بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية المؤلف: الشيخ المنتظري الجزء: 4 الوفاة: معاصر المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن تحقيق: الطبعة: الأولى سنة الطبع: محرم 1411 المطبعة: القدس الناشر: دار الفكر - قم - ايران - شارع ارم - تلفن 23646 ردمك: ملاحظات: منشورات المركز العالمي للدراسات الإسلامية - قم - ايران - ص . ب 439 دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية
تعريف الكتاب 1 اسم الكتاب: دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية - الجزء الرابع المؤلف: آية الله العظمى المنتظري طبع: مطبعة المقدس الطبعة: الأولى تاريخ النشر: 1411 ه. ق طبع منه: 4000 نسخة مركز النشر: دار الفكر - قم - إيران - شارع ارم تلفن 23646 السعر: 250 تومان - حقوق النشر محفوظة -
تعريف الكتاب 2 دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية الجزء الرابع لمؤلفه المحقق سماحة الفقيه المجاهد آية الله العظمى المنتظري دامت بركاته
تعريف الكتاب 3 بسم الله الرحمن الرحيم الإهداء إلى ولي الأمر وإمام العسر، ولي الأولياء وخاتم الأوصياء، المهدي المنتظر لإقامة القسط والعدل في العالم، عجل الله تعالى فرجه المبارك أهدي هذه البضاعة المزجاة - وإن الهدايا على مقدار مهديها -، والمرجو من ساحته المقدسة أن يتفضل بالقبول، وأن يلحظ لحظا ما إلى هذا العبد المحتاج إلى لطفه ونظره الشريف.
تعريف الكتاب 4 الفصل الخامس في الأنفال: وفيه جهات من البحث الجهة الأولى: في تفسير آية الأنفال ومعنى الأنفال والمقصود منها في الآية وفى فقه الفريقين: قال الله - تعالى - في أول سورة الأنفال: " يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله الرسول. فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين " (1) 1 - قال الراغب في المفردات: النفل قيل هو الغنيمة بعينها... وقيل: هو ما يحصل للمسلمين بغير قتال وهو الفئ. قيل: هو ما يفضل من المتاع ونحوه بعد ما تقسم الغنائم، وعلى ذلك حمل فيه
1 - سورة الأنفال (8) الآية 1 1 قوله " يسئلونك عن الأنفال. " وأصل ذلك من النفل أي الزيادة على الواجب، ويقال له النافلة، قال - تعالى -: " ومن الليل فتهجد به نافلة لك " وعلى هذا قوله: " ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة ". وهو ولد الولد ويقال: نفلته كذا أي أعطيته نفلا... " (1) 2 - وفى كتاب الأموال لأبى عبيد: " قال أبو عبيد: فالأنفال أصلها جماع الغنائم إلا ان الخمس منها مخصوص لأهله على ما نزل به الكتاب وجرت به السنة. ومعنى الأنفال في كلام العرب: كل إحسان فعله فاعل تفضلا من غير أن يجب ذلك عليه فكذلك النفل الذي أحله الله للمؤمنين من أموال عدوهم إنما هو شئ خصهم الله به تطولا منه عليهم بعد أن كانت الغنائم محرمة على الأمم قبلهم، فنفلها الله - عز وجل - هذه الأمة... فنفل الله هذه الأمة المغانم خصوصية خصهم بها دون سائر الأمم فهذا أصل النفل، وبه سمي ما جعله الإمام للمقاتلة نفلا، وهو تفضيله بعض الجيش على بعض بشئ سوى سهامهم، يفعل ذلك بهم على قدر الغناء عن الإسلام والنكاية في العدو. " (2) أقول: ما ذكره أبو عبيد من كون الغنائم محرمة على الأمم السالفة رواه المحدثون من علماء الفريقين: فروى أبو عبيد بسنده عن أبى هريرة، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " لم تحل الغنائم لأحد سود الرؤوس قبلكم كانت تنزل نار فتأكلها. الحديث. " (3) وفى الخصال بسنده، عن أبى أمامة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " فضلت بأربع.... أحلت لأمتي الغنائم. الحديث. " (4)
1 - المفردات / 524. 2 - الأموال / 386 - 387. 3 - الأموال / 386. 4 - الخصال / 201، باب الأربعة، الحديث 14. 2 وفيه أيضا بسنده، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أعطيت خمسا... وأحل لي المغنم. الحديث. " (1) ورواهما عن الخصال في الوسائل. (2) وذكر ذلك الشيخ في المبسوط أيضا فقال: " والغنيمة كانت محرمة في الشريعة المتقدمة وكانوا يجمعون الغنيمة فتنزل النار من السماء فتأكلها ثم أنعم الله - تعالى - على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فجعلها له خاصة بقوله: " يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول. " وروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: أحل لي الخمس لم يحل لأحد قبلي وجعلت لي الغنائم... " (3) ولا يهمنا تحقيق هذه المسألة التاريخية، إذ لا يترتب عليها فائدة عملية. هذا 3 - وفى تفسير التبيان في بيان آية الأنفال قال: " اختلف المفسرون في معنى الأنفال ههنا: فقال بعضهم هي الغنائم التي غنمها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم بدر فسألوه لمن هي فأمر الله - تعالى - نبيه أن يقول لهم: هي لله ولرسوله، ذهب اليه عكرمة ومجاهد والضحاك وابن عباس وقتادة وابن يزيد. وقال قوم: هي أنفال السرايا، ذهب إليه على بن صالح بن يحيى (الحسن بن صالح بن حي - المجمع.) وقال قوم: هو ما شذ من المشركين إلى المسلمين من عبد أو جارية من غير قتال أو ما أشبه ذلك، عن عطاء وقال: هو للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة يعمل به ما يشاء. وروى عن ابن عباس في رواية أخرى: أنه ما سقط من المتاع بعد قسمة الغنائم من الفرس والدرع والرمح. وفى رواية أخرى: أنه سلب الرجل وفرسه ينفل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من شاء. وقال قوم: هو الخمس روى ذلك عن مجاهد...
1 - الخصال / 292، باب الخمسة، الحديث 56. 2 - الوسائل، 2 / 970، الباب 7 من أبواب التيمم، الحديث 3 و 4. 3 - المبسوط 2 / 64. 3 وروى عن أبى جعفر وأبى عبد الله (عليه السلام): أن الأنفال كل ما أخذ من دار الحرب بغير قتال إذا انجلى عنها أهلها وتسميه الفقهاء فيئا، وميراث من لا وارث له، وقطائع الملوك إذا كانت في أيديهم من غير غصب، والآجام، وبطون الأدوية، والموات وغير ذلك مما ذكرناه في كتب الفقه، وقالا هو لله وللرسول، وبعده للقائم مقامه يصرفه حيث يشاء من مصالح نفسه ومن يلزمه مؤونته ليس لأحد فيه شئ... والأنفال جمع نفل، والنفل هو الزيادة على الشئ، يقال نفلتك كذا إذا زدته، قال لبيد بن ربيعة: (شعر) " إن تقوى ربنا خير نفل * وباذن الله ريثي والعجل. " والنفل هو ما أعطيه المرء على البلاء والفناء (العناء زائدا - ظ.) على الجيش على غير قسمة. وكل شئ كان زيادة على الأصل فهو نفل ونافلة، ومنه قيل لولد الولد نافلة، ولما زاد على فرائض الصلاة نافلة. " (1) 4 - وفى تفسير الكشاف: " النفل: الغنيمة لأنها من فضل الله - تعالى - وعطائه قال لبيد: " إن تقوى ربنا خير نفل. " والنفل ما ينفله الغازي: أي يعطاه زائدا على سهمه من المغنم، وهو أن يقول الإمام تحريصا على البلاء في الحرب: من قتل قتيلا فله سلبه، أو قال لسرية: ما أصبتم فهو لكم أو فلكم نصفه أو أربعة. " (2) 5 - وفى تفسير الميزان قال: " الأنفال جمع نفل بالفتح وهو الزيادة على الشئ، ولذا يطلق النفل والنافلة على التطوع لزيادته على الفريضة. وتطلق الأنفال على ما يسمى فيئا أيضا وهى الأشياء من الأموال التي لا مالك لها من الناس كرؤوس الجبال، وبطون الأدوية والديار الخربة، والقرى التي باد أهلها، وتركة من لا وارث له وغير ذلك، كأنها زيادة على ما ملكه الناس فلم يملكها أحد، وهي لله ولرسوله.
1 - التبيان 1 / 780. 2 - الكشاف 2 / 140 (= ط. أخرى 2 / 193). 4 وتطلق على غنائم الحرب، كأنها زيادة على ما قصد منها: فإن المقصود بالحرب الغزوة: الظفر على الأعداء واستيصالهم فإذا غلبوا وظفر بهم فقد حصل المقصود. والأموال التي غنمها المقاتلون والقوم الذين أسروهم زيادة على أصل الغرض. " (1) أقول: الأموال على قسمين: أموال شخصية متعلقة عرفا وشرعا بالأشخاص، وأموال عامة. ونظام التشريع الصحيح هو ما ينطبق على نظام التكوين ويكون التكوين أساسا له; فأنت ترى أن الشخص يملك تكوينا لأعضائه وجوارحه ولفكره وقواه فيملك بتبع ذلك لأفعاله الصادرة منها ولمحصول أفعاله فهو يملك لصنعه وإحيائه وحيازته، وبتبع ذلك لمصنوعه ومحياته وما حازه، فمن أحيا أرضا ميتة مثلا فهي له بما أنها محياة ويملك هو حيثية الإحياء وآثار الحياة لكونها نتيجة لفعله وقواه. وله أن ينقل ما ملكه من حيثية الإحياء والصنع ونحوهما إلى غيره بعوض أو بلا عوض كما أنه قد ينتقل هذا منه إلى وارثه قهرا بحكم العرف والشرع. فهذا كله ملاك الأموال الشخصية وأساسها. واما الأموال العامة فهي كالأراضي الميتة والجبال والآجام مما خلقها الله - تعالى - للأنام ولا ارتباط لها بالاشخاص، فهي زائدة على الأموال والأملاك الشخصية المتعلقة بالاشخاص، ومثلها غنائم الحرب. فالنفل بفتح العين وجمعه الأنفال وكذا النفل بسكون العين يطلق عندنا على غنائم الحرب وكذلك على الأموال العامة، والظاهر أن اطلاقه عليهما بملاك واحد وهو كونهما زائدتين على الأموال المتعلقة بالاشخاص. وقد ظهر لك مما حكيناه من الكلمات أن مفهوم الزيادة مأخوذة في النفل عندهم وأما التطبيق على الموارد والتوجيه فقد وقع من كل واحد منهم حسب اجتهاده، فتدبر.
1 - الميزان، 9 / 5 (= ط. أخرى 9 / 2) 5 وفى الجواهر قال: " سميت بذلك لأنها هبة من الله - تعالى - له زيادة على ما جعله له من الشركة في الخمس اكراما له وتفضيلا له بذلك على غيره. " (1) وكيف كان فغنائم الحرب أو ما ينفل منه أيضا من الأنفال بلا إشكال، حيث ان مورد نزول الآية الشريفة على ما في أخبار كثيرة هو غنائم بدر وان لم تعد منها في كلمات الفقهاء منا. ويظهر من سياق الآية أنه كان هناك تخاصم في أمر الأنفال فسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لقطع الخلاف والخصومة; يشهد بذلك قوله - تعالى -: " وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله. " (2) وربما رويت قراءة الآية باسقاط لفظة " عن " وتحمل إما على كونها مقدرة وكون الأنفال منصوبة بنزع الخافض وإما على كون المراد سؤال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعطيهم من الأنفال، ولكن هذه القراءة عندنا متروكة بل واضحة البطلان لاستلزامها التحريف بالزيادة وهو مجمع على بطلانه. وقد مر في أوائل بحث الغنائم بعض الأخبار الواردة في مورد نزول الآية فراجع، منها ما حكيناه هناك عن مجمع البيان في ذيل الآية، قال: " قال ابن عباس: ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال يوم بدر: من جاء بكذا فله كذا، ومن جاء بأسير فله كذا، فتسارع الشبان وبقى الشيوخ تحت الروايات فلما انقضى الحرب طلب الشبان ما كان قد نفلهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) به فقال الشيوخ كنا ردء لكم ولو وقعت عليكم الهزيمة لرجعتم إلينا وجرى بين أبي اليسر بن عمرو الأنصاري أخي بني سلمة وبين سعد بن معاذ كلام فنزع الله - تعالى - الغنائم منهم وجعلها لرسوله يفعل بها ما يشاء فقسمها بينهم بالسوية. وقال عبادة بن الصامت: اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا فجعله إلى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقسمه بيننا على السواء. وكان ذلك في تقوى الله
1 - الجواهر، 16 / 116. 2 - سورة الأنفال (8) الآية 1. 6 وطاعته وصلاح ذات البين. وقال سعد بن أبي وقاص: قتل أخي عمير يوم بدر فقتلت سعيد بن العاص بن أمية أخذت سيفه وكان يسمى ذا الكتيفة فجئت به إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واستوهبته منه، فقال: ليس هذا لي ولا لك، اذهب فاطرحه في القبض، فطرحت ورجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي وقلت: عسى أن يعطى هذا لمن لم يبل بلائي، فما جاوزت إلا قليلا حتا جائني الرسول وقد أنزل الله: " يسألونك، الآية. " فخفت ان يكون قد نزل في شئ فلما انتهيت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يا سعد انك سألتني السيف وليس لي وإنه قد صار لي فاذهب فخذه فهو لك... " (1) وراجع في تفسير الآية أيضا التبيان، وتفسير على بن إبراهيم القمي وتحف العقول - رسالة الإمام الصادق (عليه السلام) في الغنائم، - وسيرة ابن هشام وتفسير القرطبي، والدر المنثور، سنن البيهقي، والأموال لأبي عبيد (2) وغير ذلك من الكتب يظهر لك بذلك أن الغنائم من الأنفال قطعا إما بأجمعها أو بعض الأصناف منها وأنها التي وقع فيها النزاع والسؤال ونزلت فيها الآية. نعم: الأموال العامة كأرض الموات والآجام والقرى الخربة ونحوها أيضا تكون عندنا من الأنفال بل هي المنصرف إليها اللفظ في فقه الشيعة. والتخاصم في الأنفال والسؤال عنها وان وقعا في غنائم الحرب على ما في أخبار الفريقين، ولكن لا مانع من حمل الجواب في الآية على ظاهره من العموم والاستغراق فتكون اللام في قوله: " يسألونك عن الأنفال " للعهد، وفى قوله: " قل الأنفال لله للرسول " للاستغراق، وربما ذلك تكرار الاسم الظاهر. بل يمكن أن يقال: إن مورد السؤال وإن كان خصوص الغنائم ولكن السؤال وقع عنها لا بما هي غنائم أخذت عنوة وقهرا، بل بما هي من الأنفال أعنى الأموال
1 - مجمع البيان 2 / 517 و 518 (الجزء 4) 2 - راجع التبيان 1 / 781; وتفسير على بن إبراهيم (القمي) / 235; وتحف العقول / 339; وسيرة ابن هشام 2 / 295; وتفسير القرطبي 8 / 2; والدر المنثور 3 / 158; وسنن البيهقي 6 / 291، كتاب قسم الفئ والغنيمة; والأموال / 382 وما بعدها. 7 التي لا تتعلق بالأشخاص، فيكون السؤال والجواب متطابقين في الورود على الأنفال باطلاقها وعمومها، واللام في كليهما للاستغراق. وليس بين آية الأنفال وآية الخمس تهافت وليس في البين نسخ كما قيل من نسخ آية الأنفال بآية الخمس، إذ ليس كون الأنفال للرسول أو الإمام إلا بمعنى كونها تحت اختياره وتدبيره وأنه المتصرف فيها ولو بتقسيمها بين الغانمين، ولا يتعين في الغنائم التقسيم بل للإمام أن يصرفها فيما ينوبه من المصالح العامة، فإن بقي منها شئ خمسه ثم قسم الباقي. ويدل على ذلك مرسلة حماد وصحيحة زرارة. (1) وقد مر تفصيل ذلك في الجهة الثانية من فصل الغنائم، فراجع. والشيخ الطوسي - قدس سره - في التبيان حكى النسخ عن مجاهد وعكرمة غيرهما، ثم قال: " وقال آخرون: ليست منسوخة، ذهب اليه ابن زيد واختاره الطبري وهو الصحيح لأن النسخ محتاج إلى دليل، ولا تنافي بين هذه الآية وبين آية الخمس فيقال إنها نسختها. " (2) نعم حكم هو في المبسوط (3) بخلاف ذلك فقال بالنسخ، فراجع ما حررناه في فصل الغنائم. (4) ويظهر لك مما مر من الكلمات أن دائرة الأنفال ونطاقها في أحاديث الشيعة وفى فقههم أوسع بمراتب مما يراد بها في فقه السنة، إذ الأنفال في كلماتهم تطلق على خصوص غنائم الحرب إما مطلقا أو على بعض أصنافها كما يأتي بيانها وأما عندنا فيصح إطلاقها على ذلك وكذلك على جميع الأموال العامة التي ليس لها مالك شخصي كأراضي الموات والجبال والأودية والآجام بل والبحار والمعادن ونحوها بل وإطلاقها ينصرف إلى خصوص الأموال العامة فكأن الأنفال عندنا وعند
1 - الوسائل 6 / 365، الباب 1 من أبواب الأنفال...، الحديث 4 و 2. 2 - التبيان 1 / 781. 3 - المبسوط 2 / 65. 4 - راجع 3 / 147 وما بعدها. 8 علماء السنة متباينان. قال أبو عبيد بعد كلام السابق: " وفى هذا النفل الذي ينفله الإمام سنن أربع لكل واحدة منهن موضع غير موضع الأخرى: فإحداهن في النفل الذي لا خمس فيه. والثانية في النفل الذي يكون من الغنيمة بعد إخراج الخمس. والثالثة في النفل الذي يكون من الخمس نفسه. والرابعة في النفل من جملة الغنيمة قبل أن يخمس منها شئ. فأما الذي لا خمس فيه فإنه السلب وذلك بأن ينفرد الرجل بقتل المشرك فيكون له سلبه مسلما من غير أن يخمس أو يشركه فيه أحد من أهل العسكر. وأما الذي يكون من الغنيمة بعد الخمس فهو أن يوجه الإمام السرايا في أرض الحرب فتأتي بالغنائم فيكون للسرية مما جاءت به الربع أو الثلث بعد الخمس. وأما الثالث فأن تحاز الغنيمة كلها ثم تخمس فإذا صار الخمس في يدي الإمام نفل منه على قدر ما يرى. وأما الذي يكون من جملة الغنيمة فما يعطى الأدلاء على عورة العدو ورعاء الماشية والسواق لها. وذلك أن هذا منفعة لأهل العسكر جميعا. وفى كل ذلك أحاديث اختلاف. " (1) ثم عقد لتفصيل هذه الأنفال الأربعة وذكر رواياتها وشرحها أربعة أبواب متتالية، فراجع. أقول: قد مر منا في الجهة الثانية من فصل الغنائم عد غنائم الحرب باطلاقها من المنابع المالية للدولة الاسلامية، وأن الأرضين والعقارات لا تقسم أصلا بل تكون للمسلمين بما هم مسلمون وتقع تحت اختيار الإمام ويصرف غلاتها وفوائدها في مصالحهم، وأن ما حواه العسكر من المنقولات أيضا لا يتعين فيها التقسيم بل للإمام أن يسد بها النوائب والخلات فإن بقي منها شئ خمسه وقسم الباقي بين
1 - الأموال / 387 و 388. 9 الغانمين وان لم يبق منها شئ فلا شئ لهم. وتدل على ذلك مرسلة حماد الطويلة عن العبد الصالح (عليه السلام) أنه قال: " وله أن يسد بذلك المال جميع ما ينوبه من مثل إعطاء المؤلفة قلوبهم وغير ذلك مما ينوبه فإن بقي بعد ذلك شيء أخرج الخمس منه فقسمه في أهله وقسم الباقي على من ولي ذلك وإن لم يبق بعد سد النوائب شيء فلا شيء لهم. " (1) وفى صحيحة زرارة قال: الإمام يجري وينفل ويعطي ما شاء قبل أن تقع السهام وقد قاتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوم لم يجعل لهم في الفيء نصيبا وإن شاء قسم ذلك بينهم. " (2) وأفتى بذلك كثير من أصحابنا ولم يقسم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غنائم مكة وحنين بين المقاتلين قد فتحتا عنوة، فراجع ما حررناه وفصلناه في فصل الغنائم. وما قاله أبو عبيد من وجوب كون الربع أو الثلث بعد التخميس لم يثبت عندنا، والظاهر أن الاختيار في ذلك إلى الإمام، اللهم الا أن يقال: إنهما من قبيل التقسيم بين المقاتلين، التقسيم يكون بعد التخميس على ما في مرسلة حماد. والذي يسهل الخطب أن الخمس أيضا حق وحداني يكون بأجمعه تحت اختيار الإمام كما فصلنا ذلك في فصل الخمس. ثم لا يخفى أن الزائد على الثلث أو الربع يقسم على باقي الجيش إذا كانوا جميعا في حال الحرب وكانوا عمادا وردء للسرايا. وأما إذا انفردت سرية بالقتال ولم يكن الجيش في المنطقة والمعركة أصلا فلاوجه لاشتراكهم مع السرية بل تكون الغنيمة بأجمعها لها قد أشار إلى ذلك أبو عبيد أيضا. وقال أيضا للفرق بين البدأة والرجعة: " وإنما جاءت الزيادة في المنصرف لأنهم يبدؤون إذا غزوا نشاطا متسرعين إلى
1 - الوسائل 6 / 365، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 4. 2 - الوسائل 6 / 365، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 2. 10 العدو، ويقفلون كلالا وبطاء قد ملوا السفر وأحبوا الإياب. " (1) هذا. ثم ان الثبوت الربع أو الثلث للسرايا أو السلب للقاتل هل كان حكما فقهيا ثابتا أو سلطانيا من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دائما أو كان هذا منه (صلى الله عليه وآله وسلم) حكما موقتا على حسب ما رآه مصلحة بحسب الأوضاع والشرائط الخاصة فيجوز للإمام في مورد جعل النصف مثلا أو الخمس للسرية أو عدم جعل السلب للقاتل حسب تغير المصالح؟ في المسألة وجوه ولعل الأظهر هو الوجه الأخير لوضوح تغير المصالح حسب تغير الأوضاع والشرائط. وقد مر تفصيل المسألة في السلب في الجهة الرابعة من فصل الغنائم، فراجع. وظاهر عبارة أبى عبيد هنا أن حكم السلب عنده يكون حكما ثابتا بنحو الدوام إما فقهيا إلهيا أو سلطانيا دائما من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذلك حكم الثلث أو الربع للسرايا. وكيف كان فأنت ترى أن النفل بأقسامه الأربعة عند أبى عبيد لا يتجاوز حريم غنائم الحرب. هذا. وفي سنن البيهقي عنون جماع أبواب الأنفال ثم عقد بابا للسلب وبابا لتخميسه وبابا لبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سرية قبل نجد كان فيها ابن عمر ونفل فيها لكل واحد منهم بعيرا زائدا على سهمه وكان سهم كل واحد منهم اثنى عشر بعيرا وبابا للنفل من خمس الخمس سهم المصالح. وبابا لنفل الربع أو الثلث في السرايا بعد الخمس. وبابا لما نفله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم بدر قبل نزول الآية. فموضوع النفل والأنفال عنده أيضا خصوص غنائم الحرب. (2) أقول: ولا محالة كان البعير الزائد أيضا من الخمس إما من سهم الله أو من سهم الرسول. والشافعي أيضا في الأم عنون الأنفال ثم تعرض لمسألة السلب ثم لنفل البعير
1 - الأموال / 398. 2 - سنن البيهقي 6 / 305 وما بعدها. 11 الزائد ثم لنفل الإمام للجيش أو للسرية شيئا قبل لقاء العدو بنحو الشرط وقال: " فذلك لهم على ما شرط الإمام. " (1) وفى مختصر الخرقي في فقه الحنابلة قال: " وينفل الإمام ومن استخلفه الإمام كما فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بدأته الربع بعد الخمس في رجعته الثلث بعد الخمس. " وقال ابن قدامة في شرح العبارة: " النفي زيادة تزاد على سهم الغازي ومنه نفل الصلاة وهو ما زيد على الفرض... النفل في الغزو ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: هذا الذي ذكره الخرقي... القسم الثاني: أن ينفل الإمام بعض الجيش لعنائه وبأسه وبلائه أو لمكروه تحمله دون سائر الجيش... القسم الثالث: أن يقول الأمير: من طلع هذا الحصن أو هدم هذا السور أو نقب هذا النقب أو فعل كذا فله كذا أو من جاء بأسير فله كذا... " وتعرض هو بالتفصيل لأدلته الثلاثة والأقوال فيها، فراجع. (2) وبالجملة فموضوع الأنفال عندهم غنائم الحرب، والنفل كان يطلق عندهم على ما ينفله الإمام منها أو خمسها زائدا على السهمان. وأما عندنا فيصح إطلاقه على غنائم الحرب وما ينفل منها تبعا لمورد نزول الآية الشريفة ولا يجوز تخصيص المورد وإخراجه قطعا. ولكن المصطلح عليه في فقهنا إطلاقه على الأموال العامة التي لا تتعلق بالأشخاص تبعا لما ورد من الأئمة (عليهم السلام) في هذا الباب، فصار كأن بين المصطلح عندنا والمصطلح عليه عند فقهاء السنة ومحدثيهم تباينا كليا. 1 - قال المفيد في المقنعة: " باب الأنفال: وكانت الأنفال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة في حياته، وهي للإمام القائم مقامه من بعده خالصة كما كانت له (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته، قال الله - عز وجل -:
1 - الأم 4 / 66 وما بعدها. 2 - المغني 10 / 408 وما بعدها. 12 " يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم أطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين. " وما كان للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من ذلك فهو لخليفته القائم في الأمة مقامه من بعده. والأنفال كل أرض فتحت من غير أن يوجف عليها بخيل ولا ركاب، والأرضون الموات، وتركات من لا وارث له من الأهل والقرابات، والآجام، والبحار، والمفاوز، المعادن، وقطائع الملوك. وروى عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: " نحن قوم فرض الله - تعالى - طاعتنا في القرآن، لنا الأنفال ولنا صفو الأموال. " يعنى بصفوها ما أحب الإمام من الغنائم واصطفاه لنفسه قبل القسمة من الجارية الحسناء والفرس الفاره والثوب الحسن وما أشبه ذلك من رقيق أو متاع على ما جاء به الأثر من هذا التفسير عن السادة (عليه السلام)، وليس لأحد أن يعمل في شئ مما عددناه من الأنفال إلا بإذن الإمام العادل. " (1) 2 - وقال الشيخ في النهاية: " الأنفال كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة في حياته، وهى لمن قام مقامه بعده في أمور المسلمين. وهى كل أرض خربة قد باد أهلها عنها، وكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب أو يسلمونها هم بغير قتال، ورؤوس الجبال، وبطون الأودية والآجام والأرضون الموات التي لا أرباب لها، وصوافي الملوك وقطائعهم مما كان في أيديهم من غير وجه الغصب، وميراث من لا وارث له. وله أيضا من الغنائم قبل أن تقسم: الجارية الحسناء والفرس الفاره والثوب المرتفع ما أشبه ذلك مما لا نظير له من رقيق أو متاع. وإذا قاتل قوم أهل حرب من غير أمر الإمام فغنموا كانت غنيمتهم للإمام خاصة دون غيره. " (2) وذكر نحو ذلك في المبسوط أيضا، فراجع. (3)
1 - المقنعة / 45. 2 - النهاية / 199. 3 - المبسوط، 1 / 263. 13 وقد مر عنه ما رواه في هذا المعنى في التبيان عن أبى جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام)، فراجع. (1) 3 - وفي مراسم سلار بعد ذكر الخمس قال: " والأنفال له أيضا، وهى كل أرض فتحت من غير أن يوجف عليها بخيل ولا ركاب، والأرض الموات، وميراث الحربي، والآجام والمفاوز والمعادن، والقطاع; فليس لأحد أن يتصرف في شئ من ذلك إلا بإذنه. " (2) 4 - وفى باب الأنفال من الكافي لأبي الصلاح الحلبي قال: " فرض الأنفال مختص بكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، وقطائع الملوك، والأرضون الموات، وكل أرض عطلها مالكها ثلاث سنين، ورؤوس الجبال، وبطون الأودية من كل أرض والبحار والآجام، وتركات من لا وارث له من الأموال غيرها. " (3) 5 - وفى أواخر الجهاد من الغنية قال: " وأما أرض الأنفال وهى كل أرض أسلمها أهلها من غير حرب أوجلوا عنها، وكل أرض مات مالكها ولم يخلف وارثا بالقرابة ولا بولاء العتق، وبطون الأودية، ورؤوس الجبال، والآجام، وقطائع الملوك من غير جهة غصب، والأرضون الموات فللإمام خاصة دون غيره وله التصرف فيها بما يراه من بيع أو هبة أو غيرهما... " (4) 6 - وفي وسيلة ابن حمزة: " الأرضون أربعة أقسام: أرض أسلم أهلها عليها طوعا، وأرض الجزية وهى ما صولح عليها أهلها، وأرض أخذت عنوة بالسيف، وأرض الأنفال، فالأولى لأربابها... والثانية حكمها موكول إلى الإمام... والثالثة تكون بأسرها للمسلمين وحكمها إلى الإمام يتصرف فيها بما يراه صلاحا ويكون أعود على المسلمين
1 - راجع ص 3 من الكتاب; والتبيان 1 / 780. 2 - الجوامع الفقهية / 581 (= طبعة أخرى 643). 3 - الكافي لأبى الصلاح / 170. 4 - الجوامع الفقهية / 523 (= طبعة أخرى 585). 14 والرابعة للإمام خاصة وهى عشرة أجناس: كل أرض جلا عنها أهلها، وكل أرض خراب باد أهلها، وكل أرض أسلمها الكفار بغير قتال، وكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، والبائرة التي لا أرباب لها، والآجام، ورؤوس الجبال، وبطون الأودية، وكل ما يصطفيه الملوك لأنفسهم، وقطائعهم التي كانت في أيديهم من غير جهة غصب. فجميع ذلك حكمه إلى الامام يبيع ما يشاء ويهب ما يشاء ويقطع ما يشاء ويحمي ما يشاء ويضمن ما يشاء بما يشاء كيف يشاء وينقل من آخر إلى غيره ويزيد وينقص في النصيب بعد انقضاء المدة. " (1) 7 - وفى المهذب لابن البراج قال: " باب ذكر أرض الأنفال: كل أرض انجلى أهلها عنها، وكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب إذا سلمها أهلها من غير قتال، وكل أرض باد أهلها، ورؤوس الجبال، بطون الأودية، والآجام، ي الملوك وقطائعهم ما لم يكن ذلك غصبا، وكل أرض كانت آجاما فاستحدثت مزارع أو كانت مواتا فأحييت; فجميع ذلك من الأنفال، هي للامام (عليه السلام) خاصة دون غيره من سائر الناس وله أن يتصرف فيها بالهبة والبيع وغير ذلك من سائر أنواع التصرف حسب ما يراه... " (2) إلى غير ذلك من كلمات فقهائنا في المقام، وسيأتي عبارة المحقق في الشرائع في البحث عن مصاديق الأنفال بالتفصيل. والتعبيرات الواقعة في كلمات أصحابنا مأخوذة من أخبار أهل البيت - عليهم السلام -، وأهل البيت أدرى بما في البيت. وعدم عدهم الغنائم من الأنفال مع كونها منها قطعا لكونها مورد نزول الآية، لعله كان من جهة أن البحث في الغنائم كان يناسب لباب الجهاد وكان يتعين عندهم تقسيمها بين المقاتلين ولا أقل من أن يكون لهم حق ما ولو في طول ما ينوب الإمام من المصالح، على هذا فافترقت حكما عن الأنفال التي لا تعلق لها بالمقاتلين
1 - الجوامع الفقهية / 717 (= طبعة أخرى 681). 2 - المهذب 1 / 183. 15 أصلا بل تكون حقا للإمام بما هو امام ولا يتعين فيها تقسيم، والمقصود في باب الأنفال كان بيان ما يختص بالامام، فقط فلأجل ذلك لم تذكر الغنائم في عدادها، فتدبر. ويجب أن يحمل قولهم: " خاصة " و " خالصة " و " على جهة الخصوص " على أن هذه الأشياء ليست كالغنائم التي يشترك فيها المقاتلون وتقسم بينهم، أو كالأراضي المفتوحة عنوة المتعلقة بالمسلمين بما هم مسلمون بحيث يجب أن تبقى وقفا عليهم لاتباع لا توهب. لا أن هذه الأشياء أملاك شخصية متعلقة بشخص الامام بحيث يرثها ولده وورثته كيف ما كانوا، وسيأتي بيان ذلك. وأنت ترى كلمات الفقهاء منا مع تقاربها يخالف بعضها بعضا بحسب الأمثلة: فذكر بعضهم المعادن والبحار مثلا ولم يذكرهما الآخرون، وذكر في الكافي بعد ذكر الأمثلة قوله: " وغيرها "، فلعله يشعر ذلك بأن ما ذكروه من الأشياء يكون من باب المثال. هكذا الكلام في أخبار الباب. فيراد جميع الأموال العامة التي لا تتعلق بالأشخاص. ولعل ذلك يختلف بحسب الأزمنة والأعصار; فالبحار والفضاء وحق عبور السيارات والطائرات من البلد مثلا لها في أعصارنا أهمية وقيمة لم تكن لها في الأعصار السالفة فهي أيضا من الأنفال الواقعة تحت اختيار الإمام، ولكن الاهتمام في الأعصار السالفة كان بالأراضي كما يظهر من كلماتهم، فتدبر. وأما الأخبار في هذا المجال فكثيرة نذكر بعضها هنا عاجلا والبقية آجلا عند بيان الأنفال بالتفصيل: 1) صحيحة حفص بن البختري، عن أبى عبد الله (عليه السلام) قال: الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، أو قوم صالحوا، أو قوم أعطوا بأيديهم، وكل أرض خربة، وبطون الأودية فهو لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء. " (1)
1 - الوسائل، 6 / 364، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 1. 16 والسند إلى حفص صحيح وحفص بن البختري ثقة على المشهور والتشكيك فيه مردود. (1) 2 - صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سمعه يقول: " إن الأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة دم أو قوم صولحوا وأعطوا بأيديهم، وما كان من أرض خربة أو بطون أودية فهذا كله من الفيء. والأنفال لله وللرسول، فما كان لله فهو للرسول يضعه حيث يحب. " (2) والظاهر أن محط النظر في الخبرين بيان خصوص أراضي الأنفال. 3 - موثقة سماعة بن مهران، قال: سألته عن الأنفال فقال: " كل أرض خربة أو شيء يكون للملوك فهو خالص للإمام وليس للناس فيها سهم. قال: ومنها البحرين لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب. " (3) 4 - مرسلة حماد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح (عليه السلام) وفيها بعد ذكر الخمس والأراضي المفتوحة عنوة وصفو المال وأن الجميع يكون في اختيار الإمام قال: وله بعد الخمس الأنفال والأنفال كل أرض خربة قد باد أهلها وكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ولكن صالحوا صلحا وأعطوا بأيديهم على غير قتال وله رؤوس الجبال، وبطون الأودية، والآجام، وكل أرض ميتة لا رب لها، وله صوافي الملوك ما كان في أيديهم من غير وجه الغصب لأن الغصب كله مردود، وهو وارث من لا وارث له يعول من لا حيلة له. " (4)
1 - تنقيح المقال 1 / 352. 2 - الوسائل، 6 / 367، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 10. 3 - الوسائل، 6 / 367، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 8. 4 - وسائل 6 / 365، الباب امن أبواب الأنفال، الحديث 4. 17 الجهة الثانية: في معنى كون الأنفال للإمام: لا يخفى أن كون الخمس أو الفئ أو الأنفال للامام يحتمل فيه بالنظر البدوي ثلاثة احتمالات: الأول: أن يكون عنوان الإمامة عنوانا مشيرا، فيكون إشارة إلى شخص الامام المتصدي للإمامة، فأمير المؤمنين على بن أبى طالب (عليه السلام) مثلا في عصر إمامته ملك جميع الأخماس والفئ والأنفال لا بجهة إمامته بل بشخصه، والإمامة عنوان مشير اليه مثل عنوان صاحب القلنسوة السوداء مثلا حيث لا يكون للعنوان دخل أصلا. الثاني: أن تكون حيثية الإمامة حيثية تعليلية، كما ترى مثلا أن رئيس مؤسسة بما أنه تصدى لرياسة هذه المؤسسة يوظف له أجرة سنوية أو شهرية، فإمامة على (عليه السلام) مثلا صارت علة لصيرورة أخماس والأنفال لشخص على (عليه السلام) في عصر إمامته أجرة لامامته مثلا والعلة واسطة للثبوت. الثالث: أن تكون حيثية الإمامة حيثية تقييدية تكون في الحقيقة هي الموضوع، فالأنفال مثلا تكون ملكا لمقام الإمامة ومنصبها لا للشخص. فتكون الحيثية واسطة في العروض للشخص والحكم ثابت لنفس الواسطة. والملكية أمر اعتباري يمكن اعتبارها للمقام والحيثية أيضا، كما ترى من عد بعض الأموال ملكا للدولة والحكومة، بل يمكن اعتبارها للأمكنة أيضا كما يعتبر
18 الشئ ملكا للمسجد أو الحسينية أو المستشفى مثلا. ومقتضى الاحتمالين الأولين أن ما كان ملكا لأمير المؤمنين (عليه السلام) في عصره من الأخماس والأنفال بسعتها انتقلت بوفاته إلى جميع ورثته على سهامهم كما ينتقل ملك زيد وكذا ما أخذه رئيس المؤسسة أجرة لرياسته إلى ورثتهما، فانتقل كل ما كان في عصر أمير المؤمنين من موات الأرضين والجبال والآجام والأودية والبحار والمعادن نحوها بوفاته إلى ورثة أمير المؤمنين (عليه السلام) ولم يبق للإمام بعده بما هو امام شئ. ومقتضى الاحتمال الثالث انتقال ما كان لمقام الإمامة إلى الامام بعده كما انتقلت اليه نفس الإمامة. وربما يقال برجوع الاحتمال الثاني أيضا إلى الثالث لما قد يقال من أن الحيثيات التعليلية ترجع بحسب الدقة إلى الحيثيات التقييدية، فوظيفة رئيس المؤسسة مثلا تكون لمقام رياسته لا لشخصه بحيث لو أمكن تفكيك حيثية الرياسة عن الشخص خارجا كانت الوظيفة لها لا له. أقول: هذا صحيح في الأحكام العقلية وأما في الأحكام العرفية فالمقامات مختلفة; ففي المثال يرى العرف الوظيفة للشخص ويرون الحيثية علة وواسطة ولذا يحكمون بانتقال ما ملكه أجرة إلى ورثته لا إلى الرئيس بعده، وأما في مثل الإمامة والدولة فيرون الأموال والاحكام للمقام والحيثية. هذا. وبما ذكرنا لك ظهر أن الصحيح في المقام هو الاحتمال الثالث، حيث ان الإمامة الولاية داخلة في نسج الاسلام ونظامه كما مر بالتفصيل في محله. وإدارة شؤون الإمامة حقا كانت أو باطلة تحتاج إلى نظام مالي لا محالة. والمتعارف في جميع الأعصار والبلاد أيضا جعل الأموال العامة التي لا تتعلق بالأشخاص بل بالمجتمع والأمة تحت اختيار إمام الأمة فإنه الممثل لها والحافظ لحقوقها ومصالحها. كيف؟! وهل يجوز أحد أن يجعل الاسلام الذي هو دين العدل والإنصاف جميع البحار والقفار والمعادن والآجام وقطائع الملوك وميراث من لا وارث له وخمس
19 جميع عوائد الناس من تجاراتهم وصناعاتهم وزراعاتهم وغير ذلك لشخص واحد بشخصه لو كان في مقام العدالة بل والعصمة أيضا؟! وهل لا ينافي هذا التشريع حقيقة الإسلام وروحه المنعكسة في قوله - تعالى -: " كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم "؟! (1) وأي حاجة للشخص بالنسبة إلى هذه الأموال الكثيرة الواسعة بسعة الأرض والناس إليها في حاجة شديدة؟ وليست التشريعات الإسلامية جزافية بل تكون على طبق مصالح النفس الأمرية. ويؤيد ما ذكرناه أن الأرضين الموات تكون من الأنفال وتكون للإمام بلا إشكال، وقد نرى أن الكتاب والسنة حكما بكون الأرض باطلاقها للناس: قال الله - تعالى -: " والأرض وضعها للأنام. " وفى خبر يونس، عن العبد الصالح (عليه السلام) قال: " إن الأرض لله - تعالى - جعلها وقفا على عباده فمن عطل أرضا ثلاث سنين متوالية لغير ما علة أخذت من يده ودفعت إلى غيره. الحديث. " (2) فتأمل. وفى رسالة المحكم والمتشابه نقلا عن تفسير النعماني باسناده عن على (عليه السلام) بعد ما ذكر الخمس وأن نصفه للامام قال: " إن للقائم بأمور المسلمين بعد ذلك الأنفال التي كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قال الله - عز وجل -: " يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله الرسول. وانما سألوا الأنفال ليأخذوها لأنفسهم فأجابهم الله بما تقدم ذكره. الحديث. " (3) فجعل فيه الأنفال للقائم بأمور المسلمين، وظاهره كونها له بما أنه قائم بأمورهم، فهي من الأموال العامة وتكون ملكا لمنصب الإمامة، ولا محالة يستفاد منها في طريق مصالح الإمامة والأمة. ولا يوجد عندنا فرق أساسي بين كون المال للإمام بما هو إمام أو للمسلمين بما هم مسلمون، فإن ولى المسلمين ومن يتولى صرف ما لهم في مصالحهم هم الإمام، وما للإمام أيضا لا يصرف في مصارفه الشخصية إلا أقل قليل منه وهى أيضا من أهم المصالح العامة.
1 - سورة الحشر (59) الآية 7. 2 - الوسائل، 17 / 345، الباب 17 من أبواب إحياء الموات، الحديث. 3 - الوسائل، 6 / 370، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 19. 20 وقد مر منا سابقا أن الأموال العامة قد تضاف إلى الله، وقد تضاف إلى الرسول أو الإمام كما في المقام، وقد تضاف إلى المسلمين، ومآل الكل واحد. ففي الخطبة الشقشقية من نهج البلاغة قال: وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة (خضم خ. ل) الإبل نبتة الربيع. " (1) وفى نهج البلاغة أيضا من كلام له (عليه السلام) كلم به عبد الله بن زمعة لما طلب منه مالا، قال: " إن هذا المال ليس لي ولا لك وإنما هو فيء للمسلمين وجلب أسيافهم. " (2) مع ما مر منا أن الغنائم أيضا من الأنفال وأنها تحت اختيار الإمام ينفل منها ما يشاء حسب ما تقتضيه المصالح. وقد عد في الأخبار وكلمات الأصحاب من الأنفال ميراث من لا وارث له، التعبيرات فيه في الروايات مختلفة: ففي بعضها أنه من الأنفال. وفى بعضها: " الإمام وارث من لا وارث له ". وفى بعضها: أخذ ميراثه فجعل في بيت مال المسلمين ". وفى بعضها: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): أعط المال همشاريجه. " (3) فيعلم بذلك عدم تفاوت أساسي بين أن ينسب المال إلى الامام أو إلى المسلمين وبيت مالهم. والحمل على التقية مما لا وجه له بعد وضوح طريق الجمع بين التعبيرات المختلفة. وفى صحيحة البزنطي: " وما لم يعمر منها أخذه الوالي فقبله ممن يعمره وكان للمسلمين... وما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبله بالذي يرى كما صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بخيبر. " ونحوها خبر صفوان والبزنطي، فراجع. (4) ففي الجملة الأولى نسب غير المعمور الذي هو للإمام إلى المسلمين، وفى الجملة الثانية فوض أمر ما للمسلمين إلى الإمام; فليس بينهما تفاوت أساسي.
