بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: المبدأ والمعاد المؤلف: صدر الدين محمد الشيرازي الجزء: الوفاة: 1050 المجموعة: فلسفة ، منطق ، عرفان تحقيق: قدمه وصححه : الأستاذ السيد جلال الدين الآشتياني الطبعة: الثالثة سنة الطبع: 1422 - 1380ش المطبعة: مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي الناشر: مركز انتشارات دفتر تبليغات اسلامي ردمك: 964-424-877-5 ملاحظات: الطبعة الثالثة (الأولى لهذا الناشر ) / عنوان : قم ، شارع شهداء ( صفائيه ) ، مركز انتشارات دفتر تبليغات اسلامى / ص ب : 917 ، هاتف : 7 - 7742155 ، نمابر : 7742154 ، توزيع : 7743426 / نشانى الكترونيكى : http://www.hawzah.net/m/m پست الكترونيك : E-mail:Bustan-e-Ketab@noornet.net المبدأ والمعاد للمولى صدر المتألهين محمد بن إبراهيم الشيرازي قدمه وصححه السيد جلال الدين الآشتياني
97 بسم الله الرحمن الرحيم [المقدمة] سبحانك اللهم يا مبدع المبادي والعلل وغاية الثواني والأول؛ اهدنا سبيلا مستقيما نسلكه إلى جنابك وطريقا موصلا نصل به إلى عزيز بابك. يا فاعل الهويات وموجد الماهيات ومنبع الخيرات وغاية الحركات؛ أنت بالمنظر الأعلى والمقصد الأسنى ونحن أبناء النقائص والخسارات في منزل الأدنى والقربة الوحشاء مع القرناء السوأى؛ أسارى قيود الإمكان والظلمات وسكارى تعلقات الأجسام والهيوليات وحيارى سحرة الطبائع والماديات. فطهر عقولنا بتقديسك عن رجس الضلالات وخلص نفوسنا بتنويرك من أغشية الأوهام والخيالات وأيدنا للارتقاء إلى مشاهدة أنوارك ومقربيك ومعاينة أضوائك ومجاوريك من أهل رحموتك وسكان ملكوتك سيما من هدانا إلى صفاتك العليا وأرشدنا إلى أسمائك الحسنى محمد أشرف المرسلين وآله خير الأوصياء الصالحين عليهم أفضل صلوات المصلين وأطهر تسليمات المقدسين. أما بعد فيقول أفقر خلق الله إلى هدايته وتوفيقه وأحوجهم إلى إرشاده وتأييده محمد بن إبراهيم والمعروف بالصدر الشيرازي أصلح الله حاله وحصل آماله: لما رأيت
99 التطابق بين البراهين العقلية والآراء النقلية وصادفت التوافق بين القوانين الحكمية والأصول الدينية؛ وإن أجل الذخائر والسعادات وأفضل الوسائل إلى الفوز بأقصى الدرجات وأعلى الخيرات؛ هو تكميل القوة النظرية بتحصيل العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية التي هي أنفس ما يطلبه النفوس الإنسانية وأشرف ما يستكمل به العقول الهيولانية إذ بها يصير الإنسان سالكا سبل الكمال والعرفان متوجها شطر كعبة العلم والإيمان متخلصا عن سجن الحدثان والخسران إلى جهة السعادة ومجاورة الرحمن؛ فائقا على الأشباه والأقران كما أشارت إليه الكتب الإلهية ونبهت عليه الرموز النبوية وأوضحت القواعد الحكمية. ثم إن العلوم الكمالية والمعارف اليقينية مختلفة الأنواع والفنون؛ متكثرة الشعب والشجون إلى حد وغاية يعجز كل نفس إنساني سيما في تعلقها بهذه النشأة التعلقية عن استحصال جميعها واستحضار فن من أصولها وفروعها وإنا عملنا لمن له فضل قوة لتحصيل الكمال على وجه أبلغ وأوفر؛ كتابا جامعا لفنون العلوم الكمالية التي هي ميدان لأصحاب الفكر وفيها جولان لأرباب النظر سميناه الأسفار الأربعة لكن القدر الواجب تحصيله واللازم على المقتنين تكميل ذاته بسلوك منهجه وسبيله: أن يحصل منها ما هو أهم وأولى ومباحث عما هو أشرف وأعلى. ولا شك أن أفضل العلوم الإلهية هو معرفة ذات الحق الأول ومرتبة وجوده بما له من صفات كماله ونعوت جماله وكيفية صدور أفعاله وأنها كيف ابتدأت الموجودات الباديات منه وكيف عادت العائدات إليه. وإن أفضل العلوم الطبيعية معرفة النفس الإنسانية وإثبات أنها كلمة نورية وذات روحانية وشعلة ملكوتية وبيان أنها لا تموت بموت البدن وأنها كيف يستكمل حتى يضاهي جواهر الملائكة بأن يصير عالما عقليا منتقشا فيها على سبيل القبول ما هي منتقشة في المبادي على سبيل الفعل وأنها كيف يتحد بالعقل الفعال وكيف يصير معقولاته فعلية بعد ما كانت انفعالية ومعنى كون العقل الهيولاني مجمع البحرين وملتقى الإقليمين حيث هو نهاية الجسمانيات وبداية العقليات وكيفية حال السعادة والشقاوة
100 الحقيقيتين وما هما ليسا بحقيقيتين بل ظنيتين فإن معرفة النفس وأحوالها أم الحكمة وأصل السعادة ولا يصل إلى درجة أحد من الحكماء من لا يدرك تجردها وبقاءها على اليقين كإخوان جالينوس وإن ظنهم الجاهلون حكيما. وكيف صار الرجل موثوقا به في معرفة شيء من الأشياء بعد ما جهل بنفسه كما قال أرسطاطاليس: إن من عجز عن معرفة نفسه فأخلق بأن يعجز عن معرفة خالقه. فإن معرفتها ذاتا وصفة وأفعالا؛ مرقاة إلى معرفة بارئها ذاتا وصفة وأفعالا لأنها خلقت على مثاله فمن لا يعرف علم نفسه لا يعرف علم بارئه وفي النظم الفرس. اى شده در نهاد خود عاجز * كي شناسى خداى را هرگز تو كه در علم خود زبون باشى * عارف كردگار چون باشى وفي الحديث المروي عن سيد الأولياء من عرف نفسه فقد عرف ربه إيماء إلى هذا المعنى يعني: من لم يعرف نفسه لم يعرف ربه. وقوله تعالى في ذكر الأشقياء البعداء عن رحمته نسوا الله فأنساهم أنفسهم بمنزلة عكس نقيض لتلك القضية إذ تعليقه جل وتعالى نسيان النفس بنسيان ربها تنبيه للمستبصر الزكي على تعلق تذكره بتذكرها ومعرفته بمعرفتها. وقيل: كان مكتوبا على بعض الهياكل المشيدة في قديم الزمان ما نزل كتاب من السماء إلا وفيه يا إنسان اعرف نفسك تعرف ربك. وقريب من هذا ما نقله الشيخ الرئيس في بعض رسائله: من أن الأوائل كانوا مكلفين بالخوض في معرفة النفس لوحي هبط عليهم ببعض الهياكل يقول: يا إنسان اعرف نفسك تعرف ربك. وفي الحكمة العتيقة من عرف ذاته تأله أي صار عالما ربانيا فانيا عن ذاته مستغرقا في شهود جمال الأول وجلاله. وبالجملة في معرفة النفس تيسر الظفر بالمقصود والوصول إلى المعبود والارتقاء من هبوط الأشباح إلى شرف الأرواح والصعود من حضيض السافلين إلى أوج العالين ومعاينة جمال الأحدي والفوز بالشهود السرمدي قد أفلح من زكاها و قد خاب من دساها.
101 فرأيت أن يشتمل كتابي هذا على فنين كريمين هما أصلا علمين كبيرين وثمرتاهما وغايتاهما أعني: فن الربوبيات المفارقات المسمى بأثولوجيا من العلم الكلي والفلسفة وعلم النفس من الطبيعيات فإنهما من المقاصد التي هي أساس العلم والعرفان والمطالب الذي يضر الجهل بهما في المعاد للإنسان كما يشهد به جميع الأمم الفاضلة السابقة واللاحقة إلى هذا الزمان ويحكم به العقول الزكية والنفوس الخيرة من أولي الدراية والعرفان. ثم ليعلم إخواني المؤمنين ورفقائي المجاهدين؛ أني قد حرمت على نفسي مناولة هذا الكتاب إلا لمن جبلت سريرته من غير تكلف على الإنصاف وتجنب بحسب الفطرة من غير مشقة عن الجور والاعتساف؛ من خلص الإخوان وصفوة الأحباء والخلان بشرط أن لا يبذل مقاصده للطبائع العنودة العسوفة ولا يبوح بمطالبه للمدارك الوهمانية المؤوفة وتقدسها عن الجلود الميتة التي كفرت بأنعم الله ولا يستودعها إلا للأنفس الحية كما قرره وأوصى به الحكماء الكبار؛ أولي الأيدي والأبصار. فإن هذه المباحث ونظائرها غامضة دقيقة المسلك لا يقف على حقيقتها إلا واحد بعد واحد من أكابر العرفاء ولا يهتدي إلى كنهها إلا وارد بعد وارد؛ من أماجد الحكماء كما قال الرئيس جل جناب الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا واحد بعد واحد. وقال المعلم الأول: من أراد أن يشرع في علومنا فليتحدث لنفسه فطرة أخرى معناه: أن العلوم الإلهية مماثلة للعقول القدسية لاتحاد العاقل والمعقول وإدراكها يحتاج إلى لطف شديد وتجرد تام وهو الفطرة الثانية. وأذهان الخلق من أول الفطرة غير ملطفة ولا مرتاضة بل جاسية كثيفة فلا يمكنها إدراك المعقولات المحضة كما هي هي وهو المسمى
102 بالفطرة الأولى ولهذا أولياء الحكمة وأبناء الحقيقة ارتاضوا بالرياضات الملطفة وعالجوا أنفسهم بالمعالجات المصححة حتى تيسر لهم الخوض في بحر المعارف الإلهية والتعمق في الحقائق الربوبية وملاحظة المبدإ الأعلى على نحو ما يستطيع المخلوق أن يلاحظ خالقه. وليس أن الحكماء الإلهيين حيث ستروا هذه العلوم وأمروا بالكتم عنها كان ذلك منهم ضنة وبخلا كلا فإنهم لتقدسهم وترفع شأنهم عن الاتصاف برداءة الأخلاق وخباثة الملكات يتحاشون عن ذلك وإن الذين خلصت نفوسهم بصفائها عن هذه المقبرة الظلماء وحصلت لهم ملكة خلع الأبدان والارتقاء إلى ملكوت السماء؛ كيف منعوا المستحق عن حقه ودفعوا السائل عن مستحقه بل لما رأوا عقول أكثر الخلق ضعيفة جاسية مئووفة يلحقها عند ملاحظة المعاني الإلهية ما يلحق عيون الخفافيش إذا نظرت إلى نور الشمس منعوا عن إيداع العلوم صدورهم الغير الزكية وإلقائه على عقولهم الغير القوية إلا لمن يستن بسنن الحكماء ويتخلق بأخلاق الأصفياء من رفض اللذات الحسية وترك المألوفات الطبيعية لأن من لم تصف نفسه من الكدورات البدنية ولم يرتض عقله بالرياضات العلمية والعملية فلا سبيل له إلى السعادات الأبدية ولا سلوك له في المناهج الإلهية. واعلم أن من استفتح عين عقله من رقدة الغفلات وسنة التقليدات يهتدي بالتعمق في مباحث هذا الكتاب عند تميز القشر عن اللباب إلى طريق الرشاد ومنزل السداد والصواب ويرى لطائف أفكار لا يكاد يوجد في مطاوي الكتب الكبار ودقائق أستار لم يشر إليها حكماء الأعصار. وهذا القدر الذي سيقرع سمعك من الحكم البحثية والكشفية إذا أحكمته سهل السبيل عليك إلى ما بعده من البسط والتحقيق والبحث والتدقيق لأني أوردت فيه مخ ما حصلته من الأقدمين وورثته من نتائج أفكارهم المبراة عن الشبه والشكوك وبينت فيه لب ما أخذته من الرؤساء المعلمين من ثمرة أفكارهم الحاصلة بالسير والسلوك مع ما ألهمت به وتحدست
103 إلهاما وتأييدا من الله وملكوته مجتنبا حائدا عن طريقة المجادلين والمتفلسفين المحرومين عن الوراثة النبوية والشريعة المحمدية صلى الله عليه وآله على الصادع بها وآله ألف الصلوات والتحية مائلا عن مذهب الظاهريين الذين يخدمون ظاهر الألفاظ والمباني وقد حرمهم الله تعالى بواطن المعاني. فها أنا إذا أفيض في المقصود مستمدا من واجب الوجود وواهب الخير وصانع الجود متوكلا في جميع الأبواب على الحي المعبود لا حول إلا حوله ولا قوة إلا قوته وإليه يرجع الأمر كله.
104 الفن الأول في بيان الربوبيات والإشارة إلى معرفة الحق الأول وصفاته وكيفية أفعاله المترتبة الآخذة منه المنتهية إلى أقصى الوجود في السلسلة النزولية وهو مترتب على مقالات.
105 المقالة الأولى: في الإشارة إلى مبدأ الوجود وأن أي وجود يخصه وأنه تعالى في غاية الوحدة والبساطة. فصل في ذكر عدة مباد من الفلسفة الكلية على سبيل الحكاية والبداية مفهوم الوجود نفس التحقق والصيرورة في الأعيان أو في الأذهان وهذا المفهوم العام البديهي التصور عنوان لحقيقة بسيطة نورية وهو أبسط من كل متصور وأول كل تصور وهو متصور بذاته فلا يمكن تعريفه بما هو أجلى منه لفرط ظهوره وبساطته. فإذا أريد تصويره للغفلة عنه فإنما يراد؛ تصويره ذلك على سبيل التنبيه والإخطار بالبال فلا بأس بإيراد أسماء مرادفة لاسمه في تعريفه كالثابت والحاصل وغير ذلك ومفهومه معنى عام واحد مشترك بين الموجودات. وحقيقته أمر بسيط منبسط على الممكنات زائد في التصور على الماهيات.
107 ليس هو بجوهر في ذاته ولا عرض ولكن وجود الجوهر جوهر بعين جوهرية ذلك الجوهر ووجود العرض عرض بنفس عرضية ذلك العرض. وهو مساوق للشيئية منقسم إلى الذهني والخارجي متكثر بتكثر الموجودات. ولا واسطة بينه وبين العدم ولا تمايز بين الأعدام ولا تأثير للمعدوم بما هو معدوم وإذا حمل أو جعل رابطة؛ تحصل مواد ثلاثة: الوجوب والامتناع والإمكان. ولا يمكن انقلابها إذا كانت ذاتية وقد يكون الأولان بالغير دون الثالث. والممكن يجب وجوده بحصول السبب المرجح ويمتنع بعدمه وما لم يجب وجوده لم يوجد وما لم يمتنع لم يعدم وفي حالتي وجوده وعدمه ممكن في نفسه. فلو أخرجه الوجود إلى الوجوب كما ظن بعضهم لأخرجه العدم إلى الامتناع فلا ممكن أبدا. وإذا توقف وجود ممكن ما على عدة أمور يكون كل واحد منها جزء السبب والمجموع هو سبب تام وجود الممكن يتعلق بوجوده وعدمه بعدمه أو عدم جزء منه. ولا يمكن وجود علل ومعلولات غير متناهية في زمان واحد. ولا يتصور أن يكون شيئان كل منهما سببا للآخر متقدما عليه. فصل في تقسيم الوجود إلى الواجب لذاته والممكن لذاته بقول تفصيلي وأن الممكن إنما يوجد بسبب مؤثر غير ذاته بوجه برهاني كل موجود إذا لاحظه العقل من حيث ذاته وأشار إليه مجردا عما سواه فلا يجده خاليا عن أحد وصفين. إما أن يكون بحيث ينتزع من عين ذاته الوجود ويحكم عليه بأنه موجود أو لا يكون كذلك بل يفتقر في هذا الانتزاع إلى ملاحظة أمر وراء نفس الذات أي أمر كان مثل انضمام شيء إليه أو انتسابه إليه أو غير ذلك من الأمور الخارجة عن نفس الذات بذاتها. فالأول هو مفهوم الواجب لذاته ومفهوم الحق الأول المعبر عنه بالوجود الحقيقي عند المشائين. المحكي عنه بالنور الغني عند الرواقيين وبمنشأ انتزاع الموجودية
108 عند أهل الذوق من المتألهين وبالوحدة الحقيقية عند الفيثاغورثيين وبالمرتبة الأحدية وغيب الغيوب عند الصوفية والمقصود واحد والمذاهب إليه متشعبة. وللناس فيما يعشقون مذاهب والثاني لا يكون ممتنعا لأن المقسم هو الموجود وضعا وفرضا فيكون ممكنا موجودا لا لذاته بل لغيره بحسب المفهوم والفرض. فافهم تنبيه فمصداق حمل الموجود ومطابق صدق الحكم بالموجودية في الواجب لذاته هو ذاته من حيث ذاته بذاته بلا ملاحظة أمر آخر وحيثية أخرى تقييدية أو تعليلية؛ انضمامية أو انتزاعية. وفي الممكن بواسطة حيثية أخرى غير نفس ذاته فإذن الممكن في الموجودية أو اتصافه بالوجود أو صيرورته موجودا يحتاج إلى مؤثر يؤثر فيه أو جاعل يجعله متحدا مع مفهوم الموجود أو يضمه إليه أو يصيره بحيث ينتزع منه الوجود أو الموجودية بعد ما لم يكن كذلك نحوا من البعدية والقبلية غير إحدى القبليات والبعديات الخمسة المشهورة. إذ كل ما يغاير شيئا بحسب الذات والمعنى ففي صيرورته إياه أو انضمامه إليه أو انتزاعه منه أو اتحاده به أو حمله عليه أو ما شئت فسمه يحوج إلى علة وسبب بخلاف ما إذا كان شيء عين الذات أو جزء مقوما له فإن توسيط الجعل وتخليل التأثير بين الشيء وذاته أو بينه وبين ما هو ذاتي له بديهي الفساد وأولي البطلان. فتبين لك مما تلوناه أن ما هو مناط الوجوب الذاتي ليس إلا كون الشيء في مرتبة ذاته وحد نفسه حقا وحقيقة وقيومآ ومنشأ لانتزاع الموجودية ومصداقا لصدق
109 مفهوم الموجود ومناط الإمكان؛ عدم ذلك. شك وإزالة وأما من جوز كون الوجود من اللواحق اللازمة للماهية من حيث هي؛ التي يلزمها لا بعلة غيرها بل بعلية واقتضاء من نفسه من حيث هي قياسا على سائر اللوازم للماهيات التي تكفي في تحققها نفس تلك الماهيات وتجويزا لكون وجود الواجب من قبيل تلك اللوازم كما توهمته طائفة من أهل الكلام؛ فبعد عن طريق الحق وقد بين فساد ظنه في كتب الحكمة ك الشفا والإشارات والمباحثات بما حاصله: أن الوجود مطلقا لا يجوز أن يكون معلولا للماهية لأن الوجود ليس له حال غير أن يكون موجودا. وعلة الموجود موجودة وعلة المعدوم معدومة وعلة الشيء من حيث هو شيء شيء وماهية ماهية. فليس إذا كان الشيء قد يكون من حيث هو ماهية علة لبعض الأشياء يجب أن يكون علة لكل شيء. وبالجملة لا يجوز أن يكون سبب الشيء من حيث هو حاصل الوجود؛ إلا شيئا حاصل الوجود. وقد بالغ الشيخ الرئيس في المباحثات في هذا المقام وبسط القول فيه حتى قال: لو كانت ماهية سببا للوجود لأنها ماهية؛ لكان يجوز أن يكون يلزمها الوجود مع العدم لأن ما يلزم للماهية من حيث [هي] يلزمها كيف فرضت ولا يتوقف على حال وجودها. ومحال أن يكون ماهية علة لوجود شيء قبل أن يعرض
110 لها الوجود وإذا لم يحصل للعلة وجود لم يحصل للمعلول وجود. طريقة أخرى لمن زعم أن موجودية كل شيء هو نفس صيرورتها بالمعنى المصدري من غير الأبيضية للجسم بأن يقول: إن نفس الذات المتحققة في ظرف ما سواء كانت بسبب أو بغير سبب؛ كافية في كونها منشئا لانتزاع الوجود منها وصحة الحكم عليها به بدون أن يكون بإزائها حقيقة وذات أي ما به يحصل للشيء موجودية كالبياض الذي هو ما به انضمام أمر إليها أو انتزاع شيء منها. وبالجملة ملاحظة أية حيثية يعتبر معها في المحكي عنه بالوجود بخلاف باقي اللواحق التي هي غير الوجود وإن كان من الانتزاعيات والاعتباريات اللازمة للماهيات. فإن مصداق الحكم بها على شيء ليس ذات الموضوع فقط بل مع اقتضائها لوازمها التي هي معان اعتبارية قائمة بها. وعدم اعتبار الوجود مع الماهية في سببيتها واقتضائها صفة؛ لا يقتضي انفكاكها عن صفة الوجود حالة الاقتضاء فإن بين الاعتبارين فرقا بينا فكيف يكون الوجود من اللوازم لماهية ما. والماهية في مرتبة اقتضائها لوازمها؛ محفوفة بالوجود فإن انفكاكها عن الوجود وهي هي محال فضلا عن أن يكون مقتضية ومستتبعة لشيء. نعم قد يراد من اللزوم غير ما هو المصطلح وهو مجرد عدم تصور الانفكاك بين شيئين في الواقع. تبصرة ورمز حمل الوجود على الماهية كما يمتاز عن حمل اللوازم عليها؛ فكذلك يمتاز عن حمل الذاتيات والمقومات عليها. فإن نفس الموضوع إذا كانت من الطبائع الإمكانية؛ يحتاج في الحكم بالوجود عليها إلى ملاحظة حيثية أخرى خارجة عن نفس ماهية الموضوع لا عن مصداق الحكم ومطابقة كما زعمه بعضهم وهم القائلون بأن أثر الجاعل وما يترتب عليه هو نفس ماهية المعلول ومفهومه لا حقيقته ووجوده وتلك الحيثية عند هؤلاء؛ هي استناد الماهية إلى جاعلها التام وصدورها منه أو مشاهدة ترتب الآثار عليها. وأما عند المعتبرين من المشائين ومن يحذو حذوهم؛ فيشبه أن يكون حيثية فاعلية الفاعل لوجود شيء داخلة في مصداق الحكم على ذلك الشيء بالوجود
111 وكما أن مقومات الماهيات المتحصلة غير خارجة عن قوام الماهية من حيث هي هي فكذلك مقومات وجودها أو كونها من حيث هي موجودة عند من ذهب إلى أن أثر الفاعل هو وجود الماهية دون نفسها. نعم حمل الوجود على الذات الواجبة يشبه حمل الذاتيات على الذات إذ الحقيقة الواجبة بنفسها موجودة كما أن ماهية الإنسان بنفسها إنسان وحيوان لا بإفادة جاعل وعلة. ولكن بينهما فرقا من وجه آخر وهو: أن مطابق الحكم بالماهية على نفسها نفس تلك الماهية ولكن حين صدورها عن الجاعل التام إذ لا ماهية قبل الصدور إلا أنها بعد الصدور عنه يصدق هي على نفسها أزلا وأبدا إذ الماهية من حيث هي ليست إلا هي فالتخصيص بأية حيثية كانت يخرجها عن الإطلاق ويجعلها غير ذاتها المأخوذة على تلك الحيثية الإطلاقية. وأما مطابق الحكم بالوجود على الواجب تعالى وبأي وصف كمالي له تعالى هو محض ذاته بذاته من دون الاشتراط بحيثية وجودية أو عدمية تعليلية كما في الوجود بالقياس إلى ماهية الممكن أو تقييدية؛ كما في اللواحق للأشياء أو الاشتراط بما دام الوجود كما في حمل الذاتيات على الماهية الإمكانية فتدبر تعرف. فصل في التجرد لإثبات الواجب الوجود وفيه طرق: الأولى: طريقة جمهور الحكماء من جهة الإمكان والتغير بحسب الماهية. أما الأولى فالممكن كما علمت حاله بحسب ذاته ليس إلا سلب ضرورة الوجود والعدم وسلب ضرورة كل صفة ثبوتية أو عدمية ففي اتصافه بالوجود يحتاج إلى مرجح وهكذا الكلام في المرجح إلى أن ينتهي إلى ما هو عين حقيقة الوجود؛
112 دفعا للدور والتسلسل. وأيضا: جميع المرجحات الإمكانية المفروضة في حكم واحد في نقصانها عن رتبة الإيجاب والوجوب؛ فيحتاج إلى مرجح تام الاقتضاء والفعلية بريء عن صفة النقص والقصور في الاقتضاء والإيجاب وليس ما هذا شأنه إلا الواجب الأول وهو المطلوب للكل. وأيضا: لو لم يكن لجملة المرجحات الممكنة طرف لم يصلح واحد من الآحاد للعلية والترجيح ولا للمعلولية والاستناد لأنها ممكنة معا ولا مزيد لأحد من الممكنات على الآخر من حيث هي ممكنة. بخلاف ما إذا كان لها طرف ذو حقيقة بذاته فيكون هو بذاته مستحقا للفضيلة والتمام فيكون ما هو أقرب منه مستحقا لفضيلة التقدم على ما هو أبعد فيكون علة له ومرجحا؛ لوجوده وإذا لم يكن طرف خارج عن الممكنات واجب الوجود بذاته متقدم فلا يكون للممكنات نسبة قرب ولا بعد إليه ولا يتميز فيما هو المفروض؛ جملة علة عن معلول بل شيء عن شيء. (... ولم يتميز فيما هو... ق ل). وأما الثانية؛ فنقول: إن الموجود في نفس الأمر لا يخلو إما أن يكون موجودا في مرتبة نفس ذاته من حيث هي هي أي كما أنه موجود في نفس الأمر فكذلك موجود عند ملاحظة الذات من حيث هي الذات مع قطع النظر عن اعتبار شيء آخر معه حتى يكون موجودا بجميع الاعتبارات الواقعة في نفس الأمر منشأ لصحة الحكم عليه بالموجودية ومصداقا لحمل الموجود فيكون وجوده واجبا لذاته بذاته وهو المطلوب. أو لم يكن كذلك بل يكون أيسا بعد ليس وفعلا عقيب قوة كالماهيات الإمكانية حيث إنها وجدت بعد أن لم يكن موجودة وصارت بالفعل حينما كانت بالقوة بحسب ذواتها وإن لم يكن كذلك في الواقع. وهذه الصيرورة نحو من التغير فكأنه حركة ذاتية كما أن الانتقال في المقولات الأربع المشهورة على التدريج حركة زمانية.
113 فإذا احتاج الشيء في التغير عما كان عليه بحسب صفة من صفاته كالأين والوضع وغيرهما الذي يقال له: الحركة الزمانية إلى مغير يغيره عن ذلك كما ثبت في موضعه؛ فبأن يحتاج في التغير عما كان عليه بحسب نفس ذاته من حيث هي إليه كان أولى وللقبول أحرى. ثم إن كان ما يخرج من القوة إلى الفعل بوجه من الوجوه يحتاج إلى مخرج غير ذاته يخرجه منها إليه فيجب الانتهاء حينئذ إلى سبب ومخرج يكون بالفعل من جميع الوجوه لئلا يحتاج إلى مخرج آخر دفعا للدور أو التسلسل وهو الواجب الوجود بالذات وهو المطلوب. تأييد وتنبيه قد عبر المعلم الأول في كتاب أثولوجيا عن الوجوب بالذات بالسكون وعن الوجوب بالغير بالحركة والوجه ما ذكرناه من أن موجودية الماهيات التي هي معان غير الوجود؛ لما كانت في مرتبة متأخرة عنها من حيث هي هي فكأنها انتقلت من ليسية إلى أيسية بخلاف الواجب بالذات فإنه موجود بجميع الاعتبارات في جميع المراتب فكأنه استقر على ما هو عليه. وينقل عن بعض اليونانيين أنه قال: النفس جوهر شريف يشبه دائرة لا بعد لها ومركزها هو العقل وكذلك العقل دائرة استدارت على مركزها وهو الخير المطلق الأول فكل المجردات قد استدارت عليه وهو مركزها للتساوي نسبتها إليه انتهى ولا يخفى تأييده لما ذكرناه ومما تلي عليك؛ تبين لك: أن الممكن لا يخلو عن قوة سواء كانت قوته في مادته بحسب استعدادها في الواقع كالماديات أو في نفسه فقط كالمفارقات. وفي الأول
114 سواء كان ما بالقوة غير متقدم على ما بالفعل بحسب الزمان كالكرات العالية أو متقدما كالأجسام العنصرية. وفي الجميع ما بالفعل مطلقا سبب لخروج ما بالقوة إلى الفعل ومتقدم عليه. وما نقل عن بعض الأقدمين من الفلاسفة: أن المبدأ الأول لجميع الأشياء هو الظلمة أو الهاوية وفسر بعضهم بخلاء غير متناه فلعله من جملة رموزهم وتجوزاتهم بأن يكون المراد من المبدأ المبدأ القابلي ومن جميع الأشياء جميع الكائنات الفاسدة ويأول الظلمة والهاوية بالهيولى الأولى التي هي أظلم الذوات وأوحشها وأبعدها عن نور الأنوار جلت عظمته. وكونها فضاء وخلاء؛ كناية عن خلوها بحسب فطرتها عن جميع الصور والمقادير. وكونها غير متناه؛ إشارة إلى قوة قبولها صورا وهيئات غير متناه فائضة عليها من واهبها الأعلى. وللطبيعيين طريق خاص في الوصول إلى هذا المقصد وهو أنهم قالوا في بيانه: إن الأجسام الفلكية حركاتها ظاهرة وهي ليست طبيعية ولا قسرية بل نفسانية شوقية لا بد لها من غاية. وإذ ليست الغاية غضبية ولا شهوية لتعاليها عنهما ولا الأجسام التي تحتها أو فوقها ولا النفوس التي لشيء منها كما ستطلع على بيان الجميع بالبرهان إنشاء الله تعالى. فتعين أن يكون غايتها أمرا قدسيا مفارقا عن المادة بالكلية يكون ذا قوة غير متناهية لا يكون تحريكاته لها على سبيل الاستكمال فإن وجب وجوده فهو المقصود وإن لم يجب فينتهي إلى ما يجب وجوده دفعا للدور والتسلسل. وهذه الطريقة هي التي سلكها واعتمد عليها مقدم المشائين في الكليتين من كتابه المسمى بالتعليم الأول وهو السماع الطبيعي من الطبيعيات والكليات من الإلهيات وأشير إليها في الكتاب الإلهي حكاية عن الخليل فإنه على نبينا وآله وعليه السلام لما رأى ظهور الحركات في الفلكيات وانفعال العنصريات عن تغيرات الكرات
115 العالية وانتقالاتها وتفاوت تلك الأجرام عظما وشرفا ونورية فتحدس أن مبدعها ومنورها ومحركها على سبيل التشويق والإمداد ليس بجسم ولا جسماني فقال: إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات و الأرض حنيفا مسلما و ما أنا من المشركين فبملاحظة الحركات يدفع توهم القاصرين من الدهرية في كون الفلكيات هي الغاية القصوى في الوجود. فثبت أن ما وراءها ما هو أعلى منها وأشرف وهو مبدعها ومحركها على سبيل التكميل والإمداد كما هو في قوله تعالى: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب. تذكرة ولهم أيضا في إثبات هذا المطلب مسلك آخر حسن جدا يبتني على معرفة النفس الإنسانية تقريره: أن النفس مجردة عن المادة حادثة مع حدوث البدن بامتناع التمايز واستحالة التناسخ لعدم مطابقة ما منه وما إليه كما سيجيء بيانه إنشاء الله تعالى. فهي ممكنة مفتقرة في وجودها إلى سبب وذلك السبب المرجح لا يجوز أن يكون جسما من حيث هو جسم وإلا لكان جميع الأجسام كذلك لاشتراك معنى الجسمية بينها وليس كذلك بديهة. ولا قوة جسمانية سواء كانت نفسا أخرى أو صورة طبيعية لما تقرر عندهم: أن تأثير الجسمانيات لا يكون إلا لما حصل لمادته علاقة وضعية ونسبة جسمية بالقياس إليه. فإن تسخين قوة النار إنما يكون لما يكون ملاقيا لجسمها أو قريبا منه
116 وكذلك إضاءة نور الشمس إنما كانت لما كان مقابلا لجرمها أو ما هو في حكم المقابلة ولذلك لا تفعل الأولى في البعيد جدا ولا الثانية في المستور. فإن قيل: كما جاز حصول القوى الجسمانية من المفارقات بالكلية من دون علاقة وضعية ونسبة جسمية فليجر عكسها من دون تلك العلاقة. فالجواب إما بتصحيح القاعدة بوجه برهاني وإما بالرجوع إلى قاعدة أخرى لهم أما الأول فاستدل عليه المحقق الطوسي رحمه الله في شرح الإشارات ب: أن الصور صنفان صور تقوم بمواد الأجسام كالصور الجسمية والنوعية وهي كما أن قوامها بمواد تلك الأجسام فكذلك ما يصدر عنها بعد قوامها يصدر بواسطة تلك فيكون بمشاركة من الوضع وصور قوامها بذواتها لا بمواد الأجسام كالأنفس المفارقة لذواتها لا لأفعالها لكن النفس إنما جعلت خاصة لجسم بسبب أن أفعالها من حيث إنها نفس إنما يكون بذلك الجسم وفيه وإلا لكانت مفارقة الذات والفعل جميعا لذلك الجسم و (ح) لم يكن نفسا لذلك الجسم هذا خلف فقد بان أن الصورة إنما تفعل بمشاركة الوضع.. انتهى كلامه. وفيه شك وهو أن غاية ما ظهر مما ذكر: أن فعل الصورة لا يتحقق بدون أن يكون لمحلها أو لمتعلقها وضع (ما) إذ فعلها لا يكون إلا بوساطة المادة والمادة المقارنة مع الصورة لا بد لها من وضع على الإطلاق وهذا لا يكفي في بيان مطلوبهم بل هو غير محتاج إلى البيان لأنه لا يخفى على أحد أن كل جسم له وضع بل المطلوب أنه لا بد لفعل القوى المتعلقة بالمادة من وضع مخصوص لتلك المادة بالنسبة إلى المنفعل عنها حتى يترتب عليه ما رتبوه من عدم تأثير القوى الجسمانية فيما لا وضع له من موضوعاتها أو متعلقاتها. فالأولى في هذا المقام ما ذكره الشيخ الرئيس في أجوبته من اعتراضات بعض تلامذته. محصوله: أنه إذا كانت القوة متقومة بالفعل بالمادة فإنما يتوسط المادة في
117 الوضع بما يستدعيه المادية من الوضع سواء كان في القوام أو في صدور الفعل فلا يكفي في تأثيرها وجودها بما هو وجودها كيف كان ووجود المستعد كذلك بل أن يقع على حالة يكون للمادة فيها بوضعها توسط غير متشابه فإن أوضاع الجسم بالقياس إلى الأجسام الأخر غير متشابه ولذلك تختلف تأثير القوة التي فيه فيها بحسب اختلاف القرب والبعد والمماسة وغيرها وهذا النحو من التوسط للموضوع بين القوة التي فيه وبين المفارق الصرف محال فلو فرضنا كون القوة الجسمانية مؤثرة في المفارق لزم أن يكون وجود المادة فيه لغوا. وقد قلنا: إن تلك القوة متعلقة بالمادة في صدور أفاعيلها بخلاف تأثير الروحاني في الجسماني فإن الروحاني العقلي غير محتاج في فعلها إلى المادة بما فيها من وضعها وتخصيص حال لها بالنسبة إليه حتى يفعل بل يكفيه وجود ذاته في أن يفعل في المستعدات بل نسبة الجميع إليه نسبة واحدة عامة. فإن ذوات الأوضاع في أنفسها ليست بذوات أوضاع بالقياس إليه وإن كانت كذلك بقياس بعضها إلى بعض فتلطف تعرف. فإن قلت: فالأجسام يحتاج في انفعالاتها عن المبادي المفارقة إلى توسط من موادها ونسبة خاصة لها إلى ما يؤثر فيها بمثل ما ذكرت في أفاعيلها. قلت: بينهما فرق (ما) فإن المادة هي المنفعلة نفسها لا المتوسط بين المنفعل وبين غيره وهناك لم يكن هي الفاعلة بل المتوسطة فأين هذا من ذاك فإن قلت: البدن كيف يؤثر في النفس والنفس لا وضع لها وقد بين أن ما ليس له وضع لا يؤثر فيه ما له وضع. قلت: المراد أن كل ما ليس له وضع ولا علاقة له مع ذي وضع فإن اقتصر في موضع (ما) على هذا المبلغ فإنما عني به ما هو مجرد بذاته وعلاقته في وجوده أو حدوثه. وأما الأمر الثاني وهو الرجوع إلى قاعدة أخرى فهو أنا نقول: قد تحقق وتقرر أن
118 الوجود إنما يقع على أشياء بتقدم أو تأخر وكمال ونقص وبعض المعاني حظه من الوجود آكد كالجوهر القائم بنفسه وبعضها وجوده في درجة الضعف كالجوهر القائم بغيره وكالعرض. وكل ما هو علة الذات فحظه من الوجود يجب أن يكون أسبق وآكد من حظه المستفيد منه فما ليس له من الوجود حظ القوام بنفسه فليس يجوز أن ينال غيره منه حظ القوام بنفسه. وهذا شيء يحكم به الوجدان بدون المراجعة إلى البيان والبرهان وخصوصا على رأي من يكون الصادر الأول عن الجاعل عنده نفس الماهية والوجود من الاعتبارات العقلية المنتزعة عنها في مرتبة متأخرة عنها نحوا من التأخر إذا لمع بالقياس إلى علته عنده كنحو الشبح من ذي الشبح والظل من ذي الظل وكما لم يكن الظل أشرف وأكمل من ذي الظل فكذلك المعلول من علته كيف والنفس الناطقة التي لنا مع تجردها وحياتها قصرت عن إيجاد جسم سواء كان بدنها أو غير بدنها فبأن يقصر الجسم الذي هو جوهر ظلماني ميت في نفسه عن إيجاد نفسه أو نفس أخرى كان أولى على ما يقتضيه ذوق أهل الإشراق. فقد ثبت إذن: أن موجد النفس لا يكون جسما ولا جسمانيا فيكون مفارقة عن المواد فإن كان واجبا فهو المطلوب وإن كان ممكنا كان محتاجا إلى مرجع أشرف فينتهي لا محالة إلى واجب الوجود بذاته. وهذه الحجة من الحجج القوية عند ذوي البصائر الثاقبة من أصحاب الحكمة المتعالية الذين حصلت لهم ملكة تجرد الأبدان وشروق الأنوار ومن استبصر بصيرته يحكم برجحانها على كثير منها. نكتة عرشية قد تقرر في الكتب المبسوطة من العلم الأعلى والفن الربوبي: أن للعالم بجميع أجزائه نظاما جمليا واحدا وحدة شخصية يعبر عنه تارة بالإنسان الكبير وأخرى بالكتاب المبين كما يعبر عن الإنسان بالعالم الصغير تارة وبالنسخة المنتخبة أخرى وفي تفصيل التطبيق بين العالمين وكيفية مقابلة النسختين تطويل عظيم عسى
119 أن نأتي به في رسالة مفردة إنشاء الله تعالى. وكما أن تكثر الأجزاء وانضمام الأمور المتباينة الحقائق من الأعضاء البسيطة والمركبة هاهنا لا يقدح في الوحدة الشخصية كذلك لا يقدح هناك تفرد كل واحد من الأفلاك والعناصر وغيرهما بطبيعة خاصة وفعل خاص في كونها متعلقة بايتلاف طبيعي وتأحد شخصي ومع التنزل عن هذا المقام نقول: لا شك أن لكل هيئة مجموعية وكيفية تأليفية ولو كانت من الاعتبارات كالخمسية والعشرية مثلا معروضا حاصلا بالفعل في الأعيان. وذلك المعروض لا محالة أمر وراء كل واحد من الأجزاء وليس إلا واحدا شخصيا غير محتمل الصدق على كثيرين لأن أجزاءه كذلك ومع كون الأجزاء شخصيات لا مجال لكلية الكل كما لا يخفى. فنقول: لو لم يكن في الوجود موجود متشخص يكون وجوده وتشخصه عين ذاته حتى يكون مبدأ لتشخص النظام الجملي وتعينه لجاز في الواقع عدم ذلك المجموع الذي هو واحد شخصي ووقوع مجموع آخر متشخص بتشخص آخر بدل هذا المجموع بأن يكون كل جزء من أجزائه مماثلا لجزء من أجزاء هذا الواقع من الفلكيات والعنصريات والبسائط والمركبات بدلية ابتدائية لا على التعاقب ففي وقوع هذا دون ذلك يلزم ترجح بلا مرجح هذا خلف والمكابر في ذلك بأن يقول: لعله يمتنع وجود غير ما هو الواقع بدلا عما هو الواقع ينازع مقتضى عقله إذ الكلام في الإمكان الذاتي. وإذا كانت المخالفة بين شيئين بالعوارض والتشخصات وكان أحدهما موجودا كان الآخر ممكن الوجود بالنظر إلى ذاته وإلا فإن وجب لذاته لم يكن معدوما وإن امتنع لذاته لم يكن هذا الواقع موجودا مع أنه موجود لأن هذه الأمور الثلاثة من لوازم الماهيات إذ كل ماهية من الماهيات ملزومة لشيء منها بمعنى امتناع انفكاكه عنها وإن لم يكن هناك اقتضاء وتسبب فإن الفرق بين الاصطلاحين بين. تأييد استبصاري كل من تأمل وتفكر في كيفية وقوع أمور العالم من الأفلاك والكواكب والأمهات
120 والمواليد وحصولها على الوجه المخصوص واحتياج بعضها إلى بعض وانتفاء بعضها عن بعض مرتبطة منتظمة بلا خلل ولا قصور في المنفعة الكلية واقعة على النحو الواجب في الحصول الكمال الكلي والنظام الجملي كوقوع أجزاء بدن الإنسان في مواقعها الخاصة لحصول الكمال الجزئي والنظام الشخصي تفطن وتحدس أن وقوعها على هذا الوجه الأكمل النافع في المصلحة الكلية ليس بحسب البخت والاتفاق فإن كون الأرض مثلا ذات لون غبراء ليقف عندها الضياء وكون غيرها من العناصر والأفلاك ذات إشفاف في الطباع لينفذ فيها ساطع الشعاع ويحصل الحرارة الغريزية في المركبات ويعد لحصول الصور الطبيعية في الممتزجات إلى غير ذلك من الأشياء الواقعة على الوجه الأحسن الأليق ليس حصولها أمرا واقعا على سبيل البخت والاتفاق وإلا لما دام على النهج الانتظام والاتساق ولا أن طبيعة كل منها جبلت على وجه يترتب عليها الغاية الكلية والمنفعة الكاملة والنظام الفاضل التام فإنه لو لم يكن العناية البالغة والتقدير المحكم فمن أين كانت يهتدي الحيوانات الضعيفة والأجسام النباتية بخصائص مصالحها فانظر كيف يهتدي النحل للأشكال المهندسة بلا تعلم وروية والبذر لأن يحرك العروق إلى الأسفل ليلتصق بالمواضع الصالحة ويستمد الغذاء من جهتها بالامتصاص ويخرج الورق الكثير بين الفواكه ليسترها عن صنوف آفاتها وأمثال هذه الأمور مما لا يمكن حصره وعده. فتيقن أن موجد هذا العالم ومدبره على الوجه النافع الشريف صانع حكيم واجب بالذات. بل وجود الواجب تعالى كما قيل أمر فطري فإن العبد عند الوقوع في الأهوال وصعاب الأحوال يتوكل بحسب الجبلة على الله تعالى ويتوجه توجها غريزيا إلى مسبب الأسباب ومسهل الأمور الصعاب ولو لم يتفطن لذلك ولذلك ترى أكثر العرفاء مستدلين على إثبات وجوده وتدبيره للمخلوقات بالحالة المشاهدة عند الوقوع في الأمور الهائلة كالغرق والحرق.
121 وفي الكلام الإلهي إشارة إلى هذا أيضا فما أضلت الطباعية وإخوان الشياطين من الذين يتشبهون بالعلماء ويكذبون أنبياء الله ويزعمون أن العالم قديم ولا قيم له فمثواهم الجحيم وجزاهم البعد عن النعيم فصل في أن الواجب الوجود إنيته ماهيته كل ماهية يعرض لها الوجود ففي اتصافها بالوجود وكونها مصداقا للحكم به عليها يحتاج إلى جاعل يجعله كذا فإن كل عرضي معلل إما بالماهية المعروضة له وإما بأمر خارج عنها. ولما علم من قبل امتناع تأثير شيء في وجوده من جهة أن العلة يجب أن يكون متقدمة على المعلول بالوجود وتقدم الماهية على وجودها بالوجود غير معقول بخلاف تقدمها على صفاتها اللازمة سوى الوجود وكذي الزاوية لماهية المثلث التي هي علة لها فلا محالة يحتاج تلك الماهية في وجودها إلى أمر خارج عنها وكل ما يحتاج في وجوده إلى أمر آخر فهو ممكن الوجود فلو كان الواجب ذا ماهية لزم كونه ممكن الوجود (هذا خلف) فواجب الوجود لا ماهية له سوى الإنية. والحجة المذكورة لا تعارض بالماهية الممكنة كما عارض بها بعضهم إذ الماهية القابلة للوجود لا يتقدم على ذلك الوجود لأنها لا يتجرد عن الوجود إلا في نحو من أنحاء ملاحظة العقل لا بأن يكون في تلك الملاحظة منفكة عن الوجود فإنها أيضا نحو وجود عقلي كما أن الكون في الخارج وجود خارجي بل بأن العقل من شأنه أن يلاحظها (الماهية) وحدها من غير ملاحظة الوجود ويصفها به وعدم اعتبار الشيء ليس باعتبار لعدمه. فإذن اتصاف الماهية بالوجود أمر عقلي ليس كاتصاف الجسم بالبياض الذي يمتاز بحسبه الموصوف والموصوف به فإن الماهية ليس لها وجود منفرد ولعارضه المسمى بالوجود وجود آخر حتى يجتمعا اجتماع القابل والمقبول بل الماهية إذا كانت فكونها بعينها هو وجودها.
122 والحاصل: أن الماهية إنما يكون قابلة للوجود عند وجودها في العقل فقط و لا يمكن أن يكون فاعلة لصفة خارجية عند وجودها في العقل فقط فالمؤثر في الوجود لا بد وأن يكون متقدما عليه بالوجود. وواجب الوجود ليس مطلق الوجود الكلي كما توهمه فرقة من المتصوفة فإن كل كلي يحتاج في تخصصه بشيء من أفراده وحصصه إلى مخصص خارجي إذ لو اقتضى ذاته التخصيص بواحد معين منها لكان كل فرد أو حصة منه ذلك الواحد المعين وليس مطلق الوجود حاله كذا. وكل ما يحتاج في تعينه إلى أمر آخر متعلق وجوده بذلك الآخر وكل ما هو كذلك فهو معلول ممكن. فواجب الوجود صرف الوجود بشرط تجرده عن الزوائد لا لا بشرط إيجاب شيء له وبين المعنيين بون بعيد كما بين في علم الميزان. واعلم أنه ليس معنى قولهم: إن الوجود عين في الواجب تعالى زائد في الممكن هو: أن لمطلق الوجود الانتزاعي الفطري حصولا في نفسه في الخارج أو عروضا انضماميا للماهيات وقياما حقيقيا بها في الأعيان بل معنى عينيته في الواجب وعروضه في الممكن أن الواجب ذاته بذاته مناط حيثية انتزاع الوجود الاعتباري أي: إنه بحيث إذا حصل في الذهن ينتزع العقل منه ذلك الأمر الاعتباري الفطري لا بملاحظة حيثية أخرى أية حيثية كانت ارتباطية أو انضمامية. والممكن ليس سبيله هذا فإن ذاته من حيث هي هي ليست بحيث إذا حصلت في الذهن ينتزع العقل منها ذلك الأمر المسمى بالوجود إلا بملاحظة حيثية أخرى سوى نفس ذاته هي: كونها منتسبة إلى موجبها التام صادرة عنه. وكون الوجود خارجيا عبارة عن كون حيثية انتزاعه في الخارج وكونه ذهنيا عبارة عن كون حيثية انتزاعه في الذهن. فذات الواجب تعالى محض حيثية انتزاع الوجود العام الفطري سواء كان عنه وهذا كوجوده تعالى بحسب نفس ذاته أو عن الماهيات وهذا كوجوداتها بحسب انتسابها إليه تعالى. وذات الممكن محض القوة والفاقة وهذا المعنى الانتزاعي الفطري وإن كان في مرتبة متأخرة عن الذات لا ينافي
123 صدق الحمل بحسب مرتبة الذات في الواجب تعالى كما أن الإنسان والحيوانية المصدريتين الانتزاعيتين متأخرتان عن نفس الذات أي ذات الإنسان والحيوان ومفهوما المحمولين متحققان في مرتبة الماهية. وبالجملة العقل يحكم ب: أن الموجودية التي ينتزع من ذاته تعالى أخيرا إنما يكون مطابق الحكم نفس ذاته تعالى في مرتبة ذاته أولا لنسبة مفهوم الوجود والموجودية. ووجوب الوجود إلى حقيقة الواجب بالذات كنسبة الإنسانية إلى نفس ذات الإنسان لا كنسبة الزوجية إلى الأربعة من لوازم التي مطابق الحكم بها مرتبة متأخرة عن نفس الماهية فالوجود إما وجود نفسه أو وجود موضوعه. قال بهمنيار في التحصيل: إذا قلنا: كذا موجود فلسنا نعني به أن الوجود معنا خارج عنه فإن كونه معنى خارجا عن الماهية عرفناه ببيان وبرهان وذلك حيث يكون ماهية ووجوده كالإنسان (الموجود) ولكنا نعني به أن كذا في الأعيان أو في الذهن وهذا على قسمين فمنه: ما يكون في الأعيان أو في النفس بوجود يقارنه ومنه: ما لا يكون كذلك (3).... قيل: ولا يتوهمن من إطلاقهم لفظ القيام أو العروض أو الاقتضاء في باب الوجود أن للوجود صورة في الأعيان حتى يلزم أن يكون للوجود وجود ويؤدي ذلك إلى التسلسل الممتنع. فإن الوجود ليس ما به يوجد الشيء في الأعيان أو في الأذهان إذ هو عبارة عن نفس تحقق الشيء وصيرورته في شيء منهما لا غير. ولو كان الشيء يوجد بواسطة وجوده حتى يكون لوجوده قياما حقيقيا به لتسلسل الأمر إلى لا نهاية وما كان يصح وجود شيء في الأعيان حينئذ. فإذن وجود الماهية موجوديتها
124 ووجود الواجب بذاته موجودية حقيقة الوجود بل هذه الإطلاقات منهم من باب التوسع والمسامحة في التعاليم. أقول: ونحن أيضا كنا في سالف الزمان على هذا الرأي حتى كشف الله تعالى عن بصيرتنا وهدانا بنوره ورأينا: أن موجودية كل شيء بالوجود أي باتحاده بنحو منه وموجودية الوجود نفس ذاته من غير محذور. وحاصل ما ذكر من البرهان على عينية الوجود في الواجب وزيادته في الممكن هو: أن حيثية انتزاع الوجود في شيء ما أن يكون نفس ذاته بذاته وأما أن لا يكون نفس ذاته بذاته وكل ما لم يكن في مرتبة ذاته بهذه الحيثية فيكتسب هذه الحيثية في مرتبة بعد مرتبة الذات ويتغير عما كان عليه في نفسه فلا بد له من مقتض لهذه الحيثية ومصحح لها ولا يمكن أن يكون ذلك نفس ذاته بذاته ومرتبة ماهيته من حيث هي هي لأن الاقتضاء والتصحيح إنما يقع في مرتبة بعد مرتبة التحيث بتلك الحيثية ولو كان كذلك لزم أن يدور الشيء على نفسه فلا بد هناك من أمر آخر يعطي لهذا الشيء تلك الحيثية وكل ما كان كذلك كان ممكنا. ولما علمت انتهاء كل ممكن الوجود إلى الواجب بذاته فلا بد أن يكون ذات الواجب بذاته نفس حيثية انتزاع الوجود. وبما قررنا ظهر لك اندفاع ما أورده صاحب المطارحات في هذا المقام حيث قال: هذا إنما يتمشى إذا ثبت أن الوجود الزائد على الماهيات له صورة في الأعيان ليبتنى عليه الكلام من أنه إذا كان زائدا ليس بواجب.. إشراق عقلي احتج الشيخ الإلهي في كتاب التلويحات على أصل المطلب ب: أن الذي فصل الذهن وجوده عن ماهيته إن امتنع وجودها بعينه
125 لا يصير شيء منها موجودا وإذا صار شيء منها موجودا فالكلي له جزئيات أخرى معقولة غير ممتنعة لماهيتها إلا لمانع بل ممكنة إلى غير النهاية. وقد علمت أن ما وقع من جزئيات كلي بقي الإمكان بعد وإذا كان هذا الواقع واجب الوجود وله ماهية وراء الوجود فهي إذا أخذت كلية أمكن وجود جزئي آخر لها لذاتها إذ لو امتنع الوجود للماهية لكان المفروض واجبا ممتنع الوجود باعتبار ماهيته هذا محال. غاية ما في الباب أن يمتنع بسبب غير نفس الذات والماهية فيكون ممكنا في نفسه ولا يكون واجبا لأن جزئيات الماهية وراء ما وقع ممكنات كما سبق فليست واجبة فإذا كان شيء من ماهيتها ممكنا فصار الواجب أيضا باعتبار ماهيته ممكنا وهذا محال فإذن إن كان في الوجود واجب فليس له ماهية وراء الوجود بحيث يفصله الذهن إلى أمرين فهو الوجود الصرف البحت الذي لا يشوبه شيء أصلا من خصوص وعموم... هذا كلامه قدس الله عقله وروح رمسه بأدنى تغيير ورأى أنه برهان قوي وتحقيق حسن. والإيراد عليه بأنه: لا يجوز أن يفصل العقل أمرا موجودا إلى وجود ومعروض له فيكون ذلك المعروض جزئيا شخصيا لا كليا وتخصيص إطلاق الماهية على الكلية لا ينفع إذ المقصود أن الوجود غير زائد بل هو نفس حقيقة الواجب إنما نشأ من الغفلة عن مرامه وسوء فهم الغرض من كلامه فإن كلامه مبني على أن تشخص الشيء في الحقيقة نحو وجوده كما صرح به المعلم الثاني فكل ما يفصله الذهن إلى معروض وعارض هو الوجود كان في مرتبة ذاته مع قطع النظر عن العارض الذي هو الوجود كليا بالضرورة وكل ما له ماهية كلية فنفس تصورها لا يأبى أن يكون لها جزئيات غير متناهية اللهم إلا لمانع خارجي. فإذن لما كان الوجوب والإمكان والامتناع من لوازم
126 الماهيات فلو كان المفروض واجبا معنى غير نفس الوجود يكون معنى كليا له جزئيات بحسب العقل فتلك الجزئيات إما أن يكون جميعها ممتنعة لذاتها أو واجبة لذاتها أو ممكنة لذاتها. لا سبيل إلى الأول وإلا لما تحقق شيء منها والكلام على تقدير وجود فرد واجب منها فلا يمتنع شيء منها لماهيتها وإن جاز ذلك لما لم يوجد منها لا لماهيتها المشتركة بل لأمر آخر ولا إلى الثاني وإلا لوقع الكل وهو محال ولا إلى الثالث وإلا لكان هذا الواقع أيضا ممكنا مع أنه واجب هذا خلف. فإذن إن كان في الوجود واجب بالذات فليس له ماهية وراء الوجود بحيث يفصله الذهن إلى أمرين فهو الوجود الصرف. وكذا الاعتراض على البرهان المذكور بأن: دعوى عدم امتناع الجزئيات الغير المتناهية ممنوعة ولم لا يجوز أن يكون لماهية كلية أفراد معدودة متناهية لا يمكن أن يتعدى عنها في الواقع وإن جاز في التوهم الزيادة عليه ولو سلم عدم التناهي فهو بمعنى لا يقف وبطلان اللازم حينئذ ممنوع. ولو سلم أنه غير متناه بالمعنى الآخر فغاية ما لزم أن يكون الواجبات غير متناهية. ولقائل أن يمنع بطلان هذا قائلا: إن دلائل بطلان التسلسل لو تمت لدلت على امتناع ترتيب أمور غير متناهية موجودة معا ولزوم ترتيب الواجبات غير بين ولا مبين. فإنا نجيب عن الأول ب: أن كل ماهية بالنظر إلى ذاتها لا يقتضي شيئا من التناهي واللا تناهي أصلا فإذا قطع النظر عن الأمور الخارجة عن نفس ماهيتها لا يأبى عند العقل عن أن يكون لها أفراد غير متناهية وعن الثاني والثالث ب: أن الكلام هناك ليس في بطلان التسلسل في الواجبات عدديا كان أو لا يقفيا مرتبا أو متكافئا حتى قيل: إن بطلانه منظور فيه بل الكلام في أنه إذا كان للواجب تعالى ماهية كلية يمكن أن يفرض لها جزئيات غير واقعة إذ الماهية لما لم يكن من حيث هي إلا هي كان الوقوع واللاوقوع كلاهما خارجين عن نفس حقيقتها فلا يأبى بالنظر إلى ذاتها عن أن يكون لها أفراد غير متناهية واقعة. ولما كان كل من الوجوب والإمكان والامتناع من لوازم الماهيات فإذا وجب فرد من ماهية
127 كلية كانت جميع أفراد تلك الماهية واجبة وكذا امتنعت لو امتنع وأمكنت لو أمكن. فنقول: تلك الأفراد المفروضة الغير الواقعة لم يكن واجبة لذاتها وإلا لما عدمت ولا ممتنعة وإلا لكان هذا الواقع أيضا ممتنعا مع أنا نتكلم بعد إثبات الواجب لذاته ولا ممكنة وإلا لكان الواجب لذاته ممكنا لذاته (هذا خلف). فثبت أنه لو كان الواجب تعالى ذا ماهية كلية لزم كونه خلوا عن المواد الثلاث وهو محال. كلمة تقديسية كيف لا يكون حقيقة الواجب القيوم صرف الوجود ومحض التقوم وهو ينبوع كل وجود ومبدأ كل فيض وجود وموجودية الماهيات إنما تتصح بكونها فائضة عنه. فجل وجوده عن أن يتعلق بماهية أصلا. تنبيه إن الوجود الحقيقي والوجوب الذاتي متساوقان وإن سكان عالم الإمكان طرا مفارقاتها ومادياتها هالكة الذوات باطلة الحقائق كما في الكتاب الإلهي كل شيء هالك إلا وجهه وهلاك الذات وبطلان الحقيقة للممكن ثابت أزلا وأبدا لا في وقت من الأوقات. ولهذا قيل: لا يحتاج العارف إلى قيام الساعة حتى يسمع نداءه تعالى لمن الملك اليوم لله الواحد القهار بل هذا النداء لا يفارق سمعه أبدا لأن موجودية الممكنات إنما هي باعتبار انتسابها إلى الموجود الحقيقي هو الواجب بالذات ومنشأ انتزاع الموجودية المصدرية ومصحح صدقها عليها. وأما هي في حدود ذواتها فلا اتصاف لها بالموجودية أصلا كما ذهب إليه المحققون من العرفاء
128 والمحصلون المخلصون من متألهة الحكماء وأشار إليه بقوله (ص): الفقر سواد الوجه في الدارين. فإذا نظرت إلى ذات الممكن من حيث هي هي تحكم بأنها من تلك الحيثية لا تكون موجودة وإذا نسبتها إلى جاعلها التام تحكم عليها بالوجود. تكميل عرشي موجودية الممكن ليست بإفاضة الوجود عليه من الجاعل أو بضم الوجود إليه كما اشتهر من المشائين لأن الوجود الفطري كما ذكرنا مرارا من الأمور الانتزاعية العقلية التي تكون عبارة عن موجودية الشيء وتحققه بالمعنى المصدري لا ما به يكون الشيء موجودا متحققا وهو أمر ذهني ليس له هوية عينية ولا علة له بخصوصه في الأعيان ولا لانضمامه أيضا إلى شيء آخر وأيضا: نفس قوام الماهية وتقررها منشأ لانتزاع الموجودية ومصحح لحمل الوجود عليه ومصداقه. فإذا لم يكن الشيء الممكن محتاجا إلى الجاعل في قوام ماهيته وتجوهر حقيقته لصدق حمل الوجود عليه بحسب ذاته واستغنى عن العلة وخرج عن الإمكان الذاتي وهو محال. فالقول بانضمام الوجود للماهية وعروضه لها كما هو المشهور بين الجمهور وينساق إليه النظر الأول قول فاسد ومذهب سخيف لا يصفو عن الكدورات المشوشة للأذهان السليمة لا سيما على رأي من تقرر عنده أن ثبوت الشيء للشيء فرع ثبوت المثبت له والموضوع في نفسه. ولا يجديه نفعا القول ب: أن الاتصاف بالوجود الخارجي متفرع على الاتصاف بالوجود الذهني أو أن الاتصاف بالوجود إنما هو في الذهن لأن الكلام في الوجود المطلق وليس للماهية قبل الوجود المطلق وجود حتى يكون الاتصاف به فرعا على ذلك الوجود. والقول باتصاف الماهية بالوجود الخارجي في الذهن أبطل في موضعه مع أنه إذا سئل أحد عن اتصاف الماهية بالوجود الذهني
129 على أي نحو من الوجود يتفرع لم يبق له مهرب إلا الاستثناء من المقدمة العقلية القابلة بالفرعية كما فعل بعضهم وهو كما ترى! وليست أيضا بإفادة الجاعل نفس الذات فقط كما هو منقول عن الإشراقيين بمعنى أن نفس الذات بعد جعل الجاعل إياها كافية في انتزاع الوجود عنها مع قطع النظر عن ارتباطها إلى جاعلها التام وإلا لكان حمل الموجود عليها كحمل الذاتيات وقد سبق بطلانه. فبقي أن يكون موجودية الممكن عبارة عن صدور نفس ذاته عن الجاعل مرتبطة به منسوبة إليه. والفاعلية والإيجاد والتأثير يكون في الحقيقة هي إفادة الجاعل الماهية مرتبطة بنفسه لا إفادته لها شيئا مباينا لذاته متحققا برأسه ولهذا قال بعض العارفين: الأثر في الحقيقة ليس شيئا مستقلا متميزا عن المؤثر وليس الأثر شيئا بحياله بل المؤثر هو الشيء والأثر إنما هو أثر شيء لا شيء بنفسه وما وجد من الآثار مستقلة بذواتها ممتازة عن مؤثراتها فليست آثارا لها بالحقيقة بل بحسب الظاهر. وليس معنى كلامه: أن وجود الأثر وجود ناعت للمؤثر كنسبة الأعراض بالقياس إلى موضوعاتها. بل الحق أنها ليست كذلك فإن الارتباط بين الواجب والممكنات ليس بكونه محلا للممكنات تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا على ما يفهم من الأمثلة الجزئية المذكورة في كتب العرفاء. فإنها وإن كانت مقربة من جهة لكنها مبعدة من جهات أخرى كالتمثيل بالبحر والأمواج والنور والأظلال وكالتمثيل بالشعلة المجتالة والنقطة النازلة والحركة التوسطية التي كل منها أمر بسيط شخصي مستمر الوجود راسم للمتجددات متكثر النسب اللاحقة المتجددة مع أن ذاته تعالى بذاته مبدأ أن ينتسب إليه الأشياء بالارتباط الصدوري فينتزع منه الوجود الانتزاعي وراسم الماهيات وفاعل الإنيات غير داخل فيها ولا مباشر لها وإنما هو قيوم بذاته يلزمه نسب لاحقة وإضافات عارضة فإن حقيقة الحقة أرفع وأقدس من أن يقاس بغيره. ولا يتوهمن أيضا من قول المحققين من الحكماء: أن حقيقته تعالى صرف الوجود
130 وموجودية الممكنات بالارتباط إليه كون وجود الحق صفة للممكن عارضا لماهيته كما هو مذهب الجمهور في مفهوم الوجود المطلق بالنسبة إليها تعالى ولهذا قيل: معيته تعالى بالماهيات الممكنة ليست إلا قيو ميته تعالى مع أن معيته بها أشد في باب المعية من معية العارض بالمعروض والمعروض بالعارض لكن لا يلزم بسببها اختلاط الواجب بالممكن وحصول التغيير والتجزي في ذاته (تعالى) واتصافه بصفات المحدثات من التلوث والتقذر. كما قال سيد الأولياء صلوات الله وسلامه عليه: مع كل شيء لا بمقارنة وغير كل شيء لا بمزايلة.. ومن توهم من العامية ضعفاء العقول أنه يلزم من معيته تعالى بالماهيات الممكنات كما هو رأي المحققين من الحكماء والموحدين من الصوفية ممازجته وملابسته بالقاذورات والأشياء الخبيثة. فما فهم من المعية المذكورة إلا ملابسة الجسمانيات بعضها مع بعض وما ترقى فهمه إلى معية النفس مع البدن. بل لعمري لو تفطن بمعية النور المحسوس بالأجسام حيث لا يلزم من ملابسة الأنوار بالقاذورات تلطخها وتلوثها بها لما وقع في هذا الظن الفاسد في حقه تعالى بل الحق كما تبين مما ذكرناه أن معيته تعالى بالماهيات ليست إلا قيوميته لها مع أنا لا نعلم كنهها. والحاصل مما ذكرناه ومما تركناه مخافة أن يعسر دركه على الأفهام: أن الممكن في مرتبة ذاته لا يكون موجودا أصلا لا في نفسه ولا بنفسه ولا لنفسه بل له الوجود الاعتباري النسبي إلى المبدإ الأول القيوم الواجب بالذات وهو الموجود في نفسه بنفسه لنفسه (والله أعلم بسرائر الأمور). فصل في أن كنه الواجب تعالى غير معلوم للبشر نسبة الوجود الانتزاعي إلى الواجب تعالى وإن كان كنسبة المعاني المصدرية المنتزعة عن نفس الماهيات كالإنسانية من الإنسان والحيوانية من الحيوان إلا أن بينهما مخالفة من وجه آخر سوى ما ذكرنا من أن مطابق الحكم بالوجود على الحقيقة الواجبية نفس تلك غير مقيدة بما دام كونها موجودة بخلاف المعاني الذاتية فإن الحكم
131 بها على الحقائق حين وجودها لا في وقت آخر. وذلك الوجه هو أن للعقل أن يكتنه تلك الماهيات ويتصورها بكنه حقائقها وينتزع منها الإنسانية والحيوانية والفلكية وغيرها. وليس له أن ينال الموجود الحق ويتصوره على الاكتناه به حتى ينتزع منه الموجودية المصدرية إذ يمتنع ارتسام الحقيقة الواجبة في الأذهان عالية كانت أو سافلة بل جميع القوى الإدراكية عقلية كانت أو حسية في مرتبة واحدة بالقياس إلى نيل الجناب الربوبي كما ورد عن النبي ص: إن الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار وإن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم. فإن الإحساس إنما يتعلق بما في عالم الخلق والتعقل إنما يتعلق بما في عالم الأمر فما هو فوق الخلق والأمر يكون محتجبا عن الحس والعقل بل العقل يتصور مفهوم الوجود ويحكم بسبب البرهان أن له مبدأ لو ارتسم في العقل ينتزع منه لذاته هذا المفهوم لكن يمتنع أن يرتسم. ففي الماهيات يعقل أولا المنتزع منه ثم ينتزع المعاني المصدرية الذاتية. وهناك بعقل مفهوم الوجود الانتزاعي ثم يحكم أن له مبدءا منتزعا منه بالذات. حجة عرشية كنه الواجب لو كان متعقلا لزم انقلاب حقيقته فإن حقيقة الموجود الصرف بشرط سلب الموضوع وسائر الأشياء عنه لا لا بشرط شيء منها (كما عرفت) لو تصور بكنهه لكان موجودا في موضوع مع أن حقيقته الموجود لا في موضوع فينقلب حقيقته عما كانت عليه. وهذا بخلاف الماهيات الجوهرية فإن جوهريتها ليست باعتبار كونها بالفعل لا في موضوع بل هذا المعنى من عرضياتها اللاحقة بها في الخارج وجوهريتها إنما هي باعتبار كونها بحيث إذا وجدت في الخارج كانت لا في الموضوع وهذا المعنى لا ينفك عنها بحسب أنحاء الوجود فلم يلزم من الانقلاب في شيء حين تصورها بكنهها أصلا. وسيأتي لهذا المعنى زيادة إيضاح إن شاء الله تعالى. والحاصل أن الواجب تعالى لو تعقل بالكنه لكان الموجود الخارجي من حيث إنه
132 موجود خارجي موجودا ذهنيا وهو باطل وبطلانه يوجب بطلان المقدم وهو المطلوب. ولقائل أن يقول: هذا البرهان إنما ينفي كونه تعالى معلوما بكنهه لغيره بالعلم الصوري الارتسامي ولا ينفي كونه معلوما بالمشاهدة الحضورية. فنقول: إن المعلوم بالذات أعني ما حضر عند العالم سواء كانت صورة ذهنية أو موجودا عينيا لا بد وأن يكون بينه وبين العالم علاقة وجودية وارتباط عقلي مستلزم لحصوله للعالم وإلا لصار كل من له صلاحية العالمية عالما بكل شيء بل يجب أن يكون وجود المعلوم من حيث إنه معلوم عين وجوده لعالمه كما صرح به المحققون من الحكماء والعلاقة المتصورة بين ذات الممكن وحقيقة الواجب ليست إلا علاقة المعلولية ولا شك أنها علاقة ضعيفة لا توجب حصولها له فإن وجود المعلول من حيث إنه معلول وإن كان بعينه وجوده لعلته لكن وجود العلة من حيث إنها علة ليس بعينه وجودها لمعلولها ولا مستلزما لها فعلاقة العلية إنما توجب العالمية بخلاف علاقة المعلولية. والحاصل أن العلم إنما يتحقق بحصول شيء لشيء إما بذاته أو بصورة ذاته حصولا حقيقيا أو حكيما وهو ينحصر في حصول الشيء لنفسه أو لعلته ولا يتصور شيء منها في الواجب بالنسبة إلى الممكنات. فلا يمكن أن يحصل العلم بحقيقة الواجب بنوع من أنواع العلم بالكنه لشيء من الممكنات وهو المراد. نقل كلام لتوضيح مرام استدل بعض الحكماء على هذا المطلب بوجه آخر فقال: إنك إذا راجعت وجدانك تعلم أنك لا تعرف الغائب إلا بالشاهد. معناه أن كل ما سألت عن كيفيته فلا سبيل إلى تفهيمك إلا أن يضرب لك مثال من مشاهداتك الظاهرة بالحس أو الباطنة في نفسك بالعقل فإذا قلت: كيف يكون الأول عالما بنفسه فجوابك الشافي أن يقال كما تعلم أنت نفسك فتفهم.
133 وإذا قلت: كيف يعلم بعلم واحد بسيط سائر المعلومات فيقال: كما نعرف جواب مسألة دفعة من غير تفصيل ثم تشتغل بالتفصيل. فإذا قلت: كيف يكون علمه بالشيء مبدأ وجود ذلك الشيء. فيقال: كما يكون توهمك السقوط على الجذع عند المشي عليه مبدأ السقوط. فإذا قلت: فكيف يعلم الممكنات كلها فيقال: يعلمها بالعلم بأسبابها كما تعلم حرارة الهواء في الصيف بمعرفتك تحقيقا بأسباب الحرارة. وإذا قلت: كيف يكون ابتهاجه بكماله وبهائه فيقال: كما يكون ابتهاجك إذا كان لك كمال يتميز به عن الخلق واستشعرت ذلك الكمال. والمقصود أنك لا تقدر علم أن تفهم شيئا من الله إلا بالمقايسة إلى شيء في نفسك نعم تدرك في نفسك أشياء تتفاوت بالكمال والنقص فتعلم من هذا أن ما فهمته في حق الأول أشرف وأعلى مما فهمته في حق نفسك فيكون ذلك إيمانا بالغيب مجملا وإلا فتلك الزيادة التي توهمتها لا تعرف حقيقتها لأن مثل تلك الزيادة لا توجد في حقك. فإذا كان للأول أمر ليس له نظير فيك فلا سبيل لك إلى فهمه البتة وذلك هو ذاته فإنه وجود بلا ماهية هو منبع كل وجود. فإذا قلت: كيف يكون وجود بلا ماهية فلا يمكن أن يضرب لك مثال من نفسك فلا يمكنك إذا فهم حقيقة الوجود بلا ماهية وحقيقة ذات الأول وخاصته هي أنه موجود بلا ماهية زائد على الوجود وأن إنيته وماهيته واحدة وهذا لا نظير له فيما سواه فإن ما سواه جوهرا وعرض وهو ليس بجوهر ولا عرض. وهذا أيضا لا يتحققه الملائكة فإنهم أيضا جواهر وجودها غير ماهيتها وإن ما هو وجود بلا ماهية ليس إلا الله فإذا لا يعرف الله إلا الله. فإن قلت: فعلمنا بأنه موجود بلا ماهية زائدة وأنه حقيقة الوجود المحض علم بما ذا إذا لم يكن علما به قلنا. هو علم بأنه موجود وهذا أمر عام وقولك: إنه ليس له الماهية بيان
134 أنه ليس مثلك فهو علم بنفي المماثلة كعلمك بأن زيدا ليس بصانع ولا نجار فليس علما بصنعة بل هو علم بنفي شيء عنه وعلمك بإرادته وقدرته وحكمته يرجع كله إلى علمه بنفسه أو بغيره وعلمك بأنه عالم بنفسه من لوازم ذاته لا بحقيقة ذاته الذي هو الوجود المحض بلا ماهية انتهى كلامه بألفاظه. أقول: إنه مبني أيضا على ما استقر عليه رأيهم من نفي المشاهدة الحضورية لشيء من الأشياء إلا بالنسبة إلى ذاته وصفاته وإنه لا يمكن أن يعلم ما سواه من الوجودات العينية المباينة إلا بالارتسام والتمثيل دون المشاهدة والحضور وهو ليس بصواب بل التحقيق ما عليه الإشراقيون وأتباعهم من إثبات العلم الحضوري وسيأتي إثباته في الكتاب. فلقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يعرف كنه الواجب بالمشاهدة الحضورية ولا حاجة فيها إلى المقايسة بالشاهد حيث يكون المعلوم مشاهدا بنفسه فالأولى أن يستدل بما قلناه من أن معلومية شيء لشيء بالكنه مستلزم لمعلوليته له وهي منتفية في حق الواجب تعالى. وهذا قريب مما قاله بعض المحققين من العرفاء من: أن العلم بكنه حقيقة الشيء لا يحصل إلا لنفس ذلك الشيء أو لعلته فإن حصول الشيء لنفسه وحصوله لعلته مستلزم للعلم بالكنه وما عدا هذين الحصولين من حصول العلة للمعلول وحصول شيء لأمر آخر بصورته فليس حصولا لكنه تلك الحقيقة حقيقة بل الحصول الحقيقي المستلزم لمعرفة الكنه إما حصول الشيء لنفسه أو حصوله لعلته انتهى كلامه.
135 تنبيه تقديسي كل ما كان وجوده في نفسه أتم فمعقوله في الذهن أتم إذ الحقائق إنما تحصل في العقل بأنفسها لا بأظلالها وأشباحها فعلى حسب وجودها خارج عقولنا يكون معقولها مطابقا لموجودها فإن كانت كاملة الوجود كالدائرة والمربع والعدد وأشباهها كان المعقول هي أيضا معقولا تاما لأنها في أنفسها كاملة الوجود وإن كانت ناقصة الوجود كالحركة والزمان والهيولى وأشباهها كان المعقول منها معقولا ناقصا إذ هي في أنفسها ناقصة الوجود وهذا المعنى في العلم الذي لا يكون بالارتسام والتمثيل بل بمجرد الإضافة الإشراقية أوضح فإن المعقول هناك بعينه الموجود الخارجي فإذا كان الواجب القيوم من فضيلة الوجود في أعلى أنحائه ومن كمال الفعلية في أرفع المراتب. فحينئذ يجب أن يكون المعقول منه على نهاية الكمال أيضا وحيث نجد الأمر على خلاف ذلك فينبغي لنا أن نعلم أن هذا ليس من جهته إذ هو في ذاته على الكمال الأقصى ولكن لضعف عقولنا وانغماسها في المادة وملابستها القوى والأعدام يعتاص إدراكه وتعسر تعقله على ما هو عليه في ذاته فإن إفراط كماله وشدة نوريته يبهرها فلا تقوى على إدراكه على التمام وإن كنا نعقل سائر الأشياء بإفاضته وإشراقه أو لا ترى أن الضوء المحسوس الذي هو أول المبصرات وأكملها وأظهرها وبه تصير المبصرات التي هي مبصرة بالقوة مبصرة بالفعل ينبغي أن يكون ما هو أشد منه وأتم كان إدراك البصر له أكثر ولما وجدنا الأمر على خلاف ذلك فعلمنا أن هذا ليس لخفائه ونقصه بل لشدة كماله في النورية المحسوسة تبهر الأبصار وتكل الحاسة عن إدراكه ويضعف فكذلك قياس كمال الحق الأول وقوة لمعانه ونقص عقولنا وضعفها وكلالها عن إدراكه وبما بيناه تحقق أن الأشياء التي يكون المعقول منها لنفوسنا ضعيفا ولا ندركها حق إدراكها على ما هي عليه في أنفسها على ضربين: ضرب ممتنع ذلك في حقه من قبل
136 ذاته لضعف وجوده وخسة جوهره كالهيولى وضرب مبذول من جهته لكونه على التمام والكمال كالباري عز سلطانه إذ هو على الدرجة العليا من التمام والغاية القصوى من الكمال لكنه يغلب إشراقه العقلي على بصائر القلوب ويقهرها ويعجزها عن إدراك نوره النافذ ولمعانه الشديدة فيرجع عنه كليلة حيرة وهذان الضربان كل منهما في غاية البعد عن الآخر بحسب الذات وفي الطرف الأقصى من سلسلة الوجود المترتبة في الكمال والنقص المتدرجة في الشرف والخسة فيكون أحدهما في غاية البهاء والكمال والآخر في نهاية الخسة والنقص كالباري تعالى والهيولى وما يتلو كل منهما قوة وضعفا يتلوه ظهورا وخفاء وما يكون متوسطا بين الأمرين ذا قسط من الجانبين فهو الذي يقوي القوى البشرية على إدراكه والإحاطة به كالأجسام والألوان وسائر الكيفيات والكميات ولذلك كان معرفة الأجرام والأبعاد عليها أسهل من معرفة سائر الأشياء. فقد تبين وتحقق من ذلك أنا حيث كنا متلبسين بالمادة وكانت هي السبب في أن صارت جواهرنا بحسب التعلق بها بعيدة عن الحق الأول فيكون أذهاننا وعقولنا ممنوعة عن إدراكه تعالى لبعدها عن منبع الوجود من قبل سنخ ذاتها ومقارناتها للمادة لا من قبله. فإنه لعظمته وسعة رحمته وشدة نوره النافذ وعدم تناهيه أقرب إلينا من كل الأشياء لتناهيها وعدم تناهيه كما أشار إليه في كتاب المجيد و نحن أقرب إليه من حبل الوريد وفي قوله تعالى: و إذا سألك عبادي عني فإني قريب فهو سبحانه في العلو الأعلى من جهة كماله الأقصى والدنو الأدنى من جهة سعة رحمته وإحاطة علمه بالأشياء فهو العالي في دنوه والداني في علوه وإليه أشير في الحديث لو دليتم بأرض السفلى لهبطتم على الله.
137 وكلما بعدت جواهرنا عن المادة كان إدراكنا له تعالى أتم وتعقلنا له أتقن وإذا فارقناها على التمام فحينئذ يصير معقولنا منه أكمل ما يكون قبل ذلك ومع ذلك لا ندركه حق إدراكه وما نعرفه حق معرفته لتناهى قوة عقولنا وعدم تناهيه في الكمال بل هو وراء ما لا يتناهى فيجب الاعتراف بالعجز عن معرفته وهذا غاية معرفته. قال يعقوب بن إسحاق الكندي: إذا كانت العلة الأولى متصلة بنا لفيضه علينا وكنا غير متصلين به إلا من جهة فقد يمكن فينا ملاحظته على قدر ما يمكن المفاض عليه أن يلاحظ المفيض فيجب أن لا ينسب قدر إحاطته بنا إلى قدر ملاحظتنا له لأنه أعز وأوفر وأشد استغراقا وإذا كان الأمر كذلك فقد بعد عن الحق بعدا كثيرا من ظن أن العلة الأولى لا يعلم بالجزئيات. وقال المحقق الشهرزوري في الشجرة الإلهية: الواجب لذاته أجمل الأشياء وأكملها لأن كل جمال وكمال في الوجود فإنه رشح وفيض وظل من جماله وكماله فله الجمال الأبهى والكمال الأقصى والجلال الأرفع والنور الأقهر تعالى وتقدس عما يقول الجاهلون علوا كبيرا. فهو محتجب بكمال نوريته وشدة ظهوره. والحكماء المتألهون العارفون به يشاهدونه لا بالكنه لأن شدة ظهوره وقوة لمعانه وضعف ذواتنا المجردة النورية يمنعنا عن مشاهدته بالكنه كما منع شدة ظهور الشمس وقوة نورها أبصارنا عن اكتناهها لأن شدة نوريتها حجابها. فنحن نعرف الحق الأول ونشاهده لكن لا نحيط به علما كما ورد في الوحي الإلهي و لا يحيطون به علما. وقوله: لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار انتهى كلامه.
138 وحاصله: أنه إذا لم يكن للنفس اكتناه نور الشمس التي ليس له رتبة أضعف الأنوار العقلية بالمشاهدة الحضورية والإضافة الإشراقية على ما هو مناط الرؤية عند الرواقيين وأتباعهم فيمتنع اكتناهه تعالى الذي هو أقوى الأنوار العقلية كلها وأقهرها وأشدها بما لا يتناهى على الطريق الأولى. فإن قيل: إذا جوزت كون ذاته تعالى معلوما بالشهود الإشراقي للنفوس المتألهة ولا شك أن المشهود بشهود الإشراقي إنما هو عين حقيقته البسيطة لا وجه من وجوهه فكيف لا يكون معلوما بالكنه والمشهود لا يكون إلا نفس حقيقته الصرفة لا غير. قلنا: لعله لا يمكن للممكنات مشاهدة ذاته تعالى إلا من وراء حجاب أو حجب حتى المعلول الأول فهو أيضا لعله لا يشاهد ذاته إلا بواسطة مشاهدة نفس ذاته فيكون شهود الحق له بسبب شهود ذاته وبحسبه لا بحسب ما هو المشهود عليه. وهذا لا ينافي الفناء الذي ادعوه فإنه إنما يحصل بترك الالتفات إلى الذات والإقبال بكلية الذات إلى الحق وترك الالتفات إلى الذات لا يستلزم نفي العلم بها. ويؤيد هذا ما في الفصوص (للشيخ الأعرابي) وشرحه بعد تبيين الحجب الظلمانية والنورية وأنها عين العالم والعالم عين الحجاب على نفسه أي الحاجب إياها عن شهود الحق. وإذا كان العالم عين الحجاب فهو يدرك نفسه بلا حجاب ويدرك الحق من وراء الحجاب. فلا يدرك أي العالم الحق إدراكا يماثل إدراكه أي إدراك العالم نفسه فإن إدراكه نفسه إدراك ذوقي شهودي من غير حجاب وإدراك العالم إياه من وراء الحجاب فلا يزال العالم في حجاب أي في حجاب تعينه وإنيته عن إدراك الحق لا يرتفع ذلك الحجاب عنه بحيث لم يصر مانعا عن الشهود ولم يبق
139 له حكم فيه وإن أمكن أن يرتفع تعينه عن نظر شهوده لكن يكون حكمه باقيا فيه ويكون بحسبه لا بحسب ما هو المشهود عليه فلا يرتفع الحجب بالكلية انتهى. وقول الحلاج: بيني وبينك إني ينازعني * فارفع بلطفك إني من البين يؤيد ما ذكرناه. وقال المعلم الثاني في الفصوص: إن لك منك غطاء فضلا عن لباسك من البدن. فصل واجب الوجود بسيط الحقيقة ليس متألف الذات من أجزاء وجودية عينية أو ذهنية كالمادة والصورة العينيين أو الذهنيين ولا من أجزاء حدية حملية لا بشرطية كالجنس والفصل. بيانه: أن كل ما هو مركب كان للعقل إذا نظر إليه وإلى جزء منه وقايس بينهما بالوجود أن يحكم بتقدم ذلك الجزء تقدما بالطبع فيكون بحسب جوهر ذاته مفتقرا إلى جزئه متحققا بتحققه وإن لم يكن أثرا صادرا عنه فكل ما هو كذلك لم يكن واجب الوجود والمفروض أنه واجب الوجود (هذا خلف). طريقة أخرى لو تركب ذات الواجب من أجزاء فلا يخلو إما أن يكون كل واحد من تلك الأجزاء واجب الوجود أو ليس كذلك بل شيء منها أو جميعها ممكن الوجود والقسمان باطلان. أما الأول: فلأن كل حقيقة متأحدة تأحدآ نوعيا طبيعيا لا اعتباريا لا بد وأن يكون لبعض أجزائه إلى بعض علاقة لزومية وارتباط علي إيجابي. وقد تبين هذا في العلم الإلهى ويحكم به الفطرة قبل قيام البرهان عليه إذ لا يتصور تأليف حقيقة نوعية أو
140 جنسية من أمور متفاصلة متباينة مستغنية بعضها عن بعض بحسب الوجود اللهم إلا في الأصناف والأشخاص من حيث هي أصناف وأشخاص وفي المركبات الاعتبارية كالحجر الموضوع في جنب الإنسان. فلو تركب حقيقة الواجب من الواجبين مثلا تعالى الواجب عن ذلك علوا كبيرا لزم أن يكونا متلازمين ونحن قد أثبتنا من قبل أن لا علاقة لزومية بين الواجبين لو فرضنا بل بينهما كانت (حينئذ) صحابة اتفاقية. وأما بطلان الشق الثاني فلأنه لو تركب ذات واجب الوجود من أمور يكون بعضها أو كلها ممكنا لزم افتقار الواجب في قوام ذاته وتجوهر حقيقته إلى ممكن الوجود وتقدم الممكن على الواجب بحسب الذات وهو ممتنع. وأيضا يلزم الدور على ذلك التقدير إذ العقل إذا قاس الممكن والواجب إلى الوجود يجد الواجب أقدم في الوجود ويحكم بأنه: وجد الواجب فوجد الممكن فإذا قاس الجزء والكل إليه يجد الجزء أقدم فيه من الكل ويحكم بينهما بتخلل الفاء أي: وجد الجزء فوجد الكل. ونحن نفصل هذا القسم ونقول: لا يخلو تلك الأجزاء التي ليست بأسرها واجبات الوجود إما أن يكون بأسرها ممكنات الوجود أو يكون بعضها واجب الوجود وبعضها ممكن الوجود فعلى الأول يلزم تحقق الحق المحض والفعلية الصرفة والوجود المتأكد من الباطلات البحتة والهالكات الساذجة وهو بديهي الفساد وبين البطلان وعلى الثاني يلزم تحصيل حقيقة متأحدة واجبة حقيقة من باطل صرف وحق محض ومن الأمور المبينة بل البينة أنه لا يحصل طبيعة واحدة من أمور متخالفة بتمام ماهياتها متغايرة بسنخ حقائقها وأي تخالف بين شيئين بحسب الحقيقة أزيد من كون أحدهما واجبا بالذات والآخر ممكنا بالذات وكيف يتألف منهما ذات هي صرف الوجود الذي لا يشوبه قوة أصلا. برهان آخر على نفي الأجزاء العقلية يلزم منه انتفاء الأجزاء العينية كالمادة والصورة الخارجتين إذ كل بسيط في التصور بسيط في الخارج دون العكس فنقول:
141 إن احتياج الجنس إلى الفصل كما هو مقرر عندهم ليس في تقومه من حيث هو هو بل في أن يوجد ويحصل بالفعل فإن الفصل كالعلة المفيدة للجنس باعتبار بعض الملاحظات العقلية فلو كان للواجب تعالى جنس وفصل لكان جنسه إما مفهوما غير الوجود المتأكد فيكون الواجب الوجود ذا ماهية وقد سبق القول بأن ليس له ماهية سوى الوجود وإما عين الوجود المتأكد فلا يحتاج في أن يوجد إلى الفصل فيكون ما فرضناه فصلا ليس بفصل (هذا خلف) وكذا ما فرضناه جنسا ليس بجنس. إجمال فيه تلويح عرشي لو كان للواجب أجزاء عقلية فلا يخلو إما أن يكون جميعها أو بعض منها محض حقيقة الوجود أو لا يكون شيء منها كذلك وعلى التقادير يمتنع الحمل بينهما وهو خرق الفرض تكميل الفلاسفة إنما أسسوا إثبات المادة في الأجسام الذيمقراطيسية على تشابه الجزء المقداري وكله في الحقيقة النوعية وبعد تمهيد ذلك نقول: لو كان للواجب تعالى جزء مقداري فهو إما ممكن فيلزم أن يخالف الجزء المقداري كله في الحقيقة وإما واجب فيكون الواجب بالذات غير موجود بالفعل بل بالقوة وكلا شقي التالي باطل فكذا المقدم. فصل واجب الوجود لا فصل لحقيقته البسيطة على أنه مقسم بيانه: أنه كما أن الحقيقة المحصلة النوعية إنما يحتاج في تقوم ماهيتها وتجوهر حقيقتها
142 إلى أجزائها المقومة لها إذا لم يكن بسيطة لا إلى العوارض المصنفة أو المشخصة إذ لا مدخلية لها في تجوهر مرتبة النوعية وتحصلها بل إنما يكون مدخليتها في كون تلك الحقيقة موجودة بالفعل فكذلك الطبيعة المبهمة الجنسية إنما يحتاج بحسب سنخ حقيقتها ومرتبة ماهيتها الجنسية إلى أجزاء القوام لو كانت غير بسيطة ولا يحتاج إلى فصل مقسم كما سبقت إليه الإشارة إلا في تصحيح إنيتها وتحصيل وجودها بالفعل على ما استبان في العلم الأعلى وفي علم الميزان من أن الفصل المقسم خاصة بالقياس إلى الجنس والجنس عرض عام لازم له. وكون الجنس مفتقرا إلى الفصل في وجوده لا في تجوهره إنما يتصور إذا لم يكن الجنس حقيقته نفس وجوب الوجود والحصول بالفعل مثل أن يكون حيوانا أو مقدارا ولونا حتى يفيد الفصل له شيئا سوى نفس حقيقتها يكون ذلك الشيء هو الوجود بالفعل. وأما ما كان حقيقته نفس الوجوب الذي هو تأكد الوجود فلو كان ذا فصل كذلك لكان الفصل مفيدا لمعنى ذاته وكان المقسم الخارج مقوما داخلا وهو محال. وأيضا: فإن الموجود الذي لا سبب له إن فرض له فصل يفيد وجوده بالفعل لزم أن يكون ما لا علة له معلولا. وكيف يكون إبهام جنسي حيث يكون فعليته صرفة لا يشوبها قوة أصلا. فصل واجب الوجود لا ينقسم حقيقته البسيطة بالعدد وإلا فإما أن يتكثر بذاته فلا يوجد منه واحد لأنه على طباع ذلك المتكثر بنفس ذاته بل هو عينه فتكثر وإذا انتفى الواحد انتفى الكثير لأنه مبدؤه فإذا كثرناه بنفسه فقد أبطلنا كثرته فقد أبطلنا نفسه. وإما أن يتكثر بغيره ففيه قوة القبول وهي غير حيثية الوجوب بالذات الذي هو محض الفعلية فيتركب ذاته من حيثيتين وهو محال.
143 وبوجه آخر لو كان معنى واجب الوجود بالذات يحمل على كثيرين بالعدد فواحد شخصي من أفراده لا يخلو إما أن يكون كونه ذلك المعنى وكونه هو بعينه أمرا واحدا فلا يكون غيره واجبا بالذات كما لا يكون غيره هو بعينه فينحصر حقيقته فيه ولا يوجد لغيره. وإما أن يكون ذلك المعنى أمرا وراء كونه هو بعينه ففي حمل ذلك المعنى عليه واتصافه به يحتاج إلى تأثير وعلية. لأن الشخص عرضي بالقياس إلى النوع وكل عرضي معلل إما بما هو عرضي له أو بغيره فعلة هذا بعينه إما أن يكون نفس معنى الواجب بالذات فيلزم أن يكون متعينا قبل هذا ويعود الكلام إليه جذعا وإما أن يكون العلة غير معنى الواجب بالذات فيلزم كون الواجب بالذات ممكنا بالذات وهو باطل. وبالجملة لو كان واجب الوجود شرطه أن يكون مثلا فلا يكون واجب الوجود إلا هو هو وإن لم يكن شرطه أن يكون فبعلة ما وسبب ما صار فكان واجب الوجود بذاته واجب الوجود بغيره هذا خلف. وبوجه آخر تحقق في كتب هذا الفن: أن منشأ التكثر العددي في ما له حد نوعي إنما هو المادة فقط بوجه والموجود المفارقي يأبى عن الكثرة العددية فواجب الوجود أحق بنفي هذا الوجه من الكثرة لكونه في أعلى مرتبة التجرد لتجرده عن الماهية فضلا عن الهيولى. وسيأتيك زيادة بصيرة في هذا المعنى إن شاء الله (تعالى). فصل واجب الوجود لا يجوز أن يكون حقيقة نوعية بسيطة متشخصة بتشخصات
144 أو يكون بحيث يتشخص بأمر يزيد على حقيقته سواء كان منتشرا أو محصورا في واحد دون غيره كالعقل أو الشمس مثلا. فإن تلك الأمور إنما يكون سببا في كون الشيء موجودا بالفعل لا في تقويم معنى الذات وتقريره: وكما أن النوع لا يحتاج إلى الفصل في كونه متصفا بالمعنى الجنسي بل في كونه محصلا بالفعل فكذلك الشخص لا يحتاج إلى المشخص في كونه متصفا بالمعنى الذي هو النوع بل يحتاج إليه في كونه متصفا بالوجود. ولما ثبت من قبل أن واجب الوجود ماهيته إنيته فكل ما فرض مقوما لوجوده يكون مقوما لسنخ حقيقته. فلو كان حقيقته متشخصة بتشخص يزيد على ذاته لكان المشخص مما يحتاج إليه للمعنى النوعي وتقويمه وهو باطل كما علمت. فثبت أن الواجب بالذات يجب أن يكون متشخصا بنفس حقيقته لا بأمر زائد عليه. أي يكون حقيقته عبارة عن تشخصه كما أنه عبارة عن نفس وجوده بل الوجود والتشخص أمر واحد كما هو التحقيق. فالواجب تعالى هو الوجود البحت الذي لا يوصف بأنه جنس ولا بأنه نوع ولا يوصف بأنه كلي أو جزئي أي شخص لطبيعة مرسلة. بل إنه متميز بذاته منفصل بنفسه عن سائر الوجودات لا بأمر فصلي أو عرضي وإنه عقلي أي مجرد لا أنه كلي. وإذ لا جنس له ولا فصل له فلا حد له وإذ لا حد له ولا علة له فلا برهان عليه لأن الشيء الذي يكون غنيا عن كل شيء فهو إما أن يكون أوليا أو يكون مأيوسا عن معرفته. وإما أن يستدل عليه بآثاره ولوازمه وحينئذ لا يعرف حق معرفته إذ لا يعرف بها حقيقته وماهيته فليس شيء غير واجب الوجود برهانا عليه وهو البرهان على كل شيء. فإن العلم اليقيني بذي السبب وهو جميع الممكنات لا يحصل إلا بالسبب كما ورد في القرآن قل أي شيء أكبر شهادة قل الله نعم لو استدل عليه بأوثق القياسات وهو الاستدلال عن حال الوجود وأنه يقتضي واجبا بالذات كما أشرنا إليه
145 سابقا لم يكن القياس دليلا وإن لم يكن أيضا برهانا محضا بل كان قياسا شبيها بالبرهان. وهم وإزاحة إن اختلج في صدرك: أنه حيث ثبت وتقرر بالبيان التعليمي والبرهان العقلي أن حقيقة الواجب هو الوجود المجرد عن الموضوع فلا ضير في إطلاق معنى الجوهر ومفهومه عليه (تعالى) وإن لم يطلق لفظه عليه بحسب التوقيف الشرعي إذ معناه ومفهومه الموجود لا في موضوع. وهذا المعنى بعينه هو الذي صيرته الفلاسفة جنسا للجواهر الخمسة فيلزم أن يكون معنى الموجود لا في موضوع يعم الأول وغيره عموم الجنس لأنواعه فيقع تحت جنس الجواهر ويحتاج في تقوم سنخه إلى فصل مقوم له فيتركب ذاته أو يكون معنى واحد وحقيقة واحدة محصلا تارة وغير محصل أخرى وكلاهما محالان. فاعلم: أن معنى الجوهر الذي جنسوه ليس هو الموجود بما هو موجود مسلوبا عنه الموضوع وإلا للزم من انعدام شيء من أفراد هذا المعنى انقلاب الحقيقة ولكانت أفراد الجوهر كلها واجبة الوجود لذواتها (تعالى الواجب بالذات عن ذلك علوا كبيرا.) ولا أيضا الشيء الموجود بالفعل لا في موضوع يصلح لأن يكون عنوانا لحقيقة الجنسية البسيطة وإلا لكان كل من علم شيئا أنه هو في نفسه جوهر علم أنه موجود ولما أمكن تعقل شيء من الأنواع الجوهرية فإن العلم هو المكتسب من صورة شيء مجردة عن مادته فصورة الجوهر جوهر كما أن صور الأعراض أعراض وماهية الجوهر ليست في العقل بالصفة المذكورة بل هي موجودة فيه لا كجزء منه. فإذن مفهوم الجوهر الذي يصلح للتجنيس هو ما يعبر عنه بأنه الشيء ذو الماهية المتقررة
146 الذي ماهيته إذا صارت موجودة في الخارج كان وجودها لا في موضوع كالعقل والنفس والفلك مثلا وهذا المعنى ثابت له سواء وجد في العقل أو في الأعيان وليس إذا كان في العقل في موضوع فقط بطل أن يكون ماهيته في الأعيان ليست في موضوع. فالمعقول من الجوهر جوهر لأنه موجود لا في موضوع بالمعنى المذكور وهو أنه ماهية إذا وجدت في الأعيان يكون لا في موضوع كالمغناطيس الذي في الكف لا يقدح عدم جذبه للحديد بالفعل في كونه جذابا للحديد إذا صادفه ففي قوته جذب الحديد وإن كان في الكف لا يجذب الحديد بالفعل. ثم مما يجب أن يعلم أنه ليس معنى كلامهم: إن كليات الجواهر جواهر أن الكلي من الجوهر الذي في الذهن وله محل مستغنى عنه هو الذهن فإنه قد يزول عنه صور الجواهر ويعود إليه بحيث يوجد تارة في الخارج لا في موضوع وتارة في الذهن في موضوع كالمغناطيس الذي هو في الكف فإنه بحيث يجذب الحديد تارة كما إذا كان في خارج الكف ولا يجذبه أخرى كما إذا كان فيه حتى يرد عليه أنه مغالطة من باب تضييع الحيثيات والاعتبارات وأخذ الكلي مكان الجزئي فإن الكلي الذي ذاته في العقل يستحيل وقوعها في الأعيان واستغناؤها عن الموضوع والمغناطيس الذي هو في الكف يجوز عليه الخروج منه والجذب للحديد. بل المراد بالكلي الكلي الطبيعي أي: الماهية بلا شرط الكلية والجزئية والمعقول من الجوهر وإن كان عرضا بحسب خصوص وجوده الذهني وكونه كليا لكنه جوهر بحسب ماهيته فإن ماهيته ماهية شأنها أن يكون موجودة في الأعيان لا في موضوع أي إنها معقولة عن أمر وجوده في الأعيان أن لا يكون في موضوع. والتمثيل بالمإناطيس إنما يكون باعتبار أن ماهيته متصف بجذب الحديد مع قطع النظر عن نحو وجودها فإذا وجد مقارنا لكف الإنسان ولم يجذب الحديد ووجد مقارنا لجسميته حديد فجذبه لم يلزم أن يقال: إنه مختلف الحقيقة في الكف وفي الحديد بل هو في كل منهما بصفة واحدة وهو أنها حجر من شأنها جذب الحديد (هذا) فقد انكشف ووضح مما بيناه أن ما يصلح أن يكون عنوانا لحقيقة الجوهر ويحمل
147 على الأنواع المندرجة تحته لذاته لا لعلة كما هو مقتضى الذاتيات من أنها لا يعلل هو معنى الجوهر على الوجه المذكور ولا شك أن حمل هذا المعنى على الأنواع التي يندرج تحته إنما يكون لذواتها لا لعلة. وأما حمل كونها موجودة بالفعل الذي هو جزء من كونها موجودة بالفعل لا في موضوع عليها فلا محالة يكون بسبب وعلة لأن حقائقها إمكانية. وإذا لم يكن حمل الموجود بالفعل على ما تحتها من الأجناس العوالي إلا بسبب لا كحمل الجنس الذي لا يعلل فلم يصر بإضافة معنى سلبي إليه جنسا لشيء وإلا لصار بإضافة معنى إيجابي إليه جنسا للأعراض بل هذا أولى. ومن طريقة أخرى نقول: الجنس إنما يحمل على ما تحته بالتواطؤ وذلك المعنى أي: الموجود بالفعل لا في موضوع يحمل على ما تحته بالتشكيك فإن حمله على الهيولى والصورة أقدم من حمله على الجسم وحمله على الأبوين أقدم من حمله على الابن وكذا يختلف على جواهر العالم الأعلى وعلى جواهر عالمنا الأدنى فإن جواهر ذلك العالم أقدم وأقوم بحسب الوجود بالفعل من جواهر هذا العالم بل هذه أظلال وأشباح لها كما صرح به الأقدمون. وأما حقيقة الجوهر فإن المتقدم من أفرادها بالوجود ليس هو سببا لأن يصير المتأخر بحيث يحمل عليه معنى الجوهرية فإن الجوهر جوهر بحسب ذاته لا بجعل جاعل وجوهرية شيء ليست بسبب أمر يحمل عليه الجوهر لكنه في وجوده يحتاج إلى أسباب وعلل. ولا جوهرية شيء في أنها جوهرية علة لجوهرية شيء آخر فالجوهر العلي أخلق وأولى بالوجود من الجوهر المعلولي لا بأن يكون جوهرا لأن التقدم والتأخر إذا أضيف إلى شيئين فقد يكون بذاتيهما كتقدم وجود على وجود كوجود العلة على وجود المعلول وقد يكون التقدم والتأخر الذي نسب إلى شيئين باعتبار أمر ثالث كتقدم نوح على نبينا (ع) وتقدم شخص الأب على الابن لا في الإنسانية فإنها في الجميع بالسواء بل في الزمان والوجود وكل منهما معنى زائد على نفس الماهية. فالوجود متقدم على الوجود بالطبع لا بأمر زائد. وأما الجوهرية فهي بالسواء
148 في الجميع فكما أن الجسم موجود لا في موضوع فكذا أجزاؤه بلا تقدم ولا تأخر فيها. فقد ثبت من هذا الطريق أيضا أن معنى الجوهر الذي يصلح أن يكون جنسا للعقل والفلك والحيوان والشجر والحجر ليس يصلح أن يجعل حقيقة واجب الوجود ولا بحيث بحمل عليه تعالى حمل جنس أو غيره أصلا لأنه ليس ذا ماهية كما علمت بل الوجود المتأكد له كالماهية لغيره. تنبيه اعلم أن ما ذكرناه هو ما أدى إليه نظر جمهور الفلاسفة من أتباع المعلم الأول. وأما على مذهب طائفة من شيعة أفلاطون والأقدمين القائلين بأن الوجود اعتباري ذهني وليس التقدم بين الموجب التام ومعلولها إلا بالماهية فيتقدم عندهم جوهر العلة في أنها جوهر على جوهر المعلول بل يقولون إن جوهر المعلول في أنه جوهر كظل لجوهر العلة. ويجوزون أيضا أن يكون جوهر أقوى في الجوهرية من جوهر آخر كالجوهر العقلي والجوهر النفسي وكالجوهر المفارق والجوهر المادي وكذا في أنواع الجوهر فقالوا: حيوان يكون حواسه أكثر ونفسه على التحريك أقوى كالإنسان مثلا يكون حيوانيته أتم مما لا يكون كذلك كالبعوضة (مثلا). وكذا في مقولة الكيف والكم يتحقق التفاوت عندهم في نفس معنى الكيفية المطلقة والكمية المطلقة فسواد يكون أشد سوادا من سواد في مفهوم السوادية المشتركة وكذا خط يكون أطول من خط في معنى الخطية وعدد يكون أكثر من عدد في معنى الكمية المنفصلة مع قطع النظر عن اللواحق والمعينات أو الإضافات العارضة وإن لم يطلق على بعضها أدوات التفضيل والمبالغة في عرف أهل اللسان إذ ليس من دأب الحكيم الاقتصار في تصحيح المعاني على مجاري العرف واقتناص الحقائق من الألفاظ. والعجب من محشي التجريد وغيره كبعض الأعلام أدام الله قدره حيث
149 بالغوا في مناقصة هذا الرأي ولم يجوزوا التفاوت في نفس ماهيات الأشياء بوجه من وجوه التشكيك مع أن الوجود عندهم من الاعتباريات الذهنية وأنهم قالوا ب: تقدم ماهية العلة على ماهية المعلول فإذا كانت العلة والمعلول كلاهما جوهرين يلزمهم الاعتراف بأن جوهر العلة في باب الجوهرية أقدم من جوهر المعلول وهم يتحاشون عن ذلك وسيجئ زيادة تحقيق لهذا في مستأنف الكلام (إن شاء الله تعالى). فصل في أن واجب الوجود لا شريك في هذا المفهوم اعلم أنك كما قد تعقل المتصل مثلا نفس المتصل كالجزء الصوري للجسم من حيث هو جسم وقد تعقل شيئا ذلك الشيء هو المتصل كالمادة له فكذلك قد تعقل واجب الوجود بما هو واجب الوجود وقد تعقل شيئا ذلك الشيء هو واجب الوجود ومصداق الحكم به ومطابقته في الأول حقيقة الموضوع فقط وفي الثاني هي مع حيثية أخرى سواء كانت انتزاعية أو انضمامية. وكل واجب الوجود إن لم يكن نفس واجب الوجود بل له حقيقة تلك الحقيقة متصفة بكونها واجب الوجود ففي اتصافها به يحتاج إلى عروض هذا الأمر وإلى جاعل يجعلها كذلك أو يجعلها حتى يتصف به على اختلاف القولين فهي في حد ذاتها ممكنة وبذلك صارت واجبة الوجود وكل ما كان كذلك لا يكون واجب الوجود لذاته كما علمت سابقا فكل واجب الوجود بذاته فهو نفس واجب الوجود بذاته. وأما ما قال بعضهم من: أن ماهية الأول تعالى أعلى من وجوب الوجود بل هي ماهية لا اسم لها إذا عقلت يلزمها في العقل أنها واجبة الوجود فيجب أن يأول معنى قوله: أعلى من وجوب الوجود ويلزمها في العقل هذا أنا لا يمكننا أن نتصور وجوب الوجود إلا مع تركيب فيكون للوجود مفهوم وللوجوب مفهوم آخر. وأما الوجود الذي وجوبه تأكده وكماليته فهو بسيط فلا اسم دال عندنا على ما يليق بكماليته وبساطته وهذا التركيب المأخوذ بحسب مفهوم هذا اللفظ إنما هو لازم من لوازمه.
150 فإذا ثبت وتحقق أن واجب الوجود بذاته واجب الوجود بحسب الحقيقة أي: حقيقة الوجود الصرف المتحقق. وثبت أيضا أن مطلق الوجود شيء واحد بحسب المعنى والمفهوم كما هو عند المحصلين من الحكماء. فنقول: لو تعدد الواجب بالذات فكان اثنين مثلا (تعالى عن ذلك) فلا يخلو إما يتحدا في الحقيقة أو لا. فعلى الأول علة اختلافهما يكون أمرا غير الوجود المتأكد وغير حقيقتهما فيلزم إمكانهما جميعا أو إمكان واحد منهما وهذا خلف. وعلى الثاني يكون واجب الوجود عارضا لهما جميعا أو لأحدهما وقد ثبت أن واجب الوجود لا حقيقة له سوى نفس الوجود. طريقة أخرى لا يمكن تعدد الواجب بالذات إذ حقيقته محض الوجود من حيث هو موجود بل الوجود الواجب. والتفاوت ليس إلا في العبارة والمعبر عنه شيء واحد فيهما وكلما كان حقيقة الشيء محض الوجود لكان متشخصا بنفس حقيقته فلا يمكن تعدده وهو المطلوب. حجة أخرى لو تعدد الواجب لزم أن يكون أثر أحدهما بعينه ممكنا أن يكون أثر الآخر لاتفاقهما في وجوب الوجود الذي هو معنى واحد وهو يكون عين كل واحد منهما. فاستناده إلى أحدهما دون الآخر يوجب ترجيحا بلا مرجح وصدوره عنهما جميعا يوجب صدور أمر واحد بالشخص من متعدد وكلاهما محال فتعدد الواجب محال. برهان آخر ليس في الوجود واجبان بالذات إذ الوجود يكون حينئذ نفس الماهية لهما ولازم النوع يتفق والعارض الغريب يوجب المخصص الخارجي ولا يصح أن يخصص كل واحد منهما نفسه بشيء فيتقدم تخصصه على تخصيصه ولا أن يخصص كل واحد
151 منهما الآخر بشيء فيقدم تخصيص كل منهما على تخصص مخصصه فيقدم تعينه على تعيين نفسه وهو محال. (على تعين نفسه ق ل). برهان آخر مصداق حمل مفهوم واحد ومطابق صدقه بالذات مع قطع النظر عن أية حيثية كانت لا يمكن أن يكون حقائق متخالفة متباينة بالذات غير مشتركة في ذاتي أصلا. وظني أن كل سليم الفطرة يحكم بأن الأمور المتخالفة من حيث كونها متخالفة بلا حيثية جامعة لا يكون مصداقا لحكم واحد ومحكيا عنها به. نعم يجوز ذلك إذا كانت تلك الأمور متماثلة من جهة كونها متماثلة كالحكم على زيد وعمرو بالإنسانية من جهة اشتراكهما في تمام الماهية لا من حيث اختلافهما بالعوارض المشخصة أو كانت مشتركة في ذاتي من جهة كونها كذلك. كالحكم على الإنسان والفرس بالحيوانية من جهة اشتمالها عليها أو في عرضي كالحكم على الثلج والعاج بالأبيضية من جهة اتصافهما معا بالبياض. أو كانت تلك الأمور المتباينة منتسبة إلى أمر واحد كالحكم على مقولات الممكنات بالوجود من حيث انتسابها إلى الوجود الحق تعالى مجده أو كانت متفقة في أمر سلبي كالحكم عليها بالإمكان لأجل كونها مسلوبة عنها ضرورة الوجود. وأما ما سوى أشباه تلك الوجوه المذكورة فلا يتصور فيها ذلك ضرورة فإذا تمهدت تلك المقدمة فنقول: لو تعدد مفهوم الواجب بالذات لكان كل واحد منهما من حيث ذاته بذاته مما ينتزع مفهوم الوجود والوجوب عنه ويحكم بالموجودية والواجبية عليه فلا بد أن يتحقق بينهما أمر مشترك ذاتي سواء كان عين حقيقتهما أو جزء منهما وكل واحد منهما باطل كما مر في الفصول الماضية. وليعلم: أن البراهين الدالة عندي على هذا المطلب الذي هو من أصول المباحث
152 الإلهية كثيرة لكن تتميم جميعها متوقف على أن حقيقة الواجب الوجود بالذات هو الوجود البحت القائم بذاته. وأن ما يعرضه الوجوب أو الوجود فهو في حد ذاته ممكن ووجوبه كوجوده إنما يستفاد من الغير فلا يكون واجبا. وهذه المقدمة مما ينساق إليه البرهان ويصرح بها في كتب أهل الفن كالشفا وغيره. وقد أسلفنا القول فيها. وبها يندفع ما تشوشت به طبائع الأكثرين وتبلدت منه أذهانهم وضلت فيه عقولهم مما قيل: لم لا يجوز أن يكون هناك هويتان بسيطتان مجهولتا الكنه مختلفان بتمام الماهية البسيطة يكون كل منهما واجبا لذاته ويكون مفهوم واجب الوجود منتزعا منهما مقولا عليهما قولا عرضيا إذ قد علمت أنه لو كان كذلك لكان عروض هذا المفهوم لكل منهما أو لأحدهما إما معلولا لذات المعروض فيلزم تقدمه بالوجود على نفسه وهذا شنيع محال أو لغيره وهو أشنع. بل نقول: لو نظرنا إلى نفس مفهوم الوجود المعلوم بوجه من الوجوه بديهة أدانا النظر والبحث إلى أن حقيقته وما ينتزع هو منه أمر قائم بذاته هو الواجب الحق والوجود المطلق الذي لا يشوبه عموم ولا خصوص ولا تعدد ولا انقسام إذ كل ما وجوده هذا الوجود فرضا لا يمكن أن يكون بينه وبين شيء آخر له أيضا هذا الوجود مباينة أصلا ولا تغاير فلا يكون اثنان بل يكون هناك ذات واحدة ووجود واحد. كما أشار إليه صاحب التلويحات بقوله: صرف الوجود الذي لا أتم منه كلما فرضته ثانيا فإذا نظرت فهو هو إذ لا ميز في صرف شيء. فوجوب وجوده الذي هو ذاته تدل على وحدته كما في التنزيل شهد الله أنه لا إله إلا هو. وعلى موجودية الممكنات بالمعنى الانتزاعي كما في قوله: أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد.
153 فإن موجودية الممكنات كما سبق القول فيه مرارا عبارة عن انتسابها وارتباطها إلى الوجود القائم بذاته انتسابا وارتباطا مجهول الكنه. ومفهوم الوجود أعم من ذلك الأمر القائم بذاته ومن الأمور المنتسبة إليه من ذلك النحو من الانتسابات. وصدق المشتق لا ينافي قيام المبدإ بذاته الذي مرجعه إلى عدم قيامه بالغير ولا يكون ما صدق عليه أمرا منتسبا إلى المبدأ لا معروضا له بوجه كما في اللابن والتامر على أن إطلاقات اللغويين وأهل اللسان لا عبرة لها عند أبناء الحقيقة ولا الحقائق يقتنص منها. وكون المشتق من المعقولات الثانية والمفهومات العامية والبديهيات الأولية لا يصادم كون المبدإ حقيقة متأصلة متشخصة مجهول الكنه إذ ثانوية المعقول وتأصله قد يختلف بالقياس إلى الأمور. وانتزاع هذا المفهوم البديهي عن حقيقته تعالى ليس بحسب تمثله في الذهن بل بنحو آخر أشرنا إليه سابقا. فاستقم في هذا المقام ولا تتبع الأوهام التي تزل بها الأقدام والأفهام. فصل إله العالم واحد لا شريك له في الإيجاد والبراهين الماضية إنما دلت على أن الواجب بالذات واحد والآن نريد أن نبين وحدة الإله الخالق للعالم إذ مجرد وحدة الواجب بالذات لا يوجب كون الإله المؤثر في العالم واحدا. فنقول: قد علم أن واجب الوجود بذاته واحد لا شريك له في الوجوب الذاتي بل في حقيقة الوجود وكل موجود سواه ممكن بذاته وبه صار واجبا موجودا. فبوجوب استناد كل الموجودات وارتقائها إليه تعالى يلزم أن يكون وجودات الأمور كلها مستفادة من أمر واحد هو الواجب الوجود بذاته. فالأشياء كلها بالقياس إليه محدثة ونسبته إلى ما سواه نسبة ضوء الشمس لو كان قائما بذاته إلى الأجسام المستضيئة عنه المظلمة بحسب ذواتها فإنه بذاته مضيء وبسببه يضيء كل شيء. وأنت إذا شاهدت إشراق الشمس على موضع وإنارته بنورها ثم حصول نور آخر من ذلك النور
154 حكمت بأن النور الثاني من الشمس وأسندته إليها فكذا حال وجودات الأشياء (فالكل من عند الله). بل نقول: لما تحقق أن الواجب بذاته هو الوجود الحقيقي والموجود في حد نفسه وغيره ليس موجودا في نفسه وإنما يكون موجوديتها باعتبار انتسابها إليه تعالى وإن التأثير والإيجاد حقيقة إنما هو إفادة الفاعل نفس ذات المعلول متعلقة ومرتبطة بنفسه بحيث يصير بارتباطها به مبدأ لانتزاع الوجود منها ومصداقا لحمل الموجود عليها. إذ الشيء ما لم يكن وجودا وموجودا في نفس حقيقته لا يصير أمرا آخر بارتباطه موجودا. فقد ثبت أن التأثير والإيجاد الحقيقي والفاعلية الحقيقية يختص بواجب الوجود بذاته كما أن الوجود الحقيقي يختص به تعالى وهو واحد كما بيناه فلا مؤثر في الوجود إلا هو. وكما أن كونه موجودا حقيقيا لا غير لا يوجب أن لا يكون غيره موجودا أصلا كذلك كونه موجدا حقيقيا لا غير لا يوجب أن لا يكون غيره فاعلا. وإنما يلزم منه نفي الفاعلية الحقيقية عن غيره. فكون الوجود مطلقا معلولا له تعالى حقيقة لا ينافي إثبات الوسائط والروابط مثل العقول والنفوس والطبائع والقوى على ما فعله الحكماء إذ لا تأثير للوسائط عندهم إلا في التصحيح والإعداد دون التأثير والإيجاد كما توهمه صاحب كتاب المعتبر من ظاهر كلامهم وشنع به عليهم. ومما يؤيد ما ذكرناه ما قال الشيخ الرئيس في الإشارات من أن الأول يبدع جوهرا عقليا هو بالحقيقة مبدع وبتوسطه جوهرا عقليا وجرما سماويا. وما قال الشيخ الإلهي في الهياكل: ليس أن حركات الأفلاك توجد الأشياء ولكنها تحصل الاستعدادات ويعطي الحق الأول لكل شيء ما يليق باستعداده...
155 وكذا قوله بلسان الإشراق: والجواهر العقلية وإن كانت فعالة إلا أنها وسائط جود الأول وهو الفاعل. وكما أن نور القوى لا يمكن النور الضعيف من الاستقلال بالإنارة فالقوة القاهرة الواجبة لا يمكن الوسائط لوفور فيضه وكمال قوته... انتهى. ولقد أعجبني في هذا المقام كلام إمام الرازي في المباحث المشرقية: الحق عندي أنه لا مانع من استناد كل الممكنات إلى الله تعالى لكنها على ضربين: منها ما إمكانه اللازم لماهيته كاف في صدوره عن الباري تعالى فلا جرم يكون فائضا عنه تعالى من غير شرط. ومنها ما لا يكفي إمكانه بل لا بد من حدوث أمر قبله ليكون الأمور السابقة مقربة للعلة الفائضة إلى الأمور اللاحقة وذلك إنما ينتظم بحركة دورية. ثم إن تلك الممكنات متى استعدت استعدادا تاما صدرت عن الباري تعالى بلا منع وبخل وحدثت عنه ولا تأثير للوسائط أصلا في الإيجاد بل في الإعداد... انتهى. وصاحب التحصيل استدل على هذا المطلب بقوله: وإن سألت الحق فلا تصح أن يكون علة الوجود إلا ما هو بريء من كل وجه من معنى ما بالقوة وهذا هو صفة الأول لا غير إذ لو كان مفيدا لوجود ما فيه معنى ما هو بالقوة سواء كان عقلا أو جسما كان للعدم شركة في إفادة الوجود وكان لما بالقوة شركة في إخراج الشيء من القوة إلى الفعل انتهى.
156 أقول: وهذا الكلام منه وإن استصوبه جماعة ممن تأخر عنه من المحققين لكن لنا فيه نظر من وجوه. الأول أن معنى الإمكان الذاتي وإن كان أمرا ثابتا للمفارقات باعتبار ذواتها من حيث هي هي لكنه غير ثابت لها في نفس الأمر بل الثابت لها فيها إنما هو الوجود والتحصل بسبب الفاعل (فحينئذ) إن أراد بالقوة في قوله: معنى ما بالقوة. معنى الإمكان الذاتي فلا نسلم الملازمة المذكورة مستندين بأن ليس للعدم أو القوة الذي ينسب العقل ذات الممكن إليه باعتبار ملاحظة ذاته من حيث هي هي من دون استناده إلى الموجب التام تحقق في نفس الأمر حتى يكون له شركة في إفادة الوجود. لا يقال: اعتبار ذات الممكن من حيث (هي هي) أيضا إنما هو بحسب نفس الأمر لا بحسب تعمل العقل فقط وإلا لكان الحكم بإمكان الممكن كاذبا. لأنا نقول: هذا الاعتبار وإن كان من جملة أنحاء الواقع لكن صدق الحكم على شيء بحسب نحو من أنحاء الواقع لا يوجب صدقه عليه في الواقع (وهذا) كما أن سلب النقيضين عن الماهية بحسب ملاحظتها من حيث هي هي وإن كان صادقا لكن لا يصدق بحسب الواقع وإن كانت تلك الملاحظة من مراتب نفس الأمر لأن نفس الأمر أوسع وأعم من تلك المرتبة وغيرها. والسر في ذلك أن الإمكان ورفع النقيضين وأمثالهما أمور عدمية هي سلوب تحصيلية واتصاف الشيء بالسلوب والأعدام في نحو من أنحاء الواقع لا يوجب اتصافه بها في الواقع بخلاف الأمور الوجودية فإن الاتصاف بشيء منها في نحو من الأنحاء يوجب الاتصاف به في الواقع كما أن زيدا مثلا إذا كان متحركا في مكان من الأمكنة كالسوق مثلا يصدق عليه اتصافه بهذه الصفة وإن لم يكن متحركا في سائر الأمكنة لكونها أمرا وجوديا ولا يصدق عليه مقابلها باعتبار عدم حركته في بعض الأمكنة كالبيت مثلا بل باعتبار عدم حركته مطلقا لكونه عدميا. وهذا نظير ما قالوه
157 من أن تحقق الطبيعة يكون بتحقق فرد (ما) من أفراد تلك الطبيعة وعدمها إنما يكون بعدم جميع الأفراد. وإن أراد بها القوة الاستعدادية التي هي صفة متحققة في الواقع سلمنا الملازمة لكن لا نسلم أن العقول متصفة بها لما تقرر عندهم من أن العقول ليس لها حالة منتظرة فلو كان شيء منها مفيدا لوجود بعض الممكنات لا يلزم منه أن يكون للعدم والقوة شركة في إفادة الوجود وإخراج الشيء من القوة إلى الفعل. الثاني: هب أن الإمكان للممكن صفة ثابتة له في الواقع لكن لا يلزم من ذلك أنه إذا كان فاعلا لشيء يكون فاعلا له من حيث كونه ممكنا بل من حيث كونه موجودا. كما أن اللونية مثلا وإن كانت حيثية ثابتة للحيوان في نفس الأمر لكن لا مدخلية لها في تحريكه وإحساسه وهو ظاهر. الثالث: أن ما ذكره منقوض بقولهم: إيجاد العقل الفلك بواسطة الإمكان والإمكان عدمي فأين المخلص من وساطة الإمكان فتأمل ففيه ما فيه. طريقة أخرى أشير إليها في الكتاب الإلهي وسلكها العظيم أرسطاطاليس وهي الاستدلال بوحدة العالم على وحدة الإله. تقريره: أنه قد استبان في الكتب الحكمية امتناع وجود عالم آخر غير هذا العالم سواء كانت فيه سماوات وأرضون وأسطقسات موافقة لما في هذا العالم بالنوع أولا بأن يقال: لو فرض عالم آخر لكان شكله الطبيعي هو الكرة والكرتان إذا لم يكن إحداهما محيطة بالأخرى لزم الخلاء فيما بينهما والخلاء محال فالقول بوجود عالم آخر أيضا محال. فهذا هو البيان المطلق لامتناع وجود العالمين وأما البيان المختص بواحد واحد من الاحتمالين فالأول أعني ما يختص بكون كل عالم كالآخر في السماء والأرض وغيرهما بالنوع مما نقل عن المعلم الأول من أنه إذا كانت أسطقسات العوالم الكثيرة
158 غير مخالفة بعضها مع بعض في الطبيعة والأشياء المتفقة في الطبيعة متفقة في الحركة الطبيعة في الجهة التي يتحرك إليها فالأسطقسات في العوالم الكثيرة متفقة في المواضع مختلفة فوق واحدة فهي ساكنة فيها بالقسر والذي بالقسر بعد الذي بالطبع بالذات. فمن المعلوم أنها كانت مجتمعة متأحدة ثم افترقت بعد ذلك. فهي إذا متباينة أبدا وليست متباينة أبدا (وهذا خلف). والذي بالقسر من الضرورة أن يزول ويعود إلى ما كان أولا عليه بالذات فتلك العوالم المتفرقة مستجمع ثانيا فيجتمع ولا يجتمع أبدا (هذا خلف)... انتهى فإن قيل: إن الأرضين وإن كانت كثيرة بالعدد إلا أنها مشتركة في الأرضية وأمكنتها أيضا مشتركة في كونها وسطا في تلك العوالم فالأرضية المطلقة يقتضي الوسط المطلق من العالم والأرض المعين يقتضي الوسط المعين من العالم. يقال: إنه وإن لم يكن شك في أن الأجسام المتحدة في الحقيقة الكثيرة بالعدد لها أمكنة كثيرة بالعدد لكن يجب أن يكون كثرتها على نحو لو اجتمع كل تلك الأجسام متمكنا واحدا يصير تلك الأمكنة أيضا مكانا واحدا مع أنه محال بالضرورة. وذلك الاجتماع مما لا مانع عنه في طبيعة تلك الأجسام لوحدتها. إذ لو اقتضت الافتراق والتباين لما وجد واحد متصل منها وهذا خلف. وأما الوجه الذي يختص بالاحتمال الثاني فما أشار إليه الشيخ الرئيس في بعض رسائله بقوله: إنه لا يمكن أن يكون جسم مخالفا لهذه الأجسام في الحركات والكيفيات. أما الحركات فهي بالقسمة العقلية الضرورية إما مستقيمة وإما مستديرة والمستقيمة إما من المركز أو إلى المركز وإما مارة على المركز بالاستقامة وهي الآخذة من الطرفين أو غير آخذة منهما بل على محاذاتهما. ولكن الذي بالطبع
159 لا يجوز أن يكون إلا من نهايات إلى نهايات متضادة بالطبع لا بالإضافة. وبيان ذلك في كتاب أرسطاطاليس مثبت خاصة في المقالة الخامسة من الكتاب الموسوم بالسماع الطبيعي وتفاسير المفسرين. فمن هذا يعلم أن الحركات الطبيعية إما من المركز في جميع الأجسام أو إليه في جميعها بالدليل العقلي. وأما الكيفيات المحسوسة فلا يمكن أن يكون فوق (تسعة عشر) وقد بينه الفيلسوف في المقالة الثانية من كتاب النفس وشرح المفسرون كثامسطيوس والإسكندر. ولو لا مخافة التطويل لبسطت القول فيه ولكن أخوض في طرف يسير منه. فأقول: الطبيعة ما لم توف على النوع الأتم شرائط النوع الأنقص الأقل بكماله لم تدخله في النوع الثاني والمرتبة الثانية. مثال ذلك: أن ذات النوع الأخس وهو الجسمية ما لم يعطها الطبيعة جميع خصائص الكيفيات الجسمية الموجودة في هذا العالم لم تخط به لي النوع الثاني الأشرف بالإضافة وهو النباتية. وما لم يحصله جميع خصائص النباتية كالقوة الغاذية والنامية والمولدة في النوع الأخس الأول لم يجاوز به إلى النوع الثاني كمرتبة الحيوانية والمرتبة الحيوانية منقسمة إلى حس وحركة إرادية. فما لم يحصل للنوع الأخس الأدنى الأول جميع الحواس المدركة بجميع المحسوسات فمن الواجب أيضا أن لا يتعدى الطبيعة بالنوع الحيواني إلى النوع النطقي ولكن الطبيعة قد حصلت في المواليد جوهرا ناطقا فمن الضرورة أنها أوفت جميع القوى الحسية بكمالها فأتبعته إفادة القوة النطقية. فإذا كان للنوع الناطق جميع القوى المدركة للمحسوسات. فإذا النوع الناطق يدرك لجميع المحسوسات فإذا لا محسوس ما خلا ما يدركه
160 الناطق فإذا لا كيفيات ما خلا (ستة عشر) المحسوسة بالذات والثلاثة المحسوسة بالعرض كالحركة والسكون والشكل فإذا لا جسم يكيف بكيفية (مكيف بكيفية خ ل) ما خلا هذه المعدودة فإذا لا عالم مخالف لهذا العالم بكيفيات محسوسة فإذا إن كانت عوالم كثيرة فهي متفقة بالطبع كثيرة بالعدد... انتهى كلامه بألفاظه. وإذا بطل تعدد العالم سواء كان بالطبع أو بالعدد فقد ثبت أن العالم واحد شخصي. فحينئذ نقول قد تحقق أن بين الأجسام العظام التي فيه تلازما وكذا بينها وبين أعراضها بل بين أكثر الأعراض ومحالها. فإن استحالة الخلاء وامتناع خلو أجسام المستقيمة الحركات عما تجدد جهات حركاتها تدل على التلازم بين الأرض والسماء. وامتناع قيام العرض بذاته وخلو الجوهر عن الأعراض توجب التلازم بينهما وقد دريت أن اللزوم أو التلازم يوجب الانتهاء إلى العلة الواحدة. فالمؤثر في عالمنا هذا لا يكون إلا واحدا. فكل جسم وجسماني ينتهي في وجوده إلى ذلك المبدإ الواحد الذي دل وجود هذه الأجسام على وجوده. والعقول والنفوس التي أثبتها الحكماء إما علل متوسطة لهذه الأجسام أو مدبرة لها وإثبات المجردات التي لا يكون عللا ولا مدبرا فضل لا دليل عليه ولم يقل به أحد من الفلاسفة. فكل جسم أو جسماني أو مجرد أو مرتبطة بالأجسام والجسمانيات تأثيرا أو تدبيرا منته إلى مبدأ واحد هو القيوم الواجب بالذات كما في القرآن العظيم لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا. فلعل مرجع ضمير التثنية كما قيل مجموع السماوات عقولا كانت أو نفوسا أو أجساما ومجموع الأرضيات سواء كانت عنصريات أو طباعا أو نفوسا (والله أعلم بحقائق آياته ورموز كلماته).
161 تنبيه ارتباط الموجودات بعضها ببعض على الرصف الحقيقي والنظم الحكمي دال على أن مبدعها واحد محض. وكما أن كل واحد من أعضاء الشخص الواحد الإنساني وإن وجد ممتازا عن غيره من الأعضاء بحسب الطبيعة لكن لكونها مؤتلفة تأليفا طبيعيا مرتبطة بعضها عن بعض منتظمة في رباط واحد يدل على أن مدبرها وممسكها عن الانحلال قوة واحدة ومبدأ واحد. فكذلك الحال في أجسام العالم وقواها فإن كونها مع انفصال بعضها عن بعض وتفرد كل منها بطبيعة خاصة وفعل خاص يمتاز به عن غيره مرتبطة منتظمة في رباط واحد مؤتلفة ايتلافآ طبيعيا يدل على أن مبدعها ومدبرها وممسك رباطها عن أن ينفصم واحد حقيقي يقيمها بقوته التي يمسك السماوات و الأرض أن تزولا إذ لو كان فيهما صانعان لتميز صنع كل واحد منهما عن صنع غيره فكان ينقطع الارتباط فيختل النظام كما في قوله تعالى إذا لذهب كل إله بما خلق و لعلا بعضهم على بعض وكما أن حركات الرقص وإن وجدت متباينة متضادة كالبسط والقبض في الأعضاء وكالتعويج والتقويم فيها والسرعة والبطء ولكن لما كان مجموعها منتظمة متناسبة متأحدة مع ما لها من النظم العجيب والرصف الأنيق الذي يسر الناظر إليه تدل على أن وحدتها التأليفية ظل لوحدة طبيعية ولو لم يكن كذلك لما وجدت ملتئمة بل كانت مختلة النظم متعددة
162 الوضع متنفرة عنها الطبائع. كذلك كون جبلة العالم مع تفنن حركاتها وتخالف أشكالها وتغير آثارها المتولدة من الأجسام العالية في الأجسام السافلة مؤسسة على الايتلاف الطبيعي والرصف الحكمي دالة بوحدتها الطبيعية الاجتماعية على الوحدة الحقة الحقيقية فسبحان من جعل الموجودات العالمية على كثرتها متشاكلة من وجه ومتمايزة من وجه متحدة من وجه متفرقة من وجه ومتشوقة إلى الديمومية والبقاء ومهتدية لطلب المصالح والمنافع ليكون دالة على صنع قادر حكيم ومدبر عليم. استبصار وإكمال ذهب طائفة من متألهى الحكمة ومحققي الصوفية: أن لجميع أجرام العالم نفسا واحدة ببرهان بعض مقدماته حدسية فيكون العالم كله حيوانا واحدا مركبا من نفس واحدة ذات قوى كثيرة ومن بدن واحد مؤلف من أعضاء متشابهة وغير متشابهة وذات قوى وأفعال متخالفة يستبقي بعضها ببعض وينتفع بعضها عن بعض انتفاعا بعضه محسوس وبعضه معقول. وفي رسائل إخوان الصفا بيان كون العالم حيوانا واحدا ببسط من الكلام لا مزيد عليه. وكذا صرح أرسطاطاليس ب: أن العالم حيوان واحد. فكما أن العقل الصريح يحكم بأن خالق زيد مثلا واحد ليس بمتعدد كذلك الفطرة السليمة يحكم بأن خالق العالم بجميع أجزائه واحد حق لا شريك له. وهاهنا سر حكمي يجب التنبيه عليه وهو: أن كون العالم بأسره ذا أجزاء متكثرة متباينة لا يدفع كونه صادرا عن فاعل حق واحد من جميع الوجوه والحيثيات ولا يلزم من ذلك صدور الكثير عن الواحد الحقيقي لأن للعالم على ذلك التقدير (أي على تقدير كونه واحدا شخصيا) جهتين:
163 جهة الوحدة الشخصية وجهة الكثرة الاجتماعية. والفرق بينهما على نحو الإجمال والتفصيل. وإذا لوحظ من جهة وحدته الشخصية التي لا كثرة له من هذه الحيثية أصلا حكم عليه بأنه يستند بالذات أو بالقصد الأول إلى الواحد الحق تعالى من دون وسط وشرط. وأن علته الفاعلية هي بعينها علته الغائية كما في البسائط النورية. وإذا لوحظ من جهة كثرته التفصيلية حكم عليه بأنه صدر على الترتيب السببي والمسببي بأن يكون بسط أجزائه وأشرفها هو أقربها إلى الفاعل الحق ثم يتلوه في الصدور ما يتلوه في البساطة والشرف وهكذا إلى أن ينتهي إلى أقصى الوجود. فالغرض من إثبات الترتيب في الممكنات ونسبة المعلولات التي في المراتب الأخيرة إلى المتوسطة والمتوسطة إلى العالية كما فعله الحكماء إنما هو لتصحيح صدور العالم الكثير عن الحق الواحد من جميع الوجوه باعتبار حيثية الحيثية التكثرية أحديته التكثرية لئلا ينثلم بصدور الأمور الكثيرة عنه تعالى أحدية الحقة لا باعتبار وحدته الشخصية إذ لا كثرة من هذه الجهة. وأما بيان أنه على أي نحو يكون صدور مجموع العالم من هذه الجهة مرة واحدة على سبيل الإبداع مع أن بعض أجزائه تدريجي الوجود سواء كان بالذات أو بالعرض وبعضها دفعي الوجود كذلك وبعضها لا هذا ولا ذاك فالتحقيق فيه يحتاج إلى بسط تام ومجال أوسع من هذا المقام. ولعلك تقف على لمعات منه في مواضع متفرقة من هذا الكتاب والله الهادي إلى الصواب. تعقيب يظهر منه نفي الشركة عنه تعالى في أي مفهوم كان: اعلم أن الوحدة قد تكون ذات الواحد بما هو واحد وهي الوحدة الحقة وقد تكون غيرها. وهذه على ضربين: حقيقية وغير حقيقية. وهي بحسب شركة ما: أما في المحمول فالاتحاد في النوع يسمى مماثلة وفي الجنس مجانسة وفي الكيف مشابهة وفي الكم مساواة
164 وفي الوضع مطابقة وفي الإضافة مناسبة. أما في الموضوع كالحلو والأبيض واحد أي هما محمولا شيء واحد هو السكر مثلا وإنما شرف كل موجود لغلبة الوحدة فيه وإن لم يخل موجود ما عن وحدة ما حتى أن العشرة في عشريته واحدة. وكل ما هو أبعد من الكثرة فهو أشرف وأكمل. وحيثما ارتقى العدد إلى أكثر نزلت نسبة الوحدة إليه إلى أقل. فالأحق بالوحدة الحقيقية بل الوحدة الحقة التي هي ذات الواحد بما هو واحد هو ما لا ينقسم أصلا لا في الكم ولا في الحد ولا بالقوة ولا بالفعل ولا ينفصل وجوده عن ماهيته. وسائر الأشياء مستفيدة الوحدة منه إذ له تلك بالذات ولها بالغير. لا بل هو الواحد فقط ووحدة سائر الأشياء بالارتباط إلى وحدته الحقة على ما بيناه في نسبة الوجود إليها. فحينئذ نقول: واجب الوجود تعالى لا يوصف بشيء من أنحاء الوحدة الغير الحقيقية فلا شريك له في شيء من المعاني والمفهومات بالحقيقة. وإذ لا جنس له فلا مجانس له وإذ لا نوع له فلا مشاكل له. وسيظهر لك نفي الصفات الزائدة الحقيقية على ذاته تعالى. فإذن لا يوصف بكيف فيشابه ولا بكم فيساوي ولا بوضع فيطابق. وإضافته إلى الأشياء كما سبق وسيتضح له زيادة إيضاح ليست إلا القيومية الإيجابية لها التي لا يوجد في غيره تعالى. فلا يناسبه شيء أصلا فالمناسبات التي يثبتونها بعض المتصوفة في حقه تعالى كلها أوهام مضلة. فما أبعد من توهم من هؤلاء أن نسبته تعالى إلى جميع العالم كنسبة نفوسنا إلى أبداننا. كيف ونسبة النفس إلى بدنها ليست نسبة العلة إلى المعلول فإن نفس الناطقة وإن كانت مجردة ذاتا لكنها كالقوة الجسمانية في التأثير. بمعنى أنها لا يحصل أثرها إلا في موضوع جسماني ذي وضع. فلا يظهر أثرها في مجرد ولا يوجد جسما بمادته وصورته. وأيضا التعلق والارتباط الذي بين النفس والبدن تعلق وارتباط يوجب تأثر كل منهما عن صاحبه بوجه.
165 وأيضا التعلق بينهما على وجه يوجب لأن يحصل منهما واحد طبيعي هو نوع للإنسان وأن يكون شعورها بنفسها وبدنها شعورا بحيث يتألف من الإدراكين إدراك واحد كما صرح به بهمنيار في التحصيل ولهذا تنسب الأفعال سواء صدرت عن ذاتها أو عن بدنها إلى ذاتها فتقول: أدركت وجلست وتحركت. وبين أن كل واحد مما ذكر لا يمكن أن يتحقق بين العلة ومعلولها. نعم البدن موضوع لتصرفات النفس ويجوز أن يكون القوى الحاصلة فيه من معلولاتها لا البدن بأجزائه. فثبت أن نسبتها إلى البدن ليست نسبة علية إيجابية بل نسبة أخرى ونسبة الباري تعالى إلى جميع الأشياء ليست إلا قيومية الحقيقية كما ذكرنا. فليست كنسبة سائر العلل الإمكانية فضلا عن أن يكون كنسبة النفس إلى بدنها. والله أعلم بحقيقة الحال.
166 المقالة الثانية في صفاته تعالى وفيها فصول فصل في أن صفاته تعالى يجب أن تكون عين ذاته اعلم أن كل ما هو صفة لشيء فيفتقر إلى ما يقوم به. وكل ما هو قيامه بشيء آخر فوجوب وجوده متعلق به. وكل ما تعلق وجوب وجوده بشيء آخر فليس هو واجب الوجود في ذاته فهو ممكن في نفسه. فالصفات كلها سواء كانت للواجب لذاته أو للممكن ممكنة في أنفسها. وكيف يكون الصفة وصاحبها واجبي الوجود وقد بين انتفاء تعدد الواجب في الوجود وأما أنه هل يجوز عليه تعالى صفة ممكنة فنقول يمتنع عليه تعالى الصفة المتقررة في ذاته لأنه لو تقررت في ذاته تعالى صفة ممكنة ففاعلها ومرجحها ذاته تعالى إذ لا واجب سواه. ولا ينفعل أيضا عن معلولاته وهو بين فيفعل ذات الأحدية وينفعل وهو محال لأن كل ذات فعلت وقبلت فيكون فعلها بجهة وقبولها بجهة أخرى لوجوه.
167 الأول: أن الفعل للفاعل قد يكون في غيره والقبول للقابل لا يكون في غيره. فجهة الفعل غير جهة القبول. والثاني: أنها لو كانت من جهة واحدة لكان كل ما فعل بنفسه قبل وكل ما قبل بنفسه فعل. والوجود يكذبه. الثالث أن الفاعل هو الذي يقتضي وجود المعلول ويجعله واجب الحصول ويوجده وإن توقف وجود المعلول على بواقي العلل أيضا. والقابل بما هو قابل لا يقتضي المعلول ولا يجعله واجب الحصول وليس له إلا التهيؤ والاستعداد والاستحقاق لوجود المقبول. فنسبة الفاعل إلى مفعوله بالوجوب ونسبة القابل إلى مقبوله بالإمكان. والوجوب الذي اقتضاه الفاعلية مبطل للقوة التي اقتضاها القابلية ولا يبطل شيء لذاته ما اقتضاه لذاته فهما جهتان. فثبت أن الواجب تعالى لو اتصف بصفة متقررة في ذاته اختلف الحيثيتان وهاتان الحيثيتان إما أن تكونا لازمتين له أو مقومتين أو الواحد منهما مقومة والأخرى لازمة. وعلى التقديرات يلزم تركب ذات الواجب الحقيقي. أما على الشقين الأخيرين فواضح. وأما على الشق الأول فنعيد الكلام إلى صدورهما بأن نقول إنهما لا يصدران إلا بجهتين مختلفتين أيضا فإما أن يتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية له أو ينتهي إلى جهتين مقومتين لذاته تعالى عنه علوا كبيرا. هذا ما ذكروه في بيان عينية صفاته تعالى الحقيقية. وفيه نظر أما أولا فلأنا نقول إن هاهنا اشتباها من باب أخذ القبول بمعنى الانفعال التجددي مكان القبول بمعنى مطلق الاتصاف. والبرهان لا يساعد إلا نفي الأول دون الثاني إذ الحيثيتان المتغايرتان المستدعيتان للجهتين في ذاته تعالى المكثرتان إنما هما الفعل والانفعال التجددي لا الفعل والقبول مطلقا. بل لقائل أن يقول صفاته تعالى لوازم ذاته ولوازم الذات لا يستدعي جعلا مستقلا بل جعلها تابع لجعل الذات وجودا وعدما فإن كانت الذات مجعولة كانت لوازمها مجعولة بذلك الجعل. وإن كانت الذات غير مجعولة كانت لوازمها غير مجعولة باللاجعل الثابت للذات.
