وأقلها لبثا في الأعضاء. ولذلك صارت لا تفيد
الأعضاء من القوة إلا اليسير جدا، لان ما كان من الأغذية ألطف، فما يصل إلى الأعضاء من غذائه أقل
وأضعف. وما كان من الأغذية أصلب كان انهضامه أعسر، وانقلابه إلى الدم أبعد، وقربه من التشبه
بالأعضاء أمنع. ولذلك صار لا يغذو البدن إلا من بعد أن تقهره الطباع وتقوى عليه، ذلك لغلظه وقربه
من الأرضية، وبعد انقياده للانفعال. إلا أن الطباع متى قويت عليه وجاد (2) هضمه في المعدة والكبد
جميعا، ولد دما غليظا وغذا غذاء كثيرا.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: كل طعام صلب فمن قبل أنه أغلظ فكأنه أقرب إلى الأرضية.
ولذلك صار متى قويت الطباع عليه كان ما ينال البدن من غذائه أكثر وأغلظ مما يناله مما هو أرطب لان
جوهره باق (3)، وإن كانت خاصة ما كان من الطعوم كذلك أن يكون عسير الانهضام والاستمراء بعيد
الانقلاب إلى الدم.
وله فصل آخر قال فيه: إن الطعام الصلب، مع بعد انهضامه، يولد دما غليظا جدا. وجوهر
الطعام الذي هو أرطب وألين أرق وألطف كثيرا من قبل أن كل ما ينفذ من جوهر كل غذاء إلى جميع
البدن فغير بعيد من طبيعة الغذاء الذي هو منه لان من حق الطباع ألا تولد من كل شئ إلا ما كان سببها



(1) الجاورس: حب يؤكل يشبه بالأرز في قوته.
(2) جاد جودة وجودة: صار جيدا.
(3) في الأصل: باقيا.
53
بجوهره وطبيعته. ولذلك لم يمكن أن يتولد من العدس ولحم البقر غذاء مائي رقيق ولو تلقى من
الانهضام نهاية الاحكام واستمرأها صاحبهما أيضا غاية الاستمراء. ولذلك يتهيأ أن يتولد من البطيخ
والسمك غذاء أرضى غليظ. وهذه الخاصة هي ملاك الامر (1) في معرفة ما يتولد من الأغذية الغليظة منها
واللطيفة. فإن اجتمع في الغذاء الغليظ أن يكون مع غلظه، لزجا لازوقا (2) أو عذبا لذيذا كان مغذيا،
وكان في جميع ما وصفناه من كثرة الغذاء وبعد الانحلال من الأعضاء وتقويته لها أكثر، من قبل أن
جوهره قريب من جوهر الأعضاء ويختبر ذلك من لذاذته. ولذلك قال جالينوس: إن ما كان من الأغذية له
جرم صلب ولم يكن فيه حرافة ولا قبض ولا طعم بين غير العذوبة، ففيه قوة مغرية ملينة لخشونة
الأعضاء لان جوهر العذوبة قريب من جنس جوهر الأعضاء، فإن جمع الغذاء مع غلظه، جفافا وقحلا
كان مذموما وكان فيما وصفناه من كثرة الغذاء وغير ذلك أقل كثيرا. ولذلك قال جالينوس: ونذم من
الغذاء ما كان قحلا جافا قد عدم اللزوجة والدسومة لان جوهره مخالف لجوهر الأعضاء. فأما ما كان من
الأغذية متوسطا بين الصلابة والليانة فهو أحمد وأفضل لأنه في سرعة انهضامه وجودة استمرائه وقربه من
القوة إلى التشبه بالأعضاء على حسب موضعه من التوسط والاعتدال.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن بين كل نوعين متضادين من الأغذية نوعا متوسطا، وكلما
توسط بين حاشيتين ما، أي حاشيتين كانتا، فهو أفضل وأعدل مما كان إلى إحدى الحاشيتين أميل.
ولذلك صار الغذاء المتوسط بين الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، واللطافة والغلظ، والصلابة
والليانة، أعدل الأغذية وأفضلها غذاء وأقربها من الدم. فإن اتفق له مع ذلك، أن يكون لذيذا، كان
أسرع لانهضامه، وأفضل في حفظ الصحة على الأصحاء، وردها إلى المرضى. وإن كان غير لذيذ
عافته الطباع وصار أعسر انهضاما وأردأ للمعدة لأنها لا تحتوي عليه لكراهته ولا تجيد هضمه لبشاعته.
فإن اتفق له مع عدم اللذاذة، أن يكون خفيفا عواما، طفا وعام وهيج الغثاء والقئ. وإن كان رزينا ثقيلا
هبط بسرعة وانحدر وخرج قبل تمام نضجه، وذلك أن المعدة تتشوق دائما إلى المبادرة لدفع ما يؤذيها
من أي الموضعين أمكنها: إما من فوق بالقئ، وإما من أسفل بالاسهال على حسب طبيعة المؤذى لها
في خفته وثقله.
ولجالينوس في هذا المعنى فصل قال فيه: إن كل طعامين متساويين في القوة والطبع وجميع
حالاتهما خلا اللذاذة، فألذهما أوفقهما للمعدة وأسرعهما انهضاما. وهذه الخاصة تعم سائر الأطعمة
اللذيذة وغير اللذيذة، لان ما كان بالإضافة إلى غيره أقل بشاعة وكراهة، كان أوفق للمعدة وأسرع
انهضاما، وما كان بالإضافة إلى غيره أقل لذاذة، كان أردأ للمعدة وأعسر انهضاما وأبعد من الاستمراء.
وله فصل آخر قال فيه: إن كل طعامين متساويي القوة في حفظ الصحة على الأصحاء، وردها



(1) ملاك الامر: قوامه الذي يملك به.
(2) اللازوق: دواء للجرح يلزمه حتى يبرأ.
54
إلى المرضى، فألذهما عند المتناول لهما أوفقهما وأسرعهما انهضاما.
وأما اختلاف الأغذية من قبل جواهرها وغذائها المتولد عنها فيكون على ثلاثة ضروب: وذلك
منها اللطيف، ومنها الغليظ، ومنها المتوسط بين هاتين الحالتين.
فأما اللطيف فينتظم من اسمه ثلاثة معان (1). إما لطيف في قواه وإن كان الجوهر المتولد عنه
مذموما مثل اللوف والشلجم وما شاكلهما. وإما اللطيف في انفعاله وسرعة انقياده لفعل الطبيعة وإن كان
جوهره المتولد عنه أيضا ليس بصالح مثل القطف والقرع والبقلة اليمانية. وإما اللطيف في انفعاله وجودة
جوهره معا مثل خبز الحنطة المحكم الصنعة ولحم الدراج والفراريج، فإن هذه الأغذية، مع سرعة
انهضامها وانقيادها لفعل الطبيعة، تولد دما محمودا وتغذو غذاء فاضلا. ولهذه الجهة صار هذا الضرب
من الأغذية من أوفق الأغذية وأبلغها في حفظ الصحة على الأصحاء وردها إلى المرضى. إلا أنه لما كان
انحلالها من الأعضاء أسرع من انحلال غيرها من الأغذية الغليظة مثل لحم العجول والخنازير والضأن،
كان ما تستفيده الأعضاء منها من القوة دون ما تستفيده من الأغذية الغليظة.
ولهذا ما قال جالينوس: إن التدبير اللطيف، وإن كان من أوفق الأشياء في حفظ الصحة على
الأصحاء وبقائها عليهم، فإنه لا يكسب الأعضاء قوة قوية ولا خصبا بينا. ولذلك صار متى استعمل لحم
الدراج والفراريج من كان كثير التعب دائم الحركة تحلل من أعضائه بسرعة وأكسبها ذبولا. فأما الأغذية
اللطيفة في فعلها وتأثيرها فهي الملطفة للفضول المدقعة (2) للأثفال وهي على ضربين: إما أن تفعل بقوة
محرقة وإما بغير إحراق. وما يفعل بالاحراق فيستدل عليه إما من رائحته، وإما من طعمه، وإما منهما
جميعا لان الانسان يجد له، إما في رائحته وإما في طعمه وإما فيهما جميعا، حرارة وتلذيعا شديدا مثل
اللوف والشلجم وسائر الأغذية الحريفة القطاعة، فإن هذا الضرب من الأغذية، وإن كان معه قوة على
تلطيف الفضول وتفتيح سدد الكبد والطحال وتنقية الصدر والرئة من الرطوبات الغليظة اللزجة، فإنه قد
يتخطى هذا الفعل ويتجاوزه إلى احراق الدم وفساده. ولذلك صار لا يحتمله إلا من كان بدنه مملوءا
رطوبات لزجة وفضولا غليظة.
ولهذا ما قال جالينوس: إنه إنما ينتفع بالأغذية الحريفة من قد اجتمع في بدنه فضل بلغماني
لزج قريب من الزجاجي. ولذلك وجب أن يتوقى دائما ويحذر الالحاح عليها لما فيها من قوة الاحراق
للدم ولا تستعمل إلا بعد سلقها بالماء حتى تقارب النضج، ويرمى بذلك الماء عنها، وتطبخ بماء ثان (3)
فتزول عنها أكثر حرافتها ويضعف فعلها، ويكون مع ذلك، المقدر لاستعمالها رجل ذو فطنة بصير
بمقادير أوقات استعمالها من المزاج والسن والزمان ليجري الامر فيها على نهاية من التجرد لأنه إن أغفل
ذلك لم يؤمن أن تخرج من حد الغذاء وتولد ضروبا من الفساد، من قبل أنها في ابتداء أمرها تسخن



(1) في الأصل: معاني.
(2) في الأصل: المرفقة. وصوبت في الهامش كما أثبتنا.
(3) في الأصل: ثاني.
55
الدم وتذيبه وترقه وتصيره مائيا حتى يقل غذاؤه للأعضاء وينهكها ويحل قوتها. ثم يحمى الدم بعد ذلك
حميا مفرطا حتى يصير أكثره مرة صفراء. فإذا أدمن استعمالها أفنت لطيف الدم ورقيقه، وجففت غليظه
وأحرقته وصيرت أكثره سوداويا حريفا. وإن وافت في الكلى فضولا غليظة لزجة أحرقتها وحجرتها
وولدت منها حجارة وحصى.
ولهذه الأسباب، صار استعمال الطبيعة لهذا الضرب من الأغذية يسيرا (1) جدا، لأنها تسلك
عندها مسلك الدواء لا مسلك الغذاء، وأكثر ضررها بمن كان مزاجه محرورا وبخاصة متى كان شابا.
فأما اللطيفة من غير إحراق فأربعة ضروب: أحدها: الأشياء الحلوة، والثاني: العطرية (2) الذكية
الرائحة، والثالث: الحامضة، والرابع: المالحة.
فأما الحلوة فمن شأنها أن تجلو وتغسل وتحلل وتلطف وتنفي عن الحاسة ما يؤذيها، إلا أنها
تختلف في الاسخان والتبريد والتجفيف والترطيب على حسب موضع كل واحد منها من الحلاوة ومقداره
من الرطوبة واليبوسة. ولذلك صار عسل النحل، لقوة حلاوته وقربه من اليبس، يسخن ويجفف.
والشعير، لضعف حلاوته وقربه من الرطوبة يبرد ويرطب. وكذلك يمضي القياس في التين والرمان وغير
ذلك من الأغذية الحلوة.
وأما الذكية الرائحة فتكون على ضربين: إما عطرية وإما خمرية. فأما (3) العطرية، فإنها تنشف
الرطوبات وتفتح سدد الكبد والطحال وتقوى المعدة وتطرق الغذاء وتنبه الشهوة من قبل أنها، بنشفها
لرطوبات الغذاء، تقل مقداره وتخلي أكثر العروق منه، فتضطر القوة إلى ملء ما خلا منها إلا أن الأخص
بها تقوية المعدة بذكاء رائحتها وعطريتها. ولذلك قال جالينوس: الأشياء العطرية تقوي المعدة تقوية
حسنة، والكريهة تقطعها وتهتك قوتها.
وأما الخمرية فمن شأنها أن تغسل وتجلو وتنقي وتقوي المعدة وتعين على قوة الهضم وتشجع
القلب وتنبه الحرارة الغريزية وتزيد في قوتها كالذي نشاهده من فعل الخمرة البيضاء والشراب الأحمر
الريحاني. ولذلك اختارت الأوائل، بعقب إخراج الدم، الاكثار من الشراب والاقلال من الطعام، من
قبل أن الدم مركب الحرارة الغريزية، فإذا خرج من البدن جزء منه فلا بد لطائفة من الحرارة الغريزية من
الخروج معه ضرورة. ولذلك يضعف فعلها في باطن البدن، وتفتقر إلى ما يزيد في جوهرها وقوتها.
ولهذا ما صار الأفضل أن نقل من الغذاء ونكثر من الشراب، لان الشراب يقوي الحرارة وينميها،
والطعام يكد القوة وينهكها.
فأما الأشياء الحامضة، فمن شأنها أن تقطع وتلطف وتبرد المزاج كالذي نشاهده من فعل الرمان



(1) في الأصل: يسير.
(2) في الأصل: العطرة. وفى هامشه: العطرية.
(3) (فأما) مكررة في الأصل. والثانية وقعت في بداية صفحة.
56
الحامض وحماض الأترج. ولذلك صارت الحموضة موافقة لمن كان مزاجه محرورا.
وأما الأشياء المالحة فمن شأنها أن تذيب وتحلل وتقطع وتلطف وتسخن المزاج، ولذلك صارت
منافعها ومضارها قريبة من منافع الأشياء الحريفة ومضارها، إلا أنها لا تفعل ذلك إلا عند الافراط منها
فقط. ومن قبل ذلك صار فعلها في تنقية المعدة وغسل المعاء وتليين البطن، ألطف وأعدل من فعل
الأشياء الحريفة، ذلك لقرب حرارتها ويبوستها من التوسط والاعتدال. ولذلك صار ما يستعمل من
الأغذية بالمري والخل أكثر (1) تنقية وتلطيفا من الأغذية التي تستعمل بالخل والزيت، لان المري
يعين على تلطيف الفضول، وأما الزيت، فمع ما أن ليس فيه قوة على تلطيف الفضول، ففيه قوة تبطل
فعل الأشياء الملطفة وتوهن قوتها بلزوجته ودهنيته.
وأما اللطيفة في انفعالها، فهي السريعة الانقياد لفعل الطبيعة في انهضامها وسرعة جولانها في
البدن، وانقلابها إلى الدم مثل الاسفاناخ والقطف والخبازى، إلا أن الدم المتولد عنها رقيق مائي دون
الدم المحمود. ولذلك، صار غذاؤها يسيرا جدا قليل اللبث في الأعضاء سريع الانحلال فيها (2)، قليل
التقوية لها. ولذلك قال جالينوس: إن كل غذاء لطيف جدا فما يصل إلى البدن من غذائه يسير جدا،
سريع الانفشاش من الأعضاء، ولهذه الجهة صار الادمان عليه مما ينهك الأعضاء ويحد قوتها. وقد ظن
قوم أن هذا الضرب من الغذاء ينسب إلى اللطافة في فعله أيضا، من قبل أن الدم المتولد عنه إذا وافى
دما غليظا، أرقه وصيره ألطف مما كان عليه، وهذا ظن فاسد لأنه لو وجب للأغذية المائية الرقيقة الدم
أن تنسب إلى اللطافة في فعلها لان الدم المتولد عنها يرق الدم الغليظ ويلطفه، وجب أيضا للأغذية
الغليظة المولدة للدم الغليظ أن تنسب إلى اللطافة في فعلها، لان الدم المتولد عنها إذا وافى دما دقيقا
مائيا، غلظه وعدله ولو أمكن ذلك لوجب أن تكون الأغذية اللطيفة في انفعالها، والغليظة في انفعالها
تفعل فعلا واحدا. وهذا من أبين الخطأ، لان هذا إنما يقع من كل واحد منها على سبيل الممازجة
والاختلاط، لا على سبيل الفعل والتأثير.
فإذ ذلك كذلك، فنقول: إن الأغذية الغليظة أيضا تقتضي في اسمها ثلاثة معان (3):
إما غليظة في فعلها وإن كان الدم المتولد عنها ليس بالغليظ.
وإما غليظة في انفعالها وإن كان الدم المتولد عنها ليس بالمذموم.
وإما غليظة في جوهريتها وغذائها المتولد عنها.
فأما الغليظة في فعلها وإن كان الدم المتولد عنها ليس بالغليظ، فتنقسم ثلاثة أقسام: إما باردة



(1) في الأصل: وأكثر.
(2) في الأصل: منها.
(3) في الأصل: معاني.
57
مخدرة، تجمد الحرارة الغريزية، وتعوق عن الهضم مثل الثلج والخشخاش والقثاء والخيار وما شاكل
ذلك. وإما عفصة قابضة تنشف رطوبة الغذاء وتغلظه، وتمنع انقياده إلى الفعل مثل البلح والجمار (1)
والطلع وما شاكل ذلك. وإما دسمة تطفو على الطعام وتعوم عليه ثم تختلط به وتغلظه وتمنع من هضمه
لفرط لزوجتها مثل الشحوم وما شاكلها.
وأما الغليظة في انفعالها فتكون على ضربين: إما قحلة جافة بطيئة الانهضام مثل الجاورس
وغيره، وإما لزجة بعيدة الانقياد لفعل الطبيعة مثل الخبز الفطير والرضيع من الضأن والسمك
الطري. فإن هذا الضرب من الأغذية عسير (2) الانهضام جدا وذلك للزوجته وغلظه، إلا أنه إذا انهضم
واستحكم نضجه في المعدة والكبد جميعا، كان الغذاء المتولد عنه محمودا لتقوية الأعضاء فقط، لأنه
بطئ الانحلال منها. ولذلك وجب ألا يجتنب (3) دائما لأنه غير ضار بمن كانت أحشاؤه قوية، ولمن كان
كثير التعب دائم الحركة. فأما سائر الناس ممن كان قليل التعب، أو من كانت (4) أحشاؤه، مثل معدته
وكبده، ضعيفة بالطبع أو بالعرض، فينبغي أن يتوقى هذه الأغذية لأنه لا يكاد أن يسلم منها، من قبل أنها
بلزوجتها تولد سددا في عروق الماساريقا ومجاري الكلى إذ كان هذان العضوان (5) ضيقي المجاري
بالطبع. ولهذا صار كثيرا ما يحدث فيها من هذه الأغذية ضروب من العلل، وذلك أنه كثيرا ما تجتمع
منها في الكلى فضول غليظة لزجة يمكن أن توافي مزاج الكلى قوي الحرارة فتتحجر كما يتخزف الطير
المبلول بحرارة النار. وكثيرا ما يتولد عن الاكثار منها في عروق الماساريقا وفى جداول الكبد سدد غليظة
كثيرة.
والفرق بين النوعين: أن ما كان منها في عروق الماساريقا منع من نفوذ الغذاء إلى الكبد حتى
يعرض من ذلك الاسهال الكشكي الدال على أن مصاية الغذاء قد انحدرت مع الثفل بصورتها ولم تصل
إلى الكبد. وما كان منها في جداول الكبد ولد ثفلا في الكبد وربما اجتمع من هذه الأغذية في هذه
المواضع أخلاط نية غير منطبخة لا يؤمن معها أن تعفن ويحدث عنها ورما قويا من قبل أن كل خلط ني
يتولد في البدن، فلا بد له من أحد أمرين: إما أن تقوى عليه الحرارة الغريزية وتطبخه وتحيله دما فيتولد
عنه غذاء لزج غير محمود إلا في تقوية الأعضاء فقط. وإما أن تضعف الحرارة عن هضمه، فيطول لبثه
هناك وتحمي حرارة البدن وتغلي وتعفن وتستحيل إلى الفساد.
وقد يستدل على ذلك من الشاهد لأنا نجد جميع الرطوبات الغليظة إذا طال لبثها في المواضع
الحارة، غليت وانقلبت إلى عفن، ومن قبل ذلك، تلطفت الأوائل بالأدوية المنسوبة إلى حفظ الصحة،
أعني الأدوية المطلقة للفضول المفتحة لمجاري الكبد المنقية لجداولها مثل الإسكنجبين وبخاصة



(1) شحم النخلة.
(2) ثمرة النخل في أول ظهورها.
(3) في الأصل: عسر.
(4) في الأصل: تجتنب.
(4) في الأصل: كان.
(5) في الأصل: هذين العضوين.
58
إسكنجبين العنصلان وسائر الجوارشنات المقطعة لما يجتمع في عروق الماساريقا وجداول (1) الكبد
والطحال ومجاري الكلى من الأخلاط اللزجة الغليظة وتزيل ما يتولد في الأبدان من فضول هذه الأغذية
وأمثالها. غير أنه قد يجب على من اضطر إلى استعمال هذه الأدوية أن يحسن تقديرها، ولا بد من
استعمالها، لكن يجرى الامر فيها على المقدار القصد إذ كان لا يؤمن، مع الادمان عليها، إحدى ثلاث
خلال:
إما أن تحل رطوبة الدم ممن كان (2) الغالب على مزاجه البلغم وترقه وتصيره مائيا ثم تنشف
رطوبته بعد ذلك رويدا رويدا حتى يفنى أكثرها ويغلظ الدم وتصيره سوداويا.
وإما أن تحمي بدن من كان مزاجه صفراويا حميا شديدا حتى تحل رطوبة أعضائه وتكسبها ذبولا.
وإما أن توافي في الكلى أثفالا غليظة فتجففها وتحجرها عن قرب.
وأما الأغذية الغليظة في جوهرها، فالغذاء المتولد عنها فيكون على ثلاثة ضروب: وذلك أن منها
ما يولد دما سوداويا غليظا مثل لحم الظباء والأيايل وكبير البقر، ومنها ما يولد غذاءا قحلا جافا مثل الغذاء
المتولد عن الجاورس وبعده العدس، ومنها ما يولد دما لزجا لعابيا مثل الدم المتولد عن الفطر والفطير من
الخبز.
فما كان منها يولد دما سوداويا كان مذموما في بقاء الصحة على الأصحاء وردها إلى المرضى،
من قبل أن عسر الانهضام متعب للطبيعة بعيد التشبه بالأعضاء. والغذاء المتولد عنه فردي الانهضام
فاسد (3) لأنه يولد دما محترقا مذموما، إلا أنه إذا استحال وتشبه بالأعضاء غذى غذاء كثيرا قويا بعيد
الانحلال من الأعضاء، ولذلك <كان> (4) مذموما لمن كان كثير الدعة والسكون قليل الحركة والتعب، من
قبل أن الحرارة من كانت هذه حاله يسيرة خامدة تضعف عن هضم ما غلظ من الغذاء وبعدت استحالته.
ولذلك، وجب أن يتوقاه من كانت هذه سبيله دائما، أعني من كان كثير الدعة والسكون. إلا أنه لما كانت
اختيارات الناس تختلف وكان أكثرهم يرغب في خصب بدنه وشدة أعصابه مع صحة لا يوثق بها، على
صحة يوثق بها، مع قضف (5) بدنه وهزاله وضعف أعضائه، وجب على من رغب في مثل هذه الحال
واضطره الامر إلى استعمال الأطعمة الغليظة الكثيرة الغذاء العسيرة الانحلال من الأعضاء، أن يقصر في
استعمالها ولا يتخذها إلا في الوقت الذي يحس فيه من بدنه بنقصان إما من لحمه وإما من قوته وإما
منهما جميعا. ولا تستعمل، مع ذلك أيضا عن إصلاح أمر نفسه بما يستحكم القول فيه في الباب (6)



(1) النصف الأول من هذه الكلمة غير واضح في الأصل.
(2) في الأصل: الكان.
(3) في الأصل: فاسدا.
(4) زيادة يقتضيها السياق.
(5) قضف قضفا وقضافة: نحف ودق، فهو قضيف.
(6) في الأصل: في باب وهي كذا كلما وردت بعد.
59
العشرين عند ذكرنا التدبير اللطيف المحمود إبقاء للصحة ودوامها.
وأما ما (1) كان من الأغذية قحلا جافا، فإنه مذموم من جهة أخرى لأنه مع بعد انهضامه يولد غذاء
مائلا إلى اليبس، ولذلك صار أكثر ما يستعمل على سبيل الدواء لا على سبيل الغذاء، وإن كان أقل
رداءة من النوع الأول كثيرا لان الدم المتولد عنه أقل فسادا، لعدمه اللزوجة والغلظ لان ما كان من الغذاء
لزجا فإنه، وإن كان يغذو غذاء كثيرا، فإن الغذاء المتولد عنه يقرب من البلغم الغليظ اللزج.
فإن سأل سائل عن الغلظ واللزوجة وقال: هل بينهما فرقان في أن كل واحد منهما في نفسه
غليظ؟ قلنا له: لعمري إن بينهما فرقانا بينا (2) من قبل أنه، وإن كان قد تعمهما جميعا صعوبة الانهضام
وبعد الاستمراء، فقد يختص كل واحد منهما بخاصة يمتاز بها من صاحبه، من قبل أن الغليظ ربما ولد
دما يقرب من اليبس سريع التشبه بالأعضاء لقربه من الانعقاد والجفاف. واللزج، وإن كان غليظا، فإن
الدم المتولد عنه بلغمانيا عسير التشبه بالأعضاء لبعده من الانعقاد بسرعة.
فالغلظ إذا أعم من اللزوجة لان كل لزج غليظ، وليس كل غليظ لزجا (3)، فإن عارضنا وقال:
ولم خالفت بينهما، وجالينوس قد ساوى بين الدم المتولد منهما في الغلظ حيث قال: ومن الطعوم ما
ليس بلزج ويولد دما غليظا مثل الجاورس، ومنه ما ليس بغليظ ويولد دما غليظا مثل الفطر، فدل،
بمساواته بين الدم المتولد من الجاورس والفطر، على أن الغليظ هو اللزج واللزج هو الغليظ، وإن كان
من الغليظ ما ليس بلزج ومن اللزج ما ليس بغليظ.
قلنا له: لو أنصفت عقلك وأجلت فكرك في الأصول المنطقية لأشرفت على أن جالينوس، وإن
كان ساوى بين الدم المتولد عن الغليظ واللزج في اسم الغلظ، فإنه لم يساو (4) بينهما في جوهرية الغلظ
ولا في الهيولى الحامل له، من قبل أن الطعام اللزج إذا نسب إلى الغلظ فإنما نسب إليه لغلظ رطوبته
ولزوجته وبعدها من الاستحالة والتشبه بالأعضاء. والغليظ فإنما ينسب إلى الغلظ لقحله وجفافه وصلابة
جرمه وبعده من الانقياد لفعل الطبيعة وإن كان أسرع إلى التشبه بالأعضاء لما بينها وبينه من مجانسة
اليبس.
فمن البين إذا أن اللزج إنما يحمل الغلظ في رطوبته وجوهرية غذائه، والغليظ فإنما يحمل ذلك
في جسمه لا في جوهرية غذائه، والهيولي الحامل للغليظ في اللزج غير الهيولى الحامل له في الغلظ.
فالغلظ إذا أعم من اللزوجة، لان كل لزج غليظ الجوهر وليس كل غليظ لزج لان الغليظ إنما كان غليظا
لقحله وجفافه وصلابة جسمه، لا لغلظ جوهره ورطوبته.



(1) في الأصل: ولما.
(2) في الأصل: فرقان بين.
(3) في الأصل: لزج.
(4) في الأصل: يساوي.
60
الباب الرابع
القول في الثمار
الثمار تنقسم في جنسها على قسمين: لان منها ما هو أرضى مكتنز صلب يجف ويبقى بعد
مفارقته لنباته زمانا طويلا مثل الحنطة والشعير وما شاكلهما من أنواع النبات. وهذه الأنواع هي الملقبة
بالحبوب. ومنها ما هو لين رخو لا يبقى بعد مفارقته لنباته إلا يسيرا حتى يفسد مثل البطيخ والمشمش
والتوت وما شاكل ذلك. وهذه الأنواع هي المخصوصة باسم الفاكهة.
فما كان من الثمار لينا رطبا قليل اللبث بعد مفارقته لنباته كان ما ينال البدن من غذائه يسيرا جدا
لأنه لا يلبث في الأعضاء إلا قليلا حتى ينحل ويخرج إما بالبول وإما بالعرق وإما بغيرهما. ولذلك صار
انحداره عن المعدة والبطن أسرع من النوع الأول المعروف بالحب، ولا سيما متى كان فيه قوة جلاء أو
طعما بورقيا. وما كان كذلك كان أردأ مما لا طعم له لان ما لا طعم له فرطوبته أرق، وما كانت رطوبته
أرق كان أسرع نفوذا في العروق وجولانا في البدن.
وما كان معه جلاء أو طعم بورقي فرطوبته أغلظ ونفوذه في العروق أبعد لأنه يلذع الأمعاء
ويهيجها إلى إحداره قبل نفوذه في العروق، وإن كانت الفواكه في جملتها رديئة الغذاء لأنها سريعة
الاستحالة إلى الفساد مهيجة للنفخ والقراقر، وبخاصة متى بعد انهضامها. ولذلك لا ينتفع بها إلا عند
التعب والسير في طريق بعيدة وفى حر شديد لأنها عند ذلك تبل الأبدان وترطبها وتبردها أيضا تبريدا
معتدلا متى بردت قبل استعمالها بالماء الشديد البرد لان الترطيب منها ينفع في كل حال لغلبة الرطوبة
على مزاجها.
وأما التبريد فليس هو فيها كذلك لان ليس في قوة بردها الخلاص من الحر القوي إلا أن تكسبها
بردا من الخارج يقاوم حرارة المعدة والكبد.
وأما ما كان من الثمر أرضيا مكتنزا يجف على نباته ويبقى زمانا طويلا بعد مفارقته لنباته فإنه
يكون على ضربين، لان منه ما يكون بعد طريا لم يتم جفافه وصلابته مثل الباقلاء الطري والحمص
الكذلك. ومنه ما قد انتهى في جفافه وصلابته وهو بعد في نباته. فما كان منه طريا كان أسرع انهضاما

61
وانحدارا كأنه في سرعة انهضامه وانحداره متوسط بين سرعة انهضام الفاكهة الرطبة، وبين انهضام
الحبوب الكاملة الجفاف وأقرب إلى سرعة انهضام الفاكهة قليلا، ذلك لما فيه من بقايا رطوبة الماء.
ولذلك صار مولدا للفضول الكثيرة في المعدة والمعاء عسير الانحلال من المعدة مهيجا للنفخ والقراقر،
ولا سيما متى بعد انهضامه وبعد انحلاله. والاكثار منه مولد للدود وحب القرع الحيات الطوال. وإن تم
استمراؤه في المعدة جيدا لم يفد الأعضاء قوة حسنة، ولم يولد دما فاضلا، لكنه يولد دما بلغمانيا لزجا.
فأما ما كان من الثمر قد كمل جفافه وصلابته فإنه أفضل وأحمد كثيرا، لان الطبيعة قد كفت
مؤونة التعب في إصلاحه وهو بعد على نباته فأكملت نضجه وجفافه وأزالت رطوبته وغلظه. ولذلك صار
أسرع استحالة إلى الدم وأقرب إلى التشبه بالأعضاء وإن كانت الرياح غير مواتية (1) له بالطبع إلا أن تزال
عنه بالصنعة والعمل، إما بإحكام عجن ما يعجن وتخميره وخبزه، أو بسلق ما يحتاج إلى أن يسلق منه أو
بشيه. وسنبين ذلك بيانا شافيا في موضعه الأخص به في الباب التاسع عشر إن شاء الله تعالى بتوفيقه
وتيسيره.



(1) في الأصل: بياض مكان لفظة (مواتية)، ولعلها كما أثبتنا.
62
الباب الخامس
في السبب الذي له صار ثمر النبات
أسخن وألطف من النبات نفسه
قال المؤلف لهذا الكتاب: أجمع الأوائل من الطبيعيين على أن كل ثمر إنما يتولد من ألطف ما
يصل إلى النبات من جوهر غذائه. وكان دليلهم على ذلك من أوضح الأدلة وأوثقها برهانا، لأنهم قالوا
إنا وجدنا كل نور يقع في الأرض فلا بد له من أن يجذب إليه من جوهرية الأرض ورطوبة الماء ما
يشاكل مزاجه مما به غذاؤه وكونه. حتى إذا انبل وانتفخ انشق مما يلي الأرض منه وبرزت منه عروق
تقوم له مقام الفم للحيوان، فيجذب بها من الأرض المادة التي منها غذاؤه وبها قوامه. حتى إذا قوي
ونما، جذبت حرارة الشمس من ألطف ما يصل إلى النبات من الغذاء شيئا إلى فوق ورفعت له رأسا
بارزا من الأرض. فإذا قويت حرارة الشمس وتمكنت منه جيدا قوى على نشف الرطوبة المغذية له
وجذبها إليه وفيها شئ من جوهر الأرض ولطافة الهواء. فإذا كثرت الرطوبة وغزرت، انطبخت بالحرارة
الغريزية من باطنه وحرارة الهواء من ظاهره، وارتفع له عود وتفرعت أغصانه وأورقت. وكلما ازداد فعل
الحرارة فيه تأثيرا قويت الفروع وصلبت واتسعت مجاريها وتنفست ونورت ثم أزهرت وأثمرت كما ينتج
الطفل إذا صار غلاما في وقت احتلامه عند قوة أعضائه واتساع منافسها واستحكام الزرع فيها بتمام قوة
فعل الطبيعة بقدرة بارئها عز وجل. فإذا كملت الثمرة ونمت بلطيف ما يصل إليها من الغذاء، انطبخ
غذاؤها وانتقل من الأرضية والعفوصة إلى طعوم شتى على حسب طبيعة النبات الذي الثمرة منه كما بينا
آنفا حيث قلنا:
إن ما كان من النبات حرارته حائدة عن الاعتدال قليلا كأنها منحرفة إلى البرودة يسيرا، وكانت
رطوبته لطيفة مائية، كان انتقال ثمره من العفوصة إلى التفاهة وطعم الماء. فإن كانت الحرارة بهذا الوزن
والقياس، وكانت الرطوبة لزجة متوسطة بين اللطافة والغلظ، كان انتقال الثمرة إلى العذوبة قليلا.
فإن ازدادت الحرارة قليلا وقويت وصارت في غاية التوسط والاعتدال كأنها في الدرجة الثانية من
الحرارة، وكانت الرطوبة أيضا متوسطة بين الغلظ واللطافة، كان انتقال الثمرة إلى الحلاوة.

63
فإن جاوزت الحرارة هذا الحد قليلا وصارت كأنها في آخر الدرجة الثانية، وكانت الرطوبة لطيفة
هوائية لدنة، كان انتقال الثمرة إلى الدهنية والدسومة.
فإن جاوزت الحرارة هذا الحد قليلا، وكانت الرطوبة يسيرة متوسطة بين اللطافة والغلظ إلا أنها
قريبة من الأرضية قليلا، تشنجت رطوبة الثمرة وانتقلت إلى الملوحة والبورقية.
فإن جاوزت الحرارة هذا الحد وصارت إلى الدرجة الثالثة وكانت الرطوبة يسيرة غليظة أرضية،
كان انتقال الثمرة إلى المرارة.
فإن جاوزت الحرارة هذا الحد أيضا وصارت محرقة نارية كأنها في الدرجة الرابعة وكانت
الرطوبة في غاية اللطافة واليبس، كان انتقال الثمرة إلى الحدة والحرافة.
وإن كانت البرودة على النبات أغلب، وكانت برودته في الدرجة الأولى وكانت الرطوبة متوسطة
بين اللطافة والغلظ فيها شئ من لزوجة، كان انتقال الثمرة إلى العذوبة وتوسطت بين الحلاوة والتفاهة،
فإن جاوزت البرودة هذا الحد أيضا، وصارت في وسط الدرجة الثانية وكانت الرطوبة غزيرة رقيقة مائية
فيها شئ من الأرضية، كان انتقال الثمرة إلى الحموضة.
فإن جاوزت البرودة هذا الحد وصارت إلى آخر الدرجة الثانية وكانت الرطوبة يسيرة متوسطة بين
اللطافة والغلظ، كان انتقال الثمرة إلى القبوضة.
فإن جاوزت البرودة هذا الحد وصارت في آخر الدرجة الثالثة وكانت الرطوبة يسيرة غليظة
أرضية، ثبتت الثمرة على أرضيتها وعفوصتها، وقربت من طعم النبات، وعدمت الطعوم المخالفة
للعفوصة أصلا. ولذلك صار قصب السكر وغيره من الأشياء القوية الحلاوة لا تنبت في البلدان القوية
البرد الكثيرة الثلوج، لان الحلاوة تحتاج إلى حرارة قوية في الدرجة الثانية تطبخ غذاءها وتعقده.
فقد بان واتضح أن قوة كل ثمرة من الثمار قريبة من قوة نباتها، إلا أنها أسخن وألطف (1) قليلا.
ولذلك صارت ألطف من النبات. ويستدل على لطافتها من لطافة غذائها، لأنها إنما تغتذي من ألطف ما
يصل إلى النبات من الغذاء. وأما حرارتها وجفافها فصارا لها لبعدها من رطوبة الأرض المغذية لها،
وتمكن حرارة الشمس منها. ولذلك صار كل بزر أعون على تلطيف الفضول وتحليلها من نباته الذي هو
منه.
ويستدل على ذلك من بزر الخشخاش لأنا نجده أقل بردا من نباته. ولذلك صار إذا أكل لم
يوجد له من قوة الفعل في إخدار البدن وكثرة النوم ما يوجد للنبات نفسه. ولهذا ما صار اللبن المستخرج
من نباته المسمى أفيون أقوى فعلا في إخدار البدن وجلب النوم من بزره وحبه. وكذلك الحال في



(1) فوقها في الأصل، وبحرف أصغر: (وأيبس).
64
الخس وغيره من النبات.
وأما ما يغرس من القضبان، فإن العود إذا غرس في الأرض سالت منه رطوبات وانحدرت
واتصلت بالأرض، وتكون منها عروق تقوم لها مقام الفم للحيوان تجذب بها الرطوبات المغذية له من
الأرض حتى إذا كثرت الرطوبات في القصب وانطبخت بالحرارة الغريزية من باطنه، وحرارة الهواء من
ظاهره، انتفخ القضيب وتنفس واتسعت مجاريه ومنافسه وورق ثم نور (1) وأثمر. فما كان من الأشجار
بطئ الادراك مثل الزيتون والشمشاذ (2) والأبنوس، كان أكثر بقاء على الأرض لان ارتفاع نباته إنما يكون
عن رطوبة أرضية غليظة مندمجة مكتنزة الاجزاء بطيئة الانحلال والانفشاش، ولذلك صار الأبنوس ينبت
في الماء ويبقى زمانا من غير أن يفسد. وما كان من الأشجار أسرع نباتا وإدراكا مثل التفاح والمشمش
والخوخ كان أقل بقاء على الأرض، لان ارتفاع نباته إنما يكون عن رطوبة لطيفة سخيفة الاجزاء سريعة
الانحلال والانفشاش.
فإن سأل سائل وقال: ما السبب الذي له صار انعقاد بعض الثمر يكون صلبا، وبعضه لينا رخوا،
وبعضه متوسطا بين هاتين المرتبتين؟ قلنا له: ذلك لان الرطوبة المغذية للثمر تكون على ضروب على ما
بينا مرارا، لان منها رطوبة أرضية غليظة، ومنها رقيقة مائية، ومنها خفيفة هوائية، ومنها لزجة متوسطة بين
اللطافة والغلظ.
فما كان من الثمر الأرضية غالبة على رطوبته، كان انعقاده صلبا يابسا شبيها بانعقاد العظم في
الحيوان مثل المقل (3) وما شاكله.
فإن خالطت الأرضية مائية وكانت المائية أغزر قليلا، كان انعقاد الثمرة معتدلا شبيها بانعقاد
اللحم في الحيوان، مثل التفاح والمشمش وما شاكلهما.
فإن ازدادت الأرضية قلة والمائية كثرة، كان انعقاد الثمار أكثر ليانة، شبيها بانعقاد الشحم في
الحيوان، مثل التين وما شاكله.
فإن ازدادت الأرضية، أيضا، قلة وكانت الرطوبة رقيقة مائية فيها شئ من لطافة ولزوجة،
اجتمعت الثمرة وصارت كأنها رطوبة مجتمعة مثل التوت وما شاكله.
وإن كان انعقاد الثمرة عن رطوبة لزجة متوسطة بين اللطافة والغلظ، بعيدة من الأرضية، سالت
الثمرة وطالت وصارت كأنها كلها رطوبة سيالة منعقدة، مثل الموز وما شاكله. ولذلك صار الموز



(1) نور الشجر: أخرج نوره أي زهره. ونور الزرع: أدرك. ونور التمر: صار له نوى.
(2) شجر السرو، أو الازدرخت والازادارخت.
(3) يعرف أيضا بالدوم، من فصيلة النخليات ويستخرج من ثماره نوع من الدبس.
65
مستطيلا، لان من شأن الرطوبة المتوسطة للغلظ، السيلان والهبوط لأنه متى اجتمع في الرطوبة، مع
اللزوجة، هوائية لطيفة منعتها (1) لطافة الهواء وخفته من السيلان والهبوط، وتحركت إلى جميع جهاتها
حركة متساوية، وصارت مستديرة مثل البطيخ المدور وما شاكله.
فإن قال قائل: ما بال العفص صار مستديرا والبلوط مستطيلا، وقد شملت رطوبتهما الأرضية
والقبض، قلنا له: من قبل أن رطوبة العفص خالصة الأرضية والغلظ. ولذلك اجتمعت أجزاؤها واكتنزت
وقرب بعضها من بعض، فاستدارت. وأما البلوط، فإن رطوبته متوسطة بين اللطافة والغلظ ويستدل
على ذلك مما فيه من يسير العذوبة، ولذلك سالت رطوبته وطال.



(1) في الأصل: منعها.
66
الباب السادس
لم صار لبعض الثمر نوى ولبعضه قشر
قال المؤلف لهذا الكتاب: قد بان من قوة كلامنا مرارا أن غذاء الأشجار وسائر النبات من
العناصر الأربعة، لان الرطوبة المغذية لها لا تنفك من جوهر أرضى ثقيل، وجوهر مائي سيال، وجوهر
هوائي خفيف، وجوهر ناري لطيف. وهذه الجواهر ربما تساوت في الرطوبة المغذية لبعض الثمار،
وربما اختلفت في بعضها.
فإذا كان الغالب على الثمرة الجوهر الأرضي الغليظ ووافى رطوبته رقيقة مائية، غاص بثقله، في
باطن الرطوبة، وانعقد هناك وكان منه نوى الثمرة. ولما كان كل غذاء لا بد له من جوهر دسم روحاني
يكون فيه ليولد النبات، غاص ذلك الدسم مع الجزء الأرضي إذ كان مكانه ومركزه، وسكن في باطن
النواة كما يغوص المخ ويسكن في عظم الحيوان. ولذلك صار كل نبات لثمره نوى، فتولده يكون من
نواة لان الجوهر الدسم الروحاني الذي في باطن النوى يقوم للنبات مقام النطفة في الحيوان.
فهذا سبب النوى في الثمرة، وتولد النبات والشجر من النوى.
فأما ما ليس له من الثمر <نوى> (1)، فإن السبب فيه الجزء الأرضي الذي فيه الرطوبة المغذية
للثمرة إذا خالطه شئ من الجزء الهوائي اللطيف، صيره خفيفا عواما. فإذا وافى رطوبة لزجة غليظة،
منعه غلظ الرطوبة من الغوص في باطنها، وعام بما فيه من الجزء الهوائي الخفيف، وصار إلى أعلاها
وانبسط في ظاهرها وجف بحرارة الشمس، وصار قشر الثمرة، وانتشر الجزء الدسم الروحاني الذي منه
يكون تولد النبات في جملة الثمرة، لما عدم الجزء الأرضي الذي هو مسكنه ومركبه. ولذلك صار كل
نبات يكون لثمره نوى، فمن ثمره يكون نباته. وكل نبات لا يكون لثمره نوى، يكون له قشر يحفظ
الجزء الدسم الروحاني في باطن الثمرة، فمن الثمرة نفسها يكون نباته. وما لم يكن لثمره نوى ولا قشر
يحفظ الجزء الدسم الروحاني في باطنه، فمن أصله وقضبانه يكون نباته، وإن كان ما له ثمر من الأشجار
قد يتولد أيضا من أصله وأغصانه، وذلك أن أغصانه وأصله غير معراة من الجزء الدسم الروحاني، لان



(1) ساقطة من الأصل.
67
به نباتها ودوامها ونموها، ولولا ذلك لجفت وقحلت وماتت بعد سقوط ثمرها عنها.
فإن قال قائل: لم صار من الأشجار ما يتساقط ورقه، ومنه ما لا يتساقط له ورق. ومن الورق ما
يكون مستديرا، ومنه ما يكون مستطيلا. ومن الورق ما يتشقق، ومنه ما لا يتشقق؟.
قلنا له: أما السبب الذي له يتناثر ورق الشجر، فهو عدمانها الغذاء لان البرد إذا اشتد في زمان
الشتاء وغلب على ظاهر الأشجار، بطنت الحرارة وانسجنت في عروقها هربا من ضدها. فإذا اشتدت
الحرارة المنسجنة في العروق، جذبت العروق إليها رطوبات الأغصان والأطراف إلى أسفل لتقوى بها
على تسكين حدة تلك الحرارة المنسجنة فيها، لكيلا تحرقها. فإذا عدمت الأغصان والأطراف أكثر
الرطوبات، تناثر الورق لعدمانه الغذاء.
فإن قال: هذا هو السبب العامي في تناثر ورق الشجر في الجملة، وليس هو السبب الخاصي
الذي له صار ورق بعض الأشجار يتناثر دون بعض. قلنا له: أما السبب الخاصي لذلك فيكون لجهتين:
إحداهما: أن من الأشجار ما تكون قوة عروقه وأصوله قوية جدا على جذب الرطوبات من
الأرض دائما بالطبع. وفى أصله وعروقه، مع ذلك أيضا، من التخلخل ما يحوي رطوبات كثيرة مثل
النخل وما شاكله، فتستغني بما يصير إليها من تلك الرطوبات في تبريد الحرارة المنسجنة فيها، عن
جذب رطوبة الغذاء من الأغصان والأطراف، فيجد الورق من الغذاء ما يحفظه ويقويه ويمنعه من
الانتثار. ومن الأشجار ما قوة عروقه وأصله ضعيفة جدا عن جذب الرطوبات من الأرض، ولا يكون
لأصولها وعروقها مع ذلك أيضا، من التخلخل ما يحوي رطوبة كثيرة، فتفتقر ضرورة إلى جذب رطوبات
الغذاء من الأغصان والأطراف دائما، ويعدم الورق الغذاء ويجف ويتناثر.
والجهة الثانية (1): ما كنا قدمنا ذكره آنفا، أن من الأشجار ما يكون نباته وارتفاعه عن رطوبة
لطيفة سخيفة الاجزاء سريعة الانحلال مثل التفاح والرمان وما شاكلهما. ومنها ما يكون نباته وارتفاعه عن
رطوبة أرضية غليظة مندمجة الاجزاء مكتنزة عسيرة الانحلال، فما كان نباته وارتفاعه عن رطوبة لطيفة
سخيفة سريعة الانحلال، فإن القوة الجاذبة التي في عروق الأشجار إذا جذبتها إليها من الأغصان،
انقادت لفعلها بسخافتها وهبطت سفالا رويدا رويدا حتى تخلو الأغصان منها، وتعدم الأوراق الغذاء
وتتناثر. ولذلك صار ما كانت هذه سبيله من الأشجار قليل البقاء على الأرض جدا. وما كان من الأشجار
نباته وارتفاعه عن رطوبة أرضية غليظة مندمجة الاجزاء مكتنزة، فإن القوة الجاذبة التي في عروق الشجر
إذا جذبتها مانعتها، لغلظها، ولم تنقاد لفعلها ولم يهبط منها إلى عروق الأشجار إلا ما كان منها خفيفا
سريع الانقياد، وبقى أكثرها في الأغصان. وكان من ذلك غذاء الورق ولم يتناثر. ولهذا الجهة، صار ما
كانت هذه سبيله من الأشجار كثير البقاء على الأرض جدا، مثل الزيتون والأبنوس وما شاكلهما. وقد



(1) في الأصل: الثالثة.
68
يستدل على ذلك من الشاهد، وذلك إن إنسانا لو أخذ خرقة واحدة وشقها بنصفين وبل النصف الواحد
بماء لطيف رقيق، وبل الاخر بماء غليظ الاجزاء مثل ماء الدجلة وما شاكله، ثم نشرهما جميعا في
الشمس، لوجد الخرقة المبلولة بالماء اللطيف تجف بسرعة للطافة مائها وخفته. ووجد الخرقة المبلولة
بالماء الغليظ تقاوم حرارة الشمس زمانا ولا تجف إلا بعد مدة بعيدة.
ففي هذا بيان على أن الرطوبة المغذية للأشجار إذا كانت رقيقة خفيفة مائية، انقادت لفعل القوة
الجاذبة وانحدرت بسرعة وهبطت إلى عروق الأشجار وخلت الأغصان منها. وإذا كانت غليظة أرضية
مندمجة الاجزاء، مانعت القوة الجاذبة ولم ترسل معها إلا ألطف ما فيها وأسرعه انقيادا.
وأما السبب الذي له صار بعض ورق الأشجار مستديرا، وبعضه مستطيلا هو اختلاف عنصر
الورق وتغيير الرطوبات المغذية له، وذلك أن العنصر ربما كان خفيفا لطيفا، وربما كان غليظا ثقيلا.
والرطوبة ربما كانت رقيقة سيالة، وربما كانت خفيفة هوائية.
فإذا كان تولد الورق عن عنصر خفيف ورطوبة سيالة مياعة، تحرك العنصر، للطافته، صعدا
وسالت الرطوبة، لرقتها، سفلا وامتد الورق وطال.
وإذا كان تولده عن عنصر غليظ ورطوبة لطيفة، ثقلت حركة العنصر ولم يرق صعدا، وانتشرت
الرطوبة، للطافتها وخفتها، وانبسط الورق واستدار.
وأما السبب الذي له تشقق بعض ورق الأشجار دون بعض، فإن سبب ذلك اليبس والرطوبة،
لان ما غلب عليه من الورق اليبس تشقق بحرارة الشمس وتفرقت أجزاؤه. وما كان من الورق الرطوبة
عليه أغلب، قاومت الرطوبة حرارة الشمس وجمعت أجزاء الورق، ووصلت بعضها ببعض وثبت الورق
بحاله ولم يتشقق.

69
الباب السابع
في امتحان الحبوب والبزور والوقوف على معرفة
الجيد منها والردئ
الحبوب تمتحن من جهتين: إحداهما من صورتها وجوهريتها، والأخرى من انفعالها وانتقالها
عند الصنعة والعمل.
فأما امتحانها من صورتها وجوهريتها، فيكون على ثلاثة ضروب. وذلك أن من الحبوب ما يكون
مكتنزا ملززا رزينا كثير الجوهر والدقيق، قليل القشر والنخالة. ومنه ما يكون جسمه عظيما رخوا سخيفا
متخلخلا حسن الظاهر قليل الدقيق كثير النخالة. ومنها ما يكون جسمه متوسطا بين هاتين الحالتين.
فما كان منها مكتنزا ملززا رزينا كثير الدقيق قليل النخالة، كان دليلا على أن فعل الحرارة
الغريزية قد جاوزت في طبخه المقدار الطبيعي، وأفنت رطوبته العرضية، وعملت في رطوبته الجوهرية
وصلبتها وصيرتها غليظة علكة. ولذلك صار الغذاء المتولد من هذا النوع كثيرا قويا عسير الانحلال من
الأعضاء. ولهذا ما صار فعله في شدة الأعضاء وقوتها أفضل منه في بقاء الصحة وثباتها، من قبل أن
شدة الأعضاء تحتاج من الغذاء إلى ما كان غليظا علكا، بطئ الانحلال من الأعضاء. وبقاء الصحة
وثباتها يحتاج من الغذاء إلى ما كان سخيفا (1) سريع الانقياد لفعل الطبيعة عند حاجتها إلى تحليلها.
وأما ما كان من الحبوب قد جاوز المقدار الطبيعي في عظمه، وكان سخيفا خفيفا قليل الدقيق
كثير النخالة فإنه دليل على رطوبة فضلية لم تستكمل الحرارة الغريزية انضاجها وتلطيفها. ولذلك صار
هذا النوع أكثر رطوبة ولزوجة، وأغلظ من النوع الأول كثيرا لان الطبيعة لم تستكمل فعلها فيه. ولهذا
وجب أن يتوقى كثيرا ولا يستعمل ما دام حديثا ولكن يخزن في مواضع جافة قليلة الرطوبة حتى يمضي
عليها من الزمان ما يمكن أن تزول عنه رطوبته الفضلية وتفعل فيه حرارة الهواء ما كانت الحرارة الغريزية
تحتاج أن تفعله فيه وهو بعد على نباته. والمقدار الكافي لمثل هذا هو إلى أن تجف وتصلب وتكتنز



(1) في الأصل: خفيفا. والتصويب من الهامش.
70
ويعتدل صموده ويكتسب في لونه صفرة معتدلة. ومقدار الزمان الذي يمكن أن يتم فيه مثل هذا من
الستة أشهر إلى تمام السنة.
ولرجل من أهل أثينا (1) يقال له أثينساوس في مثل هذا قول صدقه فيه جميع الأوائل ووافقه عليه
جالينوس: أن ما كان من الحبوب حديثا دون ستة أشهر فغذاؤه غليظ عسير الانهضام، إلا أنه إذا انهضم
ولد غذاء كثيرا بطئ الانحلال من الأعضاء. وما كان كذلك كان غذاؤه لقوة الأعضاء وصلابتها أفضل منه
لبقاء الصحة ودوامها. وما عتق من الحبوب بعد ألا تعفن، فهو أقل غذاء وأسرع انهضاما وأسهل انحلالا
من الأعضاء، وما كان كذلك كان لبقاء الصحة وثباتها أفضل منه لقوة الأعضاء وشدتها. وأما ما بقى من
الحبوب زمانا طويلا حتى تنحل بعض رطوبته الجوهرية، فإن جوهره يكون أيبس من المقدار الذي
يحتاج إليه، ويكون لذلك رديئا مذموما. فإن جاوز هذا الحد حتى يقحل ويجف ويخالف طعمه الطبيعي
ورائحته الغريزية، دل على فناء أكثر رطوبته الجوهرية، وصار أردأ من الحديث. ولو كان الحديث في
غاية الانتفاخ واللزوجة والغلظ، إلا أنه، وإن صار إلى هذه الحال أيضا، فليس هو بمذموم لكل الناس،
لكنه قد يكون محمودا للأبدان المرطوبة المحتاجة إلى التجفيف. فأما إن طال به الزمان وتناهى في
القدم حتى تفنى رطوبته الجوهرية بأسرها وتتغير رائحته وطعمه وينتثر منه، عند كسره، شئ رقيق ترابي
شبيه بالغبار، فإنه عند ذلك يكون رديئا لكل الناس كافة وللحيوان أجمع.
ولذلك قال جالينوس: أن ما كان من الحبوب ردئ الطعم كريه الرائحة، فهو في غاية الرداءة
وذلك لجهتين: إحداهما: أن الطبيعة تعافه وتتخلى عن تدبيره لبشاعة طعمه وكراهته، فيعسر هضمه
ويفسد استمراؤه. والثانية: أن الدم المتولد عنه دما قحلا جافا رديئا لأنه سوداوي سمي ذلك لفناء رطوبته
الجوهرية المغذية وخروجه عن حد الاعتدال إلى الترابية السمنة المكتسبة من العفونة.
ولذلك قال جالينوس: أن ما أمكن أن يخزن من الحبوب زمانا طويلا ويبقى بحالته ولا يتغير،
فهو أحمد للأبدان وأفضل. وما كان الفساد إليه أسرع فهو أردأ للأبدان وأفسد.
وأما الضرب الثالث المتوسط بين الحاشيتين أعني بين ما كان من الحب صلبا مكتنزا، وبين ما
كان منه رخوا سخيفا، فإنه في فعله وانفعاله على غاية الاعتدال والتوسط بين اللطافة الغلظ وسرعة
الانهضام وإبطائه وثباته في الأعضاء وسهولة انحلاله منها. ولهذه الجهة صار محمودا فاضلا في بقاء
الصحة وقوة الأعضاء معا. من قبل أن ليس فيه من سرعة الانقياد والانفعال ما ينحل وينفش سريعا قبل
تمام فعل الطبيعة فيه، ولا له أيضا من بعد الانهضام وعسره ما يستكد الطبيعة وينهكها. ولذلك صار
أحمد أنواع الحبوب وأفضلها كثيرا.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: أن ما كان من الحبوب في طبيعته عظيما أو صغيرا، إلا أنه



(1) في الأصل: أثينية.
71
ملززا رزين ممتنع المكسر، جوهره ودقيقه أكثر من قشره ونخالته، فهو أكثر غذاء وأفضل لقوة الأعضاء
وشدتها لأنه عسير الانهضام والانحدار بعيد الانحلال من الأعضاء. وما كان منه سخيفا رخوا خفيفا قليل
الجوهر والدقيق كثير القشر والنخالة، كان أقل غذاء، إلا أنه أفضل لبقاء الصحة على الأصحاء لأنه
أسرع انهضاما وانحدارا وأسهل انحلالا من الأعضاء. وما كان متوسطا بين هاتين الحالتين كان أفضلهما
وأحمدهما لبقاء الصحة وشدة الأعضاء معه.
وأما امتحان الحبوب والبزور من أفعالها، فعلى هذا المثال وذلك أنك متى أردت أن تمتحن
شيئا من الحبوب أو البزور أو غير ذلك من الأشياء اليابسة مثل الإجاص وغيره، فانقع ما كان يحتاج إلى
الانقاع بالماء، وأسلق منه ما كان يحتاج إلى السلق، واشو (1) منه ما كان يحتاج إلى الشئ. فما انتفخ
منه كثيرا بسرعة وربا وزالت صلابته ويبسه كان أفضل وأحمد مما تفعل به ذلك ويبقى على حالته الأولى
من الصلابة واليبس، لان سرعة استحالته تدل على أن الحرارة الغريزية قد أتعبت فعلها في انضاجه وهو
على نباته، ونفت عنه رطوبته الفضلية الغليظة اللزجة. ولذلك تخلخل جسمه ولطف ونفيت قوة النار
والماء إلى باطنه، ووصلت إلى عمقه وأرخته بسرعة. وما كانت هذه حاله وجب أن يكون استمراؤه أيضا
في المعدة والكبد أسرع، وانتقاله إلى الدم وتشبهه بالأعضاء أسهل. وليس إنما فضله فيما ذكرنا فقط،
لكن في جودة الغذاء المتولد عنه أيضا، من قبل أن ما كان من الأغذية انهضامه أسرع كان الدم المتولد
عنه أحمد وأفضل.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: وليس شئ أبلغ في توليد الدم المحمود مما قد تم انهضامه
في المعدة وجاد، لان ما جاد انهضامه في المعدة كان أحرى بأن يجود استمراؤه في الكبد، وإذا جاد
استمراؤه في الكبد وجب أن يجود هضمه الثالث الكائن في الأعضاء. أعني بذلك تشبه الغذاء بالمغتذي
الذي من أجله كان الطبخان الأولان اللذان (2) في المعدة والكبد جميعا، من قبل أن الشئ إذا كمل
نضجه وتهيأ قبل وصوله إلى الأعضاء، كان أسهل في التشبه بالأعضاء ما لم يكمل نضجه بعد ولم يتهيأ
لقبول الانفعال، لان المعدة إذا أعدت فأصلحت الكبد، سهل على الكبد إصلاح ما تريد إصلاحه،
وهضم ما تحتاج إلى هضمه. وإذا أصلحت الكبد وأعدت للأعضاء، سهل على الأعضاء إحالته ونقلته
إلى جوهرها وذاتها.
وعلى هذا الوزن والقياس يجب أن يكون كل ما أعد وأصلح خارجا من البدن بالصنعة والعمل،
أعني بالطبخ والخبز والشي وغيره من الصنعة، سهل على الأضراس طحنه وعلى المعدة انضاجه
وهضمه. وذلك مقاس من فعل الطبيعة لأنا نجدها كثيرا ما تهيئ الأشياء وتصلحها وتغني عن الحيلة



(1) في الأصل: واشوي.
(2) في الأصل: الطبخين الأولين اللذين.
72
والصنعة فيها، مثل إصلاحها اللبن في الثدي وجميع الفواكه الكاملة النضج على نباتها وأشجارها.
وأما ما بقي من الحبوب على حالته الأولى من الصلابة واليبس بعد سلقه وإنقاعه أو شيه، فهو
دليل على بقايا رطوبة فضلية غليظة لزجة فيها قد ضعفت الطبيعة عن إنضاجها وتلطيفها. ولذلك صار
جوهرها جوهرا غليظا أرضيا شبيها بجوهر الفطير البارد والجلود غير المدبوغة (1). ولهذه الجهة لم تنفذ
قوة النار والماء إلى باطنه فترخيه وتلينه. وما كان كذلك كان غير محمود لأنه لا يكاد أن يستكمل دما إلا
بقوة شديدة، حتى أنه كثيرا ما يستحيل إلى الفساد قبل تمام نضجه وإحكام فعل الطبيعة فيه، لأنه ينتقل
بسرعة إلى البلغم الغليظ المسمى الخام، ويصير سببا لأمراض كثيرة مختلفة. ولذلك صار متى استعمله
من كان ضعيف البدن لم يكد أن يتم هضمه في معدته ولا استحالته إلى الدم في كبده.
ولجالينوس فيما يطبخ من الحبوب أو يقلى أو يشوى قول (2) قال فيه: إذا أردت أن تطبخ شيئا من
الحبوب مثل شعير أو حنطة فسد الوصل الذي بين القدر والغطاء بعجين أو بغيره واطبخه بنار لينة من غير
أن تحركه حتى يتهرأ ويبلغ النهاية، فإذا بلغ النهاية فحركه وأنضجه جيدا ولا تحركه قبل أن ينتهى
نضجه، فتنسحق أطرافه وتحترق قبل (3) كمال نضجه. وقال أيضا: وكل حب يقلى أو يشوى فرياحه ونفخه
تزول عنه إلا أن استمراءه يعسر ولبثه يطول والمتولد عنه يكون أغلظ كثيرا.
فإن قال قائل: ما بال جالينوس قال في هذا الفصل أن كل ما يقلى من الحبوب أو يشوى
فانهضامه يعسر ولبثه يطول. وقال في فصل غيره: أن كل ما يشوى من الحبوب أو يقلى وينتفخ انتفاخا
كبيرا، فإن رياحه تزول عنه ويجود استمراؤه في المعدة والكبد جميعا.
قلنا: إن جالينوس إنما أضاف ما يقلى من الحبوب أو يشوى فيربو وينتفخ في هذا الفصل، إلى
ما يسلق أو يطبخ فقال: إن ما يقلى من الحبوب أو يشوى ويربو فإنه، وإن كانت رياحه ونفخه قد زالت
عنه، فهو، بالإضافة إلى ما يسلق أو يطبخ، أبعد انهضاما وأعسر استحالة. فأما في الفصل الآخر فإنه
إنما أضاف ذلك إلى ما يقلى ويشوى من الحبوب فلا يربو ولا ينتفخ، فقال: إن كل ما يربو وينتفخ عند
الصنعة، فهو أسرع انهضاما مما لا يربو ولا ينتفخ، لأنه قد يمكن أن يضاف شئ واحد إلى شيئين
مختلفين، فتختلف إضافته تلقاء اختلافها، ولا يختلف هو في ذاته من الانسان الواحد، فإنه قد يضاف
إلى أبيه فيكون ابنا، ويضاف إلى ابنه فيكون أبا. وليس لما كان بإضافته إلى أبيه صار ابنا، وجب أن
يكون بإضافته إلى أبيه يكون أبا، لان هذا من أبين المحال.
ولذلك لا يلزم (1) إذا أضفنا ما يقلى من الحبوب أو يشوى ويربو إلى ما يطبخ ويسلق فوجدناه
عسر الانهضام بطئ الاستحالة، أن يكون إذا أضفناه أيضا إلى ما يقلى ويشوى ولا يربو ولا ينتفخ، أن
يكون عسير الانهضام بطئ الاستحالة لان هذا من أبين المحال.



(1) في الأصل: الغير مدبوغة.
(2) مضافة في الهامش.
(3) (لا يلزم) مضافة في الهامش.
73
الباب الثامن
قشر الحبوب ودقيقها
أما قشر الحبوب فإنه بالإضافة إلى جوهرها ودقيقها عسير الانهضام جدا، مولدا للأمغاص
والنفخ، ذلك لقلة رطوبته وغلبة الأرضية واليبس على مزاجه. ولذلك صار غذاؤه غير محمود إلا أنه
يختلف على ضروب. وذلك أن منه ما هو في طبيعته مشاكلا لطبيعة دقيقه وجوهره، مثل قشر الحنطة
والشعير، ومنه ما هو مخالف لطبيعة جوهره ودقيقه، مثل قشور العدس يطلق البطن بحدته، وجرم
العدس يحبس البطن بيبسه وقبضه. وقشور الباقلاء تحبس البطن بقبضها، والباقلاء يطلق البطن بجلائه (1)
وعذوبته. فما كان من القشر مشاكلا لطبيعة دقيقه وجوهره كان أحمد وأفضل كثيرا. وما كان منه مخالفا
لطبيعة دقيقه كان أذم وأردأ لأنه مخصوص بتولد الأمغاص والنفخ لما يحدث بينه وبين جوهره ودقيقه من
المصارعة والمجاذبة، إذ كان أحدهما يطلب الانحدار والخروج والآخر يمنع من الانحدار ويحبس
البطن.
وأما الدقيق فهو في جملته على ضربين: لان منه ما هو في طبيعته غليظا لازوقا. ومنه ما ليس
كذلك لكنه يكتسب من الصنعة والعمل، من قبل أن كل دقيق نبالغ في عجنه، ولو كان من أبعد الأشياء
من (2) اللزوجة مثل الجاورس فلا بد له، إذا بولغ في عجنه، من أن يصير لزجا منتنا ولا سيما إذا عجن
برطوبة غليظة مثل رطوبة ماء النخالة وغيره.
فأما الدقيق الذي هو بطبعه لزج علك (3) فيغذو غذاء كثيرا ويولد دما لزجا. وأما الدقيق الذي
يكتسب اللزوجة من الصنعة والعمل فيغذو غذاء أقل ويولد دما قحلا جافا. وأما ما كان من الدقيق قد
استقصى عجنه ونقي من نخالته وقشوره فهو أجود تغييرا في المعدة، وأسرع نفوذا في العروق وجولانا
في البدن، وأكثر تغذية للأعضاء من غيره من الدقيق من قبل أن كله يتشبه بالأعضاء لأنه جوهره جوهر
محض، إلا أنه بطئ الانحدار عن المعاء من قبل أنه، لسرعة نفوذه في العروق، لا يبقى منه في المعاء



(1) بعدها في الأصل كلمة (وحدته) ملغاة بشطبة.
(2) (من) مضافة في الهامش.
(3) في الأصل: لزجا علكا. وفى الهامش: (غليظا).
74
من الكثرة مقدار ما يثقلها ويؤذيها ويهيجها إلى دفعه بسرعة. وما كان من الدقيق لم يستقصن طحنه ولم
ينقى من نخالته، فكلما نراه خارجا لا ينحل في الماء، كذلك حاله في المعدة لأنه لا يبتل بسرعة لكنه
يبقى صحيحا غير منهضم ولا ممتاز من نخالته، وكذلك صار عسير الانهضام بطئ النفوذ في العروق
جدا لأنه يجفو عن أفواه عروق الكبد المتصلة بالمعدة والمعاء. ولهذه الجهة صار سريع الانحدار جدا
لجهتين: أحدهما أنه لتعذر انهضامه وبعد نفوذه في العروق، يبقى منه في المعاء من الكثرة ما يثقلها
ويؤذيها ويهيجها إلى دفعه بسرعة. والثانية: لما في النخالة من قوة الجلاء والغسل المهيج للمعاء لدفع
ما فيها بسرعة.

75
الباب التاسع
في الفاكهة
الفاكهة تنقسم قسمة جنسية على قسمين: لان منها البري ومنها البستاني. وكل واحد من النوعين
ينقسم قسمين لان منه ما قد استكمل نضجه وطاب على شجره، ومنه ما هو بعد فج غليظ لم يستكمل
نضجه في شجره ولم يطب. فأردأ الفاكهة وأذمها غذاء ما لم يستكمل نضجه على شجره، ويطب، وبخاصة
ما كان منها بريا لان الفجاجة تكسبه يبوسة وغلظا.
ولذلك قال جالينوس: إن ما كان من الفواكه فجا غير نضيج فهو أردأ وأذم وبخاصة ما كان بريا.
وما كان لينا نضيجا فهو أحمد وأفضل وبخاصة ما كان بستانيا. فقد بان من قوة كلامه، أن أحمد الفواكه
ما كان نضيجا بستانيا، وكان ما يحويه من القشر رقيقا رطبا لان ما كان قشره كذلك كان دليلا على أن
رطوبته الجوهرية أرق وألطف. وما كانت رطوبته أرق وألطف كان أسرع نفوذا في العروق وأسهل انقيادا
لفعل الطبيعة. ولهذا صار التين أفضل الفواكه التي يحويها قشر وأحمدها غذاء، وبعده العنب. ولذلك
قال جالينوس: أن ما لان قشره من الفواكه كان أفضل، وما صلب قشره كان أردأ. ولهذه الجهة صار ما
طاب على شجره وكمل نضجه كان أحمد مما لم يكمل نضجه ولم يطب على شجره، لان ما كمل
وطاب كان أسرع انحدارا وأخص بتليين البطن وبخاصة متى كان بستانيا. وما كان فجا غير نضيج كان
أبطأ انحدارا وأخص بحبس البطن وبخاصة متى كان بريا، وإن كان غذاء الفواكه في جملتها يسيرا جدا
مذموما غير محمود.
أما قلته، فللينه ورخاوته وسرعة انحلاله من الأعضاء وقلة ثباته فيها، وأما رداءته وفساده،
فلاستحالته إلى العفونة والفساد بسرعة. ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن الفواكه في جملتها تغذو
غذاء يسير رديئا، من قبل أنها إذا انهضمت ولدت دما رديئا سريع العفونة والفساد. ولهذه الجهة صارت
نافخة مولدة للفضول الغليظة العسيرة الانحلال من المعدة والمعاء وبخاصة متى بعد انهضامها لأنها إذا
لم تنهضم بلغ من استحالتها أن تنتقل إلى كيفية رديئة تقارب كيفية السموم لقربها من القوة إلى الفساد،
ولا سيما إذا أخذت بعد الطعام. وما كان من الفواكه له قشر غليظ يابس صلب فهو أردأ مما كان قشره

76
لينا رطبا لان غلظ قشره وصلابته يدل على جوهر غليظ (1) أرضى بطئ في المعدة عسير الانهضام سريع
الاستحالة إلى الدخانية في من كان مزاج معدته مريا يابسا وتجويفها خاليا من الطعام، أو إلى العفونة
والبشم في من كان مزاج معدته مرطوبا وتجويفها مملوءا طعاما، من قبل أن كل ما كان من الفواكه ليس
له قشر غليظ أرضى فليس يخلو من دهنية ودسومة بالطبع. والدهنية فأخص الأشياء بالانتقال إلى
الدخانية وحبس المرار، والى العفونة وحبس البشم للأسباب التي قدمنا ذكرها.
ولذلك قال جالينوس: إن ما كان من الفواكه قشره صلبا جافا فهو أردأ غذاء، إلا الافراد منها،
مثل اللوز والجوز والبندق وما شاكلها، وأردأها ما كان شجره بريا لأنه أيبس وأعسر انهضاما وأكثر حدة
وأقربها من التشبه بالسمائم (2)، لما فيه من زيادة الحرافة المكتسبة من حرارة هوائه وحدته وبخاصة متى
لم ينضج في شجره نضوجا كاملا لان الغلظ والفساد يلحقه من جميع جهاته والله عز وجل أعلم.



(1) عبارة (قشره لينا.. جوهر غليظ) مستدركة في الهامش.
(2) مفردها السموم: الريح الحارة.
77
الباب العاشر
الفواكه وسائر الأطعمة والأشربة التي تبرد
بالماء البارد الشديد البرد أو بالثلج
قال المؤلف لهذا الكتاب: ينبغي أن يحذر الفواكه كلها وسائر الطعوم البردية الغذاء المولدة للدم
الرقيق، جميع الناس في كل وقت وعلى كل حال إلا في وقت التعب والسفر في الحر الشديد عند
الحاجة إلى ما يعدل يبس البدن كله، ويبرد حرارته. فإنه عند ذلك قد يصلح استعمال الفواكه الرطبة
مثل التوت والإجاص والعنب والتين والخوخ والقثاء والخيار والبطيخ وسائر الأطعمة والأشربة الباردة
المتخذة اللبن، إلا أنه لا يجب أن تستعمل دون أن تكتسب برودة من خارج بغسلها بالماء البارد مرات
عددا وتنقع فيه أيضا حينا لتكتسب بذلك بردا يقاوم حرارة البدن في ذلك الوقت، إذ ليس في قوة تبريدها
ما يقاوم حرارة الكبد والمعدة في مثل هذه الحال، فضلا عن غيرهما من الأعضاء، على أن المعدة
والكبد أول عضوين يلقاهما الغذاء من البدن. ولذلك احتاجت إلى أن تكتسب بردا إما بالماء الشديد
البرد وإما بالثلج.
وأما الترطيب فإنه يقع من قبل هذه الأطعمة في كل وقت وعلى كل حال، إذ ذلك من طبيعتها
وذاتها لغلبة الرطوبة المائية عليها. إلا أنه يجب أن يكون تبريد كل واحد من الناس لها على حسب
عادته ومزاجه، لان من اعتاد استعمال الثلج احتاج إلى أن يبرد طعامه بالثلج، ومن كان معتادا لشرب
الماء البارد السائل من العيون أو الماء المبرد في هواء بارد، فليس به حاجة إلى استعمال الثلج، لكنه يقتصر
على تبريد طعامه وشرابه بالماء الشديد البرد السائل من العيون، والماء المبرد في الهواء البارد. ويحذر استعمال
الثلج من لم تجر عادته عليه فإنه، وإن لم يتبين منه في أبدان الشباب على المكان من المضرة ما يحسون به
بسرعة، فإن مضرته قد تجتمع رويدا رويدا من غير أن يشعروا (1) بها، وتتزيد في أبدانهم قليلا قليلا حتى
إذا جاوزوا شرخ (2) الشباب وصاروا إلى سن الكهول، وقعوا في أمراض يعسر برؤها ولا يبرأون منها
أصلا، إما من علل الأحشاء، وإما من علل المفاصل، وإما من علل العصب لان الثلج إنما ينال من
أبدان الناس أضعف أعضائها بالطبع وأقربها حسا.



(1) في الأصل: يشعرون.
(2) مصححة في الهامش بكلمة (سن).
78
الباب الحادي عشر
في البقول
أما البقول فتنقسم في جنسها على قسمين: وذلك أن منها البري النابت في المواضع العالية
المشرفة القوية اليبس، ومنها البستاني النابت في المواضع الرطبة الكثيرة الري الغريزية المياه. وما كان
منها بستانيا كان غذاؤه أفضل وانهضامه أسرع، ونفوذه في العروق أسهل، إلا أنه أبعد من التشبه
بالأعضاء لان الغذاء السريع التشبه بالأعضاء يحتاج إلى فضل تليين ليسهل انعقاده بسرعة.
وأما ما كان بريا فإنه بالإضافة إلى البستاني أيبس وأجف كثيرا، ولذلك صار انهضامه أعسر
ونفوذه في العروق أبعد وغذاؤه أردأ، إلا أنه إذا تم انهضامه في المعدة والكبد جميعا كان إلى التشبه
بالأعضاء أقرب لما فيه من فضل اليبس وسرعة القبول للانعقاد.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن البقول البرية رديئة الغذاء لأنها أشد يبسا وحرافة. ولذلك
قال الفاضل أبقراط: إن ما كان من النبات والحيوان في المواضع الحارة الجافة كان غذاؤه قحلا جافا
بعيد الانهضام عسير النفوذ في العروق، إلا أنه أقرب إلى التشبه بالأعضاء لما بينهما من مجانسة اليبس.
وما كان في المواضع اللينة الكثيرة الري كان أسرع انهضاما وأسهل في النفوذ في العروق، إلا أنه أبعد
من التشبه بالأعضاء لما في الرطوبة الغريزية من بعد الانعقاد بسرعة بالطبع. وأما الدم المتولد من
النوعين جميعا فرقيق مائي قليل البقاء في الأعضاء سريع الانحلال منها. ولذلك صار غذاؤه يسيرا
مذموما. وقد يعم النوعين جميعا كثرة النفخ والقراقر وبخاصة إذا بعد انحدارهما.
ولجالينوس في البقل فصل قال فيه: وليس يصل إلى البدن من غذاء البقل إلا أقل ذلك. وأفضل
البقل في توليد الدم المحمود الخس لأنه يولد دما يقرب من الدم الغريزي. ومن بعده في ذلك الملوخية
وبعدها القطف والبقلة اليمانية والرجلة والحماض. وله فصل آخر في البقل قال فيه: إن ما كان من
البقل في طبيعته أصلب، فإذا طبخ لان وصار أسرع انهضاما. وما كان في طبيعته هشا فإذا طبخ صلب
وصار كالسيور وعسر انهضامه كالذي يعرض للكراث إذا طبخ.

79
وقد ينقسم البقل قسمة ثالثة (1) على قسمين: وذلك أن منه ما جل جوهره ومحمود غذائه في ما
كان بارزا من الأرض، أعني الورق والقضبان مثل الخس والهندباء والكرنب وما شاكل ذلك مما كان
أصله الغائر في الأرض ليس بقوي. ومنه ما جل جوهره ومحمود غذائه في أصله الغائر في الأرض مثل
الجزر والفجل والقلقاس والشلجم وما شاكل ذلك.
والسبب في ذلك أن الطبيعة ربما كان أكثر قصدها في بعض النبات تغذية قضبانه وقلوبه،
فتصرف أكثر عنايتها إليها ويقوى فعلها فيها فتستلب القضبان والقلوب بطبعها جوهر الغذاء ومحموده، ولا
يبقى للأصل من الغذاء إلا أيسر ذلك مما كأنه عندها نفاية الغذاء مما لم يكمل نضجه وهضمه. وما
كانت هذه حاله من النبات كان قضبانه أطول وقلوبه أعظم وثمرته أغزر. وربما كان قصد الطبيعة تغذية
الأصل وتربيته، فتصرف أكثر عنايتها إليه ويقوى فعلها فيه فيحتوي الأصل بطبعه على جوهر الغذاء
ومحموده، وتقذف بما فضل من غذائه مما كأنه عندها نفاية الغذاء إلى الورق والقلوب، كالذي نشاهده
من فعل الطبيعة في الحيوان لأنا نجدها دائما تقذف بفضل غذاء الأعضاء إلى ظاهر البدن وتولد منه
أشياء ليست باضطرارية مثل العرق والصوف والشعر والريش وفلوس السمك (2) وغير ذلك. ولذلك، صار
غذاء ما كان من السمك له فلوس أفضل وأحمد مما كان لا فلوس له لان نفاية غذائه يتصرف إلى
فلوسه، ويبقى غذاؤه خالصا. ومن قبل ذلك صار أصل هذا النوع من النبات دائم العظم في كل زمان
حتى في الشتاء فضلا على غيره من الأزمنة.
وأما قضبانه وورقه فإنها لا تكاد أن تنبت ولا تنمو، إلا في زمان الربيع في الوقت الذي تثور فيه
جميع الأشجار. ولهذا ما صار كل نبات يكون في أصله غذاء للناس لا يكاد ان يكون في بزره غذاء.
وكل نبات يكون في بزره غذاء لا يكاد أن يتغذى بأصله. ولذلك قال جالينوس أنه لا يؤكل أصل كل
نبات كما لا يؤكل نبات كل أصل. ولرجل من الأوائل يقال له ميثنساوس من أهل أثينيا في هذا فصل
قال فيه: إن كل نبات يؤكل منه أصله فبزره لا يكاد أن يؤكل، وكل نبات يؤكل منه بزره فأصله لا يكاد أن
يؤكل. ومن أجل ذلك وجب أن يمتحن كل واحد من أجزاء النبات على الانفراد بالذوق والشم ليقف
على مزاجه ويعرف المحمود منه للاكل من غير المحمود مثال ذلك: أنا متى وجدنا شيئا حريفا علمنا،
لما بينا آنفا من فعل الحرارة حيث قلنا: أن من شأنها أن ترق دم من كان بلغمانيا وتصيره مائيا. وتحرق
دم من كان صفراويا وتصيره سوداويا حريفا، وتحجر فضول الكلى والمثانة وتولد منها حجارة وحصى.
ومتى وجدنا شيئا تفها لا طعم له، علمنا أيضا أنه مذموم من جهة أخرى لأنه يولد خلطا بلغمانيا ويرخي
المعدة ويغثي. ومتى وجدنا شيئا لزجا، وقفنا على غلظه وبعد انهضامه. فإذ ذلك كذلك، فقد بان أن
كل نبات حريف فمذموم الغذاء ردئ. وأردأ ما فيه أصله لان الأصل من كل نبات أحر وأيبس وأعسر



(1) في الهامش أولية.
(2) ما عليه من القشرة.
80
انهضاما (1) من الورق، إلا أنه قد يختلف في كثرة فساده ونقصانه على حسب عظمه من صغره، ولينه من
صلابته لان من النبات ما يكون بعد في الزيادة والنمو، ومنه ما قد تم وانتهى في زيادته إلا أنه بعد طريا
لينا، ومنه ما قد عصا وصلب وقارب الجفاف.
فما كان منه بعد في النمو، فلغلبة المائية عليه، صارت قوته أضعف وفعله أنقص. ولذلك بعد
من الأشياء الملطفة إلا أنه، وإن كان كذلك، فإن أفضل ما فيه ورقه لان الورق من كل نبات أقل حرافة
وجفافا من الأصل بالطبع. وما كان منه قد انتهى في النمو أو تم، إلا أنه بعد طري رخص، فإنه لنقصان
رطوبته عن النوع الأول قليلا وزيادة يبسه، تزيد قوته ويقوى فعلها، ويزول عن حد ما يلطف إلى حد ما
يسخن ويجفف. ولذلك وجب ألا يستعمل أصل هذا النوع أصلا إلا عند الضرورة والحاجة إليه على
سبيل الدواء في تلطيف فضول غليظة في البدن ولا يتخذ أيضا إلا بعد أن يسلق بماء وشئ من خل
وتكسر حدة حرافته بالزيت وغيره من الادهان الملينة.
وأما ما عصى وصلب وقارب الجفاف، فقد زال عن حد الغذاء وحد الدواء لأنه قد انتقل من حد
ما يسخن إلى حد ما يحرق ويفرق الاتصال. ولذلك وجب ألا يقرب لا أصله ولا ورقه، من قبل أنه لما
كان قد انتهى في النمو وتم، إلا أنه بعد طري رخص أقوى فعلا وأظهر تأثيرا مما كان بعد مما قد انتهى
في النمو، لنقصان رطوبته عنه، وجب أن يكون ما قد عصى وصلب وقارب الجفاف أقوى فعلا وأظهر
تأثيرا مما قد انتهى في النمو، إلا أنه بعد طري رخص، ومن قبل ذلك صار مذموما جدا معدودا من
الأشياء المحرقة.
فأما ما كان من النبات تفها لا طعم له، فإنه دال على غلبة الرطوبة على مزاجه. ولذلك صار
أردأ ما فيه ورقه لغلبة الرطوبة على الورق بالطبع. ولهذا صار مرخيا للمعدة مهيجا للغثي والقئ مولدا
للرطوبات البلغمانية. ومن قبل ذلك وجب ان نتوقى الاكثار منه حتى ينبغي أن نتوقى الاكثار من ورق
السلق فضلا عما سواه، على بعد السلق من توليد البلغم لما فيه من البورقية اليسيرة. ولهذا وجب أن
نلتمس الحيلة في إصلاح ما كانت هذه حاله بأن يكسب طعما نستلذ به ويطيب بالخل والمري والأبازير
لقوته النشافة كيلا يكون كريها فيغثي.
وقد ينقسم أصل هذا الضرب من النبات على ضربين: وذلك أن منه ما ينبت في أراض يابسة
جافة قليلة المياه مثل الكمأة وما شاكله. ومنه ما ينبت في أراض لينة رخوة كثيرة الرطوبة والعفونة مثل
الفطر وما شاكله. فما كان منه نابتا في أراض جافة قليلة الرطوبة كان أفضل وأحمد وأقل غائلة وأبعد
من الفساد مما كان نابتا في أرض لينة رخوة كثيرة الرطوبة والعفونة. ولذلك صارت الكمأة أفضل وأقل
غائلة وأبعد من الدم والفساد من الفطر كثيرا، لان الكمأة نباتها في أراض جافة يابسة وتغتذي بماء



(1) (وأعسر انهضاما) مستدركة في الهامش.
81
المطر، والفطر فأكثر نباته في أراض رخوة لينة ويغتذي بماء مستنقع كثير العفونة.
ولذلك قال جالينوس: إن كل نبات لا نتبين في طعمه حرافة ولا تلذيع ولا طعم غير ذلك سوى
التفاهة فهو ردئ بالطبع وأردأها كلها الفطر لرداءة أرضه، وفساد رطوبته المغذية له، وعفونتها. ومن
أجل ذلك صار خبيثا جدا وبخاصة متى كان نباته بالقرب من شجر الزيتون لان أعظم ضرره أن يحدث
اختناقا للزوجته وعفونة رطوبته، والزيتون فيكسبه حدة وغلظا ولدونة وبعد انحلال. فإذا استفاد ذلك منع
ما فيه من اللزوجة والغلظ عسر انحلال الخناق الحادث عنه واحتد، وصار في عداد الأمراض الحادة
جدا، أو إلى أمر يؤدي صاحبه إلى الهلاك.

82
الباب الثاني عشر
القول في الحيوان
الحيوان ينقسم قسمة أولية على ثلاثة ضروب، لان منه أرضى وهوائي ومائي. وذلك أنه لا يشك
أحد من الطبيعيين أن العناصر التي يتولد منها جميع الحيوان والنبات أربعة، أعني النار والهواء والماء
والأرض. وأن منها عنصرين خفيفين يتحركان صعدا وهما النار والهواء، وعنصرين ثقيلين يتحركان سفلا
وهما الأرض والماء. وأن لكل واحد من هذه الأربعة غايتين: غاية علوا، وغاية سفلا وحالة متوسطة بين
هاتين الغايتين. وأن المرتبة العليا من العنصرين الخفيفين ألطف وأفضل وأسرع حركة إلى العلو،
والمرتبة السفلى دونها في الفضل واللطافة لأنها أثقل وأبطأ حركة، والمرتبة المتوسطة آخذة من
الحاشيتين بقسطها.
وأما العنصران الثقيلان (1) فإن المرتبة العليا من كل واحد منهما، وإن كانت أخف وألطف، فإنها
أبطأ حركة إلى غايتها وتمامها، لان غايتها وتمامها الوصول إلى المركز، ولطافتها وخفتها تمنعانها من
الهبوط بسرعة. ولذلك نسبت إلى الثقل والغلظ لأنها أبطأ حركة. وأما المرتبة السفلى منها، فإنها وإن
كانت أغلظ وأثقل، فإن حركتها إلى غايتها وتمامها أسرع لأنها بثقلها تهبط بسرعة وتصل إلى تمامها
وغايتها من قرب. ولذلك ما قيل أنها أفضل من المرتبة العليا وألطف لأنها أسرع وصولا إلى موضعها
بالطبع. ولهذا ما صارت المرتبة العليا من العنصرين الثقيلين دون المرتبة السفلى في الفضل والشرف.
وأما المرتبة المتوسطة بين هاتين الغايتين، فآخذة (2) أيضا من الحاشيتين بقسطها. فإذا امتزجت
هذه الاجزاء والمراتب بعضها ببعض واختلط الفاضل بالخسيس، والثقيل بالخفيف، والحار بالبارد،
والرطب باليابس، حدث بينها هذه الألوان واختلفت المكونات على حسب مقادير الاجزاء الممتزجة في
اعتدالها وزيادة بعضها على بعض، ونقصان بعضها عن بعض. فما كان منها مركبا من مواد قد غلب
عليها العنصران الثقيلان (3) يكون منها المكونات اللازمة لمكانها من الأرض مثل الأشجار والنبات. وما
كان منها مركبا من مواد قد غلب عليها العنصران الخفيفان (3) يكون منها الأجرام المتحركة حركة مكانية،



(1) في الأصل: العنصرين الثقيلين.
(2) في الأصل: فأخذهما.
(3) في الأصل بالنصب.
83
مثل الحيوان المشاء المتنقل من مكان إلى مكان. وما كان مركبا من مواد قد تساوى فيها العنصران
الخفيفان (1) والعنصران الثقيلان (1) معا، يكون منها الأجرام البطيئة الحركة مثل الأصداف وما شاكلها.
ولذلك صار في الأصداف مشاكلة لما كان له حس وما ليس له حس، لأنه قد يقع في الحيوان من
الاختلاف في الثقل والخفة على حسب موضع كل واحد منها من المرتبة العليا والمرتبة السفلى من
العنصرين الخفيفين والعنصرين الثقيلين.
وذلك أن ما كان من الحيوان مركبا من مواد قد غلب عليها المرتبة العليا من العنصرين
الخفيفين، خف ولطف وصار طيارا لازما للهواء.
وما كان منها مركبا من مواد قد غلب عليها المرتبة السفلى من العنصرين الخفيفين، تحرك حركة
خفيفة وصار دبابا.
وما كان مركبا من مواد قد غلب عليها المرتبة الوسطى من العنصرين الخفيفين، توسطت حركته
وصار مشاء.
وما كان من الحيوان مركبا من مواد قد غلب عليها المرتبة السفلى من العنصرين الخفيفين
والمرتبة العليا في العنصرين الثقيلين، لزم البحور والأنهار وكان مأواه الماء، ذلك لغلبة رطوبة الماء على
مزاجه، لان كل حيوان مشتاق إلى عنصره وأصله الذي تكون منه. ولذلك صار كل حيوان مزاجه قريبا
من نبت من النبات أو حيوان من الحيوانات كان غذاؤه وقوامه من ذلك النبات أو الحيوان المشاكل
لمزاجه. وكل حيوان منافر لمزاج نبت من النبات أو حيوان من الحيوان، كان ذلك الحيوان عدوه وقاتله.
فإن قال قائل: وكيف أمكن أن يكون مزاج حيوان من الحيوان مشاكلا لمزاج نبت من النبات
والحيوان عندك مركب من مواد قد غلب عليها العنصران الخفيفان (1)، والنبات مركب من مواد قد غلب
عليها العنصران الثقيلان (1).
قلنا له: إن في معارضتك الجواب على ما ذكرت لأنك لم تقل أنا قلنا: أن الحيوان مركب من
العنصرين الخفيفين فقط، بل إنما قلنا: أنا قلنا أن الحيوان مركب من مواد قد غلب عليها العنصران
الخفيفان (1)، وليس في قولنا: أن الحيوان مركب من مواد قد غلب عليها العنصران الخفيفان (1) ما سلبنا
المواد العنصرين الثقيلين (2)، لأنا إنما نسبناها إلى الأغلب عليها، لأنه لو أمكن أن تكون المواد التي
تركب منها الحيوان معراة من العنصرين الثقيلين، لعدم الحيوان العظام المركبة من مواد قد غلبت عليها
الأرضية والرطوبات المركبة من مواد قد غلبت عليها المائية. ولعدم أيضا القوة الماسكة التي هي باردة
يابسة مشاكلة لطبيعة الأرض، وكذلك القوة الدافعة التي هي باردة رطبة مشاكلة لطبيعة الماء.



(1) في الأصل بالنصب.
(2) كذا في الأصل.
84
فقد بان إنما نسبنا المواد إلى الأغلب عليها، وإن كانت غير خارجة من الكل. ففيما أتينا به
إثبات على أن من الحيوان ما هو مشاكل لمزاج نبت من النبات، ومنافر لمزاج حيوان من الحيوان.
ولذلك صار من الحيوان والنبات ما هو غذاء للانسان، ومنه ما هو قاتل له، ومنها ما هو مؤذ غير قاتل.
ومن قبل ذلك أجمعت الأوائل على أن الحيوان في جنسه ينقسم قسمين، لان منه ما هو غذاء للانسان،
ومنه ما ليس بغذاء. وما ليس بغذاء فينقسم قسمين: أحدهما: منافر لمزاج بدن الانسان ومضاد له، إما
بإفراط حره مثل الحيات والأفاعي والذراريح (1)، وإما بإفراط برده مثل العقارب والرتيلاء. والآخر:
مخالف لمزاج بدن الانسان من غير مضادة ولا منافرة مثل القنافذ والثعالب والأرانب وما شاكل ذلك مما
غذاؤه فاسد مذموم وليس بقاتل. ويستدل على ذلك من زفورة لحمها وقربه من النتن.
وكذلك قال جالينوس: أي حيوان كان لحمه زفرا أو منتنا فهو بعيد من مزاج بدن الانسان، وأي
حيوان لم يكن في لحمه زفورة ولا نتن ولا رائحة مؤذية، ليس مزاجه ببعيد من مزاج بدن الانسان. فقد
بان واتضح أن اللحمان ما هو غذاء للانسان لمشاكلته لمزاجه وقربه من طباعه مثل الجدي والضأن
وما شاكل ذلك. ومنها ما هو قاتل (1) له لمنافرته لمزاجه، ومضادته لطباعه مثل الحيات والأفاعي
والعقارب. ومنها ما هو بمنزلة الدواء لمخالفته لمزاجه لأنه يسخن ويبرد أكثر من المقدار الطبيعي من غير
إفراط ولا منافرة للطباع مثل القنافذ والثعالب والأرانب.
فأما الحيوان المغذي للانسان فينقسم قسمة جنسية على قسمين، لان منه البري ومنه الأهلي.
فأما البري فهو أسخن وأيبس كثيرا إلا أنه يختص بأربع خواص، يحمد منها من جهة، ويذم من أخرى،
أحدها: أنه لحرارة هوائه الذي يأوي فيه، وغلبة اليبس على مزاجه، استحر (3) وجف ورق دمه ولطف.
والثانية: أنه لعوزه الماء والنبات دائما قل أكله وشربه، ولذلك قل شحمه ونقصت فضول بدنه. والثالثة:
أنه لجفاف غذائه وغلبة اليبس عليه، صلب لحمه وقلت زهومته (4) وزفورته، ويستدل على ذلك أنه يبقى
بعد ذبحه زمانا من غير أن يفسد ولا يتغير. والرابعة: أنه لدوام تعبه وكثرة حركته، تخلخل جسمه وفنيت
أكثر رطوبته الجوهرية وصار لحمه وغذاؤه قحلا جافا بعيدا (5) من اللذاذة عسير النفوذ في العروق. ولهذه
الخواص اللازمة له صار غذاؤه محمودا من جهة ومذموما من جهة.
فأما الجهة التي يحمد منها فلشيئين: أحدهما: أنه إذا انهضم في المعدة والكبد جميعا كان
الغذاء المتولد عنه قليل الفضول سريع التشبه بالأعضاء بعيد الانحلال منها. أما قلة فضوله، فلقلة
شحمه وكثرة ما يتحلل من رطوبات بدنه بدوام حركته وكثرة تعبه. وأما سرعة تشبهه بالأعضاء وبعد
انحلاله منها، فلقلة رطوبته وصلابة لحمه.



(1) واحدها الذراح والذروح وغير ذلك كثير: دويبة لها جناحان تطير بهما، وهي من السموم.
(2) في الأصل: قاتلا.
(3) كثر حره واشتد.
(4) الزهم: الريح المنتنة. وهي الزهومة.
(5) في الأصل: بعيد.
85
ولذلك قال الفاضل أبقراط: ما كان من الحيوان والنبات في مواضع حارة يابسة، كان أسخن
وألطف وأسرع إلى التشبه بالأعضاء إلا أنه عسير النفوذ في العروق والجولان في البدن لان سرعة نفوذه
في العروق تحتاج إلى رطوبة يسيل بها وينماع. وما كان من الحيوان في مواضع رطبة، كان أرطب
وأسرع نفوذا في العروق، إلا أنه عسير التشبه بالأعضاء قريب الانحلال منها لان سرعة التشبه بالأعضاء
تحتاج إلى يبوسة يسهل بها انعقاده وانقلابه إلى الصلابة بسرعة.
وأما الوجه الذي يذم منه فإنه لقحل لحمه وجفافه، صار عسير الانهضام بعيد النفوذ في العروق،
يولد غذاء جافا قليل الرطوبة. ولذلك صار أقل لذاذة من الحيوان الأهلي كثيرا. ولجالينوس في هذا
فصل قال فيه: إن جميع الحيوان البري مقصر عن الحيوان الحضري في اللذاذة وكثرة الغذاء ما خلا
الماعز فقط، فإنه متى كان بريا كان ألذ طعما وأكثر غذاء وأفضل لأنه في دوام حركته وكثرة تعبه يرق دمه
ويتخلخل بدنه وتتفتح مسامه وتتحلل منها الرطوبات التي هي علة لزهومته وزفورته، ويكتسب بذلك
عذوبة ولذاذة لا توجد في الحضري من الماعز.
وللفاضل أبقراط في هذا فصل قال فيه: إن لحم الماعز ليس بالمحمود لا في كثرة الغذاء ولا
في جودة الهضم وبخاصة متى كان من حيوان كبير، من قبل أن الدم المتولد عنه أسخن وأخف من
المعتدل إلا أن يكون الحيوان خصيا أو رضيعا أو بريا، لان الخصي تقل حرافته ويلين لحمه ويرطب
ويستفيد عذوبة ولذاذة. وأما الرضيع فإنه يكتسب من اللبن حرارة جوهرية ورطوبة محمودة معتدلة (1)
ويعتدل بها يبس مزاجه ويكتسب بها عذوبة ولذاذة ويجود هضمه ويصير موافقا لمن كان مزاجه حارا (2)
يابسا. وأما البري (3)، فلقوة حركته ودوام تعبه ولطافة هوائه، يرق دمه ويلطف وتتخلخل مسام بدنه
وتتحلل منها رطوبته الموجبة للعفونة والفساد وتزول عنه زهومته وزفورته ويصير عذبا لذيذا سريع
الانهضام. وزعم الفاضل أبقراط أن هذه الخاصة لازمة للماعز دون غيره من الحيوان، لان جميع
الحيوان الحضري ألذ طعما وأكثر غذاء وأفضل وأحمد من الحيوان البري ما خلا الماعز فإنه واقع بعكس
ذلك وضده.
وأما الحيوان الأهلي، فإنه أقل حرارة وأكثر رطوبة من الحيوان البري. ولذلك صار أحمد كثيرا
إلا أنه يختص بأربع خواص. أحدها: أنه، لضعف حرارة هوائه الذي يأوي فيه وكثرة رطوبته لما
يظله من حرارة الشمس من السقوف والأشجار وغير ذلك، قلت حرارة مزاجه وزادت رطوبته وكثرت
لزوجته وغلظ لحمه وبعد انقياده لفعل الطبيعة وعسر انهضامه (4) في المعدة والكبد جميعا. وذلك أن
ليس في قوة هوائه الذي يأوي فيه من الأشجار ما يرق دمه ويلطفه. ولذلك ثبت على لزوجته وغلظه.



(1) (معتدلة) مستدركة في الهامش.
(2) في الأصل: حار.
(3) من الماعز لا من الحيوان عامة.
(4) في الأصل: انهضامها.
86
والثانية: أنه، لقلة حركته ودوام سكوته، ضاقت مسام بدنه وقل ما يتحلل منها من الرطوبات
الغليظة. ولذلك استرخى لحمه ولان ورطب وسهل نفوذ الغذاء المتولد عنه في العروق بسرعة.
والثالثة: أنه، لكثرة أكله وشربه لامكان المزارع والمراعى والمياه له في كل وقت وزمان، غزر
شحمه وكثرت فضول بدنه.
والرابعة: أنه، لرطوبة غذائه وكثرة مائيته، لان لحمه واسترخى، ويستدل على ذلك من الشاهد
لأنه لا يبقى بعد ذبحه إلا اليسير من الوقت حتى يتغير ويفسد.
ولهذه الخواص اللازمة له، صار غذاؤه محمودا من جهة ومذموما من جهة. أما الجهة التي
يحمد لها، فلانه إذا انهضم في المعدة والكبد جميعا، كان غذاؤه كثيرا لذيذا سريع النفوذ في العروق
والجولان في البدن. وأما الجهة التي يذم منها، فإنه لكثرة رطوبته ولزوجته صار كثير الفضول بطئ
الانهضام في المعدة والكبد جميعا عسير التشبه بالأعضاء، عسير الانحلال منها. أما بعد تشبهه بالأعضاء
فلكثرة رطوبته إذ كان من شأن الرطوبة البعد من الانقلاب إلى الصلابة بسرعة، من قبل أن الطبيعة
تحتاج في نشف الكثير من الرطوبة إلى مدة أطول من المدة التي تحتاج فيها إلى نشف القليل من
الرطوبة. وأما قلة بقائه في الأعضاء فلرخاوة رطوبته وسرعة انحلالها.
ولذلك نسبت الأوائل الحيوان الأهلي إلى قلة الغذاء بالعرض، والحيوان البري إلى كثرة الغذاء
بالعرض أيضا، من قبل أن الحيوان الأهلي، وإن كان أكثر غذاء بالطبع، فإن غذاءه (1) لما كان سريع
الانحلال من الأعضاء صارت الأعضاء تخلو منه بسرعة وتحتاج إلى غذاء مستأنف، فيقوم ذلك مقام قلة
الغذاء. وأما الحيوان البري فإنه، وإن كان أقل غذاء بالطبع، فإن غذاءه (1) لما كان بطئ الانحلال من
الأعضاء لصلابته وبعد انقياده، طال لبثه في الأعضاء واستغنت عن غذاء مستأنف بسرعة، فقام ذلك لها
مقام كثرة الغذاء. ولذلك صار الحيوان البري أفضل لشدة الأعضاء وقوتها، والحيوان الأهلي أفضل لبقاء
الصحة واستدامتها. إلا أنه ينقسم ثلاثة اقسام، وذلك أن منه ما مراعاة في المواضع الرطبة الكثيرة
المياه، ومنه ما مرعاه في الجبال والمواضع الجافة القليلة الري، ومنه ما يعلف ويسمن في المنازل
والدور.
فما كان مرعاه في المواضع الرطبة الكثيرة المياه، كان في جميع ما وصفناه به من كثرة الغذاء
وعسر الانهضام في المعدة والكبد جميعا وسرعة نفوذه في العروق وبعد تشبهه بالأعضاء وقلة لبثه فيها
أكثر وبه أليق كأنه بذلك أوحد وأخص للأسباب التي قدمنا ذكرها.
وأما ما كان مرعاه في الجبال والمواضع القليلة المياه والري، فإنه في جميع حالاته متوسط (2)



(1) في الأصل: غذاؤه.
(2) في الأصل: متوسطا.
87
بين الحيوان البري والحيوان المائي، ولذلك صار في كثرة غذائه وقلته، وسرعة انهضامه وبطئه، وتشبهه
بالأعضاء وثباته فيها، على حال توسط واعتدال. ومن قبل ذلك صار لحمه أفضل اللحمان وأعدلها
وأوفقها لبقاء الصحة ودوامها، وشدة الأعضاء وقوتها معا.
وأما ما يعلف ويسمن في المنازل والدور، فإن لحمه أكثر اللحمان لزوجة وغلظا، ذلك لكثرة
رطوبة هوائه وقلة حركته ودوام سكوته وكثرة أكله وشربه وفساد غذائه وغلظه. ولذلك صار أكثر اللحمان
لزوجة وفضولا وفسادا، وأعسر انهضاما في المعدة والكبد جميعا، إلا أنه إذا قويت الطباع عليه وانهضم
في المعدة والكبد غذى غذاء كثيرا قويا عسير الانحلال من الأعضاء لكثرة غلظه ولزوجته.
ولذلك قال الفاضل أبقراط: أنه لا يجب أن يقتصر على معرفة طبيعة شئ من الحيوان وكمية
غذائه وكيفية استمرائه من نوعيته فقط دون الفحص عن موضعه ومرعاه وكيفية هوائه في الرطوبة واليبوسة
ومقدار حركته وسكوته.

88
الباب الثالث عشر
في السبب الذي له اختلفت اللحمان في جودة غذائها
ورداءته وسرعة انهضامه وبطئه
أما اختلاف غذاء الحيوان في جودته ورداءته وسرعة انهضامه وبطئه، فيكون لوجوه ستة:
أحدها: مزاج الحيوان في نفسه وطبيعته. والثاني: مقدار سنه ومقدار مدة زمانه. والثالث: طبيعة غذائه
ومرعاه. والرابع: سمنه وهزاله. والخامس: الوقت الحاضر من أزمان السنة. والسادس: صنعته وعمله.
وقبل أن نبتدئ بالفحص عن كل واحد من هذه الأبواب وننبئ عن خاصته ورسمه، فيجب أن
نقدم القول بالفرق بين الذكر والأنثى من الحيوان وما ليس بذكر ولا أنثى أعني الخصي. فأقول: إنه لا
يشك أحد من الطبيعيين أن الذكر من كل حيوان أسخن وأجف وأقل رطوبة ولزوجة وألطف غذاء من
الأنثى، والأنثى بعكس ذلك. ولهذه الجهة صار اللحم من كل ذكر ألطف وأسرع انهضاما وأفضل غذاء
من الأنثى خلا الأنثى من الماعز فإنها أفضل من الذكر وأحمد بالطبع، من قبل أن الماعز في طبيعته
يابس والذكر من كل حيوان كذلك. فإذا اجتمع في الماعز اليبس من الثلاث جهات، أعني يبس مزاجه
ويبس نوعيته ويبس أنه ذكر، صار لحمه ليفيا شبيها بلحم الهرم من كل حيوان. وأما الأنثى فإنها، لما
كانت في طبيعتها أرطب وألين لحما، اعتدل يبس مزاجها النوعي بمزاجها الخاصي وصار لحمها أفضل
وأسرع انهضاما، إلا أن يكون الذكر من الماعز رضيعا، فلا يقال أنه مذموم، ذلك لاكتسابه الرطوبة
المحمودة من اللبن. غير أن الأنثى في الجملة إذا ساوت الذكر في السن والرضاع، كانت أفضل لا
محالة، من قبل أن الرطوبة التي اكتسبها الذكر من اللبن فصار بها فاضلا، قد اكتسبتها الأنثى أيضا من
اللبن وازدادت بها فضلا عن فضلها.
فإن عارضنا معترض بالبقر وقال: فلم لا كانت الأنثى من البقر أيضا أفضل من الذكر، والبقر في
طبيعته أشد يبسا من الماعز؟.
قلنا له: من قبل أن لحم البقر أغلظ وأعسر انهضاما وأبعد من الانقياد لفعل الطبيعة، والأنثى من
كل حيوان كذلك. فإذا كان البقر أنثى، اجتمع له الغلظ وعسر الانهضام من الجهتين، وصار لحمه

89
مذموما. والذكر لما كان من كل حيوان، بالإضافة إلى نوعه أسرع انهضاما لزيادة حرارته بالطبع، صار
أفضل من الأنثى في سرعة الانهضام. فأما في جودة الغذاء فليس هو بأفضل منها، من قبل أن رطوبة
الأنثى مما يعدل يبس مزاجها النوعي ويحسن غذاءها. ومن أجل ذلك صار الذكر من البقر إذا كان
رضيعا أفضل غذاء وأحمد مما كان منه غير رضيع. ذلك لما يكتسبه من الرطوبة المحمودة من اللبن
فيعتدل بها مزاجه ويرطب.
وأما الخصي من كل حيوان، فهو في مزاجه متوسط بين مزاج الأنثى ومزاج الذكر من نوعه الذي
هو منه. ولذلك صار في فعله وانفعاله على حالة متوسطة بين فعل الذكر وانفعاله، وفعل الأنثى
وانفعالها، من قبل أنه وإن كان في أصل ميلاده ذكرا، فقد زال عنه عضو شريف وأصل قوي لجوهر
الحرارة الغريزية. ولذلك نقصت حرارته وزالت عن مقدار حركة الذكر قليلا. ولهذه الجهة صار مزاجه
متوسطا بين مزاج الذكر ومزاج الأنثى وفعله كذلك لأنه أقل إسخانا للأبدان من الذكر، وأكثر في ذلك (1)
من الأنثى. وكذلك هو أيضا أبطأ انهضاما من الذكر وأسرع في ذلك من الأنثى. وبهذا الوزن والقياس
صار الدم المتولد عنه أفضل من دم الأنثى وأقل فضلا من دم الذكر، وصار غذاؤه كذلك، إلا في الماعز
فقط فإن غذاء الخصي منه أفضل من غذاء الذكر وأقل فضلا من غذاء الأنثى.
وإذ أتينا على ما أردنا شرحه من الفرق بين طبيعة الذكر والأنثى من كل حيوان، وطبيعة ما ليس
بذكر ولا أنثى، فلنرجع إلى ما كنا وعدنا به من الاخبار عن الوجوه التي منها اختلف غذاء الحيوان في
جودته ورداءته وسرعة انهضامه وإبطائه، ونجعل ابتداء كلامنا في المزاج إذ كان أسبق في الطبع وأولى
بالتقدم على غيره.



(1) (في ذلك) مستدركة في الهامش.
90
في اختلاف غذاء الحيوان
من قبل مزاجاتها وطبائعها
أما مزاج الحيوان فيختلف على ثلاثة ضروب: وذلك أن منه ما هو في طبيعته معتدل في رطوبته
ويبسه إلا أنه يكون على ضربين، إما باردا مثل الرضيع من الماعز، وإما حارا مثل الفتي من الضأن. ومنه ما
الغالب على مزاجه اليبوسة إلا أنه أيضا على ضربين، إما حار مثل الهرم من الضأن، وإما بارد مثل الفتي
من الماعز. ومنه ما الغالب على مزاجه الرطوبة، إلا أنه أيضا يكون على ضربين (1) فما كان
من الحيوان في طبيعته متوسطا بين الرطوبة واليبوسة، كان في سرعة انهضامه وجودة غذائه أفضل وأسرع
وأسبق من غيره كثيرا، ولا سيما متى كان فتيا لا هرما ولا رضيعا لأنه إن كان هرما اكتسب يبسا وجفافا وزال
عن الاعتدال، وصار لحمه ليفيا. وإن كان رضيعا اكتسب رطوبة ولزوجة زال بها مزاجه عن الاعتدال وعسر
انهضامه وولد بلغما غليظا إلا أن يكون الحيوان في طبيعته جافا يابسا مثل الماعز والبقر، فيكون قربه من
اللبن يكسبه رطوبة محمودة يعتدل بها يبس مزاجه من قبل أن كل حيوان يغلب على مزاجه اليبس فهو
مطبوع على الفساد، إلا أن يكون في الرضاع أو قريب من الرضاع، فيكسبه اللبن رطوبة يعتدل بها مزاجه.
ولذلك صار الرضيع من الماعز، وبعده البقر، أحمد وأفضل مما كان فتيا أو هرما، لان الحيوان إذا
كان في مزاجه جافا، وكان مع ذلك فتيا، اجتمع له اليبس من الجهتين جميعا، وولد دما غليظا سوداويا. إلا
أنه إذا كان من الحيوان أبرد مثل الماعز والبقر، كان فساده أقل. ومتى كان من حيوان أسخن كان فساده أكثر
من قبل أن اليبوسة متى كان معها حرارة، أحرقت وجففت وأسرعت إلى الفساد. ومتى كانت حرارتها
أضعف بالإضافة إلى غيرها وأميل إلى البرودة، كان إحراقها أقل وتجفيفها أضعف وبعدت من الفساد
قليلا.
وأما الحيوان الذي هو في طبيعته رطب، فإن لحمه يكون رخوا لينا سريع الانحدار عن المعدة
والمعاء. ولذلك صار من خاصته توليد الخلط البلغماني اللزج، إلا أنه متى كان من حيوان أسخن مثل



(1) يبدو أن الناسخ فاتته هنا عبارة: (إما حارا).
91
الفتي من الضأن، كان أفضل مما كان من حيوان أبرد مثل غيره، لان هذا الأخير أقل الحيوان حرارة وأكثرها
رطوبة. ولذلك نسبته الأوائل إلى برودة الزيت الانفاق، ولهذه الجهة صار غليظا بطئ الانهضام عسير
النفوذ في العروق من قبل أن كثرة الرطوبة تحتاج إلى حرارة تعين على هضمها وتطرق لها، وإلا تفججت
وعسر انهضامها.
وأما اختلاف غذاء الحيوان من قبل سنه فيكون على أربعة ضروب: لان منه الصغير جدا مثل
الرضيع القريب العهد بالولادة، ومنه الفتي البعيد من الولادة إلا أنه بعد في النشوء أعني الحولي،
ومنه الفتي الذي قد انتهى في النمو، ومنه الهرم الطاعن في السن.
فأما السن الأول: أعني الرضيع، فلحمه أرطب وألين، ولذلك صار مخصوصا بزلق المعدة
وإطلاق البطن وتوليد الدم البلغماني الكثير الفضول، إلا أن يكون من حيوان أيبس بالطبع مثل البقر وبعده
الماعز، فإن رطوبة سنه وقربه من اللبن يعدل يبس مزاجه النوعي، فيقل فساده ويحسن غذاؤه ويصير فاضلا
محمودا كما بينا مرارا حيث قلنا أن الرضيع من الماعز والبقر أحمد اللحمان وأفضلها غذاء لان الغذاء
المتولد عنها في غاية الجودة وحسن الاستمراء، وبخاصة متى كان رضاعها من لبن محمود، فما يتولد عنه
من الغذاء أحمد وأفضل.
ولمثينساوس الأثيني في هذا قول قال فيه: إن الجداء والعجول متى كان رضاعها من لبن أجود،
كان لحمها أفضل لأنه يكون أنعم وألذ، من قبل أن قوة اللبن باقية فيه بعد، ولذلك صار كلما طال شرب
الحيوان اللبن، كان لحمه أعذب وغذاؤه أفضل وأجود وانهضامه أسرع. غير أن الجداء فيما ذكرنا، أخص
وأوجد (1) وإليه أسبق. ولذلك صار دمه ألطف وغذاؤه لجميع الناس أوفق، وبخاصة للناقهين (2) من
الأمراض. فأما لحم العجول فيختلف عن ذلك قليلا، لان الدم المتولد عنها أغلظ مما نحتاج إليه، من قبل
أن البقر في طبيعته أغلظ لحما وأبعد انهضاما. ولهذه الجهة صار لحم العجول، وإن كان في ذاته محمودا،
غير موافق للناقهين من الأمراض لان أعضاءهم تضعف عن هضم شئ فيه غلظ. وإن كان الحيوان الرضيع
من حيوان هو أرطب بالطبع، كان مذموما جدا لان الرطوبة قد اجتمعت له من جهتين: من سنه ومن
طبيعته. ولذلك اكتسب لزوجة وغلظا وصار عسير الانهضام فاسد الغذاء، لأنه يولد فيمن كان مزاجه مرطوبا
رطوبة بلغمانية لزجة، وفيمن كان مزاجه يابسا، بخارات قوية قريبة من الدخانية.
ولذلك صار صغار ذوات اللحم البارد وبعدها الرضيع من الضأن مذمومة الغذاء جدا، وإن
كانت الأولى أخص بذلك كثيرا، من قبل قلة حرارتها بالطبع، وغلبة اللزوجة على رطوبتها. ولهذا وجب أن
تتوقى وتحذر دائما. ولذلك قال مثنيساوس الأثيني: أن بارد اللحم لا خير في غذائه إذا كان (3) رضيعا.
وللفاضل أبقراط في هذا النوع من اللحم قول (4) قال فيه: إنه أعسر انهضاما وأغلظ من لحم الفتي منه. من



(1) هنا بمعنى أقوى وأشد. أو هو يريد (وأجود) فوقع في التصحيف.
(2) نقه من مرضه: صح ولم يرجع إليه كمال صحته وقوته.
(3) في الهامش: (ما دام).
(4) في الأصل: قولا.
92
قبل أن هذا اللحم في طبيعته ضيق العروق جدا، قليل الدم، كثير الشحم، فإذا كان صغيرا كان البلغم
على مزاجه أغلب. ولذلك وجب أن لا يقربه أحد إلا عند الاضطرار، بعد أن يكون مزاجه محرورا جافا
حسن القوة جدا. ولم يقنع بهذا القول، حتى قال: ويكون مع ذلك كثير التعب دائم الرياضة.
وأما السن الثاني من الحيوان، أعني الحولي الكائن بعد في النمو، فإنه أقل رطوبة ولزوجة مما كان
في الرضاع، ذلك لبعده من رطوبة الرحم واللبن جميعا. ولذلك صار أصلب لحما وأقل فضولا وأعدل
غذاء. من ذلك صار أسرع انهضاما وأبعد انحلالا من الأعضاء وبخاصة متى كان من حيوان أرطب بالطبع
مثل الضأن، لان الغذاء المتولد عنه يكون معتدلا متوسطا بين الرطوبة واليبس، من قبل أن رطوبة مزاجه
تعتدل بتنشؤ سنه. لذلك صار موافقا لمن لم يكن شابا ولا قوي البدن ولا كثير التعب.
ولمثنيساوس في هذا قول قال فيه: إن أوفق ما كان لحم الضأن من بعد انقطاع اللبن من
ولادة حيوانه وقت إدراكه وطلبه النزو (1). فإن كان هذا السن من الحيوان أيبس بالطبع كان لحمه أغلظ
وأعسر انهضاما لما فيه من زيادة اليبس قليلا. ولذلك صار النامي من البقر، وبعده الماعز، أقرب إلى الذم
منه إلى الحمد.
وأما السن الثالث، أعني الفتي، فإن اليبس أغلب على مزاجه كثيرا، ولذلك صار لحمه أصلب
وأغلظ وأعسر انهضاما، إلا أنه إذا انهضم في المعدة والكبد جميعا، كان الغذاء المتولد عنه كثيرا، قويا،
قليل الفضول جدا، بعيد الانحلال من الأعضاء، ذلك لقلة رطوبته وبعده من اللزوجة. ولذلك صار، متى
كان من حيوان أرطب بالطبع، غذاء من استمرأه من الشباب وأصحاب الرياضة والتعب غذاء كثيرا قويا بعيد
الانحلال من الأعضاء جدا. ولذلك صار لحم الفتي من الضأن، على غلظ رطوبته، متى انهضم
كان أبعد انحلالا من الأعضاء وصار، لقوة الأعضاء وشدتها، أفضل منه في حفظ الصحة ودوامها. وإن كان
من حيوان أيبس بالطبع، كان غذاؤه مذموما جدا لاجتماع اليبس فيه من الجهتين جميعا: من سنه ومن
مزاجه النوعي. ولذلك صار الفتي من الماعز والبقر مذموما جدا، لأنه أصلب لحما وأعسر انهضاما. وإذا
انهضم ولد دما غليظا سوداويا.
وأما السن الرابع، أعني الهرم، فإنه من كل حيوان مذموم جدا لا يجب استعماله دائما. وذلك
لجهتين: إحداهما: ضعف حرارته الغريزية بالطبع وقربها من الانطفاء، والثانية: أن لحمه أكثر اللحمان
يبسا وجفافا، ذلك لقرب رطوبته الغريزية من الفناء. ولهذا صار لحمه جافا عصبيا. ولذلك صار أبعد
الأسنان (2) من الاستحالة والانهضام حتى لا يكاد أن يقبل النضج أصلا. ومن قبل ذلك صار دمه مذموم
الغذاء جدا، وبخاصة متى كان من حيوان في طبيعته جافا يابسا مثل البقر وبعده الماعز، لان الذم يلحقهما



(1) نزا نزوا الذكر على الأنثى: سفدها.
(2) واحدها السن: العم.
93
من جهتين: من يبس مزاجهما ومن يبس سنهما. ولذلك قال جالينوس: إن ما كان من الحيوان جافا بالطبع
مثل البقر وبعده الماعز، فما دام صغيرا فلحمه أجود وغذاؤه أحمد واستمراؤه أسرع، لان فضل رطوبة سنه
يعدل يبس مزاجه، وكل حيوان أرطب مزاجا مثل الضأن وغيره. وكلما استكمل كان أفضل في استمرائه
وغذائه جميعا لان رطوبة مزاجه يعدل يبس سنه.
وله في مثل ذلك قول آخر قال فيه: إن ما يكون من الحيوان أسن، فأعضاؤه أجف وأصلب وأبطأ
انهضاما. وما كان فتيا، فأعضاؤه ألين وأرطب وأسرع انهضاما إلا أن يكون رضيعا، فيكون بلغمانيا وبخاصة
متى كان من حيوان أرطب بالطبع.
وله قول آخر قال فيه: إن جميع الحيوان الطائر والماشي ما دام في النشوء، فلحمه أفضل من لحم
ما قد ولى وقارب النقصان. وما كان متوسطا بين ذلك كان في جودة غذائه ورداءته متوسطا بين الحاشيتين
وآخذا من كل واحد بقسطها على حسب قربه من كل واحد منهما وبعده منهما.

94
في اختلاف غذاء الحيوان على حسب المراعي
قد تقدم من قولنا أن من الحيوان بري وحضري. وأن دم الحيوان البري أرق وأحد وألطف، إلا
أنه أيبس وأجف وأقل غذاء لما بينا من كثرة حركته وحرارة هوائه الذي يأوي فيه، بدوام وقوع الشمس
عليه، واتساع مسامه وكثرة ما يتحلل من رطوبات بدنه وفضوله، وقلة أكله وشربه، ولطافة غذائه. وأن دم
الحضري على خلاف ذلك لأنه أرطب وأغلظ وأكثر لزوجة وأغذى. ذلك لقلة حرارة هوائه الذي يأوي فيه
وضعف حركته، ودوام سكونه، وكثرة أكله وشربه، وضيق مسامه لغلظ غذائه، الا انه ينقسم على ثلاثة
أقسام: وذلك أن منه ما يرعى الحشيش الجل العظيم المقدار كالبقر وما شاكلها. ومنه ما يرعى الحشيش
الغض القليل المقدار كالضأن وما شاكلها. ومنه ما يرعى أطراف أغصان الأشجار كالماعز وأمثاله.
وما كان منه يرعى الحشيش الجل العظيم المقدار، فأردأ حالاته وقلة لحمه وفساد غذائه يكون في
الشتاء وأول الربيع إلى وسطه، لأنه في ذلك الوقت يكون مهزولا مذموم الغذاء لقلة امكان الحشيش الجل
في مثل ذلك الزمان. فإذا امتد به الزمان قليلا، وأمكن الحشيش وعظم وسهل وجوده، يخصب بدن هذا
النوع من الحيوان ويرطب لحمه ويعذب، وصار ما يتولد منه من الغذاء ألذ وأحمد. ولذلك قال جالينوس:
ان كل حيوان يجد من الغذاء الموافق لمزاجه ما يشبعه، فلحمه ألذ وأحمد. وما لا يجد الغذاء الموافق
لمزاجه ما يشبعه، فلحمه أبشع وأردأ.
وما كان من الحيوان يرتعي الحشيش الغض الصغير المقدار، فان أحسن حالاته تكون في أول
الربيع ووسطه في الوقت الذي تزهو فيه الأرض وتنور الأعشاب والنبات، وذلك لامكان وجود الحشيش
الغض الطري في مثل هذا الوقت من الزمان. وما كانت هذه حاله من الحيوان ففي ذلك الوقت يكون
جسمه أعبل (1) ولحمه أعذب وغذاؤه أحمد.
فأما ما كان <من> (2) الحيوان يرتعي أطراف أغصان الأشجار في هذين الوقتين يكون أرطب
وألين وأمكن وجودا.



(1) عبل وأعبل: ضخم وغلظ. يقال: رجل عبل الذراعين أي ضخمهما، وفرس عبل الشوى: أي غليظ القوائم.
(2) إضافة اقتضتها الضرورة.
95
وللفاضل أبقراط، في غذاء المواشي، قول قال فيه: ان ما كان من الحيوان يرعى في المزارع
والغياض، فهو أخف وألطف مما يعلف في المنازل والدور. من قبل انه متواتر الحركة دائم التعب ويستنشق
أيضا هواء لطيفا جافا، فيقل لذلك أكثر رطوبته الفضلية، وتزول فضول بدنه ويعتدل مزاجه. وكذلك ما كان
يرعى الحشيش الغض والعشب اللطيف، فهو أفضل مما كان يرعى النبات الرطب. وما كان يرعى ورق
الأغصان الرطبة، فهو أفضل وألطف مما كان يعتلف الثمر نفسه. وما قل أكله وشربه فهو ألطف وأفضل مما
كثر أكله وشربه.
وأما اختلاف غذاء الحيوان على حسب سمنه وهزاله فيكون على ثلاثة ضروب. وذلك أن من
الحيوان السمين جدا، ومنه الغث البين الهزال، ومنه المتوسط بين هاتين الحالتين. وما كان منه مجاوزا (1)
للمقدار في الشمس، كان مذموم الغذاء جدا إذا كان من خاصة الشحم على ما بينا مرارا، الاضرار
بالمعدة والهضم جميعا لأنه يطفو على الطعام بدءا ويربو وينتفخ ويشبع سرعة. فإذا اختلط بالطعام غلظه
بلزوجته ومنع من هضمه حتى إذا اخذ في الهضم لين خمل المعدة وأكسبه لزوجة وسلاسة حتى يصير ذلك
سببا لضعف القوة الماسكة وشدة القوة الدافعة، ولذلك صار كثيرا ما يحدث عنه إما زلق المعدة والمعاء
فيمن كان مزاج معدته مرطوبا، وإما بخارات دخانية من جنس المرار فيمن كان مزاج معدته محرورا، من
قبل ان الحرارة تشتعل في الدسم باطنا كاشتعال النار في الشحم والزيت ظاهرا. ولذلك تلطفت الأوائل في
اصلاحه بالصنعة والعمل وأشارت باتخاذه مشويا بملح كثير ونار جمر قوية لتنشف النار أكثر رطوبته المذمومة
وتذهب بعاديته لتقارب الاعتدال، ومنعت من مسح ظاهره بشئ من الزيت خوفا ان يسد الزيت مسام
جلده، ويحقن الرطوبات المذمومة في باطنه، ويمنع من انفشاشها وخروجها. وأمرت أيضا من ذلك الا
يستعمل من الحيوان السمين الا لحمه الأحمر فقط لان اللحم الأحمر المعرى من الشحم، وان كان من
حيوان سمين، فهو أحمد وأفضل من اللحم المخالط للشحم، ولو كان من حيوان غير سمين، وذلك
لجهتين: إحداهما: أن اللحم الأحمر المعرى من الشحم، وإن كان في نفسه دسما من حيوان سمين، فليس
فيه من غلظ الشحم ما يلصق بالمعدة ويكسبها لزوجة وسلاسة ويستحيل فيها ويفسد، من قبل أن الرطوبة
التي فيه رقيقة سيالة سريعة الانهضام في غاية الاعتدال والصحة. ولذلك صار فيها من كثرة الغذاء وقوته
وبعد انحلاله من الأعضاء ما يفيد البدن قوة حسنة.
والثانية: لما فيه من لطيف الدسم المخالط للحم يفيد الدم دهنية ودسما لتغذية الحرارة الغريزية
ونمائها، إذ كان غذاء الحرارة الغريزية انما هو من لطيف الدسم الكائن في الدم، لان الدسم هيولى
للحرارة وعنصرها بالطبع وهو أحد الأسباب الذي وجب به الا يغذى (2) المرضى بشئ من اللحمان ولا
غيرها من الأشياء الدسمة، كيلا تجد الحرارة العرضية المولدة للحمى مادة تغتذي بها وتشتغل فيها، فيكون



(1) في الأصل: مجاوز.
(2) في الأصل: يغذون.
96
ذلك أوكد الأسباب في زيادة الحمى وقوتها وبعد انحلالها.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: كما أن الزيت والدهن هيولى للنار خارجا، كذلك الشحم
والدسم هيولى للحرارة باطنا.
وأما الحيوان الغث المجاوز للمقدار في الهزال، فان لحمه عصبي ليفي (1) قليل الدم والرطوبة، يسير
الغذاء جدا. الا أنه لقلة لزوجته، صار أسرع انهضاما وأسهل نفوذا في العروق وأكثر جولانا في البدن
من لحم الحيوان السمين، الا انه أبعد من ازلاق المعدة والمعاء، ومنع الاسهال، وأقل أسخانا للبطن،
وأبعد من الانقلاب إلى الدخانية وجنس المرار. فأما بعد إزلاقه للمعدة وقلة اسهاله للبطن، فان ذلك
لجهتين: أحداهما: أن ليس فيه من الرطوبة واللزوجة ما يلين خمل المعدة ويزلقها لان اليبس عليه
أغلب. ولذلك أمرت الأوائل وخاصة روفس. ألا يتخذ اللحم غير الشحم الا مسلوقا أو مطبوخا
ليكتسب من الماء رطوبة يعتدل بها يبس مزاجه. والثانية انه لسرعة انفاذه في العروق لا يبقى منه في
المعاء ما يثقلها ويؤذيها ويهيج القوة إلى دفعه بسرعة. وأما قلة إسخانه للبطن وبعد استحالته إلى
الدخانية وجنس المرار، فلعدمه الدسم الذي هو غذاء الحرارة ووقودها.
وأما ما كان من الحيوان متوسطا بين الغث والسمين، فإنه في مزاجه وفعله وانفعاله متوسط (1) بين
مزاج السمين وفعله، ومزاج المهزول وفعله، لأنه يقوم مقام اللحم الأحمر المعرى من الشحم الكائن من
حيوان سمين. ولذلك صار أعدل اللحمان وأفضلها وأحسنها غذاء وأجودها انهضاما من قبل ان ليس فيه
من كثرة الشحم ما يلهب الحرارة ويشعلها ويخرجها من حد الاعتدال إلى حد الافراط، أو يلين خمل
المعدة ويزلقها ويهيجها إلى دفع الغذاء قبل تمام هضمه، ولا هو أيضا من الهزال وقلة الشحم على حال
يوجب ان يكون لحمه ليفيا قليل الدم والغذاء.
ولهذه الجهة، شبهته الأوائل باللحم الأحمر السمين المعرى من الشحم، ومن قبل ذلك وجب
على من أراد استعماله ألا يجعل فيه من الملح ما يجفف رطوبته ولا يمكن النار منه تمكنا معه أن
تفنى أكثر رطوبته ودهنيته، لكن من الصواب أن يمسح ظاهره بالزيت والملح ويشوي شيئا معتدلا على نار
جمر لينة ليسد الزيت مسام جلده ويحقن رطوبته الجوهرية في باطنه ليكتسب بذلك عذوبة ولذاذة
واعتدالا أو يصير تحته اناء مملوء (2) ماء ليمنع بخاره ورطوبته قوة النار من التمكن فيه فيفنى أكثر رطوبته
الجوهرية. وعلى هذا المثال يجب أن يفعل باللحم الأحمر المعرى من الشحم الكائن من حيوان
سمين، وباللحم المهزول أيضا وان كان اللحم المهزول أخص بذلك لغلبة الجفاف عليه وحاجته إلى
اكتساب رطوبة يعتدل بها مزاجه.
ولفولوطوس في هذا فصل قال فيه: ان لحم الحيوان المعتدل السمن أفضل وأجود من لحم



(1) في الأصل بالنصب.
(2) في الأصل: إناء مملوءا.
97
الحيوان المفرط السمن ومن الذي لا سمن له البتة. وما كان من الحيوان يغتذي بأغذية سريعة
الانهضام، كان أفضل مما يغتذي بخلاف ذلك. وما كان من الحيوان في طبيعته رطبا، فذكره أحمد من
أنثاه، والمستكمل أيضا خير مما لم يستكمل بعد. وما كان من الحيوان في طبيعته يابسا، فأنثاه أحمد
من ذكره، وغير المستكمل منه خير مما قد استكمل.
فأما اختلاف غذاء الحيوان على حسب أوقات السنة، فقد بينا فيما تقدم ان من الحيوان ما
الغالب على مزاجه الحرارة واليبوسة مثل الجزور (1) وما شاكله، ومنه ما الغالب على مزاجه الحرارة
والرطوبة مثل الضأن وما شاكله، ومنه ما الغالب على مزاجه البرودة والرطوبة كما ذكرنا، ومنه ما
الغالب على مزاجه البرودة واليبوسة مثل البقر والماعز، ومنه ما هو في غاية الاعتدال مثل الجداء الرضع
والرضيع من البقر والحولي من الضأن. فما كان منه حارا يابسا كان مذموم الغذاء جدا، الا ان أصلح ما
يكون في الشتاء. وما كان منه حارا رطبا فأحمد ما يكون في الربيع وبعده الخريف. وما كان منه باردا
يابسا كان مذموم الغذاء أيضا، الا ان احمد ما يكون في النصف الأول من الصيف، لان في الهواء بعدا
من الرطوبة ما يحتمل من يبس مزاجه. وما كان منه باردا رطبا، فأحمد ما يكون في وسط الصيف وأردأ
ما يكون في الشتاء، وحاله في الربيع والخريف قريب (2) من ذلك. وما كان منه معتدل المزاج، فأحمد
ما يكون في الربيع وبعده الصيف.
وللفاضل أبقراط في هذا فصل قال فيه: إن لحم الحيوان البارد في الربيع والشتاء والخريف فليس
بالمحمود. وأحمد ما يكون في الصيف. وأما الماعز في الشتاء فردئ جدا، وحاله في الربيع والخريف
قريب (1) من ذلك، وأحمده ما يكون في الصيف. وأما الضأن، فأحمد ما يكون في الربيع وفى سوى
ذلك من الأزمنة مذموم. وأما البقر فهو في النصف الآخر من الربيع والنصف الأول من الصيف محمود،
وفى خلاف ذلك مذموم.



(1) الرأس من الإبل، ناقة أو جملا.
(2) في الأصل: قريبا.
98
الباب الرابع عشر
في كيفية استعمال اللحمان بالصنعة
فأما (1) اختلاف غذاء اللحمان على حسب الصنعة والعمل فيكون على ثلاثة ضروب: وذلك أن
من اللحمان ما يتخذ مشويا، ومنها ما يتخذ مطجنا (2)، ومنها ما يتخذ مسلوقا بالماء والملح، ومنها ما
يتخذ مطبوخا بالخل والأبازير (3) وغير ذلك.
فما كان منها مشويا أو مطبوخا كان أكثر اللحمان غلظا وأبعدها انهضاما وأقوى يبسا وتجفيفا
للأبدان، ذلك لقلة ما يبقى فيه من رطوبة اللحم، لتمكن النار منه ومباشرتها له، وقوة فعلها فيه. ولهذه
الجهة صار ما ينال البدن من غذائه أقل واصلب. ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: يجب على من أراد
أن يشوى لحما ورطوبته التي فيه مذمومة مثل رطوبة اللحم الكثير الشحم، ان يكثر ملحه ويطيل لبثه
على النار لتقل رطوبته ويفنى أكثرها. ومن أراد أن يشوى لحما ورطوبته التي فيه محمودة مثل رطوبة
الحيوان المتوسط السمن أو رطوبة اللحم الأحمر من حيوان سمين، فلا يمكن النار منه تمكنا يتهيأ معه أن
ينشف أكثر رطوبته، لكن يمسحه بالزيت لتحتقن الرطوبة في باطنه وتمتنع من الخروج، وينزع من النار
وأكبر رطوبته بعد فيه. ومن قبل ذلك صار الأفضل الا يتخذ اللحم المخالط للشحم الا مشويا بملح
كثير ونار جمر قوية لا لهب فيها ليزول أكثر رطوبته رويدا رويدا ويقارب الاعتدال كيلا يزلق من المعدة
والمعاء، وينحدر عنها بسرعة قبل نفوذه في العروق، ويوافي حرارة المعدة زائدة وقوتها الماسكة قوية،
فيطول لبثه فيها ويستحيل إلى الدخانية وجنس المرار.
فأما المسلوق بالماء والملح، فان الماء يكسبه رطوبة يصير بها أرطب وأكثر وأسرع انهضاما
وانحدارا وأسهل نفوذا في العروق وجولانا في البدن. ومن قبل ذلك أشارت الأوائل الا يتخذ اللحم



(1) في الهامش: (كان الواجب ان يذكر أنواع الطبخ وأشخاصه لونا لونا، ويذكر منافعها ومضارها بحسب كل مزاج وكل سن وكل
فصل. وكذلك الحلوى، فأخلى هذا الكتاب من مثل هذا المهم وذكر الأفيثمون ونحوه).
(2) طجن الشئ: قلاه في الطاجن، وهو المقلى.
(3) البزر والبزر: التابل: جمع بزور، جج أبازير.
99
المهزول الا مسلوقا يستفيد رطوبة من الماء يعتدل بها مزاجه إذ كان في طبيعته ليفيا عصبيا.
وأما المطبوخ فهو في طبيعته متوسط بين ما يرطب ويجفف لان الماء وان أكسبه رطوبة، فان
الأبازير بعيدة من اليبس والجفاف ما يعدل رطوبته المكتسبة من الماء. ولذلك صار الأفضل ألا يطبخ من
اللحمان الا ما كان متوسط السمن، ولحم أحمر سمين معرى من الشحم لتدوم رطوبته واعتداله من غير
أن ينقص من رطوبته شيئا ولا يزيد فيها الا انه قد يقع بين ألوان الطبخ اختلاف كثير على حسب ما
يدخلها من الأبازير وغير ذلك مما قد يمكن ان يثبت اللحم على حالته وطبيعته أو يزول إلى أحد
الحاشيتين دون الأخرى، لان من الألوان ما يلقب بالاسفيذباج الساذجة وهو المتخذ بالماء والملح
والزيت والكزبرة الرطبة والبصل والكمون، ومنها ما يتخذ بالخل والمري والسذاب والأبازير الحريفة،
ومنها ما يتخذ بالخل والسكر وماء التفاح الحلو والماورد والكزبرة اليابسة، ومنها ما يتخذ بالحصرم
وحماض الأترج (1) وماء الرمان الحامض.
فما كان منها متخذا بالماء والملح والزيت وما عددنا من الأبازير، كان قريبا من المسلوق في
رطوبته ولينه، وما كان منها مطيبا بالخل والمري والسذاب والأبازير الحريفة، كان قريبا من المطجن في
حرارته وتجفيفه، وما توسط بين هذين اللونين كان أقرب إلى التوسط والاعتدال الا ان أعدلها وأبعدها
من الحاشيتين جميعا اللون المعروف بالزيرباج المتخذ بالخل والسكر والكزبرة اليابسة وماء التفاح
العذب والماورد، وكذلك اللون المعذب بماء الرمان وماء التفاح والعنب، ذلك لتوسط هذين اللونين
واعتدالهما في الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة. وأما المطيب بماء الحصرم وحماض الأترج والرمان
الحامض، فهو أكثر أنواع الطبخ تبريدا وتخفيفا وتقوية للمعدة، ولذلك صار نافعا للاسهال المري
الكائن من ضعف القوة الماسكة في المعدة والكبد جميعا.
وأما المتخذ بالخل والمري والسذاب والأبازير، فهو أكثر أنواع الطبخ حرارة ويبسا، إلا أنه دون
المطجن المطيب بالأبازير الحريفة في الحرارة والتجفيف كثيرا. ولهذه الأسباب وجب أن يتخذ كل نوع
من أنواع الحيوان بلون ما، إما مشاكلا لطبيعته ومزاجه وسمنه وهزاله، وإما مشاكلا لطبيعة المغتذى به.
فأما اتخاذه على حسب طبيعة الحيوان ومزاجه وسمنه وهزاله، فقد كنا بينا ذلك آنفا حيث قلنا: إن من
الحيوان ما هو في طبيعته رطب اللحم ومثل الرضيع من الضأن. ومنه ما هو في طبيعته حار مثل
الجزور وبعده الفتي من الضأن. ومنه ما هو في طبيعته بارد اللحم مثل الماعز وبعده البقر.
ومنه ما هو في طبيعته معتدل مثل الجداء الرضع وبعده العجول. فما كان منها في طبيعته يابسا،
وبخاصة إن كان مع ذلك مهزولا ليفيا، كان الأفضل أن يتخذ بماء وملح وأسفيذباجة ساذجة، ليكتسب
من الماء رطوبة يعتدل بها يبس مزاجه أو جفاف هزاله. وما كان منها في طبيعته رطبا كان من الواجب أن



(1) الأترج: شجر من جنس الليمون، وهو الكباد عند العامة. وحماضه: ما في جوفه داخل اللب.
100
يتخذ مشويا أو مطجنا أو مطيبا بالأبازير الحارة الحريفة ليكتسب بذلك يبسا وجفافا. فان كان مع ذلك
سمينا، وجب أن يتخذ مشويا بنار لينة قوية وملح كثير. وما كان في طبيعته حارا وجب أن يتخذ بالحصرم
والرمان الحامض وحماض الأترج وقضبان الرجلة الا ان تكون طبيعة المستعمل له يابسة (1) فيتخذه بالخل
وماء القرع والقثاء والخيار وقلوب الخس ليكتسب بردا يعدل به حرارته. وما كان منه في طبيعته باردا
وجب ان يتخذ بماء النعناع والكرفس والسذاب والبر والأبازير الحارة والشراب الريحاني. وما كان منه
في طبيعته معتدلا كان الأفضل ان يتخذ بما يثبت مزاجه على حالته ولا يكسبه حالا يميل إلى أحد
الكيفيات دون الأخرى، وهو ان يتخذ اما زيرباج مطيبة بالخل والسكر وماء التفاح العذب والماورد
والكزبرة الرطبة واليابسة وبشئ من بصل والزعفران والكمون واليسير الحقير من الفلفل. وإما معذبة
بماء الرمان الحلو والتفاح العذب الذكي الرائحة وشئ من ما ورد. وإما سكباجة ساذجة معراة من الثوم
ومعذبة بماء الرمان الحلو أو بسكر طبرزد.
وأما اتخاذ اللحمان على حسب مزاج المستعمل لها وطبيعته، فإنه ان كان مزاج المستعمل لها
محرورا كان الأفضل أن يستعمل منها ما كان <في> طبيعته باردا مثل اللون المتخذ بالخل وماء الرمان الحلو
أو التفاح العذب الذكي الرائحة والماورد، الا أن يكون في طبيعته لينا، فيتخذه بماء الحصرم وحماض
الأترج والرمان الحامض. وإن كان مزاج المستعمل له باردا وجب أن يتخذ منه ما كان في طبيعته حارا
مثل اللون المطيب بالخل والمري والشراب والسذاب والكرفس والنعناع وورق الأترج والزنجبيل والدار
فلفل، الا ان يكون مع ذلك إسهال، فيتخذه إما مشويا، وإما مطجنا بشراب مرواح أو شراب عسل. وإن
كان مزاج المستعمل له معتدلا، كان الأفضل أن يستعمل منه ما كان في طبيعته متوسطا مثل اللون
المعروف بالزيرباج أو السكباج السليمة من الثوم المعتدلة بماء الرمان الحلو أو بالسكر طبرزد.
فقد بان من قوة كلامنا أن من اللحمان ما يحتاج أن يكسب بالصنعة والعمل، إما حرارة وإما
برودة، وإما رطوبة وإما يبوسة. ومنها ما يحتاج أن يحفظ على طبيعته التي هو عليها ولا يغير تغييرا يكسبه
إلا لذاذة فقط. ولذلك وجب ألا يقاس بين جنسين مختلفين من الحيوان في نوعين من الطبخ متباينين،
فيقال: أنهما أحمد وأنهما أذم، لأنه قد يمكن أن يتساويا جميعا (2) في الحمد والذم، من قبل أنه قد يتهيأ
في كل واحد منهما أن يكون في النوع الذي قصد به الطبخ، محمودا أو مذموما. مثال ذلك: أن
إنسانا لو قاس بين ضأن مشوي وماعز مسلوق لوجدهما جميعا قد اتفقا في الحمد وجودة الصنعة، لان
الضأن لكثرة رطوبته، يحمد أن يكون مشويا، والماعز لزيادة يبسه، يحمد أن يكون مسلوقا.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إنه لا ينبغي أن يقاس بين لحم حيوان مشوي من جنس،
وحيوان مطبوخ من جنس آخر. كما لا يجب أن يقاس بين حيوان مخصب من جنس وحيوان مهزول من



(1) في الأصل: يابسا.
(2) (جميعا) مضافة في الهامش.
101
جنس <آخر> لان ذلك لا ينقاس ولا يقوم ببرهان لان القياس انما يجب ان يكون بين جنسين من
الحيوان مختلفين إذا كانا على مقدار واحد من السمن والهزال، وفى نوع واحد من أنواع الطبيخ، ليعلم
أيهما أفضل في تلك الحال من السمن والهزال، وأيهما أحمد في ذلك النوع. مثال ذلك: أن انسانا لو
قاس بين ضأن وماعز سمينين، لوجد الماعز أفضل لان رطوبة الشحم تعدل يبس مزاج الماعز النوعي
وترطب لحمه وتصيره محمودا، وتزيد في رطوبة الضأن وتكسبه لزوجة وغلظا وتصيره مذموما. وكذلك لو
قاس بين ضأن وماعز مشويين، لوجد الضأن أفضل لان يبس النار يجفف أكثر رطوبة الضأن الفضلية
ويعدل مزاجه ويصيره محمودا ويزيد في يبس الماعز ويصيره قحلا جافا مذموم الغذاء. وعلى هذا الوزن
والقياس يجب ان يقاس بين نوعين من الطبيخ في جنس واحد من الحيوان ليعلم أي النوعين من الطبيخ
أفضل لذلك الحيوان. وذلك لو أن إنسانا لو قاس بين ضأن مشوي وضأن مطبوخ، لوجد المشوي أفضل
للسبب الذي قدمنا ذكره مرارا، ولو قاس بين ماعز مشوي ومطبوخ لوجد المطبوخ أفضل.

102
الباب الخامس عشر
في اختلاف أعضاء الحيوان وما يختص به
كل واحد منها دون غيره من جودة الغذاء
ورداءته وسرعة الاستمراء وإبطائه
أما أعضاء الحيوان فإن بعضها يخالف بعضا لوجوده ثلاثة: أحدها: من تركيبها، والثاني: من
حركتها وسكونها، والثالث: من مواضعها وأماكنها.
فأما تركيب الأعضاء فيكون على ثلاثة ضروب: وذلك أن منها ما تركيبه يابس عصبي مثل الجلود
والكروش والمعاء والأعصاب والغضاريف (1). ومنها ما تركيبه لين رخو مثل الشحم والمخ والدماغ
والنخاع. ومنها ما تركيبه معتدل متوسط بين الصلابة والليانة مثل لحم العضل وسائر اللحمان المعرى من
الشحم وبخاصة متى كانت من حيوان معتدل في السمن. فما كان من الأعضاء تركيبه يابسا عصبيا، كان
الغالب على مزاجه البرودة واليبوسة. ولذلك صار أعسر انهضاما وأكثر أتعابا للمعدة وأبعد من الاستحالة
إلى الدم، لان ما كان من الغذاء في طبيعته يابسا قليل الدم والرطوبة، احتاج قبل استحكام نضجه
وانتقاله إلى الدم، إلى مدة أطول. ولذلك صار ما يتولد منه من الغذاء يسيرا لان مقدار له (2) عند الطباع
وبخاصة متى كان من حيوان مهزول أو حيوان هرم أو حيوان يابس المزاج بالطبع مثل البقر والماعز.
واما ما كان من حيوان فتي، أو حيوان صغير، أو حيوان سمين، أو أرطب مزاجا بالطبع مثل
الضأن، فإنه إذا انهضم غذى غذاء كثيرا طويل اللبث في الأعضاء، بعيد الانحلال منها. من قبل
أن يبس مزاج الأعضاء يعتدل برطوبة مزاج الحيوان أو برطوبة الشحم إن كان الحيوان سمينا. ولذلك
صارت الأعضاء الصلبة العصبية من الضأن أكثر تغذية وتقوية للأعضاء منها إذا كانت من حيوان
آخر.
وأما ما كان من الأعضاء تركيبه لينا رخوا، فان الغالب على مزاجه الحرارة والرطوبة، أو الرطوبة



(1) الغضروف: جمع غضاريف، والغرضوف: جمع غراضيف: كل عظم رخص كمارن الانف.
(2) كذا في الأصل.
103
فيه أزيد من الحرارة كثيرا، كانت رطوبته مجاورة للمقدار المعتدل الا انه ينقسم ثلاثة اقسام: وذلك أن
منه ما هو سيال مياع مثل دسم اللحم الأحمر الكائن من حيوان سمين، أعني الدهنية الموجودة في
تخلخل اللحم السمين. ومنه الغليظ الجامد المحرم على بني إسرائيل في التوراة، مثل شحم الثرب (1)
والكلى. ومنه السمين المتوسط بين هاتين المرتبتين مثل الشحم الرطب اللين المخالط للحم والعظم،
أعني شحم الأضلاع والأكتاف والخواصر وغير ذلك (2) مما أحلته التوراة لبني إسرائيل.
وأما الضربان (3) الأول والثالث منها (4): أعني الدسم والسمين، فان سيلانهما وانمياعهما يدلان
على أن الغذاء المتولد عنهما متوسط بين الرقة والغلظ. وأما الضرب الثاني: أعني الشحم الغليظ
الجامد، فان جموده وغلظه يدلان على أن الغذاء المتولد عنه غليظ لزج لان الشحم في طبيعته أغلظ من
الدسم والسمين كثيرا. ولذلك قال جالينوس: ان الشحم على ضربين: لان منه ما هو لين رخو وهو
الذي إذا ذاب بحرارة النار وبرد بقي بمنزلة الزيت العتيق الذي قد غلظ قليلا لقدمه. ومنه ما هو غليظ
جامد وهو الذي إذا ذاب بحرارة النار وبرد، جمد بسرعة وغلظ، وهذا النوع من (5) خاصة يكون على
ضربين: وذلك أن منه ما هو من حيوان مائي مثل السمك. ومنه ما هو من حيوان ارضى مثل المواشي.
فما كان منه من حيوان مائي ذاب سريعا ولم يجمد سريعا. وما كان منه من حيوان ارضى، فإنه لا يكاد
أن يذوب سريعا لكنه يجمد بسرعة. ولذلك صار شحم الحيوان المائي أكثر من دسمه، ودسم الحيوان
الأرضي أكثر من شحمه. وقد يستدل على ذلك من جهتين: إحداهما: حسا والأخرى (6) قياسا. أما من
الحس فلانا إذا لمسنا لحم الحيوان الأرضي اكتسبت (7) يدنا منه دسما زيتيا ودهنية ظاهرة. وإذا تطاعمناه
وجدنا له عذوبة ودسومة. وأما الحيوان المائي فليس كذلك لأنا إذا لمسناه لم تعلق بأيدينا منه الدهنية الا
اليسير جدا، إذا كان سمينا، وإذا تطاعمناه لم نجد من العذوبة والدسومة ما نجده للحيوان الأرضي.
ولذلك صار الانسان يقدر ان يأكل من الحيوان المائي ما لا يقدر <أن> يأكله من الحيوان الأرضي، من
قبل ان عذوبة الحيوان الأرضي وكثرة دسمه تشبع بسرعة.
وأما من القياس فلان الحيوان المائي أكثر رطوبة بالطبع، والرطوبة إذا كثرت في الحيوان فضل
أكثرها من غذاء الأعضاء واحتاجت الأعضاء إلى أن تقذف ما فضل من غذائها وترسله عنها إلى باطن
البدن وعمقه، لأنه مغيض للفضول، فإذا صار هناك وكثر، انطبخ طبخا ثانيا وغلظ وجمد وصار شحما.
وأما الحيوان الأرضي، فليس كذلك لان رطوبته بالإضافة إلى رطوبة الحيوان المائي أقل كثيرا،
وإذا قلت الرطوبة في الحيوان نقصت عن غذاء الأعضاء، واحتاجت الأعضاء إلى أن تسلبها إليها دائما



(1) الثرب: الشحم الرقيق يغشى الكرش والأمعاء.
(2) (وغير ذلك) مضافة في الهامش.
(3) في الأصل (الضرب) بالمفرد.
(4) في الأصل: منهما.
(5) كذا في الأصل. ولعلها: منهما.
(6) في الأصل: الآخر.
(7) في الأصل: اكتسب.
104
لحاجتها إلى الغذاء، وإذا استلبتها إليها انتشرت في اللحم وذابت بحرارة اللحم الغريزية وصارت دسما
سيالا سمينا. ولذلك صار كل حيوان في طبيعته رطبا أكثر شحما وأقل دسما. ولهذه الجهة صار الشحم
في بعض الحيوانات أكثر وأغزر لزيادة الرطوبة على مزاجها بالطبع. والدسم في البقر أكثر وأغزر لغلبة
اليبوسة على مزاجه بالطبع.
فقد بان مما ذكرنا أن الدسم أسخن وألين من الشحم، ذلك لما فيه من زيادة الحرارة الغريزية
المكتسبة من حرارة اللحم المجاورة له. وأما الشحم فإنه أبرد وأغلظ وأقل رطوبة من الدسم كثيرا، ذلك
لبعده من حرارة اللحم ورطوبته وإن كانا جميعا في الجملة، أعني الشحم والدسم، قليلي الغذاء
مذمومين. ولذلك وجب ألا يستعمل على سبيل الغذاء، لكن لتطييب اللحم فقط، من قبل أن كل واحد
منهما في ابتداء امره، يربو في المعدة ويملأ جرمها ويشبع بسرعة ويفسد ما يوافي في المعدة من
الطعام، لأنه بدهنيته يطفو على الطعام ويعود عليه. فإذا اختلط به أكسبه لزوجة وغلظا ومنعه من
الانهضام، ولبث في المعدة زمانا حتى تستغنى به عن استئناف غذاء ثان (1). فإذا صار الطعام إلى الهضم
كان من خاصته أنه يلين خشونة المعدة ويزلق ما فيها ويجذبه بسرعة، ويحول بين لطيف الطعام وبين
النفوذ في عروق الماساريقا التي ينفذ فيها لطيف الغذاء ومصايته إلى الكبد، ولا يصل إلى الأعضاء من
غذائه الا مقدار يسير مذموم لأنه يولد سددا وينقلب إلى الخام الغليظ أو إلى البلغم الرقيق بسرعة على
حسب طبيعته في ذاته لأنه ان كان غليظا جامدا (2) مثل شحم الكلى والثرب، كان ما يتولد منه بالخام
الغليظ أشبه، أو إليه أقرب. فان كان دهنيا سيالا مثل الدسم الكائن في تخلخل اللحم، كان ما يتولد
عنه بالبلغم الرقيق أشبه واليه أقرب.
ولروفس في هذا فصل قال فيه: إن الأعضاء لا تنال من الشحم والدسم من الغذاء حسب ما
يمليان المعدة ويشبعان. أراد بذلك أن الشبع يقع منهما أكثر من تغذيتهما للأعضاء، لان كل واحد منهما
يربو في المعدة ويملأ جرمها ويشبع بسرعة. فإذا أخذ في الهضم، انحدر عن المعدة والمعاء قبل نفوذه
في العروق. ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن ما كان من الأعضاء السمن فيه أكثر، فالشبع من يقع
أزيد وانحداره أسرع. وما كان من الأعضاء السمن فيه أقل، فالشبع منه يقع أهضم وانحداره عن المعدة
أبعد (3).



(1) في الأصل: ثاني.
(2) في الأصل: جامد.
(3) ما يتبع هو تتمة للكلام عما يكون من الأعضاء تركيبه لينا رخوا. وآخره: (في النخاع).
105
في الوجه الذي له اختلف الشحم
في غذائه وفعله
الشحم في جملته يسخن ويرطب، الا انه يختلف في القوة والضعف لأسباب خمسة: أحدها:
جنس الحيوان الذي هو منه. والثاني: طبيعة الحيوان ومزاجه. والثالث: سن الحيوان ومقدار زمانه.
والرابع: طراء (1) الشحم في نفسه أو قدمه. والخامس: ما تحدث فيه الصنعة والعمل.
فأما اختلافه من جنس الحيوان الذي هو منه فيكون على ضروب: وذلك أن منه ما يكون من
حيوان ذكر. ومنه ما يكون من حيوان أنثى. ومنه ما يكون من حيوان قد أخصي فخرج عن طبيعة الذكر
والأنثى.
فما كان منه من حيوان ذكر، كان أسخن وأجف. وما كان منه من حيوان أنثى كان بالإضافة إلى
ما كان منه من حيوان ذكر، أقل حرارة وأرطب. وما كان منه من حيوان خصي كان متوسطا بين ترطيب
الأنثى وتجفيف الذكر. ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن شحم الأنثى من كل حيوان أرطب وأقل
إسخانا. وشحم الفحل أسخن من شحم الخصي وأكثر تجفيفا. وأما اختلاف الشحم من قبل طبيعة
الحيوان الذي هو منه، ومزاجه، فيكون على ستة ضروب، لان كل شحم فهو بمزاج حيوانه الذي هو
منه. ولذلك صار متى كان من حيوان أسخن، كان إسخانه أكثر. ومتى كان من حيوان أبرد، كان إسخانه
أقل. ومتى كان من حيوان أعدل، كان حاله في الاسخان والتبريد حالا متوسطة. وكذلك القياس فيما
يرطب ويجفف، أعني أنه متى كان من حيوان أرطب، كان ترطيبه للأبدان أكثر. ومتى كان من حيوان
أيبس، كان ترطيبه للأبدان أقل. ومتى كان من حيوان قد توسط الرطوبة واليبوسة، كان فعله أيضا
متوسطا بين ما يرطب ويجفف. ولهذه الجهة صار شحم الحيوان البارد أكثر ترطيبا للأبدان من غير أن
يظهر منه إسخان بين، شحم الأسد أكثر الشحوم تسخينا وأقلها ترطيبا، لان البارد في طبيعته، أرطب
الحيوان وأعدلها حرارة، كأنه في حرارته قريب من الاعتدال ومن المزاج المعتدل أو شبيه بالزيت العذب
في حرارته فقط.



(1) يقال: طرو وطري الغصن أو اللحم طراوة وطراء وطراءة وطراة.
106
وأما في الرطوبة واليبوسة، فإن بينهما فرقان من قبل أن الزيت في طبيعته يابس، وشحم الحيوان البارد
في طبيعته رطب. ولذلك صار دسمه سيالا مياعا وشحمه نافعا من الزحير (1) واللذع الشديد العارض في
المعاء، لأنه بلطافته وسيلانه وانمياعه، ينفذ في مسام الأعضاء حتى يصير إلى باطنها بسرعة ويسكن
ألمها ويمنع من أذية الفضول اللذاعة لها، وإن كانت هذه الخاصة قد توجد في شحم الإوز أيضا لكثرة
رطوبته ولطافته. وأما الأسد فهو في طبيعته أسخن الحيوان وأيبس مزاجا. ولذلك صار شحمه أكثر فشا
وتحليلا من سائر الشحوم. ولهذا صار نافعا من التواء العصب وانعقاده، ومن الأورام الجاسئة (2)
المزمنة. وأما شحم البقر فمتوسط بين شحم الأسد وغيره.
وأما شحم الماعز فهو، وإن كان أقل حرارة من شحم البقر، فإنه أسخن وأجف من شحم
غيره كثيرا، من قبل أن الماعز، وإن كان بالإضافة إلى أكثر الحيوان المشاء باردا، فإنه بالإضافة إلى
المزاج المعتدل أسخن وأيبس كثيرا، والدليل على يبسه جموده بعد إذابته بسرعة، صار نافعا من قروح
المعاء إذا احتقن به لا يجمد على الأعضاء ويلحمها بسرعة. ومن خاصته إذا طبخ شحم الحولي منه
بكشك الشعير وشرب، نفع من قروح الرئة والمعاء. وكذلك يفعل في كل علة تحتاج إلى التغرية، إذا
استعمل مع الأحساء والتدبير الموافق للعلة.
وأما شحم الضأن فإنه، وإن كان أسخن من شحم الماعز وغيره جميعا، فهو متوسط بينهما في
الرطوبة واليبوسة، لأنه أجف من الشحم البارد وأرطب من شحم الماعز. ولذلك صار، إذا احتقن به،
كان (3) أكثر نفعا وأقوى تأثيرا من شحم الأول في العلل الرديئة الكائنة في المعاء المعروف بالقولون
<لا> لأنه أجف من هذا الشحم وأكثر تسكينا للذع، لكن لان دسم هذا لا يجمد بسرعة لكثرة
سيلانه، وانمياعه، ودسم الضأن يجمد بسرعة لاعتدال رطوبته، وإن كان في سرعة جموده مقصرا عن
شحم الماعز كثيرا لزيادة رطوبته على شحم الماعز بالطبع.
ولجالينوس في الشحوم قول قال فيه: إن شحم الأسد أسخن وأيبس من شحم الكلب. وشحم
الكلب أيبس من شحم البقر. وشحم البقر أيبس من شحم الغنم. وشحم الغنم أيبس من شحم الضأن.
وشحم الضأن أيبس من شحم غيره.
وأما اختلاف الشحوم من قبل سن الحيوان، فيكون على أربعة ضروب: وذلك أن من الحيوان
الصغير جدا الكائن بعد في (4) الرضاع. ومنه الحولي القريب العهد بالرضاع. ومنه الفتي البعيد العهد



(1) الزحير: تقطيع في البطن يمشي دما.
(2) جسأت المفاصل: يبست فلا تكاد تنعطف، فهي جاسئة وجساء.
(3) واضح أن (كان) غير ضرورية.
(4) (في) مستدركة في الهامش.
107
بالرضاع. ومنه الهرم الطاعن في السن.
فما كان من الشحم من حيوان رضيع أو حيوان حولي قريب العهد باللبن، كان أعدل حرارة
وأزيد رطوبة. وما كان من حيوان فتي، كان أكثر حرارة وأقل رطوبة. وما كان من حيوان هرم، كان أبرد
وأيبس كثيرا. وما كان من حيوان ذكر، كان أسخن وأيبس مما كان من حيوان أنثى.
وأما اختلاف الشحم من قبل طراه وقدمه، فيكون على ضربين: وذلك أن منه الطري القريب
العهد بالخروج من الحيوان. ومنه العتيق البعيد العهد بالحيوان. فما كان منه طريا، كان أقل إسخانا
وأكثر ترطيبا. وما كان منه عتيقا، كان أكثر إسخانا وأقل ترطيبا. وكلما ازداد بعدا من الحيوان وعتق، كان
أكثر لاسخانه وأقل لترطيبه من قبل أن حرارة الهواء كلما تمكنت منه نشفت رطوبته وأكسبته حرارة
وجفافا.
ولذلك قال جالينوس: إن الشحم العتيق أقوى حرارة وأقل رطوبة. ولذلك صار أكثر تحليلا من
الحديث جدا. وقول لذيوسقريدس قال فيه: إن كل شحم أو ثرب يطول زمانه ويعتق، فإن رطوبته تقل
وحرارته تزيد، وذلك مقاس في الجبن والعسل والخل لأنا نجدها كلما تعتقت وتباعدت أزمانها، قويت
حرارتها وصارت لذاعة قوية على تحليل الأورام الصلبة البطيئة الانحلال والانفشاش.
وأما اختلاف الشحم على حسب ما يلحقه من الصنعة والعمل، فيكون على ضربين: وذلك أنه
متى استعمل ساذجا من غير أن يخالطه غيره، كانت قوته بسيطة ساذجة تفعل على حسب طبيعة الحيوان
الذي هو منه وقوته ومزاجه وسنه. ومتى أضيف إلى غيره، تركبت قوته وتوسطت بين طبيعة الحيوان الذي
ذلك الشحم منه، وبين طبيعة ما يخالطه ويمازجه. ولذلك صار الشحم المملح أكثر إسخانا وتجفيفا مما
لم يخالطه الملح، لان الملح يكسبه حرارة وجفافا.
في مخ العظام
وأما مخ العظام، فإنه أعذب وأحلى من الشحم والدسم جميعا، لأنه متوسط بين طبيعة الشحم
وغلظه، وطبيعة الدسم ولطافته. ولذلك صار أرطب جسما وأنعم من الشحم وأغلظ قواما وأكثف جسما
من الدسم. ولهذه الجهة صار فعله أيضا متوسطا بين فعل الشحم وفعل الدسم.
في الدماغ
أما الدماغ، فإنه وإن كان في طبيعته حارا رطبا لأنه من جنس الشحم والمخ، فقد وقع له أن كان
بالعرض باردا، ذلك لكثرة ما يصل إليه ويناله من برد الهواء المطيف بالرأس لقلة ما على عظم الرأس

108
من اللحم والشحم. ولهذا ما ظن قوم أن الدماغ بارد (1) بالطبع، فأقاموه في طبيعته ومزاجه مقام البلغم
الغليظ اللزج. وصيروا دليلهم على ذلك من جهتين: إحداهما: من فعله، والأخرى: من انفعاله. فإنهم
قالوا: لما وجدنا الدماغ بطيئا في المعدة، عسير الانهضام، مفسدا (2) لشهوة الغذاء، علمنا أن البرد
أغلب على مزاجه، واستشهدوا على ذلك بكلام لجالينوس ظنوا أنه مطابق لقولهم موافق لدعواتهم، لان
جالينوس قال: إذا أردت أن تهيج القئ، فأطعم الدماغ بعد الطعام بوقت كثير، ولذلك وجب أن لا
يستعمله من كانت شهوته ناقصة مقصرة.
وأما ما استدلوا به على برودة الدماغ من فعله، فإنهم قالوا: لما وجدنا الدماغ ينبوع الحس
والحركة، اتضح أنه في طبيعته بارد رطب، لأنه لو كان حارا على دوام حركته لالتهب واحترق وفسدت
جوهريته، وهلك الحيوان من قرب.
فأفسدنا عليهم بهذه الدعاوي من جهتين ببرهانين: أحدهما: صناعية، والآخر (3) قياسية.
فأما من الصناعية، فإنا قلنا لهم: إن الدماغ، وإن كان رطبا في المعدة وبعيد الانهضام مفسدا لشهوة
الطعام، فإن ذلك ليس من برده، لكن من رطوبته ولزوجته وتوسطه بين طبيعة الشحم والدسم. ولو وجب
في الدماغ أن يكون باردا لبعد انهضامه وإبطائه في المعدة وإفساده لشهوة الغذاء، لوجب في الشحم
أيضا أضعاف ذلك ضرورة. إذ كان أخص ببعد الانهضام والابطاء في المعدة وإفساد الشهوة من الدماغ
كثيرا لأسباب قد قدمنا ذكرها مرارا.
وأما ما استشهدوا به من قول جالينوس حيث يقول أنه متى أردت أن تهيج القئ، فأطعم الدماغ
بعد الطعام بوقت كثير، فإنهم لو فحصوا عن هذا القول فحصا شافيا، لعلموا أن جالينوس لم يلزم
الدماغ هذه الخاصة لبرده، لكن لرطوبته ولزوجته، إذ الرطوبة أخص بما ذكرنا من أمر البرودة، لان من
شأن البرودة الجمع والحصر والتقوية والتنبيه لشهوة الطعام، لمجانستها للشهوة بالطبع. ولذلك صار
الماء زائدا في شهوة الطعام والحامض ناقصا منها. وأما الرطوبة واللزوجة فمن شأنهما أن تختلطا (4)
بالغذاء وتحدثا (5) فيه غلظا وتمنعا من هضمه. فإن اتفق فيها، مع ذلك، أدنى حرارة ودهنية، عاما وعوما
الطعام معهما وهيجاه إلى الخروج من فوق. وإن كان معهما أدنى برودة، ثقل جرمهما وهبط سفلا وأزلق
الطعام وهيجه إلى الخروج من أسفل بسرعة. وقد يستدل على ذلك من الماء والهواء لان الماء لما كان
مع رطوبته باردا، ثقل وهبط سفلا. والهواء لما كان مع رطوبته حارا، خف وعام وترقى صعدا.
وأما ما رددنا به عليهم من القياس، فمن قول الفيلسوف (6)، لان الفيلسوف قال في كتابه
المعروف بكتاب (طبائع الحيوان) قولا هذا معناه: إن الدماغ لما كان ينبوع الحس والحركة، والحس



(1) في الأصل: باردا.
(2) في الأصل: مفسد.
(3) في الأصل: الأخرى.
(4) في الأصل: تختلطان.
(5) في الأصل: تحدثان.
(6) يعني أرسطو.
109
والحركة فلا يكونان إلا بقوة من الحرارة الغريزية، لم يمكن أن يكون الدماغ باردا لان البرودة من شأنها
أن تحصر الرطوبات وتغلظها وتخدر الحس وتمنع من الحركة وتفسدها. وقال في موضع آخر: أن
الدماغ لو كان باردا، لعدم الانسان الفكر والذكر والفحص والتمييز لامتناع وجود ذلك مع ضعف الحرارة
ونقصانها. وقد يستدل على ذلك من الشاهد، لأنا نجد من قد غلب على مزاج دماغه البرد، بعيد الفكر
دائما، قليل الذكر، فاسد التمييز.
فقد بان من قول الفيلسوف أن الدماغ حار رطب باعتدال، إلا أن الطبيعة احتالت وأكسبته برودة
عرضية تمنع من التهابه كيلا يحترق بدوام حركته وجولان فكره، فجففت ما غلى، فجف الدماغ من
الشحم واللحم، بل صيرته معرى من ذلك ليصل إلى الدماغ من لطيف الهواء الخارج ما يسكن حره
العرضي المكتسب من الحركة، ويمنع من التهابه، كما احتالت للقلب بالرئة والتنفس، ليصل إليه من
لطيف الهواء ما ينفي من البخارات الغليظة الحارة عنه ويرده إلى اعتداله وطبيعته كيلا تختنق الحرارة
الغريزية وتطفأ.
في النخاع
أعني مخ الفقار. فأما النخاع فمتصل بالدماغ. ولذلك ما قيل أنه من جوهر الدماغ، إلا أنه
أصلب كثيرا وبخاصة طرفه الأسفل من الصلب القريب من الذنب، لأنه كلما بعد من الدماغ قلت
رطوبته وازداد صلابة. ولذلك لا يغثي كما يغثي الدماغ ومخ العظام والدسم، لأنه أقوى رطوبة ودسما
منها كثيرا. إلا أنه إذا استحكم انهضامه نال البدن من غذائه غذاء ليس باليسير.
وأما الأعضاء المتوسطة بين الليانة والصلابة، أعني العضل واللحم الأحمر المعرى من الشحم،
فإنها في غاية الاعتدال والتوسط بين الكيفيات الأربع. ولذلك صارت أعدل الأعضاء وأسرعها انهضاما
وأسهلها نفوذا في العروق وأفضلها في تقوية البدن، إلا أنها تنقسم قسمين: وذلك أن منها الخالص
الصحيح مثل البشتمازق ووسط العضل، ومنها الشبيه باللحم مثل الضرع والخصي والنغانغ والحنجرة
والحلبلوب الذي إلى جانب القلب والرقبة.
فما كان منها خالص اللحم، كان الأغلب على مزاجه الجوهر الدمي، لأنه دم منطبخ منعقد
منسوج بأعصاب دقاق وشيريانات (1) وعروق تخفى عن الحس للطافتها. ولذلك صارت أكثر الأعضاء دما
وأعدلها غذاء وأبعدها من اللزوجة والغلظ. وقد يستدل على ذلك من جهتين:
إحداهما: أن ليس فيها (2) من الرطوبة واللزوجة ما يطفو على الطعام ويربو في المعدة ويشبع
بسرعة عن غير حقيقة كما يفعل الشحم والدسم، لكنها تهبط سفلا وتستقر في موضع الطبخ من المعدة



(1) الشريانات.
(2) في الأصل: فيه.
110
حتى تتمكن الحرارة الغريزية منها، فيكمل نضجها ويجود هضمها. ولذلك لا يتعذر على الانسان أن
يتناول منها المقدار الزائد على شبعه قليلا.
والثانية: أن ليس فيها من الدهنية ما يزلق المعدة والمعاء وينحدر عنها قبل نفوذها في العروق.
لكنها، للطافة غذائها وخفة حملها على الطبيعة، تلبث في المعدة والمعاء مدة يمكن فيها أن تجذب قوة
الكبد منها مقدار حاجة الطبيعة إليه على الكمال. ولهذه الجهة، صارت أسرع الأعضاء انهضاما وأسهلها
نفوذا في العروق، وأوصلها إلى أقطار الأبدان، وأقربها استحالة إلى الدم المعتدل، وأكثرها تشبها
بالأعضاء. ومن قبل ذلك صارت موافقة لحفظ الصحة وقوة الأعضاء معا.
وأما الشبيه باللحم، فهو أقل دما وأرخى جسما من اللحم الخالص الصحيح من قبل أن دمه قد
انطبخ طبخا ثانيا، واكتسب هشاشة ولذاذة. ولذلك صار في طبيعته وذاته متوسطا بين جوهر اللحم
وجوهر الشحم، فهو لذلك أقل دما من اللحم وأكثر منه رطوبة ولزوجة، وأكثر دما من الشحم وأقل منه
رطوبة ولزوجة. ولهذا صار لونه متوسطا بين لون الشحم ولون اللحم، وأقرب إلى لون الشحم قليلا.
ومن قبل ذلك، صار بالإضافة إلى الشحم، ألطف وأعدل، وأسرع انهضاما. وبالإضافة إلى اللحم،
أغلظ وأكثر لزوجة وأبعد انهضاما. ومن أجل ذلك صار الغذاء المتولد عنه أيضا متوسطا بين غذاء اللحم
وغذاء الشحم، لأنه بالإضافة إلى الشحم، أكثر غذاء وأسرع انهضاما، إلا أنه ينقسم قسمين: وذلك أن
منه شيئا أعدته الطبيعة لتوليد رطوبات فيها لتمام النسل مثل الضرع للبن، والخصي للمني. ومنه شئ
أعدته لتوليد رطوبات ترطب بها ما حولها من الأعضاء بالطبع مثل النغانغ واللحم الرخو الذي في أصل
اللسان، والذي بالقرب من الوريد المعروف بالحلبلوب، وغدد المعاء المسماة الدوارة، لان هذه
المواضع لما كانت قليلة اللحم احتاجت الطبيعة إلى إعداد أعضاء بالقرب منها لتعد لها فيها الرطوبات
التي بها تغذيتها وتربيتها.
* * *
وأما اختلاف الأعضاء من قبل حركاتها وسكونها بدءا على ضربين: وذلك أن من الأعضاء
ما هو دائم السكون مثل البطن وما يليه. ومنها ما هو دائم الحركة، وهو على ضربين: إما أن تكون
حركته طبيعية وإما عرضية. فأما الطبيعية فهي التي يحركها العضو بذاته ونفسه، لا من أجل عضو آخر
غيره، مثل حركة الشفتين والأذنين والقوائم. وأما العرضية فهي التي يتحرك بها العضو بمشاركته عضوا
آخر غيره، لا من أجل نفسه، مثل حركة اللحم المجاور للرقبة وعظم الصلب وصندوق الصدر، فإن
اللحم المجاور للرقبة والصلب يتحرك بحركة خرز الرقبة وخرز الصلب والأضلاع والمجاور لصندوق
الصدر يتحرك بحركة الصوت والتنفس معا.
فقد بان من قوة كلامنا: أن من الأعضاء ما هو دائم السكون مثل البطن وما يحويه. ومنها ما هو
دائم الحركة لذاته وعينه مثل الشفتين والأذنين والأكارع. ومنها ما هو متوسط بين الحركة والسكون وهو

111
الذي، وإن كان متحركا، فإنما حركته لغيره لا لذاته مثل لحم الصدر والرقبة والصلب.
فما كان دائم الحركة لذاته وعينه، كان ألطف غذاء وأعذب وأسرع انهضاما ونفوذا في العروق،
وأقرب إلى الانقلاب إلى الدم مما شاكله في مزاجه وخالفه في دوام الحركة، من قبل أن الحركة من
شأنها أن تقوي الحرارة وترق الأثفال وتلطفها وتنقي أكثرها من البدن.
وما كان من الأعضاء دائم السكون، كان أغلظ غذاء وأعسر انهضاما وأبعد من النفوذ في العروق
وأبطأ في الانقلاب إلى الدم مما وافقه في مزاجه وتركيبه، وخالفه في سكونه وقلة حركته، من قبل أن
السكون يفعل ضد الحركة دائما، لأنه يجمد الحرارة الغريزية ويرطب الأبدان ويغلظ الأثفال ويمنع من
تحليلها. ولذلك صار البطن وما يليه أغلظ لحما وأكثر شحما وأقل عذوبة من لحم الصلب والرقبة
والصدر، من قبل أن حركة الصلب والرقبة ترض ما يجاورها من اللحم، وترق أثفاله، وتنقي فضوله،
وتخرجه من مسام البدن دائما. ولذلك قل ما على هذه الأعضاء من الشحم وتجرد لحمها وعذب وجاد
هضمه. وأما البطن، فلدوام سكونه، انحصرت الرطوبات في باطنه، وغلظت وانطبخت طبخا ثانيا
وصارت شحما. ولذلك كثر شحمه وقلت عذوبة (1) لحمه وزالت لذاذته وعسر انهضامه.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن كل لحم لازوق بعظم فهو أمرأ وأعذب مما بعد من
العظام، لان العظام ترض ما جاورها من اللحم وتخلخل جسمه وتنفي فضوله، وتكسبه عذوبة ولذاذة
بإتعابها له دائما.
وأما اختلاف غذاء الأعضاء بحسب مواضعها من البدن، فإن ذلك ينقسم قسمة أولية على
ضربين: لان من الأعضاء ما يلي ظاهر البدن وسطحه، ومنها ما يلي باطن البدن وعمقه. وما يلي سطح
البدن فينقسم قسمة ثانية على ضربين: لان منها ما هو مجاور للعظم مثل عظم الصلب والرقبة، ومنها
غير مجاور لعظم مثل السرة وسائر ظاهر البطن (2). فأما المجاور للعظم فينقسم خمسة أقسام: لان منها
ما يلي الصدر ومقدم ما يلي مؤخر البدن وعجزه مثل الأعضاء المتوسطة بين أسفل الكبد والذنب.
ومنها (3) المتوسطة بين هاتين المرتبتين. ومنها ما يلي الجانب الأيسر مثل الأعضاء المجاورة للطحال.
ومنها ما يلي الجانب الأيمن مثل الأعضاء المجاورة للكبد والمرار (4).
فما كان منها يلي ظهر البدن وسطحه، كان أفضل مما يلي باطن البدن وعمقه، لان ما يلي ظاهر
البدن لقربه من مسام البدن، تتحلل فضوله دائما وتخرج بالبخارات والعرق، فتقل فضوله ويعذب لحمه
ويلين. وما يلي باطن البدن، فلبعده من مسام البدن ومنافسه، تحتقن البخارات فيه ويكثر فضوله
ورطوباته ويغلظ. ولذلك ما يلي الجانب الأيمن أفضل مما يلي الجانب الأيسر، لان ما يلي الجانب

112
الأيمن مجاور لينبوع القوى الطبيعية وحرارة الكبد والمرار، فتلطف فضوله وتتحلل دائما. وما يلي
الجانب الأيسر فمجاور للطحال، وغلظ المرار السوداء وبردها، فتغلظ فضوله وتمتنع من التحلل.
ولذلك ما يلي مقدم البدن وصندوق الصدر أفضل مما يلي مؤخر البدن وعجزه، وذلك لجهات ثلاث:
إحداها: أن ما يلي مقدم البدن يغتذي بدم قد وصل إلى القلب وانهضم فيه وبعد انهضامه في
الكبد انهضاما ثانيا، من قبل أن أعضاء الصدر إنما تغتذي بفضلة غذاء القلب، والقلب فليس يقبل من
الكبد إلا أفضل الدم وأحمده. فإذا وصل إليه، هضمه ثانية وأخذ غذاءه من أحمد ما فيه مما شاكل
جوهره وطبيعته، ودفع فضله ذلك إلى أعضاء الصدر ومقدم البدن. ولذلك صار غذاء الصدر وما يليه
أفضل وأحمد من غذاء غيرها من الأعضاء.
والثانية: أن صندوق الصدر دائم الحركة بالتنفس والصوت جميعا. ولذلك تنحل فضوله ويرطب
لحمه ويعذب ويحسن انهضامه.
والثالثة: أن صندوق الصدر ما كان يحوي القلب، والقلب ينبوع الحرارة الغريزية، والحرارة
الغريزية ممرها بصندوق الصدر دائما في صعودها من القلب إلى الرأس. ولذلك لطف غذاؤه وقلت
فضوله وعذب لحمه واستفاد لذاذة ولطافة ليست (1) هي لغيره من اللحمان.
وأما ما يلي مؤخر البدن فهو، بالإضافة إلى ما يلي مقدم البدن، مذموم من جهتين: إحداهما:
أنه إنما يغتذي بدم لم يصل إلى القلب ولم يتم هضمه فيهضم (2) فيه ثانية. والأخرى: بعده من ينبوع
الحرارة الغريزية وضعف فعلها فيه. ولذلك غلظ لحمه وعسر انهضامه وقلت عذوبته ولذاذته.
وأما ما كان من الأعضاء متوسطا (3) بين هاتين المرتبتين، فحاله أيضا في جودة غذائه ورداءته
وسرعة انهضامه وإبطائه، حال متوسطة. إلا أن قربها من طبيعة الأعضاء التي تلي مؤخر البدن أكثر من
قربها من طبيعة الأعضاء التي تلي مقدم البدن، من قبل أنها وإن كانت قريبة من ينبوع الحرارة الغريزية
ومجاورة له، فإن الدم الذي تغتذي به دم لم يصل إلى القلب، ولم تنهضم فيه ثانية، ولا هي أيضا في
طريق الحرارة الغريزية الصاعدة من القلب إلى الدماغ فتلطف فضولها وترق وتخرج بمرور الحرارة
الغريزية بها.