1 - نهج البلاغة، فيض / 51; عبده 1 / 30; لح / 49، الخطبة 3. 2 - نهج البلاغة، فيض / 728; عبده 2 / 253; لح / 353، الخطبة 232. 3 - الوسائل، 17 / 547، وما بعدها، الباب 3 و 4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة. 4 - الوسائل، 11 / 120، الباب 72 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1 و 2. 21 نعم، يمكن اعتبار فرق ما بين ما ينسب إلى الامام وما ينسب إلى المسلمين في بعض الموارد; فإن ما للإمام يجوز له أن يتصرف فيها أي تصرف صالح ولو بالبيع والهبة، يصرف حاصلها فيما يراه صلاحا ولو لشخص خاص من الأمة. وأما ما للمسلمين بما هم مسلمون كالأراضي المفتوحة فيمكن أن يقال بعدم جواز بيع رقبتها أو هبتها، فإنها تكون بمنزلة الوقف على المسلمين ولا يصرف حاصلها إلا فيما يرى صلاحا للمجتمع الأمة بوصف الاجتماع لا لشخص خاص، فتدبر. والتحقيق موكول إلى محله. هذا. ويشهد لما ذكرناه من كون حيثية الإمامة حيثية تقييدية وأن المال لنفس الحيثية فلا ينتقل إلى الوارث بل إلى إمام بعده ما رواه الصدوق باسناده عن أبي على بن راشد، قال: قلت لأبي الحسن الثالث (عليه السلام): انا نؤتى بالشئ فيقال: هذا كان لأبى جعفر (عليه السلام) عندنا فكيف نصنع؟ فقال: " ما كان لأبى بسبب الإمامة فهو لي، وما كان غير ذلك فهو ميراث على كتاب الله وسنة نبيه. " (1) وفى ميراث الغنية: " فإن عدم جميع هؤلاء الوراث فالميراث للإمام، فان مات انتقل إلى من يقوم مقامه في الإمامة دون من يرث تركته. " (2) وفى السرائر بعد ما ذكر ولاء الإمامة قال: " فأما إذا مات الإمام انتقل إلى الإمام الذي يقوم بأمر الأمة مقامه دون ورثته الذين يرثون تركته. " (3) فيظهر منهما أن ميراث من لا وارث له عندهما لمقام الإمامة ومنصبها لا لشخص الامام.
1 - الوسائل، 6 / 374، الباب 2 من أبواب الأنفال...، الحديث 6. 2 - الجوامع الفقهية / 546 (= طبعة أخرى / 608). 3 - السرائر / 403. 22 ومما يشهد أن ما نسب إلى الإمام بما هو إمام لا يكون لشخصه بل لحيثية الإمامة وأنه من الأموال العامة فيراعى فيه المصالح العامة صحيحة أبى ولاد الحناط: قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل مسلم قتل رجلا مسلما (عمدا) فلم يكن للمقتول أولياء من المسلمين إلا أولياء من أهل الذمة من قرابته، فقال: " على الإمام أن يعرض على قرابته من أهل بيته (دينه) الإسلام، فمن أسلم منهم فهو وليه يدفع القاتل إليه: فإن شاء قتل وإن شاء عفا وإن شاء أخذ الدية. فإن لم يسلم أحد كان الإمام ولي أمره فإن شاء قتل، وإن شاء أخذ الدية فجعلها في بيت مال المسلمين لأن جناية المقتول كانت على الإمام فكذلك تكون ديته لإمام المسلمين. قلت فإن عفا عنه الإمام؟ قال: فقال: إنما هو حق جميع المسلمين وإنما على الإمام أن يقتل أو يأخذ الدية وليس له أن يعفو. " (1) وصحيحته الأخرى، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) في الرجل يقتل وليس له ولى إلا الإمام: " إنه ليس للإمام أن يعفو، له أن يقتل أو يأخذ الدية فيجعلها في بيت مال المسلمين، لأن جناية المقتول كانت على الإمام وكذلك تكون ديته لإمام المسلمين. " (2) يظهر من الصحيحتين أن كون الشئ للإمام عبارة أخرى عن كونه للمسلمين، ولذا حكم بجعله في بيت مال المسلمين، فيكون الشئ لمنصب الإمامة لا لشخصه. كيف؟! ولو كان لشخصه لكان له العفو قطعا وقد صرح الامام (عليه السلام) بكونه حقا لجميع المسلمين فلا عفو له والمورد من موارد من لا وارث له، وماله من الأنفال قطعا. ونحوهما في الدلالة على المقصود خبر عبد الله بن سنان وعبد الله بن بكير، " عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل وجد مقتولا لا يدرى من قتله،
1 - الوسائل، 19 / 93، الباب 60 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1. 2 - الوسائل، 19 / 93، الباب 60 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 2. 23 قال: " إن كان عرف له أولياء يطلبون ديته أعطوا ديته من بيت مال المسلمين ولا يبطل دم امرئ مسلم لأن ميراثه للإمام فكذلك تكون ديته على الإمام. الحديث. " (1) وفي صحيحة سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجل مسلم قتل وله أب نصراني لمن تكون ديته؟ قال: " تؤخذ ديته فتجعل في بيت مال المسلمين لأن جنايته على بيت مال المسلمين. " (2) فالدية هنا مع كونها للإمام لأنه وارث من لا وارث له حكم بجعلها في بيت مال المسلمين، فيعلم بذلك أن المال ليس لشخص الإمام. ومحصل الكلام في المقام أن قولهم (عليه السلام): " إن الخمس والفئ والأنفال للإمام " وكذا كون الأراضي المفتوحة عنوة تحت اختيار الامام فيه نظران مختلفان سعة وضيقا: الأول: أن يراد بالإمام الإمام المعصوم الخاص، فيكون اللفظ إشارة إلى الأئمة الاثني عشر المعصومين عندنا وتكون الأموال المذكورة لأشخاصهم - كل واحد في عصره - فلا محالة يجب في أعصارنا كما قيل حفظها وإيداعها عند الثقاة حتى تصل إلى امام العصر - عجل الله تعالى فرجه -، أو تدفن حتى تصل اليه لما ورد من ان الأرض تخرج كنوزها له، أو تصرف فيما يحصل العلم برضاه، أو تصرف فيما يجب عليه صرفها فيه لو كان ظاهرا كتتميم حق السادة أو مطلق الفقراء كما هو المستفاد من مرسلة حماد الطويلة، أو يتصدق بها من قبله (عليه السلام) لما يستفاد من بعض الأخبار من أن الملاك في وجوب التصدق بمال الغير عدم امكان إيصاله إليه ولو كان معلوما بشخصه. وقد قال بكل منها قائل، اللهم إلا أن يستفاد من الروايات تحليل حقوقه (عليه السلام) أو تحليل بعضه للشيعة كما قيل.
1 - الوسائل، 19 / 109، الباب 6 من أبواب دعوى القتل....، الحديث 1. 2 - الوسائل، 17 / 555، الباب 7 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة، الحديث 1. 24 الثاني أن يراد بالامام والي المسلمين وحاكمهم الواجد للشرائط في كل عصر معصوما كان أو غير معصوم، حيث ان الحكومة عندنا لا تتعطل، والإمامة داخلة في نسج الاسلام ونظامه، وتعطيلها مساوق لتعطيل الإسلام كما مر تفصيل ذلك في المجلد الأول من كتابنا هذا. نعم، مع حضور الإمام المعصوم تكون الإمامة حقا له بلا إشكال، ولكن لفظ الامام ليس موضوعا للأئمة الاثني عشر أو مشيرا إليهم: فقد قال على بن الحسين (عليه السلام) في حديث الحقوق: " وكل سائس امام. " (1) والإمام الصادق (عليه السلام) حين أفاض من عرفات فسقط من بغلته فوقف عليه أمير الحاج إسماعيل بن على قال لإسماعيل: " سر، فإن الامام لا يقف. " (2) إلى غير ذلك من موارد استعمال اللفظ بل يطلق الإمام على الإمام الباطل كأئمة الجور أيضا. وبالجملة، فالمراد بالإمام هو الحاكم الواجد للشرائط في عصره، والأموال ليست لشخصه بل لمقام الإمامة ومنصبها بنحو التقييد، ومنه تنتقل إلى الإمام بعده، وفى الحقيقة تكون الأموال المذكورة من الأموال العامة ومن أهم أركان النظام المالي للحكومة الاسلامية، جعلت تحت اختيار ممثل المجتمع وتصرف في مصالح الامام والأمة ومن أهمها مصارف شخص الإمام ومصارف السادة من بيت النبوة. وليست لشخص الامام المعصوم حتى تحفظ له، أو تصرف فيما حصل العلم برضاه، أو فيما يجب عليه، أو يتصدق من قبله. فهذان نظران متفاوتان جدا، وعلى الاصطلاح المتعارف في عصرنا يكون للإمام الذي هو المالك على الأول شخصية حقيقية، وعلى الثاني شخصية حقوقية. وقد مر منا اختيار النظر الثاني والاستدلال عليه، وهذا عندنا واضح بين
1 - الخصال / 565، أبواب الخمسين وما فوقه، الحديث 1. 2 - الوسائل، 8 / 290، الباب 26 من أبواب آداب السفر إلى الحج وغيره، الحديث 1. 25 ولكن مصير الأعاظم إلى النظر الأول ألجأنا إلى تطويل البحث والاستدلال. وكلماتهم وان وردت في باب الخمس غالبا ولكن يظهر منهم وكذا من الأخبار كون الخمس والأنفال على مساق واحد: 1 - قال الشيخ في النهاية بعد عد الأنفال على ما مر: " وليس لأحد أن يتصرف فيما يستحقه الإمام من الأنفال والأخماس إلا بإذنه، فمن تصرف في شيء من ذلك بغير إذنه كان عاصيا، وارتفاع ما يتصرف فيه مردود على الإمام، وإذا تصرف فيه بأمر الإمام كان عليه أن يؤدي ما يصالحه الإمام عليه من نصف أو ثلث أو ربع. هذا في حال ظهور الإمام، فأما في حال الغيبة فقد رخصوا لشيعتهم التصرف في حقوقهم مما يتعلق بالأخماس وغيرها فيما لا بد لهم منه من المناكح والمتاجر والمساكن. فأما ما عدا ذلك فلا يجوز له التصرف فيه على حال. وما يستحقونه من الأخماس في الكنوز وغيرها في حال الغيبة فقد اختلف قول أصحابنا فيه، وليس فيه نص معين إلا أن كل واحد منهم قال قولا يقتضيه الاحتياط: فقال بعضهم: إنه جار في حال الاستتار مجرى ما أبيح لنا من المناكح والمتاجر. وقال قوم: إنه يجب حفظه ما دام الإنسان حيا، فإذا حضرته الوفاة وصى به إلى من يثق به من إخوانه المؤمنين ليسلمه إلى صاحب الأمر إذا ظهر أو يوصى به حسب ما وصى به إليه إلى أن يصل إلى صاحب الأمر. وقال قوم: يجب دفنه لأن الأرضين تخرج كنوزها عند قيام القائم. وقال قوم: يجب أن يقسم الخمس ستة أقسام: فثلاثة أقسام للإمام يدفن أو يودع عند من يوثق بأمانته. والثلاثة أقسام الأخر يفرق على مستحقيه من أيتام آل محمد مساكينهم وأبناء سبيلهم. وهذا مما ينبغي أن يكون العمل عليه لأن هذه الثلاثة أقسام مستحقها ظاهر وإن كان المتولي لتفريق ذلك فيهم ليس بظاهر، كما أن مستحق الزكاة ظاهر وإن كان المتولي لقبضها وتفريقها ليس بظاهر ولا أحد يقول في الزكاة أنه لا يجوز تسليمها إلى مستحقيها.
26 ولو أن إنسانا استعمل الاحتياط وعمل على أحد الأقوال المقدم ذكرها من الدفن أو الوصاة لم يكن مأثوما. فأما التصرف فيه على ما تضمنه القول الأول فهو ضد الاحتياط الأولى اجتنابه حسب ما قدمناه. " (1) 2 - وأستاذه الشيخ المفيد - طاب ثراه - في المقنعة في مقام نقل الأقوال في المسألة قال: " وبعضهم يرى عزله لصاحب الأمر (عليه السلام); فإن خشي إدراك المنية قبل ظهوره وصى به إلى من يثق به في عقله وديانته ليسلمه إلى الإمام إن أدرك قيامه، وإلا وصى به إلى من يقوم مقامه في الثقة والديانة، ثم على هذا الشرط إلى أن يظهر إمام الزمان (عليه السلام). وهذا القول عندي أوضح من جميع ما تقدم لأن الخمس حق وجب لغائب لم يرسم فيه قبل غيبته رسما يجب الانتهاء إليه فوجب حفظه عليه إلى وقت إيابه أو التمكن من إيصاله إليه أو وجود من انتقل بالحق إليه. " (2) 3 - وفي الجزء الثاني من المختلف في بيان حكم سهم الإمام في عصر الغيبة قال: " وهل يجوز قسمته في المحاويج من الذرية كما ذهب إليه جماعة من علمائنا؟ الأقرب ذلك لما تقدم من الأحاديث إباحة البعض للشيعة حال ظهورهم فإنه يقتضي أولوية إباحة أنسابهم - عليهم السلام - مع الحاجة حال غيبة الإمام - عليه السلام - لاستغنائه - عليه السلام - وحاجتهم. " (3) فالعلامة " ره " كان يظن أن المال لشخص الإمام المعصوم وهو في حال الغيبة مستغن عنه. 4 - وفي الشرائع بعد ذكر تقسيم الخمس ستة أقسام قال: " وما كان قبضه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الإمام ينتقل إلى وارثه. " (4)
1 - النهاية / 200 - 201. 2 - المقنعة / 46. 3 - المختلف / 210 (2 / 40). 4 - الشرائع 1 / 182 (= طبعة أخرى / 135). 27 5 - وفي خمس مصباح الفقيه قال: " وربما يقوى في النظر جواز التصدق به وصرفه إلى الفقراء مطلقا ولو إلى غير بني هاشم لاندراجه عرفا في موضوع مال الغائب الذي تعذر إيصاله إلى صاحبه، والأقوى فيه بعد اليأس من التمكن من إيصاله إلى صاحبه بوجه من الوجوه جواز التصدق به أو وجوبه كالمال الذي لا يعرف صاحبه... " (1) وذكر نحو ذلك في الجواهر أيضا، فراجع (2). 6 - وفي كتاب زبدة المقال تقرير دروس السيد الأستاذ المرحوم آية الله العظمى البروجردي - طاب ثراه - قال: " فانقدح أن سهم الله وسهم الرسول وسهم ذي القربى ثابت في زمان الغيبة لشخص الإمام المنتظر الحجة بن الحسن العسكري - عجل الله تعالى فرجه - يجب على من تعلق الخمس بماله إيصاله إليه كما هو شأن كل مال كان بيد شخص وكان مالكه معلوما... وذلك لأنه لا ريب في أن أهم الأمور في نظر الإمام (عليه السلام) إنما هو حفظ الدين والذب عنه، فقد بذلوا في ذلك مهجهم، فحيث توقف إعلاء كلمة الدين وترويج شريعة سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم) على بذل سهمه حتى يشيد به أركانه ويرهب به أعداؤه علمنا برضاه بذلك أشد الرضا وأنه لا يرضى بغيره، فلو صرفنا سهمه (عليه السلام) في تحصيل ذاك الغرض السني لكنا معذورين بل مأجورين... " (3) فهذه نماذج من كلمات الأعاظم في المقام يظهر منها أنهم لما يلتفتوا إلى الخمس بما أنه ضريبة إسلامية واسعة إن أخذت من المعادن بسعتها ومن الأرباح بكثرتها ومن غيرهما تبلغ في كل سنة آلاف ميليارات، وقد شرعت لإدارة شؤون إمامة المسلمين وحكومتهم كيفما اتسع نطاقها، غاية الأمر أن إدارة شؤون السادة الفقراء
1 - مصباح الفقيه / 159. 2 - الجواهر 16 / 177. 3 - زبدة المقال / 139 و 141. 28 أيضا بما أنهم من بيت النبوة تكون من شؤونها أيضا. بل تراهم يرون الخمس مجعولا لشخص الإمام المعصوم والسادة الفقراء فقط بالمناصفة. ومن التفت إلى كثرة مقدار الخمس وسعته ونسبته إلى مقدار الزكاة المشروع عندهم في خصوص الأشياء التسعة المعروفة بحدودها وشروطها، ونسبة عدد السادة الفقراء إلى جميع المصارف الثمانية للزكاة التي منها جميع الفقراء غير السادة وجميع سبل الخير المشاريع العامة بل وفقراء السادة أيضا بالنسبة إلى زكاة أنفسهم يظهر له بالوجدان بطلان ما ذكروه. والعمدة أن أصحابنا لبعدهم عن ميدان السياسة والحكم لم يخطر ببالهم ارتباط هذه المسائل ولا سيما الأنفال والأموال العامة بباب الحكومة وسعة نطاقها واحتياجها إلى نظام مالي واسع وانصرف لفظ الإمام الوارد في أخبار الباب في أذهانهم إلى خصوص الأئمة الاثني عشر المعصومين عندنا وحملوا الملكية للإمام على الملكية الشخصية، فتدبر جيدا. وقد يحتمل بعيدا أن يراد بما ورد من كون الدنيا وما فيها للإمام أو الأرض وما أخرج الله منها لهم أنهم بمقاماتهم العالية ووجوداتهم الكاملة عصارة الكون وخلاصة الخلقة، فهم غاية الخلقة وثمرة شجرة الطبيعة. فصاحب البستان إذا غرس في بستان أشجارا من أنواع مختلفة فهدفه الأصلي الثمرات الحلوة المجنية منها ويصح له أن يقول: ما عمرت البستان ولا غرست الأشجار وأدمت سقايتها إلا لهذه الثمرات العالية الغالية، وهذا أيضا معنى ما ورد من قوله: " لولاك ما خلقت الأفلاك ". (1)
1 - بحار الأنوار 15 / 28، تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، باب بدء خلقه (صلى الله عليه وآله وسلم) وما يتعلق بذلك، الحديث 48. 29 الجهة الثالثة: في بيان الأنفال بالتفصيل: أقول: قد مر منا سابقا احتمال أن يكون ما في الأخبار وكلمات الأصحاب من بيان المصاديق للأنفال من باب المثال، ولذا ذكرت المعادن والبحار في بعض الكلمات دون بعض، فيكون المقصود من الأنفال في فقه الشيعة جميع الأموال العامة التي خلقها الله - تعالى - للأنام ولا تنحصر في أمور خاصة بل تختلف هي بحسب الأعسار. فالأرض في الأعصار السالفة كانت أهم الأموال العامة وأقومها، وفي أعصارنا صار البحر والجو أيضا من أهمها. فهذا السنخ من الأموال التي لم تحصل بصنع البشر ولا تعلق لها بأشخاص خاصة تكون كلها من الأنفال وتكون للإمام بما هو إمام وممثل للمجتمع، بمعنى كونها تحت اختياره حفظا للنظم والعدالة وحذرا من الهرج والمرج وتضييع الحقوق فتصرف وتوزع حسب ما يراه الإمام صلاحا، وإلى هذا يرجع ما دل على كون الأرض أو الدنيا كلها للإمام، فراجع. (1) ولا يراد بهذه الملكية الملكية الحقيقية الثابتة لله - تعالى - تكوينا بل الملكية الاعتبارية العرفية والشرعية، لما مر من إمكان اعتبارها للمقام والمنصب أيضا ولا تنافي هذه الملكية مالكية الأشخاص لآثارهم التي يحدثونها في الأرض والمواد الصناعية لاختلاف الموضوع فيهما: فالأرض مثلا ملك للإمام بما هو إمام، وآثار الإحياء ملك للمحيي لها. هذا. ولكن يظهر من الشرائع حصر الأنفال في أمور خمسة، حيث قال:
1 - الكافي 1 / 407، كتاب الحجة، باب أن الأرض كلها للإمام (عليه السلام). 30 " الأول في الأنفال: وهي ما يستحقه الإمام من الأموال على جهة الخصوص كما كان للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي خمسة: الأرض التي تملك من غير قتال سواء انجلى أهلها أو سلموها طوعا، والأرضون الموات سواء ملكت ثم باد أهلها أو لم يجر عليها ملك كالمفاوز سيف البحار ورؤوس الجبال وما يكون بها وكذا بطون الأودية والآجام، وإذا فتحت دار الحرب فما كان لسلطانهم من قطائع وصفايا فهي للإمام إذا لم تكن مغصوبة من مسلم أو معاهد، وكذا له أن يصطفي من الغنيمة ما شاء من فرس أو ثوب أو جارية أو غير ذلك ما لم يجحف، وما يغنمه المقاتلون بغير إذنه فهو له - عليه السلام -. " (1) أقول: الظاهر أن سيف البحار إلى قوله: " والآجام " معطوفات على المفاوز لتكون من أمثلة الأرضين الموات لعطلتها غالبا عن الحياة العرضية، ولكن يرد عليه أن الآجام لها حياة طبيعية وربما تكون أنفع من الأراضي المحياة. ولم يذكر هو ميراث من لا وارث له والمعادن مع ورود الأخبار بهما والأول متفق عليه أنه من الأنفال. نعم هنا شيء، وهو أن الظاهر من بعض الأخبار والفتاوى أن النظر في بيان الأنفال كان إلى بيان حكم ما ينتقل من الكفار إلى المسلمين فقط، حيث إنه في صدر الإسلام كان جميع الأرض والإمكانات تحت سيطرة الكفار واستيلائهم، فكان بعض أموالهم ينتقل إلى المسلمين بقتال وهو الغنائم وبعضها بغير قتال، وما كان ينتقل بقتال أيضا كان على قسمين: المنقول وغير المنقول، والقتال أيضا قد كان يقع بإذن الإمام وقد كان يقع بغير إذنه. ولعل المقاتلين من المسلمين كانوا يتوقعون أن يقسم الجميع بينهم. فأراد الأئمة (عليهم السلام) أن يبينوا أن ما حصل بقتال بإذن الإمام فالمنقول منه يقسم بين المقاتلين إلا الأشياء النفيسة منها فإنها للإمام، وغير المنقول منه يكون لجميع المسلمين بما هم مسلمون إلا قطائع الملوك منه فإنها أيضا للإمام، وإذا كان القتال
1 - الشرائع 1 / 183 (= طبعة أخرى / 136). 31 بغير إذن الإمام فالجميع يكون للإمام، وكذا إذا لم يقع القتال فالجميع له، وكذا الموات غير المحياة من الأراضي وسيف البحار والأودية ورؤوس الجبال والآجام. وقولهم " خاصة " أو " خالصة " يراد به عدم حق للمقاتلين أو لجميع المسلمين حتى يقسم بينهم أو يبقى وقفا لهم بل يكون مختصا بإمام المسلمين بما هو إمام. فهذا وجه حصر المحقق الأنفال في خمسة، فتدبر. وكيف كان فلنتعرض للعناوين المشهورة والاستدلال عليها: الأول: الأرض التي تملك من غير قتال ولم يوجف عليها بخيل ولا ركاب سواء انجلى عنها أهلها أو سلموها للمسلمين طوعا وهم فيها، بلا خلاف أجده بل الظاهر أنه إجماع. كذا في الجواهر (1) مازجا الشرح بالمتن. ويدل عليه اخبار كثيرة: 1 - صحيحة حفص بن البختري أو حسنته، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب أو قوم صالحوا أو قوم أعطوا بأيديهم وكل أرض خربة بطون الأودية فهو لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء. " (2) أقول: قوله: " ما لم يوجف عليه " عام يشمل ماجلا أهله عنه أيضا. وقوله: " صالحوا " يعم ما إذا وقعت المصالحة في بادي الأمر وما إذا وقعت بعد شروع القتال. والمصالحة قد تقع على أن تكون الأرض للإمام وقد تقع على أن تكون للمسلمين
1 - الجواهر 16 / 116. 2 - الوسائل 6 / 364، الباب 1 من أبواب الأنفال...، الحديث 1. 32 وقد تقع على أن تكون لأنفسهم يؤدون عنها الخراج وتسمى حينئذ أرض الجزية. والظاهر أن الرواية بإطلاقها تعم الأقسام الثلاثة، إذ في جميع الأقسام تكون الأرض أو خراجها تحت اختيار الإمام. 2 - موثقة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سمعه يقول: " إن الأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة دم أو قوم صولحوا وأعطوا بأيديهم، وما كان من أرض خربة أو بطون أودية فهذا كله من الفيء. والأنفال لله وللرسول فما كان لله فهو للرسول يضعه حيث يحب. " (1) ونحو ذلك موثقته الأخرى. (2) 3 - موثقة زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: ما يقول الله: " يسألونك عن الأنفال، قل الأنفال لله والرسول، " قال: " الأنفال لله وللرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي كل أرض جلا أهلها من غير أن يحمل عليها بخيل ولا رجال ولا ركاب فهي نفل لله وللرسول. " (3) 4 - موثقة سماعة بن مهران، قال: سألته عن الأنفال فقال: " كل أرض خربة أو شيء يكون للملوك فهو خالص للإمام وليس للناس فيها سهم. " قال: " ومنها البحرين لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب. " (4) وقوله: " وليس للناس فيها سهم " كأنه تفسير لقوله: " خالص للامام "، فالمراد بالخلوص عدم التقسيم لا كونها ملكا لشخص الإمام كما مر. وفي خمس الشيخ الأنصاري - قدس سره - بعد نقل رواية سماعة قال: " إلا أن المذكور في كتاب الإحياء أن البحرين أسلم أهلها طوعا، فهي كالمدينة المشرفة أرضها لأهلها، وقد صرح في الروضة بالأول في الخمس وبالثاني في إحياء الأموات فلعله غفلة. " (5)
1 - الوسائل 6 / 367، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 10. 2 - الوسائل 6 / 368، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 12. 3 - الوسائل 6 / 367، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 9، عن التهذيب 4 / 132، باب الأنفال، الحديث 2. 4 - الوسائل 6 / 367، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 8. 5 - كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري / 492، كتاب الخمس، فصل في الأنفال (= طبعة أخرى / 553). 33 أقول: والتحقيق في ذلك موكول إلى أهله ومحله. 5 - مرسلة حماد بن عيسى الطويلة، عن بعض أصحابنا، عن العبد الصالح (عليه السلام)، قال: " وله بعد الخمس الأنفال، والأنفال كل أرض خربة باد أهلها، وكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ولكن صالحوا صلحا وأعطوا بأيديهم على غير قتال. الحديث. " (1) 6 - مرفوعة أحمد بن محمد، عن بعض أصحابنا، وفيها: " وما كان من فتح لم يقاتل عليه ولم يوجف عليه بخيل ولا ركاب إلا أن أصحابنا يأتونه فيعاملون عليه، فكيف ما عاملهم عليه: النصف أو الثلث أو الربع أو ما كان يسهم له خاصة وليس لأحد فيه شيء إلا ما أعطاه هو منه. الحديث. " (2) 7 - خبر الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن الأنفال، فقال: " ما كان من الأرضين باد أهلها وفي غير ذلك الأنفال هولنا. " وقال: " سورة الأنفال فيها جدع الأنف. " وقال: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فما أوجفتم عليه من خيل لا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء. " قال: " الفئ ما كان من أموال لم يكن فيها هراقة دم أو قتل، والأنفال مثل ذلك هو بمنزلته. " (3) إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المجال، وعليك بمراجعة ما ذكرناه في شرح آيتي الفيء في أول فصل الفيء. هذا. ثم لا يخفى أن الموضوع في أكثر الأخبار هو الأرض، ولكن في بعضها مطلق كصحيحة حفص وذيل خبر الحلبي والمرفوعة فهل يحمل المطلق منها على المقيد أو يقال إنهما مثبتان ولا تنافي بينهما فيؤخذ بالإطلاق؟
1 - الوسائل 6 / 365، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 4. 2 - الوسائل 6 / 369، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 17. 3 - الوسائل 6 / 367، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 11. 34 قال في المستمسك: " وإطلاق بعضها - كالمصحح - وإن كان يشمل الأرض وغيرها لكنه مقيد بما هو مقيد بها الوارد في مقام الحصر والتحديد، فإن وروده كذلك يستوجب ثبوت المفهوم له وهو النفي عن غير الأرض. " (1) أقول: ولكن الأقوى هو الأخذ بالإطلاق، وفي خمس الشيخ قال: " نسبه بعض المتأخرين إلى الأصحاب. " ويدل عليه مضافا إلى الإطلاقات المشار إليها صحيحة معاوية بن وهب، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): السرية يبعثها الإمام فيصيبون غنائم كيف تقسم؟ قال: " إن قاتلوا عليها مع أمير أمره الإمام عليهم أخرج منها الخمس لله وللرسول وقسم بينهم أربعة أخماس، إن لم يكونوا قاتلوا عليها المشركين كان كل ما غنموا للإمام يجعله حيث أحب. " (2) فذيل الصحيحة بعمومه يشمل كل غنيمة لم يقاتل عليها; أرضا كانت أو غيرها، لا يعارضها الأخبار المقيدة بالأرض، إذ دلالة الصحيحة على العموم تكون بالعموم الوضعي فيكون أقوى مما يتوهم من المفهوم لتلك الأخبار المقيدة. هذا مضافا إلى منع المفهوم، إذ ليست تلك الأخبار في مقام الحصر والتحديد، بل لعلها في مقام بيان المثال كما مر، أو ذكر الأفراد الغالبة وهي الأرض ونحوها، ولو كانت الأخبار في مقام الحصر والتحديد لما اختلفت في ذكر المصاديق قلة وكثرة. والموضوع في صدر الصحيحة هي الغنائم التي تقسم وهي المنقولات فيصير هذا قرينة على دخولها في عموم الذيل أيضا بلا إشكال لو لم نقل بانحصاره فيها، فتدبر. ويؤيد العموم الاعتبار العقلي أيضا فإن التخميس وتقسيم البقية إنما يكون بين الغانمين بمقتضى الآية الشريفة، ولا يتوجه خطاب غنمتم إلى عدة خاصة إلا إذا كان احراز الغنيمة مستندا إلى عملهم ونشاطاتهم، فما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب يستوي نسبته إلى جميع المسلمين فيصير إلى ممثلهم والقائم بأمورهم وهو الإمام من
1 - المستمسك 9 / 597. 2 - الوسائل 6 / 365، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 3. 35 غير فرق بين الأرض وغيره. وظاهر أخبار الباب كون عنوان ما لم يوجف عليه ملاكا مستقلا للحكم في قبال سائر العناوين فلا وجه لاحتمال حملها على خصوص الأراضي الميتة والخربة إذ الميتة مصداق آخر للأنفال كما يأتي ولا فرق فيها بين ما افتتحت عنوة أو بلا قتال فإنها بأجمعها للإمام بلا إشكال، وقد مر تحقيق ذلك في فروع الأراضي المفتوحة عنوة. ومورد آيتي الفيء في سورة الحشر أيضا هي الأراضي المحياة من بني النضير، فتدبر. الثاني من الأنفال: الأرضون الموات سواء لم يجر عليها ملك كالمفاوز أو ملكت وباد أهلها، والظاهر أنه مما لا خلاف فيه، وعن الخلاف والغنية الإجماع على أن الموات للإمام ونحوهما عن جامع المقاصد، عن التنقيح نسبته إلى أصحابنا، وعن المسالك أنه موضع وفاق، وفي الرياض أنه لا خلاف فيه بيننا وقريب منه في الكفاية كما صرح به جمال الملة والدين في حاشية الروضة، كذا في خمس الشيخ الأنصاري " ره ". (1) وقال في إحياء الموات من الخلاف (المسألة 1): " الأرضون الغامرة في بلاد الإسلام التي لا يعرف لها صاحب معين للإمام خاصة، قال أبو حنيفة: إنها تملك بالإحياء إذا أذن الإمام في ذلك. وقال الشافعي: لا تملك. دليلنا إجماع الفرقة على أن تكون أرض الموات للإمام خاصة وأنها من جملة الأنفال، ولم يفصلوا بين ما يكون في دار الإسلام وبين ما يكون في دار الحرب. " (2)
1 - كتاب الطهارة / 492، كتاب الخمس، فصل في الأنفال (= ط. أخرى / 553). 2 - الخلاف 2 / 222. 36 (المسألة 2): " الأرضون الغامرة في بلد الشرك التي لم يجر عليها ملك أحد للإمام خاصة، وقال الشافعي: كل من أحياها من مشرك ومسلم فإنه يملك بذلك. دليلنا ما قلناه في المسألة الأولى سواء. " (1) (المسألة 3): " الأرضون الموات للإمام خاصة لا يملكها أحد بالإحياء إلا أن يأذن له الإمام. وقال الشافعي: من أحياها ملكها أذن له الإمام أو لم يأذن. وقال أبو حنيفة: لا يملك إلا بإذن، هو قول مالك. وهذا مثل ما قلناه إلا أنه لا يحفظ عنهم أنهم قالوا هي للإمام خاصة، بل الظاهر أنهم يقولون لا مالك لها. دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم وهي كثيرة، وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه. وإنما تطيب نفسه إذا أذن فيه. " (2) أقول: قال في النهاية: " الغامر: ما لم يزرع مما يحتمل الزراعة من الأرض، سمي غامرا لأن الماء يغمره فهو والغامر فاعل بمعنى مفعول. " (3) وعلى هذا فالغامر قسم خاص من الموات بالمعنى الأعم. وفي الجهاد من الغنية: " والأرضون الموات للامام خاصة دون غيره وله التصرف فيها بما يراه من بيع أو هبة أو غيرهما وأن يقبلها بما يراه... ودليل ذلك كله الإجماع المتكرر وفيه الحجة. " (4) وفي إحياء الموات من الغنية: " قد بينا فيما مضى أن الموات من الأرض للإمام القائم مقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة وأنه من جملة الأنفال يجوز له التصرف فيه بأنواع التصرف، ولا يجوز لأحد أن
1 - الخلاف 2 / 222. 2 - الخلاف 2 / 222. 3 - النهاية لابن الأثير 3 / 383. 4 - الجوامع الفقهية / 523 (= ط. أخرى 585). 37 يتصرف فيه إلا بإذنه، ويدل على ذلك إجماع الطائفة، ويحتج على المخالف بما رووه من قوله (عليه السلام): ليس لأحدكم إلا ما طابت به نفس إمامه. " (1) هذا. ويدل على الحكم أخبار كثيرة قد مر بعضها: 1 - ففي صحيحة حفص بن البختري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في عداد الأنفال، قال: " وكل أرض خربة وبطون الأودية. " (2) 2 - وفي مرسلة حماد الطويلة: " وله بعد الخمس الأنفال، والأنفال كل أرض خربة باد أهلها... وكل أرض ميتة لا رب لها. " (3) 3 - موثقة سماعة، قال: سألته عن الأنفال، فقال: " كل أرض خربة أو شيء يكون للملوك فهو خالص للإمام وليس للناس فيها سهم. " (4) 4 - وفي موثقة محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في عداد الأنفال، قال: " و ما كان من أرض خربة أو بطون أودية، فهذا كله من الفيء. الحديث. " (5) ونحوها موثقته الأخرى. (6) 5 - وفي مرفوعة أحمد بن محمد في عداد ما للإمام قال: " وبطون الأودية ورؤوس الجبال والموات كلها هي له وهو قوله - تعالى -: يسألونك عن الأنفال. الحديث. " (7) 6 - وفي موثقة إسحاق بن عمار قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الأنفال
1 - الجوامع الفقهية / 540 (= ط. أخرى 602). 2 - الوسائل 6 / 364، الباب 1 من أبواب الأنفال...، الحديث 1. 3 - الوسائل 6 / 365، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 4. 4 - الوسائل 6 / 367، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 8. 5 - الوسائل 6 / 367، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 10. 6 - الوسائل 6 / 368، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 12. 7 - الوسائل 6 / 369، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 17. 38 فقال: " هي القرى التي قد خربت وانجلى أهلها، فهي لله وللرسول. الحديث. " (1) 7 - وفي خبر العياشي، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن الأنفال قال: " هي القرى التي قد جلا أهلها وهلكوا فخربت، فهي لله وللرسول. " (2) 8 - وفي خبر العياشي، عن داود بن فرقد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: قلت: ما الأنفال؟ قال: " بطون الأودية ورؤوس الجبال والآجام والمعادن وكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب وكل أرض ميتة قد جلا أهلها وقطائع الملوك. " (3) إلى غير ذلك من أخبارنا الواردة في هذا المجال. 9 - وروى البيهقي بسنده عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " موتان الأرض لله ولرسوله، فمن أحيا منها شيئا فهي له. " (4) 10 - وفيه أيضا بسنده، عن ابن طاووس، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث قال: " عادى الأرض لله ولرسوله ثم لكم من بعدي. " قال: ورواه هشام بن حجير، عن طاووس فقال " ثم هي لكم مني. " (5) ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في عصره كان إماما للمسلمين مضافا إلى نبوته ورسالته. والظاهر من العمومات والإطلاقات الواردة في هذه الروايات عدم الفرق بين الموات في بلاد الإسلام والموات في بلاد الكفر فجميعها من الأموال العامة التي لا تتعلق بالأشخاص ويجب أن تكون تحت اختيار الإمام ويكون هو المتصدي
1 - الوسائل 6 / 371، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 20. 2 - الوسائل 6 / 372، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 24. 3 - الوسائل 6 / 372، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 32. 4 - سنن البيهقي 6 / 143، كتاب إحياء الموات، باب لا يترك ذمي بحييه... 5 - سنن البيهقي 6 / 143، كتاب إحياء الموات، باب لا يترك ذمي بحييه... 39 لتوزيعها وصرفها في المصالح العامة. وما يملكه المسلمون من الكفار عنوة هي الأراضي المحياة لهم، إذ الظاهر من الأخبار والفتاوى انتقال ما كان للكفار إلى المسلمين، والموات وكذا العامر بالأصالة كالآجام ونحوها لم تكن ملكا لهم حتى تنتقل منهم إلى المسلمين، بل هي تبقى على اشتراكها الأصلي الأولي وقد مر تفصيل ذلك في بحث الأراضي المفتوحة عنوة في فصل الغنائم، فراجع. (1) بل قد أشرنا سابقا في شرح عبارة الشرائع في المقام أن محط النظر في روايات الأنفال كان إلى ما يوجد منها في بلاد الكفر في قبال الغنائم المأخوذة منهم، حيث إنه في صدر الإسلام كانت الأرض والإمكانات كلها تحت سلطة الكفر، فراجع ما حررناه هناك. (2) وقد أطلق في بعض هذه الأخبار في المقام كون الأرض الخربة من الأنفال، وفي بعضها قيد ببياد الأهل أو جلائهم; فهل يحمل المطلق منها على المقيد، أو يقال إنهما مثبتان فلا تنافي بينهما كما مر نظيره في القسم الأول ولا سيما أن القيد وارد مورد الغالب فلا مفهوم له؟ وجهان. قد يقال بالأول وأنه يراد بالقيد الاحتراز عن الخربة التي لها مالك معلوم، إذ حينئذ تبقى على ملكه إما مطلقا كما قيل أو فيما إذا حصل ملكه بغير الإحياء كالشراء والميراث ونحوهما كما عليه البعض. ونحن نتعرض للمسألة عند التعرض لحكم الأنفال في عصر الغيبة، فانتظر. نعم هنا مسألة يناسب البحث عنها هنا، وهو أنه لو قلنا بالتقييد في المقام وأن الخربة التي لها مالك معلوم ليست من الأنفال بل تبقى على ملك مالكها فهل يختص هذا بالمالك الشخصي أو يعم ما إذا كان المالك عنوانا أو جهة كالأراضي
1 - راجع الأمر الثاني من الجهة السادسة من فصل الغنائم. 2 - راجع ص 31 من هذا الجزء من الكتاب. 40 المفتوحة عنوة التي هي ملك للمسلمين بما هم مسلمون، والأراضي الموقوفة على العناوين والجهات العامة بناء على كون الوقف ملكا، فلا فرق في بقاء الأرض بعد الخراب على ملك مالكها المعلوم وعدم انتقالها إلى الإمام بين ما إذا كان المالك شخصا معينا أو كان جهة وعنوانا، فأرض العراق مثلا لو عرضها الخراب تبقى على كونها ملكا للمسلمين ولا تصير بذلك من الأنفال؟ في المسألة وجهان بل قولان: قال في الجواهر: " ومن ذلك يعلم أن عمار المفتوحة عنوة لو مات بعد الفتح ليس من الأنفال في شيء لأن له مالكا معلوما وهو المسلمون، وإطلاق بعض الأصحاب والأخبار أن الموات له منزل على غيره قطعا. " (1) وفي مصباح الفقيه: " ولو ماتت عمارة المفتوحة عنوة فالظاهر أنه كالملك الخاص المملوك بالنواقل في عدم صيرورتها للإمام كما عن بعض التصريح به بل عن السرائر نفي الخلاف فيه. " (2) أقول: ويمكن الخدشة في ذلك بأن المسألة لم تكن معنونة في كتب القدماء من أصحابنا حتى يفيد فيها الإجماع وعدم الخلاف، وما دلت على كون الأراضي المفتوحة عنوة مثلا للمسلمين لا إطلاق لها بحيث تدل على حكمها بعد خرابها، فلا يبقى إلا استصحاب ملكيتهم وهو لا يقاوم العمومات الواردة في المقام الدالة على أن كل أرض خربة تكون للإمام كما في صحيحة حفص وغيرها، ولو سلم اطلاق تلك الأدلة أيضا فالعموم اللفظي مقدم عليها، ويتفرع على هذا أن أراضي العراق مثلا لو خربت فأحياها أحد صارت له بمقتضى إذن الأئمة - عليهم السلام - في إحياء الموات وكونه للمحيي لا يترتب عليها أحكام الأراضي المفتوحة عنوة. هذا. ولكن يمكن أن يقال: إن أحكام الشرع ليست جزافية، فلو فرض كون حيثية
1 - الجواهر 16 / 118. 2 - مصباح الفقيه / 151. 41 الإحياء حيثية تعليلية وأن أثر الإحياء ملكية رقبة الأرض المحياة فهذا الملاك يتحقق في الأراضي المحياة المفتوحة عنوة أيضا فتبقى بعد الخراب ملكا لمن ملك آثار الإحياء. ولكن الحق في أصل المسألة كما يأتي تفصيله أن الأراضي من الأموال العامة التي خلقها الله لجميع الأنام، والمحيي لها لا يملك رقبتها بل يملك آثار الإحياء التي وقعت بفعله وصنعه وهي التي تنتقل من الكفار إلى المسلمين، والأراضي باقية على اشتراكها الأولي غاية الأمر كونها تحت اختيار المحيي تبعا لمالكية الآثار، فإذا خربت وانعدم آثار الإحياء بالكلية انقطعت نسبتها من المحيي وصارت تحت اختيار الإمام. وبذلك يظهر حكم الموقوفات أيضا فإن الواقف لا يقف إلا ما كان ملكا له من آثار الإحياء فتدبر. بقي هنا شيء، وهو معنى الموات والخراب: 1 - قال في الصحاح: " الموت ضد الحياة... والموات بالفتح ما لا روح فيه، والموات أيضا الأرض التي لا مالك لها من الآدميين ولا ينتفع بها أحد... وقال الفراء: الموتان من الأرض التي لم تحي بعد. وفي الحديث: موتان الأرض لله ولرسوله فمن أحيى منها شيئا فهو له. " (1) 2 - وفي القاموس: " الموات كغراب: الموت، وكسحاب ما لا روح فيه وارض لا مالك لها، والموتان بالتحريك خلاف الحيوان وارض لم تحي بعد. " (2) 3 - وفي النهاية: " وفيه: من أحيا مواتا فهو أحق به. الموات: الأرض التي لم تزرع ولم تعمر ولا جرى عليها ملك أحد، وإحياؤها مباشرة عمارتها وتأثير شيء فيها، ومنه الحديث: " موتان الأرض
1 - صحاح اللغة 1 / 266 و 267. 2 - القاموس / 93. 42 لله ولرسوله، يعني مواتها الذي ليس ملكا لأحد، وفيه لغتان: سكون الواو وفتحها مع فتح الميم. " (1) 4 - وفي مجمع البحرين: " والموات بالضم وبالفتح يقال لما لا روح فيه ويطلق على الأرض التي لا مالك لها من الآدميين ولا ينتفع بها إما لعطالتها أو لاستيجامها أو لبعد الماء عنها. " (2) 5 - وفيه أيضا: " دار خربة بكسر الراء وهي التي باد أهلها، والخراب ضد العمارة. " (3) 6 - وفي إحياء الموات من الشرائع قال: " وأما الموات: فهو الذي لا ينتفع به لعطلته إما لانقطاع الماء عنه أو لاستيلاء الماء عليه أو لاستيجامه أو غير ذلك من موانع الانتفاع. " (4) 7 - وفي الجواهر حكى ذلك عن النافع وجامع الشرائع والتحرير والدروس واللمعة المسالك والروضة والكفاية. (5) 8 - وفي إحياء الموات من التذكرة قال: " الموات هي الأرض الخراب الدراسة التي باد أهلها واندرس رسمها، وتسمى ميتة مواتا وموتانا بفتح الميم والواو... وأما الإحياء فإن الشرع ورد به مطلقا ولم يعين له معنى يختص به، ومن عادة الشرع في مثل ذلك رد الناس إلى المعهود عندهم المتعارف بينهم... " (6) 9 - وفي مصباح الفقيه في تعريف الموات: " كل أرض معطلة غير ممكن الانتفاع بها إلا بعمارتها وإصلاحها. " (7)
1 - النهاية لابن الأثير 4 / 370. 2 - مجمع البحرين / 144. 3 - مجمع البحرين / 108. 4 - الشرائع 3 / 271 (= طبعة أخرى / 791، الجزء الرابع). 5 - الجواهر 38 / 9. 6 - التذكرة 2 / 400. 7 - مصباح الفقيه / 151. 43 أقول: يظهر من عبارة النهاية أن الموات عنده يختص بما لم يحيي قط فلا يطلق على ما عرضه الموت، كما أن الموتان عند الفراء وصاحب القاموس كذلك. وظاهر التذكرة اختصاص الموات بما عرضه الموت. ولكن الظاهر كون اللفظين بحسب العرف بل بحسب اللغة أيضا أعم، إذ الموت الحياة من قبيل العدم والملكة، وما كان حيا ثم زالت عنه الحياة بالكلية يصدق عليه الميت قطعا. والمتبادر من موت الأرض خرابها وعطلتها بحيث لا تصلح أن ينتفع بها إلا بإعداد جديد وإن فرض بقاء بعض رسوم العمارة وآثارها كالقرى الخربة الباقية من الأعصار السالفة. وإحياؤها عبارة عن إعدادها للانتفاع بها بتحصيل الشرائط ورفع الموانع لا بفعلية الانتفاع، وكلاهما من المفاهيم العرفية، واختلاف تعبيرات الفقهاء وأهل اللغة لا يضر بعد كونها من قبيل شرح الاسم لموضوع عرفي. وعادة الشرع في أمثال المقام إحالة الناس إلى ما هو المعهود عندهم إلا فيما دل دليل على خلافه. وأما بياد الأهل وجلاؤهم بحيث لا يعرف منهم أحد فكونه مأخوذا في مفهومه محل إشكال وإن قلنا باعتباره في جواز التصرف فيها وإحيائها، ولذا لم يؤخذ هذا في تعريف الشرائع، فلاحظ. نعم لا يكفي في صدق الموات مطلق العطلة بانقطاع الماء أو استيلائه موقتا لحوادث آنية، بل لابد من أن تكون على وجه يعد مواتا وعاطلة عرفا بحيث يتوقف الانتفاع منها إلى إعداد وإصلاح جديد يسمى إحياء. وأما الخربة فربما ينسبق إلى الذهن اختصاصها بما كانت عامرة في سالف الزمان ثم عرضها الموت فلا تشمل الموات بالأصالة، ويؤيد ذلك ما حكيناه عن مجمع البحرين. وأما ما يحصل به الإحياء فسيأتي بحثه في المسائل الآتية، فانتظر.
