بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: الأراضي المؤلف: الشيخ محمد إسحاق الفياض الجزء: الوفاة: معاصر المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن تحقيق: الطبعة: سنة الطبع: المطبعة: الناشر: ردمك: ملاحظات: طبع على نفقة العلامة الجليل الحاج الشيخ غلام رضا شريعتي واخوانه / حقوق الطبع محفوظة للمؤلف - رقم الإيداع في المكتبة الوطنية ببغداد 268 لسنة 1981 / 1000 - 1 / 4 / 1981 الأراضي مجموعة دراسات وبحوث فقهية اسلامية بقلم محمد إسحاق الفياض طبع على نفقة العلامة الجليل الحاج الشيخ غلام رضا شريعتي واخوانه دامت توفيقاتهم حقوق الطبع محفوظة للمؤلف رقم الايداع في المكتبة الوطنية ببغداد 268 لسنة 1981 1000 - 1 / 4 / 1981
1 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين
5 المقدمة الأرض التي قد استولى المسلمون عليها من دون قتال، سواء أكان من ناحية انجلاء أهلها أم كان من ناحية تسليمها للمسلمين ابتداء، أو صلحا فلا شبهة في كونها من الأنفال. وتدل على ذلك: - إضافة إلى عدم الخلاف بين الأصحاب قديما وحديثا، بل عن جماعة دعوى الاجماع في المسألة - مجموعة من النصوص منها صحيحة حفض بن البختري عن أبي عبد الله (ع) قال: (الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، أو قوم صالحوا، أو قوم أعطوا بأيديهم، وكل ارض خربة، وبطون الأودية فهو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو للإمام (ع) من بعده، يضعه حيث يشاء) (1). وهذه الصحيحة تتضمن عدة عناوين قد جعلت كلها من الأنفال. الأول: ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب. الثاني: ارض الصلح، على تفصيل يأتي في محله.
(1) الوسائل ج 6 الباب 1 من أبواب الأنفال الحديث 1. 7 الثالث: الأرض التي سلمها أهلها للمسلمين تسليما ابتدائيا. الرابع: الأرض الخربة. الخامس: بطون الأودية. وسوف نتكلم في كل واحد من هذه العناوين في ضمن البحوث القادمة بشكل موسع انشاء الله تعالى. ومنها موثقة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (ع) انه سمعه يقول: (ان الأنفال ما كان من ارض لم يكن فيها هراقة دم أو قوم صولحوا واعطوا بأيديهم وما كان من ارض خربة، أو بطون أودية، فهذا كله من الفئ، والانفال لله وللرسول. وما كان لله فهو للرسول (ص) يضعه حيث يحب) (1). وهذه الصحيحة كالأولى ولا فرق بينهما إلا في نقطة واحدة وهي ان في الصحيحة الأولى قد جعل الأنفال للرسول (ص)، ومن بعده للأئمة (ع). وفي هذه الصحيحة قد اقتصر على جعلها للرسول (ص) ولكن هذا المقدار من الفرق غير فارق بعد ما كان معلوما من الخارج ان ما كان للرسول (ص) فهو للإمام (ع). ومنها: صحيحة معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد الله (ع): (السرية يبعثها الإمام (ع) فيصيبون غنائم كيف يقسم قال: إن قاتلوا عليها مع أمير أمره الإمام (ع) اخرج منها الخمس لله وللرسول، وقسم بينهم أربعة أخماس، وان لم يكونوا قاتلوا عليها المشركين كان كل ما غنموا للإمام (ع) يجعله حيث أحب) (2).
(1، 2) الوسائل ج 6 الباب 1 من أبواب الأنفال الحديث 10، 3 8 وهذه الصحيحة تدل بوضوح على أن كل ما غنم من الكفار من دون قتال فهو للإمام (ع) هذا. ولكن لا يبعد اختصاص هذه الصحيحة بغير الأرض بقرينة التقسيم فيها. ومنها: موثقة سماعة بن مهران قال: سألته عن الأنفال فقال: (كل راض خربة، أو شئ يكون للملوك فهو خالص للامام، وليس للناس فيها سهم، قال: ومنها البحرين لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب) (1). ومنها: موثقة إسحاق بن عمار قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن الأنفال فقال: (هي القرى التي قد خربت وانجلى أهلها فهي لله وللرسول (ص)، وما كان للملوك فهو للإمام (ع)، وما كان من الأرض بخربة لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، وكل ارض لا رب لها، والمعادن منها، ومن مات وليس له مولى فما له من الأنفال (2). وهذه الموثقة: تتضمن مجموعة من العناوين وجعلت جميعها من الأنفال وسيأتي البحث عن كل واحد منها في ضمن الأبحاث الآتية. ومنها: موثقة زرارة عن أبي عبد الله (ع) قال: قلت له: ما يقول الله: (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول) وهي كل ارض جلا أهلها من غير أن يحمل عليها بخيل، ولا رجال، ولا ركاب، فهي نفل لله وللرسول) (3).
(1، 2، 3) الوسائل ج 6 الباب 1 من أبواب الأنفال الحديث (8، 20، 9). 9 وهنا عدة روايات أخرى. تدل: على ذلك، ولكن بما انها جميعا كانت ضعيفة سندا فلا يمكن الاعتماد عليها، الا ان يدعى تواترها اجمالا، وهو غير بعيد. بحث عن عدة خطوط الخط الأول: ان هذه الروايات تصنف إلى عدة مجموعات: الأولى: جاءت بهذا النص كل ارض خربة للإمام (ع). الثانية: جاءت بنص آخر: القرى التي قد خربت، وانجلى أهلها فهي لله، وللرسول (ص). الثالثة: جاءت بنص ثالث: ما كان من الأرض بخربة لم يوجف عليها بخيل، ولا ركاب الرابعة: جاءت بنص رابع: كل ارض جلا أهلها من غير أن يحمل عليها بخيل، ولا رجال، ولا ركاب، فهي نفل لله، وللرسول (ص). الخامسة: جاءت بنص خامس: كل ارض لا رب لها. السادسة: جاءت بنص سادس: أو قوم صالحوا، أو قوم أعطوا
10 بأيديهم، وبعد ذلك نقول: لا شبهة في أن المجموعة السادسة: لا تنافي بقية المجموعات برمتها، كما هو ظاهر. وأما المجموعة الخامسة: فهي أيضا لا تنافي سائر المجموعات. اما عدم تنافيها للمجموعة الرابعة بنكتة ان جلاء أهل الأرض لا يستلزم انقطاع علاقتهم عنها نهائيا لكي تصبح الأرض من الأرض التي لا رب لها. وذلك لأن منشأ جلاء أهلها لا يخلو من أن يكون خوفهم من سيطرة المسلمين عليها من دون اعراضهم عنها، بحيث متى زال الخوف من سيطرتهم رجعوا إليها، أو يكون منشاؤه تسليمهم الأرض لهم تسليما ابتدائيا، أو اعراضهم عنها نهائيا. اما الفرض الأول: فلا يوجب انقطاع علاقتهم عنها نهائيا بغير شبهة واشكال. واما الفرض الثاني: فالأرض، وان خرجت عن نطاق ملكيتهم، ودخلت في الأنفال، الا ان خروجها انما كان بعنوان تسليم أهلها لها، لا بعنوان ما لا رب لها. واما الفرض الثالث: ففي سببيته لانقطاع علاقتهم عنها كلام واشكال وسيأتي بيانه في ضمن الأبحاث القادمة انشاء الله تعالى. نعم، إذا افترضنا ان الجلاء يوجب انقطاع علاقة المالك عن مملوكه ويوجب دخول الأرض في نطاق الأرض التي لا رب لها،
11 فعندئذ يقع التنافي بين المجموعتين بناء على ما هو الصحيح من ظهور القيد في الاحتراز، ودلالته على أن الحكم غير ثابت للطبيعي على نحو الاطلاق، والا لكان القيد لغوا. وعلى ضوء هذا الأساس، تدل المجموعة الرابعة على أن الحكم - وهو النفل - لم يثبت لطبيعي الأرض التي لا رب لها، بل ثبت لحصة خاصة منها - وهي التي يكون عدم الرب لها من ناحية جلاء أهلها - والا لكان هذا القيد لغوا محضا بعد ما ثبت الحكم للطبيعي الشامل لها. نعم، بناء على ما هو المشهور بين الأصحاب من عدم ظهور القيد في أمثال الموارد للاحتراز، أو عدم اخذهم به وحمله على الاهتمام به في مورده أو نحوه فلا معارضة في البين أصلا. فالنتيجة لحد الآن قد أصبحت انه لا تنافي بين هاتين المجموعتين على أساس كلا المسلكين. واما عدم تنافيها مع المجموعة الثالثة: فباعتبار انها تعم ما إذا كان لها أهل ورب وإن كان باستيلاء المسلمين عليها بغير الجهاد المسلح تخرج عن نطاق ملكية أهلها وتدخل في نطاق ملكية الإمام (ع). فتكون النسبة بين المجموعتين عموما من وجه، ومورد الالتقاء بينهما الأرض الخربة التي لا رب لها. ومورد الانطباق للمجموعة الخامسة خاصة: الأرض المعمورة التي لا رب لها، ومورد الانطباق للمجموعة الثالثة خاصة: الأرض الخربة التي لها رب.
12 واما عدم تنافيها مع المجموعة الثانية: فلأجل انها تعم صورة ما إذا كان لها أهل ورب، فان انجلاء الأهل لا يستلزم انقطاع علاقتهم عنها نهائيا، ولا يكون من أسباب ذلك، وعليه فتكون النسبة بين المجموعتين عموما من وجه لا عموما مطلقا. ومن هنا يظهر عدم تنافيها مع المجموعة الأولى أيضا، لان تلك المجموعة تشمل ما إذا كان لها أهل فتكون النسبة بينهما عموما من وجه أيضا. واما المجموعة الرابعة: فلا تنافي مع المجموعة الأولى، وذلك لان كلا منهما يتضمن قيدا يوجب الخصوصية فيها من ناحية، مثلا الأرض في المجموعة الأولى قد قيدت بصورة كونها خربة، وفي المجموعة الرابعة قد قيدت بصورة جلاء أهلها، فيكون لكل من المجموعتين جهة خاصة من ناحية، وجهة مشتركة من ناحية أخرى. ولأجل ذلك لا تنطبق المجموعة الأولى على الأرض المعمورة التي انجلى أهلها، فهي خاصة من هذه الناحية، والمجموعة الرابعة على الأرض الخربة التي لم ينجل أهلها، فهي خاصة من تلك الناحية، وتنطبقان معا على الأرض الخربة التي انجلى أهلها. فالنتيجة ان النسبة بينهما عموم من وجه، لا عموم مطلق. وكذلك لا تنافي مع المجموعة الثانية، وذلك لأنها تشتمل على عنوان لا تنطبق المجموعة الرابعة عليه - وهو عنوان القرى التي قد خربت - ولأجل ذلك لا تكون النسبة بينهما عموما مطلقا، كما انها لا تنطبق على عنوان الأرض فقط.
13 ومن هنا ذكر الإمام (ع) في موثقة إسحاق بن عمار المتقدمة هذا العنوان، أي عنوان القرية الخربة في مقابل الأرض الخربة، وهذا شاهد صدق على ما ذكرناه. واما مع المجموعة الثالثة: فالظاهر أنه لا تنافي بينها وبين تلك المجموعة. وذلك لأن الظاهر منها انها تعم صورة ما إذا لم يكن لها أهل، فان استيلاء المسلمين على الأرض بغير الجهاد المسلح يعم هذه الصورة، حيث إنه قد يكون من جهة تسليم الأرض لهم ابتداء، وقد يكون من ناحية عدم أهل لها حتى يقاومهم على ذلك وقد يكون من جهة أخرى - فحينئذ - تكون النسبة بين المجموعتين عموما من وجه، ومورد الالتقاء بينهما: الأرض الخربة التي قد انجلى أهلها، ومورد الاختصاص للمجموعة الثالثة: الأرض الخربة التي لا أهل لها، ومورد الاختصاص للمجموعة الرابعة: الأرض المعمورة التي انجلى أهلها. واما المجموعة الثالثة: فالظاهر أن النسبة بينها وبين المجموعة الأولى عموم وخصوص مطلق، فان المجموعة الأولى تعم جميع الأراضي الخربة والميتة، سواء أكان لها أهل أم لم يكن، وسواء استولوا عليها المسلمون، أم لا. واما المجموعة الثالثة فهي خاصة بالأراضي الخربة التي قد استولوا عليها المسلمون بغير عنوة، وذلك بدلالة تقييد الأرض الخربة فيها بقوله (ع) لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، فان هذا التقييد يدل على أن الاستيلاء عليها كان بغير إراقة الدماء والجهاد المسلح. وعلى ذلك فعلى ضوء ما هو المعروف والمشهور بين الأصحاب قديما وحديثا من أنه لا موجب لحمل المطلق على المقيد في أمثال الموارد وانه يؤخذ بالمطلق على اطلاقه ويحمل القيد على نكتة أخرى كالتأكيد
14 أو الاهتمام أو ما شاكل ذلك فلا تنافي بين المجموعتين. واما على ضوء ما هو الصحيح من أنه لا موجب لرفع اليد عن ظهور القيد في الاحتراز فلا يمكن الاخذ بالمطلق على اطلاقه، لتوفر التنافي بين ظهوره فيه، وظهور القيد في الاحتراز فلا يمكن الجمع بينهما، فعندئذ - لا بد من رفع اليد عن اطلاق المطلق وحمله على المقيد بمقتضى الارتكاز العرفي، ومن هنا بنينا في محله تبعا لسيدنا الأستاذ دام ظله، انه لا فرق في حمل المطلق على المقيد بين ان يكون الحكم الثابت في موردهما حكما واحدا وغير قابل للانحلال أو متعددا وقابلا لذلك. وعلى هذا الأساس. لا بد من رفع اليد عن اطلاق المجموعة الأولى وان الحكم - وهو النفل - لم يثبت لطبيعي الأرض الخربة على نحو الاطلاق وانما ثبت لحصة خاصة منها - وهي الأرض الخربة التي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب -. فالنتيجة ان الأرض الخربة بمقتضى هذه المجموعة انما تكون من الأنفال إذا استولوا عليها المسلمون بغير عنوة واراقة دم لا مطلقا فلا تدل - عندئذ - على أن الأراضي الخربة والميتة التي لم يستولوا عليها المسلمون بغير الجهاد المسلح تكون من الأنفال. واما مع المجموعة الثانية: فلا تنافي بينها وبين تلك المجموعة وذلك لاختصاصها بالقرية التي قد خربت فلا تنطبق على الأرض الخربة فحسب من دون أن تكون معنونة بعنوان القرية، كما أن هذه المجموعة لا تصدق على القرية الخربة فقط. ومن هنا يظهر حال المجموعة الثانية: مع المجموعة الأولى وانه لا تنافي بين المجموعتين بعين الملاك الآنف الذكر.
15 الخط الثاني: هل تختص الأنفال بالأراضي، أو القرى التي قد استولوا عليها المسلمون بغير قتال؟ فيه وجهان: الظاهر هو الوجه الثاني يعني به عدم الاختصاص وربما نسب ذلك إلى الأصحاب. والسبب فيه ان اطلاق قوله (ع) في صحيحة حفض بن البختري المتقدمة: الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب يشمل الأرض وغيرها، حيث إن مضمونه هو: ان كل ما اخذ من الكفار بغير قتال واراقة دماء فهو من الأنفال وإن كان منقولا، ولا موجب لتقييده بغير المنقول. ومما يدل على ذلك قوله (ع) في صحيحة معاوية بن وهب المتقدمة: وان لم يكونوا قاتلوا عليها المشركين كان كلما غنموا للإمام (ع) بل لا يبعد اختصاصه بالمنقول فحسب. الخط الثالث: هل الأرض الخربة تشمل الأرض الميتة بالأصالة أو تختص بما إذا كانت مسبوقة بالعمران فيه وجهان: ذكر المحقق الأصفهاني (قده) في حاشيته على مكاسب شيخنا العلامة الأنصاري (قده) ما نصه: (اما الأرض الخربة مطلقة كانت أو مقيدة فموردها المسبوقة بالعمارة لا الموات بالأصالة). ولنأخذ بالمناقشة عليه: فان ما ذكره (قده) إن كان يقوم على أساس ان المنصرف من الأرض الخربة هو المسبوقة بالعمارة فلا تشمل الموات بالأصالة، فيرده: انه لا موجب لدعوى مثل هذا الانصراف، ضرورة ان المنصرف منها عرفا ليس هذا المعنى، بل المنصرف منها عند العرف حسب ما هو المرتكز في أذهانهم هو المعنى الذي يكون في مقابل المعنى المنصرف من الأرض العامرة عرفا يتقابل التضاد كالمعنى المتفاهم من
16 الأرض الميتة في مقابل المعنى المتفاهم من الأرض المحياة، فكما ان الأرض العامرة تشمل العامرة طبيعيا، والعامرة بشريا، كذلك الأرض الخربة تشمل الخربة بالأصالة، والخربة بالعرض. فالنتيجة انه لا منشأ لهذا الاختصاص ولا موجب لتلك الدعوى، وان الأرض الخربة كالأرض الميتة، فكما انها تشمل الميتة بالأصالة والميتة بالعرض، فكذلك الأرض الخربة. وإن كان يقوم على أساس ان مورد رواياتها خصوص ما إذا كانت مسبوقة بالعمران دون الأعم منها ومن الموات بالأصالة، فيرده: أولا: ان الامر ليس كذلك، فان الروايات التي تتضمن الأرض الخربة تصنف إلى ثلاثة أصناف. الأول: جاء بهذا النص: كل ارض خربة للإمام (ع). الثاني: جاء بنص آخر: ما كان من الأرض بخربة لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب. الثالث: جاء بنص ثالث: كل ارض خربة باد أهلها. وبعد ذلك نقول: اما الصنف الأول: فلا يكون فيه ما دل على أن مورده خصوص الأرض الخربة التي كانت مسبوقة بالعمارة، وان شئت قلت: انه ليس هنا قرينة لا من الخارج ولا من الداخل على أن مورده الأرض الخربة المسبوقة بالعمارة، وعليه فمقتضى عمومه شموله لكل ارض خربة، سواء أكانت خربة بالأصالة أم كانت بالعرض. واما الصنف الثاني: فايضا لا دليل على أن مورده الأرض الخربة المسبوقة بالعمران فحسب، دون الأعم منها ومن الموات
17 بالأصالة. وقد ذكرنا سابقا انه يعم الأرض الخربة التي ليس لها أهل ومن الطبيعي ان الأرض الخربة التي كانت كذلك تشمل الخربة بالأصالة أيضا. نعم الأرض الخربة التي يكون لها أهل لا تشملها نظرا إلى أن فرض الأهل لها خلف، حيث إنه لا يمكن الا بقيام الفرد باحيائها وعمارتها، لما سيأتي في ضمن البحوث القادمة من أنه لا يمكن فرض تحقق العلاقة بين الفرد والأرض ابتداء، سواء أكانت على مستوى الملك أم كانت على مستوى الحق الا بقيامه باستثمارها واحيائها، ثم بعد ذلك إذا عرض عليها الخراب فهل يوجب خروجها عن نطاق علاقته بها نهائيا أولا؟! ففيه كلام سوف يأتي في ضمن الأبحاث الآتية بشكل موسع. واما الصنف الثالث: فهو وإن كان مورده خصوص الأرض الخربة المسبوقة بالعمارة بقرينة فرض وجود الأهل لها الا ان هذا الصنف ضعيف من ناحية السند فلا يمكن الاعتماد عليه على أنه لا يصلح ان يكون مقيدا لاطلاق الصنفين الأولين كما هو ظاهر. هذا إضافة إلى عدم الحاجة إليه، حيث إنه يكفي لاثبات ما هو المقصود في المقام الصنفان الأولان. وثانيا على تقدير تسليم ان مورد الروايات الأرض الخربة المسبوقة بالاحياء الا ان المتفاهم العرفي منها عدم خصوصية للمورد، جزما وانه لا فرق بين المسبوقة بالاحياء وغير المسبوقة به. الرابع: قد ورد في موثقة سماعة بن مهران المتقدمة ان البحرين مما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، وانها من الأنفال، هذا. وقد حكى عن كتاب الاحياء كما عن شيخنا العلامة الأنصاري (قده)
18 ان البحرين من البلاد التي قد أسلم أهلها عليها طوعا، واستجابوا للدعوة، فهي لأهلها، لا للإمام (ع). وقد صرح بذلك الشهيد الثاني (قده) في الروضة في كتاب احياء التراث عند قول الشهيد الأول: (وكل ارض أسلم عليها أهلها طوعا فهي لهم). بقوله: كالمدينة المشرفة، والبحرين، واطراف اليمن بينما جعل (قده) - بلاد البحرين في كتاب الخمس من الروضة - من البلاد التي سلمها أهلها للمسلمين ابتداء من دون هجوم من قبلهم، ومن المعلوم انها عندئذ للإمام (ع) لا لأهلها، فالتناقض بين قوليه (قده) في الكتابين المذكورين موجود. وكيف كان فالصحيح انها تكون من الأنفال لدلالة الموثقة المزبورة على ذلك من دون قرينة على الخلاف. واما كونها منها اي من الأنفال لأجل تسليم أهلها للمسلمين تسليما ابتدائيا أو لأجل المصالحة أو نحو ذلك فالموثقة غير متعرضة لشئ من هذه الاحتمالات. الخط الخامس: ان ما جاء بهذا النص كل ارض لا رب لها فهي للإمام (ع) يؤدي كبرى كلية، وتدخل في نطاق هذه الكبرى الأرض الموات، سواء أكانت مواتا بالأصالة أم كانت بالعرض إذا لم يكن لها مالك بالفعل. وكذلك تدخل في نطاقها الأرض العامرة طبيعيا، والعامرة بشريا إذا فرض عدم أهل لها بالفعل، كما إذا باد أهلها أو ما شاكل ذلك. هذا من ناحية.
19 ومن ناحية أخرى: ان الأرض التي استولى المسلمون عليها بغير عنوة، وهراقة دم، تشمل الأرض التي ليس لها مالك بالفعل، ولا تختص بالأرض التي كان لها مالك كذلك، كما أشرنا إليه انفا، ولا فرق فيها بين كونها عامرة أو ميتة.
20 1 - الأرض الموات: أصالة، وعرضا احياء الأرض، اثره: الملك، أو الحق؟! شرائط الاحياء
21 الأرض الموات لا شبهة في أن الأرض الموات من الأنفال. وتدل على ذلك: مضافا إلى عدم الخلاف في المسألة بين الأصحاب بل عن غير واحد دعوى الاجماع فيها - طوائف من النصوص: الطائفة الأولى: النصوص المتقدمة كصحيحة حفض بن البختري وموثقة محمد بن مسلم. وموثقة سماعة بن مهران. وموثقة إسحاق ابن عمار. ومعتبرة زرارة. وغيرها من الروايات التي لا يبعد بلوغ المجموع حد التواتر اجمالا كما عرفت. ثم إن هذه الطائفة وان لم يرد شئ منها في الموات بالأصالة خاصة. لان بعضها تضمن كون الأرض الخربة للإمام (ع). وبعضها تضمن كون الأرض الخربة التي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب للإمام (ع). وبعضها تضمن كون الأرض التي لا رب لها للإمام (ع)، وهكذا.
23 الا ان دلالتها على كون الموات بالأصالة من الأنفال تقوم على أساس ما قدمناه في ضمن الأبحاث المتقدمة من أن الأرض الخربة تشمل الموات بالأصالة، ولا تختص بالأرض الخربة المسبوقة بالعمارة هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان الأرض التي لا رب لها كما جاءت في بعض هذه الطائفة تشمل الموات بالأصالة، بل هي من أظهر مصاديقها وافرادها، وعليه فلا حاجة إلى ورود دليل في الأرض الموات بعنوانها خاصة. وبكلمة أخرى: ان الذي جاء في الروايات المعتبرة وغيرها عنوانان: أحدهما: الأرض الخربة. والأخر: الأرض التي لا رب لها. واما الموات بالأصالة فلم ترد في لسان شئ من روايتنا حتى في رواية ضعيفة. نعم ورد في صحيحة عمر بن يزيد المتقدمة الأرض الموات ولكن مع فرض أهل لها كما هو كذلك في بعض الروايات الضعاف وهو مرسلة الصدوق عن داود بن فرقد عن أبي عبيد الله (ع) في حديث قال قلت: (وما الأنفال قال: بطون الأودية إلى أن قال: وكل ارض ميتة قد جلا أهلها) الحديث (1). ومن الطبيعي انها لا تشمل الموات بالأصالة بقرينة فرض الأهل لها، ولا أهل للموات بالأصالة. الا ان الذي يسهل الخطب ما ذكرناه سابقا من أن الأرض الخربة تشمل الموات بالأصالة، ولا فرق فيها بين كونها خربة بالأصل
(1) الوسائل ج 6 الباب 1 من أبواب الأنفال الحديث 32. 24 بان لم يجر عليها ملك من مالك أصلا كالمفاوز مثلا، وبين كونها خربة بالعرض من ناحية إبادة أهلها أو نحو ذلك. هذا إضافة إلى ما عرفت من أن الأرض التي لا رب لها تشمل الموات بالأصالة، وتصدق عليها، ودعوى - ان هذه النصوص التي جاءت بهذا العنوان (الأرض التي لا رب لها) مسوقة لبيان مالكية الإمام (ع) للأرض بما هي لا رب لها، لا بما هي موات بالأصالة، فحينئذ لا تدل على أن الموات بالأصالة بما هي موات ملك للإمام (ع). خاطئة جدا، وذلك لأن هذه الدعوى إن كانت تقوم على أساس انه لا اطلاق لها بالإضافة إلى الموات بالأصالة، وانما هي ناظرة إلى ملكية الأرض للإمام (ع) بما هي لا رب لها فعلا من ناحية إبادة أهلها أو انجلائه أو ما شاكل ذلك. فيرده: انه لا شبهة في اطلاقها وعمومها لكل أرض لا رب لها سواء أكان عدم رب لها بالذات كالموات بالأصالة أو العامرة كذلك أو بواسطة أمر طارئ كالموات بالعرض أو العامرة كذلك. وإن كانت تقوم على أساس انها تدل على ملكية الإمام (ع) بهذا العنوان اي بعنوان لا رب لها، ولا تدل عليها بعنوان آخر كالموات بالأصالة، فاذن لا دليل على انها ملك للإمام (ع). فيرده: انها وإن كانت تدل على ذلك، الا ان هذا العنوان أي عنوان ما لا رب لها ليس في مقابل عنوان الموات بالأصالة، بل هو ينطبق عليها انطباق العنوان على معنونه، والكلي على افراده. ومن الطبيعي ان كل ما ينطبق عليه عنوان ما لا رب لها فهو داخل في نطاق ملكية الإمام (ع)، وقد عرفت انه لا شبهة في
25 انطباق هذا العنوان على الموات بالأصالة. وان شئت قلت: ان حيثية الموات بالأصالة للأرض لا تباين حيثية ما لا رب لها بحيث لا يمكن التقائهما في ارض واحدة، ليقال ان ما دل على ملكية الأرض من الحيثية الأولى لا يدل على ملكيتها من الحيثية الثانية لعدم انطباقها على ما تنطبق عليه الأولى. بل هما متداخلتان تداخل الأخص في الأعم، ومنطبقتان في الخارج على ارض واحدة، فالأرض الموات بالأصالة تنطبق عليها حيثية ما لا رب لها، وهي داخلة في نطاق ملكية الإمام (ع). ومن الطبيعي انه لا فرق في دخولها في نطاق ملكيته (ع) بين ان يكون من جهة حيثيتها الخاصة وهي الموات بالأصالة، أو من جهة حيثيتها العامة التي تنطبق عليها وعلى غيرها - وهي حيثية ما لا رب لها -. الطائفة الثانية: النصوص الدالة على أن الأرض كلها للإمام (ع). منها صحيحة أبي سيار مسمع بن عبد الملك في حديث قال: قلت: لأبي عبد الله (ع) (إني كنت وليت الغوص، فأصبت أربعمائة ألف درهم وقد جئت بخمسها ثمانين ألف درهم، وكرهت ان احبسها عنك، واعرض لها وهي حقك الذي جعل الله تعالى لك في أموالنا فقال: وما لنا من الأرض، وما اخرج الله منها إلا الخمس، يا أبا سيار الأرض كلها لنا، فما اخرج الله منها من شئ فهو لنا، قال: قلت له: أنا أحمل إليك المال كله فقال: لي يا أبا سيار قد طيبناه لك، وحللناك منه، فضم إليك مالك، وكل ما كان أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون، ومحلل لهم ذلك إلى أن يقوم قائمنا، فيجيبهم طسق ما كان في أيدي سواهم، فان
26 كسبهم من الأرض حرام عليهم حتى يقوم قائمنا، فيأخذ الأرض من أيديهم، ويخرجهم منها صفرة) (1). ومنها صحيحة أبي خالد الكابلي عن أبي جعفر (ع) قال: (وجدنا في كتاب علي (ع) ان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين انا وأهل بيتي الذين أورثنا الأرض ونحن المتقون، والأرض كلها لنا، فمن أحيى أرضا من المسلمين فليعمرها وليود خراجها إلى الامام من أهل بيتي، وله ما اكل منها، فان تركها واخربها فأخذها رجل من المسلمين من بعده فعمرها وأحياها فهو أحق بها من الذي تركها، فليؤد خراجها إلى الامام من أهل بيتي ، وله ما اكل منها، حتى يظهر القائم (ع) من أهل بيتي بالسيف فيحويها، ويمنعها، ويخرجهم منها، كما حواها رسول الله (ص) ومنعها، إلا ما كان في أيدي شيعتنا، فإنه يقاطعهم على ما في أيديهم ويترك الأرض في أيديهم) (2). فان دلالة هذه الطائفة على أن الأرض الموات بالأصالة للإمام (ع) انما هي بالعموم. الطائفة الثالثة: النبويان الذان غير مرويين من طرقنا: أحدهما: ما روي عن النبي (ص) (موتان من الأرض لله ورسوله (ص) ثم هي لكم مني أيها المسلمون). وثانيهما: ما روي عنه (ص) (عادي الأرض لله ولرسوله (ص) ثم هي لكم مني). هذا. ولكن ذكر المحقق الأصفهاني (قده) في المقام بان المسألة
(1) الوسائل ج 9 الباب 4 من أبواب الأنفال الحديث 12. (2) الوسائل ج 17 الباب 3 من أبواب احياء الموات الحديث 2. 27 - وهي كون الأرض الموات بالأصالة للإمام (ع) - وإن كانت اتفاقية إلا أنه لا يمكن اتمامها بالنصوص الواردة في المقام - وهي الطوائف المتقدمة - حيث قد ناقش في تلك الطوائف بأجمعها. اما الطائفة الأولى وهي التي تصنف إلى مجموعتين: إحداهما: جاءت بهذا النص: (الأرض الخربة التي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب للإمام (ع)). والاخرى: جاءت بنص آخر: (كل ارض لا رب لها). فقد ناقش (قده) في كلتا المجموعتين. اما المجموعة الأولى فقد قال: فيها كما عرفت بان الأرض الخربة لا تشمل الموات بالأصالة، وتختص بالأرض الخربة المسبوقة بالعمارة. وقد تقدم جواب ذلك في ضمن البحوث السابقة بشكل موسع. واما المجموعة الثانية فقد قال: فيها بأنها مسوقة لبيان ملكية الأرض للإمام (ع) بما هي لا رب لها، لا بما هي موات بالأصالة فلا تدل على ملكيتها من هذه الحيثية. وقد تقدم الجواب عن ذلك آنفا بصورة موسعة. واما الطائفة الثانية فقد ذكر (قده) انها وإن كانت تعم الموات بالأصالة، إلا أنه لابد من حمله على الملك بمعنى آخر، فيكون كملكه تعالى ملكا حقيقيا، لا اعتباريا يترتب عليه الآثار، وذلك الملك الحقيقي يعم الاملاك، والملاك. وأوضح ذلك بقوله: فان الممكنات كما انها مملوكة له تعالى حقيقة بإحاطته الوجودية على جميع الموجودات بأفضل انحاء الإحاطة الحقيقية، كذلك النبي (ص)، والأئمة (ع) بملاحظة كونهم (ع)
28 من وسائط فيض الوجود، لهم الجاعلية والإحاطة بذلك الوجه بمعنى فاعل ما به الوجود، لا مامنه الوجود، فإنه مختص بواجب الوجود، ولا بأس بان تكون الاملاك، وملاكها مملوكة لهم بهذا الوجه وان لم تكن مملوكة لهم بالملك الاعتباري الذي هو الموضوع للأحكام الشرعية واثارها. والجواب عن ذلك: انه لا موجب لحمل الملك في هذه الطائفة من النصوص على الملك الحقيقي بالمعنى المذكور، لوضوح ان هذا الحمل بحاجة إلى عناية زائدة، فلا يمكن الذهاب إليه من دون قرينة تشهد على ذلك. وبكلمة أخرى: لا شبهة في ظهور النصوص في الملك الاعتباري ولا يمكن رفع اليد عن هذا الظهور الا عند توفر قرينة على الخلاف ولا قرينة في المقام لا من الداخل، ولا من الخارج. نعم قد يتوهم ان ملكية الإمام (ع) للأرض كلها تتعارض مع تملك غير الامام بسبب من الأسباب الشرعية، كالاحياء، أو نحوه، وهذا بنفسه قرينة على عدم امكان الاخذ بالظهور المزبور، ولأجل ذلك لا مناص من حمل الملك في النصوص على الملك الحقيقي. ولكن هذا التوهم خاطئ جدا، والسبب فيه: أما أولا: فلامكان أن يقول: إن النصوص التي تدل على أن الأرض كلها للإمام (ع) انما تنظر إلى الأرض بوضعها الطبيعي يعني ان ملكية الإمام (ع) للأرض جميعا بملكية اعتبارية منصبة على الوضع الطبيعي للأرض بما هي. ومن الطبيعي ان ملكية الإمام (ع) للأرض بهذا المعنى لا تتعارض مع ملكية غيره لها بالعنوان الثانوي، بداهة انه لا منافاة
29 بين كون الأرض داخلا في نطاق ملكية الإمام (ع) بالعنوان الأولى الطبيعي، وكونها داخلا في نطاق ملكية غيره بالعنوان الثانوي العرضي كاحياء وعمارة، أو نحو ذلك. واما ثانيا: فعلى ضوء ما حققناه في ضمن الأبحاث القادمة من أن الاحياء لا يوجب اختصاص المحيى بالأرض على مستوى الملك، وانما يوجب اختصاصه بها على مستوى الحق، فلا ملزم للقول بان النصوص المذكورة انما تنظر إلى ملكية الأرض للإمام (ع) بوضعها الطبيعي، إذ لا منافاة بين ملكية الإمام (ع) للأرض على نحو الاطلاق، واختصاص غيره بها على مستوى الحق، إذا قام باحيائها وعمارتها. ونتيجة ذلك ان من قام باحياء الأرض وعمارتها فقد حدثت له العلاقة بها على مستوى الحق، دون الملك، وهذا لا يتعارض مع بقاء رقبة الأرض في ملك الإمام (ع). ثم إن الظاهر من النصوص هو الملكية بهذا المعنى يعني الملكية المطلقة، دون الملكية في اطار خاص - وهي الملكية على الشكل الأول، فان حمل النصوص عليها بحاجة إلى قرينة، ولا قرينة في البين، الا على ضوء ما هو المشهور بين الأصحاب من أن الاحياء يوجب الاختصاص على مستوى الملك، فإنه حينئذ لا بد من الالتزام بملكية الإمام (ع) للأرض على الشكل الأول. إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة، وهي ان رقبة الأرض ملك للإمام (ع) مطلقا اي سواء أطرأ عليها عنوان ثانوي كالاحياء أو نحوه، أم لم يطرء، فان الاحياء على الصحيح كما سيجئ لا يكون مبررا الا لاختصاص المحي بها على مستوى الحق فحسب، وهذا
30 لا ينافي بقاء الرقبة في ملك الإمام (ع)، بل هو يؤكد ذلك. ومن هنا يظهر انه لا موجب لحمل الملكية في تلك النصوص على اعتبارها أمرا معنويا، فان الضرورة لهذا الحمل أو غيره انما تكون فيما إذا لم يمكن حملها على اعتبارها حكما شرعيا، واما إذا أمكن ذلك ثبوتا، وكانت النصوص ظاهرة فيه اثباتا، فلا ضرورة لذلك ابدا، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: لو أغمضنا النظر عن ظهور النصوص في نفسها في ملكية الأرض للإمام (ع) بالملكية الاعتبارية الشرعية، الا أن في ذيلها قرائن تشهد على ذلك، وتؤكد ان ملكية الإمام (ع) للأرض كلها حكم شرعي، ومن جهة تلك القرائن لا مناص من الالتزام بذلك. منها: فرض الطسق والأجرة له (ع) فيها تفريغا على ملكيته لها، وهذا شاهد قطعي على أن ملكيته (ع) لها حكم شرعي، لا تكويني خارجي، ولا روحي محض. ومنها تحليله (ع) الأرض للشيعة، دون غيرهم تفريغا على ملكيته لها، فإنه يدل على أن الملكية هنا حكم شرعي لا غيره، نظرا إلى ظهور النصوص في التحليل المالكي. ومنها فرض ان القائم (ع) إذا ظهر أخذ الأرض من أيدي غير الشيعة، ويخرجهم منها صفرة، فإنه يدل بوضوح على أن ملكيتها للإمام (ع) حكم شرعي، لا تكويني، ولا معنوي، حيث إن شيئا منهما لا يكون مانعا عن تملك غيره وتصرفه فيها، ولا يكون محرما كما فرض فيها. واما الطائفة الثالثة فقد ناقش (قده) فيها بأنها غير مروية من
31 طرقنا فلا يمكن الاستدلال بها، وهذا الذي افاده (قده) متين جدا، حيث لا يمكن الاستدلال، بالنبويين المذكورين، لعدم ثبوتهما عندنا. إلى هنا قد استطعنا ان نخرج بهذه النتيجة: وهي ان الأرض الموات بشتى اشكالها وألوانها تكون من الأنفال وملكا للإمام (ع) يعني به منصب الإمامة، وبعد ذلك نقول: إن الكلام يقع حول الأراضي الموات في عدة نقاط رئيسية: (النقطة الأولى) ان في موثقة إسحاق بن عمار المتقدمة قد اعتبر - في كون القرية التي قد انجلى أهلها - من الأنفال طرو الخراب عليها. ونتيجة ذلك انها إذا كانت عامرة لم تكن منها وكذا إذا كانت خربة ولم ينجل أهلها، هذا واضح. وانما الكلام في أن القرية إذا كانت عامرة ولم يكن لها أهل، كما إذا باد أهلها، فهل تكون من الأنفال؟ مقتضى هذه الموثقة انها وان لم تكن من الأنفال، إلا أنه لا مانع من الحكم بكونها منها باعتبار دخولها في الأرض العامرة التي لا رب لها، لوضوح ان الأرض العامرة تشمل ما إذا كان عمرانها باحداث قرية أو بلد. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان في ذيل هذه الموثقة قد اعتبر في كون الأرض التي لم يوجف عليها بخيل، ولا ركاب من الأنفال كونها
32 خربة، ومقتضى ذلك عدم كون تلك الأرض منها إذا كانت عامرة وقد تقدم ان هذه الموثقة لا تكون منافية لاطلاق موثقة زرارة المتقدمة أو ما شاكلها. ومن ناحية ثالثة قد عرفت ان ذيل هذه الموثقة يكون مقيدا لاطلاق صحيحة حفض بن البختري المتقدمة، أو نحوها. ونتيجة هذا التقييد هي ان الأرض التي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب انما تكون من الأنفال وملكا للإمام (ع) إذا كانت خربة، لا مطلقا ولو كانت عامرة. لحد الان قد تبين انه لا يمكن الحكم بكون الأرض التي لم يوجف عليها بخيل، ولا ركاب من الأنفال إذا كانت عامرة بمقتضى هذه النصوص التي قد عرفت آنفا. ولكن قد سبق ان لدينا مجموعات أخرى من النصوص، وهي تدل على ذلك. منها: ما جاءت بهذا النص: (كل ارض لا رب لها) هي للإمام (ع). ومن الطبيعي ان هذا النوع من الأرض داخل في نطاق عموم هذه المجموعة، لوضوح إن كل ارض باد أهلها، يدخل فيما لا رب لها فعلا فتعمها تلك المجموعة نظرا إلى أن مدلولها هو ان اي ارض لا مالك لها بالفعل فهي نفل، وداخلة في نطاق ملكية الإمام (ع)، من دون فرق بين كونها عامرة أو خربة، ومن دون فرق بين كونها مسبوقة بملكية أحد لها أو لم تكن. ومن هنا قلنا إن القرية العامرة إذا لم يكن لها مالك فعلا تدخل فيها اي في تلك المجموعة. إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة، وهي ان كون الأرض نفلا
33 لا ينحصر بالأرض الميتة والخربة، بل تعم الأرض العامرة أيضا إذا كانت بما لا رب لها فعلا كما إذا كان عمرانها طبيعيا هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فقد عرفت ان الأرض الميتة والخربة إذا كان موتها وخرابها بالأصالة فهي نفل لله، ولرسوله (ص)، ومن بعده للأئمة (ع). واما إذا كان موتها وخرابها بسبب طارئ وعارض فإن لم يكن لها مالك فعلا فهي أيضا نفل، وإن كان لها مالك كذلك فهي ليست بنفل جزما، لان النصوص المتقدمة لا تدل على ملكية الأرض للإمام (ع) إذا كان لها مالك بالفعل. واما فرض ان لها مالكا في هذا الحال يقوم على أساس أمرين: أحدهما: افتراض ان الاحياء يوجب اختصاص المحيي بالأرض على مستوى المالك، أو يكون الموجب لذلك الاختصاص سببا آخر كشراء أو نحوه. والاخر: ان طرو الخراب لا يوجب انقطاع علاقة المالك عنها نهائيا. وسيجئ البحث حول هذين الامرين في ضمن البحوث القادمة، ونبين هناك المناقشة في الأمر الأول، ونقول: ان الاحياء إذا كان بعد تاريخ تشريع ملكية الأنفال للإمام (ع) لا يوجب العلاقة الا على مستوى الحق دون الملك، وكذا الشراء، أو نحوه المتأخر عنه، المنتهي إليه بالتالي. واما الأمر الثاني فنبين هناك انه تام على القول بالملك من اي سبب كان، دون القول بالحق. وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه امران: الأول: ان النسبة بين كون الأرض نفلا وكونها ميتة عموم من
34 وجه، فإنها قد تكون نفلا، ولا تكون ميتة، كما إذا كانت عامرة طبيعيا بدون تدخل انسان فيها، فإنها نفل، مع أنها ليست بميتة، وقد تكون ميتة، ولا تكون نفلا، وذلك كما إذا قام فرد باحياء الأرض قبل تاريخ نزول آية الأنفال، أو فيما إذا أسلم أهلها عليها طوعا قبل ذلك التاريخ أو نحو ذلك، فان هذه العلاقة لا تزول بطرو الخراب عليها، وسوف نشير إلى تفصيل ذلك في ضمن الموضوعات القادمة، وقد تلتقيان في مورد واحد كما في الموات بالأصالة. الثاني: ان العنوان الرئيسي العام لكون الأرض نفلا انما هو عنوان ما لا رب لها، فإنه يشمل الأراضي الميتة، والعامرة التي لا مالك لها، كما إذا كان عمرانها مستندا إلى طبيعتها من دون تدخل عامل خارجي فيها. النقطة الثانية قد عرفت ان الأرض الميتة إذا كان لها مالك بالفعل فليست من الأنفال جزما. ومن هنا قد قيد جماعة منهم المحقق (قده) في الشرايع كونها من الأنفال، بما باد أهلها، أو لم يجز عليها ملك، كالمفاوز، وسيف البحار. ومن الواضح ان هذا التقييد انما هو للاحتراز عما إذا كان لها مالك بالفعل. ثم إن سبب ملك الفرد للأرض قد يكون عملية الاحياء، بناء على القول بكونها سببا له، وقد يكون غيرها من الأسباب الأخر
35 كالإرث والشراء والهبة وما شاكل ذلك، وعلى كلا التقديرين، فتارة يفرض اعراض المالك عن الأرض، واخرى يفرض عدم اعراضه عنها، فيقع الكلام في مقامين: الأول: فيما إذا كان سبب الملك عملية الاحياء. الثاني: فيما إذا كان سببا آخر غيرها، كالشراء أو الإرث، أو نحو ذلك. اما المقام الأول: ففيه أقوال: القول الأول: ان علاقة المالك عن الأرض تنقطع نهائيا بعد خرابها، وتدخل في علاقة من قام باحيائها وعمارتها. القول الثاني: ان علاقة المالك بالأرض إن كانت بسبب الاحياء انقطعت عنها نهائيا بعد خرابها، وإن كانت سبب آخر، كالشراء، أو نحوه لم تنقطع لا بالخراب، ولا بقيام غيره باحيائها، والاستيلاء عليها. القول الثالث: ان علاقة المالك لا تنقطع عن الأرض نهائيا بطرو الخراب، وانما تنقطع عنها كذلك بعد قيام غيره باحيائها واستثمارها، القول الرابع: ان علاقة المالك لا تنقطع عن الأرض مطلقا حتى بعد قيام غيره بعملية احيائها من دون فرق بين ان يكون سبب علاقته بها عملية الاحياء أو غيرها. القول الأول ذهب إليه جماعة منهم الشهيد الثاني (قده) في الروضة والمسالك وعن العلامة في التذكرة انه مال إليه، وعن السبزواري في الكفاية انه الأقرب، وعن الفاتح انه أوفق بالجمع بين الاخبار، بل عن المحقق في جامع المقاصد انه المشهور بين الأصحاب.
36 وكيف كان فقد استدل على هذا القول بوجهين: الوجه الأول بمجموعة من النصوص التي جاءت بهذا اللسان أو قريبا منه (من أحيى أرضا مواتا فهي له). وتقريب الاستدلال بها انها تدل باطلاقها على أن من يقوم بعملية احياء الأرض الموات واستثمارها يملك الأرض. ومن الطبيعي ان قضية ذلك لا محالة خروجها عن ملك صاحبها بعد خرابها، والا لم يجز لغيره نهائيا ان يقوم باحيائها والتصرف فيها، ولم يترتب على احيائه اثر وضعا. ولنأخذ بالمناقشة في هذا الدليل: اما أولا: فلان تلك المجموعة من النصوص لا تدل بوجه على خروج الأرض عن ملك صاحبها بعد خرابها، لوضوح ان ما تدل عليه هذه المجموعة وتؤكده هو ان من يقوم باحيائها بملك. ومن الطبيعي ان تملكه لها بالاحياء لا ينافي عدم خروجها عن ملك صاحبها بصرف الخراب، إذ من الممكن جزما ان تظل رقبة الأرض في ملكة بعد خرابها. وعلى الرغم من ذلك فيمكن للشارع ان يبيح لغيره القيام باحيائها لئلا تبقى الأرض معطلة، فإذا قام غيره باحيائها، وأنفق جهده في سبيل بعث الحياة فيها. وأصبحت حية، فقد انقطعت بذلك علاقة صاحبها عنها نهائيا لا بصرف خرابها وتدخل بعد ذلك في ملكه. وبكلمة أخرى: ان تلك المجموعة تدل بالمطابقة على أن عملية الاحياء توجب تملك المحيى لرقبة الأرض، ولا تدل ابدا على خروج الأرض عن ملك صاحبها بطرو الخراب، إذ كما يحتمل ذلك يحتمل ان يكون خروجها عن ملكه بقيام غيره باحيائها: لا بخرابها فقط.
37 فلا ملازمة بين جواز قيام فرد اخر باحياء الأرض وبين خروجها عن ملك صاحبها بمجرد الخراب، ليقال ان هذه المجموعة التي تدل على الأول بالمطابقة تدل على الثاني بالالتزام. فالنتيجة: ان ما هو معلوم لنا خارجا هو خروج تلك الأرض عن ملكية الفرد الأول بعد قيام الفرد الثاني باحيائها واستثمارها وانفاق الجهد في سبيل بعث الحياة فيها. ولكن لا نعلم تاريخ خروجها الزمني وانه هل كان بطرو الخراب فحسب اي سواء أقام غيره باحيائها أم لم يقم، أو كان بعد انفاقه جهده في سبيل بعث الحياة فيها، فاللازم يكون الأعم، فالنصوص كما لا تدل على الأول، كذلك لا تدل على الثاني، وانما تدل على الجامع اجمالا من دون دلالة على أية خصوصية. واما ثانيا: فلان التمسك بهذه النصوص يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فلا يجوز. بيان ذلك: لا شبهة في أن موضوع عملية الاحياء انما هو الأرض الميتة التي ليس لها مالك بالفعل، لوضوح انه لو كان لها مالك كذلك لم يجز احيائها جزما، ولم يكن له اثر بالإضافة إليها نهائيا. بداهة انه انما يؤثر في ايجاد الاختصاص على مستوى الملك، أو الحق على الخلاف في المسألة القادمة، إذا كان في الأرض الميتة التي لم تكن لأي فرد علاقة بها ولو على مستوى الحق. ثم إن هذا التقييد في موضوع هذه النصوص قد ثبت بدليل العقل والشرع. اما العقل فلإستقلاله بقبح التصرف في مال الناس عدوانا، وبدون الاذن منهم.
38 واما الشرع فلحكمه بحرمة التصرف في مال المسلم بدون اذنه وطيب نفسه. ودعوى - ان الأثر الوضعي المترتب على عملية الاحياء لا يتوقف على جواز هذه العملية تكليفا، فيمكن أن تكون العملية محرمة شرعا، ومع ذلك يترتب عليها الأثر الوضعي - وهو الملك أو الحق - إذا قام فرد بها خارجا، فلا ملازمة بين حرمتها تكليفا وعدم ترتب الأثر عليها وضعا، وكم له من نظير في الشرع المقدس -. وإن كانت صحيحة في الجملة، الا انها خاطئة في خصوص مورد الكلام، وذلك لخصوصية فيه، وهي كون الأرض في ملكية غيره. ومن الطبيعي ان الاحياء انما يؤثر في ايجاد العلاقة بين الأرض والفرد فيما إذا لم تكن مسبوقة بعلاقة أخرى بينها وبين الفرد الآخر، والا فلا اثر له أصلا. نعم إذا افترضنا ان المحل قابل لان تؤثر فيه عملية الاحياء والاستثمار، كما إذا كانت في الأرض الموات التي لا مالك لها فعلا، كالموات بالأصالة، أو نحوها، وكان منشأ حرمتها شيئا آخر كما إذا انطبق عليها عنوان هتك مؤمن مثلا أو كانت مصداقا للضرر المحرم، أو فرض نهي الشارع عنها بجهة من الجهات، ففي مثل ذلك لا مانع من ترتب الأثر الوضعي عليها، والحرمة التكليفية المحضة غير مانعة عن ذلك، كما هو الحال في غيرها من أسباب الملك كالبيع، أو نحوه. واما إذا شك في تأثير الاحياء للشك في بقاء الأرض بعد خرابها في ملكية صاحبها، أو خروجها عن نطاق ملكيته، فمن الطبيعي انه لا يمكن ترتيب الأثر عليه، للأصل المقتضى عدمه.
39 وعلى ضوء هذا الأساس فيكون موضوع العام في تلك المجموعة من النصوص متعنونا بعنوان عدمي - وهو الأرض الميتة التي لا تكون ملكا لاحد - وبما ان احرازه فيما نحن فيه لا يمكن لا وجدانا، ولا تعبدا فلا يمكن التمسك به، لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. قد يناقش في ذلك: بأنه لا مانع من التمسك بتلك النصوص في المقام، بدعوى انه ليس من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية باعتبار ان موضوعها - وهو الأرض الميتة - لم يقيد بالقيد المشار إليه آنفا. والسبب فيه: ان السيرة العقلائية قد جرت على جواز التصرف في الأرض بعد خرابها وموتها، وإن كانت رقبتها في ملكية صاحبها. وهذه السيرة لما كانت ممتدة زمنيا إلى تاريخ عصر التشريع من دون ورود اي ردع عنها، بل يظهر من بعض الروايات القادمة امضائها، فبطبيعة الحال تكشف عن امضاء الشارع لها. والنكتة في ذلك أنه لا مصلحة في تعطيل الأرض، وعدم الاستفادة منها، رغم الحاجة إلى استثمارها والاستفادة من ثرواتها. وعلى هذا الضوء فإذا لم يقدم صاحبها بالقيام باحيائها واستثمارها فقد جوز الشارع لغيره ان يقوم بذلك، بل ربما ينتهي الأمر إلى حكم الشارع بلزوم القيام بحقها. فالنتيجة: انه لا مانع من التمسك بهذه النصوص باعتبار ان الدليل المزبور يخرج التمسك بها من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. والجواب على هذه المناقشة: انها بحاجة إلى دليل، ولا نملك دليلا يدلنا على ذلك.
40 اما السيرة فهي غير جارية هنا جزما، بداهة ان المرتكز القطعي لدى أذهان العقلاء قبح التصرف في مال الناس بدون الاذن والرضا منهم، لأنه لديهم نوع ظلم، وقبح الظلم عندهم من القضايا التي قياساتها معها، ومع ذلك كيف يتعقل جريان السيرة منهم على جواز التصرف فيه. ودعوى: ان السيرة وإن كانت غير جارية على جواز التصرف في مال الناس بما هو، الا انه لا مانع من جريانها فيما نحن فيه، وذلك لوجود الفارق، وهو ان فيما نحن فيه لا تكون ملكية الأرض محرزة لصاحبها بعد خرابها، إذ كما يحتمل بقائها في ملكه، يحتمل خروجها بذلك، فعندئذ يمكن القول بقيام السيرة منهم على جواز القيام باحيائها والتصرف فيها. خاطئة جدا، وذلك لأنه لا فرق في حكم العقل بقبح التصرف في مال الناس بين ان يكون معلوما، أو مشكوكا، ما لم يقم دليل على العدم، ولو كان ذلك الدليل أصلا عمليا، والفرض هنا عدم الدليل، بل مقتضى الأصل العملي في المقام بقاء الأرض في ملك صاحبها، وعدم انقطاع علاقته عنها نهائيا. هذا إضافة إلى أن هذه السيرة لو تمت فلا تثبت هذا القول - وهو خروج الأرض عن ملك صاحبها بالخراب - بل تثبت بقائها في ملكه. واما بعض الروايات الآتية فهو وان دل على جواز احياء الأرض الخربة التي يكون لها مالك معروف، حيث إن ظاهره بقاء رقبة الأرض في ملك مالكها، وعدم خروجها عن ملكه نهائيا، لا بعد خرابها، ولا بقيام غيره باحيائها، فان قيامه باحيائها انما يمنح له
41 الاختصاص بها على مستوى الحق. وهذا لا ينافي بقاء الرقبة في ملك صاحبها، لأن المنافي له انما هو فيما لو كان احيائه موجبا لمنح الاختصاص له على مستوى الملك والفرض انه لا يوجب ذلك. الا أن هذا النص أجنبي عن القول المزبور تماما، فإنه يدل على عكسه - وهو بقاء الأرض في ملك مالكها حتى بعد قيام غيره باحيائها - هذا إضافة إلى أن هذا النص لا يصلح ان يكون قرينة على تعيين موضوع النصوص العامة المتقدمة حتى لا يكون التمسك بها في المقام من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، وذلك لما سيجئ في ضمن البحوث القادمة من أن مورد هذا النص هو ما إذا كان صاحب الأرض ممتنعا ومهملا عن القيام بعملية احيائها واستثمارها، فعندئذ يجوز لغيره ان يقوم بهذه العملية، ولكن لا يحصل له الا الحق فيها دون الملك. واما إذا لم يكن صاحبها ممتنعا ومهملا عن القيام بذلك فلا يجوز لغيره ان يقوم بها، فاذن كيف يكون النص المذكور قرينة على جواز التصرف في الأرض الخربة والقيام باحيائها مطلقا. فالنتيجة: ان هذا النص كما لا يكون دليلا على اثبات هذا القول، كذلك لا يكون دليلا على اثبات القول الثاني أيضا. ومن هنا يظهر انه لا صلة لهذه المناقشة بهذا القول أصلا، فان المناقشة انما تقوم على أساس بقاء الأرض بعد خرابها في ملك صاحبها، وهذا القول انما يقوم على أساس خروجها عن ملكه بخرابها، فهما في طرفي النقيض. نعم انها تنسجم مع القول الثاني الآتي وتدفع عنه الاشكال بان
42 التمسك فيه بالنصوص المتقدمة من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية كما سوف نشير إلى ذلك بشكل موسع. قد يقال: كما قيل: إن عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية انما هو فيما إذا كان المخصص لفظيا، واما إذا كان لبيا فلا مانع من التمسك به. وبما ان المخصص في محل الكلام لبي فلا مانع حينئذ من التمسك بعموم النصوص المذكورة في الشبهات المصداقية. واما كونه لبيا فإنما هو باعتبار ان - ما دل من الأدلة على حرمة التصرف في مال المسلم، بدون طيب نفسه، ورضاه - ليست نسبته إلى تلك النصوص نسبة الخاص اللفظي إلى العام، بل إن المستفاد من مجموع تلك الأدلة هو القطع بعدم جواز التصرف فيه فالمخصص هنا انما هو القطع المذكور. وبما انه لبى، فلا مانع من التمسك بعموم العام الا في موارده دون الأكثر، وعليه ففي كل مورد لا يكون القطع بعدم جواز التصرف موجودا لا مانع من التمسك بعموم تلك النصوص، والفرض انه فيما نحن فيه غير موجود، للشك في بقاء الأرض في ملك صاحبها واحتمال خروجها عنه نهائيا، فعندئذ لا مانع من الرجوع إلى عمومها. وهذا بخلاف ما إذا كان المخصص لفظيا، فان الملقى إلى المكلف عندئذ حجتان، وقضيتهما بعد تحكيم الخاص على العام، وتقديمه عليه كأنه لم يعمه العام من رأس، وكانه لم يكن بعام، وعليه فلا يكون العام حجة في الافراد المشكوكة. ولكن هذا الوجه خاطئ جدا، والسبب فيه ان المخصص مطلقا ولو كان لبيا فهو لا محالة يوجب تقييد موضوع العام بغير افراد
43 المخصص، ضرورة ان الهمال في الواقع مستحيل، واما الاطلاق فيه فهو أيضا كذلك، لأنه خلف، فلا مناص حينئذ من الالتزام بتقييده بغيرها، ولازم ذلك عدم حجية العام في الافراد المشكوكة، هذا. ولكن على الرغم من ذلك فقد أصر المحقق الأصفهاني (قد) بالفرق بينهما، بدعوى ان المخصص إذا كان لفظيا لم يجز التمسك بالعام في الفرد المشكوك والمردد. واما إذا كان لبيا فلا مانع من التمسك بالعام فيه، فان منشأه ليس الا القطع بالخلاف، وهو فيما نحن فيه القطع بان ما هو في ملك صاحبها لا يجوز تملكه الا بناقل شرعي، ففي مثله يجوز التمسك بالعام في الافراد المشكوكة، لكشف حالها، لفرض انه حجة فيها، ولا يكون له مزاحم ومانع عن شمولها. وقد أفاد (قده) في وجه ذلك بما إليك توضيحه: ان المخصص إذا كان لبيا فبما ان منشأه القطع بالخلاف أي بخلاف عنوان العام فلا يوجب تقييد موضوع العام في الواقع ونفس الأمر، وانما يوجب تقييده بعنوان القطع بخلافه، ففي كل مورد يكون القطع بالخلاف موجودا فلا يكون مشمولا للعام. واما فيما لا يكون القطع به موجودا فلا مانع من شمول العام له، وإن كان مشكوكا فيه، فان الشك لا يكون مانعا عن شموله وانطباقه عليه، فالمانع عن الاخذ به انما هو القطع، دون غيره وفي اي مورد كان القطع بالخلاف منتفيا فإنه مشمول للعام ويكون العام حجة فيه. وفيما نحن فيه بما ان موضوع عمومات الاحياء قد قيد بالقطع بما لا يكون ملكا لاحد فمن الطبيعي ان في اي مورد يتوفر القطع
44 فيه فلا يكون مشمولا لها واما فيما لا يتوفر القطع فيه فلا مانع من شمولها له واحراز انه من افراد العام. وعليه فإذا شك في مورد لا يتوفر فيه القطع بالخلاف في انقطاع علاقة المالك عن الأرض بعد خرابها وعدم انقطاعها فلا مانع من التمسك بتلك العمومات لاثبات انقطاعها عنها. فالنتيجة ان المانع عن العمل بها انما هو القطع دون المقطوع به بوجوده الواقعي، فكون الأرض الميتة في الواقع ملكا للغير، لا يمنع عن التمسك بعمومها، ما لم يتوفر لديه القطع بذلك. والى هذا يرجع ما افاده (قده) بقوله: والمخصص اللفظي، كما يكون حجة على المنافاة، كذلك يكون حجة على وجود المنافي، والمخصص اللبي ليس حجة الا على المنافاة، دون وجود المنافي. ولذا لا يجوز التمسك بالعام على الأول، لاختلال حجيته على عدم المنافي، ويجوز التمسك به على الثاني، لعدم اختلال حجيته على عدم المنافي، وهذا يعني: ان المخصص إذا كان لفظيا فهو كما يكون حجة على المنافاة يعني المنافاة بين حكم الخاص، وحكم العام كذلك يكون حجة على وجود المنافي - وهو وجود الخاص في الواقع فإنه بوجوده الواقعي الموضوعي مناف للعام. واما إذا كان لبيا كالقطع فهو انما يكون حجة على المنافاة يعني منافاة حكم الخاص لحكم العام، ولا يكون حجة على وجود المنافي - وهو عنوان المقطوع به في الواقع -. والنكتة فيه: ان المخصص على الأول انما هو عنوانه الواقعي، واما المخصص على الثاني انما هو عنوان القطع نفسه، لا العنوان الواقعي للمقطوع به.
45 ومن الطبيعي ان القطع بالخلاف انما ينافي العام بمقدار سعته دون الازيد، ففي الزائد يكون العام محكما، وعليه فلا مانع من التمسك بالعام في غير موارد توفر القطع بالخلاف. والجواب عن ذلك ان منشأ التخصيص في المخصص اللبي وإن كان هو القطع، الا ان من الواضح لدى الارتكاز الجزمي العرفي ان القطع بما هو قطع لا يكون فيه ملاك التخصيص، بداهة انه ليس له شأن ما عدى كونه طريقا إلى الواقع، وكاشفا عنه، فما يكون فيه ملاك التخصيص والتنافي انما هو المقطوع به بعنوانه الواقعي، فكون القطع منافيا للعام انما هو باعتبار تعلقه به، لا مطلقا وبقطع النظر عنه. وعليه فبطبيعة الحال يكون القطع به كاشفا عن انه مانع ومناف للعام، بعنوانه الواقعي، لا بعنوانه العلمي، لأن حرمة التصرف في مال المسلم وضعا وتكليفا ليست تابعة للعلم، ضرورة انها تابعة لتحقق موضوعها في الواقع كان هناك علم أم لم يكن. ومن الطبيعي ان المنافي لتملك المحيي للأرض بالاحياء انما هو كونها في ملكية غيره، ولا دخل لعنوان القطع بذلك أصلا، فإنها إن كانت في الواقع ملكا لغيره لم يملكها المحيي بالاحياء، وإلا ملكها، سواء أكان هناك قطع بذلك، أم لم يكن. فالنتيجة من ذلك ان الأرض الموات التي هي موضوع في عمومات الاحياء بطبيعة الحال قد قيدت بما لا تكون ملكا لغير من يقوم باحيائها، غاية الأمر ان الكاشف لنا عن هذا التقييد في الواقع انما هو القطع، ولا يعقل ان يكون هذا التقييد تابعا للقطع، لما عرفت من أن حرمة التصرف في مال المسلم ليست تابعة له.
46 وهذا التقييد انما هو من مظاهر حرمة التصرف فيه، واثارها فإذا كان موضوع هذه العمومات مقيدا في الواقع بما عرفت، فكيف يمكن التمسك بها في موارد الشك في تحققه بتحقق قيده، فان القطع وإن كان غير موجود فيها، إلا أن المانع عن التمسك بها في تلك الموارد ليس هو وجوده. بل العمومات في حد نفسها لا تشمل تلك الموارد، باعتبار انها غير ناظرة إلى تعيين افراد موضوعها في الخارج، ومصاديقه، وإلا فالمخصص إذا كان لفظيا فهو أيضا غير مانع عن التمسك بها في الموارد المزبورة، فلا فرق من هذه الناحية بين المخصص اللفظي والمخصص اللبي أصلا. وعلى الجملة فبالتحليل العقلي لا يعقل كون القطع بنفسه في مورد الكلام مخصصا، ومنافيا للعام، حيث قد عرفت ان ملاك التخصيص، والتنافي غير متوفر فيه، وانما هو متوفر في متعلقه وعليه فلا يفرق بين كون الدليل عليه لفظيا، أو عقليا، فإنه على كلا التقديرين لا يجوز التمسك بالعام في موارد الشك بملاك واحد. ودعوى - ان عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية في موارد التخصيص اللفظي انما هو من ناحية انه بعد تحكيم الخاص على العام، وتقديمه عليه كان العام لم يعم الخاص من الأول، ولازم ذلك أنه لا عموم له في موارد الشك حتى يتمسك به. وهذا بخلاف ما إذا كان التخصيص لبيا، فإنه لا يوجب هدم عموم العام، فإذا كان باقيا حتى في موارد الشك فلا مانع من التمسك به في تلك الموارد، وهذا هو الفارق بين التخصيص اللفظي، واللبي، كما أشرنا إليه سابقا أيضا.
47 - خاطئة جدا، وذلك لأن المخصص اللفظي المنفصل، كما هو محل الكلام لا يمنع عن ظهور العام في العموم، وانما يمنع عن حجيته، فعمومه باق في موارد الشك، وغيرها، فاذن لا فرق من هذه الناحية أيضا بين اللفظي واللبي، إلى هنا قد استطعنا ان نخرج بهذه النتيجة: وهي انه لا يجوز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية مطلقا اي بلا فرق بين كون المخصص له لفظيا، أو لبيا. وبذلك يظهر ان الاستدلال بتلك المجموعة من النصوص لاثبات ان علاقة المالك تنقطع عن الأرض نهائيا بعد خرابها لا يقوم على أساس صحيح، قد يناقش فيها بوجه آخر. بيانه: ان الاستدلال بها على هذا القول يرتكز على أن يكون مفادها سببية الاحياء لملكية الأرض للمحيي في الجملة، لا الملكية المطلقة له الدائمة التي لا تزول الا بناقل شرعي. وبما ان مفادها على ما هو مقتضى اطلاق قوله (ع) (فهي له) الملكية المطلقة غير الموقتة فلا تشمل احياء الفرد الثاني، لفرض ان الأرض ظلت في ملك المحيي الأول حتى بعد خرابها، ولا تنقطع صلته عنها نهائيا الا بناقل شرعي، كالبيع، أو نحوه وعليه فلا أثر لاحياء الفرد الثاني، باعتبار انه في ملك غيره، والا لزم كون الأرض الواحدة في زمن واحد مجمعا للملكين لفردين على نحو الاستقلال، وهو مستحيل. وهذا ليس من ناحية تزاحم العام بالنسبة إلى الفردين، حتى يقال بان تقدم الزماني لأحدهما على الاخر لا يكون مرجحا، وذلك
48 لأنا إذا تحفظنا على ظهور تلك النصوص في الملكية المطلقة غير الموقتة، لن يبق مجال لشمولها لاحياء الفرد الثاني، وهكذا، لأن مرد شمولها له إلى رفع اليد عن ظهورها في الملكية المطلقة الدائمة وهذا خلف. والجواب عن هذه المناقشة: أما أولا: فلنا ان نفرض الكلام بما إذا لم تكن ملكية الأرض للفرد بسبب قيامه باحيائها بل كانت بسبب آخر كتمليك الإمام (ع). أو كانت باحيائه ولكن كان قبل تاريخ تشريع ملكية الأنفال للإمام (ع)، لما سيجئ في ضمن البحوث الأتية من أن الاحياء إذا كان قبل ذلك التاريخ يوجب منح المحيي ملكية الأرض. ففي مثل هذه الموارد إذا طرأ عليها الخراب، وأصبحت ميتة، فلا مانع من التمسك بعمومات تلك النصوص، بناء على عدم اطلاق أدلتها في تلك الموارد، فان دليل سببية الاحياء قبل التاريخ المذكور انما هو استقرار سيرة العقلاء، ومن الطبيعي انه لا اطلاق لها. وكذا تمليك الإمام (ع) فإنه لا اطلاق له بالإضافة إلى هذه الحالة والا لم تكن مشمولة لتلك العمومات، ضرورة انها لا تشمل الأرض الخربة التي لم تنقطع علاقة صاحبها عنها نهائيا. نعم إذا شك في انقطاع علاقته عنها من جهة عدم اطلاق ما دل على ملكيتها له، فلا مانع من التمسك بها، مع الإغماض عما تقدم من المناقشة. واما ثانيا فلان المتفاهم العرفي من هذه المجموعة من النصوص هو انها مسوقة لبيان سببية الاحياء للملك، ولا تكون في مقام بيان ان الملكية الممنوحة للمحيي بسبب احيائه ملكية مطلقة دائمية،
49 لا تزول الا بناقل شرعي. وان شئت قلت: انها في مقام بيان ان عملية الاحياء من أحد موجبات الملك، وان اكل المال بها ليس اكلا بالباطل، رغم انها ليست تجارة عن تراض، حيث إن الشارع جعلها سببا ابتدائيا للملك في الأراضي الموات، فلا يمكن تملكها بدون هذه العملية، فهذه النصوص في مقام بيان هذه الجهة. واما ان الملكية الحاصلة منها ملكية مطلقة دائمية تظل إلى الأبد حتى بعد خرابها وموتها، فليست ناظرة إلى هذه الناحية أصلا. وعليه فلا مانع من هذه الناحية عن شمول هذه المجموعة لاحياء الفرد الآخر بعد طرو الخراب والموت. فالنتيجة: ان هذه المناقشة لا أساس لها. على انها لو تمت فإنما تتم على القول بإفادة عملية الاحياء الملك، كما هو المفروض فيها واما على القول بأنها لا تمنح للمحيي الا الحق فيها فلا موضوع لهذه المناقشة، لأن الحق يزول بزوال الحياة عن الأرض، فلا يعقل بقائه بعد زوالها، كما ستجئ الإشارة إليه بشكل موسع. الوجه الثاني: روايتان. إحداهما: صحيحة معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: (أيما رجل اتى خربة بائرة فاستخرجها، وكرى أنهارها وعمرها، فان عليه فيها الصدقة، فإن كانت ارض لرجل قبله فغاب عنها، وتركها، فاخربها، ثم جاء بعد يطلبها، فان الأرض لله ولمن عمرها) (1). بدعوى ان هذه الصحيحة تدل على أن علاقة المالك تنقطع عن
(1) الوسائل ج 17 الباب 3 من أبواب احياء الموات الحديث 1. 50 أرضه بعد خرابها، ولأجل ذلك تدخل في ظل علاقة الرجل الذي قام باحيائها. والجواب عنه: اما أولا: فيمكن دعوى ان الظاهر من الصحيحة عرفا هو اعراض المالك عنها، بقرينة استناد الخراب إليه وترك الأرض وغيابه عنها. واما مجيئه بعد ذلك وطلبه الأرض لا ينافي اعراضه عنها أولا، إذ ربما يتفق ذلك بجهة من الجهات، فتأمل. وعلى هذا فالصحيحة أجنبية عن محل الكلام، فان محل الكلام في انقطاع علاقة المالك عنها بعد خرابها رغم عدم اعراضه عنها. وأما في فرض الاعراض فلا اشكال في جواز قيام غيره باحيائها ومنحه العلاقة له بالأرض، سواء فيه القول بكون الاعراض موجبا لانقطاع علاقة المالك عن ماله نهائيا، كما هو الاظهر، أو لا يوجب ذلك. اما على الأول فلانها بعد الاعراض قد أصبحت من المباحات، واما على الثاني فلان الاعراض بنفسه يتضمن الترخيص في التصرف بها والاستيلاء عليها بعملية الاحياء والعمارة. واما ثانيا: فمع الإغماض عما أبديناه - من المناقشة - انها لا تدل بوجه على انقطاع علاقة المالك عن الأرض نهائيا بطرو الخراب فحسب، إذ كما يحتمل ذلك، يحتمل انقطاع علاقته عنها بقيام غيره باحيائها واستثمارها فلا تدل الصحيحة لا على الاحتمال الأول ولا على الثاني. ودعوى - ان الأرض لو لم تخرج عن ملكية مالكها بالخراب لم يجز لغيره ان يقوم بعملية احيائها وعمارتها، لعدم جواز التصرف في مال المسلم - خاطئة جدا، وذلك لأنها على الرغم من فرض بقائها
51 في ملكية صاحبها يجوز لغيره ان يقوم باستثمارها والاستفادة منها ما دام كان صاحبها مهملا، وممتنعا عن القيام بحقها. بكلمة واضحة: ان خراب الأرض وزوال عمرانها قد يكون مستندا إلى اهمال صاحبها وامتناعه عن القيام بعملية احيائها واستثمارها وقد لا يكون مستندا إلى ذلك، بل هو مستند إلى سبب آخر من أسباب طارئة. اما في الفرض الأول فإن كانت صلته بها على مستوى الملك لم تنقطع عنها بالخراب والموت. ولكن بالرغم من هذا يجوز لغيره ان يقوم باحيائها ما دام هو مهمل وممتنع عن ذلك. وتدلنا: على ذلك صحيحة سليمان بن خالد الآتية. وإن كانت صلته بها على مستوى الحق فلا شبهة في انقطاعها عنها نهائيا بطرو الخراب، باعتبار ان الحق الحادث للمحيي في الأرض انما هو نتيجة قيامه باحيائها وعمرانها، ومعلول له، فإذا زالت الحياة والعمارة عنها سقط حقه لزوال علته واما في الفرض الثاني: فما دام صاحبها لم يكن ممتنعا عن القيام باحيائها وعمرانها وكان تأخيره ذلك مستندا إلى سبب من أسباب طارئة لم يجز لغيره ان يقوم بعملية احيائها. نعم لو طال أمد عذره زمنيا بحيث ينتهي الامر إلى تعطيل الأرض عرفا، ففي مثل ذلك للإمام (ع)، أو نائبه ان يأذن لغيره بالقيام باحيائها، واستثمارها، ويفرض عليه ان يؤدي حق صاحبها منها. واما ثالثا: فمع الإغماض عن ذلك، وتسليم ان الصحيحة ظاهرة: في انقطاع علاقة المالك عن ارضه بعد خرابها، وحدوث
52 علاقة للثاني باحيائها، الا انه لا يمكن الاخذ بهذا الظهور: وذلك لان صحيحة سليمان بن خالد، قال: سألت أبا عبد الله (ع) (عن الرجل يأتي الأرض الخربة فيستخرجها ويجري أنهارها ويعمرها ويزرعها ماذا عليه قال: الصدقة، قلت: فإن كان يعرف صاحبها، قال: فليؤد إليه حقه) (1) نص في بقاء رقبة الأرض في ملكية مالكها، وعدم حدوث الملكية للثاني بالاحياء والعمارة. ومن الطبيعي ان النص يتقدم على الظاهر، وعليه فلا بد من رفع اليد عن ظهور صحيحة معاوية بن وهب في حدوث العلاقة للثاني على مستوى الملك، وحملها على حدوث العلاقة له على مستوى الحق، فإذا لا تنافي بين الصحيحتين. نعم إذا افترضنا وجود التعارض والتنافي بينهما فكان هو بالتباين نظرا إلى أن صحيحة معاوية بن وهب ظاهرة بالاطلاق في انقطاع ملكية المالك عن ارضه بخرابها، وحدوث الملكية للفرد الثاني باستثمارها واحيائها، وصحيحة سليمان بن خالد ظاهرة باطلاقها في عدم انقطاع ملكية المالك عنها بذلك، وعدم كون الاحياء موجبا لمنح الملكية للثاني، وانما يوجب منح الحق له فيها. وعلى أساس ذلك فلا بد من الرجوع إلى مرجحات باب التعارض، لترجيح إحداهما على الأخرى. ولا يبعد دعوى تقديم صحيحة معاوية بن وهب، على صحيحة سليمان بن خالد من ناحية ان الروايات التي تدل على أن عملية الاحياء سبب لتملك المحيي للأرض روايات كثيرة تبلغ حد الاستفاضة بل لا يبعد بلوغها حد التواتر، فاذن تكون هذه الصحيحة اي صحيحة
(1) الوسائل ج 17 الباب 3 من أبواب إحياء الموات الحديث 3. 53 معاوية بن وهب موافقة للسنة، دون صحيحة سليمان بن خالد. فتتقدم عليها بملاك ان موافقة السنة من إحدى مرجحات باب المعارضة، كما هو المعروف بين الأصحاب. ولكن غير خفي: ان هذه المعارضة بين هاتين الصحيحتين ترتكز على ضوء نظرية المشهور القالة بان الاحياء سبب لعلاقة المحيي بالأرض على مستوى الملك. واما على ما سيجئ من التحقيق من أنه لا يوجب العلاقة الا على مستوى الحق فحسب، دون الملك. فعندئذ لا بد من رفع اليد عن ظهور صحيحة معاوية بن وهب في سببية الاحياء للملك، وحملها على سببيته للحق فقط، وعندئذ فلا تنافي بينهما أصلا، وسوف يأتي توضيح ذلك في ضمن الأبحاث القادمة بشكل موسع. فالنتيجة في نهاية الشوط انه لا يمكن الاستدلال بهذه الصحيحة على انقطاع ملكية المالك عن ارضه بالخراب. وثانيتهما: صحيحة أبي خالد الكابلي عن أبي جعفر (ع) قال وجدنا في كتاب علي (ع) (ان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين، أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الأرض، ونحن المتقون، والأرض كلها لنا، فمن أحيى أرضا من المسلمين فليعمرها، وليود خراجها إلى الامام من أهل بيتي، وله ما اكل منها، فان تركها واخربها فاخذها رجل من المسلمين من بعده فعمرها وأحياها فهو أحق بها من الذي تركها، فليؤدي خراجها إلى الامام من أهل بيتي، وله ما اكل منها، حتى يظهر القائم (ع) من أهل بيتي بالسيف، فيحويها، ويمنعها، ويخرجهم منها، كما حواها رسول الله (ص)، ومنعها. الا ما كان في أيدي شيعتنا، فإنه
54 يقاطعهم على ما في أيديهم، ويترك الأرض في أيديهم الحديث) (1). بدعوى ان هذه الصحيحة تدل على انقطاع ملكية المالك عن ارضه بخرابها وتملك غيره لها بالاحياء. والجواب عن هذه الصحيحة: اما أولا: فلا يبعد دعوى ظهورها لدى العرف في اعراض المالك عن الأرض، بقرينة استناد الخراب إليه فتأمل، وعليه فتخرج الصحيحة عن مورد الكلام، ولا تكون شاهدة عليه، فان مورد الكلام انما هو فيما إذا لم يكن خراب الأرض مستندا إلى اعراض المالك عنها كما عرفت. وأما ثانيا: فلانها لا تدل على انقطاع ملكية المالك عنها بالخراب إذ كما يحتمل ذلك، يحتمل ان يكون انقطاعها بقيام غيره باحيائها وعمارتها، فالصحيحة لا تدل بوجه، لا على الفرض الأول، ولا على الفرض الثاني. واما ثالثا: فلانها لا تدل على ملكية المحيي الثاني للأرض بقيامه باحيائها واستثمارها، وانما تدل على أنه أحق بها من الفرد الأول ومن الواضح ان الحق أعم من الملك، فلا تدل على زوال ملكية المحيي الأول عن رقبة الأرض. فيحتمل: أن تكون الأرض باقية في ملكية المحيي الأول. ويحتمل: دخولها في ملكية الإمام (ع) بعد خرابها. ويحتمل: تملك المحيي الثاني لها بالاحياء. فالمحتملات ثلاثة: وتعيين أي من هذه المحتملات من الصحيحة بحاجة إلى عناية وقرينة معينة، وحيث لم تكن فلا معين في البين،
(1) الوسائل ج 17 الباب 3 من أبواب احياء الموات الحديث 3. 55 وحينئذ فتصبح الصحيحة مجملة، فلا يمكن الاستدلال بها على هذا القول. هذا إضافة إلى امكان ان يقال: إن كلمة الأحق غير كلمة الملك، وفي مقابلها. وبما ان مدلول الصحيحة هو الأولى، دون الثانية فلا مانع عندئذ من الالتزام ببقاء رقبة الأرض في ملكية مالكها. ولكن بما ان المالك لم يقم بعملية احيائها وعمارتها، فلا مانع من قيام غيره بذلك، وبعد قيامه ليس له ان يزاحمه فيه، لأنه قد أصبح بقيامه بهذه العملية أحق منه في التصرف بها والاستفادة منها بمقتضى هذه الصحيحة. فالنتيجة ان الصحيحة على هذا تدل على عكس هذا القول تماما. واما بناء على ما هو الصحيح من أن أثر الاحياء انما هو حدوث العلاقة للمحيي على مستوى الحق دون الملك فقد أصبحت النتيجة على ما يلي: ان مدلول الصحيحة على هذا: ان الثابت للمحيي الأول هو الحق المتعلق بالأرض بقيامه باحيائها وعمارتها إذا كان تاريخ احيائه متأخرا زمنيا عن تاريخ نزول آية الأنفال، كما هو المفروض في مورد الصحيحة، فإذا ترك الأرض واخربها انتفى ذلك الحق الثابت له بانتفاء علته وهي الحياة والعمارة. وعليه فإذا قام غيره باحيائها وعمرانها ثبت له هذا الحق. واما رقبة الأرض فهي غير داخلة في نطاق ملكية المحيي الأول، ولا في نطاق ملكية المحيي الثاني، بل هي باقية في نطاق ملكية الإمام (ع)، كما هو المفروض في مورد النص. وعلى هذا فليس معنى قوله (ع) في تلك الصحيحة (فهو أحق
56 بها من الذي تركها) بقاء حق للمحيي الأول أيضا، غاية الأمر ان المحيي الثاني أحق منه، فان ذلك مبني على دلالة كلمة (أحق) على التفضيل هنا، وهي لا تدل عليه بقرينة عدم امكان بقاء حقه بعد طرو الخراب على الأرض فإنه ينتفي بانتفاء موضوعه وعلته. وغير خفي: ان هذا المعنى هو الظاهر من الصحيحة، وسوف يأتي انها تدل بوضوح على هذه النظرية، وفيها شواهد عليها. بقى هنا نقطة: وهي ان صاحب الجواهر (قده) قد ناقش في دلالة صحيحة معاوية بن وهب تارة، وفي دلالة صحيحة الكابلي تارة أخرى، اما في دلالة الأولى: فقد أبدى (قده) احتمال ان يكون المراد من قوله (ع) في الصحيحة (ولمن عمرها) هو العامر الأول، دون الثاني، فاذن لا تدل الصحيحة على ما هو المقصود من الاستدلال بها بل تدل على خلاف المقصود، حيث إن مفادها عندئذ بقاء الأرض في ملكية العامر الأول، وعدم انقطاع ملكيته عنها بتركها وتخريبها. وكذا لا تنقطع بقيام غيره باحيائها ثانيا، فإنه رغم كل ذلك فهي باقية في ملكية مالكها الأول، ومع هذا الاحتمال لا يمكن الاستدلال بها. وغير خفي: ما في هذه المناقشة، لوضوح انه لا شبهة في ظهور الصحيحة - ولا سيما بملاحظة القيود المذكورة فيها كفرض غيبة المالك الأول، وتركه الأرض، وتخريبها - في أن الأرض تكون لمن يقوم فعلا باحيائها وعمارتها، ضرورة ان مناسبة الحكم والموضوع تقتضي ان ذكر هذه القيود انما هو لبيان موجب الزوال، لا لبيان موجب البقاء.
57 وعليه فلا محالة يكون المراد من قوله (ع) (ولمن عمرها) هو العامر الثاني، دون الأول، ولا ريب في ظهوره فيه، ولا يمكن رفع اليد عن هذا الظهور، الا فيما إذا قامت قرينة على خلافه، ولا قرينة على الخلاف في المقام، فاذن لا مناص من الأخذ به. وأما احتمال ان يكون المراد منه العامر الأول دون الثاني وإن كان موجودا، الا انه ضعيف، فلا يبلغ بدرجة يكون مانعا عن ظهور الصحيحة في ذلك، وبدون المنع عنه لا أثر له. فالنتيجة ان هذه المناقشة ساقطة جدا. وأما في دلالة الثانية فقد ذكر (قده) ان مدلولها يكون من المتشابه، حيث إن المراد منه غير معلوم، فلا بد من رد علمه إلى أهله. بيان ذلك: ان في هذه الصحيحة قد أوجب على المحيي للأرض الميتة دفع الخراج إلى الإمام (ع)، وعندئذ. ان أريد بذلك وجوب دفعه في زمن الغيبة فهو لا يرجع إلى معنى محصل، حيث لا امام في هذا الزمن من أهل البيت (ع) الا القائم روحي له الفدا. هذا إضافة إلى أن ذلك يتعارض مع النصوص المستفيضة التي تدل بوضوح على أن الاحياء سبب لمنح ملكية الأرض لمن يقوم باحيائها. وعلى هذا فلا وجه لوجوب الخراج عليه. وإن أريد بذلك وجوبه في زمن الحضور، أو ظهور القائم (ع) فهو أشد اشكالا، فان الاحياء إن كان موجبا للملك فلا مقتضى لوجوب الخراج عليه، لا في زمن يمكن الوصول إلى الإمام (ع)، ولا في زمن الغيبة الذي لا يمكن الوصول إليه، وإن لم يكن موجبا له وجب عليه ذلك لا محالة من باب أجرة المثل، من غير فرق بين
58 زماني الحضور والغيبة. هذا من ناحية.. ومن ناحية أخرى يشكل الالتزام بذيل هذه الصحيحة، حيث فرض فيها انتزاع الأرض من يد مالكها وهو لا يمكن. ومن ناحية ثالثة: ان المشهور قد اعرضوا عنها، ولم يعملوا بها، واعراض المشهور عن رواية معتبرة يوجب سقوطها عن الاعتبار. والجواب عن ذلك: اما من الناحية الأولى، فعلى ضوء ما سنذكره في ضمن الأبحاث الآتية انشاء الله تعالى من أن الاحياء لا يوجب علاقة المحيي بالأرض على مستوى الملك، وانما يوجب علاقته بها على مستوى الحق، فوجوب دفع الخراج على المحيي عندئذ على مقتضى القاعدة فعدم الوجوب بحاجة إلى دليل. وإن شئت قلت: إننا إذا افترضنا ان رقبة الأرض تظل في ملكية الإمام (ع)، ولا تخرج عن ملكيته بقيام غيره باحيائها وعمارتها، فله (ع) فرض الأجرة عليه، غاية الأمر يجب عليه دفعها في زمن الحضور إلى الإمام (ع)، وفي زمن الغيبة إلى نائبه (ع). هذا، بقطع النظر عما سيأتي في ضمن البحوث القادمة من أن دفع الخراج غير واجب على الشيعة كلا من ناحية ان الإمام (ع) قد اذن لهم بالتصرف فيها، واستثمارها والاستفادة منها، من دون فرض الخراج عليهم. هذا من جانب. ومن جانب آخر سوف يأتي ان النصوص التي تكون ظاهرة في أن الاحياء يوجب تملك المحيي للأرض لابد من رفع اليد عن ظهورها فيه بقرينة الصحيحة المزبورة وغيرها مما سنشير إليه، والالتزام بأن الاحياء لا يبرر الاختصاص إلا على مستوى الحق فحسب، دون الملك. فالنتيجة: إنه لا اشكال في الصحيحة من هذه الناحية.