113
الباب السادس عشر
في الطير
أما الطير فهو في جملته، بالإضافة إلى لحم المواشي، أقل غذاء كثيرا لأنه ألطف وأسرع
انهضاما، وأقل لبثا في الأعضاء، وإن كان قد يختلف في جودة غذائه ورداءته لوجوه أربعة: أحدها:
مزاج الحيوان الذي هو منه وسنه (1). والثاني: لطافته من غلظه. والثالث: خصبه من هزاله. والرابع:
اختلاف أعضائه في تركيبها ومواضعها. وذلك أن الطير يختلف في مزاجه وطبيعته على خمسة ضروب:
لان منه المعتدل المزاج القريب من التوسط والاعتدال، مثل الدجاج وبعدها الديوك. ومنه ما الغالب
على مزاجه البرودة، إلا أنه مائل إلى اللطافة والاعتدال كثيرا، مثل الدراج والفراريج. وإنما نسبنا هذا
الضرب من الطير إلى التوسط والاعتدال، مع ضعف حرارته وقلتها من قبل أن اللحمان في الجملة حارة
بالطبع. فلما كان كذلك، صار ما كان منها ضعيف الحرارة منحرفا إلى البرودة قليلا، وكان مع ذلك
لطيفا سريع الانهضام، نسب إلى التوسط والاعتدال، إذ كان بذلك أخص من غيره من الطير.
ومن الطير ما الغالب على مزاجه الحرارة واليبوسة والفساد لبعده من الاعتدال مثل العصافير
ودونها في ذلك القنابر (2) والفتي من الحمام. ومنه ما الغالب على مزاجه اليبوسة مثل الشفنين (3)
والورشان والفواخت (4)، وبعدها الحجل والطيهوج (5) والقطا. ومنه ما الغالب على مزاجه الرطوبة مثل
البط والنعام وبعدها فراخ الحمام. فما كان منها ضعيف الحرارة مائلا إلى البرودة قليلا، قريبا من
التوسط والاعتدال مثل الدراج والفراريج، كان أسرع انهضاما وأسهل نفوذا في العروق، وأقرب من
الاستحالة إلى الدم، وبخاصة متى كانت قليلة الشحم معتدلة السمن، لأنها متى لم تكن مفرطة السمن
كانت مقوية للمعدة، مولدة للدم المحمود، موافقة لجميع الأسنان والمزاجات، إلا أنها، للطافتها وسرعة



(1) (وسنه) في الهامش.
(2) القنبرة أو القبرة، جمع قبر وقنابر: عصفورة دائمة التغريد.
(3) الشفنين: طائر دون الحمام في القدر. تسميه العامة بمصر اليمام. واسمه في الشام ترغل. (متن اللغة مادة شفن).
(4) الفاختة، جمع فواخت، والورشان والشقبان: من الحمام البري.
(5) الطيهوج: فرخ الحجل.
114
انحلالها، يقل لبثها في الأعضاء. ولذلك صارت لا تفيد الأعضاء قوة حسنة. ولهذا ما صار فعلها في
بقاء الصحة ودوامها، أفضل من فعلها في قوة الأعضاء وشدتها. وأحمد ما يكون هذا الضرب من الطير،
حين يبتدئ بالصياح لان في ذلك الوقت تقوى حرارتها الغريزية، وتقل فضول بدنها، وبخاصة متى
كانت ذكرانا. ومن خاصتها أنها إذا استعملت زيرباج (1) سكنت اللهب العارض في المعدة.
ولديسقريدس فيها قول قال فيه: إن الدراج والفراريج إذا استعملت أسفيذباج، أسهلت البطن
وعدلت المزاج.
قال إسحاق بن سليمان: لعمري متى استعملت أسفيذباج كانت أفضل في المعونة على إطلاق
البطن، وأما في تسكين الحرارة واعتدال المزاج، فالزيرباج أخص بذلك كثيرا. وأما الدجاج، فلأنها
أقل رطوبة وأكثر يبوسة من الفراريج بالطبع، صار فعلها مخالفا لفعل الفراريج، لان الفراريج من شأنها
أن تلين البطن، والدجاج من شأنها <أن> تجمع الثفل وتعقل البطن. وأما الديوك، فإن حرارتها أشد
وأقوى من حرارة الدجاج والفراريج، اكتسب لحمها ملوحة لطيفة قوي بها على الانحدار بسرعة وبخاصة
متى كان من ديوك هرمة قد طعنت في السن، لان الهرم من كل حيوان أرخى لحما وألين بالطبع. فإذا
اجتمع للديوك رخاوة لحم الهرم ولينه مع ملوحة لطيفة، قربت من الأشياء المعينة على إطلاق البطن.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن الديوك الهرمة الطاعنة في السن متى استعملت بالملح
والشبت (2) والكمون وورق اللبلاب وأصل الكراث النبطي وورقه ولب القرطم (3)، أحدرت فضولا
بلغمانية ونفعت من القولنج ووجع المعدة العارضين من الرياح الغليظة والرطوبات البلغمانية وسكنت
الربو والرعشة ووجع المفاصل.
فإن عارضنا معترض وقال: فلم لا كانت هذه الخاصة للفتى من الديوك؟ وهو أكثر حرارة
بالطبع، وما كانت حرارته أكثر كانت ملوحته أقوى.
قلنا له: إن ذلك امتنع من الفتي من الديوك لجهتين: إحداهما: أن حرارته أقوى وملوحته أشد.
فلما اشتدت ملوحته، خففت الثفل أكثر من المقدار، ومنعت من الانحدار. والثانية: أن لحمه أصلب
وأبطأ انهضاما. فلما اجتمع فيه تخفيف الملوحة وعسر انهضامه، زالت عنه الخاصة التي كانت له. وأما
الهرم، فلما كانت ملوحته ألطف ولحمه ألين وأرخى، سهل انهضامه وانحدر بسرعة وبخاصة متى صير
له مع علفه التين المدقوق واللبن. فإن ذلك مما يسهل انحداره عن المعدة والمعاء ويجيد هضمه
ويكسبه لذاذة وطيب طعم.
ولجالينوس في هذا، مثل ذلك، فصل قال فيه: أما الديوك الهرمة، فلان ملوحتها لطيفة غير



(1) وردت في (كتاب الذخيرة في علم الطب) لثابت بن قرة باسم زبرباجة.
(2) الشبت والشبت: نبات، من التوابل يشبه الشمرة. يقال له: (رز الدجاج).
(3) نبات يعرف أيضا بالعصفر. فعلي زهره مدر للبول في الحصبة.
115
مجففة ولا ميبسة، وفى لحمها من الرخاوة واللين ما يعين على سرعة انهضامها وانحدارها، كان ذلك
أعظم الأسباب على معونتها على إطلاق البطن، وبخاصة إذا كان في علفها التين اليابس المدقوق. وقال
في فصل آخر: أنه قد يخلط في علف الديوك والإوز التين اليابس المدقوق، فيكسبها ذلك لذاذة وطيب
طعم. وليس إنما يفعل بها هذا الفعل فقط، لكنه قد يفيدها مع ذلك سرعة انحدار وجودة استمراء.
وأما ما كان من الطير الغالب على مزاجه الحرارة واليبوسة فليس يجب الادمان عليه أصلا
وبخاصة العصافير منها والجراد، لان من خاصتها في ابتداء أمرها أن تحمى المزاج وتنتقل إلى الدخانية
وحبس المرار ثم تنشف بعد ذلك رطوبة الدم رويدا رويدا وتحرقه وتصيره حريفا سوداويا، وإن كان
الجراد أخص بالفساد من العصافير جدا. ومع ما أن العصافير أقل ضررا من الجراد كثيرا، فقد يجب أن
نحذر منها ما كان مهزولا وبخاصة متى كان بريا، كيلا يجفف الثفل وبخاصة حرارته ويبسها، ويحبس
الطبيعة فتتضاعف بليتها. ولذلك وجب أن لا نقرب منها إلا ما كان مسمنا في المنازل والبيوت لتقل
حركته ويلطف هواؤه ويستفيد من ذلك رطوبة وبرودة ويقمع بهما حدة حرارته ويزول عنه أكثر يبسه
وجفافه، ويكتسب لحمه رطوبة وليانة. وأما القنابر فلأنها ألطف وأقل حرارة ويبوسة من العصافير كثيرا،
صارت إذا طبخت أسفيذباج ساذج كانت مرقتها خاصة على طريق الدواء نافعة من القولنج العارض من
البلغم. ولذلك وجب لأصحاب هذه العلة أن يستعملوا (1) مرقتها مفردة دون لحمها. فإن دعتهم الشهوة
إلى شئ من لحمها، فليستعملوه (2) مع كثير من مرقته ويحذروه (3) مفردا لان من شأنه تجفيف الثفل
وحبس البطن (4).
وأما ما كان من الطير الغالب على مزاجه اليبوسة، ولم يكن فيه حرارة قوية مثل الفتي من
الشفنين والفتي من الديوك والفواخت والورشان والدراج والحجل والطواويس والطيهوج والقطا، وجميع ما
يأوي في الآجام، فإن لحمه عصبي صلب (5) بطئ الانهضام حابس للبطن، إلا إذا انهضم، نال البدن
منه غذاء صالحا معتدل المزاج بعيد الانحلال من الأعضاء. ولذلك وجب أن تستعمل الحيلة فيما يلين
لحمه ويعين على سرعة انهضامه، وذلك لشيئين: أحدهما: ألا يستعمل منه ما جاوز السنة ويحمل على
نار جمر ويصير عليه أبدا حتى يسترخي لحمه ويلين ويرطب. والسبب الثاني: أن لا يستعمل منه ما كان
قريبا من الذبح، ولكن بعد ذبحه بيوم وليلة لتتمكن منه حرارة الهواء بزوال حرارته الغريزية فيحدث في
رطوبة لحمه غليانا وذوبانا ويتحلل منها مقدار ما يرخى لحمه ويلينه. وقد يستدل على ذلك من الشاهد،
وذلك أن اللحم إذا لبث بعد ذبح الحيوان يوما واحدا من أيام الصيف، لان وظهر لنا استرخاؤه حسا.
ولذلك صار هذا النوع من الصنعة أحمد لسرعة الانهضام فقط، لا لجودة الدم المتولد عنه، لان دمه في



(1) في الأصل: يستعملون.
(2) في الأصل: فليستعملونه.
(3) في الأصل: ويحذرونه.
(4) (وحبس البطن) مضافة في الهامش.
(5) في الأصل: عصبيا صلبا.
116
الجملة قد تغير واستحال استحالة ما، لبعده من الحرارة الغريزية وفعل الحرارة العرضية فيه. والدليل
على ذلك أنا نجد اللحم إذا لبث زمانا كثيرا، ظهرت استحالته للحس، ونتنت رائحته. ومن البين أن
الزمان الكثير إذا فعل فيه من الاستحالة والتغيير مثل هذا الفعل، فإن الزمان القليل يفعل فيه بقسطه.
ولذلك، صار غذاء ما كانت هذه سبيله من اللحمان أذم وأردأ مما كان طريا. وأما النوع الأول،
أعني ما كان طريا وقد أنضج بنار جمر حتى لان لحمه وترطب، فإن غذاءه (1) أحمد وأفضل وأكثر تقوية
للأعضاء وألبث فيها وأبعد انحلالا منها. ذلك لطراء دمه وذكائه وقربه من الحرارة الغريزية.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن ما كان من الحيوان والنبات أرطب مما ينبغي، أو لم يبلغ
ما يحتاج إليه من النضج، فإنه إذا بقي زمانا لان منه ما كان صلبا، ويبس ما كان منه رطبا، ونضج ما
كان منه غير نضيج، وصارت كلها أسرع انهضاما وخروجا. وإذا كانت لينة أو معتدلة في الرطوبة أو جافة
أو نضيجة، فإن ما كان منها لينا يصلب، وما كان منها معتدلا في الرطوبة أو جافا، أفرط عليها اليبس
وصارت كلها أسرع انهضاما وخروجا. وما كان منها نضيجا، فإنه يعفن.
فإن عارضنا معترض وقال: ما بال جالينوس حكم على اللحم الصلب، أنه إذا قام زمانا تحللت
رطوبته بحرارة الهواء وذابت واكتسبت ليانة ورخاوة، ولم لم يحكم بمثل ذلك على اللحم الرخو أيضا؟
ويقول: إن اللحم اللين إذا قام زمانا تحللت منه رطوبة بحرارة الهواء وذابت وزادته رخاوة على رخاوته.
قلنا له: إن جالينوس إنما تكلم في هذا الفصل بكلام عامي شامل للحيوان والنبات جميعا.
فتكلم بدءا في اللحمان وقال: إن ما كان من اللحمان صلبا فإنه، إذا بقى زمانا، تحللت من بدنه رطوبة
بحرارة الهواء وذابت، ولان لحمه واسترخى. ثم تكلم بعد ذلك في النبات فقال: إن ما كان من الثمر
رخوا لينا سخيفا منحلا متخلخلا، فإنه إذا بقي زمانا جف واكتنز وصلب وصار معتدلا. وما كان منه علكا
صلبا جافا مكتنزا، فإنه، إذا بقي زمانا، زالت علوكته واكتنازه وجفافه، ولان واعتدل. والدليل على ذلك
أنا نجده، إذا طال به الزمان وجاوز المقدار، فنيت أكثر رطوبته الجوهرية واستأس (2) رويدا رويدا حتى
يصير ترابيا.
فقد بان واتضح أنه لا يجب أن يؤكل من اللحمان ما كان في طبيعته صلبا يابسا مثل لحم الفتي
من الشفنين والفتي من الديوك والفواخت والورشان والدراج والحجل والطواويس والطيهوج والقطا
وجميع ما يأوي الآجام (3) إلا بعد ذبحه بيوم ليلين لحمه ويسترخي فيجود هضمه. وأحمد ما في هذا
النوع من الطير القطا، لأنه أقلها يبسا وجفافا وأرخاها لحما وأعدلها غذاء.
وأما ما كان من الطير الغالب على مزاجه الرطوبة مثل البط وبعدها فراخ الحمام والنعام، فإن



(1) في الأصل: غذاؤه.
(2) أس: أفسد.
(3) يقال: أوى البيت وإلى البيت.
117
لحمها أغلظ غذاء وأكثر فضولا وأعسر انهضاما وأردأها كلها النعام، لأنها أغلظ غذاء وأكثر إتعابا
للمعدة جدا. ولذلك صار لحمها غير موافق للمعدة لاتعابه لها واستكداره إياها لبعد انهضامه. ولهذا
صار من الأفضل ألا يستعمل من النعام إلا أجنحتها ورقابها فقط، لان الأجنحة من كل طير أرخى لحما
وأسرع انهضاما، لان دوام حركتها ترخى لحمها وترضه فيسرع انهضامه ويجود. وأما البط فهو ألطف
وأقل فضولا وأرطب لحما وألذ طعما من النعام كثيرا وبخاصة ما كان منها بريا، أو كان قد جعل في علفه
التين اليابس المدقوق، لان ذلك مما يزيد في لذاذته وكثرة غذائه وسرعة انهضامه وجودة استمرائه في
العروق. وأفضل ما في البط أيضا أجنحته، وأذم ما في البط النوع المسمى الخشيشار لأنه أغلظها
وأكثرها رطوبة.
وللفاضل أبقراط في هذا فصل قال فيه: إن جميع الطير أخف لحما وأقل رطوبة من المواشي.
وأجف الطير وأقله رطوبة الفواخت، وبعدها في ذلك الحجل، وبعد الحجل الدراج. وأرطب لحوم
الطير الحضري لحم الإوز، وأرطب لحوم الآجام لحم الخشيشار. وأما فراخ الحمام، فإنها ألطف
وأسرع انهضاما وأقل فضولا من البط كثيرا، ذلك لنقصان رطوبتها عن رطوبة البط ورخاوة لحمها، إلا
أنها لزيادة حرارتها، صارت أكثر إحراقا للدم وبخاصة متى كانت برية لأنها أزيد حرارة وأقل رطوبة.
ولذلك صارت أسرع استحالة إلى الاحتراق وجنس المرار.
ولهذا نهت الأوائل عن استعمالها إلا بما يبرد مزاجها، ويقمع حدة مزاجها وحرارتها، لتقل
أذيتها، فأمرت بأن لا تتخذ إلا حضرمية (1)، أو بوارد مطيبة بماء رمانين (2) وحماض الأترج وماء حصرم
ولب الخيار والقثاء وقضبان الرجلة وقلوب الخس والهندباء والكزبرة الرطبة واليابسة والأمير باريس (3).
وأما النواهض من الحمام، فهي أقل فضولا من الفراخ وألطف كثيرا من قبل أنها أقل رطوبة وأيبس.
وأما اختلاف غذاء الطير من قبل سنه، فإن ما كان من الطير أيبس مزاجا، فإن صغيره أفضل
وبخاصة متى كان مزاجه حارا، وما كان مزاجه أرطب، فإن كبيره منه أفضل، وبخاصة متى كان
مزاجه باردا.
وأما اختلاف غذاء الطير على حسب لطافته وغلظه، فيكون على أربعة ضروب: وذلك أن من
الطير اللطيف جدا في النهاية كأنه في الدرجة الرابعة من اللطافة، مثل التدرج والشحرور. ومنه ما هو
دون ذلك بدرجة كأنه في الدرجة الثالثة من اللطافة، مثل الدراج والحجل والطيهوج والفراريج والفراخ
والعصافير. ومنه ما هو دون ذلك أيضا بدرجة، في الدرجة الثانية من اللطافة، مثل الشفنين والفواخت



(1) حضرم وحضرم الطعام: خلطه، وهو محضرم أو مخضرم: بين بين.
(2) وروي: ماء الرمامين.
(3) هو الغرم، ويقال له أيضا: أمبرباريس. وبالفارسية: الزرشك.
118
والورشان والقنابر والسلوى والبط. ومنه ما هو دون ذلك أجمع كأنه في الدرجة الأولى من اللطافة، مثل
الطواويس والكركي. فما كان من الطير في المرتبة العليا والدرجة الرابعة من اللطافة، كان أسرع الطير
انهضاما وألطفه غذاء وأقربه من التحليل من الأعضاء، ولذلك صار أقلها غذاء. وما كان منه في المرتبة
السفلى والدرجة الأولى من اللطافة، كان أغلظ الطير وأقله لطافة وأعسره انهضاما وأبعده من الانحلال
من الأعضاء، إلا أنه أكثرها غذاء. وما كان متوسطا بين هاتين الحاشيتين كأنه في الدرجة الثانية أو الثالثة
من اللطافة كان أيضا متوسطا في لطافته وغلظه وسرعة انهضامه وإبطائه. إلا أن ما كان منها في الدرجة
الثالثة ألطف وأسرع انهضاما وأقل غذاء مما كان منها في الثانية، بقرب ما كان منها في الدرجة الثالثة من
المرتبة العليا والدرجة الرابعة، وقرب ما كان منها في الدرجة الثانية من المرتبة السفلى والدرجة الأولى
من اللطافة. وأذمها كلها السلوى لأنها غير صالحة في الانهضام وفى الغذاء.
فإن عارضنا معترض وقال: ما بال جالينوس ساوى بين مرتبة العصافير والفراريج في الغذاء
وجعل القنابر أغذي من الفراريج؟ والعيان يبطل ذلك، لان الفراريج أعبل وأكثر لحما وأرطب، وما كان
كذلك كان غذاؤه أكثر.
قلنا له: إن جالينوس لم يذكر في هذا الباب كثرة الغذاء وقلته الكائن بالطبع، بل إنما ذكر كثرة
الغذاء وقلته الكائن بالعرض، لأنه إنما قصد في هذا الباب الكلام على مراتب اللطافة والغلظ وسرعة
الانهضام وإبطائه. فأعلمنا بما هو من الطير لطيف سريع الانهضام قريب الانحلال من الأعضاء، وبما
هو بطئ غليظ الانهضام بعيد الانحلال من الأعضاء. فلما أعلمنا بذلك، وقفنا على ما كان لطيفا سريع
الانحلال من الأعضاء، فإنه وإن كان كثير الغذاء بطيئه، فإنه قليل الغذاء بالعرض، لأنه إذا انحل من
الأعضاء بسرعة خلت الأعضاء منه وافتقرت إلى غذاء ثان، فقام عندها مقام القليل الغذاء. وما كان
غليظا بطئ الانحلال من الأعضاء، فإنه وأن كان قليل الغذاء بطبعه، فقد يتفق له أن يكون كثير الغذاء
بالعرض، لأنه لبعد انحلاله من الأعضاء وطول لبثه فيها، تستغنى الأعضاء عن غذاء مستأنف، فيقوم
ذلك مقام الكثير الغذاء. ولذلك، صارت الكراكي والطواويس أكثر غذاء من البط، وإن كان من الواجب
أن يكون البط أعني لكثرة دمه وزيادة رطوبته وقلة دم الكراكي والطواويس ونقصان رطوبتها إذ كان
لحمها ليفيا عصبيا شبيها بلحم الأجنحة من كل طير. فلذلك صارت في طبيعتها أقل غذاء، وإن كان قد
يتهيأ فيها أن تكون أكثر غذاء بالعرض، لغلظها وبعد انحلالها من الأعضاء.
فإن عارضنا وقال: لا، فلم ساويت لحم الكراكي والطواويس بلحم الأجنحة من كل طير على
غلظ لحم الكراكي والطواويس، وبعد انهضامه؟ وجالينوس يقول: إن ألطف ما في الطير من الأعضاء
وأسرعه انهضاما أجنحتها وأعناقها!.
قلنا له: إن اللطافة في الأعضاء تكون على ضربين: إما طبيعية، مثل لطافة لحم العضل، وإما
عرضية مكتسبة، مثل لطافة اللحم المجاور للعظم. فلطافة الأجنحة والأعناق إنما هي عرضية لا طبيعية،

119
لان الأجنحة في نفسها عصبية صلبة ليفية اللحم، لان الطبيعة احتاجت أن تكون كذلك، لتثبت على
دوام الحركة وصعوبتها. غير أنها لدوام حركتها وتعبها دائما، استرخى لحمها ولان واكتسبت لطافة ولذاذة
وسرعة انهضام. فهي بالإضافة إلى ذاتها، قريبة من طبيعة لحم الكراكي والطواويس في غلظه وبعد
انهضامه. وبالإضافة إلى دوام تعبها وحركتها، قريبة من طبيعة أطراف العضل في لطافتها وسرعة
انهضامها.
وأما اختلاف غذاء الطير من قبل سمنه وهزاله، فإن ما كان من الطير أرطب مزاجا في طبيعته
وذاته، كان مهزوله أحمد من سمينه، لان يبس الهزال يزيل عنه أكثر رطوبته ويعدل مزاجه، وزيادة
الشحم تزيد في رطوبته وغلظه وبخاصة متى كان هرما أو صغيرا جدا. وما كان من الطير أيبس مزاجا
بالطبع، كان سمينه أفضل من مهزوله وبخاصة متى كان فتيا، لان رطوبة الشحم تزيل عنه أكثر يبسه
وتصلح مزاجه.
وقد يختلف الطير في سمنه وجودة غذائه على حسب أزمان السنة، وذلك أن من الطير ما يسمن
ويجود غذاؤه في الشتاء وبعده الربيع، مثل التدرج والشحرور والفواخت. ومنه ما يسمن ويجود غذاؤه
في الخريف وبعده الصيف، مثل الدراج والطير المسمى أسود الرأس والسمان والشفنين.
وأما اختلاف غذاء الطير على حسب اختلاف أعضائه، فيكون على وجوه ثلاثة: أحدها: من
تركيبها وتأليفها. والثاني: من حركتها وسكونها. والثالث: من مواضعها وأماكنها. وأما تركيب الأعضاء
فقد بينا أنها تكون على ثلاثة ضروب، لان منها عصبي مثل الجلد والمعاء، ومنها لين رخو مثل الشحم
والدماغ، ومنها معتدل مثل العضل واللحم الأحمر المعرى من الشحم. فما كان منها عصبيا كان قليل
الغذاء بطئ الانهضام وبخاصة متى كان من حيوان مهزول أو حيوان يابس بالطبع، مثل الشفنين
والحجل والورشان. وما كان من حيوان مخصب سمين أو حيوان رطب المزاج بالطبع مثل البط والفراخ
الحمام، فإنه إذا انهضم غذى غذاء كثيرا عسير الانحلال من الأعضاء.
فأما ما كان من الأعضاء تركيبه لينا رخوا مثل الشحم والدماغ، فإن الغالب على مزاجه الحرارة
والرطوبة، إلا أن رطوبته أغلب قليلا وبخاصة متى كان من حيوان أرطب بالطبع. ولذلك صار قليل
الغذاء مذموما للأسباب التي بيناها فيه عند كلامنا في ذكر شحوم الحيوان المشاء. وقد يختلف شحم
الطير على حسب اختلاف مزاج الحيوان الذي هو منه، وسنه، وطراء الشحم وقدمه، وذلك أن ما كان
من حيوان أسخن، كان مزاجه أحر وأكثر تحليلا للأورام. وما كان من حيوان أبرد، كانت (1) حرارته أقل
وكان في ذاته أعدل. وما كان منه من حيوان أيبس بالطبع، كان أقل ترطيبا وتليينا. وما كان من حيوان
أرطب، كان أكثر ترطيبا وتليينا وتسكينا للحدة العارضة في الأعضاء. ولذلك صار شحم الإوز نافعا من



(1) في الأصل: كان.
120
اللذع العارض في المعدة والمعاء إذا احتقن به.
وما كان منه من حيوان أصغر سنا، كان أرطب. وما كان من حيوان أكبر سنا، كان أيبس. وما
كان منه طريا قريب العهد بالحيوان، كانت حرارته أقل وترطيبه أكثر. وما كان منه عتيقا بعيد العهد
بالحيوان، كان إسخانه أكثر، وترطيبه أقل.
وأما اختلاف غذاء الطير على حسب اختلاف أعضائه فيكون على ضروب: وذلك أن من أعضاء
الطير ما هو دائم الحركة لطبيعته وذاته، مثل الأجنحة وبعدها الأعناق والأرجل. ومنها الدائمة السكون
العديمة الحركة، مثل البطن وما يحويه. ومنها المتوسط الحركة، وهي التي وإن كانت متحركة، فحركتها
لغيرها لا لذاتها، مثل اللحم المجاور للأكتاف وعظم الصلب والأضلاع. ومنها القريب من ينبوع
الحرارة الغريزية، مثل الصدر وما جاوره. ومنها البعيد من ينبوع الحرارة الغريزية، مثل الاعجاز والأفخاذ.
وما كان منها دائم الحركة لذاته وعينه، مثل الأجنحة والأعناق والأرجل، كان ألين الأعضاء وأسرعها
انهضاما وألذها طعما لما بيناه مرارا من فعل الحركة في الأعضاء. وألذ الأجنحة وأفضلها غذاء أجنحة
الدجاج وبعدها أجنحة الإوز. وأما ما سوى ذلك من الطير، فإن أجنحتها، وإن كانت لطيفة الغذاء،
فإنها لا تكاد أن تؤكل، لا تقوت البدن أصلا. وأما اللحم المجاور للأكتاف والصلب والأضلاع، فإن ما
يجاوره من العظام المحركة له، ترض لحمه وتكسره وترخيه وتنفي فضوله وتفيده لذة وطيب طعم وحسن
غذاء.
وأما الصدر، فإن لحمه وإن كان فاضلا لقربه من ينبوع الحرارة الغريزية، فإن لذاذته قليلة لأنه
ليفي (1) قليل الدسم من قبل أن الحرارة الغريزية لقربها منه، تفني أكثر دسمه (1) في غذائها، ولذلك يقل
دسمه ولذاذته.
فإن عارضنا معترض وقال: لم صار لحم الأضلاع وما يلي أصول الأجنحة أيضا ليفيا قليل الدسم
واللذاذة وقربه من الحرارة الغريزية لقرب لحم الصدر منها؟.
قلنا له: إن لحم عظام الأضلاع وأصول الأجنحة، فالذي عليها من اللحم يسير جدا، وفيها من
التجويف ما يحوي من الدسم ما يفي بغذاء الحرارة الغريزية وبترطيب اللحم وتدسيمه. وأما عظم
الصدر فرقيق صفائحي ليس له تجويف أصلا ولا يحوي من الدسم شيئا. وإذا لم تجد الحرارة الغريزية
فيه من الدسم ما يفي بغذائها، رجعت إلى دسم اللحم الذي عليه، فأخذته بغذائها وبقي اللحم ليفيا
قليل الدسم واللذاذة، إلا أنه في جودة غذائه، محمود جدا لمجاورته الحرارة الغريزية وتلطيفها له
وإنقائها الفضول عنه.



(1) في الأصل: ليفيا.
(2) (دسمه) مكررة في بداية الصفحة.
121
وأما العجز، فهو أكثر دسما وألذ طعما، وذلك لجهتين: إحداهما: أنه لبعده من الحرارة الغريزية
وقلة ما تأخذه من دسمه، يبقى دسما لذيذا. والثانية: أن في عظامه من التخلخل والتجويف ما يحوي
دسما كثيرا يفي بغذاء الحرارة الغريزية وترطيب اللحم ولذاذته. ولذلك صار الشحم يكثر فيه طبعا
دائما.
وأما الأفخاذ، فقد اجتمع لها لذاذة الطعم وجودة الغذاء وسرعة الانهضام من جهتين: إحداهما:
دوام حركتها واتساع تجويف عظامها وما تحويه من كثرة الشحم. والثانية: أن لحمها عضلي (1) منسوج
بعصب دقيق. وأفضل اللحمان لحم العضل وبخاصة أطرافها لدوام تعبها واجتماع العصب اللطيف
فيها.
وأما الدماغ، وإن كان بالإضافة إلى دماغ المواشي، قليل المقدار جدا، فإنه ألذ طعما وأفضل
غذاء وأبعد من الفساد كثيرا، من قبل أنه أقل رطوبة وأصلب، وبخاصة متى كان من حيوان بري.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن ما كان من الطير يأوي الجبال، فإن دماغه أفضل، وكذلك سائر
أعضائه.
وأما الخصي، فإنه أيضا بالإضافة إلى خصى المواشي، أفضل كثيرا لأنه أحمد غذاء وأسرع
انهضاما وبخاصة متى كان من حيوان مسمن بالتين اليابس واللبن، لأنه عند ذلك يولد دما كثيرا، غير أن
ليس له أثر بين في إطلاق البطن ولا حبسها. وأفضلها كلها خصى الديوك، لان الديوك في مزاجها أعدل
حرارة وأقرب من التوسط والاعتدال في الرطوبة واليبوسة. وهي أيضا أكثر سفادا، فهي لكثرة سفادها
تكثر حركة الخصي منها، وتعبه، ويقل فضوله ويلطف. ولاعتدال حرارتها، توسطت الرطوبة واليبوسة،
وكثر غذاؤها وأعانت على زيادة المني.
وأما القوانص، فإن قشرها الداخلي (2) لا يؤكل أصلا، إلا أنه إذا جفف وسحق وشرب، نفع من
وجع المعدة العارض من الحرارة واليبوسة، وقوى المثانة، ومنع من درور البول، وبخاصة متى كان من
قوانص الدجاج والديوك، لأنها أخص بذلك من جميع الطير لاعتدال مزاجها وفضل تقويتها. وأما لحم
القوانص، فبطئ الانهضام قليلا، إلا أنه إذا انهضم غذى غذاء كثيرا محمودا. ومن القوانص ما هو
لذيذ (3) جدا، مثل قوانص الإوز وبعدها قوانص الدجاج، وبخاصة إذ خلط في علفها التين اليابس
المدقوق وعجن باللبن الحليب.
وأما الكبود، فهي من كل حيوان مذمومة جدا، لأنها غليظة بطيئة الانهضام. وأفضل الكبود كبود
الدجاج والإوز، لأنها غير عسيرة الانحدار، وكذلك حالها في الانهضام أيضا.



(1) في الأصل: عضليا.
(2) في الأصل: الداخل.
(3) في الأصل: لذيذا.
122
وأما المعاء، فأكثرها لا يؤكل لأنها لا تقوت البدن أصلا. ولذلك لا يستعمل منها إلا ما كان من
الدجاج والإوز فقط، لأنها أرطب وأكثر غذاء، ذلك لكثرة غذائها وقلة حركتها، وبخاصة متى كانت
مسمنة بالدقيق والتين واللبن. ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن معاء الديوك والبط المسمنة بالدقيق
والتين واللبن مشاكلة لمعاء الخنزير إذا علف التين قبل أن يذبح. وبعض الناس يمدحون معاء النعام،
غير أنه بالإضافة إلى غيره من الأطعمة قليل الاستمراء جدا. ولجالينوس فصل في معاء النعام قال فيه:
إن بعض الناس يمدحون بطن النعام باطلا، ويزعمون أنه يمرئ وأنه دواء نافع (1) لجميع الناس.
وأما ألسنة الطير ومناقيرها، فلا حاجة بنا إلى ذكرها لمعرفة العوام بها.



(1) في الأصل: نافعا.
(2) في الأصل: وكثيرا.
123
الباب السابع عشر
فيما يتولد من الحيوان والطير من البيض واللبن
القول في البيض
أما البيض فينقسم في جنسه قسمة أولية على ثمانية ضروب: وذلك أن منه ما يكون من حيوان
أصح جسما وأعدل مزاجا. ومنه ما يكون من حيوان أسقم جسما وأفسد مزاجا. ومنه ما يكون من حيوان
أعبل وأسمن. ومنه ما يكون من حيوان أهزل وأعجف. ومنه ما يكون من حيوان له ذكر. ومنه ما يكون
من حيوان ليس له ذكر. ومنه ما يكون من حيوان فتي. ومنه ما يكون من حيوان هرم.
فما كان منه من حيوان أصح وأعدل، كان أفضل وأحمد، لان الدم المتولد عنه محمود
فاضل (1). ولذلك ما كان منه من حيوان أخصب وأكثر شحما، كان أفضل ذلك، لان الغذاء المتولد عنه
أكثر وألذ. وكذلك ما كان من حيوان له ذكر، كان أفضل، لان الحرارة الغريزية فيما كان له ذكر أقوى
منها فيما كان لا ذكر له. وكذلك ما كان من حيوان فتي كان أفضل، لان الحرارة الغريزية فيه أقوى
وأثبت.
وأما مزاج البيض، فهو في جملته، قريب من التوسط والاعتدال، كأنه مائل إلى مزاج بدن
الانسان. غير أن بياضه على الانفراد يقرب من البرد قليلا، كأنه بالإضافة إلى المح، بارد في الدرجة
الأولى. ويستدل على ذلك من عذوبته وتفاهة طعمه وقربه من طعم الماء. ولذلك صارت زهومته أكثر
وإغذاؤه أقل وأغلظ وانهضامه أعسر، وبخاصة متى كان من حيوان هرم أو حيوان ليس له ذكر.
وأما صفرة البيض، فهي على الانفراد تقرب من التوسط والاعتدال، أو أميل إلى الحرارة قليلا،
كأنها بالإضافة إلى البياض، صارت أقل عذوبة وأبعد من الزفورة والزهومة، وألطف غذاء وأسرع
انهضاما، وبخاصة متى كانت من حيوان فتي أو حيوان له ذكر، لأنها متى كانت من حيوان كذلك، كان
تقويتها للأعضاء أكثر وانحلالها منها أبعد، وإن كانت هذه الخاصة لازمة لجملة البيض من قبل أنها مادة



(1) في الأصل: محمودا فاضلا.
124
وغذاء للحيوان المشاء المناسب في طبيعته للحيوان الطيار. ولذلك شبهه الفاضل أبقراط بالمني واللبن
جميعا اللذين (1) هما مادة وغذاء للحيوان المشاء المناسب في طبيعته للحيوان الطيار. ولذلك قال: إن
البيض لما كان مادة وغذاء للحيوان الطيار المناسب لمزاج بدن الانسان، كان من الواجب أن يكون
الغذاء المتولد عنه كثيرا قويا. أما كثرته، فلان جوهره يستحيل دما ويتشبه بجوهر المغتذى به بسرعة،
وذلك لمناسبته مزاج بدن الانسان وقربه منه. وأما تقويته للأعضاء، فإن الحرارة الغريزية كلما ازدادت
فيه فعلا وتأثيرا، ازداد هو أيضا قوة صلابة. وذلك مقاس من الشاهد، لأنا نجده خارجا كلما ازداد فعل
الناس فيه تأثيرا، ازداد صلابة وجفافا. ففي هذا دليل واضح على أن كلما ازداد فعل الحرارة الغريزية
فيه باطنا، ازداد صلابة ويبسا، فهو إذا بعيد الانحلال من الأعضاء، زائد (2) في قوتها، إلا أنه يختلف في
جودة غذائه ورداءته وسرعة انهضامه وإبطائه لأسباب خمسة: أحدها: جنس الحيوان الذي يتولد منه
وجوهريته. والثاني: سن الحيوان ومدة زمانه. والثالث: خصب بدنه وهزاله. والرابع: طراء البيض
وقربه من الخروج من الحيوان، أو قدمه وبعده من الحيوان. والخامس: صنعة البيض وعمله الذي يتخذ
به.
فأما اختلاف البيض من قبل جنس الحيوان الذي هو منه وجوهره فيكون على ضروب: وذلك أنه
متى كان من حيوان ألطف طبعا وأعدل مزاجا وأحمد غذاء، مثل الدراج والدجاج، كان غذاؤه أفضل
وانهضامه أسرع وزهومته أقل، وبخاصة متى كان من حيوان فتي أو حيوان له ذكر. إلا أن انحلال ما كان
من هذا الجنس من الحيوان من الأعضاء أسرع. ولذلك صار غذاؤه لبقاء الصحة وثباتها أفضل منه في
قوة الأعضاء وشدتها. وما كان منه من حيوان أغلظ طبعا وأفسد مزاجا وأردأ غذاء، مثل النعام ودونه في
ذلك الإوز، كان غذاؤه أذم وانهضامه أعسر وزهومته أكثر، وبخاصة متى كان من حيوان هرم أو حيوان
ليس له ذكر إلا <أن> انحلال ما كان منه من هذا الجنس من الحيوان من الأعضاء أبعد. ولذلك صار
غذاؤه لقوة الأعضاء وشدتها أفضل منه في بقاء الصحة وثباتها.
وأما اختلاف البيض من قبل سن الحيوان، فيكون على ثلاثة ضروب: وذلك أن منه ما يكون من
حيوان صغير. ومنه ما يكون من حيوان هرم. ومنه ما يكون من حيوان فتي. وألطف البيض ما كان من
حيوان صغير، وأغلظه ما كان من حيوان هرم، لان ما كان من حيوان صغير، كان أسرع انهضاما وأقل
زهومة وأحمد غذاء، وبخاصة متى كان من حيوان له ذكر. وما كان من حيوان هرم، كان أعسر انهضاما
وأكثر زهومة وأردأ غذاء، وبخاصة متى كان من حيوان ليس له ذكر. ذلك لضعف حرارته الغريزية وقلة
رطوبته الجوهرية. وأعدل البيض وأكثره توسطا بين اللطافة والغلظ، ما كان من حيوان فتي، لأنه أخذ من
كل واحد من الحاشيتين بقسطه. ولذلك صار ألطف من بيض الحيوان الهرم، وأغلظ من <بيض>
الحيوان الصغير. من قبل أنه وإن كانت حرارته الغريزية على غاية ما تكون من القوة، فإن رطوبته



(1) في الأصل: اللذان.
(2) في الأصل: زائدا.
125
الجوهرية أقل من رطوبة الحيوان الصغير كثيرا. ولذلك صار فعله في بقاء الصحة وثباتها، وقوة الأعضاء
وشدتها فعلا متكافئا.
وعلى هذا الوزن والقياس يقال: أن البيض متى كان من حيوان أعبل وأكثر شحما أو حيوان له
ذكر، كان أفضل وأحمد مما كان من حيوان أهزل وأقل شحما، أو حيوان ليس له ذكر من قبل أن الحرارة
الغريزية، فيما كان من الحيوان أسمن، أقوى، ورطوبته الطبيعية أكثر. والحيوان المهزول بخلاف ذلك
وضده، لان حرارته الغريزية أضعف، ورطوبته الطبيعية أقل. وكذلك الحرارة الغريزية فيما كان من
الحيوان له ذكر، أقوى، وفيما كان من الحيوان ليس له ذكر، أضعف.
وعلى مثال ذلك أيضا، يقال في البيض: أنه متى كان طريا قريب العهد بالحيوان، كان أفضل
وأبعد من الزهومة. ومتى كان عتيقا بعيد العهد بالحيوان، كان أردأ وأخص بالزهومة. من قبل أن بعده
من الحيوان يدل على ضعف حرارته الغريزية. وضعف حرارته الغريزية يوجب كثرة فضوله وزفورته.
ولجالينوس في مثل ذلك فصل قال فيه: أن بيص الدجاج، وبعده بيض الدراج، أحمد البيض وأعدله
في فضل غذائه وجودة استمرائه، وبخاصة إن كان من حيوان له ذكر، وكان مع ذلك غذاء الحيوان لطيفا
نقيا. وبيض الفتي من الحيوان أفضل من بيض الهرم، وبيض ما كان له ذكر أفضل مما ليس له ذكر.
وبيض ما كان من الحيوان سمينا أفضل مما كان مهزولا. والبيض القريب العهد بالحيوان أفضل من
البعيد العهد بالحيوان.
وأما اختلاف البيض من قبل صنعته وعمله، فيكون على أربعة ضروب: وذلك من البيض ما
يتخذ مشويا. ومنه ما يتخذ مسلوقا. ومنه ما يتخذ مطبوخا. فأما المشوي فهو في الجملة أغلظ من
المسلوق وأعسر انهضاما، ذلك لتمكن حرارة النار من جسمه ونشفها لأكثر رطوبته الجوهرية. ولذلك
صار بالإضافة إلى المسلوق أكثر تجفيفا وأقل تسكينا لحدة الحرارة، إلا أنه ينقسم قسمين: لان منه ما
يدفن في الرماد الحار ويشوى بقشره. ومنه ما يفقس على طابق ويحمل على النار حتى يشتوي. فما كان
منه مفقوسا على طابق كان أذم وأردأ لان حرارة الطابق تباشر بعض أجزائه وتفني رطوبتها وتجففها
وتخرجها من حد الغذاء قبل أن يستتم فعلها في سائر أجزائه.
وأما ما كان منه مدفونا في الرماد، فهو بالإضافة إلى ما تقدم ذكره، أفضل لان النار لا تباشر
بعض أجزائه مباشرة تمكن معها أن تجفف رطوبته وتخرجه من حد ما يغتذى به قبل أن يستتم فعلها في
كل أجزائه. إلا أنه أيضا يكون على ضربين: لان منه ما يدفن كله في الرماد حتى يشتوي. ومنه ما
يحمل على الجمر. فما كان منه مدفونا في رماد، كان أذم لان حرارة النار تكتنفه من جميع نواحيه وتمنع
بخاره من التحلل، فتجتمع فيه بخارات مذمومة. وما كان محمولا على جمر، فإن البخارات تتحلل من
الاجزاء البعيدة من النار.
وأما المسلوق بالماء، فهو في جملته ألطف وأفضل من المشوي، من قبل أن رطوبة الماء تحول

126
بين النار وبين نشف رطوبته الجوهرية. ولذلك صار أقل تجفيفا وأكثر تسكينا لحدة الحرارة، إلا أنه أيضا
يكون على ضربين: وذلك أن منه ما يسلق بقشره. ومنه ما يفقس في الماء الحار حتى ينسلق. فما كان
منه مسلوقا بقشره كان أذم لان القشر يحقن في باطنه بخارات غليظة ويمنعها من التحلل. ولذلك صار
كثيرا ما يحدث من الاكثار منه رياح نافخة وثفل في المعدة وسائر البطن. وأما المفقوس في حرارة
الماء، فإن حرارة الماء بلطافتها تغوص في باطنه وتلطف غلظه وتزيل أكثر زهومته وزفورته. ولذلك صار
هذا النوع من صنعة البيض أفضل وأحمد كثيرا، إلا أنه متى استعمل محه فقط كان تجفيفه أكثر وتغذيته
أقل. ومتى استعمل مع بياضه، كان تغذيته أكثر وتجفيفه أقل.
وقد ينقسم كل واحد من أنواع المشوي والمسلوق على ضروب ثلاثة: وذلك أن منه ما يبالغ في
إنضاجه حتى ينعقد ويصلب. وهذا الضرب منه هو المسمى المشوي أو المسلوق على الحقيقة. ومنه ما
لا تفعل النار فيه إلا إسخانه فقط وأزيد قليلا. وهذا الضرب منه هو المسمى الحسو (1). ومنه المعتدل
النضج وهو المتوسط بين الصلابة والرخاوة. وهذا الضرب منه هو المعروف بالنيمبرشت. فما كان من
البيض انعقاده شديدا، كان تجفيفه أكثر وانحداره عن المعدة أبعد، ونفوذه في العروق أعسر، إلا أن
انحلاله من الأعضاء يكون أبعد. ولذلك صار ثقيلا في المعدة والمعاء، ولا تقتات الأعضاء منه إلا قوتا
يسيرا غليظا، وبخاصة متى كان مشويا، إلا أنه إذا انهضم في الأعضاء قواها قوة بينة. وما كان من
البيض انعقاده يسيرا كان تجفيفه أقل وانهضامه أسرع ونفوذه في العروق أسهل وتليينه للصدر أكثر، إلا
أن تقويته للأعضاء يكون أقل، ذلك للطافته وسرعة انحلاله منها. وما كان من البيض انعقاده معتدلا
متوسطا بين الرخاوة والصلابة، كان في فعله وانفعاله أيضا متوسطا بين ما كان انعقاده شديدا، وما كان
انعقاده يسيرا. ولذلك صار أعدل وأفضل وألذ عند الطباع، من أجل أنه بالإضافة إلى ما كان انعقاده
يسيرا، أقل زهومة وزفورة وألذ عند الطبيعة، لان قوة فعل النار فيه قد لطفته وأزالت أكثر زهومته. ولذلك
صار بالإضافة إلى ما كان انعقاده شديدا ألطف وأفضل وأسرع انهضاما وأسهل نفوذا في العروق وأقرب
إلى الانقلاب إلى الدم، وبخاصة متى كان مفقوسا في الماء الحار.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن ما كان من البيض شديد الانعقاد، كان مذموما لأنه أثقل
في المعدة وأعسر انهضاما وأبطأ نفوذا في العروق. وما ينال البدن من غذائه فغليظ، إلا أنه قوي بعيد
الانحلال من الأعضاء. ولذلك صار متى انهضم قوى الأعضاء قوة بينة.
وأما البيض النيمبرشت المتوسط الانعقاد، ففيه رقة ولطافة يسرع بها انحداره عن المعدة ويسهل
نفوذه في العروق وجولانه في البدن. ولذلك صار أحمد وأفضل في سرعة الانهضام والنفوذ في العروق
وأقرب من الانقلاب إلى الدم والتشبه بالأعضاء، ذلك لسرعة انقياده لفعل الطبيعة وبخاصة متى كان
مفقوسا في الماء، لأنه متى كان كذلك، عدم أكثر زهومته وزفورته. ومن خاصته أنه ملين لخشونة



(1) هو ما يتحسى من البيض وهو في حالة أقرب إلى النئ منه.
127
الأعضاء، ولذلك صار نافعا من خشونة الحنجرة والمرئ والصدر، مسكنا (1) لحدة النوازل المنحدرة من
الرأس إلى الرئة وملينا (2) للقروح العارضة فيها وفى سائر الأعضاء، وبخاصة قروح المعدة والمثانة
والمعاء، لأنه يلصق بأجرامها ويصير عليها بمنزلة الشحم المذاف (3) بالدهن إذا مسح على الجلد من
خارج. ولذلك صارت له تغرية بينة.
وزعم بعض الأوائل، أنه لولا ما فيه من يسير الزهومة، لقام مقام حسو الشعير. ودون هذا
الضرب من البيض في الفضل والجودة وجودة الغذاء النوع الملقب بالحسو الذي لم تفعل النار فيه إلا
إسخانه فقط وأزيد قليلا، لان زفورته وزهومته فيه كثيرة (4)، إلا أنه ليس بأقل فعل منه في سرعة الانهضام
والنفوذ في العروق، ولا هو أيضا بدونه في تليين المعدة والصدر والرئة وسائر الأعضاء، ولا هو أيضا
بأقل منه في تسكين حدة الفضول الحادة اللذاعة، إلا أنه لزيادة زهومته وزفورته، عافته الطباع، وصار
غذاؤه أذم كثيرا.
فقد بان واتضح أن أثقل البيض وأعسره انهضاما وأكثره غذاء، ما كثر انعقاده وصلابته. وأغلظ
من ذلك، المدفون في الرماد الحار، أعني المشوي. وألطف البيض وأسرعه انهضاما، المسلوق بالماء
وبخاصة متى كان مفقوسا فيه. ومتى أردت أن تسلق بيضا، بقشره ولا ينعقد، فامزج الماء الذي تسلقه
به بشئ من خل، وأدم تحريكه فإن انعقاده يبعد ويكتسب فعلا (5) في تسكين الأخلاط اللذاعة، إلا أن
فعله في تليين خشونة الصدر وسائر الأعضاء، يزول لما يكسبه من فيض الخل وتقطيعه.
وأما المقلي بالزيت، فهو أردأ البيض وأذمه غذاء، من قبل أنه لا يلبث في المعدة إلا يسيرا حتى
يستحيل إلى الدخانية والفساد. ويفسد بفساده ما يوافيه في المعدة من الطعام ويحدث ثفلا وتخما. وأردأ
التخم وأخبثها ما كان حدوثه عن البيض، وبخاصة متى كان مقليا.
وأما المطبوخ من البيض، فهو في جودة غذائه ورداءته متوسط بين المشوي وبين المفقوس في
الماء الحار، لان المفقوس في الماء الحار يرمى بالماء الذي يسلق فيه، فتزول عنه زهومته. والمطبوخ
فزهومته باقية في مرقه مع ما يكسبه أيضا من غلظ الأبازير التي تلقى فيه.
ولجالينوس في صنعة البيض فصل قال فيه: أن ما يدفن من البيض في الرماد الحار، فهو أغلظ
وأعسر انهضاما وأبعد انحدارا عن المعدة من المسلوق بالماء. وما طجن بالزيت ولد كيموسا رديئا وغذى
غذاء غليظ وأحدث بشما (6) وأضر بالبدن إضرارا بينا. وأحمد البيض ما سلق بالماء وغطيت القدر حتى



(1) في الأصل: مسكن.
(2) في الأصل: ملين.
(3) ذاف الشئ، وذافه: خلطه. وأكثر ما يكون في الدواء والطيب.
(4) في الأصل: كثيرا.
(5) في الأصل: فعل.
(6) بشم من الطعام: أتخم.
128
ينضج نصف نضوجه إلى أن يصير نيمبرشت، لان ما لم يكمل نضجه من البيض كان أسرع انهضاما وأكثر
غذاء وأقرب من توليد الدم الفاضل المحمود. وما كمل نضوجه وصلب، انتقل إلى طبيعة المشوي بالنار
والمدفون في الرماد الحار. وما صار إلى هذه الحال، فيجب ألا يؤكل إلا بما يعين على هضمه مثل
المري والزيت والشراب القوي.

129
القول في اللبن
أما اللبن فينقسم بدءا (1) قسمة جنسية على ثلاثة ضروب: لان منه الحلو القريب العهد بالخروج
من الضرع وهو المسمى بالحليب على الحقيقة. ومنه القوي الحموضة البعيد العهد بالخروج من الضرع
وهو المعروف بالدوغ (2). ومنه المتوسط بين هاتين المرتبتين وهو المعروف بالماست (3)، وبعض الناس
يلقبه بالرائب. فأما الحلو (4)، فهو في جملته منحرف عن المزاج المعتدل البرودة (5) إلى الحرارة
قليلا، كأن حرارته متوسطة في الدرجة الأولى أو في الدرجة الثانية. ويستدل على ذلك من عذوبته
وقربه من طعم الدم وانتقاله إليه بسرعة. ولذلك صار أقل رطوبة من السمك كثيرا، وأبعد من توليد
البلغم. ولهذا ما صار أفضل غذاء وأقرب من التشبه باللحم وسائر الأعضاء، إلا أنه مركب من جواهر
مختلفة لها قوى متضادة بعضها ملطف جلاء، وبعضها مغلظ مشدد، وبعضها ملين مرخ. وذلك أن فيه
مائية حادة ملطفة، وجبنية باردة مغلظة ميبسة، وسمنية ملينة مرخية. فهو بجوهره المائي الحريف،
صارت له لطافة يلطف بها الفضول ويغسل الأحشاء ويلذع المعاء ويهيج القوة على دفع ما فيها بسرعة.
ولذلك صار مطلقا (6) للبطن.
ولهذه الجهة صارت مائية اللبن من أوفق الأشياء لمن احتاج أن ينقص بدنه بما ليس فيه حدة
قوية، مثل من كان في عمق بدنه أو ظاهر جلده فضول (7) عفنة فاسدة أو فضول حادة كالفضول السوداوية
المتولدة عن احتراق الدم والمرة الصفراء، والفضول الحادثة عن البلغم العفن مثل البثور التي ينقشر لها
الجلد. وإنما اختلفت أفعال مائية اللبن لاختلاف مزاج الحيوان الذي يتولد منه، لان ما كان منها من
حيوان أسخن، مثل اللقاح (8)، كان فعله في البثور التي ينفش منها الجلد، وفى تفتيح سدد الكبد
والطحال، وتلطيف الرطوبات الغليظة المتولدة في جداول الكبد والعروق، أخص وأولى. ولذلك صار



(1) في الهامش: أولا.
(2) الدوغ: المخيض.
(3) الماست: كلمة فارسية: هو اللبن الرائب المعروف.
(4) في الأصل: الحلوا.
(5) (البودة) مضافة في الهامش.
(6) في الأصل: مطلق.
(7) في الأصل: فضولا.
(8) هي النوق.
130
لبن اللقاح أخص الأشياء بالنفع من الاستسقاء العارض من سدد الكبد والطحال لكثرة مائيته وحدتها.
وما كان منها من حيوان أعدل أو أميل إلى البرودة قليلا، كان فعله في الفضول السوداوية المتولدة
عن احتراق الدم والمرة الصفراء، أوجب وأوكد. ولذلك صار ماء الجبن المتخذ من لبن الماعز نافعا من
الجرب والهق والكلف ونزول الماء في العين إذا استعمل في كل علة بما يوافقها من التدبير والعلاج.
ومن قبل ذلك، صار إذا احتقن به، غسل المعاء ونقاها من الأوساخ الرديئة الفاسدة، ونظف قروحها من
المدة (1) العفنة.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: متى رأيت قروحا فاسدة مملوءة مدة، فاغسلها بماء الجبن،
إما بالشرب متى كانت القروح في أعلى البدن، مثل الصدر وما يليه، وإما بالحقنة متى كانت القروح
في أسفل البدن، مثل المعاء وما يليها. ولهذه الجهة، صار كل لبن مائيته أكثر، فهو أسلم الألبان وأقلها
غائلة وإن أدمن استعماله، لأنه يبعد من تولد الدم الغليظ كثيرا. ولذلك قال جالينوس: أن ما كان من
الألبان رقيقا مائيا شبيها بلبن الأتن (2) والخيل، فهو غير مولد للدم الغليظ. ولهذا ما صارت هذه الألبان
غير مضرة بأصحاب التدبير الملطف. وما كان من الألبان جبنيته أكثر من مائيته، مثل لبن البقر والنعاج،
فأنه يولد دما غليظا وإن كان لبن البقر بذلك أخص لقلة مائيته بالطبع. وما كان من الألبان معتدلا في
جواهره الثلاثة، مثل لبن النساء وبعده لبن الماعز، فإنه يولد دما معتدلا فاضلا. ولذلك اختارت الأوائل
اتخاذ ماء الجبن من لبن الماعز خاصة.
وقد يختلف ماء الجبن في تأثيره وفعله على حسب الشئ الذي يستخرج به، لان منه ما
يستخرج بالاسكنجبين. ومنه ما يستخرج بلب القرطم. ومنه ما يستخرج بالماء البارد أو بالرماد الحار.
ومنه ما يستخرج بماء التمر هندي.
فما كان منه مستخرجا بالاسكنجبين، أفاده الاسكنجبين زيادة في التلطيف والتنقية يقوى بها على
تفتيح سدد الكبد والطحال وتنقية الجلد من البثور والقوباء (3) الكائنة عن الدم المحترق، والنفع من نزول
الماء في العين. وما استخرج بلب القرطم، اكتسب من لب القرطم حرارة وحدة يقوى بها على تنقية
البلغم العفن، والنفع من الحميات البلغمانية المتطاولة، وتنقية ظاهر البدن من البثور المتولدة عن البلغم
المالح. وما استخرج منه بالماء البارد أكسبه الماء رطوبة وبرودة يقوى بها على تسكين حرارة المعدة
والتهابها، وقطع العطش المتولد عن حدة المرة الصفراء. وكذلك ما استخرج بماء التمر هندي يفعل مثل
هذه الأفاعيل، إلا أنه يكون أشد تقطيعا للفضول وإطلاق البطن وتنقية المعدة والمعاء لما يكتسبه من قوة
التمر هندي. وأما ما يحمل من اللبن على الرماد الحار حتى يغلى ويجمد ويتجبن، ويستخرج ماؤه منه



(1) المدة: ما يجتمع في الجرح من القيح.
(2) الأتان، جمع أتن وأتن وآتن: الحمارة، أو هي الأنثى من الحمر.
(3) داء يتقشر منه الجلد. يعرف عند العامة بالحزاز.
131
ويستعمل، فإنه قريب من ماء الجبن المستخرج بالماء البارد، إلا أنه أكثر تلطيفا وتجفيفا وأقل تسكينا
للعطش كثيرا. وأما جوهر الزبد، فهو في طبيعته حار لين كثير اللزوجة واللدونة، كأنه في مزاجه شبيه (1)
بمزاج بدن الانسان أو أقرب إلى مزاج الزيت العتيق في حرارته فقط، لا في يبسه، لأنه في اليبس
مخالف له كثيرا، لان الزيت في طبيعته يابس (2) وبخاصة متى كان عتيقا. والزبد في طبيعته لين (3)
وبخاصة متى كان حديثا. ولذلك صار الاكثار منه يرخي المعدة ويلين البطن.
ولهذا نسبته الأوائل إلى طبيعة الشحم المذاف بالدهن، وذكروا أنه متى أخذه من كان محتاجا
إلى أن ينفث من صدره ورئته شيئا عند الأورام المتولدة فيها أو في الغشاء المستبطن للأضلع، أعان على
ذلك ونفع منفعة بينة لان من خاصته أيضا إنضاج الرطوبات وتحليلها. إلا أنه متى استعمل وحده،
كانت (4) معونته على الانضاج أكثر، وعلى النفث أقل. ومتى استعمل مع العسل أو السكر، كانت معونته
على الانضاج أقل، وعلى النفث أكثر. ومتى طبخ الزبد ونزع ما فيه من يسير مائية اللبن وصار سمنا،
كانت لزوجته ودهنيته أكثر، وقوي على تحليل الأورام الخاسئة ولين خشونة الأعضاء. وقد يستدل على
ذلك من تليينه البشرة إذا مسح على الجلد من خارج. ولهذا السبب بعينه، صار مضرا بالمعدة اضرارا
بينا لأنه يلين خشونتها ويذهب بخاصتها التي بها تقوى على هضم الطعام وبخاصة متى كان مزاج
صاحبها بلغمانيا.
وأما جوهر الجبن، فهو بالإضافة إلى سائر جواهر اللبن، بارد، يابس، غليظ الخلط، عسير
الانهضام، بعيد الانحدار عن المعدة. ولذلك صار بحبس الطبيعة أولى منه بتليينها. فإذا استحكم
نضجه في المعدة، كان الخلط المتولد عنه غليظا عسير الانهضام في الكبد. ولذلك صار الاكثار منه غير
مأمون ولا موثوق به، لأنه من أخص الأشياء بتوليد السدد والغلظ العارض في جداول الكبد وعروق
الطحال ومجاري الكلى ولا سيما متى وافى هذه المواضع مستعدة لقبول ذلك منه، مثل أن تكون عروقها
ومجاريها ضيقة بالطبع، لأنها متى كانت كذلك، كانت متهيأة لقبول السدد ضرورة، وبخاصة متى
استعمل بالعسل، لان العسل يكسبه لذاذة تميل إليها الأعضاء وتقبله وتجذب إليها منه أكثر من مقدار
القوة على هضمه. فإن وافى مع ذلك حرارة الكلى مجاوزة للمقدار المعتدل، إما من طبيعتها وإما لعارض
عرض لها، تخزف فيها وتولد منه حجارة وحصى.
فقد بان واتضح أن اللبن في جملته محمود (5) من جهة، ومذموم (5) من جهة. فأما الجهة التي
يحمد فيها، فتكون على ضربين: أحدهما: أنه إذا جاد انهضامه في المعدة والكبد، غسل المعاء بما فيه
من لطافة المائية وحدتها، ونقى فضولها، ودفع بسمنيته السم القاتل، ولين الأعضاء، وذهب بخشونة



(1) في الأصل: شبيهة.
(2) في الأصل: يابسا.
(3) في الأصل: لينا.
(4) في الأصل: كان.
(5) في الأصل: (محمودا و (مذموما).
132
العين إذا اكتحل به، وحلل أورامها، ونفع بجبنيته من قروح الصدر والرئة والحلقوم وقروح الكلى والمثانة
والمعاء، وسكن لذع الأخلاط الحريفة المتولدة في المعاء، لأنه يلتف بالاحشاء ويحول بين الاخلاط
وبين التمكن منها. ولذلك صار متى استعمل مع بعض الأدوية القابضة، كان دواء فاضلا نافعا من
الزحير (1) واختلاف الأغراس وبخاصة متى شوي بالحجارة المدورة الملساء المحماة حتى تذهب مائيته
وحدته. وأفضل من الحجارة لمثل ذلك، قطع الحديد الفولاذ المدورة التي لها مقابض تمسك بها. وإن
ألقي على اللبن مثله ماء عذب (2) وألقيت فيه القطع الحديد المحماة دائما حتى يذهب ما ألقي عليه من
الماء، كان أفضل لأنه ليس يكره من ماء اللبن مائيته فقط، لكنه قد يكره منه أيضا حدته التي بها يطلق
البطن. وإن ردد الماء عليه مرارا وشوي في كل مرة حتى يذهب ما ألقي عليه من الماء، كان أكثر لزوال
حدته وحرافته وصار أفضل وأحمد، لما يقصد به من علاج الاسهال والزحير، وتقوية المعاء وتسكين لذع
الأخلاط الحادة.
والجهة الثانية التي لها يحمد اللبن، أنه لما كان مادة وغذاء للحيوان المشاء، وجب أن يكون
أعدل الأغذية وأقربها من الانقلاب إلى الدم وأسرعها تشبها باللحم وسائر الأعضاء إذا استعمل على ما
ينبغي أعني على نقاء من المعدة واعتدال من المزاج، وفى وقته الطبيعي. أريد بالوقت الطبيعي،
الزمان الذي هو في غاية من الاعتدال القريب في مزاجه من طبيعة اللبن، مثل زمان الربيع الطبيعي إذ
كان أعدل الأزمنة وأكثرها توسطا للكيفيات الأربع.
وقد بين ذلك جالينوس وفرق بين مزاج الربيع الطبيعي ومزاج الربيع غير الطبيعي في كتابه
المعروف بكتاب (المزاج). فإذا استعمل اللبن على غير نقاء من المعدة، أو على غير اعتدال من مزاج
بدن المستعمل له، أو في زمان غير معتدل، تغير بسرعة وانتقل إلى الدخانية وجنس المرار فيمن كان
مزاجه محرورا، وإما إلى الحموضة وجنس العفونة فيمن كان مزاجه باردا. وكثيرا ما يعرض ذلك إما
دائما وإما الحين بعد الحين، لأنه إن كان، إنما يعرض من قبل أن جوهر المعدة أو مزاج البدن بأسره قد
تغير وحاد عن الاعتدال، لزم اللبن التغيير والاستحالة دائما. وإن كان إنما يعرض ذلك لما يوافيه في
جرم (3) المعدة من أغذية قد تقدمته، أو فضل مري أو بلغماني كان، إنما يقع تغييره واستحالته عند موافاته
تجويف جرم المعدة ممتلئا إما من غذاء متقدم، وإما من فضول رديئة.
ومن قبل ذلك قال جالينوس: إن اللبن، وإن كان في جوهره ومزاجه محمودا فاضلا للطافته
وسرعة استحالته وانقياده للانفعال، فإن كثيرا ما يعرض له من اختلاف حالات المعدة أن يتجبن فيها،
وينتقل إلى الدخانية وجنس المرار أحيانا، أو يلزمه ذلك دائما، أو يحمض وينتقل إلى جنس البلغم
العفن أحيانا، أو يلزمه ذلك دائما. وذلك يكون على اختلاف الأسباب الفاعلة لهذين العرضين من قبل



(1) الزحير والزحار: استطلاق البطن أو تقطيع فيه بسبب ألما ويمشي دما. وهو المعروف اليوم (بالديسنطاريا).
(2) في الأصل: عذبا.
(3) في الهامش: تجويف.
133
أن الحموضة إنما تحدث دائما عن نقصان الحرارة وغلبة الرطوبة والدخانية فتحدث عن قوة الحرارة
ونقصان الرطوبة. وإنما اجتمع في اللبن الانقلاب إلى هذين العرضين على اختلاف أسبابهما وتضادهما
من قبل ما بيناه آنفا، وقلنا: إن اللبن مركب من جوهر مائي حريف وجوهر جبني غليظ وجوهر سمني
لطيف. فهو للطافة سمنيته وقربها من جوهر النار، يستحيل بسرعة إلى الدخانية وجنس المرار إذ كان
السمن بالطبع مادة وغذاء للحرارة دائما، ولغلظ جبنيته وقربها من ترابية الأرض، استحال إلى الحموضة
وجنس العفن. ولذلك وجب إلا يستعمله إلا من كان مزاج بدنه معتدلا وتجويف معدته خاليا نقيا من
الأغذية والمواد المرية والبلغمانية، لأنه متى سلم من هذه الأسباب وانهضم على ما ينبغي، غذى غذاء
كثيرا وولد دما محمودا وأفاد ظاهر البدن ليانة ونضارة.
ولروفس في شرب اللبن قول قال فيه: وينبغي لشارب اللبن أن يصير شربه له على الريق وهو
حار حين يحلب بحرارته التي بها يخرج من الضرع من غير أن يتقدمه غذاء غيره، ويمتنع بعد شربه من
كل ما يؤكل ويشرب إلى أن يتم هضمه حسنا، وينحدر عن المعدة، لأنه إن خالطه في المعدة شئ،
أي شئ كان، استحال وفسد بسرعة. وينبغي لشاربه أن يحذر التعب وإفراط الحركة، لان الحركة متى
وافت من القوة الماشلة (1) التي في المعدة أدنى ضعف، أزعجت اللبن وأحدرته بسرعة قبل تمام
هضمه. وإن وافت القوة قوية وتعذر انحدار (2) اللبن من المعدة، حمي بقوة الحركة واستحال، إما إلى
الدخانية وجنس المرار فيمن كان مزاج (3) معدته حارا، أو إلى (4) الحموضة والعفونة فيمن كان مزاج
معدته باردا. ولا ينبغي أيضا أن يتخلف عن المشي جملة كيلا يطفو اللبن بلطافته ويعوم في المعدة
ويبعد عن موضع النضج. ولكن يتمشى قليلا برفق على أشياء وطيئة تنخفض تحت رجليه لينحدر اللبن
إلى قعر المعدة الذي هو موضع الطبخ، وتتمكن الحرارة الغريزية من هضمه على ما ينبغي. فإذا انحدر
عن المعدة، تناوله ثانية وامتثل في التدبير الفعل الأول من الحركة اليسيرة برفق. فإذا انحدر أيضا عن
المعدة، تناوله ثالثة وامتثل في التدبير الرسم الأول والثاني، لان اللبن في ابتداء أمره يسهل البطن إسهالا
نافعا بما فيه من الجوهر المائي اللطيف. فإذا ضعفت قوة فعل الجوهر المائي، فعل بجوهره الجبني
ومنع الاسهال وأخذ في تربية البدن وزيادة اللحم من ذي قبل. ذلك لان اللبن إذا انهضم انهضاما تاما
كاملا، ولد دما صحيحا محمودا لذيذا عند الطباع.
والمختار من اللبن ما اجتمعت فيه خصال أربع: إحداهن: من لونه. والثانية: من رائحته.
والثالثة: من قوامه. والرابعة: من طعمه.
فأما ما له من لونه، فهو أن يكون أبيض صافيا نقيا سليما من الصفرة والحمرة والكمودة. وأما
رائحته، فيجب أن تكون ذكية سليمة من العفونة والزفورة. وأما قوامه، فيجب أن يكون معتدلا متوسطا



(1) أي: القليلة، الضعيفة.
(2) في الأصل: انحداره.
(3) في الأصل: مزاجه.
(4) (إلى) مستدركة فوق السطر.
134
بين الرقة والغلظ، إذا نقط المرء منه على ظفره أو على مرآة، بقيت أجزاؤه مجتمعة غير سيالة ولا مياعة،
بل يكون لها قاعدة مسطوحة وأعلى محدودب. وأما طعمه، فيجب أن يكون عذبا لذيذا سليما من
المرارة والملوحة والحموضة.
وأفضل الألبان في طبيعته وجوهريته ولطافته، لبن النساء. وبعده في ذلك، وإن كان غير قريب
منه، لبن الأتن. وأدسم الألبان وأكثرها غذاء، لبن البقر. وبعده لبن الضأن. وأكثر الألبان جبنية، لبن
الضأن. وبعده لبن البقر. وأكثر الألبان مائية، بين سائر الحيوانات لبن اللقاح. وبعد لبن اللقاح، لبن
الخيل والأتن. وأعدل الألبان وأكثرها توسطا بين الجواهر الثلاثة، لبن النساء. وبعده لبن الماعز.
والسبب في ذلك أن كل لبن من الألبان ينصرف إلى طبيعة الحيوان الذي هو منه، ومزاجه. فما كان منه
من حيوان أغلظ، كان غليظا. وما كان منه من حيوان ألطف، كان لطيفا. ولذلك، صار لبن البقر أغلظ
الألبان وأذمها، وأكثرها غذاء وأقواها تبريدا للأبدان وأشدها تقوية للأعضاء. ولبن اللقاح أرق الألبان
وأقلها دسما (1) وأيسرها غذاء (1) وأكثرها إسخانا (1) للأبدان وتفتيحا (1) للسدد، من قبل أن النوق في
طبيعتها قوية الحرارة جدا. فحرارة مزاجها تستعمل أكثر دهنية دمها في غذائها. وإذا قل ما في الدم من
الدسم، قل ذلك أيضا في اللبن، لان اللبن إنما هو دم منطبخ طبخا ثانيا. ولذلك صار في لبن النوق
ملوحة وحرافة يقوى بها على تلطيف الأثفال وتقطيع غلظها.
وأما لبن البقر، فهو بعكس ذلك وضده، لأنه لما لم يكن في حرارة مزاج البقر من القوة ما يحتاج
أن يستعمل دسم اللبن في غذائها، صار أكثر الألبان سمنا وزبدا وأزيدها غذاء.
ورقة لبن اللقاح وكثرة مائيته، إنما صارت له لكثرة حرارته الغريزية واستعمالها أكثر دسم لبنه في
غذائه. فإن قال: وكيف صار لبن الضأن أكثر جبنية من لبن البقر، ولبن البقر أغلظ وأدسم وأكثر غذاء؟
قلنا له: لان لبن الضأن لما كان أسخن وأقوى حرارة بالطبع، احتاجت حرارته إلى غذاء أكثر، وأفنت
دسم اللبن في غذائها. ولذلك نقصت سمنيته، وقل غذاؤه، وكثرت جبنيته. وأما لبن البقر، فإنه لما كان
أقل حرارة بالطبع، اكتفت حرارته الغريزية بالقليل من الغذاء، ولم يأخذ من دسم اللبن إلا اليسير.
ولذلك زادت سمنيته على جبنيته وكثر غذاؤه، من قبل أن جوهر الدسم أخص بتغذية الأبدان من
جوهر الخبز، لأنه أكثر حرارة ورطوبة، وأقرب من طبيعة الدم وأسرع إلى الانقلاب إليه. وقد أجمع
الأوائل، ووافقهم على ذلك العيان، بأنه لا شئ أكثر تغذية للأبدان مما كان سريع الانقلاب إلى الدم.
فإن عارضنا معترض بالشحم وقال: فلم لا كان الشحم أسرع انقلابا إلى الدم، وأكثر تغذية
للأبدان من اللبن، إذ كان أخص بالدهنية وأوحد بالدسم من سائر الأغذية؟.



(1) في الأصل: بالرفع.
135
قلنا له: إن الشحم، وإن كان أوحديا بالدهنية والدسم، فإن ليس فيه جوهر مائي لطيف يلطفه
ويسيله (1) ويعين على سرعة انقياده وانهضامه وجولانه في البدن. ولذلك غلظ وعسر انهضامه وانقياده
لفعل الطباع وبعد انقلابه إلى الدم. وأما اللبن، فلما كان فيه جوهر مائي سيال ملطف للفضول يسير
حرافته، زال عنه أكثر غلظه ولطف وسهل انهضامه وانقلابه إلى الدم وغذى غذاء حسنا. وقد يستدل
على ذلك من الجبن والسمن، فإنا نجدهما إذا فارقتهما مائية اللبن ورطوبته السيالة اللطيفة، عسر
انهضامهما، وبعد انقلابهما إلى الدم، وقل غذاؤهما. ولذلك صار الأفضل لمن أراد شرب اللبن، لزيادة
اللحم، أن يشربه بجملة جواهره الثلاثة، أعني بمائيته وزبدته وجبنيته من غير أن يزيل منها شيئا،
ويقصد من الألبان لبن البقر، وبعده لبن الضأن والماعز. ومن أراد شرب اللبن لتسكين الحرارة وتبريد
المزاج وتطرية الكبد، فليزل (1) عنه زبده وسمنه ويشرب منه مائيته وجبنيته، ويقصد من الألبان لبن البقر
فقط. ومن أراد أن يشرب اللبن لتلطيف الفضول وتنفيثها، فليزل (2) عنه زبده وجبنيته ويشرب منه مائيته
فقط، ويقصد من الألبان لبن اللقاح لمن كان مزاجه باردا، ولبن الماعز لمن كان مزاجه محرورا.
وكذلك، إن الألبان تنقسم في لطافتها وغلظها على خمسة ضروب: لان من اللبن اللطيف جدا.
ومنه ما هو دون اللطيف قليلا. ومنه الغليظ جدا. ومنه ما هو دون الغليظ. ومنه المعتدل المتوسط بين
اللطافة والغلظ على الحقيقة، لان بعده من الحاشيتين جميعا بعدا متساويا ولطافة اللبن تنتظم بمعنيين:
أحدهما: من طبيعته وجوهريته، والآخر: من فعله وتأثيره. فأما اللطيف من طبيعته وجوهره فهو المشاكل
لبدن الانسان بالطبع، مثل ألبان النساء، وبعدها ألبان الماعز. ولذلك صارت ألبان النساء أعدل الألبان
وأحمدها وأغذاها وأكثر نفعا من السمائم القاتلة وأوجاع الحجاب وقروح الرئة والكلى والمثانة، وبخاصة
إذا امتص من الضرع مصا من غير أن يحلب، فيباشره الهواء ويزيل عنه بعض حرارته الغريزية، فيغلظ
ويتغير.
وأما اللطيف من فعله وتأثيره، فهو ما قلت جبنيته وزبديته وكثرت مائيته وحدته الملطفة للفضول،
مثل لبن اللقاح. وقد يستدل على ذلك من ملوحة طعمه، ولذلك صار أقل الألبان غذاء وأكثرها تلطيفا
للفضول، ومن قبل ذلك صار أكثر الألبان تفتيحا لسدة الكبد والطحال وأخصها بالنفع من الاستسقاء
العارض من فساد مزاج (3) الكبد والطحال الكائن من البرودة والرطوبة. وحكى بعض المتطببين (4) في
كتبه أنه نافع من فساد مزاج الكبد والطحال العارض من الحرارة. وزعم أن ذلك صار فيه لفضل رطوبته



(1) في الأصل: ويسله.
(2) في الأصل: فليزيل.
(3) في الأصل: المزاج.
(4) المتطبب: الذي يتعاطى الطب وهو لا يعرفه معرفة جيدة.
136
ومائيته، ولعمري لولا ما فيه من الحدة والملوحة، لأمكن أن يكون ذلك. وقد امتحناه عدة مرار، فلم
نجد له فيما ذكر أثرا محمودا.
واللبن الغليظ جدا، فهو ما كان في طبيعته على نهاية البعد من المعتدل، مثل لبن البقر، لأنه
أقل الألبان مائية وأكثرها زبدية وجبنية، خلا لبن الضأن فإنه أكثر في الجبنية فقط على ما بينا. ويستدل
على كثرة جبنية لبن الضأن من كثرة زهومته، كما قال جالينوس: وفى لبن الضأن زهومة ليس في لبن البقر
مثلها. ولذلك صار أميل إلى البلغم. وله قول في لبن البقر قال فيه: إن لبن البقر أقل الألبان مائية
وحدة، وأكثرها غذاء وتربية للحم، وموافقة للمعدة، وتقوية للأعضاء، وتسكينا (3) للحرارة، وبخاصة
حرارة الكبد والمعدة. ومن خاصته، إنه إذا نزع زبده وشرب، برد المزاج وسكن لذع الأخلاط الحريفة
وقوى الحرارة الغريزية وعدلها وزاد في اللحم زيادة بينة ومنع الاسهال المري ونفع من الزحير
الصفراوي وقروح الأمعاء والمثانة والأرحام. وأفضل ما استعمل لهذا الشأن، إذا نزع زبده وألقي عليه
مثله ماء عذب وطبخ حتى يذهب الماء ويبقى اللبن، لان الماء يزيل عنه أكثر حدة مائيته وحرافتها
ويكسبه برودة ورطوبة يقوى بها على تسكين الحرارة وتربية اللحم. وإذا ردد الماء عليه مرارا، وطبخ في
كل مرة حتى يذهب الماء الذي ألقي عليه، كان ما يزول عنه من الحدة أكثر، وزاد ذلك في تبريده
للأبدان وترطيبه لها. فإن لم يلق عليه ماء ولم يطبخ، لكن ألقي فيه فخارة محماة أو قطع الحديد الفولاذ
المحماة، ورددت فيه مرات كثيرة حتى تذهب مائيته الطبيعية، قل تبريده وترطيبه، وقوى فعله في قطع
الاسهال والزحير وتقوية الأعضاء.
وأما اللبن المعتدل المتوسط بين اللطافة والغلظ، فهو الذي قد تساوت فيه الجواهر الثلاثة،
أعني جوهره المائي والجبني والسمني، مثل لبن الماعز، فإنه قد تكافأت فيه جواهره الثلاثة، ولذلك
صار بعد لبن النساء أعدل الألبان وأخفها على المعدة. ومن قبل ذلك صار متى طبخ حتى يذهب منه
النصف، وشرب بسكر طبرزد، نفع من قروح الرئة والكلى والمثانة. فإن نزع زبده وألقي عليه ماء
وشوي بالحجارة المحماة أو بقطع الحديد المحماة حتى يذهب الماء ويبقى اللبن، نفع من إسهال
الأغراس وقروح الأمعاء. وأكثر ما يشرب منه رطل. وينبغي للمستعمل له أن يحذر أن يتجبن في معدته،
لأنه إن تجبن لم يؤمن عليه أن يحدث ثقلا في المعدة، وبخارا يترقى صعدا، ويتولد عنه اختناق شديد
وضيق نفس. فمتى تجبن، فيجب أن يقطع شربه، ويشرب من العسل أوقية، أو أوقية ونصف مع شئ
من ملح هندي.
وأما اللبن الذي هو دون اللطيف، فهو المتوسط بين اللطيف جدا والمعتدل على الحقيقة مثل
<لبن> الأتن، وبعده لبن الخيل، فإنها متوسطة بين لبن اللقاح ولبن الماعز، من قبل أنها أقل مائية وحدة



(1) في الأصل: تسكين.
137
من لبن اللقاح وأكثر في ذلك من لبن الماعز، وإن كان بين لبن الخيل ولبن الأتن فرقانا بينا، من قبل أن
لبن الخيل أسخن وأقرب من طبيعة لبن اللقاح، ولبن الأتن أعدل وأقرب من طبيعة لبن الماعز. ولذلك
صار لبن الأتن ألذ طعما وأعذب من لبن الخيل واللقاح جميعا. ومن خاصته أنه للطافته وقلة جبنيته،
صار إذا شرب وهو حار وقت يحلب، لم يتجبن في المعدة كما يتجبن لبن الماعز كثيرا، وإن ألقي عليه
شئ من عسل وشئ من ملح، لم يتجبن أصلا، حليبا كان أو غير حليب. ولذلك صار ألطف من لبن
الماعز وأقرب من لبن النساء في اللطافة فقط، لا في الاعتدال، من قبل أن لبن الماعز أخير غذاء وأقرب
من لبن النساء في الاعتدال والتوسط. ولهذا السبب صار لبن الأتن مطلقا للبطن، ملينا لجميع الأعضاء
العصبية إذا كان سبب خشونتها الحرارة واليبس. ومن قبل ذلك صار مخصوصا بتسكين البهر (1) والربو
والسعال العارض من النوازل الحريفة، ولا سيما إذا شرب من الضرع إن لم تعافه النفس. وهو مع ذلك
نافع من قروح الصدر والكلى والمثانة.
فقد بان، مما قدمنا إيضاحه، أن أعدل الألبان وألطفها مزاجا وأحمدها غذاء، ألبان النساء،
وبعدها في اللطافة ألبان الأتن. وأما في الاعتدال وجودة الغذاء، فألبان الماعز بعد ألبان النساء. ذلك
لاعتدالها وتكافؤ الجواهر الثلاثة فيها. وأما لبن الخيل، فلقربه من لبن اللقاح في اللطافة، صار فيه
تلطيفا في فعله، يقوى به على تفتيح أوراد الأرحام وإدرار الطمث متى كان سبب انقطاع الطمث الحرارة
واليبوسة. وهذه الخاصة لازمة له دون غيره من الألبان.
وأما اللبن الذي هو غليظ قليلا، فهو المتوسط بين الغليظ جدا وبين المعتدل على الحقيقة، مثل
ألبان الضأن المتوسط بين لبن البقر ولبن الماعز، لأنه أقل مائية وأكثر جبنية وسمنية من لبن الماعز، وأقل
سمنية وأكثر مائية وجبنية من لبن البقر. ولذلك صار أكثر غذاء من لبن الماعز، وأعون على حبس
البطن، وأقوى فعلا في الاسهال وقروح الرئة والكلى والمثانة، وأظهر تأثيرا في الزحير واختلاف الدم
والأغراس، إلا أنه دون لبن البقر في كثرة الغذاء وحبس البطن كثيرا، لما فيه من زيادة المائية على لبن
البقر.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن لبن البقر أقوى الألبان على حبس البطن، وبخاصة متى
نزع زبده وشوي بالحجارة المحماة أو بقطع الحديد المحماة. ودونه في ذلك لبن النعاج.
وقد يقع في الألبان اختلاف كبير من وجوه أربعة: أحدها: مزاج الحيوان الذي هو منه. والثاني:
غذاء الحيوان ومرعاه. والثالث: اختلاف أوقات السنة. والرابع: طراء اللبن وقدمه.
فأما اختلافه من قبل مزاج الحيوان الذي هو منه، فيكون على ضروب ثلاثة: لأنه متى كان من
حيوان أعدل مزاجا وأخصب لحما، كان أفضل لأنه يولد دما محمودا وبخاصة متى شرب من الضرع أو



(1) هو حالة انقطاع النفس من الاعياء.
138
حين يحلب قبل أن يغيره الهواء. ومتى كان من حيوان أردأ مزاجا وأسقم بدنا وأهزل لحما، كان أذم
وأفسد غذاء، لأنه يولد دما مذموما فاسدا، وبخاصة متى كان شربه بعد خروجه من الضرع بمدة أطول.
وأما اختلاف اللبن من غذاء الحيوان ومرعاه، فيكون أيضا على ضروب: وذلك أن من الحيوان
ما يرعى الحشيش الغض الطري. ومنه ما يرتعي الحشيش اليابس وأغصان الأشجار الرطبة. ومنه
ما يرتعي الحشيش العفص القابض، مثل القرظ (1) والبلوط وقشور أصول شجر السماق. ومنه ما يرتعي
الأدوية المسهلة، مثل السقمونيا (2) وبعض اليتوعات (3) وأصل النبات المعروف بقثاء الحمار وما شاكل
ذلك.
فما كان منه يرتعي الحشيش الغض الطري، كان لبنه أرق وأكثر مائية وأعون على تليين البطن
وأردأ للمعدة. وما كان منه يرتعي الحشيش الجل (4) وأغصان الأشجار الرطبة، كان لبنه أعدل وأقل مائية
وأبعد من تليين البطن وأوفق للمعدة. ولذلك صار لبن الماعز أوفق للمعدة من غيره من الألبان، لان أكثر
ما يرتعي الماعز الحشيش وأغصان الأشجار الرطبة. وإذ ذلك كذلك، فمن البين أن كل لبن يرتعي
حيوانه أغصان الأشجار القابضة أو أوراقها، فإنه مقو للمعدة حابس للبطن. وكل لبن يرتعي حيوانه ورق
الأشجار المسهلة، فإنه مضر بالمعدة، لذاع، بعضها مطلق للبطن. ولذلك وجب أن لا يستعمل من
اللبن إلا ما كان غذاء حيوانه محمودا، كيلا يستحيل إلى الفساد بسرعة، من قبل أن اللبن إذا كان في
ذاته رديئا واستحال في المعدة إلى الفساد، لم يفسد هو فقط، لكن يفسد بفساده كل ما وافاه في المعدة
من الأخلاط المحمودة، ويضر بالبدن (5) إضرارا بينا قويا.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن اللبن الردئ ليس أن ما يفسد هو فقط، لكنه يفسد معه
كل كيموس حسن. وذكر أنه وقف على ذلك من صبي كان له طير ترضعه، فماتت طيره تلك وأرضعته
طير أخرى كان لبنها رديئا جدا، من قبل أن غذاءها كان مذموما، لأنها كانت تغتذي عشب البرية لجوع
عرض لبلدتها في زمان الربيع. فامتلأ الصبي قروحا، فاستدل على ذلك من اللبن الذي كان الصبي
يشربه. إنه نظر إلى جميع من كان يغتذي بذلك العشب الذي كانت الطير تغتذي به، قد امتلأت
أبدانهم قروحا فاسدة. ولذلك صار ما يرتعي الماعز ورق القرظ والبلوط وأغصان شجر السماق، فيصير
لبنها مقويا للمعدة حابسا للبطن. وكثيرا ما يرتعي شجر السقمونيا واليتوع فيصير لبنها مضرا بالمعدة مطلقا
للبطن.



(1) في الأصل: القرض. والتصويب من الهامش. وهو ورق السلم يدبغ به.
(2) نبات يستخرج من تجاويفه رطوبة دبقة، وتجفف.
(3) واحدها اليتوع واليتوع: كل نبات له لبن.
(4) الجل والجل: الضخم، ضد الدق.
(5) في الهامش جعلها: (بالمعدة).
139
وأما اختلاف اللبن على حسب أوقات السنة، فيكون على ضروب، من قبل أن اللبن في أول
الربيع، يكون أكثر ذلك أرق وأشبه بالماء. وفى آخر الربيع وأول الصيف، يكون أعدل وأفضل غذاء.
وفى سائر الصيف وأول الخريف يكون أثخن وأغلظ وأقل مائية. والسبب في ذلك: أن اللبن في أول
الربيع يكون أكثر ذلك قريبا من وضع الحيوان جملة. وكل لبن يقرب من وضع الحيوان جملة، فهو أرق
وأكثر مائية لاجتماع الرطوبات في أبدان الحيوان في مدة زمان الحمل، لانطباق الرحم وامتناع التحلل
منه. وإذا اجتمعت الرطوبات في أبدان الحيوان في زمان الحمل، وجب أن يكون اللبن بالقرب من
وضع الحيوان جملة أكثر مائية بالطبع، وأضر بالمعدة، لأنه يرخيها ويفسدها ويهيج القئ والغثاء ويلين
خشونتها ويزلقها ويطلق البطن. فإذا مضى أربعون يوما وتوسط الربيع، أو صار إلى آخره، ودخل
الصيف، فنيت تلك الرطوبات الفضلية من أبدان الحيوان واعتدل اللبن وانقاد للانفعال، وقويت الحرارة
الغريزية على هضمه في الضرع وصار محمود الغذاء مربيا للأبدان. وإذا تمادى به الزمان وصار إلى آخر
الصيف وأول الخريف، قوي حر الهواء على الأبدان ونشف بعض رطوباتها الجوهرية، وازدادت رطوبة
اللبن قلة، وغلظ، وزال عن الاعتدال وصار مذموما غليظا بطئ الانهضام، حابسا للبطن لقلة مائيته
وكثرة جبنيته.
ولذلك صار هذا النوع من اللبن كثيرا ما يتجبن في المعدة، ويحدث أمراضا خبيثة، لان اللبن
المتجبن في المعدة مع إضراره بها، يولد بخارات تترقى صعدا، ويكون سببا وكيدا للاختناق وضيق
النفس والصداع. فإن زاد الزمان به تماديا، وصار إلى الخريف وآخره، ازدادت رطوبته الجوهرية
قلة، وصار في طبيعة اللبأ (1). ثم لا تزال رطوبته تتحلل رويدا رويدا حتى تقارب الفناء ويغلظ (2) ويجفو
عن الانمياع والسيلان وينقطع أصلا.
ولهرمس في مثل هذا فصل قال فيه: إن أرطب ما يكون اللبن عند وضع الحيوان جملة، ثم
تنقص رطوبته قليلا قليلا حتى تقارب الفناء، فيغلظ ويصير في طبع اللبأ.
فإن عارضنا معترض باللبأ وقال: فلم صار اللبأ أغلظ الألبان وأقلها رطوبة، وهو أقربها من وضع
الحيوان جملة، وقد شرطت في ابتداء كلامك أن أرطب الألبان ما كان قريبا من وضع الحيوان جملة!.
قلنا له: إن اللبأ يطول لبثه في الضرع ويقيم مدة يتهيأ معها فناء رطوبته الفضلية وأكثر رطوبته
الجوهرية حتى يجاوز المقدار في الغلظ. ولو توهمنا أن اللبأ يخرج من الضرع وقتا يصير إليه أو بعده
بيوم، لما أمكن أن نجده إلا أرق الألبان وأكثرها مائية. ولكن لطول لبثه في الضرع، يقوى فعل الحرارة
الغريزية فيه باطنا، وحرارة الهواء ظاهرا، وتقل رطوبته حتى تقارب الفناء، ويصير أغلظ الألبان وأثقلها.
ولذلك صار إذا حمل على رماد حار أو طبخ في قدر داخل قدر، فنيت رطوبته بسرعة وصار جبنيا. وإذا



(1) اللبأ: أول اللبن في النتاج.
(2) كذا في الأصل. والأصح: (فيغلظ).
140
خلط معه لبن آخر وشوي أو سلق، أجمد ما يخالطه من اللبن وعمل فيه أكثر من عمل الإنفحة (1)، لان
الإنفحة إذا أجمدت اللبن، ميزت مائيته من جبنيته، ولا يصير منه مشا (2).
وأما اختلاف اللبن على حسب قرب خروجه من الضرع أو بعده منه، فيكون على ثلاثة ضروب،
لأنه قد تقدم من قولنا إن مدة اللبن تنقسم ثلاثة أقسام: لان منه القريب العهد بالخروج من الضرع وهو
المعروف بالحليب. ومنه البعيد العهد بالخروج من الضرع وهو المعروف بالدوغ. ومنه المتوسط بين
هاتين الحاشيتين وهو المعروف بالماست، أعني الرائب.
فأما الحليب القريب العهد من الخروج من الضرع، فهو أقوى الألبان حرارة وأكثرها توسطا
واعتدالا في الكيفيات الأربع، لأنه بعد قريب (3) من طبيعة الحيوان الذي هو منه. ولذلك صار بالإضافة
إلى غيره من الألبان، أفضل وأحمد غذاء وأكثر تربية للحم إذا استعمل على ما ينبغي من خلاء المعدة
من الغذاء، ونقائها من الفضول مع اعتدال مزاج المستعمل له، إذا لم يؤخذ منه إلا المقدار القصد (4)،
لان الاكثار منه يحدث أحد أمرين: إما أن يتجبن في المعدة ويؤلمها ويضر بها، ويحدث بخارات تكون
سببا للاختناق وضيق النفس والبهر (5). وإما ألا يتجبن، لكنه يستحيل إلى الحموضة ويضر بالجنبين
وسائر البطن. والسبب في ذلك: اختلاف حالات المعدة وموضعها من الحرارة والبرودة، والرطوبة
واليبوسة، لان المعدة متى كانت قوية الحرارة ملتهبة، إما من طبعها وإما لعارض عرض لها، أجمد اللبن
فيها وتشيط، واستحال إلى الدخانية وجنس المرار وأضر بفم المعدة، والصدر، ومجاري النفس،
والرأس، إلا أن يوافي مزاج الرأس معتدلا وجرمه صحيحا قويا، فلا يقبل من تلك البخارات شيئا،
فيسلم من أذيتها، وتلحق الاضرار المعدة ومجاري النفس فقط، لان كثيرا ما يكون مزاج الرأس معتدلا،
ومزاج المعدة حائدا عن الاعتدال، إما إلى الحرارة وإما إلى البرودة، أو يكون مزاج الرأس حائدا عن
الاعتدال، ومزاج المعدة والصدر ومجاري التنفس بخلاف ذلك وضده.
ومتى كانت المعدة باردة إما من طبيعتها وإما لعارض عرض لها، ضعفت عن طبخ اللبن
وهضمه على ما يجب، برد واستحال إلى الحموضة والعفونة، وولد رياحا نافخة وقراقر وانزماما، وأضر
بالجنبين وسائر البطن. فمن أراد أن يزيل ذلك عن اللبن، فليكن استعماله مطبوخا ببعض الأشياء
الغليظة التي تحتاج قبل نضجها إلى نار أكثر، مثل الحنطة والسميذ والأرز والجاورس، ليطول فعل النار
فيه خارجا، ويزول عنه أكثر رياحه ونفخه. وإن كان من الواجب أن يتوقى الاكثار منه مع هذه الأغذية
أيضا، لأنها تكسبه لزوجة وغلظا وتعينه على توليد السدد في الكبد والطحال وأحدث الحجارة في الكلى



(1) النفحة من الألبان: المحضة. والمحض من اللبن: الخالص لم يخالطه غيره. والإنفحة سيأتي المصنف إليها.
(2) المش: الطيب. ويقال: أطعمه هشا مشا.
(3) (قريب) مستدركة في الهامش.
(4) مقدار قصد أي لا كثير ولا قليل.
(5) هو انقطاع النفس.
141
والمثانة، ولا سيما إذا كان معه شئ من عسل أو غيره من الحلاوة، لان الأعضاء تستلذ حلاوته وتقبل
منه أكثر من مقدار القوة على هضمه.
وأما اللبن البعيد العهد بالخروج من الضرع، المعروف بالدوغ، فقد خرج من طبيعة اللبن الحلو
جملة، ومال إلى البرودة واليبوسة. وإذا صار اللبن مثل هذه الحال، بعد عن قبول الاستمرار في
المعدة المعتدلة المزاج، فضلا عن المعدة الباردة. وأما المعدة الحارة المزاج، فقد يوافقها متى أخذ منه
بقدر على سبيل الدواء ولم يكثر منه، لان الاكثار منه يغذو غذاء غليظا مذموما، ويولد في الكلى والمثانة
رملا وحصى، لان كل طعام غليظ هذه سبيله وبخاصة إذا أخذ على غير نقاء من المعدة، إلا أنه لا
يتجبن في المعدة كما يتجبن اللبن الحلو، لأنه قد عدم الكيفيتين القاتلتين لذلك، أعني الحرارة
والرطوبة. وإذا عدم اللبن الحرارة والرطوبة لم يقبل الانعقاد أصلا.
وأما اللبن الرائب المعروف بالماست، فهو في فعله وانفعاله متوسط بين طبيعة اللبن الحلو
وطبيعة اللبن الحامض، لما فيه من بقايا عذوبة اللبن الحلو. فإذا نزع زبده، كان أفضل لغذائه وقوي
على تسكين الحرارة وبخاصة إذا كان من لبن البقر، لغلبة البرد على مزاج البقر بالطبع.
وأما اللبأ، فلغلظه وعدم المائية أصلا، صار أعسر انهضاما وأبعد من الانحدار عن المعدة، وأكثر
الألبان تولدا للدم المذموم والاخلاط الغليظة. ولذلك صار يتخم بسرعة ولا سيما إذا لم يكن معه لا
عسل ولا غيره من الأشياء الحلوة التي معها جلاء وغسل، إلا أنه إذا صار إلى المعاء، أثقلها بغلظه
وهيج القوة الدافعة إلى إحداره بسرعة، وأسهل البطن، وصار سببا عرضيا لزلق الأمعاء ولتوليد العلة
المعروفة بالهيضة. وما عقد من اللبأ في قدر منزلة في جوف ماء حار، كان ألطف له وأرطب. وما عقد
على نار أو رماد حار، كان أغلظ وأثقل.

142
في الإنفحة
وأما الإنفحة، فيابسة حريفة بطيئة الانهضام عسيرة الانحدار محرقة للدم بحرافتها وحدتها.
في الجبن
وأما الجبن، فمركب من قوى ثلاثة: إحداها: قوة اللبن، والثانية: قوة الإنفحة، والثالثة: قوة
الملح. واللبن على ما بينا وأوضحنا، مركب من جواهر ثلاثة: جوهر الجبن، وجوهر السمن، وجوهر
الرطوبة. ولذلك انقسم الجبن على ثلاثة أقسام: أحدها: الطري الكثير المائية. والثاني: العتيق الكثير
الجبنية القليل المائية، لان قوة الإنفحة قد غلبت عليه بحدتها وحرافتها وإفراط يبسها وجففت أكثر
رطوبته وأفنتها، وإن كانت الإنفحة غير مفارقة للجبن في كل حال، فإن قوتها في الجبن الطري يخفى
لكثرة مائيته ورطوبته. والثالث: الجبن اليابس الحديث المتوسط بين رطوبة الطري ويبس العتيق.
ولذلك صار هذا النوع معتدلا في جواهره الثلاثة.
وإذ أتينا على أقسام الجبن وبيناها وأوضحناها، فقد بقي أن نخبر بخاصة كل واحد منها، وفعله
وجوهريته، وطبعه. ونبتدئ من ذلك بالطري منه.
فأقول: إن الجبن الطري يولد خلطا ليس بالردئ، لأنه في لطافة غذائه وسرعة انهضامه،
متوسط بين لطافة اللبن الحليب والجبن اليابس الحديث، لما فيه من بقايا عذوبة اللبن الحليب ومائيته.
ولذلك صار أسرع انهضاما وانحدارا، وأحمد غذاء، وأعون على تليين البطن من الجبن الحديث والعتيق
جميعا، وبخاصة متى لم يكن فيه ملح مقدار ما يزيل عنه عذوبة اللبن وحلاوته.
وللفاضل أبقراط في هذا فصل قال فيه: إن كل جبن لا يكون فيه طعم غير العذوبة، فهو أحمد
وأفضل مما قد غلب على طعمه الملوحة والحرافة، لان الملوحة متى كانت قوية أفادت الجبن يبوسة
وجفافا وإضرارا بالمعدة، ومنعته من ترطيب البدن وزيادة في اللحم. ومتى لم يكن في الجبن ملح
أصلا، كان أكثر لغذائه، وأسرع لانحداره، وأقوى على ترطيب الأبدان وزيادة اللحم، من غير إضرار
بالمعدة إلا أن يستحيل إلى الدخانية أو إلى الحموضة، فيضر بالمعدة إضرارا بينا، لأنه كثيرا ما

143
يستحيل إلى الدخانية متى وافى مزاج المعدة محرورا، أو وافى فيها رطوبة فضلية. ومتى كان في الجبن
من الملح مقدار لا يغير عذوبة اللبن، كان أقل لاضراره بالمعدة، لأنه بعيد من الاستحالة إلى الحموضة
خاصة. ولذلك صار غذاؤه أفضل، وانهضامه أحمد.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن الجبن متى كان لذيذا معرى من كل طعم خلا العذوبة،
كان أفضل من قبل أن اللذاذة من كل غذاء أفضل من البشاعة والكراهة، وألذ الطعوم عند الطباع
العذوبة. وما كان من الجبن فيه من الملح مقدار لا يغير عذوبته، كان أفضل مما لم يكن فيه ملح
أصلا، ومما كان ملحه كثيرا، لأنه إذا لم يكن فيه ملح أصلا، لم يؤمن عليه الاستحالة إلى الحموضة.
وإذا كان فيه ملح أكثر، أكسبه ذلك يبوسة وجفافا وتلذيعا لعصب المعدة، وإحراقا للدم، ومنعه من
الزيادة في اللحم. وأما الملح القليل إذا لم يكن فيه من القوة ما يغير عذوبة اللبن ولذاذته، فإنه يفيد
الجبن لطافة، ويمنع من استحالته إلى الحموضة ويعينه على سرعة الانهضام وجودة الاستمراء. وقد
يعرض للجبن الرطب من الاختلاف على حسب ما يصحبه من مائية اللبن حتى يكون غذاؤه أكثر وأقل،
وخروجه أسرع وأبطأ، لان ما صحبه من مائية اللبن أكثر، كان (1) غذاؤه أقل، وانحداره أسرع، ولا سيما
متى كان معه شئ من عسل وما صحبه من مائية اللبن أقل، كان غذاؤه أكثر وانحداره أعسر ولا سيما إذا
لم يؤخذ معه شئ من عسل.
وأما الجبن العتيق، فإن فيه حدة وحرافة وجفافا. ولذلك صار غذاؤه أغلظ وأفسد، وانهضامه
أعسر، وانحداره أبعد، من قبل أن مائية اللبن بكمالها قد زالت عنه وغلب عليه حرافة الإنفحة ويبسها
وجفافها، واكتسب حدة وحرافة، وخرج عن طبيعة ما يلطف، وصار في عداد ما يحرق. ولذلك صار لا
ينال فضول البدن منه من التلطيف ما ينالها من الأشياء الملطفة، بل قد يفيدها مضرة من جهتين:
إحداهما: أنه لفساد غذائه وغلظه، يزيد في غلظ الأحشاء وفسادها. والثانية: أنه لما فيه من الحرافة
المكتسبة من الإنفحة، صارت مضرته تقاوم كل منفعة تصل إلى فضول البدن من غيره، وتنافرها حتى
تزيلها وتدفعها، لان من خاصته أنه إذا وافى في البدن فضولا غليظة، كان من أعون الأشياء على توليد
الحجارة في الكلى والمثانة، إذ كان من شأن الحجارة إنما تتولد دائما من اجتماع أخلاط غليظة مع
حرارة محرقة. وقد اجتمع في الجبن العتيق هاتان الحلتان اللتان (2) هما أوكد الأسباب في توليد الحجارة.
فكيف إذا وافى أخلاطا غليظة قد تقدمته.
ولذلك وجب أن يحذر من الجبن ما كانت هذه حالته، لم يكن صالحا بجودة الغذاء ولا بسرعة
الانهضام، ولا للنفوذ في العروق، ولا لتوليد الدم المحمود. ولم يكن له أيضا منفعة في تليين البطن،
ولا في إدرار البول، لأنه لما فيه من يبس الإنفحة وحرافتها، صار كثيرا ما ينشف الرطوبات ويجفف
الأثفال ويحبس البطن ويمنع من إدرار البول.



(1) (كان) مستدركة في الهامش.
(2) في الأصل: التي.
144
والثانية: أنه لما فيه من الحدة والحرافة المكتسبة من الإنفحة، صار سريع الاستحالة إلى
الاحتراق. ولذلك صار يشيط فضول البدن ويزيدها فسادا، ويمنع فعل الأشياء الملطفة فيها.
وأما الجبن اليابس الحديث المتوسط بين الجبن الرطب والعتيق، فيغذو غذاء كثيرا قويا. أما
كثرته، فلان أغلظ ما في البدن يصير جبنا. وأما قوته، فمن قبل أن الحرارة تصلبه بسرعة. وكلما ازداد
فعل الحرارة فيه تأثيرا، ازداد هو صلابة وشدة. إلا أن غذاءه قد يختلف في جودته وزكاته على حسب
اعتداله وتوسطه بين الجبن الرطب والعتيق، وانحرافه إلى إحدى الحاشيتين أكثر من الأخرى. فإن كان
بعده من التوسط إلى الجبن العتيق أكثر، كان غلظه أزيد وحسبه للطبيعة أقوى واستحالته إلى الدخانية
أسرع، متى كان مزاج المستعمل له حارا، أو إلى الحموضة متى كان مزاج المستعمل له باردا. فإن كان
بعده عن التوسط والاعتدال إلى الجبن الرطب أكثر، كان غذاؤه أزيد وانحداره أسرع وبعده عن الفساد
أكثر.
وللفاضل أبقراط في هذا فصل قال فيه: إن الجبن يختلف في صلابته وليانته على ثلاثة
ضروب: لان منه الصلب المتين المعلك. ومنه ما قد بلغ من جفافه ما عدم اتصال أجزائه وصار سريع
التفتت. ومنه ما هو بعد مجتمع الاجزاء، إلا أنه قد صار فيه من الجفاف ما صيره قحلا متخلخلا
اسفنجيا. وأردأ أنواع الجبن وأذمها، ما عدم اتصال أجزائه إلى أن صار سريع التفتت، لان ذلك دليل
على فناء دسمه ورطوبته الجوهرية. ودونه في الرداءة ما كان صلبا علكا منتنا، لأنه دليل على كره لزوجته
وغزارته وبعد انهضامه. وأحمد الأجبان وأفضلها ما كانت أجزاؤه مجتمعة، إلا أنها متخلخلة رفخة
أسفنجية، وبخاصة إذا كان حديثا، لان ذلك دليل على لطافة أجزائه وقلة لزوجته وعلوكته وسرعة
انهضامه.
ولديسقريدس في مثل ذلك قول قال فيه: إن الجبن الحديث يلين البطن، والعتيق حابس للبطن
ولا سيما إذا سلق سلقة وعصر ماؤه وشوي بعد ذلك. وقول جالينوس فيه: إن ما لان من الجبن ورق،
كان أفضل وأسرع انهضاما. وما صلب منه وثخن (1)، كان أذم وأبعد انهضاما. وأقوى ما يستدل به على
سرعة انهضام الجبن وإبطائه، وأوضحه دلالة على ذلك الجشاء، لان ما كان من الجبن ينقص طعمه من
الجشاء رويدا رويدا ويزول بسرعة، كان أحمد، لأنه دليل على سرعة انهضامه وانحداره عن المعدة. وما
كان منه عسير التحلل من الجشاء بعيد الزوال منه، كان أردأ وأذم، لأنه دليل على غلظه وبعد انهضامه
وعسر انحداره عن المعدة. ولذلك صار الجبن العتيق منيع الانحلال من الحشا لغلظه وبعد انحداره.



(1) أي غلظ وصلب.
145
الباب الثامن عشر
القول في السمك
السمك في جملته يغذو غذاء يسير البقاء في الأعضاء، سريع الانحلال منها، لان الدم المتولد
عنه بالإضافة إلى الدم المتولد عن المواشي، أرق كثيرا وأقرب من طبيعة البلغم. وإنما قلنا أرق
بالإضافة إلى دم المواشي لنفصله من الرقيق من القول المطلق، من قبل أن الرقة والغلظ واللطافة
والثخن وما شاكل ذلك، إذا قيلت بالقول المطلق، فإنما يقصد بها زوالها عن المزاج المعتدل.
ولجالينوس في هذا قول قال فيه: إذا سمعتني أقول أرق وألطف وأثخن وأغلظ وأسرع انهضاما
وأبطأ انهضاما بالقول المطلق، فإني إنما أقول ذلك بالإضافة إلى المزاج المعتدل.
ولذلك قلنا في الدم المتولد عن السمك، أنه أرق بالإضافة إلى الدم المتولد عن المواشي،
ليزيله عن الرقة بالقول المطلق من قبل أن للدم حاشيتين وواسطة. لان من الغليظ جدا الشبيه بغلظ
القار (1)، مثل الدم المتولد عن الإبل والايايل والظباء والتيوس والكبير من البقر. ومنه الرقيق المائي، مثل
الدم المتولد عن البقل وكثير من الفاكهة. ومنه المتوسط بين هاتين المرتبتين، مثل الدم المتولد عن
الخبز المحكم الصنعة ولحم الدراج والفراريج والجداء الرضع، وإن كان بين كل حاشية من هذه
الحواشي وبين الواسطة مرتبة أخرى، أعني أن بين البقر المتوسط على الحقيقة وبين الدم الغليظ مرتبة
أخرى، مثل الدم المتولد عن الضأن والعجول الرضع. وكذلك بين الدم المعتدل على الحقيقة وبين الدم
الرقيق مرتبة أخرى، مثل الدم المتولد عن السمك اللجي (2) والسمك الرضراضي (2) لان الدم المتولد
عن هذين النوعين من السمك وإن كان قريبا من الاعتدال، فإنه لا محالة مائل إلى الرقة والبياض قليلا
لغلبة البرد والرطوبة عن مزاج السمك بالطبع، وإن كان السمك في جنسه ينقسم على أقسام شتى: لان
منه ما يأوي الماء العذب ويسمى النهري. ومنه ما يأوي الماء المالح ويسمى البحري. ما يأوي
الماء المالح فكثير ما ينتقل إلى الماء العذب لاستلذاذه له، لعذوبته ولذاذته. وما يأوي الماء العذب



(1) القار: صعد يذاب فيتج مادة سوداء تطلى به السفن والإبل. وقيل أنها الزفت.
(2) سيأتي قريبا كلام المصنف عليه.
146
فقليل ما ينتقل إلى الماء المالح لزعوقته (1) وبشاعته وقلة استلذاذه له. ولذلك صار لا ينتقل إليه منه إلا ما
كان قريبا من فم البحر، لأنه يمتد مع الماء المنصب إلى البحر من الأنهار لشدة جريه ويدخل إلى البحر
ضرورة.
والذي يمتاز به السمك البحري من النهري الزفورة والشوك، من قبل أن زفورة السمك البحري
أنقص، وشوكه أقل وأغلظ، وزفورة السمك النهري أكثر وشوكه أرق وأغزر. فمتى وجدنا في البحر
سمكا زفورته أكثر وشوكه أرق وأغزر، علمنا أنه نهري انتقل إلى البحر، ومتى وجدنا في النهري سمكا
زفورته أنقص وشوكه أقل وأغلظ، علمنا أنه بحري انتقل إلى النهري. والفرق بين النوعين في طبائعهما
ومزاجاتهما: أن البحري بإضافته إلى النهري، أسخن وأقل رطوبة ولزوجة، لان ملوحة الماء الذي يأوي
فيه تسخنه وتقطع رطوبته وغلظه. ولذلك قل شحمه ونقصت عذوبته، وصار ما ينال البدن من غذائه
أقل، وإن كان أحمد وألذ طعما وأسرع انهضاما ونفوذا في العروق وأقرب من الانقلاب إلى الدم وأسهل
انحلالا من الأعضاء، إلا أنه بطئ الانحدار عن المعدة والمعاء.
والسبب في لذاذة طعمه، قلة ما فيه من الشحم والعذوبة والسهوكة (2). والسبب في قلة غذائه
سرعة انحلاله من الأعضاء وخلائها منه بسرعة وفقرها إلى غذاء غيره من قرب. والسبب في بعد انحداره
عن المعدة والمعاء، يكون من جهتين: إحداهما: أن ليس فيه من الرطوبة واللزوجة ما يزلقه ويحدره
بسرعة. والثانية: أن ليس فيه من الغلظ ما يمنع نفوذه في العروق بسهولة فيكثر في المعدة ويثقلها
ويهيجها إلى دفعه بسرعة.
وأما السمك النهري، فمخالف للسمك البحري في فعله وانفعاله كثيرا لأنه في طبيعته ومزاجه
بإضافته إلى السمك البحري، أبرد وأرطب، لان ماء الأنهار بارد رطب (3) ويستدل على ذلك من تفاهته.
ولذلك صار السمك المتولد فيه أكثر عذوبة وغلظا (4)، ذلك لكثرة شحمه ولزوجته. ولهذه الجهة صار ما
ينال البدن من غذائه أكثر، إلا أنه أردأ وأعظم انهضاما وأقل لذاذة ونفوذا في العروق وأبعد من الانحلال
من الأعضاء، وإن كان أسرع انحدارا عن المعدة والمعاء. والسبب في فساد غذائه، كثرة لزوجته وغلظه
وعسر انهضامه. والسبب في قلة لذاذته، سهوكته وكثرة شحمه وظهور عذوبته. والسبب في كثرة غذائه،
بعد انحلاله من الأعضاء وطول لبثه فيها وغناها عن طلب غذاء غيره مستأنف من قرب، لان ذلك يقوم
لها مقام الكثير من الغذاء. وأما سرعة انحداره عن المعدة والمعاء، فلجهتين: إحداهما: أنه لكثرة
رطوبته ولزوجته، يلين خمل المعدة ويزلق وينحدر بسرعة. والثانية: أنه لغلظه وعسر نفوذه في العروق،
يجتمع منه في المعاء ما يثقلها ويهيج القوة إلى إخراجه بسرعة.



(1) الزعرقة: اسم من الزعاق وهو الماء المر لا يطاق شربه.
(2) السهوكة والسهكة: ريح كريهة تكون ممن عرق أو من اللحم المنتن أو من السمك.
(3) في الأصل بالنصب.
(4) في الأصل: وغلظ.
147
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن جميع السمك النهري والأجامي (1)، وإن كان لحمه
رخصا سمينا، فإنه يفسد بسرعة ويضر بالمعدة ويولد خلطا نيا. ولروفس فيه قول قال فيه أيضا: إن
الجنس الواحد من السمك إذا كان منه بحريا ومنه نهريا، فالبحري منه أقل سهوكة وزفورة وأسرع
انهضاما وأفضل غذاء وأقرب من الانقلاب إلى الدم وأسهل انحلالا من الأعضاء، إلا أنه أبطأ انحدارا
عن المعدة والمعاء. وقد يقع في كل واحد من نوعي السمك اختلاف كثير لوجوه شتى. وذلك أن
البحري ينقسم قسمة أولية على ضربين: لان منه ما يأوي لجج البحر ووسطه. ومنه ما يطلب شط البحر
وأطرافه. وما يأوي منه وسط البحر ولججه يكون على ضربين: لان منه ما يأوي المواضع الصلبة
الصخرية الكثيرة الحجارة ويسمى السمك البحري (2) ومنه ما يطلب المواضع اللينة الرخوة الكثيرة الطين
والرمل ويسمى السمك اللجي. والذي يأوي شط البحر وأطرافه يسمى الشطي وهو على ثلاثة ضروب:
لان منه ما يطلب المواضع الصافية الماء، النقية من الكدر والوسخ البعيدة من مصب الأنهار. ومنه ما
يطلب المواضع القريبة من مصب الأنهار الكثيرة الكدر والوسخ، لان الأنهار تصب إليها وسخ مزابل
المدن وماء الحمامات ومبال الكنان، ما يقذر ماءها ويفسده. ومنه ما يطلب المواضع المتوسطة بين
هذين الحدين فيأخذ من الحاشيتين بقسطه.
وكذلك السمك الذي يأوي الماء العذب ينقسم قسمة أولية على ضربين: لان منه ما يأوي الأنهار
ويسمى النهري. ومنه ما يأوي البرك والبحيرات ويسمى البحيري. والذي يأوي منه الأنهار يكون على
ضربين: لان منه ما يأوي الأنهار القوية المد، السريعة الجري، الكثيرة الأمواج البعيدة من المدن،
الصافية الماء، النقية من الأوساخ والكدر. ومنه ما يأوي أنهارا لطافا ضعيفة المد، بطيئة الجري، قليلة
الأمواج، قريبة من المدن، كثيرة الأوساخ والكدر، لكثرة ما ينصب إليها من وسخ المزابل ومياه
الحمامات ومبال الكنان. والذي يأوي البحيرات يكون على ضربين: لان منه ما يأوي بحيرات تنصب
إليها الأنهار دائما، وينصب ماؤها إلى البحر، فينغسل ماؤها في كل وقت بما ينصب إليها من الأنهار،
ويخرج منها إلى البحر. ومنه ما يأوي الآجام والبحيرات المنقطعة عن البحور الكثيرة الطين والحمأة.
وإذ أتينا على ما أردنا شرحه من انقسام أجناس السمك إلى أنواعها، فقد بقي بأن نأتي بخاص
كل واحد منها على الانفراد، وتوضيح فعله وانفعاله. فنقول: إنا قد كنا بينا أن السمك البحري في
الجملة أفضل غذاء وأحمد، في جودة الاستمراء، من السمك النهري. من قبل أن ملوحة مائه (3) تقطع
رطوباته وتلطف فضوله وغلظه، وتذهب بلزوجته وبخاصة متى كان صخريا، وكان مع ذلك قريبا من
القرار، لأنه بدوام ممره بالصخر ومصادمته له دائما، يسترخي لحمه ويلين ويقل شحمه ولزوجته
وسهوكته. ولذلك صار في هذين المعنيين، أعني رخاوة اللحم وقلة اللزوجة والشحم، أسبق من سائر



(1) في الهامش: سمك الأنهار والآجام.
كذا في الأصل. والأحرى أن تكون: (الصخري).
(3) في الأصل: ماؤه.
148
السمك. ومن قبل ذلك، صار بإضافته إلى غيره من السمك، ألذ طعما وأبعد من الاستحالة إلى الفساد.
ولهذا السبب صيرت الفلاسفة بينه وبين مزاج بدن الانسان ملاءمة ومشاكلة، من قبل أن الانسان
الصحيح الحواس لا يلتذ إلا بما لاءم مزاجه. ولهذا صار الدم المتولد عنه أعدل، لأنه لا بالغليظ
الكدر، ولا بالدقيق المائي. إلا أنه أقرب من اللطيف المائي قليلا، من قبل أن الدم المعتدل، وإن كان
قابلا لهذا الاسم لخروجه عن الحاشيتين المذمومتين، فإن له مراتب لازمته، من قبل أن منه البعيد من
الحاشيتين بعدا متساويا، وهو المعتدل على الحقيقة. ومنه المتوسط بين الطرفين، إلا أنه أميل إلى
أحدهما (1) دون الآخر قليلا. فالدم المتولد عن السمك الصخري وإن كان معتدلا، فإنه أميل إلى الرقة
بالطبع. ولذلك صار أسرع انحلالا من الأعضاء. ومن قبل ذلك، صار غذاؤه بحفظ الصحة وبقائها،
أفضل منه لتقوية الأعضاء وتصليبها.
وأما السمك اللجي، فهو في طبيعته قريب من السمك الصخري، لان ماءهما واحد في ملوحته
وصفائه ونفاذه. ولذلك لا يكاد أن يوجد بينهما فرقان إلا في كثرة شحم اللجي وصلابة لحمه فقط، وقلة
شحم الصخري ورخاوته، لان السمك الصخري أرخى لحما وأقل شحما وألذ طعما. أما رخاوة لحمه
وقلة شحمه، فلصلابة أرضه وخشونتها ومصادمته للصخر. وأما لذاذته، فلقلة سهوكته ولزوجته. وأما
السمك اللجي فهو أصلب لحما وأكثر شحما وأقل لذاذة، أما صلابة لحمه وكثرة شحمه ولزوجته،
فلرخاوة أرضه وقلة تعبه. وأما قلة لذاذته، فلسهوكته وعذوبة شحمه ولزوجته. ولذلك صار الدم المتولد
عنه، وإن كان معتدلا، فإنه بالإضافة إلى الدم المتولد عن السمك الصخري، أميل إلى الغلظ وأقرب
من قوام الدم المتولد عن الدراج والحجل والفراريج في القوام فقط، لا في جودة الغذاء وفضله، من
قبل أن المتولد عن السمك أبدا مائل إلى البلغم بالطبع، والدم المتولد عن الدراج والحجل والفراريج
مائل إلى المزاج المعتدل بالطبع. ويستدل على ذلك من طبيعة السمك وميله إلى البرودة والرطوبة. ومن
قبل ذلك، صار غذاء السمك اللجي أكثر وأبعد انحلالا من الأعضاء، من قبل أن كل طعام الصلابة
عليه أغلب، فهو إلى الأرضية أميل. وما كان كذلك، كان غذاؤه أكثر وانحلاله من الأعضاء أبعد، ولا
سيما متى كان، مع صلابته، معتدلا ملائما لطبيعة المغتذي به.
وأما السمك الشطي، فيوجد فيه اختلاف كثير على حسب اختلاف المواضع التي يأويها ويصاد
منها، لان ما كان منه يأوي المواضع الصافية الماء، النقية من الكدر والأوساخ، البعيدة من مصب
الأنهار، كان في طبيعته قريبا من السمك اللجي، إلا أنه أرخى لحما وأسرع انهضاما. وذلك لقربه من
الشط والقرار وكثرة الأمواج هناك دائما، لان الشط من البحر أبدا أشد حركة وأكثر أمواجا (2). وما كان منه
يأوي مياها (3) كدرة وسخة قريبة من مصب الأنهار، كان أكثر سمك البحر لزوجة وغلظا وأبعد من



(1) في الأصل: إحداهما.
(2) في الأصل: أمواج.
(3) في الأصل: أمياها. وجمع الماء، كما هو معروف، مياه وأمواه.
149
الانهضام، لأنه في طبيعته وغذائه قريب من طبيعة سمك الأنهار وغذائه، إذ كان أكثر غذائه مما ينصب
إليه من الأنهار من الأوساخ ومزابل المدن (1). ولذلك صار سمك بحر الخزر (2) أذم الأسماك وأقلها جودة
لان ماءه ليس بالنقي، من قبل أن الأنهار تصب إليه دائما وتحمل إليه أوساخ المدن ومزابلها ومياه
الحمامات وغيرها مما يكدره ويفسد ماءه. وما كان منه يأوي المواضع المتوسطة بين هذين الموضعين،
كان في فعله وانفعاله وجودة غذائه ورداءته متوسطا بين هاتين الحالتين، لأنه أخذ من كل واحد منهما
بقسطه.
وأما سمك الأنهار، فإن ما كان منه يأوي الأنهار العظام، القوية المد، الكثيرة الأمواج، الصافية
الماء، النقية من الكدر والوسخ، لبعدها من المدن، فإنها بالإضافة إلى سمك سائر الأنهار الأخرى،
أفضل وأحمد غذاء، لان صفاء الماء الذي يأوي فيه، ونقائه وقلة وسخه يزيل عنه سهوكته وزهومته. وقوة
حركة الماء وكثرة أمواجه ترخي لحم السمك وتذهب بغلظه وبخاصة متى كان الماء جاريا على حجارة
وحصى، لان الحجارة تكسر لحم السمك وترخيه وتصيره قريبا من السمك الشطي النقي الماء إلا في
اللزوجة فقط، لان السمك الشطي أقل لزوجة لملوحة مائه. وما كان من السمك يأوي أنهارا لطافا
ضعيفة المد، قليلة الأمواج، قريبة من المدن تنصب إليها مياه الحمامات ومبال الكنان وأوساخ المزابل،
كان أسمن وأعذب وأكثر لزوجة وغلظا. ولذلك صار لحمه لعابيا بطئ الانهضام قليل اللذاذة بعيدا (3)
من الغذاء المحمود جدا، من قبل أن ضعف حركة مائه وقلة أمواجه يكثف جسمه ويفيده لزوجة وغلظا.
وما يغتذي به مما يصل إليه من أوساخ المدن يكسبه سهوكة وزهومة. وتدل على ذلك استحالته إلى
الفساد بسرعة بعد خروجه من الماء. ولذلك صار كثيرا ما يجتمع منه في أبدان المدمنين عليه فضول
كثيرة رديئة بلغمانية.
وأما سمك البحيرات، فهو أكثر لزوجة وسهوكة من سمك الأنهار الجارية، من قبل أن ماء
البحيرات أقل حركة وأكثر طينا وحمأة. ولذلك صار سمكها أكثر عذوبة وأدسم وأقل لذاذة لكثرة سهوكته
وزفورته. ولهذه الجهة، صار غذاؤه رديئا (4)، وانهضامه أعسر، وانتقاله إلى الفساد أسرع. إلا أن ما كان
منه من بحيرات تنصب إليها مياه (5) الأنهار، ويخرج ماؤها إلى البحر دائما، كان أحمد كثيرا لان ماءها
ينغسل كل يوم دائما ويقل وسخه بما ينصب إليه من الأنهار، ويخرج إلى البحر.
وأما سمك الآجام، فهو أردأ الأسماك كلها وأغلظها وأذمها وأكثرها سهوكة وزفورة وأسرعها انقلابا
إلى الفساد وأعسرها انهضاما، لأنه يأوي في مياه مستنقعة كثيرة الطين والحمأة. ولذلك وجب أن



(1) في الأصل: البدن.
(2) هو بحر قزوين. ونادرا ما يطلق الخزر على البحر الأسود.
(3) في الأصل: بعيد.
(4) في الأصل: ردئ.
(5) في الأصل: أمياه.
150
يتوقى كثيرا ولا يقرب أصلا.
وقال واضع هذا الكتاب: ولقد شاهدت سمكا من هذا الجنس في ماء كان مستنقعا (1) في بركة
مبنية يكون طولها ثلاث مائة ذراع في عرض مائتين أو أكثر قليلا، فأقام الماء فيها منتقعا (2) ثلاث سنين، إلا
أنه يسقى منه في كل وقت، ويصب إليه ماء جديد، الحين بعد الحين، في كل ثلاثة أشهر أو أربعة مرة
من عين كانت قد أجريت إليه. وكثر في تلك البركة الطين والحمأة والضفادع. فلما كان بعد ثلاث سنين
أو أربعة، خرج ماؤها كله منها، ووجد فيها سمك لم يكن أحد يقدر يمسكه بيده، لأنه كان يزلق من اليد
لكثرة لزوجته ولعابيته. ولم يكن يلبث أيضا إلا ساعة حتى يموت. فلما شقوا عنه وجدوا لحمه لعابيا
فاسدا شديد السهوكة والزفورة لا لذاذة له ولا طعم. وكان شحم جوفه لينا رخوا غير جامد، ولونه رماديا،
سهكا.
* * *
وأما ما يتولد من السمك في الماء العذب وينتقل إلى المالح، أو يتولد في المالح وينتقل إلى
الماء العذب، فإنه في طبيعته متوسط (3) بين طبيعة السمك الشطي وسمك الأنهار، إلا أنه يكون على
ضربين: أحدهما: يكون تولده في الأنهار العظام القوية المد، الكثيرة الأمواج، النقية الماء، البعيدة من
المدن، وينتقل (4). أو يكون تولده في الماء المالح وينتقل إلى أنهار عظام قوية المد والأمواج، بعيدة من
المدن. والثاني: يكون تولده في أنهار لطاف قليلة المد، كريهة الماء، قريبة من المدن، وينتقل إلى
الماء المالح. أو تولده في الماء المالح، وانتقل إلى أنهار عظام (5) نقية الماء، كان غذاؤه أفضل وأحمد
مما كان تولده في أنهار لطاف وانتقل إلى الماء المالح، أو كان تولده في الماء المالح وانتقل إلى أنهار
لطاف، وإن كان ما يتولد في الماء المالح وينتقل إلى الماء العذب، أفضل مما كان تولده في الماء
العذب وينتقل إلى الماء المالح، لان ما كان تولده في الماء المالح وانتقل إلى الماء العذب، كان أقل
لزوجة وسهوكة، وأقرب من طبيعة السمك الشطي، لان ابتداء كونه من الماء المالح، والماء المالح
مجفف للرطوبات بالطبع. وأما ما كان تولده في الماء العذب وانتقل إلى الماء المالح، فإنه أغلظ وأكثر
لزوجة لان ابتداء كونه من الماء العذب، والماء العذب مرخ مرطب.
فقد بان مما قدمنا إيضاحه أن أقل الأسماك لزوجة ورطوبة السمك البحري وبخاصة متى كان
صخريا، وكان قريبا من القرار. وبعده في الفضل، السمك اللجي والسمك الشطي الذي يأوي إلى
الماء الصافي النقي البعيد من مصب الأنهار. ودون البحري في الفضل، سمك الأنهار العظام الكثيرة



(1) في الأصل: مستنقع.
(2) في الأصل بالرفع.
(3) في الأصل: متوسطا.
(4) أي ينتقل إلى الماء المالح.
(5) كذا في الأصل. واضح تكرار ما جاء في الضرب الأول. ولعل انقطاعا في الكلام هنا مفاده أن (ما كان من السمك تولد في
الماء المالح وانتقل إلى أنهار..) إلخ.
151
الأمواج، النقية، البعيدة من المدن. ودون ذلك في الفضل سمك الأنهار اللطاف الضعيفة المد، القريبة
من المدن. وأردأ الأسماك وأكثرها لزوجة وغلظا وأفسدها غذاء سمك البحيرات والآجام.
ولهذه الأسباب والخواص، وقع بين أجناس السمك اختلاف كثير في جودة الغذاء ورداءته من
أحد (1) عشر وجها:
أحدها: اختلاف أجناس السمك في ذاته.
والثاني: طبيعة الماء الذي يأوي إليه.
والثالث: قوام الماء وموضعه من الصفاء والكدورة.
والرابع: قوة مد الماء ودوام حركته وكثرة أمواجه.
والخامس: مقدار رياضة السمك وتعبه.
والسادس: طبيعة الرياح الهابة عليه وما يصل إليه مما تحمله الرياح معها.
والسابع: غذاء السمك ومرعاه.
والثامن: مقدار سنه ومدته.
والتاسع: اختلاف أزمان السنة.
والعاشر: أعضاء السمك.
والحادي عشر: صنعة السمك وعمله.
فأما اختلاف السمك في جنسه، فيكون على ضربين: لان منه ما يكون لحمه لينا رخوا. ومنه ما
لحمه صلبا غليظا. والذي لحمه رخو (2) يكون على ضربين: لان منه ما يجتمع فيه، مع رخاوة لحمه،
كثرة اللزوجة والغلظ، مثل السمك الشطي القريب من مصب الأنهار، والسمك الجافي الغليظ القشر.
ومنه ما يجتمع له، مع رخاوة لحمه، قلة اللزوجة والغلظ، مثل السمك الصخري، والسمك الصغير
الرقيق القشر. وما كان لحمه صلبا كان أيضا على ضربين: لان منه ما يجتمع مع فيه صلابة لحمه، كثرة
اللزوجة والغلظ، مثل سمك القريبة (3) من المدن، وسمك البحيرات والآجام. ومنه ما يجتمع له مع
صلابة لحمه، قلة اللزوجة والسهوكة، مثل السمك اللجي والسمك الشطي الذي يأوي الماء الصافي
النقي البعيد من مصب الأنهار. وأفضلها غذاء وأعدلها لكل مزاج وأسرعها انهضاما ما كان لحمه رخوا
قليل اللزوجة والغلظ، بريئا من الزهومة والزفورة، مثل السمك الصخري واللجي، لان الدم المتولد
عنهما قريب من المعتدل، إلا أنه مائل إلى المائية قليلا.
ولذلك صار كثير الموافقة لمن قلت حركته وكثر سكونه، ولمن كان بدنه ضعيفا مثل أبدان
المشايخ والناقهين من الأمراض، ولمن رغب في حفظ صحته على قوة أعضائه، لأنه ليس شئ أبلغ في



(1) في الأصل: إحدى.
(2) في الأصل: رخوا.
(3) كذا في الأصل. ولعلها: (مثل سمك الأنهار القريبة..).
152
حفظ الصحة من جودة الدم. وكذلك في الشبع منه لمن كان محتاجا إلى التدبير الملطف.
وأما ما كان لحمه رخوا وفيه مع ذلك لزوجة وغلظ، مثل السمك الشطي القريب من مصب
الأنهار، فهو أدسم وأعذب، وأكثر غذاء، إلا أنه أذم وأقل لذاذة وأعسر انهضاما وأقرب من تولد الدم
المذموم. ولذلك لا يجب أن يطلق إلا لمن لا يقدر على ما هو أصلح بعد أن يستعمله بالخردل وما شاكله.
وأما ما كان في لحمه صلابة، فإنه متى ما كان قليل اللزوجة، مثل سمك الأنهار العظام القوية المد،
الكثيرة الأمواج، كأن بإضافته إلى النوع الأول، أعني السمك الصخري، أذم وأردأ لأنه أغلظ وأعسر
انهضاما وأبعد انحلالا من الأعضاء وأكثر غذاء، إلا أنه بالإضافة إلى النوع الثاني من السمك الشطي،
أفضل لأنه أقل لزوجة منه. ولذلك صار الدم المتولد عنه قريبا من الدم الذي عن السمك اللجي وأغلظ
قليلا لعذوبة مائه ورطوبته. ولهذه الجهة صار موافقا لمن دام تعبه وكثرت رياضته، وكانت حرارته
الغريزية قوية، ولمن كانت (1) رغبته في تقوية الأعضاء وشدتها أكثر من رغبته في حفظ الصحة وبقائها.
وأما ما كان فيه مع صلابة لحمه غلظ ولزوجة مع زهومة وسهوكة، مثل السمك البحري، فإنه
أكثر الأسماك غذاء، وأعذبها طعما، إلا أنه أقل لذاذة وأعسر انهضاما. أما قلة لذاذته، فلسهوكته. وأما
بعد انهضامه، فلان الغلظ فيه قد شمله من جهتين: إحداهما: صلابة لحمه، والثانية: لزوجته وسمنه.
وأما اختلاف السمك من طبيعة الماء الذي يأوي إليه، فيكون على ضروب: لأنه قد تقدم من
قولنا أن السمك الذي يأوي الماء المالح، فهو أقل لزوجة وسهوكة، وأبعد من الفساد، وأسرع انهضاما
وأقل إضرارا بالمعدة. ولذلك صار أفضل غذاء، لان ماءه الذي يأوي فيه أسخن وأقل رطوبة بالطبع
وأكثر تلطيفا للفضول. وما كان منه يأوي الماء العذب، كان أكثر لزوجة وسهوكة، وأقرب من الانقلاب
إلى الفساد، وأعسر انهضاما، وأكثر إضرارا بالمعدة، ولذلك صار غذاؤه أذم وأردأ، لان ماءه الذي يأوي
فيه أبرد وأكثر رطوبة بالطبع، وأبعد من تلطيف الفضول. ولذلك قال جالينوس: أن جميع سمك الأنهار
والآجام، وإن كان لحمه رخصا، فإنه أغلظ وأضر بالمعدة وأسرع انقلابا إلى الفساد.
وأما اختلاف السمك من قبل قوام الماء الذي يكون فيه، فإن ما كان منه يأوي ماء صافيا نقيا،
كان أفضل وأبعد من الفساد، ولا سيما متى كان جاريا على حجارة أو حصى أو كان ماء مالحا، لأنه أقل
سهوكة وزفورة. وما كان من السمك يأوي ماء كدرا، كان أردأ وأفسد وبخاصة متى كان ساكنا كثير الطين
والحمأة، لأنه أكثر زفورة وسهوكة.
وأما اختلاف السمك على حسب مقدار مائه الذي يأوي فيه، وكثرة أمواجه وقلتها، فقد بينا مرارا
أن ما يأوي أنهارا قوية الحركة كثيرة الأمواج شديدة المد، كان أفضل مما كان بخلاف ذلك، لان شدة
الحركة تفيد السمك رخاوة في جسمه وقلة في فضوله. وضعف الحركة تفيد السمك غلظا، وتزيد في
فضوله. ولذلك صار كل سمك تهب على مائه الرياح دائما، أفضل غذاء وأرخص لحما من السمك الذي



(1) في الأصل: كان.
153
لا تهب عليه الرياح أصلا، لان كثرة الرياح زائدة في شدة حركة الماء وكثرة أمواجه. فإن كانت المياه،
مع ذلك، في مواضع مستقبلة الشمال، كان ذلك زائدا في فضلها، لان ريح الشمال يابسة بالطبع، وما
تحمله معها من الأشياء، فذكية الرائحة لذيذة. وذكاؤها مزيل عن السمك أكثر سهوكته وزهومته. وكل
سمك يأوي مياه مستورة من مهب الرياح، فهو أردأ وأذم لان قلة الرياح تمنع حركة الماء وتديم سكونه
وركودته.
وكذلك كل سمك يأوي مياه عليها ريح الجنوب، فهو مذموم لان الجنوب، على مذهب
المتطببين، رطبة بالطبع، وما تحمله معها أيضا من الأشياء، فكريهة بشعة. وكراهتها تفيد السمك زفورة
وسهوكة.
وأما اختلاف السمك من رياضته، فإن ما كان منه دائم الحركة كثير التعب، كان أفضل مما كان
بخلاف ذلك، لان زيادة الحركة ودوام الرياضة، تخلخل جسمه وترخي لحمه وتلطفه وتذهب بلزوجته
وغلظه.
وأما اختلاف السمك من قبل مرعاه وما يغتذي به، فإن ما كان منه يرتعي حشيشا طريا وأصولا
رطبة محمودة، أو حيوانا جثته نقية، كان أفضل لان غذاءه يكون أخف ولحمه ألذ وبخاصة متى كان
يأوي مياه صافية نقية سليمة من الوسخ والحمأة. وما كان منه يرتعي حشيشا كريها وأصولا مذمومة أو
حبوبا عتيقة فاسدة، كان رديئا مذموما. فإن لحمه يكون أغلظ وسهوكته وزهومته أكثر، ولا سيما متى كان
يأوي مياه كدرة وسخة كثيرة الطين والحمأة.
وأما اختلاف السمك من قبل سنه ومقدار مدته، فإن ما كان منه متوسطا بين الصغير والكبير، كان
أفضل وأحمد من الصغير والكبير جميعا، لان الصغير وإن كان محمودا من جهة، فهو مذموم من جهة
أخرى. وأما الكبير، فإنه مذموم من الجهة التي يحمد منها الصغير، ومحمود من الجهة التي يذم منها
الصغير. وذلك أن الصغير (1) يحمد لقلة غلظه ولزوجته وسرعة انهضامه وبعد إضراره بالمعدة، فإنه يذم
لسرعة استحالته وانتقاله إلى العفونة والفساد. وأما الكبير، فإنه وإن كان يذم لغلظه وكثرة لزوجته وسرعة
إضراره بالمعدة، فإنه يحمد لبعد استحالته وانقلابه إلى الفساد بسرعة. ولذلك صار المتوسط السن من
السمك أفضل كثيرا لبعده من الحاشيتين جميعا، وأخذه (2) من كل واحد منهما الأفضل، لأنه يأخذ من
الصغير بعض ليانته ورخاوة لحمه فيلطف لذلك، ويسهل انهضامه ويقل إضراره بالمعدة. ويأخذ من
الكبير بعض جفافه وغلظه، فتبعد استحالته إلى الفساد من قرب، إلا أنه يكون على ثلاثة ضروب: لان
منه ما يكون من سمك هو في جنسه أصلب لحما. ومنه ما يكون من سمك هو في جنسه أرخى لحما.
ومنه ما يكون من سمك هو في جنسه متوسطا بين الرخاوة والصلابة.



(1) كان يجب أن يتبعها لفظة (وإن كان) ليكون التعبير مستقيما مع قوله: (فإنه يذم..).
(2) في الأصل: وأخذ.
154
فما كان منه من سمك هو في جنسه أصلب لحما، كان ما قرب منه الصغر أفضل، لان رطوبة
سنه تعدل صلابة لحمه. وما كان منه من سمك هو في جنسه أرخى لحما، كان ما جاوز السن المعتدل
إلى الكبر قليلا، أفضل لان غلظ سنه يعدل رخاوة لحمه. وما كان منه من سمك هو في جنسه متوسطا
بين الرخاوة والصلابة، كان توسط سنه أعدل وأحمد على ما بينا آنفا.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن ما كان من السمك صغيرا، كان أرخى لحما وأسرع
انهضاما وأقل إضرارا بالمعدة، إلا أنه أسرع استحالة إلى الفساد. وما كان من السمك كبيرا، كان أغلظ
لحما وأعسر انهضاما وأضر بالمعدة، إلا أنه لا يستحيل إلى الفساد بسرعة. وما كان من السمك متوسطا
بين هاتين المرتبتين، كان أحمد لبعده من الحاشيتين، وأخذه من كل واحدة منهما الأفضل. ولذلك صار
أفضل السمك وأوفقه للغذاء ما كان متوسطا بين الصلابة والرخاوة، وبخاصة متى كان من حيوان أحمد
في جنسه، مثل السمك الصخري. وأما إن كان من حيوان في جنسه أصلب لحما، فإن ما قرب منه من
الصغر، أفضل. وما كان من حيوان في جنسه أرخى لحما وأرطب، فإن ما جاوز الحد الأول إلى الكبر
قليلا، أحمد.
وأما اختلاف غذاء السمك من قبل اختلاف أزمان السنة، فيستدل عليه من سمن السمك
وهزاله. وذلك أن أعدل السمك وأفضله غذاء، ما كان متوسط السمن. لان ما كان منه سمينا جدا، كان
في جوهره وخاصته ليفيا، غليظا، لزجا، عسير الانهضام، مرخ للمعدة، مفسدا (1) لها، مضرا (1)
بعصبها، مولدا (1) للبلغم الغليظ اللزج المعروف بالخام. وما كان منه مهزولا جدا، كان جسمه صلبا
ليفيا، بعيد الانهضام، مذموم الغذاء. فالحالتان جميعا إذا مذمومتان. ولذلك صار الأفضل أن يكون
متوسطا بين الحاشيتين، ليزول عنه ما في كل واحد منهما من الفساد. وأعدل ما يكون من السمك في
توسطه السمن عند ابتداء تولد البيض فيه، لان منه ما يسمن ويكثر شحمه عند امتلائه من البيض، ويهزل
إذا عدم البيض، مثل السمك المعروف بفاداوس. ومنه ما يسمن ويكثر شحمه إذا نقص بيضه، ويهزل
إذا امتلأ من البيض، مثل السمك المعروف بالقيفال. والنوعان (2) جميعا فأحمد أوقاتهما عند ابتداء تولد
البيض فيهما، لان ما كان يسمن عند امتلائه من البيض، ويهزل عند عدمه البيض، فهو في حال امتلائه
من البيض مذموم لكثرة شحمه. وفى حال عدمه البيض غير محمود لكثرة هزاله. وكذلك ما كان يسمن
إذا عدم البيض مذموم لكثرة هزاله، وفى حال عدمه البيض غير محمود لكثرة شحمه.
فإذا فسدت الحالتان جميعا لم يبق إلا وقت ابتداء تولد البيض، ووقت ابتداء نقصانه. والحال
في ابتداء تولد البيض أفضل من الحال في ابتداء نقصانه، لان الحرارة الغريزية عند ابتداء تولد البيض
أعدل وأقوى، والطبيعة أبسط وأشد تنقصا لأنها مسدية السبب الأعظم في تولد الحيوان ومناسلته. ولذلك



(1) في الأصل: بالكسر.
(2) في الأصل: والنوعين.
155
قال بعض الأوائل: أن من السمك ما يعتدل شحمه ويجود لحمه في الربيع، لان في ذلك الوقت يبتدئ
تولد البيض، وكذلك الحال في الشتاء وفى الصيف.
وأما اختلاف غذاء السمك على حسب اختلاف أعضائه فيكون على ضروب: وذلك أن من
أعضاء السمك أكثر شحما بالطبع، مثل السرة والأذنين والعينين. ومنها ما هي أقل شحما بالطبع، مثل
الجنبين وما جاوز عظم الصلب. ومنها ما هي أكثر لزوجة بالطبع، مثل الذنب وعظم الصلب والأجنحة.
ومنها ما هي أقل حركة، مثل السرة، وبعدها الأضلاع.
فما كان من أعضاء السمك أكثر شحما مثل السرة، كان غذاؤه أذم لان كثرة شحمه تفيده لزوجة
وسهوكة، وتعينه على إزلاق المعدة والمعاء والانحدار منها بسرعة، وتعسر نفوذه في العروق وجولانه في
البدن، وتمنع من جودة انهضامه في الكبد وتحيله إلى الفساد بسرعة، وبخاصة متى كان من حيوان
سمين لان ما كان من الأعضاء أكثر شحما بالطبع، وكان حيوانه مهزولا، كان أقل أضرارا، لان شحمه
الطبيعي يقل ويعتدل بهزال حيوانه.
وما كان من الأعضاء أقل شحما بالطبع، مثل الجنبين وما جاوز عظم الصلب، كان أبعد انحدارا
عن المعدة والمعاء لقلة لزوجته. إلا أن انهضامه يكون أسرع، واستحالته إلى الفساد أبعد، وغذاءه
أحمد وبخاصة متى كان من حيوان سمين، لان من خاصة السمك أن يزئ (1) شحمه في جوفه ويجمعه
فيه، فيقل ما على الجنبين وما جاوز عظم الصلب من الشحم. فإذا كانت تلك المواضع من حيوان
أسمن، كانت أرطب وأدسم وأعدل. ومتى كانت من حيوان أهزل، كانت أصلب وأغلظ وأبعد انهضاما.
وما كان من أعضاء السمك أكثر حركة، مثل الذنب وعظم الصلب والأجنحة، كان أرخى لحما
وأقل شحما وأسرع انهضاما وأحمد غذاء وبخاصة متى كانت من حيوان أسمن. وما كان منها أقل حركة
مثل السرة، وبعدها الأضلاع، أو كان أكثر لزوجة، مثل الرأس، كان أغلظ وأعسر انهضاما وأفسد غذاء.
ولذلك قال جالينوس: إن لحم السرة والرأس من كل سمك، مذموم جدا لأنه يطفو في المعدة ويعوم
لكثرة دسمه ولزوجته، ولذلك يعسر انهضامه جدا. فإذا هبط (2) واستقر في قعر (2) المعدة وأزلقته وانحدر
بسرعة (3). ولذلك صار كثيرا ما يحدث عنه العلة المعروفة بزلق الأمعاء.
وأما لحم الذنب والأجنحة وما يحوطه بعظم الصلب من الرأس إلى الذنب، وبخاصة ما قرب من
القفا (4)، فإنه أرخص لحما وأسرع انهضاما وأحمد غذاء. ذلك لكثرة حركته ودوام تعبه لان العظام ترض



(1) أزأى الرجل بطنه: امتلأ.
(2) في الأصل: مستدركة في الهامش.
(3) كذا في الأصل: فلم يذكر جواب الشرط. أو أن واو العطف في (وأزلقته) زائدة، فتكون عبارة (أزلقته وانحدر بسرعة) هي
الجواب المطلوب.
(4) مؤخر العنق.
156
ما يليها من اللحم وتفيده ليانة ورخاوة ولذاذة وجودة غذاء، وتزيل عنه صلابته ولزوجته. وأما ما يلي
الجنبين والأضلاع، فإن لحمه بإضافته إلى لحم الذنب والأجنحة أصلب قليلا لأنه أقل منه حركة،
وبإضافته إلى لحم السرة أرخى وأقل لزوجة لأنه أقل منه شحما ودسما. ولذلك صار بإضافته إلى لحم
السرة ألذ طعما وأسرع انهضاما وأحمد غذاء.
وأما اختلاف غذاء السمك من الصنعة والعمل، فقد ينقسم بدءا على قسمين: لان من السمك
ما يتخذ طريا، ومنه ما يتخذ مالحا. وما يتخذ منه طريا، فيستعمل على ضربين: إما (1) على حسب
طبيعة السمك في نفسه، وإما على حسب طبيعة المستعمل له. فأما استعماله على حسب طبيعة السمك
في نفسه، فيكون على ضروب: وذلك أن من السمك ما يكون لينا رخوا قليل الغلظ واللزوجة، مثل
السمك الصخري. ومنه ما يكون فيه، مع رخاوة لحمه، لزوجة ولعابية، مثل السمك الشطي وسمك
الأنهار العظام الكثيرة الأمواج النقية الماء. ومنه ما يكون لحمه صلبا كثيفا قليل اللزوجة، مثل السمك
اللجي. ومنه ما يكون فيه، مع صلابة لحمه، لزوجة ولعابية، مثل سمك الأنهار الصغار والبرك
والبحيرات. فما كان منه لينا رخوا قليل اللزوجة، فقد استغنى عن شئ يطيب به ويصلح لحمه. ولذلك
صار من الأفضل أن يتخذ أسفيذباجة ساذجة بماء وملح وشبت وشئ من كراث ويسير من الزيت
والفلفل.
وزعم جالينوس أن هذا اللون هو أعدل ألوان السمك وأسرعها انهضاما وأقلها إضرارا بالمعدة.
ولذلك وجب ألا يتخذ السمك أكثر ذلك (2) إلا بهذا اللون، وبخاصة للناقهين من الأمراض، إلا أن تدعو
الحاجة إلى غيره، مثل أن يكون في السمك، مع رخاوة لحمه، لزوجة ولعابية، فيحتاج إلى ما يلطفه
ويفني أكثر رطوبته فيتخذ إما مشويا وإما مقليا بالزيت، لان النار والزيت الحار ينشفان رطوبته ويلطفان
لزوجته وغلظه. وإن كانا جميعا، أعني المشوي والمقلي، يحتاجان (3) إلى الزيت والمري ليسرع
انحدارهما وخروجهما. إلا أنه يجب أن يكون الزيت في المقلي أقل، لان من خاصة المقلي بالزيت أن
يرخي المعدة ويفسدها. ولذلك وجب أن يطيب بالشراب الريحاني الكثير العطرية. فإن عرض منه
للمعدة شئ من استرخاء وغثيان، فليشرب عليه الاسكنجبين العنصلاني، ولا يتخذه بعد ذلك إلا بالخل
والمري والشراب، لان ذلك يسرع انحداره ويمنع من إرخائه للمعدة. فإن كان السمك صلبا قليل
اللزوجة، احتاج إلى ما يلين لحمه ويرخيه. ويستعمل أسفيذباج بالمري والشراب القوي. وإن كان،
مع صلابة لحمه، لزجا لعابيا واحتاج إلى ما يرخي لحمه ويقطع لزوجته وغلظه، فيدفن في رماد حار
حتى تذهب سهوكته وزفورته، ويطيب بالخل والخردل والفوذنج الجبلي والزنجبيل والفلفل.
ولديوجانس قول في طبيخ السمك قال فيه: إذا أردت أن تطبخ سمكا فاطبخ مرقته بدءا بالأبازير



(1) في الأصل: وإما.
(2) كذا في الأصل.
(3) في الأصل: يحتاجا.
157
وما يحتاج إليه حتى تنضج غاية النضج، ثم الق فيها (1) السمك وهي حارة تغلي، فإن ذلك مما يطيب
طعمه ويكسبه لذاذة، ويصير الدم المتولد عنه أحمد.
وأما استعمال السمك على حسب طبائع المستعملين له، فيكون على ضروب: لان من الناس
من يكون مزاجه معتدلا. ومنهم من يكون مزاجه حائدا عن الاعتدال، إما إلى الحرارة، وإما إلى
البرودة، وإما إلى الرطوبة، وإما إلى اليبوسة. فمتى كان مزاج المستعمل له معتدلا، كان أفضل ما
يتخذه مشويا أو مقليا بالزيت والمري والشراب، وإن كان المشوي أفضل كثيرا من المقلي. وإن كان
مزاج المستعمل له حائدا عن الاعتدال، وجب أن يقابل من الأبازير بضد الكيفية التي غلبت على
مزاجه. مثال ذلك، إن كان الغالب على مزاج المستعمل له الحرارة، كان من الأفضل له أن يستعمل إما
سكباجا (1) ساذجة، وإما مسلوقا (2) مطيبا (2) بالخل وشئ من مري. فإن كان مزاج المستعمل له باردا
اتخذه مطيبا بالشراب القوي والخردل والزنجبيل والفودنج الجبلي والفلفل. وإن كان مزاجه مرطوبا،
اتخذه مشويا مطيبا بالخردل والخل الحاذق والمري والشراب القوي والصعتر والفودنج والزنجبيل
والفلفل. وإن كان مزاجه يابسا، استعمله أسفيذباج بماء وملح وشبت.
* * *
في ما يملح من السمك وغيره
كل ما يحفظ ويبقى زمانا طويلا، فلا يخلو ذلك من أن يكون بالعسل، وإما بالشراب، وإما
بالخل، وإما بالملح. وما يحفظ بالعسل، فإن العسل يفيده حرارة وجفافا. وما يحفظ بالشراب، فإن
الشراب يفيده من الحرارة واليبس أكثر مما يفيده من العسل. وما يحفظ بالخل، فإن الخل يفيده عوض
الحرارة برودة. وما يحفظ بالملح، فإن الملح يفيده من الحرارة مثلما يفيده الشراب، ومن اليبس أكثر
مما يفيده الخل. إلا أنه لا يفعل في حبس البطن ما يفعله المحفوظ بالخل، لكنه يطلق إطلاقا بينا. ولا
ينقلب أيضا إلى الليانة والرخاوة دائما، لكنه ربما انقلب إلى أن يصير أصلب مما كان، لان الملح يفعل
في الأشياء على حسب قبولها وانفعالها في ذواتها، لا على حسب طبيعته في ذاته، كالذي نشاهده من
فعل النار في الأشياء، لأنا نجدها تذيب الرصاص وتحرق الطين. والسبب في ذلك أن الأجرام لما
كانت مختلفة في اليبس والرطوبة، والغلظ واللزوجة، وكان الملح مركبا من قوى مختلفة بعضها حار
محلل ملطف، وبعضها يابس مجفف مصلب، وجب أن يختلف فعله في الأجرام على حسب انفعالها
في ذواتها، لا على حسب فعله في ذاته، لأنه يفعل في الأشياء فعل النار فيها. وذلك أن النار في
طبيعتها حارة يابسة، والحرارة فيها أسبق وأقوى لأنها الفاعل الأكبر.



(1) في الأصل: فيه.
(2) في الأصل: بالرفع.
158
وقد يستدل على ذلك من الشاهد، لان العامة دون الخاصة، يعلمون أن النار حارة لظهور
حرارتها للحس، ولا يعلمون أنها يابسة لخفاء يبسها عنهم. فالحرارة فيها أقوى فعلا وأسبق تأثيرا، لأنا
نجدها إذا قابلت الأشياء ولاقتها، أسخنتها بدءا وأحمتها وأذابت رطوباتها وحللتها، ثم تفعل بعد ذلك
فيها يبسها وتجففها. فالحرارة إذا في النار أسبق وأقوى فعلا من اليبوسة. وعلى هذا المثال، نجد فعل
الملح في الأشياء أيضا، لأنا نجده يحلل ويذيب ما كان فيه من رطوبة سيالة، ويكثف ويصلب ما كان
قليل الرطوبة. فمن البين إذا، أن الملح إذا وافى جرما رخوا ألفى فيه رطوبة غزيرة رقيقة سيالة، حلل
تلك الرطوبة وأذابها وزاد في رخاوة الجسم وليانته، وكلما كانت الرطوبة أرق، كان أكثر لرخاوة الجسم
وليانته. وإذا وافى جرما قليل الفضول ليس فيه رطوبة غريزية فيفعل فيها، احتوى على ما فيه من يسير
الرطوبة، وجففها بسرعة وزاد في صلابة الجسم وصيره قحلا شبيها بالجلود المدبوغة، وأخرجه من حد
ما يغتذي به. وإذا وافى جرما صلبا، إلا أن فيه رطوبة غريزية، أذاب تلك الرطوبة وحللها وسيلها
وأكسب الجرم ليانة واعتدالا. وإذا وافى جرما رخوا قليل الرطوبة، حلل ما فيه من الرطوبة اليسيرة
وجففها وأكسب الجرم صلابة واعتدالا.
فقد بان واتضح أن كل حيوان تجتمع فيه الحاشيتان المتلاومتان (1)، أعني بالحاشيتين المتلاومتين إما
رخاوة الجسم وكثرة الرطوبة، مثل الصغير من الضأن، وإما صلابة الجسم وكثرة اليبوسة، مثل الفتي من
البقر، فإنه مذموم للتمليح. وكل جسم تجتمع فيه الحاشيتان المتضادتان: إما رخاوة الجسم وقلة الرطوبة،
مثل الرضع من الماعز، وإما صلابة الجسم وكثرة الرطوبة، مثل الفتي من الضأن، فإنه محمود للتمليح، لان
الجسم إذا كان لينا رخوا غزير الرطوبة وواقعه الملح، حلل رطوبته وسيلها. وإذا تحللت الرطوبة وسالت
وتهافتت، ازداد الجسم رخاوة وليانة، وصار مذموم الغذاء، إلا أنه قد صار في طبيعة البلغم المالح المحرق
لاكتسابه البورقية من الملح. ولذلك صار الغذاء المتولد عنه حارا محرقا للدم. ولهذه الجهة لحقه الدم من
جهتين: إحداهما (2): أنه بحدته وحرافته صار محرقا (3) للدم ومشيطا (3) له. والثانية: أنه لرخاوة جسمه
وليانته، صار عسير الانعقاد، بعيد التشبه بالأعضاء وبخاصة متى كان (4) الغالب على رطوبته الرقة
والسيلان.
وإذا اجتمع في الجسم الصلابة وقلة الرطوبة، صار إذا واقعه الملح، ولم يجد فيه رطوبة زائدة يفعل
فيها، رجع إلى رطوبته الجوهرية واحتوى عليها وأفناها، وزاد جسمه صلابة وصيره قحلا جافا خارجا عن حد
ما يغتذى به. وأما الجسم الذي قد اجتمع فيه مع الرخاوة، قلة الرطوبة، فإن الملح إذا واقعه ولم يجد فيه
رطوبة غزيرة يفعل فيها، رجع إلى ما فيه من يسير الرطوبة وجفف أكثرها، وأكسب الجسم صلابة واعتدالا.
وكذلك الجسم الذي قد اجتمعت فيه صلابة الجسم وكثرة الرطوبة، فإن الملح إذا واقعه ووافى رطوبته غزيرة،
حللها وأذابها وسيلها وجفف ما أمكنه منها. فإذا عجز عن تحفيف الكل لكثرته عليه، بقيت منه بقية أعانت



(1) في الأصل: الحاشيتين المتلاومتين.
(2) في الأصل: أحدهما.
(3) في الأصل: بالرفع.
(4) (كان) مستدركة في الهامش.
159
على ترطيب الجسم وتليين صلابته، ورجع إلى التوسط والاعتدال.
فقد بان مما قدمنا إيضاحه: أن الصغير من الضأن مذموم التمليح. والفتي والهرم
محمود للتمليح. والفتي والهرم من البقر والماعز مذمومان للتمليح. والصغير محمود للتمليح، من قبل أن
الصغير من كل حيوان، بإضافته إلى الفتي والهرم من نوعه، أرخى لحما وألين جسما. فإذا كان من حيوان
أرطب بالطبع مثل الضأن، وواقعه الملح، تحللت رطوبته بلطافة الملح، وضعفت قوة الملح عن
تجفيفها لكثرتها فزادت في رخاوة الجسم وليانته وفساده، لأنه يكتسب من الملح حرافة وحدة، ويولد غذاء
محرقا للدم بعيدا من التشبه بالأعضاء. وأما الهرم من كل حيوان، فإنه أجف وأقحل. فإذا كان من حيوان
أرطب بالطبع، مثل الضأن، وواقعه الملح كان في رطوبته الطبيعية من الكثرة ما لا يفني الملح إلا
بعضها، وتبقى منها بقية تفي (1) بترطيب جسم الحيوان وتعديل صلابته. وإذا كان من حيوان أيبس بالطبع،
مثل البقر والماعز، وواقعه الملح، فنيت رطوبته بسرعة لقلتها، وازداد جسمه قحلا وجفافا، وخرج من حد ما
يغتذى به. وأما الفتي من كل حيوان، فإنه أصلب لحما وأقل رطوبة من الصغير الكثير الرطوبة، كثيرا. فإذا
كان من حيوان أرطب بالطبع، مثل الضأن، فإن الملح إذا واقعه، ضعفت قوته على تجفيف جل
رطوبته الطبيعية لكثرتها، وسالت وذابت ورطبت صلابة الجسم وردته إلى الاعتدال. وإذا كان من حيوان
أيبس بالطبع، مثل البقر والماعز، وواقعه الملح ولم يواف (2) فيه (3) رطوبة زائدة يفعل فيها، احتوى على الجسم
وجففه وزاده صلابة على ما كان عليه، وخرج من حد الغذاء. وإن كان الفتي من البقر والماعز أفضل للتمليح
من الهرم كثيرا، لأنه أعبل جسما وأرطب لحما بالإضافة إلى الهرم قليلا، من قبل أن صلابة جسم الفتي إنما
هي (4) لشدة أعضائه وقوة حرارته الغريزية وزيادتها على حرارة الهرم. وصلابة جسم الهرم فإنما تكون لقحله
وجفاف جسمه وقلة رطوبته الجوهرية وقربها من الفناء. ولذلك صار أذم كثيرا وأردأ.
فإن قال قائل: فما الذي صير الهرم من كل حيوان أقحل جسما وأقل رطوبة بالطبع، والشاهد ينبئ
بخلاف ذلك؟ من قبل أنا نجد المشايخ الطاعنين في السن أرخى لحما وألين جلودا وأكثر رطوبة. ويستدل على
ذلك من كثرة لعابهم ودموع أعينهم ورطوبة خياشيمهم وسيلانها دائما.
قلنا له: أما (5) ما ذكرته في المشايخ الطاعنين في السن، وإن كان ظاهرا مشاهدا، فإن ذلك ليس هو
لهم من طبعهم. لكن لعرض فيهم مكتسب من ضعف حرارتهم الغريزية وعجزها عن هضم غذائهم وتحليل
فضول أبدانهم وإخراجها من مسام البدن الدقاق. وبخاصة فضله الانهضام الثالث الكائن في الأعضاء.
ولذلك غلبت الرطوبات على أبدانهم ولانت أعضاؤهم واسترخت جلودهم وكثر لعابهم ودموع أعينهم،
وغزرت رطوبة خياشيمهم. والسبب في ذلك: أن حرارة أدمغتهم الغريزية لما ضعفت عن تلطيف ما يتبقى



(1) في الأصل: يفي.
(2) في الأصل: يوافي.
(3) (فيه) مكررة في الأصل.
(4) في الأصل: هو.
(أما) مستدركة في الهامش.
160
على الدماغ من فضلة غذائه، بقيت الفضلة منحصرة في حجب الدماغ وكثرت هنالك، وضعفت القوة
الدافعة عن دفعها إلى الواضع البعيدة من الدماغ، وذابت وسالت وخرجت من أقرب المواضع إلى الدماغ مثل
العينين والخياشيم.
ولجالينوس فيما يصلح للتمليح من الحيوان قول، قال فيه: إن ما كان من الحيوان ليس بصلب ولا
سمين، فإنه إن ملح ولد غذاء فاضلا. أراد بقوله: (ليس بصلب) ألا يكون قحلا جافا، مثل الهرم من كل
حيوان. وأراد بقوله: (ولا سمين) أحد معنيين: أحدهما: ألا يكون مثل الصغير من الضأن في إفراط رطوبته
ورخاوة لحمه. والثاني: أن لا يكون سمينا جدا، لان الشحم في طبعه غليظ لزج (1)، فإذا واقعه الملح اكتسب
حدة وحرافة وأضر بالمعدة إضرارا بينا. فإذا صار إلى العروق، غلظ الدم وأحرقه وأفسده. وكذلك الامر
ينقاس في السمك، لان ما كان من السمك قد اجتمعت له رخاوة الجسم وإفراط رطوبة المزاج، أو صلابة
الجسم وجفاف المزاج، كان مذموما للتمليح، للأسباب التي قدمنا ذكرها. وما كان جسمه صلبا ورطوبة
مزاجه غزيرة (2)، أو جسمه رخوا ورطوبة مزاجه يسيرة، كان أفضل للتمليح.
وأما جالينوس، فزعم أن ما كان من السمك جسمه رخوا فهو مذموم للتمليح أصلا كانت رطوبته
غزيرة أو يسيرة. إلا أنه في الجملة متى كانت رطوبة مزاجه أقل، كان أفضل قليلا لان الرطوبة إذا كانت غزيرة
مع الجسم الرخو، ضعفت قوة الملح عن نشفها، وكان ما تبقى منها زائدا في رخاوة الجسم وفساده، وصار
مذموم الغذاء.
وأما الرطوبة اليسيرة، فإن الملح وإن لم يفنها (3) بأسرها فإن الذي يبقى منها غير زائد في رخاوة الجسم
لقلته. وإذ ذلك كذلك، فمن الأفضل ألا يملح من السمك إلا ما كان جسمه صلبا. ولا يملح أيضا إلا وهو
بعد طري متحرك في صلابة جسمه وقوة حرارته الغريزية، لان صلابة جسمه تعتدل بما يصل إليها من يسير
الرطوبة، ويصلح غذاؤه، والله عز وجل أعلم.



(1) في الأصل: غليظا لزجا.
(2) في الأصل: غزيرا.
(3) في الأصل: يفنيها.
161
الباب التاسع عشر
في إصلاح الأغذية ونقلها من الطعوم الكريهة المذمومة
والروائح البشعة الفاسدة والأجسام الصلبة
الخاسئة إلى طعوم لذيذة محمودة وروائح
ذكية مقبولة وأجرام لينة معتدلة
تصلح للغذاء
فأقول: إن الأغذية تكون على ضربين: لان منها ما قد أصلحته الطبيعة وأتقنت عمله وأحكمت
نضجه على نباته، وأخرجته إلى الحالة التي يجب أن يكون عليها، وأغنت عن الحيلة والتدبير في
إصلاحه، مثل عملها في اللبن والفواكه التامة الكاملة النضج. ومنها ما لم يستتم عملها فيه، فبقي على
حالة يحتاج فيها إلى إصلاحه بالصنعة والعمل، لينتقل من الطعوم والروائح التي تعافها الطباع وتشنأها (1)
وتنافرها، إلى طعوم وروائح لذيذة عند الطباع، ومن الأجرام الصلبة المستكدة للطباع إلى أجرام سهلة
سريعة الانقياد لفعل الطباع.
ولذلك قال جالينوس: ومن الواجب أن لا يكون لشئ من الطعوم رائحة كريهة مفسدة للمعدة
مبخرة إلى الرأس مضرة بالدماغ، ولا طعم قوي لذاع مضر بعصب المعدة مؤذ لحاستها ولا جرم صلب
مستكد للمعدة ومتعب لها. ولهذه الجهة، صار من الأفضل أن نستعمل الحيلة في إصلاح ما رأيناه من
الأغذية له رائحة كريهة أو طعم قوي أو جرم صلب، لنزيل عنه ذلك بأحكم ما يكون من الصنعة
والعلاج. وذلك يكون بخمس خصال: إما بالنار وحدها، وإما بالماء وحده، وإما بهما جميعا، وإما
بالملح، وإما بالخل والزيت والأبازير.
واليسير من الأغذية يكتفي بالنار وحدها لان النار إنما تستعمل لثلاثة وجوه: إما لما يحتاج إليه أن

162
ينقل من الرقة إلى الغلظ، مثل البيض المشوي واللبأ المعقود. وإما لما يحتاج إليه لان ينقل من الغلظ
والمتانة إلى الليانة واللطافة، مثل اللحم المشوي وما شاكله. وإما لما يحتاج أن ينقل من العلوكة
والصلابة إلى الهشاشة والرخاوة، مثل الحبوب التي تشوى وتقلى لتزول عنها رياحها وصلابتها وعلوكتها،
وتكتسب رخاوة وهشاشة، وإن كان ذلك مما يفيدها، بعد انحدارها، معونة على حبس البطن، لان النار
تنشف رطوبتها ودسمها وتخلخل جسمها، فتقوى بذلك على نشف رطوبة المعدة وتشد فاها الأسفل.
والنار تكون على ضربين: لان منها النار التي يخبز فيها ويشوى، ومنها النار التي يسلق بها
ويطبخ. فأما نار الخبز والشي، فالأفضل فيها أن تكون لينة هادئة قد سكن لهيبها، واعتدلت حرارتها،
كيلا تتمكن من ظاهر ما يخبز فيها أو يشوى فتفني رطوبته وتصيره قحلا جافا غليظا قبل كمال نضج
باطنه. فإن كانت رطوبة ما يشوى غير محمودة، كان الأفضل أن نطيل لبثه في النار حتى تفني أكثر
رطوبته وتقارب الجفاف. وأما نار الطبخ، فيجب أن تكون بالإضافة إلى نار الخبز، أشد حرارة وأقوى.
وذلك لما في الطبخ من رطوبة الماء المقاومة ليبس النار وجفافها، وإن كان من الواجب أن لا تكون
كثيرة اللهب جدا، لكن تكون قريبا من نار الجمر، لان نار الجمر أفضل النيران المستعملة، من قبل أن
قوة فعلها تنفذ في جميع أجزاء الشئ المطبوخ نفوذا متساويا، لان انبعاث الحرارة من كل أجزائها
انبعاث يقرب بعضه من بعض. ولذلك صار فعلها ينفذ في جميع أجزاء الشئ المطبوخ نفوذا متساويا.
فيفعل في كل واحد منها فعله في الآخر.
وأما غيرها من النيران، مثل النار التي لها شعاع ولهب، فليس انبعاث قوتها من جميع أجزائها،
انبعاثا متساويا، لان من شأن اللهيب <أن> يصعد صنوبري الشكل، فيلقى بعض أجزاء الاناء بقوة أكثر مما
يلقى بها غيره، ويفعل فيه أكثر من فعله في غيره. وإذا كان كذلك، لم يمكن أن يكون نضج الكل
نضجا واحدا متساويا.
وأما الماء، فاحتيج إليه في إصلاح الأغذية لجهتين: إما لما كان يابسا يحتاج أن يلين ويرطب،
مثل الباقلاء المنبت وغيره من الحبوب. وأما لما كان له طعم قوي يحتاج أن ينقع في الماء حتى يزول
عنه ذلك الطعم، مثل الترمس وما شاكله.
وأما الملح، فاحتيج إليه لأربع خصال: إما لما كان لزجا غليظا يحتاج إلى ما يقطع لزوجته وغلظه
ويعدله، مثل السمك وغيره. وإما لما كان تفها لا طعم له يحتاج إلى ما يكسبه طعما نستلذه، مثل القرع
وغيره. وإما لما كان مفرط الرطوبة يحتاج إلى ما ينشف رطوبته ويجففها ويفني أكثرها. وإما لما كان له
زفورة وسهوكة يحتاج إلى ما يزيل ذلك عنه. ولذلك احتجنا في إصلاح اللحمان السمينة الكثيرة الدسم
والرطوبة إلى ملح أكثر.
وأما الخل، فاحتيج إليه لخلتين: إما لما كان مغثيا مفسدا للمعدة، فيكسبه الخل تقوية وطعما

163
يستلذ به. وإما لما كان محتاجا إلى تلطيف من غير إسخان، مثل ما يفعل بحسو (1) الشعير إذا خلط معه
يسير من خل ليزيد في تلطيفه من غير أن يفيده حرارة.
وأما الزيت، فاحتيج إليه لثلاثة وجوه: إما لاصلاح الغذاء وتطييبه. وإما لما قد أفرط عليه القحل
والجفاف، فيكسبه ليانة وسلاسة، مثل العدس والجاورس. وإما لما فيه من حدة وحرافة وتلذيع، فيفيده
لزوجة يسكن بها ما فيه من الحدة والتلذيع، ويمنع من أذيته.
وأما الأبازير، فاحتيج إليه لثلاثة وجوه: إما لاصلاح أغذية باردة عسيرة النفوذ في العروق بالطبع،
تحتاج إلى ما يلطف غلظها ويطرق (2) نفوذها في العروق وجولانها في البدن. وإما لما كان تفها كثير
الرطوبة مغثيا يحتاج إلى ما يفني أكثر رطوبته ويفيده لذاذة. وإما لما كان بشعا كريه الرائحة يحتاج إلى ما
يغير كراهة رائحته. وإن كان من الواجب أن نحذر الاكثار من الأبازير، وألا نستعمل منها إلا ما غير
طعما رديئا ورائحة كريهة، لان الاكثار منها يجفف رطوبة الغذاء ويغلظه ويمنع من انهضامه. وأما الأبازير
الرطبة، فيجب أن لا يستعمل منها إلا ماءها فقط، لان أجرام جميع الأبازير غليظة عسيرة الانهضام.
وإذ أتينا على جملة الوجوه التي نصل بها إلى إصلاح طعوم الأغذية وروائحها وتعديل أجرامها،
فقد بقي أن يستتم هذا الباب بذكر الطعوم والروائح والأجرام التي تحتاج أن تنقل مما هي عليه إلى
غيره، ونخبر بما يصلح كل واحد منها على الانفراد. ونبدأ من ذلك بذكر الطعوم إذ كانت أقوى فعلا
وأكثر تأثيرا فأقول: إن الطعوم المؤذية ستة: أحدها: التفاهة. والثاني: الحموضة. والثالث: الملوحة.
والرابع: العفوصة. والخامس: المرارة. والسادس: الحرافة.
فمتى كان الغذاء تفها لا طعم له ولا لذاذة، كان الأفضل في إصلاحه أن يكسب طعما يستلذ
به، بالخل والملح والأبازير والأشياء الموافقة. ومتى كان حامضا، اكتفينا في إصلاحه بالملح. وكذلك
إذا كان مالحا، كان إصلاحه بالحموضة، لان هذين الطعمين كأنهما ضدان كل واحد منهما يغير فعل
صاحبه، إلا أن تكون كيفية أحدهما قوية جدا فلا يمكن معها مقابلتها من ضدها بمقدار قوتها، وإلا
حدث بينهما كيفية لا تحتملها الحاسة لقوتها. ولذلك صار الأفضل أن تكسر حدة ما كان منها طعمه
قويا، بالماء ثم يقابل من ضده بما يعدله ويكسبه لذاذة.
فإن قال قائل: فإذا كان الماء يكسر حدة كل واحد من هذين الطعمين ويعدله، فلم لا اكتفينا
في إصلاحها بالماء وحده واستغنينا عن مقابلته بضده؟.
قلنا له: إن الماء لا طعم له، فلو ذهبنا أن نقتصر في إصلاح ما نريد إصلاحه من هذين الطعمين



(1) الحسو والحسا والحساء: طعم قوامه الدقيق والماء. يعرف اليوم بالشوربا.
(2) طرق له: جعل له طريقا: سهل خروجه ونفاذه.
(3) في الأصل: ضدين.
164
بالماء وحده كل طعم ما يمازجه من الماء، وزال عنه كيفيته وخاصته التي تراد منه ولم يفده لذاذة،
وهذان الطعام فليسا كذلك، لان كل واحد منهما، وإن غير فعل صاحبه، فإنه يكسبه لذاذة مركبة من
طعميهما من غير أن يزيل عنه كيفيته التي هي له أصلا، إلا أن تغلب عليه، فيخفي كيفيته ويسترها.
ومتى كان الغذاء عفصا، كان الأفضل في إصلاحه أن ينقع في الماء العذب حتى يلين، ويسلق
بماء ثان (1) فإن احتجنا إلى <أن> نبقي بعض عفوصته فيه، لم نمعن في إنضاجه حتى يهترئ. وإن أردنا
أن نزيل عنه أكثر عفوصته، بالغنا في إنضاجه لان كل ما يطبخ فليس تبقى فيه قوته على حالتها، لكنها
تقل وتضعف بانتقالها إلى الماء. وكلما بولغ في إنضاجه، كان ما يذهب من قوته إلى الماء أكثر.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن جميع ما يطبخ، فقوته تخرج إلى الماء. فإذا طال لبثه
على النار، ذهبت قوته أصلا، ولا سيما متى نقل من ماء إلى ماء. وإنما يصير المرق مالحا لما يطبخ فيه
من الأشياء المالحة، لان النار ترفع لطيفة بالبخار، فيتشنج غليظه ويصير بورقيا.
ومتى كان الغذاء مرا وكان مما يحتاج أن يسلق، سلقناه بالماء القراح وطيبناه، بعد إخراجه من
الماء، بالخل والملح والأبازير. وإن كان مما لا يسلق، مثل زيتون الماء، نقعناه في الماء والملح بدءا
حتى تزول بعض مرارته، ثم نقلناه إلى الماء والملح والخل. فإن كان فيه مع حرارته، دهنية وليانة، مثل
زيتون الزيت، اكتفينا في إصلاحه بالملح لأنه يحتاج إلى ما ينشف رطوبته ويصلب جسمه ليبقى ولا
يزنخ ويفسد.
ومتى كان الغذاء حريفا وكانت حرافته ساذجة لم تشبها مرارة ولا عفوصة، مثل البصل وقضبان
الخردل الطري، كان الأفضل في إصلاحه أن ينقع في الماء والملح. وإن جعل فيه شئ من خل، كان
لا بأس به، وإن كان مع حرافته مرارة أو عفوصة، فيسلق بماء وخل ممزوجين، لان الأوفق في إصلاح
المرارة المحضة والعفوصة الكذلك، سلقها بالماء القراح. فإذا تركب أحدهما مع حرافة، وجب أن
يخلط بالماء الذي يسلق به الخل، ويتخذ بعد ذلك بالزيت أو غيره من الادهان، ليكتسب بذلك لزوجة
تكسر حدتها وحرافتها، وتسلم الحاسة من أذيتها. ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: ومن الواجب أن لا
نستعمل الأشياء الحريفة ولا الأشياء القحلة الجافة إلا بالزيت أو بغيره مما يقوم مقامه من الأشياء
الدسمة، لان اللدونة تكسب الأشياء الحريفة سلاسة وليانة، وتكسر حدة حرافتها، وتمنع من أذيتها،
وتفيد الأغذية القحلة الجافة لزوجة ورطوبة. ولسقلس (2) في هذا فصل قال فيه: إن ملاك الامر (3) في
إصلاح الأغذية، تنقيتها، بدءا مما خالف جنسها مما لا يمكن أكله، مثل الدوسر (4) من الشعير، والزوان



(1) في الأصل: ثاني.
(2) طبيب يوناني قديم. ذكر ابن أبي أصيبعة في طبقاته باسم: سيقلس.
(3) ملاك الامر: قوامه الذي يملك به.
(4) الدوسر، واحدته دوسرة: نبات قريب من القمح. اعتبره المؤلف للشعير بمثابة الزؤان في الحنطة.
165
والحبة السوداء من الحنطة، وبخاصة الحبة السوداء لأنها أردأ من الزوان. وكذلك الحبة السوداء
المستديرة الموجودة في العدس، فإنها لا يصلح أكلها، ولذلك وجب أن نستقصي تنقية الحبوب جدا،
ثم تنفض من التراب والغبار وتغسل ليزول عنها ما يلزق بظاهرها مما لا ينتفع به. فإن بقي فيها بعد ذلك
طعم قوي (1) لا يصلح للاكل مثل حرافة قوية أو مرارة أو ملوحة أو حموضة أو عفوصة أو تفاهة، أزلنا
ذلك عنها بالانقاع في الماء أو بالسلق.
فما كان منها الغالب عليه العفوصة، سلقناه بالماء العذب القراح وشئ من ملح. وما كان منها
الغالب عليه الملوحة، أنقعناه في الماء العذب. وما كان منها الغالب عليه التفاهة، طيبناه بالخل والملح
والزيت أو بالمري والزيت فقط. وما كان منها الغالب عليه المرارة، وكان مما يسلق، سلقناه بالماء
العذب وشئ من ملح، وإن كان مما لا يسلق، أنقعناه في الماء والملح. فإن كان فيه مع مرارته، ليانة
في جسمه ودهنية، كان إصلاحه في الملح فقط. وما كان منها الغالب عليه الحرافة، جعلنا في الماء الذي
يسلق به خل، واستعملناه بعد ذلك بالزيت أو بغيره من الادهان والأشياء الدسمة، لتقمع حرافته وتسلم
المعدة والمعاء من أذيته. إلا أنه يجب أن يكون الدهن المستعمل مع كل غذاء على حسب طبيعة
المستعمل له، وطبيعة السبب الذي يقصد الدهن له، لان الدسم والدهنية يحتاج إليهما في الغذاء
لسببين جنسيين: أحدهما: تطييب الغذاء وإصلاحه، وتليين خشونة أو صلابة إن كانتا فيه، أو قمع حدة
أو حرافة إن كانتا له. والسبب الآخر: لعلل شتى يحتاج فيها إلى الاهان، مثل تفتيح السدد وتسهيل
البول، أو لتليين الثفل وإخراجه أو لحبس البطن وقطع الاسهال، أو لجلب النوم.
فمن أراد استعمال الزيت أو الدهن لتطييب الغذاء وإصلاح خشونة فيه أو صلابة، أو لقمع حدته
وحرافته، كان أفضل الادهان لمثل ذلك ما لم يكن له رائحة شديدة وطعم قوي، مثل الزيت المعروف
بالانفاق المستخرج من الزيتون الأخضر بالماء الحار، أو دهن اللوز ودهن السيرج المعروف بدهن
الخل (2)، لان هذه الادهان من شأنها أن تفيد الطعام لذاذة وليانة. ومن أراده لتفتيح سدد أو لسعال،
فيقصد دهن اللوز الحلو، لان معه لدونة يلين بها الصدر، وعذوبة يجلو لها ويفتح المجاري ويغسلها.
ومن أراده لادرار البول، فيأخذ حب البطيخ والقثاء فيقشرهما ويسحقهما ويستعملهما عوضا من الزيت.
ومن أراده لتليين البطن وإخراج الثفل، فيأخذ لب القرطم ويدقه ويمرسه في ماء حار، ويصفيه
ويستعمله. ومن أراده لتقوية المعدة وحبس البطن، فيأخذ اللوز الحلو المقشر من قشره الاعلى،
ويحمصه بقشره الداخل ويسحقه ويستعمله. أو يأخذ ورق ورد أحمر منقى من أقماعه، فينقعه في زيت
أنفاق وهو حار، ويذره فيه يوما وليلة، ويصفيه ويستعمله. ومن أراده لجلب النوم، فيأخذ بزر الخشخاش
ويسحقه ويستعمله. ومن أراده للامرين جميعا، أعني لجلب النوم وقطع الاسهال، فيخلط بزر
الخشخاش ببعض الادهان الحابسة للبطن.



(1) في الأصل: طعما قويا.
(2) ناتج عن عجن السمسم المطحون بالماء الحار.
166
ومتى كان قصدنا في إصلاح الغذاء لصلابة جرمه، كان الأفضل في إصلاحه إن كان مما يسلق،
أن ينقع في ماء عذب ثم يسلق. وأن كان مما لا يسلق، فيشوى بالنار أو يلقى من غير زيت لان النار
تخلخل جسمه وتفرق أجزاءه وتكسبه رخاوة وهشاشة، إلا أن ذلك مما يعينه على نشف رطوبة المعدة
وحبس البطن. وإن كان قصدنا في إصلاح الغذاء لفساد رائحته، كان الأفضل أن يسلق بالماء ويصفى
من مائه الذي سلق به وقت نزوله عن النار وهو بعد يغلي، ولا نذره يلبث في الماء فيرجع إلى كيفيته
المذمومة التي خرجت عنه إلى الماء وطيبه بعد إخراجه من الماء بالخل والمري والزيت والأبازير
الموافقة. وإن كان مما يطبخ، فاطبخه بماء ثان (1) غير الماء (2) الذي سلقته به، وطيبه بالأبازير
المحمودة.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن كل مطبوخ تؤكل مرقته معه، فيترك في مرقته إلى وقت
الحاجة إليه. وكل مطبوخ لا تؤكل مرقته معه لفسادها، فينزع من مرقته وهو بعد ما حاد يغلي حتى ينزل عن
النار، كيلا يطول لبثه في المرقة ويرجع إلى كيفيته التي زالت عنه إلى المرقة. وإذا طبخت شيئا يحتاج إلى
أبازير فيجب أن يتوقى الاكثار منها، ولا يستعمل منها إلا ما غير طعما رديئا ورائحة كريهة وبخاصة الأبازير
اليابسة لان الاكثار منها ينشف رطوبة الطعام ويفججه ويغلظه ويمنع من انهضامه. ولذلك وجب أن ينعم
سحقها ولا يلقى منها إلا المقدار القصد من أول الطبخ لينضج نضجا كاملا، ويضعف قوتها ويلطف.
وأما الأبازير الرطبة، فمن الواجب ألا يستعمل منها إلا ماؤها فقط، من قبل أن جرم الأبازير
غليظة عسيرة الانهضام. فإن أردت أن تطبخ شيئا مرتين، فأعد له ماء حارا قبل أن ينزع عنه ماؤه الأول،
وألق عليه الماء الثاني بسرعة وهو بعد حار، كما ينزع عنه ماؤه الأول، كيلا يناله الهواء البارد ويصلبه لأنك
إن تركته حتى يبرد أو صببت عليه الماء الثاني بعد أن يبرد، صلب وعسر نضجه، وامتنع من أن يتهرأ، ولو
بالغت في طبخه كل المبالغة. وإن كان المطبوخ شيئا من الحبوب، فيلقى عليه من الماء مقدار كفايته على
حسب طبيعته واحتماله، مثل أن يلقى على الشعير للكيل الواحد خمس عشرة (3) مرة ماء، وعلى العدس
والجاورس للواحد عشر مرات، فإذا غلي وارتفعت رغوته نزعتها بمغرفة مثقبة، ثم تغطى القدر بغطاء
ويطين الوصل بعجين ويطبخ بنار لينة حتى يقارب النضج، ثم يحرك إلى أن يكمل نضجه. واحذر أن
تحركه قبل أن ينضج فتخرج منه لزوجة تغري ظاهره وتكثفه وتمنع الماء من الوصول إلى باطنه أو تنسحق
من أطرافه وأركانه شظايا بالتحريك، فتحترق تلك الشظايا قبل تمام نضج الحب. وإن طبخت لحما في
الصيف، فاجعل طبيخك له بماء كثير ونار جمر لا لهب لها كيما يطول لبث فعل النار فيه فتذهب أكثر
زهومته وتلطف غلظه. ولا يغطى القدر أصلا كيلا يحتقن البخار فيها ويزيد في زهومتها. وتلقى فيها من
الأبازير مقدار ما يغير زهومة اللحم، فإن أزهم ما يكون اللحم في الصيف والأزمان الحارة لغليان رطوبته



(1) في الأصل: ثاني.
(2) في الأصل: غير أن الماء. و (أن) هنا زائدة، ويضطرب المعنى معها.
(3) في الأصل: خمسة عشر.
167
بسرعة بحرارة الهواء، وتلقى الأبازير في القدر من أول الطبيخ لينضج نضجا كاملا، وإلا فججت الغذاء
ومنعت من هضمه على ما بينا مرارا.
وإن طبخت لحما من حيوان له زهومة، فالأفضل ألا تكسر من عظامه، إلا ما لا بد من كسره، لان
الفساد يسرع إلى مخ العظام كثيرا لاحتقانه في باطن العظام وكثرة دهنيته. فإذا خالط المرق منه شئ غلبت
زهومته عليه فأفسدته. وإن قدرت أن تنزع العظام أو تنزع مخاخها، كان أفضل. ثم تغسل اللحم بالماء
وتمرغه في ملح قريب من الجريش قد خلط معه شئ (1) من الحاشا (2) ويسير من فوذنج ويصير على شئ
متخلخل ساعة حتى يمصل ماؤه الذي فيه زفورته، ثم يغسل بالماء العذب مرات حتى يزول طعم الملح
الذي يغسل به، ثم يغلى بالماء العذب حتى ترتفع رغوته وتنزع بمغرفة مثقبة حتى يتنظف ماؤه ويصفو، ثم
تغير ذلك الماء وتطبخه بماء ثان (3) أي لون أحببت. فإن كان الحيوان قليل الزهومة، فلا تبالي إن كسرت
عظامه، ولكن اغسله بالماء وملحه بالملح والحاشا والفودنج على ما وصفت، ثم اغسله حتى يعذب ماؤه
واغسله وانزع رغوته واطبخه من غير أن تبدل ماءه. فإن كان الحيوان بريا، فالأفضل ألا يطبخ (4) إلا بعد أن
يذبح بيوم لتذوب رطوبته بسخونة الهواء ويرطب لحمه ولا يرخي جسمه ويفيده ليانة تقرب من ليانة الحيوان
الأهلي، لان العفونة لا تكاد تسرع إلى الحيوان البري، لقلة رطوبة غذائه وجفاف هوائه ودوام حركته وكثرة
تعبه.
وأما الحيوان الأهلي، فلما كان في جميع أحواله مخالفا للحيوان البري لرطوبة هوائه وإمكان غذائه
وقلة حركته ودوام سكونه، وجب أن يكون تدبيره مخالفا لتدبيره أيضا. غير أن الامر، وإن كان كذلك، فمن
الواجب أن يكون التدبير أيضا ملائما لجنس الحيوان وطبيعته ومزاجه، لأنا قد بينا مرارا أن من الحيوان ما
هو في طبيعته لين رطب مثل الرضيع من الضأن وما هو في طبيعته رخص قليل الرطوبة مثل الجدي
والفراريج وفراخ الشفانين (5). ومنه ما هو في طبيعته صلب جاف قليل الرطوبة مثل البقر والظباء والديوك
العتيقة والطواويس والفواخت والحجل وكبير الشفنين (6) والدراج والفتي من الحمام (2). ومنه ما هو في
طبيعته زهيم سريع الانتقال إلى الفساد، مثل الكبير من الماعز وبخاصة الذكران منه. فما كان في طبيعته
لينا كثير الرطوبة، مثل الجدي الرضيع والفراريج والتدرج وفراخ الشفانين، أو زهيما، مثل الكبير من
الماعز، كان الأفضل أن يطبخ وقت أن يذبح إلا ما كان في طبيعته لينا رخوا كثير الرطوبة أو رخصا قليل
الرطوبة، استغني عن الحيلة فيما يلين لحمه ويرخيه أكثر من طبخه أو شيه فقط.
وما كان في طبيعته زهما، كان من شأنه إذا لبث قليلا (7) بعد أن يذبح أسرع إليه الفساد، وتغيرت



(1) في الأصل: شيئا.
(2) الحاشا: نبات زهره مستدير، لونه أبيض إلى الحمرة، وورقه صغير تجرشه النحل.
(3) في الأصل: ثاني.
(4) في الأصل: ألا أن يطبخ.
(5) طائر أصغر من المحمام. هو في الشام الترغل، وعند العامة بمصر اليمام.
(6) في الأصل: الحيوان. والتصويب في الهامش.
(7) (قليلا): مستدركة فوق أول سطر من الصفحة.
168
رائحته وانتقل إلى حاجة لا تصلح للغذاء. وما كان في طبيعته جافا صلبا، مثل البقر والظباء والطواويس
والفواخت وسائر ما عددنا ذكره من هذا الجنس، فالأصلح ألا يطبخ إلا بعد ذبحه بيوم لتذوب رطوبة لحمه
بحرارة الهواء ويكتسب ليانة ورخاوة.
وأما السمك، فيجب أن يطبخ ويشوى وهو بعد طري يتحرك، لأنه لرخاوة لحمه ولينه وكثرة
رطوبته، لا يحتمل أن يلبث إلا أن يملح. ومما يعين على تليين صلابة اللحمان وسرعة نضجها أن يحرك
الحيوان قبل ذبحه حركة قوية. والدليل على ذلك أنا نجد ما تتصيده الكلاب والبزاة وغيرها من الحيوان
الصياد أرخى لحما وأرخص مما لم يصده حيوان. وكذلك ما يطرد من الحيوان ويلجأ إلى الحركة القوية
قبل ذبحه، يكون أرخى وأرخص مما لم يلجأ إلى ذلك. ومما يستعن به الطباخون على إنضاج اللحم،
الشمع والبورق وقضبان التين الطري ولبنه، والخل أيضا فقد يفعل قريبا من ذلك. ومما يكسب اللحم
لطافة وحسن استمراء ليستمرئه من كان في استمرائه ضعف من المشايخ والناقهين من الأمراض، أن يرفع
اللحم وينقع في ماء وشئ من ملح ويسير من حاشا، وفوذنج جبلي ساعة، ثم يعلق حتى يمصل ماؤه
ويغسل بالماء العذب وينظف ويطبخ بعد ذلك، أو يقطع على المقدار الذي يصلح ويغسل بالماء ويمرغ في
ملح قريب من الجريش وشئ من حاشا وفوذنج جبلي ويترك ساعة على شئ متخلخل ليمصل ماؤه
ويغسل بالماء مرات حتى يزول طعم الملح منه ويعذب ويطبخ. وكذلك يجب أن نفعل بالسمك أيضا لان
الملح يقطع رطوبته ويلطف لزوجته وغلظه. ولهذه الجهة احتجنا في إصلاح اللحمان السمان الكثيرة الدم
والرطوبة إلى كثير من الملح.
كما قال جالينوس: إن ما كان من اللحمان سمينا رطبا كثير الدم فيجب أن يكثر ملحه ويشوى بنار
قوية لا لهب لها. وما كان من اللحمان مهزولا قليل الدم والرطوبة، فليمسح مسحا يسيرا ويشوى بنار لينة
ويجعل تحته إناء مملوء ماء عذبا، ليرتفع بخاره إليه ويكسبه رطوبة.

169
الباب العشرون (1)
فيما يحتاج إلى استعماله في تدبير الصحة
قال إسحاق بن سليمان: قد يحتاج في تدبير الصحة إلى أربعة وجوه:
أحدها: استعمال التدبير اللطيف في أوقاته ولأهله من أهل الدعة والسكون، والتحرز منه في غير
أوقاته.
والثاني: استعمال التدبير الغليظ في أوقاته ولأهله من أهل الرياضة والتعب، والتحرز منه في غير
أوقاته ولغير أهله.
والثالث: استعمال الغذاء في أوقاته على الوجوه التي يجب استعماله عليها على ترتيب ونظام،
والتحرز من استعماله على خلاف ذلك وضده.
والرابع: التحرز من الأغذية المولدة للفضول المفسدة المولدة للتخم وشدة الكبد والطحال،
واستقبالها بما يضادها ويزيل ضررها من الأدوية والأغذية.
وإذ صرنا إلى هذا الموضع من كلامنا في هذا الباب، وأتينا على أجناس الوجوه التي يجب
استعمالها في تدبير الصحة على الجملة من غير تفصيل ولا تحديد، فنحن أحق بأن نقسم كل واحد منها
إلى أنواعه وأشخاصه، ليكون أبين وأوضح لطالبه، وبالله التوفيق.
فأقول: إن التدبير اللطيف ينتظم من ثلاثة معاني:
أحدها: الأغذية اللطيفة في انفعالها وجوهريتها معا، أعني بانفعالها (2) سرعة انهضامها، وانتقالها
إلى الدم. وأعني بجوهريتها الدم المتولد عنها، مثل الدم المتولد عن الخبز المحكم الصنعة ولحم الدراج
والفراريج والجدي الرضع السمك الرضراضي.
والثاني: الأغذية اللطيفة في انفعالها فقط، وإن كان الدم المتولد عنها ليس بالمحمود، مثل القطف



(1) في الأصل: العشرين.
(2) في الأصل: انفعالها.
170
والاسفاناخ وغير ذلك من البقول السريعة الانهضام والانقلاب إلى الدم، وإن كان الدم المتولد عنها رقيقا
مائيا (1) سريع الانحلال من الأعضاء.
والثالث: الأغذية اللطيفة في فعلها، وإن كانت مذمومة في جوهريتها، أعني وإن كان لها فعل
محمود في تلطيف الفضول وتفتيح السدد، فإن الدم المتولد عنها حار حريف غير محمود الغذاء، مثل
الأغذية العطرية والمالحة والمرة والحريفة. أعني بالعطرية الخمور المصرفة، وأعني بالحريفة الفجل
والخردل والشلجم واللوف (2) وما شاكل ذلك.
وكذلك التدبير الغليظ ينتظم من ثلاثة معاني:
أحدها: الأغذية الغليظة في انفعالها وجوهريتها معا. أعني بغلظها في انفعالها، عسر انهضامها
وبعد انتقالها إلى الدم. وأعني بغلظها في جوهريتها، غلظ الدم المتولد عنها، مثل الدم المتولد عن الجزور
ولحم الظباء والايايل والكثير من البقر.
والثاني: الأغذية الغليظة في انفعالها (3) فقط، وإن كان جوهرها محمودا، مثل لحم الضأن والهرائس
والخبز الذي لم تحكم صنعته، لان هذه وإن كانت غليظة بعيدة الانهضام للزوجتها وزيادة رطوبتها، فإن
الدم المتولد عنها غير مذموم.
والثالث: الأغذية الغليظة في فعلها وانفعالها، مثل الأغذية التي (4) قد اجتمع لها الغلظ من الجهتين
جميعا من فعلها وانفعالها. أما من انفعالها، فلعسر انهضامها وبعد انقلابها إلى الدم. وأما من فعلها،
فلأنها تغلظ ما توافي من الفضول وتجمدها وتفجج الطعام وتمنع من نضجه. إلا أنها تكون على ثلاثة
ضروب: لأنها لا تخلو من أن تكون إما مفججة أو محدرة، مثل القثاء والخيار والخس وما شاكل ذلك. وإما
دسمة ملزجة، مثل الشحوم وما شاكلها. وإما عفصة مجففة، مثل البلوط وما شاكله.
فمتى سمعتنا نقول في هذا المعنى، التدبير اللطيف مطلقا، فإنما نريد به الغذاء اللطيف الانفعال
المحمود الجوهر. ومتى سمعتنا نقول ذلك مضافا، فإنما نريد به الغذاء الملطف للفضول، وإن كان الدم
المتولد عنه غير محمود، لان الضرورة تدعونا إلى ذكره لحاجتنا إليه في تفتيح السدد وتلطيف الفضول.
ومتى سمعتنا نقول في هذا المعني التدبير الغليظ مضافا (5) كان أو مطلقا، فإنما نريد به الغذاء المولد للدم
المحمود. وإن كان غليظا بطئ الانهضام من قبل أن الغرض المقصود في هذا المعنى هو تدبير الصحة،



(1) في الأصل: رقيق مائي.
(2) اللوف، واحده لوفة: نبات ينبسط على وجه الأرض، وتخرج له قصبة من وسطها وفى رأسها ثمرة. وله بصل شبيه بالعنصل،
وسمى الصراخة. (معجم متن اللغة).
(3) في الأصل: انتقالها.
(4) في الأصل: الذي.
(5) في الأصل: مظافا.
171
والسبب الأعظم في تدبير الصحة، الأغذية المولدة للكيموس المحمود لطيفة كانت أو غليظة، كما قال
جالينوس: وينبغي أن نحذر من كل طعام ما كان مذموم الجوهر مطلقا ملطفا كان أو مغلظا، لان الأغذية
المولدة للكيموس المذموم، إنما هي سبب لتولد الأمراض، لا لتولد الصحة.
فمن البين أنا غير محتاجين من التدبير الغليظ في تدبير الصحة إلا إلى هذا النوع فقط، لحاجتنا
إليه في تدبير أهل الرياضة والحركة القوية والتعب الدائم، لأنا لا نقدر <أن> نقاوم فعلهم إلا بما كان
من لغذاء عسير الانهضام بطئ الانحلال، ليطول لبثه في أعضائهم، ولا ينحل منها بسرعة، فيلحقها
الذبول والسلال (1).
ولذلك قال جالينوس: وأما الأطعمة التي غذاؤها غليظ بطئ الانهضام وليست برديئة الجوهر،
فلا يجب أن يتجنبها كل الناس، لان من كانت حركته كثيرة وتعبه دائما وبنيته صحيحة، يعني بذلك
صحة كبده ومعدته، فليس تضره الادهان عليها، إذا كانت محمودة الكيموس.
وإذ أتينا على ما نريد تقديمه، وقسمنا التدبير اللطيف والغليظ قسمة جنسية، فلنستتم المعنى
بذكر فعل كل واحد من أنواعها بخاصته التي ينفرد بها دون غيره. ونبدأ من ذلك بالتدبير اللطيف، إذ
كانت الحاجة إليه أسبق.