44 الثالث من الأنفال: الأرض التي لا رب لها: وإن كانت عامرة بالأصالة لامن معمر كالغابات التي ينتفع بأشجارها كثيرا، أو عامرة بالعرض كالتي جلا عنها أهلها أو أعرض عنها أهلها أو باد أهلها بالكلية بزلزلة أو سيل أو نحوهما بحيث لم يبق منهم أحد وبقيت القرية عامرة، فإن الظاهر كون جميع ذلك من الأنفال وكونها للإمام بما هو إمام وإن كان ينطبق على بعضها عنوان ميراث من لا وارث له أيضا. ويدل على ذلك بعض الأخبار: 1 - ففي الوسائل، عن علي بن إبراهيم في تفسيره، عن أبيه، عن فضالة بن أيوب، عن أبان بن عثمان، عن إسحاق بن عمار، قال: سألت أبا عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الأنفال، فقال: " هي القرى التي قد خربت وانجلى أهلها فهي لله وللرسول، وما كان للملوك فهو للإمام، وما كان من الأرض بخربة لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، وكل أرض لا رب لها، المعادن منها، ومن مات وليس له مولى فماله من الأنفال. " (1) هكذا في الوسائل، ولكن في مطبوعين من التفسير هكذا: " وما كان من أرض الجزية لم يوجف عليها. " (2) ولعله أصح، إذ لا يشترط في كون الخربة للإمام عدم إيجاف الخيل عليها. والسند موثوق به كما لا يخفى. وكيف كان فقوله: " وكل أرض لا رب لها " يشمل الموات والعامر بقسميها. 2 - وعن تفسير العياشي، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " لنا
1 - الوسائل 6 / 371، الباب 1 من أبواب الأنفال...، الحديث 20. 2 - تفسير علي بن إبراهيم (القمي) / 235 (= طبعة أخرى 1 / 254). 45 الأنفال. قلت: ما الأنفال؟ قال: منها المعادن والآجام، وكل أرض لا رب لها، وكل أرض باد أهلها فهو لنا. " (1) 3 - وفي المستدرك، عن كتاب عاصم بن حميد الحناط، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: " ولنا الأنفال. " قال: قلت له: وما الأنفال؟ قال: " المعادن منها الآجام، وكل أرض لا رب لها، ولنا ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب وكانت فدك من ذلك. " (2) 4 - ويشهد لذلك أيضا ما دل على أن الأرض كلها للإمام: ففي صحيحة أبي خالد الكابلي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " وجدنا في كتاب علي (عليه السلام): أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الأرض ونحن المتقون الأرض كلها لنا. الحديث. " (3) إذ قوله (عليه السلام): " والأرض كلها لنا " يعم الموات والعامر كما لا يخفى والمتيقن منه ما لا رب لها. 5 - بل ويمكن أن يستدل للمقام بخبر محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول وسئل عن الأنفال فقال: " كل قرية يهلك أهلها أو يجلون عنها فهي نفل لله - عز وجل -. الحديث. " (4) 6 - ونحوه ما رواه العياشي، عن حريز، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته أو سئل عن الأنفال، فقال: " كل قرية يهلك أهلها أو يجلون عنها فهي نفل. الحديث. " (5) إذ إطلاق الروايتين يشمل القرية التي بقيت عامرة أيضا والملاك في الحكم
1 - الوسائل 6 / 372، الباب 1 من أبواب الأنفال...، الحديث 28. 2 - مستدرك الوسائل 1 / 553، الباب 1 من أبواب الأنفال...، الحديث 1. 3 - الوسائل 17 / 329، الباب 3 من أبواب إحياء الموات، الحديث 2. 4 - الوسائل 6 / 367، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 7. 5 - الوسائل 6 / 372، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 25. 46 عدم الرب والصاحب لها. والظاهر أن المراد من الرب من يزاول الأرض ويدبرها. إلى غير ذلك من الأخبار. لا يقال: يحمل المطلق في هذه الأخبار على المقيد في قوله (عليه السلام) في مرسلة حماد: " وكل أرض ميتة لا رب لها. " (1) فإنه يقال: مضافا إلى أنهما مثبتان فلا تنافي بينهما ان الظاهر ورود الوصف مورد الغالب، حيث إن الغالب في الأرض التي لا رب لها كونها ميتة فلا مفهوم للقيد حينئذ نظير قوله - تعالى -: " وربائبكم اللاتي في حجوركم. " (2) هذا مضافا إلى أن الظاهر من قوله: " لا رب لها " في المرسلة أيضا كونه ملاكا وعلة للحكم، إذ التعليق على الوصف مشعر بالعلية فالملاك في عد الأرض الميتة من الأنفال أيضا كونها مما لا رب لها. ويشهد للمسألة أيضا ما مر من كون المقصود من الأنفال الأموال التي لا تتعلق بالأشخاص فتكون هي الأموال العامة ويكون زمام أمرها بيد إمام المسلمين وهو المراد من كون الأنفال للإمام لا كونها ملكا لشخصه، فتدبر. الرابع من الأنفال: رؤوس الجبال وبطون الأودية وكذا الآجام: قال الشيخ الأنصاري " ره ": " لا خلاف ظاهرا في كونها من الأنفال في الجملة. " (3) ويدل على الحكم - مضافا إلى كونها مواتا غالبا ولذا وقع التعبير بالرؤوس والبطون حيث إن أطراف الجبال والأودية ربما كانت محياة فكان حكمها حكم سائر الأراضي المحياة، ومضافا إلى أنها مما لا رب لها غالبا بحيث يزاولها
1 - الوسائل 6 / 365، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 4. 2 - سورة النساء (4)، الآية 23. 3 - كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري / 493، كتاب الخمس، فصل في الأنفال (= طبعة أخرى / 554). 47 ويصلحها -: 1 - مرسلة حماد الطويلة، عن العبد الصالح (عليه السلام)، قال في عداد الأنفال التي للإمام: " وله رؤوس الجبال وبطون الأودية والآجام وكل أرض ميتة لا رب لها. " (1) 2 - وفي مرفوعة أحمد بن محمد: " وبطون الأودية ورؤوس الجبال والموات كلها هي له. " (2) 3 - وفي صحيحة حفص، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في عداد الأنفال، قال: " وكل أرض خربة وبطون الأودية. " (3) 4 - وفي موثقة محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في عداد الأنفال: " وما كان من أرض خربة أو بطون أودية. " (4) ومثله ما في موثقته الأخرى عن أبي جعفر (عليه السلام). (5) 5 - وفي المقنعة عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سألته عن الأنفال فقال: " كل أرض خربة أو شيء كان يكون للملوك وبطون الأودية ورؤوس الجبال ما لم يوجف عليه بخيل وركاب فكل ذلك للإمام خالصا. " (6) 6 - ما رواه العياشي، عن داود بن فرقد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت: وما الأنفال؟ قال: " بطون الأودية ورؤوس الجبال والآجام والمعادن. الحديث. " (7)
1 - الوسائل 6 / 365، الباب 1 من أبواب الأنفال...، الحديث 4. 2 - الوسائل 6 / 369، الباب 1 من أبواب الأنفال...، الحديث 17. 3 - الوسائل 6 / 364، الباب 1 من أبواب الأنفال...، الحديث 1. 4 - الوسائل 6 / 367، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 10. 5 - الوسائل 6 / 368، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 12. 6 - المقنعة / 47، والوسائل 6 / 371، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 22. 7 - الوسائل 6 / 372، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 32. 48 7 - وما رواه عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " لنا الأنفال. قلت: وما الأنفال؟ قال: " منها المعادن والآجام وكل أرض لا رب لها. " (1) وضعف الأخبار منجبر باشتهار الحكم بين الأصحاب، ولا سيما إن مرسلة حماد قد عمل بها الأصحاب في الأبواب المختلفة. هذا مضافا إلى أن بطون الأودية مذكورة في صحيحة حفص وموثقتي محمد بن مسلم، وربما يقال بعدم الفصل بينها وبين شقيقيها، وقد مر دخولها في الموات وفيما لا رب له أيضا فيشملها دليلهما، والاعتبار أيضا يساعد ذلك لما مر من أن الملاك في الأنفال التي للإمام كون المال من الأموال العامة التي لا تتعلق بالأشخاص ولم تحصل بصنعهم. وقد عرفت سابقا أن أساس الملكية للأشخاص هو الصناعة والعمل فلا يختص بهم إلا ما حصل بصنعهم ونشاطاتهم أو انتقل إليهم ممن حصل له بصنعه وعمله ولو بوسائط بالنواقل الاختيارية أو القهرية، فرؤوس الجبال وبطون الأودية وكذا الآجام الباقية بطبعها من غير معمر لها لاتعلق لها بالأشخاص فتكون لا محالة من الأموال العامة الواقعة تحت اختيار ممثل المجتمع أعني الإمام بما هو إمام ويستفاد منها في طريق مصالح الإمام والأمة، فتدبر. وأما معنى الآجام ففي المقاييس: " الهمزة والجيم والميم لا يخلو من التجمع والشدة فأما التجمع فالأجمة وهي منبت الشجر المتجمع كالغيضة، والجمع: الآجام. " (2) وفي القاموس: " والأجمة محركة: الشجر الكثير الملتف، جمع: أجم بالضم وبضمتين وبالتحريك آجام وآجام وأجمات. " (3)
1 - الوسائل 6 / 372، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 28. 2 - المقاييس 1 / 65. 3 - القاموس / 738. 49 وفي لسان العرب عن التهذيب: " الأجمة: منبت الشجر كالغيضة، وهي الآجام. " وعن ابن سيدة: " والأجمة: الشجر الكثير الملتف... " (1) وفي مجمع البحرين: " الأجمة كقصبة: الشجر الملتف، والجمع: أجمات كقصبات وأجم كقصب، والآجام جمع الجمع. " (2) ولكن في الصحاح: " الأجمة من القصب والجمع: أجمات واجم وإجام وآجام واجم. " (3) وفي الروضة: " الآجام بكسر الهمزة وفتحها مع المد جمع أجمة بالتحريك المفتوح، وهي الأرض المملوءة من القصب. " (4) أقول: الظاهر اتحاد الحكم في كليهما، إذ كلاهما من مظاهر الطبيعة التي لا تتعلق بأشخاص خاصة فيكونان للإمام. هذا. ومقتضى ما ذكرناه من الملاك وكذا إطلاق الأخبار عموم الحكم المذكور للآجام شقيقيها لما كان منها في الأراضي المفتوحة عنوة أو في خلال الأراضي المحياة الشخصية أيضا إلا أن تكون من مرافقها العرفية. فما قد يتوهم من اختصاص الحكم بما كان منها في أراضي الإمام يظهر الإشكال فيه مما ذكرنا. لا يقال: بين أخبار الباب وبين ما دل على كون المفتوحة عنوة للمسلمين عموم من وجه فلم يقدم أخبار الباب في مورد الاجتماع؟
1 - لسان العرب 12 / 8. 2 - مجمع البحرين / 460. 3 - صحاح اللغة 5 / 1858. 4 - اللمعة الدمشقية 2 / 84، آخر كتاب الخمس. 50 فإنه يقال: لا ينتقل إلى المسلمين بالقهر والغلبة إلا ما أحياها الكفار وصارت ملكا لهم، فيبقى مواتها وجبالها وأوديتها وآجامها على اشتراكها الأولي فتكون للإمام. وكذلك المسلم المحيي للأرض لا يملك إلا ما أحياها، فلا يملك الجبال والأودية المجاورة للأرض المحياة له. نعم لو استأجمت عمار الأرض المفتوحة عنوة بعد فتحها أو الأراضي الشخصية المملوكة بالإحياء أو جرى السيل فصارت أو دية فالظاهر أن حكمها حكم المحياة التي عرضها الموت مع العلم بمالكها، والمشهور أنه إن كانت الملكية ثبتت بغير الإحياء فهي تبقى وإن كانت بالإحياء فعلى قولين، وسيأتي منا التحقيق في المسألة. ويمكن أن يقال في الأول إن الشجر والقصب من فوائد الأرض وتوابعها عرفا كالأعشاب فهي تحدث في ملك مالك الأرض ولاوجه لخروج الأرض عن ملكه بذلك وعلى فرض الشك تستصحب الملكية. هذا. وقد أشرنا سابقا إلى أن محط النظر في روايات الأنفال كان بيان حكم ما ينتقل من دول الكفر إلى المسلمين، حيث إن الأرض وإمكانياتها كانت تحت سيطرة الكفار فحكم الأئمة (عليهم السلام) بأن ما يغنم منهم من أموالهم بعضها يقسم بين المقاتلين كالمنقولات وبعضها يبقى وقفا على المسلمين كالأراضي المحياة والباقي كالموات والجبال والأودية الآجام ونحوها يصير إلى الإمام، يعني أنها لا تقسم ولا تصير وقفا على المسلمين، فشمول إطلاق الروايات لما إذا استأجمت الأرض المحياة الشخصية المملوكة لمسلم أو صارت واديا بالزلزلة أو السيل مثلا محل إشكال. اللهم إلا أن يتمسك بالملاك، وثبوته أيضا في المقام مشكل، إذ الملاك كون الشيء من الأموال غير المتعلقة بالأشخاص، والمفروض في المقام كون الأرض متعلقة بالشخص فاستصحاب الملكية لا مانع منه. ومجرد صدق عنوان الأجمة أو الوادي لا يوجب انتقال الملك إلى الإمام، نعم لو صارت مواتا بالكلية جرى فيه النزاع الذي يأتي في محله، فتدبر.
51 الخامس من الأنفال: سيف البحار: سيف البحار بالكسر، أي ساحلها. ذكره في الشرائع ولا دليل عليه بخصوصه، نعم لما كان الغالب عليه كونه مواتا فإن البحر وكذا الأنهار العظيمة لها جزر ومد وتغييرات في سواحلها فيبقى الساحل مواتا لذلك فيكون من مصاديق الأرض الموات ويشمله أدلتها، وهو المحتمل في عبارة الشرائع أيضا بأن يكون عطفا على المفاوز المذكورة مثالا للموات لا موضوعا مستقلا وإلا لزادت الأنفال عن الخمسة. ولو فرض كونه عامرا بالأصالة ذا أشجار نافعة صار من مصاديق الأرض التي لا رب لها، ولو كان ملكا لأحد بالإحياء فغمره الماء فصار مواتا لذلك ثم خرج منه بعد ذلك فإن أعرض عنه صاحبه أو باد أهله فكذلك يصير للإمام وإلا جرى فيه الخلاف المشهور في الأرض المحياة التي عرضها الخراب مع العلم بصاحبها، فتدبر. السادس من الأنفال: قطائع الملوك وصفاياهم: قال المحقق في الشرائع: " وإذا فتحت دار الحرب فما كان لسلطانهم من قطائع وصفايا فهي للإمام إذا لم تكن مغصوبة من مسلم أو معاهد. " (1) وفي الجواهر قال: " بلا خلاف أجده فيه. " (2)
1 - الشرائع 1 / 183 (= طبعة أخرى / 137). 2 - الجواهر 16 / 123. 52 والظاهر أن المراد بقطائع الملوك الأراضي القيمة التي يقتطعها الملوك لأنفسهم من بين الأراضي، ولا محالة تشتمل على مزايا خاصة، والمراد بصفاياهم الأشياء النفيسة الغالية الموجودة في دور الملوك ومقر سلطنتهم. قال المجلسي في ملاذ الأخيار: " وفسر الصفايا بما ينقل من المال ويحول، والقطائع بالأرضين. " (1) ويحتمل في الصفايا أيضا أن يكون عطفا تفسيريا للقطائع أو يكون أعم منه; فيشمل الأرض وغيرها. وهذا في الحقيقة استثناء من حكم غنائم الحرب فتكون القطائع مستثناة من أرض الغنيمة التي حكمنا بكونها وقفا على المسلمين، والصفايا المنقولة مستثناة من الغنائم التي تقسم بين المقاتلين. هذا. ويدل على كونهما من الأنفال وللإمام مضافا إلى عدم الخلاف فيه أخبار مستفيضة: 1 - ففي مرسلة حماد الطويلة عن العبد الصالح (عليه السلام): " وله صوافي الملوك ما كان في أيديهم من غير وجه الغصب لأن الغصب كله مردود. " (2) قال ابن الأثير في النهاية: " الصوافي: الأملاك والأراضي التي جلا عنها أهلها أو ماتوا ولا وارث لها، واحدها صافية. قال الأزهري: يقال للضياع التي يستخلصها السلطان لخاصته الصوافي. " (3) وفي كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك في وصيته للطبقة السفلى قال: " واجعل لهم قسما من بيت مالك وقسما من غلات صوافي الإسلام في كل بلد. " (4)
1 - ملاذ الأخيار 6 / 383. 2 - الوسائل 6 / 365، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 4. 3 - النهاية 3 / 40. 4 - نهج البلاغة، فيض / 1019; عبده 3 / 111; لح / 438، الكتاب 53. 53 فيظهر بذلك أن الصافية وصف للأرض ولا يراد بها غيرها فصوافي الملوك ينطبق على قطائعهم. 2 - صحيحة داود بن فرقد، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " قطائع الملوك كلها للإمام وليس للناس فيها شيء. " (1) قال في مجمع البحرين: " القطائع اسم لما لا ينقل من المال كالقرى والأراضي والأبراج والحصون، ومنه الحديث: قطائع الملوك كلها للإمام. " (2) 3 - موثقة سماعة بن مهران، قال: سألته عن الأنفال فقال: " كل أرض خربة أو شيء يكون للملوك فهو خالص للإمام وليس للناس فيها سهم. الحديث. " (3) وقوله: " شيء يكون للملوك " يعم الأرض وغيرها اللهم إلا أن يحمل على خصوص الأرض بقرينة السياق. 4 - موثقة إسحاق بن عمار المروية عن تفسير علي بن إبراهيم، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الأنفال، فقال: " هي القرى التي قد خربت وانجلى أهلها فهي لله للرسول، وما كان للملوك فهو للإمام. الحديث. " (4) ويأتي فيها ما مر في موثقة سماعة وكذا فيما بعدها مما يكون ظاهره العموم للأرض وغيرها. 5 - ما في المقنعة عن محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: الأنفال... قال: سألته عن الأنفال، فقال: " كل أرض خربة أو شيء كان يكون للملوك
1 - الوسائل 6 / 366، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 6. 2 - مجمع البحرين / 360. 3 - الوسائل 6 / 367، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 8. 4 - الوسائل 6 / 371، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 20. 54 وبطون الأودية. الحديث. " (1) 6 - ما عن العياشي، عن الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سمعته يقول في الملوك الذين يقطعون الناس قال: " هو من الفيء والأنفال وأشباه ذلك. " (2) ويستفاد من خبر الثمالي أن المراد بقطائع الملوك ما يقطعونها من الأراضي لخواصهم وحواشيهم أو تكون أعم منها ومما يقتطعونها لأنفسهم. وفي خراج أبي يوسف: " فأما القطائع من أرض العراق فكل ما كان لكسرى ومرازبته وأهل بيته. " (3) ولعل السر في ذلك الحكم أن الإقطاعات على غير وجه الغصب كان غالبا من الأراضي القيمة التي هي بالطبع من الأموال العامة فعلى الإمام أن يرجعها إلى أصلها يصادرها بنفع الأمة وهذا هو المراد من كونها للإمام. هذا ولكن الرواية لا سند لها حتى يعتمد عليها. 7 - ما عنه أيضا عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " ما كان للملوك فهو للإمام. " (4) 8 - ما عن العياشي أيضا، عن داود بن فرقد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث في عداد الأنفال، قال: " وكل أرض ميتة قد جلا أهلها، وقطائع الملوك. " (5) هذا. وإن أبيت عن شمول الروايات المذكورة لغير الأراضي من الأشياء النفيسة للملوك دخلت هذه في الصفي الذي للإمام أن يصطفيه من الغنيمة ويأتي بحثه في العنوان التالي.
1 - الوسائل 6 / 371، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 22. 2 - الوسائل 6 / 372، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 30. 3 - الخراج / 57. 4 - الوسائل 6 / 372، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 31. 5 - الوسائل 6 / 372، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 32. 55 السابع مما يكون للإمام بما هو إمام: صفايا الغنيمة وإن لم نعثر على إطلاق لفظ الأنفال عليها في أخبارنا، وذكرها الشيخ في النهاية المحقق في الشرائع في عداد الأنفال ولكن لم يصرحا بكونها منها، وكيف كان فنقول: قد كان من المتعارف في جميع الأعصار اصطفاء الملوك والأمراء من بين غنائم العدو الأشياء القيمة النفيسة منها لأنفسهم أو لبيوت أموالهم ومتاحفهم، وكان يطلق عليها الصفايا. وهذا السنخ من الأشياء القيمة النفيسة لاتقبل التقسيم غالبا، وإيثار البعض بها دون بعض تورث الخلاف والضغائن، فلا مجال إلا لإبقائها ذخرا لمستقبل الدولة والأمة أو يستفيد منها إمام الأمة لفضله عليهم ومقبوليته عندهم. قال ابن الأثير في النهاية: " فيه: إن أعطيتم الخمس وسهم النبي والصفي فأنتم آمنون. الصفي: ما كان يأخذه رئيس الجيش ويختاره لنفسه من الغنيمة قبل القسمة ويقال له الصفية، والجمع: الصفايا. منه حديث عائشة: كانت صفية من الصفي، تعني صفية بنت حيي كانت ممن اصطفاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من غنيمة خيبر. " (1) أقول: وربما كانت الصفية يطلق على كل ما كان خالصا للرسول أو الإمام; فترى أبا داود السجستاني عقد في كتاب الخراج والفئ من سننه بابا سماه باسم صفايا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وذكر فيه ما ورد في الأراضي التي لم يوجف عليها بخيل وركاب، وفيه عن عمر أنه قال: " كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاث صفايا: بنو النضير، وخيبر، وفدك. " (2)
1 - النهاية لابن الأثير 3 / 40. 2 - سنن أبي داود 2 / 125، والحديث في الصفحة / 128. 56 وكيف كان فقد استفاضت الروايات واستقرت الفتاوى على كون الصفايا من الأموال التي جعلها الله - تعالى - لرسوله وبعده للإمام القائم مقامه: 1 - قال الشيخ في النهاية في عداد الأنفال: " وله أيضا من الغنائم قبل أن تقسم: الجارية الحسناء والفرس الفاره والثوب المرتفع وما أشبه ذلك مما لا نظير له من رقيق أو متاع. " (1) 2 - وقال في كتاب الفيء من الخلاف (المسألة 6): " ما كان للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الصفايا قبل القسمة فهو لمن قام مقامه، وقال جميع الفقهاء: إن ذلك يبطل بموته: دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم. " (2) أقول: بعدما كانت الإمامة وزعامة المسلمين لا تتعطل أصلا فلا نرى وجها لتعطل حقوقها وشؤونها بموت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " ما أطعم الله لنبي طعمة إلا جعلها طعمة لمن بعده. " (3) 3 - وفي خمس الشرائع في عداد الأنفال قال: " وكذا له أن يصطفي من الغنيمة ما شاء من فرس أو ثوب أو جارية أو غير ذلك ما لم يجحف. " (4) أقول: لا يناسب هذا القيد للإمام المعصوم بل للإمام العادل أيضا، وإمامة الفاسق الظالم عندنا باطلة مردودة كما مر في محله. ولذا قال في المدارك في ذيل العبارة: " هذا القيد مستغن عنه بل كان الأولى تركه. " (5) وهذا الإشكال وارد على عبارة التذكرة والمنتهى أيضا، فإنه ذكر نظير هذا القيد أيضا.
1 - النهاية / 199. 2 - الخلاف 2 / 330. 3 - المغني 6 / 168; ونحوه في مسند أحمد 1 / 4. 4 - الشرائع 1 / 183 (= طبعة أخرى / 137). 5 - المدارك / 343. 57 وقد عرفت في أول بحث الغنائم أن مقتضى آية الأنفال بضميمة الأخبار الواردة في تفسيرها كون الغنيمة بأجمعها تحت اختيار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعده للإمام، فله أن يأخذ ما شاء وأن يسد بها جميع ما ينوبه فإن بقي منها شيء خمسه وقسم البقية كما دل على ذلك صحيحة زرارة ومرسلة حماد، فراجع. (1) 4 - وفي التذكرة: " للإمام أن يصطفي لنفسه من الغنيمة ما يختاره كفرس جواد وثوب مرتفع وجارية حسناء وسيف قاطع وغير ذلك مما لا يضر بالعسكر عند علمائنا أجمع لما رواه العامة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يصطفي من الغنائم الجارية والفرس وما أشبههما في غزاة خيبر غيرها... " (2) وذكر نحو ذلك في المنتهى أيضا، فراجع. (3) 5 - وفي المنتهى أيضا: " ومن الأنفال ما يصطفيه من الغنيمة في الحرب مثل الفرس الجواد والثوب المرتفع الجارية الحسناء والسيف القاطع وما أشبه ذلك ما لم يجحف بالغانمين; ذهب إليه علماؤنا أجمع... " (4) 6 - وفي صحيحة ربعي بن عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أتاه المغنم أخذ صفوه وكان ذلك له... وكذلك الإمام يأخذ كما أخذ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). (5) 7 - وفي صحيحة أبي الصباح الكناني قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " نحن قوم فرض الله طاعتنا، لنا الأنفال ولنا صفو المال. " (6)
1 - راجع الجهة الثانية من فصل الغنائم. 2 - التذكرة 1 / 433. 3 - المنتهى 2 / 948. 4 - المنتهى 1 / 553. 5 - الوسائل 6 / 356، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 3. 6 - الوسائل 6 / 373، الباب 2 من أبواب الأنفال، الحديث 2. 58 8 - وفي مرسلة حماد الطويلة، عن بعض أصحابنا، عن العبد الصالح (عليه السلام)، قال: " وللإمام صفو المال أن يأخذ من هذه الأموال صفوها: الجارية الفارهة والدابة الفارهة الثوب والمتاع مما يحب أو يشتهي، فذلك له قبل القسمة وقبل إخراج الخمس. " (1) 9 - وفي رواية أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن صفو المال، قال: " الإمام يأخذ الجارية الروقة والمركب الفاره والسيف القاطع والدرع قبل أن تقسم الغنيمة، فهذا صفو المال. " (2) أقول: الروقة بضم الراء: الجميل من الناس جدا، يقال: غلام روقة وجارية روقة غلمان وجوار روقة. ويقرب من ذلك الفراهة فيقال: مركب فاره وجارية فارهة، أي حسناء مليحة. 10 - وعن المفيد في المقنعة، عن الصادق (عليه السلام)، قال: " نحن قوم فرض الله طاعتنا في القرآن، لنا الأنفال ولنا صفو المال. " يعني بصفوها ما أحب الإمام من الغنائم واصطفاه لنفسه قبل القسمة من الجارية الحسناء والفرس الفاره والثوب الحسن وما أشبه ذلك من رقيق أو متاع على ما جاء به الأثر عن السادة (عليه السلام). (3) 11 - وفي المستدرك، عن كتاب عاصم بن حميد الحناط، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: " ولنا الصفي. قال: قلت له: وما الصفي؟ قال: الصفي من كل رقيق وإبل يبتغي أفضله ثم يضرب بسهم ولنا الأنفال. " (4) 12 - وفيه أيضا عن العياشي، عن بشير الدهان، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " إن الله فرض طاعتنا في كتابه فلا يسع الناس جهلنا، لنا صفو المال ولنا الأنفال ولنا كرائم القرآن. " (5)
1 - الوسائل 6 / 365، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 4. 2 - الوسائل 6 / 369، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 15. 3 - الوسائل 6 / 371، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 21. 4 - مستدرك الوسائل 1 / 553، الباب 1 من أبواب الأنفال...، الحديث 1. 5 - مستدرك الوسائل 1 / 554، الباب 2 من أبواب الأنفال...، الحديث 1. 59 والظاهر من جعل صفو المال قسيما للأنفال عدم كونه منها وإن كان بحكمها ولكن مر عن المنتهى عده منها. 13 - وفي سنن البيهقي بسنده عن ابن عباس في خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لوفد عبد القيس، قال: " آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع; آمركم أن تشهدوا أن لا إله إلا الله تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتعطوا من المغنم سهم الله - عز وجل - والصفي. " (1) 14 - وفيه أيضا بسنده عن عامر الشعبي، قال: " كان للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سهم يدعى سهم الصفي إن شاء عبدا، وإن شاء أمة، وإن شاء فرسا يختاره قبل الخمس. " (2) 15 - وفيه أيضا بسنده عن عائشة قالت: " كانت صفية من الصفي. " (3) إلى غير ذلك من الروايات. ولم يكن الصفي للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا لأنه كان إمام المسلمين وقائدهم في عصره، وحيث إن الإمامة لا تتعطل أصلا بحسب حكم العقل والشرع فلا تتعطل حقوقها وشؤونها كما مر. وقد مر في طي أبحاثنا أن ما للإمام من الأنفال والصفايا انما تكون للإمام بما هو إمام أي لمنصب الإمامة لا لشخص الإمام، نعم سد حاجات الشخص وخلاته أيضا من أهم مصالح الأمة. ولا يتعين أن يكون الصفي دائما لشخص الإمام، بل ربما يجعل في المتاحف وبيوت الأموال العامة رصيدا للعملة وذخرا لمستقبل الأمة كالجواهر النفيسة الثمينة التي لاتقبل التقسيم غالبا ويكون إيثار البعض بها موجبا للتبعيض والفتنة فلا محالة تحفظ في المتاحف والبنوك أو يستفيد منها الإمام الذي هو مقبول الأمة. ويظهر من الأخبار التي مرت أن الصفي قسيم للأنفال، ولكن لو فرض إطلاق
1 - سنن البيهقي 6 / 303، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب سهم الصفي. 2 - سنن البيهقي 6 / 304، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب سهم الصفي. 3 - سنن البيهقي 6 / 304، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب سهم الصفي. 60 الأنفال على مطلق الغنائم فلا محالة تطلق على الصفايا أيضا، والأمر سهل بعد وضوح الحكم أنها للإمام قطعا. وعمدة النظر في تلك الروايات والفتاوى عدم تعين التقسيم في الصفايا بل تكون هي تحت اختيار الإمام، فتدبر. الثامن مما يكون للإمام بما هو إمام: ما يغنمه المقاتلون بغير إذن الإمام على المشهور بين أصحابنا بل ادعي عليه الإجماع: 1 - ففي كتاب الفيء من الخلاف (المسألة 16): " إذا دخل قوم دار الحرب وقاتلوا بغير إذن الإمام فغنموا كان ذلك للإمام خاصة، خالف جميع الفقهاء في ذلك. دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم. " (1) 2 - وفي كتاب السير منه (المسألة 3): " إذا غزت طائفة بغير إذن الإمام فغنموا مالا فالإمام مخير إن شاء أخذه منهم وإن شاء تركه عليهم، وبه قال الأوزاعي والحسن البصري. وقال الشافعي: يخمس عليهم. وقال أبو حنيفة: لا يخمس. دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم. " (2) أقول: نظر الشافعي إلى عموم قوله - تعالى -: واعلموا أنما غنمتم، وأنه يعم المأذون فيه وغيره. ونظر أبي حنيفة إلى أنه اكتساب مباح من غير جهاد مشروع فيكون كالاحتطاب والاحتشاش. 3 - وقال في النهاية في عداد الأنفال: " وإذا قاتل قوم أهل حرب من غير أمر الإمام فغنموا كانت غنيمتهم للإمام خاصة
1 - الخلاف 2 / 332. 2 - الخلاف 3 / 229. 61 دون غيره. " ونحو ذلك في المبسوط. (1) 4 - وفي الشرائع في عداد الأنفال: " وما يغنمه المقاتلون بغير إذنه فهو له عليه السلام. " (2) 5 - وفي الجواهر في شرح العبارة قال: " على المشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا، بل نسبه غير واحد إلى الشيخين المرتضى وأتباعهم، بل في التنقيح نسبته إلى عمل الأصحاب، كما في الروضة نفي الخلاف عنه، وفي بيع المسالك أن المعروف من المذهب مضمون المقطوعة الآتية لا نعلم فيه مخالفا، بل عن الحلي الإجماع عليه وهو الحجة... " (3) 6 - وفي الأنفال من المنتهى: " وإذا قاتل قوم من غير إذن الإمام ففتحوا (فغنموا - ظ.) كانت الغنيمة للإمام، ذهب إليه الشيخان والسيد المرتضى وأتباعهم. وقال الشافعي: حكمها حكم الغنيمة مع إذن الإمام لكنه مكروه. وقال أبو حنيفة: هي لهم ولا خمس. ولأحمد ثلاثة أقوال: كقول الشافعي وأبي حنيفة، وثالثها لا شيء لهم فيه. " (4) وبالجملة، فالمشهور كون الغنيمة بأجمعها للإمام، وفي الخلاف الإجماع عليه لم يفرقوا في الحكم بين زمان الحضور والغيبة. ويستدل لذلك بوجوه: الأول: الإجماع المدعى ولكن ثبوته بحيث يستكشف به قول المعصوم مشكل ولعل مدركهم الخبر الآتي. الثاني: مرسلة العباس الوراق، عن رجل سماه، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
1 - النهاية / 200; والمبسوط 1 / 263. 2 - الشرائع 1 / 183 (= طبعة أخرى / 137). 3 - الجواهر 16 / 126. 4 - المنتهى 1 / 553. 62 " إذا غزا قوم بغير إذن الإمام فغنموا كانت الغنيمة كلها للإمام، وإذا غزوا بأمر الإمام فغنموا كان للإمام الخمس. " (1) وفي السند ضعف بالإرسال وبجهل بعض الرواة، فيشكل الاعتماد عليها إلا أن يجبر الضعف بالشهرة لو ثبت اعتماد الأصحاب عليها ولكن إثبات ذلك مشكل، اللهم إلا أن يقال: إن كان اعتماد الأصحاب على المرسلة جبر ضعفها وإن لم يكن عليها صار إجماعهم حجة. ومما يشهد لاعتماد الأصحاب على المرسلة ذكرهم لمضمونها في مقام الإفتاء في كتبهم المعدة لنقل الفتاوى المأثورة، حتى إن ابن إدريس مع عدم عمله بالخبر الواحد قد أفتى في السرائر بمضمون المرسلة فيشكل رفع اليد عنها، فتدبر. الثالث: صحيحة معاوية بن وهب، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): السرية يبعثها الإمام فيصيبون غنائم كيف تقسم؟ قال: " إن قاتلوا عليها مع أمير أمره الإمام عليهم أخرج منها الخمس لله وللرسول وقسم بينهم أربعة أخماس. وإن لم يكونوا قاتلوا عليها المشركين كان كل ما غنموا للإمام يجعله حيث أحب. " (2) حيث دلت على التفصيل بين كون القتال بإذن الأمير الذي أمره الإمام وعدمه، توقف التقسيم على كونه بإذنه. هذا. ولكن في دلالة الصحيحة إشكال، إذ المفروض في السؤال أن السرية بعثها الإمام; فالتفصيل في الجواب لا محالة وقع في هذا الفرض، وقد فصل فيه بين القتال وعدمه لابين الإذن وعدمه. قال الشيخ الأنصاري في خمسه: " ولا يخفى عدم دلاتها على المطلوب إلا إذا اعتبر مفهوم القيد في قوله: مع أمير أمره الإمام، مع تأمل فيه أيضا لأن المفروض أن ضمير قاتلوا راجع إلى السرية التي
1 - الوسائل 6 / 369، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 16. 2 - الوسائل 6 / 365، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 3. 63 يبعثها الإمام فالقيد لا يكون للتخصيص قطعا. " (1) أقول: هنا شيء أشار إليه في مصباح الفقيه، (2) وهو أن ذكر قوله: " مع أمير أمره الإمام " لا بد أن يكون لفائدة وإلا كان ذكره لغوا، وليست الفائدة في ذكر القيد غالبا إلا دخالته في موضوع الحكم فينتفي الحكم بانتفائه. ومورد الاستدلال ليس هو مفهوم الشرط المصرح به في الذيل بل مفهوم القيد فتكون النتيجة أن التقسيم يتوقف على القتال والإذن معا ولا محالة ينتفي بانتفاء كل منها يختص المال حينئذ بالإمام. غاية الأمر أن المصرح به في الذيل صورة انتفاء الشرط فقط. حمل القيد على التوضيح والإشارة إلى ما فرض في السؤال خلاف الظاهر. هذا. ولكن إثبات الحكم بمثل هذا المفهوم الضعيف مشكل، فتدبر. ويظهر من المحقق في المعتبر والنافع ومن المنتهى والمدارك الترديد في الحكم احتمال أو تقوية المساواة بين المأذون فيه وغيره في وجوب التخميس وتقسيم البقية، لعموم قوله - تعالى -: " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه " (3) الظاهر في كون البقية للغانمين، وقوله - تعالى -: " فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا. " (4) ولخصوص صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل من أصحابنا يكون في لوائهم ويكون معهم فيصيب غنيمة؟ قال: " يؤدي خمسا ويطيب له. " (5) حيث يظهر منه عدم اعتبار الإذن في التخميس وتملك البقية. ولقوله (عليه السلام) في صحيحة على بن مهزيار الطويلة في عداد ما فيه الخمس: " ومثل عدو يصطلم فيؤخذ ماله. " (6) ولما في بعض أخبار التحليل من إباحة الأئمة - عليهم السلام - لشيعتهم نصيبهم
1 - كتاب الطهارة / 494، كتاب الخمس، فصل في الأنفال (= طبعة أخرى / 555). 2 - مصباح الفقيه / 153. 3 - سورة الأنفال (8)، الآية 41. 4 - سورة الأنفال (8)، الآية 69. 5 - الوسائل 6 / 340، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 8. 6 - الوسائل 6 / 350، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 5. 64 من الفيء والغنائم، الظاهر في عدم كون الجميع لهم بل الخمس فقط، مع أن الظاهر كون موردها زمان استيلاء خلفاء الجور وعدم كون قتالهم واغتنامهم بإذن الأئمة (عليهم السلام): منها: المروي عن الإمام العسكري، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " قد علمت يا رسول الله أنه سيكون بعدك ملك عضوض وجبر فيستولى على خمسي من السبي والغنائم ويبيعونه فلا يحل لمشتريه لأن نصيبي فيه، فقد وهبت نصيبي منه لكل من ملك شيئا من ذلك من شيعتي لتحل لهم منافعهم من مأكل ومشرب لتطيب مواليدهم. الحديث. " (1) أقول: يمكن أن يجاب عن الاستدلال بالآيتين الشريفتين بتخصيصهما بمرسلة الوراق المنجبرة بعمل الأصحاب. وعن صحيحة الحلبي بحملها بقرينة سائر أخبار التحليل على التحليل للشخص بشرط أن يخمس أو على الإذن في تلك الغزوة كما في الجواهر. (2) هذا. ولكنه خلاف الظاهر لظهورها في بيان الحكم الكلي الشرعي لا التحليل الشخصي أو الإذن. وقد يقال في توجيه الصحيحة: إن إذن أئمتنا - عليهم السلام - لشيعتهم في قتال الكفار ولو تحت لواء حكام الجور كان أمرا مفروغا عنه، لشدة عنايتهم - عليهم السلام - ببسط الإسلام، والسؤال في الصحيحة كان عن وظيفتهم بالنسبة إلى الخمس، حيث إن خلفاء الجور لم يكونوا يخمسونها، فأجاب الإمام - عليه السلام - بأن للشخص أن يخمس ما وصل إليه ثم يستفيد من البقية، فليس في الصحيحة دلالة على عدم اعتبار الإذن في حلية الغنيمة. ولكن يمكن أن يقال إن إذنهم - عليهم السلام - في جميع الغزوات الواقعة بأيدي خلفاء الجور دون إثباته خرط القتاد.