168 ولا يبعد أن يكون هذا قول من ذهب من المتكلمين إلى أن صفاته تعالى واجبة الوجود بوجود الذات. وأما ثانيا فللانتقاض بالصفات الإضافية له تعالى لجريان الدليل بجميع مقدماته فيها فيلزم إما عدم اتصافه تعالى بها أو عدم كونها شيئا زائدا. وكلا القولين باطل بالضرورة. ويرد على الوجه الأخير من الأمور المذكورة مفاسد: الأول النقض ببعض صفاته الحقيقية كعلمه تعالى مثلا فإنه قدرة من جهة وإرادة من جهة. والقدرة يقتضي إمكان صدور الفعل عنه. والإرادة يقتضي وجوبه. فعلمه من حيث إنه قدرة يصح منه الصدور واللاصدور. ومن حيث إنه إرادة يجب عنه الصدور. فالمقدمات بعينها جارية فيه فيلزم أن يكون ذاته تعالى ذا حيثيات متخالفة. مع أن حيثية ذاته تعالى بعينها حيثية جميع صفاته الحقيقية عندهم. وسيأتي ما فيه من التحقيق. الثاني المناقضة بأنا لا نسلم أن نسبة القابل إلى المقبول بالإمكان الخاص المنافي للوجوب. لم لا يجوز أن يكون بالإمكان العام فلا ينافي الوجوب وربما يجاب عنه بأنا نعلم بديهة أن القابل من حيث هو قابل يجوز كونه متصفا بالقبول ويجوز أن لا يكون فالاتصاف بالفعل ليس من حيثية القابلية بل من حيثية أخرى. الثالث أن التنافي بين الوجوب والإمكان فيما نحن فيه ممنوع إذ الإيجاد إيجاب وجود المعلول في حد نفسه والقبول إمكان حصول المقبول في القابل. فالإمكان هاهنا إمكان الوجود لغيره. والوجوب وجوب الوجود لنفسه. فأين هما من التنافي وأيضا الفاعل يوجب وجود المعلول. والقابل لا يسلب هذا الوجوب والإيجاد بل هو تصحيح وجود المعلول بالحصول فيه. فالتنافي غير معلوم. وقد يجاب عن الأول بأن وجود المعلول في نفسه كما أنه ممكن محتاج إلى علة وموجب فكذلك وجوده في غيره أيضا محتاج إلى العلة والموجب لإمكانه. ولا شك أن القابل من حيث هو قابل لا يوجب وجود المقبول فيه. فموجب وجوده فيه أيضا هو
169 الفاعل. فكما أن الفاعل يوجب وجود المعلول في نفسه فكذلك يوجب وجوده لغيره. بل وجود المقبول في نفسه هو بعينه وجوده للقابل. وعن الثاني بأن التنافي بين الإيجاب واللاإيجاب والاقتضاء واللااقتضاء في ذات واحدة من جهة واحدة متحقق لا يخفى على المنصف المتأمل فمنعه مستندا بأن الفاعل يوجب المعلول والقابل لا يسلب هذا الوجوب مكابرة. كيف والمنافاة التي ادعيناها إنما يظهر صحتها إذا كان القابل بعينه هو الفاعل. إذ القابل وإن لم يتصف بسلب الإيجاب الناشي عن الفاعل لكنه متصف بسلب الإيجاب الناشي عنه. فلا يمكن أن يكونا شيئا واحدا من جهة واحدة. ولا يذهب عليك أن هذا ليس بحثا على السند الأخص بل هو بيان للمقدمة على وجه يدفع السند. ثم لا يخفى عليك أن هذا الكلام وإن دفع هذا الاعتراض على الدليل المذكور لكن لا يجدي نفعا لأصل المقصود. إذ الدليل المذكور وإن ثبت به تعدد جهتي الفعل والقبول لكن بشرط أن يكون المراد من القبول التهيؤ والاستعداد. وأما القبول بمعنى مطلق الموصوفية بأمر زائد متقرر في الذات سواء كان لازما للمحل أو غير لازم فإثبات كونه مخالف الحيثية مع الفعل حتى يلزم منه نفي الصفات الزائدة عن الباري تعالى فغير معلوم مما ذكر من الدليل على ما مر آنفا. قال الشيخ الرئيس في التعليقات: إن كانت الصفات عارضة لذاته تعالى فوجود تلك الصفات إما عن سبب من خارج ويكون واجب الوجود قابلا له ولا يصح أن يكون واجب الوجود لذاته قابلا لشيء فإن القبول لما فيه معنى ما بالقوة. وإما أن يكون تلك العوارض يوجد فيه عن ذاته فيكون إذن قابلا كما هو فاعل. اللهم إلا أن يقال تلك الصفات والعوارض لوازم ذاته فإنه حينئذ لا يكون ذاته موضوعة لتلك الصفات لأنها موجودة فيه بل لأنها عنه. وفرق بين أن يوصف جسم بأنه أبيض لأن البياض يوجد فيه من خارج وبين أن يوصف بأنه أبيض لأن البياض يوجد من لوازمه. وإذا أخذت حقيقة الأول على هذا الوجه ولوازمه على هذه الجهة استمر هذا المعنى فيه. وهو أنه لا كثرة فيه وليس هناك قابل وفاعل. بل من حيث هو قابل فاعل.
170 وهذا الحكم مطرد في جميع البسائط فإن حقائقها التي هي أنها يلزم عنها اللوازم وفي ذواتها تلك اللوازم على أنها من حيث هي قابلة فاعلة. فإن في البسيط عنه وفيه شيئا واحدا انتهى ملخصا. فقد علم أن حيثية القبول والفعل ليست مما يوجب اثنينية في الذات ولا في الاعتبار إلا إذا كان القبول بمعنى الانفعال والتأثر. وليس من شرط القيام التأثر بل قد يكون القيام بلا تأثر كما في لوازم البسائط. فإن قيل: لا نسلم وجود لازم للماهية البسيطة بل الماهيات التي يكون عللا للوازمها إنما هي مركبات. فيمكن أن يكون فاعليتها بجهة وقابليتها بجهة أخرى. فلا يلزم هناك كون الشيء فاعلا وقابلا بجهة واحدة. قلنا: فيه بحث أما أولا فلأن في كل مركب يتحقق أمر بسيط ولكل واحد واحد من البسائط شيء من اللوازم ولا أقل من كونه واحدا وموجودا. وأما ثانيا فلأن الحقيقة المركبة أيضا لها وحدة مخصوصة حتى الخمسة في خمسيتها والعشرة في عشريتها. واللازم الذي يلزمها من هذه الحيثية ليس علة لزومه أحد أجزاء ذلك المجتمع وإلا لكان حاصلا قبل ذلك الاجتماع. وليس القابل له أيضا أحد أجزائه فإن السطح وحده في المثلث مثلا لا يمكن أن يكون موصوفا بتساوي الزوايا لقائمتين ولا الأضلاع الثلاثة فقط بل القابل له هو المجموع من حيث ذلك المجموع. فكان الشيء باعتبار واحد قابلا وفاعلا. ولذلك ترى الشيخ الرئيس لم يبال في إثبات الصور العلمية لذات الواجب تعالى علوا كبيرا عنه بلزوم كون الشيء الواحد قابلا وفاعلا كما سيجيء. لأن القبول بمعنى مطلق الموصوفية لا ينافي الفعل عنده. قال بعض الأعلام في هذا المقام: إيجاب الفاعل للمفعول متقدم على فعله بالذات وإمكان حصول المقبول في القابل متقدم على قبوله. فلو كان الواحد الحقيقي
171 الذي لا تعدد فيه بوجه من الوجوه فاعلا لشيء وقابلا له لكان فيه قبل الفعل والقبول جهتان جهة بها يوجبه ويقتضيه وجهة أخرى بها يستحقه ويمكن حصوله فيه. أقول: العمدة في هذا المقام إثبات تكثر الجهة سواء كان في نفس القبول والفعل أو قبلهما. فالكلام في تعدد جهة يحصل منها الإيجاب وجهة يحصل منها الاستحقاق ووحدتهما بعينه كالكلام في تعدد جهتي الفعل والقبول ووحدتهما بلا تفاوت لو تم تم وإلا فلا. وقد استدلوا لإثبات هذه الدعوى بوجوه أخرى تجري مجرى ما ذكرناه فلهذا تركناها في سنبلها وعشونا عن سلك سبيلها. والحاصل أن شيئا مما ذكروه في هذا الباب لا يسمن ولا يغني كما لا يخفى على ذوي الألباب. فالوجه عندي أن يستدل لإثبات عينية صفاته الحقيقية لذاته بوجوه أخر. الأول أنها لو لم يكن كذلك يلزم التكثر في ذاته تعالى لأجل كثرة صفاته الموجبة لكثرة الاقتضاء المستدعية لكثرة المقتضي كما تبين في نفي صدور الكثرة عنه تعالى مع أنه أحدي الذات بسيط الحقيقة هذا خلف وأما كون إحدى من الصفات الحقيقية زائدة عليه تعالى والبواقي منها عينا له تعالى أولها كما في الإضافيات على ما سيجيء من التحقيق فيها فبعيد عن العقل ولهذا لم يقل به أحد من العقلاء. الثاني أنها لو كانت زائدة على ذاته يلزم من ذلك أن يكون كماله بأمر زائد عليه فيلزم كونه ناقصا بحسب ذاته بذاته كاملا بغير ذاته. الثالث أن فيضانها من ذاته على ذاته يستدعي جهة أشرف مما عليها واجب الوجود بالذات فيكون ذاته أشرف من ذاته وهو محال بديهة. وأيضا يتكثر ذاته لأن حيثية النقص غير حيثية الكمال وهو باطل كما مر. وفيضانها من غيره عليه تعالى يلزم كون معلوله أشرف منه تعالى.
172 تنبيه وتنصيص فكما أن ماهية ما لا تفيد وجودها كما علمت سابقا كذلك لا تفيض على نفسها ما هو صفة كمالية للوجود بما هو وجود كالعلم والقدرة وأمثالهما. وكما أن مفيض الوجود ليس مسلوب الوجود في مرتبة كذلك واهب الكمال لا يجوز أن يكون ممنوعا في حد نفسه إذ المفيض لا محالة أكرم وأمجد من المفاض عليه. فإذن كان كل من الوجود وكمالات الوجود يجب أن ينتهي إلى ما هو قائم بذاته غير معلول لشيء. ويجب أن يكون جميعها واحدا حقيقيا لنفي تعدد الواجب بالذات. وكما أن النظر في مفهوم الوجود أدانا إلى إثبات الوجود القائم بذاته فكذلك النظر في مفهوم العلم والقدرة يؤدي إلى علم وقدرة لا يزيدان على شيء ولا يقومان به وكذلك في سائر الصفات الكمالية للموجود بما هو موجود. والشيخ الرئيس قد نص على ما ذكرناه في التعليقات حيث قال: يجب أن يكون في الوجود وجود بالذات وفي الاختيار اختيار بالذات وفي الإرادة إرادة بالذات وفي القدرة قدرة بالذات حتى تصح أن تكون هذه الأشياء في شيء لا بالذات. وإليه أشير في الكتاب الإلهي بقوله تعالى: و فوق كل ذي علم عليم. ومن الإقناعيات أن الوجدان السليم حاكم بأن ذاتا تكون لها في نفسها من الكمالات ما للمحفوفة بها فهي أكمل وأشرف منها فلو لم يكن كماله تعالى ومجده نفس حقيقته المقدسة بل مع اللواحق للزم تصور ما هو أكمل وأشرف منه تعالى. وهو ما يكون اتصافه بهذه الصفات بنفس ذاته وهذا محال. إذ لا يتصور شيء أكمل وأشرف من صرف الوجود المتأكد الذي هو فعلية محضة يستفيض منه سائر الماهيات الوجود
173 وكمالات الوجود. وعلمت أن ما فرض ثانيا له في كونه صرف الوجود فإذا أمعن النظر فيه ظهر أنه هو بعينه إذ لا ميز ولا فرق في صرف شيء. فثبت أن مجده وعلوه وبهاءه بنفس حقيقته المقدسة لا بشيء قائم به وقد وقع في بعض خطب أمير المؤمنين وسيد الوصيين عليه أزكى صلوات المصلين: أول الدين معرفته وكمال المعرفة التصديق به وكمال التصديق به توحيده وكمال توحيده الإخلاص له وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة فمن وصفه سبحانه فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزأه ومن جزأه فقد جهله ومن جهله فقد أشار إليه ومن أشار إليه فقد حده ومن حده فقد عده ومن قال فيم فقد ضمنه ومن قال علام فقد أخلى منه.. إشارة اعلم أن الواجب تعالى وإن وصف بالعلم والجود والقدرة والإرادة وأمثالها لكن ليس هو لأجل اتصافه بها ذا معان متميزة يختص بهذه الأسماء. بل كما أنا نقول لكل واحد من موجودات العالم إنه معلومه ومقدوره ومراده وفيض جوده من غير أن يثبت فيه معان شتى فكذلك نصف موجده بالعلم والوجود والإرادة والقدرة مع كونه أحديا فردا ذاتا وصفة. كما قال الشيخ في التعليقات: من أن الأول تعالى لا يتكثر لأجل تكثر صفاته لأن كل واحدة من صفاته إذا حققت تكون صفة الأخرى بالقياس إليه. فيكون قدرته حياته وحياته قدرته وتكونان واحدة. فهو حي من حيث هو قادر وقادر من حيث هو حي وكذلك في سائر صفاته. وقال أبو طالب المكي: مشيته تعالى قدرته وما يدركه بصفة يدركه بجميع الصفات إذ لا اختلاف هناك. وقيل شعرا:
174 عباراتنا شتى وحسنك واحد * وكل إلى ذاك الجمال يشير تذنيب صفاته تعالى منها حقيقية كمالية كالجود والقدرة والعلم وهي لا تزيد على ذاته بل عين ذاته بمعنى أن ذاته من حيث حقيقته مبدأ لانتزاعها عنه ومصداق لحملها عليه. ومنها إضافية محضة كالمبدئية والمبدعية والخالقية وأمثالها وهذه زائدة على ذاته متأخرة عنه وعما أضيف بها إليه تعالى. ولا يخل بوحدانيته كونها زائدة عليه فإن الواجب تعالى ليس علوه ومجده بنفس هذه الصفات الإضافية بل بكونه في ذاته بحيث ينشأ منه هذه الصفات وهو إنما هو كذلك بنفس ذاته. فإذن علوه ومجده ليس إلا بذاته لا غيره. ومنها سلبية محضة كالقدوسية والفردية والأزلية وغيرها. والاتصاف بها يرجع إلى سلب الاتصاف بصفات النقص. وكما أن صفاته الحقيقية لا يتكثر ولا يتعدد ولا اختلاف فيها إلا بحسب التسمية بل يكون كلها معنى واحدا وحيثية واحدة هي بعينها حيثية الذات فإن ذاته بذاته مع كمال فرديته يستحق هذه الأسماء لا بحيثية أخرى وراء حيثية ذاته كما قاله المعلم الثاني وجود كله وجوب كله علم كله قدرة كله حياة كله لا أن شيئا منه علم وشيئا آخر قدرة ليلزم التركيب في ذاته ولا أن شيئا فيه علم وشيئا آخر فيه قدرة ليلزم التكثر في صفاته الحقيقية. فكذلك صفاته الإضافية لا يتكثر معناها ولا يختلف مقتضاها وإن كانت زائدة على ذاته تعالى. وكذا صفاته السلبية فإن إضافته إلى الأشياء وإن تعددت أساميها واختلفت لكن كلها يرجع إلى معنى واحد وإضافة واحدة هي قيوميته الإيجابية للأشياء. فمبدئيته بعينها رازقيته وبالعكس وهما بعينهما رحمته ولطفه وبالعكس وهكذا في جميعها وإلا لأدى تكثرها واختلافها إلى اختلاف ذاته.
175 والسلوب عنه جميعا يرجع إلى سلب واحد هو سلب الإمكان قال العلامة الشيرازي في شرح حكمة الإشراق والمحقق الشهرزوري في الشجرة الإلهية ناقلين عن الشيخ الإلهي شهاب الدين السهروردي: ومما يجب أن تعلمه وتحققه أنه لا يجوز أن يلحق الواجب إضافات مختلفة توجب اختلاف حيثيات فيه بل له إضافة واحدة هي المبدئية تصحح جميع الإضافات كالرازقية والمصدرية ونحوهما. ولا سلوب فيه كذلك بل له سلب واحد يتبعه جميعها وهو سلب الإمكان فإنه يدخل تحته سلب الجسمية والعرضية وغيرهما كما يدخل تحت سلب الجمادية عن الإنسان سلب الحجرية والمدرية عنه وإن كانت السلوب لا تتكثر على كل حال. انتهى. فثبت أن إضافته إلى الأشياء إضافة واحدة بحسب المعنى. ثم أقول: اعلم أنه لا يتغير ذاته تعالى بتغير الجزئيات ما أضيف إليه وإن تغيرت إضافته تعالى إليها بحسب تغيرها في أنفسها من حيث هي إضافة متخصصة بها لا بما هي إضافة مطلقة. لأن تلك الصفات تستلزم التعلق إلى أمر كلي كمخلوق كلي ومرزوق كلي بالذات. وإلى الجزئيات المندرجة تحت ذلك الأمر الكلي بالعرض. فلأجل عدم تغير ذلك الأمر الكلي الذي يتعلق الصفة به بالذات لا يمكن تطرق التغير إلى الصفة ولتغير الجزئيات يتغير الإضافات الجزئية العرضية. والحاصل أن صفاته الإضافية وإن كانت زائدة على ذاته تعالى ولكن لا تختلف بحسب معانيها في أنفسها حتى توجب تكثر اعتبارات واختلاف حيثيات في ذات الأول تعالى كما ذكرنا. والتعددات والتجددات الواقعة فيها إنما هي بالقياس إلى الأشياء المتعلقة بها المتعددة أو المتجددة في أنفسها أو بقياس بعضها إلى بعض وأما بالنسبة إلى الذات الأحدية المتعالية فليست إلا واحدة غير متجددة. فإذن إضافته
176 تعالى إلى الأشياء إضافة واحدة بحسب المعنى والمفهوم وهي إما مرتبة ترتبا سببيا ومسببيآ على حسب ترتب معلولاته فلا يوجب تكثرا في ذاته تعالى كما لا يوجب صدور الأشياء الكثيرة المرتبة تكثرا في ذاته تعالى. وهذا ما قالت الفلاسفة إن نسبة الأول إلى الثاني أم جميع النسب. وإما متجددة على حسب تجدد متعلقاتها المتجددة المتصرمة في أنفسها وبقياس بعضها إلى بعض فلا يوجب تغيرا في ذاته تعالى لأنها بالقياس إلى ذات الواجب في درجة واحدة لا يتجدد ولا يتصرم بل التجدد والتصرم والحضور والغيبة إنما يتحقق للمسجونين في سجن الزمان المطمورين في كوزة المكان. وأما العوالي والشوامخ فذواتها مبرئة عن علوق هذه المعاني بهم. فما ظنك بما هو أعلى وأشمخ منها وهو إله كل عقل ونفس فهو أعلى وأقدس من أن يقع في التغير والتجسم كما قال السري السقطي: ليس عند ربك صباح ولا مساء. يعني إن نسبة ربك المتنزه المتعالي عن وصمة التغير والتجدد إلى جملة الأمور المتجددة المتعاقبة نسبة واحدة ومعية قيومية غير زمانية. وإدراكه محتاج إلى لطف قريحة. ومن هنا يظهر معنى كلام الشيخ الرئيس في التعليقات: الأشياء كلها عند الأوائل واجبات ليس هناك إمكان البتة فإذا كان شيء لم يكن في وقت فإنما يكون من جهة القابل لا من جهة الفاعل فإنه كلما حدث استعداد من المادة حدث فيها صورة من هناك إذ ليس هناك منع وبخل. فالأشياء كلها هناك واجبات لا تحدث وقتا وتمنع وقتا ولا تكون هناك كما تكون عندنا. فصل في علمه تعالى بذاته ولنمهد لبيانه مقدمات: الأولى أن الحكماء لما أحالوا اتصاف معدوم مطلق بأحكام وجودية حكموا بأن
177 الأشياء المعدومة في الأعيان المحكوم عليها بتلك الأحكام موجودة في الأذهان لا سيما وقد صودف كونها سببا للتحريكات والتأثيرات الخارجية. أ ولا ترى أن تخيلك لمشتهى لطيف كيف يحدث في بدنك شيئا وتخيلك للحموضة يوجب كذلك انفعالا وقشعريرة ولو لم يكن لصورة بيت تريد بناءه نحو من الثبوت لما كان سببا لتحريك أعضائك ولوجود بيت في الخارج. وقد حكي عن بعض حذاق الأطباء معالجة بعض الملوك حيث أصابه فالج لا ينجع فيه العلاج الجسماني دفعه بمجرد تدبيرات نفسانية وأمور تصورية باعثة لاشتعال الحرارة الغريزية حتى دفعت المادة. وبعض النفوس يبلغ في القوة والشرف إلى حيث يبرأ المرض ويمرض الأشرار ويقلب العنصر إلى عنصر آخر حتى يجعل غير النار نارا ويحرك أجساما يعجز عن تحريكها بنو النوع كقلع باب خيبر. كل ذلك باهتزاز علوي وتأييد ملكوتي وطرب روحاني. ومما يحكم به الفطرة حدوث حالة لمن علم شيئا بعد ما لم يعلم مطابقة له وإلا لاستوت حالتاه قبله وبعده بحسب كونه عالما. ومن الشواهد تحقق اللمس مع تكيف الآلة بالكيفية الملموسة الغير الموجودة في العين وإلا لأدركتها آلة لمسية أخرى من تلك الآلة بتلك المرتبة من الشدة التي أدركتها تلك الآلة وليس كذلك قبلها نحو آخر من الوجود وهو المراد. فالمعلوم بالذات في العلم الانطباعي هو الأمر الذهني لا الموجود الخارجي إلا بالعرض. كيف ولو كان الشيء معلوما لأنه موجود في ذاته لكان كل موجود في ذاته معلوما لكل أحد ولما كان المعدوم في الخارج معلوما بوجه ما. وقد يطلق العلم على المعلوم بالذات الذي هو الصورة الحاضرة عند المدرك حضورا حقيقيا أو حكميا. فالعلم والمعلوم على هذا الإطلاق متحدان ذاتا مختلفان اعتبارا إذ لم يكن وجوده في نفسه غير وجوده لمدركه الذي هو حيثية معلومية وإن كان العلم والمعلوم من حيث هو معلوم واحدا على أي تقدير. وهذا ما راموه بقولهم: إن وجود المعقول بعينه معقوليته ووجوده لعاقله ووجود المحسوس بعينه محسوسيته ووجوده للجوهر الحاس.
178 وقد يطلق العلم على نفس حصول شيء عند القوة المدركة أو ارتسامه فيها وهو المعنى الإضافي الانتزاعي الذي يشتق منه العالم والمعلوم وأمثالهما. والعلم بالمعنى الأول لا ينحصر اندراجه في مقولة الكيف كما توهم وإن صدقت هي عليه إذا كان انطباعيآ صدقا عرضيا لا تمنعه بل قد يكون مندرجا تحت غيرها من أمهات العوالي وقد لا يكون مندرجا تحتها أصلا لا بالذات كأنواع الحقائق المتأصلة ولا بالعرض كالفصول البسيطة لها وهو علم الأول تعالى بذاته إذ هو عين ذاته كما سيظهر. وقد سبق منا الكلام في أن كليات الجواهر كيف يكون جواهر مع أنها موجودة في الذهن المستغني القوام عنها. فتذكره. المقدمة الثانية أن الشيء إما أن يكون مقارنا لأمور غريبة عن ماهيته مقارنة مؤثرة منه كمقارنة. الإنسانية في الخارج للوضع والمقدار وغير ذلك فإنه لو انفكت عنها لانعدمت. أو مقارنة غير مؤثرة كمقارنة السواد للحركة حيث لا يرتفع أحدهما برفع الآخر. وإما أن يكون مجردا عما سواه من الأغشية واللبوسات كالإنسانية المطلقة المطابقة لأفرادها المتفاوتة في العظم والصغر المختلفة في الوضع والأين والمتى. ولو لم تكن الإنسانية الذهنية مجردة عن مقدار خاص ووضع خاص لما طابقت الكثيرين المختلفين فيهما. وكل حقيقة يلحقها أمر غريب عن ذاتها فإنما يلحقها لا لذاتها بل لحيثية استعدادية تلحقها وإلا لم يتخلف عنها. وجميع جهات القوة والاستعداد ينتهي بالذات إلى المادة الجسمية كما حققنا في موضعه. كيف ولو يلحقها لما هي لاستوى استحقاق أشخاص الماهية بحسبها له. والعلم عبارة عن امتياز الشيء عن غيره بوجه. فكل ما هو مخلوط بغيره ما دام كونه مخلوطا بغيره لا يكون معلوما بل يكون مجهولا. فالمعلوم إما مجرد عما سواه أو عما يقارنه مقارنة مؤثرة وإما مخالط بغيره مخالطة مؤثرة: الأول يمسى معقولا يمكن حمله على الكثرة المختلفة في اللواحق المتساوي في نسبتها إليه لخلوه عن الملابس كالعريان يتلبس بأي ثوب اتفق ولا يأباه. والثاني يسمى محسوسا سواء كان مبصرا أو ملموسا أو مشموما أو مذوقآ أو
179 مسموعا أو متخيلا أو متوهما. وكما أن المعلوم إذا كان وجوده الإدراكى في جسم أو جسماني كالمشاعر كان محسوسا لا معقولا لمصادفة عوارض غريبة وانفعالات مادية يمنع انطباعه لأعداد كثيرة. وإذا كان في جوهر غير جسماني كان معقولا لا محسوسا لخلوه عما يمنعه عن مطابقة كثيرين. كذلك كل قوة جسمانية تدرك صورة فتلك الصورة لا محالة تحل مادتها إذ لو كانت تحلها مجردة عن المادة لكان لتلك القوة قوام ووجود دون المادة فلم يكن جسمانية هذا خلف. فحينئذ لا يخلو الصورة مما يوجب محسوسيتها وعدم انطباقها للكثرة. وكل جوهر قدسي تدرك صورة تدركها معقولة غير ممتنعة الاشتراك لعدم المادة وسلاسلها وأغلالها. فقد تحقق بما ذكرناه أن مدار العاقلية والمعقولية على كون الشيء مجردا بالكلية عن المادة. ومدار الحاسية والمحسوسية على كون الشيء متعلقا بها نوع تعلق وإن كان مدار الإدراك مطلقا على تجريد ما. لكن التعقل إنما يكون بتجريد تام ونزع محكم. وسائر الإدراكات الحسية بتجريدات ناقصة متفاوتة المراتب. والدليل عليه أنه لو لم يحدث في الحاس أثر من المحسوس لاستوى حالتاه قبل الإحساس وبعده ولو لم يكن مناسبا له لما كان أثرا منه فلم يكن حصول ذلك الأثر في الحاسة إحساسا له فلا محالة يكون صورته متجردة عن المادة وإن كانت مع غشاوة ما من كم وكيف ووضع ومتى. فإن قلت: لم صار الوضع إذا قارن الجسم صيره مشارا إليه محسوسا وإذا قارن الجوهر العاقل لم يصيره كذلك قلت: لأنه إذا قارن الجسم أو الجسماني أثر فيه كما ذكرنا وإذا قارن المدرك لم يؤثر فيه إذ لو كان مؤثرا لكان يعدم المدرك عند رفعه كما أن المتخيل لا يخلو من اقتران عوارض غريبة مؤثرة فيه حتى لو ارتفعت عنه لم يكن متخيلا. والمعقول لا يأبى كونه معقولا عن تجرده عن العوارض واقترانه بها لعدم تأثيرها فيه. الثالثة أن ما ذكرناه من التجريدات إنما يكون في العلوم الصورية وليس من
180 شرط كل إدراك أن يكون بصورة ذهنية. وذلك لأن العاقل يدرك نفسه بعين ذاته يعني صورته التي هو بها هو لا بصورة على ذاته كما يظهر لمن راجع وجدانه في علمه بذاته فإن كل إنسان يدرك ذاته على وجه يمنع فيه الشركة. ولو كان هذا الإدراك بصورة حاصلة في النفس فهي كلية وإن كانت مجموع كليات تختص جملتها بنفس واحدة فلا يخرج عن احتمال صدقها على كثيرين. وأيضا النفس تشير إلى ذاتها ب أنا وإلى ما عداها وإن كان أمرا قائما بها ب هو لكونه زائدا عليها. فعلم النفس بذاتها ليس سوى ذاتها. وربما يدرك غيره أيضا لا بحصول صورة منه ذهنية كما تدرك النفس المجردة بدنها الخاص الذي تحركه وتصرف فيه وقوته المتفكرة التي تستخدمها في تفصيل الجزئيات وتركيبها وترتيب الحدود الوسطى. وبذلك الاستخدام تنتزع الكليات من الجزئيات وتأخذ النتائج من المقدمات فتدرك تلك الأشياء جميعا. وكذلك تدرك قوتها الوهمية والخيالية الشخصيتين لا بوهم وخيال آخرين مع أن الوهم ينكر نفسه. ولو كان إدراك النفس لتلك الأمور بصورة مأخوذة عنها لأدركتها على الوجه الكلي كما ذكرنا من أن كل صورة في النفس فهي كلية وإن تخصصت أيضا من كليات كثيرة ولا يمنع الشركة لنفسها. ومما يؤكد أن لنا علوما لا نحتاج فيها إلى صورة أخرى غير حضور ذات المدرك ما قيل من أنا نتألم بتفرق اتصال وقع في عضو من أعضائنا ونشعر به وليس ذلك بأن تفرق الاتصال يحصل له صورة أخرى في ذلك العضو أو في غيره بل المدرك نفس تفرق الاتصال والألم المحسوس بذاته لا بصورة تحصل منه. فيدل على أن من الأشياء المدركة ما يكفي في إدراكه مجرد حضور ذاته للنفس أو لأمر له تعلق حضوري خاص بالنفس. ومن الشواهد الدالة على ما ذكرنا أعني ثبوت العلم الحضوري أن صورة ما قد تحصل في آلة إدراكية والنفس لا تشعر بها كما إذا استغرقت في فكرة أو فيما يؤديه حاسة أخرى. فلا بد من التفات النفس إلى تلك الصورة فالإدراك ليس إلا بالتفات
181 النفس إلى ما تشاهده والمشاهدة ليست بصورة كلية بل صورة جزئية. فلا بد وأن يكون للنفس علم إشراقي حضوري ليس بصورة. ومن العرشيات الإلهامية لإثبات هذا المطلب أن النفس في مبدأ فطرتها خالية عن العلوم الانتقاشية كلها بلا ريب. ولا خفاء في أن استعمال الآلات يتوقف على العلم بالآلات. فلو كان ذلك العلم بالارتسام لزم توقفه على استعمال الآلات المتوقف على العلم بالآلات وهكذا يعود الكلام فإما أن يدور أو يتسلسل وهما محالان. فأول علوم النفس هو علمها بذاتها ثم علمها بقوى البدن والآلات التي هي الحواس الظاهرة والباطنة. وهذان العلمان إنما هما علمان من العلوم الحضورية. ثم بعد هذين العلمين ينبعث عن ذات النفس بذاتها استعمال الآلات بدون تصور هذا الفعل الذي هو استعمال الآلات والتصديق بفائدته فإن هذا الاستعمال ليس فعلا اختياريا بمعنى كونه حاصلا بالقصد والروية وإن كانت النفس عالمة به مريدة له. لأن إرادة ذلك الفعل إنما ينبعث عن ذاتها لا عن رويتها. فذاتها بذاتها موجبية لاستعمال الآلات لا بإرادة اختيارية زائدة عليها قائمة بها بل لما كانت ذاتها في آن وجودها عالمة بذاتها وعاشقة لها ولفعلها عشقا ناشيا عن الذات لذاتها اضطرت إلى استعمال الآلات التي لا قدرة لها إلا عليه. وبهذا التحقيق اندفع ما قيل من أن استعمال الحواس فعل اختياري وصدور كل فعل اختياري مسبوق بالتصور والتصديق بفائدة ما فوجب أن يحمل قبل استعمال الآلات صورة تصورية وتصديقية. وذلك لأن نسبتي صدور استعمال الآلات وعدمه ليستا متساويتين. ليلزم الاحتياج إلى المرجح من تصور الفعل والتصديق بالغاية قبل الاستعمال بل المرجح والمقتضي ذات النفس فينبعث الاستعمال عن الشوق الذاتي الذي هو عين ذاتها الدراكة الفعالة. فلا يكون مسبوقا بتصور ذلك الفعل بل صدور ذلك الجزئي عن
182 النفس هو بعينه تصورها له بلا صورة مستأنفة أخرى كما أدى إليه ذوق أهل الإشراق. وأيضا من أدرك صورة ذهنية إنما يدركها بعين تلك الصورة لا بصورة أخرى وإلا لذهب الأمر إلى لا نهاية ولزم مع ذلك أن يجمع في محل واحد صور متساوية في الماهية مختلفة بالعدد وهو محال. فالإدراك مطلقا إنما يحتاج إلى صورة. وأما الاحتياج إلى صورة ذهنية فقد يكون حيث يكون المدرك غير حاضر عند المدرك. وعدم الحضور إما لعدم وجود المدرك أصلا أو لعدم وجوده عند المدرك. فإن كل واحد من الموجودات ليست حاصلة لواحد آخر منها وإلا لكان كل من له صلاحية المعلومية وليس كذلك كما لا يخفى. بل لا بد مع ذلك في تحقق العالمية والمعلومية بين شيئين من علاقة ذاتية بينهما بحسب الوجود. فيكون كل شيئين يتحقق بينهما علاقة ذاتية وارتباط وجودي يكون أحدهما عالما بالآخر إلا لمانع لأن تلك العلاقة مستلزم لحصول أحدهما للآخر وانكشافه لديه وامتياز عنده. وهي قد يقع بين نفس ذات المعلوم بحسب وجودها العيني وذات العالم كما في العلم الحضوري بأقسامه. وقد يكون بين صورة الشيء وذات العالم كما في العلم الحصولي المتحقق بحصول صورة الشيء في نفس ذات العالم أو في بعض قواه حصولا ذهنيا. والمدرك بالحقيقة هاهنا هو نفس الصورة الحاضرة لا ما خرج عن التصور وإن قيل للخارج إنه معلوم فذلك بقصد ثان كما سبقت الإشارة إليه إذ العلاقة الوجودية المستلزمة للعلم في الحقيقة إنما هي بين العالم والصورة لا غير بخلاف المعلوم بالعلم الحضوري بحسب وجوده العيني. إذ المعلوم بالذات حينئذ هو نفس ذات الأمر العيني لتحقق العلاقة الوجودية بينه وبين العالم به. فالعلم الحضوري هو أتم صنفي العلم بل العلم في الحقيقة ليس إلا هو. ومن ذهب إلى أن العلم بالغير منحصر في الارتسام لا غير فقد أخطأ وأنكر أتم قسمي العلم. نعم الإدراك على وجه يكون المدرك كليا مشتركا بين كثيرين ينحصر
183 في الصورة الذهنية وهي المنقسمة إلى التصور والتصديق الكاسبة والمكتسبة. فإذا تحققت العلاقة الوجودية المستلزمة للعالمية والمعلومية بين ذات مستقلة الوجود مجردة وصورة مرتسمة فيها فبأن يتحقق بينها وبين الصورة الصادرة عنها لكان أولى. فإن نسبة القابل إلى المقبول بالإمكان ونسبة الفاعل إلى المفعول بالوجوب وهذه العلاقة أوكد من تلك كما حققه شارح الإشارات قدس سره. وما أورده بعض المحققين في شرحه للعقائد النسفية وغيره معترضا على ما حققه لا يخلو من تعسف كما لا يخفى على المصنف المتدبر. الرابعة إذا تحقق أن المعقول من حيث هو معقول وجوده في نفسه ووجوده للعاقل ومعقوليته شيء واحد بلا اختلاف وكذا المحسوس من حيث هو محسوس وجوده في نفسه ووجوده للجوهر الحاس ومحسوسيته شيء واحد من غير تفاوت. فما وجوده لغيره لم يكن معقولا لذاته كالصورة الجمادية ولا محسوسا لها كالبصر واللمس وسائر المدارك الحسية ولهذا لا تحس بذواتها. ولو فرضنا المعقول قائما بذاته كان وجوده لذاته نفس معقوليته لها وصار عقلا وعاقلا ومعقولا كما لو فرضنا المحسوس مجردا عن المواد كان وجوده لذاته نفس محسوسيته لها. فصار حسا وحاسآ ومحسوسا كما صرح به بهمنيار وغيره من الحكماء. وبما قررنا لك اندفع ما قيل من أن حقيقة العلم لو كان عين الحصول لكان كل جماد عالما إذ ما من جماد إلا وقد حصل له ماهيته. والمعلوم من كل شيء ماهيته. ووجه الاندفاع أن الصور الجمادية وغيرها لما كانت حاصلة للمواد لم يحصل أنفسها لها بل لا يحصل لها شيء أصلا. فإن القائم بالغير الحاصل له يكون إنيته بعينها إنيته للمحل فلو حصل له شيء يكون حصوله في الحقيقة لمحل الصورة والعرض لا لهما. فإن ما ليس له حصول لنفسه كيف يحصل له شيء. وأيضا لكونها مقارنة للمادة ليست عرية عما يمنعها من المعقولية كالوضع والمقدار وغيرهما.
184 وأما النقض بوجود الهيولى من جهة أنها ليس وجودها لشيء آخر بل لنفسها فيلزم أن يكون عالمة بذاتها بناء على كون العلم عبارة عن نحو الوجود لشيء فدفعه بأن الهيولى ليست موجودة بالفعل بل هي جهة القوة دائما في الموجودات المادية. فوزان ذلك في العالمية أن يكون للهيولي قوة العالمية فيما يتعلق بها من الأمور كالنفوس التي هي أولا عاقلة ومعقولة بالقوة ثم يصير عقلا وعاقلة بالفعل. واعلم أنهم لم يكتفوا في كون المجرد عاقلا ومعقولا في ذاته بهذا القدر حتى يلزم عليهم انعكاس الموجبة الكلية موجبة كلية أو الاستنتاج من موجبتين كليتين في الشكل الثاني كما يظن أنهم استنتجوا من قولهم: إن الذات القائمة الغير الجسمية مجردة عن المادة والمعقول من الصورة بالفعل ذات مجردة عن المادة أن الذات القائمة الغير الجسمية معقولة بالفعل. والحال أن الموجبتين في الثاني لا تنتجان. بل قالوا إن ما هو مجرد عن المادة إما أن يصح أن يعقل أو لا يصح. ومحال أن لا يصح أن يعقل إذ كل موجود يمكن أن يعقل. فإذن صحة معقوليته إما بأن لا يتغير فيه شيء حتى يصير معقولا بالفعل أو بأن يتغير فيه شيء حتى يصير معقولا كالحال في المعقولات بالقوة التي يحتاج إلى مجرد يجردها عن المادة حتى تصير معقولة. لكن هذا الحكم لا يصح في المجرد بالفعل فإن المجرد بالفعل حيث ما غشيته عوارض مادية لا يحتاج إلى أن يتغير فيه شيء حتى يصير معقولا بالفعل ولا يحتاج العاقل له إلى تقشيره عنها حتى يصير معقولا ويخلص إلى حاق كنهه. فهو إذن معقول بالفعل فهو عاقل لذاته فإن لم يكن عاقلا بالفعل لكان معقولا بالقوة وقد فرضناه معقولا بالفعل. فإن قلت: كون الشيء عالما ينكشف له المعلومات حال خارجي مغاير لنفس حقيقته فلا يكون نفس حقيقته العالم وحدها مصداقا لصدق العالم في علم الشيء بنفسه. فإن كل شيء في نفسه هو هو لا غيره فلو تغير عما هو عليه في نفسه لاحتاج إلى مصداق آخر وراء ذاته فلا بد من كون الشيء عالما بنفسه مثلا من أمر آخر غير نفس ذاته يكون مصداقا لعالميته. فلا يكون العلم بالشيء نفس حصول ذلك الشيء فقط. أقول: كون عالمية الشيء في علم المجرد بذاته وصفا خارجا عن نفس ذاته غير
185 مسلم بل يكون نفس حقيقة الشيء الغير الجسمي مصداقا لكونه عالما بذاته ولا يحتاج إلى مصداق آخر مغاير لنفسه فإن صدق المفهومات المتغايرة على ذات واحدة لا يستدعي تغاير المصداقات إلا إذا استلزم ذلك الصدق اختلاف حيثيات وهو فيما نحن بصدده أي علم المجرد بذاته غير مسلم وإن سلم في غيره. قال الشيخ في التعليقات: إذا قلت إني أعقل شيئا فالمعنى أن أثرا منه موجودة في ذاتي فيكون لذلك الأثر وجود ولذاتي وجود فلو كان وجود ذلك الأثر لا في غيره بل فيه لكان أيضا يدرك ذاته كما أنه لما كان وجوده لغيره أدركه الغير. ومن توهم أن كون المجرد عالما بذاته وصف زائد على ذاته يستدعي مصداقا لزمه القول بعدم الكون الواجب الحق عالما بذاته إلا بعد تحقق أمر زائد على ذاته تعالى. وهو قول فضيح وظلم قبيح جدا عند المحققين. واعترض الإمام الرازي في المباحث المشرقية على الحكماء حيث ذهبوا إلى أن علوم المجردات بذواتهم لا يزيد على ذواتهم ب: أن الأشياء التي تعقل ذواتها لو كان عقلها لذواتها غير زائدة على ذواتها لكان من عقلها عقلها عاقلة لذواتها وليس كذلك إذ إثبات كونها عاقلة لذواتها يحتاج إلى تجشم إقامة برهان. وبيان إثبات علمها غير بيان إثبات وجودها. وكذا ليس من أثبت وجود الباري تعالى أثبت علمه بذاته تعالى بل يلزمه إقامة حجة أخرى له. فأقول: بعد ما بينا أن معقولية الشيء عبارة عن وجوده لشيء له فعلية الوجود والاستقلال أي كونه غير قائمة بشيء آخر. فالجوهر المفارق لما كان بحسب الوجود العيني غير موجود لشيء آخر بل كان موجودا لذاته كان معقولا لذاته. وإذا حصلت ماهيته في عقل آخر فصارت بهذا الاعتبار موجودة لشيء آخر وجودا ذهنيا لا لذاته فلا جرم صارت معقولة لذلك الشيء الآخر لا لذاتها. وإذا لم تكن بهذا الاعتبار أي
186 باعتبار وجودها في ذلك العاقل عاقلة لذاتها فكيف عقلها ذلك العاقل عاقلة لذاتها بهذا الاعتبار ومحصول القول أن عالمية الجوهر المجرد لذاته هي عين وجوده لا عين ماهيته. فلا يلزم من ذلك أن من عقل ماهية الجوهر المجرد عقلها عاقلة لذاتها. اللهم إلا فيما يكون وجوده ماهيته كالواجب الوجود تعالى. ولما استحال ارتسام حقيقته تعالى في ذهن من الأذهان بالكلية بل بوجه من الوجوه ككونه واجب الوجود بحسب المفهوم العام لا يلزم من تعقلنا له تعقلنا (عقله.) لذاته بل نحتاج إلى استيناف بيان وبرهان. ومن توهم أن في كون الشيء عالما بنفسه موضوع العالمية مغاير لموضوع المعلومية بالاعتبار وقايسه إلى معالجة الشخص نفسه إذ هو من حيث إنه معالج غيره من حيث إنه مستعلج. فالمؤثر النفس من حيث ما لها من ملكة المعالجة والمتأثر هي من حيث ما لها من قبول العلاج. لزمه القول بتكثر الحيثيات التقييدية في ذاته تعالى باعتبار كونه عالما بذاته ومعلوما لذاته. وهو أقبح وأشنع تقدس عن ذلك عظمته وكبرياؤه. ولقد صرح الشيخ الرئيس في الشفا والتعليقات وغيرهما ب: أن نفس كون الشيء عاقلا ومعقولا لا يوجب أن يكون هناك اثنينية في الذات ولا في الاعتبار. فالذات واحدة والاعتبار واحد فإنه ليس تحصيل الأمرين إلا اعتبار أن له ماهية مجردة هي ذاته وأنه ماهية مجردة ذاته له لكن في الاعتبار العقل تقديم وتأخير في ترتيب المعاني والفرض المحصل شيء واحد ولا يجوز أن يحصل حقيقة الشيء مرتين كما تعلم انتهى. فثبت بما ذكرناه أن ما هو بريء الذات عن علائق المواد وله وجود صوري ذاته له لا للمادة ولا لغيرها. فذاته غير محتجبة عن ذاته بل نفس وجوده نفس كونه معقولا
187 وذاته بعينها هي الصورة العقلية من ذاته لذاته. فكما أن الحرارة القائمة بالنار حرارة لها وإذا فرضت قائمة بذاتها. كانت حارة بنفسها حرارة لذاتها لا لشيء آخر والضوء القائم بالشمس إذا تجرد وقام بذاته كان مضيئا بنفسه وضوءا لذاته لا لشيء آخر. كذلك الصورة المجردة ما دامت قائمة بذاتها لم تنسلخ عن المعقولية بل كانت معقول نفسه وعقل ذاته. وكما أن المعلوم العيني يعلم بالصورة العلمية والصورة العلمية تعلم بنفسها لا بصورة علمية أخرى. فكذلك الأشياء التي هي غير القوة العقلية إنما تعقل بقوة عقلية والقوة العقلية نفسها تعقل بنفسها لا بقوة عقلية أخرى. فبتمهيد هذه المقدمات فضلا عن شهادة الفحص البالغ والحدس الصحيح بل الفطرة السليمة وضرب من التتبع ونوع من التجارب والاعتبار تحقق وتبين أن العلم إنما هو حصول شيء معرى عما يلابسه لأمر مجرد مستقل في الوجود بنفسه أو بصورته حصولا حقيقيا أو حكميا. فواجب الوجود لما كان في أعلى غايات التجرد عن المواد والتقدس عن الغواشي الهيولانية وسائر ما يجعل الماهية بحالة زائدة كان عاقلا لذاته. ولما كان إنيته حقيقته أي وجوده ماهيته فكما لا يزيد علمه بذاته على وجوده فكذلك لا يزيد على حقيقته بخلاف الجواهر المفارقة الذوات فعلومها بذواتها وإن لم يزد على وجوداتها لما ذكرنا من المساوقة بين العلم والوجود المفارقي سواء كان بالذات أو بتجريد مجرد لكن يزيد على ماهيتها إذ ليست الإنية فيها عين الماهية. فعلم الوجود الحق بذاته أتم العلوم وأشدها نورية وأقدسها بل لا نسبة لعلمه بذاته إلى علوم ما سواه بذواتها كما لا نسبة بين وجوده ووجودات الأشياء حيث هو وراء ما لا يتناهى بما لا يتناهى. وكما أن مناط الموجودية ومصداق حمل الوجود على الممكنات إنما هو ارتباطها بالموجود الحق وهي مع قطع النظر عن ذلك الارتباط والانتساب هالكات الذوات باطلات الحقائق فكذلك مناط عالميتها بنفسها أو بغيرها ارتباطها إلى نور الأنوار جلت عظمته استضاءتها به. فنسبتها إليه تعالى نسبة الأجسام الكثيفة إلى نور
188 الشمس لو كان متذوتة قائما بنفسه فهي مظلمة بذواتها مستضيئة بلمعان نوره الغير المتناهي شدة وقوة. ولشدة نوريته وقوة إشراقه وإفراط ظهوره تتجافى عنه الحواس وتنبو منه القوى فلا تدركه الأبصار ولا تمثله الأفكار ولا تنفذ فيه الأوهام ولا تصل إلى إدراكه عقول الأنام. تنبيه أ ما قرع سمعك ما تقرر في الفلسفة الأولى أن كل شيء حكم العقل أنه كمال لموجود من حيث هو موجود من غير تخصيصه بتجسم وتقدر وتركب وتكثر ويمكن على الموجود الحق بالإمكان العامي فيجب له لا محالة لأنه كلما فرضناه كمالا للموجود من حيث هو موجود ولا يوجب تجسما أو تركبا حتى يمتنع عليه ولا يمكن بالإمكان الخاص شيء عليه إذ ليس في ذاته جهة إمكانية فمثل ذلك الشيء واجب الحصول له تعالى. وأيضا يمتنع أن يكون مفيض الكمال قاصرا عنه فيصير المستوهب أشرف من الواهب والمستفيد أكرم من المفيد إذ الفطرة تأباه. فإذا كان العلم وغيره من الكمالات المضاهية له مما لا يوجب تخصيص الموصوف بها بتجسم وتكثر فلا يمتنع عليه تعالى. ولما لم يكن في ذاته جهة جواز وقوة بل هناك وجوب صرف وفعلية محضة فيجب له لا محالة. وحيث سبق أن مبدع الأشياء على الإطلاق هو ذاته تعالى ومن جملة ما يستند إليه هي الذوات العالمة والصور العلمية والمفيض لكل شيء أو في كل كمال غير متكثر لئلا يقصر معطي الكمال عنه فكان الواجب عالما وعلمه لا يزيد على ذاته كما مر. فصل في علمه تعالى بما سواه: قد تحقق في العلوم الكلية أن كلما علم علته التامة بكنهها أو بحيثية كونها علة
189 لا أظنك أن تفهم من هذه العلية الإضافية المتأخرة من العلة والمعلول بل المراد الحيثية التي هي بها علة تامة فلا محالة قد علم المعلول أيضا علما تاما. بل العلم التام بذوات الأسباب إنما يحصل من جهة العلم بأسبابها المتأدية إليها من الحيثية التي بها يحصل التأدية. فكل من تعقل سببا تاما لمعلول ما أي بكنهه أو تعقله بوجهه الذي ينشأ منه المعلول فكذلك يعقل المعلول عقلا تاما فإن المعلول بعينه من لوازم ذات العلة التامة. فالعلم التام بها يوجب العلم التام به بخلاف العكس فإن المعلول بما هو معلول إنما يستوجب علة واحدة لوجوده أية علة كانت لا علة معينة بعينها. ومعلول الشيء لا يجب أن يكون معلوله بعينه بخلاف علته فإن علته يجب أن يكون علته بعينه. فليس العلم التام بالمعلول يقتضي علما تاما بعلته والعلم بالعلة يفيد العلم بماهية المعلول وإنيته. والعلم بالمعلول لا يفيد إلا العلم بإنية العلة. ولذلك أفضل البراهين وأوثقها وأحقها بإعطاء اليقين هو النمط اللمي. إذا تمهد ذلك فنقول: لما ثبت كون الواجب تعالى عالما بذاته لزم كونه عالما بجميع الموجودات فإن ذاته علة موجبة لجميع ما عداه ومبدأ لفيضان كل إدراك حسيا كان أو عقليا. ومنشأ لكل ظهور ذهنيا كان أو عينيا إما بدون واسطة أو بواسطة هي منه. والعلم التام بالعلة الموجبة يستلزم العلم التام بمعلولها. فلزم كونه تعالى عالما بجميع المعلومات ألا يعلم من خلق و هو اللطيف الخبير. وأما كيفية علمه بالأشياء بحيث لا يلزم منه الإيجاب ولا كونه فاعلا وقابلا وكثرة في ذاته بوجه تعالى عنه علوا كبيرا فاعلم أنها من أغمض المسائل الحكمية قل من يهتدي إليها سبيلا ولم يزل قدمه فيها حتى الشيخ الرئيس أبي علي بن سينا مع براعته وذكائه الذي لم يعدل به ذكاء والشيخ الإلهي صاحب الإشراق مع صفائه في الذهن وكثرة ارتياضه بالحكمة ومرتبة كشفه وغيرهما من الفائقين في العلم. وإذا كان هذا حال
190 أمثالهم فكيف من دونهم من أسراء عالم الحواس مع غش الطبيعة ومخالطتها ولعمري إن إصابة مثل هذا الأمر الجليل على الوجه الحق الذي هو يوافق الأصول الحكمية ويطابق القواعد الدينية متبرئا عن المناقضات ومنزها عن المؤاخذات في أعلى طبقات القوى الفكرية البشرية وهو بالحقيقة تمام الحكمة الحقة الإلهية. ولصعوبة هذا المطلب وغموضه أنكر بعض الأقدمين من الفلاسفة علمه بشيء فضلوا ضلالا بعيدا وخسروا خسرانا مبينا. فما أشنع وأبعد من أن يدعي مخلوق لنفسه الإحاطة العلمية بجلائل الملك ودقائقه وأسرار الملكوت وحقائقه بفكره ورأيه على ما هو شأن الفلاسفة ويسلب العلم بشيء من الأشياء من خالقه الحكيم العليم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض ويجعله أنزل من الحيوانات العجم التي تعلم كثيرا من الأشياء تعالى عما يقوله الظالمون علوا كبيرا. ومن أثبت علمه تعالى بالموجودات فهو إما أن يقول إنه منفصل عن ذاته أو لا. والقائل بانفصاله إما أن يقول بثبوت المعدومات سواء نسبها إلى الخارج كالمعتزلة أو إلى الذهن كبعض مشايخ الصوفية مثل الشيخ العارف المحقق محيي الدين العربي والشيخ الكامل صدر الدين القونوي على ما نقل عنهم العلامة الدواني في شرح الرباعية وهو الظاهر من كلام الشيخ العربي في باب السابع والخمسين وثلاثمائة من الفتوحات المكية المعقود لمعرفة منزل البهائم حيث قال: أعيان الممكنات في حال عدمها رائية ومرئية وسامعة ومسموعة برؤية ثبوتية وسمع ثبوتي وما لها وجود. فعين الحق سبحانه ما شاء من تلك الأعيان فوجه عليه دون غيره من أمثال قوله المعبر عنه باللسان العربي المترجم عنه ب كن فأسمعه أمره فبادر المأمور فتكون عن كلمته لا بل كان عين كلمته ولم يزل الممكنات في حال عدمها الأزلي لها تعرف الواجب الوجود لذاته ويسبحه ويمجده بتسبيح أزلي وتمجيد قديم ذاتي ولا عين لها موجود. انتهى.
191 أو يقول بأن علمه تعالى بالأشياء صور خارجية قائمة بذواتها منفصلة عنه تعالى وعن الأشياء وهي المثل الأفلاطونية على ما هو المشهور. أو يقول بأن علمه بها نفس وجوداتها العينية كما اختاره الشيخ الإشراقي ومتابعوه كالمحقق الطوسي وشارح التلويحات والعلامة الشهرزوري. والقائل بعدم انفصاله إما أن يقول أنه غير ذاته تعالى وهو الظاهر من كلام الشيخين الفارابي وأبي علي. أو يقول إنه عين ذاته. والقائل بأن علمه بالأشياء عين ذاته إما أن يقول إن ذاته يتحد بالصور العقلية كفرفوريوس وأتباعه من المشائين. أو يقول إن ذاته علم إجمالي بجميع ما عداه. أو يقول إنه علم تفصيلي ببعض وإجمالى ببعض آخر. فهذه ثمانية احتمالات ذهب إلى كل منها ذاهب. وأنا أذكر واحدا واحدا من المذاهب والاحتمالات وما يرد على كل منها وكيفية التفصي عن بعضها بقدر الإمكان بوجوه مشتملة على تصورات غريبة لطيفة مفيدة للذهن الاقتدار على لطائف الأفكار ودقائق الأسرار. ثم أعين ما هو أقرب إلى الصواب بل الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه كما سيظهر على ذوي الألباب عند تميز القشر عن اللباب. وأقول وبالله التوفيق: أما ما ذهب إليه المعتزلة القائلين بثبوت المعدومات. فالكتب الحكمية والكلامية مشحونة بإبطال شيئية المعدوم وسائر هوساتهم. ومن العجيب أن الوجود عندهم يفيده الفاعل وهو ليس بموجود ولا معدوم فلا يفيد الفاعل وجود الوجود مع أنه كان يعود الكلام إليه ولا يفيد ثباته فإنه كان ثابتا بإمكانه في نفسه فما أفاد الفاعل للماهيات شيئا. فعطلوا العالم عن الصانع. وقال بعض العلماء: إن هؤلاء قوم نبغوا في ملة الإسلام ومالوا إلى الأمور العقلية وما كانت لهم أفكار سليمة ولا حصل لهم ما حصل للصوفية من الأمور الذوقية ووقع بأيديهم كما نقل جماعة في عهد بني أمية من كتب قوم كانت أساميهم يشبه أسامي
192 الفلاسفة. فظن القوم أن كل اسم يوناني هو اسم فيلسوف فوجدوا فيها كلمات استحسنوها وذهبوا إليها وفرعوها رغبة في الفلسفة وانتشرت في الأرض وهم فرحون بها. وتبعهم جماعة من المتأخرين وخالفوهم في بعض الأشياء إلا أن كلهم إنما غلطوا بسبب ما سمعوا من أسامي هائلة يونانية لجماعة صنفوا كتبا يتوهم أن فيها فلسفة وما خرجت الفلسفة من اليونان إلا بعد انتشار عامتهم وخطبائهم. انتهى. وأما ما نقل عن أولئك الأعلام من الصوفية فيرد عليها ما يرد على مذهب المعتزلة بأن ثبوت المعدومات وتميزها غير صحيح بالضرورة سواء نسب إلى الخارج أو إلى الذهن وسواء كانت معدومات مطلقة أو صارت موجودة بعد عدمها في وقت من الأوقات. والتفرقة تحكم بحت. وأما مذهب القائلين بالمثل كأفلاطون ومن تبعه على ما هو المشهور فيرد عليه ما أورده المعلم الأول وأتباعه كالشيخ الرئيس في إلهيات الشفا. وأيضا لا ريب أن تلك الصور موجودات عينية لا ذهنية. فننقل الكلام إلى كيفية علمه تعالى بتلك الصور العينية قبل كونها فيلزم التسلسل أو القول بأن بعض الموجودات يصدر عنه تعالى بلا علم به متقدم عليه. وقد هرب هذا القائل من القول بذلك إلى القول بالمثل فقد وقع فيما هرب عنه. كيف ومن المستنكر أن يكون الباري تعالى محتاجا في إيجاد الموجودات إلى مثل لتكون دستورات لفعله وبرنامجات لصنعه. وأما القول باتحاد العاقل بالصور العقلية على الوجه المشهور المذكور الذي يفهمه الجمهور. فقد اعتنى الشيخ بيان استحالته وأبطل هو وغيره القول به بأن شيئا لا يصير شيئا آخر فإنه إن بقي الأول مع حصول الثاني فهما اثنان وإن بطل الأول وحصل
193 الثاني أو بقي الأول ولم يحصل الثاني فما صار أحدهما الآخر وهذا ظاهر. وأما على الوجه الذي سيقرع سمعك القول به في مباحث النفس فهو نمط حققته أنا وقد تفردت باستنباطه بناء على أصول مقررة عندي فهو نمط آخر من الكلام لا يصل إليه أفهام جماهير الأنام لأنه مرتقى عال ومقصد شريف غال ويحتاج دركه إلى فطرة ثانية بل ثالثة. وشنع الشيخ على من ينسب إليه هذا القول قائلا في الإشارات: وكان لهم رجل يدعي بفرفوريوس عمل في العقل والمعقولات كتابا يثني عليه المشاؤون وهو حشف كله وهم يعلمون أنهم لا يفهمونه ولا فرفوريوس نفسه وقد ناقضه من أهل زمانه رجل ناقض هو ذلك المناقض بما هو أسقط من الأول. وفي الشفا بعد ما أبطل القول بأن ذات النفس تصير هي المعقولات: إن أكثر ما هو بين الناس في هذا هو الذي صنف لهم إيساغوجي وكان حريصا على أن يتكلم بأقوال مخيلة صوفية ويقتصر منها لنفسه ولغيره على التخيل ويدل أهل التمييز في ذلك كتبه في العقل والمعقولات وكتبه في النفس انتهى. ثم إنه قد رجع عن هذا الإنكار والتشنيع وأقام الحجة على ثبوت الاتحاد في كتاب المبدإ والمعاد. اعتذر بعض المحققين عن هذا التناقض في كلامه بأن غرضه في ذلك الكتاب تقرير المقاصد على طريقة أتباع المشائين دون ما هو الحق عنده وانعقد عليه رأيه. وهذا عندي مستبعد جدا على ما هو عادة الشيخ ودأبه في الأقوال والآراء. إذ قلما رأينا أن يحيد عن الحق الصريح إلى ما هو الباطل الصرف عنده في أشياء مهمة حكمية كمباحث العقل والمعقول فإن معرفتهما من المهمات العلمية. ولا يبعد القول بأنه كان ممن وجد رائحة الصواب من القول باتحاد العقل والمعقول في إدراك العقل الهيولاني للمعقولات على حسب ما حققناه كما سيجيء في موضعه إن شاء الله تعالى.
194 وقال بعض العلماء موافقا لما ذكره الشيخ الرئيس: ومما يبطل هذا الرأي أنه يلزم تبدل جوهر النفس حين انتقالها من معقول إلى معقول آخر وليس كذلك فإن الجوهر الشاعر بذاته منا هو هو في كل حين قبل إدراك شيء ومعه وبعده. وما يقولون إن الماء صار هواء والأبيض صار أسود معناه أن مادة الماء انسلخت عنها الصورة المائية وتصورت بصورة الهوائية والحامل لوصف الأبيضية زال عنه البياض وحصل فيه السواد والقابل في الحالين شيء واحد انتهى كلامه. وستعلم جلية الحال وكنه المقال وتلخيص الصواب وتمييز القشر عن اللباب في مباحث النفس في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وأما القول بارتسام صورة الأشياء في ذاته تعالى فتقريره على ما يستفاد من كتب مقدم المشائين أرسطاطاليس ووافقه كلام الشيخ الرئيس في أكثر كتبه هو أن الصورة العقلية قد يؤخذ عن الصورة الموجودة كما يستفاد من السماء بالرصد والحس صورتها المعقولة. وقد لا يكون الصورة المعقولة مأخوذة عن الموجودة بل ربما يكون الأمر بالعكس كصورة بيت أبدعها البناء أولا في ذهنه ثم يصير تلك الصورة المعقولة محركة لأعضائه إلى أن يوجدها فليست تلك الصورة وجدت فعقلت بل عقلت فوجدت. إذا تمهد هذا فنقول: لما كانت نسبة جميع الأمور إلى الله تعالى كنسبة المصنوع إلى نفس الصانع لو كانت تامة الفاعلية فقياس عقل واجب الوجود للأشياء هو قياس أفكارنا للأمور التي نستنبطها ثم نوجدها من حيث إن المعقول منها سبب للوجود. والفرق بأنا لكوننا ناقصين في الفاعلية نحتاج في أفاعيلنا الاختيارية إلى انبعاث شوق واستخدام قوة محركة واستعمال آلة تحريكية وانقياد مادة لقبول تلك الصورة. والأول تعالى لكونه تام الفاعلية غنيا عما سواه لا يحتاج فاعليته إلى أمر خارج بل إنما أمره
195 إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فإنه يعقل ذاته وما يوجبه ذاته ويعلم من ذاته كيفية الجزئية في الكل فيتبع صور الموجودات الخارجية الصور المعقولة عنده على نحو النظام المعقول عنده فالعالم الكياني بإزاء العالم الرباني والعالم الرباني عظيم جدا والعالم الرباني بإزاء العالم الربوبي فالعالم الربوبي عظيم جدا. وربما يستدل على كون علمه تعالى بالأشياء بالصور الحاصلة في ذاته بأنه تعالى يعلم ذاته وذاته سبب تام للأشياء والعلم بالسبب التام للشيء يوجب العلم بذلك الشيء فذاته تعالى يعلم جميع الأشياء أزلا. ففي الأزل إن لم يكن للأشياء وجود أصلا لا عينا ولا صورة لم يتحقق العلم بها إذ العلم يستدعي التعلق بين العالم والمعلوم سواء كان نفس التعلق والإضافة أو صفة موجبة لهما. والتعلق بين العاقل والمعدوم الصرف محال لاستيجاب النسبة تحقق الطرفين بوجه لكن يمتنع تحقق العالم في الأزل بالوجود الخارجي وإلا لزم قدم الحوادث. فبقي كونها موجودة بالوجود الصوري عند الباري قبل وجودها العيني لا بوجود مباين عن ذاته ليلزم المثل الأفلاطونية بل بوجودات قائمة بذاته تعالى وهو المراد. وفيه أنه منقوض بالقدرة الإلهية الأزلية المتعلقة بالحوادث المقتضية لنسبة ما بين القادر والمقدور مع عدم توقفها على وجود المقدور ضرورة واتفاقا. واعترض عليه بعض الأزكياء بأن مثل هذه النسبة لا يقتضي وجود الطرفين تحقيقا بل يكفي فيها الوجود التقديري إذ النسبة في التحقيق تقديرية. ثم قال: فالوجه أن يقال النسبة وإن لم يقتض تحقق الطرفين بالفعل لكن تحقق العلم يقتضيه لأن العلم يستلزم انكشاف المعلوم عند العالم والمعدوم الصرف لا تميز له أصلا. انتهى. أقول: إن الفرق بين القدرة والعلم في حق الله تعالى بكون أحدهما يستدعي التعلق دون الآخر غير صحيح لما سبق من كون صفاته الحقيقية كلها معنى واحدا
196 وحقيقة واحدة هي ذاته الأحدية. ولا يجوز قياس قدرته تعالى على قدرة الإنسان. فإن القدرة فينا نفس القوة واستعداد الفاعلية. وفي الواجب تعالى لبراءته عن شائبة الإمكان والاستعداد محض الفعل والتحصيل. فوزان علمه تعالى وقدرته في تعلقهما بالممكنات واحد من غير تفاوت. واستدل أيضا على أن عالميته تعالى بالأشياء بنحو الانتقاش بأن الباري لو كان يعقل الأشياء لكانت وجوداتها متقدمة على كونه عاقلا للأشياء فلا يكون واجب الوجود من جميع الجهات وقد سبق أن واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الوجوه ويكون في ذاته وقوامه أن يقبل معقولات الأشياء وكان فيه عدمها باعتبار ذاته فيكون ذاته بذاته عادما لمعقولات من شأنه حصولها فيه. ففيه إذن جهة إمكانية وكان لغيره مدخل في تتميم ذاته وهذا محال. فيجب أن يكون له من ذاته الأمر الأكمل لا من غيره. فقد بقي أن يكون علمه بالممكنات حاصلا له تعالى قبل وجودها. هذا حاصل ما قالوه في علم الله تعالى والاعتراض عليه من وجوه: الأول ما أورده أبو البركات البغدادي من أن قولهم لو كان علمه تعالى مستفادا من الأشياء لكان لغيره مدخل في تتميم ذاته منقوض بكونه تعالى فاعلا للأشياء فإن فاعليته لها إنما يتم بصدور الفعل عنه فيجب أن يكون لفعله مدخل في تتميم ذاته وذلك باطل فيلزم نفي كونه فاعلا للأشياء. فكما أن هذا الكلام باطل فكذا ما قالوه. أقول: الفاعلية وكذا العلم والقدرة ونحوها قد يطلق ويراد بها نفس المعنى الإضافي. ولا شك في أنها بهذا الاعتبار متأخرة عن وجود ما أضيفت هي إليه مستفادة منه. وقد يطلق ويراد بها مبادئ تلك الإضافات وهي متقدمة على وجود ما تعلقت هي به وليست تلك المعاني بالاعتبار الأول صفة كمالية لذات الواجب تعالى بل
197 بالاعتبار الثاني. فإن فاعليته تعالى كونه بحيث يتبع وجوده وجود جميع الأشياء الموجودات وعالميته كونه بحيث ينكشف له الأشياء. وعلى هذا فقس الصفات الكمالية له فكما أن فاعليته الحقيقية لا يتوقف على وجود الفعل لأن وجود الفعل يتوقف على كونه فاعلا فلو كان بالعكس أيضا لزم الدور. فوزانه في علمه تعالى أن يجعل المعلوم تبعا للعلم لا العلم تبعا للمعلوم. الثاني ما أفاده المحقق الطوسي وتصدى لتبين مفاسد القول بارتسام صور الأشياء في ذاته تعالى من أنه لا شك في أن القول بتقرير لوازم الأول في ذاته قول بكون الشيء الواحد فاعلا وقابلا معا. وقول بكون الأول موصوفا بصفات غير إضافية ولا سلبية. وقول بكون الله تعالى محلا لمعلوماته الممكنة المتكثرة تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وقول بأن المعلول الأول غير مباين لذاته تعالى. وبأنه لا يوجد شيئا مما يباينه بذاته بل بتوسط الأمور الحالة فيه إلى غير ذلك مما يخالف الظاهر من مذاهب الحكماء والقدماء القائلين بنفي العلم عنه تعالى. وأفلاطون القائل بقيام الصور المعقولة بذاتها والمشاؤون القائلون باتحاد العاقل والمعقول والمعتزلة القائلين بثبوت المعدومات إنما ارتكبوا تلك المحالات حذرا من التزام هذه المعاني. أقول: في كلام ذلك المحقق نظر أما في التزامه كون ذات الباري على التقدير المذكور فاعلا وقابلا فهو إن أراد بالقبول مطلق اتصاف اللزومي فبطلانه ممنوع على ما مر سابقا وظني أنه ما نهض شيء من الدلائل المشهورة على بطلان كون البسيط فاعلا وقابلا. إلا أن يراد بالقبول الانفعال التجددي أو التأثر من الغير لانتقاضها بلوازم الماهيات البسيطة كما مضى ذكره. وحينئذ فلا فرق بين وجودها فيها ووجودها عنها. فلوازمه تعالى التي هي معقولاته إنما هي عنه وفيه بلا تفاوت. وإن أراد معنى الآخر فلزومه غير مسلم لكونه غير بين ولا مبين. وأما التزام اتصافه تعالى بصفات حقيقية فهو إنما يتأتى لو كانت الصور العقلية القائمة بذاته تعالى صفات كمالية له بل قالوا إن ذاته تعالى وإن كانت محلا لتلك الصور العلمية لكن لا يتصف بها ولا يكون هي كمالات لذاته تعالى وليس علو الأول ومجده بعقله للأشياء بل بأن يفيض عنه
198 الأشياء معقولة. فيكون علوه ومجده بذاته لا بلوازمه التي هي المعقولات. وذكر بهمنيار هذا المعنى بقوله: واللازم التي هي معقولاته تعالى وإن كانت أعراضا موجودة فيه فليس مما يتصف بها أو ينفعل عنها فإن كونه واجب الوجود بذاته هو بعينه كونه مبدءا للوازمه أي معقولاته بل ما يصدر عنه إنما يصدر عنه بعد وجوده وجودا تاما. وإنما يمتنع أن يكون ذاته محلا لأعراض ينفعل عنها أو يستكمل بها أو يتصف بها بل كماله في أنه بحيث يصدر عنه هذه اللوازم لا في أنه توجد له. فإذا وصف بأنه يعقل هذه الأمور فإنه يوصف به لأنه يصدر عنه هذه لا لأنه محلها. وأما لزوم مفسدة الكثرة في ذاته تعالى فدفعه الشيخ في عدة مواضع من كتاب التعليقات وغيرها بما حاصله: أن هذه الكثرة إنما هو بعد الذات الأحدية بترتيب سببي ومسببي لا زماني فلا ينثلم بها وحدة الذات. ألا ترى أن صدور الموجودات المتكثرة عنه تعالى لا يقدح في بساطة الحق لكونها صادرة عنه على الترتيب العلي والمعلولي فكذلك معقولاته المفصلة الكثيرة إنما تترتب عنه على وجه لا ينثلم الوحدة الصرفة. فتلك الكثرة ترتقي إليه وتجتمع في واحد محض. فهي مع كثرتها اشتملت عليها أحدية الذات إذ الترتيب يجتمع الكثرة في واحد كما أشار إليه المعلم الثاني بقوله: واجب الوجود مبدأ كل فيض وهو ظاهر على ذاته بذاته. فله الكل من حيث لا كثرة فيه فهو ينال الكل من ذاته. فعلمه بالكل بعد ذاته وعلمه بذاته ويتحد الكل بالنسبة إلى ذاته فهو الكل في وحدة. وأما لزوم كون المعلول الأول غير مباين لذاته إن أراد بعدم مباينة المعلول الأول له تعالى قيام صورته بذاته تعالى فهو عين محل النزاع فلا يكون حجة على القائلين بأن العلم الرباني إنما هو بالصور المعقولة المرتسمة في ذاته تعالى مع مباينة ذواتها لذاته المقدسة. وإن أراد به كون صورته عين الواجب بناء على أن صدور كل معلول عنه تعالى إنما هو بتوسط صورته السابقة عليه فلو لم يكن صورة المعلول الأول عين حقيقة الواجب لزم التسلسل. فإنه إذا كان كل صورة وجدت عنه لأنها عقلت فلا يخلو إما أن يكون قبل كل صورة عقلية صورة أخرى فالكلام كما قلناه. وإما أن
199 لا يكون كذلك فكأنا قلنا عقلت لأنها عقلت أو وجدت عنه لأنها وجدت عنه فهو باطل. فجوابه ما وجد في كتب الشيخين أبي نصر وأبي علي تفصيا عن هذا من أن هذه الصور المعقولة نفس وجودها عنه نفس عقله لها لا تمايز بين الحالتين ولا ترتب لإحداهما على الأخرى فهي من حيث هي موجودة معقولة ومن حيث هي معقولة موجودة. والحاصل أن إيجاده تعالى تلك الصور عين علمه بها فلا حاجة إلى إثبات علم آخر لأن كل إيجاد لا يكون نفس العلم فيحتاج في وقوعه عن الفاعل المختار إلى علم سابق وتصور يكون مبدأ ذلك الإيجاد. وأما إذا كان نفس الإيجاد نفس العلم فلا يتوقف على علم آخر به يتحقق هذا العلم الذي هو نفس الإيجاد. الثالث أنه يلزم على القول بارتسام الصور في ذاته تعالى على الترتيب العلي أن يكون ذاته منفعلا عن الصورة الأولى إذ هي علة استكماله تعالى بحصوله صورة ثانية. لا يقال: الصور وإن كانت في ذاته فليست كمالا له. لأنا نقول: هي من حيث كونها في ذاتها لما كانت ممكنة الوجود لا يكون حصولها بالفعل بل بالقوة. ولا شك أن كون ذاته بالقوة نقصا لذاته وانتفاء القوة إنما يكون بوجودها. فيكون وجودها كمالا له. ومزيل النقص مكمل. فالصور السابق يكون مكملة وذاته مستكملة. والمكمل أشرف من المستكمل مع أن ذاته أشرف من كل شيء جدا. هذا حاصل ما ناقضهم صاحب المطارحات. وأقول: فيه بحث أما أولا فلانتقاضه في صورة صدور الموجودات الخارجية عنه تعالى لإجراء خلاصة الدليل فيه كما يظهر بعد التأمل. أما ثانيا فلأنا نقول: فعلية تلك الأشياء من جهة المبدإ ووجوبها مرتب على وجوبه وليس هناك فقد ولا قوة أصلا ولا لتلك الأشياء إمكان من الجهة المنسوبة إلى مبدئها الأعلى. والانفعال إنما يلزم لو انتقل ذاته من معقول إلى معقول كما في العلوم
200 النفسانية أو يفيض المعقولات على ذاته من غيره كما في علوم المبادئ. وأما إذا كانت المعقولات لازمة لذاته كما في لوازم الماهيات البسيطة فلا يلزم من الانفعال شيء. ومما يؤيد مذهب القائلين بالصور في علم الله تعالى قول إنكسيمانس الملطى حيث قال: إن كل مبدع ظهرت صورته في حد الإبداع فقد كانت صورته في علم مبدعة الأول. والصور عنده غير متناهية. ثم قال: ولا يجوز في الرأي إلا أحد القولين: إما أن نقول أبدع ما في علمه وإما أن نقول أبدع أشياء لا يعلمها وهذا من القول المستشنع. وإن قلنا أبدع ما في علمه فالصورة أزلية بأزليته وليس يتكثر ذاته بتكثر المعلومات ولا يتغير بتغيرها. انتهى كلامه. واعترض عليه بعض المحققين من وجهين: أحدهما أنه لم يتعرض لكيفية فيضان هذه الصور من الذات من كونه بالعلم المقدم أولا. وعلى الأول يرد عليه أن العلم المقدم الذي هو عين الذات دفعا للتسلسل كاف في العلم بالموجودات العينية. فما الدليل على فيضان الصور العلمية قبل الإيجاد العيني وعلى الثاني يرد عليه أن هذا قول بأن الله تعالى أبدع أشياء لا يعلمها وهذا قول مستشنع كما ذكره ذلك الفيلسوف. وثانيهما أنه يرد عليه أن هذه الصور إما جواهر أو أعراض فإن كان الأول لزم أن يكون موجودات عينية لا بد لها من صور آخر للعلم بها. والكلام في ذلك كالكلام في أصل الصور. وإن كان الثاني لزم أن يكون الواجب الوجود بالذات محلا لها وفاعلا لها. والقول بكون الواجب بالذات فاعلا لها لا محلا لها لكونه غير متأثر عنها قول بكونها جواهر كباقي الممكنات ولا خفاء أيضا في أن علم واجب الوجود باعتبار هذه الصور ليس علما كماليا ذاتيا لكونه تابعا لفيضان تلك الصور فعلى تقدير انحصار العلم المتقدم في فيضان الصور المنكشفة لزم أن لا يكون للذات علم هو كمال ذاتي غير تابع للتأثير والحق تحققه كما مر. انتهى كلامه.
201 أقول: فيه بحث من وجوه: الأول أن العلم الإجمالي غير كاف لصدور الموجودات العينية عنه تعالى إلا عند من يجعل علمه بالأشياء الخارجية بمجرد الإضافة الإشراقية الوجودية والقائلون به جماعة أخرى غير المشائين وأتباعهم. أ ولا ترى أن الشيخ الرئيس مع إثباته العلم الإجمالي الكمالي الذي هو عين ذاته كما يظهر بمراجعة كتبه لا يكتفي به لصدور الموجودات الخارجية عنه تعالى بل يثبت له الصور المفصلة العقلية. الثاني أنه قد سبق أن علمه تعالى بتلك الصور القائمة بذاته عين إيجاده لها بلا اختلاف وأن العلم إذا كان عين الإيجاد والمعلوم عين المعلول لا حاجة في صدوره عن الفاعل بعلم وإرادة إلى علم سابق تفصيلي. فلا يتأتى قوله وهذا قول بأن الله أبدع أشياء لا يعلمها.. الثالث أن قوله هذه الصور إما جواهر أو أعراض إلى آخره غير متوجه فإن جواهرها جواهر لكنها ليست جواهر بحسب الوجود العيني بل جواهر علمية. فلا يستدعي العلم بها صورة أخرى كما مر. والكل باعتبار الوجود العلمي أعراض قائمة بذاته لكن ذاته لا يتأثر عنها ولا ينفعل بها كما سبق تصويره. الرابع أن استدلاله على أن علم البارىء بهذه الصور ليس علما كماليا بكونه تابعا لفيضان تلك الصور غير صحيح لما سبق مرارا من أن علمه تعالى بتلك الصور عين فيضانها عنه لا أنه تابع لذلك. وإن كان مراده أن نفس تلك الصور ليست كمالا له فنقول: من الذي أنكر هذا فإن الفلاسفة القائلين بالصور في علمه تعالى ينادون أن وجود تلك الصور ليس كمالا له بل كماله في أنه يتبع عقله لذاته عقله للأشياء الخارجة عن ذاته. الخامس أن قوله فعلى تقدير انحصار العلم المقدم في فيضان الصور المنكشفة لزم أن لا يكون للذات علم هو كمال ذاتي. ليس بقادح فيما هم بصدده. إذ لا ينحصر
202 علمه تعالى عندهم في الصور بل يثبتون للباري علما كماليا هو عين ذاته وهو العقل البسيط الذي هو مبدأ المعقولات المفصلة. وكيف ينكر أحد من معتبري الفلاسفة كون ذاته تعالى بحيث يصدر عنه المعقولات مفصلة سواء كانت عينية أو ذهنية كما ستعلم. فهذه جملة من أقوال القادحين في تقرير رسوم المعقولات في ذاته تعالى مع ما سنح لنا من الدفع والإتمام والنقض والإبرام. وأما الذي أعتقده أنا صالحا لهدم هذه القاعدة فهو أمور: الأول ما ألهمت به وهو أنا نقول أولا إن العلم التام بشيء من أنحاء الوجود لا يحصل إلا بمجرد حضور ذلك النحو من الوجود عند العالم دون حصول مثال له. وبعبارة أخرى: أفراد الموجودات الخارجية بما هي تلك الأفراد بعينها لا يمكن حصولها في الذهن وإلا لزم أن يكون الموجود الخارجي من حيث هو موجود خارجي وجودا ذهنيا. وأيضا لما علمت أن العلم الارتسامي إنما يكون بحصول صورة من ماهية الشيء في الذهن فلا بد من وحدة الماهية وانحفاظها وتعدد الوجود وهذا إنما يتصور إذا كانت تلك الماهية غير الوجود. وثانيا إن التأثير والتأثر والعلية والمعلولية عند المحصلين من المشائين ليس إلا في أنحاء الوجودات. بمعنى أن العلة من حيث وجودها مما يؤثر في المعلول من حيث وجوده. لا أن ماهية العلة من حيث هي هي مع عدم اعتبار وجودها علة لماهية المعلول كذلك اللهم إلا في لوازم الماهيات التي هي أمور اعتبارية. وثالثها أنه ليس معنى قولهم العلم التام بالعلة التامة يوجب العلم التام بالمعلول كما يظهر بالتأمل في برهانه أن العلم بماهية العلة التامة مطلقا يوجب العلم بالمعلول. ولا أن العلم بها من جميع الوجوه والحيثيات واللوازم والملزومات والعوارض والمعروضات يوجبه حتى يرد على الأول أن ذلك لا يجري في غير لوازم الماهيات. وعلى الثاني عدم الفرق بين العلة والمعلول في هذا الحكم
203 وعلى الأخير عدم الفائدة فيه. بل المراد منه العلم بتمام حقيقتها التي هي بها علة تامة. بحيث أية حيثية أخرى وأي قيد آخر أخذ يكون خارجا عما هو العلة التامة وإلا لم يكن ما فرض علة تامة. وهكذا يجري الكلام في انضمام الجهات والحيثيات التي لها مدخل في علته إلى أن ينتهي إلى شيء هو لذاته موجب تام. فإذا كان ذلك الشيء لذاته بلا اعتبار آخر علة موجبا لمعلول فمتى علم بعلم تام علم كونه لذلك المعلول. ومتى علم كونه علة لذلك المعلول وجب أن يحصل العلم بذلك المعلول. والحاصل أن كل معلول من لوازم ماهية علته التامة بما هي علة تامة فكذلك العلم به من لوازم ماهية العلم بعلته. فإن قيل: فيلزم أن يكون جميع المعلولات أمورا اعتبارية لما تقرر من أن لوازم الماهيات أمور اعتبارية. قلت: الماهيات على ضربين: ماهيات هي غير الإنيات ولا مأخوذة معها شيء منها وماهيات هي نفس الإنيات أو مأخوذة معها شيء منها. فلوازم الضرب الأول منها لا يكون إلا اعتبارية لعدم مدخلية الوجود في لزومها. بخلاف الضرب الآخر منها فإنها لوازم الوجود الخارجي الذي هو عين الماهية أو معتبر فيها وهي محيثة به. وإذا تمهدت هذه المقدمات فنقول: لما كان الواجب تعالى بوجوده الذي هو عين ذاته سببا تاما لوجودات جميع الممكنات وهو يعلم ذاته بمجرد وجوده الذي هو به علة فيجب أن يعلم منه معلولاته بما هي معلولاته أي بحسب كونها موجودة لا بمجرد ماهياتها من حيث هي هي مع قطع النظر عن خصوص وجوداتها. لأنها من تلك الحيثية فقط من غير اعتبار الوجود معها ليست معلولة كما علمت من طريقتهم. والعلم بها من حيث كونها صادرة موجودة في الخارج ليس إلا بنفس وجوداتها الخارجية لا بحصول ماهياتها في ذات العالم. فعلمه تعالى بجميع الأشياء ليس إلا بحضورها أنفسها لا بحصول صورة مطابقة لها ذهنية. فقد ثبت أن علمه بجميع الأشياء على الوجه الجزئي.
204 الثاني أنه لو كان علمه تعالى بالأشياء بحصول صورها في ذاته تعالى فلا يخلو: إما أن تلك اللوازم لوازم ذهنية له أو لوازم خارجية له أو لوازم له مع قطع النظر عن الوجودين. لا سبيل إلى الأول والثالث. إذ لا يتصور للواجب إلا نحو واحد من الوجود وهو الخارجي الذي هو عين ذاته تعالى واللوازم الخارجية لا يكون إلا حقائق خارجية لا ذهنية كما لا يخفى. إذ اللوازم من جهة اللزوم تابع للملزوم. وذلك خلاف ما فرضناه لأن الجواهر الحاصلة في ذاته تعالى على الفرض المذكور يكون جواهر ذهنية. وكذا الأعراض الحاصلة فيه تعالى. وإن كان الكل مما يعرض لها في الخارج مفهوم العرض كما سلف تحقيقه. فلا تذهل عنه. الثالث أنه يلزم على ذلك التقدير صدور الكثرة من الواحد لأن المعلول الأول إذا كان صدوره عن المبدإ الأول كما يقتضيه قاعدتهم هذه مشروطا بسبق صورته فيلزم أن يكون الصورة الأولى علة لحصول اللازم المباين ولحصول صورة أخرى. فيلزم أن يكون الواحد الحق باعتبار صورة واحدة وجهة واحدة يفعل فعلين مختلفين لا يقال: لعل ذاته من حيث ذاته علة لوجود المعلول الأول ومن حيث علمه بذاته علة لعلمه علمه بالمعلول الأول. لأنا نقول: فعلى هذا انفسخ قولهم بأن علمه بالأشياء علة لوجود الأشياء. إذ على التقدير المذكور وجود المعلول الأول وعلمه تعالى به في درجة واحدة. فلا يتقدم العلم على الإيجاد. وما حداهم إلى إثبات الصورة في ذاته تعالى إلا كون علمه تعالى بكل شيء سببا لوجود ذلك الشيء في الأعيان على ما سبق ذكره. فإذا لم يكن الصورة العقلية للمعلول الأول موجبا لوجوده فبطل أصل مذهبهم. وأيضا إذا كان ذاته تعالى علة لذات المعلول الأول وعقله لذاته علة لعقله المعلول الأول على اعترافهم وعلى ما هو الحق في الواقع فلا يخلو: إما أن يكون ذاته تعالى وعقله لذاته شيئا واحدا أو حيثية واحدة أو لا يكون كذلك. فعلى الثاني يلزم التكثر في ذاته وهو باطل. وعلى الأول يلزم أن يكون وجود المعلول الأول وعقل الواجب له شيئا واحدا وحيثية واحدة بلا اختلاف. إذ كما أن العلتين أمر واحد بلا اختلاف إلا
205 بحسب العبارة فكذلك المعلولان أمر واحد بالوجه المذكور من غير تغاير يقتضي مباينة أحدهما للأول واستقلاله في الوجود ومقارنة الثاني للواجب تعالى وحلوله فيه كما حققه العلامة الطوسي في شرح الإشارات. الوجه الرابع في إبطال ذلك الطريق: هو أن علمه تعالى بالأشياء لو كان بالصور القائمة بذاته تعالى وكل صورة عقلية ولو تخصصت بألف تخصيص لا يمتنع لذاتها الشركة فيها. لأن مناط الجزئية كما حقق في مقامه إما الإحساس أو العلم الحضوري. فيلزم أن لا يعلم الجزئيات بجزئيتها لا الكائنات الفاسدات ولا الإبداعيات إلا بصورها الذهنية ولا ينكشف ذواتها عنده تعالى باعتبار وجودها العيني. ونفي هذا النحو الشهود العيني عنه تعالى في غاية السخافة فإن جميع الموجودات الكلية والجزئية فائضة عنه وهو مبدأ لكل وجود عقليا كان أو حسيا ذهنيا كان أو عينيا. وفيضانها عنه لا ينفك عن انكشافها لديه كما مر ذكره. فمن قال: إن الواجب تعالى لا يعلم الجزئيات إلا على وجه كلي. فقد بعد عن الحق بعدا كثيرا وإن لم يلزم تكفيره كما زعم بعضهم فإنه ما نفى عنه تعالى العلم بأمر من الأمور بل إنما نفى عنه نحوا من أنحاء العلم الذي هو العلم الحضوري. وليس هذا من ضروريات الدين. ووصفه تعالى بالسميع والبصير وإن كان من ضروريات الدين لكن يمكن تأويله بالعلم بالمبصرات والمسموعات كما فعله جماعة من المتكلمين. والعجب من العلامة الطوسي مع تفطنه بذلك الأصل المتين والقاعدة القويمة التي أشرنا إليه كيف لم يتم أعماله في انكشاف جميع الأشياء الصادرة عنه تعالى بذواتها. بل اقتصر فيه على انكشاف العقول والصور العقلية للأشياء الكلية والجزئية عليه تعالى وجعل الصور القائمة بالجواهر العقلية مناطا لعلم الله تعالى بالماديات كما ستقف عليه وهو غير مرضي. بل الحق اطراد الحكم بالانكشاف الشهودي على جميع الأشياء المبدعة والكائنة المعقولة والمحسوسة سواء كانت ذوات العقلاء أو علومهم وسواء كانت القوى الخيالية أو الحسية أو إدراكاتها الخيالية أو الحسية. فإن جميعها إنما
206 يصدر عن الواجب تعالى منكشفة عنده فلا يعزب عنه شيء من الأشياء لا باعتبار الشهود العيني ولا باعتبار الثبوت الذهني كما قال الله تعالى: لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات و لا في الأرض. إشارة إلى النحو الأول. وقال تعالى: و لا أصغر من ذلك و لا أكبر إلا في كتاب مبين. إشارة إلى النحو الثاني. فإن قيل: فعلى ما ذكرت يلزم أن يكون للواجب علم لا يتغير وهو علمه بالأمور المتقدمة على الزمان والدهر. وعلم يتغير وهو علمه بالأمور الكائنة الفاسدة. والتغير في علمه تعالى مطلقا غير صحيح. قلنا: هذه الأشياء وإن كانت في ذواتها وبقياس بعضها إلى بعض متغيرة. لكنها بالنسبة إلى العوالي وما هو أعلى منها في درجة واحدة في الحضور كما مرت الإشارة إليه سابقا. ومنهم من ارتكب التغير في حضور الأشياء الكائنة الفاسدة وشهودها عند الواجب تعالى معتذرا بأن هذا التغير لا يوجب تغيرا في الذات ولا في العلم الكمالي الذاتي بل التغير إنما يكون في النسب والأوصاف الاعتبارية. ومثل ذلك مثل من اطلع على ما في كتاب دفعة ثم التفت إلى صفحة بعد صفحة. فإن العلم بما في الكتاب لا يتغير بحدوث تلك الالتفاتات (هذا) والعمدة ما ذكرناه أولا. فقد ثبت وتحقق من تضاعيف ما ذكرنا أن القول بإثبات الصور للواجب وتقرير رسوم المدركات فيه قول فاسد ورأي سخيف وتجاسر في حق المبدإ الأعلى جل كبرياؤه عن ذلك وعلا علوا كبيرا. وأما مذهب الشيخ الإشراق ومتابعيه في علمه تعالى فليعلم أنه أقرب إلى الحق من الأقوال السابقة وأقلها مفسدة وهو إثبات العلم له تعالى على قاعدة الإشراق. مبناها على أن علمه تعالى بذاته هو كونه نورا لذاته. وعلمه بالأشياء الصادرة عنه هو كونها ظاهرة له. إما بذواتها كالجواهر والأعراض الخارجية أو بمتعلقاتها التي هي
207 مواضع الشعور للأشياء الإدراكية مستمرة كانت كما في المدبرات العلوية الفلكية عقولها أو نفوسها أو غير مستمرة كما في القوى الحيوانية النطقية والخيالية والحسية. فعلمه تعالى محض إضافة إشراقية عنده. فواجب الوجود مستغن في علمه بالأشياء عن الصورة وله الإشراق والتسلط المطلق. فلا يحجبه شيء عن شيء فلا يحجب عنه شيء. وعلمه وبصره واحد وعلمه يرجع إلى بصره لا أن بصره يرجع إلى علمه كما في غير هذه القاعدة ونوريته نفس قدرته. فإن النور فياض لذاته بمعنى أن علمه بالأشياء نفس إيجاده لها كما أن وجود الأشياء عنه نفس حضورها لديه. فله إضافة الكمالية إلى جميع الأشياء فقط بها يصحح جميع الإضافات كالعالمية وغيرها. إذ هي عينها في التحقيق. فهذا مذهبه في علم الله تعالى. وبيانه على ما جرى بينه وبين إمام المشائين في الخلسة الملكوتية إنما يتأتى بأن يبحث الإنسان أولا في علمه بذاته وعلمه بقواه وآلاته. ثم يرتقي إلى علم ما هو أشد تجردا بذاته وبالأشياء الصادرة عن ذاته. فيعلم منه أن علم المبدإ الأعلى ليس بالصور مطلقا بل بالمشاهدة الحضورية إذ قد تحقق أن النفس غير غائبة عن ذاتها. وإدراكها لذاتها لا يزيد على ذاتها. وإلا لم يشر إلى ذاتها ب (أنا). إذ كل صورة زائدة عليها وإن كانت قائمة بها فهي بالنسبة إليها (هو) لا (أنا) وأيضا لم يكن إدراكها لذاتها على الوجه الجزئي. إذ كل صورة ذهنية وإن تخصصت بمجموع كليات فهي لا يمتنع لذاتها الكلية والمطابقة للكثرة. ثم إن إدراك النفس لبدنها ووهمها وخيالها إنما يكون بنفس هذه الأشياء لا بصور زائدة عليها مرتسمة في النفس لأن الصور المرتسمة فيها كلية فيلزم أن يكون النفس محركة لبدن كلي ومستعملة لقوى كلية. وليس لها إدراك بدنها الخاص وقواها الخاصة وهو ليس بمستقيم. فإنه ما من إنسان إلا ويدرك بدنه الجزئي وقواه الجزئية والنفس يستخدم المتفكرة في تفصيل الصور الجزئية وتركيبها حتى ينتزع الطبائع من الشخصيات وتستنبط النتائج من المقدمات وحيث لم يكن للقوة الجزئية سبيل إلى مشاهدة ذاتها لعدم حضورها عند نفسها. فإن وجودها في نفسها وجودها لمحلها لا لنفسها كما مر بيانه.
208 كيف والوهم ينكر نفسه وينكر القوى الباطنة وإن لم يجحد آثارها. فإذا لم يكن للوهم الذي هو رئيس سائر القوى الجزئية سبيل إلى إدراك نفسه وإدراك القوى الباطنة فكذلك حال سائر المدارك الجزئية. فالمدارك للقوى الخادمة والجزئيات المرسومة فيها والكليات المنتزعة عن تلك الجزئيات إنما هي النفس الناطقة بنفس تلك الأمور لا بصور أخرى. وذلك لاستقلالها وتجردها وكونها من عالم الأمر وأفق التأثير وتسلطها على البدن وقواه لكونها مؤثرة فيه بالتحريك والتربية. وكلما كانت أشد تجردا وأقوى سلطنة على البدن وقواها كان إدراكها أتم وحضور قواها عندها أشد وظهور الصور الإدراكية لها أقوى. ولو كانت ذات سلطنة على غير بدنها كما على بدنها لأدركته أيضا بمجرد الإضافة الإشراقية القهرية من دون احتياج إلى قبولها لصورة ذلك الشيء وانفعالها عنها. فالقبول جهة النقص والقهر جهة الشرف. ونحن إنما احتجنا إلى الصورة في بعض الأشياء كالسماء والكواكب وغيرها لأن ذواتها كانت غائبة عنا غير مقهورة لنا فاستحضرنا صورها حتى لو كانت هي حاضرة لنا كحضور آلاتنا لما احتجنا إلى صورة. فإذا تحقق وتبين أن النفس غير غائبة عن ذاتها ولا عن قواها ولا الصور المتمثلة في قواها محجوبة عنها ولا بدنها الجرمي مختلف عليها لكونها نورا لذاتها فالوجود البحت المتمجد الواجبي إذ هو في أعلى مرتبة النورية والتجرد والتقدس عن شوب ما بالقوة وله إضافة الجاعلية التامة إلى ما سواه وله السلطنة العظمى والقهر الأتم والجلال الأرفع لا جرم يعلم ذاته ويعلم العقول والأجرام وقواها وما يحلها وما يتمثل لها بمجرد الإضافة المبدئية والإحاطة الشهودية. فكما أن علمه بذاته لا يزيد على ذاته كذلك علمه بالأشياء غير زائدة على حضور ذواتها. والعقول القادسة والذوات الجرمية سواسية الحضور لديه والمثول بين يديه بذواتها وأعيانها حضورا عقليا نوريا. وأيضا قد سبق أن كل ما هو كمال مطلق للموجود من حيث هو موجود فيجب له تعالى. وإذا صح العلم الإشراقي الوجودي لا بصورة وأثر بل بمجرد إضافة خاصة للنفس. ففي واجب الوجود أولى وأتم. فيدرك ذاته لا بأمر زائد على ذاته ويعلم
209 مصنوعاته بظهور ذواتها وهو العلم الإشراقي الشهودي. قال: ومما يدل على أن هذا القدر كاف في العلم أن الإبصار إنما هو بمجرد إضافة ظهور الشيء للبصر مع عدم الحجاب فإن من لم يكن الرؤية عنده بانطباع أشباح المقادير في الجليدية ولا بخروج الشعاع عنها يلزمه أن يعترف بأن الإبصار بمجرد مقابلة المستنير للعضو الباصرة فيقع به إشراق حضوري للنفس لا غير. فإذن إضافته تعالى لكل ظاهر إبصار وإدراك. وتعدد الإضافات لا يوجب تكثرا في ذاته. وكذا تجددها لا يوجب تغيرا في ذاته كما مر. فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض. فهذه هي الطريقة للشيخ الإلهي في مسألة العلم. ولا يخفى على الأزكياء وثاقتها وعظم شرفها في أسلوب المباحثة من دون الرجوع إلى الأمور المقربة للقدس من الخلوات والرياضات كما سلكه. وبعد أن قرر هذه المسألة المهمة العظيمة بهذه الطريقة اللطيفة التي هي قرة عين الحكماء أورد على نفسه إشكالا: وهو أنا إذا علمنا شيئا إن لم يحصل منه فينا أثر فحالنا قبل ذلك العلم وبعده واحد. فما كنا أدركناه. وإن حصل فينا شيء فلا بد من مطابقته لذلك المدرك فيكون صورة. ثم أجاب عنه بأن ذلك إنما يصح في العلم الارتسامي. وأما العلم الحضوري الشهودي فإذا حصل فينا فلا بد من حصول شيء للمدرك مما لم يكن حاصلا له قبل ذلك وهو الإضافة الإشراقية فقط من غير افتقار إلى المطابقة الواجبة حصولها في العلوم الصورية. وتقسيم العلم في أوائل المنطق إلى التصور والتصديق إنما هو في العلوم التي هي غير علم المجردات بذواتها وغير العلم بالأشياء التي يكفي في العلم بها مجرد الإشراق الحضوري. فإنها ليست من المدركات التصورية والتصديقية.
210 والمشاؤون وغيرهم لما لم يتيسر لهم ما تيسر للشيخ الإلهي ولم يظفروا بهذه القاعدة العظيمة تراهم صاروا كالمبهوتين في علم الله تعالى. فمنهم من نفاه وضل ضلالا مبينا. ومنهم من جعله صورا معقولة قائمة بذواتها. ومنهم من قال باتحاد الواجب بالمعقولات. والشيخ الرئيس لما كان العلم بالغير عنده بالصور العقلية تراه في كتاب الشفا متحيرا في ذلك فتارة يقول إن صور جميع الموجودات التي بها علم واجب الوجود تعالى لا يجوز أن يكون في ذاته الوحدانية. وتارة يجعلها في بعض الموجودات. وتارة يقول فيكون في صقع من الربوبية.. ولا يفهم أحد ما هذا الصقع الذي فيه صور جميع الموجودات. وتارة يلتزم أن هذه الصور في ذات الواحد الحق من غير لزوم تكثر لأنها كثرة خارجة عن الذات لاحقة لا داخلة في حقيقته. ولما تفطن الشارح لكتاب الإشارات وهو العلامة الطوسي رحمه الله أن إثبات الصور في ذات الله تعالى قول فاسد ومذهب باطل حاول طريقة أخرى لتصحيح مسألة العلم مع معاهدته نفسه على أن لا يخالف الشيخ. فقال: العاقل كما لا يفتقر في إدراكه لذاته إلى صورة غير ذاته التي هو بها هو كذلك لا يفتقر في إدراكه لما يصدر عن ذاته إلى صورة غير صورة ذلك الصادر الذي بها هو هو. واعتبر من نفسك أنك تعقل شيئا بصورة تتصورها أو تستحضرها فهي صادرة عنك لا بانفرادك مطلقا بل بمشاركة ما من غيرك ومع ذلك فأنت تعقلها بذاتها لا بصورة أخرى. لامتناع تضاعف الصور إلى غير النهاية. فإذا كان حالك مع ما يصدر عنك بمشاركة غيرك هذا الحال فما ظنك بحال العاقل مع ما يصدر عنه لذاته من غير مداخلة غيره فيه وليس من شرط كل ما يعقل أن يكون المدرك محلا للصور المعقولة. فإنك تعقل ذاتك مع أنك لست بمحل لها. بل محليتك لها من شروط حصولها لك الذي هو مناط عقلك إياها فإن حصلت هي لك على جهة أخرى سوى الحلول لعقلتها من غير حلول فيك. فإذن
211 المعلولات الذاتية للعاقل الفاعل لذاته حاصلة له من غير أن يحل فيه. فهو عاقل إياها بأنفسها لا بحلولها فيه. (بلا حلولها فيه ع ق). وإذا عرفت هذه المقدمة فاعلم: أن الواجب لذاته لما لم يكن بين ذاته وبين عقله لذاته مغايرة بل كان عقله لذاته هو نفس ذاته كذلك لا تغاير بين وجود المعلول الأول وبين تعقل الواجب له. إذ عقله لذاته علة عقله لمعلول الأول كما أن ذاته علة ذات المعلول الأول فكما حكمت باتحاد العلتين فاحكم باتحاد المعلولين. فإذن وجود المعلول الأول هو نفس تعقل الواجب لذاته له من غير استيناف صورة تحل ذات الأول تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وقد عرفت أن كل مجرد تعقل ذاته وغيره من المجردات. فالجواهر العقلية لما كانت تعقل ما ليست بمعلولات لها بحصول صورها فيها وهي تعقل واجب الوجود أيضا ولا موجود إلا وهو معلول للواجب تعالى كانت صور جميع الموجودات الكلية والجزئية على ما عليه الوجود حاصلة فيها. والأول الواجب يعقل تلك الجواهر مع تلك الصور لا بصور غيرها بل بأعيان تلك الجواهر والصور. وبهذا الطريق يعقل الوجود على ما هو عليه. فإذن لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات و لا في الأرض. من غير لزوم شيء من المحالات المذكورة. قال: إذا تحققت هذا الأصل وبسطته ظهرت لك كيفية إحاطته تعالى بجميع الموجودات الكلية والجزئية. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. فهذا ما ذكره هذا النحرير بأدنى تفاوت. وأنت إذا تأملت هذه الطريقة تأملا شافيا وجدتها قريبة من طريق الشيخ الإلهي التي يقول بصحتها كل من سلك سبيل الله وكوشف بالأنوار الإلهية. لكن يخالفها هذه الطريقة بجعل علوم المجردات بالأشياء بحصول صور الأشياء فيها ثم بجعل الصور
212 المرتسمة في الجواهر العقلية مناطا لعلم الله تعالى بالأشخاص المادية والحوادث الكونية وهو غير جيد كما سبق. وأنت قد عرفت من طريقة الشيخ أن الجواهر العقلية يعرف كل واحد منها ذاتها بذاتها ويدرك جميع الموجودات الباقية التي دونها بالإضافة الإشراقية. من غير الاحتياج إلى أن يكون فيها صورة وأثر على ما قررناه. ثم إنك قد عرفت أن الواجب لذاته كما يدرك المجردات العقلية بالإشراق الحضوري يدرك الأمور المادية بالإشراق الحضوري من غير أن يدركها بالصور الحاصلة في المبادئ العقلية بل ارتسام صور الموجودات الكلية في العقول الفعالة والنفوس العالية باطل عنده. واستدل عليه في حكمة الإشراق بما حاصله: أن انتقاش المجردات بصور ما تحتها إما أن يحصل لها مما تحتها فيلزم انفعال العالي عن السافل وهو غير جائز. أو عما فوقها بأن يكون الصور العارضة في بعضها حاصلة عن صور عارضة في بعض آخر فينتهي إلى أن يكون الصور المتكثرة حاصلة في ذات الحق تعالى بل إلى تكثر ذاته تعالى عنه علوا كبيرا. فإن قلت: فالنظام العجيب الواقع في هذا العالم المقتضي للعلم السابق كيف يصدر عن الباري تعالى وقد امتنع أن يكون على مجرد البخت والاتفاق. أجاب بأن وقوعها عنه بسبب جودة الترتيب الأنيق الواقع بين المجردات العقلية والنسب اللازمة عنها. فإن للعقول عند شيخ الإشراق كثرة وافرة غير محصورة بل على وفق تكثر الأنواع الجسمانية. فإن هذه الأصنام مع هيئاتها اللازمة ونسبتها الوضعية ظلال لتلك الأرباب النورية ونسبتها المعنوية عنده. وبالجملة فمسلك هذا الحكيم أصلح المسالك في كيفية علم الواجب بالحق. وبعد طريقته طريقة العلامة الطوسي في الوثاقة لكنها غير تامة تتم بأدنى نظر كما فعلناه. فإن قلت: على كل واحدة من هاتين الطريقتين يلزم أن لا يكون علمه تعالى
213 بالأشياء علما فعليا ولا يكون صدور الأشياء عنه تعالى باختياره. قلت: للعلم الفعلي عندهم صورتان: الأولى أن يكون العلم سببا للمعلوم بالعرض ومقدما عليه تقدما ذاتيا كما إذا أراد بناء بناء بيت فتصور أولا صورته. فقد أحدث البناء أولا صورة ذلك البيت في ذهنه ثم أوجد مثلها في الخارج على وفق تصوره. الثانية أن يكون العالم بما هو عالم علة بالذات للمعلوم من حيث هو معلوم سواء كان أمرا ذهنيا أو عينيا. فكما أن العالم بالصورة الأولى يعلم الصورة الذهنية بنفس اختراعها وليست معلومة بصورة أخرى بل نفس حصولها عنه في ذهنه نفس معلوميتها له كذلك العالم في الصورة الثانية يعلم العين الخارجي بإيجاده. وعلمه بالصورة الخارجية نفس إيجاده لها. (فالعلم بالصورة هناك تصورا وبالعلم هنا حضورا كلاهما علم فعلي والمعلوم معلوم بالذات والعلم... ق ل). فالعلم بالعين في الصورة الأولى فعلي أيضا ولكن المعلوم معلوم بالعرض. ففي الشق الأول الفاعل يصدر عنه فعله عن ذاته مع علم مكتسب زائد على ذاته. وفي هذا الشق يصدر عنه فعله عن نفس بما هو ذات عالمة. فالمبدأ الأعلى أوجد المعلول الأول من ليس وفي حال إيجاده علمه لا أنه تعالى علمه فأوجده حتى يلزم تكرر التعقلات الموجب للتسلسل في الارتسامات أو في الوجودات. ولا أنه تعالى أوجده فعلمه ليلزم أن يكون علمه انفعاليا مستفادا من المعلوم بل أوجده عاقلا له أي نفس وجوده نفس معقوليته. فإيجاد المبدإ الأعلى له عين العلم به وكذلك حكم البواقي من الممكنات. فعلمه تعالى بالأشياء حضوري فعلي ولا يلزم أن يكون فاعلا موجبا لأن اقتضاء الشيء للشيء إن كان مع شعور بالشيء المقتضي فهو إرادة وإن كان بلا شعور فهو ميل طبيعي. ولا فرق بين الميل الطبيعي والإرادة إلا أن الأول لا يقارن الشعور بخلاف الثاني. والحاصل أن مقارنة
214 الشعور والعلم للفعل الناشي من نفس ذات العالم كاف في كونه إراديا وبمجرده يتحقق الاختيار. ولا يلزم السبق الذاتي كما لا يلزم السبق الزماني على ما يدعيه المتكلمون. فإن قلت: أليس مدار المعقولية والعاقلية عندهم على التجريد عن المادة فكيف يصير الأشخاص الجسمانية معقولة بأنفسها لا بالصور المنتزعة عن موادها قلت: ذلك إنما يكون في الأشياء التي لم يتحقق للعاقل بالقياس إليها علاقة وجودية وتسلط علي قهري وعدم احتجاب. فإذا تحقق ما ذكر يكفي العاقلية بمجرد الإضافة الشهودية الإشراقية كما سبق. وإلى هذا أشير بما يوجد في كلام بعضهم أن الشيء المادي والزماني بالنسبة إلى المبادئ غير مادي ولا زماني يعني به ارتفاع أثر المادة وأثر الزمان عنه وهو الخفاء والغيبة. فقد علم بتمام ما ذكرناه في طريقة الإشراق أنها أسد الأقوال المذكورة في كيفية العلم الأول تعالى بالأشياء. ولها قصور من جهة أن مناط العلم الأول تعالى بالأشياء لو كان نفس وجوداتها وظهوراتها لم يكن له علم كمالي لشيء ثابت له تعالى في حد ذاته بل يكون ذوات المجعولات (المعقولات خ. ل) صورا علمية له. وعالميته تعالى إضافته الشهودية. ولا شك أن وجود الممكنات وإضافة الحق الأول إليها إنما يكون بعد مرتبة ذاته تعالى. فلا يكون الواجب تعالى في مرتبة ذاته عالما بشيء غير ذاته تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وفيه سر عظيم. وأما القول بأن الله تعالى يعلم جميع الأشياء بعلم واحد هو ذاته تعالى فبيانه أن الواجب الوجود لما كان عالما بذاته وذاته مبدأ لصدور جميع الأشياء يجب أن يكون عالما بجميع الأشياء علما متحققا في مرتبة ذاته مقدما على صدورها لا في مرتبة
215 صدورها. وإلا لم يكن عالما بالأشياء باعتبار ذاته بل باعتبار ذوات الأشياء. فلا يكون له علم بالأشياء يكون ذلك العلم صفة كمال في حقه تعالى وهو محال. فزعموا أن علمه تعالى بمجعولاته منطو في علمه بذاته فكما أن علمه تعالى بذاته هو ذاته فكذا علمه بمعلولاته فإذا كان ذاته علة لوجود ما عداه فعلمه بما عداه كذلك فعلمه بها يكون فعليا. ويرد عليه أنه كيف يكون شيء واحد بسيط في غاية الوحدة والبساطة صورة علمية لأشياء مختلفة متكثرة فقد انثلم قاعدتهم أن العلم بالشيء يجب أن يكون متحد الماهية مع ذلك الشيء. وكيف يتميز الأشياء بمجرد هذا العلم وأنها لم توجد ماهياتها بعد أصلا وهل هذا إلا تمايز المعدومات الصرفة وأجيب عن الأول بأنه كما أن بالصور العلمية المخصوصة بشيء يتميز ذلك الشيء كذلك بالمقتضي لخصوصية شيء يتميز ذلك الشيء. لأن المقتضي باقتضائه يتميز ذات المقتضي وصفاته بحيث لا يشاركه غيره. وكما أن الصورة التي بها يتميز الشيء إذا حصلت عند المدرك كانت علما به كذلك المقتضي الذي يتميز به الشيء إذا حصل عند المدرك كان علما به. ولما كان المقتضي لجميع الأشياء على ما هو عليه في الواقع أمرا واحدا يتميز باقتضائه كل ذرة من ذرات الوجود عما عداه فلا استبعاد في أن يكون ذلك الأمر الواحد بحيث إذا حصل عند المدرك كان علما بكل واحد منها. فحينئذ يكون جميع الأشياء في الشهود العلمي الذي هو بمنزلة الوجود الذهني أمرا واحدا. ودفعه بعض المحققين بقوله: لما كانت العلة مباينة للمعلول مغايرة له في الوجود فلا يكون حضورها حضوره. وما لم يحضر الشيء عند المدرك لا يكون مشعورآ به بمجرد كونه مبدأ امتيازه. على أن قياس العلة على الصورة وإزالة الاستبعاد بذلك مستبعد جدا.
216 إذ الصورة عين ماهية المعلول على ما هو التحقيق أو شبح ومثال له على مذهب المرجوح المصادم للتحقيق وليست العلة حقيقة المعلول ولا مثالا له محاكيا عنه. فقياسه على الصورة قياس فقهي مع ظهور الفارق. انتهى ما ذكره الدواني. وعن الثاني بأن ذاته تعالى علم إجمالي بالأشياء بمعنى أنه علم بخصوصياتها لا على وجه التمييز فإن الخصوصية شيء والتميز شيء آخر والأول لا يوجب الثاني. ويرد: أنا نعلم بديهة أنه لا يمكن أن يعلم معلومات متباينة الحقائق بخصوصياتها بحقيقة واحدة متباينة لجميعها وإن فرضنا أنه لم يتميز بعضها عن بعض في نظر العالم. وفي كثير من كتب هذا الفن قرروا كيفية تعقله للأشياء بما ذكرناه من انطواء العلم بالكل في علمه تعالى بذاته كانطواء العلم بلوازم الإنسانية في العلم بالإنسانية. وربما أوردوا مثالا تفصيليا وقسموا حال الإنسان في علمه ثلاثة أقسام: أحدها أن يكون علومه تفصيليا زمانيا على سبيل الانتقال من معقول إلى معقول على التدريج. ولا يخلو حينئذ من مشاركة الخيال بل يكون تعقله مع حكاية خيالية بحيث يتحد الإدراكان نحوا من الاتحاد. كما إذا أبصرنا شيئا وحصل منه في الحس المشترك صورة اتحد الإدراكان ولا يتميز لنا ما يحصل في آلة البصر وما يحصل في الحس المشترك إلا بوسط. وثانيها أن يكون له ملكة تحصل من ممارسة العلوم والأفكار يقدر بسبب حصول تلك الملكة على استحضار الصور العقلية متى شاء بلا تجشم كسب جديد وإن لم يكن علومه وإدراكاته حينئذ حاضرة عنده بأن يكون نفسه وإن حصل لها تصور الأشياء معرضة عنه. إذ ليس في وسعنا ما دمنا في دار الجسد أن نعقل الأشياء معا دفعة واحدة لما ذكرنا سابقا من مشاركة الخيال. والخيال لا يخيل الأشياء معا. وهذه حالة بسيطة ساذجة لها نسبة واحدة إلى كل صورة يمكن حضورها لصاحب هذه الملكة. ولا شك أن الإنسان في هذه الحالة ليس عالما بالفعل فلا يكون الصور حاصلة له بالفعل. ولكن له قدرة الاستحضار فيكون عالما بالقوة.
217 وثالثها بكونه بحيث يورد عليه مسائل كثيرة دفعة فيحصل له علم إجمالي بجواب الكل ثم يأخذ بعده في التفصيل شيئا فشيئا حتى يمتلي منه الأسماع والأوراق. فهو في هذه الحالة يعلم من نفسه يقينا أنه يحيط بالجواب جملة ولم يفصل بعد في ذهنه ترتيب الجواب ثم يخوض في الجواب مستمدا من الأمر البسيط الكلي الذي كان يدركه من نفسه. فهذا العلم الواحد البسيط خلاق لتلك التفاصيل وهو أشرف منها. فقالوا فقياس علم الواجب الوجود بالأشياء وانطواء الكل في علمه على هذا الطريق. وأجابوا لمن قال بعد ما بينوا الوجوه الثلاثة أن ذلك أي العلم بالشيء على الوجه الثالث أيضا بالقوة إلا أنه قوة قريبة من الفعل بأن لصاحبه يقينا بالفعل بأن هذا حاصل بالفعل عنده إذا شاء علمه. فهذا إشارة إلى شيء بأنه معلوم ومن المحال أن يتيقن حال الشيء إلا وهو من جهة ما يتيقنه معلوم. وإذن كانت الإشارة تتناول المعلوم بالفعل. (وإذا كانت الإشارة. ع ق). ومن المتيقن أن هذا مخزون عنده. فهو بهذا النوع البسيط معلوم له قد يريد أن يجعله معلوما بنحو آخر. وهذا العلم البسيط هيئة تحصل للنفس لا بذاتها بل من عند مخرج العقل من القوة إلى الفعل بحسبها يلزم للنفس التصور التفصيلي والعلم الفكري. فالأول هو القوة العقلية من النفس المشاكلة للعقول الفعالة. وأما التفصيل فهو للنفس من حيث هي نفس. هذا كلامهم. ويرد عليهم أن ما يستفاد من ظاهر هذا الكلام ليس إلا أن المجيب في تلك الحالة عالم بالفعل بأن له قدرة على شيء دافع لذلك السؤال. فأما حقيقة ذلك الشيء
218 فهو غير عالم به ولذلك الجواب حقيقة وماهية وله لازم وهو كونه دافعا لذلك السؤال. فالحقيقة مجهولة واللازم معلوم فهي حالة بين الفعل المحض الذي هو العلم بالمعلومات مفصلة متميزة بعضها عن بعض وبين القوة المحضة التي هي حالة لعنوان المعلومات المفصلة وحصول الأمر المسمى بالملكة فهي حالة بين الحالتين. وكيف يتصور كون شيء واحد لا سيما إذا كان في غاية الوحدة والبساطة كذات البارىء جل ذكره علما بأمور مختلفة الذوات متباينة الماهيات بخصوصها فإنه لا يمكن أن يكون تلك الأمور معلومة بالذات وإلا يلزم تمايز المعدومات. اللهم إلا أن تكون معلومة بالعرض. فالمعلوم بالذات ذلك الأمر الواحد البسيط كالعلم بأفراد الإنسان من مفهومه الكلي وكالعلم بالفروع من العلم بالأصل لا كالعلم بأجزاء الحد من العلم بالمحدود فإن الحد والمحدود متحدان ذاتا ومختلفان اعتبارا حيث تقرر أن التفاوت بالإجمال والتفصيل إنما يكون بنحو من الإدراك فقط لا بأمر زائد في المدرك. ولئن سلم هذا في العلم الإجمالي الذي مثلوا به في المجيب المذكور فكيف يسلم كون الذات المقدسة الواجبة بالنسبة إلى معلوماته كالحد بالقياس إلى المحدود وأما قول من زعم كون علمه تعالى بحسب مرتبة ذاته ببعض الممكنات كالعقل الأول تفصيليا وببعض آخر كما سواه من الممكنات إجماليا ويكون علمه بكل معلول علما تفصيليا سابقا على وجود ذلك المعلول بنفس ذات المعلول السابق عليه بأن يعلم المعلول الأول علما تفصيليا قبل وجوده بنفس ذاته المقدسة ويعلم المعلول الثاني علما فعليا تفصيليا بنفس ذات المعلول الأول وهكذا ولا يجب أن يكون علمه التفصيلي بجميع الموجودات في مرتبة واحدة بل يجوز أن يكون بالتقدم والتأخر. فاعترض عليه أما أولا: فبأنه يلزم احتياج الواجب في العلم التفصيلي بأكثر الأشياء إلى ما سواه. وأما ثانيا فبأنه يلزم عليه التجدد في علمه والانتقال من معلوم إلى معلوم على ما هو شأن العلوم النفسانية. ويمكن الجواب عن الأول بأن توقف علمه التفصيلي الذي هو أمر مباين لذاته
219 تعالى وليس صفة كمالية لذاته بشيء على شيء آخر يستند إلى ذاته ليس محذورا عندهم كما أن صدور بعض الموجودات عن الواجب يحتاج إلى صدور بعض آخر عنه. وليس هذا احتياجا منه ممتنعا عليه بل هذا في الحقيقة احتياج إليه لا إلى غيره كما لا يخفى. وعن الثاني بأن هذا ليس انتقالا زمانيا بل ترتيبا عقليا والانتقال من معلوم إلى معلوم إذا لم يكن بحسب الزمان فهو غير ممتنع عليه تعالى كما في طريقة الشيخ الرئيس وموافقيه في علمه. إنما المحال التغير الزماني فيه كما في طريقة بعض المتكلمين وأبي البركات البغدادي. وأما ثالثا فبأنه يلزم على هذا التقدير كون ذاته المقدسة متحد الماهية مع المعلول الأول اتحاد العلم التفصيلي مع المعلوم. وأما رابعا فبلزوم كون شيء واحد صورة لشيئين متباينين في غاية التباين من حيث كون ذاته تعالى علما تفصيليا بذاته المقدسة وبذات المعلول الأول. وأما خامسا فبورود مفاسد القول السابق عليه على وجه أشد كما لا يخفى. فهذه جملة من الأقوال المحتملة في كيفية علمه تعالى بالأشياء وما يرد على كل واحد منها مع ما في وسعنا من المحيص عنه والإصلاح له والتنقيح إياه والمزيد على ما ذكر فيه. فقد حان حين أن نعين ما هو الحق والصواب عند أهل الحقيقة من ذوي الألباب ويشبه أن يكون مما ذهب إليه البارعون في العلم من الحكماء وانطبقت عليه مرموزات الفلاسفة من القدماء ووافقه أسرار العرفاء من الأولياء. فأقول وروح القدس نفث في روعي: أن الواجب تعالى لما كان مجردا عن المادة والقوة والاستعداد غاية التجرد فيكون عقلا وعاقلا ومعقولا بالوجه الذي مر بيانه. ولما كانت الممكنات بأسرها مستندة إليه على الترتيب النازل منه والصاعد إليه من
220 العقول والنفوس والأجرام الفلكية والعنصرية البسيطة منها والمركبة مع أعراضها اللازمة والمفارقة بحيث لا يقدح صدور هذه الكثرات والمركبات في وحدته الحقة وبساطته الصرفة كما سيأتي فجميع الموجودات في سلسلة الحاجة يرتقي إلى ذاته وذاته علة تامة لها ولعللها. ونسبته إلى الجميع سواء كانت مفارقات أو ماديات نسبة واحدة إيجابية عقلية. وليست فيه جهة إمكانية. ولكل شيء وإن كان من الحوادث الزمانية بالنسبة إلى ذاته الذي هو فعلية صرفة نسبة وجوبية. وإمكانه إنما هو بالقياس إلى ذاته وبالقياس إلى قابل ذاته. وبالجملة ففاعليته وقيوميته لا يكون في شيء من المراتب بحسب القوة وكذا علمه بشيء من الأمور الممكنة الوقوع ليس ظنا لأن أسباب وجوب الممكن يرتقي إليه وهو يعرف الممكن بأسبابه التي بها يجب وجوده. وفي كلامهم تنبيهات على هذا المعنى وتصريحات به لا نطول الكلام بذكرها. وإذ قد علمت أن الواجب تعالى يعلم ذاته بذاته وذوات مجعولاته العينية بذواتها بما مر ذكره. وأن الإضافة القيومية إلى الأشياء هي بعينها الإضافة النورية الشهودية كما يقتضيه ذوق الإشراق. فاعلم أنه كما أن كماله في إيجاده الأشياء هو بكونه من تمامية الوجود وفرط التحصل على نحو يفيض عنه جميع الموجودات والخيرات لا بانتسابها إليه وإضافته لها أي هذا المعنى النسبي إذ هي في مرتبة متأخرة عن مرتبة وجوده ومجده وعلوه. بل الغاية في الإفاضة منه والإيجاد هي نفس ذاته المقدسة وهو غني في ذاته عما سواه. فكذلك كماله في علمه ليس بنفس حضور ذوات الأشياء أو صورها عنده حتى يكون بحيث لو لم يكن ذواتها العينية أو صورها العلمية في مرتبة ذاته تعالى بل يكون في مرتبة متأخرة عن ذاته كما هي عليه في الواقع لزم كونه فاقد الكمال في مرتبة متأخرة عنها ليلزم استكماله بغيره بعد نقصه في حد ذاته تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. بل كماله العلمي كونه في العاقلية على غاية يستتبع انكشاف ذاته بذاته على ذاته انكشاف ذوات الأشياء بذواتها على ذاته بناء على أن معلولاته من حيث إنها معلولاته معقولاته وبالعكس بلا تفاوت بالذات أو بالاعتبار. وإنما التفاوت في اللفظ وبحسبه يقع التأخير والتقديم في التعبير
221 لا في المعبر عنه. فإذا كان معقولية ذاته مبدأ لمعقولية سائر الأشياء له وانكشافها لديه كما أن وجوده مبدأ لوجودها مرتبطة به منتسبة إليه على الترتيب السببي والمسببي وكان ترتيبها الوجودي الصدوري هو بعينه ترتيبها العقلي الشهودي كان ذاته تعالى علما بجميع الموجودات وذاته تعالى أولى بأن يسمى علما بالموجودات العينية من الصور الحاصلة عنها في الأذهان. فإن معلوميتها بالصور تكون معلومية بالعرض كما سبق ومعلوميتها بسبب معلومية ذاته بذاته الذي هو مبدأ لوجودها على نعت الانكشاف والظهور لديه وصدورها على وصف المثول بين يديه تكون معلومية بالذات كما قررناه. ولا شك أن ما يعلم به الشيء أولى بأن يسمى علما بذلك الشيء مما يعلم به ذلك الشيء بالعرض. ففي علمه بالكل كثرة حاصلة بعد الذات والكل بكثرته ينكشف له بوحدته وبذاته يعلم جميع الموجودات لا بغيره. فذاته علم بجميع الأشياء. هذا غاية ما تيسر لنا في هذا المطلب بحسب النظر البحثى والسلوك الفكري. وحق الوصول إلى هذا المطلب الشريف العالي يحوج إلى سلوك طريقة الأبرار من أصحاب الارتقاء إلى ملكوت ربنا الأعلى ليتخلص النفس عن غشاوة الطبيعة على حدقة البصيرة وظلمة الهيولى الموجبة للعمى ويلوح لها شيء من أنوار علوم الملائكة والأنبياء. وإذا حقق الأمر على ما ذكرنا فلا بأس بأن يسمى ذاته تعالى علما إجماليا بجميع الموجودات على ما يوجد في كلامهم من أنه تعالى يعلم الأشياء بعلم واحد إجمالي قياسا على العلم الإجمالي والعقل البسيط المذكور في كتاب النفس أي الذي يكون مبدأ للمعقولات النفسانية المفصلة المتكثرة بعد محافظة تقدسه تعالى عن شوب القوة ومراعاة الفرق بينهما من وجوه فصحة المقايسة إنما هي باعتبار كون العقل البسيط والعلم الإجمالي مبدأ المعقولات الكثيرة التفصيلية مع عدم اتحاده بها وكون علمه تعالى الذي هو عين ذاته خلاقا لفيضان تفصيل الحقائق العقلية مع اتحاده بها كما ظنه فرفوريوس وقومه. إلا أن العقل البسيط الذي عندنا موجود في عقولنا وهناك نفس وجوده ومعقولاتنا المفصلة متجددة زمانية واردة علينا شيئا بعد شيء بعدية
222 على التراخي وهناك مرتبة ذاتية مجتمعة دهرية. والمعقول البسيط هنا ليس علة تامة بل معدة لهذه التفاصيل والنفس قابلة لها بخلاف ما هناك. فعلى هذه الطريقة صور المعقولات عنده على وجه بسيط مقدس عن شوب القوة والكثرة. وأشبه الأمثلة في هذا الباب قول بعض الحكماء: لو كان للأوليات وجود في الأعيان لا في النفس لأنها معان مجردة عن المادة لكانت نسبتها إلى لوازمها كنسبة الأول إلى معلوماته. فإن قلت: على ما ذكرت أيضا يلزم كونه تعالى في مرتبة ذاته غير عالم بشيء من الموجودات الخارجية. قلت: إن أردت بقولك إنه غير عالم بغيره في مرتبة ذاته أن ذاته في مرتبة ذاته ليس بحيث ينكشف له المعلومات فهو غير مسلم ولا هو في نفسه صحيح فإن كونه عاقلا للأشياء عين ذاته وإن كان كون الأشياء معقولة له عين ذواتها. وإن أردت أن الممكنات المعلومة له ليست وجوداتها العينية وصورها العلمية واقعة في مرتبة وجوده أو داخلة في قوام ذاته فهو ممنوع. ولا يصح غير ذلك فإن كل ما هو معقول له فهو معلول له سوى نفس ذاته المقدسة. والمعلول كيف يساوق العلة في رتبة الوجود أو تقدم عليها وكما أنه لا يلزم من إيجاده تعالى للأشياء كون وجودها في مرتبة ذاته بل كونه بحيث يتبع وجوده وإيجاده وجود الأشياء وصدورها عنه فكذلك لا يلزم من عاقليته لها كون صورها العقلية في مرتبة ذاته بل كونه بحيث يلزم إضافة العالمية لا غير. والله أعلم بحقيقة الأمر. فصل في مراتب علمه بالأشياء وهي العناية والقضاء والقدر والقلم واللوح ودفتر الوجود فالعناية على ما يراه المشاؤون ومن يحذو حذوهم كالمعلم الثاني والشيخ الرئيس وتلميذه بهمنيار نقش زائد على ذاته لها محل هو ذاته وهي عبارة عن علمه تعالى
223 بما عليه الوجود من الأشياء الكلية والجزئية الواقعة في النظام الكلي على الوجه الكلي المقتضي للخير والكمال على وجه الرضا المؤدي وجود النظام على أفضل ما في الإمكان أتم تأدية ومرضيا بها عنده تعالى. وعلى رأي من لا يثبت صورا في ذاته تعالى زائدة عليه كالرواقيين وأصحابهم سيما الشيخ الإلهي في حكمة الإشراق كون ذاته تعالى بحيث يفيض عنه صور الأشياء المعقولة له مشاهدة عنده مرضيا لديه. فليس لها محل بل هو علم بسيط قائم بذاته مقدس عن شائبة كثرة وتفصيل محيط بجميع الأشياء خلاق للمعلوم التفصيلية التي بعده وهي ذوات الأشياء الصادرة عنه تعالى بطبائعها وشخصياتها على أنها عنه لا على أنها فيه. والقضاء عبارة عن وجود الصور العقلية لجميع الموجودات بإبداع البارىء إياها في العالم العقلي على الوجه الكلي بلا زمان. والقدر عبارة عن ثبوت صور جميع الموجودات في عالم النفس على الوجه الجزئي مطابقة لما في موادها الخارجية الشخصية مستندة إلى أسبابها وعللها واجبة بها لازمة لأوقاتها المعينة. ويشملها العناية الأولى الإلهية شمول القضاء للقدر والقدر لما في الخارج. إلا أن العناية لا محل لها على ما هو التحقيق ولكل من القضاء والقدر محل ومحلاهما القلم واللوح. وبيان ذلك أن عناية البارىء اقتضت أول ما اقتضت جوهرا قدسيا يسمى بالقلم الأعلى والعقل الأول والروح الأعظم والملك المقرب والممكن الأشرف كما وردت به الأحاديث النبوية ونطقت به الحكمة الإلهية. وبتوسطه جواهر قدسية وأجراما سماوية مع نفوسها وعناصر جسمانية مع قواها الطبيعية على ما أشير إليه في كتب الحكمة وسيجئ في هذا الكتاب أيضا. وتلك العقول القدسية أنوار قاهرة مؤثرة فيما تحتها من النفوس والأجرام بتأثير الله تعالى. فقاهريتها التي هي تأثيرها في غيرها ظل لقاهريته تعالى وأثر من آثار جلاله وقدرته. كما أن نوريتها التي لا تزيد على ذواتها لمعة من لمعات وجهه وجماله. وبهذا الاعتبار يسمى الملائكة المقربين وعالمها عالم
224 القدرة. وكما يفيض منها صور الأشياء وحقائقها بإفاضة الحق سبحانه فكذلك يفيض منها صفاتها وكمالاتها الثانوية التي بها تجبر نقصاناتها. فبهذا الاعتبار أو باعتبار أنها تجبرها على كمالاتها والتوجه إليها عند فقدانها وحفظها عند حصولها ما أمكن يسمى عالم الجبروت وهي صورة صفة جبارية الله تعالى. ومعلوم من أن صور جميع ما أوجده الله تعالى من ابتداء العالم إلى آخره حاصلة فيها على وجه بسيط مقدس عن شائبة الكثرة التفصيلية وهي صورة القضاء الإلهي. فمحله عالم الجبروت وهو المسمى بأم الكتاب بهذا الاعتبار كما قال الله تعالى: و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم وبالقلم باعتبار إفاضة الصور منه على النفوس الكلية الفلكية قال الله تعالى: اقرأ و ربك الأكرم الذي علم بالقلم وكلما يفيض علينا من العلوم الحقة إنما يفيض عن ذلك العالم. ولا شك أن تلك الجواهر التي هي خزائن علمه مفاتيح غيبه كما قال الله تعالى: و إن من شيء إلا عندنا خزائنه.. وقال الله تعالى: و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو.. متعالية عن تعلق الزمان مقدسة عن التغير والنقصان. فالقضاء كذلك. وكما أن العالم العقلي المعبر عنه بالقلم محل القضاء فالعالم النفساني السماوي محل قدره تعالى ولوح قضائه إذ كل ما جرى في العالم أو سيجري مكتوب مثبت في النفوس الفلكية فإنها عالمة بلوازم حركاتها كما بين في موضعه. فكما ينتسخ بالقلم في اللوح نقوش حسية كذلك ارتسمت من عالم العقل في عالم النفوس صور معلومة مضبوطة منوطة بعللها وأسبابها على وجه كلي. فتلك الصور هي قدره تعالى ومحلها وهو عالم النفوس الكلية التي هي قلب العالم الكلي عند الصوفية
225 محل القدر ولوح القضاء. ثم ينتقش منه في القوى المنطبعة الفلكية نقوش جزئية مشخصة بأشكال وهيئات معينة مقارنة لأوقات وأوضاع معينة من لواحق المادة على ما يظهر في الخارج كما في قوله تعالى: و ما ننزله إلا بقدر معلوم.. وهذا العالم هو عالم الخيال الكلي وعالم المثال وهو لوح القدر كما أن ذلك العالم الذي هو عالم النفوس الناطقة الكلية لوح القضاء. وكل منهما لاشتماله على صورة الوجود كله كتاب مبين على ما قال سبحانه: و لا حبة في ظلمات الأرض و لا رطب و لا يابس إلا في كتاب مبين.. إلا أن الأول لوح محفوظ هو أم الكتاب والثاني كتاب المحو والإثبات على ما قال سبحانه: يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب.. وحضور تلك الصور المعينة المقيدة بوقتها المعين هو قدر الشيء المعين الخارجي الضروري الوجود عند تحقق وقته كما قال: و ما ننزله إلا بقدر معلوم.. وهذا العالم أي عالم لوح القدر هو عالم الملكوت العمالة بإذن الله تعالى المسخرة بأمره المدبرة لأمور العالم بإعداد المواد وتهيئة الأسباب. ثم إن وجود تلك الصور الجزئية في موادها الخارجية التي أخيرة مراتب علمه تعالى كلمات الله التي لا تنفذ ولا تبيد مع أعراضها اللازمة والمفارقة التي بمنزلة الحركات الإعرابية والبنائية والمادة الكلية المشتملة عليها هي دفتر الوجود والبحر المسجور المملو بالصور كما أشير في الصحيفة القرآنية بقوله تعالى: لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي و لو جئنا بمثله مددا.. فهذه العوالم كليتها وجزئيتها كلها كتب إلهية ودفاتر سبحانية لإحاطتها بكلمات الله التامات. فعالم العقول المقدسة
226 والنفوس الكلية كلاهما كتابان إلهيان. وقد يقال للعقل الأول أم الكتاب لإحاطته بالأشياء إجمالا. وللنفس الكلية الفلكية الكتاب المبين لظهورها فيها تفصيلا. والنفس المنطبعة في الجسم الكلي كتاب المحو والإثبات. وقد لوحنا إليك أن الإنسان الكامل كتاب جامع لهذه الكتب المذكورة لأنه نسخة العالم الكبير كما قال العالم الرباني السبحاني حكيم العرب والعجم: دواؤك فيك ولا تشعر * وداؤك منك ولا تبصر وأنت الكتاب المبين الذي * بآياته يظهر المضمر وتزعم أنك جرم صغير * وفيك انطوى العالم الأكبر فمن حيث عقله كتاب عقلي يسمى ب أم الكتاب ومن حيث نفسه الناطقة كتاب اللوح المحفوظ ومن حيث روحه النفسانية التي في فلك دماغه كتاب المحو والإثبات. فهي الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة التي لا يمسها ولا يدرك أسرارها ومعانيها إلا المطهرون من الحجب الظلمانية. وما ذكر من الكتب أولا إنما هي أصول الكتب الإلهية. وأما فروعها فكل ما في الوجود من العقل والنفس والقوى الروحانية والجسمانية وغيرها. لأنها مما ينتقش فيها أحكام الموجودات إما كلها أو بعضها سواء كان مجملا أو مفصلا وأقل ذلك انتقاش أحكام عينها. تكميل إذ قد تحققت أن كونه تعالى عالما بذاته وعالما بجميع معلولاته بناء على أن العلم التام بالعلة التامة يوجب العلم التام بالمعلول وقد بين أن العلم بالعلة إذا لم يكن نقشا
227 زائدا على ذات العلة بل يكون نفس وجودها يلزم أن يكون العلم اللازم منه بالمعلول أيضا نفس وجود ذلك المعلول لا نقشا زائدا عليه. فإذا كان كل صورة موجودة في الخارج سواء كانت عقلية أو مادية يرتقي في سلسلة الحاجة إلى مسبب الأسباب فيجب أن يكون نحو وجودها الخارجي بعينه هو نحو علم البارىء جل ذكره بها. ثم لما كانت الأشياء الزمانية والحوادث المادية بالنسبة إلى البارىء المقدس عن الزمان والمكان متساوية الأقدام في الحضور لديه والمثول بين يديه لم يتصور في حقه المضي والحال والاستقبال لأنها نسب يتصف بها الحركات والمتغيرات كما أن العلو والسفل والمقارنة إضافات يتصف بها الأجسام والمكانيات. فيجب أن يكون لجميع الموجودات بالنسبة إليه تعالى فعلية صرفة وحضور محض غير زماني ولا مكاني بلا غيبة وفقد. إذ الزمان مع تجدده والمكان مع انقسامه بالقياس إليه كالآن والنقطة. وسجل دورات السماوات والأرض الجامعة للأزمنة والحركات المحددة للأمكنة والجهات والمواد المشتملة على كلمات الله تعالى مطوية في نظر شهوده دائما. فإنه تعالى ليس ينظر إليها على الولاء بكلمة كلمة منها حتى يغيب عنه ما تقدم نظره (إليه أو يفقد عنده ما تأخر بصره له. ش ع) أو يفقد ما تأخر عنه بل يكون نسبة إحاطته الإشراقية اليومية إلى جميع الحروف والكلمات العينية نسبة واحدة غير زمانية كما في القرآن المجيد: و ما تسقط من ورقة إلا يعلمها و لا حبة في ظلمات الأرض و لا رطب و لا يابس إلا في كتاب مبين.. تنبيه وتمثيل إياك أن تفهم من قلم الله ولوحه ما تفهم من قلم الإنسان ولوحه اللذين هما آلتان
228 جماديتان بل هما لا يشبهان لهذين كما أن ذات الله تعالى وصفاته لا يشبهان ذات الخلق وصفاته وإن صدق عليهما مفهوم القلمية الغير المأخوذة في تحديده كونه من خشب أو قصب أو حديد بل الناقش مطلقا. ومفهوم اللوحية الغير المعتبر في تحديده كونه من خشب أو قرطاس بل مجرد كونه منقوشا فيه سواء كان النقش محسوسا أو معقولا. فالقلم الأعلى ملك إلهي قدسي واللوح المحفوظ ملك نفساني مجرد والكتابة تصوير الحقائق وإفاضتها. والمثال المناسب لمراتب علمه تعالى الأليق للتفهيم إنما يتحقق ويعلم من النشأة الإنسانية والفطرة الآدمية التي هي كهيئة العالم. فكما أن لأفعال الإنسان من لدن صدورها منه وبروزها من مكامن غيبها إلى مظاهر شهادتها أربع مراتب لكونها أولا في مكمن عقله الذي هو غيب غيوبه في غاية الخفاء كأنها غير مشعور بها ثم ينزل إلى جنب قلبه أي مرتبة كونه نقشا عند استحضارها بالفكر وإخطارها بالبال كلية. (في ش ع: ثم تنزل إلى حيز قلبه أي... نفسا.) وفي هذه المرتبة يحصل للإنسان التصورات الكلية وكبريات القياس عند الطلب للأمر الجزئي المنبعث عنه العزم على الفعل. والتعبير عن هذه المرتبة من الإنسان بالقلب لأجل تقلبه وانتقاله من معلوم إلى معلوم كما هو شأن العلم النفساني أو لاعتبار توجهه تارة إلى العقل الصرف وتارة إلى الحس. ثم ينزل إلى مخزن خياله متشخصة جزئية وهو موطن التصورات الجزئية وصغريات القياس ليحصل بانضمامها إلى تلك الكبريات رأي جزئي ينبعث عنه القصد الجازم للفعل ثم يتحرك أعضاؤه عند إرادة إظهارها فيظهر في الخارج. كذلك الحال فيما يحدث في العالم من الصور والأعراض. فالأولى بمثابة القضاء ومحله بمثابة القلم. والثانية بمثابة نقش اللوح المحفوظ. والثالثة بمثابة الصور في السماء.
