كتاب الشهادات، الأول نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

كتاب الشهادات، الأول - نسخه متنی

محمد رضا گلپایگانی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: كتاب الشهادات ، الأول
المؤلف: السيد الگلپايگاني
الجزء:
الوفاة: 1414
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: 15 شعبان 1405
المطبعة: سيد الشهداء (ع) - قم
الناشر: المؤلف
ردمك:
ملاحظات: تقرير أبحاث السيد محمد رضا الموسوي الگلپايگاني (وفاة 1414)
كتاب الشهادات
تقرير أبحاث
فقيه العصر سماحة آية الله العظمى
السيد محمد رضا الموسوي الگلپايگاني
دام ظله الوارف
بقلم
السيد علي الحسيني الميلاني

1
تاريخ الطبع: 15 شعبان 1405.

2
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم، وأفضل صلواته
وأزكى تحياته على أشرف أنبيائه وخاتم رسله وخير خلقه محمد سيد
العرب والعجم، وعلى آله وأصحابه البررة أولى الفضل والكرم. وعلى
أعدائهم اللعن المؤبد الأتم، إلى أن يحيى الله العظام بعد الرمم
وبعد، فإن العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء
ومن أتي العلم فقد أوتي خيرا كثيرا. وقد فضل الله مداد العلماء
على دماء الشهداء، وجعلهم ورثة الأنبياء.
ثم ولدنا العلامة الحجة السيد علي الميلاني أيده الله تعالى
قد صرف عمره الشريف وزهرة شبابه في طلب العلم وكسب الفضيلة
وكتب محاضراتنا وأبحاثنا في الفقه من (كتاب القضاء) وعرض
علينا ما كتب، فاطلعنا عليه ووجدناه جامعا للمسائل، حاويا
للمطالب، محتويا على النكات والدقايق، وافيا بالمراد.
وقد استجازنا في طبعه ونشره، فأجزنا له ذلك، سائلين
المولى جل شأنه أن يوفقه لمراضيه، ويكثر في العلماء والمجدين
أمثاله، فلله تعالى دره، وعليه سبحانه أجره. والسلام عليه
وعلى سائر العلماء العاملين ورحمة الله وبركاته
قم المقدسة في 28 / شهر رمضان المبارك ه‍ / 1401
محمد رضا الموسوي الگلپايگاني

3
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين
، لا سيما خليفة الله في الأرضين، الإمام الثاني عشر، الحجة ابن الحسن العسكري،
أرواحنا فداه. ولعنة الله على أعدائهم أجمعين، من الأولين والآخرين.
أما بعد فقد قال الله عز وجل:
(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (1)
لقد أولى الفقه الجعفري اهتماما بالغا بموضوع (القضاء) وكانت القوانين
المقررة فيه في غاية الدقة، والمطابقة مع ما تقتضيه الفطرة الانسانية، وقد تقدم
منا في مقدمة كتاب القضاء بعض الكلام حول أهمية القضاء وأثره، وموقعه
في فقه أهل البيت.
وبعد الفراغ من البحث عن آداب القضاء، وصفات القاضي يأتي دور
البحث عن أحكام الدعوى وموازين الحكم، التي منها (إن البينة على من
ادعى واليمين على من أنكر).



(1) سورة المائدة: 44.
5
بل إن (البينات) و (الأيمان) هما العنصران الأساسيان ل‍ (القضاء).
وأما حكم القاضي بعلمه ففيه كلام، على أنه من الندرة بمكان، وكذا حكمه
استنادا إلى الاقرار، بل قد يقال بعدم توقف الأخذ به على الحكم.
ويدل على ما ذكرنا قوله صلى الله عليه وآله: (إنما أقضي بينكم بالبينات
والأيمان) (1) وقول الباقر عليه السلام: (أحكام المسلمين على ثلاثة: شهادة
عادلة أو يمين قاطعة، أو سنة ماضية من أئمة الهدى) (2) ولعل المراد من السنة
الماضية من أئمة الهدى هو المراد مما أشار إليه الإمام عليه السلام في خبر أبي
خديجة بقول (قضايانا) (3).
و (البينات) جمع البينة) وهي (الشهادة العادلة) و (الأيمان) جمع
(اليمين) وقد وصفها في الخبر الثاني به (القاطعة).
وفي كل من (البينة) واليمين) بحوث علمية على ضوء الروايات
الواردة في أحكامهما، وحدودهما يتبين من خلالها جانب من اهتمام فقه أئمة
أهل البيت عليهم السلام بموضوع القضاء، وشدة احتياطه في الحقوق، ومدى
تلائم تلك الأحكام مع قضاء الفطرة وحكم العقل.
ومن هنا فقد نصت الأخبار على أن كل حكم توفرت في مقوماته ومقدماته
الموازين المقررة فهو نافذ، لأنه حكم الله، وإلا فهو مردود، لأنه حكم الجاهلية:
فعن الإمام عليه السلام: (الحكم حكمان، حكم الله عز وجل، وحكم
أهل الجاهلية، فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية (4).



(1) وسائل الشيعة 18 / 169.
(2) وسائل الشيعة 18 / 168.
(3) وسائل الشيعة 18 / 4.
(4) وسائل الشيعة 18 / 11.
6
بل هو مردود إن لم يكن كذلك وإن كان حقا:
فعن الإمام عليه السلام: (القضاة أربعة، ثلاثة في النار وواحد في الجنة،
رجل قضى بجور وهو يعلم فهو النار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو
في النار، ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحق وهو
يعلم فهو في الجنة (1)
وعلى هذا فإن من (الحكم بما أنزل الله) قضاء القاضي (بالحق وهو يعلم))
وهذا العلم أن أخذ من (أهل بيت النبوة) فهو علم، وإلا فجهل وضلال،
قال أبو جعفر عليه السلام في حديث: (فليذهب الحسن يعني البصري يمينا
وشمالا، فوالله ما يوجد العلم إلا ههنا) (2). وقال عليه السلام لسلمة بن كهيل
والحكم بن عتيبة: (شرقا وغربا، فلا تجد أن علما صحيحا، إلا شيئا صحيحا
خرج من عندنا أهل البيت) (3).
فيكون معنى الآية الكريمة: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الكافرون) على ضوء ما تقدم والأحاديث الواردة عن الفريقين (4) في شأن أهل



(1) وسائل الشيعة 18 / 11.
(2) وسائل الشيعة 18 / 42.
(3) وسائل الشيعة 18 / 46.
(4) كحديث الثقلين - ولا سيما ما اشتمل من ألفاظه على جملة (ولا تعلموهم
فإنهم أعلم منكم) وكحديث: (أنا مدينة العلم وعلى بابها) و (أنا مدينة الفقه
وعلى بابها) وكحديث: مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها
نجا ومن تخلف عنها هلك). وكحديث: (أقضاكم علي). ومن هنا كان علي
عليه السلام يقول: (سلوني قبل أن تفقدوني) وكان عمر يقول: (لولا علي
لهلك عمر). وإن شئت الوقوف على أسانيد وألفاظ هذه الأحاديث ونحوها
فارجع إلى كتابنا (خلاصة عقبات الأنوار) وقد طبع منه إلى الآن تسعة أجزاء.
وإلى كتاب (الغدير) وغيرهما.
7
البيت وعلومهم: ومن لم يحكم بشئ خرج صحيحا من عند أهل البيت فحكمه
حكم الجاهلية وإن كان في درهمين، وأولئك هم الكافرون.
ثم إن (الشهادة) أكثر دورا وأعمق أثرا من (اليمين) في حكم الحاكم،
(فإنما الشاهد يبطل الحق ويحق الحق، وبالشاهد يوجب الحق، وبالشاهد
يعطى) (1).
وقد وردت في أحكامها آيات من الكتاب، ونصوص كثيرة عن الأئمة
الأطهار أوردها صاحب الوسائل رحمه الله في 56 بابا. ومن هنا كانت مباحثها
في الكتب الفقهية أوسع من مباحث (اليمين). ويعجبني أن أذكر هنا بثلاثة
أمور مستفادة من الكتاب والسنة في (الشهادة)
الأمر الأول
في اعتبار التعدد في الشهود:
لقد تقرر في علم الأصول حجية خبر الواحد الثقة في الأحكام. أما في
الموضوعات، فقد ادعي الاجماع على اعتبار التعدد المعبر عنه ب‍ (البينة)،
واستدل له بوجوه عمدتها خبر مسعدة بن صدقة الذي جاء فيه: (والأشياء كلها
على هذا حتى تستبين أو تقوم به البينة)، وربما قيل: بأن الاجماع هنا إن لم يكن
كاشفا عن رأي المعصوم، فلا أقل من كشفه عن اعتبار الخبر المزبور وعمل

8
الأصحاب به.
إلا أن التحقيق هو كفاية خبر الثقة في الموضعات أيضا، للسيرة القطعية
التي لا يصلح للردع عنها مثل خبر مسعدة، المخدوش دلالة بل وسندا
والاجماع المدعى ليس بحجة، ولا يكشف عن اعتبار الخبر عندهم، لاختلافهم
في الاستدلال في المسألة.
وأيضا لا يعتبر في المخبر الثقة أن يكون عادلا، للسيرة العقلائية القطعية،
وكون آية النبأ رادعة عن هذا السيرة يتوقف على أن يكون الأمر فيها بالتوقف
عن قبول خبر الفاسق تعبدا شرعيا، إلا أن مقتضى الأمر بالتبين والتعليل بعدم
الإصابة. هو الارشاد إلى ما عليه السيرة العقلائية، من عدم الاعتماد على
خبر الفاسق، لا لكونه فاسقا بل من جهة عدم الوثوق بخبر الفاسق، وحينئذ
فحيث يكون الفاسق صادقا في اخباره فلا حاجة إلى التبين، لعدم ترتب الإصابة
بجهالة والندم على العمل بخبره.
فتحصل أنه لا يعتبر التعدد ولا العدالة في الاخبار عن الموضوعات، لعدم
ثبوت الرادع عن السيرة القائمة فيها. هذا في غير باب القضاء
أما في باب القضاء فليس الأمر بهذه السهولة، لأنه الباب الموضوع لحل
المنازعات وفصل الخصومات الواقعة في النفوس والفروج والأنساب والأموال
والحقوق. هذه الأمور التي شدد الشارع فيها وأكد على الاحتياط. فكان
مقتضى الحكمة أن لا يكتفي بشهادة الثقة ولا العدل الواحد، بل اعتبر (البينة)
فقال: (إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان) و (البينة على المدعي واليمين على
من أنكر)
ولم يرد عن الشارع الحكم بشهادة الواحد وحيثما حكم بشهادته لقبه
ب‍ (ذو الشهادتين).

9
ومن هنا كان للفظ (البينة) وضع خاص في عرف الشرع والمتشرعة، في
مقابل معناه اللغوي، وإن شئت فقل: إن (ما يبين الشئ) في بحوث القضاء هو
(الشهادة العادلة)
الأمر الثاني
في حرمة كتمان الشهادة وشهادة الزور:
ودلت النصوص على حرمة كتمان الشهادة، وحرمة شهادة الزور على
حد سواء فعن أبي عبد الله عليه السلام: (لا ينقضي كلام شاهد الزور من بين
يدي الحاكم حتى يتبوء مقعده في النار. وكذلك من كتم الشهادة) (1).
وعن أبي جعفر عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (من
كتم شهادة أو شهد بها ليهدر بها دم امرئ مسلم، أو ليزوي بها مال امرئ مسلم
أتي يوم القيامة ولو جهة ظلمة مد البصر، وفي وجهه كدوح تعرفه الخلائق
باسمه ونسبه.) (2)
وعن النبي صلى الله عليه وآله في حديث المناهي: (إنه نهى عن شهادة
الزور، ونهى عن كتمان الشهادة وقال: من كتمها أطعمه الله لحمه على رؤوس
الخلائق وهو قول الله عز وجل: ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم
قلبه) (3)
والمستفاد من هذه الأخبار وغيرها كونهما معا من الكبائر، نعم بينهما فرق
من حيث الضمان، فقد دلت النصوص بصراحة على ضمان شاهد الزور، ولا



(1) وسائل الشيعة 18 / 237.
(2) وسائل الشيعة 18 / 227.
(3) بحار الأنوار 104 / 310.
10
نص ظاهرا في ضمان من كتم الشهادة.
إذن يحرم كتمان الشهادة. ويجب أداؤها. ويحرم الشهادة بغير حق.
لكن قبولها يتوقف على أن تكون (عادلة)
الأمر الثالث
في مصاديق (الشهادة العادلة)
وإن الملاك في الشهادة وقبولها كونها (شهادة عادلة) ولا تكون الشهادة
عادلة إلا إذا جمعت شرائط القبول المقررة في الفقه الجعفري من جميع الجهات:
من جهة صفات الشهود، ومن جهة طريق حصول الشهادة، ومن جهة العدد،
ومن جهة كون الشهادة شهادة فرع أو أصل، ومن جهة الطوارئ الطارئة على
الشاهد.
أما من جهة الصفات والخصوصيات التي يعتبر وجودها أو عدم وجودها
في كل شاهد، فإن الشهادة العادلة هي شهادة المسلم المؤمن العادل غير المتهم
الذي لا يجر بها نفعا إلى نفسه، ولا يستدفع بها ضررا عن نفسه.
ومن فروع ذلك: عدم قبول شهادة رفقة الطريق على اللصوص، وعدم
قبول شهادة الوصي فيما هو وصي فيه، وعدم قبول شهادة السيد لعبده المأذون.
إلى غير ذلك مما بحث عنه في الباب الأول من الكتاب.
وأما من جهة طريق حصول الشهادة فقد تقرر أن الضابط في الشهادة هو
(العلم)، وثم بحث علماؤنا عن طريق حصول هذا الضابط، فأي شئ يكفي
فيه المشاهدة؟ وأي شئ يكفي فيه السماع؟ وهل يثبت شئ بالشهادة المستند ة
إلى الاستفاضة؟ أو إلى اليد؟ أو غير ذلك؟ إلى غير ذلك مما بحث عنه في
الباب الثاني من الكتاب.

11
وأما من جهة العدد فإن العدد المعتبر يختلف بحسب اختلاف الموارد
وإن كان المعتبر في كل مورد لم ينص فيه على عدد خاص هو (شهادة العدلين)
فالشهادة العادلة في مثل السرقة هي شهادة العدلين، وفي مثل الزنا شهادة
أربعة رجال، وأما شهادة الواحد والامرأتين، والواحد مع يمين المدعي،
وشهادة النساء المنفردات فلا تقبل في حقوق الله مطلقا. والشهادة والعادلة في
مثل الطلاق من حقوق الناس هي شهادة العدلين، وفي مثل الدين منها:
شهادة العدلين، شهادة الواحد والامرأتين، الواحد ويمين المدعي. وفي مثل
الولادة: شهادة العدلين، شهادة الواحد مع الامرأتين، شهادة أربع نسوة،
وذلك لأن الولادة هي مما يعسر أو لا يجوز اطلاع الرجال عليه غالبا، فقبلت
فيها شهادة النساء منفردات. إلى غير ذلك مما بحث عنه في الباب الثالث من
الكتاب.
وأما من جهة كونها شهادة فرع، فإن الشهادة على الشهادة إنما تكون
عادلة فيما إذا كانت واجدة للقوانين المقررة فيها، فإن الشهادة على الشهادة
كيف تتحمل؟ ومتى تقبل؟ وفي أي موضع تقبل؟ وممن تقبل؟. إلى غير
ذلك مما بحث عنه في الباب الرابع من الكتاب.
وأما من جهة الطوارئ على الشاهد، فإن الشهادة العادلة هي الشهادة
الواجدة للقوانين المقررة، فيها لو شهد الشاهدان مثلا فماتا، أو شهدا
ثم فسقا أو شهدا فرجعا. إلى غير ذلك مما بحث عنه في الباب الخامس
من الكتاب.
وهذا الكتاب دونت فيه نتيجة ما تلقيته من دروس سيدنا الأستاذ الأكبر
سيد العلماء والمجتهدين، فقيه الأمة وزعيم الحوزة العلمية، المرجع الديني

12
الكبير، آية الله العظمى في العالمين، الحاج السيد محمد رضا الموسوي
الگلپايگاني، دام ظله الوارف، في (كتاب الشهادات) وأضفت إليه أشياء
كثيرة في المتن والهامش، ثم وفقت لنشره بعد أن أذن دام ظله بذلك نزولا
عند رغبة بعض الزملاء الأفاضل.
وسيتجلى في هذا الكتاب بما اشتمل عليه في أبوابه الخمسة من
البحوث العلمية العالية، والتشريعات الدقيقة العادلة جانب من جوانب عظمة
الفقه الجعفري وأصالته، دون سائر المذاهب، فضلا عن القوانين الوضعية الحديثة
وإني إذ أشكر الله على أن وفقني لنشر بحوث السيد الأستاذ في البيع
والقضاء والشهادات... أسأله عز وجل أن يمن علينا بمزيد الاستفادة من محضره
الشريف، وأن يجعل خالصة لوجهه الكريم. إنه سميع مجيب.
قم المقدسة - 15 شعبان
على الحسيني الميلاني

13
كتاب الشهادات

15
تعريف الشهادة لغة وشرعا
(الشهادات) جمع شهادة يقال: شهد يشهد شهادة، وهي في اللغة لمعان
عديدة كالعلم، والحضور، والرؤية، والاعلام والاخبار، والمعاينة، واقتصر
جماعة من اللغويين على الحضور، قالوا: ومنه قوله تعالى: (فمن شهد
منكم الشهر فليصمه) (1). وقال ابن فارس: (الشين والهاء والدال) أصل يدل
على حضور وعلم واعلام، لا يخرج شئ من فروعه عن الذي ذكرناه، من
ذلك الشهادة، يجمع الأصول التي ذكرناها من الحصور والعلم والاعلام) (2).
والمراد من الشهادة في كتاب الشهادات هو: الاعلام والاخبار، ويعتبر
فيه الجزم واليقين، ويرادفه في الفارسية (گواهي) فيقال: شهد بكذا، أي
أخبر به، فتكون الشهدة في هذا الباب بمعنى الاخبار بما قد علم، سواء كان
العلم حاصلا بإحدى الحواس الظاهرية، أو بغيرها.
فهذا الاعلام يتفرع على تحقق العلم وحصوله عن طريق الحضور، أو
الرؤية، أو غير ذلك، والشاهد يؤدي الأمر الحاصل عنده، ويبرزه، بلفظ:



(1) سورة البقرة: 185.
(2) معجم مقاييس اللغة لابن فارس 3 / 221.
17
(أشهد.).
وفي خبر عن مولانا الرضا عليه السلام: إن الحضور شهادة فقد (سئل
عن رجل طهرت امرأته من حيضها. فقال: فلانة طالق وقوم يسمعون كلامه
ولم يقل لهم: اشهدوا. أيقع الطلاق عليها؟ قال: نعم. هذه شهادة) (1).
فتحصل من ذلك: أن (الشهادة) أمر غير (أداء الشهادة) ولذا يقال:
هل يجب على الشاهد الشهادة أو لا؟ وأن الشهادة قد تكون وليس بعدها أداء
وأنها تتحقق في الحق وغيره كالهلال، ومن غير الحاكم ومنه، وأن الرواية
غير الشهادة.
فتعريفهم للشهادة شرعا بأنها: (اخبار جازم عن حق لازم للغير واقع
من غير حاكم) لا يخلو عن نظر.
فالأولى ايكال الأمر إلى العرف، ولا يبعد دعوى كون الشهادة عند أهل
العرف انشاءا لا اخبارا، وإن كان ظاهر اللفظ كذلك، نظير قول البائع
(بعت). بأن يكون قول القائل: (أشهد أن لا إله إلا الله) انشاءا، لا أنه يخبر
عن ثبوت الوحدانية لله عز وجل عنده. فتأمل
وكيف كان فقد يعتبر في الشهادة التعدد، بخلاف الاخبار والرواية،
فإن كان للشهادة منشأ كانت صادقة، وإلا فهي كاذبة
قال المحقق قدس سره:
(والنظر في أطراف خمسة:



(1) وسائل الشيعة 15 / 302. الباب 21 من أبواب مقدمات الطلاق
وشرائطه، وهو خبر صحيح، ومثله في الباب المذكور خبران آخران، وهي
تدل على كفاية اسماع الصيغة.
18
(1) صفات الشهود

19
قال المحقق: (ويشترط ستة أوصاف):
أول: البلوغ
قال: (فلا تقبل شهادة الصبي ما لم يصر مكلفا. وقيل: تقبل مطلقا إذا بلغ
عشرا، وهو متروك)
أقول: إن الأصل عدم قبول الشهادة مطلقا، سواء الصبي وغيره، ولا بد
للخروج عن هذا الأصل من دليل يقتضي القبول.
أما الصبي غير المميز فلا دليل على قبول شهادته، بل الاجماع بقسميه
قائم على عدم القبول، فإذا بلغ عشرا فهو مميز غالبا، فقيل: تقبل شهادته
مطلقا، قال المحقق: (وهو متروك). وأضاف في الجواهر: بل اعترف غير
واحد بعدم معرفة القائل به، وإن نسب 1 إلى الشيخ في النهاية، ولكنه وهم.



(1) الناسب إليه - كما في المسالك - هو صاحب كشف الرموز، قال
في المسالك: وهو وهم، وإنما ذكر الشيخ في النهاية قبول شهادته في الجراح
والقصاص خاصة، نعم له بعد ذلك عبارة موهمة لذلك، إلا أن مرادها غيره
انتهى. واعترض في الرياض على المسالك بأن الموجود في الكلام كاشف
الرموز إن الشيخ في النهاية حكى هذا القول، لا أنه حكاه عنه فيها.
وهذا نص عبارة النهاية: (ويجوز الشهادة الصبيان إذا بلغوا عشر سنين
فصاعدا إلى أن يبلغوا، في الشجاج والقصاص، ويؤخذ بأول كلامهم، ولا
يؤخذ بآخره، ولا تقبل شهادتهم فيما عدا ذلك، من الديون والحقوق والحدود
وإذا أشهد الصبي على حق، ثم بلغ وذكر ذلك، جاز له أن يشهد بذلك،
وقبلت شهادته، إذا كان من أهلها).
21
وقد اختلف عبارات الأصحاب في قبول شهادته، في خصوص الجراح
والقتل. كما سيأتي.
الاخبار في شهادة الصبي
نعم في الجواهر الاستدلال للقبول مطلقا إذا بلغ عشرا: باطلاق الشهادة
كتابا وسنة وأولوية غير الدم منه، وقول أمير المؤمنين عليه السلام في خبر
طلحة بن زيد.
. وخبر أبي أيوب الخزاز: سألت إسماعيل بن جعفر.
وقد أجاب عن الاطلاق بأنه مخصوص بالتبادر وغيره بالبالغ، وعن
الأولوية بمنعها، وعن الخبرين بضعف سنديهما وغير ذلك.
قلت: أما الآيات فقد جاء في بعضها لفظ (الرجل) كقوله تعالى (واستشهدوا
شهيدين من رجالكم) (1) (وبعضها يشتمل على الحكم الشرعي، والصبي
غير مكلف، كقوله تعالى: (ولا يأب الشهداء.) (2) وبعضها مقيد بالعدالة
كقوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) (3) والصبي لا يتصف بها،



(1) سورة البقرة: 282
(2) سورة البقرة: 282
(3) سورة الطلاق: 2
22
بناءا على اشتراط التكليف أو البلوغ في صحة الاتصاف بها. ولو سلم
الاطلاق فإن الآية المعتبرة للرجولية صالحة للتقييد، وليس موردها بمخصص
لها.
وأما الأخبار فهي على طوائف، فمنها ما هو مطلق، ومن ذلك:
1 - هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام (في قول الله عز وجل
ولا يأب الشهداء. قال: قبل الشهادة. وقوله: ومن يكتمها فإنه آثم قلبه. قال:
بعد الشهادة) (1). وهذا مطلق بغض النظر عما ذكرنا.
2 - أبو الصباح عن أبي عبد الله عليه السلام (في قوله تعالى: ولا يأب
الشهداء إذا ما دعوا. قال لا ينبغي لأحد إذا دعي إلى شهادة ليشهد عليها أن
يقول: لا أشهد لكم عليها) (2)
3 - جراح المدائني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (إذا دعيت إلى
الشهادة فأجب) (3).
4 - سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام (في قول الله عز وجل: ولا يأب



(1) وسائل الشيعة 18 / 225 الباب 1 من أبواب الشهادات. وهو صحيح.
(2) وسائل الشيعة 18 / 225 الباب 1 من أبواب الشهادات. وهو عن الشيخ
باسناده عن الحسين بن سعيد عن محمد بن الفضيل عن أبي الصباح. ومحمد
ابن فضيل) مشترك، وقد وقع الخلاف بينهم في تعيين محمد بن الفضيل
الراوي عن أبي الصباح الكناني. فراجع.
(3) وسائل الشيعة 18 / 225 الباب 1 من أبواب الشهادات. وهو عن
الشيخ باسناده عن الحسين بن سعيد عن النضر - وهو ابن سويد - عن القاسم
ابن سليمان، عن جراح. و (القاسم بن سليمان) و (جراح المدائني) غير
موثقين، لكنهما من رجال كتاب كامل الزيارات.
23
الشهداء إذا ما دعوا فقال: لا ينبغي لأحد إذا دعي إلى شهادة ليشهد عليها أن
يقول: لا أشهد لكم) (1).
5 - داود بن سرحان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (لا يأب الشاهد أن
يجب حين يدعى قبل الكتاب) (2).
ومنها ما يدل على عدم قبول شهادة الصبي مطلقا، ومن ذلك:
1 - محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: (في الصبي يشهد
على الشهادة فقال: إن عقله حين يدرك أنه حق جازت شهادته) (3).
2 - السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام: (قال قال أمير المؤمنين عليه
السلام: إن شهادة الصبيان إذا أشهد وهم صغار جازت إذا كبروا ما لم
ينسوها) (4).
3 - عبيد بن زرارة - في حديث قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
الذي يشهد على الشئ وهو صغير قد رآه في صغره ثم قام به بعد ما كبر فقال:
تجعل شهادته نحوا (خيرا) من شهادة هؤلاء) (5).



(1) وسائل الشيعة 18 / 226 الباب 1 من أبواب الشهادات. وهو موثق.
(2) وسائل الشيعة 18 / 226 الباب 1 من أبواب الشهادات. وفي طريقه
(سهل بن زياد) وفيه الخلاف المعروف.
(3) وسائل الشيعة 18 / 251 الباب 21 من أبواب الشهادات. وهو صحيح.
(4) وسائل الشيعة 18 / 251 الباب 21 من أبواب الشهادات. وفي اسناده
(النوفلي) و (السكوني) وقد ذكرنا خلاصة الكلام فيهما في بعض حواشي
كتاب القضاء.
(5) وسائل الشيعة 18 / 251 الباب 21 من أبواب الشهادات. معتبر.
24
ومنها ما يدل على القبول في خصوص القتل، أو مقيدا بقيد، مثل:
1 - جميل: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: تجوز شهادة الصبيان؟
قال: نعم، في القتل، يؤخذ بأول كلامه، ولا يؤخذ بالثاني منه)
وهذا الخبر صحيح على الأظهر (1).
2 - محمد بن حمران: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن شهادة الصبي،
قال فقال: لا، إلا في القتل، يؤخذ بأول كلامه، ولا يؤخذ بالثاني)
وهو معتبر عند بعضهم، خلافا للجواهر تبعا للمسالك (2).
3 - أبو أيوب الخزاز: (سألت إسماعيل بن جعفر: متى تجوز شهادة
الغلام؟ فقال: إذا بلغ عشر سنين. قلت: ويجوز أمره؟ قال فقال: إن رسول
الله صلى الله عليه وآله دخل بعائشة وهي بنت عشر سنين، وليس يدخل بالجارية
حتى تكون امرأة، فإذا كان للغلام عشر سنين جاز أمره، جازت شهادته) (3).



(1) وهو: الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن جميل.
وسائل الشيعة 18 / 252 الباب 22 من الشهادات، وفي قولنا (على الأظهر)
إشارة إلى الخلاف في الخبر الذي في طريقه (إبراهيم بن هاشم) مع وثاقة
غيره من رجاله.
(2) وهو: الكليني عن علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى عن يونس
عن محمد بن حمران. ففي (محمد بن عيسى - وهو العبيدي -) خلاف بين الأعلام
وقد ذهب المحققون المتأخرون إلى توثيقه فراجع. وسائل الشيعة 18 / 252
الباب 22 من الشهادات.
(3) في طريقه: محمد بن عيسى عن يونس. وأما (أبو أيوب الخزاز) فهو
ثقة. واسمه (إبراهيم) وذكر الشيخ الجد المامقاني (قده) وقوع الخلاف
في اسم أبيه وفي لقبه، قال: (وفي اسم أبيه خلاف: أنه عيسى، أو عثمان،
أو زياد، كالخلاف في لقبه: الخزاز بزائين أو الخزاز براء قبل الألف وزاي بعدهما)
25
وهذا الخبر ليس عن المعصوم فهو موقوف، لكن لا يبعد أن يكون له اعتبار ما
لجلالة قدر إسماعيل، وشدة حب أبيه الصادق عليه السلام له (1)، إلا أن ما يدل
عليه، وهو التسوية بين الرجل والمرأة في الأحكام، وقبول الشهادة مطلقا ممن
بلغ عشر سنين، مخالف لما عليه الأصحاب، فهم معرضون عن هذا الخبر،
وذلك يسقطه عن الاعتبار.
4 - محمد بن سنان عن الرضا عليه السلام في شهادة النساء (لا تجوز
شهادتهن إلا في موضع ضرورة، مثل شهادة القابلة. ومثل شهادة الصبيان
على القتل، إذا لم يوجد غيرهم)
وفي رواية (محمد بن سنان) خلاف معرف (2).
5 - طلحة بن زيد عن الصادق عن أبيه عن آبائه عن علي عليهم السلام:
(شهادة الصبيان جائزة بينهم، ما لم يفترقوا، أو يرجعوا إلى أهلهم).
(وطلحة بن زيد) عامي (3).



(1) الأخبار في حال إسماعيل ابن الإمام الصادق عليه السلام مختلفة، وقد
بحث عنها الرجاليون سندا ودلالة، وقد انتهى الكلام في تنقيح المقال ومعجم
رجال الحديث إلى حسن الرجل وجلالته وشدة حب أبيه عليه السلام له. ولكن
في منع جلالة شأنه عن الفتوى بدون الأخذ من المعصوم تأمل كما في جامع المدارك.
(2) وسائل الشيعة 18 / 268 الباب 24 من أبواب الشهادات. ويوجد في
سنده من لا توثيق له.
(3) وسائل الشيعة 18 / 253 الباب 22 من أبواب الشهادات. وهو: الصدوق
باسناده إلى طلحة بن زيد. والظاهر صحة اسناد الصدوق إلى الرجل وطلحة
ابن زيد عامي، قال الشيخ: كتابه معتمد. وهو من رجال كامل الزيارات.
26
الأقوال في شهادة الصبي
قال المحقق قدس سره: (واختلفت عبارات الأصحاب في قبول شهادتهم
في الجراح والقتل، فروى جميل عن أبي عبد الله عليه السلام: تقبل شهادتهم
في القتل، ويؤخذ بأول كلامهم، ومثله روى محمد بن حمران عن أبي عبد الله
عليه السلام. وقال الشيخ في النهاية: تقبل شهادتهم في الجراح والقصاص.
وقال في الخلاف: تقبل شهادتهم في الجراح ما لم يتفرقوا، إذا اجتمعوا على
مباح.
والتهجم على الدماء بخبر الواحد خطر، فالأولى الاقتصار على القبول في
الجراح بالشروط الثلاثة: بلوغ العشر، وبقاء الاجتماع، إذا كان على مباح،
تمسكا بموضع الوفاق)
أقول: مقتضى الجمع بين الأخبار التي ذكرناها هو القبول في القتل،
إلا أن الشروط المعتبرة فيه مختلف فيها كما سيأتي. وليس في شئ من الأخبار
ذكر للجراح، إلا أن جماعة يذكرونه مع القتل كما في عبارة المحقق، ولعله
للأولوية، لكن اثباتها مشكل، وإلا لزم القبول في جميع الأمور، لوضوح
أهمية القتل منها، اللهم إلا أن يكون الدليل عبارة الشيخ في النهاية التي ذكرها
المحقق، بناء على أن عباراتها متخذة من متون الأخبار، مؤيدا بخبر دعائم
الاسلام.
أما في الخلاف فقد ذكر الجراح ولم يذكر القتل، وعليه المحقق في

27
النافع، بل هو معقد اجماع محكي الخلاف والانتصار، فيكون هو الدليل
العمدة، لكن في التحرير والدروس الاشتراط بأن لا يبلغ الجراح النفس.
ومختار المحقق هنا هو أولوية الاقتصار على القبول في الجراح، معللا
بأن التهجم على الدماء بخبر الواحد خطر.
إنما الكلام في الشروط المعبرة في القبول، فقد اختلفت عبارات الأصحاب
فيها، تبعا لاختلاف النصوص، فاعتبر الشيخ رحمه الله في الخلاف شرطين
أحدهما: ما لم يتفرقوا، والثاني: إذا اجتمعوا على مباح، وزاد المحقق شرطا
ثالثا وهو: بلوغ العشر، فنقول:
أما (بلوغ العشر) فقد ذكر في الخبر عن إسماعيل فقط، وقد عرفت حال
هذا الخبر.
وأما (كون اجتماعهم على مباح) فلم نعثر على نص يقتضي اعتباره.
وأما (بقاء الاجتماع) فيدل عليه خبر طلحة بن زيد، لكنه ضعيف على
المشهور.
ولعل السبب في اعتبار هذا الشرط هو: أن الصبي يشهد بما سمع أو رأى
كما هو الواقع والحقيقة، وإن كان في شهادته ضرر على أحد من أقرب الناس
إليه، أما إذا رجع إلى أهله فيحتمل قويا أن يلقنه أهله ما يخالف الواقع،
ويشوهوا عليه الحقيقة.
فظهر بما ذكرنا عدم تمامية اعتبار شئ من الشروط الثلاثة المذكورة،
بحسب النصوص الواردة في المقام (1)، لكن الظاهر من قول المحقق قدس سره



(1) وتحصيل الاجماع بقطع النظر عن النصوص الواردة في المسألة
مشكل جدا، وهل يمكن الاطمينان إلى هذا الاجماع مع وجود هذه النصوص
الكثيرة؟
28
(تمسكا بموضع الوفاق) هو أن مقصوده طرح النصوص والرجوع إلى
الاجماع، والمتيقن من الاجماع عنده هو الجراح بالشروط الثلاثة.
قلت: إن القدر المتيقن هو اعتبار الأخذ بأول كلامهم، كما في خبري جميل
ومحمد بن حمران، وعن جماعة كثيرة من أصحابنا الأعيان، واعتبار قيد
(الضرورة)، كما في خبر محمد بن سنان، فلو أمكن الاستشهاد من بالغ عادل
لم تقبل شهادة الصبي، وإلا فتسمع، سواء كانت الشهادة (بينهم) أولا. ومن
ذلك يظهر أن (بينهم) في خبر طلحة مصداق ل‍ (الضرورة) ولذا قال:. (ومثل
شهادة الصبيان على القتل إذا لم يوجد غيرهم)
ومن هذا الباب قبول أمير المؤمنين عليه السلام شهادة الغلمان وقضاؤه
بالدية، فيما رواه السكوني عن الصادق عليه السلام: (رفع إلى أمير المؤمنين
عليه السلام ستة غلمان كانوا في الفرات فغرق واحد منهم، فشهد ثلاثة منهم
على اثنين أنهما غرقاه، وشهد اثنان على الثلاثة أنهم غرقوه فقضى بالدية
ثلاثة أخماس على الاثنين وخمسين على الثلاثة) (1) بناءا على كون معنى الغلام
في الخبر هو الصغير.
فهذا هو القدر المتيقن من دلالة الأخبار بعد الجمع بينها، وبه يظهر
النظر في كلمات صاحب الجواهر في هذا المقام، كما بان لك النظر في كثير
من الكلمات المسطورة في هذا المبحث.
هذا كله في القتل.
وأما الجراح فلا بد فيه من القطع بالملاك، حتى تتم الأولوية، وذلك في غاية
الاشكال، بل ظاهر خبر محمد بن حمران نفي الأولوية، حيث قال عليه السلام



(1) رواه الشيخ المفيد في الإرشاد، ووصفه في المستند بالشهرة، وحكي
عن الانتصار روايته عن الخاصة والعامة.
29
(لا إلا في القتل) اللهم إلا أن يقال بالجراح المنجر إلى القتل. لكن فيه
أن القتل قد يكون بلا جرح.
هذا ولما كان موضوع النصوص هو (الصبي) ولا دليل على الغاء
الخصوصية، فالظاهر اختصاص الحكم بشهادته دون (الصبية) فإنها تبقى على
مقتضى الأصول والعمومات الدالة على عدم قبول شهادتها، وبه صرح العلامة
في التحرير والشهيد الثاني في الروضة البهية وغيرهما.
الوصف الثاني: العقل
قال المحقق قدس سره: (الثاني: كمال العقل، فلا تقبل شهادة المجنون
اجماعا. أما من يناله الجنون أدوارا فلا بأس بشهادته في حال إفاقته، لكن بعد
استظهار الحاكم بما يتيقن معه حضور ذهنه واستكمال فطنته)
أقول: أما اعتبار كمال العقل في الشاهد وأنه لا تقبل شهادة المجنون. فلا
يحتاج إلى إقامة الدليل عليه من الكتاب والسنة والاجماع (1).



(1) ولئن كان ثمة اشكال في دلالة ما استدل به، من الكتاب والسنة، ففي
الاجماع المصرح به في كلام كثير من الأصحاب، محققا ومنقولا، وأنه
يشترط في الشاهد العدالة كما سيأتي، وتحققها في غير العاقل غير معقول،
كما في المستند غنى وكفاية.
وأما الاستدلال له بالسيرة العقلائية كما في مباني تكملة المنهاج فقد استشكل
عليه في جامع المدارك بأن بعض الأشخاص له كمال الدقة والمتانة في بعض
الأمور وفي بعضها خارج عن طريق العقلاء، فمع الوثوق بالحفظ والضبط
والاحتراز عن الكذب بحيث يكون سكون النفس الحاصل من اخباره أقوى
من السكون الحاصل من قول كثير من العقلاء العدول - الظاهر أن بناء العقلاء
على الاعتماد بأخباره.
قلت: الظاهر خروج من ذكره عن بناء العقلاء كما ذكر. لكن الكلام في
المجنون المطبق.
30
وكذا عدم قبول شهادة من يناله الجنون أدوارا في حال جنونه، لأنه
كالمطبق، أما في حال إفاقته فلا مانع من قبول شهادته، لأنه في هذه الحالة
كالعاقل، وتشمله أدلة قبول الشهادة من الكتاب والسنة، لكن قبول شهادته يكون
بعد استظهار الحاكم بما يكشف عن حضور ذهنه واستكمال فطنته، وإلا
طرح شهادته، بلا اشكال في ذلك كله وبلا خلاف كما في الجواهر.
وهل يكفي عدم الجنون في حال أداء الشهادة أو يشترط العقل في حال
التحمل كذلك؟ صرح كاشف اللثام بالثاني، وصاحب الجواهر بالأول، لأن
العدالة والضبط والتيقظ ترفع القدح فيه وإن كان قد تحملها في حال جنونه،
مضافا إلى تناول اطلاق أدلة قبولها له. قلت: لكن الأول أولى، فإنه ليس
حال هذا المجنون حال الصبي المميز الذي تقبل شهادته لو أداها بالغا، بل حاله
حال الصبي غير المميز.
لا تقبل شهادة الساهي والمغفل
قال المحقق قدس سره: (وكذا من يعرض له السهو غالبا، فربما سمع
الشئ وأنسي بعضه، فيكون ذلك مغيرا لفائدة اللفظ وناقلا لمعناه، فحينئذ
يجب الاستظهار عليه حتى يستثبت ما يشهد به)
أقول: في الجواهر: على وجه يطمئن الحاكم بعدم غفلته فيما شهد به
ولو لكون المشهود به مما لا يسهى فيه، بل عبارة المتن والقواعد وغيرهما

31
صريحة في اعتبار يقين الحاكم بذلك، لكنه لا يخلو من اشكال) لكن الظاهر
كون البحث لفظيا.
قال: (وكذا المغفل الذي في جبلته البله، فربما استغلط لعدم تفطنه لمزايا
الأمور، والأولى الاعراض عن شهادته ما لم يكن الأمر الجلي الذي يتحقق
الحاكم استثبات الشاهد به، وأنه لا يسهو في مثله)
أقول: يدل عليه ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في قوله عز وجل
(ممن ترضون من الشهداء) قال: (ممن ترضون دينه وأمانته وصلاحه وعفته
وتيقظه فيما يشهد به وتحصيله وتمييزه، فما كل صالح مميز محصل ولا كل
مميز صالح) (1).
الوصف الثالث: الايمان
قال المحقق قدس سره: (الثالث: الايمان، فلا تقبل شهادة غير المؤمن
وإن اتصف بالاسلام لا على مؤمن ولا على غيره، لاتصافه بالفسق والظلم
المانع من قبول الشهادة
).
أقول: إن الايمان بالمعنى الأخص الذي هو الاقرار بإمامة الأئمة الاثني
عشر عليهم السلام من الأوصاف المعتبرة في الشاهد بلا خلاف. فلا تقبل شهادة



(1) هذا الخبر عن التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري عليه
السلام، وفي اعتبار هذا التفسير خلاف بين العلماء، وقد استدل في المستند
لالحاق المغفل بالمجنون بالتعليل الوارد في الموثقة عن محمد بن مسلم في
عدم قبول شهادة السائل بكفه حيث قال عليه السلام: (لأنه لا يؤمن على
الشهادة) وبمرسلة يونس: (فإذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته.)
وفي الرياض عدم وجدان الخلاف بين المتأخرين في هذا الحكم.
32
غير المؤمن بالمعنى المذكور وإن اتصف بالاسلام، لا على مؤمن ولا على غيره
إلا ما سيأتي.
وقد جعل المحقق دليل عدم القبول اتصاف غير المؤمن بالفسق والظلم المانعين
من قبول الشهادة، وفي الجواهر: لاتصافه بالكفر فضلا عن الفسق والظلم.
لكن كفر غير المؤمن بالمعنى الأخص محل خلاف، فعلى القول به كما
هو مذهب جماعة بل قد حكى بعضهم الاجماع عليه فالمطلب تام بلا اشكال.
واستدل صاحب الجواهر لعدم قبول شهادة غير المؤمن بعدم الخلاف بل
عن جماعة الاجماع عليه، بل لعله من ضروري المذهب في هذا الزمان
لكن في المسألة خلاف من بعض المتأخرين.
واستدل رحمه الله بالأصل بعد اختصاص اطلاقات الكتاب والسنة ولو
للتبادر وغيره بالمؤمن.
قلت: إن كانت الأدلة منصرفة عن المخالف أو لا تشمله اطلاقاتها فالأصل
تام، بل قد ذكرنا أن الأصل في صورة الشك هو عدم قبول الشهادة مطلقا.
قال: خصوصا نحو (رجالكم) و (ممن ترضون) بناءا على المعلوم من مذهب الإمامية من اختصاص الخطاب بالمشافهين دون غيرهم، وليس المخالف
بموجود في زمن الخطاب. ولو سلم العموم فقد عرفت الخبر المفسر لقوله
تعالى: (ترضون) برضا دينه، ولا ريب في كونه غير مرضي الدين.
قلت: يشكل أن يكون الخطاب للمؤمنين الواقعيين، على أنه يقتضي عدم
تكليف المخالفين بطائفة من الأحكام التكليفية الصادرة بالخطابات.
ثم استدل بالنصوص الواردة في لعن المخالفين والدعاء عليهم، وأنهم
مجوس هذا الأمة، وشر من اليهود والنصارى وأنهم لغير رشدة ونحو ذلك.
أقول: والعمدة في الاستدلال اسقاط المخالف عن العدالة، لعدم اعتقاده

33
بالولاية، فإذا ثبت ذلك تم الاستدلال. ومذهب المحقق وجماعة صدق الفاسق
و (الظالم) عليه، فإن كان المراد هو الصدق العرفي فإن الفسق ليس من
المفاهيم العرفية التي يرجع في تشخيصها إلى أهل العرف. وأما في الشرع
فالفسق يتحقق بمعصية الله، وتحقق ذلك من المخالف محل خلاف، فهل فعل
المعصية مع الجهل بكونها معصية فسق؟.
لا اشكال في تحقق الفسق بحسب الواقع بفعل المعصية مع الجهل بكونها
معصية، وأما بحسب الظاهر فالشهيد الثاني على العدم، فإنه بعد أن اعترف
بأن ظاهر الأصحاب الاتفاق على اشتراط الايمان قال: وينبغي أن يكون هو
الحجة. ثم ذكر الاستدلال بصدق الفاسق والظالم عليه، ثم قال:
(وفيه نظر، لأن الفسق إنما يتحقق بفعل المعصية المخصوصة مع العلم
بكونها معصية، أما مع عدمه بل مع اعتقاده أنها طاعة بل من أمهات الطاعات
فلا، والأمر في المخالف للحق في الاعتقاد كذلك، لأنه لا يعتقد المعصية بل يزعم
أن اعتقاده من أهم الطاعات، سواء كان اعتقاده صادرا عن نظر أم تقليد
ومع ذلك لا يتحقق الظلم أيضا، وإنما يتفق ذلك ممن يعاند الحق مع علمه به
وهذا لا يكاد يتفق وأن توهمه من لا علم له بالحال والعامة مع اشتراطهم العدالة
في الشاهد يقبلون شهادة المخالف لهم في الأصول ما لم يبلغ خلافه حد الكفر،
أو يخالف اعتقاده دليلا قطعيا بحيث يكون اعتقاده ناشئا من محض التقصير.
والحق أن العدالة تتحقق في جميع أهل الملل مع قيامهم بمقتضاها بحسب
اعتقادهم، ويحتاج في اخراج بعض الأفراد للدليل، وسيأتي في شهادة أهل الذمة
في الوصية ما يدل وعلى ما ذكره المصنف من فسق المخالف فاشتراط
الايمان بخصوصه مع ما سيأتي من اشتراط العدالة لا حاجة إليه، لدخوله فيه).
وقد شدد عليه النكير الأردبيلي وصاحب الجواهر، وقال كاشف اللثام:

34
هو من الضعف بمكانة، وهو كذلك، ومواقع النظر فيه كثيرة، ومنها استدلاله
بقبول شهادة أهل الذمة في الوصية، فإن قبول الشهادة لا يدل على العدالة وعلى
ما ذكره لا يبقى وجه لاشتراط الايمان بل المعتبر هو العدالة سواء اعتقد بالولاية
بالإضافة إلى سائر اعتقاداته أو لا، فيكون (العادل) مثل (العاقل)
إذ يصدق
(العاقل) على من كانت أعماله مطابقه لحكم العقل سواء كان مسلما أو لا.
وإن أراد تحقق (العدالة) عنده بحسب اعتقاداته في ملته وكونه معذورا ففيه:
أنه يخالف ظاهر قوله تعالى: (قل أؤنبئكم بالأخسرين أعمالا الدين ضل
سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.) (1) إذ لا فرق
بين هؤلاء والكفار والمشركين في أنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
والتحقيق إن العذر يكون قبل تمامية الحجة، وهذا ما يحكم به العقل ويرشد
إليه قوله عز وجل (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (2) لكن الحجة قد
تمت (3)، و (قد تبين الرشد من الغي) فالمخالفون فاسقون لا سيما وإن



(1) سورة الكهف: 104.
(2) سورة الإسراء: 15.
(3) وأي حجة أتم وأكمل مما ورد في خصوص الولاية كتابا وسنة؟
ناهيك بحديث الغدير الذي فاق حد التواتر بأضعاف مضاعفة عند المسلمين
ودل على الإمامة والولاية بكل وضوح باعتراف المخالفين، وإن شئت
الوقوف على طرف من طرق هذا الحديث، والاطلاع على جانب من وجوه
دلالته، فراجع الأجزاء 6 - 9 من كتابنا (خلاصة عبقات الأنوار في إمامة
الأئمة الأطهار) وكتاب (الغدير).
(4) سورة البقرة: 256.
35
أكثرهم متعصبون ومعاندون، وفي الخبر: (نحن الذين فرض الله طاعتنا،
لا يسع الناس إلا معرفتنا، ولا يعذر الناس بجهالتنا، من عرفنا كان مؤمنا، ومن
أنكرنا كان كافرا، ومن لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالا حتى يرجع إلى الهدى
الذي افترض الله عليه من طاعتنا الواجبة، فإن يمت على ضلالته يفعل الله به ما
يشاء) (1).
ويدل هذا الخبر كالأخبار المستفيضة الأخرى على أن المخالفين معاقبون
وأن جميعهم مقصرون، وإليك نصوص بعضها:
1 - محمد بن مسلم قال: (سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: كل من
دان الله عز وجل بعبادة ويجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله فسعيه غير مقبول، وهو
ضال متحير، والله شانئ لأعماله، ومثله كمثل شاة ضلت عن راعيها وقطيعها
فهجمت ذاهبة وجائية يومها، فلما جنها الليل بصرت بقطع مع غير راعيها. والله
يا محمد: من أصبح من هذه اللامة لا إمام له من الله عز وجل، ظاهرا عادلا،
أصبح ضالا تائها، وإن مات على هذه الحال مات ميتة كفر ونفاق. واعلم يا
محمد أن أئمة الجور وأتباعهم لمعزولون عن دين الله، قد ضلوا وأضلوا،
فأعمالهم التي يعملونها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما
كسبوا على شئ، ذلك هو الضلال البعيد) (2).
2 - ابن أبي نصر عن أبي الحسن عليه السلام (في قول الله عز وجل: ومن
أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) قال: يعني من اتخذ دينه [ورأيه]
بغير إمام من أئمة الهدى) (3).



(1) الكافي 1 / 187.
(2) الكافي 1 / 183.
(3) الكافي 1 / 374.
36
3 - عبد الله بن أبي يعفور في حديث عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (لا
دين لمن دين الله بولاية إمام جائر ليس من الله، ولا عيب على من دان بولاية
إمام عادل من الله. قلت: لا دين لأولئك ولا عيب على هؤلاء؟ قال: نعم لا دين
لأولئك، ولا عيب على هؤلاء، ثم قال: ألا تسمع لقول الله عز وجل: الله
ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، يعني ظلمات الذنوب
إلى نور التوبة والمغفرة بولايتهم كل إمام عادل من الله. وقال: والذين كفروا
أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات. إنما عنى بهذا أنهم
كانوا على نور الاسلام، فلما أن تولوا كل إمام جائر ليس من الله خرجوا
بولايتهم من نور الاسلام إلى ظلمات الكفر، فأوجب الله لهم النار مع الكفار
فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) (1).
4 - الحارث بن المغيرة: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام قال رسول الله
صلى الله عليه وآله: من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية.
قال: نعم.
قلت: جاهلية جهلاء أو جاهلية لا يعرف إمامه؟
قال: جاهلية كفر ونفاق وضلال) (2)
نعم مع اظهارهم الشهادتين يشكل القول بنجاستهم كما عن بعض الأصحاب،
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يعاشرهم ويعاملهم معاملة الاسلام، ولا
ينافي ذلك كونهم كفارا في الواقع.
والحاصل: أنه لا تقبل شهادة غير المؤمن الاثني عشري مطلقا.



(1) الكافي 1 / 375.
(2) الكافي 1 / 377.
37
قبول شهادة الذمي في الوصية
قال المحقق: (نعم تقبل شهادة الذمي خاصة في الوصية إذا لم يوجد
من عدول المسلمين من يشهد بها، ولا يشترط كون الموصي في غربة، وباشتراطه
رواية مطرحة)
ذكر نصوص المسألة
أقول: ينبغي أن نورد أولا النصوص الواردة في المسألة ثم نتعرض لجهات
البحث فيها:
في الوسائل باب: [قبول شهادة المسلم على الكافر وعدم جواز قبول
شهادة الكافر عليه ولو ذميا عدا ما استثني]:
1 - أبو عبيدة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (تجوز شهادة المسلمين على
جميع أهل الملل، ولا تجوز شهادة أهل الذمة [الملل] على المسلمين) (1).
2 - سماعة قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن شهادة أهل الملة،
قال: فقال لا تجوز إلا على ملتهم.) (2)
وفي باب: [أن الكافر إذا أشهد على شهادة ثم أسلم فشهد بها قبلت] روايات
نذكر بعضها. ولا يخفى أنه لا اطلاق لهذا العنوان، لأنه في مقام بيان أنه لا تلحظ
الحالة السابقة مع تحقق الاسلام حين أداء الشهادة، فلا وجه للاستدلال بأخبار
هذا الباب على قبول شهادة المسلم مطلقا. ومن أخبار هذا الباب:
1 - صفوان بن يحيى: (إنه سأل أبا الحسن عليه السلام عن رجل أشهد



(1) وسائل الشيعة 18 / 284. الباب 38. الشهادات. صحيح.
(2) وسائل الشيعة 18 / 284. الباب 38. الشهادات. موثق.
38
أجيره على شهادة ثم فارقه. أتجوز شهادته بعد أن يفارقه؟ قال: نعم قلت:
فيهودي أشهد على شهادة ثم أسلم أتجوز شهادته؟ قال نعم) (1).
2 - محمد بن حمران عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (سألته عن نصراني
أشهد على شهادة ثم أسلم بعد أتجوز شهادته؟ قال: نعم هو على موضع شهادته) (2).
3 - محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام: قال: (سألته عن الصبي
والعبد والنصراني يشهدون الشهادة فيسلم النصراني أتجوز شهادته؟ قال: نعم) (3).
4 - السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام (قال قال أمير المؤمنين عليه
السلام: اليهودي والنصراني إذا أشهدوا ثم أسلموا جازت شهادتهم) (4).
5 - إسماعيل بن أبي زياد عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السلام: (إن
شهادة الصبيان إذا شهدوا وهم صغار جازت إذا كبروا ما لم ينسوها. كذلك
اليهود والنصارى إذا أسلموا جازت شهادتهم) (5)
وفي باب [قبول شهادة اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم على الوصية
في الضرورة]:
1 - الحلبي قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام تجوز شهادة أهل الذمة
على غير أهل ملتهم؟ قال: نعم إن لم يوجد من أهل ملتهم جازت شهادة



(1) وسائل الشيعة 18 / 285. الباب 39. الشهادات. صحيح.
(2) وسائل الشيعة 18 / 285. الباب 39. الشهادات. صحيح.
(3) وسائل الشيعة 18 / 285. الباب 39. الشهادات. صحيح.
(4) وسائل الشيعة 18 / 286 الباب 39. الشهادات.
(5) وسائل الشيعة 18 / 286. الباب 39. الشهادات.
39
غيرهم، أنه لا يصلح ذهاب حق أحد) (1).
وهذا الخبر مخصص لما تقدم، وهو مطلق غير مقيد بالوصية
2 - أحمد بن عمر قال: (سألته عن قول الله عز وجل: ذوا عدل منكم
أو آخران من غيركم. قال: اللذان منكم مسلمان، واللذان من غيركم من أهل
الكتاب، فإن لم يجد من أهل الكتاب فمن المجوس لأن رسول الله صلى الله
عليه وآله قال: سنوا بهم سنة أهل الكتاب. وذلك إذا مات الرجل بأرض غربة
فلم يجد مسلمين يشهدهما فرجلان من أهل الكتاب) (2).
ويفيد هذا الخبر وجود خصوصية في أهل الكتاب، فلا تقبل شهادة غيرهم
من الكفار.
3 - هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه السلام (في قول الله عز وجل:
أو آخران من غير كم. فقال: إذا [إن] كان الرجل في أرض غربة ولا يوجد
فيها مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم في [على] الوصية) (3).
و (من ليس بمسلم) يقيد بما دل على اشتراط كونه من أهل الكتاب
وقوله (في الوصية) يقيد اطلاق ما دل على القبول مطلقا.
4 - سماعة: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن شهادة أهل الملة. قال:
فقال لا تجوز إلا على ملتهم، فإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم على الوصية
لأنه لا يصلح ذهاب حق أحد) (4).



(1) وسائل الشيعة 18 / 286. الباب 39. الشهادات. صحيح.
(2) وسائل الشيعة 18 / 287. الباب 40. الشهادات. صحيح.
(3) وسائل الشيعة 18 / 287. الباب 40. الشهادات. صحيح.
(4) وسائل الشيعة 18 / 287. الباب 40. الشهادات. موثق.
40
وهذا أيضا مقيد بالوصية. اللهم إلا أن يؤخذ بعموم التعليل في (لأنه لا يصلح
ذهاب حق أحد) فلا يختص القبول بها.
وفي باب [ثبوت الوصية بشهادة مسلمين عدلين وبشهادة ذميين مع الضرورة
وعدم وجود المسلم]:
1 - ضريس الكناسي: (سألت أبا جعفر عليه السلام عن شهادة أهل
الملل هل تجوز على رجل مسلم من غير أهل ملتهم؟ فقال: لا إلا أن لا
يوجد في تلك الحال غيرهم، وإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم في الوصية
لأنه لا يصلح ذهاب حق امرء مسلم ولا تبطل وصيته) (1).
2 - أبو الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (سألته عن قول
الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين
الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غير كم. قلت: ما آخران من
غيركم؟ قال: هما كافران. قلت: ذوا عدل منكم. قال: مسلمان) (2).
3 - الحلبي ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (سألته هل
تجوز شهادة أهل ملة من غير أهل ملتهم؟ قال: نعم إذا لم يوجد من أهل ملتهم
جازت شهادة غيرهم، إنه لا يصلح ذهاب حق أحد) (3).
4 - حمزة بن حمران عن أبي عبد الله عليه السلام: قال: (سألته عن قول الله
عز وجل: ذوا عدل منكم أو آخران من عدوكم. قال فقال اللذان منكم مسلمان
واللذان من غير كم من أهل الكتاب فقال: إذا مات الرجل المسلم بأرض



(1) وسائل الشيعة 13 / 390 - الباب 20 الوصايا. صحيح.
(2) وسائل الشيعة 13 / 390 - الباب 20. الوصايا. فيه (محمد بن الفضيل)
وهو مشترك.
(3) وسائل الشيعة 13 / 390 - الباب 20. الوصايا. صحيح.
41
غربة فطلب رجلين مسلمين يشهدهما على وصيته فلم يجد مسلمين فليشهد على
وصيته رجلين ذميين من أهل الكتاب مرضيين عند أصحابهما) (1).
5 - يحيى بن محمد قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل
يا أيها الذين آمنوا. قال: اللذان منكم مسلمان واللذان من غيركم من أهل
الكتاب فإن لم تجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس، لأن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم سن فيهم سنة أهل الكتاب في الجزية، وذلك إذا مات الرجل
في أرض غربة فلم يوجد مسلمان.) (2).
وفي خبر سعد بن عبد الله في (بصائر الدرجات) عن المفضل بن عمر عن
أبي عبد الله عليه السلام في كتاب إليه قال: (وأما ما ذكرت أنهم يستحلون
الشهادات بعضهم لبعض على غيرهم فإن ذلك لا يجوز ولا يحل وليس هو على
ما تأولوا إلا لقول الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر
أحدكم الموت. وذلك إذا كان مسافرا، فحضره الموت، أشهد اثنين ذوي
عدل من أهل دينة، فإن لم يجد فآخران ممن يقرأ القرآن من غير أهل
ولايته.) (3).
هذه طائفة من أخبار المسألة ذكرناها بقدر الحاجة.
قال المحقق: (تقبل شهادة الذمي خاصة في الوصية إذا لم يوجد من
عدول المسلمين من يشهد بها).
أقول: قيد المحقق قبول شهادة غير المؤمن بثلاثة قيود: الأول: كونه ذميا



(1) وسائل الشيعة 13 / 392 الباب 20 وصايا. وسيأتي الكلام عليه.
(2) وسائل الشيعة 13 / 31 باب 20 وصايا. و (يحيى بن محمد) لم يذكروا
فيه توثيقا (ولا مدحا، اللهم إلا من جهة رواية يونس عنه.
(3) وسائل الشيعة 13 / 393 باب 20 وصايا.
42
وقد احترز بقوله: (خاصة) عن غيره والثاني: في الوصية، وقد احترز به عن
غيرها. والثالث: إذا لم يوجد من عدول المسلمين من يشهد بها. وفي الأخبار
المذكورة ما يدل على كل واحد من هذه القيود كما لا يخفى وتفصيل الكلام
في هذه المسألة يكون بالبحث في جهات:
1 - هل تقبل شهادة الذمي في الوصية بالولاية؟
قال في الجواهر: تقبل شهادة الذمي في الوصية في الأموال والولاية.
لكن في المسالك: في الأموال. قال: والحكم مختص بوصية المال فلا تثبت
الوصية بالولاية المعبر عنها بالوصاية، وقوفا فيما خالف الأصل على
مورده.
قلت: لا يوجد في الروايات ما يمكن أن يستظهر منه التقييد بالأموال إلا
جملة: (لأنه لا يصلح ذهاب حق أحد) بدعوى عدم كون الولاية ونحوها من
الحقوق. ولعله المراد من قول الأردبيلي: إنه يشعر بذلك بعض الروايات
ولكن الظاهر شمول (الحق) في الرواية لحق الوصاية أيضا.
2 - هل تقبل شهادة الذمي خاصة أو تقبل من مطلق أهل الكتاب؟
الظاهر الاتفاق على عدم قبول شهادة الكافر الحربي وغير الكتابي، وقد
عرفت دلالة بعض الأخبار المذكورة على القبول من غير تقييد بالذمي، نعم
جاء في خبر حمزة بن حمران حيث قال عليه السلام (أشهد على وصيته
رجلين ذميين من أهل الكتاب مرضيين عند أصحابهما)
لكن قيل: بأنه ضعيف سندا فلا يصلح للتقييد (1). إلا أن عمل الأصحاب



(1) مباني تكملة المنهاج: فإن حمزة بن حمران لم يرد فيه توثيق ولا مدح. فالخبر ضعيف وعمل الأصحاب غير جابر فالذمية غير معتبرة.
قلت: وينبغي أن يضاف إلى ذلك عدم دلالة رواية أصحاب الاجماع على
الوثاقة ففي تنقيح المقال: رواية صفوان وابن أبي عمير عنه. فتأمل.
43
بل الاجماع. كما قيل يجبر ضعفه عندنا، واحتمال أنهم قد أفتوا بذلك لا عملا
بالخبر بل لعلهم فهموا خصوص الذمي من أخبار المسألة ضعيف جدا خصوصا مع التصريح المذكور في خبر حمزة بن حمران.
وأما التقييد به في الخبر الحلبي فقد جاء في السؤال حيث قال: (هل
تجوز شهادة أهل الذمة على غير أهل ملتهم؟) على أنه لا تعرض في الجواب
للوصية.
فالحاصل اختصاص القبول بالذمي خاصة، لخبر حمزة المنجبر بالعمل.
3 - اختصاص القبول بالوصية
إن قبول شهادة الذمي مختص بالوصية كما دل عليه قوله تعالى: (يا أيها
الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية.)
وكذا أخبار المسألة بعد تقييد مطلقاتها بمقيداتها، بل عليه الاجماع بقسميه
في الجواهر.
4 - هل يتقدم المسلمان الفاسقان على الذميين؟
قد عرفت قول المحقق قده: (إذا لم يوجد من عدول المسلمين من
يشهد بها) وفي الجواهر: لا يحلق بأهل الذمة فساق المسلمين في الحكم
المزبور لحرمة القياس عندنا.
لكن عن العلامة في التذكرة: (لو وجد مسلمان فاسقان، فإن كان فسقهما
بغير الكذب والخيانة فالأولى أنهما أولى من أهل الذمة، ولو كان فسقهما

44
يتضمن اعتماد الكذب وعدم التحرز عنه فأهل الذمة أولى) وقال أيضا: (ولو
وجد مسلمان مجهولا العدالة فهما أولى من شهود أهل الذمة) ومال إليه في
المسالك.
أقول: الأولوية التي ذكرها متوقفة على القطع بالملاك، وحصوله مشكل
جدا، لا سيما مع اشتراط العدالة في الكافر الذمي على مذهبه كما هو مدلول
بعض الأخبار، إذ لا يخفى أن الصالح في مذهبه مقدم على المسلم الفاسق لا
سيما غير المتحرز عن الكذب.
وإن كان دليل ما ذهب إليه هو الأخذ بعموم التعليل في قوله عليه السلام
(لأنه لا يصلح ذهاب حق أحد) ففيه أولا: إن مقتضى عموم التعليل هو القبول
في غير الوصية أيضا وهذا لا يقول وليست في غيرها، وهي موت الشخص الموصي،
فإنه إذا لم تقبل الشهادة على وصيته ضاع حقه، ولا طريق آخر إلى اثباته.
وثانيا: إن الاستدلال المذكور يتوقف على كون الجملة المذكورة علة
لا حكمة
هذا مع أن صريح الآية الكريمة اشتراط العدالة في الشاهدين المسلمين.
5 - هل تقبل شهادة المسلم العدل الواحد مع ذمي واحد؟
قد يقال بذلك، ووجهه الأولوية في القبول من الذميين.
وفيه: أنه يتوقف على القطع بالملاك كما تقدم.
6 - هل يشترط كون الموصى في غربة؟
قال المحقق: (ولا يشترط كون الموصى في غربة، وباشتراطه رواية
مطرحة).

45
أقول: في هذه الجهة قولان، وظاهر الآية الكريمة: (يا أيها الذين آمنوا
شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حيث الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو
آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت)
كون الموصي مسافرا، فالجملة شرطية ومفهومها حجة وبه أخذ جماعة كالشيخ
في المبسوط وابن الجنيد وأبي الصلاح الحلبي، بل ربما يفهم من بعضهم
الاجماع عليه كما في الجواهر.
والاشتراط صريح أخبار أحمد بن عمر وهشام بن الحكم وحمزة بن حمران
وقد جاءت الأخيرة في المسالك والجواهر وغيرهما بلفظ (إنما ذلك إذا كان
الرجل المسلم في أرض غربة) أي بكلمة (إنما) الدالة على الحصر، وهي غير
موجودة في الكافي والوسائل. وكيف كان فإن الجملة شرطية ومفهومها حجة
والسند في الأولين تام بلا كلام، فلا وجه للطرح، ودعوى الاجماع على عدم
الاشتراط غير تامة.
ودعوى ورود ذلك مورد الغالب كما في الجواهر كما ترى، إذ لا تدخل
أداة الحصر (إنما) ولا تجئ الجملة الشرطية حيث يكون القيد واردا مورد
الغلبة.
نعم لو كانت الجملة (لأنه لا يصلح ذهاب حق أحد) تعليلية أمكن رفع
اليد بها عن قيد (السفر) بناءا على تقدم عموم العلة على المفهوم، لكن في
ظهور الجملة المذكرة في التعليل تأمل.
7 - هل يشترط احلاف الذمي؟
قال العلامة في التحرير: (الأقرب احلاف الشاهدين على ما تضمنته الآية
ولم أجد من قال بذلك) وفي المسالك: (ظاهر الآية احلاف الذمي بعد العصر

46
بالصورة المذكورة في الآية وهو أنهما ما خانا ولا كتما شهادة الله ولا اشتريا
به ثمنا قليلا ولو كان ذا قربى. واعتبر العلامة أيضا في التحرير، ولا ريب في
أولويته، إذ لا معارض له وعمومات النصوص غير منافية له) واقتصر المقداد
في التنقيح على ذكر قول العلامة حيث قال: (وهل يشترط الاحلاف؟ قال
العلامة نعم عملا بظهر الآية ولم نذكر غيره) وعلى هذا فوجه نسبة القول
بعدم الاشتراط إلى المشهور في الروضة هو عدم تعرض القدماء إلى هذه المسألة
إذ لو اشترطوا لذكروا.
وكيف كان فالأقرب ما ذهب إليه علامة عملا بظاهر الآية المباركة، وقد
روي في شأن نزولها الخبر الآتي: (محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم
عن رجاله رفعه قال: خرج تميم الداري مسلما وابن بندي وابن أبي مارية
نصرانيين، وكان مع تيم الداري خرج له فيه متاع، وآنية منقوشة بالذهب،
وقلادة أخرجها إلى بعض أسواق العرب للبيع، فاعتل تميم الداري علة
شديدة، فلما حضره الموت دفع ما كان معه إلى ابن بندي وابن أبي مارية وأمرهما
أن يوصلاه إلى ورثته.
فقد ما إلى المدينة وقد أخذا من المتاع الآنية والقلادة، فقالوا لهما: هل
مرض صاحبنا مرضا طويلا أنفق فيه نفقة كثيرا؟ قالا: لا ما مرض إلا أياما
قلائل قالوا: فهل سرق منه شئ في سفره هذا؟ قالا: لا. قالوا: فهل اتجر
تجارة خسر فيها؟ قالا: لا. قالوا: فقد افتقدنا أفضل شئ كان معه، آنية منقوشة
بالذهب مكللة بالجوهر، وقلادة فقالا: ما دفع إلينا فاديناه إليكم.
فقد موهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فأوجب رسول الله
صلى الله عليه وآله عليهما اليمين فحلفا، فخلا عنهما، ثم ظهرت تلك
الآنية والقلادة عليهما، فجاء أولياء تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله

47
فقالوا: قد ظهر على ابن بندي وابن أبي مارية ما ادعيناه عليهما. فانتظر رسول
الله صلى الله عليه وآله الحكم من الله في ذلك، فأنزل الله تبارك وتعالى:
يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان
ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض. فأطلق الله
شهادة أهل الكتاب على الوصية فقط، إذا كان في سفر ولم يجد المسلمين،
فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا
نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين. فهذه
الشهادة الأولى التي جعلها رسول الله صلى الله عليه وآله. فإن عثر على
أنهما استحقا إثما. أي أنهما حلفا على كذب فآخران يقومان مقامهما. يعني
من أولياء المدعي من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله يحلفان بالله
أنهما أحق بهذه الدعوى منهما، فإنهما قد كذبا فيما حلفا بالله لشهادتنا أحق من
شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله أولياء تميم الداري أن يحلفوا
بالله على ما أمرهم، فحلفوا فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله القلادة
والآنية من ابن بندي وابن أبي مارية، وردهما على أولياء تميم الداري. ذلك
أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم) (1).
هذا وليس في القصة ذكر للوصية، فإن مورد نزول الآية بالنظر إلى هذه
الرواية هو النزاع في مال الميت، فكيف نقول باختصاص القبول بالوصية؟
ولماذا لا نقبل الشهادة في نظير مورد نزول الآية كما لو سافر مسلم مع ذميين
ثم مات المسلم فاتهم وليه الذميين بأنهما قتلاه فشهد ذميان آخران على أنه
مات حتف أنفه؟ هذا فيه تأمل.



(1) وسائل الشيعة 13 / 394. الباب 21 الوصايا.
48
ثم إنه لم يتعرض أحد فيها فحصنا إلى البحث في أنه هل يشترط في الاحلاف
الارتياب أو لا؟ وظاهر الآية هو الاشتراط. إذن تكون شهادتهما مقبولة ما لم
يحصل ارتياب فإن حصل فمع اليمين، فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران
يقومان مقامهما.
8 - ما المراد من (الضرورة)؟
جاء في الوسائل قيد الضرورة لقبول شهادة الذميين في الوصية، فهل
المراد منها كون المسلم في سفر أو المراد كون الوصية ضرورية أي لازمة
كالأمور الواجبة شرعا وحقوق الناس، فلو كانت في أمور جزئية أو مستحبة
فلا تقبل شهادتهما؟ الظاهر أن المراد هو الأول وإن كان الصحيح عدم
الحاجة إلى إضافة هذا القيد حينئذ وعليه فتقبل شهادتهما وإن كانت الوصية في
أمور غير واجبة شرعا.
9 - هل يشترط في القبول عدم من يقوم مقام المسلمين؟
الأقوى بمناسبة الحكم والموضوع هو الاشتراط، فإن وجدت أربع
نسوة مسلمات فلا تصل النوبة إلى الذميين. كما أن شهادة المسلم الواحد
تقبل مع اليمين في المال كما ذكرنا في كتاب القضاء فيتقدم حينئذ على
الذميين بالغاء خصوصية (الرجلين) لمناسبة الحكم والموضوع وهو الموافق
للاعتبار.
ومع الشك في التقدم يكون المرجع العمومات الدالة على عدم قبول
شهادة غير المسلم.

49
طريق ثبوت الايمان في الشاهد
قال المحقق قدس سره: (ويثبت الايمان بمعرفة الحاكم أو قيام البينة
أو الاقرار)
أقول: قال في المسالك: مرجع الثلاثة إلى الاقرار لأن الايمان أمر قبلي
لا يمكن معرفته إلا من معتقده بالاقرار، ولكن المصنف اعتبر الوسائط بينه
وبين المقر.
وأشكل عليه في الجواهر بقوله: وفيه أنه وإن كان أمرا قلبيا لكن له آثار
ولوازم يمكن بها معرفته بدون الاقرار كما هو مشاهد في كثير من الناس، بل
السيرة القطعية عليه، كغيره من الأمور الباطنة، ولهذا قال المصنف ما سمعت لا
لما ذكره والأمر سهل.
قلت: لكن هنا بحث آخر وهو أنه إذا كان الاقرار من شرائط الايمان
وأنه إذا لم يقر فليس بمؤمن، فإن الآثار لا تترتب وإن كان الايمان الباطني معلوما
بآثاره، كما أنه إذا جحد بلسانه عد كافرا وإن كان مستيقنا قلبه. نعم لو كان
الايمان هو الاعتقاد الباطني فحسب أمكن ترتيب الأثر عليه مع العلم به
بآثاره.
وأما إذا كان الاقرار شرطا للايمان أو جزءا كان مرجع الأمور الثلاثة إلى
الاقرار كما ذكر الشهيد الثاني، فإن أقر وعلم بعد اعتقاده الباطني كان منافقا
وتجري في حقه أحكام الاسلام دون الايمان، وإن أقر ولم يعلم بعدم اعتقاده ولم
يكن متهما في اقراره كان اقراره طريقا إلى معرفة اعتقاده، وترتب أحكام الايمان
من قبول الشهادة ونحوه وإن لم يكن هناك شئ؟ من آثار الايمان. وعلى هذا
فلو أقر ووجد منه آثار الصدق والخبر فلا حاجة إلى البينة.
فلخص قبول شهادة المؤمن الجامع لشرائط القبول على جميع الناس

50
ولجميع الناس. ويدل عليه بالإضافة إلى الاجماع طائفة من الأخبار. وفي
الجواهر إن لقوله تعالى: (كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على
الناس) اشعارا بذلك، أي إن الآية الكريمة وإن كانت ناظرة إلى شأن هذه الأمة
في الآخرة كما في بعض الأخبار إلا أن ذلك لا ينافي الاستفادة منها لما نحن
فيه، ولذا قال: إن فيها اشعارا به.
وأما الكافر الحربي فلا تقبل شهادته على أحد ولو كان من أهل ملته فضلا
عن المسلمين للاجماع.
هل تقبل شهادة الذمي على الذمي؟
قال المحقق قده: (وهل تقبل شهادة الذمي على الذمي؟ قيل: لا وكذا
على غير الذمي. وقيل: تقبل شهادة كل ملة على ملتهم وهو استناد إلى رواية
سماعة. والمنع أشبه)
أقول: هنا أقوال:
أحدها: عدم قبول شهادة الذمي على الذمي وغير الذمي، في الوصية وغير
الوصية، والقائل به المشهور كما في الجواهر بل عن جماعة الاجماع على عدم
قبولها على المسلم في غير الوصية.
والثاني: قبول شهادة أهل كل ملة على ملتهم، والقائل به الشيخ في محكى
الخلاف والنهاية، بل عن الأول نسبته إلى أصحابنا ولكن مع اشتراط الترافع
إلينا. لرواية سماعة: قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن شهادة أهل الملة.
قال فقال: لا تجوز إلا على ملتهم)
وعن كاشف اللثام: (هو قوي الزاما لأهل كل ملة بما تعتقده وإن لم يثبت
عندنا لفسق الشاهد وظلمه عندنا)

51
والثالث: قبول شهادة الكافر بعضهم على بعض وإن اختلف الملتان مع
العدالة في دينهم. والقائل به أبو علي الإسكافي لرواية ضريس الكناسي، ورواية
الحلبي ومحمد بن مسلم المذكورتين سابقا.
وعن كاشف اللثام: (وهو قوي إذا كان الشاهد ذميا والمشهود عليه حربيا
كما هو ظاهر الخبر لصحته، ولأن علينا رعاية الذمة، فلا علينا أن نحكم لهم
بشهادتهم على أهل الحرب)
واختار في الجواهر القول الأول وفاقا للمحقق والمشهور، لأنه أشبه
بأصول المذهب وقواعده التي منها معلومية اشتراط الاسلام والايمان والعدالة
في الشاهد، المعلوم انتفاؤها اجماعا في الفرض.
وقد أجاب عن خبري الحبي والكناسي بأنهما مع عدم دلالتهما على
تمام المدعى، بل الثاني منهما لا يوافق اطلاق أبي علي محمولان على إرادة
بيان قبول خصوص شهادتهم على المسلم في خصوص الوصية كما صرح به
في الخبر الثاني، بل لعل التعليل في الأول وهو قوله عليه السلام: إنه لا
يصلح ذهاب حق أحد يرشد إلى ذلك بقرينة وجوده في نصوص قبول
شهادتهم في الوصية.
وعن رواية سماعة المذكورة بوجوه:
أحدها: كونها موافقة للمحكي عن أبي حنيفة والثوري.
والثاني: عدم العمل بها إلا من الشيخ.
والثالث: إن مقتضى المحكي عن الشيخ ضعفها عنده، لأن في سندها
العبيدي وقد قال: إنه ضعيف استثناه أبو جعفر ابن بابويه من رجال نوادر
الحكمة وقال: إنه لا أروي ما يختص بروايته)

52
قال: مع أن المحكي عن مبسوطه أيضا اختيار المنع مطلقا، بل قد سمعت
اشتراطه في محكي الخلاف بالترافع إلينا، وقد قال في محكي المختلف:
إنما نقول به، لأنه إذا ترافعوا إلينا وعدلوا الشهادة عندهم فإن الأولى هنا
القبول: بل عن المقداد في التنقيح الميل إليه أيضا بالمعنى المزبور، قال بعد
أن حكى عن الخلاف ما سمعت: وهذا في الحقيقة قضاء بالاقرار
لما تقدم أنه إذا أقر الخصم بعدالة الشاهد حكم عليه. وقد سمعت ما في كشف
اللثام)
أقول: الكفار على خمسة أقسام (1) غير أهل الكتاب (2) أهل الكتاب،
وهؤلاء ينقسمون إلى أهل الذمة وغير أهل الذمة وهم الحربيون. فهذه ثلاثة
أقسام (4) الكفار المنتحلون للاسلام كالمجبرة والمجسمة ومن أنكر شيئا من
ضروريات الدين (5) النواصب. والدليل على ما ذهب إليه الشيخ من قبول
شهادة أهل كل ملة على ملتهم لا ينحصر في خبر سماعة المذكور وإن كانت
عبارة المحقق موهمة لذلك، فيدل عليه مضافا إليه خبرا أبي عبيدة الحذاء
وضريس الكناسي، قد استدل الشيخ نفسه بحديث رواه عن معاذ بن جبل
عن رسول الله صلى الله عليه وآله حيث قال: (وروى ابن غنم قال سألت
معاذ بن جبل عن شهادة اليهود على النصارى. فقال سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول: لا تقبل شهادة أهل دين على غير أهل دينهم إلا المسلمين
فإنهم عدول على أنفسهم وعلى غيرهم).
قال: (وهذا الذي اخترناه. والوجه فيه إذا اختاروا الترافع إلينا، فأما
إن لم يختاروا فلا يلزمهم ذلك)
وليست عبارته المذكورة تفصيلا في المسألة كما قد يتوهم، والحديث
المذكور مطلق يعم الشهادة (له) و (عليه).

53
ولعل المحقق والقوم لم يعتبروا هذا الحديث من جهة إن راويه عامي، وإن
كان مرويا في بعض كتب الخاصة وموردا للاستناد مثل حديث (على اليد.)
ونحوه، ولعلهم حملوه على التقية لموافقته لرأي كثير من العامة.
وكيف كان ففي الأخبار الثلاثة المذكورة غنى وكفاية، والوجه هو
قبول شهادة الذمي من كل ملة على أهل ملته، سواء كان يهوديا أو نصرانيا أو
مجوسيا.
وأما الكفار المنتحلون للاسلام فإن صدق على كل طائفة منهم أنهم أهل
ملة في مقابل ملة الاسلام شملتهم الأدلة وإلا فلا.
وأما الكافر الحربي فقد عرفت عدم قبول شهادته كغير أهل الكتاب من
الكفار.
ثم إن جماعة من الأصحاب استدلوا لما ذهب إليه الشيخ بقاعدة الالزام
وأضاف المقداد في التنقيح قاعدة الاقرار والوجه في التمسك بقاعدة
الالزام في هذا المقام هو عدم اختصاص الأخبار الواردة في هذه القاعدة
بالعامة، بل إنها تشمل غير المسلمين، فمن أخبار القاعدة قوله عليه السلام: (من
كان يدين قوم لزمته أحكامهم) (1).
وعن عبد الله بن طاوس قال: (قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: إن لي
ابن أخ زوجته ابنتي وهو يشرب الشراب ويكثر ذكر الطلاق. فقال: إن كان
من إخوانك فلا شئ عليه، وإن كان من هؤلاء فابنها منه فإنه عني الفراق قال
قلت: أليس قد روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: إياكم والمطلقات
ثلاثا في مجلس فإنهن ذوات الأزواج؟ فقال: ذلك من إخوانكم لا من هؤلاء.



(1) وسائل الشيعة 15 / 322 باب إن المخالف. جاز الزامه بمعتقده وهو
الباب العشرون من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه.
54
إنه من دان بدين قوم لزمته أحكامهم) (1).
وعن علي بن جعفر (أنه سأل أخاه موسى جعفر عليه السلام عن يهودي
أو نصراني طلق تطليقة ثم أسلم هو وامرأته ما حالهما؟ قال: ينكحها نكاحا
جديدا. قلت: فإن طلقها بعد اسلامه تطليقة أو تطليقتين هل تعتد بما كان طلقها
قبل اسلامها؟ قال: لا تعتد بذلك) (2).
فالحاصل عدم اختصاص المطلب بالعامة.
وعلى هذا فإن اختص الالزام بموارد الأخبار فهو، وإن كان مفادها هو
القبول مطلقا تم الاستدلال بالقاعدة في محل الكلام لكن حديث معاذ بن جبل
صالح للاستدلال بمفهومه على القبول في أهل دينهم، إلا أنه لا يخلو من
كلام كما تقدم.
ثم إن معنى الالزام، هو جعل هذا الطلاق مثلا صحيحا بالنسبة إلى
المسلمين، فيجوز للمسلم نكاح هذا المرأة من باب الالزام، وهذا شئ يستبعده
الذهن، لأن المفروض كونها، زوجة له لأن لكل قوم نكاحا، والطلاق يشترط
فيه عند المسلمين شروط هي مفقودة بحسب الفرض، فكيف يكون الطلاق
الباطل مجوزا لنكاح المسلم تلك المرأة؟
فقيل: إن هذا نظير تصرف ذي الخيار في مورد الخيار، ففي الآن الذي
يعقد عليها المؤمن تكون مطلقة طلاقا صحيحا من زوجها فيصح له نكاحها،
وأما قبل ذلك فهي باقية على الزوجية للمطلق، نظير تصرف ذي الخيار حيث
يكون الشئ في ذلك الوقت ملكا له.



(1) وسائل الشيعة 15 / 322.
(2) وسائل الشيعة 15 / 399.
55
لكن هذا يخالف الرواية التي جاء فيها إنه: (ذكر عند الرضا عليه السلام
بعض العلويين ممن كان ينتقصه. فقال عليه السلام: أما إنه مقيم على حرام.
قلت: جعلت فداك وكيف وهي امرأته؟ قال عليه السلام: لأنه قد طلقها. قلت:
كيف طلقها؟ قال: طلقها وذاك دينه فحرمت عليه) (1).
أقول: والأمر بالنسبة إلى الكفار أسهل، لأنهم إذا عملوا بشرائط الذمة
يعاملون في أعمالهم معاملة الصحة سواء كان طلاقا أو غيره، فيكون نظير
النجاسة في ثوب المصلي حيث إن العلم بها موجب لبطلان الصلاة وإلا
فهي صحيحة وإن كانت على ثوبه. وهنا لما لم يكن المطلق عالما باشتراط
العدلين مثلا يكون طلاقه صحيحا ويترتب عليه الأثر.
هذا وبناءا على عدم قبول شهادتهم على أمثالهم فهل تقبل لأمثالهم؟ قال
العلامة في المختلف. لا والشيخ يقول: نعم. وفي المستند: وظهر مما ذكرنا
أنه لم يخرج من الأصل إلا صورة واحدة وهي شهادة أهل كل ملة على أهل
ملته خاصة. وهل يقبل له؟ الظاهر: لا للأصل. إلا إذا كانت عليه أيضا فتسمع
لأن قبول الشهادة عليه بالدليل وعدم قبولها له بالأصل والدليل مقدم على
الأصل)
قلت: الأظهر: أن (على) في أخبار الباب وفي قوله تعالى (وكذلك
جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس.) ليس بمعنى (الضرر)
حتى لا تقبل في غيره. مع أن في كل مورد يوجد (عليه) يوجد (له) لأن المفروض كون الطرفين من أهل ملة واحدة اللهم إلا أن لا يكون طرف آخر،
كما لو كان قد أوصى بصرف كذا من ماله على المعبد مثلا، لكنه قليل.
نعم لو شك في القبول فالأصل عدمه كما لا يخفى.



(1) التهذيب 2 / 210، الإستبصار 3 / 291.
56
الوصف الرابع: العدالة
قال المحقق: (الرابع: العدالة. إذ لا طمأنينة مع التظاهر بالفسق)
أقول: التعليل بعدم الطمأنينة بشهادة الفاسق ربما يفيد قبول شهادة الفاسق
مع إفادة الطمأنينة، وأيضا: ربما يفيد قوله: مع التظاهر بالفسق قبول الشهادة
من الفاسق غير المتظاهر بالفسق.
لكن الالتزام بالأمرين مشكل.
فالصحيح الاستدلال بالكتاب والسنة والاجماع في كلمات غير واحد
من الأصحاب على اعتبار وصف العدالة (1) في الشاهد، وعدم قبول شهادة
الفاسق.
أما الكتاب فقد استدل بآيات منه، كقوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل
منكم) (2) وقوله تعالى في الوصية (اثنان ذوا عدل منكم) (3) فإنه اعتبار العدالة
في الشاهد على الوصية يقتضي اعتبارها في غيرها بالأولوية، وقوله تعالى:



(1) ذكر السيد الأستاذ في تعليقته على العروة وعلى الوسيلة إن العدالة
نفس الاجتناب عن الكبائر الناشئ عن الحالة النفسانية المعبر عنها بالملكة
وإن حسن الظاهر كاشف عن وجودها.
وقد استظهر دام ظله هذا الذي اختاره من صحيحة عبد الله بن أبي يعفور
المذكورة في المتن، حيث تكلم بعض الشئ في شرح العدالة، وتعرض
للأقوال المذكورة فيها. ولعلنا ننشر ذلك في رسالة مستقلة بإذن الله.
(2) سورة الطلاق: 2.
3) سورة المائدة: 106
57
ممن ترضون من الشهداء) (1).
وأما السنة فبالأخبار الكثيرة الواردة في الأبواب المختلفة، كالوارد في
شهادة المملوك: (لا بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا) وفي شهادة المكاري
والجمال والملاح: (ما بأس بهم، تقبل شهادتهم إذا كانوا صلحاء) وفي شهادة
الضيف:: (لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفا صائنا) إلى غير ذلك.
ومن أشهر الأخبار في مسألة العدالة وتعريفها واعتبارها في الشهادات
صحيحة عبد الله بن أبي يعفور قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: بم تعرف
عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم وعليهم؟ قال أن تعرفوه
بالستر والعفاف وكف البطن والفرج واليد واللسان ويعرف باجتناب الكبائر
التي أوعد الله عليها النار، من شرب الخمر والزنا والربا وعقوق الوالدين
والفرار من الزحف وغير ذلك. والدلالة على ذلك كله: أن يكون ساترا لجميع
عيوبه حتى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه وتفتيش ما وراء
ذلك. ويجب عليهم تزكيته واظهار عدالته بين الناس، ويكون منه التعاهد
للصلوات الخمس إذا واظب عليهن، وحفظ مواقيتهن بحضور جماعة من
المسلمين، وأن لا يتخلف عن جماعتهم في مصلاهم إلا من علة، فإذا كان كذلك
لازما لمصلاه عند حضور الصلوات الخمس.
فإذا سئل عنه في قبيلته ومحلته قالوا: ما رأينا منه إلا خيرا، مواظبا على الصلوات،
متعاهدا لأوقاتها في مصلاه، فإن ذلك يجيز شهادته وعدالته بين المسلمين، وذلك
أن الصلاة ستر وكفارة للذنوب، وليس يمكن الشهادة على الرجل بأنه يصلي
إذا كان لا يحضر مصلاه ويتعاهد جماعة المسلمين، وإنما جعل الجماعة والاجتماع
إلى الصلاة لكي يعرف من يصلي ممن لا يصلي، ومن يحفظ مواقيت الصلاة



(1) سورة البقرة: 282.
58
ممن يضيع، ولولا ذلك لم يمكن لأحد أن يشهد على آخر بصلاح، لأن من
لا يصلي لاصلاح له بين المسلمين، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله هم
بأن يحرق قوما في منازلهم، لتركهم الحضور لجماعة المسلمين، وقد كان فيهم
من يصلي في بيته فلم يقبل منه ذلك، وكيف يقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين
ممن جرى الحكم من الله عز وجل ومن رسوله صلى الله عليه وآله فيه
الحرق في جوف بيته بالنار، وقد كأن يقول: لا صلاة لمن لا يصلي في المسجد
مع المسلمين إلا من علة) (1).
إنما الكلام في ما يزيل العدالة وما لا يزيلها
قال المحقق قدس سره: (ولا ريب في زوالها بمواقعة الكبائر، كالقتل
والزنا واللواط وغصب الأموال المعصومة)
جهات البحث في المقام
أقول: هنا جهات من البحث:
فالأولى: هل المعاصي منقسمة في الشرع إلى كبائر وصغائر؟
لا مجال لانكار أن طائفة من المعاصي كبائر ويدل على ذلك من الكتاب
قوله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) (2). والآية
الكريمة: (ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) (3). ومن السنة
أخبار كثيرة يأتي بعضها.
والثانية: في معنى الآية الأولى من الآيتين المذكورتين، فإن ظاهرها



(1) وسائل الشيعة 18 / 288 باب 41 شهادات
(2) سورة النساء: 31.
(3) سورة الكهف: 49
59
التكفير للصغيرة باجتناب الكبيرة حتى مع عدم التوبة، وهذا يوجب الجرأة
على المعصية، إذ الانسان يتعمد غالبا المعصية إن أمن العذاب، مع أن الله
عز وجل لا يأذن بالمعصية بالضرورة.
كما أن ما ورد عنهم عليهم السلام من أنه (لا صغيرة مع الاصرار كما لا
كبيرة مع الاستغفار) (1) وظاهر في عدم المؤاخذة على الصغيرة التي لا يكون معها
اصرار (2).
قال المحدث الكاشاني بتفسير الآية: (وفي المجمع نسب إلى أصحابنا أن
المعاصي كلها كبيرة لكن بعضها أكبر من بعض وليس في الذنوب صغيرة،
وإنما يكون صغيرا بالإضافة إلى ما هو أكبر واستحقاق العقاب عليه أكثر.
قيل: وتوفيقه مع الآية أن يقال: من عن له أمران ودعت نفسه إليهما
بحيث لا يتمالك، فكفها عن أكبرهما، كفر عنه ما ارتكبه، لما استحق عليه من
الثواب على اجتناب الأكبر، كما إذا تيسر له النظر بشهوة والتقبيل، فاكتفى بالنظر
عن التقبيل. ولعل هذا مما يتفاوت أيضا باعتبار الأشخاص والأحوال، فإن
حسنات الأبرار سيئات المقربين، ويؤاخذ المختار بما يعفى عن المضطرين.
أقول: ظاهر الآية والأخبار الواردة في تفسيرها وتفسير الكبائر يعطي تمايز
كل من الصغائر والكبار عن صاحبتها، كما لا يخفى على من تأمل فيهما، وما
نسبه في المجمع إلى أصحابنا لا مستند له، وقول الموفق يعطي أن من قدر على
قتال أحد فقطع أطرافه كان قطع أطرافه مكفرا، وهو كما ترى، فلا بد لكلامه



(1) وسائل الشيعة 11 / 268 الباب 48. جهاد النفس.
(2) وإليه ذهب جمع من علمائنا كالبهائي والمجلسي وصاحب الجواهر
قدست أسرارهم.
60
وكلام الأصحاب من توجيه حتى يوافقا الظواهر) (1).
وفي الميزان بعد أن نفى الريب في دلالة الآية على انقسام المعاصي إلى
كبائر وصغائر وأن الصغائر سميت في الآية بالسيئات، وأن الآية في مقام الامتنان
جعل مساق الآية مساق الآية الداعية إلى التوبة التي بعد غفران الذنوب، قال:
(هي تقع أسماع المؤمنين بعناية لطيفة إلهية أنهم إن اجتنبوا البعض من
المعاصي كفر عنهم البعض الآخر، فليس اغراء على ارتكاب المعاصي الصغار،
فإن ذلك لا معنى له، لأن الآية تدعو إلى ترك الكبائر بلا شك، وارتكاب الصغيرة
من جهة أنها صغيرة لا يعبأ بها ويتهاون في أمرها، يعود مصداقا من مصاديق
الطغيان والاستهانة بأمر الله سبحانه وهذا من أكبر الكبائر، بل الآية تعد تكفير
السيئات من جهة أنها سيئات لا يخلو الانسان المخلوق على الضعف المبني على
الجهالة من ارتكابها بغلبة الجهل والهوى عليه) (2).
قلت: إن الألطاف الإلهية بالنسبة إلى المؤمنين في باب العفو والمغفرة
تتجلى في التوبة وفي الشفاعة، وفي اذهاب الحسنات للسيئات، وفي
غفران الله سبحانه الذنوب لمن يشاء إلا الشرك به عز وجل. لكن جعل مساق
الآية الكريمة: (إن تجتنبوا.) مساق ما يدل على التوبة خلاف الظاهر،
للفرق بين التوبة ومدلول الآية، لأن سد باب التوبة يوجب اليأس والقنوط
من رحمة الله، والانسان إذا يئس توغل في المعاصي وأفرط في المخالفة
بخلاف فتح هذا الباب. فإنه لا يسبب ذلك، أما مدلول الآية الشريفة فظاهره
الوعد بتكفير الصغائر وعدم المؤاخذة عليها دائما بشرط اجتناب الكبائر.
فالجواب المذكور غير مقنع، وتفصيل الكلام في بيان معنى الآية الكريمة



(1) الصافي في تفسير القرآن 1 / 412.
(2) الميزان في تفسير القرآن 4 / 345.
61
بحيث يساعده ظاهرها وينطبق على سائر الأدلة له مجال آخر.
والثالثة لو اشتبهت عليه المعصية فلم يعلم هل هي كبيرة أو صغيرة فإن
مقتضى حكم العقل الاجتناب عنها، لأن العقل يحكم بلزوم معاملة كل
معصية معاملة الكبيرة المؤاخذ عليها حتى لا يقع في المعصية الكبيرة في الواقع
وذلك لأن البيان الشرعي على وجوب اجتناب الكبائر واصل، والعقل يرشد
إلى الإطاعة والامتثال، فإذا خالف استحق العقاب، لعدم كونه من العقاب بلا
بيان.
وهل يسقط عن العدالة بارتكاب المشكوك في كونها معصية كبيرة؟
ظاهر الآية: (إن تجتنبوا.) وجوب ترك ذات المعصية الكبيرة لا
الترك بعنوان الكبيرة. ولكن إذا كانت العدالة هي الملكة، فإن الملكة تمنع
من ارتكاب الكبيرة المعلوم كونها كبيرة، وعلى هذا فارتكاب المحتمل كونها
كبيرة لا يضر بالعدالة.
الرابعة: إن تشخيص الكبيرة من غيرها لا يكون إلا بالأدلة من الكتاب
والسنة المعتبرة، إذ لا سبيل لعقولنا إلى ذلك، لجهلنا بملاكات الأحكام
ودرجات القبح في المحرمات. وقد اختلف علماؤنا في معنى (الكبيرة) على
أقوال، وذكر الشيخ الأنصاري خمسة أمور يثبت بها كون المعصية كبيرة،
لكن قال في الكفاية: (والأشهر الأقوى أن الكبيرة كل ذنب توعد عليه
بالوعيد في الكتاب المجيد وفي حصره خلاف)
قلت: قد عقد في الوسائل بابا لتعيين الكبائر التي يجب اجتنابها، ووردت
الضابطة المذكورة في بعض تلك الأخبار، واشتمل بعضها على الاستشهاد بآيات
الكتاب، ولنذكر واحدا منها تيمنا:
عن عبد العظيم الحسني عن أبي جعفر الثاني عن أبيه عن جده عليهم

62
السلام قال: (دخل عمرو بن عبيد على أبي عبد الله عليه السلام، فلما سلم
وجلس تلا هذه الآية: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ثم أمسك فقال
له أبو عبد الله عليه السلام: ما أسكتك؟ قال: أحب أن أعرف الكبائر من كتاب
الله عز وجل. فقال: نعم يا عمرو، أكبر الكبائر الاشراك بالله، يقول الله: ومن
يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة. وبعده اليأس من روح الله، لأن الله
عز وجل يقول: ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. ثم الأمن من مكر الله
لأن الله عز وجل يقول: ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. ومنها عقوق
الوالدين، لأن الله سبحانه جعل العاق جبارا شقيا. وقتل النفس التي حرم الله
إلا بالحق، لأن الله عز وجل يقول: فجزاؤه جهنم خالدا فيها إلى آخر الآية،
وقذف المحصنة لأن الله عز وجل يقول: لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب
عظيم، وأكل مال اليتيم لأن الله عز وجل يقول: إنما يأكلون في بطونهم نارا
وسيصلون سعيرا، والفرار من الزحف، لأن الله عز وجل يقول: ومن يولهم
يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه
جهنم وبئس المصير. وأكل الربا لأن الله عز وجل يقول: والذين يأكلون الربا
لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس. والسحر لأن الله
عز وجل يقول: ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق. والزنا لأن
الله عز وجل يقول: ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة
ويخلد فيه مهانا. واليمين الغموس الفاجرة لأن الله عز وجل يقول: الذين
يشترون بعهد الله وبأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة. والغلول
لأن الله عز وجل يقول: ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ومنع الزكاة المفروضة
لأن الله عز وجل يقول: فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.
وشهادة الزور وكتمان الشهادة لأن الله عز وجل يقول: ومن يكتمها فإنه

63
آثم قلبه.
وشرب الخمر لأن الله عز وجل نهى عنها كما نهى عن عبادة الأوثان.
وترك الصلاة متعمدا أو شيئا مما فرض الله عز وجل، لأن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم قال: من ترك الصلاة متعمدا فقد برئ من ذمة الله وذمة
رسوله. ونقض العهد وقطيعة الرحم لأن الله عز وجل يقول: لهم اللعنة ولهم
سوء الدار.
قال: فخرج عمرو وله صراخ من بكائه وهو يقول: هلك من قال برأيه
، ونازعكم في الفضل والعلم) (1).
فالكبيرة كل ذنب توعد عليه في الكتاب أو عد من الكبائر في السنة.
الاصرار على الصغائر كبيرة
قال المحقق قدس سره (وكذا بمواقعة الصغائر مع الاصرار أو في
الأغلب)
أقول: ظاهر الآية الشريفة: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم
سيئاتكم) عدم زوال العدالة بمواقعة الصغائر مطلقا، لكن يدل على ذلك عدة
من الأخبار:
1 - في كتاب التوحيد عن محمد بن أبي عمير قال: (سمعت موسى بن
جعفر عليه السلام يقول: من اجتنب الكبائر من المؤمنين لم يسئل عن الصغائر
قال الله تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم
مدخلا كريما. قال قلت: فالشفاعة لمن تجب؟ فقال: حدثني أبي عن آبائه عن
علي عليهم السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إنما شفاعتي



(1) وسائل الشيعة 11 / 252 الباب 46 جهاد النفس. صحيح.
64
لأهل الكبائر من أمتي فأما المحسنون فما عليهم من سبيل.
قال ابن أبي عمير فقلت له: يا ابن رسول الله، فكيف تكون الشفاعة لأهل
الكبائر، والله تعالى يقول: ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، ومن يرتكب الكبائر
لا يكون مرتضى؟ فقال: يا أبا أحمد ما من مؤمن يذنب ذنبا إلا ساءه ذلك وندم
عليه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله كفى بالندم توبة. وقال:
من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه
فليس بمؤمن ولم تجب له الشفاعة (إلى أن قال) قال النبي صلى الله عليه وآله
وسلم: لا كبير مع الاستغفار ولا صغير مع الاصرار، الحديث) (1).
2 - بصير: (قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: (لا والله لا
يقبل الله شيئا من طاعته على الاصرار على شئ من معاصيه) (2).
3 السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام (قال قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم من علامات الشقاء: جمود العين، وقسوة القلب، وشدة
الحرص في طلب الدنيا، والاصرار على الذنب) (3).
4 - جابر عن أبي جعفر عليه السلام (في قول الله عز وجل: ولم
يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون. قال: الاصرار أن يذنب الذنب فلا يستغفر
الله ولا يحدث نفسه بالتوبة فذلك الاصرار) (4).



(1) وسائل الشيعة 11 / 266 الباب 47 جهاد النفس صحيح.
(2) وسائل الشيعة 11 / 268 الباب 48 جهاد النفس. صحيح.
(3) وسائل الشيعة 11 / 268 الباب 48. جهاد النفس.
(4) وسائل الشيعة 11 / 268 الباب 48. جهاد النفس. فيه (عمرو بن شمر)
وهو ضعيف.
65
5 - عبد الله بن إبراهيم الجعفري عن الجعفر بن محمد عن أبيه عليهما
السلام (قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من أذنب ذنبا وهو ضاحك دخل النار وهو باكي) (1).
هذا واختلفت تعبيرات القوم في معنى (الاصرار) فقيل: إنه الاكثار من
فعل الصغيرة سواء كانت من نوع واحد أو أنواع مختلفة، وقيل: إنه المداومة
على فعل واحد من الصغائر، وقيل: يحصل بكل منهما (2). وقد ضعف في الجواهر
القول بأنه عدم التوبة لكون ما يدل عليه وهو خبر جابر المذكور ضعيف
السند، على أن الصغيرة تقع مكفرة لا تحتاج إلى توبة، قال: بل لعله مخالف
لكلام أهل اللغة.