1 - الوسائل 6 / 385، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 20. 2 - الجواهر 16 / 127. 65 كيف! وقد يظهر من بعض الأخبار منعهم الشيعة من الشركة فيها، حيث إنها كانت تقوية لنظام الظلم والجور. هذا. وأما صحيحة علي بن مهزيار ففي الحدائق: " الظاهر أن المراد بالعدو هنا إنما هو المخالف كما أشرنا إليه سابقا لا الكافر المشرك. " (1) أقول: ما ذكره رجم بالغيب لا دليل عليه بل الدليل على خلافه، نعم يمكن أن يجاب عن الصحيحة بأن مورد البحث هنا هو الغنيمة الحاصلة بالقتال بدون إذن الإمام لا المال الشخصي الحاصل باغتيال الشخص الكافر مضافا إلى أنه قد يقع بالإذن أيضا. وكيف كان فعمدة الدليل للمسألة الإجماع المدعى ومرسلة الوراق. وابن إدريس مع إنكاره لحجية خبر الواحد قد أفتى في السرائر (2) بمضمون المرسلة، ونسب إليه أنه ادعى الإجماع في المسألة ولكن لم أجده فيه. قال في الحدائق: " وادعى عليه ابن إدريس الإجماع ورده المحقق في المعتبر فقال: وبعض المتأخرين يستسلف صحة الدعوى مع إنكاره العمل بخبر الواحد فيحتج لقوله بدعوى إجماع الإمامية، وذلك مرتكب فاحش إذ هو يقول: إن الإجماع إنما يكون حجة إذا علم أن الإمام (عليه السلام) في الجملة، فإن كان يعلم ذلك فهو منفرد بعلمه فلا يكون علمه حجة على من لم يعلم. " (3) هذا. والذي يسهل الخطب في المسألة أن الغنيمة عندنا بأجمعها تكون تحت اختيار الإمام ولا يتعين فيها التقسيم وإن حصل القتال بإذنه كما دل على ذلك مرسلة حماد وغيرها وقد مر تفصيل ذلك في فصل الغنائم، فراجع.
1 - الحدائق 12 / 479. 2 - السرائر / 116. 3 - الحدائق 12 / 478; وفي المعتبر / 296. 66 ويظهر من الحدائق التفصيل في المسألة فقال في أوائل كتاب الخمس منه: " والظاهر من الأخبار وكلام الأصحاب أن الذي يكون للإمام (عليه السلام) متى كان بغير إذنه إنما هو ما يؤخذ على وجه الجهاد والتكليف بالإسلام كما يقع من خلفاء الجور وجهادهم الكفار على هذا الوجه لا ما أخذ جهرا وغلبة وغصبا ونحو ذلك... " (1) وفيه أنه خلاف إطلاق النص والفتاوى فإن الغزاء يصدق ولو كان الهجوم لتوسعة الملك أو ازدياد الأموال. ويظهر من العروة الوثقى التفصيل بين زمان حضور الإمام وغيبته فقال في أوائل كتاب الخمس من العروة: " وأما إذا كان الغزو بغير إذن الإمام فإن كان في زمان الحضور وإمكان الاستيذان منه فالغنيمة للإمام (عليه السلام)، وإن كان في زمن الغيبة فالأحوط إخراج خمسها من حيث الغنيمة خصوصا إذا كان للدعاء إلى الإسلام... " (2) فكأنه - قدس سره - حمل مرسلة الوراق وكلام المشهور على صورة إمكان الاستيذان من الإمام، ففي غيره يتبع إطلاق الآيتين. ولكن يمكن أن يورد عليه بأن لفظ الإمام في باب الجهاد وسائر أبواب الفقه لا يختص بالإمام المعصوم بل يشمل للحاكم الإسلامي في عصر الغيبة أيضا فيمكن الاستيذان منه. هذا مضافا إلى أن حمل مرسلة الوراق وكلام الأصحاب على خصوص صورة إمكان الاستيذان بلا وجه، وإطلاق الخاص محكم على إطلاق العام. نعم لو لم يصدق عنوان الغزاء كما إذا كان الهجوم من الخصم ولم يقع من المسلم إلا الدفاع غير المشروط بإذن الإمام كان الحكم بثبوت الخمس وتملك البقية عملا بعموم الآية في محله. وهنا احتمال آخر وهو التفصيل بين ما إذا وقع الغزاء في لواء حاكم الجور وبأمره بين ما إذا حمل قوم على قوم فغنموا من دون نظر الحاكم، فتحمل المرسلة
1 - الحدائق 12 / 322. 2 - العروة الوثقى 2 / 367. 67 على الصورة الثانية فقط بقرينة صحيحة الحلبي وما أشرنا إليه من الروايات الدالة على تحليل الخمس في المقام كرواية العسكري (عليه السلام) ونحوها، فيستفاد من ذلك تنفيذ الأئمة (عليهم السلام) للجهاد في لواء خلفاء الجور ولا سيما إذا كان للدعاء إلى الإسلام وبسطه، كما يشهد بذلك دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) لجيوش المسلمين في عصره، ويكون المقصود من المرسلة المنع عن الغزاء بدون إذن الحاكم وعدم تنفيذه حذرا من الهرج والفوضى وأنهم لو فعلوا ذلك لم يكن لهم حظ في الغنيمة، فيكون هذا الاحتمال بالعكس مما اختاره صاحب الحدائق، ولا يخفى قوة هذا الاحتمال. وقد تحصل مما ذكرنا أن المحتملات فيما إذا وقع الغزاء بغير إذن الإمام خمسة: الأول: ما اختاره المشهور من كون الغنيمة بأجمعها للإمام مطلقا. الثاني: كونها كسائر الغنائم تخمس وتقسم البقية مطلقا. الثالث: تفصيل صاحب الحدائق. الرابع: تفصيل صاحب العروة. الخامس: ما ذكرناه أخيرا من الاحتمال، والله العالم بحقيقة الحال. التاسع من الأنفال: المعادن مطلقا على قول قوي: والأقوال في المسألة ثلاثة أو أربعة: الأول: كونها من الأنفال مطلقا كما مر في عبارة المقنعة والمراسم ويأتي عن الكافي والنهاية أيضا. ونسبه في الجواهر إلى القاضي القمي في تفسيره أيضا ثم قال: " واختاره في الكفاية كما عنه في الذخيرة، بل هو ظاهر الأستاذ في كشفه أيضا من غير فرق بين ما كان منها في أرضه أو غيرها وبين الظاهرة والباطنة. " (1) الثاني: نفي ذلك مطلقا وأن الناس فيها شرع كما يظهر من النافع والبيان
1 - الجواهر 16 / 129. 68 والدروس اللمعة. وقال في الروضة: " أطلق جماعة كون المعادن للناس من غير تفصيل. " (1) الثالث: التفصيل وجعلها تابعة للأرض التي فيها: فما في أرض الأنفال تكون منها، وما في الملك الشخصي أو المفتوحة عنوة أيضا تتبعهما كما في السرائر والمعتبر والمنتهى الروضة وعن التحرير أيضا. وربما يلوح من بعض العبارات التفصيل بين المعادن الظاهرة والباطنة فتكون الأولى مباحة لجميع الناس والثانية للإمام، ويظهر هذا التفصيل من المبسوط كما يأتي. وكيف كان فلنتعرض لبعض الكلمات: 1 - قال الكليني في أصول الكافي في عداد الأنفال: " وكذلك الآجام والمعادن والبحار والمفاوز هي للإمام خاصة. " (2) 2 - وقال الشيخ في النهاية في بيان أقسام الأرضين: " ومنها: أرض الأنفال وهي كل أرض انجلى أهلها عنها من غير قتال، والأرضون الموات، ورؤوس الجبال والآجام والمعادن وقطائع الملوك. وهذه كلها خاصة للإمام يقبلها من شاء بما أراد، ويهبها ويبيعها إن شاء حسب ما أراد. " (3) 3 - وقال في المبسوط: " وأما المعادن فعلى ضربين: ظاهرة وباطنة: فالباطنة لها باب نذكره، وأما الظاهرة فهي الماء والقير والنفط والموميا والكبريت والملح وما أشبه ذلك، فهذا لا يملك بالإحياء ولا يصير أحد أولى به بالتحجير من غيره، وليس للسلطان أن يقطعه بل الناس كلهم فيه سواء يأخذون منه قدر حاجتهم، بل يجب عندنا فيه الخمس، ولا خلاف في أن ذلك لا يملك، وروي أن الأبيض بن حمال المأربي استقطع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ملح ماء مأرب فروي أنه اقطعه، وروي: أنه أراد أن يقطعه فقال
1 - اللمعة الدمشقية 2 / 86 (= ط. أخرى 1 / 186). 2 - الكافي 1 / 538، كتاب الحجة، باب الفيء والأنفال... 3 - النهاية / 419. 69 له رجل وقيل: إنه الأقرع بن حابس: أتدري يا رسول الله ما الذي تقطعه؟ إنما هو الماء العد، قال: فلا إذا. " (1) 4 - وقال فيه في المعادن الباطنة: " وأما المعادن الباطنة مثل الذهب والفضة والنحاس والرصاص وحجارة البرام غيرها مما يكون في بطون الأرض والجبال ولا يظهر إلا بالعمل فيها والمؤونة عليها فهل تملك بالإحياء أم لا؟ قيل فيه قولان: أحدهما: أنه يملك وهو الصحيح عندنا، الثاني: لا يملك لأنه لا خلاف أنه لا يجوز بيعه، فلو ملك لجاز بيعه، وعندنا يجوز بيعه. فإذا ثبت أنها تملك بالإحياء فإن إحياءه أن يبلغ نيله، وما دون البلوغ فهو تحجير وليس بإحياء فيصير أولى به مثل الموات، ويجوز للسلطان إقطاعه لأنه يملكه عندنا... " (2) أقول: ظاهر كلامه الأخير أن كون المعادن الباطنة للإمام متفق عليه عندنا. 5 - وفي الشرائع: " الطرف الرابع: في المعادن الظاهرة، وهي التي لا تفتقر إلى إظهار كالملح والنفط القار، لا تملك بالإحياء، ولا يختص بها المحجر، وفي جواز إقطاع السلطان المعادن والمياه تردد، وكذا في اختصاص المقطع بها. ومن سبق إليها فله أخذ حاجته... ومن فقهائنا من يخص المعادن بالإمام - عليه السلام -، فهي عنده من الأنفال. وعلى هذا لا يملك ما ظهر منها وما بطن، ولو صح تملكها بالإحياء لزم من قوله اشتراط إذن الإمام وكل ذلك لم يثبت... والمعادن الباطنة هي التي لا تظهر إلا بالعمل كمعادن الذهب والفضة والنحاس، فهي تملك بالإحياء ويجوز للإمام إقطاعها قبل أن تملك، وحقيقة إحيائها أن يبلغ نيلها... " (3) 6 - وفي إحياء الموات من التذكرة ما ملخصه مع حفظ ألفاظه:
1 - المبسوط 3 / 274. 2 - المبسوط 3 / 277. 3 - الشرائع 3 / 278 (= طبعة أخرى / 796، الجزء الرابع). 70 " المعادن هي المواضع التي خصها الله - تعالى - بإبداع شيء من الجواهر المطلوبة فيها، وهي إما ظاهرة وإما باطنة: فالظاهرة عند أكثر علمائنا من الأنفال يختص بها الإمام خاصة. وقال بعضهم: إن الناس فيها شرع سواء وهو قول العامة. والمراد بالظاهرة ما يبدو جوهرها من غير عمل وإنما السعي والعمل لتحصيله إما سهلا وإما متعبا. ولا يفتقر إلى إظهار كالملح والنفط والقار، فهذه لا يملكها أحد بالإحياء والعمارة وإن أراد بها النيل إجماعا ولا يختص بها بالتحجير، وهو يجوز للإمام إقطاعها؟ منع العامة منه. ويحتمل عندي جواز أن يقطع السلطان المعادن إذا لم يتضرر به المسلمون. وعلى ما قاله بعض علمائنا من أنها مختصة بالإمام يجوز له إقطاعها. المعادن الباطنة، وهي التي لا تظهر إلا بالعمل ولا يوصل إليها إلا بعد المعالجة والمؤونة عليها كمعادن الذهب والفضة والحديد. فالمعادن الباطنة إما أن تكون ظاهرة أو لا، فإن كانت ظاهرة لم يملك بالإحياء أيضا ويكون للإمام عند بعض علمائنا لا يجوز لأحد التصرف فيها إلا بإذنه. وعند الباقين تكون لجميع المسلمين لأن الناس فيها شرع. وإن لم تكن ظاهرة بل إنما تظهر بالإنفاق عليها والعمل فيها فهي للإمام أيضا عند بعض علمائنا ولا تملك بالإحياء إلا بإذنه وعند الباقين أنها لجميع من سبق إليها أحياها... " (1) وراجع في حكم المعادن والتفصيل بين الظاهرة والباطنة منها والأقوال فيها المغني لابن قدامة أيضا. (2) 7 - وفي السرائر في عداد الأنفال قال: " المعادن التي في بطون الأودية التي هي ملكه وكذلك رؤوس الجبال، فأما ما كان من ذلك في أرض المسلمين ويد مسلم عليه فلا يستحقه (عليه السلام) بل ذلك (كذلك -
1 - التذكرة 2 / 403 و 404. 2 - المغني 6 / 156 وما بعدها. 71 ظ.) في الأرض المفتتحة عنوة. " (1) أقول: يظهر من كلمات الفقهاء في تفسير الظاهرة والباطنة هنا تفسيران مختلفان: الأول: أن يراد بالظاهرة ما ظهرت بنفسها على وجه الأرض، وبالباطنة ما تكون في باطن الأرض مما تحتاج إلى حفر واستخراج. الثاني: أن يراد بالظاهرة ما لا تحتاج إلى صنع وتصفية في بروز الجوهر بل تكون بنفسها خالصة صافية وإن كانت في باطن الأرض. وبالباطنة ما تحتاج إلى صنع وتصفية كالذهب والفضة والنحاس المختلطة تكوينا بالأجزاء الترابية والحجرية فتحتاج إلى إحراق وإذابة وتصفية وإن كانت على وجه الأرض. قال الشهيد في المسالك في تفسير المعادن الظاهرة: " فالظاهرة هي التي يبدو جواهرها من غير عمل وإنما السعي والعمل لتحصيله، ثم تحصيله قد يسهل وقد يلحقه تعب وذلك كالنفط وأحجار الرحى والبرمة والكبريت القار. " (2) وقال في تفسير المعادن الباطنة: " وهي التي لا يظهر جوهرها إلا بالعمل والمعالجة كالذهب والفضة والفيروزج الياقوت والرصاص والنحاس والحديد وسائر الجواهر المبثوثة في طبقات الأرض سواء كانت موجودة في ظاهر الأرض بحيث لا يتوقف الشروع فيها على حفر شيء من الأرض خارج عنها أم في باطنها لكن القسم الأول منها في حكم المعادن الظاهرة بقول مطلق. " (3) هذا.
1 - السرائر / 116. 2 - المسالك 2 / 293. 3 - المسالك 2 / 294. 72 ويدل على كون المعادن مطلقا من الأنفال أخبار: 1 - موثقة إسحاق بن عمار المروية عن تفسير علي بن إبراهيم، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الأنفال فقال: " هي القرى التي قد خربت وانجلى أهلها، فهي لله للرسول، وما كان للملوك فهو للإمام. وما كان من الأرض بخربة لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، كل أرض لا رب لها، والمعادن منها، ومن مات وليس له مولى فماله من الأنفال. " (1) هكذا في الوسائل، ولكن في المطبوعين من التفسير: " وما كان من أرض الجزية لم يوجف عليها. " (2) ولعله الأصح كما مر. 2 - وعن العياشي، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " لنا الأنفال ". قلت: وما الأنفال؟ قال: " منها المعادن والآجام وكل أرض لا رب لها. الحديث. " (3) 3 - وعنه أيضا، عنه داود بن فرقد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: قلت: ما الأنفال؟ قال: " بطون الأودية ورؤوس الجبال والآجام والمعادن، الحديث. " (4) 4 - وفي المستدرك، عن كتاب عاصم بن حميد الحناط، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال:... " ولنا الأنفال. " قال: قلت له: وما الأنفال؟ قال: " المعادن منها الآجام وكل أرض لا رب لها. " (5) وربما يناقش في إطلاق الموثقة التي هي أهمها باحتمال عود الضمير في " منها " إلى الأرض التي لا رب لها لا إلى الأنفال بأن تكون كلمة: " منها " صفة أو حالا للمعادن لا خبرا لها، هذا مضافا إلى إبدالها في بعض النسخ ب " فيها "، فيتعين رجوع
1 - الوسائل 6 / 371، الباب 1 من أبواب الأنفال...، الحديث 20. 2 - تفسير علي بن إبراهيم (القمي) / 235 (= طبعة أخرى 1 / 254). 3 - الوسائل 6 / 372، الباب 1 من أبواب الأنفال...، الحديث 28. 4 - الوسائل 6 / 372، الباب 1 من أبواب الأنفال...، الحديث 32. 5 - مستدرك الوسائل 1 / 553، الباب 1 من أبواب الأنفال...، الحديث 1. 73 الضمير فيها إلى الأرض التي قبله، بل ربما قيل إن جعل كلمة: " منها " خبرا للمعادن يوجب جعل الواو للاستيناف لا للعطف وهو خلاف الظاهر. ولكن يمكن أن يجاب عن الأخير بأن يجعل كلمة: " منها " خبرا لقوله: " و ما كان من الأرض " ويجعل ما بعده عطفا عليه عطف المفرد على المفرد. والموجود في مطبوعين من التفسير كلمة: " منها " ولم أعثر على: " فيها ". ونظير هذه العبارة عبارة خبر أبي بصير في المستدرك. وكيف كان فظاهر الأخبار التي مرت كون المعادن في عداد الأنفال. ويساعد ذلك الاعتبار العقلي أيضا فإن المتعارف في جميع الدول والحكومات الدارجة جعل ما لا يتعلق بالأشخاص مثل المعادن والبحار والبراري والقفار من الأموال العامة المرتبطة بالحكومات، فهي تتصرف فيها وتقبلها حسب مصالح الحكومة والأمة قد جعل في شريعتنا هذا السنخ من الأمور للإمام بما هو إمام بنحو التقييد وهو عبارة أخرى عن جعلها للحكومة والدولة. فسنخ المعادن أيضا سنخ غيرها مما لا رب لها شخصا كالآجام والمفاوز ونحوهما. ويؤيد ما ذكرنا ما دل على أن الأرض كلها للإمام، إذ الأرض بإطلاقها تشمل ما تكون فيها من المعادن والأشياء القيمة أيضا، وفي بعض الأخبار: " إن الأرض كلها لنا، فما أخرج الله منها من شيء فهو لنا. " وهذا أظهر، فراجع أصول الكافي، باب أن الأرض كلها للإمام. (1) فإن قلت: مقتضى ما ذكرت من الإطلاق كون المعادن الواقعة في الأملاك الشخصية أيضا من الأنفال وهو خلاف مقتضى الملكية. قلت: لا نسلم أن مقتضى مالكية أحد لأرض مثلا كونها ملكا له من تخوم
1 - الكافي 1 / 408، كتاب الحجة، باب أن الأرض كلها للإمام (عليه السلام)، الحديث 3. 74 الأرض إلى عنان السماء، إذ الملكية أمر اعتباري، والمعتبر لها هم العقلاء في كل عصر وزمان، حدود موضوعها سعة وضيقا أيضا تابعة لاعتبارهم وهم لا يعتبرون الملكية في مثل الدار نحوها مثلا إلا لساحتها ومرافقها المحتاجة إليها في الاستفادة منها، ومنها الجو والفضاء إلى حد خاص يتعلق عرفا بهذه الدار. وليست المعادن الواقعة في تخوم هذه الدار وكذا الفضاء الخارج عن المتعارف معدودا من توابعها العرفية ومرافقها. وهل ترى عبور الطائرات مثلا في جو سماء البلدان إذا علت ولم تزاحم ساكني الدور تصرفا في ملك الغير؟ لا أظن أحدا يلتزم بذلك، ولكن عبورها من جو مملكة بلا إذن من واليها يعد تصرفا في سلطة الغير وتعديا في ملكه. وكذلك الكلام بالنسبة إلى المياه الكثيرة والمعادن العظيمة الواقعة تحت ملك الغير; فلو فرض مثلا استخراج المعدن المتكون تحت دار الغير أو بستانه في عمق ألف متر مثلا بإذن الإمام بلا تصرف في داره بستانه بأن جعل مدخل المعدن في خارج الدار أو البستان، أو حفر بئرا، أو قناة في الخارج بحيث يستفيد من الماء المتكون تحت ملك الغير فهل يعد هذا تصرفا في ملك الغير؟ نعم، المعادن الصغار السطحية وكذا العيون الصغار السطحية ربما تعد عرفا من توابع الملك نظير الأشجار والأعشاب النابتة فيه. وقد مر منا سابقا أن الأساس والملاك للمالكية الشخصية هو الصنع والعمل، وحيث إن الصادر من محيي الأرض ومعمرها هو حيثية الإحياء والعمران فهو لا يملك إلا لهذه الحيثية وتوابعها العرفية، فلاوجه لأن يملك المعادن الواقعة في تخوم الأرض بلا صنع منه بل ولا شعور بوجودها، اللهم إلا أن يستخرجها ويحييها بإذن الإمام ولو عموما، فإن إحياء المعدن هو كشفه واستخراجه، فما لم يستخرج يبقى على حالته الأولى من كونه من الأموال العامة، وإن شئت قلت: لله - تعالى - يورثه من يشاء من عباده، وإن شئت قلت: للإمام بما هو إمام أي لمنصب الإمامة، فكل هذه التعبيرات ترجع إلى منع واحد. وبالجملة ليس إحياء الأرض إحياء للمعدن المتكون تحتها بل هو باق على
75 اشتراكه، نعم ليس لكل أحد الورود في ملك الغير بعنوان استخراج المعدن وإنما يكون ذلك إلى الإمام إن رآه صلاحا وجبر خساراته. هذا. ولو تنزلنا عن القول الأول في المعادن فالأظهر هو القول الثالث، أعني تبعية المعادن للأرض الواقعة فيها. والمحقق في كتاب إحياء الموات من الشرائع مع استشكاله في كون المعادن من الأنفال قال: " لو أحيا أرضا فظهر فيها معدن ملكه تبعا لها لأنه من أجزائها. " (1) أقول: هل المعدن جزء من الأرض المحياة فيملكه المحيي تبعا وليس جزء من أرض المسلمين أو أرض الإمام؟ فإن كانت الجزئية من الأرض ملاكا للملكية التبعية كان مقتضاة عد المعدن الواقع في الأنفال من الأنفال أيضا، وهو القول الثالث في المسألة. وأما القول الثاني فاستدل له في إحياء الموات من الجواهر بقوله: " فإن المشهور نقلا وتحصيلا على أن الناس فيها شرع سواء، بل قيل: قد يلوح من محكي المبسوط والسرائر نفي الخلاف فيه. مضافا إلى السيرة المستمرة في سائر الأعصار والأمصار في زمن تسلطهم وغيره على الأخذ منها بلا إذن، حتى ما كان في الموات الذي قد عرفت أنه لهم منها أو في المفتوحة عنوة التي هي للمسلمين، فإنه وإن كان ينبغي أن يتبعهما فيكون ملكا للإمام (عليه السلام) في الأول وللمسلمين في الثاني لكونه من أجزاء الأرض المفروض كونها ملكا لهما، بل لو تجدد فيهما فكذلك أيضا إلا أن السيرة المزبورة العاضدة للشهرة المذكورة، ولقوله - تعالى -: " خلق لكم ما في الأرض " ولشدة حاجة الناس إلى بعضها على وجه يتوقف عليه معاشهم نحو الماء والنار والكلأ، وفي خبر أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه، عن علي (عليه السلام): " لا يحل منع الملح والنار " وغير ذلك مما لا يخفى على السارد لأخبارهم يوجب الخروج عن ذلك. " (2)
1 - الشرائع 3 / 279، (= طبعة أخرى / 797، الجزء الرابع). 2 - الجواهر 38 / 108، والخبر المذكور في الوسائل 17 / 332، الباب 5 من أبواب إحياء الموات، الحديث 2. 76 واستدل له في باب الأنفال بقوله: " للأصل والسيرة، وإشعار إطلاق أخبار الخمس في المعادن، ضرورة أنه لا معنى لوجوبه على الغير وهي ملك للإمام. " (1) أقول: ادعاء الشهرة مع مصير جمع من الأساطين إلى الخلاف بلا وجه، والسيرة المدعاة قد تحققت في سائر الأنفال أيضا، فإن أراضي الموات مثلا من الأنفال قطعا وقد استقرت السيرة في جميع الأعصار على إحيائها والتصرف فيها وحيازة ما فيها، ووجهه عدم التزام الناس غير الشيعة الإمامية بكونها من الأنفال وعدم اعتنائهم بشأن الأئمة (عليهم السلام). والشيعة الإمامية وهم القليلون من الناس لعلهم كانوا يستأذنون من الأئمة - عليهم السلام -، أو لعلهم وقفوا على تحليلهم لشيعتهم. وقولنا: إن الموات والمعادن من الأنفال لا نريد به أن الأئمة (عليهم السلام) يحسبون جميع الناس عن التصرف فيها ويحبسونها عنهم، بل نريد به كما مر أن زمام أمرها بأيديهم، فهي تحيى ويستفاد منها ولكن بإذنهم وتحت نظرهم بلا أجرة أو بأجرة حسب ما تقتضيه مصالح الإسلام والمسلمين. كيف؟! والفرار من الهرج والمرج والتغالب وتضييع حقوق الضعفاء يستدعي جعل زمام الأموال العامة بيد ولى المجتمع الصالح العادل. فاتضح بذلك بطلان الاستدلال بالآية الشريفة وبشدة حاجة الناس إلى المعادن، حيث إن خلقها للناس وشدة حاجتهم إليها لا ينافيان كونها من الأنفال وتحت اختيار الإمام، إذ الأنفال كما مر بيانه ليست ملكا لشخص الإمام بل لمنصب الإمامة وإدارة شؤون الأمة فهو لا يحبسها عند حاجة الناس والأمة إليها بل يصرفها ويقبلها حسب الحاجات والمصالح العامة. فكون المعادن مثلا من الأنفال لا يوجب تركها وعدم السعي في استخراجها بل
1 - الجواهر 16 / 129. 77 الإمام العادل يقطعها إلى من يستخرجها أو يحلل للجميع استخراجها والاستفادة منها بنحو لا يضر بالإسلام ولا بالأمة. ألا ترى أن الموات من الأراضي وبطون الأودية ورؤوس الجبال والآجام جعلت كلها من الأنفال وللإمام مع أنها مما يحتاج إليها الناس جدا طول القرون والأعصار. فمعنى كونها للإمام أن زمام أمرها بيده وهو الذي يقطعها ويقبلها بلا أجرة أو بأجرة حسب ما يراه من المصلحة. فأي فرق في ذلك بين المعادن وبين ما ذكر؟! وأما جعل الخمس على من استخرجها مع تحقق الشروط فإما أن يكون من قبل الأئمة - عليهم السلام - بعنوان العوض وحق الإقطاع فيكون نفس ذلك إذنا منهم في استخراجها وتحليلا لها لشيعتهم بإزاء تأدية الخمس منها، أو يكون حكما شرعيا إلهيا ثابتا على من استخرجها بالإذن منهم ولو بسبب التحليل المطلق في عصر الغيبة وعدم انعقاد الحكومة الحقة الصالحة. وكونه بعنوان حق الإقطاع لا يقتضي اختصاص الإمام به وعدم صرفه إلى السادة كما توهم، إذ هو تابع لكيفية جعل الإمام، مضافا إلى ما ذكرناه في باب الخمس من كونه بأجمعه حقا وحدانيا ثابتا لله وبعده للرسول وبعده للإمام القائم مقامه مثل الأنفال غاية الأمر أن على الإمام إدارة شؤون السادة بما أنهم فروع شجرة النبوة. وبالجملة فالأقوى كون المعادن بإطلاقها من الأنفال ظاهرة كانت أو باطنة فتكون تحت اختيار إمام المسلمين ولا تستخرج إلا بإذنه خصوصا أو عموما ويجوز له إقطاعها إذا رآه صلاحا. والفرق الذي يوجد في كلمات فقهاء الفريقين بين المعادن الظاهرة والباطنة ليس منه أثر في أخبارنا وليس من الأصول المتلقاة عن المعصومين (عليهم السلام) حتى يفيد فيه الإجماع أو الشهرة، ولذا لم يذكر في ما مر من عبارات المقنعة والنهاية والمراسم والكافي. بل هو أمر تفريعي اجتهادي تعرضوا له على أساس ما عندهم من القواعد، ويشبه أن يكون ورد من فقه السنة إلى فقهنا، ولعل منشأ الالتفات إلى هذا التفصيل قصة استقطاع أبيض بن حمال لملح مأرب وما عامله به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسيأتي الإشارة إليها.
78 وفي عصر الغيبة يكون زمام اختيار الأنفال والأموال العامة بيد الحاكم الصالح العادل بشرائطه التي مرت في محله، كما أن زمام أمر الخمس أيضا بيده. والتحليل المطلق من الأئمة (عليهم السلام) للأنفال لشيعتهم لا ينافي جواز دخالة الحاكم الشرعي فيها مع بسط يده، فإن الظاهر أن أئمتنا - عليهم السلام - أرادوا التوسعة لشيعتهم في زمان حكومة خلفاء الجور وعدم التمكن من الحكومة الحقة الصالحة. والحكومة ضرورة للمسلمين في جميع الأعصار لا محيص لهم عنها ولا تتعطل شرعا، واحتياجها إلى المنابع المالية والأموال العامة أيضا واضح، ولا يراد بلفظ الإمام في هذا السنخ من المسائل السياسية والاقتصادية خصوص الإمام المعصوم، غاية الأمر أنه مع حضور الأئمة الاثني عشر لا تنعقد الإمامة لغيرهم، وعلى هذا فللحاكم العادل الصالح منع التصرف فيها إلا تحت ضوابط وشرائط خاصة حفظا للنظم والعدالة. وبذلك يظهر الإشكال على ما في الجواهر، حيث يظهر منه اختصاص الحكم بالإمام المعصوم: قال في ذيل قول المحقق: " وفي جواز إقطاع السلطان المعادن والمياه تردد " بعد بيان وجه التردد وقصة استقطاع الملح من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإشكال المسالك عليها ما هذا لفظه: " وبالجملة هذه المسألة كنظائرها المذكورة في هذا الكتاب قد ذكرها العامة بناء على أصولهم في أئمتهم الذين يجوز عليهم - ان لم يكن قد وقع منهم - كل قبيح، لأن الأحكام الصادرة منهم عن اجتهاد ورأي وغير ذلك من الأمور الفاسدة، كما لا يخفى على من له أدنى خبرة بأحوالهم، بخلاف الإمام - عليه السلام - عندنا الذي لا ينطق عن الهوى، وإن هو إلا وحي يوحى. ولاطلاعه على المصالح الواقعية وكونه معصوما عن ترك الأولى فضلا عن غيره صار أولى من المؤمنين بأنفسهم، فالمتجه حينئذ سقوط هذا البحث، ضرورة أن له الفعل وإن لم يسم إقطاعا عرفا. نعم لا يجوز ذلك ونحوه مما هو متوقف على المصالح الواقعية للنائب العام، لعدم عموم لنيابته على وجه يشمل مثل ذلك مما هو مبني على معرفة المصالح الواقعية
79 وليس له ميزان ظاهر أذنوا - عليهم السلام - فيه، فهو من خواص الإمامة لا يندرج في إطلاق ما دل على نيابة الغيبة المنصرف إلى ما كان منطبقا على الموازين الشرعية الظاهرة كالقضاء والولاية على الأطفال ونحو ذلك لا نحو الفرض. " (1) فتأمل في كلامه - قدس سره - أنه حصر الولاية في عصر الغيبة في مثل القضاء الولاية على الأطفال ونحوهما، مع أن سياسة البلاد والعباد وحفظ كيان الإسلام والمسلمين استقلالهم في قبال الكفار والأجانب وعمالهم من أهم الأمور التي يقطع بعدم جواز إهمالها، ولا محالة يحتاج فيها إلى منابع مالية مهمة ومنها الأموال العامة المعبر عنها بالأنفال. نعم، لا نأبى مع ذلك كون المالك الشخصي للأرض المملوكة أحق باستخراج المعدن الموجود فيها إن تمكن من ذلك واستلزم استخراجه تصرفا في أرضه، ولكن يعتبر فيه إذن الإمام عموما أو خصوصا كسائر الأنفال، وأما صيرورته بمجرد التكون في ملكه ملكا له تبعا فممنوع إلا في الأمور الجزئية والسطحية المعدة عرفا من توابع الملك فوائده نظير الأعشاب والأشجار النابتة والمياه والمعادن الجزئية، فتدبر. هذا. ويشهد لكون المعادن من الأنفال إجمالا وكونها تحت اختيار الإمام مضافا إلى ما مر ما ورد من إقطاع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والخلفاء بعده بعض المعادن لبعض الأشخاص: 1 - ففي سنن البيهقي بسنده عن ابن عباس أنه قال: " أعطى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلال بن الحارث المزني معادن القبلية جلسيها وغوريها وحيث يصلح الزرع. " (2) ونحوها رواية أخرى، فراجع. قال في النهاية:
1 - الجواهر 38 / 103. 2 - سنن البيهقي 6 / 151، كتاب إحياء الموات، باب ما جاء في إقطاع المعادن الباطنة. 80 " الجلس: كل مرتفع من الأرض، ويقال لنجد: جلس أيضا... والمشهور معادن القبلية بالقاف، وهي ناحية قرب المدينة وقيل هي من ناحية الفرع. " (1) وفيه أيضا: " الغور: ما انخفض من الأرض. والجلس: ما ارتفع منها. " (2) 2 - وفي سنن البيهقي أيضا بسنده عن أبيض بن حمال: " أنه وفد إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستقطعه الملح - قال ابن المتوكل: الذي بمأرب - فقطعه له، فلما أن ولى قال رجل من المجلس: أتدري ما قطعت له؟ إنما قطعت له الماء العد. قال: فانتزع منه. " (3) وروى نحوه أبو عبيد في الأموال أيضا. (4) 3 - وفي البيهقي أيضا بسنده عن أبيض بن حمال: " أنه استقطع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الملح الذي بمأرب فأراد أن يقطعه إياه فقال رجل: إنه كالماء العد فأبى أن يقطعه. قال الأصمعي: الماء العد: الدائم الذي لا انقطاع له. " (5) أقول: عدم إقطاع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للملح الذي بمأرب لا يدل على عدم جواز إقطاع المعادن الظاهرة مطلقا كما قيل، إذ لعله كان لعدم وجود المصلحة فيه فكان تضييعا لحقوق المسلمين، فالأمر دائر مدار المصالح العامة. وأوضاع المعادن وكميتها وكيفياتها ومقدار ذخائرها وكيفية استخراجها والثمن المأخوذ في قبلها تختلف جدا بحسب الأعصار والبلاد والأشخاص والإمكانيات وسائر الشرائط، فتدبر. ثم إنه ربما يقال: إنه على تقدير المناقشة في أدلة الطرفين وبقاء المسألة على
1 - النهاية لابن الأثير 1 / 286. 2 - النهاية لابن الأثير 3 / 393. 3 - سنن البيهقي 6 / 149، كتاب إحياء الموات، باب ما لا يجوز إقطاعه من المعادن الظاهرة. 4 - الأموال / 350. 5 - سنن البيهقي 6 / 149، كتاب إحياء الموات، باب ما لا يجوز إقطاعه من المعادن الظاهرة. 81 إجمالها فهل المرجع عموم قوله - تعالى -: " خلق لكم ما في الأرض جميعا "، وقوله: " والأرض وضعها للأنام " (1)، أو عموم الروايات الحاكمة بأن الأرض كلها لنا، أو الأرض كلها لنا فما أخرج الله منها من شيء فهو لنا، أو الدنيا وما فيها لله - تبارك وتعالى - ولرسوله ولنا، إلى غير ذلك من المضامين الواردة في الأخبار؟ (2) أقول: من تأمل فيما ذكرناه في خلال بحث الأنفال وبحث المعادن يظهر له عدم تهافت الدليلين ووضوح الجمع بينهما، إذ الظاهر أن اللام في الآيتين ليست للملكية لايراد بهما ملكية الأرض وما فيها للناس بحيث يملك كل واحد منهم حصة منها بالشركة أو تكون ملكا لعنوان الناس والأنام ووقفا عليهم بحيث لا يجوز بيعها وهبتها نحو ذلك نظير ملكية الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين. بل المقصود بيان غرض الخلقة الهدف منها وأن الغرض منها انتفاع الناس بها طول القرون والأعصار، فاللام تكون للغاية. لا ينافي هذا كونها تحت اختيار الإمام الذي هو ممثل المجتمع حذرا من الفوضى والهرج والتغالب وتضييع الحقوق، وهذا أمر يحكم بحسنه ولزومه العقل والفطرة، لا نعني بكونها من الأنفال وكونها للإمام بما هو إمام إلا هذا. وبالجملة، فليس العمومان متهافتين وفي طريق النقيض حتى يكون أحدهما المرجع في قبال الآخر، فتدبر جيدا. العاشر من الأنفال: ميراث من لا وارث له عند علمائنا أجمع: 1 - قال الشيخ في كتاب الفرائض من الخلاف (المسألة 1):
1 - سورة البقرة (2)، الآية 29، وسورة الرحمن (55)، الآية 10. 2 - راجع الكافي 1 / 407، كتاب الحجة، باب أن الأرض كلها للإمام - عليه السلام -. 82 " ميراث من لا وارث له ولا مولى نعمة لإمام المسلمين، سواء كان مسلما، أو ذميا. قال جميع الفقهاء: إن ميراثه لبيت المال وهو لجميع المسلمين. دليلنا إجماع الفرقة أخبارهم. " (1) 2 - وفيه أيضا (المسألة 14): " ميراث من لا وارث له (لا خ. ل) ينقل إلى بيت المال وهو للإمام خاصة. وعند جميع الفقهاء ينقل إلى بيت المال ويكون للمسلمين... دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا فلا خلاف أن للإمام أن يخص به قوما دون قوم فلولا أنه له لم يجز ذلك... " (2) 3 - وفي باب الأنفال من النهاية قال في عدادها: " وميراث من لا وارث له. " (3) 4 - وفي كتاب الفرائض من الشرائع: " فإذا عدم الضامن كان الإمام وارث من لا وارث له وهو القسم الثالث من الولاء فإن كان موجودا فالمال له يصنع به ما يشاء وكان علي (عليه السلام) يعطيه فقراء بلده وضعفاء جيرانه تبرعا. " (4) 5 - وفي المنتهى: " ومن الأنفال ميراث من لا وارث له، ذهب علماؤنا أجمع إلى أنه يكون للإمام خاصة ينقل إلى بيت ماله وخالف فيه الجمهور كافة وقالوا: إنه للمسلمين أجمع. " (5) 6 - وفي منهاج النووي: " وأسباب الإرث أربعة: قرابة ونكاح وولاء فيرث المعتق العتيق ولاعكس، والرابع: الإسلام، فتصرف التركة لبيت المال إرثا إذا لم يكن وارث بالأسباب الثلاثة. " (6)
1 - الخلاف 2 / 251. 2 - الخلاف 2 / 258. 3 - النهاية / 199. 4 - الشرائع 4 / 40 (= طبعة أخرى / 839). 5 - المنتهى 1 / 553. 6 - منهاج النووي / 320. 83 7 - وفي مغني المحتاج قال في ذيل كلام النووي: " لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه. " رواه أبو داود وغيره، هو (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يرث لنفسه شيئا، وإنما يصرف ذلك في مصالح المسلمين لأنهم يعقلون عن الميت كالعصبة من القرابة فيضع الإمام تركته أو باقيها في بيت المال أو يخص منها من يشاء. " (1) هذا. ويدل على الحكم مضافا إلى كونه إجماعيا أخبار كثيرة: 1 - صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " من مات وليس له وارث من قرابته ولا مولى عتاقه قد ضمن جريرته فماله من الأنفال. " (2) 2 - صحيحة محمد الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله - تعالى -: " يسألونك عن الأنفال "، قال: " من مات وليس له مولى فماله من الأنفال. " (3) 3 - صحيحة الحلبي أيضا عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " من مات وترك دينا فعلينا دينه إلينا عياله، ومن مات وترك مالا فلورثته، ومن مات وليس له موالي فماله من الأنفال. " (4) 4 - خبر أبان بن تغلب، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " من مات لا مولى له ولا ورثة فهو من أهل هذه الآية: يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول. " (5) ويقرب من ذلك خبره الآخر. (6) 5 - خبر حمزة بن حمران، وفيه: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): " إن كان الرجل الميت يوالى إلى رجل من المسلمين وضمن جريرته وحدثه أو شهد بذلك على نفسه فإن ميراث الميت له، وإن
1 - مغني المحتاج 3 / 4. 2 - الوسائل 17 / 547، الباب 3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة، الحديث 1. 3 - الوسائل 17 / 548، الباب 3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة، الحديث 3. 4 - الوسائل 17 / 548، الباب 3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة، الحديث 4. 5 - الوسائل 17 / 549، الباب 3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة، الحديث 8. 6 -. 84 كان الميت لم يتوال إلى أحد حتى مات فإن ميراثه لإمام المسلمين. الحديث. " (1) 6 - مرسلة حماد الطويلة، عن بعض أصحابنا، عن العبد الصالح (عليه السلام)، وفيها: " و هو وارث من لا وارث له يعول من لا حيلة له. " (2) 7 - صحيحة عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في من أعتق عبدا سائبة أنه لا ولاء لمواليه عليه، فإن شاء توالى إلى رجل من المسلمين فليشهد أنه يضمن جريرته وكل حدث يلزمه، فإذا فعل ذلك فهو يرثه، وإن لم يفعل ذلك كان ميراثه يرد على إمام المسلمين. " (3) أقول: في مجمع البحرين: " في الحديث ذكر السائبة، وهو العبد يعتق ولا يكون لمعتقه عليه ولاء ولا عقل بينهما لا ميراث فيضع ماله حيث شاء. " (4) 8 - خبر علي بن رئاب، عن عمار بن أبي الأحوص، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن السائبة فقال: " انظروا في القرآن; فما كان فيه فتحرير رقبة فتلك يا عمار السائبة التي لا ولاء لأحد عليها إلا الله، فما كان ولاؤه لله فهو لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وما كان ولاؤه لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن ولاءه للإمام وجنايته على الإمام وميراثه له. " (5) 9 - خبر محمد بن القاسم بن الفضيل بن يسار، عن أبي الحسن (عليه السلام) في رجل صار في يده مال لرجل ميت لا يعرف له وارثا كيف يصنع بالمال؟ قال: " ما أعرفك لمن هو. " يعني نفسه. (6)
1 - الوسائل 17 / 550، الباب 3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة، الحديث 11. 2 - الوسائل 6 / 365، الباب 1 من أبواب الأنفال...، الحديث 4. 3 - الوسائل 17 / 550، الباب 3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة، الحديث 12. 4 - مجمع البحرين / 115. 5 - الوسائل 17 / 549، الباب 3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة، الحديث 6. 6 - الوسائل 17 / 551، الباب 3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة، الحديث 13. 85 10 - حسنة عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: مكاتب اشترى نفسه وخلف مالا قيمته مأة ألف ولا وارث له، قال: " يرثه من يلي جريرته. " قال: قلت: من الضامن لجريرته؟ قال: " الضامن لجرائر المسلمين. " (1) 11 - وفي كتاب الأموال لأبي عبيد بسنده، عن المقدام بن معدي كرب، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ".. وأنا وارث من لا وارث له أرثه وأعقل عنه. " (2) 12 - وفي سنن البيهقي بسنده، عن المقدام الكندي، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه; فمن ترك دينا أو ضيعة فإلينا، ومن ترك مالا فلورثته، وأنا مولى من لا مولى له أرث ماله وأفك عانه. " (3) أقول: الضيعة: العيال أو الفقدان والتلف. والعان مخفف العاني بمعنى الأسير، والحكم كان ثابتا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا بما أنه نبي بل بما أنه كان إمام المسلمين وقائدهم وأولى بهم من أنفسهم كما يدل عليه صدر الخبر الأخير، وهو يعقل عنه من بيت المال فلا محالة يكون الميراث أيضا " متعلقا ببيت المال، فتدبر. وظاهر هذه الأخبار الكثيرة أن وزان ميراث من لا وارث له وزان سائر الأنفال التي حكمنا بكونها للإمام فله أن يصرفه فيما يراه صلاحا ولا يتقيد بمصرف خاص كسائر الأنفال. نعم، هنا أخبار معارضة أو يتوهم معارضتها لما سبق وهي ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: ما دلت على أن ميراث السائبة لأقرب الناس لمولاه:
1 - الوسائل 17 / 549، الباب 3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة، الحديث 7. 2 - الأموال / 282. 3 - سنن البيهقي 6 / 243، كتاب الفرائض، باب من جعل ميراث من لم يدع وارثا... 86 وهي موثقة أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " السائبة ليس لأحد عليها سبيل فإن والى أحدا فميراثه له وجريرته عليه، وإن لم يوال أحدا فهو لأقرب الناس لمولاه الذي أعتقه. " (1) أقول: قال في التهذيب: " هذا الخبر غير معمول عليه لأن الأخبار كلها وردت في أنه متى لم يتوال السائبة أحدا كان ميراثه لبيت مال المسلمين. " وقال في الوسائل: " ويحتمل التفضل منهم - عليهم السلام -. " (2) الطائفة الثانية: ما دلت على أن ميراث من لا وارث له يجعل في بيت مال المسلمين: 1 - كخبر معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: " من أعتق سائبة فليتوال من شاء، وعلى من والى جريرته وله ميراثه، فإن سكت حتى يموت أخذ ميراثه فجعل في بيت مال المسلمين إذا لم يكن له ولي. " (3) قال في الوسائل: " هذا محمول على أن المراد ببيت مال المسلمين بيت مال الإمام (عليه السلام) لأنه متكفل بأحوالهم، أو على التقية لموافقته للعامة، أو على التفضل من الإمام (عليه السلام) والإذن في إعطاء ماله للمحتاجين من المسلمين لما مضى ويأتي. " (4) أقول: ويأتي منا بيان الجمع بين هذه الأخبار والأخبار التي مضت. 2 - وصحيحة سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن مملوك أعتق سائبة؟ قال: " يتولى من شاء، وعلى من تولاه جريرته وله ميراثه ". قلت: فإن سكت
1 - الوسائل 17 / 550، الباب 3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة، الحديث 10. 2 - التهذيب 9 / 395، كتاب المواريث، باب من الزيادات، ذيل الحديث 15، والوسائل ذيل الخبر المذكور. 3 - الوسائل 17 / 549، الباب 3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة، الحديث 9. 4 - الوسائل 17 / 550، ذيل خبر المذكور. 87 حتى يموت؟ قال: " يجعل ماله في بيت مال المسلمين. " (1) 3 - وصحيحته الأخرى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجل مسلم قتل وله أب نصراني لمن تكون ديته؟ قال: " تؤخذ فتجعل في بيت مال المسلمين لأن جنايته على بيت مال المسلمين. " (2) 4 - وما رواه في قرب الإسناد، عن أبي البختري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن عليا (عليه السلام) أعتق عبدا نصرانيا ثم قال: " ميراثه بين المسلمين عامة إن لم يكن له ولي. " (3) 5 - وفي دعائم الإسلام: " قال أبو عبد الله (عليه السلام): من مات ولم يدع وارثا فماله من الأنفال يوضع في بيت المال لأن جنايته على بيت المال، ومن ترك ورثة من أهل الكفر لم يرثوه وهو كمن لم يدع وارثا. " (4) قال في الجواهر: " لم نعثر على عامل بالنصوص القاصر أكثر أسانيدها المشتملة على أن إرثه لبيت المال، وفي بعضها لبيت مال المسلمين الموافقة للعامة إلا الإسكافي والشيخ في محكي الاستبصار; فلتطرح، أو تحمل على التقية، أو على أن المراد ببيت المال وإن أضيف إلى المسلمين مال الإمام - عليه السلام - بقرينة الأخبار الأخر وما عن جماعة من شيوع إطلاق بيت المال وإرادة بيت مال الإمام - عليه السلام -... ولعل في نقله إلى بيت المال إشعارا بأن المأخوذ بحق الإمامة غير باقي أموال الإمام - عليه السلام - الحاصلة له بكسب ونحوه، ولذا قال في محكي الغنية والسرائر: " إذا مات الإمام انتقل الميراث إلى الإمام لا إلى غيره من ورثته "، بل عن الأول إجماع الطائفة عليه. والأمر سهل بعدما عرفت من وضوح الحكم عندنا. " (5) انتهى كلام الجواهر.