172
في التدبير اللطيف المطلق
أعني الأغذية السريعة الانهضام المحمودة الكيموس
أما التدبير اللطيف بالقول المطلق، فإنه وأن كان لا (1) يفيد الأبدان من الخصب ولا يكسبها من
القوة ما يكسبها التدبير الغليظ، أعني الأغذية اللزجة المحمودة الجوهر، فإنه من أبلغ الأشياء في حفظ
الصحة على الأصحاء، ذلك لسرعة انهضامه وسهولة انحلاله من الأعضاء، وجودة الدم المتولد منه،
ومع ما له من حفظ الصحة على الأصحاء، فقد يتجاوز ذلك إلى شفاء المرضى ورد الصحة عليهم، لأنا
نجده كثيرا <ما> يدفع الأمراض المزمنة، فضلا عن الأمراض الحادة، حتى أنه كثيرا ما يستغنى به المرضى
في شفاء أمراضهم عن الأدوية وغير ذلك.
ولذلك صار الأفضل في أكثر الأمراض أن يجهد المتطبب نفسه في بلوغ الغاية التي يقصد إليها
من شفاء الأمراض بالتدبير اللطيف فقط، ويتوقى استعمال الأدوية إلا في الندرة عند الاضطرار إليها وبعد
الامكان. ولبعض الأوائل في التدبير اللطيف فصل قال فيه: إن من أخذ نفسه بالحمية واستعمال التدبير
اللطيف، كان قادرا على تبريد حرارة بدنه، وترطيب يبسه العارض من الحر القوي والتعب الشديد.
وذلك أنه يدخل بدءا إلى حمام عذب معتدل الهواء والماء، ولا يطيل لبثه فيه، ويشرب بعد خروجه من
الحمام شرابا ممزوجا مزاجا معتدلا، ويتناول منه حتى يروى، ثم يقذف بكل ما شربه ويستريح ساعة
ويتناول البقلة المعروفة بالخس لان في هذه البقلة تبريدا وتطفئة وترطيبا من غير غائلة (2)، ثم يتناول بعد
ذلك حسو الشعير المحكم الصنعة مطبوخا (3) بيسير من خل، ويأخذ بعد انهضام الحسو من معدته أجنحة
الفراريج والإوز مع قوانصها، وأكارع قد أحكم نضجها وطيبت بالخل ويسير من المري أو أمخاخ بيض
طري من حيوان فتي سمين معمول نيمبرشت، وسماه جالينوس المرتعش لأنه لوقته يتموج. ويتناول من
البقل ما كان غذاء محمودا غير مذموم، مثل الملوخية والسرمج (4) والبقلة اليمانية، ويشرب بعد ذلك



(1) (لا): مستدركة في الهامش.
(2) الغائلة: الشر.
(3) في الأصل: مطبوخ.
(4) السرمج أو السرمق بالفارسية، وهو القطف: بقلة تستعمل أوراقها استعمال السبانخ أو الملوخيا.
173
شرابا ممزوجا، مزاجا معتدلا، بماء شديد البرد. وقول لجالينوس في هذا: وأما أنا فإني كنت أكتفي في
مثل هذه الأوقات بحسو الشعير المحكم الصنعة. إلا أني كنت أصير مقدار كيفية الطعام والشراب في
كل واحد من الناس على حسب عادته. لان من كان عادته استعمال الثلج، احتاج إلى أن يبرد شرابه
بالثلج، ومن كان عادته شرب الماء السائل من العيون والماء المبرد في الهواء، فليس به حاجة إلى
استعمال الثلج لكنه متى تعب في حمة الصيف وحس بحرارة قوية، سكن قليلا حتى يهدأ من تعبه، ثم
اقتصر على شرب الماء البارد السائل من العيون، أو ماء قد برد من الليل في هواء بارد، وجعل بالغداة
في مزملة لتحفظ برده. ويحذر استعمال الثلج إن لم يكن قد جرت عادته به لان الثلج، ون لم يتبين منه
في أبدان الشباب من الضرر ما يحسون به بسرعة، فإن مضرته تجتمع رويدا رويدا وتزيد من غير أن
يشعروا (1) بها، حتى إذا جاوزوا (2) سن الشباب وصاروا إلى سن الكهول، وقعوا في أمراض يعسر برءها
ولا يبرأون منها أصلا، إما من علل الأحشاء، وإما من علل المفاصل والعصب، لان الثلج إنما يفعل في
كل واحد من الناس في أضعف أعصابه وأقربها حسا.
* * *
وأما التدبير الملطف الذي نفع بالأغذية اللطيفة في فعلها وإن كان جوهرها ليس بالمحمود،
فينتفع به كثيرا من كان في بدنه فضول نية كثيرة اللزوجة والغلظ لمن كان به سدة في كبده أو جشاء في
طحاله. ولذلك قال جالينوس: قد يفتح (3) التدبير اللطيف سدد الكبد ويحلل جشاء الطحال ويصغر مقداره
ويرده إلى الحالة الطبيعية. وقال في موضع آخر: إني لأعرف قوما ممن كان يعرض لهم الربو كثيرا،
فلما استعملوا التدبير الملطف، بلغ من انتفاعهم به أن سكن عنهم حتى لم يجدوا (4) منه شيئا، ولم
يعرض لهم منه بعد ذلك إلا الشئ اليسير في الندرة. وقال في فصل آخر قال فيه: وإني لأعرف قوما
كثيرا كان بهم وجع الكلى والمفاصل، من غير أن يتولد في مفاصلهم حجارة، فخرج بعضهم من العلة
خروجا تاما، وخف عنهم وعن بعضهم كثير من العلة بالتدبير الملطف، أراد بالأغذية الملطفة للفضول،
مثل الاسكنجبين والفجل وما شاكل ذلك.
وأما الصرع، فإنه متى كان يسيرا وتودر، فإنه، بالحمية والتدبير اللطيف من ابتداء الامر، برأ برأ
كاملا. وإن كان قد طال به واستصعب أمره، فإن التدبير الملطف، وإن لم يبرئه، فقد ينتفع به منفعة
ليست باليسيرة. وإن كان من الواجب على من أراد حفظ صحته، أن لا يكثر الالحاح على هذا النوع من
التدبير الملطف، أعني الأغذية الحريفة والمالحة والمرة، وإن كانت ملطفة للفضول، ولا سيما متى كان
الغالب مزاج المستعمل لها المرار، لأنه لا (5) ينتفع بهذا التدبير إلا من قد اجتمع في بدنه فضول



(1) في الأصل: يشعرون.
(2) في الأصل: جاوزا.
(3) في الأصل: يصح. والتصويب من الهامش.
(4) في الأصل: يجدون.
(5) في الأصل: (لا) مستدركة في الهامش.
174
بلغمانية. فأما الممرورون (1)، فإنهم يستضرون به جدا لأنه يرق دمهم بدءا ثم ينشف رطوبته رويدا رويدا
حتى يحرقه ويصيره سوداويا حريفا.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: وينبغي أن يكون المقدار لاستعمال الأغذية الحريفة وغيرها
من الأغذية الملطفة للفضول، مطيب قد وقف على مقادير استعمالها وفى أوقاتها ولأهلها، لأنه لا يؤمن
على من أفرط منها أن يفسد دمه ويحترق.



(1) الممرور: من غلبت عليه المرة، وهي مزاج من أمزجة البدن، وهو الصفراء أو السوداء.
175
القول في التدبير الغليظ
أعني الأغذية اللزجة البطيئة
الانهضام، المحمودة الكيموس
فأما التدبير الغليظ، فإنه وإن كان لا يفيد البدن صحة يوثق بها، فقد يكسبه خصبا كبيرا مع قوة
بينة ظاهرة. ذلك لطول لبثه في الأعضاء وبعد انحلاله منها. ولذلك لا يحتمله من الناس إلا أهل
الرياضة القوية والتعب الشديد، ليقاوم كثرة حركتهم وقوة تعبهم، ولا يذوب وينحل من أعضائهم
بسرعة، فتذبل ويعرض لهم سلال. ولما كان أكثر الناس يرغبون في خصب أبدانهم وقوة أعضائهم مع
صحة لا يوثق بها، على صحة يوثق (1) بها مع قصف (2) أبدانهم ونقصان قوة أعضائهم، وجب على من
كانت هذه سبيله، واضطره الامر إلى استعمال الأغذية الغليظة البطيئة الانهضام، ألا يشغله شاغل عن
إصلاح تدبيره والقيام على نفسه بالرياضة المحمودة في كل يوم قبل أوقات غذائه، لأنه إن استعمل ذلك
دائما ولم يغبه ولزم اليوم في أوقاته، أمكنه استعمال الأغذية اللزجية البطيئة الانهضام ولا سيما متى كانت
بنية أحشائه، أعني معدته وكبده، قوية وكان ممن إذا ألح على مثل هذه الأغذية، لم يحس في جنبه
الأيمن بثقل ولا بشدة.
ومن الواجب أن يكون تقدير الغذاء في غلظه ولطافته، وكثرته وقلته، على حسب مقدار الرياضة
والتعب في دوامهما (3) وكثرتهما أو قلتهما وتقصيرهما، من قبل أن من كان تعبه دائما ورياضته كثيرة، مثل
الصريعين (4) وأمثالهم، احتمل من الأغذية ما كان في نهاية اللزوجة والغلظ. ومن كانت حركته مقصرة
ورياضته قليلة لم يحتمل من الأغذية إلا ما كان قليل الغلظ واللزوجة. ومن كانت حركته معتدلة ورياضته
متوسطة، احتمل من الأغذية ما كان متوسطا بين الغلظ واللطافة والكثرة والقلة. ومن لم يقدر على



(1) في الأصل: ويوثق.
(2) قصف العود: صار ضعيفا لا بقاء له على الشدة.
(3) في الأصل: دوامها.
(4) الصريع والصراعة: الشديد الصراع: من كانت صنعته الصراع.
176
الرياضة دائما إما لان سنه لا يحتمل، أو لان عادته لم تجر عليها، وجب ألا يستعمل من الأغذية الغليظة
اللزجة شيئا إلا في الندرة وعند الاضطرار بعد ركوب قوي أو مشي يقوم له مقام الرياضة، لان السكون
قبل الغذاء من أبعد الأسباب الموجبة لحفظ الصحة، وبخاصة مع استعمال الأغذية اللزجة. ولذلك
وجب على من كانت له أسباب تعوقه عن الرياضة، وتحول بينه وبين الحركة والركوب في كل يوم، دائما
قبل وقت غذائه، أن يستعمل الاستقصاء في تدبيره، ويقصد الأغذية اللطيفة في انفعالها وحسن
جوهرها، ويتوقى ما كان من الأغذية غليظا لزجا، ويحذره جدا، ولا يكتفي بذلك أيضا دون أن يستعمل
تنقية بدنه وإفراغ فضوله في الأوقات المحمودة مع استعمال الأدوية المعينة على الهضم، الحافظة
للصحة في كل حين، مثل إدمان شرب الاسكنجبين، وبخاصة الاسكنجبين العنصلاني، لمن كانت
رطوبة بدنه غليظة لزجة مع استعمال الجوارشنات المنقية لرطوبات المعدة، المفتحة لسدة الكبد
والطحال، لأنه إن أغفل ذلك وأهمله، وألح على الأغذية الغليظة، لم يلبث دون أن يقع في بعض
الأمراض المزمنة المتولدة عن الامتلاء.
وعكس هذا التدبير وضده، يلزم من كان تعبه كثيرا ورياضته دائمة، إذا ألح على الأغذية اللطيفة
السريعة الانحلال، مثل البقول وماء الشعير، وما شاكل ذلك، إلا من كانت هذه سبيله من استعمال
الأغذية اللطيفة السريعة الانفعال، لم يلبث أن يضعف وتنحل قوته وينقص لحمه ويصير إلى الذبول
والسلال. ولأن كثيرا من الناس من هو من الشغل في طول دهره على حاله لا يقدر معها على رياضة
بدنه على ما ينبغي، ولا أخذ غذائه في أوقاته، ولا على نقاء من معدته، ولا على حسب مزاجه، لزم
ضرورة لمن كانت هذه حاله ألا يستمرئ طعامه استمراء صحيحا، ولم يستمر غذاؤه على ما يجب، لم
يمكن أن تدوم له صحة ما لم يتعاهد نفسه باستفراغ فضول بدنه بالاسهال والفصد (1)، ولزوم شرب
الاسكنجبين واتخاذ الجوارشنات المنقية لرطوبات المعدة، المفتحة للسدد.
ولما كانت الحركة قبل الطعام من أوفق الأشياء وأقواها على إدامة الصحة، كانت الحركة بعد
الطعام من أقوى الأشياء على إزالة الصحة عن الأصحاء، من قبل أنها تحمي الطعام الذي قد تقدمها
وتثوره وتزعجه وتحدره عن المعدة بسرعة قبل تمام هضمه. فإذا صار الغذاء إلى الكبد وهو على غاية
الغلظ والفجاجة، اجتمع منه في عروق الكبد وجداولها فضول غليظة نية موجبة لأمراض شتى وعلل
مختلفة عسيرة الانحلال إلا أن توافي الحرارة الغريزية التي في الكبد والعروق قوية جدا، فتهضمه
وتحيله دما، وإن كان الدم المتولد عنه أيضا ليس بالمحمود لأنه من جنس الخام الغليظ. ولذلك صار
كثيرا ما يتولد عنه التخم وأوجاع المفاصل. ولذلك وجب ألا يستعمل الانسان من الحركة بعد الطعام إلا
مقدار ما يحدر الطعام، ويمكنه من قعر المعدة فقط، ولا يمشي أيضا إلا على أشياء لينة تطمئن تحت
رجليه وتنخفض مثل المخاد المحشوة بالقطن وما شاكله.



(1) فصد فصدا وفصادا المريض: شق عرقه.
177
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: وينبغي أن يحذر التعب بعد الطعام كما يحذر السكون قبل
الطعام، لان التعب يستفرغ رطوبة اللحم دائما بما يتخلل من البدن بالبخار والعرق. وإذا قلت رطوبة
اللحم، افتقر إلى الغذاء واستلب الدم من العروق. فإذا نقص الدم من العروق، استلب الغذاء من
المعدة قبل تمام هضمه واستكمال نضجه. ولذلك يقع أصحاب هذا الشأن في أمراض يهلكون منها قبل
الشيخوخة.
وله (1) في الأغذية التي لا يستمرئها إلا الافراد من الناس، فصل قال فيه، نحتاج إلى ذكره ههنا
لما فيه من المنفعة في حفظ الصحة. قال: وكثير من الناس مغترون بصحة معدتهم واحتمالها لما يرد
عليها من الأطعمة الغليظة العسيرة الانهضام مثل القثاء والخيار وما شاكلهما، ويلحون عليها ويكثرون
الاكثار منها. وآخرون ممن ليست هذه حالهم يغبطونهم على ذلك ويغترون بصحة أبدانهم قبل حلول
الآفة بهم، إذا رأوهم يأكلون ما لا يقدر أحد على أكله، ويستمرئون ما لا يستمرئه غيرهم، ولا يعلمون
أن كثيرا ما يقعون وهم لا يشعرون، في أمراض صعبة يهلكون منها وشيكا، لان لا بد لمن كانت هذه
حاله من أن تجتمع في عروقه، على طول الأيام، فضول باردة غليظة تعسر استحالتها وانتقالها إلى الدم
حتى يعرض له من أدنى سبب، ما يعين على عفونة (2) تلك الأخلاط. ويكون ذلك سببا قويا لحدوث
حميات رديئة خبيثة، أو تنقص حرارة كبده الغريزية، وتضعف قوتها الهاضمة ويتبع ذلك الاستسقاء ولا
تنحل منه بتة.



(1) أي جالينوس.
(2) (عفونة): مستدركة تحت السطر.
178
في تقدير الغذاء على حسب أوقات السنة
قال إسحاق بن سليمان: أجمع الأوائل على أنه لا ينبغي أن نقتصر في تدبير الغذاء، وما نتناول
منه في كميته وكيفيته، على الوقوف على مزاجات الأبدان فقط، دون البحث والنظر عن أوقات السنة،
ومزاج الهواء الحاضر، لان من الواجب أن نحذر في الخريف دائما كل طعام مجفف مناسب للمرة
السوداء، ونتجنب ذلك في الشتاء، من قبل أن مشاكلة هذا النوع من الأغذية لمزاج الخريف بالكيفيتين
جميعا، أعني بالبرودة واليبوسة، ولمزاج الشتاء بكيفية واحدة، أعني بالبرودة فقط، ولذلك صار إضرارها
في الخريف أكثر من إضرارها في الشتاء بيسير لا بالكثير. من قبل أن الكيفية التي يشاكل بها الشتاء هي
الكيفية الفاعلة. والكيفية الفاعلة أقوى فعلا وأسرع تأثيرا من الكيفية المنفعلة. وأما الصيف، فإنا نأمر فيه
بالأغذية المبردة المرطبة ونمنع فيها في الشتاء لمخالفتها لمزاج الصيف بالطبع، ومشاكلتها لمزاج
الشتاء.
وأما الربيع، ففيه نظر لأنه ربما كان طبيعيا معتدلا لا تعلو منه كيفية على كيفية. وربما كان حائدا
عن الاعتدال قليلا إلى إحدى (1) الكيفيات، إما إلى الحرارة، وإما إلى البرودة، وإما إلى الرطوبة، وإما
إلى اليبوسة. فإذا كان طبيعيا معتدلا لا تعلو منه كيفية على كيفية، قابلناه من الأغذية بما لاءم مزاجه
وشاكله وقواه، مثل الأغذية المعتدلة المزاج، البعيدة من الأطراف بعدا متساويا، مثل
الجدي الرضع والعجول الكذلك. ومنه ما يوصف بالتوسط لشيئين، إما لأنه متوسط بين
الحواشي والأطراف، وإن كان إلى أحدهما أميل قليلا، مثل لحم الضأن، المائل إلى الحرارة قليلا،
وإن كان معتدلا، وكشك الشعير ولباب الخبز المغسول بالماء مرات، المائلين (2) إلى البرودة قليلا، وإن
كانا معتدلين. وإما لأنه مركب من شيئين مضادين في القوة، وقابل من كل واحد منهما بقسطه، فهو
معتدل بالإضافة إلى كل واحد منهما على الانفراد، مثل الغذاء المركب من الشعير المطبوخ بالعدس،
لأنه متوسط بين رخاوة الشعير وليانته، وقحل العدس وصلابته. وكذلك الغذاء المتولد من العدس
المطبوخ بالسلق، فإنه معتدل محمود لتوسطه بين برودة العدس ويبسه، وحرارة السلق وتليينه.



(1) في الأصل: أحد.
(2) في الأصل: المائلان.
179
وإن كان مزاج الربيع حائدا عن الاعتدال إلى إحدى (1) الكيفيات، قابلناه بضد الكيفية التي مال
إليها، لبرده، إلى التوسط والاعتدال. مثال ذلك: أنه إذا كان ميلانه إلى الحرارة قليلا، قابلناه بأغذية
معتدلة مائلة إلى البرودة قليلا، مثل لحم الدراج والحجل والفراريج والسمك الرضراضي وكشك الشعير
ولباب الخبز المغسول بالماء مرات (2). وإن كان انحرافه إلى البرودة قليلا، قابلناه بأغذية معتدلة مائلة
إلى الحرارة قليلا، مثل الحولي من الضأن وما شاكله. وإن كان انحرافه إلى الرطوبة قليلا، قابلناه بما
يجفف الرطوبات وطيبنا الطعام بالمري والفلفل والزنجبيل والفوذنج وما شاكل ذلك. وإن كان انحرافه
إلى اليبوسة قليلا، قابلناه بما يرطب ويلين بمثل الرضيع من الضأن والبقول المرطبة.



(1) في الأصل: أحد.
(2) في الأصل: بالمرات.
180
في ترتيب الأغذية وتقديم بعضها على بعض
أجمع الأوائل على أن ما كان من الأغذية سريع الانحدار سهل النفوذ في العروق، تقدم قبل كل
طعام. وما كان منها بطئ الانحدار عسير النفوذ في العروق، يصير آخر الطعام، لان الطعام اللطيف
السريع الانهضام إذا أخذ في آخر الطعام وتم هضمه وطلب الانحدار، عاقه الطعام الغليظ الذي تقدمه،
ومنعه عن الانحدار. وإذا لم ينحدر بعد انهضامه، بقي طافيا عواما وحمي بحرارة بخار الطعام الغليظ
الذي تحته وغلي واستحال وفسد بسرعة. وإذا أخذ قبل الطعام وانهضم، لم يعقه عائق عن الانحدار.
وكذلك، ما كان من الأغذية ملينا للبطن، يقدم قبل الطعام. وما كان حابسا للبطن، يصير آخر الطعام.
وما كان من الأغذية لينا، يقدم قبل الطعام الصلب، لان ما لان من الطعام، كان أسرع انهضاما. فإذا
أخذ بعد طعام صلب وانهضم، عاقه الطعام الصلب من الانحدار. وما كان من الأغذية ردئ الجوهر،
يقدم قبل الطعام المحمود الجوهر، لان الطعام المذموم الردئ الجوهر إذا أخذ آخر الطعام، أبطأ في
المعدة، واستحال بسرعة وفسد، وأفسد بفساده ما تقدمه من الطعام.
وما كان من الطعام ليس بالمحمود الجوهر، إلا أنه برئ من الرطوبة واللزوجة، فليس ينبغي أن
يؤخذ قبل الطعام ولا بعده، لكن في وسط الطعام. وكذلك ما لم يكن غذاؤه بالردئ، ولم يكن فيه قوة
تجلو ولا تسهل، فليس يجب أن يؤخذ قبل الطعام ولا بعده، لكن في وسطه.
وما كان من الأغذية غير مطلق للبطن ولا حابس له، وإن كان غذاؤه ليس بالردئ، وبخاصة
متى كان فيه قوة من جلي، مثل اللوز، فمن الأفضل إذا كان البطن يابسا أن يقدم قبل الطعام، وإذا كان
البطن لينا أمكن أن يؤخذ قبل الطعام وبعده.
تم الجزء الأول من كتاب الأغذية
تأليف إسحاق بن سليمان الإسرائيلي
المنطقي

181
..

182
كتاب
الأغذية والأدوية
تأليف
إسحاق بن سليمان
المعروف بالإسرائيلي
المتوفى سنة 320 ه‍
الجزء الثاني
مؤسسة
عز الدين
للطباعة والنشر

183
بسم الله الرحمن الرحيم
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
قال إسحاق بن سليمان: (وإذ قد) (1) أتينا في الجزء الأول من كتابنا هذا على ما أردنا إيداعه (2)
من الدلائل العامية الداخلة على أجناس الطعوم وأنواعها، فقد بقي أن يستتم الكلام بالقول على كل
واحد من أشخاص الأغذية على الانفراد. ونخص هذا الجزء منه بالقول في الحبوب والفواكه. ونجعل
ابتداء كلامنا في الحنطة، إذ كانت العلة العنصرية (3) للغذاء. وليس قولنا في الحنطة أنها علة عنصرية
للغذاء (2) قولا يوجب لها دون غيرها من الحبوب ولا لسلب غيرها (2) ما وصفناها به، لكنا خصصناها
بذلك لأنها أغذي الحبوب وأعدلها مزاجا، وأقربها من مزاج بدن الانسان، والله تعالى أعلم.



(1) تعرضت الصفحة الأولى من الأصل لطمس طولي في وسطها، مما أدى إلى محو كلمة أو أكثر، كليا أو جزئيا من كل سطر،
وضعناها بين قوسين. واقتصرت إشارتنا على ما كان محوه تاما.
(2) بقي من هذه الكلمة الحرفان الأول والأخير. ولعلها كما أثبتنا.
(3) يعزز إثباتها كذا ورودها في الجملة التالية.
184
القول في الحنطة
قال إسحاق: إن الغذاء لما كان يختلف في جوهريته إلى الجودة والرداءة، وفى كميته إلى (1)
القلة والكثرة، وفى كيفيته إلى الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، والصلابة والليانة، والكثافة
والسخافة، وجب (2) أن تختلف الحنطة أيضا كذلك، إذ كانت أخص الطعوم بتغذية بدن الانسان على
ما بينا وأوضحنا من مشاكلتها لمزاج الانسان بالطبع. ولهذا ما أجمع الحكماء عليه، وأبرزهم في ذلك
وأخصهم به فيثاغورس على أن (4) الحنطة تختلف في جوهرية غذائها وكميته وكيفيته لوجوه خمسة:
أحدها: من جنسها. والثاني: من تربتها وأرضها التي تنبت فيها. والثالث (5): من طبيعة بلدتها.
والرابع: من طبيعة الهواء الحاضر في مدة نباتها. والخامس من مدة لبثها ومقدار زمانها وقربها من
الحصاد، أو بعدها منه.
فأما اختلاف الحنطة من جنسها، فيكون على ضربين: لان منها ما هو مكتنز ملزز (1)، شديد
الصلابة، ثقيل الوزن، منيع المكسر، ظاهره شمعي صاف (2)، وباطنه أبيض يلي الزرقة، مستوي السطح
صقيل براق يكاد البصر ينفذه لصفائه واستواء سطحه. ومنها ما هو رخو سخيف متخلخل خفيف الوزن
سريع المكسر، باطنه خالص البياض خشن السطح، مفرق الاجزاء، أنور للبصر مانع للنور من (3) النفوذ
فيها.
فما كان منها مكتنزا صلبا، شمعي اللون، ثقيل الوزن، منيع المكسر، أزرق الداخل، كان دقيقه



(1) هذه الفقرة هي تتمة الصفحة الأولى من الأصل، التي أشرنا آنفا إلى الطمس فيها، وما أثبتناه يعززه سياق الكلام، وظهور
الحرفان الأولان من (كميته) وبعض الحرف الأخير من (إلى).
(2) في الأصل: (. - ب). وما أثبتناه يحقق الاتفاق مع المعنى المقصود.
(3) (على أن) مكررة في الأصل.
(4) في الأصل: الثاني.
(5) أي المجتمع، الشديد.
(6) في الأصل: شمعيا صافيا.
(7) (للنور من) مستدركة في الهامش.
185
ولبابه أكثر ونخالته وقشوره أقل. وما كان منه كذلك، كان لعمل دقيق السميذ أفضل منه لعمل دقيق
الخشكار (4)، وكان غذاؤه أكثر، وانحداره عن المعدة أعسر، وانحلاله من الأعضاء أبعد. وذلك لبعد
انقياده لفعل الطبيعة للزوجته وعلوكته. ولهذا السبب صار غذاؤه لتقوية الأعضاء وشدتها، أفضل منه
لحفظ الصحة وثباتها، من قبل أن قوة الأعضاء تحتاج من الأغذية إلى ما كان لبثه فيها أطول، وانحلاله
منها أعسر، وانقياده للانفعال عند حاجة الطبيعة إلى تحليله أبعد. وحفظ الصحة وثباتها يحتاج من الغذاء
إلى ما كان لبثه في الأعضاء أقل، وانحلاله منها أسهل، وانقياده للانفعال عند حاجة الطبيعة إلى تحليله
أسرع.
وما كان من الحنطة سخيفا متخلخلا خفيف الوزن، سريع المكسر، أبيض الداخل، كانت
نخالته وقشوره أكثر، ولبابه ودقيقه أقل. وما كان كذلك، كان لعمل دقيق الخشكار أفضل منه لعمل دقيق
السميذ، وكان غذاؤه للأبدان أقل، وانحداره عن المعدة أسرع، وانحلاله من الأعضاء أسهل. وذلك
لسرعة انقياده لفعل الطبيعة لسخافته ورخاوته، ومن قبل ذلك صار فعله في حفظ الصحة وبقائها أكثر منه
في تقوية الأعضاء وشدتها، للأسباب التي قدمنا ذكرها من سرعة انقياده، لرخاوته وكثرة نخالته وقلة
لزوجته وعلوكته.
وأما اختلاف الحنطة بسبب تربتها وأرضها التي تنبت فيها، فيكون على ثلاثة ضروب: وذلك أن
من الأراضي ما هي عذبة علكة كثيرة الدسم والغذاء. ومنها ما هي قحلة جافة قليلة الدسم والغذاء، إما
من طبيعتها وجوهريتها، وإما لعارض عرض لها من دغل (1) كان فيها وأحرق بالنار، فجففت النار
رطوبتها، وأفنت أكثر دسمها وعذوبتها، وأكسبتها قحلا وجفافا. ومنها ما قد كانت من طبيعتها قحلة
جافة، وأحرق دغل كان فيها بالنار، فازدادت بفعل النار فيها قحلا وجفافا، واكتسبت بورقية وصارت في
حد السباخ، وخرجت من حد ما ينتفع به أصلا. فما كان من الحنطة نباته في أرض دسمة عذبة كثيرة
الغذاء، كان أسمن وأدسم وأشد اكتنازا وتلززا، وأثقل وزنا لأنها تغتذي بغذاء كثير الدسم والعذوبة. وما
كان من الحنطة كذلك، كان لبابه وجوهره أكثر، وقشره ونخالته أقل. وما كان من الحنطة نباته في أرض
قحلة جافة قليلة الدسم والعذوبة، وكان ذلك لها من جوهريتها أو لعارض عرض لها من دغل كان فيها،
فاحترق بالنار وكانت أقل سمنا وأسخف جسما وأخف وزنا إذا كانت لا تكتسب من الغذاء إلا اليسير
لقحل أرضها وقلة دسمها. وأما الأرض التي هي في طبيعتها جافة قحلة ثم أحرقت بالنار لدغل كان فيها
وازدادت بفعل النار فيها، قحلا وجفافا، فإنها لا تكاد أن تنبت شيئا. فإذا أنبتت كان ما ينبت فيها رقيقا
يابسا كمونيا (1) يعرف بالزوان لا لباب له ولا غذاء أصلا. لكنه خارج عن طبيعة الغذاء داخل في طبيعة
الأدوية السمية. ولذلك صار بالأبدان مضرا جدا.



(1) سيأتي شرح المصنف له في كلامه على الخبز.
(2) الدغل: دخل في الامر مفسد. أو هو الشجر الملتف الكثير، أو اشتباك النبات وكثرته.
(3) كمن كمونا في الشئ: استتر به.
186
وأما اختلاف الحنطة من قبل طبيعة بلدتها، فيكون على أربعة ضروب: لان من البلدان ما هي
في طبيعتها حارة يابسة جنوبية. ومنها ما هي في طبيعتها حارة رطبة شرقية. ومنها ما هي في طبيعتها
باردة يابسة شمالية. ومنها ما هي في طبيعتها باردة رطبة غربية. فما كان من البلدان في طبيعته حارا
يابسا جنوبيا، كانت رطوبة حنطته المغذية لها قليلة يسيرة وحرارتها الغريزية ناقصة ضعيفة، من قبل أن
حرارة هواء البلد تنشف رطوبة الحنطة الجوهرية وتفني أكثرها وتخلخل جسمها وتفتح مسامه وتحلل
بعضها حرارتها الغريزية منها، فتنتقص الحرارة الغريزية في باطنها، وتضعف عن هضم ما تحصل من
غذائها، وتصير الحنطة لذلك قحلة جافة صلبة قليلة الغذاء عسيرة الانهضام. وما كان من البلدان في
طبيعته حارا رطبا شرقيا، كان غذاء حنطته الذي يغتذى بها كثير الرطوبة، لرطوبة هواء بلدتها. وما كان
من الحنطة كذلك، ضعفت حرارته الجوهرية عن هضم غذائه لكثرة الغذاء عليها، ونشفت حرارة الهواء
بقوتها أكثر رطوبة الحنطة الجوهرية، وصارت لذلك سخيفة خفيفة قليلة الجوهر واللباب. وما كان من
البلدان في طبيعته باردا رطبا، كان كثير الطل (1) والندى، وكانت كثرة طله ونداه زائدة (2) في الرطوبة
المغذية للحنطة مع برد الهواء، استرخت الحنطة ولانت ووصل برد الهواء إلى عمقها، وأخمد حرارتها
الغريزية، وأضعفها عن هضم ما حصل منها من الغذاء وعجزت حرارة الهواء عن كشف شئ من
رطوبتها لقوة بردها. وصار ذلك سببا وكيدا (3) لسخافة الحنطة ورخاوتها وكثرة قشورها ونخالتها وقلة
جوهرها ولبابها.
وما كان من البلدان في طبيعته باردا يابسا جافا، كان كثير الثلج والجليد، غليظ الهواء. وإذا
غلظ الهواء عسر نفوذه في رطوبته وفى جسم الحنطة لغلظها، وقل ما يصل إليها من الغذاء
<و> استحصف ظاهر جسمها بقوة برد الهواء ويبسه وانحصرت الحرارة الغريزية في باطن الحنطة،
وقويت على طبخ غذائها على ما ينبغي وخفته عليها. وصار ذلك سببا قويا لاكتناز الحنطة ورزانتها وكثرة
جوهرها ولبابها وقلة قشورها ونخالتها وحسن غذائها وجودة انهضامها.
وأما اختلاف الحنطة من قبل طبيعة الزمان الحاضر في مدة نباتها، فيكون على ضروب: لان من
الأزمنة ما يكون معتدلا شبيها بمزاج الربيع الطبيعي في اعتدال حرارته ورطوبته. ومنها ما يكون في
ابتداء أمره معتدلا ثم يتغير وينتقل إلى فساد. فإن كان الزمان معتدلا، كانت الحنطة فيه على غاية
الكمال والسمن وكثرة الجوهر واللباب، وإن كان الزمان حائدا عن الاعتدال، لم تستكمل الحنطة ولم
تتم، وصار غذاؤها مذموما، ويستدل على ما يخلفها من الفساد وما يلحقها من اختلاف هواء بلدتها.
وربما كانت الحنطة قد استكملت وتمت لاعتدال زمانها في الابتداء، ثم رشت السماء بعد أن يكون
الزمان قد سخن، فلانت الحنطة لذلك، وتمكن حر الهواء منها وغاص في باطنها وجففت رطوبتها
الجوهرية فتحشفت وضمرت بما نالها من السموم. ولذلك يعرض لها إذا هبت عليها ريح عاصف حارة
يابسة في وقت



(1) الطل: المطر الضعيف.
(2) في الأصل: زائدا.
(3) وكد وأكد العهد والامر: أوثقه وشده. وبالواو أفصح.
187
القول في الحنطة الرطبة
والحنطة المسلوقة بالماء
أما الحنطة الرطبة المعروفة بالستول، فإنها إذا أكلت، كان الغذاء المتولد عنها يسيرا نيا بلغمانيا
كثير النفخ والقراقر مضرا (1) بالجنبين سريع القبول للعفونة. والدليل على ذلك، ما يتولد منه في البطن
من الدود وحب القرع، فإن هي حمصت أو شويت بالنار حتى يزول عنها أكثر رطوبتها الفضلية اللينة،
ازداد غذاؤها، ولطفت وقلت رياحها، وارتفعت عنها العفونة، وقويت على حبس البطن، إلا أن
انهضامها يكون عسيرا.
وأما الحنطة المسلوقة، فثقيلة جدا كثيرة النفخ والقراقر عسيرة الانهضام والانحدار (2)، في غاية
الغلظ واللزوجة، ولا سيما إذا كانت الحنطة علكة في جنسها رزينة مكتنزة كثيرة اللباب قليلة النخالة،
إلا أنها إذا انهضمت وجاد استمراؤها، غذت البدن غذاء كثيرا قويا بعيد الانحلال من الأعضاء زائدا في
شدتها. ومن أجل ذلك وجب ألا يستعملها إلا الفلاحون وأمثالهم من أهل التعب والرياضة.
ولجالينوس من هذه الحنطة المسلوقة خبر قال فيه: إني لم أكن أظن أنه يستغنى بالحنطة
المسلوقة عن الطعام ولا أنها تقع موقع الغذاء، ولا كنت أحسب أنه يستقيم لاحد أن يستعملها عوضا من
الخبز، حتى خرجت في بعض الأيام أنا وفتيان من أترابي، فوجدت علوجا (3) يحتاجون إلى العشاء ولم
يكن معهم خبز، فأخذوا حنطة وسلقوها بالماء وجعلوا معها ملحا وطلبوا إلي وإلى من كان معي لنأكل
معهم، فأكلنا وأكثرنا منها، لأنا كنا جياعا حسرى (4) شاخصين من تعب. فلما كان بعد قليل، حسسنا في



(1) في الأصل: مضر.
(2) (جدا كثيرة... والانحدار) مستدرك في الهامش.
(3) العلج، جمع علوج وغير ذلك: الرجل الشديد القوي.
(4) الحسير، جمع حسرى: الضعيف، الكليل.
188
بطوننا بثقل شديد كأن فيها حجارة، فأقمنا إلى الغد ولا نستمره معدنا، ومكثنا نهارنا أجمع لا نشتهي
طعاما، ولا نقدر نذوق شيئا، وانتفخت بطوننا، واعترانا صداع وظلمة في العين، ولم تسهل بطوننا ولا
انحدر من الحنطة شئ.
فلما رأيت ذلك، علمت أن هذه علامة كل طعام غليظ عسير الانهضام بعيد الانحلال. فسألت
العلوج هل عرض لهم مثل الذي عرض لنا، فذكروا مثل ذلك وزعموا أنهم أكلوا هذه الحنطة مرارا،
ووجدوا ذلك في كل مرة يأكلونها. فتيقنت أنه طعام غليظ بطئ الانهضام عسير الانحلال. فلما وقفت
على ذلك فكرت في دقيق الحنطة، فعلمت أنه متى استعمل من غير أن تحكم صنعته، كان ثقيلا بطئ
الانحدار عسير الانهضام.
ولذلك وجب أن لا يستعمل إلا بعد إحكام عجنه بخمير معتدل، وملح بقدر، ويخمر تخميرا
جيدا محكما، ثم يعجن ثانية ويعرك عركا جيدا، ويقرص ويصبر عليه حتى يعود إلى الاختمار ثانية،
ويخبز في تنور معتدل في الحرارة لتغوص قوة النار إلى باطنه وتلطف غلظه وتخلخل جسمه وتكمل
إنضاجه، لأنه إذا كان كذلك جاد هضمه في المعدة وولد غذاء فاضلا محمودا سريع الانحدار
والانهضام، وإن كان ما لم يبالغ في عجنه وتخميره أكثر غذاء مما قدمنا ذكره، لبعد انحلاله من
الأعضاء، إلا أنه أغلظ وأبعد انهضاما وأعسر نفوذا في العروق.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن ما لم يعجن من الخبز بخمير صالح وملح، ويبالغ في
عجنه وتخميره، كان أكثر غذاء مما قد عجن عجنا بليغا على غاية الاحكام من الصنعة، إلا أنه أعسر
انهضاما وأبطأ انحدارا. وما مضغ من الحنطة وأكل، كان أكثر غذاء، إلا أنه في غاية الغلظ وبعد
الانهضام والانحدار وكثرة النفخ والقراقر، وتوليد الدود وحب القرع في البطن. وأما الدهن المستخرج
من الحنطة، فمخصوص بالنفع من القوباء إذا طلي عليها بعد أن تحك حتى تدمى بشئ خشن قبل أن
يطلى عليها الدهن.

189
القول في الخبز
وأما الخبز، فقد كنا بينا فيه آنفا أنه في طبيعته أسخن من الحنطة التي يعمل منها. إلا أنه قد
يختلف في جودة غذائه ورداءته من أربعة وجوه: أحدها: من عنصره وهيولاه، أعني بذلك دقيقه.
والثاني: من صنعته وعمله. والثالث: من ناره التي يخبز فيها. والرابع: من وجوه استعماله.
فأما الدقيق، فيختلف من ثلاثة أوجه: أحدها: من جوهره: والثاني: من طحنه. والثالث: من
مقدار مدته وبعده من الطحن أو قربه به. فأما جوهره الدقيق، فينقسم في جنسه على قسمين متضادين:
لان منه العلك الكثير الجوهر واللباب، القليل القشر والنخالة. ومنه الرخو الخفيف القليل الجوهر
واللباب، الكثير القشر والنخالة. فما كان منه علكا كثير الجوهر واللباب، كان غذاؤه أكثر وانحداره عن
المعدة أبعد وانهضامه أعسر. فأما كثرة غذائه، فلجهتين: إحداهما: أن الأعضاء تقبل <منه> مقدارا
أكثر لكثرة جوهره ولبابه. والثانية: بعد انحلاله من الأعضاء وطول لبثه فيها لعلوكته ومتانته. وأما بعد
انحداره عن المعاء فلجهتين: إحداهما: أن الأعضاء لما كانت تقبل منه مقدارا أكثر، صار ما يبقى منه
في المعاء لا يثقلها ويمنعها عن حمله وإمساكه. ولذلك لا ترسله عنها بسرعة. والثانية: لقلة ما فيه من
القشر والنخالة، لم يكن معه من الجلاء ما يزعج المعاء ويهيجها إلى دفعه وإخراجه عنها.
ولروفس في هذا فصل قال فيه: إن الخبز كلما كان نقيا، كان غذاؤه أكثر وانحداره أعسر
وانهضامه أبعد. وكلما كان نخاليا، كان غذاؤه أقل وانحداره أسرع وانهضامه أسهل. وما كان من الدقيق
خفيفا رخوا قليل الجوهر واللباب، كثير القشر والنخالة، كان غذاؤه أقل وانحداره عن المعدة أقرب
وانهضامه أسرع. فأما قلة غذائه، فلجهتين: إحداهما: قلة ما يصل إلى الأعضاء من جوهره لكثرة نخالته
وقشوره. والثانية: قلة لبثه في الأعضاء لسرعة انحلاله منها لسخافته وخفته وقلة علوكته. وأمل سهولة
انحداره من المعاء، فلأضداد الجهتين اللتين ذكرناهما. والنوع الأول: أعني أنه لما كانت الأعضاء لا
تقبل من غذائه إلا اليسير، كان ما يجتمع منه في المعاء مقدارا أكثر. ولذلك يثقلها ويمنعها من حبسه
وإمساكه، فترسله عنها بسرعة. ولما كان فيه من القشرة والنخالة مقدارا أكثر، كان فيه من قوة الجلاء ما

190
يزعج المعاء ويهيجها إلى إخراجه بسرعة. وكل واحد من هذين النوعين من الدقيق قد يعرض له
اختلاف كثير من وجوه أربعة: وذلك أن منه ما تنزع نخالته ودقيقه، ويبقى جوهره ولبابه، وهو المعروف
بدقيق السميذ. ومنه ما لا ينزع منه إلا نخالته فقط، ويبقى دقيقه ولبابه، وهو المعروف بالحواري (1).
ومنه ما لا ينزع منه شئ أصلا، وهو المعروف بخبز الخشكار والأوائل تسميه الدقيق الحنطي أي حنطة
خاصة محضة لم يميز من أجزائها شئ. ومنه ما قد نزع لبابه الذي هو السميذ فقط، وبقيت نخالته
ودقيقه، وهو المعروف بالدقيق النخالي لغلبة النخالة عليه.
وأما النوعان (2) الأول والرابع: أعني السميذ والنخالي، فهما في غاية التضاد والمنافية، من قبل
أن السميذي أكثر أنواع الدقيق جوهرا، وغذاؤه أبعدها انحدارا وانهضاما. والنخالي بخلاف ذلك وضده،
لأنه أقل أنواع الدقيق جوهرا وأسرعها انحدارا وانهضاما. وأما النوعان (2) الثاني والثالث: أعني الحوارى
والحنطي، فمتوسطان بين النوعين الأولين اللذين قدمنا ذكرهما. إلا أن الحوارى أقرب إلى السميذ لقلة
نخالته وكثرة لبابه، والخشكار أقرب إلى النخالي لكثرة نخالته وقلة لبابه.
وأما اختلاف الدقيق من قبل طحنه، فيكون على ضربين: وذلك أن منه ما يبالغ في طحنه،
ويستقصى <في> تنقيته من نخالته. ومنه ما لا يبالغ في طحنه ولا في تنقية نخالته. فأما الأول منها: فإن
أجزاءه كلها تصير كشئ واحد. ولذلك صار تغييره في المعدة أسهل ونفوذه في العروق أسرع وتغذيته
للأعضاء أكثر وانحلاله منها أبعد. إلا أنه لسرعة نفوذه في العروق، صار ما يبقى منه في المعاء مقدارا
أقل، ولذلك يبطئ في انحداره منها. وأما الثاني: فإن في أجزائه اختلاف كثير لان بعضه يكون خاسئا
صلبا لم ينطحن على ما ينبغي، وبعضه خشنا لم يبالغ في طحنه الغاية القصوى، وبعضه لينا ناعما قد
بولغ في طحنه الغاية القصوى، فهو لما في بعض أجزائه من الصلابة والجفاء، يعسر انحلاله وتغييره في
المعدة، لأنه يحتاج إلى مدة يلبث فيها قبل <أن> تبتل أجزاؤه الصلبة وتلين.
ويستدل على ذلك من الشاهد، لأنا متى أنقعناه في الماء خارجا، لم تنحل أجزاؤه الصلبة غاية
الانحلال، لكنها تبقى متحببة. ومن قبل ذلك صار عسير النفوذ في العروق المسماة ماساريقا. ولهذه
الجهة قل ما يصل إلى الأعضاء من جوهر غذائه، وصار ما يجتمع منه في المعاء أكثر، ولذلك يثقلها
ويؤذيها ويهيجها إلى إخراجه بسرعة.
وأما اختلاف الدقيق من مدته وزمانه، فيكون على ثلاثة ضروب: وذلك أن منه القريب العهد
بالطحن، ومنه البعيد العهد، ومنه المتوسط بين ذلك. فما كان منه قريب العهد بالطحن، كان أكثر
إسخانا للأبدان وأعون على حبس البطن، لان فيه نارية مكتسبة من حركة الحجر، بها يسخن المعدة
ويجفف رطوبة الثفل ويمنعه من الانحدار بسرعة. وما كان منه بعيد العهد بالطحن، كان أقل إسخانا



(1) هو الدقيق الأبيض.
(2) في الأصل: النوع.
191
للأبدان وأسرع انحدارا من المعدة والمعاء، من قبل أن القوة النارية <التي> كان بها يسخن ويجفف،
قد خلقت (1) وضعفت لبعد عهده بحركة الحجر. وما كان منه متوسطا بين هاتين المرتبتين، كان أخذ (2)
من الحاشيتين بقسطه، إلا أنه كلما قصرت مدته وقربت من وقت الطحن، كان أكثر لاسخانه وتجفيفه،
وأبعد لانحداره. وكلما طالت مدته وبعدت من وقت الطحن، كان أقل لاسخانه وتجفيفه وأسرع
لانحداره.
وأما اختلاف الخبز من قبل صنعته، فيكون على ضربين: أحدهما: من مقدار الخبز وشكله
وإحكام صنعته وإتقان (3) عمله. فأما مقدار الخبز فيكون على ثلاثة ضروب: لان منه ما يكون عظيما
ثخينا، ومنه ما يكون لطيفا رقيقا، ومنه ما يكون متوسطا بين هذين الحدين.
فما كان منه عظيما ثخينا، كان لبابه أكثر وأرطب، وقشره أرق وأصلب، من قبل أنه يحتاج إلى
أن يلبث في النار مدة أطول قبل تمام نضجه لثخنه وعظم مقداره. ولذلك تتمكن النار من ظاهره وقشره
لمباشرتها له وتجفف رطوبته ويصير لبه قريبا من طبيعة القمح المقلو قبل أن يستبين فعلها في باطنه
ولبابه. وما كان من الخبز كذلك كان قشره قليل الغذاء عسير الانحدار والانهضام، مجففا لرطوبة الثفل
حابسا للبطن، من قبل أنه يحتاج إلى رطوبة تبله وتلينه، فيفتقر إلى رطوبة المعدة ورطوبة الغذاء جميعا،
وينشفها ويجففها فيجف لذلك الثفل ويمتنع من الانحدار بسرعة، ويصير ذلك سببا وكيدا لحبس
الطبيعة. ولهذه الأسباب قلت رياحه ونفحه وصار إذا انهضم وصل إلى الأعضاء وطال لبثه وبعد انحلاله
منها، وكان زائدا في قوتها وشدتها. وأما لباب هذا الضرب من الخبز، فهو في الجملة غليظ كثير
الرطوبة، إلا أنه يكون على ضربين: وذلك أن منه ما لم تتمكن النار منه، ولم تفعل في جملة أجزائه
فعلا متساويا، لكنها أنضجت بعضها وبقي بعضها نيا في غاية الغلظ والفجاجة. فصار لذلك غذاؤه
مذموما مولدا للبلغم اللزج. ومنه ما تمكنت النار منه وعملت في جملة أجزائه وأنضجتها، غير أنها لم
تتمكن منها تمكنا يتهيأ معه تلطيف لزوجته وغلظه، فصار بالإضافة إلى ما لم تفعل في أجزائه فعلا
متساويا، أكثر غذاء وأسرع انهضاما وأعون على تليين البطن وبخاصة متى كان الدقيق الذي عمل منه
الخبز نخاليا، وأكل الخبز وهو حار عند خروجه من التنور.
وما كان من الخبز رقيقا صغيرا، فغير محتاج إلى أن يلبث في النار إلى أن يجف قشره قبل تمام
نضجه، لان النار تصل إلى جميع أجزائه وتفعل فيها من قرب وتنشف رطوبة اللباب ولزوجته. ولذلك
صار اللباب من هذا الضرب من الخبز أقل وأجف، وقشره أثخن وألين، لان النار قد تمكنت من باطنه
وفعلت فيه كفعلها في ظاهره من تجفيف رطوبته وتلطيف لزوجته. ولذلك قلت فضوله، وصار غذاؤه أقل
وانحداره أبعد، ومعونته على حبس البطن أزيد، ولا سيما إذا كان باردا قد مضى له يوم أو يومان أو أكثر
من ذلك.



(1) خلق وخلق وخلق الشئ: بلي.
(2) في الأصل: أخذا.
(3) (إتقان) مستدركة في الهامش.
192
وللفاضل أبقراط في هذا فصل قال فيه: إن ما كان من الخبز أثخن وأعظم قدرا، كان لبابه أكثر
وغذاؤه أزيد وانحداره عن المعدة أبعد، ومعونته على تليين البطن أقرب. وما كان من الخبز أرق
وأصغر، كان لبابه أقل وغذاؤه أيسر وانحداره عن المعدة أسرع ومعونته على حبس البطن أسهل.
وما كان من الخبز متوسطا بين هاتين الخلتين، كان أخذ من الحاشيتين بقسطه، وصار على غاية
التوسط والاعتدال، وإن كان ذلك قد يزيد فيه وينقص على حسب قربه من إحدى (1) الحاشيتين دون
الأخرى، أو توسطه بينهما على الحقيقة.
وأما صنعة الخبز، فتكون على أربعة ضروب: لان منه ما تحكم صنعته وعمله ويجعل فيه من
الخمير والملح مقدار الواجب، ويبالغ في عجنه وعركه وتخميره، ويخبز بنار لينة معتدلة، ويفعل فيها
بتمهل حتى ينضج تاما كاملا. ومنه ما لا يجعل فيه من الخمير والملح إلا أيسر <من> ذلك، ويقصر
في عجنه وعركه وتخميره، ولا ينضج أيضا نضجا كاملا. ومنه ما قد جعل فيه من الخمير والملح ما
يجاوز المقدار في الكثرة. ومنه الفطير المحض الذي لا يجعل فيه من الخمير والملح شئ (2) أصلا.
فما كان منه معتدل (3) الخمير والملح، وقد أحكم صنعته في عجنه وعركه وتخميره وحسن إنضاجه بنار
معتدلة قد بعدت حرارتها في كل أجزائه بالسواء، كان انهضامه في المعدة على غاية ما يكون من
الجودة. وما كان ما يتولد منه في البدن من أوفق الأشياء للأفعال التي بها يتم الاغتذاء. وما كان كذلك
كان محمودا جدا موافقا لأصحاب الدعة والسكون من المتملكين، ولمن قد ضعف استمراؤه من
المشايخ والناقهين من الأمراض، من قبل أن الصنعة خارجا قد كفت الطبيعة مؤونة التعب فيه باطنا. وأما
أهل الرياضة والتعب، فهو قليل الموافقة لهم (4)، للطافته وسرعة انحلاله من أعضائهم. ولذلك صار متى
أدمن عليه أحد منهم، انحلت قواه وضعفت أعضاؤه ونقص لحمه من قرب، من <قبل> أن التعب
وإدمان الحركة يحمي الأعضاء ويذيب ما فيها من الرطوبة المغذية لها، ويحللها بالبخار والعرق. فإذا
كان الغذاء لطيفا انحل بسرعة وخلت الأعضاء منه وضعفت ونقصت قواها ولحمها. وإذا كان الغذاء منيعا
غليظا، قاوم الحرارة المتولدة عن الحركة ولم ينقاد (5) لها ولم ينحل بسرعة. ولذلك احتاج أهل هذا
الشأن إلى ما كان من الغذاء أغلظ وأصلب وأبعد انحلالا من الأعضاء، وإلا قطعته الحرارة وأذابته وأفنته
قبل أن تستتم الأعضاء حاجتها منه.
وما كان من الخبز قليل الخمير والملح، ولم يبالغ في عجنه وتخميره وإنضاجه غاية الاحكام،
وكان فيه من اللزوجة والغلظ ما يقارب لزوجة الحنطة المسلوقة وغلظها، وإن كان دونها في ذلك قليلا
لما قد داخله من يسير الخمير والملح والتخمير. ولذلك صارت رياحه أقل ونفخه أيسر. إلا أنه لقربه من



(1) في الأصل: أحد.
(2) في الأصل: شيئا.
(3) في الأصل: معتدلة.
(4) في الأصل: له.
(5) في الأصل: ينقد.
193
المشاكلة للحنطة المسلوقة في اللزوجة والغلظ قليلا، صار انهضامه أعسر من انهضام الخبز المحكم
الصنعة وانحداره أبطأ وانحلاله من الأعضاء أبعد ولبثه فيها أطول. ولذلك صار أكثر موافقة لأصحاب
الرياضة والتعب لقوة هضمهم وزيادة حرارتهم. وأما أصحاب الدعة والسكون من المتملكين ومن قد
ضعف هضمه من المشايخ والناقهين من الأمراض، فإنه غير موافق لهم، من قبل أن حرارة من هذه
حاله، تضعف عن هضم ما غلظ من الطعام وبعد انهضامه. وإن استعمل أحد ممن هذه حاله شيئا من
الخبز القليل الخمير والتخمير وأدمن عليه، لم يأمن أن يتولد في بدنه مع طول الأيام، خلط ني قريب
من البلغم اللزج المعروف بالخام.
وما كان من الخبز قد أكثر فيه من الخمير والملح ما جاوز المقدار، فإنه لا يغذو البدن ولا يقوته
أصلا، من قبل أن قوة الملح إذا أفرطت، جففت رطوبة الغذاء وصيرته قحلا. ومن البين أن الهضم لا
يتم إلا باجتماع الحرارة والرطوبة على ما بينا مرارا.
ولجالينوس في هذا قول قال فيه: ومن الناس من يجعل في الخبز من الملح والخمير أكثر مما
ينبغي، هربا من سدة يحدثها به في المجاري والمنافذ، لان الملح من شأنه أن يلطف الغليظ ويفيد
الخبز يبوسة وجفافا. والخمير يفيد الخبز انتفاخا وخفة ويذهب بثقله ورزانته. والدليل على انتفاخه (1) أن
الانسان إذا أكثر ماءه في وقت عجنه، ثم أدخله النار، ظهرت فيه نفاخات كثيرة. والدليل على خفته أن
الانسان إذا وزنه بعد خبزه له وجده أخف من الخبز الذي هو أقل خميرا منه. وكذلك صار قليل الغذاء
جدا.
وأما ما كان من الخبز لم يجعل فيه خمير أصلا، ولم يوفى حقه من الملح، ولم تحكم صنعته
في تخميره وإنضاجه، فإنه أقل أنواع الخبز غذاء وأسرعها انهضاما وأخصها بتوليد السدد والرياح. وذلك
لان فيه من الغلظ واللزوجة ما ليس باليسير. ولذلك صار غذاؤه قريبا من غذاء الحنطة الطرية الرطبة
اللينة التي لم تجف على نباتها، وإن كان ما سخن من الحنطة الرطبة قليلا، لاكتسابه الحرارة من النار،
إلا أنه لقربه من الحنطة الرطبة، صار مولدا للخلط الغليظ البارد المعروف بالخام، وإن كان البلغم أيضا
باردا نيا، فإن بينهما فرقانا من قبل أن البلغم ليس بغليظ لان فيه رطوبة طبيعية تشمله وترخيه.
وأما الخلط المعروف بالخام، فإن غلظه شبيه بغلظ الرسوب الذي يرسب في البول الشبيه
بالمدة (2)، إلا أن بينه وبين المدة فرقانا (3) أيضا، لان المدة أكثر لزوجة وأنتن رائحة. فأما ما قدمنا ذكره
في الفطير الخالص، صار غير موافق لاحد من الناس، وإن كان كثير (4) من الحصادين والفلاحين قد



(1) في الأصل: (على أن انتفاخه). و (أن) هنا زائدة.
(2) المدة: ما يجتمع في الجرح من القيح، وهي غليظة. أما الرقيقة فهي صديد.
(3) في الأصل: فرقان.
(4) في الأصل: كثيرا.
194
يأكلونه فيستمرئونه. وسبب استمرائهم له يكون من ثلاثة أوجه: أحدها: ما يعرض لهم من ثقل النوم
وكثرته لكثرة التعب وتفتح أعضائهم. وإذا كان النوم أثقل وأطول، كان الانهضام أقوى وأبلغ. والثاني:
ما جرت به عادتهم من استعمال هذا النوع من الغذاء، مع قلة ما يتناولون منه. والثالث: قوة تخليل
أبدانهم وكثرة ما يبرز منها بالبخار والعرق، لدوام تعبهم نهارهم أجمع. ولذلك يحتملون من الغذاء ما
هو أغلظ وأبعد انهضاما، لان غذاءهم لو كان لطيفا مع دوام تعبهم، لتخلل من أعضائهم بسرعة، ووجب
من ذلك أحد الامرين: إما أن تذب أعضاؤهم (1) وتنحل، وإما أن تفتقر إلى أن تستلب الدم من العروق،
وتضطر العروق إلى أن تسلب رطوبة الطعام من معاء الماساريقا، إلى أن تحجم المعدة وتسلب الغذاء
منها قبل إحكام نضجه. وربما كان كذلك قبل <أن> يبتدئ فيه النضج أصلا، وبخاصة متى كان
تعبهم بعد أخذهم للطعام، <فإنهم> يقعون بأخذه في أمراض صعبة يهلكون منها قبل الشيخوخة.
ولهذا السبب احتاجت أعضاؤهم إلى أغذية غليظة لزجة عسيرة الانهضام، بعيدة الانحلال من أعضائهم،
لطول لبثها فيها، وتقوى لمقاومة التعب القوي. والله تعالى أعلم.



(1) في الأصل: أعضائهم.
195
القول في الخمير
أما الخمير، فإن قوته لطيفة لان فيه حرارة يسيرة. وذلك أنه مركب من قوى مثل أن (1) فيه برودة
لحموضته، وحرارة من قبل عفونته، مع ما فيه من الحرارة <و> المكتسبة من الدقيق والملح. ولذلك
صارت له لطافة يجذب بها من عموم البدن، وينضج الأورام من غير تلذيع ولا أذى. وإذا عجن بالزيت
والملح، وحمل على الدماميل أنضجها وفتح أفواهها.



(1) كذا في الأصل.
196
في النار التي يخبز فيها الخبز
أما النار التي يخبز فيها الخبز، فتختلف من جهتين: إحداهما: من ذاتها، والأخرى: من
الأدوات التي تستعمل فيها.
فأما اختلافها من ذاتها فيكون على ثلاثة ضروب: وذلك أن منها ما يكون عظيما قويا جدا. ومنها
ما يكون ضعيفا لينا. ومنها ما يكون متوسطا بين ذلك. فما كان منها عظيما قويا، كان من شأنه أن
يجفف ظاهر الخبز ويصلبه عند مباشرته له حتى تقارب به الاحتراق، ويبقى باطن الخبز نيا غير نضيج
لامتناع وصول النار إلى باطنه بسرعة، لصلابة القشر وكثافته. ولذلك تجتمع في الخبز خلتان مذمومتان:
إحداهما: صلابة القشر وبعد انحلاله وذوبانه وخروجه عن حد ما يغتذى به لقربه إلى الاحتراق.
والثانية: لزوجة اللباب وغلظه وبعد انهضامه. فهو للجهتين جميعا عسير الانهضام جدا، بطئ النفوذ في
العروق، يولد خلطا مختلفا لأنه لصلابة ظاهره وقربه من الاحتراق يولد دما جافا قحلا، ويعين على
حبس البطن، وللزوجة لبابه يولد خلطا نيا من جنس الخام، ويعين على إطلاق البطن.
وأما النار الضعيفة فإنها بقلتها وضعف فعلها، تعجز عن النفوذ في باطن الخبز، فلا يمكن فيها
أن تنضجه نضجا كاملا إلا بعد مدة طويلة. فإذا خرج من النار قبل تمام نضجه، كان لزجا لازوقا لا
يصلح إلا لمن كان قوي الاستمراء كثير الرياضة دائم الحركة. فإن صبر عليه حتى ينضج، كان يابسا
جافا بطئ الانهضام حابسا للبطن إلا أن يدق وينقع في الماء وقتا طويلا، ثم يغسل بالماء مرات حتى
يعتدل ويلطف.
وأما النار المتوسطة بين هذين الحدين، فإنها لاعتدال حرارتها، تغوص في باطن الخبز وتنفذ في
أجزائه نفوذا مساويا وتنضجه على مهل نضجا كاملا. وما كان كذلك، كان غذاؤه أحمد وانهضامه أسرع
ونفوذه في العروق أسهل وأحكم. ولذلك صار موافقا لمن قلت رياضته وكثر سكونه من المتملكين ومن
ضعف هضمه من المشايخ والناقهين من الأمراض.

197
وأما الأدوات (1) التي تستعمل فيها النار فتكون على ثلاثة ضروب: أحدها: التنور، والثاني:
الفرن، والثالث: الطابق (2). فأما نار التنور فتكون على ضربين: لان منها ما يفعل بالمباشرة، ومنها ما
يفعل بغير مباشرة. فأما الذي يفعل بغير مباشرة، فمثل نار التنور الذي يوقد وقودا جيدا، وتترك فيه قدور
فخار لطاف حتى تحمى ثم تشال من التنور ويجعل فيها الخبز وترد إلى التنور حتى ينضج الخبز حسنا.
وما كان كذلك، كان أفضل الخبز وأحمده وأعدله غذاء وأسرعه انهضاما، لان النار قد نفذت في جميع
أجزائه نفوذا متساويا، وفعلت فيها فعلا معتدلا محكما ولطفت لزوجة الخبز وغلظه، لأنها لم تباشره
فيفعل في ظاهره أكثر من فعلها في باطنه. لكنها فعلت من بعد قليلا قليلا وأنضجته نضجا كاملا. وإن
كان العجين مع ذلك معتدل الخمير والملح محكم الصنعة في عجنه وعركه وتخميره، وكان مع ذلك لينا
رخوا وخبز على مثال ما وصفنا في قدور في جوف تنور، كان ألطف وأفضل لغذائه وأسرع لانهضامه،
لان النار تلطف اللبث في إنضاجه للينه ورخاوته وزيادة رطوبته، فتبالغ في تلطيف غلظه ولزوجته وتخليل
رياحه ونفحه.
وإن جعل عوض الماء الذي يعجن به العجين، ماء قد مرس فيه دقيق وصفي، كان أكثره لغذائه
وأسرع لنفوذه في العروق. وأما كثرة غذائه فلما يفيده من الدقيق ويزيد فيه من جوهر الحنطة الذي انحل
من الدقيق في الماء الذي مرس فيه، وذلك أن الذي يخالطه الماء من الدقيق إذا مرس فيه، أفضل ما
في الدقيق وأكثره جوهرا وغذاء. وأما نفوذه في العروق، فلما يكتسب من ماء الدقيق من العذوبة واللذاذة
وكثرة الجلي. وذلك أن الذي يخالط الماء من الدقيق أيضا أعذب ما فيه وأكثره لذاذة وجلاء. فلعذوبته
ولذاذته تقبله الأعضاء وتجذبه إليها بسرعة، ولجلائه يسرع نفوذه في العروق.
وإن جعل فيه عوض ماء الدقيق ماء نخال ممروس في ماء حار مصفى، أفاد ذلك جلاء وتنقية لما
في الصدر والرئة من الرطوبة اللزجة، ونقي المعدة والمعاء، وأعان على سرعة الانحدار وتليين البطن.
وذلك لما في النخال من قوة الجلاء لزيادة سخونته.
وأما ما تفعل من النيران من المباشرة، فنار التنور الذي يلزق الخبز في باطنه. فإن النار تباشر
الخبز وتفعل في ظاهره من قرب، وتجففه قبل أن تتمكن من باطنه، وتلطف لزوجته وغلظه. ولذلك صار
هذا النوع الأول في اللطافة والغذاء وسرعة الانهضام، وذلك أن بينهما من المخالفة ما ليس باليسير
لجهتين: إحداهما: أن النار لما كانت تفعل في هذا النوع بالمباشرة، لم يطل اللبث في فعلها فيه،
فيمكن أن تتمكن من تلطيف غلظه ولزوجته وتخليل رياحه ونفخه كتمكنها في النوع الأول من قرب
بسرعة، وفعلها في النوع الأول من بعد بتمهل. والجهة الثانية: أنه لما كانت النار تباشر العجين وتفعل
فيه من قرب، صار فعلها في ظاهره أكثر من فعلها في باطنه، لان مباشرتها لظاهره أسبق، وفعلها فيه



(1) الطابق والطابق، جمع طوابق وطوابيق: قدر من حديد أو نحاس يطبخ فيه.
(2) في الأصل: الأدلة.
198
أشد. وإن لم يمكن ذلك بالكثير لضعف نار التنور ولبثها. ولذلك صار غذاء القشر من هذا الخبز مخالفا
لغذاء اللب، وإن كان ذلك لا يظهر حسا لعلة ما بينهما من المباعدة.
وأما نار الفرن، فتكون أيضا على ضربين: لان منها ما يكون من ظاهره الفرني، ومنها ما يكون
من باطنه. فأما ما يكون منها ظاهر الفرن، فمثل نار الأفران التي بمصر المعروفة بالطابون، فإن الخبز
يكون من باطن الطابون، والنار من ظاهره يطيف بها ويحتوي عليها. وما كان من النار كذلك، كان خبزه
قريبا من الخبز الذي يخبز في قدور داخل التنور، إلا أن ذلك أفضل لان التنور أفتح وأفسح، والطابون
أضيق وأعم وأحقن للبخار.
وأما النار التي في باطن الفرن، فإن خبزها قريب من الخبز الذي يلصق في التنور، إلا أنه دونه
في الفضل وجودة الغذاء أكثر، وذلك لعظم نار الفرن وقوة تأثيرها. ولذلك صار فعلها في ظاهر الخبز
أكثر من فعل نار التنور كثيرا. والدليل على ذلك ما نشاهده من حمرة قشر خبز الفرن ورقته واكتنازه وليانة
لبه ورطوبته، وما يظهر من سخافة قشر خبز التنور وثخنه وليانته وجفاف لبه وقلة رطوبته. فقد دلت
الشواهد على أن خبز التنور أفضل وأغذى وأحمد غذاء وأسرع انهضاما، لان رطوبة لباب خبز الفرن تدل
على لزوجته وغلظه، واكتناز قشره يدل على صلابته وبعد انحلاله.
وأما الخبز المعمول على الطابق، فإنه أردأ من خبز الفرن كثيرا، من قبل أن حرارة النار إنما
تباشر سطحه الذي على الطابق فقط. فالحرارة إذا إنما تصل إليه من جهة واحدة والهواء يحيط به من
الجهة الأخرى. فالنار إنما تفعل فيه من الجهة التي تباشره منها، والجهة الأخرى فإن النار لا تصل إليها
وصولا يتهيأ معه تلطيف غلظها ولزوجتها، ولا تخليل رياحها ونفخها، ولا تستكمل إنضاجها أصلا.
ولذلك صار هذا الضرب من الخبز مذموما جدا كثير اللزوجة والغلظ، قليل الغذاء بطئ الانهضام
مولدا (1) للرطوبات النية والرياح الغليظة. ولهذا صار كثيرا ما يحدث على طول الأيام انزمام (2) في
الجنبين ونفخ في البطن وثقل في سائر الأعضاء وبخاصة في أبدان المترفين وكثيري (3) الدعة والسكون.
وأردأ من ذلك الخبز الذي يخبز على الجمر والرماد المعروف بالملة، لان الضرر فيه بين جدا من
جهتين: إحداهما: أن النار تباشر ظاهره من كل جهة مباشرة قوية من أقرب قرب من غير حاجز ولا
وسط. فهي لذلك تجفف رطوبة ظاهره بسرعة في أقرب وقت، وتكثفه وتصلبه قبل أن تفعل في باطنه إلا
فعلا يسيرا نزرا (4) فتحتقن بخارات اللباب في باطنه وتبقى على غاية الغلظ واللزوجة وكثرة الرياح
والنفخ. والثانية: ما يخالط الخبز من رماد الجمر وترابه لان الجمر لما كان مباشرا للخبز من غير حاجز



(1) في الأصل: مولد.
(2) إنزم: اشتد وربط.
(3) في الأصل: والكثيرين.
(4) النزر: القليل التافه.
199
ولا وسط، لم يكن بد مما يخالطه من رماده مقدار ليس باليسير ولا سيما متى كان الجمر رخوا سريع
الاحتراق لأنه إذا كان كذلك، كانت رماديته أكثر وما يخلو الخبز منه على حسب ذلك. فظاهر الخبز إذا،
لما يكتسبه من حدة الرماد وإفراط يبسه، يصير له قوة لذاعة مضرة بفم المعدة لما يحدث فيه من القبض
والجفاف والتشنج، ولما في لبابه من الغلظ واللزوجة وكثرة الرياح والنفخ، يحدث عنه في البدن دائما
رطوبات نية غليظة من جنس الخام ورياح نافخة وثقل في سائر الأعضاء وغشاوة على البصر. ولهذا
صار (1) أردأ الخبز وأضره للأبدان.
وأما اختلاف الخبز من قبل استعماله، فيكون على أربعة ضروب: وذلك أن من الخبز ما
يستعمل حارا عند خروجه من المخبز. ومنه ما يستعمل باردا إلا أنه ليومه. ومنه ما يستعمل بعد يبسه
وجفافه.
فما استعمل منه حارا كما يخرج من المخبز، كان أكثر غذاء وأسرع انهضاما ونفوذا في العروق.
وذلك للينه وسرعة انحلاله، إلا أنه بعيد الانحدار عن المعدة والمعاء بالعرض لا بالطبع. أما بعد
انحداره عن المعدة، فلانه يطفو ويعوم ولا يهبط ويستقر في قعر المعدة بسرعة لخفته. وأما بعد انحداره
عن المعاء، فلانه لسرعة نفوذه لا يبقى منه في المعاء مقدار ما يثقلها ويهيجها إلى إخراجه بسرعة. وإنما
نسبنا بعد انحداره إلى العرض، لان من شأنه في طبيعته أن يلين الثفل ويرطبه ويعين على انحداره.
فأما ما يستعمل من الخبز ليومه قبل أن يتمكن البرد منه وينفذ إلى باطنه، فهو أقل غذاء وأسرع
انهضاما، وأبعد انحدارا وخروجا من قبل أن ظاهر الخبز إذا برد وتكاثفت مسامه وبطأت الحرارة في
عمقه، فلا بد من أن تنحل من باطنه بخارات تتحرك نحو سطح الخبز صغارا، فإذا انتهت إلى سطح
الخبز ووافقت مسامه متكاثفة منسدة، حال ذلك بينهما وبين الخروج وانعكست راجعة إلى داخل. فإذا
رجعت وافت بخارا آخر قد تخلل وتحرك صعدا نحو سطح الخبز وتراجعت معه، حتى إذا صارت نحو
سطح الخبز أيضا، حال بينهما وبين الخروج تكاثف المسام وانسدادها، وتراجعت إلى داخل منعكسة
ووافت بخارا آخر متصاعدا، فتصاعدت معه أيضا، وكان حكمها حكم الأول، فلا يزال ذلك البخار
يتردد مرة إلى داخل إذا منعها تكاثف مسام السطح من الخروج، ومرة إلى خارج إذا وافت بخارا
متصاعدا يردها حتى يحدث عن تلك الحركات الدائمة لزوجة وغلظ ورياح نافخة وفضول كثيرة، ذلك
لاصطكاك البخارات بعضها ببعض وصعودها وهبوطها. فإذا حدث مثل ذلك في الخبز عسر انهضامه
جدا من جهتين: إحداهما: أنه لغلظه ولزوجته لا يبتل بسرعة لان الماء لا ينفذه ولا يداخله. والثانية:
إنه لرياحه النافخة يمنع جرم المعدة من ملامسته والاحتواء عليه. ولذلك ثقل غذاؤه وانفسد.
وأما ما مضى له يوم أو يومان، وشمل البرد ظاهره وباطنه، فإن الغذاء المتولد عنه محمود



(1) في الأصل: ولهذا ما صار. و (ما) ملغاة بشطبة.
200
فاضل (1) بالإضافة إلى الخبز الحار أقل وألطف وأسرع انحلالا وأبعد نفوذا في العروق. فأما سرعة
انحداره عن المعاء، فإن ذلك إنما يقع له بالعرض من قبل أن نفوذه في العروق لما كان أبعد، كان ما
يجتمع منه في المعاء مقدارا أكثر فيشقى ويضطرها إلى تخليته بسرعة، وقد يستعمل لباب هذا النوع من
الخبز على ضربين: وذلك أن من الناس من يستخرجه من قشره ويتركه حتى ينشف الهواء أكثر رطوبته
الفضلية، ويفركه وينزله من المنخل الشغر ويغسله بالماء مرات حتى يصفو اللباب ويبلغ غاية انتفاخه
وتزول عند لزوجته وغلظه ورياحه النافخة، ويشربه بما أحب من الأشربة أو بسكر طبرزد (2)، ومنهم من
يحله في الماء ويشربه من غير إنقاع ولا غسل. والضرب الأول منهما أقل غذاء وأفضل لان الدم المتولد
عنه دم محمود مبرد (3) للأبدان مرطب لها بعيد من توليد السدد، من قبل أن رياحه ولزوجته قد زالت عنه
في إنقاعه وغسله، واكتسب رطوبة وبرودة، وانتقل من ثقل الأرضية وغلظها إلى لطافة الهوائية وخفتها.
والدليل على ذلك: أن يطفو ويعوم في الماء ولا يرسب،، وبخاسة متى كان من حنطة رخوة لم تستقصى
نخالتها.
ولذلك أجمعت الأوائل على أن كل غذاء يتخذ من الحنطة يفيد البدن سخونة خلا اللباب
الجاف المغسول بالماء مرات، فإنه يفيد البدن برودة ورطوبة. ولذلك صير جالينوس قوته قريبة من قوة
النشاستج (4).
قال إسحاق: إن جالينوس إنما صير قوة هذا اللباب قريبة (5) من قوة النشاستج في التبريد فقط،
لا في الغلظ واللطافة لان بينهما في ذلك فرقا بينا، من قبل أن اللباب في طبيعته لطيف رطب (6) سريع
الانهضام. والنشاستج في طبيعته جاف لازوق (7) بطئ الانهضام. وأما اللباب المستعمل من غير إنقاع
ولا غسل، فإن فيه نفخا وقراقر وتوليد..
(8) إلا أن ذلك فيه أقل منه في الخبز الذي يشتمل عليه البرد
على ظاهره وباطنه، لان ذلك أغلظ وأعسر انهضاما وأكثر رياحا ونفخا.
وأما الخبز اليابس الجاف، فإن فيه هشاشة وسخافة لعدمه الرطوبة أصلا. ولذلك صار منشفا
لرطوبات المعدة وقتا طويلا قبل أن ينحل ويعمل فيه الهضم. ولهذا أيضا صار مولدا للعطش مجففا
لرطوبة الثفل، حابسا للبطن، وذلك لجهتين: إحداهما: كثرة ما يحتاج من الرطوبة ليبتل بها، والثانية:



(1) في الأصل محمودا فاضلا.
(2) المعروف بالسكر النبات أو السكر الفضي.
(3) في الأصل: دما محمودا مبردا.
(4) النشاستج: لباب الحنطة المنقوع، معرب نشاسته. وهو النشا. سيأتي كلام المصنف عليه بعد قليل.
(5) في الأصل: قريب.
(6) في الأصل: لطيفا رطبا.
(7) في الأصل: جافا لازوقا.
(8) بياض في الأصل مقدار كلمة واحدة بقي منها الحرف الأخير (د) ولعلها (السدد).
201
نشفه لرطوبة المعدة إلا أن يحتال له من خارج بحيلة يكتسب بها رطوبة وليانة مثل أن ينقع في الماء وقتا
طويلا حتى يبتل جيدا ويغسل بالماء مرات كثيرة، فيكفي الطبيعة مؤونة التعب فيه باطنا، ويجود هضمه
ويولد غذاء محمودا.
وقد يختلف الخبز في طبيعته وغذائه على حسب ما يداخله ويخلط معه من الأبازير وغيرها.
وذلك أن من الخبز ما ينثر عليه السمسم، ومنه ما ينثر عليه الكمون والرازيانج والانيسون (1). ومنه ما ينثر
عليه الشونيز (2)، ومنه ما ينثر عليه الخشخاش. فما ينثر عليه السمسم، كان عسير الانهضام للزوجة
السمسم ودهنيته إلا أنه إذا انهضم كان غذاؤه كثيرا. وما نثر عليه الكمون جفف تجفيفا باعتدال وقوة،
ومنع من النفخ والقراقر وخلل الرياح. وكذلك يفعل الرازيانج والانيسون، غير أن الرازيانج والانيسون
أذكى رائحة وأعطر وأطيب طعما وألذ. ولذلك صارت الطبيعة تقبل منهما ما لا تقبله من غيرهما. ولهذه
الجهة صار فعلهما أقوى وأظهر تأثيرا وأكثر تخليلا للرياح وإخراجها بالجشاء، وأما الخبز الذي ينثر عليه
الشونيز، فإنه يجفف تجفيفا قويا ويفني الرطوبات. والخبز الذي ينثر عليه الخشخاش يجلب النوم ويزيد
في اللبن ولا سيما إذا كان معه بزر رازيانج.



(1) (ومنه ما ينثر.. والأنيسون) مضافة في الهامش. والرازيانج نبات هو الشمر، والأنيسون يعرف بالحلبة الحلوة. وكلام المصنف
عليهما في الجزء الثالث.
(2) الشونيز أو الشينيز: الحبة السوداء ويعرف بحبة البركة. نبات عشبي سنوي حبه خشن أسود فيه رائحة عطرية وله طعم حريف.
202
فيما يعين على هضم الطعام
الغليظ البطئ الانهضام
ومما يعين على هضم الأغذية الغليظة اللزجة، أن يتعب صاحبها قبل استعمالها تعبا معتدلا، ثم
يغسل بدنه بعد ذلك من وسخ العرق بماء بارد إن كان الزمان صيفا أو قريبا من مزاج الصيف، أو بماء
حار إن كان الزمان شتاء أو قريبا من مزاج الشتاء، ثم يستريح قليلا قليلا ويتناول من الغذاء بقدر،
ويتحرك برفق حركة يسيرة على أشياء لينة تنخفض من تحت قدميه ويبطئان لينحدر الطعام إلى قعر
المعدة، ولا يتحرك على أشياء يابسة صلبة، فينزع الطعام ويهيجه إلى الخروج من المعدة قبل تمام
هضمه، ثم ينام على جانبه الأيسر ليسخن بالنوم عليه وتعتدل حرارته مع حرارة الجانب الأيمن، لجاجة
الجانب الأيسر إلى ذلك لضعف حرارته بالطبع، لمجاورته الطحال الذي هو مسكن المرة السوداء.
وأما الجانب الأيمن، فلمجاورته للكبد والمرارة، صار أسخن بالطبع. ولذلك استغنى عن
اكتساب حرارة بحيلة أو بتدبير. فإن كان الأسهل عليه الاستلقاء على الظهر فلا بأس لان الحرارة عند
النوم على الظهر تنتشر في الجانبين جميعا، وإن كان النوم على الجانب الأيسر أفضل، من قبل أن
الحرارة وإن كانت عند النوم على الظهر تنتشر في الجانبين جميعا، فإنها تكون في الجانب الأيمن أقوى
لزيادة حرارته على الجانب الأيسر بالطبع.

203
القول فيما يتخذ من الحنطة بعد الخبز
قد يتخذ من الحنطة ضروب كثيرة نغتذي بها مثل الهريسة والقطايف والأخبطة وما شاكل ذلك
مما لا يجب إغفاله وترك الكلام فيه والإبانة (1) عنه. وأنا أذكر من ذلك قولا كليا دالا على فعلها وانفعالها
في الجملة، قبل الكلام في كل واحد منها على الانفراد.
فأقول: إن جميع هذه الأغذية التي قدمنا ذكرها وما شاكلها، فإنها في الجملة تولد خلطا غليظا
لزجا بطئ الانهضام مولدا (2) للسدد في مجاري الغذاء وجداول الكبد مغلظا للطحال وبخاصة متى وافى
الطحال في نفسه ضعيفا، ومولدا (2) للحصى والحجارة في الكلى ولا سيما إذا وافى في الكلى حرارة
عرضية زائدة خارجة عن الطباع، واتفق أن تكون مجاري الكلى ضيقة بالطبع. فإن لم تستعمل شيئا من
هذه الأغذية بالغسل، صارت قوته مركبة مختلفة، لما في الغسل من قوة الجلي والتلطيف لكل ما لقي.
ولهذه الجهة صار كل ما زيد في غسل هذه الأطعمة وأحكم إنضاجها، كان أقل لابطائها وأسرع
لانحدارها، وولدت دما متوسطا بين الغلظ واللطافة، وقل إضرارها للكبد والطحال إذا وافتهما صحيحتين
لا سدد فيهما. فأما إن وافت سدة فيهما قد تقدمت، أو كان فيهما حبسا، لم يكن إضرارها بهما دون
إضرارها إذا كانت بغير غسل. بل ربما كانت مضرتها إذا كانت معها الغسل أكثر كثيرا، لان الأعضاء
لالتذاذها بالغسل، تقبل منها أكثر من مقدار القوة على هضمه، فيكون ذلك سببا لعظم البلية وأعظم
لضررها إذا اتخذت من دقيق علك لازوق كثير (3) اللزوجة فليل النخالة لأنه (4) يلزق بأفواه العروق الدقائق
ويسدها، ويمنع من نفوذ الغذاء فيها.
وإذا صار إلى مثل هذه الحال، لم يكن بد من أن يحس الانسان في العضو الذي نالته الآفة



(1) القول: (وعدم الإبانة عنه) يتفق وظاهر السياق.
(2) في الأصل: مولد.
(3) في الأصل: كثيرة.
(4) (نة) مضافة في الهامش.
204
بثقل يعسر برءه، ويفتقر إلى معونة الأدوية الملطفة للفضول المفتحة للسدد والأغذية. ولذلك وكثير ما
يعرض من هذه الأغذية التي قدمنا ذكرها الأوجاع التي تعرض للرجلين واليدين المعروفة بالنقرس (1) إذا
كانت اليدان والرجلان ضعيفة بالطبع سريعة القبول للمواد المنصبة إليها.
وإذا أتينا على فعل هذه الأغذية وانفعالها في الجملة، فلنذكر الآن ما يختص كل واحد منها
وينفرد به دون غيره. ونصير ابتداء كلامنا في القول في الهريسة إذ كانت أغذاها وأكثرها ملاءمة للطباع،
وبالله تعالى توفيقنا.



(1) داء يحدث ورما ووجعا في مفاصل الكعبين وأصابع الرجلين. وهو في مفاصل القدم وإبهامها أكثر.
205
القول في الهريسة
أما الهريسة فإنها في طبيعتها غليظة بطيئة الانهضام. فإذا انهضمت ولدت دما يقرب من الرطوبة
واللزوجة، وغذت غذاء كثيرا لأنها معمولة من نوعين فاضلين ملائمين لطبيعة الانسان وهما: الحنطة
واللحم. ولذلك صارت أفضل ما يستعمل من الحنطة بعد الخبز المحكم الصنعة. ولهذه الجهة صارت
موافقة لمن نقص لحمه ونحف بدنه وجف، واحتاج إلى زيادة في لحمه بعد أن يكون سليما من
الحمى، وإن كانت غير ضارة بالناقهين من الأمراض إذا كان هضمهم قويا ومعدهم نقية من الفضول.
وكذلك أصحاب الحميات المتطاولة، فإنها غير ضارة بهم إذا أخذوا منها بقدر، ولم يكن بهم عفونة ولا
برد. فإن كان بهم عفونة أو برد كانت من أضر الأشياء بهم.
ومن أفضل ما يستعان به على تلطيف غلظها وسرعة انحدارها وسرعة انهضامها، اتخاذها من
حنطة بيضاء خفيفة رخوة قليلة اللباب مع صدور الدجاج والفراريج ولحومها وأجنحتها وأجنحة الإوز بعد
أن ينعم طبخها ويطاول لبثها على النار، وتشاط دائما وتحرك الحين بعد الحين بعود شبت (1)، ويلقى
زيتها وملحها في أول طبخها، وتؤكل بالمري والفلفل والدارصيني (2) وشئ من زنجبيل. فإن ألقي فيها
شئ من عسل، أزال عنها أكثر لزوجتها وأحدث فيها سرعة انهضام وزاد في جليها وقل إضرارها بالكبد
والطحال، إلا أن يكون قد تقدم فيهما سدة قبل ذلك. وإن كان ذلك، لم يكن إضرار الهريسة بالعسل
دون إضرارها بغير عسل. وإن أمكن تزبيب الحنطة وهي طرية في سنبلها بالفوذنج النهري والنعنع، كان
أقل لغلظها وأسرع لانهضامها. وقد ينبغي أن نحذر استعمالها بشئ من السمن أو اللبن، فإن ذلك مما
يزيد في غلظها ولزوجتها وبعد انهضامها وبخاصة السمن لعدمه مائية اللبن التي في الزبد.



(1) الشبت: بقلة معروفة تطيب بها القدور. وهي الشمر أو قريبة منه، وتطلق على الرازيانج.
(2) هي القرفة، وهذه: قشر شجر يطبخ شرابا لذيذا. وهي نوعان: صينية وسيلانية. وسيأتي كلام المصنف عليها وعلى الشبت في
الجزء الثالث.
206
القول في الإطرية
أما الإطرية فغليظة لزجة بطيئة الانهضام والانحدار، تعقل البطن وتسد مجاري الكبد وتغلظ
الطحال الضعيف، وتولد الحجارة في الكلى والمثانة لأنها معمولة من عجين فطير، وكل عجين لا يكون
فيه خمير ولا ملح ولا يخمر تخميرا محكما (1) ويخبز في نار معتدلة، فليس سريع الانهضام، إلا أنها إذا
انهضمت وصارت إلى الدم، غذت غذاء كثيرا لغلظ الدم المتولد منها، ولزوجته. وإذا طبخت اكتسبت
رطوبة من الماء وصار مزاجها حارا رطبا، إلا أن رطوبتها أكثر من حرارتها. ولذلك صارت (2) ملينة
للصدر نافعة من السعال وأوجاع الرئة المتولدة عن الحرارة واليبوسة. وإذا طبخت مع الرجلة والبقلة
اليمانية أو القطف والقرع، نفعت من نفث الدم. وقد يستعملها الأصحاء كثيرا بدهن اللوز أو بالزيت
الانفاق والملح والفلفل ولحوم الدجاج، فيكون انهضامها وانحدارها أسرع منها إذا اتخذت باللحم
وحده، لان جميع ما ذكرنا زائد (3) في انحدارها. وينبغي لآكلها، إذا سلم من السعال ونفث الدم،
<أن> يتناول بعقبها النعنع والصعتر والفوذنج ويشرب عليها نبيذا مصرفا (4) أو عسلا مطبوخا بالأفاوي
العطرية، أو يأكل زنجبيلا مربى.



(1) في الأصل: تخمير محكم.
(2) بعدها في الأصل: (مولدة) ملغاة بشطبة.
(3) في الأصل: زائد.
(4) الصرف من الشراب: الخالص من كل شئ: المحض غير الممزوج.
207
القول في السميذ والجشيش المطبوخين
أما السميذ والجشيش (1) فإنهما إذا طبخا باللبن، ولدا (2) دما محمودا حسنا كثير التغذية من غير
إضرار، إلا أن يدمن استعمالهما، فيولدا سدة في الكبد وغلظا في الطحال وحجارة في الكلى والمثانة،
ولا سيما متى وافت مزاج الكلى حارا، إما بالطبع وإما بالعرض، من قبل أن كل مزاج حار إذا وافى
رطوبة لزجة، فلا بد للحرارة مما تطبخ اللزوجة وتحجرها، وبخاصة متى كانت مجاري الكلى ضيقة
بالطبع، لان الغذاء اللزج يبطئ فيها لغلظه ويولد سددا. ولذلك تتمكن الحرارة منه وتحجره. ومما
ينتفع به هي (3) النخالة إلى مثل هذه الحال مخالفة لمزاج الحار أصلا. وينبغي أن نعلم أن هذه
الأطعمة، أعني السميذ والجشيش حسنة الغذاء جدا، تولد دما محمودا إلا أن يدمن استعمالها.



(1) جش البر: طحنه طحنا خشنا، فهو جشيش. والجشيش من الأطعمة: حنطة تطحن طحنا غليظا وتطبخ باللحم أو التمر. ويقال
لها دشيشة. (معجم متن اللغة، مادة جشش).
(2) في الأصل: ولد.
(3) كذا في الأصل.
208
القول في الأخبصة وغيرها مما يتخذ من الدقيق
والعسل والزيت أو غيره من الادهان
أما جميع الأخبصة وسائر ما يتخذ من الدقيق والعسل والدهن، فعسيرة الانهضام جدا، بعيدة
الانحدار، سريعة الاستحالة إلى الفساد في المعدة، تولد دما غليظا وسددا في مجاري الكبد وغلظا في
الطحال وحجارة في الكلى والمثانة. فأما بعد انحدارها وعسر انهضامها، فلان الدقيق والزيت إذا اجتمعا
كانا عسيري الانهضام بالطبع، لان الدقيق في نفسه غليظ علك (1)، فإذا مازجته الدهنية واللزوجية،
وعملت حرارة النار فيه، ازداد غلظا وعسر انهضامه جدا.
وأما العسل فإنه، وإن كان سريع الانحدار لجلائه وتنقيته، فإنه (2) إذا طبخ زال عنه أكثر ذلك
لما يكتسبه من النار من الجفاف والغلظ. ولذلك وجب أن تتغير أفعال هذه الطعوم بحسب اختلاف
طبيعتها، من قبل أنها إذا طبخت طبخا بليغا حتى ينضج الدقيق نضجا تاما يلطف غلظه وتزول عنه
أكثر علوكته، فسد الزيت والعسل، وزال عن العسل لطافته وجلاؤه، وإن لم يبالغ في الطبخ بقي
الدقيق نيا كثير العلوكة واللزوجة. وأعظم هذه الأطعمة ضررا ما يتخذ منها بدقيق قوي (3) اللزوجة قليل
النخالة لأنه أعون على توليد السدد لالتزاقه بأفواه العروق الدقاق. ولذلك صارت هذه الأطعمة من أخص
الأشياء بالاضرار للكبد والطحال والكلى. وأما الصدر والرئة فغير مضرة بهما.



(1) في الأصل: غليظا علكا.
(2) كذا في الأصل، مكررة.
(3) (قوي) مستدركة في الهامش.
209
القول في القطايف
أما القطايف فكثيرة اللزوجة جدا مضرة بالكبد والطحال والكلى، لأنها تولد في عروقها سددا،
وتسد المنافس التي ينفذ منها الغذاء من المعاء إلى الكبد. فإذا انهضمت ولدت غذاء بلغمانيا من جنس
الخام، إلا أنها إذا استعملت بالعسل، دفع بعض ضررها لجلائه وتلطيفه.

210
القول في الزلابية
أما الزلابية فنوعان: أحدهما يسمى باليونانية ليارابا، والآخر هو المسمى بالزلابية على الحقيقة،
ومزاجهما جميعا بطيئا الانهضام، مضران بالكبد والطحال والكلى إضرارا قويا، وذلك لجهتين:
إحداهما: غلظ الزيت ولزوجته وبخاصة إذا كان مقلوا. والثانية: لزوجة الدقيق وعلوكته وبخاصة إذا قلي
في الزيت لأنه يزداد غلظا، ويصير بمنزلة الجلود التي قد نالها الماء. ولذلك صار مولدا في بطون
المدمنين عليه بلغما غليظا منعقدا ويسد أفواه العروق والمنافذ التي ينفذ فيها الغذاء إلى الكبد حتى أنه
كثيرا ما يعرض من ذلك في المعاء أمراض يعسر برؤها جدا، بل لا تزول ولا تتحرك حين يضطر
أصحابها إلى النفوذ بالأدوية الملطفة للفضول والأغذية والأشربة الكذلك. ومن أفضل ما استعين به على
تلطيف غلظها، اتخاذها من حنطة بيضاء رخوة خفيفة الوزن كثيرة النخالة قليلة اللباب. وتستعمل بالعسل
لان العسل يلطف ما يلقاه من الفضول. فإذا استعمل الزلابية بالعسل، تولد بينهما قوة مركبة من لطافة
العسل وغلظ الدقيق والزيت، وقل إضرارها بالكبد والطحال والكلى، إلا أن يكون قد تقدم في هذه
الأعضاء سدة أو غلظ قبل ذلك، لأنه إن كان قد نفذ من ذلك، لم يكن إضرار الزلابية مع العسل،
بدون (1) إضرارها إذا أخذت بغير عسل، بل يكون إضرارها بالعسل أكثر كثيرا. من قبل أن حاسة
الأعضاء تستلذها لعذوبة العسل وتجتذب منها مقدارا أكثر من لطافة فعل العسل في تلطيفه وقوة الطبيعة
على هضمه. وذلك أن فعل العسل في تلطيفه وقوة غلظ الأغذية مع غير الزلابية أقوى وأكثر منه مع
الزلابية، لما يخالطه من غلظ الدقيق المقلو بالزيت. وأردأ ما يستعمل من الدقيق المقلو بالزيت على ما
بينا وأوضحنا.



(1) أي بأقل من إضرارها.
211
القول في النشاستج
أما النشاستج (1) فهو في طبيعته بارد يابس. والدليل على برودته حموضته اليسيرة التي فيه.
والدليل على يبسه هشاشة جرمه وسخافته وسرعة تفتيته. إلا أنه غليظ بطئ الانحدار على المعدة
والمعاء، قليل الاستمراء. فإذا انهضم ولد دما ليس بالردئ. والغذاء المتولد عنه لزج لازوق. ولذلك
صار ملينا للمواضع الخشنة من الصدر والرئة مغر لما فيهما من السحوج (2) وملينا (3) للطبيعة تليينا
معتدلا، وإن كان دون الحنطة المهروسة المطبوخة، لان الحنطة المطبوخة أكثر تليينا للطبيعة وأغذى
للبدن. وما ينال البدن من غذاء النشاستج بالإضافة إلى غذاء الحنطة يسير جدا حتى أنه أقل غذاء من
اللباب المغسول بالماء، وذلك لجهتين: إحداهما: أن ليس في النشاستج من اللذاذة ما في الخبز
المغسول، والأخرى (4): أن اللباب أكثر رطوبة بالطبع، ولما يكتسب من رطوبة الماء، وإن كان
النشاستج أيضا إذا طبخ بالماء أكسبه الماء رطوبته.
وقد يتخذ النشاستج على ضروب من الصنعة فيحدث له أفاعيل كثيرة لصنوف من العلل. وذلك
أن منه ما يتخذ مفردا مطبوخا بالسكر واللوز المقشر من قشرته، ومنه ما يتخذ مع العدس، ومنه ما يتخذ
مع السميذ. وأما المستعمل منه مفردا مطبوخا بالسكر واللوز، فهو المعروف النافع من السعال اليابس
والرطوبات الرقيقة المائية المنحدرة من الرأس إلى الصدر والرئة، وذلك لجهتين: إحداهما: أنه بلزوجته
يغلظ الرطوبة المنحدرة من الرأس حتى يمكن الهواء أن يحملها ويخرجها بالنفث بسهولة، والثانية (5):
أن يغري منافس الصدر والرئة ومسامها حتى يلزق الرطوبة ويتبرأ منها ويحرق الهواء وينحدر منه إن كانت
رقيقة سيالة، أو يعوم على الهواء، أو يخرج بالنفث بسرعة، إن كان قد اكتسب من غلظ النشاستج ما



(1) سبق التعليق عليه ص 201.
(2) سحج وسجح الشئ. قشره. وفى معجم متن اللغة: السحج: (داء في البطن قاشر منه، وأحسبه كالاسهال المزمن).
(3) في الأصل: ملين.
(4) في الأصل: والآخر.
(5) في الأصل: والثالث.
212
يمكن الهواء أن يحملها ويخرجها بالنفث.
ومن الواجب على من أراد استعمال هذا الحسو المعروف بالحريرة أن يثبت في طبخه، ويحذر
استعماله قبل تمام نضجه ولا سيما إذا كان معمولا من حنطة زرقاء رزينة صلبة كثيرة اللباب قليلة القشر
والنخالة، لأنه كثيرا ما يغر صانعه حتى يتوهم أنه قد نضج وهو بعد لم يستكمل نضجه، فيصير
للمستعمل له مضرة بينة جدا، من قبل أنه إذا لم يكمل هضمه خارجا ويلطف، لم يقبل الهضم في المعدة
باطنا لغلظه وكثرة لزوجته. فمن أراد إحكام عمله وإتقان صنعته وإزالة غلظه، فليلقي (1) على كل أوقية
منه أربعين أوقية ماء عذب ويذيبه فيه حسنا، ويصفيه ويحمله على نار لينة، ويطبخه حتى يصير بمنزلة
الشمع المذاب، ثم يلقي فيه شيئا (2) من ملح مسحوق ويحركه حتى يذوب الملح ويصفيه ويستعمل بلوز
مقشر من قشره وسكر. فإذا كان قصد المستعمل التبريد أكثر من الجلي، جعل السكر الذي يستعمله معه
سكر طبرزد. وإن كان قصده للجلي أكثر، جعل السكر سكرا سليمانيا أو فانيدا أو عسلا منزوع
الرغوة. فإن احتاج أن يلقي فيه شيئا من زيت أو غيره من الادهان الموافقة لمزاج المستعمل له،
وللغل (3) التي يقصد تبريدها، لم يضر ذلك ولم يمتنع من سرعة نضجه. إلا أنه يجب أن يلقي فيه من
أول طبخه لينضج مع نضجه كاملا.
وأما ما يتخذ بالعدس فنافع من الاسهال المري وسحوج الأمعاء ونفث الدم إذا عمل هذا
المثال: يؤخذ من العدس المقشر من قشره جزء واحد ويغسل بالماء مرات ويعرك (4) في الماء كل مرة
عركا بليغا حتى يزول عنه وسخه وتبيض رغوته ويقل زبده، ثم يصير في قدر نظيفة ويلقى عليه عشرة
أمثال ماء عذب، ويجعل على نار جمر لينة. ويؤخذ من النشاستج جزء يسير ويلقى عليه مثل وزنه
أربعين مرة ماء عذب ويداف (5) فيه جيدا ويصفى ويحمل بماء حار ويلقى على النشاستج، ويطبخ
الجميع حتى يصير بمنزلة الشمع المداف، ثم يلقى عليهما شئ من ملح مسحوق ويحرك حتى
يذوب الملح ويصفى. ويستعمل في نفث الدم والاسهال المري وسحوج المعاء وقروحها. وأما ما
يستعمل منه مع السميذ، فيغذو غذاء حسنا، ويزيد في اللحم ويلين الأعضاء ويولد دما مركبا من قوتين
ممتزجتين، حرارة السميذ وبرودة النشاستج. إلا أنه يجب على كل من كان في كبده أو طحاله أو كلاه
سدة أو دمل أن يتوقى الاكثار منه، لأنه مخصوص بالزيادة في ذلك لغلظ السميذ ولزوجة النشاستج.
ولذلك صار كثيرا ما يورث المدمنين عليه دملا في الكلى وحصى في المثانة وبخاصة إذا وافى حرارة
الكلى زائدة، إما طبعا من البنية وإما عرضا مكتسبا. وقد ينفع النشاستج أيضا من سيلان المواد المنحل
إلى العينين، ومن القروح العارضة فيها إذا خلط مع أدوية العين النافعة في مثل ذلك.



(1) في الأصل: فيلقي.
(2) في الأصل: شئ.
(3) الغل: العطش. وان اشتد فهو الغلة.
(4) عرك عركا الأديم: دلكه.
(5) داف وأداف الشئ: أذابه في الماء وضربه فيه.
213
القول في الشيلم
وهو الزوان
الشيلم: هو قمح مضروب ينبت بين القمح في السنين الجدبة الفاسدة الهواء القليلة المطر.
ولذلك صارت له قوة حارة سمية تقرب من الأدوية الحادة الحريفة. ولذلك صار يهوس (1) ويسكر ويفعل
فعل أصول السوس، وإن كان فعله في ذلك أقوى لان ليس فيه لطافة أصل السوس. فإذا استعمل على
سبيل الدواء، خلط معه سويق (2) ومر وكندر (3) وزعفران، وتبخر به النساء لفتح أرحامهن وجلب الحبل.
وإذا طبخ بكبريت في غير محرق ولا مطبوخ، وعجن بخل، نفع من القوابن (4) الرديئة والبرص. وإذا
استخرج دهنه وطلي على القوابن، كان فعله أقوى من فعل دهن الحنطة السليمة التامة. وإذا طبخ
بشراب وزبل حمام وبزر كتان، حلل الأورام والخنازير (5) - وفى نسخة أخرى بدل زبل الحمام زبل
الحمار - وإذا طبخ مع قشر الفجل وحمل على القروح الخبيثة نقى عفونتها.



(1) هوس: حمل على الهوس. وهو دوران أو دوي بالرأس.
(2) هو الناعم من دقيق الحنطة والشعير. ويطلق أيضا على الخمر.
(3) الكندر: صمغ شجرة شائكة ورقها كالآس (يونانية).
(4) يريد جمع القوباء وهو داء معروف بالحزاز يتقشر ويتسع. وفى كتب اللغة جمعها قوب.
(5) الخنازير: قروح صلبة تكون في الرقبة.
214
القول في الخندروس
وهو الذي يعمل منه سويق السلت
قال جالينوس في تفسيره لكتاب (أفيديميا) (1): أن الخندروس هو شعير رومي. وقال في كتاب
(العقاقير البسيطة): أنه حب مزاجه شبيه (4) بمزاج الحنطة. وغذاؤه شبيه (2) بغذائها في الجودة، إلا أنه
أشد لزوجة منها. ولذلك صار غذاؤه أكثر، وتغريته للصدر أزيد، ومقاومته لحموضة الخل وملوحة ماء
البحر وما شاكلهما من الأشياء المجففة تجفيفا قويا وإبطاله لفعلها، أقوى وأشد.



(1) ذكره في الفهرست، مما فسره جالينوس من كتب بقراط: أبيديميا.
(2) في الأصل: شبيها.
215
القول في الشعير
أما الشعير فبارد يابس في الدرجة الأولى، له لطافة وتخليل مع جلاء يسير، إلا أنه يجفف تجفيفا
أكثر من تجفيف الباقلي بيسير. ولذلك صار غذاؤه أحمد من غذاء الباقلي في خلة واحدة لأنه معرى من
توليد النفخ إذا أحكم صنعته وإنضاجه. والباقلى فليس كذلك لأنه لزيادة رطوبته، صار توليده للنفخ
خاصة فيه غير مفارقة (2) له ولا زائلة عنه كيف كان طبخه وعلى أي وجه كان استعماله، لان جوهره أغلظ
من جوهر الشعير وأكثر رطوبة. ولذلك صار غذاؤه أكثر من غذاء الشعير بالعرض لا بالطبع، من قبل أنه
لغلظه وبعد انحلاله من الأعضاء، يقوم لها مقام الكثير من الغذاء.
والشعير، فجوهره وغذاؤه، وإن كان أكثر من جوهر الباقلي وغذائه، فإنه للطافته (2) وسرعة
انحلاله من الأعضاء، يقوم لها مقام اليسير من الغذاء، لان الأعضاء تخلو منه بسرعة لقلة لبثه فيها،
فيفتقر إلى غذاء غيره من قرب. ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن الغذاء المتولد من الشعير دون
الغذاء المتولد عن الحنطة والأرز. وأما روفس فقال: إن الحنطة والشعير أغذي الحبوب وأحمدها دما،
إلا أن الحنطة أغذي من الشعير وأقوى وأبعد انهضاما، والشعير أقل غذاء وألطف وأسرع انهضاما لقلة
لزوجته وعلوكته وكثرة نخالته وقشوره.
ولعل ظانا يظن أن بين القولين اختلاف في المعنى، كما بينهما اختلاف في القول. والامر ليس
كذلك، لان غرضهما جميعا واحد، واتفاقهما على معنى واحد. غير أن جالينوس تكلم من حيث ما هو
لها بالعرض، وروفس من حيث ما هو لها بالجوهر والطبع. وذلك أنا إذا أضفنا غذاء الأرز والشعير إلى
ما هو لهما بالعرض، وجدنا الأرز أكثر غذاء لغلظه وطول لبثه في الأعضاء وبعد انحلاله منها، ولطافة
الشعير وسرعة انهضامه وقلة لبثه في الأعضاء وقرب انحلاله منها. وذلك أن في الشعير قوة يجلو بها،
ويلطف ويخلل. ويستدل على ذلك من عذوبته وقلة لزوجته وكثرة قشره ونخالته. وقد بينا مرارا أن



(1) في الأصل: مفاوقة.
(2) في الأصل: للطافة.
216
النخال أسخن بالطبع وأكثر تخليلا وأقوى جلاء، والدقيق أقل إسخانا (1) وأكثر غذاء، ذلك لجفاف النخال
واستحصافه ولزوجة الدقيق وعلوكته. ولهذا صار الشعير إذا طبخ بقشره كان أكثر جلاء وإطلاقا للبطن
وأقل تبريدا وتغذية. وإذا طبخ بغير قشره، كان أكثر تبريدا وتغذية وأقل جلاء وإطلاقا للبطن
ولجالينوس في الشعير والباقلى (2) قول قال فيهما على سبيل الدواء: إن الشعير والباقلى لما كانا
قليلي الانحراف عن المزاج المعتدل، صار أكثر الناس يستعملهما (3) في أشياء كثيرة على سبيل الدواء،
كاستعمال الشمع والدهن، من قبل أن الأغذية التي سبيلها سبيل الشعير والباقلي تخلط كثيرا مع الأغذية كما
يخلط الشمع والدهن في المراهم والضمادات.
وقد ينقسم الشعير في جوهره وغذائه على ثلاثة ضروب، من قبل أن أنواعه ثلاثة: لان منه نوع
مكتنز رزين أسمر حسن السطح، إذا قشرته وجدت له كثافة وتلززا (4) دالا على كثرة لبابه وجوهره وقلة
قشره ونخالته وبعد انهضامه. ويدل على ذلك بعد انتفاخه في الماء إذا طبخ. ومنه نوع آخر أبيض
ممتلئ خفيف أملس السطح ممتد القشر، إذا قشرته رأيت فيه تخلخلا وسخافة تدل على قلة لبابه
ولزوجته وكثرة نخالته وسرعة انهضامه. ويدل على ذلك أيضا سرعة انتفاخه في الماء إذا طبخ فيه. ومنه
نوع ثالث دقيق ضامر، له سطح حسن منسنج قليل البياض جدا، دال على أنه لم يستكمل نضجه على
نباته. ولذلك شبهه الأوائل بالزوان من القمح. ولهذه الخصلة صار مذموما جدا لا يصلح لشئ من
التغذية. ويدل على ذلك أنه لا يفتقع (5) في الماء إذا طبخ ولا يزيد أصلا.
والأول من هذه الأنواع أفضل لعمل الخبز، لان فيما يداخله من الخمير والملح، وما يلحقه من
إحكام الصنعة في عجنه وعركه وتخميره وإنضاجه بنار معتدلة، ما يزيل عنه أكثر لزوجته وغلظه ويكسبه
جودة غذاء وسرعة انهضام. وأما النوع الثاني الأبيض السمين الأملس السطح الممتد القشر، فإنه أفضل
لعمل الحسو وأحمد، لأنه لسخافته وتخلخله، يداخله الماء بسرعة ويربو وينتفخ فيه إذا طبخ، فتزول عنه
لزوجته وغلظه. ولذلك قال الفاضل أبقراط: إن أفضل الشعير لعمل الكشك، ما كان أبيض ممتد،
أملس السطح، ممتد القشر سخيف الجسم كثير التخلخل ذكي الرائحة، متوسط بين القديم والحديث،
لان الحديث فيه رطوبة فضلية زائدة في لزوجته مانعة من انتفاخه وانحلاله في الماء إذا طبخ به، لان
الماء لا يداخله لغلظه ورطوبته الجوهرية، وصيره قحلا جافا عسير الانتفاخ والانحلال في الماء إذا طبخ
به، لان الماء لا يداخله لاستحصافه وكثافته.
ولذلك صار أفضل الشعير ما له مدة صالحة في موضع جاف غير ندي لينشف الهواء رطوبته
الفضلية ويجففها ويتخلخل جسمه وتقل لزوجته، ولا يكون للحسو المتخذ منه لزوجة يعسر بها انهضامه



(1) في الأصل: إسخان.
(2) (الباقلي) مضافة في هامش الأصل.
(3) في الأصل: يستعملها.
(4) أي شدة وتجمعا.
(5) أي لا ينشق. وقد يكون مراده أنه لا ينتفخ.
217
ويقل جلاؤه وتخليله. وقد يستعمل (1) الشعير على ضروب من الصنعة، فتختلف قواه وأفعاله في البدن
حتى أنه ربما برد الأبدان ورطبها، وربما أسخنها وجففها، وربما لم يكن له تأثير بين في ترطيب الأبدان
وتبريدها. فأما ما يتخذ من الشعير لترطيب الأبدان وتبريدها بالحسو المتخذ منه، وذلك أن (2) الشعير إذا
قشر من قشره وطبخ بماء كثير وصفي وشرب، اكتسب من الماء رطوبة يرطب بها الأبدان ويبردها ويقطع
العارض لها.
وأما ما يجفف الأبدان من الشعير، والسويق المتخذ منه، (ف‍) لان السويق المتخذ منه، من
الشعير يكتسب من النار يبوسة وجفافا، ويجفف تجفيفا قويا، إلا أن ينقع في ماء حار ساعة ويغسل
بالماء البارد مرات عداد حتى يربو وينتفخ غاية الانتفاخ، وليشرب بماء كثير ليكتسب من الماء برودة
ورطوبة يزول بها أكثر تجفيفه المكتسب من الماء، ويقوى على تسكين الحرارة وقطع العطش.
وأما ما لا يجفف من الشعير ولا يرطب، والخبز المستعمل منه، فإنه ليس له فعل في ترطيب
الأبدان ولا تجفيفها، من قبل أن الصنعة لم تكسبه رطوبة ولا أفادته يبوسة، لان الرطوبة التي كان اكتسبها
من الماء الذي عجن به، قد أزالتها عنه قوة فعل النار. فهو إذا غير مرطب للأبدان ولا مجفف لها.
وقد يستعمل حسو الشعير على ضربين: لان منه ما يستعمل للاصحاء. ومنه ما يستعمل
للمرضى. والذي يستعمل منه للاصحاء، فعلى هذا المثال: يؤخذ الشعير فينقع في ماء عذب وقتا
يسيرا، ثم ينحى من الماء ويصير في هاون حجر ويجعل معه شئ خشن، إما ملح وإما غيره ويدق حتى
ينفش (3) قشره عنه، ويجفف وينشف بحالته ويؤخذ مقدار الحاجة ويغسل بالماء العذب مرات كثيرة حتى
يتنظف ويصير في قدر برام (4) ويلقى عليه من الماء لكل كيل منه خمسة (4) عشر كيلا، ويغطى القدر
بغطاء ويطين الوصل الذي بين الغطاء وبين القدر بعجين أو بغيره، ويطبخ حتى يصير إلى غاية انتفاخه،
ويأخذ في الانحلال والذوبان، وينحى عنه الغطاء ويحرك بعود من شبت حتى ينحل الشعير ويصير هو
والماء شيئا واحدا، ولا يحرك قبل أن يلين ويسترخي ويقارب النضج كيلا تتكسر أطرافه الدقاق ويحترق
قبل تمام نضجه ويصبر عليه إلى أن يذهب منه أربعة أخماسه ويبقى الخمس، ثم يلقى فيه شئ من
ملح مسحوق، ويحرك حتى يذوب الملح وينزل عن النار ويصفى ويشرب.
فإن قصد المستعمل له تغذيته للبدن فقط، فيلقي معه في الابتداء أصل الكراث أو عود شبت
ويطبخها معه. وإن كان قصده مع تغذية البدن تطفئة الحرارة وتسكينها، القي فيه شئ من خل. وإن
كان قصده الزيادة في لبن النساء ألقي فيه شئ من بزر الرازيانج. وإن كان مزاج المستعمل له محرورا،



(1) (وقد يستعمل) مكررة في الأصل.
(2) (وذلك أن) هنا في مقام (فلان).
(3) أي خرج عنه وانفصل.
(4) في كتب اللغة: البرمة: القدر تنحت من الحجارة، جمع برام وبرم وبرم.
(5) في الأصل: خمس.
218
جعل مع بزر الرازيانج شيئا من بزر الخشخاش الأبيض. ومن (1) أدمن استعمال ذلك من الناس، لم
يضره ذلك في توليد الدم المحمود، ولم يكن مقصرا عن غذاء الخبز في الجودة. وأما الماء المتخذ من
حسو الشعير للمرضى، فإنه يختلف على ضروب: لان كل واحد من المرضى يستعمله على حسب
حاجته إليه، وذلك أن من احتاجه لقطع العطش وتسكين حرارة الكبد والتهابها، كان من الأفضل (2) أن
يتخذه سلاجا (3) على هذا المثال: يؤخذ من الشعير المقشر من قشره جزء ويغسل بالماء مرات وينظف
ويلقى عليه من الماء، إذا ألقي في القدر، الكيل الواحد عشرة أمثاله ويغطى القدر أو يطين الوصل
بعجين. وتؤخذ قدر أخرى ويلقى فيها من الماء، مثل الماء الذي في القدر الأولى ويحمل الجميع على
النار. وتكون النار التي تحت القدر التي فيها الشعير أقوى، والنار التي تحت القدر الأخرى ألين،
ليسخن الماء فقط ويطبخ الشعير حتى يبلغ غاية إنضاجه ويقارب النضج، وينحى الغطاء عنه وتنظف
رغوته ويلقى عليه الماء الذي في القدر الأخرى قليلا قليلا، مرة بعد مرة، ويطبخ حتى لا يبقى من
الماءين إلا الخمس، ثم يلقى فيه شئ من ملح مسحوق ويحرك حتى يذوب الملح وينزل عن النار
ويصفى ويشرب.
فإن كان المستعمل له يحتاج، مع تسكينه للحرارة وقطعه العطش، أن تكون له قوة على جلاء ما
في المعدة أكثر، وإدراره للبول أغزر، وإطلاقه للبطن أزيد، فيستعمله بقشره على هذا المثال: يؤخذ
الشعير بقشره ويغسل ويعرك في جوف الماء عركا كثيرا حتى تنكسر أطرافه، ويغسل بالماء مرات ويصير
في قدر ويلقى عليه عشرة أمثاله ماء، ويغطى بغطاء ويطين الوصل بعجين ويحمل على النار حتى يقارب
الغليان، ويغلى غليتين أو ثلاثا، وينحى ذلك الماء عنه، ويلقى عليه مثل كل كيل الماء الأول، ماء حار
ويغطى بغطاء ويطين الوصل بعجين ويحمل على النار ويصير بالقرب منه مثلي كل الماء الذي على
الشعير ماء حار في قدر أخرى، ويطبخ الشعير حتى يتفطر ويتشقق، وينحى الغطاء عنه ويلقى عليه من
الماء الذي في القدر الأخرى قليلا قليلا حتى لا يبقى من الماءين إلا السدس، ثم يلقى فيه شئ من
ملح مسحوق ويحرك حتى يذوب الملح وينزل عن النار ويصفى ويشرب.
فإن كان المستعمل له محتاجا إلى إطلاق بطنه، وكره استعماله بقشره، لما في القشر من فضل
الحرارة وزيادة اليبس، فليأخذ من حسو الشعير السلاج المحكم الصنعة على ما وصفنا مقدار نصف
رطل ويحل فيه، وهو حار الترنجبين (4) الأبيض والبنفسج المربى، من كل واحد أوقية ويمرس
ويصفى ويشرب. فإن أراد أن يكون إطلاقه للبطن أقوى، فيطبخ مع الشعير ورق البنفسج اليابس قدر



(1) في الأصل: وإن. وما أثبتناه يتفق وظاهر السياق.
(2) في الأصل: من الأصل.
(3) استلج الشراب وتسلجه: ألح في شربه كأنه ملا به سلجانه أي حلقومه.
(4) كلام المصنف عليه ص من هذا الجزء.
219
أوقية، ويصفيه ويحل فيه من الترنجبين الأبيض أوقية، ويصفى ويشرب. فإن أراده لأوجاع الصدر
والسعال حل فيه بنفسج مربى وشربه. فإن أحب أن يكون تليينه للصدر أقوى، طبخ معه سبستان (1)
وعناب وحب سفرجل مقشر مسحوق، وحل فيه بنفسجا (2) مربى وشربه. فإن أراده لتنقية الفضول الغليظة
من صدور المسلولين، طبخ معه سرطان بحري قد نقى كل ما في جوفه ورمى برأسه ورجليه، ويطف (3)
جيدا مع الشعير حتى ينضج ثم يصفى ويشرب بعسل أو سكر على حسب مزاج المستعمل له. وإن
أراده لتفتيح سدد الكبد والطحال، طبخ معه قشور أصل الرازيانج وقشور أصول الكرفس وشربه
بالسكنجبين، وتوقى العسل والسكر كيلا تستلذه حاسة الكبد فتجذب إليها أكثر من مقدار الطاقة على
هضمه، فتبقى منه بقية في أفواه العروق الدقاق، فيكون ذلك سببا قويا لتوليد السدد وللزيادة فيها إن كان
قد تقدم حدوثها قبل ذلك. وإن أراده لحبس البطن فيقشره من قشره ويجففه وينشف نخالته ثم يحمصه
جيدا حتى يحمر ويطحنه برحى اليد وينخله ويأخذ سميذه وجشيشه ويلقي عليه لكل كيل خمسة عشر
كيلا ماء ويطبخ على مثال ما وصفنا من عمل حسو الشعير الساذج ويصفى ويشرب.
وقال ديسقوريدوس في حسو الشعير: إنه مدر للبول، جلاء لما في المعدة من الفضول الغليظة،
إلا أن نفخا (4) يسيرة، بها صار مضرا للمعدة. والدليل على جلائه، أنه إذا شربه من كان في معدته فضل
بلغماني ثم تقيأ بعده، جلا ذلك البلغم وأخرجه بالقئ. وإن أخذ دقيق الشعير وعجن بالماء وحمل على
ظاهر البدن أو طلي به الكلف، غسل ظاهر البدن من الأوساخ ونقى الكلف. ففي هذا دليل على أن
كشك الشعير، وإن كان في منظره لزجا، فإنه في نفسه غير لازوق ولا ممسك، ولكنه مغر فيه جلاء
وتنقية للأوساخ ويليين الأورام الحارة. وإذا خلط دقيق الشعير بشئ من سفرجل مدقوق وعجنا بخل،
وعمل منهما ضماد، كان نافعا من الأورام الحادة العارضة من النقرس. وإذا خلط بإكليل الملك (5) وبزر
خشخاش، سكن أوجاع الجنب. وإذا طبخ مع التين، حلل الأورام البلغمانية. وإذا خلط ببزر كتان
وحلبة وشئ من سذاب (6) وعمل منه ضماد، نفع من النفخ العارضة في المعاء. وإذا استعمل مع ورق
الآس والشراب والكمثرى البري وثمر العليق، وعمل منه ضماد، عقل البطن (7). وإذا طبخ بخل ثقيف،
وحمل على الجرب المتقرح، أبرأ منه - وفي نسخة أخرى: إذا حمل على البرص -.



(1) هو الدبق: نبات من فصيلة الحمحميات. أنواعه سبعة، تستعمل في الطب وفى صناعة دبق الطير.
(2) في الأصل: بنفسج.
(3) طفف بالشئ موضع كذا: دفعه إليه. وطفف عليه: اشتمل عليه.
(4) في الأصل: نفخ.
(5) إكليل الملك: نوعان من النبات أحدهما: ورقه كورق الحلبة، نوره أصفر في طرف كل غصن منه إكليل كنصف دائرة، وهو
المعروف بأقداح زبيدة. وثانيهما: ورقه كورق الحمص، له قضبان كثيرة تنبسط على الأرض، زهره أصفر وأبيض، في كل
غصن أكاليل صغار مدورة.
(6) السذاب: نبات قوي الرائحة، أزهاره صغيرة جدا. له فوائد طبية، لكن استعماله عظيم الخطر.
(7) أي أمسكه.
220
في سويق الشعير
أما سويق الشعير، فليس له من الفضيلة في توليد الدم المحمود وحفظ الصحة ما لكشك
الشعير، لان غذاءه يسير جدا مجفف، وإن كان قد يمكن أن يغذو من (1) كان قارا ساكنا لا تعب له ولا
رياضة لان رطوبة بدن الانسان الذي هذه حاله، تعدل جفاف الشعير. وأما أهل التعب والرياضة ومن
كان بدنه جافا قليل الرطوبة، فإنه مقصر عن تغذيتهم كثيرا. والفرق بين غذاء سويق الشعير وبين غذاء
خبز الشعير، كالفرق بين غذاء خبز الشعير وبين غذاء خبز الحنطة، لان نقصان سويق الشعير عن غذاء
خبز الشعير، كنقصان غذاء خبز الشعير عن غذاء خبز الحنطة. والسبب في نقصان سويق الشعير عن
غذاء خبز الشعير...
(2) في كيفيته جافا وهو أيضا مع ذلك قليل الدقيق كثير النخالة، والنخال في ذاته
يابس جاف. وإذا قلي الشعير، ازداد جوهره يبسا وجفافا، وفنيت أكثر رطوبته وقلت (1) تغذيته للبدن، لان
الرطوبة أولى بتغذية البدن من اليبوسة. والسبب في نقصان غذاء خبز الشعير عن غذاء خبز الحنطة، أن
الحنطة في ذاتها أرطب وأكثر لزوجة وعلوكة، والشعير في ذاته أجف وأميل إلى اليبس. ولذلك صار
غذاؤه بالإضافة إلى غذاء القمح أقل كثيرا.
وأفضل الشعير لعمل السويق ما كان حديثا، لان في الحديث رطوبة فضلية. فإذا قلي اشتغلت
النار بالعمل فيها لسيلانها وانقيادها لفعل النار، وبقيت الرطوبة الجوهرية بحالها لانعقادها لفعل النار.
وأما الشعير القديم، فإن رطوبته الفضلية قد زالت عنه بدوام فعل الهواء فيه. فإذا قلي ولم تجد النار
رطوبة فضلية تشتغل بها عن الرطوبة الجوهرية، لم تجد بدا من أن تفعل في الرطوبة الجوهرية وتفني
أكثرها وتصيره قحلا جافا خارجا عن حد ما يغتذى به. ولذلك وجب ألا يتخذ السويق إلا من شعير



(1) في الأصل: فإن. وبها يضطرب الكلام.
(2) بياض في الأصل مقدار كلمتين. ولعلها: (كون الشعير).
221
حديث، ويقلى قليا كيما تبقى رطوبته الجوهرية فيه، وتكون رائحته رائحة ذكية طيبة.
وقد يستعمل سويق الشعير على ضروب من صنعته، فتظهر منه أفاعيل مختلفة وذلك أن منه ما
يستعمل وحده ساذجا ومنه ما يستعمل مع غيره. وما يستعمل وحده (1) يستعمل على ثلاثة ضروب: وذلك
أن منه ما يحل بالماء ويشرب من غير أن ينقع ولا يغسل. وما كان على هذا المثال، كان غذاؤه أكثر،
وانهضامه وانحداره أعسر، وتوليده للرياح والنفخ أزيد، وإسخانه للأبدان أقوى، وتجفيفه للرطوبات
وعقله للبطن أكثر. ومنه ما ينقع في الماء ساعة ثم يغسل بالماء مرات حتى يصير إلى غاية انتفاخه وتزول
عنه أكثر رياحه ونفخه، ويبتل جرمه ويلين ويكتسب من الماء برودة ورطوبة يقوى بها على تسكين
الحرارة وقطع العطش وسرعة الانحدار وتليين الطبيعة. إلا أن غذاءه يقل كثيرا لكثرة ما يتحلل من
جوهره في الماء الذي يغسل به (2). ومنه ما يغسل بالماء مرات حتى يبلغ غاية انتفاخه ثم ينقع وقتا
طويلا ويصفى ويشرب الماء الذي يصفى عنه، فيكون تبريده للأبدان أقوى وتسكينه للعطش أكثر
وانحداره أسرع وتليينه للبطن أزيد، إلا أن غذاءه يكون قليلا نزرا. وقد يستعمل الناس السويق في
الصيف كثيرا على هذا المثال الذي قدمنا ذكره لأربع ساعات من النار أو خمس، يقصدون به تسكين
الحرارة وقطع العطش.
وأما ما يتخذ من السويق مع غيره، فيكون على ضربين: لان منه ما يتخذ مطبوخا، ومنه ما يتخذ
غير مطبوخ بماء (3) ويسير من لبن حليب وخشخاش أبيض محمص، ويشرب (4) لسحوج الأمعاء الحادثة
عن حدة المرة الصفراء، لأنه يسكن حدة الفضل الداعي لكثرة القيام (5)، ويجلب النوم. إلا أنه يجب أن
يتوقى الاكثار منه وبخاصة إذا كان المستعمل له ضعيفا لأنه زائد في الضعف وسقوط القوة، مانع من
درور البول.
وأما ما يتخذ غير مطبوخ، فيستعمل على ثلاثة ضروب: لان منه ما يؤخذ بالعسل أو بالسكر،
ومنه ما يشرب بالشراب، ومنه ما يشرب باللبن، ومنه (6) ما يشرب بالعسل، فإن العسل يفيده حرارة
وإسخانا ويزيد في جلائه وإطلاقه للبطن ويزيل عنه رياحه ونفخه، إلا أنه يقل غذاؤه. وما يتخذ بالسكر،
فإنه يفعل فعل العسل في جودة الجلاء وإطلاق البطن وقلة الرياح والنفخ، إلا أنه دونه في الاسخان وقلة
الغذاء. وأما الذي يشرب بالشراب، فإنه يكتسب خمرية وعطرية تعينه على نشف رطوبات المعدة وتقوية
جرمها وجرم المعاء ويقطع الاسهال الكائن عن ضعف القوة الهاضمة في المعدة والكبد جميعا. وأما ما



(1) قبلها في الأصل: (مع) ملغاة بشطبتين.
(2) في الأصل: منه.
(3) يبدو أن ثمة انقطاع في الكلام هنا. ومفاده: (أما ما يتخذ منه مطبوخا فيطبخ بماء..).
(4) يستقيم السياق مع القول: (ويشرب، فينفع لسحوج..).
(5) يرجح هذا احتمال أن يكون السحوج من قبيل الاسهال المزمن، كما سبقت الإشارة إليه.
(6) كذا في الأصل وفيه تكرار. والصواب القول: (أما) بدل (ومنه).
222
يشرب باللبن، فإنه ما يفعل أفاعيل مختلفة على حسب طبيعة اللبن المستعمل معه، لان اللبن متى كان
من ماعز، كان إطلاقه للبطن أعدل وتغذيته للبدن أحمد. وإن كان اللبن من البقر، كان تبريده للبدن أكثر
وإطلاقه أقل. وإن كان اللبن من نعاج كانت (1) تغذيته للبدن أزيد وإطلاقه للبطن أكثر. وإن كان اللبن
لبن لقاح، كان إسخانه للبدن أكثر وإطلاقه للبطن أزيد.
وأما خبز الشعير، فقد كنا بينا فيه: أن غذاءه أقل من غذاء خبز الحنطة لان لزوجته وغلظه أقل
من لزوجة الحنطة وعلوكتها. ولهذا صار أسرع انهضاما وأسهل انحدارا عن المعدة والمعاء. وإن كان
ذلك قد يختلف فيه على حسب اختلاف جوهر الشعير، لان ما كان منه (2) يتخذ من شعير مكتنز خشن
السطح ثقيل الوزن، ومنه ما يتخذ من شعير أبيض ممتلئ خفيف الوزن أملس السطح ممتد القشر.
فالذي كان منه متخذا من شعير مكتنز خشن السطح ثقيل الوزن، كان غذاؤه أكثر وانهضامه أبطأ، ذلك
لفضل لزوجته على غيره من الشعير. وما كان متخذا من شعير أبيض ممتلئ خفيف الوزن أملس ممتد
القشر، كان غذاؤه أقل انهضامه أسرع، ذلك لخفته وقلة لزوجته.
وقد يتخذ من الشعير شراب، كما يتخذ للفقاع (3) إلا أنه يولد خلطا رديئا مصدعا للرأس، مضرا
بالأعضاء وحجب (4) الدماغ والكلى. وكذلك الفقاع يفعل هذه الأفاعيل، إلا أنه مدر للبول. وإذا أنقع
العاج في الفقاع، سهل عمل العاج وصنعته.



(1) في الأصل: كان.
(2) لعل صوابها: (لان منه ما).
(3) الفقاع: الشراب يتخذ من الشعير أو من الأثمار. سمي به لما يعلوه من الزبد.
(4) الحجاب هنا: جلدة رقيقة تحجب الدماغ وغيره عن سائر الأعضاء.
223
القول في الأرز
قال جالينوس: إن أكثر الناس يستعملون الأرز لقطع الاسهال، وليس فعله ذلك بقوي، لكنه
ضعيف لان الذي فيه من القبض يسير جدا. وأكثر ذلك في قشره الأحمر الذي يلي جسمه. ولذلك صار
الأرز الأحمر أشد قبضا وأحبس للبطن من الأبيض. والأرز في طبيعته ومزاجه حار في الدرجة الأولى،
يابس في الثانية. ويستدل على حرارته من جهتين: إحداهما: من طبعه، والأخرى: من تأثيره وفعله.
فأما الاستدلال على الحرارة بالطبع... (1) ولذلك صار يجلو جلاء حسنا. ويستدل على جلائه
بتنقيته لظاهر البدن إذا طلي عليه من خارج. وأما الاستدلال على حرارته من تأثيره (ف‍) لأنا نجده دائما
يحمي الأبدان للمحرورين ويلهبها. والغذاء المتولد عنه ليس بحسن الجوهر، إلا أنه بإضافته إلى غذاء
الذرة والجاورس، كان أكثر تغذية، وإن كان بإضافته إلى الحنطة أقل تغذية. وأما الشعير فإنه بإضافته
إلى الأرز بالطبع أقل تغذية لكثرة جوهر الشعير ولبابه. وبإضافته إليه بالعرض أكثر تغذية، ذلك لغلظه
وبعد انحلاله من الأعضاء، ولطافة الشعير وسرعة انحلاله.
فأما يبس الأرز، فيستدل عليه من جهتين: إحداهما: من فعله، والأخرى: من انفعاله. فأما من
فعله، فإنا نجده دائما موافقا للجراحات وفى الهواء الرطب والبلدان الكذلك. وأما من انفعاله، فإنا
نجده عسير الانهضام في المعدة بعيد الاستمراء والنفوذ في العروق من غير لزوجة ولا علوكة. وقد
يستعمل على ضروب من الصنعة، فيفعل أفاعيل مختلفة، وذلك أن منه ما يطحن ويطبخ كما يطبخ
النشاستج ويستعمل، فيغذو غذاء صالحا. إلا أنه دون غذاء النشاستج لأنه أقل لذاذة. ولذلك صار
استمراؤه استمراء النشاستج. ومنه ما يطبخ وهو صحيح حتى يتهرأ ويصير بمنزلة الكشك ويستعمل لمن
كان صحيح البدن ممن يجد لذعا في معدته وسائر أمعائه، ولمن كان به إسهال من فضول كثيرة الغالب
عليها المرار بعد أن يكون صاحبه سليما من الحمى. فإن أراد مريد أن يزيل عنه تعفن يبسه ويعدل



(1) بياض في الأصل مقدار نصف سطر.
224
غذاءه ويكثره، فلينتقعه في ماء نخال السميذ يوما وليلة، أو في لبن حليب، ثم يطبخه بشئ من دهن
اللوز الحلو ويستعمله بشئ من سكر طبرزد، فإن ذلك مما يقل يبسه ويزيل بعض عقله للبطن، ويحسن
غذاؤه ويجوده ويفيده زيادة في المني. فإن كره أحد اتخاذه باللبن وأراد أن يزيد في إطلاقه للبطن،
فليصير عوضا من اللبن ماء لب القرطم المطبوخ.
ومن خاصة الأرز أن ماءه يدبغ (1) المعدة ويجلو جلاء حسنا. والدليل على ذلك، أنا نجده ينقي
الجلد من الأوساخ إذا أغتسل به. وإذا طبخ بماء النخال باللبن على ما وصفنا، زاد في المني زيادة بينة.



(1) أي يلينها ويزيل ما بها من رطوبة ونتن.
225
القول في الجاورس والدخن
أما الجاورس فبارد في الدرجة الأولى، يابس في آخر الدرجة الثانية، أو قريب من الثالثة.
ويستدل على يبسه من خفته وتجويف جسمه وقحله. وذلك أن ليس فيه لدونة ولا لزوجة ولا دسم يجمع
بجسمه، إلا أن فيه لطافة يسيرة. وإذا تناوله الانسان على سبيل الغذاء، كان غذاؤه أقل من سائر
الحبوب التي يتخذ منها الخبز، لان الدم المتولد عنه قليل جاف (1) غير محمود، إلا أنه ليبسه، صار
مقويا للمعدة ولسائر الأعضاء. ولذلك صار حابسا للبطن. وزعم ديسقوريدوس أنه يدر البول. وإذا قلي
وحمل على البطن وهو حار، نفع من المغص. ولما ذكرنا من قلة غذائه وكثرة قحله وجفافه، وجب أن
لا يستعمله من كان محتاجا إلى أن يزيد في بدنه دما محمودا. ولا يستعمله أيضا إلا من كان محتاجا إلى
أن يبرد معدته، ويجفف رطوبتها، ويقويها.
وأما الدخن ففي (2) منظره شبيه (3) بالجاورس وقوته شبيهة بقوته، إلا أنه أقل غذاء منه وأكثر
تجفيفا. ولذلك صار الجاورس في جميع أحواله أفضل لأنه ألذ طعما وألين جسما وأقل في عسر
الانهضام من الدخن، والدخن أقل منه غذاء، وأكثر جفافا وقحلا. ولذلك صار أقل لذاذة وأعسر انهضاما
من الجاورس. إلا أن فعله في حبس البطن أقوى كثيرا. وقد يتخذ كل واحد منهما على ضروب من
الصنعة فيختلف فعله وغذاؤه، وإن كان الجاورس أفضل في كل حال. وذلك أن منه ما يخلط معه دسم
أو زيت، ومنه ما يطبخ باللبن الحليب، ومنه ما يطبخ بماء نخالة السميذ ودهن اللوز. وأفضل ما يستعمل
بالدسم والزيت لان ذلك مما يزيل عنه قحله ويفيده لذاذة وحسن غذاء وسرعة انحدار، إلا أنه يبطل
خاصيته وفعله في حبس البطن لما يكسبه من الزلق والليانة. وأما ما يطبخ في اللبن الحليب أو بماء



(1) في الأصل: قليلا جافا.
(2) في الأصل: في.
(3) ذكر في التاج: الدخن بالضم: (الجاورس)، كما في الصحاح وفى المحكم. (حب الجاروس أو حب أصغر منه أملس جدا).
(مادة دخن).
226
النخال ودهن اللوز، فهو في صنعته أيضا أفضل وأحمد مما يطبخ بالماء وحده. إلا أن ما يطبخ بماء
النخال ودهن اللوز أكثر جلاء وأسرع انحدارا وأطول لبثا في الأعضاء. وما يطبخ باللبن فهو ألذ طعما
وأفضل غذاء وأحمد، وإن كانا جميعا يولدان دما محمودا ويزيلان فعله في حبس البطن.
وأما ما يطبخ منهما بالماء الساذج، فيكون على ضربين: لان منه ما يطبخ صحيحا بعد أن يقشر
من قشره، ومنه ما يطبخ ماؤه الذي يمرس فيه دقيقه فقط. فأما ما يطبخ منه صحيحا، فإنه يقشر من قشره
ويغسل (1) ويلقى على الكيل الواحد خمسة عشر كيلا ماء عذب، وهذا تقدير ديوجانس للماء الذي يصب
عليه، ثم يطبخ حتى يصير هو والماء شيئا واحدا (2)، ويطيب بيسير ملح ويستعمل. وما كان كذلك، كان
غليظا عسير الانهضام جدا بعيد القبول للتمشية والاستحالة، حتى أنه كثيرا ما يثقل على الحاسة من غير
أن يتغير تغيرا حسيا. وما كانت هذه حاله، وجب أن تكون له قوة على حبس البطن، لأنه (3) يثقل المعدة
ويتعبها ويمنعها تخليته من غير أن ينضج ولا ينهضم. وإذا انحدر إلى المعاء أذاها وهيجها إلى دفعه
وإخراجه بسرعة، وزالت عنه خاصة في حبس البطن.
وأما الذي يطبخ منه ماؤه الذي يمرس فيه دقيقه فقط، فهو أن يؤخذ الجاورس أو الدخن فيقشر
من قشره ويطحن طحنا بليغا ناعما، ثم يؤخذ منه جزء، ويلقى عليه عشرة أمثاله ماء حار ويغلى ويحرك
جيدا ويترك حتى يتمكن مرسه ويمرس ويصفى ويحمل ماؤه على النار ويحرك دائما حتى ينضج ويصير
إلى السدس ويلقى عليه يسير من ملح محمص مسحوق، ويحرك حتى يذوب الملح، وينزل عن النار
ويصفى ويشرب. وما كان كذلك، كان ألطف كثيرا وأسرع انهضاما وأقوى على حبس البطن، ذلك
لخفته على القوة واحتمالها له، إلا أن غذاءه يكون أقل كثيرا.



(1) (ويغسل) مستدركة في الهامش.
(2) في الأصل: شئ واحد.
(3) في الأصل: لان.
227
القول في الباقلي
الباقلي في طبيعته مائل إلى البرودة، إلا أن أنواعه غير متفقة في الرطوبة واليبوسة، لان منها ما
الغالب عليه الرطوبة، ومنها ما الغالب عليه اليبوسة. وذلك أن أنواعه تكون على ضربين: لان منها ما هو
رطب طري لم يستكمل نضجه حسنا على نباته. ومنها اليابس المستحكم النضج والجفاف على نباته.
فما لم يستكمل نضجه على نباته، فهو بارد في وسط الدرجة الأولى، رطب في آخرها، من قبل أن فيه
رطوبة فضلية غليظة لم يكمل انهضامها وانعقادها، ولم تتشبه بجوهرية الباقلي. ولذلك صار غذاء هذا
النوع من الباقلي أقل وأميل إلى الرطوبة الغليظة السريعة الانحدار العسيرة الانهضام. والسبب في قلة
غذائه أن أكثر جوهره يستحيل فضولا لغلظ رطوبته وفجاجتها، وبعدها من جوهرية الغذاء. وأما سرعة
انحداره عن المعدة، فلما فيه من كثرة الرطوبة الفضلية وقوة الجلاء. ويستدل على جلائه من عذوبته،
وإن كان ذلك فيه أقل من اليابس. ومن خاصيته أنه يولد في كل البدن فضولا غليظة مائلة إلى الرطوبة
النافخة الاسفنجية، ويحدث رياحا نافخة في أعلى البطن. ولذلك صار إضراره بالمعدة بينا قويا.
وأما ما قد استحكم نضجه وجفافه على نباته، فإنه بارد في أول الدرجة الأولى، يابس في
وسطها، له جوهر قريب من الدم المحمود، لان الدم المتولد عنه غير مذموم. وغذاؤه أكثر من غذاء
الشعير بالعرض لا بالطبع، وذلك لجهتين: إحداهما: غلظ جوهره وبعد انحلاله من الأعضاء، ولطافة
جوهر الشعير وسرعة انحلاله من الأعضاء. والثانية: أنه لكثرة رياحه وغلظها، ينفخ اللحم ويزيد في
سعة موضعه، ويفعل فيه فعل الخمير في العجين. وذلك أن جسمه سخيف متخلخل الوزن، ولذلك لا
يمكن أن يتولد عنه لحم كثير كثيف ملزز كما يتولد من الحنطة واللحمان وبخاصة لحم الخنزير
والخراف. لكنه يولد لحما منفوشا منفوخا، ولهذه الجهة صار كثيرا ما يتولد عنه في أعلى البطن رياح
غليظة نافخة يترقى منها دائما بخارات متصاعدة إلى الرأس تضر بالدماغ، ويولد أحلاما رديئة فاسدة.
ولما كانت هذه الأفعال فيه طبعا، لم يمكن إزالتها عنه ولو عولج بأصناف العلاج وطبخ غاية
الطبخ. ولذلك قال جالينوس: أن الباقلي لو طبخ غاية الطبخ، لم تذهب عنه رياحه ونفخه كما يذهب

228
نفخ الشعير عنه إذا طبخ، لان الشعير للطافة جوهره إذا أحكم طبخه، زالت عنه نفخه ورياحه جملة.
والباقلى فلغلظ (1) جوهره، صار لو عولج بأصناف العلاج، لم تزل عنه رياحه ونفخه إلا أنها تقل وتكثر
على حسب ما يلحقه من الصنعة. وسنبين ذلك في استكمالنا هذا الباب إن شاء الله ويستدل على غلظ
رياح الباقلي وبعد انحلاله مما يعرض لآكله من التمدد والازدحام وانتفاخ الجنبين عند استعماله، وإن
كان المستعمل له صحيحا.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن من يفقد حاله حتى يقف على ما يعرض له من اختلاف
الحال عند تناول الأطعمة الغليظة، وقف على أنه، عند أكله الباقلي، في بدنه كله تمددا يدله على أن
ريحا (2) غليظة نافخة تهدد الأعضاء ولا سيما فيمن لم يعتد أكله، أو من أكله وهو غير محكم الصنعة.
وله فيه قول آخر: إن الباقلي على سبيل الغذاء أشد نفخا وأعسر انهضاما، وعلى سبيل الدواء معين على
نفث الرطوبات من الصدر والرئة، لان فيه من الجلاء شبيه بما في الشعير. ولذلك صار غير مولد للسدد
ولا يبطئ في انحداره عن المعدة وسائر البطن، كما تبطئ الأطعمة الغليظة الفاعلة الجلاء، مثل
الجشيش والسميذ وما شاكلهما. ويستدل على جلائه من جهتين: إحداهما: عذوبته وقربه من الحلاوة.
والثانية: معونته على نفث الرطوبات من الصدر والرئة وتنقيته لظاهر البدن إذا طلي عليه من خارج وتليينه
للبشرة. ولذلك صار نافعا من الكلف محللا طلى (3) أورام الثديين والأنثيين (4). وكثير (5) ممن يحب الزينة
يكثر الاغتسال به دائما لينقي بشرته ويحسن لونها. وكل هذه الفضائل فإنها هي في جوهره ولبابه المميز من
قشره. وأما قشره، فبعيد من ذلك جدا لان قوته قابضة ليس فيها شئ من الجلاء. ولذلك صار كثير (4)
من الناس يطحنون الباقلي بقشره بالخل ويطعمونه لمن كان به إسهال عن ضعف القوة الماسكة التي في
المعاء.
والمختار من الباقلي ما كان عظيما أبيض حديثا غير عتيق ولا مأكول (6). وقد يتخذ الباقلي على
ضروب من الصنعة، فتحدث له في غذائه أفاعيل مختلفة. وذلك أن منه ما يتخذ مطبوخا، ومنه ما
يستعمل مسلوقا، ومنه ما يشوى مدفونا في جوف جمر، ومنه ما يقلى على مقلى أو على طابق (7).
فأفضل الباقلي وأحمده ما كان مطبوخا لان الماء الذي يطبخ فيه يفيده رطوبة ويلطف غلظه ويزيل عنه
أكثر رياحه ونفخه ويسرع انهضامه وانحداره، ولا سيما إذا سلق بالماء ورمي بمائه الذي سلق فيه،
وطبخ بماء ثان، لان أكثر رياحه يزول في الماء الأول، وإن كان ذلك ناقصا من لذاذته وطيب طعمه.
وقد يستعمل هذا الضرب أيضا على جهتين: لان منه ما يطبخ بقشره، ومنه ما يطبخ بغير قشره. فغليظ (8)



(1) في الأصل: فلغظ.
(2) في الأصل: ريح.
(3) الطلى، جمع أطلاء: الشديد المرض.
(4) الأنثيان: الخصيتان.
(5) في الأصل: كثيرا.
(6) أي لم يتسوس.
(7) إناء يطبخ فيه.
(8) ثمة انقطاع في الكلام هنا. وواضح أن كماله: (فأما ما يطبخ بقشره، فغليظ..).
229
بطئ الانهضام عسير الانحدار كثير الرياح والنفخ، لان عفوصة قشره وقوة قبضه تمنعه من الانحدار
بسرعة. وإذا تعذر انحداره ولبث وقتا طويلا كثرت رياحه ونفخه ضرورة.
وأما ما يطبخ بغير قشره، فيستعمل على ضربين: لان منه ما يطبخ صحيحا، ومنه ما يطبخ
مطحونا. والذي يطبخ مطحونا يتخذ على ضربين: لان منه ما يستعمل وحده ساذجا، ومنه ما يستعمل
مع الشعير. والذي يتخذ وحده فعلى هذا المثال: يؤخذ <من> الباقلي كيل ويلقى عليه من الماء
عشرة أمثاله ويطبخ بنار لينة حتى يكمل نضجه، ثم يطيب بشئ من ملح ويستعمل. وما كان كذلك، كان
قليل النفخ سريع الانهضام. فإن استعمل على سبيل الحسو، وكان معه ما يسخن مثل الدار فلفل
والزنجبيل والزيت أو دهن اللوز، كان زائدا في المني والباه (1) جميعا، لان الزيادة في الباه تحتاج إلى ما
اجتمعت فيه ثلاث خصال: أحدها: ما كان غذاؤه كثيرا حسنا زائد الرطوبة. والثانية: ما كانت رياحه غير
نافخة. والثالثة: ما كانت حرارته قوية لان الغذاء الحسن الكثير الرطوبة زائد في المني، وكثرة الرياح
والنفخ زائدة (2) في الانعاظ لان الرياح تدخل في جداول القضيب وينفخها ويورمها وتصلب القضيب،
وزيادة الحرارة منه الحراة الغريزية (3)، ويزيد في الشهوة. وفى الباقلي خلتان من هذه الثلاث خلال:
أحدها: حسن الغذاء وزيادته، ورطوبته. والأخرى: كثرة النفخ والرياح. وإنما يعوزه الحرارة فقط. فإذا
خلط معه الزنجبيل والفلفل وما شاكلهما من الأشياء المقوية للحرارة، أفاده ذلك حرارة وكملت فيه
الخلال الثلاث (4)، وصار دواء جامعا معينا على الجماع.
وأما ما يطبخ من الباقلي ومن الشعير، فيستعمل على هذا المثال: يؤخذ من دقيق الباقلي جزء
ويقلى عليه عشرة أمثاله ماء ويسلق سلقة جيدة. ويؤخذ من جشيش الشعير جزء ويلقى عليه مثله
خمس عشرة (5) مرة ويغطى ويطين الوصل الذي بين الغطاء والقدر بعجين، ويطبخ حتى يلين. وينزع
الغطاء عن القدر ويلقى عليه دقيق الباقلي المسلوق بعد أن يصفى ماؤه عنه وهو حار قبل أن يبرد،
ويطبخها جميعا حتى ينضجا نضجا كاملا وتلقى في القدر حبات ملح مسحوق ويحرك حتى يذوب الملح
ويستعمل. وما كان كذلك، كان غذاؤه أفضل ومزاجه أعدل وانهضامه أسرع ورياحه ونفخه أقل.
وأما ما يطبخ صحيحا من غير أن يطحن، فيتخذ على ضربين: أحدهما: يؤخذ من الباقلي
المقشر جزء ويلقى عليه من الماء إثنا عشر جزءا، ويطبخ حتى يقارب النضج، وتلقى فيه حبات ملح
ويطبخ حتى يصير بمنزلة العسل الثخين (6). ومن الناس من يلقي على كل جزء عشرين جزءا ماء. وما



(1) الباه والباهة: النكاح. وقيل أنه الحظ من النكاح.
(2) في الأصل: زائد.
(3) كذا في الأصل. وفى السياق اضطراب.
(4) في الأصل: الثالث.
(5) في الأصل: خمسة عشر.
(6) ثخن وثخن الشئ: كثف وصلب وغلظ، فهو ثخين.
230
استعمل كذلك كان قريبا من الباقلي المطحون المطبوخ، إلا أنه أفضل لأنه أقل رياحا منه، لزيادة فعل
النار فيه ولا سيما إذا استعمل بالفوذنج والصعتر والكمون. والثاني: يؤخذ من الباقلي المقشر جزء وينقع
في ماء عذب إنقاعا بليغا، وينحى عنه ذلك الماء ويلقى عليه من الماء مثليه خمس عشرة (1) مرة ويطبخ
حتى ينتفخ غاية انتفاخه وينحى ذلك الماء عنه أيضا ويلقى عليه ماء حار قد أعد له قبل أن يهراق (2) الماء
عنه ويلقى عليه بسرعة قبل أن يناله الهواء فيغلظه ويمنع من نضجه، ويطبخ مع حبات من ملح مسلوق،
ويحرك دائما حتى ينطحن ويذوب ويصير هو والماء شيئا (3) واحدا. وما كان على هذه الصنعة، كان أقل
أنواع الباقلي رياحا ونفخا وأسرعها انهضاما لان كثرة رياحه ونفخه قد زالت عنه في الماء الأول والثاني،
إلا أنه يعدم لذة الباقلي المطبوخ طبخة واحدة.
وأما المسلوق من الباقلي، فإنه ينقع بدءا في ماء عذب ثم ينحى ذلك الماء عنه ويرش عليه في
كل يوم ماء جديد ويغطى بثياب مبلولة بالماء أياما حتى ينبت (4) وينتفخ غاية انتفاخه، ثم يسلق ويؤكل
على ضروب شتى: لان منه ما يؤكل بقشره، ومنه ما يؤكل بغير قشره. وما يؤكل بقشره، فأغلظ وأبعد
انهضاما وأكثر رياحا ونفخا وقراقر. وذلك لما في القشر من الغلظ والصلابة وكثرة القبض وبعد
الانهضام. وما يؤكل منه بغير قشره، فهو ألطف وأسرع انهضاما وأحمد غذاء إلا أنه يستعمل على
ضروب: لان منه ما يؤكل بالماء الذي يسلق به مع شئ من ملح وصعتر وكمون، ويؤكل بخل وكرويا
وملح وصعتر وزيت أنفاق. ومنه ما يلقى عليه مري وصعتر وزيت أنفاق وكرويا وسذاب، إلا أنه وإن
كان لا يخلو من رياح نافخة، فإن أخذ ما يتخذ منه لاصلاح غذائه، أن يستعمل بمائه الذي سلق به بعد
أن يهراق الماء الأول الذي يسلق فيه بدءا، ويسلق بماء ثان (5) بشئ من ملح وصعتر وكرويا وسذاب
وكمون وزيت أنفاق، لان ذلك مما يصلح غذاءه ويزيد في سرعة انهضامه.
وأما ما يؤكل منه بالخل والزيت والصعتر والكرويا، فإنه أغلظ وأبعد انهضاما، إلا أنه أكثر تطفئة
وتبريدا وتقوية للمعدة. وأما ما يؤكل منه بالمري والزيت والكرويا والسذاب، فأسرع انهضاما وانحدارا،
إلا أنه يعطش ويولد دما فيه حدة. وأما ما يشوى من الباقلي، فإنه وإن كان في ذاته غليظا بطئ
الانحدار، فإنه ألطف وأسرع انهضاما (6) من المقلي على الطابق لان النار تباشر جسمه وتلطف غلظه
وتفيده هشاشة ورخاوة وتعينه على حبس البطن، لأنه يحتاج إلى رطوبة كثيرة يبتل بها قبل أن ينهضم (7).



(1) في الأصل: خمسة عشر.
(2) أهراق يهريق الماء: أراقه فهو مهريق. والشئ مهراق.
(3) في الأصل: شئ.
(4) أي يطرى وسلين.
(5) في الأصل: ثاني.
(6) هنا في الأصل يتكرر القول: (وانحدارا، إلا أنه يعطش... وأسرع انهضاما).
(7) في الأصل: انهضم.
231
ولذلك <فهو> ينشف رطوبة المعدة ويجففها. وأما المقلي على الطابق. فإنه أبعد انحدارا من
المشوي وأعسر انهضاما، إلا أنه أقل رياحا ونفخا وبخاصة إذا تقدم في إنقاعه بالماء ساعة قبل أن
يقلى، لان النار تفعل في رطوبته المكتسبة من الماء لتفنيها رويدا رويدا لبعدها من جرمه وقلة مباشرتها
له، فتقل لذلك رياحه ونفخه. ولهذا السبب، لبثها فيه، ولبعدها منه، صلبت جرمه وغلظته، فبعد
انهضامه وعسر انحداره. فإن ألقي <فيه> بعد كمال نضجه شئ من ماء وملح وكمون وقليل من فلفل
وزنجبيل وصعتر وفوذنج، زاد ذلك في قلة رياحه ونفخه، وأكسبه سرعة انهضام وانحدار.
وديسقوريدوس يقول في الباقلي: إن الباقلي الحديث أردأ للمعدة من الباقلي العتيق، لان
الحديث أكثر نفخا ورياحا. وإذا خلط بدقيق الحلبة وعمل منه ضماد، حلل الأورام العارضة في أصل
الاذن وما يعرض تحت العين من كمود لون الموضع. وإذا خلط بالورد والكندر (1) وبياض البيض (2)، نفع
من نتو (3) الحدقة. وإذا قشر ومضغ وجعل منه ضماد على الجبين منع من سيلان الفضول إلى العين.
وإذا طبخ بشراب وحمل على الأنثيين، حلل أورامها. وإذا ضمد بدقيقه على عانة (4) الصبيان، أبطأ
احتلامهم. وإذا دق قشره وضمدت (5) به المواضع التي ينبت فيها الشعر، خرج ما ينبت فيها من الشعر
رقيقا ضعيفا. وإذا شقت الباقلي بنصفين وحملت أنصافها على المواضع التي علق عليها العلق، قطعت
الدم المنبعث منها. وإذا حمل دقيق الباقلي وحده أو مع سويق على أورام الثديين التي قد تعقد فيها
اللبن، حلل أورامها ومنع درور اللبن وقطعه. وإذا خلط دقيق الباقلي بسويق وشئ من شب (6) وزيت
عتيق وحمل على الخنازير، حللها. والماء الذي يطبخ به الباقلي بقشره يصبغ الصوف.



(1) الكندر: صمغ شجرة شائكة ورقها كالآس (يونانية).
(2) في الأصل: البياض.
(3) نتا نتوا ونتوا العضو: ورم. ونتا الشئ: عظم.
(4) هي منبت الشعر في أسفل البطن.
(5) في الأصل: وضمد.
(6) الشب: ملح معدني قابض لونه أبيضا ومنه أزرق.
232
القول في العدس
العدس في الجملة بارد في الدرجة الأولى، يابس في الدرجة الثانية. والغالب على جرمه القحل
وعدم اللدونة واللزوجة أصلا. إلا أنا إذا بحثنا عن تفصيله، وجدناه مركبا من قوتين متضادتين:
إحداهما: في قشره، والأخرى: في جوهر جرمه، لان في قشره حرافة يسيرة بها يهيج البطن للانطلاق
وفى (2) جوهر جرمه قوة قابضة مقوية للمعدة مانعة للاسهال المري. ولذلك صار الانسان إذا طبخه
بقشره وصفاه وأخذ ماءه (2) وطيبه بمري أو ملح وزيت عذب وشربه، أطلق طبيعته لما في ذلك الماء من
الحدة المكتسبة من قشر العدس. وإذا طبخه ونحى عنه ماءه (2) الأول وطبخه بماء ثان (3) قل (4) إسهاله
للبطن، لان حرافة القشر قد زالت عنه في الماء الأول. وإن قشره من قشره قبل أن يطبخه، وسلقه سلقة
جيدة ونحى ذلك الماء عنه، ثم طبخه بماء ثان (3) صار ألطف وأسرع انهضاما وأقوى على قطع الاسهال
المري من قبل أن حدة القشر قد زالت عنه بزوال القشر، وانفرد بقوته القابضة.
وأما الغذاء المتولد عن العدس بالجملة، فغذاء غليظ عسير الانهضام بطئ الانحدار، يولد دما
يقرب من المرة السوداء وبخاصة إذا طبخ بقشره. ولذلك صار يملا دماغ المدمن عليه بخارات غليظة
من جنس السوداء ويصدع ويحدث أحلاما رديئة، ويملأ المعدة والمعاء رياحا نافخة، ويولد سوداء
وتمددا وانحصارا في الطبيعة، للمصارعة التي تقع بين قشره وبين جوهر جرمه لما بينهما من التضاد.
ولهذا صار من أخص الحبوب بالاضرار بالمعدة والرئة والحجاب الفاصل وحجب الدماغ وسائر
الأعصاب والحجب وبخاصة حجب العين لأنه يجفف رطوباتها بقحله وجفافه، ويحيدها عن الاعتدال،



(1) عبارة (في قشره... للانطلاق وفى) مستدركة في الهامش.
(2) في الأصل: ماؤه.
(3) في الأصل: ثاني.
(4) في الأصل: أقل.
233
ويحدث في البصر الصحيح، فضلا عن العليل، ضعفا إلا أن يكون في العين آفة من رطوبة فضلية،
فيكون تجفيفه لتلك الرطوبات نافعا، ولما فيه من فضل التجفيف، صار حابسا للبول والطمث جميعا ولا
سيما إذا كان بغير قشره، لان جوهر جرمه أشد قبضا وتبريدا. فهو لقوة برده وتجفيفه، يبرد دم الطمث
ويجمعه ويغلظه ويعسر سلوكه في عروق الرحم ومجاريها حتى يبطئ فيها.
والمطبوخ من العدس بقشره مضر بمن كان مزاجه يابسا، ومهيج للعلل السوداوية، مثل البهق
الأسود، والقوابي، والسرطانات، وداء الفيل (1)، وداء الأسد، وإن كان قد ينتفع به من كان مزاجه
مرطوبا. ولذلك صار المقشور منه نافعا لمن كان به استسقاء (2).
وأما ما كان بقشره، فهو من أضر الأشياء لمن كانت هذه حاله لما يتولد منه من الرياح والنفخ
والانزمام والاضرار بالعصب. وأفضل العدس ما كان حديثا لم يمض عليه من الزمان ما يفني رطوبته
الجوهرية ويزيد في قحله وجفافه، ويكون مع ذلك أيضا عريضا ممتلئ الداخل إذا أنقع في الماء وقتا
لم يسود الماء الذي ينقع فيه. وإذا طبخ صار نضجه سريعا، لان ما كان نضجه خارجا سريعا، كان
انهضامه باطنا سريعا. وما كان نضجه خارجا بطيئا، كان انهضامه باطنا بطيئا. وقد يستعمل العدس على
سبيل الدواء والغذاء جميعا.
فأما استعماله على سبيل الدواء فيكون لثلاثة وجوه: إما لتقوية القوة الماسكة التي في المعدة
وقطع الاسهال المري، وإما لتقوية المعدة وإسخانها، وإما لتليين البطن. فمن أراده (3) لتقوية القوة (4)
الماسكة وقطع الاسهال، فليقشره من قشرته ويسلقه سلقة وينحي ماءه عنه ويلقي عليه ماء حار ويطبخه
ثانية بشئ من خل، أو ماء حصرم أو ماء رمان حامض، وقضبان الرجلة والبقلة المعروفة بلسان الحمل
والسفرجل والكمثرى والتفاح المز والزعرور، فإن ذلك كله مما يعين على تقوية القوة الماسكة، ونفع
الاسهال المري. ومن الواجب أن يلقى الخل عليه في الوقت الذي يلقى عليه الماء الثاني، حتى
ينطبخ الخل معه نضجا كاملا، وتنقمع قوته اللذاعة، لأنه إن لم ينضج نضجا كاملا، لذع المعدة والمعاء
بحدته ويفتحها لدفع ما فيها وزاد في الاسهال.
ومن أراده لتقوية المعدة وإسخانها، فيجعل بدل الخل شراب ريحاني عفص. ومن أراده (1)
لتليين البطن، فيطبخ معه سلقا وقطفا وقرعا أو خبازي أو البقلة المعروفة بالملوخية.
وأما على سبيل الغذاء فيكون على ضروب: منه ما يتخذ ساذجا باللحم الطري، ومنه ما يتخذ



(1) داء الفيل: أن تتورم الساق كلها وتغلظ.
(2) الاستسقاء: أن ينتفخ البطن وغيره من الأعضاء ويدوم عطش صاحبه.
(3) في الأصل: أراد.
(4) قبلها في الأصل، (المعدة) ملغاة بشطبة.
234
بالشعير، ومنه ما يتخذ بقضبان السلق، ومنه ما يتخذ باللحم المكسود (1). فأما ما يطبخ ساذجا باللحم
فعلى هذا المثال: يؤخذ اللحم فينظف ويصير في قدر ويلقى عليه من الماء غمره مرتين. ويؤخذ العدس
ويغسل ويلقى عليه من الماء العذب عشرة أمثاله. وتحمل القدر على النار، ويجعل عليها غطاء. فإذا
غلى الماء الذي فيه اللحم وارتفعت رغوته، نزعتها بمغرفة مثقبة حتى يتنطف (2) الماء ويصفو ويلقى عليه
بعد ذلك كسبرة رطبة وبصل وأعواد شبت وأصل كراث مقطع. فإذا ربا العدس وانتفخ غاية انتفاخه
وقارب النضج، نحيت ذلك عنه وغسلته بماء حار وألقيته على اللحم بسرعة قبل أن يناله برد الهواء
فيصلبه ويمنعه من النضج، ويطبخ حتى يقارب النضج، ويطيب بكسبرة يابسة وخل وشئ من فلفل
وكمون وفوذنج ونعنع وصعتر، فإن ذلك مما يزيل عنه أكثر رياحه ونفخه ويسهل انحداره، وربما عذب
بشئ من السكر فيزيد ذلك في ضرره، لان الحلاوة مع الأغذية الغليظة تولد سددا وغلظا في الكبد لان
الأعضاء تستلذ العذوبة وتجذب منها مقدارا أكثر، فإذا كان معها طعام غليظ تعذر انهضامه وعسر نفوذه
في العروق ولبث في أفواه العروق زمانا، وولد سددا وغلظا. وربما طبخ بغير خل، فيكون ذلك أيضا
زائدا (3) في ضرره، لان الخل يقطع غلظه ويعين على انهضامه.
وأما ما يطبخ من العدس بالشعير، فإنه أعدل مزاجا وأقل ضررا لان ليانة الشعير وسرعة انهضامه
يزيل عن العدس أكثر قحله وجفافه، فيتولد بينهما غذاء عجيب محمود يسميه الأوائل كشك العدس، إلا
أنه لا ينبغي أن يكون مقدار الشعير والعدس مقدارا واحدا، لان الشعير من شأنه أن يربو وينتفخ ويذوب
وينحل في الماء. ولذلك يقوم المقدار القليل منه مقام الكثير من العدس. ولهذا ما وجب أن يكون
مقدار الشعير نصف مقدار العدس، ويعمل على هذا المثال: يؤخذ من الشعير المقشر المنسوف من
القشر والنخال جزء فيغسل بالماء وينظف ويلقى عليه مثل كيله عشرون مرة ماء، ويغطى القدر بغطاء،
ويطين الوصل بعجين أو بغيره، ويحمل على نار جمر. ثم يؤخذ من العدس المقشر جزء ويغسل وينظف
ويلقى عليه عشرة أمثاله ماء، ويغطى القدر ويحمل على النار. فإذا قارب النضج وربا وانتفخ الشعير غاية
انتفاخه، نزعت رغوته ونحي نفاؤه (4) عنه وغسل بماء حار وألقي العدس على الشعير بسرعة قبل أن يناله
برد الهواء ويطبخان حتى يصيرا جميعا والماء شيئا واحدا، ثم يلقى عليهما شئ من ملح مسحوق
ويحرك حتى يذوب الملح وينزل عن النار ويستعمل. وربما جعل فيه، في وقت ما يلقى العدس على
الشعير، صعتر وفوذنج جبلي وبستاني ونعنع وفلفل وكمون وزيت انفاق ودهن لوز، فيكون ذلك زائدا في
سرعة انهضامه، ومانعا من غلظه وضرره. وأما المياسير (5) وأهل النعم، فكثيرا ما يجعلون فيه عسلا



(1) المكسود: نوع من اللحم المملح أو المقدد. اسمه بالتركية: (باصدرمه). وحرفه العرب فجعلوه باسطرمه. وفصيحه: الوشيق.
(2) نطف الماء: سال قليلا قليلا.
(3) في الأصل: زائد.
(4) أي نفايته.
(5) المياسير، جمع موسر: الأغنياء.
235
وغيره من الحلاوة، وليس ذلك بالمحمود ولا بالطائل (1)، لان ذلك يعينه على توليد السدد والغلظ في
الكبد والطحال. فإن كان قد تقدم فيهما جشأ (2)، كان ذلك زائدا فيه. وقد يفعل مثل ذلك أيضا إذا خلط
معه..
(3).
وأما ما يتخذ من العدس بالسلق، فيلحقه الاعتدال من وجه آخر، لأنه يتولد بينهما قوة تعين على
إطلاق البطن لان الغذاء المتولد منهما مركب من قوتين: من ملوحة السلق، وقبوضة العدس. فهما
مركبان أسرع من العدس انهضاما وانحدارا، وإن كانا أقل من السلق، مفردا، انحدارا. إلا أن استعمال
العدس مع الشعير أفضل كثيرا، للفضل الذي لغذاء الشعير على غذاء السلق، لان فضل الشعير مع
العدس هو توليد الدم المحمود والغذاء الفاضل وتليين صلابة العدس وقحله. وفضل السلق مع العدس
إنما هو معونته على تليين البطن فقط. وأما الغذاء المتولد بينهما، فليس بالمحمود لأنه يقرب من المرة
السوداء.
فإن عارضنا معترض بقشر العدس، وقال: فإذا كانت (4) فضيلة السلق مع العدس إنما هي (5)
لتليين البطن فقط، فلم كانت هذه الفضيلة لقشر العدس مع العدس أيضا؟ لما في قشر العدس من
المعونة على إطلاق البطن. قلنا له: إن هذا الكلام يفسد من جهتين: إحداهما: أن قشر العدس له جرم
كثيف صلب قحل عسير الانهضام بعيد من الغذاء، لا غذاء له أصلا. ولذلك صار زائدا في غلظ
العدس وبعد انهضامه. ولهذه الجهة صار العدس إذا أخذ بقشره، حدث بينهما مصارعة ومجاذبة حتى
يعرض من ذلك أمغاص ورياح نافخة مؤلمة مؤذية. وجرم السلق فلطيف ملين جلاء سريع الانهضام
والانحدار، يغذو غذاء يقرب من الرطوبة. ولذلك صار العدس معه غير مذموم. والثانية: أن قشر العدس
إنما يعين الاطلاق لحدة فيه وحرافة، والسلق يفعل ذلك بإذابة وتلطيف وإزلاق. ولذلك صار أفضل من
قشر العدس كثيرا.
وأما ما يتخذ من العدس باللحم المكسود، فمذموم جدا بين الفساد لان اللحم المكسود في
نفسه غليظ بطئ الانهضام قليل الرطوبة محرق للدم، بقوة ملوحته، مولد للفضل الحاد السوداوي.
والعدس فقد اكتفى بفساده من غيره، بل هو محتاج إلى ما يلطفه ويفيده ليانة واعتدالا. واللحم المكسود
فيفيده رداءة وفسادا (6) لغلظه وعسر انهضامه وإحراقه للدم وإضراره بالمعدة، لاتعابه (7) لها بغلظه وتلذيعه
لها بحدته وحرافته. ولذلك صار من أضر شئ يستعمل مع العدس، ولا سيما إذا كان العدس بقشره.



(1) النافع والفاضل.
(2) جشأت النفس جشأ وجشأ وجشوءا: جاشت وثارت للقئ.
(3) بياض في الأصل مقدار كلمة.
(4) في الأصل: كان.
(5) في الأصل: هو.
(6) في الأصل: فساد.
(7) في الأصل: لاتعابها.
236
فإن أراد مريد استعماله باللحم المكسود مع كشك الشعير، كان أقل لضرره وأصلح لغذائه.
وأما اللحم القريب العهد بالتمليح، فلا بأس أن يستعمل مع اللون المعروف بكشك العدس
المتخذ من العدس والشعير جميعا على ما بينا آنفا. ومن أفضل ما عولج به لدفع ضرره، أن ينحى عنه
قشره ويسلق سلقة جيدة ويرمى بمائه الذي يسلق به، ويطبخ بماء ثان (1) ويطيب بالخل والحبق الجبلي
والصعتر والنعنع والفلفل والكمون والزيت الانفاق، أو دهن اللوز، أو دهن خل. وقال ديسقوريدوس في
العدس: أنه إذا خلط مع إكليل الملك وسفرجل ودهن ورد وحمل على العين، حلل أورامها الحادة.
وإذا (2) حمل على أورام المعدة، فعل مثل ذلك. وإذا خلط مع قشر الرمان والورد اليابس وطبخ مع
عسل، نفخ من قروح المعدة وأورامها العظام، ونفع من تنفط (3) البدن والحمرة والشقاق العارض من
البرد. وإذا طبخ بماء البحر، نفع من الثدي الوارم من تعقد اللبن.



(1) في الأصل: ثاني.
(2) (وإذا) مكررة في الأصل.
(3) نفطت اليد: قرحت ومجلت، أو تجمع فيها بين الجلد واللحم ماء من الكد في العمل. وعند العامة: فقللت.
237
في العدس الذي يكون على وجه الماء
المعروف بالطحلب
هو أبرد من العدس كثيرا، إلا أنه رطب في برودة، ورطوبته في الدرجة الثانية. ولذلك صار نافعا
من الحمرة والأورام والنقرس الحار إذا ضمد به وحده، أو مع سويق الشعير. وإذا حمل على قيلة (1)
الصبيان أصغرها.
في الحبة المعروفة بالمبقية
زعم جالينوس في كتابه (في العقاقير البسيطة): أن هذه الحبة لها قوة قابضة كقوة العدس، وتؤكل
كما يؤكل العدس، إلا أنها أعسر انهضاما وأقوى تجفيفا.



(1) القيلة: الأدرة، انتفاخ الخصية.
238
القول في الماش
الماش بارد في الدرجة الأولى، متوسط بين اليبوسة والرطوبة، وإن كان إلى اليبس أميل قليلا، وفى
قشره قبض وعفوصة. والمقشر منه يولد خلطا فاضلا، وليس هو بنافخ ولا مولد للرياح مثل الباقلي، إلا أن
غذاءه أقل من غذاء الباقلي وأبعد انحدارا لأنه أقل رطوبة. ولجالينوس فيهما فصل قاله: إن الماش في
طبيعته مشاكل لطبيعة الباقلي إلا في خلتين: إحداهما: أنه لا ينفخ مثل الباقلي، والثانية (1): أنه لا يولد
رياحا كما تولد الباقلي. وأحمد الأوقات التي يستعمل فيه الماش، زمان الصيف، وفى المزاجات الحادة
والأوجاع الكذلك. ومن خاصته أنه إذا ضمدت (2) به الأعضاء المرضوضة، جبرها وسكن آلامها وبخاصة
إذا عجن بمطبوخ.
وقد يتخذ على ضروب من الصنعة، فينفع من علل شتى. وذلك أن من أراد استعماله للنوازل
والسعال وأوجاع الصدر، اتخذ منه حسوا كما يتخذ من الباقلي. ومن أراد استعماله لأصحاب حميات الدم
والمرة الصفراء، طبخه مع الشعير المقشر المرضوض، أو القطف أو البقلة اليمانية، وأضلاع الخس.
ومن أراده لقطع الاسهال سلقه ونحى عنه ماءه الذي سلق به، وطبخه بماء ثان (3) مع بقلة الحماض وقضبان
الرجلة وماء الرمان الحامض وماء السماق والزيت الانفاق، أو دهن اللوز المستخرج من اللوز المحمص
بقشره الداخل. وإن حمص اللوز بقشره الداخل، وأنقع في ماء السفرجل أو ماء الرمان الحامض أو ماء
الحصرم، وجفف واستخرج دهنه بعد ذلك، كان أقوى لفعله في حبس البطن لان اللوز إذا لم يفعل به ذلك
ولم يحمص، أطلق البطن. ومن أراد استعماله للزيادة في إطلاق البطن، طبخه بماء القرطم ودهن اللوز
الحلو.



(1) في الأصل: والثاني.
(2) في الأصل: ضمد.
(3) في الأصل: ثاني.
239
القول في الحمص
هذا الجنس من الحبوب يغذو غذاء كثيرا ويلين البطن ويدر البول والطمث، إلا أنه يولد رياحا
ونفخا. ولذلك صار زائدا في المني ومقو (1) للانعاظ. إلا أنه ينقسم قسمة أولية على ضربين: لان منه
الأخضر الطري الذي لم يستكمل انعقاده وجفافه على نباته (2). وأما الطري الأخضر، فأنت قادر على أن
تميز حاله من حال الباقلي الطري إذا أضفت يابسه إلى يابس من الباقلي، لان إضافة الباقلي الطري إلى
اليابس منه، كإضافة الحمص الطري إلى اليابس منه. وأما ما قد تم انعقاده وكمل جفافه على نباته، فيكون
على ضربين: لان منه الأبيض، ومنه الأسود. والأبيض منه حار في الدرجة الأولى، رطب في وسطها، كأن
رطوبته قريبة من الاعتدال. ولذلك صار غذاؤه أكثر من غذاء الباقلي، وإن كان ليس بالجيد لأنه عسير
الانهضام مولد للرياح والنفخ كثيرا، حتى أنه كثيرا ما ينفخ الجوف ويزيد سعة موضعه، ويفعل فيه فعل
الخل في الطين اليابس، أو الخمير في العجين. ومن قبل ذلك، صار يحسن لون المدمن عليه، لان اللحم
إذا ربا وانتفخ، امتدت البشرة ورقت وصفت في لونها وحسنت. ولهذا أيضا صار معينا على الجماع، زائدا
في الانعاظ، من قبل أن الجماع يحتاج في تمامه إلى ثلاثة أشياء هي مجتمعة في الحمص: أحدها: طعام
يكون فيه من زيادة الحرارة واعتدالها ما يقوي الحرارة الغريزية وينبه الشهوة للجماع. والثاني: غذاء فيه من
كثرة الغذاء ورطوبته ما يرطب البدن ويزيد في المني. والثالث: فيه من الرياح والنفخ ما يملا أوراد القضيب
وعروقه وينفخه ويقوي غضبته (3) ويصلبه. وكل ذلك موجود في الحمص لان فيه حرارة معتدلة متوسطة في
الدرجة الأولى، ورطوبة زائدة كثيرة الغذاء والترطيب ورياح نافخة قوية معينة على الانعاظ.
ولجالينوس في رياح الحمص قول قال فيه: إن رياح الحمص ونفخه ليس بدون رياح الباقلي
ونفخه، غير أن غذاء الحمص أكثر، وجلاؤه أقوى، لان فيه قوة قطاعة ملطفة. ولذلك صار مدرا للبول
والطمث منقيا للكبد والطحال والكلى، مفتحا لسددها، مفتتا (3) للحصى، مخرجا (4) للدود وحب القرع من



(1) في الأصل: مقوي.
(2) في الكلام انقطاع هنا. والمقتضى أنه: (ومنه ما قد تم انعقاده وكمل جفافه على نباته).
(3) أي جلدته.
(4) جميعها في الأصل بالرفع.
240
البطن. إلا أنه إذا وافى في الكلى والمثانة عقرا أضر بها. ولذلك وجب أن لا يؤكل قبل الطعام ولا بعده،
لكن في وسطه، لأنه إن قدم قبل الطعام، انحدر بسرعة قبل تمام هضمه لما فيه من قوة الجلاء والتلطيف
وقام عند الطبيعة مقام الغذاء. وإن أخذ بعد الطعام، اختلط بالطعام ومنعه أن يطفو وأن ينحدر بسرعة
وانهضم رويدا رويدا وفعل فعل الدواء والغذاء جميعا.
وللفاضل أبقراط في الحمص قول قال فيه: إن في الحمص جوهرين مختلفين إذا طبخ فارقاه،
وصار إلى الذي يطبخ به: أحدهما: حلو، والآخر: مالح. فهو لحلاوته يجلو وينقي ويغذو غذاء حسنا،
ويزيد في اللبن والمني جميعا، ويطلق البطن ويحلل الأورام إذا حمل عليها وبخاصة أورام المذاكير (1)
وأصول الآذان. وبجوهره المالح يقطع الفضول ويلطفها ويدر البول والطمث جميعا، ويطلق (2) وينفع من
اليرقان والاستسقاء، وينقص المواد المولدة لهما بالبول، وينفع من الحكة العارضة في البدن والرأس إذا
اغتسل بمائه، وينقي القوابي إذا لطخ عليها. وزعم جالينوس أن فيه مرارة يسيرة بها صار يفتح السدد ويدر
الطمث ويسهل خروج الجنين من البطن وينفض الدود وحب القرع من الجوف، وينفع من اليرقان العارض
من سدد الكبد والمرارة ويفتت الحصى، إلا أنه مضر بقروح الكلى والمثانة.
وأما الأسود منه، فهو أكثر حرارة وأقل رطوبة من الأبيض. ولذلك صارت مرارته أظهر على
حلاوته، وصار فعله في تفتيح سدد الكبد والطحال وتفتيت الحصى وإخراج الدود وحب القرع من الجوف
وإسقاط الأجنة، والنفع من الاستسقاء واليرقان العارض من السدد في الكبد والمرارة أقوى وأظهر، ولا
سيما إذا طبخ معه كرفس وفجل وقطر على مائه الذي يشرب منه دهن اللوز. وأما في زيادة المني واللبن
وتحسين اللون وإدرار البول، فالأبيض أخص بذلك وأفضل لعذوبته ولذته وكثرة غذائه، ولا سيما إذا
غسل وأنقع في ماء من الليل إلى الصبح، وطبخ بمائه الذي أنقع فيه لتخرج عذوبة جوهره في مائه وشرب
على الريق.
ولديسقيريدس في الحمص البستاني قول قال فيه: إنه على ضربين: لان منه صنفا يسمى
أورنياس (3)، وصنفا يسمى فوفوس (4). وكلاهما إذا سقي طبيخهما مع شحم ليناقوطس (5)، نفع من اليرقان
والحبن (6) بإخراجهما للفضول بالبول. والمعروف بأورنياس خاصة إذا طبخ دقيقه بماء وعسل، وعمل منه



(1) المذاكير والذكور، جمع الذكر: عضو التذكير.
(2) كذا بالأصل. ولعلها يطلق البطن، وإن كانت من أفعال جوهره الحلو أيضا.
(3) ورد في غير مرجع: أرويناس.
(4) ورد في غير مرجع: قريوس.
(5) ورد في غير مرجع: لينابوطيس.
(6) داء أعراضه ورم في البطن.
241
ضماد، نفع من ورم الأنثيين والقوابي وقروح الرأس الرطبة والجرب والقروح الخبيثة. وزعم أن قوما من
الناس يقولون أنه يبرء من الثواليل الصلبة إذا أخذ من الحمص حبه ووضع كل واحدة على ثالول في أول
الشهر، ثم يجمع ذلك الحمص ويشد في خرقة، ويرمى بها إلى خلف.
ومن الحمص نوع آخر بري ورقه يشبه ورق الحمص البستاني وثمرته مخالفة لثمرته، له مرارة في
طعمه، وحدة في رائحته. ولذلك صار فعله في جميع ما يفعله الحمص البستاني أقوى وبخاصة في إسقاط
الأجنة وقتل الدود وحب القرع وإخراجها من البطن.

242
القول في اللوبيا
أما اللوبيا (1) فحار في وسط الدرجة الثانية، رطب في آخرها. والدليل على فضل رطوبته أن كثيرا
منه لا يمكن أن يجفف ولا يخزن، وإنما يؤكل طريا رطبا. والذي يمكن أن يجفف أيضا، إن يستقصى
تجفيفه، لا يمكن أن يبقى الشتاء كله من غير أن يعفن أو يتآكل. ولذلك قال جالينوس: إن اللوبيا لا يمكن
أن تخزن كما تخزن سائر الحبوب بالطبع. ولذلك لا يمكن أن يحبس إلا أن يبالغ في تجفيفه الغاية
القصوى، كما كان بعض الأوائل يفعل ليمكث عنده الشتاء كله. ولما فيه من كثرة الرطوبة، صار غذاؤه أكثر
وأميل إلى البلغم الغليظ. فهو لذلك يولد أخلاطا غليظة ورياحا نافخة وبخارات تملأ الرأس وتحدث
أحلاما رديئة فاسدة، وإن كانت رياحه دون رياح الباقلي كثيرا، كأنها قريبة من رياح الماش، إلا أنه أسرع
انحدارا من الماش، غير أن الدم المتولد عنه أقل جودة من الدم المتولد من الماش لأنه أغلظ وأقرب إلى
البلغم. ولذلك صار محتاجا إلى ما يلطفه ويقطع غلظه، مثل المري والفلفل والكمون وما شاكل
ذلك. إلا أنه ينقسم قسمة جنسية على ضربين: لان منه أبيض، ومنه أحمر. وكل واحد منهما فقد يكون
رطبا ويكون يابسا.
والأبيض منه أقل حرارة وأكثر رطوبة. ولذلك صار أغلظ وأبطأ انهضاما، وأقرب من توليد الدم
البلغماني الغليظ. ومما يستعمل (2) به على دفع ضرره وسرعة انهضامه أن يسلق ويقشر من قشره ويؤكل
بمري وزيت وكمون وفلفل، ليكون المري عوضا من الملح. وأما المري فيؤكل، مقشرا من قشره،
بخردل وملح وصعتر وفلفل، ويشرب عليه نبيذ صرف، فإن ذلك يعين على هضمه، ويقطع غلظه. وقد
يربى هذا النوع بالخل فتقل رطوبته وحرارته، إلا أن انهضامه وانحداره يقصر عما كان عليه، لما يكتسبه من
حرارة الخل.



(1) هي اللوباء واللوبياء واللوبيا واللوبياج.
(2) قبلها في الأصل: (يدل) ملغاة بشطبة.
243
وأما الأحمر، فهو أكثر حرارة وأقل رطوبة من الأبيض. ولذلك صار أحمد وألطف وأخص بمنافع
غير منافع الأبيض، لأنه يدر البول والطمث جميعا. فمن أراد استعماله لادرار الطمث، فليأخذ من مائه
المطبوخ به ثلاث أواق (1) ويلقي عليه من دهن الناردين خمسة دراهم (2)، ومن القنة نصف درهم أو نصف
مثقال ويخلط جيدا ويشرب فاترا، إن شاء الله.



(1) جمع أوقية. ذكر الجوهري أنها فيما يتعارفها الناس ويقدر عليه الأطباء (في أيامه) وزن عشرة دراهم وخمس أسباع الدرهم، أي
سبعة مثاقيل ونصف المثقال.
(2) الدرهم، من الأوزان: سبعة أعشار المثقال. أنواعه: الطبري = 10381, 1 غرام والبغلي = 207362, 3) غرام والشرعي =
405522, 2 غرام.
244
في الكرسنة
أما الكرسنة فمقدارها في الحرارة واليبوسة حسب مقدارها من المرارة. إلا أن اليبس عليها
أغلب، حتى كأن يبسها في الدرجة الثانية وحرارتها في الدرجة الأولى. ولذلك صارت تجلو وتقطع
بلطافة وتفتح السدد. وإذا أخذ منها ما كان سمينا أبيض وقشر برحى اليد، ثم سحق وعمل من دقيقه
حسو، أطلق البطن وأدر البول والطمث جميعا، وحسن اللون ولين البشرة، إلا أن الاكثار منه والادمان
عليه يولد الدم، وربما أحدث زعافا. فإن غسل بالماء مرات كثيرة حتى يطفو ويبقى الماء صافيا
ليس فيه شئ من التغيير، وجفف وعمل منه نشاستج كما يعمل من الحنطة والشعير وسائر الحبوب، زال
عنه أكثر حدته، وسلم الانسان من أذيته وثبتت منافعه. وإذا طبخ دقيق الكرسنة مع الحشيشة المسماة
اليثانوطيس ونوع من الكندر، نفع من الاستسقاء واليرقان العارض من سدد الكبد والمرارة. وإذا عجن
بشراب وعمل منه ضماد، نفع من عضة الكلب، وإذا عجن بعسل وطلي على الكلف، أبرأه. وإذا عمل
على القروح الخبيثة والأورام الصلبة، حللها. وماء طبخ الكرسنة إذا صب على الحكة والجرب
العارضين من البرد، نفع من ذلك.
وإذا عمل منه سويق وعجن بعسل، وأخذ منه كل يوم مقدار جوزة، كان موافقا للمهازيل (1)،
وصفته: يؤخذ منه ما كان سمينا أبيض فينقع في الماء وقتا طويلا، ثم ينحى ذلك الماء عنه، ويترك حتى
يتشرب ماء من غير أن يجف، ثم يغلى حتى ينشق القشر ويتبرأ من جرمه، ويطحن وتنشف قشوره،
وينعم سحقه، ويستعمل على ما وصفته.



(1) المهازيل، جمع مهزول: المصاب بالهزال.
245
في الترمس
أما الترمس فجوهره صلب أرضي، إلا أنه حار في الدرجة الثالثة، يابس في آخرها. وقد يستدل
على أرضيته من كثافة جسمه، وعلى حرارته ويبسه من قوة مرارته. ولذلك صار دقيقه إذا عجن بعسل
ولعق وشرب عليه خل متل (1) الدود وحب القرع وأخرجه من البطن. وإذا أنقع في الماء حتى يلين وأكل
بمرارته، فعل مثل ذلك أيضا. وماؤه الذي يطبخ به إذا شرب مع سذاب وفلفل، فعل مثل ذلك أيضا
ونقى الأحشاء تنقية حسنة ونفع المطحولين (2). وإذا طبخ وغسلت (3) بمائه القروح الخبيثة الوسخة،
نقاها. وإذا غسل به الجلد، نقى الأوساخ وذهب بالآثار الظاهرة في الجلد والبهق، ونفع من ترهل البدن
والحكة. وإذا أخذ دقيقه وأنقع في ماء مطر أياما وطبخ في مائه الذي أنقع فيه حتى يتهرأ، وحمل على
الكلف الأسود، أبرأه ونقى الوجه. وإذا خلط بتمر وعسل، واحتملته المرأة، أدر الطمث وأحدر
الجنين. وإذا طبخ بخل وحمل على الخنازير، حللها.
وزعم ديسقوريدوس أن الترمس إذا طبخ مع أصل نبات يدعى خامالاون وهو المازريون
الأسود، وغسل بمائه الغنم الجربة وهو حار، أبرأها من الجرب. وأصل شجرة الترمس إذا طبخ بالماء
وشرب، أنزل البول. وماء الترمس العذب الذي قد أزيلت عنه مرارته بالصنعة، فإنه غليظ أرضي بطئ
الانهضام والانحدار، عسير النفوذ في العروق، ويولد خلطا غليظا نيا من جنس الخام. ولذلك لم يكن
له معونة على إطلاق البطن، والأطعمة التي لها جلاء، ولا على حبس البطن كالأطعمة القابضة المقوية،
لكنه غليظ كثيف صلب فيه شئ من القوة اللاصقة. ولذلك صار غذاؤه كثيرا أقرب من العدس وأفضل،
لان العدس أكثر قحلا وجفافا. وإذا أخذ بعد أن يعذب وتزول عنه مرارته ودق نعما، وشرب بخل، أزال
الغثيان ونفع من ذهاب شهوة الطعام. وإذا أكل وفيه مرارة، كان أسرع لانهضامه وانحداره عن المعدة
وقتل الدود وحب القرع الكائن في المعاء. وماؤه الذي ينقع فيه ويعذب به إذا غسلت به الحيطان
والأسرة التي يتولد فيها البق، قتلته وذهبت به. وزعم بعض الأوائل أن دقيق الترمس إذا حمل على
المواضع التي ينتف منها الشعر، بعد نتف الشعر منها، منع الشعر من النبات.