(1) وسائل الشيعة 11 / 268 الباب 48. جهاد النفس.
(2) ذكر في المحجة البيضاء وجامع السعادات ما ملخصه: إن الصغيرة
قد تكبر بأسباب:
1 - الاصرار والمواظبة. ولذلك قال الصادق عليه السلام: لا صغيرة مع
الاصرار ولا كبيرة مع الاستغفار).
2 - استصغار الذنب وعدم استعظامه. قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: اتقوا المحقرات من الذنوب فإنها لا تغفر.) وقال أمير المؤمنين
عليه السلام: أشد الذنوب ما استخف به صاحبه.
3 - أن يأتي الصغائر ولا يبالي بفعلها، اغترارا بحلم الله وستره.
4 - السرور بالصغيرة، قال أمر المؤمنين عليه السلام: (سيئة تسؤك
خير من حسنة تعجبك).
5 - أن يذنب ويظهر ذنبه، بأن يذكره بعد اتيانه، أو يأتي به في مشهد غيره.
6 - أن يكون الآتي بالصغيرة عالما يقتدي به الناس.
66
ولو ارتكب الصغيرة عازما على فعلها مرة أخرى أو عزم على ايقاع
الصغائر ولم يفعل بعد فهل تزول عدالته؟ قال في الجواهر: الظاهر
وصف العدالة معه لاحتمال صدق (الاصرار) وحينئذ لا تقبل شهادته، لاعتبار
وجود وصف العدالة في الشاهد، وهذا يكون بناء على عدم وجوب التوبة،
وأما على وجوبها فإن العازم على المعاودة على المعصية تارك للواجب
وترك الواجب معصية كبيرة، بل إن الاكثار والتوبة لا يبعد أن يكون اصرارا على المعصية.
وأما بناءا على عدم وجوب التوبة فإن العزم على المعصية ليس معصية والمفروض
عدم المواقعة ثانية بعد، فلا وجه للتوقف في قبول شهادته اللهم، إلا أن يكون ترك
التوبة (اصرارا) كما يفيده خبر جابر عن الباقر عليه السلام. لكن قد عرفت
تضعيفه إياه.
هذا كله في الصغيرة على الحال الذي عرفت.
قال المحقق: (أما لو كان في الندرة، فقد قيل: لا يقدح لعدم الانفكاك
منها إلا في ما يقل، فاشتراطه التزام للأشق، وقيل: يقدح لامكان التدارك
بالاستغفار، والأول أشبه)
أقول: نسب القول الأول إلى المشهور واختاره المحقق، وجعل صاحب
الجواهر أشبه بأصول المذهب وقواعده، والقول الثاني إلى ابن إدريس.
وقد استدل المحقق للأول بأن الانسان لا ينفك من مواقعة الصغيرة فاشتراطه
التزام للأشق، إذ تتوقف شؤون الناس وأمورهم المعتبر فيها العدالة، فيقعون في
الحرج، وهو منفي الشرع لقوله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج)
أو يقع الشخص غير المنفك نفسه في حرج، ولكن النهي عن المواقعة يكشف
عن عدم كون الترك حرجيا.

67
قلت: أي مشقة في ترك الصغائر؟ فإن مؤمن متشرع ملتفت إلى
الأحكام يمكنه الترك بلا عسر ولا حرج، فما ذكره غير واضح عندنا.
نعم الدليل ما ذكره في الجواهر من أن الصغيرة بلا اصرار مكفرة باجتناب
الكبائر، فلا حاجة حينئذ إلى التوبة، وبه يتضح الجواب عن دليل القول
الثاني.
قال المحقق: (وربما توهم وأهم أن الصغائر لا تطلق على الذنب إلا مع
الاحباط وهذا بالاعراض عنه حقيق فإن اطلاقها بالنسبة، ولكل فريق اصطلاح)
أقول: قد أشرنا إلى انقسام المعاصي إلى كبائر وصغائر، كما دلت عليه
الآيات والأخبار، وأن الأشهر هو القول بأن الكبيرة ما أوعد الله عليه النار،
وتقابلها الصغيرة. وذهب جماعة إلى أن الذنوب كلها كبيرة، إلا أن بعضها أكبر
من بعض، وليس في الذنوب صغيرة، وإنما يكون صغيرا بالإضافة إلى ما هو أكبر.
وأشار هنا إلى أن من الأصحاب من قال بأن الصغائر لا يطلق على الذنوب
إلا على مذهب القائلين بالاحباط، قال: وهذا وهم، لأن الكبائر قد اعتبرها
من قال بالاحباط، ومن أبطله وهم الإمامية، كما عرفت (1).



(1) قال الشيخ المفيد: (لا تحابط بين المعاصي والطاعات، ولا الثواب
والعقاب) وفي التجريد: (الاحباط باطل لاستلزامه الظلم، ولقوله تعالى:
(فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره.) قال العلامة في شرحه: (اختلف الناس هنا
فقال جماعة من المعتزلة بالاحباط والتكفير، ومعناهما أنا المكلف يسقطوا به المتقدم
بالمعصية المتأخرة، أو يكفر ذنوبه المتقدمة بالطاعة المتأخرة ونفاهما المحققون
ثم القائلون بهما اختلفوا، فقال أبو علي: إن المتأخر يسقط المتقدم ويبقى على
حاله. وقال أبو هاشم: إنه ينتفي الأقل بالأكثر، وينتفي الأكثر بالأقل ما ساواه
ويبقى الزائد مستحقا وهذا هو الموازنة.
ويدل على بطلان الاحباط أنه يستلزم الظلم، لأن من أساء وأطاع، وكانت
إساءته أكثر يكون بمنزلة من لم يحسن، وإن كان احسانه أكثر يكون بمنزلة
من لم يسئ، وإن تساويا يكون مساويا لمن يصدر عنه أحدهما. وليس كذلك
عند العقلاء. ولقوله تعالى: فمن يعمل. والايفاء بوعده ووعيده واجب).
ثم ذكر دليل بطلان الموازنة.
وفي مجمع البحرين: (لو قيل ببطلان الاحباط والموازنة، والقول بالتكفير
من باب العفو والتفضل لم يكن بعيدا، وظاهر الأدلة تؤيده).
68
قال في المسالك: على أن القائل بالاحباط يعتبر الأكثر من الطاعة والمعصية
فيثبته أجمع، أو يثبت ما زاد عن مقابله من أي نوع كان من أنواع المعاصي
فربما كانت المعصية المخصوصة على هذا مما يحبط عن شخص أو يبقى على
آخر بالنظر إلى ما يقابلها من الطاعة، فلا يتحقق الصغيرة في نوع من أنواع
المعاصي. ومن ثم أطلق على هذا الفهم الوهم، وجعله حقيقا بالاعراض عنه.
ثم على تقدير اطلاق القائلين بالاحباط لفظة (الصغيرة) على ما يمحى
بالذنوب، فهو اصطلاح لهم، واطلاقها عند الفقهاء على ما ذكرنا - بحسب
ما يدل عليه الكتاب والسنة اصطلاح آخر، ولكل فريق اصطلاح.
هل يقدح ترك المندوبات؟
قال: (ولا يقدح في العدالة ترك المندوبات ولو أصر مضربا عن الجميع
ما لم يبلغ حدا يؤذن بالتهاون بالسنن)
أقول: ظاهر العبارة كفاية اتيان بعض المندوبات، لكن في المسالك: (لو

69
اعتاد ترك صنف منها كالجماعة والنوافل ونحو ذلك فترك الجميع، لاشتراكهما
في العلة المقتضية لذلك، نعم لو تركها أحيانا لم يضر)
لكن الانصاف - وفاقا للجواهر عدم خلوه من البحث إن لم يكن
اجماعا، ضرورة عدم المعصية في ترك جميع المندوبات، أو فعل جميع
المكروهات من حيث الإذن فيهما فضلا عن ترك صنف منهما، ولو للتكاسل
والتثاقل منه.
واحتمال كون المراد بالتهاون الاستخفاف فيه، يدفعه أن ذلك من الكفر
والعصيان ولا يعبر عنه ببلوغ الترك حد التهاون كما هو واضح.
هل تعتبر المروة؟
بقي شئ: وهو أن المحقق قدس سره لم يتعرض للمروة فهل هي جزء
من العدالة أو شرط في قبول الشهادة أو لا؟
قال في الجواهر: كأن المحقق لم يجعل ترك المروة قادحا في العدالة أو
يتوقف في ذلك، وهو قول محكي عن بعض العلماء، من حيث إن منافيها
مناف للعادة لا الشرع.
والمحكي عن الأشهر اعتبارها في الشهادة فالمشهور على أنها شطر من
العدالة، وقيل هي خارجة عنها لكنها شرط في قبول الشهادة كالعدالة، قد أغرب
العلامة في القواعد حيث جمع بين الأمرين، فجعلها جزء من العدالة ثم جعلها
شرطا آخر كالعدالة لقبول الشهادة
هذا بالنسبة إلى الأقوال (1). وأما معنى المروة ففي اللغة: الانسانية أو



(1) كما في الجواهر. وفي رسالة الشيخ الأعظم: المشهور بين من تأخر
عن العلامة اعتبار المروة في مفهوم العدالة، وهو الذي يلوح من عبارة المبسوط
أما كلام غير الشيخ ممن تقدم على العلامة فلا دلالة فيه بل ولا اشعار على
ذلك. وممن لم يعتبر المروة في العدالة: المحقق في الشرائع والنافع، وتبعه
العلامة في الارشاد وولده في موضع من الايضاح، وهو ظاهر الشهيد في النكت.
قال الشيخ: والحاصل أنه لو ادعى المتتبع أن المشهور بين من تقدم
على العلامة عدم اعتبار المروة في العدالة، خصوصا في غير الشاهد لم يستبعد
ذلك منه، لما عرفت من كلمات من عدا الشيخ. وأما الشيخ فالعدالة المذكورة
في كلامه لا تنطبق على ما ذكره المتأخرون.
قال: وينبغي الجزم بعدم اعتبارها في العدالة المعتبرة في الإمام
70
الرجولية، والمراد بلوغ حد الكمال فيهما، وفي الاصطلاح كما في كشف
اللثام هيئة نفسانية تحمل الانسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل
الأفعال والعادات.
وفي المسالك: في ضبط المروة عبارات متقاربة. فدكر جملة من
تلك العبارات. ومختاره: عدم قبول شهادة من لا مروة له، وسنذكر دليله
والنظر فيه.
وفي الجواهر: لا اشكال في رد الشهادة بمنافيها إذا رجع إلى محرم أو
خبل، لمنافاة الأول للتقوى، والثاني لكمال العقل. وأما ما لا يرجع إلى ذلك
فقد يشكل اعتباره في الشهادة أو العدالة باطلاق الأدلة. ثم إنه استدل للاعتبار
بوجوه: الأول فتوى المعظم: لكن فتوى المشهور ليس بمستند إلا إذا حصل الاطمينان
بها بالدليل الشرعي من جهة أن معظم الأصحاب لا يفتون شئ إلا بدليل

71
معتمد.
الثاني: فحوى ما ورد في رد شهادة السائل بكفه.
قلت: من ذلك ما رواه علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن موسى عليهما
السلام (قال: سألته عن السائل الذي يسأل بكفه، هل تقبل شهادته؟ فقال:
كان أبي لا يقبل شهادته إذا سأل في كفه)
وما رواه الشيخ بأسناده عن أحمد بن محمد بن خالد عن محمد بن مسلم
عن أبي جعفر عليه السلام: (قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (شهادة
السائل الذي يسأل في كفه لا تقبل.)
وما رواه علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال: (سألته عن السائل
أتجوز شهادته؟ فقال: كان أبي يقول: لا تقبل شهادة السائل بكفه)
وما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: (رد رسول الله / صلى الله عليه وآله شهادة السائل الذي يسأل في كفه، قال أبو جعفر عليه السلام
لأنه لا يؤمن على الشهادة، وذلك لأنه إن أعطي رضي وإن منع سخط)
فالسؤال بالكف ينافي المروة (وقد استثنى بعضهم سؤال مستحق الخمس
أو الزكاة ممن يجب عليه ذلك) لأن السخط على من لا يحسن لأجل عدم
الاحسان معصية، ولا أقل من أن يسلب السؤال بالكف الاطمينان والوثوق
بكلامه وشهادته لأن من لا يحفظ كرامته أمام الناس لشئ يعطى أو يمنع فإنه
لا يحفظ أعراض الآخرين وكرامتهم بالأولوية. هذا وجه الاستدلال.
وفيه: إن الحكمة التي ذكرها الإمام عليه السلام في صحيحه محمد بن
مسلم تفيد أن السائل بكفه لا ينفك غالبا عن المعصية سواء رضي أو سخط كما
نشاهد في مجتمعنا بالعيان، فالسؤال بالكف ينافي العدالة، وحينئذ لا مجال
للأولوية حتى يكون فحوى هذا الأخبار دليلا على اعتبار المروة، والقول

72
بسقوط شهادة من يجتنب الكبائر ويأتي بالواجبات لكنه يقوم ببعض المنافيات
للمروة أحيانا.
ومما ذكرنا ينقدح عدم الوجه لاندراجه في الظنين، وهو الوجه:
الثالث: وهو ما ذكره بقوله: ولعل منه ينقدح اندراجه في الظنين
الذي استفاضت النصوص في رد شهادته، منها: خبر ابن سنان: (قلت
لأبي عبد الله عليه السلام: ما يرد من الشهود؟ قال فقال: الظنين والمتهم.
قال: قلت: فالفاسق والخائن؟ قال: ذلك يدخل في الظنين)
ومنها: خبر سليمان بن خالد قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام وذكر
مثله إلا أنه قال: (الظنين والخصم)
ومنها: خبر أبي
بصير قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام، وذكر مثله إلا
أنه قال: الظنين والمتهم والخصم).
ومنها: خبر الحلبي قال: (سئل أبو عبد الله عليه السلام عما يرد من الشهود
فقال: الظنين والمتهم والخصم. قال قلت: فالفاسق والخائن؟ فقال: هذا
يدخل في الظنين)
ومنها: خبر محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام (قال قال رسول الله
صلى الله عليه وآله: لم تجز شهادة الصبي ولا خصم ولا متهم ولا ظنين).
لظهور تلك الأخبار في عدم انفكاك السائل بكفه عن المعصية المسقطة
للعدالة والموجبة لرد الشهادة، فلا يندرج تحت عنوان (الظنين)
الرابع: قول الكاظم عليه السلام: (لا دين لمن لا مروة له، ولا مروة لمن
لا عقل له) (1).



(1) الكافي 1 / 19.
73
وفيه ما ذكره صاحب الجواهر، ضرورة إرادة الكمال الزائد على وصف
العدالة منه، فيكون نظير (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد)
الخامس: ما قيل من أنه يشعر به ما في بعض النصوص: (من عامل أناس
فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت
مروته، ووجبت إخوته، وحرمت غيبته) (1).
وفيه: إن الظلم والكذب محرمان يخلان بأصل العدالة، وكذا خلف
الوعد بناء على كونه من الكذب، إذن ليس المراد من المروة في الخبر ما
ذكروه في معناها لغة واصطلاحا.
السادس: إن فاقد المروة غير مرضي الشهادة عرفا فلا يدخل في قوله
تعالى:. (ممن ترضون) 2.
قلت: عن أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الآية المباركة قال: (ممن
ترضون دينه وأمانته وصلاحه وعفته وتيقظه فيما يشهد به وتحصيله وتمييزه،
فما كل صالح مميزا ولا محصلا، ولا كل محصل مميز صالح)
والظاهر أنه أجنبي عن محل الكلام، لأنه ساكت عن الأمور المتعارفة
بين الناس وسلوكه في المجتمع بحسب العادات والأخلاق العرفية المتبعة.
السابع: أصالة عدم ترتب أحكام العدالة على فاقد المروة بعد عدم الوثوق
باطلاق يتناوله.
أقول: لا مجال لهذا الأصل بعد سكوت صحيحة ابن أبي عمير عن اعتبار
المروة، إذ لو كانت شطرا من العدالة لذكرت في الصحيحة، مع كون الإمام
عليه السلام في مقام بيان العدالة وخصوصياتها، لا سيما بناءا على القول بالحقيقة



(1) وسائل الشيعة 18 / 293 الباب 41 شهادات.
(2) سورة البقرة: 282.
74
الشرعية للفظ (العدالة). وحينئذ يكون الأصل في اعتبار شئ زائدا على ما في
الصحيحة هو العدم.
وليس هذا الشك في الاعتبار مسببا عن الشك في مفهوم العدالة، ولو سلم
فإن هذه السببية شرعية والمرجع فيها هو الشرع، فلما كان الوضوء سببا شرعيا
لحصول الطهارة كان على الشارع بيان الوضوء فإن شك في جزئية شئ فيه
ولم يذكره كان الأصل عدم الجزئية.
فظهر بما ذكرنا الاشكال في جميع الوجوه التي ذكرها صاحب الجواهر
لاعتباره المروة، وأما ما ذكره صاحب المسالك في وجه عدم قبول شهادة من
لا مروة له من (أن طرح المروة إما أن يكون لخبل ونقصان أو قلة مبالاة وحياء
وعلى التقديرين يبطل الثقة والاعتماد على قوله. أما الأول فظاهر، وأما قليل
الحياء فمن لا حياء له يصنع ما شاء كما ورد في الخبر)
ففيه: إن المراد من الحياء في هذا الخبر ونحوه هو الحياء من الله عز وجل
لا الحياء في الأمور العرفية والعادية، ومن الواضح أن من لا يستحي من الله
سبحانه فيه اقتضاء أن يفعل ما شاء، وعدم الحياء بهذا المعنى الظاهر من الخبر
ينافي العدالة بل، هو كفر بالله عز وجل، وهذا معنى (من لا حياء له لا دين له).

75
(مسائل)
(المسألة الأولى)
(في عدم قبول شهادة المال في أصول العقائد)
قال المحقق قدس سره: (كل مخالف في شئ من أصول العقائد ترد
شهادته سواء استند ذلك إلى التقليد أو إلى الاجتهاد)
أقول: قال في المسالك: (المراد بالأصول التي ترد شهادة المخالف فيها
أصول مسائل التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد، وأما فروعها من المعاني
والأحوال وغيرهما من فروع علم الكلام فلا يقدح فيها، لأنها مباحث ظنية،
والاختلاف فيها بين علماء الفرقة الواحدة كثير شهير، وقد عد بعض العلماء
جملة مما وقع الخلاف فيه منها بين المرتضى وشيخه المفيد فبلغ نحوا من
مائة مسألة فضلا عن غيرهما)
وفي الجواهر شرح العبارة بحيث تعم الفروع الاعتقادية أيضا لكن مقيدة
بكونها مما علم ضرورة من الدين أو المذهب، قال: (لاشتراك الجميع في عدم
المعذورية الموجبة للكفر فضلا عن الفسق) فيكون المراد من الفرع: الفروع

76
المسلمة الضرورية، ولا ريب في أن من خالف في شئ من هذه الفروع ترد
شهادته، بل يخرج بمخالفته عن الدين أو المذهب، كالقائل بالتجيم والقائل
بالجبر ونحوهما، وفي العروة: (لا اشكال في نجاسة الغلاة والخوارج والنواصب
وأما المجسمة والمجبرة والقائلين بوحدة الوجود من الصوفية إذا التزموا
بأحكام الاسلام فالأقوى عدم نجاستهم، إلا مع العلم بالتزامهم بلوازم مذاهبهم
من المفاسد)
ولا ريب في أن المسائل التي وقع الخلاف فيها بين العلماء والتي يقول
صاحب المسالك بعدم قدح الخلاف فيها ليست من فروع الاعتقادات الضرورية
بل هي مباحث ظنية كما قال. فإن أراد الشهيد الثاني ما ذكرنا فهو وإلا ورد
عليه اشكال الجواهر.
قال المحقق: (ولا ترد شهادة المخالف في الفروع من معتقدي الحق،
إذا لم يخالف الاجماع، ولا يفسق وإن كان مخطئا باجتهاده)
أقول: إن الخلاف في الفروع الفقهية لا يضر العدالة ولا بالشهادة، إذ
قد يؤدي إلى ذلك الاجتهاد والنظر في الأدلة وهي كلها ظنية أما سندا كما في
السنة وأما دلالة كما في الكتاب.
هذا إلا إذا كانت مخالفته مخالفة للاجماع الثابت المعلوم دخول المعصوم
عليه السلام في المجمعين، وكذا إذا خالف الحكم المقطوع به بحيث يقطع
بقبول المعصوم له، كما إذا كان مما يستقل به العقل، فإن مثل هذا الحكم لا ريب
في قبوله له، لأنه يكون مورد قاعدة الملازمة: كل ما حكم به العقل حكم به
الشرع، أو يكون الحكم مما اتفق عليه فقهاء الفرقة المحقة واستقرت عليه
كلمتهم، مع اختلاف الأعصار والأمصار، بناءا على أن مثل ذلك كاشف عن
الواقع الذي لم يتخلف عنه المعصوم عليه السلام، فإن هذا الحكم لا يجوز

77
مخالفته لكشفه عن رأي المعصوم، بل لا يجوز مخالفة كل اجماع كان عن اجتهاد
صحيح يكشف عن وجود دليل معتبر لا يجوز مخالفته باجتهاد.
ومثل الاجماع المذكور في ذلك مخالفة صريح الكتاب ونصه أو الخبر
المتواتر المعلوم.
(المسألة الثانية)
(في عدم قبول شهادة القاذف)
قال المحقق قدس سره: (لا تقبل شهادة القاذف ولو تاب قبلت)
أقول: الأصل في هذه المسألة هو قول الله سبحانه: (والذين يرمون
المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم
شهادة أبدا، وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن
الله غفور رحيم) (1). وتدل على ذلك الأخبار المستفيضة، وقد قام الاجماع بقسميه
عليه.
وإنما لا تقبل شهادته مع عدم اللعان أو البينة أو اقرار المقذوف، وأما مع
أحد الأمور المذكورة أو إذا تاب قبلت سواء أقيم الحد عليه أولا، ولو أقيم
ولم يتب لم تقبل.
اتفق المفسرون على عدم رجوع الاستثناء إلى الجملة الأولى (فاجلدوهم
ثمانين جلدة) وهم بين من أرجعه إلى الجملتين الباقيتين وبين من أرجعه إلى
الثالثة وهي: (أولئك هم الفاسقون)



(1) سورة النور: 4 - 5.
78
وأما الحد فإن كان في حقوق الله فلا يسقط إلا إذا تاب قبل أن يؤخذ إلى
الحاكمي كما في الأخبار (1)، وإن كان في حقوق الناس يسقط بعفو صاحبه، وإلا
فلا يسقط سواء تاب أولا، وما نحن فيه من هذا القبيل، فهو يسقط بعفو المقذوف،
كما يرتفع الفسق وتقبل شهادته بالتوبة.
حد توبة القاذف
إنما الكلام في حد التوبة ومعنى الاصلاح المذكور في الآية، أما (التوبة)
فالآية ساكتة عن حدها وكلمات الأصحاب مختلفة فيه: قال المحقق: (وحد التوبة أن يكذب نفسه وإن كان صادقا ويوري
باطنا. وقيل: يكذبها إن كان كاذبا ويخطئها في الملأ إن كان صادقا. والأول مروي)
ولننظر في أخبار المسألة:
1 - أبو الصباح الكناني قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن القاذف
بعد ما يقام عليه الحد ما توبته؟ قال: يكذب نفسه. قلت: أرأيت إن أكذب
نفسه وتاب، أتقبل شهادته؟ قال: نعم) (2).
2 - القاسم بن سليمان قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل
يقذف الرجل فيجلد حدا ثم يتوب ولا يعلم منه الأخير، أتجوز شهادته؟
قال: نعم، ما يقال عندكم؟ قلت: يقولون توبته فيما بينه وبين الله، ولا تقبل



(1) في الوسائل: (باب إن من تاب قبل أن يؤخذ سقط عنه الحد) ج
18 / 327 ومن ذلك صحيحة ابن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام: (السارق
إذا جاء من قبل نفسه تائبا إلى الله عز وجل، ترد سرقته إلى صاحبها ولا قطع
عليه).
(2) وسائل الشيعة 18 / 282. الباب 36 شهادات. فيه (محمد بن الفضيل)
79
شهادته أبدا. فقال: بئس ما قالوا، كان أبي بقول: إذا تاب ولم يعلم منه إلا
خير جازت شهادته) (1).
3 - السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (قال أمير المؤمنين عليه
السلام: ليس يصيب أحد حدا فيقام عليه ثم يتوب إلا جازت شهادته) (2).
4 - يونس عن بعض أصحابه عن أحدهما عليهما السلام قال: (سألته عن
الذي يقذف المحصنات تقبل شهادته بعد الحد إذا تاب؟ قال: نعم. قلت:
وما توبته؟ قال: يجئ فيكذب نفسه عند الإمام ويقول: قد افتريت على فلانة
ويتوب مما قال) (3).
5 - الكناني: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن القاذف إذا أكذب نفسه
وتاب أتقبل شهادته؟ قال نعم) (4).
6 - عبد الله بن سنان: (سألت أبا عبد الله عن المحدود إذا تاب أتقبل
شهادته؟ فقال: إذا تاب وتوبته أن يرجع في ما قال ويكذب نفسه عند الإمام
وعند المسلمين فإذا فعل فإن على الإمام أن يقبل شهادته بعد ذلك) (5).
إن هذه الأخبار تدل على أن توبته (اكذاب نفسه) كما عليه المحقق تبعا
للصدوقين والمعاني ونهاية الشيخ والشهيدين وغيرهم، بل قيل إنه المشهور،



(1) وسائل الشيعة 18 / 282. الباب 36 شهادات. فيه (القاسم بن
سليمان).
(2) وسائل الشيعة 18 / 282. الباب 36 شهادات.
(3) وسائل الشيعة 18 / 283. الباب 36 شهادات. فيه: (إسماعيل بن
مرار) وهو أيضا مرسل.
(4) وسائل الشيعة 18 / 283. الباب 37 شهادات. صحيح.
(5) وسائل الشيعة 28 / 283. الباب 36. شهادات.
80
بل ادعى عليه الاجماع، ولا ريب أن هذا إلا كذاب يكون عقيب الندم فيما
بينه وبين الله عز وجل وأنه يعتبر بعد حمل مطلقها على مقيدها أن يكون عند
الإمام وعند المسلمين وفاقا للجماعة، بل عن بعضهم عدم الخلاف في اعتبار
ذلك، فما في الجواهر من أن الظاهر إرادة اجهاره بذلك لا كونه شرطا في
التوبة، خلاف ظاهر الأخبار، بل الظاهر منها عدم تحقق التوبة المؤثرة
لقبول الشهادة إلا بذلك كما لا يخفى على من لاحظها، لا سيما صحيحة ابن سنان
حيث يسأل عن المحدود إذا تاب أتقبل شهادته؟ فقال الإمام عليه السلام: (نعم
إذا تاب، وتوبته أن يرجع فيما قال ويكذب نفسه عند الإمام وعند المسلمين،
فإذا فعل فإن على الإمام أن يقبل شهادته بعد ذلك)
وقد ظهر بذلك ضعف القول الآخر والقائل به الشيخ في المبسوط وابن
إدريس وابن سعيد والعلامة فإنه اجتهاد في مقابلة نصوص المسألة، بل في
المسالك أنه تعريض بقذف جديد غير القدف الأول.
كما ظهر من خبر القاسم بن سليمان خلاف العامة في المسألة، حيث يقولون
بأن توبته فيما بينه وبين الله تعالى، ولا تقبل شهادته أبدا ومن هنا حمل على
التقية ما رواه السكوني (عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السلام قال: ليس
أحد يصيب حدا فيقام عليه ثم يتوب إلا جازت شهادته إلا القاذف، فإنه لا تقبل
شهادته، إن توبته فيما كان بينه وبين الله تعالى (1)
إلا أن حمله على التقية من)) البعد بمكان، لأنه عن أمير المؤمنين ولم يكن
عليه السلام في تقية في بيان المسائل الشرعية الفرعية، وأبعد منه احتمال
نسبة الإمام الصادق عليه السلام ذلك إلى جده عليه السلام من باب التقية.



(1) وسائل الشيعة 18 / 283. الباب 36. شهادات.
81
فالصحيح في الجواب عنه هو: إن الاستثناء المزبور قد اختص به بعض نسخ
التهذيب، وقد خلا عنه البعض الآخر، وكتاب الكافي الذي تقرر كونه أضبط
من التهذيب، فيتقدم الخبر الخالي عنه لما ذكرنا، وإن كان الأصل في دوران
الأمر بين الزيادة والنقيصة هو عدم الزيادة.
هذا كله في حد التوبة في هذا المقام.
وأما (الاصلاح) فهل هو شرط زيادة عن التوبة؟ وما معناه؟
هل يشترط اصلاح العمل زيادة عن التوبة؟
قال المحقق قدس سره:
(وفي اشتراط اصلاح العمل زيادة عن التوبة تردد، والأقرب: الاكتفاء
بالاستمرار، لأن بقاءه على التوبة اصلاح ولو ساعة)
أقول: الأصل في هذا قوله تعالى: (إلا الذين تابوا من بعد ذلك و
أصلحوا) ولم تذكر الآية شيئا زائدا على (الاصلاح) فقيل: العطف تفسيري
ولا يشترط شئ زائدا على التوبة، وقيل: يشترط اصلاح العمل زيادة عن
التوبة، فقيل: يكتفي في اصلاح العمل بالاستمرار على التوبة، وقيل:
المراد اصلاح الحال والنفس بمنعها عن ظهور ما ينافي العدالة
قال في الجواهر: التأمل الجيد يقتضي كون المراد بالاصلاح اكذاب
نفسه بين الناس الذي يكون به الاصلاح لما أفسده من عرض المقذوف بقذفه،
وذلك لظهور النصوص أو صراحتها في مغفرة ذنب القاذف بالتوبة واكذاب
نفسه، وأنه لا يحتاج بعد ذلك إلى أمر آخر، والآية ذكرت التوبة والاصلاح،
فيعلم حينئذ كون المراد ذلك، لأن كلامهم عليهم السلام كالتفسير لها.
أقول: ليس ظاهر النصوص فضلا عن صراحتها ما ذكره رحمه الله،

82
ففي خبر القاسم بن سليمان: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يقذف
الرجل فيجلد حدا ثم يتوب ولا يعلم منه إلا خير تجوز شهادته؟ قال: نعم. ما يقال
عندكم؟ قلت: يقولون: توبته فيما بينه وبين الله تعالى، ولا تقبل شهادته
أبدا. فقال: بئسما قالوا، كان أبي يقول: إذا تاب ولم يعلم منه الأخير
جازت شهادته) وظاهر اعتبار شئ زائدا على التوبة، فيعلم حينئذ كون المراد
من (الاصلاح) في الآية (أن لا يعلم منه الأخير) بعد التوبة، لأن كلامهم عليهم
السلام كالتفسير لها فظهر اشتراط اعتبار ذلك زيادة عن (التوبة) خلافا لمن نفى ذلك،
وأن العطف ليس تفسيريا خلافا لمن احتمله، وأنه لا يكفي في ذلك الاستمرار
على التوبة ولو ساعة خلافا للمحقق وغيره، والقول بأن المراد أن لا يعلم منه
الأخير قبل التوبة خلاف ظاهر الخبر.
فالحق هو القول باشتراط اصلاح العمل زيادة عن التوبة (1).



(1) أقول: توضيح ما ذكره السيد الأستاذ هو: إن الآيات التي جاء فيها
(الاصلاح) بعد (التوبة) على طوائف، منها: الآية المذكورة في صدر المسألة
وهي في سورة النور: 5: (والذين يرمون المحصنات. إلا الذين تابوا من
بعد ذلك وأصلحوا.) وقوله تعالى: (والسارق والسارقة. فمن تاب من
بعده وأصلح.) وقوله: (. إنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من
بعده وأصلح.).
ومنها: الآية في سورة آل عمران: 89: (كيف يهدي الله قوما كفروا
بعد ايمانهم. إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا.) ونحوها.
ومنها: الآيات الكثيرة التي جاء فيها (العمل الصالح) بعد الايمان (والتوبة).
والمستفاد من مجموعها أن التوبة لا تتحقق أو لا تكمل إلا بالاصلاح الذي
هو ضد الافساد، فلا بد من اصلاح العبد ما بينه وبين مولاه بالدخول في الصلاح
والقيام بالصالحات، حتى لا يعلم منه إلا خير. وهذا هو ظاهر الطائفتين
الثانية والثالثة من الآيات.
إلا أن الطائفة الأولى امتازت ببيان اشتراط التوبة عن تلك الذنوب
الخاصة - وهي ارتكاب (رمي المحصنات) و (السرقة) و (السوء) باصلاح ما
أفسد في تلك الموارد، بالاصلاح المناسب لكل منها، ومن الواضح إن اصلاح
ما أفسده في مورد آية رمي المحصنات يكون باكذاب نفسه بين الناس، وبه
صرحت النصوص.
فالعمل الصالح زيادة عن التوبة شرط، وقد يشترط بالإضافة إلى ذلك في
بعض الموارد اصلاح خاص.
83
ثم إن هذا الخبر بناء على تمامية سنده يقيد الأخبار المطلقة الدالة
على جواز شهادته بتوبته المجردة المتحققة باكذاب نفسه، كما عرفت ظهور
الآية الكريمة في اشتراط (الاصلاح) بالمعنى المذكور زيادة عن التوبة ولا
أقل من احتفاف تلك الأخبار بما يصلح للقرينة، فلا يصح التمسك باطلاقها
قال المحقق: (ولو أقام بينة بالقذف أو صدقه المقذوف فلا حد عليه
ولا ترد)
أقول: أي: لو أقام القاذف بينة بما صدر منه من القذف أو صدقه
المقذوف فلا حد عليه ولا ترد شهادته. وهو واضح.
(المسألة الثالثة)
(في حرمة اللعب بآلات القمار مطلقا)
قال المحقق قدس سره: (اللعب بآلات القمار كلها حرام، كالشطرنج

84
والنرد والأربعة عشر وغير ذلك، سواء قصد الحذق أو اللهو أو القمار)
أقول: لا ريب في حرمة اللعب بآلات القمار نصا وفتوى، كما لا ريب في
حرمة التصرف في المال الحاصل من هذا الطريق، لأنه أكل للمال بالباطل.
ولنذكر طائفة من نصوص المسألة:
1 - زياد بن عيسى قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله عز وجل:
ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل. فقال: كانت قريش يقامر الرجل بأهله وماله،
فنهاهم الله عز وجل عن ذلك) (1).
2 - جابر (عن أبي جعفر عليه السلام قال: لما أنزل الله على رسوله
صلى الله عليه وآله (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه. قيل يا رسول الله ما الميسر؟ فقال: كل ما تقومر به
حتى الكعاب والجوز. قيل: فما الأنصاب؟ قال: ما ذبحوا لآلهتهم. قيل:
فما الأزلام؟ قال: قداحهم التي يستقسمون بها) (2).
3 - حماد بن عيسى، قال: (دخل رجل من البصريين على أبي الحسن
الأول عليه السلام فقال له: جعلت فداك أني أقعد مع قوم يلعبون بالشطرنج ولست
ألعب بها ولكن أنظر، فقال: ما لك ولمجلس لا ينظر الله إلى أهله) (3).
4 - سليمان الجعفري (عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: المطلع
في الشطرنج كالمطلع في النار) (4).
5 - ابن رئاب قال: (دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقلت له:
جعلت فداك ما تقول في الشطرنج؟ فقال: المقلب لها كالمقلب لحم الخنزير.
قال فقلت: ما على من قلب لحم الخنزير؟ قال: يغسل يده) (5).



(1) وسائل الشيعة 12 / 119 الباب 35 من أبواب ما يكتسب به.
(2 - 5) وسائل الشيعة 12 / 240 الباب 103 من أبواب ما يكتسب به.
85
6 - أبو بصير عن أبي عبد الله السلام قال: (بيع الشطرنج حرام، وأكل
ثمنه سحت، واتخاذها كفر، واللعب به شرك، والسلام على اللاهي بها معصية
وكبيرة موبقة، والخائض فيها يده كالخائض يده في لحم الخنزير، لا صلاة له
حتى يغسل يده كما يغسلها من مس لحم الخنزير، والناظر إليها كالناظر في فرج أمه،
واللاهي بها والناظر إليها في حال ما يلهي بها والسلام على اللاهي بها في حالته تلك
في الإثم سواء، ومن جلس على اللعب بها فقد تبوء مقعده من النار، وكان عيشه
ذلك حسرة عليه في القيامة، وإياك ومجالسة اللاهي والمغرور بلعبها، فإنها من
المجالس التي باء أهلها بسخط من الله، يتوقعونه في كل ساعة فيعمك معهم) (1).
7 - الحسين بن زيد عن الصادق عن آبائه عليهم السلام في حديث
المناهي قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن اللعب بالنرد والشطرنج
والكوبة والمرطبة وهي الطنبور والعود. ونهى عن بيع النرد) (2).
8 - معمر بن خلاد (عن أبي الحسن عليه السلام قال: النرد والشطرنج
والأربعة عشر بمنزلة واحدة، وكل ما قومر عليه فهو ميسر (3)
9 - أبو بصير " عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال أمير المؤمنين عليه
السلام: النرد والشطرنج هما الميسر (4)
10 - عيون الأخبار عن الرضا عليه السلام في رسالته إلى المأمون، في
ذكر الكبائر: (والميسر وهو القمار) (5).
11 - الفضيل قال: (سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الأشياء التي



(1) وسائل الشيعة 12 / 241 الباب 103 من أبواب ما يكتسب به.
(2 - 4) وسائل الشيعة 12 / 242 الباب 104 من أبواب ما يكتسب به.
(5) وسائل الشيعة 11 / 260 الباب 46 من أبواب جهاد النفس.
86
يلعب بها الناس: النرد والشطرنج حتى انتهيت إلى السدر. فقال: إذا ميز الله
الحق من الباطل مع أيهما يكون؟ قال: مع الباطل. قال: فما لك والباطل؟) (1).
12 - زيد الشحام قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل
فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور. قال: الرجس من الأوثان
الشطرنج. وقول الزور الغناء) (2)
13 - عمر بن يزيد (عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن لله عز وجل في
كل ليلة من شهر رمضان عتقاء من النار إلا من أفطر على مسكر أو مشاحن
أو صاحب شاهين. قلت: وأي شئ صاحب الشاهين؟ قال: الشطرنج) (3).
14 - العلاء بن سيابة: (سمعته يقول: لا تقبل شهادة صاحب النرد الأربعة
عشر، وصاحب الشاهين.) (4).
دلت هذه الأخبار وغيرها على حرمة اللعب بآلات القمار على اختلاف
أنواعها، وسواء كان اللعب مع المراهنة أو بدونها.
إنما الكلام في أنه هل اللعب بها من الكبائر فتزول به العدالة وترد
الشهادة ولو بمرة واحدة، أو أنه من الصغائر فلا تزول به العدالة إلا مع
الاصرار؟
ظاهر المحقق وغيره بل الأكثر هو الأول)، وعليه صاحب الجواهر وهو
المختار.



(1) وسائل الشيعة 12 / 242 الباب 104 من أبواب ما يكتسب به.
(2) وسائل الشيعة 12 / 237 الباب 102 من أبواب ما يكتسب به.
(3) وسائل الشيعة 12 / 238 الباب 102 من أبواب ما يكتسب به.
(4) وسائل الشيعة 18 / 280 الباب 33 من أبواب الشهادات.
87
وذهب صاحب المسالك إلى الثاني حيث قال: (وظاهر النهي أنها من
الصغائر، فلا تقدح في العدالة إلا مع الاصرار) واستحسنه في الكفاية، وفي
الرياض: (في زوال العدالة به من دون اصرار اشكال، لعدم ما يدل على كونه
من الكبائر، وإنما المستفاد من النصوص مجرد النهي عنه وتحريمه من دون
توعيد عليه بالنار، فهو من الصغائر، لا يقدح في العدالة إلا مع الاصرار عليها
نعم ربما يستفاد من جملة من الأخبار التوعيد بها في اللعب بالشطرنج.
لكنها مع قصور أسانيدها جملة غير واضحة الدلالة.)
قلت: إن العمدة في وجه ما ذهبوا إليه تخصيص الكبائر ما أوعد الله
عليه النار في القرآن المجيد كما تقدم عن الكفاية اختياره ونسبته إلى الأشهر،
وعدم الاعتناء بالأخبار الواردة في بيان الكبائر وتعيينها. وهذا مشكل.
وأما في المقام فإن استدلالنا هو بمجموع تلك الأخبار، بألفاظها المختلفة
وتعابيرها الشديدة كجعل (الرجس من الأوثان) هو (الشطرنج) وأنه والنرد
من (الباطل) وأن الناظر إلى الشطرنج كالناظر في فرج أمه، بل إن كل ما تقومر
به فهو (الميسر)، بل في بعضها وهو خبر عيون الأخبار التصريح بكون
(الميسر)، من (الكبائر) ولا يبعد تمامية سنده، بل في بعضها إن السلام على
اللاهي بالشطرنج معصية، وكبيرة موبقة، وكيف كان فإن الأخبار بمجموعها
ظاهره في أن اللعب بآلات القمار معصية كبيرة توجب السقوط عن العدالة
مع التسليم بضعفها سندا (1)، فإن دعوى عدم الجابر لها ضعيفة، إذ يكفي



(1) أقول: عمدة أخبار المسألة في هذه الجهة خبر المستطرفات عن
جامع البزنطي. وقد اختلف مشايخنا في أخبار المستطرفات، فمنهم من لا
يعتمد عليها، لعدم ثبوت الطرق المعتبرة أي تلك الأخبار، ومنهم من يعتمد،
لأن ابن إدريس من المنكرين لحجية الأخبار الآحاد، فلولا ثبوت تلك الأخبار
بطرق معتبرة لما استطرفها في آخر سرائره، وللبحث في هذا الموضوع مجال
آخر.
88
في الجبر تعاضد النصوص والفتاوى على أن الأصل في كل معصية كونها كبيرة
لأن الأصل عدم تكفيرها.
ويترتب على هذا الأصل اختلال العدالة بارتكاب المعصية المشكوك
كونها كبيرة أو صغيرة.
فلو شك في بقاء عدالة المرتكب للمعصية المشكوك فيه من هذا الحيث
فإن كان الشك مسببا عن الشك في كونها كبيرة أو صغيرة لم يجر استصحاب
بقاءها. وإلا فالظاهر جريانه في نفسه خلافا لصاحب الجواهر القائل بالعدم
من جهة تبدل الموضوع ضرورة اتحاد الموضوع وهو الشخص في
نظر العرف، بعد البناء على أن المعتبر هو نظر العرف في أمثال المقام
(المسألة الرابعة)
(في عدم قبول شهادة شارب المسكر)
قال المحقق قدس سره: (شارب المسكر ترد شهادته ويفسق خمرا كان
أو نبيذا أو بتعا أو منصفا أو فضيخا. ولو شرب منه قطرة)
أقول: حرمة المسكر لا ريب فيها ولا خلاف، ويدل عليها الكتاب والسنة
كما لا خلاف في أن شاربه ترد شهادته ويفسق وفي الجواهر: الاجماع بقسميه
عليه، بل المحكي منهما مستفيض أو متواتر.
ولا فرق في هذا الحكم بين أن يشرب الخمر وهو كما قال الراغب:
المتخذ من العنب والتمر، أو النبيذ وهو كما في النهاية: ما يعمل من الأشربة

89
من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير وغير ذلك أو بتعا وهو بكسر
الباء وسكون التاء وقد تفتح نبيذ العسل وهو خمر أهل اليمن، أو منصفا وهو
من العصير كما في المصباح: ما طبخ حتى بقي على النصف أو فضيخا وهو
كما في النهاية: شراب يتخذ من البسر المفضوخ أي المشدوخ.
ويترتب ما ذكر من الآثار ولو شرب منه قطرة وفي كشف اللثام والجواهر
قال الشافعي: من شرب يسيرا من النبيذ أحده ولا أفسقه ولا أرد شهادته. وعن
أبي حنيفة: لا أحده ولا أفسقه ولا أرد شهادته.
قال في الكفاية، الأصحاب أطلقوا الحكم بأن شراب الخمر ترد شهادته
يفسق، وهذا يدل على كون ذلك عندهم كبيرة.
قال المحقق: (وكذا الفقاع. وكذا العصير إذا علا من نفسه أو بالنار
ولو لم يسكر إلا أن يغلي حتى يذهب ثلثاه)
أقول: أما الفقاع فهو خمر قد استصغره الناس، وأما العصير العنبي
فإذا غلا بنفسه أو بالنار يحرم وإن لم يسكر، فإن غلى حتى يذهب ثلثاه حل
الثلث الباقي. قال في الكفاية: قد ذكروا في هذا المقام العصير العنبي إذا
غلا قبل ذهاب الثلثين، وتحريمه ثابت، لكن في كونه كبيرة تأمل، والأقرب
عدم ذلك. فتأمل.
قال: (وأما غير العصير من التمر فالأصل أنه حلال ما لم يكسر)
أقول: أي فإن أسكر حرم، لأن كل مسكر حرام.
قال: (ولا بأس باتخاذ الخمر للتخليل).
أقول: يدل على ذلك ما رواه زرارة (عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
سألته عن الخمر العتيقة تجعل خلا؟ قال: لا بأس) (1).



(1) وسائل الشيعة 17 / 296 الباب 31 الأطعمة والأشربة. صحيح
90
وعن عبيد بن زرارة قال (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يأخذ
الخمر فيجعلها خلا. قال: لا بأس) (1).
قال في الجواهر: سواء كان بعلاج أو غيره، بل لعل الظاهر ما في كشف
اللثام من أنه لا يحكم بفسق متخذ الخمر إلا إذا علم أنه لا يريد به التخليل.
وفي المسالك: ترك العلاج بشئ أفضل.
قلت: وجه أفضلية الترك ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال
(سئل عن الخمر يجعل فيها الخل. فقال: لا إلا ما جاء من قبل نفسه) قال
صاحب الوسائل: (حمله الشيخ على استصحاب تركها حتى يصير خلا من
غير أن يطرح فيها ملح أو غيره (2).
(المسألة الخامسة)
(في الغناء ورد الشهادة به)
قال المحقق قدس سره: (مد الصوت المشتمل على الترجيع المطرب
يفسق فاعله وترد شهادته. وكذا مستمعه، سواء استعمل في شعر أو قرآن)
أقول: البحث في هذا المسألة في جهات:
جهات البحث في المسألة
الجهة الأولى: في حرمة الغناء ولا خلاف بين الأصحاب في تحريم
الغناء، بل في الجواهر الاجماع بقسميه عليه، بل قد ادعى التواتر في الأخبار
الدالة على حرمته، وستأتي نصوص بعضها.



(1) وسائل الشيعة 17 / 296. الباب 31 الأطعمة والأشربة. موثق.
(2) وسائل الشيعة 17 / 297 الباب الأطعمة والأشربة.
91
والجهة الثانية: في حرمة استماع الغناء. وهذا أيضا لا خلاف في حرمته،
والأخبار الدالة عليه كثير وسيأتي بعضها.
والجهة الثالثة: في كونه معصية كبيرة. وهذا أيضا لا خلاف فيه. ويدل
عدة من الأخبار على كونه مما أوعد الله عليه النار، وسيأتي بعضها.
والجهة الرابعة: في موضوع الغناء المحرم، وهو عند المحقق وجماعة:
بل نسب إلى الأكثر (مد الصوت المشتمل على الترجيع المطرب) ومنهم
من اعتبر فيه التسمية العرفية، قال في المسالك: والأولى الرجوع فيه إلى
العرف، فما يسمى فيه غناء يحرم.
قال المحقق: (سواء استعمل في شعر أو قرآن)
أقول: أي أن المحرم هو الكيفية الخاصة المذكورة أو التي يسميها
العرف غناءا ويسمى في الفارسية ب‍ (سرود) من غير فرق بين أن تكون تلك
الكيفية في كلام حق كالقرآن والدعاء وأمثالهما أو باطل كالأشعار الباطلة، وسواء
اقترن بشئ من المحرمات كآلات اللهو وحضور الرجال في مجلس النساء
أو لم يقترن. هذا هو المشهور بين الأصحاب، وهو المستفاد من أخبار الباب،
وإليك نصوص طائفة منها.
1 - زيد الشحام قال: (قال أبو عبد الله عليه السلام: بيت الغناء لا تؤمن
فيه الفجيعة، ولا تجاب فيه الدعوة ولا يدخله الملك)
2 - زيد أيضا قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله عز وجل:
واجتنبوا قول الزور. قال: قول الزور الغناء)
3 - أبو الصباح (عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله عز وجل: ولا يشهدون



* لا حاجة إلى النظر في أسانيد هذه الأخبار بعد كونها مستفيضة. وكلها
في الباب 99 من أبواب ما يكتسب به 12 / 225.
92
الزور. قال: الغناء)
4 - محمد بن مسلم وأبو الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام (في
قول الله عز وجل: والذين لا يشهدون الزور. قال: الغناء)
5 - محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: (سمعته يقول: الغناء
مما وعد الله عليه النار. وتلا هذه الآية: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل
عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين).
6 - مهران بن محمد بن أبي عبد الله عليه السلام قال (سمعته يقول: الغناء
مما قال الله عز وجل: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله)
7 - أبو بصير قال (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل
فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور. قال: قول الزور الغناء).
8 - أبو أسامة عن (أبي عبد الله عليه السلام قال: الغناء عش النفاق)
9 - الوشاء قال: (سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام يقول: سئل أبو عبد الله
عليه السلام عن الغناء. فقال: هو قول الله عز وجل: ومن الناس من
يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله)
10 - إبراهيم بن محمد المدني عمن ذكره (عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: سئل عن الغناء وأنا حاضر. فقال: لا تدخلوا بيوتا الله معرض عن أهلها)
11 - يونس قال: (سألت الخراساني عليه السلام عن الغناء وقلت: إن
العباسي ذكر عنك أنك ترخص في الغناء. فقال كذب الزنديق، ما هكذا
قلت له، سألني عن الغناء، فقلت: إن رجلا أتي أبا جعفر عليه السلام فسأله
عن الغناء (. فقال: يا فلان إذا ميز الله بين الحق والباطل فأين يكون الغناء؟
قال: مع الباطل. فقال: قد حكمت).
12 - عبد الأعلى قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الغناء وقلت:

93
إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله رخص في أن يقال:
جئناكم جئناكم حيونا حيونا نحيكم.
فقال: كذبوا، إن الله عز وجل يقول: وما خلقنا السماوات والأرض
وما بينهما لاعبين، لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين
بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون
ثم قال: ويل لفلان مما يصف. رجل لم يحضر المجلس).
13 - عيون الأخبار عن الرضا عن آبائه عن علي عليهم السلام قال:
(سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: أخاف عليكم استخفافا
بالدين، وبيع الحكم، وقطيعة الرحم، وأن تتخذوا القرآن مزامير، تقدمون
أحدكم وليس بأفضلكم في الدين)
14 - محمد بن أبي عباد وكان مستهترا بالسماع ويشرب النبيذ قال:
(سألت الرضا عليه السلام عن السماع. فقال: لأهل الحجاز العراق خ ل -
فيه رأي، وهو في حيز الباطل واللهو، أما سمعت الله عز وجل يقول:
وإذا مروا باللغو مروا كراما)
15 - حماد بن عثمان (عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول
الزور. قال: منه قول الرجل للذي يغني أحسنت).
16 - المقنع (قال الصادق عليه السلام:: شر الأصوات الغناء)
17 - الحسن بن هارون قال: (سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:
الغناء يورث النفاق، ويعقب الفقر)
18 - عنبسة (عن أبي عبد الله عليه السلام قال: استماع اللهو والغناء ينبت
النفاق كما ينبت الماء الزرع) (1).



(1) وسائل الشيعة 12 / 235 الباب 101 ما يكتسب به.
94
19 - أبو أيوب الخزاز: (نزلنا المدينة فأتينا أبا عبد الله عليه السلام
فقال لنا: أين نزلتم؟ فقلنا: على فلان صاحب القيان، فقال: كونوا كراما.
فوالله ما علمنا ما أراد به، وظننا أنه يقول: تفضلوا عليه. فعدنا إليه فقلنا: لا ندري
ما أردت بقولك كونوا كراما. فقال: أما سمعتم الله عز وجل يقول: إذا مروا
باللغو مروا كراما) (1).
20 - معاني الأخبار عن أبي الربيع الشامي: (عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: سئل عن الشطرنج والنرد فقال: لا تقربوهما؟ قلت فالغناء؟ قال: لا خير
فيه، لا تقربه) (2).
فهذه جملة من أخبار المسألة، وهي صريحة الدلالة على حرمة الغناء،
وحرمة استماعه، وغير ذلك مما يتعلق بالحكم ككونه معصية كبيرة، وكحرمة
أجر المغني والمغنية، وثمنهما.
وأما موضوعه فإن المرجع في تشخيصه هو العرف كسائر المفاهيم
والموضوعات في أدلة الأحكام الشرعية، فكل ما كان (غناء) عرفا فهو محرم،
بغض النظر عن صدق عنوان (اللهو) ونحوه عليه وعدم صدقه، وسواء كان في
كلام حق أو باطل، وسواء اقترن بشئ من المحرمات كاستعمال آلات اللهو
والرقص ونحوهما أو لم يقترن، ويتضح ذلك مما سنذكره في معنى الغناء
في كلمات الفقهاء واللغويين وما يتعلق بكلمات الشيخ الأعظم رحمه الله.
لقد اختلفت عبارات الفقهاء واللغويين في (الغناء) فعن المشهور من
الفقهاء وعليه المحقق قده (مد الصوت المشتمل على الترجيع المطرب) وعن القواعد: (ترجيع الصوت ومده) وعن السرائر والايضاح: (الصوت



(1) وسائل الشيعة 12 / 336 الباب 101 ما يكتسب به.
(2) وسائل الشيعة 12 / 239 الباب 102 ما يكتسب به.
95
المطرب) وفي الجواهر عن بعض الأصحاب: (الصوت المشتمل على الترجيع
المطرب) وأخص هذه العبارات عبارة المشهور حيث جمعت بين جميع
القيود.
وعن المصباح: (الغناء الصوت) وهذا التعريف لا يوضح لنا الموضوع،
نعم يفيد كونه صوتا لا قولا، وعن الصحاح: (السماع) قال الشيخ: وهو الأحسن
من الكل، وقد ترجمه في منتهى الإرب ب‍ (آواز خوش) ولم نفهم وجه كونه
الأحسن من الكل. وفي القاموس: (الغناء ككساء من الصوت ما طرب به)
وكذا في التاج. وعن النهاية (كل من رفع صوتا ووالاه فصوته عند العرب
غناء)
ثم إن الشيخ الأعظم قدس سره لما رأى تطبيق الأئمة عليهم السلام عناوين
(لهو الحديث) و (قول الزور) و (اللهو) على (الغناء) جعل الدليل على حرمة
الغناء حرمة هذه العناوين، فإن كانت الكيفية ملهية كانت مصداقا لهذه العناوين
وحرم ذلك الصوت، سواء كانت الواد ملهية كذلك أو لا، فجعل رحمه الله
الأخبار الدالة على حرمة الغناء على ثلاث طوائف، منها ما ورد في تفسير قوله
تعالى (واجتنبوا قول الزور). ومنها ما ورد في تفسير قوله تعالى: (ومن الناس
من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله) ومنها ما ورد في تفسير قوله تعالى
(والذين لا يشهدون الزور)
ثم قال: (وقد يخدش في الاستدلال بهذه الروايات بظهور الطائفة الأولى
بل الثانية في أن الغناء من مقولة الكلام، لتفسير قول الزور به. وكذا لهو
الحديث بناء على أنه من إضافة الصفة إلى الموصوف، فيختص الغناء المحرم
بما كان مشتملا على الكلام الباطل، فلا تدل على حرمة نفس الكيفية ولو لم
يكن في كلام باطل.

96
ومنه يظهر الخدشة في الطائفة الثالثة، حيث أن مشاهد الزور التي مدح
الله تعالى من لا يشهدها هي مجالس التغني بالأباطيل من الكلام، فالانصاف
أنها لا تدل على حرمة نفس الكيفية، إلا من حيث اشعار لهو الحديث بكون
اللهو عن اطلاقه مبغوضا لله تعالى وكذا (الزور) بمعنى باطل، وإن تحققا
في كيفية الكلام لا في نفسه، كما إذا تغنى في كلام حق من قرآن أو دعاء أو
مرثية.
وبالجملة: فكل صوت يعد في نفسه مع قطع النظر عن الكلام المتصوت
به لهوا وباطلا فهو حرام).
ثم قال بعد ايراد أخبار استظهر منها الدلالة على حرمة الغناء من حيث
اللهو والباطل: (فالغناء وهو من مقولة الكيفية للأصوات كما سيجئ إن كان
مساويا للصوت اللهوي والباطل كما هو الأقوى وسيجئ فهو، وإن كان أعم
وجب تقييده بما كان من هذا العنوان، كما أنه لو كان أخص وجب التعدي
عنه إلى مطلق الصوت الخارج على وجه اللهو.
وبالجملة فالمحرم هو ما كان من لحون أهل الفسوق والمعاصي التي ورد
النهي عن قراءة القرآن بها، سواء كان مساويا للغناء أو أعم أو أخص، مع أن
الظاهر أن ليس الغناء إلا هو وإن اختلفت عبارات الفقهاء واللغويين).
أقول: وهناك طائفة من الأخبار تدل على حرمة الغناء بعنوانه كقوله عليه
السلام: (شر الأصوات الغناء) وما دل على ذم التغني بالقرآن واتخاذه
مزامير، وما دل على أن (أجر المغني والمغنية سحت) وغير ذلك، فإن النهي عن
التغني بالقرآن يدل على حرمة (الغناء) من حيث نفسه، لوضوح أن التلهي
بالقرآن ليس من الأمور المتعارفة في مجالس اللهو والتغني.
وعلى الجملة فكلما صدق عليه (الغناء) فهو حرام، وانطباق عنوان آخر

97
عليه من (اللهو) و (الباطل) و (قول الزور) أمر آخر وليس مورد السؤال في
الروايات عن حكم (الغناء) خصوص ما تداول من الأصوات في مجالس اللهو ومشاهد الزور، حتى تكون هذه الأخبار ناظرة إلى ذلك، بل (الغناء) من العناوين
المحرمة (كاللهو) و (اللغو) (والباطل) و (قول الزور) ونحوها، فما ذهب إليه من
دوران الحكم مدار صدق اللهو والباطل مشكل.
وبذلك يظهر النظر في ما ذهب إليه من المساواة بين (اللهو) والغناء)، إذ
ليس كل صوت تعارف في مجالس اللهو اخراجه غناء، بل يعتبر في الغناء
خصوصيات كما تقدم في عبارة المحقق وجماعة من الفقهاء واللغويين.
وفيما ذكره بعد نقل بعض العبارات، في معنى (الغناء)، من أن كل هذه
المفاهيم مما يعلم عدم حرمتها وعدم صدق الغناء عليها، فكلها إشارة إلى
المفهوم المعين عرفا)
وفيما ذكره بقوله: (وكيف كان فالمحصل من الأدلة المتقدمة حرمة الصوت
المرجع فيه على سبيل اللهو، فإن اللهو كما يكون بآلة من غير صوت كضرب
الأوتار ونحوه، وبالصوت في الآلة كالمزمار والقصب ونحوهما، فقد يكون
بالصوت المجرد، فكل صوت يكون لهوا بكيفيته ومعدودا من ألحان أهل
الفسوق والمعاصي فهو حرام وإن فرض أنه ليس بغناء، وكل ما لا يعد لهوا
فليس بحرام وإن فرض صدق الغناء عليه فرضا غير محقق، لعدم الدليل على
حرمة الغناء إلا من حيث كونه باطلا ولهوا ولغوا وزورا).
لأنا ذكرنا دلالة بعض أخبار المسألة على حرمة (الغناء) بما هو عناء لا بما
هو لهو أو غير ذلك، وعليه فتوى الأصحاب، وبعبارة أخرى: لقد قام النهي
عن الغناء بخصوصه وإن كان من أفراد اللهو ونحوه لشدة قبحه أو كثرة شيوعه
واقبال الناس عليه. فالدليل على حرمة الغناء موجود لا من حيث كونه باطلا

98
ولهوا ولغوا وزورا، حتى لو فرض عدم صدق أحد هذه العناوين عليه فرضا
غير محقق.
هذا كله بالنسبة إلى ما ذهب إليه الشيخ نفسه.
في ما نسب إلى الكاشاني والكفاية
ثم إن الشيخ قدس سره نسب إلى المحدث الكاشاني قدس سره الخلاف
في أصل الحكم، قال: (إنه خص الحرام منها بما اشتمل على محرم من خارج
مثل اللعب بآلات اللهو، ودخول الرجال، والكلام الباطل، وإلا فهو في نفسه
غير محرم، والمحكي من كلامه في الوافي أنه بعد حكاية الأخبار التي يأتي
بعضها قال: الذي يظهر من مجموع الأخبار الواردة اختصاص حرمة الغناء
وما يتعلق به من الأجر، والتعليم، والاستماع، والبيع، والشراء، كلها بما
كان على النحو المعهود المتعارف في زمن الخلفاء، من دخول الرجال عليهن
وتكلمهن بالباطل، ولعبهن بالملاهي، من العيدان والقصب وغيرهما، دون
ما سوى ذلك من أنواعه، كما يشعر به قوله: (ليست بالتي تدخل عليها الرجال
إلى أن قال:
وعلى هذا فلا بأس بالتغني بالأشعار المتضمنة لذكر الجنة والنار والتشويق
إلى دار القرار، ووصف نعم الملك الجبار، وذكر العبادات والرغبات في
الخيرات والزهد في الفانيات ونحو ذلك، كما أشير إليه في حديث الفقيه
بقوله: (ذكرتك الجنة) وذلك لأن هذا كله ذكر الله وربما تقشعر منه جلود
الذين يخشوهم ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله.
وبالجملة فلا يخفى على أهل الحجى بعد سماع هذه الأخبار تمييز حق
الغناء عن باطله، وأن أكثر ما يتغنى به الصوفية في محافلهم من قبيل الباطل).

99
أقول: ظاهر العبارة لا يساعد ما نسب الشيخ إليه لأنه يقول: (الذي يظهر
من مجموع الأخبار الواردة اختصاص حرمة الغناء وما يتعلق به.) وهذا ظاهر
في القول بحرمة الغناء إلا أنه يرى عدم حرمة ما كان منه في القرآن والمواعظ
ونحوها، فهو غير منكر لأصل الحكم بل من القائلين بالحرمة في الجملة
قال الشيخ: ونسب القول المذكور إلى صاحب الكفاية أيضا. والموجود
فيها بعد ذكر الأخبار المتخالفة جواز أو منعا في القرآن وغيره: إن الجمع
بين هذه الخبار يمكن بوجهين: أحدهما: تخصيص تلك الأخبار الواردة
المانعة بما عدا القرآن، وحمل ما يدل على ذم التغني بالقرآن على قراءة يكون
على سبيل اللهو، كما يصنعه الفساق في غنائهم، ويؤيده رواية عبد الله بن سنان
اقرأوا القرآن بألحان العرب، وإياكم ولحون أهل الفسق والكبائر، وسيجئ
من بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء. وثانيهما: أن يقال وحاصل
ما قال حمل الأخبار المانعة على الفرد الشائع في ذلك الزمان. قال: والشائع
في ذلك الزمان الغناء على سبيل اللهو من الجواري وغيرهن، في مجالس
الفجور والخمور والعمل بالملاهي والتكلم بالباطل واسماعهن الرجال، فحمل
المفرد المعرف - يعني لفظ الغناء على تلك الأفراد الشائعة في ذلك الزمان
غير بعيد. إلى أن قال:
إن في عدة من أخبار المنع عن الغناء أشعارا بكونه لهوا. وصدق ذلك
في القرآن والدعوات والأذكار المقروة بالأصوات الطيبة المذكرة المهيجة
للأشواق إلى العالم الأعلى محل تأمل.
على أن التعارض واقع بين أخبار الغناء والأخبار الكثيرة المتواترة الدالة
على فضل قراءة القرآن والأدعية والأذكار، مع عمومها لغة وكثرتها وموافقتها
للأصل، والنسبة بين الموضوعين العموم من وجه. فإذا لا ريب في تحريم

100
الغناء على سبيل اللهو والاقتران بالملاهي ونحوهما، ثم إن ثبت اجماع في
غيره وإلا بقي حكمه على الإباحة وطريق الاحتياط واضح).
أقول: حاصل كلامه في الوجه الأول تخصيص أخبار المنع بما عدا القرآن
ومن الواضح أن التخصيص معناه حفظ دلالتها على المنع في غير مورد
التخصيص، فهو قائل بالحرمة في الجملة.
وحاصل كلامه في الوجه الثاني الجواب عن أخبار المنع بوجوه،
أحدها: منع صدق (الغناء) في القرآن ونحوه والثاني انصراف أخبار المنع
عن القرآن ونحوه، والثالث: التخصيص.
وفي المكاسب وجه رابع (ظاهر عبارته أنه للكفاية ولكن ليس فيها،
ولعل نسخ الكفاية مختلفة) حيث قال: (على أن التعارض واقع بين أخبار
الغناء والأخبار الكثيرة المتواترة الدالة على فضل قراءة القرآن والأدعية
والأذكار، مع عمومها لغة وكثرتها وموافقتها للأصل، والنسبة بين الموضوعين
عموم من وجه، فإذا لا ريب في تحريم الغناء على سبيل اللهو والاقتران
بالملاهي ونحوهما ثم إن ثبت اجماع في غيره وإلا بقي حكمه على الإباحة
وطريق الاحتياط واضح) وحاصله: تعارض أدلة الموضوعين في مادة الاجتماع
وتساقطهما، فإن كان اجماع على حرمة الغناء بالقرآن فهو وإلا فالأصل الإباحة.
أقول: أما الوجه الأول فواضح البطلان، لعدم الفرق في الصدق بين
القرآن وغيره لغة وعرفا.
وأما الوجه الثاني فكذلك، لما ورد في الأخبار المجوزة نفسها من النهي
عن التغني بالقرآن، فكيف يقال بانصراف أدلة التحريم عن القرآن؟.
وأما الرابع فكذلك، لأنه متى اجتمعت الحرمة مع غير الوجوب فلا
اشكال في تقدم دليل الحرمة، ولا معنى للتعارض بينهما والتساقط، فلا تصل

101
النوبة إلى الاجماع، على أنه قائم في جميع موارد اجتماع الحرمة مع عدم
الوجوب.
بقي الثالث، وهو يتوقف على تمامية ما دل على الجواز في القرآن سندا
ودلالة، وهي أخبار:
الأول: ما عن الحميري بسند لم يستبعد في الكفاية الحاقه بالصحاح عن
علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال: (سألته عن الغناء في الفطر والأضحى
والفرح. قال: لا بأس ما لم يعص به)
والثاني: في كتاب علي بن جعفر عن أخيه قال: (سألته عن الغناء هل يصلح
في الفطر والأضحى والفرح؟ قال: لا بأس ما لم يزمر به) (1).
والاستدلال بهما يتم على أن يكون المراد ما لم يعص باقتران القراءة بشئ
من المحرمات الخارجية وما لم يستعمل فيه المزمار، ولكن الأظهر أن المراد
ما لم يعص أو لم يزمر في نفس هذه القراءة. وعلى الجملة ما لم يكن الصوت
مشتملا على الترجيع والطرب، وإلا فإن تحسين الصوت في الفرخ وأيام السرور
كالعيدين مطلوب مرغوب فيه، ويكون التعبير عن ذلك بالغناء على مبنى الشيخ
تعبيرا مجازيا (2).



(1) وسائل الشيعة 12 / 85: (عبد الله بن جعفر في قرب الإسناد عبد الله
ابن الحسن عن علي بن جعفر عن أخيه قال: سألته عن الغناء هل يصلح في
الفطر والأضحى والفرح؟ قال: لا بأس به ما لم يعص به.
ورواه علي بن جعفر في كتابه إلا أنه قال: ما لم يزمر به).
(2) أقول: ومع التنزل عن ذلك، فلا بد بعد تسليم السند من الحمل على
بعض المحامل، قال في الوسائل: (هذا مخصوص بزف العرائس وبالفطر
والأضحى إذا اتفق معه العرس، ويمكن حمله على التقية، ويحتمل غير ذلك)
ولا سيما بالنظر إلى النصوص الواردة في أبواب صلاة العيد، ففي الباب 37:
الذي عنوانه: باب استحباب كثرة ذكر الله والعمل الصالح يوم العيد وعدم جواز
الاشتغال باللعب والضحك: (نظر الحسين بن علي عليه السلام إلى ناس في
يوم فطر يلعبون ويضحكون. فقال لأصحابه والتفت إليهم: إن الله عز وجل جعل
شهر رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى رضوانه، فسبق فيه قوم
ففازوا وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب كل العجب من الضاحك اللاعب في
اليوم الذي يثاب فيه المحسنون ويخيب فيه المقصرون، وأيم الله لو كشف
الغطاء لشغل محسن باحسانه ومسئ بإسائته). ومن تلك الأبواب: (باب
استحباب استشعار الحزن في العيدين لاغتصاب آل محمد حقهم).
102
والثالث: عن أبي بصير قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن كسب
المغنيات. فقال: التي يدخل عليها الرجال حرام، والتي تدعى إلى الأعراس
لا بأس به، وهو قول الله عز وجل: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل
عن سبيل الله) (1).
والرابع: عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أجر المغنية التي
تزف العرائس ليس به بأس وليست بالتي يدخل عليها الرجال) (2).
وأجاب الشيخ بقوله: (وأما رواية أبي بصير مع ضعفها سندا بعلي بن



(1) وسائل الشيعة 12 / 84. الباب 15 من أبواب ما يكتسب به. فيه (علي
ابن أبي حمزة).
(2) وسائل الشيعة 12 / 85. الباب 15 من أبواب ما يكتسب به. وسنده
معتبر.
103
أبي حمزة البطائني فلا يدل على كون غناء المغنية التي يدخل عليها الرجال داخلا
في لهو الحديث في الآية، وعدم دخول غناء التي تدعى إلى الأعراس فيها
وهذا لا يدل على دخول ما لا يكن منهما في القسم المباح مع كونه من لهو
الحديث قطعا. نعم الانصاف أنه لا يخلو من اشعار بكون المحرم هو الذي
يدخل فيه الرجال على المغنيات. لكن المنصف لا يرفع اليد عن الاطلاقات
لأجل الاشعار، خصوصا مع معارضته بما هو كالصريح في حرمة غناء المغنية ولو
لخصوص مولاها).
وأجاب في الحدائق عن هذه الأخبار بأنها مع تسليم دلالتها لا تقاوم أخبار
التحريم، لأنها أكثر عددا وأقوى سندا وأوضح دلالة، وأنه موافقة للكتاب
ومخالفة للعامة.
وعلى الجملة فهذا القول ضعيف جدا وقد ظهر أن القائل به أعني
الكاشاني والسبزواري لا يقول بعدم حرمة الغناء مطلقا كما نسب إليهما.
في ما قيل من منع صدق الغناء في المراثي
ثم ذكر الشيخ قدس سره أنه قد ظهر من بعض من لا خبرة له من طلبة زمانه
تقليدا لمن سبقه من أعياننا (من منع صدق الغناء في المراثي).
وقد أجاد رحمه الله فيما أفاد في الجواب عنه حيث قال: (وهو عجيب،
فإنه إن أراد أن الغناء مما يكون لمواد الألفاظ دخل فيه، فهو تكذيب للعرف
واللغة، أما اللغة فقد عرفت، وأما العرف فلأنه لا ريب أن من سمع من بعيد
صوتا مشتملا على الاطراب المقتضي للرقص أو ضرب آلات اللهو لا يتأمل
في اطلاق الغناء عليه إلى أن يعلم مواد الألفاظ وإن أراد أن الكيفية التي يقرء
بها المرثية لا يصدق عليها تعريف الغناء، فهو تكذيب للحس).

104
والحاصل: أن المراثي قد يصدق عليها الغناء كما قد يصدق على قراءة
القرآن ولذا ورد عنه صلى الله عليه وآله: (اقرأوا القرآن بألحان العرب
وإياكم ولحون أهل الفسوق والكبائر وسيجئ بعدي أقوام يرجعون القرآن
ترجيع الغناء والنوح والرهبانية. لا يجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة وقلوب من
يعجبه شأنهم)
نعم قيل باستثناء المراثي حكما، (فقد حكى في جامع المقاصد قولا لم
يسم قائله باستثناء الغناء في المراثي، نظير استثنائه في الأعراس.
وربما وجهه بعض من متأخري المتأخرين بعمومات أدله إلا بكاء والرثاء،
وقد أخذ ذلك مما تقدم من صاحب الكفاية من الاستدلال باطلاق أدلة قراءة
القرآن.
لكن فيه ما تقدم من أن أدلة الاستحباب والكراهة والإباحة لا تقاوم أدلة
الحرمة والوجوب، بل يتقدم دليل الحرمة أو الوجوب بلا كلام عقلا وشرعا
وقد دل الخبر المذكور: (اقرأوا القرآن.) على استحباب قراءة القرآن
باللحن غير المحرم، وبعبارة أخرى: يدل على تحسين الصوت بالقرآن ما
لم ينته إلى التغني فيحرم، فالمراثي ونحوها كذلك، فإن قرائتها بالصوت
الجيد المعين على البكاء مندوب ما لم ينته إلى حد الغناء.
وما عن المحقق الأردبيلي بعد توجيه استثناء المراثي وغيرها من الغناء
بأنه ما ثبت الاجماع إلا في غيرها، والأخبار ليست بصحيحة صريحة في
التحريم من تأييد هذا الاستثناء بأن البكاء والتفجع مطلوب مرغوب وفيه
ثواب عظيم، الغناء معين على ذلك، وأنه متعارف دائما في بلاد المسلمين
من زمن المشايخ إلى زماننا هذا من غير نكير، وبأن النياحة جائزة وكذا أخذ الأجر
عليها، والظاهر أنها لا تكون إلا مع الغناء، وبأن تحريم الغناء للطرب على

105
الظاهر، وليس في المراثي طرب بل ليس إلا حزن.
وقد أجاب عنه الشيخ بأن شيئا مما ذكره لا ينفع في جواز الغناء على
الوجه الذي ذكرنا، وأما كون الغناء معينا على التفجع والبكاء فهو ممنوع بناءا
على ما عرفت من كون الغناء هو الصوت اللهوي، بل وعلى ظاهر تعريف
المشهور من الترجيع المطرب، لأن الطرب الحاصل منه إن كان سرورا فهو
مناف للتفجع لا معين، وإن كان حزنا فهو على ما هو المركوز في النفس الحيوانية
من فقد المشتهيات النفسانية، لا على ما أصاب سادات الزمان، مع أنه على
تقدير الإعانة لا ينفع في جواز الشئ كونه مقدمة لمستحب أو مباح، بل لا بد
من ملاحظة عموم دليل الحرمة له، فإن كان فهو وإلا فيحكم بإباحته للأصل،
وعلى أي حال فلا يجوز التمسك للإباحة بكونه مقدمة لغير حرام لما عرفت.
إلى آخر كلامه قد س سره. فتأمل.
فتلخص عدم تمامية هذا الاستثناء.
في استثناء الغناء في الأعراس
وأما استثناء غناء المغنية في الأعراس إذا لم يقترن به محرم فالمشهور كما
ذكر الشيخ استثناؤه، لكن لم يذكر المحقق قده هذا الاستثناء وهو المحكي
عن المفيد والقاضي والحلي والعلامة في التذكرة وغيرهم، وقد استدل للاستثناء
بالأخبار الواردة عن أبي بصير في أجر المغنية التي تزف العرائس.
وقد أجاب الشيخ عن الأخبار بأن في سندها أبا بصير وهو غير صحيح،
وتحقق الشهرة الجابرة مع مخالفة من عرفت غير ثابت. قال: لكن الانصاف
أن سند الروايات وإن انتهت إلى أبي بصير لا يخلو عن وثوق، والعمل
بها تبعا للأكثر غير بعيد، وإن كان الأحوط كما في الدروس الترك.

106
وفي الوسيلة: قد يستثنى غناء المغنيات في الأعراس، وليس ببعيد وإن
كان الأحوط تركه.
قال السيد الأستاذ في تعليقته: مشكل والأحوط تركه، كما أن الأحوط
على فرض الارتكاب الاقتصار بالمغنية المملوكة دون الحرة والرجل أو الغلام،
بشرط أن لا يستعمل معها آلات اللهو، ولا يكون المستمع رجلا، ولا يدخل عليهن
الرجال، ويكون النكاح شرعيا دائميا، وكان في حال الزفاف وهو حال دخول
المرأة في بيت زوجها. (1)



(1) أقول: (أبو بصير) كنية جماعة من الرواة، أشهرهم: يحيى بن القاسم
- أو أبو القاسم - الأسدي وليث بن البختري المرادي - فقيل: إن هذه الكنية
متى أطلقت يكون المراد هو الأسدي فهل هو ثقة أو لا؟ وقيل: بالاشتراك بين
الثقة وغير الثقة، فلا بد من الرجوع إلى القرائن لأجل التعيين، ثم أيهما الثقة؟
وقيل كلاهما ثقة، فلا أثر للاشتراك.
هذا بحث طويل، أفرده بعضهم بالتأليف والتحقيق على ضوء الروايات
والأقوال.
أما أخبار المقام فقد نص في الحدائق والجواهر على اعتضادها بالشهرة،
فهي جابرة للضعف - على المبنى - إن كان، وفي الحدائق: الأخبار المذكورة
ظاهرة في جوازه في هذه الصورة، فيجب تخصيص الأخبار المطلقة بها، وبه
يظهر ضعف قول من ذهب إلى عموم التحريم.
نعم لا ريب في أن الأحوط تركه.
وأما القيود التي ذكرها السيد الأستاذ فهي مستفادة من نفس تلك الأخبار،
ومقتضى القاعدة للخروج عن الأخبار الدالة باطلاقها أو عمومها على حرمة الغناء،
والمدعى إباؤها عن التقييد والتخصيص هو الاقتصار على ذلك.
107
نعم لا يبعد جواز الهتاف والشعار والرجز ونحو ذلك مما تعارف في ميادين
الحرب منذ صدر الاسلام، لغرض الحماسة والتهييج على القتال، لعدم صدق
الغناء عرفا، فتكون خارجة موضوعا.
في حكم الحداء
كما لا يبعد جواز الحداء كدعاء، وهو صوت يرجع فيه لسوق الإبل
وفاقا لجماعة منهم المحقق حيث قال: (ولا بأس بالحداء).
بل هو المشهور كما عن الكفاية، لعدم صدق الغناء عليه عرفا كذلك.
وفي المسالك: قد روى أنه صلى الله عليه وآله قال لعبد الله بن
رواحة: (حرك بالقوم: فاندفع يرتجز، وكان عبد الله بن رواحة جيد الحداء
وكان مع الرجال، وكان أنجشة مع النساء، فلما سمعه أنجشة تبعه، فقال النبي
صلى الله عليه وآله لأنجشة: رويدك رفقا بالقوارير. يعني النساء) (1).
وقد خدش فيه الشيخ سندا ودلالة (2)
هذا ولو شك في اندراج صوت تحت موضوع الغناء، فإن الأصل يقتضي
إباحته، وكذا لو كانت الشبهة مفهومية للشك في مفهوم الغناء، لأن الاحتياط
يكون واجبا إن كان المفهوم مجملا مرددا بين أفراد تكون نسبته إلى الجميع
على السواء، كما لو فرض ورود النهي عن التكتف في الصلاة وتردد مفهوم
التكتف بين وضع اليدين إحداهما على الأخرى مطلقا أو وضعهما كذلك على



(1) وانظر الاستيعاب في معرفة الأصحاب 1 / 140 - ترجمة أنجشة العبد الأسود.
(2) وفي الحدائق: لم أقف في الأخبار له - أي لاستثناء الحداء - على دليل
وتوقف في الجواهر في استثنائه، لكن السيد الأستاذ يرى كون الحداء قسيما للغناء
بشهادة العرف، فيكون خارجا موضوعا، قال في الجواهر: ولا بأس به.
108
الصدر. أما إذا كان القدر المتيقن من المفهوم هو خصوص الحالة الثانية فلا
يجب الاحتياط بترك الأولى. وما نحن فيه من هذا القبيل، فإن حكم بعض
الأطراف معلوم، إذ قد عرفت القدر المتيقن في ماهية الغناء فإذا شك في حرمة
الزائد جرت أصالة البراءة.
قال المحقق قدس سره: (ويحرم من الشعر ما تضمن كذبا، أو هجاء مؤمن
أو تشبيبا بامرأة معروفة غير محللة. وما عداه مباح، والاكثار منه مكروه).
أقول: في العبارة أحكام:
حكم الشعر المتضمن للكذب
الأول: كل كلام تضمن كذبا فهو حرام، وقائله فاسق ترد شهادته، لحرمة
الكذب بالأدلة الأربعة من غير فرق بين الشعر وغيره، ولعل تخصيص الشعر
بالذكر من جهة شيوع الأشعار المتضمنة للكذب، وأما الشعر المتضمن لخلاف
الواقع من باب المبالغة أو الاغراق فلا يبعد عدم حرمته بل في المسالك الحكم
بجوازه، قال: (وأما الشعر المشتمل على المدح والاطراء فما أمكن حمله على
ضرب من المبالغة فهو جائز، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله
قال لفاطمة بنت قيس: أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع
عصاه على عاتقه، ومعلوم أنه كان يضعها كثيرا، وإن لم يمكن حمله على المبالغة
كان كذبا محضا كسائر أنواع الكذب. وربما قيل بعدم التحاقه بالكذب مطلقا،
لأن الكاذب يري الكذب صدقا وير وجه، وليس غرض الشاعر أن يصدق في
شعره، وإنما هو صناعة)
ولو توقف حفظ نفس محترمة أو مال محترم على الكذب جاز، بل
وجب.

109
حكم هجاء المؤمن
الثاني: هجاء المؤمن حرام، فمن فعل فسق وردت شهادته ويدل على
حرمته الأدلة الأربعة، لأنه ايذاء، وظلم، وهتك، وهمز، ولمز، وكل ذلك
حرام، بل كبيرة موبقة. ومن ذلك يظهر أنه لا دليل على حرمة (الهجاء) بعنوانه
من الكتاب والسنة بل يحرم من جهة انطباق أحد هذه العناوين عليه، نعم
الدليل القائم على حرمته بالخصوص هو الاجماع بقسميه كما في الجواهر.
فهجاء المؤمن وهو ذمه وذكر عيوب له شعرا سواء كان فيه أو لا وسواء
كان في حضوره أو لا حرام. وبما ذكرنا يظهر الفرق بينه وبين الكذب والغيبة
والتشبيب.
ويحرم هجاء المؤمن سواء كان عادلا أو فاسقا، بل متجاهرا بالفسق وإن
جازت غيبته بذلك، وأما الخبر ((محصوا ذنوبكم بذكر الفاسقين) فالمراد به
الخارجون عن الايمان، قال في المسالك: اللهم إلا أن يدخل هجاء الفاسق
في مراتب النهي عن المنكر بحيث يتوقف ردعه عليه، فيمكن جوازه حينئذ
إن فرض)
واحترز بالمؤمن عن المخالف، فإنه يجوز هجوه لعدم احترامه، وكذا
يجوز هجاء الفاسق المبدع لئلا يؤخذ ببدعه، لكن بشرط الاقتصار على ذكر
المعائب الموجودة فيه.
وقد ألحق صاحب الجواهر المخالفين بالمشركين في الحكم المذكور،
فقال ما ملخصه بلفظه: أما المشر كون فلا اشكال كما لا خلاف في جواز هجوهم
وسبهم ولعنهم وشتمهم ما لم يكن قذفا مع عدم شرائطه أو فحشا. فالظاهر
الحاق المخالفين بالمشركين في ذلك، لاتحاد الكفر الاسلامي والايماني فيه

110
بل لعل هجاءهم على رؤوس الأشهاد من أفضل عبادة العباد ما لم تمنع التقية،
وأولى من ذلك غيبتهم التي جرت سيره الشيعة عليها في جميع الأعصار
والأمصار، علمائهم وعوامهم، حتى ملأوا القراطيس منها، بل هي عندهم من
أفضل الطاعات والكمل القربات، فلا غرابة في دعوى تحصيل الاجماع كما
عن بعضهم، بل يمكن دعوى كون ذلك من الضروريات فضلا عن القطعيات.
لا يخفى على الخبير الماهر الواقف على ما تظافرت به النصوص بل تواترت
من لعنهم وسبهم وشتمهم وكفرهم، وأنهم مجوس هذه الأمة، وأشر من
النصارى وأنجس من الكلاب.
حكم التشبيب
الثالث: التشبيب بالمرأة كما في المكاسب عن جامع المقاصد: ذكر
محاسنها واظهار شدة حبها بالشعر.
وقد نقل الشيخ في المكاسب الحكم بالحرمة عن المبسوط وجماعة
كالفاضلين والشهيدين والمحقق الثاني، بل في الجواهر: بلا خلاف أجده
فيه بل الاجماع بقسميه عليه.
والبحث الآن في جهتين، أما الأولى ففي موضوع الحكم، فإن المحقق
قدس سره قيد بالامرأة المعروفة غير المحللة، وفي المكاسب: المرأة المعروفة
المؤمنة المحترمة، وأما الثانية ففي دليل الحكم المذكور:
قال الشيخ: واستدل عليه بلزوم تفضيحها، وهتك حرمتها، وايذائها واغراء
الفاسق بها، وادخال النقص عليها وعلى أهلها ولذا ترضى النفوس الأبية
ذوات الغيرة والحمية أن يذكر ذاكر عشق بعض بناتهم وأخواتهم، بل البعيدات
من قراباتهم.

111
ثم أشكل على هذا الاستدلال بقوله: والانصاف أن هذه الوجوه لا تنهض
لاثبات التحريم، مع كونه أخص من المدعى، إذ قد لا يتحقق شئ من المذكورات
في التشبيب، بل وأعم منه من وجه فإن التشبيب بالزوجة قد يوجب أكثر
المذكورات.
أقول: إنه لا دليل على حرمة التشبيب بعنوانه، فينبغي الاقتصار على
المورد الذي يتحقق فيه شئ من العناوين المذكورة والمتيقن من ذلك هو
الشعر المتضمن لمحاسن المرأة الأجنبية ونشره أو انشاده للغير، وهذا هو
المتعارف بين أراذل الناس وأفواه السفلة.
وحينئذ فلو فعل ذلك بالنسبة إلى غلام حرم كذلك. فالتقييد بالمرأة لا وجه
له. وكذا يحرم لو كان بالنسبة إلى حليلته، ولكن التقييد بغير المحللة لا
حاجة إليه، لأن أحدا من ذوي الغيرة لا يتشبب عادة بزوجته وحليلته عند غيره،
بل قد لا يكتب الشعر في ورقة مخافة أن تقع بيد الغير.
وعلى هذا فلو أنشأ شعر تضمن تشبيبا بامرأة معروفة غير محللة لكنه أخفاه
عن غيره، بل محاه أو مزق الورقة المكتوب عليها لم ينطبق شئ من الوجوه
المذكورة ولا بد من دليل خاص يدل على حرمته، اللهم إلا أن يدعى انطباق
عناوين (اللهو) و (الباطل)) و (الفحشاء) و (عدم العفاف) ونحو ذلك
مما ذكره الشيخ للاستدلال على الحكم بعد الاشكال في الاستدلال بما ذكروه،
لكن الانصاف أن هذه الوجوه أيضا لا تنهض لاثبات التحريم لما ذكرناه.
فظهر أنه إن أذاع الشعر ونشره ثبتت الحرمة سواء كان بالمرأة أجنبية
أو حليلة، أو بغلام، لانطباق الوجوه التي ذكرها القوم، وإلا فلا حرمة لا من جهة
تلك الوجوه، ولا من جهة ما ذكره الشيخ، اللهم إلا صدق عنوان (اللهو) و (الباطل)
ونحوهما، بناء على شمولها لذلك، لكن فيه أنه إذا تم ذلك لزم الحكم بحرمة

112
نظم الشعر في وصف شجرة مثلا، لأنه (عبث) و (لغو)). وهو في غاية البعد.
ومن هنا يقال بعدم حرمة التشبيب بالمخطوبة قبل العقد، بل مطلق من
يراد تزويجها، لعدم جريان أكثر ما ذكر فيها، إذا لم يطلع غيره على الشعر،
بل لا يكون هذا عادة، فيجوز له التشبيب بها كما يجوز له النظر إليها.
وأما التقييد بالمعروفة، فلجواز التشبيب بالمرأة المبهمة، بأن يتخيل امرأة
ويتشبب بها عند الكل، كما في المكاسب.
وأما التقييد بالمؤمنة فقد نقله الشيخ عن العلامة في القواعد والتذكرة
وغيره لعدم احترام غير المؤمنة.
حكم الشعر انشاء وانشادا
الرابع: إن ما عدا ذلك من الشعر مباح: انشاؤه وانشاده، وقد كان للنبي صلى
الله عليه وآله شعراء يصغي إليهم، كما اشتهر عنه قوله: (إن من البيان لسحرا
وإن من الشعر لحكمة).
حكم الاكثار من الشعر
الخامس: إن الاكثار من الشعر أي من حيث نفسه مع قطع النظر عن جهة
أخرى ترجحه مكروه للنهي، خصوصا ليلة الجمعة ويومها، وللصائم، بل عن
الخلاف كراهة انشاده مطلقا، مستدلا عليه بالاجماع وغيره.
(المسألة السادسة)
(في حرمة استعمال آلات اللهو)
قال المحقق قدس سره: (العود والصنج وغير ذلك من آلات اللهو حرام

113
يفسق فاعله ومستمعه، ويكره الدف في الاملاك والختان خاصة).
أقول: أما حرمة العود والصنج وغير ذلك من آلات اللهو فلا خلاف فيها،
بل الاجماع بقسميه عليها كما في الجواهر.
ويدل على الحرمة، قبل ذلك، طائفة كبيرة من الأخبار الناهية (1) عن فعل ذلك
بجميع أشكاله بالألسنة المختلفة:
1 - إسحاق بن جرير: (سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن شيطانا
يقال له القفندر إذا ضرب في منزل الرجل أربعين صباحا بالبربط ودخل الرجال،
وضع ذلك الشيطان كل عضو منه على مثله من صاحب البيت ثم نفخ فيه نفخة،
فلا يغار بعدها حتى تؤتى نساؤه فلا يغار).
دل على حرمة الضرب ب‍ (البربط) (2). فإذا فعل ذلك أربعين صباحا ترتب
الأثر الوضعي المذكور، نتيجة استحواذ الشيطان المسمى ب‍ (القفندر) على
جميع أعضاء الرجل كما ذكر في الخبر.
وجاء في خبر آخر ترتب أثر آخر على ذلك وهو: (نزع الحياء من الرجل
فلم يبال ما قال ولا ما قيل فيه) وهذا نصه:
2 - أبو داود المسترق قال: (من ضرب في بيته بربط أربعين يوما سلط



(1) انظر الباب 100 من أبواب ما يكتسب به. وسائل الشيعة 12 / 232.
لكن بعض هذه الأخبار غير صريح في التحريم، وذلك غير ضائر - كضعف بعضها
سندا - لتعاضد بعضها ببعض، مع وجود ما هو صريح، بالإضافة إلى الاجماعات
المحكية.
(2) البربط كجعفر: من ملاهي العجم والعرب تسميه المزهر والعود. كذا
في المصباح.
114
الله عليهم شيطانا يقال له: القفندر، فلا يبقى عضو من أعضائه إلا قعد عليه،
فإذا كان كذلك نزع منه الحياء ولم يبال ما قال ولا ما قيل فيه).
3 - كليب الصيداوي: (سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ضرب العيدان ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الخضرة).
وهذا أثر آخر من آثار هذه المعصية.
4 - موسى بن حبيب: (عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: لا يقدس
الله أمة فيها بربط يقعقع وناية تفجع) (1).
فيمكن أن يكون المراد اتخاذ الأمة ذلك بمعنى شيوعه فيهم وكونه شعارا
لهم، وأن يكون المراد وجود البربط فيها ولو في بعض الدور أو بين طائفة من
الأمة.
5 - سماعة: (قال أبو عبد الله عليه السلام: لما مات آدم شمت به إبليس وقابيل
فاجتمعا في الأرض، فجعل إبليس وقابيل المعازف والملاهي شماتة بآدم عليه
السلام، فكل ما كان في الأرض من هذا الضرب الذي يتلذذ به الناس فإنما هو
من ذلك).
أي: إن جعل المعازف واللعب بالملاهي شماتة بآدم عليه السلام حسب
السنة السيئة التي جعلها إبليس وقابيل.
6 - السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام (قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: أنها كم عن الزفن والمزمار وعن الكوبات والكبرات) (2).



(1) قعقع: صوت. والناية مفرد الناي وهو من آلات اللهو معروف.
(2) الزفن: الرقص وأصله: اللعب والدفع. والمزمار من آلات اللهو
معروف. والكوبات: جمع الكوبة وهو الطبل كما في خبر نوف عن أمير
المؤمنين عليه السلام الوسائل 12 / 235 وفي المصباح: الطبل الصغير المخصر.
وعن بعض اللغويين: النرد في كلام أهل اليمن. وفي النهاية: النرد، وقيل:
الطبل: وقيل: البربط. وفي المصباح الكبر بفتحين: الطبل له وجه واحد.
وفي النهاية: الطبل ذو الرأسين وقيل: الطبل الذي له وجه واحد. ولم أجد
(الكبرات) جمعا له.
115
عمران الزعفراني: (عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أنعم الله عليه
بنعمة فجاء عند تلك النعمة بمزمار فقد كفرها. الحديث).
8 - حماد بن عمرو وأنس بن محمد عن أبيه: (عن جعفر بن محمد عن
آبائه عليهم السلام في وصية النبي صلى الله عليه وآله لعلي قال: يا علي ثلاثة يقسين القلب:
استماع اللهو، وطلب الصيد، واتيان باب السلطان)
9 - أحمد بن عامر الطائي عن الرضا عليه السلام في حديث الشامي أنه
(سأل أمير المؤمنين عليه السلام عن معنى هدير الحمام الراعية (عبية) (1) قال:
تدعو على أهل المعازف والمزامير والعيدان).
10 - الطوسي في مجالسه (عن علي بن موسى عن آبائه عن علي عليهم السلام
قال: كل ما ألهى عن ذكر الله فهو من الميسر).
أي الذي جاء في الآية الكريمة: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام
رجس.) (2).



(1) كذا في الوسائل، والظاهر أن الصحيح (الراعبية) وهي التي يستحب
اتخاذها في البيوت، ففي خبر السكوني
: (اتخذوا الحمام الراعبية في بيوتكم
فإنها قتلة الحسين بن علي صلوات الله عليهما). وهديرها. سجعها.
يقال: هدر الحمام يهدر أي سجع.
(2) سورة المائدة: 90.
116
11 - الصدوق في خصاله: عن السياري رفعه (عن أبي عبد الله عليه السلام
أنه سئل عن السفلة فقال: من يشرب الخمر ويضرب بالطنبور).
12 - ورام في كتابه: (قال: عليه السلام: لا تدخل الملائكة بيتا فيه خمر أو
دف أو طنبور أو نرد، ولا يستجاب دعاؤهم وترفع عنهم البركة).
فروع في استعمال آلات اللهو
هل يشمل معقد الاجماع وقول المحقق (وغير ذلك) الصنج المستعمل
في هذه الأزمنة في الشعائر الحسينية؟ في المستند: يحكم فيه وفي كل ما يشك
في دخوله في معقد الاجماع بمقتضى الأصل. قال: وأما ما روي من قولهم:
(إياك والصوانج فإن الشيطان يركض معك والملائكة تنفر عنك) فلا يصلح
لاثبات الحرمة، لاختلاف النسخة، فإن في الأكثر: الصوالج. فتأمل.
أقول: هل اختلاف النسخة في المقام ونحوه يوجب رفع اليد عن الخبر،
والأخذ بمقتضى أصالة البراءة، أو أن مقتضى القاعدة فيه هو الاحتياط؟ الظاهر
الثاني، للعم الاجمالي بكون الصادر أحد اللفظين، فالمنهي عنه في الخبر
أما هذا وأما ذاك، ومقتضى القاعدة ترك استعمال كلا الأمرين ليحصل اليقين
بالامتثال، لا الرجوع إلى أصالة البراءة ولعل هذا وجه التأمل الذي أمر به.
والصوالج جمع الصولجان (1).
نعم إذا كان المراد من الصنج المحرم هو الدف المشتمل على جلاجل



(1) أقول: جاء الصوالج جمعا للصولجان كما في التاج، ولم أجد في
كتب اللغة الصوانج جمعا للصنج، فكون اللفظ هو الصوالج كما في أكثر النسخ هو الظاهر، فيكون الخبر في مورد الصولجان فقط.
117
كما في المسالك وعن بعض اللغويين، اختصت الحرمة بما كان بهذه الكيفية،
وليس منها ما تعارف استعماله في الشعائر، لكن كلمات الفقهاء واللغويين
مختلفة.
هذا والمتيقن من الدخول تحت عنوان (الملاهي) و (المعازف)) كل
آلة اتخذت للهو وأعدت له عنه أهل العرف، فيحرم استعمالاتها المناسبة
لها بقصد التلهي والالهاء.
ولو استعملت الآلة الاستعمال الخاص بها لا بقصد الالهاء بل لغرض
عقلائي مقصود كايقاظ النائم، أو اعلام الغافل مثلا، فالظاهر الحرمة أيضا
لصدق استعمال آلة اللهو الاستعمال المحرم وعدم مدخلية للقصد المذكور
ولو استعملها بغير النحو الخاص المجعولة له، كجعل الدف ظرفا
لبعض الأشياء والمزمار عصاءا، ونحو ذلك، فقد اختار في المستند الحرمة
قال: بل كأنه لا خلاف فيه.
أقول: إن كان دليل الحرمة وجوب كسر آلات اللهو واعدامها كما في خبر
أبي الربيع الشامي: (إن الله بعثني رحمة للعالمين ولا محق المعازف والمزامير)
فإن ذلك لا يقتضي حرمة الاستعمال المذكور، فلو عصى الأمر بالكسر واتخذ
المزمار عصاءا لم يرتكب أمرين محرمين، بل المعصية واحدة وهي ترك الكسر
والاعدام. وإن كان الدليل خبر تحف العقول عن الصادق عليه السلام: (كل
أمر يكون فيه الفساد مما هو منهي عنه من جهة أكله وشربه أو كسبه أو نكاحه أو
ملكه أو هبته أو عاريته أو امساكه أو يكون فيه شئ من وجوه الفساد نظير
البيع بالربا والبيع للميتة والدم ولحم الخنزير أو لحوم السباع من جميع
صنوف سباع الوحش أو الطير أو جلودها أو الخمر أو شئ من وجوه النجس
فهذا كله حرام محرم، لأن ذلك كله منهي عن أكله وشربه ولبسه وملكه

118
وامساكه والتقلب فيه فجميع تقلبه في ذلك حرام. الحديث) ونحوه. فإن
الظاهر انصراف هذه الأخبار وكلمات الأصحاب عن مثل هذا الاستعمال.
ولو تحقق اللهو بغير آلات اللهو كالطشت ونحوه يضرب به كالدف
ففي المستند: الظاهر عدم الحرمة للأصل، واختصاص ثبوت الحرمة باستعمال
آلات اللهو. قال: نعم لو ثبت حرمة مطلق اللهو لأمكن القول بالحرمة
لذلك. ولكنه غير ثابت.
أقول: لا حاجة إلى ثبوت حرمة مطلق اللهو للقول بالحرمة هنا، للقطع
بأن العلة في تحريم استعمال آلات اللهو هو مبغوضية اللهو الحاصل منها،
فلو حصل ذلك اللهو باستعمال غيرها من الأشياء قلنا بحرمة ذاك الاستعمال
أيضا وإن لم يصدق عليه استعمال آلة اللهو، إذ لا خصوصية للعود والمزمار
ونحوهما، فظهر أن نفس التحريم لاستعمال آلات اللهو كاف لتحريم التلهي
بغيرها، سواء كان دليل آخر أو لا، وسواء كان مطلق اللهو حراما أو لا.
هذا كله بالنسبة إلى نفس الاستعمال.
حكم استماع أصوات آلات اللهو
وصريح المحقق وجماعة حرمة استماع أصوات آلات اللهو. قال في
المستند: وكأنه لصدق الاشتغال المصرح به في رواية الفضل (1).
أقول: قد يناقش في صدق (الاشتغال) على (الاستماع) لكن لا حاجة



(1) يعني خبر الصدوق في عيون الأخبار بأسانيده إلى الفضل بن شاذان
عن الرضا عليه السلام في كتابه إلى المأمون، الذي ذكر فيه الكبائر، وعد
منها: (الاشتغال بالملاهي). الوسائل 11 / 260.
119
إلى التمسك برواية الفضل، بل إن نفس أدلة حرمة الاستعمال كافية في الدلالة
على حرمة الاستماع، لما تقدم من أن الاشتغال بها إنما حرم لأجل التلهي
بالصوت والالتذاذ المحرم الحاصل من ذلك، ولا ريب في حصول ذلك
لمستمعه، بل قد يحصل له ما لا يحصل لفاعله. هذا مضافا إلى قوله تعالى: (إن
السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) (1) حيث استشهد به الإمام
عليه السلام لحرمة استماع الغناء (2)، وإلى الأخبار الواردة في تحريم خصوص
الاستماع.
وهل يحرم السماع كذلك؟ وتظهر الثمرة فيما إذا مر على طريق يوجب
السماع، مع امكان العبور من غيره، فهل يجوز له العبور منه؟ قال في
المستند: لا يحرم للأصل وعدم صدق الاشتغال، وإن وجب المنع نهيا عن
المنكر.



(1) سورة الإسراء: 36.
(2) يعني خبر مسعدة بن زياد قال: (كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فقال
له رجل: بأبي أنت وأمي، إني أدخل كنيفا ولي جيران وعندهم جوار يتغنين
ويضربن بالعود، فربما أطلت الجلوس استماعا مني لهن. فقال عليه السلام:
لا تفعل. فقال الرجل: والله ما أتيتهن، إنما هو سماع أسمعه بأذني. فقال عليه
السلام: بالله أنت أما سمعت الله يقول: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك
كان عنه مسؤولا. فقال: بلى والله كأني لم أسمع بهذه الآية من كتاب الله من
عربي ولا عجمي، لا جرم إني لا أعود إن شاء الله، وإني أستغفر الله. فقال له:
قم فاغتسل وصل ما بدا لك، فإنك كنت مقيما على أمر عظيم، ما كان أسوء حالك
لو مت على ذلك.) الوسائل 2 / 957.
120
أقول: الفرق بين السماع والاستماع واضح، ولكن صدق الاستماع
لمن اختار الطريق الموجب للسماع على الطريق الآخر غير الموجب له مع
امكان العبور منه غير بعيد، فعليه اختيار الطريق الثاني، وكذا لو حضر مجلسا
لصديق له مثلا لا للاستماع - فترك الخروج عن المجلس لم يبعد صدق
الاستماع بالنسبة إليه وإن لم يكن بقاؤه في المجلس لأجل الاستماع، كما أن
الأحوط لمن سمع صوتا من بعيد وهو في داره ولم يمكنه النهي أن يسد
السمع بخرقة مثلا.
وعلى الجملة فإن الاحتياط في جميع هذه الموارد ونحوها لازم، لاحتمال
صدق الاستماع المحرم على ذلك.
وأما حضور مجلس الاشتغال بالملاهي مع العلم بعدم امكان المنع وعدم
امكان الخروج فلا ريب ولا كلام في حرمته، كحرمة حضور مجلس القمار
والخمر حتى مع عدم الاشتغال بالملاهي وعدم الاستماع والسماع، بل يحرم
حتى على الأصم.
ومن أحكام المسألة: وجوب كسر آلات اللهو أو اتلافها على كل متمكن
من باب النهي عن المنكر، الذي هو امساكه واقتنائه، ولا يضمن به لصاحبه،
نعم يجب عليه في صورة الكسر رد المسكور إلى المالك، لأن الواجب
اعدام الهيئة فقط.
هل الاشتغال بالملاهي كبيرة؟
ثم إن ظاهر المحقق وغيره ممن أطلق تحقق الفسق بالاشتغال بالملاهي
كون ذلك من المعاصي الكبيرة، وهو صريح خبر عيون الأخبار، وخالف
في ذلك الشهيد الثاني في المسالك، وتبعه بعضهم، ولعله لعدم اعتبار الخبر

121
المزبور، أو للقول بأن الكبيرة ما أوعد الله عليها النار في القرآن المجيد كما
تقدم عن الكفاية.
حكم الدف في الاملاك والختان
وقد استثنى المحقق من الحرمة هنا وفي النافع استعمال الدف في
الاملاك والختان خاصة، فقال بالكراهة، وتبعه العلامة في التحرير فقال: أما
الدف فيكره في الاملاك والختان خاصة ويحرم في غيرهما، وهو المحكي في
الجواهر عن الخلاف والمبسوط.
وذهب جماعة إلى المنع مطلقا، قال في الكفاية: ومنع منه ابن إدريس
مطلقا ورجحه العلامة في التذكرة محتجا بأن الله عز وجل حرم اللهو واللعب
وهذا منه وهو غير بعيد.
أقول: لا كلام في حرمة اللهو واللعب، فإن تم ما استدل به للجواز
كان دليلا على التقييد والتخصيص. وقد استدل للاستثناء في الاملاك
وهو النكاح والتزويج بخبرين نبويين: أحدهما: (أعلنوا النكاح واضربوا
عليه الغربال، يعني الدف) والآخر: فصل ما بين الحرام والحلال بالضرب
بالدف عند النكاح) لكنهما غير تامين سندا، وتحقق الشهرة الجابرة على
المبنى - غير معلوم.
وأما الختان فلم يذكروا لاستثنائه دليلا إلا ما في المستند قال: والمرسل
المروي في التذكرة حيث قال: وروي جواز ذلك في الختان والعرس.
وكيف كان فإن القول بالاستثناء مشكل جدا.