59 وأما من الناحية الثانية: فقد ظهر الجواب عنها مما تقدم، فان انتزاعها من يد من يقوم باحيائها وعمارتها، ليس انتزاعا من يد مالكها، كي يكون ذلك اشكالا في الرواية. وأما من الناحية الثالثة: فقد حقق في محله ان اعراض المشهور عن رواية معتبرة على تقدير تسليم الصغرى لا يوجب سقوطها عن الاعتبار، إلا إذا حصل الاطمينان لذلك، وهو غير مطرد، فإنه يختلف باختلاف الاشخاص، والأحوال. فالنتيجة: ان اعراض المشهور بما هو عن رواية لا يوجب سقوطها عن الاعتبار إذا كانت واجدة للشرائط. واما حصول الاطمينان منه بوجود خلل فيها المانع عن العمل بها فإنه شئ اتفاقي، ولا خصوصية له في ذلك، ضرورة انه من أي سبب حصل يوجب سقوطها عن الاعتبار. نتائج هذا البحث عدة نقاط: الأولى: ان الاستدلال بمجموعة من النصوص - التي تدل على أن من يقوم باحياء الأرض فهي تصبح له - على انقطاع ملكية المالك عن ارضه بعد خرابها وتملك غيره لها بالقيام باحيائها غير صحيح وقد تقدم انها لا تدل على ذلك بوجه. الثانية: ان التمسك بهذه المجموعة في المقام من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، باعتبار ان موضوعها - وهو الأرض الخربة - قد قيد بعدم كونها داخلة في نطاق ملكية أحد، وبما ان هذا القيد
60 في المقام مشكوك فيه. لاحتمال بقاء الأرض في ملكية مالكها، وعدم خروجها عنها بعد خرابها فلا يمكن احرازه بالتمسك بها. الثالثة: ان التمسك بالعام في الشبهات المصداقية انما لا يجوز فيما إذا كان المخصص لفظيا. وأما إذا كان لبيا فلا مانع منه، وبما ان المخصص في المقام لبي فلا محذور فيه. وقد تقدم الجواب عن ذلك بصورة موسعة وقلنا: إنه لا يجوز التمسك بالعام في الشبهات المصداقة مطلقا. الرابعة: ان النصوص المزبورة لا تدل على سببية الاحياء للملكية المطلقة الدائمة التي لا تزول إلا بناقل شرعي، فإنها ليست في مقام البيان من هذه الناحية، وإنما كانت في مقام بيان ان الاحياء من أحد أسباب الملك أو الحق شرعا على الاختلاف في المسألة. الخامسة: ان الاستدلال على هذا القول بصحيحة معاوية بن وهب غير صحيح، لما عرفت من المناقشة العديدة في دلالتها على ذلك القول، وكذلك الحال في صحيحة الكابلي. السادسة: ان المتحصل من مجموع ما ذكرناه هو انه لا يمكن الاخذ بهذا القول، وانه لا يقوم على أساس صحيح. القول الثاني تنقطع علاقة المالك عن الأرض بعد خرابها إذا كان سبب ملكيته عملية الاحياء والعمران. واما إذا كان سببها الشراء، أو الهبة، أو ما شاكل ذلك فلا تنقطع. وهذا التفصيل هو المعروف والمشهور بين الأصحاب، وعن
61 العلامة (قده) في التذكرة نفي الخلاف فيه، بل حكي اجماع الفقهاء عليه، ومال إليه الشهيد الثاني (قده) في الروضة. واليك نص عبارته: وموضع الخلاف ما إذا كان السابق قد ملكها بالاحياء، فلو كان قد ملكها بالشراء، ونحوه لم يزل ملكه عنها اجماعا، على ما نقله العلامة في التذكرة عن جميع أهل العلم. وكيف كان فالاجماع الكاشف عن قول المعصوم (ع) في المسألة غير متحقق جزما، بل لم ينقل الاجماع فيها الا العلامة في التذكرة عن ابن عبد البر - وهو من أحد فقهاء العامة - ولذا قال صاحب الجواهر (قده) في مقام رد الاجماع انه انما حكى عمن لا نعرفه. قد يقال: كما قيل: إن صحيحة الكابلي المتقدمة بما انها تدل على انقطاع علاقة صاحب الأرض عنها بعد خرابها فتكون أخص من صحيحتي سليمان بن خالد، ومعاوية بن وهب المتقدمتين. اما بالإضافة إلى صحيحة سليمان: فبملاك انها وإن كانت نصا في بقاء علاقة صاحب الأرض بها حتى بعد قيام فرد أخر باحيائها وعمرانها، الا انها مطلقة من ناحية ان سبب علاقته بها كان هو عملية الاحياء، أو الشراء أو ما شاكل ذلك. وهذا بخلاف صحيحة الكابلي فإنها خاص من هذه الناحية، لاختصاصها بما إذا كان سبب علاقته بالأرض عملية الاحياء فحسب، فعندئذ نقيد اطلاق صحيحة سليمان بهذه الصحيحة. فالنتيجة: ان سبب علاقته بها إن كان هو عملية الاحياء والعمران فقد انقطعت عنها نهائيا بعد خرابها وموتها، وإن كان غيرها لم تنقطع. واما بالإضافة إلى صحيحة معاوية بن وهب فايضا كذلك: يعني ان النسبة بينها، وبين صحيحة الكابلي نسبة الخاص والعام، غاية
62 الامر ان نسبة صحيحة الكابلي إلى صحيحة سليمان نسبة المخالفة اي المخالفة في الحكم والمضمون، والى صحيحة معاوية نسبة الموافقة، بمعنى ان صحيحة معاوية، وصحيحة الكابلي كلتيهما تدل على انقطاع علاقة صاحب الأرض عنها بعد خرابها، وموتها، فلا اختلاف بينهما من هذه الناحية. والاختلاف بينهما انما هو في الاطلاق والتقييد فحسب، فان صحيحة معاوية وإن كانت تدل على المضمون المذكور - وهو انقطاع علاقة صاحبها عنها بعد خرابها - الا انها مطلقة من ناحية ان سبب هذه العلاقة كان عملية الاحياء، أو غيرها. واما صحيحة الكابلي: فهي خاص من هذه الناحية كما عرفت. هذا من جانب. ومن جانب آخر: ان المشهور بين الأصحاب قديما وحديثا وإن كان هو عدم جواز حمل المطلق على المقيد في موارد كان المقيد موافقا للمطلق في الحكم من ناحية، وكان الحكم في طرف المطلق انحلاليا من ناحية أخرى. ولكن الصحيح عدم الفرق بين موارد مخالفة المقيد للمطلق في الحكم، وموارد موافقته له، فكما ان في الأولى لا بد من حمل المطلق على المقيد، فكذلك في الثانية، كما أشرنا إليه في ضمن البحوث السالفة. فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين: هي ان صحيحة الكابلي تصلح أن تكون مقيدة لاطلاق صحيحة معاوية بما إذا كان سبب علاقته بالأرض عملية الاحياء، لا غيرها. فاذن لا مناص من الالتزام بهذا القول - وهو الفرق بين ما كان سبب علاقة المالك بالأرض عملية الاحياء، وما كان سببها الشراء أو
63 نحوه، فعلى الأول تنقطع علاقته عنها نهائيا بعد خرابها، وعلى الثاني لا تنقطع. والجواب عن ذلك: اما أولا: فلانا قد ذكرنا ان صحيحة الكابلي لا تدل بوجه على انقطاع علاقة صاحب الأرض عنها نهائيا بعد خرابها، وكذا صحيحة معاوية، كما عرفت سابقا - وعليه فلا موضوع للجمع المذكور. حتى تكون نتيجته اثبات ذلك القول. واما ثانيا: فعلى تقدير تسليم ان الصحيحة تدل على ذلك، الا انا نناقش في أن النتيجة ليست هي هذا القول بالتفصيل، وذلك لان مدلول الصحيحة لا يخلو من أن يكون سببية الاحياء لعلاقة المحيي بالأرض على مستوى الملك، أو يكون سببيته للعلاقة بها على مستوى الحق. اما على الأول: فلا تكون للصحيحة دلالة على المفهوم لتكون مقيدة لاطلاق كل من صحيحتي سليمان، ومعاوية، وذلك لأنها كانت في مقام بيان ان الأرض كلها للإمام (ع). ومن الطبيعي: ان المراد منها الأراضي التي لا رب لها بالفعل سواء أكانت ميتة، أم كانت عامرة. كما إذا كان عمرانها مستمدا من طبيعتها لا من بذل جهد بشري فيها. واما إذا كان عمرانها بشريا فهي ملك لمن يقوم بعمارتها قبل تاريخ تشريع ملكية الأنفال للإمام (ع) ولا يعقل ان تدخل في نطاق ملكية الإمام (ع)، بعد ما ذكرنا من أن المراد من ملكيته (ع) للأرض الملكية الاعتبارية بمعنى الحكم الشرعي، لا الامر التكويني ولا المعنوي، على ما حققناه في ضمن البحوث السالفة.
64 ثم فرع (ع) على ملكيته للأراضي ان من يقوم بعملية احياء منها فهي تصبح له مع فرض الخراج عليه. ومن الواضح ان العرف لا يفهم من الصحيحة ان في الملكية الحاصلة من عملية الاحياء خصوصية لا تتوفر تلك الخصوصية في الملكية الحاصلة من سبب آخر غيرها، وهذا يعني ان الارتكاز القطعي العرفي قائم على عدم الفرق بين ما كان سبب ملكية الأرض عملية الاحياء، وما كان سببها غيرها. وعلى الجملة حيث إن ذكر كلمة الاحياء التي توجب الملك كان متفرعا على ذكر كلمة الأرض في الصحيحة، فلا يتبادر لدى العرف منها الا كون الصحيحة في مقام بيان تشريع سببية عملية الاحياء لتملك المحيي للأرض، وانها من أحد أسباب الملك، كغيرها من الأسباب له من دون خصوصية لها. ومن البديهي انه لا يفهم منها ان الملكية المسببة من هذا السبب تمتاز عن غيرها. بل يفهم منها عرفا انها من أحد أسباب الملك، والارتكاز القطعي قائم على عدم الفرق بين أصناف الملكية من هذه الناحية. وعلى هذا الأساس: فلا يكون لقوله (ع) في الصحيحة (فان تركها واخربها فاخذها رجل من المسلمين من بعده فعمرها وأحياها فهو أحق بها من الذي تركها) ظهور لدى العرف في أن ذلك من اثار ملكية الأرض المسببة من عملية الاحياء، بل الارتكاز المزبور القائم على عدم الفرق بين أقسام الملك وأصنافه قرينة على أن ذلك من اثار مطلق ملكية الأرض، سواء أكانت من جهة عملية الاحياء أم كانت من جهة الشراء، ونحوه، غاية الأمر ان مورد الصحيحة
65 هو ما كان سبب الملك عملية الاحياء، ولا خصوصية للمورد بعد الارتكاز المذكور. وعلى ضوء ذلك فالصحيحة اي صحيحة الكابلي لا تصلح أن تكون مقيدة لاطلاق صحيحة سليمان بن خالد، ولا لاطلاق صحيحة معاوية بن وهب لتكون النتيجة دعم هذا القول، فاذن لا دليل عليه. نعم على هذا الأساس: تقع المعارضة بين صحيحة سليمان بن خالد من جانب، وصحيحتي الكابلي، ومعاوية بن وهب من جانب آخر، وسوف يأتي الكلام في علاج المعارضة بين الجانبين في ضمن الأبحاث القادمة. واما على الفرض الثاني - وهو ما إذا كان الاحياء موجبا لعلاقة المحيي بالأرض على مستوى الحق فحسب - فما يترتب على هذا الفرض غير ما يترتب على الفرض الأول. بيان ذلك: قد عرفت انه على فرض كون عملية الاحياء توجب علاقة المحيي بالأرض على مستوى الملك لا وجه للتفصيل المزبور - وهو التفصيل بين ما كان الموجب لملكية الأرض عملية الاحياء، وما كان الموجب لملكيتها غيرها كشراء، أو ارث، أو نحو ذلك - وأما على فرض كون عملية الاحياء شرعا لا توجب الا صلة المحيي بالأرض على مستوى الحق فحسب، فلا بد من التفصيل بين كون صلة صاحب الأرض بها على مستوى الملك، وكون صلته بها على مستوى الحق، فعلى الأول لا تنقطع صلته عنها نهائيا بطرو الخراب، والموت. ولكن بالرغم من ذلك ليس له ان يمنع غيره من القيام باحيائها وعمرانها إذا كان ممتنعا عن ذلك، ومهملا.
66 نعم لو قام هو باحيائها واستثمارها لم يجز لغيره ان يزاحمه فيه، ولا فرق في ذلك بين أن يكون سبب ملكيته للأرض عملية الاحياء، أو غيرها، ضرورة ان الشرع لا يسمح لأي أحد احتكار الأرض بعد موتها، وخرابها، واهمالها مهما كان السبب في حصوله عليها. واما ما عن الشهيد (قده) في المسالك من أن الأرض التي قام باحيائها واستثمارها فرد إذا كان أصلها مباحا، فإذا تركها عادت إلى ما كانت عليه، وصارت مباحة، كما كانت كذلك، وإن العلة في تملك هذه الأرض الاحياء والعمارة. فإذا زالت العلة زال المعلول طبعا، ولا يعقل بقاؤه. فهو لا يتم على القول بكون الاحياء موجبا لتملك المحيى لرقبة الأرض. وذلك لأن الملك الذي يحصل عليه الفرد وإن كان هو نتيجة الاحياء، ومعلولا له شرعا، الا انك عرفت ان الارتكاز القطعي لدى العرف قائم على أنه لا يدور مداره حدوثا وبقاء، بل الملك ظل، وان زالت علته بقاء. نعم ما أفاده (قده) انما يتم على القول بكون الاحياء موجبا لعلاقة المحيى بالأرض على مستوى الحق فحسب، كما نشير إليه الآن. وعلى الثاني تنقطع صلته عن الأرض نهائيا بعروض الخراب، لأن الحق الذي يحصل عليه الفرد بسبب عملية الاحياء، بما انه لدى الارتكاز العرفي متقوم بحياة الأرض، فبطبيعة الحال إذا زالت الحياة عنها سقط حقه بسقوط علته، فلا يعقل بقائه مع سقوطها. وهذا الارتكاز هو الفارق بين ما كانت عملية الاحياء موجبة لعلاقة المحيي بالأرض على مستوى الملك، وما كانت موجبة لعلاقته بها على مستوى الحق، فإنه قائم على عدم سقوط الملك بسقوط الحياة
67 عن الأرض باعتبار ان الحياة بمقتضى هذا الارتكاز جهة تعليلية له، لا تقيدية، فالموضوع للملك انما هو رقبة الأرض من دون تقييدها بشئ. واما في الحق فالارتكاز المزبور على العكس، فإنه قائم على سقوط الحق بسقوط الحياة عنها باعتبار ان الحياة بمقتضى ذلك الارتكاز جهة تقييدية له، لا تعليلية محضة، وعلى أساس ذلك فبما ان الأرض في مورد صحيحة الكابلي داخلة في نطاق ملكية الإمام (ع) فبطبيعة الحال لا يوجب احيائها الا صلة المحيي بها على مستوى الحق فحسب. وعليه فإذا افترضنا ان المحيي قد ترك الأرض المزبورة، واخربها فلا محالة سقط حقه عنها نهائيا بسقوط موضوعه، وعندئذ جاز للآخر ان يقوم باحيائها واستثمارها، فإذا قام حصل له الحق فيها. وهذا التفصيل غير التفصيل المتقدم، فإنه تفصيل بين ملكية الأرض بسبب عملية الاحياء، وملكيتها بسبب آخر غيرها. واما هذا التفصيل فهو تفصيل بين ما كانت العلاقة على مستوى الملك، وما كانت على مستوى الحق، وعلى الأول لا تنقطع عن الأرض بعد خرابها، من دون فرق بين ان يكون سبب تلك العلاقة عملية الاحياء، أو اسلام أهلها عليها طوعا، أو شراء، أو نحو ذلك. وعلى الثاني تنقطع عنها بعده نهائيا من دون فرق بين ان يكون سبب هذه العلاقة عملية الاحياء، أو الشراء، أو ما شابه ذلك، فان من كانت علاقته بالأرض على مستوى الحق، فشراء تلك الأرض منه لا يوجب الا منح المشتري نفس العلاقة التي كانت له، فان حقيقة البيع - كما سوف نشير إليه في ضمن البحوث القادمة - انما
68 هي منح المشتري نفس العلاقة التي كانت للبايع بالمبيع، فإن كانت على مستوى الملك فأصبح المشتري مالكا له، وإن كانت على مستوى الحق فأصبح ذا حق بالإضافة إليه، ولا يعقل أن تكون علاقة البائع بالمبيع على مستوى الحق، ولكن علاقة المشتري به بعد الشراء قد أصبحت على مستوى الملك. هذا إضافة إلى أن هذا التفصيل لا يرجع بالتحليل إلى أساس صحيح. والنكتة فيه ان السبب البدائي الوحيد لعلاقة الانسان - منذ تولده في هذه الكرة - بالأرض انما هو عملية الاحياء ولا يسبقه اي سبب اخر ينتج حقا للانسان فيها، فاختصاص الفرد بالأرض اختصاصا ابتدائيا لا ينشأ الا من عملية الاحياء مباشرة، أو بالتسبيب فجميع أسباب أخر لعلاقة الانسان بالأرض أسباب ثانوية، وتنتهي في نهاية المطاف إلى ذلك السبب. مثلا بيع الأرض سبب لارتباط الأرض بالمشتري، ولكن من المعلوم ان سببيته لذلك تتوقف على أن تكون الأرض مرتبطة بالبائع بسبب آخر كشراء، أو نحوه قبل تاريخ هذا البيع زمنيا، وكذا الحال في الهبة، والإرث، والصلح، وما شاكل ذلك إلى أن ينتهي في نهاية الشوط إلى السبب الأول. وبكلمة أخرى ان المصادر والثروات الطبيعية بشتى أنواعها، واشكالها لم تكن بوضعها الطبيعي داخلة في نطاق علاقة خاصة لأي فرد، فالسبب الوحيد لصلة الفرد بها انما هو انفاق الانسان عملا ايجابيا في سبيل استثمارها، واستخدامها. فمثلا استخراج المناجم والمعادن من أعماق الأرض - هو العمل الذي ينتج علاقة المستخرج بالمادة التي يستخرجها خاصة -.
69 واحتطاب الخشب من الغابات هو العمل الذي يوجب ربطه بمن يقوم بهذه العملية على مستوى الملك. وصيد الحيوان النافر، أو الطائر - هو العمل الذي يبرر اختصاص الصائد به اختصاصا ملكيا -. والاستيلاء على اللؤلؤ والمرجان في أعماق البحار بالغوص - هو العمل الذي ينتج صلة الغاص بهما -. واغتراف الماء من النهر أو نحوه - هو العمل الذي يوجب تملك المغترف -. ونقل الحجر من الصحراء - هو العمل الذي يوجب صلته بمن يقوم بنقله - وهكذا. واحياء الأرض - هو العمل الذي ينتج حقا للمحيي فيها -. ولا تملك هذه المصادر والثروات بملكية خاصة بدون انفاق عمل في سبيل استثمارها، ومجرد دخولها في حدود سيطرة الفرد، والاستلاء عليها من دون انفاقه عملا ايجابيا في سبيل استخدامها لا يكون كافيا لتملكها، والعلاقة بها، وسوف يأتي الكلام في غير الأرض من الثروات الطبيعية بشكل موسع في ضمن البحوث القادمة. وعلى ضوء ذلك فلا يعقل أن تكون علاقة الفرد بالأرض التي تنشأ من الأسباب الثانوية كالبيع، والهبة، والإرث، ونحو ذلك أقوى وأشد من علاقته بها الناشئة من عملية الاحياء، رغم انها جميعا تنتهي في نهاية المطاف إلى تلك العملية، ولنفرض ان هذه الأسباب تتكفل منح نفس هذه العلاقة لغيره، حيث لم تكن هنا علاقة أخرى ما عداها. وعليه فلا أساس للقول بالتفصيل اي التفصيل بين ما كانت علاقة الفرد بالأرض ناشئة من عملية الاحياء، وما كانت ناشئة من سبب
70 ثانوي كشراء أو نحوه، فعلى الأول تنقطع علاقته عنها نهائيا بعد خرابها، وعلى الثاني لا تنقطع. نعم يمكن في ظروف استثنائية ان يملك الفرد رقبة الأرض - بدون انفاق عمل - بمنح الإمام (ع)، حيث إن له (ع) ولاية هذا التصرف إذا رأى فيه مصلحة، الا انه فرض نادر، ولا طريق لنا إلى احراز وقوعه في الخارج، فلا يمكن ان يكون القول بالتفصيل ناظرا إلى هذا الفرض. على أنه خارج عن محل الكلام، فان محل الكلام انما هو في أن اختصاص الفرد بالأرض لا يمكن بمجرد الاستيلاء، والسيطرة عليها بدون انفاق اي عمل خارجا في سبيل استثمارها. واما تملكها بمنح من بيده الامر فلا مانع منه أصلا، ولا كلام فيه، فإنه نظير تملكها بمنح من يكون مالكا لها بملكية خاصة. واما صحيحة معاوية بن وهب، فان الأرض في موردها لا تخلو من أن تكون داخلة في نطاق ملكية الإمام (ع)، أو داخلة في نطاق ملكية غيره. وعلى كلا التقديرين لا تؤثر عملية الاحياء في علاقة المحيي بالأرض الا على مستوى الحق دون الملك. ثم إن فرض تملك الفرد لرقبة الأرض - على ضوء ان عملية الاحياء لا توجب ملكيتها إذ كانت رقبتها داخلة في ملك غيره - يقوم على أساس ان يكون قيامه بعملية الاحياء متقدما زمنيا على تاريخ تشريع ملكية الانفاق للإمام (ع)، أو فرض انتقالها إليه ممن يكون قائما باحيائها قبل هذا التاريخ، بناء على ما سنذكره في ضمن البحوث الآتية انشاء الله تعالى من أن عملية الاحياء إذا كانت في ارض مباحة توجب الملك عند العقلاء، وإذا كانت في ملك غيره لا توجب
71 ذلك، وبما ان الأرض بعد التشريع المزبور قد أصبحت ملكا للإمام (ع) فلا توجب عملية احيائها الملك للمحيي. واما قبل هذا التشريع فبما انها كانت مباحة فهي توجب الملك له. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: إذا طرأ عليها الخراب والموت، وكان مالكها ممتنعا عن القيام باحيائها، فهل يجوز لدى العقلاء أن يقوم غيره باحيائها واستثمارها؟ - كما يجوز ذلك عند الشارع - الظاهر جوازه عندهم أيضا، حيث يظهر منهم انهم لا يسمحون لأي أحد احتكار الأرض بعد خرابها، مع حاجة الناس إلى استثمارها والاستفادة منها، كما لا يجوز ذلك لدى الشرع، فما هو ثابت لدى العقلاء، ثابت لدى الشرع أيضا، فلا فرق بينهما من هذه الناحية، وانما الفرق في أن عملية الاحياء بنظر العقلاء من أحد أسباب الملك. واما عند الشارع فهي ليست من أحد أسباب ذلك، وانما هي سبب لحصول الحق فحسب. نتيجة هذا البحث عدة نقاط الأولى: ان الاجماع الذي حكي عن العلامة في التذكرة لا يصلح ان يكون دليلا على هذا القول، على تقدير تسليم ان الاجماع المنقول حجة، لما عرفت من عدم ثبوته. الثانية: ان القول المزبور وإن كان نتيجة الجمع بين الصحاح المتقدمة يعني - صحيحة الكابلي، وصحيحة معاوية بن وهب، وصحيحة سليمان بن خالد - بتقييد اطلاق كل من الصحيحتين الأخيرتين بصحيحة الأولى، الا انك عرفت انه لا يمكن الاخذ بهذا الجمع،
72 لا على القول بكون عملية الاحياء موجبة لعلاقة المحيي بالأرض على مستوى الملك، ولا على القول بكونها موجبة لعلاقته بها على مستوى الحق فحسب. الثالثة: ان عملية الاحياء لدى العقلاء تؤثر في الملك ومن أحد أسبابه. ومن هنا قلنا إن عملية الاحياء إذا كانت متقدمة زمنيا على تاريخ نزول آية الأنفال فهي تفيد الملك. واما لدى الشارع فهي بمقتضى النصوص التشريعية لا تفيد الملك، وانما هي تفيد الحق فحسب. الرابعة: ان ما افاده الشهيد الثاني (قده) في المسالك - من أن علاقة المحيي بالأرض تنقطع عنها بعد خرابها، وعادت إلى ما كانت عليه من الإباحة - فقد عرفت انه لا يتم على القول بكون الاحياء منشأ للملك: وانما يتم على القول بكونه منشأ للحق. الخامسة: ان القول المذكور لا يرجع في نفسه إلى أساس صحيح لما عرفت من أن ملكية كل ارض تنتهي في نهاية المطاف إلى عملية الاحياء والعمارة، فلا يمكن تملك الأرض بملكية خاصة بدون انفاق العمل في سبيلها. نعم قد يمكن تملكها بمنح الإمام (ع) في ظروف خاصة، كما عرفت القول الثالث لا تنقطع علاقة صاحب الأرض عنها بعد خرابها، وانما تنقطع علاقته عنها بقيام غيره بعملية احيائها، وهذا يعني ان عملية الاحياء كما توجب تملك المحيي للأرض، كذلك توجب انقطاع علاقة
73 صاحبها عنها نهائيا. ويمكن الاستدلال على هذا القول باطلاق مجموعة من الروايات التي جاءت بهذا النص: من أحيى أرضا مواتا فهي له. وأيما قوم أحيوا شيئا من الأرض أو عملوه فهم أحق بها وهي لهم. وأيما قوم أحيوا شيئا من الأرض وعمروها فهم أحق بها. وغيرها (1). بتقريب: انها ظاهرة عرفا في أن عملية الاحياء مطلقا - وإن كانت في الأرض الميتة بالعرض - تؤدي علاقة المحيي بها على مستوى الملك، ومن الطبيعي انها حينئذ تدل بالالتزام على أن صلة المالك عن ارضه تنقطع نهائيا بقيام غيره باحيائها، حيث إنه لا موجب لانقطاعها قبل ذلك. والجواب عن هذا: ما تقدم منا في ضمن البحوث السالفة من أن هذه المجموعة، كما انها لا تدل على أن صلته عن ارضه تنقطع بعد خرابها، كذلك لا تدل على انها تنقطع بعد قيام غيره باحيائها فكل من الامرين محتمل، إذ كما يحتمل الأول، يحتمل الثاني أيضا، فلا تدل المجموعة الا على الجامع بينهما اجمالا. نعم لا يرد على الاستدلال بها على هذا القول ما يرد على الاستدلال بها على القول الأول - وهو لزوم التمسك بالعام في الشبهة المصداقية - فان هذا القول انما يقوم على أساس جواز التصرف في الأرض الخربة وان ظلت رقبتها في ملك صاحبها بعد خرابها، وعلى هذا فلا يكون التمسك بها في المقام من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. فيكون نظير ما في باب الالتقاط حيث إن للملتقط هناك ان يتملك ما التقطه إذا توفرت شرائط تملكه، رغم انه لا يخرج عن
(1) الوسائل ج 17 الباب 1 من أبواب احياء الموات. 74 ملك صاحبه بصرف الضياع. وقد يستدل على هذا القول: بصحيحة معاوية بن وهب المتقدمة، بدعوى انها تدل على تملك المحيي الأرض الخربة بالاحياء، ومن الطبيعي ان تملكه الأرض بذلك يستلزم خروجها عن ملك صاحبها. وفيه: انها لا تدل على ذلك اي - على خروجها عن ملك صاحبها - بوجه، وانما تدل على أن المحيي يملك الأرض بقيامه باحيائها واما ان الأرض قد خرجت عن ملكه بعد خرابها أو بعد قيام غيره باحيائها فالصحيحة لا تدل على شئ من الاحتمالين. هذا إضافة: إلى ما تقدم منافي ضمن البحوث السالفة من المناقشة في دلالة الصحيحة. ومن هنا يظهر انه لا يمكن الاستدلال على هذا القول بصحيحة الكابلي المتقدمة أيضا، لما مر بنا من المناقشة فيها. فالنتيجة: انه لا يمكن اتمام هذا القول بدليل. القول الرابع ان علاقة المحيي بالأرض لا تنقطع عنها نهائيا، لا بعد خرابها ولا بقيام غيره باحيائها، بل هي ظلت في ملكه ولا تخرج الا بناقل شرعي. وهذا القول: هو المعروف والمشهور بين الأصحاب، بل قبل: انه لم يعرف الخلاف في ذلك. ويدلنا عليه: امران: الأول: الاستصحاب، فان مقتضاه بقاء الأرض في ملكه وعدم خروجها عنه بطرو الخراب، ولا باحياء غيره، ولا مانع من التمسك
75 به بعدما سيأتي من عدم تمامية دلالة الروايات المخالفة له والموافقة. ولكن قد يناقش فيه بأمرين: أحدهما: ان الشك في المقام انما هو في الموضوع بمعنى انا لا نعلم أن موضوع الملك ذات الأرض والحياة شرط خارج عنه أو ان موضوعه الأرض المقيدة بالحياة فتكون الحياة قيدا مقوما له وبما اننا لا نحرز أحد الامرين فلا نحرز بقاء الموضوع في ظرف الشك، ومن الطبيعي انه مع عدم احرازه لا يمكن جريانه. ويرده: ان الظاهر بمقتضى الارتكاز القطعي لدى العرف ان موضوع الملك ذات الأرض، والحياة وإن كانت صفة طارئة عليها، الا انها شرط خارجي وغير مقوم للموضوع. وان شئت قلت: ان الحياة وإن كانت سببا لتملك المحيي للأرض وشكلا من اشكالها الا ان مناسبة الحكم والموضوع هنا كانت بدرجة تقتضي انها جهة تعليلية محضة. فلا يكون لها اي دخل في موضوع الحكم أصلا فالنتيجة: ان اتحاد القضية المتيقنة، مع القضية المشكوك فيها محرز موضوعا ومحمولا، والشك انما هو في بقاء المحمول. وعليه فلا مانع من التمسك بالاستصحاب. ودعوى - ان موضوع الملك في القضية المتيقنة انما هو الامر الخاص - وهو الأرض المحياة بما هي محياة - لا طبيعي الأرض وعليه فبطبيعة الحال ما دامت الأرض حية فقد ظلت في ملك صاحبها، وإذا ماتت فقد خرجت عن ملكه نهائيا بخروج موضوعه. - خاطئة جدا: لما مر بنا الآن من أن مناسبة الحكم والموضوع في المقام بلغت بدرجة تصبح قرينة لدى العرف على أن موضوع الملك
76 طبيعي الأرض، والحياة جهة تعليلية صرفة، لا تقييدية. وثانيهما: ان الشك في محل الكلام لما كان في المقتضى لم يجر الاستصحاب فيه، كما اختاره شيخنا العلامة الأنصاري (قده). بيان ذلك: ان موضوع الملك وإن كان هو طبيعي الأرض، إلا اننا لا نحرز استعداده أي - الملك - للبقاء حتى بعد انقطاع الحياة عن الأرض، وبدون ذلك لا يجري الاستصحاب. ويرده: ان الصحيح هو عدم الفرق في جريان الاستصحاب بين موارد الشك في الرافع، وموارد الشك في المقتضي، فكما ان الاستصحاب يجري في الأولى، فكذلك يجري في الثانية. وتمام الكلام في ذلك في بحث الأصول من الاستصحاب. فالنتيجة: انه لا مانع لحد الآن من استصحاب بقاء الأرض في ملك صاحبها حتى بعد قيام غيره باحيائها. الثاني: صحيحة سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن الرجل يأتي الأرض الخربة فيستخرجها، ويجري أنهارها، ويعمرها، ويزرعها، ماذا عليه قال: الصدقة قلت: فإن كان يعرف صاحبها قال: فليؤدي إليه حقه (1). فان قوله (ع): فليؤدي إليه حقه يدل بوضوح على بقاء الأرض في ملك صاحبها، وعدم انقطاع علاقته عنها بطرو الخراب والموت ولا بقيام غيره باحيائها، وإلا فلا يبقى له حق فيها كي يجب عليه أدائه. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: لا بد من حمل الصحيحة على امتناع صاحبها عن القيام بحقها وإهماله لها، كما لا يبعد ان يدعي ظهورها فيه،
(1) الوسائل ج 17 الباب 3 من أبواب احياء الموات الحديث (3). 77 وذلك لأنه لو لم يكن ممتنعا عن ذلك ومهملا لم يجز لغيره ان يقوم باحيائها واستثمارها. والاستفادة منها بدون اذنه جزما. وأما في فرض الامتناع عن القيام بذلك والاهمال فرقبة الأرض وإن ظلت في ملكه، إلا أنه بالرغم من هذا جاز لغيره لدى الشرع، والعقلاء ان يقوم باستثمارها واحيائها، فان العقلاء كالشرع لا يسمحون لأي فرد احتكار الأرض، على أساس ان ذلك يضر بالعدالة الاجتماعية، وضيق على الآخرين. ومن ناحية ثالثة: ان مقتضى اطلاق تلك الصحيحة انه لا فرق بين كون سبب ملكية مالك الأرض عملية الاحياء، وكونه غيرها، كشراء أو نحوه. وعليه فتدل على أن علاقة صاحب الأرض لا تنقطع عنها أصلا، لا بعد خرابها، ولا بقيام غيره باحيائها، ولو كان سببها عملية الاحياء. فالنتيجة: ان هذه الصحيحة، في حد نفسها تدل على هذا القول، هذا. قد يقال: كما قيل: إن اطلاق هذه الصحيحة بما انه معارض باطلاق صحيحة معاوية بن وهب المتقدمة بالتباين، بملاك ان صحيحة معاوية تدل على أن علاقة المالك بالأرض تنقطع عنها نهائيا بعد خرابها، أو بعد قيام غيره باحيائها، سواء أكان منشأ تلك العلاقة عملية الاحياء، أم كان غيرها. وهذه الصحيحة تدل على عدم انقطاعها بذلك أصلا، فبطبيعة الحال يسقطان معا، فلا تصل النوبة إلى اعمال الترجيح لأحدهما على الآخر، فان اعمال الترجيح إنما هي فيما إذا لم يكن التعارض بين الروايتين بالاطلاق، وإلا سقط اطلاق كل منهما، باعتبار ان ثبوته يتوقف على تمامية مقدمات
78 الحكمة: منها عدم ما يصلح للبيان: الأعم من المتصل، والمنفصل، والفرض ان كلا منهما فيما نحن فيه يصلح بحد نفسه ان يكون بيانا على الآخر، ومعه لا ينعقد الاطلاق لشئ منهما، فاذن لا بد من الرجوع إلى أصل آخر - وهو في المقام استصحاب بقاء علاقة المالك بالأرض، وعدم انقطاعها عنها حتى بعد قيام غيره باحيائها -. فالنتيجة في نهاية الشوط ان صحيحة سليمان بن خالد قد سقطت من جهة المعارضة عن الدلالة على هذا القول. والجواب عن ذلك: ان المعارضة بينهما وإن كانت بالاطلاق، إلا أن الصحيح عدم الفرق في الرجوع إلى مرجحات باب التعارض، بين أن تكون المعارضة بين الروايتين بالاطلاق، أو بالوضع. فلنا دعويان: الأولى: ان البيان المنفصل كما لا يمنع عن ظهور الكلام في مدلوله إذا كان مستندا إلى الوضع، كذلك لا يمنع عن ظهوره فيه إذا كان مستندا إلى الاطلاق ومقدمات الحكمة. الثانية: انه لا فرق في الرجوع إلى المرجحات لحل مشكلة التعارض بين أن تكون المعارضة بين الروايتين بالاطلاق، أو بالوضع. أما الدعوى الأولى: فلا شبهة في أن البيان المتصل مانع عن انعقاد ظهور الكلام في معناه رأسا، من دون فرق بين ان يكون ظهوره مستندا إلى الوضع، أو إلى الاطلاق ومقدمات الحكمة، كما أنه لا اشكال في أن البيان المنفصل لا يمنع عن الظهور الوضعي للكلام وإنما هو يمنع عن حجيته واعتباره. وإنما الاشكال والكلام في أن البيان المنفصل هل يمنع عن انعقاد
79 الظهور الاطلاقي؟ فيه قولان: الظاهر أنه لا يمنع عن ذلك. والنكتة فيه: ان من مقدمات الحكمة التي توجب انعقاد هذا الظهور، وإن كان هو عدم البيان، إلا أن المراد منه لا بد ان يكون خصوص البيان المتصل، لوضوح ان المتكلم متى فرغ عن كلامه انعقد ظهوره في معناه، ولا يتوقف على أن لا ينصب بيانا في المستقبل، ضرورة ان عدم البيان المنفصل ليس مما له دخل في انعقاد ظهور الكلام في الاطلاق، فان ظهوره فيه إنما يتوقف على فراغ المتكلم منه، وعدم نصبه قرينة متصلة على الخلاف، رغم انه كان في مقام البيان، فإذا كان كذلك انعقد ظهوره في الاطلاق، والبيان المنفصل لا يمنع عنه أبدا، فان الشئ لا ينقلب عما هو عليه نعم هو يمنع عن حجيته واعتباره. هذا إضافة إلى أن عدم البيان المنفصل لو كان جزأ من مقدمات الحكمة لم يمكن إثبات الاطلاق في شئ من الموارد، ولا نسد باب التمسك بالاطلاق، لفرض ان تمامية الاطلاق تتوقف على تمامية مقدمات الحكمة، ولا يمكن تماميتها إلا باحراز جميع اجزائها: منها عدم البيان المنفصل في الواقع، ومن الطبيعي ان إحراز هذا الجزء لا يمكن نوعا، ولا سيما في مطلقات الكتاب والسنة، فان باب احتمال وجود قرينة في الواقع على التقييد فيها ولو في المستقبل مفتوح، ولا يمكن لنا سد هذا الباب. وأصالة عدم القرينة لا تجري، لعدم الدليل عليها، إلا فيما إذا كان هناك ظهور في مقام الاثبات يقتضي إفادة معنى، واحتمل ورود قرينة على خلافه، ففي مثل ذلك لا مانع من التمسك بها، وإن كان مرجعه لبا إلى التمسك بأصالة الظهور الكاشفة نوعا عن
80 مراد المتكلم، فان بناء العقلاء إنما يقوم على حجيتها. لا على حجية إصالة عدم القرينة بحد نفسها. فإنها لا تكون كاشفة ما لم يكن في مقام الاثبات ظهور متحقق، ومن الواضح ان اجراء العقلاء هذه الأصالة إنما هو بلحاظ الطريقية والكاشفية عن الواقع نوعا، لا من باب التعبد الصرف. ومن هنا قلنا: إنها ترجع لبا إلى أصالة الظهور. وأما في المقام فبما إنه لا ظهور للكلام في مرحلة الاثبات يقتضي إفادة معنى، بقطع النظر عن مقدمات الحكمة. فلا تجري تلك الأصالة. وأما الدعوى الثانية: فبعد ما عرفت - من أن المعارضة بين الروايتين إذا كانت بالاطلاق فهي لا توجب سقوط اطلاقيهما موضوعا، وإنما هي توجب سقوطهما حكما واعتبارا، رغم ان أصل الظهور الاطلاقي قد ظل بحاله في كل منهما -. فلا مانع من الرجوع إلى مرجحات باب المعارضة، فان النص الدال على اعتبار الترجيح في مقام علاج مشكلة التعارض بين الروايات إنما كان مورده المتعارضتين منها المعتبرتين في حد أنفسهما، بقطع النظر عن التعارض بينهما، فان ملاك شمول هذا النص لهما، وكونه مرجعا لعلاج المشكلة هو اعتبارهما في حد نفسه من ناحية، وعدم إمكان العمل عرفا بهما معا لأجل المعارضة من ناحية أخرى، وهذا الملاك موجود فيما نحن فيه، لأن اطلاق كل منهما حجة في نفسه، بقطع النظر عن الآخر. فالنتيجة: انه لا فرق في الرجوع إلى النص الوارد في مقام علاج المعارضة وحلها بالترجيح بين ما كان التعارض بينهما بالظهور الاطلاقي،
81 وما كان بالظهور الوضعي هذا. ولكن بما ان في المقام لا ترجيح لاحد الاطلاقين بالإضافة إلى الاطلاق الآخر كي يقدم عليه، فلا محالة يسقطان معا عن الاعتبار، فتكون النتيجة بالتالي تلك النتيجة المتقدمة، يعني - ان النتيجة على أساس كلا المسلكين في المسألة واحدة - وهي عدم إمكان العمل باطلاق الصحيحتين اما من ناحية سقوطهما موضوعا، أو من ناحية سقوطهما حكما واعتبارا، فاذن لا بد من الرجوع إلى الاستصحاب المذكور. وقد يشكل في ذلك: بأن افتراض المعارضة بينهما أي - بين صحيحة سليمان بن خالد، وصحيحة معاوية بن وهب - يقوم على أساس عدم تقييد إطلاق صحيحة سليمان، بصحيحة الكابلي المتقدمة. وأما إذا افترضنا ان اطلاقها قد قيد بتلك الصحيحة باعتبار انها أخص منها موردا، لاختصاصها بما إذا كان الفرد قد ملك الأرض بعملية الاحياء، وعموم هذه الصحيحة ذلك، وما إذا كان قد ملكها بسبب أخر كشراء أو نحوه. وبعد تقييد إطلاقها تنقلب النسبة بينها، وبين صحيحة معاوية ابن وهب من التباين إلى عموم وخصوص مطلق، حيث إن صحيحة سليمان بعد التقييد المزبور تصبح أخص من صحيحة معاوية موردا، لاختصاصها بما إذا كان الفرد قد ملك الأرض بسبب أخر غير عملية الاحياء. وعلى ضوء ذلك: فلا بد من تقييد اطلاق صحيحة معاوية بصحيحة سليمان فتصبح النتيجة على النحو التالي: اختصاص صحيحة معاوية بما إذا كان الفرد قد ملك الأرض بعملية الاحياء فحسب، وخروج ما إذا كان ذلك بشراء أو ما شاكله عن تحتها.
82 فاذن تنتفي المعارضة بينهما بانتفاء موضوعها، لفرض اختصاص كل منهما بموضوع خاص ومورد مخصوص، من دون صلة لاحداهما بالأخرى. ثم إن صحيحة الكابلي وإن كانت أخص من صحيحة معاوية بن وهب أيضا، إلا انها حيث كانت موافقة لها في المضمون والمفاد فلا تصلح أن تكون مقيدة لها، فينحصر التقييد بصحيحة سليمان. وما قيل: - من أنه لا اطلاق لها من ناحية ابتلائها بالمعارض - وهو صحيحة معاوية - ومن الطبيعي ان التقييد فرع ثبوت الاطلاق - خاطئ، لما عرفت من أن هذا إنما يتم على ضوء نظرية من يقول: إن تمامية الاطلاق للمطلق تتوقف على عدم البيان على الخلاف الأعم من المتصل، والمنفصل. ولكن قد سبق آنفا: انه لا يمكن الالتزام بهذه النظرية، فان تمامية الاطلاق لا تتوقف على عدم البيان المنفصل، وإنما تتوقف على عدم البيان المتصل فحسب، وعليه فلا يكون ابتلاء صحيحة سليمان مانعا عن تمامية إطلاقها. والجواب عن هذا الاشكال: أما أولا فلانا قد ذكرنا سابقا ان صحيحة الكابلي لا تصلح أن تكون مقيدة لاطلاق صحيحة سليمان، لأن صلاحيتها لذلك انما تقوم على أساس دلالتها على أن الحكم المذكور فيها ليس حكما لطبيعي الملك، بل هو لحصة خاصة منه - وهي المسببة من عملية الاحياء - ولكن قد عرفت انها بضم الارتكاز القطعي العرفي تدل على أن هذا الحكم حكم لطبيعي الملك، لا لحصة خاصة منه، فحينئذ تكون طرفا لمعارضة صحيحة سليمان. كصحيحة معاوية، فتسقط عن الاعتبار،
83 يعني - ان حالها عندئذ حال صحيحة معاوية - باعتبار انهما معا طرف للمعارضة، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا. فالنتيجة. ان هذه الصحاح الثلاث قد سقطت عن الاعتبار من جهة المعارضة، بعد عدم الترجيح لأحد الطرفين على الطرف الآخر وعليه فلا موضوع للتقييد المزبور، وانقلاب النسبة. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى: قد ذكرنا ان منشأ ملكية الفرد للأرض ينتهي في نهاية المطاف إلى عملية الاحياء فلا يتصور لها منشأ آخر غيرها فجميع مناشئ الملك وأسبابه يقع في طولها. ومن ناحية ثالثة: قد ذكرنا أيضا ان البيع أو نحوه، إنما يتكفل منح نفس علاقة المحيى لغيره فحسب دون غيرها. وعليه فلو كان لصحيحة الكابلي ظهور في الاختصاص، فلا بد من رفع اليد عنه بهذه القرينة التي تحكم على هذا الظهور، فان ملكية الأرض، كما أن في مورد تلك الصحيحة مستندة إلى عملية الاحياء، كذلك في مورد صحيحة سليمان، غاية الأمر ان استنادها إليها تارة يكون بلا واسطة سبب آخر، وأخرى يكون بواسطته، ومن الطبيعي ان الواسطة لا تؤثر في شئ. وأما ثانيا: فمع الإغماض عن ذلك ان الاشكال المزبور إنما يقوم على أساس نظرية إنقلاب النسبة، فإنه على ضوء هذه النظرية لا مناص لنا من الالتزام به. إلا أن هذه النظرية غير تامة. والنكتة في ذلك: ان ملاك - تقديم الخاص على العام - هو كونه أظهر دلالة من العام لدى العرف، وبهذا الاعتبار يصلح ان يكون قرينة على التصرف فيه. ومن الطبيعي ان هذا الملاك لا يتوفر
84 في العام بعد التخصيص، لوضوح ان دلالته لم تصبح أظهر مما كانت عليه قبله. حتى يوجب ذلك تقديمه على ما يعارضه بقانون تقديم الاظهر على الظاهر. وبكلمة أخرى: ان المرجع في باب الظهورات إنما هو الطريقة المتبعة لدى العرف والعقلاء، ومن الواضح ان تلك الطريقة إنما هي تقوم على أساس الكاشفية والطريقية، وحيث إن تركيز العرف والعقلاء في الجمع بين الظهورات، والتصرف فيها، وتقديم بعضها على بعضها الآخر إنما هو يبتنى على ضوء نكتة الأظهرية النوعية، فبطبيعة الحال ان هذه الأظهرية النوعية إنما هي تتوفر في الخاص بلحاظ أخصية ذات مدلوله، لا بلحاظ ما هو المقدار الحجة منه، رغم ان ذات المدلول عام، ضرورة ان خروج بعض أفراد المدلول وسقوطه عن الحجية بدليل خارجي لا يغير شيئا من درجة ظهوره بالإضافة إلى الأفراد الباقية. ولا يوجب كونه أظهر وأقوى بالنسبة إليها. والسر: في أن الأظهرية النوعية تتوفر في الخاص بلحاظ أخصية ذات المدلول. ولا تتوفر العام بلحاظ أخصية ما هو المقدار الحجة منه هو ان التركيز في الدليل الخاص لما كان من البداية متوجها إلى الحكم الخاص، فلأجل ذلك يتشكل لدى العرف الأظهرية النوعية، وأما العام فبما ان التركيز فيه لم يكن من البداية متوجها إلى الحكم الخاص. بل كان متوجها إلى العام الذي كان الخاص في ضمنه، فلأجل ذلك لا يتشكل الأظهرية النوعية. هذا، وتمام الكلام في محله. وأما على ضوء النظرية القائلة بعدم إنقلاب النسبة فلا يمكن تقييد اطلاق صحيحة سليمان بصحيحة الكابلي.
85 والنكتة فيه: ان صحيحة سليمان وإن كانت مطلقة في حد نفسها، إلا انها من ناحية ابتلائها بالمعارض قد سقط اطلاقها عن الاعتبار، ومن الطبيعي ان مع سقوط اطلاقها بذلك عن الاعتبار لا أثر لتقييده أصلا، لفرض ان المعارضة لا ترتفع به على أساس هذه النظرية، بل هي ظلت بحالها، ومعه لا محالة يكون التقييد لغوا محضا. وعلى الجملة: فتقييد إطلاق المطلق بدليل إنما هو فيما إذا كان المطلق حجة باطلاقه في نفسه أي - بقطع النظر عن ورود دليل التقييد عليه - فان الموجب لذلك إنما هو وجود التنافي بين اطلاق المطلق، والدليل المقيد، وبعد حمله عليه وتقييده به يرتفع التنافي بينهما، فيظل المطلق حجة في الباقي، ويخرج عن تحته أفراد المقيد. وأما إذا افترضنا: ان المطلق لا يكون حجة، لا في تمام مدلوله الاطلاقي، ولا في بعضه من جهة المعارضة أو نحوها، فلا معنى لتقييده بدليل، ولا موضوع له حينئذ. وما نحن فيه من هذا القبيل، فان اطلاق صحيحة سليمان بما انه قد سقط عن الاعتبار نهائيا من جهة معارضته باطلاق صحيحة معاوية، فلا موضوع لتقييده بصحيحة الكابلي. نعم لو قدم صحيحة سليمان على صحيحة معاوية من جهة الترجيح، فعندئذ لا مانع من تقييد إطلاقها بصحيحة الكابلي، ولكنه خلاف الفرض. فالنتيجة: في نهاية المطاف ان هذا التقييد على ضوء نظرية انقلاب النسبة بمكان من الامكان. وأما على ضوء نظرية عدم انقلابها فلا موضوع له. وهذا هو نتيجة الاختلاف بين النظريتين.
86 وهذا الاختلاف إنما هو على أساس نظرية المشهور في مسألة الاحياء القائلة بكون عمليته تمنح علاقة للمحيي بالأرض على مستوى الملك. وأما على أساس ما قويناه من أنها إنما تمنحه العلاقة بها على مستوى الحق فحسب، فلا موضوع لها، فإنه على ضوء ذلك لا معارضة بين صحيحة سليمان، وصحيحة معاوية، ولا بين صحيحة سليمان، وصحيحة الكابلي، بل مفاد الجميع واحد وهو ان عملية الاحياء إذا كانت في ارض كانت رقبتها داخلة في نطاق ملكية غير المحيي لا توجب إلا الاختصاص بها على مستوى الحق، دون الملك، وسوف نشير إلى ذلك. قيل: إن النسبة بين صحيحة سليمان بن خالد، وصحيحة معاوية ابن وهب عموم مطلق ابتداء أي - بقطع النظر عن القول بانقلاب النسبة بينهما - وذلك لأن موضوع صحيحة سليمان مجرد كون الأرض خربة، وقد زال عمرانها، ومن الطبيعي ان هذا العنوان أعم من كون الخراب مستندا إلى اهمال صاحب الأرض، وامتناعه عن القيام بحقها، وموضوع صحيحة معاوية ما إذا كان الخراب مستندا إلى اهمال صاحب الأرض وامتناعه عن القيام باحيائها، فتكون أخص مطلقا من صحيحة سليمان. وبعد التخصيص تكون النتيجة: ان علاقة صاحب الأرض بأرضه تنقطع بسبب الخراب، إذا كان مستندا إلى اهماله وامتناعه عن القيام بحقها، ولا تنقطع إذا لم يكن مستندا إليه. ولنأخذ بالنقد عليه: أولا: منع اختصاص صحيحة معاوية بما إذا كان الخراب مستندا
87 إلى اهمال صاحب الأرض وامتناعه عن القيام بحقها، فان ما يوجب توهم اختصاصها بذلك ليس إلا قوله (ع) فيها (فغاب عنها وتركها واخربها) إلا أنه لا يدل على ذلك، لأن مجرد غياب صاحبها عنها وتركها المؤدي إلى خرابها لا يستلزم ان يكون ذلك من ناحية اهماله وامتناعه عن القيام بحقها، فإنه كما يمكن ان يكون من ناحية الاهمال والامتناع، يمكن ان يكون من ناحية عدم توفر فرصة كافية لديه للرجوع إليها والقيام بحقها، ولو لمانع خارجي، بحيث متى ارتفع المانع قام بحقها. أو فقل: إنه يحتمل ان يكون غيابه عنها بقوة قاهرة، لا باختياره، بحيث متى ارتفعت تلك القوة القاهرة رجع وقام باحيائها واستثمارها. فان مجرد اسناد الغياب إليه، وكذا الخراب لا يدل على الاختيار. فالنتيجة: ان النسبة بين الصحيحتين نسبة التباين، لا عموم وخصوص مطلق. وثانيا: على فرض تسليم ان النسبة بينهما عموم مطلق، الا ان ما قيل: - من أن النتيجة بعد التخصيص هي: ان علاقة صاحب الأرض بأرضه تنقطع بسبب الخراب، إذا كان مستندا إلى اهماله وامتناعه عن القيام بحقها، ولا تنقطع إذا لم يكن مستندا إليه - لا يمكن اتمامه بدليل، وذلك لما عرفت سابقا من أن صحيحة معاوية لا تدل بوجه على انقطاع علاقة المالك عن ارضه بعد خرابها وإن كان مستندا إلى اهماله وامتناعه وانما تدل على أن علاقته بها لا تبقى بعد قيام غيره باحيائها، اما انها انقطعت بسبب ذلك، أو بسبب الخراب فالصحيحة لا تدل على شئ منهما.
88 فاذن ما هو النتيجة المترتبة على هذا التخصيص. أقول: النتيجة هي: ان عملية الاحياء انما توجب علاقة المحيي بالأرض على مستوى الملك، إذا كان خراب الأرض مستندا إلى اهمال صاحبها وامتناعه عن القيام بحقها، ولا توجب ذلك إذا لم يكن خرابها مستندا إلى ذلك، وتدل على الأول صحيحة معاوية، وعلى الثاني صحيحة سليمان هذا إضافة: إلى أن ذلك لو تم فإنما يتم على ضوء نظرية المشهور في المسألة - من أن عملية الاحياء تنتج صلة المحيي بالأرض على مستوى الملك -. واما على ضوء ما ذكرناه في تلك المسألة - من أن نتيجتها ليست الا صلة المحيي بها على مستوى الحق فحسب - فلا يتم، إذ على هذا فلا موضوع للتخصيص المزبور، حيث إنه يقوم على أساس التنافي بين صحيحة معاوية، وصحيحة سليمان. وعلى ضوء ذلك: فلا تنافي بينهما أصلا. فان صحيحة معاوية بعد رفع اليد عن ظهورها في أن عملية الاحياء توجب الملك للمحيي وحملها على انها توجب الحق له، دون الملك، بقرينة خارجية، لا تنافي صحيحة سليمان ابدا، لاشتراكهما في مضمون واحد - وهو ان عملية الاحياء لا تمنح الا علاقة المحيي بالأرض على مستوى الحق فحسب، دون الملك - هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى قد أشرنا - في ضمن البحوث السالفة - إلى أن هذا الحق متقوم بحياة الأرض وعمرانها. فإذا زالت زال بزوال موضوعه، فلا يعقل بقائه بعد زوالها. وعليه فلا يفرق بين ان يكون زوالها باهمال صاحب الحق وامتناعه عن القيام بحقها. أو لا يكون بذلك،
89 فصحيحة معاوية على تقدير تسليم اختصاص موردها بما إذا كان خرابها مستندا إلى اهمال صاحبها وامتناعه عن القيام باحيائها، الا انه لا موضوعية لذلك الاختصاص ولا تدل الصحيحة حينئذ على أن جواز القيام باحياء الأرض خاص بهذه الصورة بعدما علمنا من الخارج انه يعم غيرها أيضا. نتيجة هذا البحث عدة خطوط الأول: ان علاقة المالك عن ارضه لا تنقطع نهائيا، لا بعد خرابها حتى فيما إذا كان الخراب مستندا إلى اهمال صاحبها وامتناعه عن القيام بحقها، ولا بعد قيام غيره باحيائها وعمارتها، وذلك للاستصحاب، وعدم دليل على خلافه. الثاني: ان المناقشة في هذا الاستصحاب، تارة بان الموضوع غير محرز، ومع عدم احرازه لا يجري الاستصحاب، واخرى بان الشك في مورده شك في المقتضي، لا في الرافع. ولكن قد تقدم نقد هذه المناقشة بشكل موسع. الثالث: ان ما قيل: - من أن صحيحة سليمان بما انها معارضة بصحيحة معاوية بالتباين وكانت المعارضة بينهما بالاطلاق فلا محالة تسقطان معا ولا تصل النوبة إلى اعمال قواعد باب الترجيح - فقد تقدم ان ذلك يقوم على أساس ان تمامية اطلاق المطلق تتوقف على عدم البيان: الأعم من المتصل، والمنفصل. ولكن قد عرفت خطأ ذلك، وان تمامية الاطلاق لا تتوقف على عدم البيان المنفصل وانما تتوقف على عدم البيان المتصل، وعليه فلا مانع من الرجوع
90 إلى قواعد باب المعارضة إذا كان هناك ترجيح، وبما انه لا ترجيح في المقام فتسقطان معا عن الاعتبار، فيرجع إلى الاستصحاب. الرابع: قد تقدم ان صحيحة الكابلي لا تصلح أن تكون مقيدة لاطلاق صحيحة سليمان، ولا لصحيحة معاوية حتى على القول بكون عملية الاحياء تؤثر في ملكية الأرض للمحيي. الخامس: ان ما قيل: - من إنه لا معارضة بين صحيحة سليمان، وصحيحة معاوية على أساس نظرية انقلاب النسبة، فإنه بعد تقييد اطلاق صحيحة سليمان بصحيحة الكابلي تنقلب النسبة بينها، وبين صحيحة معاوية من التباين إلى عموم مطلق - فقد عرفت ان صحيحة الكابلي لا تصلح أن تكون مقيدة لاطلاق صحيحة سليمان من ناحية. وعلى تقدير انها تصلح لذلك فلا نقول: بانقلاب النسبة من ناحية أخرى. السادس: ان ما قيل: - من أن النسبة بين صحيحة سليمان، وصحيحة معاوية عموم مطلق بحد نفسهما، لا بلحاظ إنقلاب النسبة - فقد سبق ان الأمر ليس كذلك، وإن النسبة بينهما التباين. السابع: ان هذه البحوث بأجمعها تقوم على أساس نظرية المشهور القائلة بأن عملية الاحياء توجب علاقة المحيي بالأرض على مستوى الملك. وأما على ما قويناه من أنها إنما توجب علاقته بها على مستوى الحق فحسب، دون الملك، فلا مجال لها، إذ على هذا لا تنافي بين هذه المجموعة من الروايات، فان التنافي والتعارض، وانقلاب النسبة، وعدم انقلابها كلها مبني على فرض دلالتها على الملك، كما عرفت بشكل موسع. الثامن: انه بناء على ما قويناه من أن علاقة المحيي بالأرض
91 إنما هي على مستوى الحق فحسب دون الملك، فهي تنقطع نهائيا بعد خرابها، سواء أكان الخراب مستندا إلى الاهمال والامتناع عن القيام بحقها، أم لم يكن مستندا إلى ذلك. الاعراض هل يوجب انقطاع علاقة المالك عن ماله؟ لا شبهة فيما إذا أعرض المالك عن ارضه وتركها في جواز قيام غيره باحيائها واستثمارها، وإنما الكلام في أن علاقته بها هل تنقطع بذلك نهائيا وتصبح كالمباحات الأصلية، أو انها ظلت بحالها: وإن كان يجوز لغيره التصرف فيها وضعا وتكليفا، نظرا إلى أن الاعراض بحد نفسه يتضمن الرخصة في التصرف بها لغيره؟ فيه قولان: المعروف والمشهور بين الأصحاب على ما نسب إليهم هو القول الأول. وذهب جماعة إلى القول الثاني. ولا يبعد قوة القول الأول. والنكتة فيه ان الارتكاز القطعي قائم لدى العرف والعقلاء على أن الأرض - كما في مورد الكلام - بعد اعراض صاحبها عنها تصبح من المباحات، ويرون ان نسبة صاحبها إليها كنسبة غيره إليها في حد سواء يعني - ان علاقته بها تنقطع بذلك نهائيا - فيصبح كالأجنبي، وهذا هو ملاك جواز تصرف غيره فيها، لا الترخيص الضمني من صاحبها. وهذا الارتكاز القطعي هو المنشأ لقيام السيرة من العقلاء على إباحة التصرف فيها، لا الترخيص المذكور.
92 وان شئت قلت: ان جواز التصرف فيها باحياء واستثمار فحسب لا يصلح ان يكون دليلا على انقطاع علاقة المالك عن أرضه، حيث قد عرفت انه لازم أعم بالإضافة إليه، بل الدليل عليه إنما هو ذلك الارتكاز القطعي لدى العرف والعقلاء الممتد زمنيا إلى عصور الأئمة الاطهار (ع) الكاشف عن الامضاء حيث لم يرد منهم (ع) ردع عنه، ومن هنا لا يترتبون العقلاء عليها آثار الملك. وتؤكد ذلك صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (ع) قال: من أصاب مالا أو بعيرا في فلاة من الأرض، قد كلت وقامت، وسيبها صاحبها مما لم يتبعه، فأخذها غيره، فأقام عليها وأنفق نفقته حتى أحياها من الكلال ومن الموت، فهي له، ولا سبيل له عليها، وإنما هي مثل الشئ المباح (1). فان قوله (ع) وإنما هي مثل الشئ المباح علة لنفي السبيل وهذه العلة تنسجم مع ما ذكرناه من أن علاقة المالك عن ماله تنقطع بأعراضه ويصبح كالمباح. فالنتيجة: ان الارتكاز المزبور بضم هذه الصحيحة دليل في المسألة. هذا تمام ما أوردناه في المقام الأول. وأما المقام الثاني وهو ما إذا كان السبب لعلاقة المالك بالأرض غير عملية الاحياء، كشراء أو ارث أو نحو ذلك، فقد نسب إلى المشهور انها لا تنقطع عنها بعد خرابها. وأما إذا كان سببها عملية الاحياء، فهي تنقطع بذلك. ولكن قد تقدم الكلام في ذلك في ضمن الأبحاث السالفة بشكل موسع وقلنا هناك انه لا فرق بينهما في ذلك أصلا.
(1) الوسائل ج 17 الباب 13 من أبواب اللقطة الحديث (2). 93 النقطة الثالثة هل ان قيام الفرد بعملية الاحياء والعمارة في الأرض الخربة يوجب انقطاع علاقة الإمام (ع) عنها نهائيا، أو لا يوجب ذلك وانما يوجب علاقة المحيي بها على مستوى الحق فحسب، مع بقاء رقبة الأرض في ملكه (ع)؟ فيه قولان: المعروف والمشهور بين الأصحاب قديما وحديثا هو القول الأول. وقد استدل على هذا القول بمجموعة من الروايات: منها صحيحة محمد بن مسلم قال: سألته عن الشراء من ارض اليهود، والنصارى قال: (ليس به بأس. إلى أن قال: أيما قوم أحيوا شيئا من الأرض أو عملوه، فهم أحق بها وهي لهم) (1). وهذه الرواية وإن كانت مضمرة إلا أن الاضمار من مثل زرارة غير مضر باعتبارها. ومنها صحيحة الفضلاء عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) قالا: قال رسول الله (ص): (من أحيى أرضا مواتا فهي له) (2). ومنها صحيحة زرارة عن أبي جعفر (ع) قال: قال رسول الله (ص): (من أحيى أرضا مواتا فهو له) (3). ومنها معتبرة السكوني عن أبي عبد الله (ع) قال: قال رسول الله (ص): (من غرس شجرا أو حفر واديا بديا لم يسبقه إليه أحد. أو أحيي أرضا ميتة فهي له، قضاء من الله ورسوله) (4).
(1، 2، 3) الوسائل ج 17 الباب 1 من أبواب احياء الموات الحديث (1، 5، 6). (4) الوسائل ج 17 الباب 2 من أبواب احياء الموات الحديث (1) 94 ومنها صحيحة معاوية بن وهب المتقدمة، فإنها ظاهرة في ملكية الأرض لمن يقوم بعمارتها. وغيرها من الروايات الظاهرة في ذلك. وغير خفي: لو كنا نحن وهذه المجموعة من الروايات لم يكن مناص من الالتزام بسببية الاحياء لملكية الأرض للمحيي، كما هو كذلك عند العقلاء بقطع النظر عن الشرع، إلا أن في مقابلها ثلاث روايات، وقد صرح فيها بعدم خروج الأرض عن ملك صاحبها بالقيام بعملية الاحياء والعمارة، ودخولها في ملك من يقوم بهذه العملية. منها صحيحة أبي خالد الكابلي عن أبي جعفر (ع) قال وجدنا في كتاب علي (ع) ان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده إلى أن قال: والأرض كلها لنا، فمن أحيى أرضا من المسلمين فليعمرها، وليؤد خراجها إلى الامام من أهل بيتي، وله ما أكل منها، فان تركها واخربها، فأخذها رجل من المسلمين من بعده، فعمرها واحياها، فهو أحق بها من الذي تركها، فليؤد خراجها إلى الامام من أهل بيتي، وله ما أكل منها، حتى يظهر القائم (ع) من أهل بيتي بالسيف، فيحويها ويمنعها ويخرجها منها، كما حواها رسول الله (ص) ومنعها، إلا ما كان في أيدي شيعتنا، فإنه يقاطعهم على ما في أيديهم، ويترك الأرض في أيديهم) (1). وهذه الصحيحة تتضمن عدة نقاط: الأولى: ان الأرض بتمامها داخلة في نطاق ملكية الإمام (ع)، وقد تقدم ان هذه الملكية حكم شرعي، لا أمر تكويني، ولا معنوي، وذكرنا انه لا مناص من الالتزام بذلك.
(1) الوسائل ج 17 الباب 3 من أبواب احياء الموات الحديث (2). 95 الثانية: انه قد قيد المحيي فيها بكونه من المسلمين، وسيأتي الكلام من هذه الناحية في ضمن الأبحاث القادمة. الثالثة: ان الإمام (ع) قد فرض الخراج في هذه الصحيحة على من يقوم بعملية الاحياء تفريعا على ملكيته (ع) ومن الطبيعي ان هذه النقطة تنص على أن عملية الاحياء في ارض الإمام (ع) لا توجب تملك المحيي لرقبتها. وانما هي توجب كونه أحق في التصرف بها من غيره. وإلا فلا مقتضى لفرض الخراج عليه. الرابعة: ان الحق الخاص الذي حصل للمحيي في الأرض على أساس قيامه باحيائها إنما هو يرتبط بالأرض ما دامت حية، فإذا انقطعت الحياة عنها بتركها انقطع حقه عنها نهائيا، فإذا قام غيره باحيائها ثانيا حصل له الحق فيها على أساس ذلك. وهذه النقطة تدل بوضوح على أن رقبة الأرض قد ظلت في ملك الإمام (ع). الخامسة: ان القائم من آل محمد (ص) إذا ظهر بالسيف أخذ الأرض التي في أيدي غير الشيعة، ويترك الأرض التي في أيديهم. وهذه نص في بقاء علاقة الإمام (ع) بالأرض، وعدم انقطاع علاقته عنها بقيام غيره باحيائها. ومنها: صحيحة سليمان بن خالد المتقدمة قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن الرجل يأتي الأرض الخربة، فيستخرجها ويجري أنهارها ويعمرها ويزرعها ماذا عليه، قال: (الصدقة، قلت: فإن كان يعرف صاحبها، قال: فليؤدي إليه حقه). فان قوله (ع) فليؤدي إليه حقه نص في أن علاقة صاحب الأرض لا تنقطع عن أرضه نهائيا بذلك. وإلا لم يبق حق له. ومنها: صحيحة عمر بن يزيد قال: سمعت رجلا من أهل
96 الجبل، يسئل أبا عبد الله (ع) عن رجل أخذ أرضا مما تركها أهلها، فعمرها وكري أنهارها، وبني فيها بيوتا، وغرس فيها نخلا شجرا، قال: فقال أبو عبد الله (ع): كان أمير المؤمنين (ع) يقول: (من أحيي أرضا من المؤمنين فهي له، وعليه طسقها يؤديها إلى الإمام (ع) في حال الهدنة فإذا ظهر القائم (ع) فليوطن نفسه على أن تؤخذ منه) (1). فان ذيلها نص: في بقاء الأرض في نطاق ملكية الإمام (ع) ولا تنقطع علاقته (ع) عنها نهائيا بقيام غيره باحيائها. وبعد ذلك نقول: إن هذه المجموعة التي هي روايات ثلاث بما انها نص في أن علاقة الإمام (ع) لا تنقطع عن رقبة الأرض بقيام غيره بعملية احيائها واستثمارها، فبطبيعة الحال تتقدم على المجموعة السابقة التي هي ظاهرة في أن عملية الاحياء توجب تملك المحيي لرقبة الأرض، فان النص يتقدم على الظاهر، بل لو لم تكن نصا فلا شبهة في أنها أظهر من تلك المجموعة، والأظهر يتقدم لدى العرف على الظاهر، فلا معارضة بينهما. وعليه فلا بد من رفع اليد عن ظهور تلك المجموعة، وحملها على أن العلاقة التي توجبها عملية الاحياء للمحيي بالأرض انما هي على مستوى الحق فحسب، دون الملك، بقرينة هذه المجموعة. ومن هنا أشرنا - غير مرة في ضمن البحوث السالفة - إلى أن هذا القول اي - القول بان عملية الاحياء توجب صلة المحيي بالأرض على مستوى الحق فحسب - هو الصحيح.
(1) الوسائل ج 6 الباب 4 من أبواب الأنفال وما يختص بالامام، الحديث (13). 97 وقد نسب هذا القول إلى جماعة من الأصحاب: منهم شيخ الطائفة الشيخ الطوسي (قده) في كتابه المبسوط في بحث الجهاد. ومنهم السيد محمد من آل بحر العلوم (قده) في بلغته. ومنهم الشهيد الثاني (قده) في المسالك، بل حكى هذا القول فيه عن الأكثر. ومنهم المحقق في كتابه الشرايع في بحث الجهاد. قد يقال: كما قيل: إن صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (ع) قال: سئل وانا حاضر عن رجل أحيى أرضا مواتا فكرى فيها نهرا، وبنى فيها بيوتا، وغرس نخلا وشجرا، فقال: هي له، وله اجر بيوتها، وعليه فيها العشر فيما سقت السماء أو سيل وادي أو عين، وعليه فيما سقت الدوالي والغرب نصف العشر (2). انها نص في أن صلة الإمام (ع) بالأرض تنقطع عنها نهائيا بقيام غيره باحيائها والسيطرة عليها. وكذا نص في نفي الخراج بقرينة الاقتصار فيها على ذكر الزكاة. فاذن بطبيعة الحال تقع المعارضة بين هذه الصحيحة، والصحاح الثلاث المتقدمة، باعتبار ان هذه الصحيحة نص في أن عملية الاحياء توجب علاقة المحيي بالأرض على مستوى الملك، وانقطاع علاقة الإمام (ع) عنها نهائيا، وتلك الصحاح نص في أنها لا توجب الا علاقة المحيي بها على مستوى الحق، وبما انه لا مرجح لتلك الصحاح عليها، فلا يمكن الاخذ بها، وطرح صحيحة عبد الله بن سنان، فاذن لا محالة تسقطان معا، وبعد سقوطهما كذلك لا مانع من الرجوع إلى المجموعة المتقدمة من الروايات الظاهرة في أن عملية الاحياء توجب الملك، وذلك لان المانع من الاخذ بظاهر تلك
(1) الوسائل ج 17 الباب 1 من أبواب احياء الموات الحديث (8). 98 المجموعة انما هو الصحاح المزبورة، فإذا افترض سقوطها بالمعارضة لم تصلح للمانعية عن الاخذ بظاهرها. ونظير ذلك ما إذا كان في المسألة عام وخاص، وفرضنا ان الخاص قد سقط عن الاعتبار، اما من ناحية ابتلائه بالمعارض: أو من ناحية أخرى، فعندئذ لا مانع من الرجوع إلى العام. ومن الطبيعي ان هذه القاعدة لا تختص بالعام أو المطلق، بل هي قاعدة سيالة في كل دليل كانت دليلتيه في طول دليل آخر، لا في عرضه، كالظاهر بالإضافة إلى النص، أو الاظهر، فإنه لا يكون حجة في عرضه، وانما تكون حجيته في طول حجية ذلك، وإن كانت النسبة بينهما تباينا أو عموما من وجه. وعليه فإذا افترض ان النص أو الاظهر قد سقط عن الحجية من ناحية ابتلائه بالمعارض، أو نحوه فلا مانع من الاخذ بالظاهر والعمل على طبقه. وما نحن فيه من هذا القبيل، فان المانع عن الاخذ بظهور تلك المجموعة انما هو الصحاح الثلاث، فإذا افترض انها سقطت عن الاعتبار من جهة المعارضة فلا مانع من الاخذ بظهورها، حيث إنها لا تصلح أن تكون طرفا للمعارضة كالصحاح، باعتبار انها لا تكون حجة في عرضها، وانما هي تصلح أن تكون مرجعا بعد سقوط الصحاح كالعام الفوقي. ولنأخذ بالمناقشة عليه: اما الكبرى، فهي وإن كانت في غاية الصحة والمتانة، ولا اشكال عند الأصحاب فيها، لا نظريا، ولا عمليا في أبواب الفقه الا ان ما نحن فيه ليس من صغرى تلك الكبرى، وذلك لان صحيحة
99 عبد الله بن سنان لا تصلح أن تكون طرفا للمعارضة مع الصحاح الثلاث المتقدمة، لوضوح ان الصحيحة ليست نصا في مدلولها، بل ولا أظهر من الروايات المتقدمة، ضرورة ان قوله (ع) في الصحيحة (هي له) كقوله (ع) في تلك الروايات (فهي له) فان التعبير فيهما على مستوى واحد، ومن المعلوم ان المتفاهم العرفي من مثل هذا التعبير ليس أزيد من الظهور في الاختصاص على مستوى الملك، كما أن دلالة الصحيحة على عدم وجوب الخراج لا تتعدى عن الظهور الاطلاقي الناشئ من السكوت في مقام البيان. وان شئت قلت: ان الصحيحة بما انها كانت في مقام البيان، ومع ذلك قد اقتصرت على وجوب الزكاة، وسكتت عن وجوب الخراج، فيحصل لها ظهور عرفي في عدم وجوبه. ومن الواضح ان هذا الظهور ليس بأقوى من سائر الظهورات. فالنتيجة: في نهاية الشوط: ان ظهور هذه الصحيحة في سببية الاحياء للملك، لي بأقوى من ظهور الروايات المتقدمة في ذلك فضلا عن كونها نصا. فلا فرق بينها، وبين تلك الروايات من هذه الناحية، فكما ان تلك الروايات لا يمكن ان تتعارض مع الصحاح الثلاث المتقدمة، فكذلك هذه الصحيحة. ولو تنزلنا عن ذلك: وسلمنا ان الروايات المتقدمة نص في كون عملية الاحياء سبب لتملك المحيي للأرض، فحينئذ تقع المعارضة بينها وبين الصحاح المتقدمة. وهل يمكن عندئذ ترجيح تلك الروايات على الصحاح المزبورة؟ فيه وجهان: قيل: أو يمكن ان يقال: في وجه ترجيحها عليها عدة وجوه:
100 الأول: ان الصحاح الثلاث المذكورة وإن كانت تامة دلالة وسندا، الا انها من ناحية اعراض الأصحاب عنها وعدم عملهم بها، قد سقطت عن الحجية والاعتبار، فلا يمكن العمل بها، فتبقى تلك الروايات حينئذ بلا معارض. فالنتيجة ان القول بتملك المحيي لرقبة الأرض بالاحياء والاستثمار هو الصحيح. ويرده: أولا: ان اعراض المشهور عن تلك الصحاح غير ثابت، بل الثابت خلافه، حيث قد عرفت ان الشيخ الطائفة (قده) في كتابه المبسوط قد افتى بمضمون هذه الصحاح، وكذا السيد محمد من آل بحر العلوم، ويظهر من بعض الاخر أيضا الذهاب إلى ذلك كما تقدم. وبالرغم من ذلك فكيف يمكن دعوى الاعراض عنها في المقام. واما تسالم الأصحاب قديما وحديثا - على عدم وجوب الخراج والطسق على المتصرفين في تلك الأراضي والمستثمرين فيها - فهو ليس من ناحية خروج الأرض عن نطاق ملكية الإمام (ع)، ودخولها في نطاق ملكية من يقوم باحيائها واستثمارها، بل انما هو من ناحية مجموعة من النصوص التي جاءت بلسان تحليل الأرض لمن شملهم التحليل. نعم إذا كانت الأرض داخلة في نطاق الملكية الخاصة - بان يكون لها مالك خاص - وجب على من يقوم باستثمارها ان يؤدي إلى صاحبها حقه، باعتبار ان صلته بها لم تنقطع عنها نهائيا، بعد خرابها، أو بعد قيام غيره باحيائها، بل تبقى صلته بها، كما كانت قبل هذه الحالة.
101 وتدل على ذلك صحيحة سليمان بن خالد المتقدمة كما عرفت، وثانيا: ان فتوى المشهور بظاهر الروايات المتقدمة لا تدل بوجه على أن اعراضهم عن الصحاح المذكورة وعدم عملهم بها، انما هو من جهة اطلاعهم على وجود خلل فيها سندا أو جهة أو دلالة، بل من المحتمل قويا ان يكون ذلك من ناحية ترجيح تلك الروايات على الصحاح المزبورة في مقام علاج مشكلة التعارض بينهما. هذا إضافة: إلى أن الأصحاب لم يكونوا معرضين عنها جزما وذلك لأن روايات الباب تصنف إلى مجموعتين: المجموعة الأولى: تقول: ان عملية الاحياء سبب لتملك المحيي للأرض - وهي عدة روايات قد مرت بنا -. المجموعة الثانية: على صنفين: أحدهما: يقول: إن علاقة الفرد عن ارضه تنقطع بعد خرابها أو بعد قيام غيره باحيائها - وهو صحيحة الكابلي وصحيحة معاوية المتقدمتان - والاخر: يقول: إنها لا تنقطع بذلك - وهو صحيحة سليمان التي مرت آنفا -. وقد نسب إلى الأصحاب انهم جمعوا بين هذين الصنفين بحمل الصنف الأول على ما إذا كان سبب ملكية الأرض الاحياء، والصنف الثاني على ما إذا كان غيره كالشراء أو الإرث أو نحو ذلك، وبالرغم من هذا فكيف يمكن ان ينسب إليهم الاعراض عن هذه المجموعة. وثالثا: ان سقوط الرواية عن الاعتبار من ناحية اعراض المشهور عنها محل اشكال، بل منع، فان الرواية إذا توفرت فيها شرائط الحجية والاعتبار كانت مشمولة لأدلة الاعتبار فتكون حجة، ولا اثر لاعراض المشهور عنها أصلا الا إذا افترض حصول الاطمئنان بوجود
102 خلل فيها على أساس ذلك. واما ما قيل - من أن سيرة المسلمين عامة قد جرت عمليا من لدن زمان الأئمة (ع) إلى زماننا هذا على عدم اعطاء الخراج والطسق للإمام (ع) ومن الطبيعي ان هذه السيرة كما تكشف عن انقطاع صلة الإمام (ع) عن الأرض نهائيا ودخولها في ملك من يقوم باحيائها. كذلك تكشف عن اعراض الأصحاب جميعا عن تلك الصحاح وعدم عملهم بها. - فهو خاطئ جدا: وذلك: اما سيرة الطائفة الخاصة على ذلك فهي انما تقوم على أساس اخبار التحليل. ولولا تلك الأخبار لكان علينا ان نقول بوجوبه على كل من يقوم باحياء الأرض واستثمارها بمقتضى تلك الصحاح، فعدم القول به انما هو على أساس تلك الأخبار ، ومعنى هذا ليس هو الاعراض عنها، بل معناه رفع اليد عنها في خصوص من شملهم التحليل لا مطلقا. وعلى ضوء ذلك فهذه السيرة بما انها تقوم على أساس اخبار التحليل فلا تكشف عن أن علاقة الإمام (ع) تنقطع عن الأرض نهائيا بقيام غيره باحيائها، بل تكشف عن بقائها وعدم انقطاعها بذلك، نظرا إلى أن مفاد تلك الأخبار هو التحليل المالكي المستلزم لبقاء رقبة الأرض في ملك مالكها. واما سيرة العامة على ذلك فهي انما تقوم على أساس مذهبهم في الفقه، ولا صلة لها بمنهجنا في الفقه. فالنتيجة في نهاية الشوط: انه لا اثر لتلك السيرة أصلا. الثاني: ان دلالة صحيحة الكابلي، وصحيحة عمر بن يزيد على وجوب الطسق والخراج على من يقوم باحياء هذه الأراضي والاستفادة
103 من ثرواتها انما هي بالظهور. واما دلالة المجموعة من النصوص المتقدمة على عدم وجوبه انما هي بالنص. ومن الطبيعي ان الظاهر لا يمكن ان يتعارض مع النص، فاذن لا بد لنا من تقديم تلك المجموعة عليهما بقانون حكومة النص على الظاهر. فالنتيجة: قد أصبحت في صالح القول بعدم وجوب الخراج والطسق على المحيي، وبالتالي إلى تملكه للأرض. وقد يجاب عن ذلك: بأن هذا الجمع إنما يقوم على أساس ان يكون مفادهما وجوب الطسق تكليفا وأما إذا كان وجوبه وضعا فهو غير تام. والسبب فيه: ان حمل الأمر الظاهر في الوجوب على الاستحباب - بقرينة ما دل على الترخيص في الترك - إنما هو مبني على أحد أمور: على أساس ان دلالة الصيغة على الوجوب لا تخلو من أن تكون بالوضع، أو بالاطلاق ومقدمات الحكمة، أو بمعونة حكم العقل. وعلى الأول فحمل الصيغة على الاستحباب إنما هو مبني على دعوى ظهور ثانوي لها فيه التي تصل النوبة إليها بعد رفع اليد عن ظهورها الأولى في الوجوب، وإلا فإرادة الاستحباب منها بحاجة إلى دليل آخر، فلا يكفي وجود القرينة على عدم إرادة الوجوب. وعلى الثاني: فيما أن مدلول الصيغة بحسب الجعل والوضع هو الطلب، والوجوب إنما هو مدلول لها بالاطلاق ومقدمات الحكمة، فبطبيعة الحال يكون حملها على الاستحباب - بعد مجيئ الرخصة - إنما هو مبني على أن الرخصة تنافي مدلولها الاطلاقي، دون مدلولها الوضعي يعني - انها توجب تقييد اطلاقها الذي هو منشأ
104 الوجوب - وهذا معنى حمل الأمر على الاستحباب. وعلى الثالث: فبما ان الحاكم بالوجوب هو العقل فبطبيعة الحال يكون حكمه بذلك مبنيا على أن لا ترد الرخصة على خلافه، فإذا وردت الرخصة ارتفع موضوع الوجوب حقيقة، وثبت بضمها إلى جامع الطلب الاستحباب. ثم إنه يفترق حمل الأمر على الاستحباب في الوجه الأول عن حمله عليه في الوجه الثاني، والثالث بأنه في الوجه الأول مبني على دعوى الظهور الثانوي، وفي الوجه الثاني، والثالث مبني على التأويل والتوجيه. ولكن هذه الوجوه بأجمعها: لا تتم في الامر الظاهر في حكم وضعي، فان قوله (ع) في صحيحة الكابلي (فليؤدي طسقها) وقوله (ع) في صحيحة عمر بن يزيد (فعليه طسقها) بما إنهما ظاهر ان عرفا في بيان الحكم الوضعي - وهو اشتغال ذمة المحيي بالطسق للإمام (ع) - دون الحكم التكليفي المحض وعليه فلا يمكن الحمل على الاستحباب، هذا. ويمكن المناقشة في هذا الجواب: بأنه إنما يتم فيما إذا كان الحكم الوضعي مدلولا لدليل وضعا، فعندئذ لا يمكن حمله على الحكم التكليفي. وأما إذا افترضنا ان مدلوله اللفظي ينسجم مع كل من الحكم الوضعي والتكليفي معا، وكان ظهوره في بيان الحكم الوضعي إنما هو بقرينة خارجية، فحينئذ لا مانع من الحمل على الحكم التكليفي إذا لم يمكن الاخذ بظاهره، من جهة قيام دليل على خلافه. وما نحن فيه من هذا القبيل، فان قوله (ع) فليؤدي طسقها يدل في نفسه وبقطع النظر عن خصوصيات المورد على الطلب فحسب،
105 فإنه مدلوله اللفظي الوضعي، ولا يدل بمقتضى الجعل والوضع على كونه إرشادا، ولا على كونه الزاما، فظهوره في الارشاد إلى الوضع أي - اشتغال ذمة المحيي بالطسق - إنما هو من ناحية خصوصية المقام والمورد، كما أن ظهوره في الالزام إنما هو من ناحية الاطلاق. وعليه فإذا قام دليل على نفي اشتغال ذمته بذلك وكان نصا فيه فلا محالة يكون قرينة على رفع اليد عن ظهوره فيه أي - في الارشاد - فيحمل على الطلب التكليفي الاستحبابي، فان هذا الدليل كما يكون قرينة على رفع اليد عن ظهوره في الارشاد، كذلك يكون قرينة على رفع اليد عن ظهوره في الالزام. وعليه فبطبيعة الحال يكون الطلب الذي هو مدلول له وضعا استحبابيا، ولا مانع من هذا الجمع أصلا. وكذا الحال في قوله (ع) فعليه طسقها، فان مدلوله اللفظي - وهو ثبوت شئ على ذمة المكلف - ينسجم مع كل من التكليف والوضع، فظهوره في بيان الحكم الوضعي هنا إنما هو من جهة خصوصية المقام. وعليه فإذا قام دليل على عدم إمكان الأخذ بمقتضى هذه الخصوصية فلا بد من رفع اليد عن هذا الظهور والحمل على التكليف المحض. ومن الطبيعي ان هذا الجمع ليس جمعا خارجا عن المتفاهم العرفي. ونظير ذلك: قد التزم الفقهاء (قدهم) في باب الزكاة بالإضافة إلى أموال التجارة أو نحوها، فان مجموعة من النصوص قد دلت على ثبوت الزكاة فيها ثبوتا وضعيا. ومجموعة أخرى منها قد دلت على نفي الزكاة عنها، ولما كانت دلالة المجموعة الأولى على ذلك بالظهور، ودلالة المجموعة الأخرى بالنص، فبطبيعة الحال تتقدم الثانية على
106 الأولى بقانون تقدم النص على الظاهر، فتحمل المجموعة الأولى على الحكم التكليفي - وهو الاستحباب - رغم ظهورها في الحكم الوضعي. ومن هنا افتوا باستحباب الزكاة فيها. فالنتيجة: ان في كل مورد يمكن حمل الدليل الظاهر في بيان الحكم الوضعي على الحكم التكليفي - بأن يكون معناه الموضوع له منسجما مع كل من الوضع والتكليف - فلا مانع من الجمع المزبور، وفي كل مورد لا يمكن ذلك بنكتة ان معناه الموضوع له غير قابل لذلك، لا يمكن هذا الجمع. فالصحيح في الجواب عن هذا الوجه ان يقال: إن النصوص المتقدمة التي تدل على نفي الخراج والطسق ليست نصا فيه، فإنها تصنف إلى مجموعتين: إحداهما: تنفي ذلك بالدلالة الالتزامية - وهي التي جاءت بهذا اللسان أو قريبا منه - (من أحيي أرضا مواتا فهي له) فإنها تدل بالمطابقة على أن المحيي يملك الأرض على أساس الاحياء، وبالتزام على نفي الخراج والطسق وبما أن دلالتها المطابقية كانت بالظهور، فبطبيعة الحال: كانت دلالتها الالتزامية كذلك، فلا تكون نصا فيه. والأخرى: تدل على ذلك بالاطلاق الناشئ من السكوت في مقام البيان كصحيحة عبد الله بن سنان ونحوها. وعليه فتكون تلك النصوص معارضة مع الصحاح المذكورة الظاهرة في وجوب الخراج والطسق، فتسقطان معا، فيرجع في المسألة إلى الأصل العملي، ومقتضاه بقاء الأرض في ملك الإمام (ع) وعدم دخولها في ملك المحيي بسبب الاحياء. الوجه الثالث: ان الروايات التي تدل على تملك المحيي لرقبة
107 الأرض بالاحياء روايات معروفة مشهورة بين الأصحاب، وهذا بخلاف الروايات التي تدل على عدم تملكه بعملية الاحياء، فإنها بالإضافة إليها روايات شاذة، وحيث إن الشهرة في الرواية من إحدى مرجحات باب المعارضة، فتتقدم تلك الروايات المشهورة على هذه الروايات النادرة. فالنتيجة: ان عملية الاحياء توجب ملكية الأرض للمحيي. والجواب عن ذلك: أن أريد بالشهرة التواتر يعني - انها روايات متواترة كما هو المناسب لمعنى الشهرة لغة وعرفا - ففيه ان الرواية المشهورة بهذا المعنى وإن كانت تتقدم على الرواية الشاذة يعني - غير المتواترة - الا ان الروايات المزبورة لم تكن كذلك، ضرورة انها لم تبلغ من الكثرة حد التواتر وان أريد بها الاستفاضة: فهي وإن كانت كذلك، إلا أنه لا دليل على أن صفة الاستفاضة في الرواية سبب لتقديمها على غيرها، فان الدليل على تقديم الرواية المشهورة على الشاذة مقبولة عمر بن حنظلة، وهي لا تدل على تقديم الرواية المستفيضة على غيرها، فان الظاهر من الرواية المشهورة فيها التي عبر عنها بالمجمع عليه - هو المشهورة بالمعنى الأول - فإنه ينسجم مع معناها لغة وعرفا. ومن الواضح ان تقديم الرواية المشهورة بهذا المعنى على غيرها المعارض لها على طبق القاعدة فلا يحتاج إلى دليل. هذا مضافا: إلى أن المقبولة ضعيفة سندا فلا يمكن الاعتماد عليها من هذه الناحية. فالنتيجة: ان هذا الوجه أيضا لا يمكن اتمامه بدليل.