(1) قتل الشئ: حركه وزعزعه.
(2) المطحول: من شكا طحاله.
(3) في الأصل: وغسل.
246
في الحلبة
الحلبة تكون على ضروب: لان منها الورق الأخضر الذي لم يبرز بعد، ومنها ما ينبت في
المنازل والدور، ومنها الحب اليابس الذي قد استكمل جفافه على نباته. فأما الحب الجاف اليابس،
فحار في الدرجة الثانية، يابس في الدرجة الأولى، له لزوجة وإزلاق وقوة على الجلاء والتنقية. والدليل
على جلائه، قوة حرارته. ولذلك صار دقيقه إذا عجن بعسل يسير، هيج المعاء، بقوة مرارته، إلى دفع
ما فيها من الأخلاط اللزجة، وحلل الرياح الغليظة. إلا أن العسل الذي يعجن به، يجب أن يكون يسيرا
وإلا أفاد لذعا وإسخانا، وأحمى الكبد وألهبها. وإذا طبخ وشرب ماؤه بعسل، كان ألطف ونقى المعاء
من الفضول العفنة والاتفال المنتنة، وطيب رائحة الثفل، ونفع من عفن المعاء والزحير (1) العارض من
البلغم الغليظ اللزج المرتبك في المعاء اللاصق بالمبعر (2). وإذا طبخ مع التين والتمر وصفي ماؤه وخلط
معه عسل، وطبخ ثانية حتى يصير بمنزلة الناطف اللين، وتناوله على الريق من كان به وجع مزمن في
صدره وسعال متقادم من بلغم لزج ورياح غليظة، نفع ذلك ونقى الصدر من الرطوبات الغليظة الفاسدة.
وإذا طبخ وشرب ماؤه مع خمسة دراهم فوه (3) معجونة بعسل، فتح سدد الأرحام ونقاها من الفضول
الغليظة، وحلل أورامها وأنزل الطمث. وإذا حملت الحلبة على الأورام، حللت منها ما كان قليل
الحرارة، وهيجت ما كان كثير الحرارة. ومن خاصتها: أنها إذا شربت، طيبت رائحة البدن والثفل،
وأنتنت البول والعرق جميعا وغيرت النكهة.
ولديسقوريدوس فيها فصل قال فيه: إن دقيق الحلبة إذا خلط بنطرون (4) وخل، وضمد به
الطحال، حلل حشاه. وإذا خلط بماء قراطن، أي شراب العسل، وطبخ وتضمد به، كان ملينا محللا.
وإذا جلس النساء في طبيخ الحلبة، نفع من أوجاع الأرحام وأورامها وانضمامها. وإذا خلط دقيق الحلبة
بشحم لوز وتحملته المرأة، لين صلابة الرحم وفتح انضمامها. وإذا طبخت الحلبة بماء وعصرت،
وغسل الرأس بعصارتها، نفعت الشعر ونقت الرأس من النخالة والقروح الرطبة. وإذا شرب ماؤها،
نفعت من المغص العارض من الرياح وأزلقت المعاء. وقد يتخذ من الحلبة دهن يجعد الشعر.



(1) هو تقطيع في البطن يمشي دما.
(2) المبعر والمبعر: مكان البعر من كل ذي أربع.
(3) ألفوه والفوة: نبات له عروق دقاق طوال حمر يصبغ ويداوى بها. وتسمى أيضا عروق الصباغين.
(4) النطرون: ضرب من البورق (ملح مؤلف من حامض البوريك والصودا) يدخل في صناعة الصابون.
247
صفة عمل دهن الحلبة
يؤخذ من الحلبة تسعة أرطال، ومن الزيت خمسة أرطال، ومن قصب الذريرة (1) رطل، ومن
السعد (2) رطلان - وفى نسخة أخرى: من السعد رطل - ينقع ذلك في الزيت سبعة أيام، ويحرك كل يوم
ثلاث مرات، ويعصر ويرفع. ومن الناس من يجعل بدل قصب الذريرة قردمانا (3) وبدل السعد قشر عود
البلسان (4) الأخضر الذي يلي العود. ومن الناس من ينقع <هذه> الأدوية بدءا بالزيت الأخضر، ثم
يصفيه، وينقع الحلبة بعد ذلك فيه. ولهذا الدهن قوة قوية ملينة للأورام، محللة للأوجاع، وبخاصة
أوجاع الأرحام وأورامها. ويعمل منه حقنة لرحم المرأة التي قد عسر ولادها، إذا خف الولد لافراط
خروج الرطوبات من الرحم. وينفع من أورام المقعدة والزحير إذا احتقن به. وقد يحتقن به للمغص.
وقد يخلط بأدوية الكلف ويدهن <به> الرأس فيجلو النخالة والأتربة منه، وينقي القروح الرطبة. وإذا
خلط بالشمع، نفع من الشقاق العارض من البرد. وأجوده ما كان حديثا لم يغلب عليه ريح الحلبة
كثيرا، وفى طعمه حلاوة مع مرارة.
وأما الحلبة المنبتة في الدور والمنازل، فهي أقل حرارة من الحب اليابس كثيرا وأزيد، لما
تكتسبه من رطوبة الماء. إلا أن الدم المتولد عنها ليس بالمحمود. وإذا أكلت وحدها بغير مري ولا
خل، أفسدت المعدة وغيرت النكهة وولدت غثيانا وصداعا. وإذا أكلت على الريق بالخل، قل إضرارها
بالمعدة ولم تغثي، وأعانت على إطلاق البطن، ولم تضر بالرأس كإضرارها إذا أكلت وحدها. وإذا
أكلت مع الخبز على سبيل الادم، كانت (5) معونتها على تليين البطن أقل وإضرارها بالرأس أيسر وأسهل.
وإن أكلت مع الخبز بالمري والخل على سبيل الادم أيضا، كان إضرارها أقل من إضرارها إذا أكلت مع
الخبز وحده من غير مري ولا خل.
وأما فعلها في تغيير النكهة، ونتن البول والعرق (6)، فهو دون ما يفعله الحب اليابس لشدة رائحة
الحب وقوة فعله.
وأما الورق الأخضر، فإن فعله قريب من فعل الحلبة المنبتة في المنازل والدور، إلا أنه في ذلك
كثير الرطوبة وسيلانه وسرعة انحداره (7). وزعم جالينوس أن من خاصة هذا الورق أنه إذا أكل بالخل،
نفع المعدة الضعيفة. والله أعلم.



(1) يعرف أيضا بعود الوج: نبات ذكي الرائحة يستعمل في تحضير بعض الطيوب.
(2) نبات يشبه النجيليات بساقه وأوراقه. منه نوع ينتج بصلا يؤكل.
(3) هو الكراويا الهندي.
(4) شجر من فصيلة البخوريات. أنواعه عديدة يستخرج من بعضها دهن عطري فاخر.
(5) في الأصل: كان.
(6) قبلها في الأصل: (البول) ثانية ملغاة بشطبة.
(7) كذا في الأصل.
248
القول في السمسم
السمسم فيه من الجوهر اللزج الدهني ما ليس باليسير. ولذلك صار أكثر الحبوب دهنية ولزوجة.
إلا أن حرارته في الدرجة الأولى، ورطوبته في الدرجة الثانية. وهو على ضربين: لان منه الأبيض
المقشر، ومنه الأحمر الذي لم يقشر (1). ولذلك صار أغلظ وأعسر انهضاما وأبعد انحدارا، لأنه لدهنيته،
يطفو ويعوم في أعلى المعدة، فيطول لبثه فيها ويبعد انحداره منها. ولذلك صار مضرا بها لأنه يكسبها
لزوجة ورخاوة ويلين خملها (2) ويضعف فعل القوة الماسكة والهاضمة جميعا، وينتقل إلى الدخانية
وجنس المرار بسرعة، ويحدث عطشا، ويحثر (3) البصر، ويولد غذاء دسما. ومن قبل ذلك لم يمكن أن
يكون فيه قوة على حبس البطن أصلا، وعلى تقوية شئ من أعضاء البدن. ودهنه أضعف في ذلك منه،
لأنه لا يلبث في الأعضاء ويتمكن منها تمكن الجرم فيها.
ومن خاصيته: أنه يغثي ويفسد النكهة ويغيرها وبخاصة إذا تبقى منه شئ بين الأسنان. فإذا أكل
بالعسل، كان أقل لضرره، وإذا طبخ دهنه بماء الآس والزيت الانفاق، كان محمودا لتصليب شعر الرأس
إذا دهن به. وإذا استخرج من سمسم مقلو وأخذ منه مقدار أوقيتين مع أوقيتين من نقيع الصبر (4) وأوقيتين
ماء نقيع الزبيب المنقى من عجمه، وشرب على الريق، نفع من خشونة سطح البدن ومن الحكة
العارضة في جميع البدن من الدم الحار والبلغم المالح. وإن جعل مع هذا الدواء من الفانيد (5) خمسة
دراهم، كان أحمد له وأجود. والمقلي من السمسم أقل ضررا لأنه أقل لزوجة وألطف.
وأما الذي بقشره، فهو أسرع انحدارا وخروجا، لأنه أضعف فعلا في جميع ما ذكرنا. والسبب
في سرعة انحداره، ما في قشره من النخالة وقلة اللزوجة. وإذا عدمها أصلا، فهو لجفافه يداخل أجرام



(1) ثمة انقطاع في السياق من هنا. ولعله، على عادة المؤلف: (فأما الأبيض المقشر منه، فهو غليظ جرمه كثير دهنية جوهره)
(2) أي زغبها.
(3) حثرت العين: خرج في أجفانها حب أحمر. وقيل: إن الحثر هو الجرب.
(4) الصبر، جمع صبور: نبات، يكون في الغالب متدليا، ضارب إلى الصفرة أو إلى الحمرة. يقال له أيضا المقر والمقر.
(5) ضرب من الحلواء يعمل بالنشاء.
249
السمسم خارجا، ويخلخلها ويفرق اتصالها حتى تنفذها الحرارة الغريزية باطنا، ويقوى على هضمها
ويحدرها بسرعة. والمقشر من السمسم أبعد انحدارا وأكثر تسمينا للأبدان لغلظ جرمه وكثرة دهنية
جوهره. إلا أنه أسرع استحالة إلى الدخانية وجنس المرار. إلا أنه أقل تسمينا للأبدان لجفاف قشره (1).
ومن خاصة ورق السمسم أنه إذا غسل به الرأس، أكسب الشعر طولا وليانة، ونقى الأتربة
العارضة في الرأس واللحية. وشاهدت العوام يأخذون الماء الذي ينقع فيه السمسم، فيسقونه لمن تعذر
عليه الطمث من النساء، فيدره (2) وللحبالى فيسقط الأجنة. ويقال: أن حبه نافع من جميع السمائم،
وليس ذلك بمنكر، لأنه بدهنيته، يسد المجاري ويمنع السم من الوصول إلى القلب، ويكسب القلب
أيضا لزوجة تحول بين السم وبين التمكن من القلب. وأما ديسقوريدوس، فإنه لم يفرق بين دهن
السمسم ودهن الجوز وجعلهما جميعا مقام دهن ألبان (3). وجالينوس لم يساعده على ذلك.



(1) مدلول هذه العبارة خاص بالسمسم الذي بقشره. فلعل انقطاعا في السياق قبلها.
(2) في الأصل: فيدره للطمث. وواضح زيادتها سهوا.
(3) ألبان: شجر ورقه لين كورق الصفصاف. دهن حبه طيب. ولطوله يشبه به القد.
250
القول في الخشخاش
الخشخاش نوعان: أحدهما: الزنفي المعروف بالبستاني لأنه مزروع في البساتين والمزارع،
والآخر: بري. والبستاني ينقسم قسمين: لان منه ما رمانه <أميل> إلى الطول وبزره أبيض، ومنه ما
رمانه مستدير وبزره أسود، وهو الخشخاش الذي يستخرج الأفيون من لبنه. وكثيرا ما يكون في
الخشخاش الأبيض خشخاش أحمر، غير أن الخشخاش الأبيض ألطفها وأحمدها وأفضلها غذاء، ذلك
لقلة برده وجفافه، من قبل أن برودته في الدرجة الأولى وينتهي إلى أول الثانية، ويبسه في وسط الدرجة
الثانية. ولذلك صار كثير من الناس من ينثره على وجه الخبز ويأكله.
وزعم ديسقوريدوس أن من الناس من يصنع منه خبزا ويأكله في حال الصحة، وإذا كان الغذاء
المتولد عنه يسيرا (1) جدا عسير الانهضام. والسبب في قلة غذائه، قحله وجفافه وقلة رطوبته بالطبع.
والسبب في بعد انهضامه، غلظ الكيموس المتولد عنه لفجاجته وضعف حرارته. ومن خاصيته: أن
الاكثار منه يخدر الحاسة ويجلب النوم المعتدل. وإذا طبخ بالماء العذب وحمل على الرأس، فعل
شبيها (2) بذلك أيضا. وإذا أخذ منه لعوقا أو شرابا، كان نافعا من السعال العارض من الرطوبات الحادة
الرقيقة السيالة المنحدرة من الرأس إلى الصدر والرئة. وقد ينفع أيضا من الاسهال المري المزمن، إلا
أن فعله في ذلك أضعف من فعله في السعال، فإن خلط معه هيوفقسطيداس (3) وشئ من ماميثا (4)، قوى
فعله في حبس البطن. وأما طبيخه، فضعيف الفعل في ذلك جدا حتى أنه ربما أعان على تليين البطن،
من قبل أن في هذا النوع من الخشخاش، مع جوهره الحابس للطبيعة، جوهرا ملينا (5) للبطن. فإذا طبخ
بالماء فارقه الجوهر الملين للبطن وخالطه الماء، وزالت (6) عنه معونته على الاطلاق للبطن. ولذلك صار



(1) في الأصل: يسير.
(2) أي فعل فعلا شبيها.
(3) ينبت في أصول شجر لحية التيس. وقيل أنه هو ذاته. وورد اسمه أيضا: هيبوقسطيداس.
(4) ماميثا وقميثا: نبات من فصيلة الخشخانيات له استعمالات طبية عديدة.
(5) في الأصل: بالرفع.
(6) في الأصل: زال.
251
جوهر الخشخاش، أعني جرمه، موافقا لمن كان محتاجا إلى تليين البطن.
فإن عارضنا معارض وقال: فلم لا أعطيت جوهره الملين للبطن، وقلت: أنه إذا طبخ بالماء
فارقه جوهره الحابس للطبيعة، وخالطه الماء وصار معينا على حبس الطبيعة؟.
قلنا له: إن الجوهر الحابس للطبيعة ضعيف فيه جدا، من قبل أن يبسه في الدرجة الثانية،
والماء فمضاد ليبسه بإفراط رطوبته. فإذا خالط الماء الخشخاش، غلب على يبسه وحله ومنع من فعله،
لان رطوبته أقوى. وأما جوهره الملين للطبيعة، فإن رطوبة الماء معينة له ومقوية لفعله. ولذلك ربا أثرها
في المعاء، وصار الماء معينا على تليين الطبيعة.
وأما الخشخاش الأحمر، فإن برده أقوى من برد الخشخاش الأبيض ويبسه أكثر، لان برده في
أول الدرجة الثانية، ويبسه في آخرها أو في أول الدرجة الثالثة. ولذلك صار فعله في جميع ما ذكرنا من
فعل الخشخاش الأبيض، أقوى وأظهر.
وأما الخشخاش الأسود، فإن قوة برده ورمانه وورقه داخلة في جنس الدواء أكثر من دخولها في
جنس الغذاء، لان برودته في أول الدرجة الرابعة، ويبسها في وسطها. ولذلك صار فعله في جميع ما
قدمنا ذكره من فعل الخشخاش الأبيض والأحمر، أشد وأقوى وبخاصة في إخدار الحس وحبس البطن،
وذلك لزيادة برده وقبضه ولا سيما إذا كان الشراب المتخذ منه مطبوخا بماء المطر، لما في المطر زيادة
للقبض لقوة فعل الشمس فيه. ولذلك وجب أن يحذر الاكثار منه، لان الاكثار منه يولد من السبات ما
يستغرق الحرارة الغريزية ويطفئ نورها. ولهذه الجهة صار مخصوصا بالاضرار بمن ضعفت حرارته
الغريزية وغلب على مزاج قلبه حرارة عرضية، مثل أصحاب حمى الدق (1) وغيرهم، وبمن قد اختلط
عليه عقله، لان من غلب على مزاج قلبه الحرارة العرضية لا يؤمن عليه أن تقاوم حرارته العرضية برد
الخشخاش وتدفعه عن نفسها فتنعطف ببرده على الحرارة الغريزية وتطفئها لضعفها عن مقاومته.
ومن اختلط عليه عقله، فرطوبة دماغه الغريزية قد خفت وقاومت الفناء، وحرارة دماغه قد صارت
إلى غاية الضعف. وإذا كان ذلك كذلك، لم يؤمن على الخشخاش أن يخدر حس الدماغ ويخمد نور
الحرارة الغريزية ويهلك الانسان من قرب. وأما عصارة هذا النوع من الخشخاش ولبنه الذي يسيل
منه فإن تبريدهما أقوى من تبريد البزر كثيرا، لان جوهر الخشخاش فيهما خالص محض (2).
ولذلك وجب أن يكون اليسير من فعلهما يقوم مقام الكثير من فعل البرد، وإن كان - لبن
الخشخاش أخص بذلك من العصار كثيرا، لان الجوهر فيه أوحد غير مشوب بغيره، والجوهر في



(1) ذكر الثعالبي أن الحمى إذا دامت ولم تقلع ولم تكن قوية الحرارة، ولا لها أعراض ظاهرة، مثل القلق وعظم الشفتين ويبس
اللسان وسواده، وانتهى الانسان منها إلى ضني وذبول، فهي دق. (فقه اللغة: فصل في اصطلاحات الأطباء على ألقاب
الحميات).
(2) في الأصل: خالصا محضا.
252
العصارة مشوب برطوبة مائية. ولذلك صار متى أخذ الانسان من لبن الخشخاش المعروف بالأفيون مقدار
حبة الكرسنة، أخدر الحاسة ومنعها من الحس بالأوجاع، وسكن الآلام، وفعل في السعال والاسهال
أضعاف فعل البزر وجلب نوما قويا شديد الاستغراق، وبخاصة متى زيد في مقدار ما يؤخذ منه، فإن
عمل منه فتيلة واحتملت من أسفل، جلبت نوما معتدلا. وإن أخذ منه شئ يسير وخلط بدهن الورد
ومسح على الجبين والأصداغ، سكن الصداع الصفراوي المحض السليم من النوازل والرطوبات. وإن
خلط بدهن لوز وشئ من زعفران، وعمل منه لطوخا، أسكن أوجاع النقرس الحار المري، وإن شرب
منه المقدار الكثير، استغرق نور الحرارة الغريزية وأخمدها من قرب. ولذلك صار قاتلا لمن ضعفت
حرارته الغريزية، وغلب على مزاجه حرارة عرضية، ولمن قد أخلط عقله عليه، على ما بينا (1) آنفا.
وقد يغش بضروب من الغش، لان من الناس من يغشه بعصارة الخس البري، ومنهم من يغشه
بعصارة شياف ماميثا، ومنهم من يغشه بالصمغ العربي. والذي يغش بعصارة الخس البري، فإن لمسه
يكون خشنا ورائحته ضعيفة. والذي يغش بعصارة الشياف ماميثا، فإنه إذا أديف (2) في الماء، صارت له
رائحة كرائحة الزعفران - وفى نسخة أخرى أن الذي يغش بعصارة الشياف يصير له لون كلون
الزعفران -. والذي يغش بالصمغ يكون لونه صافيا براقا ضعيف القوة جدا. ومن الناس من يبلغ به
الحنث إلى أن يغشه بالشحم، وقد يقلى على خرقة جديدة إلى أن يلين لونه إلى الحمرة الياقوتية،
ويدخل في إكحال العين. وحكى دياغورس عن سلسطراطس أنه لم يكن يرى استعماله في أدوية العين
والاذن، لأنه كان عنده يضعف البصر ويثقل السمع ويشتت. وكان أندريا أوس يزعم: أن لبن الخشخاش
لولا أنه يغش، لكان يعمي من اكتحل به.
وأما قشر الخشخاش، فإنه إذا طبخ وحمل على الرأس منه مقدار معتدل، جلب نوما معتدلا.
وإذا أكثرت منه، أحدث سباتا.
وأما الخشخاش البري، فهو أشد كراهة من الخشخاش البستاني جدا، وأقوى فعلا، ولذلك صار
لا يمكن الانسان أن يستعمله وحده فيسلم من أذيته، لأنه ينوم تنويما قويا ويفسد الحاسة. وهو على
ضربين: لان منه نوع يعرف بالمسن، لان زهره ينتثر ويتساقط بسرعة، ورمانه إلى الاستدارة ما هو، وحبه
أغزر وأسمن. ومنه نوع آخر يعرف بالذائب، لان لبنه يذوب ويسيل ويجري منحدرا إلى أسفل. ولذلك
صار رمانه إلى الطول ما هو، وحبه أهزل وأكثر سلالا. أما طول رمانه، فلسيلان رطوبته إلى أسفل،
ولذلك صار حبه هزيلا من قبل أن رطوبته المغذية لما كانت دائمة الهبوط إلى الأغصان، قل غذاؤه وكثر
سيلانه. وأما بزره فيبلغ من قوته أن يخدر خدرا شديدا ويميت الحس ويفسده، ولذلك صار الحذاق من



(1) (بينا) ساقطة من الأصل. وأثبتناها من ذيل الصفحة السابقة على التي تبدأ بها.
(2) داف الشئ: بله بماء ونحوه: خلطه، وأكثر ما يكون في الدواء والطيب.
253
المتطببين يقيمونه مقام الأفيون المستخرج من لبن الخشخاش الأسود، ولا يستعملونه إلا مع أدوية تكسر
قوة برده.
وأجمع جالينوس وديسقوريدوس جميعا: أن من الخشخاش البري نوعين آخرين: أحدهما يعرف
بالمقرن، والآخر يعرف بالزبدي. فأما المقرن فاشتق له هذا الاسم من ثمرته، لان ثمرته معقفة قليلا
شبيهة بقرن الثور. ومن الناس من يسميه الخشخاش البحري لان أكثر ذلك ينبت على شاطئ البحر،
وأقله ينبت في المواضع الصلبة، وله زهرة صفراء وورق أبيض يعلوه زغب. ومثلت الأوائل صورة ورقه
بصورة ورق الشياف ماميثا وورقه الخشخاش البري. وزعم جالينوس: أن قوة هذه النبات قوة تجلو وتنقي
وتقطع، ولذلك صار أصله إذا طبخ بالماء حتى ينتصف الماء وشرب طبيخه، نفع من علل الكبد. وأما
ورقه وزهرته فنافعان من الجراحات الوسخة، لأنهما يذيبان اللحم الفاسد الذي فيها وينقيانها. وليس إنما
يفعلان ذلك فقط، لكنهما يقطعان من الجراحة القشر المحروق الذي يعلوهما. وقال ديسقوريدوس في
أصل هذا: أنه إذا طبخ بالماء حتى ينتصف ويشرب طبيخه، كان مع ما له من المنفعة لأوجاع الكبد،
نافعا أيضا للذين يبولون بولا غليظا، ولمن يخرج في بوله خيوط رقاق شبيهة بغزل العنكبوت، ولأصحاب
عرق النسا.
وأما بزره فإنه إن شرب منه مقدار أكسوبافن (1)، أسهل البطن إسهالا رقيقا. وزعم قوم أن
أكسوبافن ثمانية عشر قيراطا، وقوم زعموا أنه إثنا عشر درهما. وأما زهره وورقه فإنهما إذا أتخذ منهما
ضماد، نفع من حيث القروح وفسادها. وزعم ديسقيريدس <أن> من الناس من غلط وظن أن أشياف
ماميثا، إنما يستخرج من هذا النبات. وإنما غلط من ظن هذا الظن، لتشابه ورق هذا النبات بورق
الشياف ماميثا. قال إسحاق بن سليمان: لبعد هذا النبات من الشياف ماميثا، وقربه من الخشخاش
وجها. وقد جمعه والشياف ماميثا تشابه الورق، والفعل المخالف لفعل الخشخاش والمنافرة لها بينهما
من التضاد، لان من خاصية فعل الخشخاش إخدار الحس وتغليظ الفضول وتجميدها والمنع من
تخليلها، ومن خاصة هذا النبات الجلاء والتنقية والتخليل. وهذا الفعل أقرب من فعل الشياف ماميثا
وأبعد من فعل الخشخاش.
وأما الخشخاش البري (2)، فاشتق له هذا الاسم من لونه من قبل أن نباته وورقه وثمرته شبيهة
بالزبد (3)، فاشتق هذا الاسم له من لونه، وله أصل رقيق وورق صغير جدا. فاستكمال ثمره يكون في
زمان القيظ أعني الصيف. في ذلك الوقت يجنى ويجفف ويرفع. ومن فعله أنه ينقي المعدة بالقئ.
ولذلك صار نافعا للمصروعين.



(1) ورد في غير مرجع: أكسونافن، أكسويافن.
(2) كذا بالأصل. والواجب أن يضيف: (المعروف بالزبدي). ولعل النقص من سهو الناسخ.
(3) أي في بياضه.
254
قال إسحاق: هذه الصفة والفعل فعل الجلهنج (1) وأظنه هو هو. وزعم ديسقيريدس أن نباتا
ينبت في زرع الحنطة وفى الأراضي الحزونة (2) له ورق شبيه بورق السذاب وأغصان صغار قوية شبيهة
بقوة اللبن المعمول من صمغ الخشخاش.



(1) كذا بالأصل، لم أعثر على ترجمة له. وقد يكون الجلبهنك كما ذكره ابن سينا، فقارب بينه وبين الخشخاش الزبدي.
(2) في كتب اللغة: الحزن، جمع حزن وحزون: ما غلظ من الأرض وخشن والحزونة: غلاظة الأرض.
255
في الشهدانج وهو القنب
الشهدانج (1) يسخن إسخانا قويا في وسط الدرجة الثانية، ويجفف في آخرها. ولذلك صار يولد
كيموسا جافا مذموما بطئ الانهضام. ويدل على يبسه أن الاكثار منه يجفف المني ويضر بالمعدة ويولد
صداعا، وذلك لجتين: إحداهما: انه كثيرا ما يتولد منه بخارات لذاعة تتراقى إلى الرأس. والثانية: أن
الدم المتولد منه ردئ مذموم (2) إلا بفضل حرارته صار ملطفا مدرا للبول محللا للرياح. وأما دهنه فنافع من
وجع الاذنين العارض من البرد والرطوبة ومفتح لسددهما، وهذه خاصته. والمقلي منه أقل ضررا، ومما
يدفع ضرره أيضا شرب السكنجبين السكري بعده. وورقه إذا دق وغسل به الرأس، نقى الأتربة من
أصول الشعر.
في حب الزلم
أما حب الزلم (3) فينبت في أرض سبيردون (4) وهو حار في الدرجة الثانية، رطب في الدرجة
الأولى. وله مذاق طيب، ولذلك صار زائدا في المني ومقويا للجماع.



(1) الشهدانج: (فارسية) حب القنب (يونانية): نوع من الكتان ينتج ليفا متينا صالحا لصنع الحبال وشبهها. يعرف في الشام
بالقنبز.
(2) في الأصل بالنصب.
(3) الزلم: نبات لا بزر له ولا زهر، في عروقه حب مفلطح أصفر الأفيون بيض الباطن، دسم طيب الطعم. يعرف بحب العزيز.
وجاء في اسمه أيضا: الأزلام.
(4) وروي: شهرزور.
256
في الفنجنكشت
معنى الفنجنكشت: خمس ورقات، لان (بنج) بلسان الفارسي: خمسة. وكشت: ورق.
وكذلك الفنطافلن (1): خمس ورقات، لان فنطا: خمسة. وفلن: ورق. وأما الفنجنكشت فيسمونه في
الشام شجرة إبراهيم، وهي شجرة لاحقة بالأشجار العظام، وأغصانها عسيرة الرض، وورقها شبيه (2)
بورق الزيتون إلا أنه أرطب وأنعم مشاكل لورق القنب في شكله وكيفيته ومخرجه من قضيبه. وذلك أن
الأغصان لهذا النبات قضبان دقاق تخرج على رأس كل قضيب منها خمس ورقات مخرجها من نقطة
واحدة، أي من موضع واحد، ثم تفترق وتصير على كل شكل أصابع، لان الورقة الوسطى منها أطول ما
فيها. والورقتان اللتان عن جنبي الورقة الوسطى أقصر قليلا. والورقتان الطرفانيتان أقصر من الجميع.
ولون زهر هذا النبات كلون الفرفير (3) وثمره لطيف مدور أملس شبيه بحصرم الفلفل وأصغر منه قليلا.
وزهر هذا النبات وثمره وورقه مسخنة ملطفة قابضة. وإسخانها وتلطيفها في الدرجة الثانية، ويبسها
وتجفيفها دون ذلك قليلا.
والغذاء المتولد عن الثمرة يسير مجفف مذموم. وإذا شربت هذه الثمرة على سبيل الدواء، نفعت
من نهش الهوام، وورقه إذا ضمد أو افترش، نفع من ذلك أيضا. وإذا دخنت المواضع بها، طردت
الهوام منها. وطبيخ ثمره وورقه إذا جلس فيه، نفع من وجع الأرحام وأورامها. وثمره إذا شرب، نفع من
وجع الطحال. وإذا شرب ثمره مع الفوذنج أو تدخن به أو تحملته المرأة، أدر الطمث. وإذا خلط بخل
وزيت عذب وصب على الرأس، نفع من الداء الذي يقال له ليثرغس، أي النسيان، ومن الداء الذي
يقال له قرانيطس، أي السبات وذهاب العقل. وإذا خلط بزيت وورق الكرم، لين حشا الأنثيين وغلظ
الطحال. وإذا دق ثمره وعجن بالماء وضمد به، نفع من الوجع العارض من شقاق (4) المقعدة. وإذا



(1) في غير موضع: البنطافلن، الفيطافلون.
(2) في الأصل: شبيهة.
(3) هو البقلة الحمقاء أو البقلة المباركة أو الرحلة.
(4) الشقاق: كل شق في جلد عن داء، ومنه التشقق في اليدين والوجه من برد أو غيره.
257
خلط مع الورق، نفع من التواء العصب.
ولما في هذا النبات من التلطيف والقبض، صار مدرا للبول ومفتحا لسدد الكبد والطحال، لان
كلما اجتمع فيه مع قوة التلطيف شئ من قبض، قوى الأعضاء بدءا بقبضه ثم تخلل وألطف ما فيها من
الفضول، وإذا تحللت الفضول من الأعضاء ووافت من الأعضاء قوة على دفعها، نفتها عن نفسها وصار
ذلك سببا لتفتيح السدد. وإذا حمضت هذه الثمرة، حبست البطن ونفعت من الاسهال المعدي. وقد
يسمى هذا النبات باليونانية (أغلس) ومعناه المطهر، لان من خاصته إفساد المني وإبطال شهوة الجماع،
ومكسر لقوة الانعاظ، لأنه بتلطيفه يحلل ويمنع من تولد الرياح، وإذا قلت الرياح النافخة للقضيب، قل
الانعاظ ضرورة. وزعم قوم أن قطعه لشهوة الجماع إنما هو لافراط يبسه وتجفيفه. وهذا قول لا يقوم به
برهان لأنه لو كان ذلك كذلك، لكان بزر السذاب أخص بهذا المعنى منه، لأنه أشد يبسا وأكثر تجفيفا،
فلما امتنع ذلك وفسد وتبين أن قطعه للجماع إنما هو لخاصة فيه تدق وتلطف عن العبارة عنها باللسان.
ولذلك لم يوقع العقل عليها اسما. ويدل على ذلك: أنه ليس إنما يقطع بالشرب، لكنه قد يفعل ذلك
إذا افترش ونيم عليه. ولذلك صارت (1) المتزهدات من النساء يفترشنه في الهياكل لتقمع عنهن شهوة
المباضعة.
ويحكي (2) جالينوس عن قوم من أهل أثينيا: أنهم في أيام أعيادهم العظام يفترشون هذا النبات
وينامون عليه ليقطع عنهم شهوة الجماع والمباضعة، ولهذا سمي (أغلس) لأنها لطف ومشتقة في لسان
اليونانيين بالشام من الطهارة. وأما الفنطافلن، فزعم ديسقيريدس أنه نوع بري. وقد بينا في أول هذا
الباب أن معنى فنطافلن هو خمس ورقات. وذلك أنه نبات له قضبان دقاق طول كل واحد منها نحو من
شبر وأزيد وهي نائمة. وعلى رأس كل قضيب منها خمس ورقات مخرجها من طرف القضيب. وتنتشر
بعد ذلك كالأجنحة. وقليل ما يوجد فيها أكثر من خمس ورقات أو أقل. وورقها شبيه بورق النعنع، إلا
أنه أنعم وألين كثيرا. ولأطراف الورق من كل جانب تشريف كتشريف المنشار. ولزهر هذا النبات لون
مائل إلى النبات والى الصفرة، وأكثر نباته في الأماكن الرطبة بالقرب من الأنهار وأصله أحمر اللون مائل
إلى الكمودة والسواد قليلا. وهو أغلظ من أصل الحريق الأسود وقريب من أصل الجزر بالقرب من نباته.
ومنافع هذا النبات كثيرة: منها: أن أصله إذا طبخ بالماء حتى رجع إلى النصف وتمضمض به
ومسك في الفم قليلا، سكن وجع الفم وضربان الأسنان، ومنع القروح الخبيثة من أن تنتشر وتسعى في
البدن. وإذا تغرغر بمائه، نفع من خشونة الحلق. وإذا شرب، نفع من الاسهال وقروح الأمعاء ووجع
المفاصل وعرق النسا. وإذا دق دقا ناعما وطبخ بالخل ولطخ على العلة المعروفة بالنملة، منعها من أن
تنتشر وتسعى في البدن. وإذا تضمد به، حلل الأورام الصلبة. ويفور الشريان إذا عرض بعقب



(1) في الأصل: صار.
(2) بعدها في الأصل: (عن) ملغاة) بشطبتين.
258
الفصد (1). وقد يبرئ الجرب وينفع من الحمرة والداحس (2). وإذا تضمد بورقه مع الملح والعسل،
فعل مثل ذلك أيضا. وقد ينفع أيضا من البواسير الكامنة في المقعدة. وعصارة أصله، إذا كان طريا،
نافعة من وجع الكبد والرئة، ومن الأدوية القتالة. وورقه إذا شرب مع السذاب المعروف بأدرومالي أو
بشراب ممزوج بماء، نفع من الحمى البلغمانية التي تأخذ ثمانية عشر ساعة وتترك ست ساعات، ومن
حمى أنمطريطاوس أي شطر الغب، ومن حمى الربع. ومقدار ما يشرب منه في الحمى البلغمانية ورق
قضيب واحد وفى حمى أنمطريطاوس ورق ثلاثة (3) قضبان، وفى حمى الربع ورق (4) أربعة قضبان.
وعصارة الورق إذا شرب منها عدة أيام كل يوم ثلاث ثولوسات أحدر اليرقان. وقد ينفع ضماده من قبله.
وإذا شرب الورق ثلاثين يوما، نفع من الصرع. وقد يفترش هذا النبات في الهياكل للتطهير كما يفترش
الفنجنكشت.



(1) فصد فصدا وفصادا المريض: شق عرقه.
(2) الداحس والداحوس، ورم حار في طرف الإصبع.
(3) في الأصل: ثلاث.
(4) في الأصل: ورقه.
259
في بزر الكتان
أما بزر الكتان فحار في الدرجة الأولى، متوسط بين اليبس والرطوبة، يغذو غذاء يسيرا، عسير
الانهضام، مولد للنفخ. ولو كان مقلوا. ولذلك صار على سبيل الغذاء مضرا بالمعدة، وعلى سبيل
الدواء مدرا للبول. وإذا كان مقلوا، كان أكثر لدرورية البول وحبسه للبطن. وإذا كان غير مقلو، كان
دروره للبول أضعف ولم يحمد فعله في تليين البطن. وإذا أكل بالعسل، مع إضراره بالمعدة، أعان (1)
على نفث الرطوبات البلغمانية، ونفع من السعال العارض من البرد والرطوبة. وإذا أتخذ منه شئ صالح
مع عسل وشئ من فلفل، هيج الشهوة للجماع وأعان على الباه. وإذا احتقن بطبيخه مع شئ من دهن
ورد، نفع من اللذع العارض في المعاء والأرحام. وإذا جلس النساء في ماء طبيخه، نفع من الأورام
العارضة في الأرحام، وقام مقام طبيخ الحلبة.
وإذا عجن بماء وشئ من زيت، حلل الأورام الباطنة والظاهرة. وإذا طبخ بشراب وحمل على
النملة والقروح المعروفة بالشهدية، نقى أوساخها وأبرأها. وإذا أخذ منه جزء ومن الخزف جزء وعجن
بعسل، وضمدت به الأظفار، نفع من الشقاق العارض فيها. فإذا خلط بسويق ورماد وعمل منه ضماد، قلع
الثواليل. وإذا أخلط بشئ من موم (2) وعسل، نفع من البياض العارض في الأظافير (3). وإذ خلط مع
التين والنطرون (4)، نقى الكلف وقلع البثر اللبني.
في حب القلقل
القلقل (5) في طبيعته حار رطب، يولد خلطا ليس بالردئ، ولا هو مولد للصداع، إلا أنه زائد
في المني ولا سيما إذا خلط مع السمسم وعجن بعسل أو فانيد. فإذا قلي، كان أحمد لغذائه وأقل
لرطوبته. وإن لم يقلى وأكثر منه، أرض المعدة وأحدث هيضة (6). وهذه خاصة فيه.



(1) في الأصل: وأعان.
(2) هو الشمع. واستعماله دائما من خارج.
(3) جمع جمع الظفر.
(4) هو البورق الأرمني.
(5) شجر حبه كحب اللوبياء، حلو، يقبل الناس على أكله لخاصيته بتقوية الأبدان.
(6) الهيضة: انطلاق البطن والقئ.
260
في حب القرطم
وهو وريقة العصفر
القرطم يسخن إسخانا قويا، ويجفف في الدرجة الثانية. ولذلك صار ما ينال البدن من غذائه
يسيرا نزرا. إلا أنه يعين على إطلاق البطن بحدته وحرافته. ولذلك صار مضرا بالمعدة. وإذا دق بزره
ومرس في ماء حار وصفي وأخذ ماؤه وخلط بشراب العسل أو بمرق بعض الطير، وبخاصة الدجاج،
أسهل بلغما غليظا لزجا. وقد يعمل منه ناطف مخلوط باللوز المقشر من قشرته وأنيسون وعسل وشئ
من نطرون، فيطلق البطن.
وهذه صفة عمل الناطف: يؤخذ من لب القرطم الأبيض المقشر قسط، ومن اللوز الحلو المقشر
ثلاث قواثوشات (1)، ومن الانيسون درهمان (2)، ومن النطرون درهمان (2)، ومن شحم التين اليابس شحم
ثلاثين تينة. تدق الأدوية وتنخل ويطبخ التين بعسل مقدار الكفاية، وتعجن به الأدوية. والشربة منه
مقدار أربع جوزات. وإذا أخذ لباب حب القرطم وعجن بماء حار أو بعسل وماء حار، وغسل به الرأس
والبدن، نفع من الدواب المتولدة فيه عن مرض متقدم أو غير ذلك. وإذا غسل به الوجه، نقى أوساخه
ولين خشونته. وماء القرطم يجمد اللبن ويجبنه مثل الأنفخة. وزهر القرطم الذي يعمل منه العصفر
المعروف عند أهل مصر بالمريق رطب في الدرجة الأولى ملطف للكيموسات الغليظة. وإذا دق وعجن
بخل ثقيف (3) وحمل على القوابي، أنقاها.
وأما القرطم البري، فشوكه شبيه بشوك القرطم البستاني، إلا أنه أطول ورقا كثيرا، وورقه في
طرف القضيب، وساق (4) والنساء يستعملون القضيب مكان المغزل. على رأس القضيب جمة مدورة
مشوكة، وزهره أصفر وأصله دقيق لا ينتفع به. وإذا سحق ورقه وجمته وثمرته وشرب سحيقها بشراب
وفلفل، نفع من لسع العقرب. ومن الناس من يزعم أنه إذا أمسكها الملسوع بيده، لم يحس بالألم،
فإذا ألقاها رجع الألم إليها. والله أعلم.
تم الكتاب في الحبوب.



(1) القواثوش: أوقية ونصف.
(3) أي حامض.
(2) في الأصل: درهمين.
(4) كذا بالأصل. ولعلها زائدة أو هي (والساق).
261
باب في الفواكه
القول في التين
أما التين فهو أحمد الفواكه وأكثرها غذاء وإن كانت كلها لا تنفك من توليد الخلط الغليظ
لرطوبتها. والتين في الجملة حار يابس ودرجاته في الحرارة واليبوسة تختلف على حسب اختلافه في
ذاته، لأنه في ذاته يختلف على ضروب: لان منه البري، ومنه البستاني. والبستاني على ضربين: لان
منه الرطب، ومنه اليابس. والرطب على ضربين: لان منه الفج الذي لم يستكمل نضجه بعد. ومنه التام
النضيج الكامل النضج. فما كان منه نيا فجا بعيدا من النضج، كان في طبيعته أبرد وأغلظ، لغلبة
الأرضية على جسمه. إلا أن فيه رطوبة لبنية تفيده حدة وجفافا في آخر الدرجة الثانية. فللجهتين جميعا
هو مذموم أعني الجهتين: حدة رطوبته اللبنية وحرافتها، وغلظ جسمه وغلبة الأرضية عليه.
وللفاضل أبقراط فصل قال فيه: إن التين كلما كان أبعد من النضج، كان أبرد وأغلظ، إلا أن في
رطوبته اللبنية حدة وحرافة وجفافا (1). وكلما كان أنضج كان أسخن وأقل يبوسة. ومن فعل التين الفج
على سبيل الدواء، أنه إذا طبخ وعمل منه ضماد، لين العقد والخنازير وحللها. وإذا طبخ وخلط معه
نطرون وعجن بخل، أبرأ القروح الرطبة التي في الرأس. وإذا خلط بعسل، نفع من عضة الكلب
والقروح التي تسيل منها رطوبة عسلية لزجة. فإذا خلط مع ورق الخشخاش البري، أخرج العظام
المتكسرة في الجراح. وإذا خلط بموم، حلل الدماميل. وإذا دق وهو ني وحمل على النملة المعروفة
بالنملة، أبرأها.
وأما التين الطري الكامل النضج، فهو أقل حرارة وجفافا من التين اليابس، كأن حرارته في وسط
الدرجة الأولى، ويبسه ورطوبته متساويان، وهو مركب من ثلاثة أجزاء: أحدها: القشر، والثاني:
الحب، والثالث: اللحم. فأما حبه فإنه لا يبتل ولا ينحل أصلا لأنه في صلابته شبيه بالرمل والحصى
ولذلك لا ينال البدن منه شيئا من الغذاء. وأما قشره فهو في غلظه شبيه بالجلود العصبية من الحيوان،
ولذلك صار عسير الانهضام جدا. ومن أجل ذلك، كان من الواجب ألا يؤكل التين الرطب بقشره.



(1) في الأصل: وجفاف.
262
وأما لحمه فأكثر غذاء من لحم التين اليابس وأعون على إطلاق البطن. وإذا أسهل، كان إسهاله هين
الانقطاع، إلا أنه ردئ للمعدة حار. وزعم ديسقوريدوس أنه يقطع العطش ويسكن الحرارة ويجلب
العرق.
قال إسحاق بن سليمان: ما أعرف له شيئا يقطع به إلا أن يكون لأنه يملا العروق رطوبة. وإذا
امتلأت العروق رطوبة، استغنت عما يرطبها. فهو لهذا يقطع العطش المتولد عن جفاف الأعضاء. وأما
إحداثه العرق، فلانه ينقي الفضول إلى سطح البدن بتلطيف. ولذلك صار كثيرا ما يحدث الحصف (1).
وأما التين اليابس فحرارته في أول الدرجة الثانية، وهي في وسط الدرجة الأولى يبسة (2). ولذلك
صار يسخن ويعطش ويستحيل إلى المرار. والغذاء المتولد عنه غير مستحصف ولا رخو، بل متوسط بين
ذلك. إلا أنه أغذي الفواكه وأقلها نفخا، وإن كان لا ينفك من الفساد، ومن قبل أنه متى وافى في
المعدة لطخا وفضولا، عسر انهضامه فيها، وبعد انحداره عنها وأبطأ في جولانه وانحصر في عمق البدن
وولد رياحا ونفخا، وانتقل إلى دم فاسد مذموم، وأحدث في سطح البدن قملا وصئبانا، ذلك على
حسب مقدار رطوبته في الرقة والغلظ، لأنه إن كان طريا رطبا كانت رطوبته أرق وقل لبثه في مسام البدن
مدة يمكن معها أن تستكمل عفونتها ويتولد منها حيوان. وإذا كان التين يابسا كانت رطوبته أغلظ وأكثر
لزوجة وأطول لبثا في مسام البدن. ولذلك يتولد عنها القمل والصئبان، لأنها لطول لبثها في مسام البدن
تستكمل عفونتها وتنفذ وتصير حيوانا. ومتى وافى المعدة خالية من الغذاء نقية من الفضول، جاد
انهضامه فيها وبعد منها بسرعة، ولطف غذاؤه، وأسرع في جولانه وفى خروجه من مسام البدن وانحداره
من الكلى، وولد دما محمودا ولطف رطوبات البدن العفنة ونقاها إلى سطح البدن. وإن تعذر خروج
الرطوبات العفنة من مسام البدن لغلظها، لبثت هناك زمانا واستكملت عفونتها وولدت قملا وصئبانا.
ولذلك صار التين محمودا من جهة، مذموما من جهة. فأما الجهة التي يحمد فيها، فلانه أقل مضرة من
سائر الفواكه لما فيه من القوة الملطفة الكثيرة الجلاء المنقية. ولذلك صار مطلقا للبطن مدرا للبول منقيا
للصدر والرئة والكلى والمثانة من الرطوبات الغليظة، حتى أنه يحدر مع البول شيئا شبيها بالرمل. ويوافق
من به ربو، ومن تغير لونه من مرض مزمن وللمصروعين والمحبونين (3). وأما الكبد والطحال، فإنا لم
نجد للتين وحده فيهما سدة وجسا (4) زاد فيهما، لحلاوته، فأضر بالكبد والطحال إلا أن يخلط معه بعض
الأدوية التي لها تقطيع وتلطيف، فيكتسب بذلك منفعة في سدد الكبد والطحال ليست باليسيرة.
وأما الجهة التي يذم فيها، فهي أنه إذا بعد انحداره عن المعدة سريعا، غلظ غذاؤه وولد دما



(1) علة حكاك تعرض في البلدان الحارة من كثرة التعرق. (ابن قرة: الذخيرة في علم الطب).
(2) أي أنها في الثانية عند مبدئها وفى الأولى عند انقضائها.
(3) المحبون والحابن: من عظم بطنه وورم.
(4) الجسا، والجسو: اليبس والصلابة.
263
مذموما وأحدث في سطح البدن قملا وصئبانا. ولجالينوس في التين اليابس قول (1) قال فيه: إن إنسانا إن
قال في التين اليابس قولين متضادين زعم فيه أنه يولد دما محمودا أو دما مذموما، لما أكذبه العيان لأنا
ربما رأيناه حافظا للصحة، وربما رأيناه جالبا للمرض. ومنها خاصة التين اليابس أن يولد في سطح البدن
قملا وصئبانا لغلظ رطوبته وبعد انحلاله وطول لبثه في مسام سطح البدن. ومن خاصة التين الطري أن
يولد في سطح البدن حصفا لرقة رطوبته وسرعة انحلالها وقلة لبثها في مسام سطح البدن. والسبب الذي
صار له هذه الخاصة في التين: أن فيه قوة يجلو بها ويلطف الفضول وينقيها إلى سطح البدن. وإن كان
في الرطوبة غلظ، لبثت هناك زمانا وتعفنت وولدت قملا وصئبانا. وإن كان في الرطوبة رقة، أحدثت
حصفا ولم تلبث مدة يمكن فيها أن تعفن وتولد حيوانا.
ومما يدفع ضرر التين ويعين على تفتيحه للسدد في الكبد والطحال وتنقية الأخلاط، استعماله
على خلاء المعدة من الطعام ونقائها من الفضول بالفوذنج والحاشا والزوفا وشئ من فلفل وزنجبيل وخل
ثقيف ومري، لأنه إذا استعمل كذلك كان نافعا للأصحاء فضلا عن المرضى. وإن كره استعماله بشئ
مما ذكرنا ولم ينساغ له، فليتناول بعده سكنجبينا (2) سكريا (3) إن كان محرورا أو سكنجبينا (2) عسليا (2) إن
كان بلغمانيا. ومن كان في طحاله جسا أو سدة، فأفضل ما استعمل بعقبه سكنجبين العنصلان. ومما
يعين التين على كثرة الغذاء وتوليد الدم المحمود، استعماله مع اللوز.
وأما فعل التين على سبيل الدواء، فإنه إذا طبخ مع شئ من زوفا وشرب، نقى فضول الصدر
والرئة ونفع من الأوجاع المتقادمة فيها، ومن السعال المزمن. وإذا تغرغر بطبيخه، حلل الأورام الحادثة
في قصبة الرئة وفى العضل الذي عن جنبتي اللسان أعني اللوزتين. وإذا وطبخ بشراب واحتقن به، نفع
من المغص العارض من الرطوبات الغليظة. وإذا طبخ بجشيش الشعير أو بالحلبة وعمل منه ضماد (3)،
حلل الأورام. وإذا طبخ وحمل مدقوقا على الأورام التي في أصول الآذان، حللها. وإذا أحرق وخلط
بموم وزيت، نفع من الشقاق العارض من البرد. وإذا دق وخلط بخردل مسحوق بماء وجعل في
الآذان، نقى درنها ونفع من الحكة العارضة فيها.
وأما لبن التين، فإنه إذا خلط مع سويق وعمل منه لطوخ، نفع من القوابي والبهق والكلف
والجرب المتقرح وغير المتقرح. فإذا طبخ بشحم ووضع حول الثواليل، قلعها. وإذا عجن بصفرة بيض
وتحملته المرأة، نقى الرحم وأدر الطمث. وإذا شرب بلوز مسحوق، أسهل البطن ولين صلابة الرحم،
وإذا قطر منه على لسعة العقرب أو غير العقرب أو عضة الكلب، نفع من ذلك. وإذا جعل في صوفة
وصير في الموضع من الضرس، سكن وجعه. ومن خاصة لبن التين أنه يجمد اللبن ويفعل فيه فعل



(1) في الأصل: قولا.
(2) جميعها في الأصل بالرفع.
(3) في الأصل: ضمادا.
264
الإنفحة (1) ويذيب (2) اللبن الجامد ويفعل فيه فعل الخل ويقرح الأبدان ويفتح أفواه العروق.
وأما شجرة التين نفسها، فلها مزاج حار لطيف، حتى أن الانسان إذا أخذ من أغصانها في الوقت
الذي يجرى فيها اللبن ويبدأ الورق يظهر، فدقها وعصر ماءها (3)، وجففه في الظل واستعمله فيما ذكرنا
من فعل اللبن، لوجده يفعل فعل اللبن وإن كان أضعف منه كثيرا لان هذه العصارة إنما تفعل بما فيها
من قوة اللبن. ولذلك صار الماء الذي تطبخ به الأغصان والورق، يجلو ويلذع بقوة. وليس هذا فعله
فقط، لكنه يقرح أيضا ويفتح أفواه العروق وينفع من العلة المعروفة بالنملة.
وأما التين البري فإن ثمرته وورقه وأصله ولبنه تفعل فعل التين البستاني، إلا أنها أقوى كثيرا
وأسرع تأثيرا.



(1) الإنفحة والإنفحة والإنفحة والمنفحة: مادة تستخرج من بطن جدي لم يطعم غير اللبن، فتعصر في صوفة مبتلة في اللبن فيغلظ
كالجبن. والعامة تسميها: المجبنة.
(2) في الأصل: ويريب.
(3) عبارة: (ويبدأ.. ماءها) مستدركة في الهامش.
265
في الشجرة المعروفة بالجميز
ويسمى التين الأحمق
الجميز شجرة عظيمة شبيهة بشجر التين العظام، ولها لبن كثير، ويثمر في السنة ثلاث (1) مرات
أو أربع، وثمرتها شبيهة بالتين الصغير المعروف بالشاهنجير (2). وقال ديسقيريدس شبيهة بالتين البري
لبزرها الذي في جوف ثمرتها من العظم والصلابة ما لبزر التين. وليس لثمرها حرافة ولا حدة، لكن لها
عذوبة يسيرة مع رطوبة شبيهة برطوبة التوت في اللزوجة. ولذلك صيرها قوم من المتطببين متوسطة بين
التوت <والتين> (3) ونسبوها إلى الحرارة والرطوبة في وسط الدرجة الأولى. وثمرتها في خروجها
مخالفة لخروج الثمار، لأنها ليس إنما تخرج من القضبان فقط كخروج سائر الثمار، لكنها تخرج من
جميع الأغصان وأصول الورق وأصل الشجرة في نفسها. وليس تنضج ثمرتها نضجا كاملا دون أن يشرط
رأسها ويخنق ويقلع منه مقدار دون الترمسة، ويدهن الشرط بزيت. وكثيرا ما يرتفق (4) بثمرتها في السنين
الجدبة لوجودها في كل وقت إذ كانت تثمر في السنة مرات.
وحكى جالينوس عن قوم ذكروا أن هذه الشجرة كانت في الابتداء بفارس، وكان فيها مرارة،
وكان (5) من أكلها يموت حتى أنهم أقاموها مقام السم (6) القاتل من قرب. ثم إن قوما نقلوها إلى
الإسكندرية فخرج منها ثمرة يتغذى بها كما يتغذى بالتين والتفاح والكمثرى (7). وأما نحن فإنا شاهدنا من



(1) في الأصل: ثلاثة.
(2) قيل أنه التين الفج. وقيل أن الشاهنجير بالفارسية هو خير أنواع التين. (جامع ابن البيطار).
(3) لعلها الإضافة الصحيحة لتمام المعنى.
(4) ارتفق بالشئ: انتفع.
(5) في الأصل: وكانت.
(6) في الأصل: السموم.
(7) في (الجامع لمفردات الأدوية والأغذية): أن قول جالينوس هذا إنما هو من كلامه في شجرة اللبخ لا الجميز. وأن عالمين
مشهورين وهما وهما فاحشا، وتقولا على جالينوس ما لم يقله قط: إسحاق بن سليمان والتميمي الذي ذكر في كتابه (المرشد
لقوى الأدوية والأغذية) في الجميز ما حرفه الإسرائيلي عن جالينوس حرفا بحرف ونسبه إلى نفسه، فكان أمره أعجب.
وقال ابن البيطار: (قال الإسرائيلي في كتابه الموسوم بالأغذية بعد كلام قدمه في الجميز ما نصه: (وحكى جالينوس عن قوم
ذكروا... والكمثرى). فهذا الرجل وهم كما تراه على جالينوس وقال عنه ما لم يقل، وإنما أتى عليه ذلك فيما أحسب في
أنه نقل الكلام في الجميز من أغذية جالينوس من نسخة سقطت منها ترجمة الباب في اللبخ الذي أعقب به جالينوس كلامه في
الجميز فاختلط عليه الكلام، فأدخل اللبخ في الجميز. إلا أني مع ذلك أعجب من كونه لم ينقل كلامن. في اللبخ على ما هو
عليه بل حرفه وزاد فيه ونقص على ما رأيت. فلو نقل من كتاب جالينوس نفسه لأورد كلامه في اللبخ على ما هو عليه، وهذا
مقام حيرة لا أدري ما أقول فيه، إلا أنه حرف فيه وبدل من قول جالينوس ما لم يقل في الجميز واللبخ معا. أما الجميز فكون
جالينوس لم يقل قط أنه كان سما. وأما اللبخ فكونه لم يورد فيه كلام جالينوس على ما هو عليه). إشارة هنا إلى أن ابن البيطار
كان ذكر قبل قول جالينوس في اللبخ وفيه: (.. ويحكى عنها أنها تبلغ من رداءة ثمرها في بلاد الفرس أنها تقتل من
يأكلها..).
266
ثمرة هذه الشجرة شيئا من الحمرة والعظم ما ليس للتين وشاهدنا منه آنفا ما لونه عسلي إلى السواد ما
هو، ومقداره مقدار التين الصغير المعروف بالشاهنجير، إلا أنه في جملته أقل حلاوة من التين وأعسر
انهضاما وانحدارا وأبعد نفوذا في العروق للزوجته وغلظه. ولذلك صار ثقيلا في المعدة جدا، مؤذيا لها.
وأما أهل مصر فيشربون بعقبه الماء البارد دائما، ويزعمون أن الماء البارد يعومه في المعدة ويخفف ثقله
عليها. وإذا طبخت ثمرة هذه الشجرة بالماء وكررت في ذلك الماء مرات، ينزع في كل وقت مرة ويصير
في الماء بدلها شئ طري حتى يظهر طعمها وقوتها في الماء، ثم طبخ ذلك الماء بسكر طبرزد، نفع
لمن كان محرورا، أو بعسل لمن كان بلغمانيا، كان نافعا من السعال المتقادم والنوازل المنحدرة من
الرأس إلى الصدر والرئة. وإذا طبخت وحملت على الأورام الصلبة، حللتها (1). ومتى وضعت غير
مطبوخة، قلعت الخيلان (2) والتوثة وبخاصة إذا كانت فجة غير نضيجة. وأما لبن هذه الشجرة، فإن له
قوة محللة للأورام مانعة من حسا الطحال. وإذا شرب من لبنها أو حمل على موضع لسع الهوام، نفع
من ذلك، وعلى الجراحات ألصقها وجففها.



(1) (حللتها) ساقطة من المتن. وأثبتناها من ذيل الصفحة السابقة.
267
في العنب
أما العنب فينقسم قسمة جنسية على ضربين: وذلك أن منه الغض الحامض المعروف
بالحصرم، ومنه الكامل النضج الصادق الحلاوة وهو العنب على الحقيقة. فأما الحصرم فبارد في الدرجة
الثانية، يابس في الثالثة، له ثلاثة أجزاء مركب منها: أحدها: الحب، والثاني: القشر، والثالث:
الرطوبة. فأما الحب فيابس له كثافة وصلابة، ولذلك صار أشد يبسا من القشر وأغلظ وأعسر انهضاما
وأبعد من الاستحالة والتغيير، بل لا استحالة له ولا تغيير أصلا، لكنه ينحدر عن المعدة والمعاء بصورته
وشكله من غير أن ينحل شئ من أجزائه. إلا أنه إذا سحق جيدا وشرب، قوى المعدة بعفوصته وقبضه
وقطع الاسهال المري، وبخاصة إذا كان محمصا. وأما القشر فغليظ عصبي، ولهذا صار لا يستحيل
أيضا ولا ينحل ولا يغذو البدن أصلا. وأما الرطوبة فلقبضها وعفوصتها، عسر انهضامها، إلا أنها مقوية
للمعدة والكبد جميعا، مسكنة للحرارة، قاطعة للعطش، قامعة لحدة المرة، نافعة من القئ المري (1)
والاسهال العارض في الكبد والمعدة عن ضعف القوة الماسكة. وإذا اكتحل بها، قوت الحدقة وقطعت
الرطوبات الغليظة التي في المأقتين (2).
ولديسقيريدس في عصارة الحصرم قول قال فيه: إن عصارة الحصرم إذا استخرجت قبل طلوع
نجم الكلب وجعلت في إناء نحاس مغطى بثوب وصيرت في الشمس نهارا، ورفعت من الندى ليلا كيلا
ينالها برد الهواء ويمنعها من الانعقاد، وصبر عليها حتى تغلظ وتصير كالعسل، كانت موافقة للعضل
الذي عن جانبي الحلق المعروفة باللوزتين واللهاة واللثة الرخوة، التي تسيل منها الفضول، والقلاع (3)
والآذان التي يسيل منها القيح. وإذا احتقن بها، نفعت من قروح المعاء ومن سيلان الرطوبة المزمنة من
الرحم. ويشرب أيضا لنفث الدم العارض قريبا (4) من انفتاق بعض العروق التي للصدر من غير سعال.



(1) أي قئ المرة الصفراء.
(2) المأق والمؤق، جمع مآقي وغير ذلك كثير: مجرى الدمع من العين وهو طرفها مما يلي الانف.
(3) القلاع: بثرات تكون في جلدة الفم أو اللسان.
(4) في جامع ابن البيطار، نقلا عن ديسقوريدوس: (قديما).
268
وينبغي أن تستعمل ممزوجة بالماء حتى ترق وتقل حدتها. وقد تعطي مثل ذلك إذا طبخت بعسل
النحل أو بالسكر طبرزد. ومن الناس من يطبخ هذه العصارة ساذجة ويتخذ منها شرابا.
* * *
وأما العنب فهو شبيه بالتين في قلة رداءة الدم المتولد عنه، وفى فضله على سائر الفواكه في كثرة
الغذاء، وفى أن اللحم المتولد عنه غير ملزز ولا مكتنز كاكتناز اللحم المتولد عن الخبز، لكنه منفوخ
رهل، ولذلك صار المدمن عليه إذا ترك استعماله وأمسك عن أكله، ضمر بدنه بسرعة. وإن كان العنب
أقل غذاء من التين كثيرا أو أسرع انحلالا من الأعضاء، إلا أنه له أربعة أجزاء هو منها مركب: أحدها:
القشر، والثاني: الحب، والثالث: اللحم، والرابع: الرطوبة التي يكون منها اللحم.
فأما الحب فبارد يابس قابض قريب من حب الحصرم في غلظه وصلابته. ولذلك صار ينحدر
من المعدة وينفذ في المعاء من غير أن يحدث في شئ من أجزائه كسر ولا تغيير محسوس، إلا أن فيه
حرارة يسيرة بها امتاز من حب الحصرم وصارت له قوة تهيج المعاء إلى دفعه بسرعة. ولذلك صار يسرع
الانحدار والخروج قبل أن ينطحن. ولجالينوس في حب العنب والتين قول قال فيه: إن حب هاتين
الثمرتين لا تبتل في المعدة ولا تنحل أصلا، لكنه ينحدر ويخرج بهيئته وصورته.
وأما قشر العنب فهو في طبيعته بارد يابس عصبي شبيه بقشر التين في عسر انهضامه وانحداره
وامتناع استحالته، ولذلك لم يكن منه غذاء للبدن. ولجالينوس في قشر العنب والتين قول قال فيه: إن
قشر هاتين الثمرتين متشابهين وهو لهما شبيه بالجلود للحيوان. وما أقل تغيره في البدن. ولذلك صار
العنب إذا أخذ بقشره وحبه، عسر انهضامه وانحداره وكثرت رياحه ونفخه، وولد كيموسا بعيدا من
الاستحالة إلى الدم، لأنه إذا لم ينهضم في المعدة جيدا، كان ما يصل منه إلى الكبد والعروق غليظا نيا
غير منطبخ ولا ينهضم. وإذا كان كذلك ثقل على المعدة هضمه وأضر بها مضرة بينة. ولذلك قال
جالينوس: إن أحمد حالات العنب إذا جاد انهضامه في المعدة وانحدر عنها بسرعة لأنه أن أبطأ قليلا
واحتبس فيها، كان له من صعوبة المضرة وقوتها ما ليس للتين النضيج إذا احتبس من قبل أن التين في
الجملة أسرع انحدارا من العنب لفضل ما فيه من قوة الجلاء. ولهذا صارت مضرته أقل. ومن قبل ذلك
كان من الأفضل أن يتوقى أخذ العنب بحبه وقشره، لكن يمص مصا ويرمى بثفله ولا سيما إذا كان حبه
كبيرا وقشره غليظا ولحمه غليظا.
وأما لحم العنب فحار لين قريب من الاستحالة سريع التشبه بالدم، يغذو غذاء محمودا،
ولجالينوس في العنب والتين فصل قال فيه: ومن فضيلة هاتين الثمرتين على سائر الفواكه أنهما ليسا
بصعبي الكيموس ولا عسري الاستحالة ولا سيما إذا كانتا قد نضجتا على أشجارهما نضجا كاملا. وجعل
دليله على ذلك من نواطير الكرم لأنهم في الشهرين اللذين ينطرون فيهما الكرم، ليس أكثر غذائهم إلا
التين والعنب، وزعم قوم أنهم لا يردون من الغذاء غيرهما، وأن ذلك لا يكسبهم مضرة، ولا ينكرون من

269
أحوالهم شيئا إلا سرعة الهزال إذا هم تركوا أكلها. وذلك أن اللحم المتولد عنهما منفوخ سريع الذوبان،
لأنه غير ملزز ولا كثيف مثل اللحم المتولد عن الخبز لكنه رخو منفوش (1) لا صبر له ولا بقاء، ولذلك
ينحل ويذوب بسرعة ويلحق أصحابه الهزال من كثب، وإن كان التين أبعد انحلالا من الأعضاء قليلا.
ولذلك لا يسرع الهزال إلى أهله بعد تركهم التغذية كما يسرع إلى من كان مستعملا للعنب ثم تركه.
وقد يستعمل العنب على ضروب فتختلف قواه وأفعاله وغذاؤه وذلك: أن منه ما يؤكل وهو بعد
طري حين يقطف من كرمه. ومنه ما يعلق بعد حتى ينشف الهواء أكثر رطوبته الفضلية. ومنه ما يكبس
في السلال أياما. ومنه ما يحصل في جرار فخار وتغطى رؤوسها ويسد الوصل بزفت ويدفن في ثجير (2)
العنب. و <منه> ما يدفن في ثجيره من غير جرار. ومنه ما يصير في إناء ويلقى عليه الطلاء (3) وعصير العنب
الحلو.
فأما ما يؤكل منه حين يقطف من كرمه، فإنه متى وافى المعدة نقية من الفضول خالية من
الغذاء، قوته على الطبخ، وحسن انهضامه ولطف غذاؤه وأعان على إطلاق البطن وانحل عن الأعضاء
بسرعة. وإذا وافى المعدة مملوءة فضولا أو غذاء أو ضعيفة عن الهضم ولبث فيها قليلا، ولد نفخا
وقراقر (2) وبخارات مصدعة مؤذية وأضر بالمعدة إضرارا بينا وكان الغذاء المتولد عنه مذموما.
وأما ما يكبس في السلال، فإن رطوبته تسخن وتغلي وتكسبه بخارات غليظة تترقى إلى الرأس
وتحدث فيه صداعا. فلذلك صار مولدا للرياح والنفخ، غليظ الغذاء، عسير الانحلال من الأعضاء.
وأما ما يصير في الجرار والفخار وتغطى رؤوسها ويطين الوصل بزفت ويدفن في ثجير العنب،
فإن الفخار ينشف أكثر رطوبته الفضلية، إلا أنها أيضا تسخن وتحمى ويكتسب بخارا وغلظا. فهو لقلة
رطوبته يقوي المعدة وينبه الشهوة للطعام فيمن كانت شهوته مقصرة (4). ولما يكتسبه من البخار الغليظ،
يعسر انحداره من المعدة ويبعد من التدبير الملطف. فإذا أكثر منه ولد نفخا وقراقر (5) وصار مصدعا
مؤذيا.
وأما ما يدفن في ثجير العنب من غير حاجز يحجز بينهما، فهو شبيه بما يرفع في الجرار، إلا أن
فيه تقوية للمعدة ومعونة على حبس البطن والنفع من نفث الدم. ذلك لما يكسبه من عفوصة الحب
والقشر، غير أن الاكثار منه مضر (6) بالمثانة والرأس لأنه يولد صداعا، عسير الانحلال لما يتولد من
البخارات إذا حمي يكبس بعضه على بعض. ولذلك صار ما يعلق تعليقا حتى ينشف الهواء أكثر رطوبته
من غير أن يكسبه بخارا ولا غلظا، أسرع انهضاما من سائر العنب وأحمده غذاء وأعدل وأشد موافقة



(1) في الأصل: رخوا منفوشا.
(2) الثجير: ثفل عصير الثمار كالعنب والتفاح.
(3) هو ما طبخ من عصير العنب حتى بقي ثلثه.
(4) في الأصل: مقصرا.
(5) في الأصل: وقراقرا.
والتين وغيرها. أو هو ثفل كل ما يعصر.
(6) في الأصل: مضرا.
270
للتدبير الملطف وأبعد من مولد الصداع والنفخ، لان الهواء قد نشف أكثر رطوبته الفضلية لأنه لم يخزن
ولا كبس بعضه على بعض حتى يحمى وتتولد منه بخارات غليظة. وأما فعله في حبس البطن أو تليينه،
فإنه غير مطلق ولا حابس لان ليس فيه من قوة العفوصة ما يحبس البطن، ولا من زيادة الرطوبة ما يطلق.
ولذلك صار غير مقو للشهوة ولا مضعف لها لان ليس فيه من القبض ما يقويها، ولا من فضل الرطوبة ما
يفسدها.
وأما ما يصير من الطلاء، وفى عصير العنب الحلو، فإنه أغلظ وأكثر غذاء وأقل موافقة للمعدة
وأبعد من التدبير الملطف وأكثر رياحا ونفخا لما يكتسبه من الرطوبات الفضلية الغليظة. فأما رطوبة
العنب المعراة من اللحم، فغذاؤه غذاء حسنا، إلا أنه أقل من غذاء اللحم الغث وأسرع انحدارا. ذلك
لسيلان الرطوبة وغلبة المائية عليها وبعدها من الغلظ واللزوجة، ولذلك صار العنب الذي لحمه وشحمه
أكثر من مائيته ورطوبته وبخاصة متى كان قشره أغلظ وحبه أكبر وأعظم. والعنب الذي رطوبته ومائيته
أكثر من لحمه وشحمه مثل العنب الحديث الانعقاد، أقل غذاء وأسرع انهضاما وانحدارا وبخاصة متى
كان قشره أرق وحبه أقل وأصغر. ولذلك قال جالينوس: أن أسلم أصناف العنب وأقلها غائلة ما كان
نضيجا جسيما ولحمه قليلا ماؤه غزيرا وقشره رقيقا وحبه قليلا صغيرا، وعلق بعد قطافه مدة، وأكل
بمقدار ورمي حبه وقشره.
وقد تستخرج رطوبة العنب على ضربين: وذلك أن منه ما يكبس بعضه على بعض حتى يضغط
بعضه بعضا (1) وتسيل مائيته ورطوبته المعروفة (2) بالسلافة (3) من غير أن يعتمد عليه معتمد ويعصره. ومنه
ما يعصر بالدوس والدهق (4) حتى يخرج لحمه مع رطوبته. فأما الأول منها المعروف بالسلافة، فإن
رطوبته خالصة محصنة لم يشبها من عفوصة الحب والقشر، ولا غلظ اللحم. ولذلك هو أرق وألطف
وأسرع انحدارا وانهضاما وأسهل نفوذا في العروق وأعون على إطلاق البطن، إلا أن غذاءها أقل
وانحلالها من الأعضاء أسرع. وإن أبطأت في المعدة قليلا وبعدت بانهضامها، ولدت نفخا ورياحا. وأما
النوع الثاني المستخرج بالدوس والدهق، فإن لحمه وشحمه وبعض قوة حبه وقشره يخرج منه. ولذلك
صار أغلظ وأكثر غذاء وأعسر انهضاما وأبعد نفوذا في العروق. ولهذه الجهة صار كثيرا ما يتبقى منه بقايا
في أفواه العروق وتولد فيها سدة. إلا أنه لما يكتسبه من عفوصة الحب، صار فيه شئ من تقوية
المعدة.
وقد يختلف العنب من وجوه غير ما قدمنا ذكره، ذلك أنه يختلف من قبل طعمه ومن قبل لونه
ومن قبل لطافته وغلظه. أما اختلافه من قبل طعمه، فيكون على ضروب: وذلك أن منه الشديد
الحلاوة، العسلي الطعم. ومنه الرقيق المائي القريب من المز. ومنه المتوسط بين ذلك، الخمري
الطعم. فما كان منه حلوا عسليا، كان أقواها حرارة وأشدها تولدا للعطش وأغلظها وأكثرها لحما وغذاء



(1) كانت في الأصل: (على بعض). فشطب (على) وأصلح (بعض).
(3) السلافة هي أول ما يعصر من كل شئ.
(2) في الأصل: المعروف.
(4) دهق دهقا الشئ: كسره وقطعه.
271
وأعسرها (1) انهضاما وأبعدها انحدارا وأعونها على تليين البطن، وأخص أنواع العنب بتوليد النفخ والقراقر
وسد الكبد والطحال، ذلك لطول لبثه في العروق وعسر نفوذه فيها لغلظه وقلة (2) حلاوته.
وما كان منه رقيقا مائيا قريبا من المز، كان أقلها وألطفها غذاء وأعدلها مزاجا وأسرعها انهضاما،
ولذلك صار مقويا (3) للمعدة منقيا (4) لها من المرة الصفراء مسكنا للعطش، موافقا لمن اعتدل مزاجه
ورطوبته. وأما ما كان طعمه خمريا متوسطا بين لطافة المزازة وغلظ الحلاوة، فإنه بالإضافة إلى المز أكثر
غذاء وأغلظ وأبعد انهضاما وأقل تسكينا للعطش، وبالإضافة إلى الحلو أقل غذاء وألطف وأسرع انهضاما
وأسهل نفوذا في العروق وأبعد من توليد السدد والرياح.
فأما اختلاف العنب من قبل لونه يكون على أربعة ضروب: لان منه الأبيض الصافي، الكثير
المائية، القليل اللحم، الرقيق القشر، الصغير الحب. ومنه الأسود الغليظ اللحم والقشر القليل المائية
العظيم الحب. ومنه الأصفر والأحمر المتوسطان بين غلظ الأسود ولطافة الأبيض. فما كان من العنب
أبيض صافيا (4)، كان أرق وألطف وأسرع انهضاما ونفوذا في العروق وأعون على درور البول، إلا أنه أقل
غذاء وأسرع انهضاما من الأعضاء. وما كان منه أسود غليظا (4)، كان أشدها عفوصة وأكثرها تقوية للمعدة
وأعسرها انهضاما وأبعدها من درور البول، إلا أنه إذا انهضم كان غذاؤه أكثر. وما كان منه أحمر وأصفر
كان متوسطا بين غلظ الأسود ولطافة الأبيض إلا أنهما أميل إلى الأبيض منهما إلى الأسود، وأقربهما من
الأبيض والأسود، ولذلك صار ألطف وأسرع انهضاما (5).



(1) في الأصل مسبوقة بلفظ (وأسرعها) ملغاة مشطبة.
(2) كذا في الأصل. والمقتضى لظاهر السياق أن تكون.
(3) في الأصل: (مقوى)، (منقى).
(4) في الأصل: بالرفع.
(5) في العبارة اضطراب.
(6) يعني أرسطو.
(وكثرة). وإلا تعرضت عبارة (وأخص أنواع العنب.
وقلة حلاوته) للاضطراب.
272
القول في الزبيب
إن نسبة الزبيب إلى العنب كنسبة التين اليابس إلى التين الطري، إلا أنه ألطف جسما وأقل
حلاوة من التين. فللطافته في جسمه وقلة حلاوته، صار انفعاله أكثر من فعله، وصار انقلابه إلى المرار
أسرع من انقلاب التين إلا أنه متى لم ينقلب إلى المرار، كان أوفق للمعدة كثيرا. ذلك لخفته عليها وقلة
إتعابه لها. وقد يختلف في طبيعته وغذائه وفعله على حسب اختلاف طعمه ومقدار جسمه. فأما طعمه
فيختلف على ثلاثة ضروب: لان منه الحلو الصادق الحلاوة. ومنه ما فيه مرارة. ومنه ما فيه قبض
وخشونة. وما كان كذلك فهو مركب من قوتين: قوة تنضج وتحلل تحليلا معتدلا وقوة تقبض وتقوي.
والسبب في تقويته طبيعة حبه لان لحمه وإن كان حارا رطبا محللا، فإن حبه بارد يابس مقبض.
وما كان من الزبيب حلوا كان أكثر حرارة ورطوبة وبخاصة متى كان أسود، ولذلك صار متوسطا
بين ما يرخي ويشد، لأنه يرخي المعدة ولا يشدها، ولا يطلق البطن ولا يحبسه. ولذلك صار له تعديل
لما يصادف في المعدة من الأخلاط الرديئة متى كانت يسيرة. ومن فعله تسكين اللذع الذي في المعدة
وبخاصة إذا كان لحيما رقيق القشر صغير الحب. وما كان كذلك كان نافعا لأوجاع الصدر والرئة ملينا
للسعال جلاء لما في الكلى والمثانة إلا أنه غير موافق للكبد والطحال إذا كان فيهما جسأ (1) أو غلظ. وما
كان من الزبيب مائلا إلى المرارة قليلا كان أقل غذاء وأمسك إلى البرودة وقلة الرطوبة وخاصة متى كان
أبيض. ولذلك صار مقويا للمعدة حابسا للطبيعة مسكنا للحر. وأكثر منه في هذا ما كان عفصا، لأنه أقل
أنواع الزبيب رطوبة وأكثرها يبوسة، ولذلك صار أكثر تقوية للمعدة وأعون على حبس البطن ولا سيما إذا
كان لحمه قليلا وحبه كثيرا.
وقد يستعمل الزبيب على ضروب فتختلف أفعاله وغذاؤه، ولذلك أن منه ما يؤكل بعجمه، ومنه
ما يؤكل بغير عجمه، وهو أكثر موافقة للسعال وعلل الصدر والرئة وأوجاع الكلى والمثانة وأعون على



(1) أي قساوة.
273
إطلاق البطن وبخاصة إذا كان طعمه حلوا وجسمه لحما وقشره رقيقا قليلا (1) صغيرا، إلا أنه قليل
الموافقة للكبد والطحال إذا كان فيهما جسأ وغلظ. وما يؤكل من الزبيب بعجمه فهو أكثر تقوية للمعدة
والكبد، نافع لعقر (2) المعاء وبخاصة إذا كان مرا أو عفصا، وكان لحمه قليلا وحبه كثيرا. والزبيب إذا كان
مطبوخا كان أشد تجفيفا وأقل ترطيبا وبخاصة إذا كان معه عسل. ونقيع الزبيب أقل تجفيفا وأكثر ترطيبا
ولا سيما إذا كان معمولا بالسكر أو بالعسل.



(1) كذا. ولعلها: (وحبه قليلا صغيرا).
(2) أي لجرح.
274
في شجرة الكرم في ذاتها
قال ديسقوريدوس: عصارة ورق الكرم إذا شربت، نفعت من قروح المعاء والذين يتقيأون الدم،
والذين يشكون معدهم، وللحوامل من النساء. وخيوط الكرم الدقاق إذا أنقعت في الماء وشربت، فعلت
مثل ذلك. وقد يتخذ من زهرة الكرم دهن يقوم مقام دهن الورد، وهو أن تؤخذ الزهرة فتذبل وتجعل في
زيت أنفاق يومين، ثم تعصر وترفع وتستعمل. وأجود ما تكون إذا سعطت (1) منه رائحة زهرة (2) الكرم.
وقلوب الكرم الرطبة إذا مضغت وشرب ماؤها، نفعت من القئ العارض من المرة الصفراء والاسهال
الكذلك. وإذا دق ورق الكرم وخيوطه وعمل منها ضماد (3)، كان نافعا من الصداع الصفراوي. وإذا
خلط معها سويق الشعير وعمل منها ضماد على المعدة، سكن الالتهاب العارض فيها ونفع من الورم
العارض لها. وصمغة الكرم الشبيهة بالصمغ الجامدة على القضبان إذا شربت مع شراب، أخرجت
الحصى. وإذا عمل منها لطوخ، أبرأت القوابي والجرب المتقرح وغير المتقرح. وإذا أردت أن تلطخ
بها القوابي، فاغسل الموضع قبل ذلك بنطرون. وإذا مسح بها منابت الشعر مع الزيت دائما، حلقت
الشعر ومنعت من نباته. وقضبان الكرم الطرية إذا أحرقت (4) بسكين، رشح منها الدمع كما يرشح
العرق. وهذه الدمعة هي المسماة الصمغة وهي التي إذا لطخت على الثواليل أذهبت بها. ورماد قضبان
الكرم ورماد ثجير العنب إذا عمل منه ضماد مع الخل، نفع من المقعدة (5) التي قد قلع منها البواسير
النابتة ومن التواء العصب. وقد ينفع من نهشة الأفعى. وإذا عمل منه ضماد بدهن ورد وخل وسذاب،
نفع من الورم العارض للطحال.



(1) سعط الدواء: أدخله في أنفه. والسعاط: حدة الرائحة.
(2) (زهرة) مضافة في الهامش.
(3) في الأصل: ضمادا.
(4) هنا بمعنى حكت وبردت.
(5) في الأصل: المعدة. والأرجح أنه تصحيف من الناسخ.
275
ولديسقيريدوس في زهرة الكرم البري قول قال فيه: إنها تؤخذ وهي مزهرة وترفع في إناء من
خزف وتجفف في الظل. ولها قوة قابضة إذا شربت، قوت المعدة وعقلت البطن وقطعت نفث الدم
وأدرت البول لعقلها البطن. وإذا خلطت بخل ودهن الورد وحملت على الرأس، سكنت الصداع. وإذا
تمضمض بمائها رطبة ويابسة، قوت اللثة ونفعت الأسنان. وفى كتاب آخر بدل زهرة الكرم ثمرة الكرم
وهي غضة كما تزهر. وزعم ديسقيريدس أنه يعمل من زهرة الكرم دهن، وهو يقوم مقام دهن الورد.
وصفته: أن تؤخذ زهرة الكرم وتذبل قليلا وتنقع في زيت أنفاق ويحرك زهره جيدا ويترك فيه ثلاثة أيام
بلياليها ويعصر ويصفى ويصير في قوارير وتحرز (1) وتستعمل عند الحاجة إليها.



(1) حرز الشئ: صانه وادخره.
276
في التوت
التوت يكون على ضربين: لان منه ما هو بعد نئ فج شديد الحموضة، ومنه ما قد نضج وكمل
وصار حلوا أو مزا. فما كان فيه بعد فجاجة وحموضة فهو في طبيعته بارد يابس، وله قوة قابضة مقوية
للمعدة والمعاء جالية للطبيعة. ولذلك صارت هذه الثمرة إذا جففت، كان منها دواء قوي لحبس البطن
حبسا شديدا حتى أنه يصلح لقروح الأمعاء ولجميع العلل التي من جنس التحلب. وكثير من الناس من
يسحقها ويخلطها مع الأطعمة كما يخلط السماق. وإن أحب <إنسان> أن يشربها مع الماء ومع بعض
الأشربة، شربها. ومن خاصة هذه الثمرة أنها فيها (1) ولا سيما إذا طبخت بعقيد العنب أو بشئ من
سكر. وما كان من التوت كامل النضج قد غلبت عليه الحلاوة، نسبت حلاوته إلى الحرارة واللزوجة
والرطوبة، وإن كانت نسبته إلى البرودة أثبت لان رطوبته أكثر من حرارته وأظهر. ولذلك صار سريع
الانحدار عن المعدة ملينا للبطن مدرا (2) للبول إلا أنه متى وافى في المعدة غذاء قد تقدمه (3) أو فضولا
قد سبقته، عاقها ذلك عن الانحدار بسرعة، وطال لبثه في المعدة ولحقه الفساد من قرب وأضر بالمعدة
والرأس. وإن لم يعقه عائق عن الانحدار من المعدة، انهضم بسرعة وغذى غذاء يسيرا رطبا من غير
تبريد للمعدة ولا تسكين لحرارتها.
ولذلك صار من الواجب ألا يؤخذ إلا على خلاء من المعدة من الغذاء ونقاء من الفضول
وبخاصة الفضول الرطبة لأنه إن وافى في المعدة فضولا رطبة، كان الفساد الذي ينتقل إليه فسادا لا
يوصل إلى وصفه شبيها بما يتولد من القرع والبطيخ إذا لم ينهضم على ما ينبغي. إلا أن قوته غير مهيجة
للقئ كتهييج البطيخ ولا مضرة بالمعدة كإضراره أيضا، لان البطيخ أكثر إرخاء لعصب المعدة. والتوت
إذا انهضم على ما ينبغي ولم يعقه عائق عن الانحدار، طرق (4) لما تبعه من الطعام وسهل انحداره
وأطلق البطن وأدر البول فكان أصلح لآكله، لأنه على مثل هذه الحال لا يفسد، وإن كان غذاؤه
<أقل> (5) فإن لم يفسد يسيرا، كان سريع الانحلال من الأعضاء، إلا أنه يرطب لا محالة من غير تبريد
لان التبريد ليس هو من طبعه لحلاوته، إلا أن يبرد بالماء الشديد البرد أو بالثلج، فيستفيد برودة من الماء



(1) كذا في الأصل.
(2) في الأصل: مدر.
(3) في الأصل: تقدمته.
(4) طرق له: جعل له طريقا.
(5) لعل هذه الزيادة هي المرجوة.
277
يقوى بها على تسكين الحرارة، وإن كان ذلك زائدا في تفجيجه وبعد انحداره، إلا أن يكون المستعمل
له قد تحشفت (1) معدته وغلبت عليها الحرارة واليبوسة، فيعين ذلك على هضمه ويصير محمودا مسكنا
لحرارة الكبد من قبل أن المعدة إذا صارت إلى مثل هذه الحال من الحرارة واليبوسة، لم يكن بد للكبد
من أن يناله بعض ذلك. وإذا أخذ التوت على الريق مبردا بالماء أو بالثلج، قطع العطش وسكن
الالتهاب ولا سيما إذا كان في التوت بعض المرارة.
ولجالينوس في التوت فصل بديع قال فيه: إن في التوت الحلو قوة مسهلة مشاكلة لقوة الأدوية
المسهلة، إلا أنها ضعيفة ولم يوضح السبب في ذلك. وليس بمنكر أن تكون مثل هذه القوة في التوت
النضيج على ما في شجره من الخواص العجيبة، لأنا نجد في لحاء (2) هذه الشجرة وأغصانها وورقها
مرارة وحدة يجلو بها ويقطع ويقتل الدود العريض، المعروف بحب القرع، ويخرجه من البطن. وإذا دق
ورقها وحمل على السرة، فعل مثل ذلك. وإذا دقت عروقها وطبخت وشرب ماؤها، لين البطن وأخرج
الدود وحب القرع. وإذا دق قشرها وورقها وطبخا، وتمضمض بمائها وأمسك في الفم ساعة، نفع من
وجع الأسنان. وإذا طبخا بطلاء واتخذ منهما غرغرة، نفعت من البلة المنحدرة إلى اللهاة واللوزتين.
وإذا طبخ ورقها مع ورق الكرم وورق التين اليابس بماء المطر، سود الشعر. وإذا شرب من عصارة
الورق قدر أوقية ونصف، نفع من نهش الرتيلاء. وإن حفر الانسان عن أصل هذه الشجرة وشرط
شرطان، وترك ليلة، وجد في الشرط بالغداة رطوبة جامدة تنفع من وجع الأسنان، وتسهل البطن. وإذا
سحق أصل هذه الشجرة وجعل في خل ثقيف وصير في الشمس أربعة عشر يوما وجفف وسحق وحمل
على الأضراس المأكولة، قلعها كلها. ومما يدفع ضرر التوت أن يغسل قبل أكله بالماء مرات، ولا يؤكل
إلا على الريق على خلاء من المعدة ونقاء من الفضول منها، لأنه إذا استعمل على هذه المثال، اكتسب
من الماء برودة ليسكن بها الحرارة ويغذو، وبعدا من الفساد لنقاء المعدة وقوتها على هضمه، وأمن
صاحبه إضراره بالمعدة والرأس.
ولديسقيريدس في التوت النضيج قول قال فيه: إن عصارته إذا طبخت في إناء من نحاس
ووضعت في الشمس أياما حتى تنعقد، كان أشد لقبضها. وإن خلط معها يسير من عسل، كانت صالحة
للورم العارض للعضل الذي على جنبي الحنك وأصل اللسان. وإن صير فيها شب (3) يماني ويسير من
عفص وزعفران وثمر الطرفاء (4) وأصول السوسن المعروف بالايرسا (5) وكندر وسعد، كان أقوى لفعلها.
ولك أن تزيد في هذه العقاقير وتنقص على ما تراه من مزاج المتعالج بها، لأنا قد وجدنا بعض المتطببين
قد أزال هذه الايرسا والسعد والكندر، وصير بدل العسل سكر طبرزد.



(1) أي تقبضت ووقلصت.
(2) اللحاء: قشر العود أو الشجر.
(3) الشب: ملح معدني معروف. واليماني أجوده.
(4) الطرفاء: شجرة تنبت في المياه القائمة، ثمرها يشبه الزهر والبستاني منه يشبه العفص.
(5) ضرب من الرياحين رائحته زكية. ولفظه بالفرنسية: lris.
278
في الإجاص
الإجاص في الجملة يغذو غذاء يسيرا جدا لأنه على ضربين: لان منه الأبيض المعروف
بالشاهلوج، ومنه الأسود المعروف بالإجاص على الحقيقة. فأما الشاهالوج فبطئ الانهضام ردئ
للمعدة قليل الاسهال للبطن، ذلك لغلظ جسمه وقلة رطوبته وبعد انحداره. ولذلك وجب ألا يقرب منه
إلا ما كان عظيما في غاية النضج والكمال. وأما الإجاص الحقيقي فينقسم قسمة أولية على ضربين: لان
منه البستاني، ومنه البري. والبستاني على ثلاثة ضروب: لان منه الأسود الكامل النضج والعذوبة. ومنه
ما هو بعد أخضر في غاية الفجاجة والعفوصة. ومنه ما هو أحمر اللون متوسط النضج قد غلب على
طعمه الحموضة لتوسطه بين الحلاوة والعفوصة. وبين كل نوعين من هذه الأنواع نوع آخر متوسط، لان
بين الأسود (1) الكامل النضج والحلاوة، وبين الأحمر الحامض المتوسط (2) النضج، نوع آخر خمري
اللون (3) في طعمه مرارة. وبين الأخضر الصلب وبين الأحمر الحامض المتوسط النضج نوع آخر مائل
إلى البياض والتورد قليلا، في طعمه قبض مع شئ من تفاهة، لان رطوبته أرق وألطف من رطوبة
العفص وأغلظ من رطوبة الحامض.
فما كان أسود كامل النضج والحلاوة، كان أقلها بردا وأكثرها رطوبة، لان برودته في أول الدرجة
الأولى، ورطوبته في آخرها. وما كان كذلك، كان من شأنه أنه يرطب المعدة ويرخيها ويطلق البطن
ويحدر مرة صفراء وبخاصة متى كان جسمه عظيما رخوا، إلا أن الاكثار منه مضر (4) بالمعدة للزوجته
ورخاوته. وما كان منه أرضيا عفصا في غاية الصلابة والفجاجة، كان مذموما للغذاء والدواء جميعا،
وأشد إضرارا بالمعدة من قبل أنه غير لذيذ ولا فيه تغذية للبدن أصلا، ولا هو مطلق للبطن لكنه غليظ
عسير الانهضام بطئ الانحدار، ثقيل في المعدة كثير الأتعاب لها. إلا أن الفائض منه المائل إلى



(1) في الأصل: السواد.
(2) في الأصل: (المتوسط بين).
(3) في الأصل: اللوى.
(4) في الأصل: مضرا.
279
التفاهة أصلح قليلا وأقل إضرارا بالمعدة لما فيه من زيادة الليانة وقلة اليبوسة. ولذلك صار مقويا
للمعدة.
وما كان أحمر خمريا، كان أكثر تبريدا وأقل رطوبة لان برودته في وسط الدرجة الثانية، ورطوبته
في أولها. ولذلك صار أفضل لمن احتاج إلى تبريد المعدة وتقويتها، إلا أن تليينه للبطن أقل. والأفضل
من الإجاص ما كان لحيما رقيق القشر، في طبيعته مرارة مع يسير من قبض. وينبغي لآكله أن يقدمه قبل
طعامه بساعة لأنه إذا وافى المعدة خالية من الطعام، أطفأ الحرارة وسكنها، وأسهل مرة صفراء. وأما
المبلغمون فينبغي أن يتناولوا (1) بعقبه نبيذ العسل ليجلو ما يتولد في المعدة من رطوبته. وإذا طبخ
الإجاص وصفي ماؤه وشرب بسكر أو بعسل، كان أقوى لاطلاق البطن ولا سيما إذا لبث الانسان بعد
شربه له وقتا طويلا لم يتناول غذاء.
وأما ديسقيريدس فذكر في الإجاص الشامي وبخاصة الدمشقي أنه إذا أكل، حبس البطن. وأنكر
جالينوس ذلك وقال: ما أدرى كيف قال ديسقوريدوس هذا في الإجاص الدمشقي ونحن نجده يطلق
البطن. وما أحسب أن ديسقيريدس قال هذا القول مطلقا، لكنه قاله بالإضافة إلى غيره من الإجاص
وبخاصة إذا أضيف إلى الإجاص المجلوب من أرمينية الداخلة، لان الإجاص الدمشقي أقل الإجاص
إطلاقا للطبيعة لغلبة القبض عليه. والإجاص المجلوب من أرمينية الداخلة أكثر الإجاص إطلاقا للطبيعة
لأنه أشد جلاء وأقل قبضا.
وأما أنا، فإني شاهدت بمصر إجاص يجلب من فارس صغير الحب مدور، حسن السواد، حلو
الطعم، إذا أكله الانسان أحدره، لكل حبة مجلس.
ولجالينوس في الأشجار قول قال فيه: وفى الجملة، إن كل الأشجار والأصول التي يوجد القبض
في قضبانها وورقها ظاهرا بينا، فإنها إذا طبخت وتغرغر بمائها، كانت نافعة من ورم اللهاة واللوزتين
والنغانغ (2) قاطعة لسيلان المواد المتحلبة إليها. ولذلك صار ورق الإجاص وبخاصة الدمشقي منه إذا
طبخ بشراب وتغرغر بمائه، نفع من سيلان المواد إلى اللهاة واللوزتين واللثة.
* * *



(1) في الأصل: يتناولون.
(2) النغنغ: لحمة تكون في الحلق عند اللهاة.
280
في الإجاص البري
وأما ثمرة الإجاص البري الصغير، فيقبض قبضا بينا ويحبس البطن. وإذا طبخ بطلاء، صار
طعمه أطيب، وإمساكه للطبيعة أشد. وزعم قوم أن صمغه إذا شرب بشراب، فتت الحصى. وإذا عجن
بخل وطلي على الثواليل التي تكون في الصبيان، أبرأها. وإذا كان هذا الصمغ يفعل مثل هذا الفعل
فبين أنه قطاع ملين.
في المشمش
هذه الثمرة تعرف عند اليونانيين بالتفاح الأرمني، كما يعرف الخوخ بالتفاح الفارسي. وزعم
جالينوس: أن الاسم الذي كان يسمي به ثمره بدءا قرمعمير، وصاروا يسمونه البرفمونا. وهو في طبيعته
بارد رطب في وسط الدرجة الثانية، ورطوبته ولحمه سريعا الاستحالة إلى الفساد في المعدة يولدان بلغما
غليظا لزجا نيا في جداول الكبد والعروق، ويحدثان (1) جميعا حميات متطاولة لان غلظ الرطوبة يمنعها
من الانبساط في العروق. ولذلك صار المشمش رديئا في جميع حالاته. ولهذا ما وجب أن يقدم قبل
الطعام، ولا يؤخذ إلا على نقاء من المعدة من الطعام ونقاء من الفضول، لأنه بعد الطعام يعوم ويطفو
في أعلى المعدة، ويستحيل إلى الحموضة والعفونة بسرعة. ومما يدفع ضرره أن يؤخذ على ما ذكرنا،
ويستف بعده أنيسون ومصطكى من كل واحد وزن مثقال (2) ويشرب عليه ميبة (3) أو نبيذ عسل أو نبيذ
زبيب بعسل، والدهن المستخرج من حب المشمش طراد للرياح نافع من رياح البواسير إذا مسحت به
المقعدة.



(1) أي رطوبته ولحمه.
(2) المثقال يعادل درهما ونصف درهم تقريبا.
(3) هو شراب السفرجل.
281
القول في الخوخ
الخوخ بارد رطب في أول الدرجة الثانية وهو في أكثر حالاته موافق للمشمش في جهات،
ومخالف له في جهات. أما مخالفته له، فلانه ألذ طعما وأوفق للمعدة من قبل أنه لا يفسد في المعدة
ولا يحمض فيها كالمشمش. وأما موافقته فلانه يشركه في توليد البلغم الغليظ اللزج في جداول الكبد
والعروق، وفى سرعة استحالته وفساده في المعدة، إلا أنه دون المشمش في ذلك كثيرا لغلظ جسمه
وقلة رخاوته. ومما يدفع به ضرره أن يؤخذ على خلاء من المعدة من الطعام ونقاء من الفضول، ويشرب
بعده نبيذ صرف. إلا أنه ينقسم قسمين: لان منه نوعا كبير المقدار أبيض اللون مزغب ويسمى المشعر،
وربما كان في بعض أجزائه تورد قليل. ومنه نوع آخر لطيف المقدار أملس السطح أحمر اللون، وربما
كان في بعض أجزائه صفرة، وأهل مصر يسمونه بالخوخ الزهري.
والأول منهما: الأبيض المزغب الغالب عليه في طعمه الحلاوة مع مرارة يسيرة، لأنه أكثر رطوبة
ولزوجة. ولذلك صار في جميع ما ذكرنا من سرعة فساده في المعدة وانتقاله من البلغم الغليظ أسبق
وأكثر. ومن خاصة هذا النوع من الخوخ أنك إذا شققته بسكين وتركته ساعة شممت منه رائحة زهكة
كريهة. وفى هذا دليل على سرعة استحالته إلى العفونة. وأما النوع الثاني المعروف بالزهري، فهو أذكى
رائحة وأعطر وألذ طعما وأقرب من المرارة وأبعد من الحلاوة وأقل رطوبة. ولذلك صار أشد تطفئة للمرار
وأقل إضرارا بالمعدة لأنه أبعد من الاستحالة إلى الفساد.
واليابس من الخوخ أغلظ وأبعد انهضاما. وأما ورق هذه الشجرة وفقاحها وقضبانها، فإن فيه
مرارة بينة، ولذلك صار ورقها إذا دق وعصر ماؤه وشرب، أسهل الدود والحيات والعقارب وحب القرع
من البطن. ويفعل ذلك أيضا إذا حمل على السرة من خارج. وإذا دق ورقه ودلك به بعقب النورة في
الحمام، قلع رائحتها. وإذا عصر ماؤه في الاذن، قتل الديدان المتولدة (2) فيها. وهو تعالى أعلم.



(1) فقاح النبت: زهره.
(2) في الأصل: المتولد.
282
القول في التفاح والسفرجل
والكمثرى والرمان
هذه الثمار في جملتها تنقسم قسمة جنسية على ضربين: لان منها ما قد تم نضجه على نباته
وكمل. ومنها ما هو بعد ني فج غليظ صلب خشبي. فما كان منها صلبا خشبيا كان مذموم الغذاء جدا
لا غذاء له أصلا مع إضراره بالمعدة لأتعابه لها لشدة قبضه وعصره لجرمها وجمعه له. ولذلك يحدث
عنه ألما مؤذيا. وإذا انحدر عن المعدة، لم يسهل سلوكه في العروق ولا نفوذه فيها لغلظ الخلط المتولد
عنه وجسأه وخشونته. ولهذا السبب يطول لبثه في المعدة حتى يهيج مرة ونفخا. والاكثار منه يولد
حميات طويلة بعيدة الانحلال جدا. ومن قبل ذلك وجب أن يحذر استعماله والقرب منه أصلا. وكذلك
جميع الفواكه التي لم يستكمل نضجها على نباتها وشجرها.
وأما ما كان قد تم نضجه وانتهى وكمل، فيكون على ضروب: لان منه ما يكون عفصا، ومنه ما
يكون حلوا، ومنه ما يكون تفها لا طعم له ولا مذاق. فما كان منه عفصا، كان جوهره (1) باردا يابسا
أرضيا موافقا لمن كان قد أفرط على مزاج معدته الحرارة والرطوبة، لأنه لشدة قبضه يعصر جرم المعدة
ويحدر كثيرا من رطوباتها إلى أسفل، وينشف ما تبقى منها ويقوي المعدة والمعاء، إلا أنه في نفسه
غليظ عسير الانهضام بعيد من النفوذ في العروق ومولد للنفخ مضر بالأعصاب لشدة قبضه وجمعه. وأكثر
هذا الفعل يكون في جرمه وذلك منسوبا إلى الحدة بالعرض، لأنه بقوة جمعه يضم أجزاء العصب ويفرق
اتصالها بما جاوزها مما لم تصل قوته إليه، ويقوم مقام الحار الحريف المفرق للاتصال. فأما رطوبته
فإنها على الانفراد أحمد كثيرا، إلا أنها ألطف وأخف على المعدة. ولذلك صارت مقوية للمعدة والمعاء
نافعة من نفث الدم قاطعة للاسهال المري والقئ الكذلك. ولذلك وجب أن تمص رطوبة هذا النوع
من هذه الثمار ويرمى بثفله أو بتلطيف له بما يزيل عنه غلظه وتليين خشونته، ويعين على هضمه ليستفيد



(1) في الأصل: جوره.
283
منه رطوبة وليانة، ويعلق على بخار ماء حار يغلي حتى ينضج ويلين أو ينقى من حبه ويجعل موضع
الحب عسل أو سكر على حسب مزاج المستعمل له، ويطبق النصفان (1) كل واحد على الآخر، ويلبس
عجينا من خارج، ويدفن في دقاق جمر أو يدلى في تنور، أو يدخل في فرن حتى ينضج العجين
ويقارب الاحتراق، ويستعمل وقد داخل جسمه العسل أو السكر. فإن ذلك مما يفيده رخاوة وليانة ولذاذة
عند الطباع، ويعين على هضمه ويمنع من إضراره بالعصب، إلا أن فعله في قطع الاسهال يضعف
ويصير موافقا لمن كان في صدره علة.
وما كان منه قابضا كان فيه، مع الجوهر الأرضي اليابس، جوهر عذب مائي. ويستدل على ذلك
من قلة عفوصته. ولذلك صار برده أكثر من يبسه لان رطوبته قد دقت ولطفت وصار جسمه أرخى وألين.
ولهذه الجهة صار موافقا لمن غلب على معدته رطوبة غير مفرطة، لان قوته تضعف عن مقاومة الكثير من
الرطوبة من قبل أن يبسه وجفافه دون يبس العفص وجفافه كثيرا. ولهذه العلة صار فعله في تقوية المعدة
وسائر البطن، وحبسه الاسهال والقئ ألين وألطف كثيرا. وذلك فعله في تقوية الشهوة والمعونة على
الهضم لأنه يفعل بغير عنف ولا استكراه للطبيعة ولا إضرار بالحاسة. ولذلك السبب فضله جالينوس
على (1) فعل المسلوق والمشوي من العفص ولهذه الجهة استغنى عن الحيلة فيما يلطفه ويرخى جسمه لأنه
لو سلق أو شوي، لزال عنه قبضه لضعفه وبطلت خاصته ومنفعته، ولخرج من حد الدواء وصار إلى حد
الغذاء.
وما كان منه حامضا كان الأغلب على مزاجه الجوهر المائي مع أرضية يسيرة. ولذلك صار برده
أكثر ويبسه أعدل وألطف من يبوسة العفص لقرب لطافة الهواء في الخفة. ولهذا صار مولدا (3) للخلط
البارد اللطيف الغواص، وصار فعله مركبا لأنه بقبضه وتقويته يقوي المعدة وسائر البطن، ويقطع الاسهال
المري والقئ الكذلك. وببرده وللطافة رطوبته، يقطع العطش ويقمع حدة الصفراء. ولحموضته، ينفع
من الخفقان المري الحار، ويفعل في الفضول الغليظة الكائنة في المعدة متى كانت غير باردة، وفي (4)
الكيموسات الحلوة متى كانت حلاوتها خالصة لم يشبها حرافة ولا حدة. والسبب في فعله في الأشياء
الغليظة، أنه بتلذيعه يقطعها ويحدرها ويلين الثفل. والسبب في فعله في الأشياء الحلوة، أنه بلطافته
يلطفها ويطرق لها ويرسلها إلى جميع البدن. وقد يصلح أن يستعمل هذا النوع من هذه الثمار قبل
الطعام وبعده خلا الكمثرى، فإن ديسقيريدس جرد فيه قولا قاله فيه: إن الكمثرى إذا أخذ على الريق،
كان ضارا.



(1) في الأصل: النصابين.
(2) في الأصل: على
(3) في الأصل: مولد.
(4) في الأصل: (غير بارد في).
284
وسأبين السبب في ذلك والعلة الموجبة له في موضوعه الأخص به عند ذكرنا الكمثرى على
الانفراد. وأما السفرجل والتفاح والرمان، فإن استعمالها قبل الطعام وهي عفصة أو قابضة أو حامضة مما
يقوي جرم المعدة والمعاء، ويمنع الاسهال المري، وينفع من عقر المعاء. واستعمالها بعد الطعام مما
يقوي فم المعدة ويجمعه ويدفع الطعام من أعلى المعدة إلى أسفله، ويقمع البخارات المتصاعدة،
ويمنعها من الترقي إلى الرأس ويمنع القئ المري، إلا أنه يجب أن يتوقى جرم العفص منها خاصة.
وتستعمل رطوبته ومائيته فقط لما بينا من غلظه وإضراره بعصب المعدة.
وما كان من هذه الثمار حلوا، كان الغالب على مزاجه الجوهر المائي القريب من الاعتدال،
المنحرف إلى الحرارة قليلا. ولذلك صار قليل التبريد جدا ضعيف التقوية للمعدة. ولهذه الجهة صار
غير موافق لمن كانت معدته حارة أو كان فيها شئ من استرخاء، ومضرا (1) بمن كان به إسهال أو قئ.
وما كان منها تفها لا طعم له مائيا، كان مذموما في جميع حالاته، لان الغالب على مزاجه البرودة
والرطوبة. ورطوبته أكثر من برودته لغلبة المائية عليه ومشاكلته لطعم الماء. ولذلك صار لا خير فيه من
جهتين، من قبل أنه لا لذاذة له ينسب بها إلى الغذاء، ولا منفعة فيه ينسب بها إلى الدواء لأنه ليس فيه
عفوصة يقوي بها المعدة ويمنع الاسهال، ولا له حموضة يقمع بها حدة الصفراء ويقطع القئ المري،
ولا له حلاوة يغذو بها، لكنه يولد خلطا بلغمانيا ورطوبات نية مذمومة.
وإذ أتينا على التفاح والسفرجل والكمثرى والرمان في الجملة، فلنأت الآن بما يخص كل واحد
منها على الانفراد.



(1) في الأصل: مضر.
285
القول في التفاح
لما كان ثمر هذه الشجرة غير متفق في طبيعته وجوهريته لان منه العفص الأرضي الخالص
اليبس، ومنه القابض المركب من جوهر أرضي وجوهر عذب مائي، ومنه الخالص اللطيف المركب من
جوهر مائي مع أرضية يسيرة، ومنه الحلو المعتدل الجوهرية المتوسط بين الكيفيات الأربع، ومنه التفه
المائي، وجب أن يكون ورقها وأغصانها ولحاؤها أيضا كذلك. ولذلك قال جالينوس: أن ليس طبيعة
شجرة التفاح كله طبيعة واحدة، كما أن ليس طبيعة ثمرته التي هي التفاح طبيعة واحدة، لان من التفاح
ما هو عفص خشبي، ومنه ما هو قابض قليل العفوصة، ومنه ما هو حامض، ومنه ما هو حلو، ومنه ما هو
تفه لا طعم له.
والعفص والقابض أبردها وأغلظها وأبعدها انهضاما، إلا أنهما أشد تقوية للمعدة وأقطع
للاسهال. والقابض منهما ألطف وأرق لغلبة الجوهر المائي عليه. فلذلك صار استعماله بجرمه غير ضار
لمن أراد الزيادة في تقوية معدته وقطع الاسهال والقئ جميعا لان مقامه، إذا كان قابضا، مقام المشوي
والمسلوق من التفاح العفص. وأما الحامض فالغالب عليه البرودة واللطافة مع أرضية يسيرة. ولذلك
صار يبسه أقل من يبس القابض، ولضعف يبسه صار لطيفا غواصا قامعا لحدة المرة الصفراء، نافعا من
الخفقان، مسكنا للعطش، مقويا للمعدة، منبها لشهوة الطعام، حابسا للبطن، مانعا للقئ وبخاصة إذا
أخذ على الريق أو على نقاء من المعدة لأنه إذا أخذ بعد الطعام، منعه الطعام الذي تقدمه من الرسوب
في قعر المعدة ومواضع الطبخ وبقي طافيا عواما، وعصر أعلى المعدة وأحدر ما فيها إلى أسفل وصار
سببا لاطلاق البطن، وإن كان العفص والقابض أقوى في هذا الفعل من الحامض كثيرا. وأما الخاصية
التي هي للحامض دون العفص والقابض، وهي أنه متى وافى في المعدة فضولا غليظة ليست بباردة،
قطعها بحموضته ولطافته، وأحدرها ولين الثقل. ومتى وافى كيموسا حلوا لم يشبه حرافة ولا غلظ، ألطفه
وطرق له السبيل إلى جميع البدن.
وقد يفضل سويقه وشرابه الساذج في تقوية المعدة وقطع العطش والقئ والاسهال المري،

286
والنفع من الخفقان وقمع حدة الصفراء، قريبا من فعل مائه إذا شرب أو إذا أكل جرمه طريا ولا سيما إذا
كان شرابه مركبا من ماء التفاح المز وماء الرمان الحامض، وكان طريا لم يعتق فتغير، لان ماء التفاح
خاصة قليل البقاء لان ليس فيه من الصبر ما لماء السفرجل، ذلك لان فيه رطوبة رقيقة مائية تغيره وتنقله
إلى الحموضة بسرعة. ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن جميع التفاح فيه رطوبة فضلية كثيرة باردة،
ويدل على ذلك أن ليس فيه شئ من تبقي عصارته إذا رفعت كما تبقى عصارة السفرجل، لكنها تفسد
وتحمض عن قرب، إلا أن تطبخ مع السكر أو العسل.
وأما الحلو، فإنه لما كان معتدلا في الكيفيات الأربع، صار قليل الاضرار بمن كانت معدته
باردة. وأما حبسه للبطن أو إطلاقه له، فليس فيهما فعل ظاهر ولا أثر بين.
وأما المز من التفاح، فان جوهره لما كان ممتزجا من طبيعة الحامض والحلو، صار فعله أيضا
مركبا متوسطا بين فعل الحامض وفعل الحلو ولذلك صار فعله في تقوية المعدة وقطع القئ والاسهال
غير بين ولا ظاهر، لأنه مركب من طبيعة الحامض والحلو. والحامض وإن كان حابسا (1) للبطن، فإن
الحلو ملين له. وأما فعله في تسكين العطش وقمع حدة الصفراء، فقريب من فعل الحامض. وأما نفعه
من الخفقان، فبين واضح للخمرية التي في طعمه.
وأما ما لا طعم له من التفاح، فإنه لما كان الأغلب على مزاجه الرطوبة المائية، لم يكن له لذاذة
ولا منفعة. ولذلك صار مغثيا غير نافع للمعدة ولا قاطع للاسهال.
وأما ورق التفاح وعصارته ولحاؤه، فإنه ما كان منها من شجر ثمره قابضا أو حامضا، كان نافعا
في تقوية المعدة عند استرخائها وفى إدمال الجراحات، وفى منع ما يتحلل وينصب إلى المواضع الوارمة.
عند (2) حدوث المدة فيها.



(1) في الأصل: حابس.
(2) بعدها في الأصل مقدار كلمة بياض.
287
القول في السفرجل
وأما السفرجل فينقسم قسمة جنسية على ضربين: لان منه النضيج الكامل النضج، ومنه النئ
الفج الخشبي. فما كان منه فجا خشبيا كان مذموما جدا لأنه غليظ أرضى عسير الانهضام يولد خلطا
خشنا جاسئا لا يغذو البدن أصلا. ولذلك وجب أن يحذر وإن كان في جنسه كريما. وأما النضيج وهو
بالقول المطلق بارد في آخر الدرجة الأولى، يابس في وسط الثانية. ولذلك صارت عفوصته وقبضه أكثر
من عفوصة التفاح وقبضه. ومن قبل ذلك صار نافعا من نفث الدم قاطعا للاسهال من المعدة مقو لها وإن
طال لبثه فيها. إلا أن الاستكثار منه يتخم ولا سيما إذا أخذ بعد طعام وكان الطعام مع ذلك حلوا ولزجا.
ولهذه الأسباب صار في بعض أحواله موافقا للتفاح، وفى بعضها مخالفا له، فأما موافقته له،
ففي طبيعته ومزاجه واختلاف أنواعه وطعومه، وذلك أن منه أيضا العفص، ومنه القابض، ومنه
الحامض، ومنه المز، ومنه الحلو، ومنه التفه. والعفص من أنواعه أكثر أرضية وأغلظ وأعسر انهضاما
وأشد عصرا للأعضاء ولا سيما الأعضاء العصبانية. ولذلك صار جسمه مذموما منسوبا إلى الحدة
والخرافة بالعرض، لأنه بإفراط جمعه يفرق الاتصال كما يفرقه الشئ الحار الحريف. ومن خاصته أنه
إذا أدمن استعماله على الريق، ورث القولنج وجمع العصب. ولهذا صار أكله على الريق مذموما جدا
متى كان أكله على سبيل الدواء والغذاء <لا> على سبيل الحاجة إلى الدواء. وأما رطوبته فإنها على
الانفراد ألطف وأخف على المعدة كثيرا. ولذلك صار فعلها في تقوية المعدة (1) ودرور البول وقطع
الاسهال والقئ ونفث الدم، ألطف وأفضل كثيرا وأظهر منفعة. ولذلك وجب أن يمص ويرمى ثفله
ويحتال له بما يلطف جسمه ويلين خشونته ويعين على هضمه، مثل سلقه بالماء وتعليقه على بخار ماء
حار يغلي حتى ينضج، أو يشق وينزع حبه ويصير في موضعه عسل أو سكر ويطبق النصفان (2) ويلبسان
عجينا، ويشوى إما في دقاق جمر وإما في تنور وإما في فرن، أو يربى بالعسل الطبرزد لمن كان



(1) بعدها في الأصل: (كثيرا) ملغاة بشطبة.
(2) في الأصل: النصفين.
288
محرورا، أو بالعسل لمن كان مرطوبا.
وأما القابض من السفرجل فهو في طبيعته وفعله قريب من طبيعة العفص وفعله، إلا أنه ألطف
وأعدل كثيرا، إلا أن رطوبته أرق وأغزر وغلظه أقل. ولذلك قل إضراره بالمعدة واستغنى عن التماس
الحيلة فيما يلطفه ويلين جسمه ويعين على هضمه. ولهذا أقامه جالينوس مقام المشوي والمسلوق من
السفرجل العفص. وأما الحامض فإن الغالب عليه الرقة واللطافة، وإن كان فيه بعض الأرضية والقبض
قليلا. ولذلك صار غواصا ملطفا مسكنا للعطش قامعا لحدة المرة الصفراء نافعا من الخفقان والقئ
والاسهال المري مدرا للبول مقو لشهوة الطعام لمشاكلته للقوة الشهوانية في طبعها وطعمها. ومن
خاصته أن شمه يمنع القئ، ومصه على النبيذ يمنع بخار النبيذ من الترقي إلى الرأس، إلا أنه يسهل
البطن بعصره. ولذلك صار الاكثار منه على النبيذ مذموما لأنه يضم (1) أعلى المعدة ويحدر ما فيها
ويخرجه قبل تمام هضمه.
وأما الحلو فمزاجه متوسط (2) مائل إلى الحرارة قليلا. ولذلك لم يكن له فعل ظاهر في تسكين
الحرارة وقطع العطش. وأما المز، فمتوسط بين طبيعة الحامض وطبيعة الحلو. ولذلك لم يكن له في
إطلاق البطن، ولا في حبسه، أمرا بينا، إلا أنه مدر للبول. والفرق بين الحامض والمز كالفرق بين
العفص والقابض. وأما التافه الذي لا طعم له، فقد أغنانا عن إعادة القول فيه هاهنا ما تقدم من ذكرنا له
عند كلامنا في هذه الثمار على الجملة، لأنا قد أعلمنا هناك أنه مذموم من كل جهة، إذ كان لا لذاذة فيه
ولا منفعة.
وأما مخالفة السفرجل للتفاح، فخاصتين يختص بهما السفرجل دون التفاح: إحداهما: أنه مع
ما فيه من القبض، مدر للبول وبخاصة إذا كان قابضا أو حامضا أو عفصا مدبرا. أعني بالمدبر المسلوق
والمعلق على بخار ماء يغلي، أو المشوي أو المربى بالعسل. وإن كان في التفاح أيضا بعض ذلك، إلا
أنه غير مخصوص به كاختصاص السفرجل به. والثانية: أنه لا يفسد المعدة ولا يستحيل فيها كاستحالة
التفاح، لان في التفاح رطوبة فضلية نية غير نضيجة، بها تسرع استحالته، وبخاصة الحلو منه والتفه وإن
كان أخص بذلك كثيرا.
ولروفس في هذا فصل قال فيه: إن السفرجل لا يكاد أن يفسد في المعدة في حال المرض
فضلا عن حال الصحة. وقد يستدل على ذلك من شرابه الساذج، لأنا نجده يخزن فيبقى وقتا مديدا من
غير أن يستحيل ولا يحمض كما يحمض التفاح. ففي هذا دليل على أن في التفاح رطوبة فضلية نية غير
نضيجة تغيره وتنقله إلى الحموضة بسرعة.



(1) في الأصل تعرضت هذه الكلمة لطمس جزئي. ولعلها كما أثبتنا، وهي بمعنى يعصر التي يستعملها قريبا.
(2) في الأصل: متوسطا.
289
وحكى جالينوس أنه أصلح رب سفرجل ساذج وصيره في إناء ضيق الرأس، وكان يطلى على
رأس الاناء في كل وقت عسلا، وخزنه فمكث عنده سنين ولم يتغير. وكذلك ينبغي أن يفعل بكل شراب
يحتاج أن يحفظ زمانا مديدا. وقد يختلف فعل السفرجل على حسب اختلاف أوقات استعماله، وذلك
أنه إذا أخذ والمعدة خالية من الغذاء نقية من الفضول، تمكن من جرمها وقواه ودبغه دبغا، وفعل فيه ما
له أن يفعل بطبعه من تقوية المعدة وقطع الاسهال والقئ، ونفع من نفث الدم، وأدر البول. وإذا أخذ
والمعدة مملوءة طعاما، طفا وعام وتمكن من فم المعدة وقواه وعصر أعلا المعدة ودفع الطعام إلى أسفل
وأحدره بسرعة. وكانت منفعته في قطع القئ أكثر منها إذا أخذ قبل الطعام، لأنه يقوي فم المعدة ويدفع
ما فيه من الفضل إلى أسفل. ولهذا صارت الأشياء من شأنها أن تحبس البطن وهي على الامتلاء، لان
المعدة إذا بعد عليها إخراج الفضل من أسفل وعاقها عن ذلك عائق، دفعته إلى فوق. ولذلك وجب
على من أراد استعمال السفرجل لتقوية المعدة وحبس البطن أن يتناوله على الريق والمعدة خالية.
لتقوية (1) المعدة وحبس البطن إلى أسفل، فيتناوله بعد الطعام ولا يكثر منه، فإن الاكثار منه بعد الطعام
يبشم (2)، لأنه إذا خالط الطعام منعه، ببرده ويبسه، من أن ينهضم بسرعة.
فإن قال قائل: فلم لا كان ذلك في التفاح أيضا؟ قلنا له: لان في التفاح رطوبة فضلية نية غير
نضيجة، بها ينقاد إلى الانفعال ويتهوى بسرعة. ومن خاصة السفرجل أنه مع ما فيه من القبض، يدر
البول وبخاصة العفص منه والقابض والحامض. وأما شراب السفرجل فيكون على ضربين: لان منه ما
يتخذ ساذجا، ومنه ما يتخذ بالعسل أو بالسكر. والساذج منه أبرد وأكثر قبضا وأشد تقوية للمعدة وقطع
الاسهال، لان قوته شبيهة بقوة الزعرور، إلا أنه ليس فيه لذاذة الزعرور. وأما المعمول منه بالعسل فهو
أقل بردا وأضعف فعلا في تقوية المعدة وقطع الاسهال، إلا أنه أنفع لمن كان في صدره علة. وأما
المعمول بالسكر وهو أكثر بردا من المعمول بالعسل، وإن كان فعله في تقوية المعدة وقطع الاسهال
والقئ أضعف من فعل الساذج كثيرا. والمربى بالعسل من السفرجل مدر للبول. والعسل الذي يربى به
يستفيد من السفرجل قوة يعقل بها البطن. وشحم السفرجل إذا خلط مع الضمادات النافعة من الاسهال
والقئ، ولالتهاب المعدة والورم الحار العارض للثدي وجسأ الطحال، زاد في منفعتها زيادة بينة. وزهر
شجرة السفرجل يستعمل يابسا ورطبا في الضمادات المحتاجة للقبض والتقوية وللأورام العارضة. وإذا
شرب بشراب، قطع نفث الدم ونفع من الاسهال والقئ ومنع درور الطمث المفرط.
ولديسقيريدس دهن يعمله من السفرجل سماه السفرجلي يقوم مقام الأشياء القابضة. وصفته:
يؤخذ من الزيت الانفاق أربعة وعشرون رطلا وهو ستة أقساط (3) ومن الماء العذب عشرة أقساط. يجمع



(1) كذا بالأصل. والمقتضى أن تكون: (ومن أراد استعماله لتقوية...).
(2) أي يتخم.
(3) القسط: مكيال يسع نصف صاع.
290
الجميع ويلقى فيه من قشور الجفري (1) ثلاث أواق، وينقع فيه يوما وليلة، ثم يطبخ حتى ينضج جيدا،
ثم يصفى الدهن ويصير في إناء واسع الفم، ويغطى الفم ببارية (2) أو حصير متخلخل، ويجعل على
البارية أو الحصير سفرجل ويغطى الكل بثياب ويترك أياما كثيرة حتى يأخذ الدهن قوة السفرجل، ثم يدق
السفرجل وينقع في ذلك الزيت يومين وليلة، ويعصر ويرفع في قوارير ويخزن، وتحقن به الأرحام من
القروح العارضة فيها، والذكر من حرقة البول. وإذا دهن به، حقن العرق ومنعه من الخروج. وإذا مسح
الرأس به، نفع من الأبرية والنخالة. وإذا لطخ على الشقاق العارض من البرد، وعلى النملة والقروح
الجربة، نفع من ذلك. وإذا أمسك في الفم، نفع اللثة المسترخية. وأجود ما كان ريحه شبيها بريح
السفرجل. وزعم ديسقوريدوس أن أفضل السفرجل ما كان صغيرا مدورا ذكي الرائحة.



(1) الجفري أو الكفرى: هو قشر طلع النخل. وقيل هو الكافور. انظر ترجمته في جامع ابن البيطار، حرف الكاف.
الباري والبارياء: الحصير المنسوج.
291
القول في الكمثرى
أما الكمثرى فورق شجره وأطرافه قابضة. وأما ثمرته ففيها، مع قبضها، حلاوة مائية إلا أنها تنقسم
قسمة أولية على ضربين: لان منها الأهلي ومنها البري. والأهلي ينقسم قسمين: لان منه النئ الفج،
ومنه النضيج. والفج منه غليظ صلب خشبي لا منفعة فيه ولا لذاذة. وأما النضيج وهو في جملته بارد في
الدرجة الأولى، يابس في الثانية لان يبسه أكثر من برده. وما يتولد منه في البدن، فأفضل مما يتولد من
السفرجل والتفاح، لان الكيموس المتولد عنه أعدل وأحد، إلا أنه يختلف في فعله وانفعاله على حسب
اختلاف طعومه ومزاجه. وذلك أن منه العفص الأرضي الغليظ. ومنه القابض المركب من جوهر أرضي
وجوهر مائي. ومنه المز المركب من جوهر لطيف وهوائي، وأرضيته يسيرة. ومنه الحلو المعتدل في
مزاجه المائل إلى الحرارة قليلا. ومنه التافه المائي.
فأما العفص فهو أقلها غذاء وأقطعها للاسهال المري والقئ الكذلك، وأشدها تقوية للمعدة
والمعاء، إلا أنه لافراط خشونته وغلظ جسمه وبعد انقياده، صار مضرا بعصب المعدة جدا. ولذلك
وجب أن يتلطف له بما يرخي جسمه ويزيل غلظه ويلين خشونته بمثل سلقه بالماء وتعليقه على بخار ماء
حار يغلي حتى ينضج، ويلبس عجينا (1) ويشوى أو يربى بعسل طبرزد أو عسل نحل على حسب مزاج
المستعمل له. وزعم ديسقيريدوس أن الكمثرى على الريق مضر (2) بآكله ولم يخبر بالسبب ولا أتى
بالعلة الموجبة له، ولا أي كمثرى يفعل هذا.
فأقول: إنه ينبغي أن ديسقيريدس إنما ذم الكمثرى على أنه إذا أخذ على سبيل الدواء والغذاء لا
على سبيل الحاجة والدواء، وبخاصة إذا كان عفصا أو قابضا، وإن كان العفص أخص بذلك لان من
خاصته أن الاكثار منه يورث القولنج. فإذا أخذ على خلاء من المعدة وبخاصة على الريق، تمكن من
جرم المعدة والمعاء، وقام فعله فيهما، وإن لم يكن كثيرا، فعل الاكثار منه ولم يؤمن على صاحبه مع



(1) في الأصل: عجين.
(2) في الأصل: مضرا.
292
الادمان عليه أن يورثه قولنجا يعسر انحلاله. وأما على سبيل الدواء، فإن استعماله على الريق أفضل لا
محالة لان استعماله بعد الطعام يطلق البطن، وزائد في ضعف المعدة لأنه بإفراط قبضه، يجمع أعلى
المعدة ويقهر القوة الماسكة التي في أسفلها.
وأما القابض فلانه مركب من جوهر أرضى وجوهر مائي، صار ألطف وأعدل وأكثر غذاء لان
رطوبته أرق وأزيد، وجسمه ألين. ولذلك صار إضراره بالمعدة أقل، واستغنى عما يلطفه ويلينه ويعين
على هضمه لأنه يقوم مقام العفص المدبر.
وأما المز، فلغلبة الحموضة عليه صار أرق وألطف وأخف على المعدة وأقمع لحدة الصفراء
وأكثر تسكينا للعطش. ولذلك صار أحمد في قطع القئ. وأما قطع الاسهال، فإن فعله فيه أضعف من
فعل العفص والقابض جميعا.
فإن قال قائل: فلم صار الحامض أحمد في تسكين العطش من العفص، والعفص أبرد منه
والأبرد أولى بقطع العطش من غيره! قلنا له: إن العطش لا ينفك من جوه ثلاثة: لأنه لا يخلو من أن
يكون إما عن جفاف في أعضاء بعيدة عن المعدة قد لزمتها حرارة نارية، وإما عن حرارة قوية في نفس
المعدة، وإما عن بلغم مالح بورقي. فمن أي الجهات كان العطش، فالحامض أفعل منه وأفضل لان
رطوبته لطيفة هوائية لذيذة عند الحاسة، ولا سيما إذا كانت مائلة إلى المرار، فإن كان العطش عن
حرارة في أعضاء نائية عن المعدة، كان في لطافة رطوبة الحامض ما نفع ويفتح ويطرق وينفذ في باطن
العروق، ويصل إلى الأعضاء المحتاجة إلى التبريد ويقمع حدة حرارتها ويبردها عن غير تجفيف. وإن
كان العطش عن حرارة في جرم المعدة، سالت رطوبة الحامض برقتها ولطافتها، وحالت في المعدة
ومازجت البخار وقمعت حدته وسكنت حره. وإن كان العطش عن بلغم مالح، مازجته الرطوبة أيضا
وحللته وأذابته وكسرت حدة ملوحته وأفسدت خاصتها وفعلها، إذ كانت الحموضة تقوم للملوحة مقام
الضد للضد، يفعل كل واحد منهما في خاصته ويزيل خاصته ويفسد فعله كما بينا وأوضحنا في المقالة
الأولى من كتابنا هذا.
والشئ العفص فليس كذلك لان رطوبته أغلظ وأعسر انهضاما وأبعد من النفوذ في العروق
والوصول إلى الأعضاء النائية عن المعدة لغلبة الأرضية المحضة عليها. ولذلك صار إذا كان العطش عن
حرارة في الأعضاء النائية عن المعدة، وامتنعت الرطوبة عن السلوك في العروق لغلظها وأرضيتها، لم
تصل إلى موضع الحرارة، ولم تفعل فيها لبعدها منها وثبت العطش ولم يسكن. وإن كان العطش عن
حرارة في المعدة، خففت العفوصة البخار ومنعت من تحليله، وكان ذلك زائدا في اجتماعه واكتنازه وقوة
فعله. وإن كان العطش عن بلغم مالح، جمعت العفوصة أجزاء البلغم ومنعت من انحلاله، وصار ذلك
سببا لشدة قوته وزيادة فعله.
فإن قال قائل: فلم لا قلت على ما شرطته بدءا: لان العفوصة إذا وافت في المعدة بلغما

293
مالحا، عصرت أعلى المعدة وأحدرته سفلا، وكان ذلك مثبتا لتنقية المعدة منه وقطع العطش المتولد
عنه! قلنا له: إن العفوصة إنما تكون سببا لاطلاق البطن متى كانت المعدة مملوءة طعاما يعوقها عن
الانحدار إلى قعر المعدة، لأنها تبقى طافية في أعلى المعدة وتعصره، وتحدر ما في المعدة ضرورة.
وإذا كانت المعدة خالية من الطعام ولم يعقها عائق عن الهبوط، انحدرت سفلا وجالت في المعدة
واختلطت بما يوافيه في تحليل المعدة وحملها من الرطوبات، وجمعتها وغلظتها وزادت في قوتها.
وبذلك صارت زائدة في قوة البلغم المالح صرورة.
وأما الحلو من الكمثرى، فالغالب عليه المزاج المعتدل لأنه أقل أنواع الكمثرى برودة. ولذلك
صار يسخن ويلين الثفل ويصلح لمن كان الغالب على مزاج معدته البرودة واليبوسة. ومن خاصية
الكمثرى: أنه إذا طبخ مع الفطر، أزال ضرره وبخاصة الكمثرى البري، لأنه أقوى في ذلك كثيرا، لان
قوته أكثر قبضا وأشد تقوية للأعضاء. والكمثرى البستاني ورماد خشب الكمثرى قوي المنفعة لمن عرض
له خنق من أكل الفطر.
وأما التفه من الكمثرى فمذموم جدا إذ كان لا لذاذة له ولا طعم بين. ولذلك صار مغث مرخ
للمعدة مفسدا لها (1).



(1) (لها) ساقطة من أول الصفحة، ومثبتة في ذيل الصفحة السابقة عليها.
294
القول في الرمان
أما الرمان فهو إلى الدواء أقرب منه إلى الغذاء، لان الغذاء المتولد عنه، وإن كان محمودا
فاضلا، فإنه يسير جدا لا مقدار له عند الطباع. ذلك لرقته ولطافته وسرعة انحلاله. ولذلك صار غذاؤه
أقل من غذاء التفاح كثيرا، لان له أربعة أجزاء هو مركب منها كلها قابضة: أحدها: قشره، والثاني:
شحمه، والثالث: رطوبته، والرابع: حبه. وأكثرها قبضا حبه، وأما مائيته فهي في الجملة بالقول المطلق
باردة إلا أنها (1) تختلف في يبسها ورطوبتها وقوة بردها وقربها من الغذاء وبعدها منه على حسب طعم
التفاح والسفرجل والكمثرى، لان منه العفص، ومنه القابض، ومنه الحامض، ومنه المز، ومنه الحلو
ومنه التفه. ولذلك قوامها يختلف على ضروب: لان منها الرقيق الكثير المائية، ومنها الغليظ القليل
المائية، ومنها المتوسط بين ذلك. فما كان منها عفصا أو قابضا لم يكد أن يستعمل على سبيل الغذاء
أصلا، لأنه لا ينساغ للحاسة ولا تغلبه لخشونته وعفوصته وجفافه وقلة لذاذته. ولذلك صار هذا النوع من
الرمان إذا قشر أعلاه بسكين ودق شحمه وحبه وعصر ماؤه وشرب بشراب أو ببعض الأشربة الملينة،
عصر أعلى المعدة وأحدر ما فيها من الرطوبات العفنة وبخاصة الرطوبات المرية (2) لأنه يفعل فيها فعل
الإهليلج (3) الأصفر والعفص الطري. ثم يقوي المعدة من ذلك ويدفعها من غير أن يضر بعضها لان
عفوصته لطيفة تفعل رويدا رويدا من غير عنف على الحاسة. ولهذه الجهة صار نافعا من الحميات
المتطاولة المتولدة عن عفونة الأخلاط ومن الحكة والجرب المتولد عن عفونة البلغم المالح.
وأما الحامض فإنه وإن كان أقل غذاء من التفاح والسفرجل والكمثرى، فإنه للطافة رطوبته ورقتها
وقربها من قوام الماء، صار ألذ طعما (4) وألطف وأعدل غذاء لأنه أغزر مائية وأرطب وأخف على



(1) في الأصل: (بارد إلا أنه).
(2) نسبة إلى المرة الصفراء.
(3) الإهليلج والهليلج: ثمر أنواعه أربعة، أجودها الأصفر ويمتاز بتسهيل المرة الصفراء.
(4) (صعما) مستدركة في الهامش.
295
الحاسة. ذلك لقلة أرضيته ورقة رطوبته ولطافتها وسرعة انقيادها. ولذلك صار فعله ألطف وأفضل في
أشياء كثيرة لأنه، وإن كان فعله مشاركا لفعل غيره في قمع الصفراء وتسكين العطش وقطع الاسهال
والقئ، فإنه قد يختص بتلطيف الفضول وإدرار البول وتطفئة حرارة الكبد وتقوية الأعضاء وتسكين
التهابها وبخاصة فم المعدة والكبد والقلب. ولذلك صار أكثر نفعا من الخفقان الصفراوي (1) ودفع الآلام
العارضة للقلب وفم المعدة، ذلك لتقويته لها ودفع الفضول عنهما.
وللفاضل أبقراط في هذا فصل في المقالة الثانية من كتاب الافيديميا (2)، ذكر عن امرأة كان
يعرض لها وجع الفؤاد الأصغر الذي عند الفلاسفة فم المعدة، وأنها كانت تجد فيه لذعا دائما عن
فضل حاد مستكن في طبقات المعدة، فلم يسكن عنها إلا بأخذ سويق الشعير بماء الرمان الحامض،
والسبب في ذلك أن السويق (3) معه نشف الرطوبات الفضلية، وأما الرمان الحامض <ف‍> معه قمع
لحدة الفضل وتقوية المعدة ومعونتها على دفع الفضل عنها. ومن منافع ماء الرمان الحامض أنه إذا
اكتحل به، نفع من اليرقان وأزال صفرة العين، وهذه أحد خواصه. ومن منافعه أيضا: أنه إذا استخرج
ماؤه بشحمه وطبخ (4) مع عسل حتى يصير كقوام المرهم واكتحل به، قلع الظفر من العين ونقاها من
الرطوبات الغليظة. وإذا وضع في الانف، قطع اللحم الزائد فيها. وإذا لطخ على اللثة نفع الاكلة
العارضة لها.
وأما الرمان الحلو فرطوبته أغلظ وأميل إلى الحرارة. ولذلك صار غذاؤه أكثر من غذاء الحامض
وأسرع انحدارا منه. ولهذه الجهة صار كثيرا ما يسخن المعدة ويستحيل إلى المرار الأصفر بسرعة. ومن
قبل ذلك صار غير موافق للمحرورين وبخاصة المحمومين، وإن كان معينا على الاطلاق للبطن وملينا
لخشونة الصدر ومسكنا للسعال، ولا سيما إذا كان مشوبا بدهن (5) بنفسج على هذه الصفة: يؤخذ الرمان
ويقور من رأس كل رمانة مثال درهم يكون سعته مقدار عرض إصبعين، ويصب عليه من دهن البنفسج
مقدار ما يملا تخلخل الرمانة، ويحمل على دقاق جمر نقي حتى يغلي ويتشرب الدهن، ويزاد عليه دهن
آخر حتى إذا شربه، يزاد عليه دهن آخر غيره أيضا حتى يروى دهنا ويمتنع من أن يشرب شيئا، ثم ينزل
عن النار ويفرك ويمص حبه ويرمى بثفله لان ذلك مما يفيده معونة على تليين الصدر ويكسبه من القوة
على إدرار البول ما لم يكن فيه قبل ذلك. فإذا تركب ماء الرمان الحلو وماء الرمان الحامض، تولد منهما
دواء ملين (6) للبطن محدر للمرة الصفراء مسكن للحرارة نافع من الحميات الحادة. فإن كان (7) استخراج



(1) (الصفراوي) ساقطة من أول الصفحة، وأثبتناها من ذيل الصفحة السابقة.
(2) أو الابيديميا ومعناها: الأمراض الوافدة.
(3) في الأصل: (سويق).
(4) بعدها في الأصل: (على) ملغاة بشطبة. وبعدها (من) بدل (على).
(5) بعدها في الأصل: (اللوز) ملغاة بشطبة.
(6) في الأصل: دواء ملينا.
(7) (كان) مكررة في الأصل.
296
مائها بشحمهما، اكتسب الدواء المركب منهما تقوية للمعدة وزاد في إطلاق البطن وقوى على إحدار
الرطوبات المرية العفنة، واختص بالنفع من حميات الغب (1) المتطاولة مثل حمى المطريطاوس
الخالصة، من قبل أن شحم الرمان وإن كان باردا يابسا قابضا، فإن لرطوبته لطافة ورقة وحدة يسيرة بها
يلذع البطن ويهيجه إلى إخراج ما فيه بسرعة. ولذلك صار ماء الرمان المستخرج بشحمه إذا شرب، قيأ
وأسهل مرة صفراء وأخرج الدود وحب القرع من البطن.
وأما ماء الرمان المز في طبيعته وفعله <ف‍> متوسط بين طبيعة الحامض والحلو، إلا أنه أميل
إلى لطافة الحامض قليلا لرقة رطوبته ولطافتها، ولا سيما إذا كانت مرارته ظاهرة قوية. ولذلك صار فعله
في تسكين حرارة المعدة والكبد وقطع العطش والزيادة في درور البول، قريبا من فعل الحامض للذاذته
عند الحاسة وقبولها له بشهوة، لخفتها عليها. وأما قطع القئ وحبس الاسهال، فليس له فيهما أثر بين
لأنه غير حابس للطبيعة، وتغذيته تمنع من حبسها.
فإن قال قائل: فلم لا كان ذلك أيضا في الماء المركب من الرمان الحامض والرمان الحلو حتى
يكون الماء الممتزج منهما غير حابس للطبيعة ولا مطلق لها! قلنا له: إن الحلاوة في الماء المركب من
رمان حامض ورمان حلو صادقة خالصة، لان نضجها وانعقادها قد كمل على شجرها. وإذا كانت
الحلاوة صادقة كاملة، كانت (2) حلاوتها أكثر وغسلها وتحليلها أزيد. فإذا جلت الحلاوة وغسلت
وحللت، وقطعت الحموضة وطرقت، وتولد من ذلك دواء ملين (3). وأما المزازة، فإن الحلاوة فيها لطيفة
مائية ضعيفة الفعل قريبة من التفاهة، فإذا مازجت الحموضة، جلتها وفعلت فيها فعل الماء العذب في
الخل، وتولدت بينهما كيفية زائدة في التبريد غير حابسة ولا مطلقة.
وأما الرمان التفه فغير مجد (4) لا على سبيل الغذاء ولا على سبيل الدواء، من قبل أن ليس فيه
لذاذة ولا طعم، لحماقته (5) على سبيل الغذاء، ولا فيه تقوية للمعدة ولا تقوية على حبس البطن وقطع القئ،
فيكون محمودا على سبيل الدواء. لكنه مغث مرخ للمعدة مفجج للطعام مانع من الانهضام. ولذلك
صار مخصوصا بتوليد النفخ والقراقر. وأما حب الرمان الحامض اليابس، فهو في طبيعته نافع من
الاسهال المري والقئ الكذلك، ومسكن لحدة المرة الصفراء والالتهاب العارض في المعدة. والسويق
المتخذ من حب الرمان أفعل في ذلك كثيرا لما يكتسبه من زيادة اليبس في التحميض وبخاصة إذا كان
ساذجا بغير سكر. وأنفع ما يكون في الصيف وسائر الأزمنة الحارة ولا سيما إذا شرب بماء رمان مز. وأما
قشر الرمان فبارد يابس أرضي، إذا احتقن بمائه المطبوخ مع الأرز والشعير المقشر المحمص، نفع من



(1) الغب من الحمى: أن تأخذ يوما وتدع آخر.
(2) في الأصل: كان.
(3) في الأصل: دواء ملينا.
(4) في الأصل: (فكثيرا جدا).
(5) في الأصل: لحماقتهما.
297
الاسهال وسحوج (1) الأمعاء. وإذا تمضمض بمائه، قوى اللثة. وإذا استنجي (2) بمائه، قوى المقعدة
وقطع الدم المنبعث من أفواه البواسير والدم المنبعث من أرحام النساء. وأما قشر أصل الرمان، فمن
خاصيته: أنه إذا طبخ بشراب وشرب، أخرج الحباب (3) والدود وحب القرع من البطن.
ولجالينوس في الرمان فصل قال فيه: إن منفعة كل نوع من الرمان على حسب الطعم الأغلب
عليه. وحب الرمان أشد قبضا وتجفيفا من عصارته، وقشر الرمان أكثر في الامرين جميعا من حبه.
والجلنار (4) الذي يتساقط من شجر الرمان عند انعقاده الذي هو زهرة الرمان، أكثر في ذلك من القشور
وأقوى فعلا. وأما الجلنار على الحقيقة، وهو زهرة الرمان البري، فهو (5) غليظ أرضي قوي القبض.
ولذلك صارت قوته تبرد وتجفف تبريدا وتجفيفا ليس باليسير. ومن قبل ذلك صار نافعا من نفث الدم
وقرحة المعاء، مقويا للبطن، نافعا للمواد المنجلبة إليها، الخارجة مع الاسهال، والمواد المنجلبة إلى
الأرحام، الخارجة مع النزف.



(1) الشحج: علة في الأمعاء تحدث عن حدة صفراء تنصب إليها. وقد تعرض عن استطلاق البطن لورم في الأمعاء. وقيل عن غير
ذلك. انظر كتاب الذخيرة في علم الطب، ص 89.
(2) استنجى: تنظف من النجو (الغائط).
(3) دويبة سوداء مائية.
(4) الجلنار، (فارسي معرب): زهر الرمان: واسمه في العربية: الجنبذة.
(5) في الأصل: وهو.
298
القول في الزعرور والنبق
أما الزعرور والنبق (1)، فإنهما إذا كانا رطبين كانا باردين في الدرجة الأولى. وأشدهما يبسا
الزعرور، وألذهما طعما النبق. وفيهما قبض يسير قوي على تقوية المعدة ودبغها وقطع الاسهال (2)
المري والقئ الكذلك. وأما البول، فإنهما يدرانه. وليس الاكثار منهما بطائل كالاكثار من التين
والعنب، لأنهما بالدواء أشبه منهما بالغذاء. ومن قبل أن غذاءهما يسير جدا غليظ، وأكلهما على الريق
أفضل لدبغهما المعدة وقلة إضرارهما بعصبها. وإذا جففا كان يبسهما أكثر، ولذلك صار النبق إذا كان
يابسا كان عقله للبطن أكثر من عقله لها إذا كان رطبا، إلا أن يكون القبض غالبا على الرطب منه وظاهرا
فيه.
وأما السويق المتخذ من النبق، يفعل في الاسهال ما يفعله النبق اليابس. ولجالينوس في النبق
قول قال فيه: ومما يدل على لطافة هذه الثمرة وتجفيفها، أن طبيخ نشارة خشبها تشد أصول الشعر حتى
لا يتناثر، وينفع من نزف النساء بالماء (3)، وربما طبخت بالشراب على حسب الحاجة إلى ذلك، وليس
إنما تستعمل هذه النشارة في الحقن فقط، لكنها قد تشرب أيضا. ففي هذا دليل ليس بصغير على أن
فيها قبض يسير مع تجفيف معتدل. وقوله في الزعرور: أن ثمرته تقبض قبضا شديدا وتحبس البطن
حبسا قويا، في قضبانه وورقه عفوصة ليست باليسيرة.



(1) النبق والنبق، وغير ذلك: ثمر السدر.
(2) (الاسهال) مستدركة في الهامش.
(3) كذا في الأصل.
299
القول في الغبيراء
الغبيراء (1) بارد في وسط الدرجة الأولى، يابس في الدرجة الثانية. في طعمه قبض، لكنه أقل
قبضا من الزعرور كثيرا. ولذلك صار أقل حبسا للبطن، إلا أنه ألذ طعما. والسويق المتخذ منه يفعل
<كذلك> أيضا ما لم يكن فيه سكر. وإذا شرب مع سويق السماق، كان فعله في قبض البطن وقطع القئ
وتسكين العطش ودبغ المعدة وتطفئة المرة الصفراء أكثر وأقوى.
في المقل المكي
المقل المكي (2) طبيعته طبيعة الغبيراء وفعله فعلها، إلا أن السويق المتخذ منه أكثر وأشد قبضا.
ولذلك صار عقله للبطن أقوى.



(1) شجرة ثمرها على قدر الزيتونة، لونه أحمر وطعمه حلو. وغير المثمر منها يسمى الزيزفون.
(2) هو ثمر شجر الدوم الشبيه بالنخلة في حالاتها، طعمه لذيذ.
300
في القراسيا
وأما ثمرة القراسيا (1) فإنها وإن كانت منسوبة على الجملة إلى القبض والبرودة، فإن القبض غير
متساو في جملتها، لأنها تختلف فيه اختلاف طعومها في القبوضة والحموضة والحلاوة. وذلك أن منها
القابض، ومنها الحامض، ومنها الحلو لان ما تم نضجه منها وكمل على شجره كان حلوا. وما لم يكمل
نضجه عرض له ما يعرض للتوت، وكان إما مالحا أو حامضا وأن كان التوت مخالفا له من وجهه، لان ما
كان من التوت غير كامل النضج كانت الحموضة عليه أغلب من القبض دائما. وثمرة القراسيا فليست
كذلك في كل حالاتها قد تكون حامضة، وقد تكون قابضة. والحلو من هذه الثمرة أسهل انحدارا عن
المعدة، إلا أن منفعته لها يسيرة، إلا أنه إذا أخذ طريا، كان تليينه للبطن ظاهرا، وإذا أخذ يابسا لم يظهر
له فعل في حبس البطن في يبسه.
وأما القابض، فهو (2) ضد ذلك وعكسه، لأنه أبعد انحدارا وأكثر نفعا للمعدة بتقويته لها. ولذلك
صار إذا أخذ يابسا، حبس البطن. وإذا أخذ رطبا، لم يظهر له فعل في حبس البطن ولا تليينه. وأما
الحامض فزعم فيه جالينوس أنه نافع للمعدة المملوءة فضولا بلغمانية، وذكر أن السبب في ذلك: أن
هذه الثمرة إذا كانت حامضة، كانت مركبة من جوهر حامض قطاع وجوهر قابض مقو. فإذا وافت في
المعدة فضولا بلغمانية، قطعتها بحموضتها وجمعت جرم المعدة بقبضها ودفعت تلك الفضول وأحدرتها.
وهذا قول إن سلم لجالينوس، فإنما يسلم على سبيل التصديق لقوله، لا على أنه أقام بذلك برهانا
طبيعيا (2)، لان ما ادعاه في القراسيا الحامض لو كان واجبا، لكان في التفاح الحامض والسفرجل
كذلك. وواجب وألزم إذا كانت الحموضة والعفوصة فيهما أقوى منهما في القراسيا.
وأما صمغ هذه الشجرة ففيه القوة الخاصية التي هي موجودة في جميع الأدوية اللزجة التي لا
لذع لها. ولذلك صار نافعا من خشونة قصبة الرئة والحلق. وذكر ديسقوريدس عن هذه الصمغة أنها إذا
شربت بشراب، نفعت أصحاب الحصى. فإن كان هذا الفضل فيها فلا محالة أنها ملطفة جدا.



(1) أو القراصيا: شجرة معروفة. ثمرها شبيه بالعنب، ويسمى حب الملوك.
(2) في الأصل: وهو.
(3) في الأصل: برهان طبيعي.
301
في ثمرة الأترج
المعروفة عند اليونانيين
بالتفاح المائي
أما الأترج (1) فمركب من قوى أربع: أحدها: قشره، والثانية: في لحمه، والثالثة: في لبه،
والرابعة: في حبه الذي هو بزره. فأما قشره ففيه من الحدة ما ليس باليسير. ولذلك صار تجفيفه في
الدرجة الثانية. ويستدل على ذلك من عطريته وذكاء رائحته وحرافته اليسيرة. فقد تبين ذلك فيه عند
الذوق والشم جميعا. إلا أن في جسمه صلابة واستحصافا (2). فلصلابته صار إذا أخذ اليسير منه على
سبيل الدواء، قوى فعل المعدة وأعان على الهضم وطيب النكهة ونفع من الأدوية المسمومة. وإذا جفف
وصير بين الثياب، لم يقربها السوس. إلا أنه لكثافته وصلابة جسمه وبعد انفعاله صار هضمه للغذاء
يسيرا.
وقال ديسقوريدوس: أنه إذا شرب بشراب، كانت له قوة تضاد قوة (3) الأدوية القتالة. وزعم أن
أكثر من كان يأكله في زمانهم، النساء الحوامل إذا غلب على معدهن (4) الشهوات الرديئة. وأما لحم
الأترج الذي بلا قشره فبارد رطب في الدرجة الأولى، وبرده أقوى من رطوبته. وفى جسمه كثافة وغلظ،
وهو لبرده، صار فيه قوة مبردة لحرارة المعدة. ولغلظه وكثافته، صار بطئ الانهضام والانحدار، مولدا (5)
للأخلاط الغليظة الباردة، لان غذاءه غليظ عسير الانهضام. ولذلك صار من الموجب أن يقدم قبل كل



(1) الأترج: شجر من فصيلة الحمضيات، معروف، ويسمى أيضا الكباد.
(2) في الأصل: استحصاف.
(3) (قوة) مستدركة في الهامش.
(4) في الأصل: معدهم.
(5) في الأصل: مولد.
302
طعام، ولا يؤكل إلا على خلاء من المعدة لينهضم بسرعة وينحدر عن المعدة من قرب، لأنه إن أخذ في
وسط الطعام أو بعده، ولد حمى غليظة بطيئة الانحلال. وأكثر الناس يأكلونه بعسل النحل أو بعسل
الطبرزد، ليكتسب بذلك عذوبة وطيب طعم، ويسرع انحداره وانهضامه.
وأما ماء الأترج فرقيق مائي ليس فيه شئ من الغذاء، لان رطوبته لطيفة ليس فيها من الجسمانية
شئ أصلا، كأنها بالإضافة إلى غيرها من الرطوبات البسيطة عند المركب، إلا أنها تكون على ضربين:
لان منها (1) ما هو تفه مائي مائل إلى العذوبة اليسيرة قليلا، ومنها الحامض القطاع. فما كان منها تفها كان
باردا (2) رطبا في الدرجة الثانية، إلا أن برودته أكثر من رطوبته. ولذلك صار مسكنا لحدة الحرارة قاطعا
للعطش. وما كان منها حامضا كان باردا يابسا في الدرجة الثالثة، له قوة تلطف وتقطع وتبرد وتطفئ
حرارة الكبد، وتقوي المعدة وتزيد في شهوة الطعام، وتقمع حدة المرة الصفراء، وتزيل الغم العارض
منها، وتسكن العطش وتقطع الاسهال المري والقئ الكذلك، وتنفع من القوباء والكلف إذا طليت
عليهما، وإن كانت بالنفع من القوباء أخص. ويستدل على ذلك من فعلها في الحبر إذا وقع على
الثياب، لأنها إذا طليت عليه، قلعته.
وأما حب الأترج الذي هو بزره، فحار يابس في الدرجة الثانية، ويستدل على ذلك من مرارته
الخالصة، ولذلك صار لا يصلح للغذاء أصلا، إلا أنه على سبيل الدواء يسهل البطن ويحلل الأورام
ويطيب النكهة، ويقوي اللثة بفضل مرارته، وينفع من السموم إذا شرب بشراب.
وأما ورق هذه الشجرة ففيه عطرية وذكاء رائحة مع حرافة بينة. ولذلك صارت قوته مجففة ملطفة.
تنفع مما ينفع منه قشر الثمرة.



(1) (منه): مضافة في الهامش.
(2) في الأصل: بارد.
303
في اللبخ (1)
زعم قوم في هذه الشجرة <أنها> ابتداءا كانت في بلد فارس، فلما نقلت إلى ديار مصر، صارت
تؤكل ولا تضر. ولثمرتها قبض بين به صارت مقوية للمعدة، مانعة من الاسهال، قاطعة للدم إذا جففت
وسحقت وحملت على المواضع التي يسيل منها الدم. وورق هذه الشجرة أيضا يفعل مثل ذلك. وأما
النوى الذي في جوف ثمرتها، فزعم أهل مصر أنه إذا أكل، أحدث صمما.



(1) شجرة عظيمة كالدلب. ثمرها يشبه التمر، حلو جدا لكنه كريه.
304
في الجمار والجفري وثمر النخل
أما الجمار (1) فهو على ضربين: لان منه الرخص القريب من قلب النخلة، ومنه الغليظ الخشبي
القريب من الأرض. وما كان منه رخصا لينا قريبا (2) من قلب النخلة، كان برده أكثر من يبسه، وكان برده
في آخر الدرجة الأولى، ويبسه في وسطها من قبل أنه مركب من جوهر أرضي وجوهر مائي. ولذلك صار
بإضافته إلى الغليظ الخشبي أسرع انحدارا وألطف غذاء وإن كان غذاؤه في ذاته يسيرا عسير الانهضام،
إلا أنه مسكن لحدة الدم الحريف، قامع للمرة الصفراء حابس للبطن. وما كان منه غليظا خشبيا كان
يبسه أكثر من برده، وكان يبسه في الدرجة الثانية، وبرده في الدرجة الأولى من قبل أن الأرضية عليه
أغلب كثيرا. ولذلك صار أعسر انهضاما وانحدارا وأغلظ غذاء وأقوى في حبس البطن.
وأما الجفري (2) فقريب من طبيعة الجمار، إلا أنه أشد قبضا لان يبسه في الدرجة الثانية. ولذلك
صار أبطأ انحدارا عن المعدة وأكثر حبسا للبطن حتى أن الاكثار منه يورث القولنج، ويحدث وجعا في
المعدة. ومن قبل ذلك وجب أن يحتال له بما يلطفه ويعين على سرعة انهضامه مثل استعماله بالدجاج
المسمن والجدي الرضيع ويشرب بعده نبيذ عتيق مصرف، أو يشوى أو يسلق، أو يؤكل بالخردل أو بخل
مطيب بفلفل كراويا وصعتر وكرفس ونعنع وزيت أنفاق. وأما قشر الجفري فيجفف تجفيفا أكثر
من جميع ما وصفنا في الجفري لأنه أشد يبسا وأقل رطوبة بل لا رطوبة فيه أصلا، ولذلك صار إذا أخذ
ماؤه وخلط معه شئ من كافور ودهن واستعط به، قطع الزعاف. وإذا خلط بالأدوية المقوية للمعدة
والكبد، زاد في فعلها كثيرا. وكذلك يفعل إذا خلط بالضمادات المقوية للمفاصل. ولديسقوريدوس
دهن (4) صنعه من قشر الجفري، وهو الطلع، يقوم مقام دهن الورد، وهذه صفته: يؤخذ من قشر الجفري



(1) الجمار، واحدها جمارة: قلب النخلة وشحمها.
(2) في الأصل: قريب.
(3) الجفري أو الكفرى: هو قشر طلع النخل.
(4) (دهن) مستدركة في هامش الأصل.
305
جزء، فيدق دقا جيدا ويلقى عليه من الزيت الانفاق مثل وزنه، وينقع فيه ثلاثة أيام وثلاث ليال، ويعصر
ويرفع ويستعمل عند الحاجة.
* * *
في البلح
أما البلح فبارد يابس (1) في وسط الدرجة الثانية، فيه قوة قابضة بها يدبغ اللثة ويقوي المعدة
والمعاء ويمنع الاسهال. إلا أن غذاءه يسير ضعيف (2) عسير الانهضام، مضر بالمعدة والرئة لخشونته.
فإذا تم طبخه وصار بسرا (3) واكتسب حلاوة، صار حارا في الدرجة الأولى، يابسا في الثانية. ويستدل
على حرارته من حلاوته، وعلى يبسه من عفوصته ودبغه للمعدة. وإن كانت عفوصته أقل من عفوصة
البلح. ولذلك صار فعله في تقوية المعدة واللثة وحبسه للاسهال دون فعل البلح، لان قبضه أقل،
وانهضامه أسرع وإن كان مولدا (4) للرياح والقراقر والنفخ ولا سيما إذا شرب بعقبه الماء. والمختار منه ما
كان له هشاشة وحلاوة مثل البسر المعروف بالعراق بالجيسوان (5) والسكر، والمعروف بمصر بالبيضة
والبرني (6)، لان ما كان من البسر كذلك لم يكن أن يبطئ في المعدة.
في الرطب
أما الرطب (7) فحار في أول الدرجة الثانية، رطب في وسط الدرجة الأولى. يغذو غذاء أكثر من
غذاء البسر للزوجته وحلاوته. ولذلك صار عظيم المضرة لأنه يملا البدن فضولا ويصدع الرأس ويفسد
اللثة والأسنان، ويولد رياحا نافخة، ويحدث في الكبد بدءا سددا ثم من بعد ذلك يحدثها في الطحال.
والاكثار منه يولد حميات عفنة متطاولة، وبردا لا يكاد البدن يسخن منه إلا بمشقة. والمختار منه
المعروف بالهيرون (8)، وبعده ما كان أصفر وقلت حلاوته لأنه ألطف وأقل حرارة ولزوجة. والمذموم منه
ما كان أسود واشتدت حلاوته، لأنه أغلظ وأكثر حلاوة ولزوجة. ومما يدفع ضرره أن يشرب بعده ماء
الرمان المز والاسكنجبين، ويتمضمض بعد ذلك بنبيذ صرف.



(1) (يابس) مستدركة فوق السطر الأول.
(2) في الأصل: يسيرا ضعيفا.
(3) البسر والبسر من ثمر النخل: ما لون ولم ينضج.
(4) في الأصل: مولد.
(5) جنس من أفخر أجناس النخل، له بسر جيد. والسكر: نوع من الرطب شديد الحلاوة.
(6) البيضة: لون من التمر. والبرني: أجود التمر، عذب الحلاوة.
(7) هو التمر الطري.
(8) ويقال له أيضا: الهيرور.
306
القول في التمر
أما التمر فحار غليظ عسير الانهضام بطئ الانحدار، إلا أنه أسرع انهضاما من التين وأدر
للبول، حتى أن الالحاح عليه يشحم المثانة ويولد سددا في الكبد والطحال ويزيد في جسأهما
وغلظهما، ويضر بالأسنان واللثة، ويحدث في فم المعدة ألما، غير أن فعله يختلف في القلة والكثرة
على حسب اختلاف أنواعه، لأنه في جنسه يختلف على ثلاثة ضروب: وذلك أن منه ما يكون تولده في
البلدان القوية الحرارة، ومنه ما يكون في البلدان القوية البرودة، ومنه ما يكون في البلدان المعتدلة.
فما كان منه في البلدان القوية الحرارة، بلغ من النضج الغاية القصوى وجاوز حد الاعتدال
وصار أحر التمور وأشدها حلاوة وأكثرها ليانة ولزوجة وأقلها عفوصة. ولذلك صار أكثرها غذاء وأسرعها
انهضاما وأطلقها للبطن، إلا أنه أكثرها توليدا للنفخ وأخصها بسدد الكبد والطحال وأسرعها انقلابا إلى
المرة والعفونة وأضرها بالأسنان والرأس وفم المعدة. وما كان منه في البلدان القوية البرودة لم يبلغ من
النضج كماله، وبقي يابسا جافا قوي العفوصة، ولذلك صار أكثرها يبوسة وأقلها غذاء وأعسرها انهضاما
وانحدارا وأشدها تقوية للمعدة وحبسا للبطن. وما كان منه في البلدان المعتدلة الهواء، بلغ من النضج
كماله وإن لم يصر إلى حالة يحتمل فيها أن يخزن فيبقى، ولذلك اضطر أهل بلدته إلى أن يأكلوه وهو
بعد طري، ثم يجف فتفنى رطوبته الفضلية. ولهذه الجهة صارت أبدانهم تمتلئ بأخلاط نية
تعرض لهم من حميات متطاولة وبرد لا يكاد البدن يسخن منه إلا بمشقة، وتعظم أطحلتهم وتغلظ وتفسد
مجاري كبودهم.
وفى الجملة، إن ما كان من التمور متولدا في البلدان القليلة الحر فإنها لا تنضج ولا تعذب
وأكثرها يولد (1) خلطا نيا سادا. ولذلك وجب على من أراد استعمالها أن يختار منها ما كان قليل الرطوبة
خفيف الوزن، فيه عفوصة بينة ظاهرة كالقسب (2) وما شاكله لان ما كان كذلك كان دابغا للمعدة حابسا
للبطن، إلا أنه من الواجب أن يمص ويرمى بثفله، ويشرب بعقبه أسكنجبين سكري أو ماء رمانين
ويتمضمض بعده بنبيذ صرف.



(1) في الأصل: تولد.
(2) القسب هو التمر اليابس، صلب النواة.
307
في الموز وقصب السكر
أما الموز فحار في وسط الدرجة الأولى، رطب في آخرها، ملين للبطن، نافع من الخشونة
العارضة في الصدر والرئة، ويغذو غذاء كثيرا غليظا. ويستدل على ذلك: أن الاكثار منه يولد ثقلا في
المعدة ويسد جداول الكبد وعروق الطحال، وهذه خاصته. ولذلك وجب على من كان مزاجه باردا أن
يشرب بعده اسكنجبينا عسليا أو يأكل زنجبيلا مربى. ومن كان مزاجه محرورا فاحتماله للاكثار منه يكون
قليلا لان حرارة مزاجه تعين على هضمه. فإن هو وجد منه ثقلا في معدته فليشرب بعده اسكنجبينا (1)
سكريا.
* * *
القول في قصب السكر
وأما قصب السكر فهو في طبيعته ومزاجه قريب من طبيعة الموز ومزاجه، إلا أن الاكثار منه لبدن
الانسان (2) لأنه أكثر حلاوة من الموز. ولذلك صار مدرا (3) للبول لما فيه من قوة التنقية للكلى والمثانة
وهذه خاصيته. ومن منافعه: أنه يسهل البطن ويلين خشونة الصدر والرئة وينقي الرطوبات اللطيفة
المتولدة فيها، إلا أنه يولد نفخا ولا سيما إذا أخذ بعد الطعام. وإذا أخذ مشويا كان أكثر منفعة للصدر
والرئة، وأقل لرياحه. وإذا مص الانسان منه شيئا صالحا وشرب بعقبه ماء حارا وتهوع (4)، نقى المعدة من
الرطوبات الغليظة وبخاصة إذا جعل في الماء الحار شيئا من ملح. ولذلك صار أصحاب الحميات
العفنة يستعملونه على هذه الحال وينتفعون به.



(1) في الأصل: هو وصفته بالرفع.
(2) كذا في الأصل. ويبدو ثمة انقطاع في السياق.
(3) في الأصل: مدر.
(4) أي تكلف القئ.
308
في السكر
أما السكر فهو في جملته حار في آخر الدرجة الأولى، رطب في وسطها، له قوة تجلو وتلطف
وتحلل وتلين البطن من غير لذع ولا عنف على الطبيعة. ولذلك صار مواقفا للمعدة لأنه يجلو ما فيها
وينقيها إلا أن يكون الغالب على المعدة المرار، فيكون مضرا بها لاستحالته إلى المرار وانتقاله إليه
وتقويته له. وذلك أن قوته مخالفة للحموضة، والحموضة من شأنها أن تسكن المرار. والحلاوة إذا كانت
مخالفة للحموضة، فمن شأنها أن تهيج المرار. وقد يختلف السكر في غذائه وفعله بحسب اختلاف
أنواعه. وذلك أن السكر على أنواع: لان منه المعروف بالطبرزد، ومنه المعروف بالسليماني، ومنه
المعروف بالفانيد (1)، ومنه المعروف بالنبات، ومنه سكر العشر (2) المجلوب من الحجاز الشبيه بقطع
الملح.
والمعروف منه بالطبرزد أقلها حرارة ورطوبة لان حرارته ورطوبته في وسط الدرجة الأولى.
ولذلك صار أقلها تليينا للطبيعة وأبعدها من الانتقال إلى المرار. والسكر السليماني شبيه (3) بالفانيد لأنهما
جميعا أزيد حرارة وأكثر رطوبة. ولذلك صار أطلق للبطن وأسرع استحالة إلى المرار. وأما النبات
فيختلف على حسب اختلاف الشئ الذي ينبت منه، لأنه إن كان نباته من سكر قد طبخ بماء ورد، كان
أبرد وأجف وأقل إطلاقا (4) للبطن. وإن كان نباته من سكر قد طبخ بماء ورد البنفسج، كان ألين وأطلق.
وإن كان نباته من سكر قد طبخ بماء المطر، كان أعدل وأكثر توسطا بين ما يطلق وبين ما يحبس. وأما
السكر المجلوب من بلد الحجاز المعروف بسكر العشر، فهو أقل أنواع السكر حلاوة وأكثرها يبوسة.
ولذلك صار له فعل محمود في أوجاع الكلى والمثانة وجلاء البصر والنفع من البياض العارض للعين إذا
اكتحل به. وإذا شرب مع لبن اللقاح، نفع من الاستسقاء. ولبن العشر إذا شرب مع لبن اللقاح، فعل
مثل ذلك وكان أقوى فعلا وأظهر تأثيرا إلا أن فيه خطرا لمن كان مزاجه محرورا. والفرق بين حلاوة
السكر وحلاوة العسل، أن حلاوة العسل معها إسخان وتجفيف، وحلاوة السكر معها تليين وترطيب.
ولذلك صار السكر أقل عطشا وأبعد من الاضرار بالمعدة.



(1) والفانيذ أيضا.
(2) العشر: شجر له صمغ حلو ونور جميل، ينتج منه سكر العشر، وفيه شئ من المرارة.
(3) في الأصل: شبيها.
(4) في الأصل: إطلاق.
309
القول في الترنجبين والمن
أما الترنجبين وهو طل (1) يسقط على الأشجار، وفيه حرارة يسيرة في الدرجة الأولى، وله لطافة
مكتسبة من النبات الذي يسقط عليه، يلين البطن بها تليينا يسيرا. وتدل على الحرافة عن المزاج
المعتدل إلى الحرارة اليسيرة، عذوبته. فلذلك صار ملينا (2) للصدر.
وأما المن فهو أقوى حرارة لان حرارته في وسط الدرجة الأولى، ورطوبته معتدلة. ولذلك صار
نافعا للصدر.



(1) الطل: الندى. والترنجبين هو ندى شبيه بالعسل. وقيل أنه هو المن المذكور في القرآن الكريم.
(2) بعدها في الأصل: (للبطن) ملغاة بشطبة.
310
القول في العسل
العسل حار يابس في الدرجة الثانية، له حدة وحرافة اكتسبهما من طبيعة النحل، بهما يجلو
ويقطع ويجذب الرطوبات من عمق الأبدان وينقيها من المسام ويغسل أوساخ العروق والأوراد (1)
ويجلوها. ولذلك صار موافقا للأبدان الباردة الرطبة، كان ذلك لها من مزاجها، أو من السن، أو لحال
عارضة لأنه ينتقل في مثل هذه الأبدان إلى الدم بسرعة ويغذوها غذاء صالحا، إلا أنه يسير (2) للطافته
وسرعة انحلاله من الأعضاء. وأما الأبدان الحارة، فإنه غير موافق لها وبخاصة إذا كانت مع حرارتها
يابسة المزاج لأنه يلهبها ويستحيل فيها إلى المرار قبل انتقاله إلى الدم. فإذا انتقل، ولد دما حادا حريفا
خارجا من تغذية أبدانهم، بل لا يغذوها أصلا، ولذلك صار من أوفق الأشياء للمشايخ لأنه يلطف
رطوباتهم ويقطعها ويلذع المعاء بحدته ويهيجها إلى دفع ما فيها بسرعة. فأما الشبان، فإن إضراره بهم
بين (3) لأنه مجفف رطوباتهم ويلهبها ويحبس طبائعهم ويهيج فيهم الغثي والقئ.
وقد يختلف العسل على حسب اختلاف أنواعه ووجوه استعماله. وأما اختلافه في أنواعه، فيكون
على ضربين: أحدهما: من زمانه، والآخر: من مرعى النحل وغذائه. واختلافه من زمانه يكون على
ضروب: لان منه الربيعي، ومنه الخريفي، ومنه الشتوي، فأحمدها وأصلحها الربيعي وبعده الخريفي،
وأردأها الشتوي لأنه أغلظ، وإذا غلظ ضعفت قوته. وأما اختلافه من قبل مرعى النحل وغذائه، فيكون
على ضروب: لان منه ما يكون من نحل يرتعي نوار اللوز وما شاكله. ومنه ما يكون من نحل يرتعي
الفودنج والصعتر والنمام (4) وما شاكل ذلك. ومنه ما يكون من نحل يرتعي الافسنتين والشيح (5)



(1) في كتب اللغة: جمع وريد: أوردة وورد وورود.
(2) في الأصل: يسيرا.
(3) في أوصل: بينا.
(4) نبت طيب الرائحة، ينم على حامله بثضوع ريحه.
(5) نوع من الحشائش يشبه الافسنتين في منظره وطعمه. وهو الفراسيون والمسمى أيضا أبو الركب.
311
والقيصوم (1) والأقحوان والحندقوقي (2) وما شاكل ذلك.
فما كان منه من نحل يرتعي نوار اللوز وأمثاله، كان أعدل وألذ وأقل حرافة وألين. ولذلك صار
إضراره بالمعدة والصدر أقل، ومنفعته، إذا تغرغر به لأوجاع الحلق واللوزتين والخناق، أكثر (3). وإذا
نزعت رغوته وعمل منه لعوق أو شرب فاترا (4) مع شئ من دهن لوز، فعل مثل ذلك أيضا ونفع من
الخناق العارض من أكل الفطر القتال. وإذا شرب وهو حار مع دهن الورد، نفع من السعال وأدر البول
وأطلق البطن. وإذا طبخ مع شبت رطب وطلي على القوابي، نقاها. وإذا عجن بدقيق الباقلي وطلي
على الكلف، نقاه.
وأما ما كان منه من نحل يرتعي الفودنج والصعتر، فإنه أسخن وأجف كثيرا. فلذلك صار أكثر
موافقة لأصحاب الفالج واللقوة (5) ولتنقية الرطوبات العفنة والمدة (6) الوسخة من القروح وبخاصة قروح
الآذان، ولا سيما إذا خلط مع ملح مسحوق من الملح الذي يحتفر (7) عليه ويخرج من معدنه، لا الملح
الطائر فوق الأرض، هذا إذا طلي به الرأس، قتل القمل والصئبان ونقى أصول الشعر من الرطوبات
الفاسدة، ونفع من داء الثعلب (8). وإذا أخذ مثل اللعوق، ونفع من عضة الكلب. وإذا طلي به الذكر
بعقب الخروج من الحمام (9) بعد أن يمرس الذكر مرسا جيدا، وأدمن ذلك شهرا كاملا، زاد في طول
الذكر وبخاصة إذا خلط معه عاقر قرحا وسنبل وبورق (10) وجندبادستر (11) أو مسك بدل الجندبادستر.
وما كان من نحل يرتعي الأفسنتين والشيح والقيصوم والحندقوقي، فإنه (12) أكثر الاعسال حلاوة
وتنقية وتفتيحا (13) للسدد وبخاصة سدد المعدة والكبد والطحال. ولذلك صار مخصوصا بنفع الاستسقاء إذا
شرب مع لبن اللقاح. وإذا نزعت رغوته وأخذ مثل اللعوق، نفع من عضة الكلب ومن لدغ الدواب
الخبيثة، ومن شرب لبن الخشخاش الأسود ولبن العشر. وإذا طلي على الرأس فعل في قتل القمل
والصئبان وتنقية أصول الشعر ما يفعله العسل الصعتري. وكذلك يفعل في الزيادة في الذكر إذا طلي به
على ما وصفنا بعقب الخروج من الحمام (9).



(1) من الرياحين، له زهر ذهبي اللون، طيب الرائحة. وصورتها في الأصل مشوهة.
(2) من البقول. وهو الذرق. وللمؤلف في هذه الأنواع جميعا أقوال في الجزء الثالث من هذا الكتاب.
(3) في الأصل: وأكثر.
(4) في الأصل: فاتر.
(5) داء في الوجه يعوج منه الشدق.
(6) القيح: المجتمع في الجرح.
(7) في الأصل: يحف.
(8) مرض يسبب تناثر الشعر.
(9) في الأصل: الجماع. وهو تحريف.
(10) ملح مؤلف من حامض البوريك والصودا لا لون له ولا رائحة.
(11) مثانة حيوان بحري وبري يسمى القندر.
(12) في الأصل: فإن فإنه. والأولى زائدة.
(13) في الأصل: تفتيح.
312
وأما اختلاف العسل بحسب وجوه استعماله، فيكون على ضروب: لان منه ما يستعمل نيئا على
وجهه. ومنه ما يلقى عليه ماء كثير ويطبخ وتنزع رغوته دائما حتى يصير له قوام العسل ويستعمل. ومنه ما
يطبخ بغير ماء إلا أن رغوته تنزع وتنطف وتستقصى (1). ومنه ما يطبخ ولا يبالغ في طبخه ولا يحكم
إنضاجه ولا تنزع رغوته. ومنه ما لا يطبخ إلا يسيرا ولا تنزع رغوته.
فأما ما كان يستعمل على وجهه، فمن شأنه أن يولد رياحا ويزيد في خشونة الصدر بحدته ويهيج
القئ والاسهال. وأما ما يطبخ بالماء وتستقصى رغوته، فإنه يكتسب من الماء لطافة وليانة تزول بهما
حدته وحرافته. ولذلك يقل جلاؤه وإطلاقه للبطن ولا ينفخ أصلا ولا يهيج القئ، ذلك لأنه ينفذ إلى
جميع البدن بسرعة ويلين خشونة الصدر ويدر البول ويغذو غذاء كثيرا. وأما ما يطبخ بغير ماء، إلا أن
رغوته تستقصى، فإن حدته أيضا تقل ويزول أكثرها ويصير قريبا مما يطبخ بالماء، إلا أن إدراره للبول
يكون أقل. وأما ما لم يكن يحكم نضجه وتنزع رغوته، فإنه يولد في المعدة والمعاء رياحا نافخة. وما
لم يطبخ إلا طبخا يسيرا، هو شبيه بما لم يطبخ أصلا، إلا أنه ينحدر قبل تمام هضمه.



(1) استقصى الامر: بلغ أقصاه، أي منتهاه.
313
القول في الناطف
أما الناطف (1) فما كان منه ساذجا لم يخالطه شئ، فقوته قوة العسل المستعمل منه المحكم
الصنعة. وما كان منه مركبا مع سمسم أو صنوبر أو شاهدانج أو غير ذلك، فإن قوته أيضا مركبة وغذاءه
أكثر.
* * *
القول في الموم
أما الموم (2) فإنه يسخن ويلين في الدرجة الثانية. وأسخنه وأحره ما كان يلي الحمرة وكان غليظا
دسما نقيا من الوسخ، له رائحة طيبة شبيهة برائحة العسل. وبعده ما كان أبيض بالطبع غير مطبوخ وكان
علكا دسما. ومن فعله أنه يلين ويحلل وينضج إنضاجا ضعيفا، ويمنع من تعقد اللبن في الثدي. وقد
يتخذ منه حب صغار مثل الجاورس، ويشرب منه عشر حبات مع بعض الأحساء، فينفع من قروح
المعاء ومن خاصته: أنه شبيه بالعطر لسائر المراهم والضمادات المبردة والمسخنة.



(1) نوع من الحلواء. ويسمى القبيطى.
(2) هو الشمع.
314
القول في وسخ كوائر النخل
ما كان لونه يلي الحمرة، وكانت رائحته طيبة شبيهة برائحة الأسطرك (1) المعروف بلبن الرمان من
غير أن يكون مفرط اللين، لكن يمتد كما يمتد المصطكى من طبعه. إنه حار يابس في الدرجة الثانية.
ومن فعله أنه يسخن إسخانا قويا، ويجذب من العمق ويخرج السلى (2) من باطن اللحم (3). وإذا تبخر به،
نفع من السعال. وإذا لطخ به القوابي، أبرأها وإنما يؤخذ من أفواه الكوائر (4) من مداخل النحل
ومخارجها. وطبيعته طبيعة الموم.



(1) الأسطرك والاصطرك: صمغ شجرة شبيهة بشجرة السفرجل، إذا فرك انبعثت منه رطوبة كالعسل.
(2) السلى: الجلد الرقيق الذي يخرج فيه الولد من بطن أم ملفوفا فيه.
(3) لعلها: الرحم.
(4) الكوائر، جمع كوارة: هي العسل في الشمع.
315
القول في اللوز الحلو واللوز المر
والمتوسط بين ذلك
أما اللوز الحلو فحار لين في وسط الدرجة الأولى. وزعم جالينوس أن فيه مرارة يسيرة تخفى عن
الحس لعذوبته، وقال: ومما يدل على ذلك ما نجده إذا عتق وقلت عذوبته، ظهرت فيه مرارته (1) ظهورا
بينا. ولذلك صار في جميع حالاته على سبيل الغذاء شبيها بالجوز، إلا أن غذاءه أقل وأغلظ وأعسر
انهضاما وأبعد انحدارا للبطن، ذلك لصلابة جرمه وقلة دسمه ودهنيته. ولذلك صار جوهره ألطف وأبعد
من الاستحالة إلى المرار وأقل إضرارا بالمعدة. وأما على سبيل الدواء، ففعله يقرب من فعل اللوز المر
في تنقية الصدر والرئة وتفتيح سدد الكبد وتنقية الكلى وإدرار البول، إلا أنه أضعف كثيرا على حسب
نقصان مرارته عن اللوز. ولذلك صار اللوز المر يستعمل على سبيل الدواء كاستعمال الصبر.
واللوز الحلو يستعمل على سبيل الغذاء لا على سبيل الدواء. وكثيرا ما يستعمل دهنه دون جرمه
لأنه ألطف، وجرمه أغلظ وأعسر انحدارا. فإن هو قشر من قشره الداخل، وأكل مع عسل أو سكر، كان
أسرع لانحداره. وأما اللوز الطري فهو أفضل وأسرع انحدارا للمائية الغالبة عليه وبخاصة إذا قشر من
قشره الداخل، ولذلك صار اللوز اليابس إذا قشر من قشرته، وأنقع في ماء حار ليلة اكتسب رطوبة وصار
قريبا من اللوز الطري. وإذا أكل اللوز الطري قبل أن ينعقد جيدا بقشره الاعلى، قوى اللثة وسكن
حرارتها وأصلح بلة (2) المعدة. وإنما لزمته هذه الخاصة لما في قشره من الحموضة والعفوصة. وأفضل
اللوز ما كان رطبا لقلة دهنيته ولزوجته.
وأما اللوز المر فحار في آخر الدرجة الثانية. له قوة ملطفة غواصة منقية، مفتحة للسدد، مذيبة
للكيموسات الغليظة اللزجة. ولذلك صارت منفعته للصدر والرئة من الرطوبات البلغمانية اللزجة مفتحة



(1) في الأصل: مرارة. ومصححة في الهامش (مرارته).
(2) البلة: الندوة، أي ما فيها من بلل.
316
لسدد الكبد والطحال محللة للرياح الغليظة الكائنة في معاء القولون مدرة للبول منقية للكلى والأرحام
مفتحة لسددها، حتى أنه إذا قشر من قشرته ودقته المرأة واستعملت منه فتيلة، أدر الطمث. وإذا أكل
نقى الرطوبات العفنة وسكن الآلام والأوجاع وجلب النوم وأدر البول. وإذا شرب مع نشاستج الحنطة
والنعنع قطع نفث الدم. وإذا شرب بشراب وصمغ البطم، نفع من ورم الرئة ونقى الكلى وفتح سدد
الكبد والطحال. وإذا استعمل بالميبختج (1)، نفع من عسر البول وفتت الحصى. وإذا لعق منه مقدار
جوزة بعسل ولعق، نفع من وجع الكلى والكبد والسعال، والنفخ العارضة في المعاء المعروف بالقولون.
وزعم قوم أنه إذا أكل على النبيذ، منع السكر. وإذا أكلته الثعالب، قتلها.
وأما صمغ هذه الشجرة فيقبض ويسخن. وإذا شرب، نفع من نفث الدم. وإذا عجن وطلي على
القوابي، نقاها وقلعها. وإذا شرب بشراب ممزوج، نفع من السعال المتقادم. وإذا شرب بالطلاء، نفع
من به حصى. ولشجرة هذا اللوز نفسها قوة شبيهة بقوة اللوز. ولذلك صار أصلها إذا طبخ ودق دقا ناعما
حتى ينسحق، وطلي به على الكلف، نقاه. وأما اللوز القليل المرارة، فهو في جميع حالاته متوسط بين
اللوز الحلو واللوز المر، لأنه أقل غذاء من اللوز الحلو وأكثر تنقية للرطوبات وتفتيح السدد، وأكثر غذاء
من المر وأقل تنقية للرطوبات وتفتيح السدد.



(1) الميبختج: تعني بالفارسية: مطبوخ العنب، أي الرب ويسمى إعليقي.
317
القول في الجوز والجلوز المعروف بالبندق
والجوز الهندي المعروف بالرانج ويسمى
النارجيل
أما الجوز فينقسم قسمة أولية على ضربين: لان منه الرطب الأخضر، ومنه اليابس الجاف. فما
كان منه رطبا كان أقل حرارة وجفافا مما كان يابسا لان فيه رطوبة فضلية لم تستكمل نضجها. ولذلك
نسب إلى اليبوسة قليلا، لان الرطوبة التي فيه غير طبيعية. ولسبب ما فيه من الرطوبة الفضلية لم يكن له
قبض بين ولا دسومة ظاهرة ولا لزوجة. ولذلك قل إضراره بالمعدة واللهوات والحنك، لأنه صار كما لا
طعم له ولا حرافة فيه يسيرة يخفى أكثرها عن الحس بها، صار له جلاء وتليين البطن اليابس، وبهذا
صار أوفق للمعدة. وإذا أكل على الريق بالمري والخل، كان تليينه للبطن أكثر، لان تفهه يقل ويضعف
كثيرا. وإذا أكل مع السذاب الطري، لم يصل إلى آكله من الأدوية القتالة كثير ضرر.
وأما الجوز اليابس فيكون على ضروب: لان منه اليابس الحديث القريب العهد بشجره. ومنه
العتيق البعيد العهد بشجره. ومنه القديم المتوسط الزمان. فما كان منه حديثا قريب العهد بالشجر، كان
فيه من بقايا رطوبته الرطب (1) بقية ما. ولذلك صار جوهره ألين ودهنيته أقل، إلا أن فيه يسيرا من
القبض. فإذا تمادى به الزمان وقاربت رطوبته الفضلية الفناء، زال عنه القبض لغلبة الدهنية عليه
وأسرعت (2) إليه الاستحالة إلى المرار. فإذا عتق وفنيت رطوبته بأسرها وصار جوهره دسما بمنزلة الزيت
العتيق الزنخ، خرج من عسر الانهضام (1) من ردئ للمعدة سريع الاستحالة إلى المرار، ضارا بمن كان
به سعال من حرارة.
وإذا أضفت جملته إلى جملة البندق، وجدت البندق أكثر غذاء لكثافة جسمه وتلززه وقلة دسمه



(1) كذا في الأصل.
(2) في الأصل: وأسرع.
318
ودهنيته، ووجدت الجوز أقل غذاء لسخافة جسمه ورخاوته وكثرة دهنيته ولزوجته المضرة بخمل المعدة
بالطبع، إلا أن يوافي مزاج المعدة معتدلا أو مائلا إلى البرد قليلا، فيقاوم بردها حرارة الجوز فيكون سببا
زائدا في غذائه وسرعة انهضامه. وأما المعدة الحارة المزاج، فإنه يلهبها بسرعة وينتقل إلى الدخانية
وجنس المرار ويضر بالمعدة ويولد صداعا في الرأس وحيرة في البصر.
ومما يدفع ضرره، أن يقشر من قشره وينقع في ماء حار ليكتسب رطوبة من الماء تقل بها
حرافته، ويصير في مذهب الجوز الرطب. وأما على سبيل الدواء، فإنه إذا أكثر من أكله، أخرج حب
القرع من البطن بوعائه الذي هو فيه. وإذا أكل على الريق غبا، سهل خروج القئ. وإذا أخذ مع التين
اليابس قبل أن تؤخذ الأدوية القتالة، كان بادزهر (1) لها ودفع أذيتها. وإذا أخذ بعد الأدوية القتالة، فعل
قريبا من ذلك أيضا. وإذا عمل منه ضماد بعسل وشئ من ملح وبصل، نفع من عضة الكلب وعضة
الانسان. وإذا عمل منه ضماد مع شئ من عسل ويسير من سذاب، حلل أورام البدن العارضة من
البلغم والمرة السوداء. وإذا سحق بقشره وحمل على السرة، حلل الأورام من البطن.
وأما قشر أصل هذه الشجرة وورقها، فإن فيهما قبضا. ولذلك صار إذا شرب منه وزن مثقال، نفع
من تقطير البول. وإذا شرب مع كلى بغل، منع الحبل. وإذا شربت المرأة منه بعد طهرها، فعل (2) ذلك
أيضا. وإذا عصر القشر وهو طري كما يعصر ثمر العليق وطبخت عصارته مع عسل، كان منها دواء نافعا
جدا مع الفم والحنجرة. وثمر الجوز الصغير الذي يوجد في وقت نبات الورق إذا دق وخلط بعسل
واكتحل به، نفع من غشاوة البصر. وإذا أحرق الجوز وعجن بشراب وطلي على رؤوس الصبيان، حسن
شعورهم وأنبت الشعر في داء الثعلب. وداخل الجوز إذا أحرق وسحق وخلط بشراب واحتملته المرأة،
منع الطمث. وأما داخل الجوز العتيق، فإنه إذا مضغ وحمل على الأورام الخبيثة والبواسير العارضة في
مآق العين وداء الثعلب، نفع من ذلك أجمع. وقد يستخرج من الجوز العتيق دهن إذا دق وعصر، فينفع
من مثل ذلك ومن سائر الأورام البلغمانية والجراحات الواقعة بالعصب. ويقال أنه إذا قطع شجر الجوز
وهو صغير وغرس في مسافات مزبلة ويقال في أرض سبخة (3) مالحة، أنبت فطرا يؤكل السنة كلها. وزعم
ديسقوريدوس عن الجوز الرومي: أن ثمره إذا دق وشرب بخل، نفع المصروعين - وفى نسخة أخرى
نفع من اختلاط العقل - ويقال: أن الذي يسيل من صمغته إذا وقع في البئر الذي يقال له أنريدانوس
يجمد في النهر ويكون منه الكارباء (4) وهو صمغة لها لون كلون الذهب. وإذا فركتها وألقيتها على النار،



(1) البادزهر: حجر ينفع من السموم. ألوانه كثيرة أجودها الأصفر. ويطلق على كل شئ ينفع من شئ آخر.
(2) في الأصل: فعلت.
(3) السبخة: أآض ذات نز وملح.
(4) الكارباء أو الكهرباء. عن ابن سينا: (وهو صمغ كالسندروس شفاف، يجذب التبن والهشيم من النبات، ولذلك سمي كاه رباء
أي سالب التبن بالفارسية). وقال ابن البيطار: أن الكهرباء ليس هو صمغ الجوز الرومي وأن ديسقوريدوس وجالينوس لم يقولا
ذلك بل هو غلط من زعم ذلك وتقول عليهما ما لم يقولاه.
319
فاحت لها رائحة عطرية طيبة. فإذا شربت، منعت من سيلان الرطوبة إلى المعدة والمعاء.
وأما الجوز البري فقوة ورده حارة في الدرجة الثالثة. وأما التجفيف والترطيب فبعدهما منه عن
الدرجة المعتدلة بعد يسير وهو إلى اليبس أميل قليلا. ولذلك صارت اللطافة أولى به من الغلظ. وأما
ورق هذه الشجرة فيفعل كما يفعله زهرها، إلا أن الزهر أضعف وأوهن. وأما صمغها، فزعم جالينوس
أنه الكارباء وهو أسخن من الزهر وأقوى فعلا. وأما بزرها فهو ألطف من صمغها وأكثر تجفيفا. وهو في
هذا الباب أكثر من زهرها، إلا أنه ليس بكثير الحرارة.
* * *
في البندق
وأما البندق فهو أبرد من الجوز وأكثر قبضا، لان جوهره جوهر أرضى بارد. ولذلك صار جرمه
كثيفا مكتنزا ملززا قليل الدهن جدا. ولهذا صار غذاؤه أكثر من غذاء الجوز وأبقى في الأعضاء، لأنه
بعيد الانحلال والانهضام. ومن قبل ذلك صار أضر بالمعدة وأكثر توليدا للنفخ والقراقر من الجوز. وأكثر
نفخه يكون في أسفل الجوف وبخاصة إذا أخذ بقشره الداخل لان في قشره الداخل قبض قوي يعقل
البطن. وإذا قشر من قشره الباطن، كان أسرع انهضاما وانحدارا ولم يكن بالمذموم لصاحب السعال،
لكن يكون محمودا نافعا من السعال المزمن إذا سحق وشرب بماء وعسل. وإذا قلي وأكل مع شئ من
فلفل، أنضج النوازل الرطبة. وإذا أكل قبل الطعام مع شئ من سذاب لم تضر آكله الأدوية القتالة.
وإذا تقشر وخلط بشحم عتيق أو شحم دب ولطخ على داء الثعلب، أنبت الشعر فيه.
وزعم ديسقوريدوس عن قوم كانوا يقولون أن البندق المحرق إذا سحق وعجن بزيت وطلي منه
رؤوس الصبيان، سود شعورهم. وإذا اكتحل به، سود الحدقة (1). ووجدنا في نسخة أخرى أنه إذا طلي
به يافوخات الصبيان، سود حدقتهم (2)
* * *
وأما الجوز الهندي المعروف بالرانج، فإنه حار في وسط الدرجة الثانية، رطب في وسط الأولى.
ويستدل على رطوبته من سرعة عفونته وكثرة دهنيته. ولذلك صار بطئ الانهضام ثقيلا في المعدة مفسدا
لها، إلا أنه ينقسم ثلاثة أقسام: لان منه ما هو حديث أبيض عذب قليل الدهنية والدسومة. وأردأها
وأضرها وأفسدها للمعدة ما كان عتيقا قد فنيت رطوبته وعذوبته، وصار جوهره دسما كله. وما كان
متوسطا بين ذلك، كان حاله أيضا كذلك. ومما يدفع إضراره بالمعدة ويعين على إحداره، ألا يستعمل
إلا ما كان حديثا بعد أن يقشر من قشره الأحمر الداخل <و> من قشره الاعلى الخشبي ويؤكل على



(1) الحدقة، جمع حدق وحداق وأحداق وحدقات: السواد المستدير وسط العين.
(2) كذا بالمفرد.
320
الريق بعسل النحل إن كان المستعمل له بلغمانيا، أو سكر طبرزد وفانيد إن كان المستعمل له ممرورا (1)،
ويمص بعده الرمان المز، وإن كان من الأفضل للمحرورين أن يجتنبوه أصلا.
وأما العتيق من الرانج فإنه إذا أكل، أخرج الدود وحب القرع من البطن، وهذه خاصته. وأما
دهنه المستخرج منه، فنافع من الرطوبة العارضة في الظهر والوركين. وإذا مسحت (2) به المقعدة، نفع
من البواسير العارضة من البلغم ومن المرة السوداء. وإذا شرب مع دهن الخوخ ودهن المشمش، كان
أقوى لفعله. والطري منه خاصة زائد في المني.