122
(المسألة السابعة)
(في الحسد وبغضة المؤمن وإن التظاهر بذلك قادح)
قال المحقق قدس سره: (الحسد معصية، وكذا بغضة المؤمن، والتظاهر
بذلك قادح في العدالة). أقول: هنا بحثان:
البحث الأول: في الحسد
الحسد كما في الجواهر: تمني زوال النعمة عن الغير أو هزوله،
والصحيح ما في كشف اللثام: أو ملزومه، قال المحقق: (معصية) وفي القواعد:
(الحسد حرام).
وظاهر المحقق أنه معصية صغيرة ما لم يتظاهر به، فإن تظاهر كان معصية
كبيرة، تقدح في العدالة وتسقط بها الشهادة لكن صريح المسالك أنه
معصية كبيرة تظاهر بها أو لا، فإن تظاهر لم تقبل شهادته، قال رحمه الله: لا
خلاف في تحريم هذين الأمرين، والتهديد عليهما في الأخبار مستفيض، وهما
من الكبائر، فيقدحان في العدالة مطلقا، وإنما جعل التظاهر بهما قادحا لأنهما
من الأعمال القلبية، فلا يتحقق تأثير هما في الشهادة إلا مع اظهارهما، وإن كانا
محرمين بدون الاظهار.
وفي شرح الارشاد بعد أن ذكر أخبار المسألة: والظاهر من هذه الأخبار
أن الحسد كبيرة، بل كاد أن يكون كفرا، فإن أولت بحيث لا يكون كبيرة فيكون
اخلاله بالشهادة باعتبار اصراره والمداومة كغيره مما تقدم وتأخر، والظاهر
أن الحسد مطلقا ذنب، سواء أظهر أو لم يظهر، ولكن اخلاله بالشهادة إنما

123
يكون إذا كان ظاهرا حتى يعلم، كغيره من الذنوب.
فهذان قولان، وظاهر الجواهر قول ثالث، فإنه بعد أن صرح بعدم
الخلاف في الحرمة كالمسالك قال بعد ذكر خبر حمزة بن حمران الآتي:
(فيمكن أن يقال: إن التظاهر بهما محرم)
وصريح المسالك كون الحسد من الأعمال القلبية، وعليه يمكن أن يكون
محكوما بحكم من الأحكام لكن ظاهر أخبار المسألة أنه من صفات القلب،
فيكف يحكم عليه بشئ من الأحكام؟ وبعبارة أخرى: إن موضوعات الأحكام
هي أفعال العباد لا أوصافهم. نعم إذا كان وصف من الأوصاف باختيار العبد
وجودا أو عدما أمكن أن يقال للعبد: إن أوجدت الصفة الكذائية في نفسك
أو أعدمتها فالحكم كذا، لكن الحسد ليس من هذا القبيل، فإنه كالخوف
والبخل مثلا خارج عن الاختيار، فقولهم: (معصية) أو (حرام) مشكل، نعم
لا مانع من أن يقال بوجوب تغيير الصفة السيئة مع الامكان.
أما اظهار الحسد وعدم اظهاره فذلك تحت اختيار المكلف، فيحرم
عليه الاظهار، ويجب عليه المنع من ظهوره، وعلى هذا تحمل الأخبار الدالة
على حرمة الحسد، فإن تظاهر سقط عن العدالة وسقطت شهادته عن القبول.
كما يجب حمل ما دل منها على عدم خلو الأنبياء والأولياء عن الحسد على
الغبطة أو على الصفة غير الاختيارية، غير أن النبي صلى الله عليه، وآله وسلم
لا يتظاهر به بالنسبة إلى غيره، حتى إذا كان الغير كافرا، أو يحمل على غير ذلك
مما لا ينافي العصمة.
والحق أنه إن التفت الحاسد إلى لوازم الحسد كالسخط على الله تعالى
فهو معصية فوق الكبيرة، سواء تظاهر بها أو لم يتظاهر، فإن لم يتظاهر كان
كالمنافق، وإن تظاهر بها مع ذلك فذاك معصية أخرى، ويترتب على التظاهر

124
عدم قبول الشهادة وإن لم يلتفت إلى شئ من ذلك. هذا كله بالنسبة إلى الحسد
وهذه نصوص بعض الأخبار في ذمه:
1 - محمد بن مسلم: (قال أبو جعفر عليه السلام: إن الرجل ليأتي بأدنى
بادرة فيكفر، وإن الحسد ليأكل الايمان كما تأكل النار الحطب)
2 - داود الرقي: (سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: اتقوا الله ولا يحسد
بعضكم بعضا. الحديث).
3 - السكوني: (عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم كاد الفقر أن يكون كفرا وكاد الحسد أن يغلب القدر)
4 - معاوية بن وهب: (قال أبو عبد الله عليه السلام: آفة الدين الحسد
والعجب والفخر).
5 - داود الرقي: (عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال رسول الله صلى
الله عليه وآله قال الله عز وجل لموسى بن عمران: يا ابن عمران لا تحسدن الناس
على ما آتيتهم من فضلي، ولا تمدن عينيك إلى ذلك، ولا تتبعه نفسك، فإن
الحاسد ساخط لنعمتي، صاد لقسمي الذي قسمت بين عبادي، ومن يك كذلك
فلست منه وليس مني).
6 - الفضيل بن عياض: (عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن المؤمن
يغبط ولا يحسد، والمنافق يحسد ولا يغبط).
7 - أبو بصير: (عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أصول الكفر ثلاثة
الحرص والاستكبار والحسد. الحديث).
8 - حمزة بن حمران: (عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ثلاثة لم ينج منها
نبي فمن دونه: التفكر في الوسوسة في الخلق، والطيرة، والحسد، إلا أن
المؤمن لا يستعمل حسده).

125
ذكر هذه الأخبار وغيرها في وسائل الشيعة (1). وسيأتي ما يدل على ذلك في
حرمة بغضة المؤمن.
البحث الثاني: في بغضه المؤمن
وأما بغضة المؤمن، فالكلام فيها كالكلام في الحسد، وعندنا أنها صفة
من الصفات القلبية، قد تكون اختيارية وقد تكون غير اختيارية، ومن قال
بحرمتها من دون تظاهر فقد جعلها من الأفعال القلبية أو أراد الاختيارية منها
كما هو الأظهر.
إلا أنه لا ريب في قدح التظاهر بها في العدالة، وسقوط الشهادة به، وفي
المبسوط: أنه إن ظهر منه سب وفحش فهو فاسق، وإلا ردت شهادته للعداوة.
واستدل للحرمة في كشف اللثام والجواهر بما ورد من الأمر بالتحاب
والتعاطف، والنهي عن التعادي والتهاجر، وفي شرح الارشاد أنه لم يرد نهي
صريح عن البغضة، لكن الصحيح ورود النهي الصريح عنها، على أنه إذا كان
التحريم من جهة الأمر بالتحاب والتعاطف لزم القول بوجوب ذلك حتى يحرم
التباغض لكونه تركا للواجب مع أن أحدا لا يفتي بحرمة الترك المذكور،
وليس التحاب والتباغض ضدين لا ثالث لهما.
ونحن نذكر هنا بعض النصوص من كلتا الطائفتين:
1 - عمر بن يزيد: (عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال رسول الله صلى
الله عليه وآله: ما كاد جبرئيل يأتيني إلا قال: يا محمد اتق شحناء الرجال



(1) الباب 55 من أبواب جهاد النفس 11 / 292. ولا حاجة إلى النظر في
أسانيدها كما لا يخفى.
126
وعداوتهم) (1).
2 - مسمع بن عبد الملك: (عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال رسول
الله صلى الله عليه وآله في حديث: إلا أن في التباغض الحالقة. لا أعني حالقة
الشعر، ولكن حالقة الدين) (2).
وهذا الخبر المشتمل على لفظة (التباغض) سنده معتبر.
3 - شعيب العقرقوفي: (سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول لأصحابه:
اتقوا الله وكونا إخوة بررة، متحابين في الله، متواصلين متراحمين،
تزاوروا وتلاقوا وتذاكروا أمرنا وأحيوه). (3)
4 - أبو المغرا: (عن أبي عبد الله عليه السلام قال: يحق على المسلمين
الاجتهاد في التواصل، والتعاون على التعاطف، والمواساة لأهل الحاجة،
وتعاطف بعضهم على بعض، حتى تكونوا كما أمركم الله عز وجل: رحماء
بينهم. متراحمين مغتمين لما غاب عنهم من أمرهم، على ما مضى عليه معشر
الأنصار على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله) (4).
هذا وقد ذكروا أن ما يجده الانسان من الثقل من بعض إخوانه لبعض أحوال
أو أفعال أو لغير ذلك ليس من البغض، فإنه لا ينفك عنه أحد من الناس،
واستثنوا من البغضة العداوة لأمر ديني، فقالوا بأنها غير محرمة.
ومن ذلك كله يظهر أن البغضة المحرمة ليست مطلق الكراهية والاستثقال



(1) وسائل الشيعة 8 / 569 الباب 136 من أبواب أحكام العشرة.
(2) وسائل الشيعة 8 / 569.
(3) وسائل الشيعة 8 / 552 الباب 124 من أبواب أحكام العشرة.
(4) وسائل الشيعة 8 / 552.
127
بل المراد بغض المؤمن وهجره عن بغض وعداوة، وفي بعض الأخبار ما يؤيد
ذلك.
ثم إنه يمكن أن يقال باستقلال العقل بقبح بغض المؤمن من غير مجوز،
وأن الأدلة الشرعية ارشاد إلى هذا الحكم العقلي.
(المسألة الثامنة)
(في حرمة لبس الحرير ورد الشهادة به)
قال المحقق قدس سره: (لبس الحرير للرجال في غير الحرب اختيارا
محرم، ترد به الشهادة).
أقول: في هذه المسألة مبحثان، ويشتمل كل منهما على فروع:
المبحث الأول: لبس الحرير
أ - لا ريب ولا خلاف في حرمة لبس الحرير المحض للرجال عدا ما
استثني، بل عليه الاجماع في المسالك وغيره، بل عليه اجماع علماء الاسلام
ونصوصهم كما في الجواهر وكشف اللثام، وهذه طائفة من النصوص الدالة
على ذلك من أخبارنا (1).
1 - محمد بن مسلم: (عن أبي جعفر عليه السلام قال: لا يصلح لباس
الحرير والديباج، فأما بيعهما فلا بأس).
2 - أبو الجارود عن أبي جعفر: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله
قال لعلي عليه السلام: إني أحب لك ما أحب لنفسي، وأكره لك ما أكره



(1) وسائل الشيعة 3 / 266 الباب 11 من أبواب لباس المصلي.
128
لنفسي، فلا تختم بخاتم ذهب إلى أن قال -: ولا تلبس الحرير، فيحرق الله
جلدك يوم تلقاه).
3 - جراح المدائني عن أبي عبد الله عليه السلام: (أنه كان يكره أن
يلبس القميص المكفوف بالديباج، ويكره لباس الحرير..).
والكراهة محمولة على التحريم في الحرير، بقرينة الخبر المتقدم عليه.
4 - مسعدة بن صدقة: (عن جعفر بن محمد عن أبيه: أن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم نهاهم عن سبع: منها لباس الإستبرق، والحرير.).
ويدل على الحرمة ما دل على جواز لبسه في الحرب والضرورة، وما دل
على جواز لبس الحرير غير المحض، وما دل على جواز لبسه، للنساء،. كما
سيأتي.
وأما ما دل على خلاف ذلك، فمحمول على الحرير غير المحض، أو على
التقية.
ب - وظاهر المحقق قدس سره هنا وفي النافع، والعلامة في القواعد
والتحرير كون اللبس معصية كبيرة، فلا يشترط الاصرار والمداومة على اللبس
وذلك لأن كل معصية توعد عليها النار فهي كبيرة، وقد ورد ذلك بالنسبة إلى
لبس الحرير في بعض الأخبار



(1) أقول: المراد خبر أبي الجارود المتقدم. وذهب المقدس الأردبيلي
وتبعه السبزواري في الكفاية وصاحب الرياض إلى العدم. قال الأخير: (وفيه
اشكال، إذ لا يستفاد من أدلة المنع كونه من الكبائر، وإنما غايتها إفادة التحريم
وهو أعم منه، والأصل يلحقه بالصغائر، فالوجه عدم رد الشهادة بمجرد اللبس
من دون اصرار ومداومة، كما نبه عليه المقدس الأردبيلي رحمه الله، وتبعه
صاحب الكفاية فقال: ولعل قدحه في الشهادة باعتبار الاصرار، وربما يفهم
منه كون ذلك مراد الأصحاب ومذهبهم أيضا وهو غير بعيد، ولا ينافيه اطلاق
عبائرهم، لقوة احتمال وروده لبيان جنس ما يقدح في العدالة، من دون نظر
إلى اشتراط حصول التكرار أو الاكتفاء بالمرة الواحدة، وإنما أحالوا تشخيص
ذلك إلى الخلاف في زوال العدالة بكل ذنب أو بالكبائر منها خاصة.).
قلت إن خبر أبي الجارود يستفاد منه كونه من الكبائر، ومعه لا مجال
للرجوع إلى الأصل، وإن كان كونه ملحقا إياه بالصغائر محل بحث، وأما احتمال
كون ذلك مراد الأصحاب فيخالف ظواهر عبائرهم، كاحتمال ورودها لبيان
جنس ما يقدح في العدالة، فقد ذكر المحقق مثلا إن الحسد معصية وكذا بغضة
المؤمن ثم قال: والتظاهر بهما قادح في العدالة.
إنما الكلام في سند الخبر المزبور، فأبو الجارود - وهو زياد بن المنذر
- لم يوثقه أحد من الرجاليين، بل هو مذموم أشد الذم كما في تنقيح المقال
نعم هو من رجال كامل الزيارات وتفسير القمي. على أن الخبر رواه الصدوق
باسناده إليه، وطريق الصدوق إليه ضعيف، وإن كان الظاهر تمامية سند الخبر
في العلل.
فالخلاف في المقام مبني على اعتبار الخبر وعدمه، بعد الخلاف الكبروي
الذي أشرنا إليه في نظير المقام فيما تقدم.
129
هذا بالنسبة إلى اللبس.
وأما الصلاة فيه للرجال، فإن كان مما تتم به الصلاة، فالحكم هو عدم
الجواز اجماعا كذلك، وإلا ففيه خلاف، كما سيأتي.
وأما حكم التكأة عليه، والافتراش له. فسيأتي أيضا.

130
ج - وبقيد (المحض) يخرج غير المحض، فلا ريب في جواز لبسه
والصلاة فيه، قال المحقق قدس سره: (وإذا مزج بشئ، مما تجوز فيه الصلاة
حتى خرج عن كونه محضا، جاز لبسه، والصلاة فيه، سواء كان أكثر من الحرير
أو أقل منه) قال في الجواهر بشرحه: بلا خلاف أجده فيه، بل الاجماع بقسميه
عليه، بل الثاني منهما مستفيض كالنصوص، أو متواتر، ومن النصوص الصريحة في ذلك (1)
1 - عبيد بن زرارة: (عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا بأس بلباس
القز، إذا كان سداه أو لحمته من قطن أو كتان).
2 إسماعيل بن الفضل: (عن أبي عبد الله عليه السلام في الثوب يكون
فيه الحرير. فقال: إن كان فيه خلط فلا بأس).
3 - زرارة: (سمعت أبا جعفر عليه السلام ينهى عن لباس الحرير للرجال
والنساء، إلا ما كان من حرير مخلوط بخز، لحمته أو سداه خز، أو كتان أو
قطن..).
4 - يوسف بن إبراهيم: (عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا بأس
بالثوب أن يكون سداه وزره وعلمه حريرا، وإنما كره الحرير المبهم للرجال).
د - وقد وقع الكلام في حكم لبس ما نسج نصفه حريرا محضا ونصفه
الآخر غير حرير، فقد أفتى السيد في العروة بعدم الجواز، والأقوى هو الجواز
لأن المستفاد من الأدلة حرمة الحرير محض، أو المبهم، أو المصمت،
على اختلاف العناوين الواردة فيها، والتي لا يصدق شئ منها عرفا على هذا الثوب.
فإن شك في الجواز، فإن الأصل الأولي في لبس كل لباس هو الجواز،



(1) وسائل الشيعة 3 / 271 الباب 13 من أبواب لباس المصلي.
131
ثم خصص ذلك بأدلة حرمة لبس الحرير المحض، ومع الشك في شمول
دليل المخصص لما خيط أو نسج بهذه الكيفية، يكون العام هو المرجع، ويحكم
بالجواز. وإن كان العام ما دل على حرمة الحرير، ثم خرج منه الحرير غير
المحض، فمع الشك في صدق غير المحض على هذا الثوب، كان المرجع
أدلة حرمة الحرير. لكن الأظهر هو الأول، وهو كون المرجع عمومات جواز
مطلق اللبس، فيجوز لبس هذا الثوب.
ولو شك في أنه من الحرير أو غيره، ومن هذا القبيل اللباس المتعارف
في زماننا المسمى بالشعري لمن لم يعرف حقيقته، جاز لبسه، للشك
في شمول الأدلة له، ولو شك في أنه حرير محض أو ممتزج قال السيد في
الوسيلة: الأحوط الاجتناب. لكن الأقوى عند السيد الأستاذ عدم وجوبه،
كما ذكر في حاشيتها، لجريان البراءة، نعم هو لازم بالنسبة إلى الصلاة فيه
بناءا على شرطية غير الحرير فيها.
ه‍ - استثني من الحرمة، اللبس في حالين:
1 - لبس الحرير في حال الحرب:
وقد ادعى عليه الاجماع جماعة من الأصحاب ويدل عليه قبله من
النصوص (1).
1 - إسماعيل بن الفضل: (عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا يصلح
للرجل أن يلبس الحرير إلا في الحرب).
2 - ابن بكير عن بعض أصحابنا: (عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا
يلبس الرجل الحرير والديباج إلا في الحرب).



(1) وسائل الشيعة 3 / 269 الباب 12 لباس المصلي.
132
3 - سماعة بن مهران: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن لباس الحرير
والديباج. فقال: أما في الحرب فلا بأس به، وإن كان فيه تماثيل).
وهل المستثنى مطلق الحرب أو يختص بالحرب الواجبة، أو الجائزة؟
لا ريب في جواز اللبس في الحرب الواجبة، أما الجائزة فوجهان، العدم
لعدم وجوب الحرب، فلماذا يقوم بالحرب مع عدم وجوبها، حتى يجوز له
لبس الحرير. والجواز، لأنه مع جواز الحرب، يجوز له اللبس إذا اختار
القيام بها، نظير السفر في شهر رمضان من جهة. وأما المحرمة فلا، لأن دليل
الجواز في الحرب منصرف ظاهرا عن الحرب المحرمة، فإذا حارب ولبس
فقد ارتكب محرمين.
والمراد من حال الحرب، حال قيامها فعلا، أو الكون في بعض مقدماتها
القريبة منها، بحيث يصدق عرفا كونه في حال الحرب.
ثم إنه ذكر في الجواهر وغيرها: أن المراد استثناء حال الحرب من
حرمة اللبس الأصحاب، وقد نص على الجواز السيد في العروة حيث قال:
وحينئذ تجوز الصلاة فيه أيضا.
والتحقيق أنه: إن كان عدم جواز الصلاة في الحرير مستندا إلى النهي عن
مطلق لبسه، ففي الحرب ينتفي النهي، فلا وجه لبطلانها فيه، وإن كان حكما
مستقلا من جهة أنه مانع أو عدمه شرط فلا تصح، وتظهر الثمرة فيما إذا أمكنه
النزع وتبديل الثوب، والظاهر هو الثاني، فيكون كلبس الذهب للرجال، فيحرم
لبسه، وتبطل الصلاة فيه، كما سيأتي في المبحث الثاني. وبناءا على عموم
دليل استثناء حال الحرب للصلاة، تكون النسبة بينه وبين دليل: لا تصل في
الحرير: العموم من وجه، فيتعارضان في مورد الاجتماع، ويتساقطان ويكون

133
المرجع هو الأصل.
نعم لو ورد نص فيه: لا تلبس الحرير، ولا تصل فيه إلا في الحرب، تعين
الأول.
2 - لبس الحرير في حال الضرورة:
ويدل على جواز اللبس في حال الضرورة كالبرد المانع من نزعه الأدلة
العامة، الواردة في الأبواب المختلفة من الفقه، مثل قولهم عليهم السلام:
1 - ليس شئ مما حرم الله إلا وقد أحله لمن اضطر إليه.
2 - كلما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر.
3 - رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه وما لا يطيقون.
وغير ذلك من الأدلة العامة الحاكمة على الأدلة الأولية.
ومن هنا نص جماعة على الاجماع على هذا الحكم.
وأما الاستدلال له بخصوص ما عن الصدوق رحمه الله من أنه: (لم يطلق
النبي صلى الله عليه وآله لبس الحرير لأحد من الرجال، إلا لعبد الرحمن
ابن عوف، وذلك أنه كان رجلا قملا)، فيتوقف على الغاء الخصوصية فيه،
وهو مشكل، لاحتمال كونه فضية في واقعة، لجواز وصول حال عبد الرحمن
حدا جاز له ذلك بالأدلة العامة.
ومن هنا يشكل التعدي من ضرورة البرد ونحوه إلى كل ضرورة، بأن
يقال بجواز الصلاة في كل ضرورة جاز معها اللبس.
وبقيد (الرجال) يخرج النساء، وقد نص على ذلك المحقق في
كتاب الصلاة بقوله: (ويجوز للنساء مطلقا) قال في الجواهر: اجماعا أو

134
ضرورة من المذهب، بل الدين، ويدل عليه النصوص (1):
1 - ليث المرادي: (قال أبو عبد الله عليه السلام: إن رسول الله صلى الله عليه وآله
كسا أسامة بن زيد حلة حرير، فخرج فيها، فقال: مهلا يا أسامة، إنما يلبسها
من لا خلاق له، فاقسمها بين نساءك).
2 - يوسف بن إبراهيم: (عن أبي عبد الله عليه السلام. إنما يكره
المصمت من الإبريسم للرجال، ولا يكره للنساء)
3 - ابن بكير عن بعض أصحابنا: (عن أبي عبد الله عليه السلام قال: النساء
يلبسن الحرير والديباج إلا في الاحرام).
4 - الحسين بن زيد عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام في
حديث المناهي: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن لبس الحرير
والديباج والقز للرجال، فأما النساء فلا بأس).
5 - جابر الجعفي: (سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: ليس على النساء
أذان. ويجوز للمرأة لبس الديباج والحرير، في غير صلاة واحرام، وحرم
ذلك على الرجال إلا في الجهاد.)
6 - قرب الإسناد عن موسى بن جعفر عليه السلام: (سألته عن الديباج
هل يصلح لبسه للنساء؟ قال: لا بأس).
إنما الكلام والخلاف في موضعين:
صلاة المرأة في الحرير
الأول: في صلاة المرأة في الحرير، فالمشهور شهرة عظيمة كادت تكون
اجماعا، هو الجواز، وعليه السيدان في العروة والوسيلة، وعن الصدوق:



(1) وسائل الشيعة 3 / 275 الباب 16 من أبواب لباس المصلي
135
المنع، وعن الأردبيلي: أنه أولى، وعن الحبل المتين: أنه أوجه. وعن
جماعة: التوقف.
وقد استدل للمنع باطلاق صحيحي عبد الجبار الآتيين، وبخصوص خبري
زرارة وجابر الجعفي المتقدمين.
وأجيب عن الصحيحين بتقييد ما دل على اختصاص الحرمة بالرجال لهما
وعن خبر جابر بالضعف في السند، وعن خبر زرارة بالحمل على الكراهة
جمعا بين الأدلة.
احرام المرأة في الحرير
الثاني: في احرام المرأة في الحرير، فإنه لا يخلو من الاشكال، للأخبار
الناهية عن احرامها فيه، أو لبسها للحرير في حال الاحرام.
في وظيفة الخنثى
أما الخنثى: فألحقها في الجوار بالمرأة، قال: والخنثى المشكل
ملحق بها في جواز اللبس على الأقوى، لأصالة براءة الذمة، بل وفي الصلاة
أيضا عندنا، لصدق الامتثال، وعدم العلم بالفساد. وما ذكره غير واحد من
مشايخنا من الحاقها في الصلاة بأخس بالحالين، مبني على أصالة الشغل، واجمال
العبادة، ونحو ذلك مما لا نقول به، كما هو محرر في محله.
أقول: توضيح ما ذكره هو: أن أمر الصلاة دائر بين الأقل والأكثر، لأن
الخنثى تشك في اشتراط عدم الحرير، أو مانعية الحرير لصحة صلاتها،
مضافا إلى سائر الشرائط، فيكون الأقل - وهو ما عدا الحرير - هو المتيقن،
ويجري الأصل بالنسبة إلى الأكثر، فلا يكون الحرير مانعا أو عدمه شرطا لها.

136
ولو شكت في تحقق الامتثال بعد الفراغ، كان شكها مسببا عن الشك في
الاشتراط أو المانعية، والأصل هو العدم.
وكذا الأمر في أصل التكليف، فإنه مع الشك في اشتغال الذمة، تجري
أصالة البراءة، لحديث الرفع وغيرها من أدلتها، كما هو محرر في محله.
فإن كان المستند لما ذكره غير واحد من المشايخ، الاحتياط في الشبهة
التحريمية، وفي دوران الأمر بين الأقل والأكثر، فالمبنى باطل، كما تقرر في
الأصول.
وإن أرادوا من (أخس الحالين) أن الخنثى ليست قسما برأسه، بل هو
إما ذكر، أو أنثى، وهذا العلم الاجمالي يقتضي امتثالها بالنسبة إلى تكاليف
الرجل والمرأة معا، فيلزمها فيما نحن فيه الاحتياط، ولا وجه للرجوع إلى
الأصل، نظير الحكم عليها بوجوب التستر، من كلا القسمين، كان الوجه ما
ذهبوا إليه.
هل يجوز للصبي لبس الحرير؟
وأما الصبي: فلا بأس بلبسه الحرير، ضرورة عدم تكليفه بشئ من
التكاليف، إنما الكلام في وجوب منع الولي، وحرمة الباسه إياه، وصحة
صلاته فيه بناءا على كون عباداته شرعية.
والحكم بوجوب منع الولي، وحرمة الباسه إياه، يتوقف على العلم
بكون لباس الحرير للذكور من قبيل ما علم من الشارع كراهة وجوده في الخارج
حتى من الصبيان، ليتوجه الخطاب إلى أوليائهم أو غيرهم كفاية، بمنعهم عن
اللبس، وبعدم الباسهم إياه.
لكن في صحة صلاته فيه اشكال، بناءا على أن المستفاد من الأدلة كون

137
النهي عن الصلاة في الحرير مستقلا عن النهي عن اللبس، وهو ليس ببعيد.
في حكم ما لا تتم الصلاة فيه
هل يجوز لبس ما لا تتم الصلاة منفردا، كالتكة والقلنسوة ونحوهما،
والصلاة فيه؟ فيه خلاف ومن جوز لبس في الصلاة، فقد جوزه في غيرها، فنقول:
قد نسب القول بالجواز إلى الأشهر في الجواهر كما في الوافي، وعن
جماعة كثيرة كالمفيد والصدوق والشيخ في النهاية والعلامة في بعض كتبه وغيرهم
المنع، وعن جماعة منهم المحقق قده في كتبه الثلاثة التردد، لكن قال
المحقق: (والأظهر الكراهة)، وهذا هو المختار (1).
استدل للمنع: بمكاتبه محمد بن عبد الجبار قال: (كتبت إلى أبي محمد
أسأله هل يصلى في قلنسوة حرير محض أو قلنسوة ديباج؟ فكتب: لا تحل
الصلاة في حرير محض). وبمكاتبته الأخرى: (كتبت إلى أبي محمد عليه
السلام أسأله هل يصلى في قلنسوة حرير محض أو قلنسوة ديباج. فكتب لا
تحل الصلاة في حرير محض) (2).



(1) قال السيد في العروة: أن لا يكون حريرا محضا للرجال، سواء كان
ساترا للعورة أو كان الساتر غيره، وسواء كان مما تتم فيه الصلاة أو لا على الأقوى
كالتكة والقلنسوة ونحوهما، بل يحرم لبسه في غير حال الصلاة أيضا إلا مع
الضرورة) فقال سيدنا الأستاذ في تعليقته: (لا قوة فيه والأحوط اجتنابه) ومن
هنا وافق السيد صاحب الوسيلة في قوله: (أن لا يكون حريرا محضا للرجال
على الأحوط).
(2) أقول: هل هي مكاتبة أخرى أو هي مكاتبة واحدة؟ صريح الجواهر
هو الأول، لكن الثاني غير بعيد، بل هو الظاهر عند المحقق النائيني، ففي
كتاب الصلاة للآملي عنه قدس سرهما: الظاهر أنهما رواية واحدة، إلا أنه
لمكان تقطيعها يذكر كل فقرة منها في الموضع المناسب لها، والمنقول عن بعض
السادة من أهل أصفهان وجود أصل نسخة المكاتبة عنده، الذي كان الجواب
فيها بخط العسكري عليه السلام، وأنه ذكر فيها نحو من خمسة عشر إلى عشرين
سؤالا.
قلت: قد ذكرت المكاتبة في الوسائل مرة في الباب الحادي عشر،
ومرتين في الباب الرابع عشر من أبواب لباس المصلي، وقد أضاف في الموضع
الأخير ذكر السؤال عما لا تتم الصلاة فيه من غير مأكول مع الجواب بأنه
إذا كان ذكيا فلا بأس.
138
وللجواز: بما رواه الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (كل ما لا
تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس بالصلاة فيه، مثل التكة الإبريسم والقلنسوة
والخف والزنار يكون في السروايل ويصلى فيه) (1).
أما المكاتبة فلا كلام في صحتها سندا، وأما خبر الحلبي فقد أجاب
المانعون عنه بضعف سنده ب‍ (أحمد بن هلال العبرتائي) فإنه ضعيف، وأجيب:
بأنه مع التسليم ينجبر الضعف بعمل الأصحاب بالخبر (2)، إلا أنه لا سبيل إلى



(1) وسائل الشيعة 3 / 272 الباب 14 من أبواب لباس المصلي.
(2) أقول: الكلام في (أحمد بن هلال) طويل، فمن الأصحاب من لا
يعتمد على خبره لكونه فاسد المذهب ضعيفا، ومنهم من يعتمد عليه، لأن فساد
المذهب لا يضر بعد وثاقة الراوي. قلت: إن كان منشأ تضعيف من ضعفه هو
الفساد في العقيدة وإنه في نفسه ثقة أمكن الاعتماد على خبره بناءا على أن
فساد العقيدة لا يضر بالوثاقة كما عليه بعض مشايخنا. وراجع المستمسك 5 /
365. معجم رجال الحديث 2 / 367.
139
تقديمه على المكاتبة، لأنها أصح بلا كلام.
كما أنه لا سبيل إلى تقديم خبر الحلبي على المكاتبة بالحكومة وإن كان
مقدما على اطلاقات عدم جواز الصلاة في الحرير بالحكومة، لأنه ناظر إلى
تلك الاطلاقات ولا بالتقييد، لأنه من قبيل تخصيص المورد، وهو مستهجن
إلا أن يقال بأن الإمام عليه السلام قد أعرض عن جواب السؤال، بل ذكر
الحكم بصورة العموم، لكنه خلاف الظاهر.
وحمل الفقيه الهمداني المكاتبة على الغالب، أي أن الغالب في القلنسوة أن تكون
من حرير، وهو كما ترى، لأن السؤال قد وقع عن القلنسوة، واعطاء الجواب
عن الفرد الغالب منه خلاف المتعارف، بل يمكن أن يكون من الاغراء بالجهل
إذ يمكن أن يكون المحتاج إليه حكم القلنسوة غير الحرير.
كما أن حمل المكاتبة على التقية غير تام، لأن العامة يقولون بجواز
الصلاة في ذلك (1) فقوله عليه السلام (لا تحل) الظاهر في الحرمة الوضعية
ينافي التقية.
بقي حمل المكاتبة على الكراهة، بقرينة خبر الحلبي، وفيه: أن لسان
النهي عام، لأنه قال: (لا تحل الصلاة في حرير محض)، فهو من الأدلة الدالة
على عدم جواز الحرير مطلقا، فيتوقف حمله على الكراهة على القول بعموم
المجاز فيه، بأن استعملت الهيئة في الجامع بين الحرمة والكراهة، فتكون
الحرمة لما تتم فيه الصلاة، والكراهة لما لا تتم فيه، لكن الحمل على عموم
المجاز فيه مشكل.



(1) انظر الخلاف للشيخ 1 / 190.
140
إلا أن يقال بأن معنى المكاتبة: لا تحل الصلاة في قلنسوة حرير محض،
فلا يكون الجواب عاما، بل هو نهي عن خصوص القلنسوة فيمكن حمله على
الكراهة بقرينة خبر الحلبي، وهذا هو الأولى، نظير ما إذا قال السائل: هل
يصلى خلف شارب الخمر، فورد الجواب: لا تصل خلف الفاسق، فيحمل
على أن المراد لا تصل خلف شارب الخمر لأنه فاسق.
وصاحب الجواهر وبعضهم قدموا خبر الحلبي لكونه أشهر، وعليه فلماذا
القول بالجواز على كراهة؟ إلا أن يقال: بأن (لا بأس) فيه اشعار بوجود
حزازة فيها، والله العالم.
ولو وصل الأمر إلى الأصل، فلا ريب في أنه البراءة، لأنه من دوران
الأمر بين الأقل والأكثر.
ثم إن المراد ما لا تتم فيه الصلاة منفردا، أي لكل رجل بحسب حاله، لا
مطلقا، ولا الوسط من الرجال خلافا للجواهر.
ح - لا بأس بالكف بالحرير، وترقيع الثوب به، لعدم صدق اللبس معه،
ويجوز الصلاة فيه أيضا، لانصراف أدلة النهي عن الصلاة فيه عن مثله. وإن
كان الأحوط أن لا يزيد على أربع أصابع.
ط - ولا بأس أيضا في حمل الحرير، واستصحابه، في الصلاة وغيرها،
لعدم صدق اللبس، وانصراف الأدلة عنه، وإن كان مما تتم فيه الصلاة.
في حكم التكأة على الحرير
وأما التكأة على الحرير، والافتراش له، والتدثر به، فقد قال
المحقق هنا: (وفي التكأة على الحرير، والافتراش له تردد، والجواز مروي) وقال
في كتاب الصلاة: (ويجوز الركوب عليه وافتراشه على الأصح).

141
قال في الجواهر: وفاقا للأكثر، بل المشهور نقلا وتحصيلا، بل في
المدارك: إنه المعروف من مذهب الأصحاب لصراحة نصوص المسألة في
اللبس، ولا ريب في عدم صدق على الكتأة والافتراش، ولو كان ثمة حديث
ضعيف يدل على المنع، فمحمول على المنع من اللبس، بقرينة سائر
النصوص، وللغلبة في استعمال الحرير وإن كان في دعوى غلبة لبس الحرير
على سائر استعمالاته، بحيث يصح حمل الخبر المطلق على هذا الاستعمال
الخاص نظر.
وكيف كان ففي الصحيح عن علي بن جعفر قال: سألت أبا الحسن عليه
السلام عن الفراش الحرير ومثله من الديباج، والمصلى الحرير، هل يصلح
للرجل النوم عليه والتكأة والصلاة؟ قال: يفترشه ويقوم عليه ولا يسجد عليه) (1).
وأما التدثر فإن صدق عليه اللبس حرم، وإلا فلا، وفي مجمع البحرين:
(يا أيها المدثر) أي المدثر في ثيابه، وظاهره الصدق.
ومع الشك في الصدق من جهة اختلاف اللغة والعرف - فبالنسبة إلى
اللبس يجري الأصل، وأما بالنسبة إلى الصلاة فيه، فتصح بناءا علي مانعية الحرير،
للشك في المانعية، ولا تصح بناءا على اشتراط عدمه. وهذا كله مبني على ما هو
الأظهر من عدم استناد النهي عن الصلاة فيه إلى النهي عن اللبس، وإلا فلا
كلام في الصحة، لانتفاء الحرمة للأصل.
هذا كله في المبحث الأول.
المبحث الثاني: التختم بالذهب
قال المحقق قدس سره: (وكذا يحرم التختم بالذهب والتحلي به
للرجال).



(1) وسائل الشيعة 3 / 274 الباب 15 من أبواب لباس المصلي.
142
أقول: هنا مطالب:
1 - حكم التختم بالذهب والتحلي به
لا كلام في حرمة ذلك، ولا خلاف فيه بل الاجماع بقسميه عليه كما في
الجواهر، وبذلك ينجبر ضعف بعض النصوص، ولا فرق في ذلك بين أن
يكون ذهبا خالصا أو غير خالص، بل يحرم حتى المموه عند المشهور، وأما
المشكوك في كونه ذهبا أو لا فيرجع فيه إلى أهل الخبرة، ومع بقاء الشك
لجهلهم أو اختلافهم مثلا لم يحرم، للشك في شمول الأدلة الناهية له، وعدم
جواز التمسك بها في الشبهة المصداقية، ولا عبرة بتسمية بعض الناس إياه
بالذهب، ولو شك فيه من جهة الشك في المفهوم فالحكم هو الأخذ بالقدر
المتيقن واجراء البراءة عن الزائد عليه.
ومن نصوص المسألة:
1 - جابر الجعفي: (سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: ليس على
النساء أذان إلى أن قال:: ويجوز أن تتختم بالذهب وتصلي فيه، وحرم ذلك
على الرجال إلا في الجهاد) (1).
2 - روح بن عبد الرحيم: (عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال رسول
الله لأمير المؤمنين: لا تتختم بالذهب فإنه زينتك في الآخرة) (2).
3 - علي بن جعفر: (عن موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألته عن



(1) وسائل الشيعة 3 / 276 الباب 16 من أبواب لباس المصلي. ضعيف.
(2) وسائل الشيعة 3 / 299 الباب 30 من أبواب لباس المصلي. موثق.
143
الرجل هل يصلح له الخاتم الذهب؟ قال: لا) (1).
ويدل على ذلك أيضا ما سنذكره في حكم الصلاة فيه:
2 - حكم الصلاة في الذهب
ولا كلام ولا خلاف كذلك في بطلان الصلاة في الذهب، سواء كان ساترا
أو غير ساتر، بل حتى فيما لا تتم الصلاة به منه، قيل: للنهي عن لبسه، فإنه
إذا صلى فيه اجتمع الأمر والنهي، وحينئذ تبطل الصلاة، لأنها عبادة، وإن قلنا
بجواز الاجتماع، لأن الشئ المنهي عنه لا يكون مقربا.
قلت: لكن الكلام في الصغرى، فإنه بأي جزء من أجزاء الصلاة يتحد
الخاتم؟ قد عبر بعضهم بالكون في هذا اللباس. ولكن الكون ليس من أجزاء
الصلاة، ولا ينتقض بالكون في المكان المغصوب، لأن المكان الذي يقف
على المصلي مع وقوفه، ومن هنا نقول ببطلان الصلاة إذا كان مكان المصلي
ذهبا.
فالأولى الاستدلال لبطلان الصلاة في الذهب بالنصوص ومنها:
1 - عمار بن موسى: (عن أبي عبد الله في حديث قال: لا يلبس الرجل
الذهب ولا يصلي فيه، لأنه من لباس أهل الجنة) (2).
2 - موسى بن أكيل النميري: (عن أبي عبد الله عليه السلام.. وجعل



(1) وسائل الشيعة 3 / 301 الباب 30 من أبواب المصلي. (قرب الإسناد).
(2) وسائل الشيعة 3 / 300 الباب 30 من أبواب لباس المصلي. موثق.
144
الله الذهب في الدنيا زينة النساء، فحرم على الرجال لبسه والصلاة فيه) (1).
وأما إذا كان متحليا بالذهب، فلا كلام في بطلانها مع صدق اللبس،
وهل المستفاد من (لا يلبس الرجل الذهب ولا يصلي فيه) هو البطلان وإن
لم يصدق، كما هو الحال في: لا تصل في وبر ما لا يؤكل لحمه؟ يحتمل أن
يكون المراد (اللباس) ويحتمل أن يكون المراد (المعية) يجوز الوجهان
لكن الظاهر هو الثاني خلافا للجواهر حيث ادعى الانصراف عن المعية.
وكيف كان فلا ريب في جريان الأصل مع الشك
3 - في موارد الجواز
هذا وقد جوز الأصحاب الصلاة في المحمول من الذهب، وشد الأسنان
به، لعدم صدق اللبس عليهما، ويدل على الجواز في الثاني صحيحه محمد بن
مسلم عن أبي جعفر عليه السلام (2).
قال السيد في العروة: بل الأقوى أنه لا بأس بالصلاة فيما جاز فعله فيه من
السلاح كالسيف والخنجر ونحوهما وإن أطلق عليهما اسم اللبس، ولكن
الأحوط اجتنابه.
(المسألة التاسعة)
(في أحكام اتخاذ الحمام)
قال المحقق قدس سره: (اتخاذ الحمام للأنس وانفاذ الكتب ليس بحرام،



(1) وسائل الشيعة 3 / 300 الباب 30 من أبواب لباس المصلي. ضعيف.
(2) وسائل الشيعة 3 / 302 الباب من أبواب لباس المصلي.
145
وإن اتخذها للفرجة والتطيير فهو مكروه، والرهان عليها قمار)
أقول: في المسألة فروع:
1 - حكم اتخاذ الحمام
أما حكم اتخاذ الحمام للأنس وانفاذ الكتب فقد قال المحقق: (ليس
بحرام) قال في الجواهر: بلا خلاف أجده فيه على ما اعترف به غير واحد،
للأصل وغيره.
وتدل عليه بل على استحباب الاتخاذ لذلك النصوص المستفيضة،
بل المتواترة، فإنها زهاء ثلاثين خبر، أوردها صاحب الوسائل في أبواب
مختلفة:
فذكر في باب (استحباب اتخاذ الحمام في المنزل) ستة عشر حديثا.
وفي باب (استحباب اكرام الحمام والبقر والغنم) حديثا واحدا.
وفي باب (تأكد استحباب اتخاذ الحمام الراعبي في المنزل، وفت
الخبز للحمام) ثلاثة أحاديث.
وفي باب (استحباب اختيار الحمام الأخضر والأحمر للامساك في
البيت، وأن من قتل الحمام غضبا استحب له الكفارة عن كل حمامة بدينار)
خمسة أحاديث.
وفي باب (جواز تزويج الذكر من الطير.) حديثين.
2 - حكم اللعب بالحمام
أما حكم اللعب بالحمام وتطييره. فقال المحقق قده: (وإن اتخذها
للفرجة والتطيير فهو مكروه)

146
أقول: أما الجواز فهو المشهور، وفي الجواهر عن ظاهر المبسوط: الاجماع
عليه، وهو مقتضى الأصل ويدل عليه أخبار (1):
1 - العلاء بن سيابة: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن شهادة من يلعب
بالحمام. فقال: لا بأس إذا كان لا يعرف بفسق).
2 - العلاء بن سيابة: (سمعته يقول: لا بأس بشهادة الذي بلعب بالحمام،
ولا بأس بشهادة السباق المراهن عليه، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله قد أجرى
الخيل وسابق، وكأن يقول: إن الملائكة تحضر الرهان في الخف والحافر
والريش، وما سوى ذلك قمار حرام)
3 - العلاء بن سيابة: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن شهادة من يلعب
بالحمام. قال: لا بأس إذا كان لا يعرف بفسق، قلت: فإن من قبلنا يقولون قال عمر:
هو شيطان، فقال: سبحان الله، أما علمت أن رسول الله (ص) قال: إن الملائكة
لتنفر عند [عن] الرهان وتلعن صاحبه، ما خلا الحافر والخف والريش والنصل
فإنها تحضره الملائكة. وقد سابق رسول الله صلى الله عليه وآله أسامة بن زيد وأجرى
الخيل).
بل يدل على جواز اللعب والفرجة بها ما دل على استحباب اكرامها وتزويجها
ونحو ذلك، لعدم انفكاك هذه الأمور عن الفرجة بها عادة.
وقال ابن إدريس في السرائر: (ويقبل شهادة المتخذ للحمام غير اللاعب بها
والمسابق والمراهن عليها، إذا لم يعرف منه فسق، وقول شيخنا في نهايته ويقبل
شهادة من يلعب بالحمام، غير واضح، لأنه سماه لاعبا، واللعب بجميع



(1) وسائل الشيعة 18 / 305 الباب 54 من أبواب الشهادات، و (العلاء
ابن سيابة) لم يرد في حقه مدح ولا ذم.
147
الأشياء قبيح، فقد صار فاسقا بلعبه، فكيف تقبل شهادته؟، وإنما أورد لفظ
الحديث ايرادا لا اعتقادا وإن كان المقصود باللعب ما ذكرناه، وهو اتخاذها
للأنس وحمل الكتب دون اللعب).
وفي قوله: (واللعب بجميع الأشياء قبيح، فقد صار فاسقا بلعبه)
منع واضح، إذ ليس كل لعب ولهو بحرام، فمن ذلك ما يحسنه العقل، ويعمله
العقلاء، لما فيه من المنافع والآثار، بل يمكن دعوى قيام السيرة على مثل
ذلك حتى زمن المعصوم، كما في الخبر المروي في الأمالي من مصارعة
الحسنين بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وقوله للحسن عليه السلام:
اصرع الحسين، وقد كان جبرئيل يقول للحسين: يا حسين اصرع الحسن.
والمحرم من اللهو ما يحرك الشهوات ويعد من الملذات النفسانية وليس
فيه شئ من الأغراض العقلائية.
نعم لا كلام في حرمة اللهو واللعب والفرجة بالحمام، إذا أدى ذلك إلى
ترك واجب، أو ارتكاب محرم، أو اقترن بشئ من المحرمات. كما لا كلام
في منافاة ذلك للمروة في حق بعض الناس.
وبالجملة ليس كل لعب بحرام، وما دل على حرمته عموما أو اطلاقا منصرف
عن مثل ما ذكرناه البتة.
وأما الكراهة، فلأن تطيير الحمام والفرجة بها وإن لم يكن معصية
يمنع من الاشتغال بالأعمال المفيدة، وصرف العمر فيما ينبغي أن يصرف فيه.
ومن هنا يظهر أنه ليس المراد من هذه الكراهة، الكراهة الاصطلاحية في
عرف المتشرعة.

148
3 - حكم السباق بالحمام
وأما حكم السباق بالحمام. فقال: (والرهان عليها قمار).
أقول: إن الأصل في كتاب السبق والرماية هو قوله عليه السلام: (لا سبق
إلا في نصل أو خف أو حافر) (1). وقد اختلفت الرواية في لفظ (سبق) فبناء
على أنه بفتح الباء وهو بمعنى العوض المعين لمن غلب يدل الخبر على
حرمة الرهان في غير الثلاثة، فتجوز المسابقة مع الرهان فيها ولا تجوز فيما
خرج عنها، لكن لا نهي عن (السبق) بسكون الباء بلا رهان وعليه فيجوز
ذلك في الحمام، وبناء على أنه بسكون الباء يدل على المنع في غير ما ذكر،
وإن كان بلا رهان.
وأما بناء على عدم ثبوت رواية الفتح، واحتمال كل الأمرين معا، لم يثبت
دليل على المنع من المسابقة بلا رهان في ما عدا الثلاثة، وكان المرجع فيه
الأصل.
والمتيقن من الخبر هو الدلالة على حرمة (السبق) بفتحها في غير الثلاثة،
وهو المجمع عليه بين الأصحاب، وتدل عليه غيره من الأخبار، فإن هذا الرهان
قمار.
لكن في خبر العلاء بن سيابه استثناء الحمام كالثلاثة، وهو الخبر الثالث
من الأخبار المذكورة. وقد أجيب عنه باحتمال إرادة (الخيل) من (الحمام)
كما هو لغة أهل مكة، لكن يضعفه أنه لا يعبر عن المسابقة بالخيل (اللعب)
وإن كان فمجاز. مع أن لفظ (الريش) في الذيل يؤيد كون الحمام في الصدر



(1) أقول: في هذا الخبر سندا ودلالة ومتنا خلاف وبحث بين الأصحاب،
راجع من كتبهم: الروضة البهية 2 / 13 والكفاية 136 والرياض 2 / 41.
149
هو (الطير) ومن حمله على (الخيل) قال بأن المراد منه هو (النصل) وهو
خلاف الظاهر.
إلا أن سند هذا الخبر غير معتبر ولا جابر له، وهذا هو الجواب الصحيح.
فتلخص عدم النهي عن السبق بلا رهان، وعدم الجواز معه، لخبر الحصر في
الثلاثة، المعمول به لدى الأصحاب.
(المسألة العاشرة)
(في قبول شهادة أصحاب الصنائع المكروهة)
قال المحقق قدس سره: (لا ترد شهادة أحد من أرباب الصنائع المكروهة،
كالصياغة وبيع الرقيق، ولا من أرباب الصنائع الدنية، كالحجام والحياكة،
ولو بلغت في الدناءة، كالزبال والوقاد. لأن الوثوق بشهادته مستند إلى
تقواه).
أقول: إذا كان للشاهد تقوى توجب الوثوق بشهادته، فلا ينظر إلى
حرفته وصنعته، حتى ولو كانت من الصنائع المكروهة شرعا كالصياغة وبيع
الأكفان، وبيع الرقيق ونحوها، أو الصنائع الدنية عرفا كالحجامة والحياكة،
بل حتى لو كانت في غاية الدناءة، كالزبال والوقاد، لوضوح عدم منافاة هذه
الصنائع للتقوى، التي هي الملاك في قبول الشهادة والوثوق بها.
والمسألة لا خلاف فيها بين الأصحاب، بل لم يكن حاجة إلى التعرض لها،
وإنما الغرض من ذلك التنبيه على خلاف بعض العامة، ولا ريب في بطلان
ما ذهبوا إليه، لاطلاقات أدلة قبول شهادة العدل، بل إن هذه الصنائع واجبة
بالوجوب الكفائي، حفظا للنظام، فضلا عن عدم منافاتها للمروة، وتوهم
أن من يقوم هذه الصنائع يعرض نفسه لازدراء الناس، ويحقر نفسه في المجتمع،
ومن كان كذلك هان عليه تضييع الحقوق والأحكام الإلهية واضح الاندفاع،

150
على أن القيام ببعض المندوبات بل الواجبات قد يوجب ازراء الناس.
عدم انحصار القادح فيما ذكره المحقق
قال في الجواهر: ثم لا يخفى عليك أن المصنف وغيره ممن تعرض لذكر
بعض ما يقدح في العدالة، ليس غرضه حصر ذلك فيما ذكروه، ضرورة عدم
انحصار الأمر فيما ذكره، لمعلومية حرمة أمور كثيرة لم يذكروها، كمعلومية
كونها من الكبائر، بل قد ذكر في كتب الأخلاق أمور كثيرة تقتضي القدح في
العدالة لم تذكر في كتب الأصحاب، مع أن فيها روايات كثيرة مشتملة على
المبالغة في نفي الايمان معها، وقد ذكر الأردبيلي جملة منها ومن أخبارها.
أقول: إن الأمور القادحة في العدالة من الكثرة بحيث إذا جمعت مع
أخبارها كانت كتابا ضخما، وإن من الأمور التي ذكرها المحقق الأردبيلي رحمه
الله ما ليس بحرام في نفسه ما لم يقترن بفسق أو يؤدي إليه فلا يرتفع به العدالة،
ولا ترد الشهادة، كعده (حب الرئاسة) منها، فإنه من الصفات القلبية، وليس
من المحرمات في نفسه، إلا إذا تترتب عليه شئ منها في الخارج، فيقدح في
العدالة، نعم من العسير جدا وجوده في القلب وجودا مجردا عن ترتب شئ
من المحرمات، ومن هنا ورد الذم الشديد عليه، كالطمع والبخل والحسد وما
شابه ذلك، وجاء الأمر بمعالجة ذلك كما ذكر في كتب الأخلاق، قال الله تعالى
(فأما من آمن واتقى ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى).
وعلى الجملة فكل ما دخل من الصفات الرذيلة تحت الاختيار حدوثا أو بقاء
توجه إليه الأمر والنهي، فإن خالف زالت عدالته وردت شهادته، وما لم يكن
كذلك لم يكن وجوده أو استمراره مخلا بالعدالة وهذا هو القاعدة الكلية
في المقام.

151
الوصف الخامس: ارتفاع التهمة
قال المحقق قدس سره: (الخامس: ارتفاع التهمة، ويتحقق المقصود
في مسائل).
أقول: لا ريب في اشتراط انتفاء التهمة عن الشاهد، حتى تقبل شهادته،
ولا خلاف في ذلك في الجملة، بل في الجواهر الاجماع بقسميه عليه، ويدل
على ذلك النصوص المستفيضة أو المتواترة (1)، ومنها:
1 - ابن سنان: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما يرد من الشهود؟
فقال: الظنين والمتهم. قلت: فالفاسق والخائن؟ قال: ذلك يدخل في
الظنين).
2 - أبو بصير: (عن الذي يرد من الشهود؟ فقال: الظنين والمتهم والخصم
قلت: فالفاسق والخائن؟ قال: كل هذا يدخل في الظنين).
3 - سماعة: (سألته عما يرد من الشهود، فقال: المريب والخصم



(1) وسائل الشيعة 18 / 274 الباب 30 شهادات. ولا حاجة إلى النظر
في
أسانيدها.
152
والشريك ودفع مغرم والأجير والعبد والتابع والمتهم. كل هؤلاء ترد شهادتهم)
وقد اشتملت هذه النصوص على بعض مصاديق من ترد شهادته، وقد عنون
الفقهاء أفرادا غير من ذكر في الأخبار، وبحثوا عن كونها مصاديق المسألة،
وهل ترد شهادات هؤلاء مطلقا أو في حالات خاصة
في ضابط التهمة
وإذا أمكن اعطاء قاعدة كليه يرجع إليها، في معرفة المصداق وتمييزه
عن غيره فهو، وإلا ففي كل فرد قام الدليل على مصداقيته من نص أو اجماع
فهو، وفي غيره يكون المرجع ما دل على قبول شهادة العدل من الكتاب
والسنة، وقد بحث المحقق قدس سره عن المصاديق في خمس مسائل،
والعلامة في القواعد في ست، وكأنهما يريدان حصر المصاديق فيمن ذكراه
في تلك المسائل.
وتصدى صاحب الرياض قدس سره لاعطاء الضابط في هذا المقام بقوله:
(التحقيق في المسألة يقتضي الرجوع إلى اطلاق الأخبار المتقدمة، نظرا إلى
أنها بالإضافة إلى ما دل على قبول شهادة العدل عموما أو اطلاقا، أما خاصة
فيقيد بها، أو عامة فيصير التعارض بينهما تعارض العموم والخصوص من وجه
وحيث لا مرجح لأحدهما على الآخر، من اجماع وغيره، ينبغي الرجوع إلى
حكم الأصول وهو هنا عدم القبول مطلقا.
إلا أن يتردد في التهمة في بعض الأفراد، أنها هل هي تهمة أو داخلة في
اطلاق التهمة في النصوص المانعة عن قبول الشهادة معها، كما سيأتي من
شهادة الوصي أو الوكيل، فيما لهما الولاية فيه، مع عدم نفع لهما إلا خصوص
التصرف فيه فإن قبول الشهادة في مثله أوفق بالأصل، من حيث العموم الدال

153
عليه على الاطلاق مع سلامته عن معارضة عموم هذه الأخبار، لما عرفت من
التأمل، إما في أصل حصول التهمة، أو دخولها في اطلاق التهمه المذكورة
فيها.).
وحاصل ما ذكره عدم قبول الشهادة إلا مع الشك في تحقق أصل موضوع
التهمه، أو في اندراج التهمة في الاطلاق المذكور في الأخبار.
لكن التحقيق أن يقال: بمنع كل شهادة يرجع الشاهد بها إلى كونه مدعيا
أو منكرا، وإن كان رجوعه إلى ذلك من آثار تلك الشهادة ولوازمها، كما هو
الحال في بعض المسائل الآتية كما سنوضحه، ثم وجدنا التصريح بذلك في
مفتاح الكرامة، مع التنبيه على ما ذكرناه، قال: (فكانت الضابطة في التهمة ما
كان الشاهد فيها مدعيا ولو في الآخرة، ومنكرا كذلك، ولا ريب في أن المدعي
لا يقبل قوله. وكل ما ذكروه فهو من هذا القبيل.
لأن المتهم حيث يجلب نفعا يصير كالمدعي، وحيث يدفع ضررا يصير
كالمنكر.)
فيكون البحث في الحقيقة حول الموارد التي يصير فيها الشاهد مدعيا
أو منكرا ولو بالآخرة، فكل مورد صار فيه الشاهد كذلك ردت شهادته، وكل
مورد لم يكن فيه كذلك قبلت، اللهم إلا إذا ورد نص شرعي يقتضي القبول أو
الرد، ويتم هذا البحث في مسائل:

154
(المسألة الأولى)
(في شهادة من تجر شهادته نفعا إليه).
قال المحقق قدس سره: (لا تقبل شهادة من تجر شهادته نفعا).
أقول: يدل على ذلك بصراحة ما روي: (عنه صلى الله عليه وآله:
نهى أن يجاز شهادة الخصم والظنين والجار إلى نفسه شهادة) (1).
وقد ذكر المحقق لمن تجر شهادته نفعا إليه أربعة أمثلة:
فالأول: الشريك
قال: (كالشريك فيما هو شريك فيه).
أقول: قيده جماعة بما إذا اقتضت الشهادة المشاركة له فيه، دون ما إذا
لم يقتض ذلك فتقبل، وقد مثلوا للأول بأن يقول (هو بيننا). وللثاني:
بما إذا شهد بأن له نصفه، وبعبارة أخرى: إن تعرض في شهادته إلى ما
يرجع إلى نفسه فلا تقبل وإلا فتقبل، وإن كان مرجع كلتا الشهادتين إلى معنى
واحد.
أقول: إن الشهادة للشريك إن رجعت إلى شهادة المدعي فيما يجر النفع
إلى نفسه، فلا حاجة إلى التمسك لعدم القبول بأخبار (المتهم)، لوضوح أن
البينة على المدعي واليمين على من أنكر، لكن إذا كانت العلة في المنع
كونه مدعيا كما في كشف اللثام وغيره فإن ذلك يكون بالنسبة إلى النصف
الذي يرجع إلى نفسه، دون الذي يرجع إلى أخيه، فالتعليل أخص من المدعى
وإن كانت جر النفع إلى نفسه ففيما إذا شهد بأن له نصفه يوجد جر النفع



(1) المستدرك. كتاب الشهادات. الباب 24.
155
كذلك، فلا وجه للتفصيل.
فالأقوى عدم القبول في مطلق ماله فيه نصيب كما في الخبر:
عن أبان: (سئل أبو عبد الله عليه السلام عن شريكين شهد أحدهما لصاحبه
قال: تجوز شهادته، إلا في شئ له فيه نصيب) (1).
فإن هذا الخبر صادق على ما إذا قال: (هو بيننا) أو شهد بأن له نصفه.
وعن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: (سألت أبا عبد الله عن ثلاثة شركاء
شهد اثنان عن واحد، قال: لا تجوز شهادتهما) (2) وهو وإن كان سؤالا عن قضية
شخصية، ليس فيه ذكر لكيفية الشهادة إلا أن الإمام عليه السلام أجاب بعدم
الجواز من دون استفصال، وهذا ظاهر في عدم القبول مطلقا، وهو حكم
تعبدي، وليس من جهة كونه جر نفع إلى نفسه.
ويدل على عدم قبول شهادة الشريك مطلقا: ما عن سماعة قال: (سألته
عما يرد من الشهود. قال: المريب والخصم والشريك. كل هؤلاء ترد
شهاداتهم) (3).
والثاني: صاحب الدين إذا شهد للمحجور عليه
قال: (وصاحب الدين إذا شهد للمحجور عليه)
أقول: إذا شهد صاحب الدين للمحجور عليه بمال يتعلق دينه به وعينه
باقية، كأن يشهد بأن هذا المحجور عليه قد اشترى منه هذا الكتاب، لم تقبل



(1) وسائل الشيعة 18 / 272 الباب 27 شهادات. وهو الصدوق باسناده
عن فضالة عن أبان، واسناده إلى فضالة صحيح، فالخبر صحيح.
(2) وسائل الشيعة 18 / 272 الباب 27 شهادات. موثق.
(3) وسائل الشيعة 18 / 278 الباب 32 شهادات. موثق.
156
شهادته، لأن المفروض كونه غريما، فإذا قبلت شهادته أخذ الكتاب الذي باعه
من المحجور عليه، من غير تقسيم له بينه وبين سائر الغرماء، وهذا نفع قد
ترتب على هذه الشهادة.
هذا إذا كان المدين محجورا عليه.
وهل تقبل قبل الحجر عليه؟ قيل: تقبل مطلقا، وقيل: لا تقبل إن كان معسرا،
لأن أثر الشهادة حينئذ ليس إلا اثبات المطالبة لنفسه، لأن المعسر ينظر ولا
يطالب قلت: ليس اثبات المطالبة لنفسه نفعا ترد به الشهادة، بل يترتب على
هذه الشهادة، ملكية المعسر للشئ، ولا يجب عليه أداء الدين منه، كما لا يجوز
على الدائن المطالبة ما دام معسرا، فالقول الأول هو الظاهر.
والثالث: شهادة السيد لعبده
قال: (والسيد لعبده المأذون).
أقول: وجه ذلك هو أن العبد وما في يده لمولاه فإذا شهد له كانت الشهادة
لنفسه، ولذا اختلفوا في الشهادة للعبد المكاتب على قولين، فقيل بالقبول لانتفاء
سلطنته عنه، وقيل بالعدم لظهور التهمة بعجز العبد خصوصا المشروط. قلت:
هذه شبهة مصداقية للعجز، لتكافؤ احتمال العجز مع احتمال عدمه، والمرجع
بعد عدم امكان الرجوع إلى عمومات قبول شهادة العدل، ولا عمومات عدم
قبول شهادة المتهم هو أصالة عدم قبول الشهادة، فالأقوى القول الثاني لما
ذكرنا، لا لما ذكروه.
والرابع: شهادة الوصي فيما هو وصى فيه
قال: (والوصي فيما هو وصي فيه).

157
أقول: لو أوصى الميت إلى أحد بأن يصرف ثلث ماله في كذا، فوقع
النزاع في شئ من الأموال، فإن كان المال للميت كان للوصي الولاية على
ثلثه بحسب الوصية، وإلا كان كله لمن يدعي ملكيته، فهل تقبل شهادة الوصي
بكون المال للميت أو لا تقبل؟
قال المحقق قدس سره: بعدم القبول، لأن أثر هذه الشهادة دخول المال
في ولايته، فيعمها ما دل على عدم قبول الشهادة في شئ يكون للشاهد فيه
نصيب.
وفصل بعضهم بأنه إن كان الموصي قد عين للوصي شيئا من الثلث مثلا
في مقابل قيامه بالوصية، ردت شهادته لكونها مصداقا لجر النفع، وإن لم يكن
له شئ بإزاء سعيه قبلت.
قلت: هذا يتوقف على تمامية ظهور (النفع) في النفع المالي الدنيوي،
وانصرافه عن النفع الأخروي، أو الولائي، وإلا لم يتم التفصيل.
وقيل: بالقبول إذا لم يكن له شئ، بشرط أن لا يكون الوصي مدعيا،
لكن لا وصي وكذا الوكيل يقومان مقام الموصي والموكل في الدعوى
مسامحة عرفية.
قلت: نعم الوصي ينزل منزلة الموصي وكذا الوكيل بالنسبة إلى موكله
في كل ما يقبل الوصاية والوكالة، لكن الشهادة ليست من الأمور القابلة لذلك،
فلا ينزل منزلته فيها، حتى يكون شهادته منزلة بمنزلة شهادة الموصي والموكل
فلا تقبل شهادته.
والذي يمكن أن يقال في وجه عدم قبول الشهادة هو: أن ولاية هذا الوصي
على هذا المال، متقومة بأمرين، أحدهما: كون المال ملكا للميت، والآخر:
كونه وصيا من قبل الميت في هذا المال، فإذا انتفى أحد الأمرين انتفت

158
ولايته على المال، وعلى هذا فإذا شهد بكون المال للميت، فهو في مقام اثبات
الولاية لنفسه على هذا المال، وهذا نفع، فلا تقبل هذه الشهادة.
وكذا الأمر لو ادعى أحد الورثة مالكية الأب للمال وشهد الوصي بها،
فلا تقبل هذه الشهادة خلافا للجواهر لأنه وإن تعدد المدعي والشاهد، لكن
لازم شهادة الوصي ثبوت ولايته على المال، وهي لا ثبتت بشهادة مدعيها
كما عرفت.
فتلخص أنه لا فرق في عدم القبول بين أن يشهد الشاهد في نفع، أو بشئ
يحقق موضوع النفع، كما هو الشأن في شهادة الوصي فيما هو وصي فيه، سواء
كان له أجر على الوصية أو لا، وكذا لا فرق بين أن يكون وكيلا أو وصيا في
الدعوى أو لم يكن.
هذا كله بقطع النظر عن مكاتبة الصفار: (إلى أبي محمد عليه السلام هل
تقبل شهادة الوصي للميت بدين له على رجل مع شاهد آخر عدل؟ فوقع إذا
شهد معه آخر عدل، فعلى المدعي اليمين) وظاهرها كون المدعي غير الوصي،
فإذا شهد الوصي مع عدل آخر قبلت، وأما اليمين، فلعلها للاستظهار والاحتياط،
وكيف كان فالشهادة مقبولة، لكن في كشف اللثام: (ليس فيها إلا أن عليه
الشهادة، وأما قبولها فلا) ولعله قال ذلك بالنسبة إلى جواب السؤال الثاني في
المكاتبة: (وكتب: أيجوز للوصي أن يشهد لوارث الميت صغيرا أو كبيرا،
وهو القابض للصغير وليس للكبير بقابض؟ فوقع عليه السلام: نعم،
وينبغي للوصي أن يشهد بالحق ولا يكتم الشهادة) من جهة أن السؤال والجواب
عن الجواز لا القبول.
لكن الظاهر هو القبول، ويشهد بذلك قوله: (وينبغي.) وإلا لغا
الأمر بالشهادة والنهي عن الكتمان.

159
وبالجملة فإن الخبر ظاهر في القبول، ولا أقل من ظهوره في القبول
في صورة التعدد عرفا بين الشاهد والمدعي التي قال صاحب الجواهر فيها
بالقبول.
إلا أن الاشكال هو اعراض الأصحاب عن العمل به، كما في الجواهر.
فالأقوى عدم القبول.
هذا كله في شهادة من يجر بشهادته نفعا.
عدم قبول شهادة من يستدفع بها ضررا
قال المحقق: (وكذا لا تقبل شهادة من يستدفع بشهادته ضررا، كشهادة أحد
العاقلة بجرح شهود الجناية، وكذا الوصي والوكيل بجرح شهود المدعي
على الموصي والموكل).
أقول: قال العلامة في القواعد: إن من الشهادة الممنوعة أيضا أن يشهد
أن فلانا جرح مورثه. وأضاف كاشف اللثام: فإنه يثبت الدية لنفسه أو القصاص
إن شهد بعد الموت أو قبله والجراحة لم تندمل مع احتمال السريان عادة،
أو نص الشاهد باحتمال السريان وإن لم يسر ولم يستوعب الدين تركته التي
منها الدية، إن قلنا بتعلق حق الديان بأعيانها.
قال في الجواهر بعد نقله: وفيه
نظر.
أقول: لا الاشكال في أصل المطلب، لأنه إذا شهد بالجناية فقد شهد بموضوع
استحقاق الدية أو حق القصاص لنفسه، وهذه الشهادة غير مقبولة، لتحقق
التهمة، لأنها في الحقيقة في حقا النفس، فلا تقبل، بل إن السبب في جعل
إقامة البينة على المدعي في قولهم عليهم السلام: (البينة على المدعي) هو
التهمة، إلا إذا كان المدعي معصوما، فلا يطلب منه البينة لعدم التهمة.

160
ولو شهد بمال لمورثه المجروح ولو جراحة سارية عادة، أو المريض
مرضا يعلم موته فيه قبل ما لم يمت، قبل الحكم، لعموم الأدلة، ولا يقدح
الانتقال إليه بعد الموت. والفرق بين هذا وسابقه هو أن أثر الشهادة في الأول
في ما بعد الموت، فليس هو إلا مدعيا لنفسه الدية أو القصاص، بخلاف الثاني
فإن المال فعلا للمورث.
(المسألة الثانية)
(في أن العداوة الدينية لا تمنع القبول)
قال المحقق قدس سره: العداوة الدينية لا تمنع القبول: فإن المسلم
تقبل شهادته على الكافر).
أقول: إن العداوة الدينية ليست من أسباب التهمة، ولا توجب الفسق،
بل هي واجبة بالكتاب والسنة، فلا كلام في قبول شهادة المسلم على الكافر،
والمحق على المبتدع، وكذا من أبغض الفاسق لفسقه.
قال: (أما الدنيوية فإنها تمنع، سواء تضمنت فسقا أو لم تتضمن.)
أقول: إن العداوة الدنيوية للمؤمن بل لغيره أيضا كما احتمله بعضهم
من موانع قبول الشهادة، لأنها من أسباب التهمة، فتدل على هذا الحكم
النصوص المتقدمة في أول الباب، وخصوص ما اشتمل منها على لفظ (الخصم)
وفي الجواهر: بلا خلاف أجده فيه، بل الاجماع بقسميه عليه، وفي المسالك:
من أسباب التهمة العداوة الدنيوية، فلا يقبل شهادة العدو على عدوه عندنا
وعند أكثر العامة، وفي الخلاف الاستدلال له بما روى طلحة بن عبيد الله قال
أمر رسول الله صلى الله عليه وآله مناديا فنادى: لا تقبل شهادة خصم ولا

161
ظنين والعدو منهم. وقال عليه السلام: لا تقبل شهادة الخائن والخائنة ولا
الزاني ولا الزانية ولا ذي غمرة على أخيه، وذو الغمر من كان في قلبه حقد أو
بغض).
وعلى الجملة، فلا كلام في هذا الحكم، إنما الكلام في معنى قول المحقق:
(سواء تضمنت فسقا أو لم تتضمن، وتتحقق العداوة بأن يعلم من حال
أحدهما السرور بمساءة الآخر والمساءة بسروره، أو يقع بينهما تقاذف).
فإن ظاهر هذا الكلام اجتماع (العدالة) مع (العداوة) مع أنه قد قال
سابقا بكون بغضة المؤمن معصية، وأن التظاهر بها قادح في العدالة، فالتجأ
العلماء إلى توجيه العبارة، وحملها على نحو لا ينافي ما تقدم منه هناك، إلا أنا
ذكرنا هناك بأن الحب والبغض والحسد ونحوها صفات قلبية وهي بمجردها
ليست بمعاص ولا تضر بالعدالة.
وهنا نقول: بأن المستفاد من بغض الآيات في القرآن الكريم هو اجتماع
العداوة مع العدالة حتى مع اظهارها، إن كانت العدواة مسببة عن ظلم أو ايذاء،
قال تعالى: (لا يجب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) (1). وفي قصة ابني
آدم: (إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من الظالمين) (2).
فالعداوة إن كانت مستندة إلى ظلم ونحوه لا تنافي (العدالة) - وإن كان
هذا الشخص موردا للتهمة عرفا ويكون المشهود عليه الموجب للعداوة بظلمه
فاسقا، ولو وقع بينهما تقاذف كان الظلم للبادي كما قيل. ولو وقعت العداوة
بينهما لا عن سبب صحيح مقصود، كأن يكون عن شبهة أو خطأ لم تقدح في
عدالة واحد منهما.



(1) سورة النساء: 148.
(2) سورة المائدة: 29.
162
ولو قذف المشهود عليه الشاهد قبل الشهادة أو آذاه، حتى يكون مصداقا
للعدو فترد شهادته عليه، قبلت شهادته إن لم يرد على الأذى بشئ، وإن كانت
التهمة موجودة، ويمكن أن يقال بعدمها، من جهة أن من يتحمل الأذى ولا
يرد عليه بشئ لعدالته وشدة حمله، لا يحمله البغض الحاصل من الأذى على
الشهادة بخلاف الواقع، فهو خارج عن مورد الانهام عرفا.
هل تقبل شهادة رفقة الطريق على اللصوص؟
قال المحقق: (وكذا لو شهد بعض الرفقاء لبعض على القاطع عليهم
الطريق، لتحقق التهمة).
أقول: (التهمة) هنا إما من جهة أن هذا البعض يشهد للآخر حتى يشهد ذاك
لهذا، وإما من جهة أنه يشهد بهذه الشهادة لكي يدفع التهمة والشبهة عن نفسه.
وقد نسب ما ذهب إليه المحقق إلى المشهور، قالوا: وبذلك ينجبر ضعف خبر
محمد بن الصلت الدال على هذا الحكم، قال: (سألت أبا الحسن الرضا
عليه السلام عن رفقة كانوا في طريق، فقطع عليهم الطريق، وأخذوا اللصوص،
فشهد بعضهم لبعض. قال: لا تقبل شهادتهم إلا باقرار من اللصوص أو شهادة
من غيرهم عليهم) (1).
وهذا الخبر مطلق، يعم ما إذا أخذ من الشهود شئ أو لم يؤخذ، مع أنه
إذا لم يؤخذ فالتهمة منتفية، وما إذا شهد البعض الآخر لمن شهد أولا، وما
إذا تعرض الشهود في شهادتهم إلى أخذ اللصوص شيئا منهم أولا، وما إذا صرح
الشهود في شهادتهم بالأعيان المأخوذة من كل واحد من الرفقة أو كانت الشهادة
مجملة.



(1) وسائل الشيعة 18 / 272 الباب 27 شهادات
163
فالخبر مطلق يعم جميع الصور، وكذا عبارة المحقق والعلامة.
لكن قيل بالقبول بالنسبة إلى الغير فقط، فيما إذا كان الشاهد مأخوذا كذلك
وتعرض في شهادته لما أخذ منه أيضا.
قلت: الخبر وإن احتمل كونه في قضية شخصية خارجية، لكن ترك الإمام
عليه السلام الاستفصال يدل على العموم، وأما إن كانت قضية مفروضة فالكلام
مطلق.
وعن الدروس: لا تقبل شهادة رفقاء القافلة على اللصوص إذا لم يكونوا
مأخوذين. ولو أخذ الجميع فشهد بعضهم لبعض ولم يتعرضوا لذكر ما أخذ
لهم في شهادتهم قيل: لا يقبل. والقبول قوي، وما هو إلا كشهادة بعض غرماء
المديون لبعض، وكما لو شهد الاثنين بوصية من تركة، وشهد المشهود لهما
للشاهدين بوصية منهما.
قال في الجواهر: بل مقتضى قبوله الشهادة المبعضة القبول هنا، لو تعرضوا
في الشهادة إلى ما أخذ منهم، فترد حينئذ فيما يتعلق بهم، وتقبل في الآخر،
ولذا حكاه عنه في المسالك في الفرض المزبور.
وعلى كل حال ففيه مع أنه كالاجتهاد في مقابلة النص المعمول به إن الفرق
بين المقامين واضح، ضرورة تحقق العداوة في الأول. بخلاف المثالين.
هذا وينبغي أن يعلم كون الشهادة فيما ذكر من الصور خالية من الاشكال،
الشاهد الشئ المسروق وقلنا بعدم سماع الشهادة المجملة، كان الاجمال مانعا
من قبولها، من قبل أن يبحث عن تحقق التهمة وعدمه، وعلى هذا فلا وجه لحمل
الخبر على الصورة التي فيها مانع عن القبول في حد نفسها.

164
(المسألة الثالثة)
(في شهادة الأنسباء)
قال المحقق قدس سرة: (النسب وإن قرب لا يمنع قبول الشهادة، كالأب
لولده وعليه والولد لوالده، والأخ لأخيه وعليه، وفي قبول شهادة الولد على
والده خلاف، والمنع أظهر).
أقول: إن القرابة وإن كانت موجبة للتهمة في الجملة ولكن لا دليل على منع
هذه التهمة قبول الشهادة، إذ ليس كل تهمة بمانعة، بل خصوص التهمة الوارد
فيها النص. فهذا هو الحكم الكلي، والكلام في المسألة في موارد:
1 - في شهادة الوالد لولده وبالعكس والأخ لأخيه
أما شهادة الوالد لولده وعليه والولد لوالده، والأخ لأخيه وعليه، فيدل
على القبول العمومات والاطلاقات، ولا خلاف فيه، بل الاجماع بقسميه عليه كما
في الجواهر، وهناك نصوص خاصة فيها المعتبر سندا والصريح دلالة (1) ومنها:
1 - الحلبي: (عن أبي عبد الله عليه السلام قال: تجوز شهادة الولد
لوالده، والوالد لولده، والأخ لأخيه).
2 - سماعة قال: (سألته عن شهادة الوالد لولده، والولد لوالده والأخ
لأخيه. قال: نعم).



(1) وسائل الشيعة 18 / 270 الباب 26 من أبواب الشهادات.
165
2 - في شهادة الولد على والده
أما شهادة الولد على والده ففي قبولها خلاف بين الأصحاب على قولين،
فالمشهور هو المنع، والمحكي عن المرتضى وابن الجنيد هو القبول قيل:
وقد مال إليه أكثر المتأخرين.
استدل للمنع بوجوه:
الأول: الاجماع، فقد حكي دعوى الاجماع عليه عن الموصليات للسيد
والخلاف للشيخ والغنية لابن زهرة والسرائر لابن إدريس.
والثاني: قوله تعالى: (فلا تقل لهما أف) (1). قال في الايضاح: يدل على
تحريم تكذيبه، وأداء الشهادة عليه مظنة تكذيبه وأذاه، فيكون منهيا عنها، فلا تقبل.
والثالث: قوله تعالى: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا
تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا) (2). قال في الايضاح: وإذا حرم عليه أذاهما
على الكفر ففي الشهادة عليه أولى.
والرابع: الأخبار. ففي الخلاف نسبة المنع إلى أخبار الفرقة. ويدل
عليه مرسلة الصدوق: (لا تقبل شهادة الولد على والده) وضعفها منجبر بعمل
الأصحاب.
واستدل للقبول بالكتاب والسنة:
فمن الكتاب قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين.) (3).



(1) سورة الإسراء: 23.
(2) سورة لقمان: 15.
(3) سورة النساء: 135.
166
وقد أورد على الاستدلال بها بأن الإقامة أعم من القبول. وأجيب بأنه لولا
القبول كان الأمر بالإقامة لغوا. وأجيب: بعدم انحصار الفائدة في القبول حتى
تلزم اللغوية بدونه. قال في المختلف: فائدته تذكر الأب لو كان ناسيا أو مشتبها
عليه فيزيل اشتباهه. قال في الايضاح: وفيه نظر، لأن الأمر بالإقامة مع عدم
القبول لا يجتمعان، لأن المفهوم والمقصود من الأمر بالإقامة هو القبول. وبهذا
يندفع ما ذكره صاحب المستند من أنه ليست الآية صريحة ولا ظاهرة في الأمر
بالإقامة، فالانصاف: دلالتها على وجوب الإقامة، وأن الاشكال بعدم الملازمة
بين الإقامة والقبول ضعيف، وأن الفوائد المذكورة نادرة.
ومن السنة: عمومات قبول شهادة العدل. وخصوص الخبرين:
1 - علي بن سويد: (عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث: فأقم الشهادة
لله ولو على نفسك أو الوالدين والأقربين فيما بينك وبينهم، فإن خفت على أخيك
ضيما فلا) (1).
2 - داود بن الحصين: (سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: أقيموا
الشهادة على الوالدين.) (2).
هذا مضافا إلى أنه ليس اظهار الحق موجبا للعقوق ومنافيا للمصاحبة
بالمعروف، بل هو عين المعروف، بل هو مأمور به، ففي الحديث: (أنصر



(1) وسائل الشيعة 18 / 229 الباب 3 شهادات. وهو مروي بأسانيد لم يتم شئ منها.
(2) وسائل الشيعة 18 / 250 الباب 19 شهادات. فيه (ذبيان بن حكيم
الأودي) وهو مهمل في كتب الرجال، وفي معجم رجال الحديث 7 / 152: قيل إن في رواية الاجلاء عنه دلالة على وثاقته وجلالته، ولكن قد مر ما في ذلك غير
مرة) ولكنه مع هذا وصف الخبر في المباني بالصحيحة.
167
أخاك ظالما أو مظلوما. قيل: يا رسول الله كيف أنصره ظالما؟ قال: ترده
عن ظلمه، فذاك نصرك إياه)
على أن ما ذكروه منقوض بقبول الشهادة على الأم.
أقول: والأظهر هو القول الأول، والعمدة هو الاجماع، فإن لم يثبت فلا
أقل من الشهرة العظيمة، وهي جابرة للمرسلة (1)، فتصلح لتخصيص قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين.)، بأن يكون المراد منها: وجوب تقديم
المؤمنين حق الله على أنفسهم وعلى الوالدين فضلا عن سائر الناس، إلا في
خصوص الشهادة على الأب فلا يشهدون، كما أن الشهرة موهنة لخبري علي بن
سويد وداود بن الحصين بناء على تمامية السند في الثاني منهما.
فالأظهر هو القول الأول وفاقا للمشهور والمحقق. قال: (سواء شهد
بمال أو بحق متعلق ببدنه كالقصاص والحد).
أقول: هذا إشارة إلى خلاف بعض العامة حيث قال بالتفصيل، محتجا كما
في المسالك بأنه لا يجوز أن يكون الولد سببا لعقوبة الأب، كما لا يقتص به
ولا يحد بقذفه. أي: كما لا يقتل الوالد في الولد كذلك لا تقبل الشهادة منه الموجبة
لقتل الوالد.
ولكنه قياس باطل.
ثم إنه هل يتعدى الحكم إلى من علا من الآباء ومن سفل من الأبناء أو لا؟
قال العلامة: وفي مساواة الجد للأب وإن علا اشكال.



(1) جبر الخبر بعمل الأصحاب - بناء على القول به - يتوقف على ثبوت
اعتمادهم في الفتوى عليه، فلو كان في المسألة دليل آخر لم يثبت ذلك، وفي
المقام قد استدل بآيتين من الكتاب أيضا، إلا أن يقال بأن الملاك عمل القدماء
وهم لم يستدلوا إلا بالمرسلة. مضافا إلى نسبته في الخلاف إلى أخبار الفرقة.
168
أقول: وجه الاشكال هو الشك في صدق (الوالد) على (الجد). وفي صدق
(الولد) على (ولد الولد). أما على القول بالقبول فلا اشكال في قبولها على
الجد بالأولوية.
والتحقيق أن يقال: إن كان المستند للحكم بالمنع هو الاجماع أمكن
القول بعدم التعدي، أخذا بالمتيقن من الدليل اللبي، وإن كان المستند هو
الخبر المنجبر جاء الاشكال من حيث الصدق وعدمه، لكنه في غير محله،
فقد رتب الشارع الأحكام من غير فرق بين الأب والجد، وبين الابن وابن الابن
فقد حرم بقوله تعالى: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم) على الابن منكوحة
الأب والجد. وبقوله تعالى: (وحلائل أبنائكم) على الأب حليلة الابن وابن
الابن.
اللهم إلا أن يقال بأن مقتضى العمومات من الكتاب والسنة قبول الشهادة
على كل أحد، خرج منه خصوص الأب بلا واسطة بسبب الخبر وخروج
غيره موقوف على دليل، وإذ ليس فالمتيقن هو الأب الأدنى.
3 - في شهادة الزوجة لزوجها وبالعكس
قال المحقق: (وكذا تقبل شهادة الزوج لزوجته والزوجة لزوجها مع
غيرها من أهل العدالة. ومهم من شرط في الزوج الضميمة كالزوجة. ولا
وجه له).
أقول: ومن موارد التهمة شهادة كل من الزوجين للآخر لكن لا كلام
ولا خلاف - كما في المسالك في القبول، لضعف التهمة مع العدالة، قال:
لا خلاف عندنا في قبول شهادة كل من الزوجين للآخر، لوجود المقتضى وانتفاء
المانع، وضعف التهمة مع وصف العدالة.

169
أما الشهادة عليه فتكون مقبولة بالأولوية لعدم التهمة.
والدليل على قبول الشهادة من كل للآخر هو العمومات والاطلاقات،
وخصوص النصوص:
1 - الحلبي: (عن أبي عبد الله عليه السلام قال: تجوز شهادة الرجل لامرأته
والمرأة لزوجها إذا كان معها غيرها) (1).
2 - عمار بن مروان: (سألت أبا عبد الله عليه السلام أو قال: سأله بعض
أصحابنا عن الرجل يشهد لامرأته. قال إذا كان خير [آخر] جازت شهادته
معه لامرأته) (2).
3 - سماعة في حديث قال: (سألته عن شهادة الرجل لامرأته قال: نعم.
والمرأة لزوجها؟ قال: لا إلا أن يكون معها غيرها) (3).
إنما الكلام في اشتراط الضميمة وعدمه، فالأصحاب فيه على أقوال:
الأول: عدم الاعتبار مطلقا. وهو مختار صاحبي المسالك وكشف اللثام
ولم يستبعده صاحب الجواهر ونسبه إلى المحكي عن المتأخرين كافة، وظاهر
أكثر القدماء.
والثاني: الاعتبار مطلقا، وهو المحكي عن الشيخ في النهاية والقاضي
وابن حمزة.
والثالث: التفصيل بين الزوجة فيعتبر، والزوج فلا يعتبر وعليه المحقق.
أقول: النصوص المذكورة ظاهرة أو صريحة في القول الثالث.
واستدل للقول الثاني بصحيحة الحلبي باعتبار إن مرجع الضمير في



(1) وسائل الشيعة 18 / 269 الباب 25 شهادات. صحيح.
(2) وسائل الشيعة 18 / 269 الباب 25 شهادات. صحيح.
(3) وسائل الشيعة 18 / 270 الباب 25 شهادات. موثق.
170
(غيرها) هو (الشهادة) لا (الزوجة) فيكون المعنى: اشتراط وجود غير الشهادة
سواء كان الشاهد الزوج أو الزوجة، في قبول الشهادة. وفيه:
أولا: إن الخبر في نسخة: لا إلا إذا كان معها غيرها. فيختص الحكم
بالزوجة.
وثانيا: ارجاع الضمير إلى (الشهادة) خلاف الظاهر.
وثالثا: أنه ينافي التصريح بالتفصيل في موثقة سماعة، إلا أن يجعل (نعم)
مجرد خطاب كما هو متعارف في المحاورات، لا جوابا للسؤال الأول، فيكون
الجواب للسؤالين قوله عليه السلام: لا إلا أن يكون معها أي الشهادة
غيرها. وفيه:
أولا: ما تقدم من أن ارجاع الضمير إلى (الشهادة) خلاف الظاهر.
وثانيا: حمل (نعم) على ما ذكر خلاف الظاهر.
وثالثا: أنه ينافي ما في خبر عمار بن مروان بناء على نسخة (خيرا).
واستدل للقول الأول بعد تضعيف الثاني بأن الشرط: (إذا كان.)
في الخبرين وارد مورد الغالب، مع عدم ثبوت الحق بالامرأة منفردة ولو مع
اليمين، إلا نادرا كما في الوصية، بخلاف الزوج الذي يثبت الحق بشهادته مع
اليمين، فلا يصلح الخبران حينئذ تخصيص عمومات الأدلة والحاصل: هو
التمسك بعمومات أدلة قبول الشهادة، بعد حمل الشرط في الخبرين على مورد
الغالب، لعدم امكان ابقاء (الغير) على ظاهره من الاطلاق، بأن يكفي في قبول
شهادة الزوجة عدم كونها منفردة، ولعدم امكان حمله على ما يكمل به العدد
المعتبر في كل مورد. فلا يبقى فرق بين شهادتها على زوجها أو على غيره،
إذ يسئل حينئذ عن الوجه في تخصيص هذا الشرط بالزوجة دون الزوج.
لكن حمل الشرط على الغلبة دون الاحتراز فيه:

171
أولا: إن كون موارد قبول شهادة المرأة منفردة أقل من موارد قبول شهادة الرجل
وحده غير معلوم، إذ لا ينحصر قبول شهادتها كذلك بباب الوصية بل يقبل
قولها في موارد أخرى سيأتي ذكرها، ومن أهمها كل ما لا يعرف إلا من قبلها
وما لا يستطيع الرجال النظر إليه.
وثانيا: إن وجود كلمة (لا) يمنع من الحمل على الغلبة، فقد نفى الإمام
عليه السلام القبول لو كانت منفردة ثم قال: إلا أن يكون. ولذا لو سئل
الإمام عليه السلام عن نكاح الربائب فأجاب بقوله: لا إلا أن لا تكون في الحجور
كان ظاهرا في الاحتراز وإن كان قيدا غالبيا.
فالحاصل عدم تمامية هذا الحمل، كحمله على أنه ناظر إلى مواضع قبول
شهادتها بدون ضميمة كباب الوصية، بأن تكون شهادتها مقبولة إن كانت متعلقة
بوصية للغير، وأما إن كانت متعلقة بوصية من زوجها فلا تقبل إلا مع الضميمة،
لكونه خلاف الظاهر، فإن الشرط ظاهر في عدم القبول مطلقا، وحمله على
الموارد النادرة غير تام.
فالأولى أن نقول: إن الفرق المذكور حكم تعبدي، وإن ذكر المحقق
له وجها بقوله: (ولعل الفرق إنما هو اختصاص الزوج بمزيد القوة في المزاج
أن تجذبه دواعي الرغبة). أي بخلاف الزوجة، فإنها ليس لها هذه المرتبة
غالبا وإن كانت على العدالة.
وأشار إلى ثمرة هذا الفرق بقوله: (والفائدة تظهر لو شهد في ما تقبل
فيه شهادة الواحد مع اليمين. وتظهر الفائدة في الزوجة لو شهدت لزوجها
في الوصية).
أي: أنه لو شهد الزوج لها فيما تقبل فيه شهادة الواحد مع اليمين، فإنه
على القول بعدم اعتبار الضميمة يكفي يمينها في أخذ المشهود به، فيكون
كشهادته لغير زوجته. وعلى القول باعتبارها لا يكفي، بل لا بد من غيره، ولكن

172
إذا كان المؤثر يمينها مع شهادة الغير فأي فائدة في شهادة الزوج؟ اللهم إلا
أن يكون الأثر لشهادة الزوج وشهادة الغير بغض النظر عن اليمين.
ولو شهدت الزوجة للزوج في الوصية فإنه على القول الأول يثبت الربع
كما لو لم تكن الشهادة للزوج، وعلى القول الثاني لا يثبت بشهادتها منفردة
شئ، بل لا بد من ضم الضميمة. نعم يكفي انضمام امرأة أخرى إليها وإن
كانت زوجة أخرى للرجل نفسه، لاطلاق النصوص.
4 - في شهادة الصديق لصديقه
قال المحقق: (وشهادة الصديق لصديقه وإن تأكدت بينهما الصحبة
والملاطفة، لأن العدالة تمنع التسامح).
أقول: وهذا أيضا من جملة موارد التهمة، لكنها مع فرض العدالة لا تمنع
القبول، بل العدالة تمنع التسامح. وهذا الحكم لا خلاف فيه عندنا. وإنما
عنونه تنبيها على خلاف بعض العامة.
(المسألة الرابعة)
(في عدم قبول شهادة السائل في كفه)
قال المحقق قدس سره: (لا تقبل شهادة السائل في كفه، لأنه يسخط إذا
منع، ولأن ذلك يؤذن بمهانة النفس، فلا يؤمن على المال. ولو كان ذلك
مع الضرورة نادرا لم يقدح في شهادته).
أقول: لا تقبل شهادة السائل بكفه عند الأكثر كما في الكفاية بل المشهور
كما في المسالك والمستند، بل لا خلاف فيه في الجملة كما في الرياض بل
يمكن تحصيل الاجماع عليه كما في الجواهر، وفي المسألة جهات من البحث

173
نذكرها بعد ذكر نصوصها (1)، وهي:
1 - علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام: (قال: سألته عن السائل الذي
يسأل بكفه هل تقبل شهادته؟ فقال: كان أبي لا يقبل شهادته إذا سأل في كفه).
2 - محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: (رد رسول الله صلى
الله عليه وآله شهادة السائل الذي يسأل في كفه. قال أبو جعفر: لأنه لا يؤمن
على الشهادة، وذلك لأنه إن أعطي رضي وإن منع سخط).
3 - علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال: (سألته عن السائل بكفه،
أتجوز شهادته؟ فقال: كان أبي يقول: لا تقبل شهادة السائل بكفه. [في كفه]).
جهات البحث في المسألة
وأما جهات البحث في المسألة:
فالأولى: في المراد ب‍ (السائل بكفه)، وقد اختلفت كلماتهم فيه، ففي
التحرير: يرد شهادة السائل في كفه، لأنه يسخط إذا منع، إذا كان معتادا،
ولو وقع منه ذلك ندرة للحاجة لم يمنع قبول الشهادة. وفي المستند: المراد
به الذي يسأل في نحو أبواب الدور والأسواق والدكاكين والحجرات، واتخذ
ذلك ديدنا له لأنه المتبادر من هذا التركيب، لا من يسأل أحيانا لحاجة دعته
إليه. وفي الجواهر: إذا اتخذ ذلك صنعة وحرفة.
ومنهم من أطلق كالمسالك إذ قال: (والمراد بالسائل بكفه من يباشر السؤال
والأخذ بنفسه، والسؤال في الكف كناية عنه) وفي الرياض أي: (من يباشر
السؤال والأخذ بنفسه).
قلت: إن لم يكن المتبادر منه الأول كما في المستند والجواهر فلا ريب



(1) وسائل الشيعة 18 / 281 الباب 35. والأول منها صحيح. والثاني
موثق، والثالث عن (قرب الإسناد).
174
في أنه المتيقن، فالأولى الاقتصار عليه
وفي المستند بعد عبارته المتقدمة: (وعلى هذا فهو مراد من أطلق المنع
كما في النافع، وحكي عن الشيخ والقاضي، كما هو صريح من قيد، كما
عن الحلي والتحرير والشرائع والارشاد والتنقيح والدروس والمسالك وغيرها
بل هو المشهور كما قيل).
الثانية: في حكم السؤال تكليفا، وقد اختلفت كلماتهم في المستفاد من
النصوص وكلمات الأصحاب من حيث الحكم التكليفي للسؤال، ففي الرياض
أن في تعليل الإمام عليه السلام فيما رواه محمد بن مسلم وتعليل المحقق الحكم
بقوله: (ولأن ذلك يؤذن بمهانة النفس فلا يؤمن على المال) ونحوه كلام
غيره ايماءا إلى تهمته، وعدم حرمة السؤال، وإلا لعلل بحرمته الموجبة لفسق
فاعله بمجرده أو بالاصرار عليه واستمراره. وفي الجواهر جعله المستفاد من
النصوص بل والفتاوى، لكن قال في الرياض: (وفيه نظر، فإن عدم التعليل
بالحرمة لا يستلزم الإباحة، فقد يكون وجهه لزوم حمل أفعال المسلمين وأقوالهم
على الصحة، بناء على عدم اتصاف كل سؤال بالحرمة، بل الذي لا تدعوا
إليه حاجة ولا ضرورة محرم خاصة، فكيف ينسب السائل إلى فعل محرم
بمجرد سؤاله الذي هو من الحرام أعم؟).
وأجاب عنه في الجواهر بعد أن أشار إليه بقوله: اللهم إلا أن يحمل.
فقال: (ولكن لا يخفى عليك أن هذا بعد فرض معلومية حرمة السؤال ولو بالكف
مع فرض عدم التدليس به، كما لو صرح بغنائه عن ذلك، هو وإن كان مغروسا
في الذهن، والنصوص مستفيضة بالنهي عن سؤال الناس، لكن كثيرا منها
محمول على بعض مراتب الأولياء. وآخر محمول على المدلس. وأما
حرمة السؤال من حيث كونه سؤالا ولو بالكف فلا دليل مطمئن به على حرمته

175
وإن كان ذلك مغروسا في الذهن، فتأمل.)
وحاصل كلامه قدس سره هو أنه كما أن اطلاق نصوص المسألة يقتضي
عدم قبول شهادة السائل وإن كان سؤاله عن حاجة، فإن اطلاقها يقتضي عدم
الحرمة وإن كان سؤاله عن غير حاجة، وما ذكره صاحب الرياض يبتني على فرض
ثبوت حرمة السؤال من غير حاجة كما صرح هو به، مع أنه لا دليل مطمئن
به على حرمته، والنصوص المستفيضة المشار إليها محمولة على بعض الوجوه.
قلت: أما نصوص المسألة فالظاهر عدم دلالتها على حرمة السؤال مطلقا
وما ذكره في الرياض من أن وجه عدم التعليل بالحرمة لزوم محل أفعال
المسلمين وأقوالهم على الصحة بعيد، لأن السؤال هو عن قبول شهادة السائل
وعدم قبولها، فإن كان سؤاله عن خصوص غير المحتاج كان المتجه أن يجيب
الإمام عليه السلام بعدم القبول، ويعلل ذلك بكونه فاسقا إن كان السؤال من
غير حاجة ولا ضرورة محرما، وإن كان عن خصوص المحتاج كان الجواب
القبول لعدم الحرمة وإن كان السؤال عن السائل مطلقا كان المتجه التفصيل،
لا التعليل المذكور، فترك التفصيل والاطلاق في الجواب والتعليل بما ذكر كل
ذلك يقتضي عدم القبول حتى في صورة الحاجة، ويبقى الكلام في الحكم التكليفي
ولا دلالة في هذه النصوص على الحرمة مطلقا.
وأما النصوص الأخرى التي أشار إليها في الجواهر ووصفها بالاستفاضة
فسيأتي ذكرها وبيان المستفاد منها.
هذا وفي المستند: (دل التعليل على أن صاحب ذلك الوصف ليس مأمونا
عن شهادة الزور والكذب ما دام كذلك، فلا يعرف عدالته، لأن من لا يظن عدم
ارتكابه الكذب وشهادة الزور كيف يعرف بالعدالة، فلا يكون ذلك عادلا،
ويكون هذا الوصف مانعا عن الحكم بالعدالة بمعرفاته.

176
وفيه: أنه لا يعتبر في قبول الشهادة وترتيب الأثر عليها وجود الظن بعدم
الكذب، نعم الحكمة في قبول شهادة العادل هو الظن النوعي بعدم كذبه، ولكن
ليس من شرط القبول العلم بعدم كذبه في هذه الشهادة، بل إن الفقهاء يفتون
بقبول شهادة البينة حتى مع الظن بالخلاف.
قال: فلا تعارض بين الروايتين وعمومات قبول شهادة العدل، نعم لو
عرف أولا بالعدالة ثم صار سائلا بالكف يلزم استصحاب عدالته وقبول
شهادته.
أقول: هو جواب سؤال تقديره إن بين نصوص المسألة وعمومات قبول
شهادة العدل عموم من وجه، فيتعارضان ويتساقطان في مورد الاجتماع. فأجاب
بأن السائل بالكف ليس بعادل، ولا أقل من الشك في عدالته، فلا تعمه عمومات
القبول، نعم لو كان عادلا ثم صار سائلا استصحب عدالته.
لكن قد عرفت عدم دلالة النصوص على عدم العدالة، وأنه لا يشترط في
قبول الشهادة عدم الظن بالخلاف فضلا عن عدم احتماله، ولو كان ذلك شرطا
لم يقبل شهادة كل من له صلة ما من قرابة أو صداقة وغيرهما بالمشهود له، إلا
موارد خاصة تعبدنا فيها بعدم القبول، ومنها السائل بالكف، ولا ملازمة بين
عدم القبول وعدم العدالة كما هو واضح.
الثالثة: في أخبار النهي عن سؤال الناس. قد عرفت حمل الجواهر هذه
النصوص على بعض المحامل، فلنذكر طرفا منها لنرى هل يتم ما ذكره أو لا؟
1 - مالك بن حصين السلولي: (قال أبو عبد الله عليه السلام: ما من عبد
يسأل من غير حاجة فيموت حتى يحوجه الله إليها ويثبت الله له بها النار)
2 - مالك بن عطية: (عن أبي عبد الله قال قال علي بن الحسين عليه السلام:
ضمنت على ربي أنه لا يسأل أحد من غير حاجة إلا اضطرته المسألة يوما إلى

177
أن يسأل من حاجة).
3 - محمد بن مسلم (قال أبو جعفر عليه السلام: يا محمد لو يعلم السائل
ما في المسألة ما سأل أحد أحدا، ولو يعلم المعطى ما في العطية ما رد أحد أحدا،
، ثم قال: يا محمد إنه من سأل وهو بظهر غنى لقي الله مخموشا وجهه يوم
القيامة).
4 - عنبسة بن مصعب: (عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من سأل الناس
وعنده قوت ثلاثة أيام لقي الله يوم يلقاه وليس على وجهه لحم).
5 - عدة الداعي (عن الصادق عليه السلام قال: من سأل من غير فقر فكأنما
يأكل الجمر).
6 - العياشي عن محمد بن الحلبي: (قال أبو عبد الله عليه السلام: ثلاثة
لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: الديوث من الرجل
والفاحش والمتفحش، والذي يسأل الناس وفي يده ظهر غنى).
هذه من أخبار الباب 31 باب: تحريم السؤال من غير احتياج (1).
ومن أخبار الباب 32 باب: كراهة المسألة مع الاحتياج حتى سؤال مناولة
السوط والماء (2).
7 - عدة الداعي (قال أبو عبد الله عليه السلام: لو يعلم السائل ما عليه من
الوزر ما سأل أحد أحدا، ولو يعلم المسؤول ما عليه إذا منع ما منع أحد أحدا).
8 - عدة الداعي (عن أبي عبد الله عليه السلام قال: شيعتنا من لا يسأل
الناس ولو مات جوعا).