229 والرابعة بمثابة الصور الحادثة في المواد العنصرية. ولا شك أن النزول الأول لا يكون إلا بإرادة كلية والنزول الثاني بإرادة جزئية تنضم إلى الإرادة الأولى الكلية فينبعث بحسب ملاءمتها ومنافرتها رأي جزئي يستلزم عزما داعيا لإظهار الفعل فيتحرك الأعضاء والجوارح ويظهر الفعل. وحركة الأعضاء بمنزلة حركة السماء. وسلطان العقل الإنساني في الدماغ كسلطان الروح الكلي في العرش. وظهور قلبه الحقيقي الذي هو النفس الناطقة في القلب الصنوبري من الإنسان كظهور النفس الكلية في فلك الشمس. فهو من العالم بمنزلة القلب الصنوبري من الإنسان كما أن العرش منه بمنزلة الدماغ منا. والله بكل شيء محيط. فصل في قدرته تعالى القدرة صفة مؤثرة على وفق العلم والإرادة فخرج منها ما لا تأثير له كالعلم والإرادة في غير الواجب حيث لا تأثير لهما وإن توقف تأثير القدرة عليهما. ولا بأس بعدم خروج علمه وإرادته عن التعريف إذ هما من أفراد المعرف لما علمت من أحدية صفاته وعينيتها مع ذاته تعالى. وخرج أيضا ما يؤثر لكن لا على وفق الإرادة كالطبائع للبسائط العنصرية والمركبات الجمادية. وهي فينا من الكيفيات النفسانية ومصححة للفعل وتركه وقوة على الشيء وضده وتعلقها بالطرفين على السوية فلا يكون فينا تامة إذ مبادئ أفعالنا الاختيارية واردة علينا من خارج كالتصديق بترتب الفائدة أو ما في حكمه من الظن والتخيل وكالشوق والإجماع المسمى بالإرادة والكراهة. فإذن جميع ما يكون لنا من إدراك عقلي أو ظني أو تخيلي وشوق وإرادة ومشية وحركة يكون بالقوة لا بالفعل. فالقدرة فينا هي بعينها القوة وفي الواجب تعالى هي الفعل فقط إذ لا جهة إمكانية هناك. فليست قدرته مندرجة تحت إحدى المقولات بل هي كون ذاته تعالى بذاته بحيث يصدر عنه الموجودات لأجل علمه بنظام الخير. فإذا نسب إليه الممكنات من حيث إنها صادرة عن علمه كان علمه بهذا الاعتبار قدرة وإذا
230 نسب إليه من حيث إن علمه كاف في صدورها كان علمه بهذا الاعتبار إرادة. والفاعل إذا تعلق فعله بمشية كان قادرا من غير أن يعتبر معه شيء آخر من تجدد أغراض أو اختلاف دواع أو تفنن إرادة أو سنوح حالات إلى غير ذلك مما لا يليق بجناب القدس. والجمهور غافلون عن ذلك فيظنون أن القادر لا يكون إلا من شأنه أن يفعل وأن لا يفعل. وأما من شأنه أن يفعل دائما فلا يسميه الجمهور قادرا. والحق أن الشيء الذي يفعل دائما إن كان فعله يصدر عنه بغير مشية فليس له قدرة بهذا المعنى وإن كان يفعل بإرادة له إلا أن إرادته لا تتغير اتفاقا إذ يستحيل تغيرها استحالة ذاتية فهو يفعل بقدرة. والتغير في المشية لا دخل له في معنى القدرة. فالقادر من إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل سواء كان شاء ففعل دائما أو لم يشأ فلم يفعل دائما. والشرطية غير متعلقة الصحة بصدق كل من طرفيها بل قد يصح أن يكون أحد طرفيها أو كلاهما مما يكذب. فهذا المعنى غير صالح للنزاع بين الحكماء والكلاميين. بل ما يصلح للنزاع بين الطائفتين هو كون مقدم الشرطية الأولى واقعا بل ضروريا ذاتيا. ومقدم الشرطية الأخرى غير واقع بل ممتنع الوقوع امتناعا ذاتيا أو ليس كذلك. وهذا الاختلاف في شيء آخر غير مفهوم القدرة. ومن فسر من المنتسبين إلى الحكمة القدرة مطلقا بصحة الفعل والترك بالنظر إلى ذات الفاعل فقد أخطأ من وجهين: الأول أنه يلزم أن يكون الفاعل بالطبع إذا لم يكن اقتضاؤه تاما بل كان مشروطا بشرط مفارق عن طبيعته فاعلا بالاختيار لصحة الفعل والترك عنه بالنظر إلى ذاته من حيث هي بل في نفس الأمر لجواز عدم تحقق ذلك الشرط فيه. وإذا زيد عليه قيد كون التأثير والإيجاد بالشعور والإرادة فقد استغنى عن ذكر الصحة والإمكان. والثاني أنه إن كان المراد بصحة صدور الفعل عن الفاعل وعدم صحة صدوره عنه ما يساوق الإمكان الذاتي للمفعول لزم أن يكون كل معلول مقدورا لأن كل
231 معلول ممكن الوجود لا ينفك عنه إمكانه الذاتي أبدا. وإن كان المراد كون الفاعل ممكن الفاعلية وممكن اللافاعلية فهو إنما يصح إذا كان الفاعل غير تام الفاعلية. فلا يصدق التعريف على قدرة البارىء عندهم. إذ الواجب الوجود بالذات عندهم واجب الوجود من جميع الجهات فلم يكن هذا التفسير تفسيرا لمطلق القدرة بل لقدرة الحيوان. وما ذكره بعض العلماء من نواحي فارس في التوافق بين التعريفين وصدق الأخير على ذات البارىء تعالى من أن إيجاد العالم وعدمه ممكن بالنسبة إلى الذات بدون اعتبار الإرادة وواجب مع اعتبار الإرادة التي هي عين الذات ليس بمستقيم. لأن حيثية ذات البارىء هي بعينها حيثية علمه وقدرته وإرادته كما أسلفنا لك تحقيقه وأقمنا الحجة على أن حيثية الذات هناك هي بعينها حيثية جميع الصفات الكمالية كما أن حيثية الفاعلية والإفاضة هي بعينها حيثية جميع صفاته الإضافية كالرحمانية والرحيمية والرازقية واللطف والكرم وغيرها. وكذا ما أفاد بعض أجلة المحققين في تصحيح التعريف الثاني على ذوق أهل الحكمة من عدم المنافاة بين إمكان عدم العالم في نفسه وامتناع عدمه بالنظر إلى مشية الله تعالى فعدم صدوره ممتنع بالذات وإن كان هو في نفسه ممكن العدم محل بحث. لأن من فسر القدرة بصحة الصدور واللاصدور أراد به ما هو وصف القادر لا ما هو وصف المقدور عليه. كيف والإمكان الذاتي للمقدور لا يجعل الفاعل مختارا وإلا لزم أن يكون كل فاعل وإن كان بالطبع مختارا. هذا خلف. لأن عدم كل ممكن في ذاته ممتنع بالنظر إلى علته الموجبة له. فثبت أن تعريف القدرة مطلقا على ما يوافق رأي الفلاسفة القائلين بكون البارىء تعالى تام القدرة والقوة لا يلحقه عجز ولا قصور في ذاته ولا فتور ودثور في فعله
232 المطلق من حيث كونه فعله المطلق هو كون الفاعل بحيث يتبع فعله علمه به أما على وجه الخير فيه كما في الواجب تعالى أو كونه متشوقا له ومؤثرا عنده كما في غيره. ولما تحققت أن قيوم الكل إنما يفعل الأشياء عن علمه الذي هو عين ذاته فهو فاعل بالاختيار لا بالطبع تعالى الله عما يقوله الملحدون علوا كبيرا. قال الشيخ في الشفا: إنه يعلم من ذاته كيفية كون الخير في الكل فيتبع صورته المعقولة صورة الموجودات على النظام المعقول عنده.. ولا أنها تابعة له اتباع الضوء للمضىء والإسخان للحار بل هو عالم بكيفية نظام الخير في الوجود وأنه عنه. وأنه عالم بأن هذه العالمية يفيض عنها الوجود على الترتيب الذي يعقله خيرا ونظاما. وإن شئت زيادة الانكشاف فاستمع: تنبيه تفصيلي الفاعل على ستة أصناف: الأول فاعل بالطبع وهو الذي يصدر عنه فعل بلا شعور منه وإرادة ويكون فعله ملائما لطبعه. والثاني فاعل بالقسر وهو الذي يصدر عنه فعل بلا شعور منه وإرادة ويكون فعله على خلاف مقتضى طبعه الأصلي. والثالث فاعل بالجبر وهو الذي يصدر عنه فعله بلا اختياره بعد أن يكون من شأنه اختيار ذلك الفعل وعدمه. وهذه الأقسام الثلاثة مشتركة في كونها غير مختارة في فعلها. والرابع فاعل بالقصد وهو الذي يصدر عنه الفعل مسبوقا بإرادته المسبوقة بعلمه
233 المتعلق بغرضه من ذلك الفعل ويكون نسبة أصل قدرته وقوته من دون انضمام الدواعي أو الصوارف إلى فعله وتركه واحدة. الخامس فاعل بالعناية وهو الذي يتبع فعله علمه بوجه الخير فيه بحسب نفس الأمر ويكون علمه بوجه الخير في الفعل كافيا لصدوره عنه من غير قصد زائد على العلم. السادس فاعل بالرضا وهو الذي يكون علمه بذاته الذي هو عين ذاته سببا لوجود الأشياء ونفس معلومية الأشياء له نفس وجودها عنه بلا اختلاف. وإضافة عالميته بالأشياء هي بعينها إضافة فاعليته لها بلا تفاوت. وهذه الثلاثة الأخيرة مشتركة في كونها يفعل بالاختيار. فذهب جمع من الطباعية والدهرية خذلهم الله تعالى إلى أن الواجب تعالى فاعل بالطبع. وجمهور الكلاميين إلى أنه فاعل بالقصد. والشيخ الرئيس ومتابعوه إلى أن فاعليته للأشياء الخارجية بالعناية وللصور العلمية الحاصلة في ذاته بالرضا. وصاحب الإشراق إلى أنه فاعل بالمعنى الأخير. إذا تمهد هذا فنقول: لا يخفى عليك بعد أن أخذت الأصول السالفة بيدك أن الواجب تعالى لا يجوز اتصافه بالفاعلية بالوجوه الثلاثة الأول وأن ذاته أرفع من أن يكون فاعلا بالمعنى الرابع لاستلزامه التكثر بل التجسم. وسيتضح لك زيادة إيضاح. فهو إما فاعل بالعناية أو بالرضا. وعلى أن التقديرين فهو فاعل بالاختيار لا بالإيجاب كما سبق. إلا أن الحق هو الأول منهما. فإن الأول تعالى كما حققناه يعلم الأشياء قبل وجودها بعلم هو عين ذاته فيكون علمه بالأشياء الذي هو عين ذاته منشأ لوجودها فيكون فاعلا بالعناية. والله أعلم. فصل في إرادته تعالى الإرادة فينا شوق متأكد يحصل عقيب داع هو تصور الشيء الملائم تصورا علميا أو ظنيا أو تخيليا موجب لتحريك الأعضاء الآلية لأجل تحصيل ذلك الشيء.
234 وفي الواجب تعالى لبراءته عن الكثرة والنقص ولكونه تاما وفوق التمام تكون عين الداعي وهو نفس علمه الذي هو عين ذاته بنظام الخير في نفس الأمر المقتضي له. لأنه لما علم ذاته الذي هو أجل الأشياء بأجل علم يكون مبتهجا بذاته أشد الابتهاج ومن ابتهج بشيء ابتهج بجميع ما يصدر عن ذلك الشيء من أجل أنه يصدر عن ذلك الشيء. فالواجب تعالى يريد الأشياء لا لأجل ذواتها من حيث ذواتها بل لأجل أنها صدرت عن ذاته تعالى فالعناية بهذا المعنى في الإيجاد نفس ذاته تعالى. وكل ما كان فاعليته لشيء على هذا السبيل يكون فاعلا وغاية معا لذلك الشيء. ولو كانت اللذة فينا شاعرة بذاتها وكانت مصدرا لفعل عنها لكانت مريدة لذلك الشيء. لذاتها لأجل كونه صادرا عن ذاتها فكانت فاعلا وغاية معا. وما وجد كثيرا في كلامهم من أن العالي لا يريد السافل ولا يلتفت إليه في فعله وإلا يلزم أن يكون مستكملا به لكون وجوده له أولى من عدمه والعلة لا يستكمل بالمعلول. لا ينافي ما ذكرناه إذ المراد من الإرادة والالتفات المنفيين عن العالي بالقياس إلى السافل هو ما يكون بالذات لا بالعرض. فلو أحب الواجب مفعوله وأراده لأجل كونه أثرا من آثار ذاته ورشحا من رشحات فيضه لا يلزم أن يكون وجوده له بهجة وخيرا بل بهجته إنما هي بما هو محبوبه بالذات وهو ذاته المتعالية التي كل كمال وجمال رشح وفيض من جماله وكماله. فلا يلزم من إحبابه تعالى وإرادته له استكماله بغيره لأن المحبوب والمراد بالحقيقة نفس ذاته. كما أنك إذا أحببت إنسانا فتحب آثاره لكان المحبوب لك في الحقيقة ذلك الإنسان على ما قيل: أمر على الديار ديار سلمى * أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حب الديار شغفن قلبي * ولكن حب من سكن الديارا قال الشيخ في تعليقاته: لو أن إنسانا عرف الكمال الذي هو حقيقة واجب الوجود ثم كان ينتظم الأمور التي بعده على مثاله حتى كانت الأمور على غاية النظام لكان غرضه بالحقيقة
235 واجب الوجود بذاته الذي هو الكمال فإن كان واجب الوجود بذاته هو الفاعل فهو أيضا الغاية والغرض. انتهى. ومن هاهنا يظهر حقيقة ما قيل: لو لا العشق ما يوجد سماء ولا أرض ولا بر ولا بحر.. ومما يجب عليك أن تعتقد أن الواجب تعالى كما أنه غاية للأشياء بالمعنى المذكور فهو غاية بمعنى أن جميع الأشياء طالبة لكمالاتها ومتشبهة به في تحصيل ذلك الكمال بحسب ما يتصور في حقها لها وشوق إليه إراديا كان أو طبيعيا. والحكماء الإلهيون حكموا بسريان العشق والشعور في جميع الموجودات على تفاوت طبقاتهم ف لكل وجهة هو موليها يحن إليها ويقتبس بنار الشوق نور الوصول لديها. وإليه أشير بقوله سبحانه: و إن من شيء إلا يسبح بحمده.. وقد صرح الشيخ الرئيس في عدة مواضع من التعليقات بأن القوى الأرضية كالنفوس الفلكية وغيرها لا تحرك المادة لتحصيل ما تحتها من المزاج وغيره وإن كانت هذه من التوابع اللازمة بل الغاية في تحريكاتها كونها على أفضل ما يمكن لها ليحصل لها التشبه بما فوقها كما في تحريكات نفوس الأفلاك أجرامها بلا تفاوت. فقد ثبت أن غاية جميع المحركات من القوى العالية والسافلة في تحريكاتها لما دونها استكمال لها بما فوقها وتشبهها به إلى أن ينتهي سلسلة التشبهات والاستكمالات إلى الغاية الأخيرة والخير الأقصى الذي يسكن عنده السلاك وتطمئن به القلوب وهو الواجب جل مجده فيكون غاية بهذا المعنى أيضا. وبهذا يعلم حقيقة كلامهم
236 لو لا عشق العالي لا تطمس السافل.. ثم لا يخفى عليك أن فاعل التسكين كفاعل التحريك في أن مطلوبه ليس ما تحته كالأين مثلا بل كونه على أفضل ما يمكن له كما قال المعلم الثاني: صلت السماء بدورانها والأرض برجحانها.. وقيل في الشعر: وذلك من عميم اللطف شكر * وهذا من رحيق الشوق سكر تنبيه لما علمت أن علمه تعالى بالنظام الأوفق داع لصدور الموجودات عنه على وجه الخير والصلاح ظهر لك كذب قول الطباعية والدهرية من أوساخ الناس القائلين بأن صدور الأفلاك والعناصر وما فيهما من عظائم الأمور وبدائع الفطرة ليس مبنيا على غايات ومنافع وحكم ومصالح. وتبين أيضا فساد ما ينسب إلى ذيمقراطيس من القول بأن وجود العالم عن الصانع على سبيل البخت والاتفاق. ولما دريت امتناع الترجيح من غير مرجح فلا تصغ إلى الأشاعرة القائلين بصدور الفعل من القادر من غير مرجح يرجح وجوده على عدمه في الواقع أو عنده متمسكين بأمثلة جزئية. فإن عدم العلم بالترجيح الواقع من قدحي العطشان وطريقي الهارب مثلا من جهة أسباب خفية عنا يوجب وقوع شيء في أنفسنا يكون ذلك الشيء داعيا لنا في فعلنا لا يوجب نفيه مطلقا. كيف والعابث والنائم والساهي لا ينفك أفاعيلها الصادرة عنها من غاية خيالية وإن لم يكن عقلية أو فكرية كتخيل لذة أو زوال حالة مملة فإن التخيل غير الشعور بالتخيل وغير بقاء التخيل في الذكر فلا ينبغي إنكاره لأجل عدم انحفاظه في الذكر. وإذ قد علم أن الأفاعيل الإرادية لا يخلو عن غايات ودواع مرجحة فما خلق مخلوق بإرادة جزافية وخصوصا إذا كان من عظائم الأمور كالأفلاك والكواكب والأنواع المحفوظة من البسائط والمركبات بنفوسها وطبائعها. بل مع إبطال الدواعي والغايات وتمكن الإرادة الجزافية كما عليه كثير من الكلاميين لم يبق مجال للنظر والبحث ولا اعتماد حينئذ على اليقينيات لعدم الأمن
237 عن ترتيب نقيض النتيجة على القياس البرهاني إذ ربما يخلق في الإنسان حالة تريه الأشياء على غير ما هي عليها. فإن قلت: كيف يكون علمه تعالى بنظام الخير وهو عين ذاته غاية وغرضا له تعالى في الإيجاد والعلة الغائية كما صرحوا به هي ما يقتضي فاعلية الفاعل. فيلزم منه أن يكون ذاته تعالى علة لذاته وهذا محال. قلت: كثيرا ما يطلقون الاقتضاء والاستلزام ويريدون بهما المعنى الأعم وهو مطلق عدم الانفكاك اعتمادا على ما بينوا حاله في مقامه. كيف ولم يقم ضرورة ولا برهان على أن الفاعل والغاية لشيء يجب أن يكونا متغايرين في الحقيقة بل ربما لا يكونان كذلك. فإن الفاعل هو ما يفيد الوجود. والغاية هي ما يفاد لأجله الوجود سواء كان نفس الفاعل أو أعلى منها. ولو كانت الغاية قائمة بذاتها وكان يصدر منها أمر لكانت فاعلا وغاية. فذات البارىء علة فاعلية من حيث إنه يفيد وجود الأشياء. وعلة غائية من حيث إن إفادته الوجود لأجل علمه بنظام الخير فيها الذي هو عين ذاته المعشوقة لذاته. فإن قلت: الغاية بحسب الشيئية والسببية متقدمة على الفعل وبحسب الوجود متأخرة عنه مترتبة عليه. فلو كان البارىء تعالى غاية وفاعلا لسائر الأشياء يلزم أن يكون متقدما عليها ومتأخرا عنها فيكون شيء واحد أول الأوائل وآخر الأواخر. قلت: تأخر الغاية عن الفعل وترتبها عليه إنما يكون إذا كانت من الأمور الواقعة تحت الكون. وأما إذا كانت أعلى من الكون فلا. فإنهم قسموا المعلول إلى مبدع وكائن. والغاية في القسم الأول يقرن مع وجود المعلول ماهية ووجودا. وفي القسم الثاني متأخر عنه وجودا وإن تقدمت عليه ماهية. هذا ما ذكروه في كتب الفن. وأقول إن الواجب تعالى أول الأوائل من جهة وجود ذاته وكونه علة فاعلية لجميع ما سواه وعلة غائية وغرضا لها وهو آخر الأواخر من جهة كونه غاية وفائدة يقصده الأشياء ويتشوق إليه طبعا وإرادة لأنه الخير المطلق والمعشوق الحقيقي. فمصحح
238 اعتبار الأول نفس ذاته بذاته ومصحح اعتبار الثاني صدور الأشياء عنه على وجه يلزمها عشق يقتضي حفظ كمالاتها الأولية والشوق إلى تحصيل ما يفقد عنها من الكمالات الثانية ليتشبه بمبدئها بقدر الإمكان. وستعلم الفرق بين الغاية الذاتية والغاية العرضية. فإن قلت: إن الحكماء قد استنكفوا عن القول بأن أفعال الله معللة بالغرض والغاية. قلت: استنكافهم عن غاية هي غير نفس ذاته تعالى من كرامة أو محمدة أو لذة أو إيصال نفع إلى الغير أو غير ذلك مما يترتب على الإيجاد من غير التفات إليها من جناب قدسه وغناه عما سواه. بل الحق أن كل فاعل لفعل فليس له غرض حق فيما هو دونه ولا قصد صادق لأجل معلوله. لأن ما يكون لأجله قصد يكون ذلك المقصود أعلى من القصد بالضرورة. فلو كان إلى معلول قصد صادق غير مظنون لكان القصد معطيا لوجود ما هو أكمل منه وهو محال. فإن قلت: غرض الطبيب وقصده في معالجة شخص وتدبيره إياه حصول الصحة وقد يستفاد الصحة من قصده إياها. قلت: مفيد الصحة مبدأ أجل من الطبيب وقصده وهو واهب الكمال على المواد حين استعدادها والقصد مطلقا مما يهيىء المادة والمفيد دائما شيء آخر أشرف من القاصد فالقاصد يكون فاعلا بالعرض لا بالذات. فإن قلت: كثيرا ما يقع القصد إلى ما هو أخس من القاصد وقصده. قلت: بلى ولكنه على سبيل الغلط والخطاء أو الجزاف. فإن قلت: فلو لم يكن للواجب غرض في الممكنات وقصد إلى منافعها فكيف يحصل منه الوجود على غاية من الاتقان ونهاية من التدبير والأحكام ولا يمكن لنا أن ننكر الآثار العجيبة الحاصلة في العالم من كون الأشياء على وجه يترتب عليها المصالح والحكم كما يظهر بالتأمل في آيات الأنفس والآفاق ومنافعها التي بعضها بينة وبعضها مبينة وقد اشتملت عليه المجلدات كوجود الحاسة للإحساس ومقدم الدماغ
239 للتخيل ووسطه للتفكر ومؤخره للتذكر والحنجرة للصوت والخيشوم لاستنشاق الهواء والأسنان للمضغ والرية للتنفس والبدن للنفس والنفس لمعرفة البارىء جل كبرياؤه إلى غير ذلك من منافع حركات الأفلاك وأوضاع مناطقها ومنافع الكواكب سيما الشمس والقمر مما لا تفي بذكره الألسنة والأوراق ولا يسع لضبطه الأفهام والأذواق. قلت: وإن لم يكن لفعله علة غائية خارجة عن ذاته ولا لمية مصلحية مباينة من المنافع والمصالح التي نعلمه أو لا نعلمه وهو أكثر بكثير مما نعلمه ولكن ذاته تعالى ذات لا يحصل منها الأشياء إلا على أتم ما ينبغي وأبلغ ما يتصور في المنافع والمصالح لأن ذاته منبع الخيرات ومنشأ الكمالات فيصدر منه كل ما يصدر على أقصى ما يتصور في حقه من الخير والكمال والزينة والجمال سواء كان ضروريا له كوجود العقل للإنسان والنبي للأمة أو غير ضروري كإنبات الشعر على الأشفار والحاجبين وتقعير الأخمصين على القدمين. بل نقول: غاية كل علة لما بعدها سبيله كما مرت الإشارة إليه هذا السبيل من أنها لا يجوز أن تعمل عملا لأجل معلولها ولا أن تستكمل بما دونها اللهم إلا بالعرض لا بالذات ولا أن تقصد فعلا لأجل المعلول وإن كان يعلمه ويرضى به. وكما أن الأجسام الطبيعية من النار والماء والشمس والقمر إنما يفعل أفاعيلها من التبريد والتسخين والإشراق والإضاءة لحفظ كمالاتها لا لانتفاع الغير منها ولكن يلزمها الانتفاع. وكذلك مقصود نفوس الأفلاك في تحريكاتها ليس هو نظام العالم السفلى بل ما وراءه وهو التشبه بالخير الأقصى لكن يحصل منها على سبيل الرشح نظام ما دونها. قيل: وللأرض من كأس الكرام نصيب. فعلى هذا يجب قياس كل عال بالنسبة إلى السافل في باب عدم القصد والالتفات والإفاضة على سبيل
240 التفضيل. ليعلم أن هذه اللوازم من المنافع والمصالح غايات عرضية لا ذاتية إن أريد بالغايات ما يقتضي فاعلية الفاعل وإن كانت [غايات] طبيعية صادرة عن المبادئ بالذات لا بالعرض كوجود مبادئ الشر وغيرها إن أريد بها ما يترتب على الفعل بالذات. فإن قلت: هذه اللوازم الثانوية مع ملزوماتها التي هي كون تلك المبادئ على كمالها الأقصى يجب أن يكون متصورة لتلك المبادئ إما تصورا بالذات أو بالعرض مع أن المبادئ بعضها طبائع جسمانية لا شعور لها أصلا بما يتوجه إليها. قلت: نفي الشعور مطلقا عن الطبائع الجسمية مما لا سبيل لنا إليه بل الحق أن الفحص والنظر يوجبانه. فإن الطبيعة لو لم يكن لها في أفاعيلها مقتضى ذاتي لما فعلته بالذات وإذا لم يكن لمقتضاها وجود إلا أخيرا فله نحو من الثبوت أولا المستلزم لنحو من الشعور وإن لم يكن على سبيل القصد والروية بل الحق عدمه كما في القرآن المجيد: و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم.. فإن قلت: قد يستدل من جهة إحكام الفعل وإتقانه على روية الفاعل وقصده فكيف لا يكون أفاعيل المبادئ الذاتية على سبيل القصد والروية. قلت: هذا استدلال ضعيف إنما يحسن به مخاطبة الجمهور ممن قصرت أفهامهم عن إدراك الغايات الحقيقية ومبادئها. فإن لكل فعل غاية وثمرة سواء كان مع الروية والقصد إلى حصولها أو لا يكون والروية لا يجعل الفعل ذا غاية كما يحصل الولد من بعض حركات الأب بلا مدخلية لرويته وقصده لحصول الولد وإن اقترن معها روية وقصد. ومما يؤيد هذا أن نفس الروية فعل ذو غاية ولا يحتاج إلى روية أخرى. وإن أصحاب الملكات الصناعات يحصل منهم صنائعهم بلا روية كالكاتب الماهر لا يروي في كتبه كل حرف والعواد الماهر لا يتفكر في كل نقرة بل إذا روى الكاتب في كتبه حرف والعواد في نقره يغلط ويتبلد. فللطبيعة غايات بلا قصد وروية. وقريب من
241 هذا اعتصام الزالق بما يعصمه ومبادرة اليد إلى حك العضو بلا فكر وروية. فإن قلت: قد صرحوا بأن الغاية قد تكون في نفس الفاعل كالفرح والغلبة وقد تكون في القابل كصورة الكرسي في الخشب وقد تكون في شيء ثالث خارج عن الفاعل والقابل. فقد علم من تقسيمهم هذا أن الغاية لا تجب أن لا تكون حاصلة فيما دون الفاعل. قلت: الكلام في الغاية الذاتية التي يجعل الفاعل فاعلا وهي بالحقيقة ما هي متمثلة في نفس الفاعل إن جاز له التمثيل كالعقول والنفوس والطبائع الشاعرة. أو تكون عين معقولية الفاعل لذاته المستتبع وجوده لوجود المعلول كذات المصدر لنظام الخير في الكل لأجل معقولية ذاته بذاته على الوجه المذكور. وبالجملة الغاية الذاتية بالمعنى الأول إما نفس الفاعل أو أعلى منه وهو المتمثل فيه أو المشاهد له. والغايات المذكورة في التقسيم إنما هي غايات عرضية لأنها متأخرة عن وجود المعلول فلا دخل لها في الإيجاد. مع أن الحق أن الغاية بالمعنى الثاني أيضا لا يكون خارجا عن الفاعل فإن محصل صورة الكرسي في الخشب بعمل وقاصد رضا إنسان بفعل ليس غرضه إلا طلب أولوية تعود إلى نفسه. وكذا الباني لا يبني بناء بيت للاستقرار أو للأجرة بل لحصول الغاية الأخيرة وهي الأولوية العائدة إلى نفسه. نعم حصول الصورة في القابل وغير ذلك من رضا فلان أو سكون الدار ونحوهما إنما هي غاية بمعنى ما ينتهي إليه الفعل بالذات. والتقسيم إنما يتأتى في النهاية الذاتية مطلقا. أما الغاية الأخيرة التي هي أقصى ما يطلب الشيء لأجله فلا لأنها لا يكون خارجا عن الفاعل فهي علة غائية باعتبار العلم وغاية ذاتية باعتبار العين كما حققناه. فإن قلت: قد يكون لبعض الأشياء غاية ولغايته غاية وهكذا إلى غير النهاية فلا يكون له ولا لشيء منها غاية يسكن لديها كأشخاص الكائنات مع أنهم يثبتون لكل فعل ذاتي غاية قصوى. أجيب عنه بأن الغاية هناك نفس طبيعة ذلك الشيء وكانت ممتنعة للاستبقاء إلا في ضمن أشخاص بلا نهاية. فهذا الاستبقاء علة غائية بالذات وهو واحد لا بد في
242 حصوله من وجود تلك الأشخاص الغير المتناهية فوجوداتها غايات عرضية ضرورية لا ذاتية. وتمام الاستبصار في هذا المبحث إنما يطلب من مواضع متفرقة (من كتاب الشفاء ن خ ع ق ش ف). فصل في حياته تعالى الحياة في حقنا تتم بإدراك هو الإحساس وفعل هو التحريك منبعثين عن قوتين مختلفتين. ولما ورد الشريعة في إطلاقه عليه تعالى فالحي في حقه هو الدراك الفعال. فإذا كان علمه مبدءا للوجود فهو حي وإذا لم يزد علمه على ذاته ولا افتقار له في الفعل إلى قوة محركة أو آلة كما لنا بل بذاته يعلم ويفعل فذاته حياته فصل في سمعه وبصره من ضروريات دين نبينا ص المعلومة بالقرآن والحديث المتواتر والإجماع أن الباري تعالى سميع بصير. فاختلفوا في اندراجهما تحت مطلق العلم ورجوعهما إلى العلم بالمسموعات والمبصرات أو كونهما صفتين زائدتين على مطلق العلم. فبعض المتكلمين كأشياخنا الإمامية ومنهم المحقق الطوسي قدس سره وكالشيخ الأشعري ومتابعيه وفاقا لجمهور الحكماء النافين لعلمه تعالى بالجزئيات على الوجه المخصوص أرجعهما إلى العلم. فأولوا السمع إلى نفس العلم بالمسموعات والبصر إلى نفس العلم بالمبصرات. وبعضهم جعلهما إدراكين حسيين إما بناء على اعتقادهم التجسم أو مباشرة
243 الأجسام في حقه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. أو اعتقاد أن الإحساس في حقه تعالى لبراءته عن القصور تحصل بلا آلة وإن لم يحصل فينا لقصورنا إلا بآلة. ولم يتفطنوا أن الإحساس هو نفس القصور في المدرك والمدرك جميعا كما سبق بيانه. والحاصل أن السمع والبصر عندهم إما مجرد الإحساس أو مطلق العلم بالمحسوسات. وأنك بعد ما علمت أن مناط الجزئية إما الإحساس وهو لا يحصل إلا بتأثر الآلة وإما الشهود الإشراقي وهو لا ينافي التجرد عن الأجسام والتقدس عن المواد وتحققت أنه تعالى عالم بجميع الجزئيات على جزئيتها وماديتها ومنها المسموعات من الحروف والأصوات والمبصرات من الأجسام ذوات الأضواء والألوان. فاعلم وتحقق بأنه تعالى يعلم الأصوات والألوان علما حضوريا إشراقيا وانكشافا شهوديا نوريا بنفس ذاته النور الذي يظهر ويتنور به جميع الأشياء. فذاته تعالى بهذا الاعتبار سمعه وبصره بلا تأويل. وأما عدم وصفه تعالى بالشام والذائق واللامس فلعدم ورود هذه الألفاظ في الشريعة لإيهام التجسم والنقص فيها فتفطن. فصل في تكلمه تعالى قد أطبقت الشرائع كلها على أنه تعالى متكلم. إذ ما من شريعة إلا وفيها أنه تعالى أمر بكذا ونهى عن كذا وأخبر بكذا وكل ذلك من أقسام الكلام. والمتكلم عبارة عن محدث الكلام في جسم من الأجسام كالهواء وغيرها فإنا إذا تكلمنا أحدثنا الكلام في بعض الأجسام التي لنا قدرة على تحريكها فالمتكلم ما قام به
244 التكلم لا ما قام به الكلام كما توهم. والتكلم بمعنى ما به يحصل الكلام فينا ملكة قائمة بذواتنا بها نتمكن من إفادة مخزوناتنا العلمية على غيرنا. وفي الواجب تعالى عين ذاته من حيث يخلق الأصوات والحروف في أي موضع كان من الأجسام لإفادة ما في قضائه السابق على من يشاء من عباده. وما أثبته المتكلمون من الكلام النفسي فإن كان له معنى محصل فيرجع إلى خطرات الأوهام أو تخيل ما يوجد من الكلام ولا شك في براءته تعالى عنه وعن سائر ما يختلقه العوام. فصل في حكمته تعالى وجوده وغناه حكمته إيجاد الموجودات على أحكم وجه وأتقنه بحيث يترتب عليها المنافع ويندفع عنها المضار. لأن الحكمة تطلق على أمرين: أحدهما العلم التصوري بتحقق ماهية الأشياء والتصديق بها باليقين المحض المتحقق. (المحقق ع ق) والثاني الفعل المحكم بأن يكون نظما جامعا لكل ما يحتاج إليه من كمال مرتبة ولا شك أن الأول تعالى عالم بالأشياء على ما هي عليه علما هو أشرف أنواع العلوم. لأن علمه بنظام الوجود هو مبدأ لنظام الكل كما سبق والعلم الذي هو مبدأ الوجود أشرف من العلم المستفاد من الوجود. وأما أفعاله فهي في غاية الأحكام إذ أعطى كل شيء خلقه ثم هدى وأنعم عليه بكل ما هو ضروري وبكل ما هو زينة وتكملة وإن لم يكن ضروريا بل فضيلة كتقويس الحاجبين وتقعير أخمص القدمين وإنبات اللحية الساترة لتشيخ البشرة في الكبر إلى غير ذلك من لطائف تخرج عن الحصر في الحيوان والإنسان وجميع أجزاء العالم.
245 فأعطى كل شيء قوة يحفظ بها كماله الموجود وقوة يتحرك بها إلى كماله المفقود. ويكمل هذا بما أودع في كل منها من عشق ما هو كامل منها لكماله لينحفظ به كماله وشوق ما هو ناقص منها إلى كماله الممكن في حقه شوقا مناسبا لكماله لينجبر به نقصه. والشوق يتركب من لذة من حيث إدراك المشتاق إليه الذي هو أثر من الوصول ومن ألم من حيث إدراك فقدان حقيقته التي حصولها عين الوصول. فكل من يكون إدراكه أتم يكون عشقه وشوقه أوفر. وبالجملة ملاك الأمر في نيل كل مطلوب العشق. وكما أن ذات كل شيء أليق الأشياء به وخير الأمور لديه وأن ثبوت كل شيء له فرع ثبوته لنفسه فكذلك عشق ذاته مبدأ لعشق سائر الأشياء التي يليق به ويؤثر عنده. فإنا لو لم نعشق ذواتنا لم نلتذ بشيء والعشق هو الشعور بالكمال فشعور كل أحد بوجود ذاته أصل سعادته لأنه مبدأ للشعور بكل وجود وخير كما عرفت. فحكمته تعالى التي هي إيجاد الموجودات على أحكم الوجوه وأصلحها إنما تنتظم بالعشق الساري في جميع الذراري. وجوده تعالى فيضان الوجود منه على كل ما يقبله بقدر ما يقبله من غير منع وبخل وتعويض سواء كان جوهرا عينيا أو ثناء أو فرحا أو دعاء أو ضنينا. وبالجملة الجواد الحقيقي ما لا يكون إعطاؤه شيئا لأجل تحصيل أولوية تعود إلى ذاته وإلا لم يكن إعطاؤه جودا بل يكون في الحقيقة معاملة أو استعاضة فلم يكن تاما في ذاته لأنه حينئذ عادم كمال ويجبر بذلك نقصانه وقاصريته عن الكمال المطلق في حد ذاته. فحيث يكون كمال بلا نقص وتمام بلا قصور وفعل بلا قوة كان فعله منبعثا عن ذاته وكرمه ناشئا عن حاق حقيقته غير معلل بغيره ولا مستند إلى ما سواه فيكون فعله جودا حقيقيا. وإذا دريت أن كل مختار يقصد أحد طرفي المقدور المتساويين بالنسبة إلى ذاته وقدرته فلا بد له من مرجح يجعل ذلك الطرف أولى له وأرجح عنده. فالترجيح متقدم على إرادته فيكون فاعليته مستفادة من غيره فلم يكن ذاته بذاته معطيا بل
246 بغيره فيكون ذا حاجة إلى غيره في صفة كمالية له فلا يكون غنيا مطلقا. فكل غني مطلق يجب أن يكون فعله أعلى من أن يكون بإرادة زائدة على ذاته لامتناع أن يكون شيء من الأشياء أشرف من ذاته حتى يكون داعيا له في فعله وباعثا له عليه بعد أن لم يكن ذاته كذلك فليس ذاته غنيا من كل الوجوه. فالحق الأول كما أنه غني في ذاته لوجوب وجوده فكذلك هو تعالى غني في فعله. فهو الغني المطلق فكل ما سواه لإمكانه فقير إليه تعالى كما ورد في القرآن المجيد: و الله الغني و أنتم الفقراء.. [أنتم الفقراء إلى الله و الله هو الغني] فصل في أنه تعالى مبتهج بذاته وأن عنده من المعنى الذي يعبر عن نظيره في حقنا باللذة والغبطة والفرح والسرور بجمال ذاته وكمالها ما لا يدخل تحت وصف واصف. وأن للملائكة المقربين الذين سيقام البرهان على وجودهم لهم من الابتهاج واللذة بمطالعة جمال الحضرة الربوبية ما يزيد على ابتهاجهم بكمال أنفسهم. ونبين هذا بعد تمهيد قواعد: الأولى أن يعرف معنى اللذة والألم. فاللذة عبارة عن إدراك الملائم. والألم عبارة عن إدراك المنافر. ولا ينبغي أن يظن أن كل واحد منهما عبارة عن صفة تتبع الإدراك للملائم أو المنافر بل الإدراك اسم عام وهو منقسم إلى لذة وألم وما ليس بأحدهما فهو غير زائد على الأقسام. والثانية أن يعرف أن ملائم كل قوة فعلها الذي هو مقتضى طبعها من غير آفة وعائق. فمقتضى القوة الغضبية الغلبة وطلب الانتقام ولذتها به. ومقتضى طبع الشهوة الذوق. ومقتضى الخيال الوهم والرجاء وبه يلتذ. وهكذا كل القوى. الثالثة أن الكامل يقوى فيه القوى الباطنة على القوى الظاهرة ويستحقر
247 لديه لذات القوى الحسية عند لذات القوى العقلية والوهمية. ولذلك إذا خير المرء بين الحلواء والهريسة وبين الاستيلاء على الأعداء وإدراك أسباب الرئاسة والغلبة فإن كان المخير ساقط الهمة ميت القلب جامد القوى الباطنة اختار الهريسة والحلواء. وإن كان المخير رزين العقل بهي النفس استحقر لذة الطعام بالإضافة إلى ما ينال من لذة الرئاسة والغلبة على الأعداء. الرابعة أن كل قوة فإنما لها لذة إدراك ما هو قوة عليه إذا كان موافقا لها ولكن يتفاوت اللذات بحسب تفاوت الإدراك والقوى المدركة والمعنى المدرك. فكلما كانت القوى أقوى في نفسها وأشرف في جنسها كانت لذتها أقوى. فإن لذة الطعام بحسب قوة شهوة الطعام ولذة الجماع كذلك ولذة العقليات أشرف في جنسها من لذة الحسيات حتى اختار العاقل تلك على هذا. وكذا كلما كان الإدراك أشد كان اللذة أتم فلذة النظر إلى الوجه الجميل على قرب وفي موضع مضيء أتم من لذته في إدراكه من بعد لأن إدراك الشيء من القريب أشد. وأيضا كلما كان المدرك أتم في حقه كانت اللذة به والألم منه أكثر. الخامسة وهي نتيجة المقدمات الماضية أن اللذة العقلية أقوى وأشرف من الحسية لأنها لا تكون إلا في آلات جسدانية وإنما تفسد بإدراك مدركاتها إذا قويت. إذ لذة العين في الضوء وألمها في الظلمة. والضوء القوى يفسدها. وكذا الصوت القوى يفسد السمع ويمنعه من إدراك الخفي بعده. والمدركات العقلية الجلية تقوي العقل وتزيده نورا. وكيف لا والقوة العقلية قائمة بنفسها لا تقبل التغير والاستحالة والقوة الحسية في جسم مستحيل وأقرب الموجودات الأرضية إلى الأول وأشدها مناسبة هو القوة العقلية من الإنسان كما سيأتي. وأما إدراك العقل فإنه يفارق الحس من وجوده إذ يدرك الشيء على ما هو عليه من غير أن يقترن به ما هو غريب له وينال حاق جوهره ولب ذاته مجردة عن القشور واللبوسات. وأما القوة الحسية فلا تدرك إلا الخلطاء ولا ينال إلا المشوبات بغيرها فلا يحس باللون ما لم يحس معه بالطول والعرض والأين وبأمور
248 أخرى غريبة عن حقيقة اللون. والعقل يدرك الأشياء كما هي ويجردها عن قرائنها الغريبة. وأيضا فإدراك الحس بتفاوت فيرى الشيء الواحد عظيما في القرب (عظيما في القريب وصغيرا في البعيد خ ع ق) وصغيرا في البعد وكلما صار أبعد يراه أصغر إلى أن يصير بسبب البعد كنقطة ثم يبطل رؤيته. وكلما صار أقرب صار أعظم إلى أن يصير بسبب القرب كنصف العالم ثم يبطل رؤيته. وإدراك العقل يطابق المدرك ولا يتفاوت. وأيضا فالحس في الإدراك يغلط كثيرا حيث يرى الشمس بقدر أترجة ومقدار جرمها مائة وستين مثلا للأرض. [لمقدار الأرض ع ق] وأما العقل الذي يراعي القوانين العقلية المنطقية ويتطهر عن المعاصي والأدناس ولا يزاحمه الوهم والوساوس فهو معصوم عن الخلط والخطاء. وأما المدرك فمدركات الحس الأجسام وأعراضها المادية ومدركات العقل الماهيات الكلية الأزلية والذوات النورية العقلية التي يستحيل تغيرها وذات الحق الأول الذي يصدر منه كل كمال وجمال وبهاء في العالم. فإذن لا قياس للذة الحسية إلى العقلية. فك عقدة لا يبعد أن يحضر المدرك الموجب للذة الوافرة ولا يشعر الإنسان باللذة لكونه غافلا عنه أو مشغولا بغيره كالمتفكر الغافل عن الألحان الطيبة ولكونه ممنوا بآفة غيرت مزاجه وطبعه كالذي يستلذ عن أكل الطين أو شيئا حامضا لطول ألفة. فإن طول المؤانسة ربما يحدث ملاءمة بين طبعه وبينه فيستلذ ما هو مكروه بالإضافة إلى الطبع الأصلي كالذي به مرض بوليموس فإن جميع أعضائه محتاج إلى الغذاء وفي
249 معدته وآلات هضمه آفة تمنعه عن الإحساس بشهوة الطعام. وقد يكون عدم إدراك اللذة لضعف القوة المدركة كالبصر الضعيف قد يتأذى بأدنى ضوء وإن كان ذلك موافقا لذيذا بالإضافة إلى الطبع السليم. فيما ذكر يندفع سؤال من يقول: لو كانت العقليات ألذ من الحسيات لكان لذتنا بالعلوم وألمنا بالجهل يزيد على لذتنا بالحسيات وألمنا بفقدها. لأنا نقول: سبب ذلك خروج النفس عن مقتضى الطبع الأصلي بالعادات الردية والآفات العارضة ووقوع الألف مع المحسوسات والإخلاد إلى الأرض واشتغال النفس بمقتضى الشهوات ومعاداة الخصوم فإن هذه العوارض نازلة في النفس بمنزلة المرض والخدر في العضو وقد يصيب العضو الخدر نار محرقة تحرقه وهو لا يحس به فإذا زال الخدر أحس بها. وعوارض البدن أوجب مثل هذا الخدر فإذا فارقت النفس البدن بالموت أدركت ما هو حاصل للنفس من ألم الجهل إن كان جاهلا ردي الخلق ولذة العلم إن كان عالما زكي الطبع حسن الخلق. فإذا تمهدت هذه القوانين يحصل منها أن الواجب تعالى أجل مبتهج بذاته لأنه مدرك لذاته على ما هو عليه من الجمال والبهاء وهو مبدأ كل جمال وزينة وبهاء ومبدأ كل حسن ونظام. فهو من حيث كونه مدركا أجل الأشياء وأعلاها وأشدها قوة ومن حيث كونه إدراكا أشرفها وأكملها وأقواها ومن حيث كونه مدركا أحسنها وأرفعها أبهاها. فهو إذن أقوى مدرك لأجل مدرك بأتم إدراك بما هو عليه من الغبطة والكمال. ومن نظر إلى سرور الإنسان وابتهاجه بنفسه إذا استشعر بكماله في الاستيلاء بالعلم أو الاستيلاء بالغلبة والملك على جميع الأرض إذا انضاف إليه صحة البدن وجمال الصورة وانقياد كافة الخلق. فإن هذين الأمرين أي الاستيلاء العلمي على الجميع والاستيلاء العيني على البعض لو تصور اجتماعهما لشخص لكان غاية اللذة مع أن أحدهما مستفاد من الغير والآخر مستعار معرض للزوال ولا يرجع إلا إلى معرفة أمور حصولها حصول ذهني غير عيني واستيلاء على بعض نواحي الأرض التي
250 لا نسبة لوجودها إلى أجسام العالم فضلا إلى الجواهر العقلية والملائكة الروحانية. فقياس لذة الأول تعالى إلى لذتنا كقياس كماله تعالى إلى كمالنا إذا فرضت لنا مثل هذه الحالة. فقد قال بعض العلماء: لو لم يكن له تعالى من اللذة بإدراك جمال ذاته إلا ما لنا من اللذة بعرفانه مهما التفتنا إلى جماله وقطعنا النظر عما دونه واستشعرنا عظمته وجلاله وجماله وحصول الكل منه على أحسن نظام وانقيادها له على سبيل التسخير الجبلي والطاعة الطباعية ودوام ذلك أزلا وأبدا من غير إمكان تغير لكان تلك اللذة لا يقاس بها لذة. وكيف وإدراكه لذاته لا يناسب إدراكنا له لأنا لا ندرك من ذاته وصفاته إلا أمورا جمليا يسيرة. واعلم أن العشق أيضا معناه الابتهاج بتصور حضرة ذات ما. وأما الشوق فهو استدعاء إكمال هذا التصور والحركة إلى تتميم هذا الابتهاج فإن مراتب حضور الصورة متفاوتة إذ التمثل الخيالي مرتبة ضعيفة من الحضور والتمثل الحسي أقوى منه والشهود الإشراقي أتم الإدراكات. وكل مشتاق إلى مرغوب فإنه قد نال شيئا وفاته شيء وفي هذا سر عظيم لأرباب الذوق والعرفان. والإشارة إلى لمعة منه أن كل مشتاق من حيث كونه مشتاقا فهو من جملة المشتاق إليه. فإن الظمآن يتصور أولا الري فيحصل له ذلك حصولا ضعيفا هو يوجب طلبه على أتم وجه. فالريان يشتاق الريان ويطلبه فكل ذي طلب لا يطلب إلا ما هو تمام حقيقته وكمال ذاته. فافهم ذلك إن كنت من أهله. وبالجملة الشوق يصحبه قصور وأما العشق فقد يتقدس ويتعالى عن الشوائب. فالأول عاشق لذاته معشوق لذاته عشق أو لم يعشق. لكنه معشوق لذاته من ذاته ومن غيره وهو جميع الموجودات المفتقرة إليه. إذ ما من موجود إلا وله عشق غريزي وشوق طبيعي إلى الخير المطلق والنور المحض بلا شوب شرية وظلمة ونقص وآفة.
251 ويتلوه عشق المبتهجين به وبذواتهم لا من حيث هم هم بل من حيث كونهم مبتهجين به وهم الملائكة العقلية فإنهم يعرفون أنفسهم بالأول وهم على الدوام في مطالعة ذلك الجمال على ما سيأتي بيانه. فلذتهم أيضا بذاته ولكنها دون اللذة الأول. وأما لذتهم بأنفسهم فهي من حيث رأوا أنفسهم عبيدا وخدما له مسخرين. فإن من عشق ملكا من الملوك فأقبل عليه بخدمته كان مبتهجا بحشمه وقومه وأبيه ونسبه راجعا إلى التبهج بذلك الملك. وبعد المرتبتين الأوليين في الابتهاج مرتبة العشاق المشتاقين المتحركين إلى طلب رب العالمين المتواجدين في عظمة أول الأولين وهو الذي إذا أدار رحاها بسم الله مجراها و مرساها.. وهذه مرتبة النفوس التي في عالم الأفلاك. فهم من حيث هم مشتاقون قد نالوا نيلا وفقدوا فقدانا لعدم وصولهم إلى الغاية القصوى من الوصال في حقهم لكون النفوس من حيث هي نفوس يصحبها قوة وهجران أبدا. فهم واجدون في عين الحرمان واصلون حين الفرقان. فلا محالة يغشاهم نوع دهشة وحيرة وتأذوا أذى لذيذا لأنه كان من قبل أرحم الراحمين. وهاتان الجهتان فيهم بإزاء الرجاء والخوف في الإنسان العالم الصالح. وبعد هذه المراتب مرتبة النفوس الإنسانية التي وصلت في حياتها الدنياوية إلى الغبطة العظمى. فإن أشرف أحوالها أن تكون عاشقة مشتاقة فشوقها يؤدي إلى الطلب والسير الحثيث إلى الحق. فإن كانت تلك الحركة مؤدية إلى النيل بطل الطلب وصفت البهجة (وضعفت خ ل) وحقت وهو الفناء الذي يسمى عند الصوفية بالولاية ففازت بمرتبة السابقون المقربون. إذ الإنسان له سبيل إلى أن يكتسب سعادة حقيقية بأن يخرج
252 أولا قوته العقلية من القوة إلى الفعل لينتقش بالوجود كله على ترتيبه ونقشه وهيئته ورقشه. فيدرك الأول وما يتلوه من الملائكة المقربين وما بعده من الموجودات. وربما يحس بأدنى لذة من الاطلاع عليها في هذه النشأة لمكان اشتغاله بالبدن. فإذا فارق البدن بالموت أو حصل له ما حصل للمتجردين من جلباب البشرية يعني ملكة خلع البدن حيثما شاء يلحق بالمللأ الأعلى ويصير رفيق الملائكة. وهناك لجة الوصول. وهذا معنى السعادة في حق الإنسان. ويتلو هذه النفوس الإنسانية نفوس حيوانية سواء كانت من نوع الإنسان أو أنواع أخرى حيوانية طالبة لكمالات وهمية وخيرات خيالية. فهي صنفان: سعيدة وشقية فالسعيدة نفوس بشرية تتصور الحق الأول تصورا مثاليا ويتمثل لها الوسائط العقلية لفيضه وجوده بالأمثلة المأخوذة عن المبادئ الجسمانية والأفعال الباطنية المقربة إليه والنيات الصالحة المزلفة لديه بنظائرها من الأفعال الصادرة من خدام السلاطين وعبيد الملوك ويتخيل الغايات الحقيقية كالغايات الحسية. فكأنهم يعبدون حكاية الحق الأول لا ذاته تعالى. فلهذا صارت عباداتهم وحركاتهم أمثلة لعبادات أهل الحق وأشباحا لنسك العارفين وسلوكهم سبيل الحق وخضوعهم وخشوعهم بالقلب الصافي والنية الخالصة والمودة الخفية. والشقية نفوس منغمرة في عالم الطبيعة منتكسة رؤسها لا نكبابها إلى الشهوات واللذات الحسية والتقلبات الحيوانية فهي التي فكفرت بأنعم الله وصرفت قواها الشهوية والغضبية في غير ما خلقت لأجله وضلت ضلالا بعيدا وخسرت خسرانا مبينا. وهي مع هذه الشقاوة الفاحشة غير خالية عن شوق وعشق إلى طلب الخير الأقصى والحق الأعلى بحسب غريزتها وطبيعتها التي أشير إليها في الكلام الإلهي بقوله تعالى: فطرت الله التي فطر الناس عليها. وإن غيرت عما هي مفطورة عليه
253 بقوله بحسب اقتران الخطيئات واغتراف السيئات. وفي الحديث النبوي عليه وآله الصلاة والسلام: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه.. تتميم حكم التدبر في الأمور العالمية مبدعة كانت أو كائنة عالية أو سافلة يقتضي أن يكون لكل منها كمال يخصه وعشق عقلي أو طبيعي أو حيواني لذلك الكمال وشوقا طبيعيا أو إراديا إلى طلبه حيث فارقه رحمة من الحق الأول على سبيل العناية الخالي عن النقص والشين ف لكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات.. فالكائنات البائدات كالسابقات الباديات على اغتراف عشق وشوق من هذا البحر الخضيم واستضاءة نور من هذا الواهب القديم. وما أحسن ما قيل! صلت السماء بدورانها والأرض برجحانها والماء بسيلانه والمطر بهطلانه وقد يصلي له ولا يشعر ولذكر الله أكبر.. فذلك من عميم اللطف شكر * وهذا من رحيق الشوق سكر في كيفية محبته تعالى للخلق اعلم أن شواهد القرآن والحديث متظاهرة على أن الله تعالى يحب عباده فلا بد من معرفة ذلك وكيفيته. ولنقدم أولا الشواهد النقلية ثم البرهان العقلي عليه: قال الله تعالى: يحبهم و يحبونه. وقال الله تعالى: إن الله يحب التوابين و يحب المتطهرين.. وقوله: إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا.. وعن
254 النبي ص أنه قال: إذا أحب الله عبدا لم يضره ذنب. والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.. وقد رتب الله على المحبة غفران الذنب فقال: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله و يغفر لكم ذنوبكم.. وقال ص حكاية عن الله تعالى: لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته... الحديث. وقد ورد في الحديث: إن الله ليحب العبد حتى يبلغ من حبه له أن يقول له اعمل ما شئت فقد غفرت لك.. وما ورد من ألفاظ المحبة في الأحاديث المروية بطريق أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين خارج عن الحصر وكفاك شاهدا كونه ص مسمى ب حبيب الله. وقد علمت أن محبة العبد لله حقيقة وليست بمجاز عن امتثال الأوامر واجتناب النواهي كما زعمته طائفة من المتكلمين كالزمخشري ومن يحذو حذوه. إذ قد بينا أن المحبة وما يرادفها في وضع اللسان عبارة عن الابتهاج بالشيء الموافق سواء كان عقليا أو حسيا حقيقيا أو مظنونا. وبينا أن الواجب تعالى أجمل من كل جميل. فكذلك حب الله تعالى لمخلوقاته حقيقي وليس بمجاز عن إيصال الثواب للطاعات كما زعموا بل أرفع من ذلك. نعم الأسامي كلها إذا أطلقت على الله تعالى وعلى غيره لم يطلق عليهما بمعنى واحد في درجة واحدة. حتى أن اسم الوجود الذي هو أعم الأشياء اشتراكا لا يشمل الواجب والممكن على نهج واحد بل كل ما سوى الله تعالى وجوداتها ظلال وأشباح محاكية لوجود الحق الأول. ومع ذلك ليس إطلاق الوجود على ما سوى الله مجازا لغويا بل مجازا عرفانيا عند أهل الله. وهكذا في سائر الأسامي كالعلم والإرادة والقدرة وغيرها فكل ذلك لا يشبه فيه الخالق الخلق. وواضع اللغات إنما وضع هذه الأسامي أولا للخلق لأنها أسبق إلى العقول والأفهام من الخالق فلهذا وقع السفر منها إليه تعالى. فالمحبة في حق الخلق يصحبها نقص وشين وأما في حق الخالق فهي مقدسة عن القصورات والنقائص والكدورات الإمكانية. وأما البرهان العقلي على وجودها للحق تعالى فلما مرت الإشارة إليه سابقا أن
255 من أحب ذاتا متصفة بالعظمة والكبرياء والقدرة والجود واللطف والكرم فلا بد وأن يحب ما ينشأ من ذاته بذاته من الآثار واللوازم الذاتية المنبعثة عنه بلا مدخلية الغير. فإن كان لآثار الشيء ولوازمه حيثية أخرى غير كونها آثارا ولوازم لذلك الشيء يمكن أن يتعلق بها محبة استقلالية من جهة أخرى غير جهة كونها تابعة. وأما إذا لم يكن لتوابع الشيء حيثية سوى أنها توابع له كالحقائق الممكنات بالقياس إلى الحق الأول على طبق ما حققناه في مظانه فلا يمكن تعلق الابتهاج بها إلا من جهة الابتهاج به تعالى. بل الابتهاج بلوازم الحق الأول وآثاره هو بعينه الابتهاج بذاته تعالى. ومن أحب عالما أحب تصنيفه من حيث هو تصنيفه. والعالم بجميع حقائقه وهيئاته وصوره تصنيف الله تعالى بلا حيثية أخرى كما أشرنا إليه. ولما ثبت من قبل محبة الله تعالى لذاته وهي عين علمه بذاته المستجمعة لأوصاف الكمال ونعوت الجمال فقد ثبت محبته للوازمه وآثاره التي هي موجودات العالم بأسرها. ولما بين أن وجود الممكن في نفسه وكونه أثرا من آثار قدرة الله تعالى هما أمر واحد بلا اختلاف فإن وجودات المخلوقات هي بعينها روابط فيض الحق وتجلياته فوجود كل ممكن ليس إلا جهة من جهات كمال الحق ووجوده وابتهاجه بذاته منطو فيه ابتهاجه بجميع أفعاله وآثاره. كما أن علمه بها منطو في علمه بذاته. ثم إن طبقات وجود الخلائق متفاوتة قربا وبعدا من المبدإ الأعلى شرفا وخسة كمالا ونقصا. فأحق الخلق بمحبة الحق هو أشرف الممكنات وأقربها إليه تعالى في سلسلتي البدء والرجوع والآخرة والأولى. ثم يتلوه في المحبة ما يتلو في النسبة ويقربه في درجة الوجود وهكذا متدرجا إلى الأحب فالأحب حتى ينتهي إلى أخس الموجودات وأنجس العاصيات وهو إبليس من الأحياء والهيولى الجسمية من الأموات. وهما من أنقص الأبدان والأشباح وأعصى النفوس والأرواح. ولو تيسر للزمخشري وغيره من المتكلمين المنكرين لعناية الله تعالى ما تيسر للعارفين الواجدين لكرامة الله تعالى على خلقه وفرط لطفه ورحمته عليهم المطلعين على المحبة الخالية عن القصور والنقص التي هي بالحقيقة ترجع إلى ابتهاجه بوجود ذاته
256 المنبعثة عنها كل خير وكمال وزينة وجمال لما أنكروها. لكنهم لاشتغالهم بغير الله وآياته احتجبت عنهم هذه المعرفة. بل لحصر عقولهم في عالم الشهادة لا يهتدون من الحق إلا إلى مجرد مفهوم الوجود ولا يتطرقون إلى حريم الكشف والشهود ولم يعلموا أن القوم قد بلغوا في مرتبة الذوق والإيمان إلى أتم من المحسوس وجادوا من فرط الشوق والوجدان بالأرواح والنفوس. قرىء عند الشيخ أبو سعيد المهنى قدس سره قوله تعالى يحبهم و يحبونه. فقال: بحق يحبهم فإنه ليس يحب إلا نفسه. على معنى أنه كل الوجود وليس في الوجود غيره كمن لا يحب إلا نفسه وأفعال نفسه وتصانيف نفسه فلا يتجاوز حبه ذاته وتوابع ذاته من حيث هو متعلق بذاته فهو إذن لا يحب إلا نفسه.. فانظر أيها المصنف إلى مرتبة هذا الشيخ الجليل المنزلة العظيم المرتبة كيف حقق الأمر وتفطن به. فإنه كما عرف أن محبة الآثار المختصة بشيء يرجع بالحقيقة إلى محبة نفس ذلك الشيء فكذلك انكشف له لأجل الرياضات العلمية والعملية أن وجودات الممكنات ليس حقائقها إلا آثارا للحق تعالى وتوابع له بلا اختلاف حيثية كما زعموا المحجوبون من أن كون الممكن موجودا شيء وكونه أثرا تابعا شيء آخر حتى يلزم الكثرة في حقيقة الوجود والاستقلال للأشياء في الكون بأن صفة الافتقار إلى الحق عارضة للممكنات لا ذاتية لها. بل الحق الحقيق بالتصديق أن حقيقة الممكن ليس إلا عين الافتقار والتعلق بالغير. وهو ظلي الوجود رشحي الذات لكن لكل ممكن من الممكنات نوع حكاية عن الحق تعالى متفاوتة بحسب قربها وبعدها وكثرة قشورها وقلتها كما في المرايا المتخالفة المقادير والأوضاع والصقالات المحاكية لصورة شخص
257 بعينه فإنها لا محالة اختلفت في حكاياتها عظما وصغرا وتحديبا وتقعيرا واستقامة واعوجاجا وصفاء وكدورة. مع أن المرئي في الجميع صورة واحدة بلا تفاوت. فكذلك حكم الممكنات في قبول تجلي الحق الأول وحكايتها عن ذاته. ولنعطف عنان الكلام إلى ما كنا فيه ونرجع إلى حيث فارقناه وهو أن الواجب تعالى لا يحب إلا نفسه فمحبته لما سواه لا يؤدي إلى نقص فيه تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وما ورد من الألفاظ في حبه لبعض عباده على وجه أخص من الوجه العام فهو يرجع إلى كشف الحجاب عن قلبه حتى يراه بقلبه وإلى تمكينه إياه من القرب منه وإلى إرادته ذلك به في الأزل لقوة استعداده الحاصلة له بالفيض الأقدس. فحبه تعالى لمن أحبه أزلي مهما أضيفت إلى الإرادة الأزلية والعلم الأزلي بوجه نظام الخير. وإذا أضيفت إلى فعله وتوفيقه إياه وهدايته وتسهيله سبيل الحق الذي يكشف به الحجاب عن قلب عبده فهو حادث في صدور حدوث السبب المقتضي له المسمى بالفيض المقدس. (فهو حادث في حدود السبب... م ش). وأشير إلى الأول السعيد سعيد في الأزل والشقي شقي لم يزل. وكذا قول أمير المؤمنين ع اعلموا علما يقينيا أن الله لم يجعل للعبد وإن عظمت حيلته وقويت كيدته واشتدت طلبته أكثر مما سمى له في الذكر الحكيم. وإلى الثاني يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب. فيكون تقرب العبد بالنوافل سببا لصفاء باطنه وارتفاع الحجاب عن قلبه وحصوله في درجة القرب من ربه. وكل ذلك من لطفه ومحبته الآثارية. ولا يفهم الفرق بين المحبة التي يجب تنزيه الله تعالى عنها وبين المحبة الخالية عن النقص إلا بمثال: وهو أن الملك قد يقرب عبده من نفسه ويأذن له في كل وقت في
258 حضور بساطه لميل الملك إياه ورغبته له إما لينصره بقربه أو ليستريح بمشاهدته أو ليستشيره في رأيه أو ليهيىء أسباب شرابه وطعامه فيقال إن الملك يحبه. ومعناه ميله إياه. وهذه هي المحبة التي منشؤها قصور المحب عن الكمال الأتم والله مقدس عن نحوها. وقد يقرب عبدا ولا يمنعه من الدخول عليه لا للانتفاع والا ستيجاد بوجه ولكن لكون العبد في نفسه موصوفا من الأخلاق المرضية والخصال الحميدة بما يليق به أن يكون قريبا من حضرة الملوك وافر الحظ من قربهم بحسب استحقاقه في نفسه لا لكون الملك ذا غرض فيه وفي قربه لاستغنائه عنه. فإذا رفع الحجاب بينه وبينه يقال قد أحبه. وإذا اكتسب من الخصال الحميدة ما اقتضى رفع الحجاب يقال قد وصل وحبب نفسه إلى الملك. وهذا المعنى الثاني من المحبة يليق بالأول تعالى لا المعنى الأول بشرط أن لا يسبق إلى فهمك دخول تغير عليه تعالى عند تجدد القرب. فإن الحبيب هو القريب من الله والقرب من الله بالبعد من صفات البهائم والسباع والشياطين والتخلق بمكارم الأخلاق التي هي الأخلاق الإلهية. فهو قريب بالمعنى والصفة لا بالمكان. ومن لم يكن قريبا فصار قريبا فقد تغير فربما يظن به أن القرب لما تجدد فقد تغير وصف العبد والرب جميعا وهو محال في حق الله تعالى بل لا يزال على ما كان من أزل الآزال. ولا ينكشف هذا المقال إلا لأصحاب الذوق والحال.
259 المقالة الثالثة في أفعاله والكلام فيها يشتمل على مقدمة وفصول أما المقدمة ففيها تقسيمات الأول: أن الموجودات الجوهرية باعتبار التأثير والتأثر ينقسم ثلاثة أقسام: فعال غير منفعل ويعبر عنه اصطلاحا بالعقول المجردة ومنفعل غير فاعل وهو الجسم بما هو جسم أي ذو أبعاد ثلاثة فقط ومنفعل فاعل ينفعل من العقول الفعالة ويفعل في الأجسام المنفعلة ويسمى النفوس والصور. وهذه الأقسام يقضي العقل بإمكانها. وأما إثبات وجودها فيحتاج إلى البرهان. نعم الأجسام معلومة الوجود بإعانة الحس وليس بنفسه محسوسا بل بظاهره وصفاته من اللون والشكل والتحيز وغيرها. وأما النفوس والصور فيدل عليها
261 حركات الأجسام وانحفاظ حقائقها. وأما العقول فيدل عليها تحريكات النفوس وأشواقها. التقسيم الثاني أن الموجودات باعتبار الكمال والنقص ينقسم إلى تام وناقص. والتام إلى فوق التمام وغيره. والناقص إلى المستكفي وغيره. والتمام ما يكون بحيث لا يحتاج إلى أن يمده غيره ليكتسب منه وصفا بل كل ما يمكن له بالإمكان العام فهو موجود حاضر له. والناقص ما لا يحضر معه كل ما هو ممكن له بل لا بد من أن يحصل له ما به يكمل بعد ما لم يكن حاصلا له. والأول إن كان قد حصل له ما ينبغي وكان بحيث أن يحصل لغيره من وجوده أيضا فيسمى فوق التمام لأنه من نفسه تام وكان قد فضل منه وفاض على غيره. والثاني إن لم يحتج في وصوله إلى كماله اللائق في حقه الممكن له إلى أمر خارج عن ذاته وعن علله الذاتية حتى يحصل له ما ينبغي أن يحصل له فيسمى مستكفيا. فمثال فوق التمام المبدأ الأعلى. ومثال التمام العقول الفعالة. ومثال المستكفي النفوس الفلكية والأفلاك وما فيها ونفوس الأنبياء صلوات الله عليهم حيث لا يحتاجون في بلوغهم الغاية في الكمال إلى تعلم بشري بل بإلقاء الوحي وإلهام الحق من الملك. والملائكة وإلهاماتها من العلل الذاتية للإنسان. ومثال الناقص باقي النفوس الإنسانية التي تحتاج في التكميل إلى الأنبياء والأوصياء عليه السلام. التقسيم الثالث للأجسام خاصة وهي كما سبقت إليه الإشارة أخس أقسام الموجود. فينقسم بحسب القسمة العقلية مع قطع النظر عن وجود الأقسام في الخارج إلى بسيط ومركب. ونعني بالبسيط ما له طبيعة واحدة كالهواء والماء. وبالمركب الذي يجمع طبيعتين متخالفتين
262 أو أكثر مع اختلاف قوى وطبائع فيه. والبسيط بالقسمة العقلية أيضا ينقسم إلى ما يتأتى منه التركيب وإلى ما لا يتأتى. ونعني بما لا يقبل التركيب هو الذي له وجود كمالي يمكن له مع بساطته وأصل هويته عبادة الحق وعبوديته وطاعته ومعرفته من غير اكتساب قوة أخرى يحتاج إليها فيها. وبما يقبل التركيب ما لا يمكن له من حيث هو هو طلب الكمال والوصول إلى شهود الحق وعبادته وعرفانه. أعم من أن يمكنه ذلك بالتركيب كمادة خلقة الإنسان أولا بل خلق للتركيب والخدمة كغيره من المركبات. فإن الممكن لم يخلق عبثا وهباء بل لأن يكون شاهدا لوجوده تعالى كما أشير إليه في الكتاب الإلهي بقوله: أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا و أنكم إلينا لا ترجعون. وبالجملة الأجسام العالية صنفان: صنف مختص بقبول صورة واحدة لا ضد لها فيكون حدوثها عن البارىء على سبيل الإبداع لا على سبيل التكون من جسم آخر وفقدها على سبيل الفناء المحض لا على سبيل الفساد إلى جسم آخر. وهذا هو المراد من قول الحكماء الأقدمين كأفلاطون وغيره من أن الأفلاك خلقت من لا شيء. وقد صرفه العوام من المتفلسفة إلى غير معناه وأمضوا في الإلحاد وأطلقوا القول بقدم العالم. والصنف الثاني متهيئ لقبول صورة بعد أخرى. فتارة تقبل هذه بالفعل وتلك بالقوة وتارة بالعكس. فجعلوا الأجسام بعضها أثيرية وبعضها عنصرية بالقسمة العقلية. وسيجئ بيان أن الجسم الأثيري وهو الذي لا يتأتى منه الامتزاج والتركيب أشرف الأجسام وأتقنها وأبدعها وجودا وأعلاها وأنورها وأصفاها كيفية وأفضلها شكلا وأسرعها حركة وأدومها وأبقاها حياة وأشدها قوة. فإذا تمهدت هذه المقدمات والأصول فلنرجع إلى الفصول.
263 الفصل الأول فيما يدل على الأجسام السفلية العنصرية فنقول: وجود الأجسام التي تحت مقعر فلك القمر معلوم لنا بالمشاهدة وهي قابلة للتركيب كما ركبنا الماء بالتراب وحصل منه الطين. وأما خلق المركبات التامة التي لا يتأتى إلا بقدرة الله فلما لم يتم إلا بكيفيات فعلية وانفعالية لا بد لها من حرارة مبددة محللة وبرودة جماعة مسكنة ورطوبة قابلة للتخليق والتشكيل ويبوسة حافظة لما أفيدت من التقويم والتعديل فخلق البارىء بلطفه وجوده عناصر أربعة متضادة الأوصاف والكيفيات ساكنة بطبعها في أماكن متخالفة بعضها فوق بعض بحسب ما يليق بطبائعها مرتبة ترتيبا بديعيا منضدة نضدا عجيبا حيث جعل كل مشاركين في كيفية واحدة فعلية أو انفعالية متجاورين. فجعل النار لكونها أخف من أكل مجاورة للسماء لما بينهما من مناسبة اللطافة والضياء. وجعل الأرض لكونها عكر الكل وثقلها وأثقلها في غاية السفل وفي أبعد المواضع من حركة الفلك ليكون مسكن المركبات الحيوانية. وجعل الماء مجاورا للأرض لكونه أشد مناسبة لها من جهة البرودة والكثافة. وجعل الهواء مجاورا للنار لكونه أشد مناسبة إياها من جهة الشفيف والحرارة والخفة. ثم إنها لما خلقت بحسب طبائعها في أماكنها المختلفة المتباعدة فيما يشاهده من صيرورتها أجزاء المركبات المعدنية والنباتية والحيوانية يدل على وجود الحركة المستقيمة الدالة بحسب المسافة الأينية على وجود جهتين محدودتين مختلفتين بالطبع لرجوع سائر الجهات الإضافية إليهما في حقيقتها. ويدل اختلاف الجهتين على وجود محدد جسماني ذي وضع محيط بها ينتهي إليه الأصواب والجهات والأبعاد و
264 النهايات بحيث لم يكن وراءها صوب يمكن أن يتحرك إليه حتى يلزم أن يتحرك محدد الجهات إلى جهة فيكون الجهة لا جهة والحركة لا حركة وهذا ممتنع. فذلك المحدد لزمه أن لا يختلف فيه الأبعاد والجهات بأن يكون بعض جوانبه أبعد من آخر وبعض امتداداته أطول من بعض حتى يكون ما فرض منه جهة الفوق الحقيقي تحتا بالإضافة. هذا. فلا محالة يكون الجسم المحدد لازم الكروية مستحيل الانفكاك عنها وهو السماء. فالحركة دلت من جهة المسافة على وجود السماء وتدل الحركة أيضا من جهة حدوثها الذاتية وتجددها على أن لها سببا ولسببها سببا وهكذا. وهذا الأسباب معدات لا يتصور اجتماعها ولا يمكن وجودها إلا بحركة دورية يتصل آخرها بأولها ولا ينقطع دوامها. والحركة الدورية الغير المنقطعة لا يتحقق الا في جسم يحتمل البقاء والدوام ويمتنع عليه العنصرية والانقلاب إلى جسم آخر لكمال صورته وتمام نوعيته وما ذلك الا السماء. فدلت الحركة من هذا الوجه أيضا على وجود الجرم الابداعي وتدل الحركة أيضا من حيث عرضيتها على ان لها محلا ومن حيث حدوثها وتجددها على ان محلها ذو قوة انفعالية ومن حيث ثبوتها على أن لها فاعلا مؤثرا هو غير قابلها المتأثر المنفعل لاستحالة الوحدة في جهتي الانفعال والفعل. فكل جسم متحرك لا بد له من مبدء غير الجسمية المشتركة بين الأجسام الساكنة والمتحركة. فلو كانت ناشئة من جهة جسمية الجسم لا متنع السكون في الأجسام بوجه. فهذا المبدء الفاعلي أن كان في الجسم البسيط فان كان قائما به في ذاته فيسمى «طبيعة» والحركة «طبيعية» وأن لم يكن قائما به فان كان تحريكه إياه على سبيل المباشرة والتشوق والاستكمال فيسمى «نفسا فلكية» والحركة «نفسانية فلكية» وأن لم يكن كذلك بل على سبيل التشويق والامداد فالمبدء عقلي والحركة عبادة الهية. وأن كان في الجسم المركب فان لم يكن ذافنون الحركات فيسمى «صورة معدنية». وإن كان متفننا فلا يخلو إما أن يكون صدور الحركة منه بقصد واختيار أم لا. الثاني النفس النباتية. والأول أما أن يكون من شأنه أن يتقرب إلى الله تعالى وملكوته
265 الاعلى في حركته وسلوكه أم لا! الثاني هو النفس الحيوانية. والأول هو النفس الانسانية. فهذه هي الاحتمالات العقلية من قسمة الحركة من حيث مبدءها على هذه الاقسام. ونحن بصدد شرح ما ذكرنا واثبات وجود كل قسم منها لنرتقى من جهتها إلى المبدء الاعلى الذي هو غاية كل طلب ومنتهى كل حركة. فلنذكر وجه الدلالات على ما في وسعنا وما يصل اليه قوتنا بعون الله وحسن توفيقه. الفصل الثانى قد أشرنا إلى أن الأجسام العنصرية انما هي قابلة للتركيب وذلك لقصورها حين انفرادها عن قبول الحياة لأجل تضاد صورها في الكيفيات الأولية. والتضاد مانع عن قبول الحياة والشعور المتوقف عليها معرفة الله وعبادته اللتان هما غاية وجود الأشياء. والا فالجود الإلهي غير قاصر عن إفاضة الحياة على هياكل الممكنات. والجسم بجسميته غير متعص لقبولها الا لأجل مانع التضاد الذي هي أحد مبادئ الشرور الواقعة في القدر الإلهي بالعرض وبالقصد الثاني كما فصلناه في موضعه. والتركيب بين الأجسام العنصرية لا يتأتى الا بالحركة المستقيمة الأينية ضرورة كونها بحسب مقتضى فطرتها الأولى في أمكنتها الطبيعية فلا بد من أن بنتقل بعضها إلى جنب بعض آخر بسبب هو غير طبيعة كل منها يجبرها على الالتيام والاتصال عناية من المبدء الفعال. فالعقل يقتضى قبل النظر في الوجود بأنه أن كان في الوجود تركيب فلا بد من حركة آخذة من جهة منتهية إلى جهة أخرى. والحركة
266 المستقيمة لا بد لها من جهتين محدودتين مختلفتين بالطبع. اما تحديدهما فلانه لا محالة يكون الجهة في بعد ويكون مشارا اليهما بالإشارة الحسية. (مشارا أليها...) إذ الامر العقلي لا إشارة اليه ولا توجه للحركة إلى صوبه. وقد بين انقطاع الابعاد وانتهاء الاجرام. ولان المفهوم من الجهة يقتضى أن يكون حدا معينا لأنه لو لم ينته جهة الفوق إلى ما هو فوق حقيقي لا فوق له فكان لكل فوق فوق وهكذا إلى ما لا نهاية له فلم يكن شيء من هذه الفوقيات فوقا أصلا لا حقيقيا ولا إضافيا. (في م ش: لأنه الفرع الحقيقي) فعدم تناهي امتداد جهة الفوق يوجب بطلانه. وهكذا في جميع الجهات. فلا بد كل جهة من نهاية ينتهي إليها السلوك والإشارة وإلا فلا سلوك ولا إشارة هذا خلف. فلا بد لجهة السفل من نهاية هي أسفل السافلين ولجهة العلو من غاية هي أعلى العليين وأما اختلافهما بالطبع والنوع فلأن الحركة في الجسم البسيط العديم الشعور إذا كانت ذاتية فهي طبيعية كما علمت. وإن كانت عرضية قسرية فلكونها غير ذاتية وعلى خلاف مقتضى الذات ينبغي أن يكون هناك ميل طبيعي إلى جهة مخصوصة حتى يتصور القسر فيه إلى جهة خلاف مقتضى الطبع فما لا طبع له لا قسر له. فكل قسر فهو مرتب على الطبع. فإذن الطبيعة إذا اقتضت توجها ورغبة من شيء إلى شيء فلا بد وأن يكون الشيئان متخالفين نوعا والأطراف وإن اتفقت آحادها في كونها نقطا أو خطوطا لكنها مما يقبل التخالف الحقيقي من جهة حيثيات مختلفة يلحقها. فإن الحد الواحد من حيث كونه عاليا يخالف نفسه من حيث كونه سافلا تخالفا نوعيا راجعا إلى التخالف النوعي من جهة حيثيات هي العلو والسفل. فإن المضاف المشهوري من حيث هو مضاف حكمه حكم المضاف الحقيقي كما حققت في مقامه. (في م ش: كما حقق في...) فثبت أن الحركة الطبيعية توجب أن تكون الجهة المتروكة لها مخالفة للجهة المطلوبة بحسب النوع.
267 فصل في بيان المحدد للجهة جهات الحركات الطبيعية المستقيمة لا بد وأن تتحدد بجسم لا يمكن أن يتحرك حركة مستقيمة وإلا كانت الجهة متحددة قبل ذلك الجسم وقبل إمكان حركته وذلك محال. فالجسم المحدد يلزمه أن يكون بحيث لا يكون وراءه جسم آخر وينتهي به الأبعاد والجهات ليكون محيطا بالأجسام المستقيمة الحركات إحاطة السماء بما فيها بلا اختلاف وتفاوت في أطرافه ونهاياته كما في الأشكال المضلعة والمفرطحة والعدسية فيكون على هيئة أفضل الأشكال ليتصور منه تحديد الجهتين المختلفتين بالطبع والنوع اللتين كل منهما يكون في غاية البعد من الآخر ليكون ذلك الجسم المحدد الذي على هيئة أفضل الأشكال غاية القرب منه حد جهة وغاية البعد منه حد جهة. وأن هاتين الغايتين لا تتحددان في فضاء غير متناه أو ملاء غير متناه كيف كان. بل تتحددان على سبيل المركز والمحيط. فيكون المركز غاية البعد والمحيط غاية القرب ويكون الاختلاف النوعي بين غاية القرب والبعد دالا على اختلاف النوعي بين العلو والسفل. ولهذا المبحث براهين تركناها مخافة التطويل في الكلام. ومن أراد الاطلاع عليها فليرجع إلى شرح هذا المقام. فثبت مما ذكر أن الحركات الطبيعية التي للأجسام البسيطة ثلاثة: أولاها ما على الوسط وهي التي تختص بالجسم الأثيري الحي بالذات الذي لا ضد لحركته كما لا ضد لصورته. والباقيتان تختصان بالأجسام الميتة العنصرية وهما اللتان إحداهما إلى المركز للثقل والأخرى من المركز للخفاف (في ش م: إلى المركز للثقال). فإن الحركة إما على المركز أو منه أو إليه. والأولى أي المستديرة ذاتية على الإطلاق. والمستقيمتان لا تعرضان للأجسام العنصرية إلا إذا أحدث فيها حادث غريب وهو الخروج عن أماكنها الطبيعية. أما أنه لم يعرض هذه الأحوال على هذا الوجه ولم يقتضي الجسم العنصري الحركة حين خروجه عن موضعه الطبيعي على خط مستقيم ولم يقتضي الجسم
268 الإبداعي الحركة المستديرة على الدوام وما سبب تعين موضع منه بالمنطقة والآخر بالقطب ولم كانت حركات الأجسام الإبداعية بعضها شرقية وبعضها غربية ولم كانت إحداهما وهي الحركة اليومية المنسوبة إلى فلك الأفلاك في غاية السرعة وواحدة أخرى وهي المنسوبة إلى فلك الكواكب في غاية البطء والبواقي متوسطة بين الغايتين مع اختلافهما في الجهة والقدر ولم كانت الطبائع الأول أربعا ولم كانت الأرض في غاية البعد عن الفلك والنار في غاية القرب منه ولم صارت الأرض كثيفة ذات لون غبراء والنار والهواء مشفان عديم اللون دائما مقتصدا ولم كانت العناصر محيطا بعضها ببعض إلا الماء فإنه لا يحيطه بجوانب الأرض وما السبب الطبيعي فيه الذي ينتهي إلى المبدإ الفاعلي وما السبب الحكمي فيه الذي ينتهي إلى المبدإ الغائي ولم كانت المسكونة من الأرض شمالا وربعا فيضيق عنه هذا الطور من البحث بل جميع الأوصاف والأعراض المختلفة المنتسبة إلى الأجسام الجوهرية وغيرها إذا فتش الإنسان عن سببها وسبب تخالفها ينتهي بحثه إلى أمور جوهرية صورية في الأجسام ومباد ذاتية لتلك الأوصاف والأعراض. وأما إذا عاد الكلام إلى سبب اختلاف تلك الصور الجوهرية ولميتها فلا يكون هناك جواب للسؤال اللمي إلا الرجوع إلى إرادة الله وحكمته وأن الواجب لذاته كما أنه واجب الوجود بالذات بلا لمية وسبب كذلك واجب الوجود من جميع الحيثيات الأسمائية والصفاتية والأفعالية بلا لمية وتأثير سبب من خارج. بل الوجود من حيث هو وجود لا يتصور إلا أن يكون على ما هو عليه من غير تفاوت. فكون الفلك فلكا والإنسان إنسانا والفرس فرسا مما لا سبب له إلا الحق الأول الذي يتحقق به كل حقيقة ويتعين به كل ماهية وبعلمه بذاته الذي هو مبدأ كل حكمة ونظام وخيرية وتمام وتجلي ذاته لذاته. وإذا تجلى ذاته المستجمعة لجميع الكمالات والخيرات الذاتية لذاته تجلى لغيره وانبعث منه جميع الكمالات والخيرات فذاته بلا لمية خارجية سبب كل خير وكمال وحلية وجمال. فهيئة الوجود على هذا النظام المشاهد من مقتضيات مشاهدته لذاته وتجليه على ذاته بذاته. فإن العالم عكس جماله وجلاله وحكاية حسنه وكماله
269 وأن الحق واحد بذاته له تجل واحد في مجال متكثرة. وأن أوصافه ونعوته على نهج واحد وأفعاله وآثاره على سنة واحدة من جميع جهاته. و لن تجد لسنة الله تبديلا. لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه. ومع هذا فإن المعرفة بكل شيء أفضل من الجهل به. وأنه ليس شيء من العلوم والمعارف خليقا بالجهل وإن كان الناس أعداء لما جهلوا.. وليعلم أن مقتضى العقل الصريح لا ينافي موجب الشرع الصحيح وليس شيء من الموجودات الإلهية والطبيعية إلا وله خاصية ذاتية ولوجوده حكمة عظيمة وسر غريب لا يوجد في غيره لكن الناس لا يتعجبون مما يتكرر مشاهدتهم إياه وأخذوا يتعجبون من النوادر وإن كان المتكرر أجل حكمة وأعظم أمرا وأعجب فعلا من النادر. ولذلك يحرك الإنسان في الجهات التي يخالف جهة حركته التي بحسب طبيعة بدنه بمجرد إرادة نفسه الناطقة التي هي جوهر ملكوتي من عالم الأمر [و] ليس معدودا عندهم من العجائب وصاروا يتعجبون من جذب حجر المغناطيس مثقالا من الحديد. قال الشيخ في بعض رسائله: والعجب من بعض الجهلة من الطبيعيين ومن تشبه بهم حيث يأخذون في طلب السبب في فعل الطبيعة التي لبعض المركبات مثل الطبيعة التي للسقمونيا في إسهال الصفراء والأقيمون في إسهال السوداء والطبيعة التي في حجر مغناطيس الموجبة لجذب الحديد. ثم صاروا يتعجبون من صدور هذه الآثار والأفاعيل منها ولا يتعجبون من النار كيف تفرق المجتمع وكيف تحيل أجساما كثيرة إلى مثل طبيعته في ساعة. ولا يشتغلون بالبحث عن علته. وغاية ما يجيبون عنه إذا سئلوا عن ذلك أن يقولوا: لأن النار حارة. ثم السؤال لازم في أن الحار لم تفعل هكذا: فيكون منتهى الجواب للطبيعيين أن يقال: إن الحرارة قوة من شأنها أن تفعل هذا الفعل. ثم إن سئلوا بعد هذا أنه لم كان هذا الجسم حارا دون البارد لم يكن جوابهم إلا الجواب الإلهي أن
270 إرادة الصانع هكذا. ولا يقنعون بهذا الجواب في جذب المغناطيس الحديد إذا اشتغلوا بالبحث عن علته من أن في المغناطيس قوة جاذبة للحديد وأن سبب وجودها إرادة الصانع. وليس هذا الجواب قاصرا عن الجواب الأول. لكن القوم تعجبوا عما استندروا وجوده وألهاهم التعجب البحث عن علته ولم يعرض لهم ذلك فيما كثرت مشاهدتهم له وإن كان حكمته أعجب من حكمة المغناطيس في جذب الحديد وهو هذا الحيوان الحساس المتحرك بالإرادة الذي يغتذي وينمو ويولد بل الإنسان الذي هو عالم صغير وما يخصه من الأحكام الإنسانية. وأقول: إن عدم تعجبهم من هذا التركيب العجيب والنظم الغريب أعجب من كل عجيب حيث إذا نظروا في كلمة مكتوبة مرقومة من قلم جمادي في قرطاس أو لوح قطعوا بأنها صنعة آدمي عالم قادر مريد متكلم. ثم أخذوا ينظرون إلى عجائب الخطوط الإلهية المرقومة على صفحات الوجود بالقلم الإلهي الذي لا يدرك الأبصار ذاته ولا حركته ولا اتصاله بمحل الخط ولم يسافروا منها إلى مشاهدة آياته الكبرى ولم يؤد تفكرهم إلى أن الذي صور ونقش وقدر لا نظير له ولا يساويه في ذاته نقاش ولا مصور كما أن لا يساوي نقشه وصنعه نقش وصنع. فبين الفاعلين من المباينة والتباعد ما بين الفعلين فإن الذي أعمى بصيرة هؤلاء العميان مع هذا الوضوح ومنعهم اليقين بوجوده مع هذا البيان جدير بأن يتعجب منه ومن حكمته وعدله. فسبحان من هدى وأعمى وأرشد وأغوى وفتح بصائر أحبائه فشاهدوه في جميع ذرات العالم وأجزائه وأعمى قلوب أعدائه واحتجب عنهم بعزه وعلائه. فصل في سبب حدوث الحركة لما أشرنا في الفصل السابق إلى: أن مبادئ الأمور الطبيعية لا سبب لها إلا إرادة الصانع الحكيم وهو إله العالم بجميع أجزائه كائنة أو مبدعة بسيطة أو مركبة أفلاكا أو
271 عناصر وإلهيته للعالم أمر ذاتي لا يسنح له فيها سانح ولا يغيره منها مغير ولا يعوقه منها عائق ولا يتعلق فاعليته بداع خارج عن ذاته سواء كان إرادة حادثة أو وقتا أو حالة عارضة لأن ذلك كله يوجب الاستحالة والحركة ويؤدي إلى انفعاله عن قاهر يقهره وسلطان يعجزه تعالى الواجب القيوم مما يقوله الملحدون علوا كبيرا فهو عالم بالأشياء بعلم أزلي وقادر على ما يشاء بقدرة أزلية والحدوث والتجدد والتصرم والهلاك والفناء وغير ذلك من الآفات والعاهات إنما تنشأ من قصور الأشياء عن قبول فيضه وضيقها عن سعة رحمته وجوده فذاته بذاته فياض لم يزل ولا يزال بلا منع وتقتير وبخل على جري مستمر وسنة واحدة. وقد بين أن الإبداع وهو تأييس شيء عن ليس مطلق أتم في الفاعلية من التكوين لمادة عارية تطلب باستعدادها كسوة الصورة والإحداث في زمان حال تتعطل فيه القوة الفاعلية عن فعلها. فنقول: حدوث الحادث إما من لوازم ذاته وماهيته أو من عوارضه الممكنة الانفكاك. أما القسم الأول فلا لمية لثبوته لذلك الحادث إلا إرادة الحق الأول المتعلق بذات ذلك الشيء بالجعل البسيط الإبداعي كما أن كون الإنسان جوهرا ناطقا لا لمية له إلا تعلق فعل الحق به على الوجه المذكور أي إفادة نفس حقيقته لا بصيرورة ذاته جوهرا وناطقا إذ ذاتي الشيء لا يعلل أصلا وكل عرض معلل. وأما القسم الثاني فلا بد له من سبب مخصص لحدوثه في وقته الذي يوجد فيه وذلك السبب أيضا حادث معه. إذ لو كان موجودا من قبله فإنما لا يحدث معلوله هذا لافتقار ذلك السبب إلى مزيد حالة أو شريطة يستعد بها لإيجابه ذلك الحادث. إذ لو كانت ذاته كافية لما انفك عنه الأثر فإذن لا يحدث السبب بما هو سبب ما لم تحدث تلك الحالة الزائدة على ذاته. والسؤال في تلك الحالة لازم فيفتقر إلى سبب آخر و
272 هكذا فإما أن يتسلسل الأسباب إلى غير النهاية أو تنتهي إلى حادث يكون حدوثه ذاته وماهية به ينقطع السؤال عن لمية حدوثه. وما يكون الحدوث والتجدد عين ذاته وماهيته ليس إلا الحركة. فمصحح حدوث الأكوان والأحداث العنصرية هي الحركات وليست الحركات العنصرية والمستقيمة علة لذلك التصحيح لأنها غير ضرورية الحصول لإمكان انقلابها إلى السكون. فإن شيئا من الأجسام التي هي ذوات حركات مستقيمة ليس مما يلزمها الحركة لذاته من دون عارض بل الحركة إنما طرأت عليه من أمر خارج عن طبيعتها مفارق عنها. فالحركة التي ينتهي إليها لمية وقوع الحوادث في أوقاتها المخصوصة لا بد وأن يكون أمرا لازما لا يرتفع وكل حركة مستقيمة فهي زائلة لا محالة إلى سكون ليتناهى الامتدادات والأبعاد ولتناهى قوة المحركات الإرادية الحيوانية في أفاعيلها وانفعالاتها كما بين في موضعه. فتلك الحركة اللازمة لا بد وأن تكون مستديرة لأن غيرها لا يقبل الدوام. ولا بد أيضا لتلك الحركة من موضع وحامل يكون وجوده كوجود محموله بأمر الله تعالى وإبداعه لاستحالة بقاء العرض بدون موضوعه فالجسم الذي هو محل هذه الحركة يجب أن يكون وجوده غير متعلق بزمان وحركة ولا ينفك عن الحركة بأن يوجد أولا ثم يتحرك وإلا ليعود المحذور. بل يجب أن يوجد عن مبدعة متحركا ولهذا سمي هذا الجسم فلكا لاندراج الحركة في مفهومه. وقد مر أن محدد جهات الحركات جسم مستدير الشكل. وإذا ثبت أن منتهى حدوث الحوادث حركة مستديرة دائمة الاستمرار إلا ما شاء الله فليكن محله الجسم المحدد للجهات كما أن محموله مجدد الحركات وفاعله الذي هو العقل الفعال الذي هو مبدع ذوات المتحركات بإذن الله تعالى فسبحان من ربط الحدوث بالحدوث والثبات بالثبات. وإن أردت زيادة توضيح في كون أجزاء هذه الحركة دورية وأزمنتها التي هي عددها مصحح حدوث الأشياء ومنشأ انقطاع السؤال بلم فانظر إلى هذا المثال: فإنك إذا قلت: لم قبلت هذه الحبة المدفونة في الأرض القوة النباتية الآن ولم تكن قبلها من قبل وقد
273 كانت مدفونة فيها فيقال: لفرط البرودة في الشتاء وعدم الاعتدال من قبل. فترجع وتقول: ولم حدثت الاعتدال الآن فيقال: لارتفاع الشمس وقربها في وسط السماء بدخولها ببرج الحمل. فتقول: ولم دخل الآن ببرج الحمل. فيقال: إن طبيعة الحركة الفلكية تقتضي ذلك وإنما انفصل من آخر الحوت الآن و لا يمكن دخول الحمل إلا بمفارقة الحوت بعد الوصول إليه فيكون مفارقة الحوت سبب دخول الحمل ويكون سبب الوصول إلى الحوت الانفصال مما قبله. وهكذا إلى ما شاء الله بأمره. فينتهي الحوادث بعد تسلسل أسبابها الأرضية بالآخرة لا محالة إلى الحركة السماوية ولا يمكن أن يكون كذلك إلا حركة السماء فحركتها سبب لحدوث الأشياء. فلا سبب لحدوثها إلا أمر الله تعالى وإرادته. وهذه الدقيقة لما لم يقف عليها جمهور العقلاء من الحكماء والمتكلمين تراهم مضطرين في بيان ربط الحادث بالقديم وذكروا وجوها غير سديدة مذكورة في الكتب لا يفي شيء منها بدفع الإشكال بلزوم قدم الحادث أو حدوث القديم أو انفكاك المعلول عن العلة التامة كارتكاب التسلسل في المتعاقبات فإنه مع بطلانه (لنهوض البراهين من التطبيق والتضايف والحيثيات وغيرها الجارية فيه كجريانها في تسلسل المجتمعات المترتبة) ليس مما يسمن ولا يغني شيء لبقاء التخلف المذكور بحاله. ومن أراد الإحاطة بكنه هذا المقام فليرجع إلى ما بسطنا فيه من الكلام وأوردنا فيه ما ألهمنا به على التمام. ونحن الآن بصدد أن وجود المركب في هذا العالم دل على الحركة المكانية وتلك الحركة دلت على اختلاف الجهتين لها واختلاف الجهتين دل على وجود جسم كروي محيط بسائر الأجسام متحرك بحركة دورية مستمرة له مبدأ ذو قوة غير متناهية غير جسمانية وينبعث عنها سائر القوى المحركة للأجسام الأكوانية المنقطعة الحركات وذلك الجسم هو السماء. وكما أن الحركة دلت من حيث الجهة على وجود السماء كذلك تدل من أجل حدوثها أيضا على جسم إبداعي لازم الحركة المستديرة على الدوام وهو مبدأ الحوادث الكونية ومنتهى الإشارة الحسية وكعبة المآرب النشوية لذوي الحاجات
274 النباتية والحيوانية والإنسانية وعرش استواء الرحمة الرحمانية. فانظر كيف يؤدي التأمل في حال الحركة الحادثة وكيفية ربطها بالأسباب إلى وجود شيء دائم الحركة المستديرة بأمر مبدعة العليم القدير بدون مشاهدة السماء ودورانه. فهذا النحو من البيان الدال على وجود قوة سرمدية غير متناه التحريك والتأثير ولا جسمانية الفعل والتدبير تكون واجبة الوجود في ذاتها كما أنها واجبة الإضافة والإفادة على الأشياء كل ذلك بمجرد النظر في طبيعة الحركة من غير نظر إلى أمر محسوس مما يشبه طريقة الصديقين الذين يستدلون على وجود مبدأ الكل بمجرد النظر إلى طبيعة الوجود من غير ملاحظة أمر معقول أو محسوس غير حقيقة الوجود. فإن الأعمى الذي لا يشاهد السماء وحركتها وإحاطتها إذا نظر بعقله في أدنى حركة حكم بأنه لا بد من وجود سماء محيط بالأجرام يدور على الدوام ومن مبدأ محرك يحركه على الاتساق والانتظام حتى يتصور الحركة. وإلا فخلق الحركة من دون ذلك محال والمحال ليس مقدورا عليه. فإذا بين وجود حركة السماء ومحلها الذي هو السماء فلنذكر شرح ذاته وبيان مبدأ حركته وغايتها وأحكامها. فصل في أن السماء حيوان بمعنى أنها متحركة بالإرادة وإن لم يكن لها شهوة وغضب كما لا يكون لها رأس ولا ذنب أما أنها متحركة فمشاهد وقد دللنا عليه أيضا. ونقول أيضا بطريق آخر: إن هذا الجسم المحيط إذا فرض ساكنا كان له وضع مخصوص يكون نصفه مثلا تحت الأرض ونصفه فوق الأرض لو قدر هذا تحتها وذلك فوقها لم يلزم محال لاستواء الأجزاء في الطبيعة لما علمت من بساطتها والبسيط لا يتميز فيه جزء من جزء فإذن هي قابلة
275 للتبدل في الأوضاع وهو الحركة. وكل قابل للحركة لا بد لحركته من مبدأ فاعلي إما قاسر أو طبيعية. وعلى التقديرين لا بد أن يكون في طبعه ميل. أما على الثاني فظاهر وأما على الأول فلأن الحركة القسرية لا يتحدد حالها من السرعة والبطوء إلا بمعاوق داخلي وميل طباعي كما بين في موضعه. ثم الحركة بالقسر لا يكون إلا إلى إحدى الجهتين من الوسط وإلى الوسط وكلاهما مستحيلان في الفلك لكونه محددا لهما بمركزه ومحيطه فلا يكون في طبعه ميل إليهما فوجب إذن أن يكون في طبعه ميل إلى الحركة حول الوسط وإذا كان كذلك فيستحيل أن يكون تحرك الفلك بالقسر ويستحيل أيضا أن يكون بالطبع المحض الخالي عن الإرادة لأن الميل الطبيعي هرب من موضع منافر للطبيعة لطلب موضع ملائم لها منافرة وملائمة جسمانيتين فلا جرم إذا وصل إلى ذلك الموضع الطبيعي استقر فيه واستحال أن يعود بالطبع إلى ما فارقه وما من وضع للسماء إلا ويعود إليه وهو زائد حائد على الدوام فلا يكون ذلك بالطبيعة بل بالإرادة والاختيار من غير أن يكون فيه قوة أخرى تخالف تلك القوة في اقتضاء الحركة كما في حركاتنا الإرادية المخالفة لما يقتضيه طبائع أبداننا ولأجل ذلك سماها المعلم الأول طبيعة وحركاتها طبيعية. والإرادة لا تكون إلا مع تصور الغاية والتصديق بها تصديقا يقينيا أو ظنيا أو حكما تخيليا غير فصلي. ومبدأ كل واحد من هذه الأمور مما سميناه نفسا وروحا. إذ الجسم بما هو جسم من دون صورة مخصوصة وقوة زائدة على طبيعته المتحصلة ليس له شعور وإرادة. والعبارة عن الصورة الشاعرة هي النفس. فإذن حركة السماء نفسانية والسماء حيوان. فصل في أن السماء إنسان كبير بمعنى أنه ليس مبدأ حركته قوة حيوانية منطبعة بل نفسا مجردا عن المادة ذات قوة
276 عقلية وإرادة كلية يكون تعلقها بجسمية الفلك تعلق التدبير والتصرف كتعلق النفوس الناطقة بالقوالب الإنسانية. واعلم أن الاستدلال على هذا المقصد أيضا كما في مقاصد هذه المقالة على ما وقعت إليه الإشارة إنما يتأتى بالنظر إلى الحركة. فنقول حركة السماء دلت على أن لها نفسا ناطقة وهذه الدلالة حاصلة لها من جهتين: من جهة فاعل هذه الحركة ومن جهة غايتها وغرضها. وبيانها أنا نقول: هذه الحركة لما ثبت أنها إرادية فلها فاعل وغاية وكلاهما أمر عقلي. أما غايتها فلأنها ليست حيوانية محضة إذ لا نمو للسماء ولا تغذي إذ لا كون لها من شيء حتى يكون لها شهوة تزيد بحصول ما اشتهته شهوته ولا فساد لها ليكون لها غضب يدفع به ما يزاحمه ويفسده. فلا يكون أغراض السماء شهوية ولا غضبية. والأغراض بما هي حيوانية لا تخرج عن هذين فلا يكون أغراض السماء حيوانية. فلها مراد عقلي وإدراك كلي فلا يخلو عن نفس ناطقة عقلية تدرك المراد العقلي بالتصور الكلي. وأما كون فاعل هذه الحركة أمرا عقليا فلأنها غير منقطعة بل مستمرة إلى ما شاء الله تعالى فلا يصدر عن قوة جسمانية لأن القوى الجسمانية متناهية الأفاعيل والانفعالات. ففاعل هذه الحركة والمباشر لها نفس مجردة إذ العقل الصرف لا يباشر تحريك الأجسام لأنه كامل بالفعل والمحرك المزاول للحركة لا يخلو عن شوب قوة وشوق إلى كمال لم يكن حاصلا له في أصل الفطرة فيكون نفسا لا عقلا. لكنها لا يخلو عن مبدأ عقلي يستمد منه ويتشبه به ويشتاق إليه في تحريكاته التي هي عبادة ما ملكية. فلنشرح ذلك توضيحا وتحقيقا.
277 فصل في أن محرك السماء لا يجوز أن يكون عقلا محضا لا تقبل التغير كما لا يجوز أن يكون طبعا محضا لأن الثابت على حالة واحدة لا يصدر منه إلا ثابت على حالة واحدة فيجوز مثلا أن يكون سكون الأرض مثلا عن علة ثابتة لأنه دائمة على حالة واحدة. وأما أوضاع السماء فإنها دائما في التبدل فيستحيل أن يكون موجبها ما هو ثابت غير متغير. فإن الموجب للحركة مثلا من " أ " إلى " ب " لا يوجب الحركة من " ب " إلى " ج " لأن إحداهما غير الأخرى. فإذن لا بد أن يكون مفيض الحركة من حدثان إلى حد ثالث غير مفيضها من حد أول إلى ثان. فلا بد للمحرك الواحد من سنوح حالات متجددة حتى يكون مبدءا للحركة كالشئ الذي يختلف تحريكه لاختلاف كيفيته فإنه إذا برد حرك إلى وجه آخر يخالف تحريكه في حال الحرارة. فإذن لا بد من تغير الموجب عند تغير الموجب فإن كان الموجب هو الإرادة فلا بد من تغير الإرادة وتجددها وكونها جزئية. والحركة الكلية لا وجود لها ما لم تتشخص ولم يصر جزئية فإرادتك الحج مثلا لا توجب حركة رجلك بالتخطي إلى جهة معينة وفي مسافة معينة ما لم يتجدد لك إرادة جزئية للتخطي إلى الموضع الذي تخطيت إليه ثم يحدث لك بتلك الخطوة تصور جزئي لما وراء تلك الخطوة وينبعث منه إرادة جزئية أخرى للخطوة الثانية وإنما ينبعث عنه وعن الإرادة الكلية التي تقتضي دوام الحركة إلى حين الوصول إلى مكة فيكون الحادث حركة وتصورا وإرادة (في م ش: وإنما تنبعث من الإرادة الكلية... إلى الكعبة...) فالحركة حدثت بالإرادة والإرادة حدثت بالتصور الجزئي مع الإرادة الكلية والتصور الجزئي حدث
278 بالحركة. ويكون مثاله مثال من يمشي بسراج في ظلمة لا يظهر له السراج مثلا إلا مقدار خطوة بين يديه فيتصور خطوة واحدة بضوء السراء فينبعث له من التصور والإرادة الكلية للحركة إرادة جزئية لتلك الخطوة بعينها فيحصل الخطوة بعينها وهي موجبة للإرادة التي توجب التصور وهكذا على الدوام ولا يمكن حركة جزئية إلا كذلك. وكذلك حال الحركة الطبيعية الصادرة عن الطبيعة لا بصرافة وحدتها وثباتها ولكن بشرط تجدد الحالات اللاحقة بها وأقلها تجدد مراتب القرب والبعد إلى الغاية المطلوبة. فإن كل مرتبة من مراتب القرب إلى الغاية توجب انضمامها إلى الطبيعة صدور حركة جزئية منها موجبة للوصول إلى مرتبة أخرى أقرب إلى الغاية وهي توجب حركة أخرى موجبة لقرب آخر وهكذا على الاتصال. فعلى هذا القياس يمكن أن يتحقق حركة السماء. وكل مبدأ يتغير بتغير الإرادات سمي نفسا لا عقلا. فصل في أن حركة السماء لا بد فيها من محرك مفارق على سبيل الإمداد والتشويق حركة السماء كما أنها ليست شهوية ولا غضبية لتعاليها عن الأغراض الحيوانية بل نفسانية كذلك ليست صدورها عن النفس اهتماما بحال العالم السفلي وتدبير الأجسام العنصرية لحقارتها بالنسبة إليه. والعالي لا يلتفت إلى السافل وإن وصل فيضه إليه. بل غرضها أمر أجل منه وأشرف. أما أنها حقيرة فلأنها كائنة فاسدة مستحيلة. وجملة الأرض بما فيها جزء يسير من جرم الشمس التي لا نسبة لجرمها إلى فلكها فكيف إلى الفلك الأقصى فكيف يكون الغرض من مثل هذا الجسم هذه الأمور الخسيسة وكيف لا يكون خسيسة بالنسبة إليها وأشرف السفليات المواليد وأشرفها
279 الحيوانات وأشرفها الإنسان وأكثره ناقص والكامل منه لا ينال تمام الكمال فإنه لا ينفك عن اختلاف الأحوال فيكون أبدا ناقصا فاقدا لأمر ممكن له ولو حصل له لكان أكمل والجواهر العلوية كاملة ثابتة على كمالها الممكن لها بالفعل ما فيها شيء من القوة إلا ما رجع إلى أخص عرض وأيسر غرض وهو الوضع كما سيأتي. وأما أن العالي لا يلتفت إلى السافل ولا يقصده فلأن ما يراد من الشيء فهو أخس من ذلك الشيء البتة لأن الغاية والثمرة أشرف من ذي الغاية وذي الثمرة وقد مر هذا في بحث الإرادة فلا يقصد الأشرف الأخس إلا لأجل ما هو أشرف البتة. وليس أيضا حركتها لأجل جسم فلكي أو نفس فلكية وإلا لزم توافق الأفلاك في الحركة جهة وليس كذلك. فثبت أن غاية حركتها ليست جواهر جسمانية ولا نفسانية ولا أعراضا قائمة بالأجسام والنفوس وهو ظاهر. فيكون محركها الغائي أمرا عقليا لا نفسيا ولا جرميا ولا ما هو أخس منها وسيأتيك توضيحه. فصل في إثبات كثرة العقول ولنمهد لبيان ذلك أصلين: الأصل الأول: أن السماوات لما دلت المشاهدة والرصد على كثرتها فلا بد أن يكون طبائعها مختلفة ولا يكون من نوع واحد بوجهين: أولهما: أنها لو كانت من نوع واحد لكانت نسبة بعض أجرامها إلى بعض كنسبة بعض أجزائها إلى جزء واحد ضرورة اتحادها في الطبيعة. وإذا كانت كذلك لكانت الكل متواصلة والانفصال لا سبب له إلا تباين الطبع. وهذا كما أن الماء لا يختلط بالدهن إذا صبت عليه بل يجاوره متبائنا والماء يختلط بالماء ويتصل به كالدهن بالدهن فكذلك هاهنا إذ لا مانع من الاتصال مع تشابه الكل في الحقيقة.
280 وثانيهما: أن بعضها أسفل وبعضها أعلى وبعضها حاوية وبعضها محوي. وذلك يدل على تفاوت الطبائع واختلاف الأنواع لأن الأسفل إن كان من نوع الأعلى لجاز أن يتحرك إلى المكان الأعلى كما يجوز في بعض أجزاء الماء والهواء أن يتحرك الأسفل إلى حيز الأعلى من حيز الماء والهواء. ولو جاز ذلك لكان قابلا للحركة المستقيمة إذ بها يتحرك الأسفل إلى الأعلى أو بالعكس كما في العناصر. وقد بان استحالة أن يكون فيها قبول تلك الحركة. الأصل الثاني: أن هذه الأجسام السماوية ليس بعضها علة للبعض بل لا يجوز أن يكون جسم سببا لوجود جسم آخر لما مر سابقا أن تأثير الجسم بمشاركة الوضع من المماسة أو التجاور أو المحاذاة فلا بد من وجود أمر ذي وضع حتى يؤثر الجسم بقوته فيه فإذا لم يكن ثمة موجود استحال أن يفعل الجسم اختراع موجود آخر. وما يشاهد من حصول بعض العناصر بسبب بعض كتكون النار من الهواء فليس ذلك من فعل جسم في وجود جسم آخر بل مادة الجسم الأول يقبل بالاستعداد الحاصل صورة أخرى حاصلة من فاعل غيرهما. ثم النار ليست بجسم أول بل هي كائنة من جسم آخر وإنما كلامنا في الأجسام الأولية والسماوات أجسام إبداعية أولية ليست كائنة من جسم آخر فنحو وجودها ليس الأعلى سبيل الإبداع كما مر بيانه. فإذن ثبت أن الأجسام الأول ليس بعضها علة لبعض. فإذا ثبت هذان الأصلان فنقول: العقول المجردة كثيرة بل لا يجوز أن يكون عددها أقل من عدد الأجرام الإبداعية السماوية. وذلك لأنها ثبت أنها مختلفة الطبائع فلكونها ممكنة تحتاج إلى علل كثيرة إذ الواحد بجهة واحدة لا يصدر منه إلا واحدة فلا بد من عدد حتى يصدر عن كل واحد واحد وينبغي أن يختلف بالنوع لأن الكثرة بالعدد لا يتصور من نوع واحد إلا بكثرة المادة أو استعداداته كما مر. وما ليس ماديا لو تكثر فإنما تكثر باختلاف النوع بتعدد الفصول المتباينة
281 لا بالعوارض لاستحالة أن يلزم الشيء عارض لا يجوز في نوعه والعارض المفارق لا بد له من مادة يقبل تجدده وحدوثه وزواله فما لم يكن له مادة لم يكن له كثرة وتعدد إلا بالنوع. وهذه العقول التي هي فواعل الجواهر السماوية ينبغي أن يكون هي المعشوقات وغاية الحركات لنفوس السماوات لأن التفات كل شيء في استكماله وطلبه الخير إلى ما هو علته وإلى طلب ما هو التشبه به. فيكون التفات كل واحد من النفوس السماوية إلى علتها وإلى طلب التشبه بها. إذ يستحيل أن يكون معشوق الكل في حركتها واحدا كما أن العلة القريبة للكل ليس واحدا من جميع الجهات وإن كان مبدع الجميع ومعشوق الكل ذات أحدية حقة بسبب كثرة الجهات العقلية والنفسية التي هي بالحقيقة الحجب النورية التي لو كشفت لأحرقت شدة ضياء سبحات الوجه الحق وقوة نور جلاله كل ما ينتهي إليه بصره. فالمتشبه به والمطلوب في الجميع على الوجه الأشمل الأعم ذات واحدة إلهية ولهذا اشتركت في مطلق الحركة الدورية. والطلب المطلق الكمالي هو الذي أدار رحاها بسم الله مجراها و مرساها. ولكل واحد معشوق عقلي متوسط يخصها ومحرك نفسي مباشر يحركها ولهذا اختلفت الحركات والجهات. فتكثر العقول حسب تكثر الأجرام الحية وتحرك الكرات فتكون النفوس هي الملائكة العملية المحركة بطريق المزاولة والفعل وتلك العقول هي الملائكة العلمية المحركة بطريق العشق والشوق كتحريك المعلم للمتعلم من غير التفات وتغير لبراءتها عن علائق المواد ومباشرة الأجسام وقربها في الصفات من رب الأرباب. فسبحان القوي القدير الذي قوته أخرجت هذه الأوائل وقدرته أبدعت هذه الوسائل ليترقى الهمم العالية إلى أوجها وذروتها وتتخلص من قيود الحضيض وخستها بذكر مقامها الأصلي ونشأتها.
282 فصل في كيفية تحريك العقول المجردة للأجرام الفلكية ونفوسها التي هي عشاق إلهيون متواجدون في ملاحظة جمال الحق وجلاله رقاصون بما يستفزهم من الواردات الإشراقية واللذات المتوافرة النورية إن الحركات السماوية لما كانت إرادية فمطلوبها إن كان أمرا جزئيا فإن نالت مطلوبها توقفت أو كان مما لا ينال أصلا لقنطت ووقفت أيضا فلها مطلوب كلي وإرادة كلية وإدراك كلي توجب أن يكون لها نفس ناطقة مفارقة. ومطلوبها ليس أمرا مظنونا كطلب حمد وثناء للسافل لأن المظنون غير دائم والحركة دائمة فلا يبتني على ما لا يدوم. وكان سليم الطبع يحدس بفطرته أن الجوهر الكائن الفاسد الذي لا نسبة له معتبرة بالقياس إلى جرم أصغر الأفلاك لا يكون مقصدا لحركاتها كما مر فحركاتها إن كانت لمعشوق ينال ذاته أو لتشبه دفعي لوقفت إن نالت وقنطت إن لم ينل فهو لنيل أمر متجدد دائم الحصول وتشبه مستمر بمعشوق والمتشبه به ليس بجرم فلكي ولا نفس وإلا تشابه الحركات والتحريكات وليس كذلك. فإذن التشبه بأمر عقلي مجرد عن المادة بالكلية هو بالفعل من جميع الوجوه وليس المتشبه به عقلا واحدا في الجميع وإلا لاتفقت الحركات. فلكل واحد معشوق. وليس الاختلاف لعدم مطاوعة الطبيعة الجرمية فإن المستديرات أوضاعها متشابهة. وليس كما ظن أن المعشوق واحد واختلاف الحركات لنفع السافل وإن تساوت الجهات بالنسبة إليها فجمعت بين غرضها ونفع السافل كالمرء الخير المخير إذا خير بين الطريقين المتساويين اختار أحدهما لنفع فقير فإنها إن جاز أن يختار جهة الحركة لنفع السافل جاز أن يختار أصل الحركة على السكون لنفعه وليس كذا.
283 وأيضا من طريق آخر تدل حركة الأفلاك بواسطة عدم تناهيها على جوهر شريف ذي قوة غير متناهية نستمد منه لاستحالة أن يكون القوة الجسمانية من حيث كونها جسمانية غير متناهية التأثير والتحريك لانقسامها بانقسام الجسم. لأنا إذا توهمنا انقسام الجسم بقسمين لكان بعض القوة لا يخلو إما أن يكون تحريكها إلى غير النهاية فيكون الجزء مثل الكل وهو محال. وإما إن يتحرك إلى غاية والبعض الآخر إلى غاية فيكون المجموع المشتمل على المتناهيتين متناهية. فثبت أن القوة الجسمانية لا تقدر على أمر غير متناه والنفس أيضا قوة جسمانية من حيث الفعل ما دام كونها نفسا وإن تجردت بحسب ذاتها كيف ولو كانت غير متناهية التأثير ما انجبست في علاقة جسم محصور محدودة وصاحب الحدس يكفيه مئونة هذا البحث. فإذن لا بد لهذه الحركة من محرك مجرد عن المادة ذاتا وعن علائقها فعلا. والمحرك قسمان: أحدهما كما يحرك المعشوق العاشق والمعلم المتعلم والثاني كما يحرك الروح البدن والطبيعة العنصر كميل الجسم إلى أسفل والأول ما لأجله الحركة والثاني ما منه الحركة. فالحركة الدورية يفتقر إلى مباشرة فاعل يكون منه الحركة وذلك لا يكون إلا نفسا متغيرا لما علمت أن المحرك القريب لا بد أن يكون أمرا متجددا لاستحالة ارتباط المتجدد. بالثابت ويحتاج إلى مفارق قدسي يكون إليه الحركة ولأجله. والنفس الفاعلة للحركة وإن كانت متناهية القوة لما مر ولكن محددها الجوهر العقلي بقوته التي غير متناهية. (ولكن يمدها الجوهر العقلي بقو... خ ل). والتحريك الغير المتناهي من القوة الجسمانية على سبيل الإمداد والتأييد جائز ليس بمستحيل إنما المستحيل التحريك الغير المتناهي على الاستقلال والانفراد. فكون الجوهر العقلي محركا للجسم ينبغي أن يتصور على هذا الوجه من غير مباشرة وكل محرك لا يتحرك في نفسه فتحريكه للمتحرك لا يكون إلا بطريق العشق
284 كتحريك المعشوق للعاشق. ثم اعلم أن تحريك المحرك الغير المتحرك يتصور على الوجهين: إما أن يكون بحيث يطلب ذاته كالعلم فإنه يحرك طالب العلم بطريق عشقه له والمطلوب حصول ذاته ونيل جوهره. وأما أن يكون بحيث يطلب التشبه به والاقتداء به كالأستاذ فإنه معشوق للتلميذ فيحبه ويحرك إليه لأجل التشبه به لا نيل ذاته. وكذا كل مرغوب فيه متصف بوصف عظيم يراد به التشبه. (لأجل التشبه.. لا لنيل ذاته... يراد التشبه به). ولا يجوز أن يكون هذه الحركة من القسم الأول فإن المعنى العقلي لا يتصور أن ينال بحركة الجسم ذاته إذ قد بان أنه لا يخل في الجسم فلا يبقى إلا أنه يحب التشبه به والاقتداء به باكتساب وصف يشبه وصفه ليقرب منه في الوصف كتشبه الصبي بأبيه والتلميذ بأستاذه ولا يمكن أن يكون ذلك بطريق الأمر والايتمار فإن الآمر ينبغي أن يكون له غرض في الأمر وذلك يدل على نقصان وقبول تغير. والمؤتمر أيضا ينبغي له غرض في الايتمار وذلك الغرض هو المقصود. وأما امتثال الأمر ووروده لأنه أمر فقط بلا فائدة فلا يمكن. فإذن لا بد وأن يكون ذلك المعشوق موجودا غنيا عن إرادة الطالب فطلبه ذا عظمة وجلال لينبعث بتصور جماله العشق والشوق لينبعث منه الحركة الموصلة إلى المطلوب من التشبه والاقتداء. فيكون تصور الجمال سبب العشق والعشق سبب الطلب والطلب سبب الحركة الحاصلة منها التشبه به. فيكون ذلك المتشبه به. والمعشوق هو الحق الأول بوساطة ما يقرب منه من الملائكة المقربين فكل واحد من الأجرام العالية والكرات الرفيعة ينال من معشوقه لذات متوافرة وأنوار دائمة الوصال يعرفها أهل السلوك الإلهي والعرفاء لمقربون المشتاقون من اللذات العقلية والواردات النورية ثم يتبع لتلك
285 الهيئات النفسانية حركات متشابهة يخرج أوضاعها من القوة إلى الفعل فإن الفلك إن ثبت على وضع واحد بقيت سائر الأوضاع أبدا بالقوة ولما كان جميع الأشياء فيه بالفعل إلا الأوضاع ولم يمكن الجمع بين الجميع دفعة والقاصر عن استبقاء نوع باستبقاء أشخاصه معا إنما يستبقيه ويستحفظه بتعاقب أشخاصه فأخرجت على التعاقب الدائم أوضاعها من القوة إلى الفعل انفعالا لجرمها عن هيئات نورية شوقية لنفسها. وقد شاهدت حين تفكرك في شيء من المعقولات بقوتك المتفكرة ما يتبعه حركات وهيئات من بدنك. ومعلوم أن هيئات النفس والبدن يتعدى من كل إلى صاحبه ويرشح من حركاتها الخير الدائم والبركات على السافل الذي هو كظلها فيضا لا قصدا (لا مقصدا خ ل). تبصرة وتنبيه اعلم أن كل طالب فإنه متوجه إلى ما هو خاصيته وجوب الوجود وهو أنه تام بالفعل ليس فيه شيء بالقوة. والوجود خير على الإطلاق والعدم شر على الإطلاق وكل ما شابه نحو من القوة شابه شرية ونقصان. إذ معنى القوة عدم كمال ما هو ممكن الحصول وكل موجود هو بالقوة من وجه فهو ناقص من ذلك الوجه وطلبه وسلوكه أن يزول عنه ما بالقوة إلى الفعل. فمطلوب كل شيء الوجود وكمال الوجود لأن الوجود كما علمت خير محض والعدم شر محض وكل ما وجوده أتم وأكمل فخيريته أشد وأعلى مما هو دونه. فخير الخيرات حيث تكون فعلية الوجود من
286 جميع الحيثيات فيكون وجودا بلا عدم وفعلا بلا قوة وحقيقة بلا بطلان ووجوبا بلا إمكان ونورا بلا ظلمة وكمالا بلا نقص وتماما بلا نقصان ودواما بلا تجدد وفقدان. ثم الوجود الذي يليه هو خير الخيرات الإضافية. وهكذا الأقرب فالأقرب والأتم فالأتم إلى الأبعد والأنقص فالأنقص حتى ينتهي إلى أقصى مرتبة النزول وهي الهيولى الأولى التي حظها من الوجود هو عريها في ذاتها عن الوجودات الطارية لها وفعليتها هي كونها قوة وجودات الأشياء وتمامها في نقصانها وشرفها خستها فلا يمكن في الوجود مرتبة أخس وأنقص منها حيث يضمن فيها حيثية العدم في حيثية الوجود. وبالجملة فما سوى الوجود الأول الذي هو محض الفعلية والكمال لم يخل عن شوب قوة وزوال فيكون بطبعه محتاجا إلى ما يتممه ويكمله لكونه بطبعه نازعا إلى كماله الذي هو خيريته وشرف هويته المستفادة عن هوية الخير الأول نافرا عن النقص الذي هو بإزائه وذلك النقص إما لازم له بحسب ماهيته في نفسه وإن كان في الواقع منجبرا بخيرية وجوده الذي يفيض عليه من الخير الحقيقي الذي هو جبار للعدم بالوجود والتحصيل قاهر لغسق الإمكان والقوة بالفعل والتكميل فيكون شريته التي هي بحسب ماهيته الإمكانية مختفيا تحت سطوع النور الواجب لوجوب وجوده الحاصل له من وجود الأول فلم يظهر من تلك الشرية أثر في الواقع إنما هي بحسب مرتبة من الواقع والواقع أوسع من تلك المرتبة كما بين في موضعه. وإما أمر يلحقه بسبب قصور استعداده وفتور قابليته عن قبول الكمال الذي يليق به ويمكنه. وهذا هو الحري بأن يسمى بالشر لتحققه في الواقع ومنبعه الهيولى الأولى ولذا قيل: كل شر وفساد من علائق المادة. ومنبع الشر بالمعنى الأول هو الإمكان. فبين أن لكل واحد من الموجودات وخصوصا ما يتعلق بالهيوليات توقانا طبيعيا وعشقا غريزيا. والسبب اللمي أن كل واحدة من الهويات المدبرة لما لم يخل عن كمال خاص ولم يكن مكتفيا بذاته لوجود كماله إذ كمالات الهويات المدبرة نفسا كانت أو طبيعة مستفادة من فيض كامل بالذات عقل بالفعل. ولم يجز أن يتوهم أن هذا المبدأ المفيد للكمال يقصد بالإرادة واحدا واحدا من جزئيات تلك الهويات ويلتفت إليها
287 التفاتا كما أوضحه الفلاسفة الإلهيون فمن الواجب من حكمته وحسن تدبيره وعلمه بالنظام الأتم أن يودع في كل منها عشقا كليا ويفرز فيه شوقا طبيعيا حتى يصير بذلك مستحفظا لما نالت من فيض الكمال الكلي ونازعا إلى الوصول إليه والالتصاق به عند فقدانه ليجري به أمر السياسة على النظام الكلي. ثم إنه لو لم يكن الخير بذاته معشوقا لما أصاب كل واحد مما يشتهي أو يعمل عملا غرضا أمامه منه يتصور خيريته ولو لا أن الخيرية بذاتها معشوقة لما اقتصر الهمم على إيثار الخير في جميع التصرفات. فكل واحد من الموجودات الحقيقية إذا أدرك أو نال خيرا من الخيرات فإنه يعشقه ويطلبه بطباعه وكل شيء تحقق له أن شيئا من الأشياء يفيده الخير والكمال ويوجب الاقتراب إليه زيادة في الفضيلة والشرف فإنه لا محالة يعشقه بغريزته ويطلبه بطبعه لا سيما إذا كان ذلك الشيء يفيده خاص الوجود ويخرجه من القوة إلى الفعل مثل عشق الحيوان لما يغذوه ويقوت به ويفيده تجسما وتعظما مقداريا وعشق الإنسان لما يفيده صورا عقليا يتقوى به الجوهر الناطق ويحيط بالحقائق وصار ملكا من المقربين بعد ما كان ناقصا في مرتبة السافلين. فإن الإنسان بما هو إنسان يكون تارة في جوهره بالقوة وتارة بالفعل وإذا صار في جوهره بالفعل فلا يزال في صفاته الكمالية بالقوة لا ينال غاية الكمال وروح الشرف والفضيلة ما دام في البدن فإذا خلع البدن صار منخرطا في سلك العقول المهيمنين. وأما الجرم السماوي فلا يكون في جوهره بالقوة قط ولا في أوصافه وأعراضه الذاتية ولا في شكله بل هو بالفعل في كل ما يمكن له ويجري به فله من الجوهر الجسماني أفضله لعدم الكون والفساد والانخراق والاستحالة ومن الأشكال أفضلها وهي الكرية ومن الكيفيات أفضلها وهي الإضاءة والتشفيف وكذا سائر الصفات فلا يفوته شيء من الكمالات والاتصاف التي يمكن في حق نوعه إلا أمرا واحدا هو أيسر غرض وأسهل مقصود وهو خصوصيات الأوضاع. وهذا ظاهر لأنه لا يمكن الجمع بين الوضعين فصاعدا في حالة واحدة ولو لم يكن فيه هذا القدر بالقوة لكان قريب الشبه من المفارقات وليس بعض الأوضاع أولى من بعض حتى
288 يلازم ذلك ويترك البقية وإذا لم يمكن الجمع بين الأوضاع بالفعل وأمكن الجمع على سبيل التعاقب مع بقاء النوع قصد أن يكون كل وضع له بالفعل وأن يستديم جميعها بطريق التعاقب ليكون نوع الأوضاع دائما له بالفعل كما أن الإنسان لما يمكن بقاء شخصه بالفعل دبر لبقاء نوعه بطريق التعاقب والحركة الدورية أيضا لها خاصية في كونها على نهج واحد من غير تغير وتفاوت في الشدة والضعف بخلاف الحركات الطبيعية والقسرية فإن الطبيعية تغيرت إلى الحدة في أواخرها بسبب القرب من الحيز الطبيعي والقسرية تغيرت إلى الفتور في أواخرها بسبب البعد من الحيز الطبيعي والدورية تستمر على وتيرة واحدة. فإذن الجسم السماوي مهما تكلف استبقاء نوع الأوضاع لنفسه بالفعل على الدوام فقد تشبه بالجواهر الشريفة العقلية لغاية ما يمكن في التشبه عبادة لرب العالمين وقربانا إليه لأن معنى العبادة طلب التقرب ومعنى التقرب طلب القرب في الصفات لا في المكان لعدم إمكانه. فحركات السماوات صلواتها لأجل تقربها إلى الحق الأول وهو المحرك للكل والغرض الأقصى والبغية العظمى للموجودات. فسبحان الذي يرجع إليه كل شيء كما يبدأ عنه كل شيء ومنه البداية وإليه النهاية. فصل في كيفية صدور الأشياء عن المدبر الأول وقد علمت أن الموجود الأول واجب الوجود من جميع جهاته ولا كثرة له بوجه من الوجوه. وهو إحدى الذات إحدى الصفات إحدى الفعل. وأن لا صفة له إلا وجوب الوجود وسائر الصفات يرجع إليه وهو يرجع إلى ذاته. فنقول: لا فعل له إلا إفاضة الوجود وجميع الصفات الفعلية له راجعة إلى الإبداع للوجود والإفاضة
289 للخير وما يوجد شيء منه إنما يوجد بما هو هو لا بما هو غير ذاته بخلاف غيره. فإنا نكتب لأجل صفة الكتابة ونتكلم لأجل الاقتدار على تأليف الكلمات ونمشي لأجل القوة على الحركة. ولا نفعل شيئا من الأفاعيل من حيث كوننا جوهرا ناطقا فنتذوت ونتجوهر بمعنى ونفعل ونتحرك بمعنى آخر. وكلما فاض عن الواجب فإنه انبعث عن صريح ذاته وحاق حقيقته من غير صفة زائدة أو إرادة متجددة أو داع مستأنف أو انتظار وقت أو فرصة أو طلب ثناء أو محمدة. فأول الصوادر منه موجود إحدى الذات والهوية ولا يكون ذلك عرضا ولا صورة لتأخرهما عن الموضوع والمادة ولا مادة لتقومها بالصورة. ولا جسما لتركبه. ولا نفسا لتقومها في تشخصها وفاعليتها بالمادة. فأول الصوادر عن البارىء جل ذكره جوهر مفارق عن المادة ذاتا وفعلا سماه بعض الأوائل عقل الكل والعنصر الأول. وهو أعظم الممكنات وأشرفها بالحدس وبقاعدة إمكان الأشرف نسبته إلى العقول في الباديات نسبة العقل المحمدي إلى عقول الأنبياء والأولياء في العائدات صلوات الله عليهم أجمعين. واعلم أنك قد علمت مرارا أن الجسم لا يصدر عنه الجسم. وللأفلاك خصوصية أخرى في امتناع إيجاد بعضها بعضا لكون بعضها محيطا بالبعض وهي أن الحاوي لو كان علة للمحوي فمع وجوبه إمكان المحوي إذ وجوبه بعد وجوب الحاوي ووجوده فيكون مع وجوبه إمكان لا كون المحوي فيقارنه إمكان الخلاء مع أنه ممتنع بالذات والمستلزم للمحال محال لأن الممكن من حيث إمكانه لا يستلزم المحال كما أنه من هذه الحيثية لا يكون مستلزما للواجب بالذات. وقد حققنا ذلك في الأسفار الأربعة. ولا يمكن أن يوجد المحوي الحاوي لكونه أشرف منه وأعظم. فإن قلت: إذا وصفت أن الفلك الحاوي يكون مع جوهر عقلي يكون علة للفلك المحوي مقدما عليه وما مع المتقدم متقدم فيلزم من تقدم الحاوي عليه الخلاء. فقد وقعت فيما هربت عنه. قلنا: ما مع المتقدم بالزمان ونحوه متقدم أما ما مع المتقدم بالذات فليس متقدما
290 بالذات كما أن ما مع العلة ليس بعلة وليس هذا التقدم إلا بالعلية. فإن قلت: الحاوي والمحوي كلاهما ممكنان فيمكن خلو مكانيهما فيلزم الخلاء. قلنا: أما العدم المطلق فليس بخلاء وإنما يلزم الخلاء لو وجد محيط لا حشو له إذا الخلاء ماهية البعد لا العدم المحض. فقد ثبت أن الأجسام كلها بما هي أجسام متكافئة الوجود بلا تقدم وتأخر بينهما بالذات. والنفس أيضا ليست علة للجسم بجوهره بل إن تحقق لها في أعراض الجسم وأحواله لأن تأثيرها إنما يكون بواسطة الجسم وقواه فلا تأثير لها في الجسم وقد مر أنها جسمانية الفعل. والحدس أيضا يحكم بأن موجد الجوهر لا يتقيد بعلاقة عرضية ولا ينجس عن الرجوع إلى معدنه مدة مديدة. وأما تأثيرها في جسم آخر بتوسط جسمها فيستلزم ما مر من إمكان الخلاء وكل واحدة من الهيولى والصورة لا فعل لها دون الأخرى ولأن الهيولى قابلة محضة لا فعل لها. وأما تأثير العرض في الجوهر فغير معقول أصلا. فثبت أن الأجسام المتكثرة ونفوسها وصورها تحتاج إلى علل عقلية متكثرة. وإذ لا يصدر من الحق الأول إلا واحد فإن صدر عن ذلك الواحد أيضا واحد وهكذا استمرت السلسلة في اقتضاء الواحد فلا ينتهي نوبة الوجود إلى الجسم وقواه وأعراضه أبدا. ولكنه قد وجد فلا بد من وقوع كثرة في الصادر الواحد الأول كثرة لازمة من غير تعلق الجعل والتأثير بها بالذات كما في لوازم الماهيات على ما حقق في موضعه وإلا لزم صدور الكثرة عن الواحد الحقيقي. وأيضا ليس يصدر الأفلاك كلها عن عقل واحد أخير لما علمت أن لكل واحد محركا متشوقا إليه. فبقي أن يكون للعقل الذي هو مبدأ الفلك الأعلى هوية وإمكان في نفسه ووجوب بالأول وتعقل للاعتبارات.
291 قال المشاؤون فتعقل المعلول الأول لوجوب وجوده ونسبته إلى الحق الأول يقتضي أمرا أشرف وهو العقل الثاني وتعقله لإمكانه في نفسه أمرا آخر وهو جرم الفلك الأقصى إذ الإمكان أخس الجهات شبيه بالقوة فيناسب الهيولى وباعتبار تعقله لماهيته نفس هذا الفلك المتحركة بالشوق إليه. ثم من الثاني بالجهات الثلاث المذكورة أيضا عقل وفلك الكواكب ونفسه. ومن الثالث بالثلاث عقل ونفس وفلك زحل وهكذا إلى أن يتم الأفلاك التسعة والعقول العشرة. والعاشر باعتبار تعقل إمكانه يحصل منه الهيولى المشتركة التي للعناصر وباعتبار تعقل ماهيته صورها النوعية والجسمية وباعتبار نسبة الوجود إلى المبدإ نفوسنا الناطقة. وهذه الأمور الثلاثة من حيث حقيقتها ونوعيتها مجملة يصدر من الجهات الثلاث التي هي الحيثيات الفاعلية. وأما تعددها من حيث الأشخاص وتفصيلها فباعتبار جهات قابلية تحصل لكثرة المعاونات والموجبات للاستعدادات المختلفة فإن تكثر حيثيات الفاعل يوجب التخالف النوعي في الأثر لأن آثار الحقائق المختلفة مختلفة. وأما تعدد التشخص لنوع واحد فلا يحصل إلا باختلاف القابل أو باختلاف استعداده لأن الفاعل متساوي النسبة إلى جزئيات واحد نوعي والماهية متفقة في الجميع ولازم النوع كذلك فما به الاختلاف لا بد وأن يكون من العوارض اللاحقة للنوع الممكنة الحدوث والزوال وكل ما هو كذلك فعروضه يفتقر إلى المادة كما بين في مقامه. وبالجملة الفاعل بجهة واحدة يجوز أن يفعل أعدادا كثيرة من نوع واحد لاختلاف القوابل ويجوز أن يفعل أنواعا مختلفة أيضا لاختلاف القوابل كما عند المشائين. واعتبر بشعاع الشمس الواقع على الزجاجات المختلفة اللون. وأما الحكماء الرواقيون والفارسيون فعندهم صدور الأنواع المتكثرة المتكافئة كأنواع الأجسام العنصرية يحتاج إلى اختلاف نوعي إما في الفاعل أو في جهات تأثيره ولما لم يكن في العقل الأخير من الجهات والحيثيات ما يفي تكثرها تكثر الأنواع التي في عالمنا هذا فذهبوا إلى أن في العقول عددا كثيرة فوق العشرة والعشرين أو الخمسين التي تكون بإزاء عدد الأفلاك وواحد العنصريات بل عندهم لكل نوع من
292 الأنواع الجسمانية عقل هو رب نوعه ومدبر طلسمه ذو عناية بأشخاصه فيكون عدد القواهر العقلية عدد الأنواع الجسمانية فلكية كانت أو عنصرية بسيطة أو مركبة بل يزيد على ذلك أيضا لأن العقل ليست منحصرة عندهم في قوافل الأجسام وليست الأجسام تبتدي في الوجود حيث يبتدي العقول في الوجود وإذ العقل الثاني ليس فيه من الجهات ما يكفي لصدور الفلك الثاني والكواكب المختلفة الحقائق التي فيه وأيضا الأجسام علمت أنها متكافئة ليس بعضها علة لبعض فينبغي أن يكون عللها أيضا عقولا متكافئة واقعة في سلسلة عرضية بعد تحقق السلسلة الطولية. فالعقول عندهم على ضربين: أحدهما القواهر الأعلون وهم الذين وقعوا في السلاسل الطوال ما سوى الذين وقعوا في أواخر تلك السلاسل. وثانيهما أرباب الأصنام وصواحب الأنواع الجرمية المسمون بالمثل الأفلاطونية وهم الذين قد وقعوا في سلسلة واحدة عرضية. وظاهر أن الضرب الأول على تفاوت درجاتهم أشرف من الضرب الثاني لنزولهم وقربهم بالأجسام. وبسط هذه المباحث إنما يطلب في كتب الشيخ المتأله شهاب الدين قدس سره لا سيما كتاب حكمة الإشراق الذي قرة عيون أصحاب المعارف والأذواق. ونحن قد بينا حقيقة وجود المثل الأفلاطونية وأن لكل نوع فردا مجردا عقليا في عالم الإبداع هو من حقيقة ذلك النوع. ولم أر غيري تصدى لذلك فضلا من الله علي وتأييدا وإلهاما وهو ولي التوفيق وبيده أزمة الأمور. فصل في تكون العناصر عن العقل الأخير على طريقة المتأخرين قالوا قد لزم من العقل الفعال بعد استيفاء عدد الأجرام الشريفة العلوية وجود السفليات فابتدأ بالاسطقسات. ولما كانت الأجسام الأسطقسية كائنة فاسدة لا بد أن
293 يكون أسبابها القريبة أمورا قابلة للتغير وليس العقل المحض علة لها إلا بأن ينضم إليه ما يختلف ويتغير. وكما أن لتلك الأجسام مادة مشتركة فيها وصورا مختلفة فينبغي أن يكون الأفلاك بحسب اتفاقها في الطبيعة الموجبة للحركة الدورية معينا للعقل على إفادة المادة المشتركة. (معينة للعقل على... خ ل). وبحسب اختلافها في الصور الموجبة لاختلاف حركاتها قدرا وجهة معينة له على إفادة تهيئها للصور المختلفة. وكما أن الحركة أخس الأحوال هناك فالمادة أخس الذوات هاهنا وكما أن الحركة تابعة لطبيعة ما بالقوة فكذلك المادة هاهنا حاملة لما بالقوة. فكما أن أصول الطبائع الخاصة والمشتركة هناك مبدأ للطبيعة الخاصة والمشتركة هاهنا فكذا فروع الطبائع الخاصة والمشتركة هناك من النسب المختلفة المتبدلة الواقعة فيها بالحركة مبدأ لتغير الأحوال والكيفيات وتبدلها هاهنا وكذلك تركب نسبها هناك سبب لامتزاج نسب هذه العناصر. وللأجرام السماوية بكيفياتها التي تخصها وتسري منها إلى هذا العالم تأثير في أجسام هذا العالم ولأنفسها تأثير أيضا في أنفس هذا العالم ولعقولها تأثير في إفاضة المعقولات على عقولنا. وبهذه المعاني صح ما ذهب إليه بعض الحكماء من أن الطبيعة المدبرة لهذه الأجسام هي كالكمال للصورة الحادثة عن النفس الغاشية في الفلك. هذا خلاصة ما ذكره التابعون للمعلم الأول في علة تكثر الأجسام العنصرية والحق ما ذهب إليه الأقدمون من أن مبدأ خصوصيات تلك الأجسام وخصوصا البسائط عقول متكثرة فإنها لا يجوز كونها معلولة بجوهر عقلي واحد وإن كان بحسب اختلاف الاستعدادات على ما ذكروه لأنها تتأخر بحسب الزمان عن الجواهر الإبداعية لحدوثها بسبب أوضاع وحركات جسمانية متأخرة عن أجسام متحركة. والعناصر لا يجوز أن يكون طبائعها حادثة بعد الفلك زمانا لامتناع الخلاء واستحالة خلو الهيولى في أزمنة غير متناهية عنها. وكذا الطبائع الحيوانية والنباتية من حيث
294 نوعيتها ليست مما يتخلف إفاضتها عن إفاضة العناصر لكونها غاية وجود العنصريات وخصوصا نوع الإنسان الذي جاء زبدة العناصر وثمرة الأركان. فلا يمكن أن يمهل وجود مدة غير متناهية من وجود الأفلاك والعناصر. فوجود نوعية الإنسان ليس من جهة استعداد القابل من جهة إبداع المبدع الأول إياه بواسطة بعض الوسائط العقلية إنما استعداد المواد لأجل خصوصيات الأشخاص العنصرية دون طبائعها ونوعياتها. فصل في العناية والتدبير قد علمت أن الحق الأول مبدأ وغاية للكل. وعلمت الفرق بين الغاية وما هو الضروري بأحد المعاني. وعلمت أيضا أن كل علة عالية وكل محرك عال غير المبدإ الأعلى فله في فعله غاية هي أرفع منه لكن يلزمها على سبيل العرض ما هو أدون منزلة منه. وإن الغاية مقصودة بالذات وذلك الضروري مقصود بالتبع وظاهر أن ما يتبع الشريف شريف وإن كان دونه في الشرافة. فقد صح أن كل مبدأ عال يعقل نظام الخير الصادر منه تبعا لتعقله ما لأجله الفعل أو الحركة وما يتشبه به ويتشوق إليه فيه. ومعلوم أن خلقة الحيوان والنبات وغيرهما قد روعيت فيها من الحكم والمصالح ما لا يفي ببيان تفاصيلها مجلدات كثيرة. فتحقق أن عناية الله تعالى مشتملة على الجميع على نحو تفصيلي ولا يكتفي بالعلم الإجمالي كما ظن بعضهم. فالحق في تحقيق عناية الله تعالى ما بيناه في الأسفار الأربعة. والإشارة إليه هاهنا هي أن كل وجود له خصوصية معنى لازم له من غير جعل يتعلق به بالذات بل جعله تابع لجعل ذلك الوجود إن كان مجعولا وذلك المعنى هو المسمى عند أهل الله بالعين الثابت. وعند الحكماء بالماهية. وعند بعض العرفاء بالتعين.
295 وليس هو موجودا بل الموجود هو الوجود وذلك المعنى كأنه عكس لذلك النحو من الوجود وحكاية عنه. والوجودات في ذاتها لا تختلف بالذات إلا بالشدة والضعف والكمال والنقص والتقدم والتأخر. وتختلف بالعرض بتلك المعاني التابعة للوجودات وهي ماهياتها المختلفة. وبهذا المعنى وقع في كلام المشائين أتباع المعلم الأول أن الوجود حقائق متخالفة مع تصريحهم بأنه معنى واحد بسيط مشترك في الجميع. ثم إن كل وجود يكون أقوى وأكمل يحيط بالوجود الذي يكون أضعف وأنقص ويتقدم عليه ويكون علة له ويكون آثاره أكثر وصفاته أكمل حتى أن كل كمال وصفة وفعل يكون في الوجود المعلولي فقد كان في وجود العلي على وجه أرفع وأعلى وأكثر. فعلى هذا يثبت ويتبين أن الوجود الحق الواجب الذي لا أشد منه ولا أتم يحيط بجميع الوجودات الناقصة الإمكانية ولوازمها وتوابعها ولواحقها وينبعث منه جميع النعوت والصفات الوجودية والأحكام والآثار الكمالية على وجه يليق بعظمته وجلاله من دون تكثر وتغير ونقص وبالجملة جهة مكانية لأنها من لوازم نقصانات الوجود وقصوره فيلاحظ من ذاته بذاته حقيقة الوجود ومراتبه وأحكامها ووجه نظام الخير في الجميع فيتبعه نظام الخير اتباعا يفتقر دركه إلى فطرة ثانية وقريحة مستأنفة. وهذا الذي ذكرناه أنموذج قليل مما ألهمنيه ربي وجعله قسطي من الحكمة المضنون بها على غير أهلها بعد ما كتبت أوائل هذا المختصر موافقا للطريقة المشهورة. وقد بسطنا الكلام في تحقيق هذا المذكور وما يتفرع عليه من الأحكام في المواضع اللائقة بها ليطلع عليه من وفق له والله ولي التوفيق والإنعام.