(1) لعلها المحرور.
(2) في الأصل: مسح.
321
في الفستق
هذه الشجرة أكثر ما تكون في بلاد الشام، وثمرها المعروف بالفستق وهو لطيف الجوهر، يغذو
غذاء حسنا، منه شئ كأنه إلى (1) المرارة أميل مع عذوبة وقبض يسير. ولذلك صار حارا يابسا في وسط
الدرجة الثانية. ويستدل على ذلك من عطريته الظاهرة ومرارته الخفية. <و> لما فيه من القبض اليسير
صار مقويا للكبد، ولما فيه من المرارة والعطرية صار مفتحا للسدد العارضة في جداول الكبد منقيا
للخلط المتمكن في عروقها، نافعا من علل الصدر والرئة. وإذا شرب مسحوقا بشراب، نفع من لسع
الهوام. فلذلك قشره الاعلى الذي فيه عطرية فإنه إذا طبخ وشرب طبيخه بشراب صلب، نفع من لسع
الهوام. ومن خاصيته أنه نافع من أوجاع الكبد لمرارته وعطريته وعفوصته. ودهنه أيضا نافع من وجع
الكبد الحادث من الرطوبة.
وأما جالينوس فذكر أنه ما وجد له في المعدة كثير منفعة ولا كثير مضرة، وقال: ما وجدت
سبيلا إلى القول في الفستق أنه نافع للمعدة ولا ضار لها، ولا وجدت له أيضا فعلا في إطلاق البطن ولا
في حبسه. والاقلال منه للمحرورين أنفع. وينبغي لآكله أن يقشره من قشره وينقعه في الماء الحار مدة
ثم يستعمله. فإن قلي، صار أدبغ للمعدة وأنفع لها.



(1) (إلى) مضافة في الهامش.
322
القول في الصنوبر
الصنوبر في جملته حار في الدرجة الثانية، يابس في أولها. إلا أنه يكون على ضربين: لان منه
الصنوبر الذكر الصغير الحب، المعروف عند أهل الشام بقضم قريش، ومنه الأنثى الكبير الحب،
المعروف بحب الملوك. فأما المعروف بقضم قريش فهو أشد حرارة ويبسا وكأن حرارته في أول الدرجة
الثالثة. ويستدل على ذلك من تركيبه، لأنه مركب من حرافة وعفوصة ومرارة. والحرافة عليه أغلب.
ولذلك صار بالدواء أشبه منه بالغذاء، إلا أنه إذا أنقع في الماء الحار وقتا طويلا وأكل، غذى غذاء
محمودا وكان نافعا من نفث الصدر والرئة. وإن كان هذا الفعل شاملا له ولأمثاله من الثمار التي قد غلب
عليها الحرافة والقبض لان الماء الحار يكسبها رطوبة وليانة ويزيل عنها حرافتها وقبضها. ومن خاصة هذه
الثمرة تنقية الصدر والرئة والنفع من السعال العارض من الرطوبات العفنة. وإذا شرب مع بزر القثاء
والميبختج (1)، سكن حرقة الكلى والمثانة وأدر البول.
وأما لحاء هذه الشجرة ففيه من قوة القبض ما يبلغ منه الغاية في حبس البطن وشفاء السحوج
الظاهرة والنفع من حرق النار وإحراق الماء الحار إذا سحق وخلط بدهن ورد وطلي عليها. وأما ورقها،
فلانه أرطب من اللحاء، صارت فيه قوة تدمل (2) مواضع الضرب من غير أذى ولا عنف على الحاسة.
وأما الدود الموجود في عود هذه الشجرة فقوته شبيهة بقوة الشجرة، إلا أنه ألطف وأغوص.
وأما الصنوبر المعروف بحب الملوك، فمركب من مرارة وحرافة ورطوبة. ولذلك صار على سبيل
الغذاء يغذو غذاء قويا غليظا عسير الانهضام. وأما على سبيل الدواء، فمن شأنه أن يغري ويملس
خشونة الأعضاء وبخاصة إذا أنقع في الماء حتى ينسلخ عنه جميع ما فيه من الحدة والحرافة لان الذي
يبقى فيه بعد إنقاعه في الماء في غاية البعد من التلذيع والتوسط بين الكيفية الحارة والكيفية الباردة



(1) هو مطبوخ العنب بالفارسية، أي الرب.
(2) دمل دملا الجرح: برئ والتحم.
323
ممزوجا من جوهر مائي وجوهر أرضى. وأما الجوهر الهوائي فهو فيه قليل جدا، ومن خاصته تجفيف
الرطوبات الفاسدة وتقوية الأعضاء التي قد عرض لها استرخاء من الرطوبة. ولذلك صار نافعا لمن به مدة
مجتمعة في صدره، ولمن كان محتاجا إلى إصعاد شئ محتقن (1) في رئته أو في صدره، وقذفه
بالسعال. وإذا شرب بعقيد العنب، غسل الكلى والمثانة وجلى ما فيها من المدة والاخلاط وسهل خروج
البول والحصى. وإذا أنقع في الماء حتى تذهب حرافته وشرب بعصارة الرجلة، سكن لذع المعدة وأفاد
البدن الضعيف قوة. وإذا أخذت هذه الثمرة وهي رطبة بغلافها التي تكون فيه ورضت بطرائها (2) وطبخت
بالماء وشرب من طبيخها أربع أواق ونصف، نفع من السعال وقرح الرئة
ومما يدفع مضرتها ويصلح غذاءها ويعدله أن تقشر في ماء وقتا طويلا حتى تزول حرافتها وتؤكل
مع سكر طبرزد أو فانيد ويمص بعقبها الرمان المز. وإن كان المستعمل لها بلغمانيا، فليأخذها مع
العسل والتين ويشرب بعدها نبيذا (3) مصرفا وأسكنجبينا عسليا.
وأما لحاء هذه الشجرة وورقها، فذكر جالينوس أن قوتها وإن كانت شبيهة بقوة لحاء غيرها من
أشجار الصنوبر وورقها، فإن فعلها أقوى. ولذلك لا يمكن فيها أن يفعل في واحدة من الخلال التي
ذكرناها في لحاء شجر الصنوبر الصغير فعلا حسنا لان فعلها يجاوز المقدار المعتدل لما فيها من زيادة
القوة اللذاعة المؤذية. وإذا أحرق لحاء هذه الشجرة بالنار وبخاصة اللحاء الذي تشد به رؤوس آنية
الشراب، كان رماده كثير التجفيف نافعا في علاج دوسنطريا. والدخان إلي يتصاعد من هذه اللحاء عند
إحراقه، نافع للأجفان التي يتناثر شعرها، ولمأق العين الذي قد يسلح واحترق وصارت الدمعة تجري
منه دائما.
ومن الصنوبر جنس آخر يعرف بالشربين، حرارته ويبسه في الدرجة الثالثة ومنه يخرج الدهن
المعروف بالقطران. وزعم جالينوس أن لثمر هذه الشجرة قوة معتدلة حتى أنه يمكن أن يؤكل. إلا أن
الاكثار منه يسخن البدن إسخانا قويا ويولد في المعدة لذعا وفى الرأس صداعا. وهذه الشجرة تكون
على ضربين: إحداهما: عظيمة القدر لها ثمرة شبيهة بثمرة الأرز، والأخرى: صغيرة مشوكة وثمرتها
شبيهة بثمر العرعر وأعظم قليلا، على عظم حب الآس المستدير، ومزاجهما جميعا حار يابس في
الدرجة الثالثة وهي رديئة للمعدة جدا، وتسخن إسخانا قويا، إلا أنها نافعة من السعال المزمن الغليظ ومن
تقطير البول وشدح (4) العضل. وإذا شربت مسحوقة مع الفلفل، أدرت الطمث وأنزلت الولد. وإذا
شربت (5) بالخمر، نفعت من شرب الأرنب البحري - وفى نسخة أخرى من عضة الأرنب البحري - وإذا



(1) في الأصل: شيئا محتقنا.
(2) أي طرية كما هي.
(3) في الأصل: نبيذ.
(4) شدح شدحا: سمن. وهو يقصد الترهل.
(5) في الأصل: شرب.
324
عجنت بشحم أيل أو مخه - وفى نسخة أخرى أو دماغه - ومسح بها الجسد، لم يقربه شئ من الهوام.
وقد يستعمل في أخلاط المعجونات.
وأما الدهن الذي يخرج من هذه الشجرة المعروف بالقطران، فقد يظن به أن إسخانه في الدرجة
الرابعة لان إسخانه قوي جدا، إلا أن معه لطافة، ومن شأنه أن يعفن اللحم الرخو بسرعة من غير أن يضر
بالأعضاء الأصلية الصلبة. وهذا الفعل موجود في سائر الأشياء التي حرارتها في الدرجة الرابعة إذا كان
معها لطافة، وإن كان بعضها مخالفا لبعض في كثرة الفعل وقلته فقط على حسب مقدار كل واحد من
اللطافة. والقطران أضعفهما فعلا لأنه ألطفها. ولذلك صارت كلها تفسد اللحم (1) الميتة، والقطران
يجففها ويحفظها من العفونة بفعل لطافته وينقيها من الرطوبات الفضلية من غير أن ينكأ الأعضاء الأصلية
ولا يؤثر فيها شيئا، ولا يفعل في اللحم الصلب أيضا ما يفعله في اللحوم المنتنة إلا بعد مدة طويلة.
وإذا كان القطران على ما وصفنا به، فليس بعجب أن يقتل الدود والصئبان وحب القرع والحيات
المتولدة في البطن. ولذلك صار منقيا للقمل والصئبان، ونافعا من الحكة المتقادمة وللجرب المتعفن في
الناس والدواب جميعا. وإذا قطر منه في الاذن بخل، قتل الدود التي فيها وسكن الطنين والدوي. وإذا
خلط بماء طبيخ الزوفا، فعل مثل ذلك أيضا. وإذا احتملته المرأة من أسفل، قتل الأجنة الاحياء وأخرج
المشيمة الميتة، كما من شأنه أن يفسد النطفة إذا مسح به الذكر في وقت الجماع. ولذلك صار من أبلغ
الأدوية في منع الحبل حتى يصير من يستعمله على ما وصفنا عقيما.
وأما ديسقوريدوس فقال: إن في القطران قوة أكالة تقطع أبدان الاحياء وتحفظ أبدان الموتى.
ولذلك سماه قوم حياة الموتى. وقال قوم يدبغ أبدان الاحياء. ومن فعله أنه يقطع الثياب والجلود بإفراط
تجفيفه وحره. وقد يصلح في إكحال العين لحدة البصر وجلاء البياض والآثار المتولدة عن اندمال قروح
العين. وإذا قطر منه في الضرس المأكول، فعل من ذلك. وإذا لطخ على الحلق، منع من الخناق
ووجع اللوزتين العارض من البلغم. وإذا تحسي مع البيض المشوي نيمبرشت، نفع من الخناق وبحة
الصوت. وإذا استنشق في زمان الوباء، قطع تلك العفونات الوبئة ونقى الأبدان منها ونفع من الوباء.
وإذا عمل منه ضماد بملح، نفع من نهشة الحية المقرنة (2). وإذا شرب بالطلاء، نفع من الأرنب
البحري. وإذا ألعق منه أو لطخ على داء الفيل، نفع منه. وإذا تحسي منه مقدار أوقية ونصف، نقى
قروح الرئة. وإذا احتقن به، قتل الدود الغليظ منه والدقيق وأحدر الجنين.
وأجود القطران ما كان ثخينا صافيا قويا كريه الرائحة. إذا قطر منه على شئ، ثبتت قطرته
بحالها ولم تنتشر وتتبدد. وأدسم ما في القطران هو الحر الدهن الخالص الذي يجتمع في الصوف إذا
علق به حين يطبخ. وما تبقى في الاناء فهو غليظ، وكدره بمنزلة <ثفل> الزيت عند الزيت. وهذا



(1) لعلها اللحوم.
(2) أي التي لها قرنان.
325
الجزء، وبسبب أنه غليظ، صار يفتح ويهيج القروح وتورمها. وأما الجزء الآخر الدهني المتصاعد في
الصوف فقوته ساكنة لينة. ويبلغ من لين قوته وسكونها أن الأغبياء من الناس يعملون بالتجارب أنه يبرئ
جرب المواشي ويدمل جراحاتها العارضة لها في وقت جز صوفها، ويقتل قردانها. والقطران المستخرج
من الشربين أقوى وأفعل من القطران المستخرج من السرو كثيرا. وأما دخان القطران فإنه إذا اكتحل به،
قطع العفونات ونقاها وأزال الرطوبات الفضلية من العين، وزاد في حدة البصر، ونفع من الحكة
والسلاق (1) والاحتراق وقوى شعر الأشفار (2) وطوله.
القول في الراتينج
وهو صمغ الصنوبر
الراتينج يدخل في المراهم المنبتة للحم، المنقية للفساد. ويستخرج منه دخان، كما يستخرج
من الكندر، ينفع من تسلخ المأقين والأشفار المتساقطة.
* * *
القول في البطم
وهو الحبة الخضراء
أما شجرة البطم فإن في لحائها وورقها قبض بين وإسخان قوي، كأن إسخانها وتجفيفها في
الدرجة الثانية. وأما ثمرتها فهي إذا كانت طرية، كان إسخانها وتجفيفها في الدرجة الثانية، فإذا يبست
وجفت، صار إسخانها وتجفيفها في الدرجة الثالثة، وإن كان الاسخان فيها أقوى كأنه في آخر الدرجة
الثانية وأيبس في وسطها. ويستدل على قوة حرارتها أن الانسان إذا مضغها، علم بحرارتها من ساعته.
ولذلك صارت مضرة بالمحرورين نافعة من البلغم اللزج وأوجاع الطحال المتولدة عن البرودة، معينة
على إدرار البول. والدهن المستخرج من حبها الكثير نافع من الفالج واللقوة إذا دهن به. ومن خاصتها
الاضرار بالمعدة لأنها تبشم وتشبع بسرعة. ولذلك صار الانسان إذا أخذ منها في يوم وزن درهمين
مدقوقا وشربه على الريق وأدمن ذلك، بطلت شهوته للطعام. ولذلك ثمرة هذه الشجرة المعروفة بالشام
بقاتل أبيه، فإنها مضرة بالمعدة مصدعة للرأس مفسدة لشهوة الطعام، لأنها أيضا تبشم وتشبع بسرعة.
وزعم ديسقوريدوس أن منافع شجرة البطم في جملتها كمنافع شجرة المصطكى في جملتها،
وصمغها مثل صمغها، إلا أن صمغ هذه في الاسخان واليبس أقوى قليلا. وقوة صمغ المصطكى قريبة
منه وبعده قوة صمغ الأرز، وبعد صمغ الأرز الصنوبر. ومن منافع صمغ البطم على سبيل الدواء أنه مدر



(1) السلاق في العين: غلظ في الأجفان من مادة أكالة تحمر لها الأجفان وتتقرح أشفار الجفن.
(2) الشفر والشفر: منبت الشعر في الجفن. والشعر هو الهدب. وقد يراد به الشعر نفسه.
326
للبول معين على الهضم ملين للبطن. وإذا عمل منه لعوق وحده أو بعسل، نفع من السعال المتقادم
ونقى فضول الصدر والرئة وأخرجها بالنفث. وإذا خلط مع ماء حبق النهر والخل، وطلي به البدن،
غاص إلى العمق وجذب البلة من باطن البدن ونفع من الحكة المتقادمة. وإذا ديف بعسل ودهن وقطر
في الاذن، نقى المدة وجفف البلة.
ولجالينوس في جميع أنواع العلك قول قال فيه: إن أنواع العلك كلها تسخن وتجفف، وإنما
يخالف بعضها بعضا بما في كل واحد منها من الحرافة والقبض من القلة والكثرة. ولذلك صار بعضها
أكثر لطافة وبعضها أقل لطافة، وبعضها أشد قبضا وبعضها لا قبض فيه أصلا. وأفضلها كلها وأولاها
بالتقدم، المصطكى الأبيض المعروف بعلك الروم لأنه مع لطافته سليم من الحدة أصلا، ومعه قبض
يسير معتدل. ولذلك صار نافعا من ضعف المعدة والكبد محللا لأورامها لأنه بما فيه من يسير القبض
صار مقويا، وبما فيه من فضل اللطافة وقلة الحدة صار محللا.
وبعد المصطكى في الجودة علك البطم وإن كان ليس فيه قبض معروف مثل قبض المصطكى،
فإن فيه مرارة بينة. ولهذا صار أكثر تحليلا من المصطكى لأنه بمرارته يغوص إلى عمق البدن ويجذب
منه أكثر من سائر أنواع العلك. وأما العلك المستخرج من الصنوبر الكبير، فهو أشد حدة وحرافة من
علك البطم، لان علك البطم للطافته ولينه يغوص وينفذ ويصل (1) إلى عمق البدن. وأما علك الصنوبر
الصغير وعلك الشجرة المعروفة باللاطي فمتوسطان بين الامرين جميعا، لأنهما وإن كانا أحد من علك
البطم، فإن فيهما قبضا شديدا (2). وأما صمغ السرو فإن له حدة وحرافة وهو دونها كلها في المنفعة
والفعل.



(1) (ويصل) مستدركه في الهامش.
(2) في الأصل: قبض شديد.
327
القول في الضرو وهو البطم البري
أما الضرو فمنافعه كلها كمنافع البطم، إلا أنه أقوى فعلا. ومن خاصة دهنه طرد الرياح
البلغمانية.
* * *
في العرعر
أما العرعر فحار يابس في الدرجة الثانية إلا أنه على ضربين: لان منه نوعا كبيرا (1) له ثمرة كطعم
الباقلي، ومنه نوع صغير له ثمرة كطعم البندق في جميع ثمرها، مستدير أحمر، طيب الرائحة، في
طعمه حلاوة وشئ من مرارة مع حرافة يسيرة، إلا أن معه عفوصة بينة قوية. ولذلك صار لما فيه من
العفوصة نافعا للمعدة، ولما فيه من المرارة والحرافة والحلاوة صار منقيا للصدر والرئة والكبد والكلى.
وبهذا السبب صار مدرا للبول نافعا من النفخ والأمغاص وضرب الهوام. وأما حبسه للبطن وإطلاقه له،
فإنا لم نر له في ذلك فعلا بينا ولا تأثيرا ظاهرا.



(1) في الأصل: نوع كبير.
328
في ثمر العوسج
أما ثمرة العوسج فعلى ضربين: لان منه نوعا (1) كبير الحب نضيجا (1) يسمى عنب العوسج، ومنه
نوع آخر صغير الحب فج غير نضيج يسمى ثمر العوسج. والبرودة واليبوسة تشملهما جميعا، إلا أن
العنب أقل يبسا من الثمر كثيرا، وإن كان أكثر في ذلك من التوت الحامض. ولذلك صار أقوى على
حبس البطن من التوت، إلا أنه يفسد في المعدة، ولثقله صار يورث المدمن عليه ألما شديدا في عصب
المعدة بالدماغ. وما كان عتيقا كان أشد يبسا وأكثر إضرارا بعصب المعدة من الطري، لما في الطري
من فضل رطوبة الماء. ومما يدفع ضرره أن يغسل بالماء بدءا ويرمى بمائه الذي يغسل به، وينقع في
ماء ثان ساعة قبل أن يؤكل ليكتسب لطافة ورطوبة يسيرة من الماء ويعتدل قليلا ويقرب من الطري.
وقال جالينوس: أن العلوج (1) كانوا يأكلونه ولا يغذوهم إلا غذاء يسيرا جافا. فأما ثمر العوسج،
فهو أشد يبسا من عنب العوسج كثيرا لغلبة الأرضية عليه، ولذلك صار أشد حبسا للبطن وأثقل في
المعدة وأكثر إضرارا بعصبها، وتوليدا للصداع في وسط الرأس. وأغصان هذا النبات إذا طبخت مع
الورق، صبغت الشعر. وإذا شرب طبيخها، عقل البطن وقطع سيلان الرطوبات المزمنة من الرحم ونفع
من نهش الدابة التي يقال لها قرسطيس. وإذا مضغ الورق، شد اللثة وأبرأ القلاع. وإذا عمل منه
ضماد، نفع النملة أن تسعى في البدن، ونفع من قروح الرأس الرطبة، والبواسير النابتة في المقعدة (3)،
والبواسير التي يسيل منها الدم، وقوى المقعدة الضعيفة، ومنع من سيلان المواد إليها. وإذا جففت
عصارة الورق والأغصان في الشمس، كان فعلها أقوى من فعل الورق. وزهر هذه الثمرة إذا شرب
بشراب، عقل البطن. وزعم بعض الأوائل أن في هذا النبات، مع قبضه، قوة ملطفة، بها يفتت
الحصى.



(1) في الأصل بالرفع.
(2) جمع علج: وهو الرجل من كفار العجم.
(3) (والبواسير النابتة في المقعدة) مستدركة في الهامش.
329
في ثمرة الساج المسمى عرواء
أما ثمر (1) الساج فله رائحة ذكية حادة مع لذاذة طعمه. ولذلك صار جدا حريفا، إلا أن معه شيئا
من قبض. ويستدل على حرارته من طيبة طعمه وذكاء رائحته، لان كل شئ ذكي الرائحة من جنس
البخور، فهو حار مدخن. ومن أجل ذلك صار متى أخذ من فضل قليل، ملا عروق الرأس بخارا
وأسخنه وهيج صداعا شديدا. فإن اقتصر منه على المقدار المعتدل، كان له قوة ملطفة للفضول الغليظة
اللزجة منقية لجداول الكبد والكلى مانعة من درور البول، إلا أنه عسير الانهضام، يقتل <الدود> (2)
في المعدة مضر بها لأنه يحدث فيها ألما ومغصا. فإذا أزيلت (3) عنه عفوصته وحرافته، قل إضراره
بالمعدة، وصار غذاؤه يسيرا جدا. ولهذا السبب وجب أن لا يؤكل حتى ينقع في الماء ساعة ليكتسب من
الماء رطوبة وليانة يقل بها ضرره. وهذا مذهب كل الثمار التي قد اجتمع فيها القبض والحلاوة.
القول في السرو وهو الأرز
أما السرو فقوة قضبانه وورقه وجوزه مجففة من غير حدة ولا حرافة شديدة، لان الذي يوجد من
طعم هذه الشجرة من الحدة والحرافة يسير (4). والأغلب على طعمها العفوصة والمرارة، عفوصتها أقوى
من مرارتها كثيرا والذي فيها من الحرارة والحرافة مقدار ما يتدرق (5) وعفوصتها، ويوصلها إلى عمق
البدن من غير إسخان ولا تلذيع. ولذلك صارت مخصوصة بإفناء ما كان محتقنا في عمق الأبدان من
الرطوبات العفنة الرهلة وإزالتها عنها إزالة تجمع فيها بعد الأبدان من الداء وقربها من العافية معا. وفى
هذا دليل على لطافتها وقلة حدتها وضعف حرافتها لأنه لو كان فيها حدة قوية وحرافة شديدة لكانت، مع
ما تفني من الرطوبات المحتقنة في الأعضاء، تجذب إلى المواضع أيضا (6) بحدتها وحرافتها رطوبات
غريبة غير ما أفنت، ولا توصل منها إلى الغاية فيه بسرعة، لان هذا رسم الأدوية التي حدتها وحرافتها
قوية.
ولهذا السبب صار السرو نافعا لأصحاب الفتق لأنه يجفف الأعضاء التي قد أرختها الرطوبة.
ويكسبها قوة وصلابة لأنه يفني الرطوبة الفاعلة الاسترخاء من غير أن يجذب إلى الأعضاء رطوبة غيرها.



(1) في الأصل: ثمرة.
(2) حرصنا أن تكون هذه الإضافة متفقة مع ما ذكره الرازي في (الحاوي) من أن نشارة خشب الساج تخرج من الدود من البطن بقوة إذا
هي استعملت.
(3) في الأصل: أزيل.
(4) في الأصل، يسيرة.
(5) درقه: لينه وملسه، أو أصلح منه.
(6) (أيضا) مضافة في الهامش.
330
وزعم (1) جالينوس أنه شاهد قوما يستعملون السرو في مداواة الحمرة (2) مخلوطا إما بالشعير وإما بخل
ممزوج مزجا (3) معتدلا.
وأما جوز السرو الذي هو ثمره، فإن له رائحة تقرب من رائحة الأفاويه إلا أنه في صورته ولونه
شبيه (3) بحب العرعر، لأنه أيضا مستدير (4) يضرب إلى الحمرة. والفرق بينهما ما في ثمرة السرو من
زيادة العفوصة واليبس والصلابة. وأما دهنه في طبيعته وفعله، فمذهب ثمر الساج لحرافته وقبضه، إلا
أنه أصلب وأكثف جسما وأشد يبسا من ثمر الساج. ولذلك صار الاكثار منه يولد في المعدة لذعا ومغصا
لأنه غليظ الجلد جدا. ولهذه الجهة صار بالدواء أشكل منه بالغذاء لان البدن لا يغتذى به دون أن ينقع
في الماء ليفيده الماء رطوبة وليانة ويزيل عنه صلابته وأكثر عفوصته، فيغذو البدن غذاء يسيرا. وقد
يشركه في ذلك كل غذاء عفص أو حريف بعيد من الحلاوة. ومن فعله على سبيل الدواء أن جوزه إذا
دق وهو رطب وشرب بخمر، نفع من نفث الدم وقرحة الأمعاء والبطن الذي تسيل إليه الفضول، وعسر
النفس الذي يحتاج إلى الانتصاب. وماء طبيخه يفعل مثل ذلك أيضا. وإذا دق وهو رطب وخلط بنبيذ
وعمل منه ضماد، لين الصلابة وأبرأ اللحم النابت في الانف. وإذا طبخ بالخل وخلط بترمس مدقوق،
قلع الآثار البيض التي في الأظفار. وإذا عمل منه ضماد بماء الآس، نفع من الفتق والأدرة (5).
وورق السرو يفعل فعل جوز السرو. وإذا سحق الورق وشرب بطلاء مع يسير من مر أحمر، قوى
المثانة ومنع انصباب الفضول إليها ونفع من عسر البول. ولديسقوريدوس في السرو قول قال فيه: وقد
يظن بالسرو أنه إذا دخنت (6) بأغصانه وورقه المنازل، طرد الهوام. وإذا دق الورق وخلط بخل وطلي به
الشعر، سوده. وإذا خلط بموم وزيت عذب وحمل على المعدة، قواها وشدها.
وأما صمغ السرو فإنه إذا استعط به، نقى الرطوبات من الدماغ لان قوته شبيهة بقوة صمغ
السذاب وصمغ الصنوبر المعروف بالراتينج، إلا أنه أضعف قليلا، فلذلك صار القطران الذي يخرج من
شجره أضعف من القطران الذي يخرج من الجنس من الصنوبر المعروف بالشربين.



(1) بعدها في الأصل (قوم) ملغاة بشطبة فوقها.
(2) سيذكر المؤلف بعد قليل إنها قرحة معروفة بهذا الاسم.
(3) في الأصل: مزاجا.
(4) في الأصل بالنصب.
(5) الأدرة: انتفاخ الخصيين، أو الانفتاق في إحداهما.
(6) في الأصل: دخن.
331
في الأبهل
الأبهل (1) صنفان لان منه ما له ورق يشبه ورق الطرفاء، ومنه ما ورقه يشبه ورق السرو. وشجرته
مستديرة تذهب في العرض كما تذهب في الطول. وشوكها أكثر من شوك غيرها من الأبهل، ورائحتها
غير كريهة لكنها لذيذة حتى أن من الناس من يستعملها عوض البخور. وحكى ديسقوريدوس عن بعض
الأوائل مثل ذلك. وكلا الصنفين جميعا إذا شربا، أسهلا البطن وقتلا الدود وحب القرع وأسقطا الأجنة
الحية وأخرجا الأجنة الميتة. وإذا تحملت المرأة شيئا منهما أو تدخنت به، فعل مثل ذلك. وإذا حمل
منها شئ على القروح الخبيثة، منعها أن تسعى في البدن. وإذا عمل منه ضماد، نقى سواد الجلد
وأوساخه العارضة من فضول الأبدان الخشكريشة المتولدة عن القرحة المعروفة بالحمرة. وإذا شق
وحمل على القروح الوسخة، نقاها. وقد يدخل في أخلاط الادهان المسخنة.



(1) اعتبره ابن سينا ثمرة العرعر. وفى القاموس: أنه شبيه بالطرفاء وليس بالعرعر. وجعل الشهابي في معجمه أرز لبنان منه.
332
في الطرفاء
أما الطرفاء فنوعان: أحدهما: البري المعروف بالطرفاء على الحقيقة، والآخر: البستاني يعرف
بالأثل. وأما البري فشجرته معروفة مشهورة تنبت على المياه القائمة والأراضي الندية، وأكثر ذلك في
السباخ. وارتفاعها من الأرض شبيه بارتفاع الأشنة أو الشجرة المعروفة بشجرة مريم عليها السلام،
وأعظم قليلا. ولهذا ثمرته مستطيلة شبيهة بالدهن في لونه وقوامه.
وأما الطرفاء البستاني المعروف بالأثل فيكون بمصر والشام كثيرا (1). وارتفاعه من الأرض كارتفاع
شجرة القاقيا التي بمصر المعروفة بالسنط (2)، وورقها شبيه بورق الطرفاء البري، وثمرتها على عظم
العفص وهي المعروفة بحب الأثل ويسمى الجزمازج (3). وقوة هذا النبات في طبعه وسائر أحواله كقوة
شجرة الطرفاء البري في طبعه وسائر أحواله. وفيها جميعا قوة تجلو وتفتح وتنقي من غير تجفيف بين.
وإن كان القبض فيهما ليس باليسير ولا بالمنكتم، إلا أن ذلك في ثمرتها أكثر، وفى اللحاء قريب من
ذلك.
ولجالينوس في الطرفاء قول قال فيه: إن قوة الطرفاء قوة تجلو وتفتح وتنقي من غير أن تجفف
تجفيفا ظاهرا، وإن كان القبض فيها ليس باليسير ولا بالخفي، إلا أن قوة التلطيف في ورقها وأصلها
وقضبانها أكثر، إلا أن القبض على ثمرتها أغلب. ولذلك صار إذا طبخ الأصل والقضبان بشراب أو بخل
ثقيف وشرب طبيخها، كانت منفعتها في تحليل جسأ الطحال الغليظ ليست باليسيرة، بل قوية جدا. وإذا
دقت وشربت أو طبخت بالماء وأنقعت مدقوقة في ماء حار من الليل إلى الصبح وشرب ماؤها، نفعت من
الصفاء واليرقان ولسع الرتيلاء. وإذا تدخن بها، نفعت من الاسترخاء العارض في الوجه المعروف
باللقوة. وإذا تدخنت المرأة بها، دفعت انحدار الطمث من غير وقته. وإذا تحملت المرأة رماد خشبها،



(1) في الأصل: كثير.
(2) أو الشوكة المصرية.
(3) أو الجزمازق والكزمازك.
333
فعلت مثل ذلك. وإذا تمضمض الانسان بمائها، قوى اللثة ونفع من وجع الأسنان والأضراس. وإذا
اغتسل بمائها، نقى سطح البدن من القمل والصئبان.
وأما ثمرة هذا النبات فقد بينا أن القبض فيها ليس باليسير حتى كأن قبضها يقرب من قبض
العفص الأخضر، وإن كان بينهما فرق (1) بين من قبل أن العفص أشد قبضا لان عفوصته ساذجة بسيطة لا
يصحبها فيه غيرها ولا يشركها سواها من الطعوم. وعفوصة ثمر الطرفاء قد يخالطها جوهر لطيف غير
موجود في العفص، ولا هو أيضا في ثمر الطرفاء باليسير. ولذلك صار الأغلب عليه الجلاء والتنقية
وصارت له حرارة في الدرجة الأولى، وإن كان يبسه في الثانية. ومما يدل على قوة يبس ثمرة الطرفاء
البري والبستاني جميعا، أن الانسان قد يمكنه أن يستعمل كل واحد منهما مكان العفص إذا أعدم
العفص.
وأما اللحاء من هذه الشجرة، فإن قوته قريبة من قوة الثمرة في العفوصة، وإن كانت فيه أضعف
قليلا لان التحليل فيه أقوى، ولما فيه من قوة العفوصة أيضا، صار رماده يجفف تجفيفا ليس باليسير.
ومن منافع ثمر الطرفاء البري والبستاني أنه إذا طبخ أو أنقع في ماء حار من الليل إلى الصبح وشرب
ماؤه، نفع من الصفار واليرقان ولسع الرتيلاء. وإذا أخذ ماؤه المتخذ على ما وصفنا من دقه وإنقاعه في
الماء الحار إلى الليل وسقي الصبيان، قيأهم ونقى معدهم من الرطوبات الغليظة المنعقدة، ونفع من
الجرب الرطب المتعفن وحسن ألوانهم وصار سببا للزيادة في لحومهم. ورأيت كثيرا من المتطببين إذا
أرادوا أن يزيدوا في لحم الجواري القضاف (2) النحيفات الأبدان يسقونهن (3). بدءا نقيع ثمر الطرفاء
البستاني المعروف بحب الأثل ثلاثة أيام أو سبعة متوالية ثم يتبعون ذلك بالأقراص المبردة المركبة
المستعملة في زيادة لحم المسلولين سبعة أيام ثم يلزمونهن (4) شرب مخيض لبن البقر ويعطونهن بدءا
بالكثيراء (5) المسحوق وأياما بالكعك المعمول من دقيق السميذ المحكم الصنعة، فيزيد ذلك في
لحمومهن زيادة حسنة، ويحسن ألوانهن ويطريها ويفيدها نضارة ورونقا.
ومن منافعه أيضا على سبيل الدواء: أنه إذا شربه من كان في معدته رطوبات فاسدة، نقاها وقوى
المعدة. وإذا شربه من كانت معدته نقية، قوى المعدة ونفع من الاسهال المزمن العارض من الرطوبة
وقطع نزف الدم ودرور الطمث ومنع من سيلان الرطوبات إلى الأرحام. وإذا جلست المرأة في مائه
المطبوخ به، فعل مثل ذلك أيضا. وقد يتخذ منه شراب بسكر طبرزد، فيفعل في تحليل جسأ الطحال



(1) في الأصل: فرقا.
(2) القضيفة من الجواري: الممشوقة.
(3) في الأصل: يسقونهم.
(4) في الأصل: (يلزموهم) و (يعطونهم).
(5) رطوبة من أصل شجرة الكثيراء، شبيهة بالصمغ.
334
ويسكن آلامه فعلا بينا. وإنما عمل هذا الشراب بعسل لمن كان مزاجه باردا.
وأما ورق هذا النبات فقد بينا أيضا أن قوته قريبة من قوة الأصل والأغصان، وإن كان دونها قليلا
لغلبة المائية عليه وعلى الورق من كل نبات بالطبع، إلا أنه إذا طبخ بشراب الخل وشرب، أذبل
الطحال. وإذا عمل منه ضماد بخل وحمل على الطحال من خارج، قواه وحلل أوجاعه. وإذا تمضمض
بمائه المطبوخ به، قوى اللثة ونفع من وجع الأسنان. وإذا جلست المرأة في مائه، جفف رطوبات
الأرحام ومنع درور الطمث في غير وقته. وإذا تحملت المرأة رماده، فعل مثل ذلك. وقد يصب ماؤه
على أبدان الذين يتولد فيهم القمل والصئبان، فينتفعون به.
وجماع القول في جميع الأشجار البرية كلها، مثل البطم والشاهدانج وقاتل أبيه وثمر العلجيق
والضرو والسرو والطرفاء وغير ذلك، أن غذاءها كلها يسير جدا وهو مع ذلك أيضا مذموم وأكثرها يضر
المعدة وبخاصة البطم إلا أن فيها، على سبيل الدواء، منافع شتى، لان منها ما فيه قوة ملطفة منقية
محللة للفضول، مذيبة للأثفال، معينة على الهضم. ومنها ما فيه قوة دابغة مقوية للأعضاء وخافضة لها.

335
في حب الآس
وأما حب الآس (1) فإن الغالب على مزاجه البرودة واليبوسة، وإن كان مركبا من قوى مختلفة لان فيه
قبوضة قوية ومرارة يسيرة وحلاوة لطيفة. فلما فيه من الحلاوة واللطافة، صار نافعا من السعال العارض
من الحرارة من غير إضرار بالصدر ولا بالرئة. ولعفوصته صار قاطعا لنفث الدم، مانعا للاسهال المري،
مقو للمعدة والمثانة والأمعاء. ولاجتماع القبض والعذوبة فيه معا، صار مدرا للبول مسكنا للعارض من
اللذع في المثانة والأسود من ثمر (2) هذه الشجرة أفضل من الأبيض. وعصارة هذه الشجرة يفعل فعل
هذه الثمرة نفسها. وإذا شرب بشراب، نفع من عضة الرتيلاء ومن لسع العقارب. وكذلك الثمرة إذا
دقت وشربت بطلاء أو بشراب، نفعت من ذلك أيضا. وإذا عمل منها ضماد، نفع من أوجاع المفاصل
ورخاوتها. وكذلك يفعل بخاره الحار إذا طبخ من زلق الأرحام. وأما طبيخه إذا جلس فيه، كان موافقا
خروج الرحم، والنساء اللواتي تسيل من أرحامهن رطوبات مزمنة. وماؤه إذا غسل به الشعر خضبه وقواه
ومنعه من الانتثار وشد أصله، ونفع من الإبرية والقروح الرطبة.
ولما لم يكن ورق هذه الشجرة وأغصانها وثمرها وعصارتها في القبض كثير اختلاف، وجب أن
يكون ماء الورق المدقوق المعصور يفعل مثل فعل الحب أيضا. وإذا دق الورق وسحق وصب عليه زيت
إنفاق أو دهن ورد وخمر وضمد به، كان نافعا للمواضع التي تسيل إليها الفضول. وإذا عصر ماء الثمرة
وخلط معه دقيق الشعير وحمل على العين، قواها وسكن آلامها والحدة العارضة فيها وحلل أورامها. وإذا
طبخت بماء السلق، نقت الإبرية التي في الرأس. وإذا دقت وعجنت بماء الباقلي، نقت الكلف من
الوجه. وإذا جفف الورق ودق ونخل وضمد به على الآباط والأفخاذ الندية، قطع نداوتها ومنع عرقها.
وإذا أحرق وأخذ رماده وخلط بشمع ودهن ورد، نفع من حرق النار. وعقد هذه الشجرة والثبل الموجود
في جوف خشبها وأغصانها، فتدقه دقا ناعما وتعجنه بشراب وتتخذ منه أقراصا (3) وتجففها في الظل
وتخزنها وتستعملها عند الحاجة في المراهم المقوية للأعضاء وفى الضمادات الحابسة للاسهال والقاطعة
للدم.
وأما رب الآس فليس يعتصر من الحب فقط، لكن من الورق أيضا. وجميع ذلك فقوته قابضة
مانعة للاسهال، إلا أن يعمل من الحب، فغير مضر بالصدر ولا بالرئة لقوة عذوبته.



(1) ضرب من الرياحين. اسمه في الشام الآس، وفى مصر المرسين، وفى المغرب ولبنان الريحان، وفى اليمن الهنس.
(2) (ثمر) مستدركة في الهامش.
(3) في الأصل: أقراص.
336
في العناب
أما العناب فحار رطب في وسط الدرجة الأولى يغذو غذاء يسيرا عسير الانهضام، ردئ للمعدة
والدم المتولد عنه بلغمانيا، إلا أنه إذا كان غضا عفصا، سكن حدة الدم. وإذا كان نضيجا، لين الصدر
والرئة. وزعم جالينوس أنه ما رأى للعناب في حفظ الصحة على الأصحاء ولا في ردها على المرضى
كثير عمل.
* * *
في الخرنوب الشامي
الخرنوب الشامي فيه حلاوة يسيرة وقبض بين، إلا أن جسمه غليظ خشبي عسير الانهضام. وفي
هذه الثمرة شئ شبيه بما في ثمر القراسيا، وذلك أنها ما دامت غضة طرية، فهي بإطلاق البطن أحرى،
وبإضرارها بالمعدة أشد. فإذا جفت ويبست، قل ضررها بالمعدة وحبست البطن وأدرت البول، لان في
رطوبتها حدة يسيرة تزول بزوال (1) الرطوبة، ويبقى جوهرها الأرضي الذي من شأنه التجفيف. وما ري
منه بعصير العنب، كان الجلاء فيه للبطن أقل، وإدراره للبول أكثر. وأعظم بليته أنه لا يسرع الانحدار
والخروج عن المعدة، وقول لجالينوس قال فيه: وددت أن الخروب لا يحمل إلينا من بلد الشام، لان
بليته عندنا أعظم منها هناك، لأنه هناك ما دام طريا رطبا، فهو مطلق للبطن. فإذا يبس تحللت رطوبته
وزالت حدته وبقي جوهره الأرضي القابض المجفف.
قال إسحاق: أراد بذلك أنه إذا كان في بلد الشام وكان طريا رطبا مطلقا للبطن وكانت (2) بليته
أقل، فإذا جف وصار يابسا للطبيعة، جلب إلينا وقد صارت بليته أعظم.



(1) بزوال مكررة في الأصل.
(2) في الأصل: وكان.
337
في خروب الينبوت
أما الينبوت (1) فبارد في الدرجة الأولى، يابس في الدرجة الثانية يدر الطمث ويخرج الأجنة وينفع
من اليرقان ويقتل الهوام والبق. وإذا طبخ ورش بمائه البيت، قتل البراغيث.
في البلوط والشاهبلوط المعروف بالقسطل
أما البلوط فبارد في الدرجة الأولى، يابس في الثانية. ولذلك صار غليظا بطئ الانهضام، حابسا
للبطن مدرا (2) للبول. إلا أنه يغذو غذاء كثيرا يقارب غذاء كثير من الحبوب، غير أنه ثقيل بعيد الانحدار
عن المعدة، مولد للصداع بحقنه البخار في المعدة. والغشاء المستبطن (3) بقشر الثمرة المعروف بجفت
البلوط أشد قبضا من البلوط. ولذلك صار نافعا من نفث الدم والنزف العارض للنساء، وحابسا للبطن.
والماء الذي يطبخ فيه جفت البلوط، والذي يطبخ فيه البلوط نفسه، نافع من قرحة الأمعاء ومن ذوات
السموم من الهوام. وقد يعمل من البلوط فزرجة يحتملها النساء لسيلان الرطوبات المزمنة. وذكر
ديسقوريدوس وجالينوس: أن من البلوط نوعين آخرين يسمى أحدهما: فرتلس (4) والآخر: قيفس (5)،
فعلهما ومنافعهما كفعل البلوط ومنافعه. والمعروف منها بفرتلس إذا قشر أصل شجره وطبخ بالماء جيدا
حتى يلين ويحمل على الشعر، الليل كله، بعد أن يغسل الشعر بطين قيموليا (6)، صبغ الشعر وصيره
أسود.
وأما الشاهبلوط فحار في وسط الدرجة الأولى يابس في الثانية. ويستدل على حرارته من
عذوبته، ويستدل على ضعف حرارته من عذوبته، ويستدل على ضعف حرارته بقوة يبسه وعفوصته.
ولذلك صار ألطف وأفضل. ومن قبل ذلك صار بإضافته إلى غيره من أصناف البلوط، أسرع انهضاما
وأكثر غذاء وأقل ضررا بأصحاب السعال وأقل حبسا للبطن وأضعف في إدرار البول. والدم المتولد عنه
أيضا فليس بدون الدم من ثمر الأشجار البرية. ولا ينال البدن من غذاء ثمر الأشجار البرية ما ينال منه،
إلا أن الاكثار منه يولد نفخا في الجوف وصداعا في الرأس. ذلك لبعد انهضامه وحقنه للبخار في



(1) هو الخرنوب النبطي، أو خرنوب الشوك، وهو عند أهل الشام خرنوب المعزى.
(2) في الأصل: مدر.
(3) في الأصل: والمستبطن.
(4) وروي: بريلس.
(5) وروي: قيبس.
(6) صفائح كالرخام بيض براقة طيبة، طعمها قيه كافورية.
338
المعدة. فإن أراد مريد دفع ضرره ومعونته على حبس البطن من غير إضرار، فيحمصه ليحلل جسمه
ويخفف مونته على المعدة. ومن أراده لتليين الصدر وإدرار البول، فينقعه في ماء حار أو يطينه رطب
مبلول، ليكتسب من الماء رطوبة يلين بها جسمه ويعتدل مزاجه ويولد خلطا محمودا ويغذو غذاء حسنا.
فإن كان المستعمل له محرورا فيتخذه بالسكر الطبرزد. وإن كان بلغمانيا فيستعمل بعسل النحل منزوع
الرغوة.
وله على سبيل الدواء أفعال محمودة لأنه يقطع الغثيان والقئ وينفع المعاء الصائم. وإذا أكثر
منه أخرج الدود وحب القرع من الجوف وإذا سحق وخلط بشئ من ملح وبصل وعجن بعسل وحمل
على عضة الكلب وعضة الانسان، نفع من ذلك. وإذا عجن بطلاء وعمل منه فررجة واحتملتها المرأة،
قطع الطمث. وإذا ضمد به الثديان الوارمان (1) مع دقيق الشعير، قواهما وحلل أورامهما. وإذا عجن بعسل
وشراب وحمل على الوثى (2)، قوى المواضع وسكن الوجع. وإذا قشر الشاهبلوط فإنه إذا أحرق وسحق
وعجن بطلاء وحمل على رؤوس الصبيان، حسن شعورهم وأنبتها ونفع من داء الثعلب. وقشره الرقيق
الذي يكون فيما بين القشر الغليظ وبين جسم الشاهبلوط أشد قبضا من الشاهبلوط. ولذلك يفعل جميع
ما يفعله الشاهبلوط. وزعم ديسقوريدوس: أن الشاهبلوط نافع من الدواء القتال المعروف بأفيماري (3).



(1) في الأصل: الثديين الوارمة.
(2) الوثى: هو في اللحم كالكسر في العظم.
(3) وروي: أفيمارون.
339
القول في الزيتون
أما الزيتون فينقسم قسمة أولية على ضربين: لان منه البستاني، ومنه البري. والبستاني ينقسم
ثلاثة أقسام لأنه له قوة في تولده ثلاث مراتب: أحدها: مرتبته إذا كان أخضر (1) عفصا لم يكمل نضجه
بعد ولم يتم انعقاده ودهنيته. والثانية: مرتبته إذا صار أسود كامل النضج قد تم انعقاد رطوبته وصارت
كلها زيتا ودسما. والثالثة: مرتبته الأسود الكامل النضج وهو المعروف عند ديسقوريدوس بالياقوتي. وأما
الغض الأخضر الذي لم يكمل نضجه بعد ولم يتم انعقاده ودهنيته، فإنه يكون على ضربين: أحدهما:
يعرف بزيتون الماء على الحقيقة، لأنه لا يعقد زيتا ولا دهنا. وإن عقد كان ما ينعقد منه يسيرا (2) لا
يمكن استخراجه منه لرقة رطوبته وضعف انعقادها وقلة دسمها ودهنيتها مثل الزيتون الأبيض المصري.
والآخر يسمى زيتون الماء على المجاز، لأنه منه ما يستخرج زيت الماء والزيت الانفاق. وأما زيتون
الماء على الحقيقة، فإن الأرضية غالبة عليه. ويدل على ذلك زيادة قبضه وعدمه الدهنية والدسم. وما
كان كذلك كان انحرافه عن الحرارة والرطوبة إلى البرودة واليبوسة بحسب ما فيه من القبض. ولذلك
صار أكثر أنواع الزيتون تقوية للمعدة وحبسا للبطن وأقلها غذاء وأبعدها انهضاما. والسبب في بعد
انهضامه ضعف حرارته وكثافة جسمه وصلابته. وقد يربى بالماء والملح أو بالملح والخل ويستعمل. فما
ربي منه بالماء والملح، أفاده ذلك حرافة وجفافا وصار محرقا للدم مضرا (3) بعصب المعدة بطئ
الانهضام لقحله وغلظه، إلا أنه سريع الانحدار لتلذيعه. وما ربي منه بالخل، أفاده ذلك لطافة وبرودة
وصار نافعا لحدة الصفراء ومنبها للشهوة قليل اللبث في المعدة لان الخل يقطع غلظه ويسهل انحداره
وبخاصة إذا أكل في وسط الطعام لان اختلاطه مع الطعام مما يفرق أجزاءه ويمكن الطبخ من جملته.
وأما الزيتون الغض الأخضر الكائن من زيتون الزيت فمشاكل لزيتون الماء في قوته وطبيعته وفعله



(1) في الأصل: أخضرا.
(2) في الأصل: يسير.
(3) في الأصل: مضر.
340
وانفعاله، غير أنه أكثر منه غذاء وأسرع انهضاما وأقل تقوية للمعدة لما فيه من الدهنية والزيتية، وإن كان
أقل أنواع زيتون الزيت دسما وأكثرها قبضا وأميلها إلى البرودة واليبوسة. ولذلك صار بإضافته إلى زيتون
الماء على الحقيقة، أكثر غذاء وأسرع انهضاما وأقل تقوية للمعدة وأميل إلى الحرارة قليلا، لأنه أكثر منه
زيتا ودسما وأقل قبضا. وبإضافته إلى سائر أنواع زيتون الزيت، أقل غذاء وأبعد انحدارا وأكثر تقوية
للمعدة وأميل إلى البرودة، لأنه أقلها زيتا ودسما وأكثر قبضا. وقد يربى أيضا بالماء والملح أو بالملح
والخل، فيكون حكمه حكم زيتون الماء على الحقيقة إذا ربي كذلك، إلا أنه ألطف وأسرع انحدارا لأنه
لفضل دهنيته، صار أسلس وأخف على المعدة، وإن كان أقل منه تقوية لها.
* * *
القول في الزيتون الأسود النضيج
أما الزيتون الأسود الكامل النضج، فهو حار باعتدال. وزعم ديسقوريدوس: أن فيه يسيرا (1) من
يبس. وأما جالينوس فوصفه بالترطيب. وليس ببعيد أن يكون كذلك لما فيه من الدهنية والعذوبة وقلة
الحرافة. ولذلك صار غذاؤه كثيرا غليظا لزجا مرخيا للمعدة بعيد الانهضام سريع الانحدار. والسبب في
بعد انهضامه أن الدهنية تعومه وتمنعه (2) من الهبوط إلى موضع الطبخ من المعدة. والسبب في سرعة
انحداره: أنه يزلق المعدة وينحدر منها قبل تمام هضمه. ولذلك بعد انهضامه وقرب من الاستحالة إلى
المرار، وصار بإضافته إلى الزيتون الأخضر الغض مذموما لان الخلط المتولد عنه كريه الطباع وبخاصة إذا ربي
بالملح لان (3) الملح زائد في حره وإفساده الدم وسرعة انحداره عن المعدة بتلذيعه لها. وما عظم من
هذا الجنس من الزيتون كان أعظم ضررا مما صغر منه، لان الجوهر الدهني فيما عظم منه أكثر، ولذلك
صار إذا أكل مع المري أحدث من الانطلاق ما يدعو إلى العلة المعروفة بالهيضة (4) إلى زلق الأمعاء إذا
أحدثها كان ما يأتي معها من التهوع أطول وأدوق. وما يعرض من الاسهال يأتي رويدا رويدا في مرات
كثيرة لان الدهنية تعومه وترقيه صعدا وتخرجه بالقئ أكثر.
وأما الزيتون الأحمر المعروف عند ديسقوريدوس بالياقوتي فإن قوته أقرب من قوة الزيتون الأسود
الكامل النضج، وغذاؤه قريب من غذائه، إلا أنه أقل رداءة منه لأنه أقل دسما وأكثر قبضا. ولذلك صار
فيه بعض التقوية للمعدة. وأما الكيموس المتولد من كل واحد منهما، فإنه مشاكل لما يتولد منه في
لونه، أعني أن المتولد عن الزيتون الأحمر أشقر. وقال جالينوس: على لون صفرة البيض المشبعة
المائلة إلى الشقرة. وقول لجالينوس آخر قال فيهما: إن الزيتون الحديث الذي يقرب إلى الحمرة يعقل



(1) في الأصل: يسير.
(2) في الأصل: (يعومه ويمنعه) بإثبات النقطتين من تحت.
(3) بعدها في الأصل (المتولد عنه كريه الطباع) ملغة بشطبة.
(4) انطلاق البطن.
341
البطن ويشد المعدة. والأسود النضيج سريع الاستحالة إلى الفساد، مرخ للمعدة، ملين للبطن. وله قول
آخر، قال في غذاء الزيتون: وأما غذاء الزيتون فليس قوة التلطيف ظاهرة فيه لا محالة. ولذلك صار كأنه
متوسط (1) بين ما يلطف وما لا يلطف. ولهذه الجهة لم أقدر على حمده في هذا الباب ولا على ذمه فيه.
ومن فعل الزيتون على سبيل الدواء أنه إذا سحق وحمل على حرق النار أو على حرق الماء
الحار، منعه من التنفط (2). وإذا حمل على الرأس، نقى الأبرية ونفع من القروح الخبيثة. وأما مح
الزيتون الموجود في جوف نواه، فإنه إذا ديف بشحم ودقيق وعمل منه ضماد، قلع البياض العارض
للأظفار.
* * *
في ورق الزيتون
وزهره وأغصانه الرطبة
وأما ورق الزيتون وزهره وأغصانه الرطبة، فإن فيها من القبض ما ليس في ثمر الزيتون. ولذلك
صار انحرافها عن الحرارة إلى البرودة بحسب ما فيها من القبض. فإن كانت الحرارة غير مفارقة لها، لما
فيها من المرارة (3). وإذا أحرق ورق الزيتون وزهره على ما أنا واصفه، واستعمل في علاج العين عوضا من
التوتياء، لم تكن منفعته للعين بدون منفعة التوتياء. وهذه صفة إحراقه: يؤخذ من الورق والزهر مقدار
الحاجة ويصير في قدر من طين ويطبق على فم القدر غطاء، ويطين الوصل بطين الحكمة، ويصير في
أتون حتى تستوي كلها في الأتون ويصير خزفا ثم يستعمل.
وقوة ورق الزيتون البري وزهره كقوة ورق الزيتون البستاني وزهره، إلا أن قوة ورق الزيتون
البري وزهره أشد وأقوى فعلا وأقل مواقعة للعين لأنه أخشن وأثقل على العين. وقوة ورق الزيتون
البستاني وزهره أضعف وأسهل فعلا وأكثر موافقة للعين، لأنه ألين وأسلس وأخف على العين. وأما
الرطوبة السائلة من خشب الزيتون الرطب إذا ألهب بالنار، فإنها إذا حملت على القوابي، قلعتها. وإذا
حملت على الرأس، نقت الأبرية ونفعت من الجرب العارض فيه.
* * *
في صمغ الزيتون
أما صمغ الزيتون فيكون على ضربين: لان منه ما يكون من قطرات صغار لذاعة اللسان، ومنه
ما يكون من قطرات عظام شبيهة بالصمغ الأملس، غير لذاعة للسان. وهذا النوع منه ردئ لا ينتفع به.



(1) في الأصل: متوسطا.
(2) أي التقرج.
(3) كذا في الأصل.
342
والأول منهما: اللذاع للسان أحمد وأفضل. ومن منافعه: أنه مدر للبور والطمث، مخرج للأجنة. وإذا
اكتحل به، نفع من الغشاوة العارضة للعين ونقى وسخ القروح المتولدة في الحجاب القرني (1). وإذا
وضع على الأسنان المأكولة (2)، سكن وجعها. وإذا حمل على الجرب المتقرح وعلى القوابي، نقاها
وقلعها.
* * *
في الزيتون البري
وأما الزيتون البري فإن ورقه وزهره وأغصانه الرطبة أشد قبضا مما كان من الزيتون البستاني، لان
شجره في طبيعته أشد حرارة وجفافا لغلبة اليبس على هوائه بالطبع. ومن منافعه على سبيل الدواء، أن
ورقه إذا مضغ، قوى اللثة ونفع من القلاع والبثور العارضة في الفم. وإذا دق وعمل منه ضماد، منع
النملة من أن تسعى في البدن ونفع من القروح والأبرية الخبيثة. وقال ديسقوريدوس: وينفع من الداحس
والشرى والحمرة العارضة من الدم الغليظ. وإذا عجن، نقى القروح الوسخة وقلع ما عليها من
الخشكريشة. وإذا خلط مع دقيق الشعير وعمل منه ضماد، نفع من الاسهال العارض من زلق الأمعاء.
وعصارته وطبيخه يفعلان مثل ذلك في جميع ما ذكرنا. وإذا تحملت المرأة عصارته، قطع نزف الدم
ومنع سيلان الرطوبات إلى الأرحام. وإذا قطرت عصارته في الآذان المتقيحة، نقتها من المدة وأبرأت
القروح العارضة فيها. وإذا حملت هذه العصارة على العين التي فيها نتو (3)، ردت نتوها وقطعت سيلان
الرطوبات المزمنة عنها. ولهذا السبب أدخلتها الأوائل في أخلاط الشيافات النافعة من السيلان والاحتراق
العارضين للأجفان. واستخراج هذه الرطوبة بأن يؤخذ ورق الزيتون البري الطري فيدق ويرش عليه في
وقت دقه شراب أو ماء ويعصر ويجفف ويخزن ويستعمل. وما استخرج من هذه العصارة بالشراب، كان
أفضل مما يستخرج منها بالماء وأصلح للخزن. وإذا أحرق الورق والزهر من هذا النبات على ما وصفنا
من إحراق الزيتون البستاني وزهره، كان فعله في العين أقوى من فعل رماد ورق الزيتون البستاني
وزهره، إلا أنه أضعف على العين لأنه أخشن وأكثر تجفيفا.
* * *
في صمغ الزيتون البري
وأما صمغ الزيتون البري، فزعم ديسقوريدوس أن فيه تشابها من السقمونيا في طبيعته، ومن



(1) في الهامش: القوي.
(2) أي التي تحاتت وتكسرت.
(3) النتو: الورم.
343
الياقوت الأحمر في لونه. وهو على ضربين: لان منه الصغير القطرات اللذاع اللسان، ومنه العظيم
القطرات الأملس غير اللذاع للسان، وهذا النوع منهما ردئ لا ينتفع به. وأما الأول اللذاع فهو في
جميع ما ذكرنا من فعل الزيتون البستاني أقوى وأخص كثيرا وأظهر تأثيرا. والله أعلم.
القول في الزيت
الزيت على الحقيقة هو المستخرج من الزيتون، وما سوى ذلك مما يستخرج من غير الزيتون
فإنما يقال له أدهان، وينسب كل واحد منها إلى النبات الذي هو منه، كما اشتق للزيت اسم من
الزيتون المستحق لاسم الزيت على الحقيقة يكون على ضربين: لان منه الطري الحديث القريب العهد
بالخروج من الثمرة (1). وأما الطري منه القريب العهد بالخروج من الثمرة، فما كان منه من زيتون غض
أخضر لم يكمل نضجه ولم يدرك، وهو المعروف عند اليونانيين بالزيت الانفاق، لان هذا الاسم يوناني
على ما زعم ديسقوريدوس. وما كان منه مغسولا مستخرجا بالماء الحار يسمى زيت الماء والزيت
المغسول. وأفضل الزيت ما كان ذكي الرائحة لذيذ الطعم سليما من اللذع والحرافة، ويكون قبضه
ظاهرا بينا لان بحسب ما فيه من القبض مقداره من البرودة واليبوسة. وما كان له مقدار من القبض كان
أفضل للمعدة لتقويته لها. ولذلك أقامت الأوائل هذا النوع من الزيت مقام دهن الورد في علل الاسهال.
وإذا تمضمض به ومسك في اللثة، قوى الأسنان. وقد يستعمل كثيرا في أدهان الطيب.
وما كان من الزيت الحديث الطري مستخرجا من زيتون أسود قد أدرك واستحكم نضجه، فإنه
رطب ويسخن إسخانا معتدلا ويرخي المعدة ويطلق البطن وينقلب إلى المرار الأشقر بسرعة. فإن خلط
مع هذا النوع من الزيتون أعقابه الرطبة الطرية ودقوها معه وعصروا ماءها، كان الزيت المستخرج منها
قريبا من الزيت الانفاق بهذا الفعل فقط دون أن يمتحن منه ثانية ويداف وينظر. فإن كان فيه مقدار من
القبض علمنا أن فيه من البرودة واليبوسة بحسب ما فيه من القبض. فإن وجدنا العذوبة غالبة عليه من
غير قبض أصلا، علمنا أنه بعد حار باعتدال. وإن وجدنا الحرافة فيه ظاهرة، علمنا أن فيه من الحرارة
واليبوسة مقدار ما فيه من الحرافة. وإن وجدنا فيه لطافة هوائية، علمنا أنه فائق قد لزمته فضيلة الزيت
المحمود الواجبة له، وعلامة لطافته (2) أن يكون صافيا نقيا جيد المستنشق. وإذا أخذ منه اليسير وحمل
على موضع من البدن، امتد على الموضع وانبسط من غير أن ينقطع وينشفه الجلد ويبتلعه بسرعة.
وأما الزيت العتيق البعيد العهد بالخروج من الثمر، فإنه متى كان من زيت إنفاق أو زيت الماء،
فما دام قبضه قائما فيه ولازما له، فقوته مجففة حتى إذا زال عنه القبض، صار حكمه حكم الزيت الحلو



(1) في الكلام انقطاع. ولعل تمامه: (ومنه العتيق البعيد العهد بالخروج من الثمر).
(2) (لطافته) مكررة في الأصل.
344
المستخرج من الزيتون الأسود النضيج في إسخانه وتحليله، وخرج من حد ما يغتذى به ودخل في حد
الدواء. ومن منافع الزيت العتيق على سبيل الدواء أنه إذا اكتحل به، أحد البصر. فمن لم يحضره زيت
عتيق واحتاج إلى ما يقوم مقامه من الزيت، فليأخذ من أجود زيت يقدر عليه ويصيره في إناء ويطبخه
حتى يصير على مثال العسل. فإنه إذا صار كذلك صارت قوته قوة الزيت العتيق. ومن أراد أن يبيض
الزيت، فليأخذ مائة رطل من زيت حديث مائل إلى البياض لم يمض عليه أكثر من حول (1) وأحد وأقل
من ذلك، ويصيره (2) في إناء خزف جديد واسع الفم ويجعله في الشمس ويضربه بيده ضربا جيدا ويرفع
ضربه إلى أعلى الزيت لتقوى حركته وتشتد حميته ويعله (3) ويرغو. فإذا كان في اليوم الثاني (4)، فيأخذ
من الحلبة المنقاة ثلاثة وخمسين درهما وينقعها في ماء حار يلين. فإن لانت يلقها على الزيت قبل أن
يفنى ماؤها، ويلق فيه مع ذلك من أدسم ما يكون من خشب التنوب (5) المقطع قطعا صغارا مثل ورق
الحلبة، وزعم ديسقوريدوس عن هذا الخشب أنه ضرب من الصنوبر، ثم يضرب الزيت في كل يوم
نصف النهار ضربا جيدا ويديم ذلك سبعة أيام. وإذا رأيته في اليوم الثامن قد استحكم نضجه واستفاد
بياضا وراق وصفا، فاغرفه بصدفة رويدا رويدا وصيره في إناء جديد قد غسل، وفرش فيه من إكليل
الملك والسوسن الاسمانجوني (6) من كل واحد اثني عشر أوقية - وفى نسخة أخرى اثني عشر درهما -
ويشد رأسه ويرفع، وإن لم يستحكم نضجه ويستفيد بياضا في هذه المدة، فدعه في الشمس وأدمن
ضربه حتى يستحكم نضجه ويصدق بياضه.
ولديسقوريدوس فيه قول قال فيه: إن جميع أنواع الزيت مسخنة ملينة للبشرة، باسطة (7) الأعضاء
للحركة، مانعة للعرق من الخروج من مسام البدن إذا مسح بها الجلد، دافعة للبرد من الوصول إلى
الأبدان بسرعة، مضعفة لقوة الأدوية القتالة بلزوجتها، ومعينة على تليين البطن. وإذا شرب من الزيت
تسع أواق مع مثله ماء الشعير أو ماء حار، أسهل البطن. وإذا طبخ بشراب وشرب منه تسع أواق وهو
حار، نفع من المغص العارض من الفضول الغليظة وأخرج الدود وحب القرع من البطن. وإذا احتقن
به، نفع من القولنج العارض من (8) ورم المعاء من السدة المتولدة عن الرجيع اليابس.
* * *



(1) في الأصل: (أكثر ذلك الأحوال).
(2) في الأصل: (ويصير).
(3) عل الضارب المضروب: تابع عليه الضرب.
(4) لعلها الثامن كما رويت في غير مرجع، وكما سترد بعد أسطر قليلة.
(5) هو النوع من الصنوبر الذي يحمل قضم قريش.
(6) هو أجود أنواع السوسن الأبيض المسمى الزنبق.
(7) في الأصل: باسط.
(8) بعدها في الأصل: (قذف الدم) ملغاة بشطبة.
345
في عكر الزيت
وأما عكر الزيت فيكون على ضربين: لان منه الحديث، ومنه العتيق المتقادم. والعتيق أسخن
وأقوى فعلا وأفضل للعلاج وأحمد لأنه أشد عفوصة. وإذا طبخ العتيق في إناء من نحاس قبرسي حتى
يصير بمنزلة العسل، صار قابضا وصلح لما يصلح له الحضض ويفعل عليه (1) بأنه إذا طبخ بشراب أو
بشراب العسل وحمل على الأسنان الوجعة، يسكن وجعها. وإذا طبخ بماء الحصرم إلى أن يصير
كالعسل وحمل على الأسنان المأكولة، قلعها وسهل قلعها إن كانت معيبة. وإذا خلط في العين المبقية،
قوى فعلها وزاد في تأثيرها. وإذا عمل منه ضماد، نفع المقعدة المتقرحة والرحم المنفرج والفرج
الكذلك، أعني بالفرج فم الرحم. وإذا خلط بخاماميلن (2) أي البابونج وعجن بماء الترمس ولطخ به
المواشي، قلع جربها بإذن الله عز وجل.
تم الجزء الثاني
من كتاب الأغذية



(1) في الأصل: (على) والتصحيح من الهامش.
(2) في الأصل: خامالاون، وهي باليونانية الحرباء، الدابة المعروفة.
346
كتاب
الأغذية والأدوية
تأليف
إسحاق بن سليمان
المعروف بالإسرائيلي
المتوفى سنة 320 ه
الجزء الثالث
مؤسسة
عز الدين
للطباعة والنشر

347
..

348
القول في البطيخ
أما القول في البطيخ فينقسم قسمة جنسية على أربعة ضروب: لان منه البطيخ الريفي وهو المعروف
عند العامة بالبطيخ على الحقيقة. ومنه البطيخ الفلسطيني المعروف بالماهوني. ومنه البطيخ الرمسي اللطيف
المليون (1) المطرق المعروف بالدستنبويه، والعامة يظنون أنه نوع من اللفاح (2).
فأما الريفي فيكون على ضربين: لان منه المستطيل المعروف عند الأوائل بسيلانا، ومنه المستدير
المعروف عند الأوائل بقلمونيا. والنوعان جميعا باردان رطبان إلا أن رطوبتهما أزيد من برودتهما في وسط
الدرجة الثانية، ورطوبتهما في آخرهما. والفرق بين النوعين أن رطوبة المستدير أغلظ وأكثر، لزوجة، ولذلك
طفت وعامت وتحركت عرضا وصار البطيخ مستديرا.
ورطوبة المستطيل أرق وأقرب إلى المائية، ولذلك سالت وهبطت وتحركت سفلا، وطار البطيخ
مستطيلا. وقد يستدل على ذلك من عذوبة المستدير وتفاهة المستطيل، لان العذوبة دالة على الغلظ
واللزوجة، والتفاهة دالة على المائية والرقة. ولذلك صار المستطيل أقل غائلة وأبعد من الجلي والتنقية،
والمستدير أكثر غائلة وأقوى على الجلي والتنقية وأدر للبول وأخص بغسل الكلى والمثانة وتنقية الرمل والحصى
اللطيف المتولد فيهما، ذلك لزيادة عذوبته وقوة جلائه. وقد يستدل على جلي البطيخ في الجملة من تنقيته
لسطح البدن إذا اغتسل به. وقد يعمهما أيضا سرعة الاستحالة إلى الفساد والانتقال إلى ما صادفا في المعدة
من المرة أو من البلغم كاستحالة السمك واللبن إلى مثل ذلك للطافتهما وخفة حركتهما وسرعة انقيادهما
للانفعال. ولذلك صار البطيخ الريفي في الجملة مضرا بالمعدة مرخيا لعصبها مفسدا لما يخالطه فيها من
طعام أو غيره، وبخاصة إذا كان ما يخالطه رطبا أو حلوا. ومن خاصته أنه يزلق الغذاء ويحدره قبل تمام
هضمه ويحدث في المعاء رياحا نافخة وقراقر (1) ويهيج الاسهال المعروف بالهيضة. فإن لم يتبعه صاحبه بما



(1) في الأصل تعرضت لطمس جزئي. ولعلها كذلك.
(2) سيأتي كلام المصنف عليه مباشرة بعد البطيخ.
(1) في الأصل: وقراقرا.
349
يسخن ويلطف ويقطع وينقي رطوبات المعدة، هيج القئ والغثي، ولذلك صار الأفضل ألا يؤكل إلا على
خلاء المعدة من الطعام ونقائها من الفضول ولا يتناول بعده شئ من الطعام إلى أن يتم هضمه وينحدر عن
المعدة بكماله. فإنه متى فعل به ذلك وانهضم حسنا، جاد استمراؤه ولم يكن الخلط المتولد عنه بالردئ،
وإن كان في طبيعته بلغمانيا رطبا. وإن لم يكمل هضمه ولد خلطا باردا مذموما سميا وهيج أنواع الحميات
الصعبة وبخاصة فيمن كان مزاجه ممرورا بالطبع أو محرورا بالعرض. وذلك لسرعة استحالته وانتقاله إلى
المرار بالطبع. ومما يعين على هضمه يدفع ضرره عمن كان محرورا أن يتناول بعده سكنجبينا سكريا أو
رازيانج ومصطكى. ومن كان بلغمانيا فيأخذ بعده سكنجبينا عسليا أو زنجبيلا (1) مربى أو زنجبيلا يابسا (2)،
وزن مثقال مع كندر أو بعض الجوارشنات المجففة مثل الكموني وما شاكله، ويشرب بعقب ذلك
شرابا صرفا.
وأما بزر البطيخ وأصله فهما أقل برودة ورطوبة من لحم البطيخ وشحمه. وإذا جففا زالت عنهما
رطوبتهما جملة، وصارا يابسين في آخر الدرجة الأولى. ومن قبل ذلك صار أكثر تنقية وجلاء من لحم
البطيخ كثيرا، وصار فعل بزر البطيخ في درور البول وتنقية الكلى والمثانة من الرمل والحصى اللطيف
العارض فيهما أقوى من فعل البطيخ نفسه. غير أن فعله فيما يتولد في الكلى أقرب وأبلغ تأثيرا من قبل أن
الكلى لحمية وما يتولد فيهما من الرمل ألين وأسرع قبولا لفعل الأشياء اللطيفة الضعيفة الفعل. والمثانة
فليست كذلك لأنها عصبية صلبة وما يتولد فيها من الرمل والحصى فحجري صلب. ولذلك صار لا يكاد
أن يفعل فيهما إلا ما كان فعله من الأدوية قويا سريع التأثير.
وفى قشر البطيخ يبس به صار صالحا لجلي الآنية.
وإذا استعمل عوض الأشنان (1) نقى الزهومة وذهب برائحة الفم. وزعم ديسقويدوس أنه قد
يؤخذ بزر البطيخ فيقشر ويدق ويعجن بشحم البطيخ وشئ من دقيق الحنطة ويقرص ويجفف في الظل
ويستعمل في اللطوخات والغسولات التي تجلو أوساخ الوجه وتنقي سطح البدن. فأما أصل البطيخ فإنه إذا
جفف وسحق وشرب منه وزن درخمين بشراب العسل أو بسكنجبين، هيج القئ. وإذا عمل منه ضماد
بعسل، نفع من القروح المعروفة بالشهدية، فأما قشر البطيخ الطري فإنه إذا تدلك به في الحمام، نقى
البشرة ونفع من الحصف (1). وإذا طبخ البطيخ الفلسطيني المعروف بالدلاع فهو أقل أنواع البطيخ رطوبة
وأكثرها برودة. ولذلك صار أغلظ وأبطأ استحالة وأبعد من الانقلاب إلى الفساد. ومن قبل ذلك صار
موافقا لمن كان في معدته حرارة أو كان محموما لأنه بغلظه وبعد إنضاجه، يقاوم حرارة الحمى ويقمع حدتها



(1) في الأصل: زنجبيل.
(2) في الأصل: زنجبيل يابس.
(1) الأشنان الأشنان: الحرض، وهو ما تغسل به الأيدي والثياب.
(1) بثور في الجسد صغار تشبه الجرب اليابس.
350
ويسكن لهيبها
وأما البطيخ الكائن بمرو المعروف بالماموني، فله حمرة في لونه وحلاوة غالبة على طعمه. ولذلك
صار مفسدا للثة مغيرا لرائحتها لكثرة حلاوته. وإن قال قائل أنه حار، لم يخطئ. وأما البطيخ
الرمسي المعروف بالدستنبويه فهو في طبيعته ومزاجه متوسط (1) بين طبيعة البطيخ الريفي وأقل رطوبة
وأرق من الدلاع وأزيد رطوبة. ومن قبل ذلك صار الكيموس المتولد عنه ليس ومن خاصته
أن رائحته مسكنة للحرارة جالبة للنوم. ولذلك ظنت العامة أنه نوع من اللفاح. ولما كانت العامة
قد ظنت به هذا أظن، رأينا أن نضيف إلى ذكره ذكر اللفاح ونلحقه به.



(1) في الأصل: متوسطا.
351
القول في اللفاح
أما شجرة اللفاح فتعرف باليبروج. وهي شجرة منتشرة على الأرض من قبل أن ليس لها ساق يرفعها
صعدا. وهي على ضربين: لان منها ما يعرف بالذكر، ومنها ما يعرف بالأنثى. وإنما سمي الذكر منها
ذكرا لان أصله واحد مفرد أبيض الظاهر والباطن وورقه عريض أملس شبيه بورق السلق وليانته، ولفاحه
أكبر لان مقداره ضعف مقدار لفاح الأنثى ولونه زعفراني ورائحته طيبة، إلا أن طعمه بشع كريه غير
لذيذ. وأما الأنثى فإن لها أصلين أو ثلاثة يتصل بعضها ببعض، ويلتف بعضها على بعض، وظاهرها يلي
السواد وباطنها أبيض وورقها يسمى الخس لأنه شبيه بورق الخس إلا أنه أصغر وأرق قليلا ورائحته زهمة
كريهة، وثمرته شبيهة بالغبيراء، وفى جوفها حب شبيه بحب الكمثرى، فإذا أكلته الرعاة، عرض لهم
منه سبات يسير يدل على أن البرودة القوية على هذا النبات أغلب، كأن برودته في الدرجة الثالثة إلا أن فيه
مع البرودة رطوبة يسيرة. ومن خاصته أنه إذا أكل أو اشتم، عرض لصاحبه منه سبات وكذلك يعرض
من عصارته. فإن أكثر منه أو من عصارته، أحدث العلة المعروفة بالسكتة.
وأما حبه الموجود في جوف لفاحه فإنه إذا شرب، نقى الأرحام. وإذا خلط بكبريت لم تمسه النار
واحتملته المرأة، قطع نزف الدم عنها. وقد يتخذ من اللفاح شراب ينتفع به في دفع السهر (1)، وتسكين
الآلام، وإبطال حس من احتاج أن يكوى بالنار أو يقطع منه عضو من أعضائه حتى لا يحس بالألم ولا
يشعر بما يفعل به. واستخراج عصارة هذا اللفاح يكون بأن يدق ويعصر ويصير ما يخرج من عصارته في
الشمس حتى يثخن ويصير في إناء من غفار (2) ويخزن، وقال ديسقيريدس: في إناء من خزف.
وأما لحاء أصل شجرة اللفاح فقوي البرد والتجفيف جدا، والأصل المستبطن للحاء أضعف فعلا من



(1) السهر: الأرق.
(2) الغضار: خزف أخضر.
352
اللحاء.
وقد يستخرج من اللحاء إذا كان رطبا عصارة. كما تستخرج من ثمرة اللفاح فيكون فعلها كما
وصفنا من فعل عصارة الثمرة وأقوى كثيرا. ومن خاصة هذا الدواء، أن من شرب منه مقدار ستة
قراريط (1)، قيأه بلغما ومرارا وفعل فيه فعل الخربق إذا شرب، فإن أكثر منه قتل. وقد يدخل في هذا
الدواء في الفرزجات (2) الملينة للبطن. وإذا عمل منه وحده فتيلة واستعملت من أسفل، جلبت النوم.
وإذا تحملت المرأة منه مقدار قيراط (3) ونصف، أدر الطمث وأخرج الأجنة. وقد يؤخذ لحاء أصل هذا
النبات ويشد في خيط ويجفف في الظل، ويستعمل عند الحاجة إليه.
ومن الناس من يأخذ أصل هذه الشجرة فيطبخه بشراب حتى يذهب منه الثلث ويصفى ويرفع
ويستعمل عند الحاجة إليه، فينفع من السهر ويسكن الآلام ويخدر حس من كان محتاجا إلى أن يكوى بالنار
حتى لا يحس بالألم. وإذا أخذ أصل هذه الشجرة مدقوقا وعجن بعسل أو بزيت، نفع من لسع الهوام.
وإذا خلط بسويق وعجن بماء، سكن أوجاع المفاصل. وزعم ديسقوريدوس أنه إذا عجن بماء وعمل منه
ضماد، حلل الخنازير (4).
قال واضع هذا الكتاب: وأما أنا، فلم أقف على السبب الذي له صار أصل اليبروج يفعل هذا
الفعل، وهو على ما هو عليه من البرودة وإخدار الحس. وقد يستخرج من هذا الأصل دمعه، فيفعل
قريبا من فعل هذه العصارة، إلا أن فعل هذه العصارة أقوى والوجه في استخراج هذه الدمعة أن تثقب في
أصل هذه الشجرة ثقبا واسعا مستديرا، كأنه قور تقويرا، ثم جمع ما يسيل منه من الرطوبة ويصير في
الشمس حتى يثخن.
وأما ورق هذه الشجرة فإنه إذا أخذ طريا ودق وخلط بسويق وعجن بماء وعمل منه ضماد (5)، نفع
من الأورام الحارة العارضة للعين. وقد يجفف هذا الورق ويدق ويستعمل كما يستعمل الطري، إلا أن
فعله يكون أضعف. ورأيت قوما من الصيادلة يسمون أصل هذه الشجرة اللعبة (6) ويستعملونه في تسمين
النساء، لأنهم كانوا يأخذونه ويطبخونه بالماء طبخا جيدا ويصفونه ويسلقونه في خابية الحنطة، ويعلفون
تلك الحنطة الدجاجة حتى تصير في غاية من الشحم ثم يطعمون الدجاج للنساء المهازيل، فيكسبن (7)



(1) ج قيراط: في الوزن، مقداره 24 / 1 من الدينار.
(2) الفرزجة: شئ تتخذه النساء للمداواة.
(3) في الأصل، قيرط.
(4) قروح صلبة تكون في الرقبة.
(5) في الأصل: ضمادا.
(6) أصل اليبروح هو اللعبة المطلقة. واللعبة البربرية هو السورنجان، ويسمونه في مصر بالعكنة.
(7) في الأصل: فيكسبوا.
353
بذلك شحما يجاوز مقدار الوصف، ورأيت كثيرا ممن كان يستعمل هذا، يعرض له تلهب شديد
وشرى (1) حتى أني كثيرا ما (2) كنت أرى جلودهم تتفطر.
وزعم ديسقيريدس عن قوم كانوا يقولون أن من اليبروح نوعا ثالثا ينبت في المغائر والمواضع الظليلة
ويذكرون أن له ورقا يشبه ورق اليبروح المعروف بالذكر، إلا أنه أصغر قليلا وورقه قليل الخضرة نابت
حول الأصل، لان ليس له ساق مرتفعة من الأرض، وأصله أبيض طوله في الأرض أكثر من شبر،
وغلظه كغلظ الابهام. وكانوا يزعمون أن أصل هذا النبات إذا أكل بالخبز أو بالسويق أو ببعض الطبائخ،
أحدث سباتا من غير أن تتغير حال المرء التي كان عليها قبل أن يشربه، ولا يحدث إلا بطلان الحس فقط.
ويقيم بتلك الحال ثلاث ساعات أو أربع (3).



(1) الشرى: شبه بثور حمر تظهر دفعة غالبا في الجسد، لها لذع شديد.
(2) في الأصل: مما.
(3) في الأصل: أربعة.
354
في القثاء
أما أصل القثاء فيقتضي نوعين: أحدهما القثاء الريفي، والآخر البري. فأما الريفي فبارد رطب في
الدرجة الثانية وجرمه غليظ مكتنز بعيد الانهضام بطئ الانحلال والانحدار عن المعدة مؤذ لها ومضر
بعصبها لاتعابه لها بغلظه، ومفجج لما يوافيه فيها من الغذاء بقوة برده وصلابة جرمه. ولهذه الأسباب صار
مقصرا عن منفعة الفواكه الموافقة للمعدة، وإن كان إضراره بالمعدة دون إضرار البطيخ كثيرا، من قبل أن
إضراره بالمعدة إنما هو لاتعابه لها بغلظ جرمه واكتنازه وبعد انهضامه. وإضرار البطيخ بها لارخائه لعصبها
وإفساده لها بفضل رطوبته. ولذلك صار القثاء لا يهيج من القئ والغثي ولا يولد من الرياح والنفخ
والقراقر ما يولد البطيخ في درور البول وإطلاق البطن وتوليد الدم المحمود لان الدم المتولد عن البطيخ
ألطف وأقل غلظا وأقرب إلى البلغم الغليظ الشبيه بالزجاجي.
وللفاضل أبقراط فيهما قول قال فيه: إن القثاء أغلظ من البطيخ وأثقل وأعسر انهضاما وأبعد من درور
البول وإطلاق البطن. والبطيخ أرق وأخف وأسرع انهضاما وأدر للبول وأطلق للبطن من القثاء إلا أنه
أكثر رياحا ونفخا وقراقر. وزعم ديسقيريدس في القثاء أن رائحته تنفع من الغثي، وأن جوهره أبعد من
الاستحالة إلى الفساد وأنفع للمعدة ولأوجاع المتانة. قال إسحاق: وأحسب أن ديسقيريدس إنما نسبه إلى
ذلك بإضافته إلى البطيخ، وإلا فإتعابه للمعدة وإضراره بعصبها أوضح من أن ينكتم أو يتستر. ويدل على
ذلك طول لبث طعمه ورائحته في الحشاء، وبعد انقطاعها منه.
أما حب القثاء فإنه إذا جفف صار يابسا في وسط الدرجة الأولى. وكان ذلك زائدا في جلائه وغسله
للكلى والمثانة ودرور البول. ولذلك صار إذا شرب مع ألبان النساء، نفع من قروح المثانة ونقاها. وأما
ورق القثاء فإنه إذا عمل منه ضماد مع عقيد العنب المعروف بالميبختج، نفع من عضة الكلب الكلب. وإذا
اغتسل به، نفع من الشرى. وأما أصل القثاء فإنه إذا شرب منه وزن مثقال بماء العسل، هيج القئ وقيأ
مرة صفراء. ومن أراد أن يتقيأ به بعد الطعام، فليكتف منه بوزن ستة قراريط.

355
في القثاء البري
المعروف بقثاء الحمار
أما القثاء البري (1) فخارج عن طبيعة ما يتغذى به أصلا، لأنه من طبيعة الأدوية الجبلية القوية ومن
آياته أنه يقطع الكيموسات ويجلو المعدة. وإذا شرب من عصارة أصله مقدار خمسة قراريط، أسهل بلغما
ومرة سوداء من غير أن يضر ببدن الشارب، وبخاصة إذا كان به استسقاء. ولذلك إذا شرب من لحاء
أصله وزن قيراطين مسحوقا، فعل مثل ذلك ونفع من الاستسقاء. وإذا أخذ أصله وسحق وألقي عليه
شراب مصري ويرفع أياما وأسقي منه أصحاب الاستسقاء ثلاث بواطيل في كل ثلاثة أيام مرة، انتفعوا
به جدا، وبخاصة إذا ألزموا أنفسهم إلى أن يضمر الورم ضمورا قويا.
وعصارة القثاء نفسه أقوى من عصارة الورق والأصل جميعا. وذكر ديسقيريدس دواء يعمل من
عصارة هذا القثاء يعرف بالأطيريون ويستعمل عند الحاجة إلى القئ والاسهال. والشربة التامة منه ثلاثة
قراريط ونصف، يكون ربع درهم. وأما الصبيان فلا يعطون منه إلا اليسير، لان الكثير منه يقتلهم.
وصفة هذا الدواء هو أن يؤخذ القثاء وهو طري حين يندى من موضعه وينزل ليلة واحدة، ثم تؤخذ
إجانة (2) ويقلب عليها منخل وينصب على المنخل سكين حاد ويكون قفا السكين إلى المنخل وجانبها الحاد
إلى فوق. ويؤخذ واحدة واحدة من القثاء، وتمر بها على فم السكين حتى ينقطع بنصفين ويعصر ما فيها
من الرطوبة على المنخل عصرا جيدا، ويعزل مع التفل ثم يلقى على ما اجتمع من الثفل ماء عذب. ومن
الناس من يجعل ماء البحر ويغسل جيدا ويعصر ويصفى بمنخل على الماء الأول المستخرج من القثاء ويحرك
الجميع حتى يختلط ويغطى بثوب حتى يرسب غلظه وثفله ويعوم رقيقه ومائيته. ثم تنحى مائيته عنه، فإن



(1) ويعرف أيضا بالعلقم.
(2) الإجانة والايجانة: إناء شبه الحوض.
356
بقي منه شئ يعوم على وجه غليظه وثفله، تنشفه بصوفة البحر المعروفة بإسفنج البحر، وأهل الحجاز
يسمونه الغيم (1) ثم يلقى غليظه وثفله في صلاية (2) من حجر ويسحق عليه كل يوم دائما حتى يمكن
تقريضه ويقرص ويجفف في الظل. فما كان له كدورة وخشونة ورزانة، كان رديئا مذموما غير محمود.
وأجوده ما كان قليل الخضرة مائلا إلى البياض قليلا، شبيها بلون العنبر، ويكون مع ذلك أملس خفيفا
مفرط المرار. وإذا أدني من السراج، كان سهل الاحتراق. وما عتق منه وجاوز السنتين إلى العشرة، كان
أقوى، من أراد استعماله للقئ والاسهال. والشربة منه ثلاثة قراريط ونصف، يكون ربع درهم. وأما
الصبيان فلا يعطون منه إلا اليسير، لان الكثير منه يقتلهم. ومن خاصة هذه العصارة إخراج الفضول
البلغمانية والسوداء بالاسهال والقئ جميعا. والاسهال منها نافع من رداءة التنفس. فمن أراد استعمالها
لاحدار البطن، فيخلط مع الشربة منها من الملح ضعفها، ومن الأثمد (3) مقدار ما يغير لونها تغييرا
صالحا، ويعمل منه حبا على مثال الكرسنة، ويشربه بماء حار. ومن أراد استعمالها للقئ، فيدفها بماء
ويلطخها على المواضع التي تلي اللسان والحنك بريشة. فإن كان القئ يعسر على صاحبها، فيدفها بزيت
أو بدهن سوسن ويلطخها على المواضع التي تلي اللسان والحنك، ولا ينام عليها. فإن أشرف القئ على
صاحبها، فيشرب شرابا ممزوجا بزيت، فإن سكن القئ وإلا فيشرب سويق شعير بماء بارد أو بماء ممزوج
بخل ويتناول من الفاكهة ما يقوي المعدة. ومن فعل هذه العصارة أيضا أنه إذا استعط بها مع اللبن،
نفعت من اليرقان الأسود. وإذا تحنك بها مع زيت عتيق أو عسل أو مع مرارة ثور، نفعت من الخناق
منفعة قوية. وإذا تحملتها الامرأة، أدر الطمث وطرحت الأجنة.
ومن الناس من يغش الردئ من هذه العصارة بعصارة القثاء الريفي وشئ من النشاستج ليشابهها
بعصارة الخالصة (4) في بياضها وخفتها. وأما أصل هذا النبات وأغصانه، فإنها إذا طبخت وتمضمض
بمائها، نفعت من وجع الأسنان العارض من الرطوبة والرياح الغليظة. وإذا استعملت يابسة مسحوقة،
نقت البهق والأوساخ العارضة في الوجه والآثار السود العارضة من اندمال القروح ونفعت من القوابي
والجرب المتقرح.



(1) ويقال له أيضا: الغمام.
(2) الصلاية: مدق الطيب.
(3) هو حجر الكلى.
(4) غير المغشوشة.
357
في الخيار
وأما الخيار، فهو أبرد وأغلظ وأثقل من القثاء الريفي لان برودته في آخر الدرجة الثانية، وبرودة
القثاء في وسطها. ولذلك صار الخيار أشد تطفئة وتبريدا. ومن قبل ذلك صار فعله في توليد البلغم الغليظ
والاضرار بعصب المعدة وتفجج الغذاء أكثر من فعل القثاء، لأنه أثقل وأبعد انهضاما وأكثر إتعابا للمعدة.
وإذا عسر انهضامه وبعدت استحالته، تولد عند الخلط الغليظ البارد السمي، لان سائر الفواكه إذا عسر
انهضامها وبعدت استحالتها، تعفنت وولدت خلطا رديئا مذموما شبيها بكيفية الأدوية المسمومة. وأسبقها
إلى ذلك وأخصها به الخيار، لأنه أعسر انهضاما بالطبع. والمختار منه ما كان جسمه صغيرا وحبه رقيقا
غزيرا متكافئا. وأفضل ما يؤكل منه لبه فقط لأنه أسرع انهضاما وأسهل انحدارا.

358
في القرع
وأما القرع فبارد رطب في الدرجة الثانية، يغذو غذاء بلغمانيا. ولذلك صار محمودا لمن كان مزاجه
حارا، ومذموما لمن كان مزاجه باردا. إلا أن صلاحه لمن كان مزاجه صفراويا أكثر لمن كان مزاجه (1)
دمويا. من قبل أن رطوبته تولد بلة في المعدة بها يرطب المزاج ويقطع العطش. وعلى هذا الوزن والقياس
يكون إضراره بمن كان مزاجه بلغمانيا أكثر من إضراره بمن كان مزاجه سوداويا. والأفضل لمن كان مزاجه
محرورا وبخاصة من كان دمويا، أن يطبخوه مع السفرجل ويطيبوه بماء الرمان المز وماء الحصرم وماء حماض
الأترج ودهن اللوز أو الزيت الانفاق. ومن كان مزاجه باردا فالأفضل أن يسلقه بالماء والملح، ويرمى ماؤه
ويستعمله بالخردل والفلفل والسذاب والكرفس والنعنع لان استعماله بمثل هذه الأبازير الحارة يفيده قوة تولد
الخلط الحار المسكن. واستعماله بالسفرجل وماء الحصرم وماء الرمان الحامض وحماض الأترج يفيده قوة على
تسكين الحرارة والالتهاب وتقوية المعدة.
ومن منافعه (2) على سبيل الدواء، أنه إذا لطخ بعجين وشوي في الفرن أو في التنور، واستخرج ماؤه
وشرب ببعض الأشربة المطفئة، سكن حرارة الحمى الملتهبة وقطع العطش (3)، وغذى غذاء حسنا. وإذا
شرب بخيار شنبر وترنجبين وبنفسج مربى، أحدر صفراء محضة. وإذا طبخ القرع بجملته وشرب ماؤه
بشئ من عسل وشئ من نطرون (4)، أحدر بلغما ومرة معا. وإذا أخذ ودق وعمل منه ضماد على يافوخ
الصبيان، نفع من الأورام الحارة العارضة في أدمغتهم، لأنه يسكن لهيبها ويقمع حدتها. وإذا عصرت
جرادته (5) وخلط ماؤها بدهن ورد وقطر منه في الاذن، نفعت الأورام الحارة التي فيها. وإذا استعط بمائه
مع دهن الورد، نفع من أوجاع الفم واللسان المتولدة من حرارة. ومن خاصته الاضرار بأصحاب علل
القولنج لأنه لقلة إزلاقه وتليينه للتفل، يطفو في أعلى البطن ويستحيل بسرعة ويفعل فعل حسو الشعير في
أصحاب القولنج من الفساد.



(1) في الأصل: صلاحه.
(2) في الأصل: منافعها.
(3) بعدها في الأصل (وقطع) ثم فراغ مقدار كلمة. ويبدو أن انقطاع في السياق، بل ثمة تكرار لسهو من الناسخ. وقد أورد ابن
البيطار في جامعه هذا النص كما هو مثبت.
(4) هو البورق الأرمني.
(5) الجرادة: ما جرد وقشر من الشئ.
359
الباب في البقول
في الخس
فأما الخس فيكون على ضربين: لان منه الريفي ومنه البري. فأما الريفي فإنه وإن كان الغالب على
مزاجه البرودة والرطوبة، فإن برودته ليست في الغاية لأنه لو كان في الغاية على ما في الخس من الخاصية في
إخدار الحس، لما أمكن أكله، ولخرج من حد ما يغتذى به إلى حد الأدوية السمية، ولا سيما ما كان منه
في آخر زمانه وقد عصا وتولدت فيه اللبنية المعروفة بالأفيون. ولذلك صيرت الأوائل برودته في الدرجة
الثانية ومثلتها ببرودة ماء الغدران، لان ماء الغدران أقل برودة من ماء الأنهار والخلجان لتمكن حرارة
الشمس في ماء الغدران ووصولها إلى عمقه لقلته ومخالطة بخار الأرض له لقربه منها ومجاورته للحمأة فيها.
ولما كان الخس في برودته ورطوبته في غاية التوسط والاعتدال، صار الدم المتولد عنه أفضل وأحمد من الدم
المتولد عن سائر البقول، لان سائر البقول تولد دما يسيرا مذموما لكثرة رطوبتها. والخس يولد دما ليس
باليسير ولا بالردئ وإن لم يكن في الغاية من الجودة، لأنه في الجملة مائل إلى الرطوبة وإن كان هذا لا
يحطه عن مرتبة ما هو محمود الغذاء، إذ لم ننسبه إلى الرداءة إلا من هنا فقط، أعني من جهة رطوبته.
ومن قبل ذلك صار أكله بحاله التي يقلع بها من الأرض أفضل من أكله بعد غسله بالماء، لان الماء يزيد في
رطوبته ويقوى إضراره بالمعدة. وكذلك يفعل الماء بسائر البقول إذا غسلت به، لأنه زائد في رطوبتهما
وفسادهما. إلا أن الخس في الجملة سريع الانهضام مدر للبول دابغ للمعدة لتسكينه للذع العارض فيها من
حدة المرة وحرافتها. ولذلك صار مسكنا للعطش مطفئا لحدة الدم والتهابه متى لم يكن التهابه من شرب
الشراب، لان التهاب الدم العارض عن شرب الشراب، الخس زائد فيه بالعرض لا بالطبع لأنه يفجج
الشراب ويمنع من كمال هضمه. وإذا تفجج الشراب ولم ينهضم، زاد في غليان الدم وفورانه. ولذلك
صار أخذ الخس بعد شرب الشراب، أو بين شرابين، مذموما. وإذا استعمل على غير الشراب ولا امتلاء

360
من المعدة، فعل بطبعه وسكن الالتهاب والحرارة وجلب نوما محمودا وأزال الصداع الصفراوي والدموي.
وإذا عمل منه ضماد (1) وحمل على الجبين والأصداغ، فعل مثل ذلك أيضا.
والمسلوق من الخس، والمطبوخ منه أيضا أفضل من الني لان النار تضعف قوة لبنه المعروفة
بالأفيون، وإن كان المسلوق أسبق بالفضل، لان قوة لبنه بجملتها تزول عنه في الماء الذي يسلق به
ويرمى. ولذلك صار ما كان من الخس في أول نباته أو قريب من ذلك أفضل مما قد عصا وغلظ وتولد فيه
اللبن، لان ما كان منه قريبا من أول نباته قبل أن يتولد فيه اللبن، كان أنفع للمعدة وأقوى على الزيادة في
المني واللبن جميعا. والسبب في منفعته للمعدة تسكينه لحرها والتهابها بفضل رطوبته الطبيعية واعتدال
برودته. والسبب في زيادته في المني واللبن، زيادة غذائه على سائر البقول وتوليده الدم المحمود، إلا أن ليس
له في إطلاق البطن ولا في حبسها تأثير بين، كأنه متوسط (2) بين ذلك، من قبل أن ليس فيه من الملوحة ولا
الحرافة ولا الجلاء ما يقوى به على إطلاق البطن ولا له أيضا من القبض والعفوصة ما يقوى به على حبس
البطن. فإذا عصى وتولد فيه اللبن، قلت رطوبته واستفاد مرارة يقوى بها على تفتيح السدد والنفع من ذوات
السموم. غير أن الدم المتولد عنه وهو بهذه الحال مذموم جدا قريب من الدم المتولد عن الخس البري المعروف
بالمزورية. ولذلك صار الاكثار منه إذا كان كذلك رديئا لأنه يولد ظلاما في البصر ويفسد النطفة.
أما إظلامه للبصر فلانه يخدر الحس ويطفئ نور القوة الباصرة بالافيونية التي فيه. وبهذه القوة أيضا
صار مفسدا للمني لأنه يطفئ حرارته الغريزية ويخمدها. ومن قبل ذلك صار بزر الخس إذا شرب، قطع
المني ونفع من كثرة الاحتلام. وأما ورق الخس فإنه إذا عمل منه ضماد، نفع من الحمرة وجميع الأورام
الحارة إذا كانت حرارتها ضعيفة، لان برودة الخس لضعفها لا تفي بتبريد الحرارة إذا كانت (3) حرارة
قوية.



(1) في الأصل: ضمادا.
(2) في الأصل: متوسطا.
(3) (إذا كانت) في الأصل مضافة بالهامش وهي تعرضت لطمس جزئي.
361
في الخس البري
المعروف بالمروية
أما الخس البري فهو في شكله وصورته شبيه بالخس الريفي إلا أن ساقه أكبر وورقه أرق وأخشن
وخضرته أقل لقلة رطوبته بالطبع. ويدل على ذلك كثرة مرارته ويبس عفوصته. ولذلك انحرفت برودته
عن برودة الخس البستاني إلى الحرارة قليلا، وصار كأنه متوسط بين الدرجة الأولى من البرودة والدرجة الأولى
من الحرارة، وصارت منافعه كمنافع الغافت (1). وأما لبنه فإن فيه شبها يسيرا من قوة لبن الخشخاش
الأسود، إلا أنه أضعف فعلا منه كثيرا لانحرافه عن البرودة قليلا، ولما بينهما من الاشتباه في الرائحة واللون
واليسير من القوة، صار من الناس من يغش لبن الخشخاش الأسود به.
ولديسقيريدس في لبن الخس البري قول قال فيه: إنه إذا شرب منه وزن نصف درهم بماء الخس
الريفي الممزوج بالخل، أسهل كيموسا نيا. وإذا ديف بلبن أم جارية وقطر في العين، نفع من القروح
العارضة فيها.
قال إسحاق: قد يمكن أن يفعل لبن هذا الخشخاش مثل هذا متى كان الفضل سليما من الحرارة
والحدة بعد أن تكون المادة قد أخذت في النقصان وقاربت الفناء. وأما متى كان في الفضل شئ من الحدة
وكانت المادة بعد في الزيادة والصعود، فإن الخس من أضر الأشياء بها، لأنه يحقن البخارات ويمنع من
تحليلها. وإذا ازدحمت البخارات في باطن العين وحميت هناك، أحرقت الحجاب العيني وأحرقت الحجاب
القرني ضرورة. ومن خاصة لبن الخس البري أنه إذا شرب، جلب النوم ونفع من لسع العقارب
والرتيلاء. وقد يقال أنه يدر الطمث بمرارته اليسيرة وتفتيحه، إلا أن ذلك ليس بوثيق فيه لاخدار الحس.
وأما بزر الخس البري فيفعل في إفساد المني وقطع الاحتلام والمنع من شهوة الجماع ما يفعله بزر الخس
البستاني. وماؤه يفعل مثل ذلك أيضا إلا أن فعله أضعف.



(1) حشيشة ورقها شبيه بورق الشهدانج.
362
في الهندباء
أما الهندباء فهو على ضربين: لان منه الريفي، ومنه البري المعروف بالطرخشقوق (1). فأما الريفي
فمؤلف من قوى مختلفة لأنه مركب من مرارة وعفوصة وتفاهة، إلا أنه على ضربين: لان منه الشتوي ومنه
الصيفي. فأما الشتوي فإن التفاهة على طعمه أغلب، لأنه أقل مرارة وعفوصة لفضل برد الزمان
ورطوبته. ولذلك صار ورقه أنعم وأرطب وأعرض وأشبه بورق الخس الريفي، إلا أنه دون الخس في
اللذاذة، لان فيه خشونة ومرارة يسيرة. ولذلك صارت برودته في آخر الدرجة الأولى أو في أول الثانية.
وأما الرطوبة فإن قوما وصفوه بها ونسبوه إليها لاكتسابه ذلك في الماء. وأما عند البحث والامتحان، فإن
الذي يظهر منه أنه إلى اليبس أميل لمرارته وعفوصته.
ومن فعله على سبيل الدواء أنه إذا عمل منه ضماد (2) على المعدة، قواها ونفع من الخفقان
الصفراوي. وأما الصيفي فإن في مرارة طعمه وخشونة ورقه دلالة بينة على أن برودته أقل ويبسه أكثر،
كأن برودته في أول الدرجة الأولى ويبسه في وسطها. ولذلك صار الدم المتولد عنه أذم وأردأ من الدم
المتولد عن الشتوي. ولجالينوس في هذا فصل (3) قال فيه: إن ما كان من الهندباء والخس أشد مرارة وأكثر
خشونة، فإنه على سبيل الغذاء أذم لان الدم المتولد عنه أقل جودة. وأما على سبيل الدواء فإنه أفضل لأنه
أكثر تقوية وأشد تفتيحا للسدد، وبخاصة سدد الكبد. فإذا سلق هذا النوع من الهندباء وأكل بالمري
والزيت كان أقل لضرره. وإذا أكل بعد سلقه بالخل، كان أكثر لتقويته للمعدة وحبسه للبطن. وإذا
عصر ماؤه وأغلي ونزعت (4) رغوته وشرب بسكنجبين، فتح السدد ونقى الرطوبات العفنة ونفع من
الحميات المتطاولة.



(1) وروي: طرشقوق، طرخيشقوق.
(2) في الأصل: ضمادا.
(3) في الأصل: فصلا.
(4) في الأصل: نزع.
363
وأما الهندباء البري المعروف بالطرخشقوق فبارد في أول الدرجة الأولى، يابس في آخرها، أو في أول
الثانية. ولذلك صار فيه قبض يقوى به على تقوية المعدة ودبغها. ومن خاصته أنه إذا أكل أو شرب ماؤه،
نفع من لسع العقارب. وإذا عمل منه ضماد (2) وحمل على موضع اللسعة فعل مثل ذلك أيضا. وأما أصل
هذا النبات فإنه إذا شرب، نفع من لسع الأفاعي. وإذا سحق بالمر (1) وألطخ على فتيلة كتان وتحملته
المرأة، أدر الطمث. وإذا غرز أصل هذا النبات بإبرة، خرج على الإبرة رطوبة يلصق بها الشعر النابت في
أشفار العين. وقد يستخرج من أغصان هذا النبات صمغة في صورة المصطكى ويلصق بها شعر العين
أيضا. وقد يدق أصل هذه الشجرة ويعجن بعسل ويقرص ويرفع ويؤخذ منه القرص بعد القرص ويذاب
بماء ونطرون ويطلى على البهق فإنه ينقيه.



(1) في الأصل: ضمادا.
(2) المر: صمغ شجرة شبيهة بالشوكة المصرية.
364
في الكرفس
الكرفس نوعان: لان منه الريفي، ومنه البري. والريفي على ضربين: لان منه النابت بالمربى،
ومنه ما ليس بمربى ويعرف بالبستاني. فأما المربى النابت على المياه فهو أقل حرارة ويبسا من البستاني
لاكتسابه ذلك من الماء. ولذلك صار أسرع انهضاما وأقل إضرارا بالمعدة وأبعد من حبس البطن وأوفق
للمحرورين. ومن منافعه على سبيل الدواء أنه إذا عمل منه ضماد (1) مع لباب الخبز وحمل على المعدة،
سكن الالتهاب العارض لها. وإذا عمل على الثديين والعينين، نفع من الأورام الحارة العارضة فيها.
ولديسقيريدس في مثل هذا قول قال فيه: وأما النبات المسمى أوسالس يعني الكرفس النابت على
الماء فهو أعظم نباتا وأنعم جسما وأوسع ورقا وأرطب وألذ طعما من الكرفس البستاني. ولذلك صار
تجفيفه للرطوبات أقل وحبسه للبطن أضعف، وذلك لقلة حرافة طعمه وزيادة رطوبة جسمه، إلا أن قوته
قريبة من قوة الكرفس البستاني، فإن في قوة مرارته وظهور حرافته ما دل على أن حرارته في أول الدرجة
الثالثة، ويبسه في وسطها. ولذلك صارت رائحته تفوق روائح البقول المشاكلة له، وصار أكله نيا
ومطبوخا مفتحا للسدد ومدرا للبول وحابسا للبطن. ومن خاصته أنه بتفتيحه يطرق للفضول ويجذب إلى
المعدة والرأس والأرحام رطوبات حادة فضلية. ولذلك صار مضرا بأصحاب الايليسما وبالأجنة ويجذب التي في
الأرحام، من قبل أن الفضول إذا انحدرت إلى الأرحام، اختلطت بغذاء الجنين وولدت في بدنه رطوبات
حاده عفنة من جنس الطواعين.
ولجالينوس في الكرفس قول (2) قال فيه: إن المرأة الحاملة (3) إذا أدمنت في وقت حملها على أكل
الكرفس، تولد في بدن الجنين بعد خروجه من الرحم بثور رديئة وقروح عفنة. وقال روفس: وليس



(1) في الأصل: ضمادا.
(2) في الأصل: قولا.
(3) إذا حملت امرأة الولد فهي حامل وحاملة.
365
ينبغي أن يمدح الكرفس على سبيل الغذاء لأنه يبعد من تنقية المعدة لكثرة ما يجذب إليها من الرطوبات
الرديئة. ولهذه الجهة صار مغثيا مهيجا للقئ غير محمود في المعونة على الهضم. فإذا جاد هضمه، حبس
البطن وفعل بزره في درور البول وفى جميع ما ذكرنا، أقوى من فعل ورقه كثيرا. وفعل أصله أقوى من
فعل بزره. وللفاضل أبقراط في الكرفس فصل قال فيه: وأما ورق الكرفس فإن معونته على درور البول
أكثر من معونته على إطلاق البطن. وأصله وعروقه أكثر إطلاقا للبطن من ورقه لان أصله يفعل على سبيل
الدواء وورقه على ما فيه من الحرافة والتلطيف بعيد الانهضام والانحدار لجذبه الرطوبات إلى المعدة.
ولذلك وجب أن لا يقدم أكله، لان أكله بعد الطعام أوفق كثيرا. وإذا أكل الكرفس مع الخس، أكسبه
ذلك جودة واعتدالا ولذاذة وصيره قريبا من الكرفس المربى لما في الخس من البرودة والرطوبة وليانة الطعم،
لان طعمه غير قوي. وما كان من الأغذية غير قوي الطعم فإنه إذا أكل مع غذاء له حرافة مثل الكرفس
والجرجير والباذروج (1) الحريف، تولد بينهما طعم لذيذ معتدل.
وقال ديسقيريدس إن الكرفس إذا طبخ بأصله وشرب ماؤه، نفع من نهش الهوام، ومن شرب
الأدوية القتالة وشرب المرداسنج (2)، حلل (3) الرياح والنفخ وهيج القئ وعقل البطن. وبزر الكرفس أدر
للبول وأحبس للبطن من ورقه. وقد ينتفع به في أخلاط الأدوية المسكنة (4) للأوجاع وأدوية السعال
والأدوية (5) المانعة لضرر ذوات السموم. ومن خاصة بزر الكرفس الاضرار بمن به صرع. وزعم بعض
الأوائل أن الكرفس الريفي والجبلي جميعا مضران بكل مسموم لأنهما يطرقان للسم ويوصلانه (6) إلى القلب
بسرعة. قال إسحاق: برهان هذا ظاهر في الكرفس وبين من فعله وبخاصة إذا تقدم الكرفس قبل الدواء
المسموم، أو كان بعده بيسير لان الكرفس يفتح المجاري ويطرق للسم ويوصله إلى القلب بسرعة، إلا أنه
إذا أخذ بعد أن تضعف قوة السم وتخلق (7)، كان له قوة تنشفه وتنقيه وتدفع ضرره.
* * *
في الكرفس البري
وأما الكرفس البري فحرارته ويبسه في آخر الدرجة الثالثة لان قوته قطاعة مدرة للبول والطمث،
محللة للرياح والنفخ. وأنفع ما فيه بزره لان قوة قضبانه وورقه وإن كانت قريبة من قوة بزره، فإنها



(1) ريحانة معروفة، وتعرف أيضا بالحوك أو حبق القرنفل.
(2) هو المرتك. يعمل من الرصاص، ومنه ما يعمل من الفضة.
(3) في الأصل: وحلل.
(4) في الأصل: المسكن.
(5) في الأصل: وأدوية.
(6) في الأصل: ويوصلان.
(7) أي بلي واضمحل.
366
أضعف كثيرا، ويستدل على ذلك من حرافة البزر، وقوة مرارته. ولذلك صار البزر نافعا من الاستسقاء
وأدوار الحميات العفنة وأوجاع الكلى والمثانة، لأنه يفتح مسام الجلد ويخلخل المجاري ويلطف الفضول
ويخرجها بالبول والعرق جميعا. وإذا تحملته المرأة أدر الطمث وأخرج المشيمة وأسقط الأجنة. وإذا شرب،
نقى من الأضلاع والصدر الكيموسات الرديئة الغليظة، وحلل رياح القولنج وفتح سدد الكبد والأرحام
وحلل أورامها بدرور البول والطمث.
وقال بعض الأوائل أنه إذا طلي على برص الأظافير والجرب والبهق الأبيض، نقاه. وإذا حمل على
الثواليل، قلعها. وإذا حمل على داء الثعلب، أنبت الشعر فيه. وهذا الفعل كله بثمرته لأنها أقوى من
الأصل والورق. وأما الأصل فإنه إذا جفف وسحق واشتم، هيج العطاس لشدة يبسه. وقول
ديسقيريدس في الكرفس البري قال فيه: إن الكرفس البري على ضروب: لان منه نوع يسمى أورسالس
أي الكرفس الجبلي لأنه ينبت في الجبال وله ساق طوله نحو من شبر يخرج من أصل دقيق. وعلى الساق
أغصان صغار ورؤوس مثل رؤوس الفربيون (1)، وقال قوم مثل رؤوس الكزبرة، إلا أنها أدق قليلا وفيها
ثمرة مستطيلة شبيهة بالكمون. وقوة هذه الثمرة إذا شربت بالشراب، أدرت الطمث ونفعت من وجع
الجنبين وحللت رياح المعدة والمعاء ونفعت من الأمغاص العارضة من الرياح الغليظة.
ومنه نوع ثان يسمى لتولين (2)، ومعناه الكرفس الصخري، لأنه ينبع في الأماكن الصخرية وسماه
قوم المقدونس (3)، لأنه ينبت في بلدة يقال لها ماقدونيا، وهو شبيه بالنانخواه (4)، إلا أنه أشد حرافة وأذكى
رائحة لان فيه عطرية، غير أن قوته أضعف من قوة النوع الأول المسمى أوداساليس (5). وإذا شرب
بشراب العسل، أدر البول والطمث ونفع من أوجاع الجنبين وأوجاع الكلى والمثانة والأمغاص العارضة من
الرياح الغليظة، وحلل رياح المعدة وسائر البطن، وبخاصة رياح المعاء المعروف بالقولون (6).
ومنه نوع ثالث يسمى أقوسالس (7) ومعناه الكرفس العظيم، لان نباته أعظم من نبات الكرفس
البستاني وورقه أوسع من ورقه. وفى لون ورقه مع الخضرة حمرة يسيرة، وله حبة على رأسه، فإذا
تفتحت، ظهر منها زهر وبزر أسود مستطيل الشكل، مركز، مصمت، له طعم حريف ورائحة عطرية.
وأصل هذا النبات أبيض طيب الرائحة والطعم، وأكثر نباته في المواضع المظللة بالأشجار وعند السواقي
والآجام. وقد يستعمل أكله كما يستعمل أكل الكرفس البستاني. ويؤكل أصله وقضبانه وورقه نية



(1) ويقال أيضا: أفزبيون. صمغ يعرف باللبانة المغربية.
(2) كذا بالأصل. وفى جامع ابن البيطار عن ديسقوريدوس: بطراسالينون.
(3) كذا بالأصل. وفى الجامع عن ديسقوريدس: الماقدونوي.
(4) نبات معروف، أنفع ما فيه بزره، واسمه الفارسي هذا يعني تطييبه للخبز.
(5) رسمه قبل قليل (أورسالس). وروي: أوسالس.
(6) في الأصل: بالقولن.
(7) وروي: أقوسالينون.
367
ومطبوخه، وربما طبخ مع السمك والخل، وقد يتخذونه بالملح أيضا ويؤكل (1). وبزر هذا النبات يسمى
فطراساليون. وإذا شرب بشراب العسل، أسخن المبرودين وأدر الطمث ونفع من تقطير البول. وإذا
عمل منه ضماد أو لطوخ، فعل مثل ذلك أيضا. وأصله يفعل ما يفعله بزره إلا أنه أضعف قليلا.
ومنه نوع رابع يسمى أسمرنتون (2) ومعناه المر، لان رائحته شبيهة برائحة المر وينبت كثيرا في الجبل
الذي يقال له أماتس وله ساق شبيه بساق الكرفس. وما يلي الأرض من الورق منحن، إلى خارج. وفى
الورق رطوبة يسيرة تدبق باليد. والنبات في نفسه صلب له رائحة طيبة معها حدة يسيرة، وفى طعم ورقه
بشاعة شبيهة بطعم الأدوية، ولونه إلى الصفرة ما هو، وعلى ساقه إكليل شبيه (3) بإكليل الشبت، وبزره
مستدير شبيه ببزر الكرنب (4)، ولونه أسود وطعمه حريف ورائحته كرائحة المر سواء. وأما أصله فلين
كثيرا، وعلى الأصل قشر خارجه أسود وداخله أصفر إلى البياض ما هو. وأكثر نباته في المواضع الصخرية
وعلى التلول. وقوة ثمره وأصله وفرعه قوة مسخنة. وقد يتخذ ورقه بالملح ويؤكل بالخل، فيعقل البطن.
وإذا شرب أصله، نفع من نهش الهوام وأبرأ عسر التنفس الذي يحتاج معه إلى الانتصاب، ونفع من عسر
البول. وإذا تضمد به في ابتداء الأورام البلغمانية والأورام الصلبة، حللها وبددها. وإذا دق وتحملته
المرأة، أسقط الأجنة.
وأما بزره فيدر الطمث ويخرج المشيمة وينفع من وجع الكلى والمثانة وأوجاع الطحال. ومن خاصته
أنه إذا شرب، حلل النفخ العارض في المعدة، وهيج الجشاء وجلب العرق. وبهذا صار نافعا من
الاستسقاء ومن أدوار الحميات المتطاولة.
وذكر ديسقيريدس نوعا خامسا من الكرفس يسمى سمير (5). وزعم أن بعض الناس سماه قرة
العين. وأما جالينوس فسماه جرجير الماء، وزعم أن عظمه كعظم الكرفس المربى، وساقه قائم وله أغصان
تعلوها رطوبة لزجة تدبق باليد، وورق مستدير أكبر من ورق النمام البستاني، وهو أملس شديد الخضرة
قريب من خضرة الجرجير، ولذلك نسبه جالينوس إلى الجرجير. وفى رائحته وطعمه عطرية دالة على
إسخانه، ولذلك قال جالينوس وبحسب رائحة هذا النبات وطعمه من العطرية، كذلك قوته في
الاسخان. ومن قبل ذلك صار ملطفا (6) للفضول مدرا (6) للبول مفتتا (6) للحصى المتولدة في الكلى،
محدرا (6) لدم الطمث مسقطا (6) للأجنة. وزعم ديسقيريدس أنه إن أكل، نفع من قرح الأمعاء.



(1) في الهامش: وهذا النوع يسمونه البربراغسس.
(2) وروي: سمريتون.
(3) في الأصل: شبيها.
(4) بقل يشبه السلق. ومنه ما يسمى بالقنبيط.
(5) كذا في الأصل.
(6) في الأصل: بالرفع.
368
في النانخواه
أما النانخواه فمن الناس من سماه (كومثين أيثونيغون) (1) ومعناه كمون حبشي، ومنهم من سماه
(كومتين باسليقون) ومعناه كمون ملوكي، إلا أنها في طبعها وصورتها كطبع الكمون وصورته، من قبل
أنها أصغر حبا وأصلب جسما وأكثر اكتنازا وأشد إسخانا وتجفيفا من الكمون، لأنها في طبيعتها وشكلها
قريبة من طبيعة بزر الكرفس وشكله، لان حرارتها ويبسها في الدرجة الثالثة، وحرارة بزر الكرفس ويبسه
كذلك.
وأما الكمون فإن حرارته ويبسه في الدرجة الثانية، وقد يستدل على ذلك من قوة حرافة النانخواه
ومرارتها. ولذلك صارت إذا شربت بالشراب نفعت من نهش الهوام وأدرت الطمث ونفعت من عسر
البول العارض من الرطوبات الغليظة.
ولذلك صارت الأوائل تخلطها في الأدوية المضادة للفضل الموجب لعسر البول. وإذا خلطت بالأدوية
النافعة من البهق والبرص، قوت فعلها وزادت في تأثيرها. وإذا تدخنت بها النساء مع الراتينج، نقت
الأرحام. وإذ أكلت بعسل، قتلت الدود وحب القرع وحللت الرياح ونفعت من الأمغاص العارضة من
الرطوبات الغليظة وأذابت الحصى ونقت والكبد والأوردة (2) والكلى والأرحام بدرورها للبول والطمث. وإذا
عمل منها ضماد (3)، قلعت كمنة (4) الدم العارضة تحت العين. فإن أكثر الانسان من شربها أو تلطخ
بمائها، غيرت لون البدن وأفادته صفارا.



(1) في الجامع لابن البيطار: قومسون اليونيقون.
(2) في الأصل: الأوراد.
(3) في الأصل: ضمادا.
(4) الكمنة: ما يتركه الرمد في العين إذا ساء علاجه، أو ورم في الأجفان، أو قرح في المآقي، أو يبس وحمرة، أو أكال يحمر
له الجفن فتصير العين كأنها رمداء.
369
في الجرجير
أما الجرجير فيسخن إسخانا قويا ويرطب باعتدال لان حرارته في الدرجة الثانية ورطوبته في الأولى.
ومن شأنه إذا أكل وحده، ولد صداعا ورياحا نافخة. ومن قبل ذلك صار زائدا في الباه (1) ومقويا
للانعاظ. أما زيادته في المني والباه فلفضل حرارته ورطوبته. وأما تقويته للانعاظ فلكثرة رياحه ونفخه.
إلا أنه لما كان أكله (2) وحده مولدا للصداع، وجب أن يجتنبه من كان مزاجه صفراويا أو دمويا (3)، ولا
يأكله إلا مع الخس والهندباء والبقلة الحمقاء، وإلا لم يؤمن عليه أن يحمي الأبدان بحرارته ويفسد الهضم
ويعين على حبس البطن ويجفف رطوبته ويحقن (4) المني ويمنع من شهوة الجماع. وأما من كان مزاجه باردا،
فإنه إذا أخذه وحده، أعان على الهضم ولين البطن وزاد في المني والباه وقوى الانعاظ للأسباب التي قدمنا
ذكرها، أعني حرارته ورطوبته وكثرة رياحه ونفخه.
وزعم ديسقيريدس في الجرجير أنه مدر للبول. وأنكر ذلك أبقراط، وقال: إن الجرجير يطلق ولا
يدر البول. وليس بمنكر أن يكون القول كما قال أبقراط، إذ كان ليس معه تفتيح ولا تطريق.
وأما بزر الجرجير فغير مولد للنفخ، لان ليس معه رطوبة. ولذلك صار إذا استعمل في الطبيخ، في
عداد الأبازير، فعل في الزيادة في الباه بفضل حرارته، من غير أن يزيد في المني ولا يعين على الانعاظ.
ذلك لقلة رطوبته وضعف رياحه ونفخه. وإذا طلي بزر الجرجير على الكلف، نقاه. وقد يؤخذ بزر
الجرجير فيدق ويعجن بلبن ويقرص أقراصا ويجفف ويخزن ويستعمل عند الحاجة إليه. وقد يفعل بالجرجير



(1) الباه والباهة: النكاح. وقيل الحظ من النكاح
(2) قبلها في الأصل: (مزاجه) ملغاة بشطبة.
(3) في هامش الأصل: ص: دميا.
(4) (ويحقن) مضافة في الهامش.
370
أيضا مثل ذلك ويخزن.
وزعم ديسقيريدس أن من الجرجير نوعا (1) آخر ينبت غربي بلاد الخوز. وزعم بعض الأوائل أن من
الجرجير نوعا (1) يعرف بجرجير الماء وحرارته في الدرجة الأولى وقوية محللة مفتحة مدرة للبول والطمث مفتتة
للحصى. ويستعمل بزره عوضا (2) من الخردل لأنه أقوى حرافة وأشد تفتيحا من الجرجير البستاني. ولذلك
صارت له قوة مدرة للبول.



(1) في الأصل: نوع.
(2) في الأصل: عوض.
371
في الكراث
أما الكراث فيكون على ثلاثة ضروب: لان منه الريفي وهو الكراث على الحقيقة، ومنه الشامي
المعروف بالقفلوط، ومنه البري. فأما الريفي فحار في وسط الدرجة الثالثة يابس في آخرها. ولذلك صار
فيه زيادة قبض يقوى به على قطع الرعاف (1)، إلا أنه على سبيل الغذاء مذموم ردئ جدا، مولد للرياح
والنفخ، مضر بالمعدة بتلذيعه لعصبها لحرافته وحدته. ومن خاصته اللازمة له أنه يولد بخارات مظلمة من
جنس السوداء تترقى إلى الرأس، ويحدث في البصر ظلاما ويولد أحلاما رديئة مفزعة. ولذلك صار
الاقلال منه لكل مزاج أحمد. ومن كان مزاجه ممرورا أو كان به هوس (2)، أو كان في رأسه (3) شدة، فمن
الواجب أن يحذره أصلا. كما أنه يجب على من كان بدنه جافا أن يحذر أكل الثوم ويتوقى أكل البصل
أيضا، لان البصل وإن كان في طبيعته رطبا، فإن رطوبته غير مرطبة لخفتها ورقتها وسرعة انحلالها
وخروجها بالبول والعرق جميعا. ومما يمنع ضرر الكراث أن يؤكل بعده الهندباء والخس والبقلة الحمقاء،
لان ذلك مما يزيل بعض حرارته ويقمع حدتها. وأفضل من ذلك أن يسلق بالماء العذب سلقا جيدا
ويغسل بعد ذلك مرات، ويؤكل بالخس والهندباء لان ذلك مما يزيل عنه حدته وحرافته وتلذيعه، ويصيره
زائدا في الباه للرطوبة التي يكتسبها من الماء الذي سلق به.
ومن منافعه على سبيل الدواء أنه إذا أكل، نقى قصبة الرئة من الرطوبات الغليظة وفتح سدد الكبد
وسكن الجشاء الحامض. وإذا خلطت عصارته بخل ودقاق الكندر ودهن ورد واستعط بها، قطعت
الرعاف ممن كان مزاجه باردا أو معتدلا. وإذا قطر من هذا الدواء على هذا التركيب في الاذن، سكن
أوجاعها من البرد والرطوبة، وإذا دق جرم الكراث وعمل منه ضماد على موضع البواسير، نفع من أورامها
العارضة من الرطوبة.



(1) الرعاف: دم يسبق من الانف.
(2) في الأصل: هوسا.
(3) في الأصل: راسده.
372
وأما أصل الكراث فمن خاصته أنه إذا طبخ اسفيذباجا بدهن القرطم أو بدهن لوز أو دهن سيرج،
هيج شهوة الجماع وأطلق البطن ونفع من القولنج العارض من الرطوبة الغليظة والبلغم اللزج. وأما بزر
الكراث فإنه أقوى فعلا من ورقه وساقه كثيرا، إلا أنه أشد يبسا. ولذلك صار إذا شرب منه وزن درخمين
مع مثله حب الآس، قطع الدم المنبعث من الصدر، إلا أنه مضر بالحلق. وإذا قلي وشرب مع حرف (1)
مقلي، نفع من البواسير وعقل البطن وحلل الرياح العارضة في الأمعاء.
وأما الكراث الشامي المعروف بالقفلوط فحرارته ويبسه أقل من حرارة الكراث الريفي ويبسه، لان
حرارته في أول الدرجة الثالثة، ويبسه في آخر الدرجة الثانية. ولذلك صار ملينا للبطن مدرا للبول
والطمث، وإن كان غذاؤه أيضا مذموما لان جوهره جوهر غليظ بطئ الانهضام مهيج للرياح والنفخ،
مضر بالمعدة والكلى المتقرحة والمثانة الكذلك، ومولد للبخارات المظلمة للبصر المولدة للأحلام الرديئة
المفزعة، غير أن الكراث الريفي أخص بذلك منه لأنه أشد حرافة واحترافا وأقرب من توليد البخارات
السوداوية.
وإذا أكل الشامي نيا، كان أكثر لغذائه وأشد لاضراره بالكلى والمثانة. وإذا سلق بالماء العذب
وغسل بالماء مرات، كان أقل لغذائه وأضعف لاضراره بالكلى والمثانة. وإذا طيب بعد سلقه وغسله بالخل
والمري والزيت والكمون، أسخن المعدة والكلى وزاد في المني وحرك الباه. وإذا طبخ مع حسو الشعير،
نقى الصدر والرئة من الرطوبات الغليظة. وإذا دق جرمه وعمل منه ضماد وحمل على الرحم، نفع من
انضمامه وصلابته. وورقه إذا طبخ بماء البحر وبماء ملح وجلست المرأة في مائه، فعل مثل ذلك أيضا،
لان من خاصة ورقه النفع من غلظ الأرحام وجشائها. وبزره أقوى فعلا من ورقه. وإذا شرب البزر أو
تدخن به، نفع من رياح البواسير.
ومن خاصة القفلوط في نفسه الاضرار بالحلق والأسنان وبالكلى المتقرحة والمثانة الكذلك، وإن كان
الكراث الريفي أسبق بذلك منه لقوة حرافته وتلذيعه.
* * *
في الكراث البري
وأما الكراث البري فقوته متوسطة بين قوة الكراث الريفي وقوة الثوم، لأنه أشد حرافة وأكثر جفافا
من الكراث الريفي. وهذا الحكم لازم لكل ما ينبت في الصخر والجبال على ما ينبت في البساتين
والآجام. ولذلك قال جالينوس: ولو أن أحدا (2) توهم أن شيئا متوسطا بين قوة الكراث وقوة الثوم،



(1) هو حب الرشاد: ويسمى الثفاء.
(2) في الأصل: أحد.
373
لوجد الكراث البري أخص بذلك من غيره. ويدل على ذلك قوة إحراقه، لأنه إذا حمل على البدن من
خارج، نفطه وقرحه. وما كانت هذه حاله، كان إسخانه في آخر الدرجات. ولذلك صار هذا النوع من
الكراث أشد إضرارا من غيره لان قوته قطاعة، ومن قبل ذلك، صار فعله في تلطيف الفضول الغليظة
وتفتيح السدد ودرور البول والطمث أقوى كثيرا، وبخاصة إن كان احتباس البول والطمث عن أخلاط
غليظة لزجة. ولذلك صار عصير ورقه إذا شرب أو عمل منه صوفة، أدر الطمث بسرعة. وقال
ديسقيريدس عن نبات يقال له هالفراتس أنه أسخن وأردأ للعدة وأدر للبول من الكراث، وقد يدر
الطمث أيضا. وإذا أكل وافق نهش الهوام.

374
في الباذروج
أما الباذروج (1) فحار في الدرجة الثانية، يابس في الأولى، إلا أن فيه رطوبة فضلية مكتسبة من
الماء، بها صار عسير الانهضام مولدا (2) للرياح والنفخ سريع الاستحالة إلى العفونة والفساد. ويدل على
ذلك الشاهد لأنا نجده خارجا إذا مضغ ووضع في الشمس، تولد منه العلق. وزعم ديسقيريدس أن قوما
كانوا يمتنعون من أكله كثيرا لما كانوا يرون من انتقاله إلى الفساد خارجا. ومن خاصته إذا أكل، ترقت منه
بخارات إلى الرأس وغلظت الروح البصري، وولدت في البصر ظلا وظلاما، وهذه خاصته اللازمة له.
إلا أنه إذا اكتحل بمائه المنزوع الرغوة، جفف الرطوبات السائلة، وجلا ظلمة البصر العارضة من
الرطوبة. وإذا عجن بالشراب المجلوب من جزيرة قبرس وعمل منه ضماد على العين، سكن أوجاعها.
وإذا استعط بمائه بشئ من كافور ودهن الورد، قطع الرعاف العارض للمحرورين، وإذا استعط بمائه
أيضا مع شئ من كمون، قطع الرعاف ممن كان مزاجه باردا.
وإذا أكل على سبيل الدواء، أدر البول واللبن ونقى رطوبة الرئة والصدر. وإذا عمل منه وحده
ضماد (3)، نفع من لسعة العقرب والتنين البحري. وحكى ديسقيريدس عن بلدة يقال لها لبيون (4) أن
أهلها كانوا يزعمون أن من أكل باذروجا ثم لسعته عقرب، لم يألم للسعتها. وإذا عمل من الباذزوج
ضماد (3) مع السويق المعروف بشقبرن وعجن بخل ودهن ورد، حلل الأورام الحارة. وأما فعله في حبس
البطن وإطلاقه لها، فقد اختلفت الأوائل في ذلك لان منهم من قال أنه مطلق للبطن، وأما أبقراط فقال
فيه أنه حابس للبطن.
ولعل ظانا يظن أن بين القولين مناقضة، وليس الامر كذلك (5)، من قبل أن الفاضل أبقراط



(1) ويسمى أيضا الحوك. من الرياحين.
(2) في الال: مولد.
(3) في الأصل: ضمادا.
(4) وروي: لينوى.
(5) (كذلك): مستدركة في الهامش.
375
تكلم فيه من جهة ما هو له بالطبع، لان فيه قوة مجففة غريزية لغلبة اليبس على مزاجه بالطبع. وغيره
تكلم فيه من جهة ما هو له بالعرض، من قبل أن فيه رطوبة عرضية ملينة لما فيه من الرطوبة الفضلية
المكتسبة من الماء. فإذا مازجت رطوبته العرضية حرارته الطبيعية، ولا سيما حرارة الحريف منه، تولد
عنهما قوة ملطفة ملينة. وبهذه الجهة صار متى وافى قوة البطن متهيئة لحبس ما فيها، فعل يبسه الطبيعي
وأعان على حبس البطن. ومتى وافى قوة البطن متهيئة للاطلاق، فعل برطوبته الفضلية وأعان على
الاطلاق. وأما يابسه فمجفف لا محالة.
وأما بزر الباذروج إذا شرب، وافق أصحاب المرة السوداء ونفع من عسر البول وحلل الرياح
والنفخ. وإذا دق واستنشق، قطع الرعاف والعطاس. وذكر قوم من الأوائل أنه إذا استنشق، هيج
عطاسا كثيرا. إلا أنهم زعموا أنه ينبغي للانسان إذا تعطس به، أن يغمض به (1) في وقت العطاس
تغميضا شديدا. وورقه اليابس يفعل فعل البزر، إلا أنه أضعف فعلا من البزر. وقد يعمل من
الباذروج دهن يقوم مقام دهن المرزنجوش (2) إلا أنه دونه قليلا. وزعم ديسقيريدس أنه ينوم. وصفته أن
يؤخذ الزيت المعفص - على ما أنا واصفه، وهو الذي يعمل به دهن الحناء (3) - واحد وعشرون رطلا،
ومن ورق الباذروج الطري أو زهرة عشرة أرطال وثلثا رطل، وينقع ذلك في الزيت يومين وليلتين،
ويعصر في جبيات (4) خوص ويخزن، ثم يلقى عليه الثفل زيت ثان مثل الأول ويترك فيه يومين وليلتين
ويعصر. ويسمى هذا الزيت الدهن الثاني (5). وإن أحببت أن تردد (6) في الدهن الأول الباذروج مرات
كثيرة، المعفص زيت إنفاق (7)، فيكون أضعف من الذي يعمل بالزيت المعفص.
صفة عمل المعفص: يؤخذ من الزيت الانفاق تسعة أرطال وخمسة أواق، ومن الماء مثل نصف
الزيت، ومن الدارشيشغان خمسة أرطال ونصف، ومن قصب الذريرة ستة أرطال ونصف، ومن المر
الأحمر رطل ومن القردمانا (8) ثلاثة أرطال وتسعة أواق يدق كل واحد منهما على الانفراد. ويؤخذ
الدارشيشغان ويبل بثلثي الماء المقدر المعزول ويلقى عليه الزيت ويطبخ جيدا. ثم يؤخذ المر وينقع في خمر
عتيق عطر الرائحة، ويلقى عليه بعد أن يذوب ويدق الذريرة وينخل، ويعجن الجميع جيدا. ثم يصفى
الزيت من الدارشيشغان ويلقى على المر وقصب الذريرة المعجونين بالخمر ويغلى عليه جيدا. ويؤخذ
القردمانا ويعجن بباقي الماء المعزول ويلقى على الدواء ويطبخ حتى يذهب الماء ويترك حتى يبرد ويصفى.
فهذا هو الزيت المعفص الذي يعمل به دهن الحناء.



(1) كذا في الأصل. ولعلها (عينه).
(2) ويقال: مزرنجوش ومردقوش.
(3) ويقال له أيضا دهن المفغو لاختصاص نوره باسم الفاغية.
(4) الجب: المزادة يخيط بعضها إلى بعض. وروي: حلة.
(5) في جامع ابن البيطار: الباني. ولعله تعرض للتصحيف.
(6) في جامع ابن البيطار: تجدد.
(7) المؤدى هنا: ويمكن أن يعمل هذا الدهن أيضا من الزيت انفاق لم يعفص غير أنه إذا عمل من الزيت المعفص كان أجود.
(8) هو الكراويا البري.
376
في الطرخون
أما الطرخون (1) فحار يابس في الدرجة الثالثة يجفف الرطوبات، نشاف للبلل، إلا أن فيه دهنية
يسيرة بها صار لدنا عسير الانهضام بطئ الانحدار. ولذلك وجب أن يختار منه ما كان طريا غضا قريبا
من ابتداء النبات، لان ذلك أقل لدهنيته ولدونته (2)، ويؤكل مع الكرفس، لان الكرفس يدفع ضرره
ويسهل انحداره ويجيد انهضامه.



(1) من بقول المائدة. وقيل: إن العاقر قرحا هو أصل الطرخون الجبلي.
(2) طعام لدن. غير جيد الخبز والطبخ.
377
في الرازيانج
الرازيانج على ضربين: لان منه البري، ومنه البستاني. فأما البستاني فإنه ما دام طريا أخضر (1)
فحرارته في وسط الدرجة الثانية. ويبسه في وسط الدرجة الأولى، لان فيه رطوبة فضلية مكتسبة من
الماء. ولذلك صار بطئ الانهضام مذموم الغذاء. ومن فعله على سبيل الدواء إذا دق واستخرج ماؤه
وغلي ونزعت (2) رغوته وشرب بشراب العسل وبالسكنجبين، نفع من الحميات المتطاولة ذات الأدوار وأدر
البول. وإذا أخذ ماؤه وجفف في الشمس وخلط بالاكحال، زاد في حدة البصر ونفع من نزول الماء في
العين.
وأما حبه الجاف فحار في الدرجة الثانية وأول الثالثة، يابس في الأولى. ومن خاصيته أنه زائد في
اللبن بتفتيحه للسدد وجمعه للرطوبات لقلة يبسه، لان تجفيفه لو كان قويا لكان فشاشا (3) للرطوبات، نافعا
لزيادة اللبن. ومن فعله على سبيل الدواء أنه مفتح لسدد الكبد والمثانة، مذيب للحصى، مدر
للطمث، نافع من الحميات المتطاولة المتقادمة. وإذا شرب بالماء البارد، سكن الغثيان العارض من
الرطوبة. وإذا عمل منه ضماد بعسل، نفع من عضة الكلب الكلب. وزعم بعض الأوائل أنه يدفع
مضرة الافراسيون عن الكلى والمثانة إذا خلط معه أو شرب قبله أو بعده.
وزعم ديسقوريدوس أن الرازيانج النابت في بلدة المغرب يقال له ايبيرتا (4)، يخرج منه رطوبة شبيهة
بالصمغ يفعل في إكحال العين فعلا أقوى من فعل ماء الرازيانج المدقوق المعصور. وأما الرازيانج البري



(1) في الأصل: أخضرا.
(2) في الأصل: نزع.
(3) أي مخرجا لها بسرعة. يقال: فش الضرع: حلب جميع ما فيه، وفش الناقة: حلبها بسرعة.
(4) في الجامع لابن البيطار عن ديسقوريدوس: (النابت في البلاد التي يقال لها سوريا التي تلي المغرب).
378
فمن الناس من يسميه الرازيانج الجبلي، وله حب شبيه بحب القاقلى، وأصله طيب الرائحة. وإذا
شرب، نفع من تقطير البول وفتت الحصى وأدر البول والطمث. وإذا تحملته المرأة، فعل في درور الطمث
مثل ذلك. وإذا شرب أصله مع بزره، عقلا الطبيعة ونفعا من اليرقان ومن نهش الهوام. وإذا شرب
طبيخ الورق، أدر البول إلا أنه في ذلك دون فعل البستاني، لان يبسه أقوى.
وزعم جالينوس وديسقيريدس جميعا أن من الرازيانج نوعا (1) آخر له ورق صغير دقيق إلى الطول ما
هو، يسمى مالاثرن (2)، وبزره مستدير شبيه بحب الكرسنة فيه عرض قليل، وله رائحة طيبة، وطعم
حريف، وقوته تشبه قوة الرازيانج البري إلا أن فعله أضعف قليلا.



(1) في الأصل: نوع.
(2) في جامع ابن البيطار: أقومارثون.
379
في الانيسون
ويعرف بالحلبة الحلوة
أنفع ما في الانيسون (1) بزره. وقوته حارة يابسة في الدرجة الثالثة لان فيه حرافة ومرارة تقربانه من
قوة الأدوية المعجونة، ولذلك صار مذيبا للفضول محللا للرياح والنفخ مسكنا للأوجاع، نافعا من سدد
الكبد والطحال، زائدا (2) في اللبن، مهيجا (2) لشهوة الجماع، مدرا (2) للبول والطمث والعرق. ولهذه
الجهة صار حابسا للبطن نافعا من سيلان الرطوبات إلى البطن والأرحام ومن ذوات السموم ومن الأدوية
والهوام. وإذا استنشق دخانه، سكن الصداع العارض من الرطوبة وحلل الزكام. وإذا سحق وطبخ
بدهن الورد وقطر في الاذن، نفع من الانصداع العارض في باطنها من صدمة أو سقطة عرضت لصاحبه.
ومن خاصته أنه يجذب بالطمث دما يلي البياض. وأجوده ما كان حديثا جليل الحب قوي الرائحة. وزعم
ديسقيريدس أن أفضل الانيسون ما كان نابتا في جزيرة الاقريطي وبعده المصري.



(1) هو أيضا الرازيانج الرومي والرازيانج الشامي.
(2) في الأصل: بالرفع.
380
في الحندقوقي
الحندقوقي نوعان: لان منه الريفي، ومنه البري. فأما الريفي فمعتدل المزاج لان حرارته ويبسه في
الدرجة الثانية. غير أن الخلط المتولد عنه غليظ عكر مضر بالمحرورين يكسبهم (1) صداعا ويورثهم أوجاعا
في الحلق، وهذه خاصية. ومما يدفع ضرره أن يؤكل مع الخس والهندباء والكزبرة الرطبة. ومن فعله على
سبيل الدواء أنه مدر للبول والطمث نافع من الاستسقاء وأوجاع الأضلاع والأرحام العارضة من البلغم
اللزج، ومحمود في أوجاع المعدة المتولدة عن البرد، محلل لرياحها، نافع من نهش الهوام. وإذا استعط
بمائه، نفع من الجنون. ومن يعمل منه كامخا، فينفع كمنافعه.
وحكى ديسقيريدس عن الحندقوقي المصري أن بزره يعمل منه خبزا. وأما نحن فما شاهدنا
ذلك (2). وأما الحندقوقي البري فأكثر نباته في بلاد النوبة، وبزره حار يابس في آخر الدرجة الثانية، وفيه
قوة تجلو. وذكر ديسقيريدس بقلة تسمى مديعى. وزعم اصطفن (3) أن معنى مديعى الرطبة. وذكر أن
هذه البقلة في ابتداء نباتها تشبه الحندقوقي النابت في المروج مشاكلة لأغصانه وورقه، إلا أن لها بزر له
عظم كعظم العدس مقوس مثل القرن يستعمل كثيرا في الأشياء التي يطيب بها الملح. ونباته تعلف به
المواشي. وإذا تضمد به وهو رطب، سكن آلام الأعضاء.



(1) في الأصل: يكسبهن.
(2) وقال ابن البيطار في (جامعه)، أن النبات المعمول منه الخبز (هو النبات المعروف بالبشنين عند أهل الديار المصرية..
وليس هو من الحندقوقي بشئ لا في الماهية ولا في القوة). وأعاد سبب ذلك الوهم من جهة اشتراك الاسم في اللغة
اليونانية. (أنظر مادة حندقوقي بري).
(3) ذكره ابن النديم مع جماعة من الأطباء القدماء المقلين، وفسروا كتب جالينوس وجمعوها واختصروها.
381
في النعنع
أما النعنع فثلاثة (1) ضروب: لان منه ضرب يعرف بالنعنع على الحقيقة يزرع في البساتين، وضرب
يعرف بسيسنبر، وضرب يعرف بالنمام، وأهل المغرب يسمونه المينتة. فأما النعنع على الحقيقة فهو ألطف
وأقل حرارة من الفوتنج (2) النهري، لان حرارة الفوتنج ويبسه في الدرجة الثانية، لان له قوة قابضة مع
رائحة عطرية ذكية. ولذلك صار مقويا للمعدة ومطيبا لها يعين على قوة الهضم، مسكنا للغثي العارض
من الرطوبة. وإذا شرب ورقه مع ماء النمام، نفع من الفواق (3) العارض من البرد. وإذا شرب مع ماء
الرمان المز وحماض الأترج، نفع من الفواق الصفراوي وسكن الغثي والهيضة. وإذا أخذ ماؤه الطري وماء
قضبان قلوب الكرم ومرس فيهما شئ من خمير حامض وصفي وجعل فيه شئ من سك (4) وقليل سكر
مسحوق وشرب، فعل مثل ذلك أيضا وإذا دلك بورقه اللسان، لين خشونته. وإذا عمل منه ضماد،
نفع من عضة الكلب الكلب. وإذا مسح ماؤه على الجبين والأصداغ، نفع من الصداع العارض من البرد
والرياح البلغمانية. وإذا حمل منه على الثدي الوارم من لبن تعقد فيه، أذاب اللبن وحلل الورم. وإذا
وضع منه طاقات (5) في اللبن الحليب، منعه أن يتجبن. وإذا تحملته المرأة من وقت الجماع، أذاب النطفة
ومنع الحبل، وإن كان في ذاته إذا أكل، قوى آلات الجماع بعطريته وذكاء رائحته وزاد في المني برطوبته
الفضلية المكتسبة من الماء. وقد يكون في النعنع نوع آخر بري أعظم نباتا من السيسنبر قليلا على ورقه
زغب وفى رائحته زهومة. ولذلك صار أقل صلاحا في حال الصحة من البستاني. وزعم قوم أن السيسنبر
هو النمام البري.



(1) في الأصل: فثلاث..
(2) الفوتنج أو الفوذنج.
(3) الفواق: الريح تشخص من الصدر، وسببه اجتماع جميع أجزاء المعدة لتدفع عنها ما يؤذيها.
(4) ضرب من الطيب يركب من مسك ورامك، وأجوده المتخذ من الأملج.
(5) مفردها طاقة: شعبة وهي طرف الغصن أو أطرافه المتفرقة.
382
في السيسنبر
زعم ديسقيريدس أن السيسنبر يظهر في ابتداء أمره مستدير الورق. فإذا نما وكبر، صار له تشريف
مثل تشريف الجرجير. واشتق له قوم اسم من اسم الحرف لان طعمه مشاكل لطعمه. وإذا كان رطبا،
كان إسخانه وتجفيفه في الدرجة الثانية. ولذلك صار لطيف الفعل جدا، نافعا (1) من المغص والفواق
العارضين من البرد والرطوبة، وبخاصة إذا شرب بشراب ريحاني. وإذا عمل منه لطوخ، نقى الكلف
بإذن الله.
في النمام
ويسميه أهل الغرب المينتة
النمام نوعان: لان منه الريفي، ومنه البري. فأما الريفي فيسمى باليونانية أرقلس (2) وهو اسم
مشتق من الدبيب، لان عروقه تدب وتسعى في الأرض. وأي شئ منه ماس موضعا من الأرض،
ضرب فيه عروقا. وما ينبت منه في السياجات، كان أعظم نباتا وأنمى كثيرا ورائحته شبيهة برائحة
المرزنجوش. وفعله كفعل المرزنجوش، إلا أن المرزنجوش في علل القوة أقوى كثيرا.
وأما البري فإنه لا يدب ولا يسعى في الأرض، لكنه ثابت قائم، وله أغصان رقاق تصلح لرقتها،
لفتل القناديل. وهي مملوءة ورقا (3) يشبه ورق السذاب إلى الرقة ما هي، إلا أنها أطول وأصلب. وفى
زهر النبات حرافة وطيب رائحة، وهو أقوى وأسخن وأصلب في أعمال الطب من البستاني. ولذلك صار
إذا شرب أو تضمد به، أدر الطمث والبول ونفع من المغص ومن ضرب الهوام. وإذا عمل منه ضماد،
نفع من رض العضل وأورام الكبد. وإذا طبخ بخل وخلط معه شئ من دهن ورد وحمل على الرأس،
حلل البخارات المترقية إليه ونفع من الصداع العارض منها. وإذا شرب منه أربع درخميات بخل، سكن
القئ - وفي نسخة أخرى: سكن القئ الدمي -.
وذكر ديسقيريدس أن من النمام نوعا (4) آخر ينبت في الأراضي المبورة، وهو شبيه بالنعنع إلا أنه
أعرض ورقا وأطيب رائحة، وقوته مسخنة، وإذا شرب بشراب، نفع من تقطير البول وفتت الحصى
وسكن المغص والقئ وقطع الفواق العارض من البرد والرطوبة. وإذا عمل منه ضماد نفع من لسع
الزنابير والنحل. وإذا حمل على الجبين والأصداغ، نفع من الصداع العارض من الرياح الغليظة.



(1) في الأصل: نافع.
(2) وروي: أرفلس.
(3) في الأصل: ورق.
(4) في الأصل: نوع.
383
في الجعدة
فأما الجعدة (1) فنوعان: لان منه الريفي، ومنه الجبلي. فأما الجبلي فله ساق طوله نحو من شبر
وقصبته مملوءة بزرا وفى طرفها رأس صغير إلى الاستدارة ما هو. ورائحته قوية، فيها شئ من عطرية.
وهذا النوع منه هو المستعمل في أخلاط المعجونات لان فيه من المرارة والحدة ما ليس في النوع الآخر.
ولذلك صار تجفيفه في الدرجة الثالثة وإسخانه في الدرجة الثانية. ومن قبل ذلك صار ملطفا للأخلاط
الغليظة، مفتحا للسدد والأعضاء الباطنة، نافعا من الاستسقاء ومن اليرقان العارض من سدد الكبد
والمرارة والطحال، مدرا (1) للطمث والبول. وإذا شرب بخل، نفع من أورام الطحال. وإذا طبخ
وشرب، قتل الدود وحب القرع وأخرجه من البطن ونفع من نهش الهوام وبخاصة العقارب. وإذا افترش
أو تدخن به، طرد الهوام أيضا.
وأما النوع الثاني المعروف بالريفي، فهو أعظم نباتا وأضعف رائحة من النوع الأول. ولذلك صار
فعله في جميع ما ذكرنا أضعف كثيرا، وذكر ديسقيريدس عن النوعين جميعا أنهما مصدعان مضران بالمعدة،
إلا أنهما مطلقان للبطن.



(1) ضرب من الشيح، ويسمى فوليون. ويعرف في اليمن بالهلال. وقيل أنه العظلم.
384
في الفوذنج
أما الفوذنج فثلاثة أجناس: لان منه جنس مشهور عند العامة يعرف بالضيا، وهو الفوذنج على
الحقيقة. ومنه جنس يعرف بدقطمين ويسمجى أرطمسيتا وهو مشكطرامشير (1). ومنه جنس يعرف
بفاليجن (2). فأما الفوذنج الحقيقي فهو ثلاثة (3) ضروب: لان منه الفوذنج النهري، ومنه الفوذنج
البري، ومنه الفوذنج الجبلي المسمى فلميتا (4). فأما النهري فإن أهل مصر يسمونه حبق التمساح من قبل
أنه إنما ينبت دائما على شط النهر، وأنهارهم فلا تخلوا من التماسيح. وأما أهل الشام فيسمونه حبق القناة
وريحان القناة لأنه ينبت دائما على السواقي التي يجري فيها الماء.
والجبلي من هذا النبات ورقه يشبه ورق الباذروج أو أطول قليلا إلا أنه أقل خضرة منه كأنه يلي الغبرة
قليلا وينبت في الخشونة والجبال، وأغصانه وقضبانه مزواة وزهره فرفيري ورائحته ذكية قوية الحرافة
جدا.
وأما الفوذنج البري، فهو شبيه بفالجن (5) في الرائحة والطعم، إلا أن ورقه أكبر منه قليلا وأصغر من
ورق الفوذنج النهري والجبلي، وقوته أضعف من قوة الفوذنج الجبلي. وأما الفوذنج النهري فيشبه النعناع
الذي ليس ببستاني، إلا أنه أطول منه ورقا وساقه وأغصانه أطول من ساق النوعين الآخرين وأغصانهما،
ورائحته وطعمه ألذ وأعطر إلا أن قوته أضعف.
ومن البين أن عروق هذه الأصناف لا ينتفع بها في شئ من علاج الطب أصلا. فأما <ورقه> (6)
فحار ملطف يحذو اللسان حذوا (7) قويا، ومن قبل ذلك نسبه الأوائل إلى الحرارة واليبوسة. وقد يستدل
على ذلك من التجربة، لان في التجربة فائدة دليل على أنه مسخن لذاع محرق، لأنا نجده إذا سحق وحمل



(1) وروي: مشكطرامشيغ.
(2) وروي: غليجن. واللفظة يونانية ويسمى في مصر: فلية.
(3) في الأصل: ثلاث.
(4) لعلها كذلك.
(5) كذا في الأصل مختلفة عما رسمه قبل قليل بإضافة الياء.
(6) في الأصل: (الأوائل) ملغاة بشطبة ولم يثبت غيرها. وما أثبناه هو المقصود بالسياق.
(7) حذا حذوا وحذيا الشراب اللسان: قرصه. وهو بالياء أشر.
385
على ظاهر البدن، أسخنه بدءا ثم لذعه وسلخه بإحراقه له. ولذلك صارت قوته عظيمة التلطيف جدا،
حتى أنه إذا شرب، نفع منه نهش الهوام. وإذا تقدم الانسان بشربه وشربه قبل أن يناله شئ من السمائم
بشراب ريحاني، لم يفعل فيه السم شيئا. وإذا افترش أو تبخر به، طرد الهوام. وإذا ضمد به موضع
اللسعة، فعل مثل ما تفعله النار، لأنه يجذب السم والرطوبات من عمق البدن إلى ظاهره بلطافة
وسهولة.
وزعم ديسقيريدس أنه ينفع من الجذام لأنه (1) من طريق أن فيه تلطيف وتحليل للأخلاط التي فيها
بعض الرقة واللطافة فقط، لكن لان فيه مع ذلك أيضا تقطيع شديد للأخلاط الغليظة المولدة لهذا الداء.
ومن قبل ذلك صار ورق هذا النبات يجلو الآثار السود إذا طلي عليها ويذهب باللون الحائل الذي تحت
العين. وأفضل ما استعمل لهذا الشأن، إذا طبخ بالشراب وضمد به الموضع وبخاصة إذا كان طريا،
لأنه إذا جف ويبس، صارت له قوة قطاعة تحرق بسرعة وسهولة من قرب. وذلك أن مرارة هذا النبات وإن
كانت يسيرة، فإنها تفعل ما يفعل غيرها من المرارات القوية، ومن قبل أن معها حرافة وجوهرا لطيفا (2)
ومن هذه الجهة صار عصير هذا النبات إذا شرب أو احتقن به، قتل الدود الصغار والحيات الكبار
وبخاصة إذا شرب بعسل وشئ من ملح. وإذا قطر من عصيره في الاذن، قتل الدود المتولد فيها. ومثل
ذلك يفعل في كل جراحة تتعفن ويتولد فيها الدود. وبهذا السبب صار يقتل الأجنة ويطرحها وليس إنما (3)
يفعل ذلك إذا شرب فقط، ولكنه يفعله أيضا إذا تحملته الامرأة لان قوته قوة قطاعة لمكان حرافته ومرارته،
وإن كان مقويا للمعدة معينا على الهضم، مفتحا للسدد مدرا للبول، نافعا من ضيق النفس لجلائه وتنقيته
للرطوبات الغليظة من الصدر والرئة. وإذا أكل ورقه مع التين، نفع من الاستسقاء ومن اليرقان السوداوي
الكائن عن صفراء غليظة من جنس السوداء. ومن خاصته تحليل نفخ الباقلي وطرد رياحه. ولذلك صار
إذا طبخ مع الباقلي والعدس، أزال رياحهما ونفخهما.
والجبلي أقوى فعلا من النهري والبري جميعا، وبخاصة من لذع الهوام، إلا أن النهري أخص
بإفساد المني لأنه يذيبه ويسيله ويمنع من الانعاظ، وذلك لجهتين: إحداهما تحليله للرياح النافخة
للقضيب، والثانية إضعافه لآلات المني بتجفيفه لرطوباتها. ولهاتين الجهتين صار يعقر (4) الرجال، ويفعل
قريبا من ذلك في النساء. ويتجاوز ذلك إلى الدواب لما فيه من القوة على تجفيف المني.
والبري من هذا النبات مطلق للبطن، نافع للأرحام. والجبلي منه مقو لشهوة الجماع مدر للبول
والطمث، مانع للقئ العارض من الرطوبة، مسكن لها من قرب، طراد للرياح، نافع من الاستسقاء
ومن اليرقان العارض من سدد الطحال، محدر للمرة السوداء ومخرج لها مع الثفل. وزعم ديسقيريدس أنه
مخصوص بالنفع من لذع العقارب



(1) كذا في الأصل. والصواب: (لا).
(2) في الأصل: وجوهر لطيف
(3) (إنما) مستدركة في الهامش.
(4) في الأصل: يحفر. والتصويب في أعلى الصفحة.
386
في مشكفاطمير
وهو مشكطرامشيغ (1)
وزعم قوم أنه البليجاسف (2) وقال قوم أن البليجاسف هو القيصوم. وأما المشكطرامشير فهو نبات
إذا أكلته الغنم، حلبت دما. وسماه قوم غاليجون أغريا أي الفوذنج البري ويعلوه زئبر (3) شبيه بالصوف
ليس له زهر ولا ثمر، وفى طعمه حرافة قوية ولطافة أكثر من لطافة الفوذنج البري. وأما في سائر حالاته
وسائر أفعاله ومنافعه، فإنه شبيه به. وزعم ديسقيريدس أن أفعاله شبيهة (4) بأفعال الفاليجون الأهلي وفعل
صغير العدس، إلا أنه أقوى منهما فعلا وأسرع تأثيرا. ومن خاصته تنقية الأرحام وإخراج ما فيها من
الرطوبات الغليظة السوداوية، ولذلك صار إذا شرب، طرح الأجنة الميتة، وإن كان ليس إنما يفعل ذلك
بالشراب فقط، لكنه قد يفعله أيضا إذا تحملته المرأة أو تدخنت به.
وحكى ديسقيريدس عن قوم كانوا يزعمون أن الماعز ببلاد أقريطي كانت إذا رميت بالنشاب ورعت
هذا النبات، تساقط النشاب عنها. ومنه نوع آخر يعرف بالباعست، وسماه قوم قشردودقطمين، ومعناه
دقطمين كذب، وهو شبيه بدقطمين الحقيقي إلا أنه في جميع أحواله أضعف منه فعلا. ومنه نوع ثالث له
ورق شبيه بورق السيسنبر ورائحته شبيهة برائحته، إلا أن أغصانه أكبر، وعلى أطرافها زهر شبيه بزهر
النمام البستاني - وفى نسخة أخرى شبيه بزهر السبرة (5)، وهو في أفعاله وأحواله مشاكل لافعال دقطمين
وأحواله، إلا أن فعله أضعف قليلا. وقد يقع في أخلاط المراهم النافعة من نهش الهوام. والله أعلم.



(1) وروي: مشكطرا مشير، وهو ما سيذكره المصنف فورا.
(2) وروي: برنجاسف.
(3) أي زغبر.
(4) في الأصل: شبيه.
(5) وروي: سنسنريون.
387
في الغاليجن
وهو ضرب من الفوذنج ويقال هو الذي يسمى بالرومية البلير
أما الغاليجن فزعم بعض الأوائل أنه نبات ينبت في الصحارى، ونباته طاقة على طاقة، وورقه
مستدير شبيه بورق الصعتر ورائحته، وله حرارة ملطفة منضجة. وإذا شرب، أدر الطمث وأخرج المشيمة
وطرح الأجنة، وإذا شرب بالماء والعسل، نقى فضول الصدر والرئة. وإذا شرب بالخل الممزوج بالماء،
سكن الغثيان ونفع من الحرقة العارضة في المعدة من الرطوبات الحامضة والفضول السوداوية، وأسهل
فضولا كذلك. وإذا شرب بالشراب، نفع من نهش الهوام. وإذا أخذ الرطب منه وغمس في الخل وقرب
من الانف، نفع من الغشي العارض من الامتلاء. وإذا أحرق اليابس منه وحمل على اللثة الرطبة
المسترخية، نشف رطوباتها وقواها وشدها. وإذا استعمل في القيروطي (1)، نفع من الثواليل التي يقال لها
نيتوا (2). وإذا عمل منه ضماد بالملح، نفع المطحولين. وإذا استحم بمائه المطبوخ به، سكن الحكة
العارضة في سطح البدن من الرطوبات المتعفنة. وإذا جلس النساء في طبيخه، نفع من رياح الأرحام
وحلل الصلابة العارضة فيها. وزعم ديسقيريدس أن قوما كانوا يسمون هذا النبات ثيجن واشتقوا له هذا
الاسم من ثغاء الغنم لان الغنم إذا رعته <كثر> ثغاؤها.



(1) نوع من المراهم.
(2) وروي: أنيتوا.
388
في الصعتر
أما الصعتر (1) فحار يابس في الدرجة الثالثة ولا سيما البري منه، وقوته ألطف من قوة الحاشا.
ولذلك صار محللا للنفخ والقراقر العارضة في المعدة والأمعاء المتولدة عن الرطوبات الغليظة والأطعمة البعيدة
الانهضام. ولهذه الجهة صار نافعا من الثقل العارض للمعدة من غلظ الأغذية وثقلها لأنه يحدر مع البراز
ثفلا غليظا، ويحلل رياح المعدة والمعاء ونفخها، ويدر البول والطمث، ويحسن اللون، ويحد البصر
ويزيل الظلام العارض من الرطوبات الغليظة. ولذلك صار إذا أكل مع الباذروج منع من إضرار الباذروج
بالبصر. وإذا أكل بالتين، هيج العرق، ونفع من أوجاع الحلق العارضة من الرطوبة. وإذا شرب منه
يابسا بعسل وماء حار قدر نصف رطل، أسهل مرة سوداء وأخرج الحيات وحب القرع. وإذا خلط ماء
يطلى ويمسح به في الحمام، نفع من اليرقان والجرب. وإذا استعط بمائه مع دهن، استفرغ الرأس ونقاه.
وإذا قطر ماؤه في الاذنين مع لبن امرأة، سكن وجعها. وإذا عمل منه (2) ضماد مع الحنطة المبروشة، نفع
من وجع الأورام العارضة من برد ورطوبة. والبري في جميع ما ذكرنا أقوى فعلا من البستاني، والجبلي
أقوى من البري، وزعم الفاضل أبقراط أن الصعتر شبيه بالفوذنج الجبلي في فعله وأحواله.



(1) في الهامش: (في الغرب من أجناس الصعتر ما لم يره إسحاق ولا كافة الأطباء، ولا يرونه أبدا).
(2) في الأصل: منها.
389
في الحاشا
أما الحاشا (1) فيسخن إسخانا قويا شبيها بإسخان الصعتر، لان حرارته ويبسه في الدرجة الثالثة
ولذلك صارت قوته مدرة للبول والطمث، مخرجة للأجنة. وإذا استعمل طبيخه، نفع من الربو وعسر
النفس. وإذا عجن بعسل ولعق، نقى الصدر والرئة، وإذا شرب بالماء والخل، أسهل فضلا غليظا
بلغمانيا وأخرج الدود الطوال وحسن اللون. وإذا خلط بالطعام وأكل، نفع من ظلام البصر العارض من
الرطوبات الغليظة، وأحدر مع البراز فضولا سوداوية. وفعله في جميع ما ذكرنا أقوى من فعل الصعتر.
في الافيثمون
أما ألافيثمون فنوع من الصعتر، وأهل الشام يسمونه الصعتيرة. وقوته كقوة الحاشا، إلا أنه أقوى
فعلا في كل شئ من الحاشا لان إسخانه وتجفيفه في آخر الدرجة الثالثة. ولذلك صار يحدث عطشا وجفافا
في الفم. وإن أراد مريد أخذه، فلا يستقصي (2) دقة ويلته (3) بدهن اللوز الحلو. والمختار منه ما كان أحمر
رزينا مجلوبا من أقريطيا ومن بيت المقدس.



(1) حشيشة لها زهر مستدير أبيض إلى الحمرة، وورق صغار دقاق، يسمى المأمون، ويعرف أيضا بصعتر الحمير.
(2) استقصى الامر: بلغ أقصاه: والمعنى أن لا يبالغ في دقه.
(3) في الهامش: (ويلينه).
390
في الزوفا
الزوفا نوعان: لان منه البستاني، ومنه الجبلي. والجبلي أسخن وأقوى من البستاني كثيرا، وإن
كانت (1) قوتهما جميعا تسخن وتجفف في الدرجة الثالثة. ولذلك صار (2) فيهما تلطيف قوي. وإذا طبخا
بالتين والشراب والعسل، كان طبيخهما نافعا من أورام الرئة والربو وعسر النفس، وسكن السعال
العارض من النوازل المنحدرة إلى الصدر والرئة. وإذا شرب طبيخهما بالسكنجبين، أسهل كيموسا
غليظا. وإذا أكل بالتين الرطب، أحدر الطبيعة. وإذا شرب بشراب أياما متتابعة، نفع من الاستسقاء
ومن نهش الهوام. فإن خلط مع ذلك إيرسا (3) أو قرطمانا، كان أقوى لاسهالهما، وإذا لعقا (4) بالعسل،
قتلا (5) الدود الذي في البطن وحسنا (5) اللون. وإذا طبخا مع التين وتغرغر بطبيخهما وعجنا بطلاء وعمل
منهما ضماد (6)، حللا الأورام ورم (7) الطحال. وإذا طبخا بماء وحملا على العين. نفع من نزول الماء في
العين. وإذا طبخا بخل وتمضمض بمائهما، نفعا من وجع الأسنان. وإذا كبت (8) الاذن على بخار
طبيخهما، حلل الريح العارض فيها. وإذ عمل منهما ضماد معجون بماء حار، حللا الدم الميت الكائن
تحت الجلد.



(1) في الأصل: كان.
(2) بعدها في الأصل: (إذا) ملغاة بشطبة.
(3) هو السوسن (الاسمانجوني؟).
(4) أي البستاني والجبلي.
(5) في الأصل، بالمفرد.
(6) في الأصل: ضمادا.
(7) كذا في الأصل. ولعلها: (أورام الطحال). أو (وورم الطحال).
(8) أي قلبت.
391
في الزوفرا
الزوفرا (1) حار يابس في الدرجة الثالثة. وخاصته تحليل ما في الأمعاء من الرياح الغليظة وتنقية الكبد
والأوراد من الفضول الغليظة بدروره البول والطمث، والنفع من الأمغاص والسعال المتقادم بجلائه وغسله
وتنقيته للصدر والرئة. وزعم ديسقيريدس أنه زائد في الباه.
في لسان الثور
ويسمى أنبلس
أما لسان الثور فزعم قوم أنه ورق المرو البري. وقال ديسقيريدس إنها شجرة لها ورق مع الأرض في
صفحه خشونة شبيهة (2) بخشونة لسان الثور الحيواني. وإنما اشتق له هذا الاسم لشبهه بلسان الثور في
شكله وخشونته ولونه. وذلك أن لونه مسني مائل إلى السواد قليلا. وأما مزاجه فحار رطب في الدرجة
الأولى. ومن خاصته إذا ألقي في الشراب، أحدث لشاربه سرورا. ولذلك أدخلته الأوائل في أدوية
الخفقان لأنه مفرح للقلب ومقو له. وإذا طبخ بالماء وشرب طبيخه بشئ من عسل أو سكر، نفع من
خشونة الحنجرة وخشونة قصبة الرئة.



(1) نبات طول ساقه قدر الذراع. ورقه يشبه الرازيانج. طيب الرائحة.
(2) الصفح من كل شئ: جنبه.
392
في لسان الحمل
ويسمى أنفلس
ولسان الحمل صنفان: أحدهما صغير إلا أن ورقه أدق وأصغر وأقل خشونة من ورق الكبير، وعوده
مزوى (1) قليل الارتفاع من الأرض جدا. وله زهر أصفر. وأما الكبير فهو أخشن وأعرض ورقا. وساقه
أكثر ارتفاعا من الأرض، لان طوله نحو من ذرع، وشكله مزوى، وأصله رخو له غلظ كغلظ الإصبع،
وعليه زغب أبيض وعلى ساقه من وسطه إلى أعلاه بزر رقيق. وأكثر ما ينبت في الآجام والساحات
والمواضع الرطبة. وأعظمهما منفعة الكبير، وإن كانا جميعا مركبين من قوة مائية باردة وقوة مجففة أرضية
قابضة. ولذا صار بردهما وتجفيفهما في الدرجة الثالثة لان يبسهما غير لذاع، وبردهما يضعف عن حد ما
يجذب. وأصلهما وبزرهما قريبان في القوة، إلا أنهما أيبس من الورق وأقل برودة. والبزر ألطف من
الأصل، والأصل أغلظ من البزر. وإذا جف الورق، صارت قوته ألطف وأقل رطوبة، لان الجزء المائي
الذي كان فيه وهو رطب قد زال عنه.
ولما كان كل غذاء أو دواء يجتمع فيه التجفيف والقبض اللطيف مانعا لسيلان الدم نافعا من القروح
الخبيثة والمواد المتحلبة، كان هذا النبات أيضا قاطعا لسيلان الدم مانعا لانبعاثه من الصدر ونافعا من
قروح الرئة والمعاء مسكنا للالتهاب العارض فيها. وإذا طبخ أصل هذا النبات وتمضمض به، نفع من
وجع الأسنان. والماء المستخرج منه وهو طري يفعل مثل ذلك أيضا. وأما في علاج الكبد والكلى، فإن
الورق والأصل يستعملان جميعا. والأفضل في ذلك ثمرته لان فيها قوة تجلو. وعسى أن تكون هذه القوة
موجودة في النبات أيضا ما دام طريا إلا أن فعله لا يظهر لان الرطوبة الفضلية الغالبة عليه تخفي فعله
وتستره.



(1) أي له زوايا.
393
في البلسان
وأما البلسان فيسخن ويجفف في الدرجة الثانية، لان فيه حرافة يسيرة مع عطرية ذكية لذيذة بها صار
في دهنه منافع كثيرة يصل بها إلى أقاصي البدن، ويوصل معه ما يخالطه من الأدوية، ويلطف الفضول
وينضجها. وقد ظن به قوم لما رأوا من عطريته وذكاء رائحته ويسير حرافته أن فيه من الاسخان مقدار
أكبر، فأنكر جالينوس ذلك على من قاله وخطأه، وقال أن إسخان البلسان لو كان أقوى مما هو عليه،
لكان الاحراق أولى به، من التلطيف.
وأقوى ما في البلسان دهنه، وبعده حبه، وبعد حبه قشره الأخضر الذي يلي العود ويحيط به ويخالطه
وبخاصة إذا أخرج من الدهن لان لطافة الدهن التي كانت، قد زالت عنه. ويدل على ذلك ضعف
رائحته. ومن منافع دهن البلسان أنه مدر للبول، نافع من عسر النفس لتلطيفه للفضول وإنضاجه
للاثفال. وإذا شرب باللبن، نفع من نهش الهوام ومن شرب السم المسمى أبونيطس (1). وإذا طلي على
البياض العارض في البدن، غيره ونقاه. وإذا اكتحل به، نفع من ظلام البصر ومن نزول الماء الأسود في
العين. وإذا مسح به الظهر، نفع من النافض (2) وأبطل فعلها. وإذا مسحت (3) به القروح الوسخة،
نقى وسخها. وإذا تحملته المرأة مع شئ من شمع ودهن ورد، أخرج الجنين والمشيمة. وإذ تبخرته
النساء، أعان على الحبل الممنوع من الرطوبة والرياح الغليظة، لأنه نشاف وبخاصة رطوبات الأرحام.
وكثيرا ما يستعمل في الأدوية التي تحلل الاعياء، وقد يستعمله العطارون كثيرا في الطيب لعطريته وذكاء
رائحته.
وأما حب البلسان فنافع من نهش الهوام ومن السدد وعسر النفس الذي لا يمكن منه التنفس إلا بعد



(1) وروي: أفونيطن. ويسمى خانق النمر.
(2) رعدة الحمى.
(3) في الأصل: مسح.
394
الانتصاب، وقد ينفع أيضا في رياح الأرحام وعسر البول والأمغاص العارضة من الرياح الغليظة. وإذا
طبخ وجلس النساء في مائه، فتح أفواه الأرحام وجذب منها رطوبة غزيرة. وأما عود البلسان فإنه ما دام
طريا رطبا، فقوته كقوة حب البلسان، ولذلك صار إذا طبخ وشرب ماؤه، أدر البول ونفع من سوء
الهضم ومن تشنج العصب ونهش الهوام. وأما ورق البلسان فإن عصيره إذا شرب، نفع من العلق الذي
في الحلق ومن الصداع العارض من الرطوبات الغليظة. وإذا دق قشر قضبانه وعجن بخل وطلي على
الثواليل، قلعها.
والمختار من دهن البلسان ما كان حديثا له رائحة قوية ذكية سليمة من الشوائب والاعراض، أعني
ألا يكون فيه شئ من رائحة الحموضة ولا الزنخ. ويكون مع هذا لينا قابضا سريع الانحلال يلذع
اللسان لذعا يسيرا. والمختار من الحب ما كان كثيرا رزينا ممتلئا أشقر اللون يحذو اللسان ويلذعه يسيرا.
وإذا مضغ، فاحت منه رائحة دهن البلسان. والمختار من العود ما كان حديثا رقيقا أحمر القشر الاعلى له
رائحة قريبة من رائحة دهن البلسان. وقد يغش الدهن بضروب من الغش لان منه ما يغش بدهن الحبة
الخضراء المعروفة بالبطم. ومنه ما يغش بدهن الحناء. ومنه ما يغش بدهن المصطكى أو بدهن السوسن
أو (1) بالعسل والشمع.
والخالص منه إذا قطر منه على اللبن، أجمده. وإذا قطر على الماء، انحل بسرعة، وصار قوامه قوام
اللبن. والمغشوش منه إذا قطر على الماء، بقي طافيا عواما وتقطعت أجزاؤه على وجه الماء، وصار بمنزلة
الكواكب المتفرقة. وقد ظن قوم أن الخالص منه إذا قطر على الماء، غاص بدءا وهبط سفلا وصار إلى قعر
الماء، ثم ارتفع وطفا وصار عواما من غير أن يخالط أصلا. وهذا ظن خطأ. وأما الحب فإنه يغش بحب
يؤتى به من بلدة يقال لها نطراثيرن، والفرق بينهما أن الحب المجلوب من هذه البلدة، حب صغير فارغ
ضعيف القوة، له طعم كطعم الفلفل. وحب البلسان الحقيقي كبير رزين ممتلئ يحذو اللسان ويلذعه
لذعا يسيرا، وتفوح منه رائحة دهن البلسان.



(1) بعدها في الأصل: بدهن ملغاة بشطبة.
395
في حي العالم
معنى حي العالم الحي أبدا. وإنما سمي هذا الاسم لأنه طري أبدا لا يطرح ورقه في وقت من
الأوقات، إلا أنه على ضربين: لان منه كبير، ومنه صغير. فأما الكبير فله قضبان طولها نحو من ذراع أو
أكبر قليلا، وغلظها غلظ الابهام، وورقها شبيه بأطراف الألسن. وإذا كان هذا النبات غضا، كانت
رطوبته تدبق باليد. ومن اليونانيين من سماه نيثلس، ومعنى هذا الاسم عين البقرة لان أصله ومنبته حوالي
القضبان كأنه شكل عين حيوان. وما كان منه من الورق في أسفل النبات، كان مستلقيا على الأرض
وما كان منه في أعلى النبات، كان قائما بعضه على بعض، وقوته مبردة في الدرجة الثالثة مع تجفيف
يسير. ولذلك صار نافعا من الاسهال المري وقروح الأمعاء. وإذا خلطت عصارته بدهن بنفسج أو
بدهن ورد، كانت نافعة من الصداع الصفراوي. وإذا شربت بشراب، أخرجت الدود المستطيل من
البطن وطرحت الجنين. وإذا تحملتها المرأة، نفعت من سيلان الرطوبات إلى الأرحام - وفى نسخة
حرى: وقطعت الطمث، وقال ديسقيريدس: وطرحت الجنين -. وإذا اكتحل بعصارتها، نفعت من
وجع العين. وإذا حملت على الأورام الحادة أو الحمرة، سكنت حرارتها ونفعت من حرق النار.
وأما حي العالم الصغير فينبت في السباخات والخنادق والمواضع الظليلة، وله قضبان صغار تخرج من
أصل واحد. وهي مملوءة ورقا صغارا (1) إلى الطول ما هو، كأنه ورق الباقلي في أطرافها حدة، ولها
رطوبة تدبق باليد. وفى وسط هذا النبات قضيب طوله نحو من شبر، وعليه إكليل له زهر أصفر رقيق -
وفى نسخة أخرى: زهر أبيض رقيق - وقوة زهره مثل قوة النوع الأول، وفعله مثل فعله. وذكر
ديسقيريدس نوعا ثالثا من حي العالم زعم أن له ورقا مبسوطا مسطوحا (2) شبيها بورق البقلة الحمقاء، إذا
عمل منه ضماد مع شحم عتيق حلل الأورام.



(1) في الأصل: ورق صغار.
(2) في الأصل: بالرفع.
396
في سطراطليطلس
أي الفارس على الماء
زعم ديسقيريدس أن هذه البقلة ورق يظهر على وجه الماء شبيه بورق حي العالم إلا أنه أكبر قليلا،
وقوته قوة مبردة. وإذ شربت، قطعت نزف الدم. وإذا تضمد بها مع الخل، نفعت من الحمرة وسائر
الأورام الصفراوية المزمنة. ومما هو داخل في هذا الجنس من النبات، بقلة تدعى عصا الراعي، وتسمى
بالسريانية (مرعاتا) ومعناه راعي الغنم. لان (عاتا) باللسان السرياني: الغنم. وتسمى بالفارسية
النرسبادارو، وهو السبطباط. هذه البقلة فيها قبض والأغلب عليها الجوهر المائي، ولذلك صارت باردة
في الدرجة الثانية وفى أول الثالثة. ولهذه الجهة، صارت نافعة من الالتهاب العارض في المعدة إذا حملت
عليها من خارج. وإذا شربت، نفعت من النزف العارض للنساء، ومن انبعاث الدم حيث كان، لأنها
تردع المواد المنصبة وتمنعها من الانصباب لما فيها من القبض والتبريد. ولذلك صارت نافعة من الأورام
المعروفة بالحمرة والقروح المتورمة. وإذا حملت على العين الهائجة من الدم، سكنت آلامها. وإذ عصر
ماؤها واحتقن به مع شئ من دهن ورد، نفع من قروح الأمعاء وذهب بالمغص الحادث من نكاية (2)
الأدوية. وإذا استعط بمائها مع كافور، قطع الرعاف الكائن مع الحرارة.
والذكر من هذا النبات أقوى في جميع ما ذكرنا من الأنثى. وزعم ديسقيريدس أن هذا النبات مدر
للبول، ولم يوضح أي عسر بول هذا النبات نافع منه. فأقول: إن هذا النبات إنما ينفع من هذه العلة إذا
كانت من أحد شيئين: إما من حدة الصفراء وتجفيفها، وإما من ورم حار يعرض لعمق المثانة.



(1) وروي: سطراطيوطس.
(2) النكاية: الغلبة والقهر.
397
في البقلة الحمقاء
المعروفة بالرجلة ويسمونها، أهل الغرب، البردلافش (1)
البقلة الحمقاء باردة في الدرجة الثالثة، رطبة في الدرجة الثانية، لان في قضبانها قبض يسير. فلما
في ورقها من البرودة والرطوبة، صارت نافعة من الالتهاب والتلذيع العارض للمعدة والأرحام والكلى
والمثانة ومسكنة لحرارة الحميات، وقامعة لحدتها. ولما في قضبانها من القبض اليسير، صارت مقوية
للمعدة والأمعاء، نافعة من القروح العارضة فيها وفى المثانة، قاطعة لنفث الدم. وماؤها في جملتها إذا
شرب، أخرج حب القرع من البطن. وإذا عمل منه ضماد وحمل على الجبين والأصداغ، نفع من الصدع
الصفراوي، وسكن التهاب الدم. وإذا خلط ماؤها بدهن ورد وصب على الرأس، نفع من الصداع
العارض من حرارة الشمس ووهج السموم. وإذا خلط ماؤها بشراب وغسل به الرأس، نفع من البثرة
العارضة فيه. وإذا أكلت قضبانها، ذهبت بالاسهال المري وسحج الأمعاء. وإذ مضغت البقلة
بجملتها نفعت من الضرس لأنها تملس الأسنان وتملأ خشونتها التي عرضت لها من ملاقاة الأشياء
الحامضة والطعومات الخشنة. وإذ عمل منه ضماد، نفعت من البواسير التي يسيل منها الدم.



(1) وروي: بليبشة.
398
في البقلة الرومية
التي تسمى القطف
وتسمى السرمق (1)
هذه البقلة معروفة مشهورة إلا أنها على ضربين: لان منها بري، ومنها بستاني. والبستاني منه يبرد
في الدرجة الأولى، ويرطب في الثانية. وليس في رطوباتهما قبض ولا هي أيضا بأرضية غليظة كرطوبة
الملوخية، لكنها رقيقة مائية. ولذلك صار نفوذها في البدن أسرع كثيرا، إلا أن فيها شيئا (2) من لزوجة
الملوخية مع شئ من تحليل.
وأما البري فهو أقل تبريدا وأكثر تحليلا. ولذلك صار أضعف فعلا في تبريد الأورام المعروفة
بالحمرة، إلا أنه أوفق للكهول وأنفع في منتهى الأورام الحادة ووقت صلابتها لحاجتها في ذلك الوقت إلى ما
كان تحليله أقوى وتبريده أضعف. وأما البستاني فهو أوفق للشبان وأنفع في ابتداء الأورام الحارة لحاجتها في
ابتدائها إلى ما كان تبريده أكثر وتحليله أقل. وأما بزر القطف ففيه قوة تجلو وتنقي. ولذلك صار نافعا من
اليرقان العارض من سدد الكبد. وإذ شرب منه وزن درهمين بعسل وماء حار، قيأ مرة صفراء.
في الاسفاناخ
أما الاسفاناخ فبارد رطب في آخر الدرجة الأولى ملين للطبيعة، نافع من الأوجاع الحادثة من المرة
الصفراء. وهو في فعله وطبيعته قريب من القطف والبقلة اليمانية، إلا أنه أفضل للمعدة من القطف



(1) في هامش الأصل: مج. والسرمق يقال لها سرمح.
(2) في الأصل: شئ.
399
في البقلة اليمانية
ويسميها أهل الغرب أبليدش (1)
البقلة اليمانية باردة رطبة في الدرجة الثانية مولدة للخلط المحمود، ملينة للبطن على مذهب الغذاء لا
على مذهب الدواء. ولذلك صارت نافعة للمحرورين لأنها مسكنة للعطش ملينة للسعال العارض من
الحرارة. وأفضل ما تؤكل بماء الرمان الحلو ودهن اللوز والكسفرة (2) اليابسة والرطبة. وخاصتها قطع
العطش الصفراوي.
في البقلة اليهودية
وهي البليدش
أما البقلة اليهودية ففيها من الحرارة ما يفوق الاعتدال أو مساو له، ومن اليبوسة اللطيفة مقدار ليس
باليسير ولذلك صارت حرارتها في أول الدرجة الثانية، ويبسها في الأولى، ولهذا صارت لطيفة سريعة
الانحدار مولدة للخلط المحمود.



(1) وروي: البليطس.
(2) هي الكزبرة.
400
في الخبازى
الخبازى على ضربين: أحدهما بستاني وهو المعروف عند أهل الشام بالملوخية، والآخر بري وهو
الخبازى على الحقيقة. والملوخية أفضل للغذاء من الخبازى الحقيقي وإن كانا جميعا رديئين للمعدة لفضل
لزوجتهما ولعابيتهما وبخاصة المعدة المرطوبة لأنهما يرخيانها (1) ويملسان خشونة خملها، من قبل أن فيهما من
الرطوبة واللزوجة ما ليس باليسير وإن كانا أبعد من البرودة من الخس. ويستدل على ذلك من تأثيرهما،
وذلك لو أن إنسانا اتخذ ضمادا من الخس وضمادا من الخبازى وحمل كل واحد منهما على الورم المعروف
بالحمرة، لوجد الخس يبرد تبريدا بينا، والخبازى يسخن إسخانا يسيرا لذيذا عند الحاسة، إلا أنه لفضل
رطوبة الخبازى والملوخية، صارا سريعي الانحدار عن المعدة قويين على إطلاق البطن.
وأما انهضامهما فمتوسط بين السرعة والابطاء، وبخاصة قضبانهما البارزة المعراة من الورق. وإذا
تعذر انحدارهما ولم يطلقا البطن، ولدا (2) رياحا ونفخا. ومن قبل ذلك احتاجا إلى ما يقطع غلظهما
ولزوجتهما ويعين على انحدارهما مثل المري والفلفل وما شاكل ذلك، لأنهما إذا انهضما نال البدن من
غذائهما أكثر من غذاء غيرهما من البقول، وزادا في اللبن من قبل أن الدم المتولد عنهما وإن كان مائلا إلى
البلغم، فإنه ليس بالغليظ ولا باللزج. ومن فعلهما على سبيل الدواء، أنهما إذا أكلا أدرا البول، وإذا دق
ورقهما وخلط بدهن ورد، نفع من حرق النار وأذبل البواسير. وإذا عمل من ورقهما ضماد (3)، كان نافعا
من لسع الزنابير والنحل. وإذا دق الورق وخلط بزيت وتمسح به الانسان ثم لسعته الزنابير والنحل، لم
تحك (4) اللسعة فيه. وإذا طبخ الورق مع الأصل وشرب طبيخهما، نفع من لسع الرتيلاء ومن شرب
الأدوية القتالة، وبخاصة إذا تقيأ الانسان بعد شربه لطبيخهما وأدمن ذلك مرارا إلى أن يسكن الوجع.



(1) في الأصل: يرخيانهما.
(2) في الأصل: ولد.
(3) في الأصل: ضمادا.
(4) أي لم تفعل.
401
ومن خاصة قضبانها المعراة من الورق، النفع من علل الكلى والمثانة. وبزرهما على ذلك أقوى
فعلا، وأظهر تأثيرا إلا أن البزر أقل رطوبة. وفضل البزر على القضبان والأصل بحسب فضل يبسه
عليهما. ولذلك صار البزر أخص بالنفع من أوجاع الكلى والمثانة. وإذا طبخ البزر بالشراب وشئ من
حندقوقي وشرب، سكن أوجاعهما أيضا. والبري في جميع ما ذكرنا أقوى فعلا من البستاني، خلا جودة
الغذاء فإن البستاني أصلح وأحمد. ورأيت نوعا ثالثا من الخبازى يسمونه بمصر ملوخية السودان، ويعرف
بالعراق بالشوشندبيا، وقوته، وفعله، متوسطة بين قوة الملوخية والخبازى لأنه أقل غذاء من الملوخية وأكثر
غذاء من الخبازى والله أعلم.