(1) وسائل الشيعة 6 / 305.
(2) وسائل الشيعة 6 / 306.
178
وانظر الأبواب اللاحقة للبابين أيضا.
أقول: وفي بعض هذه الأخبار وعيد على السؤال من غير حاجة، وهو
ظاهر في الحرمة، وحملها على ما ذكره صاحب الجواهر قدس سره بلا موجب،
وأما مع الحاجة فتدل طائفة منها على عدم الحرمة ولكن على كراهة.
الرابعة: في حكم السؤال مع التصريح بعدم الحاجة. وإن السؤال إن كان
عن تدليس فإن التدليس موجب للسقوط عن العدالة، فلا تقبل الشهادة، فإن
سأل بلا تدليس بل مع التصريح بعدم الحاجة فلا يبعد القول بعدم دلالة الأخبار
على حرمته، ولكن هكذا شخص يتصف بمهانة النفس ودنائتها فلا يؤمن على
المال، فلا تقبل شهادته.
ولو ذكر حاجته وكشف عن حاله من دون سؤال فلا حرمة على الظاهر
ولا ترد شهادته، بل في بعض الأخبار أن من شكى إلى مؤمن فكأنما شكى إلى
الله.
الخامسة: في من سأل مع الضرورة. قال المحقق وغيره: من سأل مع
الضرورة نادرا لم يقدح في شهادته.
السادسة: في حكم السؤال كتابة. قد عرفت تقييد جماعة من الأصحاب
السؤال (بالمباشرة) فهل جعل الوسيط بأن يطلب من شخص أن يشرح حاله
ويسأل له عند شخص آخر يخرجه عن المباشرة؟ الظاهر ذلك، لأن اللجوء
إلى ذلك يؤذن بعزه النفس وحفظ ماء الوجه. وهل الكتابة كذلك؟ إن صدق
السؤال بالمباشرة على كتابة الحاجة عرفا غير بعيد، وإن كان بينه وبين السؤال
شفاها فرق.
السابعة. في الطفيلي، قال العلامة في التحرير: ولا يقبل شهادة الطفيلي،
وهو الذي يأتي طعام الناس من غير دعوة. وكذا قال غيره، وهو كذلك ولكن

179
ليس على اطلاقه، فمن الطفيلي من يسر صاحب الدعوة بمجيئه، بل يشكره
على ذلك، فهذا لا ترد شهادته ولا قدح في عدالته.
(المسألة الخامسة)
(في شهادة الأجير والضيف)
قال المحقق قدس سره: (تقبل شهادة الأجير والضيف، وإن كان لهما
ميل إلى المشهود له، لكن يرفع التهمة تمسكهما بالأمانة).
أقول: الكلام في المسألة في موضعين:
الأول في شهادة الضيف
قال المحقق بقبول شهادة الضيف، وإن كان له ميل إلى المشهود له وهو
مضيفه، كذا في التحرير، وغيره بل لا خلاف فيه في المسالك، وفي الجواهر
عن غير واحد، قال بل يمكن تحصيل الاجماع عليه.
ويدل عليه العمومات، وخصوص ما رواه أبو بصير: (عن أبي عبد الله
عليه السلام: لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفا صائنا) (1).
وأما التهمة الحاصلة من ميله إلى مضيفه فمرتفعة، لأن عدالته تمنع من
الاقدام على الباطل.
والثاني في شهادة الأجير
فاختلف الأصحاب في قبولها، فقال المحقق والعلامة بقبول شهادته كذلك



(1) وسائل الشيعة 18 / 274 الباب 29 شهادات. موثق.
180
واختاره الشهيد الثاني في المسالك، قال: وعليه المتأخرون. والمحكي عن
أكثر المتقدمين كالصدوقين، والشيخ في النهاية، وأبي الصلاح وغيرهم عدم
القبول.
استدل للقبول بالعمومات الاطلاقات وبخصوص ما جاء في ذيل خبر أبي
بصير المتقدم وهو قوله: (قال: ويكره شهادة الأجير لصاحبه، ولا بأس بشهادته
لغيره، ولا بأس بها له عند مفارقته) بجعل (الكراهة) فيه الكراهة الاصطلاحية.
وأما التهمة الحاصلة بالميل إلى المشهود له فمرتفعة بالعدالة كما تقدم في
الضيف.
واستدل للمنع بخبر أبي بصير المذكور بحمل (الكراهة) فيه على الحرمة
لا الكراهة الاصطلاحية، وبنصوص أخرى وصفت في الرياض والجواهر بالاستفاضة
ومنها:
1 - سماعة: (سألته عما يرد من الشهود. قال: المريب والخصم والشريك
ودافع مغرم والأجير والعبد والتابع والمتهم، كل هؤلاء ترد شهاداتهم) (1).
2 - صفوان (عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألته عن رجل أشهد
أجيره على شهادة ثم فارقه، أتجوز شهادته له بعد أن يفارقه؟ قال: نعم وكذلك
العبد إذا أعتق جازت شهادته) (2).
قلت: لقد كثر الكلام حول مفاد خبر أبي بصير، فالقائلون بالقبول حملوا
(الكراهة) على الكراهة الاصطلاحية، فأشكل المانعون بأن هذا المعنى اصطلاح
جديد، والمعنى المقصود من هذا اللفظ في كلام الأئمة عليهم السلام هو الحرمة.
لكن لا مجال للحمل على الحرمة التكليفية في هذا الخبر، لعدم حرمة هذه



(1) وسائل الشيعة 18 / 278 الباب 32 شهادات. موثق.
(2) وسائل الشيعة 18 / 273 الباب 29 شهادات. صحيح.
181
الشهادة، بل إن جميع الأخبار الواردة في كتاب الشهادات ناظرة إلى الحكم
الوضعي، وهو القبول وعدم القبول.
وأشكل المانعون أيضا بأن الشهادة لو كانت مقبولة ينبغي وجوبها عينا مع
عدم الغير وإلا كفاية، فما معنى الكراهة؟ وأجيب بأنه حيث يكون الشهادة
واجبة عليه كفاية يكره عليه المبادرة بالقيام بها، لأجل احتمال التهمة.
وفي الرياض عن خاله الوحيد حمل الشهادة فيه على (الاشهاد) فيكره
اشهاد الأجير. وهو كما ترى، ومن هنا لم يرتضه صاحب الرياض.
وكيف كان فالأولى ترك الاستدلال بهذا الخبر إن لم تكن الكراهة فيه
كناية عن عدم القبول، إذ في الأخبار الأخرى للقولين غنى وكفاية، فيدل
على القبول العمومات الاطلاقات ويدل على المنع أخبار.
ووجه الاستدلال بخبر صفوان المزبور هو ظهوره في المنع من جهة
تقرير الإمام عليه السلام لما دل عليه السؤال من كون عدم القبول قبل المفارقة
مفروغا عنه، ومن جهة تشبيه الإمام عليه السلام الأجير قبل المفارقة بالعبد
قبل الانعتاق، فالانصاف تمامية دلالة هذه الصحيحة على المنع خلافا للمستند.
والنسبة بين هذه الصحيحة المختصة بالعادل حيث صرح فيها بالقبول بعد
المفارقة وبين ما دل على القبول هي العموم والخصوص المطلق، فتقدم عليها
ويحكم بعدم القبول، فالأقوى عدم القبول وإن كان ذلك مخالفا لاطباق المتأخرين
كما قيل، والله العالم.
وبما ذكرنا يظهر أنه لا وجه للتوقف في المسألة كما عن الدروس حيث
نقل فيه الخلاف فيها مقتصرا عليه من دون ترجيح، وعن الرياض حيث قال:
المسألة عند العبد محل توقف.
ثم إن صاحب الرياض قال: (إلا أن مقتضى الأصول حينئذ عدم القبول)

182
واعترضه في الجواهر بقوله: (وفيه ما عرفته سابقا من أنه مع الشك ينبغي
الرجوع إلى عموم أدلة القبول، لعدم تحقق التهمة المانعة حينئذ).
قلت: لكن الأقرب الأول، إذ التعارض يفرض بين ما دل على القبول من
العمومات وغيرها إن كان وبين ما دل على العدم، فيتساقط الجميع، ويكون
المرجع الأصل.
هذا ولا خلاف في عدم القبول إذا كان هناك تهمة بجلب نفع أو دفع ضرر
كما لو شهد لمن استأجره على قصارة الثوب أو خياطته له، من غير فرق بين
بقاء الأجرة وعدمه كما في الجواهر، وفي المسالك حمل خبر سماعة على هذا
المحمل.

183
لواحق وهي ست مسائل
(المسألة الأولى)
(في أن المعتبر استكمال الشرائط عند الأداء)
قال المحقق قدس سره: (الصغير والكافر والفاسق المعلن إذا عرفوا
شيئا ثم زال المانع عنهم فأقاموا تلك الشهادة قبلت، لاستكمال شرائط
القبول).
أقول: إن من تحمل الشهادة في حال عدم القبول منه وأداها في حال زوال
المانع تقبل شهادته، كالصغير والكافر والفاسق المعلن وأما الفاسق المستتر
فسيأتي والحاصل أن العبرة بحال الأداء لا بحال التحمل، وأن الصغير إذا
كبر، والكافر إذا أسلم، والفاسق إذا تاب فقد استكمل شرائط القبول فتقبل
شهادته بلا خلاف، بل الاجماع بقسميه عليه كما في الجواهر، لعموم أدله
قبول الشهادة وخصوص ما ورد منها في الصغير واليهودي والنصراني وغيرهم
من المعتبرة المستفيضة أو المتواترة.
وأما ما ورآه جميل قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن نصراني

184
أشهد على شهادة ثم أسلم بعد أتجوز شهادته؟ قال لا) (1) ففي الوسائل: (ذكر
الشيخ أنه خبر شاذ، وحمله على التقية لأنه مذهب بعض العامة، لما مضى
ويأتي. ويحتمل الحمل على ما لو شهد بها في حال كفره فلا تقبل وإن أسلم
بعد، وعلى عدم عدالته بعد الاسلام).
قال المحقق: (لو أقامها أحدهم في حال المانع فردت ثم أعادها بعد
زوال المانع قبلت).
أقول: إن كان قد أعاد الشهادة مرة أخرى بعد زوال المانع من الصغر أو
الكفر أو الفسق قبلت شهادته لاستكمال الشرائط حينئذ، فيندرج في الأدلة،
ولا ينافي ذلك ردها سابقا.
قال المحقق: (وكذا العبد لو ردت شهادته على مولاه ثم أعادها بعد
عتقه).
أقول: سيأتي الكلام على قبول شهادة العبد وعدم قبولها مطلقا أو مقيدا
في المسألة الآتية، فبناءا على القبول إلا على مولاه - كما اختاره المحقق
أو عدم القبول مطلقا كما هو قول بعض أصحابنا يرتفع المانع بالعتق، فإذا
أعاد الشهادة بعده تقبل، لاستكمال الشرائط كذلك، ولا ينافي ذلك ردها
سابقا.
قال: (أو الولد على أبيه فردت ثم مات الأب وأعادها).
أقول: قد تقدم الكلام على شهادة الولد على والده، فبناءا على عدم
القبول في حياة الأب، لو أعادها بعد موته فلا مانع من القبول مع استكمال
الشرائط، ولا ينافي ذلك ردها سابقا.
والدليل على الحكم في جميع هذه الفروع واحد، وهو ما ذكرناه من



(1) وسائل الشيعة 18 / 286 الباب 39. صحيح.
185
عمومات الأدلة وخصوصها، بالإضافة إلى الاجماع المدعى.
نعم في خبر للسكوني: (عن الصادق عليه السلام عن علي عليه السلام:
إن شهادة الصبيان إذا أشهدوا وهو صغار جازت إذا كبروا ما لم ينسوها، وكذلك
اليهود والنصارى إذا أسلموا جازت شهادتهم، والعبد إذا شهد بشهادة ثم
أعتق جازت شهادته إذا لم يردها الحاكم قبل أن يعتق. وقال علي عليه السلام:
وإن أعتق لموضع الشهادة لم تجز شهادته) (1). فإن ذيله يفيد عدم القبول لو
كان إزالة المانع وهو الرق لأجل قبول الشهادة، وصدره يفيد العدم في العبد
إذا كان الحاكم قد رد شهادته قبل العتق.
إلا أن الأصحاب ذهبوا إلى القبول للعمومات والاطلاقات، وأجابوا عن
الخبر بالضعف سندا في نفسه أو باعراض الأصحاب عنه، وأما حمل الصدر
على ما إذا صدر الحكم من الحاكم فإنه لا ينقض حينئذ، فقد تأمل فيه صاحب
الجواهر، ولعله لاحتمال الحكم بجواز النقض حينئذ. لكن فيه بحث، فلو
لم يكن للمدعي شاهد في دعواه فحكم الحاكم فيها ثم جاء بشهود لم ينقض
الحكم، وما نحن فيه كذلك.
قال المحقق: (أما الفاسق المستتر إذا أقام فردت وأعادها فههنا تهمة
الحرض على دفع الشبهة لاهتمامه باصلاح الظاهر، لكن الأشبه القبول).
أقول: قد ذكرنا حكم شهادة الفاسق المعلن، ومثله الفاسق المستتر، فإنه
تقبل شهادته لو أعادها بعد التوبة، وأما التهمة المذكورة فليست بمانعة عن
القبول الذي هو مقتضى العمومات والاطلاقات، وكذلك احتمال عدم التوبة



(1) وسائل الشيعة 18 / 257. أورده عن الشيخ بسنده عن إسماعيل بن
أبي زياد. وهو السكوني. ثم قال: ورواه الصدوق باسناده عن إسماعيل بن
أبي زياد، فهو خبر واحد لا خبران كما هو ظاهر الجواهر.
186
حقيقة، فإنه إذا ظهرت عليه آثار التوبة والاصلاح شملته العمومات الاطلاقات.
فهذه هي الفروع التي ذكرها المحقق في هذه المسألة.
وأضاف صاحب الجواهر إليها فروعا أخرى نذكرها تبعا له فنقول:
لو كان الكافر مستترا بكفره ثم أسلم وأعادها فالوجهان المذكوران في
الفاسق المستتر، والأقوى القبول.
ولو وقع نزاع بين العبد المكاتب وغيره وشهد المولى لمكاتبه مع
احتمال كونه عاجزا عن أداء حق المولى والوفاء بشرطه، فلا تقبل هذه الشهادة
للتهمة، فإن أعتق العبد زال المانع، فلو أعادها المولى قبلت.
ولو كان له عبد فعقد له أمة فلا اشكال في كون ولده مملوكا له، وإن عقد له
حرة فكذلك بناءا على الحاق الولد بالأب في الانسان وإن كانت أمه أشرف
فإن شهد المولى للعبد على نكاح كانت الشهادة في نفعه، فلا تقبل، وتقبل إن
أعادها يعد العتق.
ولو شهد اثنان من الشفعاء بناءا على القول بصحة الأخذ بالشفعة وإن
كانوا أكثر من اثنين على عفو ثالث لم تقبل شهادتهما، لأن في عفوه نفعا
لهما، فإن عفوا كذلك وأعاد الشهادة على عفو الثالث قبلت، ويكون حق
الشفعة حينئذ لرابعهم مثلا.
ولو شهد اثنان يرثان من رجل عليه بجراحة غير مندملة ويحتمل موته
بها، ترد هذه الشهادة لأنها في الحقيقة في نفعهما دية أو قصاصا، فإن اندمل
الجرح وأعادا الشهادة قبلت، وكانت الدية للرجل.

187
(المسألة الثانية)
(في شهادة المملوك)
قال المحقق قدس سره: (قيل: لا تقبل شهادة المملوك أصلا، وقيل:
تقبل مطلقا، وقيل: تقبل إلا على مولاه، ومنهم من عكس، والأشهر القبول إلا
على المولى).
أقول: في شهادة المملوك أقوال كثيرة، ذكر المحقق أربعة منها وأضاف
في الجواهر إليها ثلاثة أقوال، وإن منشأ اختلاف الأقوال في المسألة هو
اختلاف النصوص فيها.
فيدل على القول الأول وهو المنع من القبول مطلقا عدة نصوص فيها
الصحيح والموثق، ومنها:
1 - محمد بن مسلم عن أحدهما: (تجوز شهادة المملوك من أهل القبلة
على أهل الكتاب وقال: العبد المملوك لا تجوز شهادته) (1).
2 - محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: (لا تجوز شهادة العبد
المسلم على الحر المسلم) (2).
3 - الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام: (سألته عن شهادة ولد الزنا.
فقال: لا ولا عبد) (3).
4 - سماعة: (سألته عما يرد من الشهود فقال: المريب والخصم والشريك



(1) وسائل الشيعة 17 / 256 الباب 23 شهادات. صحيح.
(2) وسائل الشيعة 18 / 256 الباب 23 شهادات. صحيح.
(3) وسائل الشيعة 18 / 277 الباب 31. شهادات. صحيح.
188
ودافع مغرم والأجير والعبد) (1).
5 - صفوان: (عن أبي الحسن. وكذلك العبد إذا أعتق جازت
شهادته) (2).
واستدل له في الجواهر بأمرين آخرين، أحدهما اعتباري وهو أن
الشهادة من المناصب الجليلة التي لا تليق بحال العبد كالقضاء، ولاستغراق وقته
بحقوق المولى على وجه يقصر عن أدائها وعن تحملها. وهذا الوجه إن
انتهى إلى الشارع فهو، وإلا فإن الأهلية للمناصب الإلهية بيد الشارع، فلا بد
من كاشف عن الجعل أو عدمه منه.
والآخر: إن نفوذ القبول على الغير نوع ولاية، فيعتبر فيها الحرية كما في
سائر الولايات. وهذا الوجه كسابقه، فإن قبول الشهادة وردها من الأحكام
الشرعية، ولا بد له من دليل شرعي، وليس لأحد سلب الأهلية من أحد أو
اعطائها إياه.
نعم من المحتمل استفادة ذلك من قوله عز وجل: (ضرب الله مثلا عبدا
مملوكا لا يقدر على شئ ومن رزقناه منا رزقا حسنا. وضرب الله مثلا رجلين
أحدهما أبكم. هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل) (3) ففي الآية الأولى: لم يفرق
بين العبد ولا حر تكوينا، فله الأعضاء والجوارح التي للحر وهو يتصرف
فيها كتصرفه، وإنما فرق بينهما تشريعا، فالعبد ليس له مال حتى يكون مسلطا
عليه. وليس له شئ يكون قادرا على التصرف فيه، بخلاف الذي رزقه



(1) وسائل الشيعة 17 / 278 الباب 32. شهادات. موثق.
(2) وسائل الشيعة 18 / 273 الباب 29. شهادات. صحيح.
189
رزقا حسنا فهو ينفق منه، فكيف يستويان؟
وفي الثانية جعل أحد الرجلين أبكم ومن كان أبكم فهو أصم والآخر
له القدرة على التكلم وبالخصوص الكلام الحق من الأمر بالعدل ونحو ذلك
هل يستويان؟
فمن كان (كلا على مولاه) لا يليق لأن يتولى شؤون المجتمع وأن يقوم
بوظائف الأمة، وأن يدير أمور الناس، والشهادة من هذا القبيل، لترتب الآثار
المهمة عليها في موارد النفوس والأعراض والأموال والحقوق.
وعن تفسير الإمام العسكري عليه السلام: (كنا عند رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم وهو يذكرنا بقوله تعالى: واستشهدوا شهيدين من
رجالكم. قال: أحراركم دون عبيدكم، فإن الله تعالى شغل العبيد بخدمة
مواليهم عن تحمل الشهادة وأدائها). وما في الرياض من أن دلالته بمفهوم
الوصف وليس بحجة على الأشهر الأظهر، لعله بالنظر إلى ذيله، لأن الصدر
صريح في عدم القبول.
فمن الممكن رجوع الوجهين المذكورين إلى الآيتين والثالثة بضميمة
الرواية في تفسيرها.
ويدل على القول الثاني وهو القبول مطلقا عدة نصوص فيها الصحيح
وغيره كذلك (1)، ومنها:
1 - عبد الرحمن بن الحجاج: (عن أبي عبد الله عليه السلام: قال أمير
المؤمنين عليه السلام: لا بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا). دل على القبول
مطلقا.



(1) انظر وسائل الشيعة 18 / 253 الباب 23 شهادات.
190
2 - بريد عن أبي عبد الله عليه السلام: (سألته عن المملوك تجوز شهادته؟
قال: نعم، إن أول من رد شهادة المملوك لفلان).
3 - محمد بن مسلم: (عن أبي عبد الله عليه السلام
: في شهادة المملوك إذا كان
عدلا، فإنه جائز الشهادة، إن أول من رد شهادة المملوك عمر بن الخطاب.).
ومن هذا وسابقه يظهر أن نصوص المنع صادرة تقية، ويؤيد ذلك اتفاق
الأئمة الأربعة عند أهل السنة على الفتوى بالمنع.
4 - محمد بن مسلم: (عن أبي جعفر عليه السلام قال: تجوز شهادة
المملوك من أهل القبلة على أهل الكتاب). وهذا ليس له ظهور في التقييد
بكونها على أهل الكتاب، وإلا لقيد، لما تقرر من حمل المطلق على المقيد
وإن كانا مثبتين بشرط احراز وحدة المطلوب.
5 - محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: (تجوز شهادة العبد
المسلم على الحر المسلم). قال في الوسائل: (وفي نسخة: (لا يجوز) وهو
محمول على التقية) ونقل عن الصدوق: إنه محمول على ما لو شهد لغير سيده،
وهو القول الثالث من الأقوال الأربعة، لكن الحمل عليه متوقف على
وجود شاهد.
6 - الحلبي: (سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول في المكاتب إلى
أن قال: قلت: أرأيت أن أعتق نصفه تجوز شهادته في الطلاق؟ قال: إن كان
معه رجل وامرأة جازت شهادته) قال في الوسائل: ادخال المرأة هنا محمول على التقية، لأن شهادتها لا تقبل في الطلاق، ذكره الصدوق الشيخ وغيرهما.
7 - الحلبي: (عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل مات وترك جارية
ومملوكين، فورثهما أخ له، فأعتق العبدين، وولدت الجارية غلاما فشهدا
بعد العتق أن مولاهما كان أشهدهما أنه كان يقع على الجارية إن الحمل منه -

191
قال: تجوز شهادتهما، ويردان عبدين كما كانا).
دل على قبول شهادة العبد، واستشهد به بعضهم على استثناء المولى ليكون
دليلا على القول بعدم القبول عليه وهو القول الثالث لأنه إن كانت شهادته
مقبولة عليه في حال الرق لما قيد السائل بكون الشهادة بعد الحرية. لكن
الظاهر من منطوق الخبر القبول، فلا وجه للتمسك بمفهوم تقييد السائل للعدم
لكن يمكن الاستلال له في القبول، من جهة ثبوت بنوة الولد للمولى فيرثه
ويكون العبدان مملوكين له.
8 - ابن أبي يعفور: عن أبي عبد الله عليه السلام: (سألته عن الرجل
المملوك المسلم تجوز شهادته لغير مواليه؟ قال: تجوز في الدين والشئ
اليسير.) ودل على القبول (في الدين والشئ اليسير) لغير مواليه فقط، وأما
مواليه فلا تقبل لا لهم ولا عليهم، وقد حمله في الوسائل على التقية.
أقول: قد عرفت أن أدلة القبول ناظرة إلى أدلة المنع ومتعرضة لحالها،
لتضمن بعضها أن أول من منع قبول شهادة المملوك هو عمر بن الخطاب
ومن هنا تحمل أدلة المنع على التقية، على أنه لا قائل بالمنع منا. إلا ابن أبي
عقيل كما قيل فهي معرض عنها عند الأصحاب، فالأقوى حتى الآن هو القول
بالقبول للأدلة العامة والخاصة الموافقة للكتاب والمخالفة للعامة.
وقد ذكر القائلون بالقول الثالث وهو القبول الأعلى مولاه إن ذلك
مقتضى الجمع بين الأدلة الدالة على المنع مطلقا والدالة على القبول كذلك.
فنقول: إن الجمع يكون بأحد طريقين، أحدهما بمعونة القطع من الخارج
مثل الجمع بين (ثمن العذرة سحت) و (لا بأس ببيع العذرة) بتقريب إن
المقطوع به في الأول شموله لعذرة ما ما لا يؤكل لحمه فهو فيه نص وفي غيره
ظاهر، والمقطوع به في الثاني شموله لعذرة ما يؤكل لحمه، فهو فيه نص وفي غيره
ظاهر، والمقطوع به في الثاني شموله لعذرة ما يؤكل لحمه، فهو فيه نص، وفي

192
من الطرفين وبه نرفع اليد عن الظاهر في الآخر. وهذا هو الجمع التبرعي
في الاصطلاح.
والآخر: الجمع العرفي، وهو وجود دليل فيه التقييد بعدم القبول في
الشهادة على المولى، فيكون هذا الخبر شاهد جمع بين الطرفين، وبذلك
يكون الجمع عرفيا، وما يمكن أن يكون شاهد للتقييد بقيد هنا هو:
خبر محمد بن مسلم: (تجوز شهادة المملوك من أهل القبلة على أهل
الكتاب) لكن هذا الخبر لا يصلح للتقييد كما تقدم لعدم حجية المفهوم فيه
وخبر ابن أبي يعفور، لكنه محمول على التقية، على أن تقرير الإمام عليه
السلام لتقييد السؤال ليس في الحجية بحيث يمكن تقييد المطلقات به.
وخبر جميل: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن المكاتب تجوز شهادته؟
فقال: في القتل وحده) وهذا لم يظهر قائل به.
وخبر محمد بن مسلم: (تجوز شهادة العبد المسلم على الحر المسلم)
وقد عرفت أنه في نسخة (لا يجوز) وهذا يوجب الشك فيه، فلا يصلح
للتقييد.
وخبر الحلبي في شهادة العبدين، لكن مفهوم السؤال لا يقيد الجواب،
على أنه يفيد القبول له ولا يدل على العدم إن كان عليه.
أقول: هذه هي الأخبار المقيدة بظاهرها، وقد عرفت أنه لا شاهد فيها
للجمع بين الأخبار كما ذكر أصحاب القول الثالث.
وأما الحاق العبد بالولد لاشتراكهما في وجوب الطاعة وحرمة العصيان
ففيه ما لا يخفى، على أن الحكم في المقيس عليه مختلف فيه كما تقدم في
محله.

193
فظهر بما ذكرنا عدم الدليل على التقييد، فالأقوى هو القبول مطلقا،
والله العالم.
ثم قال المحقق: (ولو أعتق قبلت شهادته على مولاه).
أقول: هذا على مختاره، ولا خلاف في القبول بعد العتق بل في كشف
اللثام الاتفاق عليه، لارتفاع المانع واستكمال الشرائط كما تقدم، وتدل على
ذلك بعض النصوص بصراحة:
محمد بن مسلم: (سألت أبا جعفر عليه السلام عن الذمي والعبد يشهدان
على شهادة، ثم يسلم الذمي ويعتق العبد، أتجوز شهادتهما على ما كانا
أشهدا عليه؟ قال: نعم إذا علم منهما بعد ذلك خير جازت شهادتهما) (1).
وأما خبر السكوني: (إن شهادة الصبيان.) فقد عرفت حمله على
بعض الوجوه، مع أن أحدا لم يفت بما تضمنه صدرا وذيلا.
قال: (وكذا حكم المدبر والمكاتب المشروط، أما المطلق إذا أدي
من مكاتبته شيئا قال في النهاية: تقبل على مولاه بقدر ما تحرر منه، وفيه تردد
أقربه المنع).
أقول: قد عرفت أن الأقوى قبول شهادة المملوك مطلقا، وعلى ما ذكرنا
تقبل شهادة المدبر والمكاتب مطلقا. ومذهب المحقق (قده) استثناء الشهادة على
مولاه، فعطف العبد المدبر وهو الذي قال له مولاه: أنت حر دبر وفاتي
والمكاتب المشروط وهو الذي اشترط عليه مولاه أن لا ينعتق منه شئ حتى
يؤدي كل المكاتبة فينعتق كله على العبد القن ففي الحكم المذكور. والوجه
في ذلك واضح، لأنهما لا يخرجان بالتدبير والمكاتبة المشروطة عن المملوكية ولا
يتحرر شئ منهما، فيندرجان فيما دل على المنع من القبول على مولاه عند المحقق.



(1) وسائل الشيعة 18 / 285 الباب 39 شهادات. صحيح.
194
وأما المكاتب المطلق - وهو الذي يتحرر منه بقدر ما يؤدي من المكاتبة
فإن شهد في حال أنه لم يود شيئا فكذلك، وإن أدى من مكاتبته شيئا فتحرر
منه بقدر ما أدى فقولان:
فالشيخ في النهاية وجماعة على القبول بقدر ما تحرر منه.
والمحقق على المنع، وفاقا للمشهور بين من تعرض له كما في الجواهر.
استدل للمنع بوجوه: أحدها: صدق العبد والمملوك على المبعض.
والثاني: إن المانع من القبول هو الرقية، فما لم تزل بتمامها لم تقبل الشهادة.
والثالث: إن عقولنا لا تهتدي إلى القبول في بعض المشهود فيه دون بعض،
فلا نقول به إلا فيما أجمع عليه، أو دل عليه دليل قاطع.
ذكر هذه الوجوه كاشف اللثام، واعترضه صاحب الجواهر بأن الأولين
مصادرة.
قلت: أما الثاني فنعم. وأما الأول فلا. لكن يمكن الجواب عنه بتحقق
الصدق في الجملة، وعليه فإن كان الصدق في الجملة كافيا لشمول أدلة المنع،
فإن المبعض يصدق عليه الحر في الجملة كذلك، فلماذا تقدم فيه أدلة المنع
على أدلة القبول؟
ومن هنا يمكن القول بأنه إن كان كلا الدليلين منصرفين عن المبعض فالطرفان
في عدم الشمول على حد سواء، وإلا فيشمله كلاهما، فيقبل شهادته بما هو
عدل، ويمنع من القبول بما هو عبد، فيكون الحكم مبعضا كموضوعه،
ويكون الحاصل القبول بقدر ما تحرر منه.
وأما الوجه الثالث فقد أشكل عليه صاحب الجواهر بأن أقصاه عدم القبول
على وفق قاعدة عدم جواز تبعيض السبب التي لا تنافي الدليل على جوازه.
قلت: إن قام الدليل على القبول في البعض فإنه يكشف لنا عدم كون

195
السببية للقبول أو المنع الحرية أو العبدية بكليته، بل إن البعض أيضا سبب
بحسبه.
إذن يكفي للقول بالقبول الأدلة الدالة على قبول شهادة العدل، والأدلة
الدالة على عدم قبول شهادة العبد الأعلى مولاه، بناء على عدم انصرافها عن
المبعض، وشمول كلا الطرفين له، وبناء على الانصراف نرجع إلى الدليل
الخاص القائم في خصوص المبعض، فإن تم سندا ودلالة فيتم القبول، وإلا
فيرجع إلى الأصل، وهو هنا الاستصحاب ومقتضاه عدم القبول.
وقد استدل للقبول في المقام بخصوص خبرين:
أحدهما: ما رواه أبو بصير قال: (سألته عن شهادة المكاتب كيف تقول
فيها؟ قال: فقال: تجوز على قدر ما أعتق منه إن لم يكن اشترط عليه أنك إن
عجزت رددناك، فإن اشترط عليه ذلك لم تجز شهادته حتى يؤدي أو يستيقن
أنه قد عجز. قال فقلت: فكيف يكون بحساب ذلك؟ قال: إذا كان أدى النصف
أو الثلث فشهد لك بألفين على رجل أعطيت من حقك ما أعتق النصف من
الألفين) (1).
وقد أشكل في الجواهر في الخبر بأمور، منها: كونه مضمرا، لكن الظاهر
أن اضماره لا يضر باعتباره لأن أبا بصير لا يروي عن غير الإمام عليه السلام،
ومنها: عدم الوجه في قوله: أو يستيقن أنه قد عجز، ولكن الظاهر أن المراد
أنه إن جاء الموعد وعجز فهو عبده وكذا إذا تيقن العجز عن الأداء عند الموعد (2)،



(1) وسائل الشيعة 18 / 257 الباب 23 شهادات.
(2) قد يقال: إن هذا يصلح في جملة: (إن عجزت رددناك) وأما هذه الجملة
فمعطوفة على (يؤدي) فالمعنى: لم تجز حتى يستيقن أنه قد عجز، أي في حال
الاستيقان تجوز.
196
فالجملة ليست أجنبية، وليس اللفظ مضطربا.
والثاني: ما رواه محمد بن مسلم وأبو بصير والحلبي جميعا (عن أبي عبد الله
عليه السلام في المكاتب يعتق نصفه هل تجوز شهادته في الطلاق؟ قال: إذا
كان معه رجل وامرأة وقال أبو بصير وإلا فلا تجوز) (1).
لكن الخبرين محمولان على التقية، أما الأول فلأن المنع من قبول شهادة
المملوك هو قول العامة تبعا لإمامهم عمر بن الخطاب كما تقدم، وأما الثاني
فلادخال المرأة في الشهادة في الطلاق، لأن شهادتها لا تقبل فيه كما تقدم أيضا.
فظهر عدم الدليل الخاص على القبول، ومن هنا ذهب صاحب الجواهر
إلى المنع كالقن، قال: (للأصل، وقاعدة عدم تبعيض السبب بعد وضوح قصور
الخبر المزبور عن تخصيصها، وحرمة القياس على حكم غيره من أفراد المبعض
في الإرث ونحوه).
أقول: المراد من الأصل هو الاستصحاب، إذ الحكم قبل التبعيض هو
المنع، فإن شك فيه بعده استصحب، والظاهر وحدة الموضوع عرفا
وقاعدة عدم تبعيض السبب مسلمة بلا كلام، فإذا جعل الشارع الغسل سببا
لرفع الجنابة لم يكن غسل بعض البدن سببا لرفع بعضها، فهذه هي القاعدة،
ومتى شك كانت هي المرجع.
وهذا يتم فيما نحن إن كانت الحرية السبب في القبول، وأما إن كانت العبدية
السبب لعدم القبول فإن نصف العبدية مثلا لا يكون سببا لعدم القبول.
إلا أن التحقيق أن يقال: بأن مقتضى عمومات الشهادة كتابا وسنة قبول شهادة
العدل مطلقا، خرج منها شهادة العبد القن على المولى، ومع الشك في خروج



(1) وسائل الشيعة 18 / 256 الباب 23. صحيح.
197
العبد المبغض كذلك يتمسك بالعمومات وهي متقدمة على الاستصحاب، ولا
مجال معها لقاعدة عدم تبعيض السبب لحكومة العمومات، كما لا يرد اشكال
القياس.
فالأقوى هو قبول شهادة المملوك المبعض حتى بناءا على القول بعدم شهادة
المملوك على مولاه. كما عليه الشيخ ومن تبعه، والله العالم.
وقد فرع الشهيد في غاية المراد بناءا على القبول فروعا أوردها صاحب
الجواهر، ونحن نوردها تبعا له مع بعض التوضيح:
الأول: لو شهد مع المبعض عدل حر بمائة مثلا، يثبت بشهادتهما خمسون،
لقيام البينة بالنسبة إلى الخمسين، وأما الخمسون الأخرى فلها شاهد واحد وهو
الحر، ولا يثبت بشهادة الواحد شئ فللمدعي أن يحلف معه على الخمسين
الثانية فيأخذها، لما تقرر في محله من ثبوت الأموال بشاهد واحد مع يمين
المدعي. وظاهر الرواية الثانية يدل على جعله كالمرأة، فحينئذ لا يثبت بشهادتهما
شئ أصلا إذ يكون كما لو شهد رجل وامرأة. ولو انضم إليهما امرأة ثبت
المال، لتحقق البينة بشهادة رجل وامرأتين، وعلى ظاهر الفتاوى تثبت الخمسون
بشهادة الثلاثة لا المائة وله الحلف على الخمسين الأخرى كما تقدم، لأن
الخمسين الأخرى لم يشهد بها في الحقيقة سوى رجل وامرأة (1)، وتظهر الفائدة
في الرجوع عن الشهادة فإنه لا يسترجع الحاكم ما أعطاه للمدعي، بل يأخذه
من الشهود كل بحسب تأثير شهادته في الحكم.
الثاني: لو شهد المملوك وحده بمال على السيد، فللمشهود له الحلف على
نصفه، لأنه يكون شهادته بمنزلة شهادة الحر على النصف، وقد عرفت ثبوت



(1) كأنه من جهة أن قبول شهادة المبعض هو بلحاظ لنصف المحرر منه
ونصف الحر لا أثر له، وبقي الرجل الواحد والامرأة الأخرى. لكن إذا كان
كذلك فإنه لا يثبت شئ بشهادة الرجل الواحد مع الامرأة الواحدة، فلماذا
الخمسون؟
198
المال بشهادة رجل مع يمين المدعي، هذا على ظاهر الرواية الأولى، وعلى
مفهوم الرواية الثانية لا حكم لشهادته، لأنه كالمرأة الواحدة
الثالث: لو شهد المبعض بالوصية بالمال ثبت ربع ما يشهد به على مفهوم
الرواية الثانية، لأنه كالمرأة الواحدة، وهي لو شهدت بالوصية بالمال يثبت
ربعه، وعلى الرواية الأولى يثبت نصفه، وعلى هذا فللمدعي أن يحلف معه بناء
على القول باليمين هنا، فيثبت له الكل.
الرابع: لو شهد على مولاه بالقتل أو شبهه أو الخطأ في احتمال كون هذه
الشهادة على المولى لا على العاقلة مع شاهد آخر، فعلى مفهوم الرواية الثانية
لا يثبت القتل، لأنه كالمرأة الواحدة، بل يكون لوثا وحينئذ تقام القسامة. وعلى
ظاهر كلام الأصحاب يحتمل ثبوت نصف القتل على معنى ثبوت نصف الدية
أو القود، بعد رد ما قابل الباقي، ويحتمل الانتفاء أصلا، من جهة أن الخبر الأول
وارد في مورد المال ولا يعم القتل، وأشد اشكالا من القتل الشهادة في الحدود.
وهذه هي الفروع التي ذكرها الشهيد الأول في غاية المراد.
وفي كشف اللثام: (ثم على تقدير السماع بقدر الحرية يحتمل اشتراطه
بانضمام رجل إليه) أي: حتى يثبت نصف المشهود فيه، وهذا هو الذي ذهب
إليه صاحب الجواهر جازما به حيث قال: إن مقتضى الخبر الأول قبول شهادته
على مقدار ما فيه من الحرية، لكن على نحو غيره مما يقبل فيه ذلك باليمين
أو بشاهد آخر معه. أما كاشف اللثام فقال: (وهو الأحوط) وفيه: أن الاحتياط
لا مورد له في مثل المقام، لأن الأمر يتعلق بحقوق الناس، ولا بد من مراعاة

199
حق كلا الطرفين، نعم هو مطابق للأصل.
قال: ويحتمل العدم. أي عدم اشتراط الانضمام، فيثبت النصف بشهادته
وحده.
قال: وعلى الأول يحتمل القبول بعين ذلك القدر كما هو الظاهر من
الخبر، حتى إذا انضم إلى من تحرر نصفه رجل كامل الحرية لم يسمع إلا في
النصف، لأنه الذي اجمتع عليه شاهدان، وهو الأحوط، وفي هذا الاحتياط ما
عرفت.
قال: ويحتمل تقسيم المشهود به بحسب ما في الشاهدين من الحرية،
فيسمع في المثال في ثلاثة أرباع ويحمل الخبر على انضمام مثله إليه، أو
على أنه يثبت نصف الألفين بما فيه من الحرية وما بإزائه من حرية الآخر، وإن
كان يثبت ربعهما أيضا بما في الآخر من باقي الحرية.
وهذا الاحتمال بعيد، وحمل الخبر على ما ذكر خلاف الظاهر.
قال: وعلى الثاني (1) يحتمل السماع بإزاء الحرية مطلقا، حتى إذا تحرر
منه عشر سمعت شهادته في العشر، فإذا تحرر تسعة أعشاره، سمعت في تسعة
أعشاره ويحتمل أن لا تسمع ما لا يتحرر ربعه فما زاد، ولا تسمع إلا في الربع
إلى النصف، وعلى كل فلا بد من قصر السماع على ما تسمع فيه شهادة امرأة
واحدة خصوصا ما ذكره من الاحتمال، والله العالم.



(1) أقول: الاحتمال الأول يتوجه بالنظر إلى الخبر الأول، والثاني بالنظر
إلى الخبر الثاني. فلا تغفل.
200
(المسألة الثالثة) (في تحقق اسم الشهادة للسامع والمختبئ)
قال المحقق قدس سره: (إذا سمع الاقرار صار شاهدا، وإن لم يستدعه
المشهود عليه، وكذا لو سمع اثنين يوقعان عقدا كالبيع والإجارة والنكاح،
وكذا لو شاهد الغصب أو الجناية، وكذا لو قال له الغريمان: لا تشهد علينا،
فسمع منهما أو من أحدهما ما يوجب حكما، وكذا لو خبأ فنطق المشهود عليه
مسترسلا).
أقول: لا خلاف ولا كلام في صيرورة الانسان شاهدا متحملا للشهادة
بالسماع فيما يكفي فيه السماع، كما إذا سمع الاقرار أو صيغة العقد، وبالمشاهدة
فيما يكفي فيه المشاهدة، كما لو شاهد الغصب أو الجناية، لوضوح صدق الشاهد
عليه لغة وعرفا.
ولا يعتبر في تحقق عنوان الشهاد تحملا وأداءا الاشهاد من الغير، بل
يصير شاهدا حتى لو قال له الغريمان أو أحدهما: لا تشهد علينا، فسمع منهما
أو من أحدهما ما يوجوب حكما له أو عليه، بل وكذا لو خبأ الشخص أي جلس
في زاوية مستخفيا منهما فنطق المشهود عليه صار متحملا للشهادة. قال في
الرياض: بلا خلاف أجده إلا من الإسكافي، وهو شاذ لا يعبأ به، بل عن غاية
المراد: قد سبقه الاجماع أو تأخر عنه. قالوا: لأن المعتبر في صدق الشهادة
وقبولها علم الشاهد مع استجماعه للصفات المعتبرة فيه شرعا بما يشهد
به، سواء كان العلم مسبوقا باستدعاء المشهود له أو المشهود عليه أو اتفق علمه
بالواقعة، وذلك لاشتراك الجميع في المقتضى للقبول وهو العلم.
وفي المسالك وغيره: أنه لا يحمل اختفاؤه لتحمل الشهادة على الحرص

201
عليها، إذ الحاجة قد تدعو إليه، وأشكل عليه في الجواهر وغيره بأن التهمة
في المختبئ ليست بأقل منها في المتبرع بالشهادة، الذي سيأتي دعوى
الاجماع على عدم قبول شهادته، وأن الاحتياج إلى ذلك لو سلم كونه دليلا
لمشروعية مثله فلا يقتضي الصحة مطلقا حتى إذا لم تدع الحاجة، فالعمدة في
الجواب هو أنه ليس كل تهمة بمانعة، بل هي التهمة التي ورد دليل شرعي
على مانعيتها.
هذا كله بالنسبة إلى صدق اسم الشهادة وتحققها وقبولها.
حكم تحمل الشهادة وأدائها مع الاستدعاء وبدونه
وأما حكمها فالمشهور كما في المستند عن جماعة وجوبا التحمل إذا
دعي إليه، خلافا للحلي إذ قال: والذي يقوى في نفسي أنه لا يجب التحمل،
وللانسان أن يمتنع عن الشهادة إذا دعي إليها ليتحملها، إذ لا دليل على وجوب
ذلك عليه، وما ورد في ذلك فهو أخبار آحاد.
هذا بالنسبة إلى التحمل
وأما بالنسبة إلى أداء الشهادة، فإن كان تحمله بالاستدعاء وجب عليه الأداء
حينما يطلب منه ذلك، إذا توقف الحق على شهادته، اجماعا قطعيا بل بالضرورة
وحكاية الاجماع عليه مستفيضة، والآيات عليه دالة، والأخبار متواترة كما في
المستند. وإن كان تحمله بدون استدعاء من صاحب الحق للتحمل فقولان:
الوجوب، وهو المشهور بين المتأخرين كما قيل.
والعدم، وهو مذهب جماعة من القدماء، بل نسب إلى المشهور بينهم،
فقالوا: هو بالخيار بين الإقامة وعدمها.
واستدل للأول بالعمومات والاطلاقات الآمرة بإقامة الشهادة، سواء أشهد
عليها أو لم يشهد، وهي وإن كانت تقتضي الإقامة عينا، إلا أن ظاهر الأصحاب

202
كما في الرياض الاطباق على وجوبها كفاية.
وللثاني بالأصل، بالنصوص:
1 - محمد بن مسلم: (عن أبي جعفر عليه السلام: إذا سمع الرجل
الشهادة ولم يشهد عليها، فهو بالخيار إن شاء شهد وإن شاء سكت) (1).
2 - هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام مثله. وأضاف: (إذا
أشهد لم يكن له إلا أن يشهد) (2).
3 - محمد بن مسلم قال: (سألت أبا جعفر عليه السلام عن الرجل يحضر
حساب الرجلين فيطلبان منه الشهادة على ما سمع منهما، قال: ذلك إليه إن
شاء شهد وإن شاء لم يشهد، وإن شهد شهد بحق قد سمعه، وإن لم يشهد فلا
شئ، لأنهما لم يشهداه) (3).
فإن هذه النصوص ظاهرة في عدم وجوب إقامتها على من لم يشهد حتى
مع توقف الحق عليها.
وأجاب في الجواهر مع فرض كون المراد التوقف عن الأصل بقوله:
(أن الأصل مقطوع بما دل عليه العقل المقطوع به من النقل كتابا وسنة بل
واجماعا من ايجاب إقامة الشهادة على من هي عنده، وأنها منزلة الأمانة التي
يجب على من عنده أداؤها وإن لم يستأمنه إياها صاحبها، نحو الثوب الذي
أطارته الريح وغيره)



(1) وسائل الشيعة 18 / 231 الباب 5 شهادات. صحيح.
(2) وسائل الشيعة 18 / 231 الباب 5 شهادات. صحيح.
(3) وسائل الشيعة 18 / 232 الباب 5 شهادات. فيه (محمد بن عبد الله بن
هلال) لا توثيق له، لكنه من رجال كامل الزيارات.
203
قلت: إن كان العقل مستقلا بلزوم إقامة الشهادة هنا فإن من الممكن أن يقال
بأن الأدلة اللفظية والاجماع كلها واردة في مورد حكم العقل وأنها ارشادية
لا مولوية، إلا أن استقلال العقل بلزوم الشهادة لئلا يحكم على المدعى عليه
بغير حق، أو لئلا يضيع حق أحد في مرافعة مالية فيه تأمل، نعم إقامة الشهادة
زورا وكذبا إن ترتب عليها ضياع حق ظلم قبيح عقلا.
وأما في مثال الثوب الذي ذكره ونحوه فإن الموجب لحفظه ووجوب
رده هو وقوعه تحت اليد، ولذا لا يفتى بوجوب أداء الشهادة فيما لو وقع
الثوب الذي أطارته الريح في دار غيره من باب وجوب حفظ مال الغير، هذا
بالإضافة إلى أن أدلة وجوب حفظ الأمانة منصرفة عن إقامة الشهادة.
وعلى الجملة: فإنا نحكم بلزوم الإقامة في كل مورد كان الظلم مستندا إلى
ترك الشهادة، ومن هنا نقول بالضمان عليه فيما إذا ضاع حقه على أثر شهادته
أو تركها، وأما في غير ذلك فلا استقلال للعقل باللزوم.
هذا ولم يتضح لنا معنى عبارة الجواهر: (بما دل عليه العقل المقطوع به
من النقل كتابا وسنة.) (1).
وأجاب صاحب الجواهر عن النصوص بحملها على عدم توقف الحق على
الشهادة، وهو الذي ذهب إليه صاحب الوسائل في عنوان الباب حيث قال:
(باب إن من علم بشهادة ولم يشهد عليها جاز له أن يشهد بها ولم يجب عليه
إلا أن يخاف ضياع حق المظلوم) وبذلك جمع بين هذه النصوص وما دل على
وجوب الشهادة إذا علم من الظالم، فيما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر
عليه السلام قال:



(1) ويحتمل سقوط (واو) في العبارة، بأن يكون: العقل والمقطوع به
من النقل.
204
(إذا سمع الرجل الشهادة ولم يشهد عليها فهو بالخيار إن شاء شهد وإن
شاء سكت، إلا إذا علم من الظالم فيشهد، ولا يحل له إلا أن يشهد).
وما رواه يونس عن بعض رجاله عن أبي عبد الله عليه السلام كذلك.
وأيده في الجواهر بخبر علي بن أشيم قال: (سألت أبا الحسن
عليه السلام عن رجل طهرت امرأته من حيضها فقال: فلانة طالق، وقوم
يسمعون كلامه لم يقل لهم اشهدوا أيقع الطلاق عليها؟ قال: نعم هذه شهادة،
أفيتركها معلقة؟).
وبما أرسله الصدوق عن الصادق عليه السلام (العلم شهادة إذا كان صاحبه
مظلوما).
وفي الوسائل بعد هذا الخبر: (حمل الصدوق ما تضمن التخيير على ما
إذا كان على الحق غيره من الشهود، فمتى علم أن صاحب الحق مظلوم ولا
يحيى حقه إلا بشهادته وجب عليه إقامتها ولم يحل له كتمانها، واستدل بالحديث
الأخير).
وإلى هذا الجمع أرجع صاحب الجواهر عبارة الشيخ في النهاية وكلام
غيره.
أقول: وعلى هذا يصير كانحصار الواجب الكفائي في شخص، ولا كلام
في دلالة الأدلة على وجوب الإقامة عليه حينئذ، وإن لم يشهد، لكن النصوص
تدل على الوجوب مع الاشهاد حتى مع عدم توقف الحق عليها، ومن هنا
اختلفت كلماتهم في المسألة:
. فقال بعضهم: بأن ما دل على التخيير محمول على صورة وجود الغير،
وما دل على الوجوب إذا أشهد على ما إذا لم يوجد غيره، فالوجوب كفائي
مع عدم التوقف مطلقا.

205
وقال صاحب الرياض بأن الوجوب كفائي في صورة عدم الاشهاد، فإن
انحصر فعيني، وفي صورة الاشهاد يكون الوجوب عينيا عرضا، وهذا لا ينافي
كونه كفائيا بالذات.
وقال كاشف اللثام باحتمال تنزيل النصوص على عدم الوجوب العيني
لوجود ما يثبت به الحق المشهود غيره، وباحتمال أن يراد بسماع الشهادة
في صحيحتي محمد بن مسلم ونحوهما سماعها وهي تقام عند الحاكم،
قال: بل هو الظاهر، فيكون الاستغناء عنه أظهر، ويكون المعنى أنه إذا سمع
الشهود يشهدون بحق ولم يشهد عليه أي لم يطلب منه الشهادة للاكتفاء بغيره
كان بالخيار.
أقول: لكن هذا الاحتمال يخالف ظواهر النصوص.
ثم ذكر غير هذين الاحتمالين أيضا.
وقال صاحب الجواهر: بأن الذي أشهد يجب عليه الإقامة إلا إذا علم
بإقامة غيره فيسقط عنه التكليف، وحاصل ذلك بقاء الوجوب مع الشك في
إقامة غيره، وأما الذي لم يشهد فلا يجب عليه الإقامة إلا إذا علم بضياع الحق
بعدم إقامته، وحاصل ذلك عدم الوجوب عليه مع الشك في توقف الحق على
شهادته، فهذا هو الفرق بين من أشهد ومن لم يشهد.
أقول: لكن القول بعدم الوجوب على من يشهد عند الشك في قيام الغير
بالواجب يخالف مقتضى أدلة الوجوب الكفائي، فإن مقتضاها وجوب الإقامة
إلا مع اليقين بقيام الغير.
ومما ذكرنا ظهر أن النزاع معنوي، وأن الأقرب الوجهان الأولان، والله
العالم.

206
(المسألة الرابعة)
(في حكم التبرع بالشهادة)
قال المحقق قدس سره (التبرع بالشهادة قبل السؤال يطرق التهمة فيمنع
القبول).
أقول: في هذه المسألة فروع:
1 - في حقوق الآدميين
قال المحقق: (يطرق التهمة فيمنع القبول) وفي النافع: (التبرع
بالأداء قبل الاستنطاق يمنع القبول لتطرق التهمة) وقال العلامة في القواعد:
(السبب السادس: الحرص على الشهادة، بالمبادرة إليها قبل الاستدعاء، فلو
تبرع بإقامة الشهادة عند الحاكم قبل السؤال لم تقبل، للتهمة وإن كان بعد
الدعوى) وفي المسالك: (من أسباب التهمة: الحرص على الشهادة بالمبادرة
إليها قبل استنطاق الحاكم، سواء كان بعد دعوى المدعي أم قبلها) وقد صرح
بهذا الاطلاق صاحب الرياض أيضا، قال: (بلا خلاف أجده وبه صرح
الكفاية ويظهر من المسالك وغيره، واحتمله اجماعا بعض الأجلة) بل في
كشف اللثام: (إنه مما قطع به الأصحاب) قال في الجواهر: (ولعله العمدة
في الحكم المزبور، لا التعليل بالتهمة الواقع من كثير).
قلت: هل المانع من القبول (التهمة) أو عنوان (التبرع) وهي علة
المنع أو حكمته؟ وجوه. فإن كان موضوع المنع (التهمة) فالشهادة من
المتبرع مقبولة في موارد لعدمها، وإن كان (التبرع) وهي علة فكذلك، لأن
العلة قد تعمم وقد تخصص، وإن كان الموضوع (التبرع) و (التهمة) حكمة

207
المنع، كان اقترانها به غالبا موجبا للحكم بالمنع مطلقا.
قال صاحب الجواهر بأن موجب المنع هو التبرع، فإنه تهمة شرعية
بدليل الاجماع القائم على منع شهادة المتبرع، وليس المنع لأجل تطرق
التهمة العرفية لقبول الشهادة في بعض موارد وجودها كشهادة المختبي، ولأنه
لو كان المانع التهمة للزم قبول شهادة المتبرع بها في كل مورد تنتفي عنه التهمة
العرفية، ككون المشهود له عدوا والمشهود عليه صديقا له أو غير ذلك، وأيضا
لو كان المانع التهمة لكان المتجه الرد مطلقا مع أن بعضهم ذكر قبولها في
المجلس الآخر.
فالحاصل أن المانع هو التبرع، والدليل هو الاجماع، فيكون عدم قبول
شهادة المتبرع حكما من أحكام القضاء، نظير عدم تأثير يمين المنكر بلا استدعاء
من المدعي.
ومن هنا استغرب صاحب الجواهر من سيد الرياض التزام قبول شهادة
المتبرع في كل مورد تنتفي عنه التهمة، مدعيا انصراف اطلاق الأصحاب إلى
الغالب الذي تحصل معه التهمة.
وانتهى رحمه الله إلى القول بأن الأولى القول إنه تهمة شرعا بدليل
الاجماع المزبور، المؤيد بالنبوي المذكور في معرض الذم وإن لم يكن من
طرقنا: (ثم يجئ قوم يعطون الشهادة قبل أن يسألوها)، وآخر: (ثم يفشو
الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد) وثالث: (تقوم الساعة على قوم
يشهدون من غير أن يشهدوا) مع ما ورد (من أنها تقوم على شرار الخلق).
قال: إلا أن المتجه حينئذ الاقتصار على ما علم كونه موردا للاجماع.
قلت: إن تنزيل الشارع لشئ بمنزلة شئ آخر يكون تارة من قبيل:
(الطواف بالبيت صلاة) حيث نزل الطواف منزلة الصلاة في أحكامها وبلحاظ

208
ما يعتبر فيها من الطهارة وغير ذلك.
وأخرى يكون تنزيلا لموضوع بمنزلة موضوع آخر، كحكمه باطلاق
ماء قد استعمل فشك في اطلاقه أو كريته بقوله: لا تنقض اليقين بالشك، فجعل
هذا الماء المشكوك في اطلاقه ماءا مطلقا وكرا، كما كان في حالته السابقة،
وإن كان مشكوكا بالوجدان.
فإن أراد تنزيل (التبرع) بمنزلة (التهمة العرفية) من قبيل الأول، فهذا
خلاف ظواهر كلمات الأصحاب، لأن موضوع الحكم عندهم (التهمة)،
ولم يقل أحد منهم بأن التبرع بمنزلة التهمة، على أنه يصح أن يقال: شهادة
المتبرع لا تقبل للتهمة، ولا يقال: يشترط في الطواف الطهارة لأنه صلاة.
وإن كان التنزيل من قبيل الثاني ففيه أنه لا شك في اشتمال التبرع على
التهمة، وحيث لا تهمة قطعا فلا معنى للتنزيل.
وأما الأحاديث التي ذكرها فمع الغض عن أسانيدها نقول: بأنه ليس في
الخبر الأول ذكر للتهمة، بل الموضوع فيه الشهادة قبل السؤال، وفي الثاني
يوجد لفظ (الكذب) وذم الشهادة قبل الاستشهاد، وكذا لا كلام في الثالث
الذي هو من أخبار المستدرك عن دعائم الاسلام عن جعفر عن آبائه عن علي
عليهما السلام.
فظهر أن للتعليل بالتهمة الواقع في كلام كثير من الأصحاب مدخلية في
الحكم، فهي إما علة الحكم أو الحكمة فيه.
ولو شهد هذا المتبرع في مجلس آخر بعد السؤال قبلت، لعدم كونه
متبرعا حينئذ، ولا يضر بعدالته رد شهادته السابقة للتهمة، بل لو أعادها في نفس
المجلس بعد السؤال قبلت كذلك.

209
2 - التبرع بالشهادة في حقوق الله
قال المحقق قدس سره: (أما في حقوق الله تعالى أو الشهادة للمصالح
العامة فلا يمنع، إذ لا مدعي لها، وفيه تردد).
أقول: في قبول شهادة المتبرع في حقوق الله تعالى كشرب الخمر والزنا
وفي الشهادة للمصالح العامة كالمدارس والمساجد والقناطر قولان، وقد تردد
المحقق بينهما، ويظهر وجه التردد بعد ذكر أدلة القولين:
فالمشهور شهرة عظيمة هو القبول، بل في الجواهر استقرار المذهب
عليه، وقد استدل له المحقق وغيره، بوجوه أحدها: أن حقوق الله والمصالح
العامة لا مدعي لها بالخصوص، لاختصاص الحق بالله تعالى، أو لاشتراكه بين
الكل، فحقوق الله تعالى لا مدعي لها أصلا، والمصالح العامة كل الناس
مدعون فيها، من جهة كونها مشتركة بين الناس كلهم ومنهم الشاهد نفسه، فيكون
الشاهد مدعيا في الحقيقة، قال كاشف اللثام: (فلو شرطنا الابتداء بالدعوى لم
يبتدئ بها إلا بعضهم، والشهادة لا تثبت حينئذ إلا قدر نصيبهم، وهو مجهول
لتوقفه على نسبة محصور إلى غير محصور).
الثاني ما ذكره بقوله: (ولأن المصلحة إذا عمت عدول المؤمنين بأجمعهم
كانت الشهادة منهم دعوى، فلو توقفت على دعوى غيرهم كان ترجيحا من
غير مرجح).
والثالث: لزوم الدور.
والرابع: إن الشهادة بحقوق الله تعالى نوع من الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، وهما واجبان، والواجب لا يعد تبرعا.
والخامس: إنه مقتضى الجمع بين ما مر من الخبرين، وهما قوله صلى

210
الله عليه وآله وسلم (ثم يفشو الكذب.) وقوله: (تقوم الساعة.) وبين
قوله صلى الله عليه وآله: (ألا أخبركم بخير الشهود؟ قالوا: بلى يا
رسول الله. قال: أن يشهد الرجل قبل أن يستشهد)
لكن يمكن المناقشة في الأول: بأن القائل بالمنع إنما يقول به لأجل
توقف قبول الشهادة على طلب المدعي، وذلك يكون في كل دعوى لها مدعي
وأما مع عدمه كحقوق الله فلا توقف. وأما في المصالح العامة فإن ما ذكره كاشف
اللثام يتوجه إذا كانت الشركة فيها شركة اشاعية يكون لكل فرد منها نسبة كسرية
كالواحد في الألف مثلا، وأما مع كون الاشتراك فيها بمعنى أن يكون كل
واحد من الناس ذا حق في الاستفادة من الكل فلا يتم الاستدلال، إذ يجوز
حينئذ أن يدعي أحد كون هذا المكان مسجدا ويشهد له اثنان، وأما ما دل
على عدم قبول شهادة الشريك في المال المشترك فمحمول على الأموال
والأملاك المشتركة بين جماعة لسبب من الأسباب، لا المصالح العامة المشتركة
بين كل الناس كالمساجد والمدارس ونحوها.
ومنه يظهر النظر في الوجه الثاني، فإن كل من يشهد فهو بالنسبة
إلى حق نفسه مدع وبالنسبة إلى حق غيره شاهد، فلا يرد اشكال الترجيح بلا
مرجح.
وكذا الثالث، فإنه لا يلزم الدور على ما ذكرناه.
وفي الرابع: إنه لو سلم فخارج عن الفرض.
وفي الخامس: إنه يحتمل أن يكون المراد من (قبل أن يستشهد) هو قبل
أن يطلب منه التحمل، فيكون مما دل على الخيار، ومن كان مخيرا بين
الإقامة والترك فقد أحسن احسانا باختيار جانب الإقامة، فيكون خير الشهود.
فهذا هو القول الأول وما استدل به له.

211
والقول الثاني محكي عن الشيخ في النهاية، وقد استدل له بأن التهمة
المانعة من قبول الشهادة موجودة في حقوق الله والمصالح العامة وفي حقوق
الآدميين على السواء، فيمنع من القبول فيهما، لتساويهما في العلة.
وفي الرياض بعد أن ذكر دليل القول بالقبول: (وفي هذا نظر، إذ ليس فيه
ما يفيد تقييد الأدلة المانعة عن قبول الشهادة مع التهمة بعد حصولها، كما هو
فرض المسألة بحقوق الآدميين خاصة، ومجرد عدم المدعي لحقوق الله تعالى
لا يرفع التهمة، ولا يفيد التقييد المزبور، إذ لا دليل على إفادته له من اجماع
أو رواية، وأداء عدم القبول فيها إلى سقوطها لا دلالة فيه على أحد الأمرين أصلا،
ولا محذور في سقوطها مع عدم قبولها، بل هو مطلوب لبناء حقوق الله تعالى
على التخفيف، اتفاقا فتوى ونصا).
أقول: إن المنع من قبول شهادة المتبرع في موجبات الحدود يؤدي إلى
سقوطها رأسا، ومعنى ذلك انتفاء الحكمة في تشريعها لا إلى التخفيف فيها،
لانحصار طريق ثبوتها حينئذ بالاقرار وهو نادر جدا.
إلا أنه لبناء حقوق الله تعالى على التخفيف جعل لقبول الشهادة في موجبات
الحدود أحكاما كثيرة وشديدة.
قال: (ولو سلم فإنما يؤدي إلى السقوط لو ردوه مطلقا، سواء كان في
مجلس التبرع أو غيره، أما لو خص الرد بالأول كما هو رأي بعض في
حقوق الآدميين فلا يؤدي إلى السقوط، لامكان قبوله لو أدى في مجلس آخر
من غير تبرع ثانيا) أي: يعيد الشهادة بعد أمر الحاكم بإقامتها بطلب من
المدعي.
قال: (وبما ذكرنا يظهر قوة القول الأول. إلا أن ندرة القائل به، بل وعدمه،
لرجوع الشيخ عنه في المبسوط إلى خلافه، واشتهاره بين المتأخرين أوجب

212
التردد فيه. ويمكن أن يكون هذا وجها للتردد من الفاضلين، لا ما مر، فتأمل).
وصاحب الجواهر لما كان مبناه عدم قبول اطلاقات مانعية التهمة، بل قال
بأن المستفاد منها مانعيتها في الجملة، ففي كل مورد قام اجماع أو نص على
المنع فهو، وفي موارد الشك يتمسك بعموم أدلة قبول شهادة العدل، وقد
عرفت أنه لا اجماع ولا نص في المقام، فإنه على هذا المبنى أشكل على الرياض
بقوله: (ومن أنصف وتأمل رأى أن أكثر ما ذكره السيد في الرياض هنا ساقط
لا يوافق فتاوى الأصحاب، بل ولا قواعد الباب، والتحقيق ما عرفت من القبول
في المقام، لعدم الاجماع، بل مظنته في العكس).
قلت: أما عدم الموافقة لفتاوى الأصحاب فقد اعترف به صاحب الرياض،
وأما قواعد الباب فكأنه يريد عدم الدليل على مانعية كل تهمة، وقد عرفت اختلاف
المبنى في ذلك.
وأما قوله بعد ذلك: (بل على احتمال كون مبنى المنع في التبرع عدم
الإذن من صاحب الحق يتجه القبول هنا، لعدم مدع بالخصوص).
فيرد عليه نفس ما أورده على الرياض من عدم موافقته لفتاوى الأصحاب،
فإن صريح ما عثرنا عليه من كلماتهم كون المنع من جهة التهمة لا من جهة عدم
إذن صاحب الحق.
3 - التبرع بالشهادة في الحقوق المشتركة
وفي الحقوق المشتركة بين الله تعالى وبين الآدميين وجوه:
الأول: القبول في حق الله تعالى لأنه لا مدعي له والرد في حق الآدمي للتهمة
أو الاجماع كما تقدم، فحينئذ تقطع يد السارق بشهادة المتبرع ولا يغرم.
الثاني: القبول فيهما معا، لأن المانع من القبول في حق الآدمي بناءا على

213
عدم مانعية مطلق التهمة هو الاجماع، وهو دليل لبي ومعقده حق الآدمي الخالص،
فيؤخذ بالقدر المتيقن منه، ويبقى المشترك على عموم أدلة القبول.
الثالث: التفصيل بين الموارد، بأن تقبل في الطلاق والعتاق والرضاع
والخلع والعفو عن القصاص والنسب، لغلبة حق الله تعالى فيها، قاله كاشف
اللثام، قال: ولذا لا تسقط بالتراضي.
أقول: إن الملاك هو أن كل ما كان الأمر فيه بيد الشارع وكان معنونا بعنوان
الحكم فهو حق الله وإن كان فيه حق الآدمي أيضا، وكل ما لم يكن كذلك فهو
حق آدمي خالص، وهذا هو القابل للسقوط بالتراضي.
(المسألة الخامسة)
(في شهادة المشهور بالفسق إذا تاب لتقبل)
قال المحقق قدس سره: (المشهور بالفسق إذا تاب لتقبل شهادته. الوجه
أنها لا تقبل حتى يستبان استمراره على الصلاح).
أقول: موضوع الحكم هو (المشهور بالفسق) وهو مقيد بأنه إذا تاب
لتقبل شهادته، وظاهره كفاية التوبة من غير المشهور بالفسق إذا لم تكن توبته لأجل
قبول الشهادة، فلا يتوقف قبول شهادته على مضي مدة يستبان فيها استمراره على
الصلاح.
إذن يشترط في قبول شهادة المشهور بالفسق إذا تاب أمران: أحدهما أن
لا تكون الغاية من توبته قبول شهادته. قيل. كما في الجواهر لأن التوبة واجبة من
الواجبات العبادية المشروطة بقصد القربة وامتثال أمر الله تعالى، ولذا اعتبر
بعضهم في تحققها كذلك كون الترك عن جميع المعاصي والذنوب، لا خصوص
التي كان يرتكبها.

214
والحاصل أنه إذا لم تكن توبته بقصد القربة فليست توبته حقيقية، لأن عدم
التوبة الحقيقية كما يكون بعدم الندم الواقعي بل إنه يتظاهر بالندم لأجل قبول
شهادته، كذلك يكون بعدم قصد القربة وإن كان نادما وتاركا واقعا، كمن ترك
معصية لأنها تضر ببدنه ومزاجه. فهما في عدم تحقق التوبة على السواء
قلت: إن من ترك معصية حفظا لبدنه فهو تائب لغة، لأن التوبة هي الرجوع
عما كان يفعل، اللهم إلا أن يقال بأن قبولها مشروط بالقربة، فمن ترك شرب الخمر
حفظا لصحته لم تحصل منه التوبة المقبولة. لكن في الجواهر: إن هذه التوبة
منه معصية أخرى، ولعله يريد أن ذلك اصرار منه على ترك التوبة أو أنه بدعة،
وإلا فإن وجه ما ذكره غير واضح.
وقيل كما في القواعد وكشف اللثام إن هذه التوبة من مصاديق التهمة،
فوجه عدم قبول شهادته هي التهمة لا ما ذكره صاحب الجواهر.
وأما أنه هل يعتبر في التوبة الاخلاص فيكون من الواجبات التعبدية أو لا
يعتبر فيكون من الواجبات التوصلية؟ فإن هذا بحث كلامي، فصاحب التجريد
يعتبر في التوبة كون ترك الذنب من جهة كونه قبيحا، ومن هنا يعتبر فيها أن يكون
الترك لجميع المعاصي لا لخصوص ما يرتكبه، لاشتراكها جميعا في القبح. وأما
إذا كان السبب في الترك هو الضر للبدن فلا ملازمة بين ترك ما كان يفعله وترك
غيره من الذنوب، إذ قد لا يكون في غيره ضرر على بدنه فلا يتركه.
إنما الكلام في قبول توبة من تاب خوفا من عذاب الله وعدم قبولها،
ففي التجريد وشرحه للعلامة عدم القبول، لاشتراط كون التوبة لله، وفيه
تأمل، لأن التوبة من عذاب الله لا ينافي الاخلاص، إذ العقاب إنما يجعل
على المخالفة لأن يكون رادعا للعبد عن المخالفة وداعيا إلى الإطاعة، فكيف
لا تكون التوبة لهذا الداعي مقبولة؟ إن التوبة من الذنب فرارا من العذاب

215
المترتب عليه ليس كالفرار من المؤذيات الدنيوية الواجب الحذر منها وجوبا
توصليا، على أن لازم ذلك أن لا تقبل عبادة المطيعين لله خوفا من ناره أو طمعا
في جنته، وهذا لا يلتزم به أحد.
هذا كله بالنسبة إلى الأمر الأول.
وأما الثاني وهو اشتراط استبانة استمراره على الصلاح، فقد نص عليه
غير المحقق من الفقهاء كالعلامة في القواعد، والشهيد في الدروس.
قال المحقق: (وقال الشيخ: يجوز أن يقول: تب أقبل شهادتك).
أقول: هذا قول الشيخ في موضع من المبسوط، قال العلامة: (وليس
بجيد، نعم لو عرف استمراره على الصلاح قبلت) وفي الدروس: (هذا يتم
إذا علم منه التوبة بقرائن الأحوال).
وفي المسالك: (وذهب الشيخ في موضع من المبسوط إلى الاكتفاء
باظهار التوبة عقيب قول الحاكم له: تب أقبل شهادتك، لصدق التوبة المقتضي
لعود العدالة مع انتفاء المانع، فيدخل تحت عموم قبول شهادة العدل.
وأجيب بمنع اعتبار توبته حينئذ لأن التوبة المعتبرة هو أن يتوب عن
القبيح لقبحه، وهنا ظاهرها أنها لا لقبحه، بل لقبول الشهادة، وفيه نظر، لأنه
لا يلزم من قوله تب أقبل شهادتك. كون التوبة لأجل ذلك، بل غايته أن تكون
التوبة علة في القبول، أما أنه غاية لها فلا، وأيضا فالمأمور به التوبة المعتبرة
شرعا، لا مطلق التوبة، فالمغياة بقبول شهادته ليست كذلك، نعم مرجع كلامه
إلى أن مضي الزمان المتطاول ليس بشرط في ظهور التوبة، والأمر كذلك إن
فرض غلبة ظن الحاكم بصدقة في توبته في الحال، وإلا فالمعتبر ذلك).
قال في الجواهر: ومرجع ذلك إلى كون النزاع مع الشيخ لفظيا، وهو
خلاف ما فهمه المصنف وغيره.

216
ثم قال: وظني أن الشيخ يجتزئ لأصل الصحة بمجرد اظهار التوبة
في تحققها المقتضي لاجراء الأحكام عليها، التي منها قبول الشهادة، للنصوص
المستفيضة التي تقدم سابقا جملة منها في توبة القاذف، الدالة على قبول شهادة
الفاسق إذا تاب، بل لا خلاف فيه في الظاهر. وفيه: أن التوبة لما كانت من
الأمور القلبية، ضرورة كونها الندم والعزم، وهما معا قلبيان، واخباره بحصولهما
لا دليل على الاجتزاء به، بل ظاهر الأدلة خلافه، فليس حينئذ إلا تعرفهما
بالآثار الدالة على ذلك، نحو غيرهما من الأمور الباطنة، ولا يجدي أصل
الصحة في حصول التوبة، ضرورة كون مورده الفعل المحقق في الخارج
المشكوك في صحته وفساده، كالبيع والصلاة ونحوهما، لا الأفعال القلبية التي
لم يعلم حصولها، كما هو واضح، وبذلك ظهر لك وجه البحث على أحسن وجه
فتأمل).
في التوبة حكما وموضوعا
وكيف كان فقد انقدح بما ذكرنا أن الفاسق لا تقبل شهادته، إلا أن يتوب
عن المعصية، لكونها معصية، ولا بد من احراز الحاكم هذه التوبة إما بعلم
وإما بحجة شرعية، هذا في المشتهر بالفسق، وأما غيره فتقبل شهادته وإن كانت
توبته لقبولها، لأن المفروض كونه واجدا لملكة العدالة، وبالتوبة تعود تلك
المكلة.
قالوا: وترك التوبة معصية صغيرة، ومع الاصرار على الترك تكون كبيرة،
والوجه في ذلك أن العقاب يترتب بحكم العقل على مخالفة الأوامر والنواهي
الإلهية، من جهة أن الخوف من العقاب يدعو إلى الامتثال والإطاعة، ولولا
العقاب لما أطاع أكثر الناس، ولكن لا حكم للعقل باستحقاق العقاب على

217
معصية الأمر بالتوبة عن المعصية. وأما الشرع فقد جعل معصية الأمر بالتوبة
عن المعاصي معصية صغيرة لا يعاقب عليها مع ترك المعاصي الكبيرة، قال الله
عز وجل: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) فإن أصر على
الترك للتوبة كانت المعصية كبيرة كسائر الصغائر.
والحاصل: أن وجوب التوبة حكم شرعي مولوي، ولكن لا دليل من
الشرع على أن مخالفته معصية كبيرة، كما لا حكم من العقل على استحقاق
العقاب على مخالفة هذا الأمر، كما يحكم باستحقاقه على ارتكاب نفس المعصية
المنهي عنها، وإلا لزم التسلسل.
ثم إن التوبة تتحقق بمجرد الندم على المعصية (1)، والعزم على عدم العود
إليها، فهذا حقيقة التوبة، لكن قبولها مشروط، كما أنها تكمل بأمور منها
الاستغفار. وتفصيل ذلك:
إن الذنب قد يكون خاليا من حق لله والعباد، فهنا لا شئ عليه سوى الندم
والعزم، وذلك كالنظر إلى الأجنبية ونحوه، وقد يكون فيه حق لله، مثل ترك
الصلاة مثلا، فالواجب عليه الندم والعزم، ولا تقبل هذه التوبة إلا بقضاء
الصلاة، وقد يكون فيه حق للعباد، فقبول توبته يتوقف على أداء الحق إلى مستحقه
سواء كان مالا أو دية، وقد يكون فيه حق الله والعباد كالسرقة، فلا بد من القيام
بالحقين حتى تقبل توبته.
ولو عصى معصية مستتبعة للحد الشرعي وليس فيها حق للعباد ولم يعلم



(1) تاب إلى الله أناب ورجع عن المعصية إلى الطاعة. كذا في التاج
وغيره، فليس فيه العزم على عدم العود وغيره، نعم ذلك مقتضى الملازمة العرفية.
218
بها أحد كالزنا ثم تاب عن ذلك قبلت توبته وسقط عنه الحد، كما أنه إذا
استحل من مستحق الحق المالي فأبرأه قبلت توبته، ومع عدم الابراء دفع إليه
الحق بعينه، كما إذا كان عينا مغصوبة وهي موجودة وإلا فالعوض من المثل
أو القيمة، فإن لم يتمكن من ذلك مطلقا عزم على الأداء في أول أوقات الامكان،
ولو لم يتمكن من ايصاله إلى صاحب لموته دفعه إلى وارثه، وإلا فإلى وارث
وارثه، وهكذا، فإن بقي إلى الآخرة فمن المطالب منه هنا؟ الشخص المغصوب
منه، أو وارثه لأنه الذي تنقل إليه أمواله ومنها العين المغصوبة مثلا، أو أن المطالب
هو الله سبحانه؟ وجوه. قال في المسالك: أصحها الأول. واستدل له بصحيحة
عمر بن يزيد.
وأما إذا ظهر الزنا فقد فات الستر، فيجب عليه الحضور عند الحكم لإقامة
الحد عليه، إلا أن يكون ظهوره قبل قيام البينة عليه عنده، فقد تقرر في كتاب
الحدود سقوط الحد مطلقا بالتوبة قبل قيام البينة عند الحاكم.
وأما إذا كان في الحد حق للعباد، كحد القدف، فإن توبته تقبل بالاستحلال
من المقذوف مع تكذيب ما نسبه إليه، وللمقذوف حينئذ المطالبة باجراء الحد
عليه، فإن كان ميتا انتقل الحق إلى وارثه، وليس له الرضا بعدم اجراء الحد
عليه، قاله في الجواهر، ودليله غير واضح.
وأما القصاص فإن توبته تقبل بالحضور عند ولي المقتول، وله العفو عنه
أو القصاص.
وقد اشترطوا في الاستحلال من الغيبة ونحوها فيما إذا بلغه ذلك أن لا يكون
فيه أذى على الشخص وإلا تركه واستغفر.
وهل يجب عليه الاستغفار والقيام بالأعمال الصالحة للمغصوب منه الميت،
بالإضافة إلى دفع الحق إلى وارثه؟ الظاهر ذلك.

219
هذا كله بالنسبة إلى حقيقة التوبة وشرائط قبولها.
وقد اشتمل قول أمير المؤمنين عليه السلام وقد سمع قائلا يقول:
أستغفر الله: (ثكلتك أمك أتدري ما الاستغفار؟ إن الاستغفار درجة العليين
وهو اسم واقع على ستة معان، أولها: الندم على ما مضى، الثاني: العزم على
ترك العود إليه أبدا، الثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله
سبحانه أملس ليس عليك تبعة. الرابع: أن تعمد إلى فريضة ضيعتها فتؤدي حقها
الخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى
يلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد. السادس: أن تذيق الجسم ألم
الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية) على بيان حقيقة التوبة وأنها الندم على ما
مضى والعزم على ترك العود إليه أبدا. فإن بينهما ملازمة عرفية، وعلى بيان
ما يتوقف عليه قبولها وهو أداء حق المخلوقين، وحق الله.
واشتمل أيضا على شرط كمال التوبة وهو الأمران الخامس والسادس،
فإن هذين الأمرين شرطان لكمال التوبة لا لقبولها، ويؤيد ذلك قيام الاجماع
على تحقق التوبة وقبولها من الكافر وإن بقي على بعض المعاصي.
وهل يعتبر فيها الاستغفار؟
وأما الاستغفار، فقال الشيخ الأنصاري قدس سره في بحثه عن التوبة:
(وهل يعتبر فيها الاستغفار أم لا؟ التحقيق أنه إن أريد به حب المغفرة وشوق
النفس إلى أن يغفر له الله فالظاهر أنه لا ينفك عن الندم، وإن أريد به الدعاء
للمغفرة، الذي هو نوع من الطلب الانشائي، ففي اعتباره وجهان من اطلاقات
الندم، ومن مثل قوله صلى الله عليه وآله: لا كبيرة مع الاستغفار.
وقوله: دواء الذنوب الاستغفار. وقوله: ما أصر من استغفر ونحو ذلك).

220
أما ما ذكره في الشق الأول ففيه: أن الانسان قد يندم على ما فعله، ويكون
لشدة خجله مما فعل غافلا عن حب المغفرة. فلا ملازمة بين الأمرين، ولعل
الشيخ يريد حال الالتفات وتحقق الاشتياق إلى المغفرة.
وفي الشق الثاني نقول بالوجه الأول وهو عدم الاعتبار لاطلاقات الندم،
وأما رواية (لا كبيرة مع الاستغفار) فلا تنفي زوال الكبيرة مع التوبة، لعدم
إفادتها الحصر، بل إن الاستغفار المؤثر يكون دائما عن الندم. وكذا الكلام
في الخبرين الآخرين.
والتحقيق: إن الانسان التائب يسؤه فعله في أول الأمر فيندم منه، ثم
يستغفر الله، أي يطلب منه الغفران، فالاستغفار هو طلب المغفرة المسبوق
بالندم والعزم على عدم العود. والمراد من التوبة هو الرجوع إلى الله، والإطاعة
العملية في أوامره ونواهيه.
والمستفاد من قوله عليه السلام في خبر جنود العقل والجهل: (التوبة
وضدها الاصرار، والاستغفار وضدها الاغترار) هو أن التوبة توجب المغفرة
من الله تفضلا منه عز وجل، لكن التائب مأمور بالاستغفار لئلا يغتر بعفو الله
وتوبته عليه، فيكون الاستغفار غير التوبة، وهي تتحقق بدونه لكنه مكمل لها.
فتحصل أن التوبة غير الاستغفار لغة وعرفا، نعم قد يظهر الانسان ندمه على
المعصية وعزمه على عدم العود بقوله أستغفر الله، كما يظهر ذلك بقوله أتوب
إلى الله. وإذا جمع بينهما فقال: أتوب إلى الله واستغفره، أو: أستغفر الله
وأتوب إليه كان أكمل، لأن (أتوب إلى الله) اظهار للندم، (وأستغفر الله) طلب
للستر عليه، فإن الغفر في اللغة التغطية، فهو حينما يندم ويتوب إلى الله يطلب
منه الستر، لأن الله قد لا يستر على من عصاه، كما في قصة آدم عليه السلام،
إذ قال: (وعصى آدم ربه فغوى) وحكى قصته في القرآن الكريم وغيره من

221
الكتب السماوية مع أنه قبل توبته وقربه إليه واختاره نبيا لمصالح اقتضت
ذلك.
ولأن من آثار الاستغفار هو طهارة الانسان من الأدناس والأرجاس والاقبال
على الله بقلب طاهر ونفس زكية تؤهله للوصول إلى جناب الحق سبحانه
وتعالى، والله سبحانه ولي التوفيق.
ثم إن ظاهر قوله تعالى: (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء
جهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما.
وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني
تبت الآن ولا الذين يموتون وهو كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما) هو: أن
التوبة المقبولة هي التي تكون من قريب فقط، أي هي توبة الذين يندمون
بعد السيئة بفاصلة قليلة، ولكن قوله بعد ذلك: وليست. يفيد وجود الفرصة
للقبول حتى حلول الموت. وفي الخبر عن الفقيه عن الني صلى الله عليه
وآله وسلم: (من تاب وقد بلغت نفسه هذه وأهوى بيده إلى حلقه تاب
الله عليه) وعنه عن الصادق عليه السلام في الآية: (ذلك إذا عاين أمر
الآخرة) (1).
نسأل الله المغفرة لنا وجميع المؤمنين، بمحمد وآله الطاهرين.
(المسألة السادسة)
(في ما إذا تبين في الشهود ما يمنع القبول بعد الحكم)
قال المحقق قدس سره: (إذا حكم الحاكم ثم تبين في الشهود ما يمنع
القبول، فإن كان متجددا بعد الحكم لم يقدح، وإن كان حاصلا قبل الإقامة وخفي



(1) الصافي في تفسير القرآن 1 / 399. والآية في سورة النساء: 17
222
عن الحاكم نقض الحكم)
أقول: في هذه المسألة صور:
إحداها: أن يحكم الحاكم ثم يتبين في الشهود ما يمنع قبول الشهادة
مع العلم بكون المانع متجددا بعد الحكم، فلا خلاف في عدم قدح هذا
المانع في الحكم، بل ولا اشكال، من جهة وقوعه بحسب الموازين الشرعية،
وعدم وجود المانع عن قبول الشهادة حتى صدور الحكم.
والثانية: أن يحكم الحاكم ثم يتبين المانع مع العلم بكونه حاصلا
بعد إقامة الشهادة وقبل الحكم من الحاكم. وسيأتي البحث في هذه الصورة
إن شاء الله تعالى.
والثالثة: أن يحكم الحاكم ثم يتبين وجود المانع مع العلم بكون
المانع حاصلا قبل إقامة الشهادة، وأنه قد خفي عن الحاكم، فإن الحكم ينقض
حينئذ، لوضوح عدم وقوع الحكم بحسب الموازين الشرعية.
قال في المسالك: إذا حكم الحاكم شهادة اثنين، ثم بان له ما يمنع قبول
الشهادة، فإن كان المانع متجددا بعد الحكم كالكفر والفسق لم ينقض الحكم
مطلقا، لوقوعه بشهادة عدلين، وإن كان حدوثه بعد الشهادة وقبل الحكم
فسيأتي البحث فيه، وإن كان حاصلا قبل الإقامة وخفي على الحاكم، كما لو تبين
له أنهما كانا كافرين أو صبيين أو عبدين على وجه لا يقبل فيه شهادتهما أو
امرأتين أو عدوين للشهود عليه أو أحدهما عدوا أو ولدا له على القول به
نقض حكمه، لأنه تيقن الخطأ فيه، كما لو حكم باجتهاده ثم ظهر النص
بخلافه. ولو تبين لقاض آخر أنه حكم بشهادتهما كذلك نقض حكمه أيضا،
إلا في صورة الحكم بالعبدين والولد مع اختلافهما في الاجتهاد، وذهاب

223
الحاكم إلى قبول شهادتهما، فليس للثاني نقضه حينئذ، ولو كان موافقا له في
الاجتهاد فاتفق غلطه نقضه أيضا).
طريق ثبوت الفسق قبل الحكم
قال: (وطريق ثبوت فسقهما سابقا يحصل بحضور جارحين بأمر سابق
على الشهادة).
واعترضه صاحب الجواهر بقوله: (بعد تنزيل كلامه على إرادة استمراره
إلى حين الشهادة التي قد حكم بها من السابق: قد يشكل ذلك بمنافاته لمشروعية
القضاء الذي هو الفصل المبني على الدوام والتأييد، وأنه لا تجوز الدعوى
عنده ولا عند حاكم آخر، ضرورة أن البينة المزبورة تقتضي العلم بفساد ميزان
الحكم، خصوصا مع امكان معارضتها بأقوى منها حال القضاء، أو الجرح
لها، أو بغير ذلك فلا ينقض الحكم المحمول شرعا على الوجه الصحيح
المبني على الدوام والتأييد، الموافق للحكمة المزبورة بالبينة المفروضة،
خصوصا بعد سؤال الحاكم الجرح للخصم فعجز عنه، ثم إنه تيسر له بعد ذلك
شاهدان، بل لو فرض بقاء حق الجرح له بعد الحكم لم تبق فائدة للحكم، بل
ليس الفصل فصلا. نعم لو بان الجرح على وجه يعلم خطأ الحاكم فيه لغفلة
ونحوها اتجه ذلك. ويمكن تنزيل كلام الأصحاب على ذلك، بل لعل حكمهم
بعدم النقض بالتغيير بالاجتهاد مما يرشد إلى ذلك، ضرورة كون السبب فيه
عدم معلومية الخطأ المشترك في المقامين).
وقد تعرض المحقق للمسألة في كتاب القضاء حيث قال: (ولو حكم
بالظاهر ثم تبين فسوقهما وقت الحكم نقض حكمه). قال في الجواهر: (اللهم
إلا أن يدعي أن الشرط علمي، نحو العدالة في إمام الجماعة. لاطلاق ما دل

224
على نفوذ الحكم وعدم جواز رده إذا كان على نحو قضائهم عليهم السلام
وعلى حسب الموازين التي نصبوها لذلك، ولا دليل على اشتراط أزيد من
ذلك، حتى قوله تعالى: وأشهدوا ذوي عدل. المراد منه ذوي عدل عندكم،
لا أقل من الشك فيبقى ما دل على نفوذ الحكم بحاله.
لكن اتفاق كلمة الأصحاب ظاهرا على النقض، مع أصالة الواقعية في
الشرائط، ولو كانت مستفادة من نحو: وأشهدوا الآية. يرفع ذلك كله، مضافا
إلى امكان الفرق بين ما هنا وبين الجماعة، بأن المدار هناك على الصلاة خلف
من تثق بعدالته نصا وفتوى، وظهور الفسق فيما بعد لا ينافي الوثوق، بخلاف
المقام المعتبر فيه كونه عدلا).
هذا وقد ذكر الشهيد الثاني هنا فرعين: أحدهما: لو قال القاضي بعد
الحكم بشهادة شاهدين: قد بان لي أنهما كانا فاسقين ولم يظهر بينة تشهد
بفسقهما، ففي تمكينه من نقضه وجهان، أظهر هما ذلك، بناء على جواز قضائه
بعلمه).
والثاني: لو قال: أكرهت على الحكم بقولهما، وكنت أعرف بفسقهما،
قبل قوله من غير بينة على الاكراه مع ظهور أماراته، كما لو كان قاضيا من
قبل سلطان جائر يظهر في حقه ذلك. وإلا فوجهان، ولعل القبول أقوى مطلقا).

225
الوصف السادس: طهارة المولد
قال المحقق قدس سره: (السادس: طهارة المولد، فلا تقبل شهادة
ولد الزنا أصلا. وقيل: تقبل في اليسير مع تمسكه بالصلاح. وبه رواية نادرة).
أقول: اختلف الأصحاب في شهادة ولد الزنا، فالمشهور بينهم شهرة
عظيمة كادت تكون اجماعا، بل هي كذلك في محكي الانتصار والخلاف
والغنية والسرائر أنها لا تقبل أصلا.
واختلفوا في تعليل عدم القبول، فالأكثر عللوه بورود النصوص الآتية
بذلك وعلله ابن إدريس بأن ولد الزنا كافر، محتجا بالاجماع، ومن هنا لا
تقبل شهادته كغيره من الكفار. واحتج السيد بالاجماع وبالخبر الذي ورد أن
ولد الزنا لا ينجب، قال: فإذا علمنا بدليل قاطع أنه لا ينجب لم يلتفت إلى
ما يظهر من الايمان والعدالة، لأنه يفيد ظن صدقه، ونحن قاطعون بخبث
باطنه وقبح سريرته، فلا تقبل شهادته. وعلله ابن الجنيد بورود الخبر أنه
شر الثلاثة.
ولكن هذه الوجوه عد الأول لا تخلو من المناقشة، ولذا لم يوافق

226
عليها بعض القائلين بالمنع أيضا، وأما الاجماع الذي ذكره ابن إدريس على
كفر ولد الزنا فالظاهر أنه لم يدعه غيره، وأما الخبر الذي اعتمد عليه ابن
الجنيد فقد اعترضه السيد بأنه خبر واحد لا يوجب علما ولا عملا، واعترض
الشهيد الثاني عليه بأن هذا الايراد مشترك بين خبريهما، فلا وجه للتخصيص،
وعن المختلف الاعتذار للسيد بجواز كون خبره متواترا في زمانه ثم انقطع
قال في المسالك: ولا يخفى ما فيه من التكلف وظهور المنع. وأجاب في
الجواهر بأنه لا حاجة إلى صحة السند بعد الانجبار.
قلت: إن اعتراض السيد على ابن الجنيد، بضميمة أنه لا يرى حجية الأخبار
الآحاد، ودعواه القطع بأنه لا ينجب، يكشف عن وجود ما يقتضي إفادة الخبر
الذي احتج به للقطع عنده، فلا يرد عليه ما ذكره صاحب المسالك.
وكيف كان فإن العمدة في المقام هو النصوص الواردة في المسألة (1)،
المتأيدة بالوجوه المذكورة، وهذه جملة منها:
1 - أبو بصير: (سألت أبا جعفر عليه السلام عن ولد الزنا أتجوز شهادته؟
فقال: لا. فقلت: إن الحكم بن عتيبة يزعم أنها تجوز. فقال: اللهم لا تعفر
ذنبه. ما قال الله للحكم: وإنه لذكر لك ولقومك).
قال صاحب الوسائل: ورواه الصفار في بصائر الدرجات عن السندي بن
محمد عن جعفر بن بشير عن أبان بن عثمان مثله.
وعن علي بن إبراهيم عن صالح بن السندي عن جعفر بن بشير مثله.
ورواه الكشي في كتاب الرجال عن محمد بن مسعود عن علي بن الحسن
ابن فضال عن العباس بن عامر عن جعفر بن محمد بن حكيم عن أبان بن



(1) وسائل الشيعة 18 / 275 الباب 31. شهادات.
227
عثمان مثله وزاد: (فليذهب الحكم يمينا وشمالا، فوالله لا يوجد العلم إلا في
أهل بيت نزل عليهم جبرئيل).
2 - محمد بن مسلم: (قال أبو عبد الله عليه السلام: لا تجوز شهادة ولد
الزنا) وقد وصف المجلسي في مرآة العقول هذا الخبر بالصحة.
3 - زرارة: (سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: لو أن أربعة شهدوا
عندي بالزنا على رجل وفيهم ولد زنا لحددتهم جميعا، لأنه لا تجوز شهادته
ولا يؤم الناس).
وصفه المجلسي بالموثقة.
4 - الحلبي: (عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن شهادة ولد
الزنا. فقال: لا ولا عبد).
وصفه المجلسي بالصحة، وكذا غيره، واعترف بذلك صاحب المسالك
ثم قال: (لكن دلالته لا تخلو عن قصور).
وقذ أجاب في الرياض عن مناقشة المسالك في سند النصوص، وفي
الجواهر: لا حاجة إلى صحة السند بعد الانجبار والاعتضاد بما عرفت.
وكيف كان فإن هذه النصوص قد تعبدتنا بعدم قبول شهادة ولد الزنا وإن
كان عادلا، ولذا قد يفتى بصحة إمامته في الصلاة، من جهة عدم تمامية سند
ما دل على أنه (لا يؤم) إلا أن ينجبر بفتوى المشهور، وقد جوز في الجواهر
الطلاق عنده على تأمل فيه، لأن من آثار الطلاق عنده هو التمكن من الشهادة به
بعد ذلك، وقد عرفت عدم قبول شهادته.
هذا هو القول الأول في المسألة. وهو الأقوى.
القول الثاني ما ذكره المحقق، قال: (به رواية نادرة).
أقول: هي رواية الكليني باسناده عن الحسين بن سعيد عن فضالة عن

228
أبان عن عيسى بن عبد الله قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن شهادة ولد
الزنا. فقال: لا تجوز إلا في الشئ اليسير إذا رأيت منه صلاحا) (1).
وقد قال بها الشيخ في النهاية وابن حمزة كما في المسالك وغيره.
وأجيب عن هذه الرواية بحملها على التقية كما في الوسائل وغيره،
وبغير ذلك.
والقول الثالث هو القبول مطلقا وهو كما في المسالك: (للشيخ في المبسوط
أنه يقبل شهادته مع عدالته في الزنا وغيره. نقل ذلك عن قوم. قال: وهو
قوي. لكن أخبار أصحابنا تدل على أنه لا تقبل شهادته).
ويظهر من المسالك الميل إلى هذا القول، فإنه ناقش في سند أدلة المنع
إلا صحيح الحلبي فناقش في دلالته، وأجاب عن خبر عيسى بن عبد الله الدال
على القبول في اليسير فقط باشتراك عيسى بن عبد الله بين الثقة وغيره، قال: فلا
يعارض روايته تلك الأخبار الكثيرة أو عموم الكتاب والسنة الدالان على القبول
مطلقا) ومن هنا اعترض على كلام الشيخ في المبسوط بقوله: (ومجرد معارضة
أخبار أصحابنا لا يقتضي الرجوع عما قواه، لجواز العدول عن الاخبار لوجه
يقتضيه، فقد وقع له كثيرا. ووجه العدول واضح. وإن عموم الأدلة من الكتاب
والسنة على قبول شهادة العدل مطلقا يتناول ولد الزنا، ومن ثم ذهب إليه أكثر
من خالفنا).
وقد استغرب في الجواهر من هذا الكلام، وأجاب عنه بما لا مزيد عليه.
هذا كله في المعلوم حاله ولو شرعا أنه ولد زنا، قال في المستند: هذا
البحث قيل الجدوى.



(1) وسائل الشيعة 18 / 276 الباب 31. شهادات.
229
حكم ما لو جهلت حاله
قال المحقق: (ولو جهلت حاله قبلت شهادته وإن نالته بعض الألسن)
قال في الجواهر: بلا خلاف ولا اشكال لاطلاق الأدلة وعمومها.
أقول: إنه بعد أن تقرر عدم قبول شهادة ولد الزنا، فإن التمسك باطلاق
أدلة القبول وعمومها في من شك في كونه ولد زنا يكون من التمسك بالعام
في الشبهة المصداقية للمخصص، وكأن صاحب الجواهر يقول بجوازه، وعليه
السيد صاحب العروة.
ثم قال: نعم في الرياض يحتمل العدم في صورة النسبة عملا بالاطلاق
من باب المقدمة، وفيه أنه لا وجه لها مع أصل شرعي كالفراش ونحوه يقتضي
خلافها، بل ولو لم يكن فراش على الأصح في نحوه مما جاء النهي فيه على
طريق المانعية الظاهرة في اختصاص المعلوم دون المشكوك فيه الداخل في
العمومات.
قلت: لكن الذي في الرياض يختلف عما نقله، وهذا نص عبارته: (ثم
إن المنع يختص بمن علم كونه ولد الزنا، أما من جهل فتقبل شهادته بعد
استجماعه للشرائط الأخر من العدالة وغيرها، وإن نسب إلى الزنا، ما لم يكن
العلم بصدق النسبة حاصلا، وبه صرح جماعة من غير خلاف بينهم أجده.
ولعله للعمومات واختصاص الأخبار المانعة بالصورة الأولى دون الثانية،
لكونها من الأفراد غير المتبادرة، فلا ينصرف إليها الاطلاق كما مر غير مرة.
ويحتمل العدم لكنه ضعيف في صوره النسبة عملا بالاطلاق من باب المقدمة)
إلا أن كون الاطلاق منصرفا إلى الفرد المعلوم يخالف ما بني هو وغيره
عليه من أن الألفاظ منزلة على المفاهيم الواقعية لا المعلومة، فكون الدم نجسا

230
منزل على الدم الواقعي لا المعلوم كونه دما. على أن أفراد المشكوك أكثر من
المعلوم فلا يتم هذا الانصراف.
وأما الاطلاق فقد عرفت كون التمسك به مبنيا على القول به في الشبهات
المصداقية.
ثم قال في الجواهر: هذا إن لم نقل بظهور أصل شرعي في الحكم بطهارة
مولد كل من لم يعلم أنه ابن زنا.
قلت: لكن استفادة هذا المعنى يخالف ظواهر النصوص وعبارات الأصحاب
والله العالم.

231
(2) ما به يصير الشاهد شاهدا

233
في أن الضابط العلم أو الوثوق
قال المحقق قدس سره: (والضابط العلم لقوله تعالى: ولا تقف. ولقوله
صلى الله عليه وآله.)
أقول: إن (الشهادة) من (شهد) بمعنى حضر، ولكن ليس مطلق
الحضور مجوزا للشهادة، بل لا بد من العلم وسيأتي الكلام في ما يعتبر في
حصول العلم.
ويدل على اعتبار العلم الكتاب والسنة، فمن الكتاب قوله تعالى: (ولا
تقف ما ليس لك به علم) (1) قالوا: لا تقف أي لا تتبع، وفي الصافي: لا تقل. وقوله
تعالى: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) (2) ومن السنة: ما رواه المحقق عن
النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: وقد سئل عن الشهادة: (هل ترى
الشمس؟ على مثلها فاشهد أو دع).
ويدل عليه أخبار أخرى (3) منها:



(1) سورة الإسراء: 36.
(2) سورة الزخرف: 86.
(3) وسائل الشيعة 18 / 234 الباب 8 باب: أنه يجوز للانسان أن يشهد بما
يجده بخطه وخاتمه إذا حصل له العلم..
235
1 - علي بن غياث: (عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا تشهدن بشهادة
حتى تعرفها كما عرف كفك).
2 - السكوني: (عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: لا تشهد بشهادة لا تذكرها، فإنه من شاء كتب كتابا ونقش
خاتما).
فالضابط هو العلم، وبمثل عبارة المحقق قال الشهيد: والضابط في تحمل
الشهادة العلم بالسماع أو الرؤية أو بهما) والعلامة في القواعد قال: ومناطه
العلم القطعي وعليه صاحب الجواهر، وهو الأظهر.
وعن الشيخين والصدوقين وآخرين العمل بخبر عمر بن يزيد الآتي،
بل في الدروس نسبته إلى الأكثر، بل عن المختلف نسبته إلى المشهور بين
القدماء، وهذا نص الخبر بسنده:
(محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن الحسن
[الحسين] ابن علي بن النعمان عن حماد بن عثمان عن عمر بن يزيد قال
قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل يشهدني على شهادة، فأعرف خطي
وخاتمي، ولا أذكر من الباقي قليلا ولا كثيرا. قال فقال لي: إذا كان صاحبك
ثقة ومعه رجل ثقة فاشهد له).
وهذه الرواية صحيحة سندا، وظاهرها كون المناط الوثوق ولا حاجة إلى العلم.
وقد أجاب عنها في الرياض بعد الاعتراف بصحة سندها بالتأمل في شهرتها
بين القدماء كما هي، قال: لدلالتها على اعتبار كون المدعي أيضا ثقة ولم يعتبره
من الجماعة غير والد الصدوق خاصة، فالعامل بها على هذا نادر. لكن فيه: أن عدم
عمل المشهور بجزء من مدلول الخبر لا يوجب سقوطه عن الاعتبار، بل الأولى

236
تقييدها بصورة حصول العلم العادي بشهادة الثقة كما في الرياض والجواهر
قال في الجواهر: على أنه لم تتحقق نسبته إلى الأكثر.
ولو فرض صلاحيتها للمعارضة مع الأخبار المتقدمة المعتبرة للعلم فإنه
تعارض العموم من وجه. لأن مفهوم تلك النصوص عدم اعتبار الشهادة من
دون علم ولا تذكر سواء حصل الوثوق أو لم يحصل. ومفهوم الصحيحة كفاية
شهادة الثقة سواء حصل علم أو لا، فيقع التعارض في صورة الاجتماع بين
المفهومين، لكن الترجيح لتلك النصوص لكثرتها وشهرتها، بل تواترها كما عن
بعضهم، مضافا إلى أن أخبار اعتبار العلم موافقة للكتاب. قال تعالى: (ولا تقف
ما ليس لك به علم) والموافقة مع الكتاب من المرجحات المسلمة.
هل يجوز الشهادة استنادا إلى الاستصحاب؟
قال في الجواهر: قد يستفاد من صحيحة معاوية بن وهب وغيره جواز
الشهادة بالاستصحاب، وعن التنقيح: يكفي حصول العلم بالمشهود به حين
التحمل وإن جوز حصول النقيض في ما بعد في كثير من الصور، كالشاهد بدين
مع تجويز رده، والشاهد بملك مع تجويز انتقاله، والشاهد بزوجية امرأة
مع تجويز طلاقها، بل يكفيه الاستصحاب. وفي الوسائل: (باب جواز البناء
في الشهادة على استصحاب بقاء الملك وعدم المشارك في الإرث) (1).
ثم ذكر ثلاثة نصوص، وهي:
1 - معاوية بن وهب: (قلت له: إن بان أبي ليلى يسألني الشهادة عن هذه
الدار، مات فلان وتركها ميراثا وأنه ليس له وارث غير الذي شهدنا له. فقال:
اشهد بما هو علمك. قلت: إن بان أبي ليلي يحلفنا الغموس. فقال: احلف



(1) وسائل الشيعة 18 / 245 الباب 17 شهادات، وكلها تامة سندا.
237
إنما هو على علمك)
وهو ظاهر في جواز الاستناد إلى العلم الظاهري، وهو الاستصحاب.
2 - معاوية بن وهب: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل يكون له
العبد والأمة قد عرف ذلك، فيقول: أبق غلامي أو أمتي، فيكلفونه القضاة
شاهدين بأن هذا غلامه أو أمته لم يبع ولم يهب. أنشهد على هذا إذا كلفناه؟ قال:
نعم).
وهو ظاهر في ذلك كسابقه.
3 - معاوية بن وهب: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل يكون في
داره، ثم يغيب عنها ثلاثين سنة ويدع فيها عياله، ثم يأتينا هلاكه ونحن لا
ندري ما أحدث في داره ولا ندري ما أحدث له من الولد، إلا إنا لا نعلم أنه
أحدث في داره شيئا ولا حدث له ولد، ولا تقسم هذه الدار على ورثته الذين
ترك في الدار، حتى يشهد شاهدا عدل على أن هذه الدار دار فلان ابن فلان
مات وتركها ميراثا بين فلان وفلان، أونشهد على هذا؟ قال: نعم. قلت:
الرجل يكون له العبد والأمة فيقول: أبق غلامي أو أبقت أمتي فيؤخذ بالبلد،
فيكلفه القاضي البينة أن هذا غلام فلان، لم يبعه ولم يهبه، أفنشهد على هذا
إذا كلفناه ونحن لم نعلم أنه أحدث شيئا؟ فقال: كلما غاب من يد المرء المسلم
غلامه أو أمته، أو غاب عنك لم تشهد به).
لكن الجواب عن هذه النصوص هو أن صريح الإمام عليه السلام في ذيل
الخبر الأخير المنع عن الشهادة استنادا إلى الاستصحاب، واحتمال الشيخ المجلسي
في مرآة العقول أن يكون (لم تشهد) استفهاما انكاريا خلاف الظاهر، وبذلك
تسقط الأخبار عن الاستدلال. على أنه يحتمل صدور في الخبرين الأولين عن تقية.
قال في الجواهر: وربما توهم من هذا ونحوه إن العلم معتبر في الشهادة

238
حال التحمل لا حال الأداء. وقد سمعت عبارة الدروس.
قلت: مورد عبارة الدروس فرع آخر فهناك يلزم الذكر بما كتب ويشترط
في حال الأداء، وهو فيما نحن فيه متذكر حال الأداء وغير شاك في وقوع
العقد مثلا، إلا أنه يشك في بقاء تلك الزوجية وعدمه.
ثم أجاب رحمه الله بأن هذا الكلام مجمل، ضرورة إن من الواضح اعتبار
الجزم والعلم في الشهادة كتابا وسنة كما عرفت، بل قد عرفت تعريفها بذلك،
فلا يكون الشاهد شاهدا وهو غير عالم. وحينئذ فالمراد بالشهادة بالاستصحاب
إن كان بالمستصحب فهي شهادة بعلم لا بالاستصحاب، وإن أريد بالشهادة
بالاستصحاب، بمعنى الشهادة الآن بشغل ذمته وكونها زوجته وإن لم يكن عالما
بذلك بل كان مستند ذلك علمه السابق، فلا ريب في عدم صدق تعريف الشهادة
عليه.
وحينئذ فلا بد من حمل الخبر المزبور على جواز الشهادة لحصول ضرب
من العلم، أو لأن الاستصحاب كاف ولكن القضاة لا يكتفون إلا بالشهادة على
الوجه المزبور، فسوغ له ذلك استنقاذا لمال المسلم، أو على غير ذلك. كما
أنه يجب إرادة ما يكون به الشاهد شاهدا من التحمل، المزبور، لا أن المراد
به الفرق بين الشهادة حال الأداء وحال التحمل، إذ هو واضح الفساد، لأن
الشهادة حال واحد ومعنى واحد، كما هو واضح.
حكم الشهادة على اقرار المرأة
قال في الجواهر: وأما ما روي من جواز الشهادة على اقرار المرأة إذا
حضر من يعرفها فمبني على استثناء مسألة التعريف من الضابط المزبور، ففي
خبر ابن يقطين عن أبي الحسن الأول عليه السلام:

239
(لا بأس بالشهادة على اقرار المرأة وليست بمسفرة إذا عرفت بعينها أو حضر
من يعرفها.) (1).
قال: ولكن في صحيح الصفار قال: (كتبت إلى الفقيه عليه السلام في
رجل أراد أن يشهد على امرأة ليس لها محرم، هل يجوز له أن يشهد عليها من
وراء الستر ويسمع كلامها، وإذا شهد رجلان عدلان أنها فلانة بنت فلان التي
تشهدك، وهذا كلامها، أو لا تجوز له الشهادة عليها حتى تبرز ويثبتها بعينها؟
فوقع عليه السلام: تتنقب وتظهر للشهادة) (2).
وهذا الخبر عندنا مجمل، وقد حمل على التقية، ولم يظهر لنا وجه هذا
الحمل.
في مستند الشهادة (الأول): المشاهدة
قال المحقق قدس سره: (ومستندها إما المشاهدة أو السماع أو هما.).
أقول: قد تقدم أن الضابط في الشهادة هو العلم، وأن الشهادة بلا علم
غير مسموعة، ثم إن حصول العلم بالشئ يكون بواسطة الحواس غالبا،
فالمبصرات بالابصار، والمسموعات بالسمع وهكذا.. ومقتضى كون الضابط
هو (العلم) أن يكون للابصار والسمع وغيرهما طريقية لا موضوعية، لكن
ظاهر عبارة المحقق: (فما يفتقر إلى المشاهدة: الأفعال لأن آلة السمع
لا تدركها كالغصب والسرقة والقتل والرضاع والولادة والزنا واللواط، فلا يصير
شاهدا بشئ من ذلك إلا مع المشاهدة) هو الموضوعية للابصار في المبصرات،
مع أن الانسان كثيرا ما يحصل له العلم بسماع شئ من المبصرات كما قد رآه.