296 بفصل في مبدأ التدبير للكائنات الأرضية والأمور النادرة من الخسف والزجر والوباء العام والقتل العام وكثير من الأنواع الغير المحفوظة من النبات والحيوان مما لا يمكن أن ينسب إلى عناية الحق الأول والعقول الصريحة بالذات بل بواسطة مدبر يفعل الأشياء بقصد جزئي ويتخيل الأمور وينفعل عنها فيجيب الدعوات بإغاثة الملهوفين وينتقم من الظلمة ويفعل العقوبات ويعذب قوما حل عليهم غضب الجبار كل ذلك بإذن من الحق الأول في إيجاده على سبيل العناية. فقال بعضهم: إنه نفس متعلقة بعالم الكون والفساد. (منبثة في عالم... خ ل). والأكثر على أنه نفس متولدة من العقول والنفوس السماوية وخصوصا نفس فلك الشمس والفلك المائل وأنه يدبر لما تحت فلك القمر بمعاضدة الأجرام الكوكبية وبسطوع نور العقل الفعال وبالجملة لا بد لهذا الجوهر المدبر أن يكون وجوده وجودا نفسيا ذا قوة خيالية يتخيل ويحس بالحوادث إحساسا يليق ويكون عقله منفعلا من جهة وفعالا من جهة بأن يكون كلما أحس بأمر حادث عقل صورة الكمال له والمصلحة فيه والطريقة المؤدية إليه. وقد لزم من عقله لوجه الخير انفعال المادة العنصرية واكتساؤها في الخارج بصورة ذلك المعقول ولم يكن أيضا من المستبعد أن يهلك قوما غلب عليهم العصيان والكفر وأن يحدث نارا أو زلزلة أو وباء إلى غير ذلك من الأمور الغير المعتادة كتسخين بارد وتبريد حار وتحريك ساكن وتسكين متحرك فحينئذ يحدث أمور لا عن أسباب طبيعية على مجرى طبيعي وذلك لأجل تعقله لوجه المصلحة الذي يتبعه انفعال المادة انفعالا بدنيا من تخيل أسباب الغضب والشهوة وغيرها. فلا ينبغي أن ينكر أمثال هذه الوقائع في بدن العالم ونفسه فإن العالم مشتمل على قوى فعالة ومنفعلة
297 يحدث منها أمور عجيبة نادرة خارقة للعادات مرغمة لأنوف أعداء الله الجاهدين للنبوات قال الشيخ الرئيس في بعض كتبه: يشبه أن يكون ذلك حقا فإنه إن كان دعاء مستجاب فيكون سببه مثل هذا الجوهر وذلك لأنه كما يشاهد تغيرات المادة فيعقل صورة نظام الخير والكمال الذي يحسب هناك فيكون ما يعقل كذلك يجوز أن يكون مشاهدته لتغيرات الأحوال في سكان هذا العالم مما يحدث فيه تعقل الأمر الذي يدفع ذلك النقص والآفة ويجلب الخير فيتبع ذلك التعقل وجود الشيء المتعقل. أقول: وإذا صح هذا فلأحد أن يتصور في مقابلة هذا المبدإ المدبر لهذا العالم على وجه الخير والصلاح المتكون من قوى بعض الأجرام الفلكية موجودا آخر نفسانيا متولدا من طبقة دخانية نارية يغلب عليه الشرارة والإغواء والإضلال ويكون له سلطنة بحسب الطبع على الأجسام الدخانية والبخارية ونفوسها الجزئية والطبائع الوهمانية ويطيعها تلك النفوس والقوى الوهمانية لمناسبة النقص والشرارة ويكون المسمى بإبليس الوارد على لسان النبوات هو هذا الشرير المغوي المضل وكونه مجبولا على الإغواء والإفساد والاستكبار وادعاؤه العلو كما ورد في الكتاب: أستكبرت أم كنت من العالين إنما هو بمقتضى طبعه الغالب عليه النارية الموجبة للإهلاك والعلو. ووجه تأثيره في نفوس الآدميين بالشر أما من جانب المؤثر فللطافته وسرعة نفوذه في عروقهم ولطائف أعضائهم وأخلاطهم التي هي محال الشعور والاعتقاد واقتداره على إغوائهم بالوسوسة والإضلال. وأما من جانب القابل فلقصور القوى الدراكة لأكثر الناس وضعفها عن المعارضة والمجاهدة مع جنود الشياطين وأعوانه من القوى الشهوية والغضبية وغيرهما لا سيما الوهمية إلا من عصمه الله من عباده المخلصين الذين أيدهم الله بالعقل وهداهم إلى الصراط المستقيم أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم الغالبون لأجل تسخير قواهم البدنية وخصوصا الوهمية التي هي أحد أعداء
298 الله المجيبة لدعوة الشيطان إذ لم يسخره العقل الهادي إلى طريق الرحمان فإن للعقل الإنسان جنودا كثيرة خلقها الله لتكون مسخرات مطيعات له وخادمة إياه في طريق الله تعالى وسفره الذي لأجله خلق وخلقت إذ خلق الإنسان في أول حدوثه ضعيف الفطرة ناقص القوة شبيها بالعدم حيث أتى حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا فتدرج في الوجود ثم حصل له استعداد الترقي من مرتبة إلى مرتبة حتى يصل إلى معبوده الحق. فلا بد للمسافر من مركب وزاد وخادم فمركبه مادة البدن وزاده العلم والتقوى وجنوده وخادمه الأعضاء والقوى. وتلك الجنود صنفان: صنف يرى بالأبصار وهي الأعضاء والجوارح وصنف لا يدرك بالحواس الظاهرة وهي القوى والحواس. وجميعها خلقت للعقل مسخرة له وهو المتصرف فيها وخلقت مجبولة على طاعته أما الجند الأول فلا يستطيع له خلافا ولا عليه تمردا فإذا أمر العين للانفتاح انفتح وإذا أمر الرجل للحركة تحركت وإذا أمر اللسان بالكلام وجزم الحكم به تكلم وكذا سائر الأعضاء. وأما الجند الآخر فهي أيضا كذلك إلا الوهم فإن له شيطنة بحسب الفطرة يقبل إغواء الشيطان ومغاليطه فيعارض العقل في المعقولات فيحتاج إلى تأييده من جانب الحق ليغلب عليه ويقهره. وتسخر الحواس للعقل يشبه من وجه تسخر الملائكة لله تعالى فإنهم جبلوا على الطاعة لا يستطيعون له خلافا ولا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون. وتمرد الوهم عن طاعته يشبه تمرد الشيطان من طاعة الله. وشرح تفاصيله مما يطول الكلام. ومن رؤساء جنود العقل الشهوة والغضب وهما قد ينقادان له انقيادا تاما فيعينانه على طريقه الذي يسلكه وقد يعصيانه عليه استعصاء بغي وتمرد لأجل طاعة الوهم المطيع للشيطان حتى يملكانه ويستبعدانه وفيه هلاكه وانقطاعه عن سفره الذي به
299 وصوله إلى سعادة الأبد. وللعقل جند إلهي هو العلم والحكمة وحقه أن يستعين بهذا الجند لأنه ضرب الله على الجندين الأخيرين الملتحقين بحزب الشيطان الذي هو القوة الوهمية. فإن من ترك الاستعانة به كما هو حال أكثر الناس من أعداء الحكمة فقد سلط على نفسه الغضب والشهوة فهلك يقينا وخسر خسرانا مبينا. وإني مدة عمري هذا وقد بلغ إلي أربعين ما رأيت أحدا من المعرضين عن تعلم الحكمة إلا وقد غلب عليه حب الدنيا والرئاسة فيها والإخلاد إلى الأرض وقد صار عقله مسخر الشهوة في استنباط الحيل للوصول إلى المستلذات الجسمانية. والحاصل أنه لا يبعد من الصواب أن لو اعتقد أحد أنه يكون في هذا العالم الدنياوي مؤثران قادران نفسانيان خلقا بإيجاد الله تعالى إياهما بحسب العناية السابقة والقضاء الإلهي لأجل مصالح العباد ونظام العالم على الوجه الذي حققناه من بيان تعلق العلم السابق بالأشياء فيكون أحدهما خيرا يفعل الخير ويلهم العقول بفعل الطاعات والخيرات والثاني شريرا يفعل الشر ويوسوس النفوس الوهمانية بفعل المعاصي والشرور. وقد روي عن رسول الله ص: أن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشرور وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله تعالى فليحمد الله تعالى ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ثم قرأ: الشيطان يعدكم الفقر و يأمركم بالفحشاء. فإن قلت: فكيف يتمثل الملك أو الشيطان لبعض الناس دون بعض فإذا رأى صورة أحدهما فهو صورته الحقيقية أو هو مثال يتمثل به وإن كانت صورته الحقيقية فكيف يرى بصور مختلفة وكيف يرى في وقت واحد في مكانين على صورتين فاعلم أن الملك أو الشيطان لهما صورتان هما حقيقتا صورتهما ولا يدرك صورتهما بالمشاهدة إلا بأنوار النبوة فما رأى النبي ص جبرئيل في صورته إلا
300 مرتين وذلك أنه (ع) سأله أن يرى نفسه على صورته فواعده ذلك بحرى فطلع الجبرئيل فسد الأفق إلى المغرب. ورآه مرة أخرى على صورته ليلة المعراج عند سدرة المنتهى وقد وقع في الرواية عنه ص أنه قال: رأيت مرة جبرئيل كأنه طبق الخافقين وإنما كان يراه في صورة الآدمي غالبا وكأنه يراه في صورة دحية الكلبي وكان رجلا حسن الوجه. والأكثر أنه كان بكاشف أهل المكاشفة من أرباب القلوب بمثال صورته فتمثل له الملك أو الشيطان له في اليقظة ويسمع كلامه ويقوم ذلك مقام صورته كما ينكشف في المنام لأكثر الصالحين وإنما المكاشف في اليقظة هو الذي انتهى إلى رتبة لا يمنعه اشتغال الحواس بالدنيا عن المكاشفة التي تكون بالنوم فيرى في اليقظة ما يرى غيره في النوم. فصل في بيان تسلط الشيطان على باطن الإنسان بالوسوسة فلنمهد لبيانه مقدمة: قال بعض علماء الإسلام: اعلم أن الجوهر النطقي من الإنسان المسمى بالقلب الحقيقي مثاله مثال هدف ينصب إليه السهام من الجوانب أو مثل مرآة منصوبة يجتاز عليها أصناف الصور المختلفة فيرى فيه صورة بعد صورة لا يخلو عنها دائما. ومداخل هذه الآثار المتجددة في القلب في كل حال إما من الظاهر كالحواس الخمس وإما من الباطن كالخيال والشهوة والغضب والأخلاق والصفات
301 الذميمة. فإنه مهما أدرك بالحواس شيئا حصل منها أثر في القلب وكذلك إذا هاجت الشهوة والغضب حصل من كل منهما أثر في القلب. وإن كف عن الإحساس فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى وينتقل المتخيلة من شيء إلى شيء. وبحسب انتقالها ينتقل باطن الإنسان من حال إلى حال فباطنه إذن في التغير دائما من هذه الأسباب. وأحضر الأسباب الحاصلة فيه هي الخواطر والأفكار أي الأذكار التي هي من أنواع الإدراكات والعلوم إما على سبيل الورود التجددي وإما على سبيل التذكر من المحفوظات في الحافظة. وهذه الخواطر هي المحركات للإرادات فإن النية والعزم والإرادة بعد حضور المنوي بالبال. فمبدأ الأفعال الخواطر ثم الخاطر يحرك الرغبة والرغبة تحرك العزم والعزم يحرك النية والنية تحرك الأعضاء. فإذا تمهدت هذه المقدمة نقول: إن الخواطر المحركة للرغبة في قلب الإنسان ينقسم إلى ما يدعو إلى الخير أعني ما ينتفع في الدار الآخرة وإلى ما يدعو إلى الشر وهو ما يضر في العاقبة. فهما خاطران مختلفان فافتقرا إلى اسمين مختلفين. فالخاطر المحمود يسمى إلهاما. والخاطر المذموم وسواسا. ثم إنك تعلم أن هذا الخاطر حادث وكل حادث لا بد لإمكانه من سبب. ومهما اختلفت المعلومات دل على اختلاف العلل. وهذا مع قطع النظر عن الأبحاث البرهانية معروف في سنة الله تعالى وعادته في ترتب المسببات على الأسباب. فمهما استنار مثلا حيطان البيت وأظلم سقفه واسود بالدخان علمت أن سبب الاسوداد غير سبب الاستنارة فحكمت بأن سبب الاستنارة نور النار وسبب الاستظلام ظلمة الدخان. كذلك لأنوار القلب وظلماته سببان مختلفان فسبب الخواطر الداعية إلى الخير يسمى في عرف الشريعة ملكا وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطانا واللطف الذي به يتهيأ القلب لقبول إلهام الملك
302 يسمى توفيقا والذي به يتهيأ لقبول وسواس الشيطان يسمى إغواء وخذلانا. فإن المعاني المختلفة تحتاج إلى أسامي مختلفة. والملك في الشريعة عبارة عن خلق خلقه الله تعالى شأنه إفاضة الخير وإفاضة العلم وكشف الحق والوعد بالمعروف وقد خلقه وسخره لذلك. والشيطان عبارة عن خلق شأنه ضد ذلك وهو الوعد بالشر والتخويف عند الهم في الخير بالفقر كما في قوله تعالى: الشيطان يعدكم الفقر و يأمركم بالفحشاء. فالوسوسة في مقابلة الإلهام والشيطان في مقابلة الملك والتوفيق في مقابلة الخذلان. وقد نقلنا ما مر الحديث المروي عن رسول الله عليه وآله صلوات الله في الدارين: في القلب لمتان: لمة من الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق ولمة من العدو إيعاد بالشر وتكذيب بالحق ونهي عن الخير. وقال ع أيضا: قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن والله سبحانه يتعالى عن أن يكون إصبعه جسما مركبا من لحم وعظم ودم منقسما بالأنامل. ولكن روح الإصبع وحقيقته. ومعناه واسطة التحريك والتقليب والقدرة على التغيير والتفريق. وكما أنك تفعل بأصابعك فالله تعالى إنما يفعل ما يفعله باستسخار الملك والشيطان وهما جوهران مسخران بقدرته في تقليب القلوب كما أن قوى أصابعك مسخرة لك في تقليب الأجسام مثلا. والقلب وصفاؤه ولطائفه صالح بأصل الفطرة لقبول آثار الملكية والشيطانية صلاحا متساويا وإنما يترجح أحد الجانبين باتباع الهوى والإكباب على الشهوات أو الإعراض عنها ومخالفتها. فإن اتبع الإنسان مقتضى شهواته وغضبه ظهر تسلط الشيطان بواسطة اتباع الهوى والشهوات بالأوهام والخيالات الفاسدة الكاذبة وصار القلب عش الشيطان ومعدنه لأن الهوى مرعى الشيطان ومرتعه لمناسبة ما بينهما
303 ونحو من الاتحاد. وإن جاهد الشهوات ولم يسلطها على نفسه وعارض بقوته البرهان اليقيني على وجود النشأة العقلية الباقية أبدا بالظنون والأوهام الكاذبة المستدعية للشهوات والركون إلى الدنيا والإخلاد على الأرض والاقتصار على هذه النشأة الناقصة الفانية وتشبه بأخلاق الملائكة صار قلبه مستقرا ومهبطا للملائكة. (مستقر الملائكة ومهبطها خ ل). وسيجئ بيان اتصال النفس بعالم العقول واتحادها بالعقل الفعال. ولما كان الخلق لا يخلو من شهوة وغضب وحرص وطمع وطول أمل وغير ذلك من الصفات البشرية المنبعثة عن الهوى المتبع للقوة الوهمية التي شأنها إدراك الأمور على غير وجهها فلا جرم لم يخل الباطن من جولان الشيطان فيه بالوسوسة إلا من عصمه الله تعالى. ولذلك قال النبي: ما منكم إلا وله شيطان. قالوا: وأنت يا رسول الله قال: وأنا إلا وأن الله تعالى أعانني عليه فأسلم على يدي. فمهما غلب على النفس ذكر الدنيا ومقتضيات الهوى والشهوات وجد الشيطان للتدرع بها مجالا فوسوس لها. ومهما انصرفت النفوس إلى ذكر الله تعالى ارتحل الشيطان وضاق مجاله فأقبل الملك وألهم. والنفس بهيولانية الوجود لها قابلية الارتباط والاتحاد بالملك والشيطان بتوسط قوة العقلية والوهمية والتطارد بين جندي الملائكة والشيطان في معركة النفس الإنسانية دائم إلى أن ينفتح لأحدهما ويستوطن فيه ويكون اجتياز الثاني اختلاسا. وأكثر النفوس قد فتحها وسخرها جنود الشيطان وملكوها فامتلأت بالوساوس الداعية إلى إيثار العاجلة وإطراح الآخرة وكما أن الشهوات ممتزجة بلحم الآدمي ودمه فسلطنة الشيطان أيضا سارية في لحمه ودمه ومحيط بالقلب الذي هو منبع الدم المركب للروح البخاري الحاصلة من القوى الوهمية والشهوية والغضبية. ولذلك قال ص: الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم..
304 فالحاصل أن وجود الوسواس معلوم في الإنسان بالمشاهدة والوجدان وكل خاطر فله سبب يفتقر إلى اسم فاسم سببه الشيطان ولا يتصور أن ينفك آدمي عنه لعدم انفكاكه عن الخواطر الوهمية والوسواسية وإنما يختلفون بعصيانه ومتابعته. ولذلك قال ص ما من أحد إلا وله شيطان. وهذه الشياطين الجزئية من فروعات ذلك الموجود الشرير الذي ذكرناه كما أن العقول الجزئية الإنسانية من آثار الملك الملهم بالخيرات. فقد اتضح بهذا النوع من الاستبصار معنى الوسوسة والإلهام والملك والشيطان والتوفيق والخذلان. رمز عرشي اعلم أن سبب وقوع النفوس الإنسانية في هذا العالم وابتلائه بهذه البليات الدنيوية التي أحاطت بهم فيها هو الخطيئة التي اكتسبها أبوهم آدم ع لنقص إمكاني في جوهره وقصور طبيعي في ذاته لما ذاق الشجرة وبدت سوأته وهي الشجرة المنتهى عن أكلها لممنوع من ذوقها نوع الإنسان. ثم لما تمت حيلة إبليس على آدم ونال بغيته بإيصال الأذية وبلغ أمنيته بإيقاع الوسوسة عليه سأل ربه الإنظار إلى يوم يبعثون فأجيب إلى يوم الوقت المعلوم اتخذ لنفسه جنة غرس فيها أشجارا وأجرى فيها أنهارا ليتشاكل بها الجنة التي سكنها آدم وقاس عليها وهندس على مثلها هندسة فانية مضمحلة لا بقاء لها وجعل مسكن أهله وأولاده وذريته فهي كمثل السراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. وذلك أنه من الجن وقد قيل إن للجن التخييل والتمثيل لما لا حقيقة له كذلك فعل إبليس وجنوده إنما هو تمويه وتزريق ومخاريق وتنميق لا حقيقة لها ولا حق عندها كالقياس المغالطى السفسطى ليصد بها الناس عن سنن الحق والصراط المستقيم
305 والطريق القويم وبذلك وعد ذرية آدم ع إذ قال: لآتينهم من بين أيديهم و من خلفهم و عن أيمانهم و عن شمائلهم و لا تجد أكثرهم شاكرين.. فاجتهد أيها السالك إلى الله تعالى والطائر بجناحي العلم والعمل لعلك توفق للخروج من جنة إبليس فترجع إلى جنة أبيك آدم ع وذريته الطاهرة الزكية ص ويتخلص من أدناس أرجاس ذرية إبليس وهم المعتكفون على الأمور الدنياوية الدنية من الكفرة المتمردين والضلال المنافقين لعنهم الله فهم في العذاب مشتركون ومن نار جهنم لا يرجعون كلما بليت بالعذاب صورهم المعكوسة وقوالبهم المنكوسة بدلوا بهيئات وصور أخرى كما في قوله تعالى: كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب. وذلك لتفنن معاصيهم وتنوع أخلاقهم الردية المناسبة للصور القبيحة والسيئات الموحشة في النشأة الآخرة وبذلك وعدهم ربهم إذ قال لإبليس: لأملأن جهنم منك و ممن تبعك منهم أجمعين.. أعاذنا الله من اتباع إبليس وجنوده واقتراف الشهوة والجهل والرغبة إلى محاسن أمور الدنيا وزخارفها ومثالاتها الهيولانية فإن من ركن إليها وغرق في بحار الشهوات وانهمك في لذاتها وتناول محرماتها فقد طالت بليته وعظمت رزيته وحيل بينه وبين جنة أبيه. فصل في الإشارة إلى شيء من آثار عناية الله تعالى وحكمته وعدله في خلق السماوات والأرض وحسن تدبيره ولطفه في نظم العالم وتأليف أجزائه على أتقن وجه وأحكمه بحيث لا يتصور ما هو أشرف من هذا النظام الموجود وإنما يعرف ذلك بملاحظة أمور العالم والتفكر في أوضاعها وكيفية نضدها
306 وترتيبها وارتباط العلويات بالسفليات على الوجه المخصوص والتدبر في منافع حركاتها ونسب كواكبها ومنافع أعضاء الحيوان وأجزاء النبات وسائر العنصريات على سبيل الإجمال لعدم اقتدار الإنسان على الاطلاع والشعور بجميع منافعها وخصائصها بل ما يعلم الإنسان من دقائق حكمة الله تعالى في إيجاد نفسه وبدنه شيء قليل لا نسبة له إلى ما يعلمه من الحكم والمصالح التي روعيت في إيجادهما فكيف الحال في معرفته لما خرج عن ذاته فلنكتف بأمور جملية من أسرار خلقه وغرائب حكمته. فنقول أولا لما كان علم الله تعالى بالأشياء وبنظام الخير فيها علما لا نقص فيه بأن يكون علما ظنيا ضعيفا تعالى وتقدس عن ذلك وكان علمه فعليا سببا لوجود الأشياء التي هو علم بها على وجه التمام والضرورة كان حصول معلومه في غاية من الأحكام ونهاية من الإتقان. ولنعد الآن إلى ما مر من توحيده. فنقول لما تحقق وتيقن أن إله العالم واحد لا شريك له في الإيجاد ولا في الوجود اللائق به من كونه تقدست أسماؤه وتمجدت آلاؤه بريئا عن جميع النقائص والقصورات الإمكانية ووجوده الذي هو ماهيته أفضل وجود في غاية الوحدة والبساطة والشرف ولا يمكن أن يكون أقدم من وجوده وجود ولا مع وجوده وجود فلا مادة له ولا موضع ولا صورة ولا غاية. لأن هذه الأشياء تنافي تقدمه وتسقط أوليته فيكون مجردا عما سواه. فيكون معقولا وعاقلا لذاته ولغيره لاستناد الأشياء إليه ورجوعها إليه عقلا تاما وعلما كاملا. وكما أن ذاته التي هي عين علمه بالأشياء فاعلا لها كذلك ذاته علة غائية وغرض في وجودها. فعلم من هذين أن وجود ما يوجد عنه إنما هو محض فيض وجوده لوجود ما سواه مع علمه بها ورضاه. فكذلك وجوده الذي به تجوهر ذاته وتحقق ماهيته هو بعينه وجوده الذي به يحصل منه غيره لا أنه يتجوهر بشيء ويتصف بشيء آخر ويفعل بشيء آخر كما أنا نتذوت بالإنسانية ونتصف بالقدرة والعلم ونكتب بملكة الكتابة. وليس له مانع في فعله أو منتظر.
307 فيفيض عن ذاته بذاته وجود الأشياء وإذا فاضت عنه ترتب مراتبها وحصل لكل موجود قسطه من الوجود الذي يليق به وبمرتبته فيبتدي من أشرفها وجودا وأتمها جوهرية وهو العقول العالية والجواهر المتخلصة عن المواد بالكلية ثم يتلوه في الوجود ما يتلوه في الكمال والشرف كالنفوس المجردة الفلكية.... ثم الصور المنطبعة السماوية ثم الطبيعة العنصرية ثم الجسمية إلى أن ينتهي إلى الوجود الذي لا أخس منه ولا أنقص وهو الهيولى الأولى. فينقطع هذه السلسلة النزولية عندها ولا يتخطى إلى ما دونها لعدم إمكانه فهي نهاية تدبير الأمر فإنه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه فيفيض عنه بالامتزاج بين المواد الجسمية الصور النوعية للمركبات على مراتبها المتفاوتة في العروج بحسب ترقي الاستعدادات وتكاملها فلا يزال يترقى في الوجود من الأرذل إلى الأفضل حتى ينتهي إلى الأفضل الذي لا أفضل منه. فأخسها المادة المشتركة والأفضل هاهنا الأسطقسات ثم المعدنيات ثم النبات ثم الحيوان الغير الناطق ثم الحيوان الناطق. وأفضله ما وصل إلى درجة العقل المستفاد فيه عاد الوجود إلى المبدإ الذي ابتدأ منه وارتقى إلى ذروة الكمال بعد أن هبط منها فعنده يقف ترتيب الوجود وبه يتصل دائرة الفيض والجود كما قيل نظما: دو سر خط حلقه هستى * بحقيقت بهم تو پيوستى ثم لو نظرت متفكرا في صنع الله: وجدت أن كل ما وقع منه في مرتبة من مراتب الوجود الباديات لا يتصور ما هو أشرف من شخصه شخصا ولا من نوعه نوعا أما الأول فلوجوب انحصار كل نوع منها في شخص لعدم الامتياز هناك بالعوارض الحادثة
308 لكونها قبل الاتفاقات والحركات والاستعدادات. وامتياز الشيء بنوعه أو بلوازم نوعه يوجب الانحصار في شخص واحد. وأما الثاني فلما دلت عليه قاعدة الإمكان الأشرف التي أفادها الأستاذ الأول أرسطاطاليس من أن ذات البارىء لا يقتضي الأخس ويترك الأشرف بل يلزم من فيض جوده الأشرف فالأشرف. وبرهان هذه القاعدة في كتاب حكمة الإشراق. والقاعدة وإن لم تطرد فيما تحت الكون وفي سلسلة العائدات كما ظنه بعضهم لكنها جارية في الإبداعيات. وأما الوجودات الواقعة في عالم التركيب ومراتب الصعود فهي أيضا في غاية الجودة ونهاية نظم الوجود وذلك لأن الأمور الواقعة فيه نظامها متعلق بحركات الأفلاك وأوضاعها لأغراض شريفة علوية فيكون ما يصدر عنها في غاية الحسن. وأيضا نظام الأفلاك وما فيها ظل نظام ما في القضاء الإلهي بناء على ما مر وعلى ما تحقق عندهم من أن صدور الموجودات عن الباري تعالى ليس على سبيل البخت والاتفاق كما نسب إلى ذيمقراطيس ولا على طريقة الجزاف في القصد كما توهمته الأشاعرة ولا من إرادة ناقصة كإراداتنا المحوجة إلى دواع خارجة عن الذات كما زعمته المعتزلة ولا بحسب الطبيعة الغير الشاعرة بذاتها فضلا عن الشعور بغيرها كما ذهبت إليه كفرة الدهرية. بل النظام المعقول الذي يسمى عند الحكماء بالعناية مصدر للنظام الموجود وذلك النظام الموجود محض الخير والكمال. فهذا الذي على وفقه يجب أن يكون أتم النظامات الإمكانية وأكملها فعلى هذا لا يكون في الوجود أمر جزافي أو اتفاقي بل كله غريزي فطري بالقياس إلى طبيعة الكل سواء كان طبيعيا بحسب نفسه كحركة الحجر إلى السفل أو قسريا كحركته إلى الفوق أو إراديا كفعل الحيوان بما هو حيوان. إذ كلما يحدث فيجب عن سبب ويترقى سلسلة الأسباب إلى مبدأ واحد ومسبب فرد يصدر عنه الأشياء ويتسبب عنه على ترتيب علمه فلا يتصور غيرها. فليس في الوجود شيء مناف لطبيعة علله وأسبابه إذ المعلول لا ينافي العلة.
309 فالحركات كلها طبيعية بهذه الوجهة والنغمات والأشعار كلها مؤتلفة موزونة بالقياس إلى طبيعة الكل وإن لم يكن كذلك بالقياس إلى طبيعة جزئية. ووجود الأصابع الزائدة على خلقة الإنسان طبيعي في جبلة العالم وكذا كل عمر بالقياس إلى الكل طبيعي وإن لم يكن طبيعيا على الإطلاق. ولو تيسر لك أن تعلم كل شيء بأسبابه وعلله لرأيت جميع الأشياء حسنا عندك وملائما لديك وعرفت هذا الأمر بالوجدان كما تعرفه بالبرهان وعلمت أيضا أن الوجود وكل جزء من أجزائه من جوهر أو عرض مجرد أو مادي فلكي أو عنصري بسيط أو مركب جماد أو نبات أو حيوان ففيها عجائب وغرائب يظهر بها حكمة الله تعالى وقدرته وجلاله وعظمته ما ينقضي الأعمار دون الوقوف على عشر عشيره فتأمل أيها المتفكر في خلق الله تعالى أن مبدع العجائب وصانع الغرائب لما كان غير متناهي القوة والقدرة فلم يجز وقوف رحمته عند حد لا يتجاوزه ويبقى بعد ذلك الإمكان الغير المتناهي من غير أن يخرج من القوة إلى الفعل. ثم إنه لما امتنع صدور الغير المتناهي مجتمعا لنهوض براهين التطبيق والتضايف وغيرهما م فبالضرورة لا يمكن ذلك إلا على سبيل التعاقب والافتراق. فلا جرم وجب أن يكون من مبدعات الله جوهر بسيط ليصح صدور الممكنات المحدثات المتجددات عنه تعالى لتقدسه عن التغير فيجب أن يكون ذلك الجوهر ذا قوة غير متناهية في الانفعال كما أن الواجب تعالى ذو قوة غير متناهية في الفعل. ثم لما كان تجدد الحوادث الواردة على الهيولى موقوفا على أمر متجدد بالطبع حادث بالذات ليصير بتجدده وحدوثه الذاتيين منشأ لتجدد الحادثات فأفاد بفضل جوده وجود أجرام كريمة إبداعية دائمة الحركات لأغراض شريفة علوية هي علة لاستعدادات غير متناهية يلحق إلى فاعل غير متناهية التأثير وقابل غير متناهي القبول لتوجب ذلك إفاضة الخيرات وفتح أبواب البركات دائما كما في قوله تعالى: و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها..
310 ثم ألم تنظر أيها السالك سبيل معرفة الله تعالى وملكوته من ملاحظة أحوال الفلكيات وكيفية أوضاعها لانتفاع السفليات من أنها لو كانت كلها نيرات لأفسدت بإحراقها مواد الكائنات ولو كانت بالكلية عرية عن النور لبقي ما دون الفلك في وحشة شديدة وليل مظلم لا أوحش منه وكذا لو ثبتت أنوارها أو لازمت إلى دائرة واحدة لأثرت بإفراط فيما قابلها وتفريط فيما وراء ذلك. ولو لم يكن لها حركة سريعة لفعلت ما يفعله السكون واللزوم. ولو لم يجعل الأنوار الكوكبية ذات حركة سريعة مشتركة وبطيئة مختصة ولم يجعل دوائر الحركات البطيئة مائلة عن دائرة الحركة السريعة لما مالت إلى النواحي شمالا وجنوبا فلم ينتشر منافعها على بقاع الأرض. ولو لا أن حركة الشمس خصوصا على هذا المنوال من تخالف سمتها لسمت الحركة السريعة لما حصلت الفصول الأربعة التي تتم بها الكون والفساد ويصلح أمزجة البقاع والبلاد ولما كان القمر نائبا للشمس خليفة لها في النضج والتحليل إذا كان قوى النور جعل مجراه يخالف مجراها فالشمس تكون في الشتاء جنوبية والقمر شماليا لئلا ينفقد السببان وفي الصيف بعكس ذلك لئلا يجتمع المسخنان. ولما كانت الشمس شمالية الحركة صيفا وجنوبيتها شتاء جعل أوجها في الشمال وحضيضها في الجنوب لينجبر قرب الميل ببعد المسافة لئلا يشتد التسخين والتبريد وينكسر بعده بقربها لئلا تضعف القوة المسخنة عن التأثير. ثم أما تأملت يا عارف في ملكوت السماوات وما فيها من خلق الكواكب وقوام جواهرها وإشراق نورها وطاعتها للباري ودوامها في الحركات عشقا وشوقا إلى بارئها ومبدعها.
311 ثم أما تنظر فيها بنظر الاعتبار وتعظم أمرها كما عظم الله أمر السماء والنجوم في كتابه م فكم من سورة يشتمل على تفخيمها في مواضع! وكم أقسم بها في القرآن! ثم أثنى على المتفكرين فيها فقال: يتفكرون في خلق السماوات و الأرض. وذم المعرضين عنها فقال: جعلنا السماء سقفا محفوظا و هم عن آياتها معرضون إشارة إلى أن السماوات أصلاب شداد محفوظات عن التغير إلى أن يبلغ الكتاب أجله. وقال أيضا: و بنينا فوقكم سبعا شدادا.. وقال: ءأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها.. فانظر أيها العاقل إلى الملكوت لترى عجائب العز والجبروت وأطل فكرك في الملك فعسى يفتح لك أبواب السماء فتخرج إليها من هذه الهاوية المظلمة فتجول بقلبك في أقطارها إلى أن تقوم بين يدي عرش الرحمن فعند ذلك ربما يرجى لك أن تبلغ رتبة الأقصى ولا يكون ذلك إلا بعد مجاوزتك عن الأدنى وأدنى شيء إليك نفسك ثم الأرض التي هي مقرك ثم الهواء المكتنف لك ثم النبات والحيوان وما على وجه الأرض ثم عجائب الجو ثم السماوات السبع بكواكبها ثم الكرسي ثم العرش ثم حملة العرش وخزان السماوات ثم منه تجاوز النظر إلى رب العرش والكرسي في السماوات والأرض وما بينهما. فبينك وبينه هذه المفاوز والعقبات وأنت بعد لم تفرغ من أدناها وهي معرفة ظاهر نفسك ثم صرت تدعي بوقاحتك معرفة ربك وتقول: قد عرفت ولا تتأمل أنه يستحيل لك معرفة رب العالمين وأنت عاكف بيت جسدك في عالم التراب.
312 فمن جملة آيات حكمته وعنايته الإنسان المخلوق من القوة الهيولانية ثم من التراب ثم من النطفة. وأشير إلى المرتبة الأولى للإنسان في قوله تعالى: هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا.. وإلى المرتبة الثانية والثالثة بقوله: إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج. فانظر أيها الناظر في الأنفس والآفاق إلى النطفة وهي ماء قذرة لو تركت ساعة ليضر بها الهواء لتغير مزاجها وفسدت كيف أخرجها رب الأرباب من بين الصلب و الترائب وحفظها عن التبدد والافتراق ثم كيف جعلها وهي مشرقة بيضاء علقة حمراء ثم كيف جعلها مضغة ثم كيف قسم أجزاء النطفة وهي متشابهة متساوية إلى العظام والأعصاب والعروق والأوتار واللحم ثم كيف ركب من هذه الأجزاء والأعضاء البسيطة الأعضاء المركبة من الرأس واليد والرجل وغيرها وشكلها بأشكال مختلفة مناسبة لها بحسب جواهرها وأفاعيلها كما يستعلم من قواعد التشريح وغيره. ولو نظر أحد حق النظر في حقيقة الإنسان وتدبر في ذاته حق التدبر لوجدها مشتملة على جميع طبقات الموجودات بحسب طبائعها وماهياتها دون أشخاصها وهوياتها ووجدها متصاعدة في استكمالاتها من أخس المراتب إلى أشرف الغايات حتى كان الإنسان قبل تكون بدنه أولا لا شيئا محضا مشاركا للمعدومات بلا اسم ورسم ثم مادة هيولانية ونطفة قذرة في غاية ضعف الوجود حيث ينعدم صورتها بأقل مصادمة برد أو حر أو غيرهما ثم تدرج في الاستكمال قليلا بعناية الله تعالى وقدرته فأفاض عليها صورة نباتية وخلق فيها قوة جاذبة للغذاء. ثم إن تلك المادة لأجل شركتها للنباتات صارت أكمل وجودا من الحجر والمدر والحديد والنحاس وغير ذلك من الجواهر المعدنية إلا أن النباتات مع هذا الكمال ناقص فإنه لو أعوزه غذاء
313 يساق إليه ويماس أصله جف ويبس ولم يمكنه طلب الغذاء من موضع آخر فإن الطلب إنما يكون بشيئين: أحدهما معرفة المطلوب والثاني القدرة على الانتقال إليه والحركة نحوه. والنبات عاجز عنهما فلو وقف وجود الإنسان في هذه المرتبة لكان ناقصا في خلقه عاجزا في وجوده. فصل في بيان عنايته تعالى في خلق القوى الحاسة للإنسان فانظر كيف أنعم الله تعالى عليه وشرفه بصورة أخرى امتاز بها عن النباتات وارتفع وجوده عن الانحطاط إلى درجة الساكنات وقرب بخطوة أخرى إلى مبدأ الممكنات وغاية الحركات بأن خلق له آلة الإحساس وآلة الحركة في طلب الغذاء وهما المشار إليهما في الكتاب بقوله تعالى: فجعلناه سميعا بصيرا إنا هديناه السبيل إما شاكرا و إما كفورا.. ثم انظر إلى ترتيب حكمة الله ونظم الوجود في خلق الحواس الخمس التي هي آلة الإدراك فأولها حاسة اللمس وإنما خلقت لك حتى إذا مستك نار محرقة أو سيف جارح تحس به فتهرب منه وهذا أول حس يخلق في الحيوان كما مر. وأنقص درجات الحس والشعور أن يشعر بما يلاصقه ويماسه فإن الشعور بما يبعد منه شعور أتم لا محالة. وهذا الشعور موجود لكل حيوان أو لم تر إلى الدود التي مرتبتها أنزل مراتب الحيوان إذا غرز فيها الإبرة انقبضت للهرب بخلاف النبات حيث لا ينقبض عند القطع إذ لا يحس به. ألا إنك لو لم يخلق لك إلا هذا الحس لكنت ناقصا كالدود التي في الطين لا تقدر على طلب الغذاء من حيث يبعد عنك فافتقرت إلى حس تدرك به ما بعد عنك فخلق لك الشم ألا إنك تدرك به الرائحة ولا تدري أنها
314 جاءت من أي ناحية فتحتاج إلى أن تطوف كثيرا من الجوانب فربما تعثر على الغذاء الذي شممت ريحه وربما لم تعثر فتكون في غاية النقصان لو لم يخلق لك البصر لتدرك به ما بعد عنك وتدرك جهته فتقصد تلك الجهة بعينها ألا إنه لو لم يخلق لك إلا هذا لكنت ناقصا إذ لا تدرك بهذا ما انحجب وراء الجدار فتبصر غذاء ليس بينك وبينه حجاب ويتصور عدوا لا حجاب بينك وبينه وقد لا ينكشف الحجاب إلا حين قرب العدو فتعجز عن الهرب فخلق لك السمع حتى تدرك به الأصوات من وراء الجدران عند جريان الحركات. ولأنك لا تبصر ولا تدرك بالبصر إلا شيئا حاضرا وأما الغائب فلا يمكنك معرفته إلا بكلام تدرك بحس السمع فاشتدت إليه حاجتك فخلق لك ذلك. وميزت بفهم الكلام عن سائر الحيوانات. وكل ذلك ما كان يغنيك لو لم يكن لك حس الذوق إذ يصل إليك الغذاء فلا تدرك أنه موافق أو مخالف فتأكله فتهلك كالشجر يصيب في أصلها كل مائع ولا ذوق لها فتجذبه وربما يكون ذلك سبب جفافها. ثم جميع ذلك لا يكفي في الاستكمال ولا يتم به الحياة الإنسانية لو لم يكن في مقدم دماغك إدراك آخر يسمى بالحس المشترك يتأدى إليه المحسوسات الخمسة ويجتمع فيه ولولاه لطال الأمر عليك في معرفة الأشياء المحسوسة وحفظها عندك. وهذا كله يشترك فيها الحيوانات فلو لم يكن للإنسان إلا هذا لكان ناقصا لعدم إدراكه عواقب الأمور. فميزك الله وأكرمك إعظاما وتشريفا بصفة أخرى هي أشرف من الكل وهو العقل فبه تدرك مضرة الضار ومنفعة النافع وما يضر في المال وإن كان نافعا في الحال. هذا أنموذج في بيان ترتيب ما أودع الله فيك وأنعمه عليك في باب الإدراك ونظم الأمور الإدراكية فيك من القوى الإحساسية والتخيلية والعقلية التي هي في الحقيقة طائفة من ملائكة الله تعالى المسخرة لانتظام أمرك بحسب الإدراك.
315 فصل في بيان عناية الله تعالى في خلق القوى المحركة وأما بيان ما أنعمه عليك من القوى التحريكية التي هي طائفة أخرى من جنود الله وكيفية نظمها وترتيبها فيك فهو أنه تعالى لو خلق المشاعر والمدارك حتى تدرك الأمور التي لها مدخل في استكمالك وحفظ بقائك ما دمت في دار الدنيا من أسباب التغذية وغيرها حتى تدركها من بعد أو قرب ولم يخلق لك ميل في الطبع وشهوة له وشوق إليه يستحثك على الحركة لكان الإدراك معطلا فاضطررت أن يكون لك ميل إلى ما يوافقك يسمى شهوة ونفرة عما يخالفك ويسمى كراهة لتطلب بالشهوة وتهرب بالكراهة فخلق الله تعالى فيك شهوة الغذاء وسلطها عليك ووكلها بك كالمتقاضي يضطرك إلى التناول حتى تغتذي وتبقى بالغذاء. وهذا مما يشارك فيك الحيوان دون النبات. ثم هذه الشهوة لو لم تسكن إذا أخذت مقدار الحاجة من الطعام أسرفت وأهلكت نفسك فخلق الله تعالى الكراهة عند الشبع لتترك الأكل بها لا كالذرع فإنه لا تزال يجذب الماء إذا انصب في أسافله حتى يفسد فيحتاج إلى آدمي يقدر غذاءه بقدر الحاجة. وكما خلقت لك هذه الشهوة لبقاء شخصك خلق شهوة الوقاع لبقاء نسلك ونوعك. ثم لو لم يخلق فيك الغضب الذي به يدفع كل ما يضارك ولا يوافقك لبقيت معرضا للآفات وعرضة للبليات من جهة الأعادي والأضداد فتحتاج إلى داعية في
316 دفع العدو ومقابلته وهي داعية الغضب. ثم هذا لا يكفيك إذ الشهوة والغضب لا يدعوان إلا إلى ما يضر وينفع في الحال أما في المال فلا يكفي منه هذه الداعية فخلق الله تعالى لك داعية أخرى تسمى بالإرادة وهي مسخرة تحت إشارة العقل المعرف للعواقب كما خلق الشهوة والغضب مسخرين تحت إدراك الحس المدرك للحالة الحاضرة فتم بهما انتفاعك بالعقل إذ مجرد المعرفة بأن هذا يضرك وهذا ينفعك لا يغنيك في الاحتراز عنه أو في طلبه ما لم يكن لك ميل إلى العمل بموجب المعرفة. وهذه الإرادة أفردت بها عن البهائم إكراما وتعظيما لبني آدم كما أفردت عنها بمعرفة العواقب. وقد يسمى هذه الإرادة باعثا دينيا كما قد يسمى الميل الطبيعي باعثا شهوانيا. ولا بد مع الإدراك والإرادة المستفادة منه المنبعثة عنه إلى الطلب أو الهرب من قدرة على الحركة وآلات صالحة لفعلها. كل آلة لطلب خاص وهرب خاص فمنها ما هو للطلب على فنونها كالرجل للإنسان والجناح للطير والقوائم للدواب. ومنها ما هو للدفع كالأسلحة للإنسان والقرون للحيوانات. وفي هذا يختلف الحيوانات اختلافا كثيرا: فمنها ما يكثر غذاؤه فيحتاج إلى سرعة الحركة فخلق له الجناح ليطير بسرعة. ومنها ما خلق له أربع قوائم. ومنها ما له رجلان. ومنها ما يدب. فصل في بيان عناية الله تعالى في خلق طبقات من الملائكة لإصلاح حال الإنسان وتبليغه إلى غاية الكمال والاتصال بالعقل الفعال إنه سيقرع سمعك باب من عنايته تعالى في إصلاح عباده بالأنبياء وإصلاح الأنبياء
317 بالطبقة العليا من الملائكة وهدايتهم وتبليغ الوحي بها إليهم. فاعلم الآن أن الملائكة ليسوا مقصورين في أفعالهم على ذلك القدر بل الملائكة مع وفور عددها وكثرة ذواتها وترتيب مراتبها تنحصر في ثلاث طبقات: الملائكة الأرضية والسماوية وهي المدبرات أمرا وحملة العرش وهي الغايات في الحركات والمعاشيق في الأشواق النفسانية والسابقات سبقا. فانظر كيف وكلهم بك في انتظام حالك في جميع أمورك حتى فيما يرجع إلى غذائك فإن كل جزء من أجزاء بدنك لا تغذي إلا بأن يوكل الله به سبعة من الملائكة هو أقل إلى عشر إلى مائة وإلى ما وراء ذلك. وبيان ذلك أن معنى التغذي أن يقوم جزء من الغذاء مقام جزء قد تلف وذلك الغذاء يتغير تغيرات حتى يصير دما في آخر الأمر ثم يصير لحما وعصبا. ثم إن الغذاء جسم لا يتحرك ولا يتغير بأنفسها ومجرد الطبع لا يكفي في ترددها في أطوارها كما أن البر بنفسه لا يصير طحينا ثم عجينا ثم خبزا مستديرا مطبوخا إلا بصناع فكذلك لا يصير لحما وعظما وعرقا وعصبا إلا بصناع والصناع في الباطن هم الملائكة كما أن الصناع في الظاهر هم أهل البلد وأسبغ الله تعالى عليكم نعمه ظاهرة و باطنة. فلا ينبغي أن تغفل عن نعمه الباطنة. فأقول لا بد من الملائكة السبعة: ملك جاذب للغذاء إلى العضو وآخر ممسك له في جوار العضو وثالث يخلع عنه صورة الدم ورابع يكسوه صورة اللحم والعظم والعرق وغيرها وخامس يدفع الفضل الزائد من حاجة الغذاء وسادس يلصق ما اكتسى كسوة اللحم باللحم والعظم بالعظم حتى لا يكون منفصلا وسابع يرعى المقادير والنسب في الإلصاق. بحث وتحقيق فإن قلت: فهلا فوضت هذه الأفعال إلى ملك واحد ولم احتاجت إلى
318 سبعة أملاك والحنطة أيضا يحتاج إلى أن يطحن أولا ثم إلى أن يميز عنه النخالة ويدفع عنه الفضلة ثانيا ثم إلى أن يصب الماء عليه ثالثا ثم إلى أن يعجن رابعا ثم إلى أن يقطعه كرات مدورة خامسا ثم إلى أن يرغفها رغيفا سادسا ثم إلى أن يلصقها بالتنور سابعا فهلا كانت أفعال الملائكة باطنا كأفعال الأنس ظاهرا. فاعلم أن خلقة الملائكة يخالف خلقة الإنس وما من واحد منهم إلا وهو وحداني الصفة ليس فيه خلط وتركيب البتة فلا يكون لكل واحد إلا فعل واحد وإليه الإشارة بقوله سبحانه وتعالى: و ما منا إلا له مقام معلوم. فلذلك ليس بينهم تنافس وتقابل بل مثالهم في تعيين مرتبة كل واحد وفعله عليه مثال الحواس الخمس فإن البصر لا يزاحم السمع في إدراك الأصوات ولا السمع يزاحم البصر في إدراك الألوان ولا الشم يزاحمهما ولا هما يزاحمان الشم. وليس كاليد والرجل فإنك قد تبطش بأصابع الرجل بطشا ضعيفا فيزاحم به اليد وقد تضرب غيرك برأسك ويزاحم اليد التي هي آلة الضرب. ولا كالإنسان الواحد الذي يتولى بنفسه الطحن والعجن والخبز فإن هذا نوع من الاعوجاج والعدول عن العدل سببه اختلاف صفات الإنسان ودواعيه فإنه لم يوجد وحداني الصفة والداعية فلم يكن وحداني الفعل ولذلك ترى الإنسان يطيع الله تعالى تارة ويعصيه أخرى لاختلاف صفاته ودواعيه وذلك غير ممكن في طبائع الملائكة بل هم مجبولون على الطاعة لا مجال للمعصية في حقهم فلا جرم لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون يسبحون الليل و النهار لا يفترون والراكع منهم راكع أبدا والساجد منهم ساجد أبدا والقائم منهم قائم أبدا لا اختلاف في أفعالهم ولا فتور لكل واحد منهم مقام معلوم وطاعتهم الله تعالى من وجه يشبه طاعة طرفك لك فإنك مهما جزمت الإرادة بفتح الأجفان لم يكن للجفن الصحيح تردد واختلاف في طاعتك مرة ومعصيتك أخرى بل لا يستطيع خلافا لك ولا عصى لأمرك ولكن
319 هذا يخالفها من وجه آخر إذ الجفن لا علم له بما يصدر منه من الحركة فتحا وإطباقا والملائكة أحياء وعالمون بما يفعلون. فهذه نعمة الله تعالى عليك وعنايته لك في الملائكة الأرضية فارفع رأسك وأصعد نظرك من هذه الجهة إلى مشاهدة أنعم الله عليك بعنايته من الأسباب المرتبة المنتهية إلى خلق الأجفان وحركتها حتى يقيس عليها سائر ما أوجده الله تعالى فيك وأسبابه المنتهية إليه إذ الأجفان مثلا لا يقوم إلا بالعين ولا العين إلا بالرأس ولا الرأس إلا بجميع البدن ولا البدن إلا بالغذاء ولا الغذاء إلا بالأرض والماء والنار والهواء والغيم والمطر والشمس والقمر ولا يقوم شيء منها إلا بالسماوات إلا بالمدبرات من الملائكة العملية ولا المدبرات إلا بالملائكة العقلية ولا الجميع إلا بأمر الله وإرادته وقضائه وقدره فإن الكل كالشئ الواحد يرتبط البعض منه بالبعض ارتباط أعضاء الإنسان. فمن كفر نعمة واحدة كفتح العين مثلا فقد كفر نعم الله في الوجود كله من منتهى الثرى إلى منتهى الثريا فلم يبق ملك ولا فلك ولا حيوان ولا نبات ولا جماد إلا ويلعنه ولذلك ورد في الأخبار أن البقعة التي يجمع فيها الناس إما أن يلعنهم إذا تفرقوا أو يستغفر لهم. وكذلك ورد أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر وأن الملائكة يلعنون العصاة في ألفاظ كثيرة لا يمكن إحصاؤها. وكل ذلك إشارة إلى أن الجاهل العاصي بمعصية واحدة جنى على جميع ما في الملك والملكوت وقد أهلك نفسه إلا أن يتبع السيئة بحسنة يمحوها فيتبدل بالاستغفار فعسى الله أن يتوب عليه ويتجاوز عنه. والعالم يعلم الأشياء بحقائقها وماهياتها والموجودات بهيئتها وترتيبها وتعلق كل منها بآخر فيعرف الحق الأول بسلسلة الأسباب وربطها بمسببها ومبدئها وكيفية صدور كل ذرة من الكائنات من عللها وأسبابها القريبة والبعيدة إلى أن ينتهي إلى الأسباب القصوى والغايات الأخيرة من الأفلاك حتى ينتهي إلى المعبود الأول وعلة سائر
320 العلل. ويكون علمه الذي يطابق معلوماته زينة لذاته كمالا لنفسه فكل واحد من الأسباب والمسببات المعروفة عنده يكون له مدخل في تتميم ذاته وتكميل جوهره. وهذا معنى استغفار كل شيء للعالم. فصل في بيان عنايته تعالى في تبقية النوع الذي لا يحتمل الدوام الشخصي بتوارد الأمثال بقوة مولدة شأنها الاستخلاف ثم انظر أيها العارف المتأمل في آثار رحمته وعنايته حتى تسبح له طربا وشوقا وتزمزم في عشق جماله بالتهليل والتكبير أن القسمة لما أوجبت باقيات بالعدد وباقيات لا بالعدد كيف يتمم جود الواجب الحق نقصان الديمومية الشخصية في هذا الصنف بإعطائها الديمومة النوعية فوفى لكل منها قسطه من الوجود فصار العالم الطبيعي منتظما بصنفي الثبات والبقاء وكيف استبقى نوع ما وجب فساده من الحيوان والنبات بقوة مولدة قاطعة لفضله من مادة يكون هي مبدأ لشخص آخر. ولما لم يحصل كماله الشخصي أول مرة كيف رتب له النامية الموجبة لزيادة الأجزاء في الأقطار على نسبة محفوظة ولما توقف فعلها على التغذي كيف رتب لها الغاذية ورتب للغاذية خوادم من قوى أربع جاذبة يأتيها بما يتصرف فيه وهاضمة محللة للغذاء ومعدة إياها لتصرف الغاذية وماسكة لحفظ الغذاء مدة لتصرف المتصرفة ودافعة لما لا يقبل المشابهة كما أشرنا إليه في باب وإن هذه النعمة تتم بوجود سبعة أملاك في الأقل فما فوقها. ثم انظر كيف رتب للحيوان قوى أخر من مدركة ومحركة وزاد المزاج الأشرف الإنساني كلمة طيبة إذا أطاعت بأمر بارئها وكملت بالعلم والعمل صعدت إليه وشابهت المقربين من المبادئ والعلل. ولو تدبرت تدبرا شافيا في كيفية تدبير النفس للبدن وحصول ألفة التدبير والتصرف والشوق والتحريك وعشق المقارنة
321 وألم المفارقة بينهما مع أن البدن كالثقل الكثيف والنفس كالنور اللطيف لقضيت العجب وقلت كيف يتصور الازدواج بين النور والظلمة والايتلاف بين العلوي الذي قال الله تعالى تعظيما لشأنه و رفعناه مكانا عليا وقال إن كتاب الأبرار لفي عليين. والسفلي المشار إليه بقوله إن كتاب الفجار لفي سجين إذ بينهما من المنافرة والمخالفة في الماهية ما لا يخفى على البرية. فانظر كيف تلطف الخالق بحكمته التامة وأنعم بحسن عنايته العامة أن خلق البدن الكثيف من مادة النطفة ومن لطافته القلب الصنوبري ومن لطافته الدم الخالص ومن صفوته الروح البخاري التابعة في العضو الرئيس التي هي في اللطافة والصفاء كالفلك البعيد عن التضاد وفي التوسط بين الأطراف الخالي عنها المشابهة للسبع الشداد فمن جهة صفائها ونقائها ونورها وضيائها وبعدها عن التضاد الموجب للفساد يصير منزلا أولا للوارد العيني والوليد النوري والمعسكر لقواه ومجند لجنوده ومرآة بها تدرك الصور الجزئية الموجودة كله كما أن النفس مرآة تدرك الصور العقلية الكلية للحقائق فبالمرآتين تدرك صور الكونين. فإذن في الإنسان شيء كالملك وشئ كالفلك فصار بهذين الاعتبارين مغرب العالمين ومنتهى الإقليمين. فانظر إلى القدرة والحكمة ثم إلى اللطف والعناية ثم إلى المجد والكرم تظهر لك عجائب الحضرة الربوبية. فصل في عنايته تعالى في خلق الأرض وما يتكون منها فإذ عرفت العناية الربانية في نفسك وبدنك فانظر إلى الأرض التي مقر
322 لجسدك ثم في أنهارها وبحارها وجبالها ومعادنها كيف أنزل الله تعالى عليها الماء وهي ميتة فاهتزت وربت واخضرت وأنبتت عجائب النباتات وخرج منها أصناف الحيوانات. ثم انظر كيف أحكم جوانب الأرض بالجبال الراسيات والشوامخ الصم الصلاب وكيف أودع المياه تحتها وفجر العيون وأسال الأنهار وأخرج من الحجارة اليابسة ومن التراب الكدر ماء رقيقا عذبا صافيا زلالا وجعل به كل شيء حيا. ثم انظر إلى الجواهر المعدنية المودعة تحت الجبال فانظر إلى الجبال وعجائب أمرها وتكونها من التراب أولا كالذهب والفضة والفيروزج واللعل وغيرها وأنها كيف هدى الله تعالى الناس إلى استخراجها وتنقيتها وتخليصها عن الغش واتخاذ الأواني والآلات والنقود والحلي عنها. ثم انظر إلى أصناف الحيوانات كيف يتولد ويتوالد ويغتذي وينمو. ولكل منها تهيؤ من الأعضاء والآلات والأشياء الداخلية والخارجية ما يتم به خلقته ويعيش به بدنه فاختلفت بحسب الأعضاء وأوضاعها وأحوالها ومشاعرها ومداركها وبحسب الأمكنة فمنه ما يحتاج إلى تنفس الهواء كالإنسان ومنه ما يضطر إلى استنشاق الماء كالسمك ومنه ما لا حاجة إلى شيء منها. ثم منها ما يطير ومنها ما يمشي ومنها ما يزحف. ثم انظر إلى عجائب البقة والنملة والنحل والعنكبوت التي هي من صغار الحيوانات في بناء بيتها وفي جمعها غذاءها وألفها لزوجها وفي ادخارها لنفسها وفي حذاقتها في هندسة بيتها وفي هدايتها إلى حاجتها فانظر إلى النحل ومسدساته وإلى العنكبوت ومثلثاته جميع ذلك روعيت فيها أغراض هندسية. وما من حيوان صغير ولا كبير إلا وفيه من العجائب ما لا يحصى. أ فترى أنه يعلم هذه الصنعة من نفسه أو
323 علمه آدمي ولا هادي له ولا معلم. أ فيشك ذو بصيرة في أنها مسكينة عاجزة ضعيفة بل الفيل العظيم شخصه الظاهر قوته عاجز عن أمر نفسه أفلا يشهد هو وصورته وشكله وحركته وعجائب صنعه بعناية فاطر حكيم وجود جواد عليم فصل في بدائع صنع الله تعالى في المواد الفلكية والكوكبية فارفع الآن رأسك إلى السماء وانظر فيها وفي كواكبها وفي دورانها وطلوعها وغروبها وشمسها وقمرها واختلاف مشارقها ومغاربها ودؤبها في الحركات على الدوام من غير فتور في حركتها ومن غير تغير في مسيرها بل يجري جميعها في منازل مرتبة بحساب مقدر لا يزيد ولا ينقص إلى أن يطويها الله تعالى طي السجل للكتب. وتدبر عدد كواكبها وكثرتها واختلاف ألوانها. ثم انظر كيفية أشكالها. وما من صورة في الأرض إلا ولها تمثال في السماء وما من كوكب إلا ولله تعالى حكم كثيرة في خلقه ثم في مقداره ثم في وضعه ونسبته إلى كوكب آخر وقربه من وسط السماء وبعده. وقس ذلك على الحكمة التي روعيت في أعضاء بدنك. وأمر السماء أعظم بكثير من الإنسان بل من جملة ما في عالم الأرض. وقس التفاوت فيما بينهما في عجائب الترتيب وحسن النظام وكثرة المعاني والغايات الحكمية على التفاوت فيما بينهما في المقدار والشرف واللطافة. فهذا السماء لعظمها وكثرة كواكبها بيت واحد من بيوت عبد الله فيها خلائق كثيرون فمنهم سجود لا يركعون ومنهم ركوع لا ينتصبون ومسبحون لا يسأمون لا يغشاهم نوم العيون ولا فترة الأبدان وغفلة النسيان. وليس من شرط البيت أن يكون من الطين والخشب بل ولا يشترط أن يكون المعبد جسمانيا بل كل ما يقوم فيه عبادة الحق الأول وتسبيحه وتقديسه فهو مما يصدق عليه المعبد بالحقيقة.
324 فانظر إلى البارىء تعالى كيف خلق السماء معبدا للملائكة المسبحين المهللين ثم جعلها آمنة من الفساد والخلل غير قابلة للأضداد وأمسكها من غير عمد ترونها ومن غير حبل تتدلى بها. والعجب ممن لا ينظر إلى بيت بنى الله تعالى بنيانه بقدرته وانفرد بعمارته وزينه بزينته ناسيا ربه بسبب نسيان نفسه مشتغلا ببطنه وفرجه ليس له هم إلا هم شهوته أو حشمته غافلا عن بيت الله تعالى وعن الملائكة الذين هم سكان سماواته فلا يعرف من السماء إلا بقدر ما يعرف النملة من سقف بيته وما صنع الصانع فيه ولا يعرف من ملائكة السماوات إلا ما يعرف النملة من نفوس سكان البيت. ولنعطف عنان الكلام من هذه النمط لأن الغرض إيراد شيء يسير من دقائق عنايته تعالى وصنعه في المخلوقات الظاهرة فإنه لا مطمع لأحد في معرفة دقائق أسرار اللطف والرحمة في هذا العالم وفي ملكوته الأعلى ولا في استقصاء بدائع الصنع في هذه الموجودات التي تلينا في أعمار طويلة لأن علوم العلماء نزر حقير بالقياس إلى معرفة الأنبياء والأولياء وما عرفوه قليل بالإضافة إلى ما عرفه المقربون من الملائكة. ثم جميع علوم الملائكة والجن والإنس إذا أضيفت إلى علم الله تعالى لم يستحق إلى أن يسمى علما بل هو إلى أن يسمى دهشة وحيرة وقصورا وعجزا أقرب لقوله تعالى مخاطبا إلى جميعهم: و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا.
325 الفن الثاني في النظر المختص بالمعاد وكيفية ترتيب الموجودات المعادية وفيه مقدمة وثلاث مقالات
327 أما المقدمة اعلم أن وجودات الأشياء وصدورها من المبدإ الأعلى على ضربين: أحدهما الإبداع والآخر التكوين. والعبارة عن الإبداع هي أن يكون صدور المعلول من مجرد جهة الفاعلية بلا مشاركة حيثية القابلية. وعن التكوين أن يكون صدورها بمشاركة ما من القابل والفاعل الحقيقي وهو الواجب تعالى في غاية العظمة والجلالة والشرف فما صدر عنه أولا يجب أن يكون أشرف مما يمكن صدوره عن الشيء فيكون أول المبدعات أعظم الممكنات شرفا وما يتلوه أيضا يجب أن يكون أشرف مما يتأخر عنه بوسط وكذا المتأخر عن تالي المعلول الأول بلا وسط يجب أن يكون أشرف من الذي تأخر عنه بوسط وهو أيضا أشرف من المتأخر بوسطين وهو من المتأخر بثلاثة أوساط وهكذا انتقل الوجود من الأشرف فالأشرف إلى الأخس فالأخس حتى ينتهي إلى ما لا أخس منه في الإمكان وهو الذي لا حيثية له إلا حيثية الإمكان والقوة ولا شيئية له في ذاته إلا قبول الأشياء فلا جرم كلما طرأ عليه أولا يكون أخس الصور وجودا وأنقصها فعلية لأنها ما صدرت عن محض جهة الفاعلية إذ ما كان يصدر عن تلك الجهة فقد
329 انقضت نوبته وتمت سلسلته بل إنما صدرت من جود الواهب بواسطة استعداد القابل وما به الاستعداد هاهنا ذات القابل بذاتها لا بصور تلحقها بها صارت مستعدة. وقد علمت بأن لا ذات لها متخصصة ولا جوهرية متحصلة لكونها في ذاتها بالقوة من كل الجهات فيكون الصورة الأولى الفائضة عليها صورة عامة شاملة لجميع ما سيلحقها ويرد عليها لعدم تحصل قابلها أصلا. والصورة الحادثة بعدها الحاصلة بسبب تهيؤ المادة الأولى بها يجب أن يكون أخس الصورة الكائنة ما خلا الصورة الأولى وإن كانت أشرف منها قليلا إذ الأولى حدثت في مادة قابلة محضة بلا تخصص والثانية حدثت في مادة متخصصة الاستعداد فيكون أشرف منها قليلا وأخس عما سواها. (مما سواها خ ل) وبهذه النسبة يحدث التوالي للأخس فالأخس إلى الأشرف فالأشرف حتى ينتهي إلى صورة شبيهة بالمبادي العالية والعقول الفعالة في الشرف والبراءة. والموجودات ابتدأت فكانت عقلا ثم نفسا ثم صورة ثم مادة فعادت متعاكسة كأنها دارت على نفسها جسما متصورا ثم نباتا ثم حيوانا ثم إنسانا ذا عقل. فابتدأ الوجود من العقل وانتهى إلى العقل بعد ما نزل إلى رتبة في غاية النزول إذ علة الشرف والتميز هي الدنو من العلي العزيز. ففي البدء كل ما تقدم كان أوفر اختصاصا وفي العود كل ما تأخر فهو أقرب إلى أن يجد من الهيولى خلاصا.
330 المقالة الأولى في كيفية تكون العائدات من العناصر وفيها فصول فصل في الإشارة إلى المزاج اعلم أن كلا من العناصر له مادة وصورة وكيفية ويدل على الأول مشاهدة انقلاب بعضها إلى بعض في الصورة فعلم أن هاهنا هيولى مشتركة مطيعة لأوامر الله تعالى ونواهيه في خلع بعض الصور ولبس بعضها وإلا يلزم انقلاب الحقيقة. وعلى الثاني مشاهدة الآثار المختلفة واستدعاء الأحياز المختلفة فعلم أن للعناصر حقائق متباينة لا بمجرد الصفات بل بحسب الذاتيات ومبادئ الفصول والمقومات. وعلى الثالث استحالة كل منها في كيفياتها مثل التسخن أو التبرد مع بقاء الصورة النوعية. فهذه البسائط العنصرية إذا امتزجت وتماست وفعل بعضها في بعض بقوتها المتضادة كسر صورة كل منها سورة كيفية الآخر المتضادة حتى نقص العنصر البارد
331 مثلا بفعل صورته من حر العنصر الحار وتزيل عنه شدة الحرارة وبالعكس. وكذا العنصر الرطب بالقياس إلى العنصر اليابس وبالعكس. فيحصل من أفاعيل صورها وانفعالات موادها كيفية واحدة متوسطة بين أطراف الكيفيات المتخالفة متشابهة في أجزاء الممتزج وهي المزاج فيستعد المركب بسبب حدوث هذه الكيفية المتوسطة الخارجة من الأطراف المتضادة صورة كمالية أخرى لبعده عن التضاد الموجب للموت والفساد فيستفيد حياة ما على قدر توسطه وقربه من الأجسام الحسية الفلكية. فإن الأفلاك لخلوها عن الكيفيات المتضادة يكون الحياة لها ذاتية إذ المبدأ الأعلى قائم بالجود والعطاء والقابل هناك في غاية التهيؤ والنقاء والبسائط العنصرية لكونها متضادة الكيفيات متفاسدتها يكون الموت لها ذاتيا. وأما الممتزج منها من حيث اكتسابه كيفية متوسطة توسطا ما يقبل نوعا من الحياة فإن لم يمعن في التوسط وهدم جانب الأطراف فيقبل من المبدإ الفياض نوعا ضعيفا من الحياة كالحياة النباتية وذلك بعد أن يستوفي الطبيعة درجات الآثار العلوية التي هي أولي الحوادث العنصرية من السحب والأدخنة والمطر والثلج والطل والصعيق والرعد والبرق والصاعقة ثم درجات المعادن والجمادات من الزيبق واليشم والبلور والزاج والملح والزرنيخ والنوشادر وما يتولد منها من الأجسام السبعة المتطرقة وغيرها كاليواقيت إلى أن يصل إلى درجات استعداد الصور النباتية. فأعطاها الجرم السماوي التهيؤ لقبول النفس النباتية إما منه كما ذهب إليه الطبيعيون أو من العقل الفعال كما يراه الحكماء الإلهيون أو من الحق الأول باستخدامها كما نطق به الصديقون وأهل التنزيل. فيحدث في الجسم النباتي قوة التغذية وهي قوة من شأنها إيراد البدل على البدن شبيها به بتغييرها تغيير المشبه إليه وإلصاقها إياه بالبدن لينجبر بذلك ما يتحلل عنه فيسلم بقاء الشخص ويخدمها القوة الجاذبة لهذا الشيء القابل للتشبه وهو الغذاء والهاضمة لها حتى يصير متحللا بسرعة إلى قبول فعل
332 الغاذية والماسكة حتى يتم فيها فعل الهاضمة لأن فعلها تحريك والحركة مما يلزمها امتداد زماني وانحفاظ للموضوع بقدر ذلك الامتداد والدافعة للفضل الذي لا يقبل التشبيه. ويخدم هذه الأربعة الكيفيات الأربع فتخدم الحرارة في تحليل وتحريك والبرودة في إمساك وتسكين الرطوبة في ترقيق وتشكيل واليبوسة في تقويم وحفظ للتشكل. للغاذية بخوادمها مخدوم يستخدمها وهي القوة النامية وهي التي من شأنها أن تتصرف في الغذاء والصائر غذاء بالفعل في تربية الجسم النباتي طولا وعرضا وعمقا على تناسب طبيعي إلى أن يبلغ إلى كماله في النشو فيقف عنده منتهى فعلها وتخلفها الغاذية في فعلها. ثم قوة أخرى فوقها هي المولدة المبقية للنوع وهي التي من شأنها أن تفرز أجزاء من فضلة الغذاء في تمام فعلها إذا حصل في الرحم. واعلم أن المولدة كالغاذية وحدتها اعتبارية عند أكثر المحققين فهما بالحقيقة قوتان: إحداهما ما يجعل فضلة الهضم الأخير منيا أو ما يجري مجراه والأخرى ما يهيىء كل جزء من أجزاء لقبول صورة مخصوصة. وأولي القوتين مسماة كإحدى القوى الثلاث للغاذية بالمغيرة لوجود معنى التغير فيهما لكن اختصت هذه بالأولى وتلك بالثانية باعتبار بدن واحد. وأما الثانية منهما فهي المصورة. ومن العلماء من أنكر المصورة تبعا للحكماء الإشراقيين حيث أحالوا استناد الأفاعيل المحكمة العجيبة إلى قوة عديمة الشعور ويوافقهم في ذلك الشيخ الغزالي حيث أسند أفاعيل هذه القوة بل جميع القوى إلى الملائكة الموكلة بصدور هذه الآثار. وتحقيق المقام ما أوردناه في بعض كتبنا المبسوطة. وحاصله إثبات تلك القوة لي وجه يوافق كلا المذهبين ويرتفع به الخلاف من البين. فإن إثباتها لا يوجب الاستغناء من إثبات الملك الموكل بفعل التصوير كما أن وجود ذلك الملك المتساوي النسبة إلى جزئيات الصور لا يكفي مئونة الحاجة إلى القوى الجزئية المخصصة للأشخاص فالقوة التي يهيئ المادة ويعدها لقبول
333 الصورة هي الأنوثية والتي تعطي الصورة هي الذكورية وهاتان القوتان ربما اجتمعا في شخص واحد كما في أكثر النباتات. وربما افترقت في شخصين ذكر أو أنثى كما في أكثر الحيوانات وإذا اجتمعتا حصل التوليد. ولا تحجبن عن فطانتك أن في النبات شيئا كالرحم به تحصل التهيئات في عقد الأغصان وشيئا كالبيضة والمني مثل البذر. والقوى النباتية تكون في الأصل وربما يوجد شيء منها في البذر. ومن النبات ما لا يتكون إلا من البذر والثمرة ومنها ما لا يتكون إلا من الأصل ومنه ما يتكون منهما. وربما يتكون من بذر واحد في بلاد مختلفة نباتات مختلفة. وأول ما يتكون من النباتات أولية بالطبع طبقات ثلاث تقوم جرمه بها منها اللب وما يتصل به ومنها العود كالخشب وما يشبهه ويناسبه ومنها اللحاء وما يتممه وينتهي إليه. والغرض الطبيعي في النبات إما في عوده أو ساقه أو أصله أو ورقه أو قشره أو غصنه أو ثمره. ولما لم يجد جرم الصلب غذاء يتشبه به دفعة بلا تدريج خلق في الأشجار الصلبة العظام لب يشبه المخ في العظام عناية من الله تعالى في حقها. وأما الأشجار الضعيفة القوام المتخلخلة فهي بمعزل عن ذلك لعدم حاجتها إليه. وما كان الغرض الطبيعي فيه أن يعظم حجمه ويطول قده في مدة يسيرة امتنع أن يكون صلبا لأن الصلب يحتاج إلى مادة عاصية وقوة طابخة والتصرف في مثلها يحتاج إلى مدة طويلة ومادة صلبة. بحث وتحقيق اعلم أن الحكماء حيث جعلوا المولدة والمصورة وغيرهما قوى للنفس الإنسانية وآلات لها. والنفس حادثة بعد حدوث المزاج وتمام صور الأعضاء كما هو رأي
334 المشائين من الحكماء. واستشكل ذلك بعض الناس بأن القول باستناد صور الأعضاء إلى المصورة قول بحدوث الآلة قبل ذي الآلة وفعلها بنفسها من غير مستعمل إياها وهو ممتنع. فأجيب عنه تارة بعدم تسليم حدوث النفس لجواز قدمها كما ذهب إليه بعض الفلاسفة. وتارة بالقول بحدوثها قبل البدن كما هو رأي بعض المليين. وتارة بعدم جعل المصورة من قوى نفس المولود بل بجعلها من قوى النفس النباتية المغايرة لها بالذات كما هو رأي البعض. وتارة بتصييرها من قوى نفس الأم. وشئ من هذه الوجوه لا يسمن ولا يغني. وهكذا اضطرب كلامهم في أن الجامع لأجزاء البدن المولود هل هو الحافظة لها أم لا. وفي أنه نفس المولود أم لا فذهب الإمام الرازي إلى أن الجامع لأجزاء النطفة نفس الأبوين ثم إنه يبقى ذلك المزاج في تدبير نفس الأم إلى أن يستعد لقبول نفس المولود ثم إنها يصير بعد حدوثها حافظة له وجامعة لسائر الأجزاء بطريق إيراد الغذاء. ونقل الإمام في بعض رسائله المشتملة على أجوبة المسائل المسعودية أنه لما كتب بهمنيار إلى الشيخ وطالبه بالحجة على أن الجامع للعناصر في بدن الإنسان هو الحافظ لها قال الشيخ: كيف أبرهن على ما ليس فإن الجامع لأجزاء بدن الجنين نفس الوالدين والحافظ لذلك الاجتماع أولا القوة المحصورة لذلك البدن ثم النفس الناطقة. وتلك القوة ليست واحدة في جميع الأحوال بل هي قوى متعاقبة بحسب الاستعدادات المختلفة لمادة الجنين. وبالجملة فإن تلك المادة تبقى في تصرف المصورة إلى أن يحصل تمام الاستعداد لقبول النفس الناطقة فحينئذ يوجد النفس. هذا كلامه. واعترض عليه العلامة الطوسي بأن ما نقله في تلك الرسالة عن الشيخ يخالف ما قاله في الفصل الثالث من المقالة الأولى من علم النفس في الشفاء وهو قوله: فالنفس التي لكل حيوان هي جامعة أسطقسات بدنه ومؤلفها ومركبها على نحو يصلح معه أن يكون بدنا لها وهي حافظة لهذا البدن على النظام الذي ينبغي.
335 وبأن تفويض التدبير من قوة كنفس الأم أو القوة المصورة على أحد القولين بعد مدة إلى قوة أخرى كنفس المولود غير معقول في الأفاعيل والتدابير الطبيعي وإنما يجري أمثال هذا بين فاعلين غير طبيعيين. يفعلان بإرادة متجددة وإن كانت المصورة مدبرة وهي للنفس بمنزلة الآلات فكيف خدمت النفس المصورة قبل حدوثها وكيف فعلت بذاتها بلا مستعمل إياها وهي آلة ثم أجاب عن أصل الإشكال بأن ما يقتضيه قواعد الحكمة التي أفادها الشيخ وغيره وهو أن نفس الأبوين يجمع بالقوة الجاذبة أجزاء غذائية ثم يجعلها أخلاطا وتفرز المولدة مادة المني ويجعلها مستعدة لقبول قوة من شأنها إعداد المادة وتصييرها إنسانا بالقوة ويصير يتزايد كمالا في الرحم بحسب استعدادات يكتسبها هناك إلى أن يصير مستعدا لقبول بتلك القوة منيا وتلك القوة تكون صورة حافظة لمزاج المني كالصور المعدنية. ثم إن المني يتزايد كمالا في الرحم بحسب استعدادات يكتسبها هناك إلى أن يصير مستعدا لقبول نفس أكمل تصدر عنها مع حفظ المادة الأفعال النباتية فيجذب الغذاء ويضيفها إلى تلك المادة فتنميها ويتكامل المادة بتربيتها إياها فيصير تلك الصورة مصدرا مع ما كان يصدر عنها لتلك الأفاعيل النباتية وهكذا إلى أن يصير مستعدا لقبول نفس أكمل يصدر عنها مع جميع ما تقدم الأفعال الحيوانية أيضا فيتم البدن ويتكامل إلى أن يصير مستعدا لقبول النفس الناطقة يصدر عنها مع جميع ما تقدم النطق وتبقى مدبرة للبدن حتى أن يحل الأجل. وقد شبهوا تلك القوى في أفاعيلها من مبدأ حدوثها إلى استكمالها نفسا مجردة بحرارة تحدث في فحم من نار مشتعلة تجاوره ثم يشتد الحرارة النارية الحادثة في الفحم فيجمر فإن الفحم كتلك الصورة الحافظة واشتدادها كمبدأ الأفعال النباتية وتجمرها كمبدأ الأفعال الحيوانية واشتعالها نارا كالناطقة. فجميع هذه القوى كشيء واحد متوجه من حد ما من النقصان إلى حد ما من الكمال واسم النفس واقع منها على
336 الثلاث الأخيرة فهي على اختلاف مراتبها نفس لبدن المولود. وتبين أن الجامع للأجزاء الغذائية الواقعة في الجنين هو نفس الأبوين وهو غير حافظها. والجامع للأجزاء المضافة إليها إلى أن يتم البدن إلى آخر العمر والحافظ للمزاج هو نفس المولود. وقول الشيخ إنهما واحد بهذا الاعتبار وقوله إن الجامع غير الحافظ بالاعتبار الأول. نقد وإكمال إن كلام هذا الحكيم قدس سره في غاية التنقيح والتحرير إلا أنه يجب عليه أن يبين أن الأفاعيل المتعددة المترتبة المتدرجة في الشرف والكمال من الحفظ والتنمية والتحريك الإرادي والنطق أهي كلها صادرة من مبدأ واحد له قوى متعددة متجددة الحدوث حسب تجدد استعدادات المادة أو من مبادئ متعددة متفاضلة في الشرف والكمال حيث يصدر من كل متأخر ما يصدر عما تقدمه مع أمر آخر يختص به فإن كان الأول فيلزم عليه حدوث النفس الناطقة مع حدوث النطفة وكونها معطلة عما سوى الأفعال الجمادية مدة ما. وهذا يخالف آراءهم وقواعدهم مما اشتهر أن الناطقة تحدث بعد أن يستوفي المادة درجة النبات والحيوان. وأن الناطقة يلزمها الأفاعيل المختصة بها فضلا عن الحيوانية والنباتية. وإن كان الثاني فيلزم عليه ما يلزم على الشارح المقدم للإشارات من تفويض أحد الفاعلين الطبيعيين تدبير مادته أو بدنه إلى فاعل آخر. وإن زعم أن الصورة السابقة تفسد ويتكون الصورة اللاحقة بواسطة تكامل استعدادات المادة. فيخدشه أن المادة بحسب استعدادها الحاصل من صورة طبيعية لصورة نفسانية مدبرة إياها مكملة كيف توجب فساد تلك الصورة فإن التكميل ينافي الإفساد فقوة واحدة لمادة واحدة لا يفعل فعلين متنافيين فيها. وأما ما ذكر من أن الحرارة الغريزية توجب الحياة والموت جميعا فوجه ذلك أن فعل تلك الحرارة ليس بالذات إفادة الحياة فإن مفيد الحياة هي النفس بإذن الله تعالى
337 واستخدام بعض الملائكة إياها بل فعلها بالذات تقليل الرطوبات وهذا التقليل نافع في حفظ الحياة ما دامت الرطوبات زائدة في البدن الحي ضار ما دامت ناقصة. فالتقليل فعلها بالذات وكل واحد من النفع والضرر فعلها بالعرض بخلاف فعل الصورة في مادتها فإنه ليس إلا التكميل والحفظ فكيف تأدى بالطبع إلى إفساد مادتها وظني أن كل من له قدم في المعارف الحكمية يعرف أن الأفاعيل الطبيعية متوجهة بالذات إلى ما هو خير وكمال ومؤثر وملائم ولا تتوجه بشيء من الأشياء في سلوكه بالطبع نحو شيء مناف له مضادة إياه بل يجب أن يكون نسبة السالك إلى ما يسلك إليه نسبة النقص إلى التمام والضعف إلى القوة. ولهذا يقال في تعريف الحركة: كمال ما بالقوة من حيث هو بالقوة.. كيف وقد ثبت بالبرهان والكشف أن الأشياء طالبة للخير الأقصى والصمد القيوم الذي هو منبع كل حياة وكمال وشرف وجمال. والطلب الطبيعي للحياة المحضة والوجود المحض لا يكون إلا بورود مراتب الحياة للطالب لا بورود مراتب الفساد والموت. فالتحقيق في هذا المطلب يحتاج إلى إظهار شيء مما يذوقه أهل المشرب. وقد لوحنا إليه في أسفارنا فمن هناك ينبغي أن يطلب من خلق لأجله بشرط أن يضن به على غير أهله. فصل في تكون الحيوان أن الأجسام العنصرية إذا امتزجت امتزاجا أشد اعتدالا وأوغل في التوسط من النبات تهيأت لقبول النفس الحيوانية. وهي كمال أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة من شأنه أن يحس ويتحرك بالإرادة. فالكمال جنس يتناول المحدود وغيره لأنه عبارة عما يتم به النوع سواء في ذاته أو في توابع ذاته. لا يقال: النفس جوهر والكمال من باب المضاف فكيف يصلح جنسا لها لأنا نقول: التحديد ليس لماهية النفس بل لها من جهة كونها نفسا واسم
338 النفس لم يوضع لها إلا من حيث تدبيرها للبدن وهي إضافة خاصة. فلذلك يؤخذ البدن في تحديدها كما يؤخذ البناء في حد البناء وإن لم يؤخذ في حده من حيث هو إنسان. وبقولنا أول يخرج عن الحد الكمالات الثانية المتأخرة عن تحصل النوع في نفسه. وبالجسم يخرج كمالات المجردات من فصولها المنوعة لها. وبالطبيعى يخرج صورة الجسم الصناعي. وبالآلى يخرج صور العناصر والمعادن فإنها وإن كانت كمالات أولية لأجسام طبيعية إلا أنها ليست آلية. وليس المراد بالآلي اشتمال الجسم على الأجزاء المختلفة فقط بل وعلى قوى مختلفة فإنها آلات للنفس بالذات والأعضاء بتوسطها. ويخرج أيضا النفوس الفلكية على رأي من ذهب إلى أن لكل فلك من الأفلاك نفسا. وأما على رأي من ذهب إلى أن النفس للفلك الكل فقط والأفلاك الجزئية كالخوارج والتداوير بمنزلة الآلات لها فلا يخرج به بل يخرج بقيد ذي حياة بالقوة أي يصدر عنه ما يصدر عن الأحياء بالقوة ونفوس الفلكيات ليس يصدر عنها أفاعيل الحياة بالقوة بل على سبيل اللزوم بخلاف النفوس الأرضية فإن أفاعيلها قد تكون وقد لا تكون. فليس الحيوان دائم التغذية والتوليد أو الإدراك والتحريك. وبالقيد الأخير يخرج النفوس النباتية. فصل في قوى النفس الحيوانية أنها بحسب القوى تنقسم إلى محركة ومدركة. وأما المحركة فتنقسم إلى باعثة وفاعلة. أما الباعثة المسماة بالشوقية فهي القوة التي إذا ارتسمت صورة مطلوبة أو مهروبة في الخيال حملت هذه القوة الفاعلة على تحريك آلات الحركة من الأعصاب والعضلات والأعضاء. والقوة الشوقية ذات شعبتين: شهوية وغضبية. والشهوية
339 حملت الفاعلة على التحريك طلبا للذة أو المنفعة. والغضبية حملتها على التحريك دفعا للألم والمضرة على سبيل الاستيلاء. وأما الفاعلة المباشرة للتحريك فهي التي من شأنها أن يعد العضلات للانتقال. وكيفية ذلك الإعداد من تلك الفاعلة أن تبسط العضل بإرخاء الأعصاب إلى خلاف جهة مبدئها لينبسط العضو أي يزداد طولا وينقص عرضا أو يقبضه بتمديد الأعصاب إلى جهة مبدئها لينقبض العضو أي يزداد عرضا وينقص طولا. والعضلة عضو مركب من العصب ومن جسم يشبه بالعصب ينبت من أطراف العظام يسمى رباطا وعقبا ومن لحم احتشى به الفرج التي بين الأجزاء الحاصلة باشتباك العصب والرباط ومن غشاء يخللها والعصب جسم ينبت من الدماغ أو النخاع لين في الانعطاف صلب في الانفصال. والنخاع خادم للدماغ خليفة له في إنبات الأعصاب. تبصرة واعلم أن للحركات الاختيارية مبادئ مترتبة أبعدها عن عالم الحركة الخيال أو الوهم في الحيوان والعقل العملي باستخدامها في الإنسان والفلك ويليها القوة الشوقية وهي الرئيسة في القوى المحركة الفاعلة كما أن الوهم هي الرئيسة في القوى المدركة الغائية. وبعد الشوقية وقبل الفاعلة قوة أخرى هي مبدأ العزم والإجماع المسمى بالإرادة والكراهة وهي التي يصمم بعد التردد في الفعل والترك عند وجود ما يترجح به أحد طرفيهما المتساوي نسبتهما إلى القادر عليهما. ويدل على مغايرة الشوق للإدراك تحقق الإدراك بدونه وعلى مغايرة الشوق للإجماع أنه قد يكون شوق ولا إرادة. والحق أن التغاير بينهما بحسب الشدة والضعف لا غير فإن الشوق قد يكون ضعيفا ثم يقوى
340 فيصير عزما فالعزم كمال الشوق. وما قيل: إنه قد يحصل الشوق بدون الإرادة كما في المحرمات للزاهد المغلوب للشهوة فغير مسلم. بل الشوق العقلي فيه إلى جانب الترك أقوى من الميل الشهوي إلى خلافه. ويدل على مغايرة الفاعلة لسائر المبادئ كون الإنسان المشتاق العازم غير قادر على الحركة وكون القادر عليها غير مشتة. والعلة الغائية في وجود هذه المبادئ من لدن ألطف القوى الإدراكية وأعلاها إلى أكدر القوى التحريكية وأنزلها في الحيوان المحافظة على الأبدان بحسب كمالها الشخصي والنوعي وفي الإنسان تلك المحافظة مع ما يتوسل بها إلى اكتساب الخير الحقيقي والكمال الأبدي بحسب العلم والعمل. فإن البارىء جلت عظمته جعل في جبلة الحيوان الجوع والعطش ليدعوها إلى الأكل والشرب ليخلف على أبدانها بدلا عما يتحلل ساعة فساعة لكون الأبدان دائمة التحلل والذوبان. وجعل أيضا في جبلتها الشهوات المختلفة ليدعو بها المأكولات المختلفة الموافقة لأمزجة أبدانها وما يحتاج إليه طباعها. وجعل فيها اللذة بقدر الحاجة ليأكل بقدر الحاجة ولا يزيد عليه ولا ينقص. وجعل لنفوسها الآلام والأوجاع عند الآفات العارضة لأبدانها ليتحرص نفوسها على حفظ أبدانها من الآفات إلى أجل معلوم وخلق لها القوى الإدراكية من الحواس وغيرها ليتميز الملائم عن المنافر والنافع عن الضار فيطلب إحداهما بالشهوة ويهرب عن الآخر بالغضب ليديم بقاءها سالمة عن الآفات عناية من الله تعالى لخلقه ورحمة منه على عباده. فصل في القوى الإدراكية وإنما أخرناها عن التحريكية لأن الحركة في الحيوان أشرف من الإدراك لكونها غاية
341 له وإن كان الأمر في الإنسان بعكس ذلك. ولأنا نتكلم في العائدات والقوة الإدراكية أشد نفسانية والتحريكية أقرب إلى المادة. فنقول إن القوة المدركة تنقسم إلى ظاهرة مشهودة وباطنة مستورة أما الظاهرة فهي الحواس الخمس في الظاهر وفوق الخمس في الحقيقة لأن اللمس وهي قوة منبثة بواسطة الأعصاب في جلد البدن وأكثر اللحم وغيرها كالغشاء وبسبب انبثاث حاملها الذي هو جسم لطيف بخاري ليست قوة واحدة بالنوع في التحقيق بل هي أربعة أنواع منبثة معا في الجلد كله وغيره ولهذا ظنت واحدة. فللتضاد الواقع بين الحار والبارد حاكم وللرطب واليابس حاكم وللصلب واللين حاكم وللخشن والأملس حاكم. واللامسة في الحيوان في باب الضرورة كالغاذية للنبات لأن مزاجه من الكيفيات الملموسة وفساده باختلالها. والحس طليعة للنفس فيجب أن يكون أولى الطلائع ما منع الفساد وحفظ الصلاح بخلاف غيرها من ثواني الطلائع التي ينوط بها المنفعة الخارجة عن القوام والمضرة الخارجة عن الفساد. والذوق وإن كان دالا على ما يستبقي به الحياة من المطعومات إلا أنها يجوز أن يبقى الحيوان بدونه لإرشاد الحواس الأخر على الموافق والمضاد وليس شيء منها تعين على أن الهواء المحيط بالبدن محرق أو مجمد كما قاله الشيخ الرئيس. بحث وتخليص ربما يقال (يكون خ. ل) إن المدرك بالحس هو المتضادات كالبرودة والحرارة دون التضاد لأنه
342 معنى عقلي لا يدرك بالحس. فكيف جعلوا مبنى تعدد اللامسة على تعدد أنواع التضاد ثم إنهم جوزوا إدراك القوة الواحدة للمدركات المتضادة كالباصرة للسواد والبياض ولم يجعلوا ذلك أفعالا مختلفة من مبدأ واحد بالذات. فما الذي يمنع نظير ذلك في اللامسة ومن أسخف ما قيل في دفعه أن تباين الكيفيات الأول أعني الحرارة والرطوبة واليبوسة والبرودة أشد من تباين الكيفيات الثواني الحادثة من تفاعلها كالألوان والروائح والطعوم فلذلك تعددت قوى اللمس دون بواقي الحواس. فالمخلص أن يقال لما علم أن مزاج الحيوان من جنس الكيفيات التي هي أوائل المحسوسات اللمسية وما يتبعها وأن القوة التي هي أولى مراتب الحيوانية يجب أن تكون بحيث يتأثر بسببها الحيوان عن أضداد ما فيه من الكيفيات الأولية وتوابعها فالحيوان من حيث هو حيوان باعتبار وقوعه في كل وسط من أوساط تلك الكيفيات يدرك الأطراف التي يكون ذلك الوسط وسطا بالقياس إليها وتلك أطرافا بالقياس إليه ويتأثر عنها. فلا محالة تعددت اللامسة بحسب تعدد التضاد ولا يتعدد بحسب تعدد الأطراف التي وقعت في جنس واحد. لأن القوة لا تتأثر من الكيفية الشبيهة بكيفيتها بل بما يضادها في الجملة. وهذا معنى قولهم بحكومة اللامسة في التضاد بين الكيفيات. وكذا الحال في إدراك الباصرة للسواد والبياض فإنها لخلوها عن اللون مع قوة قابلة لها إياها تتأثر من كل مرتبة من مراتب اللون. واللامسة وإن لم تخل من كيفية ملموسة إلا أن اعتدالها وتوسطها بين الأطراف بمنزلة الخلو عنها فيتأثر عن كل مرتبة من مراتب الكيفيات الأولى سوى الكيفية الوسطية التي تتصف بها الحيوان ويندر وجودها في غير الحيوان. فكل واحدة من الحواس لها نوع واحد من الأثر وهو الانفعال عن كيفية متضادة لها.
343 تقرير إفادى ومما يناسب المقام أن الشيخ الرئيس قال في فصل الثالث من المقالة السادسة من علم النفس: إن الحواس منها ما لا لذة لها لفعلها في محسوسها ولا ألم. ومنها ما يلتذ ويتألم بتوسط المحسوسات. فأما التي لا لذة لها ولا ألم فمثل البصر فإنه لا يلتذ بالألوان ولا يتألم بذلك بل النفس تتألم بذلك وتلتذ. وكذا الحال في الأذن. فإن تألمت الأذن من صوت شديد والعين من لون مفرط كالضوء فليس تألمها من حيث تسمع ومن حيث تبصر بل من حيث تلمس لأنه يحدث فيه ألم اللمس. وكذلك يحدث فيه بزوال ذلك لذة لمسية. وأما الشم والذوق فإنهما يتألمان ويلتذان إذا تكيفا بكيفية منافرة أو ملائمة. وأما اللمس فإنه قد يتألم بالكيفية الملموسة ويلتذ بها وقد يتألم ويلتذ بغير توسط كيفية من المحسوس الأول بل يتفرق الاتصال والتيامه.. هذا كلامه. ونقله المسيحي من شراح القانون معترضا عليه بأن كلامه في غاية الإشكال أما أولا: فلأنه يرى ويعتقد أن المدرك للمحسوسات الجزئية هي الحواس الخمس. فمذهبه في هذا الموضع إن كان هو ذاك فقد ناقضه في السمع والبصر وإن لم يكن هو ذاك فيكون قوله في الشم والذوق واللمس قولا فاسدا. وأما ثانيا فلأن كل واحد من الحواس الخمس له محسوس خاص يستحيل أن يدركه غيره وبديهة العقل حاكمة بهذا. وحينئذ نقول: كيف يتصور أن يقال إن القوة اللامسة في الأذن والعين هي المدركة للصوت العظيم واللون المفرط وأما ثالثا فلأن ذلك يكون مناقضا لحده اللذة والألم فإنه حد اللذة بأنها إدراك الملائم من حيث هو ملائم والملائم للقوة الباصرة إدراك المبصرات لا اللامسة.
344 وأما رابعا فلأن إدراك هذه المحسوسات إما أن يكون لذة وألما للحواس أو لا يكون. فإن قال بالأول يكون إدراك البصر للألوان الحسنة لذة وإدراكه الألوان المؤذية ألما. وإن قال بالثاني فلا يكون للمس لذة ولا ألم ولا للشم والذوق. وإن كان لذة وألما للبعض دون بعض كان ذلك ترجيحا من غير مرجح وهو محال. وذلك لأن الحواس الخمس جميعا وسائط للنفس في إدراك المحسوسات الجزئية. ثم قال قال الإمام في كتاب المباحث المشرقية حيث تكلم في اللذة معتذرا عذرا عن الشيخ في خروجه عن مذهبه في هذا المقام في البصر والسمع: الألوان ليست ملائمة للقوة الباصرة فإنه يستحيل اتصاف القوة بالألوان وذلك لأن الملائم للشيء هو الذي يكون كمالا له وأقل درجات الكمال حصوله للشيء بل إدراك الألوان هو الملاءمة للقوة الباصرة. والشيخ لم يجعل حصول الملائم هو اللذة بل إدراك الملائم والقوة الباصرة إذا أبصرت فقد حصل لها الملائم لا إدراكه. فإن القوة الباصرة لم تدرك كونها مدركة للألوان بل النفس هي المدركة لذلك فإنها تدرك الأشياء وتدرك أنها أدركتها. ثم قال: أقول: على ما قاله الإمام يلزم أن لا يلتذ القوة اللامسة لأنه ليس لها أن تدرك أنها أدركت فإن هذا للنفس على ما زعمه وكذا الكلام في القوة الذائقة والشامة. وكل ذلك مناقض لمذهب الشيخ الذي قاله في الشفاء والقانون. هذا كلام المسيحي في شرحه للقانون. ورد عليه العلامة الشيرازي أما فيما ذكره أولا فبقوله إنا لا نسلم أن الشيخ ولا غيره من الحكماء الراسخين في الحكمة المتعالية ذهبوا واعتقدوا أن المدرك للمحسوسات الجزئية هو الحواس الخمس وإنما ذلك من أغلاط المتأخرين كالإمام
345 ومن اقتفى أثره وإلا فعند الشيخ لا مدرك ولا حاكم ولا ملتذ ولا متألم غير النفس. وإطلاق هذه الألفاظ على الحواس يكون بضرب من المجاز لكن لما كان الإحساس انفعال الحاسة بل آلتها من محسوسها الخاص منها وجب انفعال آلة كل حاسة عن محسوسها الخاص وتكيفها بذلك المحسوس إلا أن انفعال بعض آلات الحواس وتكيفها عن محسوسها يكون بحيث أن النفس تدركها حيث ينفعل الآلات عن محسوسها كالذائقة والشامة واللامسة. ومنها ما لا يكون كذلك كالباصرة والسامعة. ولهذا فإن الإنسان يدرك لذة الحلو في الفم ولذة الرائحة الطيبة في الشم ولذة النعومة في آلة اللمس ولا يدرك لذة الصورة الحسنة في الجليدية ولا في ملتقى العصبتين ولا لذة الصوت الحسن في العصبة المفترشة لا أن انفعال بعض آلات الحواس وتكيفها بمحسوسها زماني وانفعال البعض آني على ما قيل لأن ذلك كلام رخو سخيف لاشتراك الحواس في كون إدراكها آنيا. أما أن بعضها آني وبعضها زماني فغير مسلم فمن ادعاه فلا بد له من الدليل. وأما فيما ذكره ثانيا فبأن الشيخ لا يقول إن المدرك للصوت العظيم واللون المفرط لامسة الأذن والبصر بل المدرك لهما السامعة والباصرة والمتألم آلة لامستهما بطريق تفرق اتصال يحدثه الصوت المفرط في لامسة الأذن واللون الموذي في لامسة العين. وأما آلة السمع والبصر فلا يتألم منهما لا لأن إدراكهما آني لا زماني لبطلان ذلك بل لأنهما لا يتألمان من حيث تبصر وتسمع. وأما فيما ذكره ثالثا فلأنه مبني على أن الملائم للقوة الباصرة إدراك المبصرات. وعلى أن الشيخ ذهب إلى أن مدرك المبصرات لامسة العين. وهما ممنوعان لأن الملائم والموافق إنما يكون للنفس لا لغيرها من القوى وغيرها. ولأنه ذهب إلى أن المتألم من اللون الموذي هو لامسة العين لا باصرة العين والمدرك باصرتها لا اللامسة. وهو كلام حق.
346 وأما فيما ذكره رابعا فلأنا لا نسلم أنه إن كان إدراك المحسوسات ألما ولذة في بعض دون بعض كان ذلك ترجيحا من غير مرجح وهو إدراك النفس لذة الحواس الثلاث حيث ينفعل آلاتها عن محسوسها دون لذة الحاسين الباقيين لا كون تأثيرهما زمانيا لا آنيا على ما قيل لفساده كما مر. قال: وأما العذر الذي ذكره عن الإمام في خروج الشيخ عن مذهبه في السمع والبصر فليس بشيء والشيخ لم يخرج عن مذهبه ليحتاج إلى عذر من جهته. لكن لما كان اعتقاد الإمام وإن كان خطأ أن الشيخ يعتقد أن مدرك الجزئيات الحواس الخمس شرع في الاعتذار واعتذر بعذر هو أوهن من بيوت العنكبوت. هذا تلخيص ما أفاده العلامة في هذا الموضع. ولعمري إنه قد أصاب فيما أجاب عن إشكالات المسيحي وما بين به انحراف الإمام عن مسلك الحق فيما حسبه اعتذارا عما ذكره الشيخ. وأمثال هذه التحقيقات التي يزاح بها ظلمات أوهام المضلين من المتفلسفين ليست غريبة عن مثله كما عن مثل أستاذه سلطان المحققين برهان الحكماء الإسلاميين عظم الله تعالى قدره وحشره في زمرة العقول المقدسين. لكن في الفرق الذي ذكره هذا النحرير الخبير بين الحاستين الأوليتين والحواس الثلاث الباقية محل تأمل. ثم على تقدير تحقق ذلك الفرق كان ينبغي أن يبلغ كلامه حد الإجداء ويذكر أن النفس من أي جهة ومعنى لم يدرك بعض المحسوسات حيث ينفعل آلة إدراكها ومن أي جهة ومعنى بعضها حيث ينفعل آلة إدراكها ليثبت به كون بعض آلات الحواس محلا للألم واللذة الحاصلتين عن محسوساتها دون البواقي منها. وأنت إن أردت تحقيق القول في هذا المطلب على ما لا مزيد عليه فاستمع لما ألقى إلينا وقسم لنا من عالم الملكوت ومعدن الرحموت وهو أن مزاج الحيوان لما كان
347 حاصل الوجود كما علمت من جنس الكيفيات الأول وبقاء حياته منوط باعتدال مزاجه اللائق به الذي هو حد ما من حدود تلك الكيفيات وصلاح بدنه وفساده إنما يكونان بانحفاظ ذلك المزاج وانحرافه عن حد معين ولا شك أن اللذة هو إدراك الملائم من حيث هو ملائم والألم إدراك المنافي من حيث هو مناف والملائم لكل شيء ما يكون من نوعه أو جنسه وكذا المنافي لكل شيء إذا كان أمرا وجوديا ما يكون مضادا له واقعا معه تحت جنس قريب إذ لا تضاد بين الأجناس العالية. فالملائم والمنافي للحيوان بما هو حيوان إنما هما من مدركات اللامسة أولا لكونها من جنس كيفيات بدنه المتقوم حياته بها ثم مدركات الذائقة التي يتقوى ويتزايد بها بدنه. (تتقوى ويتزيد خ ل). وتالي الكيفيتين المذكورتين في الملائم والمنافر مدركات الشامة حيث يتغذى بها لطائف أعضاء الحيوان كالأرواح البخارية. وأما مدركات السامعة والباصرة فليس مما يحتاج إليها الحيوان بما هو حيوان احتياجا قريبا لأن بدن الحيوان ليس مركبا من الأصوات ولا متقوما بالأضواء والألوان ليكون ما يكون من جنس الأصوات والألوان ملائما للحيوان بما هو حيوان. اللهم إلا أن الحيوان الإنساني لما كان نفسه الناطقة التي هي من عالم الأنوار ومعدن المعاني والأسرار نازلا منه إلى عالم الصورة العنصرية بعد جوازه عالم الأفلاك المشتملة على النسب الشريفة العددية الإيقاعية والنغمية لذلك تلتذ عن رؤية الأنوار واستماع النغمات الموزونة وتتألم عن الظلمات والألوان الموحشة والأصوات المنكرة الغير الموزونة. وأما تضرر العضو البصري عن الضوء الشديد فليس لأجل مضادته للنفس لأن نورية النفس أقوى من نورية النور المحسوس بل لأجل غلبة النور المحسوس على الحاسة البصرية فتنفعل عنه. وكذا تضرر الصماخ عن الصوت الشديد المشتمل على التناسب العددي فليس إلا لأجل مصادمة الهواء المتحرك المنقلب عن القارع والقالع القويين الصماخ فهناك تألم لمسي كما ذكره الشيخ لا أن اللامسة تدرك الصوت أو السامعة
348 من حيث إنها سامعة يلمس المقروع أو المقلوع من الهواء كما يتوهم من كلامه على ما مضى. فالملخص أن الملائم والمنافي للحواس التي هي قوى جسمانية ولمحالها التي هي أجسام مركبة من أجسام بسيطة أولية الكيفيات هما مدركات الحواس الثلاث على الترتيب الذي ذكرناه. وأما مدركات الحاستين الباقيتين فليست ملائمة ومنافية لهما ولا لمحليهما فلهذا لا يلتذان ولا يتألمان بهما. فهذا ما عندي في هذا الموضع والله أعلم. فلنرجع إلى ما كنا فيه. وأما الحواس التي في الحس الباطن فهي للحيوانات الكاملة ثلاثة أقسام ومجموعها خمس ولنتكلم فيها. فصل في القسم المدرك للصور الجزئية وهو اثنان فالأول منه الحس المشترك ويسمى بنطاسيا أي لوح النفس وهي قوة مرتبة في مقدم التجويف الأول من الدماغ ومبادي عصب الحس ويقبل جميع الصور المنطبعة في الحواس الظاهرة بالتأدي إليه من طرق الحواس من جهة الأعصاب الحاملة للروح البخاري فهو كحوض ينصب فيه أنهار خمسة. والدال على وجوده أمور: أحدهما مشاهدة القطرة النازلة خطا والنقطة الجوالة بسرعة دائرة وليس ارتسامهما في البصر لعدم حصول المقابلة إلا القطرة أو النقطة فإذن ارتسامهما إنما يكون في قوة أخرى غير البصر يتصل فيها الارتسامات المتتالية بعضها ببعض فيشاهد خطا. والثاني أنا نحكم ببعض المحسوسات الظاهرة على بعض كالحكم بأن هذا الأبيض هو هذا الحلو وهذا الأصفر هو هذا الحار وكل من الحواس الظاهرة لا يحضر عندها
349 إلا نوع مدركاتها فلا بد من قوة يحضر عندها الجميع ليصح الحكم بينها. الثالث أن النائم والمريض كالمبرسم يشاهد صورا جزئية لا تحقق لها في الخارج ولا في شيء من الحواس الظاهرة. بحث وتحصيل قد أورد على الوجه الأول بأنه يجوز أن يكون اتصال الارتسام في الباصرة بأن يرتسم المقابل الآخر قبل أن يزول المرتسم قبله لسرعة لحوق الثاني وقوة ارتسام الأول فيكونان معا. وعلى الثاني بأنه لا يلزم من ذلك وجود حس مشترك غاية الأمر أن لا يكفي الحواس الظاهرة لمشاهدة الصور حالتي الغيبة والحضور بل يكون لكل حس ظاهر حس باطن. وأجيب عن الوجوه الثلاثة أما عن الأول فلكونه مكابرة للقطع بأن لا ارتسام في البصر عند زوال المقابلة. وأما عن الثاني فبأن المدرك والحاكم للكليات والجزئيات وإن كان هو النفس لكن الصور الجزئية لا ترتسم فيها كما سيجيء برهانه بل في آلتها. فلا بد في الحكم بين المحسوسين من آلة جامعة لهما وهي الحس المشترك. وربما شكك فيه لجواز أن يكون حضورهما عند النفس وحكمها بينهما لارتسامهما في آلتين كما أن الحكم بين الكلي والجزئي يكون لارتسام الكلي في النفس والجزئي في الآلة فلا يثبت آلة مشتركة. وهذا مندفع بإشراق عرشي: وهو أن النفس حين إدراكها لكل محسوس يصير عين الحاسة المدرك لذلك المحسوس كما برهنا عليه في موضع يليق به. وكل حاسة يتقوم من النفس يخالف حاسة أخرى لنا فالحكم بمحسوس على محسوس آخر يوجب على
350 هذه القاعدة اتحاد الحاستين وهو ممتنع. وأما الحكم بمعقول على محسوس فهو يوجب اتحاد النفس بإحدى الحواس ولا استحالة فيه كما ادعيناه وفهم هذا يحتاج إلى تقديس في القريحة. وأما عن الثالث فبأن في الواحد من الحس الباطن كفاية فإثبات التعدد فضل مستغن عنه فلا يصار إليه. ومن اعتراضات الإمام الرازي أنا نعلم قطعا أن الذوق أعني إدراك المذوقات ليس بالدماغ كما أنه ليس بالعقب وكذا اللمس. وأيضا إذا أبصرنا شيئا فلسنا مبصرين به مرتين أحدهما بالعين والأخرى بالدماغ. والجواب أن من المعلوم قطعا أن الدماغ ليس آلة الذوق أو اللمس أولا وعلى وجه الاختصاص وأما أنه لا مدخل له فيه فلا. كيف والآفة في الدماغ توجب اختلال الذوق واللمس وغيرهما من الحواس بخلاف الآفة في العقب وأيضا نجد الفرق بين الذوق وتخيل الذوق ونعلم قطعا أن تخيل الذوق ليس في العقب. ومنها أنا لا نسلم أن اتصال هذه الارتسامات إذا لم يكن في البصر يكون في قوة أخرى. لم لا يجوز أن يكون في الهواء بأن يتصل التشكلات في الأجزاء الهوائية المتجاورة وأجاب عنه الحكيم الطوسي رحمه الله بأن بقاء التشكل السابق عند حصول تشكل بعده يقتضي الخلاء فإن التشكل إنما يحدث في الهواء لنهاياته المحيطة بالجسم المتحرك فيه وبقاء النهايات بحالها بعد خروج المتحرك عنها يقتضي إحاطة النهايات بالخلاء. أقول: لزوم الخلاء ممنوع وإنما يلزم لو كانت المشاهدة دفعية لأي شيء كان إذا لم يكن تعلقها بأمر تدريجي الوجود كالحركة أو المتحرك من حيث هو متحرك وذلك ممنوع. فيجوز أن يكون كل واحد من التشكلات المتتالية مشاهدا في الآن المختص به
351 لا في آن التشكلات اللاحق ليلزم الخلاء. (في آنه... وفي آن الشكل اللاحق خ ل) ولقلة الزمان وسرعة الحركة يظن أن المجموع مشاهد دفعة. (يشاهد خ ل) والثاني منه الخيال ويقال له المصورة وهي قوة مرتبة في آخر التجويف الأول من الدماغ بحسب المشهور ويجتمع فيها مثل جميع المحسوسات ويبقى فيها بعد الغيبة عن الحواس وبنطاسيا وهي خزانتها وليست خزانة للحواس وإن كانت مدركاتها محفوظة فيها. لأن الحواس الظاهرة لا يدرك شيئا بسبب الاختزان بالخيال بل بإحساس جديد من خارج فيفوت معنى الخزانة بالقياس إليها بخلاف الحس المشترك. والدليل على وجودها أنا إذا شاهدنا صورة في اليقظة أو النوم ثم ذهلنا عنها ثم شاهدنا مرة أخرى نحكم عليها بأنها هي التي شاهدنا قبل ذلك فلو لم يكن الصورة محفوظة لم يكن هذا الحكم كما لو صارت منسية. وإنما احتيج إلى وجودها لئلا يختل نظام العالم ولا يشتبه الضار بالنافع إذا لم يعلم أنه هو المبصر أولا ويفسد المعاملات وغيرها. والدليل على مغايرتها للحس المشترك وجهان: أحدهما أن قوة القبول غير قوة الحفظ فرب قابل للنقش كالماء لم يحفظ لوجود رطوبة هي سرعة القبول وعدم اليبس الذي هو شرط الحفظ. وثانيهما أن استحضار الصور والذهول عنها من غير نسيان والنسيان يوجب تغاير القوتين ليكون الاستحضار حصول الصورة فيهما والذهول حصولها في أحدهما دون الأخرى والنسيان زوالها عنهما. واعتراض الإمام في شرحه للإشارات على الوجه الأول بأنه مجرد مثال وبأن
352 الحفظ مسبوق بالقبول ومشروط به فقد اجتمع الحفظ والقبول في قوة واحدة سميتموها بالخيال. وبأن الحس المشترك مبدأ لإدراكات مختلفة هي أنواع الإحساسات. وبأن النفس يقبل الصور العقلية ويتصرف في البدن بوجوه التدابير. فيبطل قولكم: الواحد لا يكون مبدأ للاثنين. وأجاب المحقق الطوسي (قده) عما ذكره أولا بأنه ليس الأمر على ما ظنه. بل إنما هو قياس من الشكل الثالث ينتج حكما جزئيا مناقضا للحكم الكلي بأن كل ما يقبل شكلا فهو ما يحفظه فإن ذلك يدل على مغايرة القوتين. وعن النقض بالخيال بأن اجتماع القبول والحفظ لا يدل على وحدة مصدرهما لجواز أن يكونا لقوتين كالأرض. وأما افتراقهما في صورة فهو يدل على مغايرة المصدرين. وحاصل كلام هذا المحقق أن كون حفظ الخيال مشروطا بالقبول لا يوجب أن يكون الحافظ نفس القابل. بل عسى أن تكون غيرها مقارنة إياها فلا يلزم اتحاد مبدئي القبول والحفظ. وليس المراد ما فهمه بعضهم من أن الخيال لما كان قوة جسمانية فيجوز أن يكون قبوله لأجل المادة وحفظه لنفسه كالأرض تقبل الشكل بمادتها ويحفظ بصورتها ليرد عليه أن هذا الجواب يدفع أصل الاستدلال. لجواز أن لا يكون هاهنا إلا قوة واحدة كالحس المشترك لها القبول بمادتها والحفظ بصورتها. والمقصود من الاستدلال إثبات تعدد مبدأ القبول والحفظ من جهة افتراقها لإمكان تحقق القبول بدون الحفظ كما في الماء والهواء وبالعكس كما إذا عرض آفة لمقدم البطن المقدم لا يدرك الإنسان صورة فإذا زال المرض واستحضر الصورة التي كان قبل تحفظها علم جزما أن قوة الإدراك غير قوة الحفظ. وعن النقض بالحس المشترك والنفس بأن الواحد قد يصدر عنه الكثير إذا كان
353 الصادر بالقصد الأول شيئا واحدا ثم يتكثر بقصد ثان وكانت وجوه الصدورات مختلفة فالصادر عن الحس المشترك هو استثبات الصور المادية عند غيبة المادة ثم يصير مستثبتا للأصوات والطعوم وغيرها بقصد ثان. وذلك لانقسام تلك الصور وذلك كالإبصار الذي فعله إدراك اللون ثم إنه يصير مدركا للضدين لكون اللون مشتملا عليهما. وأما النفس فإنما يتكثر فعلها لتكثر وجوه الصدورات عنها. بحث ومخلص وأنت تعلم أن مفهوم الصورة المحسوسة أمر مبهم لا يتحصل إلا بصورة معينة تعينا نوعيا شخصيا والصادر عن الشيء أولا لا يكون إلا أمرا متعينا. فكيف يكون الحس المشترك مبدأ لأمر واحد جنسي أولا ولأمور متكثرة نوعية ثانيا ويكون تحصل ما يصدر أولا أقل من تحصل ما يصدر ثانيا بل الأولى أن يجاب عن هذا النقض إما بما يجاب به عن النقض بالنفس أو بأن الإدراكات انفعالات ويجوز أن يكون في مادة واحدة لقوة واحدة انفعالات كثيرة عن مبادي متعددة. والذي تحقق عندهم أن الواحد لا يصدر عنه إلا فعل واحد لا أنه لا ينفعل إلا انفعالا واحدا. على أن بناء أصل الاستدلالات على تغاير القوى ليس على مجرد أن الواحد لا يصدر عنه الكثير لعدم جريانه إلا في الواحد الحقيقي بل على ما أشرنا إليه من بقاء بعض منها مع زوال الأخرى. فالنقض ساقط رأسا. ولهذا عبر المحقق عنه بالمعارضة. وصاحب المحاكمات لذهوله عما ذكرناه أورد على المحقق وجوها من البحث سهلة الاندفاع بعد الإحاطة بأطراف الكلام. عقدة وحل وأورد على الوجه الأخير من الاستدلال أن تجويز الحصول في الحافظة حالة الذهول يقتضي القول بأن الإدراك ليس هو حصول الصورة في المدرك بل أمر وراءه. وعلى ذلك التقدير يحتمل أن يكون الصورة حاصلة في الحس المشترك دائما والاستحضار موقوف على ذلك الأمر. وأيضا القوة العاقلة ليست لها حافظة مع أنه
354 تستحضر وتذهل من غير نسيان وتنسى. فإن قلتم: حافظها العقل الفعال فليكن هو حافظ الحس المشترك أيضا. والجواب عنه ما ذكره شارح الإشارات قده هو أن الإدراك حصول الصورة للمدرك لحصوله في الآلة والصورة حالة الذهول غير حاصلة للمدرك وإن كان حاصلة في الآلة. والعقل الفعال لتمثل المعقولات فيه وامتناع تمثل المحسوسات فيه يصلح أن يكون حافظا للصور المعقولة دون المحسوسات. والأولى أن يقال: إن الصورة حالة الذهول غير حاصلة في آلة الإدراك ومجرد الحصول في أية آلة كانت ليس إدراكا وإلا لكان حصول الصورة لأي محسوس كان في يد الإنسان إدراكا له. بل إدراك كل صورة إنما هو بحصول صورته في آلة إدراك ذلك الشيء. فحصول صور المحسوسات في الحس المشترك إدراك لها سواء حصلت من الحواس كما في المشاهدة أو من معدن الخيال كما في التخيل. وقد تحصل المشاهدة لقوة التخيل أيضا. فصل في مدرك المعاني والتصديقات الجزئية وهو أيضا اثنان أحدهما القوة الوهمية وهي القوة التي تكون مرتبة في آخر التجويف الأوسط من الدماغ وآلتها الدماغ كله لأنها الرئيس المطلق في الحيوان ومستخدمة لسائر القوى الحيوانية التي مصدر أكثر أفاعيلها الروح الدماغي فيكون كل الدماغ آلة لها. لكن الأخص بها هو التجويف الأوسط لاستخدامها المتخيلة ومحلها مؤخر ذلك التجويف. ولا يستلزم كون الشيء آلة لقوة كونه محلا لها ليلزم توارد القوى على محل واحد كما يتوهم. وهي تدرك المعاني الغير المحسوسة الموجودة في المحسوسات ويحكم أحكاما جزئية كإدراك الشاة معنى في الذئب وكالحكم بأن الولد معطوف عليه. فإدراك المعاني دليل على وجود قوة بها إدراكها وكونها غير محسوسة دليل
355 على مغايرتها للحس المشترك. وكونها جزئية دليل على مغايرتها للنفس المجردة. وقد يستدل على وجودها بأن في الإنسان شيئا ينازع عقله في قضاياه كما يخاف الانفراد بميت يقتضي عقله الأمن منه. وربما يغلب التخويف على التأمين فهو قوة باطنية غير عقلية. وثانيهما الحافظة وهي قوة مرتبة في أول التجويف من الدماغ يحفظ ما يدرك القوة الوهمية من المعاني الجزئية. وهي خزانة للوهم. فنسبتها إليه نسبة الصورة إلى الحس المشترك. فقوتان للتصور الجزئي مبدأ وخازن. وقوتان للتصديق الجزئي مثلهما. والكلام في مغايرتها لسائر القوى على قياس ما مر. فصل في المتصرفة وهي قوة مرتبة في مقدم البطن الأوسط من الدماغ أي الدودة. ولها التصرف في السابق واللاحق من موضعها باستخدام الوهم إياها من شأنها تركيب بعض ما في الخيال أو الحافظة من الصور والمعاني مع بعض وتفصيل بعضه عن بعض فتجمع أجزاء أنواع مختلفة كجعلها حيوانا من رأس إنسان وعنق جمل وظهر نمر. وتفرق أجزاء نوع واحد كإنسان بلا رأس. ولا يسكن عن فعلها دائما لا نوما ولا يقظة. وهي الحاكية للمدركات والهيئات المزاجية وتنتقل من الشيء إلى ضده وشبهه. فما في القوة الباطنية أشد شيطنة منها ليس من شأنها أن يكون عملها منظما بل النفس هي التي تستعملها على أي نظام على أي نظام أرادت فتسمى عند استعمال النفس إياها بواسطة الوهم بالمتخيلة وعند استعمالها إياها بواسطة القوة العقلية بالمفكرة بها تستنبط العلوم والصناعات وتقتنص الحدود الوسطى باستقراض ما في الحافظة.
356 تنبيه لا يزعجنك ما ربما قيل: كيف استعملها الوهم في الصور المحسوسة مع أنه ليس مدركا لها لا لما قيل: إن القوى الباطنة كالمرائي المتقابلة فينعكس إلى كل منها ما يرتسم في الأخرى. لأنه غير تام إذ ارتسام صور بعضها في بعض إن كان إدراكا بطل القول بأنها خمسة بل يكفي الأقل وإن لم يكن ذلك إدراكا عاد هذا الإشكال وما هو أقوى منه وهو استعمال العقل إياها في المعقولات. بل بأنه ليس بواجب أن يكون القوة التي هي آلة لتركيب الأمور مدركة لها حتى تمتنع أن يصير القوة الجسمانية آلة للوهم أو القوة العقلية في تركيب المعقولات المتعلقة بالمحسوسات أو غيرها وتفصيلها. أ لا ترى أن القوة التي في يد الإنسان قد تصير آلة لتركيب الأجسام وتركيبها وتفريقها مع أنها غير مدركة لها فكان هذه القوة يد معنوية للنفس الناطقة كما أن قوتها الإدراكية عين روحانية لها. ومعنى استعمالها المفكرة في الترتيب الفكري أنها بهذه القوة يقدم بعض ما فيه الانتقال الفكري على بعض آخر ولا استبعاد في ذلك أصلا. تذكرة استبصاري ومما يجب أن يحقق أن لكل واحدة من هذه القوى الإدراكية حاملا خاصا وموضعا خاصا. أما الحامل فهو جسم حار لطيف حادث عن لطائف الأخلاط الأربعة كما أن الأعضاء حادثة عن كثافتها على نسبة محدودة مزاجية وهو المسمى بالروح البخاري وهو البدن أولا للنفس الناطقة والبدن الكثيف قشره وغلافه كما أنه قشر للنفس لأنها تكدرت فصارت روحا نفسانيا ثم حيوانيا ثم طبيعيا فحملت القوى النفسانية والحيوانية والنباتية ومنبعها القلب الصنوبري. ومن ثم يتوزع على المواضع
357 العالية والسافلة من البدن فما يصعد منه إلى معدن الدماغ على أيدي خوادم الشرائين معتدلا بتبريده فائضا إلى الأعضاء المدركة والمحركة منبثا في جميع البدن يسمى روحا نفسانيا وما يسفل منه إلى الكبد بأيدي سفراء الأوردة الذي هو مبدأ القوى النباتية منبثا في أعماق البدن يسمى روحا طبيعيا. فالرئيس المطلق هو القلب ولو كان الدماغ غير آخذ منه بل مبدأ أول للروح كان كثير الحرارة مفتقرا إليها في التسخين والتلطيف فما كان باردا أولا اشتعل سريعا بانضمام الأفعال المسخنة من الحركات والانتقالات البدنية والفكرية. وبذلك يظهر بطلان ما زعمه أفضل الأطباء جالينوس. وبه حياة البدن من الواهب بواسطة النفس الناطقة فإن حياة هذه الروح نور النفس الإلهية المذكورة في القرآن والأخبار وإلا فهو جسم والجسم بما هو جسم ميت فحياته غير ذاتية بل عرضية منبعها النفس الحية بذاتها الآتية شرحها وتحقيقها. فهذا الروح الحيواني هو المبدأ القريب لحياة البدن فكل موضع يفيض عليه من سلطان نوره يحيا وإلا فيموت. واعتبر بالسدد فلو لا أن قوة الحس والحركة قائمة بهذا الجسم اللطيف لما كانت السدد تمنعها وقد يخدر العضو بالسدة بحيث لا يتألم بجرح وضرب وربما ينقطع الروح فيبطل الحياة منه ولو لا أنه شديد اللطافة لما نفذ في شباك العصب. ومن أخذ بعض عروقه يحس مجرى جسم لطيف حار فيه وتراجعه عنه وهو الروح وهو في العالم الصغير الإنساني بمنزلة الجرم الفلكي في العالم الكبير. والقوى الإدراكية والتحريكية التي فيه بمنزلة الملائكة السماوية وهو لغاية اعتداله يشبه الأفلاك الخالية عن الكيفيات المتضادة كما يقال إن الفاتر لا حار ولا بارد. ولا يتوهمن أنه أحرما في البدن فكيف يكون معتدلا لأن حرارته تحقق اعتداله. إذا الكلام في الاعتدال النوعي وحرارته بالقياس إلى باقي أعضاء البدن لا يناقض ما ادعيناه. وأما الموضوع المختص بكل واحدة فيما سبق ذكره والمرشد إلى اختصاص كل قوة بألة تلازمها في الخلل والفساد والهادي إلى تعدد القوى بقاء بعض دون بعض لا كثرة
358 الآثار والأفاعيل من الحيوان كما علمت. تنوير استفادى إن هذا البخار اللطيف المسمى بالروح أحد موضوعات علم الطب الطبيعي الجسماني كما أن الروح المجرد الذي هذا ظله أحد موضوعات العلم الإلهي والطب الروحاني الذي يبحث عنه الأنبياء والرسل المؤيدون بالإلهام والوحي. ولذا قيل تقريبا للأفهام إن الأنبياء ع أطباء النفوس كما أن الأطباء أنبياء الأبدان. ونقل أيضا في الحكمة العتيقة أن النبي خادم القضاء والأمر الإلهي كما أن الطبيب خادم للطبيعة ومقتضاها. فمن أحوال هاتين الروحين نشأ العلم بأحكام العالمين: الدنيا والآخرة والملك والملكوت. فالعلم علمان: علم الطب الذي هو علم الأبدان والغرض منه حفظ صحة هذا الروح الجسماني بتأييد علماء الأبدان. وعلم الإلهيات الذي هو علم الأديان من معرفة الحق الأول ورسله واليوم الآخر الذي هو مفارقة النفس عن البدن وموضوعها النفس. وهذا المعرفة إنما حصلت على التمام للأنبياء المؤيدين بالوحي والإلهام ثم لغيرهم من الأولياء والربانيين من العلماء وجميعهم من علماء الآخرة المأخوذة علومهم من ملائكة الله تعالى. وأما معرفة الروح الجسماني وعوارضه الذاتية وقواه فيمكن تحصيله بنحو آخر من تجربة أو قياس أو استقراء بخلاف الروح التي هي الأصل وهي سر من أسرار الله تعالى لا يمكن توصيف حقيقتها وماهيتها ولا رخصة في تعريفها وتحديدها إلا بأن يقال هو أمر رباني كما قال الله تعالى: قل الروح من أمر ربي. والأمور الربانية لا يحتمل العقول توصيفها بل تتحير في الحكم بوجودها أكثر الخلق فلا يدرك بالقياس الفكري حقيقتها بل بنور آخر أعلى وأشرف من العقل
359 الإنساني يشرق ذلك النور في عالم آخر يسمى عند بعض العرفاء بعالم النبوة والولاية نسبته إلى العقل كنسبة العقل إلى الوهم ولا استبعاد فيه. فإن للإنسان أطوارا متعددة خلقها الله تعالى بعضها فوق بعض كما أن طور الوهم فوق طور الحس وطور العقل فوق طور الوهم وكما يدرك الصبي المحسوسات ولا يدرك المعقولات لأن ذلك طور لم يبلغه كذلك بعض البالغين إلى الكمال الحقيقي يدركون بنور الإيمان الحقيقي أشياء لا يدركها أرباب العقول المتعارفة لعدم بلوغهم إلى هذا المشرب العذب والمقام الشريف والمشرع المنيع الذي أعز من أن يكون شريعة لكل وارد بل لا يطلع عليه إلا واحد بعد واحد. قال بعض المحققين: إن لجناب الحق صدرا وفي مقدمة الصدر مجال وميدان رحب وعلى أول الميدان عتبة وهي مستقر ذلك الأمر الرباني. فمن لم يكن له على العتبة جواز استحال أن يصل إلى الميدان فكيف بالانتهاء إلى ما وراءها من المشاهدات العالية فثبت أن من لم يعرف نفسه لم يعرف ربه. وأين هذه الروح التي معرفتها مقدمة معرفة البارىء من الروح الجسمانية التي غاية معرفتها حفظ صحة البدن وأنى يصادف معرفة البارىء تعالى وملائكته وأحوال النشأة الآخرة في خزانة الأطباء ومن أين للطبيب أن يلاحظ هذه المعاني ويعتني بحفظ صحة الإيمان الحقيقي ودفع الأمراض النفسانية والأخلاق الشيطانية وأنى يجد فرصة تفضل على اشتغاله بالمراهم والمسهلات ومعالجة القروح والحميات بل المعنى المسمى عنده روحا بالإضافة إلى هذا الأمر الرباني كالكرة التي يحركها صولجان الملك بالإضافة إلى الملك. فمن عرف الروح الطبي وظن أنه أدرك ذلك الأمر الرباني أو غيرها من الربوبيات التي تتوقف عليه كان كمن رأى الكرة فظن أنه رأى الملك ولا شك أنه خطاء فاحش. فالروح الجسماني مطية تصرفات الأمر الرباني الدراك الفعال في هذا
360 العالم بإذن الله تعالى واهب النفس الناطقة التي من الله مشرقها وإلى الله مغربها فيتصرف بها في البنية البالية الفانية ما دامت قابلة لتصرفاتها فإذا انقطع قبولها لتصرفها خلت ولخراب البيت ارتحلت. جان قصد رحيل كرد گفتم كه مرو * گفتا چكنم خانه فرو مىآيد تمثيل استبصاري إن هذا الروح الطبي مثاله جرم نار السراج والقلب له كالمسرجة والدم الأسود الذي في باطن القلب له كالفتيلة وما يتغذى به من الأغذية اللطيفة كالزيت والحياة الظاهرة في أعضاء البدن بسببه كضوء السراج في جملة البيت. وكما أن السراج إذا انقطع زيته ينطفئ فسراج الروح أيضا ينطفي مهما انقطع غذاؤه. وكما أن الفتيلة قد تحترق وتصير رمادا بحيث لا يقبل الزيت فيطفي السراج مع كثرة الزيت فكذلك الدم الذي تشبث به هذا البخار في القلب قد يحترق بفضل حرارة القلب فينطفي مع وجود الغذاء فإنه لا يقبل الغذاء الذي يبقى به الروح كما لا يقبل الرماد الزيت فلا يتشبث به النارية. وكما أن السراج تارة ينطفي من داخله كما ذكر وتارة بسبب من خارج كريح عاصفة فكذلك الروح تارة ينطفي بسبب من داخل وتارة بسبب من خارج كالقتل. وكما أن انطفاء السراج هو منتهى وقت وجوده فيكون ذلك أجله الذي أجل له في أم الكتاب بإحدى الأسباب المقدرة المرتبة في القدر من فناء الزيت أو بفساد الفتيلة أو بريح عاصفة أو بإطفاء إنسان كذلك انطفاء الروح أجله المؤجل في قضاء الله تعالى وقدره بإحدى الأسباب. وكما أن السراج إذا أنطفأ أظلم البيت كله فالروح إذا انطفأ أظلم البدن كله وفارقته أنواره التي كان يستفيدها من الروح وهي الأنوار الإحساسات والقدرة والإرادات وسائر ما يجمعها معنى لفظ الحياة. وأما الموضوع المختص بكل
361 واحدة فما سبق ذكره. والمرشد إلى اختصاص كل قوة بالة تلازمها في الخلل والفساد والهادي إلى تعدد القوى بقاء بعض دون بعض لا كثرة الآثار والأفاعيل من الحيوان كما علمت. ذكر وتنبيه وقد يقال في تعيين مواضع الحواس الباطنة بطريق الحكمة والعناية: إن الحس المشترك ينبغي أن يكون في مقدم الدماغ ليكون قريبا من الحواس الظاهرة فيكون التأدي إليها سهلا والخيال خلفه لكونه خزانته وخزانة الشيء ينبغي أن تكون كذلك. ثم ينبغي أن يكون الوهم بقرب الخيال ليكون الصور الجزئية بحذاء معانيها والحافظة بعده لأنها خزانته والمتخيلة قريبة من الصور والمعاني فيمكنها الأخذ منهما بسهولة. لكن الأطباء لما كان نظرهم مقصورا على حفظ صحة القوى وإصلاح اختلالها ولم يحتاجوا إلى الفرق بين القوى وتبين أنواعها بل إلى معرفة أفعالها ومواضعها وكانت الآفات العارضة قد تتجانس اقتصروا على قوة في البطن المقدم من الدماغ سموها الحس المشترك والخيال وأخرى في البطن الأوسط سموها المتفكرة والوهم. وأخرى في البطن المؤخر سموها الحافظة والمتذكرة. وهم وإزاحة قد ظن بعض الناظرين في كتب الشيخ الرئيس أنه تردد واضطرب في أمر القوى حيث قال في الشفاء: يشبه أن يكون القوة الوهمية هي بعينها المفكرة والمتخيلة والمتذكرة وهي بعينها الحاكمة فتكون بذاتها حاكمة وبحركتها وأفعالها متخيلة ومتذكرة. فتكون
362 مفكرة بما يعمل في الصور والمعاني. ومتذكرة بما ينتهي إليه فعلها. وإن له ترددا أيضا في أن الحافظة مع المتذكرة أعني المسترجعة لما غاب عن الحفظ من مخزونات الوهم قوتان أو قوة واحدة وذلك من بعض الظن. أما الأول فلأن مراده من تلك العبارة المنقولة أن المبدأ الذي ينسب إليه التخيل والتفكر والحفظ والتذكر هو الوهم ولذلك جعله رئيسا حاكما في الحيوان. والقوى الحيوانية خدامه وأعوانه كما أن مبدأ الجميع في الإنسان شيء واحد وهو الناطقة والقوى جنوده ورعاياه. وفي هذا سر آخر لوحنا إليه فيما مر. وهو أن كل عال من القوى المرتبة يحمل على سافلها والسافل مما يتقوم بالعالي. وبرهانه مسطور في كتابنا الكبير في الحكمة الخاصة. فالناطق لها نحو من الاتحاد بقواها البدنية لا ينافي تقدسها عنها باعتبار وجودها التجردي الذي هو غيب غيوبها. فمن شبهها من غير تنزيه فعمى بصره اليمنى عن إدراكها فما عرفها حق معرفتها. ومن جردها من غير تشبيه فنظر إليها بالعين العوراء فما رعاها حق رعايتها. والكامل المحقق والبصير المدقق من لا يهمل أحد الجانبين ولا يتعطل عن إدراك مجموع النشأتين ويعرف سر العالمين ومجمع البحرين ومرآة الإقليمين. وأما الثاني فالكلام الذي حملهم على إسناد ذلك الظن القبيح بمثله ما قاله في كتاب القانون بهذه العبارة: وهاهنا موضع نظر فلسفي في أنه هل القوى الحافظة والمتذكرة والمسترجعة لما غاب عن الحفظ من مخزونات الوهم قوة واحدة أم قوتان ولكن ليس ذلك مما يلزم الطبيب. ولا يخفى على أحد أن ما ذكره لا يدل على أنه شاك في أمر الحافظة والذاكرة بل
363 أحال بيانها إلى نظر الفلسفة الغير المناسب لكتاب الطب. وفي سائر كتبه الحكمية التي رأيناها حكم على أن الذاكرة هي الحافظة ولكن باعتبار آخر. وذهب الحكيم الطوسي إلى أن الذكرة ليست من القوى البسيطة بل قوة مركبة من قوتين كما أن فعلها تركيب من فعلين لأن الذكر عبارة عن ملاحظة المحفوظ وذلك لا يتم إلا بإدراك ثان مبدؤه الوهم وحفظ مبدؤه الحافظة. والمسترجعة أيضا مبدأ فعل يتركب من ثلاثة أفعال: الحفظ وملاحظة المحفوظ بالقوتين المذكورتين وطلب تلك الملاحظة بالقوة الفكرية. فعلى أي تقدير لا يوجب ازدياد القوى الباطنة عما كانت كما توهمه الإمام الرازي حيث قال: حفظ المعاني مغاير لاسترجاعها بعد زوالها. فإن وجب أن ينسب كل فعل إلى قوة وجب أن يكون القوى ستا. فصل في تكون الإنسان وقوى نفسه قد علمت علما برهانيا أن الواجب تعالى وجود مقدس وخير محض بريء عن أنحاء النقص والأعدام والملكات. وعلمت أن فيضه الأولى وفعله الإبداعي يجب أن يكون جوهرا روحانيا مدركا للأشياء بل الوجود مطلقا فيضه وفعله والعلم والقدرة وسائر الصفات الكمالية من خواص الوجود بما هو وجود ما لم يلحقه ضد ويصادفه مفسد مناف له. فكل وجود متبرئ عن التضاد والتزاحم فهو عالم بذاته وبما يقارن ذاته كالعقول والنفوس الفلكية العالمة بذاتها وبلوازمها وآثارها وأجرامها التي هي مواضع الشعورات ومظاهر الأمثال والأشباح الخيالية. وأما الأجسام العنصرية فلاشتمالها على التضاد والتفاسد واستحالة ذاتها وتجدد وجوداتها يوما فيوما لم يكن لها وجود إلا وجودا مستحيلا داثرا عادما للعلم والإدراك
364 آئسا عن رحمة الله تعالى وقبول الفيض الإلهي الذي ذكرناه لتفاسدها وبعدها عن التوافق والاعتدال لضيق وعائها الوجودي وخسة نشأتها المخصوصة. ألا ترى الأجسام أول ما تمازجت وتصالحت قواها المتضادة بسبب الكسر والانكسار والفعل والانفعال استعدت لقبول أثر من الفيض الإلهي ولمعة من النور الوجودي وهو الصور المعدنية الحافظة للعناصر من التضاد والتفارق والتهارب وسائر ما يظهر منها من بعض اللمعان والصفا والتلألؤ كما في الدرر واليواقيت وما فيه زبرج نوري. ثم إذا تركبت تركيبا أقوى في التوسط وأوغل في الاعتدال فاض عليها ما يظهر به منها بعض آثار الحياة من التغذية والتنمية والتوليد وهكذا تراها متوغلة في نقض التضاد وهدم الخلاف إلى أن يصل إلى درجة الحيوان فيصدر منها كثير من آثار الروح والعقل إما بأن يكون صورها الحيوانية ونفوسها الحاسة بمنزلة الآلات لأفاعيل النطقية صادرة عنها بإلهام بعض الملائكة الروحانيين أو يكون نفوسها بأعيانها جواهر روحانية بالذات كما ذهب إليه الأقدمون. فإذا بلغت إلى غاية التوسط من الأطراف المتضادة فاعتدلت أو قربت حدا من الاعتدال الرافع للتضاد الذي هو بمنزلة الخالي عن الأضداد كالسبع الشداد وما فيها استعدت لقبول الفيض الذي أكمل مما يمكن قبوله وقبلت من التأثير الإلهي ما قبلته الأجرام العلوية والعرش الأعظم الذي ترفع إليه الأيدي في الدعاء لصفاء جوهره أقصى غاية الصفاء وتهيئه لقبول الفيض عن المبدإ الأعلى أتم تهيؤ لاعتداله الذاتي وبعده عن التضاد أقصى بعد. قال الشيخ الرئيس: لو لا ذلك في جوهر الفلك لما صلح على لسان أكثر الأمم أن الله تعالى على السماء. وبالجملة إن العناصر إذا امتزجت امتزاجا قريبا من الاعتدال جدا وسلكت طريقا إلى الكمال أكثر مما سلكه الكائن النباتي والحيواني وقطعت من القوس العروجى أكثر اختصت بالنفس الناطقة المستخدمة لجميع القوى النباتية والحيوانية وهي كمال أول لجسم طبيعي إلى جهة ما تدرك الأمور الكلية والمجردات وتفعل الأفعال الفكرية. فلها باعتبار ما يخصها من القبول عما فوقها والفعل فيما دونها قوتان: قوة عالمة وقوة
365 عاملة فبالأولى تدرك التصورات والتصديقات وتسمى بالعقل النظري والقوة النظرية وبالثانية تستنبط الصناعات الإنسانية وتعتقد القبيح والجميل فيما تفعل وتترك كما أن بالنظرية تعتقد الحق والباطل فيما تعقل وتدرك وتسمى بالعقل العملي والقوة العملية وهي التي تستعمل الفكر والروية في الصنائع المختارة للخير أو ما يظن خيرا في العمل. ولها الجربزة والغباوة والتوسط بينهما يسمى بالحكمة العملية التي هي من الأخلاق لا من العلوم النظرية أو العملية اللتين كلما كانتا أكثر وأشد كان أفضل. وهذه القوة خادمة للنظرية مستعينة بها في كثير من الأمور ويكون الرأي الكلي عند النظري والرأي الجزئي المعد نحو المعمول عند العملي. فصل في خواص الإنسان اعلم أن الإنسان لاشتماله على نفس مجردة له خواص لا توجد في غيره من الحيوانات. وأول ذلك النطق الظاهري وذلك لاحتياجه في معيشته وتمدنه إلى اللباس والغذاء الحاصلين له بنوع من التعاون والمعاملة والمعاوضة والمشاركة. لأنه حيث خلق لمعرفة الرب تعالى والسفر إلى دار الآخرة يحتاج إلى استعمال قوى إدراكية موضعها جسم لطيف لين سريع التغير والانفعال سهل القبول للكيفيات والأشكال أزيد من أبدان غيره من الحيوانات فلا محالة لا يكفي إهابه وجلده للتوقي من الحر والبرد الحاصلين فيما يحويه من طبقة الهواء فلم يكن لباسه طبيعيا. وكذلك البدن الذي هو موضوع لنفسه حيث يكون في غاية الاعتدال. ويكون كل واحد من نفسه وبدنه مستدرجا في البلوغ إلى الغاية محوجا إلى البقاء الدنيوي مدة ما. ولتحلل البدن دائما يفتقر إلى ورود بدل من الغذاء فلم يتغذ من أي جسم كان إذا الغذاء يجب أن يكون مزاجه قريبا من مزاج المغتذي حتى يمكن أن يصير بعد تصرف
366 الغاذية شبيها بالمغتذى بل غذاء موافق له وذلك مما يندر وجوده في الطبيعة فلم يكن غذاؤه طبيعيا بل يحتاج في أن يحصل وجوده إلى صنعة ما ولم يكن وجود هذه الصنعة المحصلة للغذاء الموافق للإنسان بصانع واحد لأن هذه الصنعة متضمنة بصنائع كثيرة بآلات مختلفة. وكل واحدة من هذه الصنائع قلما يحصل بإلهام أو وحي بل لا يستحفظ وجودها البقائي إلا بتعليم وتعلم وإن كان وجودها الحدوثي بنحو الإلهام أو الوحي أو الحدس. والتعاون أيضا إنما يتحقق بمعاوضات مفتقرة إلى طلب ونهي ووعد ووعيد وترغيب وتخويف وتعجيل وتأجيل وغيرها من إعلان مكنونات الضمائر وإعلام مستورات البواطن. فلهذه الأسباب ولغيرها آكد وأرجح منها احتياج الإنسان للاقتدار على أن يعلم غيره من المتشاركين في التعيش ونظام التمدن ما في نفسه بعلامة وضعية. ولا يصلح لذلك شيء أخف من الصوت أو الإشارة والأول أولى لأنه مع خفته مئونة لوجود النفس الضروري المتشعب بالتقاطيع إلى حروف مهيأة بالتأليف لهيئات تركيبية غير محصورة بلا تجشم تحريكات كثيرة كما في الإشارة لا يختص إشعاره للقريب والحاضر بل يشتمل هدايته لهما ولغيرهما من البعيد والغائب. ويشتمل أيضا الصور والمعاني والمحسوسات والمعقولات. ومن خواصه أيضا التعجب وهو انفعال يحصل عقيب الإدراك لأمر نادر يتبعه الضحك. ومنها الزجر وهو انفعال نفساني يتبع الإدراك للأشياء المؤلمة والموذية ويتبعه البكاء. ومنها الخجلة وهي انفعال نفساني يتبع شعوره بشعور غيره بأنه فعل شيئا من الأشياء التي قد أجمع على أنه لا ينبغي أن يفعلها. ومنها الخوف والرجاء بحسب المستقبل. وفي غيره من الحيوانات يوجدان بحسب الآن وما يتصل بالآن ولا يكون فيما يبعد من الآن إلا بضرب من الإلهام كالذي يفعله النملة في نقل الحبوبات بالسرعة إلى حجرها منذرة لمطر يكون. وهذه الخواص بعضها للبدن بسبب كونه ذات نفس وبعضها للنفس بسبب كونها ذات بدن. وأخص الخواص بالإنسان تصور المعاني العقلية المجردة عن المادة كل
367 التجريد والتوصل إلى معرفة المجهولات تصورا وتصديقا من المعلومات العقلية. واعلم أن للإنسان تصرفا في أمور جزئية وتصرفا في أمور كلية. والثاني فيه اعتقاد فقط من غير أن يصير سببا لفعل دون فعل إلا بضم آراء جزئية. فللإنسان إذن قوتان: قوة تختص بالآراء الكلية والاعتقادات وقوة تختص بالرؤية في الأمور الجزئية مما ينبغي أن يفعل ويترك من المنفعة والمضرة ومما هو جميل وقبيح ومما هو خير وشر. ويكون حصوله تابعا لضرب من القياس والتفكر غايته أن يوقع رأيا في أمر جزئي مستقبل من الممكنات إذ الأمور الضرورية والمستحيلة لا يروى فيها ليوجد أو ليعدم. وما مضى فقد فات والروية عبث. وإذا حصل الرأي الجزئي يتبع حكم القوة المروية قوة أخروي في أفعالها التحريكية أولاها القوة الشوقية الغائية المسماة بالباعثة والأخرى القوة الفاعلية المسماة بالمحركة. كل هذه يستمد في الابتداء من القوة المتصرفة في الكليات بإعطاء القوانين كبريات القياس فيما يروى كما يستمد من التي بعدها صغريات القياس والنتيجة الجزئية. فللنفس في ذاتها قوتان: نظرية وعملية وتلك للصدق والكذب. وهذه للخير والشر في الجزئيات. وتلك للواجب والممكن والممتنع وهذه للجميل والقبيح والمباح. ولكل من القوتين شدة وضعف في فعلها ورأي وظن في عقلها. والعقل العملي يحتاج في أفعاله كلها دائما إلى القوى البدنية. وأما العقل النظري فله حاجة ما إليها لا دائما بل قد يكفي لذاتها كما في النشأة الأخروية سواء كان في طبقة الكروبيين من المقربين أو يكون في صنف المتوسطين وأصحاب اليمين فإن أنهار الجنة وأشجارها وحورها وقصورها وسائر الأشباح الأخروية إنما تنبعث من ذات النفس وشهواتها وتصوراتها كما في قوله تعالى: فيها ما تشتهيه الأنفس و تلذ الأعين كما سنبينه عن قريب في كيفية الحشر الجسماني إن شاء الله. فجوهر النفس مستعد لأن يستكمل نوعا من الاستكمال بذاتها وبما هو فوق ذاته
368 بالعقل النظري ومستعد لأن يتحرز من الآفات ويتصرف فيما دونها بالعقل العملي. ولكل منهما مراتب استعداد وكمال وحركة إلى الكمال. فالأول يسمى من كل منهما عقلا هيولانيا والغاية عقلا بالفعل والأوسط عقلا بالملكة كما سنشرحه. والأوسط في الأول المقدمات الأولية وفي الثاني الآراء المشهورة وهيئات أخرى. فصل في مراتب القوة النظرية وهي أربعة الأولى ما يكون للنفس بحسب الفطرة وهو تهيؤها بحسب ذاتها لدرك المعاني المعقولة حين خلوها عن جميع المعقولات البديهية والنظرية. وذلك التهيؤ هو العقل الهيولاني والعقل بالقوة تشبيها للنفس بالهيولى الجسمية الخالية في ذاتها عن الصور المحسوسة مع قبولها للمحسوسات كلها. فكذلك للنفس هيولى لا صورة لها ولكن تقبل كل صورة معقولة. وكما أن هيولى الأجسام ما دامت مصورة بصورة خاصة لا تقبل غيرها كذلك العقل بالقوة لو كان لها صورة مخصوصة لما صلح لأن يقبل غيرها كاللوح المكتوب ولكنه استعداد محض. وليس لقائل أن يقول إن علم النفس بذاتها وبقواها القريبة منها التي هي جنودها فطري كما سبق ذكره فكيف تكون النفس في مبدأ فطرتها قوة محضة لأنا نقول: لا منافاة بين هذا الكلام وبين المذكور بعد التعمق فإن نحو العلم لما كان تابعا لنحو الوجود بل عينه فالوجود المفارقي الذي لا يتقوم وجوده من أمور غريبة عن ماهيته نحو وجوده بعينه نحو علمه بذاته. فكل ما كان وجوده قويا كان علمه بذاته أيضا شديدا. وكل ما كان وجوده ضعيفا أو بالقوة كان علمه بذاته أيضا كذلك. والنفس الإنسانية في أول نشأتها لا استقلال لها في الوجود فإنها وإن كانت جوهرية
369 الوجود ولكن جوهريتها في أول الكون جوهرية شبيهة بالأعراض بل هي أضعف من الأعراض لأنها قوة محضة فغلمها بذاتها قوة العلم بالذات. وكلما كانت القوة العاقلة أشد كانت معقولاتها أشد وكلما كانت أضعف كانت معقولاتها أضعف. وكما أن النفس ما دامت حاسة كانت مدركاتها محسوسات وما دامت متوهمة أو متخيلة كانت مدركاتها موهومات ومتخيلات وما دامت قوتها العاقلة متعلقة بالبدن منفعلة عن آثاره وغواشيه كانت معقولاتها أيضا معقولات بالقوة كمعنى الإنسانية والحيوانية وأمثالهما التي لا تنفك في وجودها الخارجي عن الأعراض الجسمانية مع إمكان تجردها في اعتبار الذهن وجواز وجودها نحوا آخر من الوجود كما في المثل الأفلاطونية كما أن العاقلة قبل أن تصير عقلا بالفعل هي مخالطة بالمادة البدنية والقوى الجسمانية في الوجود مع حيثية تجردها عنها. فاستعد لوجود مفارقي لا يعتريها فيه التعلق بالمواد وذلك يحصل بعد أن يتعلق بالعقول الفعالة كما كانت متعلقة من قبل بالقوى المنفعلة بتأييد رباني وهداية إلهية ورياضة عملية وسلوك جهة أخروية. وبالجملة حال العاقل والمعقول في جميع المراتب والمواطن واحد فمعقول النفس ما دام يكون بالقوة كانت النفس بالقوة فعلمها أيضا بذاتها قوة علم أي لا علم لكن من شأنه أن يصير علما بعد ما خرج النفس من القوة إلى الفعل وكذلك علمها بقواها في أول فطرتها ومبدأ كونها. فصل في بيان أن العقل الهيولاني عالم عقلي بالقوة وكيفية تعقله المعقولات المحضة والمحسوسات التي هي معقولات بالقوة وما به يخرج من القوة إلى الفعل وهو المسمى بالحكمة والسبب المخرج إياه إلى الفعل وهو العقل الفعال. وأنه العقل المنفعل فيصير أولا عقلا بالملكة ثم عقلا بالفعل ثم عقلا مستفادا فاعلا للمعقولات وقابلا لها على نحو علم المبادئ على ما علمت من كون معقولاتها لوازم ذاتها. وقبل الخوض في بيان هذه المعاني يجب أن يعلم أن الصورة في كل شيء أمر
370 محصل موجود بالفعل والمادة في كل شيء أمر مبهم لا تحصل له ولا فعلية باعتبار أنه قوة شيء ما مثلا مادة السرير وإن صدقت على قطع الخشب لكن لا من حيث لها حقيقة الخشبية وصورتها المحصلة لها فإنها من تلك الحيثية حقيقة من الحقائق وليست مادة بل ماديتها باعتبار صلوحها واستعدادها لأن يكون سريرا أو بابا أو كرسيا. أما تعصيها وامتناعها عن قبول أشياء أخر غير السرير بعد اتصافها به فليس لجهة قوتها واستعدادها بل لأجل فعليتها واقترانها بهيئة مخصوصة بمنعها عن التلبس بأضداد تلك الهيئة. فالحقيقة الخشبية لها جهة نقص وجهة كمال فمن جهة نقصها يستدعي كمالا آخر. إذ ليس هذا الكمال خيرا محضا لا يتصور فوقه كمال. ومن جهة كونها كمالا يمتنع عن كمال آخر غيرها. ومن هاتين الجهتين ينتظم كون السرير ذا مادة وصورة. وكذا نقول مادة الخشب هي العناصر لا من حيث كونها أرضا أو ماء أو غيرهما بل من حيث بالامتزاج لأن يصير نوعا من الأنواع الجمادية والنباتية والحيوانية وغيرها من الأشياء المخصوصة دون غيرها لأجل العلة التي ذكرناها وصورتها الخشبية وهكذا إلى أن ينتهي إلى مادة لا مادة لها ولا فعلية إلا كونها جوهرا مستعدا لأن يصير عين كل شيء بلا تخصص في ذاتها لواحد واحد لعدم كونها إلا قابلا محضا وقوة صرفة وإلا يلزم التسلسل أو الدور كما يظهر مما بينا فهي مادة المواد وهيولى الهيوليات. عقد لوحي وحل عرشي ولعلك تقول: إذا كان كل هيولى أولى قوة محضة وإمكانا صرفا وإبهاما محضا فما الفارق بين الهيوليات فإنهم ذهبوا إلى أن لكل واحد من صور الأفلاك الكلية هيولى خاصة سوى العناصر ثم ما الفرق بين العقل الهيولاني القابل للصور العقلية وبين الهيولى للصور المحسوسة وبحسب ذاتيهما مع قطع النظر عما يحل فيهما والحال أن كل واحدة من حيث هيوليتها فاقة محضة واستعداد بحت. فاستمع ما يتلى عليك وتلطف في سرك وتأمل فيما يرد عليك:
371 أما بيان الفرق الذي طلبت أولا: فنقول: الفرق بين الهيوليات إنما كان بعللها فإن تحصلاتها إنما هي بالعلل القريبة منها كالعقول المفارقة الفعالة بانضمام الصور الحالة الشريكة معها في إفادة المواد فإن لكل هيولى صورة مقومة لها شريكة لفاعلها مقدمة عليها في الوجود وإن تأخرت عنها في توابع الوجود من أمارات تشخص الصورة ولوازمه كالكم والكيف والوضع وغيرها. فكل هيولى تحصلت بصورتها وجودا وهيئة فامتازت عن هيولى أخرى بصورتها وفاعلها ومع قطع النظر عن اعتبار الصورة واعتبار فاعلها الموقع للربط بينها وبين صورتها فلا تحصل لها أصلا ولا وجود لها منفردة عن كافة الصور ليكون موجودا بلا تعين وتحصل. نعم لو كانت الهيولى موضوعة للصور على نحو تتقوم بنفسها لا من جهة الحال كالجسم بالقياس إلى الأعراض القائمة به المتأخرة عنه لكان الإشكال واردا غير مندفع ولم يكن فرق ذاتي بين هيولى وهيولى وليس كذلك. ولذا حكموا بأن ما بالفعل دائما متقدم على ما بالقوة ولا يمكن وجود شيء بمجرد قوته واستعداده ما لم يتحصل بما يتقوم به حتى يكون كالمعلول من غير علة والإمكان من غير وجوب. فإن كل معلول وجوده بالقياس إلى وجود علته وزانه هذا الوزان أي حال المادة بالنسبة إلى الصورة إذ المعلول حاله عند نفسه القوة والفاقة والإبهام وبالقياس إلى مفيض وجوده الفعلية والوجوب والتحصل. وهاهنا سر عظيم فإن كانت حال الهيولى في نفسها هي القوة والإبهام وبحسب علتها القريبة التنوع والتحصل فلك أن تقول بحسب جلي النظر أن تحصل الشيء بالفاعل القريب تحصل بأمر خارج عن ذاته ولكن يجب أن تتفطن بأن فاعل الشيء بمنزلة ذات الشيء بل هو أقرب منها إلى ذاته. فالتحصل بالفاعل ليس تحصلا بأمر عارضي خارج عن قوام الشيء
372 فإن رجعت وقلت إذا كان محصل الهيولى أمرا داخلا في قوامها فكيف يكون الهيولى قوة محضة وإبهاما صرفا قلت لا شك عندنا في أن الهيولى ليست أمرا مباينا في الوجود لعلته القريبة من الصورة وغيرها بحسب نفس الأمر إذ لا وجود لها استقلاليا بل الوجود إنما يكون بالذات للصورة والهيولى منها بمنزلة الظل من ذي الظل والظل أمر عدمي في الخارج إلا أن للعقل أن يتصورها شيئا آخر غير الصورة يكون ماهيتها في نفسها قوة شيء واستعداد أمر حادث كما يتصور الظل معنى آخر غير الضوء ماهيتها عدم النور ونقصانه. والحاصل أن نسبة الهيولى إلى الصورة نسبة النقص من حيث هو نقص إلى التمام والقصور من حيث هو قصور مقيس إلى الكمال. وقصورات الأشياء المختلفة في الكمالات النوعية في الشرف والفضيلة من حيث إنها قصورات متحدة المعنى لأنها عدمية والعدميات لا امتياز لها في أنفسها. ومن حيث إن كلا منها مقيس إلى كمال خاص منسوب إلى فضيلة خاصة غير ما يقاس إليها غيره كانت مختلفة الماهية لكل منها نوعية أخرى وتحصل آخر غير ما لغيره. فعلى هذا كلا القولين حق وصواب أي القول بوحدة الهيوليات نوعا والقول باختلافها وتعددها نوعا. وأما فيما ذكرته ثانيا فهو أن النفس الإنسانية قد أشرنا بطريق التجوز إلى أنها مجمع البحرين وليس من دأبنا إيراد الكلمات الشعرية والموعظة الخطابية مجردة عن البراهين إذ لا اعتداد بغير البرهان أو الكشف والكشف التام أيضا لا يمكن الوصول إليه في العقليات الصرفة إلا من طريق البرهان والحدس لكن بإعانة من الرياضات الشرعية والحكمية والمجاهدات العلمية والعملية. فمعنى كونها مجمع البحرين أن ذاتها في مبدأ الفطرة نهاية عالم الجسمانيات في الشرف وغايتها في الكمال وبداية عالم العقليات في السفر إلى المعبود الحق والتدرج في الوصول إليه من حال إلى حال. فهي صورة الصور في هذا العالم ومادة المواد في عالم آخر فيكون حدا جامعا وبرزخا وحاجزا بين البحرين الجسمانيات والروحانيات منه البداية وإليه الانتهاء من وجهين. فإن نظرت إلى ذاتها في هذا العالم فوجدتها
373 مبدأ القوى الجسمانية ومستخدم الآلات الإحساسية والتحريكية التي بها يمكن الوصول إلى كل كمال جسماني ويكون سائر الصور الكمالية والجمادية والنباتية والحيوانية من آثارها ولوازمها في هذا العالم. وكل صورة فهي جهة فعل ومبدأ أثر وغاية حركة والصورة الإنسانية يترتب عليها ما يترتب على جميع الصور وإليها ينتهي حركات الأجسام في الاستعدادات وانتقالاتها إلى الكمالات فهي صورة الصور وغاية الغايات ونهاية النهايات والكمالات في عالم الأجسام. وإذا نظرت إليها بحسب وجود العالم العقلي وجدتها قوة صرفة لا رتبة لها عند سكان ذلك العالم ونسبتها إلى الوجود نسبة البذر إلى الأثمار فإن البذر بذر بالفعل وثمرة بالقوة. فحينئذ امتياز العقل الهيولاني عن سائر الهيوليات ليس لكونه هيولا وقوة بل لكونه صورة جسمية وهي ليست كذلك باعتبار ذاتها. فبعد تمهيد ما قدمناه نقول: إن العقل الهيولاني عالم عقلي بالقوة من شأنه أن يكون فيه ماهية كل موجود وصورته من غير تأب وامتناع من قبله فإن عسر عليه شيء فإما لأنه في نفسه ممتنع الوجود أو لأنه ضعيف الوجود شبيه بالعدم كالهيولى والحركة والزمان والعدد واللانهاية. وإما لأنه شديد الوجود قوي الظهور فيغلب عليه ويقهره فيفعل به ما يفعل الضوء الشديد بعين الخفاش. وذلك مثل القيوم تعالى ومجاوريه من الإنيات العقلية فإن تعلق النفس الإنسانية بالمواد يورثها ضعفا وتعوقا عن إدراك هذه الأنوار الباهرات جدا فلا شك أنها إذا تجردت ونقضت عن جناحها علوق هذه الأرضيات وصقلت حدقتها من هذه الغبارات فطارت إلى العالم العقلي واتصلت بأجنحة الكروبيين طالعتها حق المطالعة واتحدت بها وبالصور العقلية للأشياء كما اتحدت الآن بالبدن وقواه الجسمية فإذا تركت هذه القيود والقشرة يبتهج بصحبة العقول العشرة وإذا
374 استكمل تشبيها بالعالم العقلي الذي هو صورة الكل عند الباري تعالى صارت قابلة لصورة الكل كما أن البارىء فاعل لها وذلك باتصالها بالعالم العقلي والكروبيين من الملائكة الذين هم أنوار وأشعة لجلاله تعالى بسبب فنائها عن ذاتها وعدم التفاتها بالأكوان إلا من جهة كونها رشحات لفيضه وجوده وتأكد علوقها بمبدأ صور الأشياء وتحيرها وهيمانها في عظمة خالق الأرض والسماء باندكاك جبل إنيتها فيرى بنور ربه الأعلى كل شيء صادرا عنه فأيضا من لدنه. ولا ينظر إلى شيء من الأشياء نظرا استقلاليا يكون المنظور إليه في ذلك الشيء غير ذات الحق بل يراه كأنه ظل وشبه لا استقلال له في الحصول والكون. فإن شئت يا حبيبي أن تصل إلى كعبة المقصود فانحر تقربا إليه حيوانيتك وأزل عنك وجودك وأمط أذى هويتك عن طريق الحق وهو أول درجات الإسلام الحقيقي كما أشير إليه في الحديث النبوي بقوله عليه وآله الصلاة والسلام: المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه. فإن طريق الحق لا يتحمل ثقلك فضلا عن أثقالك وأوزارك وجودك ذنب لا يقاس به ذنب فإن المانع عن ظهور الحق لك وجودك وإنك ينازعك في شهودك الحق هويتك وإنك قد علمت أن تلبس القوة الاستعدادية بكل صورة ناقصة يمنعها عن التلبس بالصور الكاملة. فالقوة الهيولانية الإنسانية كلما خلعت عنها صورة ناقصة تلبست بما هو أشرف منها وهكذا حال الإنسان من بدء الوجود إلى هذه المرتبة التي فيه كلما خلعت عن ذاته صورة تلبست بالأخرى وما لم يمت عن مرتبة أدنى لم يحصل لها درجة أخرى فوقها بل كان كل فساد منه يلزمه كون بإزائه وكل موت يخرج به عن نشأة تهيأ منه لحياة يدخل بها في نشأة أخرى أعلى منها إلى أن تبلغ إلى هذه الحالة فإذن ما لم يحصل لها قطع التعلق من جميع الصور الإمكانية وترك الالتفات إلى القيود النقصانية لم يتصور لها درجة المقربين والانخراط في سلك المهيمنين الفانين في عشق جمال الحق الأول بحيث لا يلتفتون إلى ذواتهم الكاملة بالحق الأول من حيث هي ذواتهم فضلا عن الالتفات بما دونهم.