108 ومن ذلك: يظهر بطلان ما قيل: من أن المعارض للصحاح الثلاث المتقدمة صحيحة عبد الله بن سنان خاصة، دون غيرها من روايات الباب، بدعوى ان الصحيحة نص في مدلولها - وهو تملك المحيي للأرض بالقيام بحقها - دون تلك الروايات. ولكن لا بد من تقديم الصحيحة عليها، لموافقتها للسنة - وهي الروايات المزبورة - وجه الظهور مضافا - إلى ما عرفت من أن حال الصحيحة حال سائر الروايات فلا فرق بينهما من ناحية الدلالة أصلا - ان موافقة تلك الروايات ليست موافقة للسنة، فإنها تقوم على أساس أن تكون متواترة، وقد عرفت عدم ثبوت تواترها. الرابع: ان النصوص التي تدل على تحليل الأرض كصحيحة مسمع مخالفة للنصوص التي تدل على عدم تملك المحيي للأرض بعملية الاحياء والعمارة، ووجوب الخراج والطسق عليه بإزاء تصرفاته فيها واستفادته من ثرواتها، وبما أن هذه المخالفة كانت بالعموم المطلق فلا محالة تكون نصوص التحليل مقيدة لاطلاق تلك النصوص، وبعد التقييد تختص بغير الافراد الذين شملهم التحليل ونتيجة ذلك ان هؤلاء الافراد يملكون رقبة الأرض بالاحياء والاستثمار ولازم هذا عدم وجوب الطسق والخراج عليهم، دون غيرهم من الافراد الذين لا تشملهم نصوص التحليل. فإنهم لا يملكون رقبة الأرض بعملية الاحياء، وانما الحاصل لهم حق الاختصاص بسببها مع بقاء الرقبة في ملكية صاحبها، ولذا يجب عليهم أداء الطسق والأجرة إليه فعندئذ تنقلب النسبة بين هذه النصوص وبين المجموعة المتقدمة من النصوص - التي كان مفادها سببية الاحياء للملك - من التباين إلى عموم مطلق، فترتفع المعارضة بينهما
109 وتصبح النتيجة على الشكل التالي وهي: ان نصوص سببية الاحياء للملك تختص بعد التقييد بالافراد الذين كانوا مشمولين لنصوص التحليل، دون غيرهم من الافراد، فإنهم يخرجون من تحتها بواسطة النصوص المذكورة، ولا يملكون الأرض بالاحياء، وانما الخاص لهم بواسطة قيامهم بحقها هو الاختصاص بالأرض على مستوى الحق فحسب وقد يجاب عن أن هذا الوجه انما يقوم على أساس ان يكون المراد من التحليل في النصوص المزبورة التحليل الشرعي يعني الحكم الإلهي دون التحليل المالكي حتى تكون موافقة للنصوص الدالة على تملك المحيي لرقبة الأرض بالاحياء النافية للخراج والطسق. فإنها ظاهرة في بيان الحكم الكلي الإلهي. واما إذا كان المراد منه التحليل المالكي كما هو الصحيح، بقرينة ان الإمام (ع) قد فرع تحليل الأرض وما فيها على ملكيته لها، كما في صحيحة مسمع التي هي العمدة في هذا الحكم، فعندئذ لا يكون المقام من صغريات انقلاب النسبة فان انقلاب النسبة بين العامين كان التعارض بينهما بنسبة التباين انما هو فيما إذا ورد خاص مخالف لأحدهما وموافق للآخر حتى يحمل العام الموافق على مورد الخاص ولنأخذ بالنقد عليه. اما أولا: فانا إذا افترضنا ان مركز المعارضة بين العامين في المقام انما هو في دلالة أحدهما على وجوب الخراج والطسق على المحيي ودلالة الاخر على عدم وجوبهما عليه، بقطع النظر عن دلالتهما على ما يستلزمهما - وهو تملك المحيي للأرض بالاحياء، وعدم تملكه لها - فعندئذ لا مانع من الالتزام بانقلاب النسبة هنا. وعدم موافقة الخاص للعام الآخر لا يمنع من الالتزام به بعد
110 امكان حمله على مورد الخاص، فان التحليل المالكي، والتحليل الشرعي انما لا يجتمعان في مورد واحد باعتبار ما هو لازم كل منهما، لأن لازم الأول بقاء الأرض في ملك المحلل، ولازم الثاني صيرورتها ملكا للمحيى. واما مع الإغماض عن لازمهما فلا مانع من اجتماعهما في مورد واحد - بان يكون عدم وجوب الخراج على المحيي للأرض مستندا إلى الشرع والمالك معا -. نعم مع ملاحظة ما هو لازمهما لا يمكن القول بانقلاب النسبة لعدم امكان حمل العام المزبور على مورد الخاص حينئذ. واما ثانيا: فإذا افترضنا ان مركز المعارضة بين العامين في مورد الكلام انما هو في دلالة أحدهما على تملك المحيي لرقبة الأرض بالاحياء، ودلالة الاخر على عدم تملكه لها، وانما تكون نتيجته الأحقية والأولوية بها بحسب دون الملكية، فعندئذ لا توجب اخبار التحليل انقلاب النسبة. بيان ذلك: ان هنا مجموعتين من الروايات: المجموعة الأولى: تدل على أن نتيجة الاحياء ملكية رقبة الأرض للمحيي - وهي الروايات الكثيرة التي تقدمت -. المجموعة الثانية: تدل على أن نتيجته الأحقية بها دون ملكية الرقبة - وهي الصحاح المتقدمة - فاذن تقع المعارضة بين هاتين المجموعتين في هذه النقطة. وعلى أساس ذلك فاخبار التحليل لا تعالج مشكلة التعارض بينهما على ضوء القول بانقلاب النسبة، فان اخبار التحليل وإن كانت تدل بالمطابقة على التحليل المالكي، الا انها تدل بالالتزام على بقاء
111 الأرض في ملك الإمام (ع) وعدم خروجها عن ملكه (ع) بقيام غيره بالتصرف فيها والاحياء، وعليه فتكون موافقة للمجموعة الثانية فيما هو محط المعارضة بينها وبين المجموعة الأولى، لا انها مخالفة لها وعلى ذلك فلا موضوع لما ذكر من انقلاب النسبة. فالنتيجة في نهاية الشوط: ان الصحيح بما ان مركز المعارضة بين هاتين المجموعتين انما هو في تلك النقطة - اي في سببية عملية الاحياء للملكية، وعدم سببيتها الا للأحقية - فلا يتصور انقلاب النسبة على أساس اخبار التحليل. هذا إضافة إلى ما مر بنا من المناقشة في أصل كبرى انقلاب النسبة في ضمن البحوث السالفة. إلى هنا قد استطعنا ان نخرج بهذه النتيجة: وهي ان شيئا من الوجوه التي ذكر لترجيح المجموعة الأولى على المجموعة الثانية لا يتم أصلا، هذا. والصحيح: هو تقديم المجموعة الثانية على المجموعة الأولى، وذلك - لأمرين: أحدهما: ان المجموعة الثانية توافق الكتاب العزيز وهو قوله تعالى: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض)، نظرا إلى أن هذه الآية الكريمة تدل على أن كل سبب للتملك إذا لم يكن تجارة عن تراض فهو باطل، والمفروض انه لم يثبت كون عملية الاحياء تجارة عن تراض، فاذن تملك المحيي مال غيره بها لا محالة يكون من الأكل بالباطل فتشمله الآية المباركة. والمجموعة الأولى تخالف الكتاب. ومن الواضح: ان المعارض الموافق للكتاب يتقدم على المعارض
112 المخالف له، فاذن يتعين الأخذ بمقتضى المجموعة الثانية، دون المجموعة الأولى. ثانيهما: ان المجموعة الثانية باعتبار دلالتها على عدم تملك المحيي لرقبة الأرض بالاحياء مخالفة للعامة، والمجموعة الأولى باعتبار دلالتها على تملك المحيي للأرض موافقة لهم، فتتقدم المجموعة الثانية على الأولى بملاك ان مخالفة العامة من جملة مرجحات باب المعارضة، بل لم يثبت الترجيح بدليل معتبر إلا بأمرين: الأول: موافقة الكتاب. الثاني: مخالفة العامة. ثم إننا لو تنزلنا عن جميع ما ذكر وسلمنا أن الترجيح لم يتوفر للمجموعة الثانية على المجموعة الأولى لا دلالة ولا سندا، إلا انهما عندئذ تسقطان معا من جهة المعارضة فيرجع إلى الأصل في المقام، وقد عرفت ان الأصل فيه هو الاستصحاب أي - استصحاب عدم حصول الملك بالاحياء -. نتيجة هذا البحث عدة خطوط الأول: ان القول بكون الاحياء سببا للملك وإن كان مشهورا بين الأصحاب إلا أنه لا يمكن الاخذ به، والروايات التي استدل بها على هذا القول وإن كانت تامة سندا ودلالة الا انها معارضة بالروايات التي أقوى منها دلالة، ولأجل ذلك تتقدم عليها. ونتيجته: هي ان القول بكون الاحياء موجبا لصلة المحيي بالأرض على مستوى الحق فحسب - دون الملك - هو الصحيح.
113 الثاني: ان ما قيل - من أن صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة نص في انقطاع صلة الإمام (ع) عن رقبة الأرض بقيام غيره باحيائها، وعليه فتصلح أن تكون طرفا لمعارضة الروايات التي تدل على أن الاحياء يفيد الحق دون الملك، وبعد سقوطهما عن الاعتبار من جهة المعارضة فلا مانع من الرجوع إلى الروايات المتقدمة الدالة على أن الاحياء يفيد الملك - وإن كان تاما بحسب الكبرى إلا أن المقام ليس صغرى لتلك الكبرى. الثالث: انه على تقدير تسليم المعارضة بين الطائفتين من روايات المسألة، فربما قيل: بترجيح - الطائفة الدالة على تملك المحيي لرقبة الأرض بعملية الاحياء على الطائفة الأخرى الدالة على عدم تملكه - بوجوه: وقد تقدم الكلام في تلك الوجوه مع ما فيها من المناقشة بشكل موسع. الرابع: ان الطائفة الدالة على عدم تملك المحيي لرقبة الأرض تتقدم على الطائفة الأخرى الدالة على التملك بوجهين: الأول: بموافقة الكتاب العزيز. الثاني: بمخالفة العامة. النقطة الرابعة هل يعتبر في الاختصاص الحاصل للفرد بالأرض التي تكون رقبتها للإمام (ع) على أساس قيامه باحيائها سواء أكان على مستوى الملك أم كان على مستوى الحق اذن الإمام (ع) واجازته؟ فيه وجوه بل أقوال:
114 الأول: اعتبار اذنه مطلقا. الثاني: عدم اعتباره كذلك. الثالث: التفصيل بين زماني الحضور والغيبة فيعتبر في الأول، دون الثاني. اما القول الأول: فهو المعروف والمشهور بين الأصحاب قديما وحديثا. وعن العلامة (قده) في المختلف دعوى الاجماع على ذلك صريحا. وعن المحقق في جامع المقاصد: لا يجوز لأحد الاحياء من دون اذن الإمام (ع) وانه اجماعي عندنا. وعن التنقيح: الاجماع على انها تملك إذا كان الاحياء بإذن الإمام (ع) وعن الشهيد الثاني (قده) في المسالك: لا شبهة في اشتراط اذنه (ع) في احياء الموات فلا يملك بدونه اتفاقا. هذا مضافا إلى أن مقتضى العقل والشرع عدم جواز التصرف لأحد في ملك غيره بدون اذنه ورضاه. فاذن يقع الكلام في الطرق التي ذكرت لاثبات اذنه (ع) في احياء الأرض واستثمارها وهي ثلاثة: الطريق الأول: المجموعة من النصوص التي تقدمت - وهي التي جاءت بهذا اللسان: من أحيى أرضا مواتا فهي له، أيما رجل أحيى أرضا مواتا فهو أحق بها وهي له، وهكذا - بدعوى انها كما تدل على سببية الاحياء لعلاقة المحيي بالأرض تدل على اذنه (ع) واجازته بالقيام بهذه العملية، وبذل الجهد في سبيل بث الحياة فيها، وذلك لأنها وان وردت في مقام تشريع سببية الاحياء لعلاقة المحيي بالأرض إلا أن ورودها من مالك الأرض ملازم عرفا للاذن المالكي في القيام بالعملية المزبورة.
115 ويرده ما أشرنا إليه في ضمن البحوث السالفة من أن تلك المجموعة من النصوص انما تنظر إلى تشريع سببية الاحياء للعلاقة بين الأرض ومن يقوم بحقها فحسب، ولا تنظر إلى ناحية أخرى - وهي اذنه (ع) بالقيام بتلك العملية من دون استثناء - وصدورها من المالك انما يدل على ذلك إذا كان بحيثية انه مالك، لا بحيثية التشريع، ومن الطبيعي ان الظاهر منها هو كون صدورها من الإمام (ع) انما هو بحيثية التشريع وبيان الحكم الإلهي الكلي في الشريعة المقدسة، لا بحيثية انه (ع) مالك لها، فاذن لا اطلاق لها من هذه الناحية لوضوح انه لا منافاة بين كون عملية الاحياء سببا للملك أو الحق في الشريعة المقدسة، وكون سببيتها مشروطة بشرائط: منها اذن الإمام (ع). وهذه المجموعة من النصوص: انما تنظر إلى الجهة الأولى فحسب دون الجهة الثانية، ومن هنا لا شبهة في أنه لا نظر لها إلى شرائط أخرى غير الاذن لا نفيا ولا اثباتا، فحال الاذن فيها من هذه الناحية حال بقية الشرائط فلا فرق بينهما من هذه الجهة. نعم صحيحة الكابلي وإن كانت تدل على اذن الإمام (ع) لاحاد المسلمين خاصة بالقيام بعملية احياء الأرض واستثمارها، وحلية الاكل مما استثمروا منها: الا انها انما تدل على ذلك فيما إذا كان القائمون بعملية الاحياء ملتزمين بأداء الخراج والطسق إلى الإمام (ع) من أهل البيت، ولا تدل على أنهم مأذونون مطلقا وان كانوا غير ملتزمين بأداء الخراج والطسق، فاذن لا تدل الصحيحة على أن الإمام (ع) قد اذن لهم بالتصرف فيها مطلقا. فالنتيجة في نهاية المطاف: ان المجموعة من النصوص المتقدمة لا تدل على اذن الإمام (ع) لكل فرد في احياء الأرض وعمارتها
116 بل هي في مقام بيان سببية الاحياء لعلاقة المحيي بالأرض فحسب، من دون نظر لها إلى جهة أخرى، واما صحيحة الكابلي فمضافا إلى اختصاص موردها بالمسلم فلا تدل على اذن الإمام (ع) بالاحياء مطلقا، بل تدل على اذنه (ع) في فرض خاص وإطار مخصوص. الطريق الثاني: ما روي عن النبي الأكرم (ص) (مواتان الأرض لله ورسوله (ص) ثم هي لكم مني أيها المسلمون) ومثله النبوي الآخر (عادي الأرض لله ولرسوله (ص) ثم هي لكم مني). وفيه انه لا يمكن الاعتماد عليهما أصلا لعدم ثبوتهما من طريقنا. الطريق الثالث: ان شاهد الحال قرينة على رضاء الإمام (ع) بعملية الاحياء لكل من يقوم بها. بيان ذلك: ان الأرض من أهم الثروات الطبيعية التي لا يمكن للانسان ان يمارس أي شكل من اشكال الانتاج الطبيعي بدونها على أساس انها تحتوي على المواد الأولية، كالمياه الطبيعية، والمعادن بشتى أنواعها، وغيرهما من المصادر والثروات الطبيعية، كما لا يمكن ان يمارس أي لون من ألوان الانتاج الصناعي بدون تلك المواد. وفي الدين الاسلامي كما جعل الاهتمام في الجانب الخلقي والمعنوي للمجتمع الانساني في رأس القائمة، كذلك جعل الاهتمام في الجانب المادي لذلك المجتمع. ومن هنا: قد حث الافراد فيه باحياء الأرض واستثمارها وبذل الجهد في سبيل انتاجها والاستفادة من ثرواتها. ولذا لا يعترف فيه بعلاقة الفرد بالأرض وحقه فيها على أساس آخر غير عملية الاحياء، فالمصدر الوحيد لتلك العلاقة والحق لدى الدين الاسلامي إنما هو
117 تلك العملية، فلا يعترف فيه بغيرها كالسيطرة عليها بالقوة أو نحوها، وبذلك تتوفر العدالة الاجتماعية بين المجتمع في ضمن الخطوط التي ترسم من قبل الدولة التي تمنع عن التعدي والتجاوز على حق الآخرين، وتتيح الفرصة لكل فرد أن يمارس حريته في ضمن دائرتها. ومن الطبيعي ان هذا الاهتمام من قبل الشرع باحياء الأرض يكشف عن رضاء الإمام (ع) بذلك واذنه العام لكل من يقوم به، والا لكان الاهتمام بالعملية المزبورة وتشريع سببيتها لحصول الحق لغوا، حيث إن كل أحد لا يتمكن من أن يستأذن الإمام (ع) بشكل مباشر للقيام بهذه العملية في عصر الحضور، فما ظنك بعصر الغيبة. ويرده: ان الاسلام وإن كان قد اهتم بالمصادر الطبيعية للأرض والاستفادة منها من خلال النصوص التشريعية. إلا أن ذلك الاهتمام لا يكشف عن رضاء الإمام (ع) واذنه العام لكل من يقوم باحياء الأرض، ولا يصلح ان يكون قرينة حالية على ذلك، كما أنه لا يصلح ان يكون موجبا لظهور تلك النصوص فيه. أما الثاني: فلما عرفت من أنها واردة في مقام تشريع سببية الاحياء لعلاقة المحيي بالأرض، ولا ظهور لها، لا بنفسها، ولا بمعونة قرينة خارجية في اذن الإمام (ع) في التصرف فيها بصفة انه (ع) مالك لرقبتها. واما الأول: فلان كشف الاهتمام المزبور عن ذلك انما يقوم على أساس افتراض ان المعتبر هو اذن الإمام (ع) شخصيا في القيام بحق الأرض - فإنه - عندئذ - حيث لا يتمكن كل فرد أراد القيام بحقها من تحصيل الاذن منه (ع) مباشرة في عصر الحضور فضلا عن الغيبة فلا محالة يكون كاشفا عن ذلك. لشدة حاجة الناس إلى
118 القيام بممارسة الانتاج منها والانتفاع بثرواتها - التي تقوم حياتهم الفردية والاجتماعية على أساسها - من ناحية، وكون ذلك الاهتمام أصبح لغوا من ناحية أخرى. هذا. ولكن الصحيح: عدم اعتبار اذنه (ع) في ذلك شخصيا، لعدم الموجب له أصلا، وكفاية اذن نائبه الخاص في زمن الحضور، واذن الفقيه الجامع للشرائط في زمن الغيبة، وعليه فلا يكون كاشفا، لتمكن كل فرد من ذلك. ودعوى: ان نيابة الفقيه عن الإمام (ع) حتى في اموراته الشخصية، واملاكه الخاصة غير ثابتة، فاذن لا أثر لاذنه. وفيه: ان هذه الدعوى - لو تمت فإنما تتم فيما لو قلنا بان الأرض تكون من املاكه (ع) الشخصية، الا ان الامر ليس كذلك، فلان ملكية الإمام (ع) للأرض ليست على غرار سائر املاكه الخاصة، فإنها ملك لمنصب الإمامة أو الدولة. ومن هنا لا تنتقل إلى ورثته (ع) بعده. ومن الطبيعي ان أمرها في زمن الغيبة بيد الفقيه الجامع للشرائط. هذا مضافا إلى أن الضرورة قاضية بلزوم تدخل الفقيه أو الدولة في أمر تلك الأراضي، والمنع عن حدي الافراط والتفريط في نشاطات الافراد وتصرفاتهم فيها، فان الدولة لو لم تتدخل في أمرها، وكان الافراد حرا في تصرفاتهم فيها بما شاؤوا وأرادوا بحسب ما تتوفر لديهم من المكنة والقوة وإن كانت تسبب تضييع حقوق الآخرين والمنع عن انتفاعهم بها فلا محالة أوجب ذلك هدم العدالة الاجتماعية بين طبقات الأمة. ومن المعلوم ان الاسلام جاء بخطواته الواضحة ليكون سدا قويا
119 ازاء التعديات والتجاوزات الفردية والاجتماعية، ولكي يستقر العدالة بين جميع الطبقات بشتى ميولهم واشكالهم ماديا ومعنويا، ومن الطبيعي ان هذا لا يمكن الا في ضمن الخطوط التي ترسم من قبل الدولة في ضمن دائرة الشريعة الاسلامية المقدسة. ونقصد بذلك: ان الاسلام لا يسمح للافراد بممارسة حرياتهم ونشاطاتهم غير محدودة، وانما يسمح لهم بممارستها في ضمن حدود خاصة ونطاق مخصوص، فلا يسمح للفرد ان يمارس حريته في النشاطات الاقتصادية التالية: 1 - النشاطات التي تضر بالمصالح العامة للدولة أو الأمة، فان على من بيده الأمر ان يتدخل فيها ويمنع الافراد عن ممارسة حرياتهم في سبيل تلك النشاطات، لحماية تلك المصالح وحراستها. 2 - النشاطات التي تسبب تضييع حقوق الآخرين، وعدم إتاحة الفرصة لهم من ممارسة تلك الحقوق والانتفاع بها. 3 - النشاطات الربوية بشتى ألوانها، فان الاسلام بنصوصه الصريحة قد منع الافراد عن ممارسة تلك الألوان من النشاطات منعا باتا. 4 - النشاطات الاحتكارية، فان المنع عن ممارسة تلك النشاطات في الطعام انما هو بنص صريح في الشريعة الاسلامية المقدسة، واما المنع عن ممارستها في غير الطعام انما هو بيد ولي الأمر، وليس بنص خاص في الشريعة، فإن كانت ممارستها منافية لمتطلبات العدالة الاجتماعية التي يؤمن الاسلام بضرورة ايجادها بين طبقات الأمة فعلى من بيده الامر أو الدولة المنع عن ممارستها. فالنتيجة: ان الدين الاسلامي لا يسمح للافراد بممارسة هذه
120 الألوان من الأعمال والنشاطات المالية على أساس انها تتنافى مع العدالة والحقوق الاجتماعية أو الفردية. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان الدين الاسلامي قد سمح للافراد في ضمن الحدود المزبورة والنطاق المخصوص بممارسة حرياتهم في سبيل الأعمال والنشاطات الاقتصادية ما شاؤوا وأرادوا بحسب ما لديهم من المكنة والقوة، بل قد تكون هذه الممارسة واجبة على الافراد في الاسلام، وقد يأمر ولي الأمر بها، لما يرى فيها من المصلحة العامة. ومن الطبيعي ان الافراد يختلفون باختلاف ما لديهم من القوة والمكنة لممارسة تلك النشاطات والأعمال كما وكيفا، فقد يتمكن الفرد بممارستها من جمع ثروة هائلة وأموال كثيرة، وقد اعترف الاسلام في ضمن نصوصه باختصاص تلك الثروة له، وعدم جواز تصرف غيره فيها الا باذنه ورضاه. ولم يرد في نصوص الاسلام تحديد الملكية الخاصة للافراد بحد خاص، بحيث لو تجاوزت ثروة الفرد وأمواله عن ذلك الحد لم يملك الزائد، وانما ورد في نصوصه تحديد حرية الافراد في سبيل تحصيل الثروة والأموال كما مر. وأما إذا تمكن الفرد من تحصيل الثروة والأموال من الطرق المحددة في الشرع فهو يملك تلك الثروة بلغت ما بلغت من الكثرة. وهذا لا يتنافى مع العدالة الاجتماعية التي يؤمن الاسلام بضرورة ايجادها بين طبقات الأمة، فان العدالة الاجتماعية لا تقوم على أساس توحيد الصفوف والطبقات في المكنة المالية والاقتصادية، كيف فان هذا لا ينسجم مع الاسلام، لما مر بنا في ضمن البحوث السالفة
121 من أن الاسلام يعترف بقيمة عمل كل فرد على أساس انه يملك نتاجه، ومن الطبيعي ان عمل كل فرد يختلف عن عمل فرد آخر كما وكيفا باختلاف ما لديه من المكنة والقوة. فلا يمكن تساوي الافراد في العمل بحسب الكم والكيف، وبالرغم من هذا كيف يمكن التوحية بين صفوف الأمة وطبقاتهم في الحقوق المالية. بل إن العدالة الاجتماعية بين صفوف الأمة في المجتمع الاسلامي انما تقوم على أساس ان لكل فرد من أفراد الأمة حقا في ممارسة حقوقه الاجتماعية والفردية في ذلك المجتمع بحرية تامة في ضمن الإطار العام الاسلامي، وليس لأي فرد ان يزاحم الآخر في ممارسة حقوقه بحرية كاملة. وعلى ضوء ذلك فبطبيعة الحال يكون كل فرد من ذلك المجتمع مؤمن بعدم تضييع حقوقه فيه - سواء أكانت راجعة إلى النفس أم إلى العرض أم إلى المال - وعليه فلا محالة يعيش بعيشة طيبة آمنة هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: ان مبدأ الفضيلة في الاسلام انما هو بتقوى الله فكل فرد يتمثل فيه تقوى الله فهو أقرب إليه تعالى على أساس ان جميع الفضائل الأخرى في الاسلام ينتهي في نهاية الشوط إلى هذه الفضيلة فلا فضل لغني على فقير مثلا الا بذلك. ومن ناحية ثالثة: ان الاسلام على أثر تربيته الافراد في المجتمع الاسلامي في تمام مرافق حياتهم المعنوية والمادية قد بث في نفوسهم حب اعمال البر والخير، ومن نتائج هذه التربية قيامهم بدفع الحقوق الواجبة وغيرها، والمساهمة في تحقيق العدالة الاجتماعية. ومن ناحية رابعة: ان على الدولة القيام بواجبها ازاء الفقراء
122 والمعوزين بأخذ الضرائب والحقوق من الأغنياء وتوزيعها على الفقراء توزيعا عادلا ليعيشوا كغيرهم في ظل المجتمع الاسلامي بعيشة آمنة. فالنتيجة: ان هذه النواحي التي أشرت إليها بشكل اجمالي هي الأسس التي تقوم بها العدالة الاجتماعية بين طبقات الأمة، حيث أن جميع الطبقات على ضوء هذه الأسس يعيشون بحرية كاملة في ممارسة حقوقهم المادية والمعنوية، الاجتماعية والفردية في ظل الإطار العام الاسلامي. الطريق الرابع: مجموعة من اخبار التحليل. منها صحيحة مسمع بن عبد الملك في حديث قال: قلت: لأبي عبد الله (ع) أني كنت وليت الغوص إلى أن قال: وهي حقك الذي جعل الله تعالى لك في أموالنا فقال: وما لنا من الأرض وما أخرج الله منها الا الخمس، إلى أن قال: يا أبا سيار قد طيبناه لك وحللناك منه فضم إليك مالك. وكل ما كان في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون ومحلل لهم ذلك، إلى أن يقوم قائمنا فيجيبهم طسق ما كان في أيدي سواهم، فان كسبهم من الأرض حرام عليهم حتى يقوم قائمنا فيأخذ الأرض من أيديهم ويخرجهم منها صفرة (1). وهذه الصحيحة: هي العمدة في محل الكلام، ودلالتها على تحليل الأرض واضحة، وكذلك دلالتها على أن المراد من التحليل هو التحليل المالكي. إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة: وهي انه لم يثبت بطريق
(1) الوسائل ج 6 الباب 4 من أبواب الأنفال وما يختص بالامام الحديث 12. 123 معتبر تحليل الأرض بشكل عام من الإمام (ع) أو من قبل الشرع لكل فرد أراد القيام بحق الأرض والاستفادة من ثرواتها. واما صحيحة الكابلي فهي وإن كانت تدل على تحليلها للمسلمين خاصة الا انها لا تدل على ذلك مطلقا، بل في اطار التزامهم خارجا بأداء الطسق والخراج إلى الامام من أهل البيت (ع)، والا كان تصرفهم فيها محرما كما صرح بذلك في صحيحة مسمع. ومن هنا لو كان لصحيحة الكابلي اطلاق من هذه الناحية فلا بد من تقييده بهذه الصحيحة أي - صحيحة مسمع - فالثابت انما هو تحليل الأرض لخصوص الافراد الذين شملتهم اخبار التحليل فحسب لا مطلقا. وأما القول الثاني: - وهو عدم اعتبار الاذن من الإمام (ع) مطلقا في قيام الفرد باحياء الأرض - فقد قيل: إنه يمكن الاستدلال عليه بالسيرة الجارية بين المسلمين من لدن زمان التشريع إلى زماننا هذا على القيام باحياء الأرض الموات والاستفادة من ثرواتها بدون مراجعة الإمام (ع) في عصر الحضور، ونائبه في عصر الغيبة، فلو لم يجز القيام بحقها بدون الاذن لأصبح ذلك من الواضحات، لكثرة ابتلاء الناس بالاستفادة من مصادر الأراضي والانتفاع بها، رغم انهم غافلون عن اعتباره فيه. ويرده: انه لا شبهة في ثبوت هذه السيرة العملية بين المسلمين في جميع الأعصار، الا انه لا يمكن الاخذ بها دليلا على هذا القول. والنكتة فيه: ان جريانها بين الطائفة الخاصة انما هو يقوم على ضوء اخبار التحليل، وبقطع النظر عن تلك الأخبار فثبوت هذه السيرة بينهم غير معلوم كما تقدم آنفا.
124 واما جريانها بين العامة فهو انما يقوم على أساس منهجهم في الفقه الاسلامي كما عرفت. فالنتيجة: ان هذه السيرة ليست سيرة تعبدية، لتكون كاشفة عن الاذن. قد يقال: كما قيل: إنه يكفي في القيام باحياء الأرض وعمارتها اذن الله تعالى باعتبار انه سبحانه مالك الملوك، ولا يلزم مع ذلك اذن من مالكها الشرعي لا عموما ولا خصوصا. وتشهد على ذلك: معتبرة السكوني عن أبي عبد الله (ع) قال: قال رسول الله (ص): (من غرس شجرا أو حفر واديا لم يسبقه إليه أحد، أو أحيى أرضا ميتة فهي له قضاء من الله ورسوله) (1). ببيان ان هذه المعتبرة ظاهرة في أن احياء الأرض إذا كان باذنه تعالى كان موجبا لتملك المحيي لها، من دون حاجة إلى اذن من مالكها الشرعي. ونظير ذلك: تملك اللقطة إذا لم تكن ذات علامة أو بعد التعريف إذا لم يوجد صاحبها، فان تملكها انما هو بإذن الله تعالى، لا بإذن مالكه، وكذا الحال في حق المارة فإنه إنما يكون باذنه تعالى مع عدم اذن مالكه في التصرف فيه. ويرده: انه لا شبهة في كفاية اذن الله تعالى على أساس انه سبحانه مالك حقيقي للأشياء، الا ان الكلام انما هو في اثبات ذلك، ولا يمكن اثباته بالمعتبرة المذكورة، فان المراد من القضاء فيها ليس هو اذنه تعالى في القيام باحياء الأرض، بل المراد منه تشريع سببية عملية الاحياء لمنح المحيي حقا في الأرض، كما هو الظاهر منها.
(1) الوسائل ج 17 الباب 2 من أبواب احياء الموات الحديث 1، 125 فاذن حال المعتبرة حال بقية روايات المسألة فلا تدل على الاذن، وقد تقدم انه لا ملازمة بين التشريع سببية الاحياء لعلاقة المحيي بالأرض وبين الاذن في القيام بحقها. وأما القول الثالث - وهو التفصيل بين زماني الحضور والغيبة فيعتبر الاذن من الإمام (ع) في القيام بعملية الاحياء على الأول دون الثاني -. فلعله: مبني على أساس ان الاذن من الإمام (ع) بشكل مباشر في زمن الغيبة ممتنع، رغم ان مشروعية الاحياء ثابتة مطلقا من ناحية، وعدم ثبوت نيابة الفقيه عنه (ع) في مثل هذه الأمور من ناحية أخرى، فاذن لا مناص من القول بسقوط الاذن. وفيه: ما تقدم من ثبوت نيابة الفقيه عن الإمام (ع) في مثل المقام، وقد عرفنا انه لا يلزم ان يكون الاستيذان من الإمام (ع) بشكل مباشر بل يكفي الاستيذان من نائبه الخاص أو العام - وهو بمكان من الامكان في عصر الغيبة -. هذا إضافة: إلى أن اخبار التحليل تكفي لاثبات الاذن من الإمام (ع) في هذا العصر. فالنتيجة: ان القول بالتفصيل لا يرجع إلى أصل صحيح. نتيجة هذا البحث عدة خطوط الأول: ان الصحيح اعتبار اذن الإمام (ع) في التصرف في الأرض الموات والسيطرة عليها، فلا يحصل الملك أو الحق بدون ذلك.
126 الثاني: ان الطريق الصحيح لاثبات اذن الإمام (ع) في القيام باحياء الأرض واستثمارها انما هو اخبار التحليل، دون غيرها من الطرق التي مرت الإشارة إليها. الثالث: ان ما قيل: - من أن السيرة بين المسلمين قد جرت على القيام بحق الأرض والانتفاع بها من دون الاستيذان من الإمام (ع) أو نائبه -. فقد عرفت ما فيه: فان السيرة وإن كانت جارية الا ان جريانها بين كل من الطائفتين يقوم على أساس خاص كما مر، فلا تكشف عن الامضاء. الرابع: انه لا يلزم ان يكون الاستيذان في القيام باحياء الأرض وعمارتها من الإمام (ع) بشكل مباشر، بل يكفي الاستيذان من نوابه ووكلائه (ع) سواء أكان في زمن الحضور أم كان في زمن الغيبة. الخامس: ان القول بالتفصيل - بين زماني الحضور، والغيبة، فيعتبر الاذن على الأول دون الثاني - لا يقوم على أساس صحيح. النقطة الخامسة هل يعتبر في علاقة المحيي بالأرض بسبب عملية الاحياء كونه مسلما؟ فيه قولان: المعروف والمشهور بين الأصحاب هو القول الأول، بل عن جماعة دعوى الاجماع عليه: منهم العلامة (قده) في التذكرة، حيث قال: فيها إذا اذن الإمام (ع) لشخص في احياء الأرض ملكها المحيي إذا كان
127 مسلما، ولا يملكها الكافر بالاحياء، ولا يأذن له في الاحياء، فان اذن له الإمام (ع) فأحياها لم يملك عند علمائنا. ومنهم المحقق (قده) في جامع المقاصد حيث قال فيه: يشترط كون المحيي مسلما فلو أحياه الكافر لم يملك عند علمائنا وإن كان الاحياء بإذن الإمام (ع). ولكن عن الشهيد (قده) في الدروس: الشرط الثاني أي للملك بالاحياء ان يكون المحيي مسلما فلو أحياها الذمي بإذن الإمام (ع) ففي تملكه نظر من توهم اختصاص ذلك بالمسلمين. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى: يقع الكلام بين الأصحاب في صحة اذن الإمام (ع) للكافر في احياء الأرض على أساس انه أهل لذلك أولا؟ وعن المحقق في جامع المقاصد ان المستفاد من الاخبار وكلام الأصحاب ان الكافر ليس أهلا للاذن. وعن الشهيد (قده) في الروضة وفي ملك الكافر مع الاذن قولان: لا اشكال فيه لو حصل، انما الاشكال في جواز اذنه (ع) له نظرا إلى أن الكافر هل له أهلية ذلك أم لا؟ ومثله ما عن الشهيد الثاني (قده) في المسالك، هذا. والصحيح في المقام ان يقال: إنه لا شبهة في أهلية الكافر في نفسه لتملك الأرض بالاحياء، كما أنه لا شبهة في أهليته للاذن من الإمام (ع) إذا اقتضت المصلحة ذلك على أساس ان اذنه (ع) بذلك تابع لتوفر الشرائط والمقتضيات له، ولا يعقل ان يكون جزافا، فلو اذن الكافر باحياء الأرض في مورد وقام به اكتسب فيها حقا لا محالة، وكيف كان فلا ينبغي إطالة الكلام من هذه الناحية.
128 وانما الكلام في اعتبار الاسلام في المحيي بقطع النظر عن اعتبار الاذن في القيام باحيائه الأرض. وبكلمة أخرى: قد تقدم انه يعتبر في كون الاحياء سببا لعلاقة المحيي بالأرض اذن الإمام (ع) فيه، وانما الكلام فعلا في اشتراط اسلامه. ولازم اعتبار هذا الشرط انه لا تحصل للكافر علاقة بالأرض بسبب الاحياء وإن كان مأذونا فيه، لأن الاذن وحده لا يكفي في حصول هذه العلاقة، بل لا بد من توفر بقية الشرائط أيضا: منها اسلامه. ويمكن ان يستدل: على هذا القول بوجهين: الأول: بالاجماع المدعي في المسألة. ويرده: أولا: ان الاجماع غير ثابت، فان المحكي عن جماعة كثيرة الخلاف في المسألة: منهم شيخ الطائفة الشيخ الطوسي (قده) في المبسوط والخلاف، ومنهم ابن إدريس في السرائر، والشهيد الثاني (قده) في اللمعة، والمحقق في النافع. وثانيا: انه لا اثر لهذا الاجماع على تقدير تحققه، وذلك لأن الاجماع انما يكون حجة باعتبار كشفه عن قول المعصوم (ع) في المسألة، والاجماع المدعي فيها لا تتوفر فيه هذه الصفة جزما، لاحتمال ان يكون أساسه صحيحة الكابلي المتقدمة، وصحيحة عمر بن يزيد التي مرت سابقا بناء على أن يكون المراد من المؤمنين فيها الأعم من الطائفة الخاصة والعامة. هذا إضافة: إلى أنه لا دليل على اعتبار الاجماع المنقول في نفسه. الثاني: بصحيحة الكابلي باعتبار ان في هذه الصحيحة قد قيد المحيي بكونه من المسلمين، وهذا التقييد على أساس وقوعه في مقام
129 البيان يدل على اعتبار الاسلام في المحيي، وهذه الدلالة لا بأس بها نظرا إلى أنها تقوم على أساس دلالة القيد على المفهوم، وقد ذكرنا انه لا مانع من الالتزام بها بنكتة ان القيد ظاهر لدى العرف في الاحتراز، فيدل على أن الحكم فيها لم يثبت للطبيعي الجامع بينه وبين غيره، والا لكان القيد لغوا، وما نحن فيه من هذا القبيل، فان الاحياء لو كان سببا لعلاقة المحيي بالأرض مطلقا اي - ولو كان كافرا - لكان تقييده بكونه من المسلمين في موردين من الصحيحة لغوا صرفا. فالنتيجة: انه لا بأس بدلالة الصحيحة على ذلك. نعم قد تقدم منا: ان اسلام المحيي وحده لا يكفي في حصول هذه العلاقة له بالأرض على أساس قيامه بالاحياء، بل يعتبر فيه ان يكون مأذونا من قبل الإمام (ع) أيضا، وقد عرفنا ان الاذن في القيام بعملية الاحياء على نحو الاطلاق لم يثبت الا للافراد الذين شملتهم اخبار التحليل، دون غيرهم. واما هذه الصحيحة فلا تدل على الاذن في الاحياء لكل فرد من المسلمين بشكل مطلق، بل تدل عليه في فرض خاص وإطار مخصوص - وهو ما إذا كان الفرد ملتزما بأداء الخراج والطسق إلى الإمام (ع) خارجا - والا فلا يكون تصرفه فيها بالاحياء سائغا ونافذا وإن كان مسلما، كما أن الاذن وحده لا يكفي إذا لم يكن المحيي مسلما، فالكافر وإن كان مأذونا لا يوجب احيائه العلاقة بينه وبين الأرض. فالنتيجة في نهاية الشوط: ان المعتبر في كون الاحياء موجبا لصلة المحيي بالأرض أمران: أحدهما: اذن الإمام (ع) أو نائبه في القيام بذلك. والآخر: اسلام المحيي.
130 هذا كله فيما إذا كان قيام الكافر بالاحياء متأخرا زمنيا عن تاريخ تشريع ملكية الأنفال للإمام (ع). واما إذا كان متقدما زمنيا على ذلك فلا اشكال في أنه يوجب علاقته بالأرض على مستوى الملك، لما تقدم في ضمن الأبحاث السالفة من أن عملية الاحياء من أحد أسباب الملك بنظر العقلاء، فإذا كانت الأرض مواتا ولم يكن لها مالك بالفعل، فهذه العملية توجب صلة المحيي بها على مستوى الملك، بلا فرق بين كون المحيي مسلما أو كافرا، فاعتبار الاذن من جهة، واعتبار الاسلام من جهة أخرى في هذه العملية انما هو فيما إذا كانت تلك العملية بعد تشريع ملكية الأنفال للإمام (ع). وعلى الجملة: فالأراضي الموات: بما انها داخلة في نطاق ملكية الإمام (ع) بعد نزول آية الأنفال فالاحياء فيها انما يوجب علاقة المحيي بها على مستوى الحق إذا كان الاحياء بإذن الإمام (ع) وكان المحيي مسلما والا فلا أثر له. وأما القول الثاني - وهو عدم اعتبار الاسلام في المحيي - فيمكن دعمه بوجهين: الأول: بمجموعة من الروايات المتقدمة التي جاءت بهذا اللسان: (أيما قوم أحيوا شيئا من الأرض وعمروها فهم أحق بها وهي لهم) فان مقتضى عمومها عدم الفرق بين كون المحيي مسلما أو كافرا. وما تقدم بنا - من أن هذه المجموعة انما هي ناظرة إلى تشريع سببية الاحياء لعلاقة المحيي بالأرض فحسب، ولا تنظر إلى جهة أخرى نفيا أو اثباتا - فإنه انما يتم بالإضافة إلى اعتبار اذن الإمام (ع) في تأثير عملية الاحياء وعدم اعتباره، لما عرفت من أنها غير ناظرة
131 إلى ذلك أصلا، كما انها غير ناظرة إلى نفي بقية الشرائط له. واما بالإضافة: إلى اعتبار الاسلام في المحيي فمقتضى عموم قوله (ع) (أيما قوم) عدم اعتباره، كما أن مقتضى اطلاق ذيلها عموم سببية الاحياء يعني - ان سببيته لا تختص بفرد دون آخر -. فالنتيجة: ان هذه المجموعة من الروايات تدل بعمومها على عدم اعتبار الاسلام في المحيي، كما انها تدل باطلاقها على أن كل فرد من عملية الاحياء في الأرض سبب لعلاقة المحيي بالأرض. هذا إضافة: إلى أن عملية الاحياء بوصف كونها مصدرا لحق الفرد في الأرض قد اعترف به العقلاء في نظامهم المادي الاجتماعي، وأما العوامل والأسباب الأخر الثانوية التي ولدتها الظروف كالسيطرة على الأرض بالقوة والعنف، أو ما شاكل ذلك وإن كانت موجودة بين المجتمعات، الا ان العقلاء بوصف كونهم عقلاء لا يعترفون بتلك العوامل والأسباب الثانوية، كما لا يعترف بها الاسلام نهائيا، فالمصدر الوحيد لعلاقة الفرد بالأرض انما هو الاحياء. وعليه فالروايات المزبورة ليست في مقام التأسيس والتشريع للحكم الابتدائي في الشرع، بل هي في مقام امضاء ما هو ثابت لدى العقلاء - وهو سببية الاحياء لحق الفرد في الأرض - وبما انه لا يعتبر في المحيي كونه مسلما لدى العقلاء، فكذا لدى الشرع. هذا. ولكن هذه المجموعة: معارضة بصحيحة الكابلي على أساس ان في هذه الصحيحة قد قيد المحيي بكونه مسلما في موردين، وعليه فلو كان الحكم ثابتا لطبيعي المحيي مطلقا ولو كان كافرا لكان التقييد المزبور لغوا فاذن تكون صحيحة الكابلي مقيدة لتلك المجموعة فتصبح النتيجة في صالح المشهور - وهو اعتبار الاسلام في المحيي -.
132 الوجه الثاني: بمجموعة أخرى من الروايات: عمدتها روايتان: إحداهما: صحيحة محمد بن مسلم قال سألت أبا عبد الله (ع) عن الشراء من أرض اليهود والنصارى فقال: (ليس به بأس، قد ظهر رسول الله (ص) على أهل خيبر، فخارجهم على أن يترك الأرض في أيديهم يعملونها ويعمرونها فلا أرى بها بأسا لو أنك اشتريت منها شيئا، وأيما قوم أحيوا شيئا من الأرض وعملوها فهم أحق بها وهي لهم) (1). وثانيتها: صحيحة أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن شراء الأرضين من أهل الذمة فقال: (لا بأس بان يشتريها منهم إذا عملوها وأحيوها فهي لهم) الحديث (2). وهاتان الصحيحتان: وان كانتا تدلان على أن الكافر يملك الأرض بالاحياء الا انه لا يمكن الاخذ باطلاقهما حتى بعد التاريخ الزمني لتشريع ملكية الأنفال للإمام (ع)، بل لا بد من حمله على ما قبل التاريخ المزبور، حيث إنه لا مانع من الاخذ به قبل ذلك التاريخ، لما عرفت في ضمن البحوث السالفة من أن الاحياء إذا كان متقدما زمنيا على التاريخ المذكور يمنح ملكية الأرض للمحيي وإن كان كافرا. بيان ذلك: اما الصحيحة الأولى: فجملة (الشراء من ارض اليهود والنصارى)
(1) الوسائل ج 11 الباب 17 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه الحديث 2. (2) الوسائل ج 17 الباب 4 من أبواب إحياء الموات الحديث 1 133 لا تدل على ذلك، فان هذه الجملة ظاهرة في أن الأرض ملك لهما ولعله كان بسبب قيامهما باحيائها قبل التشريع المذكور، أو انها انتقلت إليهما ممن كان مالكا لها فلا تدل هذه الجملة على أن الأرض ملك لهما على أساس قيامهما باحيائها بعد التشريع المزبور، فاذن لا يمكن الاستدلال بهذه الجملة من الصحيحة. واما جملة (أيما قوم أحيوا شيئا من الأرض وعملوها فهم أحق بها وهي لهم) وإن كانت كبرى كلية تنطبق على المقام وتدل على أن العمل في الأرض مصدر لحصول الحق فيها من اي فرد كان الا انه لا بد من رفع اليد عن هذا العموم بقرينة صحيحة الكابلي، وصحيحة مسمع بن عبد الملك المتقدمتين: وأما صحيحة الكابلي: فعلى أساس ان فيها قد قيد المحيي بكونه من المسلمين في موردين، وهذا التقييد كما عرفت يدل على اختصاص حصول هذا الحق بما إذا كان المحيي مسلما لا مطلقا، والا لكان التقييد لغوا. واما صحيحة مسمع: فقد صرح في تلك الصحيحة بحرمة التصرف في الأرض التي هي داخلة في نطاق ملكية الإمام (ع) لغير من شملتهم اخبار التحليل، وعليه فبما ان صغرى هذه الكبرى في مورد الصحيحة اي - صحيحة محمد بن مسلم - عمل اليهود في الأرض وقيامهم باحيائها فلا بد من حمل اطلاق تلك الكبرى اي - اطلاقها الزماني - على هذه الصغرى بما إذا تحققت قبل التاريخ الزمني لتشريع ملكية الأنفال للإمام (ع) بقرينة هاتين الصحيحتين، وحمل اطلاقها العرضي - بعد التاريخ المزبور - على ما إذا كان المحيي مسلما وملتزما خارجا بأداء الخراج إلى الإمام (ع) أو على خصوص مورد
134 أخبار التحليل. واما الصحيحة الثانية: فقد ظهر مما ذكرناه حالها أيضا، فإنها حيث كانت باطلاقها تشمل ما إذا كان قيام أهل الذمة بالاحياء وعملهم في الأرض قبل التاريخ المذكور وبعده فلا بد من حمل اطلاقها على ما إذا كان قيامهم به قبل ذلك التاريخ بقرينة ما عرفت من الصحيحتين. فالنتيجة في نهاية الشوط. ان الاستدلال بهاتين الصحيحتين على هذا القول غير تام ولا يمكن دعمه بهما. نتيجة هذا البحث عدة خطوط الأول: ان ما هو المشهور بين الأصحاب من اعتبار الاسلام في المحيي هو الصحيح، لا للاجماع المدعي في المسألة، فإنه غير تام، بل لدلالة صحيحة الكابلي على ذلك. الثاني: ان اعتبار الاسلام في المحيي انما هو في الأراضي الخربة التي تكون من الأنفال، دون ما إذا لم تكن منها. ومن هنا قلنا إن من يقوم باحياء الأرض قبل التاريخ الزمني لنزول آية الأنفال ملك الأرض على أساسه وإن كان كافرا. الثالث: ان مقتضى عموم المجموعة من الروايات الدالة على سببية الاحياء لعلاقة المحيي بالأرض وإن كان هو عدم الفرق بين كون المحيي مسلما أو كافرا على ما عرفت الا ان صحيحة الكابلي تكون مخصصة لهذا العموم من هذه الناحية بمقتضى مفهوم القيد. الرابع: ان صحيحتي محمد بن مسلم وأبي بصير المتقدمتين آنفا وإن كان موردهما احياء الكافر الا انه لا يمكن الاخذ بظاهرهما
135 بقرينة صحيحة الكابلي وصحيحة مسمع على ما عرفت. الخامس: ما عن جماعة - من أن الكافر ليس أهلا لأن يأذنه الإمام (ع) في احياء الأرض وعمارتها، ولو اذن في ذلك لم يملك - لا يقوم على أساس صحيح، إذ لا شبهة في أهلية الكافر لذلك، كما أنه لا شبهة في أن الإمام (ع) لو اذن الكافر فيه شخصا كان نافذا. النقطة السادسة ان عملية الاحياء في الأرض انما تكون سببا لصلة المحيي بها إذا لم تكن تلك الأرض حريما لملك غيره كالدار، والبستان. والقرية، والبلد، والمزارع، وما شاكل ذلك. والسبب فيه: ان مقدار الحريم متعلق لحق صاحبه، فلا يحق لغيره ان يقوم باحيائه وعمارته، لأن فيه مزاحمة وتفويتا لحقه - وهو غير جائز جزما - من ناحية، ولا يؤثر ذلك في حصول العلاقة له من ناحية أخرى، كل ذلك بلا خلاف ولا اشكال بين الأصحاب قديما وحديثا. هذا من جانب. ومن جانب آخر ان حريم كل شئ انما هو مقدار ما يتوقف عليه الانتفاع به وهو يختلف سعة وضيقا باختلاف الأشياء. حريم البئر المعطن وهي البئر التي يستقي منها لشرب الإبل، فان حريمها أربعون ذراعا من تمام جوانبها. والبئر الناضح - وهي البئر التي يستقي
136 منها للزرع وغيره، فان حريمها ستون ذراعا من جميع اطرافها بلا خلاف معتد به بين الأصحاب في هذا التحديد، بل يظهر عن جماعة دعوى الاجماع عليه. وتدل على ذلك: معتبرة السكوني عن أبي عبد الله (ع) (ان رسول الله (ص) قال ما بين بئر المعطن إلى بئر المعطن أربعون ذراعا، وما بين بئر الناضح إلى بئر الناضح ستون ذراعا، وما بين العين إلى العين يعني القناة خمسمائة ذراع، والطريق يتشاح عليه أهله فحده سبع أذرع (1). وبهذه المعتبرة تقيد اطلاق صحيحة حماد بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله (ع) (يقول حريم البئر العادية أربعون ذراعا حولها) وتحمل البئر فيها على البئر المعطن. ثم إنه لا اشكال في عدم جواز حفر بئر أخرى في هذه الحدود جزما إذا كان فيه ضرر. وانما الكلام والاشكال في أنه يجوز ان يقوم فرد باحياء تلك الحدود بان - يجعلها مزرعا أو مشجرا أو دورا أو ما شاكل ذلك - أو لا يجوز؟ فيه وجهان: ذكر صاحب الجواهر (قده) انه كما لا يجوز حفر بئري أخرى في هذه الحدود، لا يجوز القيام بغيره كزرع أو شجر أو نحو ذلك، وان ظهر من بعض النصوص والفتاوي خصوص حفر بئر أخرى، إذ ان المتجه الأعم، ضرورة اشتراك الجميع في الضرر على ذي البئر المزبورة. وغير خفي: ان الارتكاز القطعي قائم لدى العرف بان التحديد
(1) الوسائل ج 17 باب 11 من أبواب احياء الموات الحديث 5 137 بالحدود المزبورة بين الأبار انما هو بملاك سد باب الضرر، فلا خصوصية لحفر بئر أخرى في تلك الحدود الا من باب انه من أحد عوامل الضرر على البئر الأولى. ومن هنا لو كان في التصرفات الأخرى في الحدود المزبورة ضرر عليها لم تجز تلك التصرفات جزما رغم ان التقدير المزبور في معتبرة السكوني المتقدمة يكون بين البئرين، فان الارتكاز المذكور قرينة على أنه لا خصوصية للبئر، فالعبرة انما هي بالضرر، سواء أكان من ناحية حفر البئر أم كان من ناحية تصرف آخر. والاقتصار في المعتبرة على حفر البئر الأخرى خاصة انما هو بنكتة ان في حفرها ضررا على البئر الأولى غالبا ونوعا، دون غيرها من أنواع التصرفات هذا ظاهر. وانما الكلام في موردين: أحدهما: فيما إذا افترضنا لزوم الضرر عليها من التصرف في خارج تلك الحدود، سواء أكان ذلك التصرف حفر بئر أم كان غيره والآخر: فيما إذا افترضنا عدم لزومه من التصرف في نفس تلك الحدود وإن كان ذلك التصرف حفر بئر. أما الأول: فالظاهر أنه لا اشكال في عدم جواز هذا التصرف، فإنه مضافا - إلى قاعدة نفي الضرر التي تحكم على جوازه وتنفيه - ما قد عرفت من أن الارتكاز القطعي لدى العرف شاهد على أن العبرة انما هي بالضرر، والتحديد بالمسافة في المعتبرة وغيرها انما هو مبني على الغالب. واما الثاني: فلا يبعد القول بجوازه بل هو الظاهر حتى فيما إذا كان ذلك التصرف حفر بئر أخرى في تلك المسافة، فان تمام الملاك لعدم الجواز انما هو لزوم الضرر. واما إذا افترض عدمه فلا
138 مانع منه. وبكلمة أخرى: ان المسافة المزبورة ليست متعلقة لحق صاحب البئر الا على أساس كون التصرف فيها موجبا للضرر عليه. واما إذا افترضنا انه لا يوجب ذلك فعندئذ لا مانع من القيام بذلك التصرف وإن كان حفر بئر أخرى، لفرض إباحة الأرض من هذه الناحية، وعدم كون هذا التصرف موجبا للضرر ولا مزاحما لحق من حقوق الآخر من الناحية الأخرى. ويؤكده استقرار السيرة العقلائية على ذلك. فالنتيجة: ان العبرة في جواز القيام بالتصرفات المذكورة وعدم جوازه انما هي بلزوم الضرر وعدم لزومه، والتحديد المزبور - مضافا إلى أنه بالإضافة إلى حفر بئر أخرى - مبني على الغالب، لا انه تحديد حقيقي وفاصل واقعي لجواز التصرف في خارج هذا الحد وإن كان موجبا للضرر، وعدم جوازه فيما دونه وان لم يوجب الضرر هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان للبئر حريما آخر غير ما ذكرناه آنفا - وهو ما يتوقف عليه الانتفاع بها - كمقدار مكان النازح إذا كان الاستقاء منها باليد أو الاناء، ومكان تردد البهيمة والدولاب، ومجمع مائها للزرع أو نحوه، ومصب مائها، ومطرح طينها - وهو ما يخرج منها عند اصلاحها وتنقيتها - والجامع ان كل ما يتوقف عليه الانتفاع بها فهو حريم لها، ولا يحق لأي واحد ان يقوم باحياء هذا المقدار واستثماره أصلا.
139 حريم القناة المشهور بين الأصحاب ان حريمها في الأرض الرخوة الف ذراع، وفي الأرض الصلبة خمسمائة ذراع. ويظهر عن جماعة دعوى الاجماع على ذلك منهم شيخ الطائفة الشيخ الطوسي (قده) في الخلاف، والعلامة (ره) في التذكرة، والمحقق (قده) في جامع المقاصد. واستدل على ذلك برواية عقبة بن خالد عن أبي عبد الله (ع) قال: (يكون بين البئرين إذا كانت أرضا صلبة خمسمائة ذراع، وإن كانت أرضا رخوة فألف ذراع) (1). لا يخفى ان الاستدلال بهذه الرواية ترتكز على أساس تمامية أمرين: أحدهما: ان يكون المراد من البئرين العينين، وهذا غير بعيد بقرينة عدم اعتبار هذه المسافة بين البئرين نصا واتفاقا من ناحية، وورود خمسمائة ذراع بينهما في معتبرة السكوني الآتية من ناحية أخرى. وثانيهما: أن تكون تامة سندا، وهذا غير ثابت، لأن الرواية ضعيفة من ناحية السند فلا يمكن الاعتماد عليها. ودعوى - ان ضعفها منجبر بعمل الأصحاب على أساس انهم قد افتوا على طبق هذه الرواية وعملوا بها - خاطئة جدا، وذلك لما ذكرناه غير مرة من أنه على تقدير احراز عمل الأصحاب بها واستنادهم
(1) الوسائل ج 17 الباب 11 من أبواب احياء الموات الحديث 3. 140 إليها في مقام الفتيا الا ان ذلك لا يوجب الوثوق والاطمئنان النوعي بصدور الرواية عن المعصوم (ع) الذي هو الملاك في حجية خبر الواحد وشمول أدلة اعتباره له. فالنتيجة ان الرواية ساقطة فلا يمكن الاستدلال بها. نعم قد ورد في معتبرة السكوني المتقدمة: (وما بين العين إلى العين يعني القناة خمسمائة ذراع) وعليه فلو كانت رواية عقبة بن خالد معتبرة لكانت قرينة على التصرف في هذه المعتبرة بحملها على الأرض الصلبة حتى يتم القول بالتفصيل المزبور، ولكن بما انها غير معتبرة فلا دليل على هذا القول، ومقتضى المعتبرة عدم الفرق بين الأرض الصلبة والأرض الرخوة. وقد تحصل من ذلك: انه لا دليل على القول المذكور غير ما يظهر عن جماعة من دعوى الاجماع، ومن الواضح ان الاجماع الكاشف عن قول المعصوم (ع) في المسألة غير متحقق، لوجود المخالف فيها من ناحية واحتمال ان رواية عقبة بن خالد هي مدرك الاجماع من ناحية أخرى. هذا إضافة إلى أن الاجماع المنقول في نفسه لا دليل على اعتباره. وفي مقابل ذلك القول قول آخر وهو ان حد الفاصل بين العينين لا يقدر بحد خاص، بل هو منوط بان لا يكون حفر القناة الثانية موجبا للضرر على الأولى، والا لم يجز، سواء أكان الحفر المزبور فيما دون المسافة المذكورة أم كان في خارج تلك المسافة، فإذا افترضنا ان حفرها لا يسبب ضررا على الأولى في أقل من تلك المسافة جاز ولا مانع منه أصلا. وهذا القول: هو الصحيح.
141 وتدل على ذلك صحيحة محمد بن الحسن (الحسين) قال كتبت إلى أبي محمد (ع) (رجل كانت له قناة في قرية، فأراد رجل ان يحفر قناة أخرى إلى قرية له، كم يكون بينهما في البعد حتى لا تضر إحداهما بالأخرى في الأرض إذا كانت صلبة، أو رخوة، فوقع (ع) على حسب أن لا تضر إحداهما بالأخرى إن شاء الله) الحديث (1). فإنها واضحة الدلالة على أن العبرة في جواز حفر قناة أخرى جنب القناة الأولى، وعدم جوازه انما هي بلزوم الضرر، وعدم لزومه، فعلى الأول لا يجوز دون الثاني. وتنسجم هذه الصحيحة: مع السيرة القائمة بين العقلاء في أمثال تلك الموارد، حيث إنها تقوم على أن العبرة في الجواز وعدمه انما هي بلزوم بالضرر وعدم لزومه. ومن هنا لو قطعنا النظر عن النص في المقام لكانت السيرة المزبورة كافية. وعلى الجملة: فلا شبهة في أنه يجوز للفرد ان يقوم بالعمل في الأرض الموات باحياء أو حفر قناة أو نحو ذلك، ولا مانع منه أصلا، الا إذا كان الحفر موجبا للضرر على القناة الأخرى، فعندئذ لا يجوز، سواء أكان هناك نص خاص أم لم يكن، لكفاية السيرة في المسألة التي تقوم على وفق الارتكاز القطعي لدى العرف والعقلاء. وعلى ضوء ذلك فما ورد في النصوص - من التحديد بحد خاص كما في معتبرة السكوني المتقدمة وغيرها - مبني على الغالب، باعتبار ان الضرر يندفع بهذا الحد من البعد بين القناتين غالبا ونوعا،
(1) الوسائل ج 17 الباب 14 من أبواب احياء الموات الحديث 1. 142 وليس التحديد بذلك أمرا تعبديا. ومن هنا إذا افترضنا ان القناة الثانية تضر بالأولى، رغم توفر هذا البعد الخاص بينهما لم يجز احداثها، كما أنه إذا افترضنا ان احداث الثانية لا يوجب ضررا على الأولى في أقل من ذاك البعد جاز احداثها. ولا مانع منه أصلا. وتؤيد هذا القول: رواية عقبة بن خالد عن أبي عبد الله (ع) (في رجل اتى جبلا فشق فيه قناة جرى ماؤها سنة، ثم إن رجلا اتى ذلك الجبل فشق منه قناة أخرى، فذهبت الأخرى بماء قناة الأولى قال: فقال: يتقاسمان (يتقايسان) بحقائب البئر ليلة ليلة فينظر أيتها أضرت بصاحبتها، فان رأيت الأخيرة أضرت بالأولى فلتعور، وقضى رسول الله (ص) بذلك قال: إن كانت الأولى أخذت ماء الأخيرة لم يكن لصاحب الأخيرة على الأولى سبيل) هكذا رواها الصدوق في الفقيه (1). ومثلها روايته الأخرى عن أبي عبد الله (ع) (في رجل احتفر قناة واتى لذلك سنة، ثم إن رجلا احتفر إلى جانبها قناة، فقضى ان يقاس الماء بحقائب البئر ليلة هذه وليلة هذه، فإن كانت الأخيرة أخذت ماء الأولى عورت الأخيرة، وإن كانت الأولى أخذت ماء الأخيرة لم يكن لصاحب الأخيرة على الأولى شئ) (2) فإنها واضحة الدلالة على أن الملاك في الجواز وعدمه انما هو بلزوم الضرر وعدم لزومه لا بالمسافة المقدرة بينهما وعدمها، الا ان الكلام في سندها، وحيث
(1) الفقيه ج 3 ص 58 الحديث 67. (2) الوسائل ج 17 الباب 16 من أبواب احياء الموات الحديث 3. 143 انهما ضعيفتان من ناحية السنة فلا يمكن الاعتماد بهما دليلا في المسألة. فالنتيجة في نهاية المطاف: ان القول الثاني هو الصحيح. ونسب اختيار هذا القول إلى الإسكافي، والشهيد الثاني في المسالك، والعلامة في المختلف. هذا كله فيما إذا كان التصرف في جنب القناة باحداث قناة أخرى. واما إذا كان التصرف فيه بشئ آخر كالزرع أو الغرس أو غير ذلك فهل يجوز أولا؟ الظاهر بل المقطوع به ان حاله حال احداث القناة يعني - ان جوازه وعدم جوازه يدوران مدار لزوم الضرر وعدم لزومه - فإن كان موجبا للضرر على صاحب القناة لم يجز جزما، واما إذا لم يوجب الضرر عليه فلا مانع منه أصلا وإن كان فيما دون الحدود المذكورة في النصوص، لفرض ان الأرض مباحة من هذه الناحية اي - لا يكون لاحد حق فيها - والتصرف المزبور كما لا يوجب الضرر لا يوجب المزاحمة له في الانتفاع بها أيضا. بل لو قلنا بعدم جواز احداث قناة أخرى في تلك الحدود فايضا لا مانع من جواز غيرها من التصرفات فيها. إذا لم يكن في تلك التصرفات ضرر ولا مزاحمة، لأن عدم جواز احداثها في الحدود المزبورة انما هو لأجل النص، ولا نص في غيرها، فاذن لا محالة يدور سائر التصرفات جوازا ومنعا مدار الضرر وعدمه. ثم إنه لا فرق في عدم جواز قيام فرد باحداث قناة أخرى إذا كان فيه ضرر على الأولى بين ان يكون احداثها في الأرض الموات أو في الأرض المملوكة له، كما أنه لا فرق بين ان يكون في خارج
144 تلك الحدود، أو فيما دونها، وذلك لاطلاق النص من هذه الناحية وقيام الارتكاز القطعي على أن التحديد في النص مبني على الغالب بدون فرق فيه بين الموات والعامرة بشريا، واستقرار السيرة العقلائية على عدم الفرق، وكذا الحال في حفر بئر أخرى إذا كان فيه ضرر على البئر الأولى. واما غيرهما: من التصرفات كالزرع أو نحوه فيها اي - في الأرض المملوكة - فالظاهر أنه لا مانع منها وإن كانت موجبة للضرر. نعم إذا كان التصرف فيها حادثا بعد احداث القناة أو البئر وكان فيه ضرر عليها لم يجز لقاعدة نفي الضرر. ثم إن للقناة حريما آخر - وهو ما يتوقف عليه الانتفاع بها - كحواشيها وأطرافها التي هي مجمع ترابها وطينها لدى تنقيتها واصلاحها وطرقها وغير ذلك، وليس لحريمها بهذا المعنى حد خاص في الشرع، بل هو يختلف سعة وضيقا باختلاف حاجة القنوات والعيون من ناحية قلة مائها وكثرته، وقلة الافراد الذين ينتفعون بها، وكثرتهم وهكذا، فان الاختلاف في كل ذلك يوجب الاختلاف في حريمها سعة وضيقا. وليس لاحد ان يقوم بالتصرف في تلك الأطراف والطرق بما يوجب مزاحمة المنتفعين بها، وذلك لاستقرار السيرة القطعية من العقلاء على ذلك الممضاة لدى الشرع جزما. حريم النهر وهو مقدار ما يحتاج النهر إليه عادة من الأطراف والحواشي
145 عند تنقيته واصلاحه، والمجاز على حافتيه للمواظبة عليه، ولا فرق في ذلك بين كون النهر ملكا خاصا أو عاما، ولا يجوز لأي فرد ان يقوم باحياء هذا المقدار، فإنه يوجب المزاحمة. وتقوم على ذلك: السيرة المتقدمة، حيث لم يرد من الشرع تحديد له كي يكون هو المرجع فيه. نعم ورد في مرفوعة إبراهيم بن هاشم (حريم النهر حافتاه وما يليها) (1) وهي ترجع إلى ما ذكرناه على انها ساقطة من ناحية السند. حريم الدار وهو ما يتوقف عليه الانتفاع بها كمطرح ترابها وسلوجها ورمادها ومسيل مائها، وطريق الدخول والخروج من الجهة التي يفتح الباب منها، ومكان الآلات والطين والجص والحديد إذا احتاج إليه لدى الحاجة إلى البناء أو الترميم. واما الزائد على هذا المقدار فلا يكون حريما لها ولا يحق لأي أحد ان يقوم بالتصرف فيه بما يزاحم صاحبها في الاستفادة منها. ومن هذا القبيل حريم حائط البستان وما شاكله. وعلى الجملة فحريم هذه الأشياء لا يدخل تحت ضابط كلي)، وليس منصوصا في الشرع ومحددا فيه، بل هو يختلف باختلاف ما يتوقف عليه الانتفاع بها.
(1) الوسائل ج 17 الباب 11 من أبواب احياء الموات الحديث 4. 146 حريم القرية وهو ما تكون القرية بحاجة ماسة إليه في حفظ مصالحها ومصالح أهلها من مدفن موتاهم، ومرعى ماشيتهم ومرابضها، وملعب الصبيان، وموارد احتطابهم التي جرت العادة بوصولهم إليها، ومجمع أهاليها لمصالحهم الاجتماعية: المادية والمعنوية، ومسيل ميائها، والطرق المؤدية إليها والمسلوكة منها، ومجمع ترابها وكناستها، ومطرح سمادها ورمادها، وغير ذلك مما تحتاج القرية إليه، بحيث لو قام فرد بالتصرف في الأشياء المزبورة والاستيلاء عليها لكان مزاحما لأهالي تلك القرية، وموجبا لوقوعهم في حرج وضيق شديد. ثم إن من الطبيعي ان حاجة القرية تختلف باختلافها سعة وضيقا، وبكثرة أهاليها وقلتهم، وبكثرة مواشيها ودوابها وقلتها، وباختلاف الأزمنة، فيمكن أن تكون القرية في السنين والقرون الماضية كانت بحاجة إلى موارد الاحتطاب واما في زماننا هذا فتستغني عنها بقيام شئ آخر مقام الحطب، فعندئذ تخرج تلك الموارد عن كونها حريما للقرية بانتهاء الحاجة إليها وعليه فلا مانع من التصرف فيها. فالنتيجة: ان حريم القرية كحريم غيرها لا يدخل تحت ضابط كلي سعة وضيقا، كما وكيفا، ولا يمكن تحديده بحد خاص بعد ما لم يكن منصوصا ومحددا من قبل الشرع، بل هو تابع لحاجة القرية إليه فعلا فلا يكفي في كون شئ حريما لها حاجتها إليه في المستقبل أو في الزمن الماضي مع استغنائها عنه فعلا.
147 حريم المزرعة ان حريمها بقدر ما تحتاج المزرعة إليه - وهو ما يتوقف عليه الانتفاع بها - كمجتمع سمادها، ومسالك الدخول إليها والخروج منها، ومحل بيادرها وحظائرها، ومسيل مائها، وغير ذلك مما تحتاج المزرعة إليه فعلا. ومن الطبيعي ان ذلك أيضا لا يدخل تحت ضابط كلي كما وكيفا سعة وضيقا، بل هو تابع لحاجة المزرعة وتوقف الانتفاع بها عليه، وتعيين ذلك لا محالة بيد العرف والعقلاء بعد عدم ورود شئ فيه من قبل الشرع، ولا تجوز المزاحمة فيه. ومن ذلك يظهر حال حريم الأشجار المغروسة في الأرض الموات فإنه بمقدار ما يتوقف عليه الانتفاع بها. واما تحديده بمقدار بروز أغصانها أو سراية عروقها فلا دليل عليه. اما الأول: فلان ما يتوقف عليه الانتفاع بها قد يكون أزيد منه، كما لعله الغالب، ولا سيما في الأشجار المثمرة، وقد يكون أقل منه، وقد يكون بمقداره. ومنه يظهر حال التحديد الثاني. والحاصل بعد ما لم يكن دليل على التحديد المذكور فلا مناص من الالتزام بتحديده بما عرفت من ناحية السيرة لدى العرف والعقلاء.
148 عدة خطوط الأول: قد نسب إلى الأصحاب ثبوت الحريم للأشياء المذكورة إذا كان احداثها في الأرض الموات واما إذا كان في الأرض العامرة المملوكة فلا حريم لها. هذا. وحري بنا: ان نقول: إن ما ذكرناه من الحريم لتلك الأشياء انما هو بمعنى ان الانتفاع بها يتوقف عليه ولا يمكن بدونه، ولا دليل على ثبوت الحريم لها بأكثر من ذلك ومن الطبيعي انه لا فرق في ثبوت الحريم لها بهذا المعنى بين أن تكون تلك الأشياء في الأرض الموات أو في الأرض العامرة بشريا فان البنايات في البلدان وإن كانت متلاصقة بعضها مع بعضها الآخر في أكثر من جوانبها الا انه رغم ذلك كان لتلك البنايات حريم بالمعنى المزبور مع أنها غالبا تبنى وتحدث في الأرض الموات ولا يلزم ان يكون لها حريم من جميع جوانبها وأطرافها، لعدم الدليل على ذلك بل ولا مقتضى له لوضوح ان الانتفاع بالدار مثلا انما يتوقف على أن تكون لها مرافق وقد تكون تلك المرافق أو أكثرها في داخل الدار كما هو الحال في البلدان غالبا، فعندئذ لا تحتاج هذه الدار إلى وجود حريم لها غير مسلك الدخول فيها والخروج وقد تقدم انه لم يرد تحديد خاص للحريم لدى الشرع بل هو تابع لحاجة الشئ في الانتفاع به كما وكيفا ومن الطبيعي انها تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة فان حاجته إليه في البلدان تختلف عن حاجته إليه في القرى والأرياف. نعم تفترق هذه الأشياء إذا كانت في الأرض الموات عما إذا كانت
149 في الأرض المعمورة المملوكة في نقطة واحدة، وهي: انه لو قام أحد ببناء دار - فإن كانت في الأرض الموات كان لها حريم من بعض اطرافها بمقدار ما يتوقف عليه الانتفاع بها، ولا يجوز لغيره ان يقوم بالتصرف فيه إذا كان مزاحما له في الانتفاع بها. واما إذا كانت تلك الدار متصلة بالأرض الموات ببعض اطرافها دون بعضها الآخر ففي مثل ذلك لا محالة يكون حريمها من ذلك الطرف يعني - الأرض الموات - دون طرفها الآخر، ضرورة ان حريمها لا يكون في ملك الآخر. واما إذا كانت متصلة بملك غيره بجميع اطرافها فعندئذ لا حريم لها غير مسلك الدخول فيها والخروج، فان هذا المسلك اما ان لا يكون من الأول ملكا لغيره، أو كان ولكن قد اذن له في التصرف فيه بقيامه ببناء دار له، فحينئذ ليس له الرجوع عن اذنه لعموم التعليل الوارد في رواية الرحى وهو قوله (ع) (ولا يضر أخاه المؤمن) فان رجوعه عن اذنه والمنع عنه ضرر عليه باعتبار ان حريمها منحصر بهذا المسلك فحسب، وليس لها حريم من اطرافها الأخر، لفرض انها ملك لاخر، وله التصرف في ملكه بما شاء وأراد وان فرض ان تصرفه فيه كان مانعا عن انتفاعه بها، وليس له حق المنع منه، ولا سيرة عقلائية على ذلك. ومن ذلك يظهر: ان الحريم الثابت لدى الشرع والعقلاء هو ما عرفناه كما وكيفا، ولا دليل على أزيد من ذلك. واما ما يظهر من كلمات الأصحاب كما في الجواهر - من أنه لا حريم في البلدان لاحد من أصحابها كما هو المشاهد فيها، وعلل ذلك بامكان تساويهم في الاحياء أو نحوه - فلا يمكن الاخذ به،
150 لما عرفت من ثبوت الحريم فيها بالمقدار الذي يتوقف عليه الانتفاع بها، وقد تقدم انه لا دليل على ثبوت الحريم للأشياء المزبورة بأكثر من ذلك، على أن فرض تساوي أصحاب البلدان في الاحياء فرض نادر، فان الغالب هو ان قيامهم باحيائها تدريجي زمنا، لا دفعي كما هو الحال في جميع البلدان الكبار. الثاني: ان الحريم لا يدخل في ملك أحد - مثلا - حريم الدار لا يدخل في ملك صاحب الدار، وهكذا، ولا يكون متعلقا لحقه، لما عرفت في ضمن البحوث السالفة من أن الملك أو الحق في الأرض الموات لا يحصل للفرد على أساس قيامه باحيائها، ولا يمكن حصوله بدون القيام بهذه العملية، فان العمل هو المصدر الوحيد عند الشرع لاختصاص الفرد بها. ولكن بالرغم من هذا لا يجوز لغيره التصرف فيه بما يوجب مزاحمته. نعم فيما لا يكون التصرف فيه موجبا للمزاحمة فلا مانع منه. ومن هنا قلنا إنه ليس متعلقا لحقه أيضا والا لم يجر التصرف فيه مطلقا، فعدم جواز التصرف فيه في فرض المزاحمة انما هو من شؤون تعلق حقه بذيه يعني - لا يجوز لاحد ان يزاحمه في الانتفاع به - وبما ان تصرفه في حريمه مزاحمة له في الانتفاع به فلأجل ذلك أنه غير جائز، لا من جهة انه متعلق لحقه بنفسه. الثالث: ان الأرض الموات، ورؤس الجبال، وبطون الأودية إذا لم تكن حريما لشئ من الأشياء التي مرت بنا جاز التصرف فيها باحياء أو نحوه، ولا مانع منه من هذه الناحية، ولا يحق لأي فرد ان يمنع غيره عن ذلك، فان نسبة الجميع إليها على حد سواء، حيث إن المبرر الوحيد لعلاقة الفرد بها انما هو العمل
151 وبذل الجهد في سبيل بث الحياة فيها. ولا اثر للاستيلاء والسيطرة عليها بالقوة والتحكم بدون ذلك، فان الاسلام لا يعترف بالعلاقة بها الا على أساس العمل. ومن ذلك يظهر انه لا يحق لأي فرد ان يقوم ببيعها، ولا اجارتها، ولا تقسيمها بينه وبين غيره، لأن كل ذلك يتوقف على الملك أو الحق، والفرض عدمه. وعلى ضوء هذا: فقد تبين حال الأراضي الموات المنسوبة إلى طواف خاصة من العرب أو العجم من ناحية ان تلك الأراضي كانت مجاورة لاملاك هؤلاء الطوائف وبيوتهم من دون علاقتهم بها من ناحية الاحياء والعمارة، ومن دون كونها حريما لاملاكهم، فان تلك الأراضي ظلت في ملك الإمام (ع)، وليس لهؤلاء حق المنع من التصرف فيها والقيام باحيائها، ولا مطالبة الأجرة بإزاء ذلك لما عرفنا من أن الاسلام لا يعترف بالاختصاص بها على اثر الاستيلاء والسيطرة عليها بالقوة بدون العمل. الرابع: في حد الطريق: العام في الأرض الموات هل هو خمسة أذرع أو سبعة؟ فيه قولان: أحدهما: ان حده في الموات خمسة أذرع، وهو ظاهر المحقق في الشرايع، وحكي عن فخر المحققين نسبته إلى كثير من الأصحاب وعن بعض آخر نسبته إلى الأكثر. وتدل على ذلك معتبرة البقباق عن أبي عبد الله (ع) قال: (إذا تشاح قوم في طريق فقال: بعضهم سبع أذرع، وقال: بعضهم الآخر أربع أذرع، فقال أبو عبد الله (ع) بل خمس أذرع) (1)
(1) الوسائل ج 13 الباب 15 في احكام الصلح الحديث 1 152 فإنها تدل على أن حد الطريق الذي يتشاح فيه قوم خمس أذرع والاخر: ان حده في الموات سبعة أذرع، ونسب هذا القول إلى الشيخ، والقاضي، والحلبي، والفاضل في جملة من كتبه، وولده، والشهيدان، والمحقق الكركي (قدهم). وتدل على ذلك: معتبرة السكوني عن أبي عبد الله (ع) ان رسول الله (ص) قال: (ما بين للبئر المعطن إلى أن قال: والطريق يتشاح عليه أهله فحده سبع أذرع) (1). فاذن تقع المعارضة بين هذه المعتبرة والمعتبرة المتقدمة باعتبار ان فيها قد حدد الطريق المزبور بخمسة أذرع، وفي تلك المعتبرة قد حدده بسبعة، فالمعارضة بين المدلول المطابقي لكل واحدة منهما، والمدلول الالتزامي للأخرى، فان المعتبرة الأولى تدل بالمطابقة على أن حده خمسة أذرع، وبالالتزام على أن حده ليس سبعة أذرع، والمعتبرة الثانية تدل بالمطابقة على أن حده سبعة أذرع، وبالالتزام على أن حده ليس خمسة أذرع بشرط لا. هذا. ولكن مرد المعارضة: بينهما لدى الارتكاز العرفي إلى المعارضة في المقدار الزائد على الخمسة. واما فيها فهما متفقتان، غاية الأمر ان معتبرة السكوني تدل على اعتبارها في ضمن السبعة، والمعتبرة الأخرى تدل على اعتبارها بشرط لا. فالنتيجة هي: ان خمسة أذرع لا بد منها على كل تقدير، وانما النزاع بينهما في المقدار الزائد عليها، فان إحداهما تثبته، والاخرى تنفيه، وبما انه لا يتوفر الترجيح لاحداهما على الأخرى لتعالج به مشكلة التعارض بينهما فتسقطان معا عن الاعتبار في مورد المعارضة
(1) الوسائل ج 17 الباب 1 من أبواب احياء الموات الحديث 5. 153 فاذن المرجع فيه هو عموم ما دل على جواز التصرف في الأرض الموات باحياء وعمارة. ونتيجة ذلك هي صحة القول الأول دون القول الثاني. وبكلمة أخرى: قد ظهر مما قدمناه ان حد الطريق العام المبتكر في الأرض الموات بكلا جانبيه أو أحدهما خمسة أذرع، فلا يجوز لأي واحد ان يقوم باحياء منه الموجب لنقصه عن الحد المزبور، فلو قام بذلك لزم عليه هدمه. وقد تحصل من ذلك: ان الطريق العام لا يمكن ان يكون حده أقل من خمسة أذرع، واما إذا كان أزيد من ذلك فهل يجوز التصرف في الزائد باحياء أو نحوه؟ ففيه تفصيل، فإن كان الزائد موردا لحاجة المارة من ناحية كثرتها أو كثرة وسائلها النقلية لم يجز احيائه على أساس انه يوجب مزاحمتها، ولا سيما في مثل زماننا هذا فان الوسائل النقلية في هذا العصر بما انها تختلف عن الوسائل النقلية في العصور المتقدمة فبطبيعة الحال تكون بحاجة إلى طريق أوسع بكثير من الحد المزبور، ولا سيما إذا كان الطريق مزدحما بالمارة بالوسائل المزبورة. وقد قام على عدم جواز التصرف في الزائد عن الحد المذكور بناء قطعي من العقلاء، ومن الطبيعي ان هذا البناء يكون قرينة على أن التحديد في المعتبرتين المتقدمتين مبني على الغالب، ولا موضوعية له، والمناط انما هو بطبيعة حاجة المارة كما وكيفا. ولا يمكن ان يكون هذا التحديد فيهما ردعا للبناء المزبور، بداهة انه لا يمكن للشارع ان يجوز ما ربما يوجب اختلال النظام. بل للشارع المنع عن هذا التصرف ووضع حد لذلك، كما أن في
154 عصر الغيبة للحاكم الشرعي ان يمنع عنه، لئلا يلزم الهرج والمرج واختلال النظام. وعليه فلا معارضة بينهما، لما عرفنا من أن المعارضة بينهما لو كانت فإنما هي في اعتبار الزائد على الخمسة وعدم اعتباره، وبعدما ذكرناه من أن التحديد بها لما كان مبنيا على الغالب بالإضافة إلى الزيادة فلا تدل روايتها على اعتبارها بشرط لا، لكي تنافي رواية السبعة وكذا الحال في تلك الرواية، فإنه لا بد من رفع اليد عن ظهور التحديد فيها في الموضوعية بالإضافة إلى طرفي القلة والكثرة معا. اما بالإضافة إلى طرف القلة فبقرينة رواية الخمسة، فإنها تدل على كفايتها في فرض عدم الحاجة إلى الازيد منها، كما انها تدل على موضوعيتها بالإضافة إلى الأقل من ذلك المقدار، لعدم قرينة على رفع اليد عن ظهورها في ذلك. كما كانت متوفرة بالإضافة إلى الزيادة - وهي بناء العقلاء -. واما بالإضافة: إلى طرف الكثرة قلما مر بنا الان. واما موثقة أبي العباس البقباق عن أبي عبد الله (ع) قال: قلت له (الطريق الواسع هل يؤخذ منه شئ إذا لم يضر بالطريق قال لا) (1) فالظاهر أن المراد منه الطريق المسيل، وذلك لامرين: أحدها: ان السيرة القطعية قد استقرت على جواز التصرف في الطريق المبتكر في الأرض الموات والاخذ منه إذا لم يكن مزاحما للمارة من ناحية، وغير موجب لنقصه عن خمسة أذرع من ناحية أخرى، إذ لا مقتضى للمنع في هذا الفرض أصلا، لأن الأرض
(1) الوسائل ج 13 الباب 27 من أبواب عقد البيع وشروطه الحديث 1. 155 مباحة، والزائد غير مورد للحاجة. وهذه السيرة تصلح أن تكون قرينة على حمل الطريق في الموثقة على المسبل. والآخر: ان حمل الطريق الواسع في الموثقة على أن يكون حده خمسة أذرع دون الازيد بحاجة إلى قرينة على أساس ان هذا الحمل على خلاف المتفاهم العرفي، وبما انه لا قرينة على ذلك فلا يمكن حمله عليه. فالنتيجة: ان المراد منه الطريق المسبل. ثم إن الطريق العام: إذا كان بين بلدين أو أكثر فهو بحاجة إلى توسع أكثر من الحد المنصوص فيه بكثير، ولا سيما بين البلدان الكبيرة المزدحمة بالجمعية. واما إذا كان بين قريتين أو أكثر فهو ليس بحاجة إلى توسع أكثر منه غالبا. وتؤكد ما ذكرناه: - من أنه لا موضوعية للحد المذكور للطريق العام في الروايتين المتقدمتين - جملة من كلمات الأصحاب: منها: ما عن المحقق في جامع المقاصد: انه يمكن تنزيل المعتبرة المتقدمة على ما إذا لم تدع الحاجة إلى أزيد من الخمس). ومنها ما عن الشهيد الثاني في المسالك: انه يمكن حمل اختلاف الروايات على اختلاف الطرق، فان منها ما يكفي فيه الخمس كطرق الاملاك والتي لا تمر عليها القوافل ونحوها غالبا. ومنها ما يحتاج إلى السبع، وقد يحتاج بعضها إلى الازيد من السبع كالطرق التي تمر عليها الحاج بالكنايس ونحوها، فيجب مراعاة قدر الحاجة بالنسبة إلى الزائد على المقدار ومنها غيرهما هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: هل يجوز نقصه عن خمسة أذرع في فرض عدم حاجة المارة إلى هذا المقدار؟ الظاهر عدم الجواز كما عرفت
156 وذلك لأن الظاهر من التحديد بالخمسة عرفا في المعتبرة هو الموضوعية فرفع اليد عن هذا الظهور بحاجة إلى قرينة ولا قرينة في البين الا بالإضافة إلى الزائد عن هذا الحد دون الناقص. هل يجوز تغيير الطريق العام؟ فيه تفصيل فإن كان موجبا لمزاحمة المارة لم يجز قطعا. واما إذا لم يوجب المزاحمة فالظاهر أنه لا مانع منه أصلا. والنكتة في ذلك أنه لا دليل على عدم الجواز. اما الشرع فإنه لم يرد فيه ما يدل عليه، واما السيرة العقلائية فهي انما تقوم على عدم جواز ايجاد المزاحم للمارة، والفرض عدم المزاحمة فاذن لا سيرة أيضا ان شئت قلت: ان الطريق العام المبتكر في الأرض الموات لا يخضع لمبدأ الحق الخاص أو العام، وانما الثابت هو عدم جواز مزاحمة المارة فيه، فمعنى كونه متعلقا لحقها انما هو بهذا المعنى وعليه فإذا افترضنا ان تغييره وتبديله إلى موضع اخر ليست مزاحمة لها فلا مانع منه على أساس انه ليس فيه تفويت لحقها. ومن ذلك يظهر: انه إذا انقطعت المارة عنه وترك، اما لوجود مانع، أو لعدم الحاجة إليه زال حكمه بزوال موضوعه، وعندئذ فلا مانع من القيام باحيائه وعمارته. وكونه متعلقا لحق المارة انما هو في فرض وجودها وعبورها عنه، واما بعد فرض انقطاعها عنه فلا حق لها فيه أصلا، ليكون مانعا عن ذلك.