1 - الوسائل 17 / 553، الباب 4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة، الحديث 8. 2 - الوسائل 17 / 552، الباب 4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة، الحديث 5. 3 - الوسائل 17 / 553، الباب 4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة، الحديث 9. 4 - دعائم الإسلام 2 / 392، كتاب الفرائض، الفصل 7 (ذكر من يجوز أن يرث ومن لا ميراث له)، الحديث 1386. 5 - الجواهر 39 / 260. 88 أقول: في ميراث الغنية: " فإن عدم جميع هؤلاء الوراث فالميراث للإمام، فإن مات انتقل إلى من يقوم مقامه في الإمامة دون من يرث تركته. " (1) وفي السرائر بعدما ذكر ولاء الإمامة قال: " فأما إذا مات الإمام انتقل إلى الإمام الذي يقوم بأمر الأمة مقامه دون ورثته الذين يرثون تركته. " (2) أقول: مما ذكرنا سابقا في الجهة الثانية في معنى كون الأنفال ونحوها للإمام تحدس طريق الجمع بين هذه الأخبار والأخبار التي مضت، ويظهر لك عدم التنافي بينهما، إذ الأنفال ليست ملكا لشخص الإمام المعصوم بل لمنصب الإمامة مطلقا ولا محالة تصرف في مصالح الإمامة والأمة، ولا يوجد فرق أساسي بين ان ينسب المال إلى الإمام بما هو إمام وبين أن ينسب إلى المسلمين، فإن ولى المسلمين ومن يتولى صرف أموالهم العامة هو الإمام، وما للإمام بما هو إمام أيضا يصرف في مصالح الإمامة والأمة ولا يصرف في مصارفه الشخصية إلا أقل قليل، وهي أيضا من أهم المصالح العامة. ولو بقي منها شيء ينتقل إلى الإمام بعده لا إلى وراثه كما نطق بذلك خبر أبي علي بن راشد وأفتى به في الغنية والسرائر أيضا. وليس لفظ الإمام موضوعا للإمام المعصوم المنحصر عندنا في الأئمة الاثني عشر، بل المراد به في هذه المسائل: كل من تصدى لقيادة المسلمين وإدارة شؤونهم العامة بشرط أن يكون واجدا للشرائط التي مرت في محله. غاية الأمر أنه مع حضور الأئمة الاثني عشر تكون الإمامة حقا لهم ولا تنعقد لغيرهم، ولكن ليس ذلك بمعنى تعطيل الإمامة وشؤونها في عصر الغيبة. ويشهد لما ذكرنا من عدم التنافي بين هذه الأخبار والأخبار التي مضت جمع كلا
1 - الجوامع الفقهية / 546 (= ط. أخرى / 608). 2 - السرائر / 403. 89 العنوانين في بعض الأخبار: 1 - ففي صحيحة عبد الله بن سنان وعبد الله بن بكير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل وجد مقتولا لا يدرى من قتله، قال: إن كان عرف له أولياء يطلبون ديته أعطوا ديته من بيت مال المسلمين، ولا يبطل دم امرئ مسلم لأن ميراثه للإمام فكذلك تكون ديته على الإمام. الحديث. " (1) 2 - وفي صحيحة أبي ولاد الحناط قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) في الرجل يقتل وليس له ولى إلا الإمام: " إنه ليس للإمام أن يعفو; له أن يقتل أو يأخذ الدية فيجعلها في بيت مال المسلمين لأن جناية المقتول كانت على الإمام وكذلك تكون ديته لإمام المسلمين. " (2) 3 - وأظهر من ذلك صحيحته الأخرى، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل مسلم قتل رجلا مسلما عمدا فلم يكن للمقتول أولياء من المسلمين إلا أولياء من أهل الذمة من قرابته، فقال: على الإمام أن يعرض على قرابته من أهل بيته (دينه) الإسلام، فمن أسلم منهم فهو وليه يدفع القاتل اليه فإن شاء قتل وإن شاء عفا وإن شاء أخذ الدية، فإن لم يسلم أحد كان الإمام ولى أمره فإن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية فجعلها في بيت مال المسلمين لأن جناية المقتول كانت على الإمام فكذلك تكون ديته لإمام المسلمين. قلت: فإن عفا عنه الإمام؟ قال: فقال: " إنما هو حق جميع المسلمين وإنما على الإمام أن يقتل أو يأخذ الدية وليس له أن يعفو. " (3) ولأجل ذلك ترى المفيد في المقنعة قال في العبد الذي اعتق كفارة ولم يتوال أحدا: " كان ميراثه لبيت المال إن لم يكن له نسب. " (4)
1 - الوسائل 19 / 109، الباب 6 من أبواب دعوى القتل وما يثبت به، الحديث 1. 2 - الوسائل 19 / 93، الباب 60 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 2. 3 - الوسائل 19 / 93، الباب 60 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1. 4 - المقنعة / 106. 90 وقال في باب ميراث من لا وارث له: " كان ميراثه لإمام المسلمين خاصة يضعه فيهم حيث يرى. " (1) ومر عن التهذيب في بيان عدم العمل بخبر أبي بصير: " أن الأخبار كلها وردت في أنه متى لم يتوال السائبة أحدا كان ميراثه لبيت مال المسلمين. " (2) وفي الاستبصار: " لأنه إذا لم يوال أحدا كان ميراثه لبيت المال ويكون عليه جريرته. " (3) فهذا كله يدل على عدم التفاوت بين أن ينسب المال إلى الإمام بما هو إمام أو إلى بيت مال المسلمين; فما لهما واحد. وليس هذا الحكم أيضا مما أبدعه الإسلام بل كان المتعارف في جميع الأعصار جميع البلدان انتقال ميراث من لا وارث له إلى الحكومة والدولة، حيث إن المورث كان ينتفع في زمان حياته من إمكانات الدولة وكان عليها جبر جرائره إن لم يجبرها بشخصه عاقلته، ومن عليه الغرم فله الغنم قهرا، فتدبر. الطائفة الثالثة مما يتوهم معارضتها لما سبق: ما دلت على إعطاء المال لفقراء بلد الميت: 1 - ما عن الكافي بسنده، عن خلاد السندي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " كان علي (عليه السلام) يقول في الرجل يموت ويترك مالا وليس له أحد: أعط المال همشاريجه. " (4) 2 - وعن الشيخ بسنده، عن خلاد، عن السري يرفعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) في
1 - المقنعة / 108. 2 - التهذيب 9 / 395، كتاب الفرائض، باب من الزيادات. 3 - الاستبصار 4 / 200، كتاب الفرائض، باب ميراث السائبة. 4 - الوسائل 17 / 551، الباب 4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة، الحديث 1. 91 الرجل يموت ويترك مالا ليس له وارث، قال: فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): " أعط المال همشاريجه. " (1) 3 - وعنهما بسندهما، عن داود، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " مات رجل على عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن له وارث فدفع أمير المؤمنين ميراثه إلى همشهريجه. (همشيريجه خ. ل). " (2) قال في الاستبصار بعد نقل الخبرين: " ليس فيهما ما ينافي ما تقدم لأن الذي تضمناه حكاية فعل وهو أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أعطى تركته همشاريجه، ولعل ذلك فعل لبعض الاستصلاح لأنه إذا كان المال له خاصة على ما قدمناه جاز له أن يعمل به ما شاء ويعطي من شاء. " (3) 4 - وعن الصدوق قال: روي في خبر آخر: " أن من مات وليس له وارث فميراثه لهمشاريجه. " يعني أهل بلده. قال الصدوق: " متى كان الإمام ظاهرا فماله للإمام، ومتى كان الإمام غائبا فماله لأهل بلدة متى لم يكن له وارث ولا قرابة أقرب إليه منهم بالبلد. " (4) 5 - وفي المقنعة: " وكان أمير المؤمنين على بن أبي طالب (عليه السلام) يعطي تركة من لا وارث له من قريب ولا نسيب ولا مولى فقراء أهل بلده وضعفاء جيرانه وخلطائه تبرعا عليهم بما تستحقه من ذلك واستصلاحا للرعية حسب ما كان يراه في الحال من صواب الرأي لأنه من الأنفال... " (5)
1 - الوسائل 17 / 552، الباب 4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة، الحديث 2. 2 - الوسائل 17 / 552، الباب 4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة، الحديث 3. 3 - الاستبصار 4 / 196، كتاب الفرائض، باب ميراث من لا وارث له... 4 - الوسائل 17 / 552، الباب 4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة، الحديث 4. 5 - المقنعة / 108; الوسائل 17 / 554، الباب 4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة، الحديث 11. 92 6 - وفي النهاية: " وكان أمير المؤمنين " يعطي ميراث من لا وارث له فقراء أهل بلده وضعفاءهم، وذلك على سبيل التبرع منه (عليه السلام). " (1) 7 - وفي سنن البيهقي بسنده عن عائشة أن رجلا وقع من نخلة فمات وترك شيئا لم يدع ولدا ولا حميما، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أعطوا ميراثه رجلا من أهل قريته. " (2) 8 - وفيه أيضا بسنده عن عائشة أن مولى لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) توفي، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ههنا أحد من أهل قريته؟ فقالوا: نعم. فأعطاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ميراثه. (3) 9 - وفيه أيضا بسنده عن بريدة أن رجلا توفي من خزاعة على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأتي النبي بميراثه فقال: انظروا هل من وارث فالتمسوه فلم يجدوا له وارثا فأخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " ادفعوه إلى أكبر خزاعة. " (4) 10 - وفيه أيضا بسنده، عن بريدة، قال: أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل قال: إن عندي ميراث رجل من الأزد ولست أجد أزديا أدفعه إليه، قال: فاذهب فالتمس رجلا أزديا حولا، قال: فأتاه بعد الحول فقال: يا رسول الله، لم أجد أزديا أدفعه إليه. قال: فانطلق فانظر أول خزاعي تلقاه فدفعه إليه. فلما ولى قال: على بالرجل. فلما جاء قال: انظر أكبر خزاعة. (5) أقول: ان فقهاءنا فيما عثرت عليه من كلماتهم قد أخذوا بما مر أولا من الأخبار في المسألة فقالوا إن ميراث من لا وارث له للإمام يصنع فيه ما يشاء حسب ما يراه
1 - النهاية / 671; الوسائل 17 / 554، الباب 4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة، الحديث 10. 2 - سنن البيهقي 6 / 243، كتاب الفرائض، باب من جعل ميراث من لم يدع وارثا ولا مولى في بيت المال. 3 - سنن البيهقي 6 / 243، كتاب الفرائض، باب من جعل ميراث... 4 - سنن البيهقي 6 / 243، كتاب الفرائض، باب من جعل ميراث... 5 - سنن البيهقي 6 / 243، كتاب الفرائض، باب من جعل ميراث... 93 صلاحا، حملوا الأخبار الأخيرة على حكاية فعل صدر عن الإمام تبرعا وتفضلا على اختلافهم في التعبيرات. ويجرى هذا فيما حكي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا جمعا بين هذه الأخبار وبين ما مر من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): أرث ماله، وقوله: أنا وارث من لا وارث له. وليس هذا أيضا إلا لأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) إمام المسلمين وقائدهم والمدافع عنهم ويضمن جناياتهم وإلا فالنبوة بما أنها نبوة فقط لا تقتضي ذلك كما هو واضح. هذا. ولكن مع ذلك اختلفت كلمات أصحابنا في حكمه في عصر الغيبة: 1 - ففي كتاب الفرائض من الخلاف (المسألة 15): " كل موضع وجب المال لبيت المال عند الفقهاء للمسلمين، وعندنا للإمام إن وجد الإمام العادل سلم إليه بلا خلاف وإن لم يوجد وجب حفظه له عندنا كما يحفظ سائر أمواله التي يستحقها. واختلف أصحاب الشافعي... دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم. " (1) والظاهر أن مراده - قدس سره - من الإمام العادل خصوص الإمام المعصوم. 2 - وقد مر عن الفقيه قوله في المقام: " ومتى كان الإمام غائبا فماله لأهل بلده متى لم يكن له وارث. " (2) ومراده أهل بلد الميت لا بلد الإمام. 3 - وفي المقنعة: " ومن مات وخلف تركة في يد إنسان لا يعرف له وارثا جعلها في الفقراء والمساكين ولم يدفعها إلى سلطان الجور والظلمة. " (3) 4 - وفي الشرائع: " وكان علي (عليه السلام) يعطيه فقراء بلده وضعفاء جيرانه تبرعا، وإن كان غائبا قسم في
1 - الخلاف 2 / 258. 2 - الفقيه 4 / 333، كتاب الفرائض والمواريث، باب ميراث من لا وارث له. 3 - المقنعة / 108. 94 الفقراء والمساكين. " (1) 5 - وفي النافع: " ومع غيبته يقسم في الفقراء ولا يعطى الجائر إلا مع الخوف. " (2) 6 - وفي القواعد: " وإن كان غائبا حفظ له أو صرف في المحاويج ولا يعطى سلطان الجور مع الأمن. " (3) 7 - وفي اللمعة: " ومع غيبته يصرف في الفقراء والمساكين. " (4) 8 - وفي الدروس: " وإن كان غائبا قال جماعة من الأصحاب: يحفظ له بالوصاة أو الدفن إلى حين ظهوره والأظهر جواز قسمته في الفقراء والمساكين. " (5) 9 - وفي الوسيلة: " أو ينقل إلى بيت المال إن لم يكن له وارث أو يقسم على فقراء المسلمين إن لم يمكن إيصاله إلى الإمام. " (6) 10 - وفي خمس الروضة: " يختص ميراث من لا وارث له بفقراء بلد الميت وجيرانه للرواية، وقيل بالفقراء مطلقا لضعف المخصص وهو قوي، وقيل مطلقا كغيره. " (7) 11 - وفي الجواهر بعد التعرض للقول بالحفظ له وتقسيمه بين الفقراء وبين فقراء البلد قال:
1 - الشرائع 4 / 40 (= طبعة أخرى / 839). 2 - المختصر النافع / 273. 3 - القواعد 2 / 180، كتاب الفرائض. 4 - اللمعة الدمشقية 8 / 190 (= ط. أخرى 2 / 316). 5 - الدروس / 265. 6 - الجوامع الفقهية / 777 (= طبعة أخرى / 741). 7 - اللمعة الدمشقية 2 / 85 (= ط. أخرى 1 / 186). 95 " وقد يحتمل أنه من الأنفال التي ثبت تحليلهم إياها للشيعة في زمن الغيبة بالنصوص المنجبرة بالعمل... ولكن الأقوى الأوسط، لإعراض المشهور عن العمل بها في ذلك، فالأصل البقاء. ومصرفه الصدقة به عنه كغيره من المال المتعذر وصوله إلى صاحبه، مضافا إلى استغنائه - عليه السلام - وشدة حاجة شيعته الذين قد تحملوا ما تحملوا في جنبه وإلى ما في حفظه له من التعريض بتلفه واستيلاء الجائرين عليه بل كان ذلك من الخرافات... فالأولى إيصاله إلى نائب الغيبة المأمون فيصرفه على حسب ما يراه من المصلحة التي تظهر له من أحوال سيده ومولاه. " (1) 12 - وفي مفتاح الكرامة في ذيل عبارة القواعد قال: " للعلم برضاه - جعلني الله تعالى فداه - لاستغنائه عنه وحاجة شيعته المظلومين لأجله إليه فلو كان حاضرا مستغنيا عنه ما تجاوز هذا الصنع، ويؤيده ما دل على فعل أبيه علي أمير المؤمنين (عليه السلام)... وبالجملة المدار على القطع برضاه. " (2) أقول: لا دليل على ما ذكروه من صرفه في الفقراء والمساكين إلا توهم دلالة ما دل على فعل أمير المؤمنين (عليه السلام) وإذنه، أو توهم كون المقام من قبيل المال المتعذر إيصاله إلى صاحبه فيتصدق به عنه كما في الجواهر. والأول ممنوع، إذ المفروض رفع تعارض هذه الأخبار مع الأخبار الأول بحملها على حكاية فعل لا إلزام في الأخذ به وليس فيها اسم من زمان الغيبة وعدم إمكان الإيصال إلى الإمام. وبطلان الثاني أيضا واضح، إذ بناؤه على كون المال لشخص الإمام المعصوم فيتصدق به عنه، وقد عرفت فساد هذا. والحاصل أن أساس كلمات الأصحاب وأقوالهم في باب الخمس والأنفال كونهما لشخص الإمام المعصوم، إذ لم يلتفتوا إلى ضرورة الحكومة الإسلامية العامة في كل عصر وزمان وأن الخمس والأنفال من قبيل الماليات والضرائب للحكومة العادلة
1 - الجواهر 39 / 262 و 263. 2 - مفتاح الكرامة 8 / 206. 96 التي لا تختص بالإمام المعصوم وإن كان هو مع حضوره أحق بها من غيره. ثم أي فرق بين ميراث من لا وارث له وغيره من الأنفال بعد كون الجميع للإمام؟ ولم خصوا ميراث من لا وارث له بالصرف في الفقراء والمساكين؟ ثم على فرض الأخذ بالأخبار الدالة على فعل أمير المؤمنين (عليه السلام) وإذنه فلم أطلق الأكثر ولم يخصوه بفقراء البلد؟ فالحق في المسألة كون وزانه وزان سائر الأنفال فيصرف في كل ما يراه الإمام صلاحا وإن كان الأحوط رعاية ما ذكروه إذ ما مر من إعطاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إياه لأهل قرية الميت أو أكبر قبيلته وعشيرته، واستمرار فعل أمير المؤمنين (عليه السلام) على إعطائه لفقراء أهل بلده ربما يوجب الحدس القوي بكون ذلك من أهم المصارف بالنسبة إلى ميراث من لا وارث له، ولعله من جهة أن أهل بلد الميت وأكابر قبيلته يتوقعون غالبا بالنسبة إلى هذا المال ويرون أنفسهم أقرب وأحق به، ولعل السيرة العملية في أكثر البلاد أيضا استقرت على ذلك، فتدبر. تتمة: روى في الوسائل، عن الكليني، عن عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن مروك بن عبيد، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: قلت له: ما تقول في رجل مات وليس له وارث إلا أخا له من الرضاعة يرثه؟ قال: " نعم، أخبرني أبي عن جدي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من شرب من لبننا أو أرضع لنا ولدا فنحن آباؤه. " (1) وقد مر رواية داود، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " مات رجل على عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن له وارث فدفع أمير المؤمنين (عليه السلام) ميراثه إلى همشهريجه. " (2)
1 - الوسائل 17 / 554، الباب 5 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة، الحديث 1. 2 - الوسائل 17 / 552 و 554، الباب 4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة، الحديث 3، والحديث 2 من الباب 5 منها. 97 قال في الوسائل: " في بعض النسخ بالياء بعد الشين...، وعلى هذا فالمراد الأخ من الرضاعة أو الأخت منها. " ثم قال: " يحتمل كون الحديثين على وجه التفضل من الإمام والرخصة. " (1) أقول: هذه النسخة التي حكاها صاحب الوسائل لم أجدها فيما عندي من نسخ الكافي والتهذيبين. (2) وأما خبر مروك بن عبيد ففي مرآة العقول قال: " قال الوالد العلامة: لا خلاف في أن الرضاع لا يصير سببا للإرث، ولعله (عليه السلام) إنما حكم بذلك مع كونه ماله لئلا يؤخذ ماله ويذهب به إلى بيت مال خلفاء الجور فإن هذا الأخ أحق منهم. " (3) وفي الجواهر: " عدم الخلاف كما عن بعضهم الاعتراف به في عدم ارث الأخ من الرضاعة. " (4) وكيف كان فالأولى إحالة العلم به إلى أهله بعد عدم الإفتاء بظاهره من أحد من أصحابنا. ولو ثبت هذا الحكم لبان قطعا ولم يخف على أحد مع كثرة الابتلاء به، فتدبر. الحادي عشر من الأنفال: البحار: على ما في المقنعة والكافي لأبي الصلاح، وقد مرت عبارتهما في أوائل الأنفال. (5)
1 - الوسائل 17 / 554، الباب 5 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة، ذيل الحديث 2. 2 - الكافي 7 / 169، كتاب المواريث; والتهذيب 9 / 387، كتاب الفرائض والمواريث، باب ميراث من لا وارث له، الحديث 5; والاستبصار 4 / 196. 3 - مرآة العقول 23 / 254 (= ط. القديم 4 / 163). 4 - الجواهر 39 / 263. 5 - راجع ص 12 و 14 من الكتاب. 98 وبه قال الكليني في أصول الكافي أيضا، حيث قال في عداد الأنفال: " وكذلك الآجام والمعادن والبحار والمفاوز هي للإمام خاصة. " (1) وعن غير واحد أنه لا دليل لهم عليه. وقد يقال: لعلهم أخذوه مما دل على أن الدنيا ما فيها لله ولرسوله ولنا، وأن الدنيا والآخرة للإمام يضعها حيث يشاء ويدفعها إلى من يشاء، وأن الله خلق آدم وأقطعه الدنيا قطيعة فما كان لآدم فلرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو للأئمة من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). (2) أو خبر حفص بن البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " إن جبرئيل كرى برجله خمسة أنهار ولسان الماء يتبعه: الفرات ودجلة ونيل مصر ومهران ونهر بلخ، فما سقت أو سقي منها فللإمام، والبحر المطيف بالدنيا (للإمام خ. ل)، وهو أفسيكون. " (3) إلى غير ذلك من الأخبار في هذا المجال. أقول: التفسير في آخر خبر حفص ليس في نقل الكافي، فالظاهر أنه من كلام الصدوق. (4) قيل هو معرب أبسكون بليدة كانت قرب بحر الخزر وبها سمي البحر، وقد غمرها الماء فعلا. هذا. ولكن لا يناسب هذا للبحر المطيف. وكيف كان فلا شك عندنا أن البحار من الأنفال وكذا الشطوط والأنهار الكبار، إذ قد مر منا مرارا أن الملاك في كون الشيء من الأنفال كونه من الأموال العامة غير المتعلقة بالأشخاص لعدم حصولها بصنعهم. وعدم ذكر البحار في أخبار الباب لعله لعدم الابتلاء بها كثيرا في تلك الأعصار. وأما في أعصارنا فهي مما تهتم بها جميع الدول والحكومات وتستفيد كثيرا من صيدها وجواهرها ومعادنها والطرق البحرية فيها، وليس معنى كون الأنفال أو الدنيا للإمام كونها لشخص الإمام المعصوم، بل كونها لمقام الإمامة وقيادة المسلمين، فهي أموال ومرافق عامة خلقها الله - تعالى - للناس كما قال: " خلق لكم ما في الأرض جميعا " (5) ولكن زمام أمرها
1 - الكافي 1 / 538، كتاب الحجة، باب الفيء والأنفال... 2 - الكافي 1 / 408 و 409، كتاب الحجة، باب أن الأرض كلها للإمام (عليه السلام). 3 - الوسائل 6 / 370، الباب 1 من أبواب الأنفال الحديث 18. 4 - الكافي 1 / 409; والفقيه 2 / 45، باب الخمس، الحديث 1663. 5 - سورة البقرة (2)، الآية 29. 99 بيد الإمام العادل المدبر ليقطع بتنظيمه وتدبيره على النهج الصحيح جذور التخاصم والخلاف والظلم والفساد. ومثل ذلك الجو والفضاء بلحاظ الطرق الجوية وحق العبور من الطرق والبلاد ونحو ذلك. ويدل على جميع ذلك ما دل على كون الدنيا بأجمعها للإمام. فما ذكر في الأخبار كلمات الأصحاب من الأنفال تكون من باب المثال وعمدتها أقسام الأرضين لكونها محط النظر في تلك الأعصار. والله - تعالى - أعلم بحقيقة الحال. الثاني عشر: عد أبو الصلاح الحلبي في الكافي (1) من الأنفال: كل أرض عطلها مالكها ثلاث سنين. وقد مرت عبارته في أوائل بحث الأنفال. فوزان هذه الأرض عنده وزان الأرض الموات تكون تحت اختيار الإمام يقبلها من يراه بما يراه صلاحا. 1 - والأصل في ذلك ما رواه الكليني، عن عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن الريان بن الصلت أو رجل عن الريان، عن يونس، عن العبد الصالح (عليه السلام)، قال: قال: " إن الأرض لله - تعالى - جعلها وقفا على عباده، فمن عطل أرضا ثلاث سنين متوالية لغير ما علة أخذت من يده ودفعت إلى غيره. الحديث. " (2) ورواه الشيخ أيضا عن سهل، والأمر في سهل سهل ولكن الترديد في السند يوجب ضعف الخبر، ولم يثبت العمل به حتى يجبر ضعفه بل ثبت خلافه. والأرض في قوله: " من عطل أرضا " تعم بإطلاقها للمحجرة والمحياة معا وإن كانت الأولى هي القدر المتيقن منها.
1 - الكافي لأبي الصلاح الحلبي / 170. 2 - الوسائل 17 / 345، الباب 17 من أبواب إحياء الموات، الحديث 1. 100 2 - وعن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " من أخذت منه أرض ثم مكث ثلاث سنين لا يطلبها لم يحل له بعد ثلاث سنين أن يطلبها. " ورواه الشيخ أيضا. (1) قال المجلسي في مرآة العقول في ذيل الخبرين: " ولم أر قائلا بظاهر الخبرين إلا أن يحمل الأول على أنه إذا تركها وعطلها ثلاث سنين يجبره الإمام على الإحياء فإن لم يفعل يدفعها إلى من يعمرها ويؤدي إليه طسقها كما قيل... " (2) أقول: لا بأس بما ذكره - قدس سره -. ولعله مراد أبي الصلاح أيضا. نعم في الأرض المحجرة لا نسلم استحقاق المحجر للطسق. هذا. ولو تركت الأرض المحياة حتى صارت مواتا بالكلية واندرست آثار إحيائها جرى فيها ما يأتي بحثه بالتفصيل من أنه هل يبقى فيها حق لصاحبها أو يسقط أو يفصل بين ما إذا كان ملكها بالإحياء وبين غيره. ومضمون الخبر الأول مروي في كتب السنة في الأرض المحجرة: 3 - ففي خراج أبي يوسف: حدثني ليث عن طاووس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " عادى الأرض لله وللرسول ثم لكم من بعد، فمن أحيا أرضا ميتة فهي له. وليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين. " (3) 4 - وفيه أيضا: وحدثني محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله أن عمر بن الخطاب قال على المنبر: " من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين. " وروى مثله بسنده، عن سعيد بن المسيب، عن عمر. (4)
1 - الوسائل 17 / 345، الباب 17 من أبواب إحياء الموات، الحديث 2. 2 - مرآة العقول 19 / 406 (= ط. القديم 3 / 435). 3 - الخراج / 65. 4 - الخراج / 65. 101 5 - وروى البيهقي بسنده عن عمرو بن شعيب: " أن عمر جعل التحجر ثلاث سنين، فإن تركها حتى يمضي ثلاث سنين فأحياها غيره فهو أحق بها. " (1) 6 - وفي المغني لابن قدامة قال: روى سعيد في سننه أن عمر قال: " من كانت له أرض يعنى من تحجر أرضا فعطلها ثلاث سنين فجاء قوم فعمروها فهم أحق بها. " (2) 7 - وفي كتاب الأموال لأبي عبيد قال: " وأما الوجه الثالث فأن يحتجر الرجل الأرض إما بقطيعة من الإمام وإما بغير ذلك ثم يتركها الزمان الطويل غير معمورة. قال أبو عبيد: وقد جاء توقيته في بعض الحديث عن عمر أنه جعله ثلاث سنين ويمتنع غيره من عمارتها لمكانه فيكون حكمها إلى الإمام. " (3) أقول: يشبه أن يكون نظر عمر موردا للعمل في عصره وفيما بعده، ولو كان خلاف حكم الله - تعالى - لصدر من أئمتنا (عليهم السلام) المخالفة له في ذلك كما في سائر المبدعات المفروض عدم نقل ذلك بل نقل ما وافقه في الخبرين المذكورين، فتأمل.
1 - سنن البيهقي 6 / 148، كتاب إحياء الموات، باب ما يكون إحياء وما يرجى فيه من الأجر. 2 - المغني 6 / 154 3 - الأموال / 367. 102 الجهة الرابعة: في حكم الأنفال وتملكها والتصرف فيها ولا سيما في عصر الغيبة: ونتعرض لذلك في مسائل: المسألة الأولى: في أن الأنفال لله وللرسول وبعده للإمام بما هو إمام: لا يخفى أن المالك لجميع الأشياء والأموال أولا وبالذات هو الله - تعالى -، فهو يملكنا ويملك جميع الأشياء والأموال بالملكية الحقيقية والواجدية التكوينية والإحاطة القيومية، والعالم وجميع الموجودات بشراشر ذواتها وعمق وجوداتها تعلقي الذات به - تعالى - تعلق الفيء بالشيء لاتعلق الشيء بالشيء. هذه هي حقيقة الملكية، وعلى أساسها يعتبر الملكية الاعتبارية أيضا له - تعالى - وفي طولها للرسول والإمام. وأما ملكنا للأشياء فملكية اعتبارية محضة يعتبرها العقلاء وينفذها الشرع المقدس في موضوعات خاصة وشرائط مخصوصة. ولعل الظاهر كما مر سابقا أن أساس الملكية الاعتبارية مطلقا مرتبة من الملكية التكوينية، إذ لا جزاف في التشريع الصحيح، والتشريع الصحيح هو الذي ينطبق على نظام التكوين: فالإنسان مالك لعقله وفكره ولقواه وجهاز فاعليته تكوينا، وبتبع ذلك لأفعاله نشاطاته في طول مالكية الله - تعالى - لكل شيء. وبتبع مالكيته تكوينا لأفعال نفسه يملك محصول أفعاله ونتائج أعماله من
103 إحياء الأراضي وحيازة المباحات وآثار صنعه في الأشياء والمواد الأولية، ولا محالة يملك بالتبع المحياة والمحوز والمصنوع، فيستفيد منها بشخصه أو ينقلها إلى غيره بالنواقل الاختيارية بلا عوض أو بعوض أو تنتقل منه قهرا بالنواقل القهرية كالوراثة مثلا حيث إن الوارث ظل لوجوده ونحو استمرار لذاته. ومقتضى ما ذكرنا عدم مالكيته لما لم يقع تحت صنعه وفعله كالبحار والقفار والآجام المعادن ونحوها بل وغنائم الحرب أيضا، فهي تبقى على إطلاقها الأولي ملكا لله - تعالى -، وقد جعلها الله - تعالى - في طول ذلك للرسول وتحت اختياره، فالأنفال كلها لله وللرسول بمقتضى الكتاب والسنة والإجماع بل العقل وجعلت بعد ذلك بمقتضى الأخبار الكثيرة المتواترة للإمام القائم مقام الرسول بما أنه إمام وقائد للأمة يفعل فيها ما يراه صلاحا للإمامة والأمة وقد مر تفصيل ذلك وبيان أن حيثية الإمامة ملحوظة بنحو التقييد لا بنحو التعليل، فالمالك نفس الحيثية والمنصب، فراجع ما ذكرناه في الجهة الثانية من البحث. نعم في خبر حريز، عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول وسئل عن الأنفال فقال: " كل قرية يهلك أهلها أو يجلون عنها فهي نفل لله - عز وجل -، نصفها يقسم بين الناس، ونصفها لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فما كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو للإمام. " (1) ونحوه خبر العياشي، عن حريز، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته أو سئل عن الأنفال، فقال: " كل قرية يهلك أهلها أو يجلون عنها فهي نفل نصفها يقسم بين الناس ونصفها للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). " (2) ومن المحتمل اتحادهما وسقوط محمد بن مسلم من سند الثاني. ولكن مضافا إلى ضعفهما يجب تأويلهما بإرادة القسمة تبرعا وتفضلا أو حملهما على التقية كما احتملهما في الحدائق (3) وغيره، أو طرحهما لمخالفتهما للإجماعات
1 - الوسائل 6 / 367، الباب 1 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام، الحديث 7. 2 - الوسائل 6 / 372، الباب 1 من أبواب الأنفال...، الحديث 25. 3 - الحدائق 12 / 472. 104 والأخبار الكثيرة. ويقرب من الخبرين في هذا المضمون خبر أبي حمزة، (1) حيث يستفاد منه وجوب التنصيف أيضا في الخمس والفئ، ولو سلم التنصيف في الخمس فلا يجري في الفيء قطعا لمخالفته للإجماع والضرورة. هذا. وأما حمل آية الأنفال على التشريك بين الله وبين رسوله فيصرف سهم الله في الناس ويختص بالرسول سهمه كما احتمله العلامة المجلسي في ملاذ الأخيار (2) فمردود بمخالفته للإجماع والأخبار، مضافا إلى ما في خبر معاذ عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " وما كان لله من حق فإنما هو لوليه. " (3) والذي يسهل الخطب هو ما ذكرناه مرارا من أن الفيء والأنفال ليست لشخص الرسول أو الإمام، بل هي أموال عامة جعلت لمنصب الإمامة ولا محالة تصرف في مصالح الإمامة والأمة، فمصالح الأمة أيضا من مصارفها، ولعل المراد بالنصف في الخبر شطر من المال لا خصوص النصف نظير ما ذكرناه في باب الخمس من أن سهم السادة ليس نصف الخمس بل الخمس حق وحداني للإمام ولكنه يسد به خلتهم. وترى نظير ذلك في آية الفيء في سورة الحشر، حيث ذكر فيها اليتامى والمساكين ابن السبيل وبعدها فقراء المهاجرين مع أن الفيء بمقتضى الأخبار والفتاوى كله للرسول وبعده للإمام، فراجع ما حررناه في قسمة الخمس. ونظير ما في الخبرين ما في خبر سهل بن أبي حثمة، قال: " قسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيبر نصفين: نصفا لنوائبه وحاجته، ونصفا بين المسلمين، قسمها بينهم على ثمانية عشر سهما. " (4) ونحوه أخبار أخر في هذا المجال. فمفاد هذه الأخبار حكاية فعل عن
1 - الوسائل 6 / 385، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 19. 2 - ملاذ الأخيار 6 / 382. 3 - الكافي 1 / 537، كتاب الحجة، باب صلة الإمام (عليه السلام)، الحديث 3. 4 - سنن أبي داود 2 / 142، كتاب الخراج والفئ والإمارة، باب ما جاء في حكم أرض خيبر. 105 رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا تدل على تعين التقسيم. اللهم إلا أن يقال إن خيبر افتتحت عنوة كما يدل على ذلك صحيحة البزنطي وغيرها فلا يرتبط مفاد هذه الأخبار بالمقام، نعم يستأنس منها تأويل الخبرين في المقام أيضا كما هو واضح.
106 المسألة الثانية: في أنه لا يجوز التصرف فيها إلا بإذن الإمام خصوصا أو عموما، وأنه هل ثبت فيها التحليل أم لا؟ لا يجوز عقلا ولا شرعا التصرف في مال الإمام من الخمس والأنفال إلا بإذنه، فإنه مقتضى كون المال له وتحت اختياره. ولو تصرف متصرف عصى، ولو استولى عليه كان غاصبا، ولو حصلت له فائدة تابعة للمال عرفا كانت للإمام من غير فرق بين زمان الحضور والغيبة. وكون الشيء من الأموال العامة لا يصحح التصرف فيه بدون إذن من بيده أمره. ولو حصل من قبل الأئمة (عليهم السلام) الإذن والتحليل لشخص أو في عصر أو في بعض الأشياء أو مطلقا خرج موضوعا عن ذلك، لعموم ولايتهم عندنا ولو بالنسبة إلى الأعصار اللاحقة على ما ثبت في محله. قال الكليني في أصول الكافي بعد عد الأنفال: " فإن عمل فيها قوم بإذن الإمام فلهم أربعة أخماس وللإمام خمس، والذي للإمام يجري مجرى الخمس، ومن عمل فيها بغير إذ ن الإمام فالإمام يأخذه كله، ليس لأحد فيه شيء. وكذلك من عمر شيئا أو أجرى قناة أو عمل في أرض خراب بغير إذن صاحب الأرض فليس له ذلك فإن شاء أخذها منه كلها وإن شاء تركها في يده. " (1) وفي الشرائع بعد ذكر ما للإمام من الخمس والأنفال قال:
1 - الكافي 1 / 538، كتاب الحجة، باب الفيء والأنفال... 107 " لا يجوز التصرف في ذلك بغير إذنه، ولو تصرف متصرف كان غاصبا، ولو حصل له فائدة كانت للإمام. " (1) وقد ذكر هذا المضمون في المقنعة والنهاية وغيرهما من الكتب أيضا. (2) وفي الجواهر في ذيل العبارة قال: " كما هو قضية أصول المذهب وقواعده في جميع ذلك من غير فرق بين زمني الحضور والغيبة، وتحليل الأنفال منهم (عليهم السلام) للشيعة في الثاني خروج عن موضوع المسألة إذ هو إذن، فما في المدارك من تخصيص ما في المتن - بعد أن جعل ذلك فيه إشارة للأنفال تبعا لجده في المسالك - بالحضور حاكيا له عن نص المعتبر في غير محله. " (3) إذا عرفت هذا فنقول: يجب البحث حينئذ في أنه هل ثبت من قبل الأئمة - عليهم السلام - التحليل في الخمس والأنفال مطلقا، أو في زمان الغيبة فقط مطلقا، أو في المناكح والمساكن والمتاجر مطلقا، أو في المناكح فقط، أو في الأنفال وسهمه (عليه السلام) من الخمس دون سهام الأصناف الثلاثة، أو في الأنفال فقط أو بعض أقسامها، أو لم يثبت تحليل أصلا ويكون التصرف منوطا بإذن حاكم المسلمين وسائسهم في كل عصر؟ وجوه بل أقوال. وقبل الورود في البحث نقول: قد مر منا في كتاب الخمس أن الخمس حق وحداني ضريبة إسلامية جعلت لمنصب الإمامة وعبر عنه في رواية المحكم والمتشابه بوجه الإمارة، وقد شرع لإدارة شؤون الإمامة والحكم الإسلامي، ومن جملة شؤونها سد خلة الفقراء من السادة الذين هم أغصان شجرة النبوة عوضا من الزكاة. والأنفال أموال عامة خلقها الله - تعالى - للأنام وجعلها تحت اختيار الإمام الذي هو سائس المجتمع وممثل الأمة ليصرفها في مصالح الإمامة والأمة، ولاغنى للبشر في حياتهم من هذه الأموال العامة ولا من الإمامة، بل عليهما يبتني أساس الحياة والبقاء.