(1) وسائل الشيعة 18 / 297 الباب 43، وهو صحيح.
(2) التهذيب 6 / 255 ط النجف الأشرف.
240
وحيث أن الشرط في المبصرات عند المحقق هو الابصار من غير مدخلية
للسمع فيه، قال: (ويقبل فيه شهادة الأصم، وفي رواية: يؤخذ بأول قوله
لا بثانيه، وهي نادرة) فإذا رأى بعينه قبلت شهادته مطلقا وإن كان أصم، وأما
الرواية فهي:
جميل قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن شهادة الأصم في القتل.
فقال: يؤخذ بأول قوله ولا يؤخذ بالثاني) (1). فقد أجاب عنها بكونها " نادرة " (2)
وكيف كان فإن الكلام في اشتراط المشاهدة في الأفعال، مع أن الضابط
في الشهادة هو العلم، وأن أدلة قبول شهادة العالم العادل عامة، ومن هنا
أشكل فيه جماعة، قال السبزواري. (وفيه اشكال، إذ السماع قد يفيد العلم)
وقال كاشف اللثام: (ولعله يمكن استناد الشهادة فيها إلى التواتر، فإنه يفيد
العلم كالمشاهدة، ويجوز أن يكون مراد الأصحاب بالاستناد إلى المشاهدة
ما يعم الاستناد إليها بلا واسطة أو بها). وقال صاحب الرياض: (ويشكل فيما لو
أفاده، لعدم دليل على المنع حينئذ، مع عموم أدلة قبول شهادة العالم، وإلى
هذا الاشكال أشار المولى الأردبيلي، فقال بعد أن نقل عنهم الحكم بعدم كفاية
السماع فيما مر من الأمثلة، وفيه تأمل، إذ يجوز أن يعلم هذه الأمور بالسماع
من الجماعة الكثيرة بقرائن أو غيرها بحيث يتيقن ولم يبق عنده شبهة أصلا،
كسائر المتواترات والمخفوفات بالقرائن، فلا مانع من الشهادة حينئذ لحصول
العلم.



(1) وسائل الشيعة 18 / 296 الباب 42 شهادات.
(2) وفي السند (سهل بن زياد الآدمي) وفيه الخلاف المعروف، وكان
بعض مشايخنا يقول: الأمر في سهل ليس بسهل
241
ونحوه صاحب الكفاية.
وهو في محله، إلا أن ظاهر كلمة الأصحاب الاطباق على الحكم المزبور،
فإن تم حجة وإلا فالرجوع إلى العموم أولى. إلا أن يمنع بتخيل أن ما دل
عليه متضمن للفظ الشهادة، وهي لغة الحضور، وهو بالنسبة إلى العالم غير
المستند علمه إلى الحس من نحو البصر وغيره مفقود، إذ يقال له عرفا ولغة:
إنه غير حاضر للمشهود. واشتراط العلم مطلقا فيما مر من الفتوى والنص غير
مستلزم لكفاية مطلقه بعد احتمال أن يكون المقصود من اشتراطه التنبيه على
عدم كفاية الحضور الذي لم يفد غير الظن، وأنه لا بد من إفادته العلم القطعي،
ومحصله حينئذ أنه لا بد مع الحضور من العلم، إلا أن مطلقه يكفي. هذا
وربما كان في النبوي ونحوه اشعار باعتبار الرؤية ونحوها مما يستند إلى الحس
الظاهري، مع أن القطع المستند إلى الحس الباطني ربما يختلف شدة
وضعفا، ولذا يتخلف كثيرا، فلعل الشاهد المستند علمه إليه يظهر عليه خلاف
ما شهد به، فكيف يطمئن بشهادته.
وهذا الخيال وإن اقتضى عدم الاكتفاء العلم المستند إلى التسامع والاستفاضة
فيما سيأتي، إلا أن الاجماع كاف في الاكتفاء به فيه، مضافا إلى قضاء الضرورة
ومسيس الحاجة، اللذين استدلوا بهم للاكتفاء به فيه وهذا أوضح شاهد على
أن الأصل في الشهادة عندهم القطع المستند إلى الحس الظاهري، اعتبارا
منهم فيها بالمعنى اللغوي مهما أمكنهم. وهذا الوجه من الخيال وإن كان ربما
لا يخلو عن نظر، إلا أن غاية الاشكال الناشئ من الفتاوى والعمومات الرجوع
إلى حكم الأصل ومقتضاه، ولا ريب أنه عدم القبول، فإذا الأجود ما قالوه لكن
مع تأمل).
قلت: وبالتأمل في هذا الكلام يظهر عدم ورود نقض الجواهر باقتضائه

242
عدم صحة الشهادة لنا لأمير المؤمنين بنصب النبي صلى الله عليه وآله له إماما
يوم غدير خم، ولا على أبي بكر وعمر بغصب فدك من الزهراء. ونحو ذلك من
الأمور الواصلة إلينا بالتواتر أو بالأخبار المحفوفة بالقرائن، قال: بل يقتضي
هذا الكلام أن لا تكون الشهادتان شهادة حقيقة، لعدم الحضور فيها.
وذلك لأن صاحب الرياض وإن قال بأن اشتراط كون العلم في الشهادة عن
حس هو الأصل، لكنه قيده بصورة الامكان، ونص على قبول الشهادة مع
العلم غير المستند إلى الحس في موارد لمسيس الحاجة وقضاء الضرورة،
وادعى الاجماع على القبول في تلك الموارد.
وبعبارة أخرى إن الشهادة لغة الحضور، وأداء الشهادة لغة وعرفا: اظهار العلم
والاخبار عنه، فإن كان المشهود به من الأمور الحسية التي يمكن الاخبار بها عن
حس، بأن يحضر الأمر فيشاهده أو يسمعه فهذا لا تقبل الشهادة فيه إلا كذلك،
واظهار للعلم القطعي به، وإن كان من الأمور الحسية لكن الاخبار عنه بالعلم
المستند إلى الحس متعذر لوقوعه في الزمان السابق كواقعة غدير خم، أو متعسر
لصعوبة الحضور عنده لبعده عن مكانه وبلده، فيكفي في الشهادة العلم الحاصل
بالتواتر ونحوه.
ولا ينافي ما ذكر كون الأصل في الشهادة الحضور، بل قد ورد الشهادة
في اللغة بمعنى الاخبار عن جزم كما هو المصطلح عليه شرعا.
وبالجملة لا يرد على الرياض شئ مما ذكره صاحب الجواهر، إذ الأصل
الذي ذكره يعتبر مهما أمكن، وعليه السيرة العقلائية كما أشار هو إليها، وهذه
السيرة متصلة بزمان المعصوم، ولعل في قول النبي صلى الله عليه وآله (على
مثلها فاشهد أو دع) إشارة إلى ذلك، أي إن رأيت الأمر كما ترى الشمس فاشهد

243
وإلا فدع الشهادة وإن حصل لك العلم عن طريق غير الروية (1). وبالاعتبار
(مهما أمكن) يجمع بين الأصل وما تقدم من أن الضابط هو العلم.
وأما كلمات الأصحاب كالمحقق ومن تبعه فظاهرها التنافي للضابط المذكور
كما أشرنا، وهو لا يخفى على من راجعها في التنقيح والتحرير والمسالك.
وبذلك تعرف ما في كلام كاشف اللثام وكلام الجواهر: (بل لعل الأصحاب
لا يخالفون في ذلك، وإنما غرضهم في الكلام المزبور استثناء ما يثبت بالسماع
وإن لم يصل إلى حد العلم في الأمور السبعة أو الأزيد كما تعرف، لا اعتبار
كون الشهادة بطريق البصر بحيث لا يجوز غيره، وإن حصل العلم القطعي
حتى بالتواتر ونحوه مما ينتهي إلى المشاهدة أيضا بالواسطة.) فإن الحمل
المذكور يخالف ظواهر كلماتهم.
(الثاني) ما يكفي فيه السماع والاستفاضة
قال المحقق قدس سره: (ما يكفي فيه السماع فالنسب والموت والملك
المطلق لتعذر الوقوف عليه مشاهدة في الأغلب، ويتحقق كل واحد من هذه
بتوالي الأخبار عن جماعة لا يضمهم قيد المواعدة، أو يستفيض ذلك حتى
يتاخم العلم. وفي هذا عندي تردد).
أقول: ليس الوقوف على بعض ما ذكر متعذرا كذلك، ثم إن قسيم
المشاهدة هو السماع كما ذكر هو وغيره، والذي يكفي في هذه الأمور هو
التسامع المسمى بالشياع تارة وبالاستفاضة أخرى، كما ذكره هو رحمه الله
أيضا، وهذا غير السماع، ومن هنا قال في الجواهر: (فلا اشكال في سماجة
العبارة وما شابهها) ثم قال: وأسمجها عبارة الدروس المزبورة. يعني قول



(1) هذا لا يخلو عن تأمل، وإن كنا ذكرناه بعنوان (لعل).
244
الشهيد: (والضابط في تحمل الشهادة العلم بالسماع أو الرؤية أو بهما،
فيكفي الاستفاضة في تسعة. والمراد بها أخبار جماعة يتاخم قولهم العلم
وقيل يحصله، وقيل يكفي شاهدان على اعتبار الظن) وذلك لتصريحه بالاستفاضة
متفرعة بالفاء على السماع، قال في الجواهر: (نعم أحسنها عبارة الارشاد
حيث قال في ذكر شرائط الشاهد: العلم وهو شرط في جميع ما يشهد به، إلا
النسب و.. فقد اكتفى في ذلك بالاستفاضة بأن يتوالى الأخبار.) حيث
جعل (الاستفاضة) بالمعنى الذي ذكره مقابلا للعلم.
وكيف كان فقد ذكر المحقق هنا تحت عنوان ما يكفي فيه الاستفاضة ثلاثة
أمور، وفي النافع أربعة، بحذف الموت وزيادة النكاح والوقف، وذكر
بعضهم أقل من الثلاثة، حتى اقتصر بعضهم على النسب فقط، وبعضهم أكثر
من ذلك ومنهم المحقق نفسه في قضاء الشرائع وسنذكر عبارته قريبا، حتى
ذكر في الجواهر قولا بكفاية الاستفاضة في ستة وعشرين أمرا.
فهل المراد من القبول في هذه الأمور عدم اشتراط العلم فيها، أو أنه
يشترط ولكن لا يشترط استناده إلى الحس؟ الظاهر هو الأول.
وقد ذكر المحقق في كتاب القضاء في الأمور التي تثبت بالاستفاضة، ما
نصه (تثبت ولاية القاضي بالاستفاضة، كذا يثبت بالاستفاضة النسب والملك
المطلق والموت والنكاح والوقف والعتق) فزاد فيها أمورا على ما ذكر هنا،
فأوضح صاحب الجواهر معنى الاستفاضة بقوله: (التي تسمى بالشياع الذي
يحصل غالبا منه سكون النفس واطمئنانها بمضمونه، خصوصا قبل حصول
مقتضى الشك، بل لعل ذلك هو المراد بالعلم في الشرع موضوعا أو حكما،
وحينئذ فلا ريب في الاكتفاء به قبل حصول مقتضى الشك، أما معه فقد يشك
فيه، لكن في غير الولايات التي جرت السيرة بالاكتفاء بها بمثل ذلك، وهذا

245
ظاهر في كون الاستفاضة بنفسها حجة وإن لم يحصل منها الاطمينان الشخصي
لأنها تفيده نوعا، وقد فصلنا الكلام في ذلك في كتاب القضاء فراجع (1).
هذا وما الدليل على كفاية الاستفاضة في هذه الأمور؟
قال في الجواهر: (لم نعثر في شئ من النصوص الواصلة إلينا على ما
يستفاد منه حكم ذلك إلا مرسل يونس. والخبر المشتمل على قضية
إسماعيل.) قال: (وقد ذكرناهما في كتاب القضاء، وذكرنا الكلام فيهما،
وقد اشتمل الأول منهما على غير ما ذكره الأصحاب. وكيف كان فقد اتفق
الجميع على ثبوت النسب به).
قلت: وقد ذكرنا نحن هناك الاشكال في الاستدلال بالمرسلة، أما
الصحيحة فقلنا بأنها (صريحة في اعتبار الشياع بين الناس وترتيب الأثر عليه
بأن لا يأتي الانسان بما يخالف مقتضاه) وأما الاشكال على الصحيحة باشتمالها
على معصية إسماعيل لأبيه عليه السلام، وهو بعيد جدا. فيندفع بحمل نهي
الإمام عليه السلام على الارشاد، فدلالة الصحيحة على حجية الشياع تامة،
اللهم إلا على احتمال أن يكون مراد الإمام عليه السلام هو الاحتياط من هكذا
شخص، لا ترتيب الأثر على مقتضى الشياع في حقه. وهذا ما ذكرناه في
كتاب القضاء. لكن ظاهر قوله عليه السلام: (إن شارب الخمر لا يزوج.)
بل قوله عليه السلام: (. ولا تأتمن شارب الخمر) هو أن من شاع عنه ذلك
يجوز نسبته إليه، فتدبر.
وكيف كان ففي قيام السيرة على الاكتفاء بالاستفاضة إلا في حال وجود
منكر كما سيأتي كفاية والصحيحة امضاء لها. هذا كله بالنسبة إلى حجية
الشياع والاستفاضة.



(1) كتاب القضاء ج 1 ص 106.
246
حكم الشهادة استنادا إلى الاستفاضة
إنما الكلام في حكم الشهادة استنادا إلى الاستفاضة، والتحقيق هو:
دوران أمر الشهادة استنادا إلى الاستفاضة، مدار (العلم) المأخوذ في الضابطة
من حيث الطريقية أو الموضوعية فعلى الموضوعية يشترط تحقق العلم، والأثر
يترتب عليه دون غيره، إلا بدليل خاص، وقد عرفت عدم دلالة الصحيحة إلا على حجية
الاستفاضة، من غير تعرض لباب القضاء والشهادة فإن اثبات الحجية لموضوع
أمر وجواز الشهادة أو القضاء استنادا إليه أمر آخر، ومن هنا يظهر أنه لا
تعارض بين الصحيحة وحديث: (إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان) حتى
يجمع بينهما بالعموم والخصوص خلافا لقضاء الجواهر، ووفاقا لما ذكره هنا.
وعلى الجملة فإن ما يفيد حجية الاستفاضة يثبت حكما ذاتيا لها، ولا
علاقة له بحكم طارئ على الاستفاضة، وهو جواز الشهادة استنادا إليها وعدم
جوازها.
وعلى الطريقية كما هو الظاهر المستفاد من كلمات جماعة من المحققين
كما تقدم نظير العلم المأخوذ في (كل شئ لك طاهر حتى تعلم أنه قذر)
فإن كل ما ثبتت طريقيته يقوم مقام العلم في جواز الاستناد إليه في الشهادة،
ومن ذلك الاستفاضة، فيجوز الشهادة استنادا إليها، ويكون المراد من الحديث
(إنما أقضي.) هو القضاء بين الناس بحسب الحجج الظاهرية، فيقضي
بالبينة واليمين من حيث كونهما حجتين، فلا تعارض كذلك بين الحديث
والصحيحة، بل تتقدم الصحيحة عليه بالحكومة أو الورود.
فهذا هو التحقيق والملاك في المقام ونظائره، وبما ذكرنا يظهر لك ما
في بعض الكلمات.
وكيف كان فقد قام الدليل الخاص وهو الاتفاق كما في الجواهر

247
على ثبوت النسب بالشهادة المستندة إلى الاستفاضة.
وفي المسالك التشكيك في ثبوته بالنسبة إلى الأم والجدات، لامكان
رؤية الولادة. وأشكل عليه في الجواهر. بأن ذلك وإن كان ممكنا، إلا أنه
لا يطلع غالبا إلا النساء بالأقاويل منهن، ولذا اكتفي بشهادتهن، فهو في الحقيقة
مما لا يمكن رؤيته في العادة، على أنه بالنسبة إلى الجدات العاليات غير ممكن
لأن شهادة الفرع في الثالثة غير مسموعة، والتواتر بحيث يرجع إلى محسوس
في الطبقة الأولى متعذر أو متعسر، ومن هنا أطلق الأصحاب النسب من غير
فرق بين الأب والأم.
وفي المسالك أيضا: ويعتبر مع انتساب الشخص ونسبة الناس أن لا
يعارضهم ما يورث التهمة والربية، فلو كان المنسوب إليه حيا فأنكر لم تجز الشهادة.
وهل يقدح في ذلك طعن من يطعن في النسب؟ وجهان. أظهرهما مراعاة
الشرط، وهو الظن المتاخم أو العلم).
قلت: وقيام السيرة على ما ذكره غير بعيد، ولعل هذا منه تقييد للقبول:
وإلا فهو رحمه الله يقول بثبوت النسب بالشهادة المستندة إلى الشياع والاستفاضة..
لكن معقد الاجماع المدعى هو القبول مطلقا.
قال المحقق قده: (وقال الشيخ: لو شهد عدلان فصاعدا صار السامع
متحملا وشاهد أصل، لا شاهدا على شهادتهما، لأن ثمرة الاستفاضة الظن، وهو
حاصل بهما. وهو ضعيف لأن الظن يحصل بالواحد).
أقول: إن كان الشيخ قد استفاد من دليل حجية الاستفاضة كون ملاك حجيتها
هو إفادة الظن، فكل ظن حجة، توجه عليه نقض المحقق، لأنه ليس مطلق
الظن بحجة، بل الظن الحاصل من خصوص الاستفاضة. لكن استفادة الشيخ
ذلك من دليل حجية الاستفاضة غير معلومة، ولذا قيد بالعدلين، ولا يبعد أن

248
يكون الشيخ جعل (العلم) في ضابط الشهادة بما هو طريق لا بما هو موضوع،
وحينئذ تقبل الشهادة المستندة إلى الحجة وإن لم تكن بعلم، وشهادة العدلين
حجة.
(فرع)
(هل يتحقق التحمل لو سمعه يقول للكبير هذا ابني وهو ساكت؟)
قال المحقق قدس سره: (لو سمعه يقول للكبير: هذا ابني وهو ساكت.
أو قال: هذا أبي وهو ساكت. قال في المبسوط: صار متحملا، لأن سكوته
في معرض ذلك رضا بقوله عرفا. وهو بعيد لاحتماله غير الرضا).
قال صاحب الجواهر: وهو جيدان انضم إلى ذلك قرائن أفادت العلم
الحالي، أما السكوت من حيث إنه سكوت فبعيد كونه دالا على الرضا عرفا،
بل ممنوع.
أقول: والانصاف أن مفروض المقام ليس بأقل من الشياع، بل إنه لا ينفك
من العلم العادي، إلا إذا انضم إليه ما يوهنه كما لو أنكر. فما ذهب إليه الشيخ
في المبسوط في غاية المتانة، لكنه لا يتم إلا على الطريقية، لأن السكوت في
هذا الموضع طريق إلى الاقرار لا أنه مثبت للنسب.
وأما قوله: لأن السكوت في معرض ذلك رضا.
ففيه: أنه لو لم نقل بأنه اقرار فإنه لا مدخلية الرضا بكونه ولدا له، أو
الرضا بمضمون كلامه، لثبوت النسب، ولو قال: أنا راض بكونه ولدا لي
لم يثبت به النسب. فمن يقول بترتب الأثر على هذا الكلام لا يقول إلا من جهة
إن كلام المدعي فيه نظير كلام ذي اليد، مع أنه بلا معارض. وسكوت الطرف
في موقع الانكار دليل على تصديق قوله، لا أنه كاشف عن الرضا.

249
(تفريع على القول بالاستفاضة)
(الأول الشاهد بالاستفاضة لا يشهد بالسبب)
قال المحقق قدس سره (الشاهد بالاستفاضة لا يشهد بالسبب)
أقول: إنه على القول بحجية الاستفاضة وثبوت الأمور المذكورة بها،
وجواز الشهادة فيها استنادا إلى الاستفاضة، فإن على الشاهد أن يشهد مستندا
إلى الاستفاضة في ثبوت أصل الملك، وأما أن يشهد بسبب حصول الملك مثل
البيع والهبة والاستغنام فلا، لأن السبب المذكور لا يثبت بالاستفاضة، بل الذي
يثبت بها هو الأمور المخصوصة المذكورة، فلا يجوز للشاهد أن يعزي الملك
إلى ذات السبب مع فرض اثباته بالشهادة المستندة إلى الاستفاضة. وإلا كان
كاذبا في النسبة المزبورة التي لا طريق له شرعي ولا عرفي إلى تحققها كي يشهد بها.
نعم له أن يقول: هذا ملك فلان، والناس يقولون إنه قد اشتراه مثلا.
فيشهد بأصل الملك جازما به، ويذكر مستنده في الشهادة بالسبب وهو الشراء.
هذا إذا كان السبب من الأمور التي لا تثبت بالاستفاضة.
وأما إذا كان من جملة الأمور المخصوصة كالموت صحت شهادته، ولذا
قال المحقق: (أما لو عزاه إلى الميراث صح، لأنه يكون عن الموت الذي
يثبت بالاستفاضة) فإذا سمع الشاهد بالاستفاضة إن هذا ملك زيد ورثه عن
أبيه الميت، فله أن يشهد بالملك وسببه، لأنهما يثبتان بالاستفاضة.
بخلاف ما إذا سمع مستفيضا إن هذا الملك لزيد اشتراه من عمرو، فله
أن يشهد بالملك المطلق لا بالبيع لأن البيع، لا يثبت بالاستفاضة، فلو فعل
ذلك على وجه لا يكون كاذبا كما أشرنا ففي قبول شهادته بالملك دون السبب
وجهان. اختار المحقق الأول حيث قال:

250
(والفرق تكلف، لأن الملك إذا ثبت بالاستفاضة لم تقدح الضميمة،
مع حصول ما يقتضي جواز الشهادة).
أي: إن الشهادة تسع حينئذ في الملك وتلغو الضميمة وهي السبب الذي
لا يثبت بالاستفاضة، وذلك لوجود المقتضي للقبول في الملك وهو الاستفاضة دون السبب.
والوجه الثاني هو عدم القبول، لأنها شهادة واحدة وهي لا تبعض.
قلت: إذا كانت شهادة واحدة كما إذا قال: هذا ما اشتراه زيد من عمرو،
حيث يشهد بالشراء ولازمه ثبوت الملك أشكل القبول، لأنها شهادة واحدة،
وليست شهادة بأمر منضما إليها أمر آخر، ولأن عدم ثبوت الفصل وهو الشراء
يقتضي عدم ثبوت الجنس الذي في ضمنه وهو الملك، والفرض عدم استفاضته إلا به.
قال في الجواهر: اللهم إلا أن يقال إن ذلك من قبيل السرقة بالنسبة إلى
المال دون القطع، ومرجعه إلى اجراء الأحكام صرفا لا اثبات موضوع (1).
قال في المسالك: (وتظهر الفائدة فيما لو كان هناك مدع آخر وله شهود
بالملك وسببه من غير استفاضة فإن بينته تترجح على بينة هذا الذي لم يسمع إلا
في المطلق المجرد عن السبب، وفي القسم الأول (يعني الذي يثبت فيه السبب بالاستفاضة) يتكافئان. ولو كانت بينة أخرى شاهدة له بالملك المطلق رجحت
بينة هذا (يعني ذي السبب الذي يثبت بالاستفاضة) في الأول عليه، وكافئت بينة
الآخر (يعني الذي لم يثبت سببها بالاستفاضة) في الثاني).



(1) لم يتضح لنا معنى هذا الكلام. وفي السرقة جهتان: حق الناس وقد
تقرر ثبوت الحق المالي بشاهد ويمين المدعي، وحق الله وهو الحد، وقد
تقرران الحد لا يجري إلا بالبينة. وليس في ما نحن فيه جهتان، بل هو الملك
مع خصوصية حصوله بالشراء مثلا لا بالهبة مثلا.
251
نعم بناء على أن شهادة البينة جازمة، والشهادة المستندة إلى الاستفاضة
بناء على أنها لا تفيد العلم - ظنية، والظنية لا تعارض الجازمة تكون الأولى
هي المرجحة.
(الفرع الثاني)
(إذا شهد بالملك مستندا إلى الاستفاضة هل يفتقر إلى مشاهدة اليد؟)
قال المحقق قدس سره: (إذا شهد بالملك مستندا إلى الاستفاضة هل
يفتقر إلى مشاهدة اليد والتصرف؟ الوجه: لا)
أقول: إذا شهد بالملك مستندا إلى الاستفاضة وقد شاهد اليد والتصرف
فلا اشكال في جواز هذه الشهادة وسماعها، إنما الكلام في افتقار هذه الشهادة
في جوازها للشاهد أو سماعها للحاكم إلى مشاهدة اليد والتصرف، فالوجه عند
المحقق قده هو أنه لا يشترط ذلك، لما تقدم من أن الملك المطلق يثبت
بالاستفاضة التي كانت حجة، فكما لا حاجة في شهادة البينة وقبولها إلى ضم
ضميمة لحجية البينة فكذلك الاستفاضة، فإذا شهد العدل به استنادا إليه قبلت
شهادته. ووجه عدم القبول إلا مع المشاهدة هو امكان الاطلاع على أسباب
الملك، فلا بد من ضميمة ما يفيد القوة للشهادة لضعف دلالة الاستفاضة على
الملك ويقوم مقام السبب من اليد والتصرف.
وأجيب عنه في المسالك والجواهر بأن اليد والتصرف ليسا من الأسباب
بل هما طريقان، فلو فرض اشتراط الاطلاع على السبب لم يقوما مقامه، وإن
كانا ظاهرين في الملك.

252
لو تعارض اليد والسماع المستفيض فأيهما المرجح؟
قال المحقق: (أما لو كان لواحد يد وللآخر سماع مستفيض فالوجه ترجيح
اليد، لأن السماع يحتمل إضافة الاختصاص المطلق المحتمل للملك وغيره،
فلا تزال اليد بالمحتمل).
أقول: هل المراد من (اليد) في هذه العبارة يد المدعي المجردة، أو
البينة المستندة إلى اليد؟
قد تقرر أن للحاكم الحكم استنادا إلى الاستفاضة، وبدليل حجيتها يقيد
اطلاق (إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان) فلو كان المحكوم عليه ذا يد تقدم
قول المدعي الذي حكم له الحاكم استنادا إلى الاستفاضة، إذ اليد لا تقاوم
حجة من الحجج، بل لو لم يكن للمدعي شئ أصلا أقسم الحاكم صاحب
اليد، فإن نكل حكم عليه، وانتزعت العين من يده، وهذا يكشف عن أنه لا
أثر لليد في مقابل الاستفاضة وغيرها من الحجج، ومنه يظهر أن مراد المحقق
من (اليد) ليس اليد المجردة، بل المراد تعارض البينة المستندة إلى اليد مع
البينة المستندة إلى الاستفاضة، وقد تقرر في كتاب القضاء تقدم الأولى على الثانية
لأنها أقوى، من جهة اعتضادها باليد. هذا كله إن كان المراد بيان وظيفة الحاكم.
وإن كان المراد وظيفة الشاهد الذي يرى العين بيد واحد وقد شاع كونها لآخر،
فلأيهما يشهد؟ هنا يمكن القول بأنه يشهد لصاحب اليد، لما ذكرنا من أن السيرة
قائمة على الشهادة استنادا إلى الاستفاضة في حال عدم وجود ما يوهن الاستفاضة،
فلو حصل سقطت الاستفاضة عن الحجية، فلا تعارض حتى يقال بترجيح اليد.
ومن هنا أيضا يظهر أن المراد من قوله (فالوجه ترجيح اليد) أن وظيفة الحاكم
حينئذ ترجيح البينة المستندة إلى اليد على المستندة إلى الاستفاضة.

253
ثم إنه بناء على ما ذكره المحقق من أن السماع قد يحتمل إضافة الاختصاص
المطلق المحتمل للملك وغيره نقول إن الأمر يدور مدار الظهور، فإن كان للسماع
ظهور في الملكية فلا محذور في تقدم اليد على هذا الظهور، وإلا فلا أثر للبينة
المستندة إليه كذلك.
وقد أشكل في المسالك على المحقق بأن ما ذكره إنما يتم إذا كان محصل
السماع أن هذه الدار مثلا لفلان. فإن اللام تحتمل الملك والاختصاص الذي
هو أعم منه. أما إذا كان محصله إن (الدار ملك فلان) فلم يتم، لأنه صريح
في المقصود، بخلاف اليد. ولا بد من فرض المسألة على الوجه الأول ليتم
التعليل ويناسب الحكم المتقدم من ترجيح الملك على اليد، وإن كان اطلاق
البينة المستندة إلى الاستفاضة أعم من ذلك.
وقد وافقه صاحب الجواهر في هذا الاشكال، ثم أشكل على التفصيل المذكور
وعلى الجملة أنه إن استند إلى الإشاعة على الملك وشهد على الملك تقدم
السماع على اليد، وإن كان المشاع هو الاختصاص فشهد بالملك استنادا
إلى تلك الإشاعة أخذا بظهور الاختصاص في الملك فاليد مرجحة على السماع
(ثلاث مسائل)
(الأولى في أن التصرف في الشئ شاهد على الملك)
قال المحقق قدس سره: (لا ريب أن التصرف بالبناء والهدم والإجارة
بغير منازع يشهد له بالملك المطلق).
أقول: التصرف الظاهر في الملكية كالهدم والبناء، والبيع والشراء،
يجوز الشهادة بالملكية استنادا إليه، وقد شرط المحقق عدم منازع ينازعه في

254
ذلك، فإن وجد فلا يشهد لوهن الكاشفية، وفي المسالك: (واعتبر في التصرف
التكرر، لجواز صدور غيره من غير المالك كثيرا) وعن المبسوط عدم كفاية
التصرف في نحو الشهر والشهرين، لكن عن الخلاف التصريح بعدم الفرق
بين الطويلة والقصيرة.
ويدل على ما ذهب إليه المحقق السيرة المستمرة، فإن الناس يتعاملون
مع من تصدر منه تلك التصرفات العاملة مع المالك، فيشترون منه ويستأجرون
من اشترى منه الشئ حلف على أنه ملك له.
ويدل عليه أيضا الاجماع عن الشيخ وفي المسالك وغيره، وعليه الشهرة
المحققة.
وقد يستدل له بخبر حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه السلام: (قال
له رجل: إذا رأيت شيئا في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنه له؟ قال:
نعم. قال الرجل أشهد أنه في يده ولا أشهد أنه له فلعله لغيره، فقال أبو عبد الله
عليه السلام: أفيحل الشراء منه؟ قال: نعم فقال أبو عبد الله عليه السلام
فلعله لغيره، فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكا لك، ثم تقول بعد الملك
هو لي وتحلف عليه، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟ ثم
قال أبو عبد الله عليه السلام: لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق) (1). فإنه
وإن لم يكن فيه لفظ (التصرف) لكن فيه دلالة على ذلك، بعموم قوله عليه
السلام فيه: (لو لم يجز هذا ما قامت للمسلمين سوق) إلا أن المحقق
يفرق بين (التصرف و (اليد) فلا يجوز الشهادة استنادا إلى اليد كما ستعرف.
وهذا الخبر وإن كان ضعيفا سندا إلا أنه منجبر بالشهرة، وفي المسالك:
إنه موافق للقوانين الشرعية، ولكن لم نعثر على غيره من النصوص، وقد



(1) وسائل الشيعة 18 / 215 الباب 25 من أبواب كيفية الحكم.
255
ناقش في الجواهر في دلالته، كحديث فدك الذي استدل به في الرياض بعد
خبر حفص قائلا: (قريب منه الصحيح المروي في الوسائل عن علي عليه
السلام في حديث فدك أنه قال لأبي بكر: تحكم فينا بخلاف حكم الله تعالى
في المسلمين؟ قال: لا. قال: فإن كان يد المسلمين على شئ يملكونه،
ادعيت أنا فيه، من تسأل البينة؟ قال: إياك أسأل البينة على ما تدعيه على المسلمين.
قال: فإذا كان في يدي شئ فادعي فيه المسلمون تسألني البينة على ما في
يدي وقد ملكته في حياة رسول الله وبعده، ولم تسأل المؤمنين البينة على
ما ادعوه علي، كما سألتني البينة على ما ادعيته عليهم الخبر) (1).
بأن الدلالة على أصل الملكية شئ، وجواز الاستناد إلى التصرف أو اليد
في الشهادة عليها شئ آخر، على أنه ليس في خبر حفص تعرض للتصرف،
اللهم إلا أن يكون بينه وبين اليد ملازمة، لا سيما في المدة الطويلة، لكن
ظاهر المحقق نفيها، وأنه لا يدل قوله عليه السلام: (لو لم يجز..) على
جواز الشهادة استنادا إلى التصرف، إذ لا يختل بعدم الشهادة استنادا إليه أمر
السوق ومعاش المسلمين، بخلاف اليد فإن ذلك يلزم من عدم جواز الشهادة
استنادا إليها قطعا.
قلت: قد ذكرنا سابقا أنه إذا كان العلم المأخوذ في ضابط الشهادة طريقا
فإن كلا من التصرف واليد ونحوهما طريق، ولعل هذا مراد المسالك من
موافقة خبر حفص للقواعد، وإلا فمن البعيد القول بأن دليل كاشفية التصرف
عن الملكية دليل على جواز الشهادة بها استنادا إلى التصرف وإن كان المراد
منه العلم الموضوعي فلا يجوز العمل به، لأنه يقتضي جواز ما لا يجوز في
الشرع، أو يحمل على غير الشهادة عند القاضي، لكنه خلاف الظاهر فلاحظ.



(1) وسائل الشيعة 18 / 215 الباب 25 من أبواب كيفية الحكم.
256
ولعله لما ذكرنا قال المحقق في النافع بأن الأولى الشهادة بالتصرف دون
الملك، لأنه دلالة على الملك وليس بملك.
وأما منع جواز الشهادة من جهة أن التصرف قد يكون من غير المالك،
فقد يتصرف المستأجر في العين المستأجرة، فلا ظهور للتصرف في الملكية
فيشكل المساعدة عليه، لأن التصرف ظاهر في الملكية ظهورا تاما عند العقلاء
وقد ذكرنا قيام السيرة عليه.
هل يشهد بالملك لمن في يده دار مثلا؟
ثم تعرض المحقق لحكم الشهادة استنادا إلى اليد بقوله: (أما من في
يده دار فلا شبهة في جواز الشهادة له باليد، هل يشهد له بالملك المطلق؟
قيل: نعم، وهو المروي. وفيه اشكال من حيث إن اليد لو أوجبت الملك
لم يسمع دعوى من يقول: الدار التي في يد هذا لي. كما لا تسمع لو قال:
ملك هذا لي).
أقول: نعم لا شبهة في جواز الشهادة له باليد، وهل يشهد له بالملك المطلق؟
قولان. الأول: نعم، وهو المروي، رواه حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه
السلام. والثاني: لا، لأن اليد لا ظهور لها في الملكية، فلو كان لم يسمع دعوى
من يقول: الدار التي في يد هذا لي كما لا تسمع لو قال: ملك هذا لي، من
جهة كونه اقرارا بالملكية، لكن الدعوى مسموعة، فاليد أعم من الملكية،
بخلاف التصرف، فإنه ظاهر فيها، وحينئذ فلو آجر عينا لغيره وهي في يد
صاحبها فامتنع المالك من تسليم العين إلى المستأجر حكم للمؤجر المتصرف،
من جهة كون تصرفه أقوى في الدلالة.
ونقض على المحقق بأنه إذا لم تقبل تلك الدعوى يلزم عدم قبول قوله: ما في

257
يدي ملك لك، مع أنه مقبول، لأن اليد أعم من الملكية، فإذا قال ذلك فقد
أقر بالملكية، ولو كانت اليد ظاهرة في الملك لكان هذا القول بمعنى: ما في
ملكي ملك لك وهذا تناقض.
وفي الجواهر نقضا عليه: أنه يلزم عدم قبول ما إذا قال: ما في تصرفك
ملك لي. لأنكم تقولون بأن دلالة التصرف أقوى.
وأجيب عن كلام المحقق حلا بأن اليد والتصرف ظاهران في الملكية،
وقوله: ملك ملكي نص فيها، ولا تمانع بين النص والظاهر.
وفي المسالك نسب ما ذكره المحقق إلى الشيخ في المبسوط.
وأجيب أيضا: بأن الشاهد له علم مطابق لليد أو التصرف، فيشهد بعلمه
بلا فرق، وحيث لا يعلم لا يشهد بلا فرق كذلك.
ولكن هذا الجواب يبتني على اعتبار العلم في الشهادة، والكلام مع
المحقق هو في الشهادة استنادا إلى الاستفاضة أو اليد أو التصرف، مع عدم
إفادتها للعلم.
قال في الجواهر: إن لم يوافق المحقق على النص المذكور من جهة
ضعفه وعدم انجباره، فلا يجوز الشهادة استنادا إلى هذه الأمور لأن الشهادة
غير اثبات الموضوع بشئ من الأدلة وهي السيرة والاجماع والأولوية. وأما
مع اعتبار الخبر فالملازمة بين ثبوت الشئ والشهادة عليه ثابتة. لكن صاحب
الجواهر ينكر دلالة الخبر.
وعلى الجملة فإن العلم الحاصل من الاستفاضة كاف، بل يكفي أن أفاد
الظن المتاخم، فله الشهادة على طبقه في الملك ونحوه، بل قيل: يكفي وإن
لم يفد الظن أو كان الظن على الخلاف. ثم قالوا: إن الملك بذاته ليس مما
يرى ولذا يكفي فيه السماع، ولكن هل يعتبر في الشهادة وجود ما يدل على

258
الملك مما يشاهد كاليد والتصرف؟ قالوا: لا يشترط.
وحينئذ فالاستفاضة وحدها كافية في الشهادة، فإن انضم إليها التصرف واليد
فذاك منتهى الامكان وقد ادعي الاجماع على أن للشاهد القطع بالملك حينئذ
وكذا اليد والتصرف بلا استفاضة. وأما اليد المجردة أو التصرف المجرد فلا
اشكال في الشهادة بنفس اليد أو التصرف، وهل له الشهادة بالملك استنادا إليها؟
فيه كلام وخلاف.
فالصور في المسألة أربع، وقد تعرض لها في المسالك بقوله: (إذا اجتمع
في ملك يد وتصرف واستفاضة بالملك فلا اشكال في جواز الشهادة له بالملك
بل هو غاية ما يبنى عليه الشهادة، وإنما يحصل الاشتباه فيما لو أنفرد واحد من
الثلاثة واجتمع اثنان.)
وفي التنقيح ما حاصله: دلائل الملك أقسام: أعلاها وهو حصول الاستفاضة
واليد والتصرف بلا منازع، وهو منتهي الامكان، فللشاهد القطع بالملك اجماعا
والثاني: يد وتصرف بالهدم وتغيير الشكل وايقاع عقود متكررة يغير منازع
في الصورتين، لكن لاسماع، الثالث: مجرد يد من غير تصرف. وهنا يشهد
له باليد خاصة. وهل يشهد له بالملك؟ الرابع: مجرد التصرف. وفيه
مسائل: قيل يكفي في الشهادة بالملك مشاهدته يتصرف في ملكه. وفيه
رواية. والأولى الشهادة بالتصرف، وهو المشار إليه بقول الشيخ في الخلاف
وتردده، وجعل ذلك رواية الأصحاب.
ثم إن كاشف اللثام ذكر أن الشهادة بمقتضى الطرق الشرعية نظير الشهادة
بالمسبب بمشاهدة السبب الشرعي، فقال ما حاصله: تشبيه الشهادة بمقتضى
الطرق الشرعية بالشهادة علي أثر الأسباب الشرعية، فإنها أيضا محتملة للفساد
كما تحتمل الطرق التخلف.
واستغربه صاحب الجواهر وأشكل عليه بالفرق بين الأمرين، من جهة

259
أن السبب لا يتخلف عن تأثيره في المسبب بخلاف الطرق فقد تتخلف عن
الإصابة للواقع، قال: (إن الشارع قد جعل السبب في الظاهر سببا للأثر فيه
على وجه لم يتخلف عن مقتضاه بخلاف الطريق، فإنه قد جعله طريقا مع تخلفه
إذ التصرف قد يجامع غير الملك، بخلاف البيع الصحيح بحسب الظاهر،
فإنه لا يتخلف عن أثره فيه كالسبب في الواقع.
وإن أبيت عن ذلك وفرضت صورة يختلف فيها الشهادة بالسبب وبأثره،
لم تجوز الشهادة بالأثر أيضا، بل لا بد فيها إذا كانت عند الحاكم من الشهادة
بالسبب نفسه.
ولعله لذا أوجب الأصحاب ذكر السبب في الشهادة بالجرح ولم
يجوزوا الشهادة بالأثر، لاحتمال كونه غير مسبب عند الحاكم، وليس هو
إلا التجنب عن التدليس والتلبيس ونحوهما، ومنه المقام حتى مع عدم المعارض
أيضا لأن الشهادة بالأثر تقطع معارضة الخصم لو أرادها، والفرض أن واقع
الشاهد غيره، أو على غير ذلك مما يوافق القوانين الشرعية.
قال: ومن ذلك يعرف أنه لا وجه لما في المسالك من دعوى موافقة الخبر
المزبور للقوانين الشرعية، إذ من المعلوم أنها تقتضي كون الشاهد لا يشهد
بعلم، وإلا على مثل الشمس ومثل الكف، والفرض أنه يشهد بمشكوك فيه أو
مظنون العدم، وإن جوز الشارع شراءه ممن في يده كذلك، لكن ذلك لا
يقتضي الشهادة بملكيته له، إذ من المعلوم أن الشارع لم تكن له حقيقة شرعية
في الشهادة ولا مراد شرعي، بل هي باقية على المعنى الذي هو الاخبار الجازم
على الوجه المخصوص، فأي مدخلية للثبوت الشرعي في تحقق معناها العرفي
نعم إذا أراد الشهادة على مثل الشمس يشهد بالتصرف نفسه وباليد نفسها،
فيحكم الحاكم بمقتضاها.

260
قلت: لعل نظر الشهيد إلى أنه إذا كان الخبر حجة فأما يكون العلم
موضوعا، وأما يكون طريقا، فإن كان طريقا تقدم الخبر ورودا أو حكومة
، وهذا موافق للقاعدة، وإن كان موضوعا يكون الخبر خاصا، وهذا أيضا موافق
للقاعدة. إنما الكلام في استلزام العمل بهذا الخاص لتجويز الكذب، وهذا
اشكال آخر لصاحب الجواهر، فلا بد من حمل الخبر على صورة حصول العلم،
بناءا على إرادة العلم العادي العرفي منه في ضابط الشهادة، لا العلم الحقيقي
الدقي، فإن تشخيص حدود المفاهيم موكول إلى العرف.
(المسألة الثانية)
(في ثبوت الوقف والنكاح بالاستفاضة)
قال المحقق: (الوقف والنكاح يثبت بالاستفاضة، أما على ما قلناه فلا
ريب فيه، وأما على الاستفاضة المفيدة لغالب الظن فلأن الوقف للتأبيد، فلو
لم تسمع فيه الاستفاضة لبطلت الوقوف مع امتداد الأوقات وفناء الشهود،
وأما النكاح فلأنا نقضي بأن خديجة عليها السلام زوجة النبي صلى الله عليه
وآله وسلم كما نقضي بأنها أم فاطمة عليها السلام، ولو قيل إن الزوجية تثبت
بالتواتر، كان لنا أن نقول: التواتر لا يتم إلا إذا استند السماع إلى محسوس
ومن المعلوم أن المخبرين لم يخبروا عن مشاهدة العقد ولا عن اقرار النبي
صلى الله عليه وآله، بل نقل الطبقات مستند إلى الاستفاضة التي هي
مستند الطبقة الأولى، ولعل هذا أشبه بالصواب).
أقول: قوله (أما على ما قلنا فلا ريب فيه) يدل كما في المسالك على أن
مختاره اشتراط العلم في الشهادة بالاستفاضة ولم يصرح به فيما سبق وإنما

261
تردد فيه، فعلى هذا المبنى لا ريب في ثبوت الوقف والنكاح بها، لأنه ليس وراء
العلم شئ.
وأما بناء على الاستفاضة المفيدة لغالب الظن فيثبتان أيضا، أما الوقف
فلأنه للتأبيد، فلو لم يجز الشهادة فيه بالاستفاضة أدى إلى بطلان الوقوف،
لأن شهود الوقف لا يبقون، والشهادة الثالثة لا تسمع، وأما النكاح فلأنا نقضي
بأن خديجة عليها السلام زوجة النبي صلى الله عليه وآله ولم يثبت ذلك إلا
بالاستفاضة، لأنا ما شاهدناهم.
قال في المسالك: واعترض على الأول بأن الشهادة بدون العلم منهي عنها،
فتخصيص ذلك بالوقف تحصيلا لمصلحة ثبوته ليس بأولى من تخصيص النهي
عن سماع الشهادة الثالثة بالوقف لهذه المصلحة، بل هذا التخصيص أولى، لأنه
لا مانع منه عقلا، بخلاف الشهادة بمجرد الظن.
قال: وأجاب عنه المصنف بأن المانع من سماع الشهادة الثالثة النقل
والاجماع، فلم يكن معارضته بالتخصيص، بخلاف الشهادة بمجرد الظن،
فإنه لا اجماع على منعها، بل الأكثر على تجويزها، ويمنع من كون العقل
دالا على النهي عن ذلك. لأن أكثر الأحكام الشرعية مبناها على الظن.
واعترض على الثاني بما ذكره المحقق نفسه وأجاب عنه بقوله: ولو
قيل.
قلت: لم يتعرض المحقق في العبارة للشهادة، بل يقول: يثبت. وهو ظاهر
في الثبوت لدى الحاكم، أي إن الحاكم له الحكم استنادا إلى الاستفاضة في أمور
ذكرها المحقق نفسه في كتاب القضاء، وإن الوجه الذي ذكره هنا للوقف يأتي
في النسب أيضا، والأولى أن نستدل للقبول بالسيرة غير المردوعة، لعدم جواز
الرجوع إلى الظن المجرد في باب القضاء والشهادات، إلا أن الظن الذي

262
قامت السيرة على قبوله والاستناد إليه يسد مسد العلم، ويكون المراد من (إنما
أقضي بينكم بالبينات والأيمان) هو الحكم بمطلق الحجة، لا خصوص البينة
واليمين.
وأما قضاؤنا بأن خديجة عليها السلام زوجة النبي صلى الله عليه وآله فهو عن
علم لا عن ظن، للقرائن الخارجية الموجبة لليقين، بل في المسالك تحقق التواتر
فيه، فإنه بعد أن ذكر جواب المحقق قال: وفيه نظر، لأن الطبقة الأولى السامعين
للعقد، المشاهدين للمتعاقدين بالغون حد التواتر وزيادة، لأن النبي صلى الله
عليه وآله كان ذلك الوقف من أعلى قريش وعمه أبو طالب المتولي لتزويجه
كان حينئذ رئيس بني هاشم وشيخهم ومن إليه مرجع قريش، وخديجة عليها
السلام كانت من أجلاء بيوتات قريش، والقصة في تزويجها مشهورة وخطبة
أبي طالب عليها السلام في المسجد الحرام بمجمع قريش ممن يزيد عن العدد المعتبر
في التواتر، فدعوى معلومية عدم استناد الطبقة الأولى إلى مشاهدة العقد وسماعه
ظاهرة المنع، وإنما الظاهر كون ذلك معلوما بالتواتر، لاجتماع شرائطه،
فلا يتم الاستدلال به على هذا المطلوب).
وناقشه في الجواهر بأن جلالتهم وشهرتهم وغير ذلك لا تقتضي معلومية
مشاهدة العقد لعدد التواتر، كما نرى الآن بالوجدان في تزويج بنات السلاطين
وأولادهم، لا يبلغ الشاهدون للفظ العقد فيه ذلك، نعم يستفيض ويشتهر ذلك
على وجه يحصل العلم بذلك، وإن لم يكن بطريق التواتر، فلا أقل من احتمال
كونه كذلك، فدعوى معلومية التواتر واضحة المنع أيضا، ولعل الأولى دعوى
حصول العلم من الاستفاضة المزبورة، وإن لم يحرز اجتماع شرائط التواتر
فيها، نحو غيرها من أفراد الاستفاضة في البلدان والملوك وغير ذلك.
إلا أن ما ذكره الشهيد هو الأظهر، فقد كانوا في ذلك الزمان يجرون

263
الصيغة بصورة علنية وعند جميع الحاضرين، لا في مجلس لا يشهده أحد ولا
يحضره غير العاقدين كما يتفق كثيرا في زماننا. لكن بلوغ الحاضرين عدد
التواتر في الطبقة الأولى لا يحقق التواتر لنا، لتوقف تحققه على بلوغ عدد
الطبقة الثانية الناقلين للخبر عن الأولى للعدد المذكور، وهكذا الثالثة، فما
بعد. فالأولى أن يقال بالتواتر بالنسبة إلى الطبقة الأولى، وبحصول العلم بالاستفاضة
فيما بعدها من الطبقات.
وكيف كان فإن الاستفاضة يثبت بها النكاح والوقف، للسيرة غير المردوعة
من قبل الشارع. والله العالم.
(المسألة الثالثة)
(في حكم شهادة الأخرس وكيفيتها)
قال المحقق قدس سره: (الأخرس يصح منه تحمل الشهادة وأداؤها،
ويبني على ما يتحققه الحاكم من إشارته، وإن جهلها اعتمد فيها على ترجمة
العارف بإشارته، نعم يفتقر إلى مترجمين، ولا يكون المترجمان شاهدين على
شهادته، بل يثبت الحكم بشهادته أصلا لا بشهادة المترجمين فرعا).
أقول: الأخرس يصح منه تحمل الشهادة لأنه كسائر الأفراد في مشاهدة
ما يفتقر إلى البصر، فاطلاقات أدلة الشهادة شاملة له، وكذا تعمه الأدلة في
قبول الشهادة منه إذا أداها [اللهم إلا أن يدعى انصراف الاطلاقات عنه،
لكن المسألة لا كلام فيها ولا خلاف]
وحيث يريد أداء الشهادة عند الحاكم فتارة يفهم الحاكم المقصود من
إشارته، وأخرى لا يفهمه، فعلى الأول يبنى على ما يتحققه الحاكم من إشارته،

264
لأن إشارة الأخرس تقوم مقام اللفظ من غيره، فكما يبني على ما يفهمه من لفظ
المتكلم كذلك بيني على ما يفهمه من إشارة الأخرس، وعلى الثاني يعتمد
الحاكم في معنى الإشارة على ترجمة العارف بها، لأن الأخرس كغيره يعتمد
على من يعرف لغته.
وهل يشترط تعدد المترجم؟
قال المحقق هنا (يفتقر إلى مترجمين) وكذا في كتاب القضاء حيث قال
(إذا افتقر الحاكم إلى مترجم لم يقبل إلا شاهدان عدلان، ولا يقنع بالواحد،
عملا بالمتفق عليه).
أي: لأن الترجمة مرددة بين الشهادة والرواية، فإن كانت من الشهادة
شملتها أدلة اعتبار التعدد في الشهادة، وإن كانت من الرواية شملتها أدلة اعتبار
خبر العادل، وحيث لا دليل ولا أصل يعين الموضوع، لم يجز التمسك بدليل
أحد الأمرين، لكونها شبهة موضوعية، إلا أنه لا يقنع الحاكم بالمترجم
الواحد من جهة كون قبول ترجمة الاثنين متيقنا، أما لو كان واحدا ثم شك
في نفوذ الحكم المستند إلى ترجمته كان الأصل عدمه
. وذكر في الجواهر هناك دعوى أن الأصل هو الرواية، لأن الشهادة قسم
من الخبر، ولكن اعتبر الشارع في بعض أفرادها التعدد، فما لم يثبت فيه
التعدد يبقى على عموم ما دل على قبول خبر العدل، لأن المخصص حجة في
المتيقن وهو الشهادة وفي المشكوك يتمسك بالعام والشبهة مفهومية.
وأجاب عنها بأن الرواية والشهادة مفهومان متباينان في العرف، الذي
هو المرجع في تشخيص المفاهيم، فتارة يراد فهم معنى اللفظ أو المراد من
الإشارة فلا يحتاج إلى اثنين، وأخرى يراد الوقوف على الواقع والحكم طبق

265
الترجمة اعتبر التعدد.
أقول: وبناءا على أن المترجم ليس شاهدا كما سيأتي فلا يشترط
التعدد.
ثم قال صاحب الجواهر في كتاب القضاء، وقد يقال: إنه يمكن استفادة
اعتبار التعدد في كل ما كان له مدخلية في القضاء، ولو موضوع المدعى وتزكية
الشاهد وجرحه وغير ذلك ومنه حينئذ الترجمة لشهادة الشاهد ودعوى المدعي
أو نحو ذلك، لا الترجمة من حيث كونها ترجمة وإن لم تكن في موضوع يتعلق
به القضاء.
قلت: والانصاف: الفرق بين ترجمة اللغات وترجمة الإشارات، ففي
الأولى يكفي الواحد، لأن المترجم يشهد بما هو محسوس له، وفي الثانية قد يستند
في الترجمة إلى الحدس، فإن من عرف إشارة الأخرس على أثر المعاشرة
معه يحتاج في فهم مراداته إلى اعمال حدسه ونظره، وحينئذ لا تعم أدلة حجية
خبر العدل ترجمة إشارة الأخرس، لأنها لا تشمل الحدسيات، فيشترط تعدد
المترجم، ولا يلزم من اشتراطه توقف الأحكام وتعطيل الحقوق، لا سيما مع
امكان احلاف الأخرس، كما في الخبر عن محمد بن مسلم قال:
(سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الأخرس كيف يحلف إذا ادعي عليه
دين وأنكر ولم يكن للمدعي بينة؟ فقال: إن أمير المؤمنين عليه السلام أتي
بأخرس فادعي عليه دين ولم يكن للمدعي بينة. فقال أمير المؤمنين عليه السلام
الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بينت للأمة جميع ما تحتاج إليه.
ثم قال: ايتوني بمصحف فأتي به، فقال للأخرس: ما هذا؟ فرفع رأسه إلى
السماء وأشار أنه كتاب الله عز وجل، ثم قال: ايتوني بوليه، فأتي بأخ له
فأقعده إلى جنبه ثم قال: يا قنبر علي بدواة وصحيفة، فأتاه بهما. ثم قال لأخي

266
الأخرس: قل لأخيك هذا بينك وبينه إنه علي، فتقدم إليه بذلك، ثم كتب
أمير المؤمنين عليه السلام: والله الذي لا الله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن
الرحيم الطالب الغالب الضار النافع المهلك المدرك الذي يعلم السر والعلانية
إن فلان ابن فلان المدعي ليس له قبل فلان ابن فلان أعني الأخرس حق
ولا طلبة بوجه من الوجوه، ولا بسبب من الأسباب. ثم غسله وأمر الأخرس
أن يشربه، فامتنع فألزمه الدين) (1).
وهل تكون الترجمة شهادة فرع في القضية؟
قال المحقق: (لا يكون المترجمان شاهدين على شهادته) بل إنها شهادة
بمعنى اللفظ أو المراد من الإشارة، ومن شهد بذلك لا يشهد بتحقق أصل
المطلب، وعلى هذا فإن رأى الحاكم إشارة الأخرس وترجم عدلان عارفان
بإشاراته تلك الإشارة كان للحاكم في أصل المطلب، جاعلا الأخرس
شاهدا على الأصل، دون المترجمين لإشارته، فإنهما يترجمان إشارته ولا يكونان
شاهدي فرع، ولذا لا يشترط حضورهما ولا عدم حضورهما تلك الإشارة،
بل يكفي الترجمة عند الحاكم، فلو كانت شهادة فرع منهما لم تسمع الترجمة
منهما مع حضور الأخرس، بناءا على عدم سماع شهادة الفرع مع حضور
شاهد الأصل.
هذا ما ذكره المحقق هنا.
وقال في النافع في كتاب الاقرار: ويشهد على الأخرس بالإشارة ولا
يقيمها بالاقرار. وعلله في الرياض بقوله: لاحتمال خطائه في الفهم،
فيتحقق الكذب. أي: لأن الكذب يتحقق بالخبر المشكوك في صدقه كما يتحقق



(1) وسائل الشيعة 18 / 222 الباب 33 أبواب كيفية الحكم. صحيح.
267
بالخبر المقطوع بمخالفته للواقع.
ثم قال في الرياض: ولعله مراد من علل المنع بنفس الاقرار بالكذب
المطلق لاحتماله، كالحلي وغيره، وإلا فيشكل الحكم باطلاق الكذب، فقد
يعلم الشاهد باقراره ويحصل له القطع به من إشارته، فلا يكون كذبا فكيف
يعلل به؟
اللهم إلا أن يكون المراد إن الاقرار حقيقة في الاخبار عن الحق باللفظ
الدال عليه، بحكم التبادر وغيره، فيكون بالإشارة مجازا، وإرادته من الاقرار
المطلق المنصرف إلى اللفظ بغير قرينه غير جائز، واطلاقه من دونهما يعين
كونه كذبا.
وفيه نظر فإن خرسه قرينة حال واضحة (1) على إرادته بالاخبار بالإشارة من
الاقرار دون الحقيقة، فلا كذب. انتهى كلام الرياض.
واعترضه في الجواهر بعد نقله بقوله: قلت: قد يقال: أولا: إن إشارة
الأخرس كاللفظ من غيره، فيكتفي بالظاهر منها، كما يكتفي بالظاهر منه في جميع
المواضع، ولكن الانصاف عدم خلو هذا عن النظر.
أقول: وجه النظر هو الفرق بين الكلام والإشارة، إذ ليست الإشارة
كاللفظ في الظهور، فإن الإشارة يفهم المراد منها بمعونة القرائن، وهي مختلفة
فبعضها يفيد العلم وبعضها لا يفيده، بخلاف اللفظ فإنه إن كان ظاهرا في معناه
فبنفسه، وحينئذ لا يعبأ العقلاء باحتمال إرادة المعنى المخالف للظاهر. وبعبارة
أخرى اللفظ ظاهر في معناه بالوضع، وظهور الإشارة بالقرينة، وهي قد يخطأ
فيها، وقد لا تفيد العلم بالمعنى.



(1) أي: أنه إذا قال: قد أقر الأخرس. كان معناه: أشار، لا أنه تلفظ،
لوضوح أن الأخرس لا يمكنه النطق.
268
قال: وثانيا: لا ينبغي الاشكال في جواز الشهادة عليه بالاقرار، بمعنى
الالتزام، مع القطع بالمراد من إشارته، بل لعله كذلك في غير الأخرس أيضا،
وعلى أن المفهوم من إشارة الأخرس غالبا يستند إلى قرائن الأحوال التي لا
يمكن نقلها أو يتعسر، فتكليف الشاهد بنقلها متعذر أو متعسر. وقد عرفت
أن مدار الشاهد على العلم. ومما ذكرنا يظهر لك الحال في الترجمة أيضا
فتأمل.
أقول: لعله وجهه هو أنه كما أن الجارح إن لم يصرح بالسبب لم تقبل
شهادته بالجرح، من جهة احتمال أن لا يكون السبب الذي اعتمده الشاهد
جارحا في نظر الحاكم، فكذلك إشارة الأخرس، فإنه قد يستفيد شخص منها
معنى، ويستفيد آخر معنى آخر، وقد تفيد الإشارة العلم بمعنى لكن يختلف
الاثنان في بيانه وترجمته.
فإذن الأقوى الشهادة بالإشارة. والله العالم.
(الثالث: ما يفتقر إلى السماع والمشاهدة)
قال المحقق قدس سره (الثالث: ما يفتقر إلى السماع والمشاهدة،
كالنكاح والبيع والشراء والصلح والإجارة، فإن حاسة السمع تكفي في فهم
اللفظ، ويحتاج إلى البصر لمعرفة اللافظ، ولا بأس في شهادة من اجتمع له
الحاستان).
أقول: هذا لا كلام فيه ولا خلاف، فإن من اجتمع له الحاستان يشهد
بوقوع العقد أو الايقاع، لأنه قد سمع اللفظ، ورأي اللافظ، فيقول: أشهد
بوقوع هذا العقد مثلا من زيد، وتكون هذه الشهادة مقبولة للعمومات والاطلاقات
إنما الكلام في بعض فروع المسألة التي ذكرها المحقق، فقد قال:

269
في شهادة الأعمى في العقد وعلى العاقد
(أما الأعمى فتقبل شهادته في العقد قطعا، لتحقق الآلة الكافية في فهمه،
فإن انضم إلى شهادته معرفان جاز له الشهادة على العاقد مستندا إلى تعريفهما،
كما يشهد المبصر على تعريف غيره).
أقول: إذا فقد الشاهد البصر توقف شهادته على العاقد على تعريف عدلين
له، فإذا عرفاه شهد كما قال المحقق هنا، وفي النافع (ولا يشهد إلا مع المعرفة،
أو شهادة عدلين بالمعرفة)
قال في الرياض: (لا خلاف بين الأصحاب فيما أعلم في اعتبارهم العلم
الشرعي المستند إلى شهادة العدلين أيضا. (قال): بل ظاهر السرائر الاجماع
عليه، فإنه قال: فإذا حضر الشاهدان فلا يجوز له أن يشهد إلا على من يعرفه،
فإن أراد أن يشهد على من لا يعرفه، فليشهد بتعريف من يثق إلى ديانته من
رجلين عدلين عند أصحابنا.)
وفي الكفاية: (قالوا: فالأعمى إن انضم إلى سماعه معرفان يشهدان على
العاقد جاز له الشهادة عليه).
وعلى الجملة فلا كلام في جواز الشهادة. والمستند في الجواز هنا كما
في الرياض عن ظاهر السرائر - إنما هو فتوى الأصحاب، وفي الجواهر:
لعله لاطلاق خبر محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام: (سألته عن
شهادة الأعمى فقال: نعم إذا أثبت) (1) بناء على أن المراد من اثباته ما يشمل شهادة
العدلين، مضافا إلى النصوص الدالة على جواز الشهادة على المرأة إذا حضر
من يعرفها، بعد حمل ما في بعضها من وجوب كشفها عن وجهها وعدم الاجتزاء



(1) وسائل الشيعة 18 / 295 الباب 42 شهادات.
270
بشهادة العدلين على التقية.
وحيثما استندت شهادته إلى شهادة العدلين فهل يذكر الشهادة مطلقة
كالبصير أو لا بل يقول: أشهد على فلان بتعريف فلان وفلان؟
ذهب الأكثر إلى الأول، وهو ظاهر عبارة المحقق في النافع، وتبعه صاحب
الرياض، لكن عبارته هنا ليست مثلها في الظهور، ومن هنا احتمل في الجواهر
كون المراد منها هو الثاني، لكن يضعفه عدم تعرض الرياض له.
وكيف كان فقد نسب الثاني إلى جماعة من الأصحاب ومنهم الحلي في
السرائر والفاضل في التحرير وغيره، بل عن كشف اللثام ارساله ارسال المسلمات.
وتظهر الثمرة في كونه شاهد أصل أو فرعا، فمقتضى الأول كونه شاهد
أصل، ومحصله كفاية العلم الشرعي في الشهادة، فيكون المقام من موارد
الاستثناء من الضابط فيها وهو (العلم) من جهة ظهوره في معناه الحقيقي لغة
وعرفا، وفي الجواهر بعد القول الثاني: (ومقتضاه عدم قبول الشهادة إذا لم
تكن على الوجه المزبور، لما فيه من ايهام المعرفة بنفسه، وقطع الطريق على
الخصم لو أراد جرح شهود التعريف مثلا، بل هذا يومئ إلى أن شهادة التعريف
من شهادة الفرع أو بحكمها، الذي ستعرف أنه كذلك فيها، وحينئذ ينقدح من
هذا أنه لا استثناء لهذه الصورة من ضابط العلم.).
أقول: تارة يقول المعرفان: هذا الشخص هو العاقد، فيقول الأعمى:
هذا هو العاقد كما يقول المعرفان، فهذه شهادة فرع، وأخرى: يقولان للأعمى:
الذي سمعته أجرى العقد هو هذا فشهد الأعمى علي العاقد، فهذه شهادة أصل لا فرع،
غير أن العاقد تعين بتعريف العدلين، ومورد الخلاف هو الصورة الثانية، وقد
اختار العلامة في التحرير الوجه الثاني، إلا أنه نص على أنه لا يكون شاهد فرع،
فقد قال: (ولو شهد عنده عدلان بالنسب شهد عليه مستندا إلى شهادة المعرفين

271
بالتعريف، فيقول أشهد على فلان بتعريف فلان وفلان، ولا يكون في الاقرار
شاهد فرع).
فكلامه صريح في خلاف ما ذكره الجواهر بقول: (بل هذا يومي.)
نعم يمكن حمل عبارة التحرير على أنها شهادة أصل بالنسبة إلى السمع وشهادة
فرع بالنسبة إلى البصر، وكيف كان فليست شهادة الفرع.
وعبارة السرائر المزبورة آنفا ليست صريحة في القول الثاني - وإن نسب
إليه في الرياض - بل كما يحتمل اعتبار أن يقول: سمعت رجلين عدلين أنه
زيد، كذلك يحتمل قبول شهادته مطلقة حين الأداء، لكنها مستندة إلى شهادة
العدلين، بل لعل الثاني هو الأظهر لقوله بعد تلك العبارة: (فأما الواحد والنساء
فلا يشهد بتعريفه ولا تعريفهن، لأنه لا دليل على ذلك، فإذا أقام الشهادة أقامها
كذلك، فإذا أشهد على امرأة وكان يعرفها بعينها جاز له أن يشهد عليها، وإن لم
ير وجهها، فإن شك في حالها لم يجز له أن يشهد إلا بعد أن تسفر عن وجهها.) ويثبتها
معرفة، فإن عرفها من يثق بديانته من العدلين جاز له الشهادة عليها وإن لم تسفر عن
وجهها.) فإنه ظاهر في الشهادة بلا اشتراط لذكر المعرفين في الشهادة.
هذا كله لو حصل المعرفان.
قال المحقق: (ولو لم يحصل ذلك وعرف هو صوت العقد معرفة يزول
معها الاشتباه، قيل: لا يقبل، لأن الأصوات تتماثل، والوجه: أنها تقبل، فإن
الاحتمال يندفع باليقين، فإنا نتكلم على تقديره. وبالجملة فإن الأعمى يصح
شهادته محتملا ومؤديا عن علمه وعن الاستفاضة فيما شهد به بالاستفاضة).
أقول: في هذه الصورة قولان، نسب الأول وهو المنع في الجواهر
إلى الشيخ في محكي الخلاف مستدلا عليه بالاجماع والأخبار، وعلله المحقق
بقوله: (لأن الأصوات تتماثل).

272
وذهب المحقق قدس سره إلى الثاني، وتبعه صاحب الكفاية قال: الأقرب
القبول إن حصل له العلم وادعاه، بل في المسالك: هو الأشهر، قال: لأن
الفرض علمه القطعي بالقائل ومعرفته إياه، ووقوع ذلك أكثرى مشاهد في كثير
من العميان. وللاجماع على أن للأعمى أن يطأ حليلته اعتمادا على ما يعرفه
من صوتها. وأما احتمال الاشتباه لتماثل الأصوات فيندفع باليقين، فإنا نتكلم
على تقديره.
أقول: أما ما استدل به الشيخ في الخلاف فأمران، أحدهما لأخبار، لكن
الشيخ لم ينقل رواية تدل على المنع، بل ذكر رواية محمد بن قيس الدالة
على القبول بطريقين. والآخر الاجماع، لكن في المسالك أن الأشهر هو
القبول. وأما التعليل الذي ذكره المحقق، فإن كان المراد منه مجرد احتمال
الاشتباه، ففيه ما ذكره في الجواب، وإن كان المراد عدم حصول اليقين للأعمى،
ففيه: أنه تشكيك في الوجدان والمشاهد من كثير من العميان، اللهم إلا أن يراد أنه
لما كان الغالب في العميان هو الاشتباه كان الوجه عدم قبول الحاكم شهادته،
حتى لو حصل للأعمى العلم وادعاه، بأن لا يكون احتمال الاشتباه علة للحكم
حتى ينتفي بانتفائه، بل يكون حكمة له يؤخذ بها حتى في موارد عدم الاشتباه
يقينا.
وأما الاستدلال للقبول بالاجماع على جواز وطئ الأعمى زوجته اعتمادا
على ما يعرفه من صوتها ففيه: أنه ليس لأحد منع عن غن ترتيب الأثر على
يقينه، وكذلك ما نحن فيه، فإن الأعمى إذا حصل له اليقين جاز له الشهادة،
لكن الكلام في قبول الحاكم لشهادته، ولذا لو وقع النزاع بينه وبين زوجته
لم يكن يقين الأعمى دليلا للحاكم على الحكم بكونها زوجة له.
وكيف كان فإن الأقرب هو القبول لخبر محمد بن قيس المعتضد بفتوى
المشهور.

273
حكم ما لو تحمل وهو مبصر ثم عمى
قال المحقق: (ولو تحمل شهادة وهو مبصر ثم عمي، فإن عرف نسب
المشهود به أقام الشهادة، وإن شهد على العين وعرف الصوت يقينا جاز أيضا)
أقول: إذا تحمل شهادة يحتاج إلى البصر وهو بصير ثم عمى، فإن
تحملها على رجل معروف النسب والاسم لرجل معروف النسب والاسم فله أن
يشهد بعد ما عمي، لحصول العلم بالمشهود له والمشهود عليه، بلا خلاف ولا
اشكال كما في الجواهر.
وإن شهد على العين وعرف الصوت يقينا جاز أيضا بناءا على المختار
في الفرع المتقدم. قال في الجواهر: وكذا لو عرفه بغير الصوت على وجه
اليقين.
نعم في الاجتزاء هنا له بتعريف العدلين اشكال. أقواه العدم، لما عرفته
في نظيره.
قال المحقق: (أما شهادته على المقبوض فماضية قطعا).
أقول: قال في المسالك: هذه الصورة مما استثناه القائلون بالمنع من
قبول شهادته، وسموها الضبطة، وهي أن يضع رجل فمه على أذن الأعمى
ويد الأعمى على رأسه، بحيث يتيقن أنه يسمع منه، فيقر بطلاق أو عتق أو
حق لرجل معروف الاسم والنسب، ويقبضه الأعمى، ولا يزال يضبطه حتى
يشهد بما سمع منه عند الحاكم، فيقبل شهادته على القولين، لحصول العلم
بالمشهود له وعليه.
وربما قيل باطراد المنع هنا، لأن التصوير المذكور فيه عسر وتدقيق،
واللائق حسم الباب، كما أنا لا نقبل شهادة الفاسق على الاطلاق، وإن كان قد

274
يغلب على ظننا صدقه في بعض الموارد. ويضعف بانتفاء المانع في هذه
الصورة قطعا، مع وجود المقتضي للقبول، ودقة الفرض لا يدفع الحكم.
وتشبيهه بالفاسق الذي يغلب على الظن صدقه فاسد، لوجود الفارق وهو أن
الفاسق منهي عن الركون إلى قوله مطلقا لا باعتبار ظن صدقه وعدمه، بل من
حيث كونه فاسقا، بخلاف الأعمى فإن المانع من قبول شهادته عدم علمه
بالمشهود عليه وله، لا من حيث هو أعمى، فإذا فرض العلم قبل.
قال المحقق: (وتقبل شهادته إذا ترجم للحاكم عبارة حاضر عنده).
أقول: قال في الجواهر: بلا اشكال ولا خلاف، لانتفاء المانع عن القبول
حينئذ، إذ الحاكم يعرف المشهود عليه وله، وإنما يشتبه عليه معنى اللفظ، ولا
تتوقف شهادة الأعمى على ترجمة العبارة على البصر.

275
(3) أقسام الحقوق

277
قال المحقق قدس سره: (وهي قسمان: حق الله تعالى شأنه وحق لآدمي
والأول: منه ما لا يثبت إلا بأربعة رجال كالزنا واللواط والسحق).
أقول: الكلام في حق الله تعالى من حيث طريق ثبوته شرعا. وينقسم
إلى قسمين:
[1] من حقوق الله: ما لا يثبت إلا بأربعة رجال كالزنا واللواط
والسحق
فمن حق الله تعالى ما لا يثبت إلا بأربعة رجال، كالزنا واللواط والسحق،
قال في الجواهر: بلا خلاف في ثبوت الثلاثة بذلك.
وفي المسالك: قيل: والحكمة في اختصاصه بذلك أن الشهادة فيه على
اثنين، فاعتبر لكل واحد رجلان. (قال): وهذا التعليل مروي أيضا عن أبي
حنيفة رواية عن أبي عبد الله عليه السلام.
وفيه: أن شهادة الاثنين مقبولة على الجماعة إذا شهدوا على كل واحد
منهم، ولأنه قد لا يعرف أحد الزانيين فلا يمكنه الشهادة عليه.
وفي أخبار كثيرة أن ذلك تعبد محض، وأن فيه دليلا على بطلان القياس
وإلا لكان القتل أولى باعتبار الأربعة لأنه أفحش.

279
نعم يمكن أن يقال بأن الحكمة طلب الستر مهما أمكن، والمحافظة على
عدم الهتك، ولذا لو شهد ثلاثة وامتنع الرابع عنها حد الثلاثة.
وكيف كان فالدليل على اعتبار الأربعة رجال في الزنا قوله تعالى: (والذين
يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) (1). وقال سبحانه: (لولا جاءوا
عليه بأربعة شهداء) (2) وقال: (فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) (3).
وقال سعد: (يا رسول الله: أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجلا أمهله
حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال: نعم).
هذا كله في الزنا، وأما اللواط والسحق فليس في النصوص ما يدل عليه
اعتبار الأربعة فيهما، نعم في اللواط: (حده حد الزنا) وكذا في السحق، بل
في بعضها الرجم إلا أن الحكم مجمع عليه بين الأصحاب، قال في المسالك:
(فمن حقوق الله تعالى الزنا، وفي معناه: اللواط والسحق عندنا).
ما يثبت به اتيان البهائم
قال المحقق: (وفي اتيان البهائم قولان أصحهما ثبوته بشاهدين).
أقول: قد نسب الجواهر مختار المحقق إلى الأشهر بل المشهور، وفي
المسالك إلى الأكثر، واستدل للثاني بالأصل وكونه وطيا محرما في معنى الزنا
ومشتملا على الهتك. وللأول باطلاق ما دل على الثبوت بهما، لأن الشارع
جعل ثبوت الأحكام في غير الزنا بشاهدين، قال تعالى: واستشهدوا شهيدين
من رجالكم. واتيان البهائم ليس بزنا ولا يوجب الحد، وبما ذكر ينقطع الأصل.



(1) سورة النور: 4.
(2) سورة النور: 13.
(3) سورة النساء: 15.
280
نعم في الشهبة المصداقية كما لو وطئ وشك في أن الموطوء حيوان
أو انسان لم يجز التمسك بتلك العمومات. ولو شك فيه من حيث المفهوم
باحتمال كون وطئ البهيمة زنا فإنه ليس في الآيات المذكورة التي اعتبر
فيها الأربعة ذكر الزنا بل الفاحشة، واتيان البهيمة فاحشة، لكن القدر المتيقن
من مفهومها هو (الزنا) فيكون الآيات حجة فيه، ويخصص بها عمومات البينة،
ويبقى غيره ومنه اتيان البهيمة تحت عمومات البينة، فيثبت بشاهدين.
وأما أن اتيان البهائم يشارك الزنا في الهتك فيلحقه حكمه فقياس باطل.
في ثبوت الزنا بغير الأربعة رجال أيضا
قال المحقق: (ويثبت الزنا خاصة بثلاثة رجال وامرأتين، وبرجلين
وأربع نساء، غير أن الأخير لا يثبت به الرجم ويثبت به الجلد).
أقول: في الفرع ثلاثة أحكام أحدها: ثبوت الزنا دون اللواط والسحق
بثلاثة رجال وامرأتين. والثاني: ثبوته برجلين وأربع نساء. والثالث: أنه
يثبت بشهادة الرجلين والأربع نسوة حكم الزنا جلدا لا رجما.
والمدرك في هذه الأحكام هو النصوص المستفيضة (1) التي لا يعارضها الآيات
الكريمة المعتبرة لشهادة أربعة رجال، لأن ثبوت الزنا بذلك لا ينفي ثبوته
بغيره وهذا بعضها:
1 - عبد الله بن سنان قال: (سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لا تجوز
شهادة النساء في رؤية الهلال، ولا يجوز في الرجم شهادة رجلين وأربع نسوة
ويجوز في ذلك ثلاثة رجال وامرأتان.).



(1) وسائل الشيعة 18 / 260 الباب 24 شهادات.
281
2 - الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (سألته عن شهادة النساء في
الرجم. فقال: إذا كان ثلاثة رجال وامرأتان، وإذا كان رجلان وأربع نسوة لم
تجز في الرجم).
3 - محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا عليه السلام في حديث:
(وتجوز شهادتهن في حد الزنا إذا كان ثلاثة رجال وامرأتان، ولا تجوز شهادة
رجلين وأربع نسوة في الزنا والرجم.)
4 - زرارة عن أبي جعفر قال في حديث - (وقال: علي عليه السلام:
تجوز شهادة النساء في الرجم إذا كان ثلاثة رجال وامرأتان، وإذا كان أربع نسوة
ورجلان فلا يجوز الرجم).
5 - أبو الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث - عن
علي عليه السلام: (إذا شهد ثلاثة رجال وامرأتان جاز في الرجم، وإذا كان
رجلان وأربع نسوة لم تجز).
6 - زيد الشحام قال: (سألته عن شهادة النساء، قال فقال: لا تجوز شهادة
النساء في الرجم إلا مع ثلاثة رجال وامرأتين، فإن كان رجلان وأربع نسوة
فلا تجوز في الرجم.)
7 - الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام: (أنه سئل عن رجل محصن فجر
بامرأة فشهد عليه ثلاثة رجال وامرأتان وجب عليه الرجم، وإن شهد عليه رجلان
وأربع نسوة فلا تجوز شهادتهم ولا يرجم ولكن يضرب حد الزاني).
وبالجمع بين هذا الخبر الذي لم يتعرض له الشهيد الثاني لا في المقام
ولا في باب حد الزنا وبين خبره المتقدم يتم الدليل على ما ذكره المحقق.
وأما ما دل على عدم قبول شهادة المرأة في الحد فمحمول على رد شهادتها
فيه منفردة عن الرجل، ولو سلمنا اطلاقه فمخصص بما عرفت.

282
وما دل على عدم القبول منها في خصوص الرجم فقد حمله الشيخ على
التقية أو عدم اجتماع شرائط القبول فيه.
فثبت الأحكام الثلاثة بالنصوص المذكورة
وعن جماعة الخلاف في الحكم الثالث، فنفوا الحد أصلا، قال في
المسالك بعد ذكر بعض الأخبار: (وهي مع كثرتها ليس فيها تصريح بثبوت
الجلد برجلين وأربع نسوة. لكن الشيخ والجماعة استندوا في ثبوته إلى رواية
أبان عن عبد الرحمن عن الصادق عليه السلام قال يجوز شهادة النساء في الحدود
مع الرجال. وحيث انتفى الرجم بالأخبار الكثيرة يثبت الجلد.
(قال): وفيه نظر، لضعف الطريق عن اثبات مثل ذلك، مع ورود روايات
كثيرة بأنه لا تقبل شهادتهن في حد. ومن ثم ذهب جماعة مهم الصدوقان وأبو
الصلاح والعلامة في المختلف إلى عدم ثبوت الحد بذلك، عملا بالأصل،
وبأنه لو ثبت الزنا بشهاداتهم لثبت الرجم، والتالي باطل للأخبار الكثيرة الدالة
على عدم سماع رجلين وأربعة نسوة في الرجم، فالمقدم مثله. وبيان الملازمة:
دلالة الاجماع على وجوب الرجم على المحصن الزاني، فإن ثبت هذا الوصف
ثبت الحكم وإلا فلا. وهذا الحكم متجه).
أقول: وهو كما في الجواهر كالاجتهاد في مقابلة النص.
ونبه المحقق قدس سره بقوله (خاصة) على خلاف جماعة منهم الصدوق
وابن الجنيد في الحكم الأول، حيث قال بتعدي الحكم إلى اللواط والسحق.
قال الشهيد الثاني: وهو ضعيف، لعدم المقتضي لالحاقهما بالزنا، مع الاخبار
بعد قبل شهادتهن في الحد.
فهما باقيان على مقتضى ما دل على اعتبار الأربعة رجال، ويؤيده عموم عدم
جواز شهادة النساء في الحدود الدال عليه عدة من النصوص، وعليه نص الشهيد

283
في الدروس بقوله: (ما لا يثبت إلا بشهادة أربعة رجال وهو اللواط والسحق)
وفي المستند عن الإسكافي الحاقهما بالزنا. قال: (وهو ضعيف، وأما رواية
البصري والرضوي لشذوذهما خارجان عن الحجية).
فالدليل على عدم الالحاق بعد عدم الدليل المعتبر هو بقاؤهما على مقتضى
ما دل على اعتبار الأربعة رجال. نعم عن بعض العامة (1) تفسير (الفاحشة) في
قوله تعالى: (اللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم)
بالسحق.
وأن المراد من (اللذان) في قوله تعالى: (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما
فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما) هو الرجلان
اللواطان، وحيث لا تصريح في هذه الآية بطريق اثبات الفاحشة، يكون طريق
اثباتها هو ما ذكر في سابقتها، فيكون طريق اثبات اللواط هو الأربعة رجال.
هذا وجه الاستدلال بالآيتين. وفيه أولا: أن التفسير المذكور ليس عن
أهل البيت عليهم السلام، وقد نص على ذلك الفيض الكاشاني بعد حكايته.
وثانيا: الفاحشة هي الفعل القبيح، فإن أريد العموم شمل جميع القبائح،
وإن أريد لحاظ مناسبة الحكم والموضوع اختص الزنا. وثالثا: أن الاستدلال
بالآية الثانية مبني على أن يكون المراد من اللذان هو الرجلان. لكن هذا
اللفظ يطلق على الرجل والمرأة أيضا.
وعلى الجملة ففي ما ذكرنا من الاستدلال كفاية، ولا حاجة إلى التكلف
المذكور، وقد تسالم الأصحاب على الحكم.
وإن ادعى السيد في الغنية الاجماع على قبول الثلاثة والمرأتين فيهما
وإن كان يشهد له اطلاق خبر عبد الرحمن البصري: (تجوز شهادة النساء في



(1) تفسير الصافي 1 / 398.
284
الحدود مع الرجال) لكنه كما في المستند - شاذ. وأما جعل الزنا أعم
من اللواط والسحق فيدخلان في المستثنى من دليل عدم جواز شهادة النساء
في الحدود فضعيف، ولا أقل من الشك في شمول المفهوم فيؤخذ بالقدر
المتيقن.
فثبوت السحق واللواط بالأربعة رجال فقط.
قال المحقق: (ولا يثبت بغير ذلك).
أقول: أي لا يثبت الزنا بغير الأربعة رجال، والثلاثة والمرأتين، والرجلين
مع أربعة نساء. وقد نبه بهذا على خلاف الشيخ في الخلاف، حيث ذهب
إلى ثبوت: الحد دون الرجم بشهادة رجل واحد وست نساء ذكره في المسالك
وقال: ولعله استند إلى عموم رواية عبد الرحمن السابقة وهو شاذ.
قلت: ولعل المستند قوله تعالى: (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان)
بتقريب: أن الامرأتين تقومان مقام الرجل، فتكون الستة قائمة مقام الثلاثة رجال، فيتم
مع الرجل شهادة الأربعة رجال، لا يقال: فعلى هذا تقبل شهادة الثمانية نسوة.
لأن النصوص دلت على عدم قبول شهادتهن منفردات إلا في القتل. فالحاصل:
قيام المرأتين مقام الرجل في كل مورد إلا حيث جاء النص على عدم
القبول.
لكن يضعفه إن الآية مخصصة بما دل على عدم قبول شهادة النساء في
الحدود، بناءا على اطلاقه بالنسبة إليهن منضمات إلى الرجال، خرج منه
الأربع نسوة والرجلان، والثلاثة رجال والمرأتان. وبقي غيرهما تحت
العام. كما أن هذا الدليل يقيد اطلاق خبر عبد الرحمن البصري بغض
النظر عن شذوذه.

285
[2] من حقوق الله: ما يثبت بشاهدين كالسرقة وشرب الخمر
قال المحقق قدس سره: (وهو ما عدا ذلك من الجنايات الموجبة للحدود
كالسرقة وشرب الخمر والردة).
أقول: هذه الثلاثة التي ذكرها المحقق موجبة للحد وهو حق الله تعالى،
وإن كان في السرقة حق الآدمي أيضا، وكذا الكلام في حقوق الله المالية
كالزكاة والخمس. فهذه كلها تثبت بشاهدين عدلين، والدليل على ذلك
اطلاقات أدلة حجية البينة فإنها تقتضي قبول شهادة العدلين في كل مورد، وإن
لم يكن هناك دليل على عدم قبول شهادة غيرهما.
واستدل في الجواهر مع ذلك بخبر مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد الله
عليه السلام: (إن أمير المؤمنين عليه السلام كان يحكم في زنديق إذا شهد عليه
رجلان عدلان مرضيان وشهد له ألف بالبراءة يجيز شهادة الرجلين ويبطل
شهادة الألف لأنه دين مكتوم) (1) فإنه يدل على ثبوت الحد بشهادة العدلين في
هذا المورد، لكن في دلالته على ثبوته بذلك في غيره بالغاء الخصوصية
اشكال.
واستدل أيضا بخبر عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن أبيه عن آبائه
عليهم السلام: (سئل رسول الله صلى الله عليه وآله عن الساحر فقال:
إذا جاء رجلان عدلان فيشهدان عليه فقد حل دمه) (2).
لكنه يتوقف على الغاء
الخصوصية وهو مشكل.
وفي المسالك: (الأصل في الشهادة شهادة الرجلين).



(1) وسائل الشيعة 18 / 303 الباب 51 شهادات. ضعيف.
(2) وسائل الشيعة 18 / 303 الباب 51 شهادات.
286
وفيه: أن كون الأصل في الشهادة شهادة الرجلين يتوقف على الاستقراء
أو الغاء الخصوصية في الخبرين.
فالأولى الاستدلال باطلاق أدلة البينة كقوله صلى الله عليه وآله: (إنما
أقضي بينكم بالبينات والأيمان) فإنه مطلق، وقول الصادق عليه السلام لابنه
إسماعيل: (إذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم) (1) وخبر مسعدة بن صدقة:
(والأشياء كلها على هذا حتى تستبين أو تقوم به البينة) (2) ونحوها غيرها (3)، فإنها
تدل على قبول شهادة العدلين في كل مورد، وأن الأصل ذلك إلا فيما استثني،
وعلى الجملة: أنه يكفي ذلك للدلالة على قبول الشهادة العدلين وعدم قبول
شهادة غيرهما، وفي كل مورد قبل فبدليل، كالنصوص الدالة على قبول شهادة
النساء فيما لا سبيل للرجال إليه.
وأما الاستدلال لذلك بقوله تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم)
فيتوقف على أن يكون المستفاد منها كون شهادة العدلين حكما كليا طبق في
ذاك المورد وأما إذا كان حكما خاصا به فلا اطلاق.
ولما كانت الأخبار تعين المصداق للبينة في الرجلين العدلين في موارد
كثيرة أمكن دعوى تبادر هذا المعنى من لفظ (البينة) في عرف المتشرعة.
قال المحقق قدس سره: (ولا يثبت شئ من حقوق الله تعالى بشاهد
وامرأتين، ولا بشاهد ويمين، ولا بشهادة النساء منفردات وإن كثرن).
أقول: قد ذكرنا أن مقتضى الأدلة قبول شهادة العدلين في كل مورد، وإن



(1) وسائل الشيعة 13 / 230 الباب 6 في أحكام الوديعة. صحيح.
(2) وسائل الشيعة 12 / 60 الباب 4 في أبواب ما يكتسب به. موثق.
(3) قد بحث المحقق النراقي هذا الموضوع في عوائد الأيام ص 273
وذكر الأدلة عليه فراجعه.
287
كل مورد اعتبر فيه غير ذلك فبدليل، وقد وردت نصوص في قبول شهادة النساء
في موارد خاصة، وقد يقال بالنسبة إلى غير تلك الموارد باطلاق: (فإن لم
يكونا رجلين فرجل وامرأتان) فلا يختص قيام المرأتين مقام الرجل بمورد
الآية. لكن النصوص تنفي هذا الاطلاق، وتصرح بأنه حكم خاص بموردها
وهو (الدين)، هذا بالإضافة إلى ما دل على عدم قبول شهادة النساء في الحدود،
فلا دليل على قبول شهادتهن، فيبقى اعتبار (البينة)
ومن تلك النصوص التي أشرنا إليها (1):
1 - خبر جميل بن دراج ومحمد بن حمران عن أبي عبد الله عليه السلام.
2 - خبر محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا عليه السلام.
3 - خبر زرارة عن أبي جعفر عليه السلام.
[1] من حقوق الآدمي: ما لا يثبت إلا بشاهدين كالطلاق
قال المحقق: (وأما حقوق الآدمي فثلاثة، منها: ما لا يثبت إلا بشاهدين
وهو الطلاق والخلع والوكالة والوصية إليه والنسب ورؤية الأهلة.)
أقول: القسم الأول: ما لا يثبت إلا بشاهدين، فلا يجزي فيه النساء منضمة
إلى الرجال فضلا عن الانفراد، ولا اليمين مع الشاهد، قال في المسالك:
مورد الشاهدين من حقوق الآدمي كلما ليس بمال ولا المقصود منه المال،
وفي الدروس نسبة هذا الضابط إلى الأصحاب، وفي كشف اللثام: ما يطلع
عليه الرجال غالبا وما لا يكون. لكن في الجواهر: لم أقف في النصوص على
ما يفيد هذا الضابط، بل فيها ما ينافيه.



(1) وسائل الشيعة 18 / 258 الباب 24 شهادات. باب ما تجوز شهادة النساء
فيه وما لا تجوز.
288
[أما الطلاق] فيدل على عدم ثبوته إلا بشاهدين ذكرين عدة من
النصوص (1) ومنها:
1 - الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام: (أنه سئل عن شهادة النساء في
النكاح، فقال: تجوز إذا كان معهن رجل، وكان علي عليه السلام يقول: لا أجيزها
في الطلاق).
2 - أبو بصير: (سألته عن شهادة النساء. فقال: تجوز شهادة النساء
وحدهن على ما لا يستطيع الرجال النظر إليه. وتجوز شهادة النساء في النكاح
إذا كان معهن رجل، ولا تجوز في الطلاق.)
3 - محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا عليه السلام في حديث:
(ولا تجوز شهادتهن في الطلاق). 4 - محمد بن مسلم قال: (قال لا تجوز شهادة النساء في الهلال ولا في
الطلاق).
5 - زرارة: (سألت أبا جعفر عليه السلام عن شهادة النساء تجوز في النكاح؟
قال: نعم ولا تجوز في الطلاق.).
6 - أبو الصباح عن أبي عبد الله عليه السلام: (قال علي عليه السلام:
شهادة النساء تجوز في النكاح ولا تجوز في الطلاق.).
فهذه الأخبار صريحة في عدم ثبوت الطلاق بشهادة النساء مطلقا، وعن
الغنية الاجماع عليه أيضا. ولكن اختلف كلام الشيخ في ثبوت الطلاق
بشهادتهن منضمات، فعن الخلاف والنهاية النص على المنع.
وعن المبسوط أنه قوى القبول. قال في المسالك: وإليه ذهب جماعة،
وهو ضعيف، وفي الجواهر: أنه لم يجد القول به إلا ما يحكى عن أبي علي



(1) وسائل الشيعة 18 / 258 الباب 24 شهادات وفيها الصحيح وغيره.
289
أنه قال: لا بأس بشهادتهن مع الرجال في الحدود والأنساب والطلاق).
نعم في كشف اللثام: (لكن أخبار الطلاق يحتمل شهادتهن حين الطلاق)
واعترضه في الجواهر بقوله: (وهو مع بعده فيها ما لا يقبله كالمروي عن
العلل والعيون بأسانيده إلى محمد بن سنان. وفي خبر داود بن الحصين.
(قال): ومن الأخير يستفاد عدم الاجتزاء فيه أيضا بالشاهد واليمين).
قلت: قد ذكرنا أن الأصل المستفاد من أدلة اعتبار البينة عدم القبول إلا
بدليل، ومع هذا الأصل لا حاجة إلى الدليل على عدم القبول، بل يكفي
عدم الدليل على القبول (1).
[وأما الخلع] فإن كانا متوافقين على البينونة وإنما النزاع في الحقوق
المالية المترتبة عليها كأن تدعي الزوجة كون الطلاق رجعيا وتطالب بالمهر، ويدعي
الزوج وقوعه خلعا وبذل المرأة المهر فحينئذ تقبل شهادتهن في أنها بذلت
المهر في مقابل الطلاق. وإن كان نزاعهما في أصل البينونة كأن تدعي المرأة
الخلع وتعترف بالبذل، فلا رجوع، والرجل يدعي الرجوع ويدفع إليها
المهر فليس المتنازع فيه حقا ماليا، بل البينونة تدعيها المرأة وينكرها الرجل
فلا تقبل شهادتهن حينئذ.
وقيل: إذا تنازعا في المال وثبت الحق بشهادة العدلين كان اللازم كون
الطلاق خلعا.
وقيل: إذا ثبت الطلاق ثبت الحق المالي بالتبع.
وقيل: إن في الخلع جهتين فتقبل في الجهة المالية ولا تقبل في غير المالية.



(1) أقول: ما ذكره السيد الأستاذ هو الأولى في الجواب، إذ يمكن
مناقشة الجواهر بأن ما لا يقبل الاحتمال المذكور ضعيف سندا، والتام سندا
يقبله.
290
نظير السرقة حيث يثبت الحق المالي ولا يحد. وأجيب بالفرق بين الأمرين
إذ السرقة تتحقق بلا شاهد، بخلاف الطلاق فإنه لا يثبت بدونه، والطلاق
يلازم الحق المالي المالي، بخلاف السرقة ففيها حكمان قد يثبت أحدهما ولا يثبت
الآخر.
[وأما لوكالة] فليست من الأمور المالية وإن تضمنت مالا أو انجرت
إليه فلا تثبت إلا بشاهدين بناء على الضابط المذكور، وإن كان المرجع
في المقام هو مفاد الأخبار من أن الملاك القبول في كل ما هو (حق) لا (حكم)
قبلت شهادتهن في الوكالة إن كانت من الحقوق، ولم يرد في المنع عن القبول
فيها نص خاص كما هو الظاهر.
وبناءا على تقييد الحق بالمالي من ورود النص الخاص بقبول شهادتهن في
(الدين) فإن تعميم الحكم إلى كل حق مالي يتوقف على الغاء خصوصية الدين
كما هو واضح.
[وأما الوصية] ففيها بالخصوص نصوص، فلا بد من النظر إلى مفادها.
ولا يكفي الأخذ بالضابط في موردها.
[وأما النسب] فهو أمر واقعي يترتب عليه آثار مالية وغيرها، وليس من
الحقوق ولا الأموال، فلا يثبت إلا بشاهدين عدلين.
[وأما رؤية الهلال] ففيها نصوص خاصة صريحة في عدم قبول شهادتهن
وإن استلزمت مالا كحلول أجل الدين مثلا، ومن هذه النصوص (1):
1 - خبر محمد بن مسلم، وقد تقدم.
2 - عبد الله بن سنان: (سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لا تجوز
شهادة النساء في رؤية الهلال.).



(1) وسائل الشيعة 18 / 258 الباب 24 شهادات.
291
3 - حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه السلام: (لا تقبل شهادة النساء في
رؤية الهلال، ولا يقبل في الهلال إلا رجلان عدلان).
4 - العلاء عن أحدهما: (لا تجوز شهادة النساء في الهلال.).
نعم عن داود بن الحصين عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل
قال: (لا تجوز شهادة النساء في الفطر إلا شهادة رجلين عدلين، ولا بأس في الصوم
بشهادة النساء ولو امرأة واحدة) (1).
قال في الوسائل: (قال الشيخ: الوجه في هذا الخبر أن يصوم الانسان
بشهادة النساء استظهارا واحتياطا، دون أن يكون ذلك واجبا).
قلت: ولعل وجه هذا الحمل وعدم تخصيص تلك النصوص بهذا الخبر
بأن تقبل شهادتهن في الصوم خاصة هو إباء تلك النصوص عن التخصيص،
لا سيما وأن بعضها معلل بضعف رؤية النساء.
هل يثبت العتق والقصاص والنكاح بالشاهد والمرأتين؟
قال المحقق: (وفي العتق والقصاص والنكاح تردد أظهره ثبوته بالشاهد
والمرأتين).
أقول: [أما العتق]: فإن كان مالا من جهة أنه يتعلق بالعبد وهو مال مملوك
فتقبل، إذ يكون الشهادة على العتق كالشهادة على تلف مال، وإن لم يكن العتق
مالا بل كان النظر إلى جهة الخروج عن الرقية فلا. ومن هنا تردد المحقق ثم
اختار الثبوت وفاقا للمبسوط وخلافا للخلاف، وخالفه في المسالك.
[وأما القصاص] فقد نص المحقق في كتاب القصاص على عدم الثبوت
ولعل نظره هنا إلى الدية وهي مال. والأخبار في بعضها: (إلا في القتل) وفي
آخر (إلا في القود) فيحمل أحدهما على القتل الخطأ والآخر على العمدي.



(1) وسائل الشيعة 18 / 266.
292
[وأما النكاح] فإنه ليس من حيث هو مالا، لكن جهة الدعوى تختلف
فإن كان النظر فيها إلى المهر والنفقة والإرث فذلك مال وتقبل، وإلا فلا.
هذا بالنظر إلى الضابطة المذكورة في أول البحث.
وأما الأخبار فإنها بالنسبة إلى القصاص مختلفة، وقد اختلف بتبعها كلمات
الأصحاب، وهذه نصوص بعضها (1):
1 - جميل بن دراج ومحمد بن حمران (عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: قلنا أتجوز شهادة النساء في الحدود؟ فقال: في القتل وحده. إن عليا
عليه السلام كأن يقول: لا يبطل دم امرئ مسلم).
ظاهره العدم في حال وجود الرجال، إذ لا يبطل دم المسلم حينئذ.
2 - أبو بصير: (سألته عن شهادة النساء. فقال: تجوز شهادة النساء
وحدهن على ما لا يستطيع الرجل النظر إليه، وتجوز شهادة النساء في النكاح
إذا كان معهن رجل، ولا تجوز في الطلاق، ولا في الدم.).
ظاهره عدم القبول لا في القصاص ولا في الدية.
3 - إبراهيم الحارثي: (. وتجوز شهادتهن في النكاح، ولا تجوز في
الطلاق ولا في الدم.).
4 - زرارة: (سألت أبا جعفر عليه السلام عن شهادة النساء تجوز في
النكاح؟ قال: نعم ولا تجوز في الطلاق (إلى أن قال): قلت: تجوز شهادة
النساء مع الرجال في الدم؟ قال: لا)
5 - أبو الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام: (قال قال علي عليه
السلام: شهادة النساء تجوز في النكاح. وقال: تجوز شهادة النساء في الدم
مع الرجال).