157 الطريق العام المسبل إذا جعل الشخص ارضه شارعا عاما يأن يسبلها تسبيلا دائميا لم يجز التصرف فيها باحياء أو نحوه وان لم يكن مزاحما للمارة على أساس انه وقف، ومن الطبيعي انه لا يجوز التصرف في الوقف بما ينافي جهته، ولا فرق في ذلك بين ان يكون حده خمسة أذرع أو أكثر أو أقل، وسواء أكان الزائد على الخمسة موردا لحاجة المارة أم لم يكن، بداهة انه يتبع جعله كما وكيفا سعة وضيقا، فلا يحق لأي واحد التصرف فيه بما ينافي جهة جعله. بقى هنا نوع ثالث: من الطريق العام - وهو الواقع بين الأراضي العامرة للناس -، كما إذا افترض وجود قطعة من الأرض الموات بين هذه الأراضي وتلك القطعة قد أصبحت طريقا عاما من جهة استطراق الناس منها، فإنه ليس لهذا الطريق حد خاص سعة وضيقا، لأنه كان على ما هو عليه من السعة فلا يجب على الملاك توسيعه إن كان أقل من خمسة أذرع وان فرض انه أصبح ضيقا على المارة. نعم إن كان زائدا عن الخمسة ولم يكن الزائد موردا للحاجة جاز التصرف في الزائد باحياء أو نحوه. نتيجة هذا البحث عدة خطوط الأول: ان حد الطريق العام المبتكر في الأرض الموات شرعا
158 خمسة أذرع لا أقل منها، فلا يجوز التصرف فيه بما يوجب نقصه عن هذا المقدار. واما بالإضافة إلى الزيادة عنها فقد مر بنا عدم حد له، بل هو يتبع من هذه الناحية مقدار حاجة المارة في السعة والضيق. الثاني: ان هذا الطريق إذا كان زائدا عن المقدار المحدد من قبل الشرع جاز التصرف في الزائد إذا لم يكن موردا لحاجة المارة. واما إذا كان موردا لها فلا يجوز: الثالث، انه لا مانع من تغيير هذا الطريق وتبديله إذا لم تكن فيه مزاحمة للمارة، والا لم يجز. الرابع: ان الطريق المسبل تابع لكيفية الجعل والتسبيل فلا يجوز التصرف فيه بما ينافي جهة جعله. النقطة السابعة لا يحصل للمحيي ملك أو حق على أساس قيامه بالاحياء إذا كانت الأرض محجرة من قبل غيره، فإنه يحصل له حق فيها على أساس قيامه بتحجيرها، فلا يجوز لغيره ان يقوم باحيائها وعمارتها فإنه يوجب تفويت حقه، فما دام لم يسقط حقه عنها فلا يوجب الاحياء علاقة المحيي بالأرض، ونقصد بحق المحجر أولوية تصرفه فيها - باحياء وعمارة - من غيره هذا لا كلام فيه. وانما الكلام في دليل ذلك. الموجود في بعض كلمات الأصحاب ان عمدة الدليل عليه الاجماع والتسالم.
159 وعن العلامة في التذكرة، والشهيد الثاني (قده) في المسالك ان التحجير شروع في الاحياء، فإذا أفاد الاحياء الملك أفاد التحجير الذي هو شروع فيه الأولوية لا محالة. وقد يستدل على ذلك بالرواية الدالة على أن من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له. وغير خفي: ان كلا منها لا يصلح ان يكون دليلا. اما الاجماع: فهو غير متحقق لوجود المخالف في المسألة وعلى تقدير تسليم تحققه فهو اجماع منقول وقد حقق في الأصول انه لا دليل على اعتباره. واما ما عن العلامة والشهيد الثاني (قدهما) من الملازمة بين كون الأحياء مفيدا للملك وكون التحجير مفيدا للأولوية فلا دليل عليه أصلا الا ان يكون نظرهما إلى أن بناء العقلاء قائم على ذلك وهو غير بعيد، كما سوف نشير إليه. واما الرواية فلم نعثر عليها من طرق الخاصة، وانما هي مروية من طرق العامة، وعليه فلا اثر لها أصلا. على انها لو ثبتت لكان حالها حال روايات الاحياء الظاهرة في إفادة الملك، وهي مقطوع البطلان على أساس ان التحجير لدى الأصحاب لا يفيد الملك جزما. فالصحيح في المسألة ان يقال: إن الدليل على كون عملية التحجير تمنح حق الأولوية لمن يقوم بها انما هو سيرة العقلاء وحيث لم يرد ردع عنها من قبل الشرع فهي على أساس ذلك لا محالة تكشف عن امضاء الشارع لها، فيكون دليلا في المسألة. ثم إن المتيقن: من تلك السيرة انما هو فيما إذا أراد المحجر
160 القيام بعملية الاحياء، وهذا يعني - ان التحجير لدى العرف والعقلاء انما يمنح حق الأولوية للمحجر على أساس انه شروع في عملية الاحياء وابتداء لها -. واما إذا كان قاصدا به السيطرة على مساحة كبيرة من الأرض والاستيلاء عليها - من دون ان يكون بصدد احيائها واستثمارها والاستفادة من ثرواتها - فالظاهر بل المقطوع به انه لا اثر لتحجيره هذا نهائيا، حيث لم يحرز جريان السيرة من العقلاء على أنه مفيد لحق الأولوية مطلقا حتى في هذا الفرض، بل لا يبعد دعوى قيام السيرة منهم على عدم ترتيب اثر عليه على أساس انهم يرون ان ذلك يضر بالعدالة الاجتماعية، ويوجب الضيق على الآخرين وتفويت حقوقهم. ومن هنا يعتبر في كون عملية التحجير مفيدة لحق الأولوية تمكن المحجر من القيام بالاحياء والعمارة والا لم تكن مفيدة له، واما إذا كان متمكنا من القيام به ثم زال عنه التمكن فإن كان موقتا لم يزل حقه عنها والا زال وجاز للاخر ان يقوم باحيائها، كما أن الامر كذلك إذا امتنع من القيام بعملية الاحياء والاستثمار. والنكتة في كل ذلك: ما أشرنا إليه آنفا من أن سيرة العقلاء انما قامت على كون عملية التحجير مفيدة للحق إذا كان المحجر قاصدا به الشروع في عملية الاحياء، فلا تكون عملية التحجير لدى العرف والعقلاء وكذا لدى الشرع مفيدة للحق في مقابل عملية الاحياء. ثم إنه إذا انمحت اثار التحجير نهائيا سقط حق المحجر، سواء أكان محو اثاره من ناحية اهماله وتسامحه أم كان من ناحية سبب خارجي، كما إذا أزلها عاصف أو غيره. اما سقوط حقه على الأول فواضح. واما على الثاني فلان حقه متقوم بالآثار التي هي
161 علامة للتحجير لدى العرف والعقلاء، فإذا زالت تلك الآثار زال حقه بزوال موضوعه وان فرض انه كان بسبب خارجي. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى إذا ترك المحجر الاحياء مدة من الزمن - وإن كان غرضه من القيام به هو الشروع في الاحياء، لا مجرد دخول الأرض تحت سيطرته واستيلائه - فعندئذ هل يسقط حقه؟ فيه وجهان: المعروف والمشهور: انه لا يسقط، وهو الظاهر، وذلك لعدم الموجب لسقوطه، فان الفصل الزماني بينه وبين الاحياء لا يكون موجبا لذلك، بل مقتضى الاستصحاب بقائه وعدم سقوطه. نعم بما ان تعطيل الأرض على خلاف المصلحة العامة للأمة فمن بيده الامر اجباره على القيام بالاحياء، فان امتنع سقط حقه نهائيا. قد يقال: كما قيل: إن مقتضى مجموعة من الروايات سقوط حقه إذا عطل الأرض ثلاث سنين متوالية من دون علة. منها: رواية يونس: عن العبد الصالح (ع) قال: قال: إن الأرض لله تعالى جعلها وقفا على عباده، فمن عطل أرضا ثلاث سنين متوالية لغير ما علة أخذت من يده، ودفعت إلى غيره، ومن ترك مطالبة حق له عشر سنين فلا حق له (1). ومنها: روايته الأخرى عن رجل عن أبي عبد الله (ع) قال: من أخذت منه ارض ثم مكث ثلاث سنين لا يطلبها لم يحل له بعد ثلاث سنين ان يطلبها (2). ويرده: انه لا يمكن الاستدلال بهاتين الروايتين على الحكم المذكور باعتبار انهما ضعيفتان سندا فلا يمكن الاعتماد عليهما
(1، 2) الوسائل ج 17 الباب 17 من أبواب احياء الموات الحديث 1، 2. 162 أصلا، فاذن لا دليل على التحديد المزبور، والعبرة انما هي بما ذكرناه. نعم إذا ترك المحجر القيام بالاحياء والعمارة استنادا إلى عذر لديه كعدم توفر المواد للاحياء أو نحو ذلك لم يسقط حقه ما دام العذر باقيا، الا إذا طال عذره بحيث يعد ذلك لدى العرف تعطيلا للأرض رغم حاجة الآخرين إليها، فعندئذ يتدخل من بيده الامر فيأذن لغيره بالقيام باحيائها مع مراعاة حقه اي - حق المحجر -. بقى الكلام: فيما يتحقق به التحجير، الظاهر أنه يتحقق بكل ما يدل على أنه أراد به الشروع في احياء الأرض بزرع، أو عمارة أو غرس أشجار، أو ما شاكل ذلك كحفر الأساس لبناء دار - مثلا - أو حفر قناة في الأرض الموات، فإنه تحجير بالإضافة إليها التي تسقى بمائها، أو حفر بئر من آبار القناة الدارسة المهجورة، فإنه تحجير بالإضافة إلى بقية آبار تلك القناة، بل لا يبعد كونه تحجيرا بالإضافة إلى الأرض التي تسقى من مائها. فالنتيجة: ان التحجير مفهوم عرفي وليس له حد خاص لدى الشرع، فالمرجع في تحققه هو العرف. نتيجة هذا البحث ثلاث نقاط الأولى: ان الدليل على كون عملية التحجير سببا لحق الأولوية انما هو بناء العقلاء، واما غيره من الوجوه التي تقدمت فقد عرفنا عدم تمامية شئ منها. الثانية: ان سببية التحجير لحق الأولوية انما هي بوصف كونه
163 شروعا في عملية الاحياء والعمران، وبداية لهذه العملية، لا يوصف كونه عملية مستقلة منفصلة عنها. الثالثة: ان الحق الحاصل من عملية التحجير ينقطع نهائيا بزوال اثاره وعلائمه ولو بسبب خارجي. نعم لو أخر الاحياء واهمل في امره رغم بقاء اثاره فحقه وان لم يسقط الا ان من بيده الامر يجبره على ذلك، فان امتنع سقط حقه. النقطة الثامنة ان عملية الاحياء بوصف كونها سببا لاختصاص المحيي بالأرض على مستوى الحق أو الملك على الخلاف المتقدم انما هي فيما إذا لم تجعل الأرض من قبل الشرع موطنا للعبادة ومشعرا لها كعرفة، والمنى، والمشعر، وغيرها من الأماكن المقدسة والمواضع المشرفة التي جعلها الله تعالى مناسكا للعبادة، وانها في الحقيقة ليست من الموات الذي هو بمعنى المعطل عن الانتفاع. وقد استدل على ذلك: في الجواهر بتعلق حقوق المسلمين بها، بل قال: هي أعظم من الوقف الذي يتعلق به حق الموقوف عليهم بجريان الصيغة من الواقف على أساس ان الشرع هو الذي جعلها موطنا للعبادة خاصة من دون اجراء صيغة عليها. ومنها ما جعله الله تعالى مسجدا كمسجد الحرام ومسجد الكوفة. ومن المعلوم انه كما لا يجوز التصرف في الوقف باحياء وعمارة، كذلك لا يجوز التصرف في تلك المواطن المقدسة باحياء ونحوه، فإنه مناف للجعل المزبور من رب الجليل، وتفويت للمصلحة العامة فيه.
164 ولا فرق في ذلك: بين ان يكون التصرف في تمام اجزائها أو في بعضها، وبين ان يكون مزاحما للمتعبدين فيها وان لا يكون مزاحما لهم، بل في الجواهر جعل جواز التصرف - حق فيما لا يوجب المزاحمة والضيق - منافيا للضروري من للشرع. هذا. ولكن المحقق في الشرايع قال: اما لو عمر فيها مالا يضر ولا يؤدي إلى ضيقها عما يحتاج إليه المتعبدون كاليسير لم امنع منه، ووافقه عليه بعض من تأخر عنه. والصحيح ما افاده المحقق (قده). والوجه فيه: انه لا يقاس تلك الأماكن المشرفة بالوقف كالمسجد والمدرسة وما شاكل ذلك، فان الوقوف حسب ما يوقفها أهلها فلا يجوز التصرف فيها بما ينافي جهة وقفها. واما هذه الأماكن المحترمة فليست بوقف شرعا، ولذا لا تترتب عليها احكام الوقف، ومجرد ان الله تعالى جعلها مشعرا للعبادة وموطنا لها في وقت خاص من أيام السنة لا يوجب كونها وقفا بالمعنى المعهود، وليس لنا دليل آخر يدل على انها وقف. وعليه فلا مانع من التصرف فيها بما لا يوجب المزاحمة والضيق على المتعبدين، كما إذا كان في غير أوقات النسك، فان كونها متعلقة لحقوق المسلمين معناه انه لا تجوز مزاحمتهم في أوقات قيامهم بالنسك والأعمال فيها، واما في غير تلك الأوقات فلا مقتضى لعدم جوازه. ومن هنا يظهر انه لا مانع من الزرع الفصلي فيها يعني - في غير فصل النسك والأعمال - على أساس انه لا يوجب المزاحمة، بل لا مانع من تأسيس عمارات وبيوت سكن فيها التي تؤجر في تلك الأوقات من الناسكين والمتعبدين نظرا إلى أنها لم تكن مزاحمة لهم.
165 فالنتيجة في نهاية الشوط: ان المقدار الثابت انما هو عدم جواز التصرف فيها بما يوجب المزاحمة في أوقات النسك والعبادات واما إذا لم يكن مزاحما فلا دليل على عدم جوازه أصلا، بل لا شبهة في أنه يوجب علاقة المتصرف بها. النقطة التاسعة ان عملية الاحياء: - بوصف كونها سببا لصلة المحيي برقبة الأرض على مستوى الملك أو الحق على الخلاف المتقدم - انما هي فيما إذا لم تكن رقبة الأرض مما اقطعه الإمام (ع) والا فلا اثر للاحياء أصلا، فان الإمام (ع) إذا اعطى قطعة من الأرض الموات لشخص فهي تصبح ملكا له، حيث إن للإمام (ع) ذلك من جهتين، إحداهما: من جهة ولايته (ع) العامة. وثانيتهما: ان الأرض الموات بما انها داخلة في ملكه (ع) كما عرفت فله اختصاص فرد أو طائفة بقطعة منها على مستوى الحق أو الملك، فان كل ذلك بيده (ع) وتحت اختياره. ومن الطبيعي انه لا يجوز تصرف غيره فيها بعد هذا الاختصاص، لأنه تصرف في ملك غيره أو فيما له حق فيه. وقد روي أن النبي الأكرم (ص) اقطع - الدور - لعبد الله ابن مسعود - وهي اسم موضع بالمدينة -، واقطع وابل بن حجر - أرضا بحضرموت -، واقطع الزبير - عدو فرسه - واقطع بلال بن الحارث - العقيق -. وكيف كان فلا شبهة في أن للنبي الأكرم (ص) ذلك، وكذا
166 للأئمة الاطهار (ع)، وان ما اقطعه فهو خاص لمن قطع له، الا ان الكلام انما هو في اثبات ذلك صغرويا وهو لا يمكن، حيث لم يقم لنا دليل معتبر على ذلك، لا في الموارد المذكورة، ولا في غيرها. فالنتيجة: ان المسألة وإن كانت ثابتة كبرويا الا انه لا طريق لنا إلى احراز صغرى لها في شئ من الموارد. وعليه فلا نتيجة عملية لهذه المسألة خارجا. النقطة العاشرة هل يعتبر في سببية الاحياء لصلة المحيي بالأرض قصدها، غاية الأمر إن كانت الصلة على مستوى الملك اعتبر قصد حصول الملك وإن كانت على مستوى الحق اعتبر قصد حصول الحق؟ فيه وجهان: بل قولان: وعن الشهيد (قده) في الدروس اختيار القول الأول. ولكن الظاهر هو القول الثاني. والسبب فيه: انه لا دليل على اعتبار قصد التملك زائدا على قصد الاحياء. اما الروايات: فلا يكون في شئ منها تعرض لهذه الجهة أصلا فإنها في مقام بيان سببية الاحياء لعلاقة المحيي بالأرض، والمتفاهم منها لدى العرف كفاية قصد الاحياء بوصف كونه سببا لها بلا حاجة إلى قصد حصول الملك به أو الحق واما سيرة العقلاء: فلا تدل على اعتبار ذلك بوجه، ضرورة انها انما قامت على أن عملية الاحياء سبب لعلاقة المحيي بالأرض،
167 ولازم ذلك أنه لا يعتبر في سببيتها سوى قصد المحيي هذه العملية. ولكن يمكن ان يقال: إن قصد عملية الاحياء يغني عن قصد تلك العلاقة، حيث إن قصدها يلازم ذلك القصد ولو ارتكازا فلا ينفك أحدهما عن الآخر. وبكلمة أخرى: ان اعتبار قصد المذكور لا يلزم ان يكون تفصيليا، بل يكفي كونه اجماليا وارتكازيا كالنية المعتبرة في صحة العبادات، وهذا القصد الاجمالي موجود على أساس انه لازم لقصد الاحياء اجمالا ولا ينفك عنه، فان قيام الفرد بعملية الاحياء إن كان لنفسه فهو بطبيعة الحال قاصد ان ما أحياه له ولو ارتكازا، وإن كان لغيره كما إذا كان أجيرا من قبله فهو لا محالة قاصد ان ما أحياه لغيره وإن كان ذلك بالارتكاز. وعلى ضوء ذلك: فلا حاجة إلى اعتبار قصد حصول الاختصاص زائدا على قصد عملية الاحياء، فإنه لغو بعد فرض عدم انفكاكه عنه خارجا. إلى هنا قد انتهى الكلام في عملية الاحياء، وما يترتب عليها من الملك أو الحق، وشرائط تأثيرها في ذلك.
168 الملاحق بحث موضوعي في عدة جهات في دائرة الشريعة الاسلامية في ضمن أربعة ملاحق ولها صلة بالأبحاث السالفة حول احياء الأرض الموات الملحق الأول
169 الملحق الأول هل يحصل للشخص علاقة بما يحييه المتبرع من قبله، أو الوكيل أو الأجير. فيقع الكلام في جهات ثلاث: الجهة الأولى: احياء المتبرع. الجهة الثانية: احياء الوكيل، الجهة الثالثة: احياء الأجير. اما الجهة الأولى فحصول الملك أو الحق للمتبرع له باحياء المتبرع يقوم على أساس امكان إضافة عملية الاحياء إلى غير المباشر لها - وهو المتبرع له في مفروض المسألة - بأن يكون قيام المتبرع باحياء الأرض وعمارتها مقدمة لسيطرة غيره عليها، وموجبا لاضافتها إليه. ولكن لا يمكن تحقق هذه الإضافة، فان عملية الاحياء بما انها فعل تكويني خارجي فهي تقوم بالمحيي نفسه قياما مباشريا، ومن الطبيعي انها بالرغم من قيامها به لا تعقل اضافتها بنفسها إلى غيره، فان منشأ الإضافة إليه على حد إضافة الفعل إلى الفاعل انما هو صدورها عنه، والمفروض هنا عدمه، ومن الواضح ان مجرد نية المتبرع لا يصحح الإضافة كما هو الحال في غيره من الافعال التكوينية وعليه فلا يوجد مبرر وسبب لملكية غير المباشر أو أحقيته، والاحياء بما انه قائم بالمحيي فهو يبرر علاقته بما يحييه دون غيره. واما الجهة الثانية - وهي ما إذا وكل شخص غيره في احياء الأرض - فإذا قام الوكيل باحيائها وعمارتها لموكله فهل يحصل للمؤكل ملك أو
171 حق على أساس احياء الوكيل نظرا إلى أن فعل الوكيل فعل الموكل واحيائه احيائه، كما أن عقده عقد المؤكل؟ فيه انه يرتكز على تعقل صحة اسناد فعل الوكيل من جهة الوكالة إلى الموكل، ليكون احياء الوكيل احياء المؤكل. ولكن لا يتعقل هذا الاسناد والانتساب في المقام وأمثاله، وذلك لان انتساب فعل الوكيل إلى المؤكل انما هو في الأمور الاعتبارية كالبيع، والإجارة، والهبة، والمضاربة، والنكاح، والطلاق، وما شاكل ذلك، فإنه - على أساس الوكالة في تلك الموارد - يصدق على المؤكل انه باع داره - مثلا - إذا باع وكيله، أو انه عقد على امرأة إذا عقد وكيله، وهكذا. واما في الأمور التكوينية كالاحياء ونحوه فلا يعقل انتساب فعل الوكيل إلى المؤكل على أساس الوكالة، فان الفعل الخارجي التكويني بطبعه غير قابل للتوسعة في الانتساب، فإنه انما ينتسب إلى من يقوم به هذا الفعل بنحو من انحاء القيام دون غيره، لعدم علاقته به، والوكالة فيه لا توجب هذه العلاقة والانتساب، لوضوح انه لا يصدق على المؤكل انه استقبل فلانا إذا استقبل وكيله، أو زار فلانا إذا زار وكيله، أو زار أمير المؤمنين (ع) إذا زار وكيله، وهكذا، والاحياء بما انه فعل خارجي تكويني، حيث إنه عبارة عن خلق الاستيلاء والسيطرة خارجا على شئ بالجهد والعمل فهو غير قابل للانتساب إلى غير المحيي بالوكالة. ودعوى - ان حقيقة الوكالة ترجع إلى تنزيل فعل الوكيل بمنزلة فعل المؤكل ابتداء، أو باعتبار ان الوكيل وجود تنزيلي للمؤكل، ومن الواضح انه كما يصح تنزيل فعل الوكيل بمنزلة فعل المؤكل
172 في الأمور الاعتبارية، كذلك يصح في الأمور التكوينية أيضا إذا كان هناك دليل، فالوكالة في كلا الموردين بحاجة إلى دليل على التنزيل، فكما انه لا تكفي في صحتها في المورد الثاني نفس النصوص الدالة على حصول الملك أو الحق للمحيي على أساس قيامه بعملية الاحياء، فكذلك لا تكفي في صحتها في المورد الأول نفس العمومات الأولية الدالة على صحة البيع والإجارة ونحوهما، فاذن لا فرق بين الموردين من هذه الناحية. - خاطئة جدا ولا واقع موضوعي لها، وذلك لان صحة الوكالة في الأمور الاعتبارية ليست بحاجة إلى دليل خاص، بل تكفي في صحتها نفس العمومات المزبورة، لان صحة اسناد فعل الوكيل إلى المؤكل فيها على القاعدة، لا بملاك تنزيل فعله بمنزلة فعل المؤكل الا ترى ان البيع الصادر من الوكيل يصح اسناده إلى المؤكل واقعا وحقيقة بدون حاجة إلى تنزيل أصلا. والنكتة فيه: ان المعاملات بمضامينها الاعتبارية انما هي قائمة بالأصيل، لا بالوكيل، فإنه انما هو وكيل في انشاء هذه المضامين في عالم الاعتبار، مثلا - بيع - بمضمونه الواقعي الاعتباري - وهو تبديل طرفي الإضافة - قائم بالمالك على أساس ان المبيع يخرج من طرف اضافته مقابل دخول الثمن فيه، لا بالوكيل، فان القائم به انما هو انشاء هذا المضمون وايجاده الاعتباري. وعليه: فإذا بيع دار زيد - مثلا - من قبل وكيله صح ان يقال: إن زيدا باع داره على أساس ان حقيقة البيع - وهي خروج الدار من طرف اضافته بإزاء دخول الثمن فيه - قائمة بالمالك، ولأجل هذه النكتة يصح اطلاق البائع عليه حقيقة، والا فمن الواضح ان
173 انشاء مضمون المعاملة بالصيغة أو نحوها لم يصدر من المالك وانما هو صادر من الوكيل، بل ربما لا يصح اطلاق البائع على الوكيل كما إذا كان وكيلا في مجرد اجراء الصيغة فحسب، كما هو الحال في باب النكاح. وقد تحصل من ذلك: ان اطلاق البايع على المالك فيما إذا بيع ماله من قبل وكيله انما هو بملاك ان البيع بمعناه المسبي - الذي هو روحه وواقعه الموضوعي - قائم به وهكذا الحال في غيره. فاذن صحة اسناد بيع الوكيل أو اجارته أو نكاحه أو طلاقه إلى المؤكل حقيقة تكون على القاعدة فلا تحتاج إلى عناية زائدة كالتنزيل أو نحوه، فان التنزيل - إضافة إلى أنه لا دليل عليه، لا في الروايات، ولا في بناء العقلاء - لا يصحح الاسناد، فان مرد التنزيل الشرعي إلى الحكومة والتوسعة في دائرة الحكم يعني - ان ما للمنزل عليه من الأثر يترتب على المنزل - بمقتضى دليل التنزيل فإنه يجعل المنزل من افراد المنزل عليه حكما وعناية، لا حقيقة وواقعا، فما دل على تنزيل بيع الوكيل بمنزلة بيع المؤكل فمرده إلى أن ما يترتب على بيع المالك يترتب على بيع الوكيل أيضا، لأنه فرد من بيع المالك تنزيلا. ولكن هذا التنزيل لا يوسع دائرة الاسناد يعني - لا يدل على صحة اسناد بيع الوكيل إلى المالك حقيقة - فان مفاده كما عرفت تنزيل بيع الوكيل بمنزلة بيع المؤكل في الأثر، وليس مفاده صحة اسناد بيع الوكيل إلى المؤكل حقيقة. لان باب تنزيل باب التوسعة في دائرة الحكم، لا دائرة الاسناد كما هو الحال في بقية موارد أدلة التنزيل، فإنها توسع دائرة الحكم
174 والأثر، لا دائرة الاسناد، - مثلا - إذا افترض وجود دليل يدلنا على تنزيل الشك منزلة العلم، فإنه لا يصحح اسناد العلم إلى الشاك على أساس انه بمقتضى دليل التنزيل أصبح عالما، بل إنه يدل على أن ما يترتب على العلم فهو يترتب على الشك أيضا. ثم إن ما ذكرناه - من أن دليل التنزيل لا يوسع دائرة الاسناد - نقصد به التوسعة حقيقة، واما عناية وحكما فلا مانع بمعنى ان دليل التنزيل كما يوسع دائرة الموضوع عناية وحكما، لا حقيقة، كذا يوسع دائرة الاسناد كذلك، فان توسعة أحدهما ملازم لتوسعة الاخر، فإذا جعل بيع الوكيل بيعا للمؤكل تنزيلا فلا محالة يصح اسناده إليه أيضا كذلك، وكذا الحال في سائر موارد التنزيل فإنه إذا نزل الشك منزلة العلم، فكما انه يوجب توسع دائرة العلم تنزيلا وعناية، فكذا يوجب توسع دائرة اسناده كذلك، فيصح اسناده إلى الشاك مجازا وعناية بعد هذا التنزيل. نعم ان التوسعة حقيقة في موارد التنزيل انما هي في دائرة الحكم والأثر فحسب، دون غيره. فالنتيجة في نهاية الشوط: ان التنزيل لا يمكن ان يصحح اسناد فعل الوكيل إلى المالك حقيقة إذا لم يصح الاسناد كذلك في مرتبة سابقة على هذا التنزيل، وقد تقدم ان الاسناد صحيح في الأمور الاعتبارية بقطع النظر عن التنزيل المذكور وغير صحيح في الأمور التكوينية حتى على أساس هذا التنزيل. قد يقال: كما قيل: في وجه تصحيح الوكالة في الأمور الاعتبارية ان مرد التوكيل بالارتكاز لدى العرف إلى انشاء مضمون المعاملة على سبيل التعليق، فتوكيل المالك في بيع داره معناه انشاء بيعها
175 على تقدير بيع الوكيل للدار بحيث يكون انشاء البيع للمالك فعليا يتضمنه نفس انشاء الوكالة بالارتكاز العرفي والمنشأ يكون معلقا على حصول البيع من الوكيل، فعندئذ يصح اسناد البيع إلى المالك حقيقة عند تحقق البيع من الوكيل. وهذا التعليق لا يضر، فان الدليل على بطلان التعليق في المعاملات انما هو أحد أمرين: اما الاجماع التعبدي. واما ان المعاملة المعلقة في مرحلة الانشاء مخالفة للارتكاز العرفي فلا تكون مشمولة للاطلاقات الدالة على الصحة. اما الأول: فهو منعقد على صحة الوكالة بهذا المعنى الارتكازي واما الثاني: فهو على وفق الارتكاز، لا انه على خلافه. ولنأخذ بالنقد عليه: ان هذا البيان وإن كان يصحح اسناد فعل الوكيل إلى المؤكل في الأمور الاعتبارية الا انه على خلاف الارتكاز القطعي لدى أذهان العرف والعقلاء، ضرورة ان الموكل حين انشاء الوكالة في معاملة لا ينشأ مضمونها معلقا على اتيان الوكيل بها بحيث يكون الانشاء من المالك فعليا تتضمنه نفس انشاء التوكيل بالارتكاز العرفي، والمنشاء يكون معلقا على حصول المعاملة من الوكيل، فان المالك كثير ما يكون غافلا عن ذلك فضلا عما إذا كان منشأ لها في ضمن انشاء التوكيل على النحو المزبور، فليس معنى توكيل المالك في بيع داره انشاء بيعها على تقدير بيع الوكيل للدار بحيث يكون الانشاء فعليا والمنشاء يكون معلقا على بيعه، بل معناه انشاء الوكالة فحسب من دون انشاء آخر في ضمنه، بل ربما لا يخطر بباله نهائيا، ويظهر صدق هذا لكل من راجع وجدانه حين جعل
176 الوكالة في معاملة من المعاملات فإنه يرى أنه ليس الموجود في نفسه الا انشاء الوكالة فقط، دون انشاء ما فيه الوكالة. وبالرغم من هذا كيف يكون ذلك موافقا للارتكاز العرفي. على أن هذا: لو تم فإنما يتم فيما إذا افترضنا كون الفرد وكيلا من قبل المالك في معاملة خاصة كبيع داره - مثلا - واما إذا افترضنا انه وكيل مفوض من قبله في جميع معاملاته نفيا واثباتا كما وكيفا فلا يمكن اتمام ذلك بوجه، وذلك لان المالك جاهل بما يأتي به وكيله من أنواع المعاملات في المستقبل، وبالرغم من هذا كيف يمكن له انشائها على تقدير اتيان وكيله بها، لان انشاء مضمون معاملة يتوقف على احرازها. فما لم يحرز انها بيع أو اجارة أو مضاربة أو نكاح أو طلاق فيكف يمكن له انشاء مضمون البيع أو الإجارة أو غير ذلك. ودعوى - ان انشاء تلك المعاملات من المالك تفصيلا حين جعل الوكالة وإن كان غير موجود الا ان انشائها ارتكازا موجود - خاطئة جدا، فإنه - مضافا إلى أن ذلك ليس أمرا مركوزا في أفق النفس - ان الانشاء الارتكازي لا يجدي في باب المعاملات أصلا، لا في صحتها، ولا في اسنادها. لحد الان قد تبين: ان منشأ صحة الوكالة في الأمور الاعتبارية ما ذكرناه. وبما ان ما ذكرناه من النكتة لصحة الوكالة فيها لا تتوفر في الأمور التكوينية فلا يمكن تصحيحها في تلك الأمور على أساس تلك النكتة، ولا دليل آخر على صحتها فيها. ولكن مع هذا كله: لا يبعد دعوى بناء العقلاء على صحة الوكالة
177 في مثل عملية الاحياء، والحيازة، والقبض، وما شاكل ذلك. ومن هنا كان المشهور بين الفقهاء صحة الوكالة في القبض، رغم انه أمر تكويني. والسر فيه: ان هذه الأمور وإن كانت تكوينية، الا انها لدى العرف والعقلاء تمتاز عن غيرها من الأمور التكوينية كالاكل والشرب والقيام والقعود وما شاكل ذلك في امكان انتسابها إلى غير المباشر لجهة من الجهات كالوكالة ونحوها. وتوكد ذلك: صحيحة محمد بن أبي عمير في نوادره عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد الله (ع) في رجل قبض صداق ابنته من زوجها ثم مات هل لها ان تطالب زوجها بصداقها، أو قبض أبيها قبضها؟ فقال: (ع) (إن كانت وكلته بقبض صداقها من زوجها فليس ان تطالبه، وان لم تكن وكلته فلها ذلك) الحديث (1) فان موردها وإن كان خصوص القبض الا انها تدل على أن الفعل التكويني كالقبض قابل للوكالة. واما الجهة الثالثة: وهي ما إذا استأجر فرد غيره لاحياء الأرض فهل تحصل للمستأجر علاقة بها من جهة قيام أجيره باحيائها؟ فيه وجهان: المعروف والمشهور بين الأصحاب هو الأول. وقد استدل على ذلك: بان حياة الأرض نتيجة لعملية الاحياء واثر لها، وبما ان المستأجر يملك تلك العملية بمقتضى عقد الإجارة فيملك الأرض المحياة بتبع ملكيته للاحياء على أساس ان من ملك الشئ ملك اثاره ونتاجه.
(1) الوسائل ج 13 الباب 7 في احكام الوكالة الحديث 1. 178 وفيه: ان أريد بذلك ان الأرض المحياة نماء لعملية الاحياء كالثمرة التي هي نماء للشجرة فكما ان مالك الشجرة يملك ثمرتها فكذلك مالك عملية الاحياء يملك الأرض المحياة التي هي نماء لها فيرد عليه ان الامر ليس كذلك لوضوح الفرق بين البابين فان الثمرة نماء طبيعي للشجرة وهذا بخلاف الأرض المحياة فإنها ليست نماء طبيعي لعملية الاحياء وان أريد به: ان نتيجة عملية الاحياء واثرها التكويني هي الأرض بوصف كونها محياة فكل من يكون مالكا لتلك العملية فبطبيعة الحال يكون مالكا لنتاجها واثرها أيضا بالتبع، من دون فرق في ذلك بين كون ملكية العملية المزبورة ملكية ذاتية كملكية الفرد لها بوصف كونها فعله، أو اعتبارية كملكية المستأجر لها في ذمة الأجير. فكما انه على الأول يملك الأرض المحياة - تبعا - على أساس ملكيته لتلك العملية بالذات، فكذا على الثاني يملكها - كذلك - على أساس ملكيته لها بالاعتبار. وان أريد به: ذلك. فإنه غير بعيد: فان ملكية النتيجة والأثر - تبعا - على أساس ملكية الأصل انما هي على طبق الارتكاز العرفي، وحيث إن نتيجة عملية الاحياء واثرها التكويني هو حياة الأرض وعمارتها فبطبيعة الحال ملكية الأصل تستلزم ملكية الحياة والعمارة بالتبع. ومن الواضح ان ملكية حياة الأرض هي ملكية الأرض المحياة إذ لا يعقل ملكية الحياة مستقلة عن الأرض، فان حياتها عبارة عن خلق فرصة الانتفاع بها واستثمارها، حيث لم تكن هذه الفرصة متاحة قبل احيائها وانما نتجت عن عملية الاحياء أو فقل: ان
179 حياتها عبارة عن توفير كل الشروط التي تجعلها قابلة للانتفاع والانتاج منها، فالحياة عبارة عن هذه الصفة للأرض، ومن الطبيعي انها غير قابلة للملك بدون ملك موصوفها. وعليه فنتيجة العملية المزبورة هي حصة خاصة من الأرض وهي الأرض المحياة في مقابل الأرض الميتة، فكما ان المحيي يملك تلك النتيجة على أساس قيامه بعملية الاحياء لنفسه فكذلك المستأجر يملك النتيجة المزبورة على أساس قيام أجيره بتلك العملية بقانون ان من ملك الأصل ملك نتاجه واثره، وهذا القانون موافق للارتكاز العرفي من ناحية، وقد قامت عليه السيرة العقلائية من ناحية أخرى. ثم إن هذا الارتكاز العرفي القائم، بين ملكية الأصل وملكية اثره بما انه كان ثابتا في عصر التشريع فهو كما يكشف عن امضاء الشارع له بعد عدم ورود الردع عنه وبذلك يصبح دليلا في المسألة كذلك يوفر لدينا الجهة التي يكشف بها - امضاء هذه السيرة شرعا -. عن عدم ورود الردع عنها، فان الارتكاز المزبور قرينة على امتدادها وانتشارها في عصر التشريع، ومن الواضح ان كل سيرة عقلائية إذا امتدت زمنيا إلى عصر التشريع وانتشرت في ذلك العصر من دون ورود ردع عنها فلا محالة يستكشف ذلك عن امضائها شرعا. واما المناقشة في هذه السيرة - بعدم شمولها فيما إذا لم ينو الأجير الاحياء للمستأجر على أساس انها دليل لبي ولا اطلاق لها - فلا ترد عليها: بنكتة ان هذه السيرة لما كانت على طبق الارتكاز القطعي لدى العرف - وهو تبعية ملكية الفرع لملكية الأصل مطلقا - فلا محالة تكون سعتها بمقدار سعة ذلك الارتكاز، ومن المعلوم انه لا فرق في الارتكاز المزبور بين ما إذا كان الأجير ناويا الاحياء من
180 قبل مستأجره، وما إذا لم ينو ذلك إذا كان الأجير في مقام الاتيان بعملية الاحياء المملوكة للمستأجر، فإنه إذا اتى بهذه العملية كانت نتيجتها له اي للمستأجر وان لم ينو ذلك، بل لا يضر قصد الخلاف في هذا الفرض. إلى هنا: قد استطعنا ان نخرج بهذه النتيجة وهي ان المستأجر يملك الأرض التي قام أجيره باحيائها إذا كان ذلك قبل التاريخ الزمني لتشريع ملكية الأنفال للإمام (ع) واما إذا كان بعد ذلك التاريخ فإنما يحصل له حق فيها على أساس ذلك، دون الملك، كما هو الحال فيما إذا كان قيامه للاحياء لنفسه، لا لغيره. وعلى الجملة فالشارع قد امضى ما هو مقتضى السيرة والارتكاز العرفي في الأراضي المباحة - وهو ان علاقة مالك العمل بنتيجته انما هي على مستوى الملك - واما في الأرض التي هي من الأنفال فلا يمضي الشارع ذلك الا على مستوى الحق، دون الملك. وقد يستدل على ذلك: ان المستأجر بما انه مالك لعملية الاحياء في ذمة الأجير فيصح اسناد تلك العملية إليه حقيقة، وعلى هذا فتملك المستأجر الأرض المحياة انما هو بوصف كونه قائما باحيائها. ويرده: ان ملكية المستأجر لعملية الاحياء لا تحقق صحة اسنادها إليه حقيقة اسناد الفعل إلى الفاعل، ليكون المستأجر مشمولا لعمومات أدلة الاحياء، وانما تحقق صحة اسنادها إليه اسناد الملك إلى المالك، فالإضافة في المقام إضافة الملكية، لا إضافة الفعلية، ومن الواضح ان إضافة الملكية لا تؤثر في علاقة المستأجر بالمحياة، فان المؤثر فيها انما هو إضافة الفعلية وهي مفقودة في المقام ضرورة انه لا يصدق عرفا على المستأجر انه قائم بعملية الاحياء
181 من جهة قيام أجيره بها. فالنتيجة في نهاية المطاف: ان الدليل على علاقة المستأجر بالأرض المحياة على أساس قيام أجيره بعملية احيائها امران. أحدهما: الارتكاز القطعي الثابت لدى العرف والعقلاء على أن اثر الشئ ونتاجه تابع للأصل: والآخر: بناء العقلاء على ذلك. واما عملية الحيازة - التي قد اعترف الاسلام بها في الثروات المنقولة على تفصيل يأتي في ضمن الأبحاث القادمة - فحالها حال عملية الاحياء من النواحي الثلاث المتقدمة - التبرع والوكالة والإجارة -. نتيجة هذا البحث عدة نقاط الأولى: لا يحصل للفرد اختصاص بالأرض على اثر قيام غيره باحيائها تبرعا من قبله باعتبار ان ذلك لا يصحح صحة اسناد تلك العملية إليه، ليكون مشمولا لعمومات أدلة الاحياء، وبدونها لا يحصل له الاختصاص بها: لعدم كونه مشمولا لتلك العمومات من ناحية، وعدم دليل آخر على ذلك من ناحية أخرى. الثانية: ان صحة الوكالة في الأمور الاعتبارية انما هي على وفق القاعدة بلا حاجة إلى دليل. واما صحتها في الأمور التكوينية فهي بحاجة إلى دليل، والا فمقتضى القاعدة بطلان الوكالة فيها. نعم الظاهر قيام بناء العقلاء على صحة الوكالة في مثل عملية الاحياء ونحوها كما مر. الثالثة: يحصل للمستأجر علاقة بالأرض على أساس قيام أجيره
182 باحيائها بقانون ان ملك الشئ يتبع ملك اثره، وقد عرفنا قيام الارتكاز القطعي عليه، مضافا إلى البناء العملي من العقلاء. الملحق الثاني بماذا يتحقق احياء الأرض الميتة؟ يتحقق بخلق الفرد بجهوده وعمله في الأرض الشروط التي تتيح له فرصة الاستفادة منها وتجعلها قابلة للانتفاع والانتاج، على الساس ان تلك الشروط لم تكن متوفرة فيها قبل ممارسة الفرد بخلقها ولم تكن صالحة للانتفاع والانتاج منها. ثم إن خلق تلك الشروط انما هي بإزالة الصخور عن وجهها، وتوفير المياه فيها وإزالة ارتفاعها، وقطع ما فيها من الأشجار والحطب، وغير ذلك مما له دخل في صلاحيتها للاستفادة ومن الطبيعي: ان هذه الفرصة لم تكن متاحة قبل احيائها، وانما نتجت عن عملية الاحياء: والعامل على أساس خلقه تلك الفرصة فيها بعمله وجهوده اكتسب حقا فيها، ولأجل ذلك يكون أولي بها من غيره. أو فقل: ان العامل يملك الفرصة المزبورة بوصف كونها نتيجة عمله وجهوده: وليس لاحد ان يزاحمه في الاستفادة من تلك الفرصة. وبعد ذلك: فهذه الأرض تصلح للانتفاع والانتاج بزرع، أو غرس أشجار، أو ما شاكل ذلك، ولا يعتبر في صدق احيائها حراثتها، ولا زراعتها، وهكذا، فان كل ذلك انتفاع بها بعد الاحياء. نعم ان ما ذكرناه انما هو احياء للأرض بما هي. واما إذا أراد الفرد احياء الدار فيها أو الحظيرة أو البستان أو
183 نحو ذلك، فإنه بخلقة إتاحة الفرصة لبدأ العمل في تلك الأشياء وإن كان قد اكتسب حقا في الأرض، وليس لاخر ان يزاحمه في ذلك، الا ان احياء هذه الأشياء انما هو بتحققها بما لها من العناوين الخاصة، فاحياء الدار لا يتحقق الا باحداث ما هو مقوم لها من الحيطان والسقف وغيرهما مما هو دخيل في صدق عنوانها. وعلى الجملة: فاحياء كل شئ عبارة عن احداث ذلك الشئ في الخارج بعنوانه، ومن الطبيعي انه يختلف باختلاف اجزائه الرئيسية المقومة له. الملحق الثالث قد تقدم منا في ضمن البحوث السالفة ان عملية الاحياء انما توجب صلة المحيي بالأرض على مستوى الحق فحسب دون الملك. وعلى ضوء هذا الرأي الفقهي قد يشكل في تفسير صحة بيع المحيي لها باعتبار ان رقبتها غير داخلة في ملكه، مع أنه لا شبهة في جواز قيامه ببيعها وصحته. وقد أجيب عن هذا الاشكال بعدة وجوه: الأول: ما قيل: من الالتزام بتحقق ملكية الأرض للمحيي أياما قبل البيع وخروجها عن ملكه ليتحقق مفهوم البيع. ويرده: انه لا أساس لهذا الافتراض أصلا. لا في المقام، ولا في غيره، فان ثبوته بحاجة إلى دليل، ولا دليل يدلنا عليه في المقام، لان الالتزام به انما هو في مورد قد دعت الضرورة إليه واما في المقام فلا ضرورة تدعو إليه، حيث يمكن تصحيح البيع
184 بطريق آخر سوف نشير إليه. الثاني: ان المبيع على ضوء هذا الرأي الفقهي انما هو الحق المتعلق بالأرض، دون الأرض نفسها، ليقال انها داخلة في نطاق ملكية الإمام (ع) لا في نطاق ملكية المحيي حتى يكون أمر بيعها بيده، والفرض ان الحق كالمال قابل للنقل بالبيع ونحوه، فاذن المراد من بيع الأرض على أساس هذا الرأي بيع الحق المتعلق بها لا نفس الرقبة. ويرده: ان الحق بما انه حكم شرعي مجعول من قبل الشرع غير قابل للبيع في نفسه وبقطع النظر عن متعلقه، وان افترض انه قابل للنقل، وفيما نحن فيه الحق الحاصل للمحيي بسبب قيامه بعملية الاحياء وإن كان قابلا للنقل، الا انه غير قابل للبيع في نفسه، وذلك لان مفهوم البيع مفهوم خاص لدى العرف فلا يتوفر في نقل الحق، فإنه عبارة عن منح البايع علاقته الاعتبارية بالمبيع للمشتري ومنح المشتري علاقته الاعتبارية بالثمن للبايع، والفرض ان الحق نفس الاعتبار والإضافة، لا انه طرف له، فلا يصلح ان يكون مبيعا، لأن المبيع انما هو طرف الإضافة لانفسها. وبكلمة أخرى ان المراد من الملك هو نفس العلاقة الاعتبارية بين المال وصاحبه، ففي مقام البيع يمنح صاحبه علاقته الاعتبارية به للمشتري في مقابل منح المشتري علاقته الاعتبارية بالثمن له. ومن الواضح ان هذه العلاقة لا تتصور بين الحق وصاحبه نظرا إلى أن الحق نفس العلاقة والإضافة بين متعلقه وصاحبه، لا انه طرف لها - مثلا - من يقوم بعملية احياء الأرض يحصل له علاقة اعتبارية لها على مستوى الحق، ومن الطبيعي انه ليس لعلاقته بها
185 علاقة اعتبارية أخرى، وهكذا. فالنتيجة في نهاية الشوط: ان الحق في حد نفسه لا يصلح ان يكون مبيعا. الثالث: انه لا يعتبر في صدق البيع عرفا أن تكون علاقة البايع بالمبيع على مستوى الملك بل يكفي أن تكون علاقته به على مستوى الحق، وبما ان الفرد الذي يقوم بعملية الاحياء يحصل على علاقة اعتبارية بالأرض على مستوى الحق فيجوز له ان يقوم ببيعها بمعنى منح هذه العلاقة للمشتري في مقابل منح المشتري علاقته الاعتبارية بالثمن له، وان فرض ان علاقة البايع بالمبيع كانت على مستوى الحق وعلاقة المشتري بالثمن كانت على مستوى الملك. لوضوح ان هذا المقدار من الفرق لا يؤثر فيما هو معتبر في حقيقة البيع لدى العرف والعقلاء وهي تبديل طرفي الإضافة والعلاقة الاعتبارية، سواء أكانت على مستوى الملك أم كانت على مستوى الحق. أو كانت علاقة البايع بالمبيع على مستوى الحق، وعلاقة المشتري بالثمن على مستوى الملك أو بالعكس، فان البيع يتكفل منح نفس علاقة البايع بالمبيع للمشتري في مقابل منح نفس علاقة المشتري بالثمن للبايع، وفيما نحن فيه بعد البيع تصبح علاقة البائع بالثمن على مستوى الملك، وعلاقة المشتري بالمبيع على مستوى الحق على عكس ما كان قبل البيع. وقد تحصل من ذلك: انه لا اشكال في صحة بيع المحيي لما أحياه من الأرض على ضوء هذا الرأي الفقهي، فلا تظهر الثمرة بين القولين من هذه الناحية.
186 الملحق الرابع ان المراد من ملكية الأنفال للإمام (ع) ملكية منصب الإمامة وقد يعبر عنها بملكية الدولة على أساس ان مرد ملكية منصب الإمامة إلى ملكية الدولة، وليست ملكا خاصا للإمام (ع) كسائر املاكه الخاصة فإنه - مضافا إلى بعد ذلك في نفسه - يدل عليه امران: الأول: نصوص الباب - بمناسبة الحكم والموضوع -؟ فإنها تصنف إلى مجموعتين: إحداهما: جاءت بهذا اللسان (الأرض كلها لنا) كما في صحيحة مسمع بن عبد الملك، وصحيحة الكابلي، فهذه المجموعة تدل - بمناسبة الحكم والموضوع - على انها ملك عام للمنصب يعني - منصب الإمامة -، لا انها ملك خاص للفرد. والاخرى: جاءت بلسان: ان الأنفال للإمام (ع)، وفي بعضها انها للرسول (ص) ومن بعده للإمام (ع) فإنها تدل بوضوح على انها ملك لمنصب الرسالة والإمامة. الثاني: انها لو كانت ملكا خاصا للإمام (ع) لكانت من جملة تركته (ع) بعده، وتقسم ميراثا بين ورثته، مع أن الامر ليس كذلك جزما. بل هي تنتقل من امام إلى امام آخر سواء أكان للامام السابق وارث غيره أم لا. فالنتيجة: انه لا شبهة في أنها ملك عام للمنصب، لا للشخص. ثم إن هذه الملكية بطبيعة الحال تمتد بامتداد الإمامة، وتصرف منافعها في مصالح الدولة ونفقات الحكومة.
187 وفي مقابلها: الأرض المفتوحة عنوة بإذن الإمام (ع) فإنها ملك عام للمسلمين كما سوف يأتي البحث عنها وتصرف منافعها في مصالحهم العامة. وعلى الجملة فهنا صنفان من الأرض: أحدهما: مملوك بملك عام للأمة. والاخر مملوك بملك عام للإمام (ع) أو الدولة. والخراج الموضوع على كل منهما يتبع الأرض في نوع الملكية. وأمرهما في عصر الغيبة بيد نائبه (ع).
188 - 2 - الأرض المفتوحة عنوة وهي ملك عام للمسلمين كافة وفيها بحوث تتعلق بأنواعها واحكامها وشرائطها على ضوء الشريعة الاسلامية المقدسة
189 الأرض المفتوحة عنوة الكلام فيها يقع في مرحلتين: الأولى: فيما إذا كانت الأرض حال الفتح مواتا: الثانية: فيما إذا كانت عامرة. المرحلة الأولى: فالكلام فيها يفرض: مرة: فيما إذا كان تاريخ الفتح متقدما زمنيا على نزول آية الأنفال. واخرى: فيما إذا كان تاريخه متأخرا كذلك عن نزول الآية. وثالثة: فيما إذا كان تاريخه الزمني مجهولا بالإضافة إليه. اما الكلام في الفرض الأول فكون الأرض الميتة - التي فتحت عنوة - لعامة المسلمين انما هو يقوم على أساس ان ما اخذ بالسيف من الكفار خارجا لا يتوقف في كونه من الغنيمة على أن تكون للكافر علاقة به على مستوى المالك أو الحق، بل يكفي في صدق ذلك كون المال تحت استيلائهم خارجا، فكل مال انتزع من سيطرتهم في الخارج بالجهاد المسلح فهو غنيمة وان لم تكن لهم علاقة به أصلا، وعليه فالأرض الميتة في بلاد الكفر وان لم تكن للكافر علاقة بها، لا على مستوى الملك، ولا على مستوى الحق الا انها رغم ذلك لما كانت تحت سيطرته في الخارج فإذا انتزعت منه بعنوة
191 صدق عليها عنوان ما اخذ بالسيف، وقد جاء هذا العنوان في روايتين: إحداهما: رواية صفوان بن يحيى وأحمد بن محمد بن أبي نصر قالا: ذكرنا له الكوفة وما وضع عليها من الخراج وما سار فيها أهل بيته فقال: (من أسلم طوعا تركت ارضه في يده إلى أن قال: وما اخذ بالسيف فذلك إلى الامام يقبله بالذي يرى، كما صنع رسول الله (ص) بخيبر قبل سوادها وبياضها يعني - أرضها ونخلها - والناس يقولون لا تصلح قبالة الأرض والنخل وقد قبل رسول الله (ص) خيبر) الحديث (1). وهذه الرواية ضعيفة على أساس ان في سندها علي بن أحمد بن أشيم وهو مجهول. نعم بناء على أن وقوعه في اسناد كامل الزيارات يكفي لوثاقته فالرواية صحيحة الا ان الاعتماد على ذلك مشكل. وثانيتهما: صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: ذكرت لأبي الحسن الرضا (ع) الخراج وما سار به أهل بيته فقال: (العشر ونصف العشر على من أسلم طوعا وتركت ارضه بيده إلى أن قال: وما اخذ بالسيف فذلك إلى الامام يقبله بالذي يرى، كما صنع رسول الله (ص) بخيبر قبل أرضها ونخلها، والناس يقولون لا تصلح قبالة الأرض والنخل إذا كان البياض أكثر من السواد، وقد قبل رسول الله (ص) خيبر) الحديث (2). وعلى ذلك فالعبرة انما هي بصدق هذه العنوان، ومن الطبيعي ان هذا العنوان يصدق على الأرض الموات التي أخذت من سيطرة الكفار خارجا بالسيف. واما الكلام في الفرض الثاني فقد يقال: كما قيل: إن الروايات
(1) (1، 2) الوسائل ج 11 الباب 72 من أبواب جهاد العدو الحديث 1، 2. 192 الدالة على أن لأرض الموات داخلة في نطاق ملكية الإمام (ع) بما انها تشمل بعمومها ما نحن فيه فهي معارضة بالروايات الدالة على أن الأرض المأخوذة من سيطرة الكفار عنوة داخلة في ملكية المسلمين على أساس انها بعمومها تشمل الأرض الميتة أيضا، وملتقى المعارضة بينهما الأرض الموات المفتوحة عنوة. ومن الطائفة الأولى: موثقة سماعة بن مهران قال: سألته عن الأنفال فقال: (كل ارض خربة أو شئ يكون للملوك فهو خالص للامام وليس للناس فيها سهم) (1). فإنها تدل بعمومها على أن الأرض الخربة داخلة في ملكية الإمام (ع) وإن كانت مفتوحة عنوة. ومن الطائفة الثانية: مرسلة حماد بن عيسى عن أبي الحسن (ع) إلى أن قال: (ع) (والأرضون التي أخذت عنوة بخيل أو ركاب فهي موقوفة متروكة في يدي من يعمرها ويحييها، ويقوم عليها على ما صالحهم الوالي على قدر طاقتهم من الحق الخراج: النصف أو الثلث أو الثلثين) الحديث (2). فإنها وان دلت بعمومها على أن الأرض التي فتحت بالجهاد المسلح داخلة في ملكية المسلمين وإن كانت مواتا الا انها ضعيفة سندا من ناحية الارسال فلا يمكن ان تعارض الطائفة الأولى. ومنها اي - من الطائفة الثانية - الروايتان المتقدمتان، فان قوله (ع) فيهما (وما اخذ بالسيف فذلك إلى الإمام (ع) يقبله بالذي يرى كما صنع رسول الله (ص) بخيبر) يعم الأرض الموات أيضا.
(1) الوسائل ج 6 الباب 1 من أبواب الأنفال الحديث 8 (2) الوسائل ج 11 الباب 41 من أبواب جهاد العدو الحديث 2. 193 ولكن قد يقال: كما قيل: إنه لا يمكن الاخذ بنصوص ملكية المسلمين، لأنها لا تصلح ان تعارض نصوص ملكية الإمام (ع) اما أولا: فلان دلالة المجموعة الأولى - من نصوص ملكية المسلمين - على أن الأرض الموات المأخوذة من الكفار عنوة وبهراقة الدماء ملك عام للأمة انما هي بالاطلاق وبمعونة مقدمات الحكمة واما المجموعة الثانية - من نصوص ملكية الإمام (ع) - ففيها ما يكون دلالته على انها ملك للإمام (ع) انما هي بالعموم الوضعي، ومن الطبيعي ان ما تكون دلالته على العموم بالاطلاق ومقدمات الحكمة لا يمكن ان يعارض ما كانت دلالته عليه بالوضع. هذا لا من ناحية انه يمنع عن انعقاد ظهوره في الاطلاق، بدعوى ان ظهوره فيه يتوقف على عدم البيان الأعم من المتصل، والمنفصل، وذلك لما تقدم في ضمن البحوث السالفة من أن المانع من انعقاد ظهور المطلق في الاطلاق انما هو البيان المتصل دون المنفصل، فإنه لا يمنع عن انعقاد ظهور فيه، وانما هو مانع عن حجية هذا الظهور واعتباره. بل من ناحية ان ظهور العام في العموم إذا كان مستندا إلى الوضع أقوى - لدى العرف من ظهور المطلق في الاطلاق إذا كان مستندا إلى مقدمات الحكمة - بدرجة يصلح ان يكون بيانا على خلاف اطلاق المطلق في محل الالتقاء والمعارضة. وبكلمة أخرى: ان ظهور المطلق في الاطلاق وان يم يتوقف على عدم البيان المنفصل الا ان حجيته تتوقف عليه جزما ومن الطبيعي ان العام الوضعي يصلح ان يكون بيانا على خلاف ظهور المطلق في الاطلاق ومانعا عن حجيته بمقتضى الارتكاز العرفي.
194 واما ثانيا: فلو افترضنا ان هاتين المجموعتين متعارضتان في مورد الالتقاء والاجتماع ولا يمكن الجمع بينهما عند العرف، فعندئذ بما انه لا يتوفر ترجيح لاحداهما بالإضافة إلى الأخرى فلا محالة تسقطان معا فيرجع حينئذ إلى المجموعة الأخرى من نصوص ملكية الإمام (ع) التي جاءت بهذا النص: (كل ارض لا رب لها فهي للإمام (ع) والفرض ان الأرض الموات التي فتحت عنوة بعد سقوط نصوص مالكية المسلمين لها من ناحية المعارضة تدخل في الأرض التي لا رب لها بعد ضم الاستصحاب الموضوعي إليه - وهو استصحاب عدم وجود رب لها -. وان شئت قلت: ان هذه المجموعة لا تصلح أن تكون طرفا للمعارضة مع المجموعة من نصوص مالكية المسلمين، لأنها حاكمة عليها باعتبار انها تثبت وجود رب للأرض المزبورة، وبذلك تخرج عن كونها مما لا رب لها، وتدخل في الأرض التي لها رب ضرورة ان التعارض لا يتصور بين دليلين: يكون أحدهما رافعا لموضوع الآخر. نعم انها تصلح أن تكون مرجعا بعد سقوط نصوص مالكية المسلمين بالمعارضة أو نحوها. هذا إضافة إلى انا لو قطعنا النظر عن هذه المجموعة القائلة: (ان كل ارض لا رب لها فهي للامام) (ع) فلا مانع من الرجوع بعد تساقطهما إلى النص العام القائل: (ان الأرض كلها للإمام (ع) حيث إن هذا العام الفوقي يصلح ان يكون مرجعا بعد سقوط النصوص بالمعارضة في مورد الاجتماع هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: انا لو قطعنا النظر عن العام المزبور اي - العام الفوقي - أمكن لنا الرجوع إلى الأصل العملي - وهو استصحاب
195 مالكية الإمام (ع) للأرض المذكورة - لفرض انها قبل الفتح كانت داخلة في ملكية الإمام (ع) بمقتضى تشريع مالكيته (ع) للأنفال، ونصوص مالكية المسلمين لها بعد الفتح قد سقطت من جهة المعارضة، فاذن لا مانع من الرجوع إلى الاستصحاب المزبور. فالنتيجة: انها لم تخرج من نطاق ملكية الإمام (ع). واما ثالثا: فلان المعارضة بين المجموعتين انما تقوم على أساس ان يكون المراد مما اخذ من الكافر عنوة وبهراقة الدماء مطلق ما كان تحت استيلائه وسيطرته وإن كان لاخر صلة به على مستوى الملك أو الحق. واما إذا كان المراد منه خصوص ما إذا لم تكن لاخر علاقة به فلا تعارض بينهما فيما نحن فيه، فان نصوص ملكية المسلمين على هذا الأساس تختص بما إذا لم يكن المأخوذ من الكافر موردا لصلة غيره. واما إذا كان موردا لها فهي لا تشمله حتى تكون طرفا للمعارضة مع النصوص القائلة: بان الأرض الموات داخلة في ملكية الإمام (ع). وبما ان الظاهر منها عرفا - ولو بمناسبة الحكم والموضوع - اختصاص المأخوذ من الكافر بما إذا لم يكن موردا لصلة غيره فلا محالة لا تشمل الأرض الموات التي هي مورد لعلاقة الإمام (ع) بها على مستوى الملك، فعندئذ تبقى نصوص مالكية الإمام (ع) لها بلا معارض وعلى الجملة: فنصوص مالكية المسلمين منصرفة بمقتضى الارتكاز العرفي عما إذا كان المال المأخوذ من الكافر عنوة وبالفتح ملكا لغيره أو متعلقا لحقه. ومن هنا: إذا افترض وجود مال المسلم عند كافر أمانة كان أو
196 غصبا ثم اخذه المسلمون منه بالجهاد المسلح، فإنه غير مشمول لتلك النصوص، ولا يصدق عليه عنوان الغنيمة. وكذا الحال بالإضافة إلى الأرض الميتة، فإنها حيث كانت ملكا للإمام (ع) فلا تشملها النصوص المزبورة بمقتضى الفهم العرفي، ولا يصدق عليها عنوان الغنيمة. ودعوى: - ان روايات مالكية المسلمين للمأخوذ من الكفار عنوة تصنف إلى مجموعتين: إحداهما: تقول: ان ما أخذ من الكفار عنوة فهو غنيمة للمسلمين تقسم بينهم. والاخرى: تقول: ان ما اخذ بالسيف فهو للمسلمين. اما المجموعة الأولى: فالظاهر أنها لا تشمل ما إذا كان المأخوذ من الكافر ملكا خاصا لغيره أو متعلقا لحقه هذا إضافة إلى أنها خاصة بالمنقول بقرينة القسمة فيها. واما المجموعة الثانية: فلا وجه لتخصيصها بما ذكر، بل مقتضى اطلاقها هو العموم والشمول - خاطئة جدا، وذلك لأنها وإن كانت مطلقة الا انك قد عرفت انها تنصرف عن شمول ما ذكر بقرينة الارتكاز القطعي لدى العرف. فالنتيجة: انه لا فرق بين المجموعة الأولى والمجموعة الثانية من هذه الناحية. وتشهد على ذلك مجموعة من الروايات. عمدتها صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع) قال: سأله رجل عن الترك يغزون على المسلمين فيأخذون أولادهم فيسرقون منهم، أيرد عليهم؟ قال: (نعم والمسلم أخو المسلم والمسلم أحق
197 بماله أينما وجده) (1). فإنها واضحة الدلالة: على أنه ليس من الغنيمة، ولذا لا خلاف في ذلك بين الأصحاب قد يقال: كما قيل: إن نقطة التعارض بين اطلاقي نصوص مالكية المسلمين، ونصوص مالكية الإمام (ع) بما انها كانت هي كلمة اللام في لسان كلتا المجموعتين، وحيث إن كلمة اللام بطبيعتها لا تدل على الملكية، وانما تدل على الاختصاص الجامع بين الملك والحق فلا محالة تكون دلالتها على الملك بالاطلاق، وهذا يعني - ان التعارض في الحقيقة بين اطلاقي اللامين - فإنهما باطلاقهما تدلان على ملكيتين مختلفتين فيسقط الاطلاقان معا، وتبقى الدلالة على أصل الاختصاص ثابتة، إذ لا مانع من افتراض اختصاصين بالأرض التي فتحها المسلمون بعد تشريع ملكية الأنفال للإمام (ع) أحدهما اختصاص الإمام (ع) بها على مستوى الملك. والآخر اختصاص المسلمين بها على مستوى الحق. ويرده: أولا: ان مقتضى سقوط الاطلاقين عنهما سقوط ملكية الإمام (ع) والمسلمين معا عن الأرض المذكورة، نظرا إلى أن مدلول الاطلاق انما هو حصة خاصة من الاختصاص - وهي الاختصاص الملكي - والفرض انه قد سقط بسقوط الاطلاق من جهة المعارضة، فاذن كيف يمكن الحكم ببقاء اختصاص الإمام (ع) بها على مستوى الملك، فان الدال عليه انما هو اطلاق نصوص مالكيته (ع) وبعد سقوط اطلاقها بالمعارضة على الفرض فلا دال عليه وثانيا: ان كلمة اللام في كلتا المجموعتين من النصوص ظاهرة
(1) الوسائل ج 11 الباب 35 من أبواب جهاد العدو الحديث 3. 198 لدى المتفاهم العرفي في الاختصاص الملكي، وليست لهذه الكلمة دلالتان فيهما: إحداهما: الدلالة على طبيعي الاختصاص - وهو الجامع بين الاختصاص الملكي والاختصاص الحقي - والاخرى: الدلالة على الاختصاص الملكي. والأولى: مستندة إلى طبيعة كلمة اللام. والثانية: مستندة إلى اطلاقها، لتكون نقطة المعارضة في مورد الالتقاء والاجتماع بين المجموعتين المذكورتين اطلاق كلمة اللام فيهما، بل إن لها دلالة واحدة في كلتا المجموعتين وظهورا فاردا - وهو الظهور في الملكية -. فإذا سقط اطلاق كلمة اللام الظاهر في الملكية في كل من المجموعتين بالمعارضة لم تبق لها دلالة عرفا على مطلق الاختصاص. هذا إضافة: إلى أن بقاء تلك الدلالة لا تفي بالمقصود فان المقصود انما هو اثبات اختصاص الامام بالأرض في مورد الالتقاء اختصاصا ملكيا واختصاص المسلمين بها اختصاصا حقيا. اما الأول: فيمكن اثباته بالعام الفوقي بعد سقوط اطلاق اللام - وهو قوله (ع) الأرض كلها لنا -. واما الثاني: فلا دليل عليه، فلان كلمة اللام لو دلت فإنما تدل على مطلق الاختصاص، لا على نوع خاص منه - وهو الاختصاص الحقي - فان دلالتها عليه بحاجة إلى عناية زائدة فلا يكفي فيها سقوط دلالتها على الاختصاص الملكي بالمعارضة. نظير ذلك: ما إذا افترضنا ان صيغة الامر لا تدل على الوجوب الا بالاطلاق ومقدمات الحكمة، واما بالوضع فهي لا تدل الا على
199 مطلق الطلب الجامع بين الطلب الاستحبابي والوجوبي. وعليه فإذا فرض ان لاطلاقها معارضا في مورد فبطبيعة الحال قد سقط اطلاقها من جهة المعارضة وبعد سقوطه فلا دلالة لها على الاستحباب الا بعناية خارجية. فالنتيجة في نهاية الشوط انه على تقدير تسليم المعارضة بين المجموعتين في مورد الاجتماع فالصحيح هو ما ذكرناه من الرجوع إلى الأصل اللفظي، وعلى تقدير عدمه فالمرجع هو الأصل العملي هذا. والصحيح في المقام ان يقال: إن نصوص مالكية الإمام (ع) لا تصلح ان تقع طرفا للمعارضة مع نصوص مالكية المسلمين. بيان ذلك: ان نصوص مالكية الإمام (ع) تصنف إلى مجموعات ثلاث: الأولى: جاءت بهذا النص: (كل ارض لا رب لها فهي للامام) (ع). الثانية: جاءت بنص آخر (كل ارض خربة للامام) (ع). الثالثة: جاءت بنص ثالث: (وما كان من الأرض بخربة لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب): وبما ان المجموعة الثالثة: ظاهرة لدى العرف في أن ملكية الإمام (ع) للأرض الخربة لم تثبت لطبيعي الأرض على نحو الاطلاق وانما ثبتت لحصة خاصة منها - وهي الأرض التي لم توجف عليها بخيل ولا ركاب - فبطبيعة الحال توجب تقييد اطلاق المجموعة الثانية فتصبح النتيجة: ان الأرض الخربة انما تكون للإمام (ع) إذا لم تكن مأخوذة من الكفار بهراقة الدماء والا فهي فيئ للمسلمين. واما المجموعة الأولى: فهي لا يمكن ان تعارض خصوص مالكية المسلمين للأرض الميتة إذا فتحت عنوة، لان تلك النصوص بحد نفسها حاكمة عليها باعتبار انها تخرج الأرض عن كونها بما لا رب
200 لها وتجعل المسلمين ربا لها فلا يمكن ان تقع تلك المجموعة طرفا للمعارضة لهذه النصوص، وعليه فلا معارض لها أصلا. فالنتيجة على ضوء هذا الأساس قد أصبحت على الشكل التالي: ان الأرض الموات: إذا انتزعت من سيطرة الكفار خارجا بعنوة فهي داخلة في نطاق ملكية المسلمين، لمكان اطلاق نصوصها من ناحية، وعدم ما يصلح ان يكون معارضا لها من ناحية أخرى واما إذا انتزعت من سيطرتهم خارجا بغير عنوة وهراقة دم فهي داخلة في نطاق ملكية الإمام (ع). واما العام الفوقي الدال على أن الأرض كلها للإمام (ع) فهو وإن كان يشمل الأرض العامرة والميتة والمفتوحة عنوة وغيرها الا انه انما يصلح ان يكون مرجعا في المسألة إذا لم يكن فيها نص خاص أو كان ولكنه ابتلى بالمعارض، والا فلا اثر للعام المزبور، وبما ان النص في المقام موجود - وهو ما دل على مالكية المسلمين للأرض الميتة المفتوحة عنوة - ولا معارض له كما عرفت، فعندئذ لا يمكن التمسك بهذا العام والرجوع إليه، بل لا بد من تخصيصه به. وما تقدم - من أن نصوص مالكية المسلمين منصرفة عما إذا كان المأخوذ من الكافر ملكا أو متعلقا لحق غيره، وبما ان الأرض الميتة ملك للإمام (ع) فيما إذا كان تاريخ الفتح متأخرا عن تاريخ نزول آية الأنفال فلا تشملها - فهو غير تام بالإضافة إلى الأرض الميتة، وذلك لان الدليل على ملكيتها للإمام (ع) انما هو النصوص التي أشرنا إليها انفا وقد عرفت انها قاصرة عن معارضة النصوص المذكورة على أساس انها تثبت ملكيتها للإمام (ع) بعناوين عامة التي لا تصلح ان تقع طرفا لمعارضة نصوص مالكية المسلمين بتلك العناوين العامة.
201 فالانصراف المزبور انما يتم في الاملاك الخاصة التي تثبت ملكيتها للاشخاص بعناوينها الخاصة على نحو الاطلاق، كما إذا افترض ان أرضا لمسلم كانت أمانة لدى الكافر أو غصبا فان نصوص مالكية المسلمين للأرض المفتوحة عنوة منصرفة عنها فلا تشملها. نعم لو دلت - نصوص مالكية الإمام (ع) - على ملكية الأرض الموات بعنوانها الخاص لكانت صالحة لان تعارض نصوص مالكية المسلمين، الا ان الامر ليس كذلك كما عرفت. واما الكلام في الفرض الثالث: - وهو ما إذا كان تاريخ الفتح مجهولا بالإضافة إلى زمان نزول آية الأنفال - فهو لا يخلو من أن يكون التوقيت التاريخي لكل من تشريع مالكية الإمام (ع) للأنفال وتشريع مالكية المسلمين للأرض المفتوحة عنوة وتحقق الفتح خارجا مجهولا، أو يكون تاريخ أحدهما مجهولا وتاريخ الاخر معلوما وبالعكس، فالصور ثلاث: اما الصورة الأولى - وهي ما إذا كان التوقيت التاريخي لكل منهما مجهولا - فهل يمكن في هذه الصورة جريان الاستصحاب فيهما معا بحد نفسه أو لا يمكن؟ فيه قولان: قد اختار المحقق صاحب الكفاية (قده): القول الثاني بدعوى ان الاستصحاب لا يجري فيهما معا بحد نفسه، لقصور أدلة الاستصحاب عن شموله على أساس ان المعتبر في جريان الاستصحاب احراز اتصال زمان الشك فيه بزمان اليقين، وبما انه غير محرز في المقام فلا يمكن جريانه فيه. ولكن قد حقق في الأصول في بحث الاستصحاب انه لا يمكن الاخذ بهذا القول، فإنه لا قصور في أدلة الاستصحاب عن شموله
202 في المقام وغيره، وما ذكره (قده) من الشرط لصحة التمسك بها لا أساس له أصلا وتمام الكلام في محله. فالصحيح هو القول الأول: فإنه لا مانع من جريان استصحاب عدم تشريع مالكية الإمام (ع) للأنفال إلى زمان تحقق الفتح خارجا، وقضية هذا الاستصحاب ثبوت مالكية المسلمين للأرض المزبورة، لأنها مترتبة على أمرين: أحدهما: تحقق الفتح خارجا في زمان. والآخر: عدم مالكية الإمام (ع) في ذلك الزمان، فإذا تحقق الأمران معا تحقق مالكية المسلمين على أساس تحقق الأثر بتحقق موضوعه، والفرض تحققهما فيما نحن فيه، غاية الأمر ان الأول متحقق بالوجدان، والثاني متحقق بالتعبد، وبضم الوجدان إلى التعبد يتحقق الموضوع. وكذا لا مانع من جريان استصحاب عدم تحقق الفتح خارجا إلى زمان تحقق تشريع مالكية الإمام (ع) للأنفال، وبذلك يتحقق موضوع مالكية الإمام (ع) على أساس ان موضوعها مركب من أمرين: أحدهما: تشريع مالكية الإمام (ع) للأنفال. والأخر عدم تحقق الفتح خارجا من قبل المسلمين، والفرض ان الأول محرز بالوجدان، والثاني بالتعبد، وبضم الوجدان إلى التعبد يلتئم الموضوع المركب ويترتب عليه اثره. وبما انه لا يمكن أن تكون الأرض الواحدة داخلة في نطاق ملكية الإمام (ع) والمسلمين معا، لاستحالة اجتماع ملكيتين على مملوك واحد في زمن فارد فلا محالة تقع المعارضة بين الاستصحابين
203 المزبورين فيسقطان معا، فعندئذ كما أنه لا دليل على كون تلك الأرض داخلة في ملكية الإمام (ع) كذلك لا دليل على كونها داخلة في ملكية المسلمين، فاذن لا مانع من الرجوع إلى الأصل الموضوعي - وهو استصحاب عدم وجود رب لها - فإنه ينقح موضوع النص القائل: (كل ارض لا رب لها فهي للامام) (ع) حيث إنها بذلك تدخل في الأرض التي لا رب لها. واما الصورة الثانية: وهي ما إذا كان التوقيت التاريخي لتشريع مالكية الإمام (ع) للأنفال معلوما. واما التوقيت التاريخي للفتح كان مجهولا ففي جريان الاستصحاب فيها، وعدمه، أو التفصيل بين المجهول تاريخه والمعلوم فيجري في الأول دون الثاني؟ أقوال: قد اختار المحقق صاحب الكفاية (قده) عدم جريانه مطلقا، لا في المعلوم تاريخه، ولا في المجهول اما في الأول: فلعدم الشك فيه. واما في الثاني: فلعدم احراز اتصال زمان الشك فيه بزمان اليقين. وذهب جماعة: إلى القول بالتفصيل بينهما فقالوا بجريانه في المجهول تاريخه دون المعلوم: وفي مقابل ذلك: قد اختار جماعة من المحققين: منهم سيدنا الأستاذ دام ظله جريانه فيهما معا بلا فرق بين المجهول تاريخه والمعلوم الا انهما يسقطان من ناحية المعارضة كما هو الحال في مجهولي التاريخ. والصحيح: هو هذا القول، دون القولين السابقين، فلنا دعويان: الأولى: عدم صحة القولين السابقين. الثانية: صحة هذا القول.
204 اما الدعوى الأولى: فلان ما ذكروه - من عدم جريان الاستصحاب في المعلوم تاريخه - فيرد عليه انه مبني على أساس جريانه فيه بحسب عمود الزمان وامتداده، وحيث لا شك فيه من هذه الناحية فبطبيعة الحال لا يجري الاستصحاب فيه. ولكن من الواضح ان الكلام في جريان الاستصحاب فيه ليس من تلك الناحية، وانما هو من ناحية اضافته إلى حادث آخر، وبما ان زمان حدوث الحادث الاخر مجهول لنا واقعا على الفرض فلا محالة يكون حدوث هذا الحادث فيه مجهولا أيضا، فإنه زمان شكه. وعليه فلا مانع من استصحاب عدم حدوثه إلى زمان حدوث الآخر، ويترتب عليه اثره، لفرض ان الأثر انما هو مترتب على حدوثه الخاص - وهو حدوثه في زمان الاخر نفيا أو اثباتا - لا على مطلق حدوثه. فالنتيجة انه لا فرق بين المعلوم تاريخه والمجهول من هذه الجهة أصلا. واما ما ذكره صاحب الكفاية (قده): بالإضافة إلى عدم جريانه في المجهول تاريخه فقد أشرنا إلى ما فيه آنفا ومن ذلك يظهر حال القول بالتفصيل بين المعلوم تاريخه والمجهول بعدم جريانه في الأول وجريانه في الثاني. واما الدعوى الثانية: فلان تاريخ تشريع مالكية الإمام (ع) للأنفال وإن كان معلوما بحسب امتداد الزمان الا انه مجهول بالإضافة إلى زمان حدوث الحادث الاخر - وهو الفتح خارجا - وعليه فلا مانع من استصحاب عدم حدوثه إلى زمان حدوث الاخر على أساس ان زمان شكه هو زمان حدوثه وهو مجهول على الفرض. الا انه لا يجري من ناحية معارضته باستصحاب عدم تحقق الفتح خارجا إلى زمان تشريع مالكية الإمام (ع) للأنفال.
205 فالنتيجة: انه لا فرق بين هذه الصورة والصورة المتقدمة أصلا ومن ذلك يظهر حكم الصورة الثالثة. ثم لا يخفى: ان ما ذكرناه - من جريان الأصول في تلك الصور الثلاث في نفسها، أو عدم جريانها فيها رأسا. أو التفصيل - انما هو يقوم على أساس ان يكون اثر شرعي لتحقق كل من الحادثين في زمان الآخر في نفسه، واما فيما إذا لم يكن اثر شرعي لتحقق أحدهما في زمان الآخر فلا تأتي الصور المذكورة لعدم موضوع لها في هذا الفرض. وبما ان فيما نحن فيه لا اثر لأحدهما في زمان الاخر فلا مجال للبحث المزبور. وذلك لما قدمناه أنفا: من أن نصوص مالكية المسلمين تحكم بان الأرض الموات - إذا انتزعت من سيطرة الكفار عنوة وبهراقة دم - ملك عام لهم، ولا يمكن ان تعارضها نصوص مالكية الإمام (ع)، لما عرفنا من أنها قاصرة عن شمول تلك الأرض الموات، أو محكومة بها. وعليه: فلا اثر لتشريع مالكية الإمام (ع) للأنفال في زمان تحقق الفتح خارجا كي يمكن التمسك باستصحاب عدم تحققه في زمانه إذا شك فيه. فالنتيجة في نهاية المطاف: ان البحث عن جريان الاستصحاب في الصور المزبورة وعدم جريانه هنا لا يتعدى عن مرحلة التقدير والفرض بدون واقع موضوعي له.