1 - الشرائع 1 / 184 (= طبعة أخرى / 137). 2 - المقنعة / 45; والنهاية / 200. 3 - الجواهر 16 / 134. 108 فلو قيل كما قد يقال: بأنه في عصر غيبة الإمام المنتظر لا يجب على المسلمين تأسيس دولة إسلامية مجرية لحدود الإسلام وأحكامه، بل هو عصر الهرج والمرج وإن طال الزمان، والإسلام أهمل أمر الناس فيه أو فوض أمورهم إلى الجبابرة والطغاة حتى يظهر الإمام المنتظر - عجل الله تعالى فرجه الشريف -! فلا محالة كان على أئمتنا - عليهم السلام - أن يحللوا الأنفال والأموال العامة للأنام ولا أقل للمسلمين وبالأخص لشيعتهم المتعبدين، فنحن نقطع بتحليلها حينئذ إجمالا وإن فرض عدم وجود أخبار تدل عليه، إذ لا يمكن بقاؤهم وإدامة حياتهم بدونها، نعم لا يصح تحليلهم المطلق لسهام الأصناف الثلاثة من السادة بعد ما حرموا من الزكاة وعوضهم الله عنها بالخمس. وأما إذا قلنا كما هو الحق بأن الإسلام الذي هو عندنا دين كامل كافل لسعادة الدارين لا يهمل أمور الناس في السياسة والاقتصاد ولا يرضى بالهرج والمرج ولو ساعة، الحكومة والدولة لا بد منها في إدامة الحياة وإجراء أحكام الإسلام وحدوده في المجالات المختلفة، كما صرح بذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له في الخوارج: " هؤلاء يقولون لا إمرة إلا لله، وإنه لابد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلغ الله فيها الأجل ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بر ويستراح من فاجر. " (1) وروي عنه (عليه السلام) أيضا أنه قال: " أسد حطوم خير من سلطان ظلوم، وسلطان ظلوم خير من فتن تدوم. " (2) وفي صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " بني الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية. " قال زرارة: فقلت: وأي شيء من ذلك أفضل؟ فقال: " الولاية أفضل، لأنها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن. " (3)
1 - نهج البلاغة، فيض / 125; عبده 1 / 87; لح / 82، الخطبة 40. 2 - بحار الأنوار 72 / 359 (= ط. إيران 75 / 359)، كتاب العشرة، الباب 81 (باب أحوال الملوك الأمراء)، الحديث 74. 3 - الوسائل 1 / 7، الباب 1 من أبواب مقدمات العبادات، الحديث 2. 109 إلى غير ذلك مما مر في محله من الأدلة على ضرورة الحكومة وكونها داخلة في نسج الإسلام ونظامه. فلا محالة يجب في عصر الغيبة أيضا السعي في تأسيس الدولة والحكومة الحقة مع رعاية الشروط التي اعتبرها الشرع في المتصدي لها وقد مرت في محلها، ولا محالة تحتاج هذه الدولة إلى الضرائب والمنابع المالية فيجب أن تجعل الزكوات والأخماس كذا الأنفال التي هي أموال عامة تحت سلطتها لتستفيد منها في مصالح الدولة والأمة، فإن الملاك الذي أوجب جعلها تحت اختيار الإمام في عصر الظهور يوجب جعلها تحت اختيار نوابه في عصر الغيبة أيضا وإلا لما تيسر لهم إدارة شؤون الأمة وتحقيق العدالة الاجتماعية وقطع جذور الخلاف والتشاجر الذي ربما يبدو في تصاحب الأموال العامة. نعم، فرق بين الأئمة الاثني عشر وبين الفقهاء في عصر الغيبة بوجود العصمة فيهم دون الفقهاء، ولكن عمال الحكومة وأمراءها مطلقا على وزان واحد فربما يعصون أو يخطئون ولكن وجود الحكومة ولو كانت ناقصة أولى من الفوضى والفتن، وما لا يدرك كله لا يترك كله. فأدلة تحليل الأنفال مطلقا أو بعض الأصناف منها لو ثبتت وإن شمل إطلاقها لعصر الغيبة أيضا ولكن للحكومة الحقة الصالحة على فرض تأسيسها ولو في منطقة خاصة الدخل فيها والتصدي لتقسيمها أو الاستنتاج منها بنفع الإسلام والمسلمين، ويجب على الناس لا محالة إطاعتها وإجراء أوامرها، فيتحدد التحليل لا محالة بصورة عدم تدخل الدولة الحقة فيها لعدم تحققها أو عدم قدرتها. وإن شئت قلت: التحليل للأمة إنما وقع على فرض عدم الحكومة الحقة أو في إطار نظامها وتحديداتها. كيف؟! ولا نرى فرقا بين سهم الإمام الذي أفتى أصحابنا بوجوب إيصاله إلى الإمام أو الفقيه النائب عنه، وبين الأنفال مع كون كليهما للإمام بما هو إمام لا لشخصه، فيرجع أمر كليهما إلى سائس المسلمين والمتصدي لأمورهم من غير فرق بين زمان الحضور وزمان الغيبة. هذه خلاصة ما نراه في جميع الأنفال والأموال العامة وكذلك جميع الضرائب
110 الإسلامية في عصر الغيبة. إذا عرفت هذا فنقول: 1 - في عوالي اللئالي: " روي عن الصادق (عليه السلام) أنه سأله بعض أصحابه فقال: يا ابن رسول الله، ما حال شيعتكم فيما خصكم الله به إذا غاب غائبكم واستتر قائمكم؟ فقال - عليه السلام -: ما أنصفناهم إن واخذناهم ولا أحببناهم إن عاقبناهم، بل نبيح لهم المساكن لتصح عبادتهم ونبيح لهم المناكح لتطيب ولادتهم ونبيح لهم المتاجر ليزكوا أموالهم. " (1) ورواه عنه في المستدرك (2). والخبر مرسل ولا يوجد العناوين الثلاثة في حديث غيره. نعم وجود العناوين في كلام الشيخ وغيره من أصحابنا ربما يوجب الوثوق بعثورهم على نص معتبر فيها. وهل يراد بما خصهم الله به الأراضي والأملاك المتعلقة بأشخاصهم - عليهم السلام -، أو يراد به مثل الخمس والأنفال الذين أثبتنا كونهما لمنصب الإمامة لا لشخص الإمام المعصوم لا سيما الأنفال التي هي أموال عامة خلقها الله - تعالى - لمصلحة الأنام؟ جهان، ولعل الظاهر هو الثاني كما في كلام الأصحاب. 2 - وفي المقنعة: " واعلم - أرشدك الله - أن ما قدمته في هذا الباب من الرخصة في تناول الخمس التصرف فيه إنما ورد في المناكح خاصة للعلة التي سلف ذكرها في الآثار عن الأئمة (عليهم السلام) لتطيب ولادة شيعتهم، ولم يرد في الأموال. وما أخرته عن المتقدم مما جاء في التشديد في الخمس والاستبداد به فهو يختص بالأموال. " (3) ومورد كلامه هو الخمس فقط كما هو ظاهر، ولكن الظاهر التزامه بذلك في الأنفال أيضا بقرينة التعليل.
1 - عوالي اللئالي 4 / 5. 2 - مستدرك الوسائل 1 / 555، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 3. 3 - المقنعة / 46. 111 وبما ذكره المفيد في المقنعة جمع الشيخ في الاستبصار بين الأخبار المتعارضة في باب الخمس، فراجع (1). 3 - وفي باب الأنفال من النهاية بعد ذكر الأنفال قال: " وليس لأحد أن يتصرف فيما يستحقه الإمام من الأنفال والأخماس إلا بإذنه. فمن تصرف في شئ من ذلك بغير إذنه كان عاصيا، وارتفاع ما يتصرف فيه مردود على الإمام وإذا تصرف فيه بأمر الإمام كان عليه أن يؤدي ما يصالحه الإمام عليه من نصف أو ثلث أو ربع. هذا في حال ظهور الإمام، فأما في حال الغيبة فقد رخصوا لشيعتهم التصرف في حقوقهم مما يتعلق بالأخماس وغيرها فيما لابد لهم منه من المناكح والمتاجر المساكن، فأما ما عدا ذلك فلا يجوز له التصرف فيه على حال. " (2) وذكر نحو ذلك في المبسوط أيضا، فراجع (3). ومورد كلامه كما ترى الخمس الأنفال معا. 4 - وقال في التهذيب: " فإن قال قائل: إذا كان الأمر في أموال الناس على ما ذكرتموه من لزوم الخمس فيها، وفي الغنائم ما وصفتم من وجوب إخراج الخمس منها، وكان حكم الأرضين ما بينتم من وجوب اختصاص التصرف فيها بالأئمة - عليهم السلام - إما لأنها يختصون برقبتها دون سائر الناس مثل الأنفال والأرضين التي ينجلي أهلها عنها، أو للزوم التصرف فيها بالتقبيل والتضمين لهم مثل أرض الخراج وما يجري مجراها; فيجب أن لا يحل لكم منكح ولا يتخلص لكم متجر ولا يسوغ لكم مطعم على وجه من الوجوه وسبب من الأسباب. قيل له: إن الأمر وإن كان على ما ذكرتموه من السؤال من اختصاص الأئمة - عليهم السلام - بالتصرف في هذه الأشياء فإن لنا طريقا إلى الخلاص مما ألزمتموناه:
1 - الاستبصار 2 / 60، كتاب الزكاة، باب ما أباحوه لشيعتهم من الخمس في حال الغيبة. 2 - النهاية / 200. 3 - المبسوط 1 / 263. 112 أما الغنائم والمتاجر والمناكح وما يجري مجراها مما يجب للإمام فيه الخمس فإنهم - عليهم السلام - قد أباحوا لنا ذلك وسوغوا لنا التصرف فيه... فأما الأرضون فكل أرض تعين لنا أنها مما قد أسلم أهلها عليها فإنه يصح لنا التصرف فيها بالشراء منهم والمعاوضة وما يجري مجراهما. وأما أراضي الخراج وأراضي الأنفال والتي قد انجلى أهلها عنها فإنا قد أبحنا أيضا التصرف فيها ما دام الإمام مستترا، فإذا ظهر يرى هو - عليه السلام - في ذلك رأيه فنكون نحن في تصرفنا غير آثمين... فإن قال قائل: إن جميع ما ذكرتموه إنما يدل على إباحة التصرف لكم في هذه الأرضين، ولم يدل على أنه يصح لكم تملكها بالشراء والبيع، فإذا لم يصح الشراء والبيع فما يكون فرعا عليه أيضا لا يصح مثل الوقف والنحلة والهبة وما يجري مجرى ذلك. قيل له: إنا قد قسمنا الأرضين فيما مضى على ثلاثة أقسام: أرض يسلم أهلها عليها، فهي تترك في أيديهم وهي ملك لهم، فما يكون حكمه هذا الحكم صح لنا شراؤها وبيعها. وأما الأرضون التي تؤخذ عنوة أو يصالح أهلها عليها فقد أبحنا شراءها وبيعها لأن لنا في ذلك قسما لأنها أراضي المسلمين وهذا القسم أيضا يصح الشراء والبيع فيه على هذا الوجه. وأما الأنفال وما يجري مجراها فليس يصح تملكها بالشراء والبيع وإنما أبيح لنا التصرف حسب. " (1) أقول: ظاهر التهذيب إباحة جميع الأراضي حتى أراضي الخراج للسكونة والزراعة التجارة ونحوها من الاستفادات بلا أجرة ولا تختص بالمساكن. اللهم إلا أن يقال: إن إباحة التصرف لا تنافي اشتغال الذمة بطسقها. وما ذكره في الأنفال يأتي الكلام فيه.
1 - التهذيب 4 / 142 - 146، كتاب الزكاة، باب الزيادات من الأنفال. 113 5 - وفي المراسم بعدما ذكر الخمس قال: " والأنفال له أيضا، وهي كل أرض فتحت من غير أن يوجف عليها بخيل ولا ركاب، الأرض الموات وميراث الحربي والآجام والمفاوز والمعادن والقطاع، فليس لأحد أن يتصرف في شيء من ذلك إلا بإذنه، فمن تصرف فيه بإذنه فله أربعة أخماس المستفاد منها وللإمام الخمس، وفي هذا الزمان فقد أحلونا مما يتصرف فيه من ذلك كرما وفضلا لنا خاصة. " (1) أقول: ظاهر كلامه تحليل الأنفال لا الخمس كما لا يخفى على من دقق النظر فيه فراجع، وعمم التحليل في عصر الغيبة لجميع الأنفال. 6 - وفي السرائر بعد ذكر الأنفال وأنه لا يجوز التصرف فيها إلا بإذن الإمام قال: " وأما في حال الغيبة... فقد رخصوا لشيعتهم التصرف في حقوقهم مما يتعلق بالأخماس وغيرها مما لابد لهم منه من المناكح والمتاجر - والمراد بالمتاجر أن يشتري الإنسان مما فيه حقوقهم ويتجر في ذلك، ولا يتوهم متوهم أنه إذا ربح في ذلك المتجر شيئا لا يخرج منه الخمس، فليحصل ما قلناه فربما اشتبه - والمساكن، فأما ما عدا الثلاثة الأشياء فلا يجوز التصرف فيه على حال. " (2) 7 - وفي الشرائع: " ثبت إباحة المناكح والمساكن والمتاجر في حال الغيبة وإن كان ذلك بأجمعه للإمام أو بعضه، ولا يجب إخراج حصة الموجودين من أرباب الخمس منه. " (3) وموضوع بحثه ما استحقه الإمام من الخمس والأنفال. 8 - وفي الجهاد منه: " وما كانت مواتا وقت الفتح فهو للإمام خاصة ولا يجوز إحياؤه إلا بإذنه إن كان موجودا... ويملكها المحيي عند عدمه من غير إذن. " (4)
1 - الجوامع الفقيه / 581 (= طبعة أخرى / 643). 2 - السرائر / 116. 3 - الشرائع 1 / 184 (= طبعة أخرى / 137). 4 - الشرائع 1 / 322 (= طبعة أخرى / 246). 114 9 - وفي النافع بعد ذكر الأنفال قال: " لا يجوز التصرف فيما يختص به مع وجوده إلا بإذنه، وفي حال الغيبة لا بأس بالمناكح، وألحق الشيخ المساكن والمتاجر. " (1) 10 - وفي التذكرة بعد ذكر الخمس والأنفال قال: " وقد أباح الأئمة (عليهم السلام) لشيعتهم المناكح والمساكن والمتاجر حال ظهور الإمام غيبته، لعدم إمكان التخلص من المأثم بدون الإباحة وذلك من أعظم أنواع الحاجة. " (2) 11 - وفي جهاد التذكرة: " الأرض الخربة والموات ورؤوس الجبال وبطون الأودية والآجام من الأنفال يختص بها الإمام ليس لأحد التصرف فيها إلا بإذنه حال ظهوره - عليه السلام -، ويجوز للشيعة حال الغيبة التصرف فيها لأنهم - عليهم السلام - أباحوا شيعتهم ذلك. " (3) 12 - وفي المنتهى: " وقد أباح الأئمة - عليهم السلام - لشيعتهم المناكح في حالتي ظهور الإمام وغيبته، عليه علماؤنا أجمع لأنه مصلحة لا يتم التخلص من المأثم بدونها فوجب في نظرهم (عليهم السلام) فعلها... وألحق الشيخ المساكن والمتاجر... " (4) وظاهره تحقق الإجماع في المناكح دون المساكن والمتاجر. 13 - وفي الجهاد منه: " قد بينا أن الأرض الخربة والموات ورؤوس الجبال وبطون الأودية والآجام من الأنفال يختص بها الإمام ليس لأحد التصرف فيها إلا بإذنه إن كان ظاهرا، وإن كان غائبا جاز للشيعة التصرف فيها بمجرد الإذن منهم - عليهم السلام -. " (5)
1 - المختصر النافع / 64. 2 - التذكرة 1 / 255. 3 - التذكرة 1 / 428. 4 - المنتهى 1 / 555. 5 - المنتهى 2 / 936. 115 14 - وفي القواعد بعد ذكر الأنفال قال: " وأبيح لنا خاصة حال الغيبة المناكح والمساكن والمتاجر، وهي أن يشتري الإنسان ما فيه حقهم - عليهم السلام - ويتجر فيه لا إسقاط الخمس من ربح ذلك المتجر. " (1) 15 - وفي الدروس: " ولا يجوز التصرف في حقه بغير إذنه، وفي الغيبة تحل المناكح كالأمة المسبية لا يجب إخراج خمسها، وليس من باب تبعض التحليل بل تمليك للحصة أو الجميع من الإمام - عليه السلام -. والأقرب أن مهور النساء من المباح وإن تعددن لرواية سالم ما لم يؤد إلى الإسراف كإكثار التزويج والتفريق. وتحل المساكن إما من المختص بالإمام (عليه السلام) كالتي انجلى عنها الكفار أو من الأرباح بمعنى أنه يستثنى من الأرباح مسكن فما زاد مع الحاجة. وأما المتاجر فعند ابن الجنيد على العموم لرواية يونس بن يعقوب، وعند ابن إدريس أن يشتري متعلق الخمس ممن لا يخمس فلا يجب عليه إخراج الخمس إلا أن يتجر عنه ويربح. والأشبه تعميم إباحة الأنفال حال الغيبة كالتصرف في الأرضين الموات والآجام وما يكون بها من معدن وشجر ونبات لفحوى رواية يونس والحارث، نعم لا يباح الميراث إلا لفقراء بلد الميت. " (2) 16 - وفي خمس الروضة بعد ذكر حكم الخمس في عصر الغيبة قال: " والمشهور بين الأصحاب ومنهم المصنف في باقي كتبه وفتاواه استثناء المناكح المساكن والمتاجر من ذلك فتباح هذه الثلاثة مطلقا. " (3) وبعد ذكر الأنفال قال: " والمشهور أن هذه الأنفال مباحة حال الغيبة فيصح التصرف في الأرض المذكورة بالإحياء وأخذ ما فيه من شجر وغيره، نعم يختص ميراث من لا وارث له بفقراء
1 - القواعد 1 / 62. 2 - الدروس / 69. 3 - اللمعة الدمشقية 2 / 80 (= ط. أخرى 1 / 182). 116 بلد الميت وجيرانه للرواية، وقيل: بالفقراء مطلقا لضعف المخصص وهو قوي، وقيل مطلقا كغيره. " (1) 17 - وفي آخر خمس الحدائق بعد ذكر الأنفال قال: " ظاهر المشهور هنا هو تحليل ما يتعلق من الأنفال بالمناكح والمساكن والمتاجر خاصة وأن ما عدا ذلك يجري فيه الخلاف على نحو ما تقدم في الخمس. وظاهر جملة من متأخري المتأخرين القول بالتحليل في الأنفال مطلقا وهو الظاهر من الأخبار. " (2) 18 - وفي المدارك: " أما في حال الغيبة فالأصح إباحة الجميع كما نص عليه الشهيدان وجماعة للأخبار الكثيرة المتضمنة لإباحة حقوقهم لشيعتهم في حال الغيبة، قال في البيان: وهل يشترط في المباح له الفقر؟ ذكره الأصحاب في ميراث فاقد الوارث أما غيره فلا. وأقول: إن مقتضى العمومات عدم اشتراط ذلك مطلقا... " (3) إلى غير ذلك من كلمات فقهائنا الظاهر بعضها في تحليل الخمس والأنفال مطلقا، بعضها في تحليل الأنفال فقط مطلقا، وبعضها في تحليل خصوص المناكح المساكن والمتاجر، وبعضها في تحليل خصوص المناكح. وقد مرت الإشارة إلى أن تعرضهم للعناوين الثلاثة ربما يوجب الحدس بوجود خبر معتبر مشتمل عليها وإن لم نعثر إلا على ما مر من عوالي اللئالي. ولكن يمكن أن يقال: إنك لا تجدها في أكثر كتب القدماء من أصحابنا المعدة لنقل الأصول المتلقاة عن المعصومين - سلام الله عليهم أجمعين -، وإنما تعرض المفيد للمناكح فقط وتعرض الشيخ للثلاثة ثم تبعه المتأخرون لحسن اعتمادهم عليه، والشهرة المعتبرة اعتمادا أو جبرا هي اشتهار المسألة بين القدماء من أصحابنا في تلك الكتب بحيث يكشف كشفا قطعيا عن كونها متلقاة عن الأئمة (عليهم السلام) يدا بيد،
1 - اللمعة الدمشقية 2 / 85 (= ط. أخرى / 186). 2 - الحدائق 12 / 481. 3 - المدارك / 344. 117 وثبوته في المقام مشكل، فالواجب هو الرجوع إلى سائر الأخبار والأدلة الواردة. هذا. ويظهر من أبي الصلاح الحلبي في الكافي إنكار التحليل مطلقا، وهو - قدس سره - من أعاظم فقهاء الإمامية وكان معاصرا للشيخ الطوسي وقد قرأ عليه وعلى علم الهدى - طاب ثراهما -. قال في الكافي في فصل عقده بعد الخمس والأنفال: " ويلزم من وجب عليه الخمس إخراجه من ماله وعزل شطره لولي الأمر انتظارا للتمكن من إيصاله إليه، فإن استمر العذر أوصى حين الوفاة إلى من يثق بدينه وبصيرته ليقوم في أداء الواجب مقامه، وإخراج الشطر الآخر إلى مساكين آل علي (عليه السلام) وجعفر... ويلزم من تعين عليه شيء من أموال الأنفال أن يصنع فيه ما بيناه في شطر الخمس لكون جميعها حقا للإمام (عليه السلام) فإن أخل المكلف بما يجب عليه من الخمس وحق الأنفال كان عاصيا لله - سبحانه - ومستحقا لعاجل اللعن المتوجه من كل مسلم إلى ظالمي آل محمد - عليهم السلام - وآجل العقاب لكونه مخلا بالواجب عليه لأفضل مستحق. ولا رخصة في ذلك بما ورد من الحديث فيها، لان فرض الخمس والأنفال ثابت بنص القرآن وإجماع الأمة وإن اختلفت فيمن يستحقه، ولإجماع آل محمد - عليهم السلام - على ثبوته وكيفية استحقاقهم وحمله إليهم وقبضهم إياه ومدح مؤديه وذم المخل به، لا يجوز الرجوع عن هذا المعلوم بشاذ الأخبار. " (1) ولم يتعرض المفيد في المقنعة أيضا للتحليل إلا في المناكح خاصة في الخمس خاصة كما مر وغاية الامر إلحاق الأنفال به فيها بالملاك كما مر. وأما في غير المناكح فلم يتعرض للتحليل، بل لعله يظهر من إطلاق كلامه العدم، فقال في باب الأنفال بعد ذكرها بأقسامها:
1 - الكافي لأبي الصلاح الحلبي / 173 و 174. 118 " وليس لأحد أن يعمل في شيء مما عددناه من الأنفال إلا بإذن الإمام العادل، فمن عمل فيها بإذنه فله أربعة أخماس المستفاد منها وللإمام الخمس، ومن عمل فيها بغير إذنه فحكمه حكم العامل فيما لا يملكه بغير إذن المالك من سائر المملوكات. " (1) وقال فيها أيضا: " والأنفال على ما قدمناه للإمام خالصة; إن شاء قسمها وإن شاء وهبها وإن شاء وقفها ليس لأحد من الأمة نصيب فيها ولا يستحقها من غير جهته. " (2) والقاضي عبد العزيز بن البراج المعاصر للشيخ والحلبي أيضا تعرض في المهذب للأنفال ولم يتعرض لتحليلها بل قال بعد ذكرها: " وجميع الأنفال كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته، وهي بعده للإمام القائم مقامه، لا يجوز لأحد من الناس التصرف في شيء منها إلا بإذنه (عليه السلام). " (3) ولم يفصل هؤلاء في كلماتهم بين أقسام الأنفال ولابين زمان الحضور وزمان الغيبة. وظاهر من تعرض لتحليل العناوين الثلاثة، أعني المناكح والمساكن والمتاجر أو المناكح فقط أيضا انحصار التحليل فيها وعدم تحليل فيها وعدم تحليل غيرها، مع أن تحليل مثل الأراضي والجبال وما يتبعهما من الأنهار والمعادن والآجام والأعشاب الأشجار وجواز إحيائها وحيازتها إجمالا في عصر الغيبة وعدم بسط الحكومة المشروعة الحقة كأنه أمر واضح مفروغ عنه، فإنها أموال عامة خلقت للرفع حاجات الأنام، غاية الأمر أنه جعل اختيارها بيد الإمام العادل الصالح ليوزعها بالنحو الأصلح الأعدل، فلا يحتمل عدم تحليلهم (عليهم السلام) إياها في عصر الغيبة للمسلمين ولا أقل لشيعتهم المتمسكين بحبل ولايتهم مع توقف حياة البشر عليها، ولا أظن إنكار المفيد الحلبي والقاضي أيضا لذلك. ويدل على ذلك - مضافا إلى الضرورة ولزوم العسر والحرج بدون ذلك بل
1 - المقنعة / 45. 2 - المقنعة / 47. 3 - المهذب 1 / 186. 119 اختلال النظام لشيعتهم المرعوب عنه عندهم - عليهم السلام - قطعا، واستقرار السيرة على التصرف حتى في عصر الحضور بلا منع وردع - الأخبار الكثيرة الصادرة عنهم ولا سيما ما ورد في باب إحياء الموات من طرق الفريقين. نعم لا نأبى كما مر من حصر جواز التصرف على صورة عدم انعقاد الحكومة الحقة ضرورة وجود التحليل، وأما مع انعقادها بشرائطها ولو في عصر الغيبة فيمكن منع إطلاق أدلة التحليل لهذه الصورة. ولو سلم فيمكن القول بتحققه ما لم يظهر المنع من قبل الحكومة الصالحة، وأما مع منعها وتحديدها فلا يجوز التصرف إلا في إطار مقررات الحكومة لما مرت الإشارة إليه من أن انعقاد الإمامة والحكومة الصالحة ملازم لجعل المنابع المالية الإسلامية تحت اختيارها وسلطتها. وإذا كان المناط لتحليل مثل الأراضي والجبال وما يتبعهما من الأشجار والأنهار المعادن خلقها للأنام وتوقف حياتهم عليها فإسراء التحليل إلى سائر الأنفال مثل ميراث من لا وارث له مثلا مشكل بل ممنوع، ولذا ترى الأكثر من فقهائنا أفتوا بصرفه في الفقراء أو فقراء البلد ولا ترى القائل فيه بالتحليل إلا أقل قليل، فتدبر. إذا عرفت هذا فلنتعرض لتفسير العناوين الثلاثة والأخبار الواردة في المقام وبيان مقدار الدلالة فيها، فنقول: لم يتعرض قدماء أصحابنا لتفسير العناوين المذكورة، وإنما تعرض له المتأخرون كالشهيد الأول في الدروس وحاشية القواعد والشهيد الثاني في المسالك وصاحب الحدائق وغيرهم. وقد اختلفت الكلمات في المقام واشتبه المقصود حتى قال في الجواهر: " لا ريب في إجمال عبارات الأصحاب في هذا المقام وسماجتها وعدم وضوح المراد منها أو عدم صحته، بل يخشى على من أمعن النظر فيها مريدا إرجاعها إلى مقصد صحيح من بعض الأمراض العظيمة قبل أن يأتي بشيء! وظني أنها كذلك مجملة عند كثير من أصحابنا وإن تبعوا في هذه الألفاظ بعض من تقدمهم ممن لا يعلمون
120 مراده، وليتهم تركونا والأخبار فإن المحصل من المعتبر منها أوضح من عباراتهم. " (1) وكيف كان فيظهر منهم للمناكح تفسيران: الأول: السراري المغنومة من أهل الحرب، سواء وقعت الحرب بغير إذن الإمام فكان الجميع له على ما هو المشهور أو كانت بإذنه فكان له الخمس فإذا انتقلت إلى الشيعة بالشراء أو الهبة أو الإرث ونحوها حلت لهم وجاز لهم وطؤها، نعم يشكل الجواز الحلية إذا كان الشيعي هو الغانم. الثاني: السراري المشتراة والزوجات الممهورة بما يتعلق به الخمس من الأرباح غيرها. وللمساكن ثلاثة تفاسير: الأول: المسكن المغنوم بتمامه أو بأرضه من الكفار. الثاني: المسكن المتخذ في الأراضي المختصة بالإمام، كأرض الموات ورؤوس الجبال ونحوهما من الأنفال. الثالث: ما اتخذ بثمن يتعلق به الخمس من الربح وغيره. وللمتاجر أربعة تفاسير: الأول: ما يشترى من غنائم الحرب، سواء كانت بأجمعها للإمام أو ببعضها. الثاني: ما يشترى ويتجر به من الأراضي والأشجار والأعشاب والأشياء المختصة بالإمام، وهذا يرجع إلى الأنفال. والمقصود تحليل حق الإمام الثابت في أصله لا الخمس المتعلق بالكسب وربحه وكذا فيما قبله وما بعده كما أشار إلى ذلك الشهيد وابن إدريس. الثالث: ما يشترى ممن لا يعتقد الخمس من الكفار أو أهل الخلاف. الرابع: ما يشترى ممن لا يخمس وإن اعتقده.
1 - الجواهر 16 / 152. 121 أما تحليل المناكح بالتفسير الأول فيدل عليه أكثر أخبار التحليل، وهي مستفيضة بل لعلها متواترة إجمالا بمعنى العلم بصدور بعضها بالإجمال فيثبت المضمون المشترك بينها: 1 - كخبر الفضيل عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " من وجد برد حبنا في كبده فليحمد الله على أول النعم. " قال: قلت: جعلت فداك ما أول النعم؟ قال: طيب الولادة. ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لفاطمة (عليه السلام): " أحلى نصيبك من الفيء لآباء شيعتنا ليطيبوا. " ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): " إنا أحللنا أمهات شيعتنا لآبائهم ليطيبوا. " (1) 2 - وخبر ضريس الكناسي، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أتدري من أين دخل على الناس الزنا؟ فقلت: لا أدري. فقال: " من قبل خمسنا أهل البيت إلا لشيعتنا الأطيبين فإنه محلل لهم ولميلادهم. " (2) 3 - وصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: " إن أمير المؤمنين (عليه السلام) حللهم من الخمس يعني الشيعة ليطيب مولدهم. " (3) أقول: التعليل قرينة على كون المحلل من المناكح، اللهم إلا أن يقال: إن حرمة الطعام والغذاء أيضا مما تؤثر في مرتبة من خبث المولد. 4 - وصحيحة أبي بصير وزرارة ومحمد بن مسلم كلهم عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): " هلك الناس في بطونهم وفروجهم لأنهم لم يؤدوا إلينا حقنا، ألا وإن شيعتنا من ذلك وآباءهم في حل. " (4) ورواه الصدوق أيضا في العلل إلا أنه قال: " وأبناءهم. " (5)
1 - الوسائل 6 / 381، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 10. 2 - الوسائل 6 / 379، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 3. 3 - الوسائل 6 / 383، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 15. 4 - الوسائل 6 / 379، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 1. 5 - الوسائل 6 / 379، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 1. 122 أقول: الظاهر أن التحليل للآباء قرينة على إرادة تحليل المناكح لهم لتطيب ولادة الأبناء. وقوله: " حقنا " يعم بإطلاقه الخمس والأنفال معا فظاهر ذيل الحديث تحليل جميع حقوقهم للشيعة سواء كانت من المناكح أو غيرها كما يدل عليه ذكر البطون أيضا فيعم إطلاقه خمس أرباح المكاسب المتعلق بالشخص أيضا. اللهم إلا أن يقال: إن الإشارة في الذيل ترجع إلى حقهم الثابت عند الناس إذا انتقل إلى الشيعة فلا يدل على تحليل الحق المتجدد عندهم، فتأمل. 5 - وخبر محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السلام)، قال: " إن أشد ما فيه الناس يوم القيامة أن يقوم صاحب الخمس فيقول: يا رب خمسي وقد طيبنا ذلك لشيعتنا لتطيب ولادتهم لتزكوا أولادهم. " (1) 6 - ومعتبرة أبي خديجة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رجل وأنا حاضر: حلل لي الفروج. ففزع أبو عبد الله (عليه السلام) فقال له رجل: ليس يسألك أن يعترض الطريق إنما يسألك خادما يشتريها أو امرأة يتزوجها أو ميراثا يصيبه أو تجارة أو شيئا أعطيه. فقال (عليه السلام): " هذا لشيعتنا حلال: الشاهد منهم والغائب، والميت منهم والحي، وما يولد منهم إلى يوم القيامة فهو لهم حلال. أما والله لا يحل إلا لمن أحللنا له. ولا والله ما أعطينا أحدا ذمة ما عندنا لأحد عهد (هوادة) ولا لأحد عندنا ميثاق. " (2) والسند لا بأس به كما لا يخفى على أهله. ولعل المقصود بالميراث والتجارة وما أعطيه بقرينة السؤال خصوص السراري الفتيات. ولو سلم إرادة الأعم فيحمل على خصوص ما انتقل إليه ممن لا يعتقد الخمس أو ممن لا يخمس أيضا وإن اعتقده كما قد يقال، ولا يشمل الخمس المتعلق بأموال نفسه إذ الظاهر من الحديث كون الشيء متعلقا لحق الإمام قبل أن ينتقل
1 - الوسائل 6 / 380، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 5. 2 - الوسائل 6 / 379، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 4. 123 إليه. ولو سلم العموم فيجب أن يحمل على ذلك أيضا جمعا بين هذا السنخ من الأخبار وبين ما دل على مطالبة الأئمة (عليهم السلام) للخمس ونصبهم الوكلاء لأخذه ومطالبته، وهذه الأخبار صدرت عن الأئمة المتأخرين، فتقدم على أخبار التحليل. وقد مر تفصيل ذلك في خمس أرباح المكاسب، فراجع. 7 - وما عن تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)، عن آبائه، عن أمير المؤمنين - عليه السلام - أنه قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " قد علمت يا رسول الله، أنه سيكون بعدك ملك عضوض وجبر فيستولي على خمسي من السبي والغنائم ويبيعونه فلا يحل لمشتريه لأن نصيبي فيه فقد وهبت نصيبي منه لكل من ملك شيئا من ذلك من شيعتي لتحل لهم منافعهم من مأكل مشرب، ولتطيب مواليدهم ولا يكون أولادهم أولاد حرام. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما تصدق أحد أفضل من صدقتك وقد تبعك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في فعلك أحل الشيعة كل ما كان فيه من غنيمة وبيع من نصيبه على واحد من شيعتي ولا أحلها أنا ولا أنت لغيرهم. " (1) 8 - ومما ورد في تحليل السبايا خبر عبد العزيز بن نافع، قال: طلبنا الإذن على أبي عبد الله (عليه السلام): وأرسلنا إليه فأرسل إلينا: ادخلوا اثنين اثنين، فدخلت أنا ورجل معي، فقلت للرجل: أحب أن تحل بالمسألة، فقال: نعم، فقال له: جعلت فداك إن أبي كان ممن سباه بنو أمية وقد علمت أن بني أمية لم يكن لهم أن يحرموا ولا يحللوا ولم يكن لهم مما في أيديهم قليل ولا كثير وإنما ذلك لكم، فإذا ذكرت الذي كنت فيه دخلني من ذلك ما يكاد يفسد على عقلي ما أنا فيه. فقال له: أنت في حل مما كان من ذلك، وكل من كان في مثل حالك من ورائي فهو في حل من ذلك. الحديث. " (2) ولا يخفى أن تحليل الآباء تدل على تحليل الأمهات بطريق أولى تحقيقا لطيب الولادة. إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة الصريحة أو الظاهرة بعمومها أو إطلاقها في تحليل المناكح بالتفسير الأول أعني السبايا والسراري المغنومة من أهل الحرب، وقد
1 - الوسائل 6 / 385، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 20. 2 - الوسائل 6 / 384، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 18. 124 كثرت في تلك الأعصار وكثر ابتلاء الشيعة بها بالاشتراء أو الجائزة أو الوراثة أو نحو ذلك. وقد صح السند في بعضها وانجبرت بعمل الأصحاب. مضافا إلى ما أشرنا إليه من العلم الإجمالي بصدور بعضها، ونعبر عنه بالتواتر الإجمالي، فلا يرد عليها ما قد يقال: من أن الشبهة في المقام موضوعية وهي صدور الإذن من الأئمة (عليهم السلام) فلا ترفع اليد عن أصالة عدم الإذن إلا بحجة من علم أو بينة. وخبر الثقة غير ثابت الحجية في الموضوعات. شهادة جمع من العلماء العدول بالتحليل لا تجدي لاستنادها إلى الحدس. هذا. والأخبار مورد بعضها الخمس، ومورد البعض الفيء مثل ما لم يوجف عليه بخيل لا ركاب وما حصل في الحرب بغير إذن الإمام. والمتيقن من مواردها بحكم الغلبة في تلك الأعصار هو ما ينتقل إلى الشيعة من أيدي من لا يعتقد بالخمس وحق الإمام بالشراء والجائزة ونحوهما كسبايا بني أمية وبني العباس وعمالهم ممن لم يكن بد للشيعة من الاختلاط معهم والبيع والشراء منهم وأنه لم يمكن اعتزالهم عنهم بوجه من الوجوه. وعلى هذا فيشكل شمولها لما سباه الشيعي المعترف بالخمس وحق الإمام بنفسه فضلا عن السبي الذي صار من أموال التجارة وتعلق به خمس الأرباح. وربما يشهد بذلك إطلاق صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل من أصحابنا يكون في لوائهم ويكون معهم فيصيب غنيمة؟ قال: " يؤدي خمسا ويطيب له. " (1) وقوله في صحيحة علي بن مهزيار فيما فيه الخمس: " ومثل عدو يصطلم فيؤخذ ماله... وما صار إلى قوم من موالي من أموال الخرمية الفسقة. الحديث. " (2) فتأمل. هذا. ومقتضى عموم التعليل بطيب الولادة عموم التحليل لجميع ما كان فيها للأئمة (عليهم السلام) من الحق فيعم الفيء والخمس بأجمعه حتى سهام الأصناف الثلاثة.