402
في الخطمية
أما الخطمية فهي صنف من أصناف الخبازى. وله ورق مستدير على شكل ورق القرع، إلا أنه
أصغر كثيرا. فإذا علا وارتفع من الأرض، تشققت أطراف الورق، وصار له تشريف كأنه قريب من
ورق الخبازى، ولونه على لون ورق القرع. لان خضرته أقل من خضرة ورق الخبازى، من قبل أن له
زئبر يعلوه، يلي البياض قليلا شبيه بزئبر ورق القرع، طول ساقه من الأرض مقدار ذراعين أو ثلاثة
أذرع، ويعلوه من نصف القضيب إلى أعلاه ورد مستدير على شكل ورد السوسن. ويمتاز من ورق
السوسن بأنه مسفوح. وهو غير متشقق ولا منقسم الاجزاء وأكثره يكون أحمر اللون إلا أن حمرته متوسطة
بين حمرة الورد وحمرة شقائق النعمان قرمزية. وكثير ما يكون منه ورد أبيض على بياض ورد السوسن
الأبيض.
وفى ورق هذا النبات وورده وأصله وقضبانه لزوجة نتبين منها إذا دقت وضربت بالماء، إلا أنها في
الورد والورق كثيرا. وأهل العراق يغسلون رؤوسهم بطحين الورد الأبيض من هذا النبات في الحمامات.
وباطن أصل هذا النبات أبيض، وخارجه أغبر، وقوة ورقه ترخي وتحلل وتمنع من حدوث الأورام الدمية
وتسكن أوجاع ما يتولد منها وتنضج المواد. والأصل والبزر يفعلان مثل ذلك أيضا إلا أنها ألطف وأكثر
تجفيفا وأشد تحليلا وأقوى جلاء. ومن قبل ذلك صار هذا النبات نافعا من أورام الثديين وأورام المقعدة
وتهشم الرأس، وتمدد الأعصاب والأورام الاسفنجية العارضة في جفون العينين لأنه يحلل وينضج
ويدمل.
وأما بزره فيفتت الحصا التي في الكلى. وإذا دق البزر وعجن بخل وزيت وطلي على البدن، نفع من
مضرة ذوات السموم من الهوام. وإذا شرب طبيخه بخل ممزوج بماء أو شراب، نفع من لسع النحل ومن
لسع ما لطف جرمه من ذوات السموم، ومن نفث الدم وقرح الأمعاء. وأصل هذا النبات إذا سحق

403
وخلط بماء وصير في برد الهواء من أول (1) الليل إلى الصبح، أجمد الماء. وماء طبيخه إذا شرب، نفع من
نفث الدم وقروح الأمعاء واستطلاق البطن، لان فيه قوة قابضة. وإذا شرب طبيخه بشراب، نقى
الفضول الغليظة من الكلى وفتت الحصا ونفع من عسر البول والارتعاش وشدخ العضل. وإذ خلط
بشراب ودق وخلط بشحم إوز وصمغ البطم وتحملته المرأة، نفع من الأورام العارضة للأرحام وحلل
انضمام الرحم. وطبيخه وحده يفعل مثل ذلك أيضا، لأنه يحلل وينضج وينقي الفضول ويحلل الأورام.
في القنابرى
أما القنابرى (2) فحار يابس في الدرجة الثالثة، يغذو غذاء يسيرا (3) ليس بردئ الكيموس ويغسل
وينقي. فإذا أكل بملح، فتق شهوة الطعام (4)، ونقى ما في الصدر والرئة من الكيموسات الغليظة وفتح
سدد الكبد والطحال. وإذا أدمن أكله، ولد كيموسا حريفا. وإذا استعط به، نقى الدماغ من
الكيموسات الغليظة. وزعم جالينوس أنه ما امتحن هذه البقلة ولا وقف على شئ من طبعها.
في القاقلى
القاقلى حارة يابسة في آخر الدرجة الأولى. وخاصتها تطييب الجشاء، وهي جيدة الكيموس، إلا أن
لها إبطاء في المعدة. والله أعلم.



(1) (أول) مستدركة في الهامش.
(2) والقنابرى. بقلة تسمى أيضا: الغملول والتملول.
(3) (يسيرا) مستدركة في الهامش.
(4) أي رغب في الطعام وحمل على اشتهائه.
404
في الحماض
وهي البقلة الخراسانية
أما البقلة الخراسانية فهي نوع من الحماض لان الحماض على ضربين: أحدهما تفه لا طعم له،
وورقه شبيه بورق الهندباء البري، أو بورق لسان الحمل الكبير، والآخر في طعمه حموضة، وورقه شبيه
بورق الكرنب اللطيف، وهذا النوع هو المسمى البقلة الخراسانية.
وأما الأول منها الذي لا طعم له، الشبيه بورق الهندباء البري، ففيه قوة تحلل تحليلا يسيرا لأنه
مشاكل للسلق في قوته وتفاهته، إلا أن السلق ألذ طعما لان في طعمه ملوحة يسيرة. ولذلك صار أكثر
إسخانا وإن كان في هذه البقلة أيضا رطوبة مسخنة ملزجة مطلقة للبطن، لأنا نجدها إذا طبخت من غير
أن تطجن (1)، أطلقت البطن وأحدرت ما فيه بسرعة، ونقت من سحج الأمعاء إذا كان الثفل يابسا
لازلاقها للثفل وتغريتها. فإذا طبخت بدهن ورد أو بزيت انفاق، زالت عنها رطوبتها ولزوجتها وصارت
حابسة للبطن ولا سيما إذا طيبت بماء رمان حامض وحماض الأترج أو بماء البرباريس (2) وماء السماق.
وأما النوع الحامض المعروف بالبقلة الخراسانية، فإنه بارد يابس في وسط الدرجة الثالثة حابس للبطن
مسكن لحدة الصفراء، مولد لشهوة الطعام إن كان سبب فسادها الحرارة. ولذلك صار نافعا للمحرورين
ضارا بالمبلغمين. وذكر جالينوس في بزر النوعين جميعا أن فيه قوة قابضة مانعة للاسهال نافعة من قروح
الأمعاء، إلا أن بزر الحامض منها أقوى فعلا وأظهر تأثيرا.
وأما ديسقيريدس، فإنه صير أنواع الحماض أربعة، وذكر أن أحدها بستاني عريض شبيه بورق



(1) طجن الشئ: قلاه في الطاجن، وهو المقلى أو الطابق يقلى عليه.
(2) وهو الأمير باريس.
405
السلق. والثاني ينبت في الآجام وساقه صلب محدد الأطراف. والثالث بري صغير المقدار قمي (1) ناعم
الورق وصورته صورة لسان الحمل الكبير. والرابع جبلي له ورق شبيه بورق الحماض البري، وساقه
صلب محدد الأطراف وليس له عظم وثمره أحمر حامض فيه حرافة يسيرة. وزعم في البستاني منها الشبيه
بورق السلق، أنه إذا طبخ وشرب طبيخه، لين البطن. وإذا عمل منه ضماد بدهن ورد وشئ من
زعفران، حلل الأورام المعروفة بالشهدية. وذكر في الثلاثة الأخرى، أعني البري والجبلي والنابت في
الآجام أنها نافعة من الغثيان والاسهال المزمن وقروح الأمعاء ولسع العقارب، حتى أنه قال: وإذا تقدم
الانسان وشرب منها شيئا ثم لسعته عقرب، لم تحك اللسعة فيه. وإذا طبخ أصلها بخل ومطبوخ (2) وعمل
منه لطوخ، نفع من الجرب المتقرح والقوابي والتقشير العارض في الأظفار بعد أن يدلك الموضع قبل
استعماله بنطرون وخل في الشمس. وإذا طبخ أصلها بماء واغتسل بها في الحمام، نفع من الحكة العارضة
في البدن. وإذا طبخ بشراب وشرب، نفع من اليرقان المتقادم وفتت الحصا المتولد في المثانة وأدر البول
والطمث، ونفع من لسع العقارب.
وإذا طبخ بخل وعمل منه ضماد، حلل وجسأ (3) الطحال ولين ورمه. وإذا طبخ بشراب وتمضمض
به، نفع من وجع الأسنان. وإذا سحق وتحملته المرأة، قطع سيلان الرطوبة من الرحم. وإذا طبخ
بشراب وحمل على الخنازير (4)، حللها. وكذلك يفعل في الأورام التي في الآذان.



(1) القمي والقمئ: القصير، الصاغر الذليل.
(2) كذا في الأصل.
(3) الجسأ هو الصلابة والخشونة.
(4) سبقت الإشارة إليها أنها قروح صلبة تكون في الرقبة.
406
في السلق
السلق نوعان: أحدهما مسني اللون شديد الخضرة مائل إلى السواد قليلا. والآخر فستقي اللون قليل
الخضرة مائل إلى الصفرة قليلا. والصنفان جميعا حاران في الدرجة الأولى، مولدان غذاء مذموما ويضران
بالمعدة وبخاصة المائل منها إلى الصفرة قليلا، لان فيه رطوبة بورقية لذاعة من لزوجة فيها يسيرة. وإذا
قستها إلى رطوبة الخبازى والخس وجدتها ألطف وأقل لزوجة وأكثر جلاء، ووجدت رطوبة الخبازى أغلظ
وأكثر لزوجة وأقل جلاء، والخس متوسط بينهما. ولذلك صار هذا الصنف من السلق، أعني القليل
الخضرة المائل إلى الصفرة، من التلطيف وتفتيح سدد الكبد والطحال والاطلاق للبطن أقوى فعلا وأكثر
منفعة. وإذا سلق وطيب بالخل والمري والكراويا والزيت الانفاق أو دهن اللوز، كان انهضامه أسرع
وانحداره أقرب وأسهل وغذى غذاء يسيرا وأطلق البطن ونفع من سدد الكبد المتولدة عن الأخلاط
الغليظة. وإذا سلق ورمي ماؤه وطجن بالزيت الانفاق، زالت عنه رطوبته البورقية التي كان بها مطلقا،
وصار حابسا للبطن. ولذلك قال الفاضل أبقراط: إن ماء السلق مطلق للبطن وجرمه حابس لها. وأما
عصارة السلق، فإنه إذا استعط بها، نقت الدماغ ونفعت من وجع الاذنين. وإذا دق الورق وضمد به
البهق بعد أن يغسل الموضع بنطرون، نقاه. وإذا جرد داء الثعلب وحمل عليه ورق السلق مدقوقا، أنبت
الشعر فيه وطبيخ ورقه نافع من البثور وحرق النار. وأما أصل هذا الصنف من السلق، أعني القليل
الخضرة المائل إلى الصفرة، فإنه أغلظ وأبطأ انهضاما وأكثر توليدا للنفخ والقراقر، وذلك لزيادة رطوبته
على الصنف الآخر. وإذا سلق ورمي ماؤه وعجن بزيت أنفاق، كان أبعد لانحداره عن المعدة. وإذا
سلق ورمي ماؤه من غير أن يطجن وطيب بالخل والمري والكراويا والفلفل والزيت، كان أسرع لانحداره
وغذى غذاء يسيرا وفتح سدد الكبد والطحال المتولدة عن الأخلاط الغليظة. وكذلك يفعل إذا طيب
بالخردل والفلفل والصعتر إن كان صاحبه بلغمانيا، وبالخل وحده إن كان صاحبه صفراويا. ومن خاصة
أصل هذا النوع من السلق أن عصارته إذا غسل بها الرأس، نقت الأبرية والصئبان وطولت الشعر. وإذا

407
أخذ أصل السلق طريا ومسح بخرقة من الطين والتراب ودق وعصر ماؤه واستعط منه بنصف مسعط (1)،
نفع من وجع الأسنان والأضراس ومنع من معاودة الوجع. وإذا استعط بمائه مع مرارة الكركي (2)، نفع
اللقوة بإذن الله تعالى. وأما السلق الشديد الخضرة المائل إلى السواد، فزعم ديسقيريدس أن فيه قوة قابضة
بها يحبس البطن، وأن هذه القوة في أصله أقوى منها في ورقه. ولذلك صار أكثر حبسا للبطن من غيره.



(1) المسعط: الاناء يجعل فيه السعوط ويصب في الانف.
(2) الكركي ج كراكي: طائر من طيور الماء، طويل الساقين والعنق. يعرف بالرهو والغرنوق.
408
في الكرنب
الكرنب في جملته حار يابس في الدرجة الأولى، يولد دما عكرا سوداويا كريه الرائحة جدا، إلا أنه
على ضربين: لان منه الكرنب النبطي الشبيه بالسلق الصغير القلوب جدا، وهو الكرنب على الحقيقة.
ومنه البستاني المعروف بالقنبيط، وأهل مصر يسمونه الاسفراخ وله قلوب عظام كثيرة البزر ثابتة في وسط
الورق.
فأما الكرنب الحقيقي فهو ثلاثة (1) ضروب: لان منه البستاني، ومنه البري، ومنه البحري.
والبستاني أيضا على ضربين: لان منه الشتوي، ومنه الصيفي. والصيفي أخص بإحراق الدم وتوليد المرة
الصفراء المحترقة القريبة من السوداء، لأنه أشد حرافة وحدة. ولذلك صار أكثر جلاء وتنقية وأخص
بالنفع في البرص والنملة إذا طلي عليها. وما الشتوي فغير ظاهر الحدة والحرافة إلا أن في مائيته قوة تبلغ
بها إلى إطلاق البطن ودرور البول. وأما جرمه فالتجفيف عليه أغلب. ولذلك صار حابسا للبطن. ولهذه
الجهة صار إذا سلق ورمي ماؤه وطبخ بماء ثان، كان حابسا للبطن، ولا (2) سيما إذا طجن بعد سلقه.
وإذا شرب ماؤه الذي سلق به، أطلق البطن. وإن أردت أن تصير الجرم ملينا، فأعد ذلك إلى جانب
القدر الذي تسلقه فيها مري وزيت. فإذا سلقته، فاستلبه من مائه الذي سلقته فيه قبل أن يتهرأ وألقه
في المري والزيت بحرارته التي خرج بها من القدر واستعمله. فإن أردته أن يحبس البطن فاسلقه سلقا
معتدلا، وصب عنه ماءه الذي سلقته به والق عليه ماء ثانيا حارا (3) يغلي واسلقه به ثانية حتى يتهرأ. فإن
أردت أن تقل غائلة الكرنب، فاطبخه بعد أن تلقي عنه ماءه الذي سلقته به بدجاج سمين أو بلحم حمل
حولي مجزع (4) من حيوان سمين وطيبه بالجوز والكزبرة والفلفل والكمون والثوم. وما كان من قضبان
الكرنب نابتا بالقرب من الأصل، كان أدر للبول وأحمد للمعدة.



(1) في الأصل: ثلاث.
(2) (ولا) مستدركة في الهامش.
(3) في الأصل: ثاني حار.
(4) المجزع من اللحم: ما فيه أحمر وأبيض.
409
ومن منافعه على سبيل الدواء أن أكله نافع من الارتعاش ومن ضعف البصر العارض من الرطوبات
الغليظة، إلا أنه يحدث في البصر الصحيح ظلاما، لأنه يجفف بعض رطوبته الغريزية، ويفعل في البصر
فعل العدس إذا لم يواف رطوبة فضلية يفعل فيها إلا أن يكون في رطوبة العين الطبيعية من الزيادة ما يقابل
فعله فلا يتبين أثره فيها وإن كان بين ما يتولد من الكرنب وبين ما يتولد من العدس فرق بين، من قبل أن
ما يتولد من العدس أغلظ وأكثف وأبعد انحلالا وأقرب من السوداء. وذلك لصلابة جرم العدس واكتنازه
وكثافته، وذلك لجفافه وعدمه الرطوبة التي كانت فيه وهو طري أخضر. وما يتولد من الكرنب أرق
وأسرع انحلالا من قبل أن الكرنب بقلة من البقول، والبقول فرطبة لينة سريعة الانحلال والانفشاش لما
فيها من الرطوبة الفضلية المكتسبة من الماء.
ومن فعل الكرنب على سبيل الدواء أن عصارته إذا خلطت بشراب وشربت، نفعت من لسعة
الأفعى. وإذا أكل نيئا بالخل، نفع من غلظ الطحال. وإذا أكلت مرقته المعروفة بالكرنبية، أطلقت
البطن وأدرت البول. ومن خاصة الكرنب أن أكله نيئا قبل الشراب، يمنع من كثرة السكر وسرعته، لأنه
يغلظ البخار ويمنعه من الترقي إلى الرأس بسرعة. ولذلك صار أكله بعد الخمار محللا للخمار. ومن خاصة
بزر الكرنب إذا تحملت المرأة منه وزن درهمين مدقوقا بعقب المباضعة، أفسد المني وأخرجه من الرحم.
وإذا شرب، قتل الدود وحب القرع فأخرجه من البطن ولا سيما إذا شرب بعده شيح (1) أرمني غير مطبوخ
وإن كان ماء الترمس وبزر الكرنب المصري أخص بذلك وأوجدته (2) من طريق أنه أكثر جفافا وأشد مرارة
حتى أنه لمرارته يكاد أن لا يؤكل. وبزر الكرنب البري يفعل مثل ذلك أيضا. وكذلك يفعل في سائر العلل
المحتاجة إلى اليسير من الجلاء.
وأما قضبان الكرنب فإنها إذا أحرقت، صار رمادها يجفف تجفيفا قويا حتى أن قوته تكون محرقة.
فإذا خلط هذا الرماد بشحم عتيق واستعمل، نفع من أوجاع الجنبين العتيقة وحللها. وزهر الكرنب إذا
عمل منها فزرجة واحتملتها المرأة بعد الحبل، قتل الجنين.



(1) حشيشة تشبه الأفسنتين. والشيح هو الفراسيون ويسمى أبو الركب.
(2) كذا في الأصل. مع إشارة في الهامش إلى غموضها.
410
في الكرنب البري
أما الكرنب البري فأكثر ما ينبت في سواحل البحر وفى المواضع العالية، وهو شبيه بالبستاني، إلا أنه
أقل خضرة منه وأميل إلى البياض وأكثر زغبا. ومزاجه أحر وأيبس من البستاني لان سائر البقول البرية
أقوى في هاتين الكيفيتين لا محالة. ولذلك صار إذا أكل أو شرب، لم يسلم آكله من أذيته لكثرة بعده من
مزاج بدن الانسان. ويدل على ذلك كثرة مرارته وحرافته، لان الكرنب البستاني وإن كان فيه مرارة
وحرافة، فإن ذلك في البري أشد وأقوى. ولذلك صار جلاؤه وتحليله أكثر. وإذا شرب، كان فعله في قتل
الديدان التي في البدن أسرع. فإن طبخت قلوبه بماء الرمان الحامض، لم تكن رديئة الطعم. وإن عمل
من ورقه ضماد، حلل الأورام البلغمانية.
في الكرنب البحري
وأما الكرنب البحري فبعيد الشبه من الكرنب البستاني وله ورق شبيه بورق الزراوند المدحرج.
وأصل ورقه الذي به متصل الورق بالقضبان، أحمر، وله لبن ليس بالكثير وطعمه مائل إلى الملوحة مع
يسير من مرارة. وإذا أكل، أسهل البطن وفعل في قتل الدود وحب القرع أكثر من فعل الكرنب البستاني.

411
في الكرنب البستاني المعروف بالقنبيط
وأما القنبيط فهو أغلظ وأبطأ في المعدة، ولذلك صار أحمد ما فيه ورقه الرقيق الغض النابت حول
القلب، أعني بالقلب جماره الذي في وسطه، لان ذلك الورق أقل ضررا من الجمار لغلبة المائية عليه،
وقلة حرافته وإن كان اجتناب الكرنب كله على الجملة أحمد، لتوليده الدم العكر الغليظ. وأفضل استعماله
أن يسلق بماء وملح وإهراق الماء الذي يسلق به عنه، ويطبخ بعد ذلك بالدجاج السمين واللحم المجزع
من حيوان سمين مع دهن لوز أو زيت انفاق ويطيب بالكسفرة اليابسة والفلفل والكمون والجوز. والاكثار
منه يضعف البصر القليل الرطوبة. ومن خاصة بزره أنه يفسد المني إذا تحملته المرأة بعد الطهر من
الطمث. وإذا شرب قبل الشراب، منع من كثرة السكر. وإذا شربه المخمور، حلل خماره.

412
في الشلجم البري المعروف بالبونيارس
ويسمى راواين
الشلجم (1) البري شجرة كثيرة الأغصان طولها نحو من ذراع ليس لها أصل كأصل الشلجم
البستاني، وعرض ورقها كعرض الابهام وأعرض قليلا، وله ثمر في غلف يسمى البونيارس، إذا تفتحت
تلك الغلف، ظهر في جوفها غلف أخر، وفى جوف الغلف الثانية بزر صغير أسود إذا كسر كان داخله
أبيض وحرارته في الدرجة الثانية ومنافعه كثيرة. وخاصته واحدة لا يتجاوزها وهو النافع من الأدوية
القاتلة. وقد يستعمل كثيرا في الغمر (2) وفى سائر الأدوية المنقية للبشرة مثل الأدوية المستعملة بدقيق
الترمس ودقيق الباقلي والكرسنة وما شاكل ذلك. وذكر منه ديسقوريدوس صنفا (3) آخر من الشلجم (4)
صغير المقدار إذا أكل أصله مطبوخا، ولد نفخا وغذى غذاء أقل من غذاء الشلجم البستاني. وإذا تقدم
الانسان بشرب بزره قبل الأدوية القتالة، أبطل فعلها، ولذلك استعمله الأوائل في المعجونات والترياقات
النافعة من مثل ذلك. وزعم أيضا أن هذا الصنف من الشلجم قد يستعمل بالماء والملح ويؤكل.



(1) ويقال سلجم. وهو اللجفت.
(2) الغمر والغمرة: الزعفران أو الورس أو تمر ولبن يطلى به وجه المرأة ويداها حتى ترق بشرتها.
(3) في الأصل: صنف.
(4) في الهامش: (كأنه أراد الشلجم الذكر).
413
في الفجل
الفجل أيضا على ضربين: لان منه البري، ومنه البستاني. فاما البستاني فيسخن في الدرجة الثالثة
ويجفف في الدرجة الثانية ويغذو غذاء أقل من غذاء الشلجم وحرافته. وإن كان غذاؤه مع ذلك غليظا
بطئ الانهضام مضرا (1) بالمعدة وغير موافق للعينين والأسنان والحلق ولجميع أوجاع الأرحام.
وأما على مذهب الدواء، فإنه ملطف منق مصف للحواس غاسل للكلى والمثانة من الفضول
الغليظة العارضة فيها، مدر للبول، مذيب للحصى. وإذا أكل مطبوخا على سبيل الدواء، نفع من
السعال العارض من الرطوبة. وإذا أكل نيئا ولد مغصا ورياحا غليظة، وكان غير محمود للمعدة. وقد
يستدل على كثرة رياحه وغلظه من الجشاء المتولد عنه وقوة نتنه وبخاصة إن أكل قبل الطعام لأنه إذا قدم قبل
الطعام، ثور (1) الطعام برياحه، وقلبه قلبا ورقاه صعدا ومنعه من التسفل والهبوط إلى قعر المعدة وموضع
الطبخ فتعذر لذلك نضجه وقل انهضامه وبعد انحداره وكثرت رياحه وجشاؤه وهيج القئ لأنه بتثويره
يضطر الطباع إلى أن تصرف فعلها إلى فوق وبخاصة فيمن كانت معدته مولدة للرياح بالطبع. وإذا أكل
بعد الطعام، قل ما يترقى من رياحه وجشائه إلى فوق وهبط سفلا ولين البطن، من قبل أنه بثقله وكثرة
رياحه يزحم الطعام ويدفعه إلى قعر المعدة ويعين على هضمه ويحدره بسرعة. وإذا انحدر الطعام عن المعدة
بسرعة، قل الجشاء ولانت البطن وسهل نفوذ الغذاء في العروق وقوي الهضم الثاني الكائن في الكبد. وهذه
أفضل منافع الفجل إذا أكل في آخر الطعام، وبخاصة فيمن كانت طبيعته سريعة الإجابة ومعدته بعيدة من
تولد الرياح بالطبع. ولذلك وجب على من أراد استعماله لجودة الهضم الأول والثاني، ولتليين البطن أن يصيره
في آخر الطعام.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: وإنني لاسمع قوما من الأطباء، وأرى كثيرا من الناس يذكرون



(1) في الأصل: مضر.
(2) أي هيجه.
414
من أمر الفجل قولا عجيبا لأنهم يزعمون أنهم إذا أكلوه نيا بعد الطعام، انتفعوا به في حسن الاستمراء،
ويزعمون أنهم امتحنوا ذلك مرارا بطول التجربة فوجدوه صحيحا. ثم أنكر ذلك في موضع آخر وقال:
ما علمت أن أحدا امتثل هذا الفعل إلا وجد ضرره. ولعل ظانا يظن أن بين قوله هذا وبين قوله الأول
تناقض، فنعرفه بطلان ذلك من قبل أن حكمه في الابتداء إنما كان في المعدة الصحيحة القوية الهضم،
البعيدة من تولد الرياح بالطبع، وحكمه في هذا الموضع إنما هو في من كان هضمه ضعيفا ومعدته كثيرة
التولد للرياح دائما بالطبع، وطعامه أبدا طافيا إلى فم المعدة لان من كانت هذه حاله وتناول الفجل في آخر
طعامه، من قبل أن الطعام إذا صار إلى معدة مولدة للرياح بالطبع، حملته الرياح عند ابتداء الطبخ فطفا
وصار إلى أعلى المعدة. فإذا وافى الفجل هناك اختلط به وصار حكمه حكم الطعام الذي يوجد بعد أكل
الفجل.
وأما القضبان التي (1) تخرج في قلوب الفجل في زمان الربيع المعروفة باللجلاج فإنها إذا أكلت مسلوقة
بماء كافح (2) وملح وزيت انفاق، كان غذاؤها أكثر من غذاء الفجل الذي يؤكل نيا لان حرافتها تزول عنها
في الماء الذي يسلق به وإن كان غذاؤها أيضا يسيرا جدا بالطبع، وشرب ماء الفجل ألطف من
الفجل وأعون على جودة الهضم، لان جرم الفجل لغلظه وبعد انهضامه، يطول لبثه في المعدة. وإذا طال
لبثه هناك، تعفن وعفن ما يصادفه فيها من الطعام. ومن قبل ذلك صار ورق الفجل ألطف من الفجل
وأحمد غذاء لأنه أكثر مائية وأقل حرافة وأسرع انهضاما لما فيه من الرطوبة الفضلية المكتسبة من الماء.
ومن منافع الفجل على سبيل الدواء أنه إذا أكل، نفع من الخناق العارض من أكل الفطر القتال
وإذا شرب ماؤه، أدر الطمث. وإذا خلط ماؤه بدقيق الشيلم وطلي على داء الثعلب، أنبت الشعر فيه.
وإذا طلي على النمش وعلى الخضرة العارضة في الوجه، نقاها ونفع من البثور اللبنية. وإذا عمل منه
ضماد، نفع من لسعة العقرب والأفعى. وإذا عجن بعسل وحمل على القروح الخبيثة، نقى وسخها. وإذا
حمل على الكمودة الكائنة تحت العين، أزالها. والمختار من الفجل ما كثر مائيته ورق جسمه وقل مقداره
ولم يعظم. ومن خاصة الفجل النفع من اليرقان العارض عن سدد الطحال وغلظه، إذا شرب ماؤه
بالسكنجبين. وإذا عمل منه ضماد على الطحال، فتح سدده وحلل غلظه.
وأما لحاء أصل الفجل فإنه ضار بأصحاب وجع المفاصل لحدته وحرافته إلا أنه إذا شرب بسكنجبين،
كان أكثر تسهيلا للقئ وأوفق لأصحاب الاستسقاء من الورق والأصل جميعا، لأنه أشد حرافة وأكثر
تلطيفا. ولذلك صار مرقا للبلغم ومذيبا له، وإن كان الورق والأصل يفعلان ذلك، فإن فعلهما دون
فعل اللحاء كثيرا.



(1) في الأصل: الذي.
(2) (كافح) مضافة في الهامش.
415
فأما بزر الفجل فإنه إذا شرب بالخل، هيج القئ وأدر البول وحلل جسأ الطحال. وإذا شرب
بسكنجبين عسلي، نقى الكبد من الرطوبات الغليظة وقوى الهضم الثاني الكائن في الكبد. وإذا طبخ
بسكنجبين وتغرغر به وهو حار، نفع من الخناق العارض من الرطوبات الغليظة. وإذا شرب بشراب،
نفع من نهش الحية التي تدعى فرسطس. وإذا دق وخلط بمثل ربعه كندس (1) وعجن بخل ثقيف، وطلي
على البهق في الحمام، نقاه وغسل الجلد.
في الفجل البري
وأما الفجل البري فأهل رومية يسمونه أومودامين (2). وورقه شبيه بورق الخردل البري، وله أصل
دقيق طويل، وطعمه إلى الحرافة ما هو. ولذلك صار مسخنا ملهبا مدرا للبول. وربما طبخ أصله وورقه
وأكل.



(1) الكندس: عروق نبات. معطس.
(2) وروي: ارموراميون.
416
في الهليون
ويسمى بالغرب الاسفزاج
الهليون حار رطب في الدرجة الأولى، إلا أنه على ضروب: لان منه البستاني، ومنه البري، ومنه
الصخري. فأما البستاني فهو أعدلها وأكثرها لأنه ذا انهضم واستحكم نضجه، كان غذاؤه أكثر من
غذاء سائر البقول. ولذلك صار زائدا في المني. وهو مع ذلك موافق للمعدة ومدر للبول.
وأما البري فهو أكثر يبسا وجفافا من البستاني. وأما الصخري فهو أقلها كلها رطوبة. ولذلك صار
أقواها جلاء من غير إسخان بين ولا تبريد ظاهر إلا أنه لفرط جلائه، صار مفتحا لسدد الكبد والكلى
ومدرا للبول ونافعا من اليرقان العارض ومن سدد الكبد ومحللا لأوجاع الكبد والعارضة من الرطوبة. وأصله
إذا طبخ وشرب ماؤه، فعل جميع ما ذكرناه في جرم الهليون. وبزره أيضا يفعل مثل ذلك. وإذا طبخ
أصل الهليون وبزره بالشراب وشرب طبيخهما، نفعا من نهش الرتيلاء. وإذا سلق الهليون سلقة حقيقية
وأكل، لين البطن ونفع من أوجاع الظهر العارضة من الرياح البلغمانية وحلل أوجاع القولنج بتليينه
للبطن. وإذا تمضمض بطبيخه، نفع من وجع الأسنان. وزعم بعض المحدثين أنه زائد في الباه، ولم
يذكر ذلك جالينوس ولا ديسقيريدس.
وأنا أقول: إنه، وإن فعل ذلك فإنما يفعله بزيادة في المني لكثرة غذائه، لا لأنه يزيد في الانعاظ،
لان الزيادة في الانعاظ يحتاج إلى كثرة الرياح، والهليون معرى من ذلك. والبستاني من الهليون أخص
بالزيادة في المني من البري والصخري، لأنه أرطب وأكثر غذاء. وزعم ديسقيريدس أن الكلاب إذا شربت
طبيخ الهليون، قتلها. وزعم قوم أن قرون الكباش إذا قطعت وطمرت في طين عذب، أنبتت هليونا
بإذن الله.

417
في الجزر
الجزر في الجملة حار في وسط الدرجة الثانية، رطب في وسط الدرجة الأولى، وهو على ضربين:
لان منه الريفي، ومنه البري. والريفي أقل حرارة من البري. وقد يؤكل نيا أو مطبوخا، إلا أنه غليظ
بطئ الانهضام، يغذو غذاء أقل من غذاء الشلجم، وفيه حرافة يسيرة بها صار ملطفا للفضول مدرا
للبول والطمث جميعا. وفى أصله قوة نافخة بها يهيج الانعاظ، وإذا أكثر منه وأدمن على أكله، ولد دما فيه
تعفن الرداءة. ومما يدفع ضرره أنه يسلق سلقتين ويرمى ماؤه الذي يسلق به، ويطبخ بعد ذلك باللحم
والكسبرة الرطبة والبصل والزيت الانفاق ويطيب بالخل العذب اللين والفلفل والكراويا. وإن لم يكن الخل
لينا عذبا فتكسر حدته بالماء ويعذب بشئ من السكر.
وأما البري فهو نبات له ورق شبيه بورق الشاهترج، إلا أنه أعرض منه قليلا وطعمه إلى المرارة ما
هو وساقه مستو له خشونة، وعلى رأسه إكليل شبيه بإكليل الشبت وزهر أبيض، وفى وسط الزهر منه شئ
شبيه بشكل الفطر ولونه فرفيري (1). وأصل هذا النبات على غلظ الإصبع وطوله نحو من ذراع أو ذراعين
وله رائحة طيبة. ومن هذا النبات تستخرج القنه. وبزره يعرف بالدوقوا. وإذا شرب، نفع من
الشوصة (2) البلغمانية ومن الاستسقاء ونهش الهوام، وأدر البول والطمث وفتح سدد الكبد ونقى أوراد
الأرحام وأعان على الحبل. وذا تحملته المرأة، أدر الطمث أيضا. وإذا شرب طبيخه، نقى الصدر
بالنفث وحلل ما في المعاء من المواد الغليظة ونفع من الأمغاص. وإذا خلط معه بزر الكرفس، قوى
فعله.
وأما أصله فإنه يحرك قوة الجماع ويدر البول. وإذا تحملته المرأة، أخرج الجنين. وورقه إذا دق
وعجن بعسل ووضع على القروح العفنة، نقاها. والريفي من الجزر يفعل مثلما يفعله البري، غير أنه
أضعف فعلا في جميع ما وصفنا خلا المعونة على الجماع، فإن الريفي أقوى على ذلك، لان رياحه أكثر
وغذاؤه أزيد. وزعم ديسقوريدوس أن في بعض البلدان جزر له رائحة طيبة وفيه ما في الأصول كلها من
بعد الانهضام إلا أنه مدر للبول. والاكثار منه يولد دما غير محمود. والله أعلم.



(1) نسبة إلى الفرفير وهو صمغ أحمر.
(2) ريح نعقد في الأضلاع، أو تأخذ الانسان في أماكن من جسمه تتنقل فيها.
418
في الريباس
الريباس بارد يابس في الدرجة الثانية، ويدل على ذلك حموضته وقبضه. وحموضته غير مضرسة
للينها. ولقبضه صار مقويا للمعدة ودابغا لها وقاطعا للعطش والاسهال والقئ.
القول في البقول البرية
أما البقول البرية فإنها وإن لم تصلح لتغذية الأبدان، إلا أن فيها منافع كثيرة على سبيل الدواء،
وبخاصة عنب الثعلب واللبلاب والأفسنتين وما شاكل ذلك. ولهذه الجهة، رأينا (1) أن نذكرها في كتابنا
هذا لحاجتنا إليها في المعونة على هضم الأغذية وتلطيف غلظها وتفتيح السدد المتولدة عنها. ولا قوة إلا بالله
عز اسمه.
في عنب الثعلب
أما عنب الثعلب فهو على ضربين: لان منه نوعا يزرع في البساتين ويؤكل، ونوعا (2) آخر لا يؤكل
أصلا. فأما البستاني فإن أعظم نباته دون عظم نبات البري، إلا أن أغصانه أكثر وورقه أكبر من ورق
الباذروج، وأشد خضرة كأنه مسني (3) اللون وله ثمر مستدير يكون في (4) ابتدائه أخضر وأسود، وإذا نضج
صار أحمر. وأكثر الناس يعرفونه ويستعملونه في العلل المحتاجة إلى التبريد والقبض، لأنه في طبيعته (5)
يابس في الدرجة الثانية، وأكله غير ضار إلا أنه مانع للاحتلام. وإذا أكل مسلوقا، كان نافعا من الأورام
الحارة العارضة للكبد ولسائر الأعضاء الباطنة، وإن كان من الواجب أن لا يقصد العلاج به في ابتداء
حدوث الأورام، لان الأورام في ابتدائها تحتاج إلى تقويته أكثر من تلطيفه، مثل الحشيشة المعروفة بلسان
الحمل، والمعروف بالبرسياندار وهي عصا الراعي، ويعرف بالشام بالشبطباط (6). وأما عنب الثعلب



(1) في الأصل: صارأينا. و (صا) ملغاة بشطبة.
(2) في الأصل: نوع.
(3) نسبة إلى حسن الزيت الأخضر.
(4) (في) مكررة في الأصل.
(5) بعدها في الأصل: (بارد) ملغاة بشطبة.
(6) بل هو البطباط.
419
فليس كذلك لان تلطيفه أكثر من تقويته. ولذلك وجب ألا يستعمل إلا في أواخر العلل. ويدل على ذلك
أنه متى أتخذ منه ضماد وحمل على الأورام الحارة في آخر تولدها، سكن لهبها وحللها. وإذا (1) عمل من
ورقه ضماد على المعدة، سكن حرارتها. وإذا خلط مع السويق المعروف بالسبقون، نفع من الحمرة ومن
النملة. وإذا عصر ماؤه وخلط باسفيداج الرصاص ومرداسنج (2) ودهن ورد، فعل مثل ذلك. وإذا دق
الورق مع شئ من ملح، نفع من الأورام العارضة في أصل الآذان. وإذا ضمدت (3) به رؤوس الصبيان
مرات، ساعة بعد ساعة، حلل الأورام العارضة في أدمغتهم. وإذا قطر من مائه في الآذن، سكن
وجعها. وإذا تحملت المرأة من مائه في صوفة، منع من سيلان الرطوبات إلى الأرحام وقطع دم الطمث.
وإذا ديف في مائه المنزوع الرغوة شيافات العين وصير عوضا من الماء العذب وبياض البيض، دفع سيلان
الرطوبات الحادة إلى العين.



(1) في الأصل: وإذ.
(2) هو المرتك. دواء يعمل من الرصاص، ومنه ما يعمل من الفضة.
(3) في الأصل: ضمد.
420
في النوع البري الذي لا يؤكل أصلا
وأما عنب الثعلب البري فهو ثلاثة (1) ضروب: لان منه نوعا (2) يعرف بالكاكنج (3)، والعامة تسميه
عنب الذئب. ومنه نوع ثان يدخل في جنس ما يجلب النوم من النبات. ومنه نوع ثالث يحدث عنه
جنون. فأما الأول المعروف بالكاكنج فورقه شبيه بورق عنب الثعلب، إلا أنه أوسع وأكثر استدارة وأقل
خضرة، لان لونه مائل إلى لون ورق القرع وورق الخطمية، وارتفاع قضبانه من الأرض أكثر من ارتفاع
عنب الثعلب البستاني. وإذا طالت قضبانه، مالت إلى أسفل. وله ثمر أحمر مستدير داخل غلف شبيه
بالمثانة. وزعم جالينوس عن اليونانيين أنهم كانوا يستعملون منه أكاليل على رؤوسهم، وقوة ورقه مشاكلة
لقوة ورق عنب الثعلب البستاني، غير أن ورق عنب الثعلب البستاني يؤكل وورق هذا لا يؤكل، إلا أنه
على سبيل الدواء مدر للبول منق لليرقان مستفرغ للمواد المولدة له بالبول. ولذلك صارت الأوائل تدخله
في أدوية كثيرة تصلح في علاج الكبد والكلى والمثانة. وقد تستخرج عصارته وتجفف وتخزن وتستعمل في
جميع ما ذكرنا.
وأما النوع الثاني الجالب للنوم فلحاء أصله إذا شرب منه وزن مثقال بالشراب، جلب النوم.
ولذلك صار في أكثر خصاله قريبا من الأفيون، إلا أنه أضعف فعلا منه كثيرا لان برودته في الدرجة
الثانية، وبرودة الأفيون في الدرجة الرابعة. وإذا أخذ منه بزره بقدر ما كانت له قوة على درور البول.
فإن أخذ منه اثنتا عشرة (4) حبة عددا، أحدث لشاربه شبيها (5) بالجنون، والتبس عليه عقله، واعتقل
لسانه. وعلاج ذلك أنه يقيأ صاحبه ويطلق بطنه بالحقن ويسقى الشراب المجلوب من غلوطون ويسقى
الأفسنتين بالشراب أيضا، ويشرب لبن الأتن والبقر والغنم حليبا أو سخنا.



(1) في الأصل: ثلاث.
(2) في الأصل: نوع.
(3) ويعرف البستاني منه بحب اللهو.
(4) في الأصل: اثني عشر.
(5) كذا في الأصل. ولعلها: حالا شبيها.
421
وأما النوع الثالث المخصوص بتوليد الجنون فليس ينتفع به شئ من العلاج إذا شرب أصلا، من
قبل أنه إذا أخذ منه أربعة مثاقيل، قتل. وإذا أخذ من هذا الدواء مثقال واحد، أحدث لآخذه جنونا
وسكوتا والتباس العقل وانقطاع الكلام. وإن اقتصر منه على وزن مثقال فإنه وإن لم يؤذ (1)، لم ينتفع به
أصلا. وأما استعماله من خارج، فإنه إذا عمل منه ضماد (2)، أبرأ القروح الرديئة. وأنفع ما يستعمل مه
لحاء أصله لان تبريده في وسط الدرجة الثانية، وتجفيفه في آخرها أو في أول الثالثة.



(1) في الأصل: يؤذي.
(2) في الأصل: ضمادا.
422
في اللبلاب
اللبلاب يقال على ضربين: لان منه شئ يعرف باللبلاب على الحقيقة، وله قضبان طوال تتعلق
بكل ما قرب منها من ثياب أو غيره. وأكثر نباته في السباخات وأمرجة الكروم، وله ورق مستطيل شبيه
بورق الخلاف، إلا أنه أقصر منه. وأسفل الورقة منه مما يلي القضيب مركن ولكل ركن منها ذؤابة شائلة
مقدار طول الظفر وله ثمر أسود شبيه بورق الكراث مركن بثلاثة أركان، وهو في غلف.
وجملة النبات يكون على ضربين: لان منه ما يكون رطبا طريا، ومنه ما يكون يابسا جافا. فما كان
منه يابسا جافا، كان فيه جوهر قابض أرضي، وجوهر لطيف حريف. وما كان منه رطبا، كان فيه مع
جوهره القابض الأرضي وجوهره اللطيف الحريف، وجوهر رطب مائي مكتسب من الماء. فإذا جف،
فارقه ذلك الجوهر المائي، ونقى بجوهره القابض وجوهره الملطف فقط. ولذلك صارت له قوة مفتحة
للسدد وبخاصة سدد الكبد. وأما عصارة الطري منه فإنها إن استعملت نيئة غير مطبوخة، كان إطلاقها
للبطن أكثر وتفتيحها للسدد أقل، ونفعت منه حميات العفن ذات الأدوار وبخاصة الحمى المعروفة
بامقتمارنيوس. فإذا طبخت هذه العصارة ونزعت رغوتها وخضرتها وأرضيتها، صار إطلاقها للبطن أقل
وتفتيحها للسدد أكثر. وإذا طبخ ورق هذا النبات بخل أو استخرجت عصارتها بالدق والعصر، وخلطت
وعمل منها ضماد، سكنت وجع الطحال وفتحت سدده وحللت أوراقه. وإذا دق الورق وخلط بالقيروطي
المعمول من الشمع الأبيض المغسول ودهن ورد، نفع من حرق النار ومن التنفط العارض من الماء الحار.
وإذا خلط ماؤه بدهن ورد وقطر في الاذن، سكن أوجاعها المزمنة العارضة فيها. وإذا استعط بمائه، نفع
من نتن الخياشيم ونقى أوساخها.
وزهر هذا النبات ونواره أقوى فعلا من ورقه. ولذلك صار إذا سحق وخلط بقيروطي كانت منفعته
في حرق النار والتنفط العارض من الماء الحار أقوى فعلا من منفعة الورق وثمرته إذا أكلت وهي غضة،
عقلت البطن. وأما لبن هذا النبات السائل منه إذا قطع غصن من أغصانه، فإن له قوة تحرق إحراقا

423
خفيا. ولذلك صار في ماء هذا النبات إذا شرب من غير أن يغلى، قوة (1) على إطلاق البطن. وإذا غلي
ونزعت رغوته، زال عنه إطلاقه للبطن وأعان على تفتيح السدد. وإذا غسل به الرأس من غير أن يغلى،
قتل القمل والصئبان ونقى الشعر.
ومن (2) اللبلاب جنس آخر أغلظ ساقا وأعظم ورقا من النوع الأول له قوة حادة تقوم مقام
اليتوعات. ولذلك صار خبيثا خطرا لا يجب استعماله في العلاجات بالشراب أصلا.



(1) في الأصل: قواه.
(2) في الأصل: (واما) ومصححة كما أثبتنا.
424
في العليق
وأما العليق فإن ورقه مشاكل لورق الورد في خضرته وشكله وخشونته. وله ثمر شبيه بثمر التوت في
صورته. وفى ابتدائه تكون قوته مجففة ظاهرة القبض جدا، ثم ينتقل إلى الحموضة. فإذا نضجت، مالت
إلى الحلاوة. وقوة أصل هذا النبات وأغصانه وزهره وورقه وثمرته قوة واحدة قابضة مجففة لا خلاف بينهما
إلا في القوة والضعف فقط. والسبب في ذلك قلة المائية وكثرتها في بعضها دون بعض. وذلك أنه لما كان
الأغلب على الورق والأطراف الرطوبة المائية لطرائها وقربها من النبات، صار القبض فيها أقل لأنها مركبة
من جوهر مائي وجوهر أرضي. ولذلك صارت إذا مضغت، نفعت من القلاع وسائر القروح العارضة
للفم.
وأما ثمرته إذا كانت نضجة، كانت حارة باعتدال لأنها مائلة إلى الحلاوة قليلا. ولهذه الجهة صارت
تؤكل وتستلذ وإذا كانت غير نضيجة، كان الجوهر البارد الأرضي عليها أغلب، لان العفوصة والحموضة
أظهر فيها وأقوى. ومن قبل ذلك صارت تجفف تجفيفا قويا وإن كان النضيج منها وغير النضيج مجففا
منشفا للرطوبات. فإذا يبست كان تجفيفها أكثر.
وأما دهن هذا النبات فإن قوته كقوة ثمرته بعينها. ولذلك صار نافعا من الاسهال العارض من
ضعف المعدة وقرح المعاء. وأما أصل هذا النبات فإن فيه مع قوته القابضة من الجوهر اللطيف مقدارا ليس
باليسير. ولذلك صار مفتتا للحصى العارضة (1) في الكلى. وزعم ديسقيريدس أن شجرة العليق إذا
طبخت (2) بورقها صبغت الشعر. وإذا شربت، عقلت البطن ونفعت من سيلان الرطوبات المزمنة إلى
الأرحام، ومن نهشة الاقرطسس (3). وإذا دق ورقها وعمل منه ضماد على المعدة، قواها ومنع من سيلان
الرطوبات إليها.
وإذا مضغ، شد اللثة ونفع من القلاع. وإذا عمل منه ضماد على العين، نفع من النتوء العارض



(1) في الأصل: العارض.
(2) يقصد أغصانها.
(3) وروي: الاقرسطس.
425
لها. وإذا حمل على البواسير، أذبل ورمها وبخاصة البواسير التي يسيل منها الدم. وإذا حمل على الرأس،
أبرأ القروح الرطبة العارضة فيه. وإذا حمل على العلة المعروفة بالنملة، منعها أن تسعى في البدن.
وعصارة الورق والأغصان إذا جففت في الشمس، كان فعلها أقوى من فعل الورق. وإذا نضجت
ثمرة هذا النبات نضجا كاملا، كانت عصارته نافعة من أوجاع الفم. وإذا أكلت وهي غضة قبل أن
يكمل نضجها، عقلت البطن وزهرها أيضا يفعل مثل ذلك وينبغي أن يحذر من هذا الثمر زغبها
وزئبرها (1) الذي يعلوها، لأنه مضر بالعروق وبخاصة عروق الرئة. وذكر جالينوس نوعا ثانيا من العليق
يعرف بعليق الكلب، وزعم أن قوته قوة القبض وفى ورقه قبض يسير. وما كان كذلك فمنفعته معلومة
بينة إلا أنه يحذر منها ما كان لثمره زغب شبيه بالقطن لأنه ينكئ قصبة الرئة وينهكها (2).



(1) (زئبرها) مصححة في الهامش. كونها في المتن تعرضت لتحريف.
(2) في الهامش مصححة ثلاث مرات برسوم مختلفة.
426
في الشاهترج
لما كان في الشاهترج طعمان مختلفان، مرارة وقبوضة، وجب أن يكون في مزاجه حرارة وبرودة معا،
ومع الطعمين جميعا وجب له التجفيف، وبخاصة والقبض عليه أغلب في الدرجة الثالثة، وحرارته في
الدرجة الأولى، ولأن القبض على مزاجه أغلب صار مقويا للمعدة دابغا لها وللثة جميعا، منبها لشهوة
الطعام. وليبس مرارته صار مفتحا لسدد الكبد ومدرا للبول ومحدرا (1) للمرة المحترقة ومصفيا للدم. وقد
يؤكل نيا ومسلوقا مطيبا بالمري والزيت، ومن الناس من يطيبه بالخل والزيت والسذاب. فإذا أكل بالخل
كانت (2) تقويته للمعدة أكثر ومعونته على شهوة الطعام أقوى وإطلاقه للبطن أقل. وإذا أكل بالمري، كانت (3)
تقويته للمعدة أقل وإطلاقه للبطن أكثر. وإذا شربت (2) عصارة الرطب منه نية غير مطبوخة، أحدرت
الاحتراقات المرية ونقت عفونة الدم ووسخه، ونفعت من الحكة والجرب العارضين من الدم العفن والصفراء
المحترقة والبلغم المتعفن. وهذه خاصة عصارة الرطب منه. وإذا أكل مع الكبر (3) المربى بالخل، سكن الغثي
وقطع القئ العارض من البلغم. والمختار منه ما كان حديثا أخضر ظاهر المرارة.
في الغافت
الغافت (4) حار في الدرجة الأولى، يابس في الثانية، له لطافة وتنقية بهما صار نافعا من أوجاع الكبد
ومحللا لجسئها ومفتحا للسدد العارضة فيها ونافعا من الحميات المتقادمة وبخاصة الحمى المعروفة بالربع
وحميات الصبيان. وعصارته في جميع ما ذكرنا أقوى فعلا من نباته. وزعم بعض الأوائل أن فيه قوة على
تحليل جسأ الطحال. وأما جالينوس...
(5) فعله كذلك بالكبد فقط.



(1) في الأصل: ومحدر.
(2) في الأصل: بدون تاء التأنيث.
(3) نبات يسمى القبار. وفى اليمن يقال له اللصف.
(4) هو العرفج: حشيشة يشبه ورقها ورق الشهدانج.
(5) فراغ في الأصل مقدار كلمتين أو ثلاث.
427
في الأفسنتين
الأفسنتين في الجملة حار ويابس، إلا أنه يختلف في ذلك في القلة والكثرة، والقوة والضعف على
حسب اختلاف نوعه، وذلك أن منه نوع مشهور معروف بالأفسنتين على الحقيقة. ومنه نوع يسمى
ساريقون وهو الشيح. ومنه نوع يسمى ساطوليقن اشتق له هذا الاسم من بلدته التي ينبت فيها. فأما
الأفسنتين على الحقيقة فهو أقلها حرارة ودونها في اللطافة، لان الغالب على طعمه القبض مع شئ من
مرارة ويسير من حرافة. والغالب على طعم الاثنين الباقيين المرارة والحرافة مع ملوحة بينة. ولذلك صارت
حرارة الأفسنتين على الحقيقة في الدرجة الأولى، ويبسه في الدرجة الثالثة لان فيه من القبض أكثر مما فيه من
المرارة والحرافة. ولهذه الجهة صار مقويا للمعدة ودابغا لها. وليسير حرافته ومرارته، صار له جلاء معتدل
به يحدر ما في المعدة من الخلط المري ويخرجه بالاسهال وينقي ما في العروق من الفضول المرية
ويحدرها بالبول. وإذا أخذ وفي المعدة أو الصدر والرئة بلغم محتقن أو رطوبات نية، لم ينتفع به في شئ منها
أصلا، لان القبض عليه أغلب.
وإذا تقدم الانسان بشربه قبل شرب النبيذ، أدر البول ومنع من سرعة السكر ودفع الخمار. وإذا
شرب مع سياليوس (1) أو مع السنبل (2) الأقليطي، نفع من أوجاع المعدة والأمعاء العارضة من النفخ
والرياح الغليظة. وإذا شرب من مائه المستخرج بالدق والعصر، أو من مائه المطبوخ به عدة أيام متوالية،
نفع من عدم الشهوة للطعام ومن اليرقان العارض من سدد الكبد والمرارة. وإذا شرب بالخل، نفع من
الخناق العارض من أكل الفطر. وإذا شرب بالشراب، نفع من سم الدواء المعروف بالكسينا، ومن سم
الحيوان المسمى ميغالي (3) ومن سم التنين البحري. وإذا عجن بعسل وتحنك به، نفع من ورم العضل
الذي (4) على جنبتي اللسان. وإذا ديف بعسل ولطخ على الآثار البنفسجية الحادثة في العين، نقاها وأزال



(1) وروي: ساسالاوس.
(2) هو الناردين.
(3) وروي: موغالي.
(4) في الأصل: التي.
428
غشاوة العين. وإذا جعل منه على هذا المثال الذي وصفنا في الاذن التي يسيل منها رطوبات، جففها ونقاها
ونفع من الطنين والدوي. وإذا دق وقطر ماؤه وخلط بمرارة عنز وقطر في الاذن، نفع من الدوي والصفير
وقوى السمع. وإذا كبت الاذن على بخار طبيخه، نفع من وجعها. وإذا عجن بالميبختج (1) وعمل منه
ضماد وحمل على العين، نفع من وجعها وسكن ضربانها (2). وإذا سحق وعجن بموم ودهن الحناء وعمل
منه ضماد على المعدة والكبد والخواصر، حلل أوجاعها المزمنة. وإذا عجن بموم ودهن ورد وحمل على
المعدة، قواها وسكن أوجاعها وآلامها. وإذا عجن بالتين والنطرون ودقيق الشيلم وحمل على الطحال
وسائر البطن، نفع المطحولين وأصحاب الاستسقاء. وإذا عجن بعسل وتحملته المرأة، أدر الطمث.
وفعل عصارته في جميع ما ذكرنا كأنه مشاكل لفعل الأفسنتين أو أقوى قليلا. إلا أن الأوائل لم تكن
تستعملها لأنهم كانوا يزعمون فيها أنها كثيرا ما تغش بعكر الزيت لان كثيرا (3) من الناس من يأخذ عكر
الزيت بطبخه حتى ينعقد ويغش عصارة الأفسنتين. وزعم بعض الأوائل أن الأفسنتين إذا نثر في الصناديق
التي فيها الثياب، حفظ الثياب من السوس. وإذا سحق وديف بزيت ومسح به البدن، منع البق أن
يقربه. وإذا ديف في مائه المداد وكتب به، منع الفأر من قرض الكتب والقرب منها. وقد يعمل منه
شراب ويستعمل في جميع ما وصفنا متى لم يكن ثم حمى قوية وقال فيه ديسقيريدس قولا لا أدري على أي
سبيل قاله، وذلك أنه زعم أن من الناس من يستعمل هذا الشراب ويظن أنه يورثه صحة، وفى هذا دليل
على إنكاره لما ظنوه به.
وقد ينقسم هذا النوع من الأفسنتين على ضربين: لان منه الرومي، ومنه البحري. والرومي أشد
مرارة وأقوى على تفتيح سدد العروق وغيرها، وأفضل في تلطيفه الأثفال ودرور البول والطمث. والبحري
أشد قبضا وأعون على تقوية المعدة والكبد جميعا. وقد يميز بينهما بأن البحري أصغر ورقا وأقل ارتفاعا من
الأرض وأقل كراهة وأذكى رائحة. والرومي أعظم ورقا وأطول ساقا وأبشع رائحة وأكثر كراهة. وزعم
جالينوس أن أفضل هذا النوع من الأفسنتين ما كان نباته في بلدة يقال لها نيطس.
وأما النوع المعروف بساريقون (4) أي الشيح، فإن بعض الأوائل كان يسميه أفسنتين بحري وقوته
متوسطة بين قوة الأفسنتين على الحقيقة وبين قوة القيصوم، لأنه أكثر إسخانا من الأفسنتين وأقل في ذلك
من القيصوم، من قبل أن الأغلب على طعمه، على ما بينا، الملوحة والمرارة مع شئ من حدة. ولذلك
صارت حرارته في الدرجة الثانية ويبسه في الثالثة. وأما القبض فهو معرى منه وإن كان فيه منه شئ فيسير
جدا غير ظاهر للحس. ولهذا صار مضرا بالمعدة مؤذيا لها من قبل أن كل ملوحة معراة من القبض
والتقوية، فمن شأنها الاضرار بالمعدة. وإذا كان القبض معها، قل إضرارها بالمعدة. وكلما القبض عليها.



(1) هو رب العنب.
(2) ضربت العين: غارت.
(3) في الأصل: كثير.
(4) في الأصل: باساريقون.
429
أغلب كانت منفعتها للمعدة أكثر، لان كل طعمين يمزجا في شئ من الأشياء، فإن الحكم لأكثرهما
مقدارا.
ومن منافع الشيح على سبيل الدواء، فإن فيه لطافة وتحليل بهما يدر البول والطمث ويفتح سدد
الأرحام ويخرج المشيمة والجنين. وإذا تدخنت المرأة به، طرحت (2) الولد. وإذا طبخ بشراب وشرب،
نفع من السموم القاتلة. ودخنته (3) تطرد الهوام. وإذا عمل منه ضماد على لسعة العقرب، نفع من
سمها. ورماده إذا خلط بدهن اللوز أو بزيت عتيق وطلي به داء الثعلب أنبت الشعر فيه. وثمرته إذا
طبخت وشرب طبيخها، نفعت من عسر البول والنفس والخناق وامتناع الطمث ومن وجع عرق النساء
والأرمني أسخن وأقوى فعلا. وزعم قوم أنه يخرج الدم مع البول.
ومن خاصة الشيح في الجملة قتل الدود المتولد في البطن. ولذلك صار إذا طبخ وشرب ماؤه بعسل،
أخرج الدود والحيات من البطن. وإذا طبخ مع الأرز أو العدس وشرب بعسل، فعل مثل ذلك أيضا.
وإذا عمل منه ضماد على البطن، فعل قريبا من ذلك. وإذا اعتلفته الغنم، سمنها وأصلح لبنها.
فأما النوع الثالث من الأفسنتين المعروف بأسطونيقن، فقد بينا أن هذا الاسم اشتق له من بلدته التي
ينبت فيها لان اسمها ساطونيا. وقال قوم سندونيون وصورته شبيهة (4) بصورة الأفسنتين، إلا أنه أقل بزرا
منه. وقوته وفعله مثل قوة الشيح وفعله. ومما هو داخل في هذا الجنس من النبات: القيصوم.
أما القيصوم فسماه قوم البلنجاشف (5) وجوهره جوهر أرضي غليظ، إلا أن قوة حرارته قد ألطفته
كثيرا حتى صار يسخن ويجفف في الدرجة الثالثة لان الانسان إذا فكر في طعمه وأضافه إلى طعم
الأفسنتين، تبين له ذلك لأنه يجد مقدار القبض في الأفسنتين مقدارا ليس باليسير. ويجده في القيصوم
يسيرا لا مقدار له لأنه مخفى عن الحس جدا، حتى أن الطباع لا تشعر به لان المرارة والحدة قد غلبت عليه
وأخفت غيرها من الطعوم. ولذلك صار إضراره بالمعدة كإضرار الشيح بها. ومما يدل على قوة حرارته أنك
لو أخذت قلوبه وزهره وورقه، فجردتها من قضبانها وسحقتها ثم نثرتها على جراحة طرية نقية من الوسخ،
لوجدتها ساعة أن تباشر الجراحة تلذعها وتهيجها وتهيجها يدل (6) على منافرة الطباع لها، لقوة فعلها
وصعوبته.
ومما يدل أيضا (7) أن الانسان إذا سحق منه شيئا وأنقعه في زيت وصب ذلك الزيت على الرأس أو
على المعدة، لوجده يسخن إسخانا قويا. وإذا مسح ذلك الزيت على بدن أصحاب النافض العارض في



(1) في الأصل: كان.
(2) في الأصل: طرح. وفى اعتبار بنائه للمجهول. فالأصح كما أثبتنا.
(3) الدخنة: بخور يدخن به البيت وغيره. والدخان: ما يتصاعد من النار إذا لم يتم اشتعالها.
(4) في الأصل: شبيه.
(5) وروي: برنجاشف.
(6) (يدل) مستدركة في الهامش.
(7) أي على قوة حرارته.
430
الحميات الدائرة في وقت ابتداء النافض أو قبل وقتها، خفت النافض وقل تأثيرها حتى لا يشعر صاحبها
بها. وإذا شرب طبيخه، كان فعله في قتل الدود التي في البطن أكثر من فعل الأفسنتين ومساويا لفعل
الشيح. وفى هذا دليل واضح على أن في القيصوم لطافة ليست باليسيرة لتلطيف الحرارة له على ما بينا.
ولذلك صار مفتتا للحصى التي (1) في الكلى ونافعا من لسع العقارب والرتيلاء. وإذا شم منه أكثر من
المقدار، صرع. وإذا عمل منه ضماد، نفع من أوجاع الأرحام ومن الأورام البلغمانية، وبخاصة أورام
الأرحام. وإذا سحق وطبخ مع دقيق الشعير، حلل الأورام الجاسئة (2).
وجميع ما ذكرنا موجود في ورقه وزهره وقلوبه. وأما قضبانه فخشبية لا منفعة فيها أصلا. وأما رماد
القيصوم فيلذع الجراحات لذعا كثيرا، لان قوته في الحرارة واليبوسة أكثر من قوة رماد أصول الشبت
المحرقة، ورماد القرع اليابس المحرق. ولذلك صار نافعا من داء الثعلب ومسرعا لنبات شعر اللحية
العسيرة الخروج إذا طلي على الموضع ببعض الادهان الملطفة مثل دهن الخروج ودهن الفجل والزيت
العتيق - وفي نسخة أخرى الزيت المجلوب من سيقونيا - لأنه يفتح مسام البدن ويوسعها بلطافته وتلذيعه.
وإذا خلط بالدهن المتخذ من الإذخر والزيت، فعل مثل ذلك أيضا. ومن وقف على هذا من فعله، كان
قادرا أن يستعمله في جميع العلل التي من هذا الجنس.
في شجرة مريم
أما شجرة مريم (3) فحارة يابسة في الدرجة الثالثة إذا اشتمت نفعت من الزكام العارض من البرودة
والرطوبة. وإذا اكتحل بها مع العسل، نفعت من الماء الكائن في العين بإذن الله تعالى.



(1) في الأصل: الذي.
(2) التي يبست فلا تكاد تنعطف.
(3) نبت هو الأقحوان. ويطلق هذا الاسم على أكثر من نوع.
431
في الكشوت
الكشوت مركب من مرارة وعفوصة. والأغلب عليه العفوصة. ولذلك صارت حرارته في الدرجة
الأولى، ويبسه في الدرجة الثانية. ولما فيه من المرارة ويسير الحرارة، صار ملطفا مفتحا لسدد الكبد والطحال
وكيس المرارة ومنقيا للعروض والأوراد من الفضول الغليظة المرية. ومن ذلك صار نافعا من اليرقان العارض
من سدد الكبد والمرارة. وإذا شرب بسكنجبين، نفع من الحميات المتقادمة وبخاصة حميات الصبيان. وإذا
شربت عصارة الرطب منه بسكنجبين، نفع من اليرقان وأدر البول. ولعفوصته وأرضيته صار دابغا للمعدة
ومقويا لها وللكبد جميعا، إلا أن الاكثار منه يثقل المعدة بقوة قبضه. وخاصته تنقية العروق والأوراد من
الفضول المرية والنفع من الحميات المتطاولة وبخاصة حميات الصبيان.
فإن قال قائل: فإذا كان الكشوت يثقل المعدة لقوة قبضه، وقبضه في الدرجة الثانية، فلم لا كان
الأفسنتين أشد إثقالا للمعدة، لان قبضه في الدرجة الثالثة، قلنا له: لان في الأفسنتين حدة تزعجه وتحدره
عن المعدة قبل أن يحس بثقله، ولذلك سلمت منه.

432
في الشوكة البيضاء المعروفة بالباذاورد
أصل هذه الشوكة بارد في الدرجة الأولى ويقبض ويجفف تجفيفا معتدلا. ولذلك صار نافعا من
استطلاق البطن قاطعا لنفث الدم. وإذا عمل منه ضماد، قوى الأعضاء على دفع المواد المنصبة إليها،
وبدد الأورام الرخوة. وإذا تمضمض بمائه، نفع من وجع الأسنان وقوى اللثة. وأما بزر هذه الشوكة فإن
فيه قوة مسخنة ملطفة، وبها صار محللا منقيا نافعا لأصحاب التشنج والكزاز وأصحاب الحميات المتقادمة
المتولدة عن الرطوبة.
في الشكاع
وأما الشكاع (1) فقوته كقوة الباذاورد، إلا أن يبسه وتجفيفه أقوى. ولذلك صار نافعا من وجع اللهاة
ومن النزف العارض للنساء، والأورام الحارة الحادثة في المقعدة، ومن جميع العلل التي ينفع فيها
الباذارود. وأما أصله فيدمل القروح لان فيه قوة دابغة باعتدال.



(1) وروي: الشكاعي. وقيل أنه الشوكة البيضاء.
433
في الشوهج (1)
وهو المعروف بالحسك
أما الحسك فمركب من جوهر رطب يسير الرطوبة وجوهر يابس ليس بيسير اليبوسة. ومن الجهتين
جميعا صار باردا، إلا أنه يختلف على حسب اختلاف أنواعه، لأنه يكون على ضربين: أحدهما بري ينبت
في البر والخرابات، والأرضية غالبة على جوهره، وله ورق شبيه بورق البقلة الحمقاء إلا أنه أرق قليلا وله
قضبان طوال منبسطة على الأرض، فيها عند الورق شوك ملزز صلب.
والصنف الآخر تغلب عليه رطوبة ضعيفة مكتسبة من الماء لان نباته على الأنهار. ولذلك صار ورقه
عريضا وشوكه خفيا وقضبانه طوال مرتفعة من الأرض. وطرفا ساقه الاعلى أغلظ من طرف ساقه الأسفل
وعليه شئ نابت مجتمع رقيق على رقة الشعر شبيه بشعر السنبلة. وثمره صلب مثل صلابة ثمرة الصنف
الأول. وكلاهما يبردان ويقبضان ويمنعان من حدوث الأورام الحارة، بتقويتهما للأعضاء على دفع المواد
عنها. ولذلك صارا (2) صالحين لكل موضع تنصب إليه المواد. وإذا خلط أحدهما بعسل، أبرأ القلاع
والعفونات العارضة في الفم، ونفع من الأورام العارضة في أصل اللسان والحلق. وقد يستخرج من هذا
النبات عصارة وتستعمل في إكحال العين. وثمرة الصنف البري خاصة إذا شربت (3) رطبة، نفعت (3) من
الحصى المتولد في الكلى والمثانة. وزعم ديسقيريدس أنها مفتتة للحصى. وزعم بعض الأوائل في هذا
النبات أن له قوة تذهب بغوائل الأدوية المذمومة، وأن ماء طبيخه إذا رش في البيوت، قتل البراغيث.



(1) وروي: الشكوهج.
(2) في الأصل: صر.
(3) في الأصل: من غير تاء التأنيث.
434
في الشوكة المصرية
المعروفة عند أهل مصر بالسنط
وورقها يعرف بالقرظ وثمرتها تعرف بخروب القرظ، وبها يدبغ (1) أهل مصر الجلود، وعصارتها
تعرف بالقاقيا (2)، وأهل مصر يعرفونها برب القرظ. والشجرة في جملتها عظيمة لها شوك غزير كثير صلب
شديد البياض. وطول الشوكة مقدار عقد أو أقل قليلا، ولها زهر أبيض. وثمرها بخروب (3) القبط مدور
مسطوح مشاكل لحب الترمس الصغير، وهو في داخل غلف على حكاية حب الخروب الكائن في غلف
الخروب.
وهذا الثمر يكون على ضربين: لان منه ما يكون نيا فجا غير كامل النضج. ومنه ما قد كمل
نضجه وصار في غاية النضج. فما كان منه نيا فجا، كان حابسا للبطن لفرط قبضه وعفوصته، لان
الأرضية عليه أغلب. وما كان منه كامل النضج، كان ملينا للطبيعة لان فيه حلاوة ورطوبة. فإذا يبس
وجف وزالت عنه رطوبته وعذوبته، رجع إلى أرضيته ويبسه، وصار حابسا للبطن. وعصارة هذه الثمرة
المعروفة بالقاقيا إذا كانت من ثمرة قد استحكم طبخها وكمل (4) نضجها وعذوبتها كان لونه أشد سوادا
وأكثر إشراقا، ولم تكن حابسة للبطن لان فيها عذوبة تمنعها من ذلك.
وأما ديسقيريدس فيزعم أن عذوبتها تلك تخرجها إلى تليين البطن. وإذا كانت هذه العصارة من
رطوبة نية غير كاملة النضج، كان لونها ياقوتيا يلي الحمرة قليلا، وكان حبسها للبطن أقوى، لان الأرضية
والعفوصة عليها أغلب. والمختار من القاقيا ما كان كذلك وكان، بإضافته إلى غيره من القاقيا، أطيب



(1) في الأصل: يدبغون.
(2) في الأصل القراقيا. وسترد بعد قليل القاقيا.
(3) كذا في الأصل. ولعلها: (وثمرها يعرف بخروب).
(4) (طبخها وكمل) مستدركة في الهامش.
435
رائحة. واستخراج هذه العصارة يكون بأن تؤخذ الثمرة وتدق ويستخرج ماؤها بالدهق (1) ويجفف في
الظل، وقال قوم: في الشمس.
وإذا سحقت هذه العصارة وغسلت بالماء العذب مرات، أفادها ذلك برودة، وضعف قبضها وقل
لذعها، وصلحت في أدوية العين. وإذا أخذت وهي جافة يابسة من غير أن تغسل وصيرت في قدر من
طين وجعلت في الأتون حتى تحترق، فعلت مثل ذلك أيضا. ولجالينوس في هذه العصارة قول قال فيه:
وإني لأحدس في هذه العصارة أن أجزاءها غير متساوية لان جوهرها جوهر بارد أرضي يخالطه شئ من
الجوهر المائي مع أجزاء لطيفة مائلة إلى الحرارة. فإذ غسلت، فارقتها هذه الاجزاء اللطيفة الحارة لأنها
تقذف في الماء الذي غسلت به. ولذلك صارت إذا غسلت، صار تبريدها في الدرجة الثانية، وتجفيفها في
أول الثانية. وإذا لم تغسل، كان تبريدها في الدرجة الأولى، وتجفيفها في آخر الدرجة الثالثة. ومما يدل
على ذلك أن إنسانا لو أخذ منها شيئا ومسحه على عضو صحيح، لوجدها تجففه وتمدده على المكان من غير
أن تحدث فيه من البرد إلا مقدارا ليس بالكثير.
فقد بان مما قدمنا إيضاحه أن هذه الشجرة قابضة جدا وثمرتها الغض منه وأغصانها أيضا كذلك.
ومن قبل ذلك صارت عصارتها نافعة (2) من سيلان الرطوبات المزمنة إلى الأرحام ومن النتوء العارض فيها
وفى المقعدة. وإذا شربت أو احتقن بها، عقلت البطن. وأما ورق هذه الشجرة، فإنه ما دام أخضر
طريا، فإن ماءه ملين للبطن، لان فيه حلاوة ورطوبة. وأما يابسا (3) فحابس للبطن لعدمه الرطوبة
المكتسبة من الماء. ولذلك يصار الطري منه إذا دق واستخرج ماؤه وشرب منه مقدار نصف رطل بشئ من
سكر، لين البطن وأحدر ما في المعدة من الرطوبات المرية ونفع من الجرب العارض من الرطوبات
المتعفنة وبخاصة إذا أدمن أخذه أسبوعا. وأما الصمغ المستخرج من هذه الشجرة فهو المعروف بالصمغ
العربي. والمختار منه ما كان شكله دوديا ولونه أبيض وأحمر صافيا صقيلا براقا ومستشفا يكاد البصر أن
ينفذه لصفائه ومشاكلته لصفاء الزاج (4) المذاب. وبعده ما كان أبيض أو أحمر صافيا نقيا، وإن لم ينفذه
البصر. وأذم أنواعه ما كان شبيها بالراتينج، أعني صمغ الصنوبر. وقوة هذا الصمغ قابضة مقوية مغرية
ملينة لخشونة الصدر والرئة، قامعة لحدة الأدوية إذا خلط معها.
ورأيت صمغا يجلب من بلد الحجاز من شجرة تعرف هناك بأم غيلان يزعمون أنه الصمغ العربي
على الحقيقة. وهو صمغ مكتنز مدور مكسره أحمر براق يكاد البصر أن ينفذه لصفائه ونقائه، إلا أن
غروته (2) أكثر من قبضه. ولذلك صار أكثر موافقة في تليين خشونة الصدر والرئة وخشونة العين من الصمغ



(1) الدهق: متابعة الشد والعصر وشدة الضغط.
(2) في الأصل: صار عصارتها نافعا.
(3) في الأصل: يابسة.
(4) هو الملح المعروف بالشب اليماني.
(5) كذا في الأصل، وبخصوصها في الهامش: (يحقق). والمقصود: تغريته.
436
المستخرج من شجرة القاقيا. والصمغ المستخرج من شجرة القاقيا أوفق في تقوية المعدة والمعاء لان قبضه
أقوى. وإذا حمصا جميعا، حبسا البطن ونفعا من سحوج الأمعاء. وزعم ديسقيريدس أن شجرة القاقيا
تنبت في بلدة يقال لها (قبادوقا) وبلدة يقال لها (نيطس). وذكر عن شجرة أخرى يستخرج منها قاقيا
تشبه القاقيا المصرية (1) غير أن شجرتها أصغر ولها فم (2) ولها أيضا شوك كأنه السلى وورقها شبيه بورق
السذاب ويبرز منها في الخريف بزر في غلف مزودجة في كل غلاف ثلاثة أقسام أو أربعة، وبزرها أصغر من
العدس، وقبضها كقبض القاقيا إلا أن فعلها أضعف قليلا.



(1) في الأصل: المصري.
(2) في الأصل: (وله فما). والتبس فهمها على الناسخ فكتب في الهامش بخصوصها: (يحقق).
437
في الأنجرة
المعروفة بالقريض وأهل مصر يسمونها الحريق (1)
أما الأنجرة فتسخن وتجفف باعتدال في آخر الدرجة الثانية. ولذلك صارت قوتها تلطف وتحلل
وتجلو وتحرك. ومن قبل ذلك صارت إذا شرب منها وزن درهمين، أطلقت الطبيعة باعتدال، وأحدرت
بلغما. وليس فعلها لذلك بأنها تفعل فعل الأدوية المسهلة القطاعة (2)، لكن لما فيها من الجلاء والتحليل
والتلطيف للطافة حرارتها وبعدها من الاحراق. وقد يدل على ذلك بما يظهر من تنميتها للصدر والرئة من
الأخلاط الغليظة من غير تلذيع. غير أنها عند ابتداء انهضامها تولد في المعدة رياحا نافخة لا من جهة
طبعها لان من طبيعتها التحليل والتلطيف، لكن لبعد انهضامها.
ولذلك قال جالينوس أن الأنجرة غير نافعة بالفعل، لكنها نافعة بالقوة. أراد بذلك أنها لبعد
انهضامها لا يظهر تأثيرها من قرب لأنها تحتاج أن تلبث حتى تفعل ويكمل هضمها قبل أن يظهر فعلها.
ولبعد انهضامها صارت مولدة للرياح والنفخ. ولرياحها العرضية ونفخها، صارت مولدة للرياح معينة على
الانعاظ زائدة في الجماع، وبخاصة إذا استعملت مع البصل والبيض لان ذلك يفيدها زيادة في الغذاء،
وزيادة الغذاء زائدة في المني. ومن خاصتها إسهال البلغم. وورق الأنجرة أقل حرارة من بزر الأنجرة لان
حرارته في أول الدرجة الثانية أو في وسطها. وإذا طبخ كما يطبخ الكرنب وأكل، أسهل البطن. وإذا حمل
على الأورام الصلبة التي في أصل الاذن، حللها.



(1) في الأصل: الربق.
(2) في هامش الأصل: القماعة.
438
في الحرف
المعروف بحب الرشاد
وأهل الحجاز يسمونه الثفاء
أما الحرف فيكون على ضربين: لان منه الأحمر، ومنه الأبيض المسمى ثاكسيفيس (1). وأجود الأحمر
ما كان بابليا. ولقوة أنواعه قوة مسخنة محرقة كإحراق الخردل. ولذلك صار شبيها به في أكثر أسبابه
وأموره أو في كلها. ويدل على ذلك لذعه المعدة وإفساده لها وإضراره بعصبها، إلا أن فيه قوة ملطفة
قطاعة مطلقة للبطن بها صار مخرجا للدود وحب القرع من البطن، محللا (2) لأورام الطحال، منقيا (1)
للقوابي والجرب المتقرح. والاكثار منه يحدر رطوبات بلغمانية نية من المثانة والأرحام حتى أن كثيرا ما يحدث
تقطير البول، ويقتل الأجنة. وإذا عمل منه ضماد بعسل وحمل على الطحال، فعل فيه ما يفعله إذا
شرب. وإذا حمل على القروح العفنة، نقاها. وإذا طبخ في الأحساء، نقى الصدر والرئة من الأخلاط
الغليظة، ونفع من الربو والبهق لتنقيته الفضول بقوة. وإذا شرب نفع من نهش الهوام ولسعها. وإذا
دخن به موضع (3)، طرد الهوام منه. وإذا غسل بمائه الرأس، نقاه من الأوساخ والرطوبات اللزجة ونفع
من تساقط الشعر. وإذا خلط بسويق وعجن بخل وحمل على الأورام، حللها. وإذا حمل على وجع الورك
المعروف بعرق النسا، سكن وجعه العارض من البلغم. وإذا عمل منه ضماد بماء وملح، أنضج الأورام
القليلة الحرارة وبخاصة الدمامل. وإذا حمص وشرب ببعض الأشربة الحابسة للبطن، منع الاسهال
العارض من الرطوبة ونفع من الزحير وسحوج الأمعاء السفلى العارضة من البرد. ولذلك استعمله
المتطببون محمصا في سفوف المقلياثا (4). وأما ورق الحرف فإنه إذا كان يابسا، كانت قوته قوة الحرف إلا أنه



(1) وروي: ثقسا.
(2) في الأصل: بالرفع.
(3) في الأصل: موضعا.
(4) المقلياثا: هو حب الحرف بالسريانية. وقيل: أنه الحرف المقلو خاصة.
439
دونه قليلا، وإذا كان طريا، كان سبب رطوبته التي فيه المكتسبة من الماء أقل تلذيعا من البزر كثيرا.
ولذلك أمكن أن يستعمل مع الطعام على سبيل الادم.
* * *
في الحرف الأبيض
المسمى ثالسفيس
وأما الحرف الأبيض فأفضله أيضا ما كان بابليا. وهو نبات له ورق منبسط على الأرض مسرف
الأطراف، وله قلب طويل دقيق طوله قريب من شبرين (1) يخرج منه شعب كثيرة، وعلى القلب كله ثمر
واسع وفيه بزر أصغر من بزر الحرف، إلا أن شكله مدور على شكل الخلهتح (2) وأكثر بياضا (3) منه إلا أنه
ليس بساطع البياض بل كأنه يلي إلى الصفرة وزهره إلى البياض ما هو. وينبت كثيرا في الطرق والسياجات
وعلى الحيطان والسطوح. ولذلك يسميه (4) أهل بيت المقدس حرف السطوح لأنه ينبت على سطوحهم
كثيرا.
وفى هذا النبات رطوبة لزجة، ولبزره حرافة وإسخان وتقطيع وتلطيف. وإذا احتقن به، أسهل
دما. وإذا شرب، أدر الطمث وقتل الأجنة وفجر الدبيلات (5) الباطنة. وزعم ديسقيريدس أنه إذا شرب
منه وزن أكسوثافن، أخرج مرة صفراء بالاسهال والقئ. قال واضع الكتاب: وما أعلم بأي شئ
يفعل ذلك، وهو على ما هو عليه من الحرارة والحدة، إلا أن يكون يفعل ذلك بخاصية فيه كالسقمونية.
وأما الاكسوثافن فإنا وجدناه في بعض النسخ ثمانية عشر قيراطا، وفى بعضها أوقيتين وربع، وفى بعضها
أوقية وربع، وفى بعضها ثمانية عشر مثقالا. وحكى ديسقيريدس عن فراطس أنه كان يقول: أن من
الحرف صنفا آخر يسميه بعض الناس خردلا فارسيا، وهو نبات عريض الورق كبير الأصل يقع في أخلاط
الحقن النافعة من عرق النساء.



(1) وروي: شبر.
(2) كذا في الأصل. وروي: الفلكة، وهي كل مستدير كفلكة المغزل، وسميت به لاستدارتها.
(3) في الأصل: بياض.
(4) في الأصل: يسمونه.
(5) الدبلة: خراج أو دمل كبير في الجوف.
440
في السعد
أما السعد، فإن الذي ينتفع به منه أصله فقط، وقوته قوة مسخنة مجففة لأنه مركب من مرارة
وعفوصة مع حرافة يسيرة وعطرية ظاهرة. فلمرارته وحرافته، صار مقطعا للبول، مجففا للرطوبات،
مدرا (1) للطمث والبول، وبخاصة بول المستسقين وأصحاب الحصى لأنه يحلل الحصى ويفتته. ولقبضه
وعطريته صار مقويا للمعدة، نافعا من القروح العسرة الاندمال لفضل رطوبة فيه. وذلك لتجفيفه ونشفه
الرطوبات. ولذلك صار نافعا من قروح الفم واللثة. والمختار منه ما كان كثيفا مكتنزا رزينا ذكي
الرائحة، وحدته ظاهرة مثل السعد الطرسوسي والدمشقي، والذي يؤتى به من جزيرة يقال لها
قويارس (1)، لان ما كان كذلك، كان مسخنا قويا على تفتيح أفواه العروق، سريعا (2) في درور الطمث
والبول وتفتيت الحصى. وإذا عمل منه ضماد، نفع من برد الأرحام وانضمام أفواهها. وإذا شرب، نفع
من سم العقارب غير أن الاكثار منه والادمان عليه يجفف الدم ويفني رطوبته حتى أنه لا يؤمن على صاحبه
أن يؤول أمره إلى الجذام.



(1) في الأصل: مدر.
(2) وروي: قويلادس.
(3) في الأصل: سريع.
441
في القلقاس
أما القلقاس فهو أصل نبات ينبت أكثر ذلك في أرض مصر، له ورق مستدير واسع على شكل
الترمس، يكون قطر دائرة الورقة شبر ونصف أو أوسع من ذلك. ولكل ورقة من ورقه قضيب مفرد على
غلظ الإصبع وطوله شبران أو ثلاثة. ونبات القضيب من الأصل الذي في الأرض، لان ليس لهذا النبات
ساق ولا ثمر، والموضع الذي يتصل به القضيب من الورقة منخفض قليلا على حكاية ورق القرع إلا أن
ورق القرع كثير لعلوه وهو أسخف وأضيق وأقل خضرة، وورق القلقاس أوسع وأنعم وأشد خضرة وأقرب
من ورق الموز في خضرته ورقة جسمه وليانته ورونقه ونضارته.
وأما أصله فشكله شكل شبه بشكل الأترج إلا أن ظاهره يلي الحمرة قريب من ظاهر النارجيل
المعروف بجوز الهند وداخله أبيض كثيف مكتنز مشاكل للموز الأخضر وفى طعمه قبض يسير مع حرافة
قوية تدل على حرارته ويبسه. فإذا سلق بالماء، زالت حرافته جملة واكتسب، مع ما فيه من القبض
اليسير، لزوجة مغرية كانت فيه بالقوة، إلا أن حرافته كانت تقيها وتسترها. ولذلك صار غذاؤه غليظا
بطئ الانهضام ثقيلا في المعدة لكثافة جسمه ولزوجته، إلا أنه لما فيه من القبض والعفوصة، صارت فيه
قوة مقوية للمعدة معينة على حبس البطن إذا أخذ منه مقدار لا يثقل المعدة فتخليه ضرورة لثقله وبعد
انهضامه. ولما فيه من اللزوجة والتقوية صار نافعا من سحوج المعاء. وقشره أقوى على حبس البطن من
لحمه، لان القبض فيه أقوى وعليه أغلب.
وزعم ديسقيريدس أن لهذا النبات زهر على لون الورد. فإذا عقد، عقد شيئا شبيها بالحراب كأنه
تفاحة الماء، وفيه باقلى صغير أصغر من الباقلي اليوناني يعلو موضعه المواضع التي ليس فيها باقلى. فمن
أراد أن يزرعه، فإنما يأخذ ذلك الباقلي ويصيره في كيل طبق ويلقيها في الماء فينبت. وأما نحن فما
شاهدنا (1) له زهرا، بل شاهدنا هذا الباقلي الذي ذكر لاصقا بالأصل من جميع نواحيه في جوف الأرض،



(1) في الأصل: فشاهدنا.
442
لان ليس لهذا النبات ساق أصلا على ما بينا. ورأينا أصل هذا النبات أخزن في المنازل وجاء وقت نباته،
تفرع من الباقلي اللاصق به فروعا وأنبتت من غير أن يظهر لها زهر ولا ثمر لكن لون الباقلي ونفسها كلون
زهر الورد، لأنها حين تبزر وتأخذ في النبات، تخرج ما يبزر منها حسن البياض يعلوه تورد قليل.
وزعم ديسقيريدس عن هذا الأصل أيضا أنه قد يؤكل طريا ويابسا. وزعم أنه قد يعمل منه دقيق
يشرب. وإذا شرب دقيقه مثل السويق أو عمل منه حسو، كان مقويا للمعدة، نافعا من الاسهال المري
وسحوج المعاء. وأما نحن فما وجدنا له جفافا يمكن أن يكون منه سويقا، ولا رأيناه السنة كلها إلا رطبا
مثل بصل النرجس وبصل الزعفران وما شاكل ذلك. وزعم أن الشئ الأخضر الذي في وسطه الذي
طعمه مر إذا سحق وخلط بدهن وقطر في الاذن، سكن وجعها. وما شاهدنا نحن في وسطه هذا الشئ
الذي قاله ديسقيريدس ولا وجدناه السنة كلها إلا كالموز الأخضر.

443
في الكنجر
الكنجر (1) الفاوية (2) والكنجر البري هو الحرشف. أما الكنجر فالغالب عليه الحرارة واليبوسة، إلا
أن حرارته أكثر من يبسه لان حرارته في آخر الدرجة الثانية أو داخلة في الدرجة الثالثة، ويبسه في وسط
الدرجة الثانية. وجرمه غليظ كثيف بطئ الانهضام يولد دما يقرب من المرة السوداء الحريفة. ومن خاصة
جوهره أنه إذا طبخ بشراب وشرب طبيخه، عقل البطن وأحدر بولا كثيرا منتنا. ولذلك صار يذهب بنتن
رائحة الإبطين ونتن سائر البدن لأنه يخرج مع العرق من البدن ما كان من هذا الجنس من الأخلاط. وهذا
الفعل منه يقع لجملة جوهره بخاصته لا بكيفياته أعني لا بحرارته ويبوسته، لان من الحار اليابس ما لا
يفعل ذلك. وزعم ديسقيريدس أن المحموم إذا شرب ماءه، عقل (3) بطنه. وقد يستخرج من هذا النبات
صمغة إذا شرب منها وزن مثقال بشراب العسل، هيجت القئ. وزعم بعض المحدثين أن هذا النبات
يفعل في زيادة المني ما يفعله الهليون.
في الباذنجان
حار يابس في آخر الدرجة الثانية، ويدل على ذلك مرارته وحرافته وتلذيعه اللسان والشفتين. ولما
كان الأغلب على الدم المتولد عنه الحدة والحرافة، صار قابلا للاحتراق بسرعة. ولذلك يستحيل من قرب
وينتقل إلى المرة السوداء الحريفة. وهذه خاصته اللازمة له. ومن قبل ذلك صار مفسدا للون مسودا



(1) هو الكنكر. ولعل كتابته بالجيم لتوافق لفظها كذلك باللسان المصري.
(2) تعريف يطلق على النباتات من فصيلة الفويات، وهي ذوات الفلقتين.
(3) بعدها في الأصل: البطن ملغاة بشطبة.
444
للبشرة ومولدا للكلف ومورثا (1) للداء المعروف بالسرطان والداء المعروف بداء الفيل والأورام الجاسئة الصلبة
وللسدد. وأحمد ما يتخذ منه أن يشقق ويحشى جوفه ملحا ويترك طويلا في جوف الماء ماء حار ثم يصب عنه
ذلك الماء ويعاد إلى ماء ثان، ويفعل ذلك به مرات حتى يصفو ماؤه ويذهب أكثر سواده ثم يسلق وينزع من
مائه الذي يسلق به ويغسل ويطبخ بلحم الجدي والدجاج والحملان. فإذا أراد مريد استعماله بغير لحم،
طيبه بعد سلقه وغسله بخل ومري ودهن لوز ودهن سيرج، واستعمله. وأحمد الباذنجان ما كان صغيرا
حديثا مما قد زرع في سنته تلك، وكان قليل المرارة أو سليما منها أصلا إن أمن ذلك. وأحمد ما يؤكل لبه المقشر
من قشره ويمص بعده الرمان المز أو يشرب ماء الرمانين.



(1) في الأصل: مورث.
445
في الكمأة
ولما كانت الكمأة تقبل كل الطعوم المخالطة لها، دل ذلك على أنه لا طعم لها، كما أن كل ما قبل
الألوان لا لون له. ولما كانت الكمأة كذلك، وجب أن تكون طبيعتها طبيعة القرع في الرطوبة غير أنها
أكثر بردا وأقل رطوبة، لان الغالب على جوهرها الأرضية مع يسير من لطافة. ويدل على لطافتها خفة
جسمها وقلة رزانتها، لان قلة الرزانة دليل على اللطافة وقلة الرطوبة. ومن قبل ذلك صار الدم المتولد
عنها أغلظ من المعتدل قليلا، إلا أنه ليس بالردئ، وإن كان الاكثار منها يولد سددا. ولذلك وجب أن
تستعمل الحيلة فيما يلطف غلظها ويعين على هضمها. والوصول إلى ذلك أن لا تستعمل دون أن تقشر
وتثقب بخلال ليصل الماء والطبخ إلى باطنها. وتسلق بالماء والملح وشئ من سذاب سلقا بليغا، ثم ينحى
عنها الماء الذي سلقت به وتطيب بالمري والزيت والصعتر والفلفل، أو تؤكل بملح وصعتر وفلفل ويشرب
عليها نبيذ صرف أو ممزوج (1) على حسب مزاج المستعمل لها، لأنه إن عاقها عائق عن الانهضام في المعدة
تولد عنها دم يقرب من البلغم الغليظ اللزج، وأورثت المدمن عليها وجعا (2) في المعدة والأمعاء. وأكثر ذلك
يؤول أمر صاحبها إلى القولنج أو السكتة. وهذه خاصتها إذا بعد انهضامها ولم يقبل النضج. وكذلك
وجب على من كان مزاجه باردا أن (3) يستعمل بعقبها الزنجبيل اليابس والمربى وجوارشن الكمون وجوارشن
الثلاث فلافل وترياق الفاروق (4) وما شاكل ذلك.
وأما اليابسة منها فهي أغلظ وأبطأ انهضاما في المعدة، ولذلك صار الأفضل أن تنقع في الماء يوما
وليلة أو تدفن في طين عذب مبلول لتكتسب من ذلك رطوبة فيسهل بها انهضامها وتقل غائلتها. وزعم



(1) في الأصل: نبيذا صرفا أو ممزوجا.
(2) في الأصل: وجع.
(3) بعدها في الأصل: (لا) ملغاة بشطبة.
(4) قيل أنه أفضل الترياقات.
446
الكندي (1) أن من الكمأة شيئا ينبت في المواضع التي ينبت فيها الفطر الردئ. وما كان منها كذلك، كان
أكثر بردا ورطوبة ومخصوصا بتولد البلغم الكثير الغليظ، ومهيجا لعسر البول والقولنج والسكتة والفالج
والذبحة القاتلة لاكتسابه ذلك من مجاورته الفطر، لما في الفطر من الخاصية في إحداث الذبح. وإذا أكلت
نية، قتلت.
علاج ذلك أن يشرب ماء طبيخ عود الشبث مع سمن البقر أو دهن الخل، ويشرب أيضا من رماد
عود الكرم مثقالان (2) يذاب بسكنجبين وماء حار، ويشرب ويتقيأ جيدا حتى يخرج غلظ الكمأة من جوفه.



(1) هو يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي، أبو يوسف. وحيد عصره في الطب والفلسفة والموسيقى والهندسة والفلك. مؤلفاته
تزيد عن ثلاث مائة. توفي نحو 260 ه‍.
(2) في الأصل: مثقالين.
447
في الفطر
أما الفطر فبارد رطب في الدرجة الثالثة، ويدل على ذلك ليانة جسمه ورخاوته وتفاهة طعمه وقبوله
للطعوم كلها بالسواء، إلا أنه على ضربين: لان منه ما يكون قتالا، ومنه ما ليس بقتال. والذي ليس
بقتال فإنه، وإن كان أقل خطرا، فإن فيه رطوبة غليظة لزجة بعيدة الانحلال والانقياد لفعل الطبع، بها
صار مذموما أيضا قريبا (1) من الخضرة، لان الخلط المتولد عنه إذا نضج وكمل انهضامه، كان أغلظ من
الخلط المتولد عن الكمأة التي لم يستحكم هضمها، لأنه أغلظ وأكثر لزوجة وأبعد من قبول الاستمراء.
ومن قبل ذلك صار اجتنابه في الجملة أفضل. والأصلح لمن أراد استعماله واحتمال ضرره أن يسلقه بماء قد
جعل فيه كمثرى طري أو يابس وفودنج جبلي أو بري، ويرمى بمائه الذي سلقه به، ويطبخه بماء ثان
ويطيبه ببعض الأبازير الحارة الحريفة الملطفة للغلظ مثل الفودنج والصعتر والفلفل والزنجبيل، ويشرب
بعده نبيذا صرفا أو مصرفا (2) أو سكنجبينا ساذجا أو سكنجبينا عنصليا على حسب طبيعة المستعمل (3)
لذلك في حرارة مزاجه وجفافه، أو برودته ورطوبته. ومن كان مزاجه باردا فلا بأس أن يستعمل، بعد
أكله، الزنجبيل المربى وجوارشن الكمون وجوارشن الفلافل وترياق الفاروق، وإن كان من الواجب أن
يتوقى الاكثار منه أصلا.
وأحده قبل استحكام نضجه على ما وصفنا يولد أحد أمرين (4): إما أن يلين خمل المعدة بلزوجته
وإزلاقه ويحدث العلة المعروفة بالهيضة، فيكون أسلم له وأبعد من أذيته. وإما أن يبطئ انهضامه ويعسر
انحداره، فيثقل على المعدة ويضغط فمها المعروف بالفؤاد الأصغر، فيحدث غشيا وعسر نفس وعرقا
باردا. وإذا صار المرء إلى مثل هذا فبكد ما يبرأ إلا أن يستعمل القئ بالأشياء الملطفة للفضول الغليظة



(1) في الأصل: قريب.
(2) أي ممزوجا بماء لا خالصا.
(3) (سذجا.. المستعمل) مستكملة في هامش الأصل.
(4) في الأصل: أمران.
448
مثل النطرون والفودنج الجبلي والزوفا والاسكنجبين الساذج والماء الحار. وإذا كان المزاج باردا رطبا،
فيكون الاسكنجبين عنصلانيا لان ذلك ربما قيأ فطرا قد استحال وصار خلطا بلغميا باردا شديد الغلظ
وخلص صاحبه، وربما لم يتقيأ وهلك وإن أخذ من الفطر مقدارا يسيرا على ما وصفنا من التدبير وإحكام
النضج ثم جاد هضمه في المعدة حسنا، غذى غذاء كثيرا وإن كان بطيئا مما ينحل لغلظه ولزوجته.
ولذلك صار أكثر ما يخرج مع البراز صحيحا.
فأما الفطر القتال فإن فعله وتأثيره يكون على ضروب: لأنه منه ما يقتل بإفراط برودته ورطوبته إذا
صار إلى الدرجة الرابعة من البرودة والرطوبة. ومنه ما يقتل بإفراط لزوجته وسده للمسام ومنعه من
التحليل. ومنه ما يقتل بكيفية فيه اكتسبها من المواضع التي ينبت فيها مثل ما ينبت منه بالمجاورة لحديد
صدئ أو لخرق قد تعفنت فأفادته كيفية مذمومة سريعة القبول للعفونة والفساد. ومنه ما ينبت بالقرب من
أجحرة بعض الهوام فيستفيد منها كيفية سمية. ومنه ما ينبت بالقرب من أشجار لها خاصية مزيد في
لزوجته وغلظه مثل أشجار الزيتون وما شاكلها من الأشجار الدهنية الدسمة العديمة التقطيع والتلطيف.
وقد يستدل على معرفة الفطر المذموم الخبيث من جهتين: إحداهما ما تجده على وجهه من الرطوبة
الغليظة اللزجة. والثانية أنك إذا قطعته ووضعته في موضع، تعفن وفسد بسرعة. ومما يدفع ضرره أكل
الكمثرى وشرب النطرون بالدهن، أو بشرب الرما بالخل والملح، أو يلعق خرء الديوك والدجاج معجونا
بعسل وخل، أو بشرب طبيخ الفودنج والزوفا والصعتر.
* * *
في الفوشية والجبلجان والشيح
هذه في جملتها باردة رطبة في الدرجة الأولى، وهي جنس من الفطر إلا أنها إذا انهضمت (1) لم يكن
كيموسها بالمذموم كالفطر. ومن الفوشية ببلد الشام شئ كثير، إلا أن الخراساني أكثر منه وأجود غذاء.



(1) في الأصل: انهضم.
449
في الفقار (1) المعروف بالكبر
ويسمى الآصف (2)
أما اسم هذا النبات فيضم ثلاثة أشياء: أصل الفقار، وورقه، وثمرته. وهي في جملتها تتفق في
مزاج واحد ودرجة واحدة من الحرارة واليبوسة، أعني الدرجة الثانية، لأنها مركبة من طعوم ثلاثة: من
مرارة وحرافة وعفوصة. والمرارة والحرافة عليها أغلب، والعفوصة فيها أقل وأخفى. ولذلك صارت محللة
قطاعة منقية (3) للرطوبات الزائدة في المعدة، مفتحة لسدد الكبد محللة لجسأ الطحال وغلظه، مدرة للبول
والطمث.
ولما قدمناه من فعلها، صار أكثر استعمالنا لها على مذهب الدواء، لا على مذهب الغذاء، لان
الغذاء المتولد عنها مذموم غير محمود من قبل أنها ما دامت طرية وفيها بعد الرطوبة المكتسبة من الماء، فالدم
المتولد عنها حار مؤذ لحدة الرطوبة العرضية التي فيها وحرافتها ورقتها. فإذا صلبت وعصت وزالت (4) عنها
الرطوبة العرضية ورجعت إلى طبيعتها ومزاجها، صارت (4) أشد لحرافتها، واختصت بتوليد المرار الأسود
الحريف لان جوهرها قد يبس وصار من طبيعة الخشب في اليبس من غير أن تزول عنه حرافته وحدته.
ولهذه الأسباب القوية، صارت مذمومة رديئة لعصب المعدة لتلذيعها له بحرافتها، ولأن ما فيها من يسير
القبض لا يفي بقوة حرافتها ومرارتها.
ولهذه الجهة صار من الواجب أن لا تؤكل دون أن تسلق بالماء العذب سلقا بليغا، ويرمى بمائها
الذي سلقت به ليزول عنها أكثر حدتها وحرافتها وتظهر عفوصتها، ثم تؤكل بالخل أو بالمري والزيت
والسذاب، أو تؤكل إما مطبوخة ومقلية. وكيف <ما> أكلت فيجب أن لا تعرى من الكسبرة لأنها



(1) كذا في الأصل: وهو القبار.
(2) ويقال أيضا: اللصف.
(3) في الأصل: (صار محللا قطاعا منقيا).
(4) في الأصل: بالمذكر.
450
مخصوصة بدفع ضررها. وقد يتخذ ورقها وقضبانها بالخل أو بالملح وتؤكل. وما كان منها متخذا بالخل،
كان دابغا للمعدة ومقويا لها ومنبها لشهوة الطعام، إلا أنه معطش لا لحرافته، لكن ليبسه وتجفيفه. وما
كان منها متخذا بالملح، كان أقل لغذائه وأقوى على إحراقه الدم، والزيادة في العطش، والاضرار
بالمعدة، وإفساد شهوة الطعام، وإطلاق البطن، وتوليد المرار الأسود الحريف، وذلك لحدته وحرافته
وإفراط يبسه. ولذلك وجب ألا يؤكل إلا بعد أن يغسل من ملحه جيدا حتى يعذب ويؤكل بالخل
والزيت والانفاق، وإما الكسبرة الرطبة المنزوعة (1) الرغوة. وأحرى <أن> يؤكل مطبوخا فهو أنفع للمعدة
وأحسن غذاء مما يؤكل مملحا، لان رطوبة الماء وليانة دسم اللحم تزيلان ضرر حرافته وحدته، ولا سيما
إذا سلق بدءا وأخرج عن مائه الذي سلق به وطبخ بماء ثان.
وأقوى ما في هذا النبات على سبيل الدواء، اللحاء الذي على الأصل، وبعده الثمر والحب،
وبعدهما الورق والزهر. ومن قبل قوة اللحاء الذي على الأصل، صار من أنفع الأدوية لجسأ الطحال
وتحليل غلظه، وبخاصة إذا دق وشرب بخل وعسل ممزوجين أو بخل وحده أو بالسكنجبين وما شاكله،
لأنه يقطع الأخلاط الغليظة اللزجة ويخرجها بالبول والغائط. وكثيرا ما يخرج مع الغلظ شيئا دميا من
جنس الاحتراق، فيكون ذلك سببا وكيدا لتحليل جسأ الطحال وتسكين أوجاعه وتخفيف أمره من قرب.
وربما كان ذلك على المكان، ولذلك صار قويا على درور الطمث. وإذا شرب بعسل وماء حار، نفع من
أوجاع النقرس والوهن العارض للأوراك من انصباب المواد الغليظة إليها. وإذا طبخ بشراب وتغرغر به أو
مضغ مضغا، حلل بلغما كثيرا وأخرجه بالبصاق ونفع من الهتك لرأس العضلة الخارجة من وسط
الدماغ. وإذا طبخ بشراب أو بخل وتمضمض به، نفع من وجع الأسنان. وإذا مضغ أيضا، فعل مثل
ذلك. وإذا أخذ وهو طري ومضغ بالسن الوجع، سكن ألمه. وإذا سحق وهو يابس وعجن بخل ثقيف
وحمل على البهق، نقاه.
وثمر هذا النبات يفعل قريبا مما يفعله لحاء الأصل. والورق يفعل قريبا مما يفعله الثمر. وإذا شرب
من ثمره كل يوم وزن درهمين أدمن على ذلك ثلاثين يوما، حلل ورم الطحال بالبول والنجو (2)، وأخرج
مع الاسهال فضولا (3) دمية من جنس الاحترق. وإذا خلط مع الكندر وعجن بخل وحمل على الطحال،
حلل ورمه وأضمره. وإذا أخذت (4) قضبانه وورقه ودقت واستعملت وحدها أو مع الأدوية المحللة،
حللت الخنازير وغلظ الأورام الصلبة، لان فيها قوة مما ذكرناه في اللحاء والثمر من الجلاء والتقطيع.



(1) في الأصل: المنزوع.
(2) هو العذرة، أو ما يخرج من البطن من ريح أو غائط.
(3) في الأصل: فضول.
(4) في الأصل: أخذ.
451
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: وإني لاعلم أني في بعض الأوقات حللت صلابة داء الخنازير (1) في أيام
يسيرة بورق الكبر فقط. وربما خلطت معه في بعض الأوقات بعض الأشياء التي يمكن فيها أن تكسر حدة
حرافته إذا كان الورم ملتهبا. وإذا كان في الورق من القوة ما يفعل هذا الفعل فليس بعجب أن تكون
عصارته تقتل الدود الذي في البطن والدود الذي في الاذنين، وبخاصة ورق الكبر النابت في البلدان القوية
الحرارة بالطبع مثل الكبر النابت (2) على بحر القلزم لأنه حريف جدا منفط للفم واللثة، حتى أنه كثيرا ما (3)
تتغير منه الأسنان. ولذلك صار هذا الجنس من الكبر لا يصلح في شئ من الطعوم أصلا.
ومن قبل ذلك أجمعت الأوائل أن زيادة حدة الكبر ونقصانها واختلاف أفعالها في القوة والضعف على
حسب المواضع التي ينبت فيها، وذلك أن منه ما ينبت في البلدان الباردة الرطبة مثل البلدان الكثيرة المروج
والآجام وما شاكل ذلك ومنه ما ينبت في البلدان الحارة اليابسة مثل البلدان الجبلية والمواضع الصخرية.
فما كان منه نابتا في الجبال والمواضع الصخرية اليابسة، كان أشد حرافة وأقرب من الدواء وأبعد من الغذاء
وأسرع انقلابا إلى المرار وأخص بالاضرار بالمعدة، إلا أنه أوفق لتفتيح السدد وتقطيع الفضول الغليظة.
وما كان منه نابتا في المروج والآجام والمواضع الباردة الرطبة كان أقل حرافة وأقرب من الغذاء إلا أنه <أخص>
بتوليد الرياح والنفخ وأضعف في تفتيح السدد وتنقية الفضول الغليظة. ولهذه (4) الجهة صار الأفضل أن
يجتنب هذا النوع من كان قصده تنقية الفضول وتلطيفها.



(1) قروح صلبة تكون في الرقبة.
(2) (في البلدان.. النابت) مستدركة في الهامش.
(3) في الأصل: مما.
(4) في الأصل: ولهذا.
452
في البصل والثوم والكراث
أما البصل والثوم فأكثر ما يؤكل منهما أصولهما، وقل ما يؤكل منهما أوراقهما وقضبانهما إلا أن تكون
طرية رطبة. وقوة الثلاثة الأنواع، أعني البصل والثوم والكراث، قوية شديدة الحدة والحرافة من قبل أنها
مركبة من جوهر حاد حريف يخالطه جوهر غليظ أرضي وجوهر رطب مائي وجوهر لطيف هوائي، وقد تمتاز
هذه الجواهر بعضها من بعض عند ذوقها وعصرها واستخراج مائيتها ورطوبتها، لأنا نجد الجوهر الرطب
المائي والجوهر اللطيف الهوائي يميزان ويخرجان في الرطوبة ويبقى في الثفل الذي هو الجوهر الغليظ الأرضي
فيه حرافة وحدة. وبيان ذلك أن إنسانا لو أخذ أحدها فدقه وعصره وتركه وقتا حتى يرسب كدره ثم روقه
وصفاه لوجد الثفل غليظا أرضيا شديد الحدة والحرافة، ووجد الرطوبة مائية سيالة فيها حرارة لطيفة
هوائية، إلا أن بين كل واحد من هذه الأنواع الثلاثة، أعني البصل والثوم والكراث وبين الآخر، فرقا
بينا من قبل أن البصل يسخن في أول الدرجة الرابعة ويرطب في وسط الدرجة الثالثة. والثوم
يسخن ويجفف في الرابعة. والكراث يسخن في الدرجة الثالثة ويجفف في الثانية. ولذلك صار
البصل إذا استعمل بجملة أجزائه، ولد في المعدة، بفضل حدته وزيادة رطوبته، أخلاطا رديئة
مذمومة معطشة مهيجة للغثي والرياح النافخة مورثة لخبث النفس والصداع والهوس لكثرة ما يترقى من
بخاره الردئ المذموم إلى الرأس. ومن قبل ذلك صار الاكثار منه مهيجا لاختلاط العقل وفساد الذهن،
ومولدا لأحلام رديئة الماناخوليا (1)، وبخاصة إذا استعمل بعقب الأمراض. وإذا أخذ منه بقدر على سبيل
الدواء في أوقاته وبحسب الحاجة إليه، كان منه دواء مسخنا ملطفا للفضول الغليظة، ومقطعا للأخلاط
اللزجة، ومفتحا لأفواه العروق، ومدرا (2) للبول والطمث، ومسكنا للجشاء الحامض، ومفتقا لشهوة
الطعام، ومخلخلا لسطح البدن، ومحللا للبخارات منه، وجالبا للعرق، وملطفا للبطن، وزائدا في المني



(1) في الأصل: المالنخوليا. وصوبه في الهامش.
(2) في الأصل: مر.
453
بزيادة رطوبته، ومقويا للانعاظ بكثرة رياحه، ومنبها لشهوة الجماع بقوة حرارته. إلا أن ما يتولد منه من الغذاء
ردئ جدا، وإن كان لا غذاء له إذا كان نيا، فإذا سلق بالماء مرتين أو ثلاث، ورمي ماؤه الذي سلق
به، زال عنه أكثر حرافته وبقي فيه بقية من التلطيف، وغذى غذاء يسيرا ليس بالردئ، وصار دروره
للبول أكثر. وإذا اكتحل بمائه مع العسل، جلا غشاوة البصر العارضة من الرطوبة الغليظة وزاد في حدة
النظر ونفع من نزول الماء في العين. وإذا خلط بمثله من التوتياء المسحوقة، سكن حدة العين. وإذا تحنك
به، نفع من الخناق العارض من الرطوبة. وإذا استعط (1) بمائه، نقى الرطوبة الغليظة من الدماغ. وإذا
عمل من مائه ضماد مع ملح وسذاب وعسل، نفع من عضة الكلب الكلب. وإذا خلط ماؤه بخل وطلي
على البهق والكلف في الشمس، نفع منها. وإذا خلط بملح ووضع على الثآليل (2) التي يقال لها أبثير،
قلعها. وإذا دلك جرمه على داء الثعلب، كان تهييجه لخروج الشعر أسرع من تهييج زبد البحر له إذا طلي
على الموضع. وإذا قطر من مائه في الاذن، نفع من الثقل والطنين العارضين للسمع، ونقى المدة من
الاذن، ونفع من الماء إذا وقع فيها.
وإذا قشر البصل وأخذ قلبه. غمس في زيت وتحمله الانسان في المقعدة، فتح أفواه عروق البواسير
وأبرز الدم منها. وما كان من البصل حرافته أقل ورطوبته أغزر كان توليده (3) للرياح أكثر. وما كان منه
حرافته أشد ورطوبته أقل مثل البصل المعروف بالطرخبيان، كان توليده للرياح أضعف. والبصل المستطيل
أقل حرافة من المستدير لأنه أغزر رطوبة، ولذلك سال واستطال. والأبيض من البصل أقل حرافة من
الأحمر. والرطب أقل حرافة من اليابس لما فيه من الرطوبة المكتسبة من الماء. والمطبوخ أقل حرافة من
الني. والمتخذ بالملح والخل أقل حرافة من الني أيضا، وإن كان المطبوخ أفضل من المتخذ بالخل والملح
كثيرا، ولا سيما إذا سلق ورمي ماؤه وطبخ بماء ثان.
والبصل العسقلاني أكثر نفخا ورياحا لأنه أكثر رطوبة وأقل حرافة، ولذلك صار مطلقا للبطن مولدا
للدود في المعاء. ولهذه الجهة صار غير محمود لمن عرض له شئ من الغثي. ومن أراد أن يدفع ضرر البصل
الني، فليسلقه بالخل مرات، ويأكله بالجوز المشوي والجبن المقلي بالزيت. وأكل الجبن المشوي يزيل
رائحة البصل. وإذا قلي الجبن بالزيت والسمن ومضغ مع جبن مشوي كان أفعل له في ذهاب رائحة
البصل الني في الاسفار والمواضع المختلفة المياه لدفع ضرر المياه.
ومن البصل نوع يسمى بالفارسية طرخيان يزعمون أنه بصل ملقح بثوم، ولذلك صار له حرافة
الثوم ويبسه ورطوبة البصل وليانته. ومن قبل ذلك صار أقل أنواع البصل رياحا وأقواها على تقطيع
الرطوبات الغليظة اللزجة وأنفع من سم العقارب والحيات.
* * *



(1) أي أدخل في الانف.
(2) في الأصل: الثؤاليل. والثآليل ج ثؤلول وهو حبة أو بثر صلب مستدير في الجلد.
(3) في الأصل: تولديه.
454
في البصل البري
المعروف بالعنصلان
ويسمى الأشقيل، ويسمى أيضا بصل الفأر، لان الفأر إذا أكلته قتلها، لا لأنه يقتل الفأر. أما
العنصلان (1) فهو على ضربين: لان منه الأبيض، ومنه الأحمر. والأبيض منها أخص بالنفع من الاستسقاء
لان فيه قوة حادة محرقة مقطعة تقطيعا بليغا من غير إسخان قوي لان إسخانه في الدرجة الثانية. ولذلك
صار ملطفا ملينا للبطن مدرا (2) للبول منقيا لما في الصدر والرئة من الرطوبات الغليظة اللزجة. ولهذه الجهة
صار نافعا من البهق والربو والتحشرج والسعال العارض من الرطوبة الغليظة اللزجة، ومن الاستسقاء
واليرقان الكائن عن السدد المتولدة عن المواد الغليظة وإن كان من الواجب أن يحذره من كان في صدره
ورئته أو في معائه شئ من قرح لأنه يلذعها بحدته ويؤذيها. ويدل على ذلك أنه إذا دلك به ظاهر البدن
أحدث في الجلد حكة شديدة وورمه، وبخاصة إذا فعل به ذلك في الحمام. ولذلك صار متى أكل أحدث
غثيا وقيئا شديدين بتلذيعه لعصب المعدة. وإذا أكثر منه، قتل. وعلاجه أن يقيأ صاحبه ويطعم
السفرجل وحب الآس والكمثرى، ويسقى عصير العوسج، ويدهن البدن بالبان. ومن خاصته أنه يقتل
الفأر.
وقد يستعمل على ضروب من الصنعة. فتختلف أفعاله على حسب اختلاف صنعته. وذلك أن منه
ما يدق ويعصر ماؤه، ومنه ما يقطع ويجفف ويستعمل، ومنه ما يشوى أو يسلق ويستعمل. فأما عصيره
فإنه إذا خلط مع مثل وزنه مرة أو مرتين عسلا منزوع الرغوة، وطبخ وعمل منه لعوق، نفع من الربو
والبهر (3) والتحشرج العارض من الرطوبات الغليظة اللزجة. وإذا دق وعمل منه مرهم بزيت انفاق
وراتينج، نفع من شقاق الرجلين، وإذا طبخ بخل وعمل منه ضماد، نفع من لسع الأفاعي.
وأما الشتوي فإنه يدخل في كثير من المعجونات المنقية للأخلاط الغليظة مثل اللوغاذيا وما شاكله.
ويدخل أيضا في الأشربة المنقية الموافقة لاصلاح المعدة مثل السكنجبين وغيره، وإذا أخذ منه مشويا مجففا
وزن ثلاثة أوتولوسات ودق وعجن بعسل وعمل منه لعوق، كان صالحا للذين يشكون معدهم ويذكرون
أن طعامهم يطفو منها، وأسهل بلغما غليظا لزجا وأعان على درور البول، ونفع من المغص والربو
والتحشرج ومن اليرقان العارضة من سدد الكبد المتولدة عن الرطوبات الغليظة. وإذا أكل مسلوقا، فعل



(1) هو العنصل.
(2) في الأصل: مدر.
(3) البهر: هو التهيج وتتابع النفس الحاصل في الانسان عند الحركة الشديدة أو الركض.
455
مثل ذلك أيضا. وإذا شوي ودق وحمل على الثآليل (1) التي يقال لها (أفروخودش) (2) وعلى الشقاق
العارض من البرد كان (3) نافعا <منهما>.
وبزره إذا دق وجعل في تينة يابسة وخلط بالعسل وأكل، لين البطن. وإذا علق الأشقيل على
دكان، كان بادزهرا (4) للهوام. والمجفف منه من غير أن يشوى يستعمل بالخل والشراب والزيت.
والمختار من الأشقيل ما كان لونه مائلا إلى البياض، ومقداره معتدل متوسط بين اللطافة والعظم. ونباته
في المواضع الجافة الصلبة القليلة الرطوبة السليمة من العفونة. وينبغي أن يحذر منه البصلة الواحدة المنفردة
النابتة في أرض وحدها. ولا يستعمل منه إلا ما كان حوله بصل كثير من جنسه نابتا، لان المفردة منه
خبيثة قاتلة.
* * *
في كيفية شي الأشقيل
ينبغي لمن أراد أن يشوي الأشقيل أن يأخذ البصلة ويقشر قشرها الاعلى اليابس ويقطع الأصل
وينقيه، ويلطخها عجينا أو طينا حرا (5) عذبا، إما أحمر وإما أسود، ويكون ثخن العجين والطين عليه
ثخن الإصبع، ويدخلها في فرن أو يتركها في تنور قد وقد بجمر من الليل إلى الصبح، ويذرها حتى يشتوي
العجين ويكمل نضجه ويحمر لونه، ثم يخرجها من النار ويذرها حتى تبرد، ويقشر العجين عنها وينظر
إليها فان رآها قد نضجت حسنا وتفسخت وأكمل النار فعله (6) في باطنها، وإلا فليلطخها ثانية ويفعل بها
كفعله في المرة الأولى من إدخالها الفرن أو التنور إلى أن يشتوي عجينها. ويديم ذلك مرات إلى أن يكمل
نضجها، ثم يفرق طبقاتها بعضها من بعض، وتجفف في الظل في مهب الرياح الشمالية أو الشرقية، ولا
تقرب قبل كمال نضجها، لأنها إذا لم تنضج كان فيها حدة مضرة بالمعدة والبطن مهيجة للقئ الكثير.
وأما كيفية تجفيفها من غير أن تشوى، فهو أن تفرق طبقاتها وتقطع على النصف، وتنضم في خيط
كتان، ويفرق بين القطعة والقطعة، كيلا يتصل بعضها ببعض ولا يمس بعضها بعضا، وتعلق في الظل
في مهب الرياح حتى تجف. وقد يربى الخل بالعنصلان ويقدم في السكارج (7) على الموائد مع البزماوردات
وغيرها. ويعمل من هذا الخل أيضا سكنجبين معسل ويستعمل في تنقية المعدة من الرطوبات الغليظة
اللزجة وتنبيه الشهوة.



(1) في الأصل: الثواليل.
(2) وروي: أفروخوذويس.
(3) في الأصل: وكان.
(4) البادزهر: يقصد به كل شئ يقاوم شيئا آخر وينفع منه. والبادزهر: حجر نافع من السموم.
(5) الطين الحر: هو الطين العلك الخالص من الرمل والحجارة.
(6) النار مؤنثة، وتذكر.
(7) السكرجة: قصاع صغار يؤكل فيها.
456
صفة تربية الخل بالعنصلان
أما تربية الخل بالعنصلان، فعلى ما أصفه لك. تؤخذ قلوب بصل العنصلان مع قشوره الرطبة
القريبة من القلوب فتقطع على النصف والثلث، وتنظم في خيوط خيرخام أو خيوط كتان. وتؤخذ إجانة (1)
غضار (2) أو خزف مقير (3)، ويربط في وسطها من خارج شبيه بزنار ويملأ ثلثاها خل خمر ثقيف. وتؤخذ
الخيوط التي فيها العنصلان منظوما، فتعلق على وجه الخل، وتربط أطراف الخيوط بالزنار الذي في وسط
الإجانة من خارج طرف الخيط الواحد من جانب الإجانة الواحدة، والطرف الآخر الذي بحذائه حتى يبقى
عنصلان، فإنه مسطوح على وجه الخل من غير أن يمس الخل، ثم يركب على وجه الإجانة غطاء مقبب
قليلا من غضار أو خزف مقير بزفت، ويطين الوصل (4) بطين الحكمة كيلا يتشقق، ويصير في الشمس
أربعين يوما من شهر تموز وآب. ثم يروق في قوارير زجاج ويخزن ويستعمل عند الحاجة.
وأما ديسقوريدوس فقال أن عمل خل العنصلان على هذا المثال: يؤخذ عنصلان أبيض فيقطع
ويشك في خيط ويفرق بين القطع حتى لا يماس بعضها بعضا، ويجفف في الظل في مهب الرياح الشرقية
الشمالية أربعين يوما. ثم يؤخذ منه منا (5) ويلقى عليه اثنا عشر قسطا خل ثقيف. وقال في موضوع آخر
خمسة أقساط خل، ويغطى الاناء ويطين الوصل ويصير في الشمس ستين يوما ثم يعصر ويرمى بتفله،
ويستعمل الخل. ومنهم من كان يأخذ العنصلان فيقطعه ويلقيه في الخل من غير أن يجففه، ويدعه في
الخل ستة أشهر ثم يعصره ويصفيه ويستعمله. ويكون ما يلقى من المن من العنصلان في الخل مقدار
نصف ما قدرناه في الباب الأول. وهذا الضرب من خل العنصلان يستعمل على سبيل الدواء لا سبيل
الغذاء. وإذا تحسي منه، صلب الحلق وجسى جسمه وصفى الصوت وقواه، ونفع من ضعف المعدة وسوء
الهضم والسدد واختناق الرحم. وقد يقوي البصر. وإذا قطر في الاذن، نفع من الصمم. وإذا تمضمض
به، شد اللثة المسترخية وأذهب نتن الفم وطيبه. وقد يستعمل من العنصلان شراب، أنا ذاكره عند
ذكرى الشراب، إن شاء الله تعالى.



(1) الإجانة والايجانة: إناء تغسل فيه الثياب.
(2) الغضار: الطين الازب الأخضر، أو هو اصحفة المتخذة منه.
(3) مطلي بالقار، وهو الزفت.
(4) هو الفراغ بين الاناء وغطائه.
(5) المن أو المنا: كيل قيل أنه رطلان.
457
في الثوم
الثوم على ثلاثة (1) ضروب: لان منه الريفي المستعمل في الطبيخ، ومنه المسمى باليونانية
(سقردوقراس) أي الثوم الكراثي، ومنه الثوم البري المعروف ب‍ (أسقرديون) (2). وزعم ديسقوريدوس
أنه يسمى ثوم الحية. فأما الثوم الريفي فالغذاء المتولد منه يسير جدا، مضر بالمحرورين، نافع لمن كان
مزاجه بلغمانيا لان حرارته ويبسه في وسط الدرجة الرابعة ولذلك صار له قوة قطاعة معطشة، مجففة
للمني، مفتحة للسدد، محللة للرياح الغليظة. فإذا أخذه من كان مزاجه باردا رطبا، أعان على درور
البول وأطلق البطن. وإذا أخذه من كان مزاجه يابسا، فعل عكس ذلك وضده. ولذلك وجب على من
أراد استعماله ممن كان خائفا من حرارته أن يقشره من قشره ويسلقه بالماء العذب ويسير من ملح، ثم
يقليه بدهن لوز أو دهن شيرج ويستعمله بعد ذلك كيف أراد وبأي شئ أحب. ويمص بعد أكله رمانا مزا
وتفاحا كذلك أو حماض الأترج. ومما يقطع رائحته من الفم أن يمص بعقبه ورق الينبوت (3) الأخضر
ويتمضمض بعد ذلك بشراب ريحاني.
ومن منافعه على سبيل الدواء أنه إذا أكل، نفع من عضة الكلب الكلب. وإذا أكل، كان أعظم
منفعة من نهش الأفاعي والحيات وبخاصة الحية التي يقال لها (أميرس) (4) وهي حية إذا لسعت عرض
للملسوع منها سيلان الدم من موضع اللسعة لان الثوم يقوم في نهش الهوام وفى جميع الأوجاع الباردة مقام
الترياق. ولذلك إذا دق وعمل منه ضماد، وحده أو بشراب، وحمل على نهش الحيات ولسع العقارب،
نفع منها. وإذا دققت الثوم وخلطته بجندبادستر (5) وعجنت الجميع بزيت



(1) في الأصل: ثلاث.
(2) وروي: أوقيوشقردين.
(3) هو الخرنوب النبطي، وقيل: خرنوب المعزى. وروي: (ينتون) وهو صمغ السذاب الجبلي.
(4) وروي: (أمرويس).
(5) الجندبادستر: مادة طبية صفراء اللون مرة الطعم تستخرج من حيوان برمائي هو الحارود أو البادستر تتجمع في جرابين صغيرين
هما تحت الخصيتين في الذكر وتحت الثغر في الأنثى.
458
عتيق وعملت منه ضمادا (1) على لسعة العقرب، جذب السم إلى خارج البدن وأبطل فعله.
وإذا شرب بطبيخ الفودنج الجبلي، قتل القمل والصئبان المتولدة في سطح البدن. وإذا أكل نيا أو
مشويا أو مطبوخا، نفع من السعال المتقادم من الرطوبة، وصفى اللون المتغير من الفضول الباردة. وإذا
أحرق وعجن بعسل وعمل منه لطوخ، أبرأ الشبيه بلون الدم الميت العارض تحت العين. وإذا عمل
كذلك وزيد فيه دهن ألبان، أبرأ داء الثعلب وأنبت الشعر فيه. وإذا دق من غير أن يحرق، وعجن بخل
وعسل، نفع من داء الثعلب والبهق والقوابي والبثور اللبنية وقروح الرأس الرطبة والجرب المتقرح والإبرية
التي في الرأس. وإذا طبخ ورقه من ساقه بماء وجلست المرأة في مائه، أدر الطمث وطرح المشيمة. وقد
يفعل ذلك أيضا إذا تدخن به. وإذا استف من حبه مدقوقا وزن درهمين وشرب عليه ماء السبستان (2)
المطبوخ، أخرج الدود وحب القرع من البطون. وإذا شرب بسكنجبين، نفع من جسأ الطحال. وإذا
طبخ مع ورق الصنوبر والكندر وأمسك ماؤه في الفم، نفع من وجع الأسنان العارض من الرطوبة
والبرودة. وإذا دق وخلط مع ورق التين والكمون وعمل منه ضماد، نفع من عضة ابن عرس. وزعم
ديسقوريدوس عن خلط يسمى طوطرن (3)، تعاونه أطباء النصارى وأطباء الفرس، من الثوم والزيتون
الأسود، أنه إذا أكل، أدر البول وفتح أفواه العروق ونفع المحبونين، بإذن الله.
* * *
في الثوم المعروف بسقردوقراسطن
أي الثوم الكراثي
هذا الثوم يشبه نباته نبات الثوم الشامي، وفى طعمه شبه طعم الثوم وطعم الكراث جميعا، وبهذا
سمي الكراثي. ولذلك صار له قوة مركبة تفعل فعل الثوم والكراث، إلا أن فعله أضعف من فعل الثوم
الحقيقي. وكثيرا ما يطبخ فيعذب ويؤكل كما يؤكل الكراث الشامي.
في الثوم البري
الذي يسمى أسقرديون
ويعرف أيضا بثوم الحية. هذا الصنف من الثوم أحد وأقوى من الثوم البستاني، لان رسم جميع
الأشياء البرية أن تكون أقوى من البستاني في الحرارة واليبوسة لعدمها الماء وجفاف الجو عليها. وهذا



(1) في الأصل: ضماد.
(2) شجرة تسمى المخيطا، وهو الدبق بالعربية.
(3) وروي: طوطون، على أنه نوع من الزيتون الأسود.
459
الثوم مركب من طعوم متفننة لان فيه مرارة وحرافة وقبض. فالحرافة وحدته (1) سمي ثوما (2) بريا (3)، وإن
كان فيه بعض رائحة الثوم، وله قضبان مربعة عليها (4) زهر أحمر قان. وقوته مسخنة منقية للأعضاء
الباطنة مدرة للبول والطمث. وإذا دق وهو طري وشرب أو طبخ وهو يابس وشرب ماؤه، نفع من نهش
الهوام ومن سم الأدوية القتالة. وإذا شرب منه وزن مثقالين بشراب العسل، نفع اللذع العارض في المعدة
ومن قرحة الأمعاء ومن عسر البول العارض من الرطوبات الغليظة اللزجة الزجاجية، ونقى الصدر من
الكيموسات الغليظة القيحية. وإذا خلط وهو يابس مع حرف وعسل وراتينج وعمل منه لعوق، كان
صالحا للسعال المزمن وشدخ العضل. فإذا خلط بقيروطي، سكن الأورام المزمنة العارضة فيما دون
الشراشيف. وإذا تحملته المرأة، أدر الطمث. وإذا شربت (5) عصارته نفعت من جميع ما ذكرنا من
الأوجاع. وأقوى ما يكون منه المجلوب من بلدة يقال لها نيطس، ومن الجزيرة التي يقال لها اقريطي.



(1) واضح أن نقصا في الكلام سبب الاضطراب فيه. وعن جالينوس في جامع ابن البيطار: (وحدته وحرافته من أشبه شئ بحدة
الثوم وحرافته وأحسبه إنما سمي ثوما بريا بهذا السبب).
(2) في الأصل: ثوم.
(3) في الأصل بياض مقدار كلمة. والأرجح أنها (بري). وفى الهامش: (يحقق الخلو).
(4) ما بعدها في الأصل تعرض لطمس جزئي. وما أثبتناه من جامع ابن البيطار.
(5) في الأصل: شرب.
460
في الرني وآذرقنطين وهو اللوف الذكر
ويعرف بشجرة الجنس (1)
وأما اللوف فتختلف قواه وأفعاله على حسب اختلافه واختلاف المواضع التي (2) ينبت فيها. وذلك
أن في جنسه ما يكون على ضربين: لان منه نوعا (3) يسمى باليونانية أآرني ونوعا (3) دراقنطين. فأما أآرني
فله ورق شبيه بورق أدرقنطين، إلا أنه أصغر منه. وله ساق طوله نحو من شبر وأزيد قليلا، ولونه
فرفيري، وشكله شكل دستيج (4) الهاون وعليه ثمرة زعفرانية اللون وأصله أبيض. وهو في حرارته ويبسه
دون حرارة أدراقنطين ويبسه، كأن إسخانه وتجفيفه في الدرجة الأولى، ولذلك استغنينا في إصلاحه بطبخه
مرة واحدة فقط، لأنه ألين وأقل حرارة. ولذلك صار غذاؤه أصلح من غذاء ادراقنطين، إلا <أنه>
من الأفضل بل من الواجب أن يرمى بمائه الذي يسلق به ويطيب بالخل والمري والخردل والزيت، لأنه وإن
كان في طبيعته قطاعا ملطفا، فإن جرمه غليظ (5) كغلظ جرم (6) الشلجم فيحتاج لذلك إلى ما يعين على
هضمه بسرعة.
والمحمود من هذا النبات أصله، لأنه أقل حرافة من ورقه وثمره. وقد يستعمل ورقه للاكل على
أنحاء شتى. وقد يجفف أيضا ويطبخ ويؤكل. وإذا أكل طريا، قطع الأخلاط تقطيعا بليغا، ونقى ما في
الصدر والرئة من الرطوبات اللزجة. وأما أصله فزعم فيه قوم أنه زائد في الجماع مدر للبول.
وأما النوع الثاني المعروف بأدراقنطين، فهو (7) أشد حرافة وأقوى مرارة من النوع الذي قدمنا ذكره،



(1) (بشجرة الجنس) مستدركة في الهامش.
(2) في الأصل: الذي.
(3) في الأصل: بالرفع.
(4) لفظة دخيلة وهي المدقة.
(5) في الأصل: غليظا.
(6) في الأصل: (كجرم غلظ).
(7) في الأصل: وهو.
461
ولذلك صار إسخانه وتجفيفه في الدرجة الثانية، غير أن فيه شيئا من القبض. ومن البين أن القبض إذا
كان مع هاتين الكيفيتين، أعني الحرافة والبرودة، دفع بعض أضرارها بالمعدة. ولما في هذا النبات من
الحرافة والمرارة صار مفتحا لسدد الكبد والطحال ملطفا للأخلاط الغليظة اللزجة. وعصارته تنفع من
البياض العارض في العين المتولد عن آثار القروح. وإذا طليت على آثار داء الثعلب، نفعت منه وأنبتت
الشعر فيه.
والأفضل في استعماله على سبيل الغذاء أن يسلق مرتين ويرمى بمائه الذي يسلق به لتزول عنه
حرافته، ويطيب بعد ذلك بالخل والمري والخردل والزيت ليعين ذلك على تلطيف غلظ جرمه. وبزر هذا
النبات أقوى من ورقه وأصله. ولذلك صار أصله إذا دق وخلط بخل وطلي على البهق، نفع وذهب به.
وإذا طبخ بشراب وطلي على الشقاق العارض من البرد، أزاله. وعصارة ثمرته إذا غمس فيها صوف
وأدخل في الانف، نفع من الأورام المتولدة في المنخرين المعروفة عند المتطببين بالكثيرة الأرجل، أعني
الأورام الساعية المعروفة عند أصحاب الجراحات بالبواسير.

462
في الخنثى
أما الخنثى فإن أهل الغرب يسمونه البرواق. ومن أصله يعمل الشراس، وله مرارة تقرب من مرارة
العنصلان بها صار يجلو ويحلل ويفتح السدد ويدر البول والطمث ويسهل القئ، وينفع من نهش الهوام ومن
اليرقان العارض من سدد الكبد المتولدة عن الرطوبة. ولذلك صار قوم من الأطباء، كرمهم الله تعالى وأدام
نفعهم، يطعمون قضبان هذا النبات لأصحاب اليرقان، ويرون ذلك أقوى ما عالجوهم به. وإذا شرب منه
وزن ثلاث درخمات نفع من نهش الهوام. وإذا شرب ورقه وزهره بشراب، نفع من لسع العقارب ومن سم
الحيوان المعروف <أم> أربع (1) وأربعين وإذا عمل من ورقه وأصله وزهره ضماد بشراب وحمل على موضع
النهشة أو اللسعة، فعل ذلك أيضا. وإذا طبخ بدردي الخمر وضمدت (2) به القروح الوسخة، نقى
وسخها. وإذا حمل على الأورام المتولدة من الرطوبة وبخاصة أورام الثديين والأنثيين، حللها.
وإذا دق أصله وعصر ماؤه وخلط بشراب حلو عتيق وشئ من مر وزعفران وطبخ، كان منه دواء
نافعا من الرطوبة العارضة للعين ومن السلاق (3) والاحتراق العارض للأجفان. وإذ أحرق الأصل وحمل
رماده على داء الثعلب، أنبت الشعر فيه. وإذا أخذ ماؤه وخلط بكندر ومر وعسل وشراب وفتر (4) وقطر في
الاذن، نقى المدة منها. وإذا قطر ماؤه في الاذن المخالفة للضرس الوجع، سكن ضربانه (5). وإذا حفر
الأصل وجوف وجعل في تجويفه زيت وحمل على رماد حار حتى يغلي جيدا ودهن به الشقاق العارض من
البرد أو طلي على حرق النار، نفع من ذلك نفعا بينا. وإذا دلك البهق والقوابي بخرقة خشنة في الشمس
ثم لطخ عليها ماء الأصل المدقوق المعصور، نقاهما. وإن خلط معه شئ من كبريت، كان أقوى لفعله.



(1) في الأصل: بأربعة.
(2) في الأصل: ضمد.
(3) السلاق هو غلظ في الأجفان فتحمر وينتثر الهدب ثم تتقرح أشفار الجفن.
(4) أي جعل لا حارا ولا باردا.
(5) ضرب الضرس: اشتد وجعه.
463
وإن أحرق الأصل بالنار، كان أشد لاسخانه وتجفيفه، وأقوى لتحليله وتلطيفه، ونفع من داء الثعلب إذا
حمل رماده عليه.
وإن عولج كما يعالج الترمس حتى يعذب وتزول عنه مرارته، ضعف فعله على سبيل الدواء، وصار
غذاؤه أصلح. وشاهدت رجلا بالإسكندرية ممن كان يجمع العقاقير ويدعي معرفتها، يزعم أن أصل
الخنثى هو الكندس، لأنه شبيه بعود الكندس، وذلك أن طوله في الأرض مقدار نصف شبر في غلظ
الابهام، وفيه بصل كثير لطيف معلق به، فإذا نزع ذلك البصل منه صارت صورته صورة عود الكندس.
وأما أنا فإني أخذت هذا الأصل وجففته وامتحنته في تهييج العطاس، فما وجدت له في ذلك فعلا ولا تأثيرا
ولا رأيت له حرافة الكندس، فسألت ذلك الرجل عن السبب في هذا، فذكر أن هذه خاصة خنثى
المغرب، إنه لا يعطس ولا يخرج منه شراس.

464
في بصل الزيز
ويسمى البلبوس
وأهل أفريقية يعرفونه بالنطف
أما بصل الزيز فيكون على ضربين: لان منه نوعا يجلب القئ ونوعا لا يجلب القي. والذي لا
يقئ فإنه، وإن كان ألطف كثيرا، فإن فيه مرارة وحرافة وقبضا ليس باليسير. فلقبضه صار مقويا
للمعدة، ولمرارته صار غير ضار بمن احتاج إلى أن يقذف من رئته وصدره شيئا، لان جرمه وإن كان
غليظا، فإن في قوة مرارته ما يفي بغلظه. وزعم ديسقيريدس أن الأحمر منه أفضل للمعدة لتقويته لها بما
فيه من القبض وقلة المرارة، إلا أنه أغلظ وأبعد انهضاما (1). والذي مرارته شبيهة بمرارة العنصلان أقل
تقوية للمعدة لقوة مرارته وضعف قبضه إلا أنه ألطف وأعون على الانهضام. وإذا استعمل، أعان على
شهوة الطعام وولد نفخا ورياحا وأمغاصا، ولذلك وجب أن يتوقى الاكثار منه، ويقتصر منه على
البصلتين أو الثلاث، لان الاكثار منه مذموم جدا لفساد جوهره ورداءته. فإن سلق بالماء مرتين أو ثلاث
ورمي ماؤه الذي سلق به حتى تزول عنه مرارته التي بها كان ملطفا، ضعف فعله في تسهيل ما يخرج من
الصدر والرئة بالنفث وصار ما ينال البدن من غذائه أكثر وأحمد، غير أن الدم المتولد عنه أغلظ من المعتدل
وأكثر لزوجة، ولذلك صار غذاؤه كثيرا زائدا في اللحم لأنه ينفخ اللحم بكثرة رياحه وينفشه. ومن قبل
ذلك صار زائدا في الانعاظ ومقويا لشهوة الجماع. والسبب في زيادته في الانعاظ رياحه النافخة للقضيب،
وفى تقويته لشهوة الجماع زيادة حرارته وإغزاره المني بكثرة غذائه.
وحكى جالينوس عن قوم امتحنوا ذلك بإلحاحهم عليه فأدركوه حسا، لأنهم كانوا يجدون المني يكثر



(1) في الأصل: انهضام.
465
في أبدانهم ويقوي شهوتهم على الجماع عند إدمانهم عليه. ومن الأفضل أن يقتصر في طبيخ هذا البصل على
طبخة واحدة أو طبختين أكثره، لأنه قليل الاحتمال للطبخ الكثير. وإذا طبخ فيطيب بالخل والمري والزيت،
فإن ذلك مما يزيد في طيبه وزيادة غذائه وسرعة انهضامه، وإن كان من الأفضل أن يتوقى الاكثار منه لان
ذلك مضر بالعصب.
ومن منافعه على سبيل الدواء أنه إذا سلق وأخذ بالخل، كان نافعا من وهن العظم، غير أنه مضر
بأطرافها، لان أطرافها عصبية، وهو مضر (1) بالعصب على ما بين آنفا. وإذا خلط مع الدواء المعروف
بقونيون وطلي على الكلف في الشمس وعلى الآثار السود العارضة من اندمال القروح، نقاها. وإذا شوي
في رماد حار وخلط مع رؤوس سمك صغير مالح، المعروف بالصير المحرق، نفع من القروح العارضة في
الذقن. وإذا خلط بصفرة البيض وعمل منه ضماد، نفع من الثآليل (2) ونقى كمنة الدم العارضة تحت
العين. وإذا خلط بالسكنجبين، قلع البثور اللبنية من الوجه. وإذا خلط بنطرون مشوي، نقى الإبرية
والنخالة من الرأس، ونفع من القروح الرطبة العارضة هناك. وإذا عمل منه ضماد بعسل، نفع من عضة
الكلب الكلب ومن الترهل العارض للمستسقين. وإذا عمل منه وحده ضماد، كان نافعا من التواء
العصب ووهن العضل والرض العارض في اللحم، وأخرج السلى من عمق البدن.
* * *
في الزيز المقي
وأما الزيز المقئ فإن أصله مشاكل لأصل الزيز المأكول، إلا أن ورقه أرق وأطول كثيرا. ومزاجه
أسخن وأيبس. ومن خاصته إذا أكل أو طبخ هيئ القئ.
* * *
في العاقر قرحا
أكثر ما يستعمل من العاقر قرحا أصله فقط. وقوته قوة محرقة في الدرجة الرابعة. وتدل على ذلك
مذاقته، لأنه عند الذوق يحذي (3) اللسان حذيا كثيرا قويا جدا، ويجلب بلغما غزيرا، ويسكن وجع
الأسنان العارض من البرد والرطوبة. وإذا طبخ بخل وتمضمض به، فعل مثل ذلك أيضا. وإذا سحق
وخلط بزيت ومسح به الظهر والبطن قبل أدوار الحمى ذوات النوائب، نفع من النافض (4) العارض فيها.
وإذا مسح به البدن كله، نفع من الكزاز ومن فساد الحس وبطلان الحركة العارض من غلبة البرد على
الأعضاء والله أعلم.



(1) في الأصل: فمضر.
(2) الثواليل.
(3) حذى حذوا وحذيا الشراب اللسان: قرصه. والأعرف يحذي.
(4) النافض: رعدة الحمى.
466
باب الأبازير
القول في الكسبرة
أما الكسبرة (1) فتكون على ضربين: لان منها بستاني، ومنها (2) بري. والبستاني منها مركب من قوى
مختلفة يضاد بعضها بعضا. ويدل على ذلك اختلاف طعومها، لان الأغلب على طبعها المرارة مع يسير من
قبض. وأما الرطوبة منها فإن فيها مع مرارتها وقبضها، من الرطوبة المائية المكتسبة من الماء مقدارا ليس
باليسير، إلا أنها رطوبة فاترة من أجل مرارتها. ولذلك نسبها الفاضل أبقراط إلى الاسخان. ويسير
قبضها أوجب حبس البطن لأنه قال أن الكزبرة الرطبة حارة حابسة للبطن مسكنة للجشاء الحامض. وإذا
أكلت بعد الطعام، جلبت النوم.
وأما ديسقيريدس فنسبها إلى البرودة، وذكر أنها محللة للخنازير. وأنكر جالينوس أن يكون شيئا
محللا للخنازير باردا، على ما في الخنازير من الجسأ والغلظ. وما كان كذلك، فحالته إلى ما يلطف أكثر.
وقول آخر (3) لجالينوس قال فيه: وما أقف على السبب الذي من أجله نسب ديسقيريدس الكسبرة إلى
البرودة، والمرارة على طعمها أغلب. ومن البين أن المرارة دالة على حرارة ملطفة أرضية.
ومن فعل الكسبرة على سبيل الغذاء أنها عسرة الانهضام، مانعة من سرعة النضج، فإن أكلت بماء
الرمانين أو بماء الرمان الحلو وشئ من خل، أكسبها ذلك برودة وقواها على قمع حدة المرة الصفراء
وتسكين اللهيب العارض في المعدة.
وأما على سبيل الدواء، فإن ماءها إذا عمل منه لطوخ مع عسل وزيت، نفع من الشرى (4) العارض



(1) لغة في الكزبرة.
(2) في الأصل: منه.
(3) (آخر) مستدركة في الهامش.
(4) الشرى: شبه بثور حمر تظهر دفعة في الجسد وتلذع بشدة.
467
من الدم الغليظ. وإذا خلط ماؤها باسفيداج الرصاص وخل ودهن ورد أو مرداسنج (1) وخل ودهن ورد،
وطلي على الأورام الحارة، سكن حرارتها. وإذا خلط بلباب خبز وسويق أو دقيق العدس، نفع من الحمرة
العارضة من المرة الغليظة، ووافق ديسقيريدس جالينوس على أن هذا الفعل من الكسبرة لا يكون إلا في
آخر العلل بعد سكون حدة الفضل ولهيبه، لان العلل الحارة في ابتدائها تحتاج إلى ما يبرده (2) ويقويه أكثر،
وتحليله وتلطيفه أقل، وفى منتهاها تحتاج إلى ما يحلله (2) ويلطفه أكثر، وتبريده وتقويته أقل. والكسبرة
فتحليلها وتلطيفها أكثر، فهي إذا في منتهى العلل أفضل.
وزعم الكندي، في كتاب له وضعه في السمائم، أنه إذا شرب من عصارة الكسبرة أربع أواق،
ظهرت رائحتها في الجسد كله، وأحدثت بحوحة في الصوت واختلاط في العقل حتى يصير صاحبها
كالسكران المجهر باللفظ القبيح. وعلاج ذلك أن يقيأ صاحبها بالعسل وماء الشبت والبورق والملح
والزيت، ويسقى أيضا الأفسنتين مع الشراب، ويتحسى صفرة البيض مع شئ من ملح قليل، ويطعم
البيض بالفلفل والدارصيني والزيت، ويحسى أيضا مرق الدجاج ومرق الإوز.
وأما حب الكسبرة اليابسة فيجفف في الدرجة الثانية. ولذلك إذا سحق وعمل منه ذرور (3) على
المواضع التي ينبعث منها الدم، قطع سيلانه. وإذا شرب منه اليسير مع الميبختج، أخرج الدود الطوال
من البطن. ورأيتهم مجمعين على زيادته في المني، ولم أقف على السبب في ذلك على قلة غذائه وقوة
تجفيفه. فإذا حمص، عقل الطبيعة. وإذا أنقع، قبل أن يحمص، في ماء حصرم أو ماء رمان حامض أو
ماء حماض الأترج، يوما (4) وليلة وجفف في الظل، وحمص بعد ذلك، كان أقوى لحبسه البطن وقطعه
الاسهال المري. وإذا شرب منه، وهو ني غير محمص ولا مدبر، مقدار كبير (5)، ولد سددا وخبث نفس
وأفسد العقل. ولذلك وجب أن يحذر الاكثار منه والادمان عليه ألن ذلك ربما قتل.
* * *
في الكسبرة البرية
وأما الكسبرة البرية فرائحتها شبيهة (6) برائحة الكسبرة البستانية، إلا أن صورتها مخالفة لصورتها.
وإذا شرب من مائها، ظهرت رائحتها في البدن كله، وعرض لصاحبها بحوحة في صوته واختلاط في عقله



(1) هو المرتك، يعمل من الرصاص أو من الفضة.
(2) الضمير عائد إلى الفضل.
(3) في الأصل: ذرورا. والذرور: ما يذر على الجرح من دواء يابس.
(4) في الأصل: يوم.
(5) في الأصل: مقدارا كبيرا.
(6) في الأصل: شبيه.
468
وبرد في أطرافه. وعلاج ذلك أن يسقى صاحبها طبيخ الشبت بدهن خل أو بزيت، أو يسقى زيتا بماء
حار أو زيتا بطلاء العنب وماء حار. ويلزم ذلك مرتين أو ثلاث ويكون الغذاء شعيرا مطبوخا (1) بعصافير
أو عصافير أسفيذباجة أو دجاج مسمن أو ما شاكل ذلك من الأغذية السريعة الانهضام. ويكون شرابه
شرابا مصرفا، فإن سكنت العلة، وإلا فيسقى المطبوخ الصرف بلبن البقر أو طبيخ الأفسنتين بالطلاء.
* * *
في الكسبرة المعروفة بالبرشياوشان
وتسمى أيضا شعر الجبار وشعر الغول (2)
وإنما سميت بهذا الاسم لان قضبانها دقاق على دقة الشعر وسواده، وورقها شبيه بورقة الكسبرة
البستانية، إلا أن تشقيقها إلى الطول قليلا ولمسها (3) ألين وأنعم، مخالفة لرائحة الكسبرة وطعمها، وليس
لها زهر ولا ثمر ولا ساق قائم، لان قضبانها تخرج من الأصل نفسه. وأصلها لا ينتفع به، وليس يتبين
فيها حرارة ظاهرة ولا برودة كذلك. ولذلك نسبتها الأوائل إلى الدرجة المتوسطة بين هاتين الكيفيتين،
لأنهم وجدوها في ابتداء فعلها تلطف وتحلل ثم تجفف بعد ذلك تجفيفا معتدلا. ومن قبل ذلك صارت
معينة على تنقية الأخلاط الغليظة اللزجة المتولدة في الصدر والرئة، ونافعة من الربو والبهر (4) ومن اليرقان
وأوجاع الطحال وعسر البول، ولحبس البطن وتنقية الحمى. وإذا شربت، نفعت من نهش الهوام
والحيات ومنعت من سيلان الفضول إلى البطن، وقطعت (5) دم المرأة النفساء. وإذا عمل منها طلاء على
داء الثعلب، أنبتت الشعر فيه. وإذا خلطت بلاذن (6) وزوفا وشراب ودهن آس ودهن السوسن وعمل
منها ضماد على الشعر، لينه وحفظه ومنع من تساقطه. وطبيخها إذا خلط بشراب وماء رمان وغسل به
الرأس، فعل مثل ذلك أيضا. وإذا خلط طبيخها برماد وغسل به الرأس، نقاه من الإبرية وجفف القروح
الرطبة التي في الرأس. وإذ حمل على الخنازير، حللها. وإذا خلط بعلف الديوك والسمان، قواها على
الهراش.
وزعم ديسقيريدس أن الرعاة كانت تصير هذا النبات بالليل في حظائر الغنم لمعرفتهم بمنفعته في دفع
الأسقام من الغنم. وزعم الكندي، في كتابه الذي في السمائم، أن الاكثار من هذه الكسبرة يولد التباسا



(1) في الأصل: بالرفع.
(2) وتسمى أيضا: كزبرة البئر وشعر اورض وشعر الجن وشعر الخنازير ولحية الحمار والساق الأسود وساق الوصيف.
(3) في الأصل: تعرض وسط هذه الكلمة لطمس، ولعلها كما أثبتنا.
(4) البهر: ما يعتري الانسان، عند الركض، من التهيج وتتابع النفس.
(5) في الأصل: قطع.
(6) هو طل يقع على الأشجار والحشائش فيكون دابقا.
469
في العقول وبردا في الأطراف وانقطاعا في الصوت ويظهر رائحتها في البدن كله. وإذا عض شاربها أحدا،
عرض له مثل هذه الاعراض أيضا.
علاج ذلك أن يقيأ بدءا بزيت وماء حار، ثم يسقى طبيخ الشبت مع الدهن مرتين أو ثلاث (1)،
ويسقى الأفسنتين مع الشراب أو الأفسنتين المطبوخ بالطلاء (2) وسمن البقر الصرف، والغذاء عصافير
اسفيذباج أو عصافير مطبوخة بالشعير.



(1) في الأصل: ثلاثة.
(2) ضرب من القطران، وقيل أنه رب العنب.
470
في السذاب
أما السذاب (1) فنوعان: لان منه البري، ومنه البستاني. والبري أحر وأيبس كثيرا من البستاني،
لان حرارته ويبسه في الدرجة الرابعة، وحرارة البستاني ويبسه في الدرجة الثالثة. وتدل على ذلك قوة
حرارة (2) البري وحدته، وإن كان ليس إنما يحس الذائق له منه بحرافة فقط، لكنه يحس منه أيضا بحرافة
قوية. والبستاني منه غير ردئ الاستمراء، لان قوته قطاعة بلطافة مستفرغة للأخلاط الغليظة اللزجة
بالبول، ومحللة للرياح والنفخ وملطفة للأثفال، ومنشفة للرطوبات. ولهذه الجهة صار هذا النوع من
السذاب من أوفق الأشياء للمعاء السفلى، لأنه يحلل رياحها ونفخها ويلطف ما يوافيه من الرطوبات
الغليظة اللزجة فيها.
وإذا طبخ مع الشبت وشرب طبيخه، سكن الأمغاص العارضة من الرياح الغليظة والرطوبات اللزجة.
وإذا طبخ بالزيت واحتقن به، حلل النفخ المرتكبة في معاء القولن والمعاء المستدير. وإذا شرب
مطبوخا بالزيت أخرج الدود وحب القرع من البطن. وإذا طبخ بالشراب حتى ينتصف وشرب طبيخه
نفع من الاستسقاء، وبخاصة الاستسقاء اللحمي. وإذا سحق وعجن بعسل وألطخ على المواضع التي بين
المعدة وبين فم الرحم، نفع من اختناق الأرحام. وإذ أكل وحده، أحد بصر المرطوبين وأدر البول
والطمث وجفف الثفل وعقل البطن. وإذا أكل مع الجوز والتين، أبطل فعل الأدوية المسمومة ونفع من
ضرر الهوام. والنابت منه بالقرب من شجر التين أوفق للمعدة (3) للطعام. وإذا مضغ بعد أكل الثوم
والبصل، أخفى رائحتهما وسترهما. وإذا خلط بعصارة الرازيانج والعسل واكتحل به، نفع من كلالة
البصر ومن ابتداء نزول الماء في العين. وإذا خلطت عصارته بالشب اليماني والعسل وعمل منه لطوخ،
نفع من القوابي ونقاها. وإذا خلطت عصارته بنطرون وحملت على القوابي والثآليل (4) والبهق الأسود،
أبرأها.



(1) ويسمى الفيجن.
(2) في الأصل: حرارته.
(3) كذا في الأصل. والأرجح أنها زائدة.
(4) في الأصل: الثواليل.
471
وأما بزر السذاب فإنه إذا شرب بشراب، نفع من الأدوية القتالة. وإذا شرب بعسل وسكنجبين،
نفع من الفواق العارض من البرد والرطوبة. وإذا سحق وجعل في الانف، قطع الرعاف. وأما صمغ
السذاب فحرارته في الدرجة الثالثة ويبسه في الثانية. ومن منافعه أنه طراد للرياح، محلل للرطوبات
البلغمانية الكائنة في الدماغ. وإذا استعط به مع ما يلائمه من الأدوية النافعة <نفع> من مثل ذلك.
والسذاب البري في جميع ما ذكرنا أفعل وأقوى كثيرا لأنه أحد وأيبس. ولذلك صار الاكثار منه
يقتل. ومما يستدل به على ذلك أن الانسان الذي يجمعه من شجره بعد ظهور نواره وزهره، يتشرى بدنه
ويظهر في سطحه حمرة وحكة وورم حار ملتهب. ولذلك لا يتقدم أحد على جمعه إلا بعد أن يدهن وجهه
وسائر بدنه بدهن بنفسج.
وزعم ديسقيريدس أن عصارة السذاب البري إذا رشت على الدجاج، لم يقربها الناموس (1). وزعم
اصطفن أن الناموس (1) هو الدلق. وزعم ديسقيريدس عن سذاب ينبت في بلدة يقال لها قادونيا على نهر
يعرف بالفيموس أنه إذ أكل، قتل. وذكر عن الموضع الذي ينبت فيه ذلك السذاب أنه جبل الأفعى.



(1) في الأصل: النموس.
472
في الكمون
الكمون ينقسم قسمة أولية على ضربين: لان منه البستاني، ومنه البري. والبستاني على ضربين:
لان منه ما هو طيب الطعم مثل الكمون الكرماني المعروف عند أبقراط باللوسطيقون أي الملوكي، وبعده
البصري، وبعدهما جميعا سائر الكمون. وأفضل ما يستعمل من هذا النبات بزره، وقوته مسخنة في
الدرجة الثالثة، مجففة في الثانية، لان فيه قوة يابسة بها يقطع سيلان الدم ويجفف رطوبات المعدة
الفضلية. وبحرارته يحلل الرياح والنفخ. وإذا طبخ بالزيت واحتقن به، نفع من الأمغاص العارضة من
الرياح الغليظة النافخة. وإذا تضمد به من خارج مع دقيق الشعير، فعل قريبا من ذلك. وإذا شرب
بخل ممزوج بماء، نفع من عسر النفس الذي يحتاج معه إلى الانتصاب، وقطع سيلان الرطوبات المزمنة
ومنعها من الانصباب إلى الأرحام. وإذا تحملته المرأة بزيت عتيق، قطع (1) الطمث. وإذا سحق
واستنشق، قطع الرعاف. وإذا شرب بشراب، نفع من نهش الهوام. ومن خاصته التي هي له دون
غيره، أنه إذ أديم شربه أو أديم الغسل بمائه المطبوخ به، غير لون البدن وأفاد الوجه صفارا.
وأما البري فقد ذكره ديسقيريدس أن له ساقا دقيقا (1) طوله نحو من شبر عليه أربع ورقات دقاق
متشققة مثل ورق الساهترج. وعلى طرف القضيب رؤوس صغار مستديرة ناعمة مقدار خمسة أو ستة.
وفيها ثمر صغير، وللثمر غشاء يحيط به كإحاطة الثمر ببزره. وبزره أشد حرافة من الكمون البستاني.
وإذا شرب بالماء، نفع من الأمغاص والنفخ. وإذا شرب بالخل، نفع من الفواق <العارض> من البرد
والرطوبة. وإذا شرب بشراب، نقى البلة العارضة في المعدة ونفع من ذوات السموم من الهوام. وإذا
مضغ وعجن بزيت وعسل وعمل منه ضماد، نفع من ورم الأنثيين من الرطوبة، وذكر ديسقيريدس نوعا
ثالثا من الكمون ليس ببستاني. وزعم أنه شبيه بالبستاني يخرج من جانبيه غلف صغار عالية شبيهة بالقرون



(1) في الأصل: (بزيت قطع عتيق..).
(2) في الأصل: ساق دقيق.
473
المقوسة فيها بزر شبيه بالشونيز إذا شرب نفع من نهش الهوام منفعة عظيمة، ويمنع تقطير البول
وأزال.. (1) العارضة من الحصى، والذين يبولون بولا غليظا متعقدا. وزعم أن الأفضل أن يشرب بعده
بزر الكرفس. وأما النوع المعروف عند أبقراط باللوسطيقون، فزعم ديسقيريدس فيه أن له ساقا صغيرا
دقيقا شبيها بساق (2) الشبت ذا عقد، وورقه شبيه بورق إكليل الملك. والورق الذي في أعلى الساق أرق
وهو طيب الرائحة. وعلى طرف الساق إكليل فيه ثمر أسود مصمت (3) مستطيل على طول بزر الرازيانج
الدقيق وأدق منه، وفيه حرافة وعطرية. وقوة هذا النبات وأصله مسخنة هاضمة للطعام نافعة من أوجاع
الجوف والأورام البلغمانية والرياح النافخة وبخاصة نفخ المعدة ولسع الهوام، ويدر البول والطمث جميعا.
وإذا تحملته المرأة، فعل مثل ذلك أيضا. وبزره حريف طيب جدا. ولذلك نستعمله في الطبيخ عوضا من
الفلفل.
* * *
في الكمون الأسود المعروف بالشونيز
أما الشونيز فيسخن ويجفف في الدرجة الثالثة، وله قوة غواصة ملطفة مجففة بها صار يحلل الرياح
النافخة في الغاية والنهاية. وهذا مما يدل على أن إحكام نضجه وإفادته لطافة قوية غير ضعيفة. ويدل على
ذلك ما فيه من قوة المرارة. وقد بين ذلك جالينوس في كتاب العقاقير حيث قال أن الجوهر الأرضي إذا بلغ
الغاية القصوى من اللطافة، صار مرا. وإذا كان الشونيز بهذه الحال وفى هذه المرتبة، فليس يمكن أن
يكون قاتلا للدود الذي في البطن أيضا، لا إذا شرب فقط، لكن إذا حمل على البطن من خارج، لان
كل ممر فغير ممتنع منه هذا الفعل، وإن كان لا يفعل ما يفعله الشونيز في خلاف ذلك من قطع العلة التي
يتقشر معها الجلد إذ حمل على البدن من خارج، وقلع الثآليل المتعلقة به والثآليل المنكسة والخيلان إذا
عجن ببول عتيق وحمل عليها. وإذا شرب الشونيز مع النطرون، سكن من عسر النفس العارض من
الرطوبات الغليظة اللزجة. وإذا أدمن شربه وحده مع الماء والعسل، أدر البول والطمث وفتت الحصى،
وإذا طبخ بخل وتمضمض به، نفع من وجع الأسنان العارض من الرطوبات المتعفنة. وإذا حمص وسحق
وصير في خرقة وأدمن شمه، نفع من الزكام العارض من البرودة والرطوبة الغليظة. وإذا استعط به نقى
الرطوبات النية المولدة للفالج والكزاز. وإذا شرب منه مقدر درخمين، نفع من نهش الرتيلاء. وحكى قوم
من الأوائل، ووافقهم على ذلك الكندي، أن الاكثار منه يقتل. وزعم الكندي أن علاجه كعلاج من
أكل الفطر.



(1) بياض في الأصل مقدار كلمة. ولعلها: الآلام. وفى الهامش: (يحقق الخلو).
(2) في الأصل: (ساق صغير دقيقه شبيه).
(3) المصمت: الذي لا جوف له.
474
في الشبت
وأما الشبت فيتخذ على ضربين: لان منه ما يستعمل طريا، ومنه ما يستعمل يابسا. فما كان منه
طريا، كان الامر فيه بينا أنه أقل حرارة وأزيد رطوبة من اليابس، للرطوبة المائية التي هي فيه بعد باقية.
ولذلك <كان> إنضاجه أسرع وجلبه للنوم أكثر، وذلك لتحليله للرطوبات ونقيه للتعب (1)، وإن كان
التحليل قلما يكون من قبل أن التحليل لا يتم إلا بحرارة معتدلة ورطوبة جوهرية محمودة، ورطوبة الشبت
الطري عرضية فضلية مكتسبة من الماء. واتفق جالينوس وديسقيريدس جميعا أن الأوائل كانت تتخذ منه
أكاليل على رؤوسهم في وقت شربهم النبيذ.
وأما اليابس من الشبت فحرارته في آخر الدرجة الثانية تمتد إلى الثالثة، ويبسه في وسط الدرجة
الثانية. وإذا طبخت قضبانه وبزره بالزيت، صار في الزيت قوة محللة مفتحة للسدد منقية (2) للتعب
مستجلبة للنوم منضجة للأورام الرخوة، لان الزيت إذا طبخ، صار في عداد الأدوية المحللة المفتحة
المنضجة. وإذا كان أسخن من الأدوية الكذلك قليلا.
وأما بزر الشبت فإنه إذا شرب، أدر اللبن والبول ونقى البطن ونفع من الأمغاص العارضة من
الامتلاء وهذه خاصته. وإذا أحرق، صار إسخانه وتجفيفه في الدرجة الثالثة ونفع من القروح المتقادمة
العارضة في طرف الذكر لأنه يجففها ويدملها بإذن الله.



(1) كذا في الأصل. وفى الهامش: يحقق، (للنصب).
(2) كذا في الأصل، بذات التنقيط، وفى جامع ابن البيطار: مسكنة للوجع.
475
في الكرويا
الكرويا على ضربين: لان منه الريفي المعروف بالكرويا على الحقيقة، ويقال له القرنباذ. ومنه
الكرويا البري المعروف بالقرطمانا، ويقال له القرنقار. وأما الكرويا الحقيقي فيسخن ويجفف في الدرجة
الثالثة، لان فيه حرافة لطيفة معتدلة، بها صار نافعا للمعدة المرطوبة، لان بلطافته يعين على الهضم،
ويطرد الرياح، ويحلل النفخ، ويدر البول، ويخرج الدود وحب القرع من البطن وهذه بخاصيته. ولما
بينا فيه من هذه الأفاعيل المحمودة، صارت الأوائل تستعمله في المعجونات التي من شأنها تقوية الهضم.
وليس هذا الفعل في بزره فقط، لكن في جملة نباته. ولذلك صار أصله يطبخ مثل الجزر ويؤكل. وزعم
بعض أطباء زماننا مثل يوحنا بن ماسويه وغيره أن حرارته أقل من حرارة الكمون، إلا أنه أقوى على
الهضم. وما أدري ما السبب الذي به أوجب فيه ذلك، وهو أشد حرافة كثيرا، وقد أجمع الأوائل على أن
حرارته في الدرجة الثالثة وحرارة الكمون في الثانية.
* * *

476
في الكرويا البري
المعروف بالقرطمانا والقرنقار
أما القرطمانا فقوته قوة تسخن إسخانا قويا، وإن كان دون الحرف في الاسخان. ويدل على ذلك
ضعف حرافته وذكاء رائحته ولذاذة طعمه وقبول الحاسة له. ومن البين أنه بحسب نقصان حرافته وزيادة
لذاذته وقبول الطباع له، كذلك نقصان حرارته وحدته بإضافته إلى حرارة الحرف وحدته، إلا أن فيه
حرارة يسيرة، بها صار قاتلا للدود وحب القرع، ونافعا من السعال المتقادم ومن استرخاء العصب ورض
العضل، ومحللا للأمغاص العارضة من الرطوبة. وإذا شرب بخمر أو بطلاء، نفع من أوجاع الكلى ومن
عسر النفس ولسع العقارب. وقال ديسقيريدس: ومن لسع سائر الهوام. وإذا شرب منه وزن درخمين مع
قشور أصول الغار.. (1)، فتت الحصى. وإذا تدخنت به المرأة الحامل، طرح الجنين وأسقطه. وإذا
خلط بخل خمر ثقيف وطلي على الجرب والقوابي والسعفة المترطبة التي في الرأس، نقاها وأبرأها.



(1) بياض في الأصل مقدار كلمة. ومع ذلك فالمعنى متصل، والسياق لا اضطراب فيه.
477
في الفلفل والدار فلفل
أما الفلفل فهو نبات ينبت بأرض الهند، له أصل شبيه بالقسط وقضيب مستطيل مدمج أجرد ليس
له ورق ويسمى وهو بهذه الحال الدارفلفل، ثم يخرج في تجويفه وتخلخله حب صغير مثل حب الجاورس.
فإذا استحكم نضجه وتفرقت أجزاء القضيب، وصار كعنقود في جوفه حب مستدير وهو الفلفل. فمنه ما
نجني وهو بعد غض حصرمي غير كامل النضج. وأكثره لا يجنى إلا بعد كمال نضجه وإدراكه. فما جني
منه وهو بعد حصرم غير كامل النضج كان لونه أبيض وسطحه أملس، وشكله مدحرج مستدير، وتعرفه
العامة بالفلفل الأبيض. وأما الفلاسفة من المتطببين فتعرفه بحصرم الفلفل. وما جني منه بعد كمال
نضجه، كان لونه أسود وسطحه خشن متكرج فيه تدريج وهو الفلفل المشهور المستعمل في الطعام.
والأبيض من هذين الصنفين هو أقلهما حرارة وحرافة وأكثرهما هضما، وذلك لفجاجته وغلبة الأرضية
عليه. ولذلك صار ألين مذاقا وأشد تقوية للأعضاء.
ولهذه الجهة اختارته الأوائل في ما كان من الأدوية التلطيف والتقطيع فيه أكثر، لان الأبيض يسخن
في أول الدرجة الرابعة، ويجفف في آخرها والأسود يسخن في وسط الدرجة الرابعة ويجفف في أولها.
ومما يستدل به على نقصان حرافة الأبيض عن حرافة الأسود، ليانة مذاقه وسهولته على حاسة الذوق. وأما
جالينوس فذكر، في كتاب العقاقير البسيطة، أن الفلفل أشد حرافة وأقوى حرارة من الأسود. وما
أحسب أن هذا إلا غلط من الناقلين أو تصحيف من الوراقين. وأما جالينوس فقد علمنا أن جميع الثمار في
أول ابتداء كونها وقبل كمال نضجها، فالأرضية والقبض أغلب عليها. فإذا تم نضجها وكمل، زال ذلك
القبض عنها، وانتقلت إلى ما هو لها بالطبع من حرارة أو مرارة أو حرافة أو غير ذلك. والقبض فغير
مشكوك فيه أنه دليل على الأرضية وضعف الحرارة فيما كان في طبعه حارا، وعلى الأرضية وزيادة البرودة
فيما كان من طبعه باردا. وإذا كان كذلك وكان الفلفل الأبيض غضا غير كامل النضج فلا محالة أن
الأرضية وضعف الحرارة عليه أغلب، وإلا فالامر بخلاف ذلك وضده، أعني أن ما كان من الثمار

478
الغضاضة والفجاجة عليه أغلب، والحرارة فيه أزيد وأشد منها فيه إذا نضج. والقائل بمثل هذا القول
يوجب في الحصرم زيادة الحرارة على العنب والزبيب وفي البلح زيادة الحرارة على الرطب، وبرودة الحصرم
والبلح فظاهرة بينة غير مشكوك فيها. فالحصرم إذا أسخن من العنب والزبيب وأبرد منهما. وكذلك البلح
أسخن من الرطب والتمر وأبرد منهما، وهذا خلف لا يمكن.
وإذ كنا قد وجدنا لجالينوس أيضا كلاما (1) ذكره في الفصل الذي تكلم فيه على الفلفل يناقض القول
الأول، يدل على أن هذا الكلام ليس هو عن رأيه ولا عن مذهبه. وذلك أنه قال في آخر هذا الفصل:
وإن الفلفل الأسود قد نضج وصار كأنه قد احترق احتراقا مفرطا وبلغ من اليبس كذلك، ولا كلام أبين
من هذا ولا أوضح، لأنه بإفراده الفلفل الأسود دون الأبيض بإفراط الاحتراق ما دل على أنه أشد حرارة
وحرافة. ومما يدل على قوة هذا الكلام أيضا قول قاله ديسقيريدس فيهما وذلك أنه قال: إن الفلفل الأسود
أشد حرافة وأقوى حرارة. والأبيض ألين حرارة وأشد قبضا لأنه يعد غضا (1) غير كامل النضج. والمختار
من الفلفل الأسود ما كان حديثا رزينا ممتلئا حسن السواد سليما من الكسر نقيا من الاجزاء النخالية التي
تصحب الفلفل العتيق دائما.
ومن منافعهما جميعا على سبيل الغذاء، أنهما إذا استعملا في الطبيخ والصباغات، فتقا شهوة الطعام
وأعانا على جودة الهضم، لان قوتهما قوة قطاعة محللة. ومن منافعهما على سبيل الدواء أنهما إذا استعملا في
الأشربة والمعجونات، نفعا من السعال المتقادم العارض من الرطوبات الغليظة، ونقيا ما كان في المعدة
والصدر والرئة من البلغم اللزج وحللا الرياح والأمغاص المتولدة في البطن وأدر البول. وإذا استعملا في
الاكحال، نفعا من الكيموس الغليظ المولد لظلام البصر. وإذا تغرغر بهما، أحدرا (3) من الرأس بلة
بيضاء. وإذا تحملت المرأة شيئا منهما بعد الجماع، منع الحبل. وإذا شرب منهما شئ (4)، نفع من شرب
المرتك (5) ومن الحميات ذوات الأدوار. وإذا مضغ أحدهما مع الزبيب الجبلي المعروف بحب الرأس، قطع
البلغم ونفع من أوجاع الفم المتولدة عن البلغم اللزج. وإذا شرب [منهما] أو مسح بهما من خارج مع
الدهن، نفع من النافض. وإذا قلي أحدهما وخلط بنطرون وعجنا بخل ثقيف وعمل منهما طلاء على
البهق، نقاه. وقد ظن قوم بالزنجبيل أنه أصل شجرة الفلفل، ولم يكن ظنهم ذلك بصادق، من قبل أن
أصل الفلفل شبيه بالقسط البحري، وهو أيضا يسخن ويلذع لذعا قويا ويجذب الرطوبات من بعد. وإذا
طبخ بشراب وعمل منه ضماد على الطحال، حلل غلظه وأذبل ورمه العارض من الرطوبة الغليظة. وإذا
مضغ مع الزبيب، قطع البلغم، إلا أن فعله في ذلك دون فعل الفلفل لان حرافته أضعف من حرارة
الفلفل.



(1) في الأصل: كلام.
(2) في الأصل: غض.
(3) في الأصل، أحدر.
(4) في الأصل: شيئا.
(5) هو المرداسنج.
479
وزعم ديسقيريدس أنه قد يوجد في الفلفل الأسود حب فارغ خفيف حشف (1) يسمى برشما (2).
وذكر فيه أنه مذموم جدا. وذكر أيضا نوعا ثالثا من الفلفل أرزن رماديا. وزعم اصطفن أن معنى هذا
الاسم فلفل الماء، لان نباته أكثر ذلك على المياه القائمة والمياه الجارية جريا ضعيفا. وله ساق ذو عقد
وأغصان، وورق شبيه ورق النعنع أو أكبر منه قليلا لأنه أنعم وأقل خضرة من النعنع وله ثمر لطيف نابت
في قضبان لطاف. ومخرج الورق من أصل الورق. وبعضه مجتمع مع بعض كالعناقيد. ولطعمه حرافة
كحرافة الفلفل. وقد يجفف ويخلط مع الأبازير عوضا من الفلفل فينوب عنه.
وقال جالينوس في هذا النوع من الفلفل أن إسخانه دون إسخان الفلفل على الحقيقة. ومن منافعه
على سبيل الدواء أنه إذا خلط طريا وعمل منه لطوخ على النمش والكلف والآثار العارضة تحت العين من
كمنة الدم، غسلها ونقاها. وإن عمل من ورقه وثمره ضماد، حلل الأورام الجاسئة والأورام البلغمانية
المتطاولة.
ومن الفلفل نوع آخر يعرف بفلفل هومة، ويسمى بالفارسية أسفيدمرد مخصوص بالدواء دون
الغذاء، صورته وشكله ولونه وحرارته ويبسه في الدرجة الثالثة وهو نافع من أوجاع القولنج والنقرس وسائر
الأوجاع المتولدة (3) عن البرودة.
* * *



(1) اليابس: الفاسد.
(2) وروي: برشياج.
(3) في الأصل: المتولد.
480
في الدار فلفل
أما الدارفلفل فحرافته دون حرافة الفلفل كثيرا، إلا أن حرارته في الدرجة الثالثة. وأما الرطوبة
فليس هو بمنسلخ منها لان فيه رطوبة نية فضلية، بها صار رطبا في الدرجة الأولى. ولذلك صار لا يفعل
في حاسة الذوق مع المباشرة كما يفعل الفلفل، لان الرطوبة تغلظه وتمنعه من النفوذ في المسام بسرعة. ومن
أجل ذلك لم يمكن أن يخرج فيه من القوة إلى الفعل إلا عن بعد (1). ويدل ذلك على أن الذائق له لا يجد له
في الابتداء لذعا دون أن يلبث على اللسان مدة يمكن فيها وصوله إلى الحاسة، إلا أن حرارته بعد ظهورها
وخروجها إلى الفعل تلبث في اللسان مدة ليست باليسيرة، لان رطوبته تحفظ الحرارة وتمنعها من التلاشي
والانطفاء بسرعة، لأنها تقوم للحرارة مقام الغذاء للمغتذي. وذلك مقاس من الشاهد لأنا نجد أن (2)
النار خارجا لا تتشبث بالحطب الرطب سريعا ولا تشتعل فيه إلا بعد مدة. فإذ اشتعلت، لبثت زمانا
أطول لمقاومة رطوبة الحطب لها ومنعها إياها من إحراق الحطب بسرعة. وأما الحطب اليابس فليس كذلك
لأنا نجده تشتعل النار فيه في أسرع مدة وأقرب وقت، ثم لا تلبث إلا قليلا حتى تتلاشى وتصير رمادا
وتنطفئ النار من قرب لأنها لم تجد في الحطب رطوبة تقاومها وتحفظ الحطب من سرعة الاحتراق
والتلاشي، ولذلك صار في الدارفلفل قوة تلبث في المعجونات والترياقات وتحفظها من الفساد بسرعة.
ومما يدل على رطوبة الدارفلفل أيضا ما نجده من ليانة طعمه وسهولته على الحاسة لضعف حرافته
وقلة تلذيعه وبعده من النفوذ في المسام بسرعة. ولذلك صار أكثر معونة على الهضم والتقوية على الجماع
وطرد الرياح من المعدة والأمعاء. ومما يدل على أن رطوبة الدارفلفل نية فضلية، سرعة تآكله وقبوله
للسوس. ومن البين أن التآكل والسوس لا يعرضان لما كانت رطوبته طبيعية مشاكلة لجوهريته، ولا لما كان
يبسه خالصا محضا، بل إنما يعرضان لما كانت رطوبته نية غير منهضمة لأنها خارجة عن الطباع.
* * *



(1) عبارة (ومن أجل ذلك.. عن بعد) مستدركة في الهامش.
(2) في الأصل: أنه.
481
في الزنجبيل
أما الزنجبيل فهو أصل نبات ينبت في بلاد الهند <ويجلب> إلينا. والذي ينتفع به من هذا النبات
أصله فقط، وإسخانه في الدرجة الثالثة. وفيه أيضا رطوبة فضلية غير منهضمة. ولذلك صار لا يظهر
تأثيره في الحاسة مع الحاسة المباشرة لغلظ رطوبته المانعة له من النفوذ في المسام بسرعة. وقد يدل على ذلك
ما بيناه في الدارفلفل من سرعة تآكله وقبوله السوس. وقد بينا أن التآكل والسوس لا يعرضان في ما
كانت (1) رطوبته طبيعية مشاكلة لجوهرية الشئ الذي (2) بقي فيه، ولما كان يبسه خالصا محضا، بل إنما
يعرضان لما كانت رطوبته فضلية خارجة عن الطباع قابلة للتعفن والفساد. ولذلك صار من الناس من
يتخذ الزنجبيل بالملح والماء أو بالعسل ويخزنه ليبقى على كيانه زمانا طويلا.
فقد بان مما قدمنا إيضاحه أن في الزنجبيل رطوبة فضلية غير نضيجة مخالفة لطباعه وجوهريته.
ولذلك لم يكن خروج ما فيه من القوة إلى الفعل مع المباشرة أيضا بسرعة على ما بينا من تأثير النار في
الحطب اليابس والحطب الرطب بسرعة استعمالها في الحطب اليابس وقلة بقائها فيه، لتلاشي الحطب
اليابس بسرعة لجفافه وعدمه الرطوبة، وبعد اشتعالها في الحطب الرطب وطول لبثها فيه لمقاومته لها وصبره
عليها بفضل رطوبته. ومن قبل ذلك صار فعل الزنجبيل والدارفلفل ومنفعتهما مخالفة لفعل الفلفل
ومنفعته، من قبل أن الفلفل يسخن مع المباشرة وينفذ فعله في البدن كله دفعة. والزنجبيل والدارفلفل
يسخنان رويدا رويدا بإبطاء ويفعلان في بعض الأعضاء دون بعض، لان فعلهما لا ينفذ في البدن كله
دفعة.
ولذلك صرنا متى أردنا أن نسخن البدن كله بسرعة، استعملنا <ما> يفعل مع المباشرة وينفذ فعله
في البدن كله دفعة مثل الفلفل الأسود والفلفل الأبيض. ومتى أردنا أن نسخن بعض الأعضاء دون



(1) في الأصل: كان.
(2) في الأصل: التي.
482
بعض، وبخاصة الأعضاء القريبة من المعدة والكبد، استعملنا ما لا يفعل مع المباشرة ولا ينفذ فعله في
البدن كله دفعة، وإذا الفعل منه ثبت زمانا أطول مثل الزنجبيل والدارفلفل وما شاكله.
ومن منافع الزنجبيل على سبيل الدواء أنه يصلح المعدة لتحليله لرياحها ونسفه لرطوبتها ومعونته على
الهضم. ومن منافعه أيضا أنه يلين الطبيعة تليينا خفيفا ويفتح سدد الكبد العارضة من الرطوبة، ويقوي
الشهوة للجماع بفضل حرارته ويسير رطوبته. وإذا اكتحل به، قوى الحدقة ومنع من الظلام العارض من
الرطوبة.
وجماع القول في الزنجبيل أن قوته وفعله كقوة الدارفلفل وفعله. ومن خاصيته أن يلين البطن تليينا
خفيفا.
* * *
في الزنجبيل البستاني المعروف بالراسن
ويسمى أيضا الزنجبيل الشامي
أما الراسن فإن الذي ينتفع منه أيضا (1) أصله فقط. وقوته وفعله كقوة الزنجبيل والدارفلفل وفعلهما
لان حرارته في الدرجة الثالثة، وفيه أيضا رطوبة فضلية غير منهضمة، بها صار رطبا في الدرجة الأولى
وامتنع ظهور فعله مع المباشرة لان غلظ رطوبته يدفعه من النفوذ في الحواس بسرعة. فإذا ظهرت قوته
وخرجت إلى الفعل، لبثت في الحاسة زمانا طويلا على ما بينا وأوضحنا في الزنجبيل والدارفلفل. ومن
شأنه في سبيل الغذاء بعد الانهضام والابطاء في المعدة. فإذا ربي بالطلاء، صار جيدا للمعدة. وتربيته
بالطلاء على هذا المثال: تؤخذ أصول الراسن فتجفف قليلا ثم تنقع في ماء بارد عذب ثلاثة أيام، وتنزع
عن الماء وتنزل حتى ينشف ماؤه وتصير في غضارة، ويلقى عليها من الطلاء ما يغمرها وتفضل قليلا وترفع
وتستعمل في وقت الحاجة.
ومن شأن الراسن على سبيل الدواء المعونة على نفث الأثفال الغليظة اللزجة من الصدر والرئة وجلاء
الأخلاط الكذلك المتولدة في الكبد والنفع من عرق النساء ووجع الأوراد. وإذا عمل منه لعوق بعسل،
نفع من السعال المتقادم العارض من الرطوبة، وحلل عسر النفس الذي يحتاج معه إلى الانتصاب وطرد
الرياح والنفخ العارضة في سائر البطن، ونفع من نهش الهوام وشدخ الأعضاء وانخلاعها العارض من
الرطوبة. وإذا شرب طبيخه، أدر البول. وزعم ديسقيريدس عن قول فراطس أن بمصر صنفا ثانيا من



(1) (أيضا) مستدركة في الهامش.
483
الراسن، وهو عشبة تنبت في المواضع القريبة من النيل، لها أغصان طولها نحو من ذراع منبسطة على
الأرض كانبساط النمام وورقها يشبه ورق العدس أو أطول قليلا، ولها أصول صفر صغار غلظها كغلظ
الخنصر، وأسفلها أدق من أعلاها. فإذا شرب منه أصل واحد، نفع من نهش الهوام.
في الدارصيني
الدارصيني على ضروب: لان منه الدارصيني على الحقيقة المعروفة بدارصيني الصين، ومنه
الدارصيني المعروف عند العامة بالدارصيني على الحقيقة وعند الخاصة بالدارصيني الصيف (1) ومنه
المعروف بقرفة القرنفل. فأما القرفة على الحقيقة، فتكون على ضربين: لان منها ما جسمه غليظ ثخين
سخيف متخلخل باطنه أحمر مائل إلى الخلوقية قليلا وظاهره حسن أحمر اللون يلي البياض قليلا على لون
قشر السليخة. ورائحته ذكية عطرة خمرة (2) قريبة من رائحة السليخة الخمرة (2)، وفى طعمها حدة (3)
وحرافة مع عذوبة يسيرة بينة وقبض يسير ظاهر. ومنها ما هو خشبي ضعيف الحرافة الغالب على طبعه
القبض والخشونة.
وأما قرفة القرنفل فجسمها رقيق قليل اللحم صلب مكتنز، ليس فيه شئ من التخلخل أصلا.
ولونه يلي السواد قليلا، وباطنه أصفى من ظاهره كأنه أقل سوادا وأميل إلى الحمرة قليلا. والغالب على
رائحة هذا النوع من القرفة رائحة القرنفل مع شئ من رائحة القرطمانا ويسير خفي من رائحة السذاب.
والغالب على طعمها القبض مع شئ من الحرافة والمرارة ويسير من الملوحة، إلا أن المرارة أغلب عليه،
وفيه أقوى. وقوة هذه القرفة وفعلها كقوة القرنفل وفعله، إلا أن القرنفل أقوى قليلا، لان الحرافة والحدة
فيه أكثر وعليه أغلب.
وأما الدارصيني الدور (4)، فجسمه يقرب من جسم القرفة على الحقيقة في خفته وتخلخله وحمرة
لونه، إلا أن حمرته أقوى ولونه أشرق وجسمه أرق وأصلب. وأعواده ملتفة دقاق مقصبة شبيهة بأنابيب
قصب السباخ، إلا أنها مشقوقة طولا غير ملتحمة ولا متصلة، ورائحته وطعمه فمشاكل لرائحة القرفة
على الحقيقة وطعمها في ذكائها وعطريتها وحدتها وحرافتها، إلا أن الدارصيني أقوى حرافة وأقل عذوبة
وأكثر عفوصة.



(1) كذا في الأصل. ولعلها (الضعيف)، كما سترد.
(2) أي قريبة من رائحة الخمر.
(3) في الأصل: حادة.
(4) وروي: الدون.
484
وأما الدارصيني على الحقيقة فجسمه أشحم وأثخن وأكثر تخلخلا من جسم القرفة على الحقيقة، كأن
لحمه يكون على ثخن الخنصر مع دهنية فيه تظهر عند مضغه ودقه. وأما لونه فمتوسط بين حمرة القرفة على
الحقيقة وسواد قرفة الفرنفل، إلا أنه إلى القرفة (1) أميل كثيرا وبها أشبه، لان حمرته أقوى من سواده
وأظهر. وأما لون سطحه فيقرب من لون سطح السليخة الحمراء. وأما طعمه فإن أول ما يبدر للحاسة
منه الحرافة مع يسير من قبض، ثم يتبع عذوبة ثم مرارة زعفرانية مع دهنية خفية فيها شئ من طعم
دهن النيلوفر. وأما رائحته فمشاكلة لرائحة القرفة على الحقيقة. فإذا مضغته وشممته، ظهر لك منه شئ
من رائحة الزعفران مع يسير من رائحة النيلوفر.
وقوة الدارصيني في الجملة في غاية اللطافة لا لأنه في الغاية من الحرارة لان حرارته في الدرجة
الثالثة، لكن وجب له ذلك من عطريته وذكاء رائحته. وليس في شئ من الأدوية المشاكلة للدارصيني في
طبيعته ومزاجه ما يجفف تجفيفه، وليس ذلك منه أيضا بإفراط يبسه لان يبسه في الدرجة الثالثة، لكن
للطافة جوهره وطيب طعمه وقبول الأعضاء له بطول لبثه فيها. وكذلك صار مطيبا للمعدة ومقويا لها
ومنشفا لرطوبتها ومفتحا لسددها ومدرا للبول والطمث جميعا، إلا أنه يسقط الأجنة متى شرب أو تحملته
المرأة مع شئ من مر أحمر.
ومن منافعه أيضا أن شربه نافع من نهش الهوام، ومن شرب الأدوية القتالة، ومن السعال العارض
من الرطوبة الغليظة، ومن النوازل المنحدرة من الرأس إلى الصدر والرئة، ومن وجع الكلى وعسر البول،
ومن الاستسقاء الزقي والطبلي. وإذا اكتحل به، جلا البصر الذي سبب ضعفه الرطوبة. وقد يفعل مثل
ذلك أيضا إذا أكل أو شرب. وإذا عمل منه لطوخ، نقى الكلف ونفع من البثور اللبنية العارضة في
الوجه. ومن الأوائل من كان يسحقه ويعجنه بشراب ويجففه ويخزنه.
ودارصيني الصين في جميع ما ذكرنا ألطف وأحمد فعلا وأظهر تأثيرا من الدارصيني الضعيف. وأما
القرفة على الحقيقة فمن خاصته أنه إذا شرب منه وزن درهمين بماء بارد، على الريق، منع نزف الدم
المنبعث من بواسير المقعدة، وبخاصة القرفة الخشبية منه، لغلبة القبض والعفوصة عليها، وإن كان أكثر
فعلها كذلك، إنما هو بخاصة فيها لا لطبعها فقط.



(1) في الأصل: الدقة.
485
في القرنفل
وأما القرنفل (1) فحار يابس في الدرجة الثانية. ومن فعله أنه مشجع للقلب لعطرية وذكاء رائحته،
ومقو للمعدة والكبد وسائر الأعضاء، ومنق للعلل العارضة فيها، ومعين على الهضم، طراد للرياح
المتولدة عن فضول الغذاء في المعدة وفى سائر البطن. ومقو للثة ومطيب للنكهة.
* * *
في القاقلة
القاقلة في جملتها حارة في الدرجة الأولى، يابسة في الثانية. وهي صنفان: لان منها (2) ما هو حب
كبير (3) له أقماع وقشر وهي القاقلة على الحقيقة. ومنها ما هو حب صغير ليس له أقماع ولا قشر ويعرف
بالهال، ويسمى أيضا الشيشنير (4). والعامة يعرفونه بالقاقلة على الحقيقة، فهي أقل حرارة وأكثر قبضا
وإذكاء رائحة وألذ عند الطباع. ولذلك صارت مقوية للمعدة معينة على الهضم نافعة من الغثي والقئ
مطلقة (5) من قبل أنها إذا شربت مع الطباشير والورد بماء الرمان المز أو ماء حماض الأترج، نفعت من
القئ الصفراوي. وإذا شربت (6) مع المصطكى والعود التي بماء النعناع والنضوح أو الميبة الممسك،
نفعت من القئ العارض من الرطوبة، وبخاصة إذا شربت بقشرها وأقماعها، لان قشرها وأقماعها أشد
قبضا من جسمها وأكثر تقوية للمعدة.
وأما التي ليس لها أقماع ولا قشر فحارة يابسة باعتدال. ولذلك صارت أرق وألطف وأعون على
تقوية المعدة وجودة الهضم وأقوى على نشف (7) رطوبات الحلق والصدر والمعدة. إلا أن القاقلة على الحقيقة
أكثر فعلا في قطع القئ وتقوية المعدة لما في قشرها وأقماعها من القبض.