206 نتيجة هذا البحث عدة نقاط: الأولى: ان الأرض الموات إذا انتزعت من سيطرة الكفار فهي تصبح ملكا عاما للأمة إذا كان الانتزاع قبل نزول آية الأنفال بناء على ما قويناه من أن صدق الغنيمة لا يتوقف على أن يكون المال المأخوذ من الكافر عنوة ملكا له أو متعلقا لحقه، بل تصدق على مطلق المأخوذ من يده وسيطرته خارجا وان لم تكن له علاقة به، لا على مستوى الملك، ولا على مستوى الحق. الثانية: انها إذا انتزعت من سيطرتهم بعد نزول الآية فعندئذ ربما قيل: إنها ملك الإمام (ع) لا للمسلمين وقد ذكر في وجه ذلك ان نصوص مالكية المسلمين لا يمكن ان تتعارض مع نصوص مالكية الإمام (ع) وعلى تقدير المعارضة فالترجيح انما هو لنصوص مالكية الإمام (ع). ولكن قد عرفت ان الامر بالعكس وان نصوص مالكية الإمام (ع) لا يمكن ان تتعارض مع نصوص مالكية المسلمين، ومن هنا قلنا إن الأرض المزبورة في هذه الصورة ملك عام للمسلمين، لا للإمام (ع). الثالثة قيل: إن نقطة المعارضة بين هاتين المجموعتين من النصوص انما هي في كلمة اللام باعتبار انها بطبيعتها تدل على الاختصاص الجامع بين الملك والحق وباطلاقها تدل على الاختصاص الخاص - وهو الاختصاص الملكي - وبما ان التنافي بينهما انما هو في اطلاق اللام في كل من المجموعتين فيسقط الاطلاقان ويبقى أصل الدلالة على الاختصاص. ولكن قد تقدم منا نقد ذلك بشكل موسع.
207 الرابعة: بناء على ضوء ما ذكرناه من أن نصوص مالكية الإمام (ع) لا يمكن ان تتعارض مع نصوص مالكية المسلمين في مورد الالتقاء والاجتماع لا اثر للجهل بتاريخ كل من الحادثين في المقام أو تاريخ أحدهما دون الآخر أصلا. المرحلة الثانية: وهي ما إذا كانت الأرض المأخوذة من الكفار عنوة عامرة. فالكلام فيها: تارة: يفرض فيما إذا كان عمرانها متقدما زمنيا على نزول آية الأنفال. وأخرى: فيما إذا كان متأخرا عنه. وثالثة: فيما إذا كان تاريخه الزمني مجهولا. أما الكلام في الفرض الأول: فلا شبهة في أن الأرض المذكورة ملك عام للمسلمين، ولا خلاف في ذلك بين الأصحاب قديما وحديثا. وتدل على ذلك: عدة من الروايات: منها: الروايتان المتقدمتان، فان قوله (ع) فيهما (وما اخذ بالسيف فذلك إلى الامام) يدل على ذلك بالاطلاق. ومنها: صحيحة الحلبي قال: سئل أبو عبد الله (ع) عن السواد ما منزلته: (فقال: هو لجميع المسلمين لمن هو اليوم، ولمن يدخل في الاسلام بعد اليوم، ولمن لم يخلق بعد الحديث) (1).
(1) الوسائل ج 17 الباب 18 من أبواب احياء الموات الحديث 1 208 فإنها نص في أن الأرض السواد ملك عام للمسلمين على نحو القضية الحقيقية، والمراد من السواد هو الأرض العامرة حين الفتح ثم إن مقتضى اطلاق هذه الصحيحة عدم الفرق بين كون عمران الأرض طبيعيا كالغابات وأمثالها، أو كان بشريا اي - بقيام انسان باعمارها واحيائها - ولا وجه لتخصيص الصحيحة بخصوص الصورة الثانية. فما عن جماعة - من أن الأرض العامرة طبيعيا حال الفتح داخلة في نطاق ملكية الإمام (ع) باعتبار انها تدخل في النصوص القائلة: (كل ارض لا رب لها فهي للامام) (ع) ومن الطبيعي ان الغابات أو ما شاكلها مما لا رب لها. وبكلمة أخرى: ان الأرض التي لا رب لها لا تخلو من أن تكون مواتا طبيعيا أو تكون عامرة كذلك اي - من دون تدخل اي انسان في عمرانها واحيائها نهائيا - كالغابات الأصلية التي استمدت حياتها من الطبيعة، لا من انسان، ولا ثالث لهما - خاطئ جدا، وذلك لان الغابات على نوعين: أحدهما: انها دخلت دار الاسلام بغير حرب مسلح. والآخر: انها دخلت دار الاسلام بالحرب المسلح. فالأولى: ملك عام للإمام (ع). والثانية: ملك عام للمسلمين بمقتضى اطلاق النصوص المتقدمة ولا يمكن ان تعارضها نصوص مالكية الإمام (ع) التي جاءت بهذا النص (كل ارض لا رب لها فهي للامام) (ع) فإنها بحد نفسها حاكمة عليها وتجعل المسلمين ربا لها. واما الكلام في الفرض الثاني - وهو ما إذا كان عمران الأرض متأخرا زمنيا عن التوقيت التاريخي لنزول آية الأنفال - فقد ذكر
209 ان الأرض المفتوحة عنوة للإمام (ع) ولا يملكها المسلمون باخذها وفتحها من الكفار. وذكر صاحب الجواهر (قده) في بحث الخمس ما نصه: نعم لا يعتبر فيما له (ع) من الموات بقائه على صفة الموات للأصل، وظاهر صحيح الكابلي السابق فلو اتفق حينئذ احيائه كان له (ع) أيضا من غير فرق بين المسلمين والكفار الا مع اذنه، واطلاق الأصحاب والاخبار ملكية عامر الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين يراد به ما أحياه الكفار من الموات قبل ان جعل الله الأنفال لنبيه (ص) والا فهو له (ع) أيضا وإن كان معمورا وقت الفتح. ولكن كلامه (قده) في كتاب احياء الموات مخالف لكلامه هذا، حيث قال: هناك ما نصه: (كل ذلك مضافا إلى ما يمكن القطع به من ملك المسلمين ما يفتحونه عنوة من العامر في أيدي الكفار وإن كان قد ملكوه بالاحياء، ولو أن احيائهم فاسد لعدم الاذن لوجب ان يكون على ملك الإمام (ع) ولا أظن أحدا يلتزم به. مضافا إلى قوله بتملك الكافر حال الغيبة، مع أنه لا تفصيل في النصوص). فان كلامه - هذا: صريح في تملك الكافر لرقبة الأرض الموات بالقيام بعملية الاحياء والعمارة بعد التوقيت الزمني لنزول آية الأنفال وكيف كان: فهذا القول أي - القول بعدم تملك المسلمين الأرض العامرة التي يرجع تاريخ عمرانها إلى ما بعد تاريخ نزول الآية - يرتكز على أساس نقطتين: الأولى: ان الكافر لا يملك الأرض الموات بعملية الاحياء بعد تشريع ملكية الإمام (ع) للأنفال.
210 الثانية: ان ملكية المسلمين للأرض المأخوذة من يد الكفار عنوة وقهرا انما هي فيما إذا لم تكن داخلة في ملكية الإمام (ع) اما النقطة الأولى: فقد يناقش فيها بان مقتضى مجموعة من النصوص انه لا فرق فيمن يقوم بعملية الاحياء بين كونه مسلما أو كافرا، فكما ان احياء الأول يورث الحق، فكذلك احياء الثاني. منها صحيحة محمد بن مسلم قال: سألته عن الشراء من ارض اليهود أو النصارى قال: (ليس به بأس إلى أن قال: وأيما قوم أحيوا شيئا من الأرض وعملوه فهم أحق بها وهي لهم) فإنها تدل بوضوح على أن عملية الاحياء توجب تملك الكافر. ومنها: صحيحة سليمان بن خالد قال سألت أبا عبد الله (ع) عن الرجل يأتي الأرض الخربة فيستخرجها، ويجري أنهارها، ويعمرها، ويزرعها ماذا عليه قال: عليه الصدقة). ومنها: صحيحة محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (ع) يقول: (أيما قوم أحيوا شيئا من الأرض وعمروها فهم أحق بها وهي أحق لهم). ومنها: صحيحة الفضلاء عن أبي جعفر (ع) قال رسول الله (ص): (من أحيى أرضا مواتا فهي له) (1). فهذه الروايات تدل بوضوح على أن عملية الاحياء سبب للملك مطلقا بلا فرق بين كون المحيي مسلما أو كافرا، كما أنه لا فرق بين كون القيام بعملية الاحياء قبل تشريع ملكية الأنفال للإمام (ع) أو بعده. هذا. وقد تقدم منا: في ضمن البحوث السالفة امران:
(1) الوسائل ج 17 الباب 1 من أبواب احياء الموات الحديث 1، 2، 4، 5 211 أحدهما: انه لا بد من رفع اليد عن ظهور هذه المجموعة من النصوص في كون عملية الاحياء موجبة لصلة المحيي بالأرض على مستوى الملك، وحملها على انها توجب صلته بها على مستوى الحق، لقيام قرينة على ذلك. والآخر: قد تقدم منا بشكل موسع ان الأرض الموات بما انها ملك الإمام (ع) فبطبيعة الحال يتوقف جواز التصرف فيها باحياء ونحوه على اذنه (ع) هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: قد عرفت انه لم يدلنا دليل على أن الإمام (ع) قد اذن بالتصرف فيها باحياء ونحوه لكل فرد وان لم يكن مسلما، بل يظهر من صحيحة الكابلي المتقدمة إناطة جواز التصرف فيها للمسلم بتأدية الخراج والأجرة إلى الإمام (ع) لا مطلقا، كما عرفت. ومن ناحية ثالثة: قد صرح في صحيحة أبي سيار مسمع بن عبد الملك المتقدمة على حلية تصرف الشيعة فيها وحرمة تصرف غيرهم بقوله (كل ما كان في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون ومحلل لهم ذلك إلى أن يقوم قائمنا فيجيبهم طبق ما كان في أيديهم ويترك الأرض في أيديهم. واما ما كان في أيدي غيرهم، فان كسبهم من الأرض حرام عليهم حتى يقوم قائمنا فيأخذ الأرض من أيديهم ويخرجهم منها صفرة). ومن ناحية رابعة. قد مر بنا ان صحيحة أبي بصير - التي تقدمت في ضمن البحث عن النقطة الخامسة من احكام الأرض الموات - وإن كانت ظاهرة في تملك الكافر الأرض بالاحياء، الا انه لا يمكن الاخذ بهذا الظهور مطلقا على تفصيل قد سبق بصورة موسعة. فالنتيجة: على ضوء هذه النواحي ان هذه النقطة تامة - وهي
212 ان الكافر لا يحصل على علاقة بالأرض على أساس قيامه بعملية الاحياء - واما النقطة الثانية: فقد تقدم منا ان نصوص مالكية الإمام (ع) للأرض الموات تصنف إلى فرقتين: في نهاية المطاف. إحداهما: تقول: ان كل ارض لا رب لها فهي للإمام (ع) والاخرى: تقول: ان الأرض الخربة التي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب فهي للإمام (ع). اما الفرقة الأولى فقد سبق انها لا يمكن ان تعارض نصوص مالكية المسلمين في مورد الالتقاء والاجتماع، على أساس ان تلك النصوص تجعل المسلمين ربا لها وتحكم عليها. واما الفرقة الثانية: فقد سبق انها أيضا لا يمكن ان تعارض نصوص مالكية المسلمين لتقييد موضوعها بالأرض التي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، فلا تشمل الأرض التي تؤخذ منهم بالخيل والركاب. وقد تحصل من ذلك: ان هذه النقطة خاطئة. ويترتب على ذلك: ان القول بعدم ملكية المسلمين للأرض المفتوحة عنوة التي يرجع تاريخ عمرانها إلى ما بعد تاريخ تشريع ملكية الأنفال للإمام (ع) غير تام. فالصحيح ان المسلمين يملكون الأرض المذكورة لمكان اطلاق نصوص مالكيتهم، وعدم ما يصلح ان يكون معارضا لها. فالنتيجة في نهاية الشوط: ان الأرض المفتوحة عنوة وبالجهاد المسلح ملك عام للمسلمين من دون فرق بين ان يرجع تاريخ عمرانها إلى ما قبل تاريخ نزول آية الأنفال، أو إلى ما بعد نزولها. بقى هنا شئ: وهو ان الكافر يملك الأرض الموات بعملية الاحياء والعمران إذا كان تاريخه الزمني متقدما على التاريخ الزمني
213 لتشريع ملكية الإمام (ع) للأنفال. واما إذا كان متأخرا عنه فهي لا توجب علاقته بها على مستوى الحق فضلا عن الملك على ضوء ما استظهرناه من مجموعة من نصوص الباب. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: إذا افترضنا ان احياء الكافر الأرض يورثه حقا فيها، وإن كان لا يورثه ملكا - بان ظلت رقبة الأرض ملكا للإمام (ع) - فهل عندئذ يوجب فتح المسلمين الأرض بعنوة انتقال هذا الحق من الكافر إلى الأمة فتكون الأرض حقا عاما للمسلمين رغم ان الرقبة ظلت في ملكية الإمام (ع)؟ فيه وجهان: قيل بالوجه الأول: بدعوى ان الفتح خارجا يوجب انتقال ما للكافر من العلاقة إلى الأمة، سواء أكانت على مستوى الملك أم كانت على مستوى الحق. ولكن لا يمكن المساعدة عليه. والنكتة فيه: ان مدلول نصوص الأرض الخراجية لدى العرف هو ملكيتها للمسلمين يعني - انها تدل عرفا على أن الأرض بالفتح تصبح ملكا عاما للأمة - واما إذا افترضنا ان رقبة الأرض التي هي باقية في ملكية الإمام (ع) كانت متعلقة لحق الكافر فلا تدل النصوص على انتقال هذا الحق إلى المسلمين فحسب بسبب فتحها خارجا، فان مدلولها كما عرفت ملكية الأرض للأمة، فإذا فرض عدم امكان الاخذ بمدلولها العرفي فليست لها دلالة أخرى - وهي الدلالة على انتقال الحق المزبور إليهم - والفرض عدم دليل آخر على ذلك. نعم لو دلت هذه النصوص على أن بالفتح يثبت للمسلمين ما كان للكافر من العلاقة لتم ما عرفت، الا ان الامر ليس كذلك فان مدلولها ثبوت ملكية الأرض للأمة بالفتح عنوة، سواء أكانت للكافر
214 علاقة بها على مستوى الملك أو الحق أم لم تكن، بل كانت تحت استيلائه خارجا وسيطرته فحسب. وعليه فلا يتم ذلك أصلا. فالنتيجة: ان هذه الفرضية ساقطة ولا مدرك لها. فالصحيح ما ذكرناه من أن النصوص المزبورة تدل على ملكية الأرض العامرة - للمسلمين - بالفتح عنوة، ومقتضى اطلاقها عدم الفرق بين ان يرجع تاريخ عمرانها إلى ما قبل تاريخ نزول الآية أو إلى ما بعده، كما انها تدل على أن السبب الوحيد لكون الأرض ملكا عاما للأمة هو فتحها من قبلهم بالجهاد المسلح وهراقة الدماء. واما الكلام في الفرض الثالث: - وهو ما إذا كان التاريخ الزمني للعمران مجهولا بالإضافة إلى نزول الآية - فقد ظهر حاله مما تقدم منا في الفرضين الأولين، إذ بعدما تبين لكم ان الأرض العامرة المفتوحة عنوة داخلة في نطاق ملكية المسلمين، سواء أكان تاريخ عمرانها متقدما زمنيا على تاريخ نزول الآية أم كان متأخرا عنه لا يبقى اي اثر للجهل بتاريخهما معا أو تاريخ أحدهما دون الآخر أصلا. نعم إذا افترضنا: ان عمران الأرض المفتوحة عنوة إذا كان متأخرا عن نزول الآية فهي ليست داخلة في ملكية المسلمين، بل ظلت رقبتها في نطاق ملكية الإمام (ع) فعندئذ كان للجهل المزبور اثر. بيان ذلك: انه على ضوء هذه الفرضية يجري الاستصحاب في كل من الحادثين في نفسه من دون فرق بين الجهل بتاريخهما معا، أو بتاريخ أحدهما دون الآخر، بناء على ما هو الصحيح من عدم الفرق بينهما من هذه الناحية، فيجري استصحاب بقاء الأرض
215 المفتوحة عنوة على صفة الموات إلى زمان نزول الآية، وبه يثبت موضوع ملكية الإمام (ع) لها، فان نزول الآية محرز بالوجدان، وموات الأرض إلى زمان نزولها محرز بالتعبد، وبذلك ينقح الموضوع، ويترتب عليه اثره. ونتيجة هذا الاستصحاب ان الأرض المزبورة ملك للإمام (ع). ولكن هذا الاستصحاب معارض باستصحاب عدم نزول الآية إلى زمان احياء الكافر الأرض وقيامه بعمرانها، فان احيائه لها محرز بالوجدان، وانما الشك في نزول الآية في زمان احيائها، فيجري استصحاب عدم نزولها إلى هذا الزمان، وبضمه إلى الاحياء يتحقق موضوع ملكية الكافر لها، فان موضوعها مركب من أمرين: احياء الأرض، وعدم تشريع ملكيتها للإمام (ع) في زمان احيائها، والأول محرز بالوجدان، والثاني بالتعبد، فيحكم بكونها ملكا للكافر بضم هذا الاستصحاب الموضوعي إلى ما هو متحقق بالوجدان وبما انه لا يمكن الجمع بين هذين الاستصحابين على أساس ان مقتضى الأول كون الأرض ملكا للإمام (ع) ومقتضى الثاني كونها ملكا لمن قام باحيائها - وهو الكافر في مفروض الكلام - فبطبيعة الحال يسقطان معا. فالنتيجة في نهاية المطاف ان الأرض العامرة المفتوحة عنوة المجهول تاريخ عمرانها بالإضافة إلى زمان نزول الآية لم يثبت كونها ملكا للمسلمين ولا للإمام (ع) ولكن حينئذ لا مانع من الرجوع إلى العام الفوقي وهو النص القائل بان كل ارض لا رب لها فهي للإمام (ع) بضم الأصل الموضوعي إليه - وهو استصحاب عدم وجود رب لها - فإنه ينقح موضوع هذا النص ويثبت بأنها تدخل في الأرض
216 التي لا رب لها. نتيجة هذا البحث عدة نقاط الأولى: ان الأرض العامرة إذا فتحت بهجوم من قبل المسلمين مسلحا فهي ملك عام للأمة من دون فرق بين كون تاريخ عمرانها متقدما زمنيا على تاريخ نزول الآية، أو متأخرا عنه، فما عن جماعة من أنها ملك للإمام (ع) فيما إذا كان تاريخ عمرانها متأخرا عن نزول الآية لا يقوم على أساس صحيح. الثانية انه لا فرق في ذلك بين كون عمرانها بشريا اي - بقيام انسان باحيائها وعمرانها أو طبيعيا كالغابات الأصلية التي استمدت حياتها من الطبيعة. وما قيل: - من أن الغابات ملك للإمام (ع) لدخولها في الأرض التي لا رب لها - لا يرتكز على أساس صحيح، لحكومة نصوص مالكية المسلمين عليها. الثالثة: ان ما قيل - من أن الفتح خارجا من قبل المسلمين يوجب انتقال ما للكافر من العلاقة إلى الأمة، سواء أكانت على مستوى الملك أم كانت على مستوى الحق - فقد تقدم انه لا يمكن الاخذ به لما عرفت من أن مفاد نصوص الأراضي الخراجية لدى العرف هو ملكية الأرض للمسلمين بسبب الفتح وان لم تكن للكافر علاقة بها وليس مفادها انتقال نفس ما للكافر من العلاقة إلى الأمة. الرابعة: انه لا اثر للجهل بتاريخ عمران الأرض بالإضافة إلى تاريخ نزول الآية أصلا كما عرفنا بشكل موسع.
217 بحث عن عدة خطوط ترتبط بالأرض المفتوحة عنوة الخط الأول: هل تشمل فريضة الخمس الأرض المفتوحة عنوة أو انها ملك عام للمسلمين بدون استثناء الخمس منها؟ فيه قولان: المعروف والمشهور بين الأصحاب هو القول الأول، بل يظهر من صاحب المدارك (قده) اجماع المسلمين عليه. وتدل عليه - مضافا إلى قوله تعالى (واعلموا انما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) الآية - عدة من النصوص: منها: صحيحة عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله (ع) (يقول ليس الخمس الا في الغنائم خاصة) (1). ومنها: صحيحة عمار بن مروان قال: سمعت أبا عبد الله (ع) (يقول فيما يخرج من المعادن والبحر والغنيمة والحلال المختلط بالحرام إذا لم يعرف صاحبه والكنوز الخمس (2). ومنها: رواية ابن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبد الله (ع) قال: (الخمس على خمسة أشياء على الكنوز، والمعادن، والغوص والغنيمة، ونسى ابن أبي عمير الخامس) (3). فإنها ضعيفة سندا بجعفر الهمداني حيث لم يثبت توثيقه، وعليه
(1) الوسائل ج 6 الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس الحديث 1. (2) الوسائل ج 6 الباب 3 من أبواب ما يجب فيه الخمس الحديث 6. (3) الوسائل ج 6 الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس الحديث 7. 218 فلا يمكن الاستدلال بها على حكم المسألة الا تأييدا. ومنها: رواية أبي بصير عن أبي جعفر (ع) قال: (كل شئ قوتل على شهادة ان لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (ص) فان لنا خمسه، ولا يحل لاحد ان يشتري من الخمس شيئا حتى يصل إلينا حقنا) (1). وهذه الرواية أيضا ضعيفة سندا بعلي بن أبي حمزة فلا يمكن الاستدلال بها. نعم لا بأس بجعلها مؤيدة لحكم المسألة. فالنتيجة: ان الصحيح من تلك الروايات هو الرواية الأولى دون غيرها، وهي تكفي في المسألة على أساس انها تشمل الأرض المفتوحة عنوة باطلاقها. واما القول الثاني: - وهو عدم وجوب الخمس فيها - فقد نسب إلى جماعة: منهم صاحب الحدائق (قده) حيث إنه قد أنكر على الأصحاب التعميم، وقصر الخمس على الغنائم المنقولة، دون غيرها كالأراضي والمساكين، واستظهر ذلك من أمرين: أحدهما: الروايات المشتملة على تقسيم الغنائم أخماسا كما في بعضها، وأسداسا كما في بعضها الآخر، فان اشتمالها على التقسيم بنفسه يكون قرينة على اختصاصها بالمنقول، ولا تشمل غيره كالأرض، نظرا إلى أنها لا تنقسم بين الغانمين على أساس انها ملك عام للمسلمين. وفيه ان الروايات الدالة على تعلق الخمس بالغنيمة لا تنحصر بالروايات المشتملة على التقسيم، فان ما يشتمل عليه هو بعضها دون الجميع، كما مرت الإشارة إلى جملة مما لا تشتمل عليه.
(1) الوسائل ج 6 الباب 3 من أبواب ما يجب فيه الخمس الحديث 5. 219 والاخر: ان الروايات الواردة لبيان احكام الأراضي الخراجية لم يتعرض شئ منها لوجوب الخمس فيها رغم تعرضها لوجوب الزكاة وفيه: ما سيأتي من أن مجرد عدم تعرضها لوجوب الخمس لا يكون دليلا على عدم وجوبه. ومن هنا الصحيح: هو القول الأول، وذلك لوجهين: الأول: اطلاق الآية الكريمة المتقدمة، حيث لا شبهة في شمولها للأراضي المفتوحة عنوة. الثاني: اطلاق مجموعة من النصوص السالفة. وقد تواجه الاستدلال بكل منهما عدة اشكالات وشكوك فعلينا ان ندفع تلك الاشكالات والشكوك نهائيا. الأول: ان عنوان الغنيمة في الآية الكريمة قد فسر في صحيحة ابن مهزيار بالفائدة التي يستفيدها المرء، وعلى أساس هذا التفسير يكون الموضوع في الآية عبارة عن الفوائد المالية الشخصية، ونصوص ملكية المسلمين للأرض المفتوحة عنوة تخرجها عن كونها فائدة شخصية فلا يصدق عليها عنوان الغنيمة بالمعنى المفسر في الصحيحة فلا يبقى حينئذ للآية اطلاق تشمل الأرض المفتوحة عنوة. والجواب عنه: ان هذا التفسير لا ينافي اطلاق الآية وشمولها للأرض فيما نحن فيه، ولا يوجب حكومة نصوص مالكية المسلمين عليها، وذلك لان هذا التفسير في الصحيحة للإشارة إلى أن الغنيمة في الآية الكريمة انما هي بمعناها اللغوي والعرفي - وهو ما يغنمه المرء ويفيده - ومن الطبيعي انه لا مانع من أن يرجع ما يفيده المرء ويغنمه إلى غيره أيضا كالأرض المفتوحة عنوة فإنها غنيمة وفائدة جزما يغنمها المرء ويفيدها رغم انها لا ترجع إلى خصوص الغانمين، بل
220 إلى عموم المسلمين منهم الغانمين: على أساس انه يصدق على كل منهم عنوان المغنم والمفيد، وعليه فقوله (ع) في الصحيحة (فالغنائم والفوائد يرحمك الله فهي الغنيمة يغنمها المرء والفائدة يفيدها) يصدق على كل من الغانمين للأرض على ضوء ما سنشير إليه في ضمن البحوث القادمة من أن الأرض المزبورة ملك لاحاد المسلمين على سبيل الإشاعة نعم لو كانت الأرض ملكا لطبيعي الأمة لم تشملها الآية الكريمة على أساس انه لا يصدق عنوان المفيد والمستفيد على كل من استولى عليها بعنوة وهراقة دم، مع أن ظاهر الآية هو ان المستولين هم الغانمون والمستفيدون، وهذا بخلاف ما إذا كانت ملكا لاحاد الأمة فإنه على هذا يصدق عنوان المفيد والمستفيد على كل من استولى عليها بعنوة، غاية الأمر ان ما استولى عليه كذلك قد يرجع تمامه إليه كما إذا كان منقولا، وقد يرجع إليه بعضه مشاعا، كما إذا كان غير منقول كالأرض، كل ذلك لا يوجب التفاوت في صدق العنوان المزبور عليه. ولعل القول بعدم شمول الآية للأرض المفتوحة عنوة مبني على أساس القول بملكيتها للطبيعي، لا للافراد. قد يقال: إن هذا التفسير لا يوجب حصر موضوع وجوب الخمس في الآية بهذا المورد، فإنه تفسير لبعض مصاديق الغنيمة - وهو الذي يرجع إلى المستفيد خاصة - لا انه تفسير للغنيمة بما لها من المفهوم العرفي التي هي الموضوع لوجوب الخمس في الآية، ضرورة انها بهذا المعنى العرفي تصدق على الأرض المفتوحة عنوة هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: ان هذا الاشكال لو تم فإنما يتم بالإضافة إلى الآية، واما بالإضافة إلى النصوص المتقدمة فهو غير تام ضرورة
221 ان التفسير المزبور لا يمنع عن التمسك باطلاق تلك النصوص، ولا يصلح ان يكون قرينة على أن المراد من الغنيمة فيها أيضا هو الغنيمة بالمعنى المفسر في الصحيحة. ولكن هذه المقالة مما لا يمكن الاخذ بها، وذلك لأنا لو سلمنا ان الصحيحة قد فسرت الغنيمة بالفائدة المزبورة وجعلت الغنيمة بهذا المعنى موضوعا لوجوب الخمس لا مطلقا رغم انها كانت في مقام بيان ما يتعلق به الخمس، فحينئذ لو كان موضوع وجوب الخمس مطلق الفائدة، لا خصوص الفائدة المذكورة لكان تخصيص الصحيحة موضوعه بحصة خاصة منها - وهي الفائدة الراجعة إلى المستفيد خاصة - لغوا، فان ظاهر تقييد الفائدة في الصحيحة بالفائدة المزبورة هو ان الحكم لم يثبت لطبيعي الفائدة والا لم يكن اثر للتقييد، وهو خلاف الظاهر. وعليه فتكون الصحيحة قرينة على تقييد اطلاق الآية، كما تكون قرينة على تقييد اطلاق النصوص المشار إليها انفا. نعم بناء على ما هو المشهور بين الأصحاب من عدم صحة حمل المطلق على المقيد في أمثال الموارد لكانت المقالة المزبورة تامة وفي محلها. الثاني: ان مجموعة من الروايات الواردة في تقسيم الغنائم قرينة عرفا على أن المراد من الغنيمة في الآية والنصوص هو الغنائم المنقولة، دون غير المنقولة كالأرض ونحوها. منها صحيحة ربعي بن عبد الله بن الجارود عن أبي عبد الله (ع) قال: (كان رسول الله (ص) إذا أتاه المغنم اخذ صفوه وكان ذلك له، ثم يقسم ما بقى خمسة أخماس) الحديث (1).
(1) الوسائل ج 6 الباب 1 من أبواب قسمة الخمس الحديث 3. 222 ومنها: مرسلة حماد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح (ع) قال: (الخمس من خمسة أشياء من الغنائم، والغوص، ومن الكنوز، ومن المعادن، والملاحة يؤخذ من كل هذه الصنوف الخمس، فيجعل لمن جعله الله له، ويقسم الأربعة الأخماس بين من قاتل عليه وولي ذلك) الحديث (1). ومنها: صحيحة معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد الله (ع) السرية يبعثها الامام فيصيبون غنائم كيف يقسم، قال: (ان قاتلوا عليها مع أمير أمره الامام عليهم أخرج منها الخمس لله وللرسول، وقسم بينهم أربعة أخماس) الحديث (2). والجواب عن ذلك: ان تلك الروايات لا تصلح لدى العرف أن تكون قرينة على أن المراد من الغنيمة في الآية والنصوص المتقدمة خصوص الغنائم المنقولة، دون الأعم والنكتة فيه: ان اشتمال تلك الروايات على التقسيم انما هو قرينة على اختصاصها بالغنائم المنقولة، لا غيرها مما لا تشتمل عليه. وان شئت قلت: ان تخصيص الغنائم بخصوص الغنائم المنقولة بحاجة إلى قرينة، وهي متوفرة في الروايات المزبورة على أساس اشتمالها على التقسيم، وغير متوفرة في الآية والنصوص السابقة على أساس عدم اشتمالهما عليه من ناحية، وعدم صلاحية تلك الروايات لان تكون قرينة على ذلك من ناحية أخرى، فاذن ما هو المبرر لرفع اليد عن ظهورهما في العموم؟!. ومن هنا قلنا: إنه لا وجه لاستظهار صاحب الحدائق (قده)
(1) الوسائل ج 6 الباب 1 من أبواب قسمة الخمس الحديث 8. (2) الوسائل ج 11 الباب 1 من أبواب الأنفال وما يختص بالامام الحديث 3. 223 من تلك النصوص اختصاص وجوب الخمس بالغنائم المنقولة خاصة فالنتيجة لحد الان: انه لا مانع من التمسك بعموم الآية والنصوص الماضية لوجوب الخمس في الأرض المفتوحة عنوة. الثالث: ان الروايات الواردة لبيان احكام الأراضي الخراجية لم يتعرض في شئ منها وجوب الخمس. ومن الطبيعي ان سكوت تلك الروايات رغم كونها في مقام بيان ما يتعلق بتلك الأراضي من الاحكام والآثار دليل على عدم وجوبه. والجواب عن ذلك: انه لا بد من النظر في تلك الروايات، وهي تصنف إلى مجموعتين: الأولى: ما كانت في مقام بيان ان الأراضي الخراجية ملك عام للمسلمين. الثانية: ما كانت في مقام بيان ما يتعلق بتلك الأراضي من الاحكام اما المجموعة الأولى: - وهي التي أشرنا إلى عمدة منها آنفا - فهي انما كانت في مقام بيان مالكية المسلمين للأرض المغنومة في مقابل الغنائم المنقولة - التي هي ملك خاص للمقاتلين وتقسم بينهم - ولا تنظر إلى جهة أخرى كتعلق الخمس بها أو نحوه أصلا، لا نفيا ولا اثباتا، ولذا لا تنافي ما دل على وجوب الخمس فيها، كما هو الحال في غيرها، فاذن كيف تكون قرينة على تقييد اطلاق الآية والنصوص. نعم إذا افترضنا ان لهذه المجموعة اطلاقا تنفي بسببه تعلق الخمس بها فهل يمكن تقديم اطلاقها على اطلاق الآية أو النصوص، أو يتعين العكس. أو تقع المعارضة بينهما وبعد تساقطهما يرجع إلى أصالة عدم وجوب الخمس؟ وجوه:
224 الصحيح: هو الوجه الثاني. والسبب فيه: ان موضوع هذه المجموعة وإن كان أخص من موضوع الآية والنصوص، فان موضوعها الأرض المغنومة خاصة، وموضوع الآية والنصوص عنوان الغنيمة الشامل للأرض وغيرها، الا ان مجرد كون موضوع أحد الدليلين أخص من موضوع دليل الآخر لا يوجب التقديم ما لم تكن أخصيته محفوظة في مورد الالتقاء والاجتماع، لان الأخصية انما توجب تقديم الخاص على العام في مورد الالتقاء والمعارضة إذا كان مورد الخاص منحصرا بهذا المورد اي - بمورد الالتقاء - ولم يكن له مورد آخر، وهذه النكتة: غير متوفرة فيما نحن فيه، فان موضوع هذه المجموعة وإن كان أخص من موضوع الآية والنصوص، الا ان هذه الأخصية لم تكن محفوظة في مورد الالتقاء بين اطلاقها واطلاق الآية والنصوص، لان مركز الالتقاء والمعارضة بين الاطلاقين انما هو خمس الأرض المغنومة. واما الأربعة الأخماس الأخر فهي ليست مركزا للمعارضة بينهما ابدا. والوجه فيه واضح: فان مقتضى اطلاق المجموعة ان خمسها داخل في نطاق ملكية المسلمين كالأربعة أخماسها الأخر، ومقتضى الآية والنصوص انه لله وللرسول ولذي القربى، ولا معارضة بينهما في البقية أصلا، فان المجموعة تدل على انها ملك عام للأمة، والآية والنصوص لا تنفيان ذلك، ومن الطبيعي انه لا معارضة بين ما فيه الدلالة على شئ، وما لا دلالة فيه. وعلى أساس ذلك: فالنسبة بينها وبين الآية والنصوص عموم من وجه فان لكل منهما مادة الافتراق، فمادة افتراق المجموعة الأربعة
225 الأخماس الأخر، ومادة افتراق الآية والنصوص خمس غير الأرض المغنومة من الغنائم. نعم لو كان لسان تلك المجموعة نفي الخمس عن الأرض المغنومة لكانت النسبة بينها وبين اطلاق الآية والنصوص عموما مطلقا. فان مفادهما تعلق الخمس بالغنائم مطلقا الشاملة للأرض وغيرها، ومفاد المجموعة نفي تعلقه بخصوص الأرض المغنومة، الا ان لسانها ليس بهذا الشكل، لما عرفت من أن لسانها ملكية الأرض المزبورة للمسلمين، ومقتضى اطلاقها ان خمسها أيضا ملك لهم. نعم لازم ذلك: نفي تعلق الخمس بها، لوضوح ان ما دل على ملكية الأرض المذكورة للأمة الاسلامية مطلقا بالدلالة المطابقية فبطبيعة الحال يدل بالدلالة الالتزامية على عدم تعلق الخمس بها، وبما ان الدلالة المطابقية في المقام معارضة بالعموم من وجه فلا اثر لملاحظة النسبة بالإضافة إلى الدلالة الالتزامية، فان الدلالة المطابقية ان ظلت ظلت الدلالة الالتزامية أيضا والا فلا اثر لها لتبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية حدوثا وبقاء. وعلى أساس ذلك: فاطلاق هذه المجموعة وان أمكن ان يعارض اطلاق النصوص المتقدمة بقطع النظر عن كون اطلاقها معارضا لاطلاق الآية، الا انه مع ملاحظة ذلك قد سقط اطلاق المجموعة عن الاعتبار في مادة الالتقاء والاجتماع، لأنه بذلك يدخل في النصوص التي جاءت على أن المخالف للكتاب غير حجة، والمراد من المخالفة أعم من أن تكون على نحو التباين أو العموم من وجه، كما أنه لا فرق بين أن تكون الرواية مخالفة لنص الكتاب، أو عمومه الوضعي، أو اطلاقه بمعونة مقدمات الحكمة. وعليه فبما
226 ان اطلاق تلك المجموعة معارض لاطلاق الآية فلا محالة يسقط عن الاعتبار. ونتيجة ذلك وجوب الخمس في الأرض المغنومة. نعم هنا مناقشتان: في شمول النصوص الدالة على أن المخالف للكتاب غير حجة لمثل هذه المخالفة. إحداهما: ان تمامية اطلاق المطلق تتوقف على تمامية مقدمات الحكمة: منها عدم البيان الأعم من المتصل والمنفصل، وبما ان فيما نحن فيه يكون عموم كل من الكتاب والنصوص بالاطلاق لا بالوضع فبطبيعة الحال لا يتحقق اطلاق لشئ منهما في مورد الالتقاء والاجتماع لفرض ان كلا منهما يصلح في نفسه للبيان بالإضافة إلى الاخر في هذا المورد، فعندئذ لا ينعقد اطلاق للكتاب في مورد المعارضة حتى تكون تلك المجموعة من الروايات مخالفة له فتشملها النصوص المزبورة اي - النصوص الدالة على أن المخالف للكتاب غير حجة -. والجواب: عن هذه المناقشة ما تقدم منا في ضمن البحوث السالفة من أن انعقاد اطلاق المطلق لا يتوقف على عدم البيان الأعم من المتصل والمنفصل، وانما يتوقف على عدم البيان المتصل فحسب. وعلى اثر ذلك يتحقق الاطلاق للكتاب في مورد الالتقاء والاجتماع وبذلك تدخل تلك المجموعة في الروايات المخالفة للكتاب فتكون مشمولة للنصوص المتقدمة. هذا قد يقال كما قيل: إنه على تقدير تسليم المبني فايضا يصدق على الروايات عنوان المخالفة، وذلك لان كل واحد منهما لا يصلح ان يكون بيانا بالإضافة إلى الآخر حتى يكون دخيلا في اطلاقه. وعلى أساس ذلك: فقد تمت مقدمات الحكمة في كل من المطلقين فينعقد ظهورهما حينئذ في الاطلاق معا، وإذا انعقد ذلك
227 تحققت المعارضة بين اطلاق الروايات واطلاق الكتاب، وبما ان المعارضة بينهما كانت بالعموم من وجه فيسقط اطلاق الروايات من جهة مخالفته للكتاب. ويرد عليه: ان وجود ما يصلح للبيان - ولو كان منفصلا - مانع عن ثبوت الاطلاق للمطلق في ظرفه على ضوء هذا المبنى. وبما ان فيما نحن فيه: كل من الآية وتلك المجموعة من الروايات في حد نفسه صالح لان يشمل مورد الالتقاء والاجتماع فبطبيعة الحال كان كل منهما صالحا للبيان بالإضافة إلى الاخر فيه، بداهة انه لا معنى لصلاحيته لذلك الا شموله له في نفسه فاذن لا معنى لدعوى عدم الصلاحية. وعليه: فلا محالة يكون كل منهما مانعا عن انعقاد الاطلاق في الاخر في مورد الاجتماع، فاذن لا يصدق على تلك المجموعة عنوان انها مخالفة للكتاب حتى لا تكون حجة. نعم بناء على ما ذكرناه - من أن البيان المنفصل لا يكون مانعا عن انعقاد الاطلاق للمطلق حتى في ظرفه - فلا محالة تكون المجموعة المزبورة مخالفة للكتاب، لأن اطلاق الكتاب قد انعقد في مورد الاجتماع، فهي كما لا تكون مانعة عن انعقاده، كذلك لا تكون مانعة عن حجيته. فالنتيجة - هي: انه لا مانع من التمسك باطلاق الآية والروايات لاثبات وجوب الخمس في الأرض المغنومة على أساس ما ذكرناه من النظرية. وثانيتهما: ان المراد من المخالفة للكتاب بمناسبة الحكم والموضوع هو المخالفة لمدلوله اللفظي عموما أو خصوصا، واما الاطلاق فهو
228 ليس بمدلول لفظي له، لأنه انما يثبت بواسطة مقدمات الحكمة التي يكون الحاكم بها هو العقل، وبالتالي يرجع الاطلاق إلى مدلول عقلي. والجواب عنها: ان الاطلاق وإن كان يثبت معونة مقدمات الحكمة الا ان ذلك لا يوجب كون الاطلاق مدلولا عقليا، لا لفظيا وذلك لان الاطلاق لدى العرف عبارة عن ظهور اللفظ في معنى بلا قيد، غاية الأمر ان ظهوره فيه لا يمكن ان يكون بلا سبب ومنشأ، فالسبب له قد يكون هو الوضع كما في ظهور العام في العموم أو نحوه، وقد يكون مقامات الحكمة، فمقدمات الحكمة تؤهل اللفظ للدلالة على الاطلاق والظهور فيه. لا أنه مدلول المقدمات نفسها، كما أن الوضع يؤهل اللفظ للدلالة على العموم. فالنتيجة في نهاية الشوط: ان الاطلاق مدلول اللفظ كالعموم، ونسبة الاطلاق إلى مقدمات الحكمة بنكتة انها حيثية تعليلية له كالوضع الذي هو حيثية تعليلية لدلالة اللفظ على المعنى الموضوع له. فاذن مخالفة اطلاق الكتاب مخالفة له، ومشمولة لما دل على أن المخالف للكتاب باطل وغير معتبر. واما المجموعة الثانية: - وهي الروايات الواردة لبيان ما يتعلق بالأراضي الخراجية من الاحكام والآثار -. فمنها: رواية صفوان وأبي نصر قالا: ذكرنا له الكوفة وما وضع عليها من الخراج وما سار فيها أهل بيته فقال: (من أسلم طوعا تركت ارضه في يده إلى أن قال: وما اخذ بالسيف فكذلك إلى الامام يقبله بالذي يرى، كما صنع رسول الله (ص) بخيبر قبل سوادها وبياضها يعني - أرضها ونخلها - والناس يقولون لا تصلح قبالة الأرض والنخل، وقد قبل رسول الله (ص) خيبر، قال: وعلى
229 المتقبلين سوى قبالة الأرض العشر ونصف العشر في حصصهم الحديث (1) ومنها: صحيحة أبي نصر قال: ذكرت لأبي الحسن الرضا (ع) الخراج وما سار به أهل بيته فقال: (العشر ونصف العشر على من أسلم طوعا وتركت ارضه بيده إلى أن قال: وما اخذ بالسيف فذلك إلى الإمام (ع) يقبله بالذي يرى، كما صنع رسول الله (ص) بخيبر قبل أرضها ونخلها، والناس يقولون لا تصلح قبالة الأرض والنخل إذا كان البياض أكثر من السواد، وقد قبل رسول الله (ص) خيبر، وعليهم في حصصهم العشر ونصف العشر (2). ومنها: غيرهما. وهاتان الروايتان: تدلان على أمرين: أحدهما: ان أمر الأرض المفتوحة عنوة بيد الإمام (ع) فله ان يقبلها بالذي يرى. والاخر: ان على المتقبلين في حصصهم من حاصل الأرض الزكاة من العشر أو نصف العشر، ولا نظر لهما إلى تعلق الخمس بها أو عدم تعلقه أصلا، ومن الطبيعي ان ثبوت الامرين المزبورين لا ينافي كون خمس تلك الأرض (لله وللرسول ولذي القربى) بل هو يلائم ذلك على أساس ان أمر الخمس أيضا بيد الإمام (ع) فله ان يقبله بالذي يرى، فاذن لا فرق بين خمس تلك الأرض وأربعة أخماسها الأخر من ناحية الحكمين المذكورين فيهما يعني - كما أن أمر أربعة أخماسها بيد الإمام (ع) كذلك أمر خمسها وكما أن على المتقبلين العشر أو نصف العشر بالإضافة إلى أربعة أخماسها، كذلك بالإضافة إلى خمسها -.
(1 - 2) الوسائل ج 11 الباب 73 من أبواب جهاد العدو الحديث 1، 2 230 وبكلمة أخرى: ان نظر الروايتين - في بيان ان أمر الأرض المغنومة بيد الإمام (ع) وله ان يقبلها بالذي يرى - انما هو لنكتة دفع توهم الناس بان الأرض المغنومة التي يكون بياضها أكثر من سوادها لا تصلح للقبالة فلا نظر لها إلى جهة أخرى متعلقة برقبة الأرض لا نفيا ولا اثباتا. وبعد بيان ذلك بين الإمام (ع) فيهما الحكم المتعلق بنتاج تلك الأرض - وهو وجوب الزكاة من العشر أو نصف العشر - فليس في مقام بيان ما يتعلق برقبة الأرض من الحكم. ومن الطبيعي ان سكوت الإمام (ع) فيهما عن بيان ما عدى وجوب الزكاة المتعلقة بنتاج الأرض لا يوجب ظهورهما في الاطلاق، ونفي الخمس عن رقبة الأرض، فإنه - موضوع آخر ولا يكون الإمام (ع) في مقام بيان حكم ذلك الموضوع، وانما هو في مقام بيان حكم موضوع آخر - وهو نتاج الأرض - والسكوت في مقام البيان انما يوجب ظهور الكلام في الاطلاق ونفي الحكم الآخر عن الموضوع الذي يكون المتكلم في مقام بيان حكمه واثره، لا موضوع آخر الذي لا يكون المتكلم في مقام بيان حكمه. والحاصل: ان هنا موضوعين: أحدهما: رقبة الأرض. والآخر: نتاجها والإمام (ع) انما هو في مقام بيان ما يتعلق بالموضوع الثاني، دون الموضوع الأول، ومن الطبيعي ان سكوته (ع) هنا في مقام البيان انما يدل على العدم في ذلك الموضوع، دون ما لم يكن في مقام بيان حكمه. ولو تنزلنا عن ذلك: وسلمنا ان للروايتين اطلاقا - يكون
231 مقتضاه نفي تعلق الخمس بالأرض المفتوحة عنوة - فهل يمكن تقديم اطلاقهما على اطلاق الآية والنصوص المشار إليها سابقا بملاك انهما أخص منهما، أو بالعكس بملاك ان منشأ اطلاقهما السكوت في مقام البيان وهو لا يصلح ان يكون قرينة على تقييد الاطلاق اللفظي؟ فيه وجهان: الظاهر: هو الوجه الأول، وذلك لان الخاص لدى الارتكاز القطعي العرفي يتقدم على العام وإن كانت دلالته بالاطلاق الناشئ من السكوت في مقام البيان، ودلالة العام بالوضع، لأنه لدى العرف قرينة، ومن الطبيعي ان القرينة تتقدم على ذي القرينة مطلقا اي - من دون ملاحظة ترجيح بينهما - كيف فان مرد هذا التقديم في الحقيقة إلى الحكومة. ومن هنا: إذا ورد في الدليل (أكرم كل عالم) وورد في دليل آخر (لا تكرم عالما فاسقا) لم يتأمل أحد في تقديم الثاني على الأول رغم ان دلالة الخاص بالاطلاق ومقدمات الحكمة، ولدلالة العام بالوضع، لان الخاص بنظر العرف أقوى من العام مهما كان منشأ دلالته بنكتة انه عندهم قرينة على المراد ومفسر له في الحقيقة. وعليه ففيما نحن فيه يتقدم اطلاقهما على اطلاق الآية في مورد الالتقاء والاجتماع باعتبار انهما أخص موردا من الآية مطلقا وان فرض ان دلالة الآية على العموم بالوضع - على أساس اشتمالها على كلمة (من شئ) - فان الخاص لدى العرف قرينة على التصرف في العام وبيان المراد منه، والقرينة تتقدم على ذيها بلا ملاحظة ترجيح في البين من هذه الناحية، وحينئذ فلا فرق بين ان يكون ظهور الخاص في مدلوله من ناحية الوضع، أو من ناحية
232 الاطلاق ولو كان منشاؤه السكوت في مقام البيان، فان كل ذلك لا دخل له بما هو ملاك التقديم. هذا مع أن دلالة الآية على العموم بالوضع من ناحية اشتمالها على تلك الكلمة محل اشكال، بل منع، فان الظاهر أن دلالتها عليه انما هي بالاطلاق ومقدمات الحكمة. ومن ذلك: يظهر الفرق بين هذه المجموعة والمجموعة المتقدمة فان النسبة بين تلك المجموعة والآية بلحاظ الالتقاء والاجتماع عموم من وجه، فان الآية تدل على أن خمس الأرض ملك لله وللرسول لا للمسلمين، وتلك المجموعة تدل على أنه ملك للمسلمين كبقية أخماسها. وهذا بخلاف المقام، فان هذه المجموعة تدل باطلاقها على نفي الخمس عن الأرض المفتوحة عنوة، والآية تدل على ثبوته في الغنائم التي تشمل الأرض أيضا فتكون النسبة بينهما عموما مطلقا، ومن الواضح ان ملاك كون النسبة بين الدليلين عموما مطلقا، أو من وجه، أو التباين انما هو بملاحظة لسانهما معا نفيا واثباتا، عموما أو خصوصا وبذلك يظهر حالهما بالإضافة إلى النصوص المتقدمة فالنتيجة في نهاية المطاف: انه لا مانع من التمسك باطلاق الآية والنصوص السابقة، لاثبات ان الأرض المفتوحة عنوة متعلقة للخمس. الرابع ما قيل، من أن الروايات الدالة على تعلق الخمس بالغنيمة بينما يكون ضعيفا سندا كروايات حصر الخمس في خمسة ورواية أبي بصير، أو ساقطا من ناحية المعارضة كصحيحة ابن سنان (ليس الخمس الا في الغنائم خاصة) أو محفوفا بالقرينة على الاختصاص بغير الأرض من الغنائم كالروايات الدالة على اخراج الخمس من الغنيمة وتقسيم الباقي على المقاتلين، فإنه قرينة على الاختصاص.
233 والجواب عن ذلك: ان روايات الحصر ليست بأجمعها ضعيفة سندا، فان فيها ما يكون معتبرا بحسب السند - وهو صحيحة عمار بن مروان - قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: (فيما يخرج من المعادن والبحر والغنيمة والحلال المختلط بالحرام إذا لم يعرف صاحبه والكنوز الخمس) (1) نعم غير هذه الصحيحة من تلك الروايات ضعيفة فلا يمكن الاستدلال بشئ منها. واما صحيحة عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: (ليس الخمس الا في الغنائم خاصة) (2) فإنها لا تسقط نهائيا، لان فيها ثلاثة احتمالات: الأول: ان يكون المراد من الغنائم فيها مطلق الفائدة، لا خصوص غنائم دار الحرب، فعندئذ لا معارضة بينها وبين غيرها من الروايات الدالة على وجوب الخمس في غير غنائم الحرب من الفوائد. الثاني: أن تكون الصحيحة في مقام بيان ان فريضة الخمس التي فرضها الله تعالى في كتابه العزيز منحصرة بغنائم الحرب دون غيرها من الفوائد كالمعادن، وارباح التجارات، وما شاكل ذلك، فان وجوب الخمس فيها قد ثبت بالسنة والروايات، لا بالكتاب. وان شئت قلت: ان الآية الكريمة ولو بقرينة السياق ظاهرة في أن المراد من الغنيمة فيها هو غنيمة دار الحرب، وعليه فالخمس الذي فرضه الله تعالى بنص القرآن انما هو خمس الغنيمة المزبورة دون مطلق الفائدة، فالصحيحة على أساس انها في مقام بيان ذاك الخمس الموجود في الكتاب وحصره بما عرفناه فلا تدل على نفي
(1) الوسائل ج 6 الباب 3 من أبواب ما يجب فيه الخمس الحديث 6 (2) الوسائل ج 6 الباب 31 من أبواب ما يجب فيه الخمس الحديث 1 234 ثبوته في غيرها من الفوائد بالسنة وانما تدل على نفي ثبوته بالكتاب فاذن لا تنافي بينها وبين غيرها من الروايات الدالة على وجوبه في مطلق الفائدة. الثالث: ان الصحيحة تنحل إلى قضيتين: الأولى: قضية ايجابية - وهي وجوب الخمس في غنائم دار الحرب - الثانية: قضية سلبية - وهي عدم وجوب الخمس في غيرها من الفوائد - وهذه القضية على أساس اطلاقها تنافي النصوص الخاصة الدالة على وجوب الخمس في تلك الفوائد كالمعادن، والغوص، وارباح التجارات، ونحو ذلك، وهذه النصوص بما انها واردة في الموارد الخاصة فبمقتضى الارتكاز العرفي توجب تقييد اطلاقها بغير تلك الموارد، فاذن يبقى تحت اطلاقها من الفوائد: الديات، والمهور والإرث، وما شاكل ذلك ودعوى: - انها نص في مدلولها ولأجل ذلك غير قابلة للتقييد يعني ان لسانها آب عنه - خاطئة جدا، وذلك لأنها وإن كانت نصا في أصل مدلولها الا ان تلك النصوص لا تنافيه، وانما تنافي اطلاقها ومن الطبيعي ان اطلاقها غير آب عن التقييد، ولا يكون هذا من تخصيص الأكثر فان مطلق ذلك ليس ممنوعا لدى العرف، وانما الممنوع منه هو ما إذا وصل إلى حد الاستهجان لديهم، والواصل إلى هذا الحد انما هو فيما إذا كان الباقي تحت العام قليلا جدا وفردا نادرا، وما نحن فيه ليس كذلك، فان الباقي تحته بعد التخصيص كثير جدا في حد نفسه كما عرفت، فليس هذا من تخصيص الأكثر المستهجن عرفا. وبعد ذلك نقول: إن الأقرب لدى العرف من هذه الاحتمالات
235 هو الاحتمال الأخير، دون الاحتمالين الأولين، فان الالتزام بكل منهما بحاجة إلى وجود قرينة على ذلك، ولا قرينة أصلا، وعليه فلو قطعنا النظر عن الاحتمال الأخير فلا بد من الحكم بسقوط الصحيحة من جهة المعارضة، وذلك المقطع بوجوب الخمس في غير غنائم دار الحرب على أساس العلم بصدور بعض تلك النصوص عن الإمام (ع) اجمالا ولا يمكن الاخذ بأحد الاحتمالين المزبورين، لعدم مساعدة العرف على ذلك على أساس انه ليس من الجمع العرفي بينها وبين تلك النصوص الخاصة. هذا إضافة إلى أن الاحتمال الثاني مبني على اختصاص الآية بغنائم دار الحرب وهو لا يخلو من اشكال بل منع لعدم الموجب له كما عرفت سابقا. فالنتيجة: انه لا موجب لسقوط الصحيحة نهائيا اي - بحسب المفهوم والمنطوق معا -. واما رواية أبي بصير: فلا يمكن الاستدلال بها، لضعفها سندا بعلي بن أبي حمزة. واما الروايات التي تتضمن تقسيم الغنائم فان بعضها وإن كان مما لا بأس به سندا، الا انك عرفت ان التقسيم فيها بحد نفسه قرينة على الاختصاص بغير الأرض من الغنائم فلا تشمل الأرض. ثم اننا إذا افترضنا: ان روايات الباب بشتى أصنافها واشكالها ساقطة من ناحية ما عرفت، ولا يمكن الاستدلال بشئ منها الا انه يكفينا في المقام اطلاق الآية الكريمة، فان مقتضاه تعلق الخمس بالغنائم ولو كانت أرضا. فالنتيجة في نهاية المطاف: ان الصحيح ما هو المشهور بين الأصحاب من القول بتعلق الخمس بالأرض المفتوحة عنوة.
236 النقطة الثانية لا شبهة في ثبوت علاقة المسلمين بالأرض المفتوحة عنوة وانما الكلام والاشكال في مستوى تلك العلاقة، هل هي على مستوى الملك أو الحق؟ هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: انه على تقدير كون علاقة المسلمين بها على مستوى الملك، فهل المالك للرقبة كل فرد من آحاد المسلمين على سبيل الإشاعة، أو المالك طبيعي المسلمين. يقع الكلام في مرحلتين الأولى: ان اختصاص المسلمين بها هل هو على مستوى الملك، أو على مستوى الحق؟. الثانية: ان المالك لها هل هو الافراد والآحاد أو الطبيعي؟. اما المرحلة الأولى: ففيها قولان: أحدهما: انها ملك عام للأمة. والآخر: انها معدة لمصالح الأمة. اما القول الأول فهو المعروف والمشهور بين الأصحاب، وتدل عليه مجموعة من نصوص الباب، حيث إن المتفاهم منها لدى العرف هو ملكية الرقبة للأمة، فان كلمة اللام أو إضافة الأرض إليهم تشهد على ذلك إذا لم تكن قرينة على أن العلاقة بها لمجرد الاختصاص الحقي والمصرفي. واما ما في مرسلة حماد بن عيسى - من قوله: (والأرضون التي أخذت عنوة بخيل أو ركاب فهي موقوفة متروكة) الحديث (1).
(1) الوسائل ج 11 الباب 41 من أبواب جهاد العدو الحديث 2. 237 ففيه انه لا ينافي الملك. فان المراد من الوقف هنا لا محالة يكون هو الحبس بالمعنى الذي سوف نبين في ضمن البحوث القادمة، لا الوقف الشرعي فإنه غير محتمل نهائيا، ومن الطبيعي ان الحبس بالمعنى الآني لا ينافي الملك أصلا. هذا إضافة إلى أن الرواية ساقطة سندا من ناحية الارسال فلا يمكن الاستدلال بها. واما القول الثاني: فقد نقل عن جماعة: منهم الشهية والمحقق الأردبيلي والسبزواري (قدهم). ولكن لا يمكن الاخذ به. اما أولا: فلان هذا القول مخالف لظاهر النصوص الدالة على ملكية الأرض للمسلمين، ولا يمكن حملها على أن علاقتهم بها تكون على مستوى المصرفية فحسب الا إذا كانت هناك قرينة على ذلك، والفرض عدمها. واما ثانيا: فعلى تقدير تسليم انها ليست ملكا لهم فعندئذ ان أريد انها كانت كالمباحات الأصلية - التي يكون الناس فيها شرع سواء، غاية الأمر ان من قام باستثمارها يملك الرقبة ويكون الحاصل مشتركا بينه وبين غيره من المسلمين على حسب ما جعله ولي الأمر من النصف أو الثلث أو نحو ذلك في الأراضي المزبورة - فيرده: ان ذلك خلاف الضرورة الفقهية، والنصوص الشرعية بداهة ان حال تلك الأراضي ليس كحال الأراضي المباحة، كيف فان مرد ذلك إلى أن لا علاقة للمسلمين بها نهائيا - لا على مستوى الملك، ولا مستوى الحق - وهو غير محتمل جزما، حيث إن لازم ذلك طرح جميع روايات الباب التي تدل على أن للمسلمين علاقة بها من ناحية، وطرح التسالم على ذلك من الأصحاب من ناحية أخرى
238 وأيضا: لو كانت تلك الأراضي مباحة فما هو الدليل على وجوب الخراج عليها، لان ما دل على ذلك انما هو في فرض كونها ملكا للمسلمين، لا مطلقا. فالنتيجة: ان لازم هذا الفرض الغاء جميع احكامها الخاصة الثابتة لها، منها: عدم جواز بيع رقبتها. ومنها: عدم انتقالها إرثا. ومنها: وجوب الخراج عليها، إلى غيرها من الأحكام المترتبة عليها على أساس انها ملك عام للمسلمين. وان أريد بذلك: - كون المسلمين مصرفا لتلك الأراضي بمعنى ان ما يستثمر منها يصرف في مصالحهم العامة، ولا يحق لأي أحد التصرف فيها على حساب مصلحته خاصة. وبكلمة أخرى: ان علاقة الأمة بها انما هي على مستوى المصرفية فحسب، وهذا يعني: ان الأرض محبوسة عليهم، ويصرف نتاجها في مصالحهم على حسب ما يراه الإمام (ع) أو نائبه - فهو وإن كان ممكنا في نفسه الا ان اتمامه بالدليل لا يمكن، لما عرفت من أن نصوص الباب ظاهرة في أن علاقة الأمة بها على مستوى الملك، والفرض عدم دليل آخر في المسألة. فالنتيجة: انه لا يمكن اتمام هذا القول بدليل. الصحيح: هو القول الأول. واما ما عن المحقق الأصفهاني (قده): من أن المسلمين لا يعقل ان يكونوا مصرفا على حد مصرفية الفقير في باب الزكاة في مقابل القول بشركته مع المالك، وذكر في وجه ذلك ان الأرض بعد
239 خروجها عن ملك الكافر بالفتح عنوة لا يعقل بقائها بلا مالك، بل لا بد من الالتزام بملكيتها للمسلمين بنحو من الأنحاء، ولا يمكن الالتزام بملكيتها لمن استولى عليها وإن كان بإذن الإمام (ع)، لعدم الدليل -. فيرد عليه: انه لا محذور في الالتزام ببقائها بلا مالك لرقبتها بعد خروجها عن ملك الكفار إذا افترضنا ان الدليل لا يساعد على تملك المسلمين لها بالفتح خارجا كما هو أساس هذا القول، ومن الطبيعي انه لا ملازمة شرعا بين خروجها عن ملك الكفار ودخولها في ملك الأمة بنحو من الأنحاء، فإنها بحاجة إلى دليل، فاذن لا مانع من الالتزام ببقائها بلا مالك، غاية الأمر انها تصبح بعد الفتح محبوسة عليهم، وتصرف مواردها في مصالحهم العامة. واما عدم جواز التصرف والاستيلاء عليها من كل أحد الا بإذن الإمام (ع) فهو انما يكون من ناحية تعلق حق الأمة بها على مستوى المصرفية، ومن الطبيعي ان هذا المقدار من الحق كاف للمنع عن تصرف كل فرد فيها بما شاء وأراد. فالنتيجة في نهاية الشوط: ان العمدة في المقام ما ذكرناه من أن ظاهر النصوص هو ملكية الأرض للمسلمين، وبقطع النظر عن هذا الظاهر فلا مانع من الالتزام بعدم الملك وكونها معدة لمصالحهم العامة على نحو يكون المسلمون مصرفا لها. ومن هنا يظهر ان ما قيل - من أن حال الأرض المفتوحة عنوة كثلث الميت فيما إذا عينه لصرف منافعه وموارده في مصرف خاص فإنه لا يكون ملكا للميت، ولا للوصي - لا يمكن اتمامه بوجه فان كون الأرض المزبورة كثلث الميت فيما ذكر بحاجة إلى دليل ولم
240 يدلنا دليل عليه، بل قد مر بنا ان ظاهر نصوص الباب هو ملكية الأرض للمسلمين. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: ان الامر في المقيس عليه أيضا ليس كذلك فإنه إذا اوصى شخص بثلث ماله فقد ظل في ملكه، ولا يخرج عنه بموته، لعدم المقتضى لذلك. ثم انك قد عرفت: ما عن المحقق الأردبيلي (قده) من اختيار هذا القول - وهو كون المسلمين مصرفا لتلك الأراضي -. وقد نسب إليه المناقشة في مالكية الأمة للأرض بوجهين: أحدهما ان الأرض لو كانت ملكا عاما لهم لترتبت اثار على ملكيتها كجواز نقلها عينا ببيع أو نحوه، وجواز ارثها، أو ما شاكل ذلك، رغم ان شيئا من تلك الآثار لا يترتب عليها، وهذا بحد نفسه دليل على عدم الملكية. والجواب عنه، ان هذه المناقشة ترتكز على أساس أن تكون ملكية للمسلمين للأرض على نحو الاستغراق مشاعا. واما لو قلنا: بان المالك لها هو طبيعي الأمة، لا الآحاد، كما هو الحال في بابي الزكاة والخمس، حيث إن المالك في الأول هو طبيعي الفقير، وفي الثاني هو طبيعي السادة، لا الافراد، فحينئذ عدم ترتب تلك الآثار لا تكشف عن عدم الملك أصلا. هذا إضافة: إلى أن عدم ترتبها لا يكشف عن عدم ملكية الآحاد أيضا، لما سوف نشير إليه من أنه انما يكشف عن أن ملكيتها ليست ملكية مطلقة وحرة، بل هي ملكية مقيدة وغير حرة من ناحية الآثار المزبورة. والآخر: ان الأرض لو كانت ملكا للأمة لم يجز تقبيلها واجارتها
241 من آحاد المسلمين، لفرض اشتراك الجميع فيها على سبيل الإشاعة، ومن المعلوم انه لا يجوز تصرف أحد في المال المشترك سواء أكان من التصرفات الخارجية أم كان من التصرفات الاعتبارية. والجواب عنه: ان الإجارة في المال المشترك انما لا تصح بالإضافة إلى الأعم من حصته وحصة غيره، أو بالإضافة إلى الجزء المعين منه واما بالإضافة إلى حصته على نحو الإشاعة فلا مانع منها أصلا. ضرورة انه تصح اجارة أحد الشركين حصته المشاعة. هذا إضافة: إلى أن هذه المناقشة لو تمت فإنما تتم على أساس أن تكون الأرض ملكا لاحاد المسلمين. واما لو قلنا بأنها ملك للطبيعي فتنتفي المناقشة بانتفاء موضوعها. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: انها لا تتم على هذا القول أيضا لما ستعرف من أن عدم جواز الإجارة أو نحوها انما هو يقوم على أساس ان ملكية آحاد الأمة للأرض لم تكن ملكية مطلقة وحرة، بل هي ملكية مقيدة محبوسة فلا يحق لأي واحد منهم ان يقوم بالتصرف فيها بدون اذن الإمام (ع). فالنتيجة: ان هذه المناقشة لا أساس لها. واما المرحلة الثانية - وهي كيفية تملك المسلمين للأرض المفتوحة عنوة - ففيها: قولان: الأول: انها ملك للطبيعي، نظير ما ذكر في باب الزكاة والخمس. الثاني: انها ملك للآحاد. وقد استدل للأول: بان الثاني يستلزم محاذير لا يمكن الالتزام بشئ منها: أحدها: ان لازم الالتزام بالقول الثاني جواز قيام كل من
242 آحاد المسلمين بنقل حصته من الأرض المذكورة إلى غيره بهبة أو بيع أو ما شاكل ذلك، مع أنه لا شبهة في عدم جواز قيامه بذلك نهائيا وسوف نشير إليه في ضمن البحوث الآتية. والاخر: ان لازمه جواز تلقي كل من آحاد الأمة نصيب أقربائه بالوراثة وهو باطل جزما، ضرورة انها لا تنتقل بالإرث. الثالث: ان لازمه عدم وجوب الخراج على المزارعين في تلك الأراضي نظرا إلى أن تصرفهم فيها كان تصرفا في املاكهم فلا مقتضى لوجوب الخراج، رغم انه لا شبهة في وجوبه على كل من يقوم باستثمارها والانتفاع بها. فهذه اللوازم تدلنا على بطلان القول الثاني، فاذن لا مناص من الالتزام بالقول الأول بعد بطلان القول بعدم الملك نهائيا. وغير خفي ان عدم ترتب تلك اللوازم على ملكية المسلمين للأرض لا يكشف كشفا جزميا عن أن ملكيتهم لها لم تكن على سبيل الاستغراق فإنه لا مانع من الالتزام بذلك رغم ان تلك اللوازم غير مترتبة عليها. فلنا: دعويان: الأولى: ان مالك الأرض انما هو آحاد المسلمين، لا الطبيعي. الثانية: ان عدم ترتب تلك اللوازم لا ينافي الالتزام بهذا القول. اما الدعوى الأولى: فلان الظاهر - من الروايات: منها صحيحة الحلبي المتقدمة - هو ملكية الأرض لاحاد الأمة، لا للطبيعي، فان الحمل عليه بحاجة إلى دليل، ولا دليل عليه كما سوف نشير إليه. واما الدعوى الثانية: فلان ملكية المسلمين لها لم تكن ملكية مطلقة وحرة، بل هي ملكية مقيدة محبوسة وغير حرة فلا يحق لأي واحد من آحاد الأمة ان يقوم بالتصرف فيها كيف ما شاء وأراد
243 بدون اذن الإمام (ع). وتدل على ذلك: مجموعة من الروايات: منها: صحيحة أبي نصر المتقدمة في صدر المسألة. التي تدل على أن أمر الأرض المزبورة بيد الإمام (ع) ومن الطبيعي ان مرد ذلك إلى أنه ليس لكل فرد ان يتصرف فيها ما شاء الا في دائرة الخطوط المبينة من قبله (ع) في ضمن النصوص الشرعية. ومنها: غيرها من الروايات التي ستأتي الإشارة إليها في ضمن الأبحاث القادمة. ولكن قد يستشكل في ذلك بان قوله (ع) في صحيحة الحلبي المتقدمة (هو لجميع المسلمين) وإن كان ظاهرا في ملكية الأرض لاحاد الأمة، الا انه لا يمكن الاخذ بهذا الظهور بقرينة قوله (ع) في نفس تلك الصحيحة بعده (ولمن يدخل في الاسلام بعد اليوم ولمن لم يخلق بعد) فان المعدوم لا يعقل ان يملك شيئا، وكذا من لم يدخل في الاسلام بعد ان يملك بعنوان الدخول فيه، فاذن لا بد من الالتزام بأحد أمرين: اما ان نلتزم بملكية الأرض لاحاد الموجودين من المسلمين طبقة بعد طبقة لكن ملكية محبوسة وغير حرة. أو نلتزم بملكيتها لطبيعي المسلمين، وكلا الامرين محتمل، ولا ظهور للصحيحة في أحدهما. ولكن لا يخفى ما فيه: فان قوله (ع) (ولم يدخل في الاسلام ولمن لم يخلق بعد) تصريح بما هو مدلول الاطلاق ومفاده - وهو امتداد الحكم في القضية إلى يوم القيامة وعدم اختصاصه بزمان التشريع فحسب - ومعنى ذلك كما ذكرناه ان الملكية مجعولة
244 لاحاد المسلمين على سبيل القضية الحقيقية فلا تختص بالآحاد الموجودين في عصر التشريع، وعليه فبطبيعة الحال تصبح الملكية فعلية بفعلية موضوعها كما هو شأن كل حكم مجعول على نحو القضية الحقيقية، وليس معنى ذلك جعل الملكية فعلا للمعدوم، أو لمن يدخل في الاسلام بعد اليوم بعنوان الدخول فيه، فإنه غير معقول، وكيف كان فلا شبهة في ظهور الصحيحة - لدى العرف - في أن جعل الملكية فيها لاحاد الأمة على نحو القضية الحقيقية، والقول المزبور له (ع) فيها تأكيد لما هو مفاد القضية. ومن الواضح: ان القضية الحقيقية غير القضية الطبيعية، فان الحكم في الأولى ثابت للافراد حقيقة، وفي الثانية ثابت للطبيعي بما هو، ولا علاقة له بالافراد أصلا. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان نصوص الباب كما هي ظاهرة في أن مالك الأرض المفتوحة عنوة آحاد المسلمين على نحو الاستغراق كذلك هي ظاهرة في أن ملكيتهم لها غير محبوسة ومطلقة وحرة. ولكن بما ان الجمع بين هذين الظهورين لا يمكن فلا بد من رفع اليد عن أحدهما. ومن الطبيعي ان رفع اليد عن كل منهما بحاجة إلى قرينة، فكما ان رفع اليد عن ظهورها في الجهة الأولى وحملها على أن المالك هو الطبيعي لا الافراد بحاجة إلى قرينة فكذلك رفع اليد عن ظهورها في الجهة الثانية وحمل الملك فيها على الملك المحبوس، فاذن لا بد من النظر في النصوص الواردة في المسألة لنرى هل يتوفر فيها ما يكون قرينة على التصرف في الجهة الأولى، أو التصرف في الجهة الثانية. وهذه النصوص تصنف إلى مجموعتين:
245 إحداهما: تدل على أنه لا يحق لأي فرد من الأمة ان يقوم بنقل رقبة الأرض إلى غيره ببيع أو هبة أو ما شاكل ذلك، وستأتي الإشارة إلى هذه المجموعة في ضمن البحث عن النقطة الثالثة. والاخرى: تدل على أن امرها بيد الإمام (ع) وقد تقدمت روايتان من هذه المجموعة. وهاتان المجموعتان كما تنسجمان مع كون الأرض المفتوحة عنوة ملكا لطبيعي الأمة، كذلك تنسجمان مع كونها ملكا لاحاد الأمة ولكن ملكا محبوسا وغير حر، فإنه على كلا التقديرين لا يحق لأي فرد منهم ان يقوم بنقل رقبتها ببيع أو نحوه، كما انها غير قابلة للانتقال بالإرث، وكذا لا يحق لان يقوم باستثمارها واستغلالها بدون اذن الإمام (ع) أو نائبه، الا ان الكلام في أنهما قرينتان على رفع اليد عن ظهور النصوص في الجهة الأولى، وحمل الملك فيها على ملك الطبيعي، أو قرينتان على رفع اليد عن ظهورها في الجهة الثانية وحمل الملك فيها على الملك المحبوس وغير الحر والظاهر أنهما قرينتان على الجهة الثانية يعني - رفع اليد عن ظهورها في الملكية الحرة والمطلقة - وذلك لأنهما لا تدلان على أن هذا الملك ملك للطبيعي، دون الآحاد حتى تكونا منافيتين لدلالة النصوص المزبورة على انها ملك للآحاد، بل إنهما تدلان على أن الاحكام المشار إليها لا تترتب على هذا الملك، وهذا لا ينافي كونه ملكا للآحاد على سبيل الاستغراق، ومع ذلك لا تترتب تلك الأحكام عليه على أساس انه ملك محبوس وغير مطلق، فإذا افترضنا ان تلك النصوص ظاهرة في أنها ملك لاحاد الأمة، لا للطبيعي فلا مناص من الاخذ بهذا الظهور لعدم المعارض والمنافي له فتكون هاتان المجموعتان قرينتين على الحبس
246 فالنتيجة في نهاية المطاف: ان مقتضى الجمع بين مجموعات من نصوص الباب ان الأرض المفتوحة عنوة ملك عام لاحاد المسلمين، لا للطبيعي منهم، غاية الأمر ان ملكيتها ملكية محبوسة بالمعنى الذي عرفت ثم إنه على القول الأول: - وهو ملكية الأرض للطبيعي - لا علاقة للفرد بها أصلا، لا على مستوى الملك، ولا على مستوى الحق، وانما كانت العلاقة بها للطبيعي على مستوى الملك من دون دخل لخصوصية الافراد فيها. وعلى ضوء هذا القول: فعدم ترتب اللوازم المزبورة كان على وفق القاعدة فلا يحتاج إلى دليل، وهذا بخلاف القول الثاني، فان عدم ترتبها ليس - من ناحية عدم الموضوع لها، بل من ناحية وجود المانع - وهو ان الملكية ملكية محدودة محبوسة من قبل الشرع - فلذا يحتاج إلى دليل. نتيجة هذا البحث عدة نقاط: الأولى: الظاهر بمقتضى مجموعة من النصوص هو ان الأرض المفتوحة عنوة داخلة في نطاق ملكية المسلمين، ولا وجه للقول بأنها معدة للصرف في مصالحهم فحسب من دون كونها داخلة في ملكيتهم. الثانية: ان ما عن المحقق الأردبيلي (قده) - من المناقشة في ملكيتها للأمة على أساس ان لازمها الإرث وجواز البيع وما شاكل ذلك من الآثار مع أنه لا شبهة في عدم ترتب شئ منها عليها - فقد تقدم انه لا أساس لتلك المناقشة، ولا مانع من الالتزام بالملكية - رغم عدم ترتب شئ من تلك الآثار عليها.
247 الثالثة: لا يبعد الالتزام بالقول بملكية الأرض لاحاد المسلمين لا للطبيعي، كما ذكر في بابي الزكاة والخمس، والمحاذير التي ذكر لزومها على هذا القول فقد تقدم عدم لزوم شئ من تلك المحاذير عليه، فان لزومها انما هو فيما إذا قلنا بملكية مطلقة وحرة. واما إذا قلنا بان ملكيتهم لها ملكية مقيدة ومحدودة من قبل الشرع فلا موضوع لشئ منها، وقد ثبت تحديدها بمجموعة من روايات الباب. الرابعة: قد تقدم ان مجموعة من النصوص ظاهرة في أن ملكية الأرض المفتوحة عنوة انما هي لاحا المسلمين، لا للطبيعي منهم، وقد ذكرنا انه لا بد من الاخذ بهذا الظهور. لعدم المقتضى لرفع اليد عنه، وحمل الملك فيها على ملك الطبيعي، فإنه بحاجة إلى دليل. النقطة الثالثة هل يجوز بيع الأرض المفتوحة عنوة أو لا؟ فيه وجهان: المعروف والمشهور بين الأصحاب قديما وحديثا بل المتسالم عليه عندهم هو الوجه الثاني. وهذا هو الصحيح. وتدل على ذلك: مجموعة من النصوص: منها صحيحة الحلبي قال سئل أبو عبد الله (ع) عن السواد ما منزلته فقال: هو لجميع المسلمين إلى أن قال: ولمن لم يخلق بعد فقلت: الشراء من الدهاقين قال: لا يصلح الا ان تشرى منهم على أن يصيرها للمسلمين، فإذا شاء ولي الأمر ان يأخذها اخذها.
248 قلت: فان اخذها منه قال: يرد عليه رأس مال، وله ما أكل من غلتها بما عمل (1). فان قوله (ع) (لا يصلح) ظاهر لدى العرف في عدم صحة الشراء لظهور مثل هذه الكلمة عرفا في باب المعاملات في ذلك، ومن الطبيعي ان عدم صحة الشراء منهم رغم انهم قائمون باستثمارها واستغلالها ليس الا من ناحية ان الأرض لم تصر بذلك ملكا لهم، بل هي قد ظلت في ملك المسلمين. ثم إن هذه الجملة: تدل على عدم جواز شراء رقبة الأرض، واما شرائها على أساس ان لهم حقا فيها فلا مانع منه، فإنه في الحقيقة ليس شراء للأرض، بل هو شراء لحقهم المتعلق بها. وقد ذكرنا ان حقيقة البيع تتكفل منح المشتري نفس العلاقة التي كانت للبايع بالمال في مقابل العلاقة التي كانت للمشتري بالثمن سواء أكانت تلك العلاقة على مستوى الملك أم كانت على مستوى الحق. واما إذا لم يكن لهم حق فيها فالشراء حينئذ لا محالة يكون صوريا يعني - انه مجرد اخذ الأرض منهم واعطاء العوض تحفظا على ملك المسلمين - والاستدراك في قوله الا ان تشرى منهم على أن يصيرها للمسلمين يمكن ان يكون إشارة إلى هذا الاحتمال وإن كان بعيدا كما لا يخفى. واما كلمة الصيرورة: فهي وإن كانت ظاهرة في أنها تصبح ملكا للمسلمين بعدما لم تكن الا ان هذا التعبير لعله لنكتة ان الدهاقين كانوا يعاملون مع الأرض المذكورة معاملة الملك، فالشراء المزبور كأنه يجدد الملك لهم. هذا إضافة إلى أن قوله (ع) في الصحيحة - فان شاء ولى
(1) الوسائل ج 12 الباب 21 من أبواب عقد البيع الحديث 4. 249 الامر ان يأخذها اخذها - قرينة على انها ملك المسلمين، ولا صلة للشراء منهم في ذلك أصلا، بل لا يعقل أن تكون له صلة بذلك، لان الأرض إن كانت ملكا للدهاقين فبالشراء تصبح ملكا للمشتري لا للمسلمين، وإن كانت ملكا للأمة فلا يعقل شراء الرقبة منهم كما دل عليه قوله (ع) (لا يصلح). فالنتيجة في نهاية الشوط ان الصحيحة تدل بوضوح على عدم جواز شراء رقبة الأرض المفتوحة عنوة. ومنها: رواية أبي الربيع الشامي عن أبي عبد الله (ع) قال: (لا تشتر من ارض السواد شيئا الا من كانت له ذمة فإنما هو فيئ للمسلمين) (1). فإنها تدل على عدم جواز شراء ارض السواد ممن كانت الأرض بأيديهم على أساس انها ملك للمسلمين. نعم قد استثنى منها ارض من كانت له ذمة، ولعله باعتبار انها باقية في ملك أصحابها، نظرا إلى أن لولي الأمر ان يترك ارض أهل الذمة في أيديهم على أساس قبولهم شرائط الذمة. فالنتيجة: ان الرواية تامة من ناحية الدلالة الا انها ضعيفة من ناحية السند، فان في سندها خالد بن جرير، وأبي الربيع الشامي وكلاهما لم يوثق. وما قيل: - من أن الراوي عن أبي الربيع الشامي هو خالد بن جرير وبما ان الراوي عن خالد بن جرير الحسن بن محبوب وهو من أصحاب الاجماع فالرواية صحيحة - خاطئ جدا وذلك:
(1) الوسائل ج 12 الباب 41 من أبواب عقد البيع الحديث 5. 250 اما أولا: فلانه لا كلية لقاعدة ان أصحاب الاجماع لا يروي الا عن ثقة، فإنها على حساب الاحتمالات لا تتعدى عن قاعدة ظنية ولا تفيد الوثوق والاطمئنان. واما ثانيا: فعلى تقدير تسليم ان القاعدة المزبورة تامة الا انها انما تتم في حق من يروى عنه ممن يكون من أصحاب الاجماع بشكل مباشر، دون من يروى عنه بواسطة، فإنه خارج عن تلك القاعدة وعليه فالراوي عن خالد بن جرير بما انه الحسن بن المحبوب مباشرة فتدل روايته عنه على وثاقته، واما روايته عن أبي الربيع الشامي فبما انها كانت بواسطة فلا تدل على وثاقته. فتحصل مما ذكرناه ان الرواية ساقطة من ناحية السند فلا يمكن الاعتماد عليها. نعم لا بأس بجعلها تأييدا للمسألة. ومنها: رواية أبي برده بن رجاء قال: قلت: لأبي عبد الله (ع) كيف ترى في شراء أرض الخراج قال: (ومن يبيع ذلك هي ارض المسلمين قال: قلت: يبيعها الذي هي في يده قال: ويصنع بخراج المسلمين ماذا، ثم قال: لا بأس اشترى حقه منها ويحول حق المسلمين عليه، ولعله يكون أقوى عليها، واملي بخراجهم منه) (1) فإنها تدل بوضوح على عدم جواز بيعها وشرائها، فان قوله (ع) ومن يبيع ذلك استفهام توبيخي، لا حقيقي، وقوله (ع) وهي ارض المسلمين بيان لعلة المنع يعني - ان علة المنع عن الشراء والبيع هي كون الأرض ملكا للمسلمين -. واما قول الراوي قمت: يبيعها الذي هي في يده فهو يدل على أنه فهم الاستفهام الحقيقي، ولذا عين البايع، كما أن قول
(1) الوسائل ج 11 الباب 71 من أبواب جهاد العدو الحديث 1. 251 الإمام (ع) بعده (ويصنع بخراج المسلمين ماذا) يدل بظاهره على أن المانع عن بيع الأرض الخراجية وشرائها انما هو خراجها. فكل من يقوم به فلا مانع من بيعها منه، الا ان قوله (ع) بعد ذلك (لا بأس ان يشتري حقه منها) يدل على أن هذا الشراء غير الشراء الممنوع في صدرها. فان المراد منه شراء نفس الرقبة وهو ممنوع، وليس لاحد ان يبيع نفس رقبتها، والمراد من هذا الشراء هو شراء الحق المتعلق بها وهو لا مانع منه، وهذا قرينة على أن المراد من قوله (ع) (ويصنع بخراج المسلمين ماذا) ليس ما هو ظاهره، بل المراد منه جواز بيعها بما هي متعلقة للحق على أساس ان بيع الحق في حد نفسه ونقله إلى طرف إضافة المشتري لا يمكن بدون نقل متعلقه فالمراد من بيع الأرض بيعها بما فيها من الحق لا بيع رقبتها، فاذن لا تنافي بين هذه الجملة وصدر الرواية المقتضي لعدم جواز بيع رقبتها. وعلى الجملة فتغيير العبارة في قوله (ع) (لا بأس ان يشتري حقه منها) يدل على تغيير الموضوع واختلافه يعني - ان ما لا يجوز بيعه وشرائه هو نفس رقبة الأرض، وما يجوز بيعه وشرائه هو الحق المتعلق بها، وقد عرفت معنى بيع الحق فيها - واما حق المسلمين - وهو الطسق والخراج - فبما انه تابع للأرض فلا محالة يحول على المشتري على أساس ان الأرض أصبحت في يده، وعليه فلا تنافي بين صدر الرواية وذيلها فالنتيجة: انه لا بأس بالرواية من ناحية الدلالة الا انها ضعيفة من ناحية السند بأبي بردة بن رجاء. ودعوى - ان أبي بردة بن رجاء وان لم يثبت توثيقه الا ان
252 الراوي عنه لما كان صفوان بن يحيى وهو من أصحاب الاجماع فالرواية صحيحة - خاطئة جدا، لما عرفت من أن هذه القاعدة قاعدة ظنية لا تفيد الا الظن فلا يمكن الاعتماد عليها في التوثيقات. ومنها: مرسلة حماد بن عيسى عن بعض أصحابه عن أبي الحسن (ع) في حديث قال: (والأرضون التي أخذت عنوة بخيل أو ركاب فهي موقوفة متروكة في يدي من يعمرها ويحييها ويقوم عليها على ما صالحهم الوالي على قدر طاقتهم من الحق الخراج: النصف أو الثلث أو الثلثين على قدر ما يكون لهم صلاحا، ولا يضرهم) الحديث (1). فإنها وإن كانت دلالتها على عدم جواز بيعها وشرائها على أساس انها محبوسة تامة الا انها ساقطة من ناحية الارسال فلا يمكن الاعتماد عليها. فالنتيجة في نهاية المطاف: ان العمدة في المسألة انما هي الرواية الأولى، حيث إنها تامة سندا ودلالة. دون بقية الروايات، فإنها بأجمعها ضعيفة السند من ناحية وإن كانت تامة من جهة الدلالة. نعم لا بأس بالتأييد بها وقد تحصل مما ذكرناه: انه لا يجوز شراء الأرض المفتوحة عنوة وبيعها يعني - انها غير قابلة لملكية الخاصة بالبيع أو نحوه -. واما اجارتها، ومزارعتها، وغيرهما من التصرفات التي لا تنافي بقاء رقبتها في ملك المسلمين فلا مانع منها إذا كانت بإذن ولي الأمر عموما أو خصوصا، كما ستأتي الإشارة إلى ذلك في ضمن الأبحاث القادمة. واما ما يظهر من بعض الروايات: جواز شرائها فلا بد من حملها على جواز شراء الحق المتعلق بها على أساس ان في نفس تلك
(1) الوسائل ج 11 الباب 41 من أبواب جهاد العدو الحديث 2. 253 الروايات ما يكون قرينة على ذلك، وسوف نشير إليها. ولعل النكتة: - في التعبير عن شراء الحق بشراء الأرض - هي ان شراء الحق في نفسه وبقطع النظر عن متعلقه غير معقول، نظرا إلى أن الحق غير قابل للنقل والانتقال بدون متعلقه، وعليه فشراء الحق انما هو بشراء متعلقه. وقد تقدم ان البيع لا يتكفل أزيد من منح البايع نفس علاقته بالمبيع للمشتري في مقابل منح المشتري ماله من العلاقة بالثمن للبايع، وقد تكون هذه العلاقة على مستوى الملك، وقد تكون على مستوى الحق. وما نحن فيه من هذا القبيل، فان شراء الأرض هنا بمعنى ان البايع قد منح المشتري نفس علاقته بالأرض، وبما انها كانت على مستوى الحق فنفس هذه العلاقة تثبت له فتكون الأرض بعد الشراء طرفا لعلاقة المشتري على مستوى الحق، فاذن لا تدل تلك الروايات على جواز شراء نفس رقبة الأرض وانتقالها إلى المشتري وهذا هو طريق الجمع بين الروايات الناهية عن الشراء، والروايات المجوزة له. إلى هنا قد استطعنا ان نخرج بهاتين النقطتين: الأولى: ان الأرض المفتوحة عنوة لم تقبل النقل والانتقال بالبيع والشراء ونحوهما على أساس ان المستفاد من مجموعة من الروايات ان ملكيتها للأمة ملكية محدودة ومحبوسة. الثانية، ان ما يظهر من بعض الروايات جواز شرائها ليس بمعنى تملك رقبتها، حيث قد عرفت ان كلا من البيع والشراء لا يقتضي ذلك، وانما يقتضي قيام المشتري مقام البايع، وبالعكس فحسب.