1 - الوسائل 6 / 340، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 8. 2 - الوسائل 6 / 350، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 5. 125 وما في المختلف عن ابن الجنيد: من المناقشة في تحليل سهام الأصناف الثلاثة حيث قال: " وتحليل ما لا يملك جميعه عندي غير مبرئ لمن وجب عليه حق منه لغير المحلل لأن التحليل إنما هو مما يملكه المحلل لا مما لا ملك له وإنما اليه ولاية قبضه " (1) ساقط عندنا بعدما فصلناه في محله من كون الخمس بأجمعه حقا وحدانيا يكون زمام أمره بيد الإمام، غاية الأمر أن عليه سد خلة بني هاشم. ومقتضى التعليلات أيضا إرادة تحليل الجميع وإلا لما حصل طيب الولادة. نعم هنا شيء ينبغي الالتفات إليه، وهو أن أكثر الأخبار الواردة في تحليل الخمس في المقام موردها خمس الغنائم والسراري المبتلى بها في تلك الأعصار مع أن الغزوات كانت بتصدي خلفاء الجور وعمالهم. ومقتضاه كون هذه الغنائم بأجمعها للإمام على ما أفتى به المشهور من أصحابنا ودلت عليه مرسلة الوراق، فما وجه قصر التحليل على الخمس؟ وقد يجاب عن ذلك بأن نفس تلك الغزوات كانت موردا لرضا أئمتنا - عليهم السلام - لوقوعها في طريق بسط الإسلام كما يشهد بذلك دعاء الإمام السجاد - عليه السلام - لجيوش المسلمين وسراياهم. وقد مر تفصيل البحث في ذلك في الثامن من أقسام الأنفال، فراجع. هذا كله فيما يتعلق بالتفسير الأول للمناكح. وأما التفسير الثاني للمناكح أعني السرايا المشتراة أو الزوجات الممهورة بالأرباح نحوها مما يتعلق بها الخمس، فنقول: إن كان الثمن أو المهر من الأرباح في أثناء السنة فعدم الخمس فيه واضح بعد كونه من المؤونة، والخمس بعد المؤونة، فلاوجه لذكره بخصوصه ولا لتخصيصه بالشيعة ولا لأن يعبر عنه بالتحليل. وإن كان من غير الأرباح أو منها بعد السنة وتعلق الخمس به فلا دليل على
1 - المختلف / 207. 126 تحليله. شمول النصوص السابقة وسائر أخبار التحليل له ممنوع، إذ الظاهر أن محط النظر فيها كما مر السراري والأموال المغنومة التي كثر الابتلاء بها في تلك الأعصار كسرايا بني أمية وبني العباس وغنائمهم وكذلك الأموال التي كانت تنتقل إلى الشيعة ممن لا يعتقد بالخمس وحق الإمام، فلا تعرض لها لما يتعلق به الخمس عند نفسه من الأرباح وغيرها إذ الأئمة - عليهم السلام - كانوا يطالبون الخمس من شيعتهم. هذا مضافا إلى أن حرمة مهر الزوجة لا توجب بطلان النكاح وخبث الولادة فلا يناسبه التعليل بطيب الولادة المذكور في هذه الأخبار. وأما التفسير الأول للمساكن، أعني ما أغنتم من الكفار فإن كان بغير إذن الإمام كان من الأنفال على المشهور نظير أرض الموات، وسيأتي البحث في تحليل الأراضي الأخبار الواردة فيه، وكأنه مما لا إشكال فيه. وإن كان بإذن الإمام كانت الأرض للمسلمين، وقد قربنا في محله عدم وجوب الخمس في الأراضي المفتوحة عنوة ولكن زمام أمرها بيد الإمام يقبلها بالذي يرى صلاحا لهم. وفي عصر الغيبة لو وقعت تحت استيلاء سلاطين الجور وبليت الشيعة بالمعاملة معهم والتقبل منهم ودفع الخراج إليهم فمقتضى القاعدة وإن كان حرمة ذلك لكن الظاهر من الأخبار والفتاوى إجازة أئمتنا (عليهم السلام) لذلك وتنزيل أعمالهم منزلة أعمال السلطان العادل تسهيلا لشيعتهم. وإن لم تكن تحت استيلاء سلاطين الجور فالقاعدة تقتضي أن يكون المتصدي لتقبيلها هو الفقيه الجامع لشرائط الحكم، ولو لم يوجد أو تعذر الرجوع إليه فعدول المؤمنين لكونه من أهم مصاديق الحسبة. والشيخ الأعظم في مبحث شرائط العوضين من المكاسب احتمل في المسألة خمسة أوجه (1) ولكن المستفاد من التهذيب والدروس وجامع المقاصد والحدائق ونحو ذلك القول بتحليلها للشيعة كالأنفال ويستدل عليها بصحيحة عمر بن يزيد وغيرها
1 - المكاسب / 163. 127 مما يأتي عن قريب لبيان تحليل الأراضي في عصر الغيبة. وقد مر البحث في حكم الأراضي المفتوحة عنوة مستوفى في الجهة السادسة من فصل الغنائم، فراجع. وأما التفسير الثاني للمساكن، أعني المتخذة في الأراضي المختصة بالإمام فقد عرفت أن حلية التصرف إجمالا في مثل الأراضي والجبال وما فيهما ويتبعهما في عصر الغيبة كأنها واضحة مفروغ عنها ولا يظن بأحد إنكارها، ولا تختص بالمساكن بل تعم مطلق ما يحتاج إليها من أرض الزراعة والاستطراق والمساجد والمقابر ومراكز التجارة والصناعة وغيرها مما يحتاج إليها في المعاش والمعاد. فإن كانت هنا حكومة عادلة واجدة للشرائط تنظم طرق الاستفادة منها وكيفياتها فالظاهر أن الحلية ثابتة في إطار مقرراتها كما مر وجهه، وإلا فلابد من تحقق الحلية والإباحة بمقدار الضرورة والاحتياج قطعا فإن الأرض وما فيها أموال عامة خلقت لرفع حاجات الأنام ولا يمكن إدامة الحياة بدونها، فتخصيص التحليل بالمساكن بلا وجه إلا أن يراد بها المعنى الأعم فيراد بها كل أرض يحتاج إليها الإنسان في معاشه ومعاده. ويدل على التحليل فيها - مضافا إلى ما مر من استقرار السيرة على التصرف فيها حتى في أعصار الأئمة (عليهم السلام) ولزوم الحرج بل اختلال النظام بدونها والأخبار الكثيرة الواردة من طرق الفريقين في الترغيب في إحياء الموات وأن من أحياها فهي له كما يأتي تفصيله في المسائل الآتية - أخبار مستفيضة ذكروها هنا: 1 - ما رواه الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن عمر بن يزيد، قال: رأيت مسمعا بالمدينة وقد كان حمل إلى أبي عبد الله (عليه السلام) تلك السنة مالا فرده أبو عبد الله (عليه السلام) فقلت له: لم رد عليك أبو عبد الله المال الذي حملته إليه؟ قال: فقال لي: إني قلت له حين حملت إليه المال: إني كنت وليت البحرين الغوص فأصبحت أربعمأة ألف درهم وقد جئتك بخمسها بثمانين ألف درهم وكرهت أن أحبسها عنك وأن أعرض لها وهي حقك الذي جعله الله - تبارك وتعالى - في أموالنا. فقال أو مالنا من الأرض وما أخرج الله منها إلا الخمس؟
128 يا أبا سيار! إن الأرض كلها لنا، فما أخرج الله منها من شيء فهو لنا. فقلت له: وأنا أحمل إليك المال كله؟ فقال: يا أبا سيار، قد طيبناه لك وأحللناك منه فضم إليك مالك. كل ما في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون حتى يقوم قائمنا فيجيبهم طسق ما كان في أيديهم ويترك الأرض في أيديهم. وأما ما كان في أيدي غيرهم فإن كسبهم من الأرض حرام عليهم حتى يقوم قائمنا، فيأخذ الأرض من أيديهم ويخرجهم صغرة. قال عمر بن يزيد: فقال لي أبو سيار: ما أرى أحدا من أصحاب الضياع ولا ممن يلي الأعمال يأكل حلالا غيري إلا من طيبوا له ذلك (1) ورواه الشيخ أيضا بتفاوت ما، فراجع (2). والسند إلى عمر بن يزيد صحيح، والظاهر أن المراد به عمر بن محمد بن يزيد بياع السابري فهو أيضا ثقة ومسمع بن عبد الملك يكنى أبا سيار ويلقب بكردين بكسر الكاف ثقة أيضا على المشهور فالرواية صحيحة. ويظهر من إتيانه الخمس بأجمعه إلى الإمام والتعبير عنه بقوله: " وهي حقك " وتقرير الإمام لذلك أن الخمس كما مر منا مرارا بأجمعه حق وحداني للإمام يجب أن يؤتى بأجمعه إليه ولا يجوز توزيعه بدون إذنه، وكان هذا مركوزا في أذهان أصحاب الأئمة (عليهم السلام). ويستدل بهذه الصحيحة على أن كل ما كان في أيدي الشيعة من الأراضي وما فيها من المعادن والأعشاب والأشجار فهي محلل لهم في حال الهدنة والغيبة بلا طسق ولا خراج سواء كانت من الأنفال أو كانت للمسلمين كالمفتوحة عنوة حيث إن زمام أمرها أيضا إلى الإمام. وتدل أيضا على أنهم لا يملكون رقبة الأرض ولذا يطلب منهم القائم (عليه السلام) الطسق عند قيامه بلحاظ السنين الآتية. وتدل أيضا على عدم التحليل لغير الشيعة. ويمكن أن يقال: إن قيام القائم من باب المثال فيكون كناية عن انعقاد الحكومة الحقة وإن كانت بتصدي الفقيه الصالح الواجد لشرائط الحكم فيجوز له
1 - الكافي 1 / 408، كتاب الحجة، باب أن الأرض كلها للإمام (عليه السلام)، الحديث 3. 2 - الوسائل 6 / 382، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 12. 129 مطالبة الطسق والخراج كما قوينا ذلك سابقا. وتحليل الخمس في مورد خاص لمسمع لا يدل على تحليل الخمس لجميع الشيعة. وتحليل الأرض بلا خراج لا يدل على تحليل خمس الأرباح نحوها مما يتعلق بمال نفسه. هذا كله على فرض كون اللام في قوله: " الأرض كلها لنا " وكذا ما بعده للاستغراق، لكن من المحتمل أن يراد بها العهد فتكون إشارة إلى مثل أرض البحرين بحرها، حيث إن البحرين على ما في موثقة سماعة (1) تكون مما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب فتكون من الأنفال والبحر أيضا يكون من الأنفال عندنا فتكون فوائدهما أيضا للإمام، فاستفادة حكم الأرض المفتوحة عنوة من هذه الصحيحة والحكم بالتحليل فيها بلا خراج مشكل. 2 - وهنا صحيحة أخرى لعمر بن يزيد في خصوص الأرض الخربة قال: سمعت رجلا من أهل الجبل يسأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أخذ أرضا مواتا تركها أهلها فعمرها وكرى أنهارها وبنى فيها بيوتا وغرس فيها نخلا وشجرا. قال: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): " كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: " من أحيا أرضا من المؤمنين فهي له وعليه طسقها يؤديه إلى الإمام في حال الهدنة فإذا ظهر القائم فليوطن نفسه على أن تؤخذ منه. " (2) وظاهرها تحليل الأرض الخربة وهي من الأنفال أيضا كما مر. ويظهر منها عدم منافاة التحليل لثبوت الطسق، ولازمه ولازم جواز أخذها منه عدم ملكية الرقبة بالإحياء ولعل المقصود بالإمام فيها مطلق الإمام العادل لا خصوص الإمام المعصوم. 3 - ما رواه الكليني بسنده، عن يونس بن ظبيان أو المعلى بن خنيس، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): مالكم من هذه الأرض؟ فتبسم ثم قال: " إن الله - تبارك وتعالى - بعث جبرئيل وأمره أن يخرق بإبهامه ثمانية أنهار في الأرض منها سيحان وجيحان وهو نهر
1 - الوسائل 6 / 367، الباب 1 من أبواب الأنفال...، الحديث 8. 2 - الوسائل 6 / 383، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 13. 130 بلخ، والخشوع وهو نهر الشاش، ومهران وهو نهر الهند، ونيل مصر، ودجلة والفرات، فما سقت أو استقت فهو لنا، وما كان لنا فهو لشيعتنا، وليس لعدونا منه شيء إلا ما غصب عليه، وإن ولينا لفي أوسع فيما بين ذه إلى ذه - يعني بين السماء والأرض - ثم تلا هذه الآية: " قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا " المغصوبين عليها " خالصة " لهم " يوم القيامة " بلا غصب. " (1) والسند ضعيف إلا أن يقال: إن قول الكليني في ديباجة الكافي: " بالآثار الصحيحة عن الصادقين (عليهما السلام) والسنن القائمة التي عليها العمل " (2) لا يقل عن توثيق مثل ابن فضال وابن عقدة، فتدبر. وذكر دجلة والفرات شاهد على إرادة أرض الأنفال وأرض الخراج معا فإن عمدة أرض العراق مما فتحت عنوة، وذكر الأنهار من جهة أن قيمة الأراضي كانت بمياهها. لا بعد في عدم تحليل الأرض وما فيها لغير الشيعة، إذ الأراضي والمياه وما أخرج الله منهما أموال عامة خلقها الله للأنام، وغاية الخلقة هي المعرفة والعبادة على الطريق الحق، فيكون تصرف أهل الباطل فيها على خلاف الغاية المترقبة منها. وهل كون الأرض منهم لشيعتهم يدل على عدم وجوب الخراج أيضا أو يكون أعم من ذلك؟ كلاهما محتمل. وقد يتوهم أن قوله: " وما كان لنا فهو لشيعتنا " يدل بعمومه على تحليل الخمس الأنفال معا، بجميع أقسامهما وأصنافهما. وفيه أن الظاهر من الموصول هنا هو العهد لا العموم، وعلى تقدير العموم يخصص بما دل على مطالبة الأئمة (عليهم السلام) للخمس كما مر في محله. 4 - خبر داود بن كثير الرقي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: " الناس كلهم يعيشون في فضل مظلمتنا إلا أنا أحللنا شيعتنا من ذلك. " (3) وقد يستدل بالخبر على تحليل كل مالهم - عليهم السلام - من الحقوق المتعلقة
1 - الكافي 1 / 409، كتاب الحجة، باب أن الأرض كلها للإمام (عليه السلام)، الحديث 5; الوسائل 6 / 384، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 17. 2 - الكافي 1 / 8. 3 - الوسائل 6 / 380، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 7. 131 بالإمامة فيعم الخمس والأنفال والأراضي المفتوحة عنوة، ولكن شموله لتحليل مثل خمس الأرباح ونحوها ممنوع بل شموله للأنفال التي لا يتوقف معيشة عامة الناس عليها كميراث من لا وارث له أيضا ممنوع، وكيف كان فدلالته على تحليل الأراضي ونحوها للشيعة بلا إشكال. 5 - خبر الحارث بن المغيرة النصري، قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فجلست عنده فإذا نجية قد استأذن عليه فاذن له، فدخل فجثا على ركبتيه ثم قال: جعلت فداك إني أريد أن أسألك عن مسألة والله ما أريد بها إلا فكاك رقبتي من النار، فكأنه رق له فاستوى جالسا فقال: يا نجية! سلني، فلا تسألني عن شيء إلا أخبرتك به. قال: جعلت فداك ما تقول في فلان وفلان؟ قال: يا نجية، إن لنا الخمس في كتاب الله، ولنا الأنفال، ولنا صفو المال، وهما والله أول من ظلمنا حقنا في كتاب الله (إلى أن قال:) اللهم إنا قد أحللنا ذلك لشيعتنا. قال ثم أقبل علينا بوجهه فقال: يا نجية، ما على فطرة إبراهيم غيرنا وغير شيعتنا. " (1) وظاهر هذا الخبر تحليل جميع حقوقهم من الخمس والأنفال وصفو المال للشيعة، اللهم إلا أن يحمل الخمس فيه بقرينة صفو المال على خمس الغنائم فقط. هذا. ولكن قد مر أن مطالبة الأئمة المتأخرين لخمس الأرباح ونحوها يدفع تحليل الخمس بإطلاقه. وقد مر أيضا أن تحليل الأنفال للشيعة لا يلازم كونه مجانا وبلا عوض مطلقا ولا يلازم عدم جواز دخل الحكومة الصالحة فيها. 6 - خبر أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام) (في حديث)، قال: " إن الله جعل لنا أهل البيت سهاما ثلاثة في جميع الفيء فقال - تبارك وتعالى -: " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. " فنحن أصحاب الخمس والفئ وقد حرمناه على جميع الناس ما خلا شيعتنا. والله يا أبا حمزة، ما من أرض تفتح ولا خمس يخمس فيضرب على شيء منه إلا كان حراما على من يصيبه فرجا كان أو مالا. " (2)
1 - الوسائل 6 / 383، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 14. 2 - الوسائل 6 / 385، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 19. 132 وظاهره كونه في مقام بيان المستثنى منه وعقد النفي أعني عدم التحليل لغير الشيعة فلا إطلاق فيه للمستثنى فلا يدل على التحليل مطلقا للشيعة. ولو سلم وجب أن يحمل تحليل الخمس فيه على مثل المناكح والمساكن ونحوهما، لما مر من أن أكثر أخبار التحليل صادرة عن الصادقين (عليهما السلام) ونحن نرى الأئمة المتأخرين (عليهم السلام) عنهما يطالبون الخمس ويعينون الوكلاء لمطالبته، بل روى الصدوق بإسناده، عن عبد الله بن بكير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أيضا أنه قال: " إني لآخذ من أحدكم الدرهم وإني لمن أكثر أهل المدينة مالا ما أريد بذلك إلا أن تطهروا. " (1) فراجع ما حررناه في خمس أرباح المكاسب (2). وبالجملة فتحليل الأنفال إجمالا في عصر الغيبة ولا سيما مثل الأراضي والجبال وما فيهما مما يحتاج إليها الأنام في معاشهم وجرت السيرة في جميع الأعصار على التصرف فيها مما لا إشكال فيه من غير فرق بين العناوين الثلاثة وغيرها، فتخصيص التحليل بالعناوين الثلاثة في باب الأنفال مما لاوجه له، فتدبر. وأما التفسير الثالث للمساكن، أعني ما اتخذت بثمن يتعلق به الخمس من الأرباح غيرها، فإن اتخذت بالأرباح في أثناء السنة كانت من المؤونة ولا خمس فيها، إذ الخمس بعد المؤونة، وإلا فلا دليل على تحليلها كما مر نظيره في المناكح، فراجع. نعم في الجواهر قال: " ويمكن أن يراد باستثناء المناكح والمساكن أنه لا بأس باتخاذهما من الربح في أثناء السنة وإن تعلق به الخمس وأنه لا يجب إخراجه بعد السنة بخلاف غيرهما من المؤن فإنه لا يستثنى له إلا مقدار السنة... فلا يرد عليه أنهما كغيرهما من المؤن. " (3)
1 - الوسائل 6 / 337، الباب 1 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 3. 2 - راجع كتاب الخمس / 151 وما بعدها; وراجع 3 / 70 وما بعدها من هذا الكتاب. 3 - الجواهر 16 / 154. 133 أقول: لا خصوصية للمسكن والمنكح فيما ذكره من الفرق، فإن العرف يفرقون في المؤونة بين ما ينتفع به بإتلافه وما ينتفع به مع بقاء عينه، والتقييد بالسنة يكون في القسم الأول لا في الثاني مطلقا. ثم إن تعبير صاحب الجواهر بقوله: " وإن تعلق به الخمس " يرد عليه أن الخمس لا يتعلق بما يصرف في المؤونة كما هو واضح. هذا. وأما التفسير الأول للمتاجر، أعني ما يشترى من مغانم الحرب سواء كانت بأجمعها للإمام أو ببعضها، فيدل على جوازه وحليته أخبار: 1 - معتبرة أبي خديجة التي مرت في المناكح، (1) أخذا بإطلاق قول السائل: " أو ميراثا يصيبه أو تجارة أو شيئا أعطيه "، وجواب الإمام (عليه السلام) بقوله: " هذا لشيعتنا حلال. " لكن قد مر منا احتمال حمل جميع الفقرات على خصوص المناكح بقرينة قول السائل: " حلل لي الفروج ". 2 - وما مر عن تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) من تحليل أمير المؤمنين (عليه السلام) نصيبه من السبي والغنائم، فراجع (2). 3 - خبر يونس بن يعقوب، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فدخل عليه رجل من القماطين فقال: جعلت فداك تقع في أيدينا الأموال والأرباح وتجارات نعلم أن حقك فيها ثابت وأنا عن ذلك مقصرون؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): " ما أنصفناكم إن كلفناكم ذلك اليوم. " (3) رواه الشيخ والصدوق. وفي طريق الشيخ محمد بن سنان، وفي طريق الصدوق الحكم بن مسكين (4) وكلاهما مختلف فيهما، ولكن لا يبعد إدراج الثاني في الحسان فالسند لا بأس به.
1 - الوسائل 6 / 379، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 4. 2 - راجع الوسائل 6 / 385، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 20. 3 - الوسائل 6 / 380، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 6. 4 - راجع الفقيه 4 / 452 (المشيخة). 134 والظاهر أن مورد السؤال أعم من مغانم الحرب فيشمل الجواب بترك الاستفصال للتفسير الثاني والثالث بل الرابع أيضا على احتمال. وأما ما تعلق به الخمس عند نفس الشيعي من الأرباح وغيرها فانصراف السؤال الجواب عنه واضح، إذ الظاهر من السؤال كون تعلق الحق قبل وقوع المال في يده، والظاهر أن المراد بقوله (عليه السلام): " ذلك اليوم " زمان عدم بسط الحكومة الحقة وكون الشيعة في نظام معاشهم محتاجين إلى معاشرة المخالفين والمعاملة معهم بالبيع والشراء نحوهما فتشمل الرواية بمناطها لزمان الغيبة أيضا. 4 - خبر الحارث بن المغيرة النصري عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: إن لنا أموالا من غلات وتجارات ونحو ذلك وقد علمت أن لك فيها حقا. قال: " فلم أحللنا إذا لشيعتنا إلا لتطيب ولادتهم، وكل من والى آبائي فهو في حل مما في أيديهم من حقنا، فليبلغ الشاهد الغائب. " (1) والسند مخدوش بأبي عمارة، فإنه مجهول ولكن الراوي عنه البزنطي وهو من أصحاب الإجماع. وظاهر الرواية تحليل حق الإمام مطلقا حتى بالنسبة إلى ما تعلق بالمال عند الشخص ولكن يجب حملها على ما تعلق به الحق عند الغير ثم انتقل إلى الشخص جمعا بينها وبين الأخبار الكثيرة الصادرة عن الأئمة المتأخرين (عليهم السلام) " الدالة على ثبوت الخمس في الأرباح وغيرها والمطالبة به ونصب الوكلاء لأخذه وقد مر تفصيل ذلك في خمس الأرباح، فراجع. وأما التفسير الثاني للمتاجر، أعني ما يشترى من الأراضي والأشجار ونحوهما مما يختص بالإمام فيدل على تحليله مضافا إلى إطلاق روايتي يونس والحارث مطلق ما دل على تحليل الأنفال من الأراضي ونحوها في عصر الغيبة، فمن أحياها أو حازها بحيازة مملكة جاز له بيعها وجاز اشتراؤها منه قهرا.
1 - الوسائل 6 / 381، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 9. 135 وأما التفسير الثالث للمتاجر، أعني ما يشترى ممن لا يعتقد الخمس فيدل على تحليله مضافا إلى إطلاق الخبرين، استقرار السيرة على معاشرة الشيعة للكفار وأهل الخلاف المعاملة معهم حتى في أعصار الأئمة (عليهم السلام) مع عدم التزامهم بخمس الأرباح نحوها ولزوم الحرج الشديد لو بني على التحريم ووجوب التخميس لما وصل إلى أيدي الشيعة من قبلهم، ويظهر من لحن أخبار التحليل برمتها إشفاق الأئمة (عليهم السلام) ورأفتهم بالنسبة إلى شيعتهم وكونهم بصدد تسهيل الأمر عليهم حين استيلاء الدول الجابرة عليهم وابتلائهم بالمعاملة معهم ومع أتباعهم وأشياعهم، فتتبع. وأما التفسير الرابع للمتاجر، أعني ما يشترى ممن لا يخمس ولكنه يعتقده، فيظهر من تفسير السرائر للمتاجر شمول التحليل له أيضا، قال فيه: " والمراد بالمتاجر أن يشتري الإنسان مما فيه حقوقهم ويتجر في ذلك، ولا يتوهم متوهم أنه إذا ربح في ذلك المتجر شيئا لا يخرج منه الخمس، فليحصل ما قلناه فربما اشتبه. " (1) وقال في الروضة في تفسيرها: " الشراء ممن لا يعتقد الخمس أو ممن لا يخمس. " (2) وأفتى بذلك بعض المتأخرين أيضا. ويمكن أن يستدل لذلك بإطلاق خبري يونس والحارث وبلزوم الحرج الشديد أيضا لو بني على التحريم لعدم التزام أكثر الشيعة عملا بتخميس الأرباح وغيرها، فلو بني على عدم المعاملة معهم أو تخميس ما وصل إلينا من قبلهم لوقعت الشيعة المتعبدون الملتزمون في الحرج الشديد، ومذاق أئمتنا (عليهم السلام) وسيرتهم كان على تسهيل الأمور لشيعتهم الملتزمين كما يشهد بذلك لسان أخبار التحليل بكثرتها. هذا.
1 - السرائر / 116. 2 - اللمعة الدمشقية 2 / 80 (= ط. أخرى 1 / 185). 136 ولكن مع ذلك كله الأحوط هو التخميس، إذ يمكن دعوى انصراف الخبرين بحكم الغلبة إلى ما كان يصل إلى الشيعة من أيدي المخالفين، ولم يحرز كون الشيعة في أعصار الأئمة (عليهم السلام) تاركين لوظيفة التخميس بل لعلهم كانوا أقلية ملتزمة بوظيفتها. هذا مضافا إلى أن الجمع بين هذين الخبرين وبين خبر أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: " لا يحل لأحد أن يشترى من الخمس شيئا حتى يصل إلينا حقنا. " (1) وخبره الآخر عنه (عليه السلام) قال: سمعته يقول: " من اشترى شيئا من الخمس لم يعذره الله، اشترى ما لا يحل له. " (2) وخبر إسحاق بن عمار، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " لا يعذر عبد اشترى من الخمس شيئا أن يقول: يا رب اشتريته بمالي حتى يأذن له أهل الخمس. " (3) يقتضي حمل الخبرين على الاشتراء ممن لا يعتقد، والأخبار الأخيرة على الاشتراء ممن يعتقد لا يخمس. اللهم إلا أن يقال: إن هذا الجمع تبرعي لا شاهد له، فالأولى أن تحمل الأخبار الأخيرة بقرينة أخبار التحليل للشيعة على عدم التحليل لأهل الخلاف وعدم كونهم معذورين في اشتراء حقوق الأئمة (عليهم السلام) وتصرفهم فيها كما يشعر بعدم التحليل لهم بعض أخبار التحليل أيضا فيبقى إطلاق الخبرين بالنسبة إلى التفسير الرابع للمتاجر بحاله، فتدبر جيدا. واعلم أن الرواية الأولى لأبي بصير في سندها علي بن أبي حمزة البطائني الواقفي حاله معلوم. والرواية الثانية له رواها في الوسائل في الباب الحادي والعشرين من أبواب
1 - الوسائل 6 / 337، الباب 1 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 4. 2 - الوسائل 6 / 338 و 376، الباب 1 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 5، والباب 3 من أبواب الأنفال...، الحديث 5، و 12 / 275، الباب 21 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 6. 3 - الوسائل 6 / 378، الباب 3 من أبواب الأنفال...، الحديث 10. 137 عقد البيع (1)، عن الشيخ، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن أبان، عن أبي بصير. فالسند موثوق به. ورواها أيضا في الباب الثالث من أبواب الأنفال (2)، عن الشيخ، عن محمد بن علي بن محبوب، عن أحمد بن محمد، عن الحسين، عن القاسم، عن أبان، عن أبي بصير. المراد بالحسين الحسين بن سعيد وبالقاسم قاسم بن محمد الجوهري. فالسند لا بأس به إلا من ناحية القاسم فإن فيه كلاما. ورواها أيضا في باب وجوب الخمس (3)، إلا أنه ذكر بدل " الحسين عن قاسم "، " الحسين بن القاسم " وهو مصحف كما يظهر بالمراجعة إلى التهذيب (4). ورواية إسحاق بن عمار مروية عن تفسير العياشي، فتكون مرسلة. خاتمة نتعرض فيها لأمور ترتبط بأخبار التحليل: الأول: قد مر منا في خمس أرباح المكاسب بحث فيما ورد من الأخبار في التحليل قلنا هناك إن الحكم بتحليل الخمس مطلقا في عصر الغيبة ممنوع أشد المنع، إذ بعض الأخبار يدل على تحليل خصوص المناكح، وبعضها على تحليل الفيء وغنائم الحرب الواصلة إلى الشيعة من أيدي خلفاء الجور وعمالهم، وبعضها على تحليل ما ينتقل إلى الشيعة ممن لا يعتقد الخمس أو لا يخمس، وبعضها على تحليل الأراضي ونحوها من الأنفال.
1 - الوسائل 12 / 275، الباب 21 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 6. 2 - الوسائل 6 / 376، الباب 3 من أبواب الأنفال...، الحديث 5. 3 - الوسائل 6 / 338، الباب 1 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 5. 4 - التهذيب 4 / 136، كتاب الزكاة، باب الزيادات من الأنفال، الحديث 3 (= ط. القديم 1 / 388). 138 وجميع أخبار التحليل وردت عن الإمامين الهمامين: الباقر والصادق - عليهما السلام - إلا صحيحة علي بن مهزيار عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) والتوقيع المروي عن صاحب الزمان (عليه السلام)، لكن مورد الأول خصوص صورة الإعواز: قال ابن مهزيار: قرأت في كتاب لأبي جعفر (عليه السلام) إلى رجل يسأله أن يجعله في حل من مأكله ومشربه من الخمس فكتب (عليه السلام) بخطه: " من أعوزه شيء من حقي فهو في حل. " (1) فهذه الصحيحة بنفسها شاهدة على أن البناء والعمل في عصر الإمام الجواد (عليه السلام) كان على أداء الخمس ولذا استحل الرجل لنفسه فيعلم بذلك أن أخبار التحليل الصادرة عن الصادقين (عليهما السلام) بكثرتها لم تكن بإطلاقها موردا للعمل في ذلك العصر. وفي التوقيع يوجد نحو إجمال لاحتمال كون اللام في قوله: " وأما الخمس فقد أبيح لشيعتنا وجعلوا منه في حل إلى وقت ظهور أمرنا لتطيب ولادتهم ولا تخبث " (2) للعهد لا للاستغراق فتكون إشارة إلى سؤال السائل وهو غير معلوم، فلعله كان في مورد خاص كما يشهد بذلك تعليله بطيب الولادة. وقد وردت في قبال أخبار التحليل أخبار كثيرة دالة على وجوب الخمس ظاهرة في بيان الحكم الفعلي وأن الأئمة (عليهم السلام) كانوا يطالبونه ويعينون وكلاء لأخذه وأكثرها صادرة عن الأئمة المتأخرين عن الصادقين كما يظهر لمن راجع أخبار خمس أرباح المكاسب، (3) فلا يبقى مجال لأخبار التحليل الصادرة عنهما. وبعضها صادرة عن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضا كقوله: " إني لآخذ من أحدكم الدرهم إني لمن أكثر أهل المدينة مالا ما أريد بذلك إلا أن تطهروا. " (4) وقوله (عليه السلام): " خذ مال الناصب حيثما وجدته وادفع إلينا الخمس. " (5) وصحيحة الحلبي عنه (عليه السلام) في الرجل من أصحابنا يكون في لوائهم ويكون
1 - الوسائل 6 / 379، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 2. 2 - الوسائل 6 / 383، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 16. 3 - الوسائل 6 / 348، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس. 4 - الوسائل 6 / 337، الباب 1 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 3. 5 - الوسائل 6 / 340، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 6. 139 معهم فيصيب غنيمة، قال: " يؤدي خمسا ويطيب له. " (1) وغير ذلك مما يدل على فعلية وجوب الخمس. فالقول بتحليل الخمس مطلقا مما لا يساعد عليه الأدلة. هذا مضافا إلى أن مصارف الخمس بسعتها ومنها فقراء بني هاشم باقية بحالها فكيف يعقل تحليله مع بقاء المصارف وحكمة التشريع، فراجع ما حررناه هناك (2). الثاني: قد مر في بحث الأراضي المفتوحة عنوة في فصل الغنائم أن هذه الأراضي إذا وقعت تحت استيلاء خلفاء الجور وبليت الشيعة بمعاملتهم والرجوع إليهم في قبالة الأرض ودفع الخراج إليهم أو أخذه منهم بلا عوض أو بعوض فالظاهر من الأخبار الكثيرة وفتاوى الأصحاب إجازة أئمتنا (عليهم السلام) لذلك بأن يعاملوا أئمة الجور معاملة أئمة العدل تسهيلا لشيعتهم. فنقول: هذا الملاك موجود في جميع ما يكون لأئمة العدل بجهة إمامتهم فاستولى عليه أئمة الجور بهذا العنوان كمغانم الحرب وأقسام الأنفال بل والأخماس والزكوات. ولذا قال في كشف الغطاء بعد عد الأنفال على ما حكاه عنه في الجواهر: " وكل شيء يكون بيد الإمام - عليه السلام - مما اختص أو اشترك بين المسلمين يجوز أخذه من يد حاكم الجور بشراء أو غيره من الهبات والمعاوضات والإجارات لأنهم أحلوا ذلك للإمامية من شيعتهم. " (3) وقال في مصباح الفقيه: " بل استفادة حلية أخذ ما يستحقه الإمام خاصة من الأنفال ونحوه من الأدلة الدالة على حلية جوائز الجائر وجواز المعاملة معهم أوضح من إباحة ما عداه مما يشترك بين المسلمين أو يختص بفقرائهم لكونه أوفق بالقواعد وأقرب إلى الاعتبار،
1 - الوسائل 6 / 340، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 8. 2 - راجع 3 / 74 وما بعدها من الكتاب. 3 - الجواهر 16 / 141; وكشف الغطاء / 364. 140 وكيف كان فلا ينبغي الارتياب في أن كل ما كان أمره راجعا إلى الإمام - عليه السلام - ثم صار في أيدي أعدائهم أبيح للشيعة أخذه منهم وإجراء أثر الولاية الحقة على ولايتهم كما صرح به في الجواهر... ولكن القدر المتيقن إنما هو إباحة أخذه منهم بالأسباب الشرعية بمعنى ترتيب أثر الولاية الحقة على ولايتهم كما تقدمت الإشارة إليه لا استنقاذه من أيديهم بأي نحو يكون ولو بسرقة ونحوها. " (1) هذا. وقد مر البحث في أن هذا الحكم هل يختص بأئمة الجور من أهل الخلاف أو يعم سلاطين الجور من الشيعة أيضا؟ فراجع ما حررناه في تلك المسألة. (2) الثالث: قد مرت الإشارة إلى أن المستفاد من أخبار كثيرة ومنها أخبار إحياء الأرضين الواردة عن الفريقين تحليل الأرضين والجبال والآجام والمعادن والأنهار نحوها من الأموال العامة التي خلقها الله - تعالى - للأنام ويحتاج إليها الناس في معاشهم ومعادهم. وأشرنا أيضا إلى أنه يجوز للدولة الإسلامية الصالحة تحديدها الدخل فيها وضرب الطسق عليها كما كان ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) بلحاظ كونها من الأنفال، فالتحليل محدود لا ينافي ذلك. وأما غير ما أشرنا إليه من أقسام الأنفال كالغنيمة بغير إذن الإمام مثلا وصفايا الملوك وميراث من لا وارث له فيشكل استفادة تحليلها من تلك الأدلة ولا سيما الأخير من هذه. نعم لو استولى عليها أئمة الجور بعنوان الإمامة أمكن القول بجواز أخذها منهم كما مرت الإشارة إلى ذلك، والغنائم الحربية كانت تحت اختيار أئمة الجور وعمالهم غالبا. الرابع: هل المراد بالتحليل إباحة التصرف فقط أو التمليك أو إجازة التملك بحيث يجوز لهم التصرفات المتوقفة على الملك كالبيع والوقف والعتق ونحوها؟
1 - مصباح الفقيه / 155، كتاب الخمس. 2 - راجع 3 / 232 وما بعدها من الكتاب. 141 1 - قال في المنتهى بعد ذكر إباحة المناكح: " لاعلى أن الواطي يطأ الحصة بالإباحة، إذ قد ثبت أنه يجوز إخراج القيمة في الخمس، فكأن الثابت قبل الإباحة في الذمة إخراج خمس العين من الجارية أو قيمته، بعد الإباحة ملكها الواطي ملكا تاما فاستباح وطيها بالملك التام. " (1) أقول: في تفريع المسألة على مسألة جواز إخراج القيمة نحو خفاء، ولعله أراد بيان أن مالكية الشيعي - للسرية بعد انتقالها إليه من المخالف لا يستلزم براءة ذمة المخالف من حق الإمام بل يشتغل ذمته بقيمتها إذ التحليل وقع للشيعي لاله، فتأمل. 2 - ومر عن الدروس في تحليل المناكح قوله: " وليس من باب تبعض التحليل بل تمليك للحصة أو الجميع من الإمام - عليه السلام -. " (2) أقول: الترديد إشارة إلى كون الأمة المسبية مغتنمة بإذن الإمام أو بدون إذنه. 3 - وفي الجواهر: " ضرورة عدم إرادة إباحة التصرف لهم التي لا يترتب عليها ملك أصلا كإباحة الطعام للضعيف. بل المراد زيادة على ذلك رفع مانعية ملكهم - عليهم السلام - عن تأثير السبب المفيد للملك في نفسه وحد ذاته كالحيازة والشراء والاتهاب والإحياء ونحو ذلك... فيكون الوطي حينئذ بملك اليمين كالعتق والوقف ونحوهما من التصرفات الأخر. أو يقال بتنزيل إباحتهم - عليهم السلام - لشيعتهم منزلة الإباحة الأصلية التي يملك بسببها المباح بالحيازة فيكون حينئذ شراؤها من يد المخالفين للفك من أيديهم لا أنه شراء حقيقة مفيد للملك، بل المملك الاستيلاء المتعقب لذلك الشراء الصوري.
1 - المنتهى 1 / 555. 2 - الدروس / 69. 142 أو يقال بما في الدروس بل حكي عن جماعة ممن تأخر عنه... وقد يشهد له في الجملة خبر العسكري (عليه السلام) المتقدم سابقا. أو يقال: إن هذه العقود التي تقع من الشيعة مع مخالفيهم مأذون فيها من المالك الذي هو الإمام - عليه السلام - وإن كان من في يده معتقدا أنها له ولم يوقع العقد عن تلك الإذن بل بنية أنه المالك، لكن ذلك لا يؤثر فسادا في العقد الجامع لشرائط الصحة واقعا التي منها الإذن، فينتقل حينئذ ملك الإمام - عليه السلام - إلى الثمن المدفوع عن العين يطالب به الغاصب أو القيمة لو كانت أزيد منه كما أنه ينتقل إليها لو كان العقد مجانا نحو الهبة غيرها... إلا أن الإنصاف خروج ذلك كله عن مقتضى القواعد الفقهية كما هو واضح لا يحتاج إلى بيان، فلا حاجة حينئذ إلى شيء من هذه التكلفات، بل يقال: إنها إباحة محضة أجرى الشارع عليها حكم سائر الأملاك وإلا فهي ملك للإمام لا تخرج عنه. " (1) أقول: لعل مراده بالاحتمال الأول المالكية الطولية نظير مالكية المولى وعبده فتكون الملكية ثابتة لكليهما أو مالكية الله - تعالى - ومالكيتنا. 4 - وفي آخر خمس الشيخ الأنصاري - قدس سره -: " ثم الظاهر أن تحليل الثلاثة موجب لتملك ما يحصل بيد الشيعة منها بالمباشرة لتحصيله أو بالانتقال إليه من غيره لا لمجرد جواز التصرف، ولذا يجوز وطي الأمة عتقها وبيعها وبيع المساكن ووقفها ونحو ذلك. والظاهر أنه لا يقول أحد بغير ذلك. وفي تطبيق هذه الإباحة على القواعد إشكال من وجوه: مثل أن الإباحة ليست بتمليك يوجب ترتيب آثار الملك سيما في مثل الجواري، وأن متعلقها لا بد أن يكون موجودا حال الإباحة مع عدم المباح والمباح له حين الإباحة غالبا، ومن أن اللازم من التمليك صيرورته للشيعة كالأرض المفتوحة عنوة للمسلمين لا يختص بواحد دون آخر وإن أحيى الأرض أو حاز المال بل كان اللازم على المحيي أداء خراج الأرض فيجعل لبيت المال للشيعة. والذي يهون الخطب الإجماع على أنا نملك بعد التحليل الصادر منهم - صلوات الله
1 - الجواهر 16 / 142 و 143. 143 عليهم - كل ما يحصل بأيدينا تحصيلا أو انتقالا، فهذا حكم شرعي لا يجب تطبيقه على القواعد. نعم يمكن أن يقال: الأصل والمنشأ في ذلك أحد أمرين: أحدهما: أن يقال: إن تملكهم الفعلي لم يتعلق بهذه الأمور ليلحقه الإباحة والتحليل فيشكل بما ذكر، وإنما كان ذلك حكما شأنيا من الله - سبحانه -، وإذنهم ورفع يدهم رافع لذلك الحكم الشأني بمعنى أن الشارع بملاحظة رضاهم بتصرف الشيعة لم يجعل هذه الأمور في زمان قصور يدهم ملكا فعليا لهم بل أبقاها على الحالة الأصلية، فهي باقية بواسطة ما علم الله - تعالى - منهم من الرضا على إباحتها الأصلية بالنسبة إلى الشيعة، هذا نظير الحرج الدافع للتكليف الشأني كما في نجاسة الحديد. ولا مخالفة في ذلك لأخبار اختصاص هذه الأمور بالإمام (عليه السلام) نظرا إلى أن صيرورتها من المباحات إنما نشأ من شفقتهم القديمة على الشيعة قبل شرع الأحكام، فجواز التصرف منوط برضاهم ولا يجوز التصرف بدون رضاهم. ومن تصرف بدون رضاهم فهو ظالم لهم غاصب لحقهم، ولا معنى للاختصاص أزيد من ذلك. الثاني: أن يقال: بثبوت ملكهم لها فعلا إلا أن معنى ملكيتهم الفعلية ليس أمرا ينافي ملكية الشيعة لها بالإحياء والحيازة حتى يكون ملكية الشيعة لها بالانتقال عن ملك الإمام وإن صرح في بعض الأخبار بلفظ الهبة الظاهرة في الانتقال، بل هو معنى تشبه في الجملة بملكية الله - سبحانه - للأشياء، وإن كان ذلك ملكا حقيقيا مساويا لملكية نفس العباد إلا أن هذا المعنى كالقريب منه بمعنى أن الله سلطهم على هذه الأموال سلطنة مستمرة، لهم أن يأذنوا لغيرهم في التملك ولهم أن يمنعوا... " (1) أقول: لا يخفى أن الظاهر من كلمات هؤلاء الأعلام أنهم كانوا يتصورون الخمس الأنفال ملكا لشخص الإمام المعصوم فأشكل عليهم تصوير ملكية الشيعة
1 - كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري / 497، كتاب الخمس، فصل في الأنفال (= طبعة أخرى / 558). 144 لها بالتحليل زعما منهم أن التحليل بمنزلة الانتقال منه إليهم. ولكن قد مر منا أن هذه الأموال أموال عامة لا تتعلق بالأشخاص وليست ملكا لأحد إلا بالملكية التكوينية لله - تعالى -، ولا سيما الأنفال فإنها أموال خلقها الله لرفع حاجات الأنام ويتوقف عليها معاشهم ومعادهم، نعم جعل الله زمام أمرها بيد قائد المجتمع سائسهم أعني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دفعا للنزاع والخصام فقال تعالى: " قل الأنفال لله الرسول "، وبعده جعلت للإمام بما هو إمام، ولا يراد بمالكية الإمام لها إلا هذا. فله إجازة التصرف والتملك فهي في الحقيقة مباحات أصلية محدودة يكون التصرف فيها منوطا بنظر الإمام. وأئمتنا (عليهم السلام) بملاحظة احتياج شيعتهم في زمان الاختناق وعدم وصولهم إلى الحكومة الحقة حللوا وأباحوا لهم التصرف تسهيلا لهم. فإذا تصرف فيها أحد منهم بالتصرفات المملكة كالإحياء أو الحيازة أو الأخذ من دولة جائرة مثلا بالشراء أو الاتهاب بعد تحقق الإذن في ذلك بالإذن العام صارت ملكا لمن حازها أو أحياها أو أخذها من جائر وجاز له بيعها وعتقها ووطئها ونحو ذلك. ولعل الشيخ - قدس سره - أراد بالوجه الثاني الذي ذكره هذا كما يظهر من آخر كلامه. نعم لنا في تملك رقبة الأرض بإحيائها كلام يأتي في المسائل الآتية، فانتظر. الخامس: في الجواهر بعد التعرض لتحليل الأنفال ورواياته قال: " أما غير الشيعة فهو محرم عليهم أشد تحريم وأبلغه، ولا يدخل في أملاكهم شيء منها كما هو قضية أصول المذهب بل ضرورته، لكن في الحواشي المنسوبة للشهيد على القواعد عند قول العلامة: " ولا يجوز التصرف في حقه بغير اذنه والفائدة حينئذ له " قال: " ولو استولى غيرنا من المخالفين عليها فالأصح أنه يملك لشبهة الاعتقاد كالمقاسمة، تملك الذمي الخمر والخنزير، فحينئذ لا يجوز انتزاع ما يأخذه المخالف من ذلك كله، وكذا ما يؤخذ من الآجام ورؤوس الجبال وبطون الأودية لا يحل انتزاعه من آخذه وإن كان كافرا، وهو ملحق بالمباحات المملوكة بالنية لكل
145 متملك، وآخذه غاصب تبطل صلاته في أول وقتها حتى يرده. " انتهى. وفيه بحث لامكان منع شمول ما دل على وجوب مجاراتهم على اعتقادهم ودينهم لمثل ذلك من استباحة تملك الأموال ونحوه خصوصا بالنسبة للمخالفين وإن ورد: " ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم. " على أن ذلك لا يقضى بصيرورته كالمباح الذي يملك بالحيازة والنية لكل أحد حتى من لم يرد أمر بإجرائهم ومعاملتهم على ما عندهم من الدين، وكيف وظاهر الأخبار بل صريحها أنه في أيدي غير الشيعة من الأموال المغصوبة، نعم قد يوافق على ما ذكره من حيث التقية وعدم انبساط العدل ولعله مراده وإن كان في عبارته نوع قصور. " (1) انتهى ما في الجواهر. أقول: عمدة أخبار التحليل وردت في تحليل الخمس والمناكح ومغانم الحرب التي ثبت فيها حقوق الأئمة (عليهم السلام) غصبت بتصدي الجائرين، وظاهرها تحليلها لشيعتهم فقط في قبال من غصب حقوقهم ومن تابعهم وشايعهم في ذلك ولابعد في هذا. نعم يستفاد من بعض الأخبار اختصاص تحليل الأراضي وما فيها أيضا بالشيعة: ففي معتبرة أبي سيار: " وكل ما كان في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون... وأما ما كان في أيدي غيرهم فإن كسبهم من الأرض حرام عليهم حتى يقوم قائمنا. الحديث. " (2) ولكن يمكن أن يقال كما مر بكون اللام فيها للعهد، فيراد مثل أرض البحرين التي لم يوجف عليها بخيل فكانت خالصة للإمام فلا يستفاد منها حكم أرض الموات والجبال والمعادن ونحوها مما يتوقف الاستفادة منها على الإحياء وتحمل المشاق، وأخبار الإحياء عامة تعم بإطلاقها الخاصة والعامة. وما في خبر يونس بن ظبيان أو المعلى الوارد في الأنهار الثمانية من قوله: " فما سقت أو استقت فهو لنا، وما كان لنا فهو لشيعتنا، وليس لعدونا منه شيء إلا ما غصب عليه " (3) إن
1 - الجواهر 16 / 141. 2 - الوسائل 6 / 382، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 12. ومر شرح الحديث في ص 129 من هذا الجزء من الكتاب. 3 - الوسائل 6 / 384، الباب 4 من أبواب الأنفال...، الحديث 17. 146 عم الموات أيضا ولكنه ضعيف فلا يقاوم إطلاق الأخبار المطلقة الواردة في الإحياء وان من أحيا أرضا فهي له. وسيأتي منا بحث مستوفى في سببية إحياء الأرض للاختصاص بها ولو كان المحيي كافرا فكيف بمن أسلم ولم يعاند، ومورد موثقة محمد بن مسلم في باب الإحياء أرض اليهود والنصارى كما يأتي فلا يترك العمل بما حكاه في الجواهر عن الشهيد من حفظ حرمة أموالهم الحاصلة بالحيازة أو الإحياء وعليه كان بناء الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم في مقام العمل كما هو ظاهر لمن سبر سيرتهم وهو المطابق لصلاح الإسلام والمسلمين أيضا كما لا يخفى وجهه. هذا مضافا إلى أن الأنفال كما مر ليست ملكا لشخص الإمام المعصوم بل هي أموال عامة تقع في كل عصر تحت اختيار الحاكم الصالح الموجود في هذا العصر، فالملاك إذنه ورضاه ويحمل أخبار التحليل الظاهرة في الاختصاص بالشيعة على موارد عدم انعقاد الحكومة الصالحة، فتدبر. وقد طال البحث في أخبار التحليل، هدانا الله - تعالى - إلى سواء السبيل.
147 المسألة الثالثة: فيما ورد في إحياء الأرضين الموات والترغيب فيه وأحقية المحيي بها: قد مر منا في أول الجهة السادسة من فصل الغنائم تقسيم للأرضين وإشارة إجمالية إلى أحكامها، وقلنا هناك: إن الأرض إما موات وإما عامرة، وكل منهما إما أن تكون كذلك بالأصالة أو عرض لها ذلك، فهي أربعة أقسام: أما الموات بالأصالة فلا إشكال ولا خلاف منا في كونها من الأنفال وكونها للإمام بما هو إمام. ومثلها العامرة بالأصالة أي لامن معمر كالغابات سواء كانتا في بلاد الإسلام أو في بلاد الكفر، إذ لم يتحقق فيهما ما هو السبب والملاك لمالكية الأشخاص أعني الإحياء والعمل. وبينا في الجهة الثانية من فصل الأنفال معنى كونها للإمام وقلنا إنها ليست ملكا لشخص الإمام المعصوم، بل هي أموال عامة وضعها الله للأنام وجعل زمام أمرها بيد سائس المسلمين من الرسول أو الإمام حسما للتنازع والخصام فلا يجوز لأحد التصرف فيها إلا بإذنه وإجازته. وبينا في القسم الثاني من الأنفال أعني الأرض الموات معنى الموات والخراب بالتفصيل، فراجع. إذا عرفت هذا فنقول: إحياء الموات جائز إجمالا بالنص والإجماع والسيرة العملية، بل هو مستحب مرغب فيه لما فيه من تحصيل الرزق المأمور به في قوله - تعالى -: " فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه. " اللهم إلا أن يقال: إن الأمر في مقام توهم الحظر لا يدل على أزيد من الجواز.