375 فقد ثبت أن العقل الهيولاني بالقوة عالم عقلي من شأنه أن يتصور بهيئة الكل ويتشبه بمبدأ الكل فيه جميع المعقولات على نحو القبول كما يحصل جميع المعقولات عن الحق الأول على النحو الفعلي. وهذا الحصول الانفعالي له قد يتحد بالحصول الفعلي للأول تعالى لاضمحلاله عن ذاته وانهدام بناء إنيته الموهوم واندكاك جبل هويته المتخيلة. ولما كان كل ما يخرج من القوة إلى الفعل يخرج بسبب مخرج له إلى ذلك الفعل ومحال أن يحدث فيه كمال عما ليس له ذلك الكمال وينتقش صورة في شمعة عما ليس له تلك الصورة ويفيد شيء كمالا فوق الذي له فيجب أن يخرج هذه القوة الهيولانية إلى الفعل بشيء يكون هو عقلا وعاقلا بالفعل إما بجميع ما هو كذلك وإما بالأقرب في المرتبة وهو العقل الفعال على قياس ما مر من نسبة الفعل إلى ما يقرب إليه في سلسلة الوجود. وإن كان المؤثر الحقيقي واحدا حقيقيا وموجودا استقلاليا غنيا. وكل من الحق الأول والعقول المفارقة فعال لكن الأقرب إلينا فعال بالقياس إلينا وهو المسمى بروح القدس في لسان الشرع وهو المعلم الشديد القوى المؤيد بإلقاء الوحي على الأنبياء ع وهو الذي إذا اتصلنا به أيدنا وكتب في قلوبنا الإيمان والعلوم الحقة. وإذا أعرضنا عنه بالتوجه إلى مشاغل الدنيا انمحت النقوش عن النفوس. فنفوسنا كمرآة صيقلية إذا أقبلت إليها فقبلت وإذا أعرضت عنها فتحلت. وهذه التغير للنفس على حسب استعداداتها وأفكارها لا يتغير من قبل المفارق لبراءته عنه. ومعنى كونه فعالا أنه بالفعل من كل جهة من غير شائبة قوة بحسب الوجود لا أن فيه شيئا ما هو قابل للصور المعقولة وشيئا هو كمال وصورة بل ذاته صورة عقلية قائمة بنفسها. فذاته صورة نفسه وكمالها لا صورة غيرها كالمادة فلا محل لإمكانه لأنه محض الفعلية. فإمكانه مجرد اعتبار عقلي لا حظ له من الثبوت إلا في الذهن. فالجواهر المفارقة أنوار عقلية لا ظلام لها وصباحات ضوئية لا ليل لها إلا ما صار مختفيا تحت سطوع النور الأول بحيث يمتنع خروجه من كتم الخفاء لأنه تعالى قهار
376 للعدم وألبسهم بالوجود والتحصل جبار للقوة والإمكان بالفعل والتكميل. وقد علمت الفرق بين ما يكون في الواقع وبين ما يكون في مرتبة ذهنية من الواقع وكل عقل ومعقول لا يكون فيه شوب قوة واقعية فهو عاقل لذاته لأن ذاتها إحدى الموجودات الصورية بلا مخالطة غواش مادية وعوارض ظلمانية ساترة لوجهها حتى يحتاج في معقوليتها إلى عمل عامل وإلى تعرية معر وتجريد إياها. فيكون عقلا بالقوة ولا يكون وجودها العقلاني حاصلا بالفعل وقد فرضناه كذلك. فلا يفارق كون الشيء معقولا بالفعل كونه عاقلا بالفعل ولا كونه هذا الموجود كونه هذا المعقول لأن نحو وجوده الخارجي نحو معقوليته وعاقليته بخلاف وجوداتنا فيفترق نحو وجودنا النفسي عن نحو وجودنا العقلي والمعقول. فإن النفس حين كونها عقلا بالقوة وإن كانت صورة حسية لكنه مادة عقلية وليست صورة عقلية فافترق هذا الوجود عن ذلك العقل فيكون وجود النفس في أول الأمر غير وجود العقل إلا أنها عقل بالقوة. فهذا أحد معاني كون الجواهر المفارق عقلا فعالا. والمعنى الآخر أنه يفيد العقل لأنفسنا بأن أخرجها من القوة إلى الفعل وصيرها عقلا بعد ما لم يكن كذلك. وهذا يفيد لأنفسنا نورا عقليا به تصير عقلا وعاقلا بالفعل بعد ما كانت عقلا عاقلا بالقوة. وبه يصير ما في الخيال من رسوم المحسوسات معقولات بالفعل بعد ما كانت معقولات بالقوة لكونها صورا محفوفة بالغواشي المادية حالته ومنزلته بالقياس إلى نفوسنا في إفادة النور الذي يقذف منه فيها حال الشمس ومنزلتها بالقياس إلى أبصارنا في إفادة الضوء الذي به يصير مبصرة بالفعل بعد ما كانت مبصرة بالقوة وتصير الألوان التي تحاذيها مبصرة بالفعل بعد ما كانت مبصرة بالقوة. إذ كما أن البصر هيئة وصورة بالفعل مكملة لمادة لمسية ليست صورة مكملة لمادة مرئية لكون
377 مادتها غير قابلة للرؤية وهي مع ذلك ملموسة وليست في ذاتها كفاية في أن تصير مبصرة بالفعل ولا في جواهر الألوان كفاية في أن تصير مرئية بالفعل إلا بصورة كمالية أخرى تتصل بها من الشمس فالشمس تعطي البصر ضوءا وتعطي الألوان ضوءا فبذلك الضوء يصير مبصرا بالفعل وتصير الألوان مبصرة بالفعل. فكذلك العقل بالفعل يفيد العقل الهيولاني والصورة الهيولانية المخزونة في الخيال نورا وعقلا منزلته من العقل الهيولاني منزلة الضوء من البصر. وكما أن البصر بالضوء نفسه يبصر ذلك الضوء ويدرك المفيد لذلك الضوء أي الشمس ويبصر الأشياء التي هي بالقوة مبصرة فيصير بالفعل مبصرة كذلك العقل الهيولاني يعقل النور العقلي الذي صار ذاته به عقلا بالفعل بنفس ذلك النور العقلي وبه أيضا يعقل العقل بالفعل الذي هو سبب فيضانه عليه وبه يعقل الأشياء التي كانت معقولة بالقوة. وفي هذا سر عظيم لا رخصة في بيانه. فإذا حصل في القوة الناطقة هذا الشيء الذي منزلته منها منزلة ضوء الشمس من البصر وهو الشعاع العقلي فأول ما يحدث فيها من رسوم المحسوسات التي هي محفوظة في القوة المتخيلة ومعقولات بالقوة هي المعقولات الأول التي اشتركت فيه جميع الناس لحصول بعضها بلا تجربة ولا قياس واستقراء مثل أن الكل أعظم من الجزء والمقادير المتساوية لشيء واحد متساوية. وبعضها بتجربة سهل الحصول مثل أن كل أرض ثقيلة. وهذه الصور إذا حصلت للإنسان يحدث له بالطبع تأمل وروية فيها وتشوق إلى الاستنباطات ونزوع إلى بعض ما لا عقله أولا وتشوق إليه. فحصول هذه المعقولات الأول هو عقل بالملكة لأنه كمال أول للقوة العاقلة من
378 حيث هي بالقوة. كما أن الحركة إلى الشيء والشوق إليه كمال أول لما بالقوة وهو المتحرك. والمشتاق من حيث هو كذلك يؤدي إلى كمال ثان لها من تلك الحيثية وهو كمال أول لها بالفعل من حيث هو كذلك. كما أن الوصول إلى منتهى الحركة والمشتاق إليه كمال أول لما بالفعل من حيث كذلك في الأينية والكمية والكيفية والوضعية من الكمالات الجسمانية التي تحصل لها بالقوة بحسبها فتصير بالفعل في شيء منها ويتكمل به. وأما ذلك الكمال العقلي فهو السعادة الحقيقية التي يصير بها الإنسان حيا بالفعل غير محتاج في قوامها العقلي إلى مادة. وذلك لصيرورته في جملة الأشياء البريئة عن المواد والإمكانات باقيا أبد الآبدين. وإنما يبلغ إلى تلك المرتبة بأفعال إرادية بعضها فكرية وبعضها بدنية. أما الفكري فبأن يحصل النفس بالعقل بالملكة الحدود الوسطى وتستعمل القياسات والتعاريف وخصوصا البراهين اليقينية والحدود الحقيقية ويتوصل إلى اقتناص العلوم النظرية والاستكمال بها بالطلب والسير الحثيث. وهذا فعله الإرادي في هذا الباب. وأما فيضان النور العقلي وحصول الاعتقاد والقبول وطمأنينة النفس بعد قيام القياس البرهاني والحد التام فيكون بلا إرادة واختيار من الإنسان بل بتأييد من نور الحق الأول الذي به ينور السماوات والأرض وما فيهما من العقول والنفوس وسائر المدارك الجزئية. فيكون حينئذ حال العلوم الاكتسابية حال أوائل العلوم الحاصلة على سبيل اللزوم بلا حجة.
379 وكما أن في الفطريات لو سأل سائل لم كان هكذا لم يكن جواب كذلك هاهنا إذا سأل لم كان القياس الصحيح أو الحد الصحيح يوجب علما لم يكن جواب بل المبدأ الإيجابي في جميع ذلك هو المبدأ الأعلى بتوسط بعض الملائكة الذين ليس فيهم شوب قوة وإمكان فلا لمية لفعلها خارجة عنها. وذلك لأن الأفكار البرهانية والحدسية هي المعدات فبعد أن يحصل ملكة الاتصال بالمفارق والوصول إلى المعاني العقلية والواردات القلبية يكون وجودها عبثا بل مخلا لأنها أعراض والعرض لا يوجد شيئا وكم من شخص إنساني عرض له مقدمات ما أفادته علما وأفادت غيره علما يقينيا وطمأنينة روحانية فهذه معدات والواهب غيرها. وظهر من هذا أن العقل الهيولاني إذا صار عقلا بالفعل لم يكن معقولات الإنسان يحصل بسبب المقدمات الذهنية بل من جهة المبادي العقلية. فالشاهد له في العقائد الحقة ذات الله تعالى وذات الملائكة المقدسين الذين هم روابط فيضه كما في قوله تعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو و الملائكة و أولوا العلم قائما بالقسط. وهذا معنى بعض العارفين حيث قال: عرفت ربي بربي ولو لا ربي ما عرفت شيئا. وقول الجنيد حين سئل بم عرفت ربك فقال بواردة ترد على القلب فتعجز النفس عن تكذيبها. وأما الأفعال البدنية فما يحصل منها الأخلاق الجميلة وما يؤدي إلى السعادة الحقيقية ويجنب عن الرذائل القبيحة وما يوجب الشقاوة السرمدية والتعوق عن الخير والكمال الحقيقي الأخروي باستعمال النواميس الشرعية والآداب الدينية من الفرائض والنوافل بحسب جانب الفعل وجانب الترك التي احتوت على جميعها الملة البيضاء المحمدية على الصادع بها وآله أزكى الصلاة والسلام وأطهر التحية على أجل مرتبة وأعظم درجة.
380 فمراتب النفس بحسب هذا الاستكمال منحصرة في نفس الكمال وهو العقل بالفعل وفي استعداده قريبا كان كالعقل بالملكة أو بعيدا كالعقل الهيولاني. فإذا حصلت للنفس المعقولات المكتسبة صارت من جهة تحصيلها إياها وإن كانت غير قائمة بذاتها بالفعل عقلا بالفعل لأن له أن يعقل متى شاء من غير أن يستأنف طلبا وذلك لتكرر مشاهداتها للنظريات مرة بعد أخرى وتكرر رجوعها إلى المبدإ الواهب واتصالها به كرة بعد أولى فحصلت لها ملكة الرجوع إليه والاتصال به وصارت معقولاتها مخزونة فيه. وإذا اعتبرت مشاهدة النفس لتلك المعقولات متصلة بالمبدأ الفعال سميت عقلا مستفادا لاستفادتها لها من الخارج أي من العقل الفعال. والإنسان من هذه الجهة هو كمال عالم العود وصورته كما أن العقل الفعال غاية عالم البدء وكماله فإن الغاية القصوى في إيجاد هذا العالم الكوني الحسي وتمامه وكماله إنما هي خلقة الإنسان وغاية وجود الإنسان أن يحصل له مرتبة العقل المستفاد أي مشاهدة المعقولات والاتصال بالمفارقات. وأما خلقة سائر المكونات من الحيوان والجماد والنبات فلشيئين: أحدهما انتفاع الإنسان بها واستخدامه لها كما في قوله تعالى في انتفاعه من الحيوان: أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون. و ذللناها لهم فمنها ركوبهم و منها يأكلون وقوله تعالى: و الأنعام خلقها لكم فيها دفء و منافع و منها تأكلون. و لكم فيها جمال حين تريحون و حين تسرحون. و تحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤف رحيم. و الخيل و البغال و الحمير لتركبوها و زينة إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى. وآيات كثيرة في كون وجود النبات لأجل الإنسان وانتفاعه منها قوله تعالى: هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب و منه شجر فيه تسيمون.
381 ينبت لكم به الزرع و الزيتون و النخيل و الأعناب و من كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون. وقوله تعالى: الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون. وقوله تعالى في حق الجماد: و تستخرجون حلية تلبسونها و ترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله و لعلكم تشكرون. وقوله تعالى: جعل لكم مما خلق ظلالا و جعل لكم من الجبال أكنانا و جعل لكم سرابيل تقيكم الحر و سرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون. وثانيهما أن خلقة سائر المكونات لأجل أن لا يهمل فضالة المواد التي قد صرف صفوها وزبدتها في تكون الإنسان. فإن الحكمة الإلهية والرحمة الرحمانية تقتضي أن لا يفوت حق من الحقوق بل يصيب كل مخلوق من السعادة قدرا يليق به ويحتمله ويستعد له. فالغرض الأصلي من العالم العائد خلقة الإنسان وقد خلق من فضالته سائر الأكوان. والغرض من الإنسان درجة العقل المستفاد الذي هو معرفة الله تعالى والانخراط في سلك المهيمنين والعبودية الذاتية التي هي الفناء في الحق الأول و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون. تنبيه اعلم أن هذه المراتب تعتبر بالقياس إلى كل نظري فيختلف الحال إذ قد يكون بالقياس إلى بعض النظريات في مرتبة العقل الهيولاني وفي بعضها عقلا بالملكة وفي بعضها عقلا بالفعل وفي بعضها عقلا مستفادا. فإن وحدة النفس طور آخر من
382 الوحدة. فكلما لا يتأبى عن الاتصال بأشياء متخالفة الحقائق بأن يكون مع كل منها بحسبه ففي مرتبة عقل وفي وهم وفي مرتبة خيال وفي مرتبة حس. وكل قوة دراكة فهي من جنس مدركه كما بين في مقاومه ففي مرتبة الوهم يكون موهوما وفي مرتبة الخيال يكون متخيلا وفي مرتبة الحس يكون محسوسا. فكذلك لا يمتنع أن يتصل بشيء من وجه ولا يتصل به من وجه آخر فإن ذاتها بمنزلة مرآة كبرى كل قوس منها صارت مصقلة جاذب بها منظر الحق الذي يكون فيه كل كمال وزينة فوقعت فيها صورة مناسبة لها يخرج بحسبها ما بالقوة من الصور والكمالات. والاعتداد في كل من هذه الاتصالات والانعكاسات بما استقرت النفس عليه في آخر الأمر والعبرة بما هو الغالب عليها والصائر ملكة لها. وبه يجري الحكم عليها في النشأة الآخرة فإن حصلت لها في الدنيا ملكة الاتصال بالأمور الدنياوية فما لها إلى الجحيم على حسب دركاتها وإن حصلت لها في الدنيا ملكة الاتصال بالخيرات والعقليات فما لها إلى النعيم على حسب درجاتها. فصل في مراتب القوة العملية اعلم أن مراتب القوة العلمية أيضا بحسب الاستكمال أربع: الأولى تهذيب الظاهر باستعمال النواميس الإلهية والشرائع والأحكام من القيام والصيام والصدقات والقرابين والأعياد والجماعات وغيرها. الثانية تهذيب القلب وتطهير الباطن عن الملكات الردية والأخلاق الدنية.
383 الثالثة تحلي النفس الناطقة بالصور القدسية. الرابعة فناء النفس عن ذاتها وقصر النظر على ملاحظة الرب الأول وكبريائه وملكوته وهو نهاية سفره إلى الله تعالى. وبعد هذه المراتب لها مراتب ومنازل كثيرة ليست أقل مما سلكها من قبل ولكن يجب إيثار الاختصار فيما لا يدرك إلا بالمشاهدة. والاختصار لقصور التعبير عن بيان ما لا يفهم إلا بالشهود والحضور فإن للنفس بعد السفر إلى الله تعالى ووصوله إلى منتهى هذا السفر أسفارا أخرى بعضها في الحق وبعضها في الخلق لكن بقوة الحق ونوره كما كان سلوكه قبل ذلك بقوة القوى ونور المشاعر والمدارك وإن كان هو أيضا بهداية الحق وتأييده وتسديده ولكن الفرق بين القبيلتين مما لا يحصى. وكيفية سفره الأول وترقيها من مرتبة النقص إلى ذروة الكمال هو أن الإنسان أول أول ما يلد من امتزاج المواد وحصول التعديل المزاجي وحدوث البدن المخلوق من النطفة الكائنة من الطين المخمر بيد القدرة في أربعين صباحا والعجين الصلصال والمسنون الذي قد مرت على طينته دهور وسنون بعد ما لم يكن شيئا مذكورا فهو كباقي الحيوانات والديدان لا يعرف إلا الأكل والشرب ثم بالتدريج يظهر له باقي صفات النفس من الشهوة والغضب والحرص والحسد والبخل وغير ذلك من الهيئات والصفات التي هي نتائج الاحتجاب والبعد من معدن الوجود والصفات الكمالية فهو بالحقيقة في هذه الحالة حيوان منتصب القامة لا غير يصدر منه الأفاعيل المختلفة والحركات المنوعة إلى غير جهة الحق والصعود إلى عالم الملكوت. كل ذلك بحسب الأغراض النفسانية والدواعي الحيوانية من الشهوية والغضبية فهو في الحجب الظلمانية الساترة للحق سبحانه. ثم إذا تيقظ من سنة الغفلة وتنبه عن نوم الجهل وعرف أنه في الحقيقة شغله خدمة كلب الغضب وطاعة خنزير الشهوة وعلم أن ما وراء هذه اللذة البهيمية لذات أخر كمالية وفوق هذه المرتبة مراتب أخرى كمالية يتوب عن اشتغاله بهذه الأفاعيل الخسيسة واقترافه السيئات الشرعية والعقلية من الجهل وطاعة النفس وافتراقه عن
384 الحسنات الدينية والحكمية من المعرفة والزهد وينيب إلى الله تعالى بالتوجه إليه والسلوك نحوه فيشرع ترك الفضول الدنياوية طلبا للكمالات الأخروية ويعزم عزما تاما ويتوجه إلى السلوك إلى الله تعالى من مقام نفسه فيهاجر مقامها ويقع في الغربة. ثم إذا دخل في الطريق يزهد عن كل ما يعوقه ويتقي عن كل خاطر يرد في قلبه ويجعله مائلا إلى غير الحق فيتصف بالورع والتقوى والزهد الحقيقي. ثم يحاسب نفسه دائما في أفعاله وأقواله ويجعلها متهمة في كل ما يؤمر به وإن كانت أمرته بالعبادة لأن النفس مجبولة بمحبة الشهوات فلا ينبغي أن يؤمن من تداخلها فإنها من المظاهر الشيطانية. فإذا خلص منها وصفا وقته وطاب عيشه بالالتذاذ بما يجده في طريق المحبوب يتنور باطنه فيظهر له لوامع أنوار الغيب وينفتح له باب الملكوت ويلوح منه لوائح مرة بعد أخرى فيشاهد أمورا غيبية في صور مثالية. فإذا ذاق شيئا منها يرغب في العزلة والخلوة والذكر والمواظبة على الطهارة التامة والعبادة والمراقبة والمحاسبة ويعرض عن المشاغل الحسية كلها ويفرق القلب عن محبتها فيوجه باطنه إلى الله الحق بالكلية فيظهر له الوجد والسكر والوله والشوق والهيمان فيمحوه تارة بعد أخرى فيجعله فانيا عن نفسه غافلا عنها فيشاهد الحقائق السرية والأنوار الغيبية فيتحقق في المشاهدة والمعاينة والمكاشفة. ويظهر له حقائق عقلية وأنوار حقيقية وتختفي أخرى حتى يتمكن ويتخلص من التلوين وينزل عليه السكينة الروحية والطمأنينة الإلهية ويصير ورود هذه البوارق والأحوال له ملكة فيدخل في عالم الجبروت ويشاهد العقول المجردة والأنوار القاهرة والمدبرات الكلية من الملائكة المقربين والمهيمين في
385 جلال الله تعالى من الكروبيين ويتحقق بأنوارهم فيظهر له أنوار سلطان الأحدية وسواطع العظمة والكبرياء الإلهية فيجعله هباء منثورا ويندك عند جمال الله تعالى جبل إنيته فيخر لله خرورا ويتلاشى تعينه في التعين الذاتي ويضمحل وجوده في الوجود الإلهي. وهذا مقام الفناء والمحو وهو نهاية السفر الأول للسالكين. فإن بقي في الفناء والمحو ولم يجئ إلى البقاء والصحو صار مستقرا في عين الجمع محجوبا بالخلق عن الحق لضيق وعائه الوجودي واستغراقه وفنائه من البدن وقواه فكذلك في هذه الحالة ما زاغ بصره عن مشاهدة جماله وجلاله وسبحات وجهه وذاته فاضمحلت الكثرة في شهوده واحتجب التفصيل عن وجوده وذلك هو الفوز العظيم. وفوق ذلك مرتبة أخرى يرجع فيها إلى الصحو بعد المحو ونظر إلى التفصيل في عين الجمع ووسع صدره الحق والخلق وإليه أشير في قوله تعالى حكاية عن مرتبة الرسول النذير المنذر: ألم نشرح لك صدرك. و وضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك فإن أعباء الرسالة التي هي سفره من الحق إلى الخلق كانت على النبي ص في أوائل الحال ثقيلا ولم يكن صدره واسعا للطرفين وذلك لاستغراقه في مشاهدة جماله ومعاينة عظمته وكماله واشتغاله بالله عن غيره إلى أن صار جامعا بين الحق والخلق بحيث لم يكن أفعاله حجابا عن صفاته ولا الصفات عن ذاته بل كان مشاهدا لله تعالى في كل ما يسمع ويرى وملاحظا لوجهه في كل ما يظهر ويخفى. فهو في هذه الحالة أهش بعباد الله لكونه مبتهجا بالحق وبكل شيء لأنه يشاهد الحق فيه فهو بالحق يرى كل شيء ويسمع ويذوق ويشم ويجد طعم الحق ورائحة الطيبة في كل شيء لا على وجه يوجب الكثرة والتجسم تعالى عما يقول الظالمون الملحدون علوا كبيرا.
386 قال المحقق الطوسي في شرح مقامات العارفين ودرجاتهم: العارف إذا انقطع عن نفسه واتصل بالحق رأى كل قدرة مستغرقة في قدرته المتعلقة بجميع المقدورات وكل علم مستغرقا في علمه الذي لا يعزب عنه شيء من الموجودات وكل إرادة مستغرقة في إرادته التي لا يأبى عليها شيء من الممكنات بل كل وجود وكل كمال وجود فهو صادر عنه فائض من لدنه. فصار الحق حينئذ بصره الذي يبصر به وسمعه الذي يسمع به وقدرته التي بها يفعل وعلمه الذي به يعلم ووجوده الذي به يوجد فصار العارف حينئذ متخلقا بأخلاق الله تعالى بالحقيقة. هذه ألفاظه (هذه عبارته خ ل). بحث وتحقيق قد نوقش في هذا التفريع وترتبه على ما سبق ثم بان صيرورة صفاته تعالى صفات العبد مع أنه غير لازم مما ذكره مخالف للشرع والعقل. فإن صيرورة صفات الحق التي هي عين ذاته بالحقيقة صفات العبد مستلزم لكون الواجب صفة للممكن وهو مستحيل. ولك أن تفك هذه العقد بأن السمع والبصر وغيرهما من آلات النفس إنما حقيقة كل منها قوة غير محسوسة يكون بينها وبين النفس المستعمل إياها نوع علاقة علية ومعلولية لأنها من فروع النفس كما أن الملائكة من فروع قدرة الله تعالى وعلمه. وهذه العلاقة مصححة لأن يقال للنفس إنها سميع وبصير وقادر فالنفس الناطقة مع تجردها ومباينتها للبدن غاية المباينة لكونها جوهرا مجردا نوريا وكونه جرما كثيفا ظلمانيا قد صارت متخلقة بأخلاقه متصفة بصفاته من كونه سميعا بصيرا مشتهيا
387 متحركا ساكنا حتى يصلح لها أن تقول مشيرة إلى ذاتها وجوهرها أنا سمعت وأبصرت واشتهيت وتحركت وسكنت بحسب الحقيقة اللغوية لا بالتجوز من غير لزوم تجسم وتكثف يعتريها بحسب ذاتها النقية الطاهرة من حيث هي هي من الأرجاس والأدناس والأقذار البدنية والجسمية وذلك لأجل علاقة طبيعية حاصلة بين النفس والبدن بحيث تحصل منهما نوع وحداني له حد حقيقي مركب من الجنس المأخوذ من البدن والفصل المأخوذ من النفس وهما جزءان محمولان باعتبار ما وهو أخذهما مطلقا لا بشرط على ذات واحدة. ولتحقق هذه العلاقة الاتحادية يشير النفس إلى البدن بأنا كما يشير إلى ذاتها حتى أن أكثر الناس نسوا أنفسهم وظنوا أن هوياتهم هي البدن. وهذه العلاقة ضعيفة بالإضافة إلى العلاقة التي هي بين الفاعل الحقيقي ومجعوله لأن تلك العلاقة ستنقطع بالموت الطبيعي أو الإرادي. فإذا كان حال النفس معها هذه الحالة من الاتصاف بصفات البدن حقيقة لا مجازا مع أن صفات البدن ليست عن البدن فما ظنك بنفس تجردت بالكلية عن البدن وعن التعلق بغير الله تعالى واتصلت بالحق اتصالا معنويا لاهوتيا وقصرت النظر إلى ملاحظة الحق الأول وآثار قدرته وعلمه وإرادته وسمعه وبصره وفنت عن ذاتها وعن الالتفات إلى ذاتها إلا بوجه كونها أشعة وأضواء للنور القيومي فلا محالة يكون لها علاقة شديدة وارتباط متأكد يصحح أن يشير إلى مبدئها الحقيقي وجاعلها التام إشارة روحانية بأنا حين اضمحلال ذاتها وخرورها عند اندكاك جبل إنيتها وإلى صفاته الحقيقية التي هي عين ذاته تعالى من السمع والبصر والقدرة وغيرها بأنها سمعي وبصري وقدرتي فبه تعالى تبصر الأشياء وبه يسمع وبه يقدر كما وقع في الحديث القدسي: ما تقرب العبد إلي بشيء أفضل مما افترضت عليه ولا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي به
388 يسمع وبصره الذي به يبصر ويده التي بها يبطش ورجله التي بها يمشي فقد تحقق لها حينئذ التخلق بأخلاق الله تعالى بالحقيقة لا بمعنى صيرورة صفاته التي هي عين ذاته أعراضا قائمة بذات النفس بل بمعنى علاقة أخرى شديدة أتم من علاقة النفس مع البدن وصفاته الكونية الهيولانية. وتمام الاطلاع على هذا المقام يحتاج إلى سلوك طريقة الأبرار لا الاقتصار على مجرد الأبحاث والأنظار. فصل في أن القوة التي هي محل المعقولات من الإنسان ليست جسمانية قد علمت أن تعقل الشيء هو وجود ماهية مجردة عن التخصصات والأوضاع والأغشية واللواحق للقوة المدركة سواء كانت مجردة عنها بحسب ذاته في نفسه أو تجريد الغير إياه. وعلى أي حال لا يجوز أن يكون قوة جسمية أي قائمة في مادة تدرك صورة عقلية. فإن كل قوة يكون ذاتها جسمانية تكون أفعالها وانفعالاتها أيضا جسمانية. فالصور التي يدركها القوة الجسمانية تكون حاصلة في مادة تلك القوة وكل صورة حصلت في مادة جسمية تكون متخصصة بوضع وجهة وكم وكيف فلم يكن كلية مطلقة محمولة على أعداد كثيرة متخالفة الأوضاع والأحوال فتكون محسوسة لا معقولة هذا خلف. وأيضا كل ما يحل فيه المعقولات المطلقة من الأنواع والأجناس كالإنسانية المعقولة والحيوانية المعقولة لو انقسم لزم بانقسامه انقسام تلك المعقولات وإذا نفرض في المعنى المعقول شيء غير شيء فإما أن يتشابه الشيئان كما في القسمة المقدارية أو لا يتشابهان فإن يتشابها لزم أن يكون اثنينيتهما وتخالفهما ومخالفة كل
389 منهما للكل بحسب المقدار لأن كون الجزءين المتشابهين في الحقيقة إنما يكون في القسمة المقدارية لا في غيرها من التقسيمات. وإذن ليس الكل مقدرا ولا متقدرا لكونه معقولا وكل معقول غير متكمم وإلا لم يصدق على المختلفات تشخصا ومقدارا فلم يكن له جزء متشابه في المعنى والماهية. والحاصل أن المعنى المعقول لو انقسم إلى جزءين متشابهين لكان الجزء مفارقا للكل بالمقدار فيكون للكل مقدار وهذا محال لتجرده فالمفروض وهو انقسامه بانقسام المحل يكون محالا. ويلزم أيضا أن لا يكون هذا المعقول معقولا مرة واحدة بل مراتب غير متناهية بالقوة حسب قبول الجسم انقسامات غير متناهية كذلك والتالي باطل كاذب فالمقدم مثله. وإن لم يكن الشيئان متشابهين كما في الانقسام بالقسمة المعنوية يكون أحدهما قائما مقام الفصل من الصورة التامة والآخر قائما مقام الجنس منها لأن أجزاء المعنى والماهية يكون متخالفة المعنى على هذا الوجه ولكن القسمة لم يجب أن يكون على جهة واحدة وعلى حد واحد بل يمكن على جهات وحدود مختلفة. فإذا انقسم محل ذلك المعنى المعقول قسمة ثانية انقسم المعنى الحال بانقسامه قسمة أخرى فلا يخلو إما أن يكون هذه القسمة بدلا عن القسمة الأولى أو لم يكن كذلك بل يكون قسمة لكل من القسمين فإن كان الثاني فيكون لكل من الفصل والجنس فصلا وجنسا وهكذا نفرض القسمة الثالثة والرابعة والخامسة إلى غير النهاية فيكون لكل فصل فصل ولكل جنس جنس فيذهب مقومات المقومات إلى غير النهاية فيحصل سلاسل غير متناهية طولية وعرضية وهذا مبرهن الاستحالة لجريان التطبيق والتضايف والحيثيات وغيرها من براهين إبطال لا تناهي في المرتبات المجتمعة ولامتناع تعقل الشيء الموقوف تعقله على ما لا يتناهى سيما إذا كان مرتبا وليست القسمة إلى المقومات كالقسمة الكمية فإن الجزء الكمي لا يكون وجودها إلا بالقوة بمعنى كون مادة الواحد مهيأة للمتعدد من
390 نوعه بأسباب موجبة لحصول التعدد كالآلة المسماة بالقاطع لا أن لها حظا من الوجود بالفعل. وأما جزء الماهية فلا يجوز أن يكون في الماهية بالقوة نعم لها اتحاد مع الماهية في نحو من الوجود بخارج الذهن. كيف والماهية لا يصير بالفعل إلا بأن يصير أجزاؤها بالفعل وإن كانت القسمة الأخرى بدل القسمة التي فرضناها أولا وهكذا نفرض قسمة ثالثة بدل القسمين الأولين وهكذا رابعة وخامسة فيكون لمعنى واحد حدي أجناس وفصول مختلفة قريبة أو غير قريبة متكافئة أي كلها في درجة واحدة وهذا محال إذ قد بين امتناع وجود جنسين أو فصلين في درجة واحدة لنوع واحد فضلا عن الغير المتناهي. على أن وجود المقومات الغير المتناهية لشيء واحد مما حكم على امتناعه على أي وجه كان كما مر وقد لزم من هذا الفرض. وأيضا ليس اختصاص الجنس في كل قسمة بموضع أولى من اختصاص الفصل به. تنبيه إجمالي إجمال هذه الحجة هو أن المعنى المعقول لو انقسم بانقسام حامله إلى المتشابهات يلزم كونه محسوسا لا معقولا. فإن انقسم إلى المختلفات يلزم أن يتقوم من مقومات غير متناهية مجتمعة مرتبة وفي الشقين يستثنى نقيض التالي لنقيض المقدم. إشكال وانحلال اعترض بعض تلامذة الشيخ الرئيس على هذه الحجة بأنها ينتقض بتعلق الوجود والوحدة والإضافة وسائر اللوازم بالمواد الجسمانية فإنه يجب أن ينقسم بانقسامها إن كانت حالة ومحال أن ينقسم الوحدة والإضافة والوجود وإن لم يكن حالة في
391 المواد لكانت جواهر بل عقولا مفارقة وهو مستحيل لأن تلك الأمور أعراض قائمة بالمواد لاتصافها بها والعرض لا يكون جوهرا. وأجاب عنه الشيخ في المباحثات بأن هذه المعاني ليست من المعقولات المختصة بالوجوب بل بالإمكان والوجود المادي ينقسم وكذا الوحدة المادية ينقسم والوجود المطلق والوحدة المطلقة مما يمكن له الانقسام كما يمكن المعنى النوعي مثلا في الجنس. فالوجود المادي يجب أن ينقسم بانقسام المادة وكذا الوحدة المادية التي هي نفس اتصال الجسم ومتصليته يجب أن ينقسم بانقسامه على الوجه الذي يقتضيه القسمة المقدارية من بطلان الوجود والوحدة الاتصاليين بطريان الانفصال الرافع للاتصال إن كان فكيا خارجيا. وإن كان الانقسام وهميا كانت الكثرة والانفصال بالقوة لا بالفعل فموضوع الوحدة بالفعل في الماديات كثيرة بالقوة وموضوع الكثرة بالفعل واحد بالقوة كما حقق في المباحثات المتعلقة بمسألة الهيولى فالاتصال يبطل بالانفصال بالفعل ويبقى متصلا بفرض الاثنينية المشتركة في الحد الواحد فيكون واحدا فيه اثنينية وقسمة وضعية. والصور المعقولة من حيث هي معقولة ليست كذلك لا بالذات ولا بالعرض لما علمت أنها لا تنقسم قسمة وضعية مقدارية بأقسام متشابهة فلا يحل الأجسام. وأما هذه فليست معقولات الذوات بل قد يكون معقولة وقد يكون مادية محسوسة قابلة للقسمة الوضعية وقد يمنع ضربا من القسمة الوحدة الجسمانية وكذا نظائرها من الوجود والإضافة وسائر الأمور الشاملة التي قد يتجرد وقد يتجسم. بحث وتحقيق قد أورد الشيخ شهاب الدين السهروردي في المطارحات بحثا عن الجواب المذكور
392 عن النقض بوحدة الجسم بأنها نفس اتصال الجسم فيكون كثرتها بالقوة بقوله: إن وحدة الجسم إن كانت موجودة في الأعيان كان عرضا حالا فيه والعرض الثابت في الشيء لا يبطل بتوهمنا. فحينئذ نقول: هل يتحقق في كل من الأجزاء الموهومة شيء من وحدة الجسم أو كلها أو ليس في أحدها الوحدة ولا شيء منها ففي الأول يلزم كون الوحدة الخارجية ذات جزء وهمي والوحدة من حيث هي وحدة لا يتصور أن يكون لها جزء. وفي الثاني يلزم كون الجسم واحدا بوحدتين بل بوحدات غير متناهية على حسب إمكان توهم القسمة ويلزم أن يكون صفته في جزئه لا فيه. وإذا بطل القسمان فليس للوحدة في الأعيان وجود أصلا بل صفة عقلية يضاف تارة إلى ما في العين وتارة إلى ما في الذهن. انتهى كلامه. والجواب عما ذكره أنه قد حقق في مقامه أن أسناد الجزئية إلى ما يسمى بالأجزاء المقدارية للشيء على سبيل المسامحة إما من جهة تشبيه الأمرين المنفصلين الحاصلين من مادة الشيء بعد ورود الانقسام الذي هو نفس إعدام الواحد الاتصالي بجزءين لها وإما لأجل أن الجمهور لغفلتهم عن كون التفريق إعداما يحكمون بأنهما جزءين له فاستمر هذا الإطلاق عليهما بعد التحقيق والبرهان أيضا وإما لأجل أنه لو فرض بقاء ذلك المتصل عند حدوثهما لكانا جزءين له وهذا لا يختلف في شيء من الخارج والوهم. فكما أن القسمة الخارجية عبارة عن إعدام الشيء المتصل المقداري جوهرا كان أو عرضا وإحداث شيئين آخرين من نوعه كذلك القسمة الوهمية عبارة عن توهم انعدام ذلك الشيء المتصل وحدوث شيئين آخرين من نوعه. والتوهم وإن لم يوجب إبطال الوحدة بحسب الخارج لكن يوجب إبطالها بحسب الوهم. وكما أن المتصل الذي فرض فيه القسمة وهما لم يبطل وحدته في الخارج بمجرد فرض الوهم
393 قسمته كذلك لم يوجد له أجزاء في الخارج بمجرده كما أنه حدث فيه الاثنينية بحسب الوهم فكذلك بطلت وحدته بحسبه بلا تخلف. عقد وانحلال ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون نسبة المعقولات إلى العقل كنسبة الفعل إلى الفاعل لا كنسبة العرض إلى الموضع أو كنسبة الصورة إلى المادة حتى يلزم من انقسام النفس إذا كانت محلا لها انقسامها. لكنا نقول: هب أن نسبتها إلى النفس تلك النسبة وقد حققنا سابقا أن الجسم لا يفعل إلا فيما له علاقة وضعية بالقياس إليه والمعقولات من حيث معقوليتها ليست كذلك وكما أن فاعل الأجسام ومقوماتها لا يمكن أن يكون وجودها متعلقا بالأجسام كذلك مبدأ المعقولات وحقائق الأنواع الجسمية لا يمكن أن يكون جسما أو جسمانيا سواء كان مبدئيته بنحو القبول أو بنحو الفعل بل الثاني أولى وأحرى في أن يتقدس عن الجسمانية. فإن قال: فما التفصي عن حلول النقطة فإنها غير منقسمة ولها محل من الجسم فليكن حال المعقولات في النفس كحال النقطة في الجسم قلنا: إن النقطة أمر عدمي لأنها نهاية الامتدادات كما أن السطح من جهة كونه نهاية إحدى جهات الجسم عدمي وكذا الخط من جهة كونه نهاية للجهتين عدمي وهما وجوديان من جهة كونهما امتدادا وذا امتدادين والنقطة لكونها نهاية محضة
394 عدمية لا ذات لها متقررة. وأما ما ذكره بعضهم جوابا عما يقول: إن المعنى المعقول إذا لم يصح حلوله في منقسم فيحل في نقطة لئلا يلزم من انقسام المحل انقسامه من أن النقطة نهاية وليس لها طرفان ليحل المعنى المعقول في طرف ويلي الطرف الآخر منها جانب الخط. فهو في غاية السخافة لجواز قيام عرض بعرض عندهم والعرض الحامل للعرض ليس ذا طرفين ليقبل عرضا بطرف ويلاق المحل بطرف آخر وقبول الأعراض لا تعلق له بالأطراف وقسمة المحل كما يوجب قسمة الحال كذلك يوجب قسمة ما يحله رأسا برأس. ومن أراد أن يوهن حجة تجرد النفس بأخذه أمر النقطة مفروغا عنه في كونها موجودة غير منقسمة لها محل منقسم ثم يجعل الحجة منقوضة بالنقطة فليس ذلك الأمر أولى به من العكس لأن يجعل برهان تجرد النفس مفروغا عنه ثم يبطل به حلول كل أمر غير منقسم في منقسم بل العكس أولى لأن القضية الكلية أولى بأن يكون أصلا يستنبط ويتفرع منه أحكام الجزئيات بجعلها كبرى لصغرى سهلة الحصول ويتعرف منهما حال الجزئي كما في القياس من أن يجعل حال الجزئي أصلا يقاس إليه حال الطبيعة الكلية كما في التمثيل إذ لا شك أن القياس أقوى في الحجة من التمثيل. حجة أخرى قريبة المأخذ من السابقة وهي أن القوة العاقلة من الإنسان شيء ذو تجرد المعقولات من المادة وعوارضها من الكم المحدود والأين والوضع المخصوص وغيرها فكون هذه الصورة المعقولة مجردة عن هذه اللواحق إما بحسب ذاتها وإما بالقياس إلى الشيء المأخوذ منه وإما بالقياس إلى الشيء الآخذ والأول محال وإلا لاستحال أن يقربها هذه اللواحق في الوجود الخارجي لأن ما بالذات لا يختلف.
395 والثاني أيضا ظاهر البطلان لاقتران تلك الصورة بها في الخارج فبقي أن يكون تجردها عن الوضع والأين عند وجودها في العقل ويجب أن يكون في العقل غير ذات وضع وإشارة حسية وغير قابلة للتجزي وما أشبه ذلك فلم يمكن وجودها هذا الوجود في الجسم أو الجسماني. وأيضا إذا انطبعت صورة معنوية لأمر غير منقسم كالنقطة والوحدة والجنس البسيط القاصي والفصل الأخير في مادة منقسمة ذات حدود وجهات فلا يخلو إما أن لا يكون لشيء من أجزائها التي يفرض فيها بحسب انقسام المحل نسبة إلى الشيء الواحد الذات المجرد عن المواد أو يكون ذلك لكل واحد واحد من أجزائها أو يكون لبعضها دون بعض فإن لم يكن لشيء منها نسبة إليه فهو ظاهر البطلان وكذا ما يكون النسبة لبعضها فإن البعض الذي لا نسبة له إليه مما لا دخل له في معناه. وإن كان لكل جزء منها نسبة إليه فإما أن يكون تلك النسبة إلى ذات ذلك الشيء بأسرها فليست الأجزاء أجزاء لمحل معناه بل كل منها معقول في نفسه منفرد أو يكون النسبة إلى جزئها فيكون الذات منقسمة المعنى المعقول وقد وصفناها غير منقسمة في معناه ومعقولة هذا خلف. ومن هاهنا يتضح أن كل صورة ينطبع في مادة جسمانية لا يكون إلا مثالا لأمر جزئي منقسم ولكل جزء منها نسبة إلى جزء منها بالقوة أو بالفعل. تنبيه اعلم أن المعنى الحدي وإن كان متكثرا في أجزاء القوام من جهة التمام فله جهة وحدة طبيعية فلم ينقسم بحسبها فلم يحل في مادة منقسمة بالقوة أو بالفعل وإلا
396 لانقسم من جهة الوحدة أيضا. وأيضا كل معنى مركب فهو ينتهي ببسيطه إلى الغير المنقسم أصلا لامتناع تقوم معنى واحد من مقومات غير متناهية فمحل ذلك البسيط جوهر غير ذي وضع. والانتقاض بوحدة الجسم قد مر اندفاعه من: أن وحدة الجسم كوجوده ليست إلا اتصاله المنقسم بالقوة كما أن وحدة العشرة ليست إلا عشرية المنقسمة بالفعل. حجة أخرى: وهي التي عول عليها الشيخ في كتاب المباحثات وحكم بأنها أجل ما عنده في هذا الباب. ثم إن بعض تلامذته أكثر من الاعتراضات عليها وأجاب عنها وتلك الأسئلة مع أجوبتها يوجد عندي متفرقة فلنوردها مترتبة ليسهل النظر فيها على الطالبين. فنقول: إنا قد نعقل ذواتنا وكل من عقل ذاتا فله ماهية تلك الذات قلنا: إذن ماهية ذاتنا فلا يخلو إما أن يحصل لها ذاتنا بحصول صورة أخرى مساوية لذاتنا في ذاتنا أو بحصول ذاتنا لذاتنا. والأول محال لأنه يفضي إلى الجمع بين المثلين فتعين الثاني. فكل ما ذاته بذاته حاصلة لذاته كان قائما بذاته فإذن القوة العاقلة منا قائمة بنفسها وكل جسم أو جسماني غير قائم بنفسه فالقوة العاقلة ليست بجسم ولا جسماني. وإلى هذه الحجة قد أشار المعلم الأول في كتاب النفس بقوله: كل من راجع إلى ذاته فهو روحاني وهذا إجمال تفصيله ما ذكره ويرد عليه الإشكال من وجوه: الأول أنا لا نسلم أنا نعقل ذواتنا لم لا يجوز أن يكون إدراكنا لذاتنا نوعا آخر من
397 الإدراك سوى التعقل. والسند هو أن التعقل عبارة عن حصول ماهية المعقول للعاقل ولا يمكننا أن نعرف كوننا عاقلين لذواتنا إلا إذا عرفنا ذواتنا حاصلة لذاتنا فإن أمكننا أن نبين أن ما حقيقة ذواتنا من دون واسطة التعقل فما الحاجة إلى أن نقول إنا نعقل ذواتنا ونتوصل منه إلى أن لنا حقيقة ذواتنا وإن لم يمكن ذلك فحينئذ لا يمكن بيان كوننا عاقلين إلا ببيان حصول حقيقة ذواتنا لذواتنا ولا يمكن بيان ذلك إلا كوننا عاقلين لذواتنا ويلزم منه الدور. والجواب أن مطلق الإدراك كاف فيما نحن بصدده وليس يتعلق الكلام بكونه تعقلا وشعورا إذ قد ثبت أن الإدراك عبارة عن حصول ماهية المدرك. سؤال لم لا يجوز أن يكون إدراكنا لذاتنا مجرد أثر عن ذاتنا حاصل لذاتنا فنشعر بذلك الأثر من دون أن يكون حقيقة ذاتنا حاصلة لنا فعلى هذا يكون لنا حقيقة قد حصل منها أثر لنا ولا يكون الأثر نفس حقيقتنا فلا يكون قد حصل شيء واحد مرتين. جواب حصول أثر الشيء ليس هو حصول نفس الشيء وقد سبق أن الإدراك بالشيء إنما هو حصول نفس ذلك الشيء فالعلم بالشيء بالوجه يرجع إلى العلم بكنه ذلك الوجه لا بحقيقة ذلك الشيء. ثم قولك: نشعر بذلك الأثر إما أن يريد بالشعور نفس الأثر أو أمرا مغايرا للأثر تابعا له فإن كان الأول فلا معنى لقولك نشعر بذلك الأثر لأنه قول أو اسم مرادف لحصول الأثر وإن كان الثاني فلا يخلو إما أن يكون ذلك الشعور هو حصول ماهية الشيء أو حصول ماهية غيره. والثاني يوجب أن يكون الشعور هو أن يحصل ما ليس ماهية الشيء ومعناه وهذا باطل. والأول يوجب أن يكون ماهية ذاتنا محتاجة في أن يحصل لنا ماهية ذاتنا إلى ذلك الأثر فيكون ماهية ذاتنا غير موجودة إلى أن يحصلها ذلك الأثر فلا يكون الأثر أثرا
398 لها بل مكونا لها هذا خلف. وإن كانت ماهية الذات يحصل ثانيا بحال أخرى من التجريد أو بنزع بعض ما يقارنه من العوارض فيكون المعقول هو ذلك المحدد المجرد وكلامنا فيما إذا كان المعقول هو جوهر نفسنا الثابت في الحالين. الإشكال الثاني سلمنا أنا نعقل ذواتنا ولكن لا نسلم أن من عقل ذاتا فله ماهية تلك الذات وإلا لكنا إذا عقلنا السماوات والأرض والعقول وجب أن يحصل لنا حقائقها. والجواب أن الحاصل فينا من الأشياء الخارجة عنا هو ماهيتها ونوعيتها دون شخصيتها وأنحاء وجوداتها المتخالفة لما حصل عندنا في الوجود والعوارض والمعقول من حقيقتنا هو نحو هويتنا ووجودنا الغير المفارق لحقيقتنا في النوع والماهية ولا في العوارض والشخصية فيكون هو هو بالشخص كما كان هو هو بالنوع وأما المعقول من حقائق غيرنا كالعقل الفعال وما يعقل منه فهو هو في هذا المعنى والنوعية وليس هو هو في الوجود والشخصية. الإشكال الثالث سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن يحصل ذاتي في قوتي الوهمية كما أن القوة العاقلة يشعر بالوهمية فعلى هذا لا يكون القوة العاقلة مقارنة لذاتها بل للقوة الوهمية كما أنكم تقولون إن القوة الوهمية غير مقارنة لذاتها بل للقوة العاقلة. والجواب أن شعورك بهويتك ليس بشيء من قواك وإلا لم يكن المشعور بها عين الشاعر والثاني باطل فالمقدم مثله. بيان الملازمة أن ما يشعر بذاته فهو حاصل لذاته والقوة التي تدرك بها ذاتك إما أن يكون قائمة بذاتك فذاتك ثابتة لذاتك وهو المطلوب وإن لم يكن قائمة بذاتك بل بالجسم فذاتك لا تخلو إما أن يكون قائمة
399 بذلك الجسم أو لا فإن لم يكن قائمة وجب أن لا يكون هناك شعور بوجه ما بذاتك وإن قامت به فحصلت فيه ذاتك وحصلت فيه تلك القوة فلم يكن أحدهما شاعرة بالأخرى لأن شيئا منهما غير حاصلة للأخرى بل ماهية كل منهما حاصلة لما حصلت فيه ماهية الأخرى وهو ذلك الجسم فإن حصول شيء لشيء يتفرع على حصول ذلك الشيء لنفسه وكل ما يقوم بغيره فحصوله لغيره لا لنفسه حتى يحصل له شيء آخر. سؤال: لم لا يجوز أن يكون إدراكي لذاتي بحصول ذاتي في شيء نسبته إلى ذاتي كنسبة المرآة إلى البصر الجواب: الذي يتوسط المرآة في رؤيته إن سلم أنه منطبع في المرآة فيحتاج مرة ثانية إلى أن ينطبع في الحدقة فكذلك هاهنا لا بد وأن يرتسم صورة ذاتنا من تلك المرآة مرة ثانية في ذاتنا. وأيضا المبصر وإن كان شيئا من بدن الإنسان فهو خارج عن حقيقة ذاته وحقيقة قوته الباصرة فيجوز أن يتوسط المرآة بينه وبين الباصرة. وأما توسط المرآة في إدراك الذات للذات نفسها فغير ممكن. الإشكال الرابع لم لا يجوز أن يكون إدراكي لذاتي بحصول صورة أخرى في ذاتي بيانه أن حال ما أعقل نفس زيد فأعقل نفسي لأن العاقل للشيء عاقل بالقوة القربية من الفعل كونه عاقلا له وفي ضمنه كونه عاقلا لذاته. فالحاصل حينئذ في نفسي من نفسي ومن زيد لا يخلو إما أن يكون صورتين أو صورة واحدة والثاني باطل وإلا لكان أنا غيري وغيري أنا والأول هو المطلوب من كون إدراكي لذاتي بحصول صورة من ذاتي لذاتي. والجواب: إذا عقلت النفس مطلقا فقد عقلت جزء ذاتك وإذا عقلتها مضافة إليك أو إلى زيد فلا يتكرر النفس فيك مرتين بل يتعدد بالاعتبار. ولست أقول:
400 النفس مع قيد الإطلاق جزء نفسي لأن قيد الإطلاق مفهوم خارج عن حقيقة نفسي بل أعني به عدم التقييد بشيء وجوديا كان أو عدميا. الإشكال الخامس القسم الذي قد خرج من الشقين أيضا باطل بيانه أن قولنا: كذا موجود لذاته يفهم منه معنيان: أحدهما أن ذاته لا يتعلق في وجوده بغيره أو لا يحل في غيره مثل الصورة للمادة أو العرض للموضوع وهذا باطل إذ المدركية أمر ثبوتي وهذا المفهوم سلبي فلا يكون أحدهما عين الآخر. وثانيهما أن ذاته مضاف إلى ذاته وذلك محال لأن الإضافة يقتضي الاثنينية والوحدة ينافيها. لا يقال: المضاف يستدعي المضاف إليه أعم من أن يكون نفسه أو غيره ولا يلزم نفي العام من نفي الخاص لأن هذه المغالطة جارية في كون الشيء مؤثرا في نفسه فيلزم صحته فكما أن ذلك باطل فكذا هذا. والجواب: الذات شيء ومفهوم تعينها شيء آخر سواء كان ما به التعين عين الماهية كما في الواجب تعالى أو من لوازم الماهية كما في العقول الفعالة أو لا يكون كذلك كما في النوع المنتشر الأفراد. وهذا القدر من الغيرية يكفي في صحة الإضافة ولهذا صح قولك ذاتي وذاتك فنضيف ذاتك إلى ذاتك. الإشكال السادس المعارضة بإدراك سائر الحيوانات أنفسها مع أنها غير مجردة ولا تصغ إلى قول من ينكر إدراكها لذواتها لأنها طالبة للملائم وهاربة عن المنافر وليس طلبها لمطلق الملائم وإلا لطلبت كل ما هو ملائم لغيرها ولكانت أيضا مدركة لأمر كلي والبهيمة غير مدركة للكليات فإذن هي طالبة لما يلائم نفسها المخصوصة وذلك يتضمن إدراكها لنفسها إذ العلم بإضافة شيء إلى شيء يتضمن إدراك المتضايفين. والجواب: أن نفس الإنسان تدرك بذاتها ذاتها والبهائم تدرك بأوهامها ذواتها
401 مرتسمة في آلات أوهامها كما في إدراكها لسائر الأمور المدركة بالوهم لا في آلات ذواتها التي هي القلب. فذوات الحيوانات مرة في آلة وجودها التي هي القلب ومرة في آلة وهمها وهي مدركة من حيث هي في آلة الوهم. سؤال: فما البرهان على أن إدراكنا لذاتنا ليس كذلك والجواب: لأن فينا قوة مدركة للكليات المفارقة عن عوارض الشخصيات فيمكننا أن ندرك ماهية ذاتنا مجردة عن اللواحق الغريبة فإذا شعرنا بذاتنا المخلوطة بغيرنا شعرنا بامتياز ذاتنا عن الأمور المخالطة لها فيجوز أن يتمثل فينا حقيقة ذاتنا وإن كانت سائر الأمور غائبة عنا. وإدراك الحيوانات لذواتها ليس على هذا الوجه فلا بد أن يدرك ذواتها بقوة مدركة للمعاني المجردة في ذاتها المتعلقة الوجود بمادة جزئية من حيث كونها متعلقة الوجود بمادة جزئية فتدرك الحيوانات ذواتها بالوهم. أسئلة هذا التجريد والتفصيل لذاتنا عما يخالطها أمر ذهني ولا يستدعي ذلك تجردا عنها بحسب الواقع فربما كان ما عليه الوجود بخلاف ما فرضه الذهن. وأيضا ما ذكرت من الحجة غير مختصة بما إذا أدركنا ذواتنا كلية أو جزئية مخلوطة بل التحقيق أن كلما يدرك شيئا فله ذلك المدرك كليا كان أو جزئيا. فالحمار إذ أدرك ذاته المخلوطة يكون ذاته موجودة له في جميع الأحوال لا لشيء آخر كالمادة الجسمية فذاته مجردة عن المادة الجسمية وأيضا يبطل كون المدرك لذات الحمار قوة وهمية أن تلك القوة إن كانت في الحمار فذات الحمار في الحمار وإن كانت في غيره لم يكن الشاعر هو المشعور به فلم يكن الحمار مدركا لذاته وقد مر إبطاله. وأجاب الشيخ في كتاب المباحثات عن هذه الأسئلة بأمور غير مقنعة وحكم أيضا
402 في الأجوبة عن أسئلة بهمنيار بصعوبة الفرق بين الإنسان وغيره من الحيوانات في الشعور ببقاء الذات وسنسمعك في الفرق بينهما ما فيه كفاية إن شاء الله. حجة أخرى قريبة المأخذ مما قبلها وهي أن نفس الإنسان وذاته مشعور بها في جميع الأوقات حتى وقت النوم والسكر والإغماء فما من جزء من أجزاء بدنه من قلب أو دماغ أو روح بخاري إلا وهو ينساه أحيانا وأكثر الإنسان ما أدركه أو أدركه بتشريح أو تعليم من غيره وأدرك ذاته دائما. فما يدركه دائما غير ما ينساه أحيانا ولو كان جملة بدنه أو شيئا منها أو عرضا قائما بها أو بجزئها لما استمر شعوره بذاته مع نسيانها فالمشعور به في جميع الأوقات غير البدن وأحواله ولا جسم آخر وأحواله وهو ظاهر. حجة أخرى على كون محل الحكمة قوة عقلية ليس آلة جسمانية وهي أن للآلات الجسمانية في إدراكاتها الحسية علامات لا يوجد شيء منها في القوة التي يدرك الحكمة والمعارف الإلهية فيعلم أن إحداهما غير الأخرى. العلامة الأولى أن القوة الجسمانية إذا أصابت آفة لها فإما أن لا يدرك وإما أن يضعف إدراكها أو يغلط فيه. الثانية أنها لا تدرك آلتها إذ البصر لا تدرك نفسه ولا آلته. الثالثة لو كان فيها كيفية مستقرة لا تدركها حتى أن سوء المزاج إذا صار متمكنا من البدن جوهريا فيه مثل الدق لم تدركه قوة اللمس. الرابعة أنها لا تدرك نفسها فإن الوهم لو أراد أن يتوهم نفسه لم يمكنه. الخامسة أنها إذا أدركت شيئا قويا لم يمكنه إدراك الضعيف عقيبه إلا بعد زمان. ولهذا لم يسمع الصوت الضعيف عقيب الشديد لاشتغال الحس بذلك المدرك
403 القوي واشتباكه به. السادسة أنها لو هجم عليها مدرك قوي بطلت الآلة وفسدت فقد يفسد العين بقوة الشعاع والسمع بالصوت الهائل. السابعة القوى الجسمانية يضعف بعد الأربعين وذلك عند ضعف مزاج البدن وهذا كله ينعكس في القوة العقلية فإنها تدرك نفسها وتدرك إدراكها لنفسها وتدرك ما يقدر أنه آلاتها كالقلب والدماغ وتدرك الضعيف بعد القوي والخفي بعد الجلي وربما يقوى في الأربعين في الغالب. وهم وتنبيه فإن قيل: هذه القوة أيضا يقصر عن الإدراك بالمرض الذي في مزاج البدن. قلنا: تعطلها بعد تعطل آلتها لا تدل على أن لا فعل لها في نفسها بل يجوز أن يكون فساد الآلة مؤثرا فيها من وجهين: أحدهما أنها إذا فسدت اشتغلت النفس بتدبيرها فانصرفت عن جهة المعقولات. فإن النفس إذا اشتغلت بالخوف لم تدرك اللذة وإذا اشتغلت بالغضب لم تدرك الألم وإذا اشتغلت بالمعقول لم تدرك في حال الشغل به غيرها فيشغلها شيء عن شيء اللهم إلا أن يصير قدسيا في غاية القوة. فعلى هذا لا بعد في أن يشغله ضعف الآلة والحاجة إلى إصلاحها عن خاص فعلها. والثاني أن الآلة الجسمانية ربما يحتاج إليها ابتداء ليقوم له الفعل بنفسها بعده كما يحتاج من يقصد بلدة إلى دابة فإذا وصل استغنى عنها فإذا فعل واحد بغير آلة تدل على أن له فعلا في نفسه. وتعطل العقل لتعطل الآلة يحتمل هذين الشيئين فلا حجة فيه لأن ما ذكرناه في قوة قياس استثنائي تاليها متصلة كلية موجبة استثني فيه
404 نقيض التالي وهو سالبة جزئية متصلة ينتج نقيض المقدم صورتها هكذا: لو كان التعقل بآلة جسدانية لكان كلما عرضت لها آفة وكلال يعرض لها في التعقل فتور لكن ليس هذا كليا ينتج أن تعقلها ليس بآلة بدنية. وما قيل عليه ليس صحيحا لأنه استثناء لعين التالي وهو غير منتج. ومما يتبين به أن القوة العاقلة ليست منطبعة في محل كعضو ونحوه أنها لو كانت كذلك لكانت إما دائمة التعقل له إن كفى في تعقلها له مجرد صورة ذلك العضو مثلا الحاضرة له دائما أو دائمة اللاتعقل إن احتاج في التعقل إلى صورة أخرى له لتوقفه على أمر مستحيل وهو حصول صورتين من نوع واحد في مادة واحدة والموقوف على المستحيل مستحيل والتالي بقسميه باطل فالمقدم باطل فإن كل عضو قد يعقله النفس وقد يغفل عنه كذا قيل. ولي في هذا الوجه نظر يعلم مما ذكرناه في مباحث الوجود الذهني في غير هذا الكتاب. فصل في أن النفس الإنسانية جوهر روحاني قائم بذاته مستغن عن البدن في وجوده البقائي قد علمت بما سردنا عليك أن الإنسان بما هو إنسان يخالف سائر الحيوانات بقوة يخصه بها يدرك المعقولات الكلية وهو النفس الناطقة. وقد جرت عادتهم بتسمية هذه القوة عقلا هيولانيا وعقلا بالقوة والنفس الناطقة وهي موجودة في كل واحد من أفراد الإنسان طفلا كان أو بالغا مجنونا كان أو عاقلا مريضا كان أو سليما. وعلمت أيضا أن أول ما يحصل في هذه القوة من المعقولات المسماة بداية العقول والآراء العامية هي الأوليات الحاصلة لها من غير تعلم وقياس وحدس وتجربة بل على سبيل اللزوم والجبر وهي المبادي لغيرها من الثواني التي يمكن خلو بعض الإنسان عنها.
405 ثم نقول: لا يخلو إما أن يكون تلك المعاني الأول جواهر داخلة في ذات الإنسان أو أعراضا حالة فيها فإن كانت أعراضا فالعرض لا يستقيم قوامه إلا بمحل جوهري الذات يحله وإن كانت جواهر فمع كونه فاسدا إذ كل مفهوم ذهني فهي من الكيفيات النفسانية ويجوز خلو الذهن عنها فمحلها أولى بالجوهرية فالنفس إذن جوهر. وأما كونه روحانيا غير جسمانية فيدل عليه أشياء سوى ما ذكرنا منها: أنها محل المتقابلات ولو كانت جسمية لامتنع إدراكها للمتضادين وغيرهما مثل السواد والبياض والعلم والجهل بإدراك واحد معا لأن صورتي الضدين وبالجملة المتقابلين لا يحلان في جسم واحد معا والحال في النفس بخلاف الجسم فإنها مهما حلت فيها صورة أحد المتقابلين وجب ضرورة أن يحل معه فيها صورة المقابل الآخر لأن تعقل المتقابلين يكون معا لاشتمال التقابل على التضايف والمتضايفان يكونان معا في المعقولية. فثبت أن قابل المعقولات والعلوم من الإنسان جوهر مجرد وهو المطلوب. ومن شواهد العقلية في مباينة القوة العاقلة للجسم أنه لو كانت جسما لكانت الصورة العلمية إما مفقودة عنها أو تكون لها انفعالات محضة من غير فعل وتصرف إذ ليس للجسم أن يتصرف في الصورة الحالة فيها بالتقديم والتأخير والتركيب والتحليل. ومن اللطائف التي يوقع طمأنينة في تجرد النفس أن القوة البدنية يتعاون بعضها من بعض ويتقوى بعضها ببعض ولا يكون بينها ممانعة كما بين في الآراء الطبيعية من أن تأليف البدن الحيواني والإنساني حسب تأليف قواه من غير ممانعة ومخالفة فيها بل كل واحدة من الأعضاء وقواها الطبيعية والنباتية والحيوانية في حال الصحة والسلامة إما أن
406 يقوي الأخرى ويعينها على ما ينحو نحوه من خاص كماله أو يمسك عنه رأسا برأس ليحصل لها النظام في أمر حياته. والقوة الناطقة منها في واد وهي في واد أخرى لأنها مهما أرادت إلى تكميل جوهرها وتفعل فعلها الخاص من تعقل النظريات وإخلاص نية في التقرب إلى الإلهيات وامتناع عن مخالطة الشهوات ووساوس المفسدات من القوى المسخرة إياها في متابعتها ومشايعتها لم يتيسر لها ذلك إلا بمجاهدة تامة مغالبة عظيمة ليتمكن من ذلك. فثبت أن هذا الجوهر النطقي من الإنسان من عالم آخر وقع غريبا في دار الجسد بيد الفسقة والظلمة والكفرة من القوى الشهوية والغضبية والوهمية. ومن الشواهد أن كل صورة أو حالة حصلت في الجسم بسبب من الأسباب فإذا زالت عنه وبقي فارغا عنها يحتاج في حصولها ثانيا إلى استيناف السبب من غير أن يكتفي الجسم بذاته في استحصال تلك الحالة أصلا إذ فراغ الجسم القابل في الحالين بمرتبة واحدة وليس حال الجوهر الناطق في الصور العلمية الحاصلة لها هذه الحال إذ كثيرا ما يعرض له ما يزيل عنه تلك الصور ثم إذا زال العائق عادت من غير حاجة إلى السبب الحاصلة هي منه كحد أو برهان بل قد يكفي في استحضار تلك الصور بذاته. وأيضا إن العلوم كلها لا يمكن أن يجتمع في دفتر واحد جسماني وأما النفس فإنما يجتمع علوما شتى وصنائع عديدة وأخلاقا مختلفة وآراء متفاوتة لأنها دفتر روحاني لا تتراكم فيها صور المعلومات كما يتراكم في الهيولى الجسمانية صور الماديات فليس بمحال على النفس الإنسانية تزاحم الأمور عليها والصور المعلومة فيها وربما تزول عنها هذه الأسباب الكمالية لإقبالها على شيء من الأمور العاجلة الدنياوية عند مرض أو شغل قلب أو غم بعرض لها ولا تزيل عنها هذه الأمور العارضة صورها الكمالية المستحفظة في ذاتها على الإطلاق ذخرا لها في اليوم الآخر. وذلك لأجل أنها روحانية السنخ لطيفة الجوهر فهي يكون في ذاتها مخزونة بنوع قوة قريبة من الفعل بل هي موجودة فيما تعلقت به ذاتها من الجواهر القدسي والعقل الفعال الداخل في تجوهر
407 ذاتها وفعلية حقيقتها وقد خرجت به عقلا بالفعل والعائق لها عن مشاهدة الصور وظهور الكمالات ليس أمرا داخليا كما في القوابل التي لم يخرج من القوة إلى الفعل بل أمرا خارجيا احتجب به ذاتها الكاملة المستكملة عن ذاتها وهو اشتغالها بتدبير البدن وعادتها في الانجذاب إليه بحسب الفطرة الأولى دون الثانية فإذا ارتفع من حدقة إدراكها العقلي غبار البدن ووقع منها النظر إلى ذاتها وجدتها مستكملة بالمعقولات مشاهدة إياها متصلة بها متحدة معها ورأت ذواتا نورية وجمالا وحسنا وكمالا يستظلم عنده أنوار الشمسية الحسية ويستقبح لديه صور حور العين. والغرض أن تسمية هذه المرتبة من النفس بالعقل بالفعل على الحقيقة بما ذكرنا. ولهذا إذا اكتسبت صورة عقلية ثم أعرضت عنها بعائق من اشتغالها بشيء جسماني فإذا زال عنها العائق عادت مهما أرادت إلى تلك الصورة المستحفظة بنوع فعلي لا بنوع انفعالي. وأما الجسم وقواه كالحواس وغيرها فلا يمكن عليه تزاحم صور مختلفة ولا استحفاظها بوجه من الوجوه. ألا ترى أن الحواس لا يمكن أن يستحفظ في ذاتها صورة ويقبل أخرى ولا معاودتها إلى الصور وقبولها لها بنوع فعلي استكفاء بذاتها وما يتقوم به ذاتها بل بنوع انفعالي بمثل ما ينشأ منه ابتداء. ومما يشهد بكون النفس غير ذات وضع بوجه أنها يتصور المقدار اللايتناهى والعدد والزمان والهيولى المجردة عن الصورة وأمثالها من الأمور التي إذا وجدت في الجسم الواحد المتصل يجعله بحال ينافي جسميته أو وجوده أو وحدته أو حاله التي هو عليها في نفس الأمر. وأما كونه مستغنيا عن البدن في الوجود فإنما يثبت ذلك من استغنائه عن البدن في فعله فإن المستغني عن الشيء في فعله مستغن عنه في ذاته إذ الإيجاد متقوم بالوجود فإذا احتاج شيء إلى شيء في وجوده فلا بد أن يحتاج إليه في فعله إذ المحتاج إلى المحتاج إلى ذلك الشيء محتاج إلى ذلك الشيء فإذا ثبت استغناء الجوهر الناطق عن البدن في فعله ثبت استغناؤه عنه في الوجود.
408 وأما أنه غير مفتقر إلى البدن في فعله فلأنه قد صح لنا أن المعقولات المفروضة التي من شأن القوة الناطقة أن يعقل بالفعل واحدا واحدا منها غير متناهية بالقوة. وقد حقق أيضا أن الشيء الذي يقوى على أمور غير متناهية بالقوة لا يجوز أن يكون جسما أو قوة في جسم فثبت أن الذات المتصورة للمعقولات ليس بجسم وبقوة فيه. ومن ظن فعل أن المتخيلة أيضا كذلك لإمكان التخيل الغير المتناهية فقد أخطأ فإنه ليس لمتخيلة الحيوان أن يتخيل أي شيء اتفق مما لا نهاية له في أي وقت كان ما لم يقترن معها تصرف الناطقة وكذا من توهم أن النفس قابلة للصور العقلية فقط والمبرهن على امتناعه هو الفعل الغير المتناهي في الجسمانيات لا الانفعال فإن الهيولى ذات قوة قابلة غير متناهية لأن قبول النفس في كثير من أشياء لا نهاية لها قبول تعد تصرف فعلي. مما يبين ذلك أن النفس تتصرف في المعلوم وتنتقل من معلوم إلى معلوم وتستخرج النتائج من المقدمات بالتركيب والتحليل للصور التي يكون حاصلة عندها وهي وأمثالها أفعال لا انفعال والانفعال نفس حصول الصورة ولهذا ينسب هذه إلى القوة النظرية منها التي هي جهة ارتباطها إلى ما فوقها من المبادي العقلية بالتأثير وتلك إلى القوة العملية منها التي هي جهة ارتباطها إلى ما تحتها من القوة الجسمية. فصل في إقناعيات واستبصارات واعلم أن براهين تجرد النفس كثيرة مذكورة في كتب الحكماء وقد ذكرنا طرفا منها ومن أراد زيادة فليطلب من هناك. والأولى لسالك طريق الحق أن يهاجر أغراض الطبيعة وتلطف سره عن مكدرات الأجسام ليشاهد ذاته المجردة عن الأحياز والأمكنة ويتحقق لديه أنه لو لا اشتغال
409 النفس بتدبير قوى الجرمية وانفعالها عنها لكان لها اقتدار على إنشاء الأجرام العظيمة المقدار الكثيرة العدد مع هيئاتها وأحوالها البهية الحسنة من الأشخاص النورية البرزخية فضلا عن التصرف فيها بالتحريك والتدبير كما وقع لأصحاب الرياضات اللطيفة والمجاهدات العقلية المرتقين عن حضيض الأشباح إلى أوج الأرواح. وقد جربوا أمثال هذا من أنفسهم وهم بعد في هذه النشأة الدنياوية فما ظنك بنفوس كريمة شريفة إلهية عاشقة لكبرياء جلال الأول مرتقية عن تعلقات الأجرام وأعراضها متخلصة عن أهواء الطبيعة وأغراضها وأنت مع شواغلك البدنية وماربك الخسيسة الإنسية إذا فكرت في جبروت ربك الأعلى أو سمعت آية تشير إلى المعاد والمسرى انظر كيف تقشعر جلدك وتقف شعرك وتسلط نفسك على البدن وقواه وتسهل عليك رفضه وقطع هواه وذلك لأجل قليل نور قذف في قلبك وتتقوى به نور نفسك تقوى الجنس بالجنس فانفعلت منها قوى البدن والحس كما كان ينفعل هي عنهما لأجل قصورها وضعفها وقس من هذه الحالة منك حال من داوم في جميع أيام دهره أفعالا وأعمالا مقربة للقدس. وظني أن من له أدنى مرتبة في التفطن والحدس لو رجع إلى ذاته وشهد ما فعله بقوته المتخيلة في إنشاء ماهيات الأبعاد والأجرام والتصرف في الجبال الشاهقة والصحاري الواسعة والأفلاك المتحركة والساكنة والكواكب تارة بالتركيب والتفصيل وتارة بالتسكين والتحويل لتحدس يقينا أن نفسه العلامة الفعالة المتصرفة في عظائم الأجرام ليست جسما ولا جسمانيا. وأما الإقناعيات الخطابية في تجردها فهي أكثر من أن تحصى. أما الآيات فكثيرة منها قوله تعالى في حق آدم ع وأولاده: و نفخت فيه من روحي. وفي حق عيسى ع: و كلمته ألقاها إلى مريم ع وأخواتها. وهذه
410 الإضافة ينبه على شرف الجوهر الإنساني وكونه عريا عن الملابس الحسية. ومنها قوله تعالى: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم أي من أمر نفسه لكونها نورا مجردا وبدنه لكونه ذا امتزاج معتدل وحداني يشبه بالجرم السماوي. ومنها قوله تعالى: فأحسن صوركم وهو مجمل يفصل ويفسر بقوله: و لقد كرمنا بني آدم أي بما يختص به من النفس الناطقة الباقي جوهرها من الفناء والفساد المستعد للفضائل الحقيقية وحملناهم في البر أي إدراكاتهم الحسية والبحر أي بحر المعارف وإدراكات العقلية ورزقناهم من الطيبات أي من العلوم اليقينية والمقاصد الحقيقية وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا حيث زين ظاهرهم بتناسب الصور والهيئات وباطنهم باعتدال المزاج وباطن باطنهم بالقوى المحركة والمدركة التي زاد بها على الحيوانات الأرضية وباطن باطن باطنهم بالنور الإلهي والشعلة الملكوتية من عقلية النظري والعملي. وإنما خصص بكثير ممن خلقنا لأنهم لم يفضلوا على المفارقات من كل الوجوه. ومنها و أسبغ عليكم نعمه ظاهرة و باطنة فالنعم الظاهرة مدركات الحواس مطلقا لأن جميعها من عالم الشهادة والنعم الباطنة هي المدركات العقلي خاصة لأنها من عالم الغيب. وأما الأخبار فقد روي عن النبي ص أنا النذير العريان وهذا إشارة إلى تجرد النفس عن علائق الأجرام. وقال ص أيضا: من عرف نفسه فقد عرف ربه وقال ص: أعرفكم لنفسه أعرفكم لربه وقال ص: من رآني فقد رأى الحق. فلو لم يكن بينه تعالى وبين النفس من المناسبة ما لم يكن بينه وبين الأجسام لما شرط ص معرفة الرب بمعرفة النفس وتلك المناسبة هي كونها جوهرا عريا عن الأحياز والأمكنة. وتمام هذه المناسبة
411 والمضاهاة مما يحتاج بيانه إلى مجال واسع وقال ص: أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني فهذه الأحاديث مما يؤذن بشرف النفس وجلالتها وقربها من بارئها قربا بالذات والصفات والمفارقة عن علائق الأجرام وعوائق الأجسام. وقال روح الله المسيح بالنور المشرق من سرادق الملكوت على نبينا وعليه السلام: لا يصعد إلى السماء إلا من نزل منها وهذا الحديث شارح لقوله تعالى: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فإن العود والرجوع إلى الشيء لا يمكن إلا بعد المجيء منه. وقال أبو يزيد البسطامي: طلبت ذاتي في الكونين فما وجدتها أي أوجدت ذاتي في عالمي الأشباح والأجرام. وقال أيضا: انسلخت من جلدي فرأيت من أنا فسمى الهيكل جلدا وقشرا وهذا يصرح بأن النفس التي هي اللب غير الجسد الذي هو القشر. فالنفس الحية الإنسية متى لم يبلغ أهليتها إلى مقام ينسلخ عن جلدها كل يوم مثل نفس الحية الوحشية التي تنسلخ عن إهابها كل عام فليست من الحكمة في شيء. وقيل: الصوفي مع الله بلا مكان. إشارة إلى تجرد النفس عن المكان للمعية مع من لا يحويه مكان فإن ما مع غير ذي مكان لا يكون ذا مكان. وقيل: الصوفي كائن بائن . أي النفس موجودة مجردة عن المادة إلى غير ذلك من مقالات هؤلاء الأكابر المجردين عن العلائق المنزهين عن العوائق. وكلمات هؤلاء الأفاضل في قوة إفادة العلم القطعي بحقيقة النفس أشد وأسد من كثير من حجج أصحاب العقل فإنهم شاهدوا عجائب أحوال النفس وماهيتها وغرائب آثارها بذوق العيان دون مزاحمة البرهان. ولا تستحقرن يا حبيبي خطابات المتألهين ولا تظنن أنها أقل نفعا في إفادة اليقين من حجج أصحاب البحث والبراهين كيف والبرهان معد والواهب للعلم كما مر أمر سوى البرهان فلا يستبعد أن يكفي لطالب
412 الحق خطابات إقناعية لأن يهب له المبدأ الفياض علما يقينا. ظلمات وهمية وإشراقات عقلية أن ذوي الطبائع الوهمية قد استصعب عليهم الاطمينان بتجرد النفس بوجوه: منها أن ما لم يكن جسما ولا مدركا بإحدى الحواس فهو لا شيء إذ الموجود هو المحسوس لا غير. والقائلون به هم الحنابلة والكرامية وكثير من أهل الحديث والرواية من غير الدراية ولم يعلموا أن حقيقة كل شيء حتى المحسوس وما هو صرف ذاته أمر لا يدركه الحواس بل غيرها الذي هو القوة العقلية ولم يتفطنوا بأن معنى قولنا: الكل أعظم من الجزء. هو شيء غير جسم ولا جسماني. ومنها أنه يلزم أن يكون غير متصلة بالعالم ولا منفصلة عنه وما علموا أن خروج الشيء عن أمر ما وعدمه المقابل غير مستحيل إذا لم يكن المتقابلان كالإيجاب والسلب المحض من غير اشتراط قابلية المحل نوعا أو جنسا للملكة. وقد يفرق بين السلبين في اللفظ أيضا كاللاعالم والجاهل واللابصير والأعمى فالموضوع قد يخرج عن هذا السلب وملكته كالحجر ليس بعالم ولا جاهل والانفصال كذلك لأنه عدم الاتصال فيما يتصور عنه ذلك فيكون كالملكة من خواص الأجسام وإن عني به عدم الاتصال مطلقا كانت النفس منفصلة. ومنها أنها إذا لم يكن ذات جهة ووضع ومكان لزم أن يكون هي الباري وهو ما قالته الأشاعرة وأكثر المتكلمين ما سوى الطائفة الأولى وهم الذين اعترفوا بوجود موجود مجرد عن الجسمانيات لكنهم أحالوا أن يكون غير الواجب مجردا وإلا لزم الاشتراك بين الواجب والممكن فيلزم أن يكون النفس هي الباري. وهذا مندفع بأن التجرد مفهوم عدمي والشركة في أمر عدمي لا يوجب الاشتراك في الخواص والذاتيات فإن الأشياء مع اتفاقها في عرضي أو سلبي قد يختلف بتمام حقائقها كطبيعة الجنس والفصل في نوع واحد وكالسواد والطعم في جسم واحد إذ هما يمتازان لا بمحل وبمكان إذ لا مكان للعرض ولا بوضع
413 إذ
414 لا وضع لهما بالذات بل بلمحلهما وهما يتبعان له في وضعه بل يمتازان بحقيقتهما. أ لا ترى أن كثيرا من السلوب والإضافات متفقة بين الواجب وبعض الممكنات وأيضا الفارق كثير فإن آلة العالم واحد والنفوس كثيرة وهي منفعلة عن الأبدان وغيرها والباري ليس له جهة انفعالية. وما من نفس إلا ويجهل أشياء كثيرة ويعجز عن أفعال كثيرة والواهب الحق ليس كذلك. وليس الواجب تعالى بمجموع النفوس إذ قد برهن على امتناع تعدده وليست النفس في جميع الإنسان واحدة وإلا يعلم كل أحد ما علم الآخر وفعل كل ما فعله وإذ ليس التالي صادقا فليس المقدم صادقا. لا يقال: إنما أدرك البعض أو فعل لرفع عائق هو مانع للبعض الآخر أو لوجود آلة أو مزاج لم يوجد في غيره. لأنا نقول: الشيء الواحد في حالة واحدة لا يمنعه عائق عن شيء واحد بعينه وترفع عنه ذلك العائق معا فالذي عاقه العائق غير الذي ما عاقه العائق. وكذا شيء واحد لا يصلح أن يكون آليا وغير آلي بالقياس إلى فعل واحد ولما ثبت وتحقق أن النفس ليست جسمية فلا يكون لها أطراف وأجزاء يكون بعضها بصفة أو حالة ولا يكون بعضها الآخر بتلك الصفة والحالة كجسم واحد يكون بعضه مطابقا لشيء وبعضه لشيء آخر. وأيضا النفوس حادثة كما سنبرهن عليه والله قديم وبالجملة لا يلزم من عدم الامتياز في بعض الأشياء الخارجة الاتفاق في الحقيقة ولوازمها لجواز أن يكون الحقائق مختلفة. ومنها أنه إذا لم يكن مميز من مكان ووضع ومحل فلا فارق بينها وبين الواجب بالذات فالجميع واحد. وجوابه أن المميزات لا ينحصر فيما ذكر فإن الأشياء مع اتفاقها في عرض قد يختلف بتمام حقائقها كطبيعة الجنس والفصل في نوع واحد وكالسواد والطعم في جسم فهما يمتازان لا بمحل ولا بمكان إذ لا مكان للعرض والمحل واحد ولا بوضع إذ لاوضع لهما بالذات بل بمحليهما وهما تابعان له في وضعه الواحد بل يمتازان بحقيقتهما. وأما الذي ادعته أرباب المكاشفات الذوقية من وحدة الوجود المطلق وسريان حقيقة الحق في جميع الذوات والحقائق وظهورها في جميع المظاهر والمشاهد وتجليها على كل القوابل والمجالي فهو معنى آخر لا يمكن إدراكه بالأنظار البحثية والأبحاث الفكرية من دون الرجوع إلى طريقتهم في العلم والعمل والأعراض بالكلية عن عادات أرباب البحث والجدل. ومع قطع النظر عن هذا يكون حقيقة كل شيء عبارة عن تعينه الخاص ومبدئيته لآثار مخصوصة وأفعال معلومة لا يتعداه. وبذلك التحقيق الذي ذهبوا إليه لا يبطل أحكام الأشياء وخواصها والامتياز بين الحقائق والماهيات ومقوماتها وعوارضها اللازمة والمفارقة كما أن من ادعى من بعض أرباب الأرصاد الفلكية أن مجموع الأفلاك فلك واحد له نفس واحدة تحركه بحركة واحدة شرقية يتحرك بها جميع أجرام الفلكية والكوكبية ليس أنه يريد بذلك إبطال علم الهيئة ونفي تعدد الأفلاك وتخالف حركاتها سرعة وبطأ وتباين جهاتها وأوضاعها وتفاوت مقاديرها وكيفياتها وآثارها المتعينة وما يترتب عليها من اختلاف حال عنصريات وتكون المركبات من الجماد والنبات والحيوانات فحقيقة النفس الإنسانية ليست إلا كمال النوع الإنساني الذي تدرك الكليات بذاته والجزئيات بالآلات ولها الفكر والروية واستنباط العلوم والصنائع والتأثير عن الهيئة البدنية والتألم عما يتغير به مزاج البدن كما أن النفس الحيوانية حقيقتها ليست إلا مبدأ الإحساس والتحريك وكذا النفس النباتية حقيقتها ليست إلا ما يكون مبدأ الأفاعيل النباتية من التغذية والإنماء والتوحيد. ولا شبهة في أن شيئا من هذه الحقائق ليست هي عين مبدأ العالم وواجب الوجود لكونها معرضة للحدوث والتغير والتعدد والنقص والانفعال والقصور والزوال والله تعالى منزه عن نقائص الإمكان ومثالب الحدثان. ومنها أن النفوس متصفة بصفات الأجساد كقول القائل مشيرا إلى نفسه
415 جلست وخرجت وقمت ومشيت وهذه من خواص الأجسام. وأجيب عن ذلك بأن هذه الأقوال ونظائرها كلها مجازات عرفية إذا حققت الحقائق وقام البرهان على تجرد النفس فليس لأحد أن يتمسك في اقتناص الحقائق بالألفاظ والتحاورات اللغوية مع أن الإشارات اللغوية والعبارات القولية لا يمكن أن يقع على الأمور العقلية الصرفة من غير محاكاة خيالية وممازجة تصويرات مثالية لا ينفك عن الوقوع على أوضاع الأجرام وحركات الأبدان. وكما أن النفس يحتاج في وجودها إلى البدن للعلاقة المتأكدة فكذلك التعبير عن أحوال المعاني النفسية إنما يتأتى بألفاظ موضوعة لأحوال الجسم هذا. واعلم أن حقيقة النفس ونحو وحدتها شيء غامض غفل عنها الأكثرون ولم يصل ولا يصل إلى غورها إلا الأقلون من أصحاب السلوك والرياضات. وما أدركته الحكماء المشاؤون والفلاسفة الرواقيون في النفس من التجرد الصرف والطهارة عن البدن وأوصافه فهو صدق وصواب لكنه يرجع إلى تنزيه قوة من قواها بل مرتبة من مراتبها المسماة بالقوة العاقلة وهي مرتبة غيبتها عن البدن وقواه واتصالها بعالم القدس ورجوعها إلى جهة الوحدة وليست حقيقة النفس عند أرباب الذوق والشهود مجرد قوة عاقلة مباينة للأبدان منزهة عن الأجرام بل البدن عندهم كظل لنور النفس لا استقلال له في الوجود كما لا استقلال له في الحركة الإرادية. وأما ما يتحرك بالحركة الطبيعية عند السقوط عن السطح فهو بالحقيقة خارج عن البدن من حيث هو بدن فإنه لطيفة جسمانية حارة هي متصرف فيها للنفس أولا وبالذات وهذا الكثيف الثقيل كأنه غلاف وقشر لهذا البدن وكأنه قد حصل من تكدر ذلك وتبرده وتكثفه فخرج بخروجه عن الاعتدال اللائق بتصرف النفس وطاعة لها لأجل ثقله وتبرده عن إطاعته لها وتصرف النفس وتسخيرها واستخدامها إياه ولأجل ذلك يتحرك بطبعه من غير إرادة النفس. وأما اللطيفة التي هي عرش النفس التي يكون معرفتها مثال معرفة الرب فإنه تعالى منزه عن المثل لا عن المثال وما هو قواها وملكوتها المقربة لها التي هي نظائر
416 ملائكة الله تعالى الذين لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون فلا محالة تصرفها النفس وتحركها كيف يشاء. وتلك القوى أيضا تأمر بأوامر وتنهى بنواهيها لا يستطيع لها خلافا ولا عصيانا إلا قوة واحدة يسمى بالوهم لها نصيب من الشيطنة ولهذا تتمرد من طاعة العقل كما تمرد إبليس من طاعة الحق. ولنصرف عنان الكلام عن هذا الأسلوب الذي يكاد أن يخرج عن طور عقول الجمهور إلى ما كنا فيه وهو أن كل من زعم على أن هوية الإنساني ليست إلا جوهر عقله المجرد في ذاته عن مخالطة الأبدان وقواها المنزهة عن مزاولة الأجرام وخواصها فقد حددها ونظر إليها بعين عوراء وغفل عن كثير من تجلياتها وشؤونها ولوازم تنزلاتها وقد أخطأ وأساء الأدب وما رعاها حق رعايتها وهو عند نفسه يعتقد أنه قد تأدب معها إذ قد جردها عن التلوث بالبدن وأقذارها وكثافتها وما علم أن الجوهر النوري غير قابل للتلوث والتقذر ولا يؤثر فيها الأمور التي يؤثر في الجسم كما أن السواد مثلا إذا قارن جسما يجعله أسود وينفعل عنه ذلك الجسم وإذا قارن جوهرا عقليا لا يؤثر فيه ولا يجعله أسود فكذلك القوة العاقلة من الإنسان إذا تجسمت وصارت بدنا إنسانيا بعد ما نزلت إلى مرتبة القوى والحواس لم يقدح النقائص البدنية والأعراض الجسمية من الاستحالات والتغيرات والأمراض والآفات والكثائف والأقذار في نوريتها المحضة ونقاوتها الصرفة بل ينحفظ مع هذه التنزلات ذاتها وتجردها وعقليتها وتقدسها عن الأمكنة والأوضاع والاستحالات والتغيرات. ثم إن حسن المعاشيق وشمائلها التي يتراءى في ظواهر أبدانهم وتجعل العقول ولها وحيارى وينقطع في محبتهم عنها الصبر والسكون ما تقول أهي مجرد أشكال وألوان وتخاطيط وصفحة ملساء بلا حقيقة النفس لا أظنك إن كنت من أهل الوجدان وسلامة الذوق في مرية من أن مجرد عوارض الجسم لا يمكن أن يفعل هذا النحو من الأثر والتسلط على باطن العقلاء لو لا أن الهوية النورية تنزلت عن مراتبها الروحانية
417 وتكدرت ولاحت في صور الأعضاء وأشكالها المتناسبة وتخاطيطها الملائمة وتسمت بالحسن والجمال فهي التي تدهش العقول والألباب وتوقع في الفتن العشاق والطلاب مع أنها ضعفت بصحبة الظلمة وتكدرت بكدر الجسم لا الجسم وعوارضه وكمياته ولواحقه فإنها جميعا بمعزل عن هذا التأثير في العقول لو لا مظهرية البدن للقوة النطقية على نحو يسع له أن يقول من رآني فقد رأى النفس. وكما أن من توهم أن حقيقة الإنسان مجرد البدن ومزاجه زاغ عن الحق وقصر نظره على الجسم وأخلد إلى الأرض البدن غير مرتق عن هذه الهاوية المظلمة إلى ما فوقها فنظر إلى حقيقة الإنسان بإحدى العينين وهي اليسرى فكذلك من ظن أن حقيقته ليس إلا الجوهر النطقي بلا ممازجة البدن فقد أخطأ ونظر إليها بالعين العوراء إلا أنها اليمنى. والعارف الكامل هو الذي يكون ذا العينين من غير عمى لا في اليمنى كالحشوية والمجسمية ولا في اليسرى كأتباع الفلاسفة المحرومين عن المشرب العذب المحمدي وفهم ما أنزل عليه ص من القرآن المجيد الذي كان خلفه ص الممنوعين يوم القيامة عن الشرب الذي يكون الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا وذلك لحرمانهم عن متابعة الأنبياء واستنكافهم عن الرياضات الدينية والانقيادات الشرعية واستبداداتهم لعقولهم وآرائهم وذهولهم عن مشاهدة أنوار الحضرة النبوية العالمة بمراتب الوجود وتنزلاته وتطابق العوالم بعضها على بعض والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. فصل في إثبات أن النفس الإنسانية حادثة بحدوث البدن إنها لو كانت موجودة قبل البدن لكانت مجردة وكل مجرد عن المادة وعوارضها
418 لا يلحقها عارض غريب لأن عروض كل عارض غير لازم لشيء يحتاج إلى قوة قابلة واستعداد سابق لحدوث ذلك العارض إما فيه كما في الأعراض والصور والنفوس الحالة في الأجسام أو معه كما في الصور المجردة ذاتا وجهة القوة راجعة إلى أمر يكون في ذاته قوة صرفة يتحصل بالصور المقومة له وما هو إلا الهيولى الجرمانية كما حقق في مظانه فيلزم من فرض تقدم النفس على البدن اقترانها به. وهذا الذي ذكرناه في هذا المقصد غير مبني على كون النفس الإنسانية متفقة بالنوع فهو أولى من البيان المبتني عليه وهو أن النفس الإنسانية لو كانت موجودة من قبل غير حادثة مع حدوث الأبدان لم يجز أن يكون متكثرة في ذلك الوجود ولا واحدة. أما الأول فلأن تكثر الأشياء التي لها حد نوعي أو ماهية نوعية إما من جهة الماهية والصورة العقلية وإما من جهة تكثر الموضوعات أو المواد إما بذواتها كتكثر الصور الامتدادية الفلكية بسبب تكثر موادها بالذات أو بحسب عوارضها كثكثر الصور في المواد العنصرية المتعددة بسبب الأسباب العارضة الموجبة لاختلاف المواد في الأمكنة والأزمنة المختصة بكل واحد منها في حدوثه. وإما من جهة الفاعل أو الغاية فإن علة تكثر كل شيء إما الصورة والماهية أو العنصر والمادة والفاعل أو الغاية لأن العلل منحصرة في أربعة والنفوس صورتها التي هي ذاتها وماهيتها واحدة لاتحادها في النوع وفاعلها أمر واحد وهو العقل الفعال فليس علة تقاسيمها وكذا الغاية أمر واحد لأنها هي تشبهها بالباري وعبوديتها إياه ومشاهدتها له عند فنائها عن ذاتها واندكاك جبل إنيتها وخرورها. فإذن تكثرها ليس إلا من جهة قابل صورتها أو المنسوب إليه صورتها الذي هو في حكم قابل الماهية أعني البدن وقد فرضت مفارقة عنه متقدمة عليه هذا خلف. فثبت أن النفوس لو كانت موجودة بلا أبدان استحال أن يخالف نفس لنفس بالعدد وهذه قاعدة كلية في كل ما له حد نوعي ومعنى واحد طبيعي وقد تكثرت نوعيته بالأشخاص إنما تكثرها بالحوامل والقوابل المنفعلة عنها أو المنسوبة إليها.
419 وأما المفارق عن الحوامل والمواد مطلقا فليس من حق نوعيتها إلا الاختصاص بتشخص واحد لازم. وأما أنها لم يجز أن تكون واحدة فلأن طريان الكثرة بعد الوحدة يستحيل إلا في المقادير والجسمانيات والنفس مجردة عنها. وهم وإزاحة وليس لك أن تقول. إن ما ذكرت من استحالة تعدد النفوس المجردة عن الأبدان قبل وجودها هو بعينه يلزمك في النفوس التي فارقت عن الأبدان بعد تعلقها به فإنها إما أن تفسد ولستم تقولون به وإما أن يبقى متكثرة وقد ذكرت أن تكثر أفراد نوع واحد غير مادي ولا متعلقة بها مستحيل. لأنا نقول: أما تعدد النفوس بعد مفارقتها الأبدان فبوجود كل منها ذاتا متفردة باقية ببقاء علتها الفياضة بعد حدوثها لأسباب متكثرة ومخصصات مادية مختلفة من الأحياز والأزمنة والهيئات البدنية. وبالجملة اختلاف أنحاء الوجودات إنما هو بنفس الوجودات فإن الوجود لكونه متفاوتة الحقائق في ذاتها ليس تشخص كل من آحاده بأمر زائد على نفسه بل الوجود عين التشخص. وأما تخصص كل من أفراد ماهية واحدة بنحو خاص من الوجود فإنما يحتاج إلى سبب مخصص غير تلك الماهية وغير ذلك الوجود. أما كون ذلك المخصص غير الماهية فلاتفاقها في الجميع بلا تفاوت وأما كونه غير الوجود فلورود الكلام بعينه في علة تخصيص الوجود وانضمامه بهذا الفرد دون غيره من الأفراد وفي لمية فيضانه عن المبدإ عليه لا على غيره مع تساويهما في الماهية من غير جواب. فإذن تعدد أفراد الماهية يحتاج إلى مخصصات خارجة عن الماهية والوجودات هي أسباب حدوث تلك الأفراد وعلل تخصصاتها بأزمنة حدوثاتها دون سائر الأزمنة. ولا يلزم من ذلك اشتراط بقاء وجودات تلك الأفراد ببقاء تلك الأسباب المخصصة فإنها ليست عللا لأصل وجودات الأفراد بل هي علل لتخصيص كل واحد منها بأن
420 حدوثه ومعدات لبقائها فانعدام تلك المخصصات من المعدات لا يقدح في بقاء الوجودات لو احتملت البقاء لعدم الأضداد لها. كالجواهر النطقية التي لا ضد لها فبقي وجودها بعد حدوثها ببقاء علتها الفاعلية والغائية كسائر المفارقات الصورية ببقاء مبدئها ومعادها فإذا بقيت النفس بعد أن وجدت بنحو خاص من الوجود فلا يجوز أن يتحد مع نفس أخرى مثلها بالعدد لامتناع الاتحاد بين الصورتين فيكفي نحو وجود كل موجود صوري لأن يتميز عما سواه كما علمت ومع ذلك لا يخلو كل موجود عن لوازم وأمارات كالوضع والكم والزمان وغير ذلك من الماديات المسماة بالأعراض المشخصة وكالماهيات النفسانية الحاصلة لكل واحد من النفوس لأجل استعمال بدنها في أفعال وانفعالات نطقية بها يتميز نفس عن نفس ويتميز بدن عن بدن بحسب المزاج ونحوه ولو لم يكن فيها من المميزات إلا شعور كل واحدة بذاتها الجزئية لكفى في تميزها عن غيرها فضلا عن الهيئة المكتسبة التي يسمى بالعقل بالفعل وهي في كل واحدة على حد خاص لا يوجد في غيرها وعن الملكات والأخلاق الخاصة الحاصلة فيها من جهة القوى البدنية وعن أمور أخرى تخفى علينا يلزم النفوس عند حدوثها وبعده بقيت الأبدان أو لم يبق. طريقة أخرى لو كانت النفس قبل البدن فلا يخلو إما أنها كانت بحسب جوهرها عقلا صرفا ثم عرضت لها النفسية أو كانت نفسا دائما وكلاهما ممتنع. ففي الأول يلزم في عالم العقلي حدوث صفة وسنوح حالة لم يكن من قبل وفي الثاني يلزم كونها معطلة ولا معطل في الوجود. فصل في أن النفس الإنسانية لا تموت بموت البدن لأن كل شيء يفسد بفساد شيء آخر فهو متعلق به نوعا من التعلق إذ كل أمرين
421 ليس بينهما تعلق ذاتي وارتباط عقلي فلا يوجب فساد أحدهما فساد الآخر. والتعلق الذاتي بين الشيئين إما بعلية أحدهما أو بمعلولية المعبر عنهما بالتقدم والتأخر وإما بمعلولية الجميع المعبر عنهما بالمعية والتكافؤ في الوجود فإن كان البدن متقدما على النفس أي علة لها والعلل أربع فإما أن يكون فاعلا للنفس معطيا لها الوجود أو قابلا لها أو صورة أو غاية أما الأول فهو ممتنع إذ الجسم بما هو جسم لا يفعل فعلا مخصوصا وإلا اشتركت الأجسام في ذلك الفعل وإنما يفعل الجسم ما يفعل بقواه لا بذاته وإذا فعل فعلا بقواه الجسمانية أعراضا كانت أو صورا مادية فلا يفعل وجود ذات قائمة بنفسها لا في مادة ووجود جوهر مطلق. فالبدن بقواه البدنية لا يفعل جوهر النفس كيف وكون البدن بدنا أي جسما قابلا لتصرف النفس إنما هو بكونه محلا لآثار النفس وأنوارها الفائضة عنها عليه. وأما الثاني أي كون البدن علة مادية سواء كانت على سبيل التركيب كالعناصر للبدن أو على سبيل البساطة كالنحاس للصنم فهو أيضا ممتنع إذ النفس ليست منطبعة في البدن بحسب ذاتها لما برهنا عليه فلا يكون البدن مصورا بصورة النفس بشيء من الوجهين. نعم صورة البدن في الحقيقة هي قوة عن النفس وتعلق وتصرف منها أي النفس من حيث التصرف والتحريك وبهذا الاعتبار يكون أمرا ماديا يبحث عنه في الطبيعيات لا بحسب ذاتها العقلية التي هي شعلة ملكوتية من نار الله المعنوية المسماة بالعقل الفعال وسنعود إلى ذكره من طريق النفس. وأما الثالث والرابع وهو كون البدن صورة أو كمالا لها فهو أيضا مستحيل بل الأقرب أن يكون الأمر بالعكس على الوجه الذي أشرنا إليه.
422 وأما المعية بينهما فلا يخلو إما أن يكون أمرا ذاتيا لهما أو أمرا عرضيا فإن كان الأول لزم أن يكون تصور كل منهما مع تصور الآخر وليس كذلك لأنهما ليسا من باب المضاف. وإن كان الثاني ففساد أحدهما إنما يوجب فساد ما هو العارض للآخر من الإضافة إليه لا فساد ذات الآخر بذاته بل فساده من حيث هذا التعلق. فالحق أن البدن ومزاجه علة للنفس بما هي نفس أي متعلقة وليست علة بالذات لجوهرية النفس وذاتها. ووجه كونها علة بالعرض وشرطا لوجود النفس في ذاتها أن العلة الفائضة لو صدرت منها نفس لكان إما واحدا أو اثنين أو غيره من الأعداد إلى غير النهاية في كل لحظة وجميع هذا ممتنع إذ ليس عدد أولى من عدد فلا ترجيح في الأعداد ولو اقتصر على واحد فلا مخصص للواحد فإن إمكان الثاني منه كالأول فلما لم يترجح إمكان الوجود على إمكان العدم بقي العدم مستمرا إلى أن استعدت النطفة أن يكون آلة للنفس تشتغل بها فصار وجودها أولى من عدمها واختص عددها بعدد النطف المستعدة في الأرحام وهذا شرط لابتداء ترجيح الوجود على العدم فبعد الوجود يكون بقاؤه بعلته لا بالمرجح. ومن سبيل آخر نقول: إن النفس المجردة لها وجود للبدن ولها وجود لذاتها والبدن علة قابلية لوجودها له لا لوجودها لذاتها اللهم إلا بالعرض. فإنه إذا حدثت مادة بدنية ذات كيفية مزاجية صالحة لأن يكون آلة للنفس ومملكة لها أحدث الباري الجواد باستخدام بعض الملائكة المقربين المفارقين عن عالم المواد والقوى بالكلية النفس الجزئية التي هي صورة للبدن ومبدأ لأفاعيل إنسية وأخلاق وتدابير بشرية مؤيدة بروح القدس لأن تلك التدابير لا يتم إلا بجوهر قدسي له تعقلات كلية. فالبدن باستعداده يستدعي صورة مادية وجود المبدإ الواهب الفياض أفاض عليه كلمة عقلية ولطيفة ملكوتية فوق ما يستدعيه بلسان استعداده من باب الاستجرار والاستتباع فيكون البدن علة قابلية لجوهر النفس بالعرض لا بالذات. وقد شبهوا البدن بشبكة يقتنص بها النفس المجردة التي هي من طيور سماوية
423 محبوسة في أقفاص الأجرام الأرضية فبعد وقوع طير النفس في الوجود بواسطة الشبكة لا يحتاج في بقائها إلى بقاء الشبكة. طريقة أخرى اعتمدها صاحب التلويحات وغيره من المحققين وهي أن النفس بالفعل موجودة ولها بالفعل أن يبقى وكل ما هو موجود بالفعل وله أن يبقى فليس له بالقوة أن تبطل إلا أن تركب ذاته من شيئين كمادة وصورة لأن البقاء والزوال متنافيان لأن أحدهما نوع من الوجود والآخر نوع من العدم وكذا الفعلية والقوة نوعان من الوجود والعدم. فالنفس لو جاز عليها البطلان فلزم أن يكون لها قوة بطلان ولا يكون قوة بطلانها فيها لأنها أمر بسيط صوري وهي بالفعل من جهة ذاتها ولا يتصور أن يكون شيء بسيط هو بالفعل في ذاته وهو بالقوة فإذن قوة بطلانها لو فرض يجب أن يكون في قابل لها ففيه قوة وجودها وقوة عدمها كما في القوابل الصور والأعراض المادية والنفس قد علمت أنها مجردة ذاتا لا قابل لذاتها والبدن قابل لتصرفاتها وتدابيرها فيه فلا يتصور أن يكون لها قوة بطلان أصلا لا في ذاتها ولا في غيرها إنما لها قوة بطلان وجودها الرابطي كما أن لها قوة وجودها التعلقي وهي استعداد البدن بمزاجه لتعلقها به وكونها مستعملة له حافظة لمزاجه ثم استعداده لقطع تعلقها عنه وترك استعمالها إياه لأجل فساد مزاجه وانحلال تركبه وانهدام بنائه كما قيل شعرا: جان قصد رحيل كرد گفتم كه مرو * گفتا چكنم خانه فرو مىآيد بحث وتحقيق وربما اختلج ببالك أن المفارقات لما كانت ممكنة الوجود وكل ممكن الوجود فلها قوة
424 وجود وقوة عدم وقد قررتم أن الأمر الوحداني الذي صورته ذاته من غير قابل ليس له قوة وجود وعدم فاعلم أن الإمكان وإن كان بمعنى واحد يقع على المبدع والكائن لا كما زعمه قوم من أن معنى الإمكان في المفارقات كونها بحيث عدمت متى عدمت علتها لأنه غير صحيح كما لا يخفى لكن الإمكان فيها ليس حال وجودها الخارجي بل حال ماهيتها بحسب اعتبارها من حيث هي هي معراة عن الوجود والعدم. وهذا الاعتبار ليس مطابقا لما في نفس الأمر لأن ما في نفس الأمر هو الفعلية والوجوب لا القوة والإمكان فلا يوجب هذا التعري عن الوجود والعدم في هذه الملاحظة مع ضرورة التلبس بالوجود وفعليته بحسب الواقع التركيب الخارجي المنافي لبساطتها بل إنما يوجب أن يكون لها بحسب اعتبار العقل إياها معراة عن الوجود ومقابله شيئا شبيها بالمادة وهو المسمى بالماهية عند الحكماء التي لا فعلية لها بحسب ذاتها بذاتها من غير اعتبار الواقع كالهيولى الخالية عن الصور بحسب حالها الخارجي. وبالجملة كون الشيء ذا ماهية قابلة للطرفين الوجود والعدم يوجب انقسام الذهني وكون الشيء ذا قوة الوجود والعدم بحسب الواقع يوجب انقسام الخارجي من مادة وصورة خارجيين. فالجوهر المفارق عقلا كان أو نفسا إمكان ماهيتها لا يوجب كونه صورة لمادة خارجية إنما يلزم ذلك لو كان له قوة وجود وعدم في الواقع وقد علمت أنه ليس كذلك. أما المفارقات العقلية فهي إبداعيات محضة غير متعلقة بغيرها لا في ذاتها ولا في فعلها. وأما النفوس الناطقة فهي أيضا غير متعلقة الذات بغيرها فليس لذواتها قوة وجود ولا عدم بحسب القصد الأول وبالذات بل لتصرفاتها وأفاعيلها التدبيرية دون التعقلية قوة وجود وعدم في مواد أبدانها. وتوضيح ذلك أن البدن لما استدعى بحسب قوته واستعداده لوجود نفس مدبرة له متصرفة فيه ويلزم من وجود مدبر في غيره وجود ذات ذلك المدبر في ذاته إذ الوجود الرابطي لا ينفك عن وجود الشيء في نفسه سواء كانا واحدا بعينه بالذات كما في العرض والصورة القائمة بالمحل فإن وجود
425 الحال في نفسه هو وجوده لمحله بلا تعدد أو لم يكونا كذلك كما في ما نحن فيه حيث إن نفسية النفس للبدن لا ينفك عن وجودها في نفسها من غير عكس لأنه جوهر مباين والجوهر المباين لا يلزم من انتفائه عن الشيء أن يكون في ذاته منتفيا بخلاف العرض والجوهر المقارن حيث يلزم من وجوده لشيء وجوده في نفسه بل الوجودان هناك واحد بلا تغاير ويلزم من انتفاؤه لمحله أن يكون في ذاته منتفيا بل الانتفاء أن فيه واحد بلا تعدد لأن وجود الحال وعدمه في نفسه هما وجوده وعدمه في قابله. مثلا وجود السواد لك يلزمه أن يكون له وجود في نفسه وكذا عدمه منك يلزمه أن يكون معدوما في نفسه والأمر المباين ليس كذلك عدما بل وجودا فقط مثلا وجود الفرس لك يلزمه أن يكون موجودا في نفسه ولكن عدمه منك لا يلزم أن يكون معدوما في نفسه وذلك لأنه جوهر مباين. فإذا كان في البدن استعداد أن يكون له نفس وفيه استعداد أن لا يكون له نفس كما عند الأجل فيلزم في الأول وجود النفس له ووجود النفس في ذاتها ويلزم في الثاني فقد النفس عنه ولا يلزم انتفاءها في ذاتها فيبقى ببقاء علتها لأن كل شيء يكون صورته ذاته من غير قابل مستعد لوجود النفس وعدمه وكانت علته علة مفارقة عن الأجسام والمواد باقية في ذاتها فياضة على ما تحتها كان ذلك الشيء الصوري باقيا ببقاء علته الفياضة. وبالجملة لا يلزم من كون شيء لوجوده مدخل في وجود شيء آخر أن يكون لعدمه مدخل في عدم ذلك الشيء. واعتبر بآلات ذوي الصنائع الجزئية وبأفكار المهندسين وغيرهم فإن لها مدخلا في وجود الصور الحسية والعقلية للموضوعات المادية أو النفسية ثم ينتفي الآلات والوسائط ويبقى الصور ببقاء فاعلها الحقيقي. هدم تنبيهي وإذا حققت الأمر على ما قررناه من أن الإمكان بمعنى واحد يقع على الاستعدادات وغيره إلا أن الفرق بحسب الموضوع علمت ضعف ما ذكره شيخ الإشراق من قوله:
426 وأصلح ما يجاب به هاهنا أن القوة في الكائنات الفاسدات ليس معناه الإمكان الذي هو قسيم ضرورة الوجود والعدم وإن كان هذا معنى واحدا يقع على الدائم وغير الدائم بل هذه القوة الاستعدادية التي لا يجتمع مع وجود شيء والأمور الدائمة لا يتقدمها استعداد أصلا. والنفس الناطقة وإن كان لها استعداد في المادة التي يترجح وجودها على عدمها باعتبار ذلك الاستعداد فإنها لا يلزم أن يكون لها استعداد عدمه فيها إلى هاهنا كلامه وفيه ما لا يخفى من الوهن فإن كون الإمكان متقدما على وجوده زائلا غير مجامع للوجود وفي المبدع مجامعا للوجود غير زائل بحسب الماهية لا يوجب كونه مختلف المعنى والذات في المبدع والكائن بل له معنى واحد يعرض له اختلاف فإن التنافي بين الإمكان والفعلية هاهنا بحسب الواقع وهناك بحسب الاعتبار. وكون الاستعداد موجودا في الخارج على ما حكموا به معناه اتصاف المادة به بحسب حالها الخارجي حين اتصافها بكيفيات استعدادية مقربة للمعلول بالعلة الفاعلية كما يقال: الحركة موجودة في الخارج مع أنهم فسروها بكمال ما بالقوة من حيث هو بالقوة فليس معنا وجودها إلا اتصاف الموضوع بها في الخارج عند توارد أسباب الوصول إلى المطلوب عليه. وتعاقب الأمور المقربة إياة مما يقع إليه السلوك والسالك إلى الشيء ما دام كونه سالكا إليه لا يحصل له ذلك الشيء بل السالك إلى الشيء من حيث كونه سالكا ومتحركا إلى الشيء ليس بنفسه شيئا من الأشياء فمعنى كونه متصفا بالحركة في الخارج أن له ذاتا في الخارج عادمة لكمال من شأنه الاتصاف عن قريب وكذا معنى كون الشيء مستعدا أنه عادم صفة من شأنه التلبس بها كذلك وربما فرقوا بين القوة والاستعداد بوجهين أحدهما أن القوة قد يكون بعيدا وقد يكون قريبا والاستعداد لا يكون إلا قريبا ولهذا لا يقال للطفل الصغير أو الجنين إنه مستعد للكتابة بل يقال إنه كاتب بالقوة. وثانيهما أن القوة قوة للضدين والأشياء الكثيرة والاستعداد لا يكون كذلك
427 كالهيولى الأولى فإنها بالقوة بالقياس إلى جميع الصور والهيئات وليست مستعدة إلا لجانب واحد من الطرفين ولبعض مخصوص من الأشياء فإن الاستعداد يلزمه تلبس المادة بصورة خاصة وهيئة مخصوصة. والحاصل أن الإمكان مفهوم واحد في الجميع إلا أن أفراده مختلفة لا بالذات بل بحسب أمور خارجة عن معنى الإمكان والاختلاف في الخارجيات لا ينافي الاتفاق في معنى الذات فإن الاختلاف بين أفراد الإمكان أما في الموضوع فإن موضوع الإمكان في الإبداعيات هو الماهية من حيث هي هي وفي الكائنات محل المتشخص وأما في الوجود فإن الإمكان هناك كيفية نسبة الشيء إلى الوجود لنفسه وهاهنا هو كيفية نسبة الشيء إلى الوجود الرابطي وأما في ظرف الاتصاف فإن ظرف الاتصاف بالإمكان الذاتي هو اعتبار الذهن حين أخذ الماهية مطلقة من غير تقييدها بالوجود والعدم وظرف الاتصاف بالإمكان الاستعدادي هو الخارج. فصل تذكر فيه استبصارات لهذا الباب أولها أن وقت النوم يضعف البدن وضعفه لا يقتضي ضعف النفس بل النفس تقوى وقت النوم فيشاهد الأحوال ويطلع على المغيبات فإذا كان ضعف البدن لا يوجب ضعف النفس بل تقويتها فهذا يقوي الظن في أن موت البدن لا يستعقب موت النفس. وثانيها أن كثرة الأفكار سبب لجفاف الدماغ وجفافه معد إلى الموت وهذه الأفكار سبب لكمال النفس بالمعارف الإلهية وهو غاية لكمال النفس فما هو سبب لكمال النفس فهو سبب لنقصان البدن وفساده وهذا يؤكد الظن في أن النفس لا يموت بموت البدن.
428 وثالثها أن أحوال النفس أضداد أحوال البدن وذلك لأن النفس إنما يفرح ويبتهج بالمعارف الإلهية كما يدل عليه الوجدان وقوله تعالى: ألا بذكر الله تطمئن القلوب. وقول النبي ص: أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ولا شك أن ذلك الطعام والشراب ليس إلا عبارة عن المعرفة والمحبة والاستنارة بأنوار عالم الغيب وأيضا الإنسان بسبب الاستبشار بأمر عظيم كالفوز بخدمة السلطان وبالوصول إلى خدمة معشوق ينسى الطعام والشراب بل لو كلف لوجد من قلبه نفرة شديدة منه والعارفون المتوغلون في معرفة الله قد يجدون من أنفسهم أنه إذا لمحت لهم شيء من تلك الأنوار لم يحسوا البتة الجوع والعطش. وبالجملة فالسعادات النفسانية كالمضاد للسعادات الجسمانية وكل ذلك يغلب على الظن بأن النفس مستقلة بذاتها لا تعلق لها بالبدن ومتى كان كذلك وجب أن لا يموت بموت البدن. ذكر تنبيهي ومما يدل على بقاء النفس بعد فساد البدن اتفاق أصحاب الشرائع والملل على ذلك إذ ما من ملة إلا وفيها وعد ووعيد أخرويان في الأفعال والأعمال الحسنة والقبيحة. ويدل عليه أيضا فعل الأنبياء ص وخلفائهم ومن يرى مثل رأيهم من الفلاسفة والبراهمة لأنهم يتهاونون بأمر الأجساد إذا انبعث النفوس وإنما يرون أن هذه الأبدان المظلمة الكثيفة حبس النفوس أو الحجاب لها ويرون أن هذه الأجساد بمنزلة البيضة للفرخ والمشيمة للجنين والدنيا بمنزلة الرحم والطبيعة حاضنها والنفوس هي بمنزلة النطف الدافقة من صلب القضاء الإلهي في أرحام الطبائع والموت الطبيعي هو الولادة المعنوية للنفوس في النشأة الآخرة وملك الموت هي قابلة الأرواح
429 وداية النفوس والقبر هو المهد الذي يتربى فيه الأطفال ما دامت ناقصة الحياة غير قادرة على تمام الحس والحركة الأخروية فيستعد فيه للحياة التامة والنهوض للأفعال الاختيارية كذلك النفوس ما دامت هي مقبورة غير تامة. فالنفس بحسب الغريزة تشفق على البدن ما لم تستتم له الخلقة ولم يستكمل الصورة فإذا تمت الخلقة وكملت الصورة تهاونت به بحسب الفطرة التي فطرت عليها ولا يبالي انشقت البيضة أو انخرقت المشيمة إذا سلم الفرخ أو الطفل. فهكذا حال النفوس مع الأجساد إنما تشفق على الجسد وتصونه ما لم يتفطن تفطنا غريزيا بأن لها وجودا خلوا من الجسد وذلك الوجود خير وأبقى وألذ وأقوى من هذا الوجود والبقاء الذي لها مع هذا الجسد فإذا استتمت النفس وكملت صورتها الفعلية وانتبهت من هذا النوم واستيقظت من هذا الغفلة الجسمية وأحست بغربتها في هذا العالم الدنياوي وأنها أسيرة في يد الطبيعة غريقة في بحر الهيولى تائهة في قعر الأجسام مبتلاة بخدمة الأبدان مغرورة بزينة المحسوسات الشهوية التي هي لهو ولعب والغضبية التي هي تفاخر وتكاثر في الأموال وبانت لها حقيقة ذاتها وعرفت فضيلة جوهرها معرفة إجمالية وإن كانت في غاية الخفاء ونظرت إلى عالمها وشاهدت الروحانية عند إدراكها العقليات وأقلها الأوليات هانت عليها مفارقة الجسد ومزايلة البدن. ومن تأمل في حال بدن الإنسان ومراتب انقلاباته واستحالاته من جهة أنه كلما قوي نفسه ضعف بدنه وأنه كلما تدرجت نفسه في الاستكمال من لدن بلوغه إلى شيخوخته تدرج بدنه في الانتقاص والاضمحلال لعلم يقينا أن النفوس متوجهة بحسب الغريزة إلى عالم آخر إليه رجوعها ومنتهاها وإن غفل عن هذا التوجه العقلي والسلوك الأخروي أكثر الناس إلا أنه مركوز في طبيعة الجميع مفطور عليه فطرة
430 الكل كما يدل عليه قوله تعالى: إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم وآيات كثيرة في هذا المعنى. ومما يدل أيضا على بقاء النفوس وأن صلاحها بتلف الأجساد فعل موسى ع وعيسى ع وغيرهما من الأنبياء ع وذلك أن موسى قال لأصحابه وأتباعه: فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم يعني هذه الأجساد بالسيف لأن جوهر النفس لا يناله الحديد. وقال عيسى ع للحواريين: إذا فارقت هذا الهيكل فأنا واقف في الهواء عن يمين العرش بين يدي أبي وأبيكم أشفع لكم فاذهبوا إلى الملوك في الأطراف وادعوهم إلى الله تعالى ولا تهابوهم فإني معكم حيث ما ذهبتم بالنصر والتأييد لكم. وإلى هذا المعنى أشار إبراهيم ع: و اجعلني من ورثة جنة النعيم. ويوسف ع يقول: رب قد آتيتني من الملك و علمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات و الأرض أنت وليي في الدنيا و الآخرة توفني مسلما و ألحقني بالصالحين. وإليه أشار سيدنا ص: إنكم تردون علي الحوض وأحاديث كثيرة مروية مشهورة عند أصحاب الحديث. وإليه أشار بقوله: و الله يدعوا إلى دار السلام و يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وآيات كثيرة قرآنية في هذا المعنى وهي كل آية فيها وصف الجنان ونعيمها وأهلها ووصف الجحيم وعذابها وزقومها وحميمها وأهلها. ومما يدل عليه أن أهل بيت نبينا ص كانوا يعتقدون هذا الرأي تسليم أجسادهم إلى القتل بكربلا اختيارا ورضا ولم يرضوا أن ينزلوا على حكم يزيد وابن زياد لعنة الله عليهما إلى يوم القيامة وصبروا على الطعن والضرب والعطش حتى فارقت نفوسهم أجسادهم وارتفعت ملكوت السماء ولقوا آباءهم
431 الطاهرين محمدا وعليا ع وحمزة رحمة الله عليه وجعفرا رحمة الله عليه والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم في ساعة العسرة. ومما يدل على أن الفلاسفة الحكماء ترون هذا الرأي ويعتقدونه تسليم سقراط جسده إلى التلف وتناوله السم اختيارا منه وله قصة طويلة معروفة مذكورة في كتاب فاذن فمما ذكر فيه أنه لما تناول شربة السم بكى من حوله من الحكماء والفلاسفة حزنا عليه فقال لهم: لا تبكونى فإني وإن كنت أفارقكم إخوانا حكماء وفضلاء فهو ذا أذهب إلى إخوان لنا فضلاء كراما إلهيين قد تقدمونا فلان وفلان وعد جماعة من الحكماء الذين كانوا قبله فقالوا: إنا نبكي على أنفسنا حين نفقد أبا حكيما مثلك. ومما يدل أيضا قول أفلاطون الإلهي في بعض حكمه: لو لم يكن لنا معاد نرجو فيه الخير لكانت الدنيا فرصة الأشرار. وقال أيضا: نحن هاهنا غرباء وأسراء الطبيعة وجوار الشيطان أخرجنا من عالمنا بجناية كانت من أبينا آدم ع وكلام نحو هذا. ومما يدل على أن أرسطاطاليس صاحب المنطق كان يرى ويعتقد هذا الرأي كلامه في الرسالة المعروفة بنفحات وما تكلم به حين ما حضرته الوفاة وما احتج به من فضل الفلسفة وأن الفيلسوف يجازي على فلسفته بعد مفارقة نفسه جسده. وهذه الرسالة موجودة اليوم عندنا. ومما يدل على أن فيثاغورس صاحب العدد وهو من أفاضل الفلاسفة رأى هذا الرأي هذا كلامه في الرسالة المعروفة بالوصايا الذهبية وهي أيضا موجودة عندنا. وفي وصية لديوجانس قوله في آخرها: فإنك عند ذلك إذا فارقت هذا البدن حتى تصير مخلى في الجو تكون حينئذ سائحا غير عائد إلى الإنسية ولا قابلا للموت. وإنما استشهدنا بأقاويل الحكماء ووصاياهم بعد أفعال الأنبياء ع وشرائعهم لأن في الناس أقواما من المتفلسفين لا يعرفون من الشريعة إلا رسمها يتصدرون ويتكلمون بما لا يحسنون ويتناظرون فيما لا يدرون فيناقضون تارة الفلسفة بالشريعة وتارة الشريعة بالفلسفة فيقفون في الحيرة والشكوك فيضلون ويضلون وهم لا يشعرون.
432 ومن الشواهد أن طريقة الأنبياء والأولياء الذين اتفق الجمهور من العقلاء على فضيلتهم وشرف نفوسهم هي الزهد والتقوى والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة كمال قال الله تعالى: و الباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا و خير أملا. ومن أراد ذلك فليطالع الكتب المشتملة على شرح أحوالهم وطريقتهم سيما طريقة أفلاطون وسقراط وفيثاغورس. وأما أرسطاليس فاشتغاله بوزارة إسكندر وجمع مال كثير عنده لمصلحة سياسة يراها في نشر الحكمة وبث المعرفة وإفاضة الخيرات ومع هذا جعل أستاده أفلاطون الإلهي الذي غلب عليه أحكام الوحدة والتقدس والخلوة مع الله تعالى والإعراض بالكلية عن عالم المحسوسات ذلك عارا عليه وعيبا. فلو لم يكن النفس باقية بعد الموت لكان إطباق الفرق الثلاثة الأنبياء والأولياء ص والحكماء رضي الله عنهم في تهجين حب الدنيا وتحسين طلب الآخرة باطلا وطريق الكفرة والدهرية والملاحدة في طلب الدنيا حقا. ولما كان هذا باطلا بالضرورة وجب القطع بكون النفس باقية بعد الموت. ومنها كون الإنسان يرى في منامه أباه وأمه ويسألهما عن أشياء وهما يذكران جوابا صحيحا وربما أرشده إلى دفين في موضع لا يعلمه. وذكر صاحب المطالب العالية أنه قيل إن الفردوسي لما صنف شاهنامج على اسم سلطان محمود وأنه ما قضى حقه كما يجب ضاق قلب فردوسي عن ذلك فرأى رستم في المنام فقال له: إنك مدحتني في هذا الكتاب كثيرا وأنا في زمرة الأموات فلا أقدر على قضاء حقك ولكن اذهب إلى موضع الفلاني واحفر فإنك تجد دفينا فخذه فكان الفردوسي يقول: إن رستم بعد موته كان أكثر كرما من محمود حال حياته. وروى أيضا أنه كان شيخ فقيه كان إماما في الطوس يسمى بأبي القاسم ما صلى على فردوسي
433 عند وفاته بل أنكر عليه معتذرا بأنه كان في حياته يمدح ملوك الفرس وهم كانوا من المجوس حتى يرى في المنام أنه يمشي في رياض الجنان بصورة حسنة ووجه مضيء يتلألأ على رأسه وبدنه التاج والديباج فلما سأل عن سبب حاله قال: فقد رحم علي وغفر لي الرحمن وأسكنني في غرف الجنان لأجل بيت واحدة من شاهنامج قلت في توحيده وهو قوله: جهان را بلندى وپستى تويى * ندانم چه اى هر چه هستى تويى يعني أن كله الوجود. وهو كل الوجود. وهذه الحكاية مشهورة وقد نظمها العطار وهي مما يدل دلالة واضحة على بقاء نفسه وحياتها في الآخرة. ولا شبهة لنا في أن نفوس أهل المعرفة والإيمان بالله ورسوله والأئمة بعده ع حية حياة طيبة نورية لا يقاس إليها هذه الحياة الكثيفة الظلمانية. ومما يطمئن به القلوب في هذا الباب أن كلما له تعلق بحضرة الجلال فإنه يبقى بحسب قوة ذلك التعلق وكلما له تعلق بعالم الجسم الهيولى فإنه يكون سريع الدثور والفناء فالنفس الناطقة إذا أشرقت بنور المعرفة وصارت عقلا بالفعل ويتقوى بتلك القوة التي لا نهاية لها وتعلقت بها وجب أن تبقى بقاء مصونا عن الفساد دائما بدوام العقول في المعاد. وأما النفوس الهيولانية الساذجة والنفوس الجاهلة العنيدة التي كفرت بأنعم الله فليست لها تلك الحياة التي للسعداء وإنما لها نوعا آخر من الحياة بقدر قوتها وشعورها بذاتها وصفاتها وأفعالها التي هي مبادي لشقاوة نفوس الأشقياء على درجات متفاوتة وطبقات متعددة لا يعلم تفاصيلها إلا الله تعالى. والأدلة النقلية في هذا الباب أكثر من أن تحصى منها قوله تعالى: و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله... وفيها حجج على قوام النفس الخيرة بذاتها وحياتها قبل القيامة الأولى كما في التفسير الكبير أن قوله: بل أحياء ظاهره يدل على كونهم أحياء حال نزولها فحملهم على أنهم سيصيرون أحياء عدول عن الظاهر
434 الثانية في الكبير أيضا أن جانب الرحمة أرجح من جانب العذاب والعقوبة. ثم إنه تعالى ذكر في أهل العذاب أغرقوا فأدخلوا نارا والفاء للتعقيب والتعذيب مشروط بالحياة. وأيضا قال: النار يعرضون عليها غدوا و عشيا وإذا جعل أهل العذاب أحياء قبل القيامة لأجل التعذيب فلأن يجعل أهل الثواب أحياء قبل القيامة كان أولى. الثالثة ما روى ابن عباس أن النبي ص قال في صفة الشهداء: إن أرواحهم في أجواف طيور خضراء وإنها ترو من أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح في الجنة حيث شاءت وتأتي إلى قناديل من ذهب تحت العرش فلما رأوا طيب مسكنهم ومطعمهم ومشربهم قالوا يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعم وما صنع الله بنا كي يرغبون في الجهاد فقال أنا مخبر عنكم ومبلغ إخوانكم ففرحوا بذلك واستبشروا فأنزل الله هذه الآية. وسئل ابن مسعود عن هذه الآية فقال: سألنا عنها فقيل لنا إن الشهداء على نهر بباب الجنة في قبة خضراء وفي رواية: في روضة خضراء. وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ص لأبي عبد الله: ما ذا تحب فقال: يا رب أحب أن تردني إلى الدنيا فأقاتل فيك مرة أخرى. فالروايات في هذا الباب بلغت حد التواتر فكيف يمكن إنكارها. فصل في أن النفس الإنسانية لا يتناسخ من بدن إلى آخر في الدنيا سواء كان إنسانيا وهو المسمى بالنسخ أو حيوانيا وهو المسخ أو نباتيا وهو الفسخ أو جماديا وهو الرسخ نعم النفوس الإنسانية نشات مختلفة في دار أخرى غير هذا الدار. وأما التناسخ بمعنى صيرورة النفس بحسب النشأة الأخروية مصورة بصورة حيوانية أو نباتية أو
435 جمادية ناقصة المراتب بحسب اختلافها الدنية وعاداتها الردية فليس مخالفا للتحقيق بل هو أمر محقق عند أئمة الكشف والشهود ثابت عند أهل الحق من أرباب الشرائع والملل. ويدل عليه ظواهر النصوص من الكتاب والسنة كما في قوله تعالى: و ما من دابة في الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء. وقوله تعالى: و جعل منهم القردة و الخنازير و عبد الطاغوت أي مسخهم إليها. وقوله تعالى: فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين يعني بعد المفارقة البدنية وقوله تعالى: و نحشرهم يوم القيامة على وجوههم أي على صورة الحيوانات المنتكسة الرؤس وقوله تعالى: قالوا لجلودهم لم شهدتم علينا وقوله تعالى: تشهد عليهم ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم بما كانوا يعملون يعني أن صورة الكلب مثلا ولسانه أي صوته الذي هو بواسطة لسانه يشهد بعمله الذي هو الشر وكذا غيره من الحيوانات الهالكة تشهد عليها أعضاؤها بالأفعال السيئة إلى غير ذلك من آيات النسخ. وأما ما وقع في الحديث فكقوله: يحشر الناس يوم القيامة على وجوه مختلفة. أي صور مناسبة النفسانية المختلفة وكقوله: كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون. وروى أيضا: يحشر بعض الناس على صور يحسن عندها القردة والخنازير. وروى أيضا عن النبي ص ما معناه: أنه يحشر من خالف الإمام في أفعال الصلاة ورأسه رأس حمار فإنه إذا عاش في المخالفة التي هي عين البلاهة والحمارية تمكنت فيه ولتمكن البلادة فيه يحشر على صورة الحمار. إلى غير ذلك من الأسرار الإلهية والرموز النبوية الدالة على نبوة النقل على هذا الوجه في الآخرة.