(1) وبضم الفاء أيضا.
(2) في الأصل: منهما.
(3) في الأصل: كثير.
(4) في الأصل: بهذا الرسم غير منقط. وروي: الشوشمير.
(5) في الأصل: مطلقا.
(6) في الأصل: شرب.
(7) في الأصل: نشفه.
486
في السنبل
أما السنبل فعلى ضروب: لان منه الهندي المستعمل في الطيب، وهو السنبل على الحقيقة. ومنه
لرومي المعروف بالسنبل الأقليطي. ومنه البري. ومنه الجبلي. والهندي أفضلها وأشرفها لأنه أعطرها
وأذكاها رائحة وأقواها فعلا وأسرعها تأثيرا. وهو مركب من جوهر حار ليس بالقوي وجوهر قابض ليس
بالضعيف. ولذلك صارت حرارته في الدرجة الأولى ويبسه في الدرجة الثانية. ولهذه الجهة صار مجففا
بتقويته المعدة والكبد جميعا ومخصوصا بالنفع من أوجاعها إذا شرب وعمل منه ضماد عليهما. وذلك لنشفه
للرطوبات ومعونته على درور البول والطمث وأما قوته على تفتيح سدد الكبد والمعدة، فإن ذلك منه ليس
باليسير. ولذلك صار طبيخه إذا شرب، نقى الكلى والأرحام وأدر البول والطمث ونفع من اليرقان
العارض من سدد الكبد والمرارة وجفف المواد المجتمعة في الرأس المتحلبة إلى المعدة والصدر والرئة،
وسكن التلذيع العارض للمعدة والأمعاء وطرد رياحهما.. (1) وأزال الترهل العارض للبدن، وإذا شرب
مع الميبختج، هيج الجماع وقواه لأنه مشجع للقلب لعطريته واعتدال حرارته، ومقو لآلات الجماع بقبضه
وزائد في المني لان فيه مع قبضه لدونة يسيرة. وإذا شرب بشراب، نفع من لسع الحيات والعقارب. وإذا
شرب بالعسل، قتل الدود وحب القرع وأعان على إخراجه من البطن. وإذا تدخنت (1) به النساء، فتح
سدد الأرحام وأدر الطمث. وإذا طلي على الكلف، نقاه. وإذا اكتحل به، نشف رطوبات العين
الفضلية المالحة ومنع من انتشار الأشفار.
والمختار منه ما كان حديثا حصفا سريع الانفراك، أصل سنبله وافرا وأما طعمه فيميل إلى المرارة
قليلا. وإذا مضغ، لبثت رائحته في الفم وقتا طويلا. وأما السنبل الرومي المعروف بالأقليطي فله أصل
أحمر أشد حمرة من أصل العاقر قرحا قليلا وسطحه أملس وقال قوم أنه المو ولم يصح ذلك. وسنبله أجعد
قصير الزغب جدا. وقال قوم أنه الفو، ولم يثبت ذلك. يكون في ابتداء أمره أصفر اللون أو فستقيا.



(1) في الأصل: بياض مقدار كلمتين.
487
فإذا كمل نضجه صار لونه أسود يلي الشقرة قليلا، قريبا من لون السنبل الهندي وحرارته أقوى من حرارة
السنبل الهندي إلا أن يبسه أقل. وزعم جالينوس أن قوته من جنس قوة السنبل الهندي، إلا أنه أضعف
فعلا منه في جميع ما ذكرناه من العلاج، إلا في درور البول فقط، فإن الرومي في ذلك أقوى. ومما يدل
على زيادة قوة الهندي على الرومي زيادة عطريته وذكاء رائحته والتذاذ الطباع به وإن كانت (1) منفعة السنبل
الرومي للمعدة أيضا ليست باليسيرة، إلا أنها دون منفعة الهندي.
والمختار من الرومي ما كان حديثا ذكي الرائحة له أصل كبير ممتلئ بطئ الانفراك. ومن خاصته
أنه إذا شرب بطبيخ الأفسنتين، حلل رياح المعدة والكبد والطحال، ونفع من اليرقان العارض من سدد
الكبد والمرارة. وإذا شرب بخل، حلل أورام الطحال من نهش الهوام، ومن أوجاع الكلى والمثانة،
وأدر البول والطمث. وإذا دق وشرب، نقى الصدر والرئة والمثانة، والأرحام بدروره البول والطمث.
وماء طبيخه يفعل مثل ذلك. ومن خاصة أصل هذا السنبل أن الاكثار منه يصدع.
وأما السنبل البري فزعم قوم أنه الأسارون وقوته قوة مسخنة لذاعة للسان شبيهة بقوة الأقارون
المعروف بالوج وأقوى منه قليلا. ولذلك صار مدرا للبول والطمث، منقيا للكبد وأوراد الأرحام بدروره
كذلك. وإذا شرب منه أربعة مثاقيل بماء العسل أسهل كإسهال الحربق الأبيض ونفع من الاستسقاء
وعرق النساء وأوجاع المفاصل والأوراك.
وأما السبل الجبلي فإن قوته وفعله كقوة السنبل البري وفعله، وأما ديسقيريدس فإنه قسم السنبل
قسمة أولية على ضربين: أحدهما الهندي، والآخر الرومي. وقسم الهندي أيضا على ضربين وقال أن منه
نوعا يعرف بالهندي على الحقيقة، اشتق له هذا الاسم من بلد الهند. ومنه نوع يعرف بالسوري، اشتق
هذا الاسم من بلدة يقال لها سوريا يسكنها القبط والسريانيون. وليس إنما نسب الهندي إلى بلد الهند،
والسوري إلى بلد سوريا على أن هذين (1) البلدين ينبت فيهما سنبل، لكن لان الجبل الذي ينبت فيه هذا
السنبل متوسط بين هذين (2) البلدين لان جهة منه تلي بلد الهند، وجهة أخرى تلي بلد سوريا. فما كان من
السنبل نابتا من الجهة التي تلي الهند سمي هنديا، ومن كان نابتا من الجهة التي تلي بلد سوريا يسمى
سوريا. ووصف المختار من السوري فجميع ما وصفنا به المختار من الهندي من قربه من بنيانه الذي يخرج
منه، وخفته وسرعة انفراكه ووفارة أصله وصغر سنبله وشقرة لونه ومرارته التي في طعمه وتجفيفه اللسان
وذكاء رائحته وعطريته وقربه من رائحة السعد وثبات رائحته في الفم إذا مضغ وقتا طويلا.
وأما المعروف بالهندي فقسمه أيضا على ضربين وقال: إن منه نوعا أدخل في الجبلي الذي ينبت فيه
وهو مشاكل للسوري في جميع أحواله من صورته وكيفياته وطبعه وقوته وفعله. ومنه نوع يقال له



(1) في الأصل: كان.
(2) في الأصل: هاتين.
488
(غيفتطس) (1)، اشتق له هذا الاسم من نهر يجري إلى جانب هذا الجبل يقال له (غيقس) (2). وخروج
هذا السنبل من أصل واحد، وهو أعظم سنبلا من السوري ومن الهندي على الحقيقة، لان جمام سنبله
وافر ملتف بعضه على بعض ورائحته زهمة زفرة لزفورة الموضع الذي ينبت فيه. وكذلك صارت قوته
أضعف من قوة الهندي والسوري جميعا. ومنفعته أقل كثيرا.
وأما السنبل الرومي فقال قوم وزعم (3) أيضا أنه يكون بسوريا، وشجرته صغيرة تقلع ويعمل منها
جرم يملا الكف، ولها ورق طويل لونه إلى الشقرة ما هو، وزهرها أصفر له رائحة طيبة. ومنفعة هذا
السنبل للمعدة ظاهرة لان قوته قريبة من قوة السنبل السوري والهندي، إلا أنه أدر للبول منهما. وأفضل
ما يستعمل من هذا النبات أصله وساقه. فإن أراد أحد أن يوعيه (4) ويرفعه، نقاه من ورقه، وأخذ الأصل
والساق فدقهما دقا جيدا وعجنهما بشراب وعمل منهما أقراصا (5) وحفضهما (6) وحفظهما في إناء من غضار (7)
أو زجاج واستوثق من غطائه جيدا. وقال ديسقيريدس: يخزن في إناء من خزف.
وذكر ديسقيريدس نوعا آخر من السنبل لم يجب أن يهمل ذكره لان الحاجة تدعو إلى التحرز منه
والتحذير من استعماله لان قوته قوة البيش (8) القتال. وسماه ديسقيريدس ناردين سقارقرطي (9) وهو أشد
بياضا من جميع ما قدمنا ذكره من السنبل ورائحته رائحة البيش. ولذلك وجب أن يرفض ويحذر استعماله
أصلا. وذكر بعض الأوائل نباتا يعرف بالموله، زعم أن قوته كقوة السنبل إلا أنه أشد حرا (10) وأقل
قبضا.



(1) وروي: غامفيطس.
(2) وروي: غيغيطس.
(3) يقصد ديسقيريدس.
(4) أي يحفظه في وعاء.
(5) في الأصل: أقراص.
(6) أي يبسهما.
(7) الغضار والغضارة: الطين اللازب الأخضر أو اطين الحر يتخذ من الخزف.
(8) نبات لا ينبت في غير بلاد الصين. ويكون على ألوان ثلاثة.
(9) وروي: باردس سقاريطيقي.
(10) كذا في الأصل.
489
في الساذج
أما الساذج فقوم زعموا أنه ورق السنبل الهندي. وأوهم ذلك تشابه رائحتهما. وأنكر جالينوس ذلك
وزعم أن (1) تشابه الروائح لا يوجب توحد (2) الجواهر، لأنا نجد أشياء كثيرة تشبه رائحة السنبل وليست
بسنبل مثل الأسارون والسعد والوج وما شاكل ذلك. وأما ديسقيريدس فزعم أن الساذج نبات ينبت في
بلد الهند في مواضع فيها مياه مستنقعة، وهو ورق يظهر على وجه الماء بمنزلة عدس (3) الماء المعروف
بالطحلب، وليس له عود ولا أصل والذي يجمعه يشكه، على المكان، في خيوط كتان ويجففه ويخزنه.
وقال أن ذلك الماء الذي ينبت فيه هذا الساذج يجف في الصيف. وإذا جف، أحرقت الأرض التي (4) كان
عليها ذلك الماء بحطب يشتعل فيها. فإن لم يفعل ذلك بالأرض في كل سنة، لم ينبت على الماء شئ من
هذا الورق.
وأجود الساذج ما كان حديثا صحيح الورق ولونه متوسط بين البياض والسواد إلى الغبرة ما هو، وله
رائحة ساطعة فيها رائحة الناردين الهندي دائم الطيب والذكاء، إذا وضع على اللسان طيب النكهة. وإذا
جعل في صناديق الثياب، طيب رائحة الثياب وحفظها من التآكل، وما كان منه كذلك، كان نافعا
للمعدة لأنه يقويها ويحلل نفخها ويدر البول. وإذا عمل منه طلاء على العين، حلل أورامها.
والمذموم من الساذج ما كان مسترخيا منفشا رائحته كرائحة الشئ المتكرج (5). وما كان كذلك كان
رديئا لا ينتفع به في شئ من علاج الطب أصلا. وأما جالينوس فتكلم في منافع الساذج بكلام وخبر
جملي وقال إن قوته كقوة السنبل، وأمسك. ومما يذهب عند ديسقيريدس مذهب السنبل والساذج:
الدارشيشغان.



(1) في الأصل: أنه.
(2) في الأصل: توجه. ولعلها كما أثبتنا.
(3) في الأصل: مكررة.
(4) في الأصل: الذي.
(5) تكرج الطعام: أصابه الكرج، وهو الفساد والعفن.
490
في الدارشيشغان
أما الدارشيشغان فشجرة ذات غلظ. وتعد، لغلظها، في عداد الأشجار الخشبية. ويستعملها
العطارون في تعفيص الادهان. والجيد منه ما كان رزينا كثيفا. وإذا قشر كان لونه أحمر مائلا إلى لون الدم
والى الفرفيرية (1) ما هو. وله رائحة طيبة، وفى طعمه شئ من مرارة. وقوته مسخنة مع قبض. وإذا
شرب طبيخه، عقل البطن وقوى العصب وقطع نفث الدم، ونفع من عسر البول بتقويته للمثانة. وإذا
تمضمض بطبيخه، نفع من القلاع. وإذا استعط بمائه، نفع وذهب بنتن الانف. وزعم ديسقيريدس أن
منه نوعا (2) آخر خشبيا (2) لا رائحة له ولا عطرية. ولذلك صار دون النوع الأول في المنفعة والفعل كثيرا.



(1) نسبة إلى الفرفير، وهو صمغ أمر، وتسمى البقلة الحمقاء.
(2) في الأصل: بالرفع.
491
في الزعفران
أما الزعفران (1) فقال بعض الأوائل وذكر فيه أنه حار يابس في الدرجة الثانية. وأنكر جالينوس ذلك
على من قاله. وزعم أن حرارته في آخر الدرجة الأولى، ويبسه في وسطها. وصير دليله على ذلك قوة
قبضه، وقال: إن كل قابض فالبرودة والأرضية عليه أغلب. ولكن لما كان الأغلب على الزعفران الكيفية
الحارة لما فيه من العطرية والمرارة، وجب أن يكون في جملة جوهره مسخنا مجففا في الدرجة الأولى. ولذلك
صار فيه بعض الانضاج، من قبل أن كل ما كان من الأدوية إسخانه ضعيفا، وفيه مع ذلك شئ من
القبض، فإن قوته قوة تغري وتلحج (2). ومن البين أن كل ما يغري ويلحج فإسخانه ليس بالقوي، فهو
من الأدوية المنضجة. وما كان كذلك، كان محللا للأورام مفتحا لسدد الكبد والعروق، نافعا من عسر
النفس، مقويا للأعضاء الضعيفة لما فيه من القبض. وإذا تحملته المرأة أو خلط مع ضمادات الأرحام،
نفع من أوجاع الأرحام. وإذا شرب طبيخه مع أصله، أدر البول وهيج الشهوة للجماع. وزعم بعض
الأوائل أنه إذا خلط مع المراهم وجعل منه في المقعدة، هيج الجماع، غير أن الاكثار من شربه، والادمان
عليه مذموم (3)، لان فيه كيفية تملأ الدماغ والعصب وتضر بهما إضرارا بينا.
ومن قبل ذلك صار مفسدا لشهوة الطعام وذلك لجهتين: إحداهما أنه لاضراره بالعصب يفسد حس
المعدة الذي به يميز الشهوة للغذاء. والثانية أنه يضعف حس المعدة بالحموضة التي تأتي إليها من الطحال
لتنبيه الشهوة للغذاء. ولذلك قصدت الأوائل الزعفران في ترياق الفاروق وما شاكله من الترياقات، لأنها
أرادت أن تضعف حس المعدة عن قبول السم عن الأدوية المسمومة، وإن كان دابغا للمعدة ومقويا لها
ولسائر أعضاء البدن الضعيفة لما فيه من قوة القبض. ولهذه الجهة صار إذا حمل منه على العين أو اكتحل به



(1) ويقال له أيضا: الجادي والجاد والريهقان والكركم.
(2) أي تلصق.
(3) في الأصل: مذموما.
492
مع لبن أم جارية، قوى الحدقة ومنع من سيلان المواد إليها. وقد ينتفع به أيضا إذا أدخل في الضمادات
والفرزجات المتخذة لأوجاع الأرحام والمعدة. ومن خاصته أنه يحسن لون البشرة إذا أخذ منه بقسط. وأما
ديسقيريدس فزعم فيه أنه متى شرب منه وزن ثلاثة مثاقيل جملة، قتل. وأظن بديسقيريدس أنه قصد
بذلك من كان دماغه ضعيفا بالطبع أو بالعارض، لأنه ليس ببعيد أن يفعل ذلك بمن كان دماغه ضعيفا،
على قوة إضراره بالدماغ والعصب جميعا وإفساده للحس.

493
في المصطكى
أما المصطكى فهو صمغ شجرة مركبة من جوهر أرضي ضعيف الحرارة، وجوهر مائي قليل
البرودة. ولذلك صار حالها في الاسخان والتبريد الحال المعتدلة المتوسطة بين الكيفيتين الفاعلتين، أعني
الحرارة والبرودة، كأن حرارتها في وسط الدرجة الثانية، وأما قبضها وجفافها فهو في آخر الدرجة
الثانية ينتهي إلى أول الثالثة. وقبضها في جميع أجزائها متساوية، أعني بجميع أجزائها: أغصانها وورقها
وثمرها ولحاء أصلها. ولذلك صار إذا طبخ لحاء أصلها وورقها بالماء طبيخا جيدا وصفي الماء وعقد ثانيا
حتى يثخن ويصير بمنزلة العسل وشرب، نفع من نفث الدم والاسهال العارض من الرطوبة وضعف المعدة
وقروح المعاء، ومن نزف دم النساء وظهور الرحم والسرم (1) إلى خارج.
وفى الجملة، قد يمكن أن يستعمل هذا الدواء عوضا من الاقاقيا وعصارة الطراثيث (2) إذا كان مزاج
المستعمل له معتدل الحرارة غير قويها. وأما صمغ هذه الشجرة المعروف بالمصطكى فينقسم على قسمين:
لان منه الأبيض الصافي المعروف بعلك الروم ويسمى أيضا الكنه. ومنه الأحمر (3) المعروف بالمصطكى
النبطي. والأبيض منها مركب من كيفيتين متضادتين: كيفية قابضة وكيفية محللة. ولذلك صار نافعا
للكبد والصدر والمعدة والأمعاء لأنه مقو لها ومحلل لرطوباتها ورياحها ومخرج لها بالجشاء، ومسكن
للأمغاص العارضة من الرطوبة، ومحلل للأورام العارضة لفم المعدة والكبد والأمعاء، قاطع لنفث الدم،
ومسكن للسعال المتقادم العارض من الرطوبة، ومحسن للبشرة إذا طلي عليها. ولذلك يستعمل في الغمر (4)
المتخذة لجلاء البشرة، وفى السنونات المستعملة لجلاء الأسنان وتقوية اللثة، ويطيب النكهة. وإذا مضغ،



(1) السرم: مخرج الثفل: طرف المعاء المستقيم.
(2) الطراثيث: لحية التيس، وهو بقلة يشبه ورقها ورق الكراث.
(3) (الأحمر) مستدركة في الهامش.
(4) الغمر والغمرة: ما تطلي به المرأة وجهها ويديها حتى ترق بشرتها.
494
فعل مثل ذلك أيضا.
والمختار منه ما كان أبيض صافيا ذكي الرائحة عطريا رزينا جافا. فإذا فركته وجدته سهل
الانفراك. وأما الأحمر المعروف بالمصطكى النبطي فتجفيفه دون تجفيف الأبيض، لان القبض فيه أقل.
ولذلك صار أنفع لمن كان محتاجا إلى التحليل أكثر من قبل <أنه> صار محللا للأورام الصلبة المتولدة في
باطن الأبدان وظاهرها.
وأما دهن المصطكى فأكثر ما يتخذ من المصطكى الأبيض وليس يكاد أن يتخذ من المصطكى الأحمر
ولا الأسود وقوته كقوة المصطكى. وله منفعة في أوجاع الأرحام. وإذا خلط مع الضمادات واللطوخات،
نفع من أوجاع الأمعاء ونقى البشرة وصفى اللون ونفع من الحصف (1) الممد الذي في الوجه. وصفة عمله
أن يؤخذ من الزيت الانفاق ثمانية أرطال ومن المصطكى رطلان. يجمع ذلك ويصير على نار لينة فاترة من
غير أن يصيبه شئ من الدخان ويترك حتى يذوب حسنا ويرفع في إناء زجاج ويستعمل. وإن كان بدل
الزيت دهن لوز، كان أفضل. وقد يغش المصطكى الأحمر بالكندر وصمغ الصنوبر.



(1) بثر صغار تشبه الجرب اليابس، تقيح ولا تعظم.
495
في السليخة
السليخة على ضروب: لان منه الأحمر اللون الياقوتي الشبيه بلون (1) أحمر قاتم وله أنابيب غلاظ وقشر
ثخين مبرأ من الجرم، وسطح القشر أملس، ورائحته عطرية خمرة (2) وفى طعمه حرافة لذيذة تحذي اللسان
حذيا (3) لذيذا مع قبض بين يجمع اللسان ويضمه. ومنها صنف ثان يلي السواد قليلا كأنه فرفيري اللون له
رائحة كرائحة الورد. ومنها صنف ثالث له قشر رقيق لاصق بجرمه، له رائحة كريهة غير ذكية. ومنها
صنف رابع خشن أجرب له رائحة كرائحة الكراث. ومنها أصناف أخر نستغني عن ذكرها (4) وإطالة
الكلام فيها (4) لأنها (4) معراة (4) عن المنافع جملة، وإن كان هذان النوعان (5) أيضا، أعني الكراثي والكريه
الرائحة، لا منفعة فيهما (6) أصلا لا في الطب ولا في شئ من العطر، لان المختار من السليخة الياقوتي
اللون، العطر الرائحة الذي في طعمه حرافة مع قبض بين. وبعده في الفضل الفرفيري اللون المشاكل
لرائحة الورد. وما سوى ذلك من أنواع السليخة فمرذول لا منفعة فيه. وأما قوة السليخة فمسخنة مجففة
في الدرجة الثالثة، وفيها تقوية بينة لقبضها وتجفيفها مع لطافة قوية لحرافتها وعطريتها وخمريتها.
فلما فيها من القبض، صارت مقوية للمعدة وللكبد والأرحام وسائر الأعضاء الشريفة ولذلك صارت
إذا جلست (7) النساء في طبيخها، قوت الأرحام ونفعت من اتساعها. وإذا تدخنت (7) النساء بها، فعلت
مثل ذلك. ولما فيها من اللطافة والحرافة العطرية، صارت ملطفة للفضول مفتحة للسدد، محللة لما في
الأبدان من الرياح والرطوبات الغليظة، ومن قبل ذلك صارت إذا شربت، أدرت البول والطمث
واستفرغت من الدم مقدار الكفاية، إذا كان سبب احتباسه كثرة الفضول الغليظة والسدد القوية. وإذا



(1) (بلون) مستدركة في الهامش.
(2) أي قريبة من رائحة الخمر.
(3) في الأصل: خدرا.
(4) في الأصل: بالمذكر.
(5) في الأصل: هذين النوعين.
(6) في الأصل: فيها.
(7) في الأصل: بالمذكر.
496
تدخنت بها، نفعت من أوجاع الأرحام وفتحت سددها. وإذا خلطت بأدوية العين، قوت الحدقة وحللت
الفضول الغليظة، وزادت في حدة البصر. وإذا عجنت بعسل وحملت على البثور اللبنية، فلقتها. وإذا
حملت على الأورام الجاسئة حللتها. وإذا شرب (1) طبيخها، طردت الرياح الغليظة التي في المعدة وسائر
البطن. وقال ديسقيريدس: وإذا عدمت السليخة، جعل مكانها من الدارصيني ضعف وزنها.



(1) في الأصل: شربت.
497
في الكاشم
أما الكاشم فإن قوة بزره وورقه وأغصانه حارة يابسة في الدرجة الثالثة. ولذلك صارت له قوة معينة
على الهضم وتحليل النفخ والقراقر وتفتيح سدد الكبد ودرور البول والطمث جميعا. ومن خاصته تحليل
النفخ والقراقر العارضة في المعدة. ومما هو داخل في هذا الجنس من النبات السساليوس. وزعم قوم أنه
الانجدان الرومي.
* * *
في السساليوس
أما السساليوس فقوة ثمره وورقه وأصله قوة تسخن وتجفف في الثانية. والاسخان في ثمره أقوى.
ومن قبل ذلك صار معينا على الهضم ومدرا للبول، ونافعا من التقطير العارض من البرودة ومن الأوجاع
العارضة من (1) اختناق الأرحام، لأنه يدر الطمث درورا قويا، ويتجاوز ذلك إلى إسقاط الأجنة وتسهيل
الولادة لجميع الحيوان وتحليل عسر النفس الذي يحتاج معه إلى الانتصاب، وتسكين السعال العارض من
الرطوبة وتنقية الصدر والرئة والكبد والأوراد والأرحام. والسبب في تنقية الصدر والرئة أنه من الأدوية
المخصوصة بتنقية آلات التنفس. وأما تنقية الكبد والأوراد، فبدروره للبول. وأما تنقية الأرحام،
فبدروره الطمث بقوة. وزعم ديسقيريدس أن في هذا النبات لطافة عجيبة ينتفع بها للصرع. وأما ثمر هذا
النبات فإنه إذا شرب بشراب، أعان على الهضم وحلل الرياح والأمغاص، ونفع من حمى أفتالوس الثانية
في كل خمسة أيام المتولدة عن البلغم اللزج. وإذا شرب بفلفل وشراب، نفع من البرد العارض في
الأشفار. وزعم ديسقيريدس أنه قد تسقى منه الإناث من المعز ومن سائر المواشي ليكثر نتاجها.



(1) (التقطير.. العارضة من) مستدركة في الهامش.
498
في الأنجذان
أما الأنجذان فورقه شبيه بورق السساليوس في الصورة، إلا أنه أوسع قليلا. وأما السرخسي منه،
فإنه أميل إلى السواد قليلا، وبزره مسطوح وقضبانه وجميع أجزائه، أعني بأجزائه: بزره وورقه وقضبانه
وأصله، تسخن وتجفف في الدرجة الثالثة. وجوهر الأنجذان جوهر هوائي نافع من عسر الانهضام، مولد
للجشاء، مجفف للرطوبات، مذيب للحم، مضر بالمثانة. فإذا خلط بالملح أو في أخلاط الصباغات،
طيب طعمه، إلا أنه ينتن الثفل، وهذه خاصته اللازمة له. وإذا شرب، كان بادزهرا للأدوية القتالة.
وإذا حمل على الأبدان من خارج، كان فعله خفيا جدا. ولذلك صار إذا خلط بالقيروطي المعمول بدهن
السوسن أو بدهن الحناء، نفع من عرق النساء. وإذا عمل منه لطوخ بزيت، نفع من كمنة الدم
العارضة تحت العين. وصمغ هذه الشجرة أقوى فعلا وأظهر تأثيرا في جميع أجزائها.
وزعم ديسقيريدس أن صمغ هذا النبات الحلتيت، وأنه يستخرج من أصل هذا النبات وساقه،
لأنهما إذا شرطا، خرج منهما رطوبة غليظة لزجة هو الحلتيت. وصير دليله على ذلك من رائحة الأنجذان
السرخسي وطعمه المشاكلان لرائحة الحلتيت وطعمه، إذ لا فرق بينهما في ذلك إلا في القوة والضعف
فقط، لان الصمغ من كل نبات أقوى من النبات. والمختار من هذه الصمغة ما كان أحمر صافيا شبيها
بالمر الأحمر قوي الرائحة جدا مشاكلا لرائحة الأنجذان السرخسي، وأقوى كثيرا سليما من رائحة الكراث
إذا أذبته وذاب، صار لونه بسرعة يلي إلى البياض قليلا. والمذموم منها ما كان في رائحته شئ من رائحة
الكراث، وكان طعمه كريها. وإذا أذبته، كان عسر الذوبان. وإذا ذاب، صار لونه يلي السواد بعيدا من
البياض.
وزعم قوم، عن أصل هذا النبات، أنه المحروث المعروف بعود الدقة، وصيروا دليلهم (1) على ذلك
قول قاله ديسقوريدوس لأنه قال: وإنه إذا خلط أصل الأنجذان بالملح، طيب طعمه. وزعموا أنهم لم
يجدوا أصلا من الأصول يطيب به الملح إلا المحروت. وقول لديسقيريدس آخر في أصل الأنجذان، فإنه
إذا طبخ بخل وقشر رمان وحمل على البواسير النابتة في المعدة، حللها. وإذا خلط بقيروطي، حلل
الخنازير.



(1) في الأصل: دليله.
499
في الحلتيت
الحلتيت لبن من ألبان الأشجار. وألبان الأشجار كثيرة لان كل شجرة من الأشجار، ونبت من
النبات إذا قطع منه قضيب من قضبانه، سالت منه رطوبة لا محالة. فإن كانت تلك الرطوبة غليظة،
سميت لبنا. وأكثر ألبان الأشجار حرارة (1) الجاوشير والقنة والحلتيت، لأنها مسخنة مجففة في الدرجة
الثالثة. وقال قوم أن تجفيفها في الدرجة الثانية وأقلها أضرارا بالأبدان الحلتيت. ولذلك أمكن من كان
مزاجه باردا أن يدوم على استعماله في غذائه. والذين يستعملونه في غذائهم من المرطوبين، يحسن ألوانهم
ويشرقها.
ومن فعله على سبيل الغذاء أنه بعيد الانهضام مفسد للمعدة ومضر بها. ومن منافعه على سبيل
الدواء أنه مفتح للسدد، طراد للرياح، نافع من السمائم. وإذا شرب مع البيض المشوي نيمبرشت، نفع
من السعال البلغماني. وإذا صير في الأحساء وشرب، نفع من الشوصة نفعا بينا وحلل جسأ الطحال
وفتح سدده. وإذا أخذ مع التين اليابس، نفع من الكزاز ومن وجع الجنب والاستسقاء واليرقان (2)
العارض من الفضول الغليظة اللزجة. وإذا شرب بماء حار وعقيد العنب، نفع من حمى الربع العارضة من
احتراق البلغم ونقى العفونات المتولدة في أبدان أصحابها. وإذا عجن بشمع وابتلعه من كان به فالج مع
انتصاب الرقبة أو ميلانها إلى خلف، انتفع به. وإذا شرب بسكنجبين، نفع من جمود اللبن في المعدة
والثدي. وإذا شرب مع فلفل، أدر الطمث الذي سبب احتباسه الأخلاط اللزجة. وإذا جعل في جوف
حبة عنب وأخذ، نفع من ذلق المعدة والمعاء العارض من الرطوبة. وإذا ديف في ماء حار وشرب، نفع
من خشونة الحلق المتقادمة ومن الخوانيق ودقق اللهاة وصفى الصوت الأبح الذي عرضت بحوحته دفعة.
وإذا شرب أو تمسح به، نفع من ضرر الحيوانات ذوات السموم. وإذا ديف بزيت وتمسح به، نفع من
لدغ العقارب والكزاز. وإذا وضع على القرحة العارضة من عضة الكلب الكلب، دفع ضررها. وإذا



(1) في الأصل: ضرارة.
(2) رسمها في الأصل: والر). ولعلها كما أثبتنا.
500
شرب أو وضع على المواضع التي قد دخلتها (1) السهام المسمومة، أبطل سمها وأخرج أوجه السهام من
اللحم، وإذا تغرغر به مع خل، قلع العلق المتعلق في الحلق.
وإذا خلط بزنجار وقلقنت وعجن بماء الرمانين المستخرج بشحم الرمانين وعمل منه لطوخ على
القوابي الرطبة، نقاها. وإذا خلط بعسل واكتحل به. جلا البصر ونفع من ابتداء نزول الماء في العين.
وإذا وضع على تآكل الأسنان، سكن وجعها. وإذا خلط بكندر وطلي على خرقة وحمل على الأسنان، فعل
مثل ذلك أيضا. وإذا طبخ بخل مع الزوفا والتين وتمضمض به، فعل مثل ذلك أيضا ونفع من الريح
العارضة في الفم المعروفة بريح الباخديام. وإذا شرطت الأورام الميتة اللون ووضع على موضع الشرط إما
وحده أو إما (2) مع شراب ونطرون، حللها وأبرأها. وإذا خلط بقيروطي وشحم التين اليابس وحمل على
الثآليل والقوابي والغدد والبواسير الظاهرة، أزالها وذهب بها. وإذا طلي على داء الثعلب العارض من
البلغم اللزج، أنبت الشعر فيها.
وحكى ديسقيريدس عن قوم كانوا يزعمون عن أهل السند (3) أنهم كان لا يسلم لهم زرع دون أن
يأخذوا الحلتيت ويصرونه في خرق من غلائل كتان ويعلقونها على أفواه أنهارهم عند سرب (4) المياه ليفيدوا
الماء عند ممره كيفية يقتل بها ما يتولد في أراضيهم من الدود والفأر وكلاب الماء وما شاكل ذلك. وزعم عن
أهل أرمينية أنهم إذا أخذهم نشاب مسموم، وضعه على موضع النشاب وسلم من سمها. وقد يستخرج
من ورق نبات الحلتيت رطوبة تفعل فعل الحلتيت، إلا أن فعلها أضعف كثيرا. وإذا شربت هذه الرطوبة
بسكنجبين، نفعت من أوجاع قصبة الرئة وبخاصة بحوحة الصوت. وقد يؤكل ورق هذا النبات مع
الخس والخل عوضا من الجرجير، والله أعلم.
* * *
في المحروت
المحروت دون الحلتيت في القوة وأضر بالمعدة وأعسر انهضاما.
* * *



(1) في الأصل: دخلها.
(2) (إما) زائدة هنا.
(3) في الأصل: السد. ولعلها السند، وهي بلاد أو ناس. والسد أيضا نهر كبير بالهند.
(4) السرب: الماء عند انصبابه.
501
في الاشترغاز
الاشترغاز (1) أحر من الأنجذان وأكثر جفافا وأبعد انهضاما وأبطأ في المعدة. ولذلك وجب أن لا
يستعمل منه إلا خله الذي يربى به وأنقع فيه. وإن كان في خله أيضا قوة لذاعة للمعدة مولدة للغثي
والقئ بإفراط تلذيعه.



(1) تأويله بالفارسية: شوك الجمال.
502
في الخردل
الخردل حار يابس في وسط الدرجة الرابعة. ومن خاصته تحليل رطوبات الرأس والمعدة وتجفيف
اللسان، والنفع من حمى الربع المتقادمة المتولدة عن احتراق البلغم، ومن أوجاع الطحال العارضة من
الرطوبات الغليظة. وإذا مضغ أو تغرغر به، نقى رطوبات الدماغ الفضلية وحلل الورم البلغماني العارض
في جنبتي أصل اللسان ونفع من الخشونة العارضة في قصبة الرئة. وإذا دق وقرب من المنخرين واستنشق،
هيج العطاس وأنبه (1) المصروعين والنساء اللواتي قد عرض لهن (2) اختناق من وجع الأرحام. وإذا أكل مع
السلق المسلوق، نقى المعاء من البلغم المرتبك فيه. وإذا خلط مع التين المدقوق وعمل منه ضماد، نفع من
عرق النساء وبخاصة إذا لزم الموضع حتى يحمار (3) الجلد. وكذلك يفعل إذا حمل على ورم الطحال. وإذا
خلط بعسل أو موم وشحم وزيت مذاب على النار وعمل منه لطوخ، نقى بشرة الوجه وذهب بكمنة الدم
العارضة تحت العين. وإذا خلط بخل وطلي على الجرب المتقرح والقوابي الرطبة الوسخة، نقى وسخها
وأزالها. وإذا خلط بالتين المدقوق ووضع في الاذن، نفع من الدوي وثقل السمع. وإذا دق وضرب بماء
وخلط بعسل واكتحل به، أزال غشاوة العين وخشونة الأجفان. وقد تستخرج عصارة بزر الخردل الطري
وتجفف في الشمس وتستعمل في جميع ما ذكرنا فتكون ألطف وأسرع فعلا.
والمختار من الخردل ما كان سمينا لحيما غير قحل ولا مفرط اليبس، لكن يكون فيه نداوة يسيرة.
وإذا دق، كان داخله أصفر يلي البياض، لان ذلك دليل على نداوته. وينبغي للمستعمل له، على
سبيل الادمان، [أن] يستعمله في الماء العذب من الليل إلى الصبح، وينحي ذلك الماء عنه ويغسله بالماء
مرات ويجففه في الشمس ثم يغسله مرات ويجففه ثم يدقه ويجمعه ويقشره ويصيره شبيها بقرص ويجعله في



(1) أنبهه ونبهه: أيقظه من غفلة أو نوم.
(2) في الأصل: لهم.
(3) أحمار: كان له اللون الأحمر عرضا.
503
غضارة ويغسله بماء صاف عذب حتى يزول عنه كل ما خالطه من الرماد بتنظيف حسن، ثم يصير في هاون
حجر ويلقى عليه ماء عذب ويضرب ضربا جيدا حتى تخرج رغوته وزبده، ويصفى بمنخل شعير
صفيق (1)، فإن أحب أن يعذبه، عذبه بلوز حلو مقشر من قشرته مسحوق، أو لباب خبز منخول
مغسول، أو زبيب منقى من عجمه مدقوق، يأخذ ما أحب من ذلك ويصب عليه من الخل مقدار الحاجة
والكفاية ويمرسه مرسا جيدا ويصفيه بمنخل شعير ويخلطه بالخردل المصفى، وربما أخلط معه دهن لوز وماء
رمان حلو.



(1) أي كثيف الثقوب.
504
في السماق
السماق هو ثمرة شجرة تنبت في الصخر على الجبال، طولها نحو من ذراع وورقها مشرف الأطراف
على هيئة المنشار وثمرها شبيه بالعناقيد، له لون أحمر على حمرة الدم. وعظم الحبة منه كعظم حبة البطم،
إلا أن حبه أعرض قليلا حتى كأنه قريب من شكل العدس البصري. والمستعمل من هذا الحب قشره،
لان داخله صلب على صلابة حب الأنجرة أو أصلب قليلا. وطعم قشر هذا الحب شديد الحموضة وفيه
قبض بين (1) يقرب من العفوصة. ولذلك صار تبريده في الدرجة الثانية، وتجفيفه في الدرجة الثالثة. ولما
فيه من قوة التجفيف صار الدباغون يستعملون نوعا منه في تجفيف وتقبيض <الجلود>، ويسمون ذلك
النوع سماق الدباغين.
ومن منافعه أنه مقو للمعدة، منبه لشهوة الطعام، مسكن لحرارة الكبد، نافع من الاسهال المري
والقئ الكذلك، قاطع لسيلان الدم من حيث انبعث. وإذا اكتحل بمائه الذي ينقع فيه، نفع من
السلاق (2) العارض (3) والاحتراق وقطع الحكة العارضة للعين. وإذا تمضمض بمائه الذي يطبخ به، دبغ
اللثة وقواها وقطع الدم المنبعث منها، وإذا سحق وعجن بعسل أو بجلاب ودلك به اللسان، جلا خشونته
ولينه. وإذا تحملته المرأة بعسل، منع من سيلان الرطوبات من الرحم. وإذا عمل منه طلاء بعسل،
قطع من ورم البواسير. وإذا أنقع ثمره في ماء ثلاثة أيام وصفي (4) وطبخ ماؤه حتى يثخن، كان فعله
ألطف وأفضل من فعل الثمر نفسه. وقد تستخرج من هذا النبات صمغة إذا وضعت على الأسنان
المأكولة، سكنت وجعها.



(1) (بين) مستدركة في الهامش.
(2) السلاق في العين: غلظ في الأجفان فتحمر وينتثر الهدب ثم تتقرح أشفار الجفن. والسلاق أيضا: بثر يخرج على أصل
اللسان، أو تقشر في أصول الأسنان.
(3) كذا في الأصل. ولعلها زائدة.
(4) في الأصل: طفي. ولعلها كما أثبتنا.
505
ولورق هذا النبات أيضا قوة قابضة تفعل فعل القاقيا وأقوى قليلا. وطبيخ ورقه الطري إذا شرب
نفع من قروح الأمعاء. وإذا احتقن به أو جلس فيه، فعل مثل ذلك أيضا. وإذا دق ورقه وحمل على
القروح، جفف مدتها (1). وإذا طلي على النفاطات (2)، جففها. وإذا طلي بمائه الشعر، سوده. وإذا قطر
منه في الاذن، قطع سيلان المدة منها. وإذا طبخ ورقه اليابس وصفي وعقد ماؤه حتى يثخن ويصير بمنزلة
العسل، فعل فعل الحضض، وإذا طبخت (3) قضبان هذه الثمرة بالماء حتى تنعقد، كان فعلها أقوى من
فعل الثمرة. وإذا عمل من الورق ضماد بماء، منع حدوث الأورام على مواضع الضرب وعلى قحف (4)
الرأس.



(1) المدة: ما يجتمع في الجرح من القيح.
(2) النفطة: بثرة مملوءة ماء تخرج في اليد من العمل. وجمعها: نفط ونفطات، ونفط ونفطات.
(3) في الأصل: طبخ.
(4) القحف: ما انفلق من الجمجمة فظهر.
506
في الخل
الخل يبرد تبريدا معتدلا، ويجفف تجفيفا قويا، لان يبسه أقوى من يبس ودمه (1). والسبب في
ضعف تبريده أنه مركب من طبيعتين مختلفتين من برودة ضعيفة وجبت له من حموضته، وحرارة عرضية
استفادها من الغليان والتعفن. وذلك أن هيولي (2) كل خل في ابتدائه يكون حلوا، فإذا نضج بحرارة
الشمس، غلى ولم يكن في حلاوته من القوة ما يثبت ويحفظ نفسها، تعفنت الرطوبة الحاملة لها واستحالت
إلى الحموضة واستفادت حرارة عرضية من الغليان والتعفن، ولذلك صار تبريد الخل في الدرجة الأولى،
وتجفيفه في الدرجة الثالثة. فلضعف برودته صار فعله ينفذ في الأبدان بسرعة ويصل إلى ما بعد وناء من
الأعضاء، ويفعل فيها فعله في الأعضاء القريبة، لان لطافة حرارته العرضية التي حطته عن درجة
الحموضة في البرودة تطرق له وتغوصه وتنفذه إلى الأعضاء البعيدة، وغيره من الرطوبات الحامضة مثل
الحصرم وماء الرمان الحامض ومثل الأترج وما شاكل ذلك. ففعله فيما قرب من الأعضاء أكثر من فعله فيما
بعد منها لان حموضته ساذجة بسيطة ليس معها حرارة عرضية تلطفها وتطرق لها وتنفذها إلى ما بعد وناء من
الأعضاء.
ولجالينوس في هذا المعنى قول قال فيه: إذا أردت أن تبرد حرارة في المعدة وما قرب منها، فاقصد
ماء الرمان الحامض وماء الحصرم وحماض الأترج وما شاكل ذلك، لأنها أبطأ في المعدة وأكثر لبثا لان
برودتها برودة ساذجة بسيطة ليس معها ماء يطرق لها وينفذها إلى المواضع البعيدة بسرعة. وإذا أردت أن
تبرد حرارة في أعضاء بعيدة عن المعدة، فاقصد الخل، لان الخل معه ما يطرق له ويوصله إلى ما بعد من
الأعضاء بسرعة. ولذلك صار فيه تحليل وتلطيف وتقوية بينة. فلتحليله وتلطيفه صار إذا شرب وهو
حار، نفع من عسر النفس الذي يحتاج معه إلى الانتصاب وحلل الدم واللبن الجامدين في المعدة ودفع



(1) كذا في الأصل، ومشار فوقها وفى الهامش إلى عدم وضوحها.
(2) الهيولي، في اصطلاح الحكماء: أصل جميع الصور. (يونانية).
507
مضرة الأدوية القتالة وبخاصة مضرة الأفيون والفربيون المعروف بالشوكران وسكن السعال المتقادم العارض
من الرطوبة وهيج السعال الخبيث، وبخاصة السعال اليابس. وإذا شرب، نفع من الاختناق العارض
من أكل الفطر وقلع العلق المتعلق في الحلق. وإذا خلط مع ملح، كان فعله في الاختناق أقوى من فعله
فيه إذا كان مفردا. وإذا تغرغر به، قطع سيلان الفضول الغليظة إلى الحلق، ونفع من الخناق،
واسترخاء اللهاة وتورمها، وقلع العلق أيضا. وإذا خلط مع الأدوية النافعة من الجرب المتقرح والقروح
الخبيثة والقوابي والعلة المعروفة بالنملة، قطع المادة ونقاها، وقوى فعل الأدوية كثيرا. وبخاره المتصاعد (1)
منه إذا طبخ نافع من ثفل السمع ومن الدوي العارض في الاذن وإذا قطر في الاذن، قتل الدود المتولد
فيها. وإذا عجن بعسل وطلي على الآثار العارضة دون العين من اجتماع الدم تحت الجلد، نقاها. وإذا
خلط بشئ من كبريت وحمل على النقرس البلغماني وهو فاتر، سكن وجعه.
ولما في الخل من قوة القبض، صار دابغا للمعدة ومقويا لها. فإذا طبخ مع الطعام، منع، بتقويته
المعدة، من انصباب المواد إليها، ونبه الشهوة للطعام. وإذا حمل على المواضع التي ينبعث منها الدم،
قطع انبعاثه. وإذا جلس فيه، قوى الرحم الوارم والسرم (2) الكذلك أورامها (3) وردهما إلى مواضعهما.
وإذا تمضمض به، قوى اللثة. وإذا خلط بدهن ورد وغمس فيه صوف غير مغسول أو اسفنج البحر وحمل
على الرأس، سكن الصداع العارض من حرارة الشمس ووهج السموم. وإذا مسح به الجبين والأصداغ
مضربا بدهن ورد، سكن الصداع الصفراوي. وإذا حمل على الجراحات في ابتداء حدوثها، قوى
المواضع ومنع من تورمها بإذن الله.



(1) في الأصل: المتصاعدة منه.
(2) هو مخرج الثفل.
(3) كذا في الأصل. ولعلها: (وحلل أورامهما).
508
في المري
المري حار في الدرجة الأولى يابس في الثانية له قوة تجلو وتغسل ما في الصدر والرئة والمعدة والأمعاء
من الرطوبات الغليظة، ويطيب الأطعمة ويعين على إطلاق البطن، وينفع من وجع الأوراك وعرق النساء
إذا أكل أو احتقن به. وهذه خاصية فيه لأنه بلطافة حدته يجذب الفضول والاخلاط المؤذية الحاصلة في
الأوراك ويخرجها من المعاء. وإذا غسلت (1) به القروح الخبيثة، نقاها ومنعها من أن تسعى. ولذلك صار
إذا احتقن به نفع من قروح المعاء المتعفنة لأنه يغسلها وينقيها من المدة والدرن وسائر الأوساخ ويكويها،
ويجففها ويصيرها قابلة للالتحام إذا احتقن بعقب خروج المدة....
(2) الملحمة. والمري المتخذ من
السمك أقل حرارة وأضعف يبسا من المري المتخذ بالشعير، لان السمك أبرد وأرطب بالطبع. والمتخذ
من السمك أو اللحم نافع (3) من عضة الكلب الكلب.
في السمك المالح
المعروف بالمانون
أما السمك المعروف بالمانون <ف> يفعل في غسل الجراحات المتعفنة ووجع الأوراك وعرق النساء إذا
احتقن به، ما يفعله المري، لأنه يغسل وينقي ويكوي الجراحات ويجففها. وزعم جالينوس أن قوما من
الأطباء كانوا يستعملون من المانون ماء الجري المملوح وماء السميكات الصغار المعروفة بالصحناة. وزعم
أنه يخص مانون الصحناة بعلاج القروح المتعفنة الحادثة في الفم. ويعني بالمانون ماء السمك لان (نونا)
باللسان السرياني السمك.



(1) في الأصل: غسل.
(2) بياض في الأصل مقدار نصف سطر. ومقابله في الهامش: (يحقق هذا الخلو).
(3) في الأصل: نافعان.
509
في الملح
الملح يسخن إسخانا معتدلا ويجفف تجفيفا قويا، لأنه مركب من كيفيتين مختلفتين: كيفية تجلو
وتقطع، وكيفية تجمع وتقبض. والكيفيتان كلتاهما مجففتان، ولذلك صار تجفيفه في الدرجة الثالثة،
وإسخانه في الثانية، إلا أنه على ضربين: لان منه المعدني المحتفر من المعادن، ومنه البحيري المتولد في
البحيرات والنقائع المعروفة بالسباخ إذا جف ماؤها في الصيف، لان ماءها (1) إذا جف بحرارة الشمس
فكأنه يحترق ويصير ملحا. وما خرج من المعادن أفضل مما خرج من غير المعادن. وقوم يزعمون في الذي
يخرج من المعادن أنه الاندراني والجبلي. وأفضل ما في المعدني ما كان غير متحجر، وكان لونه أبيض صافيا
وجسمه كثيفا متشققا وأجزاؤه متساوية وعروقه أيضا كذلك. وأفضل ما في البحري الأبيض المتساوي
الاجزاء.
وزعم ديسقيريدس أن المعدني أقوى فعلا من البحري. وأما جالينوس فساوى بينهما في الفعل.
واتفقا جميعا على أن من خاصية الملح أنه في ابتداء أمره يحلل ويجلو ويذيب الرطوبات الغليظة ويسيلها
وينشفها بعد ذلك، ويفني أكثرها، ثم يجمع الأبدان بما هو خالص فيها من الرطوبة الجوهرية ويصلبها
ويمنعها من عفونتها وفسادها.
ومن خاصة الملح على سبيل الغذاء إصلاح الطعوم التفهة التي لا طعم لها. ومن منافعه على سبيل
الدواء أنه إذا حمل على القروح الخبيثة، نقى فسادها وحديدها ومنعها من الانتشار. وإذا عمل منه لطوخ
بالزوفا والخل منع النملة والحمرة من أن تسعى. وإذا خلط بدهن الورد والخل أو بالزيت والخل ومسح به
البدن بالقرب من النار أو الحمام وصير المر عليه حتى يحمى <و> يعرق، سكن الحكة العارضة في سطح
البدن من الرطوبات العفنة ونفع من القوابي والجرب المتقرح وغير المتقرح. وإذا خلط بالزيت ومسحت (2)



(1) في الأصل: ماؤها.
(2) في الأصل: مسح.
510
به الأعضاء، ذهب بالاعياء العارض لها من التعب. وإذا خلط بالدقيق والعسل، نفع من التواء
العصب. وإذا عمل منه ضماد مع سويق الشعير المحرق، نفع من القلاع (1) واسترخاء اللثة. وإذا خلط
بعسل وتحنك به، سكن وجع النغانغ واللهاة. وإذا خلط بالعسل والخل والزيت وتحنك به، نفع من
الخناق. وإذا شرب بسكنجبين، دفع مضرة الأفيون والفطر القتال. وإذا عمل منه ضماد مع بزر الكتان،
نفع من لسع العقارب. وإذا عمل منه ضماد...
(2) الزوفا والعسل، نفع من نهش الأفعى الذكر. وإذا
عمل منه ضماد مع زفت وقطران وعسل، نفع من نهش الحية التي يقال لها فارسطس وهي فارة (3) لها
قرنان (4). وإذا عمل منه ضماد بخل وعسل، دفع مضرة الحيوان المعروف <بأم> أربع وأربعين ومن لسع
الزنابير. وإذا اكتحل به، قلع اللحم الزائد في العين ومحق الظفرة (5). وإذا ما خلط بخل وقطر في
الاذن، سكن وجعها. وإذا خلط بخمير وفوذنج جبلي، سكن الأورام البلغمانية ونفع من نهشة السباع.
وإذا خلط بزيت وحمل على خرق، منعه ان يتنفط. وإذا عمل منه ضماد مع شحم عجل، نفع من البثور
المعروفة بالشهدية. وإذا أحرق، صار تجفيفه أكثر.
* * *
صفة إحراقه
يؤخذ الملح ويصير في إناء فخار ويغطى ويطين الوصل بطين الحكمة ويدفن في جمر ويترك حتى يحترق
ويبرد ويستعمل. ومن الناس من يأخذ ملحا (6) ويصيره في عجين ويدفنه في الجمر حتى يحترق العجين.
وقد يمكن أن يحترق الملح على ما أنا واصفه أيضا. يؤخذ الملح ويغسل بالماء غسلة ويترك حتى يجف جيدا
ويصير في قدر فخار ويغطى بغطاء ويطين الوصل، ويحمل القدر على نار جمر ويترك حتى يسكن طيران
الملح وحركته أيضا ويبرد ويستعمل.
وذكر جالينوس شيئا يقال له غبارة الملح، وقال أنه ألطف من الملح كثيرا، ولذلك صار تحليله
وتلطيفه أكثر لا أن جمعه لما يبقى من جوهر الجسم. وأما الملح النفطي فهو أحر وأيبس من الملح الأندراني.
ومن فعله أنه يجلو ويحلل ويذهب بالأكال العارض في اللحم، ويقطع اللحم الزائد في الأجفان ويذهب
بالظفرة، وينفع من الحكة ويدر البول وينفع من الاستسقاء إذا حمل على البطن من خارج وينقي العفونة
ويقطع غلظ الأخلاط.



(1) داء في أفواه الصبيان.
(2) بياض في الأصل مقدار ثلاث كلمات. لعلها (مع الفودنج الجبلي و) (عن ابن البيطار).
(3) كذا في الأصل.
(4) في الأصل: قرنين.
(5) الظفرة: داء في العين يتجللها منه غاشية كالظفر على بياض العين.
(6) في الأصل: ملح.
511
في زهرة الملح
أما زهرة الملح فزعم ديسقيريدس أنها تتكون في مواضع المياه القائمة الباقية من ماء السيل إذا نضب
عن الأرض. والمختار من هذه الزهرة ما كان لونه زعفرانيا، وفى رائحته شئ من رائحة السمك. وربما
كان أكثر زهومة من مري السمك. والمذموم من هذه الزهرة ما كانت لها أجزاء متعقدة ملتئمة بعضها إلى
بعض. ومن دلائل المختار منه أن يذوب وينماع بالزيت وحده. والمذموم منه لا يذوب بالزيت، لكنه
يحتاج إلى ما يذيبه ويحلله. وقوة هذه الزهرة قوة تلذع لذعا مفرطا، وزعم ديسقيريدس أن قوتها في الحدة
مثل قوة الملح، ولذلك صارت قوتها تنقي القروح الخبيثة وتمنع انتشار القروح التي من شأنها الانتشار،
وتجفف الرطوبة السائلة من الاذن، وتنفع من القروح والحكة العارضة في المذاكير، وتجلو غشاوة البصر
والآثار العارضة في العين من اندمال القروح. وقد تخلط في المراهم وتستعمل لتجفيف الرطوبات. وزعم
ديسقيريدس أن المختار من هذه الزهرة يجعل في الادهان الطبية مثل دهن الورد وغيره ليصفيها.
ولما كان البورق (1) داخلا في هذا الجنس، رأينا أن نجري ذكره بعقب الملح، ولا نخلي كتابنا هذا
منه.



(1) البورق: ملح مؤلف من حامض البوريك والصودا، لا لون له ولا رائحة. ويعرف باسم بورات الصودا.
512
في البورق
أما البورق فهو على ضربين: لان منه البورق على الحقيقة، وسماه جالينوس البورق الإفريقي
والبورق الزبدي، ولعل هذا خطأ من الوراقين. وأما أهل مصر فيعرفونه بالنطرون. ومنه نوع سماه
جالينوس زبد البورق وهو البورق الأرمني. فأما البورق الريفي (1) فجامد مجتمع صلب. والمختار منه يعلو
لونه تورد قليل، وغير المختار منه رمادي اللون ترابي، فيه تجفة قليلة. وأما زبد البورق فمنظره منظر دقيق
الحنطة لأنه خفيف منطحن. والفرق بين هذين أيضا وبين الملح، أن الملح قوته مركبة لان فيه، مع
حرارته، كيفية قابضة يقوي بها الأبدان ويجففها ويصلبها. والبورق الريفي فقوته ساذجة بسيطة، لأنها
من حرارة مفردة ليس معها قبض ولا تجفيف. ولذلك صار أشد تحليلا وأقوى غسلا وتنقية من الملح.
ومن قبل ذلك يغتسلون به في الحمامات لتحليله وجلائه وغسله الوسخ. وليس إنما يغسل الوسخ فقط،
لكنه يشفي الحكة العارضة في سطح البدن، وبخاصة إذا خلط بالخل، لأنه يحلل الرطوبات الصديدية
المولدة للحكة ويقطعها وينقيها. ولما فيه من هذه القوة، صار المتطببون يدخلونه في الأدوية المحللة
المنقية للعفونة.
وإذا سحق وذر على الشعر، أرقه وأماته (2). أما ازدراده (3) فإنه لا يجب أن يطلق إلا عند
الضرورة، لأنه مخصوص بتلذيع عصب المعدة والاضرار به وإحداث القئ والغثي جميعا. وزعم
جالينوس عن إنسان من القرويين أنه كان يستعمل هذا البورق في كل وقت في مداواة الاختناق من الفطر
فينجح به. وأما زبد البورق فإن قوته متوسطة بين قوة البورق الريفي وبين قوة الملح، لان فيه شيئا من
قبض، إلا أن الطلاء عليه أغلب. فإذا أحرق، صار...
(4) لان النار ملطفة ومفيدة جفافا وقوة على
التجفيف والتحليل. وإذا ورد البدن منه شئ، كان فعله في تقطيع الأخلاط الغليظة اللزجة وتلطيفها
أكثر من فعل الملح كثيرا. والمحرق منه وغير المحرق نافعان من الاختناق العارض من أكل الفطر. والله
أعلم.



(1) لعلها: الإفريقي.
(2) كذا في الأصل. ولم يرد هذا الفعل للبورق في غير مرجع.
(3) أزرد الطعام وتزرده: زرده وابتلعه. وفى الأصل: الادارده.
(4) بياض في الأصل مقدار ثلاث كلمات. ولعلها: (قريبا من البورق): الإفريقي (عن ابن البيطار).
513
..

514
كتاب
الأغذية والأدوية
تأليف
إسحاق بن سليمان
المعروف بالإسرائيلي
المتوفى سنة 320 ه‍
الجزء الرابع
مؤسسة
عز الدين
للطباعة والنشر

515
..

516
المقالة الرابعة
القول في الحيوان المشاء
والطيار والسابح
قال إسحاق: وإذ كنا قد أتينا في المقالة الأولى من كتابنا هذا على القول في طبائع الحيوان
ومزاجاتها وأغذيتها ومنافعها ومضارها بالقول المطلق، وأقمنا على ذلك الدلائل الواضحة، فقد بقي أن
يستمر الكلام في هذه المقالة بما هو أليق بها ومشاكل لما قصدنا إليه فيها من الاخبار عن كل واحد من
أشخاص الحيوان على الانفراد ليكون ذلك أبين وأقرب من عقول المتعلمين.
وقبل أن نبتدئ بذلك فيجب أن نأتي بنتف مما قدمنا ذكره في المقالة الأولى مما يحتاج إلى تقدمه
أمام كلامنا هذا، فأقول: إن جميع ما في العالم من نبات وحيوان لا يخلو من أن يكون إما مضادا أو منافرا
لطبيعة بدن الانسان وجوهريته، فيكون قاتلا له مثل الحيات من الحيوان والبيش من النبات. وإما أن يكون
ملائما ومشاكلا لطبيعة بدن الانسان ومزاجه، فيكون مغذيا له ومربيا لجسمه مثل لحم الحملان من الحيوان
والحنطة من النبات. وإما أن يكون مخالفا لطبيعة بدن الانسان ومزاجه من غير مضادة ولا منافرة، فيكون
خارجا عن طبيعة ما يغذو ويقتل جميعا، وداخلا في حد الأدوية مثل المسك والصبر وما شاكل ذلك، وإن
كانت هذه الواسطة قد تكون على ضربين آخرين على حسب انحرافها وميلانها إلى أحد الجانبين دون
الآخر (1)، لأنه إن كان انحرافها عن الوسطى إلى الحاشية المشاكلة لطبيعة بدن الانسان ومزاجه، كان فيها
تغذية ودواء معا مثل لحم القنفذ والأرنب من الحيوان، والكرسنة والترمس من النبات. وإن كان انحرافها
عن الوسطى إلى الحاشية المنافرة لطبيعة بدن الانسان ومزاجه، كان فيها أدوية خبيثة مثل الحنظل
والسقمونيا والخربق والبلاذر وما شاكل ذلك.
ولما كان قصدنا في كتابنا هذا الكلام في الأغذية فقط، وجب أن نقتصر على ما فيه غذاء لبدن



(1) في الأصل: الأخرى.
517
الانسان أو غذاء ودواء، ونهمل ذكر ما سوى ذلك إذا (1) كان خارجا عن معنى ما قصدناه. وبالله توفيقنا وعليه
توكلنا. فأقول: إن الحيوان المغذي ينقسم قسمة جنسية على ضربين: لان منه البري، ومنه الأهلي.
فالبري من الحيوان، بإضافته إلى الأهلي من جنسه، أسخن وأيبس وأسرع انهضاما، إلا أنه أفسد
غذاء، وذلك لدوام حركته وتعبه واستنشاقه السموم دائما، لغلبة الحرارة واليبوسة على هوائه بدوام وقوع حر
الشمس عليه. ولذلك صار غذاؤه أقل وجوهره أذم، إلا أن يكون ماعزا، فإن البري من الماعز أفضل لان
زيادة حرارة البري على الأهلي تعدل برد الماعز الطبيعي وتفيده حرارة. وكثرة حركة الحيوان البري وتعبه
يذهبان (2) بزفورة الماعز ويعينان (2) على جودة انهضامه.
وأما الأهلي من كل حيوان فهو، بإضافته إلى البري من جنسه، أعدل حرارة وأقل يبوسة، وذلك
لقلة حركته ودوام سكونه واستنشاقه الهواء اللطيف دائما لاعتدال هوائه الذي يأوي فيه لقلة وقوع حر
الشمس عليه. ولذلك صار غذاؤه أكثر وجوهره أحمد، إلا أنه أغلظ وأبعد انهضاما وأبطأ انحدارا.
وكل واحد من الحيوان البري والأهلي يكون على ثلاثة ضروب: لأنه لا يخلو من أن يكون إما ذكرا
أو أنثى وإما خصيا خارجا عن طبيعة الذكر والأنثى لأنه أقرب من طبيعة الأنثى في الرطوبة وطبيعة الصغير
القريب العهد بالميلاد في الحرارة. والذكر من كل حيوان أقوى حرارة وأقل رطوبة وأسرع انهضاما وأحمد
غذاء. والأنثى من كل حيوان أضعف حرارة وأكثر رطوبة وأبعد انهضاما وأردأ غذاء خلا الأنثى من الماعز
فإنها أفضل غذاء من الذكر منه، من قبل أن الماعز في طبيعته جاف يابس (3)، إذا كان ذكرا زاده قحلا
وجفافا وأفاده غلظا وبعد انهضام وفساد غذاء. وأما الخصي من الحيوان فإنه، وإن كان قريبا من طبيعة
الأنثى في الرطوبة، فإنه مخالف لها في الحرارة لان حرارته متوسطة بين حرارة الذكر والأنثى، ولذلك
صارت (4) حرارته مشاكلة لحرارة الصغير القريب العهد بالميلاد، لان القريب العهد بالميلاد أعدل حرارة
من الفتي وأقوى حرارة من الأنثى. فالخصي من الحيوان إذا أقل حرارة من الذكر وأكثر حرارة من الأنثى لان
حرارته أقوى بالطبع، لأنه كان ذكرا. ولذلك صار أسرع انهضاما من الأنثى وأحمد غذاء. وكل واحد من
الأنثى والذكر لا يخلو إما أن يكون رضيعا وإما هرما وإما حوليا قريب العهد بالميلاد، وإما فتيا مستكمل
السن بعيد العهد بالميلاد.
والرضيع من كل حيوان أقوى حرارة بالطبع وأرطب مزاجا وأرخى لحما لغلبة الدم على مزاجه
الطبيعي (5). فإذا كان كذلك وكان من حيوان هو في جنسه أرطب بالطبع، مثل الضأن والخنازير، اجتمعت
له الرطوبة من الجهتين جميعا من السن والمزاج وصار لزجا بعيد الانهضام سريع الانحدار عن المعدة



(1) في الأصل: إذ.
(2) في الأصل بالمفرد.
(3) في الأصل: جافا يابسا.
(4) في الأصل: صار.
(5) بعدها في الأصل قرابة سطرين فيهما تكرار واضطراب ألفيا بالشطب.
518
بطئ الانحلال من الأعضاء مذموم الغذاء، مولدا (1) للبلغم اللزج الفاسد وخاصة متى لم يكن ذكرا. وإن
كان من حيوان هو في جنسه أيبس بالطبع مثل الماعز والبقر، عدل جفاف مزاجه برطوبة سنه، وصار لطيفا
سريع الانهضام محمود الغذاء وبخاصة متى كان ذكرا، إلا أن يكون ماعزا فتكون الأنثى منه أفضل على ما
بينا آنفا. ولذلك صار الرضيع من الماعز والبقر أحمد من الضأن.
وأما الفتي من كل حيوان فحرارته الغريزية أقوى بالكيف لا بالطبع، ولحمه أكثر جفافا ويبسا لبعده
من الميلاد وغلبة الحرارة واليبوسة على مزاجه بالطبع. ولذلك صار متى كان من حيوان هو في جنسه يابسا
جافا مثل الماعز والبقر، اجتمع له اليبس والجفاف من السن والمزاج جميعا، وصار صلبا بعيد الانهضام
بطئ الانحلال مذموم الغذاء. ومتى كان من حيوان هو في جنسه أرطب بالطبع مثل الضأن والفتي منه
اعتدلت رطوبة مزاجه لجفاف سنه وصار لطيفا سريع الانهضام قريب الانحلال محمود الغذاء. ولذلك صار
الضأن أحمد من البقر، والماعز أذم.
وأما الحولي من كل حيوان فهو متوسط بين رطوبة الرضيع ويبس الفتي. <و> الحولي من كل
جنس من الحيوان أحمد لتوسطه الرطوبة واليبوسة، إلا أنه متى كان من حيوان أقوى حرارة بالطبع، كان
أفضل لان قوة حرارته معينة على سرعة انهضامه وحسن غذائه. ومن قبل ذلك صار الحولي من الضأن
أحمد من الحولي من الماعز والبقر جميعا، لان حرارته الغريزية أقوى وأظهر.
وأما الهرم من كل حيوان، فإن لحمه يابس جاف صلب ليفي، لان حرارته الغريزية قد خلقت،
ورطوبته الغريزية قد قاربت الفناء، واستفاد لضعف قوته الهاضمة رطوبة غريبة نية غير منهضمة ولا مغذية.
ولذلك صار عسر الانهضام بطئ الانحلال من الأعضاء مذموم الغذاء مولدا للبلغم الغليظ، إلا أنه متى كان
من حيوان أحر مزاجا بالطبع، كانت (2) رداءته أقل. ومتى كان من حيوان أقل حرارة بالطبع، كانت رداءته
أكثر. ولذلك صار الهرم من الضأن أقل رداءة من الماعز. والبقر أكثر رداءة.
فقد بان من قوة كلامنا أن الدم المتولد عن التيوس والإناث من الماعز وعن الخراف الرضع
والنعاج ردئ جدا، لان السبب في رداءة كل واحد منها غير السبب في رداءة الآخر، من قبل أن السبب
الموجب لرداءة التيوس والإناث من الماعز هو إفراط يبسها، وصلابة لحمها، وعسر انهضامها، وحدة الدم
المتولد عنها، وإن كان الدم المتولد عن التيوس أردأ من الدم المتولد عن إناث الماعز كثيرا لما بيناه
وأوضحناه مرارا. والسبب الموجب لرداءة الخراف والنعاج كثرة رطوبة لحمها ولزوجته وسرعة انحداره عن
الحدة قبل تمام هضمه وتوليده للفضول البلغمانية، وإن كان أولاها بذلك وأقربها إليه الحملان وبعدها
النعاج، لاجتماع الرطوبة في الحملان من الجهتين جميعا: من السن والمزاج.



(1) في الأصل: مولد.
(2) في الأصل: كان.
519
وأما الفتي من الضأن فإنه، وإن كان منسوبا إلى ذلك، فإن يبس سنه قد عدل رطوبة مزاجه وصيره
أحمد وأجود انهضاما وأفضل غذاء. غير أن الفحول الرضع والقريبة العهد بالميلاد من البقر مما هو بعد في
النشوء أفضل، وما خصي من البقر كان أفضل لأنه ألذ طعما وأرخى لحما وأسرع انهضاما وأحمد غذاء لقلة
يبسه وقربه من طبيعة القريب العهد بالميلاد، وبحسب فضل غلظ لحم البقر والماعز وجفافه على لحم
الضأن وكذلك فضل لزوجة لحم الضأن ولعابيته على لحم البقر والماعز. ولذلك صار الفتي من الضأن
أحمد من البقر، والماعز أذم، وإن كان البقر أخص بذلك لفضل غلظه على الماعز.
ولهذه الجهة، صار الجدي الرضيع أوفق لكل المزاجات وللناقهين من الأمراض. وأما العجول
الرضع فأوفق للأصحاء فقط، لأنها أغلظ مما يحتاج إليه الناقهون (1) من الأمراض. وعلى هذا الوزن
والقياس صار الصغير من الماعز والبقر أحمد من الضأن.
وأما الهرم من كل حيوان فمذموم لنقصان حرارته الغريزية وقلة رطوبته الجوهرية، إلا أنه من الضأن
أفضل،..
(2) حرارة الضأن ورطوبته الجوهرية على غيره من الحيوان بالطبع.
وإذا أتينا على ما أردنا تقديمه في هذا الموضع من اختلاف غذاء الحيوان في الجملة بالقول
المطلق، فليستمر القول بذكر كل واحد من الحيوان على الانفراد. ولا قوة إلا بالله.



(1) في الأصل: الناقهين.
(2) بياض في الأصل مقدار كلمة. ولعلها: (لزيادة). وفى الهامش: (هذا رأيته خلوا يحقق).
520
القول في الضأن
أما لحم الضأن فإن حرارته، إذا نسبت إلى حرارة لحم البقر والماعز كانت أقوى وأسخن.
ورطوبته إذا نسبت إلى الماعز والبقر كانت أكثر.
والسبب في رداءة لحم الماعز والبقر هو أنه لما كانا في الغاية من الغلظ وبعد الانهضام،
وكانت حرارة أهل الدعة على ما هي عليه من القلة والنقصان، وجب أن يضعف عن هضم ما غلظ من
اللحمان وبعد انهضامه، إلا أن يكون الحيوان في سنه رضيعا، فيخف عليه هضمه بلطف فيه، وسرعة
انقياده. وأما لحم الضأن فلانه، بإضافته إلى لحم البقر والماعز أحر وأرطب، وجب أن يكون لطيفا
سريع الانهضام حسن الاستمراء، إلا أنه بإضافته إلى لحم الماعز والبقر أسرع انحدارا وأطلق للبطن.

521
من قبل أن ليس معه من لزوجة لحم غيره ما يمنع من سرعة انهضامه، ولا معه من رطوبته أيضا ما
يزلقه ويحدره قبل تمام هضمه، إلا أن غذاءه يختلف في جودته ورداءته وسرعة انهضامه وإبطائه على
حسب اختلاف سنه ومزاجه. أما من اختلاف سنه، فإن منه الرضيع، ومنه الحولي الذي هو بعد في
النمو القريب العهد بالميلاد، ومنه الهرم الطاعن في السن.
فما كان منه رضيعا، كان في رطوبته ولزوجته قريبا من لحم الحيوان البارد، لاكتسابه ذلك من
الجهتين: إحداهما: من بطن أمه في حال حملها به لقربه من ذلك، والأخرى: من رطوبة اللبن الذي
يغتذي به. ولذلك صار أذم وأعسر انهضاما لاجتماع الرطوبة فيه من الجهتين جميعا، أعني من جهة
السن ومن جهة المزاج. ومن قبل ذلك صار مزلقا للمعدة منحدرا قبل تمام هضمه، ولا سيما متى وافى
المعدة زائدة الرطوبة بالطبع ضعيفة عن تمام الهضم. ومن خاصته: أنه مولد للفضول الغليظة اللزجة.
ولهذه الجهة ذم جالينوس الضأن، الخراف، والنعاج، لان الدم المتولد عنها أرطب من المعتدل،
وأحرى بأن يولد الفضول البلغمية الكبيرة، وأخصها بذلك الخراف وبعدها النعاج، إلا أن يكون مزاج
المستعمل لها جافا ومعدته يابسة بالطبع. وأما الفتي من الضأن فإن رطوبته ولزوجته أقل (1) لغلبة الجفاف
على هذا السن بالطبع.
ولذلك صار لحم الفتي من الضأن أفضل من لحم الخراف والنعاج لأنه أعدل رطوبة. ولاعتدال
رطوبته صار إذا انهضم ولد دما محمودا وغذاء كثيرا حسنا قويا بعيدا من البلغم، وإن كان الدم المتولد
عنه دون الدم المتولد عن الفحول الرضع، ودون دم ما كان من البقر بعد النشوء قريب العهد بالميلاد.
وأحمد ما كان الفتي من الضأن إذا أخصي لأنه أعدل حرارة ورطوبة وألذ طعما وأعذب لحما، إلا أن
يطعن في السن ويقارب الهرم فيصير مذموما جدا، ويكون ما لم يخص أفضل منه، من قبل أن حرارة
الهرم من كل حيوان، بإضافته إلى جنسه، أضعف بالطبع. وإذا كان خصيا، اجتمع له ضعف الحرارة
من جهتين: من جهة أنه هرم، ومن جهة أنه مخصي (2)، وخرج من حيز الغذاء.
وأما الحولي من الضأن والقريب العهد بالميلاد، فإن مزاجه متوسط بين رطوبة الخروف وجفاف
الفتي. ولذلك صار أحمد أنواع الضأن وأسرعها انهضاما وأقربها من تولد الدم المحمود وأخصها بالنفع
للشبان ومن كان مزاجه حارا يابسا وبخاصة في البلدان الحارة والأزمنة الكذلك.
وأما الهرم من الضأن فأردأ أنواع الضأن وأفسدها لحما وأذمها مزاجا، من قبل أن الهرم من كل
حيوان بإضافته إلى جنسه الذي هو منه أقل حرارة وأيبس مزاجا. ولذلك صار لحمه ليفيا جافا قحلا لا
لذاذة له ولا غذاء، إلا أنه إذا كان من حيوان أسخن وأرطب بالطبع مثل الضأن، كان أفضل وإن كان في



(1) بعدها في الأصل: (كثيرة) ملغاة بالشطب.
(2) (ومن جهة أنه مخصي) مضافة في الهامش.
522
ذاته مذموما، وبخاصة متى كان من حيوان أقل حرارة وأكثر يبوسة.
ومن منافع الضأن على سبيل الدواء أن مرارته إذا تحنك بها، نفعت من الخناق العارض من
النوازل وسقوط اللهاة. وإذا تمسح بها، نفعت من الشقاق والقروح العارضة في المقعدة. وإذا خلطت
بلبن امرأة ولبن عنز وقطرت في الاذن، نفعت من السلخ والاحتراق العارضان فيها وجففت المدة (1)
السائلة منها. وإذا خلطت بماء الكراث وقطرت في الاذن، نفعت من الطنين العارض فيها. وإذا خلطت
بعسل، نفعت من القروح الخبيثة ونفعت من تقرح جلدة الأنثيين (2). وإذا خلطت بنطرون وغسل بها الرأس،
نقت الإبرية من الشعر. ومرارة الثور في جميع ما ذكرنا أقوى لغلبة اليبس على مزاجها بالطبع. وأما بعر
الضأن فإنه إذا عجن بعسل وعمل منه ضماد، أبرأ الثآليل اللبنية واللحم الزائد المعروف بالتوث (3) ونقى
النملة. وإذا خلط بموم ودهن ورد، نفع من حرق النار. وأما شحم الضأن، فزعم ديسقوريدس أنه إذا
طلي على داء الثعلب، أنبت الشعر فيه.
قال واضع هذا الكتاب: وما أدري كيف تفعل الأشياء اللزجة المسددة لمسام الجلد هذا الفعل
فيما يحتاج إلى الجلي والتنقية والتفتيح!.



(1) القيح المجتمع في الجرح.
(2) الأنثييان: الخصيتان.
(3) وروي: التوثة.
523
القول في لحم الماعز
أما لحم الماعز فإنه، بالإضافة إلى لحم الضأن، أبرد وأحد كثيرا، وإن كان في الدم المتولد عنه
يسير من الحرافة والحدة، من قبل أنه (1) وإن كان، بإضافته إلى لحم الضأن، بارد، فإنه بإضافته إلى
المزاج المعتدل، أسخن وأيبس لا سيما إذا كان فتيا. ولذلك صار أبعد أن يتعفن. وإذا أخصي، كان
أفضل لان حدته تزول ويبسه يقل، ويستفيد رطوبة ويصير بها ألذ وأعذب وأسرع انهضاما. وقد يختلف
غذاؤه أيضا في جودته ورداءته وسرعة انهضامه وإبطائه على حسب اختلافه في سنه ومزاجه. وذلك أن
منه الرضيع، ومنه الفتي البعيد العهد بالميلاد، ومنه الهرم. فما كان منه رضيعا، كان أرطبها وألذها
طعما وأحمدها وألطفها دما وأسرعها انهضاما، لان اللبن يفيده رطوبة طبيعية، ومزاجه في اعتدال حرارته
ورطوبته من غير أن تكون فيه استحالة اللبن قريبة من طبيعة اللبن، لان جرمه أغلظ وأبعد انقيادا وأقوى
على مقاومة الحرارة ومناضلتها. ولذلك صار مخصوصا بالنفع لمن كان مزاجه حارا يابسا وللناقهين من
الأمراض. وإذا <كان> ذلك كذلك، فمن البين أنه كلما ازداد شربه اللبن، كان أفضل له.
وما كان من الماعز في النشوء قريب العهد بالميلاد، كان غذاؤه أيضا لطيفا، ودمه محمودا، وإن
كان دون الرضيع في اللطافة وجودة الدم كثيرا، لان الرضيع أفضل دما لفضل رطوبته وقوة حرارته
المكتسبان من حرارة اللبن ورطوبته.
وأما الفتي من الماعز فغليظ بطئ الانهضام مذموم الغذاء لان الدم المتولد عنه سوداوي فيه حدة
وحرافة وبخاصة إذا كان تيسا. ولهذه الجهة ذم جالينوس لحم التيوس والفتيان من الماعز لغلبة المرارة
السوداء أو الحرارة على مزاجها (2) بالطبع، وإن كان ذلك بالتيوس أخص لان الأنثى من كل حيوان أرطب
وأقل حدة. وإذا كانت من حيوان أيبس بالطبع، كانت أفضل لان يبسها يكون أقل. ولذلك صارت (3)



(1) في الأصل: وأنه.
(2) في الأصل: مزاجهم.
(3) في الأصل: صار.
524
الإناث والخصيان من الماعز أفضل لأنها أرطب لحما وألذ طعما وأحد دما.
فإن قال قائل: فلم لا، قلت: إن الخصي من الماعز أذم، لان الماعز في طبيعته أقل حرارة،
وإذا كان خصيا، ازدادت حرارته نقصانا، ودمه فسادا! قلنا له: قد بينا في ابتداء كلامنا أن في الماعز
حرافة وحدة زائدة على المزاج المعتدل، وبخاصة إذا كان فتيا. فإذا أخصي استفاد رطوبة زالت بها
حدته وجفافه وصار قريبا من المزاج المعتدل، إلا أن يعتق ويقارب الهرم فيصير مذموما جدا، لان حرارته
تزداد ضعفا ونقصانا وتزول عنه رطوبته التي بها اعتدل مزاجه، لغلبة الجفاف والقحل على مزاج الهرم
بالطبع.
ومن منافع الماعز على سبيل الدواء: أن زيادة كبده إذا نثر عليها شئ من دار فلفل مسحوق
وشويت على نار جمر واكتحل برطوبتها السائلة (1) منها، نفعت من الغشاء. وقال قوم: ومن أكل كبد
الماعز مشويا، فعل قريبا من ذلك. وإذا طبخ الكبد بماء وملح وفتح صاحب الغشاء عينيه وأكب وجهه
على بخار ذلك الماء، فعل مثل ذلك أيضا، وكان أقوى فعلا. وحكى ديسقوريدس عن قوم كانوا يقولون
عن كبد الماعز: أنه إذا أكل، نفع من الصرع، وبخاصة كبد التيس. وأما شحم الماعز فإنه أشد قبضا
من شحم البقر وشحم الأسد فضلا عن الشحوم كلها. ولذلك صار إذا أذيب واحتقن به مع ماء الشعير
المحمص المطبوخ أو ماء السويق المطبوخ أو ماء الكعك والسماق المطبوخين، نفع من سحوج المعاء.
وإذا أذيب مع الموم واحتقن به، نفع من ذلك أيضا. وإذا طبخ مع الشعير المقشر وتحسي نفع من قروح
الرئة. وإذا تحسي المرق الذي يطبخ فيه شحم الماعز، نفع من ذلك. ومن شرب (2).
وشحم التيوس أشد تحليلا من شحم الماعز الصغير. ولذلك إذا دق وعجن ببعر الغنم وشئ من
زعفران وحمل على النقرس، حلل وجعه. وإذا اكتحل بمرارة الماعز الوحشي، نفعت من غشاوة البصر.
ومرارة التيوس الأهلية تفعل مثل ذلك أيضا. وإذا عمل من مرارة التيوس ضماد، حلل اللحم النابت
المعروف بالتوث. وإذا لطخت العلة المعروفة بداء الفيل، زالت الزيادات الظاهرة في الورم. فأما دم
الجدي فيستعمل في بعض المعجونات النافعة من قروح المعاء. ودم التيس إذا استعمل مقليا بزيت
الماء (3)، فعل مثل <ذلك> أيضا وقطع الاسهال المري. وكذلك تفعل الأرانب والأيايل. وإذا شرب
دم الماعز بشراب، نفع من النشاب المسموم. وإذا حمل على الأورام، حللها.
وأما بعر الماعز، وخاصة الجبلي، فإن فيه حرافة وتحليلا وتنقية وإنضاجا. ولذلك صار إذا
شرب، نفع من اليرقان المزمن العارض من سدد الكبد. وإذا شرب مع بعض الأدوية المدرة للبول
والطمث، أعان على ذلك وقواها وأحدر الأجنة. وإذا حمل على الأورام الصلبة وهو خارج حين يخرج



(1) في الأصل: السائل.
(2) لعلها زائدة.
(3) كذا في الأصل.
525
من الحيوان، أنضجها. واليابس منه إذا دق وخلط بكندر وتحملت به المرأة، قطع سيلان الدم المزمن
من الرحم. وإذا عجن بخل وعمل منه ضماد، قطع سيلان الدم حيث كان. وإذا أحرق وعجن بخل
وإسكنجبين، أنبت الشعر في داء الثعلب. وإذا خلط بشحم عتيق وعمل منه ضماد، نفع من نهش
الهوام. وإذا لطخ على القرحة المعروفة بالنملة، أبرأها. وزعم ديسقوريدس: أنه قد يكوى به عرق
النساء، على ما أصف، فيسكن الوجع، ويقال: الكي.
تؤخذ صوفة فتغمس في زيت وتشرب جيدا وتصير على الموضع المعين الذي في أصل الابهام
والزند، ثم تؤخذ بعرة جافة وتلهب بالنار وتحمل على الصوفة وتترك حتى تخمد نارها وتنحى، وتجدد
بعرة أخرى بدلها. ويديم ذلك إلى أن يصل حس الألم بالعضد، فإن الوجع يسكن. وقال ديسقوريدس:
إلى أن يصل الحس بالفخذ. وما أحسب أن ديسقوريدس أمر أن تحمى الصوفة المغموسة بالزيت إلا
على الموضع العميق الذي خلف الكعب، وإلا فمن المحال أن تحرق أصل الابهام من اليد فيصل
الحس إلى الفخذ. وسمى ديسقوريدس هذا الصنف من الكي: الكي البعري (1) - وفي نسخة أخرى
الكي العنزي - وأما أبوال الغنم (2) فإنها إذا شربت في كل يوم وهي حارة مع سنبل هندي وأدمن ذلك،
حللت الحبن (3) اللحمي من قبل أن يتمكن، وأحدرته بالبول والاسهال. وإذا قطر منها في الاذن،
سكنت وجعها. وأظلاف الماعز إذا أحرقت وسحقت وعمل منها ضماد بخل ثقيف، نفعت من داء
الثعلب. وقرن الماعز إذا أحرق واستيك (4) به، نقى الأسنان وقوى اللثة.



(1) وروي: العربي.
(2) كذا. ولعلها الماعز.
(3) بعدها في الأصل: و (الماعز) ملغاة بشطبة.
(4) داء في البطن فيعظم منه ويرم.
(5) استاك وتسوك: دلك فمه بالسواك، وهو عود أو غيره تنظف به الأسنان.
526
القول في لحم البقر
أما لحم البقر فإنه إذا قيس إلى لحم الضأن (1) وغيرها، كان يبسه ظاهرا وجفافه بينا، لان يبسه
أكثر من يبس الماعز بالطبع. ولذلك صار الدم المتولد عنه غليظا عكرا أسود سوداويا. ولهذه الجهة كثر
غذاؤه وبعد انهضامه وعسر انحلاله، وصار حابسا للبطن. ومن فعله أنه متى وافى مزاج المستعمل له
سوداويا، ولد غلظا في الطحال، وأورث الحمى المعروفة بالربع، وأفسد مزاج البدن كله بدءا ثم آل
بصاحبه إلى الاستسقاء اللحمي. وكثيرا ما يعرض للمدمنين عليه من مزاجه سوداوي، الجرب السمج
القبيح والقوابي والداء المعروف بداء الفيل والسرطانات والجذام والعلة التي يقشر الجلد منها، إلا أن
غذاءه يختلف في جودته ورداءته وسرعة انهضامه وإبطائه على حسب اختلاف سنه، وذلك أن منه
الرضيع، ومنه ما هو بعد في النشوء قريب العهد بالميلاد واللبن، ومنه الفتي المعتدل البعيد العهد
بالميلاد، ومنه الهرم الطاعن في السن.
فما كان رضيعا كان غذاؤه محمودا وانهضامه حسنا لان جوهره أزيد حرارة وأكثر رطوبة. ولذلك
صار الغذاء المتولد عنه خارجا عن طبع المرة السوداء، داخلا في طبيعة الدم لقربه من الميلاد واكتسابه
الحرارة والرطوبة من اللبن. ولهذه الجهة صار محمودا سريع الانهضام محدرا للمرة الصفراء من
المعدة، وبخاصة متى وافى مزاج المستعمل له محرورا والناقهين من الأمراض فإنه، وإن كان غير ضار
بهم لاعتدال مزاجهم، فإن غذاءه يثقل عليهم لأنه أغلظ من قوة احتمالهم على هضمه.
وما كان منه بعد (2) في النشوء قريب العهد بالميلاد والرضاع، فإنه أقل رطوبة من الرضيع وأبعد
منه انهضاما وانحدارا من المعدة، وأقوى على حبس البطن، إلا أن الدم المتولد عنه غير مذموم لقوة
حرارته الغريزية وليانة لحمه ورخاوته لقربه بعد من الميلاد واللبن. ولذلك صار إذا طبخ بالخل وتحست



(1) بعدها في الأصل.
(3) في الأصل: بعيد.
527
مرقته، قوت المعدة والأمعاء ونفعت من الاسهال المري العارض من المعدة، فإن كانت المعدة قوية
على الهضم، فلا بأس بأن يؤكل من لحمه.
وما كان من البقر فتيا بعيد العهد بالميلاد، زالت حرارته ورطوبته المكتسبتان من اللبن والميلاد،
وغلظ لحمه وعسر انهضامه وانحلاله عن المعدة وبعد انحلاله من الأعضاء، واختص بتوليد الأخلاط
السوداوية الغليظة، لا سيما إذا كان مزاج المستعمل له متهيئا (1) لقبول ذلك.
وما كان من البقر هرما كان لا خير فيه أصلا لاجتماع الجفاف والقحل وضعف الحرارة فيه من
السن والمزاج جميعا. ولذلك صار لحمه ليفيا متعبا للطباع بعيد الانهضام لا لذاذة فيه ولا تغذية. وأحمد
ما يؤكل لحم البقر إذا أخذ منه ما كان من حيوان هو بعد في النشوء وطبخ بالخل والسذاب والنعنع
والكرفس وورق الأترج والكسفرة والزعفران، وعدل بشئ من سكر. ومن كان مزاجه مرطوبا. فلا بأس
أن يجعل مع ما ذكرنا من الأبازير، الفلفل والثوم والمري وشئ من كاشم يسير وشئ من بورق ويعذبه
بالسكنجبين عوضا من السكر. وإن طبخ معه شئ من قشور البطيخ، أعان على انحداره من المعدة.
ومن منافع لحم البقر على سبيل الدواء: أن مرارة الثور إذا تحنك بها، نفعت من الخناق
العارض من سقوط اللهاة. وإذا مسحت (2) بها المقعدة، نفعت من الشقاق والقروح العارضة فيها. وإذا
خلطت (2) بلبن امرأة (2)، نفعت من الاحتراق (3) والتشنج العارض فيها، وجففت المدة السائلة. وإذا
خلطت (2) بعسل، نقت القروح الخبيثة، وسكنت أوجاعها ونفعت من سلخ جلدة الأنثيين. وإذا خلطت
بنطرون وعسل ودلك بها الرأس، نفعت من الإبرية العارضة في الرأس والشعر ومنعت من عودتها.
وأما دم الثور فإنه إذا ضمدت (4) به الجراحات وهو حار، أنضجها. وإذا عجن وهو حار وخلط
بسويق وعمل منه ضماد، لين الأورام الجاسئة. وأما إنفحة (5) البقر فإنها إذا شربت بشراب، نفعت من
السم المعروف بأفوسطون. وإذا شربت إنفحة العجول والجواميس، نفعت من الدم الجامد في المعدة،
لان حكم كل إنفحة إذابة كل جامد وتجميد كل ذائب.
وأما أخثاء (6) البقر فإنه إذا بخرت (7) به البيوت، طرد البق الطيار المعروف عند أهل مصر
بالبعوض. وإذا تدخنت به المرأة، أصلح حال الرحم الناتئ. وأخثاء البقر الإناث إذا حمل بحرارته التي
يخرج بها من الحيوان على الأورام الحارة العارضة للجراحات، سكنها أو حللها. وإذا أخذه الانسان



(1) في الأصل: متهيئ.
(2) في الأصل، بالمذكر.
(3) كذا في الأصل. ولعل العبارة: (وقطرت في الاذن نفعت من الانخراق العارض فيها).
(4) في الأصل: ضمد.
(5) الأنفخة، وبفتح الهمزة: مادة صفراء تستعمل لتجبين اللبن.
(6) خثى الثور: رمى بذات بطنه. والاسم: الخثي الخثى، جمع أخثار وخثي.
(7) في الأصل: بخر.
528
ولفه بورق وحمله على رماد حار ثم نحى الورق عنه وحمله على عرق النساء بحرارته، نفع نفعا بينا.
وإذا عجن وعمل منه ضماد، حلل الخنازير (1).
فأما أبوال البقر فإنها إذا خلطت مع مر (2) أحمر مسحوق وقطرت في الاذن، سكنت أوجاعها
المتولدة فيها من الرياح والرطوبة. وأما كعب البقر فزعم قوم عن ديسقوريدس أنه قال: إن كعب البقر إذا
سحق وشرب بعسل، قتل الدود الذي في البطن. وإذا شرب بسكنجبين حلل أورام الطحال. وإذا أحرق
بالنار، شد اللثة المتحركة. وزعموا أنه يهيج الجماع. وذكر أيضا عن عظام أفخاذ البقر أنها إذا أحرقت
وشربت، نفعت من نزف الدم وسيلان الطمث، وأن جرادة قرن الثور إذا شربت بالماء، نفعت من نزف
الدم أيضا.



(1) سبق شرحها، وهي قروح صلبة تكون في الرقبة.
(2) في الأصل كلمة غير واضحة، وأشير إلى ذلك في الهامش. ولعلها كما أثبتنا، مع الإشارة إلى أن الجيد من صمغة المر ما لونه
يميل إلى الخضرة.
529
القول في لحم الأيايل
وأما لحوم الأيل فإن رداءة الدم المتولد عنه ليس بدون رداءة الدم المتولد عن لحم البقر، لان
غذاءه أيضا غليظ سوداوي بطئ الانخدار، مفسد للدم. ومن منافعه على سبيل الدواء: أن شحمه إذا
تمسح به، طرد الهوام. وشحم الفيل يفعل ذلك أيضا. ودم الأيل إذا قلي بزيت واحتقن به، نفع من
قروح المعاء وقطع الاسهال المتقادم. وإذا شرب بشراب، نفع من النشاب المسموم. وأما إنفحة الأيل
فإن المرأة إذا تحملتها بعد الطمث بثلاثة أيام متوالية، منعت الحبل. وقضيب الأيل إذا جفف وسحق
وشرب، نفع من لسع الأفاعي. وقرنه إذا تبخر به، نفع من الهوام وطردها. وإذا طبخ بخل وتمضمض
به، سكن وجع الأسنان وقوى اللثة.
وإذا أحرق وغسل كما يغسل الاقليميا وشرب منه مثقالان (1) ونصف، قطع نزف الدم الكائن
بعقب عفونة وينفع من قروح المعاء ومن الاسهال المزمن ووجع المثانة والاسهال المتقادم وقطع
الرطوبات النافعة من مثل ذلك. وزعم ديسقوريدوس: أن الشربة منه ملعقتان والملعقة مثقالان. وإذا
أحرق أيضا وخلط في إكحال العين، نفع من القروح العارضة فيها وقطع المواد المنصبة إليها. وإذا عمل
منه سنون (2)، نقى الأسنان وشد اللثة، وصفة إحراقه أن يؤخذ القرن فيقطع صغارا ويصير في قدر فخار
ويطين رأسها ويصير في أتون ليلة إلى الصبح حتى يبيض ويغسل كما يغسل الاقليميا ويرفع ويستعمل
عند الحاجة إليه.



(1) في الأصل: مثقالين.
(2) السنون: ما يستاك به كدواء لتقوية الأسنان وتطريتها.
530
القول في لحوم الأرانب
أما لحم الأرنب فيولد دما جافا زائد الغلظ، إلا أنه أحد من الدم المتولد عن الفتي من البقر
والتيوس، وقال جالينوس عن الدم المتولد عن الفتي من الضأن. ولذلك صار موافقا لمن احتاج إلى
التدبير المجفف، وغير موافق لمن احتاج إلى التدبير الملطف.
ومن منافعه على سبيل الدواء: أن لحمه إذا طحن أو غمر في تنور أو فرن، نفع من قروح
الأمعاء. ودمه إذا طلي على الكلف والبهق والبثور اللبنية، نقاها. وإذا شرب، نفع من النشاب
المسموم. وإذا قلي بزيت واحتقن به، نفع من قروح المعاء وقطع الاسهال المزمن. وأما رأس الأرنب
فإنه إذا شوي وأكل دماغه، نفع من الارتعاش العارض بعقيب الأمراض. وإذا طبخ الأرنب وأكل دماغه
ولطخت (1) به لثة الأطفال، سكن الوجع العارض من نبات الأسنان وسهل خروجها. وفعله في ذلك
كفعل السمن والزبد وغير ذلك مما هو موافق من أوجاع الأسنان، لا على سبيل الخاصية. وإذا أحرق
رأس الأرنب وسحق وعجن بشحم أو بخل، نفع من داء الثعلب. وأما إنفحة الأرنب فزعم
ديسقوريدس أن المرأة إذا شربتها بعد طهرها بثلاثة أيام متوالية، منعت من الحبل.
قال واضع هذا الكتاب: وهذا قول لم يجمع عليه ولا معه برهان ثابت. وزعم أيضا: أن
المصروع إذا شربها نفعته. وشربها أيضا نافع من (2) قروح الأمعاء ومن الاسهال المزمن، وينفع النساء
اللواتي تسيل من أرحامهن الرطوبات سيلانا مزمنا. وإذا شرب منها درهم بشراب، كان بادزهر (3) الأشياء
القتالة وبخاصة الدم الجامد في المعدة، واللبن المتجمد فيها، وينفع من نهش الأفاعي. وزعم أيضا:
أن شربها ينفع <من> نفث الدم. وقد أنكر جالينوس ذلك فقال: ومن المحال أن تكون الأشياء الحارة
تفعل فعل الأشياء القابضة. وإذا أحرق الأرنب صحيحا كما هو، كان رماده نافعا من الحصى المتولد في
الكلى. وذكر ديسقوريدس عن حيوان بحري يسمى باسم الأرنب، وهو يشبه الصغير من الحيوان
المسمى كربيس. وزعم أنه إذا عمل منه ضماد إما وحده أو مع القريص (4)، حلق الرأس.



(1) في الأصل: لطخ.
(2) (من) مكررة في الأصل.
(3) في الأصل: بازهر.
(4) وروي: كوليس.
(5) هو الانجرة.
531
القول في القنفذ
أما القنفذ فقوته قوة تحلل تحليلا قويا وتجفف تجفيفا شديدا، وهو على ضربين: لان منه
البري، ومنه البحري. فالبحري منه أطيب طعما وأنفع للمعدة وأقوى على تليين البطن ودرور البول.
وإذا أحرق جلده بالنار، كان لرماده قوة تجلو وتحلل وتنقي القروح الوسخة، وتفني اللحم الزائد الشبيه
بالتوث (1). وإذا خلط رماده بزفت رطب وحمل على داء الثعلب، أنبت الشعر فيه. وإذا كان غير محروق
وخلط بالأدوية النافعة من ذلك، قوى فعلها.
وأما البري فإن لحمه إذا جفف وشرب بالاسكنجبين نفع من الاستسقاء اللحمي، ومن ابتداء كل
حبن، ومن التشنج والفالج وأوجاع الكلى، ومن سيلان المواد إلى الأحشاء. وكبده إذا جفف في شمس
على خزف جديد وشرب ينفع كما ينفع اللحم، بإذن الله.



(1) وروي: التوثة.
532
القول في لحم الحمير والخيل والبغال والجمال
أما لحم الحمير فيولد دما غليظا بطئ الانهضام، وبخاصة لحم الهرم منها، لأنه يولد دما رديئا
خبيثا مفسدا للمعدة مولدا (1) للغثي والقئ. إلا أن الوحشي منها إذا كان صغيرا سمينا، كان لحمه قريبا
من لحم الأيل في غلظه وبعد انهضامه وفساد دمه المتولد عنه. وما ربي من حمر الوحش في الدور، فهو
أحمد من البري وبخاصة الجحاش منها. وأما لحم الأهلية فإنه (2) في غاية الرداءة وبعد الانهضام
والاضرار بالمعدة، ويولد الغثي وبخاصة الهرم منها، لان الدم المتولد عنه أذم وأردأ وأخص بالاضرار
بالمعدة، وإن كان لحم الحمير في الجملة ألطف من لحم الخيل، ولحم الخيل ألطف من لحم
الجمال، ولحم الجمال ألطف من لحم البغال.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: إن شأن أهل أثينا كانوا يختارون لحم الحمير الوحشية على
الأهلية. وأهل وينينه يختارون الحضرية ويزعمون أنها أفضل من الخيل، والخيل أفضل من البغال
بكثير. والصغير من الحمير أفضل. ومن منافع الحمير على سبيل الدواء: أن خاصة لحمها النفع من
وجع الظهر العارض من الرياح الغليظة البلغمانية. وإذا طلي على الكلف، نقاه. وإذا حمل على الجراح
والخراجات، صير لون اندمال الجراح شبيها بلون الجلد الطبيعي. وزعم ديسقوريدس عن كبد الحمار:
أنه إذا شوي وأكل على الريق في كل يوم وأدمن ذلك، نفعت المصروعين، وكذلك تفعل حوافرها إذا
أحرقت وشرب منها وزن مثقالين ونصف في كل يوم. وإن عمل من حوافرها المحرقة ضماد بزيت، حلل
الخنازير ونفع من السعال العارض من البرد. وإذا سحقت وعمل منها ذرور وصير على القروح العارضة
في اليدين والرجلين، نفع منها. وأبوال الحمير إذا شربت، نفعت من وجع الكلى العارض من الرطوبة
الغليظة. وسرقين (3) الحمير إذا أخذ محرقا (4) أو غير محرق، وعمل منه ضماد، قطع سيلان الدم. وأما
سرقين الحمير الوحشية إذا أخذ يابسا وشرب بشراب، قطع ونفع من لسع العقارب منفعة عظيمة.
* * *



(1) في الأصل: مولد.
(2) في الأصل: فإنها.
(3) السرقين، أو السرجين: الزبل.
(4) في الأصل: محرق.
533
القول في منافع الخيل
على سبيل الدواء
إنفحة الرماك (1) نافعة من قروح الأمعاء والاسهال المزمن. وإذا شربت هذه الإنفحة بخل ثقيف،
نفعت من جمود اللبن في المعدة. وسرجينها إذا أخذ محرقا أو غير محرق وعجن بخل وعمل منه
ضماد، قطع سيلان الدم. وإذا اشتم الطري منه، قطع الرعاف. وزعم ديسقوريدس عن الزوائد البيض
المعراة من الشعر والجلد النابتة دون العرقوبين قريبا من الرجلين جميعا. وخلف الأسارع أنها إذا
جففت وسحقت وشربت بخل ثقيف، نفعت من الصرع. وحكى ديسقوريدس عن قوم كانوا يزعمون أن
عرق الخيل إذا شرب، نفع من الصرع ومن نهش الهوام كله. ولم يوافقه جالينوس على هذا القول.
وزعم أيضا عن فرس الماء أن خصاه إذا جففت وشرب منها، نفعت من نهش الهوام.
وأما لحم الجمال فهو، لغلظه، بطئ الانهضام مولد للمرة السوداء الحادة، لان من خاصته
إحراق الدم وإفساده. وأما لحم البغال فأذم اللحمان وأردأها وأفسدها.



(1) الرمكة، جمع رماك ورمك ورمكات: الفرس، أو البرذونة تتخذ النسل. والبرذون هو ما يعرف بالكديش.
534
القول في لحم الدب والثعالب والكلاب
أما لحم الدب فمخاطي لزج عسر الانهضام، سريع الانحدار عن المعدة، مذموم الغذاء جدا.
ومن منافعه على سبيل الدواء: أن شحمه إذا طلي على داء الثعلب، أنبت الشعر فيه. وإذا خلط مع
الجعدة المحرقة وحمل على اللحية، أسرع نباتها. وإذا حمل على الرأس، طول الشعر. ومرارته إذا
لعقت، نفعت من الصرع. وقد تنفع أيضا من جميع ما ينتفع به <من> مرارة البقر، إلا أن فعلها
أضعف.
وكذلك لحم الثعلب مخاطي لزج عسير الانهضام، سريع الانحدار مذموم الغذاء، إلا أنه في
زمان الخريف إذا سمن حيوانه، كان أصلح قليلا. ومن منافعه على سبيل الدواء: أن رئته إذا جففت
وشربت، نفعت من الربو والبهر. وشحمه إذا ذيب وقطر في الاذن، سكن وجعها. وإذا طبخ الثعلب
بجملته بزيت، كان زيته نافعا من وجع المفاصل. وزعم ديسقوريدس عن الأوائل أنهم كانوا يصيرون
زيت الثعلب في إبزن (1) ويتركون العليل فيه ويأمرون العليل أن يطيل اللبث في ذلك الماء. وذكر أنهم
كانوا يقولون أنهم إذا فعلوا ذلك وكانت العلة <فيه> حديثا، زالت عنه وذهبت. وإن كانت العلة قد
تقادمت ومضت لها مدة، خفت ولانت وقلت.
وأما كبد الذئب فذكر جالينوس أنه ألقاها مرارا في الدواء المتخذ بالغافت (2) لوجع الكبد،
ولكنه لم يقف على قوة الدواء هل تزيد إذا صير في الدواء هذا الكبد أم لا.
وأما الكلاب فهي أكثر حرارة من فحولة (3) البقر وأقل حرارة من الأسد. وخرء الكلب يطلق
البطن لان لحمها مخاطي سريع الانحدار. وزعم قوم أن كبد الكلب إذا أكل مشويا، نفع من التقرع (4)



(1) الأبزن، بتثليث الهمزة: حوض من نحاس يستنقع فيه الرجل. وهو ما يعرف اليوم (بالبانيو).
(2) هو النبات المعروف بالعرفج.
(3) جمع الفحل (الذكر من كل حيوان): فحول وفحولة وأفحل وغير ذلك.
(4) تقرع: تقلب لا ينام.
535
من الألم العارض من عضة الكلب الكلب، وزعم جالينوس أنه شاهد قوما كانوا قد وثقوا بمنفعة كبد
الكلب لمثل هذه العلة فشربوه وحده ثقة منهم به، فماتوا، وقوما شربوه مع الأدوية النافعة لمثل ذلك مما
قد جربناها نحن، فانتفعوا به وعاشوا. فأما ناب الكلب الكلب فإنه إذا جعل في جلد على العضد، لم
يخف صاحبه من الكلاب الكلبة. ودم الكلب إذا شرب، نفع من عضة الكلاب ومن سم النشاب. وخرء
الكلاب إذا أخذ بعد طلوع الشعرى (1) اليمانية وجفف وشرب، عقل البطن وبخاصة خرء الكلاب البيض
التي تآكل العظام، إذا جفف وسحق وتغرغر به، نفع من ورم اللوزتين الذي قد نضج وقرب انفجاره لأنه
يفجره بسرعة. واختلف الناس في قوله (الأبيض)، لان قوما أضافوا البياض إلى الكلب نفسه، وقوما
أضافوه (2) إلى خرء الكلاب. وقالوا: أن بياض خرء الكلب الذي هو منه لا يغتذي إلا بالعظام ولا بأس
أن يكون الكلب في نفسه أبيض، وما يخرج منه أيضا كذلك، لان بياض الكلب دليل على قلة احترق
مزاجه، وبياض ما يخرج منه دليل على أن أكله العظام.
وزعم ديسقوريدس أن لبن الكلبة إذا شرب، كان بادزهرا (3) للأدوية القتالة. وزعم قوم أن لبن
الكلبة الذي يخرج منها في أول بطن تلد إذا حمل على الموضع الذي ينبت فيه الشعر من جفن العين أو
غيره، منع من نبات الشعر فيه. وقالوا: أنه إذا (4) طلي على عانة الصبيان، منع من نبات الشعر فيها إلا
أنه أنكر جالينوس ذلك وكذب أيضا قول من قال أن لبن الكلبة إذا شرب أخرج الأجنة.



(1) كوكب نير يطلع في شدة الحر بعد الجوزاء، وهما الشعريان.
(2) في الأصل: أضافوا.
(3) في الأصل: بازهر.
(4) (إذا) مستدركة في الهامش.
536
القول في لحوم السباع
<أما لحوم السباع> فإنها أسخن من لحوم الكلاب، إلا أنها غليظة ثقيلة بعيدة الانهضام جدا
مولدة للأمغاص.
* * *
القول في لحم اليربوع والفأر
أما لحم اليربوع (1) فيغذو غذاء كثيرا ويلين البطن. وأما لحم الفأر فإنه إذا أكل مشويا، جفف
اللعاب السائل من أفواه الصبيان. وإذا شق الفأر ووضع على لسعة العقرب، سكن ألمها. وإذا وضع
على الثآليل، قلعها.



(1) دويبة فوق الجرذ طويل الرجلين، قصير اليدين جدا، ذنبه كذنب الجرذ. ولجحره أربعة أبواب.
537
في اختلاف غذاء الحيوان
أيضا على حسب اختلاف أعضائه (1)
قد كنا بينا في المقالة الأولى من كتابنا هذا: أن أعضاء الحيوان تختلف من جهات: إما من
تركيبها، وإما من مزاجاتها، وإما من مواضعها، وإما من حركاتها وسكونها.
فأما اختلافها في تركيبها فيكون على ثلاثة (2) ضروب: لان منها الكثير الشحم القريب من
مغيض (3) الأثفال والرطوبات مثل البطن وما يحويه. ومنها القليل الشحم البعيد من مغيض الأثفال
والرطوبات مثل الصلب والرقبة والأفخاذ وما شاكل ذلك. ومنها المتوسط بين هاتين المرتبتين مثل
الأجناب والخواصر وما شاكلها.
فما كان منها أكثر شحما كان أبعد انهضاما وأسرع انحدارا وأطلق للبطن وأردأ للمعدة وأفسد
غذاء وأقرب من تولد البلغم اللزج، لا سيما إذا كان من حيوان أرطب بالطبع مثل الضأن،
لان ما كان من حيوان كذلك، كان أغلظ وأكثر لزوجة وأذم غذاء. وما كان من الأعضاء أقل شحما، كان
ألطف وأقل لزوجة وأسرع انهضاما وأصلح للمعدة وأحمد غذاء وأقرب من تولد الدم المحمود ولا سيما
إذا كان من حيوان أعدل مزاجا وأخصب لحما وأكثر دسما، لأنه ما كان من حيوان كذلك، كان أفضل
وأكثر غذاء. وما كان من الأعضاء متوسطا بين هاتين المرتبتين، كان أحد من كل واحد منهما بقسطه
على حسب قربه من كل واحد منهما وبعده منها أو توسطه بينهما توسطا متكافئا.
وأما اختلاف غذاء الأعضاء من قبل طبيعتها ومزاجها فيكون على ضروب: لان منها ما هو أيبس



(1) في الأصل: أعطائه.
(2) في الأصل: ثلاث.
(3) غاض الماء: قل فنضب، أو غار فذهب فهو مغيض.
538
بالطبع مثل العصب والجلد والكرش وجرم الأمعاء والأرحام. ومنها ما هو أرطب بالطبع مثل الدماغ
والنخاع والمخ والشحم. ومنها ما هو متوسط بين ذلك مثل اللحم الأحمر المعرى من الشحم، أعني
لحم المشمارخ ولحم الرقبة والأفخاذ والرقبة (1) وما شابه ذلك. فما كان من الأعضاء أصلب بالطبع مثل
الجلد والكرش وجرم المعاء والأرحام كان أبرد مزاجا وأعسر انهضاما وأبعد انحدارا وأقل جوهرا ولا سيما
إذا كان من حيوان أيبس بالطبع مزاجا مثل البقر والماعز. ولذلك صار هذا الجنس من الأعضاء، وإن
أجيد مضغه واستحكم نضجه في المعدة وقويت الطباع على هضمه في الكبد، لم يمكن أن يتولد منه
دم خالص غير مذموم، لان الخلط المتولد عنه أميل إلى البرودة والغلظ. ولذلك يحتاج إلى زمان أطول
ومدة أبعد تصل استحالته واستحكام نضجه وانتقاله إلى الدم. ومن قبل ذلك صار غذاؤه أقل من غذاء
اللحم كثيرا وأبعد من الجودة. وإن كان العصب والجلد أفضل من الكرش ومن جرم المعاء والأرحام
كثيرا، إلا أن الكروش والمعاء والأرحام مغائض للفضول والأثفال بالطبع، والجلد والعصب أبعد من
ذلك كثيرا. وأفضل الجلود جلد الرضيع من كل حيوان لغلبة الرطوبة على جوهره وقوة الحرارة الغريزية
فيه لقربه من الميلاد جميعا. وما جاوز الرضاع قلت رطوبته وغلظ جلده واستحصف وبعد انهضامه. وما
كان من الأعضاء أرطب بالطبع مثل الدماغ والنخاع والشحم كان لزجا ليفيا ملطخا للمعدة ملينا لحمها
مفسدا لها، مفججا لما نضجته من الغذاء فيها، مانعا له من جودة الهضم لان من خاصته البعد من
الانهضام وسرعة الانحدار لا سيما إذا كان من حيوان أرطب بالطبع مثل الضأن، لان ما كان منه من
حيوان كذلك، كانت رطوبته أزيد ولزوجته أكثر وإفساده للمعدة أقرب.
وما كان من الأعضاء متوسطا بين الرطوبة واليبوسة، والصلابة والرخاوة، مثل اللحم الأحمر
المعرى من الشحم، كان مزاجه أعدل وطعمه ألذ وانهضامه أسرع وغذاؤه أحمد، لا سيما إذا كان من
حيوان أعدل مزاجا (2) وأوسط شحما وسمنا مثل الجدي الرضيع والعجول الكذلك والثنيان (3) من الضأن،
لان ما كان منه من حيوان كذلك، كان ألذ وأدسم وأسرع انهضاما وأكثر جوهرا وأفضل غذاء، وإن كان
قد توسطت بين هذه المرتبة الوسطى وبين كل واحدة من الحاشيتين مراتب أخر آخذة من أي حاشية
مالت إليها ومن الواسطة بين اللحم والشحم، أعني بذلك العص (4) والضرع والخصي والخلوب (5) الذي
في أصل الرقبة بالقرب من الترقوتين والعص من الجانبين جميعا والذي بالقرب من أصل الصلب من
الجانبين جميعا، واللحم الرخو الذي في أصل اللسان، والنغانغ، فإن هذا اللحم متوسط بين الشحم
واللحم وكذلك صار أرخى من اللحم وألين، وأصلب من الشحم وأعضل. ويدل على ذلك توسط لونه



(1) كذا مكررة.
(2) في الأصل: مزاج.
(3) كذا. واليني. ولد النعجة الثاني، جمع ثناء وأثناء.
(4) العص: الأصل. أما العصعص فهو اللحم في باطن ألية الشاة. وهو أيضا العصعوص والعصص وغير ذلك.
(5) هو الخلب: لحيمة رقيقة تصل بين الأضلاع.
539
بين بياض الشحم وحمرة اللحم، وتوسط جسمه بين صلابة اللحم وليانة الشحم. ولهذه الجهة صار
طعمه ألذ وجسمه أرخى وأهش وأسرع تفتيتا تحت اللسان منفوشا. ففي هذا دليل واضح على أنه،
بإضافته إلى اللحم، أقل دما وأصلب جسما. ومن قبل ذلك صار إذا استحكم هضمه، كان الغذاء
المتولد عنه أقرب من غذاء اللحم المختلط بالشحم، لأنه أدخل في غذاء اللحم الأحمر، وألين كثيرا.
وإذا لم يستحكم نضجه، كان الغذاء المتولد عنه أقرب من غذاء الشحم، وولد إما بلغما رقيقا، وإما
غليظا من جنس الخام. والسبب في ذلك: اختلاف ما يتولد عن هذا اللحم الرخو واختلافه في نفسه في
غلظه وصلابته ولطافته ولينه، وذلك أن ما كان منه ألين جسما وألطف جوهرا مثل الضرع والخصي
والخلوب الذي في أصل الرقبة، ولد بلغما رقيقا سائلا. وما كان منه أعبل (1) جسما وأغلظ طبعا مثل
اللحم الرخو الذي في ما بين الأسنان والنغانغ، ولد فضلا غليظا حاميا.
والسبب في اختلاف طبعه وجسمه حاجة الطباع إلى ذلك فيما أعدت له كل نوع. ولذلك صنعته
على ثلاث: أحدها: أعدته لتوليد رطوبات احتاجت إليها في تولد الحيوان وتغذيته وتربيته مثل الخصي
للمني، والضرع للبن. وصنف آخر أعدته لتوليد رطوبات تبل بها المواضع التي أعدتها لها لتسهيل
حركتها عند الحاجة إليها، مثل اللحم الرخو الذي في أصل الأسنان والنغانغ. والصنف الثالث أعدته
لتملأ به ما بين العروق وتحشو تلك المواضع بها لتشد العروق به وتستقر عليه وتقوى مثل اللحم الذي
بين عروق الماساريقا والتي بين الكبد والمعاء الصائم والحلبوب الذي عن جنبي أصل القلب، والذي
عن جنبي أصل الرقبة ليسد الأوداج والأوردة. ومن خاصة الحلبوب الذي في أصل الرقبة ان يكون في
من صغر سنه من الحيوان أصغر سنا وأصلب لحما. وكلما ازداد الحيوان كبرا، ازدادت رطوبة هذا
اللحم قلة وجسمه صلابة وصغرا. ويعم هذا الجنس كله لذاذة الطعم وهشاشة الجسم وسرعة التفتت (2)
تحت اللسان، خلا الضرع فإنه إذا أعدم حرارة اللبن ورطوبته، غلبت عليه البرودة واليبوسة وقلت
هشاشته ولذاذته وبعد انهضامه وولد دما غليظا للعصبية التي فيه بالطبع. وإذا تولد فيه اللبن استفاد من
رطوبة اللبن وحلاوته لذاذة يتبينها آكله في طعمه، واكتسب اعتدالا في مزاجه وسرعة في انهضامه وجودة
في غذائه، وبخاصة متى كان من حيوان أصح جسما وأخصب لحما، لان ما كان منه من حيوان كذلك،
كان أعذب طعما وأكثر غذاء وأفضل جوهرا.
والمختار من صفته واستعماله أن يسلق بماء وملح وقضبان شبت وصعتر وفوذنج ونعنع ثم ينشف
ماؤه بمنديل ويطلى بزيت وبن يسير ويشوى ويؤكل بالملح والصعتر والفوذنج والأفاويه لينحدر عن المعدة
بسرعة.
وأما الخصي فإنها أعسر انهضاما من الضرع وبخاصة جلده لأنه أكثر عصبانية، وفيه مع ذلك



(1) الأعبل: الضخم.
(2) (التفتت) مكررة في الأصل.
540
زهومة بها صار الدم المتولد عنه غليظا مذموما. وأحمده ما كان من حيوان أصغر سنا وأخصب لحما،
لان ما كان من حيوان كذلك، كان أقل لزهومته، وإن كان ليست الخصي من كل حيوان أفضل منه من
الديوك، وبخاصة ما كان منها صغيرا حين يبتدئ في الصياح. ويدل على فضل خصى الديوك على غيره
من الحيوان، لذاذة طعمه وقلة رطوبته وسرعة انهضامه. وذلك دليل على جودة الدم المتولد عنه.
والسبب في ذلك اعتدال حرارة حيوانه وقلة رطوبته ولزوجته وكثرة برده، لان كثرة الحركة الطبيعية مما
يلطف فضول الخصي وينقيها عنه بسرعة، لا سيما إذا كان من ديوك سمينة قد ابتدأت في الصياح.
فأما خصى الثيران والكباش والتيوس فشديدة الزهومة، كريهة الرائحة، بعيدة الانهضام مذمومة
الجوهر. فإذا انهضمت، كان غذاؤها كثيرا لأنه غير محمود لفساد جوهره. فإن اعترض علينا (1) في خصى
الديوك بخصي العصافير وقال: فإذا كانت (2) خصى الديوك إنما فضلت لقلة رطوبة الديوك بالطبع وكثرة
بردها، فلم لا كانت (2) خصى العصافير أفضل لأنها أقل رطوبة وأكثر بردا، قلنا له: عارضت بمحال من
قبل أن الديوك أعدل الطير مزاجا، والعصافير أحر الطير بعد الجراد مزاجا وأمرها نفسا. فإذا كان بردها
زادها ذلك (3) حرارة وجفافا وخرجت عن الاعتدال وفارقت طباع الانسان وصار غذاؤها مذموما إلا على
سبيل الدواء لمن أفرط على مزاجه البرودة والرطوبة.
فأما اختلاف أعضاء الحيوان من قبل مواضعها فيكون على ضروب: لان من أعضائها ما هو
قريب من سطح البدن مجاور (4) للعظام مثل لحم القلب والرقبة والأضلاع والأكتاف وما شاكل
ذلك. ومنها ما هو بعيد من سطح البدن معرى من العظام مثل البطن وما يحوي من الأحشاء. ومنها ما
هو قريب من الدماغ مجاور لينبوع الحياة ومعدن الحرارة الغريزية مثل الأعضاء المتوسطة بين القلب
وبين الرأس. ومنها ما هو قريب من العجز بعيد من ينبوع الحرارة الغريزية مثل الذنب والأفخاذ
والأكارع. ومنها ما هو في الجانب الأيسر قريب من الطحال بعيد من ينبوع القوى الطبيعية. ومنها
المتوسط بين هاتين المرتبتين مثل الأعضاء المتوسطة بين الكبد والأفخاذ.
فما كان من الأعضاء قريبا من سطح البدن مجاورا للعظام، كان أرخى لحما وأقل شحما وألذ
طعما وأسرع انهضاما وأحمد غذاء، وذلك لجهتين: إحداهما: ما يتحلل من فضولها ويخرج من مسام
البدن بالبخار والعرق، ولقربها منها. والثانية: أن العظام المجاورة لها ترض لحمها وترخي جسمها
وتفيدها لذاذة وسرعة انهضام. وما كان من الأعضاء بعيدا من سطح البدن معرى من العظام، كان أغلظ
لحما وأكثر شحما وأعسر انهضاما وأقل لذاذة وأذم غذاء وأخص بالفضول، وذلك لجهتين: إحداهما:
قربها من مغيض الأثفال والرطوبات وبعدها من المسام الظاهرة التي من شأنها أن تتحلل منها فضلة
الانهضام الثالث الكائن في الأعضاء. والثانية: بعدها من العظام التي من شأنها أن ترض اللحم



(1) صوابه: فإن اعترض علينا معترض، وقد تكون من سهو الناسخ.
(2) في الأصل: كان.
(3) كذا في الأصل، لا جواب للشرط.
(4) في الأصل: مجاورا.
541
وترخي الشحم وتفيده لذاذة وسرعة انهضام. ولذلك صار الكرش والأمعاء وما يليها أغلظ جسما وأردأ
غذاء لاحتقان الفضول في باطنها بالطبع، لأنها مغيض الأثفال ومستقرها.
وما كان من الأعضاء متوسطا بين القلب والدماغ مجاورا لينبوع الحياة ومعدن الحرارة الغريزية،
كان ألذ طعما وأسرع انهضاما وأحمد غذاء، وذلك لجهتين: إحداهما: أنها تغتذي بدم قد انهضم من
الكبد بدءا وفى القلب ثانية على ما بينا وأوضحنا في المقالة الأولى من كتابنا هذا. والجهة الثانية: أن
الحرارة الغريزية لمجاورتها لها تلطف فضولها دائما وتهضمها وتنقيها. وما كان من الأعضاء قريبا من
العجز بعيدا من ينبوع الحرارة الغريزية، كان أغلظ طبعا وأبعد انهضاما وأقل لذاذة وأذم غذاء، وذلك
لجهتين: إحداهما: بعده من معدن الحرارة الغريزية وينبوع الحياة. والثانية: أنها تغذى بدم لم يصل
إلى القلب ولم ينهضم فيه ثانية.
وما كان من الأعضاء متوسطا بين هاتين المرتبتين، كان أجدى من كل واحدة من الحاشيتين
بقسمة قياسية، وصار بذلك ألطف مما قرب من عجز البدن وأسرع انهضاما وأحمد غذاء وأغلظ مما
توسط بين القلب والرأس وأبعد انهضاما وأذم غذاء، من قبل أنه وإن كان بالقرب من ينبوع الحرارة
الغريزية ومعدنها، فإن الدم الذي يغتذي به لم يصل إلى القلب ولم تهضمه الحرارة الغريزية ثانية. وما
كان من الأعضاء في الجانب الأيمن، كان أفضل مما كان في الجانب الأيسر، من قبل أن ما كان في
الجانب الأيمن فهو مجاور للكبد، وما جاور الكبد كان أكثر اتساعا في الدم المحمود، وذلك أن الكبد
ينبوع القوى الطبيعية ومغيضها ومعدنها وفعل القوى فيما قرب من ينبوعها ومعدنها أقوى من فعلها فيما
بعد من ذلك ونأى.
وأما اختلاف غذاء (1) الحيوان من قبل حركتها وسكونها فيكون على ضروب: من قبل أن ما كان من
الأعضاء أكثر حركة كانت رطوبته أقل وفضوله أيسر ولحمه أرخى وانهضامه أسرع، لان الحركة ترض
الأعضاء وتحميها وتلطف الفضول وتفني أكثرها، وأكثر الأعضاء حركة العضل. ولذلك صارت أقل
فضولا وأسرع انهضاما وألذ طعما وأحمد غذاء. وما كان من الأعضاء أقل حركة، كان بعكس ذلك
وضده، لان السكون يحصر الرطوبات في باطن الأعضاء ويجمع الفضول فيها ويمنع من تحليلها.
ويستدل على ذلك من الشاهد، لأنا نجد الخيل وغيرها من الحيوان إذا تحركت وركضت، حميت
أبدانها وذابت فضولها ورطوبتها وتحللت وخرجت بالبخار والعرق. وإذا سكنت وامتنعت من الحركة،
انحصرت الرطوبات في باطنها ولم تظهر.
وإذ أتينا على ما أردنا إيضاحه من اختلاف أعضاء الحيوان على الجملة بالقول المطلق، فنحن
أحفى بأن نجود الكلام في كل واحد منها على الانفراد، ونأتي بخاصته التي هي له دون غيره لان ذلك
أظهر للحس وأقرب من أذهان المتعلمين. ولا حول ولا قوة إلا بالله.



(1) يقصد غذاء أعضاء الحيوان.
542
القول في أطراف الحيوان
أعني الأكارع والشفاه والاذان
أما أطراف الحيوان <ف‍> قليلة الشحم واللحم، بعيدة الانهضام بالطبع، لأنها من جوهر
العصب والجلد. ولكن لما كانت حركتها دائمة غير منقطعة، صارت أرخى لحما وأسرع انهضاما
بالعرض، لأنها لدوام حركتها وتواترها، صارت أسرع انهضاما مما شاكلها من الأعضاء العصبية القليلة
الحركة. ولما كان شأن جوهر العصب، إذا انهضم، أن يصير لزجا لازوقا مزلقا، كانت الأطراف أيضا،
إذا انهضمت، صارت لزجة لزوقة مزلقة للمعدة سريعة الانحدار عنها وعن الأمعاء. ولذلك أيضا صار لا
يصل إلى البدن من غذائها إلا اليسير، لان غذاءها لا يلبث في المعاء الدقاق حتى تحصل حاجتها.
ولهذا السبب نسبت إلى قلة الغذاء، إلا أن الغذاء المتولد عنها، وأن كان يسيرا لزجا، فإنه ليس بالغليظ
ولا بالكثيف. ويستدل على ذلك من الشاهد، لأنا نجدها خارجا إذا طبخت، انتفخت انتفاخا كثيرا
وربت واتسعت طولا وعرضا. وفى هذا دليل واضح على خفتها ولطافة جوهرها، وإن كان غذاؤها
يسيرا.
ومن منافع الأكارع على سبيل الدواء: أنها ملينة لخشونة الصدر والرئة، نافعة من السعال الجاف
العارض من اليبوسة ومن القروح والسحوج العارضة في المثانة. وإذا أكلها من كان به إسهال من سحج
في المعاء، غرت السحج بلزوجتها وغرويتها وصارت سببا لحبس البطن بالعرض لا بالطبع، لان من
طبعها الازلاق والانحدار بسرعة. وأفضل أطراف الحيوان وأسرعها انهضاما الأكارع لدوام تعبها وتواتر
حركتها. واليدان (1) من الأكارع أفضل من الرجلين لان تعبها أكثر، وحركتها أدوم، ولحمها أكثر، وهي
من ينبوع الحرارة الغريزية أقرب. وباطن الأكارع أفضل من ظاهرها، لان حركتها فيما يلي الباطن أقوى
وأعنف كثيرا.



(1) في الأصل: واليدين.
543
وبعد الأكارع في الفضل من أطراف الحيوان الشفاه، وإن كانت أغلظ من الخراطيم بالطبع
لفضل لزوجتها، إلا أنها أفضل غذاء لرخاوة لحمها المكتسبة من دوام الحركة وكثرة تعبها. وأما الآذان
<ف‍> قليلة اللحم جدا، بطيئة الانهضام، ولأنها مركبة من غضاريف وجلود فقط. والغضاريف فمن
شأنها إذا كانت من حيوان رضيع واستقصي نضجها بالصفة خارجا، وجاد هضمها في المعدة باطنا، وإن
كان بعيد ما ينهضم، فإن غذاءها، بعد انهضامها، يسير جدا لأنها معراة من اللحم. وكذلك الحكم في
الجلود أيضا لكثافتها وصلابتها وقلة رطوبتها بالطبع. ومن قبل ذلك صار الأفضل ألا تؤكل الآذان إلا
بأصولها، وإلا لم تكد تنهضم ولم يكن فيها غذاء.
فقد بان ووضح أن الأكارع أفضل أطراف الحيوان وأكثرها غذاء، وبعدها الشفاه. وبعد الشفاه
الآذان. وأفضل ما تتخذ به الأكارع كشك الشعير، لان الشعير يفيدها رخاوة ويصيرها رخصة، وهي تفيد
الشعير ليانة وجودة وحسن غذاء.

544
القول في الدماغ المعروف ومخ الفقار
المعروف بالنخاع ومخ العظام والشحم والسمين
أما الدماغ فقد كنا بينا في المقالة الأولى من كتابنا هذا اختلاف أقاويل الناس ودعوى من ادعى
أنه بارد رطب، وما أقام الفيلسوف (1) عليه في كتابه المعروف بكتاب الحيوان من البراهين الواضحة على
أنه حار بالطبع وبارد بالعرض. ونحن أغنياء عن تكرير الكلام في هذا الموضع وإعادة القول فيه إذ
غرضنا في هذه المقالة والمقالة التي قبلها الاختصار والايجاز المطابق للقول الخبري. فأقول: إن الدماغ
وإن كان قد ثبت من قول الفيلسوف بالبراهين الواضحة أنه حار بالطبع، وأن برودته التي هي فيه بالعرض
قد أفادته من الرطوبة ما صار بذلك لزجا زهيما مغثيا ملطخا للمعدة، مفسدا لشهوة الطعام، بعيدا (1) من
الانهضام والانحدار سريع (3) الاستحالة إلى الفساد وبخاصة إذا أخذ في آخر الطعام أو بعد الطعام،
يطفو ويعوم ويهيج القئ والغثي. ولذلك قال جالينوس: وإذا أردت أن تهيج القئ فأطعم الدماغ في
آخر الطعام مع زيت كثير. ولهذه الجهة وجب أن لا يقربه أحد في آخر الطعام ولا بعد الطعام وبخاصة
متى كان في معدة المستعمل له رطوبة زائدة، أو كانت شهوته مقصرة، لأنه من أوكد الأسباب على فساد
شهوة من هذه حاله وأبطأ لها لفضل لزوجته وزهومته، إلا أنه متى استعمله من كانت شهوته قوية ومعدته
خالية من الطعام بعيدة من الفساد وجاد هضمه فيها وحسن استمراؤه في الكبد، غذى غذاء كثيرا، إلا أنه
لين زهم خامي. ومما يدفع ضرره أن يؤكل مشويا مطيبا بالخل والملح والصعتر والفوذنج الجبلي والنعنع
اليابس والزنجبيل والفلفل والدار صيني ويشرب بعده نبيذ صرف أو مصرف. وإن كان الخل خل
عنصلان كان أفضل وأغنى عن كثير من الأبازير وربما جعل بدل الملح مري.
* * *



(1) يعني أرسطو.
(2) في الأصل: بعيد.
(3) في الأصل: سريعة.
545
في مخ فقار الظهر المعروف بالنخاع
أما النخاع فإنه إذا قيس بمخ العظام كان باردا رطبا لأنه من جنس الدماغ وهو متصل به، إلا أنه
أصلب من الدماغ وأيبس وأقل دسما وبخاصة ما بعد منه من الدماغ، كان أقل لرطوبته ودسمه، وأزيد
لصلابته ويدل على ذلك قلة تولده للغثي والقئ. ومن قبل ذلك صار الغذاء المتولد عنه أغلظ من الغذاء
المتولد من الدماغ وأكثر لأنه إذا استحكم هضمه، لم يكن غذاؤه باليسير. وأما مخ العظام فإنه أدسم من
الدماغ كثيرا وأعذب وأكثر لذاذة وأنعم، إلا أنه ملطخ للمعدة مفسد للشهوة ملين للطبيعة بفضل لزوجته
ودهنيته. وإذا انهضم، ولد غذاء كثيرا، وإن كان الاكثار منه مغثيا.
ومن منافعه على سبيل الدواء: أنه يحلل الأورام الجاسئة، ويلين الجلود الخشنة. وأجودها لمثل
ذلك مخ الأيل وبعده مخاخ العجول. فأما مخاخ الثيران والكباش فإنها أشد حرافة. ومخاخ الأطراف
أكثر تليينا من غيرها لرطوبتها وقربها من السمين وذلك لكثرة حركة الأطراف.
* * *
في السمين والشحم
أعني بالسمين الشحم البين المخالط للحم والعظام، مثل شحم الأضلاع والأجناب وما شاكل
مما أحلته التوراة لبني إسرائيل. وأعني بالشحم الجامد الغليظ المبرأ من اللحم والعظم المحرم على
بني إسرائيل في التوراة مثل شحم الثرب (1) وشحم الكلى. والفرق بينهما أن السمين أرطب وأسرع
ذوبانا وانحلالا وأبعد جمودا وانعقادا. ولذلك شبهه الأوائل بالزيت المتقادم الذي قد نشف الهواء أكثر
رطوبته وغلظ قوامه. وأما الشحم فأقل رطوبة وأكثر جفافا وأغلظ من السمين كثيرا. ولذلك صار لا يذوب
بسرعة وإذا ذوب وبرد لم يلبث إلا يسيرا حتى يجمد ويرجع إلى حالته التي كان عليها. وإذا أكل
أحدهما، لين آلات الغذاء وأرخاها وبخاصة المعدة لأنه يلين خملها ويذهب بخاصتها وقوتها على (2)
طحن الطعام. وإذا أكل أحدهما مع الطعام، طفا عليه وأفاده لزوجة وغلظا (3) وأفسده ومنع من هضمه
وأشبع بسرعة، لا سيما إذا كان ما أخذه معه من الطعام حلوا لان الحلاوة زائدة في فساده لسرعة غليانها
وقبولها للفساد.
ولروفس في هذا قول قال فيه: إن ما كان من الأعضاء السمين عليه أغلب وفيه أكثر، لم يقبل
البدن من غذائه حسب ما يشبع، وان كان الشحم أخص بذلك من السمين كثيرا، لان لزوجته أغلظ



(1) أصل ذراع الشاة وغيرها.
(2) في الأصل: عن.
(3) في الأصل: وغلظ.
546
وانحلاله أبعد وانهضامه أعسر، وانتقاله إلى الفساد أقرب. ولذلك وجب أن لا يستعمل منه إلا السمين
ليطيب ما كان من اللحم هزيلا قليل الدسم واللذاذة. ولا يستعمل منه إلا السمين للتغذية أصلا، لان
غذاءه مذموم مولد للسدد والفضول البلغمانية، وان كان بين البلغم والمتولد عن السمين والبلغم المتولد
عن الشحم فرق كبير لان المتولد عن السمين أرق وألطف وأسرع انحلالا وأسهل على الطباع، والمتولد
عن الشحم أغلظ وأسهل انحلالا وأثقل على الطباع.
ومن منافعهما (1) على سبيل الدواء: في إسخان الأبدان وترطيبها وتليينها، إلا أن فعلهما (1)
يختلف في القوة والضعف، في الكثرة والقلة على حسب مزاج الحيوان الذي هما منه في حرارته
ورطوبته. أو برودته ويبوسته، لان ما كان منهما (1) من حيوان أسخن مزاجا كان أكثر إسخانا، وما كان من
حيوان أبرد مزاجا كان أقل إسخانا، وما كان منهما من حيوان أرطب مزاجا كان أكثر تليينا، وما كان من
حيوان أيبس مزاجا كان أقل تليينا.
يقاس الشحم أيضا من قبل يبس الحيوان الذي هو منه، لان ما كان منه أصغر سنا أو حيوان
هو بعد في النشوء، كان أقل إسخانا وأبعد للترطيب وأقرب من طبيعة السمين. وما كان منه من حيوان
هرم من كل حيوان (2)، لان البرودة والجفاف والقحل أغلب على مزاج الهرم من كل حيوان بإضافته إلى
غيره من الانسان مما هو داخل في جنسه. وكذلك يجب أن يقاس أيضا من قبل جنس الحيوان الذي هو
منه، لان ما كان منه من حيوان ذكر كان أسخن وأقل تليينا وأكثر تحليلا. وما كان من حيوان قد أخصي،
كان متوسطا وأحد من الحاشيتين بقسطه على ما بينا وأوضحنا مرارا. وما كان منه من حيوان أنثى، كان
أقل إسخانا وأكثر ترطيبا وأبعد من التحليل. وقد يختلف فعل الشحم أيضا من قبل صنعته ومدة زمانه، لان
ما استعمل منه ساذجا بغير ملح، كان أعدل إسخانا وأكثر ترطيبا. وما استعمل منه بعد أن يملح، كان
أكثر إسخانا وأقل ترطيبا أقرب من التجفيف. وما كان من الشحم طريا قريب العهد بالخروج من
الحيوان، كان أعدل إسخانا وأكثر ترطيبا، لان حرارة الهواء ينشف أكثر رطوبته ويفيده حرارة وجفافا.



(1) في الأصل، بالمفرد.
(2) عبارة (وأقرب من طبيعة.. من كل حيوان) مضافة في الهامش مع إشارة إلى مكانها بعد لفظة للترطيب. وبقيت هذه العبارة
مضطربة ولعلها: (وما كان منه من حيوان هرم كان أكثر إسمانا وأبعد من طبيعة السمين من كل حيوان).
547
القول في العين
أما العين فمركبة من جواهر مختلفة غير متشابهة لان منها عضل وسمين وأغشية بينها رطوبات
شتى. فهي بما فيها من السمين تنسب إلى الحرارة والرطوبة. وبما فيها من العضل والأغشية تنسب إلى
البرودة واليبوسة. ولذلك صارت (1) متى كانت من حيوان أسمن، كانت إلى المرارة أميل لكثرة الجزء
السمين فيها. ومتى كانت من حيوان أهزل، كانت إلى البرودة أميل لقلة الجزء السمين فيها. والذي يؤكل
من العين ما فيها من العضل والسمين. والعضل وإن كان أسرع استمراء من جميع ما يؤكل من الحيوان
وأجود غذاء، فإن في السمين الذي معه ثقل وبعد انهضام لغلظه ولزوجته. ولذلك صار في غذاء العين
ثقل وبعد انهضام لغلظه ورداءة للمعدة. ولهذه الجهة صار الأفضل أن تتخذ بالخل والمري والصعتر
والفوذنج والكرفس والدار فلفل والزنجبيل.
* * *
القول في الانف
الانف بارد يابس لأنه غضروف. ولذلك صار عسر الانهضام يسير الغذاء. وأفضل ما يؤكل بالخل
الثقيف والخردل والمري والكراويا والفلفل والزنجبيل.
القول في اللسان
اللسان وإن كان قريبا من العضل، فإن جوهره متوسط بين جوهر العضل وجوهر اللحم الرخو.
ولذلك صار أرخى جسما وأقل دما وأكثر رطوبة من العضل. ولهذه الجهة صار إذا أكل وحده، كان



(1) (صارت) مستدركة في الهامش.
548
الغذاء المتولد عنه متوسطا بين الغذاء المتولد عن اللحم الرخو (1) وإذا أكل مع العضل المتصل به، كان
غذاؤه أحمد وأسرع انهضاما. وإذا أكل مع اللحم الرخو المولد اللعاب في الفم، واللحم الرخو الذي
في النغانغ والحنجرة كان غذاؤه أغلظ وأبعد انهضاما لرخاوة لحم النغانغ وغلظه وبعد انهضامه. وأفضل
ما يؤكل بالخل والملح والصعتر والدار فلفل والفودنج. وإن يصير بذلك الملح أقوى، لم يكن بذلك
بأس.
وأما الحنجرة فباردة يابسة للغضروفية التي فيها. ولذلك صار غذاؤها يسيرا (2) بعيد الانهضام.
وأفضل ما تؤكل بالأفاويه الحارة.
في القلب
جوهر القلب جوهر صلب عضلي عسر الانهضام، بطئ الانحدار، إلا أنه إذا استحكم هضمه،
نال البدن منه غذاء كثيرا ليس بالردئ.
في الرئة
الرئة سريعة الانهضام والانحدار حسب سخافة جسمها ورخاوتها. ولذلك صار غذاؤها أقل من
غذاء سائر الأعضاء وأميل إلى البلغم.
* * *



(1) كذا في الأصل.
(2) في الأصل: يسير.
549
القول في الكبد
الكبد من كل حيوان أغلظ وأعسر انهضاما، إلا أن الدم المتولد منه ليس بالردئ. والغذاء
المتولد عنه أكثر من غذاء اللحم المعرى من الشحم، إلا أنه دونه في الجودة. وأفضل الأكباد في اللذاذة
وسائر الحالات المحمودة أكباد الحيوانات المسمنة بالتين اليابس، وبخاصة إذا كان من حيوان رضيع أو
من حيوان هو بعد في النشوء. وأكباد الدجاج أفضل وأحمد وأكثر توليدا للدم المحمود، ولا سيما إذا
كان يعتلف منها الدقيق المعجون باللبن الحليب والتين المدقوق. وزعم ديسقوريدس عن كبود التيوس
أنها إذا أكلت مشوية، أظهرت الصرع فيمن كان به صرع.
* * *

550
القول في الطحال
وأما الطحال فغير محمود الغذاء، لان الدم المتولد عنه فاسد سوداوي، وهو مع ذلك عسر
الانهضام، بطئ الانحدار، إلا أن فيه يسير من قبض لغلبة السوداء على مزاجه. ولذلك صار إذا أكل
مشويا، قوى اللثة وشدها.
* * *
القول في الكلى
أما الكلى فمذومة غير محمودة، وذلك لجهتين: إحداهما: فساد جوهرها لما فيها من بقايا
كيفية البول وحدته وحرافته وفساد جوهره. والثانية: غلظ جرمها وكثافته وصلابته وعسر انهضامه وبعد
انحداره. ولذلك صار الدم المتولد عنها غليظا مذموما.
* * *

551
القول في اللبن
قد كنا بينا في المقالة الأولى من كتابنا هذا أن اللبن في طبيعته ومزاجه منحرف عن المزاج
المعتدل إلى الحرارة والرطوبة قليلا، كأن حرارته ورطوبته في الدرجة الأولى. ولذلك صار أقل رطوبة
من السمك، وأبعد من تولد البلغم لأنه قريب من طبيعة الدم، إذ ليس هو شئ غير دم قد انطبخ في
الضرع طبخا ثانيا واستفاد من جوهره الضرع بياضا. وتدل على ذلك عذوبته وحلاوته ولذاذته. فإن
عارضنا معترض وقال: إذا كان اللبن عندك إنما صار حارا رطبا لأنه دم قد انطبخ ثانيا، فلم لا أوجب
مثل ذلك أيضا للأعصاب والعظام وسائر، الأعضاء المنسوبة إلى البرودة، وقلت أنها حارة رطبة، لان
مادتها (1) وغذاءها المقوم لذاتها ليس هو شئ غير دم قد انطبخ فيها طبخا ويشكل لها.
قلنا: إن المعارضة غير لازمة من قبل أن الدم وإن نسب في طبيعته ومزاجه إلى الحرارة
والرطوبة، فإنه عين من الأعيان، وسائر الكيفيات كلها موجودة فيه، وإن نسب إلى الأغلب عليه منها مثل
الانسان الشاب المنسوب إلى المرة الصفراء، وإن كانت سائر الأخلاطات موجودة فيه. وكذلك الصبي
المنسوب إلى الدم، والشيخ إلى البلغم. وأعضاء البدن فأعيان قائمة بأنفسها بطبائع مختلفة ومزاجات
متغيرة يقبل كل واحد منها من الدم ما يشاكل طبيعته وذاته مثل الطحال القابل لعكر الدم وغلظه، وأقربه
من المرة الصفراء واللبن فليس ذلك لأنه ليس هو عين قائمة بنفسها خارجة عن الدم يقبل منه ما شاكل
طبيعتها ومزاجها، بل هو الدم نفسه انطبخ في الضرع طبخا ثانيا واستفاد من جوهرية الضرع بياضا.
فحكمه حكم الدم لان الطباع أعدته لتغذية الحيوان كما أعدت الدم لمثل ذلك، إلا أنه يختلف في
جوهريته وغذائه ولطافته وسرعة انهضامه وإبطائه لوجوه أربعة: أحدها: اختلاف مزاج الحيوان الذي هو
منه. والثاني: لما يلحقه من الاختلاف في فصول السنة لتغير الهواء وانقلابه في كل زمان منها.
والثالث: كيفية المرعى الذي يرتعيه. والرابع: من كمية مدة اللبن في قصرها وطولها وقرب خروج اللبن
من الضرع وبعده منه.



(1) (مادتها) مستدركة في الهامش.
552
فأما اختلاف اللبن لاختلاف كيفيته في ذاته فيكون على ثلاثة ضروب: لان منه اللطيف جدا،
ومنه الغليظ جدا، ومنه المتوسط بين هاتين المرتبتين، وإن كان قد يتوسط بين كل واحدة من الحاشيتين
وبين الواسطة وسائط أخر. والسبب في غلظه ولطافته أن كل لبن فمركب من جواهر ثلاثة: جوهر رقيق
مائي فيه يسير من لطافة النارية وحدتها، وجوهر غليظ جبني الغالب عليه الأرضية، وجوهر دسم لطيف
الغالب عليه الهوائية (1). فلما فيه من الحرارة اللطيفة والحدة اليسيرة، صار له قوة على تلطيف الأثفال
وترقيق الأخلاط وتنقية الأوساخ. ولذلك صار معينا على إطلاق البطن وتفتيح سدد الكبد. وأما الجوهر
الجبني، فلأرضيته وغلظه صار مائلا إلى البرودة واليبوسة قليلا، إلا أنه طري فهو إلى الرطوبة (2) أميل
للمائية التي فيه بعد باقية من مائية اللبن. فإذا جف وزالت عنه رطوبة اللبن، رجع إلى طبيعته وذاته
وصار جافا يابسا. ولذلك صار جوهره غليظا وانحداره رطبا وحبسه للبطن قويا. ولهذه الجهة صار مولدا
للأخلاط الغليظة اللزجة الموجبة لتولد سدد الكبد والطحال وحجارة الكلى. وأما الجوهر اليسير فللطافة
هوائيته صار حارا (3) رطبا ملينا باعتدال، مشاكلا لمزاج البدن من الانسان في حرارته ورطوبته جميعا
<و> ولمزاج الرئة في حرارته فقط لا في يبسه، لان <مزاج> الرئة في طبيعته يابس مجفف، والسمن
ملين مرخ.
وإذا كان كذلك، كان من البين أن ألطف الألبان وأرقها قواما وأسرعها انحدارا، وأطلقها للبطن
ما كثرت مائيته وقلت جبنيته مثل لبن النوق. وأغلظ الألبان وأعسرها انحدارا وأبعدها من إطلاق البطن ما
كثرت جبنيته وقلت مائيته مثل لبن الجواميس، وبعده لبن البقر. وأعدل الألبان وأحسنها استمراء مثل لبن
النساء، وبعده لبن الماعز. وقد يتوسط بين لبن الماعز وبين <لبن> البقر مرتبة أخرى مثل لبن الضأن،
لأنه أغلظ من لبن الماعز وأكثر جبنية وأرق من لبن البقر وأكثر مائية. ويستدل على كثرة جبنية لبن الضأن
وزيادتها جبنية على لبن البقر من زهومة لبن الضأن وزفورته وذكاء رائحة لبن البقر وقلة زفورته.
فإن قال قائل: وما السبب الذي صار لبن الضأن ألطف من لبن البقر وأرق، وهو أكثر جبنية.
ولبن البقر أكثر سمنية. والسمنية ألطف من الجبنية كثيرا، قلنا له: من قبل أن مائية اللبن من الضأن أكثر
وحرارته أقوى لغلبة الحرارة والرطوبة على مزاج حيوانه بالطبع، ومائية لبن البقر وحرارته أضعف لغلبة
البرد واليبوسة على حيوانه بالطبع. ولذلك قد يتوسط بين مرتبة لبن الماعز وبين مرتبة <لبن> اللقاح
مرتبة أخرى مثل مرتبة لبن الخيل والأتن، لأنها أكثر مائية من لبن اللقاح، وأكثر في ذلك من لبن الماعز،
إلا أن <لبن> الخيل أقرب من لبن اللقاح، لأنه أكثر مائية، ولبن الأتن أقرب من لبن الماعز لأنه أقل
مائية. ولذلك صار لبن الخيل لا يتجبن في المعدة أصلا لقربه من لبن اللقاح. وأما لبن الأتن فربما



(1) لعل الانقطاع هنا هو: (فأما الجوهر الرقيق المائي).
(2) في المتن: (البرودة) ملغاة بشطبة وفوقها (الرطوبة).
(3) في الأصل: صار.
553
تجبن لقربه من لبن الماعز، إلا أن يؤخذ وهو حار كما يخرج من الضرع. فإن ألقي فيه عسل وشئ من
ملح لم يتجبن، وصار عونا على إطلاق البطن. وأما لبن الماعز فليس يؤمن عليه أن يتجبن ويحدث ثقلا
واختناقا إلا أن يخلط معه عسل وشئ من ملح.
ولجالينوس في مثل هذا قول قال فيه: رأيت كثيرا ممن يشرب لبن الماعز وحده ساذجا بغير
عسل ولا ملح فيتجبن في معدهم، وعرض لهم من ذلك ثقل واختناق. أراد ثقلا في معدهم واختناقا في
حلوقهم. وذكر هذا القول قول قاله أيضا: وما أعجب ما يصيب من يتجبن لبن الماعز في معدته عن
الثقل والاختناق. واما لبن البقر وبعده الضأن، فكثيرا ما يتجبن في المعدة لغلظه وكثرة جبنيته، فقد بان
مما قدمنا إيضاحه أن كل لبن مائيته أكثر وجبنيته أقل مثل لبن اللقاح وبعده لبن الخيل وبعدهما لبن الأتن
فهو أكثر الألبان أمنا وأقلها غائلة وأطلقها للبطن وأبعدها من تولد الفضول، من قبل أن الجوهر المائي لما فيه
من يسير الحدة ولطف الفعل، صار مخصوصا بتلطيف الفضول وترقيق الأثفال وإخراجها من البدن، ومن قبل
ذلك صار المتطببون يستعملون سقي ماء اللبن كثيرا لمن احتاج إلى نفض بدنه وتنقية معدنه من الفضول المزمنة
اللذاعة، ويحقنون به من احتاج إلى غسل معائه السفلي وتنقيتها من مثل ذلك أيضا.
وأما الجوهر السمني فللطافته ومشاكلته لطبيعة الهواء لخفته، صار عواما طافيا على ما يصحبه من
الطعام كما يعوم الزيت على الماء. ولذلك يغلظ الطعام بلزوجته ويمنع من سرعة انهضامه حتى إذا أخذ
الطعام في الطبخ وتوسط النضج، أزلقه بلزوجته وأحدره عن المعدة قبل كمال هضمه. ومن فعله على
سبيل الدواء أنه يرخي وينضج ويلين. ولذلك صار مخصوصا بتليين الأورام الجاسئة وتحليلها.
وأما الجوهر الجبني، فلمشاكلته لطبيعة الأرض في غلظها وجفافها، صار ثقيلا في المعدة، عسر
الانهضام، بطئ الانحدار، حابسا للبطن، مولدا للنفخ والفضول الغليظة الموجبة لسدد الكبد وجسأ
الطحال وحجارة الكلى، وبخاصة إذا وافى الكبد متهيئة لقبول ذلك مثل أن تكون عروق الكبد التي ينفذ
فيها الغذاء من باطن الكبد إلى خارجها، ضيقة بالطبع ومجاري الكلى أيضا كذلك، وبخاصة متى كانت
حرارة الكلى زائدة على القدر الطبيعي. فإن خالط الجوهر الجبني، مع مخالطة الجوهر السمني له، قوة
جافة ومكتسبة من الصنعة، صار دواء نافعا من قروح الصدر والرئة والمثانة. وتدل على مخالطة هذه
القوة الثانية العين، أنه متى أخذ حليب (1) وسوي بالحجارة المدورة المحماة حتى تفنى رطوبته المائية،
صار مجففا. وأفضل من الحجارة لمثل ذلك قطع الحديد الفولاذ المدورة التي لها مقابض منها، إذا
حميت وطفئت في اللبن مرارا، لان في الحديد قوة مجففة مقوية للأعضاء يفيدها اللبن إذا شوي به.
ولكن لما كان كل لبن يتخذ على هذا المثال سريع التجبن في المعدة لقلة رطوبته، وجب أن يحتال له
بما يفيده رطوبة ورقة ولطافة تمنعه من التجبن وهو أن يلقى عليه، بعد أن تفنى رطوبته بالطبخ والشي،



(1) في الأصل: حليبا.
554
ماء عذب فاتر (1) ليرق ويلطف ويبعد من التجبن. وليس من العجب أن تزول رطوبة اللبن الطبيعية
بالطبخ أو بالشئ ثم ترد عوضها ماء عذبا، إذ كان في إزالة رطوبة اللبن إزالة ما فيها من الحدة اليسيرة
التي بها يطلق البطن، ونحن أغنياء عن إطلاق البطن في قروح الصدر والرئة، لأنا لا نأمن حدة الفضل
المولد لهذه العلة إذا أطلقنا البطن أن ينقلها الفضل بحدته إلى الأمعاء فيحرقها ويهتكها.
وأما اختلاف اللبن بحسب اختلاف أزمان السنة وما يلحقه منها فيكون على ضروب: لأنه ينصرف
في كل فصل من الفصول على حسب طبيعة الفصل وجوهريته في اعتداله وانحرافه عن الاعتدال إلى
كيفية من الكيفيات ومزاج من الأمزجة. ولذلك صار لبن الربيع أفضل ألبان فصول السنة وأعدلها
وأحسنها جوهرا وغذاء، وذلك لجهتين: إحداهما: طبيعة الفصل في ذاته، لأنه أعدل فصول السنة
وأشدها تجفيفا بالاعتدال والتوسط والكيفيات الأربع. والأخرى: لطبيعة اللبن في ذاته، من قبل أن كل
لبن في وقت وضع الحيوان حمله، يكون أرق وأكثر مائية وأبعد من كمال النضج، ذلك لاجتماع
الرطوبات الفضلية في أبدان الحيوان وانحصارها فيها طول مدة الحمل. فإذا جاوز وضع الحيوان حمله
أربعين يوما، وتوسط زمان الربيع، فنيت تلك الرطوبات الفضلية من بدن الحيوان، وزالت الرطوبة
المذمومة من اللبن وبقيت فيه الرطوبة الجوهرية بكمالها واعتدل وصار ألطف وأحمد جوهرا، وأقل غائلة
وأبعد من الاستحالة والفساد، وصار حمله على المعدة أخف، وانهضامه أسرع وبخاصة إذا شرب على
نقاء من المعدة من الفضول وخلائها من الغذاء. فإذا تمادى باللبن الزمان وصار إلى الخريف، فنيت أكثر
الرطوبة الجوهرية وقلت مائيته وكثرت جبنيته وصار أغلظ وأبعد انحدارا وأثقل على المعدة وأكثر توليدا
للرياح وأسرع استحالة إلى الفساد.
وأما لبن الصيف فبين هاتين المرتبتين لتوسط مدة وضع الحيوان حمله في القرب منها والبعد
عنها. وأما لبن الشتاء فقل ما يكون للحيوان فيه لبن: فان تهيأ ذلك وأمكن، كان مذموما جدا لأنه قد
تناهى في الغلظ لفناء رطوبته الجوهرية كلها (2).
وأما اختلاف اللبن بحسب مرعى الحيوان الذي يرتعيه فيكون على ضروب: لان لبن ما كان من
الحيوان الذي يرتعي الحشيش الرطب الغض الاخضرار، أرق وألطف وأكثر مائية وأسرع انحدارا وأقل
رياحا من لبن ما كان من الحيوان الذي يرتعي الحشيش اليابس والحبوب الجافة. ولبن ما كان من
الحيوان الذي يرتعي أطراف الأشجار القابضة أكثر موافقة للمعدة وسائر البطن من لبن ما كان من
الحيوان <الذي> يرتعي النبات المسهل والحشيش المطلق. ولذلك صار لبن الماعز أكثر موافقة
للمعدة من غيره من الألبان، لان أكثر ما يرتعي الماعز أغصان الأشجار القابضة مثل شجر المصطكى
والبلوط والخرنوب والقرظ والبطم والزيتون وما شاكل ذلك، إلا أنه ربما ارتعى شجر السقمونيا والخربق



(1) في الأصل، بالنصب.
(2) في الأصل: كله.
555
واليتوع، فصار لبنه مذموما فاسدا رديئا للمعدة ومضرا بعصبها.
وقد حقق ذلك ديسقوريدس في قول قاله فيه، زعم أنه شاهد ماعزا يرعى ورق الخربق الأبيض
كان يعرض له منه أول ما يرتعيه القئ. ويعرض لشارب لبنه استرخاء في معدته وغثي شديد.
فأما اختلاف اللبن بحسب مدة زمانه وقصرها، وقربه من الخروج من الضرع وبعده من ذلك،
فيكون على ثلاثة ضروب: لان منه الحديث القريب العهد بالخروج من الضرع وهو الحلو المعروف
بالحليب. ومنه العتيق البعيد العهد بالخروج من الضرع وهو الحامض المعروف بالدوغ (1). ومنه
المتوسط بين ذلك وهو الرائب المعروف بالماست.
لان ذلك مما ينقي الفضول ويغسل اللثة. وأما إضراره بالرأس فلما يرتقي إليه من غذائه إذا
استحال في المعدة وفسد وغلظ فيها وتجبن. وأما إضراره بالمعدة فإنه إذا كثر فيها وبعد انهضامه،
استحال إما إلى الدخانية وجنس المرار فيمن كان مزاج معدته محرورا جافا، وإما إلى الحموضة وجنس
العفونة فيمن كان مزاج معدته باردا مرطوبا من قبل أن الحموضة إنما تتولد عن نقصان الحرارة، وزيادة
الرطوبة الدخانية تتولد عن قوة الحرارة، وقلة الرطوبة. ولذلك قال جالينوس: إن اللبن الحليب، وإن
كان أفضل الألبان وأحمدها، فقد يعرض من اختلاف حالاته في المعدة: إما أن يحمض فيها أحيانا أو
دائما أو يستحيل إلى الدخانية وجنس المرار أحيانا أو دائما. والسبب في كون ذلك أحيانا أو دائما أن
استحالته في المعدة لا تخلو من جهتين: إما لتغيير مزاج المعدة في ذاتها في الخلقة والبنية، وإما لما
يصادفه في تجويفها من فضول أو أغذية موجبة لفساده. فإن كان ذلك عن تغير مزاج المعدة في ذاتها من
البنية، كانت استحالة اللبن فيها دائما لدوام تغير مزاجها وثباته. وإن كان ذلك لما صادفه في تجويفها
من الفضول أو الأغذية الموجبة لفساده (2). وإنما أمكن في اللبن قبول هذين العرضين على تضاد ما فيه
من الجبنية والسمنية، لان الجبنية لبرودتها وغلظها وبعد انهضامها تستحيل كثيرا إلى الحموضة والعفونة،
وبخاصة متى وافت (3) في المعدة فضولا بلغمانية وأغذية رطبة قابلة للعفونة. وأما السمنية، فللطافتها
وقربها من طبيعة الهواء بالكيفيتين جميعا، أعني الحرارة والرطوبة، ومن طبيعة النار بالكيفية الفاعلة،
أعني الحرارة، أمكن استحالتها إلى الدخانية وجنس المرار وبخاصة فيمن وافت (2) في معدته فضولا مرية
أو أغذية حارة قابلة للاحتراق.
ولذلك وجب أن لا يستعمل اللبن إلا على نقاء المعدة من الفضول وخلائها من الغذاء بعد أن
يكون اللبن أيضا من حيوان صحيح حسن المزاج معتدل الشحم، لان اللبن إذا كان من حيوان هزيل أو



(1) هو المخيض.
(2) كذا في الأصل. وفي الكلام انقطاع، ولعله: (كانت استحالة اللبن فيها أحيانا لعدم مصادفتها لها دائما).
(3) في الأصل: وافى.
556
حيوان فاسد المزاج سقيم البدن، كان مذموما جدا، كما أن دمه مذموم أيضا. ومتى كان من حيوان
صحيح المزاج حسن اللحم متوسط (1) الشحم، كان محمودا كثير الغذاء، مولدا (2) للدم المحمود،
ملينا (3) للطبيعة، نافعا (3) من علل الصدر والرئة والكلى والمثانة وبخاصة متى نزعت عنه مائيته، بالطبخ
أو بالشئ، وألقي فيه عوضا من مائيته ماء حار عذب. وإن كان الادمان عليه نافعا للمعدة والبطن
وبخاصة المعدة التي يسرع إليها التنفخ لفضل رطوبتها ونقصان حرارتها لان اللبن في معد كثير من
الناس ينحل ويولد رياحا ونفخا، والقليل من الناس لا يعرض لهم ذلك. وليس يكاد يسلم من ذلك إلا
من كانت حرارته الغريزية أقوى بالطبع ورطوبته أقل. فإن خلط مع اللبن الحليب بعض الأغذية
المحمودة الغذاء مما فيه بعض الغلظ وبعض الانهضام قليلا مثل الأرز والجاوشير والنشاستج والسميذ
ودقيق الحنطة وطبخ طبخا بليغا حتى ينضج ما معه من الغذاء غاية النضج، زالت عنه رياحه ونفخه. غير
أن الحرارة تكون أبعد والغذاء المتولد عنه أكثر معونة على تولد سدد الكبد وجسأ الطحال وحجارة
الكلى. وكذلك اللبن المتخذ بالعسل والسكر فإنه، وإن كان موافقا لعلل (4) الصدر والرئة، فإنه (5) زائد
في سدد الكبد وجسأ الطحال ومقو (6) لجميع العلل التي تحتاج إلى التدبير الملطف.
وما كان من اللبن رقيقا كثير المائية، مثل لبن اللقاح ولبن الخيل والأتن، فإنه خاصة دون سائر
الألبان برئ من تولد الدم الغليظ. ولذلك صار غير مضر لمن احتاج إلى التدبير الملطف. وإذا طبخ
اللبن وحده حتى تذهب مائيته ويصير إلى النصف، غذى غذاء كثيرا ولم يطلق البطن. وإن شوي
بالحجارة أو بالقطع الحديد الفولاد على ما بينا حتى تذهب مائيته ويصير إلى النصف مما لا يطلق البطن
معينا على حبسها. ومما يدفع ضرر اللبن ويذهب بغائلته <أن> لا يتناوله إلا من كانت حرارته الغريزية
أقوى بالطبع، ومزاج معدته مائلا إلى اليبوسة بعد ألا يستعمل أيضا إلا على نقاء المعدة من الفضول
وخلائها من الطعام، ويؤكل بالزيت والكرفس والسذاب والنعنع وورق الأترج واليسير من الشونيز.



(1) تحتها في الأصل: معتدل.
(2) في الأصل: مولد.
(3) في الأصل، بالرفع.
(4) في الأصل للعلل.
(5) كذا مكررة.
(6) في الأصل: مقويا.
557
القول في اللبن الحامض
المعروف بالدوغ
أما اللبن الحامض المعروف بالدوغ فبارد يابس بطئ الانهضام، بعيد الانحدار، ثقيل في
المعدة مولد للخلط المذموم المعروف بالخام، مضر بالأسنان واللثة الزائلة عن الاعتدال إلى البرودة إما
طبعا وإما عرضا. وكثيرا ما يولد الضرس (1) فيمن كانت هذه حاله. وأما متى كانت الأسنان واللثة باقية
بحال سلامة، فإنه غير مضر بها. ولجالينوس في مثل هذا قول قال فيه: إن اللبن إذا خرج من الضرع
فيحسب طول مدته وبعده بالخروج من الضرع، كذلك نقصان جودة غذائه وكثرة فساده. ولذلك صار من
الأفضل أن اللبن من الضرع من قبل أن يصل إليه الهواء فيغيره. وإذا نزعت (2) عن اللبن الحامض
سمنيته ومائيته، ازداد بردا وغلظا وبعد انقياده ولم ينتقل إلى الدخانية أصلا، ولو وافى (3) المعدة على
الغاية القصوى من الالتهاب والحرارة، لان القوة الحادة التي كانت في اللبن من مائيته وسمنيته قد زالت
عنه وبقيت جبنيته أيضا على طبيعتها الأولى التي كانت عليها، بل قد ازدادت برودة لانتقال لبنها إلى
الحموضة. ولذلك صار الخلط المتولد عن اللبن الذي هو كذلك باردا (4) غليظا (4)، بعيد الانهضام،
بطئ الانحدار، مولدا (4) للخام الموجب الفساد للكبد وجسأ الطحال وحجارة الكلى. فإن وافى هذا
النوع من اللبن مزاج المعدة باردا، إما طبعا وإما عرضا، استحال قبل أن يجود هضمه. وإن وافى مزاج
المعدة معتدلا، كان هضمه أسهل قليلا. وإن وافى مزاج المعدة أسخن بالطبع من المقدار الذي يجب
كان، مع ما أنه لا يضر بالمعدة، فقد نفعها وتصلح غليه، ويعينها على احتمال اللبن ولو برد بالثلج.



(1) ضرس ضرسا الأسنان: كلت من تناول الحامض.
(2) في الأصل: نزع.
(3) في الأصل: وأوفافي. ولعلها كما أثبتنا.
(4) في الأصل، بالرفع.
558
القول في اللبن السليم
والدلالة عليه
أما اللبن السليم فهو الجاري على مجرى الطباع المشاكلة لمزاج حيوانه الذي هو منه بعد أن
يكون الحيوان صحيح المزاج، حسن اللحم، معتدل الشحم، سليما من الهزال والاسقام وسائر الآفات.
وقد يستدل على اللبن الذي هو كذلك من بياض لونه واعتدال قوامه واجتماع أجزائه وذكاء رائحته
وحلاوة طعمه وسلامة مزاجه من الحموضة والملوحة والمرارة. أريد ببياض (1) لونه أن يكون مع بياضه
صافيا نقيا من الصفرة والخضرة والكمودة. وأريد باعتدال قوامه أن يكون متوسطا بين الرقة والثخن حتى
إذا قطر منه على ظفر أو مرآة صقيلة، كان مجتمعا رجراجا غير جامد، ولا سائل ولا منقطع. وأريد
باجتماع أجزائه أن تكون أجزاؤه كلها بقوام واحد ولا يكون بعضها رقيقا مائيا، وبعضها ثخينا جامدا.
وأريد بذكاء رائحته أن يكون معرى من الزفورة والنتن والكراهة أصلا. وإن كان من الواجب أن
لا تكون له رائحة بينة، وإن كانت فيجب أن تكون يسيرة لذيذة ذكية، لان ما كان من الألبان كذلك، دل
على تولده من دم صحيح سليم من الاعراض والشوائب، وأريد بأنه لا يولد إلا دما كذلك. وإذا كان
كذلك، كان دليلا على أن منفعته في دفع ضرر المواد اللذاعة للأعصاب ليست باليسيرة. وهذا المعنى،
وإن كان قد يعم الماء واللبن جميعا، فإن بينهما في ذلك فرقا بينا من قبل أن اللبن لعذوبته ولزوجته التي
هي له من قبل جبنيته وسمنيته، يلحج (1) بالأعضاء ويدبق بها ويصير عليها (3) بمنزلة الغراء على الخشب،
ويمنع المواد مماستها والاتصال بها، ويسكن اللذع العارض فيها من تبخير المواد الحادة اللذاعة،
ويفعل في الأعضاء فعل بياض البيض والمرهم المعروف بالقيروطي المتخذ من الشمع الأبيض
المغسول. ودهن الورد والماء فمعرى من ذلك لعدمه اللزوجة والعذوبة. وليس إنما يفوق اللبن الماء
بهذه الحال فقط، لكنه قد يفوقه أيضا بما فيه من الجلاء والغسل والتنقية لما فيه من رطوبة المائية الحادة
التي من شأنها غسل الفضول وجلائها وتنقيتها. ولكنه لما كان كل لبن من شأنه الاستحالة والتغير،
وبخاصة في الهواء الحار، لم يؤمن عليه أن تنحل (4) حواسه وقواه التي وصفناه به، إذ لم يوجد عند
خروجه من الضرع بحرارته التي يخرج بها من الحيوان.



(1) في الأصل: بياض.
(2) لحج ولا حج لحوجا: لصق.
(3) في الأصل: عليه.
(4) في الأصل: تتصل.
559
وأفضل الألبان وأعدلها مزاجا وأسرعها انهضاما وأقربها من توليد الدم المحمود، ألبان النساء
الفتيات المعتدلات المزاج القويات الحرارة الغريزية بالطبع. ولذلك صار من أنفع الألبان للذع العارض
في المعدة وقروح الرئة والمعاء، وشرب الأرنب البحري، ومنه الدواء المعروف بقاتل الذئب، وشرب
الذراريح (1). وقد ينفع أيضا من الطرفة التي تعرض للعين إذا قطر فيها. وبعد ألبان النساء لمثل ذلك
ألبان الحيوانات القريبة من المزاج المعتدل بالطبع التي ليست ببعيدة من مزاج بدن الانسان. والوقوف
على مثل ذلك سهل من رائحة لحم الحيوان، لان كل حيوان مزاجه بعيد من مزاج بدن الانسان مثل
الأسد والكلب والثعلب والذئب والأرنب والدب والسنور وما شاكل ذلك، فلحمه زهم جدا كريه الرائحة
منافر للطباع. وكل حيوان ليس مزاجه ببعيد من مزاج الانسان مثل الضأن والماعز والبقر والظبي
وما شاكل ذلك، فلحمه غير زهم ولا منافر للطباع. ولذلك صار الانسان يستعمل ألبان هذه الحيوانات
لأنه قد عرفها وقاربت الطباع إلى قبولها.
وقد نتخذ من بعضها جبنا وزبدا وسمنا مثل الضأن والماعز والبقر. فأما الخيل والأتن والنوق
فليس يمكن أن يكون منها جبن ولا سمن، لان ألبانها رقيقة مملوءة رطوبة غزيرة المائية جدا،
ولذلك لا تقبل الجمود والانعقاد، وإن كان ديسقوريدس حكى عن لبن الخيل: أنه يتخذ منه جبن يسمى
الأقاقي، وذكر أنه زهم جدا تعافه النفوس ولا تقبله الطباع، إنما اشتق له هذا الاسم من اسم منفحة
الخيل، لأنها تسمى أقاقي.
والسبب الذي له صار بعض الألبان يتجبن وبعضها لا يتجبن ما قدمنا ذكره في تركيب اللبن من
جواهر ثلاثة: جوهر مائي فيه حدة، وجوهر جبني الغالب عليه الأرضية، وجوهر دسم الغالب عليه
الهوائية. فأما الجوهر المائي، فلسيلانه وحدته، صار لا يقبل الانعقاد لان من شأنه أن يذيب ويغسل
ويحلل. وما كان كذلك لم يمكن انعقاده أصلا. وأما الجوهر الجبني، فلغلظ أرضيته، صار قابلا
للانعقاد والذوبان في حال دون حال، لأنه عند ملاقاته البرد والجليد والثلوج يجمد وينعقد. وعند
مباشرته الحر والسموم يذوب وينحل. ومن قبل ذلك صار كل لبن مائيته أكثر وجبنيته وسمنيته أقل لا
يمكن أن يكون منه جبن لبعد المائية من الانعقاد بالطبع، وبخاصة إذا كان فيه مع ذلك حدة وحرافة.
وكل لبن جبنيته وسمنيته أكثر ورطوبته ومائيته أقل، يمكن أن يتجبن وينعقد لقرب الجبنية والسمنية من
الانعقاد بالطبع، إلا أن ما كان منها سمنيته أزيد وجبنيته أنقص، كان الجبن المتخذ منه ألذ طعما وأكثر
دسما وأسخف جسما. وذلك لغلبة الجزء الهوائي عليه بالطبع. وما كان منه جبنيته أكثر وسمنيته أقل،
كان الجبن المتخذ منه أكثر اكتنازا (2) وأصلب جسما وأقل دسما وأبعد من اللذاذة، وذلك لغلبة الجزء
الأرضي عليه بالطبع. ولذلك صار الجبن المتخذ من الضأن ألذ وأدسم من الجبن المتخذ من البقر



(1) الذراريح، جمع الذراح والذراح وغير هذا من اللغات كثيرة: من السموم.
(2) رسمها في الأصل: اكنازا، وفوقها إشارة إلى غموضها مع لفظة: يحقق. ولعلها كما أثبتنا.
560
وبعده الماعز، لان الجزء السمني في الضأن أكثر وعليه أغلب.
وقد بان مما قدمنا إيضاحه أن أغلظ الألبان وأبعده انهضاما وانحدارا وأثقلها على المعدة وأقلها
إطلاقا للبطن ألبان البقر، إلا أنها أكثر الألبان غذاء لأنها أكثر جبنية وسمنية خلا لبن الضأن فإنه (1) أكثر
جبنية منه. ويدل على ذلك زهومة لبن الضأن وذكاء رائحة لبن البقر. والسبب في غلظه وبعد انهضامه
وثقله على المعدة أنه أقل الألبان مائية ورطوبة، من قبل أنه أكثر الحيوان المشاء يبسا وجفافا. ولذلك
صار لبنه نافعا من الاسهال المري والزحير الصفراوي ومن الاسهال العارض من عقر (2) الأمعاء وبخاصة
إذا أشوي بالقطع الحديد الفولاذ ونزع ما فيه من يسير المائية.
فإن قال قائل: فما السبب الذي أوجب للبن البقر النفع من الاسهال ولبن الضأن أكثر جبنية منه!
قلنا له: إن لبن الضأن، وإن كان أكثر جبنية من لبن البقر، فإن في مائيته من الكثرة والحدة ما يخفي
فعل الجبنية ويستره. ولذلك صار إذا شوي بقطع الحديد الفولاذ حتى تزول عنه مائيته وحدته، أمكن فيه
أن تصير له قوة حابسة قاطعة للاسهال، وإن كان ذلك فيه أضعف منه في لبن البقر والماعز، لان قوة
حيوانه الطبيعية وزيادة رطوبته الغريزية تعوقانه عن مرتبة لبن البقر في ذلك، لغلبة اليبس وضعف الحرارة
في لبن البقر بالطبع. وقد يستعمل لبن البقر على ضروب من الصنعة فتختلف أفعاله ومنافعه على حسب
اختلاف صنعته. وذلك أن <من> أراد استعماله لقطع الاسهال المري ومن عقر الأمعاء وتسكين الزحير
الصفراوي، إذا أخذه وهو حليب وشواه بالحصى المدور المصمت أو بالقطع الحديد الفولاذ على ما
وصفنا مرارا، وشربه بعد ذلك (3) النساء.
فان قال قائل: وكيف صار لبن الأتن ألطف الألبان فعلا ولبن اللقاح والخيل أكثر مائية، وأخص
باللطافة من الجبنية والسمنية؟ قلنا له: إن الشئ ينسب إلى اللطافة لجهتين: إما لقوة فعله وناريته في
تلطيف الأثفال وتنقية الفضول، وإن كان الجوهر المتولد عنه غير محمود مثل الفلفل والزنجبيل وما شاكل
ذلك. ولبن اللقاح، وإن كان ألطف فعلا بحدته وقوة (4) تلطيفه، فإن لبن الأتن ألطف جوهرا لاعتداله
وقربه (5) من لطافة لبن النساء (6). ولذلك قال ديسقوريدس: إن لبن الأتن لا يكاد أن يتجبن لقربه من
طبيعة لبن النساء ومشاكلته له في اللطافة، وبخاصة إذا شرب بحرارته التي يخرج منها من الضرع.
وأفضل من ذلك أن يشرب من الضرع إن لم تعافه النفس، فإن عافته النفس، شرب كما يخرج من
الضرع بشئ من سكر طبرزد.



(1) في الأصل: فإنها.
(2) العقر: الجرح.
(3) كذا في الأصل وفوقها إشارة الاستدراك في الهامش، ولكنه خلا إلا من إشارة تدل على انقطاع السياق. ولعله: (نفعه لقربه من
لطافة لبن).
(4) في الأصل: وقوته.
(5) في الأصل: وقوته.
(6) ولم يذكر الجهة الثانية.
561
القول في شرب اللبن
ينبغي لشارب اللبن أن يتناوله بسخونته التي يخرج بها من الضرع، فإن أمكنه أن يمتصه من
الضرع مصا كان أفضل، لان الهواء إذا مسه ذهب غليه وأضعف حرارته، وغلظه بعض الغلظ، ومنع من
سرعة انهضامه. وإذا تناوله فيجب أن يمتنع من كل ما يؤكل ويشرب إلى أن يكمل انهضامه في المعدة
حسنا، وينحدر عنها بكماله من قبل أن كل ما خالطه في المعدة من شئ، أي شئ كان، من طعام أو
شراب أو غير ذلك، فسد وأفسد كل ما يخلطه مما أخذ قبله أو بعده. ثم يحذر غاية الحذر من أن يتعب
بعقب شربه له، لان التعب يحمي اللبن في المعدة ويفيده حرارة غريبة ويعومه ويغليه ويمنعه من أن
يستقر في المعدة ويصل إلى موضع النضج. وإذا حمي وعام، حدثت فيه استحالة وحمض بسرعة. ولا
يستعمل السكون أيضا جملة، فيمتنع من الهبوط إلى قعر المعدة وموضع النضج، ولكن يتمشى بعقب
أخذه له قليلا برفق، ثم يسكن قليلا من غير أن ينام، لان النوم يمنع الاسهال، فإنه متى امتثل (1) هذا
التدبير، هبط اللبن بيسير الحركة واستقر في قعر المعدة وموضع النضج (2) من غير أن يستفيد حرارة
عرضية تعومه وتحدث فيه غليانا وحموضة. وإذا سلم من ذلك انهضم بسرعة من قرب. وإذا دام التعب
وأفرط، انحدر اللبن عن المعدة بفجاجة وغلظ وولد رياحا نافخة وسددا وغلظا. ولذلك صار من الأفضل
أن يتمشى شاربه له (3) قليلا برفق، ومرة بسكون من غير أن ينام، لان النوم يمنع إسهاله للبطن. فإذا
امتثل شاربه هذا التدبير، هبط اللبن إلى قعر المعدة وموضع النضج بيسير الحركة لأنه لم يستفد حرارة
عرضية تعومه. وإذا سلم من ذلك وصار إلى موضع الطبخ من المعدة، <و> انهضم بسرعة انهضاما
محكما فليتناوله ثانية ويمتثل ما قدمنا ذكره في التدبير في المرة الأولى والثانية.
والسبب في شربه ثلاث مرات أو أكثر في اليوم الواحد أن اللبن في ابتداء ما يؤخذ، يسهل



(1) امتثل التدبير: أتعبه.
(2) في الأصل: النطج. وهو تصحيف. وفوقها علامة تدل على الاضطراب فيها.
(3) (له): زائدة هنا.
562
إسهالا معتدلا نافعا ويجذب ما يصادفه في المعدة والمعاء الدقيق وعروق الماساريقا من غير أن ينيل
البدن شيئا كثيرا. فإذا نقى المعدة والمعاء الدقاق وعروق الماساريقا جذبته العروق ونفذ فيها بسرعة ولم
يعقه شئ عن سرعة الانهضام في الكبد والجولان في البدن وانقطع فعله في الاسهال وغذى غذاء حسنا
فاضلا محمودا. ولذلك صار ما دام إسهاله دائما، كان الاكثار منه غير مكروه ولا مذموم، لان فيه معونة
على الاسهال وتنقية للأوعية وتطريقا للسبل. فإذا انقطع فعله في الاسهال وأخذ في تغذية البدن وتربيته،
وجب (1) ألا يؤخذ (2) إلا بحسب الطاقة ومقدار القوة على هضمه. ويمسك الشارب له عن شربه وهو بعد
مشته له لكيلا يثقل المعدة بكثرته ويهبط القوة الهاضمة ويعوقها عن هضمه ويبقى بفجاجته وغلظه،
وتقبله الأعضاء وهو بتلك الحال ويولد فيها ترهلا وتورما من قبل أن الأعضاء إذا عدمت الغذاء، افتقرت
إلى ما لم يكمل نضجه ولم يتم هضمه. فإذا صار إليها وهو ني غير منهضم، شبيه (3) ولم يعد بالكثرة
وبقي فيها منحصرا وغلى وصار بخارا نافخا ورهل اللحم وورمه.
ومن أراد شرب اللبن لقطع الاسهال المري أو لضعف المعاء المعروف بالصائم أو لانصباب
شئ من ذوبان البدن إلى البطن في العلة المعروفة بالسل أو غيرها، فليقصد منه لبن البقر وبعده لبن
الماعز ويطبخه بنار ضعيفة لينة لا لهب لها ولا دخان، ويديم تحريكه رويدا رويدا بقضيب أملس بري
من أطرافه إلى وسطه كأنه يجمعه جمعا ويجره من نواحي القدر إلى وسطها. فإن فاض منه إلى حافة
القدر شئ فليبادر ويمسحه بإسفنج البحر ويغرف بصوفة البحر بعد أن يغمس بماء عذب ويعصر جيدا
كيلا يرجع إلى ما قد فار وارتفع من اللبن إلى حافة القدر ويشربها شئ من اللبن فيحترق ويفسد بفساده
اللبن. ويديم طبخه وتحريكه على ما وصفنا إلى أن يغلظ معتدلا مستويا شاملا لجملة اللبن في استوائه
واعتداله وتزداد حلاوته على حلاوته الطبيعية التي كانت بها قبل الطبخ.



(1) في الأصل: ويجب.
(2) (ألا يؤخذ) مكررة في الأصل، وفي آخر الصفحة وأول الصفحة التالية.
(3) كذا في الأصل.
563
القول في اللبأ والزبد والجبن
فأما اللبأ (1) فهو أغلظ من اللبن وأعسر انهضاما وأبعد انحدارا، وذلك لعدمه مائية اللبن ورطوبة
الجوهرية، من قبل أنه يمكث في الضرع أياما قرب وضع الحيوان حمله قبل (2) أن يحلب فينشف حرارته
الهواء ورطوبته الجوهرية ومائيته. ويستدل على غلظه وبعد انهضامه بسرعة ما يولده <في> المعدة من
البشم (3) والتخم لا سيما إذا أخذ بغير عسل ولا غيره من الحلاوة المعينة على انحداره بجلائها وتنقيتها.
ولذلك صار أكثر تولدا للدم والاخلاط الغليظة من اللبن كثيرا. فإذا انحدر عن المعدة وصار إلى المعاء،
أثقلها بغلظه وبعد انقياده وتهبط القوة وجلت عن تدبيره وانحدر بسرعة وأسهل البطن إسهالا نيا فجا.
وكثيرا ما يولد العلة المعروفة بزلق المعاء والعلة المعروفة بالهيضة (4).
وما عقد من اللبأ في قدر في جوف قدر مملوءة ماء، كان ألطف مما عقد على نار أو على رماد
حار، لان الماء الذي في القدر الخارجة عنه يفيده رطوبة وليانة وسرعة انهضام، وإن كان بعد الانهضام
مخصوصا به بالطبع.
القول في الزبد (5)
وأما الزبد فقد بينا في المقالة (6) الأولى في كتابنا أنه مساو (7) لطبيعة الشحم والسمن، أعني
بالشحم المجاور للعظام واللحم. ولذلك صار إذا استعمله من كان محتاجا إلى أن ينفث من رئته وصدره
شيئا عند الأورام المتولدة في الرئة أو في الحجاب المعروف بديافرغما (8)، أعان على ذلك وأنضج



(1) اللبأ، جمع الباء: أول اللبن عند الولادة.
(2) بعدها في الأصل: (وقت) ملغة بشطبة.
(3) بشم بشما: تخم.
(4) هي انطلاق البطن.
(5) هذا العنوان مستدرك في الهامش.
(6) في الأصل: المقا.
(7) في الأصل: مساويا.
(8) في الأصل: بريفرغما.
564
الرطوبات ونفع منفعة بينة قوية. وإذا طلي على لثة الأطفال عند خروج أسنانهم، سكن الألم العارض
فيها وسهل خروج الأسنان بسرعة بتليينه وترطيبه لها. وقد يفعل الدماغ والنخاع مثل ذلك أيضا، غير أن
الدماغ يحتاج أن يخلط معه شئ من ملح كيلا يغثي.
وإذا طبخ الزبد وزال ما فيه من بقايا رطوبة اللبن وصار سمنا، صار (1) فعل دهنيته ولزوجته أظهر
وأقوى على تحليل الأورام الجاسئة وتليين خشونة الأعضاء. ولذلك صار مضرا بالمعدة لأنه يلين
خشونتها ويفسد خاصتها التي يقوى بها على هضم الغذاء، إلا أنه نافع من القلاع العارض لأفواه
الصبيان. وأما سمن البقر والماعز، فإنه إذا شرب مع العسل، نفع من شرب السم القاتل ومن لدغ
الحيات والعقارب.
القول في الإنفحة
كل إنفحة فيها الحرارة الغريزية وحرارة عرضية مكتسبة من العفونة المتولدة من حركة الحيوان
التي هي منه كاكتساب الثلج الحرارة من الهواء، تتولد منه فيه العفونة والدود. ولذلك صار للإنفحة قوة
محللة ملطفة مجففة. وإنفحة الأرنب خاصة فيها قوة بها تقطع دم الطمث وتنفع من نفث الدم. وإذا
شرب منها بالعسل والطلاء والخل حللت اللبن المتجبن في المعدة، وإذابة الدم الجامد في البطن. وإذا
شرب منها وزن قيراط بطلاء مطبوخ، نفعت من لدغ الحيات والعقارب وسائر الهوام. وأما إنفحة الخيل
فنافعة من الاسهال المزمن والعلة المعروفة بدسنطاريا. وأما إنفحة الحمير والظباء والجدي، فإنها إذا
شربت بخل، نفعت من الجبن.
القول في الجبن
الجبن في جملته مذموم جدا لأنه ثقيل في المعدة بطئ الانهضام مخصوص بتوليد
القولنج وحجارة الكلى، وإن كان ذلك قد اختلف فيه. ويعقل ويلين بحسب اختلاف أنواعه وأجناس
حيوانه الذي يكون منها. واختلافه في أطراف القدم والتوسط بين ذلك وذلك أنه يختلف بدءا على ثلاثة
ضروب: لان منه الرطب الطري الذي يؤكل ليومه أو قريبا من ذلك، ومنه العتيق اليابس، ومنه المتوسط
بين ذلك.
فأما الرطب منه فهو أقل أنواع الجبن حرارة وأبعدها من الحدة وأقواها من البرودة والرطوبة في
الدرجة الأولى، وذلك لما فيه من بقايا رطوبة اللبن ومائيته. وما كان من الجبن كذلك وكان بغير ملح،
كان وسطا بين غذاء اللبن والجبن. ولذلك صار غذاؤه أكثر من غذاء غيره من الحيوان وأزيد في اللحم



(1) في الأصل: صارت.
565
وأكثر تليينا للبطن من غير إضرار المعدة، وإن كان فيه ملح، كان غذاؤه أقل وزيادته للحم أنقص
وأضعف وأضر بالمعدة والأمعاء جميعا، وإن كان يلحقه أيضا من كثرة الغذاء وقلته وسرعة الانهضام
وإبطائه يخرج ما يتناول معه من مائية اللبن ورطوبته في الكثرة والقلة، من قبل أن المائية كلما كانت فيه
أكثر، كان غذاؤه أقل وانهضامه أسرع، وإطلاقه للبطن أزيد وبخاصة متى أكل بالعسل. وكلما كانت
المائية فيه أقل، كان غذاؤه أكثر وانهضامه أبعد وانحداره أعسر وإطلاقه للبطن أقل، وبخاصة متى أكل
بغير عسل ولا حلاوة.
وإذا تقادم الجبن وعتق وصلب، بدت فيه قوة الملح وحرافة الإنفحة وحدتها، وصار في عداد
الأشياء الحريفة، واستحال في المعدة إلى الدخانية، وجنس المرار يكون لجهتين: إحداهما: ظهور
دسمه ودهنيته وغلبتهما عليه لفناء بقايا رطوبة اللبن ومائيته منه. والثانية: لما فيه من الحدة المستفادة من
حرافة الإنفحة وحدتها. والسبب في حبسه للبطن تجفيفه المكتسب من يبس الإنفحة وجفاف الملح.
ولذلك صار إذا خلط بالأشياء الحريفة المطلقة للفضول، لم يستفد منها صلاحا، لان الذي يصل إليه
منها من الزيادة في حدته وحرافته يستغرق ما يستفيده منها من المنفعة والتلطيف، ويصير بها أعون على
توليد الحجارة في الكلى، لان أعظم أسباب تولد الحجارة في الكلى اجتماع أخلاط غليظة في حرارة
زائدة ملتهبة. وهاتان القوتان موجودتان في العتيق وبخاصة إذا خلط بأشياء حريفة. ولذلك وجب أن
يحذر ما كان من الجبن شديد الحال من الجفاف والحدة، لان ما كان كذلك لم يصلح للاطلاق ولا
لجودة الغذاء ولا لتوليد الدم المحمود، وإن كان غذاؤه كثيرا. أما كثرة غذائه فلان أقوى ما في اللبن
يصير جبنا. وأما قوته فلان حرارة البدن كلما ازدادت فعلا، ازداد هو صلابة وجفافا.
وأما الجبن المتوسط بين الجبن الرطب وبين الجبن العتيق فبحسب توسطه بينهما. لذلك توسط
غذاؤه وانهضامه، وإن كان ذلك قد يزيد وينقص على حسب انحرافه عن التوسط والاعتدال إلى إحدى
الحاشيتين دون الأخرى، لان ما كان انحرافه إلى حاشية الجبن الرطب أكثر، كان غذاؤه أحمد وانهضامه
أسرع. وما كان انحرافه إلى حاشية الجبن العتيق أكثر، كان غذاؤه أذم وأفسد وانهضامه أبعد وأعسر.
وقد يتضح ذلك ويشهد له الوقوف عليه من كيفية جسم الجبن وطعمه والجشاء الذي يتولد عنه بعقب
أكله. وأما معرفة ذلك من قبل جرم الجبن، فلان ما لان منه وقلت رطوبته وتحلل جسمه وكان رخوا
منفوخا إسفنجيا، كان أفضل وأحمد مما كان كثيفا مكتنزا ملززا. وما كان منه متينا غليظا، وكان قد بلغ
من اقتران حرارته إلى أن صار خيسا خشفا (1) سريع التفتيت، كان أردأ وأذم. وما كان متوسطا بين هاتين
الحاشيتين، أعني بين المتانة والعلوكة وبين فرق اتصاله (2)، صار أفضل وأحمد. وأما معرفة ذلك فمن
طعم الجبن. فإن لم يكن فيه طعم الجبنية والإنفحة ظاهرا بينا قويا، وكانت الحلاوة والعذوبة عليه أغلب



(1) يابسا.
(2) أي الهشاشة.
566
وفيه أبين، كان أفضل مما كانت جبنيته أقوى وإنفحته أظهر. وكذلك (1) ما كانت ملوحته أقل وأخفى، كان
أفضل مما كانت ملوحته أكثر وأعلن. وأما معرفة ذلك من قبل الجشاء <ف‍> ما زال طعمه من الجشاء
بسرعة، كان أفضل مما بقي طعمه في الجشاء مدة أطول لان في طول لبث طعمه في الجشاء دليل
واضح على غلظ جسمه وبعد انهضامه وعسر انحداره وفساد جوهره.
وقد يجبن الجبن بضروب من المجبنات فتختلف قواه وأفعاله بحسب ما يجبن به. فالأكثر منه
يجبن بالإنفحة. ومنه ما يجبن بلب القرطم المسحوق. ومنه ما يجبن بالاسكنجبين. ومنه ما يجبن بماء
التمر هندي مطبوخ. ومنه ما يجبن بماء الحصرم وبماء الرمان الحامض أو بماء حماض الأترج. ومنه ما
يجبن ببرودة الماء المبرد وهو أن يغلى اللبن فإذا فار أنزلت فيه قارورة مملوءة ماء قد برد فحركت فيه
قليلا.
فما كان منه مجبنا بالإنفحة فقد تقدم القول بما فيه مقنع. وما كان منه مجبنا بلب القرطم، كان
أفضل لمن رطب مزاجه وكان بلغمانيا. وما كان منه مجبنا بالاسكنجبين، كان أبعد من توليد السدد
وحجارة الكلى وكان أقل أضرارا بأصحاب البهق والتنفس العارض من الرطوبة الغليظة وبخاصة إذا كان
الخل الذي عمل منه الاسكنجبين خلا (2) عنصلانيا. وما كان منه مجبنا بماء التمر هندي المطبوخ كان
أقل ضررا بالمحرورين وأسرع انحدارا عن المعدة. وما كان مجبنا بماء الحصرم أو بماء الرمان الحامض
أو ماء حماض الأترج، كان أغلظ وأبعد انحدارا، إلا أنه أفضل في قطع الاسهال الصفراوي. وما كان
مجبنا ببرودة الماء البارد، كان أفضل غذاء وأحمد جوهرا، لا سيما إذا كان طريا ليومه، لأنه يقوم مقام
اللبن المطبوخ بالماء الذي ذهبت منه مائيته وبقيت جبنيته وسمنيته.