254 النقطة الرابعة ان من يقوم بعمارة الأرض المفتوحة عنوة والانتفاع بها بزرع أو غرس، أو بناء، فإنه وإن كان لا يملك رقبة الأرض على أساس انها ملك للأمة الا ان الكلام في أن قيامه بهذه العملية هل يمنحه حقا فيها أولا؟ فيه وجهان: الظاهر هو التفصيل: بين ما إذا كان العامل بعمله في الأرض وجهده فيها قد أحدث حدثا فيها ووفر شروطا وفرصة للانتفاع بها والاستفادة منها، وما إذا لم يحدث فيها حدثا بجهده وعمله. فعلى الأول: لا شبهة في أن العامل يملك تلك الشروط والفرصة المتاحة له على أساس انها نتيجة عمله وجهده، فما دامت تلك الفرصة باقية في الأرض فقد ظل حقه فيها، سواء أكان ممارسا في الانتفاع بها أم لم يكن. هذا فيما إذا كانت الأرض المفتوحة عنوة مواتا واضح. واما إذا كانت عامرة سواء أكانت طبيعيا أم كانت بشريا فهو يتوقف على أن يحدث العامل فيها حدثا، ويخلق فيها فرصة أكبر مما كانت الأرض عليها، وحينئذ يملك العامل تلك الفرصة على أساس انها نتيجة عمله، وعلى اثر ذلك يحدث له حق فيها، ومن المعلوم ان هذا الحق قابل للنقل والانتقال. وعليه فيجوز لاخر ان يقوم بشرائه. هذا إضافة: إلى أن ذلك يستفاد من مجموعة روايات الباب. منها، قوله (ع) في صحيحة الحلبي المتقدمة (الا ان تشرى منهم على أن يصيرها للمسلمين) فإنه يدل على جواز شراء الأرض
255 ممن كانت الأرض في أيديهم، ومن الطبيعي انه لا بد من حمل هذا الشراء على شراء حقه المتعلق بها، وذلك لامرين: الأول: بقرينة قوله (ع) لا يصلح في جواب السؤال عن شراء نفس الأرض قبل هذه الجملة، فإنه يدل بوضوح على أنه لا يصح شراء نفس رقبة الأرض على أساس انها ملك عام للمسلمين فلا يملكها المشتري. الثاني: بقرينة قوله (ع) على أن يصيرها للمسلمين، فإنه يدل على أن المراد من الشراء ليس شراء رقبة الأرض، بداهة انه لا معنى لشرائها على أن تدخل في ملك غير المشتري، فاذن لا محالة يكون المراد منه شراء الحق فيها بالمعنى الذي عرفت واما حمله على الشراء الصوري فهو بحاجة إلى قرينة على أساس ان الظاهر من لفظ الشراء وهو الشراء الحقيقي. ومنها: معتبرة محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله عن الشراء من ارض اليهود والنصارى فقال: ليس به بأس، قد ظهر رسول الله (ص) على أهل خيبر فخارجهم على أن يترك الأرض في أيديهم يعملونها فلا ارى بها بأسا لو أنك اشتريت منها شيئا، وأيما قوم أحيوا شيئا من الأرض وعملوها فهم أحق بها وهي لهم (1). فإنها واضحة الدلالة على أن من يقوم بالعمل في الأرض المفتوحة عنوة - وهي في مورد الرواية ارض خيبر، ويحدث حدثا فيها، ويخلق فرصة وشروطا للانتفاع بها فلا محالة يملك تلك الفرصة والشروط سواء أكانت في الأرض الميتة أم كانت في الأرض العامرة وحينئذ يجوز شراء تلك الفرصة والشروط منه.
(1) الوسائل ج 11 الباب 17 من أبواب جهاد العدو الحديث 2. 256 وعلى الجملة فالمعتبرة قد نصت على جواز شراء الأرض المفتوحة عنوة فيما إذا عمل العامل فيها عملا، وأوجد فيها صفة ذات قيمة اقتصادية التي لم تكن الأرض واجدة لها بطبيعتها، ومن الطبيعي أن المراد من شرائها وهو شراء الحق المتعلق بها دون رقبة الأرض، وقد عرفت كيفية شرائه. ومنها: قوله (ع) في رواية أبي بردة بن رجاء المتقدمة (لا بأس اشترى حقه منها ويحول حق المسلمين عليه) فإنه يدل بوضوح على ثبوت الحق له فيها القابل للنقل والانتقال، ولكن بما ان الرواية ضعيفة سندا فلا يمكن الاستدلال بها. نعم لا بأس بالتأييد. ومنها: غيرها من الروايات الواردة في أبواب متفرقة، فإنه يستفاد منها ثبوت حق في الأرض المفتوحة عنوة لمن يقوم بالعمل فيها واحداث حدث. وعلى الثاني: - وهو ما إذا لم يحدث العامل في الأرض حدثا وصفة وانما يمارس الانتفاع بها ويواصل في زراعتها على أساس ان الأرض حية بطبيعتها فلا تحتاج حياتها إلى بذل جهد بشري فيها فلا يحصل للعامل حق فيها بمعنى القابل للنقل والانتقال، ضرورة انه لم يحدث في الأرض شيئا. نعم انه ما دام يمارس الانتفاع بها ويواصل في زراعتها ليس لاخر أن يزاحمه في ذلك. واما إذا ترك الانتفاع بها فلا يبقى له حق في الاحتفاظ بالأرض، ويجوز لغيره أن يقوم باستغلالها واستثمارها، وليس له منعه عن ذلك. وعلى ضوء هذا البيان: يظهر ما في كلام المحقق الأصفهاني (قده) في هامشه على المكاسب في المقام، حيث ذكر هناك انه لا دليل على ثبوت الحق بمعنى القابل للنقل والانتقال، إذ غاية ما يقتضيه
257 تقبل الأرض ممن له ذلك ملك منافع الأرض. كما في باب الإجارة، وملك المنافع لا يستدعي إلا وجوب تسليم العين مقدمة لاستيفاء المنافع فقط، لا احداث حق في العين بحيث يقبل النقل والانتقال، وكون التقبيل بنفسه مقتضيا لذلك شرعا لا دليل عليه. أقول: وجه الظهور ان ما افاده (قده) وإن كان متينا بالإضافة إلى ما هو مقتضى تقبل الأرض واجارتها، إلا أن الكلام في ثبوت الحق للعامل فيها ليس من هذه الناحية. وانما هو من ناحية عمله فيها وبذل الجهد، فإن كان عمله في الأرض سنخ عمل يوجب احداث حدث وصفة فيها كان ذلك العمل يبرر ثبوت حق له فيها القابل للنقل والانتقال كما عرفت. وإن كان سنخ عمل لا يوجب احداث حدث فيها فقد عرفت انه لا يبرر ثبوت حق له فيها كذلك، وانما يبرر ثبوته ما دام يواصل في عمله فيها لا مطلقا. فكلامه (قده) انما يتم في هذا الفرض، دون الفرض الأول. النقطة الخامسة يقع الكلام فيها في موردين: الأول: ما أشرنا إليه في ضمن البحوث السالفة من أن أمر الأراضي المفتوحة عنوة بيد الإمام (ع) فلا يباح لأي فرد من المسلمين ان يتصرف فيها بدون إذنه. وتدل على ذلك مجموعة من الروايات: منها: قوله (ع) في صحيحة أبي نصر المتقدمة (وما أخذ بالسيف فذلك إلى الامام يقبله بالذي يرى).
258 ومنها: قوله (ع) في صحيحة الحلبي التي مرت بنا آنفا (فإذا شاء ولي الأمر أن يأخذها أخذها). ومنها: غيرهما من الروايات الدالة على صحة تقبيل السلطان الجائر تلك الأراضي، وامضاء الإمام (ع) ذلك، فان هذا دليل على أن أمرها بيد الإمام (ع). هذا إضافة إلى أن المصلحة العامة للأمة تقتضي تدخل الإمام (ع) في أمر تلك الأراضي، ووضع حد ازاء تعديات وتجاوزات الأفراد فيها لكسب السيطرة عليها على أساس القوة، فان الأفراد لو كانوا حرا في تصرفاتهم فيها ما شاءوا وأرادوا بحسب ما يتوفر لديهم من المكنة والقوة فلا محالة توجب منع الآخرين من ممارسة حقوقهم فيها بحرية كاملة، ومن الطبيعي ان ذلك يتنافى مع العدالة الاجتماعية التي يؤمن الاسلام بضرورة إيجادها بين طبقات الأمة. وعليه فعلى ولي الأمر وضع حد لتصرفاتهم فيها في دائرة الشرع الاسلامي، وإتاحة الفرصة لكل فرد منهم بممارسة حقوقه فيها، والانتفاع بها في ضمن ذلك الحد بحرية تامة، ليكون كل فرد مساهما في تحقيق العدالة الاجتماعية. الثاني: بعد ما عرفنا من أنه لا يجوز التصرف في تلك الأراضي بدون إذن الإمام (ع) فهل يمكن لنا اثبات اذنه بشكل عام لكل فرد من المسلمين أولا؟ فيه وجهان: ويمكن الاستدلال على الوجه الأول بوجوه: الأول: بمجموعة من النصوص المتقدمة: الدالة على سببية الاحياء لعلاقة المحيي بالأرض بدعوى ان المستفاد منها عرفا ثبوت الاذن العام لكل فرد من الأمة للقيام بعملية الاحياء في الأرض
259 المفتوحة عنوة إذا كانت ميتة أو عرض عليها الموت بعد الفتح، وممارسة حقه فيها والجواب عنه: أولا: ما تقدم منا في ضمن البحوث السالفة من تلك النصوص لا تدل على الاذن في القيام بهذه العملية وممارستها أصلا، لا في الأرض التي هي ملك للإمام (ع) ولا في الأرض التي هي ملك للأمة، وانما هي في مقام بيان سببية تلك العملية لصلة المحيي بالأرض فحسب. وثانيا: ان هذه النصوص أخص من المدعي، فإنها انما تثبت إباحة التصرف في الأرض المفتوحة عنوة إذا كانت ميتة أصالة أو. عرض عليها الموت واما إذا كانت عامرة فهي لا تدل على إباحة التصرف فيها. الثاني: بنصوص التحليل: منها: قوله (ع) في صحيحة مسمع المتقدمة (وكل ما كان في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون ومحلل لهم ذلك) بدعوى ان مقتضى عمومه إباحة التصرف في كل ارض لمن شملهم هذا النص، وإن كانت الأرض من الأرض المفتوحة عنوة على أساس ان أمر تلك الأرض بيد الإمام (ع). وقد أجيب عنه بان الظاهر من التحليل فيها هو التحليل المالكي، لا الشرعي فلا يشمل الأرض المفتوحة عنوة، حيث لا يتصور أن يكون تحليل التصرف فيها من الإمام (ع) تحليلا مالكيا على أساس انها ملك عام للمسلمين، لا للإمام (ع) هذا إضافة: إلى أن الأرض في مورد الصحيحة قد فرض كونها من الأنفال فلا تشمل الأرض المفتوحة عنوة التي هي ليست منها.
260 ولكن يمكن المناقشة: في الجواب الأول بان ظهور التحليل فيها في التحليل المالكي لا يكون قرينة على عدم شمولها للأرض المفتوحة عنوة. والسبب فيه ان أمر الأرض المفتوحة عنوة لما كان بيد الإمام (ع) فبطبيعة الحال التحليل الصادر منه (ع) بالإضافة إلى التصرف فيها يكون تحليلا مالكيا لا حكما شرعيا على أساس انه (ع) مالك لأمرها، لوضوح ان المراد من التحليل المالكي ليس خصوص ما يصدر من المالك بشكل مباشر،، بل المراد منه هو ما يصدر ممن يكون مالكا لأمرها، سواء أكان ذلك على أساس ملكيته لرقبتها أم كان على أساس وكالته ممن يكون مالكا لرقبتها أم كان على أساس ولايته عليه، فان اذن الولي في التصرف في مال المولى عليه اذن مالكي، ليس حكما شرعيا كليا، وكذا اذن الوكيل في التصرف في مال موكله وبما أن الإمام (ع) ولي المسلمين ومالك لأمر تلك الأراضي فبطبيعة الحال اذنه (ع) في التصرف فيها اذن مالكي، وليس حكما كليا إلهيا. فالنتيجة: ان التحليل المالكي في مقابل التحليل الشرعي، فالأول يصدر ممن يكون مالكا لأمر شئ بالإضافة إليه. والثاني يصدر من الشارع بصفة انه حكم كلي في الشريعة المقدسة. وقد تحصل من ذلك: ان هذا الجواب ساقط فلا يمكن الأخذ به واما الجواب الثاني فالظاهر أنه لا بأس به، وذلك لأنا لو كنا نحن وقوله (ع) في الصحيحة (كل ما كان في أيدي شيعتنا من الأرض) وإن كان لا مانع من الالتزام بعمومه للأرض المفتوحة عنوة أيضا إلا أن ما تقدم عليه - وهو قوله (ع) فيها (الأرض كلها لنا) الظاهر في الاختصاص الملكي - قرينة على أن المراد من
261 الأرض في قوله (ع) (كل ما كان في أيدي شيعتنا) هو تلك الأرض التي هي من الأنفال، لا الأعم، كما هو ظاهر سياق الصحيحة أيضا. ويؤكد ذلك ما في ذيلها. فالنتيجة: انه لا يمكن الاستدلال بالصحيحة، لإباحة التصرف في الأرض المفتوحة عنوة لا مطلقا، ولا لخصوص من شملتهم نصوص التحليل. الثالث: بالروايات الواردة في الأبواب المتفرقة فإنه يستفاد منها بمقتضى الفهم العرفي إباحة التصرف في تلك الأراضي واذنه (ع) فيه. منها: الروايات الدالة على جواز شراء تلك الأرض ممن كانت الأرض بيده، وعلل ذلك في بعضها بأن جوازه منوط بما إذا كان المشتري بمنزلة البايع في تأدية الخراج عنها، وفي بعضها الآخر بأن حقه فيها أكثر من ذلك، وفي الثالث نفي البأس عن شراء حق العامل فيها، وتحويل حق المسلمين عليه. فبالتالي: المستفاد من مجموع هذه الروايات هو اذن الإمام (ع) بالتصرف فيها بشرط قيام المتصرف بتأدية حق المسلمين منها، بل يظهر من بعضها ان لكل فرد من المسلمين حق التصرف فيها والانتفاع بها. ومنها الروايات الدالة على إمضاء تصرفات الخلفاء وسلاطين الجور في الأراضي المزبورة بإجارة وتقبيل بالإضافة إلى من يقوم باستيجارها وتقبلها منهم. نعم في تلك الروايات احتمالات:
262 أحدها: أن تكون تلك الروايات قائمة على أساس ان كل فرد من المسلمين ليس حرا في التصرف في تلك الأراضي ما شاء وأراد، بل لا بد في كل عصر من الرجوع إلى من بيده الامر سواء أكان عادلا أم كان فاسقا، وذلك للتحفظ على النظام. ثانيها: أن تكون قائمة على أساس أن لا تبقى الأرض معطلة ثالثها: أن تكون قائمة على أساس ان لكل فرد منهم حقا فيها، وبما انه لا يتمكن من ممارسة حقه في تلك الأراضي بدون مراجعة السلطان الجائر على أساس انها تحت استيلائه وسيطرته خارجا فتكون المراجعة انما هي لأجل استيفاء حقه فيها وممارسته، لا لأجل ان جواز تصرفه فيها يتوقف على اذنه وتقبيله. هذا. والأظهر من هذه الاحتمالات هو الاحتمال الأخير، دون الاحتمالين الأولين، وسوف نشير إلى وجه ذلك. وعليه فتدل تلك الروايات على أنه يجوز أن يقوم كل فرد بممارسة حقه فيها في الإطار العام الاسلامي بدون مراجعة من بيده الأمر ويؤكد ذلك ما يظهر من بعض الروايات من فرض ثبوت الحق لكل فرد من المسلمين فيها. فالنتيجة في نهاية المطاف ان الاظهر هو القول بجواز ممارسة كل فرد من الأمة حقه فيها بشكل من أشكال الانتاج في حدود دائرة الشرع، فالتصرف بهذا الحد مسموح من قبل ولي الأمر. النقطة السادسة الكلام في هذه النقطة انما هو في تعيين من له الولاية على الأرض
263 المفتوحة عنوة لا اشكال: في ولاية الإمام (ع) عليها، إذ مضافا إلى ثبوت الولاية العامة له (ع) قد دلت على ذلك مجموعة من النصوص. منها: الروايات المتقدمة التي قد نص فيها بأن أمر تلك الأرض بيد الإمام (ع) وهذا لا كلام فيه، وانما الكلام والاشكال في ولاية السلطان الجائر عليها. قيل: بثبوت الولاية له بل أفرط في القول بها حتى جعله بمنزلة الإمام العادل. وغير خفي: ان هذا القول يقوم على أساس ان منصب الولاية لازم لمنصب السلطنة والحكومة وإن كان المتقاص به غاصبا وجائرا. وقيل: بعدم ثبوت الولاية له أصلا، بل قيل: بعدم نفوذ تصرفه فيها مطلقا وإن كان على طبق المصلحة العامة. وهذا القول: يقوم على أساس أن نفوذ تصرف كل شخص في مال اخر بحاجة إلى دليل، ولا دليل عليه هنا. والصحيح في المقام ان يقال: إنه لا شبهة في عدم ثبوت الولاية للسلطان الجائر، والسبب فيه ان ثبوت الولاية بحاجة إلى دليل، ولا دليل عليه، لا عقلا، ولا نقلا. أما الأول: فواضح بل العقل بمناسبة الحكم والموضوع يحكم بعدم لياقة الجائر للتلبس بهذا المنصب العظيم الإلهي - وهو منصب الولاية والجلوس على كرسي الخلافة -. وأما الثاني: فأيضا كذلك بل يستفاد من مجموعة من النصوص انه لا يجوز الرجوع إلى حاكم الجور، وقد علل في بعضها ان الاخذ بحكمه اخذ بحكم الطاغوت، وهو باطل وسحت.
264 إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة: وهي انه كما لا دليل على ثبوت الولاية للجائرة على أموال الناس، بل قد عرفت ان الدليل من العقل والنقل قد قام على عدم ثبوتها له جزما، كذلك لا دليل على نفوذ حكمه، بل إن الدليل قد قام على عدم نفوذه، هذا كله بالإضافة إلى ثبوت الولاية له ونفوذ حكمه بصورة عامة. وأما تصرفاته في خصوص ما نحن فيه أي - الأرض المفتوحة عنوة - بتقبيل ونحوه فهل هي نافذة؟ الظاهر هو نفوذها، بالمعنى الآتي لدلالة عدة من الروايات على ذلك. منها: صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: في القبالة أن تأتي الأرض الخربة فتقبلها من أهلها عشرين سنة إلى أن قال: وقال: لا بأس أن يتقبل الأرض وأهلها من السلطان الحديث (1) ومنها: معتبرة إسماعيل بن الفضل الهاشمي قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن رجل اكترى أرضا من ارض أهل الذمة من الخراج وأهلها كارهون وانما يقبلها السلطان بعجز أهلها عنها أو غير عجز فقال: (إذا عجز أربابها عنها فلك أن تأخذها الا أن يضاروا، وان أعطيتهم شيئا فسخت أنفسهم بها لكم فخذوها) الحديث (2). ومنها: رواية إبراهيم الكرخي قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن رجل له قرية عظيمة وله فيها علوج يأخذ منهم السلطان خمسين درهما، وبعضهم ثلاثين، وأقل، وأكثر ما تقول: ان صالح عنهم السلطان أعني صاحب القرية بشئ ويأخذ هو منهم أكثر مما يعطي
(1) الوسائل ج 13 الباب 8 من أحكام المزارعة والمسافات الحديث 3 (2) الوسائل ج 12 الباب 21 من أبواب عقد البيع الحديث 10 265 السلطان قال: قال. (هذا حرام) (1). ومنها: صحيحة إسماعيل بن الفضل الهاشمي عن أبي عبد الله (ع) قال سألته عن الرجل استأجر من السلطان من أرض الخراج بدراهم مسماة أو بطعام مسمى، ثم أجرها وشرط لمن يزرعها أن يقاسمه النصف أو أقل من ذلك أو أكثر، وله في الأرض بعد ذلك أيصلح له ذلك قال: (نعم إذا حفر لهم نهرا أو عمل لهم شيئا يعينهم بذلك فله ذلك) الحديث (2). فالمستفاد من مجموعة هذه النصوص: هو نفوذ تصرف السلطان الجائر في الأراضي الخراجية، وجواز أخذها منه بايجارة وتقبيل، وهذا لا يعني ان تصرفه فيها جائز، إذ لا شبهة في أن تصديه لهذا المنصب، وتصرفه فيها محرم على أساس انه غاصب لذلك، ومع هذا كيف يكون تصرفه في تلك الأراضي التي هي ملك عام للمسلمين جائزا، بل المقصود من تلك النصوص هو نفوذ تصرفه بالإضافة إلى من يقوم بممارسة هذه الأراضي يعني - يجوز له أخذ الأرض من يده بايجارة وتقبيل وإن كان ذلك محرم عليه - ومن هنا أشرنا آنفا: إلى أن في تلك النصوص احتمالات: الأول: أن يكون نفوذ تصرفهم على أساس أن لا تبقى الأرض معطلة رغم حاجة المسلمين إلى استثمارها وممارسة إنتاجها. الثاني: أن يكون على أساس التحفظ على النظام السائر في البلاد الثالث: أن يكون على أساس ان لكل فرد منهم حقا فيها. وهذا الوجه هو الظاهر منها، دون الوجهين الأولين.
(1) الوسائل ج 12 الباب 93 من أبواب ما يكتسب به الحديث 1 (2) الوسائل ج 13 الباب 21 من أحكام الإجارة الحديث 3، 4 266 أما الوجه الأول فلأن غير الشيعة من طوائف المسلمين بما انهم يرون على ضوء منهجهم الفقهي أن خلافة هؤلاء الخلفاء والسلاطين كانت على حق نظرا إلى أن هؤلاء كانوا لديهم من ولاة الامر الذين قد أمر في الآية الكريمة بلزوم اتباعهم فلا محالة تكون تصرفاتهم في تلك الأراضي بتقبيل وإجارة ونحو ذلك نافذة عندهم وعن استحقاق، بدون حاجة إلى تلك النصوص وأما الشيعة فبما أن نسبتهم إلى تلك الطوائف في ذلك العصر كانت في غاية القلة فلا يلزم من عدم نفوذ تصرفاتهم في حقهم تعطيل الأرض. وبذلك يظهر حال الوجه الثاني، فان غير الشيعة من الطوائف - بما انهم كانوا معتقدين ان النظام الموجود في عصر هؤلاء الخلفاء هو النظام الذي قد أمر في الاسلام باتباعه - يرون أنفسهم ملزمين بوجوب العمل على وفق ذلك النظام، وعدم جواز مخالفته، بدون حاجة إلى النصوص المزبورة. وأما الشيعة فبما انهم كانوا قليلين فلا يلزم من عدم عملهم على وفق النظام المزبور الهرج والمرج والتعدي على حقوق الآخرين، على أنهم لا يتمكنون من المخالفة جهرا. فاذن يتعين الوجه الثالث - وهو ان إمضاء الإمام (ع) في تلك النصوص انما هو يقوم على ضوء أن يتيح الفرصة لهم لممارسة حقوقهم فيها واستنقاذها - حيث إن لهم حقا فيها، كما يظهر من بعض الروايات، فلو لم يمض الإمام (ع) ذلك لضاع حقهم فيها على أساس انهم لا يتمكنون من ممارستها واستنقاذها بطريق آخر.
267 النقطة السابعة إن الأرض العامرة حال الفتح عنوة إذا ماتت وخربت فهل تنقطع بذلك علاقة المسلمين عنها نهائيا؟ فيه وجهان: الصحيح عدم انقطاع علاقتهم عنها كذلك، لما تقدم منا في ضمن البحوث السالفة من أن علاقة الفرد بالأرض إذا كانت على مستوى الملك لم تنقطع عنها نهائيا بعد الخراب والموت، بل قلنا إنها لا تنقطع بالامتناع عن القيام بعملية احيائها وعمارتها، غاية الأمر يجوز لغيره في هذا الفرض أن يقوم بهذه العملية بإذن من ولي الأمر رغم أن رقبة الأرض باقية في ملكه. وفيما نحن فيه حيث إن علاقة المسلمين بالأرض كانت على مستوى الملك فلا تنقطع عنها بالخراب. ودعوى - ان ملكية المسلمين للأرض لما كانت مقيدة بالحياة بمقتضى صحيحة الحلبي، حيث قد قيدت الأرض فيها بالسواد، فإذا زالت حياتها انقطعت علاقة الأمة عنها نهائيا بانتفاء موضوعها - خاطئة جدا، وذلك لأن التقييد في الصحيحة بما انه كان في كلام لسائل دون كلام الإمام (ع) فلا مفهوم له، وقد تقدم ان مقتضى عدة من الروايات هو ان موضوع ملكية المسلمين مطلق الأرض سواء أكانت ميتة أم كانت حية طبيعيا كانت أو بشريا. ومن هنا قلنا إن الأرض الموات إذا أخذت من الكفار عنوة فهي ملك للمسلمين فلا يعتبر في ملكيتهم كون المأخوذ سوادا. وعلى هذا الأساس فلا مجال
268 لهذه الدعوى أصلا. ولو تنزلنا عن ذلك. وسلمنا ان موضوع ملكية المسلمين حصة خاصة من الأرض، وهي الأرض السواد بشريا، وهذا يعني - ان الأرض المأخوذة من الكفار إذا كانت عامرة بجهد من الانسان فهي تصبح ملكا للمسلمين وإلا فلا -. أو فقل: ان هذا القول يقوم على أساس ان بسبب الفتح تنتقل ملكية الكافر من الأرض إلى المسلمين فكل أرض لم تكن ملكا للكافر فلا أثر للفتح بالإضافة إليها فعندئذ هل تنقطع ملكية المسلمين عنها بعد خرابها وزوال حياتها أو لا؟ فيه وجهان: الظاهر هو الوجه الثاني، وذلك لما عرفنا في ضمن البحوث السالفة من أن الارتكاز القطعي من العرف قائم على أن موضوع الملك هو ذات الأرض والحياة جهة تعليلية، لا تقييدية فإذا زالت لم يزل الملك. وبكلمة أخرى ان الحياة وإن كانت شرطا لملكية المسلمين الأرض بالفتح إلا أنها لدى العرف شرط خارجي، وليست مقومة للموضوع إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة: وهي ان الأرض المفتوحة عنوة إذا كانت عامرة وزال عمرانها وأصبحت مواتا لم تخرج عن نطاق ملكية المسلمين فلا يجوز لأي واحد أن يقوم باحيائها وعمرانها إلا بإجازة من بيده الأمر على الشكل الذي مر سابقا.
269 النقطة الثامنة ان ملكية الأرض الخراجية للمسلمين ترتكز على ركيزتين. الأولى: أن يكون أخذها من الكفار بالعنوة والجهاد المسلح ولذا يعبر عنها بالأرض المفتوحة عنوة. وتدل على هذه الركيزة صحيحة أبي نصر المتقدمة. وان شئت قلت: ان الأرض المأخوذة من الكفار لا تخلو من أن تكون بالقهر والغلبة، أو تكون بدون التوسل بذلك، ولا ثالث لهما، وعلى الأول فهي ملك للمسلمين بمقتضى هذه الصحيحة، وعلى الثاني فهي ملك للإمام (ع) بمقتضى مجموعة من الروايات التي تقدمت في صدر الكتاب الدالة على أن ما لم يوجف عليه بخيل. ولا ركاب فهو للإمام (ع). الثانية: أن يكون ذلك بإذن الإمام (ع) وأمره. وتدل على ذلك: صحيحة معاوية بن وهب قال قلت: لأبي عبد الله (ع) السرية يبعثها الإمام (ع) فيصيبون غنائم كيف يقسم قال: (ان قاتلوا عليها مع أمير أمره الإمام (ع) عليهم أخرج منها الخمس لله وللرسول، وقسم بينهم أربعة أخماس، وان لم يكونوا قاتلوا عليها المشركين كان كل ما غنموا للإمام (ع) يجعله حيث أحب) (1)
(1) الوسائل ج 11 الباب 41 من أبواب جهاد العدو الحديث 1. 270 وجه دلالة الصحيحة انها تتكفل قضية شرطية قد أخذ في موضوعها قيد ان: أحدهما: أن تكون الغنائم مأخوذة من الكفار بالقتال وهراقة الدماء. والآخر: أن يكون ذلك القتال بأمر الإمام (ع) واذنه، فإذا تحقق القيدان معا فالغنيمة للمقاتلين تقسم بينهم بعد اخراج خمسها، وإذا انتفى القيد الأول فالغنيمة للإمام (ع) كما صرح بذلك في ذيل الصحيحة. وإذا انتفى القيد الثاني فالامر أيضا كذلك بمقتضى الفهم العرفي وان لم يصرح به في الصحيحة على أساس أن القضية في حد نفسها تدل عليه بلا حاجة إلى التصريح. وتصريح الإمام (ع) في الصحيحة بأحد فردي المفهوم دون الفرد الآخر لا يمنع عن ظهورها فيه، لعدم علاقة بين الأمرين من هذه الناحية يعني - ان التصريح بأحدهما لا يكون قرينة على عدم الآخر لدى العرف -. ويؤيد ذلك: مرسلة العباس الوراق عن رجل سماه أبي عبد الله (ع) قال: (إذا غزا قوم بغير إذن الإمام (ع) فغنموا كانت الغنيمة كلها للإمام (ع) وإذا غزوا بأمر الإمام فغنموا كان للإمام الخمس ). ودعوى: - ان ضعفها منجبر بعمل الأصحاب - خاطئة جدا، فان الصغرى في المقام غير متحققة. مضافا إلى المناقشة في الكبرى كما عرفت. ثم إن الغنيمة في مورد الصحيحة وإن كانت هي الغنيمة المنقولة بقرينة تقسيمها على المقاتلين خاصة إلا أن الارتكاز القطعي لدى
271 العرف قائم على عدم خصوصية لها فالحكم فيها لا محالة يعم غير المنقول منها أيضا كالأرض على أساس هذا الارتكاز. فالنتيجة لحد الآن: انه لا بأس بالالتزام بدلالة الصحيحة على اعتبار الاذن فيما نحن فيه أيضا بضميمة ذلك الارتكاز. وأما إذا نوقش في دلالة الصحيحة، اما من ناحية عدم المفهوم لها، أو من ناحية اختصاصها بالغنائم المنقولة فهل يمكن الحكم بملكية الأرض المأخوذة من الكفار عنوة للأمة وإن كانت بغير اذن الإمام (ع)؟ فيه وجهان: لا يبعد أن يكون الأظهر هو الوجه الثاني، وسوف نشير إليه. وأما ما عن شيخنا العلامة الأنصاري (قده): - من أن عدم إعتبار الاذن انما هو من ناحية معارضة مرسلة الوراق مع مجموعتين من الروايات. إحداهما: جاءت بهذا النص: ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فهو للإمام (ع)، فإنها تدل بمفهومها على أن ما يوجف عليه بخيل وركاب فهو ليس منه (ع) فالمعارضة بين إطلاق المرسلة وإطلاق مفهوم هذه المجموعة، فان إطلاق الأولى يشمل الأرض وغيرها، وإطلاق مفهوم الثانية يشمل صورة الاذن وعدمها، فمورد الالتقاء بينهما الأرض المفتوحة عنوة بدون الاذن من الإمام (ع). والاخرى جاءت بنص آخر: ما أخذ بالسيف فذلك إلى الامام يقبله بالذي يرى، فان إطلاقها يعم صورة الاذن وعدمها. فعندئذ يكون مورد الالتقاء والمعارضة بين الجميع هو الأرض المذكورة، فان مقتضى إطلاق المرسلة انها ملك للإمام (ع) نظرا إلى أنها مأخوذة بدون أمره وإذنه، ومقتضى إطلاق هاتين المجموعتين انها
272 ملك عام للمسلمين، وبما انه لا مرجح لاحد الطرفين على الطرف الآخر فالمرجع هو عموم الآية، ومقتضاه هو ان خمسها للإمام (ع). واما الباقي فهو لغيره، ويدور أمره بين ان يكون لعموم المسلمين أو خصوص المقاتلين، وحيث لا نص، ولا اجماع على الثاني فيتعين الأول. فيرد عليه أولا: ان المرسلة ضعيفة سندا فلا يمكن الاعتماد عليها، كما أشرنا إليه آنفا. وثانيا: على تقدير تسليم ان المرسلة تامة من ناحية السند - ولو من جهة جبر ضعفها بعمل الأصحاب - إلا أنه لا يمكن ان تتعارض معها المجموعتان المتقدمتان من الروايات. أما المجموعة الأولى: فيما ان دلالتها على المفهوم تقوم على أساس مفهوم القيد فلا تدل على نفي هذا الحكم عن موضوع آخر - وهو الأرض المأخوذة من الكفار عنوة بدون اذن الإمام (ع) - يعني - لا تدل على انها ليست ملكا للإمام (ع) فإنها ساكتة بالإضافة إلى ذلك نفيا واثباتا. نعم إنها تدل بمقتضى هذا المفهوم على أن هذا الحكم أعني - الملكية - لم يثبت لطبيعي الأرض المأخوذة من الكفار على نحو الاطلاق، والا لكان التقييد بالقيد المذكور فيها لغوا، ولا تدل على أنه لم يثبت لحصة أخرى منه، فاذن لا معارضة بينها وبين المرسلة، فان المرسلة تدل على أن هذه الحصة مالك للإمام (ع) أيضا، وتلك المجموعة ساكتة عن ذلك، ومن الطبيعي انه لا معارضة بين ما فيه الدلالة وما لا دلالة فيه. وهذا بخلاف ما إذا كانت دلالتها عليه تقوم على أساس مفهوم الشرط، فإنها حينئذ تدل على نفي الحكم
273 عنها، وتصلح ان تعارض المرسلة، وبذلك يمتاز مفهوم الشرط عن مفهوم القيد. وأما المجموعة الثانية: فالظاهر أنه لا اطلاق لها من هذه الناحية، فإنها في مقام بيان حكم آخر - للأرض المأخوذة من الكفار بالسيف وهراقة الدماء بعد الفراغ عن ملكيتها للمسلمين - وهو ان أمرها بيد الإمام (ع) وليست في مقام بيان شرائط ملكية هذه الأرض للأمة، فاذن لا اطلاق لها من هذه الناحية لكي تشمل صورة عدم الإذن. وعلى الجملة: فهذه المجموعة تدل على أن أمر الأرض التي هي ملك للمسلمين بيد الإمام (ع) وله ان يقبله بالذي يرى، ويصرف حاصلها ونتاجها في مصالح الأمة فلا تدل بوجه على عدم اعتبار اذن الإمام (ع) في ملكية الأمة للأرض. ومن ذلك: يظهر حال صحيحة الحلبي ونحوها، فان السؤال في هذه الصحيحة إنما هو عن حال الأرض السواد في الخارج المأخوذة من الكفار بالجهاد المسلح، وأجاب الإمام (ع) عن ذلك بأنها ملك لجميع المسلمين، ومن الطبيعي انه لا دلالة لها بوجه على أن اخذها منهم كان بإذن الإمام (ع) أو لا يكون بإذن منه، لأن مدلولها إنما هو ملكية تلك الأرض لجميع الأمة إلى يوم القيامة، ولا تنظر إلى حالة اخذها من الكفار وانه كان مع الاذن أو بدونه أصلا، فاذن لا اطلاق للصحيحة بالإضافة إلى هذه الحالة كي يتمسك باطلاقها لاثبات عدم اعتبار الاذن في كونها ملكا لهم. واما الروايات: الدلالة على وجوب الخراج عليها، وعدم جواز شرائها، وغيرهما من الاحكام والآثار فهي بأجمعها مسوقة لبيان
274 ما يترتب على ملكيتها للمسلمين من الآثار والاحكام بعد الفراغ عن كونها ملكا لهم، ولا تنظر إلى ما يعتبر في ملكيتها من الشرائط ابدا. فالنتيجة: انه لا اطلاق لشئ من تلك المجموعات كي يدل باطلاقه على عدم اعتبار الاذن فيها. وثالثا: مع الإغماض عن جميع ذلك، وتسليم المعارضة بينهما وبين المرسلة إلا أن الآية الكريمة لا تصلح أن تكون مرجعا لاثبات ان تلك الأرض بعد اخراج خمسها ملك للمسلمين، فإنها لا تدل على ذلك، بل لا يبعد دعوى ظهور الآية في أن الباقي ملك للمقاتلين على أساس ان الخطاب فيها متوجه إليهم خاصة، وعليه فالمرجع هو العام الفوقي (كل ارض لا رب لها فهو للإمام (ع))، فإنه يثبت - بعد ضم الأصل الموضوعي إليه - ان الأرض المزبورة ملك للإمام (ع) على أساس انها تدخل في الأرض التي لا رب لها. وقد تحصل من ذلك: ان ما عن الشيخ الأعظم (قده) لا يمكن اتمامه بوجه. إلى هنا قد استطعنا ان نخرج بهذه النتيجة: وهي ان الروايات الواردة في الأراضي الخراجية بمجموعاتها المختلفة لا يدل شئ منها على عدم اعتبار الاذن في ملكية تلك الأراضي للأمة بسبب الفتح خارجا هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى إذا افترضنا انه لا دليل على اعتبار الاذن في ملكيتها على أساس أن المرسلة ضعيفة سندا، وصحيحة معاوية لا دلالة فيها على ذلك، فاذن النتيجة على ضوء هاتين الناحيتين، هي: ان الأرض المفتوحة عنوة إذا كان فتحها بدون اذن الإمام (ع) فهي كما انها ليست ملكا للمسلمين على أساس قصور أدلتها عن شمول تلك،
275 فكذلك ليست ملكا للإمام (ع) بعين ذاك الملاك، فعندئذ لا مانع من الرجوع إلى العام الفوقي المزبور، ومقتضاه - بعد ضم الأصل الموضوعي إليه - هو ان الأرض المزبورة ملك الإمام (ع). نتيجة هذا البحث عدة نقاط: الأولى: ان ملكية المسلمين للأراضي الخراجية ترتكز على ركيزتين: 1 - اخذها من الكفار بالجهاد المسلح. 2 - كون الاخذ بإذن الإمام (ع) وأمره. الثانية: ان الغنيمة في مورد صحيحة معاوية وإن كانت خصوص الغنائم المنقولة الا ان الارتكاز القطعي من العرف قائم على عدم خصوصية لها. الثالثة: ان ما ذكره شيخنا العلامة الأنصاري (قده) - في وجه عدم اعتبار الاذن - فقد عرفت انه لا يمكن اتمامه بدليل. الرابعة: ان أدلة ملكية المسلمين للأرض المفتوحة عنوة في حد نفسها قاصرة عن شمولها إذا كانت مأخوذة من الكفار بدون اذن الإمام (ع) وأمره. النقطة التاسعة ان الأراضي التي فتحت عنوة من قبل المسلمين بعد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي زمن الخلفاء وولاة الجور من بني
276 أمية وبني العباس هل يمكن لنا احراز ان تلك الفتوحات كانت بإذن الإمام (ع) وأمره؟ فيه وجهان: الصحيح انه لا يمكن احراز ذلك، فان ما قيل: أو يمكن ان يقال: في طريق اثبات ذلك عدة وجوه: لا يتم شئ منها: الأول: صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) قال: سألته عن سيرة الامام في الأرض التي فتحت بعد رسول الله (ص) فقال: ان أمير المؤمنين (ع) قد سار في أهل العراق سيرة فهم امام لسائر الأرضين الحديث (1)، فإنها تدل على أن أمير المؤمنين (ع) قد سار في ارض العراق بسيرة تكون إماما لسائر الأرضين، وبما أن معاملته (ع) معها كانت معاملة أرض المسلمين رغم انها فتحت بعد النبي الأكرم (ص) وفي زمن الخلفاء فتدل على أن فتحها كان بإذن الإمام (ع) والا لكانت من الأنفال. والجواب عن ذلك أولا: ان هذه السيرة منه (ع) في ارض العراق لا تدل على أن الفتح كان في ذلك العصر بإذن الإمام (ع) ومشورته، وذلك لان مجرد صرفه (ع) حاصل هذه الأرض ونتاجها في مصالح المسلمين لا يدل على أن رقبة الأرض داخلة في نطاق ملكيتهم، فإنه كما ينسجم مع افتراض كونها ملكا عاما للمسلمين، كذلك ينسجم مع افتراض كونها ملكا للإمام (ع) على أساس ان أمر الرقبة على كلا الفرضين بيده (ع) وله ان يتصرف فيها من تقبيل وإجارة ونحو ذلك، ويصرف نتاجها فيما يرى من المصلحة سواء أكانت من
(1) الوسائل ج 11 الباب 49 من أبواب جهاد العدو الحديث (2). 277 مصالح الدولة الاسلامية أم كانت من مصالح المسلمين، حيث إن الأولى ترجع بالتالي إلى الثانية. وثانيا: أن أمير المؤمنين (ع) لا يقدر على تغيير ما صنعه الخلفاء قبله، وعليه فكيف تدل سيرته (ع) في أرض العراق - على أساس انها امام لسائر الأرضين - على أن تلك الفتوحات كانت واقعة بإذن الإمام (ع) ومشورته. وعلى ذلك فالمراد من أن سيرته (ع) في أرض العراق امام لسائر الأرضين هو انه لا بد من أن يسير ويعمل في كل ارض كان أمرها بيد الإمام (ع) بسيرة أمير المؤمنين (ع) في ارض العراق، ولا يجوز التخطئ عن هذه السيرة يمنة ويسرة. الثاني: ما ورد في بعض الروايات من أن الفتوحات الواقعة في عصر خلافة الثاني قد كانت بإذن أمير المؤمنين (ع) ومشورته. والجواب عنه. أولا: ان تلك الروايات لم تثبت بحيث يمكن الاستدلال بها. وثانيا: انها لو تمت فإنما تتم في الفتوحات التي وقعت في عهد خليفة الثاني فحسب، دون الفتوحات الواقعة في زمان خلفاء بني أمية وبني عباس حيث إنها لم تكن على أساس مشورة الأئمة الاطهار (ع) واذنهم نهائيا. الثالث: ان تلك الفتوحات وان لم تكن بأمر الإمام (ع) واذنه الا انها لما كانت بعنوان الاسلام في مقابل الكفر والضلال فبطبيعة الحال كانت كاشفة عن رضا الأئمة (ع) بها جزما على أساس انها تمنح الاسلام هيبة وعظمة - مادية ومعنوية - ومن الطبيعي ان ذلك الرضا يكفي في صيرورة الأرض ملكا للأمة.
278 والجواب عنه. أولا: ان كشف تلك الفتوحات عن رضا الإمام (ع) بها يقوم على أساس انها بشتى اشكالها وألوانها كانت على مصلحة الاسلام والدين ومن المعلوم ان اثبات ذلك في غاية الاشكال بل المنع لعدم الطريق إلى احراز انها بأجمعها كانت كذلك. وثانيا: قد ورد في عدة من الروايات عدم مشروعية الجهاد الا مع امام معصوم (ع). منها: رواية بشير عن أبي عبد الله (ع) قال: قلت: له اني رأيت في المنام اني قلت لك ان القتال مع غير الامام المفترض طاعته حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير فقلت: لي نعم هو كذلك فقال: أبو عبد الله (ع) هو كذلك وهو كذلك (1) فإنها واضحة الدلالة على أن الجهاد مع غير الامام المفترض طاعته محرم وانما الكلام في سندها ولا اشكال فيه إلا من ناحية بشير حيث لم يرد توثيق فيه إلا وقوعه في اسناد كامل الزيارات فعندئذ ان اكتفينا بذلك فالرواية صحيحة وإلا فلا، وقد أشرنا إلى أن الاكتفاء به مشكل. ومنها: صحيحة عبد الله بن المغيرة قال: محمد بن عبد الله: للرضا (ع) - وانا اسمع - حدثني أبي عن أهل بيته عن آبائه أنه قال : له بعضهم: ان في بلادنا موضع رباط يقال له قزوين، وعدوا يقال: له الديلم فهل من جهاد أو هل من رباط فقال: (عليكم بهذا البيت فحجوه، فأعاد عليه الحديث فقال: عليكم بهذا البيت
(1) الوسائل ج 11 الباب 12 من أبواب جهاد العدو الحديث 279 فحجوه، اما يرض أحدكم ان يكون في بيته ينفق على عياله من طوله ينتظر امرنا، فان أدركه كان كمن شهد مع رسول الله (ص) بدرا، فان مات ينتظر امرنا كان كمن كان مع قائمنا صلوات الله عليه، وهكذا في فسطاطه وجمع بين السبابتين ولا أقول: هكذا، وجمع بين السبابة والوسطى، فان هذه أطول من هذه فقال أبو الحسن (ع): صدق) (1). فان هذه الرواية تامة دلالة وسندا. ومنها: رواية عبد الملك بن عمرو، قال: قال: لي أبو عبد الله (ع) يا عبد الملك مالي أراك تخرج إلى هذه المواضع التي يخرج إليها أهل بلادك قال: قلت: وأين؟ قال: جده، وعبادان، والمصيمة، وقزوين، فقلت انتظارا لأمركم والاقتداء بكم فقال: أي والله لو كان خيرا ما سبقونا إليه الحديث (2). فهذه الرواية وإن كانت لا بأس بها من ناحية الدلالة إلا أن الاشكال فيها من ناحية السند على أساس ان في سندها حكم بن مسكين، وعبد الملك بن عمرو ولم يرد فيهما توثيق غير وقوع الأول في اسناد كامل الزيارات، وقد عرفت ان الاكتفاء بذلك في توثيق الراوي مشكل، ورواية ابن أبي عمير - الذي هو من أصحاب الاجماع - عن الثاني، وقد تقدم انه لا يمكن الاكتفاء به في توثيق الراوي. ومنها غيرها من الروايات: وبالرغم من هذا فكيف يمكن ان ينسب إلى الأئمة (ع) الرضا بالفتوحات المزبورة رغم ان تلك الفتوحات لم تكن مع الامام المفترض طاعته، ولا بأمره واذنه (ع).
(1، 3) الوسائل ج 11 الباب 12 من أبواب جهاد العدو 280 مع اننا عرفنا ان المعتبر - في ملكية الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين - هو ما إذا كان فتحها خارجا مع الامام المفترض طاعته، أو كان بأمره واذنه. واما إذا لم يكن فتحها في الخارج كذلك فهي داخلة في نطاق ملكية الإمام (ع)، لا الأمة، ولا فرق في ذلك بين ان يتوفر فيها الرضا القلبي من الإمام (ع) أو لا؟ فإنه لا يكفي في صيرورة الأرض ملكا للمسلمين، ضرورة انه لا اثر للرضا المزبور ما لم يكن له ميرز في الخارج من قول أو فعل، فان الدليل على اعتباره إن كان صحيحة معاوية بن وهب فهي تدل بمقتضى مفهومها على اعتبار الاذن والامر من الإمام (ع) ولازم ذلك عدم كفاية الرضا القلبي فحسب بدون الاذن. وإن كان قصور أدلة ملكية المسلمين عن شمول الأرض فيما إذا كان فتحها بدون اذن من الإمام (ع) فهو بطبيعة الحال يعم ما إذا كان الإمام (ع) راضيا به قلبا، وما إذا لم يكن راضيا به كذلك أيضا. فالنتيجة: ان وجود الرضا القلبي بالفتح خارجا لا يكفي لصيرورة الأرض ملكا للمسلمين إذا لم يكن له ميرز في الخارج. وثالثا: على تقدير تسليم ان الرضا القلبي من الإمام (ع) بالفتح يكفي في صيرورة الأرض ملكا للأمة إلا أنه لا طريق لنا إلى احرازه، حيث إن توهم احرازه انما هو على أساس ان تلك الفتوحات بما انها تمنح الاسلام هيبة وسيطرة - مادية ومعنوية - فلأجل ذلك تستلزم رضا الله تعالى، ورسوله (ص)، وأولو الامر بها. ولكن الكلام انما هو في ثبوت هذه الملازمة، وهي غير ثابتة، لوضوح انه لا ملازمة بين محبوبية شئ ومحبوبية مقدمته، فيمكن ان يكون الشئ محبوبا لدى الله تعالى، ولكن مقدمته كانت مبغوضة عنده فلا يرضى
281 ان يؤتى بتلك المقدمة لأجل الاتيان بذلك الشئ. وفيما نحن فيه وإن كان تأييد الدين الاسلامي وتوسعته محبوبا لدى الأئمة (ع) الا انه لا يستلزم أن تكون تلك الفتوحات أيضا محبوبة على أساس انها مقدمة له، إذ يمكن أن تكون تلك الفتوحات مبغوضة باعتبار ان فيها مفسدة رغم ان ما يترتب عليها محبوب، فالملازمة المذكورة غير ثابتة، وعليه فكيف يمكن احراز رضا الإمام (عليه السلام) بها. هذا إضافة إلى أن تلك الفتوحات لا تنسجم مع الاسلام بمحتواه الواقعي، فإنها وإن كانت في اطار الاسلام الا انها انما كانت في اطاره اسميا لا واقعيا على أساس ان المتصدين للفتوحات المزبورة كانوا منحرفين عن الاسلام وخطواته الأساسية التي جاء بها الرسول الأعظم (ص) بوحي من الله، وعليه فكيف تكون تلك الفتوحات محبوبة عند الله ورسوله (ص) رغم انها توجب انتشار الاسلام بشكل منحرف عن طرقه القويمة وخطوطه الأصيلة الواقعية. الرابع: ان الفتوحات المذكورة بما ان امرها يدور بين أن تكون على وجه صحيح كما إذا كانت بإذن الإمام (ع) أو على وجه باطل كما إذا لم تكن مع الامام المفترض طاعته، ولا بإذن منه ففي مثل ذلك لا بد من حملها على الصحيح. والجواب عنه: انه لا يمكن حمل تلك الفتوحات على الوجه الصحيح، لان ذلك انما يرتكز على أساس ان يكون الخلفاء والولاة الذين يقومون بالفتوحات المزبورة منسجمين مع الأئمة (ع) - بان يكونوا دائما بصدد أن تكون فتوحاتهم في كل عصر بمشورتهم (عليهم السلام) واذنهم - فعندئذ لو شك في مورد ان الفتح فيه كان
282 بإذن الإمام (ع) أم لم يكن حمل على الصحيح من باب ظهور الحال، والفرض انهم ليسوا منسجمين مع الأئمة الاطهار (ع) كيف حيث إنهم كانوا معارضين لهم تمام المعارضة، وكانوا بصدد محو آثارهم نهائيا عن دنيا الاسلام، ومع ذلك كيف يمكن حمل تلك الفتوحات على انها كانت في كل عصر بإذن الإمام (ع) ومشورته. فالنتيجة في نهاية المطاف: انه لا يمكن اثبات ان الفتوحات الواقعة بعد النبي الأكرم (ص) انما هي واقعة بإذن الإمام (ع) وأمره، فاذن - على أساس ما ذكرناه من اعتبار الاذن من ولي الأمر في ملكية المسلمين للأرض المفتوحة عنوة - يكون جميع الأراضي التي فتحت بعد النبي الأكرم (ص) ملكا للإمام (ع) لا للأمة. ومن ذلك يظهر حال ارض العراق أو ما شاكلها التي عبر عنها بأرض السواد، فإنه لا يمكن الحكم بكونها ملكا عاما للمسلمين، حيث لم يكن فتحها في زمان النبي الأكرم (ص) بل كان في العقد الثاني من الهجرة، وقد تقدم انه لم يثبت كونه بمشورة من أمير المؤمنين (ع) واذنه. وما هو المشهور بين الأصحاب - من أن ارض العراق أو ما شاكلها ملك للأمة - مبني على أحد أمرين: الأول: عدم اعتبار الاذن من الإمام (ع) في ذلك وقد عرفت اعتباره في ضمن البحوث السالفة. الثاني: اثبات الاذن بأحد الوجوه المتقدمة، ولكن قد عرفت عدم تمامية شئ منهما. إلى هنا قد استطعنا ان نخرج بهذه النتيجة: وهي انه لا تترتب على البحث التطبيقي أية ثمرة عملية، فان الأرض المفتوحة عنوة
283 كأرض العراق أو نحوها سواء أكانت ملكا للمسلمين أم كانت ملكا للإمام (ع) فأمرها بيده (ع) وله ان يتصرف فيها بما يرى من تقبيل وإجارة، ونحوهما بلا فرق بين نوعين من الملك أصلا، كما أن له (ع) ان يصرف حاصلها ونتاجها في مصالح المسلمين أو مصالح الدولة التي ترجع بالتالي إلى مصالح المسلمين، فلا ثمرة من هذه الناحية بين كون تلك الأراضي ملكا للمسلمين، وكونها ملكا للإمام (ع) هذا من جانب. ومن جانب آخر: انها على تقدير كونها ملكا للمسلمين فقد عرفنا انها ظلت في نطاق ملكيتهم، ولا تنقطع علاقتهم عنها نهائيا بعد الخراب، لما مر بنا في ضمن البحوث السالفة من أن العلاقة بالأرض إذا كانت على مستوى الملك لم تنقطع عنها بالخراب، ولا بقيام غيره باحيائها، كما قد مر بنا انه لا فرق في دخول الأرض في نطاق ملكية المسلمين بين كونها عامرة أو مواتا فلا فرق من هذه الناحية أيضا بين كونها ملكا للأمة أو ملكا للامام، فإنها على كلا التقديرين لا تخرج عن ملك صاحبها، لا بعد الخراب، ولا بعد قيام غيره باحيائها كما تقدم. ومن هنا لا داعي للبحث بأكثر وأوسع من ذلك في مجال التطبيق والتشخيص بين نوعين من ملكية الأرض أصلا. النقطة العاشرة ان الخراج الموضوع على الأرض بتقبيل وإجارة من قبل ولي المسلمين يتبع الأرض في نوع الملك. فإن كانت الأرض ملكا عاما
284 للأمة فالخراج أيضا كذلك. وإن كانت ملكا للإمام (ع) فالخراج أيضا ملكا له (ع) هذا. ولكن قد عرفت انه لا ثمرة بين نوعين من الملك أصلا على أساس ان امرهما بيد الإمام (ع) فله ان يصرف ما هو ملك للمسلمين في مصارف الدولة ونفقات الحكومة إذا رأى في ذلك مصلحة، وبالعكس. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى لا شبهة في أنه يجب على المتقبلين دفع الخراج إلى الإمام (ع). وانما الكلام والاشكال في وجوب دفعه إلى السلطان الجائر. فذهب جماعة إلى وجوب دفعه إليه: منهم الشهيدان: قال - الشهيد الثاني (قده) في المسالك في باب الأرضين: وذكر الأصحاب انه لا يجوز لاحد جحدها، ولا منعها، ولا التصرف فيها بغير اذنه، بل ادعى بعضهم الاتفاق عليه إلى أن قال: ظاهر الأصحاب ان الخراج والمقاسمة لازم للجائر حيث حيث يطلبه أو يتوقف على اذنه. ولكن الصحيح: عدم وجوب دفعه إليه والوجه فيه ان ما هو ثابت - بمجموعة من النصوص التي تقدمت - هو جواز تقبل الأرض من السلطان الجائر. واما وجوب دفع الأجرة والخراج إليه فلا دليل عليه، بل لا يجوز ذلك إذا علم أنه لم يقم بصرفه في موارده كما هو الغالب، لفرض انه ملك للمسلمين فلا بد من صرفه في مصالحهم العامة، وعلى ذلك فيجب عليهم دفعه إلى الإمام (ع) ان أمكن، والا فيتولى بنفسه صرفه في مصالح الأمة، وكذا الحال في المقاسمة والزكوات، فإنه لا يجوز دفعهما إلى الجائر باعتبار انه يصرفهما فيما هو مصلحته، لا فيما فيه مصلحة
285 المسلمين والفقراء. ومن هنا: قد ورد في بعض الروايات النهي عن اعطاء الزكاة للجائر وهو صحيحة عيص بن القاسم عن أبي عبد الله (ع) في الزكاة قال: (ما أخذوا منكم بنو أمية فاحتسبوا به، ولا تعطوه شيئا ما استطعتم) الحديث (1). النقطة الحادية عشرة قد تقدم منا: في ضمن البحوث السالفة ان لكل فرد من المسلمين ان يمارس حقه في الانتفاع بالأراضي المفتوحة عنوة، وانه حر في ممارسة أي لون من ألوان الانتاج منها والانتفاع بها، ولكن كل ذلك لا بد ان يكون في ضمن الخطوط التي رسمت من قبل ولي الأمر أو الدولة في دائرة الشرع، ولا يجوز التعدي والتجاوز عن تلك الخطوط نهائيا على أساس ان التجاوز والتعدي عنها يوجب تضييع حقوق الآخرين، والمنع عن الانتفاع بها. وهذا يتنافى مع العدالة الاجتماعية التي يهتم الاسلام بها، ويؤمن بضرورة ايجادها بين طبقات الأمة. ومن الطبيعي ان تحقق تلك العدالة في المجتمع الاسلامي لا يمكن الا على أساس حرية الافراد في ممارسة حقوقهم في الانتفاع بها على ضوء دائرة الخطوط المزبورة، وعدم التعدي عنها يمنة ويسرة، إذ لو كان كل فرد حرا في التصرف
(1) الوسائل ج 6 الباب 20 من أبواب المستحقين للزكاة الحديث 2. 286 فيها ما شاء وأراد بحسب ما لديه من المكنة والقوة بشكل مطلق لأوجب ذلك هدم العدالة الاجتماعية لا محالة. ومن هنا: كان على ولي الأمر أو الدولة وضع الخطوط التي أشرنا إليها آنفا لتصرفات الافراد فيها لكي يتحفظ بها على حقوق الجميع من ناحية، وعلى التوازن والعدالة الاجتماعية بين افراد الأمة من ناحية أخرى. وتفصيل الكلام في ذلك قد سبق بشكل موسع النقطة الثانية عشرة الأرض المفتوحة عنوة إذا كانت عامرة طبيعيا كالغابات ونحوها فلا شبهة في أنها تصبح ملكا عاما للمسلمين إذا كان استيلاء الكافر عليها متقدما زمنيا على تاريخ نزول آية الأنفال، وذلك لا من ناحية ان الكافر يملك تلك الأرض بالاستيلاء والسيطرة عليها، لما سيجيئ في ضمن البحوث القادمة من أن الاستيلاء على الأرض لا يبرر حقا للمستولي فيها، فان ما هو مبرر للحق فيها انما هو بذل العامل الجهد والعمل فيها. وعليه فإن كانت الأرض مواتا فالعامل بما انه يخلق فيها فرصة للانتفاع بها على أساس قيامه بعملية الاحياء من ناحية، وعلى ضوء ان كل فرد يملك نتيجة عمله من ناحية أخرى فيملك لعامل تلك الفرصة فيها، وعلى اثر تملكه لها يحصل على صلة برقبة الأرض. واما إذا كانت الأرض عامرة بطبيعتها فلا يخلق العامل فيها شروطا وفرصة للاستفادة منها والانتفاع بها، فان تلك الشروط
287 والفرصة متوفرة فيها قبل قيام العامل بالانتفاع بها، والعامل انما يمارس في زراعتها أو نحوها، ونتيجة عمله هي الزرع فهو يملك ذلك، لا الأرض، ولا الصفة الموجودة فيها على أساس ان شيئا منهما ليس نتيجة عمله وجهده. نعم حقه فيها ما دام يواصل في زراعتها ويمارس في الانتفاع بها، وليس لآخر ان يمنعه عن ذلك ويزاحمه فيه، بل من ناحية ما تقدم من أن ملاك ملكية المسلمين للأرض هو انتزاعها من سيطرة الكافر واستيلائه عليها خارجا وان لم تكن للكافر علاقة بها، لا على مستوى الملك، ولا على مستوى الحق. واما إذا كان استيلاء الكافر عليها بعد تاريخ نزول الآية فهل هي تصبح ملكا للمسلمين أو انها ظلت في ملك الإمام (ع)؟ فيه وجهان: ظاهر أكثر الفقهاء هو الوجه الثاني، حيث إنهم لا يرون الفرق بين الأرض الموات بالأصالة، والأرض العامرة طبيعيا، فكما ان الأولى داخلة في نطاق ملكية الإمام (ع) فكذلك الثانية على أساس دخولهما في العام الفوقي - وهو ان كل ارض لا رب لها فهي للإمام (ع) - هذا. والصحيح: هو الوجه الأول، والنكتة فيه ما تقدم منا في ضمن الأبحاث السالفة من أن النصوص مالكية المسلمين في مثل المقام تتقدم على نصوص مالكية الإمام (ع) على أساس انها اما أن تكون محكومة بنصوص مالكية المسلمين، أو لا موضوع لها معها. فالنتيجة في نهاية المطاف: انه لا فرق بين الأرض الموات بالأصالة، والأرض العامرة بطبيعتها، فكما ان الأولى تدخل في ملك المسلمين بعد الفتح مسلحا، فكذلك الثانية بدون فرق بين ان
288 يكون استيلاء الكافر عليها قبل تاريخ نزول الآية أو بعده. ومن ذلك: يظهر حال ما إذا كان تاريخه بالإضافة إليه مجهولا، فإنه لا اثر له على أساس ذلك نهائيا حتى يجري الاستصحاب ويسقط بالتعارض، فان الأثر له انما هو في فرض بقاء الأرض في ملك الإمام (ع) إذا كان استيلاء الكافر عليها بعد التاريخ المزبور، ولم تنتقل إلى ملك المسلمين بالفتح مسلحا. ولكن قد عرفت ان الامر ليس كذلك.
289 - 3 - الأرض المسلمة بالدعوة مجموعة دراسات وبحوث يدرس فيها أقسامها وما يترتب عليها من الاحكام والآثار على ضوء الشريعة الاسلامية المقدسة
291 الأرض المسلمة بالدعوة يقع الكلام فيها من جهات عديدة: الأولى: ما إذا كانت الأرض المزبورة مواتا. الثانية: ما إذا كانت عامرة بجهد بشري. الثالثة: ما إذا كانت عامرة بطبيعتها. أما الجهة الأولى: فإن كان اسلام أهلها عليها طوعا متقدما زمنيا على تاريخ نزول آية الأنفال فحينئذ ان ظلت الأرض مواتا إلى ذلك التاريخ دخلت في نطاق ملكية الإمام (ع) وقيام أهلها بعد ذلك بعملية احيائها وعمرانها لا يمنحهم علاقة بها على مستوى الملك وانما يمنحهم علاقة بها على مستوى الحق، لما تقدم في ضمن البحوث السالفة من أن عملية الاحياء في الأرض التي هي ملك للإمام (ع) لا تورث تملك المحيي لرقبتها وانما تورث له الاختصاص بها على مستوى الحق. وأما إذا لم تظل الأرض مواتا إلى ذلك التاريخ - بان كان أهلها قائمين بعملية احيائها وعمارتها قبله زمنيا - فهي لا محالة توجب علاقتهم بها على مستوى الملك، وذلك لما سبق في خلال البحوث المتقدمة من أن احياء الأرض إذا كان قبل تشريع ملكية الإمام (ع) للأنفال يورث تملك المحيي لرقبتها، وعليه فالأرض ظلت في ملكيتهم، وسوف نشير إليه في الجهة الثانية أيضا. وإن كان تاريخ اسلامهم عليها طوعا متأخرا زمنيا عن تاريخ نزول الآية فالأرض ظلت في ملكية الإمام (ع) إذ لا موجب لانقطاع علاقة الإمام (ع) عنها ابدا، واسلامهم لا يوجب منحهم الملكية، كما
293 سيجئ بحثه في ضمن الجهات القادمة. واما الجهة الثانية: - وهي ان الأرض التي أسلم عليها أهلها طوعا كانت عامرة بشريا - ففيها تارة يفرض تقدم عمرانها على التاريخ الزمني لتشريع مالكية الإمام (ع) للأنفال. واخرى يفرض تأخر عمرانها عن التاريخ الزمني لتشريعها. وثالثة يفرض الجهل بالتاريخ الزمني له. اما على الفرض الأول. فلا شبهة في أن الأرض تبقى في ملكية أهلها، ضرورة انه لا موجب لانقطاع علاقتهم عنها نهائيا، واندراجها في ملكية الإمام (ع)، فان اندراجها في نطاق ملكيته (ع) يقوم على أساس أن تكون الأرض مواتا لدى تاريخ نزول آية الأنفال، والفرض انها كانت عامرة في هذا التاريخ. ومن الطبيعي ان اسلام أهلها عليها طوعا في هذا الفرض يوجب التحفظ على ملكيتهم لها، لأن موضوع حرمة مال المسلم يتحقق باسلامهم، إذ به يحقن الدم والمال، ولا يعقل ان يكون اسلامهم سببا لخروج أرضهم عن ملكيتهم بعدما كانت ملكا لهم بسبب الاحياء أو نحوه قبل اعتناقهم بالاسلام، وقد تقدم ان احياء الكافر الأرض يوجب تملكه لرقبتها إذا كان قبل تاريخ تشريع ملكية الإمام (ع) للأنفال، والفرض ان الأمر كذلك فيما نحن فيه وأما على الفرض الثاني: فالأرض حيث كانت مواتا في عصر تشريع ملكية الأنفال للإمام (ع) فهي بطبيعة الحال تدخل في نطاق ملكيته (ع) بعد هذا التشريع. وانما الكلام: في أن قيام الكافر باحيائها بعده هل يؤدي إلى ثبوت حق له فيها فإذا أسلم عليها طوعا ظل حقه هذا قائما بها أو لا؟
294 فيه وجهان: الظاهر هو الوجه الثاني: وذلك لما تقدم في خلال الأبحاث الماضية من أن احياء الكافر للأرض التي هي ملك للإمام (ع) كما لا يوجب تملكه لرقبتها، كذلك لا يؤدي إلى ثبوت حق له فيها. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: هل يملك الكافر الأرض باسلامه عليها طوعا بعدما لم يكن مالكا لها حال كفره؟ فيه وجهان: قد يستدل على الوجه الأول: بعدة أمور: الأول: باطلاق قوله (ع) في صحيحة أبي نصر المتقدمة (من أسلم طوعا تركت ارضه بيده واخذ منه العشر ونصف العشر) على أساس انه يشمل صورة تأخر عمران الأرض زمنيا عن تاريخ تشريع ملكية الإمام (ع) للأنفال فيدل على انها تركت بيده بسبب اسلامه عليها طوعا. وربما يناقش في الصحيحة بضعف السند على أساس ان في طريق الشيخ إلى أحمد بن محمد بن عيسى هو أحمد بن محد بن يحيى العطار، وهو ممن لم يثبت توثيقه فلأجل ذلك لا اعتبار بها. والجواب عن ذلك ان أحمد بن محمد بن يحيى العطار وإن كان واقعا في بعض طريق الشيخ إلى أحمد بن محمد بن عيسى إلا أنه له طريقا آخر إليه وهو صحيح، وقد رواه جميع كتبه من هذا الطريق الصحيح، كما بينه سيدنا الأستاذ دام ظله في كتابه معجم رجال الحديث فالنتيجة: ان الرواية معتبرة من ناحية السند، وانما الكلام في دلالتها
295 الصحيح: انها لا تدل على أن اسلام الكافر على الأرض طوعا يوجب منحه ملكيتها، فان الظاهر لدى العرف - من قوله (ع) في الصحيحة (من أسلم طوعا تركت ارضه بيده) - هو ان له علاقة بالأرض قبل اختياره الاسلام طوعا، لا ان اسلامه هذا يوجب منحه هذه العلاقة، ومنشأ هذا الظهور هو إضافة الأرض إليه في قوله (ع) الآنف الذكر، لأن العرف يفهم منه سبق هذه الإضافة والعلاقة على اختياره الاسلام طوعا. وعليه فما يترتب على اسلامه عليها كذلك هو ابقائها بيده وعدم أخذها منه رغم انه لو لم يسلم عليها فأخذت منه وأصبحت ملكا للمسلمين أو الإمام (ع). فالنتيجة: انها لا تدل بوجه على أن اسلامه سبب لمنحه ملكية الأرض بعدما لم تكن ملكا له. نعم من مظاهر اسلامه حقن ماله واحترامه كدمه بعدما كان مهدورا في حال كفره. وحيث إن فيما نحن فيه لا علاقة للكافر بالأرض التي أسلم عليها طوعا، لا على مستوى الملك، ولا على مستوى الحق فلا تشمله الصحيحة على أساس ان موردها هو ما إذا كان للكافر علاقة بها. ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا ان للصحيحة اطلاقا تشمل بسببه ما إذا كان عمران الأرض متأخرا زمنيا عن تاريخ تشريع ملكية الأنفال للإمام (ع) وتدل على أن اسلامه يمنح ملكية الأرض له إلا أن هذا الاطلاق معارض باطلاق مجموعة من النصوص التي تقول: - ان الأرض الخربة التي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب للإمام (ع) - فان اطلاق هذه المجموعة يشمل الأرض الخربة التي تكون في سيطرة الكافر واستيلائه، وملتقى المعارضة بينهما في مورد الكلام هي الأرض التي ظلت مواتا إلى تاريخ تشريع ملكية الأنفال للإمام (ع) - بان
296 يكون عمرانها بعد ذلك التاريخ - فان مقتضى اطلاق الصحيحة هو انها تدخل في ملك من أسلم عيلها طوعا. ومقتضى اطلاق هذه المجموعة هو أنها ظلت في ملك الإمام (ع)، وبما انه لا ترجيح لأحد الاطلاقين على الاطلاق الآخر فيسقطان معا فيرجع حينئذ إلى استصحاب بقاء ملكية الأرض للإمام (ع) حيث إنها كانت ملكا له (ع) قبل اسلام أهلها طوعا، وبعده شك في بقائها في ملكها فيصحب بقائها فيه، وعدم دخولها في ملك من أسلم عليها طوعا. ومع الإغماض عن هذا الأصل لا مانع من الرجوع إلى المجموعة الأخرى من النصوص: وهي التي جاءت: بهذه العبارة (كل أرض لا رب لها فهي للامام) (ع) فان هذه الأرض بعد سقوط الاطلاقين وفرض عدم الأصل العملي في المقام قد أصبحت مما لا رب لها فتدخل في كبرى هذه المجموعة - بعد ضم الأصل الموضوعي إليها -. الثاني: بمجموعة من النصوص الدالة على أن بالاسلام حقنت الدماء والأموال، بتقريب انها تدل على أن اسلام الكافر على أرض طوعا يوجب منحه ملكيتها. والجواب عن ذلك: ان هذه النصوص تصنف إلى مجموعتين: إحداهما: تتكفل ان بالاسلام حقنت الدماء. والاخرى: تتكفل ان بالاسلام حقنت الدماء والأموال. أما المجموعة الأولى: فهي وإن كانت نصوصا معتبرة. منها: قوله (ع): في موثقة سماعة (الاسلام شهادة ان لا إله إلا الله والتصديق برسول الله (ص) وبه حقنت الدماء) (1). ومنها: قوله (ع): في صحيحة فضيل بن يسار (الاسلام
(1) أصول الكافي ج 2 باب الكفر والايمان. 297 ما عليه المناكح والموارث وحقن الدماء) (1). ومنها: قوله (ع): في صحيحة حمران بن أعين (وبه - الاسلام - حقنت الدماء) (2). إلا انها أجنبية عما نحن فيه: لأنها لا تدل على أن بالاسلام حقن المال وانما تدل على أن به حقنت الدماء، ومن الواضح انه لا ملازمة بين كون الاسلام موجبا لحقن الدم وكونه موجبا لحقن المال، فلو كنا نحن وهذه المجموعة من النصوص لم يكن بوسعنا الحكم بحقن مال الكافر إذا أسلم، وانما نحكم بمقتضى هذه المجموعة بحقن دمه فحسب. نعم قد ثبت بمقتضى مجموعة أخرى من النصوص احترام مال المسلم وحقنه وهي التي تقول: (لا يحل مال امرء مسلم إلا بطيب نفسه) ولكن لا ينتج - ضم هذه المجموعة إلى تلك المجموعة - ما هو المقصود من الاستدلال بها - وهو كون اسلامه سببا لمنحه ملكية الأرض التي لم يكن مالكا لها حال كفره وحربه - وإنما ينتج ان اسلامه يؤثر في حقن دمه وماله الذين كانا مهدورين في تلك الحال، وهذا هو نقطة الفرق بين حال كفره وحال اسلامه، فمن مظاهر الأول مهدورية دمه وماله، ومن مظاهر الثاني محقونيتهما، فالمستفاد من ضم المجموعة الثانية إلى المجموعة الأولى انما هو ذلك، ولا اشعار فيه فضلا عن الدلالة على أن من مظاهر اسلامه طوعا منحه ملكية الأرض التي لم تكن داخلة في نطاق ملكيته حال كفره وحربه. واما المجموعة الثانية: فهي بأجمعها ضعيفة سندا فلا يمكن الاعتماد على شئ منها، وبقطع النظر عن ذلك فهي بأجمعها قاصرة من ناحية
(1، 2) أصول الكافر ج 2 باب الكفر والايمان. 298 الدلالة، وذلك لان مدلول هذه المجموعة هو ان من مظاهر الاسلام حقن الدماء والأموال وحرمتهما، ومن مظاهر الكفر مهدورية الدماء والأموال واباحتهما، فما يكون مهدورا ومباحا في حال كفره ومحاربته للاسلام فهو محقون وحرام في حال اسلامه واعتناقه به. ولا تدل بوجه على أن ما لا تكون للكافر علاقة به أصلا لا على مستوى الملك ولا على مستوى الحق فاظهاره الاسلام يمنحه علاقة به على مستوى الملك، بل لا اشعار في تلك المجموعة بذلك فضلا عن الدلالة. وفيما نحن فيه بما ان الأرض التي هي بيد الكافر ملك للإمام (ع) ولا تكون للكافر علاقة به أصلا فلا تكون مشمولة لها على أساس ما عرفنا. الثالث: باستقرار سيرة النبي الأكرم (ص) على ترك الأرض بيد أهلها إذا أسلموا عليها طوعا من دون ان يطالبهم بالطسق بغير تفصيل بين تقدم عمرانها زمنيا على تاريخ تشريع ملكية الإمام (ع) للأنفال وتأخره كذلك عنه. ومن الطبيعي ان ذلك يدل على أن اسلام الكافر يمنح ملكية الأرض له. والجواب عنه ان السيرة وإن كانت ثابتة إلا انها لا تدل بوجه على أن اسلام الكافر طوعا على ارض يوجب منحه ملكية الأرض، ضرورة انه ليس في سيرة النبي الأكرم (ص) إلا ترك الأرض بيد أهلها. إذا أسلم عليها طوعا، ومن الطبيعي انه لا يكون في مجرد ذلك اشعار بتملكه لرقبة الأرض بسبب اظهاره الاسلام، إذ يمكن ان تظل رقبة الأرض في ملك النبي الأكرم (ص) ولكنه رغم ذلك أباح التصرف له فيها مجانا، لأجل تشرفه بالاسلام. كما يمكن ان يكون ذلك بتمليكه (ص) الأرض له على أساس ان امرها بيده، وله ان
299 يتصرف فيها بما يرى، فكل ذلك محتمل، ولا يتعدى عن حد الاحتمال، وعليه فالمحتملات في المقام ثلاثة: الأول: ان يمنح اسلام الكافر طوعا ملكية الأرض له. الثاني: ان يبيح النبي الأكرم (ص) التصرف له فيها من دون وضع طسق عليها رغم ان رقبتها ظلت في ملكه. الثالث: ان يكون ذلك بتمليك النبي الأكرم (ص) الأرض له واما السيرة المذكورة فهي لا تدل على شئ من هذه المحتملات فان ترك الأرض بيده كما ينسجم مع الاحتمال الأول والثالث، ينسجم مع الاحتمال الثاني، وليس فيها ما يصلح ان يكون قرينة على تعيين الاحتمال الأول أو الثالث. ودعوى - ان عدم فرض الطسق عليها في السيرة قرينة على أن الأرض تصبح ملكا لمن أسلم عليها طوعا: اما من ناحية تمليك النبي الأكرم (ص) لها أو من ناحية ان اسلامه يمنحه ملكية الأرض، فإنها لو ظلت في ملك الإمام (ع) لم يكن مبرر لعدم وضع الطسق عليها، لأن الفارق بين النوعين من الملك أعني - ملك الإمام (ع) وملك من أسلم عليها طوعا - انما هو في وجوب الطسق عليها وعدم وجوبه. - خاطئة جدا: وذلك لان مجرد عدم وجوب الخراج والطسق عليها لا يكون دليلا على ملكية الأرض له، لما تقدم في ضمن البحوث السالفة من أن للإمام (ع) ان يعفو عن الطسق والخراج إذا رأى في ذلك مصلحة، كما هو الحال بالإضافة إلى الشيعة، حيث قد أبيح لهم التصرف فيها مجانا رغم ان الرقبة باقية في ملك الإمام (ع)، ولعل المقام كذلك، بل هو الظاهر بمناسبة الحكم والموضوع على أساس ان
300 عدم وجوب الطسق على من أسلم عليها طوعا يمهد الطريق إلى الاعتناق بالاسلام والميل إليه. وعلى الجملة: فالثابت في سيرة الرسول الأعظم (ص) انما هو عدم أخذ الطسق ممن أسلم على الأرض طوعا، ومن الطبيعي ان مجرد ذلك لا يكون دليلا على انها تصبح ملكا له، إذ كما يحتمل ذلك، يحتمل ان يكون ذلك امتنانا منه (ص) عليه، فالسيرة لا تدل على شئ منهما. إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة: وهي انه لا دليل على أن اسلام الكافر على الأرض طوعا يمنحه ملكية الأرض، ولو شك في ذلك فالمرجع الأصل العملي - وهو استصحاب بقاء الأرض في ملك الإمام (ع) -. الرابع: دعوا الاجماع على ملكية الأرض لمن أسلم عليها طوعا مطلقا اي - بلا فرق بين تقدم عمرانها على تشريع ملكية الإمام (ع) للأنفال وتأخره عنه -. والجواب عنه: انه على تقدير ثبوت الاجماع فهو اجمال منقول ولا دليل على حجيته، ولا سيما في المقام، لاحتمال ان يكون مدركه أحد الوجوه المتقدمة، ومع هذا الاحتمال لا يكون كاشفا عن قول المعصوم (ع). فالنتيجة في نهاية المطاف: انه لا دليل على منح الاسلام ملكية الأرض لمن أسلم عليها طوعا، فاذن لا بد من التفصيل بين ما كان عمران الأرض متقدما زمنيا على تاريخ تشريع ملكية الأنفال للإمام (ع) وما كان عمرانها متأخرا عنه كذلك، فعلى الأول وإن كانت الأرض ملكا له إلا أن ملكيته لها انما هي بالسبب السابق،
301 لا من ناحية اسلامه عليها طوعا. وعلى الثاني فهي ملك للإمام (ع) ولكن بالرغم من ذلك فقد منحه الإمام (ع) حق التصرف فيها والانتفاع بها وتركها بأيديه من جهة تشرفه بالاسلام واعتناقه به. واما على الفرض الثالث فتارة يفرض الجهل بتاريخ كليهما معا، واخرى بتاريخ أحدهما دون الآخر، وعلى كلا التقديرين لا مانع من استصحاب عدم حدوث كل منهما في زمان حدوث الآخر في حد نفسه إذا كان لكل منهما اثر شرعي كما هو المفروض في المقام، فان ملكية الأرض للكافر مترتبة على استصحاب عدم تشريع ملكية الأنفال للإمام (ع) إلى زمان قيامه بعمرانها، كما أن ملكيتها للإمام (ع) مترتبة على استصحاب عدم عمرانها إلى زمان تشريع ملكيته (ع) لها، وبما انه لا يمكن الجمع بين الاستصحابين معا فلا محالة يسقطان فيرجع إلى العام الفوقي وهو قوله (ع) كل أرض لا رب لها فهي للإمام (ع)، فان مقتضاه - بعد ضم الاستصحاب الموضوعي إليه - هو كون الأرض ملكا للإمام (ع). واما الجهة الثالثة: - وهي ما إذا كانت الأرض عامرة طبيعيا - فيقع الكلام فيها مرة فيما إذا كان عمل الكافر فيها واستثماره لها قبل التاريخ الزمني لتشريع ملكية الأنفال للإمام (ع). واخرى بعده. وثالثة فيما إذا كان تاريخهما أو تاريخ أحدهما مجهولا. اما الفرض الأول: فان عمله فيها وممارسته الانتفاع بها - لا يمنحه أية علاقة برقبتها، لا على مستوى الملك، ولا على مستوى الحق على أساس انه لا يخلق رقبتها، ولا صفة فيها - وهي الحياة - لفرض ان حياتها مستندة إلى طبيعتها، لا إلى جهد بشري. ولكن رغم ذلك أنه ما دام يواصل في الانتفاع بها زراعة أو نحوها كان أحق بها من
302 غيره في استغلالها واستثمارها، ولا يجوز لغيره ان يزاحمه فيه. واما إذا ترك الانتفاع بها فيسقط حقه عنها نهائيا، ويجوز لآخر ان يقوم باستغلالها والانتفاع بها. وهذا بخلاف الاحياء في الأرض الميتة، فان المحيي باحيائه الأرض يخلق فيها شرطا وفرصة للانتفاع بها والانتاج منها التي لم تكن متوفرة فيها قبل هذه العملية وانما نتجت منها، فالمحيي على ضوء ان كل عامل فيها يملك نتيجة عمله يملك تلك الشروط والفرصة، وعلى أساس ذلك يحصل على حق في رقبتها ما دامت تلك الفرصة موجودة فيها وان لم يمارس الانتفاع بها. وعلى هذا: فإذا أسلم الكافر على تلك الأرض طوعا فبمقتضى صحيحة أبي نصر المتقدمة انها تركت بيده على أساس ان له حقا فيها ما دام يواصل في استثمارها غير أن هذا الحق كان قبل اسلامه مهدورا وبعده أصبح محقونا. واما الأرض المزبورة فإذا كانت تحت استيلاء الكافر وسيطرته من دون ان يكون الكافر يمارس استغلالها والانتفاع بها فلا تكون مشمولة للصحيحة على أساس ان الظاهر من إضافة الأرض إلى الكافر فيها هو ان له علاقة بها وإن كانت تلك العلاقة في حدود انه أولي بالانتفاع بها لدى العرف من غيره دون الأكثر. واما شمول سيرة النبي الأكرم (ص) لذلك فهو أيضا غير معلوم. وأما الفرض الثاني: - وهو ما إذا كانت رقبة الأرض ملكا للإمام (ع) - فالظاهر أن عمل الكافر فيها وممارسته الانتفاع بها لا يمنحه أية علاقة بها، لا على مستوى الملك ولا على مستوى الحق حتى في مرتبة كونه أولي بالانتفاع بها ما دام يواصل في عمله فيها، وذلك
303 لما ذكرناه في ضمن البحوث السالفة من أنه لم يثبت اذن عام من الإمام (ع) بالتصرف في أراضي الدولة لكل فرد. ومن هنا قلنا إن عملية الاحياء إذا كانت من الكافر لم تنتج حقا فيها فضلا عن الملك، وكذا الحال بالإضافة إلى عملية الاستثمار والانتفاع في الأرض المزبورة، فإنها لا تمنحه حق الأولوية بالاستفادة منها. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: ان الكافر إذا أسلم على تلك الأرض طوعا فهل تركت بيده على أساس الصحيحة المتقدمة؟ فيه وجهان: الظاهر هو الوجه الأول: وذلك لأن صدق الإضافة المزبورة لا يتوقف على أن تكون للكافر علاقة بها شرعا ولو على مستوى الحق، بل يكفي في صدقها أدنى مناسبة ولو كانت عرفية، ومن الطبيعي ان استغلال الكافر واستثماره لها وان لم يؤد إلى وجود حق فيها شرعا إلا أنه لا شبهة في أن ذلك يكفي لتحقق تلك الإضافة لدى العرف. وان شئت قلت: ان الكافر بالرغم من أنه لا يملك أي حق فيها لدى الشرع يعتبر لدى العرف والعقلاء أولى من غيره وأحق بها من الآخرين، ومن الواضح ان هذه الأولوية كافية لصحة الإضافة المزبورة على أساس ان الإضافة في الصحيحة انما هي باعتبار من العرف هذا إضافة إلى أن سيرة النبي الأكرم (ص) قد استقرت على ترك الأراضي - التي كانت موردا لانتفاع الكفار بها واستفادتهم عنها إذا أسلموا عليها طوعا - بأيديهم وان لم تكن لهم أية علاقة بها شرعا. واما الفرض الثالث: - وهو صورة الجهل بالتاريخ - فقد ظهر مما ذكرناه ان الأصل يجري في كل من الحادثين في زمان الآخر في حد نفسه، حيث إنه يترتب على استصحاب عدم تشريع ملكية الأنفال للإمام (ع) إلى زمان استغلال الكافر لتلك الأرض واستثماره لها
304 عدم دخولها في نطاق ملكيته (ع)، كما أنه يترتب على استصحاب عدم استغلال الكافر واستثماره لها إلى زمان تشريع ملكية الأنفال للإمام (ع) عدم وجود حق له فيها. وبما انه لا يمكن الجمع بين مقتضى كلا الاستصحابين فيسقطان معا ويرجع إلى العام الفوقي - وهو قوله (ع) كل ارض لا رب لها فهي للإمام (ع) - ومقتضاه بعد ضم الاستصحاب الموضوعي إليه هو ان الأرض المزبورة ملك للإمام (ع). نتيجة هذا البحث عدة خطوط: الأول: ان اسلام الكافر على الأرض طوعا لا يوجب منحه ملكية الأرض، فإن كانت ملكا له بسبب سابق فاسلامه انما يوجب حرمتها بعد ما كانت مهدورة حال كفره. الثاني: ان في فرض الجهل - بتاريخ كل من تشريع ملكية الأنفال للإمام (ع) وعمران الأرض، أو تاريخ أحدهما - وإن كان الأصل جاريا في نفسه إلا أنه يسقط من جهة المعارضة، وبعد السقوط يحكم بمقتضى العام الفوقي بعد ضم الأصل الموضوعي إليه ان الأرض ملك للإمام (ع). الثالث: ان الأرض العامرة طبيعيا إذا كانت مأخوذة من الكافر عنوة فقد دخلت في ملك المسلمين بدون فرق بين ان يكون عمل الكافر فيها قبل تاريخ تشريع ملكية الأنفال للإمام (ع) أو بعده الرابع: ان اسلام الكافر على الأرض العامرة بطبيعتها طوعا لا يوجب منحه ملكيتها وان قلنا بان عمل الكافر فيها يوجب إيجاد حق له فيها،
305 الخامس: ان في فرض الجهل بالتاريخ وإن كان الأصل يجري في كل من الحادثين في نفسه إلا أنه يسقط من جهة المعارضة، وبعده يحكم بكون الأرض ملكا للإمام (ع) بمقتضى العام الفوقي بضميمة الأصل الموضوعي
306 الحيازة مجموعة دراسات وبحوث تحليلية يدرس فيها المواد التالية: 1 - دور الحيازة للأرض ونتائجها 2 - دور الحيازة للمناجم والمياه الطبيعيتين ونتائجها 3 - دور الحيازة للثروات والمصادر
307 دور الحيازة للأرض لا يمكن تملك الأرض: على أساس الحيازة والسيطرة عليها خارجا، فان منح حيازة الأرض حقا فيها بحاجة إلى نص شرعي، ولا نص لدى الشرع على ذلك، وهذا القول هو المعروف والمشهور بين الأصحاب، ولا فرق في ذلك بين الأرض الموات والعامرة طبيعيا. وما قيل: - من أن الحيازة تلعب في الأرض العامرة بطبيعتها نفس الدور الذي تلعبه عملية الاحياء في الأرض الموات على أساس ان عملية الاحياء غير متصورة فيها -. خاطئ جدا: وذلك لأن عملية الاحياء وإن كانت غير متصورة في الأرض المزبورة إلا أن ذلك لا يبرر كون الحيازة فيها تقوم بنفس ما تقوم به عملية الاحياء في الأرض الموات، فإنه بحاجة إلى نص شرعي، وقد عرفت عدمه باعتبار ان الاسلام لم يعترف في ضمن أي نص من نصوصه بالحيازة فيها على أساس انها مصدر لإيجاد حق فيها، وانما اعترف الاسلام في ضمن نصوصه التشريعية بعملية الاحياء في الأرض على أساس انها تمنح العامل حقا فيها على ضوء القانون العام، وهو ان كل عامل فيها يملك نتيجة عمله بل لا يمكن اعتراف الاسلام بها باعتبار انها مظهر من مظاهر القوة والتحكم على الآخرين وتسبب تضييع حقوقهم بمعنى عدم إتاحة الفرصة لهم للانتفاع بها، ومن الطبيعي ان ذلك يضر بالعدالة الاجتماعية التي يؤمن الاسلام بضرورة ايجادها بين طبقات الأمة. والنكتة في ذلك: ان قيام كل فرد بالسيطرة على مساحات كبيرة
309 من الأرض بما فيها من الثروات الطبيعية انما هو عندما توجد المنافسة على الأرض من قبل الآخرين. واما إذا لم توجد المنافسة عليها فهو لا يفكر في ذلك، ولا داعي يدعوه للقيام بها بعد ما كانت الأرض في خدمته في كل حين من دون اي منافس ينافسه فيها، وهذا بخلاف عملية الاحياء فإنه يمارس هذه العملية سواء أكان منافس ينافسه فيها أم لم يكن، وذلك لأن ممارسته تلك العملية انما تقوم على أساس الانتفاع بها والاستفادة منها بما يتناسب مع مستواه المعاشي وقدرته على الاستثمار والانتفاع بدون ان يفكر في الحيازة والسيطرة على مساحات كبيرة منها ابدا، وهذا هو الفارق بين حيازة الأرض واحيائها. وقد يستدل: على أن الحيازة تمنح الملكية بوجهين: الأول: الأخبار الدالة على أن من حاز ملك، فإنها واضحة الدلالة على سببية الحيازة للملك، الثاني: استقرار سيرة العقلاء على ذلك: بدعوى انها ثابتة في عصر التشريع، من دون ورود ردع عنها، ومن الطبيعي ان ذلك كاشف جزمي عن امضاء الشارع لها. ولنأخذ بالنقد على كلا الوجهين: أما الوجه الأول: فيرده عدم العثور على تلك الأخبار التي نقلت بهذا النص، لا من طريق الخاصة، ولا من طريق العامة، وعليه فلا اثر لهذا الوجه أصلا. واما الوجه الثاني: فيرده: عدم ثبوت السيرة من العقلاء على ذلك، بل لا يبعد ثبوتها على خلافه، فان العقلاء حسب فطرتهم الأولية لا يعترفون بتلك الأسباب التي تكون مظهر من مظاهر القوة
310 والتحكم على الآخرين، فإنها أسباب ولدتها الظروف الثانوية في المجتمعات التي لا تقوم على أساس العدل والقيم الانسانية، وانما تقوم على أساس مظاهر القوة واللا أخلاقية. ومن الطبيعي انه لا قيمة لتلك الأسباب، لا لديهم، ولا لدى الاسلام نهائيا. أو فقل: ان الاسلام لم يعترف بحيازة الأرض والسيطرة عليها على أساس القوة والتحكم على الآخرين في ميدان وجود المنافسة عليها من قبل هؤلاء، ولم يرها مصدرا لوجود حق فيها. نعم إن كانت السيطرة عليها على أساس انفاق العمل وبذل الجهد فيها - لخلق الشروط والفرصة للاستفادة منها والانتفاع بها كما إذا كانت الأرض ميتة أو لاستغلالها والانتفاع بها كما إذا كانت حية - فالاسلام وإن كان قد اعترف بها الا ان اعترافه بذلك في الأولى انما هو على أساس انها تحمل طابع الاحياء فيها، لا طابع الحيازة والسيطرة. وفي الثانية انما هو على أساس العمل والانتفاع بها. فالنتيجة ان مصدر الحق فيها لدى الاسلام انما هو العمل فلا قيمة للسيطرة بدونه أصلا. وبكلمة أخرى: اننا قد اكتشفنا اعتراف الاسلام من خلال نصوصه التشريعية، أو البناء من العقلاء بهذا الإطار العام وهو ان كل عامل في المصادر والثروات الطبيعية يملك نتيجة عمله - على اختلاف نوع العمل، ونوع النتيجة - على ضوء الشرائط المبينة في محلها. ومن هنا تختلف نتيجة عمل العامل في الأرض الميتة عن نتيجة عمله في الأرض الحية طبيعيا على أساس اختلاف نوع العمل فيهما. وعلى اثر ذلك: تختلف علاقة العامل بالأرض الميتة عن علاقة العامل بالأرض الحية. على أساس ان نتيجة عمله في الأرض الميتة انما هي خلق الشروط
311 فيها التي تتيح للفرد الاستفادة منها والانتفاع بها، حيث لم تكن تلك الشروط متوفرة فيها قبل قيام العامل باحيائها، وانما هي نتجت عن عملية الاحياء، فالعامل على ضوء ذلك الإطار العام يملك تلك الشروط والفرصة فيها، وهذه الشروط انما تبرر علاقة العامل برقبة الأرض على مستوى الحق فحسب إذا كانت الرقبة داخلة في نطاق ملكية غيره. واما إذا لم تكن داخلة في ذلك وكانت من المباحات الأصلية فالشروط المزبورة انما تبرر علاقته بها على مستوى الملك، كل ذلك تقدم بشكل موسع في ضمن الأبحاث السالفة. وبما ان هذه العلاقة معلولة لهذه الشروط والفرصة فهي بطبيعة الحال ثابتة ما دامت الشروط فيها متوفرة والفرصة متاحية سواء أكان العامل يمارس الانتفاع بها أم لم يمارس، واما إذا زالت تلك الشروط والفرصة عنها فإن كانت العلاقة على مستوى الحق فقد انقطعت عنها نهائيا بمقتضى الارتكاز العرفي وإن كانت على مستوى الملك فهي باقية ولم تزل بزوالها على ما تقدم مفصلا. واما نتيجة عمله: في الأرض الحية بطبيعتها - فيما انها لم تكن خلق الشروط والفرصة للانتفاع بها، لفرض ان تلك الشروط متوفرة فيها ذاتا وبدون بذل جهد بشري وان العامل فيها لم يخلق صفة لها ذات قيمة اقتصادية، وانما قام بالانتفاع بزرعها، وغرس أشجارها، أو ما شاكل ذلك - فهي بطبيعة الحال انما هي ما نجم عن عمله وجهده فيها وهو الزرع أو الشجر في فرض الكلام فالعامل انما يملك ذلك على ضوء الإطار العام المزبور - كل عامل يملك نتيجة عمله - ولا يملك صفة في الأرض ما دام انه لم يخلق فيها شيئا. ومن الطبيعي ان عمله الانتفاعي بها لا يبرر اختصاص العامل
312 برقبة الأرض، نعم ما دام هو يمارس العمل فيها ويواصل في زراعتها كان أحق من غيره بالانتفاع بها، وليس لغيره ان يزاحمه فيه، على أساس انه بالبناء القطعي من العقلاء قد اكتسب حق الأولوية فيها بقيامه باستغلال الأرض والانتفاع بها، فان من حقه في هذا الحال الاحتفاظ بها ومنع الآخر من مزاحمته وانتزاع الأرض منه، لأن الآخر ليس أولي من الذي ينتفع بها فعلا ولا يحصل على حق أوسع من ذلك بنكتة انه معلول لانتفاعه بها، ولا يعقل أن تكون دائرة المعلول أوسع من دائرة العلة، وعليه فلا محالة يكون ثبوت هذا الحق له ما دام هو قائم بالانتفاع بها فعلا وإلا فلا حق له. ومن هنا لو ترك الانتفاع بها لم يبق له حق في الاحتفاظ بها، ويجوز عندئذ لآخر ان يقوم باستغلالها واستثمارها. وهذا هو الفارق بين الحق الحاصل للعامل في الأرض الموات على أساس قيامه بعملية احيائها، والحق الحاصل له في الأرض الحية على أساس قيامه باستغلالها والانتفاع بها. ومن هذا القبيل: استخدام الأرض لرعي الحيوانات، فإنه وإن كان عمل من اعمال الانتفاع بالمصادر الطبيعية إلا أنه لا يؤثر في ايجاد حق في الأرض على أساس انه لم يقم فيها بعملية تربية حيوانات فيها فتكون نتيجة عمله فيها انما هي الثروة الحيوانية فيملك العامل على ضوء الإطار العام المتقدم تلك الثروة الحيوانية على أساس انها نجمت عن جهده وعمله. نعم يحصل العامل على اثر ذلك على حق الأولوية فيها ما دام يمارس في عمله هذا ويواصل فيه، لا مطلقا فلو ترك ذلك لم يبق
313 له الحق في الاحتفاظ بها، ويجوز لغيره ان يقوم بالانتفاع بها واستثمارها. ثم إن ما ذكرناه: بالإضافة إلى عملية الاحياء موافق للنصوص الشرعية التي تقدمت الإشارة إليها في ضمن الأبحاث السالفة، وقلنا هناك ان مقتضى تلك النصوص هو ان عملية الاحياء تبرر وجود حق في الأرض إذا كانت رقبتها داخلة في نطاق ملكية غير المحيي، واما إذا لم تكن داخلة في ذلك وكانت من المباحات فهي تمنح المحيي ملكيتها، فالفرصة التي خلقها المحيي تكون جهة تعليلية لوجود الحق على الأول وجهة تعليلية لوجود الملك على الثاني واما ما ذكرناه بالإضافة إلى الأرض الحية بطبيعتها موافق للبناء القطعي من العقلاء الجاري على ذلك الثابت في جميع الأعصار. نتيجة هذا البحث عدة خطوط الأول: ان الحيازة في الأرض لا تبرر وجود حق فيها شرعا لعدم الدليل، وما قيل من أنها تلعب في الأرض الحية بطبيعتها نفس الدور الذي تلعبه عملية الاحياء في الأرض الميتة فقد عرفت انه لا أساس له أصلا. الثاني: انه لا يمكن اعتراف الاسلام بالحيازة فيها على أساس انها مظهر من مظاهر القوة والتحكم على الآخرين فيما توجد المنافسة عليها وانما اعترف الاسلام بالعمل فيها على أساس انه مظهر من مظاهر علاقة الفرد بالمصادر الطبيعية، سواء أكان ذلك العمل استغلال الأرض والانتفاع بها كما إذا كانت الأرض حية بطبيعتها، أم كان
314 احيائها كما إذا كانت ميتة، الثالث: ان الاستدلال على أن الحيازة تمنح ملكية الأرض بالوجهين المتقدمين فقد عرفنا ما فيهما، كما انا عرفنا ان العقلاء أيضا لا يعترفون بها على أساس انها أسباب لعلاقة الانسان بالأرض رغم انهم يعترفون بعملية الاحياء كذلك. الرابع: اننا قد اكتشفنا اعتراف الاسلام في ضمن نصوصه التشريعية أو البناء من العقلاء بالاطار العام - وهو ان كل عامل يملك نتيجة عمله على اختلاف نوع العمل ونوع النتيجة - ومن ذلك يختلف نتيجة العمل في الأرض الميتة عن نتيجة العمل في الأرض الحية طبيعيا، وعلى اثر ذلك يختلف الحق الحاصل عليه العامل في الأولى عن الحق الحاصل عليه في الثانية. دور الحيازة للمناجم والمياه ان حيازة المناجم والمياه إن كانت على أساس القوة والتحكم على الآخرين في ميدان وجود المنافسة عليها فلا قيمة لها نهائيا، لا لدى الاسلام، ولا لدى العقلاء، وانها لا تبرر وجود اي حق فيهما، كما عرفت في الأرض. وبكلمة واضحة: ان تلك المصادر والثروات الطبيعية التي توجد في الأرض فما دام انها ظلت في مكانها الطبيعي ولم تكن حيازتها على أساس انفاق العمل وبذل الجهد في سبيل اكتشافها والوصول إليها إذا كانت في أعماق الأرض وكانت على أساس القوة والتحكم في مقام وجود المنافسة عليها فقد مر انه لا قيمة لها عند الاسلام.