(1) وسائل الشيعة 18 / 258 الباب 24 شهادات
293
6 - ربعي عن أبي عبد الله عليه السلام: (لا تجوز شهادة النساء في القتل)
قال في الوسائل: حمله الشيخ على عدم ثبوت القود، وإن ثبتت بشهادتهن
الدية.
7 - غياث بن إبراهيم: (عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي عليه
السلام: لا تجوز شهادة النساء في الحدود ولا في القود).
8 - موسى بن إسماعيل بن جعفر: (عن أبيه عن آبائه عن علي عليه
السلام: لا تجوز شهادة النساء في الحدود ولا قود).
قال في المسالك: الأخبار مختلفة وأصحها وأكثرها دال على القبول،
وعليه الأكثر.
أقول: إن كلا من أخبار الطرفين فيها ما يمنع أو يدل على القبول بالاطلاق
وفيها ما يدل على ذلك مقيدا. والدال على المنع مقيدا هو الخبران الأخيران
فإنه مقيد بالقود. أي: تجوز في الدية، والدال على الجواز مقيدا خبرا
زرارة وأبي الصباح الدالان على القبول مقيدا بكونهن مع الرجال. ومقتضى
الجمع بين المقيدين: عدم القبول في القود إلا إذا كان معهن رجل. فيكون
دليل القول بثبوت غير موجب القصاص بشهادتهن مع الرجال.
وإن قلنا بالتعارض بينهما بالعموم من وجه، لأن ذاك يمنع في القود سواء
مع الرجل أو لا، وهذا يجوز إذا كان معهن رجل سواء في القود وغيره، وإذا
تعارضا في مورد الاجتماع وهو القود مع وجود الرجل معهن وتساقطا
كان ثبوت القود بشهادتهن حتى مع الرجال بلا دليل، وتقبل شهادتهن مع
الرجل في الدية. ويكون هذا شاهد جمع بين المانع بالاطلاق والدال على
القبول بالاطلاق، فيحمل المانع على غير الدية وهو القود، والمجوز على
الدية دون القود وهذا دليل هذا القول.
وحيث لا يقبل شهادتهن في القود فهل معنى ذلك عدم ثبوت القصاص ولا

294
الدية، أو أنه لا يقبل في القود ويتنزل إلى الدية؟ وجهان. وهذا البحث يجري
في الشهادة على المحصنة، فإذا قيل لا نقبل في الرجم ليس معناه ثبوت الجلد
عوض الرجم.
في الجواهر أن شهادتهن لا تقبل في القود، لا أنها تقبل ولكن تؤخذ الدية
بدلا عن القتل. وظاهر الجمع الذي ذكرناه تبعا للنهاية هو القبول في الدية،
نعم كلام الشيخ مجمل، إذ لم يصرح باختياره أحد الوجهين.
وكيف كان ففي الجواهر: (لا بأس بقبول شهادتهن بالقتل المقتضي للدية
وإذا أمكن الجمع بين النصوص بذلك كان أولى، وإلا كان الترجيح للنصوص
النافية قبول شهادتهن فيه. وأما الجمع بينها بحمل النافية على شهادتهن منفردات
والمثبتة على صورة الانضمام مع رجل، فلا يقبله ظاهر بعضها أو أكثرها)
قلت: والجمع الذي تعرض له مذكور في المسالك، والظاهر أنه الأولى.
قال في المسالك: واعلم أن محل الاشكال شهادتهن منضمات إلى الرجال
أما على الانفراد فلا تقبل شهادتهن قطعا. وشذ قول أبي الصلاح بقبول شهادة
امرأتين في نصف دية النفس والعضو والجراح، والمرأة الواحدة في الربع).
قال في الجواهر: وهو كذلك إذا كان المراد بالانفراد حتى عن اليمين.
أما معه فالظاهر قبول المرأتين فيما يوجب الدية كالرجل مع اليمين.
يعني: أنه يثبت حق الآدمي بشهادة المرأة مع الرجل أو يمين المدعي
والحق أعم من المالي وغيره إلا ما قام الدليل على المنع فيه، فتحمل فتوى
أبي الصلاح على شهادتها مع يمين المدعي، لا شهادتها منفردة.
وأما في النكاح فالأخبار تدل على الثبوت، كأخبار أبي بصير، وأبي الصباح
وزرارة وغيرها. والدال على المنع هو:
خبر السكوني: (عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السلام أنه كان يقول:

295
شهادة النساء لا تجوز في طلاق ولا نكاح ولا حدود، إلا في الديون، وما لا يستطيع
الرجال النظر إليه) (1).
قال في الوسائل: حمله الشيخ على التقية والكراهة. واستدل على كونه
للتقية برواية داود بن الحصين السابقة.
قلت: بالإضافة إلى ما في سنده من الكلام.
لكن لا يخفى أن الحمل على التقية ونحوه هو بعد الفراغ عن تعذر
الجمع بالاطلاق والتقييد، ومن الممكن الجمع كذلك بينه وبين ما دل على
الجواز مثل خبر الحلبي: (تجوز إذا كان معهن رجل) المقيد لما دل على
الجواز مطلقا كخبر أبي بصير إن كان مطلقا.
[2] من حقوق الآدمي: ما يثبت بالشاهدين والشاهد واليمين
وغيرهما كالديون
قال المحقق قدس سره: (ومنها ما يثبت بشاهدين وبشاهد وامرأتين
وبشاهد ويمين، وهو الديون والأموال، كالقرض والقراض والغصب وعقود
المعاوضات كالبيع والصرف والسلم والصلح والإجارة والمساقاة والرهن
والوصية له والجناية التي توجب الدية).
أقول: القسم الثاني من حقوق الآدمي هو الحقوق المالية، أي ما كان
متعلق الدعوى فيه مالا كالديون والأموال أو المقصود منها المال كعقد البيع
والجناية التي توجب الدية كالخطأ وشبه العمد والجروح غير القابلة للقصاص
.. فهذا القسم من الحقوق يثبت بأحد الأقسام الآتية من الشهادة:



(1) وسائل الشيعة 18 / 267 الباب 24 شهادات.
296
1 - شهادة الرجلين
فالأول أن يشهد شاهدان، ويدل على ثبوته بشهادتهما الكتاب والسنة
والاجماع. فلا كلام في هذا الموضوع.
2 - شهادة الرجل والامرأتين
والثاني أن يشهد رجل وامرأتان واستدل لثبوته بذلك من الكتاب
بقوله تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل
وامرأتان) إلا أن في الاستدلال بها هنا تأملا من جهة أن ظاهرها قبول هذه
الشهادة في حال عدم الرجلين، لأنه قال: (فإن لم يكونا.) ويدل على ذلك
بعض الأخبار كخبر داود بن الحصين الآتي نصه الوارد في تفسير الآية،
لكن ظاهر عبارات الأصحاب كالمحقق عدم تعليق قبولها على عدم الرجلين.
ثم إن مورد هذه الآية هو خصوص (الدين). ويدل على ذلك أيضا
خبر داود بن الحصين الوارد في تفسيرها.
ومن هنا لم يذكر بعض الأصحاب إلا (الدين) كما سيأتي.
واستدل من السنة بنصوص:
1 - الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث: (قلت: تجوز
شهادة النساء مع الرجل في الدين؟ قال: نعم) (1).
دل على قبول شهادة المرأتين مع الرجل. لكنه في الدين خاصة 2.



(1) وسائل الشيعة 18 / 258 الباب 24 شهادات. صحيح.
(2) فهو يدل على الجهة الثانية، لكن ظاهره عدم التوقف على عدم الرجلين
كما عليه عبارات الأصحاب. لكن يؤيد ظاهر الآية مرسلة يونس: استخراج
الحقوق بأربعة وجوه..) 18 / 198. وعن تفسير العسكري عليه السلام 18 / 198 بتفسير الآية: (عدلت امرأتان في الشهادة برجل واحد، فإذا كان رجلان
أو رجل وامرأتان أقاموا الشهادة قضى بشهادتهم).
297
2 - داود بن الحصين عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث: (وكان
أمير المؤمنين عليه السلام يجيز شهادة المرأتين في النكاح عند الانكار ولا يجيز
في الطلاق إلا شاهدين عدلين. قلت: فأنى ذكر الله تعالى قوله فرجل
وامرأتان. فقال: ذلك في الدين إذا لم يكن رجلان فرجل وامرأتان ورجل
واحد ويمين المدعي إذا لم يكن امرأتان. قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير
المؤمنين (ع) بعده عندكم) (1).
دل على ثبوت الحق بشهادتهما مع الرجل، لكن إذا كان دينا، وإذا لم
يكن رجلان.
4 - يونس عمن رواه قال: (استخراج الحقوق بأربعة وجوه، بشهادة
رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان.) (2) والحقوق عام يشمل
الحقوق المالية كلها أيضا، فلا اختصاص بالدين.
لكنه مرسل. مع أنه ظاهر في توقف القبول على عدم الرجلين.
وهل تقبل شهادة المرأتين مع الرجل في كل ما كان مالا أو المقصود منه
المال أو في خصوص الدين؟
قد عرفت ما في الاستدلال بالأخبار الثلاثة الأخيرة،. أما الآية والخبران
الآخران فتدل على القبول في الدين فحسب. ولهذا لم يذكر الشيخ في



(1) وسائل الشيعة 18 / 265 الباب 24 شهادات. معتبر.
(2) وسائل الشيعة 18 / 198 الباب 15 من أبواب كيفية الحكم.
298
النهاية التي هي متون الأخبار إلا الدين.
وقد أجاب في الجواهر بأن ما في ذيل الآية الكريمة من الاشهاد على البيع
وهو قوله تعالى (وأشهد وا إذا تبايعتم) ظاهر في إرادة الاشهاد السابق، الذي
كان منه الرجل والمرأتان، متمما بعدم القول بالفصل.
قلت: إن ظاهر الآية كاف للاستدلال، ولا حاجة إلى تتميمه بعدم القول
بالفصل، إذ من البعيد جدا أن يراد بالشهادة في ذيل الآية غير الشهادة المذكورة
في صدرها، إذ لو أراد غيرها لذكر. ولعله يريد عدم القول بالفصل بين
الدين والبيع أو بين البيع وسائر عقود المعاوضات. لكن هذا يتوقف
على تحقق عدم الفصل، وحينئذ فإن الآية صدرا وذيلا تدل على عدم انحصار
قبول الرجل والمرأتين بالدين. فلا مناص بعد ذلك من حمل (الدين) في
الخبرين على أن المقصود منه المال، وهو المحكي عن المختلف بالنسبة إلى
عبارة النهاية (1).



(1) قال في المستند: المراد من الدين هو المال المتعلق بالذمة لغة وعرفا
بأي سبب كان، وهو الدين بالمعنى العام الشامل للدين بالمعنى الأخص الذي
هو القرض. وعلى هذا فيشمل الدين: القرض والنسيئة والسلف وثمن المبيع
والضمان وغرامة التالف ودية الجنايات، وغير ذلك مما يتعلق فيه المال بالذمة
ويكون هو المقصود بالدعوى.
وقد ألحقوا بالدين جميع الدعاوي المالية أو ما يكون المقصود منه المال،
ولأجله حكموا بالقبول في دعوى: الرهن والإجارة والقراض والشفعة والمزارعة
والمساقاة والهبة والابراء. ولا أرى لذلك الالحاق دليلا. وقد أشار إلى
ذلك المحقق الأردبيلي.
299
ونوقش في الاستدلال للقبول بخبر الصيرفي: (كتبت إلى الكاظم في رجل
مات وله أم ولد وقد جعل لها سيدها شيئا في حياته ثم مات. فكتب: لها ما آتاها
سيدها في حياته معروف ذلك لها، يقبل على ذلك شهادة الرجل والمرأة والخدم
غير المتهمين) (1) بأنه وارد في الوصية وظاهر في إرادة ثبوتها بشهادة جنس
الرجل وجنس الامرأة لأنها وصية (2).
وعن الخلاف وموضع من المبسوط منع قبول امرأتين ورجل في الوديعة،
وحمل العلامة على ما قيل على دعوى الودعي لا المالك.
أقول: هذا النزاع صغروي، فكأن الشيخ لا يوافق على كون النزاع في
الوديعة نزاعا في مال، لا سيما غير المشروط فيها الضمان.
فأجاب في الجواهر بأن الودعي ينفي عنه الضمان وهو مال.
3 - شهادة الرجل مع اليمين
والثالث: أن يشهد رجل مع يمين المدعي. وهذا مراد المحقق من قوله
(وبشاهد ويمين).
ويدل على قبول هذه الشهادة عشرون نصا، ورد في تسعة منها عنوان
(الحق) (3) وهو ظاهر جدا في مطلق حقوق الناس، بل مفاد خبر درع طلحة ثبوت
العين أيضا بهذه الشهادة.
وقد استدل صاحب الجواهر بفحوى هذه النصوص لثبوت مطلق الحق



(1) وسائل الشيعة 18 / 268 الباب 24 شهادات.
(2) أقول: ذكر السيد الأستاذ أن الخبر ظاهر في الهبة لا الوصية، وأنه
إذا كان ظاهرا في الجنس فهو مجمل، والأخبار الأخرى مبينة له.
(3) أنظر الباب 14 من أبواب كيفية الحكم. وسائل الشيعة 18 / 192.
300
بشهادة الرجل والامرأتين، قال: (وبظهور خبر محمد بن خالد المزبور في
أن الشاهد واليمين قائم مقام الشاهد والمرأتين، وحينئذ فهما أولى من اليمين
مع الرجل) (1).
وربما يشكل عليه بأنه قياس. وفيه: أن هذا الاستدلال مبني على الاستظهار
من النصوص وليس قياسا. فإن ظاهر المرسلة في استخراج الحقوق حيث
ذكر أولا الرجلين العدلين فإن لم يكونا فرجل وامرأتان، فإن لم تكن امرأتان
فرجل ويمين المدعي، هو قيام الرجل واليمين مقام الرجل وإلا مرأتين فإذا
ثبت الحق بشهادة الرجل واليمين ثبت بشهادته مع الامرأتين بالأولوية.
شهادة الامرأتين مع اليمين
وتعرض صاحب الجواهر هنا لهذه المسألة لأجل أن يستدل بفحوى نصوصها
لقبول شهادة الرجل والامرأتين في مطلق الحقوق، فقال: (وبما ورد من اثبات
الحق بالامرأتين مع اليمين، بل الظاهر ثبوت ذلك كله بهما مع اليمين،
وفاقا للمشهور شهرة عظيمة، بل عن الشيخ في الخلاف الاجماع عليه).
أقول: مستند هذا الحكم:
1 - ما رواه منصور بن حازم: (أن أبا الحسن موسى بن حعفر عليه السلام



(1) المراد من خبر محمد بن خالد هو الخبر الذي تقدم بعنوان الصيرفي،
(وإنما قلنا الصيرفي للاختلاف في اسم الراوي في الكتب). لكن ليس فيه
تعرض للشاهد واليمين. ولعله (قده) يريد خبر محمد بن مسلم الذي ذكره من
قبل. وهذا نصه: (لو كان الأمر إلينا أخذنا بشهادة الرجل الواحد إذا علم منه
خير مع يمين الخصم في حقوق الناس).
301
قال: إذا شهد لطالب الحق امرأتان ويمينه فهو جائز) (1).
2 - ما رواه الحلبي: (عن أبي عبد الله عليه السلام أن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم أجاز شهادة النساء مع يمين الطالب في الدين يحلف بالله
أن حقه لحق) (2).
دل بعضها على القبول في خصوص (الدين) وبعضها على القبول في (الحق)
ومقتضى القاعدة هو القبول في مطلق الحقوق المالية.
ووجه الاستدلال بهذه النصوص لثبوت الحق بشهادة الرجل والامرأتين
هو أن الشارع أقام كلا من (المرأتين) و (اليمين) مقام (الرجل) فقبل شهادة (الرجل
مع الامرأتين) و (شهادة الرجل مع اليمين) وحينئذ يقوم المجموع من (المرأتين
واليمين) مقام (الرجلين).
لكن ثبوت الحق بشهادة الامرأتين مع اليمين محل خلاف، فقد قال المحقق
في النافع: (ولو انفردن كامرأتين مع اليمين فالأشبه عدم القبول) وهذا صريح
المحكي عن السرائر والتنقيح وقضاء التحرير وإن رجع عنه في الشهادات
وظاهر سلار والغنية.. كما في الجواهر. قال: والحلي منهم معذور على
أصله. أي عدم اعتبار خبر الواحد. ولذا قال:
(جعلهما بمنزلة رجل يحتاج إلى دليل وليس، وحملهما على الرجل قياس
، والاجماع غير منعقد، والأخبار غير متواترة، فإن وجدت فهي نوادر شواذ،
والأصل براءة الذمة، فمن أثبت بشهادتهما حكما شرعيا فإنه يحتاج إلى أدلة
قاهرة. إما اجماع أو تواتر أخبار أو قرآن. وجميع ذلك خال منه).
لكن استغرب صاحب الجواهر من ابن إدريس وتبعه المقداد من دعوى



(1) وسائل الشيعة 18 / 197 الباب 15 من أبواب كيفية الحكم. صحيح
(2) وسائل الشيعة 18 / 198 الباب 15 من أبواب كيفية الحكم. صحيح.
302
ندرة النصوص وشذوذها، وحاول رحمه الله اثبات ندرة الرادين لها، قال:
لم نر لها رادا قبل ابن إدريس ولا من تأخر عنه إلا النادر، لاختلاف فتوى المصنف،
والفاضل في التحرير قد رجع عن ذلك فيه فضلا عن قطعه بالحكم في باقي كتبه.
قال: ومن هنا يمكن دعوى تحصيل الاجماع على ذلك. وتنقح من
جميع ما ذكرنا اتحاد موضوع الثلاثة، أي الشاهد واليمين والشاهد والمرأتين،
والمرأتين مع اليمين، وهو كل حق آدمي أو المالي منها خاصة، على البحث
الذي قدمناه في الشاهد واليمين.
أقول: نعم الظاهر ثبوت الحق المذكور بكل واحد من الثلاثة المذكورة
كشهادة الرجلين. لكن الاستدلال بنصوص الامرأتين مع اليمين لقبول
الرجل مع الامرأتين بالأولوية يبتني على قبول المرأتين مع اليمين، وقد
تعرف الاشكال في دعواه الاجماع على القبول من اعترافه بوجود الخلاف من
التنقيح والمراسم والغنية.
وأما الاشكال على القبول بعدم ذكر المرأتين مع اليمين في مرسلة يونس
حيث ذكر فيه وجوه استخراج الحقوق فمندفع بارساله أولا، وبتوقفه على
المفهوم ثانيا، وبأن الحصر لو سلم إضافي ثالثا.
هل تقبل شهادة النساء منفردات مطلقا؟
بقيت مسألة شهادة النساء منفردات عن الرجل واليمين، قال في المسالك:
بعدم القبول قطعا ووافقه صاحب الجواهر. ولكن قد يستدل للقبول
بما يلي:
1 - الحلبي: (عن الصادق أن رسول الله أجاز شهادة النساء في الدين

303
وليس معهن رجل) (1).
2 - الحسن بن أبي عقيل: (قد روي عنهم أن شهادة النساء إذا كن أربع
نسوة في الدين جائز) (2)
أقول: أما الأول فلعله حكاية عن قضية في واقعة، ومن الجائز وجود اليمين
معهن، وإن كان (جائز) بمعنى (نافذ) فإنه يجمع بينه وبين حسنته وصحيحة
منصور المشتملين على اليمين، بناءا على الجمع بين المطلق والمقيد المثبتين
حيث يعلم بوحدة الحكم فيهما، مثل أعتق رقبة وأعتق رقبة مؤمنة، فلو كان
مطلق الرقبة مفرغا للذمة كان تقييدها بالمؤمنة لغوا. على أن هذه الخبر مجمل
فلم يتبين فيه عدد النساء.
وأما الثاني فخبر مرسل. وفي الجواهر عمن ذكره أنه لم يقف على حقيقته
وأنه لم يصح عنده من طريق المؤمنين.
ومن هنا قال في الجواهر: لا تقبل شهادة النساء منفردات في شئ من
ذلك وإن كثرن، بلا خلاف محقق أجده.
هل يثبت الوقف بشاهد وامرأتين وبشاهد ويمين؟
قال المحقق: (وفي الوقف تردد. أظهره أنه يثبت بشاهد وامرأتين،
وبشاهد ويمين).
أقول: وجه تردد المحقق في القبول في الوقف هو الاختلاف في أنه هل
ينقل إلى الله تعالى أو إلى الموقوف عليه أو يبقى على ملك المالك، وحيث
أن مختار المحقق هو الثاني فإنه يثبت بشاهد وامرأتين وبشاهد ويمين لأنه



(1) وسائل الشيعة 18 / 262 الباب 24 شهادات. صحيح.
(2) الجواهر 41 / 169. مرسل.
304
مال للموقوف عليه فهو من حقوق الناس. وقد قيد القبول بذلك في الجواهر
تبعا للمسالك بأنه إن كان موقوفا على محصور، فلو كان على غير محصور أشكل
كونه ملكا لهم لعدم العرفية في اعتبار الملكية لغير المحصور، ولعدم تصوير
النزاع حينئذ، لأن كلا من المدعي والمدعى عليه مالك، وعلله في المسالك بأنه
إذا كان على غير محصور فلا يمكن حلفه. أي لأن يمين الشخص في غير
ماله غير مقبولة، فيكون غير المحصور مالكا لله ملكا اعتبار يا وللكل الانتفاع
بمنافعه. أما إذا كان على محصور ففي الجواهر أنه تجري عليه جميع
أحكام الملك عدا الامتناع عن نقله، وذلك لا يخرجه عن الملكية كأم الولد.
على أنه قد يجوز بيعه في بعض الأحوال.
وذهب الشيخ في الخلاف إلى عدم ثبوت الوقف بذلك. قال: لأن
الوقف ليس بمال للموقوف عليه، بل له الانتفاع به فقط دون رقبته.
فظهر أن الخلاف في المقام مبني على الخلاف في الوقف.
والأشبه من التفصيل بين المحصور وغير المحصور هو التفصيل بين ما
إذا كان الموقوف عليه الأشخاص عموما أو خصوصا وما إذا كان الوقف على
الجهة، فيثبت في الأول دون الثاني. بل يثبت في الأول حتى على القول
بعدم ملكية المنفعة والقول بجواز الانتفاع كالجلوس في المسجد. ومن فروع
هذه المسألة:
ما إذا أقام الشخص عن مكانه في المسجد فصلى في مكانه، فعلى القول
بالملكية تبطل صلاته دون القول بجواز الانتفاع.
ومنها ما في العروة الوثقى من أن الأحوط للموقوف عليهم في الأوقاف
الخاصة دفع الخمس. فيفيد عدم الخمس إذا كان الوقف عاما. فإذا كان
البستان وقفا على الأولاد فعلى القول بالملكية يملكون الأثمار وعليهم الخمس،

305
وأما إذا كان وقفا على عموم الناس فلا يملك أحد شيئا، بل لهم الاستفادة منها
فلا خمس. نعم يجب بناءا على اعتبار الملكية للعموم.
والحاصل أن الأشبه هو القبول فيها إذا كانت الدعوى في مال أو فيما يقصد
به المال، أعم من العين والمنفعة.
ثم ذكر الجواهر مصاديق أخرى من موارد الثبوت بالشاهد واليمين،
وهي حقوق الأموال، كالأجل والخيار اشتراطا. انقضاء والشفعة وفسخ العقد
المتعلق بالأموال، وقبض نجوم الكتابة أو غيرها من الأموال، لأن جميعها حق
آدمي، بل المقصود منها أجمع ثبوت مال أو زواله. بل وكذا النجم الأخير
من الكتابة، وإن توقف فيه الفاضل في القواعد، لكنه في غير محله، خصوصا
بناءا على ما ذكرناه).
قلت: وجه توقف العلامة في القواعد احتمال كون النزاع حينئذ في
الحرية وهي ليست بمال.
[3] من حقوق الآدمي: ما يثبت بالرجال والنساء مطلقا
قال المحقق قده: (الثالث: ما يثبت بالرجال والنساء منفردات ومنضمات
وهو الولادة والاستهلال وعيوب النساء الباطنة).
أقول: القسم الثالث ما يثبت بشهادة النساء منفردات عن الرجال واليمين
ومنضمات أمور، وضابطها ما يعسر اطلاع الرجال عليه أو يحرم أو لا يكون
عادة. والحكم الكلي في قبول شهادة النساء كونهن أربع نسوة. لكن في
المستند اشتراط ضم اليمين وإن كن أربع نسوة.
ومن صغريات هذا الضابط (الولادة) و (استهلال المولود) أي صياحه
وبكاؤه عند الولادة، و (عيوب النساء الباطنة كالقرن ونحوه). أما الظاهرة

306
كالعرج ونحوه فلا.
والحكم بالثبوت في هذه الموارد لا خلاف فيه كما في الجواهر وعن
كاشف اللثام، لمسيس الحاجة وللنصوص (1):
1 - الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث: (وسألته عن شهادة
القابلة في الولادة قال: تجوز شهادة الواحدة. وقال: تجوز شهادة النساء في
المنفوس والعذرة).
2 - أبو بصير: (سألته عن شهادة النساء فقال: تجوز شهادة النساء وحدهن
على ما لا يستطيع الرجال النظر (ينظرون) إليه.)
3 - إبراهيم الحارقي (ثي) قال: (سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:
تجوز شهادة النساء فيما لا يستطيع الرجال أن ينظروا إليه ويشهدوا عليه.)
4 - محمد بن الفضيل عن الرضا عليه السلام في حديث: (قال: تجوز
شهادة النساء فيما لا يستطيع الرجال أن ينظروا إليه وليس معهن رجل).
5 - محمد بن مسلم: (سألته عن النساء تجوز شهادتهن؟ قال: نعم في
العذرة والنفساء)
6 - عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (تجوز شهادة النساء
في العذرة وكل عيب لا يراه الرجل).
7 - عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث: (تجوز شهادة
النساء وحدهن بلا رجال في كل ما لا يجوز للرجال النظر إليه).
8 - داود بن سرحان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (أجيز شهادة
النساء في الغلام (الصبي) صاح أو لم يصح. وفي كل شئ لا ينظر إليه الرجال
تجوز شهادة النساء فيه).



(1) وسائل الشيعة 18 / 258 الباب 24 شهادات.
307
9 - السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (أتي أمير المؤمنين عليه
السلام بامرأة بكر زعموا أنها زنت. فأمر النساء فنظرت إليها فقلن هي عذراء.
فقال: ما كنت لا ضرب من عليها خاتم من الله. وكان يجيز شهادة النساء في
مثل هذا) 10 - العلاء عن أحدهما عليهما السلام قال: (لا تجوز شهادة النساء
في الهلال. وسألته هل تجوز شهادتهن وحدهن؟ قال: نعم في العذرة والنفساء).
وهل تثبت الأمور المذكورة بشهادة الرجلين أو الرجل والمرأتين كما إذا
جاز النظر أو اتفق، أو نظر وتاب أم لا؟
قال في الجواهر: الثبوت هو المشهور كما في كشف اللثام. ونسبه في
المستند إلى ظاهر كلام الأصحاب، واستدل لذلك بالعمومات، كمرسلة يونس
في استخراج الحقوق قال في الجواهر: بل لم أتحقق فيه خلافا وإن حكي عن القاضي
أنه قال: لا يجوز أن يكون معهن أحد من الرجال. لكن يمكن أن يريد الحرمة
بدون الضرورة على الأجانب، فإن تعمدوا ذلك خرجوا عن العدالة لا أنه
لا يجوز لهم الاطلاع مع الضرورة أو لا تقبل شهادتهم وإن اتفق اطلاعهم عليه،
لحلية أو من غير عمد أو قبل عدالتهم وعلى تقديره فلا ريب في ضعفه.
وهل تقبل شهادة النساء منفردات في الرضاع؟
هذا. وقد اختلفوا في قبول شهادتهن في الرضاع. قال المحقق:
(وفي قبول شهادة النساء منفردات في الرضاع خلاف أقر به الجواز).
أي: تبعا للمفيد وسلار وابن حمزة كما في المختلف، قال: وهو الظاهر
من كلام ابن الجنيد وابن أبي عقيل، بل ظاهر المحكي عن ناصريات السيد
الاجماع عليه. خلافا لظاهر المبسوط بل في المسالك إن عليه الأكثر، بل

308
صريح الخلاف الاجماع عليه.
استدل للقبول بأن الرضاع أيضا من الأمور التي لا يطلع عليها إلا النساء
غالبا، وهو مما لا يجوز أو يعسر للرجال أو ليس من عادتهم النظر إليه. قالوا:
ويؤيد ذلك اطلاق قول الباقر عليه السلام في خبر ابن أبي يعفور: (تقبل
شهادة المرأة والنسوة إذا كن مستورات) (1) وبالمفهوم في خبر ابن بكير عن
الصادق عليه السلام: (في امرأة أرضعت غلاما وجارية قال: يعلم ذلك غيرها؟
قلت: لا. قال: لا تصدق إن لم يكن غيرها) (2).
دل على أنها تصدق إن كان معها غيرها. و (غير) مطلق يعم الرجال والنساء،
إن لم نقل بأنه منصرف إلى النساء خاصة. ثم إن ارساله لا يضر لأن ابن
بكير من أصحاب الاجماع.
وقال المانعون بأن الرضاع مما يمكن اطلاع الرجال عليه فلا يندرج تحت
النصوص المزبورة. والأصل عدم القبول، بل في المبسوط عن أصحابنا أنهم
رووا: لا يقبل شهادة النساء في الرضاع.
وأجيب عن اجماع الخلاف بالمنع، فالمسألة مختلف فيها، بل الشيخ
نفسه رجع عن القول بالمنع إلى القول بالقبول في المحكي من شهادات
المبسوط الذي هو متأخر عن كتاب الخلاف، والشهادات متأخرة في المبسوط
عن الرضاع. ولعل معقد هذا الاجماع هي قاعدة (ما يجوز للرجال النظر
إليه فلا تقبل شهادة النساء فيه) فإنها قاعدة مسلمة عند الكل بلا خلاف، ثم لما



(1) وسائل الشيعة 18 / 294 الباب 41 شهادات. ورواية (عبد الكريم بن أبي يعفور (لا توثيق له، لكن الراوي له عنه أخوه.
(2) وسائل الشيعة 14 / 304 الباب 12 من أبواب ما يحرم بالرضاع.
مرسل.
309
جعل الرضاع مصداقا لهذه القاعدة ادعي الاجماع على عدم القبول فيه. إلا
أن الخلاف في المصداق.
وعن الأصل بانقطاعه بالنصوص.
وعن قول الشيخ: (عن أصحابنا أنهم رووا.) بأنه خبر مرسل لا وجود
له في الأصول، ولا هو مقبول عند الشيخ في الموضع الذي نقله، فإنه حكاه
في شهادات المبسوط الذي حكي عنه القول بالقبول فيه.
هذا، والمختار هو القبول لأن الرضاع من الأمور التي لا يطلع عليها
الرجال غالبا لا سيما مع تأييده بمفهوم المرسلة المعتبرة سندا ودلالة. و
بها ينقطع أصالة الإباحة التي ذكرها في المسالك دليلا للمنع ولعلهم
يريدون أصالة إباحة النكاح بين البنت والغلام حتى يثبت المحرمية بينهما بالرضاعة
ومن هنا قال الشهيد الثاني: ولا يخفى ضعف الأصالة.
قال: في الجواهر: (وفي ما حضرني من نسخ الشرائع متصلا بذلك: ويقبل
شهادة امرأتين مع رجل في الديون والأموال. وشهادة امرأتين مع اليمين،
ولا تقبل فيه شهادة النساء منفردات ولو كثرن).
قال: إلا أنه لا يخفي عليك عدم مناسبته للعنوان. ولعله لذا لم يشرحها
فيها حضرني من نسخة المسالك، لسقوط ذلك من نسخته، وعلى فرض صحتها
فقد تقدم الكلام في ذلك مفصلا.
مورد قبول المرأة الواحدة
قال المحقق قدس سره: (وتقبل شهادة المرأة الواحدة في ربع ميراث
المستهل وفي ربع الوصية)،
أقول: سيأتي في الفرع التالي أن كل موضع يقبل فيه شهادة النساء منفردات

310
عن الرجال واليمين يعتبر كونهن أربعا، فلو كن ثلاثة لم تؤثر شهادتهن، إلا
في الوصية بالمال وميراث المستهل، فإن هذين الموردين مستثنيان بنص خاص
دل على أنه يثبت جميع المشهود به بشهادة أربع، وثلاثة أرباعه بشهادة ثلاث
ونصفه بشهادة اثنتين، وربعه بواحدة.
قال في الجواهر: بلا خلاف أجده فيه، بل عن الخلاف والسرائر الاجماع
عليه.
ويدل على ثبوت الربع بالواحدة ما رواه عمر بن يزيد عن أبي عبد الله
عليه السلام: (عن رجل مات وترك امرأته وهي حامل، فوضعت بعد موته
غلاما. ثم مات الغلام بعدما وقع إلى الأرض، فشهدت المرأة التي قبلتها أنه
استهل وصاح حين وقع إلى الأرض ثم مات. قال: على الإمام أن يجيز شهادتها
في ربع ميراث الغلام) (1).
وعلى ثبوت النصف بالاثنين ما رواه عبد الله بن سنان قال: (سمعت أبا
عبد الله عليه السلام يقول: تجوز شهادة القابلة في المولود إذا استهل وصاح
في الميراث. ويورث الربع من الميراث بقدر شهادة امرأة واحدة. قلت:
فإن كانت امرأتين؟ قال: تجوز شهادتهما في النصف من الميراث) (2).
وعلى ثبوت ثلاثة أرباع بالثلاث والكل بالأربع ما رواه الصدوق قال:
(وفي رواية أخرى: إن كانت امرأتين تجوز شهادتهما في نصف الميراث،
وإن كن ثلاثة نسوة جازت شهادتهن في ثلاثة أرباع الميراث، وإن كن أربعا
جازت شهادتهن في الميراث كله) (3).



(1) وسائل الشيعة 18 / 259 الباب 24 من كتاب الشهادات. صحيح.
(2) وسائل الشيعة 18 / 267 الباب 24 من كتاب شهادات. صحيح.
(3) وسائل الشيعة 18 / 268 الباب 24 من كتاب الشهادات. مرسل.
311
وهنا فروع:
1 - هل لوالدي الغلام المستهل ربع الميراث منه لو بقي وكبر ومات
قبلهما كما يثبت له ربع الميراث من أبيه إذا استهل ثم مات؟ الظاهر بعد
حرمة القياس والاستحسان وعدم إحاطة العقل بملاكات الأحكام هو الوقوف
على مورد النص.
ب - هل كما يثبت ربع الميراث يترتب الآثار الأخرى من النسب والمحرمية
ونحوهما لو بقي وكبر؟ الظاهر العدم، والوقوف على حد دلالة النص، وعدم
ترتيب الآثار الأخرى ولو كان بينها وبين ثبوت الإرث ملازمة،، فيكون المورد
من قبيل الأصل في عدم حجية لوازمه، بل لو كان بين الإرث والنسب ملازمة
لثبت تمام الإرث لأربعة. فالحكم تعبد محض.
ج - إن ما دل بظاهره على ثبوت جميع الميراث بشهادة الواحدة كقوله
عليه السلام في صحيحة عبد الله بن سنان: (وتجوز شهادة القابلة وحدها في
المنفوس) (1) محمول على القبول في الجملة وهو الربع بقرينة الأدلة الأخرى.
د - هل هذا الحكم مخصوص بالقابلة؟ الذي في أغلب نصوص المسألة هو (القابلة)، ولعله من هنا خص المحقق
في النافع الحكم بها تبعا لبعض الأصحاب، لكن يدل على ما ذهب إليه هنا
خبر سماعة قال: (قال: القابلة تجوز شهادتها في الولد على قدر شهادة امرأة
واحدة) (2). وما في صحيحة ابن سنان المتقدمة من قوله عليه السلام: (ويورث
الربع من الميراث بقدر شهادة امرأة واحدة) (3).



(1) وسائل الشيعة 18 / 160 الباب 24 شهادات. صحيح.
(2) وسائل الشيعة 18 / 263 الباب 24. شهادات. موثق.
(3) أقول: من هذين الخبرين يستفاد أن تخصيص القابلة في غيرهما هو
لدفع توهم ثبوت جميع المشهود به بشهادتها، باعتبار كونها في حكم ذي اليد الذي يترتب الأمر كله على شهادته. فلا وجه لتأمل صاحب المستند في هذا الاستدلال.
312
ح - هل يشترط قبول شهادة المرأة الواحدة بتعذر الرجال أو لا؟
مقتضى اطلاق المحقق والأكثر كما قيل هو الثاني، وعن النهاية والسرائر
والقاضي وابن حمزة الأول. قال: في المستند: لأن الشائع الغالب المتبادر في
المسألة يوجب انصراف أدلتها إلى صورة التعذر.
قلت: وفيه تأمل، ومن هنا احتج في الرياض والجواهر للثاني باطلاق
النص.
ط - هل يشترط في القبول اليمين؟ مقتضى اطلاق النصوص والفتاوى
عدم الاشتراط، وأما خبر تحف العقول: ((فإن كانت وحدها قبل قولها مع
يمينها) فمرسل.
ى - لو انضم إلى هذه المرأة رجل واحد ثبت الربع كذلك. ولو كان
رجل وامرأتان أو رجلان، أو رجل ويمين ثبت الإرث كله.
هذا كله بالنسبة إلى ميراث المستهل.
قال المحقق: (وفي ربع الوصية).
أقول: والوصية بالمال يثبت ربعها بواحدة ونصفها باثنتين، وهكذا،
وهذا الحكم أيضا مجمع عليه كما عن السرائر وغيرها، وتدل على ذلك
النصوص.
وهنا أيضا فروع:
1 - هل يتوقف قبول شهادتها هنا على اليمين؟ قال في الجواهر: (مقتضى

313
اطلاق النص والفتوى عدم توقف قبول شهادتهن على اليمين، خلافا للتذكرة
فقال بتوقف شهادتهن على اليمين كما في الرجل الواحد. وفيه: أنه لا دليل
هنا على اعتبار اليمين بل ظاهر الأدلة خلافه، على أن اليمين مع شهادة الواحد
توجب ثبوت الجميع، فلا يلزم مثله في البعض.)
ب - في ثبوت النصف بشهادة الرجل لقيامه مقال الاثنتين أو الربع لكونه
المتيقن إذ لا يقصر الرجل عن امرأة أو لا يثبت بشهادته شئ أصلا وقوفا فيما
خالف الأصل على مورده وجوه. أما الأول ففي الجواهر أنه لم نجد به قائلا
وإن كان لا يخلو عن قوة كما اعترف به العلامة الطباطبائي في مصابيحه. وأما
الثاني فهو مختار العلامة في القواعد والشهيد الثاني في المسالك والسيد في
الرياض. وأما الثالث فهو مختار الفخر في الايضاح وتبعه صاحبا المستند
والجواهر. وهو المختار. للأصل بعد حرمة القياس، ودعوى الأولوية متوقفة
على تنقيح المناط القطعي.
هل يجوز للمرأة تضعيف المشهود به؟
ج - هل يجوز للمرأة الواحدة مثلا تضعيف ما أوصى به في الشهادة حتى
يثبت تمام الوصية، بأن تشهد فيما أوصى بمائة بأربعمائة أم لا يجوز؟ وجهان
فقال صاحبا الجواهر والمستند بالعدم تبعا للمسالك. وقال كاشف اللثام بالجواز.
واستدل في المستند بكونه كذبا، وأنه لا دليل على تجويز الكذب هنا،
قال في الجواهر: وربما يؤيده أنه سئل الصادق في المرسل يونس (عن الرجل
يكون له على الرجل حق فيجحد حقه ويحلف أنه ليس له عليه شئ. وليس
لصاحب الحق على حقه بينة، يجوز له احياء حقه بشهادة الزور إذا خشي

314
ذهاب حقه؟ قال: لا يجوز ذلك لعلة التدليس) (1).
واستدل كاشف اللثام للجواز قائلا: (الأقوى الحل وإن حرم التزوير
لكونه اقرارا بالقبيح وفي مرسل عثمان بن عيسى قيل للصادق (يكون للرجل
من إخواني عندي شهادة وليس كلها يجيزها القضاة عندنا قال: إذا علمت أنها
حق فصححها بكل وجه حتى يصح له حقه) (2) قال: ولعله إشارة إلى ما ذكرنا
من التورية.
واعترضه في الجواهر بأن لا دلالة على ذلك، بل أقصاه أنه كخبر داود بن
الحصين أنه سمعه يقول: (إذا أشهدت على شهادة فأردت أن تقيمها فغيرها كيف
شئت، ورتبها وصححها بما استطعت، حتى يصح الشئ لصاحب الحق،
بعد أن لا تكون تشهد إلا بحقه، ولا تزيد في نفس الحق ما ليس بحق، فإنما
الشاهد يبطل الحق ويحق الحق، وبالشاهد يوجب الحق وبالشاهد يعطى،
وأن للشاهد في إقامة الشهادة بتصحيحها بكل ما يجد إليه السبيل من زيادة
الألفاظ والمعاني والتفسير في الشهادة ما به يثبت الحق ويصححه ولا يؤخذ
به زيادة على الحق مثل أجر الصائم القائم المجاهد بسيفه في سبيل الله) (3).
والحاصل أن هذه الأخبار تدل على جواز تصحيح الشهادة بكل وجه
صحيح شرعي عند القاضي لا سيما إذا كان من قضاة العامة - حتى يجيزها
ويثبت الحق لصاحبه. وفيها دلالة على جواز اثبات الحق ولو بالكذب
والتزوير. فالأقوى هو القول بعدم جواز تضعيف المرأة المشهود به، لأنه
كذب ولا دليل على كون ما نحن فيه من الموارد المستثناة من حرمة الكذب.



(1) وسائل الشيعة 18 / 247 الباب 18. شهادات. مرسل.
(2) وسائل الشيعة 18 / 231 الباب 4 شهادات. مرسل.
(3) وسائل الشيعة 18 / 230 الباب 4 شهادات.
315
نعم لا بأس بدفع الباطل عنه بباطل آخر لخبر الحكم [أخي] أبي عقيلة
قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن لي خصما يستكثر علي بشهود الزور،
وقد كرهت مكافاته، مع أني لا أدري يصلح لي ذلك أم لا؟ فقال: أما بلغك
عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه كأن يقول: لا توسروا أنفسكم وأموالكم بشهادات
الزور. فما على امرئ من وكف في دينه ولا مأثم من ربه أن يدفع ذلك
عنه، كما أنه لو دفع بشهادته عن فرج حرام أو سفك دم حرام كان ذلك خيرا
له) (1).
أقول: في الكافي والوسائل والوافي (لا توسروا) وفي نسخة الجواهر:
(لا توروا) قال المجلسي في مرآة العقول: (يحتمل أن يكون مشتقا من اليسار.
أي لا تجعلوا أنفسكم موسرة. أو من الأسر على التهديد، أي لا تشهدوا
بالزور فتحبس أنفسكم وأموالكم بسببها أو لا تجعلوا أنفسكم أسيرا للناس)
فرجح رحمه الله الاحتمال الثاني لأنه أنسب بالتفريع عليه بقوله: (فما على
امرئ.) ويحتمل أن يكون المراد: لا تجعلوا أنفسكم في أسر شهادة الزور
التي يقيمونها، ولا تكونوا في ضيق من أجلها، بل عليكم الاقدام للدفاع عن
أنفسكم وأموالكم (2).
وكيف كان فإنه لا يجوز أخذ شئ بشهادة الزور والكذب والتزوير، وأما
المدافعة عن الأموال والأنفس والحقوق فجائز بل واجب بكل طريق ممكن.
ومحل الكلام من الأول دون الثاني والله العالم.



(1) وسائل الشيعة 18 / 247 الباب 18. شهادات. و (الحكم) مجهول.
(2) أقول: إن نسخة الجواهر هي الأصح في النظر، و (لا توروا) بمعنى:
لا تشعلوا ولا تحرقوا، قال تعالى: (أفرأيتم النار التي تورون). فالمراد: لا تفنوا.
316
حكم شهادة الخنثى المشكل
قال في المسالك:: (والخنثى هنا كالمرأة). وفي الجواهر: (لو شهدت
الخنثى المشكل في الوصية والاستهلال ثبت الربع بناء على ثبوته بالرجل،
وإلا لم يثبت بشهادتها شئ).
أقول: أما وجه كلام المسالك فهو مختاره في أن الرجل الواحد يقوم مقام
المرأة الواحدة في ثبوت الربع، والخنثى لا تخلو عن أحد الجنسين. وأما
بناءا على مختار الجواهر من عدم ثبوت شئ بشهادته فلا يثبت بشهادة الخنثى
شئ، لأن كونها امرأة غير معلوم، ومن هنا قال في كشف اللثام: ثبت الربع
وهكذا كالمرأة إن قلنا إن الرجل الواحد كالمرأة الواحدة، وإلا لم يثبت شئ
إلا بأربع خناثي.
لو شهدت النساء في شئ فيه حقان
وفي كشف اللثام والجواهر أنه إذا اجتمع في الشئ الذي شهدت النساء
فيه حقان أي حق الله الذي لا يثبت بشهادة النساء مطلقا وحقا الآدمي، كان لكل
حكمه، فلو شهد على السرقة مثلا رجل وامرأتان ثبت المال لكونه حقا لآدمي
يثبت بشهادتهن، دون القطع لكونه حقا لله.
وفي القواعد وكشف اللثام والجواهر أنه لو علق العتق بالنذر على الولادة،
أي نذر إن ولدت أمته أعتقها أو ولدها أو غيرهما فشهد أربع نساء بالولادة
ثبتت الولادة ولم يقع النذر.
وفي التحرير: ولو شهد رجل وامرأتان بالنكاح، فإن قبلنا فيه شهادة الواحد
والمرأتين فلا بحث، وإلا ثبت المهر دون النكاح. قال كاشف اللثام وتبعه
الجواهر: وفيه بعد للتنافي.

317
كل موضع يقبل فيه شهادة النساء يعتبر كونهن أربعا
قال المحقق قدس سره: (وكل موضع يقبل فيه شهادة النساء لا يثبت
بأقل من أربع).
أقول: قد نسب هذا الحكم في الرياض إلى الأشهر بل عامة من تأخر،
بل في كشف اللثام والجواهر نسبته إلى المشهور. واستدل له بوجوه منها:
الأول ما عهد من عادة الشرع في باب الشهادات بل في الجواهر دعوى
القطع به من الكتاب والسنة من اعتبار المرأتين بالرجل، فيثبت ما لا يطلع
عليه الرجال بما يساوي الرجلين.
الثاني الأصل الدال على عدم جواز قبول شهادتهن مطلقا، خرج الأربع
في محل البحث اتفاقا فتوى ونصا كما في الرياض، لأن موردهما النساء بصيغة
الجمع غير الصادق حقيقة إلا على ما زاد على اثنين، وكلا من قال بلزومه عين
الأربع.
الثالث ما دل على قبول شهادة القابلة في الولد على قدر شهادة امرأة
واحدة. فإنها تدل على أن الشهادة المعتبرة تامة هي شهادة الأربع نسوة.
وعن ابن الجنيد: كل أمر لا يحضره الرجال ولا يطلعون عليه فشهادة النساء
فيه جائزة، كالعذرة والاستهلال والحيض. ولا يقضى به الحق إلا بأربع منهن،
فإن شهد بعضهن فبحساب ذلك.
وعن المفيد: تقبل شهادة امرأتين مسلمتين مستورتين فيما لا يراه الرجال.
وإذا لم يوجد على ذلك إلا شهادة امرأة واحدة ما مؤنة قبلت شهادتها فيه.
وتبعه سلار في قبول المرأة الواحدة في الأمور الباطنة.
وعن متاجر التحرير: لو اشترى جارية على أنها بكر فقال المشتري إنها

318
ثيب. أمر النساء بالنظر إليها. ويقبل قول امرأة في ذلك).
قال العلامة: احتج المفيد بما رواه عبد الله بن سنان في الصحيح عن الصادق
(قال: تجوز شهادة القابلة وحدها في المنفوس)، وفي الصحيح عن الحلبي:
(عن الصادق عليه السلام عن شهادة القابلة في الولادة. قال: تجوز شهادة
الواحدة) وعن أبي بصير عن الباقر عليه السلام: (تجوز شهادة امرأتين في
الاستهلال).
قال: والجواب القول بالموجب، فإنا نقبل شهادة الواحدة في ذلك،
لكن لا يثبت جميع الحق، بل الربع.
وأجاب في الرياض عن الاستدلال بالصحيحتين بأربعة وجوه.
وأما قول ابن الجنيد ففي الرياض وكذا في المستند إن مستنده غير واضح
عد القياس بالاستهلال والوصية، وبطلانه واضح.
وفي الجواهر عن السيد في الناصرية: يجيز أصحابنا أن تقبل في الرضاع
شهادة المرأة الواحدة تنزيها للنكاح عن الشبهة واحتياطا فيه. قال: واحتج
على ذلك بالاجماع والحديث النبوي: (دعها كيف وقد شهدت بالرضاع).
أقول: إن هذا يتوقف على تنقيح المناط القطعي، بأن يستفاد حكم قبول
شهادة الواحدة في الرضاع من أخبار قبول القابلة في الاستهلال، باعتبار أن
ملاك قبول الثانية هو كونها ذات يد بالنسبة إلى المولود فكذا المرضعة بالنسبة
إلى الرضيع، لكن في كلام السيد أنه احتياط، وهو كذلك فإن أصالة الاحتياط
محكمة في الفروج في الشبهة الحكمية والموضوعية، لكن عمومات حليه النكاح
إلا من المحارم يقينا قاطع لهذا الأصل. فإن كان رجوع إليها هنا من التمسك
بالعام في الشبهة المصداقية، رجعنا إلى استصحاب عدم تحقق الرضاع الموجب
للحرمة.

319
وأما الاجماع الذي ادعاه فالظاهر أن معقده الاحتياط أو الأخذ بالملك
المذكور، وإلا فلا ريب في وجود الخلاف في المسألة.
وأما الحديث النبوي فغير معتبر سندا.
قال في الجواهر: وعن أبي الصلاح: ويحكم بشهادتهما منفردتين فيما لا
يعاينه الرجال من أحوالهن.
قال: ويلزمه الحكم بهما في الرضاع أيضا لدخوله فيه. نعم ظاهره عدم
الاكتفاء بالواحدة. وربما يشهد له ظاهر قوله عليه السلام: (لا تصدق إن لم يكن
معها غيرها) في مرسل ابن بكير المتقدم. لكن قد عرفت قصور ذلك ونحوه
عن مقاومة ما سمعته من الأدلة، فلا بد من تنزيل ذلك ونحوه عليها أو على ما
لا ينافيها. والله العالم.

320
مسائل ثلاث
(المسألة الأولى)
(في أن الشهادة ليس شرطا في شئ من العقود إلا الطلاق)
قال المحقق قدس سره: (الشهادة ليست شرطا في شئ من العقود إلا
الطلاق، ويستحب في النكاح والرجعة، وكذا في البيع).
أقول: في المسألة فروع:
الأول: عدم اشتراط الشهادة في صحة شئ من العقود والايقاعات
وهذا الحكم مجمع عليه كما في كشف اللثام والجواهر حيث قالا: (عندنا)
قال في المسالك: عملا بالأصل وضعف الدليل الموجب. ووفي الجواهر:
للأصل المستفاد من اطلاق ما يقتضي الصحة من الكتاب والسنة.
والثاني: كون الشهادة شرطا في الطلاق.
ويدل عليه النصوص المستفيضة (1)، ومنها:
1 - محمد بن مسلم عن أبي حعفر عليه السلام في حديث: قال: (جاء
رجل إلى علي عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين إني طلقت امرأتي. قال عليه
السلام: ألك بينة؟ قال: لا. قال: اغرب).



(1) وسائل الشيعة 15 / 281 البا ب 10 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه.
321
2 - بكير بن أعين وغيره عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: (إن
طلقها للعدة أكثر من واحدة فليس الفضل على الواحدة بطلاق، وإن طلقها للعدة
بغير شاهدي عدل فليس طلاقه بطلاق).
3 - زرارة وجماعة عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام في حديث:
(وإن طلقها في استقبال عدتها طاهرا من غير جماع ولم يشهد على ذلك رجلين
عدلين فليس طلاقه إياها بطلاق).
4 - أبو الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (من طلق بغير
شهود فليس شئ).
5 - محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام عن أمير المؤمنين عليه
السلام أنه قال لرجل في حديث: (أشهدت رجلين ذوي عدل كما أمرك الله؟
فقال: لا فقال: اذهب فإن طلاقك ليس بشئ).
6 - الطبرسي في قوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم): (معناه:
وأشهدوا على الطلاق صيانة لدينكم. وهو المروي عن أئمتنا).
واستدل له بالآية الكريمة من الكتاب: (يا أيها الذين آمنوا إذا طلقتم
النساء. وأشهد ذوي عدل.) فإنه وإن احتمل كون مورد الشهادة هو
الرجعة لكونها أقرب، لكن في النصوص المذكورة ما يدل على أن المراد هو
الاشهاد على الطلاق، ومن هنا قال في المسالك: (أجمع الأصحاب على أن
الاشهاد شرط في صحة الطلاق، ويدل عليه وراء الاجماع قوله تعالى بعد ذكر
الطلاق: وأشهدوا ذوي عدل منكم. والآية وإن كانت محتملة للاشهاد على
الرجعة لقربها، إلا أن الأخبار خصصته به).
وأضاف في الجواهر: [الظهار] وهو كذلك، للنصوص الدالة عليه (1) ومنها:



(1) وسائل الشيعة 15 / 509 الباب 2 من أبواب الظهار.
322
1 - حمران في حديث قال: (قال أبو جعفر عليه السلام: لا يكون ظهار
إلا في طهر من غير جماع بشهادة شاهدين مسلمين) (1).
2 - ابن فضال عمن أخبره عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (لا يكون
الظهار إلا على مثل موضع الطلاق).
والثالث: استحباب الاشهاد في أمور
وهي: النكاح والرجعة والبيع.
أما [النكاح] فقد دل على عدم وجوب الاشهاد فيه، وعلى استحبابه
عدة نصوص (2)، ومنها:
1 - هشام بن سالم: (عن أبي عبد الله عليه السلام: إنما جعلت البينات
للنسب والمواريث).
2 - زرارة: (سئل أبو عبد الله عليه السلام عن الرجل يتزوج المرأة بغير
شهود. فقال: لا بأس بتزويج البتة فيما بينه وبين الله، إنما جعل الشهود في
تزويج البتة من أجل الولد، لولا ذلك لم يكن به بأس).
3 - حفص بن البختري عن أبي عبد الله عليه السلام (عن الرجل يتزوج بغير
بينة. قال: لا بأس).



(1) أقول: هذا صحيح سندا. وفيه (شهادة شاهدين مسلمين) وهو
ظاهر في كفاية شهادة غير الإمامي الاثني عشري، وإليه ذهب جماعة من الأصحاب
ولهم أن يجيبوا عن الخبر الثاني الدال على أنه يعتبر في الظهار ما يعتبر في
الطلاق - ومنه العدالة - بعد الغض عن الارسال في سنده، بأنه لا يصلح للتقييد
لوجود النص الدال على قبول شهادة الناصبيين في الطلاق.
(2) عقد لها في الوسائل بابا، وهو الباب 43 من أبواب مقدمات النكاح
14 / 67 وفيها ما هو صحيح سندا.
323
4 - محمد بن الفضيل: (قال أبو الحسن عليه السلام لأبي يوسف القاضي
إن الله أمر في كتابه بالطلاق وأكد فيه بشاهدين ولم يرض بهما إلا عدلين،
وأمر في كتابه بالتزويج فأهمله بلا شهود، فأثبتم شاهدين فيما أهمل وأبطلتم
الشاهدين فيما أكد).
وعن ابن أبي عقيل القول بالوجوب لما رواه المهلب الدلال (أنه كتب إلى
أبي الحسن عليه السلام: إن امرأة كانت معي في الدار ثم إنها زوجتني نفسها
وأشهدت الله وملائكته على ذلك، ثم إن أباها زوجها من رجل آخر فما تقول؟
فكتب عليه السلام: التزويج الدائم لا يكون إلا بولي وشاهدين، ولا يكون
تزويج متعة ببكر، استر على نفسك واكتم رحمك الله) فإنه ظاهر في الوجوب.
لكن هذا الخبر لا يقاوم النصوص الدالة على العدم والاستحباب، فيحمل
على الاستحباب (1).
وأما [الرجعة] فيدل عليه:
1 - زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في حديث: (وإذا أراد أن يراجعها
أشهد على المراجعة) (2).



(1) هذا مع عدم تماميته سندا، فإن رواية (المهلب الدلال) لا توثيق له
في كتب الرجال، وفي الوسائل بعد نقله: (حمله الشيخ على التقية) أنظر:
14 / 459. قال في الجواهر: ومن هنا كان المعروف بين الأصحاب خلافه،
بل هو من الأقوال الشاذة في هذا الزمان، بل هو كذلك في السابق أيضا،
بقرينة ما حكي من الاجماع في الانتصار والناصريات والخلاف والغنية والسرائر
والتذكرة على عدم الوجوب وهو الحجة بعد الأصل والأخبار الكثيرة.
(2) وسائل الشيعة 15 / 346 الباب 1 من أبواب أقسام الطلاق. وفيه (سهل
ابن زياد).
324
2 - محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام في حديث: (وإن أراد
أن يراجعها أشهد على رجعتها) (1).
وأما [البيع] فقال كاشف اللثام: للاعتبار، وقوله تعالى: (وأشهد وا
إذا تبايعتم) وأوجبها فيه أهل الظاهر لظاهر الأمر.
وأضاف في الجواهر: [الدين]. ويدل عليه قوله تعالى: (يا أيها الذين
آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل فاكتبوه. واستشهدوا شهيدين من رجالكم.).
إلا أنه يرفع اليد عن ظاهر هذه الآية وسابقتها في الوجوب، بالعمومات
والاطلاقات، فيحكم بالاستحباب.
(المسألة الثانية)
(في أن حكم الحاكم نافذ ظاهرا لا باطنا)
قال المحقق قدس سره: (حكم الحاكم تبع للشهادة، فإن كانت محقة
نفذ الحكم ظاهرا وباطنا، وإلا نفذ ظاهرا. وبالجملة: الحكم ينفذ عندنا
ظاهرا لا باطنا، و لا يستبيح المشهود له ما حكم له إلا مع العلم بصحة الشهادة
أو الجهل بحالها).
أقول: إن حكم الحاكم تبع للشهادة من حيث النفوذ مطلقا أو في الظاهر
فقط، بمعنى أن المدعي المالك للشئ إذا أقام شهادة محقة وحكم الحاكم له
يرتب الأثر على الملكية فيطالب بالشئ، وعلى المحكوم عليه تسليمه إليه،
فالحكم يؤثر من جهة ترتيب الأثر على الملكية، لا أنها متوقفة على الحكم.
وبالجملة إن كان المدعي محقا وحكم الحاكم بالشهادة القائمة على دعواه



(1) وسائل الشيعة 15 / 344 الباب 1 من أبواب أقسام الطلاق. صحيح.
325
كان له ترتيب الأثر على الحكم ظاهرا وباطنا، وكذا على المدعى عليه، وإن
لم يكن محقا كان له وعلى المدعى عليه ترتيب الأثر عليه في الظاهر، فيكون
الحكم حكما واقعيا يتقدم على أدلة السلطنة بالتخصيص، فلو لم يرتب المحكوم
عليه الأثر عليه بالتسليم فهو عاص، وإن كان عالما بكون الشئ ملكا له وإن
الحكم صدر اعتمادا على شهادة زور.
فالعمل بالحكم واجب شرعي على المحكوم عليه، ولا يجوز نقضه حتى
مع العلم بمخالفته للواقع، اللهم إلا إذا خالف بحيث لم يصدق النقض،
وأما المحكوم له فيمكنه الأخذ بالحكم والمطالبة استنادا إليه لكنه غير جائز
له شرعا مع العلم بمخالفته للواقع. وهذا معنى النفوذ ظاهرا.
ويدل على حرمة نقض الحكم فيما إذا كانت الشهادة محقة كل ما يدل على
أن حكم الحاكم فاصل للخصومة وقاطع للنزاع. كما ذكرنا في كتاب
القضاء بالتفصيل، وأما إذا لم تكن محقه فقد استدل للنفوذ ظاهرا لا واقعا بوجوه:
الأول: الاجماع. ذكره جماعة منهم المحقق في المتن بقوله (عندنا).
والثاني: الأصل. قال في المسالك: (أطبق علماؤنا وأكثر الجمهور
على أن الحكم لا ينفذ إلا ظاهرا، وأما باطنا فيتبع الحق، فلا يستبيح المحكوم
له أخذ المحكوم به مع علمه بعدم الاستحقاق، لأصالة بقاء الحق على أصله
والحل والحرمة كذلك).
أقول: التمسك بالأصل يتوقف على تحقق موضوعه وهو الشك، كأن
يحتمل صحة فتوى أبي حنيفة القائل بأن الحكم لا يتبع الحق في الباطن، بل
إنه يغيره، وللمحكوم له ترتيب الأثر عليه وإن علم بطلانه من غير فرق بين
المال والبضع، ومع هذا الاحتمال والشك في بقاء الحكم الشرعي وهو
حرمة هذا المال أو البضع عليه قبل الحكم يستصحب بقاؤه.

326
إلا أنه يمكن أن يقال بعدم الحاجة إلى الاستدلال لبقاء الأحكام الواقعية
على حالها بالأصل، لعدم الشك في كونها باقية، وأما أدلة الحكم ونفوذه فهي
مجعولة لفصل الخصومة، فإن طابق الواقع كان أثره ترتيب الأثر على الأحكام
الواقعية، وإن خالفه كان حكما ثانويا في الظاهر، وأثره فصل الخصومة وحل
النزاع، ولا علاقة له بالأحكام الواقعية فإنها على حالها.
ولعل هذا مراد الشيخ في الخلاف حيث قال: إذا ادعي على رجل عند الحاكم
حقا فأقام المدعي شاهدين بما يدعيه، فحكم الحاكم له بشهادتهما كان حكمه
تبعا لشهادتهما، فإن كانا صادقين كان حكمه صحيحا في الظاهر والباطن، وإن
كانا كاذبين كان حكمه صحيحا في الظاهر باطلا في الباطن، سواء كان في عقد أو
رفع عقد أو فسخ عقد أو كان مالا.
وبه قال شريح ومالك وأبو يوسف ومحمد والشافعي.
وقال أبو حنيفة: إن حكم بعقد أو رفعه أو فسخه وقع حكمه صحيحا في
الظاهر والباطن معا.. فمن ذلك: إذا ادعى إن هذه زوجتي فأنكرت فأقام
شاهدين شهدا عنده بذلك، حكم بها له وحلت له في الباطن، فإن كان لها زوج
بانت منه بذلك، وحرمت عليه وحلت للمحكوم له بها. وأما رفع العقد فالطلاق
إذا ادعت أن زوجها طلقها ثلاثا وأقامت به شاهدين فحكم له بانت منه ظاهرا
وباطنا، وحلت لكل أحد، وحل لكل واحد من الشاهدين أن يتزوج بها،
وإن كانا يعلمان أنهما شهدا بالزور.
دليلنا قوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم. إلى قوله: والمحصنات
من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) وأراد بالمحصنات زوجات الغير، فحرمهن
علينا إلا بملك اليمين سبيا أو استرقاقا. وأبو حنيفة أباحهن لنا بحكم باطل.
الثالث: ما روي بأسانيد عديدة عن المعصوم عن النبي صل الله عليه وآله

327
وسلم أنه قال: (إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحن
بحجته من بعض، وإنما أقضي على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حق
أخيه بشئ فلا يأخذ به، فإنما أقطع له قطعة من النار) (1).
هذا كله مع العلم بصحة الشهادة أو العلم بعدم صحتها.
وأما مع الجهل بحالها كما لو شهد له شاهدان عدلان بحق لا يعلم به
فإنه يستبيح ما حكم له، لأن شهادة العدلين طريق شرعي ما لم يعلم بالفساد.
نعم لو شهد له به شاهدان لكن توقف ثبوت الحق بشهادتهما على يمينه،
كما إذا كان المشهود عليه بدين ميتا لم يجز له الحلف اعتمادا على شهادتهما
بناء على اعتبار العلم في اليمين عن حس، وعدم كفاية الحجة الشرعية كالبينة
فيها.
(المسألة الثالثة)
(إذا دعي من له أهلية التحمل فهل يجب عليه؟)
قال المحقق قدس سره: (إذا دعي من له أهلية التحمل وجب عليه.
وقيل: لا يجب، والأول مروي).
أقول: القول بالوجوب هو المشهور شهرة عظيمة كما في الجواهر،
القول بالعدم هو لابن إدريس، وفي الجواهر عن الرياض: إنه له خاصة.
استدل للوجوب بوجوه:
الأول: أن تحمل الشهادة من الأمور الضرورية التي لا ينفك الانسان عنها



(1) انظر وسائل الشيعة 18 / 169 الباب 2 من أبواب كيفية الحكم.
328
لوقوع الحاجة إلى المعاملات والمناكحات، فوجب في الحكمة ايجاب ذلك
لتحسم مادة النزاع المترتب على تركه غالبا، بل إنه محتاج إليه في العمل ببعض
الأحكام الشرعية كالطلاق، إذ لو لم يجب التحمل للزم غالبا تعطيل هذا الحكم
أو وقوعه على خلاف ما أوجبه الشارع.
والثاني: ظاهر قوله تعالى: (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) فإنه مختص
بحالة التحمل لبعض النصوص المفسرة كما سيأتي، وقد سماهم (شهداء) لما
يؤولون إليه من الشهادة.
والثالث: أنه من الأمر بالمعروف الواجب والنهي عن المنكر فيجب.
أما الأولى: فلاشتمال الشهادة على منع غير المستحق من التجري على ما لا
يستحق، فيه ايصال الحق إلى مستحقه.
أقول: وفي هذا الاستدلال خفاء.
والرابع: النصوص. فإنه يدل على هذا الحكم عدة نصوص (1) بعضها
صحيح، ومن ذلك:
1 - صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام.
2 - صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام.
دليل القول بعدم الوجوب
وقال ابن إدريس: لا دليل على وجوب التحمل واستدل بالآية المذكورة
(ولا يأب.) على وجوب الأداء، لظهور المشتق (الشهداء) في الأداء،



(1) وسائل الشيعة 18 / 225 الباب 1 باب: وجوب الإجابة عند الدعاء
إلى تحمل الشهادة.
329
إذ لا يسمى الشاهد شاهدا إلا بعد تحمل الشهادة، وأجاب عما ذكره القائلون
بالوجوب بأنه مجاز لا يصار إليه بعد كون الأخبار آحادا، وهذا نص كلامه:
(لا يجوز أن يمتنع الانسان من الشهادة إذا دعي إليها ليشهد إذا كان من
أهلها، إلا أن يكون حضوره مضرا بشئ من أمر الدين أو بأحد من المسلمين،
وأما الأداء فإنه في الجملة أيضا من الفرائض لقوله تعالى: ولا تكتموا الشهادة
ومن يكتمها فإنه آثم قلبه، قال: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا، وقد يستشهد
بعض أصحابنا بهذه الآية الأخيرة على وجوب التحمل وعلى وجوب الأداء.
والذي يقوى في نفسي أنه لا يجب التحمل، وللانسان أن يمنع من الشهادة
إذا دعي إلهيا ليتحملها، إذ لا دليل على وجوب ذلك عليه. وما ورد في ذلك
فهو أخبار آحاد، فأما الاستشهاد بالآية والاستدلال بها على وجوب التحمل فهو
ضعيف جدا، لأنه تعالى سماهم شهداء ونهاهم عن الإباء إذا دعوا إليها، وإنما
يسمى شاهدا بعد تحملها، فالآية بالأداء أشبه، وإلى هذا القول يذهب شيخنا
أبو جعفر الطوسي في مبسوطه.
فإن قيل: سماهم شهداء لما يؤولون إليه من الشهادة كما يقولون لمن
يريد الحج الحاجي وإن لم يحج. وكما قال تعالى: إنك ميت، أي إنك
ستموت.
قلنا: هذا مجاز والكلام في الحقيقة غير الكلام في المجاز، فلا يجوز
العدول عن الحقيقة إلى مجاز من غير ضرورة ولا دليل.)
وأجاب في الجواهر بقوله: كأنه اجتهاد في مقابلة النص (1)، وإن كان ربما



(1) أقول: حاصل الكلام ابن إدريس عدم تمامية الاستدلال بالآية للقول
المشهور إلا بمعونة الأخبار، فتكون هي العمدة في المقام، لكن الاستدلال
بها مبني على القول بحجية خبر الواحد، فعلى القول بالعدم كما هو مذهبه -
والمفروض كون أخبار المقام آحادا - لا يبقى دليل على وجوب التحمل فيجري
الأصل.
فالصحيح في الجواب عما ذكره انكار كون أخبار المقام آحادا، ومن
هنا قال في الرياض: والطعن فيه بكونه من الآحاد غير جيد حتى على أصله.
وقد أشار بذلك إلى ما ذكره العلامة في المختلف بقوله: (ونسبة ذلك
إلى أنه من أخبار الآحاد مع دلالة القرآن عليه واستفاضة الأخبار به وفتوى
متقدمي علمائنا به جهل منه وقلة تأمل) فإن تم ذلك فهو وإلا كان البحث مع ابن
إدريس على المبنى. فلاحظ.
330
يشهد له ما عن تفسير العسكري عليه السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام
في قول الله عز وجل: ولا يأب إلى آخرها: من كان في عنقه شهادة فلا يأب إذا
دعي لإقامتها، وليقمها ولينصح فيها، ولا تأخذه فيها لومة لائم، وليأمر بالمعروف
وينه عن المنكر.
لكن قال فيه أيضا: وفي خبر آخر: إنها نزلت فيما إذا دعي لسماع الشهادة
وأبى، وأنزلت فيمن امتنع عن أداء الشهادة إذا كانت عنده: ولا تكتموا الشهادة
ومن يكتمها. إلى آخرها.
أقول: وكيف كان فإن الأقوى هو القول المشهور، والمعتمد في الاستدلال
هو النصوص.
القول بالكراهة
وقال صاحب الجواهر بعدم خلو القول بعدم وجوب التحمل وأنه مستحب
بل تركه مكروه من قوة، وذكر لذلك وجوها:
الأول قوله: إن الآية على طولها مشتملة على الآداب، بل ملاحظة ما قبلها

331
وما بعدها وأنها على مساق واحد خصوصا ما كان منها مثل اللفظ المذكور نحو
قوله تعالى: ولا يأب كاتب. فضلا عن قوله تعالى: ولا تسأموا. إلى آخرها،
يورث الظن القوي بكون ذلك منها أيضا.
قلت: مرجع هذا الوجه إلى وحدة السياق، وهي وإن كانت تورث
الظن القوي في بعض الموارد، ولكنها ليست كذلك مطلقا، ففي مثل (اغتسل
للجمعة والجنابة) لا يمكن القول بوحدة حكم الموضوعين اعتمادا على وحدة
السياق.
والثاني: قوله: مؤيدا باشعار لفظ (لا ينبغي) ونحوه (1) في النصوص
المزبورة، بل اتفاق معظمها على هذا اللفظ ونحوه ظاهر في ذلك أيضا.
قلت: أما أولا فإن لفظ ينبغي قد ورد في الأخبار بمعنى الوجوب والحرمة
كما في طائفة من أخبار الخلل والشكوك.
وأما ثانيا لو سلمنا ظهور ينبغي في الاستحباب فإن من أهم النصوص في
المسألة صحيحة هشام بن سالم وليس فيها اللفظ المزبور فيكون الدليل، بل
يكون حينئذ قرينة على عدم إرادة الاستحباب من النصوص الأخرى المشتملة
على لفظ ينبغي.
والثالث: ما ذكره بقوله: بلا شدة التوعد على كتمانها وزيادة المبالغة
فيه تركه على التحمل فيه اشعار آخر أيضا.
قلت: أي اشعار في ذلك، غاية ما في الباب أن يكون ترك الأداء من
الكبائر ولا يكون ترك التحمل منها.
والرابع: قوله: بل قد يظهر من الصدوق المفروغية من عدم الوجوب،



(1) لعل المراد من (نحوه) لفظ (لم يسع لك) في خبر محمد بن الفضيل
في نسخته هو كما في الجواهر 41 / 180 لكنه في الوسائل (لم ينبغ لك).
332
حيث إنه بعد أن روى في المحكي من فقيهه: (قيل للصادق عليه السلام إن
شريكا يرد شهادتنا. فقال: لا تذلوا أنفسكم) قال: ليس يريد بذلك النهي عن
إقامتها، لأن إقامة الشهادة واجبة، إنما يعني بها تحملها، يقول:
لا تتحملوا الشهادة فتذلوا أنفسكم بإقامتها عند من يردها) بل هو فتوى المصنف
في النافع قال: ويكره أن يشهد لمخالف إذا خشي أنه لو استدعاه إلى الحاكم
ترد شهادته).
قلت: أما أولا فإن الخبر المزبور قاصر السند بل ضعيف كما في الرياض. (1)
وأما ثانيا: فإن ظاهر في الأداء، وقد حمله الصدوق والحلي على التحمل
دون الأداء. قال في الرياض: وظاهر هما عدم الاستشكال في جواز ترك التحمل
وهو مشكل جدا.
وأما ثالثا: يحتمل أن يريد الصدوق والحلي من ترك التحمل اختفاء نفسه
عن المخالف لئلا يشهد، لا تركه عند الاشهاد. قاله في الرياض.
وأما رابعا: لعل كلام الإمام عليه السلام ونهيه عن الشهادة هذه هو من
جهة عدم أهلية شريك للقضاء، فكأنه قال: إنه حيث يكون الجالس للقضاء
غير صالح له فلا يجب التحمل لأجل الشهادة عنده، ففي ذلك مذلة للشيعة.
وأما خامسا: سلمنا لكن عدم وجوب التحمل مخصوص بهذه الحالة، بأن
يكون هذا الخبر بعد غض النظر عما في سنده مخصصا لما دل على وجوبه
مطلقا.
ومما ذكرنا في الوجوه التي ذكرها صاحب الجواهر لعدم الوجوب
يظهر ما في قوله: (فالانصاف عدم خلو القول بعدم وجوبه وأنه مستحب بل
تركه مكروه من قوة.).



(1) الخبر في الوسائل 18 / 304 الباب 53 شهادات. وهو مرسل.
333
ثم قال رحمه الله: نعم قد يحتمل أن يراد في الآية بناء على إرادة من
تلبس بالشهادة منها الإشارة إلى مضمون النصوص المستفيضة، وهو أن
من دعي إلى تحمل الشهادة فتحملها وجب عليه إقامتها، ومن تحملها بلا استدعاء
لم يجب عليه إقامتها إلا في صورة خاصة، وهي إذا علم الظلم، وحينئذ فيكون
المعنى ولا يأب الشهداء عن أداء الشهادة إذا دعوا إلى تحملها وإلا فلا يجب،
فيتوافق حينئذ مضمون النصوص المزبورة مع الآية.
قال: إلا أنه خلاف ما تقدم في النصوص الواردة في تفسيرها.
هل وجوب التحمل كفائي أو عيني؟
قال المحقق قدس سره (والوجوب على الكفاية، فلا يتعين إلا مع عدم
غيره ممن يقوم بالتحمل)
أقول: قد اختلف القائلون بوجوب التحمل على قولين، فالشيخ في
المبسوط والنهاية والإسكافي والمحقق والعلامة والشهيدان وغيرهم على الكفائية
والمفيد والحلبي والقاضي والديلمي وابن زهرة وغيرهم على العينية، وقد
نسب صاحبا الرياض والجواهر القول الأول إلى كافة المتأخرين.
وقد استدل للأول في الجواهر بالأصل، وبأولوية التحمل بالكفائية من
الأداء الذي ستعرف استفاضة الاجماع على كفائيته.
لكن ظاهر الآية الكريمة والأخبار هو الثاني كما اعترف به صاحب الرياض -
الذي رجح الأول لاطباق المتأخرين عليه وبهذه الأدلة ينقطع الأصل.
على أن الأصل في الأوامر الشرعية هو الاشتغال، إذ الأصل في الواجبات
هو النفسية والعينية والتعيينية، اللهم إلا أن يكون العمل مما لا يقبل التكرار كدفن
الميت.

334
وأما الأولوية أن الغرض من الأداء يحصل بشهادة اثنين، وأما التحمل
فقد لا يحصل الغرض منه بذلك، لاحتمال النسيان والموت والغيبة وغير ذلك
ولذا وجب على كل من يدعى إلى الشهادة.
واستبعاد التزام الوجوب بدعوى المائة والمائتين إلى التحمل عليهم أجمع
لا يقتضي القول بالكفائية. لأن المفروض وجوبه على كل من دعي ومن الواضح أن
الانسان يدعو أربعة أشخاص أو ستة مثلا حتى إذا مات بعضهم أو نسي أن
غاب أمكن إقامة الشهادة باثنين منهم، ولا داعي إلى دعوة المأة والمأتين حتى
يستعبد ذلك.
وأما التزام الندبية فرارا من الاستبعاد المزبور، كما في الجواهر، ففيه
أن الاستبعاد لا ينتفي بناء على الندبية، مع ما عرفت من عدم الوجه لهذا القول.
وأما تأييد القول بالاستحباب بأنه على القول بالوجوب يتجه التزامه على كل
من دعي إليه وإن لم يكن له أهلية التحمل لفسق مثلا، لاطلاق الأدلة، ولاحتمال
الفائدة بتحصيل الشياع وتجدد العدالة له وغير ذلك.
فإنه يتم فيما إذا تم الاطلاق، بأن لم يكن المراد من (الشهداء) في الآية خصوص
الشهداء الذين عناهم الله سبحانه في المواضع الأخرى وهم العدول. ولعله
من هنا قال المحقق وغيره: إذا دعي من له أهلية التحمل. لأن من ليس أهلا
له لا يدعي. هذا كله في التحمل.
في وجوب الأداء وكونه على الكفاية أو العينية
قال المحقق قدس سره:
(أما الأداء فلا خلاف في وجوبه على الكفائية).
أقول: في الفرع بحثان: الأول: في وجوب الأداء. والثاني: في أن

335
وجوبه على الكفائية.
أما الأول: فقد ادعي عليه الاجماع في كلمات جماعة، فهذا أحد الأدلة.
والدليل الثاني: قوله تعالى: (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم
قلبه) فإن ظاهر الوعيد على الترك هو الوجوب، والمراد من هذه الشهادة كما
دلت عليه صحيحة هشام الآتية أداؤها.
والدليل الثالث: الأخبار (1)، ومنها:
1 - هشام بن سالم: (عن أبي عبد الله عليه السلام: في قول الله عز وجل
ومن يكتمها فإنه آثم قلبه: قال بعد الشهادة).
2 - جابر: (عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال: رسول الله صلى الله عليه
وآله من كتم شهادة أو شهد بها ليهدر بها دم امرئ مسلم أو ليزوي بها مال
امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه ظلمة مد البصر وفي وجهه كدوح تعرفه
الخلائق باسمه ونسبه، ومن شهد شهادة حق ليحيى بها حق امرئ مسلم أتي
يوم القيامة ولو جهة نور مد البصر تعرفه الخلائق باسمه ونسبه. ثم قال أبو جعفر
عليه السلام: ألا ترى أن الله عز وجل يقول وأقيموا الشهادة لله).
3 - الحسين بن زيد: (عن الصادق عن آبائه عن النبي صلى الله عليه
وآله في حديث المناهي: أنه نهي عن كتمان الشهادة وقال: من كتمها أطعمه
الله على رؤوس الخلائق، وهو قول الله عز وجل: ولا تكتموا الشهادة ومن
يكتمها فإنه آثم قلبه).
4 - عيون الأخبار عن أبي الحسن الكاظم عليه السلام في حديث النص على
الرضا عليه السلام أنه قال: (وإن سئلت عن الشهادة فأدها، فإن الله يقول:



(1) وسائل الشيعة 18 / 227 الباب 2 من أبواب الشهادات.
336
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها. وقال: ومن أظلم ممن كتم شهادة
عنده من الله).
5 - عقاب الأعمال عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال في حديث:
(ومن رجع شهادته أو كتمها أطعمه الله لحمه على رؤوس الخلائق ويدخل
النار وهو يلوك لسانه).
6 - تفسير الحسن العسكري عليه السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام بتفسير
الآية: (من كان في عنقه شهادة فلا يأب إذا دعي لإقامتها وليقمها ولينصح فيها
ولا تأخذه فيها لومة لائم وليأمر بالمعروف ولينه عن المنكر).
وأما الثاني: ففي عبارة المحقق قدس سره وغيره عدم الخلاف في كفائيته
قال: (فإن قام غيره سقط عنه وإن امتنعوا لحقهم الذم والعقاب، ولو عدم الشهود
إلا اثنان تعين عليهما)، بل في الجواهر: استفاض في عباراتهم نقل الاجماع
على ذلك.
أقول: تارة يكون التكليف قابلا للتكرار وأخرى غير قابل كذقن الميت.
أما الثاني فلا احتمال فيه للوجوب العيني، وأما الأول ففيه وجهان،
العينية من جهة ظهور الأمر فيها كما أشرنا سابقا، والكفائية من جهة ظهور
كون الحكمة في وجوب الأداء وحرمة الكتمان ضياع الحق، وهذا الغرض
يتحقق بشهادة البعض ولا يتوقف على شهادة الجميع، فلا ثمرة لتكليف الجميع بها.
ومن هنا أمكن القول بأن النزاع لفظي، لأن ذاك يقول بالعينية حيث
تترتب ثمرة على القول بها، وهذا يقول بالكفائية حيث لا ثمرة لتوجيه الخطاب
إلى الكل.
وقد ذكر صاحب الجواهر إن القائل بالعينية يقول: بأنه يجب الأداء على
كل فرد فرد ولا يسقط عنه الوجوب إلا مع التيقن بحصول الغرض بشهادة غيره

337
من الشهود، والقائل بالكفائية يقول: لا يجب الأداء إلا مع العلم بضياع الحق،
فالنزاع معنوي.
قلت: إن كان ما ذكره مستفادا من الأخبار فهو، إذ يكون حينئذ حكما
تعبديا، وإلا فإن العقل لا يفرق في لزوم الاحتياط لغرض حفظ الحق عن الضياع
بين العينية والكفائية إلى أن يحصل اليقين بحصول الغرض، فلننظر في الأخبار
في هذا المقام، فنقول:
إن مقتضى اطلاق الآية الكريمة والأخبار وجوب الأداء على كل من شهد
سواء أشهد أو لا، لكن مقتضى بعض الأخبار (1) هو عدم الوجوب إن لم يشهد:
1 - محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: (إذا سمع الرجل الشهادة
ولم يشهد عليها فهو بالخيار إن شاء شهد وإن شاء سكت).
2 - هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام: (إذا سمع الرجل الشهادة
ولم يشهد عليها فهو بالخيار وإن شاء سكت. وقال إذا أشهد لم
يكن له إلا أن يشهد).
فقوله (إذا أشهد..) تصريح بمفهوم صدر الخبر.
3 - محمد بن مسلم: (سألت أبا جعفر عن الرجل يحضر حساب الرجلين
فيطلبان منه الشهادة على ما سمع منهما. قال: ذلك إليه إن شاء شهد وإن شاء لم
يشهد، وإن شهد شهد بحق قد سمعه، وإن لم يشهد فلا شئ لأنهما لم يشهداه).
4 - محمد بن مسلم عن أبي جعفر مثله.
مقتضى هذه النصوص عدم الوجوب إذا لم يشهد، فلا يحرم الكتمان
حينئذ، فهي مقيدة لما تقدمت الإشارة إليه.



(1) وسائل الشيعة 18 / 231 الباب 5 من أبواب كتاب الشهادات.
338
لكنها مطلقة من حيث العلم بضياع الحق وعدمه. وفي بعض ما يقيدها
بما إذا لم يؤد عدم شهادته إلى ضياع الحق وإلا يجب حتى مع عدم الاستشهاد:
1 - محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: (إذا سمع الرجل الشهادة
ولم يشهد عليها فهو بالخيار إن شاء شهد وإن شاء سكت، إلا إذا علم من
الظالم فيشهد ولا يحل له إلا أن يشهد).
2 - يونس فيما رواه مرسلا عن الصادق: (إذا سمع الرجل. إلا إذا
علم من الظالم فيشهد ولا يحل له أن لا يشهد).
3 - مرسلة الصدوق: (قال الصادق: العلم شهادة إذا كان صاحبه مظلوما).
فتلخص: إن الشهادة واجبة فيما إذا دعي بالوجوب العيني، فإن لم يدع
فهو بالخيار، فلا وجوب لا عينا، ولا كفاية إلا إذا علم من الظالم، بمعنى توقف
شهادته على علمه بالظالم منها لولا الشهادة. خلافا لصاحب الجواهر القائل
بالكفائية في صورة الاستدعاء للتحمل وعدم الوجوب أصلا في صورة عدم
الاستدعاء إلا إذا علم الظالم، وكأن معتمده هو الاجماعات التي لم يعلم
كاشفيتها عن رأي المعصوم، بل من المحتمل كونها مبنية على كون الحكمة في
وجوب الأداء وحرمة الكتمان ضياع الحق وهي متحققة بشهادة الاثنين.
ثم قال: رحمه الله: يمكن أن يكون محل كلامهم في المقام خصوص
الشهادة في صورة المخاصمة التي تقام عند الحاكم. وأما الشهادات في غيرها
كالشهادة بالاجتهاد والعدالة ونحوها مما لا ترجع إلى مخاصمة عند الحاكم
ولا يراد اثباتها عنده فلا يبعد القول بوجوبها عينا على كل من كانت عنده،
ولا مدخلية لكيفية التحمل فيها، لظهور الأدلة السالمة عن المعارض بالنسبة إلى
ذلك، بعد تنزيل الاجماعات المزبورة على غير هذه الصورة التي لا غرض
بمقدار مخصوص منها، بل ربما كان الغرض تعدد الشهادة فيها لكونه أتم للمقصود

339
فتأمل جيدا.
قلت: القول بالوجوب عينا في كل شئ وإن لم تكن مخاصمة لا يمكن
المساعدة عليه، فإن كثيرا من الأمور يعلمها الانسان ولا دليل على وجوب أداء
الشهادة واظهار العلم فيها. بل قد لا يجب عليه الأداء حتى مع الاستدعاء،
والحاصل أنه لا ضابط لهذه الأمور. نعم لا ريب في الوجوب في الأمور المهمة
التي يعلم بعدم رضا الله عز وجل بكتمان الشهادة فيها. ولعل هذا الذي ذكرناه
هو وجه التأمل الذي أمر به.
وحيث يتعين عليه وجوب الأداء فإن عليه المبادرة إليه وإن كان واحدا، حتى
يتحقق الحق بشهادته مع يمين المدعي إن كان مما يثبت بذلك، بل يجب
عليه وإن لم يكن مما يثبت بشاهد ويمين إن كان لشهادته أثر، وفي الجواهر
الوجوب وإن لم يعلم بترتب أثر عليها بل احتمل، كما إذا احتمل حصول العلم
للحاكم بشهادته، أو احتمل تذكر المدعى عليه بشهادته للحق والواقع. ولو
نسي المدعي الاستشهاد منه، فإن كان الأداء واجبا عليه عينا وجب عليه أن يذكر
المشهود له فيستدعي منه الأداء لئلا تكون شهادته تبرعية فإن علم بضياع
الحق لو لم يشهد وجب عليه وإن لم يدع للإقامة، وإن كان وجوبه كفائيا وقد
تعين فكذلك وإلا فلا.
وفي الرياض: ولو لم يكن الشهود عدولا فإن أمكن ثبوت الحق بشهادتهم
ولو عند حاكم الجور وجب الاعلام أيضا للعموم، وإلا فوجهان أجودهما الوجوب
لذلك مع امكان حصول العدالة بالتوبة.
قال في الجواهر: كأن الأجود أيضا وجوب الشهادة عليهم إذا دعوا إليها
ولو عند حاكم العدل.

340
جواز التخلف لو كانت الشهادة مضرة
قال المحقق: (ولا يجوز لهما التخلف إلا أن تكون الشهادة مضرة بهما
ضررا غير مستحق).
أقول: إن وجوب الشهادة كسائر الواجبات التي ترتفع بترتب الضرر
عليها. ويشترط في الضرر الموجب لسقوط وجوب الشهادة أمران:
أحدهما: أن يكون الضرر ضررا معتدا به، ولا فرق بين توجهه على الشاهد
نفسه، أو على المشهود عليه أو على المشهود له، أو على غيرهم. والثاني: أن يكون الضرر غير مستحق، كما لو كان للمشهود عليه حق
على الشاهد يطالبه عليه على تقدير الشهادة ويمهله به أو يسامحه بدونها، فلا
يعد ذلك عذرا، لأنه مستحق عليه مع فرض قدرته على الوفاء به.
والدليل على سقوط الوجوب فيما إذا كانت الشهادة مضرة هو قاعدة
لا ضرر الحاكمة على الأدلة الأولية (1)، وهذا الحكم لا خلاف فيه كما في الجواهر.
وقد استدل له في الجواهر بخبرين:
1 - علي بن سويد السائي عن أبي الحسن عليه السلام في حديث: (كتب
إلي أبي في رسالته إلي: وسألت عن الشهادات لهم. فأقم الشهادة لله ولو
على نفسك أو الوالدين والأقربين فيما بينك وبينهم. فإن خفت على أخيك
ضيما فلا) (2).
2 - محمد بن القاسم بن الفضيل عن أبي الحسن عليه السلام: (سألته



(1) فيه إشارة إلى ما جاء في جامع المدارك من أن المقام من التزاحم
فيلاحظ الأهم
(2) وسائل الشيعة 18 / 229 الباب 3 شهادات.
341
قلت له: رجل من مواليك عليه دين لرجل مخالف يريد أن يعسره ويحبسه
وقد علم الله أنه ليس عنده ولا يقدر عليه وليس لغريمه بينة، هل يجوز له أن
يحلف له ليدفعه عن نفسه حتى ييسر الله له؟ وإن كان عليه الشهود من مواليك
قد عرفوه أنه لا يقدر، هل يجوز أن يشهدوا عليه؟ قال: لا يجوز أن يشهدوا
عليه ولا ينوي ظلمه) (1).
هذا وفي المسالك: واعلم أن اطلاق الأصحاب والأخبار يقتضي عدم الفرق
في التحمل والأداء بين كونه في بلد الشاهد وغيره مما يحتاج إلى مشقة. ولا
بين السفر الطويل والقصير مع الامكان. هذا من حيث السعي. أما المؤونة
المحتاج إليها في السفر من الركوب وغيره فلا يجب على الشاهد تحملها، بل
إن قام بها المشهود له وإلا سقط الوجوب، فإن الوجوب في الأمرين مشروط
بعدم توجه ضرر على الشاهد غير مستحق، وإلا سقط الوجوب.
قال في الجواهر: قلت: قد يقال إن السفر الطويل ونحوه من المشقة والعسر
أيضا. فتأمل جيدا.
قلت: الظاهر أنه حيث يجب عليه أداء الشهادة يجب عليه تحمل كل ما
يمكن تحمله من مشقة السفر ومؤونته المحتاج إليها، إن كانت بالقدر المتعارف،
إذ المفروض وجوب الشهادة عليه فيجب عليه تحمل كل ما يتوقف عليه القيام
بهذا الواجب مع الامكان. والله العالم.



(1) وسائل الشيعة 18 / 249 الباب 19 شهادات.
342
(4)
الشهادة على الشهادة

343
لا كلام ولا خلاف في قبول الشهادة على الشهادة في الجملة، بل الاجماع عليه
في جملة من الكتب، بل في الجواهر: لعل المحكي منه على ذلك متواتر،
بل في المستند دعوى الضرورة.
ويدل على القبول عدة من النصوص التي ينجبر بما ذكر ما فيها من ضعف (1) ومنها:
1 - محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: (في الشهادة على شهادة
الرجل وهو بالحضرة في البلد. قال: نعم ولو كان خلف سارية يجوز ذلك، إذا
كان لا يمكنه أن يقيمها هو لعلة تمنعه عن أن يحضره ويقيمها، فلا بأس بإقامة
الشهادة على شهادته).
2 - طلحة بن زيد عن الصادق عن أبيه عن علي عليهم السلام: (أنه كان
لا يجيز شهادة رجل على رجل إلا شهادة رجلين على شهادة رجل).
3 - غياث بن إبراهيم عن الصادق عن أبيه عليهم السلام: (إن عليا كان لا يجيز
شهادة رجل على شهادة رجل إلا رجلين على شهادة رجل).
ويدل على قبول هذه الشهادة عمومات قبول الشهادة كتابا وسنة لأنها شهادة
لغة وعرفا (2).



(1) أنظر وسائل الشيعة 18 / 297 الباب 44 شهادات.
(2) وأما اشكال المستند في العمومات بقوله: (وأما الاستلال بعمومات
قبول الشهادة كما وقع عن جمع من المتأخرين فغير جيد، لأنه إنما يفيد لو
كان المراد اثبات نفس ما شهد به الأصل. وأما اثبات ما شهد هو به فلا، إذ
لا ملازمة بين ثبوت شهادة الأصل وثبوت ما شهد به، كما في صورة امكان
الأصل، وفي الحدود، وفي الفرعية الثالثة).
ففيه: أن تلك الأدلة لا تشمل شهادة الفرع بعنوان أنه فرع، لكنها شاملة
لها بما هي شهادة أصل بالنسبة إلى الشهادة لا المشهود به.
345
وكيف كان، فإن أصل الحكم مفروغ عنه، وإنما الكلام والبحث في جهات:
1 - في محل قبول الشهادة على الشهادة
قال المحقق: (وهي مقبولة في حقوق الناس، عقوبة كانت كالقصاص
أو غير عقوبة كالطلاق والنسب والعتق، أو مالا كالقراض والقرض وعقود المعاوضات،
أو ما لا يطلع عليه الرجال غالبا كعيوب النساء والولادة والاستهلال).
أقول: الدليل على القبول في كل ما ذكر هو: الاجماع واطلاق النصوص
والاعتبار. وأما قوله في (حق الناس) فسيأتي الكلام عليه قريبا.
قال: (ولا تقبل في الحدود، سواء كانت لله محضة كحد الزنا واللواط
والسحق، أو مشتركة كحد السرقة والقذف على خلاف فيهما).
أقول: أما عدم القبول في الحدود فللخبرين:
1 - طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عن أبيه عن علي عليهم السلام: (أنه كان
لا يجيز شهادة على شهادة في حد).
2 غياث بن إبراهيم عن الصادق عن أبيه قال: قال: (لا تجوز شهادة على
شهادة في حد).
وهل المستثنى خصوص الحدود التي هي لله محضة كحد الزنا أو الأعم منها

346
ومن المشتركة بينه وبين الآدمي كحد السرقة؟ قولان.
المشهور كما في الجواهر وغيره هو الثاني، لعموم الخبرين المذكورين،
وعليه المحقق وتبعه صاحب الجواهر.
والشيخ في المبسوط وجماعة على الأول تغليبا لحق الناس، واختاره
الشهيد الثاني في المسالك، وقال: (لعدم دليل صالح للتخصيص بعد ضعف
الخبرين المزبورين).
قلت: ما الدليل على تخصيص قبول الشهادة على الشهادة ب‍ (حق الناس)
كما في عبارة المحقق، حتى (يكون حق الناس) مرجحا للقول بالقبول في
الحدود المشتركة؟
إن الأدلة العامة تدل على القبول مطلقا، والنصوص الخاصة بعد الجمع
بين المطلق والمقيد منها تدل على القبول كذلك إلا في (الحدود) وليس في شئ
منها عنوان (حق الناس) ونحوه، وحينئذ لا مرجح لهذه الجهة في هذا القسم
من الحدود، بل الملاك صدق عنوان (الحد)، وهو إذ يصدق على المشترك
يكون المشترك كالمحض من المستثنى، فلا تقبل الشهادة فيه.
وأما ما في المسالك من عدم صلاحية الخبرين لتخصيص النصوص الدالة
على القبول مطلقا. فالجواب عنه ما ذكر في الجواهر من انجبار الضعف بعمل المشهور.
ومما ذكرنا من أن الملاك للاستثناء هو صدق عنوان (الحد) وأنه لا أثر
لعنوان (حق الناس) في أخبار المسألة يظهر أن الأقرب قبول الشهادة على
الشهادة فيما كان حقا لله غير الحد، كالزكاة والهلال ونحوهما، ولا مجال حينئذ
للرجوع إلى الأصل.
وأما كلمات الأصحاب في هذه المسألة فمختلفة جدا، ففي الوقت الذي
يدعي كاشف اللثام قطع الأصحاب في عدم الجريان في حقوق الله مطلقا، وعن

347
العلامة في التذكرة: لا يثبت الهلال بالشهادة على الشهادة عند علمائنا. يقول
السبزواري في الكفاية: محل الشهادة على الشهادة ما عدا الحدود. ولا أعلم
خلافا في ذلك، ولا فرق بين الأموال والأنكحة والعقود والايقاعات والفسوخ
وغيرها. ولا فرق أيضا بين أن يكون حق الآدميين أم حق الله تعالى كالزكاة
وأوقاف المساجد والجهات العامة والأهلة وغيرها.) وفي الروضة بشرح قول
الشهيد: (محلها حقوق الناس كافة) قال: (بل ضابطة كل ما لم يكن عقوبة
لله تعالى مختصة به اجماعا أو مشتركة على الخلاف).
قال في المسالك: (واعلم أن اطلاق المصنف كون محلها حقوق الآدميين
قد يوهم خروج ما كان حقا لله تعالى وليس حقا للآدمي وإن لم يكن حدا، وهذا
ليس بمراد، بل الضابط ما ذكرناه من أن محلها ما عدا الحدود أو ما عدا حدود الله
تعالى كما تقتضيه الأدلة والفتاوى).
وعلى الجملة فإن الشهادة على الشهادة لا نقبل في الحدود المحضة والمشتركة
للخبرين،
وكذا في التعزيرات، لاحتمال شمول (الحد) في الخبرين للتعزير،
فإنه كاف لعدم ثبوت التعزير فيما يوجبه، لاشتراكه مع الحد في البناء على
التخفيف، فإن كان لموضوع الحد المشهود به بهذه الشهادة أحكام شرعية كنشر
الحرمة بأم المفعول وأخته وبنته، وحرمة بنت العمة والخالة بالزنا بهما، وكثبوت
المهر للمزني بها المكرهة ترتب الحكم كما هو صريح جماعة، إذ لا منافاة بين
انتفاء الحد بالمانع الشرعي فيبقى غير الحد من الأحكام على مقتضى عموم
الأدلة، وكون الجميع معلول علة واحدة لا يقتضي انتفاء الأحكام كذلك، إذ
يجوز انفكاك المعلولات للعلل الشرعية، ولذا يثبت بها في السرقة دون الحد.

348
2 - في أنه لا تقبل الشهادة على الشهادة على الشهادة فصاعدا
قال: في الجواهر: بلا خلاف أجده، بل حكى عن غير واحد الاجماع
عليه صريحا. قال في الجواهر: وهو الحجة مضافا إلى الأصل بعد اختصاص
ما دل على قبول الشهادة على الشهادة بالثانية دون ما زاد، وخصوص الخبر
المنجبر.
أقول: أما الاجماعات فهي منقولة ومحتملة المدارك، فإن كان الدليل
عمومات الشهادة فإنها تعم الثالثة أيضا، وإن كان الأخبار الخاصة كخبر محمد
ابن مسلم فلا تصريح فيها بكونها شهادة على شهادة، والإمام عليه السلام أجاب
بقوله: (نعم) من غير استفصال.
فالعمدة في الاستدلال هو خبر عمرو بن جميع، فإنه يخصص العمومات
ويقيد المطلقات ومعه لا يستدل بالأصل وضعفه منجبر بالاجماع وهذا نصه:
(عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما السلام قال: اشهد على شهادتك من ينصحك.
قالوا: كيف، يزيد وينقص! قال: لا ولكن من يحفظها عليك، ولا تجوز
شهادة على شهادة على شهادة).
وأما دعوى ظهور أخبار المسألة في الشهادة على الشهادة فهي كما ترى،
كدعوى انصراف العمومات عن الثالثة.
3 - في العدد المعتبر في الشهادة على الشهادة
قال المحقق قدس سره: (ولا بد أن يشهد اثنان، لأن المراد اثبات شهادة
الأصل، وهو لا يتحقق بشهادة الواحد، ولو شهد على كل واحد اثنان صح،
وكذا لو شهد اثنان على شهادة كل واحد من شاهدي الأصل).

349
أقول: الحاصل أن المعتبر إن تثبت شهادة كل واحد من شاهدي الأصل
بشهادة اثنين، سواء كان الشاهدان على شهادة زيد منهما نفس الشاهدين على
شهادة عمر منهما أو كانا غيرهما، وسواء كان كلاهما شاهدي فرع أو كان أحدهما
شاهد فرع والآخر شاهد أصل، إذ كونه شاهد أصل لا ينافي كونه مع ذلك شاهد فرع.
والدليل على ذلك كله عموم الأدلة.
(وكذا لو شهد اثنان على جماعة كفى شهادة الاثنين على كل واحد منهم.
وكذا لو كان شهود الأصل شاهدا وامرأتين فشهد على شهادتهم اثنان.
أو كان الأصل نساءا فيما تقبل فيه شهادتهن منفردات كفى شهادة اثنين عليهن).
وكل ذلك لعموم الأدلة المقتضية لقبول شهادة العدلين اتحد المشهود به
أو تعدد، وكذا المشهود عليه.
وقد تعرض في الجواهر لخلاف الشافعي في هذه المسألة في أحد قوليه
وهو كما في الخلاف: (أنه لا يثبت حتى يشهد آخران على شهادة الآخر، وهو
اختيار المزني) وحينئذ يعتبر شهود أربعة على الشاهدين، وعلى الرجل والمرأتين
ستة، وعلى الأربع نساء ثمانية وهكذا.
قال في الجواهر: وضعفه واضح حتى على ما قيل من أن مبني الخلاف
في جواز كون الأصل فرعا وعدمه، على أن الاشهاد على الشهادة هل هو لاثبات
الشهادة أو لحكم النيابة عنها؟
أقول: قد عنون الشيخ في الخلاف هذا الخلاف بقوله: (تثبت بالشهادة
على الشهادة شهادة الأصل، ولا يقومون مقام الأصل في اثبات الحق. وللشافعي
فيه قولان أحدهما مثل ما قلناه، والآخر أنهم يقومون مقام الأصل في اثبات
الحقوق.
دليلنا: إن شاهد الفرع لو كان يقوم مقام الأصل في اثبات الحق لما جازت

350
الشهادة على الشهادة، لأنه إن كان الحق اثبات فعل كالقتل والاتلاف لم يثبت
بشهادة الفرع، لأنه يحتاج إلى مشاهدة والفرع ما شاهد الفعل، وإن كان الحق
عقدا افتقر إلى سماع ومشاهدة والفرع ما سمع وما شاهد، فلما أجمعنا على
جواز الكل ثبت إن الفرع يثبت بشهادة الأصل بلا شبهة).
قال في الجواهر: فعلى الأول الذي هو مذهب الأصحاب يجوز أن يكون
الأصل فرعا، لا على الثاني الذي احتمله في الدروس (أي بقوله: ولو قلنا يقومون
مقام الأصل في اثبات الحق اشترط مغايرة الشهود. وهذا ضعفه الشيخ) لأنه لا
يصح أن يكون نائبا عن نفسه وغيره، لأن قيامه يستدعي استغناءه عن الغير ونيابته
تقتضي افتقاره فلا يجتمعان.
فأجاب رحمه الله عن قول الشافعي الذي احتمله في الدروس حتى على
القول الثاني في مبني الخلاف، بقوله: (إذ قد يقال بكفاية التغاير الاعتباري
عليه، نحو ما سمعته في اتحاد الموجب والقابل، والأمر سهل بعد وضوح الحال
عندنا).
أقول: قد يقال: بأن حكم الحاكم بالقتل حيث يشهد شاهد أصل مع آخر
على شهادة أصل آخر إن كان بشهادة الفرع، فالمفروض أن الشهادة هنا حاصلة
من شاهد فرع واحد مع أحد الأصلين لا من شاهدي فرع، وإن كان بشهادة
الأصل وشهادة الفرع مثبتة لها فالمفروض أن أحد الأصلين قد ثبت شهادته بفرع
واحد، وقد تقدم اعتبار شاهدين اثنين.
ثم قال في الجواهر: لكن في الرياض بعد أن ذكر الاطلاق دليلا للأصحاب
حاكيا له عن جمع قال: (وفي التمسك به لولا الاجماع نظر) فاعترضه بقوله
(ولا أعرف وجه النظر الذي أضمره في نفسه، كما أني لم أعرف أحدا سبقه
إلى ذلك). قلت: لا وجه له، اللهم إلا دعوى الانصراف ولا وجه لها.