(1) في الأصل: وذلك.
(2) في الأصل: خل.
567
القول في المرارة
قال إسحاق: من عادة الأوائل، إذا قالوا المرة مطلقا، أن يعنوا بها المرة الصفراء، وهو بين عند
الخاص والعام أنها أحر الأخلاط وأقوى تجفيفا، إلا أنه قد يختلف في ذلك ويلحقها الضعف والقوة،
والزيادة والنقصان بحسب طبيعة الحيوان الذي هي منه ومزاجه. فما كان منها من حيوان أضعف حرارة،
كان أقل حدة وحرارة وأضعف يبسا. وأما البرودة والرطوبة فإنهما (1) لا تضافان إلى المرة ولا تنسبان (2)
إليها أصلا، لان من الممتنع وجود مرة باردة أو رطبة. وقد يستدل على اختلاف المرة من كل حيوان من
لونها ومزاج حيوانها. وذلك أن لونها يكون على ضروب: لان منه الأحمر، ومنه الأصفر، ومنه
الزعفراني، ومنه الاسمانجوني (3)، ومنه الباذنجاني.
فما كان منها أحمر دل على اعتدال مزاج حيوانه وتكافؤ الأخلاط فيه، وقوة حرارته الغريزية
بالطبع. وما كان منها أصفر دل على غلبة الرطوبة على مزاج حيوانه، إما لضعف (4) الغريزية ونقصانها،
وإما لكثرة الدعة والسكون، وإما لكثرة الشبع والري، لان ذلك مما يفيد الأبدان رطوبات فضلية إذا
خالطت المرة أكسبتها بياضا، ولذلك صار لون المرة من الإناث والخصيان من كل حيوان، وفي القريبي
العهد بالولادة، أعني الأطفال أقل حمرة وأميل إلى الصفرة لغلبة الرطوبة على مزاج من كان كذلك
بالطبع. وما كان من المرة أسمانجونيا دل على حرارة قوية إما من حدة المزاج، وإما لدوام الرياضة
والتعب، وإما لادمان الصوم وكثرة العطش، لان ذلك مما يفيد الأبدان حرارة وجفافا ويحمي المرة
الحمراء ويجاوز بحرارتها المقدار (5) الطبيعي، ومن قبل ذلك صار الأغلب على لون مرة الفحل والفتي
من الحيوان الاسمانجونية لغلبة الحرارة على مزاج من كان كذلك بالطبع. وما كان من المرة زنجاريا أو



(1) في الأصل: فإنها.
(2) في الأصل: تنسب.
(3) الاسمانجوني: الأبيض بزرقة كلون السماء. (فارسي معرب).
(4) في الأصل: ضعف.
(5) (المقدار) مستدركة في الهامش.
568
محيا دل على إفراط الحرارة والتهابها لغلبة الاحتراق والجفاف على مزاج من كان هذا لون مرته بالطبع.
وكذلك صار لون مرة العقبان والبزاة يلنجيا (1) أو أسود (2) لغلبة الاحتراق والجفاف على مزاج هذا الحيوان
بالطبع.
ولما كان ذلك كذلك، كان من الأفضل ألا يستعمل أحد شيئا من المرارات في شئ من الأدوية
دون أن يفتقد لون المرة بدءا ليقف على مزاج حيوانها وطبعه، ويميز حدة المرة من لينها ليستعمل كل
جنس منها في كل واحد من الأدوية على حسب طبيعة المستعمل للدواء وذكاء حسه وجفاف مزاجه وغلظ
جنسه ورطوبة مزاجه، لان ذكاء الحس وجفاف المزاج يمنعان من احتمال حدة الأدوية وقوة لذعها،
وكذلك ما كان من العلل الغالب عليه الحرارة والجفاف وقلة الوسخ والصديد، كان احتماله لحدة الأدوية
وقوة لذعها أقل كثيرا. وما كان من العلل الغالب عليه ضعف الحرارة وكثرة الصديد والوسخ، كان
احتماله لحدة الأدوية وقوة لذعها أكثر كثيرا.
وقد يستدل على ذلك من جهتين: إما من فعل المرة الواحدة في أبدان مختلفة، وإما بتأثير مرات
مختلفة (3) في بدن واحد، وذلك أنا كثيرا ما نجد فعل المرة الواحدة في بعض الأبدان أشد وأقوى لذكاء
حس البدن وقلة رطوبته ونقي جراحاته من الصديد والوسخ، وفى بعض الأبدان أسهل وأضعف لغلظ
حس البدن وزيادة رطوبته وكثرة صديد جراحاته ووسخها. ولذلك قد نجد البدن الواحد يحس من قوة
فعل المرة الاسمانجونية وشدة لذعها وألمها ما لا يحسه من فعل المرة الصفراء، ولا قريب منه لقوة حدة
المرة الاسمانجونية وضعف قوة المرة الصفراء وسهولتها. ولجالينوس في مثل هذا قول حكاه عن
الأوائل زعم أنهم كانوا يستعملون في بعض الأدوية مرارة الثور والفحل، وفى بعضها مرارة الثور
الخصي.
والامر في هذا بين واضح لان كل ذكر يخصى، تضعف حرارته وينتقل مزاجه إلى مزاج الأنثى،
ومزاج القريب العهد بالولادة. ومن البين أن مزاج الأنثى من كل حيوان ومزاج القريب العهد بالميلاد
يفارق مزاج كل ذكر وكل فتي من جنسه في ضعف الحرارة وكثرة الرطوبة، لان حرارة الفتي من كل
حيوان أشد وأكثر نارية، لأنها أقوى بالكيف لغلبة المرة الصفراء على مزاج الفتي بالطبع. فأما القريب
العهد بالميلاد فإن حرارته، وأن كانت أقوى ما تكون بالطبع، فإنها (4) أضعف من حرارة الفتي وألين
كثيرا، وذلك لغلبة الدم على مزاج القريب العهد بالميلاد بالطبع، والدم أضعف حرارة وألين من المرة
الصفراء بالطبع.



(1) نسبة إلى اليلنجوج وهو العود الهندي: عروق أشجار تدفن في الأرض حتى تتعفن. منها الأسود والأزرق.
(2) في الأصل: أسودا.
(3) في الأصل: مختلف.
(فإنها) كذا زائدة في الأصل.
569
وقول آخر حكاه عن نفسه قال فيه: وإني لما رأيت لون المرة في أكثر الفحولة من الثيران
أسمانجونيا، لم ألق في الدواء الذي احتاج ان أخلط به مرارة الثور المرة التي في لونها أسمانجونية،
حتى أخذت مرارة ثور آخر معتدلة اللون مائلة إلى الحمرة، واستعملتها في الدواء لأني وقفت على أن
سبب أسمانجونية تلك المرة لم يكن إلا لان الثور الذي أخذت منه كان قد أتعب تعبا شديدا واستكد
كدا عنيفا واستوثق من وثاقه في وقت قوده حتى غضب غضبا مفرطا وقلق واستحر مزاجه والتهب، ولم
أبعد أيضا أن يكون قد جاع جوعا كثيرا وعطش عطشا شديدا. ولذلك امتنعت أن أستعمل مرارته في
الدواء الذي أردت أن أركبه. ولذلك مثلت الأوائل المرة بالبول، لان البول إذا كان مزاج البدن معتدلا،
كان صبغه أيضا كذلك. ومتى عطش الانسان أو صام أو تعب تعبا شديدا قويا أو غضب غضبا شديدا،
أسخن البدن وقوى صبغ البول وصار أشقر. ومتى أكثر الانسان من الطعام والشراب وأدمن الدعة
والسكون، انحصرت الرطوبات في باطن بدنه وقلت حرارته وضعف طبخ البول وخرج أبيض لا صبغ
له. وكذلك ألوان المرة تختلف على حسب اختلاف الحيوان، لأنها تكون فيمن يديم الجوع والعطش
ويكثر الرياضة والتعب، شديدة (1) الاسمانجونية اللون. وفيمن هو بخلاف ذلك وعكسه، قليلة الصبغ
مائلة إلى الصفراء.
وإذ ذلك كذلك فقد بان واتضح انه متى ألقيت (2) في دوام الأدوية قوية الصبغ أسمانجونية
اللون وزنجارية، أفادت ذلك الدواء حرارة وتلذيعا. ومتى ألقيت (2) فيه مرارة قليلة الصبغ مائلة إلى
الصفرة، صار ذلك الدواء بها مقصرا عن المزاج المعتدل ونقص من حرارته بحسب انحراف لون المرة
الحمراء. <و> صرنا متى أردنا أن نستعمل شيئا من المرارات لتفتيح عروق المعدة لنستفرغ منها دما
قد احتقن فيها، قصدنا من المرارات أحدها وأقواها صبغا، ذلك لغلظ حس الموضع لانصباب الرطوبات
وسائر المرار إليه بالطبع. ومتى أردنا استعمال شئ من المرارات في...
(3) ألطفها وأقلها صبغا وألينها
فعلا، ذلك لذكاء حس السمع وغلبة التليين عليه والجفاف بالطبع، وإن كان من الأفضل ألا تستعمل
المرارة في مثل هذا العضو وحدها دون أن يخلط معها ما يلينها ويسهلها على الحاسة كيلا تنكأها وتهتكها.
ولمثل ذلك صرنا إذا أردنا أن نستعمل شيئا من المرارات لحدة الفهم، قصدنا مرارات الطير والحجل
والدجاج لان مرارات الطير، وإن كانت أسخن وأيبس من مرارات المواشي، فإن في مرارة الحجل
والدجاج من ضعف الحرارة وقلة التلذيع ما قد صارت بذلك أعدل من مرارات الطير وألطفها. ويستدل
على ضعف حرارة الحجل والدجاج من ثقل حركتها وضعف طيرانها. وقد (4) ينبغي أيضا ألا تستعمل



(1) في الأصل: شديد.
(2) في الأصل: ألقي.
(3) فراغ في الأصل مقدار كلمة. وإضافة إلى ذلك ففي السياق انقطاع، لعله: (مداواة قروح الآذان، قصدنا من المرارات).
(4) (وقد) مكررة في الأصل.
570
مرارة الحجل والدجاج في علاج العين دون أن يخلط معها ما يزيد في لطافتها قليلا مثل ماء الرازيانج
والعسل وما شاكلهما، ويكون ماء الرازيانج أكثر لأنه ألين على الحاسة.
وأما مرارة الفحول من البقر فتسخن إسخانا أزيد من كل ما قدمنا ذكره من مرارات المواشي، إلا
أنها أضعف إسخانا من مرارة الضبع، ومرارة الضبع أضعف إسخانا من مرارة العقرب البحري ومن مرارة
السمكة المسماة بالبوقريش (1). ومن وقف على فعل هذه الأصناف من المرارات، وقف على ما يحتاج
من العلل إلى التجفيف، ومن يحتاج منها إلى التجفيف أقل، أمكنه أن يتخطى هذه المرارات ويتجاوزها
إلى غيرها من المرارات ويختار منها أوفقها لما يحتاج إليه إذا تفقد ألوانها ووقف على مزاج الحيوان
الذي هو منه. ولا قوة إلا بالله عليه توكلنا.



(1) وروي: بلوبوس.
571
القول في الطير
الطير في الجملة أقل رطوبة وأبعد من اللزوجة وألطف طبعا وأجف لحما وأسرع انهضاما من
جميع المواشي، إلا أنه أقل غذاء. والبري من الطير أقل (1) رطوبة من الحضري وأرخص لحما وأسرع
انهضاما. والسبب في ذلك (2) تخلخل وسخافة (3) لدوام حركته وكثرة تعبه ولطافة هوائه وجفافه. وإذا كان
ذلك كذلك، كان الحضري على خلاف ذلك وعكسه، أعني أنه أكثر رطوبة وأزيد غذاء وأبعد من
الانهضام لقلة حركته ودوام سكونه وغلظه وزيادة رطوبته. وكذلك صار كل جنس من الطير إذا كان منه
حضري وبري. فالحضري أكثر غذاء وأحمد وأكثر جوهرا، وذلك لاعتدال رطوبته وقلة جفافه، إلا أنه
أبطأ انهضاما. والمسمن من الطير الحضري في الرعي أفضل من المسمن في البيوت وأسرع انهضاما،
وذلك لكثرة حركة المسمن في الرعي ودوام تعبه وأخذه من الغذاء بحسب ما تدعو إليه الطباع ومقدار
حاجتها إليه، لقلة إمكان وجوده للغذاء وقلة حركة (4) المسمن في البيوت ودوام سكونه وأخذه من الغذاء
ما يجاوز المقدار لامكان وجوده للغذاء دائما.
وألطف أجناس الطير الدجاج والطهيوج وفراخ الحجل والفراريج، وبعدها الحجل والقطا
والدراج المتوسط السمن المعروف بالمصدر. ومما هو داخل في ذلك التدرج والشحرور إذا كانا في غاية
السمن، إلا <أن> بين هذه الأجناس فرقانا ظاهرا في حبس البطن، إلا أن القطا أفضلها لحما وأحمدها
جوهرا. وأقل الطير رطوبة الشفنين والورشان والفواخت، وإن كان الشفنين أخص بذلك وأوحد به، لأنه
أكثر يبسا وجفافا. ولذلك وجب ألا يؤكل إلا بعد ذبحه بيوم لان ذلك مما يرخي لحمه ويزيل عنه أكثر
صلابته ويصيره رخصا. وإذا صار كذلك، كان غذاؤه محمودا غير مذموم لأنه يولد دما صالحا متوسطا
بين اللطافة والغلظ.



(1) بعدها في الأصل: (غذاء) ملغاة بشطبة.
(2) بعدها في الأصل: (تحلل) ملغة بشطبة.
(3) كذا في الأصل.
(4) في الأصل: الحركة.
572
وذكر ديسقوريدس عن الشفنين البحري (1) أن له في ذنبه حمة (2) منقطعة إلى خلف، أعني إلى
منبت القشر. وأن هذه الحمة إذا أخذت ووضعت على الأسنان الوجعة، فتتتها وأسقطتها (3). وأعضل
الطير وأكثرها صلابة وأقربها (4) من العصب وأكثرها (4) شبها بالليف وأفسدها (4) غذاء الكركي
والطواويس. ولذلك صارت أعسر انهضاما وأبعد انحدارا، إلا أن الكركي أخص بصلابة اللحم وبعد
الانهضام لأنها أعضل وأصلب. والطواويس أفسد غذاء لأنها أكثر زهومة، ولذلك صار الأفضل ألا تؤكل
في الصيف إلا بعد ذبحها بيوم، وفي الشتاء بعد ذبحها بيومين أو ثلاثة، ليلين لحمها ويسترخي.
وأطيب (5) الطير طعما الإوز والبط المعروف بالخشنكار والنعام وفراخ الحمام المسمنة في
البيوت. ولذلك صارت كلها، خلا فراخ الحمام، أخص بالغلظ وبعد الانهضام وبخاصة ما كان منها
يأوي الآجام والمواضع العفنة. ويدل على ذلك كثرة زهومتها وزفورتها، ولذلك صارت غير موافقة
للمعدة لأنها تثقلها وتفسدها بفضل رطوبتها وزهومتها. وأما أجنحتها فليست بدون أجنحة الطير في
الفضل وسرعة الانهضام وقلة الفساد، وذلك لدوام حركتها وتواتر تعبها. ولذلك صار أحمد ما يؤكل منها
أجنحتها ورقابها، لان الرقاب من كل طير محمودة الغذاء لدوام حركتها وقلة شحمها وبعدها من الزفورة
بالطبع.
وأما ما يأوي من الطير الغياض والآجام..
(6) وأفضل طير الآجام البط المعروف بالخشينكار.
وقد يتوسط بين رطوبة لحم البط وغلظ الكركي لحم الطهيوج. وأحر الطير مزاجا وأكثرها جفافا
وأحرقها للدم وأفسدها غذاء لحم الجراد وبعده لحم العصافير، إلا أن لحم الجراد أخص بذلك وأوحد
كثيرا وأيبس وأسرع إفسادا للدم وإحراقا له، وأبعد من تغذية الأعضاء والتشبه بها لمنافرة الطباع لها
لاختصاصها بتولد المرة السوداء الحريفة، إلا أن من خاصتها على سبيل الدواء أنه إذا تبخر به، منع
عسر البول العارض من الرطوبات الغليظة. وفعله ذلك في النساء والخصيان أكثر من فعله في الفحولة
والشباب لكثرة احتمال النساء والخصيان لاحراقه وتجفيفه. ولديسقوريدس في الجراد العظيم الذي ليس
له جناح، المعروف بالجوجول، قول قال فيه، أنه إذا أخذ طريا من غير أن يملح ولا يطبخ وسحق
وشرب بشراب، نفع من لسع العقارب منفعة عظيمة.
وذكر ديسقوريدس عن طير قريب من الجراد يأوي شجر الزيتون يصيح أكثر زمانه، وصياحه



(1) هو سمكة بحرية لها جناحان كجناحي الخفاش وذنب، سريعة الحركة تنتقل بخفة الطير.
(2) الحمة: الإبرة التي فيها يلدغ ويلسع. وهي في الشفنين شوكة كمقدار الإبرة.
(3) في الأصل: فتتها وأسقطها.
(4) في الأصل، بالمذكر.
(5) في الأصل: وأرطب. والتصحيح من الهامش.
(6) بياض في الأصل مقدار كلمة.
573
صرير، وأهل الشام يسمونه الزبد، زعم فيه أنه إذا شوي وأكل، نفع من وجع المثانة. وأما العصافير فإن
حرارتها وتجفيفها دون حرارة الجراد وتجفيفه كثيرا. وتدل على ذلك زيادة لحمها على لحم الجراد
وفضل رطوبتها، بإضافتها إليه. ولذلك صارت العصافير أقرب إلى الترطيب وأبعد من الاحتراق.
والمحمود من العصافير ما كان بريا سمينا. وينبغي أن يحذر منها الهزيل جدا والمسمن في الدور، لان
الهزيل أيبس وأكثر جفافا للدم، وأقوى على تنشيف الثفل، وأشد حبسا للبطن. والمسمن في
الدور أكثر فضولا لكثرة غذائه وعدمه الطيران وقلة حركته.
ومن منافع العصافير على سبيل الدواء أن أدمغة السمان منها إذا أكلت مع بصل وشئ من
زنجبيل، زادت في مني من كان مزاجه باردا (1) وبخاصة إن كان بلغمانيا وقوي الشهوة على الجماع.
وأما من كان مزاجه حارا، وبخاصة إن كان صفراويا، فإنه يجففه ويحرق منيه من قرب.



(1) في الأصل: بارد.
574
القول في الفراريج والدجاج والديوك
أما الفراريج فإنها أسرع الطير الحضري انهضاما وأحمده غذاء وأفضله جوهرا وأكثره تولدا للدم
المحمود وتقوية للشهوة وأقربه من الموافقة لجميع المزاجات ولكل الناس. وما طبخ منها زيرباج كان
أصلح لتعديل المزاج وتسكين حرارة المعدة. وما طبخ منها اللون الساذج المعروف بالاسفيذباج، كان
أوفق لتليين البطن وإحدار المرة الصفراء. وما طبخ منها بحصرم أو بماء رمان حامض أو بماء حماض
الأترج أو بماء سماق، كان مقويا للمعدة وقاطعا للاسهال المري. وما عمل منها خررباج (1)، وشق
بحرارته وشمه الناقهون (2) من الأمراض ممن لا يقدر على شئ من الغذاء، أغذته رائحته غذاء محمودا
وقوت شهوته للغذاء. وأحمد ما كانت الفراريج حين تبتدئ الصياح وبخاصة الذكران منها، السمان
المعتدلة السمن. وأما الدجاج فإنها أكثر رطوبة من الفراريج كثيرا ولذلك صارت أغلظ وأبعد انهضاما،
إلا أنها أكثر غذاء. فإذا طبخت اللون الساذج المعروف بالاسفيذباج، اكتسبت رطوبة واعتدلت وقوت
المعدة، وقال ديسقوريدس: وسكنت حرارتها. وإذا طبخت زيرباج، كانت أكثر تسخينا لحرارة المعدة.
وإذا استعملت حروباج وقويت الطباع على هضمها حسنا وجاد هضمها في المعدة، غذت غذاء قويا
وحبست البطن حبسا قويا وبخاصة إذا أخذت بماء الحصرم أو بماء رمان حامض أو بماء حماض الأترج
وشئ من طلع.
وأما الديوك فإن الفتي منها أغلظ وأقل رطوبة وأبعد انهضاما من الدجاج. وأما الهرم فإنه ألين
جسما وأرخى لحما من الفتي كثيرا وإن كان فيه بعد انهضام وبطء انحدار، إلا أنه إذا ألقي عليه خمسة
عشر رطلا ماء وأكثر ملحه وطبخ حتى يتهرأ وترك في مرقته ليلة وأسخن بالغداة وشربت مرقته، أطلقت
البطن ونفعت من القولنج، من قبل أن في لحمه بورقية فتحل في مرقته وتفيدها تقطيعا وتلذيعا وبخاصة
إذا طبخ مع لباب قرطم وشبت وكمون وأصل الكراث النبطي وورقه إن كان في مزاج العليل احتمال



(1) كذا. وسترد بعد قيل حروباج.
(2) في الأصل: الناقهين.
575
لذلك. وإذا أخذ الديك الهرم فشق جوفه وأخرج ما فيه وجعل مكان ما أخرج منه لب القرطم وبسفايج (1)
وكرنب بحري من الكرنب الذي له ورق طويل وقضبان حمر وفى طعمه ملوحة، ثم طبخ الكل بخمسة
عشر رطلا ماء حتى يتهرأ وشربت مرقته، أسهلت إسهالا بلغمانيا وفضولا غليظة سوداوية، وحللت رياح
المعدة وسكنت أوجاعها ونفعت من الارتعاش وأوجاع المفاصل والربو العارض من الرطوبات الغليظة
ومن الحميات المتطاولة وذوات الأدوار.
ومن منافع الدجاج والديوك على سبيل الدواء: أن دمها إذا ضمد به الدماغ والجبين والأصداغ،
نفع من الدم المنبعث من حجب الدماغ. وأدمغة الدجاج خاصة إذا شربت، نفعت من مثل ذلك ومن
نهش الهوام. وإذا شقت الدجاجة وحملت بحرارتها الغريزية على نهش الهوام وبدلت مرارا، نفعت من
ذلك أيضا. وشحم الدجاج إذا أخذ طريا بغير ملح وعمل منه ضماد، نفع من أوجاع الأرحام وحلل
أورامها. وإذا ملح وعتق وصار متقادما مالحا جفت رطوبته لحدة الملح وحرارته واستفاد يبسا وتلذيعا
وأضر بالأرحام. وشحم الإوز يفعل مثل ذلك أيضا. وإذا شرب زبل الدجاج بالسكنجبين أو بالخل، نفع
من الفطر القتال. وإذا شرب بعسل وماء حار أو بشراب وماء حار، نفع من القولنج. وإذا عمل منه أيضا
لطوخ بعسل، نقى الخشكريشة المجتمعة على النار الفارسي. وإذا أخذت الديوك وأحرقت بريشها وأخذ
منها الحجاب الذي داخل القانصة الحاوي للطعام، وجففت وشربت بشراب، نفعت من وجع المعدة.
وإذا شربت ببعض الأدوية القابضة ممزوجة بماء، نفعت من درور البول ومن خروجه بغير إرادة صاحبه
إذا خلط معها جفت البلوط وجلنار (2) وسعد مقشور وشئ من كندر.



(1) البسفايج: نبات ينبت في الصخور التي عليها خضرة، وغلظه في غلظ الخنصر، وفى طعمه قرنفلية.
(2) هو نوار (زهر) الرمان. طعمه قوي القبض.
576
القول في الفراخ والحمام
أما الفراخ ففيها، مع حرارتها، رطوبة فضلية بها صار فيها بعض الغلظ، ويدل على رطوبة
الفراخ ثقل حركتها وعدمها الطيران. فإذا صارت نواهض (1)، زالت رطوبتها الفضلية وخفت حركتها
وصارت أخف لحما وأحمد غذاء وأوفق لأصحاب البلغم وأضر بالمحرورين. ولذلك وجب أن يجتنبها
من كان محرورا. فأما من كان معتدلا وأحب أن يأكلها، فليتخذها مصوصا وجردماكا بماء رمان أو بماء
حصرم أو بماء حماض الأترج ولب الخيار والقثاء وقضبان الرجلة والكسفرة الرطبة والخس والهندباء.
وأما الفتي من الحمام، وما جاوز الفتي، فحار يابس بطئ الانهضام محرق للدم مذموم الغذاء.



(1) الناهض: فرخ الطائر الذي استقل للنهوض. أو هو الذي وفر جناحاه وتهيأ للطيران.
577
القول في القنابر
أما القنابر فمعروفة مشهورة بقنازعها (1) التي على رؤوسها. ويدل على أن القنابر هي التي على
رؤوسها قنازع، قول قاله جالينوس حكى فيه عن أويسريس (2) أنه كان يقول: أن القنبرة أول طائر (2) كان،
وأن أباها مات فلم تجد له أرضا تدفنه فيها، فبقي بحالته ميتا خمسة أيام. فلما ضاقت بها الحيل دفنته
على رأسها، وأن نافيطس الشاعر كان مضرب هذا المثل، ويقول: أن القنابر على رؤوسها مقابر.
قال وضع هذا الكتاب: أن هذا لم يكن من أوسيريس ولا من نافيطس الشاعر، على أن القنابر
ولا أرض (4) لان من الممتنع كون حيوان بلا مستقر ولا جدار (4)، لكنهم أن يبنوا (4) عن هذا الحيوان
ويميزوه بمثل طريف بديع.
ومن طبيعة القنابر أنها أقل حرارة ويبسا من العصافير كثيرا. ومن خاصتها: أنها إذا طبخت اللون
الساذج المعروف أسفيذباج، كانت مرقتها ملينة للبطن. وإذا أدمن أخذها مرارا كثيرة، نفعت من
القولنج. وأما لحمها فاختلف الأوائل فيه لان منهم من قال: أنه حابس للبطن. وأما ديسقوريدس فسلبه
ذلك لأنه قال (5): وإذا كانت مشوية أطلقت البطن. وأما جالينوس فلم يثبت ذلك ولم يفرده به، لأنه
قال: وأما لحم القنابر فإنه يلين البطن ولكن ينبغي أن يؤخذ مع مرقته (6). وأما أهل زماننا فإني رأيتهم لا
يختلفون في أن مرقة القنابر تطلق البطن، ولحمها يحبس البطن. وأما أنا فما رأيت للحم القنابر في
تليين البطن وحبسه أثرا بينا. وأحسب أن جالينوس إنما شرط أن يؤكل مع المرقة لهذا السبب، لأنه لو
علم أنه حابس للبطن لما أطلق القول فيه بأنه ملين. ولو علم أنه ملين لاستغنى بذكره عن ذكر المرقة.
والله أعلم.



(1) واحدتها القنزعة: الخصلة من الشعر تترك على رأس الصبي، أو بقية ريش، كالعرف، على رأس الطير.
(2) كذا رسم في الأصل، وسيرد بعد أسطر برسم آخر.
(3) في الأصل: طائرا.
(4) كذا في الأصل.
(5) في الأصل: فقال. و (لأنه) مضافة قبلها بعد سهو.
(6) في الأصل: مرقتها.
578
القول في أعضاء الطير
قال جالينوس أن نسبة أحشاء الطير إلى لحمه كنسبة أحشاء المواشي إلى لحمها. والقوانص من
كل طير غليظة عسرة الانهضام غليظة الغذاء، إلا أنها إذا انهضمت غذت غذاء كثيرا قويا بطئ
الانحلال من الأعضاء. وأفضل القوانص قوانص الإوز، لأنها أرطب وأرخى لحما وألذ طعما. وذلك
لفضل رطوبة جوانها بالطبع. وبعد قوانص الإوز في الفضل قوانص الدجاج. وكذلك كبود الطير فإنه
ألذها طعما وأكثرها غذاء وأحمدها جوهرا وأسرعها انحدارا وانهضاما كبود الإوز وبعدها كبود الدجاج
وبخاصة ما كان من الإوز والدجاج سمينا بغذاء معجون باللبن الحليب وماء التين المطبوخ.
فأما الأجنحة فإنها من كل طير، بالإضافة إلى حيوانها التي هي فيه، أسرع انهضاما وأحمد
غذاء، وذلك لتواتر حركتها وتواتر تعبها. ومن البين أن كل ما كثرت حركته ودام تعبه، تحلل جسمه ولان
لحمه وقلت فضوله، وكل ما قلت حركته ولم يتحرك أصلا، كثرت رطوبته وغلظ جسمه وانحسرت
فضوله وعسر انهضامه وبعد استمراؤه. وأفضل الأجنحة أجنحة الفتي المسمن من كل طير، لان الأجنحة
متى كانت من طير فتي، كانت الحرارة الغريزية فيها أقوى، ومتى كانت من طير سمين، كانت أرطب
وألذ وأسرع انهضاما وأكثر غذاء. وأردأ الأجنحة أجنحة الطيور الهرمة الهزيلة، لان ما كان من طير
كذلك، كان أعضل وأيبس وأبعد انهضاما وأقل غذاء. وأما أجنحة الصغير فإنها، وإن كانت محمودة
الغذاء لاعتدال حرارتها وسرعة انهضامها وجودة الجوهر المتولد عنها، فإنها يسيرة الغذاء سريعة
الانحلال من الأعضاء.
وأما الرقاب فإنها من كل طير محمودة الغذاء لدوام حركتها وترضيض خرز عظام العنق للحمها.
وأفضلها رقاب الإوز والدجاج المسمنة بالغذاء المعجون باللبن الحليب وماء التين المطبوخ. وأما
الخصي من كل طائر، بإضافته إلى الخصي من المواشي، أحمد كثيرا. وأفضلها خصى الديوك الكثيرة
سفادها (1)، وبخاصة إذا كانت من ديوك مسمنة باللبن الحليب وماء التين المطبوخ. فإن عارضنا معارض



(1) سفد سفدا وسفادا الذكر على الأنثى: نزا عليها. (يكون في الطير والماشي).
579
بالعصافير وقال: فإذا كانت (1) الخصي من الديوك إنما صارت (1) أفضل من خصى غيرها (1) من الطير
لكثرة سفادها (1)، فلم لا كانت (1) الخصي من العصافير أفضل لأنها أكثر سفادا! قلنا له: إن العصافير
أحر الطير بعد الجراد وأكثر يبسا وجفافا وإحراقا للدم. وما كان من الحيوان كذلك فكلما كثر سفاده ازداد
مزاجه حرارة واحتراقا، وبدنه يبسا وجفافا، وصار غذاؤه أذم وأردأ.
وأما الدماغ فإنه من الطير كله أحمد من المواشي، لان الطير كله أحمد من المواشي، لان الطير
أقل رطوبة وأبعد من اللزوجة. فبحسب قلة رطوبته وجفاف مزاجه على المواشي، كذلك نقصان رطوبة
دماغه على رطوبة دماغ المواشي، وبخاصة الطير الذي يأوي البراري والمواضع الجافة القليلة الرطوبة.
ومن البين انه إذا قلت رطوبة الدماغ، قلت لزوجته وصار أسرع انهضاما وأحمد غذاء. وأفضل الأدمغة
أدمغة الفراريج والحجل، وبعدها أدمغة الدجاج والديوك.



(1) في الأصل، بضمير المذكر.
580
القول في البيض
أما البيض فنسبته إلى بدن الحيوان كنسبة المني والدم إلى الحيوان المشاء، لان المني والدم لما
كانا مادة وغذاء لتوليد الحيوان الطيار المشاكل لطبيعة بدن الانسان لان البيض إذا كان من حيوان له ذكر
جمع فيه المني والغذاء جميعا، وذلك لان نفوذه في بدن الانسان أسرع وتغذيته أعدل وأكثر، وانحلاله
من الأعضاء أبعد وتقويته أزيد. والسبب في سرعة نفوذه في الأبدان لطافة جوهره وليانة جسمه واعتدال
رطوبته. والسبب في تقويته للأعضاء أن الحراة الغريزية كلما ازدادت فيه فعلا، ازداد هو صلابة وقوة.
وذلك يقاس من الشاهد لأنه نجده خارجا كلما ازداد فعل النار فيه تأثيرا، ازداد هو صلابة وشدة.
والسبب في كثرة غذائه أن جوهره كله يستحيل ويتشبه بالأعضاء المشاكلة مزاج (1) بدن الانسان بالطبع
لأنه قريب من التوسط والاعتدال وبخاصة المح منه لاعتدال حرارته ورطوبته، إلا أنه إذا شوي، اكتسب
من النار حرارة وجفافا وصار أكثر تجفيفا وأكثر تسكينا للحرارة. وإذا سلق بالماء استفاد رطوبة من الماء
وصار أقل تجفيفا وأكثر تسكينا للحرارة. وأما بياض البيض فينحرف عن الاعتدال والتوسط إلى البرودة
قليلا، ولذلك صار غليظا زهيما بطئ الانهضام بعيد الانحلال مذموم الغذاء.
وقد يختلف البيض في جودة غذائه ورداءته وسرعة انهضامه وإبطائه لوجوه أربعة: أحدها:
لطبيعة الحيوان الذي هو منه وسنه. والثاني: مقدار مدة البيض وما مضى له من الزمان بعد خروجه من
الحيوان. والثالث كيفية صنعته وعمله. والرابع: مقدار نضجه في كثرته وقلته، وقوته وضعفه. فأما مثال
ذلك من طبيعة الحيوان الذي هو منه وسنه، فيكون على ضروب: لان ما كان منه من حيوان أعدل مزاجا
وأعبل (2) لحما وأطرى سنا وبخاصة إذا كان من حيوان له ذكر، كان أفضل وأحمد مما كان من حيوان
أفسد مزاجا وأهزل لحما وأكبر سنا وبخاصة إذا كان من حيوان ليس له ذكر. ولذلك صار بيض الدجاج
والدراج والتدرج أفضل البيض وأحمد غذاء، لان حيوانه أعدل الطير مزاجا وأكثر شحما لكثرة سكونه



(1) (مزاج) مستدركة في الهامش.
(2) عبل وعبل: ضخم، فهو أعبل.
581
وقلة طيرانه، وبخاصة إذا كانت فتية ولها ذكورة، لان ما كان من البيض كذلك من حيوان فتي له ذكر،
كان أقوى لحرارته الغريزية، وأسرع لانهضامه، وأقل لزهومته.
وفى دون ما تقدم ذكره من البيض في الفضل بيض الإوز، إلا أنه أغلظ وأبعد انهضاما وانحدارا
وأثقل على المعدة وأبطأ نفوذا في العروق، إلا أنه، إذا قويت الطباع عليه وجاد هضمه في المعدة
والكبد، كان غذاؤه أكثر وأقوى مما تقدم ذكره. وبعد بيض الإوز في الفضل بيض النعام، إلا أنه أثقلها
وأبعدها انهضاما وانحدارا وأكثرها زهومة وزفورة. وأكثر البيض فضولا بيض الطواويس لكثرة فضول
حيوانه بالطبع. وأكثر البيض إسخانا وتجفيفا وإحراقا للدم بيض العصافير، لان الحمام وإن كان في
طبيعته حارا يابسا فإنه، بإضافته إلى العصافير أقل حرارة وأزيد رطوبة وأفضل غذاء.
وأما اختلاف البيض بحسب مدة زمانه وما مضى له من بعد خروجه من حيوانه فيكون على
ضروب: لان منه الطري القريب العهد بالخروج من الحيوان، ومنه العتيق البعيد العهد بالخروج من
الحيوان، ومنه المتوسط بين ذلك. فما كان طريا قريب العهد، كان أفضل وأحمد غذاء وأجود جوهرا
وأسرع انهضاما، لان حرارته الغريزية أقوى وزهومته أقل ولذاذته أكثر. وكلما كان أبعد عهدا بالخروج
كان أذم وأفسد غذاء وأردأ جوهرا وأبعد انهضاما، لان حرارته الغريزية أضعف وزهومته أكثر ولذاذته أقل.
وهذا السبب هو أعظم الأسباب التي يلحق البيض فيها الفساد. ولذلك قال جالينوس: إن البيض ليس
يكاد يلحقه الفساد، إلا أن يعتق وتزول عنه حرارته الغريزية فيحدث فيه غليان وتعفن ويزيده عفونة
ويفيده زهومة وزفورة. وهذا شئ قد يمكن للانسان التحرز منه لأنه قادر على ألا يستعمل من البيض إلا
ما كان طريا ليومه. وأما اللبن فليس كذلك لان الفساد يلحقه من جهات لان كثيرا ما يتعفن ويفسد متى
لم يسمن الحيوان الذي هو منه على ما ينبغي، أو كان الحيوان يأكل أغذية فاسدة، أو جاع الحيوان
جوعا شديدا، أو عطش عطشا قويا كالذي نجده يعرض في ألبان النساء إذا أسأن في تدبيرهن وخلطن
في أغذيتهن أو أدمن الصوم.
فإن عارضنا معترض وقال: فإذا كان البيض لا يلحقه الفساد إلا من هذه الجهة الواحدة، فلم
صار بيض الدجاج والدراج أفضل البيض، وبيض الفتي أفضل من بيض الهرم، وبيض ما له ذكر أفضل
من بيض ما ليس له ذكر! قلنا: إن المعارضة فاسدة من قبل أنك قابلت بيض الحيوان الواحد (1) من
جنس واحد وجوهر واحد، وان اختلفت (2) أحواله، ببيض حيوانات شتى مختلفة الطباع والجواهر
والأجناس. وقد كنا بينا أن كل بيض مشاكل لجوهر حيوانه الذي هو منه، محمودا (3) كان ذلك الحيوان أو
مذموما (3). ولذلك صار البيض من كل واحد من الحيوان مخالفا لبيض ما خالفه في جنسه وجوهره من



(1) في الأصل: واحد.
(2) في الأصل: اختلف.
(3) في الأصل، بالرفع.
582
حيوان آخر. وأما البيض الكائن في حيوان واحد في جنس واحد وجوهر واحد، فإن التغير لا يلحقه في
جودة جوهره، ورداءته، بل إنما يلحقه ذلك في كثرة غذائه وقلته. وليس كل ما كان كثير الغذاء وجب أن
يكون محمود الجوهر لأنا قد نجد القليل الغذاء محمودا ومذموما (1)، مثل القطا والعصافير، لان القطا
قليلة الغذاء محمودة ومذمومة مثل الرضع من البقر والأيل، لان الرضع من البقر كثير الغذاء محمود
الجوهر، والرضع من الأيل كثير الغذاء مذموم الجوهر. فقد اتفقا جميعا في كثرة الغذاء واختلفا في جودة
الجوهر ورداءته. وكذلك قد نجد طعامين أحدهما أسهل انهضاما وأسرع نفوذا في العروق وجواهرهما
متفقة (2)، إما في الحمد وإما في الذم مثل البيض النيمبرشت والبيض المنعقد فإنا نجدهما متفقين في
الجوهر وأحدهما أسرع انهضاما لرطوبة جسمه وليانته، والآخر أبعد انهضاما لصلابة جسمه.
ولذلك صار نضج البيض يختلف في كثرته وقلته على ثلاثة (3) ضروب: لان منه ما يبلغ من
نضجه ما جاوز الاعتدال واشتد انعقاده وصلب وهو المسمى المنعقد. ومنه ما لا يبلغ إلى نضجه إلا أن
يسخن وتجول حرارية النار في جسمه، وهو المسمى المتحسى. ومنه ما صار في نضجه إلى الحال
المتوسط والاعتدال وهو المعروف بالفارسية نيمبرشت. فأما المنعقد فهو أغلظها وأعسرها (4) انهضاما
وأثقلها على المعدة وأبعدها انحلالا من الأعضاء، من قبل أن النار قد جاوزت في نضجها خارجا عن
المقدار المعتدل وأخرجته إلى غاية الجمود والانعقاد، ولم يبق له حال ينتقل إليها باطنا إلا الصلابة
والجفاف وبعد الانحلال. ولذلك صار أكثرها غذاء.
وأما النيمبرشت فهو أعدلها وأسرعها انهضاما وأفضلها، وذلك لتوسط النضج على الحقيقة لولا
أن فيه بقايا من زهومة البيض الطبيعية، إذ كان في طبيعته مشاكلا لطبيعة الدم والمني على ما بينا
وأوضحنا. ولذلك وجب أن يتوقى الاكثار منه والادمان عليه، ولا يستعمل إلا على نقاء المعدة من
الفضول وخلائها من الغذاء، وإذا كان هذا لازما للنيمبرشت على كمال نضجه وجودة انهضامه، فهي في
غيره ما لم يستكمل نضجه أوجب وأوجد. ولذلك صار المتحسى من البيض، على سرعة انحداره
ونفوذه في العروق، يصير نيمبرشت ويؤكل بالملح والكمون. فإن كان مزاج صاحبه بلغمانيا، زاد فيه
فلفلا وصعترا وزنجبيلا. وقد يعمل على وجه آخر أيضا فيكون انهضامه أسرع وجوهره أحمد وغذاؤه أكثر
وهو أن يؤخذ البيض فيصير في إناء نظيف ويلقى فيه شئ من شراب ريحاني عذب وشئ من زيت
عذب وشئ من ملح عذب مسحوق ويضرب جيدا ويصير في قدر برام ويجعل في طنجير (5) مملوء ماء
ويوقد تحت الطنجير بنار لينة، جمر لا دخان (6) لها، حتى ينعقد الذي في القدر نصف انعقاده ويؤكل بما
قدمنا ذكره من الأبازير.



(1) في الأصل: محمود ومذموم.
(2) قبلها في الأصل: (إما) ملغاة بشطبة.
(3) في الأصل: ثلاث.
(4) في الأصل: وأسرعها والتصويب من الهامش.
(5) الطنجير والطنجرة: قدر من نحاس يطبخ فيه.
(6) (دخا) مضافة في الهامش.
583
وأما المقلى بالزيت فهو أغلظ البيض وأذمه جوهرا وأخصه إلى الاستحالة بالدخانية وجنس المرار
وأثقله على المعدة وأبعده انهضاما. ولذلك صار مولدا للبشم والتخم لأنه إذا استحال وفسد، فسد
بفساده ما يصحبه من الغذاء ومنع من جودة الهضم. وأما المطبوخ بالماء والزيت والبصل والأبازير فسريع
الانهضام والانحدار كثير الغذاء محمود الجوهر زائد في المني معين على الباه، لا سيما إذا قلي (1)
بشراب ريحاني عذب. لكن من الواجب أن يطبخ البصل والزيت والملح والأبازير بدوا طبخا بليغا حتى
ينضج نضجا تاما كاملا، ويضرب البيض بشئ من شراب حتى يختلط ثم يلقى في القدر ويحرك جيدا
وينزل عن النار ويصير عليه إلى أن ينضج البيض وينعقد نصف انعقاده ويؤكل. وعلى هذا المثال يجب
أن يفعل بالبيض المفقوس على الاسفيذباجات وهو أن تطبخ القدر حتى يكمل نضجها ثم يفقس البيض
في غضارة ويضرب جيدا حتى يختلط ويلقى في القدر ويحرك جيدا وينزل عن النار ويترك حتى ينعقد
البيض نصف انعقاده ويستعمل. وأما المفقوس على المتقبلات (2) فيجب أن يفقس في القدر بعد كمال
نضجها وهو صحيح من غير أن يحرك القدر وينزل عن النار ويترك حتى ينعقد البيض نصف انعقاده
ويستعمل، ولا يجاوز به هذا المقدار المنعقد.
ومن منافع البيض على سبيل الدواء: أنه إذا سلق بخل على نار جمر لا دخان لها وأكل، قوى
المعدة والأمعاء وجفف المواد المنصبة إليها. وإذا سلق بماء الحصرم أو بماء الرمان الحامض أو حماض
الأترج أو ما شاكل ذلك، كان أشد تسكينا للحرارة وتقوية للمعدة والأمعاء، وأقوى على قطع المادة
المنصبة إليها وأنفع من الاسهال المري والاسهال العارض من ضعف الكبد. وإذا سلق بماء السماق
والزعرور والمقل المكي والغبيراء، كان فعله في تقوية المعدة والأمعاء وقطع الاسهال أقوى كثيرا وأفعل
في الاسهال المتقادم العارض من زلق الأمعاء. <وكذلك> أن يسلق بماء قد طبخ فيه طراثيث (3) وبلوط
وشاهبلوط وزبيب منزوع العجم وشئ من ورد الرمان وقشره.
ومن منافعه أيضا على سبيل الدواء: أنه إذا عمل منه بجملته ضماد بدهن ورد وحمل منه على
الأورام العارضة في أجفان الأعين وأورام الثديين وأصول الآذان، بل المواضع وحلل أورامها. وأما مح
البيض على الانفراد، فإنه لما كان حارا لينا، صار التحليل فيه أقوى. ولذلك صار إذا عمل فيه ضماد
بدهن بنفسج، لين الأورام الحارة وأسرع نضجها وحلل ما لم يجتمع فيها. وإذا عمل منه ضماد بدهن
الورد، حلل أورام الأجفان وسكن ألمها. وإذا خلط بمرهم قيروطي المعمول من الشمع المغسول بالماء
البارد ودهن ورد، قوي فعله في تسكين الحرارة وحلل الأورام الحارة. فإن كانت الأورام تحتاج إلى
التقوية أكثر، جعلت مح البيض مشويا. وإن كانت تحتاج إلى التحليل أقل، جعلت مح البيض نيا. وإذا
عمل من مح البيض ضماد بدهن ورد ويسير من زعفران وشئ من مر، حلل الأورام المتولدة من الدم



(1) في الأصل: قليت.
(2) كذا في الأصل وفوقها علامة تشير إلى غموضها.
(3) هو لحية التيس.
584
الغليظ. وأما بياض البيض على الانفراد، فلما كان مبردا ملينا من غير لذع أصلا، وجب أن يستعمل في
العلل المحتاجة إلى التدبير والتليين من غير لذع. ولذلك صار نافعا من خشونة العين وأوجاعها إذا قطر
منه فيها. ولكن لما كان مع تبريده وتليينه غرويا لازوقا، وجب ألا يستعمل في علل العين، إلا ما كان
منها في الأجفان والحجاب الملتحم الذي تكون فيه الدماء. ويحذر غاية الحذر استعماله في العلل
المتولدة عن المرار الحارة اللذاعة المحتقنة في طبقات العين وحجبها الباطنة، لأنه يسد مسام العين
الظاهرة بتغريته، ويحقن البخارات في باطنها، ويمنع من تحللها. وإذا انحصرت البخارات هناك
وازدحمت، غليت الرطوبات واتسعت وطلبت موضعا أوسع من موضعها فتوقا وقروحا. وذلك يقاس من
البخار المحتقن في أرحام الأرض، لان الطبيعيين والمهندسين قد أجمعوا على أن الهواء الظاهر.. (1)
ومنعها من التحليل، تكاثفت هناك وازدحمت وحميت واتسعت وطلبت موضعا أكبر من موضعها، فإذا لم
تجد موضعا تتسع فيه ومساما تتنفس فيها، رفعت الأرض وهدتها وزلزلتها وشقتها لتخرج منها. ومن
منافع بياض البيض أيضا: أنه إذا خلط بدهن الورد وطلي على التنفط العارض من حرق النار والما
الحار، نفع نفعا بينا. وإذا حمل على جراحات العانة وشقاق المقعدة، بردها وسكن أوجاعها.



(1) بياض في الأصل مقدار كلمة أو اثنتين. وفى الهامش: (يحقق الخلو). ولعلها: (إذا حبسها).
585
القول في السمك
قد كنا تكلمنا في السمك في المقالة الأولى من كتابنا هذا كلاما جمليا، وأتينا على اختلاف
أنواعه وأصنافه وجودة تغذيته من رداءته، وسرعة انهضامه من إبطائه، والمحمود منها من المذموم،
والأفضل من الأخس. وأنا ذاكر في هذا الموضع جملة من ذلك لتكون تذكرة لمن نظر في مقالتنا هذه،
ومما يستغنى به عن النظر في المقالة الأولى إلا في الندرة، وعند الحاجة إلى إقامة البرهان على ما
يقصد إليه من ذلك. ولا قوة إلا بالله تعالى.
فأقول: أما طبيعة السمك في الجملة فباردة رطبة مولدة للبلغم، موافقة لمن كان مزاجه محرورا
وجسمه جافا، لا سيما في زمان الصيف وفى البلدان الحارة، ومذمومة (1) فيمن كان مزاجه باردا وجسمه
لحميا عبلا، ولا سيما متى كان بعصبه بعض الاسترخاء، لا سيما في الشتاء وفى البلدان الباردة، لان
من خاصته ترطيب الأبدان وتبريدها. ولذلك صار زائدا في جماع من كان محرورا صفراويا. وقد
يختلف السمك على ضروب، لأنه ينقسم قسمة أولية على ثلاثة أنواع. وذلك أن منه النهري وهو لا
يتولد إلا في الأنهار العذبة فقط. ومنه ما يتولد في الماءين جميعا (2). فأما الذي يتولد في البحر
<فمنه> ما يصعد إلى الأنهار العذبة لاستلذاذه لعذوبة مائها. ومنه ما يكره ذلك وينفر منه. فأما الذي
يتولد في الماء العذب فكله يكره الماء المالح وينفر منه، ولذلك صار لا ينحدر منه إلى البحر إلا ما
أخذته قوة جري الماء المنصب إلى البحر. وأما ما يتولد من الماءين جميعا فإن ما يتولد منه في البحر
يصعد إلى الأنهار ويصاد منها كثيرا. والقليل ما يتولد منه في البحر وبين ما يتولد منه في الأنهار، لان
الذي يتولد في البحر فشوكه أقل وأغلظ وأصلب لجفاف مائه الذي يأوي ويتولد فيه بالطبع. والذي يتولد
في الأنهار فشوكه أدق وأكثر وألين، وذلك لليانة مائه ورخاوته بالطبع. والسبب في كثرة شوكه: أن
الطبيعة احتاجت إلى أن تنسجه شوكا كثيرا كيلا يسترخي لرخاوة جسمه ورطوبة لحمه.



(1) في الأصل: ومذموما.
(2) ولم يذكر النوع الثاني، البحري، وهو الذي يتولد في المياه المالحة.
586
فإن قال قائل: فلم صيرت شوكه أغلظ ليقوى على حمله وإمساكه؟ قلنا له: إن رطوبة مائه
ورخاوته بالطبع منعت من ذلك. ولذلك افتقرت الطباع إلى كثرة الشوك لينوب لها عن غلظه.
وأما السمك البحري فينقسم على ضربين: لان منه ما يعرف باللجي لان تولده في لجج البحار
ووسطها (1). ومنه ما يعرف بالشطي لان تولده في شط البحر وأطرافه. واللجي على ضربين: لان منه ما
يتولد في الطين والمواضع اللينة الرخوة ويسمى اللجي على الحقيقة (2). والشطي على ضربين: لان
منه ما يتولد في الطين والحمأة ويأوي المواضع الرخوة والقريبة من مصب الأنهار ويسمى الشطي على
الحقيقة. ومنه ما يتولد في الرمل والحصى ويأوي المواضع الصلبة البعيدة من مصب الأنهار ويسمى
الصخري على المجاز. وإنما قلنا فيه الصخري على المجاز لأنه، وإن كان يتولد في الرمل والحصى
والمواضع الصلبة، فإن ماءه الذي يأوي فيه ليس هو على نهاية الصخري على الحقيقة، ولا على صفائه
لقربه من شط البحر وطرفه. فتبين مما قلنا: أن السمك البحري له سهوكة وزهومة، وأبعده من الغلظ
وأسرعه انهضاما وأقربه من تولد الدم المحمود القريب من المشاكلة من مزاج دم الانسان المرطوب،
السمك البحري على الحقيقة، إلا أنه أبعد انحدارا عن المعدة والأمعاء لقلة لزوجته وبعده من
اللعابية. ويدل على ذلك قلة شحمه ولذاذة طعمه وعذوبته وبعده من الحلاوة والسهوكة. ولذلك صار
أكثر ملاءمة لمزاج المغتذي به، لان كل لذيذ ملائم، وكل مخالف للذاذة فبعده عن الملاءمة بحسب
انحرافه عن اللذاذة. ولذلك صار هذا النوع من السمك ألطف أنواع السمك وأرخاها لحما وأسرعها
انهضاما وأفضلها لحفظ الصحة. وذلك لسرعة انحلاله من الأعضاء لقلة لزوجته واعتدال الدم المتولد
عنه وتوسطه بين الرقة والغلظ، أعني أنه لا بالرقيق المائي ولا الغليظ الأرضي، وإن كان أميل إلى الرقة
قليلا لغلبة الرطوبة على جملة السمك بالطبع.
فإن عارضنا معترض <وقال>: فلم نسبته إلى التوسط والاعتدال وأنت تزعم أن الرطوبة أغلب
عليه بالطبع؟ قلنا له: إن الاعتدال يضم في اسمه ثلاث مراتب: إما مرتبته المتوسطة على الاعتدال
والحقيقة مثل الدم المتولد عن الخبز المحكم الصنعة، وإما مرتبة التوسط والاعتدال مع الانحراف والرقة
قليلا مثل مرتبة الدم المتولد عن السمك على الحقيقة، وإما مرتبة التوسط والاعتدال مع انحرافه إلى
الغلظ قليلا مثل مرتبة الدم المتولد عن العجول الرضع والحولي من الضأن. وإن كان قد يقع بين مرتبة
التوسط والاعتدال على الحقيقة وبين هاتين الحاشيتين وسائط أيضا مثل مرتبة الدم المتولد عن الدراج
والفراريج، ومرتبة الدم المتولد عن العجول الرضع، لأنه وإن كان الدم المتولد عن الجدي الرضع أغلظ



(1) في الأصل: ووسطه.
(2) سقط هنا الضرب الثاني من اللجي، وهو، كما في المقالة الأولى من هذا الكتاب: (ومنه ما يتولد في المواضع الصلبة
الصخرية الكثيرة الحجارة، ويسمى السمك البحري).
587
من الدم المتولد عن الدراج والفراريج، فإنه أرقه وألطف من الدم المتولد عن العجول. ولذلك صار
لحم الرضيع أوفق للناقهين من الأمراض، ولحم العجول الرضع والحولي من الضأن لغلظه <أبعد> (1)
عن احتمال الناقهين من الأمراض على هضمه، وذلك لغلظ لحم البقر بالطبع ورطوبة لحم الضأن
ولزوجته.
وأما السمك اللجي على الحقيقة فمشاكل للسمك الصخري على المجاز في لطافته وقلة لزوجته
وجودة الدم المتولد عنه. ولا فرق بينهما إلا في صلابة اللحم وسرعة الانهضام وإبطائه، من قبل أن
السمك الصخري على المجاز أرخى لحما وأسرع انهضاما لصلابة المواضع التي يأوي فيها ومقاومته
للحجارة دائما. والسمك اللجي على الحقيقة أصلب لحما وأبطأ انهضاما لرخاوة المواضع التي يأوي
فيها وكثرة طينها ولثقها (2)، وإن كانا جميعا، بإضافتهما إلى السمك، أقل لذاذة وأكثر حلاوة وأغلظ، إلا
أن الأسباب الموجبة لذلك فيهما تختلف من قبل أن الموجب لذلك في الصخري على المجاز هو (3)
غلظ مائه الذي يأوي فيه وكدورته ووسخه لقربه من فم البحر ومصب الأنهار. والموجب في ذلك
للسمك اللجي رخاوة أرضه وكثرة لثقها (4). ولذلك صار هذا النوع أكثر شحما وأزيد غذاء من قبل أن
الغلظ والصلابة أغلب، فهو إلى الأرضية أميل. وما كان (5) إلى الأرضية أميل، كان انحلاله من الأعضاء
أبعد. وإذا بعد انحلاله من الأعضاء، طال لبثه فيها واستغنت الأعضاء عن طلب غذاء مستأنف (6) لان
ذلك يقوم لها مقام الغذاء. ولذلك شبهت الأوائل الدم المتولد عن هذا النوع من السمك، أعني السمك
اللجي على الحقيقة، بالدم المتولد عن لحم الدراج والفراريج. ولعل ظانا يظن أن الأوائل إنما شبهت
الدم المتولد عن السمك اللجي بدم الدراج والفراريج في جودة جوهره وحسن غذائه لمعرفة فساده،
ذلك من قبل أن الدم المتولد عن لحم الدراج والفراريج هو الدم الغريزي المحمود في كل أحواله
الموافق لكل مزاج دم الانسان الطبيعي في اعتدال حرارته ورطوبته. والدم المتولد عن السمك فالرطوبة
عليه أغلب والسهوكة والزهومة به أخص، وإن قل ذلك وكثر في بعض أنواعه دون بعض للأسباب التي
بيناها.
فإن قال قائل: فلم صار السمك اللجي في مرتبة لحم الدراج والفراريج؟ وما السبب الموجب
لذلك؟ ومرتبة الدراج والفراريج هي مرتبة التوسط والاعتدال على الحقيقة، ولم يوجب ذلك في السمك
الصخري على الحقيقة! قلنا له: قد تبين من قولنا أنا لم نصير السمك اللجي في مرتبة التوسط



(1) لعل مع هذه الزيادة يستقيم المعنى.
(2) اللثق: الوحل: الماء والطين يختلطان.
(3) في الأصل: وهو. والواو زائد.
(4) في الأصل: (ولثقها) غير منقطة. فالتبست على الناسخ وأشار إلى غموضها.
(5) في الأصل: كانت.
(6) في الأصل: غذاء مستأنفا.
588
والاعتدال على الحقيقة، بل نسبنا السمك اللجي إليها على سبيل الاستعارة والمجاز على جودة الجوهر
وحسن الغذاء. وأما السمك الشطي، فقد يقع فيه الاختلاف أيضا من قبل طبيعة المواضع التي يأوي
فيها، لان منه ما يأوي المواضع الرملية الحسنة الصافية الماء القليلة الكدر والأوساخ لبعدها من مصب
الأنهار قليلا. ومنه (1) ما يأوي المواضع اللينة الرخوة الكثيرة الطين والحمأة لقربها من مصب الأنهار
وكثرة ما يصل إليها من مياه الأنهار ومن أوساخ المدن ومزابلها. ومنه (1) ما يأوي المواضع المتوسطة بين
ذلك. وما كان منه (1) يأوي المواضع الحسنة الرملية الصافية الماء القليلة الكدر والأوساخ، لبعدها من
مصب الأنهار قليلا، كان أفضل مما يأوي المواضع الرخوة الكثيرة الطين والحمأة القريبة من مصب
الأنهار من قبل أن ما يصل إليها، من أوساخ المدن ومزابلها، يفسد ماء السمك وغذاءه ويكسبه سهوكة (2)
وزهومة وغلظ ولزوجة.
وما كان من السمك يأوي المواضع المتوسطة بين هاتين الحاشيتين كان أجدى من كل واحد
منهما بقسطه على حسب توسطه بينهما على الحقيقة، وانحرافه إلى إحداهما دون الأخرى. وأما السمك
الذي يصعد من البحر إلى الأنهار ويصير فيها، فقد يلحقه من الاختلاف على حسب اختلاف المواضع
التي يأوي فيها، وإن كان في الجملة أكثر لزوجة وغلظا من السمك الذي لا يصعد أصلا بإضافة كل نوع
منها مما يصعد من الأنهار إلى نوعه الذي لا يصعد ولا يفارق البحر، أعني بذلك اللجي إلى اللجي (3)
والشطي إلى اللجي، ففي ما أتينا به من طبيعة السمك البحري واختلاف أنواعه وأصنافه كفاية ولا قوة
إلا بالله.
* * *
القول في السمك النهري
وأما السمك النهري فهو في جملته أغلظ وأكثر لزوجة وأبعد انهضاما وأسرع انحدارا عن المعدة
وأكثر غذاء من السمك البحري، وذلك لرطوبة مائه ورخاوته وعذوبته، إلا أنه ينقسم قسمة أولية على
قسمين: لان منه ما يتولد في الأنهار ويأوي فيها ويسمى النهري على الحقيقة. ومنه ما يتولد في
البحيرات والآجام ويأوي فيها ويسمى البحري.
والنهري أيضا يكون على ضربين: لان منه الرضراضي المتولد في الأنهار العظام الصافية
الشديدة المد، الجارية على الرمل والحصى الرضراضية، النقية من الأوساخ والكدر لبعدها من المدن
ومن أوساخها ومزابلها. ومنه (4) ما يتولد في الأنهار اللطاف الضعيفة المد، الجارية على الطين والحمأة



(1) في الأصل: ومنها.
(2) في الأصل: زهوكة. وهو تصحيف.
(3) كذا في الأصل. ولعلها الشطي.
(4) في الأصل: ومنها.
589
لقربها من المدن وأوساخها ولما ينصب إليها من المدن من مبلات الكنان وقنوات الحمامات.
وأما السمك البحري فيكون على ثلاثة ضروب: لان منه ما يأوي إلى البحيرات القريبة من
مصب الأنهار من جهة، وطرف البحر من جهة، والأنهار تنصب إليها دائما وهي تنصب إلى البحر. ومنه
ما يأوي إلى البحيرات المنقطعة عن البحر ولا يتفرغ منها شئ إلى البحر، وإن كانت المنقطعة عن
البحر والأنهار جميعا، فإنها لا ينصب إليها منها شئ وهي لا يتفرع منها شئ إلى البحر أصلا. فأفضل
سمك الماء العذب وأقله لزوجة وسهوكة وأبعده من العذوبة وأقله شحما وألذه طعما وألينه لحما وأسرعه
انهضاما، السمك الرضراضي المتولد في الأنهار العظام القوية المد، الجارية على الحجارة والحصى
الرضراضي، الصافية الماء، البريئة من الأوساخ وأوساخ المدن ومزابلها لبعدها منها. وذلك أن قوة جري
الماء ومصادمة الماء للسمك دائما وللحصى يكسر لحم السمك ويرخيه ويزيل عنه أكثر لزوجته وغلظه،
لا سيما إذا كان في ماء ضحضاح (1) قريب من الأرض، لان السمك إذا كان قريبا من الأرض، كان أكثر
لمصادمته للحصى، وصفاء الماء ونقائه من الأوساخ، أوساخ المدن ومزابلها، يزيل عنه أكثر حلاوته
ويذهب بأكثر سهوكته وزهومته ويصيره قريبا من السمك اللجي على الحقيقة والصخري على المجاز،
وإن كانت رطوبته أزيد قليلا بالطبع لعذوبة مائه ورطوبته. ولذلك صار أعذب وأحلى وأطيب طعما من
السمك البحري في الجملة.
وأما السمك المتولد في الأنهار الصغار القليلة المد الجارية على الطين والحمأة الكثيرة الأوساخ
والكدر، لقربها من المدن ومن أوساخها ومزابلها وانصباب قنوات الحمامات ومبلات الكنان إليها، فإنها
في الجملة أكثر لزوجة وسهوكة وأغلظ لحما وأبعد انهضاما وأكثر حلاوة وأقل لذاذة وأردأ غذاء، لان قلة
حركة الماء ولين جريه يحصر الرطوبات الغليظة في بدن السمك ويمنع من تحليلها، ويغلظ لحمه.
ووسخ الماء وكدورته وفساده لما يداخله في أوساخ المدن ومزابلها وقنوات حماماتها ومبلات كنانها يفيده
سهوكة وزهومة وسرعة استحالة إلى الفساد.
وأما السمك البحيري فهو أذم الأسماك وأردأها وأكثرها سهوكة وزهومة وأغلظها لحما وأبعدها
انهضاما وأكثرها حلاوة وأبعدها من اللذاذة. وأذم ما في البحيرات وأبعده من المشاكلة للغذاء وأكثره (2)
لزوجة وسهوكة وغلظا وأسرعه (3) انقلابا إلى الفساد، سمك الآجام المنقطعة عن البحر والأنهار لان ماءها
أبدا راكد (4)، دائم السكون، عديم الحركة، كثير العفونة والطين والحمأة، من قبل أن الأنهار لا تصب
إليها شيئا فيبلو ماءها في كل وقت، ويتجدد ويرق ويلطف وهي لا يتفرع منها شئ في البحر فيغسل
ماءها ويزول عنه بعض وسخه ونتنه، وأكثره مما يخرج منها. ومما يدل على ذلك سرعة فساد سمكها



(1) الضحضاح: الماء القريب القعر: ما رق من الماء على وجه الأرض يبلغ إلى الكعبين، أو ما لا غرق فيه.
(2) في الأصل: وأكثرها.
(3) في الأصل: وأسرعها.
(4) في الأصل: راكدا.
590
عند خروجه من الماء، لأنه لا يلبث إلا قليلا حتى يفسد ويعفن وينتن، لان كثرة لزوجته ولعابيته تسد
مسام النفس فيه بسرعة فتختنق حرارته الغريزية في باطنه في أسرع مدة ويطفو على المكان. وقد
أخبرت، في المقالة الأولى من كتابي هذا، بشئ من مثل هذا النوع من السمك شاهدته عيانا، وذلك
أني شاهدت بالغرب بحيرة مستعملها تكون مساحتها مائتي ذراع في مائتين وخمسين، فكان الماء يخلي
فيها في كل عشرة أيام أو عشرين يوما أو أكثر من ذلك، ولم يكن يخرج منها شئ إلى موضع، لان
مشربها الذي أعد لها للمفرغ كان مسدودا، ولكن كانوا يسقون منها بالدلاء. فأقامت بذلك خمس سنين
أو أكثر حتى كثرت الحمأة فيها ونبت فيها الحشيش، وتولدت فيها ضفادع كثيرة كبار عظيمة. فلما أرادوا
أن ينقوها، فتحوا ذلك المشرب، فخرج ذلك الماء وبقي الحشيش والحمأة والضفادع، ووجدوا فيها
سمكا كبيرا سمينا إذا مسه الانسان زلق من يده حتى لا يقدر الانسان أن يمسكه. وإذا أخرج من الماء
الذي فيه الحمأة، مات من ساعته. وشاهدت من طبخ منه شيئا فلم يقدر على أكله، للعابيته ولزوجته
وسهوكته.
ودون هذا السمك في الفساد وبعد الانهضام ورداءة الغذاء سمك البحيرات المنقطعة عن البحر
فقط، لان هذه البحيرات، وإن كان لا يخرج منها شئ ء إلى البحر فيغسل ماؤها بما يخرج منها، فإن ما
ينصب إليها من الأنهار دائما يلطف ماءها قليلا ويرقه ويطريه ويغير بعض زهومته وسهوكته. وإن كان
ذلك ليس مما يزيل عن السمك فساد غذائه وبعد انهضامه جملة، لكن ينقص قليلا.
وأما سمك البحيرات القريبة من الأنهار والبحر جميعا، فهو أقل لزوجة وأبعد من الغلظ وأرق من
سمك الأنهار اللطاف القريبة من المدن، لان ماءه الذي يأوي إليه يرق ويلطف بما ينصب إليه من
الأنهار، وينغسل بما يخرج منه إلى البحر إذا كان بين هذين المائين ماء الأنهار اللطاف فرق بين لقوة
حركة ماء الأنهار وشدة مده. ولذلك صار سمك الأنهار اللطاف أقل لزوجة وسهوكة وأسرع انهضاما من
سمك البحيرات القريبة من الأنهار والبحر جميعا.
وللفاضل أبقراط في السمك قول قال فيه: إن ما كان من سمك البحر يأوي المواضع اللينة
الكثيرة الطهر فهو أسمن وأسرع انحدارا، إلا أنه أعسر انهضاما. وما يأوي من سمك الأنهار القليلة
الحركة القريبة من المدن أو البحيرات المتصلة بالبحر والأنهار، كان أعسر انهضاما من الأول وأسرع
انحدارا وأكثر شحما لان أقل السمك رطوبة وأبعده من اللزوجة ما كان بحريا وبعده سمك الأنهار العظام
الشديدة المد، البعيدة من المدن. وأكثر السمك رطوبة ولزوجة وسهوكة سمك البحيرات المنقطعة عن
البحر فقط، وبعده سمك البحيرات المتصلة بالبحر والأنهار، وسمك الأنهار اللطاف الضعيفة المد
القريبة من المدن، وإن كان هذا السمك أفضل من سمك البحيرات في الجملة. وإذ ذلك كذلك، فمن
البين أنه بحسب نقصان سمك الأنهار عن سمك البحر في اللذاذة وحسن الاستمراء وجودة الجوهر،
كذلك نقصان سمك البحر عن سمك الأنهار في مثل ذلك أيضا. وبعكس ذلك يقال: أنه بحسب

591
نقصان (1) سمك البحيرات في حلاوة الطعم وسرعة الانحدار أو عسر الانهضام وقلة اللذاذة ورداءة
الغذاء، كذلك يكون نقصان سمك البحر عن سمك الأنهار في مثل ذلك أيضا. ومن قبل أن ما كان من
السمك أسمن داخلا، وأسرع انحدارا، فهو أقل لذاذة وأعسر انهضاما وأفسد غذاء. وما كان من السمك
أغذي شحما وأقل حلاوة وأبعد انحدارا فهو ألذ وأسرع انهضاما وأحمد غذاء.
ولروفس في مثل ذلك قول قال فيه: ان الجنس الواحد من السمك إذا كان منه بحري ومنه
نهري، فإن البحري منه أقل شحما وألذ طعما وأسرع انهضاما وأحسن جوهرا. والنهري أحلى طعما
وأكثر شحما وأبعد انهضاما وأسرع انحدارا وأقل لذاذة وأردأ جوهرا.
وقد يقع في غذاء السمك اختلاف كثير من وجوه أخر: أحدها: من جنسه وتركيبه، والثاني: من
مرعاه، والثالث: من طبيعة الرياح الهابة عليه واختلافها في كثرتها وقلتها وشدتها وضعفها (2)، والرابع:
من طبيعة ما تحمله الرياح معها، والخامس: من صنعة السمك وعمله والوجوه التي يتخذ بها. فأما
اختلافه من قبل جنسه وتركيبه فيكون على ضروب من قبل أن منه جنسا له قشر وفلوس (3). ومنه ما ليس
له قشر ولا فلوس. ومن الذي له فلوس ما فلوسه أغلظ وأصلب، ومنه ما فلوسه أرق وألين. فما كان من
السمك له فلوس فهو في الجملة أفضل مما ليس له فلوس، وذلك لجهتين: إحداهما: أن الفلوس دالة
على قلة رطوبته ومائيته. ولذلك صارت سهوكته أقل من سهوكة ما ليس عليه قشر كثير. والثانية: أن
الفلوس دالة على قلة فضول السمك لان الطباع تحتاج أن تلطف فضلة الانهضام الثالث في الحيوان
المشاء والطائر في تغذية الشعر والصوف والريش وما شاكل ذلك. وما كان من السمك فلوسه أغلظ
وأصلب، كان أفضل مما كان أرق وألين، لان في غلظ الفلوس دلالة على قلة الرطوبة بالطبع، وفي
رقتها دلالة على كثرة الرطوبة بالطبع. ولذلك صارت فلوس السمك البحري أغلظ وأمتن، وفلوس
السمك النهري أرق وألين. ولمثل ذلك صارت فلوس الظهر من كل حيوان أغلظ وأمتن وفلوس ما يلي
البطن أرق وألين، من قبل أن الصلب أيبس وأقل رطوبة وشحما، والبطن أشحم وأكثر رطوبة ولزوجة.
* * *
وأما اختلاف السمك من قبل مرعاه الذي يرتعيه. فإن ما كان منه يرتعي حشيشا طريا ناضرا أو
أصولا رطبة أو حيوانا محمودا فهو أفضل غذاء وأسرع انهضاما وأحسن جوهرا وألذ طعما. وما كان يرتعي
حشيشا جافا أو حيوانا غير محمود (4) أو أصولا قد علت عليها الحمأة، كان أذم وأبعد انهضاما وأفسد
جوهرا وأقل لذاذة. وما كان يغتذي الحمأة والطين، كان أفسد جوهرا وأبعد انهضاما وأقل لذاذة وأسرع
انحدارا.



(1) في الأصل: أن نقصان. (وأن) هنا زائدة.
(2) في الهامش: وشديدها وضعيفها.
(3) هو القشر أيضا.
(4) في الأصل: محمودا.
592
وأما اختلاف السمك من قبل اختلاف الرياح الهابة عليه في طبيعتها أو كثرتها أو قلتها أو قوتها أو
ضعفها، فإن ما كان منه يأوي أنهارا تهب عليه منها الريح الشرقية الشمالية، فهو ألطف وأفضل مما يأوي
أنهارا تهب عليها ريح الغرب والجنوب، لان ريح المشرق والشمال أيبس وأقل رطوبة وأقوى على تحليل
البخارات المتصاعدة من الأرض، وإن كانت ريح المشرق في مثل ذلك أقوى وأفضل، لأنها أحر
بالطبع، وريح الجنوب والمغرب أرطب وأغلظ وأحقن للبخارات المتصاعدة من الأرض وأمنع من
تحليلها، وإن كانت ريح المغرب أخص بذلك من الجنوب، لأنها أبرد.
وما كان من السمك يأوي أنهارا تهب عليها الرياح دائما، كان أفضل مما كان في أنهار مستورة
من مهب الرياح لان الرياح تحرك الماء وتكثر أمواجه وتزيد في اضطرابه ومصادمة أجزائه بعضها بعضا،
وتتعب السمك وترض لحمه وترخيه وتفني أكثر لزوجته ورطوبته، لا سيما إذا كانت الرياح شديدة قوية.
وعدم الرياح يفعل ضد ذلك وخلافه.
وأما اختلاف السمك من قبل ما تحمله الرياح معها جافا (1) نقيا ذكيا، كان أحمد مما كان رطبا
وسخا كريها زفرا أو منتنا، لان الأول منها فرق (2) البخارات ويحصرها ويغلظ الهواء ويفيده كدورة ونتنا.
وأما اختلاف السمك من قبل صنعته وعمله والوجوه التي يتخذ بها فيكون على ضروب: لان منه
ما يتخذ مشويا، ومنه ما يتخذ مقلوا بالزيت، ومنه ما يتخذ مطبوخا إما اللون الساذج المعروف
بالاسفيذباج وإما بالسكباج، ومنه ما يتخذ مسلوقا (3) مطيبا بالخل والملح والأبازير. ومن الناس من يجعل
بدل الملح مري سمك. فما اتخذ منه مشويا أو مقلوا، كان أقل لزوجة ورطوبة وأبعد من إطلاق البطن،
إلا أنه أعسر انهضاما وأبعد انحدارا وأثقل على المعدة، وإن كان المشوي أحمد جوهرا لما يستفيده
المقلو من غلظ الزيت ولزوجته، إلا أن ذلك أسرع انحدارا وأسهل انهضاما. والأفضل في المشوي أن
يشوى على حطب الكرم والبلوط وقضبان الرمان ويؤكل بالمري والزيت ليسهل انهضامه وانحداره وما
طبخ من السمك أسفيذباج كان أسرع لانهضامه وانحداره، وأهون على إطلاقه للبطن وبخاصة ما طبخ
منه بماء وملح وشئ من زيت وشبث وكراث، وربما جعل فيه شئ من شراب ريحاني، وما طبخ منه
سكباج كان أكثر لتبريده وأقل لترطيبه وإطلاقه البطن، وأبعد لانهضامه وانحداره. وما سلق منه كان أغذي
وأحسن غذاء، لان أكثر لزوجته ولعابيته تزول عنه في الماء الذي يسلق به، وبخاصة إذا أكل وهو حار
بزيت مغسول ومري ونعنع وكرفس وسذاب وصعتر وكراويا وفلفل وزنجبيل.
وأفضل أجناس السمك النوع المعروف بالشبوط والمعروف بالبني (4) والمعروف عند أهل مصر



(1) كذا في الأصل. وانقطاع السياق واضح، ولعله (فإن ما كان منها).
(2) كذا في الأصل. ويبدو أن ثمة انقطاعا في السياق أيضا، إضافة إلى أن ما يغلظ الهواء ويكسبه كدورة ونتنا هو النوع الثاني.
الوسخ لا الأول النقي.
(3) في الأصل: مصلوقا.
(4) البني: جنس أسماك من فصيلة الشبوطيات، كبيرة الحجم، يقال لها أيضا: بربيس.
593
بالبلطي وفراخ اللوطس (1) وأحمد ما يؤكل <من> السمك صغيره، لان رطوبته أقل وأرق، ولزوجته
أقل، ولحمه ألين وأرخى، وانهضامه أسرع وانحداره أسهل وبخاصة متى كان صخريا أو رضراضيا،
وكان من الجنس الذي له فلوس.
وأما البوري والأبرميس (2) فزعم كسزمقراطيس (3) أنهما رديئان للمعدة لان الفساد يسرع إليهما
كثيرا. ولذلك صار انحدارهما أسرع وإطلاقهما للبطن أزيد. وزعم ديسقوريدوس وجالينوس في
الجري (4)، المعروف عند أهل مصر بالسلور أنه كثير اللزوجة والسهوكة جدا. ولذلك صار مخصوصا
بتوليد البلغم الغليظ اللزج، ومن قبل ذلك صار إذا أكل طريا غذى غذاء فاسدا مذموما غير محمود
وأورث المدمنين عليه الأمراض الكثيرة لكثرة رطوبته ولزوجته. ونفار (5) الطباع منه كثيرة لسهوكته
وزهومته، إلا أنه إذا أكل مالحا بالخل، نقى قصبة الرئة وصفى الصوت، لأنه بزيادة رطوبته يلين
ويرخي، وبقوة ملوحته يقطع الفضول (6) ويبعثها بالنفث. وقال ديسقوريدس فيه: أنه إذا (7) عمل منه
ضماد وحمل (8) على المواضع التي يدخلها السلاء (9) والنشاب، اجتذبها وأخرجها من اللحم.
قال واضع هذا الكتاب: أحسب أن ديسقوريدس لم يقل هذا لان في السلور قوة جاذبة ولا
يمكن ذلك لرطوبته ولزوجته، لكن لأنه يرخي اللحم ويلينه حتى يسهل على الطبيعة إخراج ما فيها
بسرعة. وحكى قوم عن ديسقوريدس أنه قال: إن النساء إذا أكلن السلور، هيج بهن (10) الشبق المفرط
المنسوب إلى الغلمة. وأما نحن فما قرأناه له ولا علمناه من قوله.



(1) ويقال له أيضا: لاطس. وهو سمك نهري كبير القد.
(2) الأبراميس: جنس سمك من الشبوطيات.
(3) وروي كسنقراطيس.
(4) الجري، وهو الجريث وسلور الفرات: سمكة نهرية عديمة الحراشف عظيمة القد، فيبلغ طولها نحو خمسة أمتار.
(5) نفر نفورا ونفارا من الشئ: أنف منه وكرهه.
(6) في الأصل: الفضل.
(7) بعدها في الأصل: (أكل) ملغاة بشطبة.
(8) (وحمل) مستدركة في الهامش.
(9) السلاء: ضرب من النصال على شكلا سلاء النخل، وهو شوكة.
(10) في الأصل: بهم.
594
القول في السرطانات والأربيان
والحلزون والأصداف الصغار المعروفة
عند أهل مصر بالحطبيس (3) وما شاكل ذلك
من حيوان البحر التي لها خزف أو جلد خزفي
قال جالينوس: وقد يعم هذه الحيوانات كلها الملوحة والمعونة على إطلاق البطن بقوة تلذيعها
وتقطيعها. ولذلك صارت مفسدة للمعدة، مضرة بعصبها، إلا أنها تختلف في ذلك بحسب اختلاف
ملوحتها في قوتها وضعفها، من قبل أن منها الرقيق القشر القليل القبول للملوحة الدالة، لقلتها، على
ضعف تلذيعه وتقطيعه مثل الحلزون والأصداف المعروفة بالطنيش، وأن كان السرطان النهري داخلا في
هذا الجنس لضعف ملوحته واعتدال تجفيفه. فما كان منها ملوحته أكثر وتلذيعه أقوى، كان لحمه
أرخص وانهضامه أسرع، وغذاؤه أقل، وإطلاقه للبطن أزيد، وإضراره بالمعدة أشد، وبخاصة إذا أكل
بالمري والملح.
وما كانت ملوحته أقل، كان لحمه أغلظ وأعضل وانهضامه أبعد وغذاؤه وإطلاقه للبطن أضعف
وإضراره بالمعدة أقل. ولذلك كانت الأوائل تطعم هذا الجنس من الحيوان لمن كان الفساد يسرع إلى
الطعام في معدته عن رطوبات باردة قد رسخت في طبقات المعدة وخملها أو لفضول تنجلب إليها من
غيرها، إما من الكبد وإما من غيره، إلا أن كل واحد من هذه الأنواع قد يختص بخاصة يفعلها على
سبيل الدواء مثل السرطانات النهرية فإنها مخصوصة بالنفع من عضة الكلب الكلب من قبل أنها لما
كانت أقل ملوحة من السرطانات البحرية وألذ طعما وأقل تجفيفا وأعدل غذاء وأبعد من الاضرار
بالمعدة، صارت بلطافة ملوحتها وقلة تجفيفها تقئ السم برفق رويدا رويدا من غير أن تجفف من رطوبة
البدن الجوهرية شيئا.



(1) وروي: الطلبيس. وكذا سيرد في الحديث عن الحلزون.
595
وإذا أخذ من رمادها وزن ثلاثة دراهم مع مثقال ونصف جنطيانا (1) وشرب بشراب ريحاني، نفع
من عضة الكلب الكلب. وزاد جالينوس في هذا الدواء الكندر ربع مثقال ونصف عشر مثقال، يكون
ذلك دانقين (2) ونصف وكسر من حبة. وذكر جالينوس أن السرطانات تحرق على ضروب وأفضل
إحراقها أن تؤخذ حية فتجعل في كوز من نحاس أحمر وتصير في قدر أو تنور حتى تصير رمادا. ويكون
ذلك في زمان الصيف عند طلوع الشعرى اليمانية والشمس في الأسد، والقمر في الحمل في ثمانية عشر
يوما من آب. وحكى عن رجل من الأوائل يقال له أكسيرين (3) أنه كان يتخذ رماد السرطانات عنده دائما
ويعالج به وحده من عضة الكلب الكلب، وكان يصير الشربة منه في ابتداء العلة ملعقة واحدة يذرها (4)
على الماء ويسقيها للمنهوش. فإذا لم يتفق له أن يشفى <من> هذا الدواء في ابتداء العلة، ورأى أنه
قد مضى له أياما، أسقى ملعقتين.
وزعم أنه ما كان يقصد من السرطانات إلا النهرية لقلة تجفيفها ولطافة فعلها. وإذا اعترض عليه
واحد وقال له: ولم لا تستعمل رماد السرطانات البحرية؟ قال: لان ليس معها من المضادة لسم الكلب
الكلب ما مع السرطانات النهرية، لان سم الكلب الكلب في غاية اليبس والتجفيف (5)، ولذلك صار
المنهوش وهو بتلك الحال يعطش والسرطانات البحرية فقوية التجفيف جدا لاكتسابها ذلك من ملوحة ماء
البحر. ولذلك صار بينها وبين السم الكلبي مجانسة ومشاكلة. فهي لذلك زائدة بالسم لتقومها بفعله،
والسرطانات النهرية ليست كذلك لان الذي معها من اليبس لا يفنى إلا بفناء السم فقط من غير أن تفعل
في رطوبة البدن الجوهرية شيئا.
وحكي عنه أيضا أنه كان إذا اعترض عليه بكل ما في الأنهار، وقيل له: لم لا كان ما في
الأنهار من الحيوان يفعل مثل ذلك في عضة الكلب الكلب؟ قال: لان ليس في طبيعته شئ منها إذا
أحرق بالنار أن يصير فيه من التجفيف والتلطيف ما يصير في السرطانات إذا أحرقت. ولذلك صار أخص
بذلك من غيره من حيوانات الأنهار.
وإذا طبخ السرطان النهري كانت مرقته ملطفة للبطن مدرة للبول نافعة من قروح الرئة. ومما
يختص به السرطان النهري والبحري جميعا، وإن كان البحري أقوى فعلا في ذلك، أنه إذا دق وهو ني
وشرب بلبن الأتن، نفع من نهش الرتيلاء ولذع العقارب. وإذا دق مع الباذروج وقرب من العقرب،
قتلها. وإذا طبخ، كانت مرقته نافعة من نهش الأرنب البحري. وإذا دق وخلط رماده بعسل، نفع من
شقاق اليدين والرجلين العارض من البرد ومن الشقاق العارض في المقعدة.
* * *



(1) نبات أحمر اللون، مجوف الساق، ينبت في الجبال.
(2) الدانق، جمع دوانيق: وهو سدس الدرهم، وهو بالوزن العشري 401, 0 غرام، ويقدر بثماني حبات شعير.
(3) وروي أسحريون.
(4) أي ينثرها.
(5) (والتجفيف) ساقطة من المتن. والاثبات من ذيل الصفحة السابقة من الأصل.
596
القول في الأربيان
ويسمى الربيثا وأهل مصر يسمونه القريدس
أما الأربيان فإنه إذا كان طريا كان، بإضافته إلى السمك، حارا رطبا. وإذا كان مالحا، كان يابسا
مجففا للمعدة من غير إضرار بها، وبخاصة إذا أكل بالصعتر والسذاب الطري والكرفس والزيت المغسول
وشئ من شونيز وشرب عليه شراب مصرف (1). وأحمد ما يؤكل إذا أنقع إنقاعا كثيرا وقلي بدهن اللوز أو
بدهن سيرج أو الزيت الانفاق.
* * *



(1) في الأصل: شرابا مصرفا.
597
القول في الماء والثلج والفقاع
أما الماء فأجمع الطبيعيون أنه مركب تركيبا أوليا من طبيعتين بسيطتين وهما: البرودة والرطوبة.
ولذلك لم يمكن أن يكون مغذيا لأبداننا ولا زائدا فيها إلا أن يتركب مع غيره من الأغذية المركب تركيبا
ثانيا من العناصر الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض (1). وذلك أن الماء لما كان باردا رطبا
لطبيعته وذاته، لا لإضافته إلى غيره، لم يمكن أن يكون فيه تغذية لما كان في مزاجه حرارة ويبوسة
لمضادته لكل حار يابس، ومنافرته له بالطبع. وإذا كان ذلك كذلك لم يمكن أن يفعل فيه إلا فعل الضد
في الضد. والأضداد غير زائدة بعضها في بعض، ولا مقرب بعضها لبعض، لان كل واحد منها منافر (1)
لصاحبه ومفسد (2) له وينفسد منه كمنافرة الماء للنار، والبياض للسواد، وفعل كل واحد منهما في صاحبه
وانفعاله منه.
ولما كان ذلك كذلك، بان واتضح أن الماء غير مغذ لأبداننا ولا زائد فيها. ومما يدل على ذلك
أيضا أن الماء بسيط وأبداننا مركبة. والبسيط لا يفعل في المركب فعل المركب في المركب، ذلك
لمشاكلة المركب للمركب مثله، ومخالفة البسيط له بالطبع. والمخالف غير مغذ لما خالفه ولا زائد فيه،
لان التغذية إنما هي تشبه المغذي بالمغتذي لمشاكلة الغذاء له بالقوة. والماء فغير مشاكل لما في أبداننا
من الحرارة واليبوسة لا بالقوة ولا بالفعل. فهو إذا غير مغذ لهما ولا زائد فيهما.
فإن عارضنا معترض وقال: فإذا كان الماء على ما ذكرت، فما حاجة الطباع إليه وهو غير مغذ
للأبدان ولا زائد فيها (3) ولا مقو لها؟ قلنا له: أما الحاجة إليه فلجهتين: إحداهما: أنه مركب للغذاء
وحامل له إلى جميع البدن لأنه برقته وسيلانه وانمياعه يرق الغذاء ويسيله ويسهل نفوذه في العروق
وجولانه في البدن. والثانية: أنه ببرودته ورطوبته يقاوم الحرارة العرضية ويقمع حدتها ويمنع أذيتها



(1) المقصود هنا هو عنصر التراب.
(2) في الأصل، بالنصب.
(3) في الأصل: فيهما.
598
ويقطع العطش المتولد عنها بمضادته لها، ويمنع حدة البخارات المكتنفة للقلب، ويشجع الطبيعة
ويقويها على الفعل. إلا أنه متى وافى الحرارة الغريبة من القوة أكثر من مقاومته لها وتأثيره فيها، انفعل
لها وفعلت فيه فعل النار في الماء خارجا وتفعله إلى ذاتها وجوهرها لخفته ولطافته، والتهب وصار زائدا
في فعلها ومقويا لها، إلا أن ينقل بعض الأشياء المركبة تركيبا ثانيا مثل لعاب بزرقطونا أو لباب الخبز
المحكم الصنعة المغسول بالماء مرات، أو الكعك المحكم الصنعة المغسول كذلك، ليغلظ ويثقل
ويبعد انفعاله، وتضعف الحرارة عن مقاومته لبعده (1) وبعد انقياده لتأثيرها. فعند ذلك يقهرها ويفعل فيها
بطبعه وبرودته ورطوبته، ويسكن لهبها، ويبطل فعلها، ويقطع العطش المتولد عنها.
والمختار من الماء ما صحبته حالتان (2) محمودتان: إحداهما: من طبيعته وهيئته، والأخرى: من
ينبوعه ومجراه. فأما الحال التي يجب أن تكون له من طبيعته وهيئته فهو أن يكون صافيا نقيا من الأوساخ
والديدان وسائر الهوام سليما من العفونات والأقذار، من غير أن يكون له لون ظاهر أو طعم بين أو رائحة
مدركة، لان الألوان والطعوم والروائح تدل على تركيب الكيفيات الأربع من فعل الطباع وتأثيرها. والماء
فبسيط مركب تركيبا أوليا من كيفيتين مفردتين بسيطتين. فإن ظهر فيه شئ يدل على التركيب الثاني.
دل على مخالطة (3) غيره له. ولذلك لم يمكن أن يكون له لون ولا طعم ولا رائحة. فإن يكن له لون
فلمخالطة غيره له. فيجب أيضا أن يكون صافيا نقيا دالا على لطافة الهوائية وغلبتها عليه، وأن يكن له
طعم، فيجب أن يكون عذبا لذيذا خفيفا على حاسة الذوق، وأن يكن له رائحة، فيجب أن تكون ذكية
معراة من النتن والحمأة وسائر الكيفيات الدالة على عفونته وفساده وخروجه عن كيانه، لان ما كان من (4)
المياه كذلك، كان لذيذا عند الطباع سريع النفوذ في العروق، والتنفيذ من المعدن، والجولان في البدن
بعيدا من تولد النفخ والقراقر.
وأما الحال التي يجب أن تكون له من ينبوعه وابتداء خروجه، فهو أن يكون ينبوعه وابتداء
خروجه قبالة المشرق ومجراه نحو الشمال لتهب عليه ريح المشرق والشمال (5) دائما، وتكون جريته
سريعة قوية، سريعة المد على حصى رضراضي، أو رمل صاف نقي من التراب والوسخ، أو على طين
حر عذب إما أحمر أو أسود، لان الماء الذي هذه حاله يكون لطيفا خفيفا سريع الحركة والانقلاب من
البرودة إلى الحرارة إذا طبخ بالنار، ومن الحرارة إلى البرودة إذا برد في الهواء البارد اللطيف، لان في
سرعة حركته وانتقاله من كيفية إلى كيفية ما دل على خفته ولطافته.
وأخف المياه وألطفها وأعدلها وأعذبها ماء المطر الحديث القريب العهد بالنزول من العلو
<وبعده> (6) الجاري على الحجارة والرمل والحصى، وبعده الجاري على الطين الحر العذب، النقي



(1) كذا.
(2) في الأصل: حالاتان.
(3) في الأصل: مخالة.
(4) (من) مضافة في الهامش.
(5) عبارة (ومجراة.. الشمال) مضافة في الهامش.
(6) لعل هذه الإضافة تتناسب والمعنى المقصود.
599
من الأوساخ والأقذار والجفن الكائن في صهاريج عتيقة مغسولة في كل زمان من الطين والحمأة، تهب
عليها أكثر ذلك ريح الشرق والشمال لان الماء الذي هو كذلك أقل المياه رطوبة وأسلمها من العفونة
وأبعدها من الاضرار بالمعدة لان فيه شيئا من قبض وتقوية. وبعد ماء المطر في الفضل ماء الأنهار العظام
البعيدة من المدن الجارية على الحصى والرمل الصافي النقي أو الطين الحر العذب الأحمر أو الأسود،
وإن كان ما يجري على الحصى والحجارة أفضل مما يجري على الرمل لان الحجارة والحصى يكسر
الماء ويلطفه وينقي غلظه. وما يجري على الرمل النقي أفضل من ماء المطر العتيق الذي قد تقادم في
صهاريجه، لان حركة الماء وجريه يلطفه ويرقه وينقي بعض غلظه، واحتقان الماء في الصهاريج يفيده
من بخار الأرض بخارات مذمومة. وبعد ماء الأنهار العظام في الجودة ماء العيون المستقبلة للمشرق أو
الشمال المنصبة من مواضع عالية على الحجارة والحصى، وأن كان ما يستقبل المشرق من العيون
أفضل مما يستقبل منها الشمال، لان جهة المشرق على مذهب بقراط وجالينوس حارة يابسة، والشمس
تشرق عليها كل غداة دائما بالطبع وتلطف هواءها وتنقي بخاراتها وغلظها في أقرب وقت (1) من النهار.
* * *



(1) في متن الأصل: (زمان) والتصويب من الهامش.
600
القول في كيفية امتحان المياه
والوقوف على لطيفها من غليظها وخفيفها من ثقيلها فيكون على ما أصف، والله الهادي بجوده
وسعة رحمته. وهو أن يؤخذ ثوب كتان ناعم ثم يشق بنصفين ثم ينزلان في ماءين مختلفتين، ويفرك كل
واحد منهما في مائه الذي هو فيه عركا جيدا، ويعصران ويجففان في موضع واحد وهواء واحد ووقت
واحد. فإن ما جف قبل صاحبه فماؤه ألطف وأخف. ومن أفضل ما يصفى به الماء للمحرورين الطين
الأرمني والطين الرومي والطين الجزري المعروف بالقيموليا والطباشير. فأما المرطوبون (1) فيصفى لهم بماء
اللوز المر ونوى المشمش والشبت الأبيض المنبوت وقطع خشب الساج أو في حرارة الشمس الصيفية. وأما
المعتدلو المزاج فيصفى لهم بماء اللوز الحلو وسويق الحنطة والآجر الأحمر المسحوق المعمول من الطين
الحر العذب. وإذا شرب الماء الشديد البرودة والمياه الكدرة الرديئة بالشراب الأبيض الخمري القابض،
دفع ضررها، وذلك أن المياه الكدرة الفاسدة الطعم إذا شربت استحالت في المعدة بسرعة وفسدت
وأفسدت جوهر المعدة وأضعفت قواها، وإذا ضعفت قوى المعدة، تحللت إليها من البدن كله فضول مرية
كما ينجلب إلى معد المدمنين على الصوم إذا حميت معدهم وضعفت قواها لعدمها الغذاء. فإذا خرجت
هذه المياه بالشراب الأبيض الخمري القابض، أطلقتها وهضمتها ومنعت من استحالتها وحلت قوة ما لعله
قد يجلب إلى المعدة من الأخلاط وكسرها كما يحل الماء العذب قوة الشراب الصرف ويكسر حدته.
وليس إنما فضيلة هذا النوع من الشراب في هذا الموضع تحليل الفضول فقط، لكن لأنه بعقب
ذلك يقوي فم المعدة بقبضه ويعينها على دفع ما يؤذيها إلى أسفل ويخرجه مع الثقل. فأما الماء الشديد
البرد فإنه كثيرا ما يضر عصب الصدر والمعدة والأمعاء وسائر العصب بقوة برده، ويحدث في البطن كله
وجعا، ويولد ضيقا في الصدر وآلات التنفس وانقباضا في عروق الصدر وخدرا في العصب كله وتشنجا
وفالجا. فإذا مزج بالشراب اعتدلت برودته بلطف حرارة الشراب، وزال عنه إضراره بالعصب. ولذلك
وجب على كل من كان مرطوبا، إما من الطبع، وإما من السن، وإما لحال عرضت له، أن يمتنع من شرب
الماء البارد أصلا ولا يقربه إذا أمكن ذلك. فإن هو اضطر إلى شربه، فلا يقدم عليه إلا بعد طبخه في قدر
جديدة لم تستعمل قبل ذلك أو قدر فخار كذلك، إلى أن يذهب منه الثلث أو النصف ثم يطيب بمصطكى



(1) في الأصل: المرطوبين.
601
مسحوق ويلقى فيه قبل نزوله عن النار بساعة ليذوب في الماء حسنا ويختلط به. وينبغي أن يحذر من الماء
إذا كانت البورقية فيه أظهر، وعليه أغلب لان من شأن الملوحة أن تحمي الأبدان وتنشف الرطوبات وتجفف
البطون بالعرض لا بالطبع، من قبل أنها، وإن كانت <في> ابتداء فعلها تذيب الفضول وتقطع (1) الأخلاط
وتلذع (2) الأمعاء وتطلق البطن، فإنها في المنتهى تجفف رطوبات الثفل وتمنع من انحداره فيصير ذلك سببا
لحبسها للبطن.
القول في الثلج
أما الثلج فهو في طبيعته أبرد وأقل رطوبة من الماء كثيرا، من قبل أنه ليس غير ما أفرط عليه برد
الجو فأجمده وغلظه وأخفى رطوبته. ولهذه الجهة صار اليبس به أخص من الرطوبة، وصار أغلظ وأثقل
على المعدة وأضر بعصبها وسائر الأعضاء جملة. ومن قبل ذلك صار مانعا من جودة الهضم مضرا (3)
بالأسنان لقربها من طبيعة العصب. وأوكد الأسباب فيه الاضرار بالمسنين (4) إضرارا عاجلا من كثب لقلة
احتمال عصبهم لبرده لضعف حرارتهم الغريزية بالطبع. ولذلك صار مضرا لمعدهم وصدورهم وسائر
بطونهم إضرارا شديدا، ومولدا (5) فيهم ضيق النفس والفالج والتشنج. فأما الاحداث والشبان فإن إضراره
بهم ليس بعاجل لمقاومة حرارتهم الغريزية لبرده بقوتها، وإن كان الاكثار منه والادمان عليه مؤذيا لهم، لأنه
يحدث في عصبهم عللا يموتون وهي بهم. ومن الأفضل للمدمنين عليه من الشبان والاحداث لزوم
دخول (6) الحمام والتمرخ (7) فيها بعد التعرق الكثير بدهن السوسن والنرجس ودهن الأترج والمزرنجوش (8)،
ويشربون الشراب العتيق الريحاني. فأما.. (9) فلا حيلة لهم في دفع ضرره عنهم إذا أدمنوا عليه.
وأما المبرد بالثلج فألطف وأقل غلظا من الثلج نفسه وأبعد من الاضرار بالمعدة والعصب لأنه،
بإضافته إلى الثلج، أقل برودة وأبعد من اليبوسة. ولذلك صار ألطف وأسرع انحدارا وجولانا في البدن وأقل
إضرارا بالمعدة (10). وأفضل من الماء المبرد بالثلج، لان الماء المبرد في الهواء البارد اللطيف أبعد من
الاضرار بالعصب كثيرا، بل لا ضرر فيه أصلا.
ولما كان ماء البحر وسائر المياه المالحة قد تستعمل في مصالح الأبدان كثيرا في الحمامات وغيرها
إذا عدم الماء العذب، رأينا ألا نخلي كتابنا هذا من ذكرها ولا نعريه منها، وأن نضيف ذكرها إلى ذكر الماء
العذب لما بينهما من المجانسة في الجوهر، وإن اختلفت في الكيف.
* * *



(1) في الأصل: وتقطيع.
(2) في الأصل: وتلذيع.
(3) في الأصل: مضر.
(4) في الأصل: المنسلين. وهو تحريف.
(5) في الأصل: ومولد.
(6) (دخول) مضافة في الهامش.
(7) في الأصل: (والمتمرخ). وتمرخ: تدهن بالمروخ (المرهم).
(8) ويقال أيضا: المرزنجوش ومردقوش. (فارسية).
(9) بياض في الأصل مقدار كلمة. ولعلها (المسنون).
(10) كذا. ولعل انقطاعا في السياق مفاده: (وأما الماء المبرد في الهواء البارد اللطيف فهو ألذ).
602
القول في ماء البحر
وغيره من المياه المالحة
أما ماء البحر فقوي الملوحة جدا شديد التقطيع والتلذيع. ولذلك صار مضرا (1)، ملينا للبطن،
محدرا للبلغم الغليظ اللزج. وربما شرب وحده لمثل ذلك. وربما شرب بالاسكنجبين ممزوج (2)
للاسهال. ويصلح منه مرق الدجاج المسمن ليكسر حدة تلذيعه الطبيعية، ويمنع من إضراره بالعصب
المعدية والأمعاء لما يفيده ذلك من..
(3) بدسمه، وإن كان الفاضل أبقراط قد أنكر قول من قال
في الماء المالح أنه مطلق للبطن بالقول المطلق. وذلك أنه وإن كان مطلقا للبطن من جهة، فإنه حابس لها
من جهة أخرى، من قبل أنه وإن كان في ابتداء فعله يلطف الفضول بطبعه ويلذع الأمعاء ويطلق إطلاقا
لينا، فإنه إذا جفف الرطوبات وأفنى اللعابيات ولم يجد هيولي يفعل فيه، نشف رطوبة الثفل وجففه ومنعه
من الانحدار. وصار ذلك سببا وكيدا لحبسه للبطن وإضراره بالعصب. ولذلك أشارت الأوائل بشرب دسم
الدجاج المسمن بعقب الخروج من الاسهال منه، ليمنعوا من الافراط بتجفيفه وإضراره بالعصب.
ومن منافعه على سبيل الدواء: أنه إذا استعمل من خارج وإذا صب على الأبدان، غاص في مسام
البدن وحلل الفضول وجذبها إلى سطح البدن وظاهره، ونفع من لسع العقارب ونهش الرتيلاء والأفاعي
والحيوان الذي يعرض عن نهشه الارتعاش لجذبه السم إلى خارج وبخاره الذي يتصاعد منه. وإذا طبخ،
كان نافعا (4) من الصداع البلغماني وثقل السمع. وإذا عمل منه ضماد، حلل الأورام البلغمانية. وذكر



(1) الضرر المقصود بالمعدة.
(2) كذا في الأصل. ولعله: (أو بخل ممزوج..).
(3) بياض في الأصل مقدار كلمة، لعلها (خلطه).
(4) في الأصل: نافع.
603
ديسقوريدس في ماء البحر أنه إذا أخذ ساذجا محضا طريا لم يشبه غيره من المياه وخزن، ذهبت زهومته.
وزعم أن من الناس من يطبخه قبل أن يخزنه. وأما الماء المخلوط بالملح فيفعل فعل ماء البحر في جلائه
وتقطيعه وتجفيفه. ولذلك صار إذا احتقن به، نفع من عرق النساء العارض من الرطوبات الغليظة، وغسل
القروح العارضة في الأمعاء السفلى بتنقيته لها من الأوساخ والدرن. وقد يصب على الأعضاء من خارج
عوضا من ماء البحر إذا لم يقدر على ماء البحر.

604
القول في الفقاع
أما الفقاع (1) فيعمل على ضروب: لان منه ما يتخذ من دقيق الشعير المنبت والنعنع والسذاب
والطرخون وورق الأترج والفلفل. ومنه ما يتخذ بالخبز المحكم الصنعة وماء دقيق الحنطة المنبتة أو ماء
دقيق الشعير المنبت. فما اتخذ منه بماء الشعير المنبت والنعنع والسذاب والطرخون وورق الأترج
والفلفل كان حارا يابسا كثير التعفن مفسدا للمعدة مولدا (2) للنفخ والقراقر مضرا (2) بعصب الدماغ
والحجب التي فوق الدماغ، لأنه يملأها بخارات غليظة حارة تفيده الانحلال. وربما أحدث بحدته
وعفونته إسهالا، وربما أحدث للمدمنين عليه عللا في المثانة وحرقة في البول.
وأما المتخذ بالخبز المحكم الصنعة والكرفس وماء دقيق الحنطة المنبتة وماء دقيق الشعير
المنبت، فإنه أقل إضرارا وأوفق للمحرورين. فمن أحب من المعتدلي المزاج أن يزيل عنه نفخه ورياحه
وقراقره ويفيده حرارة معتدلة وتقوية للمعدة، فليجعل فيه بعض الأفاويه العطرية المطيبة للمعدة المقوية
لها بعطريتها ونشفها لرطوبتها مثل السنبل والمصطكى والدارصيني والدارفلفل والسك (3) الممسك وشئ
من قاقلة ويسير من بسباسة (4)، ويكون جملة ما يؤخذ من ذلك لكل عشرين كوزا وزن مثقال أو درهمين،
فإن أراد أن يفيده لذاذة فيصير في كل كوز منه عودين طرخون وورقتين أترج ويسيرا من السذاب والنعنع.



(1) شراب غير مسكر.
(2) في الأصل، بالرفع.
(3) ضرب من الطيب.
(4) هو قشر جوز الطيب.
605
القول في الشراب
أما الشراب فيغذو غذاء حسنا محمودا ويعين على صحة الأبدان ويقويها. وذلك أنه إذا أخذ على
ما ينبغي وكيف ينبغي وما احتملته الطباع، قوى الهضم وأعان على نضجه وكماله وجودته. وليس إنما
يقوي الهضم الأول الكائن في المعدة فقط، لكنه قد يفعل مثل ذلك في الهضم الثاني الكائن في الكبد
وفى الهضم الثالث الكائن في كل الأعضاء، لان من الممتنع أن يشك أحد من الطبيعيين في أن الغذاء
ينفذ في جميع البدن وينهضم في كل الأعضاء وينتقل إليها ويتشبه بها ويزيد فيها ويقويها. ولولا ذلك لما
نمت الأعضاء، ولا انبسطت، ولا قويت بعد ضعف، ولا سمنت بعد هزال. وقد يستدل على ذلك أيضا
من الحس لأنا نجد الكروم إذا سقيت بالماء الا قليلا حتى يصل الماء إلى العنب ويجول فيه. ويرى
ذلك حسا ثم ينهضم بعد ذلك ويتشبه بالعنب ويزيد فيه ويعظم بعد صغر، ويعذب بعد حموضة. وإذ
ذلك كذلك، فمن البين أنه إذا انهضم في الأعضاء وتشبه الغذاء بالمغتذي وزاد فيه وقواه، أن ذلك من
أوكد الأسباب وأوفق الدلائل على وجود الصحة وبقائها وصحة القوة ودوامها.
وقد أجمع الطبيعيون على أن قوة الهضم وجودة الاستمراء لا تكون الا بقوة الحرارة الغريزية.
وليس شئ أرفد للحرارة الغريزية ولا أعضد لها من الشراب. ذلك لاختصاصه بالطبيعة ولملاءمته
لحرارة بدن الانسان ومشاكلته لمزاج الدم الطبيعي وسرعة انقلابه إليه. وقد يستدل على ذلك بالتجربة
والمحنة الطبيعية. وذلك أن إنسانا لو قصد رجلين متكافئين في القوة والسن والمزاج والعادة فغذاهما
بغذاء واحد في وقت واحد وهواء واحد، ثم أمر أحدهما بشرب الشراب واقتصر الاخر على شرب الماء
لوجد بينهما في جودة الهضم وقوة الحرارة الغريزية بونا بعيدا، لأنه كان يجد ذلك في شارب الشراب
أقوى وأفضل، وفي شارب الماء أضعف وأخس. ولذلك قال روفس: وإذا فكر الانسان في فضل الرجال
على النساء وجد ذلك لفضل قوة الشراب على الماء.
وليس انما فضيلة الشراب في تقوية الحرارة وجودة الهضم فقط، لكن فيه مع ذلك منفعة عظيمة
في تصفية الدم الكدر وتلطيفه وتنقية العروق والأوراد من الأوساخ والأثفال الرديئة، من قبل أنه إذا اتخذ

606
على ما ينبغي وكيف ينبغي وما احتملته الطباع، عضد الحرارة الغريزية وزاد في القوى الطبيعية زيادة
محمودة، وأعان على الهضم وتلطيف الفضول والاخلاط، وغسل القنوات والمجاري والعروق وبخاصة
عروق الكبد من الأثفال والأوساخ، وفتح سدد الكبد وأزال البخارات المظلمة المهيجة للهموم والأحزان
عن القلب، وقوى الأعضاء، وأجرى عموم الدم في البدن كله، وصبغ به ظاهر البدن وباطنه، وأظهر في
الوجه رونقا (1) وبهجة وأفاد اللون نضارة وحسنا. وذلك لتوليده الدم النير النقي الخالص المحمود.
وليس ما ذكرناه في فضيلة الشراب ومنافعه وآثاره المحمودة شيئا يخص الأبدان فقط، لكن قد
تعم الأبدان والنفوس معا، من قبل انه وان كان شقيق الدم وحليف الطبيعة وأليفها وعشيق النفس
وريحانتها وترياقها الأعظم، لأنا نجده دائما ينسيها الأحزان والهموم بما يفيدها من السرور والفرح
والطرب ويبرز لها من المحاسن ويظهر لها من اللطائف التي كانت عنها مستورة، ويحدث لها نشاطا في
الافعال والأعمال من غير أن يجد لذلك تعبا ولا نصبا ولا إعياء. ومن البين ان الحركة والحس بالتعب
للنفس (2) لا للطباع، من قبل ان الطبيعة انما لها إصلاح الأدوات التي بها الحس والحركة. وأما الحس
والحركة فللنفس لا للطباع. وقد يستدل على ذلك من النبات والأشجار لأنا نجدها مطبوعة قائمة للنمو
والحس الطبيعي للغذاء فقط اللذين هما للطبيعة دون النفس.
فقد بان مما قدمنا أنه موافق لكل الناس في كل الأسنان (3) والأزمان والأبدان إذا أخذ بحسب
القوة والعادة والاحتمال. وتدل على ذلك المشاهدة، لأنا نجد الأطفال والصبيان يحتملون منه مقدارا ما،
والاحداث والشبان يحتملون منه مقدارا أكثر. وأما المشايخ فإنه وان كان أقوى الأسباب معونة على
صحتهم وسلامة أبدانهم، فحاجتهم إلى ما يشجع ويعضد حرارتهم الغريزية ويقويها ويسخن رطوبة
أبدانهم الفضلية <أكثر> فإن احتمالهم أقل من احتمال الشبان كثيرا، وذلك لضعف أدمغتهم ورخاوة
عصبهم. فمن البين إذا ان فعل الشراب في الشيوخ مخالف (4) لفعله في الشبان والأطفال، من قبل أن
فعله في الشيوخ فعل الدواء في الداء <لمخالفته> لأمزجتهم (5) ومباينته لطباعهم. وفعله في الشبان
فعل الغذاء للمغتذي لملاءمته لأمزجتهم (5) ومشاكلته لحرارتهم ومعونته لها وزيادته في جوهرها.
وأما الأطفال والصبيان فان فعله فيهم فعل الغذاء للمغتذي، والدواء في الداء معا. والسبب في
ذلك أن حرارة الصبيان وان كانت أقوى بالجوهر، فإنها لم تبلغ نهايتها في القوة لافراط رطوبة أبدانهم
لغلبة الدم على مزاجهم بالطبع. والشراب من جهة يعضد حرارتهم الغريزية <و> يقويها وينميها ويفعل
فيها فعل الغذاء في المغتذي لمشاكلته لها بالطبع. ومن جهة أخرى ينشف رطوبة أبدانهم الفضلية رويدا
رويدا ويفشها (6) لمخالفته لها. ففعله فعل الدواء في الداء.



(1) في الأصل: رونق.
(2) (للنفس) مضافة في الهامش.
(3) جمع لسن: العمر.
(4) في الأصل: مخالفا.
(5) في الأصل: لمزاجهم.
(6) أي يخرجها ولا يبقى منها شيئا.
607
فإن قال قائل: فلم لا كان الصبيان أكثر احتمالا للشراب من الشبان وفعله فيهم فعل الغذاء
والدواء معا، وفى الشبان فعل الغذاء فقط؟ فقلنا له: إن الصبيان أرق أعصابا وأضعف أدمغة، فلذلك قل
احتمالهم له وضعفوا عن الكثير منه. ولذا السبب بعينه صار الشبان أكثر احتمالا للشراب من المشايخ،
لان المشايخ أرخى أعصابا وأضعف أدمغة. فقد بان واتضح ان الشراب لكل الناس محمود (1) إذا
استعمله كل واحد منهم بحسب الطاقة والعادة والاحتمال. وعلى هذا المثال يجري القياس في منفعته
في الأزمان المختلفة والأمصار المتباينة إذا استعمل في كل زمان من الأزمنة وبلد من البلدان بحسب
طبيعة كل واحد منها ومزاجه. ويستدل على ذلك من آثاره وفعله لأنا لا نجده في زمان من الأزمنة ولا في
بلد من البلدان محمودا مطلقا، ولا في غيرها مذموما مطلقا. ولا نجد أحدا من الطبيعيين يمدحه في زمان
من الأزمنة وبلدة من البلدان ويذمه في غيرها، ولا يبيحه في الشتاء والبلدان الباردة، ويحذر منه في
الصيف والبلدان الحارة، ولا يطلقه في الربيع والبلدان الرطبة، ويمنع منه في الخريف والبلدان الجافة
الا على سبيل التقليل والتكثير والزيادة والنقصان وكثرة المزاج وقلته، وذلك أنه وان كان الكثير منه
المصرف الجبلي موافقا في الشتاء والبلدان الباردة، فان القليل منه البعلي الكثير المزاج موافقا في
الصيف وفي البلدان الحارة لأنه يبرد الأبدان ويرطبها بما يصلحه من الماء بكثرة مزاجه ويمنع حرارة
الهواء من الاسخان للأعضاء وتجفيفها بإيصاله الماء بتلطيف حرارته وسرعة نفوذه إلى جملة البدن دفعة.
ولذلك شبهت الأوائل فعل الشراب بفعل ترياق الفاروق، كما شبهت ترياق الفاروق بفعل
الطبيعة، وذلك لأنهم وجدوا الترياق يفعل في المتضادات من السمائم لأنه يفعل في السم الحار كما
يفعل في السم البارد. وكذلك وجدوا الشراب يفعل الشئ وضده، لأنه يسخن الأبدان الباردة ويبرد
الأبدان الحارة ويرطب الأبدان الجافة ويجفف الأبدان الرطبة، الا أن إسخانه وتجفيفه بالطبع وترطيبه
وتبريده بالعرض، لان بلطافته وسرعة نفوذه يوصل الماء الذي يمزج به إلى الأعضاء المحتاجة إلى
التبريد والترطيب فيبردها به ويرطبها. ولذلك صار كثيرا ما يبلغ من منفعته لقطع العطش ما لا يبلغه الماء
البارد المبرد وبخاصة إذا كان سبب العطش الحرارة والجفاف على الأعضاء البعيدة من المعدة، لأنه
بسرعة نفوذه وجولانه يغوص الماء ويوصله إلى الأعضاء الجافة بسرعة، الا ان فعله في جميع ما ذكرناه
يزيد وينقص ويقوى ويضعف بحسب اختلاف أجناسه وصنوفه. وذلك أنه ينقسم قسمة أولية على ثلاثة
ضروب: لان منه الحديث لسنته أو لبعض أخرى، ومنه العتيق المتقادم الذي قد جاوز الأربع سنين إلى
السبعة أو أكثر من ذلك، ومنه المعتدل الزمان المتوسط بين السنتين والأربع.
فما كان منه حديثا لسنته أو لبعض أخرى، كان في طبيعته مائلا إلى البرودة والرطوبة، لان
حرارته ويبسه في الدرجة الأولى. وما كان بهذه الحال من ضعف الحرارة وقلة اليبوسة والقرب من
البرودة والرطوبة، كان أكثر الأشربة غذاء وأخصها بتوليد الأخلاط الرديئة والأحلام الفاسدة والرياح



(1) في الأصل: ثلاث.
608
النافخة المضرة بالمعدة والحجاب وسائر البطن والسدد المانعة لدرور البول. ولذلك قال جالينوس: أن
ما كان من الأشربة حديثا لم ينفذ الغذاء ولم يوصله ولم يدر البول. ولذلك وجب على من طبعه حار
غليظ ومزاجه مرطوب أن يتوقاه جهده أو يتجنبه أصلا لبعد انهضامه (1) وعسر نفوذه في العروق وجولانه
في البدن وانقلابه إلى الدم. وكذلك كان غير محمود الجوهر ولا صالح الغذاء، لأنه ببعد انهضامه يلبثه
في المعدة زمانا ويطفو في أعلاها ويعوم كما يعوم الماء. فان أخذ منه فضلا قليلا، أسرعت إليه
الحموضة وتفجج وفجج الغذاء ومنع من كمال نضجه، وأحدث بشما وتخما وجشاء حامضا وتمددا في
الجنبين وسائر البطن وبخاصة ما كان غليظا أسود (2) قريب العهد بالعصير. ولذلك قال جالينوس: وليس
ينتفع بشئ من الشراب الحديث الا بما كان رقيقا مائيا بعيد العهد بالعصير، لان ما كان كذلك كان،
بإضافته إلى الغليظ من جنسه، أسرع انحدارا وأحمد غذاء وأعون على تليين البطن.
وما تقادم من الشراب وعتق وجاوز السبع سنين واستفاد مرارة، كان في غاية الحدة والحرافة،
لان إسخانه وتجفيفه في الدرجة الثالثة من قبل أن رطوبته الجوهرية قد قلت وقاربت الفناء وغلب على
مزاجه اليبس والجفاف. وما كان من الشراب كذلك، كان غذاؤه يسيرا وترقيه إلى الرأس سريعا وفرغه
للذهن شديدا، وذلك لقوة تلذيعه وإحراقه وبخاصة إذا اخذ منه مقدار كثير قليل (3) المزاج. ومن قبل
ذلك صار من الأفضل أن يحذره ولا يقربه من كان عصبه ضعيفا وحسه ذكيا، لأنه يفيد من كان كذلك
ضررا لا يستقل، الا ان يكون في بدن صاحبه من الرطوبة ما يقاوم حدته ويكسر حرافته وتلذيعه فيفعل
فيها فعل الدواء في الداء.
ولذلك قال جالينوس: من أوفق الأشربة لمن كان قد اجتمعت (4) في عروقه أخلاط غليظة نية
قليلة الحرارة، الشراب الحديث المتقادم. وأما الشراب المعتدل الزمان المتوسط بين القديم والحديث،
فهو في اعتداله وحسن استمرائه وجودة جوهره بحسب توسطه وبعده من الحاشيتين المذمومتين، لان
إسخانه وتجفيفه في الدرجة الثانية. ولذلك صار الأفضل أن يختار من الشراب ما كان كذلك، ويحذر ما
كان قد بلغ من قدمه وعتقه إلى أن صار إلى حالة قد زالت (5) عنه فيها لذاذته وغلبت عليه المرارة
والحرافة. وكذلك وجب أن يتجنب منه ما كان له من الطراء وق. ب من المدة ما لم يكمل هضمه فيها
ويسكن غليانه وتثويره وتمتار (6) حرارته، وترسب أرضيته وترابيته، وتظهر هوائيته وتعوم، وتبقى مائيته
صافية نقية من الأوساخ والأثفال، لان الأول منهما، أعني المتقادم، يسخن إسخانا يجاوز حد الاعتدال



(1) بعدها في الأصل: (وسرعة) ملغة بشطبة.
(2) في الأصل: أسودا.
(3) في الأصل: مقدارا كثيرا.
(4) في الأصل: (اجتمع).
(5) في الأصل: زال.
(6) في الأصل: ويمتار إحرارة. ولعلها كما أثبتنا. وتماترت النار: ترامت وتساقطت. والمعنى المقصود أن حرارته تضعف.
609
ويضر بحجب الدماغ ويفرغ الذهن فرغا مؤذيا لقوة حدته وحرافته وإفراط تجفيفه. وأما الثاني الحديث
فلما فيه من فضل الرطوبة وضعف الحرارة وبقايا الغليان والتثوير، صار كثير توليد الأحلام الفاسدة
المذعرة والاخلاط الرديئة والرياح النافخة المضرة بالمعدة المانعة درور البول.
ولجالينوس في قوة الشراب الحديث والمتقادم والمتوسط من ذلك قول قال فيه: ينبغي أن نفهم
عن هذه الجملة في الشراب، وإن اختلفت أجناسه، ونعلم أن الحديث منه والمتوسط بين العصر
والخمر، وان كان حارا (1)، فان حرارته لا تتجاوز الدرجة الأولى، والذي قد بلغ في القدم النهاية وجاوز
السبع سنين إلى الأربع والخمس (2) فحرارته في الدرجة الثالثة. وكلما ضعفت حرارة الشراب قل يبسه
وزادت رطوبته. وكلما قويت حرارته كثر يبسه ونقصت رطوبته.
وقد تختلف أصناف الخمور المخمورة اختلافات أخر من وجوه خمسة: أحدها: من ألوانها،
والثانية: من طعومها، والثالثة: من روائحها، والرابعة: من مواضعها، والخامسة: من قوامها. ولما كان
الكلام على هذه الفضول، وهي من البسائط المفردة، غير الكلام عليها وهي مركبة، وكان البسيط أسبق
من المركب بالطبع، رأينا أن نقدم الكلام عليها وهي بسائط، قبل الكلام عليها وهي مركبة، ليكون ذلك
أوضح وأزيد في الدلائل. ولا قوة الا بالله.
* * *
في ما يلحق الشراب من الاختلاف من قبل ألوانه
أما ألوان الشراب فتنقسم قسمة أولية على أربعة ضروب: اثنان منها بسيطان وهما: الأسود
والأبيض، واثنان مركبان (3) من هذين البسيطين وهما: الأحمر القاني والأصفر الذهبي، وإن كان قد
توسط من هذه الوسائط وهذه الأطراف وسائط أخرى مثل الأشقر والمورد المتوسطين (4) بين الأحمر والأبيض،
والخوصي (5) والأبيض الخمري المتوسطين بين الأصفر الذهبي وبين الأبيض على الحقيقة. وتدل
على ذلك التجربة والحس من قبل أنا نجد الشراب إذا كان من عنب أبيض يكون في ابتداء أمره
أبيض (6) خالصا محضا لغلبة المائية عليه وقلة الطبخ فيه وضعف حرارته الغريزية. فإذا تقادم وجاوز السنة
وتوسط طبخه وقويت حرارته قليلا، قلت رطوبته واستفاد لونا أبيض (6) خمريا. فإذا ازداد تقادما جاوز



(1) في الأصل: حار.
(2) كذا في الأصل.
(3) في الأصل: مركبين.
(4) في الأصل: المتوسطان.
(5) نسبه إلى الخوص وهو ورق النخل والمقل والنارجيل وما شاكل ذلك. واحدته خوصة.
(6) في الأصل: أبيضا.
610
السنتين، ازدادت حرارته قوة ورطوبته قلة، وصبغه زيادة وصار خوصيا. فإذا عتق وجاوز الأربع سنين وتم
هضمه، كملت حرارته وقوي صبغه وصار أصفر (1) زعفرانيا
وان كان الشراب من عنب أحمر، كان في ابتداء أمره قريبا من البياض لغلبة المائية عليه وضعف
طبخه ونقصان حرارته. فإذا تقادم قليلا وجاوز السنة وتوسط طبخه، قلت رطوبته وقويت حرارته واستفاد
لونا وصار (2) موردا. فإذا ازداد تقادما وجاوز السنتين وتم طبخه، ازدادت حرارته قوة ورطوبته قلة وصبغه
زيادة وصار أشقر. وان كان الشراب من عنب اسود، كان في ابتداء أمره كمد اللون حالك السواد لغلبة
الأرضية عليه وضعف طبخه ونقصان حرارته. فإذا تقادم قليلا وجاوز السنة، قويت حرارته وتوسط
طبخه وامتازت أجزاؤه وطلبت (3) ترابيته السفلى بالطبع، واستفاد رقة وصفا متوسطا (4) بين الأحمر
والأسود. وإذا ازداد تقادما وجاوز السنتين، ازدادت حرارته (5) وكمل هضمه ورسبت أرضيته وترابيته ورق
لونه وصفا وصار أحمر (6).
ففي هذا دليل واضح على أن الشراب الأبيض والأسود أقل ألوان الشراب حرارة وأميلها إلى
البرودة، وان كان الأبيض أخص بالرطوبة من الأسود للطافة <الأبيض> وغلبة المائية عليه، وغلظ
الأسود وغلبة الأرضية عليه. وقد يستدل على ذلك من عفوصة الأسود وقوة قبضه وتفاهة الأبيض وقربه
من طعم الماء. ولذلك قال جالينوس: وليس يكاد يوجد شراب غليظ قابض الا الأسود أو <ما هو>
قريب من السواد، ولا شراب (7) رقيق مائي الا الأبيض أو <ما هو> قريب من الأبيض. ولهذه الجهة
صار الأبيض ألطف وأرق وأقل احتمالا للمزاج، وأخف على الحاسة وأسرع انهضاما وانحدارا ونفوذا في
العروق ودرورا (8) للبول، الا انه أقل غذاء، ذلك لخفة حركته وسرعة انحلاله من الأعضاء وقلة لبثه
فيها. ومن قبل ذلك صار ترقيه إلى الرأس أسرع وسكره أقل وانحلال خماره أقرب وأسهل. وأما الأسود
فحاله بخلاف ذلك وعكسه، لأنه أغلظ وأعسر انهضاما وأبعد سلوكا في العروق وأمنع من درور البول
وأكثر غذاء لثقل حركته وطول لبثه في الأعضاء وبعد انحلاله منها. ولذلك صار ترقيه إلى الرأس أعسر.
فإذا ترقى، كان سكره أكثر وانحلال خماره أبعد.
وأما الوسائط التي بين هذين اللونين فلبعدهما من الحاشيتين، أعني من مائية الأبيض وأرضية
الأسود، صارت حرارتها أقوى وأزيد، لأنها مكونة من السواد والبياض والحرارة الفاعلة منهما والمركبة
لهما، الا أنها تختلف في ذلك وتضعف وتقوى على حسب قرب كل واحد منهما من الوسط وبعده من



(1) في الأصل: أصفرا.
(2) (وصار) مستدركة في الهامش.
(3) كذا. ولعلها: طافت.
(4) في الأصل: متوسط.
(5) بعدها في الأصل: (قوة طبخه) ملغاة بشطبة.
(6) في الأصل: أحمرا.
(7) في الأصل: شرب.
(8) ودرور.
611
الحاشيتين وبعده من الوسائط، من قبل ان <ما> كان منهما متوسطا (1) على الحقيقة وما بعد من
الحاشيتين، كان أقوى حرارة وأسرع تأثيرا. وما بعد من الوسط وقرب من الحاشيتين كان أضعف حرارة
وأبطأ تأثيرا. ولذلك صار الشراب الأصفر من العنب الأحمر، والأصفر الذهبي من العنب الأبيض أقوى
حرارة وأسرع تأثيرا، لان حرارتهما في الدرجة الثالثة، وذلك لبعدهما من الحواشي والأطراف وتوسطهما
الهيأتين على الحقيقة. وأما الأحمر فيتلو الأسود في ثقل الحركة وبعد الانهضام والانحدار وبعد التأثير،
وذلك لمشاكلته للأسود في لونه وغلظ قوامه وقوة قبضه. ومن قبل ذلك صار غذاؤه بعد الأسود كثيرا،
وانحلال خماره بطيئا.
وأما المورد من العنب الأحمر، والخوصي من العنب الأبيض، فيتلو الأبيض في خفة الحركة،
وسرعة الانهضام والانحدار والنفوذ في العروق، والقوة على درور البول، ذلك لقربهما من المشاكلة
للأبيض في لونه ورقة قوامه وليانة طعمه. ولهذه الجهة صار غذاؤهما متوسطا غذاء الأشقر والأصفر،
وبين غذاء الأبيض على الحقيقة، وذلك لما فيهما من زيادة الصبغ وقوة الحرارة واللطافة وسرعة الحركة
على اللون الأبيض. ومن قبل ذلك صار ترقيهما إلى الرأس، بإضافتهما إلى الأبيض على الحقيقة
أسرع، وفرغهما للذهن أقوى، وسكرهما وانحلال خمارهما أبعد. وبإضافتهما إلى الأشقر والأصفر
بخلاف ذلك وعكسه، لان ترقيهما إلى الرأس يكون أبعد وفرغهما للذهن أقل وأخف وسكرهما أسهل
وانحلال خمارهما أقرب.
وأما الأبيض الخمري فمتوسط (2) بين الخوصي والأبيض المائي، من قبل أن الشراب الخالص
المائية لا فرق بينه وبين الماء الا بما يوجد فيه من يسير القبض. ويدل على ذلك مشاكلته للماء في لونه
ورقة قوامه وتفاهة طعمه وقلة احتماله للمزاج لعدمه الحلاوة والصلابة والعفوصة إذ لا فرق بينه وبين الماء
الا بيسير قبضه.
وأما الذهبي الخوصي فألذ الخمور البيض طعما وأذكاها رائحة وأولاها بأن يكون خمريا على
الحقيقة، لقوة طعمه وذكاء رائحته. ولذلك صار أسرعها نفوذا في العروق وأقواها على تنقية الصدر
والرئة بالنفث. وأما الأبيض الخمري فمتوسط بين اللون المائي الخالص البياض وبين اللون الخوصي
لأنه لم يبلغ بعد أن يكون خوصيا. ولذلك قال جالينوس: وبحسب زيادة الشراب الخمري على الشراب
الخوصي في البياض، كذلك نقصانه عنه في القوة والتقطيع والتنقية. وإذا كان ذلك كذلك كان من البين
أنه بحسب نقصانه عن الشراب الأبيض المائي في البياض، كذلك زيادته عليه في القوة والتقطيع
والتنقية. ولذلك صار أبعد الخمور خطرا فيمن كانت به حمى الخمر المائي في الغاية، وذلك لسرعة
خروجه بالبول والعرق والبخار وبخاصة إذا كان تفها مشاكلا لطعم الماء. ولهذه الجهة اختار عليه
أبقراط، في نفث ما يحتاج إليه ان ينفث من الصدر بالبصاق، الشراب الأبيض الخمري، وإن كان



(1) في الأصل: متوسط.
(2) في الأصل: المتوسط.
612
الشراب الأبيض في ذلك دون الشراب الحلو كثيرا، لان الشراب الحلو أنفع في اطلاق البطن
ونفث البصاق من الصدر، الا انه غير موافق لادرار البول، لان أغلظ وأبطأ نفوذا في العروق وأبعد من
تفتيح السدد. والشراب الأبيض الخمري أكثر تفتيحا للسدد وأسرع نفوذا في العروق ووصولا إلى
المثانة. ولذلك صار أنفع من الأمراض المحتاجة إلى إدرار البول.
وأما الأصفر والأشقر فلبعدهما من الحواشي والأطراف وتوسطهما الهيأتين على الحقيقة، صارا
أكثر الأشربة حرارة، وأقراها فعلا، وألطفها تأثيرا، وأجفها حركة، وأسرعها ترق إلى الرأس، وأشدها
فرغا للذهن، لأنهما يمليان الرأس بخارات لذاعة ويسكر بسرعة في أقرب وقت، الا ان انحلال خمارها
سهل (1). فان عارضنا معترض فقال: وما السبب الموجب للشراب الأصفر والأشقر أن يكونا ألطف
الأشربة وأخفها حركة وأسرعها تأثيرا؟ والشراب الأبيض أرق مائية، ومن البين أن الرقة وكثرة المائية
أخص باللطافة وخفة الحركة وسرعة الانهضام من غيرها! قلنا له: قد بينا في غير موضع في كتابنا هذا
أن اللطافة على ضروب: لان منها لطافة منسوبة إلى سرعة الفعل وقوة التأثير مثل الفلفل والزنجبيل
والدارصيني بقوة فعلها في تلطيف الأخلاط وتنقية الأثفال. ومنها لطافة منسوبة إلى سرعة الانفعال
وسهولة الانهضام مثل لطافة السمك الرضراضي والبيض النيمبرشت في سرعة انفعالهما. ومنها لطافة في
الجوهر وحسن الغذاء مثل لطافة الخبز المحكم الصنعة ولحم الدراج والفراريج <في سرعة فعلهما> (2)
وتوليدهما للدم الفاضل المحمود. وإذ ذلك كذلك فمن البين أن الشراب الأبيض وان كان لطيفا لرقته
وسرعة انهضامه وانحداره وانحلاله، فان الشراب الأشقر والأصفر لطيفان في قوة فعلهما وحسن تأثيرهما
في تلطيف الأثفال والاخلاط وتنقية الدم وتصفيته. وسأبين ذلك عند كلامي عليهما.
وأما ما يلحق الشراب من الاختلاف بحسب طعومها فيكون على ضروب، لان طعوم الشراب
تنقسم قسمة أولية على أربعة ضروب: لان منها الحلو، ومنها القابض، ومنها التفه الذي لا طعم له،
ومنها الصلب الشديد الطعم القوي الرائحة، وان كان قد يتوسط بين هذه الطعوم طعوم أخر تلطف عن (3)
العبارة عنها باللفظ لأنها (4) مركبة غير بسيطة من طعم واحد فينالها الحس فيوقع العقل عليها اسما. فما
كان من الخمور حلوا، كان إسخانه في الدرجة الثانية وتجفيفه في الدرجة الأولى أو منحرفا إلى الرطوبة
قليلا. ولذلك صار غليظا مذموما في جميع حالاته الا في حالة واحدة كأنه فريد فيها دون غيره من
الخمور، وهي إطلاقه للبطن لسبب الموجود في كل حلو من الجلاء والغسل والتنقية. فان عاقه عن ذلك
عائق وعسر انحداره وخروجه، حمي وغلى أو ربا وطفا في أعلى المعدة واستحال إلى المرار وولد عطشا
ورياحا نافخة مضرة بأعلى البطن والخواصر، وأحدث سددا في الكبد والطحال وحجارة في الكلى،



(1) في الأصل: سهلا.
(2) لعل هذه الزيادة تسد الانقطاع في السياق، وتنشجم مع ما سبق.
(3) (عن) هنا زائدة.
(4) في الأصل: لأنهما.
613
وبخاصة فيمن كان كبده وطحاله وكلاه بها آفة متقدمة أو ضعف حاضر أو كان جوفه متهيئا لقبول الرياح
والنفخ لزيادة رطوبتها وضعف القوة الهاضمة فيها.
ولذلك وجب على من كان مزاجه غليظا مرطوبا ان يحذر الاقدام عليه، لان من كان مزاجه
كذلك، لا يأمن فيه، من إدمانه عليه، حدوث الاستسقاء اللحمي. والسبب في ذلك: أنه لغلظه وحلاوته
يملي العروق دما غليظا ويشبع بغلظه ويغلظ البخارات ويمنع من تحليلها ويحدث في تخلخل النجو
وسائر الأعضاء رياحا بخارية رطبة. وعن مثل هذه الرياح يكون النفخ والسدد فقط، لكن يولد رياحا
نافخة وسددا في الكبد والطحال وسائر الأعضاء خلا الرئة، فإنه مفتح لسددها. والسبب في توليده السدد
في الكبد وتفتيحه لسدد الرئة أن نفوذه في الكبد يبتدئ في عروق عظام واسعة مثل العرق الأعظم
المعروف بالنواب. فإذا انهضم هناك صار إلى عروقها الدقاق والضيقة التي في جانب الكبد المقعر
وجانبها المسنم. فإذا نفذ فيها لم تنفذ معه الأثفال لغلظها وضيق المجاري بها، ولبث هناك زمانا
وولدت سددا وانزماما (1) تحتاج إلى ما يقطع الفضول ويلطفها ويطرق الأثفال ويسهل نفوذها وخروجها.
ولا شئ أخص بذلك من الأشياء الحامضة القطاعة الملطفة، ولذلك الاسكنجبين أفضل الأشياء
لمن كانت هذه حاله، وبخاصة الاسكنجبين الساذج المتخذ بخل العنصلان، الا ان يكون في مزاج
صاحبه من الحرارة ما يمنع من استعمال خل العنصلان، فيقتصر على الخل الساذج فقط.
وأما نفوذه في الرئة فليس كذلك، لأنه انما ينفذ بدءا في عروق دقاق ومجاري ضيقة. فإذا
انهضم فيها ولطف صار إلى قصبة واسعة ونفذ فيها، ونفذ معه في ممره وسلوكه ما كان معه من
الأخلاط الغليظة لسعة مجاريها، وخرجت بالنفث والبصاق. ولذلك صار الشراب الحلو مخصوصا (2)
بتسهيل النفث وتنقية الرئة وتفتيح سددها الا فيمن كان هذا الشراب يحدث به عطشا، فإنه غير معين
على نفث من كان كذلك، لأنه يزيد في حرارة مزاجه ويحدث حمى. وإذا صارت حرارة مزاج صاحب
هذه الحالة من القوة، جففت رطوبة البصاق وغلظته وصيرته بمنزلة الطين الراسخ ولجج في قنوات الرئة
ولصق وصار عليها بمنزلة الغذاء والدبق وعسر خروجه بالنفث واحتاج إلى ما يلينه ويرطبه ترطيبا معتدلا،
ثم إلى ما يلطف ويقطع ويطرق للنفث ويسهل خروجه، والا لم يؤمن أن يهيج من السعال ما يفتق عروق
الصدر ويشقها ولذلك صار من الأفضل، لمن كانت هذه حاله، أن يقدم بدءا حسو الشعير المحكم
الصنعة، ويشرب باللوز المقشر من قشرته والسكر الطبرزد ثم يتبعه بالاسكنجبين السكري الساذج.
وقد يستدل على الشراب الحلو من ثلاثة وجوه: إما من طعمه، وإما من لونه، وإما من قوامه.
فأما طعمه فالامر فيه بين لوقوعه تحت الحسن. ولذلك لا يدخله شك في ذاته لفساد يعرض للحاسة، إما



(1) رسمها في الأصل غير واضح ولعلها كما أثبتنا أكثر تناسبا مع المعنى المقصود.
(2) في الأصل: مخصوص.
614
لغلبة المرار عليها وإما لغلبة الملوحة. وأما اللون والقوام والأخص به منهما السواد والغلظ وما قارب ذلك
<ف‍> على قدر تحققه بالحلاوة أو انحرافه عنها أو نقصانها فيه.
ولذلك قال جالينوس: وليس يكاد يوجد شراب خالص الحلاوة الا غليظ أسود. وبحسب نقصان
سواده وغلظه. وكذلك نقصان حلاوته وظهور الخمرية عليه. فان كان لونه قليل السواد مائلا (1) إلى
الحمرة والصفاء، واستعمل على ما ينبغي وما احتملته الطباع كان أوفق الأغذية للناقهين من الأمراض
المحتاجين إلى الغذاء، وأبدانهم تضعف عن احتمال الطعام وهي الأبدان التي قال فيها أبقراط وهو
أميل (2) أن نملي الأبدان شرابا ولا نمليها طعاما.
ولجالينوس في مثل هذا قول قال فيه: وليس ينبغي أن يمنع من كان محتاجا إلى الغذاء اللطيف
شرب الشراب الحلو وان كان أحمر (3) صافيا صقيلا، لان الدم المتولد عن ذلك الشراب محمود فاضل
لتوسطه بين الغلظ واللطافة الخارجة عن حد الاعتدال إلى الرقة وان كان من الواجب ان يحذره غاية
الحذر من كانت كبده وطحاله وكلاه غير سليمة من الآفاق والسدد، وبطنه مهيأة لتولد الرياح والنفخ
وبخاصة إذا كان قوامه غليظا وحلاوته خالصة غير (4) ظاهرة، لأنا قد بينا ان الشراب الحلو في الجملة
يولد في الكبد والطحال سددا أو أوراما في الكلى وحجارة ورملا، وفي البطن والشرسيف (5) رياحا نافخا
مضرة بأعلى البطن دون أسفله.
والسبب في إضراره هذه الرياح بأعلى البطن دون أسفله أنها بطيئة التحلل والانحدار لغلظها
وبعد انفعالها، ولذلك تثبت في ما بين الشراسيف زمانا طويلا وتحدث في أعلى البطن انزماما (6) وتوجعا،
فإذا قويت الطباع على هضمها، تحللت قبل أن تصير إلى أسفل البطن، وسلمت المعاء السفلى من
أذيتها. ففيما أتينا به دليل واضح على أن الشراب الخالص الحلاوة أغلظ الأشربة وأثقلها حركة وأبعدها
انهضاما ونفوذا في العروق بعد الشراب القابض لان الحلاوة أسخن وأبعد من التجفيف وألذ عند
لطباع، والعفوصة أخشن وأكثر أرضية وغلظا وأبطأ انهضاما وانحدارا وأعسر نفوذا في العروق. ولذلك
صار الشراب القابض مانعا لدرور العرق وسائر الاستفراغات. ومن قبل ذلك صار جوهره مذموما بعيدا
من تولد الدم المحمود، إلا أنه مقو للمعدة وسائر البطن. ولهذه الجهة صار حابسا للاسهال العارض من
ضعف المعدة واسترخائها، وإن كان سبب ذلك الحرارة وكان ما ينحدر في الاسهال من جنس
الخراط (7).



(1) في الأصل: مائل.
(2) كذا في الأصل.
(3) في الأصل: أحمرا.
(4) (غير) مستدركة في الهامش.
(5) جمع الشرسوف، وهو غضروف معلق بالضلع، وهو مشرف على البطن.
(6) فوقها في الأصل علامة الغموض.
(7) في الأصل: الخراطة. والخراط هو إسهال البطن من دواء أو مرض.
615
ولذلك قال جالينوس: وليس يكاد يوجد شراب قابض محمود الجوهر، وإن كان مقويا للمعدة
والأمعاء، إذا كان سبب ضعفهما الحرارة وذلك لتقويته وضعف حرارته. وأما ما سوى ذلك فهو مذموم
جدا لأنه بقوة قبضه وغلظ جوهره وكثرة أرضيته صار غليظا بعيد الانهضام ومغلظا لما يوافيه في المعدة
من الغذاء ومفججا له ومعسرا لانهضامه وانحداره والنفوذ في العروق ومانعا لادرار البول والاسهال
جميعا. ومن قبل ذلك صار الجوهر المتولد عنه مذموما مصدعا للرأس مقويا للسكر مبعدا لانحلال
الخمار بسرعة، وبخاصة إذا كان لونه أسود (1) وقوامه غليظا ومزاجه قليلا.
وأما ديسقوريدس فزعم في الشراب القابض أنه مدر للبول. وما أعرف السبب الموجب في
ذلك، إلا أن يكون قبضه ضعيفا لطيفا ولونه أبيض وقوامه رقيقا (2) ومزاجه كثيرا (3)، فيتهيأ فيه مع تقويته
للمعدة أن يكون سريع الانهضام والنفوذ في العروق. وإذا كان كذلك لم يكن ببعيد من المعونة على
درور البول والتنبيه لشهوة الطعام وتوليد الدم المحمود وجلب النوم، وذلك لتقويته للدماغ وقلة إضراره
به. ولذلك قال جالينوس: إن الشراب القابض، وإن كان قوامه رقيقا وكان مزاجه كثيرا، كان إضراره
بالصدر والرأس، ومن كان محتاجا نفض بدنه <بالبول> (4) أقل وانتفاع الأمعاء به أضعف. وإذا كان
غليظا ومزاجه قليلا، كان انتفاع الأمعاء به كثيرا وإضراره بالصدر والرأس ومن كان محتاجا إلى نفض
بدنه بالبول، أشد. إلا أنه قاطع للعرق العارض من خور القوة وضعفها الموجب للغشي.
وأما الشراب التفه الذي لا طعم له، فإن نقصان قوته عن الشراب القابض بحسب فضل قوته
على الماء لأنه متوسط بين كيفية الماء وطبيعة الشراب القابض. ولذلك صار فعله مشاكلا لفعل الشراب
الأبيض المعتدل القبض الكثير المزاج. ومن قبل ذلك، صار غذاؤه قليلا ولبثه في المعدة يسيرا وانحداره
عن المعدة ونفوذه في العروق ودروره للبول سريعا ولذعه للدماغ ضعيفا وسكره قليلا وانحلال خماره
قليلا سهلا، إلا أن جوهره مذموم لان الدم المتولد عنه رقيق مائي.
وأما الشراب الصلب القوي الطعم فهو أسخن الأشربة وألطفها فعلا وأقواها تأثيرا وأكثرها لذعا
للدماغ وفرغا للذهن، لأنه بقوة حرارته وخفة حركته يترقى إلى الرأس بسرعة ويحدث في أخلاط البدن
غليانا ويرفعها، ويكون سببا (5) أوكد من السبب الأول في إضراره بالدماغ. وبحسب إضراره بالدماغ
كذلك يكون إضراره بالذهن، لان القوة المتفكرة المتميزة مسكنها هذا العضو. ولذلك صار السكر من
هذا النوع أسرع وأقوى، إلا أن انحلال خماره أسهل وأقرب لان خفة حركته وسرعة انتقاله منها لطول
لبثه في الدماغ لا سيما إذا كان مزاجه كثيرا أو المقدار الذي يؤخذ منه مقدارا معتدلا على حسب السن



(1) في الأصل: أسودا.
(2) في الأصل: رقيق.
(3) في الأصل: كثير.
(4) أثبتنا هذه اللفظة استنادا إلى ما ذكره بعد قليل.
(5) في الأصل: سبب.
616
والمزاج والعادة والاحتمال ومزاج الهواء الحاضر. ولذلك صار من الأفضل أن يحذره من كان مزاجه
محرورا بالطبع أو محرورا (1) بالعرض إلا بالمزاج الكثير الرقيق ليكسر قوته ويزيل عنه أكثر حدته وصلابته
ويفيده لذاذة وسهولة وخفة على الطباع ليقلبه إليها ويجد به شهوة والتذاذا، إلا أنه إذا كان كذلك كان
أحمد جوهرا وأفضل غذاء، لأنه يلطف الأخلاط وينقي القنوات وسائر المجاري والعروق من الأثفال
والأوساخ، ويصفي الدم ويصيره قرمزيا فرفيريا. وأما المشايخ ومن قد قرب مزاجه من الكهولة فلان في
أبدانهم من الرطوبة ما يقاوم حدة هذا النوع من الشراب، صار أنفع الأشربة لهم وإن صرفوه قليلا، لأنه
يفعل فيهم فعل الأدوية في الأدواء، من قبل أنه يقوي حرارتهم ويفني أكثر رطوبة أبدانهم الفضلية،
ولذلك صار هذا الشراب من أوفق الأشربة لمن قد اجتمعت (2) في عروقه أخلاط غليظة نيئة قليلة
الحرارة.
وأما ما يلحق الشراب من الاختلاف بحسب قوامه فيكون على أربعة ضروب: لان منه المائي
الرقيق، ومنه الغليظ الأرضي، ومنه المتوسط بين ذلك، ومنه الكائن بين الواسطة وبين كل واحد من
الحاشيتين والطرفين. فما كان منه رقيقا مائيا، كان أكثر ذلك أبيض (3) صافيا. ولذلك صار ألطف طبعا
وأخف في العروق وأدر للبول وأقل نكاءة (4) في الرأس وفرغا للذهن، لأنه في طبيعته قريب من طبيعة
الماء لقربه من المشاكلة له في صفائه ولونه وقوامه. ويدلك طعمه لأنه إذا أضفته إلى الماء وجدته كأنه
قد قبل يسيرا من القبض والتقوية. وما كان من الخمور كذلك، كانت قوته قريبة من قوة الماء. ولذلك
صار أفضل لأصحاب الحميات لأنه لا يسخن إسخانا بينا ولا يفرغ الذهن أصلا ولا يؤثر في الدماغ
الضعيف، أو العصب الذي هو كذلك، تأثيرا ظاهرا. وإذا كان ممزوجا كان ضرره للأبدان أكثر وقطعه
للعطش أكثر.
وما كان من الشراب غليظا أرضيا، كان أكثر ذلك أسود. ولذلك صار فعله بضد الشراب الأبيض
الرقيق وعكسه، لأنه من أغلظ الأشربة وأثقلها على المعدة وأعسرها انهضاما ونفوذا في العروق وأقلها
درورا (5) للبول وأبعدها من الترقي إلى الرأس، ذلك لثقل حركته وغلظ بخاره المتولد عنه. ولهذه الجهة
صار لا يسكر بسرعة. فإذا أسكر، كان سكره ثقيلا وانحلاله بعيدا بطيئا. ولذلك قال جالينوس أن طبيعة
الشراب الغليظ دالة على ثقل حركته وبعد انفعاله وغلظ جوهره وكثرة غذائه. وطبيعة الشراب الرقيق دالة
على خفة حركته وسهولة انفعاله ولطافة جوهره وقلة غذائه.



(1) في الأصل: مرورا.
(2) في الأصل: اجتمع.
(3) في الأصل: أبيضا.
(4) أي وجعا.
(5) في الأصل: درور.
617
وأما الشراب المعتدل القوام المتوسط بين الرقة والغلظ توسطا خفيفا، فإن مقداره من اللطافة
والغلظ، وخفة الحركة وثقلها، وسرعة الانهضام وإبطائه، وكثرة الغذاء وقلته بحسب مقداره من الرقة
والغلظ. ولذلك صار أصلحها انهضاما وأعدلها انفعالا وأحسنها جوهرا وأفضلها غذاء.
وما كان من الشراب منحرفا عن التوسط على الحقيقة إلى إحدى الحاشيتين دون الأخرى، كان
أجدى من الحاشية التي مال إليها بقسطه وحسب انحرافه.
* * *
وأما اختلاف الشراب بحسب روائحه فيكون على أربعة ضروب: لان منه ما يكون مرواحا ذكيا
خمريا تفاحيا خفيف الحركة سريع الوصول إلى حاسة الشم التي في بطون الدماغ. ومنه ما لا رائحة له
أصلا لغلظه وثقل حركته. ومنه ما رائحته متوسطة بين اللطافة والغلظ، والخفة والثقل، والسرعة
والابطاء. ومنه ما رائحته بشعة كريهة مفسدة للحاسة التي في بطون الدماغ.
فما كان من الشراب مرواحا ذكيا عطريا خفيف الحركة سريع الوصول إلى حاسة الشم التي في
بطون الدماغ، كان دليلا على لطافته وحسن جوهره واعتدال مزاجه واتقان فعل الطباع في تمام نضجه
وكمال هضمه ونفي البخارات الغليظة عنه. وما كان من الخمور كذلك، كان أكثر إسخانا وأكثر توليدا
للدم المعتدل المحمود الخالص النقي من الأوساخ والأثفال. ولذلك صار مشجعا للقلب، مقويا للذهن،
مفرحا للنفس، مولدا (1) للسرور والطرب، مزيلا للهموم والأحزان، لأنه بتصفيته لدم القلب وتنقيته له من
الأوساخ والأثفال، ينقي عن القلب البخارات الغليظة المظلمة المكدرة لنور الحرارة الغريزية المفسدة
لضيائها. ولذلك صار موافقا لكل الأسنان (2) والمزاجات إذا اتخذ على ما ينبغي وكيف ينبغي وما
احتملته الطباع.
وللفاضل أبقراط في هذا النوع من الشراب قول قال فيه: إن الشراب إذا كان مرواحا ذكيا
عطريا، كان ألطف جوهرا وأقل حركة وأسرع انهضاما ونفوذا في العروق وأكثر غذاء، لأنه دليل على أن
الطباع قد أتقنت صنعته وأكملت هضمه ونفت عنه بخاره وغلظه، وجعلته لطيفا غواصا، خفيف الحركة،
سريع النفوذ. ولذلك صار مدرا للبول، سريع الترقي إلى الرأس. وبهذا صار سكره أسرع وانحلال
خماره أقرب.
وما كان من الخمور لا رائحة له أصلا، كان دليلا على غلظ بخاره وثقل حركته وبعد انهضامه
وفساد جوهره. وما كان كذلك كان مذموم الغذاء، قليل المنفعة على سبيل الدواء، بل لا منفعة فيه أصلا
لأنه غير منق للأوساخ والأثفال، ولا مصف للدم. وما كان هذه حاله، كان غير مشجع للقلب ولا مقو
للذهن ولا مفرح للنفس ولا مولد للسرور والطرب، لأنه زائد في المواد الغليظة والبخارات المظلمة



(1) في الأصل: مولد.
(2) أي الأعمار.
618
المكدرة لنور الحياة والحرارة الغريزية المفسدة لضيائها المولدة للهموم والأحزان، غير أنه لثقل حركته
وبعد انفعاله، صار لا يترقى إلى الرأس بسرعة، ولا يسكر من قرب. وإذا أسكر، كان انحلال خماره
أعسر.
وأما ما كان من الشراب رائحته متوسطة بين اللطافة والغلظ، والخفة والثقل، والسرعة والابطاء،
كان في فعله وانفعاله أجدى من الحاشيتين بقسطه بقدر يقدر توسطه بينهما وانحرافه إلى إحدى
الحاشيتين دون الأخرى.
وما كان من الشراب له رائحة كريهة مفسدة للحاسة منافرة للطباع، كان مذموما (1) جدا ردئ
الكيموس، فاسد الجوهر، وبحسب رداءة الكيموسية وفساد جوهره ومنافرة الطباع له، كذلك نكاءته
للدماغ وإضراره للحس والعصب وحجب الدماغ، لأنه يولد دما مذموما فاسدا تعافه الطباع وتأباه، ولا
سيما إذا كان مع ذلك قابضا ثقيل الحركة، لان انهضامه يكون أعسر وانحداره أبعد. ولذلك قال
جالينوس: وينبغي أن نتجنب من الشراب ما كانت رائحته بشعة كريهة، لا سيما إذا كان قابضا، لأنه
أبعد لانهضامه وأفسد للدم المتولد عنه.
* * *
في ما يلحق الشراب من الاختلاف
بحسب قوته وضعفه
أما قوة الشراب فتنقسم قسمة أولية على ثلاثة (2) ضروب: لان منه القوي جدا، ومنه الضعيف
جدا، ومنه المتوسط بين ذلك، وإن كان قد يقع بين الواسطة من ذلك وبين الحاشيتين وسائط أخر تدق
العبارة عنها باللفظ. فما كان من الشراب قويا صلبا، كان إسخانه أكثر وترقيه إلى الرأس أسرع وفرغه
للذهن أقوى وأشد، لأنه يملا الرأس بخارات حارة لذاعة. ولذلك سماه أبقراط الخمر الخميري (3). وما
كان منه ضعيفا، كان فعله بخلاف فعل الأول وعكسه. ولذلك سماه أبقراط الخمر المائي. ولهذه الجهة
صرنا إذا وجدنا الشئ إذا تقوى به الشراب المائي في شراب (4) من الأشربة قويا، سمينا ذلك الشراب
خمريا. وإذا وجدناه في شراب من الأشربة ضعيفا، سميناه مائيا لقربه من المشاكلة لقوة الماء في طعمه
ولونه وقوامه وضعف إسخانه. وما كان من الأشربة متوسطا بين الحاشيتين جميعا، كان أجدى من كل



(1) في الأصل: مذموم.
(2) في الأصل: ثلاثة.
(3) كذا في الأصل، وفوقها: (يحقق) إشارة إلى غموضها. ولعلها (الخمري) كما سترد بعد قليل.
(4) في الأصل: (الماء في الشراب).
619
واحدة منهما بقسطه على حسب توسطه بينهما على الحقيقة وانحرافه إلى إحداهما دون الأخرى.
وإذ أتينا على ما أردنا إيضاحه من الأصول التي يختلف فيها الشراب، وهي بسائط مفردات، فقد
بقي أن يستمر القول عليها وهي مركبة وممتزجة، إذ من الممتنع وجود شراب بلون من الألوان معرى من
الطعم والرائحة والقوام، ولا وجوده بطعم من الطعوم وهو معرى من الرائحة واللون والقوام، ولا برائحة
وقوام معرى من اللون والطعم.
ويصير ابتداء كلامنا بالشراب الأبيض والأسود لأنهما الحاشيتان والطرفان (1)، وما سوى ذلك من
الألوان فمركب منهما.
* * *
في الشراب الأبيض
أما الشراب الأبيض فالأخص منه ضعف الحرارة وتفاهة الطعم وقلة الاحتمال للمزاج، وقلما
يكون حلوا أو عفصا أو غليظا. فما كان رقيقا ضعيف الحرارة تفه الطعم، قليل الاحتمال للمزاج، كان
أقل الأشربة حرارة وأسرعها انهضاما وانحدارا وجولانا في البدن ونفاذا في العروق وأقلها لبثا في
الأعضاء. ولذلك صار أضعفها غذاء وأكثرها تمكينا للحرارة والعطش وأدرهما للبول. وما كان منه (2)
قابضا، كان قوامه، لا محالة، غليظا. ولذلك قال جالينوس: وليس يكاد أن يوجد شراب أبيض قابض
إلا غليظا. وما كان كذلك، كان أزيد لغذائه وأفسد لجوهره وأعسر لانهضامه وانحداره وأمنع من درور
البول وأبعد من الترقي إلى الرأس وأعون على حبس البطن، إلا أن ذلك فيه قليل لقربه من لون الماء
وخفته. والأخص به تقوية المعدة والدماغ والنفع من شرب المياه الرديئة الفاسدة السنخية (3) الملحية
ودفع الضرر الحادث من شرب الماء القوي البرودة والثلوج، من قبل أن المياه الرديئة إذا شربت
استحالت، على ما بينا، وأفسدت جوهر المعدة وأضعفت قوى المعدة وجلبت إليها من البدن كل فضول
مرية، كما تنجلب إلى معد المدمنين على الصوم إذا حميت معدهم وضعفت قواها لعوزها الغذاء. فإذا
صارت تلك الفضول إلى المعدة، ترقت بخاراتها إلى الدماغ وولدت صداعا. فإذا مزجت بالشراب
الأبيض القابض، ألطفها وأهضمها وكسر حدتها بلطافته كما يكسر الماء العذب حدة الشراب الصرف،
ثم يقوي المعدة بقبضه وعفوصته ويعينها على دفع مع يؤذيها إلى أسفل. وأما الماء القوي البرودة، فإنه
إذا شرب مفردا كان إضراره عظيما، لأنه كثيرا ما يضر بعصب المعدة والصدر ويحدث ضيقا في التنفس
وانفتاقا في عروق الصدر، وكثيرا ما يحدث خدرا وكزازا وتشنجا وفالجا. فإذا خالط الشراب، كسر قوة



(1) في الأصل: الحاشيتين والطرفين.
(2) في الأصل: منهما.
(3) سنخ الشئ (لغة في زنخ) تغير.
620
برده وأفاده حرارة لطيفة، إلا أن يكون بدن المستعمل له قوي الحرارة جدا، فيكون الماء البارد له أوفق
من الشراب لمقاومة حرارة مزاجه ولبرودة الماء.
ولجالينوس في هذا قول قال فيه: ومن كان مزاج بدنه حارا بالطبع أو من السن، فالماء البارد له
أوفق من الشراب. فإن احتاج في حال من الأحوال إلى شرب الشراب، فليقصد منه ما كان أبيض (1)
صافيا رقيقا معه شئ صالح من القبض. ففي هذا دليل على فضيلة الشراب على الماء إذا كان
مصلحا لفساده ودافعا لأذيته وداثرا لغوائله وأدوائه. وما كان من الشراب مع بياضه حلوا، كان في سرعة
انهضامه وانحداره متوسطا بين الشراب الأبيض الرقيق المائي وبين الشراب الأبيض القابض. ولذلك
صار أكثر تغذية للبدن وأطلق للبطن، إلا أنه أضر بالمعدة لتوليده الرياح والنفخ، وإن كان ذلك فيه قليلا
لضعف حلاوته ورقة قوامه، لان الحلاوة لا تكاد تأتلف مع الشراب الأبيض الرقيق، وإن أمكن ذلك لم
تكد تكون إلا يسيرة ضعيفة.
* * *
في الشراب الأسود
أما الشراب الأسود فالأخص به غلظ القوام وثقل الحركة. ولذلك صار أعسر انهضاما وأبطأ
انحدارا وأبعد من الترقي إلى الرأس وأكثر غذاء لأنه يملا العروق دما غليظا بعيد الانحلال من الأعضاء.
ولجالينوس في ذلك قول قال فيه: وإني لأعرف قوما كانوا يتعاطون الصراع دائما ويتغذون بهذا النوع من
الشراب ويقتصرون عليه يريدون به خصب أبدانهم فكانت أعضاؤهم تنال (2) منه من الغذاء ما يقرب
من غذاء لحم الضأن. ولذلك صار من الأفضل للشبان أن يشربوه قبل الطعام. وأما المشايخ فهو غير
موافق لهم لا قبل الطعام ولا بعده، ولا في حال من الأحوال، لأنه لضعف حرارتهم الغريزية، صار إذا
أدمنوا عليه ولد فيهم سددا وحجارة في الكلى، إلا أن يكون على ضروب، لان أكثره يكون حلوا، وكثيرا
ما يكون قابضا. وربما كان قابضا حلوا معا. وليس يكاد يكون صلبا بل لا يكون أصلا.
ولجالينوس في هذا فصل قال فيه: وليس لما كان كل الشراب خالص الحلاوة لا محالة أسود،
وجب أن يكون كل شراب أسود لا محالة حلوا، لأنا قد نجد من الشراب الأسود ما يكون حلوا. ومنه ما
يكون قابضا. ومنه ما يكون حلوا قابضا معا. فما كان منه حلوا، كان أزيد لحرارته وأكثر لغذائه وأسرع
لانحداره وأعون على إطلاق البطن وحبس البول وأخص بتوليد الرياح والنفخ والقراقر. وما كان منه



(1) في الأصل: أبيضا.
(2) في الأصل: ينالهم.
621
عفصا، كان أضعف لحرارته وأقل لغذائه وأعسر لانحداره وانهضامه وأعون على حبسه للبطن والبول
جميعا، لأنه لغلظه وعفوصته يلبث في أعلى البطن زمانا طويلا. فإذا طال لبثه هناك، استحال إلى
الحموضة بسرعة وهيج القئ والصداع وأضر بالرأس والعصب، وذلك لغلظ بخاره وثقل حركته وبعده
من الترقي إلى الرأس. ولذلك صار سكره أبعد وانحلال خماره أبطأ.
ولجالينوس في الشراب الأسود قول قال فيه: وأما الشراب الذي يضرب إلى السواد، فليس له
من الحرارة ولا من الاضرار بالرأس والعصب ما للأصفر والأشقر ولا يتولد عنه من الحمى ما يتولد
عنهما. وما كان من الشراب الأسود مركبا من الطعمين، أعني من الحلاوة والعفوصة، كان أغلظ وأبعد
انهضاما وأفسد جوهرا وأذم غذاء وأكثر توليدا للرياح والنفخ وحجارة الكلى وسدد الكبد والطحال وأشد
تهييجا للقئ والصداع والاضرار بالرأس والعصب.
* * *
وأما الشراب الأحمر فهو في طعمه مائل إلى الحلاوة والعفوصة والصلابة، إلا أن العذوبة به
أخص. وفى قوامه مائل (1) إلى الرقة والغلظ والاعتدال، والاعتدال به أخص. وفى رائحته مائل (1) للثقل
والخفة والتوسط بين ذلك، والتوسط الذي له من ذلك لتوسطه بين لطافة الأشقر وغلظ الأسود. ولذلك
صار أعدل الأشربة غذاء وأسرعها انقلابا إلى الدم إذا كان عذبا معتدل القوام مائلا إلى الغلظ قليلا، لان
ما كان من الشراب كذلك لم يحتج إلى الطبخ إلا اليسير حتى يكمل هضمه وينقلب إلى الدم بسرعة،
ذلك لقربه من المشاكلة له في لونه وقوامه وعذوبته.
وبعد هذا الشراب في سرعة الانقلاب إلى الدم، الشراب الأسود الحلو، إلا أن الدم المتولد عنه
أفسد كثيرا لغلظه وكدره وانحرافه إلى المرة السوداء. وبعدهما في سرعة الانقلاب إلى الدم، الشراب
الأحمر الرقيق، لان رقة قوامه تحتاج إلى مدة أطول في طبخه ليغلظ ويصير دما، إلا أن الدم المتولد عنه
أرق وألطف وأحمد كثيرا. ولذلك قال جالينوس: وأما الشراب النير الصافي الناصع الحمرة فإنه لما كان
في منظره متوسطا بين الأبيض اللطيف المورد وبين الصافي الغليظ الحلو، وجب أن يكون في جوهره
وفعله وانفعاله متوسطا بين جوهرهما وفعليهما وانفعالهما. ولذلك صار لا يغلظ الأخلاط كما يغلظها
الشراب الأسود، ولا يرققها ويسيلها ويحدرها بالبول كما يفعل الشراب الأبيض اللطيف. ولما كان أكثر
هذا النوع من الشراب لا يكون إلا ذكيا خمريا عطريا، وجب أن يكون بخاره خفيفا لطيفا سريع الترقي
إلى الرأس. ولذلك وجب أن يحذره من كان دماغه عليلا لسرعة إضراره به وأذيته له.
وأما الشراب الأحمر الحلو، فإن أصحاب علل الصدر والرئة المزمنة ينتفعون به كثيرا، لا سيما
من احتاج منهم إلى أن ينقي صدره ورئته بالنفث وبخاصة إذا كان في البصاق من اليبس واللزوجة ما



(1) في الأصل: مائلا.
622
يجاوز الحد المعتدل، لان ما كان من البصاق كذلك، كان محتاجا في تسهيل خروجه بالنفث إلى ما
يسخن ويرطب ويلين تليينا معتدلا، ثم إلى ما يلطف ويحلل ويجلو وينقي وإلا لم يؤمن على البصاق أن
يمانع القوة الدافعة بيبسه ولزوجته ولا ينقاد إلى فعلها بسرعة ويهيج سعالا عنيفا شديدا ويفتق عروق
الصدر ويشقها. ولذلك صار الشراب الأحمر الحلو إذا خلط ببعض الأدوية المنقية المطلقة، كان نافعا
من هذه العلل.
وأما الشراب المورد من العنب الأحمر، والخوصي من العنب الأصفر، فمتوسط (1) بين الشراب
الأشقر والأصفر، وبين الشراب الأبيض الرقيق. ولذلك صار، بإضافته إلى الشراب الأبيض الرقيق، أكثر
غذاء وأسرع انقلابا إلى الدم، وإن كان المورد أخص بالانقلاب إلى الدم من الخوصي لما فيه من بقايا
الخمرة. ولما كان هذان النوعان من الشراب لا يكونان نيرين أحمرين عطريين، صارا سريعي الترقي
إلى الرأس، لأنهما (2) غير مضرين بحجب الدماغ للطافتهما وسرعة انحلالهما وقربهما من لطافة الشراب
الأبيض الرقيق. ولذلك صار سكرهما سريعا وانحلال خمارهما قريبا.
وأما الشرابان (3) الأصفر والأشقر فلما كان الأغلب على مزاجهما، إذا كانا حديثين، الحرارة في
الدرجة الثانية، وإذا كانا عتيقين كان الأغلب عليهما الحرارة في الدرجة الثالثة، وعلى طعمهما الصلابة
والشدة، وعلى قوامهما اللطافة وخفة الحركة، وعلى رائحتهما الذكاء والعطرية والخمرية، صارا إذا ما
شرب (4) أحدهما، يترقى إلى الرأس بسرعة ويملأ الدماغ بخارات حارة لذاعة، ويسكن من قرب ويضر
بحجب الدماغ وسائر العصب. ولذلك صارا إذا تناول أحدهما من كان مزاجه ممرورا إما بالطبع والبنية،
وإما لحال عرضت له، ومن كان كثير الهم والتعب أو يقلل من غذائه، لم تكن مضرته له باليسيرة، لأنه
يسخن من كانت هذه حاله ويحدث به حمى ويهيج به صداعا لاضراره بالدماغ وسائر العصب، وبخاصة
إذا كان الزمان صيفا والهواء حارا والبلدة أيضا كذلك. وإن كان ليس إنما يفعل هذا الفعل <ب‍> من
كانت هذه حاله من الممرورين والمغمومين والكثيري (5) التعب والقليلي (6) الغذاء، لأنه يولد فيهم دما
رديئا مذموما، لكن لأنه يسخنهم ويجففهم تجفيفا قويا وهم إلى التبريد والترطيب أحوج، وإن كان ربما
نفع هذان النوعان من الشراب الدماغ وسكنا الصداع العارض من انصباب الأخلاط الغليظة إلى المعدة،
لأنهما يلطفان (7) تلك الأخلاط ويقطعانها (7) ويحدرانها (7) بسرعة. ولذلك صار متى تناول أحدهما من



(1) في الأصل: فمتوسطا.
(2) في الأصل: لأنها.
(3) في الأصل: الشراب.
(4) العبارة في الأصل: (صار كما يشرب). ولعلها كما أثبتنا أكثر تناسبا مع السياق.
(5) في الأصل: الكثيرين.
(6) في الأصل: القليلين.
(7) في الأصل، بحذف النون.
623
كان مزاجه باردا رطبا إما من البنية، وإما لحال عرضت له، أو من كان من أهل الدعة والسكون أو من قد
اجتمع في بدنه أخلاط كثيرة غليظة نيئة، وبخاصة في زمان الشتاء والهواء البارد والبلد الكذلك، كانت
منفعته له بينة ظاهرة من قرب لأنه يلطف الأثفال ويقطع الرطوبات وينقي العروق والقنوات من.. (1)
ويستفرغها بالبول والعرق. ولذلك وجب ألا يمتنع منها من كان محتاجا إلى التدبير الملطف. ولجالينوس
في الأشربة فصل قال فيه: من أوفق الأشربة لمن كان في عروقه أخلاط غليظة حارة الشراب الأبيض
اللطيف أو الشراب الأبيض الخمري، وبعدهما الشراب المورد والشراب الخوصي المعتدل الزمان. فإن
كانت الأخلاط مع غلظها باردة فأوفق الأشربة لصاحبها الشراب الأصفر الحاد العتيق. قال إسحاق:
والأشقر الكذلك. وإن كانت الأخلاط، مع غلظها، لا حارة ولا باردة فأوفق الأشربة لصاحبها ما لم يكن
فيه واحدة من هاتين الخلتين، أعني ما لم يكن أبيض (2) رقيقا ولا أصفر (2) عتيقا بل متوسطا (3) بين ذلك
مثل الشراب الأصفر المعتدل والأشقر الذي هو كذلك والشراب المورد العتيق الخوصي الكذلك. ومن
فضيلة الشراب ومنافعه: أنه إذا أخذت منه باقتصاد وتوسط واعتدال، زاد في الدم المحمود لمشاكلته له
في طبيعته ولونه وقوامه، وطيب طعم المأكل والمشرب، ونبه الشهوة للغذاء والباه جميعا بتقويته الروح
الحيواني والروح النفساني والقوى الطبيعية، لأنه يقوي المعدة على جذب الغذاء وإمساكه وهضمه
ودبغه، بعطريته، وتنقيته الرطوبات الفاسدة المذمومة بحدته ولطافته، ويسوي تأليف البدن وتقويته،
وينسي الأحزان والهموم ويدفع الكريه المذموم من أعراض الدنيا ويجلب الجيد المألوف من محبوبها،
ويجعل الجلف (4) الجافي للوفاء عطوفا، والقاسي الغليظ لينا شفيقا ويظهر من محاسن النفس أشرفها
وأفضلها مثل الكرم والجود والسماحة والسخاء والتصافي والمحابة ويعين الهمة والشجاعة والحلم
والبلاغة، ويجعل الفدم (5) الصموت محجاجا (6)، والبليد الثقيل جريئا خفيفا. ويدل على ذلك ويشهد به
قول قاله روفس، حكاه عن اليونانيين والفرس، زعم فيه أن الفرس كانوا يستعملون الشراب دائما في
وقت المشاورة والمفاوضة في الرأي والتدبير، فيجدونه مذكيا لعقولهم ومقويا لأذهانهم ومسنحا (7) لهم
المحمود من الرأي والصواب من التدبير.
فأما اليونانيون (8) فزعم أنهم كانوا يستعملونه عند إنشادهم الاشعار واستعمالهم الملاهي وضربهم
بالعيدان فيجدونه يحد أذهانهم ويذكي عقولهم ويخرج ما في قلوبهم ورؤيتهم من القوة إلى الفعل.
ولذلك صار من الأفضل أن يحذر منه من (9) تغلب على العقل ومسكنه ويسلبه لبه ويخرج إلى السكر،



(1) بياض في الأصل مقدار كلمة. ولعلها (الفضول).
(2) في الأصل، بالتنوين.
(3) في الأصل: متوسط.
(4) الجلف: الرجل الجافي خلقا وخلقا.
(5) العيي عن الكلام في ثقل وقلة فهم.
(6) المحجاج: هو الرجل الجدل.
(7) سنح له الرأي: تيسر.
(8) في الأصل: اليونانيين.
(9) كذا في الأصل. ولعل انقطاعا هنا في السياق.
624
لان السكر منه يوجب أن يطفئ نور النفس الانسية، وغلبة النفس البهيمية، وإظهار القبيح والفواحش
وعدم العقل والحبوة (1) والمروءة جملة. ومن أجل ذلك صار السكر محرما على كل ملة، ومذموما عند
كل أمة، لأنه يمحو محاسن الوجه ويطفئ نور العقل ويفسد الفكر والرؤية، ويزيل الذهن ويبطل الحس
ويصير المميز الفاحص ثبالا (2) لا حس <له> ولا حركة، وكسفينة بغير ملاح ولا مدبر، وجيش بلا قائد
ولا سائق، ولا إمام له ولا مهدي. وأما أهل اللوم والطيش فإنه يخرجهم إلى المرار <و> كثرة الكلام
والمهارشة والتنقل في أماكن الجلساء، ثم يفتح قردية وطاووسية وسبعية، ثم يغريهم بذكر المفاخر
والتغالب والتراوس (3) وفتل الشارب وعضة الشفة وبحرق الثياب.
ومن قبل ذلك وجب على كل ذي عقل، وبخاصة من كان ملكا يحتاج إلى تدبير مملكته وحاكما
يحكم بين قومه بالعدل والانصاف، ألا يتناول منه إلا مقدار الاحتمال والطاقة والعادة المحمودة، لأنه إن
جاوز ذلك أخذ منه ما يغم قلبه ويكشف نور عقله ويحجب حسه المنبعث من دماغه، ويمنعه عن
الانتشار في جملة بدنه كما يحجب السحاب نور الشمس عن الانتشار في العالم، ويستر نور الحواس،
وأظلمت واسترقت الأعضاء، ولم يملك الانسان من عقله ولسانه شيئا، وأثيرت منه الألفاظ المذمومة
القبيحة. ولم يكن ذلك راجعا على الشراب بل على الذي تجاوز فيه قدر احتماله، وما أنهته طاعة
وزخرف به عادته المحمودة، لان الشراب ليس إنما يفعل ذلك لذاته وجوهريته، وإنما يكثر به ويتجاوز به
مقدار احتمال المستعمل. وليس كل ما أضر كثيره، كان قليله مذموما، لأنه لو وجب ذلك لكان القصد
المعتدل من الغذاء والماء رديئا مذموما لما ينال الأبدان من الضرر والتلف عند الاكثار منهما، ولكان
اللطيف من الهواء غير محمود، لأنه إذا تكاثر على المسام وتكاثف، خنق الحرارة الغريزية وأطفأ نورها.
وقد نجد الفرح أيضا إذا أفرط وبخاصة إذا جاء دفعة، أمات فجأة.
ومن منافع الشراب على سبيل الدواء، مع ما قدمنا فيه من تفتيح سدد الكبد والطحال، وتنقيته
مجاريهما ولسائر عروق البدن من الأوساخ والاخلاط الغليظة والأثفال الرديئة، وتحليله للبخارات
المظلمة المهيجة للهموم والأحزان، وتشجيعه للقلب وتوليده للسرور والطرب وطيب النفس، وقدحه
للعقل، أن شربه نافع من العلة المعروفة بالجوع الكلبي والشهوة الكلبية. وذلك لجهتين: إحداهما:
بإسخانه المعدة وتنقيته للفضل المتعفن المولد للجوع الكلبي. والثانية: أنه يملا العروق ويغنيها عن
طلب شئ تمتلئ به.
وللأشربة قوى مختلفة، فأفضلها وأشرفها وألطفها وأسرعها انقلابا، ماء الكرم الساذج البسيط
وبخاصة ما قد أتى عليه ثلاثة أحوال وكان متوسطا بين الصفرة والحمرة، ورائحته ذكية، وطعمه



(1) الحبوة، وبضم الميم أيضا: العطية.
(2) كذا في الأصل وبالرفع. ولعلها ثوالا. وثول الرجل: حمق.
(3) أي التعالي والسير تبخترا.
625
لذيذ عذب، ومطعمه سهل بيسير عفوصة. وبعده في ذلك المطبوخ من غير الكرم، لأنه في أحواله يقرب
من ماء الكرم الساذج، ويختلف كاختلافه في اللون والرائحة والطعم، إلا أنه أسخن وأيبس وأغلظ
لاكتسابه الحرارة والجفاف وغلظ الرطوبة من النار والطبخ. ولذلك صار أغلظ وأكثر غذاء وأبعد انهضاما
وأبطأ نفوذا في العروق وأشد سكرا وأطول خمارا وأضر بالدماغ والعصب، وبخاصة إذا كان فيه شئ من
عسل. والشراب المتخذ من الجنسين مثل شراب أهل حمص فردئ للعصب والدماغ والمثانة، إلا
لأهل حمص وما شاكلها لرطوبتها بالطبع. وما كان من الشراب شبيها بالعقيدة المعروفة بالميبختج،
فغليظ بطئ الانهضام، كثير التوليد للرياح والنفخ والقراقر لحلاوته وبعد انهضامه، إلا أنه إذا انهضم
غذى غذاء كثيرا، ونفع من علل الصدر والرئة ومنه القرح العارض في الكلى والمثانة لجلائه وتنقيته
للحلاوة التي فيه.

626
القول في ما يزيد في الشراب
ويقل من السكر
ينبغي لمن أحب الاكثار من الشراب أن يقل غذاءه ولا يملئ عروقه فتضيق عن احتمال
الكثير من الشراب. فإن كان ممن لا يقنعه القليل من الطعام فالأجود له ألا يصير طعامه في مرة واحدة،
لان ذلك مما يضطره إلى الاكثار من الطعام، لكن يصير طعامه في مرتين ويقتصر في المرة الأولى على
القليل المعتدل، ويصير تمام طعامه عشاء ولا يكثر من الشراب بعد عشائه، لان الطعام بين شرابين غير
محمود. ولذلك وجب ألا يستعمل مثل ذلك إلا من كان اتقى بقوة معدته ودماغه وصحة كبده وسائر
أعضائه، لان استعمال ذلك مع ضعف بعض الأعضاء، وبخاصة المعدة والكبد لا يؤمن معه حدوث
الاستسقاء، وإن كان ذلك مع ضعف المعدة فقط. تولد عنه الاستسقاء الطبلي وإن كان مع
ضعف الكبد فقط تولد منه الاستسقاء الرقي، وإن كان الضعف شاملا لكل الأعضاء أو لأكثرها تولد عن
ذلك الاستسقاء اللحمي الشامل للبدن كله. ولذلك صار هذا النوع أخبثها وأقلها (1) لأنه دليل على أن
الضعف قد شمل جملة أعضاء البدن أو أكثرها. والأجود لمن كان صفراويا من أصحاب النبيذ أن يصير
طعامه الدراج والفراريج المتخذة خردناج المنقعة في ماء الحصرم وماء حماض الأترج والمصوص
المتخذة بهذه المياه أو الحصرميات المتخذة بقضبان الرجلة وماء الحصرم وحماض الأترج. فإن كان في
الطبيعة امتناع (2)، فليتخذ الدراج والفراريج زيرباج أو بماء التمر الهندي وماء الإجاص. فإن اضطروا
إلى شئ من النقل، فليستعملوا الرمان المز وحماض الأترج ومص السفرجل والزعرور والتفاح المز وما
شاكل ذلك. والأجود لمن كان بلغمانيا أن يصير طعامه الشواء والطباهجات والقلايا والكرنب المطبوخ
باللحم الحولي المجزع المعرى من الشحم والكرنب المسلوق المتخذ بالمري والزيت الانفاق، لان
الكرنب وإن كان غذاؤه مذموما سوداويا فمن خاصيته أن يغلظ بخار النبيذ ويثقله ويمنعه من الترقي إلى



(1) كذا في الأصل.
(2) في الأصل: امتناعا.
627
الرأس بسرعة ويزيد في احتمال الشرب. ولذلك صار كله محللا للخمار لأنه يقطع من بقايا النبيذ
الحاصل في المعدة من الترقي إلى الرأس. والأفضل لمن كان هذا مزاجه ألا يقرب النقل. فإن اضطر
إليه فليستعمل منه الأشياء المجففة الناشفة للرطوبات مثل اللوز المر والحمص المقلو وما شاكل ذلك.
فأما اللوز الحلو والجوز وجوز السرو والبطم الأهلي والبطم البري المعروف بالكبر فمذموم جدا أخذها،
لأنها مصدعة مؤذية لثقلها في المعدة بدهنيتها ولزوجتها. وأما القثاء والخيار والباقلى الطري والخس فأردأ
ما يستعمل على النبيذ، لان القثاء والخيار يغلظان النبيذ ويفججانه ويمنعان (1) من هضمه لقوة بردهما
وغلظ جرمهما وبعد انهضامهما. ويدل على ذلك ظهور طعمهما ورائحتهما في الجشاء، وبعد
انحلالهما. وأما الباقلي الطري فإنه لكثرة رياحه والنفخ واختصاصه بتوليد الأحلام الرديئة يمنع النبيذ من
الهبوط إلى موضع الطبخ من المعدة. ويمنع من هضمه وترقيته إلى الرأس ويضر بالدماغ. وأما الخس
فإنه يخدر الحس ويضعف فعل الحرارة الغريزية ويفسد الهضم لما فيه من الأفيونية. وقد ظن قوم
بالبصل أنه مانع من سرعة السكر وزائد في شرب النبيذ لدروره البول ولم يفكروا في تبخيره الرأس
وتوليده للصداع والأحلام الرديئة بالطبع. إلا أنه إذا جعل معه اليسير في الطبخ على سبيل الأبازير، ربما
فعل ذلك لدروره البول. وأما الرياحين فأفضل ما يستعمل منها للشباب والمحروري (2) المزاج ما كان
مقويا للدماغ مسكنا لحدته وحرافته مثل الورد والبنفسج والنسرين والخلاف (3) والآس الطري
والشاهسفرم (4) المطري بالماء العذب في كل وقت، ومن العطر الصندل والورد المنقى من أقماعه وبرده
بالماء ورد كل وقت، ويتوقون الكافور لان يبسه يسد المسام ويمنع من تحليل البخار. وأما السيسنبر
والنرجس والياسمين وما شاكل ذلك فمذمومة على النبيذ غير صالحة لأنها تقوي البخار وتحمي البدن
والرأس وفى ذلك الوقت من أحوج الأشياء إلى ما يبرد ويسكن الحرارة ويقمع حدة البخار. ولذلك صار
العطر مذموما (5) على النبيذ إلا الصندل والورد فقط، لان كل العطر خلا هذين النوعين مقو للبخار مولد
للصداع وبخاصة فيمن كان مزاجه صفراويا. فأما من كان مزاجه بلغمانيا فاستعمال هذه الأشياء وما
شاكلها لمثل مزاجه غير مذموم ولا مكروه. ومن كان محرورا أو صفراويا، فيجب أن يكون شربه للنبيذ،
على أنهار عذبة صافية نقية وعيون جارية أو دواليب تستقي ماء عذبا صافيا نقيا في بساتين ناضرة مفروشة
بالرياحين الذكية العطرية وسماع مطرب يذكي العقول ويقويها ويطيب النفس ويبسطها ويلهيها عن الفكر
في غيره، مع وجوه مقبولة قد أتقنت الطبيعة صنعتها وأكملت حسنها وجمالها وأظهرت النفس فيها نورها
وبهاءها وملاحتها مع أخلاق رطبة وقلوب صافية نقية سليمة من الخب (6) والدغل.



(1) في الأصل: ويمنعا.
(2) في الأصل: المحرورين.
(3) من أنواعه الصفصاف.
(4) هو الريحان الكرماني أو السعدي.
(5) في الأصل: مذموم.
(6) الخب (مصدر): الخداع والخبث والفساد.
628
ولما كان من الناس من يستعمل هذا المثل ويقول: عالج الخمار بالخمر ويتبع سكر الأول بسكر
الأخير، وجب أن يحذر من ذلك ويعرف ما فيه من العاقبة المذمومة القريبة من الخطر، من قبل أن هذا
الفعل وإن كان الكثير من الناس قد يستعملونه ويسكنون إليه ويحمدون أثره لصحة أبدانهم وسلامة
أدمغتهم، فإن ذلك لا يزيل الخطأ والخطر من فعلهم، لان النبيذ إذا شرب بعقب سكر متقدم وخمار
حاضر ودماغ مملوء بخارات لم يؤمن بدءا إضراره بحجب الدماغ ثم بالقلب وسائر الأعضاء إلا أن يثق
المستعمل لذلك بقلة فضول بدنه وصحة أعضائها وقوتها، فيستعمل منه اليسير على سبيل الدواء والتحلل
بلطيف حرارته غلظ ذلك البخار المولد للخمار ويلطفه ويعين على تحليله ثم ليمنع منه غاية الامتناع،
وإلا لم يؤمن عليه أن يصادف في الدماغ وسائر العصب فضل رطوبة فيولد العلة المعروفة بالسكتة،
والعلة المعروفة بالفالج، أو يوافي في العصب ضعفا وجفافا فيولد كزازا وتشنجا، أو يصادف في البدن
فضل دم قليل مع ضعف في آلات الحلق والصدر والحجاب، فيحدث ذبحا واختناقا أو يوافي في القلب
أدنى ضعف فيضعف عن حمله فيحدث عن ذلك خفقانا وغشيا شديدا وخطرا عظيما. فمن عرض له
وجع في فؤاده من شرب النبيذ، فالأفضل أن يتهوع (1) ويشرب بعد ذلك لعاب البزرقطونا المستخرج
بالماء ورد أو بماء القثاء. ومن كظه (2) النبيذ فليتقيأ ويشرب شراب الأفسنتين وماء باردا أو ينقع الأفسنتين
بشراب الورد أو أفسنتينا مدقوقا مدوفا بشراب ورد وماء بارد، لان من خاصة الأفسنتين <أن> يحلل خمار
المرطوبين. ولذلك صار متى شرب قبل النبيذ أو في يوم الخمار، نفع منفعة بينة. وأقطع الأشياء للخمار
ممن كان محرورا شرب ماء الرمانين ولعاب البزرقطونا وحماض الأترج وماء الحصرم، وشم دهن الورد
والبنفسج والنيلوفر، ويحمل هذه الادهان على الجبين والأصداغ مضروبة بخل خمر بعقب غواص (3)
لطيف عطر الرائحة، والصندل وماء البقلة الحمقاء مع الخل. وبعض هذه الادهان يفعل مثل ذلك أيضا
واستجلاب النوم محمود لمثل ذلك. وأما من كان مرطوبا، فالأفضل لقطع خماره شرب الأفسنتين ودخول
الحمام والتعرق فيها واستجلاب النوم ما أمكن، والامتناع من كل مأكول ومشروب إلى أن ينحل الخمار
جملة وتتنفط الطباع، ويهش للغذاء بشهوة صادقة ونشاط قوي. والله الهادي للمصالح بكرمه وسعة
جوده.
نجزت المقالة الرابعة، وبتمامها تم الكتاب والحمد لله الملك الوهاب.
* * *



(1) تهوع: تكلف.
(2) في الأصل: كضه وكظه الطعام والشراب: ملأه حتى لا يطيق على النفس.
(3) الغواص: ما يحتال به في تدبير الامر.
629
/ 1