315 وأما إن كانت حيازتها على أساس اكتشافها من خلال عمليات الخفر وبذل الجهد فهي تبرر وجود حق فيها بمعنى ان من يقوم بعملية الحفر لاكتشافها يملك الحفرة التي حفرها لذلك وعلى اثر تملكه تلك الحفرة يكون أولي بالانتفاع بهذه المناجم أو المياه من هذه الحفرة، وليس لآخر ان يزاحمه في ذلك باستخدام تلك الحفرة للاستفادة منها، كما أنه لو سوى طريقا إلى المعادن الموجودة على سطح الأرض، فإنه ليس لآخر ان يستخدم ذلك الطريق للاستفادة منها. وهل هذه العملية اي عملية الاكتشاف تحمل طابع الاحياء أو طابع الحيازة؟ فيه وجهان: المعروف والمشهور بين الأصحاب: هو الوجه الأول على أساس ان الاحياء عبارة عن خلق الشروط والفرصة التي تتيح للفرد الاستفادة منها والانتفاع بها، وقد يكون ذلك في الأرض وقد يكون في غيرها، فان العامل بحفره الحفرة التي اوصلها بها في أعماق الأرض قد خلق فيها شروطا وفرصة للانتفاع بها والاستفادة منها التي لم تكن متوفرة قبل قيام العامل بعملية الحفرة، وانما نجمت عنها، فان احياء كل شئ بحسبه. ولكن الظاهر: هو الوجه الثاني، فان مقتضى الارتكاز العرفي من معنى الاحياء هو انه لا ينطبق على الشروط والفرصة التي خلقها العامل من خلال عمليات الحفر لاكتشاف المناجم والوصول إليها بنكتة ان احياء شئ عبارة لدى العرف. عن العمل فيه ليصير ذلك الشئ حيا بعد ما كان ميتا، والفرض ان الحفر المزبور ليس عملا في المناجم وجعل صفة فيها، بل هي على حالها بدون أدنى تغيير واحداث شئ فيها، كما هو الحال في الأرض، فان عملية الاحياء فيها أوجدت
316 صفة لم تكن الأرض واجدة لتلك الصفة وهي - صفة الحياة قبل تلك العملية -. نعم قد تحتاج المناجم إلى عملية لبروز مادتها الجوهرية وانجازها بشكلها الكامل، ولا بأس باطلاق الاحياء على تلك العملية. فالنتيجة: ان اطلاق الاحياء على اكتشاف المعادن أو المياه بسبب عمليات الحفر كما في كلمات الأصحاب مبني على ضرب من المسامحة، وكيف كان فلا ثمرة لهذا البحث أصلا. دور الحيازة للثروات المنقولة ان الحيازة للثروات المنقولة تمنح العامل حقا فيها على أساس انها تقوم على بذل العامل العمل والجهد في السيطرة عليها وجعلها في حوزته بشكل مباشر أو غير مباشر، ولأجل ذلك كانت حيازتها من الأعمال الاستثمارية والانتفاعية التي تكون ذات قيمة اقتصادية، لدى العرف والعقلاء، وليست من الأعمال الاحتكارية التي لا يعترف الاسلام بها على أساس انها مصدر لحق. ونقصد بالاعمال الاحتكارية سيطرة الفرد على مساحات كبيرة من الثروات المزبورة بدون انفاق عمل وبذل جهد فيها واما لو أنفق العمل والجهد في حيازتها ونقلها من مكانها الطبيعي إلى حوزته فذلك يبرر وجود حق فيها وإن كان المحاذ أكبر من قدر حاجته، وقد اعترف الاسلام بالحيازة لتلك الثروات والمصادر بشتى أنواعها واشكالها على أساس ان علاقة الفرد بها قد نجمت عنها عند العقلاء. وبما ان الاسلام لم يخترع طريقة أخرى لارتباط الفرد بها ولم
317 يكن لديه مصدر آخر لذلك فبطبيعة الحال قد اعترف بما لدى العقلاء من المصدر له، وهذا هو مرادنا باعتراف الاسلام بحيازة تلك الثروات بشتى اشكالها. وقد ورد نص خاص بذلك في بعض تلك الثروات أيضا، وسوف نشير إليه. بيان ذلك: ان حيازة الحطب: عبارة عن احتطابه من الغابات أو نحوها على أساس ان هذه العملية اي - عملية الاحتطاب لدى العقلاء تمنح العامل علاقة بالحطب - وقد تقدم ان كل عامل في الثروات والمصادر الطبيعية يملك نتيجة عمله على اختلاف نوع العمل، ونوع النتيجة. ونتيجة عمله وجهده هنا انما هي الحطب الموجود في حوزته، فإنه نجم عن تلك العملية. وحيازة الكلاء: عبارة عن استيلاء العامل على كمية منه على أساس بذله الجهد والعمل في سبيل جمع تلك الكمية التي يتمكن من نقلها والانتفاع بها، ولا يكفي الاستيلاء على كمية منه على أساس القوة والتحكم على الآخرين بدون بذل الجهد والعمل في حيازته، لما عرفت من اعتراف الاسلام بمقتضى بناء العقلاء باستحقاق العامل نتيجة عمله، واما إذا لم يبذل عملا ولم يحدث فيها شيئا فلا مقتضى لاستحقاقه لها أصلا على أساس ان ذلك لم يدخل في الإطار العام الذي تقدم اعتراف الاسلام به - وهو ان كل عامل يستحق نتيجة عمله - ولم يعترف باستحقاق الفرد لها بدون بذل جهد وعمل فيها أبدا. وحيازة الحجر: عبارة عن نقله من الصحراء أو الجبال أو ان العامل قد بذل فيه عملا وجهدا في مكانه الطبيعي واحدث فيه حدثا يكون ذات قيمة فإنه بموجب هذا يستحق ذلك الحجر على أساس
318 انه قد انتج بعمله هذا حقا فيه فلا يجوز لآخر التصرف فيه ونقله إلى حوزته، وهذا شكل من اشكال الحيازة وحيازة الماء: عبارة عن اخذه من النهر أو البحر وجعله في حوزته واستيلائه بشكل مباشر، فإنه يمنحه حقا فيه على أساس ان العامل يملك نتيجة عمله. وحيازة الحيوان البري أو البحري: عبارة عن صيده كما إذا وقع الحيوان في الشبكة التي وضعها الصائد لاصطياده، فان وقوعه فيها الموجب لشل حركته والمنع من هروبه أدى إلى وجود حق للصياد فيه، ويمنع الآخر بموجبه عن اخذه من الشبكة والتصرف فيه. إلا أن هذا الحق له انما هو ما دام الصيد في الشبكة، واما إذا هرب منها فلا يبقى حقه محفوظا فيه على أساس انه نجم عن الفرصة التي خلقها الصياد لأخذه والانتفاع به، والفرض ان تلك الفرصة قد انتهت بهروبه منها، والارتكاز العرفي قائم على أن هذا الحق يدور مدار هذه الفرصة، وعندئذ يجوز لآخر ان يصطاده ويجعل في حوزته، وهذا نوع من الحيازة لدى العرف والعقلاء. واما إذا اخذه من الشبكة وآلة الصيد وجعله في حوزته بشكل مباشر فتكون علاقته به أقوى من علاقته به إذا كان في الشبكة وآلة الصيد على أساس انها لدى العقلاء تكون على مستوى الملك، وتلك تكون على مستوى الحق، ومن هنا لا تنقطع تلك العلاقة بهروبه عن حوزته، ولا يجوز لغيره اخذه: وإذا اخذه وجب عليه رده. وكذا الحال في الطائر: فإنه إذا وقع في شبكة الصيد فحق الصياد فيه الذي نتج عن جهده وعمله انما هو على أساس استحقاقه الفرصة التي خلقها لاصطياده - وهي وضع الشبكة - فإذا وقع الطائر فيها
319 فالفرصة متاحة لأخذه والانتفاع به بشكل مباشر، وهذه الفرصة المتاحة مستندة إلى عمل الصياد وجهده، وإذا انتفت تلك الفرصة بهروب الطائر من الشبكة في الجو انتفى حقه بانتفاء موضوعه بمقتضى الارتكاز القطعي العرفي. واما إذا اخذ الطائر من الشبكة وجعله في حوزته بشكل مباشر فعندئذ يكون حقه فيه أقوى من حقه على أساس تملكه الفرصة المزبورة فلا يسقط بهروبه من حوزته. وهذان: نوعان من الحيازة ومختلفان في الأثر، ولكن متحدان بحسب المفهوم على أساس ان الحيازة بمفهومها العرفي عبارة عن السيطرة على الشئ بالعمل وبذل الجهد سواء أكانت السيطرة بالواسطة أم كانت بشكل مباشر. وتدل - على أن الحيازة على الشكل الأول تفيد الحق - السيرة القطعية من العقلاء الممضاة شرعا على أساس عدم ورود ردع عنها من قبل الشروع رغم انتشارها في عصر التشريع، واما كون هذا الحق محدودا بما إذا ظل الصيد في الشبكة أو القفص، وإذا هرب أو طار في الجو بعد استرجاع قواه وزوال المانع لم يبق للصائد حق فيه، فهو انما يكون لأجل ان السيرة لم تقم على كونه أوسع من ذلك، بل قد قامت على أنه محدود وضيق واما الحيازة على الشكل الثاني فلا شبهة في أنها تمنح الصائد علاقة فيه على مستوى الملك، فإنه - مضافا إلى السيرة القطعية من العقلاء على ذلك - تدل عليه معتبرة السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه وعن آبائه عن علي (ع) انه سأله عن رجل أبصر طيرا فتبعه حتى وقع على شجرة فجاء رجل آخر فأخذه قال: (للعين
320 ما رأت ولليد ما أخذت (1). فان موردها وإن كان الطائر إلا أن الارتكاز العرفي القطعي قائم على عدم خصوصية للطائر من هذه الناحية، وهو قرينة على التعميم، وعليه فتدل المعتبرة على أن حق العين هو الرؤية فحسب، وبها قد استفادت حقها من المرئي، ولا يحدث بسببها حق فيه لصاحبها، وبالتالي تدل على أن الحق فيه انما نجم عن العمل الخارجي - وهو في مورد المعتبرة الاخذ باليد خارجا -. واما كون هذا الحق يبقى محفوظا للصائد حتى بعد هروب الصيد عن حوزته فهو انما يقوم على أساس ان هذا الحق له فيه انما هو على مستوى الملك. وتدل - على أن علاقة الصائد لا تزول عن الصيد في الحيازة على الشكل الثاني بهروبه عن حوزته مضافا إلى السيرة - صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: سألت أبا الحسن الرضا (ع) عن الرجل يصيد الطير الذي يسوي دراهم كثيرة وهو مستوى الجناحين وهو يعرف صاحبه أيحل له امساكه فقال: إذا عرف صاحبه رده عليه وان لم يكن يعرفه وملك جناحه فهو له وان جاءك طالب لا تتهمه رده عليه (2) فإنها تدل بوضوح على أن علاقته بالطير لا تنقطع بهروبه عن حوزته، فإذا اخذه الآخر وصاده بعد ذلك وجب عليه رده إلى صاحبه إذا عرفه. إلى هنا قد استطعنا ان نخرج بهذه النتيجة: وهي ان المصدر الوحيد لعلاقة الفرد بالثروات المنقولة انما هو حيازتها باشكالها
(1) الوسائل ج 17 الباب 15 من أبواب اللقطة الحديث 2. (2) الوسائل ج 17 الباب 15 من أبواب اللقطة الحديث 1. 321 المختلفة باختلاف نوع تلك الثروات التي يسيطر الفرد عليها على أساس انفاق العمل وبذل الجهد، فالوسيلة الوحيدة لارتباط الانسان بالطبيعة وثرواتها ارتباطا ابتدائيا انما هي العمل وبذل الجهد في سبيل استغلالها والانتفاع بها فلا يمكن ارتباط الانسان بها كذلك بما لها من الثروات بدون العمل.
322 - 4 - ارض الصلح مجموعة من الأبحاث الفقهية التي تتضمن احكامها وشرائطها على ضوء النصوص الشرعية.
323 ارض الصلح البحث فيها يقع في مرحلتين: الأولى فيما هو مقتضى عقد الصلح. الثانية: فيما هو مقتضى مجموعة من النصوص التشريعية. اما المرحلة الأولى: فارض الصلح هي الأرض التي فتحت من قبل المسلمين من دون ان يسلم أهلها، ولا قاوموا الدعوة الاسلامية بشكل مسلح، بل ظلوا على دينهم في ذمة الاسلام بعقد الصلح فتصبح الأرض ارض الصلح. وعليه فان اللازم هو تطبيق بنود عقد الصلح عليها، فان نص فيها على أن الأرض لأهلها اعتبرت ملكا لهم، غاية الأمر إن كانت الأرض داخلة في نطاق ملكيتهم قبل هذا العقد، كما إذا كانوا قائمين باحيائها قبل تاريخ تشريع ملكية الأنفال للإمام (ع) أو انتقلت إليهم ممن يكون مالكا لها ففي مثل ذلك لا يؤثر عقد الصلح إلا في ابقائها في ملكهم باعتبار ان لولي الأمر استملاك الأرض منهم على حساب الدولة أو الأمة، واما إذا لم تكن الأرض ملكا لهم، كما إذا كان قيامهم باحيائها بعد تاريخ التشريع المزبور، فعندئذ يؤثر عقد الصلح في منحهم ملكية الأرض، ولا مانع من ذلك إذا رأى ولي الأمر مصلحة فيه. واما إذا نص في بنود عقد الصلح على استملاك الدولة للأرض أو الأمة فحينئذ تصبح الأرض خاضعة لمبدأ ملكية الإمام (ع) أو المسلمين، ولكن ظلت في أيديهم مع وضع الخراج والطسق عليها، هذا إذا كانت الأرض ملكا لهم، ولكن بعقد الصلح انتقلت إلى
325 الدولة أو الأمة. واما إذا كانت ملكا للدولة فعقد الصلح انما يؤثر في مشروعية ابقائها في أيديهم، ويؤخذ منهم الجزية والخراج على حسب ما هو مقتضى عقد الصلح واما الأرضي الموات حين عقد الصلح، أو الغابات التي لا رب لها، فإنها ملك للإمام (ع) وله ان يتصرف فيها بما يرى من المصلحة. نعم إذا ادرجها في عقد الصلح لزم ان يطبق عليها ما هو مقتضى هذا العقد، ولا يجوز الخروج عن مقرراته ومقتضياته. فالنتيجة ان مقتضيات عقد الصلح تختلف باختلاف الموارد والمصالح على أساس ان امره بيد ولي الأمر فله ان يقعد الصلح معهم على حسب ما يراه من المصلحة للدولة أو الأمة وهي بطبيعة الحال تختلف باختلاف المقامات. واما المرحلة الثانية: فقد وردت في المسألة مجموعة من الروايات. منها: صحيحة حفض بن البختري عن أبي عبد الله (ع) قال. (الأنفال ما يوجف عليه بخيل ولا ركاب، أو قوم صالحوا، أو قوم أعطوا بأيديهم وكل ارض خربة، وبطون الأودية) الحديث (1). ومنها: مرسلة حماد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح (ع) في حديث إلى أن قال: (والانفال كل ارض خربة باد أهلها، وكل ارض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، ولكن صالحوا صلحا واعطوا بأيديهم على غير قتال) الحديث (2). ومنها: معتبرة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (ع) انه سمعه: يقول: (ان الأنفال ما كان من ارض لم يكن فيها هراقة دم، أو قوم
(1، 2) الوسائل ج 6 الباب 1 من أبواب الأنفال وما يختص بالامام الحديث 1، 4. 326 صولحوا واعطوا بأيديهم، وما كان من ارض خربة، وبطون أودية) الحديث (1). ثم إن المستفاد من معتبرة محمد بن مسلم، وكذا من مرسلة حماد بن عيسى ان عقد الصلح فيهما كان مقتضيا لاعطاء الأرض وتسليمها، وقد عرفت ان ما تم عليه عقد الصلح بشأن الأرض قد يكون مقتضاه تسليم الأرض لولي الأمر واعطائها له على أساس انها بمقتضى هذا العقد تصبح ملكا للدولة. ولكن مع ذلك لولي الأمر ابقاء الأرض في أيديهم وتحت تصرفهم مقابل اخذ الخراج والطسق منهم. وعلى الجملة فالكفار قد يسلموا الأرض إلى ولي الأمة تسليما ابتدائيا وبدون شرط مسبق، وقد يسلموا الأرض من جهة شرط مسبق كعقد الصلح. واما صحيحة حفض بن البختري فقد جعلت عنوان الصلح في مقابل عنوان الاعطاء، ولكن من الطبيعي ان جعل الأرض التي تم بشأنها الصلح من الأنفال قرينة واضحة على أن مقتضاه ملكية الأرض للإمام (ع) والمراد من الاعطاء فيها هو اعطاء الأرض وتسليمها للإمام (ع) تسليما ابتدائيا وبدون أي شرط مسبق بقرينة جعله في مقابل الصلح ولكن هذه المجموعة من الروايات ليست في مقام بيان تمام أنواع الصلح وأقسامه، وانما هي في مقام بيان ما هو من الأنفال، ومن الطبيعي ان ارض الصلح التي تكون من الأنفال هي الأرض التي
(1) الوسائل ج 6 الباب 1 من أبواب الأنفال وما يختص بالامام الحديث 10. 327 اقتضى الصلح ملكيتها للإمام (ع). واما أراضي أهل الذمة التي هي في أيديهم فالظاهر أن علاقتهم بها تكون على مستوى الملك. ومن الطبيعي ان ابقاء تلك الأراضي في أيديهم من قبل ولي الأمر انما هو بموجب ما تم بينهم وبين ولي المسلمين بشأنها في عقد الصلح، وتدل على الملك مجموعة من الروايات: منها: صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) قال سألته عن شراء ارض أهل الذمة فقال: (لا بأس بها فتكون إذا كان ذلك بمنزلتهم تؤدي عنها كما يؤدون) الحديث (1). ومنها: مضمرة زرارة قال: قال: (لا بأس بان يشتري أرض أهل الذمة إذا عملوها واحيوها فهي لهم) (2). وتؤكد ذلك رواية أبي الربيع الشامي عن أبي عبد الله (ع) قال: (لا تشتر من ارض السواد شيئا إلا من كانت له ذمة) الحديث (3). فان الظاهر من هذه المجموعة هو شراء رقبة الأرض، وحملها على شراء الحق المتعلق بها كما كان الامر كذلك في شراء الأرض المفتوحة عنوة وإن كان بمكان من الامكان إلا أنه خلاف الظاهر فيكون بحاجة إلى قرينة. فالنتيجة ان ارض الصلح تختلف باختلاف ما تم عليه عقد الصلح بشأنها، وليس لها ضابط كلي في جميع الموارد.
(1، 2، 3) الوسائل ج 12 الباب 21 من أبواب عقد البيع الحديث 8، 2، 5. 328 - 5 - أنواع أخرى للأراضي 1 - الأرض التي سلمها أهلها لولي الأمة. 2 - الأرض التي باد أهلها وانقرضوا 3 - الأرض المستجدة في دار السلام 4 - بطون الأودية، رؤوس الجبال، الآجام
329 الأراضي التي سلمها أهلها لولي الأمة كل ارض سلمها الكفار لولي المسلمين من دون هجوم عليهم من قبلهم تسليما ابتدائيا فهي تكون من الأنفال يعني - ملك الدولة - وتصرف مواردها في شؤون الدولة ومصالحها. ويدل على ذلك: من الكتاب قوله تعالى: (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب، ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شئ قدير). واما من الروايات: فقد دلت على ذلك عدة من النصوص: وهي النصوص التي تقدمت في خلال البحث عن مقدمة الكتاب فلاحظ
331 (الأرض التي باد أهلها) لا شبهة في أن هذه الأرض من الأنفال سواء أكان الموت طارئا عليها أم ظلت عامرة، وذلك لا من ناحية مرسلة حماد بن عيسى، لأنها ضعيفة سندا من ناحية الارسال فلا يمكن الاعتماد عليها، بل من ناحية مجموعة من النصوص التي جاءت بهذا النص (كل ارض لا رب لها) فإنها تدل على أن ما لا رب لها فهي للإمام (ع) وبما ان الأرض المزبورة قد باد أهلها وانقرضوا فتصبح مما لا رب لها. هذا إضافة: إلى أنها تدخل في النصوص التي تدل على أن من لا وارث له فماله من الأنفال، وهي روايات كثيرة: منها: قوله (ع) في موثقة إسحاق بن عمار المتقدمة (ومن مات وليس له مولى فماله من الأنفال). ومنها: صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) قال (من مات وليس له وارث من قرابته، ولا مولى عتاقه قد ضمن جريرته. فماله من الأنفال) (1). ومنها: صحيحة محمد الحلبي عن أبي عبد الله (ع) في قول الله تعالى: (يسئلونك عن الأنفال، قال: (من مات وليس له مولى فما له من الأنفال) (2). ومنها: صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (ع) قال: من مات وترك دينا فعلينا دينه، والينا عياله إلى أن قال: ومن مات وله موالي فما له من الأنفال) (3).
(1، 2، 3) الوسائل ج 17 الباب 3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة 1، 3، 4 332 الأرض المستجدة في دار الاسلام وهي جزيرة ظهرت في وسط البحر أو النهر أو ساحلها، وقد عبر عنها بسيف البحار في كلمات الفقهاء. ولا شبهة في أنها من الأنفال، لأنها تدخل في نطاق ملكية الإمام (ع) تطبيقا للكبرى الفقهية التي قد نصت: على أن كل ارض لا رب لها فهي للإمام (ع). واما إذا افترضنا: ان الأرض المزبورة لم تكن من الأول تحت الماء وكانت بيد صاحبها، ثم استولى الماء عليها، وبعد مضي مدة زمنية ظهرت الأرض فهل تنقطع بذلك علاقة صاحبها عنها نهائيا أو ظلت بحالها؟ فيه تفصيل، فإن كانت علاقة صاحبها بالأرض على مستوى الملك لم تنقطع بذلك، فان خروج رقبة الأرض عن ملكه بحاجة إلى دليل، ولا دليل في المقام على ذلك، بل مقتضى الأصل بقائها. وإن كانت على مستوى الحق انقطعت علاقته عنها. لما عرفت من أن الحق متقوم بحياتها وعمرانها فإذا زالت زال الحق نهائيا بزوال علته.
333 روؤس الجبال، بطون الأودية، الآجام البحث فيها يقع تارة في مقتضى مجموعة من النصوص الخاصة. واخرى: في مقتضى مجموعة من النصوص العامة. اما البحث في الأول: فقد استدل على انها من الأنفال بعدة من النصوص الشرعية: منها: مرسلة حماد بن عيسى المتقدمة عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح في حديث قال: (وللامام صفو المال إلى أن قال: وله رؤوس الجبال، وبطون الأودية، والآجام) الحديث فإنها وإن كانت تامة دلالة إلا انها ضعيفة سندا من ناحية الارسال فلا يمكن الاستدلال بها. ومنها: مرسلة مقنعة عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (ع) يقول: (الأنفال إلى أن قال: فقال: كل ارض خربة أو شئ يكون للملوك، وبطون الأودية، ورؤوس الجبال) الحديث (1) فإنها ضعيفة سندا من جهة الارسال وإن كانت تامة دلالة. ومنها: مرفوعة أحمد بن محمد عن بعض أصحابنا رفع الحديث إلى أن قال: (قال: وبطون الأودية، ورؤوس الجبال) الحديث (2). فإنها ضعيفة فلا يمكن الاعتماد عليها. نعم قد ورد - في صحيحة حفض بن البختري ومعتبرة محمد بن
(1، 2) الوسائل ج 6 الباب 1 من أبواب الأنفال الحديث 33، 17. 334 مسلم المتقدمتين - بطون الأودية خاصة، وتنصان على انها من الأنفال. إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة. وهي ان النصوص الخاصة المذكورة - التي تنص على أن رؤوس الجبال، وبطون الأودية، والآجام من الأنفال - بأجمعها ضعيفة سندا فلا يمكن الاعتماد عليها، فاذن النص الخاص غير متوفر في هذه الثلاثة ما عدى بطون الأودية. ودعوى: - ان ضعف تلك النصوص قد انجبر بعمل الأصحاب - خاطئة جدا. اما أولا: فلانا لا نعلم بان الأصحاب قد استندوا في الحكم بكون هذه الثلاثة من الأنفال إلى تلك الروايات، بل لعلهم استندوا في ذلك إلى الروايات العامة وتطبيقها عليها. واما ثانيا: فلان الجابر لو كان فإنما هو عمل أصحابنا المتقدمين واستنادهم إليها في مقام الفتيا وهو غير معلوم لنا على أساس انه لا طريق لنا إلى احراز ذلك، وأما عمل أصحابنا المتأخرين فلا يكون جابرا. واما ثالثا: فمع الإغماض عن جميع ذلك فالكبرى غير تامة. فان الملاك في اعتبار الرواية هو وثاقة الراوي سواء أكان الأصحاب قد عملوا بها أم لم يعملوا. نعم إذا حصل الاطمئنان بصدورها على أساس عملهم بها فالرواية عندئذ وإن كانت حجة إلا انها من ناحية الاطمئنان. واما البحث في الثاني: فالظاهر دخول رؤوس الجبال، وبطون الأودية، والآجام في نطاق مجموعة من النصوص العامة التي تقدمت في ضمن الأبحاث السالفة. فان منها: ما يدل على أن الأرض الخربة التي لم يوجف عليها
335 بخيل ولا ركاب للإمام (ع). ومنها: ما يدل على أن كل ارض لا رب لها فهي للإمام (ع). ومنها: ما يدل على أن الأرض كلها للإمام (ع). وعليه فبطون الأودية، ورؤوس الجبال ان كانتا مواتا ولم يوجف عليهما بخيل ولا ركاب فهما داخلتان في نطاق المجموعة الأولى، وإن كانتا عامرة طبيعيا ولم يوجف عليهما بخيل ولا ركاب فهما داخلتان في نطاق المجموعة الثانية، وكذا الحال في الآجام، فإنها داخلة في نطاق هذه المجموعة. واما إذا كانت هذه الثلاثة مأخوذة من الكفار بعنوة وهراقة دم فهي ملك عام للمسلمين على تفصيل قد سبق بشكل موسع. هذا كله بحسب ما هو مقتضى النصوص العامة. وأما بطون الأودية خاصة: فبما ان النص الوارد فيها تام من ناحية السند فالظاهر أنه لا مانع من الحكم بكونها من الأنفال مطلقا وإن كانت مأخوذة من الكفار بعنوة وهراقة دم، وإن كانت عامرة بشريا وكان تاريخ عمرانها متقدما زمنيا على تاريخ نزول آية الأنفال، فإنها إذا دخلت دار الاسلام بعد ذلك التاريخ خرجت عن ملك مالكها ودخلت في ملك الإمام (ع) بمقتضى اطلاق هذا النص. ولكن في مقابل هذا النص مجموعتان من النصوص: إحداهما: عمومات الاحياء التي تدل على تملك المحيي لرقبة الأرض. والاخرى: العمومات الدالة على أن الأرض المأخوذة من الكفار عنوة ملك عام للمسلمين. اما المجموعة الأولى: فالنسبة بينها وبين هذا النص عموم من
336 وجه، وملتقى المعارضة بينهما ما إذا كانت بطون الأودية عامرة بشريا، فان مقتضى تلك المجموعة انها دخلت في ملك المحيي، ومقتضى هذا النص انها ظلت في ملك الإمام (ع) فاذن لا يمكن الاخذ باطلاق النص المزبور. والجواب عن ذلك: اما أولا: فقد تقدم في ضمن البحوث السالفة ان عملية الاحياء لا توجب علاقة المحيي بالأرض على مستوى الملك، وانما توجب علاقته بها على مستوى الحق فحسب، فاذن لا تنافي بينهما، ولا مانع من الاخذ باطلاق النص. واما ثانيا: فعلى تقدير تسليم التنافي والتعارض بينهما في مورد الالتقاء إلا أن الارتكاز القطعي لدى العرف في أمثال المقام هو تقديم هذا النص على المجموعة المذكورة، إذ في صورة العكس يلزم الغاء عنوان بطون الأودية نهائيا، وتصبح حالها حال غيرها من الأراضي، وهو على خلاف المتفاهم العرفي، فعندئذ لا بد من تقديم النص عليها، فان الارتكاز المزبور بمثابة قرينة على ذلك فيدخل المقام في نطاق ضابط كلي المنقح في محله - وهو ان في كل مورد كان التعارض بين الدليلين عموما من وجه فإذا لزم من تقديم أحدهما على الآخر في مورد الالتقاء الغاء عنوانه نهائيا دون العكس تعين العكس فيه -. واما ثالثا: فلانا لو سلمنا تساقط الطرفين بالمعارضة تعين الرجوع إلى العام الفوقي الدال على أن الأرض كلها للإمام (ع) فان هذا العام يصلح المرجعية بعد تساقط النصوص الخاصة من جهة المعارضة. واما رابعا: فلانا لو قطعنا النظر عن العام الفوقي أمكن الرجوع إلى الأصل العملي - وهو استصحاب بقائها في ملك الإمام (ع) عدم
337 خروجها عن ملكه -. واما خامسا: فلانا لو قطعنا النظر عن هذا الأصل العملي أيضا أمكن الرجوع إلى مجموعة أخرى من نصوص ملكية الإمام (ع) وهي التي جاءت بهذا النص كل ارض لا رب لها فهي للإمام (ع) فإنه بعد سقوط دليل تملك المحيي بالاحياء لا مانع من الرجوع إلى استصحاب عدم وجود رب خاص لها، وبذلك تدخل في نطاق هذه المجموعة فتكون للإمام (ع). واما المجموعة الثانية: وهي النصوص التي تدل على أن الأرض المفتوحة عنوة ملك عام للمسلمين، فهي تصنف إلى مجموعتين: إحداهما: تدل على أن ما اخذ بالسيف فهو للمسلمين. والاخرى: تدل على أن الأرض السواد ملك لهم. اما النسبة بين النص المتقدم والمجموعة الأولى فهي عموم وخصوص مطلق فيكون مخصصا لعمومها فلا معارضة في البين. واما النسبة بينه وبين المجموعة الثانية فهي عموم من وجه. لاختصاص هذه المجموعة بالأرض العامرة، وعموم النص من هذه الناحية، فملتقى المعارضة بينهما ما إذا كانت بطون الأودية عامرة وقد فتحت عنوة من قبل المسلمين، فان مقتضى هذا النص انها ملك للإمام (ع) ومقتضى تلك المجموعة انها ملك للأمة. فالنتيجة: انه لا يمكن الاخذ بمقتضى هذا النص. والجواب عنه قد ظهر مما تقدم، وحاصله هو انه لا بد من تقديم اطلاق ذلك النص على اطلاق هذه المجموعة من النصوص بعين ملاك تقديمه على مجموعة عمومات نصوص الاحياء حرفا بحرف. إلى هنا قد استطعنا ان نخرج بهذه النتيجة وهي ان بطون
338 الأودية إذا دخلت دار الاسلام فإن كان دخولها بعد نزول آية الأنفال فهي أصبحت ملكا للإمام (ع) هذا من دون فرق بين كونها مواتا، أو عامرة بشريا أو طبيعيا، وعلى الثاني لا فرق بين كون تاريخ عمرانها متقدما زمنيا على تاريخ نزول الآية أو متأخرا عنه كذلك. وأيضا لا فرق بين كون دخولها في دار الاسلام بالجهاد المسلح أو بدون ذلك. كل ذلك انما هو لاطلاق النص وعدم ما يصلح لتقييده بغير حالة من تلك الحالات. واما إذا كان دخولها قبل نزول الآية فإن كان بعنوة وكان بعد تاريخ تشريع ملكية الأرض للمسلمين بالفتح خارجا فهي تصبح ملكا لهم. واما إذا كان قبله. أو لم يكن بعنوة فهي وان لم تكن عندئذ ملكا للإمام (ع) ولا للمسلمين إلا أن امرها بيد ولي الأمة. ومن هنا يظهر: انه لا ثمرة عملية بين دخولها في دار الاسلام قبل نزول الآية أو بعده أصلا على أساس ان امرها على كلا التقديرين بيد ولي الأمة. ومن ذلك يظهر حال رؤوس الجبال، والآجام إذا افترضنا صحة النص الوارد فيهما أيضا. وبذلك يتبين ان ما ذكره المحقق الهمداني (قده) - من أن رؤوس الجبال، وبطون الأودية، وكذا الآجام مندرجة في الأرض الموات، وانفرادها في الذكر في الفتاوي لتبعية النصوص. واما ذكرها في النصوص خاصة فهو من ناحية انها من الافراد الخفية التي ينصرف عنها اطلاق الأرض الموات. وقد حكى ذلك: عن المحقق الأردبيلي (قده) أيضا حيث قال: إن هذه الثلاثة داخلة في الموات إلا أن ذكرها للتوضيح، واحتمال
339 صرف الموات إلى غيرها - لا يمكن الاخذ به، وذلك لأن الظاهر من نصوصها لدى العرف هو ان لها خصوصية، لا ان ذكرها للتوضيح والتنبيه على انها من الافراد الخفية، ضرورة انه لو لم تكن لها خصوصية لكانت الأرض الموات شاملة لها جزما، فان بطون الأودية ورؤوس الجبال من الأرض حقيقة ولا وجه لدعوى الانصراف. واما الآجام: فهي غير داخلة في الأرض الموات، بل هي داخلة في الأرض العامرة طبيعيا، وتدخل في نطاق ملكية الإمام (ع) تطبيقا للقاعدة التي جاءت بهذا النص (كل ارض لا رب لها فهي للإمام (ع)). فالنتيجة في نهاية الشوط: ان دعوى الانصراف لا تقوم على أساس صحيح أصلا، وعليه فالاطلاق هو المحكم في كل ما كانت النصوص فيه تامة سندا وهو بطون الأودية، دون رؤوس الجبال، والآجام، كما عرفت. ومن هنا تمتاز بطون الأودية عن أخوتيها، فان حكمهما حكم غيرهما من الأراضي التي هي ملك عام للإمام (ع) تطبيقا للنصوص العامة على أساس عدم وجود نص خاص معتبر فيهما، ووجوده في بطون الأودية. وهذا بخلاف بطون الأودية، فان دخولها في نطاق ملكية الدولة بما انه قد ثبت بنص خاص فظاهره بمقتضى الارتكاز العرفي هو ان لها خصوصية وإلا فلا مقتضى لانفرادها بالذكر كما عرفت، وقد أشرنا إلى تلك الخصوصية - وهي انها ملك للإمام (ع) مطلقا حتى فيما إذا أخذت من الكفار بعنوة وهراقة دم - وبهذه الخصوصية تمتاز عن أخويتها.
340 هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: ان مقتضى اطلاق النص المزبور كون بطون الأودية داخلة في نطاق ملكية الدولة وإن كانت في ارض غير الإمام (عليه السلام) وقد اختار هذا التعميم صاحب المدارك (قده) حيث قال: إن اطلاق النص، وكلام أكثر الأصحاب يقتضي اختصاصه (عليه السلام) بهذه الأنواع الثلاثة في أي ارض كانت إلا أنه (قده) منع عن هذا الاختصاص من جهة ضعف النصوص، وقد صرح بهذا القول شيخنا العلامة الأنصاري (قده)، بل هذا هو المشهور بين الأصحاب. واما ما عن ابن إدريس (قده) - من منع اختصاص الإمام (ع) بها مطلقا - فيرده انه خلاف ظاهر تلك النصوص، فان الظاهر منها عرفا هو ان العناوين المذكورة فيها خصوصية، ولأجل تلك الخصوصية افردها بالذكر. هذا. وفيه: ان ما نسب إلى المشهور انما يتم بالإضافة إلى بطون الأودية خاصة، لا مطلقا، وذلك لما عرفت من أن النص الخاص المتضمن لرؤوس الجبال، والآجام ضعيف سندا فلا يمكن الاعتماد عليه ومن هنا قلنا إن دخولهما في نطاق ملكية الإمام (ع) انما هو من ناحية تطبيق العناوين العامة عليهما، وهذا بخلاف النص الخاص المتضمن لبطون الأودية خاصة، فإنه تام من حيث السند وبذلك يظهر ما في كلام صاحب المدارك (قده) حيث إن رميه جميع النصوص الواردة في تلك الأنواع الثلاثة بالضعف سندا في غير محله، لما عرفت من أن النص الوارد في بطون الأودية تام سندا. فالنتيجة: ان بطون الأودية ملك للإمام (ع) مطلقا - حتى بعد
341 عملية الاحياء - على ضوء نظرية المشهور في المسألة من أن العملية المزبورة تمنح المحيي ملكية الأرض، ولأجل هذه الخصوصية تمتاز عن غيرها من الأراضي. واما على ضوء ما هو المختار في المسألة - من أن عملية الاحياء لا تمنح المحيي ملكية الأرض وانما تمنحه حقا فيها مع بقاء رقبة الأرض في ملك الإمام (ع) - فلا فرق بينها وبين غيرها من الأراضي الموات من هذه الناحية أصلا على أساس ان عملية الاحياء في كلا الموردين لا توجب انقطاع علاقة الإمام (ع) عن الرقبة، وانما توجب علاقة المحيي بها على مستوى الحق فحسب. نعم ان لها خصوصية من ناحية أخرى - وبها تمتاز عن غيرها - وهي ما أشرنا إليه آنفا من أنها داخلة في نطاق ملكية الإمام (ع) مطلقا حتى فيما إذا كانت في الأرض المفتوحة عنوة التي هي ملك عام للأمة، وهذا بخلاف غيرها من الأراضي فإنها بالفتح تصبح ملكا للمسلمين ولو كانت مواتا وكان فتحها بعد تاريخ نزول آية الأنفال على أساس ما قويناه سابقا، ولأجل هذه النكتة أفردت في الذكر في النص. وهذا البيان بعينه جار في رؤوس الجبال، والآجام على تقدير اعتبار النص الوارد فيهما خاصة. ثم إنه لو أصبحت الأرض المملوكة واديا بحادث من الحوادث السماوية أو الأرضية فهل تكون مشمولة لاطلاق النص المزبور؟ فيه تفصيل، فان صيرورتها واديا إن كانت على نحو لم يوجب انقطاع علاقة صاحبها عنها لدى العرف لم تكن مشمولة عنه، لانصرافه عنها جزما. وإن كانت على نحو يوجب انقطاع علاقته عنها لديهم فهي مشمولة له،
342 وذلك كما إذا انتقلت ارضه من مكانها إلى مكان آخر أو زالت وانتشرت اجزائها وأصبح مكانها واديا بواسطة السيل الجارف أو الزلزلة، فان ملكية الأرض وإن كانت تستلزم ملكية بواطنها لكن بالمقدار المتعارف إلي - بالمقدار الذي يتوقف عليه الانتفاع بها دون الأكثر - واما أعماقها التي لا يمكن الوصول إليها إلا بحفر وجهد كبير فلا تكون مملوكة لصاحب الأرض، ولا تمتد علاقته بها إلى أعماقها نهائيا عند العرف والعقلاء، ولا دليل لدنيا من الشرع أيضا على أن الفرد يملك أعماق الأرض بتبع ملكية نفسها. وعليه فتصبح تلك الوادي ملكا للإمام (ع) لا من جهة هذا النص الخاص، فإنه لو لم يكن ذلك النص أيضا نحكم بدخولها في نطاق ملكيته (ع) تطبيقا للقواعد العامة المتقدمة. ومن هنا يظهر انه لا خصوصية لبطون الأودية هنا، بل الحال كذلك في رؤوس الجبال، فان الأرض المملوكة إذا افترض انها أصبحت تلا وجبلا جرى فيها التفصيل المتقدم. واما الآجام فلا شبهة في أنها ملك لصاحب الأرض، ولا يجري فيها التفصيل المزبور. نتيجة هذا البحث عدة نقاط الأولى: ان النصوص الخاصة الواردة في مجموع من بطون الأودية ورؤوس الجبال والآجام بأجمعها ضعيفة سندا. نعم النص الخاص الوارد في بطون الأودية خاصة تام من ناحية السند. الثانية: ان حال رؤوس الجبال والآجام حال غيرهما من الأراضي التي هي داخلة في نطاق ملكية الإمام (ع) تطبيقا للقواعد العامة
343 ولا خصوصية لهما من هذه الناحية أصلا وهذا بخلاف بطون الأودية فان لها خصوصية تمتاز بها عن غيرها كما عرفنا. الثالثة: ان بطون الأودية بمقتضى اطلاق نصها لا تدخل في ملك المحيي بسبب الاحياء، بل ظلت في ملكية الإمام (ع) حتى بعد قيام فرد باحيائها وعمرانها. وبهذه الخصوصية تمتاز عن غيرها من الأراضي الموات، هذا على ضوء نظرية المشهور من أن الاحياء يوجب تملك المحيي للأرض. واما على ضوء ما هو المختار في المسألة فلا فرق بينها وبين غيرها من هذه الناحية أصلا كما عرفت. الرابعة: ان الأرض المملوكة إذا أصبحت واديا ففي شمول النص لها تفصيل تقدم آنفا. وكذا الحال فيما إذا أصبحت تلا وجبلا. هذا تمام ما أوردناه حول الأراضي بأنواعها.
344 - 6 - المعادن مجموعة بحوث يبحث فيها عن أنواعها: الظاهرة والباطنة وما يترتب عليهما من الآثار والاحكام على أساس دائرة الشرع الاسلامي المقدس
345 المعادن ذكر جماعة ان المعادن من الأنفال، واستدلوا على ذلك بمجموعة من النصوص: منها: موثقة إسحاق بن عمار قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن الأنفال فقال: هي القرى التي قد خربت وانجلى أهلها إلى أن قال: وكل ارض لا رب لها، والمعادن منها الحديث (1). ومنها: رواية أبي بصير عن أبي جعفر (ع) قال: لنا الأنفال قلت: ما الأنفال قال: منها: المعادن، والآجام الحديث (2). ومنها: رواية داود بن فرقد عن أبي عبد الله (ع) في حديث قال: قلت: وما الأنفال قال: بطون الأودية، ورؤس الجبال، والاجام، والمعادن الحديث (3). ولكن لا يخفى ان العمدة في المسألة انما هي الرواية الأولى على أساس انها تامة سندا. واما الروايتين الأخيرتين فبما انهما ضعيفتان من ناحية السند فلا يمكن الاعتماد عليهما. وفي مقابل هذا القول ذكر جماعة ان الناس فيها شرع سواء، بل عن الشهيد (قده)، في الدروس نسبته إلى الأشهر، بل في الجواهر انه المشهور نقلا وتحصيلا، وكيف كان فقد استدلوا عليه بوجوه: الأول: بالأصل العملي، فان مقتضاه ان المعادن غير داخلة في نطاق ملكية أحد، لا ملكية خاصة، ولا ملكية عامة، لان دخولها
(1، 3) الوسائل ج 6 الباب 1 من أبواب الأنفال وما يختص بالامام الحديث 30، 28، 32. 347 في ذلك بحاجة إلى دليل، ولا دليل عليه، واما النصوص المتقدمة فهي غير مانعة عن التمسك بهذا الأصل، وذلك لان النص الثاني والثالث ضعيفان من ناحية السند كما عرفت فلا يمكن الاعتماد عليهما في اثبات حكم شرعي. واما النص الأول: فهو وإن كان تاما من ناحية السند الا انه مجمل من ناحية الدلالة، إذ من المحتمل قويا ان يكون قوله (ع) منها راجعا إلى الأرض التي لا رب لها، لا إلى الأنفال، فإنه انسب بسياق الرواية. هذا إضافة إلى ما قيل: من أن الوارد في بعض النسخ كلمة فيها بدل كلمة منها، وعلى هذا يتعين رجوعها إلى الأرض. ونتيجة ذلك: هي ان الموثقة لا تدل على أن المعادن مطلقا من الأنفال حتى فيما إذا كانت في ارض مملوكة بملكية خاصة أو عامة، وانما تدل على كونها من الأنفال إذا كانت في الأرض التي هي داخلة في نطاق ملكية الإمام (ع)، فإنه المتيقن منها، وعليه فإذا كان للأرض رب لم يثبت كون المعادن المتكونة فيها من الأنفال. وقد تحصل من ذلك: ان هذه المجموعة من النصوص لا تدل بوجه على أن المعادن مطلقا من الأنفال. وعليه فلا مانع من الرجوع إلى الأصل المزبور بالإضافة إلى المعادن التي تكون في الأرض التي لها رب خاص قبل التاريخ الزمني لتشريع ملكية الأنفال للإمام (ع). واما إذا كانت في الأرض التي لها رب خاص بعد التاريخ المزبور: اما من ناحية ان عملية الاحياء تمنح المحيي ملكية الأرض أو من ناحية أخرى كتمليك الإمام (ع) فهل عندئذ تنقطع علاقة
348 الامام عن المعادن في تلك الأرض كما انقطعت عنها أو تظل؟ فيه وجهان: الظاهر هو الوجه الثاني، والسبب فيه ان المعادن سواء أكانت متوغلة في أعماق الأرض أم كانت على سطحها فهي موجودات مستقلة في قبال الأرض، وليست من شؤونها وتوابعها لدى العرف: فان نسبتها إلى الأرض نسبة المظروف إلى الظرف، لا نسبة الثمرة إلى الشجرة، وسوف نشير في ضمن البحوث القادمة إلى أن اثر ملكية الأرض لا يمتد إلى ما فيها من المصادر والثروات الطبيعية كالمعادن ونحوها الا بقرينة، هذا بناء على كون عملية الاحياء تفيد الاختصاص بالأرض على مستوى الملك. واما بناء على كونها مفيدة للاختصاص بها على مستوى الحق فايضا الامر كذلك، فان الحق لا يتعدى عن الأرض إلى ما فيها من المصادر والثروات الطبيعية، وكذا الحال في تمليك الإمام (ع). ومن ذلك يظهر انه لا مجال لدعوى انه لا خصوصية لعنوان المعادن في قبال الأرض على أساس انها تتبع الأرض في مبدأ الملكية فإذا كانت الأرض خاضعة لمبدأ ملكية خاصة أو عامة كانت المعادن كذلك، وعليه فلا موضوعية لها، مع أن ظاهر الموثقة هو ان لها موضوعية، فان ذكرها في مقابل عنوان الأرض الخربة، والأرض التي لا رب لها يدل على أن لها خصوصية والا لكان ذكرها لغوا صرفا ولذا لا بد من الالتزام بأنها مطلقا من الأنفال. وذلك لما عرفت من أن المعادن لا تتبع الأرض في مبدأ الملكية من ناحية. واجمال الموثقة وعدم دلالتها على أن للمعادن موضوعية في قبال الأرض التي لا رب لها من ناحية أخرى
349 فالنتيجة في نهاية الشوط: ان القدر المتيقن من الموثقة هو دخول المعادن الموجودة في الأرض التي لا رب لها في نطاق ملكية الإمام (ع) من دون فرق بين المعادن الظاهرة والباطنة في ذلك، وأما المعادن الموجودة في الأرض الخاضعة لمبدأ الملكية الخاصة أو العامة كالأرض المفتوحة عنوة فلا تدل على انها من الأنفال. الثاني: ان سيرة المسلمين قد جرت من لدن عصر النبي الأكرم (ص) إلى زماننا هذا على استخراج المعادن والتصرف فيها من دون اذن ولي الأمر، ولم يرد ردع عنها في اي نص من النصوص الشرعية، ومن الطبيعي ان مثل هذه السيرة يكشف كشفا جزميا عن انها ليست من الأنفال والا لم يجز القيام باستخراجها والسيطرة عليها بدون الاذن. والجواب عن هذا الوجه ان السيرة المذكورة وإن كانت قائمة بين المسلمين في جميع العصور الا انها رغم ذلك لا تكشف عن أن المعادن لم تكن من الأنفال، وذلك لأنه ان أريد بها سيرة المتعبدين بنصوص أهل البيت (ع) فالظاهر أن جريانها بينهم يقوم على أساس اخبار التحليل أو نحوها مما يكشف عن رضائهم (ع) بتصرفاتهم فيها. وان أريد بها سيرة غيرهم من المسلمين فمن الواضح انها تقوم على أساس منهجهم الفقهي. فبالنتيجة: ان هذه السيرة لا تدل بوجه على أن المعادن لم تكن من الأنفال. الثالث: ان ظاهر مجموعة من النصوص الدالة على وجوب الخمس في المعادن هو ان الأربعة الأخماس الباقية ملك لمن كان قائما
350 بعملية استخراجها لا للإمام (ع). والجواب عنه: انه لا اطلاق لهذه النصوص من هذه الناحية أصلا، وسوف نشير إليه. إلى هنا قد استطعنا ان نخرج بهذه النتيجة: وهي ان المعادن الموجودة في أراضي الإمام (ع) فهي نفل، دون المعادن الموجودة في غيرها من الأراضي، فإنه وان لم يثبت بدليل اجتهادي انها ليست بنفل الا انك عرفت ان مقتضى الأصل العملي ذلك على أساس ان خضوعها لمبدأ ملكية الإمام (ع) بحاجة إلى دليل، ولا دليل عليه. قد يقال: إن مقتضى قوله (ع) في صحيحة أبي سيار مسمع ابن عبد الملك المتقدمة (الأرض كلها لنا فما اخرج الله منها من شئ فهو لنا) ان الأرض وما فيها من المصادر والثروات كالمعادن ونحوها كلها للإمام (ع) وعليه فتكون المعادن مطلقا من الأنفال كالأرض وفيه ما مر بنا سابقا من أن المراد بالأرض في الصحيحة هي الأرض التي لا رب لها حين تشريع ملكية الأنفال للإمام (ع) سواء أكانت ميتة أم كانت عامرة فلا تشمل الأرض التي هي داخلة في نطاق ملكية خاصة أو عامة في زمان التشريع المزبور، وعليه فلا تدل الصحيحة على أن المعادن مطلقا من الأنفال. لحد الان قد تبين لنا انه لا يمكن اتمام القولين المشار إليهما في صدر المسألة بدليل: ومن هنا لا بد لنا: من التفصيل فيها. وسوف نشير إليه في ضمن البحوث القادمة.
351 المعادن الظاهرة وهي في المصطلح الفقهي عبارة عما تكون طبيعته المعدنية ظاهرة بارزة سواء أكان الوصول إليها بحاجة إلى انفاق عمل وبذل جهد كما إذا كانت في أعماق أم لم يكن كما إذا كانت على سطح الأرض) واليه أشير: ما عن العلامة في التذكرة من أن المراد بالظاهر ما يبدو جوهرها من غير عمل، وانما السعي والعمل لتحصيله اما سهلا أو متعبا، ولا يفتقر إلى اظهار كالملح، والنفط، والقار، والقطران، والموميا، والكبريت، وأحجار الرحى، والبرمة والكحل، والياقوت، ومقالع الطين وأشباهها. واما حكم هذه المعادن: فقد نسب إلى المشهور ان الناس فيها شرع سواء، ولا يعترف الاسلام بالاختصاص بها للافراد، لا على مستوى الملك، ولا على مستوى الحق، وسوف نشير إلى تفصيل ذلك وفي مقابل ذلك ذهب جماعة إلى أنها من الأنفال، لخبر إسحاق بن عمار، أو لأنها من الأرض التي لا رب لها. وقد اورد على ذلك: في الجواهر بان الخبر ضعيف ولا جابر له، بل الموهن متحقق، فان المشهور نقلا وتحصيلا على أن الناس فيها شرع سواء، بل قيل: قد يلوح من محكي المبسوط، والسرائر نفي الخلاف فيه، مضافا إلى السيرة المستمرة في سائر الأعصار والامصار في زمن تسلطهم وغيره على الاخذ منها بلا اذن حتى ما كان في الموات التي هي ملك للإمام (ع) أو في المفتوحة عنوة التي هي ملك عام للمسلمين.
352 أقول: إن لنا دعاوي أربع: الأولى: عدم صحة ما نسب إلى المشهور مطلقا، الثانية: ان ما نسب إلى جماعة لا يمكن الأخذ به على اطلاقه. الثالثة: ان ما اورده في الجواهر على القول الثاني لا يتم. الرابعة: ان الصحيح هو التفصيل في المقام. اما الدعوى الأولى: فقد تقدم ان مقتضى موثقة إسحاق بن عمار ان المعادن الموجودة في الأراضي التي لا رب لها داخلة في نطاق ملكية الإمام (ع) فليست من المشتركات العامة بين كل الناس. واما المعادن الموجودة: في الأراضي المملوكة بملكية خاصة فهل هي خاضعة لمبدأ الملكية العامة يعني - ان الناس فيها شرع سواء - أو تتبع الأرض في سنخ الملكية؟ فيه وجهان: الظاهر هو الوجه الأول يعني - ان المعادن في تلك الأراضي من المشتركات العامة بين الناس - وليست خاضعة للأرض في مبدأ الملكية. والنكتة في ذلك: ان وجودها في ارض فرد معين بحد نفسه لا يكون كافيا لتملك ذلك الفرد لها، لأننا قد عرفنا في ضمن البحوث السالفة ان مصدر علاقة الفرد بالأرض انما هو عملية الاحياء فلا يمكن ان تنشأ العلاقة بينهما بدونها، وقد تقدم ان الناتج من عملية الاحياء انما هو علاقة المحيي بالأرض، ومن الطبيعي ان اثرها لا يمتد إلى المعادن الموجودة فيها، لأنها ليست أرضا على الفرض ومن المعلوم ان مقتضى النصوص الشرعية - التي جاءت بهذا النص: (من أحيى أرضا مواتا فهي له) أو قريبا منه - هو ان اثر الاحياء منح المحيي ملكية الأرض لا غيرها، وعليه فالمصادر والثروات الطبيعية التي تتكون فيها بما انه لا يصدق عليها عنوان الأرض فلا تكون
353 مشمولة للنصوص المزبورة. وبكلمة أخرى: ان احياء الأرض احياء لها فحسب، لا لغيرها، لما تقدم من أن احيائها عبارة عن توفير الشروط للانتفاع بها بزرع أو نحوه التي لم تكن متوفرة فيها قبل عملية الاحياء، وانما نتجت منها، ومن الواضح ان تلك الشروط شروط للانتفاع بالأرض والاستفادة منها، ولا صلة لها بغيرها من المصادر الطبيعية الموجودة فيها. وقد ذكرنا ان علاقة العامل بتلك المصادر انما هي على أساس انفاق العمل وبذل الجهد في سبيل الاستيلاء والسيطرة عليها، مثلا: علاقة العامل بالمناجم أو العيون الموجودة في أعماق الأرض انما هي باكتشافها من خلال عمليات الحفر وبذل الجهد في سبيل الوصول إليها، ومن هنا قلنا إنه لا يصدق على ذلك عنوان الاحياء، واطلاقه عليه كما في كلمات الأصحاب مبني على المسامحة. نعم ان أريد بعملية الاحياء تصفية المواد المعدنية - كما إذا كانت من المعادن الباطنة وبذل الجهد والعمل في سبيل انجازها وتطويرها على أساس ان جوهرها لا يبدو بشكل كامل إلا بعد عملية التصفية والتطوير، كما هو الحال في الذهب والفضة أو ما شاكلهما - فهي وإن كانت احياء بالإضافة إليها - باعتبار ان احياء كل شئ بحسبه، واحياء تلك المواد انما هو بذلك - إلا انها لا تؤثر في شئ على أساس ان هذه العملية من العامل إنما هي بعد دخول تلك المواد المعدنية في نطاق ملكيته كما إذا كانت من المباحات الأولية، أو أحقيته كما إذا كانت من الأنفال مثلا، ضرورة ان القيام بهذه العملية لا يمكن ما دامت في موضعها الطبيعي فلا محالة يتوقف على اخذها من موضعها ونقلها إلى موضع هذه العملية، ومن الواضح ان
354 الملك أو الحق قد حصل بنفس عملية الاخذ والنقل وجعلها في حوزته. فالنتيجة: ان ما يصدق عليه الاحياء فلا يكون منشأ لعلاقة العامل بالمواد المعدنية، على أن هذه العملية خاصة بالمعادن الباطنة حيث لا موضوع لها في غيرها، لما قلنا: من أن احياء شئ عبارة عن خلق صفة وحالة فيه التي لم تكن موجودة في الشئ قبل عملية الاحياء وانما نتجت منها، وهذا يختلف باختلاف الأشياء. وسوف نشير في البحث القادم ان مصدر اختصاص الفرد بالمواد المعدنية على مستوى الملك أو الحق انما هو عملية استخراجها إذا كانت في أعماق الأرض، وعملية الاخذ والاستيلاء خارجا إذا كانت متكونة على وجه الأرض، وهذا يعني ان الفرد يملك المادة التي يستخرجها خاصة، ولا يملك شيئا منها ما دام ظل في موضعه الطبيعي. نعم هو باكتشافها والوصول إليها من خلال عملية الحفر وبذل الجهد أصبح أحق بها من الآخرين، وهذا الحق انما هو على أساس انه يخلق بعمله وجهده هذا: فرصة الانتفاع بها والاستفادة منها، وما دامت تلك الفرصة موجودة فقد ظل حقه وان لم يكن ممارسا الانتفاع بها، وليس لأي واحد ان يزاحمه في استخدام الحفرة - التي حفرها - في سبيل الحصول عليها. واما المناجم الموجودة: في الأرض المفتوحة عنوة التي هي ملك عام للمسلمين فهل هي تخضع الأرض في مبدأ الملكية يعني - كما أن الأرض ملك عام للمسلمين كذلك المناجم الموجودة فيها -؟ فيه وجهان. الظاهر هو الوجه الأول. والنكتة فيه: ان مصدر علاقة المسلمين بالأرض التي كانت
355 بأيدي الكفار وتحت سيطرتهم انما هو استيلاء جيوش المسلمين عليها بعنوة وهراقة دم واخذها منهم بالسيف، ومن الطبيعي ان اثر الاستيلاء يمتد إلى المصادر والثروات الطبيعية كالمناجم ونحوها الموجودة في الأرض سواء أكانت متوغلة في أعماقها أم كانت على وجهها باعتبار ان الاستيلاء خارجا على بقعة من الأرض لدى العرف والعقلاء استيلاء على جميع ما في هذه البقعة من الثروات الطبيعية على أساس ان الاستيلاء على الظرف استيلاء على المظروف طبعا. وبذلك يختلف مفهوم الاستيلاء والاخذ بالسيف عن مفهوم الاحياء، وعلى اثر هذا الاختلاف يختلف النتيجة. فان ملكية الأرض: إن كانت نتيجة الاستيلاء عليها، والاخذ بالسيف فامتدت إلى المعادن الموجودة فيها على الأساس المزبور، واما إذا كانت نتيجة الاحياء فلا تمتد إلى ما فيها من المعادن والمناجم على أساس ان احياء الأرض ليس احياء لها، لا بالاستقلال ولا بالتبع نظرا إلى أنها ليست من توابع الأرض وشئونها، بل هي موجودات مستقلات في قبال الأرض، غاية الأمر انها ظرف لها، ومن المعلوم ان المظروف ليس تابعا للظرف، ولا فرق في ذلك بين ان يكون الناتج من عملية الاحياء الملك أو الحق، ومن هنا قلنا إن نصوص الاحياء خاصة بالأرض فلا تشمل غيرها. هذا إضافة: إلى أن موضوع ملكية المسلمين ليس خصوص الأرض، فان موضوعها على أساس صحيحة أبي نصر هو ما اخذ بالسيف، غاية الأمر قد خرج من اطلاقه ما إذا كان المأخوذ من الثروات المنقولة، واما إذا لم يكن منها فهو باق فيه وان لم يصدق عليه اسم الأرض كالمعادن، وعليه فإذا هاجموا المسلمون على الكفار
356 وغلبوا عليهم بالسيف وطردوهم من ديارهم وأراضيهم فإنهم أخذوا منهم جميع ما كان في أيديهم وتحت سيطرتهم. سواء أكان أرضا أم كان غيرها كالمناجم ونحوها، وقد تقدم انه لا يعتبر في كون المأخوذ ملكا للمسلمين أن تكون للكافر علاقة به، بل كل ما انتزع من سيطرة الكافر وان لم تكن له علاقة به أصلا ولو على مستوى الحق فهو ملك للأمة، ولا شبهة في أن المناجم الموجودة فيها كانت تحت استيلائه وسيطرته وقد انتزعت منها بعنوة. فالنتيجة في نهاية الشوط: ان المناجم في الأرض المفتوحة عنوة تخضع الأرض في مبدأ الملكية، وليست من المشتركات العامة بين جميع الناس. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: ان المناجم الموجودة في الأرض التي هي من الأنفال تخضع تلك الأرض في مبدأ الملكية، وليس الناس فيها شرع سواء. ومن ناحية ثالثة: ان المعادن الموجودة في الأرض المملوكة بملكية خاصة تكون من المشتركات العامة بين جميع الناس، ولا تخضع الأرض في مبدأ الملكية. واما الدعوى الثانية: فقد ظهر مما ذكرناه انه لا يمكن اتمامها بوجه، لما عرفنا من أن المعادن انما تكون من الأنفال إذا كانت في أراضي الدولة، لا مطلقا على أساس ان الدليل على ذلك منحصر بالموثقة المتقدمة، وقد عرفنا انها لا تدل على أكثر من ذلك، كما أنه لا وجه لدعوى انها داخلة في الأرض التي لا رب لها. واما الدعوى الثالثة: فقد تقدم ان رواية إسحاق بن عمار تامة سندا فلا تحتاج إلى وجود جابر.
357 واما ما ذكره (قده) - من أن الشهرة المحققة نقلا وتحصيلا التي هي قامت على خلافها وتوجب وهنها الموجب لسقوطها عن الاعتبار - فيرده: أولا: ان تحقق الشهرة في المسألة على خلافها غير ثابت وثانيا: انها لا توجب سقوطها عن الاعتبار، لما قد ثبت في محله من أن اعراض المشهور عن رواية معتبرة لا يوجب سقوطها عن الحجية على أساس ان ملاك حجة الرواية انما هو وثاقة رواتها الا إذا فرض حصول الاطمئنان منه في مورد بالخلل فيها، فإنه وإن كان يوجب سقوطها عن الاعتبار الا انه انما هو من ناحية الاطمئنان لا من ناحية الاعراض. ومن هنا لو حصل الاطمئنان به من سبب آخر لكان موجبا لسقوطها عن الاعتبار أيضا. واما الدعوى الرابعة: فقد تبين مما تقدم صحة هذه الدعوى وانه لا مناص من الاخذ بها - وهي التفصيل بين المناجم الموجودة في أراضي الدولة، والمناجم الموجودة في أراضي المسلمين، والمناجم الموجودة في ارض مملوكة لفرد خاص، فإنها على الأول تكون من الأنفال كأرضها، وعلى الثاني انها ملك عام للمسلمين، وعلى الثالث: انها من المشتركات العامة بين جميع الناس -. وهذا هو التفصيل الذي وعدنا الإشارة إليه سابقا. إلى هنا قد استطعنا ان نخرج بهذه النتيجة: وهي ان ما نسب إلى المشهور - في المعادن الظاهرة من أن الناس فيها شرع سواء - فقد عرفنا انه غير صحيح، ولا بد فيها من التفصيل كما عرفت.
358 المعادن الباطنة وهي التي لا تبدو جوهرها من دون بذل جهد وعمل في سبيل انجازه، وذلك كالذهب والفضة وما شاكلهما، فان المادة الذهبية لا تصبح ذهبا بشكله الكامل الا بعد التصفية والتطوير العملي. وهذه المادة على قسمين: أحدهما: أن تكون المادة قريبة من سطح الأرض. والآخر، أن تكون متوغلة في أعماق الأرض بحيث لا يمكن الوصول إليها الا من خلال الحفر المتزايد والجهد الأكبر. اما القسم الأول: فقد نسب إلى المشهور ان حال هذا القسم حال المعادن الظاهرة التي عرفنا احكامها يعني - ان الناس فيه شرع سواء فلا يملك بالاحياء كما كان الامر كذلك في المعادن الظاهرة -. واما القسم الثاني: ففيه خلاف فعن جماعة انه من الأنفال. وقيل: إنه من المشتركات العامة كالمعادن الظاهرة. ولكن الظاهر: انه لا فرق بين المعادن الباطنة بكلا نوعيها والمعادن الظاهرة. والوجه في ذلك: ان مقتضى اطلاق الموثقة ان المعادن والمناجم الموجودة في أراضي الدولة ملك لها مطلقا اي - من دون فرق بين كونها من الظاهرة أو الباطنة -. واما المعادن الباطنة: الموجودة في ارض مملوكة لفرد معين فلا دليل على كونها عن الأنفال، كما أنه لا دليل على انها تخضع الأرض في مبدأ الملكية، فان منشأ ملكية الفرد للأرض ينتهي في
359 نهاية المطاف إلى عملية الاحياء، وقد تقدم ان اثرها لا يمتد إلى المعادن والمناجم الموجودة فيها. واما المعادن الباطنة الموجودة في الأرض المفتوحة عنوة فهي ملك عام للمسلمين كالأرض لان ما دل على ملكية تلك الأرض للأمة لا يقصر عن شمول المعادن الموجودة فيها، فان الاستيلاء عليها استيلاء عليها طبعا كما أشرنا إليه انفا. فالنتيجة في نهاية الشوط: انه لا فرق بين المعادن الظاهرة والباطنة في شكل الملكية، فإنها إن كانت في أراضي الدولة فهي ملك لها، وإن كانت في أراضي الأمة فهي ملك لهم، وإن كانت في ارض تخضع لمبدأ ملكية خاصة فهي من المشتركات العامة بين كل الناس من دون فرق بين الظاهرة منها والباطنة. إلى هنا قد عرفنا: شكل ملكية المعادن بكل أنواعها. هل يسمح الاسلام بتملك المعادن؟ يقع الكلام فيه تارة في المعادن الظاهرة. واخرى في المعادن الباطنة. المعادن الظاهرة المعروف والمشهور بين الأصحاب: هو ان الاسلام لا يسمح باختصاص الفرد بالمعادن الظاهرة وتملكها بالاستيلاء عليها ما دامت في موضعها الطبيعي، وانما اذن له بالحصول على كمية منها التي
360 لا تتجاوز عن قدر حاجته وقد منع الاسلام عن احتكار تلك الثروات الطبيعية والمواد الأولية - بايجاد المشاريع الخاصة لاستثمارها - على أساس ان الناس فيها شرع سواء، فلا يحق لأي فرد ان يزاحم الآخر في ممارسة حقه منها - وهو الكمية التي تكون بقدر حاجته - حيث إن ذلك يضر بالعدالة الاجتماعية التي يهتم الاسلام بايجادها بين طبقات الأمة وافرادها. وفي عدة من المصادر الفقهية: قد صرح بعدم السماح بالملكية الخاصة للمعادن الظاهرة: منها: ما عن الشيخ الطوسي (قدس) في المبسوط، وابن إدريس في السرائر، والعلامة في التحرير، والشهيد في الدروس واللمعة، والشهيد الثاني في الروضة والمحقق في الشرايع، ولا فرق في ذلك بين ان يكون الوصول إليها بحاجة إلى انفاق العمل وبذل الجهد كما هو الحال في الوصول إلى آبار النفط أو لم تكن بحاجة إليه. وعن العلامة في التذكرة ان هذه المعادن لا يملكها أحد بالاحياء والعمارة. وفيه ان ذلك وإن كان معروفا بين الأصحاب، بل في بعض المصادر الفقهية دعوى عدم الخلاف، بل الاجماع على ذلك إلا اننا قد عرفنا ان اتمامه بدليل لا يمكن، فان الاجماع لم يثبت، والدليل الآخر غير متوفر فاذن على ضوء ما قدمناه: يقع الكلام في موارد ثلاثة: الأول: في المعادن الظاهرة الموجودة في أراضي الدولة على أساس انها تكون من الأنفال. الثاني: في المعادن الظاهرة الموجودة في الأراضي المفتوحة عنوة على أساس انها تكون للمسلمين.