351
قال: نعم في القواعد الاشكال في الاجتزاء باثنين في شهود الزنا بالنسبة
إلى ترتب نشر الحرمة والمهر لا الحد:
من أن المقصود حق الآدمي من المهر وغيره.
ومن أنه تابع للزنا ونحوه، فلا يثبت إلا بثبوته ولا يثبت إلا بأربعة، وأنه
لا بد في الأصل من أربعة، وهو لا يكون أسوء حالا من الفرع.
أو من أن الفرع نائب عن الأصل فيشترط الأربعة. أو: لا يثبت به إلا شهادة
الأصل فيكفي الاثنان.
واعترضه بقوله: وفيه ما لا يخفى بعد الإحاطة بما ذكرنا، على أن الذي
سمعته من العامة هو أحد قولي الشافعي، وإلا فالذي يظهر من خبري البزنطي
وابن هلال عن الرضا عليه السلام اكتفاؤهم بالواحد على شهادة المائة.
قال: في الأول: (سمعت الرضا عليه السلام يقول: قال أبو حنيفة لأبي
عبد الله: تجيزون شهادة واحد ويمين؟ قال: نعم قضى به رسول الله وقضى علي
بين أظهر كم بشاهد ويمين. فتعجب أبو حنيفة. فقال أبو عبد الله عليه السلام:
أتعجب من هذا أنكم تقضون بشاهد واحد في مائة شاهد: فقال له: لا نفعل.
فقال: بلى تبعثون رجلا واحدا يسأل عن مائة شاهد فيجيزون شهادتهم بقوله،
وإنما هو رجل واحد).
وقال في الثاني: (إن جعفر بن محمد قال له أبو حنيفة: كيف تقضون
باليمين مع الشاهد الواحد؟ فقال جعفر: قضى به رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم وقضى به علي عندكم. فضحك أبو حنيفة. فقال له جعفر: أنتم تقضون
بشهادة واحد شهادة مائة. فقال: ما نفعل. فقال: بلى يشهد مائة فترسلون واحدا
يسأل عنهم ثم تجيزون شهادتهم بقوله).
قال: ومنه يعلم ما في حمل الخبر الأول على التقية.

352
قلت: يعني خبر غياث بن إبراهيم عن الصادق عن أبيه عليهما السلام:
(إن عليا قال: لا تقبل شهادة رجل على رجل حي وإن كان باليمن) قال
في الوسائل: (حمله الشيخ على التقية. وجوز حمله على عدم قبول شهادة رجل
واحد على شاهد الأصل، بل لا بد من شاهدين).
والوجه هو الحمل الثاني، لأن التقية إن كانت من علي عليه السلام فهو
لم يكن في تقية، وإن كانت من الصادق أو غيره من الأئمة عليهم السلام فاسناد
المطلب إلى علي عليه السلام كذب والعياذ بالله، وهذا وجه اشكال الحمل على
التقية لا ما ذكره صاحب الجواهر.
4 - في مراتب التحمل
قال المحقق قدس سره (وللتحمل مراتب، أتمها أن يقول شاهد الأصل:
أشهد على شهادتي أني أشهد على فلان بن فلان لفلان بن فلان بكذا. وهو الاسترعاء).
أقول: إن الأصل في ذكر هذه المراتب هو الشيخ في المبسوط فإنه رحمه الله
قال: (أما التحمل وهو أن يصير شاهد الفرع متحملا لشهادة شاهد الأصل فإنه
يصح بأحد أسباب ثلاثة:
أحدها: الاسترعاء، وهو أن يقول شاهد الأصل لشاهد الفرع أشهد أن
لفلان بن فلان على فلان بن فلان ألف درهم فأشهد على شهادتي، فهذا هو
الاسترعاء.
الثاني: أن يسمع شاهد الفرع شاهد الأصل يشهد بالحق عند الحاكم
فإذا سمعه يشهد به عند الحاكم صار متحملا لشهادته.
الثالث: أن يشهد الأصل بالحق ويعزيه إلى سبب وجوبه فيقول: أشهد
أن لفلان بن فلان على فلان بن فلان ألف درهم من ثمن ثوب أو عبد أو دار

353
أو ضمان أو دين أو اتلاف ونحو هذا، فإذا عزاه إلى سبب وجوبه صار متحملا
للشهادة، فأما إن لم يكن هناك استرعاء ولا سمعه يشهد به عند الحاكم ولا عزاه
إلى سبب وجوبه مثل أن يسمعه يقول أشهد أن لفلان بن فلان على فلان بن
فلان ألف درهم فإنه لا يصير بهذا متحملا للشهادة على شهادته، لأن قوله أشهد
بذلك ينقسم إلى الشهادة بالحق، ويحتمل العلم به على وجه لا يشهد به، وهو
أن يسمع الناس يقولون لفلان على فلان كذا وكذا وقف التحمل بهذا الاحتمال
فإذا استرعاه أو شهد به عند الحاكم أو عزاه إلى سبب وجوبه زال الاشكال.
أقول: قال في الرياض أنه لا يجوز للفرع التحمل إلا إذا عرف أن عند
الأصل شهادة جازمة بحق ثابت، بلا خلاف، لأنه المتبادر والمعنى الحقيقي
للشهادة على الشهادة. والظاهر أن ما ذكره الشيخ بيان لمصاديق لذلك، وإلا
فقد نص جماعة على أنه ليس للمراتب المذكورة في النصوص أثر، نعم جاءت
المرتبة الأولى في خبر عمرو بن جميع عن أبي عبد الله عليه السلام حيث قال
له: (اشهد على شهادتك من ينصحك. قال: أصلحك الله كيف، يزيد وينقص
قال: لا ولكن يحفظها عليك.).
ومن هنا فقد وقع الخلاف بينهم في قبول التحمل فيما عدا المرتبة الأولى
وأعرض جماعة عن ذكر المراتب، وجعلوا المدار على علم الفرع بالشهادة
الجازمة للأصل.. كما سيأتي.
وكيف كان فإن المرتبة الأولى التي هي أتم المراتب هي الاسترعاء، أي:
التماس شاهد الأصل رعاية شهادته والشهادة بها، قال في الكفاية: ولا أعرف
خلافا في جواز الشهادة معه، بل في المسالك وعن غيرها الاجماع عليه.
ومثل ما ذكره المحقق من اللفظ أن يقول: (أشهدك على شهادتي. أو:
إذا استشهدت على شهادتي فقد أذنت لك في أن تشهد) ونحو ذلك. هذا ما
نسب إلى الأكثر.

354
قال في الجواهر: وربما قيل: إن الاسترعاء هو أن يقول: أشهدك عن
شهادتي، والفرق بين (عن) و (على) أن قوله: أشهدك على شهادتي تحميل
وقوله: عن شهادتي إذن في الأداء، فكأنه يقول: أدها عني، إذ لإذنه أثر في
ذلك، ألا تراه لو قال له بعد التحميل: لا تؤد عني تلك الشهادة امتنع عليه
الأداء. ومن هنا يحكى عن بعضهم ترجيح (عن) على (على) بل ناقش في
(على) بأنها تقتضي كون الشهادة مشهودا عليها، وإنما هي مشهود بها والمشهود
عليه الشاهد، ولا بد من التمييز بين المشهود به وله وعليه.
قال: لكن لا يخفى عليك ما في هذه الكلمات التي هي في الحقيقة من
اللغو، وهي بالعامة أليق منها بالخاصة، ضرورة كون المراد واضحا ونصوص
المقام مملوءة من لفظ (الشهادة على الشهادة).
قلت: والأولى هو التفصيل بين ما إذا قال: أشهد. فلفظ (عن) وما إذا
قال أشهدتك فلفظ (على).
هذا، وقد ألحقوا بالتحمل بالاسترعاء ما إذا سمعه يسترعي شاهدا آخر.
وذكر المحقق المرتبة الثانية بقوله: (واخفض منه أن يسمعه يشهد عند
الحاكم، إذ لا ريب في تصريحه هناك بالشهادة).
ففي هذه الصورة بجوز للفرع أن يتحمل الشهادة استرعاه الأصل أو لم
يسترعه، لصدق كونها شهادة على شهادة، وانتفاء احتمال الوعد والتساهل،
قال في الكفاية: وهذا هو المشهور. ويظهر من كلام ابن الجنيد المخالفة في
ذلك)، لأنه خص القبول بالاسترعاء، وهو كما في الجواهر واضح الضعف
ضرورة عدم اعتبار التحميل في صحة التحمل، لاطلاق أدلة المقام وغيرها.
وذكر المحقق قده المرتبة الثالثة بقوله: (ويليه أن يسمعه يقول: أنا أشهد
على فلان بن فلان لفلان بن فلان بكذا. أو يذكر السبب، مثل أن يقول:

355
من ثمن ثوب أو عقار، إذ هي صورة جزم، وفيه تردد.
أما لو لم يذكر سبب الحق بل اقتصر على قوله: أشهد لفلان على فلان بكذا
لم يصر متحملا، لاعتياد التسامح بمثله.
وفي الفرق بين هذه وبين ذكر السبب اشكال، ففي صورة الاسترعاء يقول:
أشهدني فلان على شهادته، وفي صورة سماعه عند الحاكم يقول: أشهد أن
فلانا شهد عند الحاكم بكذا، وفي صورة السماع لا عنده يقول: أشهد أن
فلانا شهد على فلان لفلان بكذا بسبب كذا).
أقول: قد ذكر الشيخ ومن تبعه الصورة الثالثة جازمين بالقبول فيها، لأن الاستناد
إلى السبب يقطع احتمال الوعد والتساهل والتسامح، وتردد المحقق وتبعه العلامة
بين القبول هنا لما ذكر وعدم القبول لما ذكره الشيخ وجها لما لو لم يذكر السبب
فلا يقبل وهو اعتياد التسامح بمثله. ومن هنا أشكل في الفرق بين صورتي ذكر
السبب وعدم ذكره، فإن كان المانع من التسامح هو العدالة في الشاهد
فالمفروض وجودها في الصورة الأخيرة أيضا، فالواجب إما القبول في كلتيهما
أو الرد كذلك، لكن الأول بعيد بل لم يقل به أحد فيتعين الثاني.
قال في الرياض: والتحقيق أن يقال: إن هذه المراتب خالية عن النص كما
ذكره الحلي مترددا به فيها بعد أن نقلها عن المبسوط، فينبغي الرجوع إلى
مقتضى الأصول، وهو ما قدمناه من اعتبار علم الفرع بشهادة الأصل، من دون
فرق بين الصور المتقدمة، حتى لو فرض عدمه في صورة الاسترعاء وإن بعد
باحتمال إرادة الأصل منه المزاح ونحوه لم يجز أداء الشهادة على شهادته،
ولو فرض حصوله في الصورة الرابعة التي هي عندهم أدونها جاز بل وجب.
وبالجملة: لا بد من العلم بشهادة الأصل، فحيثما حصل تبع وحيث لا فلا.
وإلى هذا يشير كلام الفاضل المقداد في الشرح حيث قال بعد أن نقل من

356
الماتن التردد في المرتبة الثالثة: والأجود أنه إن حصلت قرينة دالة على عدم
الجزم والتسامح قبلت، وإن حصلت قرينة على خلافه كمزاح أو خصومة لم
تقبل.
وأظهر منه كلام المقدس الأردبيلي فإنه قال بعد ذكر التردد ووجهه: إن
الأقوى أنه إن تيقن عدم التسامح صار متحملا وإلا فلا.
وفي الكفاية في المرتبة الثالثة: ولو فرض أن الفرع يجوز المساهلة
المذكورة على الأصل لم يكن له أن يشهد. وقال في الرابعة: ولو فرض انتفاء
الاحتمالين كان له الشهادة.
قلت: إن الملاك هو يقين الفرع كما ذكروا، وذلك يحصل بسماعه الشهادة
من الأصل مع الإرادة الجدية منه، لأن لفظة (أشهد) موضوعة للشهادة وظاهرة
فيه، من دون حاجة إلى قرينة أو شئ آخر، وهذا الظاهر محكم في كل
مورد، لا سيما في كلمات العدول من الناس الذين يعلمون بترتب الآثار على
كلماتهم، واستعمال اللفظ في معناه الموضوع له الظاهر فيه لا يحتاج إلى قرينة
كما في كلمات بعضهم، والعقلاء العدول لا يتسامحون في مثل هده المواضع
أصلا، وكيف يتصور أن يتسامح عادل فيشهد بشئ لا عن إرادة جدية مع علمه
بترتب الآثار الشرعية على الكلام الصادر منه؟
وعلى هذا الأساس يؤخذ الانسان بما أقر به، فإنه ليس من عادتهم المزاح
والمسامحة في مقام الاقرار.
فالميزان أن يصدق على ما قاله الأصل وسمعه الفرع (الشهادة) عند العرف
فيكون الأصل شاهدا والسامع متحملا لتلك الشهادة. والشهادة على الشهادة
مقبولة في كل مورد صدق فيه هذا العنوان عند أهل العرف.
فظهر أنه لا حاجة إلى أن يقول في صورة الاسترعاء: (أشهدني فلان على

357
شهادته) وفي صورة سماعه عند الحاكم أشهد أن فلانا. وفي صورة السماع
لا عند الحاكم: أشهد أن فلانا.. بسبب كذا. وإن لم تكن عبارة المحقق
ظاهرة في وجوب الأداء عليه كذلك، لكن في المسالك التصريح بذلك حيث
قال: (يجب على الفرع عند أداء الشهادة تبيين جهة التحمل، لأن الغالب
على الناس الجهل بطريق التحمل، فربما استند إلى سبب لا يجوز التحمل به
فإذا ذكر السبب زال الريب والاختلاف في المراتب كما عرفت، فربما أطلق
الشهادة وكانت مستندة إلى وجه يجوز عنده لا عند الحاكم.).
وفيه مضافا إلى عدم الدليل عليه، بل مقتضى اطلاق النصوص خلافه: أنه
إذا كان كذلك لزم على الشاهد على وقوع البيع أو الطلاق مثلا العلم بجميع
أحكام البيع أو الطلاق والأدلاء بها لدى الشهادة، وهذا مما لا يقول به أحد.
5 - في أنه متى تقبل الشهادة على الشهادة؟
قال المحقق قدس سره: (ولا تقبل شهادة الفرع إلا عند تعذر حضور
شاهد الأصل، ويتحقق العذر بالمرض وما مائلة، وبالغيبة ولا تقدير لها وضابطه:
مراعاة المشقة على شاهد الأصل في حضوره).
أقول: قال: الشيخ في الخلاف: (الظاهر من المذهب أنه لا يقبل شهادة
الفرع مع تمكن حضور شاهد الأصل، وإنما يجوز ذلك مع تعذره، إما بالموت
أو بالمرض المانع من الحضور أو الغيبة.
وبه قال الفقهاء إلا أنهم اختلفوا في حد الغيبة فقال أبو حنيفة: ما يقصر فيه
الصلاة وهو ثلاثة أيام. وقال أبو يوسف: هو ما لا يمكنه أن يحضر معه ويقيم
الشهادة ويعدو فيبيت في منزله. وقال الشافعي: الاعتبار بالمشقة فإن كان عليه
مشقة في الحضور حكم بشهادة الفرع وإن لم تكن مشقة لم يحكم، والمشقة

358
قريب مما قال أبو يوسف.
وفي أصحابنا من قال يجوز أن يحكم بذلك مع الامكان.
دليلنا على الأول أنه اجماع. والثاني فيه خلاف، والدليل على جوازه
أن الأصل جواز قبول الشهادة على الشهادة، وتخصيصها بوقت دون وقت أو
على وجه دون وجه يحتاج إلى دليل. وأيضا: روى أصحابنا أنه إذا اجتمع
شاهد الأصل وشاهد الفرع واختلفا فإنه تقبل شهادة أعدلهما، حتى أن في
أصحابنا من قال تقبل شهادة الفرع وتسقط شهادة الأصل، لأنه (1) يصير الأصل مدعى
عليه والفرع بينة المدعي للشهادة على الأصل).
هذه عبارة الشيخ في الخلاف، فههنا بحثان:
الأول: في أنه هل تقبل شهادة الفرع مع حضور الأصل أو لا تقبل إلا
عنده تعذره؟
المشهور كما في المسالك والكفاية وغير هما هو الثاني، بل في عبارة
الشيخ أنه الظاهر من المذهب، ثم دعوى الاجماع عليه. والدليل عليه خبر
محمد بن مسلم، وضعفه إن كان منجبر بما عرفت.
وقد نقل الشيخ الأول عن بعض أصحابنا ولم يذكر القائل، وفي الدروس
والمسالك: إن الشيخ قد مال إلى هذا القول، قال في المستند: (لعله لنقله



(1) لا يقال: بأنه في هذه الصورة يكون الفرع مدعيا والأصل مدعى عليه،
ومقتضى القاعدة توجه اليمين على الأصل لا تقدم الفرع.
لأنه يقول: المدعي على الأصل ليس الفرع بل صاحب الحق، إذ يدعي
على الأصل شهادته للقضية، فإذا أنكر الأصل كان الفرع بينة لصاحب الحق،
فيتقدم الفرع على الأصل.
359
دليل عدم الاشتراط والسكوت عنه، وفي دلالته على الميل تأمل).
وفي المستند عن الدروس نسبته إلى الإسكافي، قال: وفيه نظر، كيف
وصرح الإسكافي بالاشتراط.
وفي الكفاية أنه المنقول عن علي بن بابويه، وتنظر في المستند في النسبة
بعد نقلها عن الأردبيلي بقوله: إنه أيضا لم يذكر قبول شهادة الثاني
بعد انكار الأول.
والحاصل أنه لم يظهر قائل بهذا القول من المتقدمين، نعم عن كاشف اللثام
أن (الأقوى عدم الاشتراط لضعف هذه الأدلة والأصل القبول) ثم نقل بعض
ما ذكره الشيخ في الخلاف عن بعض الأصحاب.
وأجاب عنه في الجواهر بقوله: وفيه أنه يكفي في قطع الأصل خبر محمد
ابن مسلم المتقدم المنجبر بالاجماع المحكي المعتضد بالشهرة العظيمة، أو
الاجماع المحصل.
وبما قيل من أن الفرع أضعف ولا جهة للعدول إليه عن الأقوى إذا أمكن،
ومن الافتقار إلى البحث عن الأصل والفرع جميعا، وهو زيادة مؤنة. وإن كانا
هما كما ترى.
أقول: وجه الاشكال في هذين الدليلين أنه لا شبهة في أن أمارية الأصل
أقوى، ولكن الأقوائية وإن كانت مرجحة عند التعارض لا توجب سقوط
الطرف الآخر عن الحجية حيث لا معارضة. وأما المؤنة الزائدة فللقائل بقبول
الفرع مع وجود الأصل الالتزام بها.
قال: وبما سمعته من الأدلة على وجوب الإقامة على شاهد الأصل.
أقول: وفيه أنه إن كان تحمله لا عن دعوة فهو بالخيار، وإن كان عن دعوة
فإن المفروض تحقق الغرض بشهادة الفرع.

360
فظهر أن العمدة في الجواب عما ذكره كاشف اللثام هو الخبر بناءا على
جبر عمل المشهور لضعفه، مضافا إلى أن المرتكز في أذهان العقلاء وعليه
سيرتهم هو تقديم الأصل على الفرع في هذه الصورة، لأن موضوع الأصول
والأمارات هو (الشك) لكن ليس كل شك موضوعا عندهم لاجراء الأصل
والرجوع إلى الأمارة، فمن الشك ما يرتفع بأقل التفات ومراجعة، وفي مثله
حيث يمكنهم الوصول إلى الواقع بسهولة لا يرجعون إلى الأمارة والأصل.
وعلى هذا الأساس ليس من المرتكز في أذهانهم الرجوع إلى الفرع مع
التمكن من الأصل.. ومن هنا يمكن دعوى انصراف أدلة حجية الشهادة على
الشهادة عن هكذا مورد، ولا أقل من الشك في شمولها له.
فتخلص أن الأقوى هو القول المشهور.
هذا كله بالنسبة إلى البحث الأول.
وأما البحث الثاني ففي ضابط العذر. وضابطه كما ذكر المحقق وغيره
بل ادعي عليه الاجماع هو مراعاة المشقة. لخبر محمد بن مسلم المذكور
سابقا، خلافا للعامة الذين اختلفوا على أقوال ذكرها الشيخ.
6 - في أحكام تتعلق بالأصل والفرع، وهي في فروع:
الفرع الأول: لو شهد شاهد الفرع فأنكر الأصل، فالمروي هو العمل
بشهادة أعدلهما، فإن تساويا أطرح الفرع. وهذه نصوص ما روي في هذا الفرع
عن الوسائل:
1 - الصدوق.. عن عبد الرحمن بي أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه
السلام: (في رجل شهد على شهادة رجل، فجاء رجل فقال: إني لم أشهده (1). قال:



(1) الظاهر أنه من الأفعال، وهكذا قرأته في محضر السيد الأستاذ دام ظله
ثم رأينا المجلسي قدس سره يقول: (قوله: لم أشهده. أي أعلم أنه كاذب
في ما ينسب إلي، أو لا أعلم الآن حقيقة ما يقول. ويمكن أن يقرأ من بلب
الأفعال، ولعله أظهر كما فهمه القوم) فيكون الخبر واردا في خصوص صورة
الاسترعاء. لكن الأصحاب فرضوا البحث في الصور الثلاث جميعا - وإن كان
عبارة بعضهم كعلي بن بابويه على طبق النص - ولعله لعدم القول بالفصل أو
للقطع بالمناط.
لكن السيد الأستاذ رجح الوجه الأول، وأن مرجع الضمير هو (ما ينسب
إليه) مثلا. لكون هذا الوجه هو المناسب لبحث الفقهاء.
361
تجوز شهادة أعدلهما، وإن كانت عدالتهما واحدة لم تجز شهادته) (1).
2 - الشيخ. عن عبد الرحمن قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن رجل شهد شهادة على شهادة آخر فقال: لم أشهده. فقال: تجوز شهادة
أعدلهما) (2).
3 - الشيخ.. عن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام: (في رجل شهد
على شهادة رجل، فجاء الرجل فقال: لم أشهده. قال فقال: تجوز شهادة أعدلهما
ولو كان أعدلهما واحدا لم تجز شهادته) قال صاحب الوسائل:
(ورواه الكليني عن علي بن إبراهيم إلا أنه قال: لم تجز شهادته عدالة
فيهما) (3).
لكن المشهور أن الشرط في قبول شهادة الفرع هو تعذر الأصل عملا
بخبر محمد بن مسلم كما عرفت ذلك في الجهة السابقة، ومن هنا أشكل عليهم



(1) وسائل الشيعة 18 / 299 الباب 46 شهادات. صحيح.
(2) وسائل الشيعة 18 / 299 الباب 46. صحيح.
(3) وسائل الشيعة 18 / 299 الباب 46. صحيح.
362
أمر النسبة بين ذلك الخبر وخبري عبد الرحمن وابن سنان المذكورين، قال
المحقق:
(ولو شهد شاهد الفرع فأنكر الأصل فالمروي العمل بشهادة أعدلهما،
فإن تساويا أطرح الفرع. ويشكل بما أن الشرط في قبول الفرع عدم الأصل).
واختلفت كلماتهم في هذا المقام:
فمنهم من عمل بالخبرين في هذه الصورة، وأفتى بمضمونهما، كالصدوقين
والشيخ في النهاية والقاضي ابن البراج. قال الشيخ: (من شهد على شهادة
آخر وأنكر ذلك الشاهد الأول قبلت شهادة أعدلهما، فإن كانت عدالتهما سواء
طرحت شهادة الشاهد الثاني).
وقال علي بن بابويه في رسالته كما في المختلف: وإذا حضرا فشهد
أحدهما على شهادة الآخر وأنكر صاحبه أن يكون أشهده على شهادته فإنه
يقبل قول أعدلهما، فإن استويا في العدالة بطلت الشهادة) قال العلامة:
(وكذا قال ابنه الصدوق في المقنع).
ومنهم من طرح الخبرين ولم يعلم بهما لترجيح خبر محمد بن مسلم
عليهما، قال في الرياض: لأن ظاهر هما متروك من حيث اشتمالهما على شهادة
الرجل الواحد على الواحد، وهو مخالف للاجماع فتوى ونصا كما مضى.
وهذا مذهب الشيخ في المبسوط والحلي وابن زهرة والفاضلين وغيرهم،
وبالجملة أكثر المتأخرين بل المشهور مطلقا كما في المسالك وغيره، وزاد
الأول فنسبه كالشهيد في النكت إلى عامة المتأخرين، معربين عن دعوى
اجماعهم عليه. ولعله أقرب، للشهرة المرجحة للأدلة المتقدمة على هده الرواية
سيما مع ما هي عليه من الكثرة والاعتضاد من أصلها بالشهرة، بل الاجماع
كما عرفته).

363
قال في الجواهر: وعن ابن إدريس زيادة الاشكال السابق:
أولا: بأن الفرع إنما يثبت شهادة الأصل، فإذا كذ به الأصل حصل الشك
في المشهود به فكيف يحكم على وقفه.
وثانيا: بأنه إذا كذ به صار فاسقا عنده فما الفائدة في اثبات شهادته، بل
يثبت كذب أحدهما، وأيهما كذب بطلت الشهادة.
وثالثا: بأن الشاهد إذا رجع قبل الحكم لم يحكم.
ورابعا: بأن الأصل لا حكم ولا شهادة ولا بقاء الأموال عند أربابها، وهذا
حكم شرعي يحتاج في اثباته إلى دليل ".
قلت: وفيه أنه لا وجه لطرح الخبرين بعد ما سيأتي م الوجه الوجيه في
الجمع بينهما وبين خبر محمد بن مسلم. وأما اشكالات ابن إدريس فبعضها
كالاجتهاد في مقابلة النص، وبعضها غير وارد كما في الجواهر.
ومنهم من جمع بين الخبرين وخبر محمد بن مسلم ببعض الوجوه:
فمنها: بحمل الخبرين على قول الأصل: لا أعلم. قال المحقق: (وربما
أمكن لو قال الأصل: لا أعلم) وقال العلامة في القواعد: " وهو محمول على
قول الأصل: لا أعلم، أما لو جزم بكذب شاهد الفرع فإنها تطرح ".
وفي التحرير بعد عبارتي الشيخ وابن بابويه المتقدمتين: وكلاهما ليس
بجيد، بل الأولى طرح شهادة الفرع، لأن الأصل إن صدق كذب الفرع وإلا
كذب الأصل. وعلى كلا التقديرين تبطل شهادة الفرع، وتحمل الرواية التي
أفتى بها الشيخ على ما لو قال الأصل: لا أعلم ".
لكن في المسالك: واعترضه السيد عميد الدين أنه لا يمكن حينئذ العمل
بقول إلا عدل إذا كان الأصل، لأنه غير شاهد.
وأورد عليه الشهيد أيضا بأن ذلك غير منطوق الرواية، لتضمنها قوله: لم
أشهده.

364
وأورد عليه في الجواهر أيضا بقوله: لكنه كما ترى، إذ هو مع منافاته
للمشهور بين الأصحاب من عدم قبول شهادة الفرع مع حضور شاهد الأصل
الذي هو أعم من إقامتها أو تركها لعدم العلم بها، لا شاهد له.. "
ومنها: بحمل الخبرين على ما إذا أنكر بعد الحكم، والخبر السابق على
ما إذا أنكر قبله قال ابن حمزة: إذا شهد الفرع ثم حضر الأصل لم يخل من
وجهين: إما حكم الحاكم بشهادة الفرع أو لم يحكم، فإن حكم وصدقه الأصل
وكان عدلا نفذ حكمه، وإن كذبه وتساويا في العدالة نقض الحكم، وإن تفاوتا
أخذ بقول أعدلهما. وإن لم يحكم بقوله سمع من الأصل وحكم به.
وقال العلامة في المختلف بعد خبر ابن سنان: والجواب الحمل على ما
إذا أنكر بعد الحكم، فإنه لا يقدح في الحكم حينئذ بشهادة أعدلهما اعتبارا
بقوة الظن. أما قبل الحكم فإن شهادة الفرع تبطل قطعا.
قال في الجواهر: لكن فيه أنه لا شاهد لهذا الجمع، بل ظاهر ما تسمعه
من المصنف وغيره تقييد جميع الأدلة المزبورة بعكس ذلك، معربين عن عدم
الخلاف في عدم الالتفات إلى الانكار بعد الحكم معللين بنفوذه، فيستصحب
بل نسبه الأردبيلي إلى الأصحاب، مؤذنا بدعوى الاجماع عليه، فلا اشكال
حينئذ في فساده ".
هذا ولا يرد على الاستصحاب المذكور ما قيل (1) من أنه كيف يجري
الاستصحاب مع وجود الدليل الاجتهادي، لوضوح إن تقدم الدليل الاجتهادي
على الأصل يكون في صورة عدم وجود المعارض له.
ومنها: بأن الخبرين واردان في مورد انكار الأصل، وخبر محمد بن مسلم
يفيد اشتراط قبول شهادة الفرع بعدم شهادة الأصل. قال في المسالك عن الشهيد



(1) جامع المدارك 6 / 155.
365
أنه " وجهها أي رواية ابن سنان بأنه لا يلزم من أنه يشترط في احضار شاهد
الفرع تعذر الأصل أن يكون ذلك في السماع. سلمنا لكن المراد: إذا كان
الأصل والفرع متفقين فإنه حينئذ لا يحتاج إلى شهادة الفرع، للاستغناء بالأصل
وزيادة الكلفة بالبحث عن الجرح والتعديل. أما مع التناكر فيمتنع تناول
العبارة له، وبالجملة: فهم لم يصرحوا بأن ذلك مناف لشهادة الفرع، بل ظاهر
كلامهم إن سماع شهادة الفرع مشروط بتعذر شاهد الأصل إذا كان يشهد. والمنكر
لم يشهد ".
أقول: وكلا الوجهين في كلامه خلاف الظاهر. أما الأول فلأن ظاهر
الشهادة أن يشهد الشاهد لأن تقبل شهادته ويرتب الأثر عليها، وهو ظاهر قوله
عليه السلام في خبر ابن مسلم " لا بأس به ".
وأما الثاني فلأنه إذا كانا متفقين فلا حاجة إلى شهادة الفرع، لا أنه يتقدم
شهادة الأصل على شهادته.
ومنها: الجمع بين الطرفين بأن الخبرين ظاهران في حضور الأصل بعد
الشهادة من الفرع، وظاهر خبر ابن مسلم حضوره قبلها، وهذا الجمع هو الأولى
لابتنائه على ظواهر هذه الأخبار، والموجب لبقاء جميعها على الاعتبار، فإن
خبر محمد بن مسلم قد عمل به المشهور، والخبران جامعان لشرائط الحجية،
وقد عمل بهما الأصحاب بالجملة كما في الجواهر. ولازم القبول بعد الشهادة
وقوع التعارض فيؤخذ بقول الأعدل منهما. ووقوع المعارضة بين شهادة
الواحد وشهادة الاثنين تعبد.
ثم قال في الجواهر: إنه بناء على العمل بالخبرين المزبورين يمكن
دعوى الاستفادة من فحواهما جريان الترجيح بذلك في التعارض بين شهود
الفرع أيضا، بمعنى أن كلا من شهود فرع عن أصل قد شهد بعكس الآخر عن

366
الأصل، وحينئذ فيقدم الأعدل، ومع التساوي يطرح، لعدم ثبوت شهادة الأصل
نحو ما سمعته في السابق، ضرورة أولوية صورة تعارض الفروع من تعارض
الأصل والفرع بذلك.
قلت: إن الخبرين واردان على خلاف القاعدة، فلا مجال للأولوية،
وعلى هذا فلا مانع من ترجيح الأكثر عددا إن كان المعنى في تعارض البينات
ذلك. هذا أولا.
وثانيا: إن الحكم الوارد في التعارض بين المنكر والمثبت لا وجه لاسرائه
إلى صورة التعارض بين المثبتين.
وهل يشترط في الترجيح بالأعدلية كون كليهما أعدل أو يكفي للترجيح
وجود الواحد الأعدل في أحد الطرفين؟ فيه تردد، لكن الأول هو القدر المتيقن
فيكون الأصل في غيره عدم الترجيح.
الفرع الثاني: قال المحقق قدس سره: " (ولو شهد الفرعان ثم حضر
شاهد الأصل، فإن كان بعد الحكم لم يقدح في الحكم وافقا أو خالفا، وإن
كان قبله سقط اعتبار الفرع وبقي الحكم لشاهد الأصل).
أقول: في الفرع صورتان:
إحداهما: أن يشهد الفرعان ثم يحضر شاهد بعد الحكم. قال المحقق في
هذه الصورة: لم يقدح في الحكم وافقا أو خالفا. واستدل له في الجواهر
بأصالة الصحة واستصحابها وغيرهما.
قلت: إن كان المراد من أصالة الصحة هو الأصل الذي يجري في أفعال
الآخرين فلا مجرى له هنا. نعم إذا شك في الحكم في أنه هل صدر مع غيبة
الأصل أو حضوره حمل على الصحة، ولكن المفروض العلم بالغيبة حين
الحكم.

367
وأما الرجوع إلى الاستصحاب ففيه: أنه إذا كان قد أخذ تعذر حضور الأصل
شرطا متأخرا في قبول شهادة الفرع وقع الشك في صحة الحكم، فلا يقين
بالصحة حتى يستصحب.
فالأولى أن يقال بأن النصوص بعد الجمع بينها كما عرفت دلت على
تقدم قول الأصل لو حضر قبل الحكم، وأما بالنسبة إلى بعد الحكم فهي ساكتة،
فيكون المرجع أدلة نفوذ حكم الحاكم.
الفرع الثالث: لو شك الحاكم في حضور الأصل وعدمه، لم يسمع
شهادة الفرع، لأن العلم بعدم حضوره شرط في صحة شهادة الفرع.
الفرع الرابع: لو حكم بانيا علي تعذر حضور الأصل ثم ظهر كونه
حاضرا أو امكان حضوره نقض الحكم. كسائر موارد الخطأ والاشتباه، كما لو
حكم اعتمادا على شهادة رجلين معتقدا عدالتهما ثم ظهر كونهما فاسقين عند
الشهادة.
الفرع الخامس: قال المحقق: (ولو تغيرت حال الأصل بفسق أو كفر
لم يحكم بالفرع، لأن الحكم مستند إلى شهادة الأصل).
أقول: لو تغيرت حال الأصل، فإن كان بجنون مثلا لم يقدح، وإن كان
بفسق لم يحكم بالفرع، هكذا قالوا، ووجهوا هذا التفصيل بوجهين:
أحدهما: إن الفسق قادح، وفي هذه الحالة يصدق وقوع الحاكم بشهادة
الفاسق، لأن الفرع إنما يؤدي شهادة الأصل، والحكم مستند إلى شهادة الأصل
دون الفرع.
لكن هذا القدر لا يكفي فارقا بين الموردين.
والثاني: إن الفسق يورث الريبة في عدالته حين الشهادة.
وفيه: إن اللازم هو العدالة حين الأداء، فإذا أدى الأصل الشهادة عند

368
الحاكم وهو عادل، فسمع الفرع شهادته وشهد بها فيما بعد، فقد شهد بالشهادة
التي أداها الأصل في حال العدالة، فأي قدح لفسقه الطارئ بعد ذلك؟
فظهر أن كلا الوجهين لا يصلحان للفرق.
وتفصيل المطلب أنه: إن ظهر بطلان شهادة الأصل عند أداء الفرع،
فلا ريب في بطلان شهادة الفرع، بل يمكن دعوى الاجماع عليه، إذ ليس
الإسكافي وجامع المقاصد مخالفين في ذلك، فإنهما يقولان بعدم بطلان الحكم
لو رجع الأصل عن شهادته بعد الحكم، وذاك بحث آخر.
وإن شهد الشاهد مع العدالة ثم طرأ الفسق قبل الحكم فهل يوجب بطلان
شهادته؟ فيه قولان كما سيأتي، وقد أرسل الشيخ في الخلاف القبول ارسال
المسلم حيث قال: إذا شهد عدلان عند الحاكم بحق ثم فسقا قبل أن يحكم
بشهادتهما حكم بشهادتهما ولم يرده، وبه قال أبو ثور والمزني، وقال باقي
الفقهاء لا يحكم بشهادتهما.
دليلنا: إن الاعتبار بالعدالة حين الشهادة لا حين الحكم، فإذا كانا عدلين
حين الشهادة وجب الحكم بشهادتهما. وأيضا إذا شهدا وهما عدلان وجب
الحكم. بشهادتهما، فمن قال إذا فسقا بطل هذا الوجوب فعليه الدلالة.
وقال العلامة في المختلف بعد نقله عبارة الشيخ: والأقرب عندي عدم
الحكم لنا: إنهما فاسقان حال الحكم فلا يجوز الحكم بشهادتهما، كما لو رجعا
وكما لو كانا وارثين ومات المشهود له قبل الحكم، ولأن تطرق الفسق يضعف
ظن العدالة السابقة الخفية. فكان الاحتياط بترك الشهادة.
واستدلال الشيخ مصادرة، لأنه ادعى أن الاعتبار بالعدالة حين الشهادة
لا حين الحكم وهو عين المتنازع. وقوله: إذا شهدا وهما عدلان وجب الحكم
بشهادتهما ليس على اطلاقه فإنه المتنازع، بل إذا استمرت العدالة إلى وقت

369
الحكم. أما إذا خرجا عن هذا الوصف فإنه المتنازع.
قلت: أما قوله: إنهما فاسقان حال الحكم فلا يجوز الحكم بشهادتهما
مصادرة، لأن عدم القبول أول الدعوى، والتنظير بالرجوع. قياس مع الفارق
لأن أثر الرجوع بطلان كشف الخبر عن الواقع من أول الأمر، وبعبارة
أخرى: الرجوع يجعل الخبر كالعدم، بخلاف الفسق بعد أداء الشهادة فإنه
لا يضر بالشهادة التي قبله.
وأما قوله " ولأن تطرق الفسق يضعف ظن العدالة، ففيه أن ضعف الظن
بالعدالة غير قادح، وإن كان المراد ما ذكره الجواهر فقد عرفت ما فيه.
وكون الاحتياط بترك الشهادة ضعيف، لأن المقام من دوران الأمر بين
المحذورين، لأنه إذا لم تقبل هذه الشهادة ضاع حق المشهود له، وإن قبلت
ضاع حق المشهود عليه، فلا مجال للاحتياط الذي ذكره.
وأما ما ذكره بالنسبة إلى كلام الشيخ، فيمكن أن يقال في الجواب بأن
ما ذكره الشيخ مبني على الاستظهار من آية النبأ، فإن المشتق ظاهر في التلبس
حال الفعل، أي الفاسق حين مجيئه بالنبأ، فيكون المفهوم أنه إذا لم يكن
فاسقا حين المجئ به لا يجب التبين، وإن فسق من قبل أو بعد، نعم قد يقال:
بأن المراد وجوب التبين من خبر من كان فاسقا في زمان مطلقا، نظير قولهم في
قوله تعالى: ولا ينال عهدي الظالمين.
وأما صاحب الجواهر فقد مال في كتاب القضاء إلى عدم نقض الحكم
بعروض الفسق عليه بعد الشهادة. فبين كلامه هناك وما ذكره هنا تناف.
إنما الكلام في أنه لو تغير حاله بعد الشهادة التي سمعها الفرع منه فأراد
الفرع أدائها عند الحاكم كما سمعها، فهل تقبل منه كما تقبل فيما لو تغير
حال الأصل بعد الشهادة عند الحاكم، أو تقبل؟

370
قد فرق الشيخ بينهما في المبسوط حيث عنون المسألة كما نقلناه عن
الخلاف وقال بالقبول ثم قال: وإذا فسق الأصل قبل شهادة الفرع عند الحاكم
لا تقبل، لأن الشرط العدالة عند الشهادة عند الحاكم، وشهادة الفرع هنا مستندة
إلى شهادة الأصل، فكأن الأصل عند الأداء عند الحاكم فاسق، وهذا نص
كلامه: " وإن سمع الحاكم من الفرع في الموضع الذي يسوغ له أن يسمع
ويحكم بشهادته ثم تغيرت حال الأصل كان الحكم فيه كما لو سمع من الأصل
نفسه ثم تغيرت حاله.
فإن فسق الأصل لم يحكم بشهادة الفرع، لأنه لو سمع من الأصل ثم
فسق لم يحكم بشهادته، لأن الفرع يثبت شهادة الأصل، فإذا فسق الأصل لم
يكن هناك ما يثبته ".
وأضاف في الجواهر: حتى على قول العامة بالنيابة، فإنه إذا بطل حكم شهادة
المنوب بنحو ذلك بطل حكم شهادة النائب.
قال: بلا خلاف أجده في شئ من ذلك، إلا ما سمعته من ابن حمزة والفاضل
في المختلف من الحكم بأعدلهما لو اختلف الأصل والفرع بعد الحكم (1).
قلت: أما تفريق الشيخ بين ما إذا تغير حال الأصل بعد الأداء عند الحاكم
فتقبل، وبين ما إذا كان الأداء لا عند الحكم فلا تقبل فلم نعرف له وجها، كما
لم نعرف الوجه في التفريق بين فسق الأصل عند أداء الفرع عند الحاكم فلا
تقبل، وبين جنونه عند ذاك فتقبل، فإنه إذا كان وجه القبول في الأول كونه
عاقلا حين شهادته عند الفرع، فلا يضر جنونه الطارئ عند أداء الفرع الشهادة



(1) قلت: إن خلافهما في الصغرى دون الكبرى، وهو أنه إذا فسد الأصل
فسد الفرع، بل يقولان بعدم الفساد في هذه الحالة.
371
عند الحاكم، فليكن الأمر كذلك فيما لو تغير حاله من العدالة إلى الفسق.
قال في الجواهر: اللهم إلا أن يقال إن ظاهر الأدلة كون الفسق مقتضيا
لعدم القبول بخلاف الجنون والاغماء، فإن أقصاهما عدم قبول شهادتهما.
فتأمل جيدا.
لكنه غير واضح، لأن اللام لا تعمل فيما قبلها، وإلا فإنه يأتي نفس الكلام
في الجنون والاغماء أيضا. ولعل هذا وجه التأمل الذي أمر به.
أقول: لعل الفرق هو: أن دليل بطلان شهادة المجنون والمغمى عليه هو
السيرة العقلائية غير المردوعة، فهم يشترطون العقل عند الأداء للشهادة، فإذا
شهد في حال العقل والإفاقة ثم طرء الجنون والاغماء لم يقدح ذلك في قبول
الشهادة السابقة. وأما الفاسق فقد يعتمد بعض الناس على اخباره أو شهادته،
فكانت آية النبأ رادعة عن ذلك، فتكون الآية دليلا لعدم القبول فيما نحن فيه
بدعوى اطلاق الأمر بالتبين ليشمل بعد الأداء أيضا.
قال في الجواهر: " نعم لو طرأ الجنون أو الاغماء لم يؤثر بناءا على عدم
قدح طرو ذلك في شاهد الأصل بعد إقامتها، وكذا العمى وإن افتقر أداء الشهادة
إلى البصر، للاستغناء هنا ببصر الفرع، ضرورة كون هذه الطوارئ كالموت ".
أقول: إن البصر ليس شرطا في وقت الأداء، بل هو شرط في التحمل
فيما لا يتحقق الشهادة فيه إلا بالبصر، وحيث يعلم الفرع بتحمل الأصل له في
حال البصر يشهد بما شهد به الأصل، وإن كان عند سماع الفرع منه فاقدا له،
وحينئذ فلا مجال للتعليل بالاستغناء ببصر الفرع.
وعلى كل حال فلو فرض زوال الموانع الطارئة قبل الشهادة عليه فهل
للفرع أن يشهد بالتحمل أم يحتاج إلى تحمل جديد بناءا على انعطاف الريبة
إلى حالة التحمل؟ فيه وجهان ناشئان من كونه عدلا عند الشهادة عليه وعند

372
أدائها، ومن الريبة المذكورة. كذا في المسالك. لكن في الجواهر: اختار
عدم اعتبار تجديد التحمل، قال: لعدم اقتضاء طروها حصولها في السابق
الذي منه حال التحمل شرعا ولا عرفا. والمفروض كونه جامعا حال التحمل،
فلا يقدح طرو الأمور المزبورة بعد في حال فرض زوالها في ما قبله، لاطلاق
أدلة القبول.
قلت: إن العمدة هي الاستظهار من الأدلة، فإن قلنا بعدم دلالتها على اشتراط
بقاء الأصل على حال سماع الفرع منه إلى حين شهادة الفرع فلا كلام، وإن
قلنا بدلالتها على اشتراط عدم فسقه بعد الشهادة إلى حين أداء الفرع، وإن العدالة
يجب استمرارها، فإن تحقق الفسق يؤثر وإن زال قبل الأداء لانقطاع الاستمرار.
ومقتضى ظاهر آية النبأ هو الأول. والله العالم.
7 - الكلام في شهادة النساء على الشهادة
قال المحقق قدس سره: (وتقبل شهادة النساء على الشهادة في ما تقبل
فيه شهادة النساء منفردات (1)، كالعيوب الباطنة والاستهلال والوصية، وفيه تردد
أشبهه المنع).
أقول: قال في المسالك: اعلم أن قول المصنف تقبل شهادة النساء. الخ.
يدل على أن مورد الخلاف شهادتهن عليهن في موضع ينفردن بالشهادة، فيخرج
من ذلك ما لو كان في موضعهن رجال حيث بجوز انفرادهن، فإن الشهادة في
هذا المحل لا يختص بهن بل يجوز بالرجال أيضا بطريق أولى.



(1) قوله: منفردات. يمكن أن يكون المراد قبول شهادتهن من دون حاجة
إلى ضم الرجال، وإن كان مما تقبل فيه شهادة الرجال، ويشهد بذلك ذكره
للوصية.
373
ويخرج من ذلك أيضا ما لو كان المحل مما يقبل فيه شهادتهن منضمات
سواء شهدت فرعا على النساء أم على الرجال.
وفي النافع جعل مورد الخلاف شهادتهن على الشهادة في الموضع الذي
يقبل فيه شهادتهن، وهو شامل لجميع هذه الموارد. وبهذا صرح جماعة منهم
الشهيد في الشرح والعلامة في المختلف وهو الحق.
وعلى هذا فموضع القول بالجواز شهادتهن على الشهادة فيما لهن فيه مدخل
سواء شهدن على مثلهن أم على الرجال، وحينئذ فيشهد على شاهد أربع نساء
سواء كان المشهود عليه رجلا أم امرأة، فلو كن أربع نساء شهد عليهن ست
عشرة امرأة إن لم يشتركن في الشهادة على أزيد من واحدة. وإلا أمكن الاجتزاء
بالأربع، كما مر في شهادة الرجلين.
إذا عرفت هذا ففي المسألة قولان:
أحدهما الجواز. ذهب إليه الشيخ في الخلاف، وقواه في المبسوط لكنه
جعل الآخر أحوط، وابن الجنيد والعلامة في المختلف.
والثاني المنع. ذهب إليه الشيخ في موضع من المبسوط وابن إدريس
والعلامة في غير المختلف، والمحقق هنا.
وتردد المحقق في النافع، وكذا العلامة في الارشاد.
وجه الأول: قال الشيخ في الخلاف: " لا تقبل شهادة النساء على الشهادة
إلا في الديون والاملاك والعقود. وقال قوم لا تقبل شهادة النساء على الشهادة
بحال في جميع الأشياء. دليلنا: اجماع الفرقة وأخبارهم ".
قال العلامة: والوجه ما قاله الشيخ في الخلاف. لنا: عموم قول علي
عليه السلام: شهادة النساء لا تجوز في طلاق ولا نكاح ولا في حدود إلا في
الديون وما لا يستطيع الرجال النظر إليه. فإن ذلك شامل للشهادة بالأصالة
والفرعية.

374
ولأنا قد بينا إن شهادة امرأتين تساوي شهادة الرجل، فإذا شهد رجلان
على رجل جاز أن تشهد أربع نساء على ذلك الرجل قضية للتساوي ".
وفي المسالك نسبة الاستدلال بالأصل أيضا إلى المختلف، لكنه غير موجود
في النسخة التي نقلنا منها عبارته.
قلت: أما الاجماع الذي ادعاه الشيخ ففي الجواهر نسبة القول الثاني
إلى المشهور خصوصا المتأخرين.
وأما مراده من الأخبار فقد أوضحه العلامة في المختلف، فإنه بعمومه شامل
للشهادة أصلا وفرعا، بل الثاني فهما أولى بالقبول من الأول لاستناده إلى
شهادة الأصل. فهذا هو الوجه الأول.
والوجه الثاني ما ذكره العلامة من المساواة بين شهادة المرأتين وشهادة
الرجل، المستفادة من قوله تعالى: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان.
وجه الثاني: قال في المسالك: إن المجوز له إنما هو الضرورة، أما
بضرورة الانفراد أو لفقد الرجال كما في حالة الوصية، ولا ضرورة هنا.
ولاختصاص النساء ببعض الأحكام غالبا.
وفي الجواهر: للأصل بعد ظهور النصوص السابقة في اعتبار الرجلين
في الشهادة على الشهادة، السالم عن معارضة الاطلاق المزبور الظاهر في
قبول شهادتهن عليه نفسه الذي لا تطلع عليه الرجال غالبا، لا الشهادة عليه التي
هي عكس ذلك.
والأولوية الواضحة المنع، بل والاجماع المزبور المتبين خلافه. ولذا
قال في كشف اللثام: دون ثبوته خرط القتاد. ووهنه في الرياض بندرة القائل
بمضمونه عدا الناقل ونادر.
والأخبار المرسلة التي لم نقف منها على خبر واحد كما اعترف به أيضا
بعضهم.

375
ومن هنا يقوى إرادة ما دل على قبول شهادة رجل وامرأتين منهما، لكن
كان عليه ضم الكتاب معها أيضا.
إلا أنه لا يخفى عليك ظهورها في ما لا يشمل الشهادة على الشهادة.
والتساوي المزبور لم يثبت عمومه للمفروض بوجه يقطع العذر شرعا،
خصوصا بعد عدم حجية كل ظن للمجتهد والقياس والاستحسان.
وكذا الكلام في الأخير، ضرورة عدم ثبوته على وجه يشمل الفرض
أيضا، وإلا لأجزأ الشاهد واليمين الثابت في النصوص اثباتهما لجميع حقوق
الآدميين، فهما أولى من النساء في ذلك، ولا أظن أحدا يقول به، خصوصا بعد
التصريح بعدم الاجتزاء به في الخبر السابق في إحدى النسختين. انتهى كلامه
قدس سره.
أقول: إن حاصل ما ذكر للمنع هو الجواب عما استدل به المجوزون
من النص والاجماع، وحينئذ يكون المرجع هو الأصل.
لكن فيما ذكر من الجواب تأمل، إذ يمكن أن يقال بالنسبة إلى النصوص:
أولا: إن النصوص الواردة في الشهادة على الشهادة لا وجه لتقييدها بالرجل
وإن كانت واردة في مورده ولا هي ظاهرة في اعتباره في الشهادة على
الشهادة.
وثانيا: إن أدلة قبول شهادة النساء فيما تقبل شهادتهن فيه لا ظهور لها في
صورة كونهن شاهد أصل، بل هي أعم من الشهادة ومن الشهادة على الشهادة،
كما قلنا بالنسبة إلى أدلة قبول شهادة العدل من أنها أعم من الرجل والمرأة،
ولا مقيد لهذا الاطلاق بصورة تعذر الرجل.
بل إن الشهادة على الشهادة شهادة عرفا، والخطابات الشرعية منزلة على
المفاهيم العرفية.

376
فهذا هو العمدة في الاستدلال للقول الأول، وبعد تماميته لا يبقى مجال
للرجوع إلى الأصل.
وأما الاجماع الذي ادعاه الشيخ فما ذكره الجواهر وارد عليه، لكن
يحتمل أن يكون مراد الشيخ أن الشهادة على الشهادة شهادة، فيكون فبول شهادتها
على الشهادة فيما تقبل فيه شهادتهن فيه مجمعا عليه، لأن من منع القبول فقد
خالف في كون الشهادة على الشهادة مصداقا للشهادة.
فتلخص أن الأظهر هو الأول، لعدم ظهور نصوص الشهادة على الشهادة
في اعتبار الرجولية، ولأن الشهادة على الشهادة مصداق للشهادة. والله العالم.
8 - في اعتبار تسمية الفرعين الأصل وتعديلهما إياه وفيه صور
قال المحقق قدس سره: (ثم الفرعان إن سميا الأصل وعدلاه قبل، وإن
سمياه ولم يعدلاه سمعها الحاكم وبحث عن الأصل، وحكم مع ثبوت ما
يقتضي القبول، وطرح مع ثبوت ما يمنع لو حضر وشهد، أما لو عدلاه ولم
يسمياه لم تقبل).
أقول: إن المفروض عدالة الفرعين، فتارة يسميان الأصل والأخرى لا يسميانه.
فإن سمياه وشهدا بعدالته من حين التحمل منه إلى حين الأداء فلا اشكال
ولا خلاف في قبول شهادتهما بعدالته كما تقبل شهادتهما على شهادته.
وإن سمياه وعدلاه حين الأداء مع الشهادة بفسقه حين التحمل فلا اشكال
في عدم القبول. وكذا العكس..
وإن سمياه ولم يعدلاه سمعها الحاكم وبحث عنه، وحكم مع ثبوت ما
يقتضي القبول، وطرح مع ثبوت ما يمنع لو حضر وشهد.

377
وإن سمياه وعدلاه في حالتي التحمل والأداء لكن شهدا بتخلل فسقه بينهما
فقولان.
وإن سمياه وعدلاه حين الأداء لكن ثبت فسقه حال الشهادة ولم يعلم بقاؤه
على الشهادة حال عدالته، فقال في الجواهر بطرح الحاكم الشهادة، قال:
بل يقوى اعتبار تجديد التحمل.
ويرد عليه أما نقضا بما إذا شهد العدل وشهد الفرع بشهادته وشك في بقائه
على الشهادة. وأما حلا فإنه مع الشك يستصحب بقاؤه على الشهادة ويحكم.
اللهم إلا أن يكون الوجه فيما ذكره ما تفيده آية النبأ من النهي عن ترتيب
أي أثر على خبر من جاء بالخبر في حال الفسق، بأن يكون الشهادة على
خبره أثرا من آثاره.
هذا كله لو سمياه.
ولو عدلاه ولم يسمياه بأن قالوا نشهد على شهادة عدلين أو عدول لم تقبل،
قال في الجواهر بلا خلاف أجده بيننا، واستدل له في المسالك بوجوه قائلا:
" لأن الحاكم قد يعرفهم بالجرح لو سموا، ولأنهم قد يكونون عدولا عند قوم
وفساقا عند آخرين، لأن العدالة مبنية على الظاهر، ولأن ذلك يسد باب الجرح
على الخصم ".
هذا وفي المسالك: أنه لا يشترط في شهادة الفرع تزكية شهود الأصل،
بل له اطلاق الشهادة. وكذا في الجواهر حيث قال: ليس على شهود الفرع
أن يشهدوا على صدق شهود الأصل ولا أن يعرفوا صدقهم، كما ليس عليهم
تعديلهم ".
وهل يشترط معرفة شهود الأصل بالعدالة؟
قال في الجواهر بالعدم، ثم نقل عن المفيد أنه قال: لا يجوز أن يشهد

378
على شهادة غيره إلا أن يكون عدلا عنده مرضيا " واعترضه صاحب الجواهر
بقوله: لا أعرف له وجها، نعم لا يجوز له ذلك إذا علم الكذب لأنه إعانة
على الإثم ".
قلت: بل الوجه لما ذكره المفيد هو آية النبأ بالتقريب الذي ذكرناه.
9 - في قبول الشهادة على الشهادة على الاقرار وآثر ذلك
قال المحقق قدس سره (ولو أقر باللواط أو الزنا بالعمة والخالة أو بوطئ
البهيمة، ثبت بشهادة شاهدين، وتقبل في ذلك الشهادة على الشهادة، ولا يثبت
بها حد، ويثبت انتشار حرمة النكاح.
وكذا لا يثبت التعزير في وطئ البهيمة، ويثبت تحريم الأكل في المأكولة
وفي الأخرى وجوب بيعها في بلد آخر).
أقول: إن اللواط يوجب الحد وانتشار حرمة النكاح، فمن لاط بغلام
وجب عليه الحد وحرمت عليه أمه وأخته، والزنا بالعمة والخالة يوجب الحد
وانتشار حرمة النكاح، فيحرم على الزاني ابنة العمة وابنة الخالة، وكذا الكلام
في مطلق الزنا على القول بانتشار الحرمة به والزاني بامرأة مكرها لها عليه الحد
ومهر مثلها. ووطئ البهيمة موجب للتعزير ثم الحيوان الموطوء إن كان مأكولا
حرم أكله وأكل ما يتولد منه، وينجس بوله، ويحرم لبنه، وإلا فيجب بيعه
في بلد آخر.
فإن أقر الفاعل وسمع عدلان اقراره وشهدا بما سمعا عند الحاكم وجب
الحد أو التعزير وغيرهما من الآثار، فإن شهد عدلان على شاهدين شهدا منه
الاقرار فهنا حكمان مسلمان أحدهما: قبول هذه الشهادة على الشهادة، لاطلاق
أدلة الشهادة على الشهادة. والآخر: عدم ثبوت الحد والتعزير بناء على

379
كونه من الحدود لما تقدم من عدم ثبوت الحد بالشهادة على الشهادة بالنص
والاجماع.
إنما الكلام في ثبوت الأحكام والآثار الأخرى فهل تثبت أو لا تثبت كالحد؟
وجهان كما في المسالك: من تلازم الأمرين أو الأمور وكونها معلول
علة واحدة، ولو ثبت بعضها لزم ثبوت البعض الآخر لترتب الجميع على
ثبوت أصل الفعل وهو الوطي.
ومن وجود المانع في بعضها وهو الحد بالنص والاجماع، فيبقى الباقي
لأنه حق آدمي لا مانع من اثباته بشهادة الفرع، وتلازم معلولات الأحكام المستندة
إلى علة واحدة ممنوع، ومن ثم يثبت بالشهادة على الشهادة بالسرقة المال
دون الحد، وكذا مع الشاهد والمرأتين وبالعكس.
وقد اختار المحقق وتبعه صاحبا المسالك والجواهر الأول وهو الأقوى.
فعلى هذا يثبت بشهادة الفرع حق الآدمي دون الحد، سواء كانت الشهادة
على نفس السبب وهو الزنا واللواط أم على الاقرار بذلك.
فلماذا خص المحقق قدس سره الحكم هنا بالاقرار؟
قال في المسالك: إنما فرض المصنف الحكم بالاقرار حذرا من تبعيض
حكم السبب الواحد على تقدير الشهادة بنفس الزنا مثلا، فإنه سبب في الحد
وفي نشر الحرمة، فيشكل تبعض الشهادة في أحدهما دون الآخر، بخلاف
الاقرار بالفعل فإنه ليس سببا للحد، وإنما السبب هو الفعل المقر به.
والأصح عدم الفرق ".
وقد ذكر الجواهر كلام المسالك هذا ونسبه إلى غير واحد، ثم اعترضه
بقوله: " وفيه: إن كان المراد اثبات الزنا نفسه بالشاهدين بالنسبة إلى الأحكام
دون الحد، إن ذلك لا يقتضي إلا جواز وروده من الشرع، أما مع فرض عدمه

380
وليس إلا الأدلة المزبورة فالمتجه عدم تبعض أحكام الموضوع الواحد،
خصوصا بعد قوله تعالى: فإذ لم يأتوا بالشهادة فأولئك عند الله هم الكاذبون.
الظاهر في عدم ثبوت الموضوع أصلا بدونهم، لا أنهم كاذبون بالنسبة إلى الحد
دون غيره.
أي: أنه لا يوجد عندنا دليل على أن الشهادة على الشهادة بالاقرار طريق
لثبوت الزنا من حيث نشر الحرمة، وليس طريقا لثبوته من حيث الحد، بل الدليل
لقبول الشهادة على الشهادة لسانه واحد وهو ثبوت الزنا، فيترتب عليها جميع آثاره
خصوصا بعد الآية الكريمة الظاهرة في الشهادة عن أصل الزنا لا عن الزنا من
حيث الحد وحيث لا يثبت الزنا فلا حد ولا نشر للحرمة.
ثم قال: نعم قد يقال بنحو ذلك فيما نحن فيه، لظهور الأدلة في اثبات
شهادة الفرع شهادة الأصل في غير الحد، فيتجه حينئذ التبعيض فيها، لا في
أصل الزنا لو فرض حصول شاهدين. فتأمل جيدا.
أي: أنا لا نقول كما قال صاحب المسالك وغيره، بل نقول بأن الشهادة على
الشهادة بالزنا نظير الشهادة على الشهادة بالاقرار، فإن الفرع يريد اثبات شهادة
الأصل على الزنا، كما يريد الفرع اثبات شهادة الأصل على الاقرار. فكما
أن ثبوت الاقرار أعم من وجود الزنا وعدمه كذلك وجود الشاهد عليه أعم من
تحقق الزنا منه وعدمه. إذن يثبت التبعيض مع الشهادة على الشهادة بالزنا.
أقول: وكيف كان فإن الغرض من ثبوت الزنا اثبات حكمه وترتيب آثاره، لكن
للشارع أن يرفع اليد عن بعض الآثار دون البعض الآخر، وقد قام الدليل على
رفعه اليد عن الحد، وبقيت الآثار الأخرى تحت اطلاقات أدلة قبول الشهادة
على الشهادة.
وعلى كل حال في المسالك: إن كانت الشهادة على الاقرار كفى اثنان

381
في الأصل والفرع على كل منهما، لأن الاقرار مما يثبت بالشاهدين، وقيل يتوقف
الاقرار بالزنا على أربعة كأصله. واختاره العلامة.
وإن كان شهادة الأصل على نفس الزنا اعتبر كونهم أربعة، وهل يشترط
ذلك العدد في شاهد الفرع أم يكفي على كل واحد اثنان؟ فيه وجهان. ينشئان
من أنهما شهادة على الزنا وتلك الأحكام تابعة له، وأنه لو اكتفى باثنين لكان
شهود الأصل أسوأ حالا من شهود الفرع، مع أن الظاهر العكس أو التساوي.
ومن أن المقصود هو حق الآدمي من المال وغيره وهو مما يكفي فيه اثنان،
ويمنع اشتراط مساواة شهود الفرع للأصل مطلقا، إذ لا دليل عليه.

382
(5)
اللواحق
وهي قسمان:

383
القسم الأول
(في اشتراط توارد الشاهدين على المعنى الواحد)
(وتترتب عليه مسائل)
" المسألة الأولى "
(في أن توارد الشاهدين على المعنى الواحد شرط)
قال المحقق قدس سره: (توارد الشاهدين على الشئ الواحد شرط
في القبول).
أقول: لا يخفى أن المراد توقف تحقق الشهادة على تواردهما على الشئ
الواحد، لا أنها تتحقق وتواردهما عليه شرط لقبولها.
كما يتوقف أيضا على موافقة الشهادة لدعوى المدعي، وهذا هو المراد
من قول الشهيد الثاني: لا بد في قبول الشهادة من موافقتها للدعوى.
فإذا وافقت الشهادة الدعوى وتوافق الشاهدان ولو من حيث المعنى
حكم كما قال المحقق: (فإن اتفقا معنى حكم بهما وإن اختلفا لفظا، إذ لا فرق
بين أن يقولا غصب وبين أن يقول أحدهما غصب والآخر انتزع) إذ العبرة

385
بالمعنى لا باللفظ، وقد حصل بالفعل الواحد شاهدان، ولذا لا يحكم بهما لو
اختلفا معنى كما قال المحقق: (ولا يحكم لو اختلفا معنى، مثل أن يشهد أحدهما
بالبيع والآخر بالاقرار بالبيع، لأنهما شيئا مختلفان) إذ البيع غير الاقرار
به، ولم يقم بكل منهما إلا شاهد واحد.
وكذا لو شهد أحدهما أنه غصبه من زيد وشهد الآخر أنه ملك زيد لاختلاف
المعنى، لا عمية الغصب من كونه ملكا له.
نعم يجوز للشاهدين أداء الشهادة على وجه تكون مثمرة عند الحاكم ويحكم
على طبقها، كأن يشهد بالزوجية للمعقود عليها متعة من دون اظهار لهذه الجهة
حتى يحكم الحاكم العامي بالزوجية، لكن يشترط في ذلك أن لا يبطل حقا
أو يحق باطلا، فتصح في الفرض المذكور الشهادة إن كانا حيين، وأما مع
موت الرجل فإنه إذا شهد بالزوجية حكم لها بالإرث، مع أن المتزوجة متعة
لا إرث لها.
والدليل على ذلك هو النصوص (1):
1 - داود بن الحصين قال: " سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إذا
أشهدت على شهادة فأردت أن تقيمها فغيرها كيف شئت ورتبها وصححها بما
استطعت، حتى يصح الشئ لصاحب الحق بعد أن لا تكون تشهد إلا بحقه،
ولا تزيد في نفس الحق ما ليس بحق، فإنما الشاهد يبطل الحق ويحق الحق،
وبالشاهد يوجب الحق، وبالشاهد يعطى، وأن للشاهد في إقامة الشهادة بتصحيحها
بكل ما يجد إليه السبيل من زيادة الألفاظ والمعاني والتفسير في الشهادة ما به
يثبت الحق ويصححه ولا يؤخذ به زيادة على الحق، مثل أجر الصائم القائم
المجاهد بسيفه في سبيل الله ".



(1) وسائل الشيعة 18 / 230 الباب 4 شهادات.
386
2 - داود بن الحصين أيضا قال: " سمعت من سأل أبا عبد الله عليه السلام
وأنا حاضر عن الرجل يكون عنده الشهادة، وهؤلاء القضاة لا يقبلون الشهادات
إلا على تصحيح ما يرون فيه من مذهبهم، وأني إذا أقمت الشهادة احتجت
إلى أن أغيرها بخلاف ما أشهدت عليه وأزيد في الألفاظ ما لم أشهد عليه، وإلا
لم يصح في قضائهم لصاحب ما أشهدت عليه، أفيحل لي ذلك؟ فقال: إي
والله ولك أفضل الأجر والثواب، فصححها بكل ما قدرت عليه مما يرون التصحيح
به في قضائهم ".
3 - عثمان بن عيسى عن بعض أصحابنا (1) عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
" قلت له: تكون للرجل من إخواني عندي الشهادة ليس كلها تجيزها القضاة
عندنا: قال: إذا علمت أنها حق فصححها بكل وجه حتى يصح له حقه ".
أقول: النصوص واردة في خصوص مورد كون القاضي من العامة، فهل
يختص الجواز به أو تلغى هذه الخصوصية؟ لا يبعد الغاء الخصوصية، إذ لا فرق
في إحقاق الحق بين أن يكون الحاكم من الخاصة أو العامة، وإلا لضاع الحق،
ومن المعلوم أن الشارع لا يرضى بذلك.
فالحاصل أنه يشترط توافق الشاهدين معنى، سواء توافقا لفظا أو لا، فلو
اختلفا معنى لم يحكم. قال المحقق: (نعم لو حلف مع أحدهما) أي مع الذي
توافق شهادته دعواه (ثبت) ما يثبت بالشاهد واليمين.
قال في الجواهر: تكاذبا أم لا، وإن نسب الاجتزاء باليمين في صورة
التكاذب في الدروس إلى القيل مشعرا بتمريضه، لكنه في غير محله، لأن
التكاذب المقتضي للتعارض الذي يفزع فيه للترجيح وغيره إنما يكون بين البينتين



(1) ذكر السيد الأستاذ احتمال أن يكون هذا البعض هو " داود بن الحصين "
قلت: لم أجده فيمن روى عنه فليلاحظ.
387
الكاملتين، لا بين الشاهدين كما هو واضح.
أقول: لكن الظاهر ما ذكره في الدروس، لأن الطريقية حينئذ تسقط
والكاشفية تزول، وليس لقوله صلى الله عليه وآله " إنما أقضي بينكم بالبينات
والأيمان " اطلاق ليشمل هكذا شهادة، ودليل قبول شهادة الواحد مع يمين
المدعي منصرف عن شهادة الواحد التي تكذبها شهادة الآخر.
لكن مقتضى اعتبار موافقة الشاهد لدعوى المدعي الغاء الشهادة المخالفة
لها من أول الأمر، فإذا انضم اليمين إلى الموافقة ثبت ما يثبت بالشاهد واليمين
وهو الحق المالي. وعلى هذا الأساس لا نوافق المحقق وصاحب الجواهر
وغيرهما في قولهم بتحقق التعارض في كثير من الفروع الآتية كما سترى.
" المسألة الثانية "
(في أنه ل شهد أحدهما على وقوع السرقة غدوة والآخر عشية)
قال المحقق قدس سره: (لو شهد أحدهما أنه سرق نصابا غدوة وشهد
الآخر أنه سرق عشية لم يحكم بها، لأنها شهادة على فعلين).
أقول: لكن لو كان يدعي فعلا واحدا ونصابا واحدا كان له أن يحلف مع
أحد الشاهدين الموافق لدعواه فيثبت الغرم دون الحد.
قال: (وكذا لو شهد الآخر أنه سرق ذلك بعينه عشية، لتحقق التعارض
أو لتغاير الفعلين).
قال في المسالك: في التعليل لف ونشر غير مرتب، فإن تحقق التعارض
الذي علله به أولا يحصل في الفرض الفرض الثاني، وتغاير الفعلين يحصل في الأول
لأن النصاب المشهود به في الأول غير معين، فكانت الشهادة على فعلين.

388
واعترضه في الجواهر: بأن العبارة ظاهرة بل صريحة في كون الأخيرين
علتين للأخيرة على التقديرين أي التعارض على تقدير النصاب الواحد،
والتغاير على تقدير النصابين إذ الأولى قد فرغ منها وذكر تعليلها، ثم ابتدأ
بالثانية بقوله: " وكذا. " كما هو واضح.
وما ذكره صاحب الجواهر هو الظاهر.
قال في الجواهر: وعلى كل حال ليس للحاكم العمل على القدر المشترك
بين الشاهدين بعد اختلافهما في القيد المقوم له، وإن اتفقا على وحدته كما
هو ظاهر كلام الأصحاب في القتل وغيره من الأفعال التي لا تقبل التعدد، والله
العالم.
" المسألة الثالثة "
(في أنه لو شهد أحدهما على كون المسروق دينارا والآخر درهما)
قال المحقق قدس سره: (لو قال أحدهما: سرق دينارا. وقال الآخر
درهما. أو قال أحدهما: سرق ثوبا أبيض وقال الآخر: أسود، ففي كل واحد
يجوز أن يحكم مع يمين المدعي، لكن يثبت له الغرم ولا يثبت القطع).
أقول: لو شهد الشاهدان على فعل واختلفا في زمانه أو مكانه أو صفة له،
فإن احتمل تغاير الفعلين وادعى المدعي التغاير كان له الحلف مع كلا الشاهدين
وأخذ كليهما، وإلا حلف مع الذي يوافق دعواه وحكم له. لكن يثبت له الغرم
دون القطع، لأنه حد ولا يثبت بالشاهد واليمين.
قال: (ولو تعارض في ذلك بينتان على عين واحدة سقط القطع للشبهة
ولم يسقط الغرم).
أقول: لو شهد اثنان على سرقة شئ معين في وقت وشهد آخران على

389
سرقته في غيره، فإن أمكن تعدد الواقعة بأن تبقى العين من الوقت الأول إلى
الثاني حتى يمكن أن تسرق أولا ثم تنتقل إلى مالكها ثم تسرق في الوقت
الثاني حكم بكلتا البينتين وثبت الحد والغرم معا، وإن لم يمكن التعدد
ووقعت الشهادة على وجه يتحقق التعارض بينهما سقط الحد للشبهة الناشئة من
اختلاف الشاهدين، والحدود تدرء بالشبهات، ولكن لم يسقط الغرم، قال في
الجواهر: بلا خلاف، لثبوت سرقة العين باتفاق البينتين عليه.
قال في الجواهر: وفي محكي المبسوط: تعارضت البينتان وتساقطتا
وعندنا تستعمل القرعة. وفي كشف اللثام: أنه لا فائدة للقرعة هنا.
قال: يمكن أن يكون مبنى كلام الشيخ على وجوب كون الحكم عن واحدة
منهما، لعدم صلاحيتهما بعد التعارض لأن يكونا مستند حكمه، ولا يعلم ذلك
إلا بالقرعة، والفائدة حينئذ تظهر في الرجوع وغيره من الأحكام التي تلحق
الشاهد، بل هو متجه إن لم يمنع وجوب اعتبار ذلك في حكم الحاكم، بل
يجوز استناده إلى الجميع فيما اتفقا عليه من سرقة الثوب وإن اختلفا في وقت
السرقة مثلا. فتأمل جيدا.
قلت: هذا كله لا يخلو عن تأمل، لأن الفعل واحد وهو غير واقع إلا في
أحد الموضعين أو الزمانين أو على أحد الوصفين، فإذا قالت إحداهما بوقوعه
في السوق والأخرى في المسجد فقد تكاذبتا فهما متعارضتان فيتساقطان ولا يحكم
بشئ. ولذا لو شهد واحد بالسرقة في المسجد وآخر في السوق والفعل
واحد قالوا: لا يثبت الحد، ويثبت الغرم بيمين المدعي مع أحد الشاهدين.،
فلو كان الأثر للقدر المشترك لزم الحكم به من دون حاجة إلى اليمين، لشهادة
العدلين بالقدر المشترك.
أما الرجوع إلى القرعة ففيه أنه لا مجال لها هنا، لأن موضوعها هو الواقع

390
المشكل والمشتبه عندنا، وليس ما نحن فيه من هذا القبيل، فإن السرقة من
المبصرات، قالت إحدى البينتين بمشاهدة وقوعها غدوة، وقالت الأخرى
بمشاهدة وقوعها عشية، ولا ريب في أنها قد وقعت في أحد الزمانين، فالبينتان
متعارضتان، ومع تعرضهما تتساقطان، ولا يبقى ما يحكم به للغرم فضلا عن
الحد.
وأما تجويز استناد الحاكم إلى كلتيهما فيما اتفقتا عليه وهو سرقة الثوب
وإن اختلفتا وقته ففيه أن المفروض وحدة العين ووحدة الفعل، وقد وقع
التكاذب بين البينتين، وليس الملاك وجود أمر متفق عليه بينهما، ولذا لو شهدت
إحداهما بكون المسروق حمارا والأخرى بكونه فرسا لم يحكم بسرقة الحيوان
المطلق استنادا إلى كليهما لكونه أمرا متفقا عليه بينهما، بل يتساقطان، لعدم
امكان وجود الحيوان كذلك خارجا.
فالحاصل إنا لا نوافق لا على القرعة كما ذكر الشيخ، ولا على الحكم بالقدر
المشترك كما ذكر الجواهر، بل نقول بالتعارض والتساقط وعدم الحكم بشئ.
قال المحقق: (ولو كان تعارض البينتين لا على عين واحدة ثبت الثوبان
والدرهمان).
أقول: إذا تواردت البينتان لا على عين واحدة: كما لو شهدت إحداهما
على الثوب الأبيض والأخرى على الثوب الأسود، أو شهدت إحداهما على
درهم والأخرى على درهم آخر ثبت الثوبان والدرهمان، لعدم التعارض بين
البينتين، وثبت القطع أيضا، لعدم الشبهة الدارئة.
قال في الجواهر: بل لو فرض اتحاد العين وأمكن التعدد بسرقتها مرتين
في الوقتين كان الحكم كذلك أيضا. بلا اشكال ولا خلاف.
قال: لكن عن القاضي: إذا شهد اثنان أنه سرق هذا الحمار غدوة يوم

391
بعينه، وآخران أنه سرقه عشية ذلك اليوم تعارضتا واستعمل القرعة.
واعترضه بقوله: والحق أنه لا تعارض إلا أن يفرض الاتفاق على اتحاد
الفعل. وحينئذ يتجه سقوط القطع للشبهة بالاختلاف، وثبوت الغرم المتفق
عليه للبينتين، وعلى كل حال فلا قرعة، لأنها لا تفيد شيئا كما في كشف اللثام.
وفيه الكلام السابق.
أقول: قد عرفت أن لا قرعة لما ذكرنا، كما تقدم منا الكلام على ما ذهب
إليه صاحب الجواهر من ثبوت الغرم بالبينتين، فإن الحق هو التساقط كما
قالوا به فيما إذا كان في كل طرف شاهد واحد.
" المسألة الرابعة "
(في أنه لو شهد أحدهما على كون الثمن دينارا والآخر دينارين)
قال المحقق قدس سره: (لو شهد أحدهما أنه باعه هذا الثوب غدوة بدينار،
وشهد الآخر أنه باعه ذلك الثوب بعينه في ذلك الوقت بدينارين. لم يثبتا
لتحقق التعارض، وكان له المطالبة بأيهما شاء مع اليمين).
أقول: هنا ثلاث صور:
الأولى: أن يدعي البائع على المشتري أنه باعه هذا الثوب غدوة بدينارين
فيشهد له شاهد بذلك. ثم يشهد الشاهد الآخر أنه باعه ذلك الثوب بعينه في
ذلك الوقت بدينار.
أما المشتري فلا دعوى له بشئ.
والثانية: أن يدعي المشتري على البائع أنه باعه هذا الثوب غدوة بدينار،
فيشهد له شاهد بذلك. ثم يشهد الشاهد الآخر أنه باعه ذلك الثوب بعينه في
ذلك الوقت بدينارين.

392
أما البائع فلا دعوى له بشئ.
في هاتين الصورتين لا يوجد تعارض أصلا، لما تقرر من أنه يشترط
في صحة الشهادة وقبولها موافقتها لدعوى المدعي، فتكون إحدى الشهادتين
الموافقة للدعوى في الصورتين معتبرة والأخرى لاغية، وللمدعي أن يحلف
مع الشادة المقبولة ويثبت حقه.
إذن لا وجه لقول المحقق " لتحقق التعارض " سواء كان المدعي في الفرع
الذي عنونه هو المشتري أو البائع.
ويتحقق التعارض في الصورة:
الثالثة: لو وقع الخلاف بين البائع والمشتري في الثمن، فقال البائع
بالدينارين، وقال المشتري بالدينار، وكان لكل منهما بينة على ما يدعيه، وحينئذ
يتساقطان. وليس المرجع القرعة كما عن الشيخ والجواهر، إذ لا موضوع
للقرعة هنا وإن كان لها فائدة، بل الصحيح بعد التساقط هو الحكم على المشتري
بالدينار باقراره.
قال المحقق: (ولو شهد له مع كل واحد شاهد آخر ثبت الديناران).
أقول: مرجع الضمير في " له " هو " البائع "، وذلك لأنه إذا كان يدعي
الدينارين فقد قامت بينة كاملة له على دعواه فيحكم له، والبينة الأخرى المخالفة
لدعواه لاغية. فلا تعارض.
قال المحقق: (ولا كذلك لو شهد واحد بالاقرار بألف والآخر بألفين.
فإنه يثبت الألف بها والآخر بانضمام اليمين).
أقول: أوضحه في الجواهر بقوله: لعدم التعارض بين المشهود بهما وإن
امتنع التلفظ بلفظين مختلفين في وقت واحد، فإن الشهادة بدينار لا تنفي الزائد،
فيجوز أن لا يكون الشاهد سمع إلا دينارا، أو لم يقطع إلا به وتردد في الزائد،

393
أو رأى أن لا يشهد إلا به لمصلحة يراها أولا لها، بخلاف نحو البيع بدينار
ودينارين، فإن العقد بدينار ينافي العقد بدينارين، وامكان فرض الاقرار على
وجه ينافي الآخر غير قادح، ضرورة كون الكلام في عدم المنافاة بين الشاهدين
فيه من حيث نفسه، بخلاف البيع لا من حيث انضمام أمور خارجة فتأمل ".
قلت: إنه مع اعترافه بامتناع التلفظ بلفظين كذلك. يعلم اجمالا بعدم
أحدهما، فكل واحد أخذ به كان ترجيحا بلا مرجح، وثبوت الألف يتوقف على
ثبوت الاقرار، فكيف يقال بثبوته مع عدم ثبوت الاقرار؟
وبما ذكرنا يظهر ما في تفريق المسالك بقوله: والفرق بين الاقرار والبيع
حيث يثبت القدر الأقل بهما، ويتوقف الزائد على اليمين في الاقرار دون البيع:
إن الاقرار ليس سببا في ثبوت الحق في ذمته بل كاشف عن سبقه، فجاز تعدده
ولم يناف أحد الاقرارين الآخر، بخلاف البيع فإنه سبب لثبوت الحق ولم يقم
بكل واحد من البينتين بينة كاملة، وعليه يترتب ما لو شهد بكل واحد من
الاقرار بن شاهدان، فإنه يثبت الأقل بشهادة الجميع والزائد بشهادة الاثنين،
بخلاف البيع فإنه لا يثبت إلا بشاهدين لعدم امكان تعدد السبب فيه.
فإنه مع عدم الكاشف لا يثبت شئ، والأمر كذلك هنا بالتقريب الذي
ذكرناه.
قال المحقق: (ولو شهد بكل واحد شاهدان ثبت ألف بشهادة الجميع
والألف الآخر بشهادة اثنين).
أقول: وهذا واضح لا كلام فيه.
قال: (وكذا لو شهد أنه سرق ثوبا قيمته درهم وشهد الآخر أنه سرقته
وقيمته درهمان. ثبت الدرهم بشهادتهما والآخر بالشاهد واليمين).
قال في الجواهر: لانتفاء التنافي وإن امتنع كون قيمة الشئ في الوقت

394
الواحد دينارا ودينارين جميعا، لجواز أن لا يعرف أحدهما من قيمته إلا دينارا.
قال المحقق: (ولو شهد بكل صورة شاهدان ثبت الدرهم بشهادة الجميع
والآخر بشهادة الشاهدين بهما).
ووافقه صاحب الجواهر.
أقول: إن الثوب المسروق واحد، والسرقة وقعت مرة واحدة، ومع
وقوع الخلاف بين الشاهدين أو البينتين يقع التكاذب في كلتا الصورتين،
فإن كان السارق وصاحب الثوب متداعيين (بأن يدعي السارق كون قيمته درهما
والمالك درهمين) ثم أقاما البينة أو شهد لكل شاهد وحلف معه، وقع التعارض
والتساقط، وحينئذ فالحكم هو التحالف، فإذا حلفا أخذ من السارق ما يقر
به باقراره.
وإن كان صاحب الثوب يدعي الدرهمين والسارق لا دعوى له في مقابله،
اعتبرت البينة أو شهادة الواحد الموافقة لدعواه وسقطت الأخرى، أما البينة
فيثبت بها حقه بلا يمين، وأما شهادة الواحد فلا بد من أن يحلف معها حتى يثبت.
قال المحقق: (ولو شهد أحدها بالقذف غدوة والآخر عشية أو بالقتل
كذلك لم يحكم بشهادتهما، لأنها شهادة على فعلين).
أقول: القذف مما يمكن تكرره، فلا تنافي بين الشهادتين به، والقتل
لا يقبله فهما متكاذبان، فلو قامت بينة على القذف غدوة وأخرى على القذف
عشية ثبت حدان.
ولو ادعى المدعي القتل ولم يتعرض إلى وقته، والمنكر كان ينكر أصل
القتل وقع التعارض. فقال الشيخ بالقرعة فإن تم فهو وإلا فيرجع إلى ما تقرر
في تعارض البينتين.
قال: (أما لو شهد أحدهما باقراره بالعربية والآخر بالعجمية قبل لأنه

395
اخبار عن شئ واحد).
أقول: وذلك لأن الملاك توارد الشهادتين على أمر واحد معنى، والمعنى
هنا واحد، وإن كان الاقرار بالعربية فعلا غير الاقرار بالأعجمية، لكن يختص
هذا بما إذا أطلقا فلم يوقتا، أو وقتا بوقتين مختلفين. أما لو وقتا بوقت
واحد فلا يثبت شئ للتكاذب.
قال في الجواهر: ولو شهد أحدهما أنه أقر عنده أنه استدان أو باع أو
قتل أو غصب يوم الخميس، وآخر أقر أنه فعل ذلك يوم الجمعة لم يحكم
إلا مع اليمين أو شاهد آخر ينضم إلى أحدهما، لأن المشهود به فعلان، بل
هما في القتل متكاذبان.
أقول: لا يخفى القرق بين القتل وسائر الأمثلة المذكورة، فإن القتل لا
يقبل التكرار وتلك تقبله، إلا إذا كان البيع أو الاستدانة مثلا واقعة واحدة
باقرار البائع أو الدائن، ثم ادعى وقوع ذلك في يوم الجمعة مثلا، فشهد
شاهد بوقوعه فيه وآخر بوقوعه يوم الخميس اعتبر شهادة الموافق لدعواه
وحلف معه إن كان واحدا، وسقطت الشهادة الأخرى. ولو أقام الطرف أيضا
بينة في مقابل بينته تعارضتا وتساقطتا ولم يثبت شئ.
قال: ولو شهد اثنان بفعل وآخران على غيره من جنسه أولا ثبتا إن أمكن
الاجتماع وادعاهما. وإن لم يمكن الاجتماع أو أمكن ولم يدعه كان للمدعي
أن يدعي أحدهما ويثبت بينته ويلغو الآخر مثل أن يشهد اثنان بالقتل غدوة
وآخران به عشية، وكذا ما لا يمكن أن يتكرر كالولادة والحج عن اثنين
في سنة.
وفي محكي المبسوط إذا لم يمكن الاجتماع استعمل القرعة.
وفي كشف اللثام: لا معنى لها إن كان الفعل مثل القتل والولادة من أم

396
واحدة والاختلاف في الزمان والمكان، فإن القرعة لا تفيد شيئا، نعم إن كان
الفعل مثل الولادة من أمين واختلف المدعي، فادعت هذه أنها ولدته وشهد
به اثنان ثبتت القرعة، وإن اتحد المدعي فلا بد من أن يعين هو الدعوى.
والشيخ إنما فرض المسألة في القتل واختلافه زمانا أو مكانا وأثبت القرعة.
وفي الجواهر: قد يظهر وجه كلام الشيخ مما ذكرناه في صورة ما لو
كانت دعوى المدعي القتل مثلا، وجاء بالأربعة شهود، واختلف كل اثنين
منهم في الزمان أو المكان، وقلنا بوجوب تعيين إحدى البينتين في مستند الحكم،
لفائدة الغرم والرجوع بعد ذلك وغيرهما، فإنه لا طريق حينئذ إلا القرعة.
أقول: إن كان استعمال القرعة بعد التساقط فإن معنى التساقط سقوط كلتا
البينتين عن الحجية، فلا يبقى مدرك للحكم حتى يراد تعيينه بالقرعة. اللهم
إلا أن يقال ببقاء أحدهما لا على التعيين على الحجية والقرعة طريق لتعيينه
ولكنه لا يخلو عن اشكال، أو يرجع إلى القرعة لترجيح إحدى البينتين على
الأخرى إن كانت القرعة من المرجحات.
وبالجملة فإن الضابط في الفروع المذكورة بعد ما تقرر من اشتراط توارد
الشاهدين على معنى واحد، وتوافقهما لدعوى المدعي أن كل شهادة سواء
كانت شهادة واحد أو بينة كاملة لا توافق دعوى المدعي لاغية وتبقى الأخرى
الموافقة بلا معارض، هذا إذا كان الفعل مما لا يقبل التكرار أو كان يقبله ولا
يدعي إلا أحدهما، فإن كان يدعي كلا الأمرين ثبتا مع البينة أو الشاهد الواحد
بيمين المدعي. فإن حصل التداعي من الطرفين وأقام كل بينة على دعواه
وتخالفت البينتان فهنا يقع التكاذب والتساقط، ولا يحكم بشئ إلا إذا كان
أحدهما مقرا فيؤخذ به.

397
القسم الثاني
(في الطوارئ وهي مسائل)
" المسألة الأولى "
(لو مات الشاهدان قبل صدور الحكم)
قال المحقق قدس سره: (لو شهدا ولم يحكم فماتا حكم بهما، وكذا
لو شهدا ثم زكيا بعد الموت).
أقول: إن من الطوارئ هو الموت، وقد ألحق به في الجواهر الجنون
والاغماء، فلو شهد الشاهدان عند الحاكم ولم يحكم فماتا حكم بشهادتهما
ولم تبطل بالموت.
وكذا لو شهدا ثم زكيا بعد الموت، إذ التزكية المتأخرة عن الموت
كاشفة عن صحة شهادتهما السابقة.
وذلك لأنه لا دليل على البطلان بالموت، فلو شك مع ذلك استصحب
وجوب الحكم استنادا إلى تلك الشهادة، ولا خلاف في ذلك كما في الجواهر،
قال: بل ظاهر النص والفتوى عدم الفرق فيه بين الحد وغيره.

398
" المسألة الثانية "
(لو فسق الشاهدان قبل صدور الحكم)
قال المحقق قدس سره: (لو شهدا ثم فسقا قبل الحكم حكم بهما، لأن
المعتبر بالعدالة عند الإقامة).
1 - لو كان ذلك في حق الآدميين
أقول: إن كان ذلك في حق الناس ففي المسألة قولان، فقال جماعة يحكم
وقال آخرون لا يحكم، وللشيخ فيها قولان، والمحقق قال بالعدم فيما لو طرأ
فسق شاهد الأصل قبل الحكم بشهادة الفرع، محتجا بأن الحكم مستند إلى
شهادة الأصل، أما هنا فقال بالقبول وأنه يحكم بهذه الشهادة. واعترضه في
الجواهر بعدم الفرق، ولعل الفرق كون مورد البحث هناك فسق الأصل قبل أداء
الفرع الشهادة، وهنا فسقهما بعد الأداء وقبل الحكم.
وكيف كان فإن المعتبر في المقامين بالعدالة عند الإقامة، لاطلاق الأدلة
بل ظهور بعضها كآية النبأ، وقوله عليه السلام: " لا أقبل شهادة فاسق إلا على
نفسه (1) " فإن الآية ظاهرة في التلبس في حال المجئ، والخبر ظاهر في الفسق
حال الشهادة، وأقل من أنه المتيقن.
واستدل للعدم في هذه المسألة بوجوه:
أحدها: كون الفسق بعد الشهادة وقبل الحكم كما لو رجع عن الشهادة
قبل الحكم.



(1) وسائل الشيعة 18 / 275 الباب 30 شهادات.
399
وفيه: أنه فرق بين الفسق والرجوع، فإن الرجوع يسقط الوثوق بالخبر
وليس من سيرة العقلاء الاعتماد على شهادة من رجع عن شهادته، وليس الأمر
في الفسق كذلك. فالقياس مع الفارق.
والثاني: إن طرو الفسق يضعف العدالة السابقة، لبعد طروه دفعة
واحدة.
وفيه: أنه منقوض بالجنون، على أنه لو كان كذلك لكشف عن الاستعداد
للفسق، ومن الواضح أنه غير قادح.
والثالث: إن المقام كما لو كان وارثا ومات المشهود له قبل الحكم.
والجواب: أنه لولا الاجماع على عدم القبول هناك لقلنا بالقبول.
فالفارق هو الدليل.
وقد أجاب صاحب الجواهر عن كل هذه الوجوه بأنها جارية في الجنون
ونحوه، مع أنه لا خلاف في قبول الشهادة السابقة عليه.
قال: نعم لو أمكن اثبات اقتضاء الفسق بطلان الشهادة ما لم يحكم بها اتجه
ذلك يعني دعوى الفرق بين الفسق وبين الجنون ونحوه لا أقل من الشك
في قبولها في الفرض، ولو من جهة انسياق غير الفرض من اطلاق الأدلة،
والأصل العدم.
قلت: يعني أصالة عدم الحجية. لكن هذا الأصل لا وجه له، لأنه إنما
يتأتى مع عدم استصحاب القبول، وهو هنا موجود، فهو كما لو قال: صل
خلف العادل ولا تصل خلف الفاسق، فصدرت صغيرة من العادل وشك في
قدحها في عدالته، فإن مقتضى القاعدة استصحاب بقاء العدالة، لأن المتيقن من
المعصية القادحة هو الكبيرة.
وما نحن فيه كذلك، لأن المفروض عدالته حين الأداء، ثم مع عروض

400
الفسق يشك في بقاء جواز الحكم أو وجوبه استنادا إلى تلك الشهادة
الواقعة مع الشرائط، فيستصحب، ومعه لا مجال للرجوع إلى أصالة عدم
الحجية.
مع أن الشك فالحجية مسبب عن الشك في اشتراط العدالة حال الحكم
والأصل عدم اشتراطها.
وأما قوله: وربما شهد لذلك استفاضة النصوص برد شهادة الفاسق مثلا،
بخلاف المجنون والمغمى عليه الراجعين في الحقيقة إلى كونهما كالميت الذي
ليس له شهادة حال موته، فيبقى حكم شهادته الأولى على حالها، بخلاف
الفاسق وغيره مما ورد في النصوص رد شهادته الشامل لهما بعد الإقامة قبل
الحكم بها، وإلا لزم جواز الحكم بها قبل الإقامة لو فرض أنه حملها لغيره عدلا ثم
فسق ثم بعد ذلك أقامها الفرع وهو معلوم الفساد، وليس إلا لاعتبار مقارنة
جامعية العدالة ونحوها للشهادة حال الحكم، ولا يكفي الحال السابق.
فيمكن أن يقال فيه بأنه لا أثر للبحث عن اقتضاء الفسق للرد أو مانعيته
للقبول، بل لا بد من لحاظ دليل شهادة الفاسق، فإن كان له اطلاق ليشمل
حال الحكم فهو وإلا فلا. وأما جواز الحكم بها قبل الإقامة لو فرض أنه
حملها لغيره عدلا ثم فسق ثم بعد ذلك أقامها الفرع فغير لازم، للفرق بين
المقامين، إذ مع الفسق قبل الإقامة يصدق استناد الحاكم إلى شهادة الفاسق
الفعلي، وهو نظير ما إذا جاء الفاسق إلى الحاكم وقال: قد تحملت الشهادة في
حال العدالة وأنا الآن فاسق.
فالعمدة النظر في حد دلالة تلك النصوص. وما دل على أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم كان يرسل من يسأل عن حال الشخص في بلده ظاهر في
الفحص عن حال الشاهدين في وقت أداء شهادتهما، لا للوقوف على بقائهما

401
على حال العدالة لكي يكون حكمه في هذه الحال.
هذا كله في حق الآدمي المحض.
2 - لو كان ذلك في حق الله
قال المحقق: (ولو كان حقا لله تعالى كحد الزنا لم يحكم، لأنه مبني على
التخفيف، ولأنه نوع شبهة).
أقول: وأما في حق الله المحض كحد الزنا واللواط وشرب المسكر
ونحوها لم يحكم بشهادتهما باتفاق المجوزين والمانعين كما في المسالك، وفي
الجواهر بلا خلاف أجده فيه، وقد ذكر المحقق لهذا الحكم وجهين أحدهما:
إن حق الله مبني على التخفيف. والآخر: إن فسق الشاهدين بعد الأداء وقبل
الحكم نوع شبهة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله في الحديث
المشهور المعمول به: " ادرأوا الحدود بالشبهات " (1).
وهذا في حق الله المحض.
3 - لو كان ذلك في حق مشترك
قال المحقق: (وفي الحكم بحد القذف والقصاص تردد أشبهه الحكم
لتعلق حق الآدمي به).



(1) وسائل الشيعة 17 / 336 عن الصدوق مرسلا عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم. وفيه 18 / 399 عن المقنع للصدوق مرسلا عن أمير المؤمنين عليه
السلام. قال في الرياض: أنه نص متواتر. فاستغربه في مباني تكملة المنهاج
1 / 168. ونص 1 / 154 على أن درء الحدود بالشبهات لم يثبت برواية معتبرة.
فلا بد من المراجعة.
402
أقول: وأما الحق المشترك ففيه وجهان على القول بالجواز في حق الآدمي
المحض، من بناء الحد على التخفيف ودرئه بالشبهة، ومن تعلق حق الآدمي
به، ومن هنا تردد المحقق قده ثم رجح الوجه الثاني.
أقول: إن كان دليل الدرء في حق الله المحض هو الاجماع فإن القدر
المتيقن منه ذلك، وإن كان النبوي المنجبر فإنه عام يشمل الحق المشترك.
" المسألة الثالثة "
(لو شهدا لمن يرثانه فمات قبل صدور الحكم)
قال المحقق قدس سره (لو شهدا لمن يرثانه فمات قبل الحكم فانتقل المشهود
به إليهما لم يحكم لهما بشهادتهما).
أقول: لا كلام في عدم قبول شهادة أحد في حق نفسه، لكن قد يقال في
هذه المسألة: بأن المعيار في صحة الشهادة وقبولها كونها واجدة للشرائط في
حال الأداء، فإن العبرة بتلك الحال لا بحال الحكم، وعليه فلا يكون طرو موت
المشهود له في حال الحكم مانعا عن ترتيب الأثر على الشهادة، وإلا لكان موت
المشهود له أسوء حالا من طرو الفسق والجنون، ولذا قال في المسالك: ويجئ
على القول بعدم قدح طرو الفسق احتمال عدمه هنا، اعتبارا بحالة الأداء،
كما علل به السابق، وعند الأداء لم تكن الشهادة لهما ". ولعله من هنا استشكل
فيه في الكفاية، وخدش فيه الأردبيلي، وتبعهما صاحب المستند.
قلت: لكن الحكم متفق عليه كما اعترف به في المسالك، وفي الجواهر:
بلا خلاف أجده فيه. ولعل الوجه فيه هو: أن المستفاد من أدلة نفوذ الحكم
هو كون المشهود به للمشهود له من حين صدور الحكم والمفروض موته في

403
هذا الحين. (لا أنه عندما يصدر يكشف عن ثبوت الملك له من حين أداء الشهادة
حتى تكون الشهادة في ملك المورث).
وأما عدم قدح طرو الفسق فلما ذكرنا في محله من أن ظاهر آية النبأ
وجوب التبين من خبر من تلبس بالفسق في حين المجئ بالنبأ.
" المسألة الرابعة "
(لو رجعا عن الشهادة قبل صدور الحكم)
قال المحقق قدس سره (لو رجعا عن الشهادة قبل الحكم لم يحكم)
أقول: في مسألة صور:
الصورة الأولى: أن يرجعا عن الشهادة قبل الحكم.
قال المحقق في هذه الصورة: (لم يحكم). أي: سواء كان عقوبة أو
مالا أو حقا، قال في الجواهر: ولو بعد الإقامة، ولا غرم. قلت: أما قوله: " ولو
بعد الإقامة " فلم يتضح المراد منه، إلا أن يحمل على شاهد الفرع، لكنه كما
ترى. وأما قوله: " ولا غرم " فكذلك، لوضوح عدم الغرم مع عدم الحكم،
وكأنه قاله تبعا لما في مرسل جميل الآتي من قوله عليه السلام: " وإن لم يكن
قضى طرحت بشهادتهم ولم يغرم الشهود شيئا ". ولعله للإشارة إلى أن المقام
ليس كبعض الموارد التي يثبت فيها الغرم وإن لم يثبت الحد، كالتفكيك بين
الغرم والقطع في بعض أحوال الشهادة على السرقة.
وكيف كان ففي الجواهر: بلا خلاف أجده فيما بيننا كما اعترف به
غير واحد، لكن الاتفاق في كشف اللثام ليس على ذلك، بل هو في خصوص
العقوبة كما ستعرف.

404
والدليل على عدكم في هذه الصورة هو الأصل بعد انصراف أدلة
القضاء عن مثلها، وقد روى جميل عن أحدهما عليهما السلام في المرسل
الذي هو كالصحيح كما في الجواهر سيما بعد اعتضاده بالشهرة. وفي المسالك
وصفه بالحسنة قال:
" في الشهود إذا شهدوا على رجل ثم رجعوا عن شهادتهم وقد قضي على
الرجل: ضمنوا ما شهدوا به وغرموه. وإن لم يكن قضي طرحت بشهادتهم
ولم يغرم الشهود شيئا ".
وأضاف في الجواهر أنه لا ترجيح لتقديم قولهم الأول على الثاني.
وأما الخبران:
1 - السكوني عن الصادق عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله:
" إن شهد عندنا بشهادة ثم غيرها أخذنا بالأولى وأطرحنا الأخرى " (1).
2 - هشام بن سالم عن الصادق عليه السلام: " كان أمير المؤمنين عليه
السلام يأخذ بأول الكلام دون آخره " (2).
فليسا ظاهرين في الرجوع، لا سيما الأول المشتمل على التغيير وهو غير
الرجوع، وإن احتمل عمومه له، على أن اعراض الأصحاب عنهما موجب
لوهنهما فلا يعارضان مرسل جميل الذي هو كالصحيح، ولو فرض التعارض
وتساقط الطرفين كفى عدم الدليل على الحكم، لانصراف أدلة الشهادة والحكم
عن هذه الشهادة. وأما تنزيلهما على ما بعد الحكم والاستيفاء فينافيه لفظ
" أخذنا " و " يأخذ " فيهما الظاهر في الحكم.



(1) وسائل الشيعة 18 / 239 الباب 11 شهادات.
(2) تهذيب الأحكام 6 / 310 ط النجف الأشرف. صحيح. لكنه في وسائل
الشيعة 18 / 158: " لا يأخذ. " فهو يدل على خلاف المستدل به.
405
ثم إن اعترف الشهود بأنهم تعمدوا الكذب في الشهادة الأولى فهم فسقة
وإن قالوا: غلطنا أو أخطأنا فلا فسق، ووجه القبول منهم حينئذ هو أن صاحب
القول كصاحب اليد يسمع قوله.
وهل تقبل منهم تلك الشهادة لو أعادوها؟
نسب في الجواهر إلى القواعد والمسالك: عدم القبول. قال: ولعله
لحسن محمد بن قيس عن الباقر عليه السلام: " في رجل شهد عليه رجلان أنه
سرق فقطع يده، حتى إذا كان بعد ذلك جاء الشاهدان برجل آخر فقالا:
هذا السارق وليس الذي قطعت يده، إنما اشتبهنا ذلك بهذا، فقضى عليهما
أن غرمهما نصف الدية ولم يجز شهادتهما على الآخر " (1).
إلا أنه مع ذلك الأقوى القبول إذا كانا معروفين بالعدالة والضبط تبعا
لكشف اللثام والجواهر، للعمومات التي يقصر الخبر المزبور عن تخصيصها،
وخلافا لصريح المسالك حيث قال: لكن لا تقبل تلك الشهادة لو أعادوها.
وأما نسبة الجواهر العدم إلى القواعد ففيها أنا لم نجد ذلك في القواعد،
فقد قال العلامة رحمه الله فيها: " الفصل السابع في الرجوع ومطالبة ثلاثة:
الأول في الرجوع في العقوبات: إذا رجع الشاهد في العقوبة قبل القضاء منع
من القضاء (قال كاشف اللثام: اتفاقا للشبهة) ولو كانوا قد شهدوا بالزنا حدوا
للقذف، وإن قالوا: غلطنا فالأقرب سقوط الحد. ولو لم يصرح بالرجوع
بل قال للحاكم: توقف للحكم، ثم قال له: أحكم، فالأقرب جواز
الحكم ما لم يحصل للحاكم ريبة، وهل يجب الإعادة؟ اشكال " قال
كاشف اللثام: من حصول الأداء الصحيح من أهله، والأصل، وقد زال التوقف
بعد طروه. ومن ابطال التوقف له، لأنه تشكيك في الشهادة وهو خيرة التحرير.



(1) وسائل الشيعة 18 / 242 الباب 14 شهادات.
406
وهو ممنوع، فإن صريح قوله إنما هو التوقف في الحكم لا الشهادة، وبعد
التسليم فقوله بعده أحكم بمنزلة الإعادة " قلت: والانصاف أن ما ذكره مشكل.
ولو كان المشهود به الزنا أو نحوه واعترفوا بالتعمد حدوا للقذف، وإن
قالوا: غلطنا ففي القواعد: الأقرب سقوط الحد، وتبعه كاشف اللثام وصاحب
الجواهر، وعن المبسوط والجواهر يحدان أيضا، وفي المسالك: وجهان
أحدهما: المنع لأن الغالط معذور، وأظهرهما الوجوب لما فيه من التعيير
وكان من حقهم التثبت والاحتياط، وعلى هذا ترد شهادتهم، ولو قلنا لأحد
فلا رد " قال كاشف اللثام: ويؤيده مرسل ابن محبوب عن الصادق عليه السلام
وهو خيرة التحرير.
وهذا نص المرسل: " في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا ثم رجع
أحدهم بعد ما قتل الرجل. فقال: إن قال الراجع: أوهمت ضرب الحد
وأغرم الدية. وإن قال: تعمدت قتل " (1).
وأجاب عنه في الجواهر بقوله: لكن فيه أن تكليف الغافل قبيح فلا ريب
في المعذورية، كما لا ريب في سقوط الحد معها، ضرورة أولويتها من الشبهة
التي يدرأ بها، ولذا اختار في كشف اللثام السقوط لها.
وأما قول المسالك: وعلى هذا ترد شهادتهم ولو قلنا لأحد فلا رد " فغير
واضح كما في الجواهر أيضا، ولعله يريد التلازم بين الحد والرد، ولكنه
لا يناسب كلامه المتقدم عليه (2).