436 ولذا قيل: ما من مذهب إلا وللتناسخ فيه قدم راسخ. وظني أن ما نقل عن أساطين الحكمة كأفلاطون ومن قبله من أكابر الفلاسفة مثل سقراط وفيثاغورث وأنباذقلس وآغاثاذيمون وهرمس المسمى بوالد الحكماء من إصرارهم على مذهب التناسخ وما نقل عن أرسطاطاليس من رجوعه عن رأيه في إبطال التناسخ إلى رأي أستاده أفلاطون في جوازه ما هو إلا بالمعنى الذي ذكرناه من انبعاث النفوس الإنسانية الناقصة في العلم والعمل في النشأة الآخرة على صور حيوانات مختلفة مناسبة لأخلاق مختلفة غلبت عليهم في الدنيا وانبعاث النفوس المتوسطة فيهما أو الناقصة في العلم فقط على صور حسنة مناسبة لأخلاقهم الحسنة كما سيجيء تحقيقه وذلك لبطلان التناسخ بالمعنى المشهور كما سنذكره. وأما النفوس الإنسانية الكاملة فيهما أو في العلم (فالجميع متفقون على خلاصهم عن الأبدان مطلقا سواء كانت أجساما دنياوية وأشباحا مثالية وسواء كان النقل حقا أو باطلا وذلك لكونهم عقولا مستفادة منخرطين في سلك القوادس المفارقة عن عالم المواد والحركات بالكلية. إشارة تحصيلية أما بيان إبطال التناسخ بمعنى انتقال نفوس الأشقياء وغيرهم من الناس إلى أجساد الحيوانات المناسبة لها في الأخلاق والأعمال من غير خلاص كما ذهب إليه شرذمة قليلة من الحكماء وهم المعروفون بالتناسخية وهم أقل الحكماء تحصيلا حيث ذهبوا إلى امتناع تجرد شيء من النفوس بعد المفارقة لأنها جرمية دائمة التردد في أبدان الحيوانات وغيرها فهو أن تلك النفوس لا يخلو إما أن يكون منطبعة في الأبدان أو مجردة وكلا القسمين محال. أما الأول فلما عرفت من استحالة انطباع النفوس الإنسانية ومع استحالته ينافي مذهبهم أيضا لامتناع انتقال الصور والأعراض من محل إلى محل آخر. وأما الثاني فلأن العناية الإلهية مقتضية لإيصال كل ذي كمال إلى كماله وكمال النفس المجردة أما العلمي فبصيرورتها عقلا مستفادا فيها صور جميع
437 الموجودات وأما العملي فبتخليتها عن رذائل الأخلاق وتحليتها بمكارمها فلو كانت دائمة التردد في الأجساد من غير خلاص إلى عالم الأنوار والعقول كانت ممنوعة عن كمالها اللائق بها أزلا وأبدا والعناية الأزلية يأبى ذلك. وأما إبطال ما ذهبت إليه طائفة أخرى غير هؤلاء في باب التناسخ وهو نحوان آخران أحدهما ما نسب إلى المشرقيين من أن أول منزل للنور الأسفهبدي هو الصيصية الإنسانية ويسمونها باب الأبواب لحياة جميع الأبدان الحيوانية. وهذا هو رأي يوذاسف التناسخي القائل بالأدوار والأكوار الذي قيل: إنه حكم بأن الطوفان يقع في أرضها وحذر قومه بذلك وقيل: هو الذي شرع دين الصابية لطهمورث الملك. وكذا مذهب جمع ممن قبله من حكماء بابل وفارس فقالوا إن الكاملين من السعداء يتصل نفوسهم بعد المفارقة بالعالم العقل وتنال من البهجة والسعادة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وأما غير الكاملين من السعداء كالمتوسطين منهم والناقصين في الغاية والأشقياء على طبقاتهم فينتقل نفوسهم إلى تدبير بدن آخر على اختلافهم في جهة النقل حيث اقتصر بعضهم على تجويزه النقل إلى تدبير بدن آخر من النوع الإنساني لا إلى غيره وبعضهم جوز ذلك لكن اشترط أن لا يكون في الحيوان إلا إلى بدن حيواني. وبعضهم جوز النقل من البدن الإنساني إلى البدن النباتي وبعضهم إلى الجمادى أيضا وإليه ميل إخوان الصفا. وثانيهما مذهب القائلين بالنقل في جهة الصعود فزعموا أن الأولى بقبول الفيض الجديد هو النبات لا غير والمزاج الأشرف الإنساني يستدعي نفسا أشرف وهي التي جاوزت الدرجات النباتية والحيوانية فكل نفس إنما يفيض أولا على النبات فينتقل في أنواعه المتفاوتة المراتب من الأنقص إلى الأكمل حتى ينتهي إلى المرتبة المتاخمة لأدنى مرتبة من الحيوان كالنخل مثلا ثم ينتقل منها إلى المرتبة الأدنى
438 من الحيوان مترقبة منها إلى الأعلى فالأعلى حتى تصعد إلى مرتبة الإنسان متخلصة إليها من المرتبة المتاخمة لها إلى المرتبة الأعلى. فنحن نذكر حججا بعضها عاما يبطل التناسخ مطلقا وبعضها خاصا يبطل أحد القسمين ليكون السالك لطريق الآخرة على بصيرة. وأما الحجة العامة: فهي أن النفس إذا تركت البدن لفساد المزاج وخروجه عن قبول تصرفها فلا يخلو إما أن ينتقل إلى عالم العقول أو إلى عالم المثال الذي يقال له الخيال المنفصل تشبيها له بالخيال المتصل أو إلى بدن حيوان من هذا العالم أو تصير معطلة عن تدبير نفساني فالاحتمالات لا يزيد على أربعة والأخيران باطلان فبقي الأولان أحدهما للمقربين وثانيهما لأصحاب اليمين وأصحاب الشمال على طبقات من كل صنف. أما بيان بطلان الأخيرين فأما التعطيل فلما تقرر من أنه لا معطل في الوجود. وأما التناسخ فلأنه إذا اشتغلت النفس بتدبير نطفة استعدت لقبول التأثير والتدبير واستحقت لإفاضة النفس عليه من الواهب العقلي الذي هو مبدأ النفوس والصور على كل قابل مستحق استحقاقا بالطبع لا بالجزاف والاختيار فيؤدي ذلك إلى أن يجمع لبدن واحد نفسان وهو محال. فإن استعداد النطفة لقبول نور النفس من واهب الصور يجري مجرى استعداد الجدار لقبول نور الشمس على الاستقامة إذا رفع الحجاب عن وجهه فإذا كان عند ارتفاع الحجاب ثمة جسم صقيل ينعكس منه نور الشمس الواقع عليه إلى ذلك الجدار أشرق عليه النوران الشمسيان الاستقامي والانعكاسى ولا يمنع النور الانعكاسى وقوع النور الاستقامي عليه فكذلك انتقال النفس المستنسخة إلى نطفة مستعدة لا يمنع فيضان النفس الابتدائية فيلزم ما ذكرناه من اجتماع النفسين في بدن واحد وهو مستحيل لامتناع كون الشيء ذا ذاتين أعني ذا نفسين وما من شخص إلا وهو يشعر بنفس واحدة له فالتناسخ مطلقا ممتنع.
439 وأما عدم تسليم فيضان النفس من الواهب إلى بدن الإنسان كلية على الاطراد مستندا بأن نفوس النبات انتقل إلى الحيوانات ثم صعدت ما تخلص منها إلى رتبة الإنسان ففي غاية السقوط لأن استعداد النبات بمزاجه إذا استدعى نفسا فاستعداد الإنسان لمزاجه الأشرف الأكمل لها أولى. لا يقال: إن مثل هذه الأولويات في عالم الحركات والاتفاقات غير مسموعة فإن لبعض الأشياء أسبابا قدرية غائبة عن شعورنا ولو اتفق الناس على أن يعرفوا أن المقناطيس بأي مزاج استعد لقوة الجاذبة للحديد لم يمكنهم. فليس لأحد أن يقول: إذا استعد مزاج المقناطيس لجذب الحديد فمزاج الإنسان أولى لجذبه لأنه أشرف وذلك لخفاء المرجح. لأنا نقول: المزاج الأشرف الأكمل يستدعي النفس الأشرف الأكمل وتفاوت الشرف في الوجود بحسب تفاوت البراءة عن القيود الهيولانية فكلما كان أشد براءة من عوارض الجسمية والمادية فهو أقرب إلى منبع الوجود الخالي عن القوة والنقص وجذب الحديد ليس من مراتب الشرف والقرب من العالم الأعلى ليكون في الإنسان الذي هو أقرب من الجماد إلى التجرد عن المادة أولى. فإن قالوا: إن المزاج الأشرف إذا استدعى النفس الأشرف فهي التي جاوزت الدرجات النباتية والحيوانية. قلنا: هذه دعوى بلا بينة فإن نفوس الأفلاك شريفة في الغاية ولم ينتقل إليها من النبات والحيوان نفس ولو سلم فالنفس الإنسانية الحادثة بحدوث مزاج الإنسان من لدن كونه منيا إلى أن يبلغ مرتبة الإنسان قد صادفت الدرجات النباتية والحيوانية على نحو استكمال طبيعي حاصل في كلا الجانبين المادة والصورة معا وهذا هو التحقيق في الاستكمالات الإنسانية بحسب أطوارها السابقة على ولادة الشخص لا على ما هو المشهور من أن هناك كونا وفسادا من صورة إلى صورة المتباينة الوجود فإن ذلك غير صحيح كما أشرنا إليه سابقا من استحالة تفويض أحد الفاعلين الطبيعيين تدبيره إلى الفاعل الآخر على قياس تفويض أحد الصانعين المختارين فعله إلى الآخر. ولا يخفى
440 على ذوي الألباب أنه كما استحال انتقال الفعل الطبيعي عن أحد الفاعلين الطبيعيين إلى آخر كذلك استحال انتقال الفاعل الواحد عن فعله الطبيعي إلى فعل طبيعي مباين للأول من غير جهة اتحاد طبيعي بينهما وهو المعنى بالتناسخ فيكون محالا. ولأصحاب النقل متشبثات فينبغي إيرادها وردها ليكون السالك على طمأنينة في إبطال التناسخ: منها أن احتياج النفوس إلى الأبدان لأنها أي النفوس ناقصة بالقوة بحسب أصل الفطرة ولا شك أن العصاة من الأمم الشقية الجاهلية التي كفرت بأنعم الله صارت أنقص والحس مما كانت في أوائل فطرتها فهي أشد احتياجا وأقوى انجذابا إلى المواد البدنية مما كانت. وهذه الشبهة مما ذكرها بعض أهل الحق ولم يقدر على حلها. ومما ألقي في روعي هو أن كل نفس وإن كانت في أول كونها بالقوة في جميع الأشياء من الكمالات الحسية والخيالية والعقلية ولذلك لم يقم بلا مادة بدنية كما قالوا إلا أنها في مدة كونها في البدن اكتسبت أخلاقا وعادات وآراء وملكات شريفة أو خسيسة فصارت بالفعل بعد كونها بالقوة إما في سعادة أخروية ذلك إذا اقتنت ملكات فاضلة وعادات حسنة فصارت بالحقيقة من جنس الملائكة لأنها من أهل الخير وانخرطت في سلكهم. وإما في شقاوة أخروية وذلك إذا اقتنت ملكات رذيلة وعادات قبيحة فتشبهت بالشياطين لأنها من أهل الشر والفساد. وبالجملة فالنفوس التي كانت في أول تكونها قابلة محضة متعلقة بالهيولى صارت بحسب اكتساب الصفات المستقرة التي هي الملكات النفسانية مخرجة من القوة إلى الفعل فغلبت عليها أما النورية والملكية فتلتذ بمجاورة الملائكة ومنادمتهم وهي من السعداء وأما النارية والشيطانية فيتأذى بمجاورة الشيطان وأهل النار وذلك بما كسبت قلوبهم. وسبب التأذي أن هذه الأخلاق الردية والعادات البدنية كلها مؤذية مؤلمة بحسب الحقيقة وإنما لم يقع الإحساس بأذيتها لأجل سكر الطبيعة وغمور النفس في اشتغال البدن فإن العداوة والبغضاء والحسد والنفاق والعجب ونظائرها من
441 الملكات الشرية كلها نيرانات محرقة للقلوب وشعلات مؤلمة للنفوس وهذه النيرانات التي ظهرت في النشأة الآخرة هي بعينها موجودة في نفوس الأشرار وإنما لم يحسوا بها لأنها لا تدرك نحو وجودها وظهورها بهذه الحواس والمشاعر الدنياوية فإن لكل حقيقة في كل نشأة ظهورا خاصا ومشعرا مخصوصا لإدراكه فكما أن الأمور العقلية والخيالية والوهمية لا يدرك بعينها بالحواس الظاهرة فكذلك الأمور الأخروية لا يدرك بهذه الآلات فإن نار النشأة الآخرة وإن كانت موجودة بالفعل لا يمكن مشاهدتها بهذه الباصرة الدنياوية ولا التألم بعذابها بهذه اللامسة الأولية بل يخلق الله تعالى للنفوس الشقية باصرة أخرى يتهيأها لمشاهدة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة ولامسة أخرى لملامستها المؤذية والتألم بفظاعتها وسامعة أخرى لاستماع أصواتها الهائلة والمولمة. وجملة القول في الجواب أن مرتبة القوة والاستعداد لتحصيل الملكات في الدنيا بطلت عن النفوس وتمنى الرجوع إلى كونها بالقوة كما في قوله تعالى حكاية عنها: يا ليتني كنت ترابا تمني أمر مستحيل الوقوع إذ الشيء بالفعل يستحيل أن يصير بالقوة بخلاف العكس فإنه واقع. ومنها أن الفسقة والجهال ربما قلت شواغلها الحسية لنوم أو مرض كالممرودين فتطلع على أمور غيبية وذلك لاتصالها بعالم القدس فلما جاز للأشقياء مفارقة البدن والاتصال بالمبادي العلوية والتلذذ بها حين اغترافها للشهوات فعند فساد البدن وعدم الاشتغال بشهواته أولى فأين يتحقق الشقاوة والتعذب المتوعد عليه في لسان الشرائع والنبوات فلا محالة ينبغي أن لا ينقطع علاقة الأشقياء عن الأجرام لحصول التعذب فيها بسبب اقتراف الخطيئات فلا بد أن ينتقل نفوس العصاة والمذنبين إلى شيء من الحيوانات المعذبة في الدنيا على حسب أخلاقهم وعاداتهم
442 المناسبة لبعض الأبدان الحيوانية المعذبة في الدنيا ليبقى معذبة جزاء لأعمالهم. والجواب أنا لا نسلم أن نفوس الأشقياء إذا حصل لها في الدنيا نوع اتصال بالمبادي لأجل تعطل الحواس الظاهرة عن أفاعيلها وجب أن يحصل لها ذلك في الآخرة أيضا لجواز أن يكون نفوسهم فيها أشد اشتغالا عن المبادي بما غشيتهم من عظائم الأهوال والشدائد والدواهي التي لم يبق لهم معها التفات إلى شيء غيرها لأنهم المردودون المقيدون بسلاسل والأغلال المحجوبون عن مشاهدة عالم الأنوار المشار إليهم في الكتاب الإلهي كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وقد حيل بينهم و بين ما يشتهون. ومنها أن للحيوانات شيئا ثابتا في تمام عمرها ولا شيء من أعضاء بدنها إلا وللتحيل فيه لأجل الحرارة الغريزية والغريبة الداخلة والخارجة من الهواء المحيط به سبيل ولو يسيرا يسيرا وليس لأحد أن يقول: إن في فرسية هذا الفرس ونفسه دائما في الانتقاص ولها إدراكات كلية لأنا قد نرى أنه إذا ضرب واحد منها بخشبة ثم بعد حين جررت له خشبة يهرب ولو لا أنه بقي في ذهنه معنى كلي مطابق لضرب من ذلك النوع لم يهرب ولما امتنع إعادة عين الضرب الماضي بل العائد مثله لا عينه فإدراكه ليس بالمعنى الجزئي. ثم قد نرى هذه الحيوانات مع اشتراكها في الحيوانية مختلفة في قربها إلى العالم الإنساني وبعدها حتى أن بعضها في غاية القرب من أفق الإنسان كالقردة في الأفعال والطوطي في الأقوال وفي بعضها ضربا من القوة العملية وفي بعضها ضربا من القوة العلمية ثم إن عجائب أحوال بعض الحيوانات كتكبر الأسد وحقد الجمل ورئاسة النحل وسماع الإبل المنسي له مشتهياته يشهد أن لها نفوسا غير منطبعة ينبغي أن ترتقي إلى الإنسانية وبالجملة نراها نحو كمال مترقية إلى غاية فإن كان لها ارتقاء فإلى الإنسان ثم إلى الملك وإن لم يكن لها
443 ذلك فغير لائق بالجود الإلهي منع المستحق عن كماله. والجواب أن لكل نوع من الأنواع الحيوانية بل النباتية ملكا هاديا وعقلا ملهما له إلى خصائص أفعاله متصلا به نحوا من الاتصال وهو رب طلسمه ومقوم ماهيته وذو عناية بأفراد نوعه واختلافها في الشرف والخسة لأجل اختلاف مباديها وأرباب طلسماتها في شدة النورية وضعفها وقربها من نور الأنوار وبعدها منه وأما على طريقة المشائين فغرائب إدراكات بعض الحيوانات وتحريكاتها إنما يكون بمعاونة قوى فلكية وإلهامات سماوية ويجوز أن يصدر عن قوى جرمية بمناسبات مزاجية حركات إدراكية كحال الإبل وتلذذه بالسمعيات. وعلى تقدير أن يكون لها نفوس غير منطبعة متوجه نحو كمالها فكون كمالاتها لا بد وأن يكون عقلانيا غير معلوم فإن كثيرا من الناس ليس لهم في النشأة الآخرة درجة عقلية ولهم مع ذلك لذات وكمالات مثالية وابتهاجات ظنية هي الغاية القصوى من الكمال في حقهم إذ لا شوق لهم في العقليات ولا لهم نصيب من الملكوت الأعلى. إنما المحال منع المستحق عما يستحقه وعن الكمال اللائق في حقه لا الكمال المطلق والخير المحض إذ ربما لم يناسبه ولا يستعده ولا يشتاقه. ثم على تسليم أن لها استعداد نحو الكمال العقلي فلا نسلم أن ذلك يستدعي اجتيازها إلى الدرجة الإنسانية وتخطيها إياها فإن الطريق إلى الله وإلى صقع ملكوته لا ينحصر في واحد. ومنها التشبث بكلمات الأوائل من الحكماء كأفلاطون ومن سبقه من الأساطين وبإشارات الأنبياء المعصومين عن الغلط والخطاء وبآيات الصحيفة الإلهية كقول القائل الحق: كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب. وقوله: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين وقوله: ما من دابة في الأرض
444 و لا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون وقوله: ربنا أمتنا اثنتين و أحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل وقوله تعالى ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون. والجواب أن لتلك الرموز القرآنية والإشارات النبوية محامل صحيحة غير ما ذكرتم وأكثر مواعيد النواميس الإلهية إنما يتحقق في دار أخرى غير هذا الدار وليست الدار الآخرة منحصرة في عالم العقل بل عالم الآخرة عالمان عالم عقلي نوري وعالم مثالي منقسم إلى نعيم نوري وجحيم ظلماني. أما الأول فهو للكاملين المقربين وأما الثاني فأوله للمتوسطين من أصحاب اليمين والسعداء وثانيه للناقصين من أصحاب الشمال وهم الأشقياء المردودون والمغالطة في حمل كلام القدماء الفلاسفة على التناسخ إنما نشأت من الغفلة عن تحقق عالم آخر متوسط بين عالم العقول والأجرام فيه يحشر الناس على هيئات مناسبة لأخلاقهم على التفصيل المقرر بينهم المشهور عنهم حيث قرروا أن لكل خلق من الأخلاق المذمومة والهيئات الردية المتمكنة في النفس أبدان أنواع يختص بذلك الخلق كخلق التكبر والتهور المناسب لأبدان الأسود والخبث والروغان لأبدان الثعالب وأمثالها والمحاكاة والسخرية لأبدان القردة وأشباهها والعجب للطواويس والحرص للخنازير إلى غير ذلك. وكما أن لكل خلق ردي أبدان أنواع مخصوصة من الحيوانات كلها مناسب لذلك الخلق فكذلك بإزاء كل مرتبة قوية أو ضعيفة منه بدن نوع خاص من تلك الحيوانات التي اشتركت في خلق واحد كعظيم الجثة لشديد ذلك الخلق وصغير الجثة لضعيفه وربما كان لشخص واحد من الإنسان عدد كثير من الأخلاق الردية على مراتب متفاوتة فبحسب شدة كل خلق
445 مذموم في نفسه وضعف ذلك وما ينضم إليه من باقي الأخلاق المحمودة والمذمومة القوية والضعيفة واختلاف تراكيبها الكثيرة التي لا يقدر على حصرها أحد إلا الله تعالى يختلف تعلق نفسه المذمومة ببعض الأنواع من أشباح الحيوانات المذمومة دون غيرها وكذا يختلف تعلقها ببعض أفراد نوع واحد دون الباقي. ثم إذا زال عنه ذلك الخلق رأسا أو مرتبة شديدة منه انتقلت نفسه بحسب خلق آخر غيره نوعا أو مرتبة إلى بدن نوع آخر من الحيوان المناسب له إلى أن يزول عن نفسه الهيئات الردية بالكلية إن كانت قابلة للزوال وإن لم يكن بقي فيها وفي الأبدان المناسبة لها أحقابا كثيرة إلى ما شاء الله. وهذه كلها إنما يستصح ويستتم في غير النشأة الدنياوية بل في عالم الآخرة. فقوله تعالى: كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إشارة إلى تبديل أبدانهم المثالية على الوجه المذكور لا كما زعمته التناسخية من انتقال النفس في عالم الاستعدادات من مادة البدنية إلى أخرى لاستحالته كما قررناه. فإن قلت: ما قررت في إبطال التناسخ هو بعينه جار في تعلق النفوس إلى الأبدان في النشأة الأخروية فإن البدن الأخروي إذا استعد لتعلق نفس به فلا بد أن يفيض عليه من الواهب نفس مدبرة إياه فإذا تعلقت هذه النفس المنتقلة عن الدنيا به لزم تعلق نفسين ببدن واحد فما هو جوابك فهو جوابنا. قلنا: الأبدان الأخروية ليست وجوداتها بسبب استعدادات المواد وحركاتها وتهيئاتها واستكمالاتها المتدرجة الحاصلة لها عن أسباب غريبة ولواحق مفارقة بل هي فائضة بمجرد إبداع الحق الأول إياها بحسب الجهات الفاعلية من غير مشاركة القوابل فكل جوهر مفارق نفساني يلزمه شبح مثالي ينشأ منه بحسب ملكاته وأخلاقه وهيئاته النفسانية بلا مدخلية الاستعدادات والمواد والحركات لحصولها شيئا فشيئا في هذا العالم. فليس وجود البدن الأخروي متقدما على وجود نفسه بل هما معا في
446 الوجود كمعية الظل وذي الظل فكما أن الشخص والظل أحدهما لم يحصل الاستعداد من الآخر لوجوده بل على سبيل التبعية واللزوم فهكذا قياس الأبدان الأخروية مع نفوسها المتعلقة بها. فإن قلت: النصوص القرآنية دالة على أن البدن الأخروي لكل إنسان هو بعينه هذا البدن الدنياوي له. قلنا نعم ولكن من حيث الصورة لا من حيث المادة والكيفية والمقدار وغيرها من العوارض المادة والشيء إنما يتم بصورته لا بمادته وكذا الكلام في أعضاء شخص واحد كيف وقد ورد أن أهل الجنة جرد مرد وأن ضرس الكافر مثل جبل أحد إلى غير ذلك مما يدل على أن البدن الأخروي ليس هو بعينه البدن الدنياوي من حيث الشكل والمقدار وغيرهما بل من حيث الذات والصورة. فكما أن جهة الاتحاد في بدن شخص واحد من الصبيان إلى الشيخوخة مع تبدل الصورة والهيئات بل كثير من الأعضاء والأدوات هي النفس ومرتبة مبهمة من المادة غاية الإبهام. ولذا يقال لمن جنى في الشباب فعوقب في المشيب أنه عوقب الجاني لا غيره فكذلك جهة الوحدة في البدن الدنياوي والبدن الأخروي هي النفس الناطقة وضرب من المادة فلذا يثاب النفس ويعاقب باللذات والآلام الجسمانية لأجل ما صدر عنها من عمل الطاعة وارتكاب المعصية بهذه الأعضاء والجوارح. والكلام في تشخص الأعضاء من حيث هي أعضاء لشخص واحد هو ما ذكرناه بعينه وسيأتي زيادة تحقيق لهذا المقام في موضعه إن شاء الله العزيز. ومنها أن العالم الذي فيه الآفات والعاهات والشرور والنقائص هو هذا العالم العنصري دون غيره من العوالم لأنه أكثفها وأكدرها وأدونها فإن أشرف العوالم عالم العقول ثم النفوس ثم الأشباح ثم الأجرام وأكثف الأجرام هي الأرض ثم باقي العناصر والمركبات الحاصلة منها فينبغي أن يكون هي
447 جهنم الأشقياء التي قيل لها: هل امتلأت ف تقول هل من مزيد ودركاتها هي أبدان الحيوانات التي كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها لتراكم جهالاتهم ورداءة أخلاقهم بخلاف السعداء الذين وقع فيهم قوله تعالى: لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى و وقاهم عذاب الجحيم وذلك لاستحالة انتقال نفوسهم إلى الحيوانات المعذبة التي هي أبواب الجحيم ولكل باب منهم جزء مقسوم لغلبة الأخلاق المرضية والهيئات المحمودة عليها وإذا لم ينتقل نفوسهم إلى الأبدان الحيوانات فلا يذوقون في الدنيا إلا الموتة الأولى التي هي مفارقتهم عن الأبدان الإنسانية. والجواب أن اختصاص التعذيب التام في نشأة لا يستلزم كونها أخس النشئات فإن النشأة التي يقع فيها التعذيب للأشقياء والتنعم للسعداء هي النشأة الإدراكية التي هي أصفى وألطف من النشأة الجرمانية وهي دار الآخرة التي هي الحيوان لو كانوا يعلمون لأن الملذ والموذي في الحقيقة أمور غير محسوسة بهذا الحس الظاهري الدنياوي بل بالحواس الباطنة الأخروي لأن سكر الطبيعة وخدرها الحاصل للنفس في هذه الدار لأجل اشتغالها بتدبير البدن يمنع أن يدرك لوازم أخلاقها وتوابع ملكاتها الحاصلة لها لأجل الأعمال الحسنة أو القبيحة إدراكا حقا غير مشوب بما يورد عليه الحواس ويشتغل به من الأفعال فإذا ارتفع عنها الحجاب وانكشف الغطاء وقع اليوم بصره إلى تبعات أخلاقه ولحقات أعماله فيقع لها إما اللذة الوافرة العظيمة إن كانت رضية الأخلاق حسنة الأعمال صحيحة الاعتقاد أو الألم الشديد والداهية العظيمة إن كانت سيئة الأخلاق قبيحة الأعمال باطلة الاعتقاد كما في قوله: فكشفنا عنك
448 غطاءك فبصرك اليوم حديد فجحيم الآخرة وإن كانت ألطف من هذه الدنيا إلا أن عذاب الأشقياء وآلامها على وجهها إنما يتحقق فيها لا في هذه الدار ولطافتها يوجب ذلك لكون الإدراك الذي هو ملاك التعذب فيها أصدق وأصفى. وقوله تعالى: و إن جهنم لمحيطة بالكافرين إشارة إلى أن باعث الألم والعذاب موجود بالفعل للكفار وهم لا يدركونه لسكر طبيعتهم وتخدر مداركهم عن إدراكه. ومن تأمل في الأحوال التي قد يراها أو يتوهمها الإنسان عند النوم أو غيره بلا جهة ظاهرة محسوسة لتيقن أن عذاب الآخرة وآلامها أشد وأبقى من عذاب الدنيا ومحنتها لأنها أشد استقرارا وأغرز في النفس من هذه الحسيات. ومنها أن التعذب بالجهل المركب وغيره من الأحوال التي وعدها الشارع إن كان يلحق الجواهر الروحاني مجردا عن علائق الأجسام فكيف يحصل من مثله هذا التصور المحدود وليست معه قوة التخيل إذ الجهل المركب لا بد فيه من تصورات وتصديقات خلاف ما ينبغي منشؤها المتخيلة ومعلوم أن الفائض من المبادي العالية ما لم يكن فينا سوء استعداد جرمي لا يكون في الاعتقاديات إلا ما طابق الواقع فإن جهات الشر والآفة والكذب والجهل الذي هو ضرب من الصور العلمية وغيرها راجعة إلى هيئات مادية فموضوع التعذيب بالآلام والشدائد الأخروية إن كان هو الجوهر المفارق لعلاقة الأجرام فلا تعذيب له بالجهل المركب وغيره لعدم التخيل. غاية ما في الباب أن يبقى فيه أخلاق وملكات فإذا لم يبق مدد إدراكي زالت بالكلية ولا شوق إلى ما لا يتصور له بوجه ولا مخصص ولا قوة شوقية فلا تألم بالشوق أيضا إلى مشتهياتها ولذاتها الدنياوية وقد ارتفعت المشوشات الحسية عنه فكان حاله حينئذ حال من سكنت قواه فنال الغبطة العظمى من الرحمة الإلهية في عالم القدس والرحمة وإن كان موضوع التخيل هو الدماغ الإنساني فهو يفسد حالة الموت
449 ويفسد مع فساده التصور والحفظ والذكر والفكر وإن كان جسما آخر فلكيا كما ظنه بعضهم فمعلوم أن علاقة الجوهر الروحاني إنما هي لنسبة بين المادة البدنية وبين الجوهر الروحاني فإنه نسبة حدثت بينهما بالموت أوجبت اختصاصه به وانجذابه من بين سائر الجواهر المفارقة لأبدانها إليه دون غيره من الأجرام بل إلى حيزه دون بقية الأحياز من نوع ذلك الجسم. ثم إن الجسم الذي هو موضوع تخيلات النفس يجب أن يتصرف فيه النفس وتحركه بحركات جرمية تابعة للحركات النفسانية والانتقالات الفكرية كما يعرض لجوهر الدماغ من الانفعالات والتغيرات وظاهر أن الجوهر الفلكي يأبى عن تصرف فيه من غير نفسه المحركة إياه حركة متشابهة مستمرة على نهج واحد وإن كان جرما مركبا دخانيا تحت كرة النار كما زعمه قوم فهو أيضا غير صحيح لعدم اعتدال فيه يصلح لقبول النفس المدبرة له فإنه إن قرب من النار فتحلله بسرعة إلى جوهرها وإن بعد منها ويكون في حيز الهواء فإما أن يتخلخل فيصعد بحر أو يتكاثف فينزل ببرد وليس فيه جرم محيط يغلب عليه من الصلابة واليبس ما يحفظه عن التبدد ويحرسه عن ممازجة غيره به كما للجوهر الدماغي فينا ليتعين فيه محل التخيل متشكلا به ولا بد من جوهر يابس ليتحفظ فيه الصور ورطب لتقبل. ثم لما كانت النفوس المفارقة عن الأبدان الإنسانية غير متناهية لزم مما ذكروا اجتماع المفارقات كلها على جسم من أجسام العالم فيلزم إما نهاية تلك الجواهر أو عدم نهاية ذلك الجسم وكلاهما محال. والجواب أن التجرد الواقع في الكلام المشكك إن أراد به التجرد عن الأجساد الحسية والأشباح المثالية جميعا فليس الحال كذلك في نفوس الناقصين والمتوسطين لأنها وإن تجردت عن الحسية ولكن لم يتجرد عن المثالية وإن أراد به التجرد عن الأجساد الحسية دون المثالية فهو الصحيح ولا فساد فيه. وأما قوله: فكيف يحصل من مثله هذا التصور المحدود وليست معه قوة التخيل فممنوع لأن للجوهر المفارق عن القوى الجرمية دون المثالية إدراكات جزئية تخيلية وله قوة متخيلة منبعثة عن ذاته فإن له في ذاته قوى باطنية إدراكية وتحريكية يرجع
450 بعضها إلى بعض كما يرجع تخيله إلى بصره الباطنة وكذا يرجع قدرته إلى إدراكه بل هذه القوى البدنية كلها ظلال القوى يكون في جوهر النفس في ذاتها فلها في ذاتها عين باصرة وأذن سامعة وقوة عقلية من شأنها تصور الحقائق على وجه الحضوري المشاهد على طبق ما يتصوره الإنسان في هذا العالم فإن المعرفة والتصور هاهنا بذر المشاهدة في العقبى فإن كان تصورات الرجل في هذا العالم من باب الخيرات والحسنات والنيات الصالحة صارت مادة لجنات ورضوان وروح وريحان وحور وغلمان وملائكة يسر بمنادمتها في دنياه ويرتاح برؤيتها ومعاشرتها في أخراه. وإن كانت من الشرور والقبائح والنيات الفاسدة صارت مادة لحيات وعقارب ونيران ومالك غضبان وشياطين يتضرر بمنادمتها في دنياه ويتأذى برؤيتها ومصاحبتها في عقباه. وأما قوله: لما كانت النفوس المفارقة عن الأبدان غير متناهية لزم اجتماع المفارقات كلها (إلى آخره) فهو مدفوع لأن الكلام ليس في جميع المفارقات من النفوس إنما هو في نفوس الأشقياء فلا يلزم ما ذكره فإن النفوس بعضها مما لا تعلق لها بالأجرام وما يتعلق منها بالأشباح المثالية وإن فرض كونها غير متناهية لم يلزم منه فساد لعدم التزاحم في الصور المثالية على محل واحد فيجوز عدم تناهيها. وعلى هذا لا يلزم نهاية تلك الجواهر ولا عدم نهاية تلك الأجسام وأما باقي مقدماته فبعضها مما نحكم بصحتها ونعين عليها لملاءمتها لما نحن فيه وبعضها مما لا يضر صحتها ولا فسادها فلا نتعرض لها نفيا وإثباتا ولا قدحا وتصويبا. ثم إني لأتعجب من بعض الموصوفين بالتأله واستشراق الأنوار العلمية مع شدة توغله في فقه الأنوار وفهم الأسرار واعتنائه بوجود عالم مثالي برزخي بين المفارقات الصرفة وبين المتعلقات الهيولانية كيف صوب قول بعض العلماء من كون جرم سماوي موضوعا لتخيلات طوائف من السعداء والأشقياء لأنهم لم يتصور لهم العالم العقلي ولم ينقع علاقتهم عن الأجرام وهم بعد بالقوة التي احتاجت النفس إلى علاقة البدن وكيف قال إنه كلام حسن إلا أنه خالفهم ذلك القول في تعلق نفوس
451 الأشقياء بتلك الأجرام الشريفة ذوات النفوس النورانية. وقال: والقوة يحوجهم إلى التخيل الجرمي فليس ممتنع أن يكون تحت فلك القمر وفوق كرة النار جرم كروي غير منخرق هو نوع بنفسه ويكون برزخا بين العالم الأثيري والعنصري موضوعا لتخيلاتهم فيتخيلون به من أعمالهم السيئة مثلا من نيران وحيات تلسع وعقارب تلذع وزقوم تشرب وغير ذلك. وقال: وبهذا يندفع ما بقي من شبهة أهل التناسخ ولست أشك لما اشتغلت به من الرياضات أن الجهال والفجرة لو تجردوا عن قوة جرمية مذكورة لأحوالهم مستتبعة لملكاتهم مخصصة لتصوراتهم نجوا إلى الروح الأكبر. انتهى. وأنت قد دريت أن كون جسم من الأجسام موضوعا لتخيل النفس لا يستقيم إلا بأن يكون معها علاقة علية ومعلولية بالذات أو بتوسط ما له معها تلك العلاقة بالذات. وبالجملة لا بد من أن يكون في تصرف النفس بوجه من الوجوه وأقل ذلك كما يكون في المرائي والأشياء الصيقلية التي لها علاقة وضعية بالنسبة إلى المادة البدنية التي هي موضوعة لأفاعيل النفس ومحل لقواها ومطرح لأشعتها وأضوائها المنبعثة عن ذاتها النيرة الواقعة عليه وليس الجرم الفلكي أو ما يجري مجراه مما يؤثر فيه شيء إلا نفسه الفائضة عليه من مبدأ العقلي (مبدأه خ ل من المبدأ العقلي). وقد أشرنا سابقا إلى أن الأجرام العلوية ليست مطيعة لغير مباديها الذاتية ولا قابلة للتأثرات من الغريبة من القواسر. وليست أيضا لتلك النفوس أبدان عندهم حتى يكون لأبدانها بالقياس إلى تلك الأجرام الشريفة علاقة وضعية لتصير كالمرآت لتلك النفوس تشاهد ما فيها من الصور وعلى تقدير كون الجرم الفلكي كالمرآت لتخيلاتها يكون الصور المرتسمة في مرائيها هي تخيلات
452 الأفلاك لا تخيلات تلك النفوس فكيف يجوز أن يكون الجرم الفلكي موضوعا لتخيلات نفس إنساني سواء كانت سعيدة أو شقية. ثم إن ما به يتعذب الأشقياء على ما اعترفوا به هي هيئاتهم الردية وتخيلاتهم النفسانية الباطلة وعقائدهم الوهمانية الخبيثة الفاسدة دون الصور المطابقة لما هو الواقع لأن الكائن في القابل الذي في غاية الخلوص والنقاء كالأجرام العلوية من الفاعل الذي في غاية الشرف والتقدس والبهاء كالمبادي العقلية لا يكون إلا صورا علمية حقة مطابقة لما في نفس الأمر فلا يستقيم بذلك ما قالوه ولا يستتم به ما صوروه من كونها مما يتعذب به الأشقياء. وكما أن هذا في الجرم الفلكي غير صحيح كذلك من الإبداعي الغير المنخرق المنحصر نوعه في شخصه غير صحيح بل هذا الجرم أيضا على ما صوروه طبيعة خامسة فلكية وإن كانت تحت القمر للزوم كونه عديم الحركة الغير المستديرة دائما وسائر ما يلزمه من صفات الأفلاك. ولعل عدد نفوس الأشقياء غير متناهية فكيف يكون جرم متناه موضوعا لتصرفاتها وصورها الإدراكية الغير المتناهية ولا أقل من أن يكون ذا قوة غير متناهية إذ لا بد أن يكون بإزاء كل ارتسام لصورة في جسم قوة واستعداد في ذلك الجسم وذلك معلوم الفساد بل الحق ما حققناه من أن الصور الملذة والموذية في النشأة الثانية للسعداء والأشقياء كما وعدها الشريعة الحقة النبوية ع هي واقعة في صقع آخر مثالي مظاهرها نفوس هاتين الطائفتين بضرب من الفعل والتأثير كما أن الصور يقع في المرائي بضرب من القبول ولا منافاة بين صدور الفعل من قوة بجهة وانفعالها عنه لذة كان أو ألما بجهة أخرى كما أن الصحة والمرض البدنيين ينشئان من النفس في هذه الدار بواسطة ما سبق منها من أفعال تصلح المزاج أو لا تصلحه من الأكل وغيره ثم ينفعل النفس منهما ويكون من أحدهما في راحة ومن الآخر في مشقة وذلك لكون النفس ذا جهتين فعل وقوة وكمال ونقص يفعل بأحدهما وينفعل بالآخر فهكذا يكون
453 حالها بحسب فعل الطاعات والمعاصي المؤدية لصور الحسنة والقبيحة عند تجسم الأعمال فيتنعم بإحداهما ويتعذب بالأخرى وتانك الجهتان المصححتان لكون النفس فاعلة لشيء ومنفعلة عنه هما موجودتان في النفس ما لم يصر بعد عقلا صرفا يكون فعالا دراكا بجهة واحدة كما أشير إليه سابقا من أن عنه وفيه في العقل بالفعل شيء واحد. فقد ثبت أن جميع ما يلحق النفس في الآخرة وهو ما ينشأ منها وتلك النفوس أي النفوس السعداء المتوسطين في العلم والعمل والناقصين في العلم دون العمل والأشقياء الناقصين فيهما وإن تجردت عن المواد والأجرام الدنياوية الطبيعية لكنها متعلقة بعد بالأشباح الأخروية التي في باب الإلذاذ والإيلام أشد وأبقى من هذه الأجرام كما في قوله تعالى: و لعذاب الآخرة أشد و أبقى بل هذه النار من جملة آثار تلك النار أو عينها بوجه لكنها نزلت وتكدرت وضعفت قوتها وتأثيرها كما روي أن هذه النار الدنياوية من نار جهنم غسلت بسبعين ماء ثم نزلت. وقس النور على النار حتى تعلم أن نعيم الآخرة بالنسبة إلى نعيم الدنياوية في أي مرتبة من العظمة. تأييد تنبيهي ومما يؤيد ما ذكرناه من بطلان تعلق النفوس بعد الموت بجرم فلكي أو ما تحته ليكون الحاصلة في قواها المنطبعة من الصور المثالية هي بعينها جنة السعداء وعذاب الأشقياء. وينور ما قررناه من أنهار صور موجودة في عالم آخر لازمة للنفس في صقع آخر مرتبطة بأفعال وأعمال صادرة عنها في الدنيا هو ما صرح به قدوة المكاشفين من العرفاء قدس سره بقوله:
454 عليك أن تعلم أن البرزخ الذي يكون الأرواح فيها بعد المفارقة من النشأة الدنياوية هو غير البرزخ الذي بين الأرواح المجردة والأجسام لأن تنزلات الوجود ومعارجه دورية والمرتبة التي قبل النشأة الدنياوية هي من مراتب التنزلات ولها الأولية والتي بعدها من مراتب المعارج ولها الأخروية. وأيضا الصور التي تلحق الأرواح في البرزخ الأخير إنما هي صور الأعمال ونتيجة الأفعال السابقة في الدنيا بخلاف الصور البرزخ الأول فلا يكون أحدهما عين الآخر لكنهما يشتركان في كونهما عالما روحانيا وجوهرا نورانيا غير مادي. ويؤيده أيضا ما قد صرح في الفتوحات في الباب الحادي والعشرون وثلاثمائة من أن هذا البرزخ غير الأول ويسمى الأول بالغيب الإمكاني والثاني بالغيب المحالي لا مكان ظهور ما في الأول في الشهادة وامتناع رجوع ما في الثاني إليها إلا في الآخرة وقليل من يكاشفه بخلاف الأول ولذلك يشاهد كثير منها ويكاشف البرزخ الأول فيعلم ما يريد أن يقع في العالم الدنياوي من الحوادث ولا يقدر على مكاشفة أحوال الموتى. وكذا قوله قدس سره في الباب الثالث والستين من الفتوحات المكية بعد تبيين ما يراه الإنسان في المرآة: وإلى مثل هذه الحقيقة يصير الإنسان في نومه وبعد موته فيرى الأعراض صورا قائمة بأنفسها تخاطبه ويخاطبها أجسادا حاملة وأرواحا لا يشك فيها والمكاشف يرى في يقظته ما يراه النائم في حال نومه والميت بعد موته كما يرى في الآخرة صور الأعمال يوزن مع كونها أعراضا ويرى الموت كبشا أملح مع أن الموت نسبة مفارقة عن اجتماع ومن الناس من يدرك هذا التخيل بعين الحس ومنهم من يدركه بعين الخيال أعني في حال اليقظة وأما ما في النوم فبعين الخيال قطعا. وقوله أيضا:
455 فجميع ما يدركه الإنسان بعد الموت في البرزخ من الأمور بعين الصور التي هو بها في الدنيا. وقوله أيضا في آخر الباب: وكل إنسان في البرزخ مرهون بكسبه محبوس في صور أعماله إلى أن ينبعث يوم القيامة في النشأة الآخرة. وأما الحجة الخاصة لإبطال النقل في جهة النزول فهي ثنتان الأولى أنها لو كان ما ذهبوا إليه حقا لزم أن يتصل وقت كل فساد لبدن إنساني بوقت كون بدن لحيوان صامت واللازم باطل فالملزوم كذلك. أما بيان الملازمة فلما ذهبوا إليه من أن أول منزل للنور الأسفهبد أي الجوهر المجرد النفسي هو الصيصية الإنسانية أي البدن الإنساني الذي خلق تام القوى والآلات وهو باب الأبواب عندهم لحيات جميع الأبدان العنصرية يعني أن حيات جميع الأبدان الحيوانية إنما يكون بانتقال النفوس الإنسانية إلى أبدانها فلا حيوان عند هؤلاء (وهم يوذاسف التناسخي ومن قبله من حكماء بابل وفارس كما هو المشهور) غير الإنسان إلا أنه نسخ البعض وبقي البعض ويستنسخ الباقي في عالم الغرور إن كان من الناقصين أو سترفع إلى عالم النور إن كان من الكاملين. فأي خلق يغلب على الجوهر النطقي وأية هيئة ظلمانية يتمكن فيه ويركن إليها فيوجب أن ينتقل بعد فساد بدنه إلى بدن مناسب لتلك الهيئة الظلمانية من الحيوانات المنتكسة الرؤس فإن لكل خلق كما مر أبدان أنواع يختص بذلك الخلق ولكل باب منهم جزء مقسوم أي لكل بدن من الحيوانات التي هي أبواب الجحيم وهي عالم العناصر عندهم قدر مخصوص من الخلق المتعلق ببدن ذلك النوع من الحيوان فإن بدن الخنزير والنمل وإن اشتركا في خلق الحرص إلا أن حرص النمل ليس كحرص الخنزير وكذا لا يكون حرص بعض أشخاص كل منهما كحرص الباقي وقس عليه سائر دنائم
456 أخلاقها واختلافها شدة وضعفا وتركيبا وإفرادا كما أشرنا إليه فاختلاف الحيوانات في الحقائق إنما هو لأجل اختلاف الناس في الأخلاق المحمودة والمذمومة وشدتها وضعفها واختلاف تركيبها فإن الأخلاق كلها واردة إليها من المنزل الأول وباب الأبواب الذي هو الإنسان لأنها التي كانت موجودة فيه وصارت منه إليها بانتقال جوهر نفسه الموصوفة بها إليها من غير تعطلها في البين. وأما بطلان اللازم فلظهور عدم العلاقة اللزومية الموجبة لاتصال وقت فساد البدن الإنساني بوقت كون البدن الحيوان الصامت ومنع ذلك مستندا بأن هذه الأمور مضبوطة بهيئات فلكية غايبة عنا كما يجب في خسارة بعض ربح لبعض بحيث لا يبقى المال بينهما معطلا مكابرة إذ مبناه على مجرد احتمال بعيد إذ مع تمكين هذه الاحتمالات لم يبق لأحد اعتماد في الحكم على شيئين بالملازمة وعلى آخرين بعدمها. والثانية أنها لو كان التناسخ على ما ذكروه حقا يلزم أن ينطبق عدد الكائنات من الأبدان الحيوانية على عدد الفاسدات من الأبدان الإنسانية وبطلان التالي يوجب بطلان المقدم. أما بيان حقيقة الشرطية فلأنه لو زادت النفوس على الأبدان لازدحمت عدة منها على بدن واحد فإن لم يتمانع ويتدافع فيكون واحد ذا عدة نفوس وقد تبين بطلانه وإن تمانعت وتدافعت بقيت كلها أو بعضها معطلة ولا معطل في الوجود وإن زادت الأبدان على النفوس فإن تعلقت نفس واحدة بأكثر من بدن واحد لزم أن يكون الحيوان الواحد هو بعينه غيره وإن لم يتعلق فإن حدث لبعض تلك الأبدان نفوس جديدة وللبعض مستنسخة كان ذلك ترجيحا بلا مرجح وإن لم يحدث لبعضها نفوس بقي بعض الأبدان المستعدة للنفس الجديدة بلا نفس والكل محال. وأما بطلان التالي فلأنه قد يكون الكائنات أكثر من الفاسدات إذ في يوم واحد قد يتولد من النمل ما يزيد على أموات الإنسان في سنين بشيء لا يتقايس فضلا عن
457 أموات أهل الحرص منهم في ذلك اليوم وقد يكون الفاسدات أكثر كما في الوباء العام والطوفان الشامل. وأجيب عنه بأنا لا نسلم أن الكائنات أكثر من الفاسدات وإنما يلزم ذلك لو كان تولد كل نمل في يوم بانتقال نفس حريص إليه مات في ذلك اليوم وهو غير لازم لجواز أن يكون بانتقال نفس حريص مات في ألوف من السنين وقد فارقت أبدانا كثيرة إلى أن وصلت إلى هذه النملة فإن نفس الحريص لا يلحق البنية النملية عند الموتة الأولى بل بعد موتات كثيرة فإن من فيه هيئة ردية يتعلق بعد المفارقة بأعظم بدن حيواني يناسب أقوى تلك الهيئات ثم ينزل على الترتيب من الأكبر إلى الأوسط ومنه إلى الأصغر إلى أن يزول تلك الهيئة الردية ثم يتعلق بأعظم بدن حيواني يناسب الهيئة التي تلي الهيئة الأولى في القوة متدرجا في النزول إلى أن تبقى تلك الهيئات وحينئذ يفارق عالم الكون والفساد ويتعلق بأول منازل الجنان لزوال العلائق البدنية الظلمانية والهيئات الردية الجسمانية. ولا نسلم أيضا أن الفاسدات قد يكون أكثر من الكائنات وإنما يلزم ذلك لو جاز أن يرتقي من أبدان سائر الحيوانات إلى الإنسان شيء من نفوسها ليلزم صعوبة انطباق العدد الكثير من أبدان حيوانات كثيرة الأعداد قصيرة الأعمار كأبدان الذباب والبق والبعوض وأمثالها وسائر الحشرات وأمثالها إذ بأقل حرارة أو برودة أو ريح يموت ويفسد من كل واحد من هذه الحشرات في ساعة ما لا يتكون من الإنسان في ألوف من السنين. لا يقال: قد يحصل وباء عام أو طوفان كلي يهلك كل ذي نفس فيلزم زيادة الفاسد على الكائن ضرورة. لأنا نقول: هذا غير معلوم الوقوع فإن الوباء العام لجميع أصناف الحيوانات الشامل لجميع النواحي بحيث لا يبقى حيوان أصلا غير متيقن والمتيقن وجود الوباء في بعض نواحي الأرض دون غيرها وكذا الكلام في الطوفان إذ لا يلزم منه أيضا أن الفاسد من الإنسان أكثر من الكائن من الحيوان لجواز أن يكون بإزاء ما فسد منه كائنات
458 من الحيوانات البحرية كالحيتان ونحوها أو الحشرات الأرضية كالدود وأمثالها ولا استبعاد في أن يكون لكل قوم من أرباب الصناعات الدنياوية أمة من الصوامت البحرية والبرية تشبههم خلقا وعيشة كالجند من الأتراك الذي يشبه خلقهم وعيشهم أخلاق السباع وعيشها فلا جرم بعد موت ذلك القوم تنتقل نفوسهم إلى أعظم نوع من السبع ثم إلى الأوسط على المراتب الكثيرة ثم إلى الأصغر في أحقاب كثيرة وأزمنة متطاولة إلى أن يزول عنها تلك الهيئة الردية فحينئذ يترقى إلى عالم الجنان كما مر. وأقول: العمدة في بطلان التناسخ على جهة النزول هي ملاحظة أن الصورة في كل مركب عنصري أو فلكي يقوم المادة وأن المادة فيه تعين الصورة وتخصصها بل نقول: بين كل صورة سواء كانت نفسا أو غير نفس وبين مادتها سواء كان بدنا أو غيره نوع اتحاد لا يمكن زوال أحدهما وبقاء الآخر بما هما صورة ومادة فإن نسبة المادة إلى الصورة نسبة النفس إلى التمام. وهذا ما برهن عليه بالبينات البرهانية والتعليمات الإلهية فوجود كل مادة بما هي مادة إنما هو بصورتها التي بها يخرج من القوة إلى الفعل وهذية كل صورة بما هي صورة إنما هي بمادته التي هي قابلة لتشخصاتها ولوازمها وعوارضها فإذا تكونت مادة من المواد تكونت معها صورتها التي يكون من سنخها وإذا فسدت فسدت صورتها لما علمت أن الصورة ليست إلا تمام المادة وكمالها فوجود الشيء الناقص من حيث هو ناقص مستحيل وكذا كمال الشيء بما هو كماله إذا فسد فسد ذلك الشيء نعم ربما يكون للصورة لا بما هي صورة لشيء بل باعتبار كونها ذاتا مستقلة حاصلة لذاتها وجود آخر وربما يكون لمادة الشيء (لا بما هي مادة له) تقوم بصورة أخرى يوجد معها ويتحد بها نحوا من الاتحاد لأن حقيقة المادة حقيقة جنسية من شأنها الاتحاد بمبادي فصول متخالفة هي صور نوعية فكما أن كل حصة من الجنس إذا عدمت عدم معها الفصل المحصل لها وإذا عدم الفصل عدمت تلك الحصة الجنسية التي يتحد معها ويتقوم بها نوعا فكذلك حال كل نفس ونسبتها إلى البدن الخاص بها في الملازمة بينهما في الكون والفساد فإن النفس من حيث هي نفس هي بعينها صورة نوعية للبدن
459 الذي هو بما هو بدن مادة لنفسه إذ النفس ما دامت يكون ناقصة الجوهر ضعيفة الوجود يحتاج إلى مقارنة البدن العنصري لأن وجودها كوجود الأعراض يكون في محل إلا أن محل الأعراض لا يحتاج في كماله الأول إليها بخلاف النفوس والصور فإنهما كما يحتاج إلى المادة تحتاج المادة إليها أيضا على الوجه الدائر دورا غير ممتنع لاختلاف جهة الاحتياج ففساد كل من النفس والبدن من حيث هما نفس وبدن أي صورة ومادة يحصل منهما نوع طبيعي كالإنسان يوجب فسادا للآخر نعم لما جاز أن يكون للنفوس البشرية نحو آخر من الوجود غير وجودها البدني العنصري ففسادها من حيث كونها صورة ونفسا لا يوجب فسادها مطلقا ومن حيث كونها ذاتا مستقلة مباينة للبدن وقواه. إذا تمهدت هذه المقدمة نقول: ما من نفس إنسانية إلا ولها وجود استقلالي بعد بوار هذا البدن ولها بحسب ما لها من الأفعال والأعمال نوع فعلية وتحصل في الوجود وهيئات خلقية حاصلة لها بالفعل سواء كانت تلك الأخلاق والهيئات التي يوجب فعلية ذاتها وتحصل وجودها أوصافا ملكية أو شيطانية أو سبعية أو بهيمية فإذا خرجت النفس الإنسانية في مدة كونها العنصري وحياتها الطبيعي ونشئاتها الدنياوية من القوة التي كانت لها في أول الفطرة وصارت بالفعل بحسب ما حصل لها من الأخلاق والملكات منخرطة في سلك أنواع شيء من هذه الأجناس الأربعة التي تحت كل جنس منها أنواع كثيرة كل منها مشتملة على أشخاص غير محصورة في عدد معين فصارت صورة بلا مادة بوجه وفعلية بلا قوة أصلا سواء كانت سعيدة أو شقية منعمة بلوازم أخلاق الشريفة وأعمالها الحسنة أو معذبة بنتائج أخلاقها الخسيسة وأفعالها القبيحة. وأما الأبدان الأخروية المناسبة لأخلاق النفوس وملكاتها فهي ليست مواد لتلك النفوس حاملة لقوة كمالاتها وهيئاتها بل هي أشباح ظلالية وأظلال مثالية حاصلة من تلك النفوس بمجرد جهات فاعلية بلا مدخلية الجهات القابلية. وكلما يحصل من الجهة الفاعلية الصرفة والهيئات الصورية المختصة بلا مدخلية القوى المنفعلة والهيئات الاستعدادية فهو لا يكون مادة ولا بدنا بما هو بدن بل وجوده كوجود
460 ذي الظل فإن ذي الظل لا يستكمل بظله ولا ينفعل منه ولا يتغير عن حاله بسببه ولا يلتفت إليه. فهذه الأحكام التي زعمتها أصحاب التناسخ ثابتة للنفس موجبة لانتقالها إلى بدن آخر عنصري حاصلة لها بعد انتقالها إليه منفسخة بما حققناه من صيرورة نفس في مدة حياتها الطبيعية نوعا متحصلا بالفعل بحسب الحقيقة الباطنية. فإن قلت: أليس الإنسان نوعا واحدا والنفوس الإنسانية كلها أشخاص نوع واحد. قلنا: نعم من حيثية ولا من حيثية إذ الإنسان بما هو مركب من مادة عنصرية ذي مزاج معتدل بشري ونفس حافظة لذلك المزاج ومبدإ الفصل وهيئة وصورة لمادته ومدبرة لتدابير الإنسانية وفاعلة لأفعال وأعمال يخصه نوع واحد والنفوس الإنسانية من حيث كونها نفوسا مندرجة تحت نوع واحد من الجهة التي ذكرناها مع قطع النظر عن صيرورة كل منها في منتهى الأمر لأجل الهيئات والملكات التي تصير النفس مصورا بصورة خاصة مباينا للأخرى. وأما من جهة صيرورة النفس مصورا بصورة عقلية أو آراء جهلية أو هيئات صناعية أو أخلاق سبعية أو ملكات بهيمية فهي لا محالة يصير أنواعا متنوعة وحقائق متخالفة ويتصور بصور متخالفة الهيئات والأشكال في النشأة الثانية لا في هذه النشأة الدنياوية لاستحالته كما قررنا فالنفس ما دامت يكون بالقوة يمكن لها اكتساب أي مرتبة شاءت لمكان استعدادها قبل صيرورتها بالفعل شيئا من الأشياء المتحصلة. وأما إذا صارت مصورة بصورة فعلية واستحكمت فعليتها ورسوخها وقوى تعلقها ولصوقها بالنفس فاستقرت على تلك المرتبة وبطل عنها استعداد الانتقال من النقص إلى الكمال والتطور من حال إلى حال فإن الرجوع إلى الفطرة الأولى والعود إلى مرتبة التراب والهيولاني كما في
461 قوله تعالى: يا ليتني كنت ترابا مجرد تمني أمر مستحيل كما مر والمحال غير مقدور عليه. وبالجملة للنفس الإنسانية نشأت ثلاث إدراكية: النشأة الأولى هي الحسية ومظهرها الحواس الخمس الظاهرة ويقال لها الدنيا لدنوها ولتقدمها على الأخيرتين وخيراتها وشرورها معلومة لا يحتاج إلى البيان. والنشأة الثانية هي المثالية ومظهرها الحواس الباطنة ويقال لها الآخرة والعاقبة لما علمت بالمقايسة إلى الأولى و لقد علمتم النشأة الأولى فلو لا تذكرون وينقسم إلى الجنة وهي دار السعداء والجحيم وهي دار الأشقياء ومبادي السعادات والشقاوات فيهما هي الأخلاق والأوصاف الفاضلة والرذيلة. والنشأة الثالثة هي العقلية ومظهرها القوة العاقلة من الإنسان إذا صارت عقلا بالفعل وهي لا يكون إلا خيرا محضا ونورا صرفا فالنشأة الأولى دار القوة والاستعداد والمزرعة لبذور النفوس والنيات والآخرتان المثالية والعقلية كل منهما دار التمام والفعلية وتحصيل الثمرات وحصد المزروعات فلما لم يكن النفس ذات قوة صرفة ساذجة من النقوش والأوصاف والملكات إلا في أول كونها ومبدأ فطرتها قبل أن يخرج من فطرتها الأصلية إلى فعلية الآراء والملكات والأخلاق فلا يمكن أن يتكرر لها الهيولانية والقوة الساذجة بحسب فطرة ثانية وتكون آخر حين تعلقها بمادة أخرى حيوانية لأن عروض هذه الحالة الهيولانية لا يمكن إلا بانخلاعها عن جملة الأوصاف والملكات. وهذا مع استحالته يناقض مذهبهم من أن انتقال النفوس إلى الأبدان الحيوانية بواسطة ثبوت الأخلاق والملكات الردية فيها.
462 وأما الحجة الخاصة بإبطال النقل في جهة الصعود فهي أن الحيوان الصامت إن لم يكن نفسه مجردة بل جرمانية فيستحيل عليها الانتقال من بدن إلى بدن لكونها جوهرا ناعتيا وإن كانت مجردة فمن أين يحصل لها الكمال والترقي إلى مرتبة الإنسانية وليست لها من الآلات والقوى إلا ما هي مبادي الآثار الهيولانية والعلائق الأرضية من الشهوة والانتقام اللذين هما أصلان عظيمان للتجرم والإخلاد إلى الأجساد كيف وشئ منهما إذا غلب على الإنسان الذي هو أشرف أنواع العائدات من الكائنات يقتضي أن ينحط درجته إلى نوع نازل من الحيوان المناسب لذلك الخلق سواء كان في هذه النشأة الدنياوية لو كان النقل حقا على ما زعمه الذاهبون إليه أو في النشأة الآخرة كما رآه آخرون وهو الحق عند أهل الله من بطلان النقل فإذا كان مقتضى الشهوة الغالبة والغضب الغالب شقاوة النفس الإنسانية ونزول مرتبتها إلى مراتب الحيوانات العجم التي كمالها في وجود أحد هاتين الصفتين فيها لا غير فيمتنع أن يكون وجود أحد هاتين الصفتين منشأ ارتقائها إلى مرتبة الإنسان. وأما ما قيل: من أن في الحيوانات شيئا ثابتا في تمام عمرها ولا شيء من أعضاء بدنها إلا وللتحلل فيه لأجل الحرارة الغريزية والغريبة الداخلة والخارجة من الهواء المحيط به سبيل ولو يسيرا يسيرا ولا لأحد أن يقول: فرسية هذه الفرس ونفسه دائما في الانتقال ولها إدراكات كلية لأنا قد نرى أنه إذا ضرب واحد منها بخشبة ثم بعد حين جررت له خشبة يهرب ولو لا أنه بقي في ذهنه معنى كلي مطابق لضرب من ذلك النوع لم يهرب ولما امتنع إعادة عين الضرب الماضي بل العائد مثله لا عينه فإدراكه ليس بالمعنى الجزئي. ثم قد نرى هذه الحيوانات مع اشتراكها في الحيوانية مختلفة في قربها إلى العالم الإنساني وبعدها حتى أن بعضها في غاية القرب من أفق الإنسان كالقردة في الأفعال والطوطي في الأقوال ففي بعضها ضرب من القوة العملية وفي
463 بعضها ضرب من القوة العلمية. ثم إن عجائب أحوال بعض الحيوان كتكبر الأسد وحقد الجمل ورئاسة النحل وسماع الإبل المنسي له مشتهياته يشهد بأن لها نفوسا غير منطبعة ينبغي أن يرتقي إلى الإنسانية. وبالجملة نراها متوجهة نحو كمال مترقية إلى غاية فإن كان لها ارتقاء فإلى الإنسان ثم إلى الملك وإن لم يكن ذلك فغير لائق بالجواد الإلهي منع المستحق عن كماله. فجوابه أن لكل نوع من الأنواع الحيوانية بل النباتية ملكا هاديا وعقلا ملهما إلى خصائص أفعاله متصلا به نحوا من الاتصال وهو رب طلسمه ومقوم ماهيته ذو عناية بأفراد نوعه واختلافها في الشرف والخسة لأجل اختلاف مباديها وأرباب طلسماتها في شدة النورية وضعفها وقربها من نور الأنوار وبعدها منه وأما على طريقة المشائين فغرائب إدراكات بعض الحيوانات وتحريكاتها إنما يكون بمعاونة قوى فلكية وإلهامات سماوية ويجوز أن يصدر من قوى جرمية بمناسبات مزاجية حركات إدراكية كحال الإبل وتلذذه بالسمعيات وعلى تقدير أن يكون لها نفوس غير منطبعة متوجهة نحو كمال ما تكون كمالاتها لا بد وأن تكون عقلانية غير معلوم فإن كثيرا من الناس ليس لهم في النشأة الآخرة درجة عقلية ولهم مع ذلك لذات وكمالات مثالية وابتهاجات ظنية هي الغاية القصوى من الكمال في حقهم إذ لا شوق لهم إلى العقليات ولا نصيب لهم من الملكوت الأعلى. إنما المحال منع المستحق عما يستحقه وعن الكمال اللائق في حقه لا الكمال المطلق والخير المحض إذ ربما لم يناسبه ولم يستعده ولا يشتاقه. ثم على تسليم أن لها استعدادا نحو الكمال العقلي فلا نسلم أن ذلك يستدعي اجتيازها إلى الدرجة الإنسانية وتخطيها إياها فإن الطرق إلى الله وإلى صقع ملكوته لا ينحصر في واحد.
464 تقويم تحصيلي وتكميل تمثيلي اعلم أن النفس الإنسانية حاملة للبدن لا البدن حامل لها كما ظن أكثر الخلق حيث قرع أسماعهم أنها زبدة العناصر وصفوة الطبائع وظنوا أن النفس يحصل من الجسم وأنها تقوى بقوة الغذاء ويضعف بضعفه وليس الأمر كما توهموه إنما النفس يحصل الجسم ويوجده وهي الذاهبة به في الجهات المختلفة وهي معه ومع قواه وأعضائه تديره حيث ما دارت تذهب به حيث ما ذهبت من هبوط إلى سفل أو طلوع إلى فوق حيث يمكنه مع كثافة البدن. وأما الطلوع إلى السماء وعالم النور والضياء وجنة هورقليا فلا يمكنها أن يرتقي إلى هناك بهذه الطينة الكثيفة بل يتصور الطلوع إليها إذا تخلصت من هذه المظلمة الكثيفة كما أن الطلوع إلى جنة المقربين وصقع الكروبين مثل الأفلاطونيين لا يتيسر لها إلا إذا انفصلت عن علوق الأجرام والأشكال وامتزاج الصور والأمثال ولها درجات أخرى فوق هاتين أدناها ما يتوقف على طرح الكونين ورفض العالمين. والغرض من هذا الكلام أن النفس الإنسانية أجل من أن يتبع البدن في الوجود والهلاك والكون والفساد والقوة والضعف والكمال والنقص وليس الأمر على ما ظنه الجمهور من الطبيعيين والأطباء أن قطع تعلق النفس من البدن تابع لاختلال البنية وفساد مزاج البدن بل الحق أن النفس أولا ينزجر عن البدن على التدريج لرجوعها الطبيعي إلى عالم آخر وانتقالها قليلا قليلا إلى نشأة ثانية لها لأجل حصول تجوهرها واستقلالها يسيرا يسيرا حتى إذا بلغت غايتها من التجوهر ومبلغها من الفعلية والاستقلال في الذات ينقطع تعلقها عن البدن بالكلية وهذا هو الأجل الطبيعي القضائي دون الأجل الاخترامي الذي هو بحسب القواطع الاتفاقية القدرية. فمنشأ ذبول البدن بعد سن الوقوف شيئا فشيئا إلى أن يهرم ثم يعرض الموت هو فطورات النفس بحسب مراتب قربها إلى النشأة الثانية التي هي النشأة توحدها وانفرادها عن البدن واستقلالها في الوجود. وهذه الحالات المشاهدة للبدن من الشباب والشيب والهرم والموت تابعة
465 لنظائرها من مراتب القوة والقدرة للنفس على النحو التعاكس فكلما حصلت للنفس قوة وفعلية حصل للبدن وهن ودثور إلى أن يحيا النفس ويموت البدن. وهذا الذي ذكرناه لا ينافي الشقاوة الثابتة لبعض النفوس وتعذبهم بالجحيم والنيران التي هي نتائج أخلاقهم وملكاتهم الخبيثة وتبعات أفعالهم وأعمالهم السيئة. فإذا علمت أن موت البدن إنما هو لازم يتبع استقلال النفس في تجوهرها وجودها ورجوعها إلى نشأتها وعالمها الذي هو غير العالم العنصري والبدن الطبيعي تيقنت وتحققت أن تعلق النفس بعد بوار البدن سواء كان بالأجل الطبيعي أو الاخترامي ببدن آخر مستحيل إذ لو تعلقت لتعلقت إلى نطفة حيوان أو جنين بالضرورة. وعلى ما اعترفوا به أيضا فيلزم على ما أصلناه من البيان الخلف من عدم التطابق التعاكسي بين مراتب استكمال النفس والبدن على الوجه المذكور. ولنذكر لتوضيح هذا المقام مثلا مقربا إلى الأفهام فاعلم أن مثال البنية الإنسانية في هذا العالم مثال السفينة في البحر المحكمة الآلة المتقنة الأداة بمن فيها من القوى النفسانية والجنود المسخرة بإذن الله المرتبة أمر هذه السفينة المصلحة حالها فإن سفينة البدن لا تيسر لها السير إلى الجهات إلا بهبوب رياح الإرادات التي يختار صاحبها فإذا سكنت الريح وقفت السفينة عن الجريان بسم الله مجراها ومرساها فكما أنه إذا سكنت الريح التي نسبتها إليه نسبة النفس إلى الجسد وقفت السفينة قبل أن يتعطل شيء من آلاتها ويختل واحد من أجزائها وأركانها كذلك جسد الإنسان إذا فارقته النفس لا يتهيأ له الحركة وإن لم يعدم بعد من آلته شيء ولا ذهب من أعضائه عضو إلا ذهاب ريح الروح منه وانفصالها عنه فقط وبالبرهان حقق أن الريح ليس من جوهر السفينة ولا السفينة حاملة للريح بل الريح حاملها ومحركها ولا يقدر السفينة ومن عليها من الجنود وطوائف القوى المختلفة المذاهب المنتقلة بعضها أو كلها من الفطرة الإسلامية إلى
466 التهود وغيره على استرجاع الريح بعد ذهابها بحيلة يعملونها أو صنعة يصنعونها كذلك الروح ليس من جوهر الجسم ولا الجسم حامل للروح ولا يقدر أحد من القوى والكيفيات المزاجية البدنية على استرجاع النفس إذا فارقت الجسم. والفرق بين الأجل الطبيعي والاخترامي في مثال السفينة هو أنك إذا علمت أن السفينة إذا هلكت لا يخلو عن حالتين إما الفساد من جهة جرمها أو انحلال تركيبها فيدخلها الماء ويكون ذلك سببا لغرقها واستحالتها وهلاك من فيها إن غفلوا عنها ولم يتداركو بإصلاح حالها كهلاك الجسم وقواه من غلبة أحد الطبائع من تهاون صاحبه به وغفلته فلا يبقى النفس معه إذا فسد مزاجه وتعطل نظامه وتعوجت نسبته وضعفت آلته كما لا يبقى الريح للسفينة والريح موجودة في هبوبها غير معدومة في الموضع الذي كانت قبل هلاك السفينة فتلك النفس باقية في معادها كبقاء الريح في أفقها وعالمها بعد تلف الجسم. وأما القسم الثاني فيكون هلاك السفينة بقوة الريح العاصفة الهابة الواردة منها على السفينة ما ليس في وسع آلتها حملها ولا القدرة عليها فيضعف الآلة وتكسر الأداة فإن كان من فيها عارفين بموجب التقدير الإلهي اطمأنت نفوسهم وسلموا إلى ربهم ووعظ بعضهم بعضا بالصبر وقلة الجزع وشوق الارتحال إلى دار المعاد فإذا تم لهم العلم بهذه السياسة والعمل بموجب العقل فقد استراحوا من الغم والهم ووصلوا إلى نعيم الدائم وإن كانوا غير عارفين بموجب التقدير الإلهي وإن كل ما فعله الحكيم خير وصواب ولا مستمعين لحديث الانقياد والتسليم فجزاؤهم الجحيم والحرمان عن النعيم والبعد عن الحق العليم. تتميم حدسي واعلم أيها السالك الخبير والطالب البصير بقوة حدسك أنك قاصد بحسب
467 الفطرة إلى ربك صاعد إليه منذ يوم خلقت نطفة في الرحم وربطت بها نفسك تنقل من حال أدون إلى حال هي أكمل ومن مرتبة هي أنقص إلى أخرى هي أعلى وأشرف إلى درجة هي أرفع إلى أن تلقى ربك وتشاهده ويوفيك حسابك وتبقى عنده نفسك أما فرحانة متلذذة مسرورة مخلدة أبدا سرمدا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا أما محزونة متألمة خاسرة متعذبة بنار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة مع الكفرة والشياطين والفجرة والمنافقين فبئس القرين. بل جميع الموجودات في السلوك إلى الله وهم لا يشعرون لكن هذه الحركة والسير إلى الله تعالى في الإنسان الكامل الذي يقطع أكثر القوس الصعودي إلى الله تعالى أظهر كما يعرفه أهل النظر وأصحاب الفكر من الذين لم يعم أبصارهم عن إدراك الأشياء بغشاوة التقليد والمراء وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. فصل في كيفية حصول العقل الفعال في نفوسنا اعلم أن للعقل الفعال وجودا في نفسه ووجودا في أنفسنا فإن كمال النفس الإنسانية وتمامها إنما هو وجود العقل الفعال واتصالها به واتحادها معه فإن ما لا وصول لشيء إليه بنحو من الاتحاد وضرب من الاتصال لا يكون هو غاية لوجود ذلك الشيء وكأنا قد أومأنا في ذلك إلى نبذ من البيان يكفي لأهل العرفان وإن استشكل الأمر على أحد من جهة أن شيئا واحدا كيف يكون مبدءا فاعليا لشيء متقدما عليه وغاية ذاتية لاحقة به بعد مراتب تصعداته في الوجود وترقياته في الكون فعليه أن ينظر في ما حققناه ويسلك الطريق الذي سلكناه في أسفارنا الإلهية ورياضاتنا القدسية حيث عرفنا بنور البرهان وشهود العيان أن المبدأ الأعلى له الأولية والآخرية لأجل انبساط وحدته الحقة وشمول هويته الإلهية التي هي فاعل الهويات وجاعل الإنيات وثمرة الوجودات وغاية
468 الخيرات لأن وحدة الحقة ليست كسائر الوحدات التي يحصل بتكررها الأعداد فلا ثاني لوحدته كما لا مثل لوجوده بل أحديته الصرفة سارية في الكثرات ووحدته الحقة نافذة في مراتب الموجودات جامعة لأنحاء الهويات شاملة لأطوار الإنيات كما قال مولانا أمير المؤمنين ع مع كل شيء لا بمزاولة وغير كل شيء لا بمزايلة فلأجل سعة رحمته وشمول وجوده لا يأبى وجوده الابتدائي وجوده الانتهائي فمنه ينشأ الموجودات في الابتداء وإليه ينتهي الإنيات في الانتهاء فكذلك وحدات الأنوار القاهرة العقلية ظلال لوحدته القيومية لأن العقول الفعالة ليست إلا شؤونه الإلهية وتجلياته القيومية فوحدتها أنموذج لوحدة الحق ولهذا صارت وسائط ظهور الأشياء من المبدإ الأعلى ووسائل رجوع الموجودات إلى الله تعالى. ثم إنه لا شك أن النظر في العقل الفعال من حيث وجوده في نفسه إنما يليق بالإلهيات وقد ثبت إثبات ذلك بالبرهان وليس النظر فيه الآن من حيث ذاته بل من حيث كونه كمالا للنفس وتماما لها ومن جهة تأثير النفس به وانفعالها عنه والبرهان على وجوده في النفس أن نفس الإنسان في أول صباه بالقوة في الكمال العقلي والوجود المفارقي وإن كانت بالفعل في كونها صورة وكمالا للجسم الطبيعي الآلي ذي الحياة بالقوة من جهة الأفاعيل البشرية والتدابير الإنسانية ثم يصير بالفعل في تصوير الحقائق وإفاضة العلوم وتدوين المسائل وترتيب السياسات العقلية والناموسية وكلما خرج من القوة إلى الفعل فلا بد له من أمر به يخرج إلى الفعل وهذا أيضا لا بد له من سبب يخرجه إلى الفعل إن لم يكن مفطورا على الكمال العقلي مقدسا عن شائبة القوة والنقص الهيولاني ولاستحالة الدور والتسلسل لا بد من الانتهاء إلى كامل بالفعل عاقل فعال مقدس عن النقص والزوال. وهذا النحو من الوجود معلوم أنه ليس بجسم من الأجسام لأن الجسم لا يكون معقولا بالفعل ولا عاقلا أبدا فلا يكون سببا لما ليس بجسم والكلام في وجود سبب يصير به النفس عقلا بالفعل والمعقول من الجسم صورة عقلية لا يحمل عليه الجسم بالحمل الشائع الصناعي فضلا عما سواه من المعقولات التي ليست بجسم ولا هي
469 منطبعة في جسم فلا يدخل في مكان أو وضع حتى يجاورها أو يحاذيها جسم فيؤثر فيها لما تقدم أن تأثير الجسم والجسماني في الأشياء بمشاركة الأوضاع المكانية فإن القرب الوضعي في الجسمانيات بإزاء القرب المعنوي في العقلانيات في قبول الأثر والانفعال واستجلاب الفيض والأفعال. والواجب وإن كان هو الفياض على الإطلاق في كل موجود والجواد المحض على كل قابل للوجود لكن في كل نوع من أنواع الكائنات بوسط يناسبه من الملائكة المقربين وأرباب الأنواع الطبيعية المعتنين بأمر الله تعالى بكلاءة أشخاصها وهم المسمون عند أفلاطون والأفلاطنيين بالمثل الإلهية ولا شك أن أولها بأن يعتنى تكميل النفوس الآدمية هو الذي يسميها الشرع جبرئيل وروح القدس وفي ملة الفرس يسمى روانبخش. وفي كثير من الآيات القرآنية تصريحات بأن هذه المعارف في الناس والأنبياء يحصل بواسطة الملائكة بل استكمال جميع الخلق في أنحاء كمالاتهم والوصول إلى مآربهم وحاجاتهم إنما يكون بتأييد الملك وإمداده فصل في نبذ من أحوال هذا الملك الروحاني المسمى عند العرفاء بالعنقاء على سبيل الرمز العنقاء محقق الوجود عند العرفاء لا يشكون في وجوده كما لا يشكون في وجود البيضائي وهو طائر قدسي مكانه جبل قاف صفيره يوقظ الراقدين في مرقد الظلمات وصوته تنبيه الغافلين عند تذكير الآيات نداؤه ينتهي إلى أسماع الهابطين إلى مهوى الجهالات المترددين كالحيارى في قرية الظالم أهلها والهاوية
470 الظلماني الوحشاء ولكن قل من يستمع إليه لأن أكثرهم عن السمع لمعزولون وعن آيات ربهم معرضون هو مع جميع الخلق وهم لا معه. با مائي وبا ما نه اى * جائى از آن پيدا نه اى وكل من به علة الاستسقاء أو يكون رهين الدق يستشفي بظلاله وكذا من به علة ماليخوليا ينتفع بسماع صفيره بل الأمراض المختلفة والعلل المعضلة تزول بآثار أجنحته ورياشه إلا مرض واحد من مهلكات الأمراض وهو الجهل الراسخ الممتزج بالعناد والاستكبار وله الطيران صعودا وهبوطا من غير حركة وانتقال والذهاب والمجيء من غير تجدد ولا زوال وإليه القرب والبعد من دون مسافة ولا مكان ولا تغير ولا زمان ظهرت منه الألوان في ذوات الألوان وهو مما لا لون له في نفسه ومن فهم لسانه يفهم جميع ألسنة الطيور ويعرف كل الحقائق والأسرار مستوكرة المشرق ولا يخلو عنه ذرة من المغرب الكل به مشتغل وهو فارق عن الكل والمكان مملو منه وهو خال عن المكان والتمكن العلوم كلها والصنائع مأخوذة مستخرجة من صفيره والنغمات اللذيذة والأغاني العجيبة والأرغنونات المطربة وغيرها مستنبطة من أصوات هذا الطير الشريف الذات المبارك الاسم. چون نديدى شبى سليمان را تو چه دانى زبان مرغان را كل من يعوذ بريش من رياشه يجوز النار آمنا من الحرق ويعبر على الماء مصونا من الغرق نسيم الصبا من روائح أنفاسه. ولأجل ذلك أحباء الله وأهل العرفان يخاطبون معه بأقوالهم وعشقاتهم ويكشفون عنده من ضمائرهم في خطبهم ومناجاتهم وله أسماء كثيرة ومن جملة أسمائه كلمة الله العليا ومن أنواره يحصل الكلمات الصغرى كما أن من ظلاله البعيد يحصل الكلمة السفلى قال الله تعالى و جعل كلمة الذين كفروا السفلى و كلمة الله هي العليا وكلمة الله ليست من جنس
471 الأصوات والحروف بل يناسب ذاته وصفاته. وكيفية وساطة الملك العقلاني في استكمالنا العلمي أن المتخيلات المحسوسة ما لم يحضر في خيالنا لما يحصل منها المعاني الكلية المجردة ولكنها في ابتداء الصبا يكون في حكم الصور المرئية الواقعة في موضع مظلم فإذا كمل استعداد النفس أشرق نور العقل الفعال على الصور الحاضرة في الخيال فوقع منها في صقع النفس المجردات الكلية والمثل العقلية وغيرها كما يقع من الصور الملونات عند إشراق الشمس عليها أمثلة في الأبصار السليمة فالشمس مثال للعقل الفعال وبصيرة النفس مثالها قوة الأبصار والمتخيلات مثالها المحسوسات فإنها محسوسة مرئية بالقوة في الظلام والعين مبصرة بالقوة ولا يخرج إلى الفعل إلا بسبب هو إشراق الشمس فكذلك هاهنا ومهما أشرق هذا النور ميزت القوة العقلية من الصور المكتسبة في الخيال العرضي عن الذاتي والجنس عن الفصل والحقيقة للشيء عن الغريبة منها وأخذتها مجردة عن الغريب الذي ليس ذاتيا فيكون مجردا وكليا وعقليا إذا بطلت جزئيته وضيق وجوده بحذف القيود والمخصصات والتعلقات التي هي عرضية خارجة عن حاق كنه الشيء وأصل تجوهره وقوامه الذي يعبر عنه بالمثال العقلي والمبدإ الفاعلي والمقوم الذاتي الذي سعة وجوده وبسط هويته بحيث يكون نسبته إلى جميع الأشخاص الصادق عليها المتحد بها نسبة واحدة وهذه الطبائع الكلية عنوانات لذوات نورية وهويات عقلية وملائكة قدسية ومثل نورية هي مظاهر أسمائه الله الحسنى الكلية عند أقوام من الصوفية. فصل في السعادة الحقيقية للنفس من جهة العقل النظري والعقل العملي والشقاوة التي لها بحسبها اعلم أن النفس الإنسانية إذا استعدت بالاستعداد لقبول فيض العقل الفعال بمزاولة أعمال علمية وحركات فكرية ورياضات لطيفة شوقية وآنست بالاتصال به والإلف معه
472 على الدوام انقطعت حاجته من النظر إلى البدن ومقتضى الحواس ولكن لا يزال يجاذبها ويشغلها ويمنعها عن تمام الاتصال وروح الوصال فإذا انحط عنه شغل البدن ووسواس الوهم ودعابة المتخيلة بالموت ارتفع الحجاب وزال المانع ودام الاتصال لأن النفس باقية والعقل الفعال باق أبدا والفيض من جهته مبذول لذاته والنفس مستعدة لقبوله بجوهرها إذا لم يكن مانع وقد زال المانع فدام الاتصال فإن البدن والحواس وإن احتيج إليها في الابتداء ليحصل بواسطتها الخيالات حتى يستنبط النفس من الخيالات المعاني المجردة ويتفطن بها منها إذ لا يمكن لها ابتداء التفطن بالمعارف إلا بواسطة الحواس وقد قيل من فقد حسا فقد علما. فالحاسة نافعة في الابتداء كالشبكة للصيد والمركب للوصول إلى المقصد ثم بعد حصول المطلوب للطالب يصير عين ما كان شرطا وبالا بحث يكون الفائدة في خلاصه منه لكونه مانعا من التمتع بالمقصد بعد الوصول وشاغلا. وقد علمت أن سعادة كل قوة بنيل ما هو مقتضى طبعها بغير آفة وحصول كمالها من غير عائق وكمال كل قوة من نوعها أو جنسها فكمال الشهوة وسعادتها هو اللذة وكمال الغضب وسعادته هو الغلبة وللوهم الرجاء والتمني وللخيال تصوير المستحسنات وللنفس بحسب ذاتها العقلية الوصول إلى العقليات وصيرورتها موضوعة للصور الإلهية من لدن الحق الأول إلى أدنى الوجود. وأما سعادتها وخاصيتها بحسب مشاركة البدن فصدور أفعال سائغة إلى الخلق العدالة وملكتها وهي أن يتوسط النفس بين الأخلاق المتضادة البدنية فيما يشتهي ولا يشتهي وفيما يغضب ولا يغضب لئلا ينفعل عن البدن وقواه. فإن إذعانها للبدن وقواه من موجبات شقاوتها وبعدها عن الباري تعالى. فإن الارتباط الذي هي بين النفس والبدن يوجب انفعال كل منهما عن الآخر فتارة يحمل النفس على البدن فيقهره تأييدا من الله تعالى وتارة يسلم للبدن وتنقهر عنه بإغواء الشيطان بواسطة تلبيس الوهم وتزيينه مشتهيات البدن على النفس فإذا تكرر تسلمها له انفعلت عنه وحدثت فيها هيئة انقيادية حتى أنه ليعسر عليها بعد ذلك ما كان لا يعسر قبل من ممانعته وكفها عن إغواء
473 قواها وخصوصا الوهمية وإذا تكرر قمعها له واستعلاؤها عن انقياده حدثت فيها هيئة عقلية استعلائية يسهل عليها ما لم يكن يسهل من قبل وهذا الاستعلاء على البدن وعدم الانفعال عن دواعيه إنما يحصل للنفس بأن يفعل الأفعال البدنية التي لا بد لها من فعلها ما دامت في البدن على التوسط كما أن الهيئة الإذعان يحصل لها بوقوع الأفعال منها في طرف واحد من الإفراط والتفريط فكان أفعال التوسط بمنزلة ترك الأفعال البدنية وعدم الالتفات إليها كما أن الفاتر من الماء لا حار ولا بارد وهيئة الاستعلاء والتنزه ليست غريبة عن طبع النفس بل من طبع التجرد والتوحد من المادة والهيئة الإذعانية هي الغريبة في المجرد من حيث هو مجرد المستفادة من المادة التي تعلق بها فسعادة طبع النفس وخاصيتها الوجود الاستقلالي والتنزه عن المواد والأجرام وإدراك المعارف والعلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه ومشاهدة الأشباح العقلية والذوات الروحانية وليس للحس هذه العقليات أصلا فظهر أنه لا يقاس هذه اللذات إلى ما يناله الحس من اللذات المكدرة الجرمية الداثرة والمرغوبات الترابية الكثيفة الزائلة وسبب خلونا عن إدراك لذة العلوم والمعارف ونحن في شغل البدن هو مثل التخدير الحاصل لقوة الذوق حين عدم نيل لذة الطعوم والحلاوات بواسطة مرض بوليموس فلو فرض كون المعارف التي هي مقتضى طباع القوة العقلية وخاصيتها من معرفة الله وملائكته ورسله وكيفية صدور الوجود منه على أحسن نظم وأليق ترتيب حاضرة حين اشتغلت بها في البدن عن أن يصير مستغرقة بالبدن وعوارضه فيستوعب الهم به لكانت لذة النفس بها لذة لا يدرك الوصف كنهها وإنما لا يشتد الرغبة والشوق من العرفاء بمعارفهم في هذا الآن لعدم الذوق التام فإن اللذيذ هو نحو وجود هذه المعلومات الخارجي وإنما الحاصل عند النفس نحو وجودها الضعيف الذهني وإنما ضعف وجودها لضعف إدراك النفس لها لأجل غورها في البدن وإلا فهي أقوياء الوجود وظاهرة النورية والوضوح بحسب أنفسها لكن هذه المعرفة الضعيفة من النفس لها بحسب المفهوم والمعنى إذا كانت مطابقة لما هي عليها في الواقع يؤدي بعد رفع غشاوة البدن إلى مشاهدة المقربين ومصاحبة المقدسين التي لا سعادة فوق مشاهدتهم
474 فإن المعرفة التامة في هذه الدنيا بذر المشاهدة التامة في الآخرة فهذه اللذة العقلية لنفس كملت في هذا العالم بالعلم فإن كانت منفكة عن العلوم منزهة عن الرذائل ليكون مصروفة الهمم إلى المتخيلات فلا يبعد أن يتخيل الصور الملذة فينجر إلى مشاهدتها بعد رفع البدن كما في النوم الذي هو ضرب من الموت لأنه عبارة عن ترك النفس استعمال بعض قواها المحركة والحساسة فيتخيل ما وصف في الجنة من المحسوسات وهذه جنة المتوسطين الصالحين وتلك هي جنة الكاملين المقربين. واعلم أن الوجود هو السعادة والشعور بالوجود سعادة أيضا لكن الوجودات متفاضلة وأشرف الوجودات هو الوجود الحق الأول فأدونها هو الوجود الهيولى والزمان والحركات وما يشبهها ووجود كل شيء لذيذ عنده ووجود علته ألذ لو أدركه على كنهه فإن علة الشيء مقوم ذاته وكمال هويته. والوجودات لما كانت متفاوتة فالسعادات التي هي الشعورات بها متفاوتة وكما أن وجود القوى العقلية أشرف من القوى الحيوانية الشهوية والغضبية والقوى التي هي نفوس البهائم وسائر الحيوانات فسعادتها أجل ولذاتها أتم وأما عدم التذاذنا الآن بالسعادة العقلية مع أنها حاصلة فهو إما لمرض نفساني وإما لاشتغالنا بالبدن وكما أن الآفة إذا زالت عن الحاسة السقيمة عادت إلى ما لها بالطبع فكذلك مقارنة النفس للبدن إذا بطلت ورجعت إلى ذاتها وذات علتها الفياضة ومعاينة جمالها يكون لها من اللذة والسعادة ما لا يمكن أن يوصف أو يقاس به اللذة الحسية وذلك لأن أسباب هذه اللذة أقوى وأكثر وألزم للذات أما قوتها فلأن الإدراك عقلي محصل لحقيقة الشيء الملائم والمدرك هو البهاء المحض والخير الصرف والجود الذي يفيض عنه كل خيرية وكل نظام وكل لذة وكذلك ما بعده من الجواهر العقلية والملائكة الروحانية التي هي معشوقات بذواتها. وأما الأمر الشهواني فإدراكه يتعلق بالظواهر غير متوغل إلى حقيقة الشيء الملائم بل إنما يصله إلى ظاهره وبسيطه ومدركه هو من المأكولات والملموسات والروائح وما أشبهها وأما أكثريتها فلأن مدرك القوة العقلية هو الكل ويدرك الحس
475 والمشاعر الحيوانية بعض من الكل وهي المحسوس منه والقوة الحسية ليس بملائمها جميع محسوساتها بل بعض منها ينافيها وبعض يلائمها بخلاف العقل فإن كل معقول يلائمه ويكمل ذاته وذلك لأن الحسيات يقع فيه التضاد والتضايف والمنافرة لقصور وجوداتها وآفتها والعقليات لها الفسحة والسعة والخيرية والتمام والملائمة. وأما أنها ألزم للذات فإن الصور العقلية التي يعقلها العقل يصير ذاته بل كانت بعض تلك الصور قبل أن يقع له الشعور بها مقومة لذاتها وكان غافلا عنها فيرى ذلك الجمال والبهاء لذاته والمدرك العقلي أيضا ذاته فوصول سبب الإلذاذ إلى المستلذ العقلي أشد وأوغل من ذاته وهذه اللذة شبيه باللذة التي للمبدإ الأول بذاته وبإدراك ذاته وللروحانين. ومعلوم أن لذة الملائكة بإدراك ذواتهم العقلية النورية فوق لذة الحمار بإدراك صورة الجماع والقضيم ونحن لا نشتهي تلك اللذة بالطبع بل بالعقل ولا نحن إليها ولا نتصور من ذواتها إلا باعتبار مفهومات ذهنية صادقة عليها ومفهوم الشيء ومعناه غير حقيقته وهويته ونحو وجوده فإن مفهوم الحلاوة ليس حلوا إلا أن البرهان والعقل يدعوان إلى وجود المستلذات العقلية والمعرفة بالعقليات في الدنيا منشأ الحضور والوجدان في العقبى لما مر أن المعرفة بذر المشاهدة وذلك لأن الحجاب بين العقليات والعقل ليس إلا عدم التفطن بها وهو الجهل أو الاشتغال بغيرها كالبدن والمواد الجسمية وقواها المنطبقة فإن النفس إنما يتوصل إليها باكتساب العلم بحقائق الموجودات والقوة العقلية مستعدة بالطبع لقبول الصور المعقولة من المفارق وليس بعد المفارقة إعراض عن تلك الجهة إلى جانب البدن فيكون مجرد المعرفة باللذائذ العقلي سبب الوصول إليه عند رفع المانع وهو الاستغراق بالبدن وقد انقطع بالموت بخلاف الشعور بالمحسوسات والتخيل لها فإنه غير كاف للوصول إليها والإحساس بها لإمكان الحجب الجسمانية بين الحواس ومحسوساتها اللذيذة والسبب فيه ضيق وجودها وفقد بعضها عن بعض وغيبته عنه حتى أن الجسم الواحد يغيب جزؤه عن جزء آخر بل عن كله وكذا يغيب كله عن جزئه بل لا حضور لشيء منه عند شيء وكذا الجسماني القائم بالجسم من الصفات والأعراض. ولهذا ليس للأجسام بما هي
476 أجسام حياة وإدراك والأجسام الحية ليس كونها جسما هو بعينه كونها حية إنما الحياة لها كون آخر يطرأ عليها بسبب حي بالذات هو نفسها الحيوانية ولو كان وجود الجسم بما هو وجود الجسم حياة لكان وجود كل جسم حياة له وليس كذلك. وأما ما ليس بجسم فلا يمتنع أن يكون وجوده هو بعينه كونه بصفة الحياة كالموجود الأول والعقول المفارقة الذوات والنفوس والحياة ليست ما به يكون الشيء حيا فإنه من المستحيل أن يصير الشيء بهذا الكون ذا هذا الكون بل حياة الشيء حية كما هو طريقتنا في باب الوجود والمضاف والأين والاتصال في الصورة الجسمية والنورية في المفارقات والتقدم والتأخر في أجزاء الزمان. والحاصل أن الوجود الجسماني بصحبة الغفلة والموت والهجران والفوت سواء كان هذا الوجود في طرف المدرك المشتاق أو في طرف المدرك المشتاق إليه لما علمت من قلة الحضور والوجدان فيها حتى شعورنا بذاتنا ووجودها لنا حين فارقنا البدن يكون أتم وأوكد وذلك لأنا لا نشعر بذواتنا مع هذه العلاقة البدنية إلا مخلوطا بالشعور بالبدن لنحو اتصال وارتباط بين النفس والبدن (ارتباط النور بالظل والشعلة بالدخان والشخص بالعكس) إذا فرض أنه قابلية مرآة وفرض أنه لم ير بعد صورتها في المرآة وذلك لأنا لا نعقل شيئا ونحن بدنيون إلا ويقترن به خيال أغلب من العقل. فإذا انقطعت العلاقة بين النفس والبدن وزال هذا الشوب صارت المعقولات مشاهدة والشعور بها وبذواتنا المتحدة معها شهودا إشراقيا وكشفا حضوريا ورؤية عقلية فكان التذاذ النفس بحياتها العقلية أتم وأفضل من كل خير وسعادة. وقد عرفت أن اللذيذ بالحقيقة هو الوجود وخصوصا العقلي وخصوصا المعشوق الحقيقي والكمال المطلق الأتم الواجبي وأن الالتذاذ به هو أفضل الالتذاذ وأفضل الراحة بل هي الراحة التي لا ألم فيها فهذه النفوس التي صارت عقولا بالفعل ستصير إلى راحة لا ألم فيها ووصال لا هجران معه وهذه الأمور لا مدخل لها في الوهم. وليس لجمهور الناس إلا سماع ألفاظ دالة عليها إلا أن البرهان دل عليها كما دل على حقيقة الواجب الوجود وأحوال إلهية فإن القدر الذي من البهجة يناله النفوس
477 المتألهة بالمشاهدة ليس لغيرهم إلا حكايته فإن البهجة تابعة للمشاهدة وحيث يخفى قدر المشاهدة يخفى قدر البهجة فكذلك حالنا في اللذة التي نعرف وجودها لنا إن شاء الله ولا نتصورها مشاهدة لكنا نعلم أنها إذا ارتاحت نفسنا في حياتنا الدنياوية إلى ذكر الله تعالى وفرحت بذكر صفاته العليا من كيفية علمه بجميع الأشياء على وجه لا يعتريها تكثر وتجدد وقدرته على جميع المقدورات بحيث لا يلحقها تغير ولا انفعال ولا فتور ولا إعياء وكيفية عينية صفاته لذاته وكيفية ترتيب الوجود منه على أليق نظام وأفضل هيئة لكانت لها مناسبة إليها يؤذن بأن تنال من السعادة عند الفراغ عن البدن قدرا يعتد به وخصوصا النفس التي أحكمت المسائل وأتقنت العلوم والمعارف على أتم وجه وأبلغه وأقل مراتب السعادة العقلية للنفوس بأن يكتسب هاهنا العلم بالأول تعالى ويعرف نحو وجوده وعنايته وعلمه وإرادته وقدرته وسائر صفاته والعقول الفعالة التي هي ملائكة الله ووسائط فيضه وجوده ويعرف النظام في العالم المبتدأ عن الباري المنتهي الأجسام والمواد ثم الراجع إليه مرتقيا إلى النبات والحيوان والإنسان وهلم إلى درجة العقل المستفاد المضي في المعاد ومن فاز بهذه المعارف فقد فاز فوزا عظيما ونال سعادة عقلية ونعمة سرمدية وخلص عن النقصية التي في فقدها بإزائها ولما علمت أن السعادة العقلية من جهتي العقل النظري والعقل العملي للإنسان وعلمت أن الشرف والفضيلة والزينة والكمال والسرور والغبطة للنفس إنما يحصل بسبب الجزء النظري الذي هو جهة ذاتها وحيثية هويتها. وأما ما يحصل لها بحسب الجزء العملي الذي هو جهة إضافتها إلى البدن وتوجهها إلى السفل وهو غير داخل في قوامها من حيث ذاتها بل إنما يقوم به من حيث نفسيتها فليس للنفس بحسبه إلا البراءة عن النقص والشين والخلاص عن العقوبة والجحيم والهلاك والعذاب الأليم والخلاص عن الرذائل وذلك لا يستلزم الشرف العقلي والسعادة الحقيقية وإن لم يكن خاليا عن السعادة الوهمية والخيالية كما هو حال الصلحاء والزهاد وأهل السلامة من العباد على ما سنشرحه. وأما الشقاوة العقلية التي بإزاء السعادة الحقيقية العقلية فهي إما بحسب الهيئات
478 البدنية من المعاصي الحسية الشهوية والغضبية وإما بحسب الجحود للحق وإنكار العلوم الحقة الحكمية والعصبية باختيار بعض المذاهب والآراء مع محبة الرئاسة وطلب الجاه والتشوق إلى الكمال من دون الوصول إليه. أما بيان الشقاوة في القسم الأول فهو أن هذه الهيئات الانقهارية والانفعالات البدنية للنفس يمنعها عن الوصول إلى السعادة في الآخرة ومع ذلك فيحدث نوعا من الأذى عظيما لعدم المألوف العادية ووجود ملكة الرغبة إليها وعدم ما يشتغل النفس عن تذكرها وذلك لأن هذه الهيئات قبيحة في نفسها مؤلمة لجوهر النفس مضادة لحقيقتها لكن كان إقبال النفس على البدن يشغلها عن الإحساس بفضيحتها ومضادتها لجوهر النفس والآن إذ زال ذلك الإقبال والاشتغال فيجب أن يحس بإيلامها ومضادتها كما في قوله تعالى: فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد فيتأذى بتلك الهيئات الردية أشد أذى كما أن من به آفة مؤلمة أو مرض أو له شغل شاغل فينفعل عنه فإذا فرغ من ذلك أحس به. فهذه بقسميها شقاوة عقلية ونحن بصدد إثبات الشقاوة الجسمانية من النار والجحيم والزقوم وتصلية جحيم في مقابلة السعادة الجسمانية في الفصل التالي إن شاء الله تعالى الله العزيز بتأييده وقوته ولكن لما كانت هذه الهيئات الانقيادية غريبة عن جوهر النفس كما مر وكذا ما يلزمها ويتفرع عنها من الأشباح المعذبة الجهنمية فلا يبعد أن يكون مما يزول في مدة من الدهر متفاوتة على حسب كثرة العوائق وقلتها إن شاء الله تعالى ويشبه أن يكون الشريعة إشارة إلى هذا حيث روي أن المؤمن الفاسق لا يخلد في العذاب. وأما القسم الثاني من الشقاوة العقلية فهو النقص الذاتي للشاعر بالعلوم والكمال العقلي في الدنيا والكاسب شوقا لنفسه إليه ثم تارك الجهد فيه ليكتسب العقل بالفعل اكتسابا ما فقدت منه القوة الهيولانية وحصلت له فعلية الاعوجاج والصور الباطلة
479 المخالفة للواقع أو القول على العصبية والجحد فهي الداء العليا التي أعيت أطباء العقول والأرواح عن علاجها إذ المحال غير مقدور وهذا الألم الكائن عنها هو بإزاء اللذة الكائنة عن مقابلها وكما أن تلك أجل من كل إحساس بملائم كذلك هذه أشد من كل إحساس بمناف من تفريق اتصال ناري أو زمهريرى أو ضرب أو قطع وعدم تصور ذلك الألم في الدنيا بسبب ما ذكرناه من المعنى الذي قررناه في عدم وجدان اللذة المقابلة له وكما أن الصبيان لا يحسون باللذات والآلام التي يحض المدركين ويستهزئون بهم وإنما يستلذون ما هو غير لذيذ ويكرهه المدركون كذلك صبيان العقول وهم أهل الدنيا لا يشعرون بما أدركه العقول الذين يخلصون عن المادة وعلائقها. فصل في سبب خلو بعض النفوس عن المعقولات وحرمانهم عن السعادة الأخروية واعلم أن القوة العقلية التي هي محل العلوم والمعارف هي اللطيفة المجردة المدبرة لجميع الجوارح والأعضاء المستخدمة لجميع المشاعر والقوى وهي بحسب ذاتها قابلة للمعارف والعلوم كلها إذ نسبتها إلى الصور العلمية نسبة المرآة إلى المتلونات وإنما المانع من انكشاف الصور العلمية لها أحد أمور خمسة كما ذكره بعض أفاضل العلماء في مثال المرآة. أحدها نقصان جوهرها وذاتها قبل أن يتقوى كنفس الصبي فإنها لا يتجلى لها المعلومات لنقصانها وهذا بإزاء نقصان جوهر المرآة وذاتها كجوهر الحديد قبل أن يذوب ويشكل ويصقل (يصيقل). والثاني خبث جوهرها وظلمة ذاتها لكدورة الشهوات والتراكم الذي حصل على وجه النفس الناطقة من كثرة المعاصي فإنه يمنع صفاء القلب وجلاه فمنع ظهور الحق فيها بقدر ظلمتها وتراكمها كصداء المرآة وخبثها وكدورتها المانعة من ظهور الصورة فيها وإن كانت تامة الشكل. واعلم أن كل حركة أو فعل وقعت من النفس حدث في ذاتها أثر منها فإن كانت شهوية أو غضبية صارت بحسبها عائقة من الكمال الممكن
480 في حقها وإن كانت عقلية صارت بحسبها نافعة في كمالها اللائق فكل اشتغال بأمر شهوي أو غضبي كنكتة سوداء في صفحة مرآة النفس فإذا تكثرت وتراكمت أفسدتها وغيرتها عما خلقت لأجله كتراكم الغبارات والأصدية في المرآة الموجبة لفساد جوهرها وزوال قابليتها لانطباع الصور فيها وإليه الإشارة بما روي من قوله ص من قارن ذنبا فارقه عقل لم يعد إليه أبدا معناه حصل في قلبه كدورة لا يزول أثره أبدا إذ غايته أن يتبعه بحسنة يمحوها فلو أتى بالحسنة لم يتقدم بالمعصية لزاد لا محالة إشراق القلب فلما تقدمت السيئة سقطت فائدة الحسنة لكن عاد القلب إلى ما كان قبل السيئة ولم تزد بها نورا وهذا خسران ونقصان لا حيلة له. الثالث أن يكون معدولا بها عن جهة الحقيقة المطلوبة فإن نفوس الصلحاء والمطيعين وإن كانت صافية نقية عن المكر والخديعة وسائر الأمراض الباطنية لكنها ليس يتضح فيها جلية الحق لأنها ليست تطلب الحق وليس يحاذي بمرآة قلب أحد منهم شطر المطلوب بل ربما كان مستوعب الهم بتفضيل الطاعات البدنية أو تهيئة أسباب الرواية والنقل والموعظة للعوام وسائر أسباب المعيشة والمعاشرة مع الخلق ولا يصرف فكره إلى تأمل الملكوت والتدبر في حضرة الربوبية والحقائق الخفية الإلهية فلا ينكشف له إلا ما هو متفكر فيه من دقائق آفات الأعمال وخفايا عيوب النفس إن كان متفكرا فيها أو مصالح المعيشة أو التفقه في الفتاوى إن كان متفكرا فيها. وإذا كان تقيد الهم بالأعمال وتفضيل الطاعات مانعا عن انكشاف جلية الحق فما ظنك في صرف الهم إلى شهوات الدنيا وعلائقها فكيف لا يمنع من الكشف الحقيقي. وهذا في مثال المرآة هو كونها معدولا بها عن جهة الصورة إلى غيرها كما إذا كانت الصورة وراء المرآة. الرابع الحجاب فإن المطيع القاهر لشهواته المجرد الفكر في حقيقة من الحقائق قد لا ينكشف له ذلك لكونه محجوبا عنه باعتقاد سبق إليه منذ الصبا على سبيل التقليد والقبول لحسن الظن يحول بينه وبين حقيقة الحق ويمنع أن ينكشف في قلبه خلاف ما تفقه من ظاهر التقليد. وهذا أيضا حجاب عظيم به حجب أكثر المتكلمين والمتعصبين
481 للمذاهب بل أكثر الصالحين المتفكرين في ملكوت السماوات والأرض لأنهم محجوبون باعتقادات تقليدية جمدت في نفوسهم وترسخت في قلوبهم وصارت حجابا بينهم وبين درك الحقائق وهذا في مثالنا الحجاب المرسل بين المرآة والصورة. الخامس الجهل بالجهة التي منها يقع العثور على المطلوب فإن طالب العلم ليس يمكنه أن يحصل العلم بالمجهول إلا بالتذكر للعلوم التي يناسب مطلوبه حتى إذا تذكرها ورتبها في نفسه ترتيبا مخصوصا يعرفه العلماء بطريق الاعتبار والتفطن بالمعارف فعند ذلك يكون قد عثر على جهة المطلوب فيستجلي فيه حقيقة المطلوب لنفسه فإن العلوم المطلوبة التي بها يحصل السعادة الأخروية ليست فطرية فلا يقتض إلا بشبكة العلوم الحاصلة بل كل علم فلا يحصل إلا عن علمين سابقين يتألفان ويزدوجان على وجه مخصوص فيحصل من ازدواجهما علم ثالث على مثال ما يحصل النتاج من ازدواج الفحل والأنثى. ثم كما أن من أراد أن يستنتج رمكة (1) لم يمكنه ذلك من حمار وبقرة بل من أصل مخصوص هو الفرس الذكر والأنثى إذا وقع ازدواج مخصوص بينهما فكذلك كل علم فله أصلان مخصوصان وبينهما طريق في الأزواج يحصل من ازدواجهما العلم المستفاد المطلوب فإن لكل شيء ممكن علة مخصوصة ولا يمكن حصول ذوي العلل إلا من طريق عللها وأصولها وكذا العلم بها فالجهل بأصول المعارف وبكيفية الازدواج والترتيب هو المانع من العلم ومثاله في المرآة هو الجهل للجهة التي فيها الصورة وعدم التوجه عدم محاذاتها إلى تلك الجهة بل مثاله أن يريد الإنسان أن يرى قفاه في المرآة فإنه يحتاج إلى مرآتين ينصب إحداهما وراء القفاء والأخرى في مقابلتها بحيث يبصرها ويراعي مناسبة مخصوصة بين وضع المرآتين حتى ينطبع صورة القفاء في المرآة المحاذية القفاء ثم ينطبع صورة هذه
482 المراه الأخرى ثم يدرك العين صورة القفاء وكذلك في اقتناص العلوم طرق عجيبة فيها ازويرارات وتحريفات أعجب ما ذكر في المرآة ويعز على بسيط الأرض من يهتدي إلى كيفية الحيلة فيها. فهذه هي أسباب المانعة للنفس الناطقة من معرفة حقائق الأمور وإلا فكل نفس بحسب الفطرة صالحة لمعرفة حقائق الأشياء لأنها أمر رباني شريف فارق عن سائر جواهر هذا العالم بهذه الخاصية وإلى هذه الخاصية أشير في قوله تعالى: إنا عرضنا الأمانة على السماوات (2) و الأرض و الجبال فأبين أن يحملنها... وتلك الأمانة التي امتاز الإنسان بحملها عن السماوات والأرضين والجبال هي المعرفة والتوحيد فإن نفس كل إنسان مستعدة لحملها في الأصل ولكن يميطها عن النهوض بأعبائها والوصول إلى تحقيقها الموانع والأسباب الصارفة وما روي عن قوله ص: لو لا الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء. إشارة إلى هذا القابلية لها وهذه الأسباب التي هي الحجاب بين النفوس الإنسانية وعالم ملكوتها وإليه أشار بما روي أنه قيل له ص: يا رسول الله أين الله في الأرض قال في قلوب عباده المؤمنين. وفي الخبر أيضا: لا يسعني أرضي ولا سمائي ووسعني (1) قلب عبدي المؤمن. والحاصل أنه إذا ارتفع هذه الحجب والموانع عن قلب الإنسان الذي هو نفسه الناطقة تجلى فيه صورة الملك والملكوت وهيئة الوجود على ما هي عليه فيرى ذاته في جنة عرضها السماوات والأرض. وأما جملتها فأكثر سعة من السماوات والأرض لأنهما عبارة عن عالم الملك والشهادة وهو محدود متناه. وأما عالم الملكوت والحقائق العقلية وهو الأسرار الغائبة عن مشاهدة الحواس المخصوصة بإدراك البصيرة العقلية فلا نهاية لها وجملة عالم الملك والملكوت إذا أخذت دفعة تسمى حضرة الربوبية لأن الله محيط بكل الموجودات إذ ليس في الوجود سوى ذات الله وأفعاله ومملكته من أفعاله. فما يتجلى من ذلك للقلب هو الجنة بعينها عند قوم وهو سبب
483 استحقاق الجنة عند آخرين ويكون سعة المملكة في الجنة بقدر سعة المعرفة وبمقدار ما يتجلى للإنسان من الله وصفاته وأفعاله وإنما مراد الطاعات وأعمال الجوارح (2) كلها تصفية النفس وتزكيتها وجلاؤها بإصلاح الجزء العملي منها قد أفلح من زكاها و قد خاب (3) من دساها ونفس التزكية والتصفية ليست كمالا وزينة لأنها أمر عدمي والأعدام ليست من الكمالات بل المراد منها حصول أنوار الإيمان أعني إشراق نور المعرفة بالله وأفعاله وكتبه (4) ورسله واليوم الآخر وهو المراد بقوله تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام... فهو على نور من (5) ربه. فصل في بيان السعادة والشقاوة الحسيتين في الآخرة دون العقليتين اعلم أن الأنفس الجاهلة جهلا بسيطا دون ما هو مضاد للحق إن كانت خيرة ولم يحدث منها شوق إلى المعقولات البتة على سبيل القطع واليقين فإنها إذا فارقت كانت باقية لأن كل نفس ناطقة غير هيولانية باقية لأنها مجردة وقد حصلت لها في البقاء الدنياوي فعلية بحسب إدراك ما للأوليات والفطريات وغيرهما فلا سبيل للعدم إليها. وأما العقول الهيولانية ففي بقائها بعد البدن تردد فلهذا اختلفت الحكماء في ذلك والمنقول من الإسكندر الأفروديسي من تلامذة المعلم الأول القول بفسادها فإذا كانت باقية ولم يرتسخ فيها هيئات بدنية ورذائل نفسانية حتى يكون معذبة متأذية بتلك الهيئات المنافية للنفس المضادة لجوهرها ولا يمكن أيضا أن يكون معطلة من الأفعال والانفعالات إذ لا معطل في الوجود. ولما كانت رحمة الله واسعة والوجود خير من العدم والخلاص فوق الهلاك فلا محالة يكون لها سعادة وهمية من جنس ما يتوهمه ويبلغ إليه همته من الحور والقصور والسدر المخضود والطلح
484 المنضود وسائر ما يكون لذيذا وخيرا عنده. ونقل الشيخ الرئيس عن بعض الحكماء ممن لا يجازف فيما يقول قولا ممكنا على زعم الشيخ وهو أن هؤلاء إذا فارقوا البدن وهم بدنيون وليس لهم تعلق بما هو أعلى من الأبدان (1) فيشغلهم إلزام النظر إليها والتعلق بها عن الأشياء البدنية وإنما لأنفسهم أنها زينة أبدانهم فقط ولا يعرف غير الأبدان والبدنيات أمكن أن يعقلهم نوع تشوقهم إلى التعلق ببعض الأبدان التي من شأنها أن يتعلق بها الأنفس لأنها طالبة بالطبع وهذه مهيأة (وهذه) هيئة الأجسام دون الأبدان الإنسانية والحيوانية للعذر الذي ذكرناه ولو تعلق بها لم يكن إلا نفسا لها فيجوز أن يكون ذلك جرما سماويا لا أن يصير هذه الأنفس أنفسا لذلك الجرم أو مدبرة لها فإن هذه لا يمكن بل أن يستعمل ذلك الجرم لا مكان التخيل ثم يتخيل الصور التي كانت معتقدة عنده وفي وهمه فإن كان اعتقاده في نفسه وفي أفعاله الخير وموجب السعادة ورأى الجميل وتخيله فتخيل أنه مات وقبر وسائر ما كان في اعتقاده للأخيار. قال: ويجوز أن يكون هذا الجرم متولدا من الهواء والأبخرة والأدخنة مقاربا لمزاج الجوهر المسمى روحا الذي لا يشك الطبيعيون أن تعلق النفس به لا بالبدن وأنه لو جاز أن لا يتحلل ذلك الروح مفارقا للبدن والأخلاط ويقوم لكانت النفس تلازمه الملازمة النفسانية. وقال: وأضداد هؤلاء من الأشرار يكون لهم الشقاوة الوهمية أيضا ويتخيلون أنه يكون لهم جميع ما قيل في السنة التي كانت لهم من العقاب للأشرار وإنما حاجتها إلى البدن في هذه السعادة والشقاوة بحسب أن التخيل والتوهم إنما يكون بآلة جسمانية وكل صنف من أهل السعادة والشقاوة يزداد حاله باتصاله بما هو من جنسه وباتصال ما هو من جنسه بعده. فالسعداء الحقيقيون يتلذذون بالمجاورة ويعقل كل واحد ذاته وذات ما يتصل به ويكون اتصال بعضها ببعض لا على سبيل اتصال الأجسام فيضيق عليها الأمكنة بالازدحام لكن على سبيل اتصال معقول
485 بمعقول فيزداد فسحة بالازدحام. هذا غاية ما وصل إليه أفكار العلماء بقوتهم الفكرية في الجنة السعداء وجحيم الأشقياء على الوجه الجسماني. وقد علمت مما ذكرنا قصور هذا الكلام وانحطاطه عن درجة التحقيق. ولنشر إلى سبيل درك الحقيقة ومسلك الاهتداء في هذا الباب ليكون دستورا لكشف الغوامض الشرعية وإيضاح المطالب الدينية للطلاب فاستمع لما يتلى عليك في هذا الكتاب مستمدا بقوة العزيز الوهاب.
486 المقالة الثانية في المعاد الجسماني وفيه فصول: فصل في تفصيل الأقوال في المعاد إن من الأوهام العامية وهم من يذهب إلى استحالة حشر النفوس والأجساد وامتناع أن يتحقق في شيء منهما المعاد وهم الملاحدة والدهرية وجماعة من الطبيعيين والأطباء الذين لا اعتماد عليهم في الملة والشريعة ولا اعتداد بهم في العقل والحكمة زعما منهم أن الإنسان ليس إلا هذا الهيكل المحسوس حامل الكيفية المزاجية وما يتبعها من القوى والأعراض وأن جميعها يفنى بالموت وينعدم بزوال الحيات ولا يبقى إلا المواد العنصري المتفرقة. فالإنسان كسائر الحيوان والنبات إذا مات فات وسعادته وشقاوته منحصرة فيما له بحسب اللذات والآلام الحسية الدنياوية. وفي هذا تكذيب للعقل على ما يراه المحققون من أهل الفلسفة الإلهية وللشرع على ما ذهب إليه المحققون (1) من أهل الملة النبوية.
487 والمنقول من جالينوس في أمر المعاد هو التوقف بناء على تردده في أمر النفس أنها هل هي المزاج فيفنى بالموت فلا يعاد أم هي جوهر مجردة باق بعد الموت ليكون لها المعاد ثم المتشبثين بأذيال العلماء من ضم إلى هذا أن المعدوم لا يعاد فإذا انعدم الإنسان بهيكله لم يمكن إعادته وامتنع الحشر. والمتكلمون منعوا هذا بمنع امتناع إعادة المعدوم تارة وأخرى بمنع فناء الإنسان بفناء هيكله. فقالوا ما حاصله: إن للإنسان أجزاء باقية متجزية أو غير متجزية ثم حملوا الآيات والنصوص الواردة في بيان الحشر على أن المراد جميع الأجزاء المتفرقة الباقية التي هي حقيقة الإنسان. والحاصل أنهم التزموا أحد الأمرين المستبعدين عن العقل بل النقل ولا يلزم على أحد التزام شيء منهما بل الظاهر أن الآيات واردة لبيان إمكان عود بدن الإنسان بأجزائه وهو الذي نحن بصدد إثباته من ذي قبل إن شاء الله على أن المعاد في الآخرة هو الذي كان مصدرا للأفعال مكلفا بالتكليف العقلية والشرعية ثم لا يخفى على أحد أن عرق الشبهة لا ينقطع عن أراضي أوهام الجاحدين للقيامة إلا بقطع أصلها وهو أن الإنسان بموته يفنى ويبطل ولا يبقى وقد مر بيانه مستقصى. واتفق المحققون من الفلاسفة والمليين على حقيقة ذلك المعاد لكنهم اختلفوا في كيفيته. فذهب جمهور المتكلمين وعامة الفقهاء وأهل الحديث إلى أنه جسماني فقط بناء على أن الروح عندهم جسم سار في البدن سريان النار في الفحم والماء في الورد والزيت في الزيتونة وذهب جمهور الفلاسفة وأتباع المشائين إلى أنه روحاني فقط لأن البدن ينعدم بصورته وأعراضه فلا يعاد والنفس جوهر باق لا سبيل إليه الفناء فيعود إلى عالم المجردات لقطع التعلقات بالموت الطبيعي. وذهب كثير من أكابر الحكماء ومشايخ العرفاء وجماعة من المتكلمين كحجة الإسلام الغزالي والكعبي والحليمي والراغب الأصفهاني والقاضي أبو يزيد الدبوسي وكثير من علماء الإمامية وأشياخنا الاثني عشرية كالشيخين المفيد وأبي جعفر والسيد المرتضى والعلامة الطوسي وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين إلى
488 القول بالمعادين الجسماني والروحاني جميعا ذهابا إلى أن النفس مجردة يعود إلى البدن. وبه يقول جمهور النصارى والتناسخية إلا أن الفرق أن محققي المسلمين ومن يحذو حذوهم يقولون بحدوث الأرواح وردها إلى البدن لا في هذا العالم بل في الآخرة والتناسخية بقدمها وردها إليه في هذا العالم وينكرون الآخرة والجنة والنار الجسمانية كما سبق. ثم إن هؤلاء القائلين بالمعادين جميعا اختلفت كلماتهم في أن المعاد من جانب البدن أهو هذا البدن بعينه أو مثله وكل من العينية والمثلية أهي يكون باعتبار كل واحد من الأعضاء والأشكال والهيئات والتخاطيط أم لا والظاهر أن هذا الأخير لم يشترطه أحد بل كثير من الإسلاميين مثال كلامهم إلى أن بدن المعاد غير البدن الأول بحسب التشخص واستدلوا على ذلك بما دل عليه بعض الأحاديث المروية من كون أهل الجنة جردا مردا وكون ضرس الكافر مثل جبل أحد وكذا بقوله تعالى: كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها وبقوله تعالى: أو ليس الذي خلق السماوات و الأرض بقادر على أن يخلق مثلهم. فإن قيل: فعلى هذا يكون المثاب والمعاقب باللذات والآلام الجسمانية غير من عمل الطاعة وارتكب المعصية. قالوا: العبرة في ذلك بالإدراك وإنما هو للروح ولو بواسطة الآلات وهو باق بعينه ولهذا يقال للشخص من الصبا إلى الشيخوخية أنه هو بعينه وإن تبدلت الصور والهيئات بل كثير من الأعضاء والآلات ولا يقال لمن جنى في الشباب فعوقب في المشيب أنه عقاب لغير الجاني.
489 تبصرة الحق أن المعاد في المعاد هو بعينه بدن الإنسان المشخص الذي مات بأجزائه بعينها لا مثله بحيث لو رآه أحد يقول إنه بعينه فلان الذي كان في الدنيا. ومن أنكر هذا فقد أنكر الشريعة ومن أنكر الشريعة كافر عقلا وشرعا ومن أقر بعود مثل البدن الأول بأجزاء أخر فقد أنكر المعاد حقيقة ولزمه إنكار شيء من النصوص القرآنية هذا تحرير المذاهب والآراء. واحتج المنكرون للمعاد بامتناع إعادة المعدوم كما مر وبأنه لو أكل إنسان إنسانا فالأجزاء المأكولة إن أعيدت في بدن الآكل لم يكن الإنسان المأكول معادا وإن أعيد في بدن المأكول لم يكن الآكل معادا. ولزم أن يكون أجزاء بعينها منعمة ومعذبة إذا أكل مؤمن كافرا وأجيب في كتب الكلامية عن الأول إما بمنع الاستحالة في إعادة المعدوم أو بمنع توقف المعاد عليها. وعن الثاني بأن المعاد هو الأجزاء التي منها ابتداء الخلق والله تعالى يحفظها ولا يجعلها جزء كذلك لبدن الآخر. وأن للناظرين في أمر المعاد إثباتا ونفيا مشاجرات. وما أورده المتكلمون من الكلام لا يفيء بالإلزام والإفحام فالأولى لمن اقتصر في تحقيق الحقائق الدينية على مجرد البحث والجدل من غير أن يسلك طريق القدس في الرياضة العلمية والعملية أن يستفسر من هؤلاء المنكرين المعاندين الذين أخذوا الإصرار في الإنكار أنهم هل يدعون الامتناع أو يمنعون الإمكان والجواز. فعلى الأول يقال لهم إن عليكم البينة وإثبات ما ادعيتم وما لكم فيما قلتم به من هذا خبر ولا عين ولا أثر وليس فيه إلا عناد واستبعاد. وعلى الثاني يقال كل ما أزيل ظاهره عن الإحالة والامتناع قام التنزيل الإلهي والأخبار النبوية الصادرة من قائل مقدس عن الغلط والخطاء مقام البراهين الهندسة الهندسية في المعاني الرياضية والدعاوي الجسمانية ومقام الشواهد اليقينية في المعاد الطبيعية.
490 بحث وتحقيق إن من المباحثين من حصل وجه الإعادة البدنية بما حاصله أن الشخص إنما يتشخص ويتخصص بخصوصية أجزائه مادة وصورة روحا وبدنا وليس خصوص التأليف وتشخصه معتبرا في الشخص بل المعتبر أشخاص الأجزاء بتأليف نوعي لا شخصي باقيا بعينه ثم إذا بطل التأليف وانحل التراكيب المعتبر لم يبق الشخص الأول لا لزوال الأجزاء فإنها باقية بأشخاصها وأعيانها بل لزوال النظم والتأليف المعتبر بينها نوعا ثم إذا حصل مرة أخرى من نوع التأليف المعتبر بين الأجزاء الباقية بعينها عاد الشخص الأول وكان هو الأول بعينه. هذا كلامه. ويقرب منه ما ذكره بعض أجلة المتأخرين حيث قال: قد ذهب بعض المتكلمين إلى جواز إعادة المعدوم وذهب الحكماء وبعض المتكلمين إلى امتناعها وهؤلاء وإن كانوا مسلمين معترفين بالمعاد الجسماني ينكرون إعادة المعدوم بعينه فإنهم لا يقولون بانعدام الأجسام بل بتفرق أجزائها وخروجها عن الانتفاع. ثم قال: ذكرت في حواشي التجريد أن هذا بناء على نفي الجزء الصوري للأجسام وحصر أجزائه في الجواهر المفردة كما هو مذهب المتكلمين وكذا على مذهب المصنف حيث قال: الجسم هو الصورة الاتصالية وأنها يبقى بعينها حال الانفصال ولو أثبت الجزء الصوري في الأجسام قيل: يكفي في المعاد الجسماني كون الأجزاء المادية هي بعينها ولا يقدح فيه تبدل الجزء الصوري بعد أن كان أقرب الصور إلى الصورة الزائلة. فإن قيل: فيكون تناسخا. قيل: الممتنع عندنا هو انتقال النفس إلى بدن مغاير له بحسب المادة لا إلى بدن متألف من عين مادة هذا البدن وصورة هي أقرب الصور إلى الصورة الزائلة فإن سميت ذلك تناسخا فلا بد من البرهان على امتناعه فإن النزاع إنما هو في المعنى لا في الألفاظ
491 انتهى قوله أقول: كلام هذين الفاضلين في غاية السخافة والرخاوة مع أنه أقرب إلى الصواب من كلام غيرهما من أهل الكلام في هذا الباب وذلك لوجوه: الأول أنه يبتني على أن شخص زيد مثلا لم ينعدم منه بالموت إلا نسب وإضافات بين أجزائه ونظم ترتيب بين أعضائه فيلزم أن يكون الحياة من مقولة الإضافة وهو ظاهر الفساد. والثاني أن كون أجزاء زيد منحصرة في الجواهر الفردة لا يلزم أن يكون تلك الجواهر إذا ركبت يكون زيدا سواء كان تركيبا وترتيبا مطلقا على أي وجه كان أو على نظم مخصوص وإلا لزم على الأول أنها لو ركبت كرة مصمتة كانت هذه الكرة زيدا وعلى الثاني أن يكون زيد الميت في بعض الأحيان حيا إذا وقعت أجزاؤه على هذا النظم المخصوص مع كونه ميتا كما فرض سواء كان هذا التركيب جزءا منه أو شرطا خارجا عنه. والمحقق الطوسي لم يذهب ولا غيره من العقلاء القائلين بنفي الهيولى أن الجسم المعين الذي هو فرد للجسم المطلق بالمعنى الذي هو جنس لا بالمعنى الذي هو مادة لا ينعدم بالتفريق إنما الذي لا ينعدم عندهم هو الجسم بالمعنى المادة وهو الذي يكون مستمر الوجود في مراتب الاتصالات والانفصالات لا ما هو الجسم بمعنى الجنس الذي لا وجود له إلا بصورة مقومة له مخصصة الطبيعة الجنسية من بين الأنواع. وقد اتفق الجمهور من الحكماء وأتباعهم على أن الجسم بما هو جسم مطلق مما لا وجود له في الأعيان وإنسانية الإنسان لا يمكن أن يكون بمجرد الجسمية وإلا لكان كل جسم إنسانا وكذا زيدية زيد ليس بمجرد أجزاء مادية كيف كانت وإلا لكان كل أجزاء متفرقة زيدا سواء أريد بزيد مجرد بدنه أو المجموع من النفس والبدن وكيف يصح لعاقل أن يذهب إلى أن جسما مخصوصا كهذا الفرس إذا قسم أقساما وفرقت أجزاؤه كانت بعينه باقيا حال التفرق فضلا عن مثل المحقق الطوسي مع براعته في الحكمة والكلام. والثالث أن مفسدة التناسخ بحسب المعنى على ما ذكره واردة بلا مزية كما بينا
492 سابقا فإن المفسدة وهي لزوم كون بدن واحد ذا نفسين بناء على استعداد القابل وجود المبدإ الفاعل وعدم تخصص الأجزاء المتفرقة من بين سائر الأجزاء والأجسام في لياقة كونها بدنا لتلك النفس مما لا شبهة في لزومها وورودها بل ربما يسوغ ويصح لقائل أن يقول: إن كثيرا من المواد التي لها مزاج خاص وكيفية قريبة من المزاج الإنساني أولى وأليق من تلك الأجزاء بأن يكون مورد تعلق النفس وكل من رجع إلى وجدانه يعلم يقينا أن لا تشوق ولا التفات للنفس بجسم من الأجسام أو أجزاء متفرقة من بين غيرها. ولا يجوز أن يتعلق بجسم من بين سائر الأجسام أو أجزاء مخصوصة من بين سائر الأجرام أو أجزاء مخصوصة من بين سائر الأجزاء التي هي اشتركت معها في الهيئات والصفات من بين غيرها إلا بأن يكون لها كيفية محسوسة أو هيئة خاصة. وأي تعلق وتشوق يكون للنفس بأجزاء مبثوثة في الهواء أو مغمورة في الأرض أو متصلة بالهواء بحيث لا يتميز عند الحس أو النفس عن غيرها من الأجزاء أو النفس وإن كانت متميزة عن غيرها في نفس الأمر وفي علم الله تعالى لكن هذا لا يكفي لرجحان تعلق النفس بها وليس أيضا عند انحلال التركيب وفساد القوى البدنية قوة ذاكرة للنفس عندهم حتى يكون بقاء البدن الشخصي في الذكر مخصصا لتعلق النفس به ثانيا وبعد تسليم وجود الذكر يكون الذكر مخصصا لتعلق هذه النفس بهذا البدن المعادي دون سائر الأبدان لا لتعلق هذه النفس دون نفس أخرى به. والذي ينفع في الجواب عن لزوم مفسدة التناسخ على تقدير صحته هو الثاني دون الأول إذ الكلام في كون مادة بدنية حادثة مستدعيا لفيضان نفس حادثة فيلزم وجود نفسين لبدن واحد وهو آت بعينه هاهنا كما في باب التناسخ على ما سبق من غير تفاوت فإن الأجزاء المتفرقة ليس لها تخصص وامتياز بل لا يصدق عليها أنها هي التي كانت بدن زيد أو أجزاء بدنه إلا بضرب من التجوز فإن بدنية زيد وكذا جزئيته من الأمور الإضافية التي لا يتحقق إلا مع وجود زيد وقد عدم. وكما أن زيدا عدم بالموت فهكذا يده من حيث هي يد له وكذا رجله ورأسه وسائر أعضائه مع أنها لم يتفرق بعد فلم يبق رابطة بين البدن الذي كان موجودا والذي سيوجد من جانب
493 الأجزاء المادية أصلا. فالمصير في دفع مفسدة التناسخ إلى ما ذكرناه سابقا مما تفردنا ببيانه وجعله الله قسطي من الحكمة المتعالية والمعرفة الدينية كسائر نظائره التي ألهمني الله بها بفضل فيضه وإحسانه ومزيد لطفه وامتنانه وهي الزواهر من الفرائد التي يعرف نوريتها وشرفها من بين كلمات أصحاب الأنظار كتلألؤ اليواقيت والدرر من بين سائر الأحجار والفوائد من القواعد التي يحكم بصحتها كل من سلك سبيل الله وكوشف بالأنوار وشهد عالم الأسرار وأكثرها في تحقيق المعارف الشرعية الأصولية وتبيين المقاصد الدينية الإلهية من أحوال المبدإ والمعاد وكيفية مطابقة الأحكام الشرعية للقواعد العقلية منها إثبات المعاد الجسماني كما سينكشف عليك وضوحه وسطوعه على الوجه الذي يطابق ظواهر الكتاب والسنة واتفق عليه آراء الصالحين السابقين من الأمة من غير تأويل فيه كما فعله أهل التدقيق من المتأخرين الذين أرادوا أن يجمعوا بين المنقول وما حسبوه من المعقول من غير رياضة حكمية وسلوك قدسي فخرجوا كما تراهم من المعقول والمنقول. فصل في إظهار شيء من خبايا هذا المطلب الحقيق بالتحقيق وإخراج علق نفيس من هذا البحر العميق مما يناسب أهل البحث والنظر وأصحاب الرواية والفكر بشرط سلامة الفطرة عن الأمراض الدنياوية وخلوص النية عن الدواعي الهيولانية لا مع الرعونة وحب الجاه والاغترار بما يفهم من ظواهر الآثار والإعجاب بقليل معرفة يحجب النفس عن التعلم والاستبصار فإنه قلما ينتفع أحد من المشعوفين بالتقليد والمجمودين على الصور الجسمانية بهذه الكلمات التي مبناها على خلوص النيات وصفاء الطويات عن الأغراض الانفعالية الهيولانية من الشهوات والأهواء ومتابعة النفس والآراء مع أن أكثر أحوال المعاد كأحوال المبدإ أسرار على العقول الإنسانية وإن كانوا من الأزكياء ما لم يقيموا على الرياضات وترك الاشتهار وطلب الجمعية ووفور الجاه وتقرب السلطان
494 كما تراه من علماء هذا الزمان. وكما أن مدركات الأوهام أسرار على القوى الحسية كذلك مدركات العقول أسرار على الأوهام ومدركات النظار بدقة أنظارهم وأفكارهم أسرار على أوائل العقول. فهكذا أكثر ما هو علانية وعيان عند طور آخرين من العقول الأخروية أسرار على العقول الدنياوية والعلماء البحثية. ولهذا المعنى روي أنه قال النبي: إذا ذكر القدر فأمسكوا وذلك لأن القدر سر على طور أهل البحث ونطقهم البحثى وكلامهم البشري. فلا يتصور أن يحيط به أحد ما دام كونه متعلق القلب بالدنيا ولم يتخلص عن أسرار الوهم وتغليطه. ومن جملة هذه الأشياء التي لا يمكن أن يصل إلى معرفتها الإنسان بفطانة البتراء وبصيرته الحولاء بل إدراكه يحتاج إلى ولادة ثانية وفطرة مستأنفة وطور آخر من العقل هي أمور القيامة وأحوال الآخرة لأنه يستحيل جواب السائل عنه على وجهه ما دام السائل مشتغل القلب بالدنيا مسحورا بسحر الطبيعة. وقول الكفار متى هذا الوعد سؤال عما يستحيل الجواب عنه على موجبه ووجهه فإن أمر الساعة إذا كان كلمح البصر أو هو أقرب وكان متى سؤال عن الزمان فاستحال الجواب عنه وهو كقول الأكمه إذا وصفنا له المبصرات المتلونة فقال كيف تذوق أو تشم. هذه الألوان التي وصفتموها. والجواب الحق من ذلك أن علم المبصرات عند القوة الباصرة فهكذا الجواب الحق مع الكفار إذا قالوا: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين. أن يقال لهم: إن العلم بذلك يكون عند الله فمن رجع إلى الله عز وجل وحشر وكان عنده فلا بد أن يعرف حينئذ حقيقة الساعة بالضرورة لأنه عنده وعنده علم الساعة. فإذن ثبت وتحقق ما روي في الخبر: أنه لا يقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول: الله الله. فإن من كان بعد على وجه الأرض لم يحشر بعد إلى الله تعالى. فعلم ما ذكر أن أكثر أحوال الآخرة أسرار غيبية يجب الإيمان بها تقليدا لمن لم يكن
495 له قدم راسخ في المعارف الإلهية والأسرار القيومية ولا يمكنه أن يتجاوز عن استجلاء نظر الخلق وحب الرئاسة والاستيلاء على مآرب الدنيا والشهرة عند الناس لكن أكثر من رزق فطنة زكية يقوى بها على المباحثة والاستدلال لا يكتفي بالتقليد الذي يحصل به نوع من النجاة عن الضلال والإضلال والوبال في المآل بل يتشرف على شيء فوقه ويكثر تعبه في طلبه آناء الليل وأطراف النهار ويصرف عمره في تزايد النظر في المؤلفات وتكرير التأمل فيها فالأولى لمثله إذا اشتاق إلى أن يفهم المطالب العلمية بالبرهان اليقيني بعد أن عاد النظر في كتب القوم واستفاد كثيرا من فوائدهم وخصوصا ما وجد في كتب الشيخين أبي نصر وأبي علي في طريقة المشائين وكتب الشيخ الإلهي صاحب الإشراق أن يرجع إلى طريقتنا في المعارف والعلوم الحاصلة لنا بالممازجة بين طريقة المتألهين من الحكماء والمليين من العرفاء فإن ما تيسر لنا بفضل الله ورحمته وما وصلنا إليه بفضله وجوده من خلاصة أسرار المبدإ والمعاد مما لست أظن أن قد وصل إليه أحد ممن أعرفه من شيعة المشائين ومتأخريهم دون أئمتهم ومتقدميهم كأرسطو ومن سبقه ولا أزعم إن كان يقدر على إثباته بقوة البحث والبرهان شخص من المعروفين بالمكاشفة والعرفان من مشايخ الصوفية من سابقيهم ولا حقيهم وظني أن هذه المزية إنما حصلت لهذا العبد المرحوم من أمة المرحومة عن الواهب العظيم والجواد الرحيم لشدة اشتغاله بهذا المطلب العالي وكثرة احتماله عن الجهلة والأرذال وقلة شفقة الناس في حقه وعدم التفاتهم إلى جانبه حتى أنه كان في الدنيا مدة مديدة كئيبا حزينا ما كان له عند الناس رتبة أدنى من آحاد طلبة العلم ولا عند علمائهم الذين أكثرهم أشقى من الجهال قدر أقل من تلاميذهم وذلك لعدم معرفتهم بطريق التحصيل إلا من جهة القال والقيل وقلة شعورهم بالكمال والتكميل إلا من مدارسة الأباطيل إلى أن تداركني الرحمة الأزلية ولحقتنى الأضواء الأحدية
496 والألطاف القيومية فاستراحت نفسي من إقرارهم وإنكارهم وخلصت من إضرارهم وأسرارهم فأطلعني الله على أسرار ورموز لم أكن أطلع عليها إلى ذلك الزمان وانكشف لي حقائق لم يكن منكشفة هذا الانكشاف من الحجة والبرهان من المسائل الربوبية والمعارف الإلهية وتحقيق النفس الإنسانية التي هي سلم المعارف ومرقاة العلوم وغيرها من أحوال المبدإ وأسرار المعاد وخصوصا هذه المسألة التي نحن بصدد بيانها على وجه يسع له البحث والبرهان دون ما انكشف للضمير بقوة الإيمان إذ ليس يحتمله الأذهان ولا يفي به العبارة والبيان ولنمهد لبيانه أصولا. الأصل الأول أن تحصل كل ماهية تركيبية نوعية إنما يكون بفصله الأخير وباقي فصوله البعيدة وأجناسه إنما هي شرائط وأسباب خارجة لوجود ذلك النوع وإنما دخولها في الحد بما هو حد دون المحدود لأن الحد هو مجموع مفهومات عقلية صادقة على نفس ذات الشيء والمحدود هو نحو وجوده وحقيقته كما قررنا في المبحث الماهية من الأسفار الأربعة وكثيرا ما يكون في الحد تركيب وزيادة لا يكون هو في المحدود كما ذكر في كتاب الشفا ومثل بالقوس فإنها يدخل في حدها الدائرة لا في ذاتها وإن كان الحد عين المحدود بحسب الذات وكذا كل مركب طبيعي يكون له صورة طبيعية إنما يكون تحصله ووجوده بنفس صورته المنوعة والمادة إنما يحتاج إليها لأجل قصور الوجود عن الاستقلال والتفرد عن العوارض اللاحقة التي زوالها يوجب عدم الشيء الطبيعي وتلك العوارض هي المسماة بالمشخصة حتى أنه لو أمكن وجود صورة الشيء مجردة عن مادته لكان هي بعينها ذلك الشيء بلا نقصان. وصور بسائط العناصر وإن كانت عند حدوث الصورة الجمادية أو النباتية أو الحيوانية موجودة غير منخلعة كما توهمه بعضهم في قريب زمان الشيخ على ما حكاه في القانون وتابعهم السيد السند الشيرازي ولا يكذبه الوجود كما يشاهد بالقرع والأنبيق لكن غير داخلة عندنا في قوام تجوهر شيء من المواليد الثلاثة. وبالجملة كل حقيقة نوعية فإنما هي تلك الحقيقة بعينها بصورتها لا بمادتها فإن
497 مادة الشيء هي قوة حاملة لحقيقة ذاتها فالشيء شيء بصورته لا بمادته. وفي هذا تصريحات وتلويحات في الكتب المعتبرة من الشفا والنجاة والتحصيل والتلويحات وغيرها ونقلها يؤدي إلى الإسهاب. وكون الشيء ذا مادة إنما هو لنقص جوهريته وضعف وجوده كالطفل المحتاج إلى المهد في وجوده والمهد غير داخل في قوام وجود الطفل فكذا المادة للمادي فإن المادة من حيث إنها مادة مستهلكة في الصورة إذ نسبتها إلى الصورة نسبة النقص إلى التمام والضعف إلى القوة وتقوم الحقيقة ليس إلا بالصورة وإنما الحاجة إليها لأجل قبول آثار الصورة ولوازمها وانفعالاتها الغير المنفكة عنها من الكم والكيف والأين وغيرها وقد يحصل من مادة واحدة صورتان إحداهما ترياق نافع والأخرى سم ناقع. فقد علم أن المادة لا حقيقة لها إلا قوة الحقيقة وقوة الحقيقة ليست حقيقة فالعالم عالم بصورته لا بمادته والسرير سريره بهيئته المخصوصة لا بخشبته والإنسان إنسان بنفسه المدبرة لا ببدنه. الأصل الثاني أنا قد حققنا في شرحنا للهداية الأثيرية أن الموضوع للحركة الكمية في النمو والذبول هو الشخص الإنسان المتقوم من نفس معينة واحدة مع مادة مبهمة متبدلة لها كمية ما وما وقع تلك الحركة فيه هو خصوصيات المقادير والكميات. وذلك لأن المعتبر في تشخص الإنسان هو وحدة نفسه الباقية عند تبدل أعضائه من الطفولية إلى الشباب والشيب فما دامت النفس باقية يكون الإنسان باقيا وإن تبدلت الأعضاء جميعا. وكما أن تشخص الإنسان بنفسه التي هي صورة ذاته فكذلك تشخص بدنه أيضا وتشخصات أعضائه بالنفس السارية قواها فيها فاليد والرجل وسائر الأعضاء ما دامت يسري فيها قوة نفس متعينة يكون يدا ورجلا وأعضاء لها وإن تبدلت عليها الخصوصيات من المواد. فلا فرق حينئذ بين الأعضاء التي يتصرف فيها في اليقظة وبين الأعضاء التي يتصرف فيها في النوم. وكذا لا فرق بين البدن والأعضاء التي يكون
498 لها في الدنيا والتي لها في الآخرة في كونها واحدة شخصية بوحدة النفس وشخصيتها وإن تبدلت في حد نفسها بوجه ما لم تتبدل إضافتها إلى نفس واحدة لأن تشخص الأعضاء بتشخص النفس. أ ولا ترى أن النبي ص شخص واحد بلا تعدد ومع هذا كل من يراه في المنام فقد يرى شخصه وذاته لأن الشيطان لا يتمثل به وربما وقع أن يراه في ليلة واحدة في بلد واحد ألف رجل وامرأة مع أن جسده العنصري مدفون في روضة المدينة لم يتحرك من موضعه. وذلك لأن حقيقته المقدسة ليست إلا نفسه الشريفة مع أي بدن كان. فكل من رأى نفسه المقدسة مع أي تمثل كان فقد رآه لأن العبرة في تعين الشيء وتشخصه هي نفسه التي هي صورته مع أية مادة كانت عظيمة أو صغيرة وعلى أي شكل ووضع كان وقد وقع في الحديث أن أهل الجنة جرد مرد وأن ضرس الكافر مثل جبل أحد. وظاهر أن عظم جثته يكون على شبه هذه البنية. والسبب في كون بدن المؤمن في الدنيا والآخرة أمرا واحدا بالشخص وإن كان في الدنيا قبيح المنظر كثير الشعر في الوجه وسائر الجسد وفي الآخرة حسن الوجه أجرد وأمرد هو أن التشخص إنما يكون بالنفس الناطقة وهي حقيقة الإنسان وهويته وشخصه وهي باقية بعينها ومع بقائها يكون التشخص باقيا والوحدة الشخصية باقية. وقوله تعالى في حق الكفار المعذبين بالنار كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها يؤيد ما ذكرنا. والبدن بمنزلة الآلة المطلقة والمادة المطلقة للإنسان والآلة من حيث هي آلة إنما يتعين بذي الآلة وكذا المادة وجودها بحسب نفسها يكون في غاية الإبهام وإنما يتعين بالصورة حتى أنه لو فرض أن تتبدل المادة بمادة أخرى مفارقة لها في ذاتها مع وحدة الصورة وبقائها يكون المادة في الحالين شخصا واحدا لاستلاكها في الصورة واتحادها معها فإن قوة الشيء بما هي قوة ليست أمرا مباينا له بل هي موجودة بوجوده
499 واحدة بوحدته باقية ببقائه ولا يعتبر فيها باعتبار كونها قوة ومادة للشيء تحصل وتعين في ذاتها وتخصص بحسب نفسها ولهذا يكون شخصية زيد وتعينه باقيا مستمرا في أول صباه إلى آخر شيخوخته مع أن جسميته مما تبدلت وتجددت بحسب الاستحالات والأمراض وكذا جسمية كل عضو من أعضائه وكما أن زيدا بما هو زيد أي مجموع النفس والجسم بالمعنى الذي يكون جنسا لا مادة موجود شخصي مستمر فكذا جسميته وبدنه أيضا من حيث كونه بدنا ومضافا إليه موجود واحد مستمر وإن تبدلت ذاته بذاته لا بحسب نسبته إلى نفس زيد لما علمت أن تشخص المادة بما هي مادة والبدن بما هو بدن إنما هو بالصورة والنفس وكذا تشخص أجزاء المادة وأعضاء البدن بما هي أجزاء وأعضاء يكون بالصورة والنفس. فأتقن هذا حتى ينفعك في كثير من مواضع منها إثبات الحركة الكمية ومنها إثبات الحشر الجسماني وإحياء عظام الموتى وهي رميم ومنها كون شخص من الإنسان حين تجرد نفسه عن المواد والأجرام وحين تعلقها بها واحدا شخصيا مستمرا لا ينافي وحدته الشخصية المستمرة كونه مفردا تارة ومركبا أخرى وترا مرة وزوجا أخرى. الأصل الثالث أن تشخص كل شيء عبارة عن نحو وجوده الخاص به مجردا كان أو ماديا كما حققه المحققون ويستفاد من مؤلفات الحكماء وصرح به المعلم الثاني وغيره من العظماء. وما اشتهر من كون العوارض المادية مشخصات إنما هو بمعنى آخر وهو أن كل شخص مادي يلزمه ما دام وجوده في مادته كمية ما وكيفية ما ووضع ما وأين ما وزمان ما كل منها من حد خاص إلى حد خاص لو تجاوز شيء من تلك الأعراض وخرج عن الحدين المخصوص له انعدم ذلك الشخص. وذلك لاحتياجه في نحو وجوده المادي إلى تلك الأعراض على الوجه المذكور فتلك الأعراض التي من لوازم وجوده وعلامات شخصيته يقال لها الأعراض المشخصة بهذا المعنى. وليس لأحد أن لا يتصور بقاء الشخص بدون تلك الأعراض بل يمكن تصور ذلك بوجه ما إذا فرض
500 أن يتقوى وجوده بحيث يستغني بعلته الفياضة عن المقارنات الحسية والأعراض الجسمية كما في النفوس الإنسانية عند تجردها واستقلالها فإنها قد تخصص حدوث كل من آحاد النفوس المتفقة في النوع بعوارض مادية وهيئة بدنية ثم بعد استقلالها في الوجود وتقويها بكمالها العلمي والعملي وترقيها إلى عالم القدس واتصالها ببارئها انخلعت عنها تلك الهيئات البدنية البتة. بل النفس في حياتها الدنياوية وتعلقها بالبدن ربما يقع لها خلصات إلهية يكاد تترك عالم الأجسام بهيئاتها وعوارضها جملة مع بقائها شخصا. الأصل الرابع أن الوحدة الشخصية في كل شيء ليست على وتيرة واحدة ودرجة واحدة فإن الوحدة الشخصية في الجواهر المجردة حكمها غير الوحدة الشخصية في الجواهر المادية فإن في الجسم الواحد الشخصي يستحيل أن يجتمع أوصاف متضادة وأعراض متقابلة من السواد والبياض والسعادة والشقاوة واللذة والألم والعلو والسفل والدنيا والآخرة. وذلك لضيق حوصلة ذاته وقصر رداءه الوجودي عن الجمع بين الأمور المتخالفة بخلاف وجود الجوهر النطقي من الإنسان فإنها مع وحدتها الشخصية جامعة للتجسم والتجرد وحاصرة للسعادة والشقاوة فإنها قد يكون في وقت واحد في أعلى عليين وذلك عند تصور أمر قدسي وقد يكون في أسفل سافلين وذلك عند تصور أمر شهوي وقد يكون ملكا مقربا باعتبار وشيطانا مريدا باعتبار وذلك لأن إدراك كل شيء هو بأن ينال حقيقة ذلك الشيء المدرك بما هو مدرك بل بالاتحاد معه كما رآه طائفة من العرفاء وأكثر المشائين والمحققون وصرح به الشيخ أبو نصر في مواضع من كتبه. والشيخ اعترف به في كتابه المسمى بالمبدأ والمعاد وفي موضع من الشفاء حيث قال في الفصل السادس من مقالة التاسعة من الإلهيات بهذه العبارة: ثم كذلك حتى يستوفي في النفس هيئة الوجود كله فينقلب عالما معقولا موازيا للعالم الموجود كله مشاهدا لما هو الحسن المطلق والخير المطلق والجمال الحق ومتحدة به ومنتقشة بمثاله وهيئاته ومنخرطة في سلكه وصائرة من جوهره.