361 الثالث: في المعادن الظاهرة الموجودة في الأراضي التي تخضع لمبدأ ملكية خاصة على أساس انها تكون من المشتركات العامة بين كل الناس. اما المورد الأول: فالكلام فيه يقع في مقامين: أحدهما: ان التصرف فيها هل يتوقف على اذن الإمام (ع) أولا؟ والآخر: ان من يقوم بعملية الاستخراج منها وحيازتها على أساس بذل الجهد والعمل هل يملك المادة التي يحوزها خاصة أو يحصل على حق فيها؟ اما المقام الأول: فالظاهر بل لا شبهة في أن التصرف فيها يتوقف على اذنه (ع) لوضوح ان التصرف في ملك الآخر غير سائغ عقلا ونقلا إلا باذنه ورضاه بدون فرق في ذلك بين الملك الخاص والعام. ثم إنه هل يمكن التمسك باخبار التحليل لاثبات الاذن؟ الظاهر أنه لا مانع منه، والنكتة في ذلك ان موضوع نصوص التحليل وإن كان هو الأرض الا ان اثره بالارتكاز القطعي العرفي يمتد إلى ما في أعماقها وبطونها، وما على وجهها من المصادر والثروات الطبيعية كالمواد المعدنية ونحوها، ولا يقتصر اثر التحليل على الأرض فحسب، ولا سيما بقرينة حكمة هذا التحليل. وعلى الجملة: فالمتفاهم العرفي - من تلك الاخبا - هو ان التحليل لمن شملتهم انما هو لاتاحة الفرصة لهم للاستفادة من الأرض وما فيها من الثروات والانتفاع بهما، ولا يفهم منها أية خصوصية للأرض. نعم ان هذا التحليل خاص لمن شملتهم اخبار التحليل دون غيرهم. ودعوى - ان سيرة المسلمين قد استقرت في جميع العصور على
362 جواز التصرف في المعادن الموجودة في الأراضي التي هي ملك للإمام (عليه السلام) واستثمارها والانتفاع بها من دون ورود ردع عنها، ومن الطبيعي ان ذلك كاشف عن امضاء الشارع لها جزما -. خاطئة جدا وذلك، لأنه ان أريد بها سيرة المتعبدين بنصوص أهل البيت (ع) فالظاهر أن استقرارها انما هو على أساس اخبار التحليل. وان أريد بها سيرة غيرهم فمن الواضح انها انما تقوم على أساس منهجهم الفقهي. فالنتيجة: انها لا تكشف عن جواز التصرف فيها لكل فرد من المسلمين. واما المقام الثاني: فالظاهر أن العملية المزبورة تمنحه حقا فيها دون الملك. وذلك لأنه لم يدلنا دليل على أن تلك العملية توجب انقطاع علاقة الإمام (ع) عنها نهائيا ودخولها في ملك من قام بهذه العملية. واما اخبار التحليل: فهي لا تدل على ذلك أصلا، لأن مفادها انما هو إباحة التصرف فيها والانتفاع بها لا الملكية، بل في نفس تلك الأخبار ما يدل على أن رقبة الأرض تظل في ملك الإمام (ع)، وعليه فبطبيعة الحال تبقى المصادر والثروات الطبيعية الموجودة فيها في ملكه (ع) أيضا. واما نصوص الاحياء: فهي خاصة بالأرض فلا تشمل غيرها من المعادن أو نحوها الموجودة فيها حيث لا يصدق عليها اسم الأرض ومن هنا قلنا إنه لا يصدق الاحياء على اكتشاف المعدن من خلال عمليات الحفر إلا مسامحة. هذا إضافة إلى أن ما ذكرناه: من أن الاحياء لا يمنح المحيي
363 إلا حقا في الأرض دون الملك ودعوى - ان ما يحوزه العامل من المواد المعدنية بعد اكتشافها يملكه على أساس السيرة القطعية من العقلاء الثابتة في جميع الأعصار بدون ورود ردع عنها - وإن كانت صحيحة فيما إذا لم يكن المحاز داخلا في نطاق ملكية أحد، لا عاما، ولا خاصا. واما إذا كان المحاز ملكا لاحد فلا سيرة هنا على أن الحيازة تمنح العامل ملكية المحاز، والفرض ان المحاز فيما نحن فيه ملك للإمام (ع) فلا دليل على أنه أصبح ملكا للعامل على أساس حيازته فاذن لا اثر لها الا ايجاد حق له فيه يعني - انه أصبح أولي وأحق بالتصرف فيه والانتفاع به - ولا يجوز لغيره ان يزاحمه في ذلك. واما النصوص الواردة في خمس المعادن - الدالة على وجوب اخراج الخمس من المادة التي يستخرجها خاصة - فهي لا تدل على أن الأربعة الأخماس الباقية ملك المستخرج، فان مقتضى نصوص التحليل انه يباح التصرف فيها والانتفاع بها من دون وجوب دفع شئ منها إلى الإمام (ع). ولكن هذه النصوص: قد أوجبت على العامل دفع خمس ما يستخرجه منها إلى ولي الأمر، ولا يجوز له التصرف فيه، ومن الطبيعي انها ساكتة عن أن الباقي ملك للعامل أو مباح له، وعليه فالمحكم هو ما دل على كونها من الأنفال، ولا دليل على خروجها عنها، فالنتيجة في نهاية المطاف: انه لم يقم برهان على أن بذل العامل جهده وعمله - في سبيل استخراج المعادن من أعماق الأرض أو في سبيل الاستيلاء عليها وجعلها في حوزته إذا كانت على سطح الأرض - يمنحه ملكية المادة المستخرجة أو المحوذة، وانقطاع علاقة
364 الإمام (ع) عنها نهائيا، فلا مانع من بقاء رقبتها في ملك الإمام (ع) ومع ذلك يجوز له الانتفاع بها والاستفادة منها، ولا ينافي ذلك وجوب دفع خمس المادة المزبورة عليه، وعدم جواز تصرفه فيه، فإنه لا يكون دليلا على الملك. هذا تمام كلامنا في المورد الأول. واما المورد الثاني: - وهو المعادن الموجودة في الأرض المفتوحة عنوة - فبما انك قد عرفت انها تخضع الأرض المزبورة في نوع الملكية فلا محالة يكون حكمها حكم الأرض، وقد تقدم انه يجوز لكل فرد من المسلمين ان يقوم بالتصرف فيها والانتفاع بها في ضمن الخطوط التي ترسم من قبل ولي الأمر أو الدولة في دائرة الشرع حتى يكون كل فرد مساهما في تحقيق العدالة الاجتماعية بين طبقات الأمة، وكذا الحال في المعادن المزبورة. واما المورد الثالث: - وهو المعادن الموجودة في الأرض التي تخضع لمبدأ الملكية الخاصة التي تكون من المشتركات العامة بين كل الناس - فهل يملك الفرد منها المادة التي يستخرجها خاصة على أساس الحفر وبذل الجهد فيه إذا كان استخراجها بحاجة إليه أو المادة التي يحوزها منها إذا كانت موجودة على سطح الأرض أو لا يملك وانما يبرر ذلك وجود حق له فيها؟ الظاهر هو الوجه الأول: لان المقتضى للملك متوفر لدى العرف والعقلاء - وهو بذل العامل جهده وعمله في سبيل جعلها في حوزته بشكل مباشر - والمانع منه غير موجود - وهو كونها خاضعة لمبدأ الملكية الخاصة أو العامة - وذلك لما تقدم في ضمن البحوث السالفة من أنه لا دليل على كون تلك المعادن ملك خاص كالأرض التي
365 هي فيها، أو ملك عام للدولة، فاذن بطبيعة الحال كان مقتضى الأصل عدم علاقة أحد بها، لا خصوصا، ولا عموما، وهذا معنى ان الناس فيها شرع سواء، وليس معناه انها ملك عام لجميع الناس، وإن كان قد يعبر عنها بذلك على أساس ان كل الناس يملك حق التصرف فيها والانتفاع بها بدون خصوصية خاصة لاحد، كما هو الحال في جميع المباحات الأصلية. فالنتيجة في نهاية الشوط: ان المعادن المزبورة من المباحات الأصلية، فإذا كان الأمر كذلك فبطبيعة الحال كما أنه لا مانع لدى العقلاء من تملك العامل ما يستخرجه منها خاصة، كذلك لا مانع منه لدى الشرع، فان المانع منه كما مر بنا هو خضوعها لمبدأ الملكية الخاصة أو العامة. ثم إن ما هو المشهور بين الفقهاء - من أن الاسلام لا يسمح في المواد المعدنية الظاهرة أو التي تقع قريبة من سطح الأرض بتملك الفرد لها ملكية خاصة - انما هو فيما إذا كانت تلك المواد في مكانها الطبيعي. واما الكمية التي يحوزها الفرد بشكل مباشر بعد بذل الجهد والعمل في سبيل حيازتها فلا شبهة في أنه يملك تلك الكمية في مورد الكلام كما عرفت. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: ان المراد من عدم سماح الاسلام بتملك تلك المواد المعدنية ملكية خاصة في موضعها الطبيعي انما هو من ناحية عدم المقتضى لها - على أساس ان اكتشافها من خلال عمليات الحفر (ما دام ظلت في مكانها الطبيعي) لا يبرر الا وجود حق فيها فإنه لا يملك الا فرصة الاستفادة منها. وهي الحفرة التي حفرها لاكتشافها والوصول إليها دون نفسها - لا من ناحية ورود نص صحيح
366 في الشريعة على انها لا تملك في مكانها الطبيعي. وبكلمة واضحة: ان المقتضى لملكية تلك المواد المعدنية إن كان هو الاستيلاء عليها من دون بذل جهد وعمل في سبيل حيازتها فقد تقدم سابقا ان الاسلام لا يعترف بالاستيلاء المزبور كذلك نهائيا، وإن كان المقتضى هو اكتشافها والوصول إليها بالقيام بالحفر وبذل الجهد فيه فالاسلام لا يعترف به على أساس انه يمنح العامل ملكيتها لا في ضمن نص شرعي، ولا في ضمن بناء عقلائي. اما الأول: فلعدم وجوده. واما الثاني: فلانه لم يقم بناء من العقلاء على أن اكتشافها بذلك يمنح المكتشف ملكيتها. فالنتيجة: ان تلك المواد المعدنية ما دامت في موضعها الطبيعي لا يعترف الاسلام بملكيتها لاحد ملكية خاصة على أساس اكتشافها وحيازتها كما نص بذلك في كثير من المصادر الفقهية. هل يسمح للفرد ان يحوز من المعادن الظاهرة كمية أكبر من قدر حاجته قد نص في عدة من المصادر الفقهية ان الاسلام لا يسمح للفرد أن يأخذ من المعادن والمناجم الظاهرة أكثر من قدر حاجته، وانما يسمح له ان يأخذ منها المقدار المعقول من حاجته. وقد علل ذلك بعدم دليل لفظي يدلنا على أن الحيازة دائما وفي تمام الأحوال تمنح الفرد ملكية المادة المعدنية المحازة مهما كان قدرها وحتى فيما إذا كانت حيازته لها سببا لمنع الآخرين عن،
367 الانتفاع بها والضيق عليهم، وانما الشئ الوحيد المعلوم لنا هو ان الناس كانوا معتادين في عصر التشريع بحيازة كميات من تلك المواد المعدنية التي توجد على سطح الأرض أو قريبة منه لسد حاجاتهم واشباعها، ومن الطبيعي ان تلك الكميات كانت ضئيلة جدا لقلة امكاناتهم الاستخراجية والانتاجية، وهذه العادة هي التي سمحت بها الشريعة، ومن الواضح انها لا تصبح دليلا على سماح الشريعة بتملك الفرد لما يحوزه من تلك المواد المعدنية وان اختلفت حيازته في الكم عن الحيازة التي جرت عليها عادة الناس في عصر التشريع، أو في الكيف يعني - وإن كانت سببا للضيق على الآخرين ومزاحمة لهم. ولنأخذ بالنقد على هذا الوجه وحاصله: اننا لا نعلم باستقرار العادة المزبورة في ذلك الإطار الخاص في عصر التشريع بحيث تصبح دليلا في المسألة. والسبب فيه: ان الناس وان كانوا معتادين في ذلك العصر بحيازة كميات من تلك المواد المعدنية لاشباع حاجاتهم الا انهم بطبيعة الحال كانوا مختلفين بحسب امكاناتهم المادية أو العلمية، ومن الطبيعي ان كل فرد كانت الامكانات المادية أو العلمية لديه أكثر فلا محالة كانت قدرته الاستخراجية والانتاجية أكبر ممن لم تكن لديه تلك الامكانات، فإذا افترضنا ان فردا استخرج من المواد المعدنية وانتج منها قدرا أكبر من حاجته من دون كونه مزاحما للآخرين في الانتفاع بها فلا دليل على أنه لا يملك ذلك القدر على أساس انه أكثر من حاجته، ولا نعلم بوجود سيرة من المسلمين في ذلك العصر على خلافه، هذا من ناحية.
368 ومن ناحية أخرى اننا لا نملك نصا معتبرا يدلنا على أن كل فرد يملك الكمية التي يحوزها من تلك المواد المعدنية إذا لم تتجاوز عن القدر المعقول من حاجته، واما إذا تجاوزت فلا يملك الزائد، بل اننا لا نملك دليلا يدلنا على أن حيازة الكمية من هذه المعادن التي تكون من المباحات الأصلية انما تمنح ملكيتها إذا لم تكن مزاحمة للآخرين وضيقا عليهم، بل لا مانع من الحكم بملكيتها حتى في هذا الفرض، لأن المراد بمزاحمتهم ليس مزاحمة لحقوقهم المتعلقة بتلك المواد المعدنية وتضييعا لها، فإنها غير جائزة جزما، ولا اثر لحيازتها على أساس انها متعلقة لحقوقهم، بل المراد منها عدم إتاحة الفرصة لهم للانتفاع بها والاستفادة منها من دون أن تكون لهم علاقة بها مطلقا حتى على مستوى الحق، لفرض انها من المباحات الأولية، ففرض سبق علاقة لاحد بها خلف. فالنتيجة: ان المراد من المزاحمة هو ان قيامه بعملية استخراج تلك المواد المعدنية وانتاجها بقدر أكبر من حاجته مانع عن قيام الآخرين للانتفاع بها. نعم على ولي الأمر ان يمنعه من مزاحمة الآخرين - فبما إذا كان الآخرون بحاجة ماسة إليها - تحقيقا للتوازن والعدالة الاجتماعية وسوف نشير إليه. إلى هنا قد استطعنا ان نخرج بهذه النتيجة: وهي ان ما نسب إلى المصادر الفقهية - من أن الاسلام لا يسمح للفرد ان يملك من المواد المعدنية كمية تتجاوز عن قدر حاجته - لا يقوم على أساس صحيح حيث قد عرفت انه لا دليل عليه، لا لدى الشرع، ولا لدى العقلاء، فاذن لا مانع من تملكه منها كمية أكبر من مقدار حاجته
369 هذا إضافة إلى أنه ليس لدى كل فرد امكانية وطاقة لاستخراج المعادن وانتاجها، فاذن يدور امرها بين ان تظل في مكانها الطبيعي أو يقوم من لديه امكانية وطاقة بممارسة استخراجها وانتاجها كميات أكبر ووضعها في خدمة المجتمع، ومن الطبيعي ان الثاني هو المتعين. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: ان ما نسب إلى تلك المصادر الفقهية لا ينسجم مع اهتمام الاسلام بالعمل وصرف الطاقات والامكانات التي تتوفر لدى الافراد في استثمار المصادر الطبيعية، وغيرها من النشاطات الاقتصادية، فعلى من تتوفر لديه طاقة وامكانية لممارسة استخراج المواد المعدنية وانتاجها ان يصرفها في سبيل ذلك، وعلى من تتوفر لديه طاقة وامكانية لممارسة نشاط آخر من النشاطات الاقتصادية والصناعية ان يصرفها في سبيل تحقيق ذلك وهكذا، كل على حسب امكانيته وطاقته وبذلك يظهر ان العادة المدعاة في عصر التشريع على تقدير ثبوتها في ذلك العصر لا تكون دليلا لنا في العصور المتأخرة، فان الاسلام لم يجعل تلك العادة في ضمن اي نص من نصوصه الشرعية طريقا لممارسة الافراد في استخراج المواد المعدنية وانتاجها في كل عصر، لأنها لو كانت فإنما هي من متطلبات ذلك العصر باعتبار ان الاسلام لم يرسم خطا خاصا لممارسة افراد المجتمع في القيام بذلك كي لا يجوز التعدي عن ذلك الخط. بل جعل حرية الافراد في ممارسة استثمارها في كل عصر في ظل اطار عام - وهو ما تطلبه المصلحة العامة في ذلك العصر على أساس العدالة الاجتماعية التي يؤمن الاسلام بضرورة ايجادها بين افراد الأمة وطبقاتهم - وقد منح ولي
370 الأمر صلاحية تطبيق ذلك حسب متطلبات العصر على ذلك الأساس. ومن الطبيعي: انها تختلف باختلاف العصور فقد تطلب المصلحة العامة عدم السماح للفرد باستخراج كمية أكبر من قدر حاجته، وقد تطلب بالسماح له باستخراج كمية أكبر من حاجته، وهكذا، فاذن كيف تكون العادة المذكورة دليلا لنا في كل عصر. ثم إن على ولي الأمر أو الدولة ان يوفر الوسائل والامكانات المادية والعلمية لاستخراج تلك المعادن وانتاجها ووضعها في خدمة المجتمع تحقيقا للعدالة الاجتماعية والتوازن بين طبقات الأمة التين يؤمن الاسلام بضرورة ايجادهما في المجتمع الاسلامي، ولا فرق في ذلك بين أن تكون الدولة هي التي تباشر عملية الاستخراج منها والانتاج، أو تتوفر الوسائل والامكانات للافراد ليباشروا تلك العملية، حيث إنه ليس للدولة ان تمنع الافراد عن ممارسة حرياتهم في سبيل استخراج المعادن وانتاجها على أساس انها من المباحات الأولية، وليست ملكا لها إلا إذا كان ذلك على خلاف المصلحة العامة، فعندئذ للدولة ان تمنع عنها باعتبار ان المصلحة العامة تتقدم على المصلحة الخاصة. ومن هنا كان على ولي الأمر أو الدولة وضع خطوط لتصرفات الافراد فيها واستثمارهم لها في ضمن دائرة الشرع، لتمنعهم عن حدي الافراد والتفريط في المشاريع الخاصة، وعن الاحتكار والسيطرة عليها، كل ذلك انما هو لغرض تحقق العدالة الاجتماعية بين طبقات الأمة. وليس مرد ذلك إلى تحديد في الملكية والثروة الخاصة في الاسلام، بل مرده إلى تحديد في الطرق التي يتمكن الفرد من تحصيل الثروة
371 من تلك الطرق. وقد تقدم ذلك في ضمن البحوث السالفة بشكل موسع، وقلنا هناك ان لكل فرد من المسلمين ان يمارس عملية الاستخراج والانتاج من الطرق المحددة بجوانبها الايجابية والسلبية من قبل الشرع بحرية تامة، فلو حصل الفرد على ثروة هائلة بممارسة العملية المزبورة من تلك الطرق ملك تلك الثروة بلغت ما بلغت من الكثرة، وليس في الاسلام تحديد في ذلك نعم قد اعطى الاسلام صلاحية لولي الأمر أو الدولة ان يأخذ من أموال المسلمين بالمقدار الذي تقتضيه المصلحة العامة الملزمة كما إذا توقف حفظ بيضة الاسلام على ذلك أو حفظ حدود المملكة الاسلامية في مقابل هجوم الكفار أو ما شاكل ذلك، ولكن لا صلة لذلك بما نحن فيه أصلا. المعادن الباطنة وهي كما عرفت على قسمين: أحدهما: المعادن الباطنة القريبة من سطح الأرض. والآخر: المعادن الباطنة المتوغلة في أعماق الأرض. اما الأولى: فقد الحقها الأصحاب بالمعادن الظاهرة، وذكروا ان حكمها حكم تلك المعادن. وقد تقدم الكلام بشكل موسع في المعادن الظاهرة، وقلنا هناك ان ما نسب إلى المشهور بين الأصحاب من كون تلك المعادن مطلقا من المشتركات العامة بين كل الناس لا يمكن اتمامه بدليل. فالصحيح هو ما ذكرناه من التفصيل بين كونها في أراضي الدولة، وكونها في الأرض المفتوحة عنوة، وكونها في الأرض الخاصة
372 وعلى الأول فهي من الأنفال، وعلى الثاني فهي ملك عام للمسلمين، وعلى الثالث فهي من المشتركات العامة بين كل الناس. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: ان ما نسب إلى كثير من المصادر الفقهية - من أن الاسلام لا يسمح للفرد ان يحوز كمية أكبر من قدر حاجته - فقد عرفت انه لا يقوم على أساس صحيح. ومن ناحية ثالثة: ان ما ذكرناه من الاحكام للمعادن الظاهرة لا يختص بها، بل يعم غيرها أيضا كما يعرف ذلك بوضوح من خلال ما قدمناه من البحوث. وعليه فكما لا فرق بين المعادن الظاهرة والمعادن الباطنة القريبة من سطح الأرض على ضوء نظرية المشهور، فكذلك لا فرق بينهما على ضوء ما ذكرناه. واما الثانية: فقد نسب إلى المشهور انها تملك بالاحياء اي باكتشافها والوصول إليها في أعماق الأرض من خلال بذل الجهد والعمل المتواصل والحفر المتزايد. وفي الجواهر قد ادعى عدم وجدان خلاف فيه بين من تعرض له كالشيخ وابن البراج وابن إدريس والفاضل والشهيدين والكركي وغيرهم بل نسب إلى ظاهر المبسوط والسرائر الاجماع على ذلك. وقد علل ذلك: بان العمل المزبور احياء وهو سبب للملك، فان احياء كل شئ بحسبه، ومن هنا قد بنوا الفقهاء على أن تلك المعادن تملك بالاكتشاف من خلال عمليات الحفر على أساس انه لون من ألوان الاحياء. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى هل ان هذه الملكية تمتد في أعماق الأرض إلى منتهى عروق المواد المعدنية وجذورها مهما بلغت أولا؟ فيه وجهان
373 المشهور بين الفقهاء: هو الثاني على ما في الجواهر، حيث ذكر فيه ان المصرح به في كلام غير واحد هو انه لو حفر فبلغ المعدن لم يكن له منع غيره من الحفر من ناحية أخرى فإذا وصل إلى ذلك الغرق لم يكن منعه. فالنتيجة: ان جمهور الفقهاء كما بنوا على تملك المعادن الموجودة في أعماق الأرض باكتشاف عروقها وينابعها من خلال عملية الحفر، كذلك بنوا على أن هذه الملكية محدودة وضيقة، ولا تمتد إلى جذورها في أعماق الأرض مهما وصلت، بل تقتصر على المواد المكتشفة من خلال عمليات الحفر. ويمكن المناقشة: في هذا الرأي الفقهي على أساس المناقشة في مستنده، فان مستنده لا يخلو من أن يكون عملية الاحياء أو الحيازة اما الأولى: فلان سببيتها للملك أو الحق مطلقا وفي كل مورد بحاجة إلى دليل والا لكان اكل المال بها اكلا بالباطل، والفرض انه لا دليل عليها الا في خصوص الأرض على أساس مجموعة من النصوص الدالة على أن احيائها يمنح حقا فيها وهي لا تشمل المعادن على أساس انها ليست بأرض. فالنتيجة: انه لا يمكن اثبات اعتراف الاسلام بان اكتشاف المعادن في أعماق الأرض من خلال عمليات الحفر يمنح ملكية تلك المعادن في حدود كشفها، لا على أساس نصوصه التشريعية، ولا على أساس آخر كبناء العقلاء حيث إنه لم يثبت في غير الأرض. هذا إضافة إلى أن صدق الاحياء على الاكتشاف المزبور محل اشكال بل منع لدى العرف والعقلاء. وأما الحيازة: فلا دليل على انها سبب لتملك الثروات والمصادر
374 الطبيعية ما دامت في موضعها الطبيعي. وقد تحصل من ذلك: ان الفرد لا يملك المعدن باكتشافه ووصوله إلى عروقه وينابعه من خلال عمليات الحفر ما دام في موضعه الطبيعي ويؤكد ذلك ما مر بنا من تحديد ملكية المعدن من قبل أصحاب هذا الرأي فان مرد هذا التحديد في نهاية المطاف إلى انكار الملكية نهائيا. بيان ذلك: انه إذا جاز قيام غير الحافر الأول بعمليات الحفر من طرف آخر لاكتشاف عروق ذلك المعدن والوصول إليها التي وصل إليها الحافر الأول، وبعد الوصول والاكتشاف جاز له القيام بعملية استخراجها وانتاجها، كما جاز ذلك للأول ولم يقيدوا قيام الثاني بعملية الاستخراج والانتاج بحد خاص وعليه فإذا انتهت عملية استخراج وانتاج كل منهما إلى حد لم يبق الفاصل بين الحفرة الأولى والحفرة الثانية الا كميات قليلة من المادة المعدنية بحيث لو لم تكن تلك الكميات في البين لانتهت إحدى الحفرتين بالأخرى ووصلتا فعندئذ نقول: إن هذه الكميات من المادة المعدنية ان قلنا: بأنها ملك للحافر الأول لم يجز تصرف الثاني فيها، وان قلنا بأنها ملك للثاني لم يجز تصرف الأول فيها، وان قلنا: بأنها مشتركة بينهما لم يجز تصرف كل منهما فيها بدون رضا صاحبه، مع أنه لا شبهة في جواز تصرف كل منهما فيها مطلقا حتى لدى أصحاب هذا القول، فاذن لا بد من القول بعدم دخول تلك الكميات في نطاق ملكية أحد ما دامت في موضعها الطبيعي، غاية الأمر قد ثبت على أساس اكتشافها من خلال عملية الحفر حق خاص لكل
375 منهما بممارسة استخراجها وانتاجها إلى أن انتهت، ولا يجوز للاخر ان يزاحمهما في ذلك. وبكلمة أخرى: انا إذا افترضنا ان الفرد يملك المعدن باكتشاف عروقه وينابعه بسبب عمليات الحفر، فعندئذ يتوجه عليه السؤال التالي: هل انه يملك المقدار المكتشف منها، أو يملك تلك العروق مهما امتد نطاقها واتسع طولا أو عرضا أو أفقا، أو يملكها إلى حد خاص لا يمكن الالتزام بالاحتمال الثاني، فإنه مقطوع البطلان لدى الشرع والعرف. وأما الاحتمال الثالث، فهو بحاجة إلى دليل ولا دليل عليه. واما الاحتمال الأول: فهو لا ينسجم مع عدم تحديدهم قيام الحافر الثاني بعملية الاستخراج والانتاج إلى تلك الحدود اي - الحدود المكتشفة من المواد المعدنية وعروقها من قبل الحافر الأول - فلو كانت تلك الحدود داخلة في نطاق ملكية الحافر الأول لكان عليهم التحديد المذكور لا محالة رغم انهم لم يحددوه، وجوزوا قيامه بالعملية المزبورة مطلقا، وهذا معنى ما ذكرناه من أن تحديد ملكية المعدن يرجع بالتالي ان انكارها. فالنتيجة: انه لا دليل على أن الفرد يملك المعدن باكتشافه بسبب عملية الحفر ما دام في مكانه الطبيعي، وانما يملك المادة التي يستخرجها خاصة ويحوزها. نعم ان اكتشافه المعدن من خلال عمليات الحفر وبذل الجهد يمنحه حقا فيه لدى العرف والشرع فلا يجوز لغيره ان يزاحمه في الحصول عليه. ولكن من المعلوم ان ثبوت هذا الحق له بمعنى انه أولي من غيره بالاستفادة من المواد المعدنية في أعماق الأرض من طريق هذه
376 الحفرة التي حفرها لاكتشافها والوصول إليها، لأنه هو الذي خلق هذه الفرصة للاستفادة منها، فمن حقه ان يمنع الآخرين عن استخدام تلك الحفرة في الحصول عليها. نعم لو اعرض عنها أو تركها إلى أن خربت سقط حقه عنها نهائيا، وجاز للاخر استخدام تلك الحفرة واستغلالها. اما على الأول: فلما بيناه في ضمن الأبحاث السالفة من أن الاعراض عن شئ يوجب سقوط علاقة صاحبه عنه نهائيا وإن كانت على مستوى الملك، فضلا عما إذا كانت على مستوى الحق. واما على الثاني: فلان حقه معلول للحالة التي خلقها في الأرض للاستفادة من المواد المعدنية التي تكون في أعماق الأرض - وهي الحفرة التي أوجدها على أساس انها تتيح له فرصة الانتفاع بها - فإذا زالت تلك الفرصة وخربت الحفرة، وسقطت عن قابلية استخدامها في الحصول عليها سقط حقه عنها نهائيا بسقوط موضوعه. هذا كله: بناء على القول بكون المعادن الباطنة أيضا من المشتركات العامة بين كل الناس واما على ضوء ما قويناه: - من المعادن مطلقا إن كانت في أراضي الدولة فهي من الأنفال، وإن كانت في الأرض المفتوحة عنوة فهي ملك عام للمسلمين، وإن كانت في ارض خاضعة لمبدأ ملكية خاصة فهي من المشتركات العامة بين جميع الناس -. فقد عرفنا ان العامل يملك المادة التي يستخرجها خاصة من أعماق الأرض في خصوص القسم الأخير على أساس انها من المباحات الأولية. واما في القسمين الأولين: فهو لا يملك تلك المادة على أساس
377 انها على الأول ملك للإمام (ع)، وعلى الثاني ملك للمسلمين، غاية الأمر ان الإمام (ع) قد أباح التصرف فيها والانتفاع بها بمقتضى اخبار التحليل وغيرها ولا دليل على انقطاع علاقة صاحبها عنها، واخبار التحليل كغيرها لا تدل على هذا الانقطاع، وقيام العامل بعملية الاستخراج والحيازة وإن كان من أسباب الملك الا ان سببيته لذلك انما هو فيما إذا كان المال المحاز من المباحات، ولم يكن خاضعا لمبدأ ملكية خاصة أو عامة. وبما انه في المقام خاضع لمبدأ الملكية فالعملية المزبورة لا تؤثر الا في ايجاد حق للعامل فيه دون الملك. فالنتيجة: ان مقتضى الأصل بقاء تلك المادة المعدنية في ملك مالكها بدون فرق فيه بيان كونها من المعادن الباطنة أو الظاهرة. نعم إذا كانت المعادن موجودة على سطح الأرض فقد أشرنا آنفا إلى أن الاستيلاء والسيطرة عليها بدون اتفاق عمل وبذل جهد في سبيل تحصيلها وانتاجها لا يبرر وجود حق فيها بملاك ان الاسلام لا يعترف به إذا كان على أساس القوة والتحكم على الآخرين. واما إذا كانت المعادن موجودة في أعماق الأرض فعندئذ وإن كان الفرد باكتشافها من خلال قيامه بعمليات الحفر وبذل الجهد المتزايد يحصل على حق فيها الا ان مورد هذا الحق ليس هو المعادن المكتشفة بل مورده انما هو نفس الحفرة التي وصلت إليها واكتشفت المعادن بها. والنكتة في ذلك أنه لا يجوز لآخر ان يستخدم تلك الحفرة في سبيل الحصول عليها رغم انه يجوز له ان يستخدم طريقا اخر في سبيل ذلك، فليس للحافر الأول ان يمنعه من قيامه باستخدام
378 طريق آخر لذلك، مع أن حقه لو كان متعقلا بنفس المواد المعدنية المكتشفة كان له حق المنع عن الانتفاع بها واستغلالها ولو من طريق آخر، كما أشرنا إليه انفا. فالنتيجة: ان حق الفرد انما يتعلق بالمادة التي يستخرجها خاصة لا بها في موضعها الطبيعي، هذا إذا كانت المعادن من الأنفال أو كانت ملكا للأمة. واما إذا كانت من المشتركات العامة فقد عرفنا ان الفرد يملك تلك المادة على أساس قيامه باستخراجها وجعلها في حوزته بشكل مباشر. هذا تمام ما أوردناه في بحث المعادن.
379 - 7 - المياه الطبيعية مجموعة من الدراسة والبحوث الفقهية التي تلقي الضوء على أنواعها وما يترتب عليها من الآثار والاحكام في دائرة الشريعة الاسلامية المقدسة
381 المياه الطبيعية وهي على نوعين: أحدهما: المياه المكشوفة على سطح الأرض كالبحار، والأنهار، والعيون الطبيعية الجارية عليها. وثانيهما المياه المكنوزة في أعماق الأرض التي لا يمكن وصول الانسان إليها الا من خلال عمليات الحفر وبذل الجهد المتزايد، وذلك كمياه الأبار، والعيون العامرة بشريا. هل ان المياه: بكلا نوعيها من المشتركات العامة بين كل الناس؟! المعروف والمشهور بين الأصحاب. انها من المشتركات العامة، وان الناس فيها شرع سواء، وقد استدل على ذلك بعدة وجوه: الأول: الاجماع المدعى في المسألة، بل في الجواهر ان الاجماع بقسميه قائم على ذلك. وفيه: انه على تقدير تسليم ان الاجماع المنقول حجة، ولكن لا يمكن الحكم بحجية الاجماع هنا، لاحتمال ان يكون مدركه أحد الوجهين الآتيين. الثاني: قد ورد في الرواية النبوية: (الناس شركاء في ثلاثة: النار والماء والكلاء). وقد ورد في رواية محمد بن سنان عن أبي الحسن (ع) قال: سألته عن ماء الوادي فقال: (ان المسلمين شركاء في الماء والنار والكلاء) (1). ولكن كلتا الروايتين ساقطة سندا فلا يمكن الاستدلال بشئ
(1) الوسائل ج 17 الباب 5 من أبواب احياء الموات الحديث 1 383 منهما على حكم شرعي. واما الرواية الأولى: فهي لم تثبت لدينا. واما الرواية الثانية: فهي ضعيفة سندا بمحمد بن سنان. هذا إضافة: إلى أنها لا تدل على أن الماء من المشتركات العامة بين كل الناس، وانما تدل على أنه من المشتركات بين المسلمين خاصة. الثالث: الأصل، فان مقتضاه عدم دخول المياه في مبدأ ملكية خاصة أو عامة، لوضوح ان دخولها في ذلك بحاجة إلى دليل ولا دليل عليه، ومعه كان لا محالة مقتضى الأصل هو ان الناس فيها شرع سواء فلا خصوصية فيها لاحد بالإضافة إلى الآخر. والجواب عنه: ان مقتضى الأصل وإن كان ذلك الا انه غير بعيد ان يكون المتفاهم لدى العرف من قوله (ع) في صحيحة الكابلي وصحيحة مسمع: المتقدمتين (والأرض كلها لنا) هو ان الأرض وما تضمه من المياه المكنوزة في أعماق الأرض أو المكشوفة على وجهها ملك للإمام (ع)، ولذا لو قيل إن ارض العراق - مثلا - كلها لزيد، فان المتفاهم منه عرفا ان الأرض وما فيها من الثروات الطبيعية كالمياه ونحوها ملك له، لا ان الأرض وحدها ملك دون ما فيها، ولا سيما على ما مر بنا من أن مرد ملكية الإمام (ع) للأرض إلى ملكية الدولة، وعليه فمناسبة الحكم والموضوع تقتضي ملكيتها بما فيها من الثروات كما هو الحال في ملكية الأرض للأمة إلى هنا قد استطعنا ان نخرج بهذه النتيجة: وهي ان المياه مطلقا اي - سواء أكانت مكشوفة أم كانت مكنوزة في أعماق الأرض - إذا كانت في الأرض التي هي داخلة في ملكية الإمام (ع) فهي تخضع الأرض في مبدأ الملكية فما عن المشهور من أنها من المشتركات العامة
384 بين كل الناس فلا يمكن اتمامه بدليل. واما إذا كانت المياه في الأرض المفتوحة عنوة التي هي ملك للمسلمين فالظاهر أنها أيضا تتبع الأرض في مبدأ الملكية، وليست من المشتركات العامة بين جميع الناس كما عن المشهور، وذلك لما قدمناه في بحث المعادن من أن سبب ملكية المسلمين للأرض انما هو انتزاعها من سيطرة الكفار وان لم تكن لهم علاقة بها ولو على مستوى الحق، وحيث إن الكفار كانوا مسيطرين على تلك الثروات الطبيعية على أساس سيطرتهم على الأرض التي تضمها فانتزاع الأرض من سيطرتهم بعنوة انتزاع لجميع ما فيها من المصادر والثروات. منها المياه المكنوزة، والمكشوفة. واما إذا كانت المياه في ارض مملوكة لفرد خاص قبل تاريخ تشريع ملكية الأنفال للإمام (ع) فهل هي تتبع الأرض في مبدأ الملكية أو يكون الناس فيها شرع سواء أو تكون من الأنفال؟ فيه وجوه: الظاهر هو الوجه الثاني: وذلك لم سوف نشير إليه من أن المياه لا تكون من توابع الأرض وشئونها لدى العرف، وانما هي موجودة مستقلة في قبال وجود الأرض، غاية الأمر ان الأرض ظرف لها فتكون نسبتها إليها نسبة المظروف إلى الظرف، لا نسبة الثمرة إلى الشجرة، وعليه فلا تستلزم ملكية الأرض ملكية ما فيها من الثروات: منها المياه الكائنة فيها. وأما الوجه الثالث فهو بحاجة إلى دليل، لوضوح ان دخولها في نطاق ملكية الإمام (ع) بحاجة إلى سبب، ولا سبب لذلك أصلا في مفروض الكلام على أساس ان الدليل على كونها من الأنفال خاص بما إذا كانت في أراضي الدولة، لا مطلقا، فاذن يتعين الوجه الثاني
385 على أساس انه مطابق لمقتضى الأصل. المياه المكشوفة: ان الفرد لا يملك المياه المكشوفة طبيعيا بالحيازة والاستيلاء عليها ما دامت في مكانها الطبيعي، بل لا يحصل له على أساس ذلك حق الأولوية فيها، وقد تقدم ان الاسلام لم يعترف بالحيازة على أساس القوة والتحكم على الآخرين في ميدان المنافسة. ومن هنا قلنا. ان الحيازة على أساس ذلك لا تبرر وجود حق فيها فضلا عن الملك، ولا سيرة عقلائية على انها تمنح علاقة بها، ولا فرق في ذلك بين القول بكون المياه المزبورة من المشتركات العامة بين كل الناس والقول بكونها من الأنفال. نعم تظهر الثمرة بين القولين: فيما إذا أخذ شخص كمية من تلك المياه وحازها باغتراف منها باناء، أو سحب منها بآلة، أو حفر حفيرة واوصلها بها، أو استجد نهرا وأوصله بها، أو نحو ذلك مما يوجب جعلها في حوزته. فعلى القول الأول: يملك الكمية التي عرفها الاناء، أو سحبتها الآلة، أو اجتذبتها الحفيرة، أو ما جرى في النهر المستجد بسبب العمل المزبور الذي هو حيازة لدى العرف، فالحيازة إذا كانت على أساس العمل وبذل الجهد في سبيل جعل المحاذ في حوزته وسيطرته فهي تمنح الملك على ضوء هذا القول. واما إذا لم تكن على أساس ذلك كما إذا دخل الماء تحت سيطرة الفرد بتسربه من النهر أو البحر إلى منطقته بدون بذل جهد وعمل في سبيل ذلك، فإنه لا يوجب تملكه
386 تلك الكمية من الماء، بل ظلت على اباحتها العامة. وعلى القول الثاني: لا يملك تلك الكمية بالعمل المزبور، وانما يمنح ذلك العمل حقا فيها دون الملك. والنكتة فيه: ان المياه ملك للإمام (ع) ومن الطبيعي ان خروجها عن ملكه ودخولها في ملك من يقوم بحيازتها بحاجة إلى دليل، ولا دليل عليه، فان الحيازة انما تبرر ملكية المال المحاذ للمحيز إذا كان من المباحات الأولية، واما إذا كان خاضعا لمبدأ ملكية خاصة أو عامة وكان التصرف فيه جائزا فحيازته لا تؤثر إلا في إيجاد حق فيه دون الملك وبكلمة أخرى: ان الحيازة التي تقوم على أساس انفاق الفرد العمل وبذل الجهد خارجا انما تمنح ملكية المصادر الطبيعية فيما إذا كانت تلك المصادر من المباحات من ناحية، ونقل الفرد تلك المصادر من موضعها الطبيعي وجعلها في حوزته من ناحية أخرى. واما إذا كانت المصادر المزبورة داخلة في نطاق ملكية الإمام (ع) فلا دليل على انها تمنح ملكيتها، لا من الشرع، ولا من العقلاء، حيث لم تقم سيرتهم على منحها الملكية في مثل المقام الذي لم يكن المال المحاذ من المباحات وإن كان التصرف فيه مباحا كما في المقام بمقتضى اخبار التحليل، ومن الطبيعي ان العامل انما يملك نتيجة عمله دون رقبة الأرض. إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة: وهي ان المياه المكشوفة على وجه الأرض كماء البحار، والأنهار، الكبيرة مثل دجلة، والفرات، والنيل، والعيون النابعة طبيعيا، فإنها على المشهور من المشتركات العامة بين كل الناس، ويملك ما يحوز منها من الكمية
387 وأما على ما قويناه - من أنها من الأنفال إذا كانت في أراضي الدولة - فقد عرفنا انه لا يملك ما يحوزه، لعدم الدليل على الملك، وانما له على أساس ذلك الأحقية والأولوية به فحسب. المياه المكنوزة: هل يملك الفرد تلك المياه باكتشافها من خلال عمليات الحفر أو يحصل له على أساس هذا الاكتشاف حق فيها دون الملك؟ فيه قولان: قد نسب إلى غير واحد من الأصحاب القول الأول. واستدل عليه بعدة وجوه: الأول: بالسيرة القطعية من العقلاء على أساس انهم يعاملون مع الماء بعد اكتشافه بسبب عمليات الحفر معاملة المالك، وهذه السيرة بما انها ممتدة إلى عصر التشريع من دون ورود ردع عنها فلا محالة تكون ممضاة من قبل الشرع. ويرده: أنها لا تدل على أن علاقة العامل بالماء الممنوحة له بسبب الاكتشاف والبلوغ من خلال عمليات الحفر تكون على مستوى الملك، ضرورة انها لا تدل على أكثر من أن للعامل علاقة به، واما كونها على مستوى الملك أو على مستوى الحق فلا تدل على شئ منهما. ودعوى - ان ترتيب آثار الملك عليه كاشف عن أن علاقته به انما هي على مستوى الملك - خاطئة جدا، وذلك لأن الآثار المزبورة كالبيع ونحوه ليست من آثار الملك خاصة، لما تقدم بنا في ضمن
388 البحوث السالفة من أن البيع أو ما شاكله لا يتوقف على كون المبيع ملكا للبائع، ومن هنا قلنا بصحة بيع المحيي الأرض على القول بكون عملية الاحياء تمنحه حقا فيها، دون الملك، وما نحن فيه كذلك. فالنتيجة: ان القدر المتيقن من هذه السيرة هو ان العملية المزبورة انما تمنح العامل حقا فيه، دون الملك. ودعوى: - ان السيرة ليست حجة بذاتها، وانما هي حجة باعتبار كشفها عن امضاء الشارع لها، ومن الطبيعي انه لا طريق لاكتشاف الامضاء الا من ناحية عدم ورود الردع من قبل الشارع وعليه فلا بد لدى الاستدلال بالسيرة من الجزم بعدم الردع عنها ليتحقق الجزم بالامضاء، وفي المقام لا يمكن الجزم به، فان ما ورد تارة بلسان: ان الناس شركاء في الماء، واخرى بلسان النهي عن بيع منع فضل الماء وثالثة بلسان النهي عن بيع القناة بعد الاستغناء عنها يؤدي على أقل تقدير إلى احتمال ورود الردع عنها، ومعه لا يمكن الجزم بالامضاء، وبدونه لا يمكن الحكم بحجيتها -. خاطئة جدا في المقام، فان هذه الدعوى انما تتم فيما إذا كانت السيرة في مسألة لم تكن محلا للابتلاء بكثير ففي مثل ذلك تكفي الروايات المزبورة لاسقاط حجية السيرة وان لم تكن تامة سندا أو دلالة، إذ معها لا يمكن الجزم بحجيتها. واما في المقام: فلا تتم تلك الدعوى، وذلك لأن تلك السيرة بما انها كانت متداولة بين الناس امام الرسول الأعظم (ص) وبعده امام الأئمة الاطهار (ع) إلى زماننا هذا فلا يمكن اسقاط حجيتها بالروايات المزبورة.
389 فان الرواية الأولى - مضافا إلى عدم ثبوتها - ظاهرة في تساوي الناس فيه - ما دام في مكانه الطبيعي - من دون ان يسبق أحد إليه بالكشف عنه والوصول إليه. واما الروايتين الأخيرتين فهما محمولتان على الكراهة والحزازة، على أن الرواية الأولى منهما غير ثابتة سندا، فلو كانت تلك السيرة غير مقبولة عندهم (ع) لورد منهم (ع) ردع عنها طبعا لعدم محذور فيه، وإذا ورد لشاع بين الناس واشتهر، لكثرة ابتلاء الناس بذلك، فمن عدم الاشتهار نستكشف عدم الردع. فالنتيجة: ان دعوى المزبورة وإن كانت لا بأس بها في الجملة الا انها لا تتم في المقام. فالصحيح ما ذكرناه: من أن هذه السيرة لا تدل على أكثر من الأحقية والأولوية. الثاني: ان الماء المستتر في ارضه نماء تلك الأرض فيكون مملوكا بتبع ملكية الأرض كثمرة الشجرة، ولبن الدابة، وما شاكل ذلك، فالانسان إذا اكتشف في ارضه عينا بسبب قيامه بعمليات الحفر كانت العين ملكا له شرعا، لأنها نماء الأرض، فما دامت الأرض ملكا له فيكون نمائها أيضا كذلك. والجواب عنه: واضح، فان المياه المكنوزة في أعماق الأرض التي تكشف من خلال عمليات الحفر لا تعتبر لدى العرف والعقلاء نماء للأرض، وليست حالها حال الثمرة بالإضافة إلى الشجرة، واللبن بالإضافة إلى الدابة أو نحو ذلك، فان علاقتها بها كانت علاقة طبيعية على أساس انها قد نتجت من مادة موجودة في كمون ذاتها، حيث إن تلك المادة بتطورها الطبيعي وسيرها الزمني قد
390 بلغت بهذه الدرجة التي تسمى ثمرة لها. وهذا بخلاف علاقة تلك المياه بالأرض، فإنها ليست بطبيعية، بل هي علاقة المظروف بالظرف، والحال بالمحل، ومن الطبيعي انه ليس لدينا قاعدة شرعية، ولا عقلائية على أن تملك الطرف يستلزم تملك المظروف، وانما لدينا قاعدة تدل على أن تملك الثمرة انما هو بتبع تملك أصلها. الثالث: قد ورد في مجموعة من النصوص جواز بيع الشرب، وبيع القناة. منها: معتبرة سعيد: الأعرج عن أبي عبد الله (ع) قال: سألته عن الرجل يكون له الشرب مع قوم في قناة فيها شركاء فيستغني بعضهم عن شربه أيبيع شربه قال: (نعم انشاء باعه بورق وانشاء باعه بحنطة) (1). ومنها: صحيحة عبد الله الكاهلي قال: سأل رجل أبا عبد الله (ع) وانا عنده عن قناة بين قوم لكل رجل منهم شرب معلوم، فاستغنى رجل منهم عن شربه، أيبيع بحنطة أو شعير قال: (يبيعه بما شاء هذا مما ليس فيه شئ) (2). ومنها رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (ع) قال: سألته عن قوم كانت بينهم قناة ماء لكل انسان منهم شرب معلوم، فباع أحدهم شربه بدراهم أو بطعام، هل يصلح ذلك قال: (نعم لا بأس) (3). وهذه الروايات: وإن كانت لا يبعد دعوى ظهورها في ملك (1، 2، 3) الوسائل: ج 12 الباب 24 من أبواب عقد البيع وشروطه الحديث 1، 3، 5. (*)
391 القناة، لا على أساس ان البيع لا يكون الا في ملك، لما عرفت في ضمن البحوث السالفة من أن حقيقة البيع انما تتكفل منح المشتري نفس العلاقة التي كانت بين البائع والمبيع في مقابل حصول البائع على نفس العلاقة التي كانت بين المشتري والثمن سواء أكانت تلك العلاقة على مستوى الملك أم كانت على مستوى الحق، بل على أساس ظهور اللام في الاختصاص الملكي، الا ان ذلك الاختصاص انما هو بالإضافة إلى الفرصة التي خلقها العامل من خلال عمليات الحفر للاستفادة بالماء والانتفاع به، لا بالإضافة إلى الماء نفسه، أو لا أقل من اجمال تلك الروايات من هذه الناحية. فالنتيجة: ان الروايات لا تدل على أن العامل يملك الماء سبب اكتشافه والوصول إليه في أعماق الأرض. الرابع: ان كشف الماء في باطن الأرض من خلال عملية الحفر احياء له، فان احياء كل شئ بحسبه. والجواب عنه: ان روايات الاحياء تختص بالأرض، كما أشرنا إلى ذلك في ضمن الأبحاث الماضية فلا تدل إلى علي كون عملية الاحياء سببا لعلاقة المحيي بالأرض، لا بما تضم الأرض من المصادر والثروات الطبيعية على أساس انها ليست بالأرض، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: ان صدق الاحياء على الاكتشاف المزبور محل اشكال، بل منع، فان الاحياء لدى العرف هو العمل في الشئ وإيجاد صفة فيه بحيث يكون ذلك الشئ فاقدا لتلك الصفة قبل العمل المزبور، وانما نتجت منه، واما كشف الشئ بما هو من دون عمل فيه وإيجاد صفة فلا يكون احياء له. هذا إضافة إلى ما ذكرناه من أن عملية الاحياء لا تمنح المحيي
392 أكثر من حق فيما قام باحيائه أرضا كان أو غيرها ومن ناحية ثالثة: اننا قد ذكرنا ان مصدر علاقة الفرد بالثروات الطبيعية وحقه فيها انما هو العمل وبذل الجهد في سبيل الانتفاع بها سواء أصدق على ذلك العنوان عنوان الاحياء أم لم يصدق. حيث لا موضوعية لهذا العنوان، وعليه فالاكتشاف المزبور من خلال عمليات الحفر مصدر لعلاقة العامل بالمياه وان لم يصدق عليه عنوان الاحياء، وبما ان المياه المزبورة قد فرض كونها من الأنفال فالعمل المذكور لا يبرر الا وجود حق فيها دون الملك. الخامس: ان ملكية الأرض تتبع ملكية ما فيها من الثروات على أساس انها من توابعها وشئونها: منها المياه المكنوزة فيها. والجواب عنه: ان تلك الثروات التي تضمها الأرض: منها المياه بما انها موجودات مستقلات فلا علاقة لها بالأرض الا علاقة المظروف بالظرف والحال بالمحل، ومن الطبيعي ان ملكية الظرف لا تستدعي ملكية المظروف. السادس: ان اكتشاف الماء بسبب عمليات الحفر حيازة له، والحيازة من أحد أسباب الملك لدى العرف والعقلاء. والجواب عنه: ان هذه العملية وإن كانت حيازة بالإضافة إليه الا ان الحيازة لم تكن من أسباب الملك على نحو الاطلاق، وانما تكون من أسبابه فيما إذا لم يكن المال المحاز خاضعا لمبدأ ملكية خاصة أو عامة من ناحية وكونه تحت سيطرة المحيز وفي حوزته بشكل مباشر من ناحية أخرى، والا فلا تمنح الملك، وقد أشرنا إلى ذلك في ضمن البحوث السالفة. وبما ان المياه إذا كانت في الأرض التي لا رب لها ملك للإمام (ع) فلا تفيد الملك،
393 وحيث إن هذه الحيازة كانت بإذن الإمام (ع) فهي تفيد الحق فيها، لأنها تلعب فيها نفس الدور الذي تلعبه عملية الاحياء في الأرض. هذا إضافة إلى اننا لا نملك نصا صحيحا يدل على انها تمنح ملكية الماء بمنتهى عروقه ومادته، فان عمدة الدليل على أن تلك العملية تفيد اختصاص المحيز بالماء انما هي سيرة العقلاء، وقد تقدم ان السيرة لا تدل على أكثر من الاختصاص على مستوى الحق. السابع: ان رواية (من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له) تدل على الملك. والجواب عنه: ان الرواية ساقطة بحسب السند فلا يمكن الاستدلال بها على حكم شرعي أصلا. إلى هنا قد استطعنا ان نخرج بهذه النتيجة: وهي ان اكتشاف الماء من خلال عمليات الحفر وبذل الجهد لا يفيد أكثر من الأحقية والأولوية هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: ان هذه الأحقية تمتد إلى منتهى مادة هذا الماء في أعماق الأرض وبواطنها، ولا يتقدر امتداد هذا الحق من حيث المسافة الا بما يضره. وعليه فبما ان عروقها قد انفتحت من خلال عمليات الحفر التي اوصلها الحافر بها فبطبيعة الحال لا يجوز لآخر ان يقوم بفتح عروقها بحفر حفيرة من طرف آخر، وايصالها بها لأنها تضر الأولى. وتدل على امتداد هذا الحق - مضافا إلى ما سوف نشير إليه - مجموعة من النصوص الواردة في تحديد مقدار المسافة المعتبرة بين الأبار والعيون التي تقدمت في ضمن الأبحاث السالفة، فان المستفاد
394 من تلك المجموعة - بعد تحكيم بعضها ببعضها الآخر - هو ان الحد المكاني المعتبر بين الأبار والعيون انما هو بما لا تضر الثانية بالأولى بلا فرق بين أن تكون المسافة بينهما قريبة أو بعيدة. فالنتيجة: ان هذه النصوص تدل على أن الأحقية لا تقتصر على المقدار المكشوف من الماء بل تمتد إلى منتهى عروقه ومادته الكامنة في أعماق الأرض. وبذلك نفترق: المياه المستورة في باطن الأرض عن المعادن المستورة فيه، فان أحقية الفرد في المعادن على أساس اكتشافه إياها من خلال قيامه بعمليات الحفر لم تمتد إلى منتهى عروقها وينابعها، ولذا يجوز لغيره ان يقوم باستخراجها من طرف آخر. ومن هنا قلنا: إن مرد ذلك بالتالي إلى أن حق العامل انما هو قائم بنفس الحفيرة التي اوصلها بالمعادن، دون بنفسها ما دامت في موضعها الطبيعي. ونكتة الفرق بينهما: - مضافا إلى الروايات - هي ان الماء بعد اكتشاف الفرد إياه من خلال قيامه بعملية الحفر ينتقل من موضعه الطبيعي إلى الحفيرة فإنها تجذب الماء، وعليه فتصبح نفس الماء متعلقة لعلاقته فلا يجوز لآمر ان يتصرف فيه بقطع النظر عن التصرف في الحفيرة. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى بما ان هذا الماء يستمد قوته آنا فآنا من مادته المكنوزة في باطن الأرض فلا محالة يمتد حقه إلى تلك المادة، وبذلك يمتاز الماء عن المعدن حيث إن المعدن غير واجد لتلك الخصوصية، لوضوح ان ما يحوزه الفرد منها من الكمية لا ترتبط بما ظل في أعماق الأرض من الكميات أصلا. وعلى أساس ذلك: فلا يجوز لاخر ان يقوم بفتح عروق ذلك
395 الماء ومادته من مكان آخر بسبب عملية الحفر، فان ذلك لا محالة يؤدي اما إلى قطع جريانه من الحفيرة الأولى، أو إلى نقصه، وهو ضرر على الحافر الأول فلا يمكن الجمع بين انتفاع الحافر الأول به وانتفاع الحافر الثاني بدون ان يكون ضررا على الأول، إلا إذا افترض ان الماء أكثر من قدر حاجته، وهو خلاف الفرض. وهذا بخلاف المواد المعدنية: فإنها لم تصبح متعلقة لحق الحافر بسبب اكتشافه إياها من خلال عملية الحفر. ومن هنا قلنا إنه يجوز لغيره ان يقوم بحفر حفيرة من طرف آخر. واوصلها بها، فإنه لا يكون ضررا على الأول باعتبار ان انتفاعه بها من حفيرته لا يمنع من انتفاعه بها ولا يزاحمه فيه، فاذن لا مانع من انتفاع كل منهما بها من حفيرته بدون أية مزاحمة في البين على أساس ان كل كمية من المواد المعدنية لا ترتبط بكمية أخرى منها، وليست من هذه الناحية كالمياه. وعليه فإذا استخرج العامل كمية منها فقد أصبحت تلك الكمية متعلقة لعلاقته دون الكميات الأخرى التي ظلت في موضعها الطبيعي. ثم إن المياه: المكنوزة في أعماق الأرض إن كانت من الأنفال فحق الفرد فيها بسبب اكتشافها بعملية الحفر وإن كان يمتد إلى منتهى عروقها وينابعها الا ان هذا الحق له انما هو بمعنى عدم جواز قيام غيره بما يضره كما إذا قام بفتح عروقها من مكان آخر، واما قيامه بما لا يضره من التصرف فلا مانع منه، حيث إن ثبوت الحق له فيها بأكثر من ذلك بحاجة إلى دليل ولا دليل عليه. نعم الماء الذي اجتذبته الحفيرة فحقه فيه أقوى من حقه فيما ظل في عروقه وينابعه على أساس انه أصبح في حوزته بشكل مباشر
396 فيكون متعلقا لحقه كذلك، دون ما هو باق في عروقه. ومن هنا لا يجوز التصرف فيه مطلقا حتى فيما لا يكون فيه ضرر عليه الا باذنه. بل يمكن ان يقال: إن تعلق حقه بما ظل في عروقه انما هو من تبعات تعلقه بما اجتذبته الحفيرة من الماء - التي تسمى بالقناة أو البئر - فان فتح عروقه من مكان اخر موجب لانقطاع مادة ما اجتذبته الحفيرة فلا محالة يكون ضررا على تلك الحفيرة، فان الانتفاع بمائها انما يمكن في فرض اتصاله بالمادة التي تمده آنا فآنا، واما إذا انقطع اتصاله بها فلا يمكن الانتفاع به لانقطاع جريانه. واما على القول - بكونها من المشتركات العامة بين كل الناس فلا تظهر الثمرة - بينه وبين القول بكونها من الأنفال - في المياه التي ما دام ظلت في عروقها ومادتها، فان حق المكتشف فيها على كلا القولين انما هو على الشكل الذي عرفت. نعم تظهر الثمرة بينهما في الماء الذي اجتذبته الحفيرة، فإنه على القول الأول متعلق لحقه فحسب مع بقاء رقبته في ملك الإمام (ع). وعلى القول الثاني فلا مانع من الالتزام بدخوله في نطاق ملكيته، لتوفر المقتضى له - وهو دخوله في حوزته بشكل مباشر - وعدم المانع منه. ومن هنا ذكرنا: انه على أساس ما قويناه من التفصيل - بين المياه الموجودة في أراضي الدولة، والمياه الموجودة في أراضي الأمة والمياه الموجودة في ارض لفرد خاص، فإنها على الأول ملك للدولة وعلى الثاني ملك للأمة، وعلى الثالث فهي من المشتركات العامة بين كل الناس - تظهر الثمرة فيما اجتذبته الحفيرة من الماء، فإنه على
397 الفرضين الأولين متعلق لحق الحافر، وعلى الفرض الثالث متعلق لملكه. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: ان ما ذكرناه من التفصيل انما هو فيما إذا كان الفرد مالكا للأرض قبل التاريخ الزمني لتشريع ملكية الأنفال للإمام (ع)، فان المياه الموجودة فيها يكون الناس فيها شرع سواء، واما إذا كانت ملكيته لها بعد التاريخ المزبور بسبب عملية الاحياء بناء على انها تمنح الملك فلا تكون المياه الموجودة فيها من المشتركات العامة، بل هي ظلت في ملك الإمام (ع) رغم ان الأرض قد خرجت عن ملكه ودخلت في ملك المحيي، وقد عرفت ان ملكية الأرض لا تسلتزم ملكية ما فيها من المصادر والثروات الطبيعية. نتيجة هذا البحث عدة خطوط الأول: ان المياه الطبيعية التي هي موجودة في أراضي الدولة سواء أكانت مكشوفة على وجه الأرض أم كانت مكنوزة في أعماقها داخلة في نطاق ملكية الإمام (ع)، ولا دليل على ما هو المشهور بين الأصحاب من أنها من المشتركات العامة بين كل الناس. الثاني: ان الفرد لا يملك المياه المكشوفة طبيعيا بالحيازة والاستيلاء عليها - ما دامت في مكانها الطبيعي - بل لا يحصل على حق الأولوية فيها والحال هذه، فإنه انما يحصل على حق في كمية من المياه التي اخذها منها وحازها بالاعتراف باناء، أو بالسحب بآلة، أو نحو ذلك بناء على كونها من الأنفال، كما إذا كانت في
398 أراضي الدولة أو الأمة. واما بناء على كونها من المشتركات العامة بين كل الناس فهو يملك تلك الكمية. الثالث: ان الفرد لا يملك المياه المستورة في باطن الأرض باكتشافها من خلال عمليات الحفر. نعم ان ذلك يمنحه حق الأولوية فيها بالإضافة إلى غيره، ولا فرق في ذلك بين القول بكونها من الأنفال والقول بكونها من المشتركات العامة بين كل الناس نعم يظهر الفرق بينهما فيما اجتذبته الحفيرة من المياه كما عرفت. الرابع: ان الحق الناجم في المياه عن اكتشافها من خلال عمليات الحفر يمتد إلى مادتها ومنتهى عروقها، وبذلك يفترق عن المعادن على تفصيل قد سبق بشكل موسع. الخامس: ان المياه الموجودة في الأرض المفتوحة عنوة التي هي ملك للمسلمين تتبع الأرض في مبدأ الملكية بلا فرق بين كون تلك المياه مكشوفة على وجه الأرض، كماء البحار، والأنهار، والعيون الطبيعية، أو كانت مكنوزة في أعماق الأرض. السادس: ان المياه الموجودة في الأرض التي لها رب خاص لا تتبع الأرض في مبدأ الملكية، بل هي من المشتركات العامة بين كل الناس. هل يجوز بيع الماء إذا استغنى عنه؟ في المسألة قولان: أحدهما: انه لا يجوز بيعه في هذه الحالة، بل يجب على من يستغني عن الماء بذله للآخرين مجانا فلا تجوز له مطالبة العوض منهم،
399 وعن الشيخ (قده) في المبسوط اختيار هذا القول، حيث إنه قال: كل موضع قلنا: فيه بملك البئر، فإنه أحق بمائها بقدر حاجته لشربه، وشرب ماشيته، وسقي زرعه، فإذا فضل بعد ذلك شئ وجب بذله بلا عوض لمن احتاج إليه، وقد علل ذلك بان المادة لا تزال من المشتركات العامة بين كل الناس، وانما حصل للمكتشف حق الأولوية بها بقدر حاجته، فإذا أشيع حاجته منها فقد انقطع حقه عنها نهائيا، وحينئذ يجوز للآخرين الانتفاع بها، وليس له حق المنع عنه، ولا مطالبة العوض. وتدل على ذلك: موثقة أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) قال: نهى رسول الله (ص) عن النطاف والأربعاء - أن يسنى مسناة فيحمل الماء فيسقي به الأرض ثم يستغني عنه - قال: (فلا تبعه، ولكن أعره جارك، والنطاف ان يكون له الشرب فيستغني عنه يقول لا تبعه أعره أخاك أو جارك) (1). وموثقة عبد الرحمن البصري عن أبي عبد الله (ع) في حديث قال: والنطاف شرب الماء ليس لك إذا استغنيت عنه أن تبيعه جارك وتدعه له، والأربعاء: المسناة تكون بين القوم فيستغنى عنها صاحبها قال: (يدعها لجاره، ولا يبيعها إياه) (2). فإنهما تدلان: على عدم جواز بيع ما يستغنى عنه من الماء، ووجوب اعارته. وفي مقابلهما: مجموعة من الروايات التي قد صرح فيها بجواز البيع في هذا الفرض، وقد أشرنا إلى تلك الروايات سابقا ولا بأس
(1، 2) الوسائل ج 12 الباب 24 من أبواب عقد البيع وشروطه الحديث 2، 4. 400 بالإشارة إليها هنا أيضا. منها: صحيحة سعيد الأعرج عن أبي عبد الله (ع) قال: سألته عن الرجل يكون له الشرب مع قوم في قناة فيها شركاء فيستغني بعضهم عن شربه أيبيع شربه؟ قال: نعم انشاء باعه بورق وانشاء باعه بحنطة. ومنها: صحيحة عبد الله الكاهلي قال: سأل أبا عبد الله (ع) وانا عنده عن قناة بين قوم لكل رجل منهم شرب معلوم فاستغنى رجل منهم عن شربه أيبيع بحنطة أو شعير، قال: (يبيعه بما شاء، هذا مما ليس فيه شئ). ومنها: رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (ع) قال: سألته عن قوم كانت بينهم قناة ماء لكل انسان منهم شرب معلوم فباع أحدهم شربه بدراهم أو بطعام هل يصلح ذلك، قال: (نعم لا بأس). طريقان للجمع بينهما: الأول: ما في الجواهر من حمل المجموعة الأولى على الكراهة على أساس ان المجموعة الثانية نص في الجواز. وأورد عليه بأنه لا يمكن التوفيق بينهما بذلك الطريق فان قوله (ع) في المجموعة الأولى (وهذا ليس مما فيه شراء) ظاهر جدا في خلوه عن كل حزازة وشبهة حتى الكراهة، فاذن لا يمكن حملها عليها. وفيه: انه غير ظاهر في ذلك، بل الظاهر منه عرفا هو انه
401 ليس في هذا البيع شئ يمنع عن جوازه، ومن الطبيعي انه قابل للحمل على الكراهة إذا كانت هناك قرينة، وعليه فالايراد المزبور غير وارد على هذا الجمع. نعم لا موضوع لهذا الجمع على أساس ما سنذكره من أنه لا تعارض بين المجموعتين نهائيا. الثاني: ان المجموعة الأولى تدل على أمرين: أحدهما: وجوب الإعارة وبذل الماء مجانا. والآخر: عدم جواز بيعه. والمجموعة الثانية - التي تدل على جواز البيع - لا تنافي الأمر الأول - وهو وجوب الإعارة - على أساس انها لا تدل على عدم وجوب إعارة الماء لآخر، وانما تدل على جواز بيعه، وجواز بيعه لا يستلزم عدم وجوب الإعارة. ودعوى: - ان فرض جواز البيع ملازم لعدم وجوب الإعارة، لكي يتحقق الداعي العقلائي للشراء - خاطئة جدا، وذلك لان الشخص قد لا يكتفي بمجرد الانتفاع المبذول له مجانا بالإعارة بل يريد ان يكون له حق الأولوية كما كان لصاحبه، وهذا الحق لا ينتقل الا بالبيع والشراء، لا بالإعارة، فاذن الداعي للشراء موجود. فالنتيجة: ان المجموعة الدالة على جواز البيع لا تنافي وجوب الإعارة أصلا. نعم تقع المعارضة بين هذه المجموعة الدالة على جواز البيع وبين المجموعة المانعة بلحاظ مدلولها الثاني - وهو النهي عن بيع الماء الزائد -. وحل هذه المعارضة: ان المجموعة المانعة عن البيع يحتمل في منعها عن البيع وجهان: أحدهما: انه نهي حقيقي عن البيع بقول مطلق.
402 والآخر: انه نهى عن البيع في قبال الإعارة بمعنى ان من يريد ان يستعير منك الماء لا تضطره إلى الشراء، ولا تبعه عليه، بل أعره إياه مجانا، فإن كان النهي بالمعنى الأول وقعت المعارضة بينهما وإن كان بالمعنى الثاني فلا معارضة. وعليه فينبغي ان يقال: إن ظهور المجموعة الدالة على الجواز بما انه أقوى من ظهور النهي عن البيع في المجموعة الأخرى في المعنى الأول - لو كان له ظهور في ذلك ولم يقل بتردده بين المعنيين أو ظهوره في الثاني - فيقدم عليه فتكون النتيجة من مجموع الطائفتين وجوب إعارة الزائد على الحاجة من القناة مجانا للاخر، وجواز بيعه المنتج لانتقال حق الاختصاص والأولوية إلى المشتري، ولا تنافي بين الامرين. ولنأخذ بالنقد: على هذا الطريق، فان المجموعة الأولى من الروايات ظاهرة في الملازمة بين عدم جواز البيع ووجوب الإعارة بمعنى - ان المتفاهم منها عرفا هو ان وجوب إعارة الماء بعد الاستغناء عنه انما هو من ناحية عدم جواز بيعه فلو كان بيعه جائزا في هذه الحالة لم تجب اعارته جزما على أساس ان العرف يفهم الملازمة بين الامرين، وعليه فالتنافي بين هذه المجموعة بالإضافة إلى دلالتها على وجوب الإعارة وبين المجموعة الثانية من الروايات الدالة على جواز البيع موجود لدى العرف. الا ان يقال: إنه لا تنافي بينهما على أساس ان متعلق الإعارة نفس الماء، ومتعلق البيع هو الحق المتعلق بالماء، فالواجب على المستغني إعارة نفس الماء لمن يكون بحاجة إليه، وهذا لا ينافي جواز بيع حقه المتعلق به، فاذن لا تنافي بين وجوب إعارة وجواز البيع.
403 والجواب عن ذلك: ان متعلق الإعارة تارة يكون نفس الماء الجاري من القناة. واخرى يكون نفس القناة التي حفرها العامل للوصول إلى ذلك الماء، وبما ان ظاهر روايات الإعارة هو الأول فلا محالة يكون المراد من اعارته هو رفع اليد عنه، ووضعه تحت يد الآخر على أساس ان الإعارة بمعنى الانتفاع بالشئ مع بقاء عينه لا تعقل بالإضافة إلى نفس الماء. وبكلمة أخرى: ان الماء لا يخلو من أن يكون من الأنفال، أو يكون من المشتركات العامة بين كل الناس، وعلى كلا التقديرين فحق العامل في الماء انما هو ما دام بحاجة إليه. واما إذا أشبع حاجته واستغنى عنه فقد سقط حقه عنه نهائيا، ويجوز للآخر حينئذ الانتفاع به. وليس له حق الاحتفاظ به. ومنع الاخر عن الانتفاع. نعم له المنع عن الانتفاع بالماء من قناته التي حفرها واوصلها به، أو من نهره الذي حفره وأوصله به باعتبار أن حقه القائم بالقناة أو النهر باق، ولا موجب لسقوطه أصلا ما دام ظلت فرصة الانتفاع بها. وعلى ذلك فلا يبقى حقه في الماء بعد استغنائه عنه، ليقال: كما قيل: إنه لا تنافي بين وجوب اعارته وجواز بيعه على أساس ان مرد اعارته هو ان حقه باق فيه رغم ان المنتفع به غيره. ومرد بيعه هو انتقال حقه المتعلق به إليه بسبب البيع فيكون المشتري ذا حق فعلا. فاذن الصحيح في المقام ان يقال: إن المجموعة من الروايات الدالة على عدم جواز بيع الماء بعد الاستغناء عنه ووجوب اعارته ظاهرة لدى العرف في الارشاد إلى عدم جواز اخذ العوض بازائه على أساس ان علاقة العامل به قد انقطعت عنه نهائيا بسبب استغنائه
404 عنه فلا حق له فيه، كي يجوز اخذ العوض بإزاء رفع اليد عنه، واحتمال ان يكون الأمر بالإعارة أمرا تكليفيا بعيد جدا وخارج عن المتفاهم العرفي، بل لا معنى لاعارته بعد سقوط حقه عنه، وكون نسبته إليه كنسبة غيره، وعليه فلا محالة يكون الأمر المزبور أمرا ارشاديا يعني ارشاد إلى لزوم رفع اليد عنه، ووضعه تحت يد الآخر، وعدم جواز اخذ العوض بازائه. واما المجموعة الأخرى منها: الدالة على جواز بيع الماء بعد الاستغناء عنه فلا بد من حملها على بيع القناة كلا أو بعضا، فان علاقة الفرد بها سواء أكانت على مستوى الملك أم كانت على مستوى الحق فهي قابلة للانتقال إلى الآخرين، ولا يبعد دعوى ظهور تلك المجموعة في ذلك على أساس انها واردة في القناة التي فيها شركاء ولكل منهم شرب معلوم من تلك القناة يعني - الحصة المعلومة - ومن الطبيعي انه يجوز ان يبيع كل منهم حصته منها، ومرد هذا البيع بالتالي إلى بيع الفرصة التي خلقها العامل للانتفاع بمائها، لا نفس الماء، لما عرفت من أن علاقة العامل به قد انقطعت عنه باستغنائه، وإن كان لا يجوز للاخر ان يتصرف فيه في نفس تلك القناة على أساس ان التصرف فيه يستلزم التصرف فيها وهو غير جائز. وأما التصرف فيه في خارج القناة فلا مانع منه أصلا. وعليه فلا تنافي بين المجموعتين من الروايات أصلا على أساس ان المجموعة الأولى ناظرة إلى عدم جواز بيع نفس الماء، ولزوم وضعه تحت يد الآخر كما هو موردها. ومن هنا لو كان الماء المستغنى عنه من العيون الطبيعة أو الأنهار الكبار لم يجز بيعه الا ما خلقه الفرد في سبيل ايصاله إلى منطقته من الفرصة والشروط
405 للانتفاع بمائها كحفر نهر أو نحو ذلك، فإنه يجوز بيعه. والمجموعة الثانية ناظرة إلى جواز بيع حصته من القناة يعني - ما خلقه من الفرصة والشروط للانتفاع بمائها - باعتبار انها نتيجة عمله، وقد تقدم ان كل عامل في المصادر الطبيعية يملك نتيجة عمله. إلى هنا قد استطعنا ان نخرج بهذه النتيجة: وهي ان ما تقدم من الطريقين للجمع بينهما انما هو يقوم على أساس افتراض التنافي والتعارض بينهما. واما على ما ذكرناه من أنه لا تنافي ولا تعارض بينهما على أساس عدم ورودهما في مورد واحد نفيا واثباتا فلا موضوع للطريقين المزبورين. نتيجة هذا البحث عدة خطوط الأول: قد ظهر مما تقدم ان المراد من وجوب إعارة الماء الزائد والمستغنى عنه هو الارشاد إلى انهاء أمد حق العامل فيه بذلك، وعليه فلا بد له من رفع اليد عنه، ووضعه تحت يد الآخر مجانا فيما إذا كان بحاجة إليه كما هو الفرض. الثاني: ان ما تقدم - من الطريقين للجمع بين المجموعتين من الروايات اللتين قد دلت إحداهما على جواز بيع الماء الزائد والاخرى على عدم جوازه ووجوب اعارته مجانا - فقد عرفنا ما فيه من الاشكال بشكل موسع. الثالث: قد مر بنا انه لا تعارض ولا تنافي بين هاتين المجموعتين، فان المجموعة الدالة على عدم جواز بيع الماء الزائد ووجوب اعارته انما يكون موردها نفس الماء، ولذا قلنا: إنها في مقام
406 الارشاد إلى انتهاء أمد حق العامل فيه باشباع حاجته منه. وأما المجموعة الدالة على جواز بيعه فقد عرفت ان موردها القناة التي تتيح الفرصة للانتفاع بمائها، ولا مانع من بيع هذه الفرصة ونقلها إلى الآخر.
407 المسائل فيها مجموعة من البحوث التي لها صلة بالأبحاث السالفة
409 المسألة الأولى: إذا قام جماعة بحفر قناة أو بئر إلى أن اكتشفوا الماء ووصلوا به فقد أصبحوا شركاء في تلك القناة أو البئر بنسبة العمل على أساس ان كلا منهم يملك نتيجة عمله. وعليه فان كانوا متساوين في العمل كانت الشركة بينهم بالسوية وان كانوا متفاوتين فيه كانت الشركة بالتفاوت، ولا فرق في ذلك بين ان يكونوا متساوين في النفقة أو متفاوتين فيها فلو استأجر أحدهم شخصا لذلك بأجرة أكثر من أجرة المثل للآخرين لم يوجب ذلك كون حصته أكثر من حصتهم إذا كان متساويا معهم في العمل، فالعبرة انما هي بالعمل لا بالنفقة. فما عن الشيخ (قده) في محكي المبسوط: من أن ملكية النهر على قدر النفقة لا يتم باطلاقه الا ان يكون منزلا على الغالب، وهو ان التفاوت في النفقة يوجب التفاوت في العمل، والتساوي فيها يوجب التساوي فيه فالنتيجة: ان الفرصة والشروط التي تتيح لهم الانتفاع بالماء من خلال عمليات الحفر بما انها نتيجة عمل الجميع فلا محالة تكون مملوكة للجميع بنسبة العمل على أساس ان كل عامل يملك نتيجة عمله، ولا فرق في ذلك بين ان يكون قيامهم بهذه العملية بشكل مباشر أو غير مباشر بعدما ذكرناه من صحة الإجارة في أمثال المقام هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: انه لا فرق بين ان يكونوا مشتركين في الحفر إلى أن وصلوا بالماء أو يكونوا منفردين فيه - بان يقوم كل منهم بحفر مقدار من القناة أو البئر إلى اكتشاف الماء - وذلك لان كلا من هؤلاء وإن كان يملك نتيجة عمله الا ان بنائهم لما كان على
411 الاشتراك في النتيجة - وهي الفرصة التي تتيح لهم الانتفاع بالماء - على نسبة خاصة فبطبيعة الحال كانت نيتهم على المبادلة والمعاوضة بان يجعل كل واحد منهم مقدار حفره عوضا عن مقدار حفر الآخرين وينشأ تلك المعاملة والمعاوضة بعملهم خارجا. المسألة الثانية: ان الماء المكشوف على وجه الأرض طبيعيا كماء النهر، أو العيون الطبيعية إذا لم يكف لاشباع حاجة الجميع، ووقع التشاح فيه بينهم قدم من كان أقرب إلى فوهته فالأقرب فيأخذ منه لزراعته وأشجاره ونخيله ومواشيه بقدر ما تحتاج إليه، ويرسل الباقي إلى من دونه، وهكذا، وقد استقرت على ذلك السيرة القطعية من العقلاء في جميع الأعصار، ومن الطبيعي ان انتشارها في تمام الاعصار من دون ورود ردع عنها كاشف عن امضائها جزما. هذا إضافة إلى ورود مجموعة من النصوص في المقام الدالة على ذلك. منها: معتبرة غياث ابن إبراهيم عن أبي عبد الله (ع) قال: سمعته يقول: (قضى رسول الله (ص) في سيل وادي مهزور (للزرع إلى الشراك، وللنخل إلى الكعب، ثم يرسل الماء إلى أسفل من ذلك) (1) ومنها: معتبرته الأخرى عن أبي عبد الله (ع) قال: (قضى رسول الله (ص) في سيل وادي مهزور (ان يحبس الاعلى على الأسفل للنخل إلى الكعبين، والزرع إلى الشراكين) (2) ومنها: رواية عقبة بن خالد عن أبي عبد الله (ع) قال: (قضى رسول الله (ص) في شرب النخل بالسيل (ان الاعلى يشرب قبل الأسفل يترك من الماء إلى الكعبين، ثم يسرح الماء إلى الأسفل الذي
(1، 3) الوسائل ج 17 الباب 8 من أبواب احياء الموات 1، 3. 412 يليه، وكذلك حتى ينقضي الحوايط ويفنى الماء) (1). فهذه المجموعة من النصوص تدل بوضوح ان من كان في أعلى النهر أحق بالماء ممن كان في أسفله، وهذا مما لا اشكال فيه في الجملة، وانما الاشكال والكلام فيما إذا كان من في الأسفل أسبق زمنيا في الانتفاع بالماء بالإضافة إلى من في أعلاه فهل يجوز عندئذ لمن في أعلى النهر أن يأخذ الماء لزرعه وماشيته ونخيله وغير ذلك مما يحتاج إليه ويمنع من ارساله إلى من يعيش في أسفله فيما إذا افترض عدم كفاية الماء لاشباع حاجة كلتا الطائفتين معا؟ فيه قولان: المعروف والمشهور بين الأصحاب كما في الجواهر هو القول الثاني. الظاهر أنه الصحيح. والوجه فيه ان من يعيش في أسفل النهر بما انه كان أسبق زمنا في الانتفاع بهذا النهر من خلال قيامه باحياء الأرض في أطرافه وزرعها، أو غرسها، أو ما شاكل ذلك فقد أصبح أحق به لدى العرف والعقلاء فلا يجوز لغيره ان يزاحمه فيه وإن كان في أعلى النهر. هذا إضافة: إلى صحيحة محمد بن الحسن (الحسين) المتقدمة قال: كتبت إلى أبي محمد (ع) رجل كانت له قناة في قرية فأراد رجل ان يحفر قناة أخرى إلى قرية له، كم يكون بينهما من البعد حتى لا تضر إحداهما بالأخرى في الأرض إذا كانت صلبة، أو رخوة فوقع (ع) (على حسب لا تضر إحداهما بالأخرى إن شاء الله). فإنها تنص على أن العبرة في الجواز وعدمه انما هي بلزوم الضرر وعدمه، ولا يمكن تحديد ذلك كليا وفي جميع الموارد بالبعد المكاني ومورد السؤال في الصحيحة، وإن كان هو القناة الا ان الارتكاز
(1) الوسائل ج 17 الباب 8 من أبواب احياء الموات الحديث 5. 413 القطعي لدى العرف قائم على عدم خصوصية لها. ولذا يعم الحكم البئر أيضا. وعليه فلا يبعد دعوى عموم الصحيحة - بضميمة هذا الارتكاز - لما نحن فيه، وكذا يشمله التعليل في رواية الرحى التي نشير إليها في المسألة الثالثة. واما الروايات المتقدمة: الدالة على كون الاعلى أحق بالماء من الأسفل فلا يبعد دعوى انصرافها عن هذه الصورة أولا. وعلى تقدير اطلاقها فلا مانع من تقييده بما ذكرناه ثانيا المسألة الثالثة: لا يجوز بناء رحى على نهر مملوك بدون اذن صاحبه، وهذا لا كلام فيه، وانما الكلام فيما إذا استجد بنائها باذنه فهل له بعد ذلك تعطيل هذه الرحى أو لا؟ فيه وجهان: الظاهر هو الوجه الأول: وذلك لصحيحة محمد بن الحسين قال كتبت إلى أبي محمد (ع) رجل كانت له رحى على نهر قرية، والقرية لرجل فأراد صاحب القرية ان يسوق إلى قريته الماء في غير هذا النهر، ويعطل هذه الرحى، اله ذلك أم لا؟ فوقع (ع) (يتقي الله ويعمل في ذلك بالمعروف ولا يضر أخاه المؤمن (1). فإنها واضحة الدلالة: على عدم جواز تعطيلها على أساس انه يضر بصاحبها، بل قوله (ع) في الصحيحة (ولا يضر أخاه المؤمن) كبرى كلية لا تنحصر مواردها بما نحن فيه. ومن هنا لو اذن: بغرس الأشجار في حافتي نهره أو غيرها فليس له الرجوع عن اذنه بتحويل الماء في غير هذا النهر الموجب لهدم تلك الأشجار أو غيرها. فالنتيجة: ان الصحيحة تدل على حكم سيال بقرينة التعليل
(1) الوسائل ج 17 الباب 15 من أبواب احياء الموات الحديث 1. 414 فيها فلا يختص بموردها. المسألة الرابعة: الاقطاع وهو في المصطلح الفقهي عبارة عن اقطاع النبي الأكرم (ص) أو الإمام (ع) قطعة ارض أو معدن لفرد أو افراد، وعن الشيخ (قده) في المبسوط تحديده بمنح الإمام (ع) حق العمل فيها لشخص أو اشخاص على أساس ان الاسلام لا يجوز العمل في المصادر والثروات الطبيعية الخام بدون اذن الإمام (ع) أو الدولة اذنا خاصا أو عاما، فإذا سمح لفرد أو افراد في استثمار تلك الثروات فهو في المصطلح الفقهي اقطاع. فالنتيجة ان الاقطاع بدوره أسلوب من أساليب الاستثمار والانتاج في الموارد الخام، ويترتب على ذلك أنه لا يجوز للإمام (ع) اقطاع الفرد ما يزيد على قدر طاقته ويعجز عن استثماره. وعلى هذا الأساس فالاسلام لم يعتبر الاقطاع سببا لتملك الفرد الثروة الطبيعية التي اقطعها النبي الأكرم (ص) أو الإمام (ع) إياه، وانما جعل للفرد المقطع حق الأولوية في استثمار تلك الثروة يعني - لا يجوز لغيره انتزاعها منه والعمل فيها بدلا عنه - كما عن العلامة (قده) في القواعد حيث قال: بان الاقطاع يفيد الاختصاص، وعن الشيخ في المبسوط بان السلطان إذا اقطع رجلا من الرعية قطعة من الموات صار أحق بها من غيره بلا خلاف، وقد صرح بذلك المحقق في الشرائع أيضا هذا. أقول: إن تفسير الاقطاع بهذا المعنى وإن كان بمكان من الامكان على أساس ان النبي الأكرم (ص) ذلك، وكذا الإمام (ع) الا ان اثباته بدليل معتبر مشكل جدا. حيث لم يرد في دليل معتبر ان النبي الأكرم (ص) أو الإمام (ع) اقطع لفرد أو جماعة هذه
415 الأرض أو ذلك المعدن. نعم نقل عن أن النبي الأكرم (ص) اقطع - عبد الله بن مسعود - الدور، وهي اسم موضع بالمدينة. واقطع - وابل بن حجر - أرضا بحضرموت. واقطع - الزبير - حضر فرسه. ولكن كل ذلك: لم يثبت بنص معتبر كما مر. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى: انه لا مانع من تفسير الاقطاع بمعنى منح النبي الأكرم (ص) أو الإمام (ع) ملكية هذه الأرض أو هذا المعدن لفرد أو جماعة إذا رأى فيه مصلحة. لما تقدم في ضمن البحوث السالفة من أن أمر الأراضي بيده (ع) حتى الأراضي الخراجية، وله ان يتصرف فيها بما يرى ولو كان ذلك التصرف منح ملكيتها لفرد، وعليه فلا وجه لتخصيص الاقطاع بالتفسير الأول وعلى الجملة: فلو ثبت الاقطاع في الشرع المقدس بدليل معتبر فلا وجه لتخصيصه بالتفسير الأول، إذ هو كما ينسجم مع هذا التفسير ينسجم مع التفسير الثاني أيضا. نعم يمتاز التفسير الأول عن التفسير الثاني في نقطة أخرى، وهي ان القطاع بالتفسير الثاني خاص بالنبي الأكرم (ص) والإمام (عليه السلام) وليس لاحد غيرهما ذلك واما الاقطاع بالتفسير الأول فهو غير خاص بهما. المسألة الخامسة: ان الاسلام لم يعترف بالحمى على أساس انه مصدر حق في الثروات الطبيعية، حيث إنه عند العرب في زمن الجاهلية عبارة عن الاستيلاء والسيطرة على مساحات كبيرة من الأرض بما فيها من الثروات بالقوة والتحكم على الآخرين بحيث يعتبر المسيطر نفسه مالكة لتلك المساحات الكبيرة بما فيها من المصادر والثروات، وقد
416 تقدم في ضمن الأبحاث السالفة بشكل موسع ان الاسلام لم يعترف بأي حق في تلك الثروات والمواد الخام الا على أساس العمل وبذل الجهد في سبيل الانتفاع بها والاستفادة منها، ولا قيمة للسيطرة عليها نهائيا بدون انفاق عمل. نعم لا شبهة في ثبوت حق الحمى في الاسلام للرسول (ص) على أساس ان أمر الأراضي بيده (ص) وله ان يتصرف فيها بما يرى فيجوز له (ص) ان يحمي مساحة كبيرة من الأرض لمصالح عامة. كما روي أن رسول الله قد حمى النقيع لخيل المسلمين، وكذا لا شبهة في ثبوت هذا الحق للإمام (ع) بعده بعين الملاك المزبور، بل لا يبعد ثبوته لنائبه (ع) وهو الفقيه الجامع للشرائط - في عصر الغيبة أيضا. هذا آخر ما أوردناه في هذا الكتاب بتوفيق من الله سبحانه وهو الموفق والمعين نحمده تعالى ونشكره على نعمه وآلائه.