(1) وسائل الشيعة 18 / 240 الباب 12 شهادات.
(2) قول: وجه الاشكال في هذه العبارة هو: أنه رحمه الله قال في أصل
الرجوع عن الشهادة بأنهم إن اعترفوا بتعمد الكذب فهم فسقة يستبرؤن، فإن
قالوا: غلطنا لم يفسقوا، لكن لا تقبل تلك الشهادة منهم لو أعادوها. فالقول
بعدم قبول شهادتهم مع عدم الفسق لا يجتمع مع القول بالقبول مع عدم الرد
في الشهادة بالزنا إن قالوا غلطنا.
ويمكن الجواب عن ذلك بأنه قال بعدم القبول مع عدم الفسق لو أعادوا
نفس تلك الشهادة، وذلك لأن اختلاف شهادتهم فيها توجب الشك ولزوم
الاحتياط، لا سيما مع النظر إلى خبر ابن محبوب. أما في الفرع المتعلق
بالشهادة بالزنا فمورد النظر هو الشهادة منهم في ما بعد، فهو يقول بأن أظهر
الوجهين وجوب الحد. ومن حد ترد شهادته فيما بعد. وعلى الوجه الأول وهو
عدم الحد فلا ترد، إذ لا نص ولا موجب لعدم القبول، لعدم وقوع الاختلاف
منهم في الشهادة الواحدة. ولعل ما ذكرناه هو الوجه في تأمل الجواهر.
407
وأما الخبر فهو مرسل غير منجبر على أن معناه غير واضح كذلك، لأنه
إن كان مخطئا أو شبه عامد فعليه الدية، وإن كان متعمدا فيقتل بالمقتول لأن
السبب أقوى، فلماذا الحد؟ (1)
هذا كله في الصورة الأولى.
الصورة الثانية:
أن يرجعا بعد الحكم والاستيفاء وتلف المحكوم به.
قال المحقق: (لو رجعا بعد الحكم والاستيفاء وتلف المحكوم به لم



(1) أقول: الحد حد القذف، والدية دية المقتول. أما الدية فثابتة لئلا
يطل دم امرئ مسلم، وأما الحد فالمفروض أنه قال أوهمت فالمشهور
عدم الحد، وعن المبسوط وبعض الأصحاب: يحدان أيضا، فمعنى الخبر
واضح، ولذا ذكروه مؤيدا للقول المخالف للمشهور، فينحصر الجواب عنه
بعدم تمامية سنده بالارسال واعراض المشهور عنه.
408
ينقض الحكم، وكان الضمان على الشهود).
أقول: أما عدم نقض الحكم فعليه الاجماع بقسميه كما في الجواهر.
وقد استدل له بأمور:
الأول: مرسلة جميل. فأما دلالتها فتامة، وأما سندها فمنجبر كما تقدم.
الثاني: الخبران النبوي والعلوي المتقدمان. لكن فيه أنهما ظاهران
في صدور الحكم استنادا إلى الكلام الأول، فلا علاقة لهما بهذه الصورة.
الثالث: استصحاب الصحة. لكن فيه: أنه إن كان المراد صحة الحكم
فإنه بعد الرجوع ينكشف عدم تمامية الحكم من أصله، وحينئذ فلا حالة سابقة
بالصحة حتى تستصحب، فهو نظير ما إذا باع خلا فانكشف كونه خمرا حين
العقد، فالعقد باطل من حينه، وليس كالبيع الواقع صحيحا ثم إذا شك في
انفساخه استصحب اللزوم. هذا إذا كان المستصحب صحة الحكم.
وإن كان المراد صحة الشهادة الأولى، بأن يقال: الشهادة السابقة وقعت
صحيحة واقعا أو ظاهرا، فيستصحب تلك الصحة ويصح الحكم المستند إليها
. ففيه: أن أدلة " ضع فعل أخيك على أحسنه " لا تشمل الشهادة التي رجع عنها
الشاهد نفسه، وإلا كان دليل الحمل على الصحة مشرعا. ولو فرض تمامية أصالة
الصحة في الشهادة الأولى فإنها جارية في الثانية كذلك، فيتعارضان.
الرابع: اطلاق ما دل على صحة ما لم يعلم فساده.
وفيه: أن هذا شامل للشهادة الثانية المكذبة للأولى أيضا.
الخامس: إن الرجوع لا يدل على فساد الشهادة الأولى، إذ يمكن كون
الرجوع كذبا، بل هو كالانكار بعد الاقرار.
وفيه: إنما لا يسمع الانكار بعد الاقرار، لأن الاقرار يكون دائما في ضرر
المقر، فإذا أنكر بعده كان للخلاص من الضرر فلا يسمع فالقياس مع الفارق.

409
السادس: إن الحكم الصادر نافذ بالاجتهاد به فلا ينقض بالاحتمال.
وفيه: أن عدم نقضه بالاحتمال محتاج إلى دليل، ولذا كان مانعا عن الحكم
لو كان الرجوع قبله، فلولا الدليل وهو مرسلة جميل لما تم الحكم بعدم
النقض، فهذا الوجه ساقط.
السابع: إن الشهادة أثبتت الحق، فلا يزول بالطارئ كالفسق والموت.
وفيه: أنه إن كان الرجوع من الطوارئ كالموت تم ما ذكره، لكنه ليس
كذلك، بل الرجوع يوجب الشك في صحة الشهادة الأولى.
فتحصل عدم النقض في هذه الصورة للمرسلة المنجبرة.
وأما ثبوت الضمان مثلا أو قيمة أو قصاصا أو دية أو نحو ذلك على الشهود
فلا كلام فيه كذلك، إنما الكلام في أنه يثبت نتيجة الاتلاف من الشهود لكونه
مستندا في الحقيقة إليهم من جهة أن السبب أقوى، أو جاء نتيجة الحكم غير
المنقوض.
وذلك لأن ثبوت الغرم لا يلازم نفوذ الحكم بل ولا وجوده، فقد يتسبب
الشخص في قتل أو تلف مال فيضمن من دون حكم. هذا من جهة. ومن جهة أخرى
فإن للحكم غير المنقوض آثارا أخرى تترتب تبعا للحد وإن رجع الشاهدان
كعدم جواز إمامة المشهود عليه، وعدم سماع شهادته فيما بعد، وعدم أهليته
لمنصب القضاء ونحو ذلك.
إن أمكن اثبات الضمان على الشهود هنا بأدلة نفوذ الحكم بضميمة الاجماع
إذ لولا الاجماع لأمكن الخدش في الاستدلال بدعوى انصراف تلك الأدلة عن الحكم
المستند إلى الشهادة المرجوع عنها فهو، وإلا ففي كون السبب أقوى من المباشر
لاثبات الغرم عليهم كفاية حتى لو فرض نقض الحكم. نعم مع نفوذ الحكم
تترتب الآثار الأخرى فيحرم أخت الغلام الموطوء وأمه وبنته، وأكل البهيمة

410
الموطوءة المأكولة، ويجب بيع غيرها في بلد آخر. إلى غير ذلك من الآثار
والتوابع. وستعرف ذلك.
هذا، وقد يستدل للضمان برواية جميل عن الصادق عليه السلام: " في شاهد
الزور. قال: إن كان الشئ قائما بعينه رد على صاحبه وإن لم يكن قائما ضمن
بقدر ما أتلف من مال الرجل " فإنه يدل على ضمان الشاهد. لكن صدره يدل
على نقض الحكم بعد الاستيفاء مع قيام العين، لأن الرد على صاحبه يكون
بنقض الحكم وإلا بقيت العين في يد المشهود له وضمن الشهود، وهذا مخالف
لما عليه المشهور، فإنهم يقولون بعدم النقض والضمان حتى مع بقاء العين (1).
كما سيأتي في الصورة الرابعة، وهي الرجوع بعد الحكم والاستيفاء وعدم
تلف العين.
الصورة الثالثة: أن يرجعا بعد الحكم وقبل الاستيفاء
وهو تارة حد وأخرى حق، والأول منه ما يكون لله تعالى محضا ومنه
ما يكون للآدمي محضا، ومنه ما يكون مشتركا.
فإن كان حدا فقد اختار المحقق قده نقض الحكم فيه مطلقا إذ قال: (فإن
كان حدا لله تعالى نقض الحكم للشبهة الموجبة للسقوط وكذا لو كان للآدمي
كحد القذف أو مشتركا كحد السرقة).
قلت: لا ينبغي الكلام في سقوط حد الله المحض، والدليل عليه ما أشار



(1) أقول: ما المانع من تبعيض الخبر بأن نعمل بالذيل ونستدل به للمقام
ونرفع اليد عن الصدر لمخالفة المشهور على المبنى؟ فالأولى هو الجواب
عنه بما في الجواهر من أعمية الرجوع من شاهد الزور المعلوم كونه شاهد زور
كما هو مفاد الخبر.
411
إليه المحقق من تحقق الشبهة الموجبة للسقوط برجوع الشهود، وقد قال رسول
الله صلى الله عليه وآله: " ادرأوا الحدود بالشبهات ".
ثم عطف عليه المحقق حد الآدمي المحض والحد المشترك بينه تعالى
وبين الآدمي. والدليل على ذلك عموم الحديث لهذين القسمين أيضا.
ولكن إذا كان المقصود من " الشبهة " هو الشبهة بالنسبة إلى واقع الأمر
فإنها موجودة حتى مع عدم رجوع الشهود، لأن الشهادة قد تطابق الواقع
وقد لا تطابقه، ولازمه عدم الحكم بشهادة من الشهادات إلا إذا كان الشاهد
معصوما. وإن كان المقصود منها الشبهة في الحكم على أثر الرجوع مثلا،
بمعنى الشك في وقوعه طبق الموازين الشرعية فإن اطلاقات أدلة نفوذ الحكم
والقضاء ترفع هذه الشبهة، وتقتضي نفوذ الحكم. إلا إذا كان الحكم في حد
لدليل ادرأوا الحدود بالشبهات. وهو يعم الأقسام الثلاثة.
وكيف كان ففي الجواهر أنه لا أجد في شئ من ذلك خلافا محققا.
قال: نعم في القواعد عبر بلفظ الأقرب مشعرا باحمال العدم بل قال متصلا
بذلك: والاشكال في حدود الآدمي أقوى ".
قلت: وفي المسالك: " وإن كانت في حد الله تعالى قيل: لم يستوف
لأنه مبني على التخفيف، ويدرأ بالشبهة، وهي متحققة بالرجوع. وإن كان
حق آدمي أو مشتركا فوجهان: من تغليب حق الآدمي. ووجود الشبهة الدارئة
له في الجملة، وهذا أولى. والمصنف جزم بالحكم في القسمين استضعافا
للفرق ".
ويمكن الاستدلال لعدم السقوط بمرسلة جميل بناء على أن المراد من
" قضى عليه " فيه هو الأعم من الاستيفاء وعدمه، فيشمل ما نحن فيه وهو الرجوع
بعد الحكم وقبل اجراء الحد.

412
لكن دليل " تدرأ الحدود بالشبهات " متقدم بالحكومة على المرسلة وعلى
أدلة نفوذ الحكم لو لم نقل بانصرافها في خصوص الحد كما ذكرنا
فالأقوى ما ذهب إليه المحقق.
وإن كان حقا.. فقد قال المحقق: (وفي نقض الحكم في ما عدا ذلك
من الحقوق تردد).
أقول: يحتمل أن يكون مراده من " ما عدا ذلك من الحقوق " الآثار الشرعية
التي تترتب تبعا للحكم بالحد، ويحتمل أن يكون مراده " الحق " في مقابل
" الحد " وهذا هو الأظهر.
ومنشأ تردد المحقق بناءا على الاحتمال الثاني ما ذكره الشهيد الثاني
حيث قال: " إن كانت الشهادة في مال استوفى، لأن القضاء قد نفذ فيه وليس
هو مما يسقط بالشبهة حتى يتأثر بالرجوع. وفيه وجه آخر: أنه لا يستوفى لأن
الحكم لم يستقر بعد، والظن قد اختل بالرجوع " وكذا في كشف اللثام
لكن ظاهرهما ترجيح الوجه الأول ويدل عليه مرسلة جميل.
ومنشأ تردده بناءا على الاحتمال الأول دلالة المرسلة على عدم النقض
من جهة، ومن جهة أخرى: إن الرجوع يوجب الشك في وقوع الحكم طبق
الموازين، فكما ينقض بالنسبة إلى الحد كذلك ينقض بالنسبة إلى الآثار. هذا
أولا. وثانيا: إن الحد والآثار كليهما معلولان لعلة واحدة فكيف التفكيك بينهما؟
والجواب: أما عن الأول فبأن الآثار الأخرى عدا الحد ليس مما يسقط
بالشبهة، فإن الدليل خص ذلك بالحد فقط. وأما عن الثاني فبأنه لا تلازم بين
الأمرين، بل الحد والآثار التابعة حكمان شرعيان، فلا من امتثالهما لأدلة
نفوذ حكم الحاكم، لكن الحكم قابل للتخصيص، وقد ورد المخصص في
خصوص الحد دون الآثار، فالحكم بالنسبة إليها باق على حاله.

413
فالأقوى عدم نقض الحكم إلا في الحد.
ثم إن الآثار قد ذكرنا بعضها. وقد ذكر في القواعد والجواهر منها: آثار
الشهادة بالردة، فإن الحكم في المحكوم بردته إذا رجع الشهود قبل قتله
يسقط للشبهة، لكن تبقى قسمة ماله واعتداد زوجته قال في القواعد وشرحه
عدة الوفاة إن كانت عن فطرة، أو عدة الطلاق لو كانت عن غير فطرة.
ومنها: أثر الشهادة بالقتل وهو القصاص بناءا على كونه من الحدود التي
تدرأ بالشبهة، قال في القواعد وشرحها: " لو رجعا قبل استيفاء القصاص في
النفس لم يستوف، احتياطا في الدماء، وهل ينتقل إلى الدية؟ اشكال، من
الشهادة بحق الآدمي، ولما تعذر القصاص ثبت الدية لأنها بدله، ولئلا يطل
دم امرئ مسلم. ومن أصل البراءة، وأن الدية لا يثبت في العمد إلا صلحا، وأن
الرجوع عن الشهادة عليه أسقطه عن أصله وإلا أوجب القصاص. فإن أوجبناها
رجع بها عليهما أخذا باقرارهما ".
قلت: أولا ليس القصاص من الحدود حتى يعمه دليل الدرء. وثانيا:
لو كان دليل الالحاق هو الاحتياط في الدماء، فلماذا لم تسقط آثار الحكم
بالردة الحاقا بسقوط القتل، مع أن المال والفرج مما يحتاط فيه كالنفس؟
وثالثا: لو سلم الحاق القصاص بالحدود فالأقوى هو الوجه الثاني، وهو عدم
الانتقال إلى الدية لما ذكره كاشف اللثام واختاره صاحب الجواهر.
هذا وفي المسالك: وينبغي الحاق العقوبات كالقتل والجرح بالحدود
والعقود والايقاعات بالمال، لسهولة خطرها وترجيحا لحق الآدمي. ويحتمل
الحاق النكاح بالحدود، لعظم خطره وعدم استدراك فائت البضع.
فبالنسبة إلى " القتل والجرح " مثلا قال: ينبغي الالحاق. وبالنسبة إلى
" النكاح " قال: يحتمل الالحاق. لكن في الجواهر نسب إليه احتمال الحاق

414
الثلاثة بالحدود.
وكيف كان فإنه يضعف بأن ما ذكره وجها للالحاق لا يصلح معارضا للدليل
لأن دليل الدرء مخصوص بالحدود، وعظم خطر الأمور المذكورة وإن
كان صحيحا لا يستوجب الحاقها بالحدود إلا مع القطع بالملاك.
الصورة الرابعة: أن يرجعا بعد الحكم وتسليم المال إلى المحكوم له
لكن عينه قائمة.
وفي هذه الصورة قولان. قال المحقق: (أما لو حكم وسلم، فرجعوا
والعين قائمة، فالأصح أنه لا ينقض ولا تستعاد العين. وفي النهاية: ترد على
صاحبها. والأول أظهر).
أقول: إن الحكم بعدم نقض الحكم في صورة تسليم المحكوم به إلى
المحكوم له أولى من الحكم به في صورة عدم استيفائه له. وأما ضمان
الشاهدين فلأن الحكم المستند إلى شهادتهما أوجب خروج المال عن ملك
المحكوم عليه، فهو كالتلف نظير الالقاء في البحر، ورجوع الشاهدين كالاقرار
بالاتلاف، فهما ضامنان لهذا المال.
وهذا القول هو الأصح وفاقا للمحقق بل المشهور بل قيل: إن عليه عامة
المتأخرين بل والقدماء كما في الجواهر.
وذهب الشيخ في النهاية إلى نقض الحكم ورد العين على صاحبها حيث
قال: وإن كان رجوعهما بعد حكم الحاكم غرما ما شهدا به، إذا لم يكن الشئ
قائما بعينه، فإن كان الشئ قائما بعينه رد على صاحبه، ولم يلزما شيئا " وقد تبعه
عليه بعضهم.
قال في الجواهر: لا لما ذكروه لهم من الوجوه الواضحة الفساد (1)، بل



(1) أقول: أما الوجوه فقد ذكرها صاحب المستند وأجاب عنها وهذا
نص عبارته: واستدل لهم بأن الحق ثبت بشهادتهما، فإذا رجعا سقط كما لو
كان قصاصا، ولأن الحكم دوامه يكون بدوام شهادتهما كما أن حدوثه كان
بحدوثها. (قال): والأول عين النزاع، والقياس على القصاص مع الفارق،
لأن الشبهة في القصاص مؤثرة. والأخير يصح لو قلنا بأن العلة المبقية هي العلة
الموجدة، وهو غير لازم.
وأما جامع المقاصد فليس فيه كتاب الشهادات، ولعل المراد هو كتاب
الجامع للشرائع لابن سعيد الحلي. أنظر ص 546 منه.
وأما الاستدلال بخبر جميل فهو في الكفاية حيث استدل به لهذا القول
معبرا عنه بالصحيحة ثم قال: ولا يبعد ترجيح هذا القول. قال في المستند:
وهو كما قاله بعض مشايخنا المعاصرين غفلة واضحة. فذكر ما قال صاحب
الجواهر.
415
لما عن جامع المقاصد من الرواية بذلك. بل قيل: يمكنهم أن تكون هي رواية
جميل عن الصادق عليه السلام: " في شاهد الزور قال: إن كان الشئ قائما
بعينه رد على صاحبه، وإن لم يكن قائما ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل " (1).
وإن كان فيه ما لا يخفى.
وفيه: أن النقض في مفروض السؤال في الخبر على القاعدة، لأن الحكم
مستند إلى شهادة زور، فهو ساقط، وإذا سقط والعين تالفة ثبت الضمان، من
جهة قوة السبب على المباشر، ولا يصلح هذا الخبر دليلا على النقض في محل
الكلام وهو الرجوع عن الشهادة، فإنه لا يثبت من الرجوع كون الشهادة زورا
بل يتردد الأمر بين صدق الشهادة الأولى والشهادة الثانية.



(1) وسائل الشيعة 18 / 239 الباب 11 شهادات.
416
وبما ذكرنا يظهر ما في كلام كشف اللثام من اختياره لهذا القول معللا له بأن
الرجوع كشف عن بطلان ما استند إليه الحكم من الشهادة، لظهور كذبهم في
أحد القولين، والأصل براءتهم من الغرامة.
لأن المفروض هو التردد بين صدق الأولى والثانية، وأما مع العلم ببطلان
الشهادة الأولى فلا كلام في النقض.
" المسألة الخامسة "
(في ما لو رجع الشهود وكان المشهود به قتلا أو جرحا)
قال المحقق قدس سره: (المشهود به إن كان قتلا أو جرحا فاستوفي ثم
رجعوا، فإن قالوا: تعمدنا أقتص منهم، وإن قالوا: أخطأنا كان عليهم الدية
وإن قال بعض تعمدنا، وبعض أخطأنا.).
أقول: المشهود به إن كان قتلا أو جرحا وكانت الشهادة جامعة للشرائط
المعتبرة حكم الحاكم بالاستيفاء. ثم إذا رجع الشهود عن شهادتهم
التي استند إليها الحكم، وكانوا السبب الواقعي لقتل المشهود عليه أو جرحه
سئلوا عن شهادتهم الأولى:
فإن قالوا: تعمدنا الكذب، اقتص منهم (1)، وذلك لما ذكرنا من قاعدة قوة



(1) قال في الجواهر هنا " إن أمكن ". وهو إشارة إلى أن عبارة المحقق
" اقتص " أعم من القتل والجرح، والقصاص في الطرف وهو الجرح
قد يمكن وقد لا يمكن، فإن أمكن اقتص وإلا انتقل إلى الدية. وهذا معنى
عبارة المسالك: فإن قالوا تعمدنا فعليهم القصاص أو الدية في موضع لا يقتص
فيه من المتعمد موزعة على ما هو مذكور في الجنايات. وكذا في المستند وغيره.
417
السبب على المباشرة، وفي الكفاية أنه المقطوع به في كلام الأصحاب.
وإن قالوا: أخطأنا. كان عليهم الدية. وظاهر قول المحقق وغيره " عليهم "
هو كونها في أموالهم، وبه صرح في الجواهر.
أقول: أما الانتقال إلى الدية فلا كلام فيه، إنما الكلام في أنه من الخطأ
المحض أو أنه شبيه عمد؟
قال في المسالك: " فإن قالوا أخطأنا فعليهم الدية على ما يفصل في قتل
الخطأ " وظاهره أنه من الخطأ المحض، وتبعه بعضهم كصاحب كشف اللثام
حيث قال: " فعليهم الدية في أموالهم، لأنه ثبت باقرارهم، إلا أن تصدقهم
العاقلة ".
وقال صاحب الجواهر: لأنه شبيه عمد.
أقول: " الخطأ " هو وقوع " القتل " مثلا بلا قصد منه إليه، كما لو رمى
حيوانا فأصاب انسانا وقتله.
و " شبه العمد " هو أن يكون قاصدا للقتل لكن يشتبه في تطبيق من يقصد
قتله فيقتل غيره، كمن حفر بئرا على طريق زيد قاصدا وقوعه فيها لأنه مهدور
الدم فوقع فيها فمات، ثم ظهر كون المهدور دمه غير زيد.
و " العمد " هو القيام بهذه المقدمات، مع عدم الاشتباه في التطبيق والعلم
بكونه معصوم الدم.
ففي " العمد " القصاص.
وفي " شبه العمد " الدية في ماله.
وفي " الخطأ " الدية على العاقلة.
فصاحب الجواهر يقول بثبوت الدية في مال الشهود، لأنه شبيه عمد،
وصاحب كشف اللثام يقول: بثبوتها في أموالهم، لأن الخطأ قد ثبت باقرارهم

418
لا بالبينة والاقرار إنما يقبل إذا كان من المقر على نفسه، فلا يفيد لثبوتها
على العاقلة إلا إذا صدقوهم.
فالكل متفقون على ثبوت الدية في أموالهم، إلا أن كاشف اللثام يقول
بثبوتها في أموال العاقلة إن صدقتهم، وتحقيق المطلب في محله إن شاء الله
تعالى.
قال في الجواهر: وكأن الوجه في التمسك بقولهم: " عمدنا " و " أخطأنا "
أنه لا يعرف ذلك إلا من قبلهم ".
قلت: كأنه جواب سؤال مقدر هو: أنه كيف يقبل منهم قولهم: " تعمدنا "
أو " أخطأنا " ويرتب الأثر عليه، مع أن من الممكن أن يكون متعمدا في
الواقع ثم يدعي الخطأ؟
فالجواب: إن القصد وعدم القصد أمران قلبيان، لا يمكن إقامة البينة أو
البرهان عليهما، فهما كبعض الأحكام المتعلقة بالنساء لا يعرفان إلا من قبل
القاتل نفسه.
ثم ذكر رحمه الله فرعا وهو: ما إذا رجعوا عن الشهادة ومنع مانع من
قول " تعمدنا " أو قول " أخطأنا " فلم يعرف الأمر من قبلهم، ولا طريق آخر
لمعرفة ما إذا كانوا متعمدين فالقصاص، أو مخطئين فالدية، فهل يلزم بالدية
لأنه لا يبطل دم امرئ مسلم، أو يوقف الحكم حتى يعلم الحال ولو بأن
ينتقل القصاص على فرضه إلى الدية بموت ونحوه؟ وجهان.
قال في الجواهر: لا يخلو أولهما من قوة.
لو قال بعض تعمدنا وبعض أخطأنا
قال المحقق: " وإن قال بعض: تعمدنا. وبعض: أخطأنا، فعلى المقر بالعمد

419
القصاص وعلى المقر بالخطأ نصيبه من الدية، ولولي الدم قتل المقرين بالعمد
أجمع، ورد الفاضل عن دية صاحبه، وله قتل البعض ويرد الباقون قدر
جنايتهم).
أقول: قال في الجواهر: كل ذلك لا خلاف فيه، بل لعل الاجماع بقسميه
عليه. واستدل له بأمور:
الأول: قاعدة قوة السبب على المباشرة.
وهذه قاعدة مسلمة (1) عند العرف، فإنهم يرون الشاهد هو السبب في إحقاق
الحق أو إضاعته، والحاكم والمباشر للأمر على أثر حكمه معذوران عندهم.
وتؤيد هذه القاعدة النصوص الواردة في موارد مختلفة.
الثاني: عمومات القصاص. كقوله تعالى: " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا
لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل " بناءا على أن يكون له اطلاق.
الثالث: ما ورد في كتاب القصاص من حكم المشتركين في القتل عمدا
وخطأ.
الرابع: نصوص المقام، ومنها:
1 - ابن محبوب: " عن أبي عبد الله عليه السلام في أربعة شهدوا على
رجل محصن بالزنا، ثم رجع أحدهم بعد ما قتل الرجل. قال: إن قال الراجع
الرابع أوهمت ضرب الحد وأغرم الدية. وإن قال: تعمدت قتل " (2).
وقد اشتمل هذا الخبر على وجوب الحد والدية في حال الخطأ، وكأن
الحد للقذف، والدية للقتل عن خطأ، وهذا مما لم يفت به. أما في حال



(1) هذا إشارة إلى جواب مناقشة جامع المدارك في كبرى هذه القاعدة
6 / 159.
(2) وسائل الشيعة 18 / 240 الباب 12 شهادات. مرسل.
420
العمد فقد حكم فيه بالقتل من دون تعرض للحد.
واشتمال الخبر على ما ذكرنا يوجب سقوط تلك الفقرة منه، إن لم يوجب
سقوطه كله.
2 - محمد بن قيس: " عن أبي جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين
عليه السلام في رجل شهد عليه رجلان بأنه سرق، فقطع يده، حتى إذا كان
بعد ذلك جاء الشاهدان برجل آخر فقالا: هذا السارق وليس الذي قطعت يده
إنما شبهنا ذلك بهذا. فقضى عليهما أن غرمهما نصف الدية، ولم يجز شهادتهما
على الآخر " (1).
ومعنى: غرمهما نصف الدية " أنه غرم كل واحد منهما نصف دية الأصابع
التي قطعها بشهادتهما.
3 - السكوني " عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السلام في رجلين شهدا
على رجل أنه سرق، فقطعت يده، ثم رجع أحدهما فقال: شبه علينا، غرما
دية اليد من أموالهما خاصة.
وقال في أربعة شهدوا على رجل أنهم رأوه مع امرأة يجامعها وهم ينظرون
فرجم، ثم رجع واحد منهم. قال يغرم ربع الدية إذا قال: شبه علي. وإذا
رجع اثنان وقالا: شبه علينا غرما نصف الدية، وإن رجعوا كلهم وقالوا: شبه
علينا غرموا الدية. فإن قالوا: شهدنا بالزور قتلوا جميعا " (2).
4 - إبراهيم بن نعيم: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أربعة شهدوا
على رجل بالزنا، فلما قتل رجع أحدهم عن شهادته. قال: فقال: يقتل الرابع



(1) وسائل الشيعة 18 / 242 الباب 14 شهادات. معتبر.
(2) وسائل الشيعة 18 / 243 الباب 14 شهادات.
421
الراجع ويؤدي الثلاثة إلى أهله ثلاثة أرباع الدية " (1).
دل على أن من أقر بالعمد يقتل، ويبقى البحث في دلالته على وجوب
ديته على الثلاثة الباقين، لا على ولي المقتول، وقد قال المجلسي رحمه الله:
ظاهر الأصحاب والأخبار أن المؤدي للدية هو ولي الدم. وسيأتي تمام
الكلام على هذا الخبر حيث يتعرض المحقق لفتوى الشيخ في النهاية.
هذا وفي المسالك هنا ما نصه: " وكذا لو شهدوا بالردة فقتل، أو على
المحصن فرجم، أو على غير المحصن فجلد ومات منه، لكنه هنا يلزمهم
الدية، لأنه عمد شبيه الخطأ، لقصدهم إلى الفعل المؤدي إلى القتل ".
وتوضيحه: أن الشهود إذا شهدوا على غير المحصن فجلد ومات من الجلد،
فإنهم قد شهدوا بما يوجب الضرب، والضرب لا يؤدي إلى الموت غالبا،
فيكون حالهم حال المباشر الذي باشر الضرب بما لا ينتهي إلى الموت عادة
فاتفق موت المضروب. فالحكم هو الدية، لأنه قد صدر الفعل عن عمد ولم
يقصد القتل، فهو شبيه عمد.
لو قال أحد شهود الزنا بعد الرجم تعمدت
قال المحقق: (ولو قال أحد شهود الزنا بعد رجم المشهود عليه: تعمدت.
فإن صدقه الباقون كان لأولياء الدم قتل الجميع.. أما لو لم يصدقه الباقون
لم يمض اقراره إلا على نفسه فحسب. وقال في النهاية: يقتل ويرد عليه الباقون
ثلاثة أرباع الدية. ولا وجه له).
أقول: ذكر المحقق رحمه الله لهذا الفرع صورتين فالأولى:
أن يصدق باقي الشهود قول القائل منهم: " تعمدت " أي أن يقولوا أيضا:



(1) وسائل الشيعة 18 / 240 الباب 12 شهادات. معتبر.
422
تعمدنا. هذا معنى عبارة المحقق وإن كانت غير واضحة فيه، وكذا لو ادعى
تعمد الباقين مثله فصدقوه. ولو كان المراد تصديقهم إياه في قوله " تعمدت "
بمعنى علمهم الآن بكذبه في تلك الشهادة، وأنهم لو علموا بذلك في ذاك
الحين لما شهدوا. كان عليهم الدية ولا يقتلون.
والحكم في هذه الصورة هو أن لأولياء الدم قتل جميع الشهود، ويردون
ما فضل عن دية المرجوم، أي يؤدون لورثة كل واحد منهم ثلاثة أرباع الدية.
وإن شاء أولياء الدم قتلوا واحدا من الشهود مع رضا الباقين، وحينئذ
يرد الباقون تكملة دية المرجوم إلى ولي الدم بالحصص، بعد وضع نصيب
المقتول.
وإن شاؤوا قتلوا أكثر من واحد من الشهود، وعلى الأولياء رد ما فضل
عن دية المرجوم إلى وراث المقتولين، وأكمل الباقون من الشهود ما يعوز
بعد وضع نصيب المقتولين. فلو قتلوا اثنين منهم ردوا على وراثهم ثلاثة
أرباع الدية عن كل واحد، وعلى كل من الاثنين الباقيين ربع الدية، يؤدي
إلى وراث المقتولين.
هذا هو الحكم. وفي الجواهر: لا اشكال في شئ من ذلك ولا خلاف. وفي
المسالك: الضابط إن الشهادة متى أوجبت القتل سواء كان بسبب الزنا أو
بسبب القصاص أو الردة فالحكم ما ذكر من جواز قتل المتعمد، وأخذ الدية
من الخاطئ، وحكم الرد مع زيادة المقتول على ما يفصل في بابه.
والصورة الثانية في هذا الفرع: أن لا يصدق الباقون قول القائل من الشهود
" تعمدت "، وفيها خلاف، فالمحقق رحمه الله قال: " لم يمض اقراره إلا
على نفسه فحسب " قال في المسالك: لاختصاص حكم الاقرار بالمقر، فإن
اختار الولي قتله رد عليه ثلاثة أرباع ديته، وإن اختار أخذ الدية كان عليه

423
الربع خاصة، لأنه إنما أقر بالشركة في القتل. وكذا لو قال: أخطأت.
وفي المسالك عن الشيخ في النهاية: إن قال تعمدت قتل، وأدى الثلاثة
إليه ثلاثة أرباع الدية، وإن رجع اثنان وقالا: أوهمنا ألزما نصف الدية، وإن
قالا: تعمدنا، كان للولي قتلهما ويؤدي إلى ورثتهما دية كاملة بالسوية، ويؤدي
الشاهدان الآخران إلى ورثتهما نصف الدية. وإن اختار الولي قتل واحد قتله،
وأدى الآخر مع الباقين من الشهود على ورثة المقتول الثاني ثلاثة أرباع الدية.
قال في المسالك: ووافقه ابن الجنيد.
قلت: عبارة الشيخ مطلقة، فليس فيها قول الباقين " تعمدنا " أو " أخطأنا "
أو ذكر لبقائهم على الشهادة، فهي باطلاقها مخالفة لفتوى المشهور.
ومستند ما ذهب إليه كما في المسالك والجواهر حسنة إبراهيم بن
نعيم المتقدمة، الصريحة في أنه " يؤدي الثلاثة إلى أهله ثلاثة أرباع الدية "،
وهو مطلق، أي سواء أقروا بالخطأ أو ثبتوا على شهادتهم، وأما لو أقروا بالتعمد
جاز قتلهم كذلك.
فالخبر يدل على قول الشيخ، لكن من الممكن حمله على الاقرار بالخطأ،
أو على صورة شبه العمد، لأنهم لو كانوا يعلمون بكذب الرابع لما شهدوا،
وحيث رجع انكشف لهم، فهو شبيه عمد، وعليهم الدية.
فإن تم هذا الحمل فهو، وإلا فالخبر معرض عنه وإن كان معتبرا سندا،
لمخالفته للأصل، فإن أحدا لا يلزم باقرار غيره.
ومن هنا قال العلامة بعد قول الشيخ: " ليس بجيد " وقال المحقق: " لا وجه له ".
وأما الاشكال في الخبر بأن الرجوع عن الشهادة لا يلازم كون الشهادة بالزور (1)
ففيه: أن جواب الإمام عليه السلام يكشف عن كون تلك الشهادة زورا.



(1) جامع المدارك 6 / 160.
424
فإن قيل: لما كان القاضي من قضاة الجور فإن الشهود كلهم ضامنون،
فيقتلون.
فإنه يجاب بأن جواب الإمام عليه السلام منزل على حكم الحاكم الذي
يجوز الترافع إليه، مع أنه قد يتوقف إحقاق الحق على الرجوع إلى قاضي
الجور، ومع التنزل عن ذلك فإنه لم يكن للشيعة مناص من إنفاذ حكم قضاة
العامة، فإن كانوا كاذبين في شهادتهم ضمنوا، وإلا فقد شهدوا عند هذا القاضي
لأجل إحقاق الحق، فلا ضمان، بل الضامن في الواقع هو القاضي، أما الذي
رجع عن شهادته فالقصاص جزاؤه.
والحاصل أنه إن لم يرجع الباقون فلا شئ عليهم، وإن رجعوا وقتل ولي
الدم أكثر من واحد منهم كان عليه فاضل الدية من ماله الخاص.
ولو قال: تعمدت الكذب وما ظننت قبول شهادتي في ذلك ففي القواعد
والجواهر: في القصاص اشكال. أي: من أنه كان يظن أن هذه الشهادة لا تقبل
فلا يقتل المشهود عليه بها، فهو غير قاصد لقتله، فلا عمد فلا قصاص، ومن أنه
قد قتل المشهود عليه بشهادته، فهو السبب فيه فالقصاص.
واختار في القواعد وكاشف اللثام كما عن المبسوط العدم، قال
العلامة: لكنه شبيه عمد، لأنه قصد الفعل ولم يقصد القتل، فلا تجب إلا الدية
مغلظة. وخالف في التحرير فاختار القصاص، لاعترافه بتعمد ما يقتل غالبا
قلت: وهو مشكل. والتفصيل في محله.
قال في القواعد: وكذا لو ضرب المريض لتوهمه أنه صحيح ما يتحمله
الصحيح دون المريض فمات على اشكال.
ووجه الاشكال ما ذكرنا.
قال كاشف اللثام: وفي التحرير والارشاد القصاص فيه، مع أن العلامة

425
في الارشاد استقرب في الفرع الأول الدية كما هنا. وكأن الفرق بالمباشرة
والتسبيب.
قال: وحاصل المسألتين أنه إذا باشر أو سبب عمدا ما يقتل غالبا بظن أنه
لا يقتل فقتل، فهل هو عمد أو شبيه عمد؟
قلت: وظاهر عباراتهم إن الضمان على الشهود لكن مقتضى القاعدة
ضمان المباشر، لأن الشهود إنما شهدوا بالزنا، والحاكم حكم بالحد، إلا أن
المباشر ضربه وهو يراه مريضا، فهو الضامن.
وفي القواعد: ولو صدقه الباقون في كذبه في الشهادة أي أنه لم يشهد
زناه لا في كذب الشهادة أي إن المشهود به واقع اختص القتل به، ولا
يؤخذ منهم شئ.
قال كاشف اللثام: وإن اعترفوا بأنه لم يكن شهود الزنا بالحق متكاملة، بل
على الولي رد فاضل الدية.
واعترضه في الجواهر بقوله: لا يخلو من نظر مع علمهم بالحال من أول الأمر.
قلت: وهو في محله، إلا إذا كانوا غافلين عن عدم حضور الرابع.
حكم ما لو شهدا بالعتق فحكم ثم رجعا
قال المحقق: (ولو شهدا بالعتق فحكم ثم رجعا ضمنا القيمة تعمدا أو
خطأ لأنهما أتلفاه بشهادتهما).
أقول: إنما يضمنان قيمة العبد، لأن العتق بمنزلة الاتلاف، وقد كانا السبب
في ذلك.
وإذا رجعا لم يرجع رقا، وأما القيمة فهي قيمة العبد في وقت الحكم،
لأنه وقت الاتلاف.

426
وظاهر كلماتهم عدم الخلاف في عدم رجوعه رقا بالرجوع بيننا، قال في
كشف اللثام والجواهر: خلافا لبعض العامة، فرده في الرق. قال الثاني: ولا
وجه له، لأصالة صحة الحكم.
قلت: والأولى الاستدلال بأدلة نفوذ الحكم.
ثم إنه لا يفرق في الاتلاف بين العامد والخاطئ، لأنهما أتلفا المال
على المالك على كل حال بشهادتهما، والمال يضمن بالتفويت.
قال في المسالك والجواهر: ولا فرق بين أن يكون المشهود بعتقه قنا
أو مدبرا أو مكاتبا أو أم ولد أو معلق (1) العتق بصفة، خلافا لبعض العامة في أم
الولد حيث قال: لا غرم، قلت: ولا وجه لقوله، لأن شهادته قد تسبب عتقها في
حال الموت ولدها في حياتها.
ولو كانت الشهادة على تدبير عبد ثم رجعا بعد الحكم، لم يغرم الشاهدان
في الحال، لأن الملك لم يزل ما دام المولى حيا، فإذا مات ولم يرجع عن
تدبيره فوجهان. من جواز الرجوع له متى شاء إلا أن يشهدا بالتدبير منذورا
بأن يكون قد قال مثلا: لله علي إن برئ ولدي من مرضه أن يكون عبدي فلان
حرا بعد وفاتي. فإن النذر هكذا يمنعه من الرجوع ومن أنهما السبب في
العتق، وأنه لا يجب على المولى الرجوع وإن جاز له.
اختار الشهيد الثاني الغرامة، وكاشف اللثام العدم. قال في الجواهر:
ولعله الأقوى. قلت: والوجه في ذلك هو: أن التدبير يقتضي الحرية بعد الموت
والمانع هو رجوع المولى، فإذا لم يرجع أثر المقتضي أثره، ونسب الاتلاف
عرفا إلى المولى لا الشاهدين، نظير ما لو أبلغ الرجل سارقا إلى دار للسرقة،



(1) في المسالك: أو يتعلق العتق بنصفه.
427
فدخلها السارق ومكنه صاحب الدار من السرقة مع امكان دفعه له، فإنه هو
المقصر عند العرف لا الرجل المزبور.
ولو مات المولى ولم يرجع، وقد رجع الشاهدان عن شهادتهما بعد موته
ففي المسالك والجواهر: أغرما للورثة.
قلت: فإن قيل: إن هذا المال يخرج عن ملك المولى بمجرد موته، لأن
المفروض هو التدبير وعدم الرجوع منه، وإذ ليس من ملكه فلا تشمله
ضابطة كل ما ترك الميت من مال أو حق فهو لورثته، فهو ليس للورثة حتى
يغرما لهم.
قلت: إن ثبوت الغرم هو من جهة أنه لو كان هذا المال باقيا في ملك
المولى لانتقل إلى ورثته بموته، لكن السبب في تلفه هو الشاهدان، فهما
المتلفان لما كان ينتقل إليهم، فعليهما الغرم لهم.
هذا فيما لو شهدا على التدبير ورجعا. وأما لو شهدا بكتابة عبده (وفي الكتابة
يخرج العبد عن سلطنة المولى، وليس للمولى الرجوع عن الكتابة بخلاف
التدبير، وليس الكتابة بيعا بأن يبيع المولى العبد من نفسه، إذ لا عرفية لذلك،
بل هي معاملة مستقلة) ثم رجعا، فإن عجز ورد في الرق فلا شئ عليهما، لأنهما
لم يفوتا شيئا كما في القواعد وكشف اللثام والجواهر.
وهل مجرد العجز موجب للرق أو هو ورجوع المولى؟ وجهان والأظهر
الأول.
قال في الجواهر: نعم في التحرير: يحتمل أن يقال: عليهما ضمان أجرة
مدة الحيلولة إن ثبتت، وجزم به في المسالك.
قلت: أي لا يضمنان غيرها شيئا، وشهادتهما وإن أوجبت عيبا في الملك
ونقصت من قيمته، وكان عليهما بذل تفاوت القيمة أيضا، لكن رجوعه إلى الرقية

428
بالعجز رافع للعيب، وذلك مسقط للضمان، فليس عليهما إلا بدل الحيلولة.
هذا كلامهم وفيه اشكال، ولا سيما وأنه ينافي ما سيذكر عنهم من الفتوى بعدم
استعادة الغرامة في الفرع الآتي.
هذا إن عجز.
وإن أدى وعتق ضمن الشاهدان جميع قيمة العبد وفاقا للقواعد والمسالك
والجواهر لأنهما فوتاه على المولى بشهادتهما. وما قبضه السيد من كسب عبده
لا يحسب عليه لأنه ماله.
واحتمل جماعة أن لا يضمنا إلا ما زاد من قيمته على النجوم إن زادت،
بناءا على أن المكاتبة بيع للمملوك من نفسه بالنجوم. لكن قد أشرنا إلى
ضعف هذا المبنى.
ولو أراد تغريمهما قبل انكشاف الحال أي حال العجز أو القدرة على
أداء النجوم غرما ما بين قيمته سليما أو مكاتبا من جهة إن المكاتبة تحدث
فيه عيبا ولا يستعاد من المولى ما أخذه منهما لو استرق، لزوال العيب
بالرجوع، وهو فعل المولى لا فعلهما.
والحاصل أن العيب مستند إلى شهادتهما فيغرمان، ورفعه غير مستند إليهما
حتى تستعاد الغرامة، فلا تستعاد وفاقا للقواعد والجواهر.
هذا لو كانت الكتابة مشروطة، بمعنى عدم تحرر شئ منه حتى يدع
القيمة كلها فيتحرر كله، في مقابل الكتابة المطلقة، بمعنى انعتاقه بإزاء ما يؤديه
من النجوم.
فلو شهدا بالكتابة المطلقة جاء فيها ما ذكر في الشهادة بالمشروطة من
الضمان لما ينعتق منه بإزاء ما يؤديه من النجوم، ومن احتمال ضمان ما زاد من
قيمة الشقص على ما يؤديه منها وقد عرفت ضعف مبناه ومن احتمال

429
التحرير لضمان أجرة الحيلولة إن كانت. ومن أن للمولى تغريم الشاهدين قبل
انكشاف الحال ما بين قيمته سليما ومكاتبا.
ولو شهدا أنه أعتقه على مال هو دون القيمة، فحكم الحاكم، أعتق العبد
وملك المولى المال لأنه يؤدي من كسبه، وضمن الشاهدان القيمة.
ولو شهدا أنه وقفه على مسجد أو جهة عامة فكالعتق، ولا يرد الوقف بالرجوع.
والأمة إن استولدت لا تباع إلا أن يموت ولدها فلو شهدا باستيلاد أمته
ثم رجعا في حياة المولى، غرما ما نقصته الشهادة من قيمتها، ولا تستعاد الغرامة
من المولى إن مات الولد، لأنه ارتفاع عيب بفعله تعالى.
أما لو قتلا ولدها فهل لهما الرجوع في الغرامة؟ في كشف اللثام والجواهر
احتمال. أي: لارتفاع العيب بفعلهما حينئذ. ولكنه مشكل. والله العالم.
" المسألة السادسة "
(في بعض أحكام شهادة الزور)
قال المحقق: (إذا ثبت أنهم شهدوا بالزور نقض الحكم واستعيد المال
فإن تعذر غرم الشهود، ولو كان قتلا ثبت عليهم القصاص وكان حكمهم حكم
الشهود إذا أقروا بالعمد. ولو باشر الولي القصاص واعترف بالتزوير لم يضمن
الشهود، وكان القصاص على الولي).
أقول: إذا ثبت عند الحاكم أن الشهود الذين حكم بشهادتهم قد شهدوا
بالزور نقض الحكم لانكشاف اختلاف ميزان الحكم، بل هو أولى بالنقض من
تبين فسق الشهود.
وحينئذ فإن كان مورد الحكم مالا استعيد إلى المشهود عليه، فإن تعذر

430
إعادته إليه غرم الشهود، لأنهم هم السبب تلفه على مالكه (1) ويدل عليه مع
ذلك نصوص (2) منها:
1 - جميل عن أبي عبد الله عليه السلام: " في شاهد الزور قال: إن كان
الشئ قائما بعينه رد على صاحبه، وإن لم يكن قائما ضمن بقدر ما أتلف من
مال الرجل ".
2 - محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام: " في شاهد الزور ما
توبته؟ قال: يؤدي من المال الذي شهد عليه بقدر ما ذهب من ماله. "
وإن كان مورد الحكم قتلا، فقتل المشهود عليه، ثبت القصاص على
الشهود إن كان المباشر لا يعلم بكونها شهادة زور. وذلك لأن حكم الشهود
في هذه الحال حكمهم إذا رجعوا وأقروا بالعمد، الذي قد عرفت ثبوت القصاص
عليهم فيه دون المباشر.
وأما لو باشر الولي القصاص ثم اعترف يكون الشهادة التي أقامها شهادة
زور لم يضمن الشهود، وكان القصاص على الولي خاصة، لكونه هو السبب
في القتل، ومن هنا أيضا يكون عليه الدية لو باشر القصاص واعترف بالخطأ.
ولو رجع مع الشهود فهل عليه القصاص فقط كذلك أو يكون معهم
كالشريك فيقتص منهم جميعا؟ وجهان.
من أنه المباشر وهم معه كالممسك مع القاتل، ومن أنهم متعاونون معه
على القتل وليسوا كالممسك مع القاتل، فإنهم قد صوروه بصورة المحقين،



(1) أقول: لكن هذا لا ينفي ضمان المحكوم له العالم بالحال، فهو ضامن
أيضا كالشهود، وللمشهود عليه الرجوع إلى أي الطرفين شاء.
(2) وسائل الشيعة 18 / 238 الباب 11 شهادات.
431
فعليهم جميعا القصاص أو الدية منصفة بالحساب.
والأجود هو الأول تبعا للمسالك والجواهر.
" المسألة السابعة "
(حكم ما لو شهدا بالطلاق ثم رجعا)
قال المحقق قدس سره: " إذا شهدا بالطلاق ثم رجعا، فإن كان بعد الدخول
لم يضمنا، وإن كان قبل الدخول ضمنا له نصف المهر المسمى، لأنهما لا يضمنان
إلا ما دفعه المشهود عليه بسبب الشهادة)
أقول: في الشهادة بالطلاق ثم الرجوع عنها ذكر المحقق رحمه الله
صورتين، إحداهما: أن تكون الشهادة بعد الدخول، والثانية أن تكون قبله.
والمقصود بالبحث في هذه المسألة هو الضمان، وأما حكم الحاكم فلا
ينتقض برجوع الشاهدين، لأن قولهما في الرجوع محتمل فلا يرد القضاء
المبرم بقول محتمل.
وثبوت الضمان وعدمه في هذه المسألة مبني على أن البضع هل يضمن
بالتفويت كما لو فوت الشخص منافع أجير لغيره بحبس ونحوه، أم لا
يضمن، كما لو فوت منافع الحر بحبسه، فإنه لا يضمن له شيئا؟
قال المشهور بالثاني، وعلى هذا فلو قتلها الزوج أو قتلت هي نفسها لم
يضمن بضعها، وكذا لو غصب أمة وماتت في يد الغاصب يضمن بذلك قيمة
الأمة وقيمة منافعها وإن لم يستوفها دون بضعها مع عدم استيفائه.
وقيل: بالأول، لأن البضع متقوم بالمال، ومن ثم لو استوفاه مستوف
ضمن بقيمته، وهي مهر المثل.

432
فعلى المشهور يأتي التفصيل الذي ذكره المحقق قدس سره، لأنه إن
كانت الشهادة بعد الدخول من الزوج لم يضمن الشاهدان شيئا، لاستقرار
المهر بالدخول، قال في الجواهر: خصوصا إذا كان الطلاق رجعيا وقد ترك
الرجوع باختياره، للأصل، ولأنهما لم يفوتا عليه إلا منفعة البضع، وهي لا
تضمن بالتفويت.
وإن كانت قبل الدخول ضمنا للزوج نصف المهر المسمى لها، وعلله
في المسالك بقوله: " لأنهما ألزماه به وقد كان بمعرض السقوط بالردة والفسخ
من قبلها " ولكنه تعليل غير واضح، لأن كونه في معرض السقوط لا يوجب
عدم الضمان، وإلا فإن كل مال يتلفه الانسان من غيره هو في معرض السقوط
عن المالية والخروج عن الملكية، فيلزم أن لا يثبت ضمان مطلقا.
وكيف كان ففي الجواهر: لا خلاف أجده في شئ من ذلك إلا ما يحكى
عن الشيخ في النهاية، قال: " إن شهد رجلان على رجل بطلاق امرأته
فاعتدت وتزوجت ودخل بها ثم رجعا، وجب عليها الحد، وضمنا المهر للزوج
الثاني، وترجع المرأة إلى الأول بعد الاستبراء بعدة من الثاني ".
قال في المسالك: واستند الشيخ في ذلك إلى موثقة إبراهيم بن عبد
الحميد عن أبي عبد الله عليه السلام: " في شاهدين شهدا على امرأة بأن
زوجها طلقها، فتزوجت ثم جاء زوجها فأنكر الطلاق. قال: يضربان الحد
ويضمنان الصداق للزوج، ثم تعتد، ثم ترجع إلى زوجها " (1).
واحتمل في الجواهر استناده إلى خبر محمد بن مسلم عن الباقر عليه
السلام: " في رجلين شهدا على زوج غائب عن امرأته أنه طلقها، فاعتدت
المرأة وتزوجت، ثم إن الزوج الغائب قدم فزعم أنه لم يطلقها، وأكذب



(1) وسائل الشيعة 18 / 241 الباب 13 شهادات.
433
نفسه أحد الشاهدين. فقال: لا سبيل للأخير عليها، ويؤخذ الصداق من الذي
شهد ورجع، فيرد على الأخير، ويفرق بينهما، وتعتد من الأخير، وما
يقربها الأول حتى تنقضي عدتها " (1).
وقد أجاب في الجواهر عن موثق إبراهيم بن عبد الحميد بوجهين:
أحدهما: أنه خال عن رجوع الشاهدين أو أحدهما، وحينئذ يشكل ضربهما
الحد. والثاني: أنه يشكل نقض الحكم بمجرد انكار الزوج.
ثم قال: فهو حينئذ شاذ غير موافق لما سمعته من الشيخ رحمه الله ولا من
غيره.
قلت: الظاهر أن السؤال عن قضية شخصية لا عن حكم كلي، وليس في
الخبر ذكر من سؤال الإمام عليه السلام عن الرجوع، وهل كانا متعمدين في
شهادتهما أو عن خطأ؟ لكن حكمه عليه السلام بالحد والقضية شخصية
دليل المفروغية بينه عليه السلام وبين الراوي عن كونهما متعمدين، وإلا لما
حكم بضربهما الحد، ولعله حد القيادة، أو أن المراد هو التعزير. وحينئذ لا
مانع من نقض الحكم، لتبين اختلال ميزان الحكم، فلا وجه لطرح الخبر بما
ذكره صاحب الجواهر (1).



(1) وسائل الشيعة 18 / 242 الباب 13 شهادات. صحيح.
(1) ولعله لذا لم يشكل صاحب المسالك في الخبر بذلك، بل اكتفي
بالجواب عنه بقوله: " والرواية ضعيفة بإبراهيم، فإنه واقفي وإن كان ثقة " لكن
هذا إنما يتم على مسلكه الذي لم يوافق عليه إلا القليل، كما فصل في محله،
ثم إنه رحمه الله ذكر حمل الرواية على ما لو تزوجت بمجرد الشهادة من غير
حكم الحاكم، وقد ذكر هذا الحمل جماعة منهم المحقق نفسه في النافع.
434
ثم إنه رحمه الله حمل الخبر على تزويجها بالشهادة من غير حكم، قال:
وحمله على ما ذكره الشيخ ليس بأولى من حمله على تزويجها بشهادتهما
من دون حكم حاكم، ثم لما جاء الزوج رجعا عن الشهادة، واعترفا بأنهما
شهدا زورا، فلا يكون به دلالة حينئذ على ما ذكره ".
وهذا الحمل صحيح، لعدم التعرض في الخبر للحكم، وأما الحد فوجهه
ما احتملناه.
وعبارة الشيخ أيضا خالية عن الحكم ولذا جعل العلامة في المختلف
ما ذكر بالنسبة إلى الخبر محملا لقول الشيخ أيضا لكن في الجواهر: " فيه
ما فيه " وكأنه إشارة إلى قول الشهيد الثاني: وليس بجيد، فإن الشيخ استند
إلى الرواية وعمل بظاهرها، فلا تأويل لكلامه.
هذا كله بالنسبة إلى موثقة إبراهيم بن عبد الحميد.
وأما الجواب عن صحيحة محمد بن مسلم فهو أنها قضية في واقعة كذلك
ولم يرد فيها الحكم بالحد، وهذا كاشف عن علمه عليه السلام بخطأ الشاهدين
في الشهادة. فهي محمولة على هذا المحمل.
هذا والغائب يحكم عليه، ولكن الغائب على حجته، ومعنى ذلك أن حكم
الحاكم محدود، وينتهي أمده بحضور الغائب وإقامته الحجة.
هذا والذي يسهل الخطب ندرة العامل بالخبرين، واعراض المشهور
عنهما، وقد تقرر عندنا أن اعراض المشهور موهن، ولا سيما وأن الشيخ نفسه
لم يفت بهما في المبسوط، حيث قال ما نصه: " وأما إن شهدا بالطلاق ثم رجعا
لم يخل من أحد أمرين، إما أن يكون قبل الدخول أو بعده، فإن كان بعد الدخول
فعليهما مهر مثلها عند قوم، وقال آخرون: لا ضمان عليهما وهو الأقوى، لبراءة
ذمتهما. وإذا شهدا بالطلاق قبل الدخول ثم رجعا، فإن الحكم لم ينقض،

435
وعليهما الضمان عند قوم. وكم يضمنان؟ قال قوم: كمال مهر المثل، وقال
آخرون نصف المهر وهو الأقوى، ومن قال بهذا منهم من قال مهر المثل،
ومنهم من قال نصف المسمى، وهو الأقوى عندنا. ومنهم من قال: إن كان
المهر مقبوضا لزمهما كمال المهر، وإن لم يكن مقبوضا لزمهما نصف المهر،
والفصل بينهما إذا كان مقبوضا غرمه كله لا يسترد منه شيئا، لأنه معترف لها
ببقاء الزوجية بينهما، فلما حيل بينهما رجع بكله عليهما، وليس كذلك إذا
كان قبل القبض، لأنه لا يلزمه إلا اقباض نصفه، فلهذا رجع عليهما بالنصف.
وهو قوي " (1).



(1) وقال في الخلاف: " إذا شهد على طلاق امرأة بعد الدخول بها،
وحكم الحاكم بذلك، ثم رجعا عن الشهادة، لم يلزمهما مهر مثلها ولا شئ منه
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، فمن أوجب عليهما شيئا فعليه الدلالة. وأيضا:
ليس خروج البضع عن ملك الزوج له قيمة، بدلالة أنه لو طلق زوجته في
مرضه لم يلزم مهر مثلها من الثلث، كما لو أعتق عبده أو وهبه، فلما بطل ذلك
ثبت أنه لا قيمة له، وكان يجب أيضا لو كان عليه دين يحيط بالتركة فطلق
زوجته في مرضه، أن لا ينفذ الطلاق كما لا ينفذ العتق والعطاء، فلما نفذ طلاقه
ثبت أنه لا قيمة له، لخروجه عن ملكه، فإذا ثبت أنه لا دية له لم يلزمه ضمان كما
لو أتلفا عليه ما لا قيمة له.
المسألة 78: إذا شهدا عليه بالطلاق قبل الدخول بها ففرق الحاكم بينهما
ثم رجعا، غرما نصف المهر، وبه قال أبو حنيفة، وللشافعي فيه قولان. دليلنا:
أنه إذا حيل بينهما قبل الدخول لزمه نصف المهر، فوجب أن لا يرجع عليهما
إلا بقدر ما غرم. وأيضا: الأصل براءة الذمة، وما ألزمناهما مجمع عليه، وما زاد
عليه ليس عليه دليل. وأيضا: فإنه إذا طلقها قبل الدخول بها عاد إليه نصف
الصداق، فلو قلنا يرجع عليهما بكل المهر حصل له مهر ونصف، وذلك باطل.
436
والحاصل أن الخبرين إما مطرحان وإما مؤلان، وأن الحكم لا ينقض،
وأنه لا ضمان على الشاهدين مع دخول الزوج، وأما ضمانهما نصف المهر
إن كان شهادتهما قبل الدخول فهو صريح المحقق والعلامة في القواعد وغيرهما
ولم يذكر أحد منهم دليلا تطمئن إليه النفس لضمان الشاهدين نصف المهر
حينئذ (1).



(1) أقول توضيحا للمسألة وتحريرا لمواضع الخلاف فيها:
أولا: أنه قد اختلفت عبارات الأصحاب في عنوان هذه المسألة، فالمحقق
في المتن يقول: إذا شهدا بالطلاق ثم رجعا، فإن كان بعد الدخول لم يضمنا،
وإن كان قبل الدخول ضمنا له نصف المهر المسمى، لأنهما لا يضمنان إلا ما
دفعه المشهود عليه بسبب الشهادة " هذه عبارته ولا تعرض فيها لحكم الحاكم
ولا لخلاف للشيخ، مع أن من عادته التعرض لأقوال الشيخ كما هو معلوم.
وفي النافع يقول: لو شهدا بطلاق امرأة فتزوجت ثم رجعا، ضمنا المهر
وردت إلى الأول بعد الاعتداد من الثاني. وتحمل هذه الرواية على أنها
نكحت بسماع الشهادة لا مع حكم الحاكم، ولو حكم لم يقبل الرجوع " فتراه
يورد أولا مضمون صحيحة محمد بن مسلم فيحملها على المحمل المذكور،
ثم ينص على أنه لو حكم الحاكم لم يقبل الرجوع، ولا تعرض في كلامه
لحكم الضمان.
والعلامة في التحرير يقول: لو شهدا بطلاق امرأة رجعا أو رجع
أحدهما قبل الحكم بطلت شهادتهما وبقيت على الزوجية، وإن رجعا بعد
الحكم، فإن كان ذلك قبل الدخول.. " فتراه يفصل في العنوان بين الرجوع
قبل الحكم والرجوع بعده، ويجعل التفصيل بين ما إذا كان بعد الدخول أو قبله
متفرعا على الصورة الثانية، ومن هنا أضاف في المسالك والجواهر قيد
" وحكم به الحاكم " إلى عبارة الشرائع. فيكون عنوان هؤلاء للمسألة هو:
رجوع الشاهدين بعد الحكم بشهادتهما بثبوت الطلاق عن الشهادة.
أما الشيخ فقد أوردنا عباراته في النهاية والخلاف والمبسوط، وكذلك
أوردها العلامة في المختلف، والملاحظ أن عنوانه للمسألة في الخلاف
والمبسوط يختلف عما هو في النهاية. أما في الكتابين فقد تعرض ل‍ " حكم
الحاكم " وأما في النهاية فجاءت عبارته مطابقة للنص كما هو حال هذا
الكتاب غالبا والنص أما صحيحة محمد بن مسلم وأما موثقة إبراهيم بن عبد
الحميد، وكلاهما خال عن " الحكم ". بل المراد تزوج المرأة بشهادتهما ثم
رجوعهما عن الشهادة وقد تزوجت بزوج آخر، والخبران ظاهران في هذا،
وقد أفتى المحقق في النافع بهما كما علمت.
فظهر أن الشيخ غير مخالف في النهاية في مفروض القوم، وما في الجواهر
من قوله: " بلا خلاف أجده في شئ من ذلك إلا ما يحكى عن الشيخ في
النهاية. " في غير محله. بل تلك مسألة أخرى. كما ظهر أن عبارة النهاية
والخبرين ظاهرة في تلك المسألة، ولا حاجة إلى حملها عليها.
ثم إنه قد نسب إلى الكليني والصدوق والقاضي والحلبي موافقة الشيخ
فيما عنونه وذهب إليه في النهاية، فالخبران معمول بهما عند قدماء الأصحاب
لا معرض عنهما. وقد عرفت عبارة المحقق في النافع.
ثم إني بعد أن كتبت هذا راجعت مباني تكملة المنهاج فوجدته دام ظله
قد عنون في متنه المسألة بقوله: " إذا أنكر الزوج طلاق زوجته وهي مدعية
له، وشهد شاهدان بطلاقها، فحكم الحاكم به ثم رجعا وأظهرا خطأهما فإن
كان بعد الدخول.. " ثم عنون مسألة النهاية بقوله: " إذا شهد شاهدان بطلاق
امرأة زورا، فاعتدت المرأة وتزوجت زوجا آخر مستندة إلى شهادتهما، فجاء
الزوج وأنكر الطلاق.. " واستدل على الحكم فيها بموثقة إبراهيم بن عبد
الحميد واصفا إياها بالصحيحة على مبناه.
وثانيا: أن الحكم بعدم انتقاض الحكم برجوع الشاهدين بعده غير صاف
عن الاشكال، ففي الكفاية: وإن رجعا بعد حكم الحاكم بالمفارقة فالمقطوع
به في كلامهم أنه لا ينتقض الحكم بل يثبت الطلاق، لأنه ثبت بالبينة المقبولة
وحكم به الحاكم بالقضاء المبرم، فلا يبطل بمجرد رجوع الشهود المحتمل
للصحة والفساد، فإن الثابت بدليل شرعي لا ينتقض إلا بدليل شرعي. قال: وفي
التعليل تأمل.
بل قال في المستند بناءا على ظهور الخبرين في انتقاض الحكم كما
ذكر القوم، ولذا قالوا بأنهما مخالفان للقواعد المحكمة " أي دليل شرعي
أقوى من الصحيح والموثق، الموافقين لفتوى جمع من أساطين القدماء،
وغير المخالفين لفتوى جمع من المتأخرين، حيث ترددوا في المسألة مع
نقل أقوال أخر فيها أيضا عن جماعة؟ وهل يطلق على مثل ذلك الحديث الشاذ
النادر؟ وهل ذلك الدليل أضعف من حديث درء الحدود بالشبهات الذي نقضوا
به الحكم المبرم في الحدود كما مر؟ مع أنه يمكن الكلام في تعيين الشبهة
وصدقها في المورد.
ولعله من هنا قال في جامع المدارك: إن ما في المتن من أنه إذا كان ما ذكر
بعد الحكم لم يقبل الرجوع مشكل جدا، حيث إن النكاح ليس من قبل الأموال،
فإن المحكوم عليه فيها مع قطعه بأن الحكم على خلاف الواقع لا بد له من
التسليم في الظاهر، والمرأة كيف يجوز لها أن تمكن نفسها للأجنبي، بل
يشكل تسليم من حكم عليه بالقتل نفسه للقتل مع رجوع من شهد، بل مع
عدم الرجوع وكون المحكوم عليه غير مستوجب للقتل.
وثالثا: ما ذهب إليه المحقق في المتن من وجوب نصف المهر على الشاهدين
إن كانت شهادتهما قبل دخول الزوج منسوب إلى الأكثر في المستند وإلى المشهور
في مباني التكملة، لكنه غير خال عن الاشكال، فالعلامة في التحرير وإن
وافق عليه بالتالي إلا أنه أشكل عليه بقوله: عندي في هذه المسألة اشكال،
ينشأ من كون الرجوع إنما يثبت على الشاهد فيما يتلفه بشهادته، ووجوب نصف
المهر قبل الدخول أو المهر بعده لم يتلف من الزوج شيئا، لأنه واجب عليه،
سواء طلق أو لم يطلق..
وصاحب الجواهر ظاهره التردد فيه. قال في المستند: وهو في موقعه
جدا، للزوم النصف بمجرد العقد وتلفه به، سواء كانت باقية على التزويج أو
حصل موت أو طلاق، فلم تتضمن الشهادة اتلافا. وتوجيه الاتلاف بأنه
كان في معرض السقوط بالردة أو الفسخ من قبلها فكأنه لم يكن لازما ولزم
باقرارهما. نادر جدا. لأن مجرد ذلك الاحتمال العقلي الذي لا يلتفت إليه عقل
سليم لا يصدق الاتلاف الموجب للضمان عرفا، بل غايته احتمال اتلاف ضعيف
غايته، وهل يترك أصل البراءة التي هي القاعدة المجمع عليها المدلول عليها كتابا
وسنة بمثل ذلك الاحتمال؟
فإن قلت: الزام ما هو محتمل السقوط ولو بالاحتمال الضعيف أيضا ضرر
عليه.
قلنا: لو سلم ذلك فاللازم ضمان ما يصلح أن يكون بإزاء ذلك الضرر
عرفا وقيمة له، لا نصف الصداق، مع أنها قد تكون قد أبرأته عن النصف،
أو تصالحه بشئ قليل بعد الصداق، فالقول بضمان نصف الصداق مشكل.
وتوهم الاجماع المركب فيه بعد وجود أقوال شتى في المسألة ولو كان بعضها
ضعيف المأخذ فاسد، والأصل يحتاج رفعه إلى دليل ثابت، وإلا فهو أقوى
دليل.
وفي مباني تكملة المنهاج: الأظهر عدم الضمان خلافا للمشهور، ثم
استدل بما ذكره النراقي.
أما السيد الأستاذ دام ظله فقد استشكل فيما ذكر وجها للمشهور بل أعله،
لكنه كالجواهر يأبى عن مخالفة المشهور.
437
ومن هنا قال في الجواهر: إن المتجه عدم ضمان شئ إن لم يكن اجماعا
بناء على أن الطلاق لم يسبب استحقاق شئ، بل هو على فرض حصوله من
الفواسخ، وكان المهر كله واجبا بالعقد، وليس هو معاوضة حقيقة، ولذا يجب
جميعه على الأصح في صورة الموت، ولكن للدليل في الطلاق سقط نصفه
وبقي النصف الآخر مستحقا بالعقد، وحينئذ فلم يغرماه بشهادتهما شيئا.
إلا أنه كان له حبس المهر على التمكن من البضع، وقد فات بالشهادة
المزبورة، وهو أمر غير متقوم، مع أنه لا يتم في ما إذا كانت شهادتهما بعد
دفعه المهر لها، واسقاط حقه من الحبس المزبور.
وهذا وجه اشكال الفاضل في التحرير، إلا أنه لم أجده قولا لأحد من
أصحابنا، نعم قد تشعر عبارة المبسوط السابقة بوجود قائل بعدم الضمان أصلا.
ولعل الاتفاق المزبور كاف في الفتوى بضمان النصف الذي هو مستحق
عليه باعترافه بالزوجية المقتضية وجوب النصفين عليه.

441
نعم لو قلنا بأن الطلاق سبب في غرامة مقدار نصف المهر اتجه حينئذ
تغريهما ذلك، لفرض بقاء المهر في ذمته مستحقا عليه باعترافه، وهذا غرامة
حدثت بسبب شهادة الطلاق ".
وبناء على انتقاض الحكم برجوع الشاهدين، ورجوع المرأة إلى الزوج
الأول، فإن المتضرر بالشهادة هو الزوج الثاني، فإن كانت شهادتهما قبل دخوله
فالضمان عليهما بالنصف، وإن كانت بعده فلا ضمان.
هذا إن كان للزوجة مهر مسمى.
قال في الجواهر: ولو لم يكن لها مسمى وجب نصف المتعة بناء على
وجوبها.
قلت: لم يتضح لنا معنى هذه العبارة، فإن المتعة ليس لها قدر معين.
هذا كله لو شهدا بطلاق امرأة.
حكم ما لو شهدا بنكاح امرأة ورجعا
قال في القواعد والتحرير: ولو شهدا بنكاح امرأة فحكم به الحاكم ثم
رجعا، فإن طلقها قبل الدخول لم يغرما شيئا، لأنهما لم يفوتا عليها شيئا، وإن
دخل بها وكان المسمى بقدر مهر المثل أو أكثر منه ووصل إليها فلا شئ
عليهما، لأنها أخذت عوض ما فوتاه عليها. وإن كان دونه فعليهما ما بينهما، وإن لم
يصل إليها فعليهما ضمان مهر مثلها، لأنه عوض ما فوتاه عليها.
وقد تنظر في الجواهر في قوله: ولم يصل إليها فعليهما ضمان مهر مثلها.
قلت: في هذه الملة ثلاثة أمور فالأول: أن قوله: " وإن لم يصل إليها "
مطلق، أي سواء تعذر وصوله من الزوج أو لا. وفي حاشية القواعد هنا: هذا
إن تعذر من الزوج. والثاني: قوله: " فعليهما " أي لا ضمان على الزوج.

442
والثالث: قوله: " مهر مثلها " أي لا: لا المسمى.
فكون الضمان على الشاهدين لا الزوج فيه نظر، من أن المفروض استيفاء
الزوج البضع، فهو أولى بالضمان منهما، ومن هنا قالوا بقرار الضمان على
المتلف في صورة توارد الأيدي. ومن أنه لولا شهادة الشاهدين وحكم الحاكم
استنادا إلى شهادتهما كما تمكن الزوج من استيفاء البضع، فالتفويت مستند
إليهما وهما السبب، فعليهما الضمان، ثم إن كان الزوج جاهلا بوقوع العقد
كما لو وكل شخصا في اجراء الصيغة فشهدا عنده بوقوعه قبل أن يخبره
الوكيل، فدخل بها ثم رجع الشاهدان لم يكن لهما الرجوع على الزوج
فيما غرماه للمرأة، لأنهما اللذات غراه، بل قد يقال بعدم ضمان الزوج لهما
واقعا.
وكون المضمون لها مهر المثل لا مهر المسمى فيه نظر، من أن المفروض
إقامة الزوج الشهادة على النكاح وهو المدعي له، فإنه بذلك تملك الزوجة
مهر المسمى، وهو التالف، فهو المضمون. ومن أن الشاهدين الراجعين لا يقران
بمهر المسمى، بل يقران بكذبهما في الشهادة التي ترتب عليها فوت البضع
فالمستقر على الضامن هو مهر المثل لا أكثر. نعم لو كان الزوج عالما بالواقع
ومقرا بالنكاح أخذ باقراره.
هذا كله إذا كان المدعي للنكاح هو الرجل.
ولو كان المدعي هو المرأة قال في القواعد: فإن طلق الزوج قبل الدخول
بأن قال: إن كانت زوجتي فهي طالق، ضمنا للزوج نصف المسمى، وإن كان
الطلاق بعد الدخول، فإن كان المسمى الذي شهدا به أزيد من مهر المثل ضمنا
الزيادة للزوج، ولا ضمان إن ساواه أو نقص.
قال في الجواهر: ولا يشكل ذلك بعدم جواز الدخول له لانكاره الزوجية

443
لأنه يمكن فرض دعوى الامرأة ذلك، مع عدم علمه بالحال، فإنه يجوز له
الدخول حينئذ بحكم الحاكم، فإذا فرض رجوع الشاهدين عما شهدا به من
النكاح بمهر معلوم ضمنا له التفاوت بينه وبين المسمى على الوجه الذي عرفت.
قال في القواعد: ولو شهدا بعتق الزوجة فحكم الحاكم ففسخت النكاح
ثم رجعا غرما القيمة للمولى، ومهر المثل للزوج إن جعلنا البضع مضمونا
وإلا فلا.
قال: ولو شهدا برضاع محرم بعد النكاح ففرق الحاكم بينهما، ثم رجعا
ضمنا مهر المثل على القول بضمان البضع، وإلا فلا.
قال كاشف اللثام والجواهر: ولا فرق في هذه الضمانات بين تعمد الشاهدين
وخطأهما.

444
فروع
(الأول في ضمان الشاهدين إذا رجعا)
قال المحقق قدس سره: (إذا رجعا معا ضمنا بالسوية، فإن رجع أحدهما
ضمن النصف. ولو ثبت بشاهد وامرأتين فرجعوا ضمن الرجل النصف وضمنت
كل واحدة الربع. ولو كان عشر نسوة مع شاهد فرجع الرجل ضمن السدس
وفيه تردد).
أقول: لقد دلت صحيحة محمد بن مسلم على أنه إذا رجع الشاهدان
عن شهادتهما بعد الحكم بشهادتهما واستيفاء المشهود له المال ضمنا ما أتلفاه
بشهادتهما على المشهود عليه بالسوية، فنصف على هذا ونصف على ذاك،
لتساويهما في السبب المقتضي لذلك. فإن رجع أحدهما دون الآخر ضمن
الراجع النصف.
ولو ثبت المشهود به بشاهد وامرأتين فرجعوا جميعا، ضمن الرجل النصف
والمرأتان النصف الآخر، فعلى كل واحدة الربع، لأنهما بمنزلة رجل، كما
هو مقتضى النصوص والفتاوى في المواضع المختلفة، بل هو صريح ما عن
التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام عن أمير المؤمنين عليه

445
السلام أنه قال: " عند الله تعالى شهادة امرأتين شهادة رجل ".
قال في القواعد: ولو كان بشاهد ويمين ضمن الشاهد النصف، قال في
كشف اللثام: بناء على ثبوت الحق بهما معا. لكن ظاهر الجواهر موافقة
العلامة لقوله: لأن الظاهر ثبوت الحق بهما معا، وكذا في المستند.
وفيه وجهان آخران أحدهما: أن يكون الضمان على الحالف لو رجع
دون الشاهد سواء رجع أو لا. لأن المشهود به يثبت باليمين فحسب. والثاني: أن
يكون الضمان على الشاهد لو رجع دون الحالف، لأن المثبت هو الشاهد
واليمين شرط قبول الشهادة.
لكن يمكن أن يقال بالتنصيف مطلقا، لأن حكم الحاكم مستند إلى
كليهما فكل منهما جزء للسب، والسبب أقوى من المباشرة.
ولو أكذب الحالف نفسه اختص بالضمان، سواء رجع الشاهد أو لا،
وكذا كل مقام يرجع فيه المدعى يختص بضمان ما استوفاه، ولا غرم على
الشاهد.
قال المحقق: " ولو كان عشر نسوة مع شاهد، فرجع الرجل ضمن السدس
وفيه تردد ".
أقول: وجه تردد المحقق هنا حيث يشهد الرجل الواحد مع عشرة نسوة
في حق لا يثبت بالنساء منفردات هو: أن عدد النسوة أكثر من القدر اللازم شرعا،
فإن كان الحكم ثابتا بالجميع فإن كل امرأتين تعادلان رجلا، ويكون الأقساط
ستة أسداس، فإذا رجع الرجل كان عليه السدس، وإن كان الرجل نصف البينة،
لأن المفروض توقف ثبوت الحق على شهادته معهن، كان عليه نصف الضمان وعليهن
النصف الآخر. فهذا الفرض من صغريات هذا الفرع، من جهة كون الرجل فيه أحد طرفي
البينة كما في الرجلين والرجل والامرأتين، فهل يكون الضمان بالسوية كذلك أو لا؟

446
ويمكن أن يكون من صغريات الفرع الآتي المبحوث فيه عن ضمان العدد الزائد
لو رجع عن الشهادة وعدم ضمانه.
لكن مقتضى ما سنذكره في الفرع الآتي هو ثبوت الحكم بالجميع فأما
أصل الضمان بالرجوع فثابت، وأما مقداره فكل بقسطه، وعليه فإذا رجع الرجل
ضمن السدس لا النصف، وكان على كل واحدة من النسوة إذا رجعت نصف
السدس لا نصف العشر.
وربما يحتمل بناء على ما هو الصحيح من ثبوت الحق بالجميع كما
ستعرف أن يكون كل فرد سببا مستقلا للثبوت، فيكون على الرجل إذا رجع
الواحد من الأحد عشر قسطا. ولكن هذا الاحتمال لم يذكره أحد، وتظهر
ثمرته فيما لو اشترك رجل وامرأتان في قتل فهل على كل منهما ثلث الدية أو
على الرجل النصف وعلى كل واحدة الربع؟ وكذا فيما لو اشترك رجلان
في قتل فضرب أحدهما ضربتين والآخر ضربة واحدة، فهل تقسم الدية أثلاثا
أو نصفين.
" الفرع الثاني "
(في حكم الضمان لو كانوا ثلاثة)
قال المحقق قدس سره: (لو كان الشهود ثلاثة ضمن كل واحد منهم
الثلث ولو رجع منفردا. وربما خطر أنه لا يضمن، لأن في الباقي ثبوت الحق
ولا يضمن الشاهد ما يحكم به بشهادة غيره للمشهود له، والأول اختيار الشيخ.
وكذا لو شهد رجل وعشر نسوة، فرجع ثمان منهن قيل: كان على كل
واحدة نصف السدس، لاشتراكهم في نقل المال، والاشكال فيه كما في الأول).

447
أقول: قد أشرنا إلى أن الصحيح اشتراك جميع الشهود حتى الزائد
منهم في الحكم وثبوت الحق، لاشتراك كل واحد منهم في السببية له، والسبب
أقوى من المباشر، وهذا هو مفاد صحيحة محمد بن مسلم، الذي جاء فيه
" يؤدي من المال الذي شهد عليه بقدر ما ذهب من ماله، إن كان النصف أو
الثلث، إن كان شهد هذا وآخر معه ".
وعليه فلو كان الشهود ثلاثة في المال مثلا، ضمن كل واحد منهم الثلث،
ولو رجع الثالث الزائد منفردا، وفاقا للشيخ وابن سعيد والجواهر، بل فيه:
لم نعرف قائل منا بما خطر في بال المصنف، كما إنا لم نعرف له وجها إلا ما
ذكره. وفيه: ما عرفت من صدق الثبوت بالجميع، والصحيح السابق.
وهذا هو الوجه في القول بضمان كل واحدة من الثمان نسوة الراجعات
لنصف السدس. وأنه لا وجه للاشكال فيه.
" الفرع الثالث "
(لو قامت بينة بجرح الشهود ونقض الحكم فمن الضامن؟)
قال المحقق قدس سره: (لو حكم فقامت بينة بالجرح مطلقا لم ينقض
الحكم، لاحتمال التجدد بعد الحكم. ولو تعين الوقت وهو متقدم على
الشهادة نقض، ولو كان بعد الشهادة وقبل الحكم لم ينقض).
أقول: هذا الفرع يشتمل على مطالب.
فالمطلب الأول يتعلق بالنقض وعدمه
وذلك لأنه لو حكم الحاكم ببينة، فقامت بينة بجرح تلك البينة، فالبينة

448
الجارحة إما هي مطلقة غير معينة للجرح بوقت، وإما هي معينة له، وعلى
الثاني فإما يكون وقت الجرح متقدما على الشهادة، وإما يكون وقته بعد الشهادة
وقبل الحكم، فهذه ثلاث صورة.
أما في الصورة الأولى حيث الجرح غير معين الوقت فالحكم عدم نقض
الحكم، قال المحقق: لاحتمال تجدد الفسق بعد الحكم. وقد استدل له في
الجواهر بموافقة الحكم لأصل الصحة واستصحابها، لكن في هذا الاستدلال
نظر ذكرناه سابقا، نعم لا مانع من استصحاب عدالة الشاهد المتيقنة سابقا حتى
حال الحكم، وقد ذكرنا أن ظاهر آية النبأ وجوب التبين من نبأ الفاسق في
حين المجئ بالنبأ، أو يجرى أصالة الصحة في يقين الحاكم في حين الحكم.
لكن الأولى مع ذلك هو الاستدلال لعدم النقض بأدلة نفوذ حكم الحاكم،
فإنها تقتضي حرمة النقض حتى يحصل العلم بمخالفة الحكم للموازين، والمفروض
عدم العلم هنا بكون الشاهد فاسقا حين الحكم.
وأما في الصورة الثانية حيث وقت الفسق متقدم على الشهادة، فالحكم
نقض الحكم بذلك، لتبين اختلال موازينه.
وأما في الصورة الثالثة حيث وقت الفسق متأخر عن الشهادة فالحكم عدم
نقض الحكم، لأن اللازم هو العدالة حين أداء الشهادة. والفسق بعده غير
مضر بالحكم وإن كان قبله. وإذ لم يمنع الحكم في هذه الحال فلا يوجب
انتقاضه إن كان بعده بالأولوية. خلافا لجماعة قالوا باشتراط بقائه على العدالة
حتى حين الحكم وبعده. وقد تقدم الكلام على ذلك في محله.
والمطلب الثاني يتعلق بالضمان حيث ينقض بالحكم قال المحقق:
(وإذا نقض الحكم، فإن كان قتلا أو جرحا فلا قود، والدية في بيت المال،
ولو كان المباشر للقصاص هو الولي ففي ضمانه تردد، والأشبه أنه لا يضمن مع

449
حكم الحاكم وإذنه. ولو قتل بعد الحكم وقبل الإذن ضمن الدية).
أقول: إذا نقض الحكم فتارة يكون المحكوم به حدا أو قصاصا وأخرى
يكون مالا.
فإن كان حدا من قتل أو جرح وباشره الحاكم أو من أمره بها فلا قود،
بل يثبت للمحدود الدية، لأنه حينئذ قد قتل بلا مجوز فلا يبطل دمه، لكنها
ليست على الحاكم أو من أمره، بل في بيت مال المسلمين للنص المروي
عندنا، قال أمير المؤمنين عليه السلام في خبر الأصبغ: " إن ما أخطأت القضاة
من دم أو قطع فهو على بيت مال المسلمين " (1) والمراد من " القضاة " فيه هو
" القضاة العدول ". فإنه إذا قضى القاضي العدل حسب الموازين ثم ظهر
الخطأ في حكمه، كان خطؤه في الحكم في بيت مال المسلمين، المعد للمصالح
التي لا ريب في أن ذلك منها، وإلا لأدى إلى ترك الحكم بالشهادة تحرزا عن
ضرر الدرك.
وإن كان قصاصا وباشره ولي الدم فقد تردد المحقق رحمه الله في ضمانه،
ثم رجح التفصيل بين ما إذا كانت مباشرته مع حكم الحاكم وإذنه فلا ضمان،
وبين ما إذا كان مع الحكم وقبل الإذن ضمن الدية. وحاصله عدم القود
كذلك، لأنه قتل خطأ.
ووجه تردد المحقق هو كون الولي هو المباشر من جهة، وكون السبب
في قتله هو حكم الحاكم، وأقوى من المباشرة.
وفي المسالك: " لو باشر القتل بعد الحكم وقبل إذن الحاكم له في الاستيفاء
تعلق به الضمان، لتوقف جواز استيفائه على إذن الحاكم وإن كان أصل الحق



(1) وسائل الشيعة 18 / 165 الباب 10 من أبواب آداب القاضي، رواه
الصدوق والشيخ باسنادهما إلى الأصبغ. وليلاحظ اسنادهما إليه.
450
في ذلك له. ويحتمل عدم الضمان هنا أيضا وإن أثم، لأن حكم الحاكم بثبوت
الحق اقتضى كونه المستحق، وإن أثم بالمبادرة بدون إذن الحاكم ".
أقول: هنا بحثان، فالأول: هل يعتبر إذن الحاكم في الاستيفاء أو لا يعتبر؟
لقد قال المحقق في كتاب القصاص: " إذا كان الولي واحدا جاز له المبادرة
قبل إذن الحاكم. والأولى توقفه على إذن الإمام ". وهذا وإن كان لا يخلو
من تشويش، لأن " الأولى " لا يجتمع مع " توقفه على الإذن، ولعله من هنا
أضاف في الجواهر الأحوط " إلى " الأولى " ينافي ما ذكره هنا، لأنه إذا
كانت المباشرة جائزة بلا إذن فلا وجه للضمان، وإلا فالضمان، فبين الكلامين
تهافت.
اللهم إلا أن يكون القول بعدم جواز القصاص بلا إذن من جهة كون القصاص
من الحدود، وهي لا تقام إلا بيد الحاكم أو بإذنه. ولكن إذا كان كذلك فلم يقال
بجواز المبادرة بلا إذن؟
وهنا أشكل الجواهر بعدم ما يدل على اعتبار الإذن في الاستيفاء بعد الحكم.
قال: بل لعل ظاهر الأدلة كتابا أي: كقوله تعالى: " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا
لوليه سلطانا " ونحوه وسنة وهي الأخبار الواردة في الباب 19 من أبواب
القصاص عدمه. وقياس القصاص على الحد أو دعوى أنه منه كما ترى.
والبحث الثاني: أنه قد تقرر كون الضمان على السبب لكونه أقوى من
المباشر، فمن السبب في هذه المسألة؟
قد أشكل الجواهر على المحقق بأن اعتبار الإذن وعدم اعتباره لا مدخلية
له في أقوائية المباشرة على التسبيب بل لو سلم تساويهما كان الضمان على
المباشر، لأنه هو القاتل حقيقة، ولعله لذا يحكى عن قول العامة بأن على الولي
الدية وإن كان مأذونا، بل هو ظاهر اطلاق تردد المصنف أيضا، وإن اختار

451
التفصيل بعده. قال: وهو لا يخلو عن قوة إن لم يكن اجماعا.
قلت: لكن يرد على الجواهر أنه قال بضمان الشهود إذا رجعوا، لكونهم
السبب، وهو أقوى من المباشر، فلماذا لم يقل هنا بضمان الحاكم بناء على
ذلك؟
والشيخ رحمه الله ذكر التفصيل كالمحقق، لأن القصاص كالحد يجب
اجراؤه بيد الحاكم، وإن كان من حقوق الناس، دفعا للهرج والمرج واختلال
النظام، فلو أراد الولي المباشرة توقف على إذن الحاكم، ولو كان بدونه كان
ضامنا.
فتحصل أن التفصيل يتوقف على وجود الدليل على اعتبار الإذن، وكون
المباشرة أقوى من التسبيب.
هذا كله إن كان المحكوم به حدا أو قصاصا. قال المحقق:
(وأما لو كان مالا فإنه يستعاد إن كانت العين باقية، وإن كانت تالفة فعلى
المشهود له، لأنه ضمن بالقبض، بخلاف القصاص. ولو كان معسرا قال الشيخ
ضمن الإمام، ويرجع به على المحكوم له إذا أيسر. وفيه اشكال من حيث
استقرار الضمان على المحكوم له بتلف المال في يده، فلا وجه لضمان الحاكم).
أقول: هذا هو المطلب الثالث، فإنه لو كان المحكوم به مالا بأن قامت
بينة على كون المال الذي بيد زيد هو لعمرو فحكم الحاكم، ثم قامت بينة
أخرى على جرح الأولى نقض الحكم. فإن كانت عين المال باقية استردت
وإن كانت تالفة ضمن المشهود له. قال المحقق: " لأنه ضمن بالقبض " أي:
إنه ضمان يد، وعلى اليد ما أخذت حتى تؤدي، وأما بالنسبة إلى النفس فهو
ضمان الاتلاف.
قال في الجواهر: أن قوله: ضمن بالقبض إشارة إلى ما يحكى عن الشيخ

452
من الفرق بينه وبين الدية، بأن الحكم إن كان بالمال حصل في يد المشهود
له ما يضمن باليد، وضمان الاتلاف ليس بضمان اليد، فلهذا كان الضمان
على الإمام لكنه كما ترى إذ الاتلاف وإن لم يكن ضمان يد لكنه ضمان
لمباشرة الاتلاف المندرج في قاعدة من أتلف، ومن قتل مؤمنا خطأ، وغير
ذلك؟
قلت: هكذا قالوا لكن يمكن التفريق بين التغرير وعدمه، فإنه حيث يكون
التغرير يرجع المغرور على من غره، وإن كان الشئ تالفا بيده.
فإن كان المحكوم عليه بالضمان معسرا قال الشيخ: ضمن الإمام، ويرجع
به على المحكوم له إذا أيسر، لأن الحاكم قد تسبب إلى اتلاف المال.
وفيه: أنه لا وجه لضمان الحاكم، بل المتجه أنظار الضامن، لعموم قوله
تعالى: " فنظرة إلى ميسرة " للمقام.

453
مسائل
" المسألة الأولى "
(في تخالف البينتين على من أعتق)
قال المحقق قدس سره: (إذا شهد اثنان أن الميت أعتق أحد مماليكه
وقيمته الثلث. وشهد آخران أو الورثة إن العتق لغيره وقيمته الثلث.).
أقول: إذا شهد اثنان إن الميت أعتق غانما وقيمته تساوي ثلث ماله.
وشهد اثنان آخران أو ورثة الميت جميعهم بأنه أعتق سالما وقيمته تساوي
ثلث ماله كذلك، فعلى القول بأن المنجزات من الأصل عتق العبدان كلاهما،
لقيام البينة الكاملة على عتق كل واحد منهما بلا خلاف ولا اشكال. وعلى
القول بأن المنجزات تخرج من الثلث، فالمعتق أحد العبدين دون الآخر إلا
إذا أذن الورثة.
وحينئذ فإن عرف السابق منهما كان هو المعتق، وإن جهل تاريخهما أو
علم تاريخ أحدهما وجهل الآخر ولم نرجع إلى الاستصحاب لاثبات تأخر
مجهول التاريخ عن معلومه لكونه أصلا مثبتا، كان المرجع هو القرعة وإن احتمل
التقارن بين العتقين، وذلك لأنه لو اتفق عتقهما في حالة واحدة قال الشيخ يقرع

454
بينهما ويعتق المقروع، فالمحتمل أولى بذلك.
والدليل على هذا الحكم المرسل المعمول به في فعل النبي صلى الله عليه
وآله بالعبيد الذي أعتقهم الأنصاري ولا يملك سواهم، فهو حكم تعبدي خاص
بمورده، ولذا لو عقد على أختين في وقت واحد يحكم ببطلان كليهما ولا يرجع
إلى القرعة.
وفي المسالك: ولو علم سبق أحدهما ولم يعلم عين السابق فوجهان أحدهما
أنه يقرع كما لو أعتقا معا، لأن معرفة السبق من غير معرفة السابق لا ينفع شيئا،
والثاني: أنه يعتق من كل واحد نصفه، لأنا لو أقرعنا لم يؤمن خروج الرق
على السابق وللسابق حق الحرية، فيلزم منه ارقاق حر وتحرير رق.
واعترضه في الجواهر بقوله: وهو من غرائب الكلام، ضرورة جريانه
في كثير من موارد القرعة، التي استفاضت بها النصوص المصرحة بعدم خطأها
لو فوض القارع فيها الأمر إلى الله تعالى الذي لا يخفى عليه خافية، ولذا
لم يحتمله أحد من أصحابنا، نعم هو أحد قولي الشافعي كما حكاه الرافعي.
قلت: بل احتمال التنصيف يخالف الواقع قطعا، لأنه قد أعتق أحد العبدين
بكامله، فالتنصيف مقطوع البطلان، أما مع القرعة فبغض النظر عن جواب
الجواهر يكون اللازم الذي ذكره محتملا.
هذا كله فيما لو كان كل منهما يساوي ثلث ما ترك الميت.
قال المحقق: (ولو اختلفت قيمتهما.)
أقول: ذكر الشهيد الثاني هذا بقوله: ويتفرع على القولين ما لو قامت
البينتان كذلك لكن لأحد العبدين سدس المال، فإن قلنا بالقرعة وخرجت للعبد
الخسيس عتق وعتق معه نصف الآخر ليكمل الثلث، وإن خرجت للنفيس
انحصر العتق فيه، وإن قلنا هناك يعتق من كل واحد نصفه فهنا وجهان:

455
أحدهما: أنه يعتق من كل واحد ثلثاه، لأن ما زاد على الثلث من المتبرع
ينسب إلى جميع التبرع، وينقص بتلك النسبة من كل واحد منهم، وإذا
نسبنا الزائد على الثلث وهو السدس هنا إلى جميع التبرع وهو النصف كان
ثلثه، فيرد العتق في ثلث كل واحد منهما وينفذ ثلثيه.
قال في الجواهر: وبعبارة أخرى أنه كما لو أوصى لرجل بثلث ماله ولآخر بسدسه
فإنه يعطي كل واحد ثلثي ما أوصى له به، وذلك لأن نسبة السدس مع الثلث
ثلثان وثلث، فيقسم الثلث حينئذ بينهما، ثلثان منه لمن أوصى له بالثلث، وثلث
منه لمن أوصى له بالسدس، لأن النقص الحاصل عليه على نسبة ما لهما من الوصية،
كما هو واضح.
والثاني: أنه يعتق من النفيس ثلاثة أرباع، ومن الخسيس نصفه، لأنه
إن سبق اعتاق النفيس فجميعه حر، وإن سبق اعتاق الآخر فنصفه على التقديرين،
وإنما النزاع والازدحام في النصف الثاني، وهو قدر ثلث المال، فيقسم بينهما،
فيعتق من النفيس ربعه ومن الخسيس نصفه.
ثم قال في المسالك: ونبه المصنف بقوله: " وشهد آخران أو الورثة إن
العتق لغيره " أنه لا فرق هنا بين شهادة الوارث وغيره، إذ لا تهمة للوارث تمنع
شهادته هنا، وإن كانت واردة في غيره هذه الصورة كما سيأتي في ما لو شهدوا
بالرجوع عن الأول. ويزيد الورثة عن الأجانب أنه لا يشترط هنا كونهم
عدولا، لأن شهادتهم بعتق الثاني مع عدم تعرضهم للأول بمنزلة الاقرار بعتقه
مضافا إلى ما ثبت بالبينة. نعم يشترط كون الشاهد جميع الورثة كما يرشد إليه
قول المصنف " أو الورثة ". وقال في المسألة الثانية: وشهد من ورثته عدلان،
ولو كانوا عدولا كفى منهم اثنان كالأجانب.
ويرد على قوله: " وإن كانت واردة. " كما في الجواهر أنه لا تهمة في

456
المسألتين، لأنه إذا شهد الوارث بالرجوع عن الأول لا يقول ببقاء الموصى به
على ملك الميت حتى ينتقل إلى الوارث فيكون متهما في شهادته، بل يشهد
برجوعه عن الأول إلى الثاني، فلا يجر بشهادته نفعا إلى نفسه ليكون متهما.
وأما اشتراط شهادة جميع الورثة فظاهر الوجه، لأنه إذا شهد بعضهم
فقد أقر بانعتاق العبد بقدر سهمه، وحينئذ يقرع بين هذا المقدار وكل العبد
الآخر، فإذا شهد جميعهم فقد أقروا كلهم بعتق العبد كله.
وأما اشتراط كون الشاهدين من الورثة عدلين في المسألة الثانية
فظاهر الوجه كذلك، لأن شهادتهما بالرجوع سواء كانت بعد دعوى الموصي
له ذلك أو لا ليست بمنزلة الاقرار، فيعتبر فيهما العدالة.
وأما قول الجواهر: لكن اشكال المصنف في الثانية يأتي هنا ضرورة كون
الورثة هتم المدعى عليهم في المسألتين. ففيه: أن المدعى عليه هو الموصى
له الأول، والمدعي هو الموصى له الثاني، والوارثان شاهدان. فليس الورثة
المدعى عليهم في المسألة الثانية.
" المسألة الثانية "
(في ما لو شهدا بالوصية لزيد وشهد وارثان بالرجوع إلى عمرو)
قال المحقق قدس سره: (إذا شهد شاهدان بالوصية لزيد، وشهد من
ورثته عدلان أنه رجع عن ذلك وأوصى لخالد، قال الشيخ: تقبل شهادة
الرجوع، لأنهما لا يجران نفعا. وفيه اشكال من حيث إن المال يؤخذ من يدهما
فهما غريمان للمدعي).
أقول: يقول المحقق قدس سره بأن المال يؤخذ من يده الورثة على كل حال

457
وإذ كانوا غرماء فإن الغريم لا يصلح للشهادة مطلقا، نعم لو شهد الغارم للغريم
قبل لأنه اقرار.
فالوارثان في هذه المسألة غريمان. بخلاف المسألة السابقة فقد قامت
البينة فيها على أن الميت أعتق غانما، وشهد الورثة بأنه قد أعتق سالما، فإنه
يمكن صحة كلتا الشهادتين، إذ لا مانع من عتق الميت لكلا العبدين، غير أن
الحكم الشرعي لم ينفذ في الأكثر من الثلث، فإن علم السابق منهما فهو المعتق
وإلا فالقرعة عند الشيخ، والتنصيف على القول الآخر. فلا غرم في المسألة
السابقة، بخلاف هذه المسألة. فاشكال الجواهر غير وارد.
ويمكن دفع اشكال المحقق على الشيخ قدس سرهما: بأن اليد إن كانت
مالكية بمعنى دعوى صاحبها كون ما بيده ملكا له كان المدعي غارما، وإن
كانت أمانية فإن صاحبها يعترف بعدم كون ما بيده ملكا له. وما نحن فيه من
القسم الثاني، لأن الورثة يقرون بأن ليس لهم أكثر من الثلثين، فإن ثبت
الرجوع أعطوا المال إلى الثاني وإلا فالأول. وحينئذ فليس شهادتهم في القضية
شهادة الغريم.
وبعبارة أخرى: أن الموصى له الثاني والورثة يعترفون بالوصية للأول.
غير أن الثاني يدعي الرجوع فهو المدعي والأول ينكره فهو المدعى عليه،
فإذا شهد الورثة للثاني وهم عدول قبلت شهادتهم، لوجود المقتضي وعدم
المانع.
ولو كذب الوارثان الشاهدين، فإن كانا عدلين وقع التعارض بين البينتين،
وإن كانا فاسقين رتب الأثر على شهادة الشاهدين.
ولو قالا لا نعلم فقيل بالقرعة. لكن الأقوى ترتيب الأثر على قول
الشاهدين.

458
" المسألة الثالثة "
(في ما لو شهدا لزيد بالوصية وشهد واحد بالرجوع إلى عمرو
فهل له الحلف معه؟)
قال المحقق قدس سره: (إذا شهد شاهدان لزيد بالوصية، وشهد شاهد
بالرجوع وأنه أوصى لعمرو. كان لعمرو أن يحلف مع شاهده، لأنها شهادة
منفردة لا تعارض الأولى).
أقول: لا كلام في هذه المسألة، وإنما عنونها المحقق لبيان أن ما تقرر من
أن الشاهد واليمين لا يعارض البينة هو في صورة اتحاد المشهود به، أما هنا
فهي شهادة منفردة لا تعارض الشهادة الأولى، فتقبل كذلك كما هو الحال في
سائر موارد الشهادة في الأموال.
" المسألة الرابعة "
(في ما لو أوصى بوصيتين منفردتين)
قال المحقق قدس سره: (لو أوصى بوصيتين منفردتين، فشهد آخران
أنه رجع عن إحداهما قال الشيخ: لا يقبل لعدم التعيين، فهي كما لو شهدت
بدار لزيد أو عمرو).
أقول: قال في المسالك: وجه ما اختاره الشيخ من البطلان إن الابهام
يمنع قبول الشهادة. ونسب الحكم إلى الشيخ مؤذنا بعدم ترجيحه.
ووراء قول الشيخ وجهان آخران أحدهما: القرعة لأنه أمر مشكل،
والمستحق في نفس الأمر أحدهما، ونسبتهما إليه على السواء، وقد تعذر علمه

459
بموت الموصي، وكل أمر مشكل فيه القرعة. والثاني: القسمة بينهما، لأنه
مال قد انحصر فيهما، ونسبتهما إليه على السواء فيقسم بينهما، ويجعل كأنه رد
وصية كل واحد إلى نصفها، والقرعة لا يخلو من قوة.
ووافقه صاحب الجواهر.
قلت: إذا كان اطلاق دليل حجية البينة موجبا لحجية البينة المرددة لزم
قبول الشهادة بالرجوع.
أما التقسيم فلم يحتمله الشيخ، بل قال: " وعندنا يقرع بين الأولين "
وحينئذ يرجع إلى القرعة لمعرفة أيهما المستحق إن قلنا بحجية البينة المرددة،
ولمعرفة السابق من الوصيتين إن قلنا بعدم حجيتها.
وهنا احتمال آخر وهو بطلان الوصيتين معا، لأن القرعة يرجع إليها
حيث يكون عدم الاقتران معلوما، وأما مع الاقتران فكلاهما باطل.
هذا، ولو أجاز الورثة كلتا الوصيتين نفذتا معا، كما هو واضح.
" المسألة الخامسة "
(في ما إذا ادعى العبد العتق وأقام البينة)
قال المحقق قدس سره: (إذا ادعى العبد العتق وأقام بينة تفتقر إلى
البحث وسأل التفريق حتى تثبت التزكية. قال في المبسوط: يفرق.
وكذا لو أقام مدعي المال شاهدا واحدا وادعى أن له آخر وسأل حبس
الغريم، لأنه متمكن من اثبات حقه باليمين.
وفي الكل اشكال، لأنه تعجيل العقوبة قبل ثبوت الدعوى).
أقول: قال الشيخ: " إذا ادعى عبد على سيده أنه أعتقه فأنكر فأتى العبد
بشاهدين فشهدا له عند الحاكم بذلك ولم يعرف الحاكم عدالتهما، فقال له

460
العبد: فرق بيننا حتى نبحث عن العدالة، قال قوم: يفرق بينهما وقال آخرون:
لا يفرق، والأول أقوى، لأن العبد قد فعل ما يجب عليه، لأنه أتى ببينة كاملة وإنما
بقي ما ليس عليه من البحث عن حال الشهود، ولأن الظاهر العدالة حتى يظهر
الجرح، ولأن المدعي قد يكون أمة، فإذا لم يفرق بينهما لم يؤمن أن يواقعها،
فلهذا يفرق بينهما. "
أقول: قد ذكر الشيخ لما ذهب إليه دليلين أحدهما: أصالة العدالة في
المسلم. وهذا فيه بحث وخلاف. والآخر: إن العبد أتى ببينة كاملة. وفيه: أن
المفروض عدم ثبوت عدالة الشاهدين عند الحاكم، والشيخ نفسه قال بعدم
الحكم في زمن الفحص عن العدالة.
وكذا الكلام في الأمة المدعية للعتق، وفي الفرع الثاني الذي ذكره
المحقق.
والحاصل: أنه ما لم يتم ميزان الحكم ولم يحكم الحاكم لا يترتب على
سؤال العبد والمدعي شئ، ولا أقل من اقتضاء الاستصحاب بقاء العبد على ملك
مولاه، وبقاء المال المدعى به على ملك مالكه.
(قال الميلاني)
هذا آخر الكلام على ما ذكره المحقق الحلي رحمه الله في (الشهادات)
من كتاب (شرائع الاسلام).
ونسأله تعالى أن يوفقنا للعلم والعمل، ويسدد خطانا، ويجعل أعمالنا
خالصة لوجهه الكريم، بمحمد وآله الطيبين الطاهرين، وآخر دعوانا أن
الحمد لله رب العالمين.
قم المقدسة الحوزة العلمية
علي بن نور الدين بن محمد هادي الحسيني الميلاني

461
/ 1