501 ومما يؤيد ذلك أن المدرك بجميع الإدراكات والفاعل بجميع الأفاعيل الواقعة من الإنسان هو نفسه الناطقة النازلة إلى مرتبة الحواس والآلات والأعضاء والصاعدة إلى مرتبة العقل المستفاد والعقل الفعال في آن واحد وذلك لسعة وجودها وبسط جوهريتها وانتشار نورها في الأكناف والأطراف بل بتطور ذاتها بالشؤون والأطوار وتجليها على الأعضاء والأرواح وتحليها بحلية الأجسام والأشباح مع كونها من سنخ الأنوار ومعدن الأسرار. فمن هذا الأصل تبين وتحقق ما ادعيناه من كون شيء واحد تارة محتاجا في وجوده إلى عوارض مادية ولواحق جسمية وذلك لضعف وجوده ونقص تجوهره وتارة ينفرد بذاته ويتخلص بوجوده وذلك لاستكمال ذاته وتقوي إنيته. وما اشتهر من متقدمي المشائين أن شيئا واحدا لا يكون له إلا أحد نحوي الوجود الرابطي والاستقلالي غير مبرهن عليه بل الحق خلافه. نعم لو أريد منه أن الوجود الواحد من جهة واحدة يكون ناعتيا وغير ناعتي لكان صحيحا. الأصل الخامس أن الصور والمقادير والأشكال والهيئات كما يحصل من القابل بالجهات القابلية على سبيل الاستعداد والحركات والانفعالات كذلك قد يحصل من الجهات الفاعلية والحيثيات الإدراكية من غير مشاركة مادة عنصرية. ووجود الأفلاك والكواكب من المبادي الفعالة من هذا القبيل حيث وجدت منها على سبيل الإبداع من محض تصورات المبادي كيفية وجودها بلا مشاركة المواد إذ لا مادة قبل وجودها. ومن هذا القبيل الصور الخيالية الصادرة عن النفس بقوتها الخيالية من الأشكال العظام والأجسام التي هي أعظم من الأفلاك الكلية بكثير والبلاد العظيمة مع أشخاصها والصحاري الواسعة والجبال الشاهقة فإنها ليست قائمة بالجرم الدماغي ولا موجودة في القوة الخيالية كما برهن عليه ولا في عالم المثال الكلي كما بيناه بل في عالم النفس وصقع منها خارج عن أجسام هذا العالم الهيولاني. ولا شبهة في أن الصور التي يتصورها النفس بقوتها المصورة ويراها بباصرة الخيالية لها وجود لا في هذا العالم وإلا لرآها كل سليم الحس الظاهري بل في عالم آخر غائب عن حواسنا
502 الظاهرية ومشاعرنا المادية يسمى بعالم الغيب كما يسمى هذا العالم بعالم الشهادة وهما جنسان متباينان بحسب الذات والوضع جميعا على الإطلاق لا يمكن أن يقال لواحد منهما أين هو من الآخر كما لا يمكن أن يقال أين النفس من البدن والعقل من المادة والباري من الكل لأن كلا من المختلفين حقيقة وذاتا لا وضع له بالقياس إلى الآخر وكما أن الصور المحسوسة موجودة في عالمها حاضرة للقوى المدركة لها ومن جنسها أيضا. ولا فرق بين الصور التي يراها الإنسان بمشاعره الباطنة والصور التي يدركها بالحواس الظاهرة إلا بعدم ثباتها وضعف وجودها حيث لا يترتب عليها آثار حقيقتها وموجوديتها كما يترتب على هذه الحسيات. وذلك لاشتغال النفس بما يورده الحواس عليها من آثار هذا العالم ولضعف الهمة حتى لو فرض أين يرتفع عن النفس الاشتغال بأفاعيل سائر القوى المحركة والمدركة ويزول عنها انفعالات الحواس الظاهرة ويكون قواها منحصرة في الخيال والتصور بكون الصور والأجسام التي يتصورها بقوتها الخيالية ويشاهد بباصرتها الباطنة في غاية ما فيها من القوام وقوة الوجود ويكون هي أقوى من المحسوسات وكما يكون حينئذ تلك القوة هي بعينها عينا باصرة للنفس يكون قوة فعالة لها فيصير قوة واحدة فاعلة ومدركة ويكون من مشاهدة النفس عين قدرتها. كما أن الواجب تعالى علمه بالأشياء الذي يرجع إلى بصره عين قدرته عليها كما هو مذهب الإشراقيين والجميع عين ذاته تعالى وليعلم أن النفس باعتبار كل قوة من قواها الإدراكية من العاقلة والمصورة والحاسة يقع في عالم آخر فباعتبار كل قوة للمعقولات الكلية يكون في عالم العقول الذي هو فوق العوالم وباعتبار إدراكها المحسوسات يكون في عالم الأجرام والمواد الذي هو تحت العوالم وباعتبار إدراكها للمثل الخيالية يكون في عالم بين العالمين. ومما يجب أن يعلم أن أهل كل عالم من العوالم إنما يدرك الموجودات التي فيه على سبيل المشاهدة والعيان ويدرك الصور التي هي في أحد العالمين الآخرين على سبيل الحكاية
503 والاستخبار للأمور الغائبة عن الأبصار بالعبارة والبيان فشهادة كل عالم غيب في الآخرة وعيانه علم وخبر في غيره. ولما كانت نفوس أكثر الناس ما دامت في هذا العالم اشتغالها بالحواس أكثر واهتمامها بتربية البدن وأعضائه التي هي محال الحواس أشد من اهتمامها بتقوية القوة العاقلة والقوة المصورة فهي قليلة التوجه والالتفات بتحصيل مآرب القوة العاقلة والسعادة الحقيقية اليقينية كما فعله المقربون والكاملون في العلوم والمعارف من عكوفهم على الرياضات العلمية ضعيفة الاشتغال والاهتمام بتحصيل مآرب القوة العملية والخيالية والسعادات الوهمية الأخروية كما فعله أصحاب اليمين من المتوسطين في المعرفة من اشتغالهم بكثرة العبادات العملية مشعوفة بنية صالحة على قدر ما يمكنهم ويتيسر لهم من الإخلاص في العمل وتصفية النية عن الأغراض الدنياوية فإذا كان الغالب على الإنسان في هذا العالم النشأة الحسية لا جرم كلما يراه من هذا العالم المحسوس يكون واثقا بوجوده ونائلا له بحواسه لكونه من متاع هذه الحياة الدنيا. وأما ما يراه في النوم أو يتخيل له بقوته الخيالية التي هي باصرته الباطنة التي تبصر بها ويشاهد الصور الغيبية ويراها في عالم متوسط بين العالمين فلا يثق بوجوده ولا يعتمد عليه لكونه معرضا عنه إلى هذا العالم مع أن ذلك أصدق وجودا في نفسه وعند المدرك إذا قوي سلطان القوة الباطنة واشتد مفارقته لعالم الغيب والله تعالى سمى هذا العالم الحسي بعالم الزور وعالم الغرور وصف الصور الموجودة فيه لهوا ولعبا ومتاع الغرور في عدة مواضع من كتابه الذي هو تنزيل من رب غفور. والصور العقلية والمثل النورية الأفلاطونية الحاصلة في العالم العقل الذي هو جنة الكاملين في العقل هي أبعد من الحواس وأخفى من مشاهدة الناس وأضعف آثارا
504 وأقل تجوهرا عند من غلب عليه قوة الإحساس من الصور الحسية والخيالية جميعا بهذا القياس الذي علمت مع أن البرهان قائم على أنها أقوى الجواهر وأوضحها وجودا أو أشدها نورية وأكثرها آثارا وأصدقها تحققا. والحاصل أن مناط كون الصورة عينية وذهنية هو ما ذكرنا من أن الإنسان بقوته الدراكة إذا أدرك صورة من صور العالم الذي يكون فيه يكون إدراكه إياها على سبيل المشاهدة والمعاينة ويثق بوجودها ويتلذذ بها إن كان ملائما ويتنفر إن كان منافرا لمناسبتها إياه في نحو الوجود ويحكم بأنها موجودة خارجية عينية قوية. وإذا أدرك صورة من صور العالم الذي لم يقع بعد فيه ولم يغلب نشأته عليه يكون إدراكه إياها على سبيل التخيل ولا يثق بوجودها ولا يتلذذ ولا يتألم بها لعدم وقوعها معه في عالم واحد فيحكم بأنها موجودة ذهنية غيبية لا شهادية ضعيفة سواء كانت في نفسها قوية أو ضعيفة. الأصل السادس أن الله تعالى قد خلق النفس الإنسانية بحيث يكون لها اقتدار على إبداع الصور الباطنية الغائبة عن الحواس وكل صورة صادرة عن الفاعل فلها حصول له بل حصولها في نفسه هو عين حصولها لفاعلها وليس من شرط حصول شيء لشيء أن يكون حالا فيه وصفا له بل ربما يكون الشيء حاصلا لشيء من دون قيامه به بنحو الحلول والاتصاف كما أن صور جميع الموجودات حاصلة للباري تعالى حصولا أشد من حصولها لنفسها ولقابلها كما علمت في مباحث العلم أن قيام الصورة بالباري ليس قياما حلوليا ناعتيا وكل صورة حاصلة لموجود مجرد عن المادة بأي نحو كان فهي مناط عالمية ذلك المجرد بها. فالنفس الإنسانية في ذاتها عالم خاص بها من الجواهر والأعراض المفارقة والمادية والأفلاك المتحركة والساكنة والعناصر والمركبات وسائر الخلائق يشاهدها بنفس حصولاتها لها لا بحصولات أخرى وإلا يتسلسل فعلمه بها بعينه قدرتها عليه وذلك لأن الباري تعالى خلاق الموجودات المبدعة والكائنة
505 وخلق النفس الإنسانية مثالا لذاته وصفاته وأفعاله فإنه منزه عن المثل والشبه لا عن المثال فخلق النفس مثالا له ذاتا وصفاتا وأفعالا ليكون معرفتها مرقاة لمعرفته كما وقع في الحديث المشهور فجعل ذاتها مجردة عن الأكوان والأحياز والجهات وصيرها ذات قدرة وعلم وإرادة وحياة وسمع وبصر وجعلها ذات مملكة شبيهة بمملكة باريها يخلق ما يشاء ويختار ما يريد في عالمها إلا أنها وإن كانت النفس كذلك لكنها لضعف وجودها في الحياة الدنياوية ما يترتب عليها ويوجد من تصورها من الأفعال والآثار الخاصة أعني الصور الإدراكية يكون في غاية ضعف الوجود بل وجود ما يوجد عنها بذاتها وهي في هذا العالم من الصور العقلية أو الخيالية أظلال وأشباح للموجودات المتأصلة الصادرة عن الباري وإن كانت الماهية محفوظة في أنحاء الوجود فلا يترتب على ما يتصوره الآن ما يترتب بحسب الوجود الحسي الخارجي والعقلي الخارجي اللهم إلا لبعض المتجردين عن جلباب البشرية ومشوشات ما يورده الحواس من أصحاب المعارج فإنهم لشدة اتصالهم بعالم القدس ومحل الكرامة وكمال قوتهم وسعة وجودهم الوافي بحفظ الجوانب وعدم اشتغالهم بشأن من الشؤون عن شأن آخر يقتدرون على إيجاد صورة موجودة يترتب عليها الآثار ويستلذ بها في هذا الدار أو في عالم آخر لمن يكون له حاسة يصلح لمشاهدة الأمور الأخروية ومعاينة الأسرار. وقد مر أن الوجود للشيء الذي لا يترتب عليه الآثار وهو الصادر عن النفس حين اشتغالها بعالم الحواس يسمى بالوجود الذهني والظلي والوجود المترتب عليه الآثار يسمى بالخارجي والعيني. ومما يؤيد ما ذكرنا ما قاله الشيخ الجليل محيي الدين الأعرابي في كتاب الفصوص أنه بالوهم يخلق كل إنسان في قوة خياله ما لا وجود له إلا فيها وهذا هو الأمر العالم لكل إنسان والعارف يخلق بالهمة ما يكون له وجود من خارج محل الهمة ولكن لا يزال الهمة بحفظه ولا يؤودها حفظ ما خلقته فمتى طرأ على العارف غفلة عن حفظ ما خلق عدم ذلك المخلوق إلا أن يكون العارف قد ضبط
506 جميع الحضرات وهو لا يغفل مطلقا انتهى. وهذه القوة والقدرة التي يكون لأصحاب الكرامات في إيجاد الصور العينية في الدنيا يكون لعامة الناس في الآخرة سواء كانوا سعيدا أو شقيا إلا أن السعداء لعدالة ملكاتهم واستقامة آرائهم وصحة أخلاقهم وسلامة نفوسهم عن الأمراض النفسانية والأخلاق الذميمة الحاصلة من المعاصي والشهوات يكون قرينهم في الآخرة الحور والغلمان والرضوان واللؤلؤ والمرجان والوجوه الحسان وأنواع النعم وفنون الكرامات والأشقياء لخباثة أخلاقهم ورداءة ملكاتهم واعوجاج إدراكاتهم وفساد آرائهم وأمراض نفوسهم الحاصلة من متابعة الدنيا وحب الشهوات والمستلذات وترك الامتثال للأوامر والنواهي الشرعية ومتابعة النفس الأمارة بالسوء يكون جليسهم في القيامة الجحيم والنيران ومالك غضبان والعقارب والحيات والصور الموحشة القباح وأنواع العذاب وفنون العقاب إذ الأمور الأخروية من نعيم الجنان وعذاب النيران وغيرهما كلها من نتائج الأعمال والأفعال في الدنيا وتوابع الأخلاق والملكات في الأولى ظهرت وحصلت في النشأة الثانية والدار الآخرة للعباد. والصور الأخروية أشد إلذاذا وإيلاما من الصور الدنياوية بما لا نسبة بينهما في التنعيم والتعذيب كيف لا وربما يكون المعلوم في النوم أشد في بابه من التأثير الملائم والمنافر في الذي يراه الإنسان في اليقظة والأخرى لا يكون أضعف في بابه من المعلوم بل الحدس الصائب يحكم بأنه أشد منه بكثير وذلك لصفاء القلب وصحة الإدراك وعدم الشاغل. فالصور الأخروية هي أكثر تأثيرا من الصور المنامية وهي من الصور الدنياوية وهكذا يقاس صور كل نشأة وعالم إلى صور نشأة أخرى يكون فوقها بعدة مراتب في باب قوة التأثير. ولهذا ورد في الخبر: أن هذه النار غسلت بالماء سبعين مرة ليمكن الانتفاع بها فإن حرارة النار الدنياوية تابعة لصورتها النوعية. وقد حققنا في غير هذا الكتاب أن لكل نوع جسماني فردا روحانيا في عالم الأمر فالنار الجسمانية التي هي في هذا العالم
507 شرر من نار قهر الله المعنوية بعد تنزلها في مراتب كثيرة كتنزلها في مرتبة النفس بصورة الغضب إذ ربما يؤثر سورة الغضب في إحراق الأخلاط مع رطوبتها ما لا يؤثر النار في الحطب اليابس ومن هذا يعلم أن كل مسخن لا يجب أن يكون حارا. واعلم أن هذه النار التي تراها في الدنيا ليس هذا الصفا والإشراق والتلألؤ واللمعان داخلا في حقيقتها فإن ذلك كله مسلوب من النار الحقيقة العقلية ومن النار الجسمانية الأخروية وإنما يثبت لهذه النيران لأنها ليست نيرانا محضة بل فيها نار ونور. وأما النار المحضة فإن تمامها محرقة مؤذية قطاعة نزاعة وهذا المحسوس من النار ليس محرقا حقيقة والذي يباشر الإحراق والتفريق حقا وحقيقة هي نار إلهية مستورة عن هذه الحواس خارجة عن الفكر والقياس وهي النار الكبرى التي تطلع على الأفئدة والنفوس المرتبطة نوعا من الارتباط بهذا المحسوس. وكما أن حرارة الحمى الشديد أثر من الأخلاط الردية وانحراف المزاج عن الاعتدال في الطبيعة فكذلك شدة حرارة نار جهنم سببها المعاصي والأفعال السيئة والانحراف عن العدالة ومنهج الشريعة. الأصل السابع أن المادة التي لا بد منها في وجود الحوادث وحدوثها ولا بد للحركات والتغيرات والانتقالات الخيالية عن تحققها وثبوتها ليست حقيقتها إلا قوة الشيء وإمكانه الاستعدادي ومنبعها الإمكان الذاتي ولهذا حصلت من المبادي العقلية من جهة إمكاناتها ومنشأ الإمكان ذاتيا كان أو استعداديا هو نقص الوجود وقصور التجوهر بحسب مرتبة الماهية أو بحسب الواقع. فما دام الشيء له قصور في ذاته ونقص في جوهره فله نسبة إلى القوة ويحدث منه المتجددات ويباشر الحركات والتحريكات ويزاولها فكما أن العقول تنقسم في مذهب الإشراقيين إلى ما لا يصدر منها الأجسام وهي العقول الواقعة في سلسلة الطول ويسمى عندهم بالأعلون وذلك لعلوهم
508 وغاية شرفهم حيث لا يقع من جهاتهم الفعالة إلا عقول أخرى لا الأجسام إذ لا بد لصدور الأجسام من ظهور جهة إمكان ونقص في القاهر العقلي وإلى ما يصدر عنها الأجسام وهي العقول الواقعة في سلسلة العرض وهي أواخر السلاسل الطولية وهي أدون منزلة من القواهر الطولية ويسمى بأرباب الأصنام ولقلة شرفها وظهور إمكاناتها يصدر عنها الأجسام وهيئاتها المنوعة. فكذلك النفوس على ضربين منها ما يتعلق بالأبدان المستحيلة الكائنة وينفعل عن هيئاتها وعوارضها المادية لكونها بالقوة لا يمكن أن يستكفي بذاتها ومنها ما لا يتعلق بالأبدان المستحيلة المادية بل الأبدان ينشأ منها ويوجد بتبعيتها من دون استعداد مادة وانفعال وتغير من حال إلى حال بل بمجرد جهة فاعلية في النفس مع حيثية إمكانها وقصورها عن درجة الكمال التام العقلي إذ لو بلغت إلى حد العقلي لم يتبعها تجسم وتكدر فهذا القسم من النفوس تجردت عن الحس دون الخيال ولو تجردت عن الخيال أيضا لكانت عقولا صرفة. فالنفس عند تفردها عن البدن العنصري (سواء بالنوم أو بالموت) يصحبها القوة الخيالية ويلزمها البدن الناشي عن النفس القاهرة. وهذا القسم من النفوس أقوى قوة من النفوس المنفعلة عن الأبدان وإن كانت العصاة والفسقة والكفرة منها معذبة بأنواع من العذاب الجسماني لأجل اكتسابها الملكات الردية والاعتقادات الفاسدة والآراء الردية في الله أو في صفاته أو في أفعاله وأحكامه مؤلمة لنفوس معتقديها ومعذبة لقلوبهم فإنها بالحقيقة نيرانات ملتهبة وحرقات مشتعلة ظهرت لهم من قلوبهم يوم القيامة كما قال الله تعالى: نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة إنها عليهم مؤصدة في عمد ممددة وبإزاء هذه الاعتقادات الحقة في النفوس والآراء الفاضلة والأخلاق والملكات الحسنة كلها جنات وأنهار وطيور وأشجار وعيون جارية وسرر مرفوعة و حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون
509 جزاء بما كانوا يعملون فإن الملكات والأخلاق المكتسبة من الأعمال والأفعال يتبعها في الآخرة تلك الصور والأشجار والأجسام إما حسنة ملذة منعمة من الجنة والرضوان وإما قبيحة مؤلمة معذبة من الجحيم والغضبان. فإذا تمهد هذه الأصول والمقدمات مع تتبع الأحاديث وتدبر الآيات تحقق وتيقن وانكشف وتبين أن المعاد في المعاد هو مجموع النفس بعينها وشخصها والبدن بعينه وشخصه دون بدن آخر عنصري كما ذهب إليه الغزالي أو مثالي كما ذهب إليه الإشراقيون. وهذا هو الاعتقاد الصحيح المطابق للعقل والشرع الموافق للملة والحكمة فمن صدق وآمن في المعاد بهذا فقد آمن بيوم الحساب والجزاء وقد أصبح مؤمنا حقا والنقصان عن هذا الإيمان خذلان بل كفر وعصيان. وبما حققناه من المقدمات والأصول اندفع شبهة الجاحدين للحق والمنكرين للمعاد الجسماني. منها أنه إذا صار إنسان معين غذاء لإنسان آخر فالأجزاء المأكولة إما أن يعاد في بدن الآكل أو في بدن المأكول وأيا ما كان لا يكون أحدهما بعينه معادا بتمامه. وأيضا إذا كان الآكل كافرا والمأكول مؤمنا يلزم تعذيب المطيع وتنعيم المعاصي أو يلزم أن يكون الآكل كافرا معذبا والمأكول مؤمنا منعما مع كونهما جسما واحدا. واندفاعه على ما مهدنا من الأصول بعد فهمها وتحقيقها بأن العبرة في تشخص كل إنسان إنما هو بنفسه وأما بدنه من حيث هو بدنه فليس له تشخص إلا بالنفس بل ليس له من هذه الحيثية حقيقة ولا ذات حتى يكون له في ذاته تعين بهذا الاعتبار وتوحد إلا بحسب ما يتصرف فيه أي نفسه وليس من شرط كون بدن زيد محشورا مثلا أن يكون الجسم الذي صار مأكولا لسبع أو إنسان من حيث هو جسم معين له حقيقة لحمية أو عظيمة أو عصبية يحشر يوم القيامة أي بهذا الاعتبار بل المحشور ليس إلا بدن زيد أي جسم يكون بعد ما انحفظت شخصيته بأنه بدن زيد وإن تبدلت جميع أجرائه في
510 نفسها وذاتها لا من حيث إنها أجزاء بدن زيد بعينها. إنما الاعتقاد في حشر الأبدان يوم الجزاء هو أن يبعث أبدان من القبور إذا رآه أحد كل واحد واحد منها يقول هذا فلان بعينه وهذا فلان بعينه من غير شك وريب ويكون اعتقاده بأن هذا فلان بعينه اعتقادا صحيحا مطابقا لما هو الواقع لا أن يكون الأبدان مثلا وأشباحا للأشخاص بل الأبدان الإنسانية يجب أن يكون مما يصدق عليها ذوات الأناس وحقائقها دون أمثالها وأظلالها. ولا يلزم من ذلك لأحد أن يعتقد أن مشوه الخلق من أهل الإيمان يجب أن يبعث مشوه الخلق ولا الأقطع والأشل والأعمى والهرم يجب أن يبعثوا كذلك كيف وقد ورد في الأحاديث خلاف ذلك. فعود الشكل والهيئة والمقدار عينا أو مثلا غير لازم بل اللازم شكل ما وهيئة ما ومقدار ما مع انحفاظ التشخص. والمتكلمون عن آخرهم أجابوا عن هذه الشبهة بأن المحشور في يوم النشور إنما هو الأجزاء الأصلية الباقية من أول العمر إلى آخره والحق سبحانه يحفظها من غير أن يصير جزءا لبدن آخر. أقول: هذا كما ترى وبناؤه على الإرادة الجزافية التي يثبتونها في الفاعل المختار الذي كأنه لا شغل له إلا حفظ الأجزاء المتفرقة الترابية عن أن يصير مادة لغذاء الإنسان حتى يتأتى الجواب للمتكلم عن اعتراض يرد عليه في هذا الباب. وهذا الجواب كجوابهم عما يلزم من لزوم تفكك الرحى كان الواجب جل شأنه شغله دائما إلصاق أجزاء الرحى عن التفكك وتسكين المتحرك السريع حتى يصل إليه البطيء ليتهيأ للكلامى الجواب والاعتذار عما يرد عليه في كل باب والله غني عن العالمين فضلا عن أقوال المتكلمين. ومنها أن جرم الأرض مقدار محصور معدود ممسوح بالفراسخ والأميال والذراع وعدد النفوس غير متناه فلا يفي مقدار الأرض ولا يسع لأن يحصل منه الأبدان الغير المتناهية. والجواب بعد تسليم ما ذكر أن المقادير قد يزداد حجما وعددا من مادة واحدة فإن
511 هيولى الأرض هي قوة قابلة محضة لا مقدار لها في نفسها بل المقادير مما يعرض لها من خارج وهي في نفسها قابلة للانقسامات وحصول المقادير الغير المتناهية وليس أيضا من شرطها أن يكون صورتها هذه الصورة الأرضية بل يجوز انقلابها من الأرضية إلى أجسام آخر قابل للتخلخل والتعدد أيما فرض على ذلك قد علمت من الأصول أن الإنسان الأخروي ينشأ منه الجسمية بحسب نفسه وصفات نفسه لا أنه يحدث وينشأ هي من الجسم كما في الدنيا لما بينا أن الأبدان الأخروية يحصل من الجهات الفاعلية لا من الجهات القابلية. وليعلم أيضا أن الازدحام والتصادم والتضايق هو من خواص الأجسام الدنياوية وليس في الأجسام الآخرة ازدحام وتصادم فإن كل واحد من أهل السعادة له جنة عرضها كعرض السماوات والأرض من غير أن يزاحم شيئا من الأفلاك والعناصر والأركان أو يضيق بسبب وجودها الحيز والمكان. ولغفلة الناس من الأصول المذكورة صاروا يتعجبون من كون الجنة والنار إذا كانتا موجودتين جسمانيتين فأين وجودهما في العالم وفي أي جهة كانتا إما أن يكونا فوق محدد الجهات فيلزم أن يكون في اللامكان مكان وفي اللاجهة جهة. وإما أن يكونا في داخل طبقات السماوات والأرض أو ما بين طبقة وطبقة فيلزم إما التداخل أو الانفراج بين سماء وسماء والكل مستحيل ومع هذا تنافي قوله تعالى عرضها كعرض السماء و الأرض فالمتكلمون حيث لم يدخلوا البيوت من أبوابها ليس في وسعهم التفصي عن أمثال هذا الإشكال فيجيبون عنه تارة بتجويز الخلاء وتارة بعدم الجنة والنار مخلوقتين بعد وتارة بانفتاق السماوات بقدر يسع بينها الجنة. وأكثر الناس يأبون أن يعترفوا بالعجز والقصور ويقولوا لا ندري. الله ورسوله أعلم. فالمتكلمون حيث لم يدخلوا البيوت من أبوابها ليس في وسعهم التفصي عن أمثال هذا الإشكال ومع هذا فأحسن أحوالهم أن يكتفوا بمجرد التقليد في هذا المطالب ولم يتصدوا للبحث
512 والمجادلة كأكثر المتكلمين الذين يخضعون في المعقولات وهم لا يعرفون المحسوسات ويتكلمون في الإلهيات وهم يجهلون الطبيعيات متعاطون البراهين والقياسات وهم لا يحسنون المنطق والرياضيات ولا يعرفون علم الأخلاق والسياسات ولا العلوم الدينية والشرعيات إلا مسائل خلافيات وحذليات. وليس غرضهم فيها أيضا الوصول إلى الخلاق بتهذيب الأخلاق بل رجوع الخلائق إلى فتاويهم وأقضيتهم التي هي مادة النفاق. وهؤلاء المجادلة مع كمال قصورهم وعجزهم عن إدراك هذه المسائل الحقيقية الدينية من أحوال المبدإ والمعاد التي بها يكمل الإنسان بحسب القوانين وبها يصل إلى سعادة النشأتين يعادون الحكمة والمعرفة ويخاصمون الحكماء والعرفاء. وغاية تقويتهم الشريعة والدين وإعانتهم وإرشادهم المسلمين أن يقولوا إن الحكمة ضلال وإضلال وتعلمها بدعة ووبال وإن علم النجوم باطل وإن الكواكب كالجمادات وإن الأفلاك لا حياة لها ولا نطق ومثل قولهم إن الطب لا منفعة فيه وإن الهندسة لا حقيقة لها وإن علم المنطق والطبيعيات كفر وزندقة وأهلها ملحدون وكفرة إلى غير ذلك من مقالاتهم وهوساتهم المشحونة بالتدليس والتلبيس التي غرضهم فيها صرف قلوب الناس عن الاشتغال بتحصيل الكمال وطلب الآخرة بالزهد الحقيقي وعدم الرغبة إلى الجهال والأرذال وابتغاء معرفة الحق العزيز المتعال بكسب العلم الحقيقي والحال لا بمزاولة القيل والقال. ومنها لزوم مفسدة التناسخ كما مر ذكره وهذه أيضا شبهة صعبة الزوال وعقدة عسر الانحلال والجواب الذي ذكروا في دفعها في غاية الضعف والقصور لا يمكن الاكتفاء بها في تحقيق الحق اللهم إلا بمجادلة الخصوم وغاية ما تكلفه بعض الأعلام من الكرام في رسالته التي لفقها في تحقيق المعاد وهو أن للروح الإلهي الذي هو النفس الناطقة الفاعلة المتصرفة المدركة في البدن والأعضاء والقوى لأنها آلات لها ضربين من التعلق بهذا البدن العنصري.
513 أولهما أولى وهو تعلقه بالروح الحيواني المنبعث من القلب الساري في الشرائين. وثانيهما ثانوي وهو تعلقها بالأعضاء الكثيفة وكل صورة ونفس تعلق بجسم إذا حان وقرب قصور وفتور في تعلقه بجزء يشتد ويزداد توجهه وتعلقه بالأجزاء الآخر كما لا يخفى على أولى النهى. وبعد تمهيد هذا نقول: إن الروح الإلهي إذا لبث برهة أو مدة متعلقا ببدن ثم انحرف مزاج الروح الحيواني وكاد أن يخرج عن صلاحية التعلق فاشتد وازداد التعلق الثانوي من جانب الروح الإلهي بالأعضاء ولهذا يرى عند قرب الموت انتقاش ما ثم بعد قطع العلاقة الأولى وزوال الآلات والقوى يبقى من الباقي تعلق ما وبهذا يتعين الأجزاء بتعين ما ثم عند المحشر إذا اجتمعت وتألفت تلك الأجزاء بعينها وتمت صورة البدن ثانيا وحصل فيه الروح الحيواني مرة أخرى عاد تعلق الروح كالمرة الأولى وكان التعلق بالأجزاء مانعا مزاجها لحدوث نفس أخرى فالمعاد هو عود الروح إلى البدن لنيل الجزاء انتهى كلامه بحث وتنبيه إن هذا الكلام قد لا يفي بتحقيق المرام إنما يليق بمجادلة أهل الخصام فإن تعلق النفوس والصور بالأبدان والأجسام تعلق طبيعي لا تعلق إرادي صادر عن الفاعل بالقصد والروية إذ ربما تعلقت إرادة الإنسان لأجل مصلحة ترغبه وداعية تدعوه إلى توجه والتفات نحو شيء مثل توجهه إلى خرابة عاش فيها مدة وأياما كانت معمورة فالتفت إليها مرة أو مرتين وتذكر به التذاذات والتنعمات التي وقعت منه فيها سواء كان هذا التوجه والالتفات منه على سبيل العبث والجزاف من غير طائل فكري وغاية عقلية أو يكون لها فائدة في ذلك ومصلحة رآها وداعية راعاها مثل طلب العمارة والسكنى فيها أو غير ذلك من المصالح والمآرب الدنياوية. وأما التعلقات الطبيعية من النفوس والصور والطبائع فلا بد لها من تخصص واستعداد وتهيؤ
514 مزاج وعلاقة طبيعية وارتباط علي ومعلولي. ومن ذاق المشرب الحكمي تعلم وتيقن أن الجسم الذي تعلق به النفس وخصوصا الناطقة التي هي آخر مراتب الشرف والكمال للأجسام الطبيعية في سلسلة العود والرجوع إلى العقل الفعال يجب أن يكون مختصا بمزيد استعداد وتهيؤ مزاج وإعداد وحرارة غريزية وروح بخاري شبيها لجرم السماوي. ومعنى قولهم: للنفس تعلق ثانوي بالأعضاء أن تعلقها بالأعضاء الكثيفة بالعرض لا بالذات لأجل كونها كالقشر والغلاف الحاوي للجرم الشبيه بالسماوي المعتدل القوام اللائق لأجل حرارته ولطافته وشفيفه أن يستوكره الحمام القدسي والطائر الإلهي والمزاج المعتدل الحقيقي لو جاز أو القريب به لو امتنع هو مزاج الروح البخاري كما مر ذكره لا مزاج الأعضاء حين كونها أعضاء فضلا من صيرورتها ترابا ورمادا فأي تعلق طبيعي بقي للنفس بالتراب والرماد ولو كان كذلك لكان كل تراب ورماد مما يتعلق به النفس ويتوجه إليه تعلقا طبيعيا وتوجها غريزيا لاشتراك الجميع في الترابية والرمادية والإضافة إلى الزمان السابق الذي كانت هذه المادية مصورة بصور الأعضاء غير باقية لأن الزمان غير باق فإذا تمزقت هذه الشبكة واستحالت ترابا وهواء وطار طائرها القدسي فأي تعلق بقي له بأجزائها المتفرقة المتبددة التي كل منها في قطر من الأمكنة. ذكر وتنبيه إن الغزالي صرح في كثير من المواضع في كتبه ب: أن المعاد الجسماني هو أن يتعلق المفارق عن بدن ببدن آخر واستبعد بل استنكر عود أجزاء البدن الأول. قال: وزيد الشيخ هو بعينه الذي كان شابا وهو بعينه الذي كان طفلا وجنينا صغيرا في بطن الأم مع عدم بقاء الأجزاء ففي الحشر أيضا كذلك والملتزمون عود الأجزاء مقلدون بلا دراية. أقول: قد علمت أن طريقتنا ومذهبنا في الحشر الجسماني عود البدن بعينه مع
515 نفسه كما يحكم به العقل الصريح من غير تعطيل ويدل عليه الشرع الصحيح من غير تأويل. ثم قال: وهذا ليس بتناسخ فإن المعاد هو الشخص الأول والمتناسخ شخص آخر فالفرق بين الحشر والتناسخ أن الروح إذا صار مرة أخرى متعلقا ببدن آخر فإن حصل من هذا التعلق الشخص الأول كان حشرا واقعا لا تناسخا. أقول: تقريره للمعاد الجسماني بأنه عود للشخص مع عدم عود البدن وتصريحه بأن الشخص إنما هو مجموع الروح والبدن مشكل وأشكل منه ما قرره في الفرق بين الحشر والتناسخ أن الشخص الثاني في الثاني غير الأول وفي الأول عينه إذ في هذا الفرق تحكم لا يخفى. وقال في موضع بهذا العبارة: إن الروح يعاد إلى بدن آخر غير الأول ولا يشاركه في شيء من الأجزاء. ثم قال: فإن قيل هذا هو التناسخ قلنا: سلمنا ولا مشاحة في الأسماء والشرع جوز هذا التناسخ ومنع غيره. أقول: هذا الكلام منه مما تلقاه بعض فضلاء الزمان بالقبول وذكره في تصنيفه واستحسنه ولعله ومن تبعه توهما أن الإيراد الذي يذكر في هذا المقام هو بل الإشكال هنا لزوم مفسدة التناسخ المذكورة في بيان استحالته كما ذكره الشيخ الرئيس وغيره من الحكماء أتباع المعلم الأول القائلين ببطلان التناسخ وهي كون بدن واحد ذا نفسين وكون بدن واحد ذا ذاتين وتلك المفسدة بعينها واردة كلما تعلقت نفس ببدن آخر غير بدنه الأول سواء كان المجموع الثاني عين الأول أو غيره وسواء سمي هذا في الشرع أو العرف تناسخا أو لا. ومنها أن الإعادة لا لغرض عبث لا يليق بالحكيم والغرض إن كان عائدا إليه كان لزوم نفس التناسخ حتى يجاب بأن الشرع جوز هذا النوع من التناسخ ومنع غيره نقصا له فيجب تنزيهه وإن كان عائدا إلى العبد لزم خلاف الحكمة والعدالة فإن ذلك الغرض إن كان إيصال ألم فهو غير لائق بالحكيم العادل وإن كان إيصال لذة فاللذات سيما الحسيات دفع الآلام. فإن الطعام وإن كان حسنا لذيذا لا يلتذ به من كان ممتليا شبعا وإنما يستلذ الجائع وكذلك سائر اللذات الحسية فإن العلماء والأطباء
516 بينوا وقرروا أنها دفع الآلام وألفوا في هذا كتبا ورسائل فلزم أن يولمه أولا حتى يوصل إليه لذة حسية وذلك أيضا لا يليق بالحكيم. وهل يليق بالحكيم العادل أن يولم أولا أحدا ليدفع عنه هذا الألم ومن ذا الذي يرى إحسانا بأحد فيقطع بعض أعضائه ثم يضع عليه المراهم ليلتذ. الأشاعرة أجابوا عن هذا بمنع لزوم الغرض وقبح الخلو عنه ثم منع انحصار الغرض في إيصال اللذة والألم ثم منع كون اللذة دفعا للألم ثم منع كون اللذات الأخروية كالدنيوية حتى يستلزم كونها أيضا دفعا للألم. أقول: يمكن إثبات هذه المقدمات المنوعة ودفع هذا الممنوع بوجه لائق هو أليق وهو أن الغرض في المعاد نيل الجزاء وظهور صدق الأنبياء. وقد عرفت الفرق بين الغرض والضروري وإيصال اللذة والألم كليهما جزاء وغرض ولا يلزم أن يكون إيصال اللذة بالإيلام أولا بل اللذات والآلام مما كسبته واكتسبته أيدي النفوس إرادة وعادة. وتوضيحه أنا نختار أن الغرض والغاية إيلام العصاة والأشقياء جزاء أعمالهم القبيحة وتنعيم السعداء وإلذاذهم جزاء أعمالهم الحسنة ولما كان المعاد في المعاد هو هذا البدن الذي كان في هذه النشأة كانت لوازمه في النشأة الآخرة كلوازمه في النشأة الأولى فإنه كما يجوع في هذه النشأة بلوازم بدنه ومزاجه من جهة حركات نفسانية وتخيلات حتى أنه لو غفلت نفس أحد عن الأكل والشرب لأجل استغراقه في تخيل أمر عظيم ملذ قوي أو مولم شديد أو اشتغاله بمرض صعب يمضي عليه أيام لا يأكل ولا يشرب ولا يريدهما كذلك في النشأة الآخرة يجوع بلوازم أمور بدنه ومشتهيات نفسه فيأكل ما يريده ويشتهيه الأنفس ويجوز أن يتأخر التنعيم والإلذاذ عن الألم والمشقة فإذا حصل لزاهد ألم الجوع في هذه النشأة لزهده في صومه ومشقة ترك مشتهياته من الشهوات اللذيذة التي يشتاق إليه بحسب طبعه ويهواها وكان يكف عنها ونهى النفس عن الهوى خوفا من الله فلا ضير أن يطعمه الله في نشأة أخرى بعد مدة أطعمة وملاذا يدفع بها الألم الحاصل له بزيادة ويترتب على تشوقه وتخيله غاية
517 ما يتصوره ويهم به ويطلبه. على أنا لا نسلم أن اللذة الحسية لا يكون إلا لدفع الألم بل يكون لنيل ما ينال الذوق من صورة الأمر اللذيذة. ولا نسلم أن كل مشتهى ومذوق لا يفيد إلا دفع الألم بل اللذة الحسية في نفسها غاية وكمال للقوى الحسية كما عرفت. وفي الجنة ملاذ جميع المدارك إذ فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين فلكل أحد ما يشتهيه ويشتاقه ولهم فيها ما يدعون. فينبغي للإنسان أن يحصل هاهنا الإدراك والتشوق لنيل المثوبات والوصول إلى الخيرات لأنه يصل كل إنسان في الآخرة إلى غاية همته ومشتهاه ونهاية رجاه ومناه بشرط أن ينهى نفسه عن هواه ويزهد في الدنيا طلبا لمثواه. نقل وردع إن من الفلاسفة من تأول الآيات الصريحة في الحشر الجسماني فيصرفها عن الجسمانيات ويحملها على الروحانيات قائلا: إن الخطاب للعامة وأجلاف الأعراب والعبرانيون لا يعرفون الروحانيات واللسان العربي مشحون بالمجازات والاستعارات. أقول: والعجب منه كيف غفل عن وجود عالم آخر جسماني فيه أجسام وأعراض وأشخاص جسمانية أخروية وناس أخرويون ثم كيف يحمل الآيات والنصوص القرآنية في أحوال المعاد على الأمور الروحانية وفيها مبالغات وتأكيدات لا مجال لعدم حملها على الجسمانيات. وأيضا من لم يقدر على فهم حكاية وصفات ولذات مع ما له من القوى والمشاعر كيف يتأتى له نيلها واكتناه حقائقها مع فقده وعراه عنها و من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى و أضل سبيلا. وأيضا لو كان الأمر في باب المعاد على ما توهمه لزم أن يكون الهادي للخلق والداعي لهم إلى الحق مقررا لأكاذيب. فإن أجلاف الأعراب والعبرانيين كما قال لا يفهمون إلا هذه الظواهر التي يقرر أنها أكاذيب. وهذا كما ترى مخالف للهداية والإرشاد والاعتقاد به مناف لدعوى الإيمان
518 برسالة الأنبياء والاعتقاد بحقية القرآن والظاهر من كتب الشيخ الرئيس أنه لم ينكر المعاد الجسماني وحاشاه عن ذلك إلا أنه لم يحصل بالبيان والبرهان فإنه قال في غير موضع من كتبه: إن المعاد قسمان جسماني وروحاني أما الجسماني فقد أغنانا عن بيانه الشريعة الحقة التي أتى به سيدنا ومولانا محمد ص أما الروحاني فنحن نشتغل ببيانه. تفصيل وتذكر إن الغزالي في كتاب سماه بفيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة بين أن للأشياء خمسة وجودات ذاتي وحسي وخيالي وعقلي وشبهى. فمن اعترف بوجود ما أخبر الرسول ص عن وجوده بوجه من الوجوه الخمسة فليس بمكذب على الإطلاق. فلنشرع للأقسام الخمسة ولنذكر مثالها في التأويلات وأما الوجود الذاتي فهو الوجود الحقيقي الثابت خارج عن الحس والعقل وهو كوجود السماء والأرض. وأما وجود الحسي فهو ما يتمثل في القوة الباصرة مما لا وجود في خارج العين فيكون موجودا في الحس واختص به الحاس. ولا يشاركه غيره وذلك كما يشاهد النائم بل كما يشاهد المريض المستيقظ. وأما الوجود الخيالي فهو صورة هذه المحسوسات إذا غاب فإنك تقدر أن تخترع في خيالك صورة فيل وفرس وإن كنت مغمضا عينيك حتى كأنك تشاهده وهو موجود بكمال صورته في دماغك لا في الخارج. وأما الوجود العقلي أن يكون للشيء روح وحقيقة فيتلقى العقل مجرد معناه دون أن يثبت صورته في خيال أو خارج كاليد فإن لها صورة محسوسة ومخيلة وله معنى وحقيقة وروح وهو القدرة على البطش وهو اليد العقلي وللقلم صورة ولكن
519 حقيقته ما ينقش به العلوم وهذا ما يتلقاه العقل من غير أن يكون صورة خشب أو قصب أو غير ذلك من الصور الخيالية والحسية. وأما الوجود الشبهى وهو أن لا يكون نفس الشيء موجودا لا بصورته ولا بحقيقته لا في الخارج ولا في الحس ولا في الخيال ولا في العقل ولكن يكون الموجود شيئا آخر يشبهه في خاصة من خواصه وصفة من صفاته. ثم قال بعد ما قال: اعلم أن من يؤول قولا من أقوال الشرع على درجة من هذه الدرجات فهو من المصدقين وإنما التكذيب أن ينفي جميع هذه المعاني ويزعم أن ما قال لا معنى له وإنما هو كذب محض وغرضه فيما قاله التلبيس أو مصلحة الدنيا وذلك هو الكفر والزندقة ولا يلزم كفر المؤولين. هذا ملخص كلامه ومحصل مرامه. وقال بعض الناظرين في كلامه: إنه بما فتحه يفتح في التأويل باب وسيع ويرد عليه إيراد شنيع إنه مع غلوه في التأويلات وحمله الأحاديث والآيات على محامل يحملها ومخايل خيلها أو تخيل شرذمة من الحكماء وكيف أتى بالإصرار في التكفير والإنكار قائلا في رسالته المنقذ من الضلال: يجب تكفير الفارابي وابن سينا من متفلسفة الإسلام مع أنهما لم يبلغا في التأويل والصرف عن الظاهر مبلغه وليس ما له وجه من كلامه إلا وبإزائه ما له وجه من كلامهما وإنه كيف كفر الحكماء في قولهم بالقدم وفي نفي علمه تعالى بالجزئيات وإنكارهم حشر الأجساد مع أن هذا القول والنفي والإنكار لم يثبت منهم على وجه يلزمهم كفر ولو ثبت على ما أثبت وادعى ثبوته فلم يؤول بمثل ما يؤول به كلام نفسه. فإنه قد صرح بالقدم حينا ولم لا يحمل الحشر وما يقال في النشأة الأخرى قول على أحد الوجودات. والحكماء الذين كفرهم في هذا لا ينكرون الأمور العقلية أصلا وكافة الحكماء يقرون بأنه تعالى يعلم الكليات والجزئيات ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض والسماوات ومن كفرهم في هذا ما عرف مقصدهم.
520 ثم بعد التنزل وتقرير الأمور على ما قرر فلهم أن يقولوا إنا نفينا علمه بالجزئيات عن الحواس ونحن قائلون بالحشر في أربع درجات من الوجودات. ثم لا يخفى على من له فطانة ما أنه على ما قرره يلزم تكذيب الأنبياء في عقائد شتى يجب الإقرار والإيمان بها وأنه حمل كثيرا من مواعيد النبوة على وجودات لا حقيقة لها. وإن كنت في نبذ من هذا في ريب فارجع إلى كتبه العديدة التي صنفها في هذا تأمل بعد النظر يظهر لك أنه بنى المواعيد كلها على وجودات لا حقيقة لها وهل هذا إلا تكذيب الأنبياء. ثم إنه لما كان هو الإمام وما له من الكلام حجة في الإسلام لم يلزم على ما أفتى به من الفتوى تكفير المتفلسفين لو أنكروا البعث الخارجي وتشبثوا بأحد الوجودات الأخر وقالوا: مواعيد النبوة في النشأة الآخرة تدرك بالخيال أو العقل. بسط مقال لتحقيق حال الحق الحقيق بالتصديق أن الغزالي في أكثر القواعد الدينية والأصول الإيمانية كان يتبع الحكماء ومنهم يأخذ كثيرا من عقائده لأنه وجد مذاهبهم في باب أحوال المبدإ والمعاد أوثق المذاهب وأتقن الآراء العقلية وأصفى من الشبهة والشكوك وكلماتهم أبعد من التخالف والتناقض من كلمات غيرهم. وأما التكفير والإنكار والرد والاستنكار الذي وقع منه في كتبه فهو إما بناء على المصلحة الدينية من حفظ عقائد المسلمين من الضيغ والضلال مما سمعوه من كلام الحكماء من غير فهم ودراية وصرف للكفر في معانيه وحراسته لدينهم حتى لا تزل أقدامهم بما قرع أسماعهم من الناقصين والمتفلسفين أن تعلم الحكمة يوجب الاستغناء عن الشريعة وأن قدم العالم مطابق للبرهان ومقتضى العقل والإيقان وأن لا حشر ولا نشر ولا مجازاة في الأعمال والأفعال إلى غير ذلك من المجازفات في الكلام. وإما لأجل التقية والخوف عن تكفير الظاهريين من فقهاء زمانه إياه ومشهور أن بعضا من أهل زمانه حكم بكفره وكتب رسالته في تكفيره وتضليله. وإما لأنه كان في أوائل حاله وقبل براعته وكماله في المعرفة مكفرا للحكماء حيث ظن أنهم نفوا عن الباري القدرة والعلم بالجزئيات وأنكروا الحشر
521 الجسماني ثم بعد ما أمعن في كلامهم وتفطن أنهم قائلون بالأمور الثلاثة على وجه دقيق لا يفهمه الجمهور لما في عقولهم ومداركهم من القصور رجع وتاب واستقر رأيه ومذهبه على ما هو رأيهم ومذهبهم. وأما الذي نسب إليه هذا القائل من الاكتفاء بأحد الوجوه الخمسة في باب الاعتقاد بالأمور الإيمانية والأحكام الإلهية فيما جاء به الكتاب والسنة وأتى به الرسول ص على الأمة فلم أجده في كلامه على هذا الوجه الذي ذكره هذا القائل ولعله مما كان له وجه وجيه لا يرد عليه شناعة بعد التأمل والنظر فيه. نعم ربما ذهب إلى ما ذهب إليه الإشراقيون من الحكماء من أن النفوس المفارقة عن الأبدان العنصرية لا يخلو عن خمسة أقسام لأنها إما أن يكون كاملة في الحكمتين العلمية والعملية أو متوسطة فيهما أو كاملة في العلمية دون العملية أو في العملية دون العلمية أو فيهما. فالأول من السابقين المقربين والثلاثة المتوسطة من المتوسطين وأصحاب اليمين والخامس من أصحاب الشمال. وعند المعاد يتخلص الأول إلى عالم النور والمتوسطون ينقلون بأبدان مثالية مناسبة لأخلاقهم وهيئاتهم النفسانية ومظاهر تلك الأبدان الأفلاك الجسمانية ثم المثالية وهي مرتقية عن أول الأوائل إلى أعلاها ثم العالم العنصري الذي فيه جابلقا وجابرصا ثم إلى هورقليا أفلاك عالم المثال مترقيا إلى الأعلى وللقائلين بهذا في الخصوصيات مذاهب شتى. وأما الخامس وهو الناقص في العلم والعمل إذا قطع تعلقه عن البدن العنصري الإنساني على قول منكري التناسخ يتعلق بأبدان حيوانية مثالية مناسبة للأخلاق الحيوانية كالنمل للحريص والخنزير للشره ويتردد في تلك الأبدان معذبا حتى يزول عنه الهيئات وحينئذ يتخلص إلى الأبدان الإنسان في عالم عناصر المثال وأفلاكها. ومذهب المشائين وخصوصا ما نقله واستحسنه الشيخ من أحد تلاميذ أرسطو وكأنه هو ثامسطيوس قريب من هذا المذهب حيث يرى أن المواعيد النبوية من الجنة والنار وعذاب القبر وغيرها صور مشهودة في عالم غير هذا العالم وإن افترقا من كون
522 ذلك العالم عالم المثال المنفصل الخارجي عند الإشراقيين وعالم الخيال المتصل الداخل عند هؤلاء. ومن تدبر وتفكر مذهب الغزالي ومختاره في النشأة الآخرة واللذات والآلام الأخروية يعلم أنه يدور حول هذين المذهبين كما يظهر بمراجعة كتبه وقد علمت منا ما يرد على كل منهما. والحق عندنا أن الحق الحقيق بالاعتقاد والتصديق في مسألة المعاد هو بعينه ما يدل عليه ظواهر الكتاب والسنة وما ورد به الشريعة الحقة وأن كلما ورد به في الكتاب والسنة حق بظاهره من غير صرف عن الظاهر متى لم يكن في الصرف باعث عقلي أو شرعي. وهاهنا بعينه كذلك إذ لا باعث عندنا للتأويل عن الظاهر فيجب المصير إليه ولا يجوز التأويل لعدم ضرورة داعية إليه كما تقرر في الأصول وتلقيناه بالقبول. فاتباع الشريعة الحقة أولى وأحرى فاتبع الحق ولا تتبع الهوى بعد ما جاءك من العلم والهدى. والعجب في هذه المسألة أن إبقاء الآيات والأحاديث على ظاهرهما ومفهومهما الأولى من غير صرف وتأويل يحتاج إلى فهم ثاقب ودرك غامض وفطرة ثانية لأنها مع كونها محمولة على مفهوماتها الأولية من غير تجوز وتأويل مما طابق القوانين العقلية والقواعد الحكمية من كون هذا العالم الجسماني منحصرا فيما حواه السطح الظاهر لمحدد الجهات وأنه لا يكون وراء العالم خلاء ولا ملاء وأنه لا يمكن وجود عالم آخر خارج هذا العالم ولا داخل كما قررناه وبنينا عليه إثبات وحدة الصانع وأن التناسخ ممتنع وأن إعادة المعدوم مستحيل وأن جرم الأرض ممسوح بمقدار كذا وكذا بحيث يزيد مقدار جميع أبدان العنصرية المحشورة يوم القيامة على الساهرة على مقدار مجموع جرم الأرض بما لا نسبة بينهما إلى غير ذلك من القوانين الفلسفة المسلمة صحتها وحقيقتها من غير مدافعتها للجسمانى والجنة والنار الجسمانيين مع عرض جنة واحدة منها كعرض السماء والأرض. وتحقيق هذا المطلب على الوجه الذي قررناه من فضل الله تعالى الذي لا يمكن الوصول إليه بالأنظار
523 البحثية والأفكار النظرية إلا بتأييدات اعتصامي وتسديد إلهامي وإراءة الحقائق كما هي من الجانب الإلهي وأعجب العجائب أن هذا القائل الذي نقلنا كلامه في تكفير من يسمى بحجة الإسلام ذكر كلاما في رسالة سماها مجلي الدقائق بهذه العبارة: يمكن أن يتعلق النفس المفارقة ببدنه مرة أخرى بل امتناع عدم تناهي المقادير المستلزم لعود الأوضاع ومقابلتها ربما يوجب ذلك وبذلك يتحقق المعاد الجسماني الموعود في الكلام الإلهي بلا تأويل. انتهت عبارته. أقول: انظروا معاشر المتعلمين كيف زلت قدم هذا النحرير في هذا الركن العظيم من الإسلام حيث جعل مذهب يوذاسف التناسخي الذي طعن فيه أكثر العلماء مناط إثبات الحشر والبعث للنفوس والأرواح وهل هذا إلا إنكار حقيقة المعاد واليوم الآخر والنشأة الثانية مطلقا وإبطال ما ذهب إليه الحكماء وأرباب الشرائع رأسا. فإن من ذهب إلى أن نسبة حركات السمويات ومقاديرها نسبة عددية موجبة لعود الأوضاع السفلية إلى ما كانت قبل صرح بأن ارتسام الصور الجسمانية في القوى الفلكية يستحيل لا تناهيها فيستحيل لا تناهي مقتضياتها من الصور الخارجية العنصرية فوجب تكرارها بدون تكرار الأشخاص التي تلك الصور صورها بعد مضي ثلاثمائة ألف وستين ألفا مما يعده المنجمون الذين هم شياطين الإنس أي لا يتكرر النفوس المجردة كما ذهب إليه يوذاسف التناسخي رئيس الشياطين المنكر للبعث الذي استخرج أحوال جميع السنة المذكورة وحكم بطوفان نوح في منتصف السنة. فإن ذلك التكرار باطل لاستلزامه العجز عن إفاضة النفس المجردة المدبرة جديدا كما هو المشهور من دليل القوم ولما أقمنا من البرهان اللمي على بطلان التناسخ وإثبات النشأة الآخرة. كشف حال لإيضاح مقال إن الروح إذا فارق البدن العنصري مع بقاء تعلق ما ضعيف بالبدن لا بأجزاء
524 مادية كما زعمه جمع من المتأخرين لما مر بطلانه غير مرة بل بجملة بدنه وهيئاته وهيكله الذي فارقه لأجل بقاء صورته وهيئاته في ذكره فإن النفس إذا فارق البدن حملت القوة الوهمية المدركة للمعاني الجزئية بذاتها وللصور الجسمانية باستخدام الخيال والمتخيلة. وقد مرت الإشارة في الأصول إلى أن النفس في إدراكها الجزئيات والشخصيات المادية لا يحتاج إلى البدن بل كثيرا ما تدرك الأمر المادي الشخصي بذاتها أو بقوتها القائمة بها. وقد مر في مباحث العلم أن النفس تدرك بدنها الشخصي بذاتها بعلم إشراقي حضوري وكذا يدرك وهمه وخياله الشخصيين لا بوهم آخر وخيال آخر. وإذا كان الأمر على ما ذكرنا فلا ضير أن يدرك النفس بذاتها أو بقوتها الخيالية الذاتية أمورا جسمانية يكون صورها العلمي الخيالي عين وجودها الخارجي فإن للنفس في ذاتها حواس تدرك بها أشخاصا أخروية غير أشخاص هذا العالم هي الأشخاص العينية الغائبة عن حواس هذا العالم كما يدرك بهذه الحواس محسوسات هذا العالم. وهذه الحواس البدنية القائمة بهذا البدن الدنياوي ظلال للحواس التي هي لها في ذاتها سمعا وبصرا وذوقا ولسانا ووهما وخيالا. أ لا ترى أنها في النوم تدرك بجميع الإدراكات التي ذكرناها مع تعطل هذه الحواس وركودها. فإذا تمهد هذا فنقول: إذا مات الإنسان وفارقت نفسه وهي عالمة بذاتها ومعها القوى المدركة للجزئيات فتخيل ذاتها مفارقة عن دار الدنيا ويتوهم نفسها عين الإنسان المقبور الذي مات صورته ويجد بدنها مقبورا ويدرك الألم الواصلة إليها على سبيل العقوبات الحسية على ما وردت به الشرائع الصادقة هذا عذاب القبر. وإن كانت سعيدة يتصور ذاتها على صورة ملائمة ويصادف الأمور الموعودة من الجنات والأنهار والحدائق والغلمان والحور العين والكأس من المعين فهذا ثواب القبر كما قال النبي ص: القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران. وإياك أن تعتقد أن هذه الأمور التي يراها الإنسان ما بعد موته من أحوال القبر وأهوال القيامة أمور موهومة محضة متخيلة صرفة لا وجود لها في الأعيان كما زعمه كثير من المنتسبين إلى الحكمة والمتشبهين بالحكماء هيهات هيهات هذا عندنا كفر
525 بحسب الشريعة وضلال بحسب الحكمة بل الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. وأمور الآخرة أقوى وجودا وأشد تحصلا وأقوى تأثيرا من موجودات هذا العالم. نعم موجودات هذا العالم غير تصوراتها وتخيلاتها ولهذا لا يترتب على تصورها وتخيلها ما يترتب على وجودها العيني بخلاف موجودات الآخرة فإن وجودها العيني هو تخيلها ووجودها الخيالي فالتخيل هناك نفس الوجود العيني وعين التحصل الخارجي فلهذا يترتب على التخيل ما يترتب على الوجود العيني بوجه أقوى وأشد لصفاء الموضوع والقابل إذ موضوع هذه الصور الجسمانية الدنياوية هي الهيولى العنصرية وهي في غاية الكدورة والنقص والضعف وموضوع تلك الصور الجسمانية الأخروية هي النفس الإنسانية بقوتها العلمية الخيالية التي هي جهة نقصها وقوتها ووجهها إلى جانب السفل وإذ لا نسبة بين الموضوعين في الشرف والخسة فلا نسبة بين الصورتين في قوة الوجود وضعفه. فليدرك غور هذا وليتفطن سره فإن النشأة الأخرى خروج النفس عن غبار هذه الهيئات البدنية كما يخرج الجنين من القرار المكين. قال الله تعالى: قل يحييها الذي أنشأها أول مرة و هو بكل خلق عليم وقوله: الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون دليل واضح لما ذكر ومثال بين للنشأة الثانية من هذه الدنيا وقد مرت الإشارة بأن فعل الحق بواسطة ملكة المقرب في حق عبده المخمر طينته بيدي قدرته أربعين صباحا بعيد عند العقل المكحل بنور البصيرة أن يكون إماتة وإهلاكا وإعداما بل موت البدن في الحقيقة إحياء للنفس بالذات ونقل لها من حالة دنية إلى حالة شريفة وتحويل إياها من دار فانية إلى دار باقية كما أن الإنسان في انقلاباتها السابقة من طور إلى طور ومن حقيقة إلى حقيقة كان فعل الحق في حقه التكميل والتربية والإحياء والنقل من نشأة إلى نشأة ثانية يكون الثانية حياة بالنسبة إلى الأولى والأولى موت بالنسبة إلى الثانية فإنه كان أولا أمرا معدوما
526 لم يكن شيئا مذكورا وهذا أخس الأحوال وأنزل المراتب المعدومية ثم صار قوة صرفة يتساوى طرفا الوجود والعدم إليه ثم صار مستعدا لوجود الإنسانية بعد طي مراتب الجمادية والنباتية والحيوانية وهذا حتى بلغ أول مرتبة الإنسانية وأدنى منازلها وهو الجنين في الرحم ثم إلى الطفولية وهكذا إلى أن يصير تام الخلقة كامل البنية فإذا كمل ظاهره وبدنه بالجوارح والأعضاء الظاهرة والباطنة حتى في الزينة البدنية من شعر الأطراف وقوة الجسمية من المحركة والمدركة أخذ في تكميل نفسه وتقوية باطنه الذي هو حقيقة ذاته وصورة وجوده وكلما أخذت نفسه في القوة والكمال أخذ بدنه في الضعف والانحلال والوهن والكلال شيئا فشيئا إلى أن بلغت النفس غايتها في القوة والجوهرية والاستقلال في الوجود من دون البدن فحدث حينئذ الموت الطبيعي للبدن فالموت الطبيعي للبدن بهذا المعنى لا لما ذكره الأطباء وغيرهم من أن عروض الموت الطبيعي للإنسان إنما يكون بسبب فناء الحرارة الغريزية له وتناهي القوة الجسمانية في الفعل والانفعال. والنفس وإن كانت جوهرا مجردا في ذاتها لكنها مادية في تأثيرها وتأثرها كما أشرنا إليه من أن هذا الوجه غير تام عندنا. فإن الفاعل لقوى البدن والحافظة لمزاجه والمفيض لحرارته الغريزية هي النفس المتدرجة في الكمال والاستكمال. والقابل الأول هي الهيولى الأولى المعراة عن الكمية والمقدار وبرهان تناهي التأثير والتأثر لا يجري إلا في المنقسمات. ثم إن النفس عند أوان نقصها وأول تكونها لم يكن عاجزة عن حفظ المزاج عن الفساد والزوال وضبط التركيب عن الانحلال والاضمحلال بل كان فعلها في البدن التكميل والإنماء والزيادة في التغذية على حد الاكتفاء فإذا قويت في التجوهر وكملت في الوجود كيف عجزت عما قويت عليه نفس الطفل والجنين بمراتب وضعفت عن إبقاء شيء مما كانت تحدثه أولا من كمية البدن والأعضاء في حالة الإنماء. فالحق أن كل نفس بحسب جبلتها وفطرتها متوجهة إلى عالم آخر مرتحلة من حيث غريزتها الذاتية إلى مرحلة خارجة عن مراحل الدنيا مسافرة من أول منزل تكونها ومنذ أول حدوثها إلى الله تعالى لأنها جاءت منه فيعود إليه.
527 ولفظ المعاد دال على هذا المعنى فإن الرجوع والعود يقتضي المجيء والسابقية ويستوي في هذا السفر الذاتي إلى الحق تعالى والميل الغريزي إليه المطيع والعاصي والمنعم والمعذب والكافر والمسلم والجميع في حكم واحد فيما ذكرنا. إذ المخالفة الشرعية لا ينافي الطاعة الطبيعية والعالم بأسره مطيع لله تعالى ولجميع أجزائه عبودية ذاتية ودين فطري والكل على سنة واحدة و لن تجد لسنة الله تبديلا إلا أن بعض الناس لأجل سلطان الوهم واستيلاء الشيطان عليهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم والله يقول: و نحن أقرب إليه من حبل الوريد ومع ذلك بعدوا عن الحق بعدا شديدا وضلوا ضلالا بعيدا فاحترقوا بنار جهنم التي كأنها شعلة من نيران الحرمان والبعد عن رحمة الله تعالى والغرض من هذا الكلام الذي يتحرك به سلسلة المجانين أن سبب الموت الطبيعي كما مر سابقا هو قوة النفس وفعلية وجودها وتجوهرها. وهذا أصل شريف نافع في تحقيق كثير من المطالب منها دفع مذهب التناسخ. ومنها دفع مفسدة التناسخ في معاد النفس إلى البدن ومنها كيفية تجسم الأعمال يوم القيامة وأن ما يراه النفس في القبر عند البعث ويتخيله أمور عينية وموجودات خارجية لا ما ذهب إليه جماعة ممن لا خبرة لهم بنحو وجود العوالم وكيفية تحقق النشئات ولم يعلموا أن كلما رآه النبي ص في حياته من الوحي وكان يشاهده من المغيبات كان من الموجودات العينية والأمور الخارجية مع كونها غائبة عن الأبصار محجوبة عن أنظار النظار لا أنها مجرد أمور وهمية مثالية لا تحقق لها عينا. ومن توهم أن مشاهدات النبي ص ليلة المعراج كانت أمورا وهمية وأشياء مثالية
528 فقد حرف حكاية المعراج عن ظاهرها وأولها عن مفهوم الأول من غير ضرورة شرعية أو داعية عقلية فهو عندنا مبتدع أو كافر. وبعد التفتيش يظهر أنه من أيهما مخصوصة نعوذ بالله منه ثم إن من الذين مالوا إلى التأويل وأولوا نصوص التنزيل من تشبث في الدليل على فتح باب التأويل فيما ورد في الشرائع من الأقاويل بما أخبره نبينا ع ليلة المعراج من رؤية بعض من سلف ومضى من الأنبياء كعيسى وموسى ويونس بن متى قائلا: إنه لو كان المرئي ذوات هؤلاء الأصفياء ع وأشخاصهم الخارجية لم يمكن تعلق الرؤية بهم لأنهم لم يكونوا موجودين بأشخاصهم العينية في تلك الليلة. والعجب منه أنه مع كونه عالما بالأصول والقوانين كيف ذهل عن أن خصوصيات المعراج أخبار الآحاد وقد جعل هذا الخبر حجة واعتمد عليها في أمر عظيم من أصول الدين وقاس على هذا في سائر ضروريات الدين وأفتى بما يوجب التضليل من اعتقاد التأويل فيها للمسلمين. ولا يخفى أن بعد تسليم الصحة في هذه الرواية لا يصح ولا يصلح للتعليل والاستدلال على صحة التأويل في غيرها إذ لمانع أن يمنع صحة التزام مثله في غيرها مما علم ضرورة من الدين صحته ووقوعه. وربما يوجد في زماننا من قلد هذا الحبر المتين العالم بقواعد الشريعة والدين في عذاب القبر حسبما قرره بوجه لا يرتضيه نبيه النذير المنذر حاصله: أن الذي يراه المقبور في قبره من الحيات والعقارب وسائر أسباب العذاب على ما ورد في الأخبار والآثار إنما هي صور خيالية غير خارجية بل هي كما يراه النائم في منامه مما لا وجود له في الخارج أصلا وكما أن النائم يتألم بما يراه في المنام كذلك الميت والنوم أخ الموت. ومساق كلامه يشعر بأنه اضطر إلى هذا في دفع الشبهة المشهورة التي أوردها بعض الملحدين المنحرفين عن شريعة المسلمين حيث قالوا إن بعد النبش يظهر سلامة البدن الميت عن العقارب والحيات وسائر ما ورد من أسباب العذاب. وإنما نحن بفضل الله وتأييده لفي مندوحة عن أمثال هذه الشبهة ونظائرها بما قررنا
529 وأشرنا إليه مرارا من الفرق بين ما يراه النائم في نومه وبين ما يراه المقبور في قبره والمحشور في حشره وإن كان مظهر هذه الصور الجسمانية القوة الخيالية التي للنفس بمنزلة القوة الباصرة التي قد يرى الأشياء عيانا وقد يرى بتخيلها ذهنا. أما الأول من غير ضرورة شرعية أو داعية عقلية فهو عندنا إما مبدع أو كافر وبعد التفتيش يظهر أنه من أيهما بخصوصه نعوذ بالله منه. إزالة وهم إنارة فهم إن الذي صرف النصوص الواردة في باب أخبار الآخرة عن ظاهرها ومؤداها وحول الآيات الدالة على أحوال القبر والبعث عن منطوقها وفحواها وزعم أنها عقلية أو وهمية محضة وليس لها وجود عيني جهل أو تجاهل أنه لو كان الأمر كما توهم وأوهم لزم أن يكون تشريع الشرائع للإضلال والغواية لا للإرشاد والهداية ولم يعلم أن أولئك الهداة الصادقين المعصومين عن الغلط والخطاء قرروا أن الذي قرر في نفسه العقائد الفاسدة ورسخ في ذاته العلوم الباطلة كانت نفسه ظالمة جاهلة معذبة أبدا إذ هي لا يزول عنها أبدا ولا يزول الملكات التي هي آثار الأفعال والأعمال قطعا وظاهر أن أكثر الناس يحملون هذه النصوص على ظواهرها ومعانيها الحقيقية ويعتقدون حقيتها فلو لم يكن مفهوماتها الظاهرة ومعانيها الأولية حقة لكانت ضلالات وجهالات ومن اعتقدها كان معذبا أبدا لما قرروه فيلزم أن يكون ما اكتسبه الصلحاء والأتقياء لنيل الدرجات يوجب حرمانهم عن الجنات واللذات وأن لا يكونوا في الجنة أبدا ولم يكن لهم لذات قطعا. وهذا قول شنيع وقد صرحوا بخلافه وأجمع الكل على أن الصالح المتقي في الجنة أبدا وإن لم يحصل في الدنيا شيئا من غوامض العلوم ودقائق الأسرار. فعلم مما ذكر أن وجود الجنة والنار وسائر الأحوال الآخرة على الوجه الذي يفهم الجمهور والعوام ويصل إليه أفهام الأنام حق مطابق للواقع بحسب الاعتقاد به يقينا ومن أنكر شيئا منها فقد ركب شططا وكان أمره فرطا. هداية توضيحية إن كل قوة من القوى الإنسانية لها لذة وكمال يخصها وألم ونقص يناسبها
530 وبحسب ما كسبه أو اكتسبه يلزم في الطبيعة الجزاء الكامل للقوى كما قرره الحكماء من إثبات الغايات الطبيعية لجميع المبادي والقوى سواء كانت عالية أو سافلة عقلية أو حسية ف لكل وجهة هو موليها. ومن أيقن بهذا أيقن بلزوم عود الكل ولم يشتبه عليه عدم كفاية البعض وهذا مقتضى الحكمة والوفاء بالوعد والوعيد ولزوم الجزاء على ما يراه المحققون من الحكماء من لزوم المكافاة في الطبيعة والمجازاة وامتناع وجود معطل في الطبيعة إياما عديدة وثبوت مبطل مدة مديدة. وتقرير آيات قرآنية كثيرة وأحاديث نبوية غير يسيرة بل متكاثرة متوافرة في هذا الباب بحيث لا مجال فيها للتأويل ولا مندوحة للصرف عن الظاهر والتحويل. كلمة فرقانية وحجة كلامية إن في الكلام الإلهي آيات بينات مبينات لإمكان الوقوع بمقتضى الحكمة في النشأتين منها قوله تعالى بأن أشار إلى إثبات إمكانه بكونه تعالى قادرا على أمور يعرف بها ومنها هذا وأوضح هذه الطريقة بأمور: الأول ما وقع في الواقعة جوابا عن شبهة أصحاب الشمال من المجادلين فإنهم قالوا: ءإذا متنا و كنا ترابا و عظاما ءإنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون قال الله تعالى: إن الأولين و الآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم. وأشير إلى إمكان هذا بأربعة وجوه أولها قوله: أفرأيتم ما تمنون ءأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون نحن قدرنا بينكم الموت و ما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم و ننشئكم في ما لا تعلمون. وجه الاستدلال بهذا على ما في تفسير الكبير أن المني إنما يحصل من فضلة الهضم الرابع وهو كالطل المنبث في أطراف
531 الأعضاء ولهذا يشترك كل الأعضاء ويجب غسلها بالالتذاذ الواقع لحصول الانحلال عنها كلها. ثم إن الله تعالى سلط قوة الشهوة على البنية حتى أنها تجمع تلك الأجزاء الطلية. فالحاصل أن تلك الأجزاء كانت متفرقة جدا أولا من أطراف العالم ثم إن الله جمعها في بدن ذلك الحيوان وجمعها الله في أوعية المني ثم إنه تعالى أخرجها ماء دافقا إلى قرار الرحم. فإذا كانت هذه الأجزاء متفرقة فجمعها وكون منها هذا الشخص فإذا افترق بالموت مرة أخرى فكيف يمتنع عليه جمعها مرة أخرى. هذا تقرير الحجة وإن الله تعالى ذكرها في مواضع من كتابه منها في سورة الحج يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب إلى قوله: و ترى الأرض هامدة ثم قال ذلك بأن الله هو الحق و أنه يحي الموتى و أنه على كل شيء قدير و أن الساعة آتية لا ريب فيها و أن الله يبعث من في القبور. وقال في سورة المؤمنين بعد ذكر مراتب الخلقة: ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون. وقال في سورة لا أقسم: ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى. وقال في سورة الطارق: فلينظر الإنسان مم خلق... إلى قوله تعالى إنه على رجعه لقادر انتهى كلامه. ولا يخلو عن خدش وإمكان مناقشة في أكثر مقدماته التي لا يحتاج إليها ولا دلالة في القرآن عليها. ولقد سنح للخواطر وجوه أخرى منها: ما تفردت به وهو أن إبداع الصور وإنشائها أنسب وأقرب إلى العلة الأولى من تركيبها وجمع أشتاتها ومتفرقاتها لأن
532 أمرها كلمح البصر أو هو أقرب كما هو سنة الإبداع فإذا كان مبدع البدائع ومكون الصنائع أنشأ الصور من غير مزاج وامتزاج وتركيب من أجزاء مختلفة حاصلة بأزواج أليق به وأولى وأسهل وأحرى من جمع متفرقات شتى وتأليف مختلفات تترى. فإذا صدر منه تعالى وجود الإنسان على نهج الامتزاج والتخمير من الأركان والأمشاج فليجز صدوره بهيئته الخاصة تارة أخرى على سبيل الإنشاء. كيف والباري سبحانه فعله الخاص الذي هو الإبداع والإنشاء أرفع وأجل من الجمع بين الأشياء والتدرج في التكوين بالتغذية والإنماء فإن هذا شأن الطبائع والقوى التي هي في درجة القصوى من النزول عن العالم الأعلى. على أن الإيجاد على الإطلاق منه والوسائط مخصصات لإيجاده وحيثيات وجهات لتكثير إفاداته وإفاضاته لأن ما هو الأبسط في الوجود فهو الأقرب إلى الموجد الحقيقي. وقد أومأنا إلى أن وجود أمور الآخرة أصفى من التركيب وأعلى من الامتزاج فالمقصود من هذه الآيات الاستدلال على قدرته على الإعادة التي هي بالحقيقة إنشاء النشأة الأخرى كما أن الابتداء هو إنشاء النشأة الأولى فكما أن في الابتداء فعله الخاص به تعالى ليس بالذات جمع المتفرقات من المواد بل إفاضة الصور على القابل بحسب الاستعداد كذلك حقيقة المعاد وفعله اللائق به إنشاء النشأة الأخرى وهو أهون عليه من إيجاد المكونات في الدنيا لأن الآخرة خير وأبقى وما هو أبقى في الوجود وأتقن وأحكم في الصنع فهو أنسب به تعالى وهو أهون عليه وإليه الإشارة بقوله: و لقد علمتم النشأة الأولى فلو لا تذكرون... أفرأيتم النار التي تورون ءأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون. ومما يدل على أن إيجاد الأمور الأخروية أشبه بسنة الله التي هي الإبداع من الإيجاد لأمور الدنياوية أن إيجاد المواليد المكونة في هذا العالم وتبليغها إلى غاية خلقتها وإكمالاتها تدريجي ووجود الأخرويات دفعي حدوثا وإكمالا وكذا
533 أشخاص الأنواع لا توجد جميعها دفعة واحدة في آن واحد بل شيئا فشيئا بعضها قبلا وبعضها بعدا. وأيضا أكثر الأنواع الكمالية الحيوانية توجد على سبيل التوالد دون التولد بخلاف الصور الأخروية وأجساد أهل الآخرة فإن وجود أشخاصها إنما يكون دفعة واحدة بإذن الله من غير مهلة ونفخ أرواحهم في أجسادهم المكونة من تلك الأرواح بواسطة بعض ملائكته نفخة واحدة. ومن تلك الوجوه أنه تعالى يقول للضالين المكذبين الذين ينكرون البعث ويستبعدونه أنكم لا تخلقون المني الذي حسبتم أن الإنسان يخلق منه حتى لو لم يخلق مرة أخرى لم يخلق الإنسان ثانيا بل الله تعالى يخلق الإنسان ومادته بقدرته وإرادته ولعموم قدرته وشمول علمه وإرادته قادر على أن يخلق الإنسان الأول مرة أخرى وكما خلقه أولا من المني يخلقه ثانيا منه أو من أمر آخر على مقتضى علمه وإرادته فلا وجه لاستبعادكم واستنكاركم. ويؤيد الأول ما ورد في الأخبار من إمطار السماء بماء كالمني عند البعث ووجه استفادة هذين الوجهين من الآية لا يخفى على من له دراية. وثانيهما قوله: أفرأيتم ما تحرثون ءأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون وجه الاستدلال على ما قال بعض المفسرين أن الحب. وأقسامه من بطون مشقوق وغير مشوق كالأرز والشعير مدور ومثلث ومربع وغير ذلك من أشكاله وإذا وقع في الأرض البذر واستولى عليه الماء والتراب فبالنظر العقلي يقتضي أن ينقص ويفسد لأن أحدهما يكفي لحصول العفونة فهما جميعا أولى لفعل الإفساد. ثم إنه لا يفسد بل يبقى محفوظا. ثم إذا ازداد في الرطوبة تنفلق الحبة قطعتين فيخرج منها فرقتان فرقة من رأسها صاعدة وأخرى يتشبث فيها في الأرض وكذا النوى بما فيه من الصلابة العظيمة تنفلق بإذن الله وتصير مجموعه على نصفين يخرج من أحدهما
534 الجزء الصاعد ومن الثاني الهابط فيكون أحدهما خفيفا صاعدا والآخر ثقيلا هابطا مع اتحادهما في الطبيعة والعنصر والماء والهواء والتربية. فيدل ذلك على قدرة كاملة وحكمة شاملة يعجز العقول عن دركها وبيان لميتها فهذا القادر كيف يعجز عن جمع الأجزاء وتركيب الأعضاء وثالثها قوله تعالى: أفرأيتم الماء الذي تشربون ءأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون. ووجه الاستدلال على ما في التفسير الكبير بوجوه أولها أن الماء جسم ثقيل بالطبع وإصعاد الثقيل على خلاف الطبع فلا بد من قادر قاهر يقهر الطبع ويسخره ويبطل الخاصية ويصعد ما من شأنه الهبوط والنزول. وثانيها أن يكون تلك الذات المائية اجتمعت بعد تفرقها فلا بد لها من جامع بجمعها قطرة قطرة فمن جمع الأجزاء الرشية المائية للإنزال فهو قادر على أن يجمع أجزاء المبثوثة الترابية للبعث. وثالثها تسيرها بالرياح. ورابعها إنزالها في مظان الحاجة والأرض الجرز وكل ذلك دليل على جواز الحشر. أما صعود الثقيل فإنه قلب الطبيعة فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يظهر الحياة والرطوبة من مادة التراب وأما الثاني لما قدر على جمع تلك الذرات بعد تفرقها فلم لا يجوز جمع أجزاء الترابية. والثالث تسيير الرياح فإذا قدر على تحريك الرياح التي ضم بعض تلك الأجزاء المتجانسة إلى بعض فلم لا يجوز هاهنا. الرابع أنشأ السحاب لحاجة الناس فحاجة الناس إليه كحاجتهم إلى إنشاء المكلفين مرة أخرى ليصلوا إلى ما استحقوا من الثواب والعقاب بل هذا أولى. واعلم أن الله تعالى عبر عن هذه الدلالة في مواضع من كتابه فقال في الأعراف لما ذكر دلالة التوحيد: إن ربكم الله الذي خلق السماوات و الأرض... إلى
535 قوله: قريب من المحسنين. ثم ذكر دليل الحشر فقال: هو الذي يرسل الرياح... إلى قوله: كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون انتهى مقالة الإمام الرازي بعبارته وفيها ما فيها. ورابعها قوله تعالى: أفرأيتم النار التي تورون ء أنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون. قال الإمام الرازي: وجه الاستدلال أن النار صاعدة بالطبع والشجر هابط وأيضا النار نورانية والشجر ظلمانية والنار حارة يابسة والشجر باردة رطبة فإذا أمسك الله في داخل تلك الشجرة تلك الأجزاء النورية النارية فقد جمع بقدرته بين هذه الأجزاء المتنافرة فإذا لم يعجز عن ذلك فكيف يعجز عن تركيب الحيوان وتأليفها وإن الله تعالى ذكر هذه الدلالة في سورة يس فقال: الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا. واعلم أن الله تعالى ذكر في هذه السورة أمر الماء والنار وذكر في سورة النمل أمر الهواء فقال: أمن يهديكم في ظلمات البر و البحر إلى قوله: أمن يبدؤا الخلق ثم يعيده وذكر الأرض في قوله: و ترى الأرض هامدة. فكأنه سبحانه بين أن العناصر على جميع أحوالها شاهدة بإمكان الحشر والنشر. هذا كلامه وفيه ما فيه. الأمر الثاني من الأمور الدالة على إمكان الحشر ما يستفاد من كلام أئمة التفسير أن الله تعالى يقول: لما كنت قادرا على الإيجاد أولا فلأن أكون قادرا على الإعادة أولى.
536 وهذه الدلالة تقريرها في العقل على الوجه المشهور ظاهر وأما على الوجه الذي ذكرناه فهو أن الإعادة نوع إنشاء كالإبداع لأن ما هو فعل الحق بالذات في الإبداع إنما هو إفاضة الصور على المركبات وإنشاؤها لا التركيب والتمزيج الذي هو نوع تحريك وتبديل. فإن الإنشاء الثانوي لكونه أصفى وألطف من الإنشاء الأولي أقرب بأن يكون فعله تعالى وأليق كما أشرنا إليه والله تعالى ذكر في مواضع من كتابه العزيز منها في البقرة كيف تكفرون بالله و كنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون. ومنها قوله تعالى: ءإذا كنا عظاما و رفاتا ءإنا لمبعوثون خلقا جديدا قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة. ومنها قوله تعالى: هو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده و هو أهون عليه و له المثل الأعلى. ومنها في يس قل يحييها الذي أنشأها أول مرة. الأمر الثالث الاستدلال باقتداره على خلق السماوات على اقتداره على الحشر في آيات منها في سورة سبحان أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات و الأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه. وفي سورة يس أوليس الذي خلق السماوات و الأرض إلى قوله: بلى و هو الخلاق العليم. وفي الأحقاف أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات و الأرض و لم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير. ومنها في سورة ق ءإذا متنا و كنا ترابا... إلى قوله: رزقا للعباد و أحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج ثم قال: أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس
537 من خلق جديد. هذا حاصل كلام الرازي وغيره من المفسرين الأعلام ولا يخفى ما فيه من النقض والإبرام والمناقشة في التمام لإفادة المرام. وكلام الله تعالى لا ينحصر معناه فيما حواه الأفهام من الأنام ولا يبعد أن لا يكون ما وصل إليه أفهام المفسرين هو مراد الله من هذه الآيات المذكورة فإن منكري المعاد أكثرهم من المعاندين الجدليين من أهل البحث أولى الطبائع الغليظة من أجلاف العرب وطريقة إرشادهم هي المدارات معهم والتلطف بهم في دفع الشبهة من خيالهم ودفع ما يتشبثون به في الإنكار بالمقدمات المسلمة عندهم فإن مدار إنكارهم استبعادهم المعاد والنشور وبناء جحودهم وعنادهم للحشر والبعث من القبور تشبثوا بها في الاستبعاد وتمسكوا بها في دعوى استحالة المعاد. فلنذكرها مفصلة ونجيب على كل واحد منها جوابا يحل العقدة ويفك الإشكال إنشاء الله ولي الجود والإفضال. ومنها ما ارتكز في أوهام العامية من أن البدن إذا صار ترابا وتفرق وتفتت أعضاؤه وتشتت أجزاؤه كيف يرجع ويجتمع ويصير بدنا مثل الأول من ذا الذي يعرف تلك الأجزاء حتى يطلبها ومن الذي يقدر على جمعها بعد تفرقها في الجهات والأنحاء وأطراف الأرض والسماء فالحق سبحانه أزال هذا الاستبعاد بأنه هو الذي يعلم تلك الأجزاء وعلمه محيط بذرات الأرض وأجزاء السماء وعنده كتاب محفوظ فيه كل شيء وهو القادر على رجعها وجمعها مرة أخرى وأنها كانت متفرقة في المرة الأولى يجمعها ففي المرة الثانية لا يخرج عما في قدرته وتصرفه من الأرض والسماء وكذلك ينزل من السماء ماء مباركا يفيد الإنبات والإحياء لما في الأرض بأن يجمع أجزاء متفرقة متشتتة جدا فكذلك وبمثل ذلك يكون الخروج والبعث والجمع ثانيا. فبهذا يظهر أن هذا الاستبعاد
538 إنما هو عناد وتكذيب للرسل الأفاضل العالمين بأسرار العالمين كما هو عادة الجهلة المتفلسفة. ومنها ما تشبث به أكثر المنتسبين إلى الطبيعيين المتشبهين بالفلاسفة الدهريين أن حدوث الإنسان وغيره من المركبات العنصرية لا يكون إلا من الأسباب الأرضية الاختيارية أو الطبيعية كالأب والأم. والنطفة لوجود الإنسان وكالحرث والزرع والبذر والغرس لوجود الأشجار والبساتين. ثم لا يمكن حدوث هذه الأشياء إلا بحركات كثيرة فلكية وغيرها وتغيرات وانقلابات زمانية ومكانية يحتاج إلى مضي أزمنة طويلة وذلك لأن هذا مبلغهم من العلم حيث لم ترتق نظرهم من الأسباب الطبيعية إلى أسباب القصوى الإلهية ولم يعرجوا في ملاحظة الأفاعيل من القوى الطبيعية والاختيارية الحيوانية التي ليست إلا الإعداد والتحريك والتهيئة إلى ملاحظة فعل الله تعالى الذي هو مجرد الإفاضة. فلما احتجبت أنظارهم بالأفاعيل التحريكية التغيرية عن الفعل الحقيقي الذي هو نفس إفاضة الوجود لا جرم أنكروا طريق الوجود والإيجاد إلا على نهج التحريك والإعداد والاستعداد. فالحق تعالى أزال هذا الاستبعاد عن ضمائرهم بأن الله هو القادر على كل شيء وأنه هو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وأن الوجود في كل شيء هو فعله تعالى وما توهمتموه أنه فعلكم فليس لكم فيه إلا الحركات والإرادات دون الصنع والإيجاد فكما أنه هو القادر في الابتداء فكذلك هو الذي يعيد الخلق إذا يشاء كما ذكر آيات كثيرة في هذا الباب منها قوله: يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب... الآية. وفي قوله: ءأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون حيث ذكر بلفظ الإنشاء إشعارا بأن فعلكم الغرس وأمثاله من الحركات دون الإنشاء أي الإيجاد وكذا في قوله: أفرأيتم ما تمنون ءأنتم
539 تخلقونه أم نحن الخالقون لم يقل أنتم تنزلون لأن الإنزال فعلهم دون الخلق وهكذا في كثير من الآيات. ومنها أن الحشر والبعث إما للبعض أو للجميع والأول ترجيح من غير مرجح لأن استحقاق الثواب والعقاب مشترك في كل الناس فلا وجه لبعثه البعض دون البعض والثاني يوجب التزاحم والتضايق المكاني والزماني لجمع الناس وحسابهم وكتابهم كما قال الله تعالى حكاية عنهم: ءإنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون فأزال الله تعالى هذا الاستبعاد والاستنكار بقوله تعليما لنبيه ص: قل إن الأولين و الآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم فنبه عباده بأن ميقات البعث والحشر يوم معلوم له تعالى لا يصلح إليه لأن يصل أفهام المحجوبون في حياة هذه النشأة المقيدين بأزمنة هذه الدنيا وأمكنتها لأن ذلك اليوم ليس من جنس أيام الدنيا والمحشر الذي يبعث فيه الخلائق ليس من أمكنة هذا الأرض والسماء وليس يصلح الإدراك الأمور الآخرة هذه المشاعر والحواس. وإنما ينكشف لمن يكشف في هذه الدنيا من الأنبياء والأولياء بواسطة غلبة سلطان الآخرة على قلوبهم لرفضهم استعمال هذه المشاعر والحواس في مشتهياتها ولذاتها بموتهم الإرادي عن زخارف هذه الحياة الدنيا لنيل مآرب الحياة الأخروي كما قال رسول الثقلين عليه وآله الصلوات: موتوا قبل أن تموتوا. أي عطلوا هذه الحواس عن الإحساس لينفتح منكم مشاعر إدراك الأمور الآخرة قبل موتكم الطبيعي. وقال بعض الحكماء مشيرا إلى هذا المعنى: الناس يقولون افتح عينك لترى وأنا أقول غمض عينك لترى وقال بعضهم أيضا رامزا إلى هذا: من أراد أن يتنور بيت قلبه فليسدد الروازن الخمس.
540 تبصرة تفصيلية اعلم أن لأهل الإيمان والاعتقاد بحقية الحشر والمعاد (الجسماني والروحاني) حسبما ورد في الشريعة الحقة مقامات: الأول أدناها في التصديق وأسلمها عن الآفات مرتبة عوام أهل الإسلام وهو أن جميع أمور الآخرة من عذاب القبور وحياتها وعقاربها أمور واقعة محسوسة من شأنها أن يحس بهذه الباصرة الحسية لكن لا رخصة من الله تعالى في إحساس الإنسان ما دام في الدنيا لحكمة ومصلحة في إخفائها عن عيون الناظرين كما يدل عليه ظاهر بعض الروايات. المقام الثاني أن تلك الأمور الموعودة في عالم الآخرة هي مثل ما يرى في المنام كلها أمور خيالية لا وجود لها في العين كما لا وجود عينيا لما يراه الإنسان في نومه من الحيات والعقارب التي يلدغها إلا أنها كثيرا ما يتألم منها في النوم حتى يصيح في نومه ويعرق وينزعج عن مكانه انزعاجا شديدا وكذا في جهة اللذة فإنه ربما يلتذ بشيء في النوم لا يمكن أن يوجد مثله في اليقظة التذاذا أو سرورا كل ذلك يدركه في نفسه ويتأذى أو بتلذذ به كما يتأذى اليقظان أو يتلذذ من مشاهدة المؤذيات واللذات العينية والنائم يشاهده وأنت ترى ظاهره ساكنا ولا ترى حواليه حية موجودة وهي موجودة في حقه فالعذاب حاصل ولكنه في حقه غير مشاهد. وإذا كان العذاب في ألم اللدغ فلا فرق بين حية يتخيل أو يشاهد. وكذا الحال في الجنات والأشجار والأنهار والمواضع النفيسة والأشخاص الشريفة التي يراها النائم ويسر بمنادمتها في نومه وهي حاصلة له موجودة في حقه غير موجودة في الخارج ولا مشاهدة بالحواس. وهذا هو الذي ذهب إليه الشيخ الرئيس في باب جنة الناقصين في العلوم من الزهاد والعباد غيرهم ممن يحذو حذوهم ونار الناقصين في العمل من الفساق وغيرهم ممن نزل منزلتهم وتبعه الغزالي كما يظهر من كتبه ورسائله.
541 ومما يدل على أن ما ذكرنا هو ما ذهب إليه الشيخ قوله في أواخر إلهيات الشفاء عليها تأثيرا وصفاء كما يشاهد في المنام فربما كان المحلوم به أعظم شأنا في بابه من المحسوس على أن الأخرى أشد استقرارا من الموجود في المنام بحسب العوائق وتجرد النفس وصفاء القابل. وليست الصور التي ترى في المنام بل والتي تحس في اليقظة كما علمت إلا المرتسمة في النفس إلا أن أحدهما يبتدئ من باطن وينحدر إليه والثانية يبتدئ من خارج ويرتفع إليه. فإذا ارتسم في النفس تم هناك الإدراك المشاهد وإنما يلذ ويؤذي بالحقيقة هذا المرتسم في النفس لا الموجود في الخارج. وكلما ارتسم في النفس فعل فعله وإن لم يكن له سبب من خارج فإن السبب الذاتي هذا المرتسم والخارج هو سبب بالعرض أو سبب السبب. فهذه هي السعادة والشقاوة الحسيتان بالقياس إلى الأنفس الخسيسة وأما الأنفس المقدسة فإنها تبعد عن مثل هذه الأحوال ويتصل بكمالها بالذات وتنغمس في اللذة الحقيقية وتبرأ عن النظر إلى ما خلفها وإلى المملكة التي كانت لها كل التبرؤ ولو كان بقي فيها أثر من ذلك اعتقادي أو خلقي تأذت به وتخلف لأجله عن درجة عليين إلى أن ينفسخ. انتهت عبارته. وأما ما يدل على أن هذا مختار الشيخ الغزالي قوله في بعض مسفوراته: إن اللذات المحسوسة الموعودة في الجنة من أكل ونكاح يجب التصديق بها لإمكانها واللذات كما تقدم حسية وخيالية وعقلية. أما الحسي فلا يخفى معناه وإمكانه في ذلك العالم كإمكانه في هذا العالم فإنه بعد رد الروح إلى البدن وقام البرهان على إمكانه. وأما الخيالي فلذة كما في النوم إلا أن النوم مستحقر لأجل انقطاعه فلو كانت دائمة لم يظهر الفرق بين الخيالي والحسي لأن التذاذ الإنسان بالصورة من حيث انطباعها في الخيال والحس لا من حيث وجودها في الخارج فلو وجد في الخارج ولم يوجد في
542 حسه بالانطباع فلا لذة له ولو بقي المنطبع وعدم في الخارج لدامت اللذة. وللقوة المتخيلة قدرة على اختراع الصور في هذا العالم إلا أن الصورة المخترعة متخيلة وليست محسوسة ولا منطبعة في القوة الباصرة فلذلك لو اخترع صورة جميلة في غاية الجمال وتوهم حضورها ومشاهدتها لم يعظم سروره لأنه ليس يصير مبصرا كما في المنام فلو كانت للخيال قوة على تصويرها في القوة الباصرة كمالها قوة تصويرها في المتخيلة لعظمت لذته وتنزل منزلة الصورة الموجودة من الخارج ولم يفارق الدنيا والآخرة في هذا المعنى إلا من حيث كمال القدرة على تصويرها الصور في القوة الباصرة ولا يخطر بباله شيء يميل إليه إلا ويوجد له في الخيال بحيث يراه وإليه الإشارة بقوله ع: إن في الجنة سوقا يباع فيه الصورة. والسوق عبارة عن اللطف الإلهي الذي هو منبع القدرة على اختراع الصور بحسب الشهوة وهذه القدرة أوسع وأكمل من القدرة على الإيجاد من خارج الحس. فحمل أمور الآخرة على ما هو أتم وأوفق للشهوات أولى ولا تنقص رتبتها في الوجود اختصاص وجودها في الحس وانتفاء وجودها من خارج فإن وجودها مراد لأجل حظه وحظه من وجوده في حسه فإذا وجد فيه فقد توفر حظه والباقي فضل لا حاجة إليه وإنما يراد لأنه طريق المقصود وقد تعين كونه طريقا في هذا العالم الضيق القاصر أما في ذلك العالم فيتسع الطريق ولا يتضيق. وأما الوجود الثالث العقلي فهو أن يكون هذه المحسوسات أمثلة للذات العقلية التي ليست بمحسوسة فإن العقليات تنقسم إلى أنواع كثيرة مختلفة كالحسيات فيكون هي أمثلة لها كل واحد مثالا للذة أخرى مما رتبته في العقليات يوازي رتبة المثال في الحسيات. المقام الثالث في الاعتقاد بما ورد في الشريعة من نحو وجود الصور الأخروية وهو أنها عقلية محضة وتوجيهه بوجهين: أحدهما أن يكون تلك الصور المحسوسة إشارة إلى صور روحانية عقلية واقعة في العالم العقول الصرفة حسبما ذهب إليه أفلاطون من أن لكل نوع من الأنواع المحسوسة
543 مثالآ عقلي في عالم العقول والمراد من المذكورة في الكلام الغزالي في بيان الوجود الثالث للذات الموعودة في الجنة وفصله بقوله: فإنه لو رأى أحد في المنام الخضرة والماء الجاري والوجه الحسن والأنهار والأمطار الممطرة باللبن والعسل والخمر والأشجار المزينة بالجواهر واليواقيت واللآلي والقصور المبنية من الذهب والفضة والأسورة المرصعة بالجواهر والغلمان المتماثلين بين يديه للخدمة لكان المعبر يعبر ذلك بالسرور ولا يحمله على نوع واحد بل كل واحد يحمله على نوع آخر من السرور ويرجع بعضه إلى سرور العلم وكشف المعلومات وبعضه إلى سرور المملكة وبعضه إلى مشاهدة الأصدقاء وإن اشتمل الجميع اسم اللذة والسرور فهي مختلفة المراتب مختلفة الذوق لكل واحد مذاق يفارق الآخر. فكذلك اللذات العقلية ينبغي أن يفهم كذلك وإن كانت مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا يخطر على قلب بشر ولا يخفى أن إدراك اللذات الأخروية على هذا الوجه العقلي مختص بأهل المعرفة والكاملين في العلوم دون أكثر أهل الجنة من العقول السازجة والنفوس الساكنة. ولذلك ذكر صاحب الإحياء بعد ذكر الوجوه الثلاثة المذكورة في وجود ما يوعد في الآخرة كلاما بهذه العبارة: وجميع هذه الأقسام ممكنة فيجوز أن يجمع بين الكل ويجوز أن يصيب كل واحد بقدر استعداده. فالمشعوف بالتقليد والمجمود على الصورة لم ينفتح له طريق الحقائق ولا يتمثل له الصور العقلية. والعارفون المستصغرون لعالم الصور واللذات المحسوسة يفتح لهم لطائف السرور واللذات العقلية ما يليق بهم ويشفي شرههم وشهوتهم إذ حد الجنة أن فيها لكل امرئ ما يشتهيه فإذا اختلفت الشهوات لم يبعد أن يختلف العطيات واللذات. والقدرة واسعة والقوة البشرية عن الإحاطة بعجائب القدرة قاصرة والرحمة الإلهية ألقت بواسطة النبوة إلى كافة الخلق القدر الذي احتملت أفهامهم فيجب التصديق بما فهموه والإقرار بما وراء منتهى العلم من أمور يليق بالكرام الإلهيين. انتهى قوله.
544 والوجه الثاني أن يكون هذه الأمور كناية عما يلزمها من مطلق العذاب والسرور وبين بعضهم هذا بأن الحية بنفسها لا تولم بل الذي تلقاك منها هو السم ثم السم ليس هو الألم بل عذابك في الأثر الذي يحصل فيك من السم فلو حصل مثل ذلك الأثر من غير سم لكان العذاب قد يؤثر وكان لا يمكن تعريف ذلك النوع من العذاب إلا بأن يضاف إلى السبب الذي هو يفضي إليه في العادة فإنه لو خلق في الإنسان لذة الوقاع مثلا من غير مباشرة صورة الوقاع فإنه لم يمكن تعريفها إلا بالإضافة إليه ليكون الإضافة كالتعريف بالسبب ويكون ثمرة السبب حاصلة وإن لم يحصل صورة السبب والسبب يراد لثمرته لا لذاته. وهذه الصفات المهلكات ينقلب موذيات ومولمات في النفس عند الموت فيكون آلامها كآلام اللدغ من غير وجود حيات وانقلاب الصفة مؤذية يضاهي انقلاب العشق مؤذيا عند موت المعشوق فإنه كان لذيذا فصار اللذيذ بنفسه مولما حتى تنزل بالقلب من أنواع العذاب ما يتمنى معه أنه لم يكن قد تنعم بالعشق والوصال بل هذا بعينه هو أحد أنواع عذاب الميت. المقام الرابع في الاعتقاد بيوم المعاد والصور الموعودة الموجودة في الآخرة على ما هو طريقة الراسخين في العلم والعرفان ومسلك المتألهين من أهل الكشف والإيقان وهو أن هذه الأمور موجودات خارجية وثابتات عينية وهي في الموجودية والثبوت أقوى وأشد وأدوم من موجودات هذا العالم بل لا نسبة بينها وبين هذه في باب قوة الوجود وترتب الآثار وليست أنها بحيث يمكن أن يرى بهذه الأبصار الفانية البالية كما ذهب إليه الظاهريون. ولا أنها أمور خيالية وموجودات مثالية لا وجود لها في العين كما يراه الإشراقيون وتبعهم آخرون.. ولا أنها مجرد أمور عقلية أو مفهومات ذهنية وليس بأشكال وهيئات مقدارية وصور جسمانية كما يراه جمهور المتفلسفين من أتباع المشائين. بل إنها صور عينية جوهرية موجودة في الخارج لا في هذا العالم الهيولانية بل في عالم الآخرة وعالم الآخرة جنس لعوالم كثيرة كل منها أعظم من مجموع هذا العالم بما لا نسبة بينهما ولكل نفس من الأخيار عالم عظيم الفسحة ومملكة أعظم مما في السماوات والأرض بعدة أضعاف.
545 ووجود أمور الآخرة وإن كان يشبه بوجود الصور التي يراها الإنسان في المنام أو في المرآة من وجه لكن يفارقها بالذات. أما وجه المشابهة فهو أن وجودها لا يزاحم وجود شيء من هذا العالم فإن النائم ربما يرى أفلاكا عظيمة وجبالا شاهقة وصحاري واسعة مثل ما يراها في هذا العالم. ثم ما يراها في النوم غير ما يراها في اليقظة من الأمور الخارجة بالعدد إلا أن شيئا منها لا يزاحم شيئا من هذه ولا يضايقه فكذلك ما يراه الإنسان بعد الموت لا يزاحم ولا تضايق بينه وبين أجسام هذا العالم. وأما وجه المفارقة بينهما بالذات فهو أن تلك الدار الآخرة وصورتها الواقعة فيها هي موجودات عينية أقوى في قوة الوجود وشدة التأثير من موجودات هذا العالم فكيف من الصور المنامية المحلومة. ونسبة النشأة الثانية إلى هذه النشأة كنسبة الانتباه إلى النوم كما في قوله ص: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. وأما الإشارة إلى كيفية وجود الصور الأخروية فقد مرت في عدة مواضع من هذا الكتاب متفرقة. وأما بيانه التفصيلي بالنظم الطبيعي على نهج البرهان اللمي التام المقدمات بحيث لم يبق فيه مجال للبحث والإنكار والمنع والاستنكار والمجادلة والاستكبار فليطلب كشفه وتوضيحه وتفصيله من بعض الأسفار الإلهية الموسومة بالحكمة المتعالية. وأما إجماله فإنما يستعلم بملاحظة أن النفس الناطقة الإنسانية لكونها من سنخ الملكوت في عالم القدرة والقوة لها قدرة على اختراع الصور لكن الصور التي يخترعها حين تعلقها بهذا البدن الترابي الكثيف المادي المركب من الأضداد ليست إلا ضعيفة الوجود لا يترتب عليه الآثار المطلوبة الخارجية ولا يكون ثابتة أيضا بل يكون متغيرة لأن مظهرها القوة الخيالية. وهي دائمة التحلل والانتقال والتجدد والزوال حسب اختلاف أمزجة محلها بسبب ما يرد عليها من المشوشات والمتغيرات الخارجية والداخلية فإذا فرض أحد هذه الصور بحيث يكون وجودها أقوى وبقاؤها أدوم فلم يكن حينئذ فرق بينها وبين الخارجية حيث يترتب عليها آثارها المطلوبة منها. أ ولا ترى أنه كلما استراحت النفس من الاشتغال الضرورية والحركات اللازمة لحفظ البدن المجتمع من الأمور المتنافرة المتداعية إلى الانفكاك وتعطلت حواسها
546 الظاهرة واحتبست عن استعمالها والاشتغال بها إما بالنوم أو بتوجهها إلى الجنة العالية بقوة في ذاتها فطرية أو كسبية اغتنمت الفرصة ورجعت إلى ذاتها الملكوتية الفياضة للصور فأصبحت مخترعة للصور مشاهدة إياها بحواسها التي لها في ذاتها بلا مشاركة البدن. فإن الإنسان في حالة النوم أو الإغماء يبصر ويسمع ويذوق ويشم ويلمس مع أن حواسه الظاهرة معطلة عن إدراكها. فعلم أن للنفس بصرا وسمعا وذوقا وشما ولمسا في ذاتها من دون الحاجة فيها إلى البدن بل هي أتم وأصفى من التي في البدن إذا لم يكن هذه عائقة للنفس عن استعمالها إياها كما مر ذكره. وكما أن حواس البدن كلها يرجع إلى حاسة واحدة وهي الحس المشترك فجميع حواس النفس وقواها يرجع إلى قوة واحدة هي ذاتها النورية الفياضة ويصير حال رجوعها من هذا العالم إلى ذاتها إدراكها للأشياء عين قدرتها عليها فيكون علمها فعلا وحسها قدرة. ثم أولا ينظر ولا يتحدس بأن النفس كلما كانت أتم قوة وأقوى جوهرا وأقل مزاحمة ومعاوقة من قواها إما لفتورها وضعفها كما للمجانين والمرضى أو لقوتها خيرة كانت كما للأنبياء والأولياء أو شريرة كما للكهنة والسحرة كانت ملاقاتها للصور العينية ومشاهدتها إياها أقوى وترتب آثار الوجود على صورها المشهودة إلذاذا وإيلاما أكثر مع بقاء تعلقها بالدنيا والبدن وذلك لقوتها بحيث يفي بضبط الجانبين الظاهر والباطن والشهادة والغيب بل الغيب شهادة بالقياس إلى بعض النفوس المستعلية عن القيود البدنية الناقصة عن أذيالها غبار المحسوسات الدنية وهم الذين لا يلتفتون إلى صور هذا العالم ولا ينظرون إلى الدنيا إلا بعين الاحتقار. ثم إنهم لما كانوا لقوة نفوسهم وعلو منزلتهم بمرتبة لا يشغلهم فيها شأن عن شأن ولا يحجبهم منزل عن منزل ولا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله وتذكر الأمور الآخرة فهي كالمبادي العالية ذاتا وفعلا فيقدرون على إيجاد أمور مشاهدية وصور إدراكية حيث يكون إيجادهم عين إدراكهم. وربما يشغل بعض المكاشفين شهود صور
547 ذلك الموطن عن شهود صور هذا الموطن في اليقظة ومع سلامة الآلات على عكس حال المحجوبين وإن كان هذا أيضا نوع حجاب إلا أنه قرة عيون بعض السالكين الذين حجبت عيونهم بالآخرة عن الدنيا. فجميع ما ذكرنا من الأحوال بواسطة ظهور سلطان الآخرة على بعض النفوس بوجه من الوجوه. وهذا أنموذج لمعرفة أحوال الآخرة للنفوس فكل نفس إنسانية سواء كانت سعيدة أو شقية فهي إذا انقطعت تعلقاتها بالبدن وخلت ولخراب البيت ارتحلت صارت حواسها الباطنية لإدراك الأمور الآخرة أشد وأقوى فيشاهد الصور العينية الموجودة في الآخرة ولا يختص شهود الآخرة بنفس دون نفس إذ كل نفس قطعت التعلق بالبدن اختياريا كان أو اضطراريا يجب لها انكشاف الأمور المناسبة إياها التي هي من نتائج الأعمال والأفعال كما في قوله تعالى: فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد فكل نفس يظهر لها هناك حسب اكتسابها في الدنيا من الأخلاق والملكات الكريمة والكريهة الحاصلة لها من أعمالها وأفعالها إما صور حسنة بهيئة كالجنات والأنهار والحور والغلمان والحلل الفاخرة والتيجان المكللة باليواقيت واللؤلؤ والمرجان أو صور قبيحة مؤلمة موحشة من الحيات والعقارب والنيران والجحيم والزقوم وتصلية جحيم. بسط مقال لتبيين مرام اعلم أن مسألة المعاد هي ركن عظيم في الإسلام وأصل كبير في الحكمة وهي من أغمض المسائل دقة وأعظمها شرفا ورتبة قل من يهدي إليها من كبراء الحكماء من المتقدمين ومن يرشد إلى إتقانها من عظماء الفضلاء من الإسلاميين لأن أكثر الفلاسفة معتقدون بالمعاد الروحاني فقط دون الجسماني والجنة المزينة المحلاة بأنواع حليها وحللها وزنجبيلها وسلسبيلها كناية عندهم عن إدراك المعقولات والوصول إلى الحقائق
548 العقلية ودركات جهنم بقيودها وسلاسلها وحميمها وزقومها عبارة عن رذائل الأخلاق وذمائم الصفات وخصوصا الجهل المركب والعناد والتعصب في الآراء والمذاهب الذي يوجب العذاب الدائم على وجه أشد من إحراق كل نار وتجميد كل زمهرير. فهم وإن كانوا مصيبين في إثبات هاتين المرتبتين للنفوس إلا أنهم أخطئوا في إنكار النشأة الأخرى المتوسطة بين العالم العقول وعالم الصور الدنياوية وهي المنقسمة إلى جنة السعداء وجحيم الأشقياء. ثم إن أكثر الإسلاميين يرون ويعتقدون بأن الإنسان ليس هو شيئا سوى هذا البنية المحسوسة أعني الجسد المركب من اللحم والدم والعظم والعروق وما شاكلتها التي كلها أجسام وما يحلها من الأعراض على هيئة مخصوصة هي الصور الإنسانية عندهم وتلك مادتها. وهم لا يتحققون أمر البعث ولا يتصورون حقيقة القيامة ضميرا واعتقادا وإن أقروا بها لسانا ولفظا. فالقيامة عندهم ليست إلا إعادة هذه الأجساد المعدومة برمتها والأعراض بعينها على هذه الحالة التي هي عليها الآن. وأكثر أبناء زماننا وإن قالوا بتجرد النفس الإنسانية بحسب التقليد والسماع إلا أنهم في غفلة من ذلك بحسب المعرفة والتصديق فأين هم من معرفة النفس وإنيتها وماهيتها وكيفية ارتقائها في الدرجات وانحطاطها في الدركات واستعدادها بحسب الجوهر والذات إما لأن تتردى إلى الجحيم أو لأن تترقى إلى النعيم. فالناس بحسب ضمائرهم يجحدون تجردها وانفصالها عن الأجرام ذلك قولهم بأفواههم وتأبى قلوبهم فأكثرهم لا يعقلون لو لم يسمعوا من بعض كبرائهم والجاهل بحقيقة النفس وبيان ماهيتها وكيفية تعلقها بالبدن واحتياجها إلى القوى المحركة والمدركة البدنيين وقتا ما وكيفية تجردها بذاتها واستقلالها بوجودها وقتا آخر وسائر أحوالها معدود من العوام الناقصين عند أهل العلم والكمال وإن كان أحكم بعض العلوم الجزئية. وبالحقيقة الجاهل بحقيقة النفس جاهل بحقيقة المعاد الإنساني وكلا المعادين الجسماني
549 والروحاني جميعا وجاهل بمعنى رجوع النفس إلى الله تعالى على ما وقع في القرآن الكريم. والعجب من أكثر المنتسبين إلى العلم كيف قنعوا بمرتبة العوام والنساء والصبيان ولم يشتغلوا بالبحث عن حقيقة نفوسهم وأنه كيف مآلها وإلى ما ذا يصير حالها مع أنه فرض عليهم وهم معطلين فيه مشتغلين طول عمرهم بكثير من المسائل الفرعية وبعض الخلافيات الفقهية التي ينقضي الأعمار من غير الاحتياج إليها كأحكام الفروعات النادرة من الميراث والطلاق وأحكام الشقوق والاحتمالات البعيدة في الزراعات والمساقاة التي لا يقع واحد منها في أعمار طويلة مع وجود أشخاص في كل زمان يقوم بها. وليس هذه المسائل الخلافية فرض عين لأحد بل كسائر الفروض الكفائية. ثم اعلم أن الاعتقاد في المعاد على هذه الوجه العامي جيد للجهال والعوام ومن لا ينظر في حقيقة الأمور ولا يعرف المبادي اليقينية ولا الغايات الطبيعية الحقيقية. وذلك لأنهم إذا اعتقدوا هذه الرأي في المعاد وتحققوا هذه الاعتقاد يكون ذلك حثا لهم على عمل الخيرات وترك عمل الشرور واجتناب المعاصي وفعل الطاعات وأداء الأمانات وترك الخيانات والوفاء بالعهود وصحة المعاملة والنصيحة فيها وحسن المعاشرة وخصال كثيرة محمودة من هذا القبيل. وأما ما تدين به محققوا الحكماء وأفاضل المليين فهو أن مع هذه الأجساد جواهر أخرى هي أشرف منها وأنور وليست بأجسام بل جواهر مجردة يسمى أرواحا ونفوسا فلا يتصور عندهم أمر البعث ولا يتحققوا أمر القيامة إلا برد تلك النفوس والأرواح إلى تلك الأجساد بعينها أو أجساد أخر مثلها يقوم مقامها يحشرون ويحاسبون بما عملوا من خير أو شر. فكما يفرق بالموت بين الأرواح والأجساد فعند الحشر والإعادة يبعث من في القبور ويحصل ما في الصدور. وهذا الرأي أجود وأقرب إلى الحق وفي هذا الاعتقاد منهم صلاح لهم وانتظام لغيرهم. وأما من كان فوق هذه الطوائف في العلوم والمعارف ولرسوخه في العلم وارتياضه
550 بالحكمة فهو يرى ويعتقد أن الغرض من وجود هذه النفوس مع الأبدان والغاية في تكون هذه الأرواح مع الأشباح مدة في الدنيا من أجل أن يستتم ذواتها ويكمل صورها عقولا فعالا بعد ما كانت نفوسا منفعلة ويخرج من حد القوة إلى الفعل والظهور ويستكمل أيضا فضائلها التي هي دون تلك الفضيلة التي ذكرناها من عرفانها أمر المحسوسات وتخيلها حكايات المعقولات. وهذا هو العالم الفاشي الذي يمكن أن يصل إليه كل إنسان بشرط سلامة نفسه من الجهل المركب ورذائل الأخلاق وسيئات الملكات وبها جاءت دعوة الأنبياء وظواهر شريعتهم العامة لجميع الناس ومنها تحصل جنات مفتحة لهم الأبواب وبأضدادها يقع استحقاق الجحيم والعذاب. وأما النفوس الصائرة عقولا فعالة فهم المستغرقون في شهود عظمة الله وجلاله ومتحيرون في ملاحظة جماله لا التفات لهم إلى ذواتهم المنورة الكاملة فضلا عن ما عداهم لا يكدرون عشق مولاهم برجاء نعيم وخوف جحيم. واعلم أن اختلاف الملل والمذاهب في باب صحة المعاد وكيفية تحققها إنما كان لأجل غموض هذه المسألة ودقتها حتى أن الكتب الإلهية مختلفة في هذا بحسب الظاهر إلا أن المرجع في الجميع واحد ففي التوراة: إن أهل الجنة يمكثون في النعيم خمسة عشر ألف سنة ثم يصيرون ملائكة وإن أهل النار يمكثون في الجحيم كذا أو أزيد ثم يصيرون شياطين. وفي الإنجيل: إن الناس يحشرون ملائكة لا يطعمون ولا يشربون ولا ينامون ولا يتولدون. وفي القرآن إن الناس يحشرون كما خلقهم الله أول مرة لقوله تعالى: كما بدأكم تعودون. الآية. وسؤال إبراهيم ع عن الله رب أرني كيف تحي الموتى وقول عزير كما حكاه الله تعالى منه: أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام. ومكث أصحاب
551 الكهف وقول الله تعالى: و كذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق. فبعض هذه النصوص والعبارات يدل على أن المعاد للأبدان وبعضها يدل على أنه للأرواح. والتحقيق أن الأبدان الأخروية مسلوب عنها كثير من لوازم هذه الأبدان فإن بدن الآخرة كظل لازم للروح وكعكس ومثال له بخلاف هذا البدن المستحيل الفاسد. ولا تعجب لأولي الألباب من النشأة الثانية بل تعجبهم من النشأة الأولى أكثر بكثير إلا أن الأولى لما كانت محسوسة مشاهدة معتادة سقط التعجب منها كما ذكره بعض العرفاء: أنه لو سمع عاقل قبل أن يشاهد أن إنسانا يحرك نفسه فوق امرأة مرارا كما تحرك المخيض وخرج من بعض أجزائه شيء مثل زبد سيال فيخفى ذلك الشيء في بعض أعضاء المرء ويبقى مدة على هذه الحالة ثم يصير علقة ثم العلقة مضغة ثم المضغة يصير عظاما ثم يكسي العظام لحما ثم يحصل منه الحركة فيخرج موضعا لم يعهد خروج شيء منه على حالة لا يهلك أمه ولا يشق عليها ولادته ثم يفتح عينه ويحصل في ثدي الأم مثل شراب سائغ لم يكن فيها قبل ذلك شيء ويغتذي به الطفل إلى أن يصير هذا الطفل بالتدريج صاحب صناعات واستنباطات بل ربما يكون هذا الذي يكون أصله نطفة وهو عند الولادة أضعف خلق الله عن قريب ملكا جبارا قهارا يملك أكثر العالم ويتصرف فيه فإن التعجب من ذلك أكثر وأوفر من التعجب من النشأة الثانية.
552 المقالة الثالثة في ضرب آخر من البيان في تحقيق المعاد للإنسان على أسلوب عرفاني ونمط شهودي على لسان أهل التوحيد وفيها فصول فصل في تلخيص القول في المبدإ والمعاد والانتقال من الفطرة الأولى والارتحال إليها وبيان التقابل بين مراتب البدء ومراتب العود وتحقيق ليلة القدر ويوم القيامة اعلم أن المراد بالمبدأ هاهنا الفطرة الأولى للإنسان وبالمعاد هو العود إليها فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله. والفطرة الأولى له عدمه السابق على وجوده كان الله ولم يكن معه شيء و قد خلقتك من قبل و لم تك شيئا. يعني أن جعل الخلق في الابتداء من العدم إلى
553 الوجود الخاص ففي الانتهاء يجعل الخلق من الوجود الخاص إلى العدم كل من عليها فان و يبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام. فإن البدء والرجوع متقابلان كما قيل: النهاية هي الرجوع إلى البداية كما بدأنا أول خلق نعيده. ومن هاهنا ينكشف على العاقل اللبيب أن بحكم البدء كان ينبغي أن يسأل الرب ويجيب الخلق ألست بربكم قالوا بلى وبحكم المعاد ينبغي أن يسأل الرب ويجيب هو تعالى عن نفسه لمن الملك اليوم لله الواحد القهار إن إلى ربك الرجعى كل شيء هالك إلا وجهه. منه المبدأ وإليه المنتهى فالعدم الأول للإنسان هو الجنة التي كان فيها أبونا آدم ع وأمنا حوا اسكن أنت و زوجك الجنة والوجود بعد العدم هو الهبوط منها إلى الدنيا اهبطوا منها جميعا والعدم الثاني من هذا الوجود هو الفناء في التوحيد وهو جنة الموحدين يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي و ادخلي جنتي. والمجيء إلى الدنيا من الجنة هو النزول من الكمال إلى النقص والسقوط من الفطرة الأصلية ولا محالة صدور الخلق من الخالق ليس إلا على هذا الطريق. والذهاب من الدنيا إلى الجنة هو التوجه من النقص إلى الكمال والرجوع إلى الفطرة ولا محالة رجوع الخلق إلى الخالق ليس إلا على هذا الطريق الله يبدؤا الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون. فالأول هو النزول والهبوط والآخر هو العروج والصعود والأول
554 هو أفول النور والآخر هو طلوع النور الله نور السماوات و الأرض فالعبارة من الأول ليلة القدر ومن الآخر يوم القيامة. ففي ليلة القدر تنزل الملائكة و الروح فيها بإذن ربهم من كل أمر وفي يوم القيامة تعرج الملائكة و الروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. حكمة عرشية أجناس العوالم والنشات ثلاثة الدنيا وهي عالم الماديات والطبيعيات والآخرة وهي عالم التعليميات والرياضيات وما وراء الدنيا والآخرة جميعا وهو عالم المفارقات والعقليات. فالنشأة الأولى بائدة داثرة هالكة بخلاف الباقين وخصوصا الثالثة التي هي المآل الحقيقي للمقربين. والإنسان حقيقة مجتمعة من هذه العوالم باعتبار إدراكاتها الثلاثة فكلما غلب عليه واحد منها يكون مآله إلى أحكام ذلك ولوازمه فإن غلب عليه التعلقات الدنياوية والمستلذات الحسية فهو بعد وفاته يتعذب بفقدان المحسوس وفواته فهو أليف غصة دائمة ورهين عذاب أليم لأن اللذات الدنياوية لا حقيقة لها والملائمات الحسية أمور مجازية فمن عشقها واعتاد بها يكون كمن عشق أمرا معدوما وطلب شيئا باطلا لم يكن له ثمر ولا عنه خير. فيكون الراغب إليه والعاشق له والمعتاد بصحبته حيرانا أسفا إلا أنه ما دام في الدنيا يظن أن لمحبوبه وجودا يمكن أن ينال وبهذا الظن القبيح المستنكر عند الكاملين من العقلاء يتعيش في الدنيا ويستأنس ويتمتع بهذه الحياة المجازية وبمتاعها الذي هو متاع الغرور وحلية القبور فإذا طلعت الشمس الحقيقة وذابت بها المجازات واضمحلت المحسوسات ذوبان الجليد واضمحلال الثلوج بحرارة ارتفاع الشمس في أوان الصيف فبقي المحب للدنيا المحسوسات في غصة وألم لفقدان محبوبه
555 وامتناع وجوده لأن المحسوس بما هو محسوس لا حقيقة له أصلا كما أشرنا إليه. وبيانه على الوجه التفصيلي يطلب منا في مجال أوسع من هذا الذي نحن فيه. وإن غلبت عليه جهة اللذات الأخروية ورجاء النعماء الأجلية من نكاح الحور والتمكن في القصور مع سرر مرفوعة وأكواب موضوعة وأكل فاكهة ولحم طير مما يشتهون وشراب طهور بآنية من فضة والخوف من عذاب جهنم وتصلية جحيم وشراب الحميم والزقوم ويعمل بمقتضاها من فعل الطاعات البدنية والخيرات والاجتناب عن اكتساب الخطيئات وارتكاب السيئات مع شرائط صحتها من الاعتقادات الشرعية والنيات التي تكلف بها جميع الناس فمآله إلى النعيم والبعد عن الحميم. وإن غلبت عليه الجهة العقلية وعمل بمقتضاها من اكتساب العقليات المحضة والحقائق اليقينية بالبراهين اللمية الدائمة فمآله الانخراط في سلك الملكوتيين بل القيام في صف أعالي المهيمنين إذا كانت عقائد الحقة مشفوعة بالنيات الخالصة الإلهية مع الزهد الحقيقي عن جميع ما يشغل سره عن الحق وذلك هو الفضل العظيم بمثل ذلك فليعمل العاملون وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. وليعلم أن النية الخالصة عن شوب الأغراض النفسانية مطلقا لا يمكن أن تيسر إلا للطائفة الأخيرة أي الحكماء فالأولى للحكيم والأحرى به أن لا يتوانى عن استعمال الأوضاع الشرعية. وأما الجهال فلن يحصل لهم باستعمال الأوراد والأذكار الشرعية إخلاص نية وهو المقصود منها. وليت شعري كيف يتشوقون إلى الدار الآخرة والمبدع الأول وما عرفوهما إلا بالتخيل فأية نفس جمعت المناقب العقلية العملية التي هي معرفة المفارقات والمبادي القصوى والغايات الأخيرة وخصوصا المبدع الأول الذي هو المبدأ والغاية الحقيقيتين بالنهج البرهاني أو الكشف والعملية التي هي العدالة وتسخير القوى الشهوية والغضبية والإدراكية وخصوصا الوهم فقد فازت بالسعادة العظمى في الآخرة وأية نفس ضادت هذه الأفاعيل بالأفاعيل التي هي أضدادها فهي ممتنعة
556 في الآخرة بالشقاوة التي هي في مقابلة تلك السعادة. وأما المتوسطون في ما بين هذه الأطراف فلهم طبقات يمكن معرفة أجناسها وضبطها في عدد كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى. تتميم تحصيلية إن النفس الإنسانية في مبادي تكونها وأوائل خلقتها هي بالقوة في نشئاتها الثلاث لكونها أولا قبل قوام وجودها في مكمن الإمكان وكتم الخفاء في مجموع إدراكاتها الثلاثة التي بها يتصل إلى العوالم الثلاثة وهي الحس لإدراك عالم المحسوسات والشهادة والخيال لإدراك عالم الغيب والملكوت والعقل لإدراك عالم الربوبية وجبروت الحق تعالى. ولها في تحصيل كل من النشئات مراتب كمراتبها في العاقلية والمعقولية فمراتبها في التعقل كما مر هي العقل الهيولاني والملكة وبالفعل والمستفاد وهي مراتب متعاقبة فكذلك لها مراتب من الإحساس والتخيل وتلك المراتب قوة واستعداد وكمال وفوق الكمال. فالقوة لها في الإحساس كما للطفل من الكتابة به هي عند كونه جنينا لم يلجه الروح والاستعداد لها فيه كما للأمي المحصل لأسباب الكتابة ولكنه لم يتعلم بعد صنعة الكتابة وهي عند كونه في الرحم بعد والكمال فيه كما للمتعلم لها والقادر على صنعتها متى شاء لأجل زوال الموانع الداخلة وهي بعد تولدها وخروجها عن الرحم ووقوعها في فضاء الدنيا وإن كان مع تعطل الحواس عن فعلها لمانع كالنوم أو التغميض أو غيره. وفوق الكمال فيه كما في حالة الكتابة بالفعل وإنشاء النقوش المكتوبة بالفعل لأجل زوال الموانع الخارجية أيضا وهي عند إحساسها بالفعل لاستجماع الشرائط ودفع الموانع وكذلك قياس مراتب التخيل. فالإنسان استوفى في هذا العالم درجات القوة والاستعداد والكمال وفوق الكمال في باب الحاسية والمحسوسية لكون نفسه ما دام الكون الدنياوي هي تمام العالم الحسي
557 وثمرته التي بها ينتهي استكمال المواد والأجسام. وأما في باب المشعرين الآخرين اللتين هما مشعر التخيل ومشعر التعقل فأكثر الناس متوقفون في هذين المشعرين ما داموا في هذا الكون على مرتبة القوة والاستعداد ولم يبلغوا في شيء منها إلى حد الكمال وكثير منهم على حد الكمال في التخيل والتمثل من غير فعلية الأمر التمثيلي منه في العيني الخارجي. فهم في باب الوجود المثالي الشبحي في حد التمام من دون الفعلية الحاصلة في المرتبة التي هي فوق التمام. فنسبتهم إلى عالمهم نسبة النائم التام الخلقة إلى عالم الحس كما قال ع: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. وأما الأنبياء والأولياء والعرفاء الكاملين فالأنبياء وخصوصا سيدهم وخاتمهم ص كانوا في حد التمام وفوق التمام في كلا المشعرين. وأكثر الأولياء والكمل من العرفاء والحكماء كذلك في باب العقل والمعقول إلا أنه حيث يكون الإنسان بقدر اشتغاله بعالم الحس محجوبا عن العالمين الآخرين فهو مع كونه تاما كاملا في شيء منهما لا يكون فوق التام فيه عند حياته الدنياوية بحث يترتب لوازم الفعلية وآثار الفضيلة في ذلك وإلا لانقطع تعلقه عن هذا الكون الحسي بالكلية صائرا إلى عالم الذي يكون فيه بالفعل المحض. فعليك بالتفطن والتحدس مما ذكرناه وأصلناه لتحصيل النشئات الثلاثة التي هي هذا العالم وعالم الآخرة وعالم الجبروت. فإن القوة على الشيء لا يتصور إلا بكونه منتظر الوقوع وإلا يلزم التعطيل في الأمور الفطرية التي أودعها الله في الطبائع. فوجود الاستعداد والكمال في كل من النشأتين الآخرتين كاشف عن وجودهما في الواقع ينتقل إليه النفوس الإنسانية بعد الموت. فثبت مما ذكرناه وجود عالمين آخرين كل منهما معاد لطائفة من النفوس وذلك ما أردناه. تذكرة توضيحية ثم لقائل أن يقول: تلك الدار الآخرة على كثرة صورها وهيئاتها وأشكالها كجناتها
558 الحسية وأنهارها الملذة وحورها وغلمانها أو القبيحة المؤلمة كجحيمها وحميمها وزقومها إلى غير ذلك من الخلائق والأشخاص التي في الآخرة هل لها مادة تقبل تلك الصورة والهيئة أم لا وعلى تقدير وجودها فما المادة الحاملة لأشخاصها وكمياتها وكيفياتها قلنا: نعم لتلك الصور الأخروية أمر بمنزلة المادة لها يشبه المادة الحاملة لهذه الصور الدنياوية من وجه ويفارقها من وجه أما وجه المشابهة فلكون كل منهما مما يحلها الصور القائمة بها وأما وجه المفارقة فلأجل أمرين: أحدهما أن المادة الدنياوية إنما يحلها الصور الفائضة عليها لأجل سبق قوة استعدادية انفعالية وسبق حركة متوجهة إلى الكمال الصوري بخلاف الصور الأخروية فإن حصولها لما يقوم بها إنما هو من جهة الفعلية واللزوم لا من جهة القوة والإمكان ومن الجهات الفاعلية لا من الجهات القابلية. أولا ترى أن محل السواد مثلا إذا زال عنه السواد يحتاج في استرجاعه إلى فاعل مباين يفيد السواد لذلك المحل من دون أن يكتفي المحل بنفسه في استرجاع السواد وهذا بخلاف القوة النفسانية فإنها إذا زالت عنها الصور الباطنية ففي استرجاعها إياها وتذكرها لا يحتاج إلى تجشم كسب جديد وإلى مبدأ يحصل منه كما يحصل أولا بل يستكفي في ذلك بذاتها وبما يقوم به ذاتها من الأمور الداخلية وذلك لأن القوة الروحانية من المواد الأخروية التي ينشأ منها الصور من غير كسب جديد ومبدأ منفصل وأسباب اتفاقية خارجية بل الأمر كله هناك لله العلي الكبير. وثانيهما أن من الأشياء الواضحة بحسب الذوق والتجربة أن كل هيولى يكون ألطف جوهرا وأشد روحانية فإنها تكون أشرف صورة وأجل كمالا ولقبول الصور أسرع انفعالا وأسهل قبولا. مثال ذلك الماء العذب فإنه لما كان جوهره ألطف من جوهر التراب صار لقبول الطعوم والأصباغ أسرع انفعالا وذلك للطافته وعذوبته وسيلانه وهكذا لما كان الهواء ألطف من الماء وأشد سيلانا صار قبوله للأصوات والروائح أسرع انفعالا وأسهل قبولا وهكذا لما كان الضياء والنور ألطف من الهواء
559 صار قبولهما للألوان والأشكال أسرع وأشد روحانية وقربا من عالم الروحانيات. وهذا أيضا باب يخفى على كثير ممن ينظر في دقائق العلوم إعماله وذلك لأن جوهر النفس له مراتب متفاوتة في اللطافة والكثافة. وأدنى مراتب النفس في اللطافة هو أشد بكثير من لطافة جوهر النور المحسوس. وأيضا والدليل على ذلك قبولها رسوم سائر المحسوسات والمتخيلات والمعقولات عند كونها في مراتب أنوار الحس والخيال والعقل على تفاوتها. فلهذا صار الإنسان بالقوة المتخيلة يقدر أن يتخيل من الموجودات الخارجية ما لا يقدر عليه أن يدركها بالقوة الحساسة لأن هذه روحانية في عالم الغيب وتلك جسمانية في عالم الشهادة. لأنها يدرك محسوساتها في الجواهر الجسمانية من خارج وأما القوة المتخيلة فهي تصورها وتخيلها في الداخل والدليل على ذلك أفعال الصنائع البشرية المستنبطة أولا من الباطن فإن كل صانع يبتدي أولا يتفكر ويتخيل ويتصور في فهمه صورة المصنوع بلا حاجة إلى شيء من خارج كالمصالح والآلات والموضوعات المكانية والزمانية ثم يقصد بعد ذلك إلى هيولى ما في مكان ما في زمان ما وتحريكات ما فالصانع يخترع في صقع من خياله صورة الصناعة بلا حركة وتعب وإعياء ثم يتبع صورته التي في صقع خياله الصور التي هي في الموضوع الجسماني ففعلها الخاص الذي يصدر عنها ويقوم بها على وجه تكون عنها وفيها شيء واحد أي كونها فاعلة وقابلة له هما حيثية واحدة فيها هي أمور غيبية مستورة عن الحواس وعالمها غير هذا العالم الحسي لأن القوة الخيالية بمنزلة كوة إلى عالم الغيب كما أن الحواس الظاهر بمنزلة رواشن مختلفة إلى عالم الشهادة. وقد مر مرارا أن اشتغال النفس باستعمال الحواس الظاهرة والقوة المتحركة يمنعها عن مشاهدة الصور الباطنية عيانا وإلا فتلك الصور أشد جلاء ووضوحا وأقوى جوهرا ووجودا من هذه الصور الحسية المغمورة في المواد المظلمة الجرمية. هكذا قياس القوة العقلية بالنسبة إلى حقائق المعقولات فإن العقل الهيولاني لكونه ألطف المواد على الإطلاق يكون قياس الصور العقلية وسرعة انفعاله عنها وقبوله إياها هذا القياس وكذا نسبة لطافة تلك الصور وشرافتها وجلائها ظهورا ووضوحا وقوامها وتجوهرها قوة ووجودا فالإنسان
560 حين كونه عقلا مستفادا يقدر أن يتصور صورا عقلية باتصال بالعقول الفعالة المبدعة للمعقولات المستقلة الوجود إلا أنه ما دام اشتغاله بالبدن ونشأتها الحسية الدنياوية لا يمكنه أن يحضر معقولاته المستقلة الوجود مشاهدة إياها مشاهدة خارجية بل يشاهدها الآن مشاهدة ذهنية كمشاهدة الأشياء خلف حجاب كهواء مغبرة كثيف أو ماء كدر. وكذلك عامة الناس وجميع البشر لا يمكنهم ولا رخصة لهم في مشاهدة حال المحشر وصور النشأة الآخرة وشهود الجنة والنار وسائر ما وعدهم الله ورسوله حقا ما داموا في الدنيا لأنها أمور باطنية غيبية وقد غلب على أكثر الناس هذه النشأة الدنياوية وطرت عليهم الغفلة والنسيان عن أمور القيامة وأحوال الباطن ونسوا أنفسهم لإعراضهم عن معرفة بارئها ومنشئها ويئسوا من الآخرة كما بئس الكفار من أصحاب القبور فلم يدركوا من الحقائق الأخروية والمواعيد النبوية مما جاء به الكتب والرسل إلا نحوا ضعيفا على ضرب من التخييل والتمثيل دون حقيقة الأمر كما هو عليه. وأما العرفاء الإلهيون فهم الذين وصلوا بقوة اليقين إلى إدراك حقائق النشأة الآخرة ومشاهدة عقلية من غير شائبة شك وريب فلا يزيدهم رفع الحجب عند الموت إلا كشفا ووضوحا لا يقينا ومعرفة. وأما أصحاب المعارج من الأنبياء والمتجردون من أغشية المواد ولبوسات الأجرام من الأولياء لخلع أبدانهم العنصرية أو تحصيلهم ملكة خلعها وإن لم يصر منخلعة بل مع صحوهم وشعورهم بما يورده الحواس فقد حصلت لهم مشاهدة الصور الأخروية وأحوال البرزخ قبل وقوعها وقيام القيامة للمحجوبين كما وقع للنبي ص ليلة المعراج حيث يحكى عنه أنه: رأى أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار وعين بعضا منهم وهم بعد ما ماتوا وما قتلوا أن فلانا وفلانا رأيتهم في الجنة وفلان وفلان رأيتهم في النار. ورأى الأنبياء ع وقد انقرضت أزمنة حياتهم الدنياوية ورأى موسى ع حين كلمه تعالى تكليما وذلك لأجل اطلاعه على الآخرة وشهوده للنشأة الثانية وخروجه عن الأمكنة والأزمنة فكانت نسبة جميع الأزمنة والأمكنة بالنظر إلى إحاطة شهوده
561 لقربه من الحق الأعلى في درجة واحدة. تبصرة عقلية قال بعض العرفاء: كل من شاهد بنور البصيرة باطنه في الدنيا لرآه مشحونا بأصناف السباع وأنواع الهوام مثل الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب والرياء وغيرها وهي التي لا تزال تفترسه وتنهشه إن سهى عنها بلحظة إلا أن أكثر الناس لكونه محجوب العين عن مشاهدتها فإذا كشف الغطاء ووضع في قبره عاينها وقد تمثلت له بصورها وأشكالها الموافقة لمعانيها فيرى بعينه العقارب والحيات قد أحدقت به وإنما هي صفاته الحاضرة الآن في نفسه قد انكشف له صورها. فإن أردت يا أخي أن تقتلها وأنت قادر عليها قبل الموت فافعل وإلا فوطن نفسك عن لدغها ونهشها بصميم قلبك فضلا عن ظاهر بشرتك وجسمك. تبصرة اعلم أيها السالك إلى الله تعالى والراغب إلى نيل ملكوت ربه الأعلى أن الأمور الجسمانية والصور المادية جعلها الله تعالى كلها مثالات دالات على الأمور الغيبية الأخروية كما أنها أيضا مثالات دالات على الروحانيات العقلية التي هي عالم الجبروت وحضرة الربوبية والأشعة الإلهية وذلك لأن العوالم متطابقة وجميعها مظاهر ومنازل لأسمائه تعالى باعتبار وعين تلك الأسماء باعتبار آخر. فالأسماء على كثرتها التي لها باعتبار تعدد معانيها ومفهوماتها لا باعتبار حقيقتها ووجودها الذي هو أحدي محض بلا شوب كثرة تنزلت أولا في عالم العقول المتحصلة والقواهر المفارقة وهي عالم الجبروت وعالم القدرة والقوة ثم تنزلت إلى عالم الأشباح الروحانية والصور المثالية ثم إلى عالم المحسوسات والماديات.
562 فكما أن النزول من المبدإ الأعلى على هذا المنوال فكذلك الرجوع والصعود إلى الحق تعالى يكون على عكس هذا المثال فجعل طريق الحواس درجا ومراقي يرتقي بها إلى مشاهدة الأمور العقلية التي هي الغرض الأقصى في بلوغ النفس إليها بعد طي مراتب البدايات والأوساط. فالبدايات هي عالم المحسوسات والأوساط عالم الآخرة التي فيه الجنة والنار الجسمانيتين. وقد علمت مرارا أن سبب التعذب بالنار إنما يحصل من التلذذ بالحسيات. فدخول النار هو نتيجة ارتكاب اللذات الدنياوية كما أن دخول الجنة هو من نتائج الزهد في الدنيا والورع من محارم الله. وقوله تعالى: و إن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا يؤيد ما ذكر فكان كل واحد من الناس بواسطة وقوعه أولا في عالم المحسوسات له استحقاق دخول النار لو لم يجبر هذه المعصية الفطرية التي هو الوجود الحسي بفعل الطاعات وكسب الحسنات. فإن قيل: ما ذكرت ينافي معنى قوله ص: كل مولود يولد على الفطرة... الحديث: قلنا: لا منافاة بينهما فإن هذه الفطرة فطرة النفس الناطقة التي هي بحسب ذاتها من عالم التقدس والطهارة. وأما التي ذكرناها فهي فطرة البدن الذي حصل من الأجسام الخسيسة التي وجودها في أخس المراتب وأبعدها عن الله ومجاوريه من المقدسين. وقد روي عن النبي حكاية عن الله تعالى أنه قال: ما نظرت إلى الأجسام مذ خلقتها. فإن أردت يا حبيبي وفقك الله لسلوك طريقه أن تبلغ أشرف المطلوبات وأفضل الغايات التي هي الأمور العقلية والحقائق الروحانية فاجتهد أولا في معرفة الأمور المحسوسة فبذلك يتيسر لك أن تتركها وتزهد فيها وتنال الأمور الغير المحسوسة. فإن العوالم من المضافات لوقوعها تحت جنس المضاف فإذا عرفت المحسوسات عرفت ما
563 وراء المحسوسات. فكما أن من لم يعرف الله لم يمكنه طلبه والتشوق إليه والسلوك نحوه فكذلك من لم يعرف الدنيا وحقارة نشأتها لم يمكنه رفضها والرغبة عنها. ولهذا اعتنى الحكماء بالبحث عن الأجسام وأحوال المحسوسات لينتقلوا منها إلى الرياضيات ثم إلى الإلهيات. ولكون الدنيا واقعة تحت جنس المضاف بالقياس إلى الآخرة قال الله تعالى تنبيها على معرفة النشأة الآخرة: و لقد علمتم النشأة الأولى فلو لا تذكرون. ومما يجب لك أن تعلم أن معرفة الدنيا والمحسوسات ومشاهدتها هي فقر النفس وشدة حاجتها ومعرفة أمور الآخرة والروحانيات هي غناؤها ونعيمها وذلك لأن النفس في معرفة الأمور الجسمانية محتاجة إلى هذا البدن العنصري وآلاته لتدرك بتوسطها الجسمانيات وقد مر أن النفس ما دامت في هذه الدنيا كراكب سفينة هي البدن وآلاته هي بمنزلة آلات السفينة يشاهد بتوسطها عجائب بحر الهيولى وطبائع المحسوسات ثم يرتحل ويعبر منه إلى عالم آخر فإذا حصل لها ذلك فقد استغنت عن الجسد والتعلق به بعد ذلك كمن استغنى عن السفينة بعد أن عبر بها البحر. فاجتهد أيها الحبيب في طلب الغناء الأبدي وربح التجارة السرمدي بتوسط هذا الهيكل وآلاته ما دام يمكنك قبل فناء المدة وفساد الهيكل وبطلان وجوده. واحذر كل الحذر أن تبقى وتحمل نفسك فقيرة محتاجة إلى هيكل دنياوي لتتم وتكمل به فتكون ممن يقول: يا ليتنا نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل أو تبقى في البرزخ إلى يوم يبعثون ومن أين لهم أن يشعرون أيان يبعثون أو تبقى في الحساب. والمناقشة في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ما دامت النفس ساهية لاهية مقبلة على الشهوات الجسمانية واللذات الجرمانية والزينة الطبيعية والغرور بالأماني في هذه الحياة الحسية المذمومة التي ذمها رب العالمين فقال اعلموا: أنما الحياة الدنيا لعب و لهو و زينة
564 و تفاخر بينكم و تكاثر في الأموال و الأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما. كشف مقال لدفع إعضال إن أعضل شبه الجاحدين للمعاد الجسماني وأعظم إشكالات المنكرين للجنة والنار المحكوم بثبوتهما وتحققهما في الشريعة الناموسية والحكمة القدوسية هو طلب المكان لهما واستلزام كونهما في جهة من الجهات الامتدادية الجرمية في زمان من الأزمنة المتصرمة المتجددة واستيجاب كونهما داخل حجب السماوات وتحت حيطة محدد الجهات وعرش المتماديات. فالجواب عن أصل هذه الشبهة وقلع مادتها وانفساخ صورتها هو أن يقال على طريقة الأبحاث المتألهين وأنظار السالكين إلى الله تعالى بأقدام الأفكار ومراكب الأنظار إن حجتكم هذه مبنية على أن للجنة والنار مكانا من جنس أمكنة هذه الدنيا لكن أصل إثبات المكان على هذا الوجه للجنة والنار باطل فالشبهة منهدمة الأساس منحسمة الأصل. لأنا نقول: أولا إن عالم الآخرة عالم تام لا يخرج عنه شيء من جوهره وما هذا شأنه لا يكون له مكان كما أن ليس لمجموع هذا العالم مكان يمكن أن يقع إليه الإشارة الوضعية من خارجه أو داخله لأن المكان للشيء إنما هو يتقرر بحسب نسبة وإضافة إلى ما هو مباين له في وضعه خارج في إضافته وليس في خارج هذا العالم شيء من جنسه وإلا لم يؤخذ بتمامه ولا في داخله أيضا ما يكون مفصولا عن جميعه إذا أخذ بهذه الحيثية فلا إشارة حسية إليه عند أخذه تاما كاملا لا من خارجه من داخله فلا يكون له أين ولا وضع. ولهذا المعنى حكم معلم المشائين ب: أن العالم بتمامه لا مكان له. فقد اتضح أن ما يكون عالما فطلب المكان له باطل والمغالطة من باب قياس الجزء إلى الكل والاشتباه بين الناقص والكامل.
565 ثم على سبيل التنزل عن هذا بقي أن ينظر إلى أن الدار الآخرة مع هذا الدار هل هما منتظمان في سلك واحد والمجموع عالم واحد وحينئذ يكون طلب المكان لهما صحيحا أو كل منهما عالم بتمامها مباين الجوهر والذات للأخرى غير منسلك معها في سلك واحد لا يجمعها دار واحدة لاستقلال كل منهما وتمامه فحينئذ طلب المكان له والنسبة إلى ما هو مباين الجوهر عنه غير صحيح. وأنت تعلم أن الحق هو الثاني أولا ترى أن أهل هذا العالم متفقون على قولهم هذا العالم وذلك العالم جسما ورثه الناس من رؤساء النوع من أهل النبوة والحكمة والعصمة ولو كان المجموع عالما واحدا كان هذا القول باطلا. ولا يصح أن يقال هذا الإطلاق من قبيل قولهم عالم العناصر وعالم الأفلاك وعالم الحيوان وعالم الإنسان. لأن هذه أقوال مجازية على سبيل التشبيه وأما إطلاقه عليهما فليس من باب التشبيه بعالم آخر فإن الدنيا والآخرة لو لم يكونا عالمين تامين فلا يكون في الوجود عالم تام لأن المجموع ليس منتظما في سلك واحد إلا بأن يكون أحدهما باطن للآخر والآخر ظاهره وهذا كلام آخر فيه غموض فإذا لم يكونا مع مباينة كل منهما الآخر في الوجود مما يشتملهما عالم آخر فلا محالة كل منهما عالم تام كما أطلق القول عليه في ألسنة الشريعة إن لله سبحانه عالمين الدنيا والآخرة. ومما يوضح القول بأن الآخرة ليست من جنس هذا العالم إن الآخرة نشأة باقية يتكلم فيه الإنسان مع الله وينظر إليه وهذه نشأة داثرة ذاتها بائدة أهلها هالكة ذووها لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم واختلاف اللوازم يدل على اختلاف الملزومات. وأما مكالمة الأنبياء مع الله مخاطبة سيد الرسل معه تعالى ليلة المعراج فهي من ظهور سلطان الآخرة على قلوبهم. ومما يدل على ذلك قوله تعالى: و ننشئكم في ما لا تعلمون فإنه صريح في أن النشأة الآخرة غير نشأة الدنياوية ولهذا
566 ليست معلومة إلا للكمل من الأولياء الذين انقلبت نشأتهم إلى تلك النشأة. وأما غيرهم فليس عنده من الآخرة وصورها الموجودة فيها إلا الألفاظ الموضوعة شرعا لأجلها من غير دلالتها لهم على خصوص معانيها إلا على الأمثلة البعيدة كما أخبر عنه سبحانه بقوله: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء هكذا في معالم التنزيل لمحيي السنة. وبالجملة فنحو وجود الآخرة غير نحو وجود الدنيا والدنيا والآخرة مختلفتان في جوهر الوجود ولو كانت الآخرة من جوهر الدنيا لم يصح أن الدنيا تخرب لأن الدنيا إنما هي دنيا بالجوهر ونحو الوجود لا بالتخصصات الشخصية والامتيازات العينية وإلا كل يوم دنيا أخرى لتبدل الأشكال والهيئات والمشخصات ولكان القول بالآخرة تناسخا ولكان المعاد عبارة عن عمارة الدنيا بعد خرابها. وإجماع العقلاء منعقد على أن الدنيا تضمحل وتفنى ثم لا تعود ولا تعمر أبدا. وأكثر أهل الظاهر والعباد والزهاد منهم من غير معرفة حقة إلهية يتصورون لذات الجنة ونعيمها من جنس نعيم الدنيا ولذاتها إلا أن تلك عندهم ألذ وأدوم ولهذا يطلبونها في عبادتهم ويكون هي غاية حركاتهم النسكية وباعث صلاتهم وصومهم واحتمائهم عن هذه اللذات الفانية لتصلوا إلى أدوم ما يتصورونه لذة ونعيما وأبقاه فهم بالحقيقة من طلاب الدنيا على وجه آكد وأشد من المكبين على هذه الشهوات الفانية وعند أنفسهم أنهم في طلب مرضاة الله والتقرب إليه. وإذا ثبت وتحقق أن الدنيا والآخرة متخلفان في الجوهر الوجود غير منسلكين في سلك واحد فلا وجه لطلب المكان للآخرة وأنها في أي جانب من هذا العالم. وصاحب الذوق يتفطن بهذا المعنى من اسم الدار وكفاه صارفا عن ذلك فإن الدار هي المكان والمكان لا يكون له مكان.
567 وهم وإزاحة بقي أن يقال إن إثبات المكان للجنة والنار مذكور في لسان الشريعة فكيف يمكن إنكاره لهما ونحن قبل الخوض في الجواب نمهد مقدمة هي أن بعض المعاني قد يكون حقيقية وقد يكون نسبية كالبياض مثلا فإن الحقيقي منه لا يختلف في الخواص والأحكام ولا يقبل الأشد والأضعف بخلاف الإضافي منه فإنه قد توجد فيه أحكام تخالف أحكامه الخاصة به عند كونه حقيقيا كتفريق البصر وغيره من حيثية أخرى غير حيثية كونه بياضا وكالعالي والسافل إذ كل منهما يقابل الآخر إذا كان حقيقيا. وإذا كان نسبيا فقط فكل منهما يتصف بمقابله من جهة أخرى. فإذا تمهدت هذه المقدمة نقول: قولنا: الجنة والنار لا يكون لهما مكان من هذه الدار المراد به أنهما عند كونهما حقيقيين لا يكونان كذلك وأما إذا كانتا إضافيتين أو كانتا بحسب بعض نشاتهما الجزئية فيمكن إثبات المكان لهما من جهة أخرى غير كونهما جنة ونارا حقيقيتين. وما أورد من إثبات مكان لهما في هذه الدار فهو حكم بعض نشاتهما الجزئية النسبية فإنهما متى أخذنا من حيث كون إحداهما علوا والأخرى سفلا يقال: الجنة فوق السماء السابعة والنار تحت الأرض السفلى. وإذا أخذنا من حيث بعض صفاتهما ودقائقهما فالجنة حيث يتبع النيل والفرات والنار حيث منبعث الحرور والزمهرير ولا يستحيل كونهما في أمكنة متعددة في حين واحد ولا في أمكنة ضيقة لأن حكم الإنشاء النسبي لا ينافي هذا فإن الشيء الواحد في حالة واحدة يمكن أن ينسب إلى أمور متخالفة باعتبار الوجود الإضافي دون الحقيقي. ويمكن أن يجامع مع ضده من هذه الحيثية كما أومأنا إليه كيف والمتضاد أن لا يكونان متضادين من جميع جهاتهما واعتباراتهما بل بحسب بعض الجهات والاعتبارات كالماء والنار فإنهما لا يتضادان من كل الوجوه بل يتوافقان من بعض الوجوه فمتى أنشأت النار أو أخذت من جهة من الجهات المتوافقة ككونهما موجودين في العقل
568 لم يمتنع اجتماعهما مع الماء وتحققهما فيه كما أشير إليه في قوله تعالى: أغرقوا فأدخلوا نارا. فإن قلت: نحن لا نفهم الإنشاء النسبي للجنة والنار. قلنا: ليس عندنا ما نفهمك حقيقة ما ذكرنا إلا هذه العبارات المجملة الواضحة معناها لمن هو أهله ومستحقه أو مثالا أو حكاية يزيدك إشعارا وتفهما وإن لم يزدك شعورا وفهما. أما المثال فكالمرآة في وجود الصور المحسوسة فيها لمن قابلها فكذلك حكم المظاهر الجزئية للجنة والنار فكما أن ما بين قبر الرسول ص وبين منبره روضة من رياض الجنة بالقياس إلى كشفه ص وشهوده إياها كمرآة مجلوة نشاهد الصور فيها لمن قابلها ضربا من المقابلة فكذلك بعض المواضع المذكورة بمنزلة المرائي المنكشفة فيها بالقياس إلى بعض أصحاب الكشف والشهود. وأما الحكاية فقد رأينا في بعض كتب التواريخ أن أحدا من الرجال دخل بستانا فرأى رأسا من رؤس الناس معلقة عن الأشجار مكان الثمار فقيل له: إنها رؤس ملائكة الذين اعتوروه واحد بعد واحد. فافهم إن كنت من أهل الفهم وإلا فأنت وشأنك والانسلاك مع أقرانك. تبصرة وتكملة ومما يجب أن يعلم أن الجنة التي كان فيها آدم وزوجته دون الجنة الآخرة التي وعد المتقون. لأن هذه لا يكون ظهورها إلا بعد بوار السماوات وانتهاء الدنيا. وبيان ذلك أنه لما كان المؤمن ابتداء حركة الرجوع إليه تعالى كان بين جنة البرزخ وجنة الأرواح وهي المسماة عند المحققين من أهل العرفان والشريعة موطن العهد ومنشأ أخذ الذرية مطابقة. لأن حركات الوجود نزولا كحركاته صعودا على التعاكس بين السلسلتين وكل مرتبة من أحدهما غير نظيرته من الأخرى لا عينها وإلا لزم حصول الشيء الواحد مرتين من حيثية واحدة. وقد أشارت الصوفية إلى هذا المعنى بقولهم:
569 $ $ $ $ إن الله لا يتجلى في صورة مرتين. وأيضا الثانية إنما هي نتيجة الأعمال الحسنة بخلاف الأولى ولذلك شبهت السلسلتان بقوسي الدائرة إشعارا بأن الحركة الثانية رجوعية انعطافية لا استقامية فافهم. فصل في ذكر بعض الأحاديث الواردة في الشريعة الناموسية الدالة على إثبات الأمكنة للجنة والنار على الوجه الذي مر بيانه تتميما للتبصرة وتكميلا للهداية إلى مرتبة وجودهما وحكم نشاتهما الإضافيتين ليقاس بهما حال وجودهما ونشئاتهما الحقيقيتين. فمنها ما ورد في طريقة أصحابنا الإماميين ومشايخنا الأقدمين رحمهم الله. فقد روى محمد بن يعقوب الكليني في الكافي عن ابن رئاب عن ضريس الكناسي قال سألت أبا جعفر ع عن الناس يذكرون أن فراتنا يخرج من الجنة وكيف وهو يقبل من المغرب ويصب فيه العيون قال فقال أبو جعفر ع وأنا أسمع إن لله جنة خلقها في المغرب وماء فراتكم هذه يخرج منها وإليها يخرج أرواح المؤمنين من حفرهم كل مساء فيسقط على أثمارها وتأكل وتتنعم فيها وتتلاقى وتتعارف وإذا طلع الفجر هاجت من الجنة فكانت في الهواء فيما بين السماء والأرض يطير ذاهبة وجائية وتعهد حفرها إذا طلعت الشمس وتتلاقى في الهواء وتتعارف. قال: وإن لله نارا في المشرق خلقها ليسكنها أرواح الكفار ويأكلون من زقومها ويشربون من حميمها ليلهم فإذا طلع الفجر هاجت إلى واد باليمن يقال له برهوت أشد حرا من نيران الدنيا كانوا فيها يتلاقون ويتعارفون وإذا كان المساء عادوا إلى النار فهم كذلك إلى يوم القيامة. قال قلت: أصلحك الله ما حال الموحدين المقرين بنبوة محمد ص من المسلمين المذنبين الذين يموتون وليس لهم إمام ولا يعرفون ولايتكم. فقال: أما هؤلاء فإنهم في حفرهم لا يخرجون منها فمن كان منهم له عمل صالح ولم يظهر منه عداوة فإنه يخد له خدا إلى الجنة التي خلقها الله بالمغرب فيدخل عليه منها الروح في حفرته إلى يوم القيامة فيلقى الله تعالى
570 فيحاسبه بحسناته وسيئاته فإما إلى الجنة أو إلى النار فهؤلاء موقوفون مرجون لأمر الله. قال: وكذلك يفعل الله بالمستضعفين والبله والأطفال وأولاد المسلمين الذين لم يبلغ الحلم. فأما النصاب من أهل القبلة فإنهم يخد لهم خدا إلى النار التي خلقها الله في المشرق فيدخل عليهم فيها اللهب والشرر والدخان وفورة الحميم إلى يوم القيامة ثم مصيرهم إلى الجحيم ثم في النار يسجرون ثم قيل لهم أينما كنتم تدعون من دون الله. وروى أيضا في كتاب الكافي عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله ع إنا نتحدث من أرواح المؤمنين أنها في حواصل طير خضر ترعى في الجنة وتأوى إلى قناديل تحت العرش فقال ع: لا إذن ما هي في حواصل طير قلت فأين هي قال: في روضة كهيئة الأجساد في الجنة. وفيه أيضا عن أبي عبد الله ع قال: قال رسول الله ص: شر اليهود يهود بنان وشر النصارى نصارى نجران وخير ماء على وجه الأرض ماء زمزم وشر ماء على وجه الأرض ماء برهوت وهو واد بحضرموت يرد عليه هام الكفار وصداهم. وأما ما في سائر الطرق وأكثر تلك الأخبار يدل على أن الجنة في السماء. قال مجاهد في قوله تعالى: و في السماء رزقكم و ما توعدون هو الجنة والنار ومثله عن الضحاك. ويروى عن عبد الله بن سلام أنه قال: أكرم خلق الله أبو القاسم وإن الجنة في السماء. وأما أنها في أي سماء فالمشهور أنها في السماء السابعة وهو المروي عن ابن عباس. قال مجاهد: قلت لابن عباس أين الجنة قال: فوق سبع سماوات قال: قلت أين النار قال: تحت أبحر مطبقة. وهذا ما يدل عليه ما روي في حديث المعراج الثابت في صحاحهم أن السدرة المنتهى في السماء السابعة إذ نزل في الكتاب المجيد و لقد رآه نزلة أخرى عند سدرة
571 المنتهى عندها جنة المأوى. عن عبد الله بن مسعود قال: الجنة في السماء الرابعة فإذا كان يوم القيامة جعلها الله حيث يشاء. وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال: الجنة مطوية معلقة بقرون الشمس ينشر في كل عام مرة وإن أرواح المؤمنين في طيور كالذراري يتعارفون يرزقون من ثمرة الجنة. ويقرب من هذا كلام بعض القدماء من أهل الحكمة أن الأرواح تهبط إلى هذا العالم مع أشعة الشمس. وفي بعض الأخبار ما يدل على أنها في السماء الدنيا. وذلك ما يروى في حديث المعراج أنه ص رأى في السماء الدنيا آدم أبا البشر ع كان عن يمينه باب يأتي من قبله ريح طيبة وعن شماله ريح منتنة فأخبره جبرئيل ع أن أحدهما الجنة والآخرة هو النار. وفي بعض الأخبار أيضا ما يدل على أنها في بعض أودية الأرض. وذلك ما يروى أيضا في حديث المعراج أنه ص بلغ قبل انتهائه إلى بيت المقدس واديا وجد ريحا باردا طيبة وسمع صوتا فقال له جبرئيل هذا صوت الجنة يقول كذا. ومن الأخبار ما يدل أيضا على أن بعض الجنة في الأرض كحديث ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة وفي رواية بيتي بدل قبري وفي رواية ومنبري على حوض. وما روي عن جعفر بن محمد ع في طريقي العامة والخاصة يؤيد هذا حيث قال: إن في جبل أروند عينا من عيون الجنة وجبل أروند يقرب من همدان وبقرب من هذا ما اشتهرت رواية عن النبي أنه قال: ما من رمان أو حبة إلا وفيه وفيها قطرة من ماء الجنة. ومن الأخبار ما يدل على أن للنار والجنة كينونة في الأرض في بعض الأوقات والساعات كما روي من حديث يوم الكسوف إذ روي أنه قال ص: ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه لقد جيء بالنار وذلك حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من نفحها... الحديث إلى أن قال: ثم جيء بالجنة وذلكم حين رأيتموني
572 تقدمت حتى قمت في مقامي ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه ثم بدا إلي أن لا أفعل هذا الحديث مما رواه محمد بن مسلم في كتابه. وحكى بعضهم أنه لما رأى ص جهنم وهو في صلاة الكسوف جعل يتقي حرها من وجهه بيده وثوبه ويتأخر عن مكانه ويتضرع ويقول ألم تعدني يا رب أنك لا تعذبهم وأنا فيهم حتى حجبت عنه. أراد قوله تعالى و ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون. وروي أيضا عن بعضهم أنه ص صلى لنا يوما الصلاة ثم رقى المنبر فأشار بيده قبل قبلة المسجد فقال: قد رأيت الآن مذ صليت لكم الصلاة الجنة والنار ممثلتين في قبل هذا الجدار فلم أر كاليوم في الخير والشر. رواه البخاري. وأما النار فالمشهور في ألسنة الجمهور أنها في الأرض السابعة. ومن الأخبار ما يدل على أنها في السماء كما ذكرنا عن مجاهد والضحاك في تفسير قوله و في السماء رزقكم و ما توعدون وكما يروى في حديث المعراج أنه ص رأى في السماء الدنيا مالكا خازن النار وفتح له طريقا من طرق النار لينظر إليه حتى أرتقي إليه من دخانها وشررها وما عن يساره من الباب. ومن الأخبار ما يدل على أنها في البحر. منها ما روي عن أمير المؤمنين ع أنه سأل يهوديا أين موضع النار في كتابكم قال: في البحر قال ع: ما أراه إلا صادقا لقول تعالى: و البحر المسجور. ويروى أيضا في التفاسير أن البحر المسجور هو النار. ومنها ما روي عن بعض علماء العامة في مستنده عن رسول الله ص أنه قال البحر هو جهنم. ومنها ما يروي عبد الله بن عمر قال قال رسول الله: لا يركبن رجل بحرا إلا غازيا أو
573 متعمرا فإن تحت البحر نارا أو تحت النار بحرا. ومنها ما أورده الثعلبي في تفسيره عن رسول الله ص قال البحر نار في نار. ومنها ما مر ذكره نقلا عن مجاهد عن ابن عباس أن النار تحت سبعة أبحر مطبقة قال بعض العلماء: إن هذه الأبحر السبعة المذكورة في كلام ابن عباس هي ما يروى عن كعب الأحبار أنه قال: خلق الله تعالى سبعة أبحر بحر اسمه قيس ومن ورائه بحر اسمه الأصم ومن ورائه بحر اسمه مطبقة ومن ورائه بحر اسمه مرهاس ومن ورائه بحر اسمه الساكن ومن ورائه بحر اسمه الباكي وهو آخر البحار محيط بالكل وكل واحد من هذا البحار محيط بالذي تقدمه. ومنها ما روي عن بعض السلف في قوله تعالى يستعجلونك بالعذاب و إن جهنم لمحيطة بالكافرين قال جهنم هو البحر وهو محيط بهم ينشر فيه الكواكب ثم يستوقد ويكون هو جهنم. ومنها ما يروى عن ضحاك في قوله تعالى: أغرقوا فأدخلوا نارا هي في حالة واحدة في الدنيا يغرقون من جانب ويحترقون من جانب. والمنقول في هذا كثيرة وقد كان شبه هذه الأخبار المنقولة عن الشريعة في كلام قدماء أساطين الحكمة وعظماء الفلسفة دون متأخريهم المقنعين على طريقة البحث من دون التأله والرجوع إلى حامل الوحي والكتاب. قال سقراط معلم أفلاطون الإلهي: وأما الذين ارتكبوا الكبائر فإنهم يلقون في طرطاووس ولا يخرجون منه أبدا. وأما الذين ندموا على ذنوبهم مدة عمرهم وقصرت آثامهم عن تلك الدرجة فإنهم يلقون في طرطاووس سنة كاملة يتعذبون ثم يلقيهم الموج إلى موضع ينادون منه خصومهم يسألونهم للإحضار على القصاص لينجوا من الشرور فإن رضوا عنهم وإلا
574 أعيدوا إلى طرطاووس ولم يزل ذلك دأبهم إلى أن يرضى عنهم خصومهم. والذين كانت سيرتهم فاضلة يتخلصون من هذه المواضع من هذه الأرض ويستريحون من المحابس ويسكنون الأرض النقية. يدل على التهاب النيران فيه وكأنه يعني به البحر أو قاموسا فيه دردور. قال المترجم: طرطاووس شق كبير وأهوية تسيل إليه الأنهار. على أنه يصفه بماء ومن الأخبار ما يدل على أنها في هذه الأرض بعينها كحديث وادي الذي ذكرناه من قبل. ومن الأخبار ما يدل على أن بعض جهنم في الأرض كما روي عن قتادة في قوله تعالى: أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم قال والله ما تنهار أن وقع في النار. وروي عن جابر بن عبد الله قال رأيت الدخان يخرج من أرض ضرارة ويقال إنه حضرموت بقعة منها. ويقرب من هذا حديث برهوت المروي عن أمير المؤمنين ع قال: أبغض البقاع إلى الله وادي برهوت فيه أرواح الكفار وفيه ماؤه أسود منتن يأوي إليه أرواح الكفار. وذكر رجل أنه بات في وادي برهوت فسمع طول الليل يا دومة فذكر ذلك رجل من أهل العلم فقال الملك الموكل بأرواح الكفار اسمه دومة. وحكى الأصمعي عن رجل من حضرموت أنه قال نجد من ناحية برهوت رائحة فظيعة منتنة جدا فيأتينا بعد ذلك خبر موت عظيم من علماء الكفار. وبعض هذه الأخبار وإن كانت في أرواح الكفار من غير تعرض بذكر النار إلا أنه متى ضممناها إلى قوله تعالى: النار يعرضون عليها غدوا و عشيا استصحبت في الحكم النار على وجه أظهر والله أعلم. ومن الأخبار ما يدل على أن لها كونا في ظاهر الأرض في بعض الأوقات
575 كحديث الكسوف الذي سبق ذكره. ومنها ما يدل على النار مع الجنة حيث قال المفسرون في قوله تعالى: فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة و ظاهره من قبله العذاب هو حائط بين الجنة والنار. قال بعض المفسرين: بين الجنة والنار كوى فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو له في الدنيا اطلع من تلك الكوى كما قال تعالى فاطلع فرآه في سواء الجحيم فإذا اطلعوا من الجنة إلى أعدائهم وهم يعذبون في النار ضحكوا فذلك قوله تعالى: فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون. لمعة تنبيهية هذه الأخبار والروايات ظواهرها متناقضة على علماء الرسوم وباطنها متوافقة عند العارفين لابتناء معانيها عندهم على أصول صحيحة ومقدمات كشفية لم يشكوا فيها ويشكون في الشمس رابعة النهار. بخلاف غيرهم. فإنهم حيث لم يأتوا البيوت من أبوابها تناقضت عليهم الأحكام وتعاندت بينهم مقاصد الكلام ولم يتصالحوا على رأي ولم يتوافقوا في حكم فأصبح كل منهم مناقضا للآخر وأصبحت مؤلفاتهم معارك الآراء المتناقضة ومصادم الأهواء المتصادمة بل كثيرا ما يكون واحد منهم يناقض نفسه في مجلس واحد وقد لا يشعر به. فصل في بيان الموت حق والبعث حق قد علمت من تضاعيف ما تلوناه عليك أن لكل شيء حركة جبلية وتشوقا طبيعيا إلى جانب القدس ودينا جبليا وطريقة فطرية 0 الخير والكمال وعبودية ذاتية
576 في طلب القرب إلى الله تعالى سواء ذلك مشعورا به له أم لا وهذا المعنى مشاهد للعرفاء في أكثر الأشياء وخصوصا في الإنسان لكونه أشرف الأنواع الواقعة تحت الكون والفساد. فإن كل من له أدنى تحدس يجد أنه من لدن حدوثه وحداثته إلى كهولته وشيخوخته له انتقالات فطرية وتغيرات طبيعية يتوجه بها إلى ما هو الوجهة الكبرى مع قطع النظر عن تحصيله واكتساب الكمالات والسعادات عقلا وشرعا وعن أضدادها من النقائص والشقاوات أيضا كذلك. وتلك الانتقالات والتغيرات هي بحسب الباطن وباطن الإنسان هو نفسه الناطقة التي لا قوام لها في ذاتها في أول تكونها بغير البدن الذي هو بمنزلة مركب لوجودها لغاية ضعفها وقلة قوامها في أول التكون وأول ما اقتضت النفس وتوجهت إليه هو تكميل نشأتها الحسية وتعمير مملكتها ومعسكر جنودها التي هي البدن وقواه وجميعها تكون من أهل هذا العالم. ثم إذا كملت هذه النشأة لها وعمرت هذه المملكة وقويت جنودها أخذت في تحصيل نشأة ثانية لها وتوجهت إلى عالم آخر ومنزل أقرب إلى بارئها ومبدئها وهكذا يتدرج في تكميل ذاتها وتعمير باطنها. فكلما ازدادت في تقوية جوهرها المعنوي نقصت في صورتها الظاهرية وضعفت قواها الحسية وانكسرت جنودها التي هي أشخاص عالم الحسي لعدم توجهها الطبيعي إلى جنسيتها وقلة رغبتها الجبلية إلى تقويتها لكونها في السفر والسلوك نحو عالمها الباطني ونشأتها الروحاني فإذا انتهت في سيرها إلى عتبته باب من أبواب الآخرة التي يكون عند الاحتضار وهي نهاية السفر إلى الآخرة وبداية السفر فيها عرض لها الموت في هذه الدار وهو عبارة عن الولادة في الدار الآخرة. وقد مر أن نفس الإنسان ناقصة في أول تكونها كالجنين فتربى وتتكمل في هذه النشأة كما يتربى الجنين في بطن أمه. فثبت بهذه المقدمات أن الموت طبيعي للنفس وكل طبيعي لشيء خير وتمام فكل خير وتمام فهو حق له فالموت حق للنفس الناطقة. فأما الهلاك والفساد الذي يطرأ البدن فإنما له بالعرض لا بالذات فهو من باب الشرور الواقعة بالعرض لأجل رعاية جانب النفس لكونها أشرف من البدن. فالعدالة
577 الإلهية يقتضي رعاية ما هو الأشرف والأفضل وهو النفس التي يكون موت البدن حياتها وتمامها. على أنك لو نظرت حق النظر إلى البدن بما هو بدن لعلمت أن إنيته وذاته إنما يكون بالنفس فإذا انقطع النظر عن النفس لم يبق للبدن من إنيته وحقيقته إلا العناصر والأجزاء البسيطة والهيولى وهي بحالها. وقال بعض العرفاء: إن الموت أثر تجلي الحق لموسى النفس الناطقة فيندك جبل البدن لكونه من عالم الملك وتجليه تعالى إنما يكون في عالم الملكوت للنفس الناطقة التي قويت نسبتها إلى ذلك العالم فعند ما قويت بشيء بجهة الروحانية والملكوتية اضمحلت منه جهة الجسمانية والملكية لأنهما ضدان والدنيا والآخرة ضرتان لا تجتمعان. فإن قلت: لو كانت النفوس متوجهة بحسب جبلتها نحو الآخرة فلم جعل في طبعها ما يضاد ذلك وهو كراهة الموت وبغض الفناء والعدم. قلت: إن الله جعل لواجب حكمته في طبع النفوس محبة الوجود والبقاء وجعل في جبلتها كراهة العدم والفناء وهذا حق للنفس جبلي لها لكون الوجود خيرا صرفا ونورا محضا وبقاء خيرية الخير ونورية النور والطبيعة لم يفعل شيئا باطلا. فعلم من هذا أن شهوة النفوس للبقاء وكراهتها للفناء ليست إلا لحكمة وغاية وهي طلب بقائها الأخروي واتصالها بعالم الملكوت الذي هو عالم الدوام والبقاء. فمحبة مطلق الوجود وكراهة مطلق العدم مرتكزة في طبع النفوس وذاتها بحيث أودعها الله تعالى فيها. وحيث تيقن أن بقاءها ودوامها في هذه النشأة الحسية أمر مستحيل فلو لم يكن لها نشأة أخرى ينتقل هي إليها لكان ما ارتكز في النفس وأودع في جبلتها من جهة البقاء السرمدي والحياة الأبدية باطلا ضائعا ولا باطل في الطبيعة على ما قالته الحكماء قولا حتما.
578 فأما كراهة النفس لموت الجسد الذي هو عائق عن حياتها السرمدية وبقائها الأبدي والسبب في ذلك مع ما ارتكز فيها من التوجه الجبلي لها إلى الدار الآخرة والحركة الذاتية إلى القرب من الله تعالى والاجتناب عن عالم الظلمات والحجب الجسمانية فإن التجسم عين الحجاب والغفلة والنوم والجهل كما أشرنا إليه بوجه لطيف. فنقول في كراهة الموت الطبيعي من الروح النطقي سببان أحدهما فاعلي والآخر غائي. وأما السبب الفاعلي فهو أن النفس كما مر لها نشئات ثلاثة حسية وخيالية وعقلية. فأول نشئاتها نشأة الحس ولها الغلبة على الإنسان ما دامت هذه الحيات الحسية باقية له فيجري أحكامها على النفس في هذه الدار ويؤثر فيها من هذه الجهة كلما يؤثر في الجوهر الحاس وفي الحياة الحسي من الملائمات والمنافيات الحسية (في الحيوان الحسي خ). ولهذا يتألم ويتضرر ويتفرق الاتصال والاحتراق بالنار وسائر المنافيات الحسية لا من حيث كونها جوهرا ناطقا وذاتا عقلية ذات نشأة روحانية وعالم ملكوتي بل من حيث كونها جوهرا حساسا ذا نشأة حسية وعالم دنياوي. فتوحشها من الموت البدني وكراهتها للعدم الحسي إنما يكون لها بحصة من هذه النشأة الطبيعية. وأما ما يقتضيه العقل التام وقوة الباطن وغلبة سلطان الملكوت والتشوق إلى الله تعالى ومجاورة ملكوته ومقربيه فهو محبة الموت الطبيعي والوحشة عن حياة هذه النشأة ومشاهدة حيوانات الدنيا. فإن وحشة أهل الباطن عن مجاورة أحياء هذا العالم أشد من وحشة الإنسان الحي عن مجاورة الأموات بكثير. وأما السبب الغائي والحكمة في كراهة الموت فهو أن إرادة الله وقصده في إبداع الألم في جبلة الحيوانات والوجع والخوف في طباعها عما يلحق أبدانها من الآفات
579 العارضة والعاهات الواردة عليها وخصوصا الموت ليس من باب العقوبة كلها كما ظنته التناسخية بل حثا لنفوسها على حفظ أبدانها وكلاية أجسادها وصيانة هياكلها من الآفات العارضة لها. إذ الأجساد لا شعور لها في ذاتها ولا قدرة على جر منفعة إليها ولا دفع مضرة منها فلو لم يكن ذلك لتهاونت النفوس بالأجسام وخذلتها وأسلمتها إلى المهالك قبل فناء أعمارها وانقضاء آجالها ولهلكت دفعة واحدة في أسرع مدة قبل تحصيل نشأة أخرى للنفس وتعمير الباطن. وذلك ينافي المصلحة الكلية والحكمة الكمالية.
580 فصل في أن الحساب والميزان والصراط حق لعلك قد تفطنت من الأصول المتقدمة أن كل مكلف يرى يوم الآخرة ما عمله من خير أو شر محضرا ويصادف كل دقيق وجليل من أفعاله الحسنة أو القبيحة مستطرا في كتاب لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها و وجدوا ما عملوا حاضرا و لا يظلم ربك أحدا ويعرف أيضا كل واحد مقدار عمله بمعيار صحيح صادق يعبر عنه بالميزان وإن لم يساو ميزان العلوم والأعمال ميزان الأجسام الثقال كما لا يساوي الأسطرلاب الذي هو ميزان المواقيت والمسطرة والفرجار والشاقول التي هي موازين الأبعاد والمقادير والعروض الذي هو ميزان الشعر والذوق السليم الذي هو ميزان بعض المعاني وسائر الموازين. نعم ميزان كل شيء يجب أن يكون من جنس ذلك الشيء كما لا يخفى. ثم يحاسب الناس يوم القيامة على أقوالهم وأفعالهم وسرائرهم وضمائرهم وأفكارهم وعقائدهم ونياتهم مما أبدوه أو أخفوه وإنهم يكونون متفاوتين فيه إلى مناقش في الحساب وإلى مسامح وإلى من يدخل الجنة بغير حساب. فصل في أن الجنة والنار حق وفي إبطال رأي أصحاب الظنون والأوهام اعلم أن لله تعالى عالما آخر غير هذا العالم كما مر وهو عالم الآخرة وعالم الباطن وعالم الغيب وعالم الملكوت. وهذا العالم عالم الدنيا وعالم الظاهر وعالم الشهادة والملك والخلق. ولما كان الإنسان في مبدإ خلقته ناشيا عن مواد هذا العالم الأسفل وله الارتقاء والتوجه إلى العالم الآخرة فبالضرورة لا بد له من المسافرة من مسقط رأسه إلى عالم الغيب. فالله تعالى برحمته وعنايته خلق الأنبياء ع وبعثهم ليكونوا هداة الخلق إلى معادهم وقوادهم في السفر إليه تعالى كرؤساء القوافل وأنزل عليهم الكتب لتعليمهم كيفية السفر والارتحال وأخذ الزاد والراحلة وكيفية الحال عند الوصول إلى منزل الآخرة المعبر عنها بالنبإ العظيم وقوله تعالى: عم يتساءلون عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون. فإن سر القيامة من الأسرار العظيمة التي لم يجوز للأنبياء كشفها لأنهم كانوا أصحاب الشريعة يسئلونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها إنما أنت منذر من يخشاها. يوم القيامة يوم الجزاء والثواب بلا عمل والشريعة يوم العمل بلا ثواب. وبوجه آخر الشريعة هي الطريق والمشرع العام والقيامة هي الغاية والمقصد. فصاحب الشريعة يقول: ما أدري ما يفعل بي و لا بكم ولما علمت وتحققت أن الخلق مأمورون بسلوك طريق الآخرة والسالك لا بد فيه أثرا من المقصود والغاية يتوجه إليه ويسلك نحوه. وذلك الأثر هو المعرفة وينبعث الشوق الإرادي والجبلي ألا ترى أن الإنسان ما لم يكن عارفا بالحق لا يمكن سلوكه إليه والعارف ما لم يكن محبا للحق لا يمكن سلوكه أيضا. فالشوق والمحبة ضرب من
581 الوصول وكماله هو الحشر مع المحبوب المرء يحشر مع من أحب. وللمعرفة درجات مختلفة الظن والعلم والإبصار أي المشاهدة الباطنية. الظن في هذه النشأة الأولى والعلم في نشأة الثانية والمشاهدة فيما فوقها. فحال الإنسان ما دام كونه في الدنيا أو من حيث كونه في الدنيا ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم. أهل دنيا كافران مطلقند * روز وشب در جق جق ودر وقوقند وحاله في الآخرة ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه. وبوجه آخر العلم في الدنيا والمشاهدة في الآخرة كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين. فالأثر الذي يصل أولا إلى السالك من مطلوبه هو الإيمان بوجوده ووجوبه والأثر الثاني هو الإيقان والتحقيق والمشاهدة إن هذا لهو حق اليقين. فما أشد سخافة رأي أهل الظن والتخمين حيث يزعمون يوم القيامة بعيدا عن الإنسان بحسب الزمان وما أظن الساعة قائمة وبحسب المكان و يقذفون بالغيب من مكان بعيد. وأما أهل العلم واليقين فيعدونه قريبا بحسب الزمان اقتربت الساعة. أو بحسب المكان و أخذوا من مكان قريب يوم يرونه بعيدا و نراه قريبا. وكان نبينا ص يشاهد خازن الجنة ويناول بيده من ثمارها وفواكهها ولم يحكم بكون حارثة مؤمنا حقيقيا ما لم يكن مشاهدا للأمور الأخروية وأحوالها إذ قال: أصبحت مؤمنا حقا قال ص لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك قال:
582 رأيت أهل الجنة يتزاورون ورأيت أهل النار يتعاورون ورأيت عرش ربي بارزا. قال ص: أصبت فالزم. فإذا ثبت وتحقق ما ذكرناه اتضح واستبان منه فساد بعض من المذاهب السخيفة والآراء الباطلة في هذا الباب مثل رأي من زعم أن الجنة والنار لم توجدا بعد ولا توجدان إلا بعد بوار العالم وهلاك السماوات ولم يعلموا أن هذا الاعتقاد يبعد صاحبه عن طريق الآخرة ويقلل رغبته في ثواب الأعمال وجزاء إحسانه ويقلل خوفه ورهبته من عقوبة معاصيه وسيئاته. وإليه أشار بقوله تعالى إنهم يرونه بعيدا و نراه قريبا وبقوله أولئك ينادون من مكان بعيد. وكذا رأي من يرى ويعتقد خلود أهل الكبائر في النار وانسداد رحمة الله وانقطاع غفرانه عن المجرمين. ولم يعلموا أن الرحمة واسعة والمغفرة سابقة والقصور منا. ولم يتفطنوا بأن هذا الرأي مما يقنط به الإنسان من رحمة الله تعالى ويقلل الرغبة والرهبة في نعيم الجنان وعذاب النيران. وقلة الرغبة والرهبة يبعد الطريق إلى الله تعالى وملكوته على الطالبين له والقاصدين نحوه والمرغبين في لقائه. وكل اعتقاد ومذهب ينافي رحمة الله وهدايته ويبعد الطريق إليه سبحانه فهو باطل لا محالة فإن ذلك تنافي وضع الشرائع وتضاد إرسال الرسل وإنزال الكتب إذ الغرض من جميعها ليس إلا سياقة الخلق إلى جوار رحمة ربهم بأقرب طرق وأيسر وجه. ومن الآراء السخيفة أيضا اعتقاد أكثر الناس أن أجسام أهل الجنة أجسام لحمية وأجساد طبيعية مثل أجساد أهل الدنيا مركبة من أخلاط أربعة قابلة للاستحالات والتغيرات معروضة للآفات. وإذا تأملوا فيما وصف الله تعالى من صفات أهل الجنة ظهر فساد هذا الرأي وذلك قول الله سبحانه لا يمسهم فيها نصب ولا يذوقون
583 فيها الموت إلا الموتة الأولى وإنهم خالدون فيها فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون. وما شاكل هذه الصفات التي لا يليق بالأجسام والأبدان الخليطة ولا يليق بالعقلاء أن يعتقدوا فضلا عن أقوال الأفاضل بل بالنساء والصبيان والجهال والعامة. فإن هذا الرأي جيد لهم يليق بأفعالهم ويصلح لهم ويقرب عن عقولهم. واعلم أن من علامة حقيقة الاعتقادات أن لا يقع فيها تناقض وتخالف وأكثر آراء المجادلين وطائفة من الكلاميين والمتشبهين بالعلماء يكون بحيث إذا عرضه صاحبه على عقله أنكره عليه ويجده مناقضا لسائر اعتقاداته وأصوله. فيقع عند ذلك في شك وحيرة وسوء ظن بربه وتخيلات فاسدة ولا يجد في العالم أسوأ الناس مذهبا وأسخف الخلق وأرداهم رأيا وأشد التاجرين خسرانا. فمن يعتقد أمرا ويكون عقله منكرا عليه ونفسه مرتابة وظنه سيئا بربه كما قال الله تعالى و ذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين. ومن جملة ما ذكرنا في الرداءة والسخافة رأي من يعتقد بأن الله تعالى خلق خلقا ورباه وأنماه وأنشأه ومكنه وقواه وسلطه على عباده متمكنا من بلاده ثم ناصبه العداوة والبغضاء وخلق له أتباعا وجنودا وهم يفعلون ما يريدون على رغم منه وعداوة له وهو الجاعل لهم المشية والاستطاعة وطول العمر والمهلة وسعة الرزاق والنعمة. بل الحق كما أشرنا إليه أن كل أحد من الخلائق وإن كان من الأشقياء والمردودين مما نالته رحمته تعالى ووصلت إليه رأفته ولطفه له أيضا توجه غريزي إليه تعالى ودين جبلي وإطاعة فطرية لمبدئه وخالقه وإن لم يكن مشعورا به له على نحو يدق إدراكه عن أفهام أكثر الناس. وصاحب هذا الرأي إذا فكر في أمر إبليس وجنوده وما نسب إليهم من مخالفتهم وعداوتهم لله تعالى امتلأ قلبه منهم غيظا وناصبهم العداوة والبغضاء ويحصل
584 في نفسه ملكة العداوة ويرسخ فيها خلق الغضب وشهوة الانتقام طول الأيام حتى أنه لغاية جهله يكون أكثر شغله وأهم مآربه وأرجح حسناته عنده هو عداوة المخالفين لدينه وأفضل قرباته خصومته إياهم حتى لو قدر على قتلهم وأمكنه قطع أرزاقهم فعل ذلك من شدة غيظه وإذا لم يقدر على ذلك بقي طول عمره مغتاظا مغتما متألمة نفسه معذبا قلبه. ومع كونه على هذا الحال من خدمته لقوة غضبه وطاعته شهوة نفسه يمن على الله ورسوله منا عظيما بحسب ضميره وإن لم يتنطق به لسانه من باب كسر النفس وعدم رؤية العمل كما هو دأب الصالحين عملا بشعارهم على ظنه. ولكن يتوقع في ذلك بحسب الباطن أجرا عظيما. وكثيرا ما ينظر نظر الحقارة على من ليس كذلك من أهل مذهبه ويعده من ضعفاء الإيمان والمستضعفين. وذلك لأنه ترك العربدة والخصومة مع المخالفين له في الدين وربما تحير في خلق الله تعالى الشياطين والكفرة والعصاة وتربيته إياهم وتوسعة رزقهم وتمكينهم فيما يفعلون وإمهاله لهم مدة في كفرهم وعصيانهم. وربما عاتب ربه في الضمير وخاصمه في السر لو لم يكن خائفا من ناره لم خلقهم ورزقهم ورجاهم ومكنهم وسلطهم على الأولياء ولما ذا وكيف وما شاكل ذلك من هذه الوساوس والظنون المولمة للنفوس المعذبة للقلوب وأكثر هذه الأوهام والوساوس يعرض للجهال والمتشككين والنفوس السقيمة والقلوب المريضة بأسقام الجهالات والاعوجاجات عن المسلك القويم وأمراض الأخلاق الذميمة والانحرافات من الصراط المستقيم. وإنما ذكرنا هذا ليعلم أن بإزاء هذه الآراء واعتقادات الردية المولمة لنفوس معتقديها المتعذبة لقلوب أصحابها آراء واعتقادات هي أغذية روحانية ملذذة للأرواح والنفوس ومبشرة للقلوب وهي آراء أولياء الله تعالى واعتقاد الخلص من عباده الصالحين ومذهب الربانيين الذين أسلموا لربهم ولم يشركوا معه لا سرا ولا علانية. وهم الذين صفت نفوسهم من دون شهوات الجسمانية وطهرت أخلاقهم من العادات الردية ونقيت عقولهم من الجهالات والآراء الفاسدة وصانوا جوارحهم من لأعمال السيئة وألسنتهم عن الفحشاء والمنكر وذكر مساوي الناس ولم يعترضوا على الله في شيء
585 من تدبير خلقه لا إسرارا ولا إعلانا لا يضمرون لأحد من الخلق سوءا ولا معاداة والحدس يحكم بأن هؤلاء أهل الجنة كما وصفهم الله تعالى و عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما. والغرض من ذكر هذا الكلام هاهنا أن من أشكل عليه تحقق العلاقة والمناسبة الذاتية بين الأمر الذي يسمى بالذنب والمعصية في عالمنا هذا وبين الاحتراق بالنار والتعذيب بالجحيم والزقوم وتصلية جحيم وكذا بين المسمى بالطاعة والعبادة وبين الجنة والرضوان والتنعم بالفواكه والحور والغلمان وسائر الموذيات الجحيم وملذات الجنة والنعيم. فليعلم أن هذه الأفعال المحمودة التي هي الطاعات إنما يراد لأجل اكتساب الأخلاق الحسنة وكذلك الأفعال المذمومة إنما يترك لأجل أنها ينجر إلى الأخلاق السيئة. فالغرض من الأعمال أفعالا كانت أو تروكا إنما هو تحسين الأخلاق والملكات وتبديل السيئات بحسنات بتوفيق من الله تعالى وتأييد منه كما قال في حق الخلص من عباده: فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات. وكما أن في الدنيا كل صفة يغلب على باطن الإنسان ويستولي على نفسه بحيث يصير ملكة لها يوجب صدور أفعال منه مناسبة لها بسهولة يصعب عليه صدور أفعال أضدادها غاية الصعوبة وربما بلغ ضرب من القسم الأول حد اللزوم وضرب من الثاني حد الامتناع لأجل رسوخ تلك الصفة. لكن لما كان هذا العالم دار الاكتساب والتحصيل قلما يصل الأفعال المنسوبة إلى الإنسان الموسومة بكونها بالاختيار في شيء من طرفيها حد اللزوم والامتناع بالقياس إلى قدرة الإنسان وإرادته دون الدواعي والصوارف الخارجية لكون النفس متعلقة بمادة بدنية قابلة للانفعالات والانقلابات من حالة إلى حالة. فالشقي ربما يصير بالاكتساب سعيدا وبالعكس بخلاف الآخرة فإنها ليست دار الاكتساب والتحصيل كما أشير إليه بقوله تعالى لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها
586 خيرا. وكل صفة بقيت في النفس ورسخت فيها وانتقلت معها إلى الدار الآخرة صارت كأنها لزمتها ولزمت لها الآثار والأفعال الناشية منها بصورة يناسبها في عالم الآخرة والأفعال والآثار التي كانت تلك الصفات مصادر لها في الدنيا وربما تخلفت عنها تلك لأجل العوائق والصوارف الجسمانية الاتفاقية. لأن الدنيا دار تعارض الأضداد وتزاحم المتمانعات بخلاف الآخرة لكونها دار الجمع والاتفاق لا تزاحم ولا تضاد فيها. والأسباب هناك أسباب وعلل ذاتية كالفواعل والغايات الذاتية دون العرضية. فكلما يصلح أثر الصفة النفسانية لم يتخلف عنها هناك كما يتخلف عنها هاهنا لمصادمة مانع له ومعاوقة صارف عنه إذ لا سلطنة هناك للعلل العرضية والأسباب الاتفاقية ومبادي الشرور بل الملك لله الواحد القهار فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول يوم لا تملك نفس لنفس شيئا و الأمر يومئذ لله يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه... فما تنفعهم شفاعة الشافعين. أي العلل الاتفاقية. وإذا تحققت هذه الأصول وثبت أن لكل ملكة نفسانية ظهورا خاصا في كل موطن وأثرا مخصوصا في كل قابل بل لكل صفة جسمانية أو روحانية إذا قارنت قابلا أثرت في ذلك القابل أمرا يناسبه. فإن كل قابل يقبل من جهة واحدة شيئا على حسب طباعه. أو لا يرى أن الجسم الرطب متى فعل ما في طبعه من الرطوبة في جسم آخر قبل الجسم المنفعل الرطوبة فصار رطبا مثله ومتى فعل فعله الرطوبة في قابل غير جسم
587 كالقوة الدراكة الحسية أو الخيالية إذا انفعلت عن رطوبة ذلك الجسم الرطب لم يقبل الأثر الذي قبله الجسم الثاني ولم يصر بسببه رطبا بل يقبل شيئا آخر من ماهية الرطوبة لها طور خاص في ذلك كما يقبل القوة الناطقة متى نالت الرطوبة أو حضرتها في ذاتها شيئا آخر من ماهية الرطوبة وطبيعتها من حيث هي ولها ظهور آخر عقلي فيه بنحو وجود عقلي مع هوية عقلية. فانظر حكم تفاوت النشئات في ماهية واحدة لصفة واحدة كيف فعلت وأثرت في موضع الجسم شيئا وفي قوة أخرى شيئا آخر وفي جوهر آخر شيئا آخر وكل من الثلاثة حكاية للآخرين. لأن الماهية واحدة والوجودات متخالفة. وهذا القدر يكفي المستبصر لأن يؤمن بجميع ما وعده الله ورسوله أو توعدا عليه في لسان الشرع من الصور الأخروية المرتبة على الاعتقادات الحقة أو الباطلة والأخلاق الحسنة والقبيحة المستتبعة للذات والآلام إن لم يكن من أهل المكاشفة والمشاهدة. وأما معرفة التفاصيل في كل صفة وعمل وعد فيه أو توعد عليه الشرع الأنور بحكومة الأخروية فيتوقف على كشف تام ومعرفة كاملة واتصال قوى بعالم الغيب وتجرد بالغ عن علائق هذا العالم. فكل من له تحدس في العلوم يجب عليه أن يتأمل في الصفات النفسانية والأخلاق الباطنية وكيفية منشئيتها للآثار والأفعال الظاهرة منها ليجعل ذريعة لأن يفهم كيفية استتباع الأخلاق المكتسبة في الدنيا من تكرر الأفاعيل للآثار المخصوصة في الآخرة تحقيقا لقوله: الدنيا مزرعة الآخرة. فكما أن شدة الغضب في رجل توجب ثوران دمه واحمرار وجهه وحرارة جسده واحتراق مواده على أن الغضب صفة نفسانية موجودة في عالم الروح الإنساني وملكوته والحركة والحمرة والحرارة والاحتراق من صفات الأجسام وقد صارت هذه الجهات والعوارض الجسمانية نتائج لتلك الصفة النفسانية في هذا العالم فلا عجب من أن يكون سورة هذه الصفة المذمومة مما يلزمها في النشأة الأخرى نار جهنم التي تطلع على الأفئدة فاحترقت صاحبها كما يلزم هاهنا عند شدة ظهورها وقوة تأثيرها إذا لم يكن صارف عقلي أو زاجر عرفي يلزمها من ضربان العروق واضطراب الأعضاء وقبح المنظر. وربما يؤدي إلى الضرب
588 الشديد والقتل لغيره بل لنفسه وربما بموت غيظا. فإذا تأمل أحد من استتباع هذه الصفة المذمومة لتلك الآثار فيمكن أن يقيس عليها أكثر الصفات الموذيات والاعتقادات المهلكات وكيفية انبعاث نتائجها ولوازمها يوم الآخرة من النيران وغيرها. وكذا حال أضدادها من حسنات الأخلاق والاعتقادات وكيفية استنباط النتائج والثمرات من الجنات والرضوان والوجوه الحسان. لمولوي اى دريده پوستين يوسفان * گرك برخيزى ازين خواب گران گشته گرگان هر يكى خوهاى تو * مىدرانند از غضب اعضاى تو وهاهنا دقيقة وهي أنك إن اشتبه عليك أن الملكات والأخلاق الإنسانية والأعمال النفسانية بعد تسليم أنها سيصير أشباحا أخروية وأشخاصا برزخية موذية كالنيران والحيات والعقارب إن كانت الأخلاق ردية والأعمال قبيحة أو ملذة كالجنات والحور والغلمان إن كانت الأخلاق فاضلة والأعمال حسنة فكيف يتصل إيلامها وإلذاذها إلى هذا الشخص الإنساني الذي يكون صاحب هذه الأخلاق والأعمال وما سبب ارتباطها واتصالها به فاستمع متلطفا في سرك أن الإنسان في هذه الدار العنصرية والنشأة الهيولانية أيضا إذا أراد أن ينتقم بقوته الغضبية من عدو أو يسيء إليه أو أراد أن يفعل الخير بصديق أو يحسن إليه فإنما يفعل كلا من الفعلين الإساءة والإحسان أولا في نفسه ويلحق النفع أو الضر منه إلى نفسه بالذات ثم يتوسط وصول أحدهما إليه بالذات قد يصل إلى صديقه أو عدوه ثانيا وبالعرض. إذ علمت أن الأفعال الإرادية مسبوقة بتمثلات ذهنية وتصورات خيالية في كل صورة عقلية أو حسية يتصورها الإنسان فليست خارجة عن عالمه مباينة لذاته بل واقعة في صقعه داخلة في مملكة ذاته. فإذا أحب أحدا مثلا فإنما يحب بالذات ما يوجد في نفسه وكذا إذا أبغض إنسانا فإنما يبغض أولا ما يتصور ويتمثل في ذاته وكلما يتحقق في ذاته وفي عالمه فهو هو بوجه كما لوحنا إليه مرارا. فعلم من ذلك أن الإنسان ما أحب وما أبغض إلا ذاته. فإذا تحقق بذلك واتضح لديك كيفية تجسم الأعمال علمت أن الأخلاق الذميمة إذا تمثلت وتصورت
589 بصورة كريهة مناسبة لها في الآخرة كالحيات والعقارب فإنما يجب أن يصل إيلامها وإيذاؤها بالإنسان الذي هو صاحب تلك الأخلاق دون غيره لا بالذات ولا بالعرض. فإن العلاقة الوضعية التي بها يتحقق التأثير والتأثر بين الماديات بالعرض في هذا العالم مرتفعة في عالم آخر فلا أنساب بينهم يومئذ و لا يتساءلون. وكذا الأخلاق الحسنة إذا تمثلت وتصورت أشخاصا كريمة بهيئة مناسبة لها فإنما تصل لذاتها ونعيمها بالإنسان الموصوف بها لا بغيره كما بينا. فاعرفه فإنه مقصد عال ومطلب غال.
590 المقالة الرابعة في النبوات وفيه فصول فصل في سبب الرؤيا الصادقة وليعلم أولا معنى الرؤيا انحباس الروح من الظاهر إلى الباطن. والمراد من الروح هو الجوهر البخاري الحار المركب من صفو الأخلاط كما أن الأعضاء مركب من كدر الأخلاط وهي مطية للقوى النفسانية وبها يتحرك القوى ويتصل الحساسة والمحركة إلى الانتهاء وقد ذكر بعض صفاتها. وبالجملة هذه الروح بواسطة العروق الضوارب ينشر إلى ظاهر البدن وقد تحبس إلى الباطن بأسباب مثل طلب الاستراحة عن كثرة الحركة ومثل الاشتغال بتأثيره في الباطن لينفتح السدد. ولهذا يغلب النوم عن امتلاء المعدة ومثل أن يكون الروح قليلا ناقصا فلا يفيء بالظاهر والباطن جميعا ولنقصانها وزيادتها أسباب طبية مذكورة في كتب الأطباء. فإذا انحبست الروح إلى الباطن وركدت الحواس بسبب من الأسباب بقيت النفس فارغة عن شغل
591 الحواس لأنها لا يزال مشغولة بالتفكر فيما يورده الحواس عليها. فإذا وجدت فرصة الفراغ وارتفعت عنها الموانع استعدت الاتصال بالجواهر الروحانية الشريفة العقلية التي فيها نقوش جميع الموجودات كلها المعبرة عنها في الشرع باللوح المحفوظ أو الجوهر النفسية والقوى الانطباعية من البرازخ العلوية التي فيها صور الشخصيات المادية والجزئيات الجسمانية. فإذا اتصلت بتلك الجواهر قبلت ما فيها أعني نقش ما في تلك الجواهر من صورة الأشياء لا سيما ما ناسب أغراض النفس ويكون مهما لها. وقد مر أن انطباع الصور في النفس عن الجواهر العالية كانطباع الصورة في مرآة من مرآة أخرى يقابلها عند حصول الأسباب وارتفاع الحجاب بينهما. والحجاب هاهنا اشتغال النفس بما يورده الحواس ولارتفاع هذا الحجاب أسباب كثيرة مثل صفاء النفس بحسب أصل فطرتها ومثل انزعاج النفس وانزجارها عن هذا العالم بسبب ما يكدرها وينقص عيشها الدنياوي من المولمات والمنفرات فيتوجه إلى عالمها هربا من هذه الأمور الموحشة فيرتفع الحجاب بينها وعالمها ومثل الرياضات العلمية والعملية التي يوجب المكاشفات الصورية والمعنوية ومثل الموت الإرادي الذي يكون للأولياء ومثل الموت الطبيعي الذي يوجب كشف الغطاء للجميع سواء كانوا سعداء أو أشقياء ومثل النوم الذي هو أخ الموت في كونها عبارة عن ترك النفس استعمال الحواس في الجملة. فحينئذ إذا ارتفع الحجاب بالنوم قليلا يظهر في مرآة النفس شيئا من النقوش والصور التي في تلك المرائي مما يناسبها ويحاذيها فإن كانت تلك الصورة جزئية وبقيت في النفس بحفظ الحافظة إياها على وجهها ولم يتصرف فيه القوة المتخيلة الحاكية للأشياء بتمثلها فيصدق هذه الرؤيا ولا يحتاج إلى تعبير. وإن كانت المتخيلة غالبة أو إدراك النفس للصور ضعيفا صارت المتخيلة بطبعها إلى تبديل ما رأته النفس بمثال كتبديل العلم باللبن وتبديل العدو بالحية وتبديل الملك بالبحر أو الجبل. وتحقيقه أن لكل معنى عقلي من عالم الإبداع صورة طبيعية في عالم الكون إذ العوالم متطابقة. فالعلم لما كان مما يتقوى به النفس وهو جوهر روحاني والصور العلمية للإنسان إنما يحصل بعد حذف الزوائد والاختلاف عما يدركه الحس من
592 أشخاص النوع وبعد ذلك يكون الباقي صورة غير مختلفة بل لبا خالصا صافيا سائغا نيله للعقل الإنساني. ولما كان البدن مثالا للنفس واللبن غذاء لطيفا سائغا شرابه للبدن فيكون نسبته للبدن نسبة العلم إلى النفس ففي التعبير يعبر به عن العلم. ومن هذا القبيل ما نقل أن رجلا جاء إلى ابن سيرين وقال: رأيت كأن في يدي خاتم أختم به أفواه الرجال وفروج النساء. فقال: إنك مؤذن تؤذن في شهر رمضان قبل الفجر. فقال: صدقت. وجاء آخر فقال: كأني أصب الزيت في زيتون. فقال إن كان تحتك جارية اشتريتها ففتش عن حالها فإنها أمك لأن الزيتون أصل الزيت فهو رد إلى الأصل. فنظر فإذن جاريته كانت أمه وقد سبيت في صغره. وقال آخر له كأني أغلق الدر في أعناق الخنازير. فقال إنك تعلم الحكمة غير أهلها وكان كما قال. فالتعبير من أوله إلى آخره مثال يعرفك طريق ضرب الأمثال وليس للأنبياء ع أن يتكلموا مع الخلق إلا بضرب الأمثال لأنهم كلفوا أن يتكلموا الناس على قدر عقولهم. وكما أن عقول الخلق مثال للعقول العالية في الحقيقة فكذا ما يخاطب بهم ينبغي أن يكون أمثلة للمعارف الحقيقية. وقدر عقولهم أنهم في النوم والنائم لا يكشف له شيء إلا بمثل فإذا ماتوا انتبهوا وعرفوا أن المثل صادق. وإنما يعني بالمثل أداء المعنى في صورة إن نظر إلى معناه وجد صادقا وإن نظر إلى صورته وجد كاذبا. وربما يبدل المتخيلة الأشياء المرئية في النوم بما يشابهها ويناسبها مناسبة ما أو ما يضادها. كما من رأى أنه ولد له ابن فتولد له بنت وبالعكس. وهذا الرؤيا يحتاج إلى مزيد تصرف في تعبيره. وربما لم يكن انتقالات المتخيلة مضبوطة بنوع مخصوص فانشعبت وجوه التعبير فصار مختلفا بالأشخاص والأحوال والصناعات وفصول السنة وصحة النائم ومرضه. وصاحب التعبير لا ينال إلا بضرب من الحدس ويغلط فيه كثيرا للالتباس. لمعة قد مر أن لكل معنى عقلي صورة حقيقية وصورة غير حقيقية ومن هذا الجهة يختلف حكم التعبير في رؤية كل صورة ويحتاج إلى قرينة من أحوال الرائي أنه إن
593 كانت نفسه عالية متصلة بالعالم العقلي أو العالم النفسي السماوي فيكون ما يراه في النوم إما نفس الأمر العقلي أو مثال حقيقي له غالبا. وإن كانت سفلية متعلقة في الدنيا فأكثر ما يراه في النوم مجرد صورة خيالية لا معنى لها. ووجه ذلك أن النفس الإنسانية ذات وجهين وجه إلى عالم الغيب والآخرة ووجه إلى عالم الشهادة والدنيا. فإن كان الغالب عليها جهة القدس فلا بد أن يظهر فيها حقيقة بعض الأشياء من الوجه الذي يقابل الملكوت وعند ذلك تشرق نور أثره على الوجه الذي يقابل عالم الملك والشهادة. لأن أحدهما متصل بالآخر كما أن الدنيا متصل بالآخرة. وسيعلم أن جهة النفس التي إلى عالم الغيب هي مدخل الإلهام والوحي وجهتها التي إلى عالم الشهادة يظهر منها التصوير والتمثيل. فالذي يظهر من النفس في وجه الذي يلي جانب الشهادة لا يكون إلا صورة متخيلة لأن عالم الشهادة كلها متخيلات. إذ الخيال على ضربين لأنه تارة يحصل من النظر في ظاهر عالم الشهادة بالحس فيرتقي إليه صورة المحسوس الخارجي. وتارة يحصل من النظر إلى باطن عالم الغيب فنزل إليه صورة الأمر المعقول الداخلي. ففي الأول يجوز أن لا يكون الصورة على وفق المعنى حتى يرى شخص جميل الصورة وهو خبث الباطن قبيح السر. لأن عالم الشهادة كثير التلبيس لأجل أسباب العرضية والاتفاقية فيتفق لأجل الاتفاقات والأسباب الخارجية العرضية أن يصير رجل حسن المنظر قبيح السر لاكتساب السيئات وقبائح الأعمال المؤدية إلى المهلكات الصفات المنتجة لمرديات المهلكات وكذا بالعكس. وأما الصورة التي يحصل في الخيال من إشراق عالم الملكوت على باطن سر النفس فلا يكون إلا محاكيا للصفة ومطابقا للمعنى وصورة حقيقية للأمر العقلي. لأن الصورة في عالم الملكوت تابعة للمعنى والصفة فلا جرم لا يرى المعنى القبيح إلا بصورة قبيحة. فلا جرم يرى الملك مثلا في صورة جميلة ولا يرى الشيطان إلا بصورة قبيحة. ولذا يرى الملك في صورة دحية الكلبي ويرى الشيطان في صورة كلب أو ضفدع أو خنزير أو غيره يكون تلك الصورة عنوان المعنى
594 ومحاكية له بالصدق. ولذلك رأى بعض المكاشفين الشيطان على صورة كلب جاثم على جيفة يدعو الناس إليها وكانت الجيفة مثال الدنيا. وكذا أيضا يدل القرد والخنازير في النوم على إنسان خبيث ويدل الشاة على إنسان سليم الجانب وهكذا جميع أبواب التعبير. وفي هذا أسرار عجيبة لمن له قلب. فصل في أضغاث الأحلام وهي المنامات التي لا أصل لها قد علمت من طريقتنا من أن النفس بقوتها الخيالية التي هي لها في عالمها بمنزلة القوة المحركة في هذا العالم فكما يصدر منها في عالم المحسوسات بقوتها المحركة بإعانة غيرها من الأسباب أشياء من باب الحركات والتحولات يسمى بالصنائع والأفعال كذلك تفعل باختراعها في مملكتها وعالمها الباطني صورا وأشخاصا جسمانية بعضها مطابقة لما يوجد في الخارج وبعضها جزافيات لا أصل لها في شيء من العوالم والبرازخ. والصور المتأصلة التي يكون في العوالم بعضها مطابقة لبعض إذ النشئات والعوالم مطابقة بحسب الصور إلا ما يخترعها النفس بدعابة المتخيلة وشيطنتها فإنها مجرد إنشاء لا أصل لها. فإذا اخترعت المتخيلة بدعابتها واضطرابها التي لا يفتر عنها في أكثر الأحوال صورا جزافية وانتقلت فيها وحاكتها بأمور أخرى في حال النوم وشاهدها النفس وبقيت مشغولة بمحاكاتها كما تبقى مشغولة بالحواس في اليقظة وخصوصا إذا كانت ضعيفة في جوهرها منفعلة عن آثارها القوى فلا تستعد للاتصال بالجواهر الروحانية والمتخيلة باضطرابها قويت بسبب من الأسباب فلا يزال تحاكي وتخترع صورا لا وجود لها وتبقى في الحافظة إلى أن يستيقظ فتذكر ما رآه في المنام. ولمحاكاتها أيضا أسباب من أحوال البدن ومزاجه فإن غلب على مزاجه الصفراء حاكاها بالأشياء الصفر وإن كانت فيه الحرارة حاكاه بالنار والحمام الحار وإن غلبت البرودة حاكاها بالثلج والشتاء ونظائرها وإن غلبت السوداء حاكاها بالأشياء السود والأمور الهائلة. وإنما حصلت صورة النار مثلا في التخيل عند غلبة الحرارة لأن
595 الحرارة التي في موضع يتعدى إلى المجاور لها كما يتعدى نور الشمس إلى الأجسام بمعنى أنه سيكون سببا لحدوث النور إذا خلقت الأشياء موجودة وجودا فائضا بأمثاله على غيره والقوة المتخيلة منطبعة في الجسم الحار فيتأثر به تأثيرا يليق بطبعها كما مر أن كل شيء قابل يتأثر من شيء فإنما يتأثر منه بشيء يناسب جوهر هذا القابل وطبعه. فالمتخيلة ليست بجسم حتى يقبل نفس الحرارة فيقبل من الحرارة ما في طبعها لقبول له وهو صورة الحار فهذا هو السبب فيه. فصل في معرفة سبب العلم بالمغيبات في اليقظة قد عرفت سبب الاطلاع بالغيوب في النوم من ركود الحواس واتصال النفس بالجواهر العقلية أو النفسية وقبولها من تلك المبادي صورا يناسبها واهتمت بها. ويمكن أن يكون ذلك لبعض النفوس في اليقظة بسببين: أحدهما قوة في النفس فطرية أو مكتسبة لا يشغلها جانب عن جانب بل تسع قوتها بالنظر إلى جانب العلو وجانب السفل جميعا كما يقوى بعض النفوس ليجمع في حالة واحدة الاشتغال بعدة أمور فيكتب ويتكلم ويسمع فمثل هذه النفوس التي لها اقتدار ما على ضبط الجانبين يجوز أن يفتر عنها في بعض الأحوال شغل الحواس ويطلع على عالم الغيب فيظهر لها منه بعض الأمور كالبرق الخاطف. وهذا ضرب من النبوة. ثم إن ضعفت المتخيلة بقي في الحفظ ما انكشف له من الغيب بعينه كان وحيا صريحا وإن قويت المتخيلة واشتغلت بطبيعة المحاكاة فيكون هذا الوحي مفتقرا إلى التأويل كما يفتقر الرؤيا إلى التعبير. الثاني أن يغلب على المزاج اليبوسة والحرارة ويقل الروح البخاري حتى يتصرف النفس لغلبة السوداء وقلة الروح عن المواد الحواس فيكون مع فتح العين وسائر أبواب الحواس كالمبهوت الغافل الغائب عما يرى ويسمع وذلك لضعف خروج الروح إلى الظاهر. فهذا أيضا لا يستحيل أن ينكشف لنفسه من الجواهر الروحانية شيء
596 من الغيب فيحدث به ويجري على لسانه كأنه أيضا غافل عما يحدث به وهذا يوجد في بعض المجانين والمصروعين وبعض الكهنة فيحدثون بما يكون موافقا لما سيكون. وهذا نوع نقصان يظنه الجهلة كمالا وولاية والسبب الأول نوع كمال. إشارة تحصيلية ولعل بعض المتفلسفة والمتشبهة بأرباب التحصيل والكمال قعدوا لقصور نظرهم في حضيض المباحثة والجدال ولم يرتفعوا لانحطاط درجات نظرهم إلى ذروة الذوق والحال اعتراهم الشك في سبب رؤية الإنسان في اليقظة صورا لا وجود لها في الخارج حيث لا يراها كل حاضر سليم الحس. فليتدبر أو يسمع من كان له منهم قلب أو ألقى السمع وهو شهيد بعد تأمله ما أسفلناه من القواعد التي يقرب النفس تدبرها لأن يستعد لفهم المعاني التي من هذا القبيل. وهو أن النفس كلما يدركها في عالمها وصقع قواها الباطنة على سبيل التخيل لا شبهة لأحد في أنها يتفاوت ظهورا وخفاء تفاوتا يذهب به في حدود الخفاء إلى حد الذهول والنسيان وفي حدود الظهور والجلاء إلى حد الرؤية والمشاهدة. فكما يمكن أن يذهب في الخفاء من حد يسمى بالتخيل إلى غاية يسمى بالذهول فكذلك يمكن أن يبلغ في الظهور من حد التخيل إلى حد يسمى بالرؤية. والرؤية ليس من شرطها أن يكون بالعين ولا المرئي إنما يسمى مرئيا لكونه يحصل بسبب العين بل لأنه غاية انكشاف الشيء فإذا وقعت غاية الانكشاف بقوة أخرى كانت حقيقة الرؤية بحالها. فالصور التي يراها النائمون في عموم أوقات نومهم ليست هي بعينها موجودا في المواد الخارجية وليست حاصلة أيضا في القوى المنطبعة الدماغية لامتناع انطباع العظيم في الصغير. على أنها يراها الإنسان منفصلة عن ذاته مباينة لها كالسماء والأرض والأشجار وغيرها بل في عالم آخر غفل عنه
597 أكثر العلماء. فالنفوس إذا كانت قوية يكون اقتدارها على اختراع تلك الصور أقوى فيكون متصوراتها موجودات خارجية حاضرة عندها بذواتها في اليقظة وعند كل نفس يكون درجتها في القوة والنورية هذه الدرجة. فإذا تقرر هذا فلا يخلو تلك إما أن يكون مطابقة لما في المبادي العالية فيكون وحيا صريحا وإن كانت حكاية لما فيها لأجل تصرف النفس بقوتها الخيالية فيها فيحتاج هذا إلى التعبير وإن لم يكن لا هذا ولا ذاك فيكون من دعابة النفس بواسطة قوتها وعدم استقامتها. فالأقسام الثلاثة المذكورة في ما يراه النائم في نومه هي بعينه واقعة في ما يراه النفوس القوية في اليقظة مما لا يراه كل سليم الحس وقد لا يكون النفس قوية قادرة على اختراع تلك الصور في اليقظة ولا في النوم لكن يستعين حال اليقظة بما تدهش الحس وتحير الخيال فيظهر أشياء لا وجود لها في الخارج لضعفاء العقول الذين هم في أصل الجبلة إلى الدهشة وتحير الخيال مائلون. هذا هو طريق القائلين بنحو آخر من الوجود للصور غير ما ينطبع في القوى المادية والأجرام. ومن طريق آخر نقول: إن النفس قد تدرك إدراكا قويا لأمر جزئي من عالم الغيب فيبقى عين ما أدركته في الحفظ وقد يقبل قبولا ضعيفا لأمر عقلي فيستولي عليه المتخيلة فتحاكيه بصورة محسوسة مناسبة له. فإن لكل حقيقة عقلية صورة طبيعية له في عالم المحسوسات فإذا قويت تلك الصورة في المتخيلة استثبتها الحس المشترك وانطبعت الصورة في الحس المشترك سراية إليه من المتخيلة والمصورة لكون المدارك الباطنية للإنسان كالمرائي المتعاكسة صورة بعضها إلى بعض والإبصار ليس إلا وقوع صورة في الحس المشترك سراية إليه فإن الصورة الموجودة في الخارج ليست محسوسة بل هو سبب ظهور صورة تماثلها في الحس المشترك فالمحسوس بالحقيقة ذلك والخارج يسمى محسوسا بالعرض لعلاقة السببية بينهما بوجه. ولا فرق بين أن يرتفع الصورة إلى الحس
598 المشترك ويقع فيها من الخارج أو ينحدر إليه ويقع فيه من الداخل فإنه كيف ما يكون كان محسوسا ويكون حصوله إبصارا. فمهما وقع ذلك في الحس المشترك صار صاحبه مبصرا وإن كانت الأجفان مغمضة وكان في ظلمة أيضا. والذي يتخيله الإنسان في اليقظة إنما ينطبع في الحس المشترك حتى يصير مبصرا لأن الحس المشترك مشغول بما يؤدي إليه الحواس الظاهرة وهو أغلب. ولأن العقل يكسر من المتخيلة اختراعها ويكذبها ولا يقوي تصورها في اليقظة. فمهما ضعف العقل عن الترديد والتكذيب بسبب مرض من الأمراض لم يمنع أن ينطبع في الحس المشترك فيرى المريض صورا لا وجود لها. وكذا إذا غلب الخوف واشتد الموهم المخوف وضعف النفس والعقل المكذب فربما يمثل للحس المشترك صورة المخوف حتى يشاهدها ويبصرها. ولذا يرى الجبان الخائف صورا هائلة والغول الذي يخيل في الصحاري ويسمع كلامه هذا سببه. وقد يشتد شهوة هذا العليل لضعف ما فيشاهد ما يشتهيه ويمد إليه يده كأنه يأكله ويرى صورا لا وجود لها في الخارج بسبب ذلك. هذا هو طريق المشائين القائلين بأن العلم بالأشياء الخارجية منحصرة بالانطباع والأول هو طريقتنا المناسبة للعلم الإشراقي. وزاد بعض أفاضل الحكماء المشائين في هذا البيان بقوله: إذا كانت المتخيلة في إنسان ما قوية كاملة جدا وكانت المحسوسات الواردة عليها من خارج لا يستولي عليها استيلاء يستغرقها بأسرها ولا خدمتها القوة الناطقة بل كان فيها مع اشتغالها بهذين فضل كثير يفعل به أيضا أفعالها التي يخصها كانت حالها عند اشتغالها بهذين في وقت اليقظة مثل حالها عند تخيلها منها في وقت النوم وكثير من هذه الصور التي يعطيها العقل فتخيلها القوة المتخيلة مما
599 يحاكيها من المحسوسات المرئية فإن تلك المتخيلة تعود فترتسم في القوة الحاسة المشتركة فإذا حصلت رسومها في الحاسة المشتركة انفعلت عن تلك الرسوم القوة الباصرة فارتسمت فيها تلك فيحصل عما في القوة الباصرة منها رسوم تلك في الهواء المضي المواصل للبصر المنحاز بشعاع البصر فإذا حصلت الرسوم عاد ما في الهواء فيرتسم من الرأس في القوة الباصرة التي في العين وانعكس ذلك إلى الحاس المشترك وإلى القوة المتخيلة. ولأن هذه كلها متصل بعضها ببعض يصير ما أعطاه العقل الفعال من ذلك مرئيا لهذا الإنسان. انتهى كلامه. وأنت تعلم أن طريقتنا أسد وأوثق من هذه وكلام هؤلاء في هذا المقام وإن كان بحسب طريقة البحث وعند أهل الاحتجاب عن مشاهدة الصور الغيبية المعلقة في غير هذا العالم في غاية القوة والمتانة إلا أن من ذاق مشربا آخر يعلم أن الصور الشريفة التي يراها السلاك وأهل الكمال والإلهيون والسفراء أجل من أن يكون منطبعة في قوى إنسانية ومشاعر مادية بل هي مرئية في غير هذا العالم. فالمصير إلى غير طريقة الانطباع في الصور الغيبية. ضابط عقلي وتقسيم حكمي لو أردت أن تسمع خلاصة القول فيما يقع من النفوس في باب الإخبار عن المغيبات على وجه التقسيم المردد بين النفي والإثبات ليكون ذلك أضبط في الذهن وأحكم في العقل فأصغ إلى ما نقول فاحتفظ به بعد تمهيد أن كل ما وقع وسيوقع من الكائنات فهو محفوظ في الألواح العالية ومضبوط في الجواهر العقلية المستعلية لأنها عالمة بلوازم حركاتها الكلية شاعرة بنتائج مقاصدها وأشواقها العقلية من أشخاص الكائنات وجزئيات الحادثات لأن العلم بالعلل والملزومات غير منفك عن العالم بالمعلولات واللوازم كما مر فصور الكائنات بأسرها موجودة في المدبرات الفلكية. وللكائنات ضوابط كلية محفوظة مرتسمة بقلم الحق الأول على ألواح النفوس لأنها ليست
600 بصادرة عن الواجب الأول على سبيل الجزاف أو القصد إلى السافل كما زعمته الجهال والمقلدون بل صدورها على حسب مثل غيبية هي ذكر حكيم. ثم الإنذارات تدل على أنه عالم بالجزئيات قبل وجودها وبعده وليس هذا شأن النفوس السافلة ولا قواها المنطبعة. وهو ظاهر فليس إلا من جوهر عال يتخيل الجزئيات من الكليات والحسيات من العقليات على عكس إدراكنا فهو من العالم النفساني الفلكي فيجب أن يكون لها ضوابط كلية يفيض عليها من مباديها العقلية أنه كلما كان كذا كان كذا قوانين أحصيت في العالم العقلي. ثم إذا كانت منتقشة بها النفس الفلكية ويتخيل الوصول إلى كل وضع من الأوضاع بالحركة فلها أن تعلم لازم حركاتها باستثناء الشرطيات لكن كذا فيكون كذا. أو ليس فليس. فإذا تمهد هذا فنقول: إن الصور التي يدركها النفس في النوم واليقظة أو في ما بينهما ونحوها لا يخلو إما أن يكون لاتصالها بذلك العالم أو لا. فإن كانت الاتصال فإما أن يكون كلية أو جزئية. وعلى التقديرين فإما أن ينطوي سريعا ولا حكم لها أو يثبت فإن ثبت ويكون كلية فالمتخيلة التي في طباعها المحاكاة تحاكي تلك المعاني الكلية المنطبعة في النفس بصور جزئية ثم ينطبع تلك الصور في الخيال وينتقل إلى الحس المشترك فتصير مشاهدة. فإن كانت المشاهدة شديد المناسبة لما أدركته النفس من المعنى الكلي بحيث لا يختلفان إلا بالكلية والجزئية كانت الرؤيا غنية عن التعبير. وإن لم يكن كذلك فإن كانت هناك مناسبة يمكن الوقوف عليها والتنبه لها كما إذا تصورت المعنى بصورة لازمه أو ضده أو شبهه احتاج حينئذ إلى التعبير وهو تحليل بالعكس أي رجوع من الصور الخيالية الجزئية إلى المعاني النفسانية الكلية. وإن لم يكن مناسبة على الوجه المذكور فتلك الرؤيا مما تعد في أضغاث الأحلام الحاصل من دعابة المتخيلة. وإن ثبت جزئية وحفظته الحافظة على وجهها ولم يتصرف المتخيلة المتحاكية للأشياء بتمثيلها بمثلها أو بغيرها صدقت هذه الرؤيا من غير احتياج إلى التعبير. وإن كانت المتخيلة غالبة أو إدراك النفس ضعيفة تنازعت المتخيلة بطبعها إلى تبديل ما رأته النفس بمثال. وربما بدلت ذلك المثال أيضا بآخر وهكذا إلى حين اليقظة. فإن
601 انتهى إلى ما يمكن أن يعاد عليه بضرب من التحليل فهو رؤيا يفتقر إلى التعبير وإلا فهو من أضغاث الأحلام. هذا ما يتلقاه النفس عن المبادي العالية عند النوم وأما ما يتلقاه عند اليقظة فعلى وجهين: أحدهما أن يكون النفس قوية وافية بالجوانب المتجاذبة لا يشغلها المشاعر السافلة عن المدارك العالية فيتصل بها في اليقظة ويكون متخيلتها قوية بحيث يقوى على استخلاص الحس المشترك عن الحواس الظاهر وإذ ذاك فلا يبعد أن يقع لمثل هذه النفس في اليقظة ما يقع للنائمين من غير تفاوت. فمنه ما هو وحي صريح لا يفتقر إلى التأويل ومنه ما ليس كذلك فيفتقر إليه أو يكون شبيها بالمنامات التي هي أضغاث الأحلام إن أمعنت المتخيلة في الانتقال والمحاكاة. وثانيهما أن لا يكون النفس كذلك فلا يخلو إما أن يستعين حال اليقظة بما يقع به للحس دهشة وللخيال حيرة أو لا بل كانت ضعيفة ضعفا طبيعيا أو لأجل مرض. فالأول كما يفعل المستنطقون المنفعلون للصبيان والنساء ذوات الآلات الضعيفة. أو بأمور مترقرقة وبأمور ملطخة سود مدهشة محيرة للبصر شفافة يرعش البصر برجرجتها أو بتشفيفها وكاستعانة بعض المتصوفة والمتكهنة برقص وتصفيق وتطريب مع ذلك أيضا فكل هذه موهشة للحواس مخلة بها. وربما يستعينون أيضا بالإلهام بالعزائم والتخويف والترهيب بالجن إذا استنطقوا غيرهم والكهنة قد يركبون أصباغا للتفريح والتبحزات. والثاني كالمصروعين والممرورين وكل من في قواه ضعف أو قلة علاقة مع رطوبة في الدماغ قابلة. وقد يجتمع الشيئان ضعف العائق وقوة النفس بتطريب وغيره كما لكثير من المرتاضين من أولي الكد وهذا حسن. وما للكهنة والممرورين نقص وإخلال بالقوى أو فسادها وتعطيلها عما خلقت لأجله وهو غير محمود عند العلماء. وأما عند الفضلاء فرياضاتهم وعلومهم مرموضة ولرياضات
602 أولي البصيرة أمور مكنونة عن المحجوبين بالخيال عن العقليات وإن لم يكن الصور التي أدركتها النفس بسبب اتصالها بالمبادي الرفيعة لحصول فراغتها عن البدن أو ضبطها للجانبين فهذا إن كان في حالة النوم فهو الذي يقال له أضغاث أحلام على الحقيقة وهو المنام الكاذب وقد ذكروا له أسبابا. الأول أن ما يدركه الإنسان في حالة اليقظة من المحسوسات يبقى صورته في الخيال فعند النوم ينتقل من الخيال إلى الحس المشترك فيشاهد هو بعينه إن لم يتصرف فيه المتخيلة أو ما يناسبه إن تصرف فيه. والثاني أن المفكرة إذا التفت صورة انتقلت تلك الصورة عنها عند النوم إلى الخيال ثم منه إلى الحس المشترك. الثالث إذا تغير مزاج الروح الحامل للقوة المتخيلة تغيرت أفعالها بحسب تلك التغيرات على ما مر من التفصيل وإن كان أمثال هذه حاصلة في حال اليقظة فربما سميت أمورا شيطانية كاذبة وما يرى من الغول والجن والشياطين فقد يكون من تخيله وكونها كذلك لا ينافي وجودها الخارجي. فإن الموجودات التي لها وجود في الخارج ربما يشاهد ويرى من هذا السبيل ولا ينافي وجودها على هذا الوجه وجودها الخارجي لأن الخيال يظهرها وإن لم يكن منطبعة فيه. وهذا الذي ذكرناه من التفصيل أيضا مبناه على طريقة المشائين من إنكار وجود الصور الغائبة عن الحواس في عالم غير هذا العالم لأنه أنسب بمذاق الظاهريين من العلماء. والحق عندنا أن الأمور التي يتراءى لأرباب الشهود وأصحاب الكشف الكلام فيها غير مسلم لتوابع المعلم الأول ومن يحذو حذوهم لأنهم غفلوا عن عالمين عظيمين ولم يدخلوا في بحوثهم وأنظارهم هما عالم المثل الأفلاطونية التي هي جنة المقربين وعالم الأشباح المثالية التي منقسمة إلى جنة السعداء وجحيم الأشقياء كل
603 منهما على طبقات متفاوتة كلها موجودة في الخارج. وإنما غفلوا عنها لأنه لم يسلك أحد منهم سبيل القدس ولا اشتغلوا بالرياضة والتنزيه والذي سلك منهم كان سلوكه ضعيفا ومن سلك إما من مرشد متأله أو بتأييد إلهي غريب وقع على الندرة فسيطلع على وجود أمور تيقن أنها غير موجود في مواد هذا العالم ولا في تجاويف دماغه على ما زعمه المشاؤن بل في صقع آخر من غير ريبة وإن كذبه أهل البحث يكذب هو إياه بالمشاهدة المتكررة. فصل في أصول المعجزات والكرامات وهي ثلاثة لأن الإنسان ملتئم عن عوالم ثلاثة من جهة مبادي إدراكات ثلاثة التعقل والتخيل والإحساس. وقد مر أن كل إدراك فهو ضرب من الوجود فشدة التعقل وكماله في الإنسان يوجب له مصاحبة القدس ومجاورة المقربين والاتصال بهم والانخراط في سلكهم. وشدة القوة المصورة فيه يؤدي إلى مشاهدة الأشباح المثالية والأشخاص الغيبية وتلقي الأخبار الجزئية منهم والاطلاع على الحوادث الماضية والآتية بهم. وشدة القوة الحاسة المساوقة لكمال قوة التحريك فيه يوجب انفعال المواد عنه وخضوع القوى والطبائع الجرمانية له. فالدرجة الكاملة من الإنسان بحسب نشئاته الجامعة لجميع العوالم هي التي يكون الإنسان بها قوي القوى الثلاث ليستحق بها خلافة الله ورئاسة الناس. فعلم مما ذكرنا أن أصول المعجزات والكرامات كمالات وخاصيات ثلاث لقوى ثلاث. الخاصية الأولى كمال القوة النظرية وهي أن تصفو النفس صفاء يكون شديدة الشبه بالعقل ليتصل به من غير كثير تفكر
604 وتعمل حتى يفيض عليها العلوم من دون توسط تعليم بشري بل يكاد أرض نفسه الناطقة أشرقت بنور ربها وزيت عقله المنفعل لغاية الاستعداد يضيء بنور العقل الفعال الذي ليس هو بخارج عن حقيقة ذاته وإن لم تمسه نار التعليم البشري فإن النفوس منقسمة إلى ما يحتاج إلى التعليم وإلى ما يستغني عنه والمحتاج إلى التعليم قد لا يؤثر فيه التعليم وإن طال طلبه واشتد تعبه وقد يتعلم على قرب. وكم من شخصين متعلمين مدة واحدة سبق أحدهما الآخر بحقائق علمية مع أن اجتهاده أحق وسعيه أكثر ولكن لشدة الحدس وقوة الذكاء فيصل إلى المقام الأعلى ويرجع الآخر بخفي حنين ويصير مطرحا للشين ومع تضييعه الوقت في غير ما خلق لأجله ربما يظن بنفسه أنه نال البغية وبلغ المقام وليته كان في درجة العقل الهيولاني من غير أن يتقرر في نفسه هيئة الجهل المركب المضاد للكمال نعوذ بالله من الضلال وإليه أشير بقوله تعالى: الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا إلى قوله فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا وكم من شخص يستنبط الشيء من نفسه من غير تعلم. وكما أن في طرف نقصان النورية وخموده ينتهي إلى عديم الحدس من الأغبياء يعجز الأنبياء من إرشادهم حتى يسمع خاتمهم من الملك العلام إنك لا تهدي من أحببت فيجوز أن ينتهي في طرف شدة النورية وشروقها إلى نفس شريفة شديد الحدس ينتهي إلى آخر المعقولات في زمان قصير من غير تعلم فيدرك أمورا عقلية يقصر عن دركها غيره من الناس إلا برياضات علمية في مدة طويلة فيقال له إنه نبي أو ولي. وإن ذلك كرامة أو معجزة وهو من الممكنات العقلية الأقلية كما ذكرناه. الخاصية الثانية كمال القوة المتخيلة هو كونها قوية بحيث يشاهد في اليقظة عالم الغيب لما سبق فيشاهد الصور
605 الجميلة والأصوات الحسنة المنظومة على الوجه الجزئي في مقام هورقليا أو في غيرها من العوالم الباطنية أو تحاكي ما شهدتها النفس في عوالم الجواهر العقلية ولا سيما في عالم العقل المفيض لهذا النوع البشري بإذن ربه فيرى في اليقظة ويسمع ما كان يراه ويسمعه في النوم بالسبب الذي ذكرناه فيكون الصورة المحاكية للجوهر الشريف بأحد الوجهين صورة عجيبة في عالم الحس فهو الملك الذي يراه النبي والولي ويكون المعارف التي تصل إلى النفس من اتصال الجواهر الشريفة بتمثل الكلام المنظوم الواقع في غاية الفصاحة فيكون مسموعا. وهذا أيضا ممكن غير مستحيل. الخاصية الثالثة في قوة النفس من جهة جزئها العملي وقواها التحريكية لتؤثر في هيولى العالم بإزالة صورة ونزعها عن المادة وبإيجادها وكسوتها إياها فيؤثر في استحالة الهواء إلى النعيم وحدوث الأمطار وحصول الطوفانات واستهلاك أمة فجرت وعتت عن أمر ربها ورسله واستشفاء المرضى واستسقاء العطشى وخضوع الحيوانات. وهذا أيضا ممكن لما ثبت في الإلهيات كون الهيولى مطيعة للنفوس متأثرة بها وأن هذه الصور الكونية يتعاقب عليها من تأثيرات النفوس الفلكية والنفوس الإنسانية من جوهر تلك النفوس شديدة الشبه بها لأن نسبتها إليه نسبة الأولاد إلى الآباء فكذلك نفس الإنسان يؤثر في هيولى هذا العالم لكن الغالب أنه بفيض أثره في عالمه الخاص أعني بدنه. ولذلك إذا حصل للنفس صورة مكروهة استحال مزاج البدن وحدثت رطوبة العرق. وإذا حدثت في النفس صورة الغلبة حمي مزاج البدن واحمر الوجه وإذا وقعت صورة مشتهاة في النفس حدثت في أوعية المني حرارة مسخنة منفخة للريح حتى تمتلي به عروق آلة الوقاع فيستعد له. وهذه الحرارة والرطوبة يحدث في البدن من هذه التصورات ليست من حرارة وبرودة ورطوبة أخرى بل عن مجرد التصورات. وعلمت أنه ليس من شرط كل مسخن أن يكون حارا وكذا نحوه. فإذا صارت
606 الأمزجة يتأثر من الأوهام إما بأوهام عامية أو بأوهام شديدة التأثير في بدو الفطرة أو متدرجة بالتعويد والرياضات إلى ذلك فلا عجب أن يكون لبعض النفوس قوة إلهية يكون بقوتها كأنها نفس العالم ليطيعها العنصر طاعة بدنها سيما وقد علمت أن الأجسام مطيعة للمجردات بل هي ظلال لها وعكوس منها. فكلما ازدادت النفس تجردا وتشبها بالمبادي القصوى ازدادت قوة وتأثيرا في ما دونها وإذا صار مجرد التصور والتوهم سببا لحدوث هذه التغيرات في الهيولى البدن وليس ذلك لكون النفس منطبعة فيه بل لعلاقة طبيعية شوقية وتعلق حبي جبلي لها إليه فكان ينبغي أن يؤثر في البدن الغير وفي هيولى العالم مثل هذا التأثير لأجل مزيد قوة شوقية واهتزار علوي للنفس ومحبة إلهية لها وشفقة على خلق الله شفقة الوالد لولده والأم لولدها فيؤثر نفسه في إصلاحها وإهلاك ما يضرها ويفسدها. فكما أن الخاصية الثانية يوجد بوجه غير مرضي في نفوس الأشرار والناقصين فكذا هذه الخاصية يوجد شيء منها في بعض النفوس القوية فيتعدى أثرها في بدن آخر حتى يفسد الروح بالتوهم ويقتل الإنسان أو غيره من الحيوانات ويعبر عن ذلك بإصابة العين ولذلك قال النبي ص العين يدخل الرجل في القبر والجمل في القدر. وقال ص أيضا: العين حق... ومعناه أنه يستحسن الجمل مثلا ويتعجب منه وتكون النفس خبيثة حسودة فيتوهم سقوط الجمل وينفعل جسم الجمل عن توهمه وتسقط في الحال. وإذا كان هذا ممكنا فما ظنك بنفوس عظيمة شديدة القوى كيف لا يتعدى تأثيرها عن بدنها وعالمها الصغير وهي يصلح لأن تكون نفس العالم ورئيس القوى الطبيعية ومستخدمها فيؤثر في هيولى العالم بإحداث حرارة وبرودة وحركة وجمع وتفريق وأصول الاستحالات والانقلابات في عالمنا السفلي إنما ينبعث من الحرارة والحركة كما سبق في حوادث الجو ومثل هذا يعبر بالكرامة والمعجزة عند الناس. والخاصية الأولى أفضل أجزاء النبوة عند الخواص ولهذا كان أعظم معجزات نبينا ص القرآن وهو مشتمل على المعارف الإلهية وحقائق المبدإ والمعاد على وجه عجز عن دركها إلا الأقلين من العلماء الراسخين من أمته وفيه الإخبار عن المغيبات والأفعال
607 الخارقة للعادات إلا أن نفسه من المعجزات العقلية التي كلت أذهان العقلاء عن دركها وخرست ألسن الفصحاء عن وصفها. فصل في بيان الفرق بين الإلهام والتعلم في استكشاف الحقائق اعلم أن العلوم ليست لازمة ضرورية وإنما يحصل في باطن الإنسان في بعض الأوقات بوجوه مختلفة فتارة يهجم عليه كأنه ألقي فيه من حيث لا يدري سواء كان عقيب شوق وطلب أو لا ويقال له الحدس والإلهام. وتارة يكتسب بطريق الاستدلال والتعلم فيسمى اعتبارا واستبصارا. ثم الواقع في الباطن بغير حيلة الاستدلال وتمحل التعلم والاجتهاد ينقسم إلى ما لا يدري الإنسان أنه كيف حصل ومن أين حصل وإلى ما يطلع معه على السبب الذي منه استفيد ذلك العلم وهو مشاهدة الملك الملقي والعقل الفعال للعلوم في النفوس. فالأول يسمى إلهاما ونفثا في الروع والثاني يسمى وحيا ويختص به الأنبياء والأول يختص به الأولياء والأصفياء والذي قبله وهو الكسب بطريق الاستدلال يختص به النظار من العلماء. وحقيقة القول أن نفس الإنسان مستعدة لأن يتجلى فيه حقيقة الحق في الأشياء كلها واجبها وممكنها وإنما حجبت عنها بالأسباب التي ذكر في مثال المرآة فهي كالحجاب المتدلي الحائل بين النفس واللوح المحفوظ الذي هو عقل منقوش بجميع ما قضى الله تعالى به إلى يوم القيامة فتجلى حقائق العلوم من مرآة العقل إلى مرآة النفس يضاهي انطباع صورة من المرآة في مرآة يقابلها وكما أن الحجاب بين المرآتين تارة يزال بفعل اليد وتارة يزول بهبوب ريح تحركه فكذلك قد يهب برياح الألطاف الإلهية فيكشف الحجب عن عين البصيرة فيتجلى فيها بعض ما هو مسطور في اللوح المحفوظ فيكون تارة عند المنام فيظهر به ما سيكون في المستقبل وتمام ارتفاع الحجب بالموت به ينكشف الغطاء.
608 وفي اليقظة أيضا قد ينقشع الحجاب بلطف خفي من الله فيلمع في القلب من وراء ستر الغيب شيء من غرائب الملكوت تارة كالبرق الخاطف وأخرى على التوالي إلى حد ما ودوامه في غاية الندور والشذوذ فلم يفارق الإلهام الاكتساب في نفس فيضان الصورة العلمية ولا في قابلها ومحلها ولا في سببها ومفيضها ولكن يفارقه في طريقة زوال الحجب وجهته ولم يفارق الوحي الإلهام في شيء من ذلك بل في الوضوح والنورية ومشاهدة الملك المفيد للصور العلمية فإن العلوم إنما يحصل في نفوسنا بواسطة الملائكة العلمية والعقول الفعالة. وإليه الإشارة بقوله تعالى: و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فتكلم الله عباده إشارة إلى إفاضة العلوم على قلوبهم بوجوه متفاوتة كالوحي والإلهام والتعليم بواسطة الرسل والمعلمين. إذا تمهد هذا ظهر الفرق بين طريقة أهل البحث وطريقة أهل التصرف في العلوم الإلهية دون التعلمية فلذلك اختاروا طريقة المجاهدة لمحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى ومهما حصل ذلك كان الله هو المتولي لقلب عبده والمتكفل بتنويره بأنوار العلوم وإذا تولى الله أمر القلب فاضت الرحمة وأشرق النور عليه وانشرح الصدور وانكشف له سر الملكوت وانقشع عن وجه القلب حجاب العزة بلطف الرحمة وتلألأ فيه حقائق الأمور الإلهية وقد رجع هذا الطريق إلى تطهير محض من جانبك وتصفية وجلاء ثم استعداد وانتظار فقط لما يفتح الله من الرحمة إذ الأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمور وفاض على صدورهم النور لا بالتعلم والدراسة للكتب بل بالزهد في الدنيا والتبري عن علائقها والإقبال بكنه الهمة على الله فمن كان لله كان الله له. وأما النظار وذو الاعتبار فلم ينكروا وجود هذا الطريق وإمكانه وإفضاءه إلى المقصد على الندور فإنه أكثر أحوال الأنبياء والأولياء ولكن استوعروا هذا
609 الطريق واستبطؤوا ثمرته واستبعدوا اجتماع شروطه وزعموا أن محو العلائق إلى ذلك الحد كالمتعذر وإن حصل في حالة فثباته أبعد إذ أدنى وسواس وخاطر يشوش القلب قال رسول الله ص: قلب المؤمن أشد تقلبا من القدر في غليانه وقال: قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء. وفي أثناء هذه المجاهدة قد يفسد المزاج ويخطل العقل ويمرض البدن وإذا لم يتقدم رياضة البدن وتهذيبها بحقائق العلوم تشبث بالقلب خيالات فاسدة تطمئن النفس إليها مدة طويلة إلى أن يزول والعمر ينقضي دون النجاح فيه. فكم من صوفي سلك هذه الطريق ثم بقي في خيال واحد عشرين سنة ولو كان قد أتقن العلوم من قبل لا نفتح له وجه التباس ذلك الخيال في الحال فالاشتغال بطريق التعلم أوثق وأقرب إلى الغرض. وزعموا أن ذلك يضاهي ما لو ترك الإنسان تعلم الفقه وزعم أن النبي ص لم يتعلم ولكن صار فقيها بالوحي والإلهام من غير تكرار وتعليق فإنا أيضا ربما ننتهي بالرياضة إليه. ومن ظن ذلك فقد ظلم نفسه وضيع عمره بل هو كمن ترك طريق الكسب والحراسة رجاء العثور على كنز فإن ذلك ممكن ولكنه بعيد جدا فكذلك هذا. فقالوا: لا بد من تحصيل ما حصله العلماء وفهم ما قالوه ثم لا بأس بعد ذلك بالانتظار لما لم ينكشف لسائر العلماء فسعاه أن ينكشف بالمجاهدة بعد ذلك جلية كنه الأشياء. وزيادة تحقيق الفرق بين المسلكين أنه لما كانت حقائق الأشياء مسطورة في العالم العقلي المسمى باللوح المحفوظ بل في قلوب الملائكة المقربين فكانت العناية الأزلية منشئة مقتضية لوجود العالم على وفق المعلوم علما أزليا إلهيا فعليا فكما أن المهندس يسطر صورة أبنية الدار في نسخة ثم يخرجها إلى الوجود على وفق تلك النسخة فكذلك فاطر السماوات والأرض كتب نسخة العالم من أوله إلى آخره ثم أخرجه على وفق تلك النسخة. والعالم الذي خرج إلى الوجود بصورته يتأدى منه
610 صورة أخرى إلى الحواس والخيال. فإن من نظر إلى السماء والأرض ثم قبض بصره يرى صورة السماء والأرض في خياله حتى كأنه ينظر إليها ولو انعدمت السماء والأرض في نفسها كأنه يشاهدها وينظر إليها ثم يتأدى من خياله أثر إلى العقل فيحصل فيه حقائق الأشياء التي دخلت في الحس والخيال. فالحاصل في العقل الإنساني موافق للعالم الموجود في نفسه خارجا من خيال الإنسان وعقله. والعالم الموجود موافق للنسخة الموجودة في اللوح العقلي وهو سابق وجوده في القدر والصور المثالية وهو سابق على وجوده الجسماني ويتبعه وجوده الخارجي ويتبع وجوده الخيالي وهو يتبع وجوده العقلي أعني وجوده في القوة العاقلة الإنساني المتحدة بالعقل الفعال على ما بيناه آنفا. وبعض هذه الوجودات عقلية وبعضها مثالية وبعضها حسية فكان الوجود عقلا ثم نفسا ثم حسا ثم جسما فدار على نفسه فصار حسا ثم نفسا ثم عقلا فارتقى إلى ما هبط منه والله هو المبدأ والغاية. فانظر يا إنسان إلى الحكمة الإلهية كيف جعل هذه المراتب من الوجود والطبقات في ذاتك فخلق فيك شبه الإبداعي عقلا ونفسا وحسا وبدنا ثم أثبت فيك بواسطة الحس مع صغر حجمه صورة العالم والسماوات والأرض على اتساع أكنافها ثم سرى من وجودها في الحس وجودا في الخيال ثم منه وجودا في العقل فإنك أبدا لا تدرك إلا ما هو واصل إليك أو قائم بك على النحو الذي علمت منا أن تصور الأشياء وتمثلها في صقع من الجوهر النطقي فلو لم يجعل الواجب للعالم كله مثالا في ذاتك لما كان لك خبر مما يباين ذاتك. فسبحان من دبر هذه العجائب في القلوب والأبصار ثم أعمى عن دركها القلوب والأبصار حتى صار قلب أكثر الخلق جاهلا بالقلب وبعجائبه. فلنعد إلى ما كنا فيه فنقول: القوة العاقلة من الإنسان يتصور أن يحصل فيه
611 حقيقة العالم وهيئة الوجود تارة من جهة اقتباس الحواس وتارة من اللوح المحفوظ والألواح القدرية ورأى الأشياء فيها فاستغنى عن الاقتباس من مداخل الحواس. فإذن للقلب بابان باب مفتوح إلى عالم الملكوت فهو اللوح المحفوظ وعالم الملائكة العلمية والعملية بإذن الله. وباب مفتوح إلى القوة المدركة والمحركة بإذن الله المتمسك بعالم الشهادة والملك فهو جالس في الحد المشترك بين عالم المعقولات وعالم المحسوسات له وجه إلى ذاك ووجه إلى هذا. وأما وجه القلب إلى عالم الشهادة وبابه المفتوح إلى الاقتباس من الحواس فلا يخفى عليك أن عالم الملك والشهادة أيضا حكاية ومثال لعالم الملكوت نوعا من المحاكاة. وأما وجهه إلى عالم الملكوت وبابه الداخلي المفتوح إلى مطالعة اللوح المحفوظ والذكر الحكيم فيعلمه علما يقينيا في عجائب الرؤيا واطلاع القلب في النوم على ما سيكون في المستقبل أو كان في الماضي من غير اقتباس في جهة الحواس. فإن الرؤيا الصادقة دالة على وجود جوهر مطلع على الجزئيات والكليات وهو المراد من اللوح المحفوظ والذكر الحكيم. وإنما ينفتح ذلك الباب لمن توجه إلى عالم الغيب وأفرد ذكر الله على الدوام. روي عن النبي ص أنه قال: سبق المفردون قيل: ومن هم قال: المستهزون بذكر الله تعالى وضع الذكر أوزارهم فوردوا خفافا ثم قال في وصفهم: أقبل عليهم بوجهي أترى من واجهته بوجهي يعلم أحد أي شيء أريد أن أعطيه ثم قال: أول ما أعطيه أن أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عني كما أخبرهم عني. ومدخل هذه الإخبارات والإنذارات هو الباب الباطن فإذن الفرق بين علوم الأنبياء والأولياء وبين جمهور العلماء والحكماء يأتي من باب الحواس المفتوحة إلى عالم الملك. هذا تمام ما لخصناه من كلام بعض أئمة العلم والشريعة أوردناه في هذا الفصل لكونه مشتملا على مزيد توضيح لما بيناه سابقا يوجب سهولة الأخذ للمتعلمين ومناسبا لما كنا فيه من أن علوم الأنبياء لدنية وأن النبوة موهبية لا كسبية.
612 فصل في إثبات أن النبي ص لا بد وأن يدخل في الوجود وأن يعتقد به ويؤمن بأن الله هو الذي أرسله ليظهر دينه وليعلم الناس طريقة الحق ويهديهم إلى صراط مستقيم هو صراط الله العزيز الحميد. وذلك أن الإنسان مدني بالطبع لا ينتظم حياته إلا بتمدن واجتماع وتعاون لأن نوعه لم ينحصر في شخص ولا يمكن وجوده بالانفراد فافترقت الأعداد واختلفت الأحزاب وانعقدت ضياع وبلاد فاضطروا في معاملاتهم ومناكحاتهم وجناياتهم إلى قانون مطبوع مرجوع إليه بين كافة الخلق يحكمون به بالعدل وإلا تغالبوا وفسد الجميع واختل النظام لما جبل عليه كل أحد من أنه يشتهي لما يحتاج إليه ويغضب على من يزاحمه. وذلك القانون هو الشرع. ولا بد من شارع يعين لهم منهجا يسلكونه لانتظام معيشتهم في الدنيا ويسن لهم طريقا يصلون به إلى الله ويذكرهم أمر الآخرة والرحيل إلى ربهم وينذرهم بيوم ينادون فيه من مكان قريب وتنشق الأرض عنهم سراعا ويهديهم إلى صراط مستقيم ولا بد أن يكون إنسانا لأن مباشرة الملك لتعليم الإنسان وتصرفه فيهم على هذا الوجه فيهم ممتنع ودرجة باقي الحيوانات أنزل من هذا. ولا بد من تخصصه بآيات من الله دالة على أن شريعته من عند ربه العالم القادر الغافر المنتقم ليخضع له النوع ويوجب لمن وقف لها أن يقر بنبوته وهي المعجزة. وكما لا بد في العناية الإلهية لنظام العالم من المطر مثلا والعناية لم يقتصر عن إرسال السماء مدرارا فنظام العالم لا يستغني عن من يعرفهم موجب صلاح الدنيا والآخرة. فانظر إلى لطفه ورحمته كيف جمع لخلقه بإيجاده ذلك الشخص وبين النفع العاجل في الدنيا والآجل في العقبى وكيف خلق هذا لأجل النظام نعم من لم يهمل إنبات الشعر على الحاجبين وتعقير الأخمصين في القدمين كيف يهمل وجود رحمة للعالمين وسائق للعباد إلى رحمته ورضوانه في النشأتين. فهذا هو خليفة الله في أرضه
613 وستعلم معنى كونه خليفة الله في الأرض. فهذا النبي يجب أن يفرض على الناس في شرعه العبادات. منها وجودية يخصهم نفعها كالأذكار والصلوات فيحركهم بالشوق إلى الله تعالى أو نافعة لهم ولغيرهم كالقرابين والزكوات والصدقات وعدمية يخصهم أيضا ويزكيهم كالصوم. ومتعدية أيضا كالكف عن إيلام النوع والجنس ويسن لهم أسفارا يزعجون فيها عن بيوتهم طالبين رضا ربهم ويتذكرون يوما من الأجداث إلى ربهم ينسلون فيزورون الهياكل الإلهية ومساكن الأنبياء ونحوها. ويشرع لهم عبادات يجتمعون عليها كالجمعة فيكسبون مع المثوبة الايتلاف والمصادفات والتودد وتكرر عليهم العبادات للتحكيم وإلا فينسون فيهملون. فكما أن للجميع خليفة واسطة من قبل الله فلا بد أن يكون للاجتماعات الجزئية وسائط من ولاة وحكام من قبل هذه الخليفة وهم الأئمة والعلماء. وكما أن الملك واسطة بين الله وبين النبي ص والنبي واسطة بين الأولياء الحكماء من أمته وهم الأئمة ع فهم أيضا وسائط بين النبي وبين العلماء والعلماء وسائط بين الأئمة والعوام. فالعالم قريب من الولي والولي قريب من النبي والنبي من الملك والملك من الله تعالى. ويتفاوت درجات الملائكة والأنبياء والأولياء والعلماء في مراتب القرب تفاوتا لا تحصى. فصل في بيان السياسات والرئاسات المدنية وما يلحق بها من أسرار الشريعة بوجه تمثيلي لا شك أن الإنسان لم يمكن أن ينال الكمال الذي لأجله خلقت إلا باجتماعات جماعة كثيرة متعاونين كل واحد منهم لكل واحد ببعض ما يحتاج إليه فيجتمع مما يقوم به جملة الجماعة جميع ما يحتاج إليه في قوامه وفي بلوغه إلى كماله. ولهذا كثرت
614 الاجتماعات الإنسانية فمنها الكاملة ومنها الغير الكاملة. فالأولى ثلث عظمى كاجتماعات أفراد الإنسان كلها في المعمورة من الأرض ووسطى كاجتماع أمة في جزء من المعمورة وصغرى كاجتماع أهل مدينة في جزء من أمة. والثانية كاجتماع أهل القرية وأهل المحلة والسكة والبيت إلا أن القرية للمدينة كالخادم والمحلة لها كالجزء والسكة جزء المحلة والبيت جزء السكة والجمع من أهل المدائن والمساكن للأمم أجزاء لأهل المعمورة. فالخير الأفضل والكمال الأقصى إنما ينال بالمدينة الفاضلة والأمة الفاضلة التي يتعاون مدنها كلها على ما ينال بها الغاية الحقيقية والخير الحقيقي دون المدينة الناقصة والأمة الجاهلة التي يتعاونون على بلوغ بعض الغايات التي هي الشرور. فالمدينة الفاضلة تشبه البدن التام الصحيح الذي يتعاون أعضاؤه كلها تتميم حياة الحيوان وفيها عضو واحد رئيس هو القلب وأعضاء تقرب مراتبها من ذلك الرئيس إذ لكل واحد منها جعلت فيه قوة يفعل بها فعله اقتفاء لما هو بالطبع غرض ذلك العضو الرئيس. وأعضاء أخر فيها قوى بالطبع يفعل أفعالها على حسب أغراض هذه القوى التي ليس بينها وبين الرئيس واسطة وهذه في المرتبة الثانية. وأعضاء أخر يفعل على حسب الأغراض هذه التي في المرتبة الثانية ثم هكذا إلى أعضاء الخادمة لا رئاسة ولا ترأس فيها أصلا. كذلك المدينة أجزاؤها مختلفة الفطر والطبائع متفاضلة الهيئات بحسب عناية الله على عباده ووقع ظلال من نور صفاته العليا وأسماء الحسنى على خلقه وبلاده كوقوع ظلال من صفات النفس الناطقة وأخلاقها على خلائق البدن وبلادها من القوى والأعضاء ففيها إنسان واحد هو رئيس مطاع وآخرون يقرب مراتبها من الرئيس وفي كل واحد منها هيئة وملكة يفعل بها فعلا يقتفي به ما هو مقصود ذلك الرئيس وهؤلاء هم أولو المراتب الأول ودون هؤلاء هم الذين يخدمون ولا يخدمون وهم الأسفلون في أدنى المراتب غير أن أعضاء البدن طبيعية والهيئات التي يفعل بها أفاعيلها طبيعية وأجزاء المدينة وإن كانوا طبيعيين إلا أن الأخلاق والملكات يفعلون بها أفعالهم المدنية
615 إرادية. وكما أن في أعضاء البدن ما هو الرئيس المطلق له من كل ما يشارك فيه عضوا آخر أفضلها ودونه أيضا أعضاء أخرى رئيسة لما دونها ورئاستها تحت رئاسة الأول فهي تروس وترأس فكذا رئيس المدينة هو أكمل أجزاء المدينة فيما تخصه. وله من كل ما شارك فيه غيره أفضلها ودونه قوم مرؤوسون ويرؤسون آخرين. ومن نظر حق النظر رأى كل جملة طبيعية حالها في الاجتماع والترتيب حال البنية الإنسانية والمدينة الفاضلة فوجد لها رئيسا حاله من سائر الأجزاء هذه الحال بل بل كل اجتماع طبيعي فهيئة ظل وشبه لهيئة العالم الإلهي والوحدة الاجتماعية العالمية فإن السبب الأول نسبته إلى سائر الموجودات كنسبة رئيس تلك المدينة الفاضلة إلى سائر أجزائها فإن العقول البريئة عن النقائص المادية مراتبها يقرب من الأول ودونها النفوس السماوية والسماوات ودونها الطبائع الهيولانية وأجسامها الطبيعية وكل هذه تحذو حذو السبب الأول ويقتفيه وفعل ذلك كل موجود بحسب قوته إلا أنها يقتفي الغرض الأول بمراتب بعضها أشرف فيقتفي ذلك الغرض بلا توسط وبعضها أخس يقتفي غرض ما فوقه وهكذا الحال إلى أن ينتهي إلى آخر المراتب. فكذلك ينبغي أن يكون المدينة الفاضلة فإن أجزاءها كلها ينبغي أن يحتذي بأفعالها حذو مقصد رئيسها الأول على الترتيب ورئيس المدينة الفاضلة ليس يمكن أن يكون أي إنسان اتفق لأن الرئاسة لا يكون إلا لمن يكون بالفطرة والطبع معدا لها ويكون حاصلة له بالهيئة والملكة الإرادية صنعة الرئاسة وكل صناعة ليس يمكن أن يرأس بها بل أكثر الصنائع صنائع يخدم بها في المدينة وأكثر الفطر هي فطرة الخدمة. وفي الصنائع صنائع يرأس بها ويستخدم بها صنائع أخرى وكما أن الرئيس الأول في كل جمعية طبيعية لا يمكن أن يرأسها شيء من ذلك مثل رئيس الأعضاء الذي لا يمكن أن يكون عضو آخر رئيسا عليه. فالرئيس الأول للمدينة الفاضلة ينبغي أن يكون صناعته صناعة لا يمكن يخدم بها أصلا ولا يمكن أن يرأسها صناعة أخرى أصلا بل يكون صناعته صناعة نحو غرضها يؤم الصناعات كلها وإياه يقصد بجميع الأفعال المدينة الفاضلة.
616 فصل في الصفات التي ينبغي أن يكون عليها الرئيس الأول بحسب كماله الأول ويكون ذلك الإنسان إنسانا قد استكملت نفسه وصارت عقلا بالفعل وقد استكملت قوته المتخيلة بالطبع غاية الكمال وكذا قوته الحساسة والمحركة في غاية الكمال كلها بنوع فعل لا بانفعال محض على الوجه الذي أومأنا إليه. فبقوته الحساسة والمحركة يباشر السلطنة ويجري الأحكام الإلهية ويحارب أعداء الله ويذب عن المدينة الفاضلة وتقاتل المشركين والفاسقين من أهل المدينة الجاهلية والظالمة والفاسقة ليفيئوا إلى أمر الله. وبقوته المتخيلة معدا بالطبع ليقبل إما في اليقظة أو في وقت النوم عن العقل الفعال أما الجزئيات بأنفسها وأما الكليات يحاكيها. وبقوته العاقلة يكون بحيث قد استكمل عقله المنفعل بالمعقولات حتى لا يكون بقي عليه منها شيء وصار عقلا بالفعل. فأي إنسان استكمل عقله المنفعل بالمعقولات كلها وصار عقلا بالفعل ومعقولا بالفعل وصار المعقول منه هو الذي يعقل حصل له عقل بالفعل فيصير عقلا مستفادا متوسطا بين العقل المنفعل والعقل الفعال ولا يكون بينه وبين العقل الفعال شيء آخر. فيكون العقل المنفعل كالمادة والموضوع للعقل المستفاد والمستفاد كالمادة والموضوع للعقل الفعال والقوة الناطقة التي هي هيئة طبيعية يكون مادة موضوعة للعقل المنفعل الذي هو بالفعل عقل. وقد علمت منا سابقا جلية الحال في اتحاد النفس بالعقل الفعال بعد كونها صورة طبيعية للبدن المستحيل القابل للفساد والزوال وقد علمت أيضا كون العقل الفعال مع وحدته الشخصية المستحيل صدقها على الكثرة فكيف كان فاعلا للنفوس متقدما عليها وغاية متأخرة عنها وثمرة مترتبة عليها. فعليك تذكر ذلك فإنه مقصد عال ومطلب غال فإذا جعلت الهيئة الطبيعية مادة للعقل المنفعل الذي صار عقلا بالفعل والمنفعل مادة للمستفاد والمستفاد مادة للعقل الفعال وأخذت جملة ذلك كشيء واحد كان هذا
617 الإنسان هو الإنسان الذي حل فيه العقل الفعال. وهذا إذا حصل للجزء النظري من قوته الناطقة يسمى هذا الإنسان حكيما وفيلسوفا. وإذا حصل ذلك في كلا جزأي قوته الناطقة وهما النظرية والعملية وفي قوته المتخيلة كان هذا الإنسان هو الذي يوحى إليه فيكون الله عز وجل يوحي إليه بتوسط الملك الذي هو العقل الفعال فيكون بما يفيض عن الله تبارك وتعالى إلى العقل الفعال ويفيضه العقل الفعال إلى عقله يفيضه منه إلى عقله المنفعل حكيما فيلسوفا ووليا وبما يفيض منه إلى قوته المتخيلة نبيا منذرا بما سيكون ومخبرا بما كان وبما هو الآن من الجزئيات موجودا. وهذا الإنسان هو في أكمل مراتب الإنسانية وفي أعلى درجات السعادة ويكون نفسه كالمتحدة بالعقل الفعال على الوجه الذي قلنا. وهذا الإنسان يقف على كل فعل يمكن أن يبلغ به السعادة فهذا أول شرائط الرئيس. فصل في الكمالات الثانوية ثم إن يكون له مع ذلك قدرة بلسانه على جودة التخيل بالقول لكل ما يعلمه وقدرة على جودة الإرشاد والهداية إلى السعادة وإلى الأعمال التي يبلغ بها السعادة وأن يكون له مع ذلك جودة ثبات ببدنه لمباشرة أعمال الحرب. فهذا هو الرئيس الأول للمدينة الفاضلة والأمة الفاضلة ورئيس المعمورة من الأرض كلها. ولا يمكن أن يصير إلى هذه الحال إلا من اجتمعت فيه بالطبع اثنتا عشرة خصلة قد فطر عليها. أحدها أن يكون تام الأعضاء قويا مواتيا أعضاءه على الأعمال التي شأنها أن يكون بها. ثم أن يكون جيد الفهم والتصور لكل ما يسمعه ويقال له على ما يقصده القائل
618 وعلى ما هو الأمر عليه في نفسه. ثم أن يكون جيد الحفظ لما يفهمه ويحسه لا يكاد ينساه. ثم أن يكون حسن العبارة يواتيه لسانه على إبانة كلما يضمره إبانة تامة. ثم أن يكون محبا للعلم والحكمة لا يولمه التأمل في المعقول ولا يؤذيه الكد الذي يناله منها. ثم أن يكون بالطبع غير شره على الشهوات متجنبا بالطبع للعب ومبغضا للذات الكائنة الفاسدة. ثم أن يكون كبير النفس محبا للكرامة يكبر نفسه بالطبع على كلما يشين ويضيع من الأمور ويسمو نفسه بالطبع إلى الأرفع منها. ثم أن يكون الدرهم والدينار وسائر أعراض الدنيا هينة عنده. ثم أن يكون بالطبع محبا للعدل وأهله ومبغضا للجور والظلم وأهله يعطي النصف من أهله ومن غيره ويحث عليه ويؤتي لمن حل به الجور مواتيا لكل ما يراه حسنا جميلا عدلا غير صعب انقياد ولا جموح ولا لجوج إذا دعا إلى العدل وصعب الانقياد إذا دعا إلى الجور أو القبيح بوجه. ثم أن يكون قوي العزيمة على الشيء الذي يرى أنه ينبغي أن يفعل جورا عليه مقدما غير خائف ولا ضعيف النفس. فهذا لوازم خصائصه الثلاث التي ذكرناها سابقا واجتماع هذه كلها في إنسان واحد عسر. فلهذا لا يوجد من فطر هذه الفطرة إلا الواحد بعد الواحد كما قاله الشيخ أبو علي: جل جناب الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا واحد بعد واحد.
619 فصل فيه إشارة جميلة إلى أسرار الشريعة وحكمة التكاليف تمهيد حقيقة الإنسان كما أومأنا إليها حقيقة جمعية وحدتها كوحدة العالم وحدة تأليفية ذات مراتب كثيرة متفاوتة في التجرد والتجسم والصفاء والكدر والنور والظلمة. وكما أن جملة العالم لها طبقات كثيرة متفاوتة في الشرف والخسة إلا أن لها ثلاث أجناس في كل جنس طبقات لا يحصي عددها إلا الله والأول عالم العقل وله مراتب كثيرة. والثاني عالم المثال والخيال المنفصل على مراتب متفاوتة أقصاها يصاقب أدنى عالم العقول (يعاقب خ. ل). والثالث عالم الجرم على طبقاتها من أعلى الأفلاك إلى أدنى الأرضين والجرم الأعلى في اللطافة بحيث يشابه به أدنى عالم المثال والجميع شخص واحد مظهر لجميع أسماء الله تعالى التي هي على كثرتها عين الوجود الحق تبارك وتعالى. ثم كل مرتبة من مراتب العالم كموضوع ومادة للمرتبة التي هي أعلى منها وتلك بعينها صورة متقومة وفاعل وغاية لمرتبة هي تحتها وهكذا في النزول إلى مادة الكل التي هي الهيولى ولها غاية الخسة. وفي الصعود إلى صورة الصور وفاعلها وغاية الغايات الإمكانية وهو عقل الكل وسيد الممكنات والعبد الأعلى والممكن الأشرف والحقيقة المحمدية ص على لسان التصوف وهو الأول في البغية والتعقل والآخر في الدرك والعمل إلا أن هاهنا التعقل عين الوجود والوجود عين التعقل فكذلك جملة الإنسان منتظمة من جميع هذه المراتب والحقائق يوجد فيه حقيقة كل العوالم فهو قابل في ذاته لجميع النشئات العقلية والنفسية مستجمع لجميع العوالم الغيبية والحسية. وكما أن مجموع العالم الذي يقال له الإنسان الكبير مظهر الأسماء الإلهية تفصيلا فالإنسان الكامل مظهرها إجمالا فهو مظهر لأسماء الله. وكما أن طبقات
620 العالم كلها بحيث يجمع في رباط ويتصل بعضها ببعض كسلسلة واحدة يتحرك أولها بتحرك آخرها بأن يتنازل الآثار ويتصاعد الهيئات من العالي إلى السافل ومن السافل إلى العالي ولكن لا على وجه ينافي قواعدهم من لزوم التفات من العالي للسافل أو تأثير من السافل في العالي بل على وجه آخر يعرفه الراسخون في العلم والعرفان. كذلك هيئة النفس والبدن يتصاعد ويتنازل من موطن أحدهما إلى موطن الآخر فكل منهما ينفعل عن صاحبه سواء كانت تلك الهيئات علمية أو عملية فكل صفة بدنية فعلية أو إدراكية صعدت إلى عالم النفس صارت عقلية وكل ملكة نفسانية فعلية أو إدراكية نزلت إلى عالم البدن صارت حسية. واعتبر بصفة الغضب كيف يوجب ظهورها في البدن احمرار وجهه وبصفة الخوف كيف يوجب نزولها فيه اصفراره وكذا الفكر في المعارف والحقائق وسماع آية من الملكوت كيف يوجب اقشعرار البدن ووقوف أشعاره واضطراب جوارحه. وانظر كيف يرتفع صورة المحسوسات التي صادفها البدن وأدركتها القوى البدنية إلى عالم العقل الإنساني وكان محسوسا مشاهدا بالحواس في عالم الجرم فصار معقولا غائبا عن الأبصار مدركا بالبصيرة والاعتبار. وهكذا فافعل ذلك مقياسا في جميع ما وردت به الشرائع الحقة فاحكم أولا إيمانك محملا في حقيقة كل مأمور به أو منهي عنه فيها بما يرجع إلى تقوية الجنبة العالية منك وحفظ جانب الله وإعلاء كلمة الحق ورفض الباطل والإعراض عن الجنبة السافلة ومحاربة أعداء الله واتباع الشيطان داخلا وخارجا بالجهادين الأكبر والأصغر. فصل فيه إشارة تفصيلية إلى منافع بعض الأعمال المقربة إلى الله تنبيه خشوع الجوارح وخضوع البدن بعد تلطيفه وتنزيهه وتطهيره مع ذكر الله تعالى باللسان وتحميده وتمجيده والإعراض عن الأغراض الحسية والامتناع عنها بكف الحواس
621 وذكر أحوال الملكوت والجبروت والتشبه بها وبالمقربين من عباد الله المخلصين يوجب عروج القلب والروح إلى الحضرة القدسية والإقبال على الحق والاستفاضة عن عالم الأنوار وتلقي المعارف والحقائق والاستمداد من ملكوت السماوات والأرض فوضعت عبادة شاملة لهيئات الخضوع والخشوع وإتعاب الجوارح مع شرائط التنظيف والتنزيه وقصد القربة وصدق النية والأذكار المذكرة لنعم الله وثنائه بما يليق بحضرته وغايتها التذلل لعظمته والإذعان لأمره وحكمته. فإن لكل علة مع معلولها ولكل لازم مع ملزومه مناسبة شديدة فيكون حصول ما يناسب أحدهما معدا لحصول ما يناسب الآخر فيكون قراءة الكلام النازل في اللوح الإلهي سيما حين الاتصال بعالم النور عند تدبر معانيه والتفكر في حقائقه معدة لهيئات قدسية مطلوبة في الصلاة التي هي معراج المؤمن. ولا شبهة في أن تكرار الأفعال والحركات يوجب حدوث الملكات والأخلاق. ثم إنا قد بينا سابقا أن الحركات العلوية مبدؤها العلاقة الشوقية الحاصلة في الأجرام الكريمة الفلكية ومنتهاها الإشراقات الفائضة عليها من عللها وأسبابها بتحريك مبدأ الكل لها وتشويقه إياها إليه فمنه مبدؤها وإليه مرجعها في دورية حركاتها وهو الذي أفاد فيها شوقا أوجب لها بطواف الأطراف. فلله در طائفة بالكعبة طائفة تقربا إلى الله وطلبا لمرضاته. والزكاة يوجب صرف النفس عن التوجه إلى الأمور الدنية البدنية وفيها تحصيل لملكة الالتفات إلى غير الله وعدم الأمر بتركها بالكلية لصلاح العالم وانتظامه. فإن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير مع أن دفع الشر به بوجه آخر والأمر بإيثار على الفقراء لأنهم أحوج إلى الخلق إلى إعطائه وهو عندهم ألذ وتوجه لنفوسهم إليه أشد. وأيضا منافع الدنيا كثيرة وحبسها على بعضها قبيح عقلا وكلما كان احتياج الخلق إليه أكثر وجب أن يكون شركة الناس فيه وتوزيعه عليهم أوفر ولذلك أوجب في الأقوات العشر وفي النقود ربعه.
622 تنبيه قد تبين وتحقق بشواهد الشرع وبصائر العقل أن مقصود الشرائع كلها سياقة الخلق إلى جوار الله وسعادة لقائه والارتقاء من حضيض النفس إلى ذروة الكمال ومن هبوط الأجسام الدنية إلى شرف الأرواح العلية وذلك لا يتيسر إلا بمعرفة الله تعالى ومعرفة صفاته والاعتقاد بملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر. لأن قوام الممكن بالواجب وقوام العبد بالرب فما لم يعرف العبد نفسه بالعبودية فلم يعرف نفسه ولا ربه وما لم يعرف ربه بالربوبية فكذلك لم يعرف ربه ولا نفسه إذ كما أن معنى العبودية مقوم له كذلك معنى الإلهية والربوبية عن ذاته تعالى بمعنى أن ذاته من غير انضمام معنى إليه إله ورب للعالم. ولهذا قال الله تبارك وتعالى و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون أي ليكونوا عبيدا. وفيه سر النفس حيث يكون حقيقتها جوهر نوري عقلي لا وجود له ما لم يصر عقلا بالفعل وهي مع ذلك لمعة من لمعات نور الله المعنوية فما لم يعرف نفسه كذلك وربه كذلك لم يكن نفسه موجودا بل صارت نسيا منسيا كالمعدوم رأسا. وإليه أشار سبحانه بقوله: نسوا الله فأنساهم أنفسهم. فقد علم أن مقصود الشرائع ليس إلا معرفة الله والصعود إليه بسلم معرفة النفس بالذلة والعبودية وكونها لمعة من لمعات ربه مستهلكة فيه فهذا هو الغاية القصوى في بعثة الأنبياء لكن لا يحصل هذا إلا في الحياة الدنيا لكون النفس في الأول لكونها ناقصة بالقوة كما علمت والارتقاء من حال نقص إلى حال تمام لا يكون إلا بحركة وزمان ومادة قابلة. ووجود هذه الأشياء من خصائص هذه النشأة الحسية وهو المعنى بقوله عليه: الدنيا مزرعة الآخرة. فصار حفظ الدنيا التي هي النشأة الحسية للإنسان أيضا مقصودا ضروريا تابعا للدين لأنه وسيلة إليه. والمتعلق من أمور الدنيا بمعرفة الحق الأول والزلفى لديه
623 وتحصيل النشأة الآخرة والتقرب إليه تعالى شيئان النفوس والأموال. ومن هاهنا يعرف مراتب الطاعات والمعاصي وأن أي الطاعات أفضل الفضائل وأعظم الوسائل المقربة لديه وأيها أدون وأن أي المعاصي أكبر الكبائر المبعدة عنه وأيها أدون ذلك. فإذا كان معرفة الله هي الغاية القصوى والثمرة العليا فأفضل الأعمال الدنيوية ما به يحفظ المعرفة على النفوس إما بالتعليم والهداية أو بالتعلم والدراسة والرئاسة. ويليه ما ينفع في ذلك وهو ما يحفظ به الحياة على الأبدان وبعده ما يحفظ به الأموال أو ما به المعايش على الأشخاص. فهذه ثلاثة مراتب ضرورية في مقصود الشرع عقلا. فأكبر الكبائر ما يسد باب معرفة الله ويليه ما يسد باب حياة النفوس ويلي ذلك ما يسد باب المعايش التي بها حياة النفوس فيحصل من هذا أن فعل المعاصي كفعل الطاعات على ثلاث مراتب: أولاها ما يمنع من معرفة الله ومعرفة رسله وأئمته بعده وهو الكفر فلا كبيرة فوق الكفر إذ الحجاب بين العبد وبين الله هو الجهل والوسيلة المقربة إليه هو العلم والمعرفة وبقدر معرفته والعلم به وبصفاته وأفعاله وكتبه ورسله واليوم الآخر والمراجعة إليه يحصل التقرب منه والزلفى لديه. وبقدر الجهل به وبهذه الأشياء يحصل البعد عند والطرد من جنابه ويتلو الجهل بحقائق الإيمان الذي يسمى كفرا الأمن من مكر الله والقنوط من رحمته فإن هذا أيضا عين الجهل. من عرف الله لم يتصور أن يكون آمنا ولا أن يكون آيسا. ويتلو هذه الرتبة البدع كلها المتعلقة بذات الله وصفاته وأفعاله وبعضها أشد من بعض وتفاوتها على حسب تفاوت الجهل بها على حسب تعلقها بذات الله سبحانه وبأفعاله وشرائعه. الرتبة الثانية النفوس إذ بقاؤها وحفظها بدوام الحياة ويحصل المعرفة بالله واليوم الآخر. فقتل النفس لا محالة من جملة الكبائر وإن كان دون الكفر لأن ذلك يصدم من المقصود وهذا يصدم عن وسيلة المقصود. إذ حياة الدنيا لا يراد إلا بالآخرة والتوسل إليها بمعرفة الله تعالى. ويتلو هذه الكبيرة قطع الأطراف وكلما يفضي إلى الهلاك
624 حتى الضرب وبعضها أكبر من بعض. ويقع في هذه الرتبة تحريم الزنا واللواط لأنه لو اجتمع الناس على الاكتفاء بالذكور في قضاء الشهوات انقطع النسل. ودفع الوجود قريب من قطع الوجود. وأما الزنا فإنه لا يفوت أصل الوجود لكن يشوش الأنساب ويبطل التوارث والتناسل وجملة من الأمور التي لا ينتظم العيش إلا بها. بل كيف يتم النظام مع إباحة الزنا ولا ينتظم أمور البهائم ما لم يتميز الفحل منها بإناث يختص بها عن سائر الفحول ولذلك لا يتصور أن يكون الزنا مباحا في شرع قصد به الإصلاح. وينبغي أن يكون الزنا في الرتبة دون القتل لأنه ليس يفوت به دوام الوجود ولا يمنع أصله ولكنه يفوت الأنساب وتحرك من الأسباب ما يكاد يفضي إلى التقاتل. الرتبة الثالثة الأموال فإنها معايش الخلق فلا يجوز تسليط الناس على تناولها كيف شاء حتى بالاستيلاء والسرقة وغيرهما بل ينبغي أن يحفظ ليبقى ببقاء النفوس إلا أن الأموال إذا أخذت أمكن استردادها وإن أكلت أمكن تغريمها فليس يعظم الأمر فيها نعم إذا جرى تناولها بطريق يعسر التدارك له فينبغي أن يكون ذلك من الكبائر وذلك بأربعة طرق خفية: أحدها السرقة الثاني أكل مال اليتيم يعني في حق الولي ليكون خفيا فتعظيم الأمر فيه واجب بخلاف الغصب فإنه ظاهر والثالث تفويتها بشهادة الزور والرابع أخذ الوديعة وغيرها باليمين الغموس فإن هذه طرق لا يمكن فيها التدارك ولا يجوز أن يختلف الشرائع في تحريمها أصلا. وبعضها أشد من بعض وكلها دون الرتبة الثانية المتعلقة بالنفوس وهذه الأربعة جديرة بأن يكون من الكبائر وإن لم يوجب الشرع الحد في بعضها ولكن كبر الوعيد عليها. وعظم في مصالح الدنيا تأثيرها. وأما أكل الربا فليس فيه إلا أكل مال الغير بالتراضي مع الإخلال بشرط وضعه الشارع. ولا يبعد أن يختلف الشرائع في مثله وإن عظم الشرع الربا بالزجر عنه فقد عظم أيضا الظلم بالغصب وغيره والمصير إلى أن آكله واثق بالخيانة والغصب من الكبائر. فيه نظر وذلك واقع في مظنة الشك وأكثر ميل الظن
625 إلى أنه غير داخل تحت الكبائر بل ينبغي أن يختص الكبيرة بما لا يجوز اختلاف الشرائع ليكون ضروريا في الدين. فصل في بيان أن مقصود الشرائع كلها تعريف عمارة منازل الطريق إلى الله وكيفية التأهب للزاد والاستعداد بإعداد السلاح الذي يدفع بها سراق المنازل وقطاعها. بيان ذلك أن الدنيا منزل من منازل السائرين إلى الله تعالى والنفس الإنسانية مسافر إلى الله تعالى من أول منازل وجودها وهو الهيولوية التي هي في غاية البعد عنه تعالى لأنها ظلمة محضة وخسة صرفة وسائر المراتب الوجودية من الجسمية والجمادية والنباتية والشهوية والغضبية والإحساس والتخيل والتوهم ثم الإنسانية من أول درجتها إلى آخر شرفها. ثم الملائكة على طبقاتها المتفاوتة قربا وبعدا من الخير المحض جميعا منازل ومراحل إلى الله تعالى. ولا بد للمسافر إليه تعالى من أن يمر على الجميع حتى يصل إلى المطلوب الحقيقي. وقوافل النفوس الإنسانية متعاقبة متخالفة بعضها قريب الوصول وبعضها بعيد وبعضها واقفة وبعضها راطق وبعضها سريع السير مقبلا أو مدبرا وبعضها بطيء السير كذلك على حسب ما جرى قضاء الله تعالى وقدره في حق كل أحد من أهل السعادة والشقاوة الأصليين والأنبياء وسائر القوافل وأمراء المسافرين إليه تعالى والأبدان مراكب المسافرين ومن ذهل عن تربية المراكب وتدبير المنزل لم يتم سفره وما لم يتم أمر المعاش في الدنيا التي هي عبارة عن حال النفس في تعلقها بالحس لا يتم. أمر التبدل والانقطاع إلى الله تعالى الذي هو السلوك ولا يتم. ذلك حتى يبقى بدنه سالما ونسله دائما ونوعه مستحفظا ولا يتم. كلاهما إلا بأسباب حافظة لوجودها وأسباب دافعة لمفسداتهما ومهلكاتهما. أما أسباب الحفظ لوجودهما فهي الأكل والشرب لبقاء الشخص والمناكحة لبقاء النوع ودوام
626 النسل. وقد خلق الغذاء سببا للحياة وخلق الإناث سببا للنسل فخلقا للحرث والنسل إلا أنه ليس يختص المأكول ببعض الآكلين ولا المنكوح ببعض الناكحين فإن الغرض في الخلقة سياق الجمع إلى جوار الله تعالى ومحل كرامته لشمول عاطفته وعموم رحمته للكل فلو ترك الأمر في الأفراد سدى ومن غير تعريف قانون مضبوط في التقسيمات والتخصيصات لتهارشوا وتقاتلوا وشغلهم ذلك عن سلوك الطريق والسير إلى الخلق بل أفضى لهم إلى الإفساد. فشرعت للشريعة الإلهية ضوابط الاختصاصات بالأموال في أبواب عقود المبايعات والمعاوضات والمداينات وقسمة المواريث ومواجب النفقات وقسمة الغنائم والصدقات وفي أبواب العتق والكتابة والاسترقاق والسبي وعرف كيفية التخصيص عند الاستفهام بالأقارير والأيمان والشهادات. وشرعت أيضا قوانين الاختصاص بالمناكحات في أبواب النكاح والطلاق والرجعة الخلع والصداق والإيلاء والظهار واللعان وأبواب محرمات النسب والرضاع والمصاهرات. وأما أسباب الدفع للمفاسد فهي العقوبات الزاجرة عنها كالأمر بقتال الكفار وأهل البغي الظلم والحث عليه والحدود والغرامات والتعزيرات والكفارات والديات والقصاص. أما القصاص فدفعا للسعي في إهلاك الأنفس والأطراف. وأما حد السرقة وقطع الطريق فدفعا لما يستهلك به الأموال التي هي أسباب المعاش. وأما حد الزنا واللواطة والقذف فدفعا لما يشوش أمر النسل والأنساب ويفسد طريق التحارث والتناسل. وأما جهاد الكفار وقتالهم فدفعا لما تعرض من الجاحدين للحق من تشويش أسباب المعيشة والديانة اللتان بهما الوصول إلى الله تعالى. وأما قتال أهل البغي فلما يظهر من الاضطراب بسبب انسلال المارقين عن ضبط السياسة المدنية التي يتولاها حارس السالكين إلى جوار الله تعالى وكافل المحققين نائبا عن رسول رب العالمين لحفظ حدود الله والأحكام الدينية والدنيوية من الحلال والحرام...