148 ولقوله - تعالى - في سورة هود: " هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها. " (1) إذ يستفاد منه أن عمران الأرض مطلوب له - تعالى -. ولما فيه من إخراج العاطل من العطلة المساوقة لتضييع المال. ولأن الله - تعالى - وضع الأرض وما فيها من المعادن والمياه للأنام فترك إحيائها صرفها فيما خلقت لأجله كفران لنعمة الله، وقد قال - تعالى - في سورة إبراهيم بعد ذكر السماوات والأرض والثمار والأنهار وغيرها: " وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار. " (2) يعني أن الله أعطى الإنسان ما يقتضيه طبعه وخلقته من النعم التي لا تحصى، فليس من قبل الله - تعالى - نقص وتقتير، وإنما النقص مستند إلى الإنسان نفسه حيث يظلم بعضهم بعضا ويتعدي إلى حقوقه أو يكفرون بنعم الله - تعالى - ولا يستفيدون منها. هذا. وروى أحمد في المسند بسنده عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أحيا أرضا ميتة فله فيها أجر، وما أكلت العافية منها فهو له صدقة. " (3) ورواه البيهقي أيضا بسنده عن جابر. ورواه الشهيد في المسالك بلفظ العوافي. (4) أقول: في النهاية: " العافية والعافي: كل طالب رزق من إنسان أو بهيمة أو طائر. وجمعها العوافي. " (5) وفي خراج يحيى بن آدم القرشي بسنده عن جابر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من زرع زرعا أو غرس غرسا فأكل منه إنسان أو سبع أو طائر فهو له صدقة. " (6) وروى الترمذي بسنده عن أنس، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " مامن مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كانت له صدقة. " (7)
1 - سورة هود (11)، الآية 61. 2 - سورة إبراهيم (14)، الآية 34. 3 - مسند أحمد 3 / 327. 4 - سنن البيهقي 6 / 148، كتاب إحياء الموات، باب ما يكون إحياء وما يرجى فيه من الأجر، المسالك 2 / 287. 5 - النهاية لابن الأثير 3 / 266. 6 - الخراج / 78. 7 - سنن الترمذي 2 / 421، أبواب الأحكام، الباب 40 (باب ما جاء في فضل الغرس)، الحديث 1400. 149 ويدل على أصل الجواز وأحقية المحيي الأخبار الكثيرة بل المتواترة إجمالا الواردة من طرق الفريقين: 1 - صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير وفضيل وبكير وحمران عبد الرحمان بن أبي عبد الله، عن أبي جعفر وأبي عبد الله - عليهما السلام -، قالا: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أحيا أرضا مواتا فهي له. " (1) 2 - صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أحيا أرضا مواتا فهو له. " (2) 3 - صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " أيما قوم أحيوا شيئا من الأرض أو عمروها فهم أحق بها. " (3) 4 - صحيحته الأخرى، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: " أيما قوم أحيوا شيئا من الأرض وعمروها فهم أحق بها وهي لهم. " (4) 5 - موثقة محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الشراء من أرض اليهود النصارى، فقال: " ليس به بأس، قد ظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أهل خيبر فخارجهم على أن يترك الأرض في أيديهم يعملونها ويعمرونها، فلا أرى بها بأسا لو أنك اشتريت منها شيئا. وأيما قوم أحيوا شيئا من الأرض وعملوها فهم أحق بها وهي لهم. " (5)
1 - الوسائل 17 / 327، الباب 1 من أبواب إحياء الموات، الحديث 5. 2 - الوسائل 17 / 327، الباب 1 من أبواب إحياء الموات، الحديث 6. 3 - الوسائل 17 / 326، الباب 1 من أبواب إحياء الموات، الحديث 3. 4 - الوسائل 17 / 327، الباب 1 من أبواب إحياء الموات، الحديث 4. 5 - الوسائل 11 / 118، الباب 71 من أبواب جهاد العدو...، الحديث 2، وقطعة منها في 17 / 326، الباب 1 من أبواب إحياء الموات، الحديث 1. 150 6 - ما رواه الصدوق، قال: " قد ظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على خيبر فخارجهم على أن يكون الأرض في أيديهم يعملون فيها ويعمرونها، وما بأس لو اشتريت منها شيئا. وأيما قوم أحيوا شيئا من الأرض فعمروه فهم أحق به وهو لهم. " (1) 7 - صحيحة أبي بصير، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن شراء الأرضين من أهل الذمة فقال: " لا بأس بأن يشتريها منهم إذا عملوها وأحيوها فهي لهم، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين ظهر على خيبر وفيها اليهود خارجهم على أن يترك الأرض في أيديهم يعملونها يعمرونها. " (2) 8 - معتبرة السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من غرس شجرا أو حفر واديا بديا لم يسبقه إليه أحد أو أحيا أرضا ميتة فهي له قضاء من الله ورسوله. " (3) 9 - صحيحة عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سئل وأنا حاضر عن رجل أحيا أرضا مواتا فكرى فيها نهرا وبنى فيها بيوتا وغرس نخلا وشجرا، فقال: " هي له وله أجر بيوتها. الحديث. " (4) إلى غير ذلك من الأخبار الواردة بطرقنا. 10 - وفي موطأ مالك في كتاب الأقضية، عن هشام بن عروة، عن أبيه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق. " (5) ورواه البيهقي بسنده عن مالك. (6)
1 - الوسائل 17 / 327، الباب 1 من أبواب إحياء الموات، الحديث 7. 2 - الوسائل 17 / 330، الباب 4 من أبواب إحياء الموات، الحديث 1. 3 - الوسائل 17 / 328، الباب 2 من أبواب إحياء الموات، الحديث 1. 4 - الوسائل 17 / 327، الباب 1 من أبواب إحياء الموات، الحديث 8. 5 - موطأ مالك 2 / 121، القضاء في عمارة الموات. 6 - سنن البيهقي 6 / 143، كتاب إحياء الموات، باب من أحيا أرضا ميتة فهي له... 151 ورواه أبو داود في باب إحياء الموات بسنده، عن عروة، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم). وبسنده، عن عروة، عن سعيد بن زيد، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا. (1) ورواه البيهقي أيضا بسنده، عن سعيد بن زيد، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم). (2) ورواه الترمذي أيضا إلا أنه ذكر سعد بن زيد ولكن الظاهر كونه مصحف سعيد. (3) ورواه في المستدرك عن المجازات النبوية مرسلا، وعن عوالي اللئالي بسنده عن سعيد بن زيد بن نفيل. (4) ورواه أبو عبيد أيضا، عن عروة، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم قال: قال عروة: ولقد أخبرني الذي حدثني هذا الحديث: " أن رجلا غرس في أرض رجل من الأنصار من بني بياضة نخلا فاختصما إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقضى للرجل بأرضه، وقضى على الآخر أن ينزع نخله. قال: فلقد رأيتها يضرب في أصولها بالفؤوس، وإنها لنخل عم. " (5) وروى قصة اختصام الرجلين أبو داود أيضا والبيهقي. (6) أقول: العم بالضم والتشديد: الطوال، واحدها عميم بمعنى تام الخلقة. والمشهور قراءة قوله: " لعرق ظالم " بنحو التوصيف لا بنحو الإضافة فيكون المراد تجاوز العرق وإن لم يلتفت إليه صاحبه ولم يعلم به. 11 - وروى البخاري في كتاب الوكالة عن عروة، عن عائشة، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " من أعمر أرضا ليست لأحد فهو أحق. " قال عروة قضى به عمر في خلافته. (7)
1 - سنن أبي داود 2 / 158، كتاب الخراج والفئ والإمارة، باب في إحياء الموات. 2 - سنن البيهقي 6 / 142، كتاب إحياء الموات، باب من أحياء أرضا ميتة ليست لأحد... فهي له. 3 - سنن الترمذي 2 / 419، أبواب الأحكام، الباب 38 (باب ما ذكر في إحياء أرض الموات)، الحديث 1394. 4 - مستدرك الوسائل 3 / 149، الباب 1 من كتاب إحياء الموات، الحديث 1 و 2. 5 - الأموال / 364. 6 - سنن أبي داود 2 / 158، كتاب الخراج...، باب في إحياء الموات; وسنن البيهقي 6 / 142، كتاب إحياء الموات، باب من أحيا أرضا ميتة ليست لأحد... فهي له. 7 - صحيح البخاري 2 / 48، باب من أحياء أرضا مواتا. 152 ورواها أبو عبيد بسنده، عن عروة، عن عائشة، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بلفظ من أحيا. ورواها البيهقي بلفظ من عمر. (1) 12 - وروى أبو داود بسنده عن عروة، قال: أشهد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قضى أن الأرض أرض الله والعباد عباد الله، ومن أحيا مواتا فهو أحق به. جاءنا بهذا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين جاؤوا بالصلوات عنه. ورواه البيهقي أيضا. (2) 13 - وروى البيهقي بسنده، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " العباد عباد الله والبلاد بلاد الله، فمن أحيا من موات الأرض شيئا فهو له (بعطية رسول الله خ. ل) وليس لعرق ظالم حق. " (3) 14 - وروى البيهقي أيضا بسنده، عن كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من أحيا مواتا من الأرض في غير حق مسلم فهو له، وليس لعرق ظالم حق. " (4) 15 - وروى البيهقي أيضا بسنده، عن عروة بن الزبير، عن أبيه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أحيا أرضا ميتة لم تكن لأحد قبله فهي له، وليس لعرق ظالم حق. " (5) 16 - وروى أبو داود بسنده، عن سمرة، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " من أحاط حائطا على أرض فهي له. " ورواه أيضا في مستدرك الوسائل، عن عوالي اللئالي، عن سمرة. (6)
1 - الأموال / 363; وسنن البيهقي 6 / 142، كتاب إحياء الموات، باب من أحيا أرضا ميتة ليست لأحد... 2 - سنن أبي داود 2 / 158، كتاب الخراج والفئ والإمارة، باب في إحياء الموات; وسنن البيهقي 6 / 142، كتاب إحياء الموات، باب من أحياء أرضا ميتة ليست لأحد... 3 - سنن البيهقي 6 / 142، كتاب إحياء الموات، باب من أحيا فهي له.... 4 - سنن البيهقي 6 / 142، كتاب إحياء الموات، باب من أحيا أرضا ميتة ليست لأحد... 5 - سنن البيهقي 6 / 142، كتاب إحياء الموات، باب من أحيا أرضا ميتة ليست لأحد... 6 - سنن أبي داود 2 / 159، كتاب الخراج...، باب في إحياء الموات; ومستدرك الوسائل 3 / 149، الباب 1 من كتاب إحياء الموات، الحديث 3. 153 17 - وروى البيهقي بسنده عن سمرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أحاط على شيء فهو أحق به، وليس لعرق ظالم حق. " (1) 18 - وروى البيهقي بسنده، عن أنس في الشعاب: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما أحطتم عليه فهو لكم، وما لم يحط عليه فهو لله ولرسوله. " (2) أقول: لعل الإحاطة تحجير، إذ كونها إحياء في جميع الموارد مشكل. 19 - البيهقي بسنده، عن ابن طاووس، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من أحيا ميتا من موتان الأرض فله رقبتها، وعادي الأرض لله ولرسوله ثم لكم من بعدي. " ورواه هشام بن حجير عن طاووس فقال: " ثم هي لكم مني. " (3) 20 - البيهقي بسنده عن طاووس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " عادى الأرض لله لرسوله ثم لكم من بعد، فمن أحيا شيئا من موتان الأرض فله رقبتها. " (4) 21 - البيهقي بسنده عن طاووس، عن ابن عباس، قال: " إن عادى الأرض لله لرسوله ولكم من بعد، فمن أحيا شيئا من موتان الأرض فهو أحق به. " وروى نحوه في المستدرك عن عوالي اللئالي. (5) 22 - البيهقي بسنده عن طاووس، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " موتان الأرض لله ولرسوله، فمن أحيا منها شيئا فهي له. " ورواه في المستدرك عن عوالي اللئالي. (6)
1 - سنن البيهقي 6 / 142، كتاب إحياء الموات، باب من أحيا أرضا ميتة ليست لأحد... 2 - سنن البيهقي 6 / 148، كتاب إحياء الموات، باب ما يكون إحياء وما يرجى فيه من الأجر. 3 - سنن البيهقي 6 / 143، كتاب إحياء الموات، باب لا يترك ذمي يحييه... 4 - سنن البيهقي 6 / 143، كتاب إحياء الموات، باب لا يترك ذمي... 5 - سنن البيهقي 6 / 143، كتاب إحياء الموات، باب لا يترك ذمي...; ومستدرك الوسائل 3 / 149، الباب 1 من كتاب إحياء الموات، الحديث 5. 6 - سنن البيهقي 6 / 143، كتاب إحياء الموات، باب لا يترك ذمي...; ومستدرك الوسائل 3 / 149، الباب 1 من كتاب إحياء الموات، الحديث 2. 154 ولا يخفى رجوع الأخبار الأربعة الأخيرة إلى واحد. 23 - البيهقي بسنده عن أسمر بن مضرس، قال: أتيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فبايعته فقال: " من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له. " ورواه أبو داود بقوله: " من سبق إلى ماء لم يسبقه... " (1) هذا. وروى في التذكرة عن سمرة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " عادى الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم منى أيها المسلمون. " ثم قال: " يريد بذلك ديار عاد وثمود. " (2) ولكني لم أجده في كتب الحديث بهذا اللفظ، فتتبع. إلى غير ذلك من الأخبار الواردة من طرق الفريقين الدالة على جواز إحياء الموات أن من أحياه فهو له. ولا يخفى شمول إطلاق الروايات بكثرتها لجميع الأعصار، فلا فرق في ذلك بين عصر الحضور وعصر الغيبة إذ ولاية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) شاملة لجميع الأعصار ولا تتقيد بعصر دون عصر إلا أن يكون هنا دليل يدل على كون إعمال الولاية لعصر خاص أو منطقة خاصة، وسيأتي كلام في هذا المجال. فإن قلت: قد مر منكم أخبار كثيرة تدل على أن الموات بالأصل وكذا الأرض الخربة التي باد أهلها من الأنفال وتكون للإمام، ومقتضى ذلك عدم جواز التصرف فيها بغير إذنه فكيف الجمع بين تلك الأخبار وبين الأخبار المجوزة للإحياء والمرغبة فيه بنحو الإطلاق؟ قلت: جواز الإحياء والترغيب فيه لا ينافي اشتراطه بشروط: كالاستيذان، وعدم سبق الغير إليها بالتحجير، وعدم الإضرار بالغير، وعدم كونها مرفقا وحريما
1 - سنن البيهقي 6 / 142، كتاب إحياء الموات، باب من أحيا أرضا ميتة ليست لأحد...; وسنن أبي داود 2 / 158، كتاب الخراج والفئ والإمارة، باب في إقطاع الأرضين. 2 - التذكرة 2 / 400. 155 لملك الغير، وعدم كونها من المشاعر المحترمة، ونحو ذلك. وقد قيد أصحابنا الإمامية جواز الإحياء بإذن الإمام: 1 - ففي إحياء الموات من الخلاف (المسألة 3): " الأرضون الموات للإمام خاصة لا يملكها أحد بالإحياء إلا أن يأذن له الإمام. وقال الشافعي: من أحياها ملكها، إذن له الإمام أو لم يأذن. وقال أبو حنيفة: لا يملك إلا بإذن، وهو قول مالك. وهذا مثل ما قلناه إلا أنه لا يحفظ عنهم أنهم قالوا: هي للإمام خاصة بل الظاهر أنهم يقولون: لا مالك لها. دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم وهي كثيرة. وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه وإنما تطيب نفسه إذا إذن فيه. " (1) أقول: الظاهر أن مراد الشيخ بالأخبار الكثيرة الأخبار الدالة على أن الأرض الموات للإمام ولازمه الاحتياج إلى إذنه. وقد مر منا أن الأنفال ومنها الأراضي ليست ملكا لشخص الإمام المعصوم، بل هي أموال عامة خلقها الله - تعالى - للأنام، وحيث إنها يتنافس فيها قهرا جعلت تحت اختيار الإمام بما أنه إمام ليقطع بذلك جذور التشاجر والخصام، فلا يجوز لأحد أن يتصرف فيها إلا بإذنه. ومن قال من أهل الخلاف بالاحتياج إلى الإذن وبعدم المالك لها لعلهم يريدون الإذن من الإمام بما أنه سائس المسلمين من دون أن تكون ملكا لشخصه فلا خلاف لنا معهم في هذه المسألة، بل في تعيين الإمام وشرائطه. 2 - وفي المبسوط: " الأرضون الموات عندنا للإمام خاصة لا يملكها أحد بالإحياء إلا أن يأذن له الإمام. " (2) أقول: قد مر منا أن قولهم: " خاصة " لايراد به كون المال لشخص الإمام، بل
1 - الخلاف 2 / 222. 2 - المبسوط 3 / 270. 156 يراد به عدم كونه مثل الغنائم التي تقسم والأراضي المفتوحة عنوة التي تكون لجميع المسلمين، فتأمل. 3 - ومر عن المفيد قوله: " وليس لأحد أن يعمل في شيء مما عددناه من الأنفال إلا بإذن الإمام العادل فمن عمل فيها بإذنه فله أربعة أخماس المستفاد منها وللإمام الخمس. ومن عمل فيها بغير إذنه فحكمه حكم العامل فيما لا يملكه بغير إذن المالك من سائر المملوكات. " (1) وقد مر عن أصول الكافي والنهاية والمراسم والمهذب والشرائع أيضا في باب الأنفال عدم جواز التصرف فيها بدون إذن الإمام ومنها أرض الموات قطعا. 4 - وفي إحياء الموات من التذكرة بعد ذكر الأرض الموات قال: " وهذه للإمام عندنا لا يملكها أحد وإن أحياها ما لم يأذن له الإمام. وإذنه شرط في تملك المحيي لها عند علمائنا. ووافقنا أبو حنيفة على أنه لا يجوز لأحد إحياؤها إلا بإذن الإمام لما رواه العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه. " من طريق الخاصة حديث الباقر (عليه السلام) السابق الذي حكى فيه ما وجده في كتاب علي (عليه السلام)، ولأن للإمام مدخلا في النظر في ذ لك فإن من تحجر أرضا ولم يبنها طالبه بالبناء أو الترك فافتقر ذلك إلى إذنه كمال بيت المال. وقال مالك: إن كان قريبا من العمران في موضع يتشاح الناس فيه افتقر إلى إذن الإمام وإلا لم يفتقر. وقال الشافعي: إحياء الموات لا يفتقر إلى إذن الإمام، وبه قال أبو يوسف ومحمد لظاهر قوله (عليه السلام): " من أحيا أرضا ميتة فهي له. " الخ ". (2) أقول: من عبارة التذكرة أيضا يستفاد ما نصر عليه من عدم كون الأنفال لشخص الإمام المعصوم بل من قبيل بيت المال للأموال العامة. ومراده بحديث الباقر (عليه السلام) صحيحة أبي خالد الكابلي الآتية في المسائل الآتية. وظاهر كلامه اعتبار الإذن مطلقا ولو في عصر الغيبة وكون المسألة إجماعية عندنا.
1 - المقنعة / 45. 2 - التذكرة 2 / 400. 157 5 - وفي جهاد المنتهى: " قد بينا أن الأرض الخربة والموات ورؤس الجبال وبطون الأودية والآجام من الأنفال يختص بها الإمام ليس لأحد التصرف فيها إلا بإذنه إن كان ظاهرا. وإن كان غائبا جاز للشيعة التصرف فيها بمجرد الإذن منهم - عليهم السلام -. " (1) أقول: مراده بالجملة الأخيرة لا محالة الإذن العام المستفاد من أخبار الإحياء أو أخبار التحليل، وأراد بذلك عدم الاحتياج إلى إذن جديد. وكيف كان فالإذن معتبر عنده ولو بنحو عام. 6 - وفي التنقيح: " وعند أصحابنا أن الموات من الأرضين للإمام ولا يجوز إحياؤه إلا بإذنه، ومع إذنه يصير ملكا للمأذون له، وإذنه شرط. " (2) وظاهره أيضا الإطلاق وادعاء إجماعنا عليه. 7 - ولكن في إحياء الموات من الشرائع بعد ذكر الموات قال: " فهو للإمام (عليه السلام) لا يملكه أحد وإن أحياه ما لم يأذن له الإمام (عليه السلام)، وإذنه شرط، فمتى اذن ملكه المحيي له إذا كان مسلما، ولا يملكه الكافر. ولو قيل: يملكه مع إذن الإمام كان حسنا... وكل أرض جرى عليها ملك لمسلم فهي له أو لورثته بعده، وإن لم يكن لها مالك معروف معين فهي للإمام - عليه السلام -، ولا يجوز إحياؤها إلا بإذنه. فلو بادر مبادر فأحياها بدون إذنه لم يملك. وإن كان الإمام - عليه السلام - غائبا كان المحيي أحق بها ما دام قائما بعمارتها فلو تركها فبادت آثارها فأحياها غيره ملكها، ومع ظهور الإمام (عليه السلام) يكون له رفع يده عنها. " (3) أقول: ظاهر كلامه الأول الإطلاق، وظاهر الذيل التفصيل بين عصر الظهور
1 - المنتهى 2 / 936. 2 - التنقيح الرائع 4 / 98. 3 - الشرائع 3 / 271 و 272 (= طبعة أخرى / 791 - 792، الجزء الرابع). 158 والغيبة. الفرق بين الموات الأصلي والعارضي في ذلك مشكل بعد كون كليهما للإمام شمول أخبار الإحياء لكليهما. ويحتمل أن يكون مفروض كلامه من الأول إلى قوله: " وإن كان الإمام غائبا " حال ظهور الإمام ويكون المراد من إذن الإمام إذنه في التملك، ويكون قوله: " و إن كان الإمام غائبا " راجعا إلى كلا القسمين من الأصلي والعارضي فيراد أنه في حال الغيبة حيث لا إذن في التملك صار الإحياء موجبا للأحقية فقط دون ملك الرقبة فيكون ذيل كلامه مأخوذا من صحيحتي الكابلي وعمر بن يزيد الدالتين على عدم سببية الإحياء لملكية الرقبة. وإن كان يرد عليه عدم انحصار الصحيحتين بعصر الغيبة، فتدبر. 8 - وفي المسالك: " إذا كان الإمام حاضرا فلا شبهة في اشتراط إذنه في إحياء الموات فلا يملك بدونه اتفاقا. " (1) وظاهره التفصيل بين زمان الحضور والغيبة في اشتراط الإذن. 9 - وقد صرح بهذا التفصيل في جامع المقاصد فقال في إحياء الموات منه: " لا ريب أنه لا يجوز إحياء الموات إلا بإذن الإمام، وهذا الحكم مجمع عليه عندنا... لا يخفى أن اشتراط إذن الإمام (عليه السلام) إنما هو مع ظهوره، وأما مع غيبته فلا وإلا لامتنع الإحياء " (2) أقول: الظاهر اعتبار الإذن مطلقا كما هو مقتضى كون الموات للإمام، غاية الأمر أنه في حال الغيبة يكتفى بالإذن العام المستفاد من أخبار التحليل أو أخبار الإحياء. لو فرض انعقاد الحكومة الحقة في عصر الغيبة فالظاهر وجوب الاستيذان منها، ولا أقل من حرمة التصرف مع منعها وتحديدها كما سيأتي. وربما يقال بعدم اشتراط الإذن في عصر الغيبة تمسكا بعموم أخبار الإحياء بتقريب أن ظاهرها كون الإحياء بنفسه سببا تاما للملكية.
1 - المسالك 2 / 287. 2 - جامع المقاصد 1 / 408. 159 وفيه منع ذلك بل غايته الدلالة على الاقتضاء فقط. ولو سلم كان مقتضاه عدم الاشتراط في عصر الظهور أيضا لكونه مورد صدور هذه الأخبار وتخصيص المورد لا يصح، فالتفصيل بين العصرين لذلك فاسد جدا. 10 - وفي خراج أبي يوسف القاضي ما ملخصه مع التحفظ على ألفاظه: " وقد كان أبو حنيفة يقول: من أحيا مواتا فهي له إذا أجازه الإمام. ومن أحيا أرضا مواتا بغير إذن الإمام فليست له وللإمام أن يخرجها من يده ويصنع فيها ما رأى. قيل لأبي يوسف: ما ينبغي لأبي حنيفة أن يكون قد قال هذا إلا من شيء. قال أبو يوسف: حجته في ذلك أن يقول: الإحياء لا يكون إلا بإذن الإمام، أرأيت رجلين أراد كل واحد منهما أن يختار موضعا واحدا، وكل منهما منع صاحبه أيهما أحق به؟ رأيت إن أراد رجل أن يحيي أرضا ميتة بفناء رجل فقال: لا تحيها فإنها بفنائي وذلك يضرني، فإنما جعل أبو حنيفة إذن الإمام في ذلك فصلا بين الناس. وإذا منع الإمام أحدا كان ذلك المنع جائزا ولم يكن بين الناس التشاح في الموضع الواحد ولا الضرار فيه مع إذن الإمام ومنعه. قال أبو يوسف: أما أنا فأرى إذا لم يكن فيه ضرر على أحد ولا لأحد فيه خصومة أن إذن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جائز إلى يوم القيامة فإذا جاء الضرر فهو على الحديث: " وليس لعرق ظالم حق " (1) أقول: يظهر من ذيل كلام أبي يوسف أن أصل الاحتياج إلى الإذن كان مفروغا عنه بين الجميع، غاية الأمر أن أبا يوسف وأمثاله كانوا يكتفون بالإذن العام من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الإحياء، وأبا حنيفة كان يقول بالاحتياج إلى الإذن الخاص في كل مورد من إمام المسلمين وسائسهم في عصر من يريد الإحياء. ويظهر من كلام أبي يوسف أيضا أنه كان يرى روايات الإحياء بصدد الإذن الولائي من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا بيان حكم فقهي إلهي. ولعلنا أيضا نختار هذا في المآل كما سيأتي.
1 - الخراج / 64. 160 11 - وقال الماوردي الذي هو من علماء الشافعية: " من أحيا مواتا ملكه بإذن الإمام وبغير إذنه. وقال أبو حنيفة: لا يجوز إحياؤه إلا بإذن الإمام لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " ليس لأحد إلا ما طابت به نفس إمامه ". وفي قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أحيا أرضا مواتا فهي له " دليل على أن ملك الموات معتبر بالإحياء دون إذن الإمام. " (1) 12 - وفي المقنع لابن قدامة في فقه الحنابلة: " ويملكه بإذن الإمام وغير إذنه. " وذيله في الشرح الكبير بقوله: " وجملة ذلك أن إحياء الموات لا يفتقر إلى إذن الإمام وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: يفتقر إلى إذنه لأن للإمام مدخلا في النظر في ذلك بدليل من تحجر مواتا فلم يحيه فإنه يطالبه بالإحياء أو الترك فافتقر إلى إذنه كمال بيت المال. ولنا عموم قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أحيا أرضا ميتة فهي له "، ولان هذه عين مباحة فلا يفتقر تملكها إلى إذن الإمام كأخذ الحشيش والحطب... " (2) أقول: الظاهر أن اشتراط الإذن إجمالا ولو بنحو العموم مجمع عليه عندنا والظاهر كما مر عدم الفرق في ذلك بين عصر الظهور والغيبة. وهل أرادوا بذلك توقف جواز التصرف والإحياء على الإذن كما هو الظاهر من كلماتهم ويقتضيه كون الأرض للإمام، أو أن جواز الإحياء عندهم مفروغ عنه لدلالة الأخبار الكثيرة عليه وإنما المتوقف على الإذن عندهم مالكية المحيي لها؟ ثم على الثاني فهل المراد بالإذن في كلماتهم الإذن في الإحياء أو الإذن في التملك بتقريب أن الأخبار دلت على جواز الإحياء ويلازمه الإذن فيه إجمالا ولكن لا يكفي هذا في حصول ملكية الرقبة بل تتوقف هذه على الإذن في خصوص التملك بأن يبيعها له أو يهبها أو نحو ذلك من العناوين المملكة؟ كل محتمل. ولكن الظاهر منهم كما مر هو الاحتمال الأول. هذا.
1 - الأحكام السلطانية / 177. 2 - المغني 6 / 151. 161 ويدل على اعتبار إذن الإمام إجمالا ولو بنحو عام مضافا إلى الشهرة المحققة الإجماعات المنقولة التي مرت، الأخبار الكثيرة الدالة على أن الموات من الأنفال وأن الأنفال للإمام، وما دل على أن الأرض والدنيا كلها لهم. وفي الحديث: " لا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه. " (1) وبمضمونه يحكم العقل أيضا لكونه ظلما وتجاوزا بحق الغير من غير فرق بين أنواع الملكية. ويدل على ذلك أيضا ما عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله: " ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه. " كما مر عن الخلاف وغيره، وفي كنز العمال: " إنما للمرء ما طابت به نفس إمامه " (طب، عن معاذ). (2) فإن قلت: ظاهر أخبار الإحياء بكثرتها هو جواز الإحياء وحصول الأحقية بل الملكية به بلا احتياج إلى استيذان، فيكون الإحياء سببا تاما لها، وحملها على الجواز بشرط تحصيل الإذن خلاف الظاهر. قلت: دلالتها على السببية التامة ممنوعة وإنما تدل على الاقتضاء فقط. ولذا يشترط بشروط أخر أيضا كما يأتي، مضافا إلى أن الإذن يستفاد منها بالالتزام وبدلالة الاقتضاء نظير قول مالك الدار: " من دخل داري فله كذا "، حيث يستفاد منه الإذن في الدخول. بل يمكن أن يقال إن هذه الأخبار صدرت بداعي الإذن فتكون متعرضة لحكم ولائي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) من باب إعمال الولاية والحكومة الشرعية لا لحكم فقهي إلهي نظير ما ربما يحتمل في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا ضرر ولا ضرار "، وما تعرض له جميع أخبار التحليل. ويؤيد ذلك قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في موثقة السكوني التي مرت: " قضاء من الله ورسوله "،
1 - الوسائل 6 / 377، الباب 3 من أبواب الأنفال...، الحديث 6. 2 - كنز العمال 16 / 741، خاتمة في المتفرقات من قسم الأقوال، الحديث 46598. 162 إذ لو كان حكما فقهيا لم يكن قضاء من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بل كان هو واسطة في إبلاغه فقط. وكذا ما في رواية عروة من قوله: " أشهد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قضى: أن الأرض ارض الله والعباد عباد الله، ومن أحيا مواتا فهو أحق به "، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في رواية طاووس: " ثم هي لكم مني " وفي رواية عن عائشة: " فهو له بعطية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). " وقول عروة بعد نقل الخبر عن عائشة، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " قضى به عمر في خلافته " يدل أيضا على أن عروة كان يرى هذا حكما ولائيا من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأراد أن يبين أن عمر أيضا حكم به في زمان خلافته. وبالجملة وزان أخبار الباب وزان أخبار التحليل الواردة في الخمس والأنفال، فلا تنافي كون الأرض للإمام بل التحليل متفرع على كونها له ولا يحتاج حينئذ إلى تحصيل إذن جديد. هذا. ولكن قد مر منا بالتفصيل أن الأنفال التي منها الأرض وما فيها من الجبال والمعادن الآجام والأنهار ليست ملكا لشخص الإمام المعصوم، بل هي أموال عامة خلقها الله - تعالى - للأنام وعليها يتوقف نظام معاشهم ومعادهم، فلو قيل بانحصار الحكم الدولة الحقة في الامام المعصوم وأنه في عصر الغيبة لا إمامة ولا حكومة مشروعة بل هو عصر الهرج والمرج حتى يظهر صاحب الأمر (عليه السلام) فلا محالة كان على الأئمة (عليهم السلام) تحليل الأنفال لجميع البشر ولا أقل للمسلمين وبالأخص لشيعتهم، إذ لا يمكن حياتهم وبقاؤهم بدونها، وقد دلت الأخبار الكثيرة على تحليلهم حقوقهم لشيعتهم ليطيبوا. وأما إذا قلنا بضرورة الحكومة في جميع الأعصار وأنها داخلة في نسج الإسلام نظامه، وأن الإسلام في نظام التشريع لم يترك المسلمين يعانون الفوضى والفتنة أو الأسر في أيدي الطواغيت والجبابرة، بل أوجب عليهم السعي في تأسيس حكومة صالحة عادلة فلا محالة يجب أن يكون اختيار الضرائب الإسلامية والأموال العامة بيد من يتصدى لها. وقد مر شرائط الحاكم الإسلامي في خلال أبحاثنا الماضية.
163 فالملاك الذي أوجب جعل اختيار الأموال العامة بيد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الإمام المعصوم هو بعينه يوجب جعلها تحت اختيار نوابهم في عصر الغيبة أيضا وإلا لما تيسر لهم إجراء حدود الإسلام وأحكامه وبسط العدالة الاجتماعية وقطع جذور الخلاف والخصام، لا يفرض نظام الحكم بلا نظام مالي. فالأنفال وإن كانت محللة للشيعة أو للمسلمين ويجوز لهم إحياء الأرضين قطعا، لكن ذلك في الشرائط التي لا يتيسر لهم الاستيذان من حاكم صالح أو فيما إذا لم يحصل التحديد والمنع من قبل الحكومة الصالحة الحقة، وإلا لم يجز لهم التخلف من ضوابطها المقررة في الأموال العامة. وإن شئت قلت: إن التحليل وجواز التصرف والإحياء محدود حينئذ تحت إطار موازين الدولة الحقة الصالحة ولا يجوز مع منعها بل يعتبر الإذن منها ولو بنحو عام. وعمدة نظر الأئمة (عليهم السلام) كان تسهيل الأمر للشيعة عند الضرورة والاختناق وعدم تحقق الحكومة الصالحة فلا ينافي هذا وجوب الاستيذان من الحاكم الصالح المبسوط اليد إذا فرض وجوده. وبعبارة أخرى نحن لا نأبى سعة ولاية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام المعصوم بالنسبة إلى الأعصار اللاحقة أيضا، ويمكن صدور حكم ولائي مستمر منهما، ويوجد أمثاله في فقهنا أيضا كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا ضرر ولا ضرار " مثلا على احتمال. ولكن يحتاج هذا إلى دليل حالي أو مقالي متقن يدل على دوام الحكم واستمراره، وإلا فالظاهر من الحكم الولائي كونه محدودا بعصر الحاكم حيث إن مقتضيات الظروف والأزمان تختلف غالبا، الأحكام ليست جزافية بل تكون تابعة للمصالح والمفاسد، وعلى هذا الأساس لا نرى تهافتا بين الأحكام السلطانية المتضادة الصادرة عن الأئمة (عليهم السلام) في أعصار مختلفة. ومع الشك في التعميم والاستمرار لا بد أن يقتصر على القدر المتقين إذ لا يجوز التمسك بالإطلاق مع غلبة اختلاف الظروف والمصالح واحتمال وجود قرينة حالية تدل على التحديد. وعلى هذا فلو سلم التعميم في أخبار التحليل والإحياء إجمالا للأعصار اللاحقة أيضا فالمتيقن منهما الأعصار المشابهة لعصرهم (عليهم السلام) من وجود الاختناق وعدم بسط
164 يد الحكومة الحقة فلا دليل على شمولهما لما إذا انعقدت حكومة صالحة مبسوطة اليد يمكن لها القبض والبسط والتصميم القاطع بالنسبة إلى الأراضي والأموال العامة على نحو يراعى فيها مصالح المجتمع على أحسن الوجوه الذي يقتضيه الظروف والأزمان، فتدبر.
165 المسألة الرابعة: في بيان شروط الاحياء: أقول: قد مر منا أن من شرط جواز الإحياء وتأثيره إذن الإمام خصوصا أو عموما، فإن هذا مقتضى كون الأرضين له. وهنا شروط أخر تعرض لها الفقهاء وكان من المناسب التعرض لها ولكن لما كانت مفصلة وموضعها كتاب إحياء الموات نكتفي هنا بنقل عبارة الشرائع وبعض العبارات الأخر مع شرح ما ونحيل التفصيل إلى محله: قال المحقق في إحياء الموات من الشرائع: " ويشترط في التملك بالإحياء شروط خمسة: الأول: أن لا يكون عليها يد لمسلم، فإن ذلك يمنع من مباشرة الإحياء لغير المتصرف. الثاني: أن لا يكون حريما لعامر كالطريق والشرب وحريم البئر والعين والحائط... الثالث: أن لا يسميه الشرع مشعرا للعبادة كعرفة ومنى والمشعر، فإن الشرع دل على اختصاصها موطنا للعبادة فالتعرض لتملكها تفويت لتلك المصلحة، أما لو عمر فيها مالا يضر ولا يؤدي إلى ضيقها عما يحتاج إليه المتعبدون كاليسير لم أمنع منه. الرابع: أن لا يكون مما أقطعه إمام الأصل ولو كان مواتا خاليا من تحجير، كما أقطع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الدور، وأرضا بحضرموت، وحضر فرس الزبير فإنه يفيد اختصاصا مانعا من المزاحمة فلا يصح دفع هذا الاختصاص بالإحياء. الخامس: أن لا يسبق إليه سابق بالتحجير فإن التحجير يفيد الأولوية لا ملكا للرقبة
166 وإن ملك به التصرف حتى لو هجم عليه من يروم الإحياء كان له منعه، ولو قاهره فأحياها لم يملكه. " (1) أقول: ويمكن إدراج الشرط الثاني والرابع والخامس أيضا في الشرط الأول بناء على أن يراد باليد مطلق الحق لا خصوص الملك. وزاد في الجواهر على الشروط الخمسة إذن الإمام وعدم كون الأرض مما حماها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الإمام (2). ولا يخفى أن في تسمية غير الإذن شرطا نحو مسامحة، فإن الشرط اصطلاحا هو الأمر الوجودي المؤثر في فاعلية الفاعل أو قابلية القابل، والفاعل هنا هو المحيي السبب الإحياء وإذن الإمام شرط لتأثيره. وأما الأمور الخمسة التي ذكرها في الشرائع وكذا عدم الحمى المذكور في الجواهر كلها أمور عدمية، والعدم ليس أمرا مؤثرا. ففي الحقيقة تكون نقائضها موانع لتأثير الإحياء فسمي عدم المانع شرطا بالمسامحة، اللهم إلا أن يقال إن إسراء الاصطلاحات الفلسفية إلى المسائل النقلية التعبدية غير صحيح، فتدبر. وقال في الجواهر في ذيل الشرط الأول: " بلا خلاف أجده بين من تعرض له. " (3) أقول: وكان ينبغي أن يعطف على المسلم من بحكمه في احترام ماله كالمعاهد كما في الدروس. والشرط مبني على بقاء الحق وإن عرض الموت على الأرض وإلا فلا أثر لليد. وسيأتي تحقيق المسألة. ويدل على اعتبار هذا الشرط مضافا إلى وضوحه وعدم الخلاف المدعى ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من أحيا مواتا من الأرض في غير حق مسلم فهو له، وليس
1 - الشرائع 3 / 272 - 275 (= طبعة أخرى / 792). 2 - الجواهر 38 / 32. 3 - الجواهر 38 / 33. 167 لعرق ظالم حق. " (1) وفي الجواهر في ذيل الشرط الثاني أعني عدم كونه حريما لعامر قال: " بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به غير واحد. بل في التذكرة: لا نعلم خلافا بين علماء الأمصار... بل عن جامع المقاصد الإجماع عليه وهو الحجة... " (2) أقول: ويدل على هذا الشرط مضافا إلى الإجماع المدعى وعدم الخلاف وقاعدة الضرر والنبوي الذي مر على ما في الجواهر: ما رواه البزنطي عن محمد بن عبد الله، قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن الرجل تكون له الضيعة وتكون لها حدود تبلغ حدودها عشرين ميلا أو أقل أو أكثر يأتيه الرجل فيقول: أعطني من مراعي ضيعتك وأعطيك كذا وكذا درهما، فقال (عليه السلام): " إذا كانت الضيعة له فلا بأس. " (3) والظاهر أن المراد بمحمد بن عبد الله محمد بن عبد الله بن زرارة، لكثرة رواية البزنطي عنه، فيكون ثقة والرواية صحيحة. ونحوها صحيحة إدريس بن زيد أو خبره عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: سألته وقلت: جعلت فداك إن لنا ضياعا ولها حدود ولنا الدواب وفيها مراعي، وللرجل منا غنم وإبل يحتاج إلى تلك المراعي لإبله وغنمه، أيحل له أن يحمي المراعي لحاجته إليها؟ فقال: " إذا كانت الأرض أرضه فله أن يحمي ويصير ذلك إلى ما يحتاج إليه. " قال: وقلت له: الرجل يبيع المراعي؟ فقال: " إذا كانت الأرض أرضه فلا بأس. " (4) أقول: إدريس بن زيد مختلف فيه ولا يبعد حسنه فالرواية حسنة، وفي حاشية الكافي المطبوع استظهار كونه إدريس بن زياد فيكون ثقة والرواية صحيحة. وقد استدل بهاتين الروايتين في الجواهر لثبوت حق الحريم ولكنه لا يخلو من
1 - سنن البيهقي 6 / 142، كتاب إحياء الموات، باب من أحيا أرضا ميتة ليست لأحد... 2 - الجواهر 38 / 34 و 35. 3 - الوسائل 17 / 336، الباب 9 من أبواب إحياء الموات، الحديث 1. 4 - الوسائل 12 / 276، الباب 22 من أبواب عقد البيع وشروطه، الحديث 1. 168 شوب إشكال، إذ من المحتمل أن يراد بالمراعي فيهما قسمة من نفس الأرض المحياة بلحاظ علوفتها لا المراتع الطبيعية المجاورة لها بقرينة قوله (عليه السلام): " إذا كانت الأرض أرضه فلا بأس "، وبقرينة تجويز البيع إن أريد به بيع نفس الرقبة. وقد كان بيع المراعي ونقلها موردا للشبهة إجمالا بلحاظ ما ورد من شركة المسلمين في الماء والنار والكلأ، والنهي عن بيع فضل الكلأ. (1) ولذلك سألوا عن بيع حصائد الحنطة والشعير أعني ما بقي منهما بعد الحصاد أيضا " مع وضوح كونهما في الأرض المملوكة كما في خبر إسماعيل بن الفضل، فراجع. (2) هذا. وفي الجواهر بعد ذكر الروايتين قال: " بل ربما كان ظاهرهما الملكية بناء على إرادة البيع ونحوه من الإعطاء فيهما، كما عن الشيخ وبني البراج وحمزة وإدريس وسعيد والفاضل وولده وغيرهم، بل في المسالك أنه الأشهر. مضافا إلى أنه مكان استحقه بالإحياء فملك كالمحيي، ولأن معنى الملك موجود فيه، لدخوله مع المعمور في بيعه، وليس لغيره إحياؤه ولا التصرف فيه بغير إذن المحيي، لأن الشفعة تثبت في الدار بالشركة في الطريق المشترك المصرح في النصوص المزبورة ببيعه معها، ولإمكان دعوى كونه محيا باعتبار أن إحياء كل شيء بحسب حاله. خلافا لظاهر جماعة أو صريحهم من عدم الملك، بل هي من الحقوق لعدم الإحياء الذي يملك به مثلها. وفيه ما عرفت من منع عدم حصول الإحياء الذي لا يعتبر فيه مباشرته كل جزء جزء، فإن عرصة الدار تملك ببناء الدار دونها، ومنع توقف الملك على الإحياء، بل يكفي فيه التبعية للمحيا، وتظهر الثمرة في بيعها منفردة. إلا أنه ينبغي أن يعلم أن السيرة المستمرة في سائر الأعصار والأمصار تقتضي عدم اجتناب بعض ما هو حريم للقرية مثلا. بل لعلها تقتضي في ابتداء حدوث القرية أن لكل أحد النزول
1 - الوسائل 17 / 331، الباب 5 من أبواب إحياء الموات، الحديث 1، و 17 / 333، الباب 7 من أبواب إحياء الموات، الحديث 3. 2 - الوسائل 17 / 336، الباب 9 من أبواب إحياء الموات، الحديث 2. 169 قريب الآخر وإن اقتضى ذلك بعدا في مرمى قمامته مثلا... " (1) أقول: الظاهر في المسألة هو التفصيل، فإن الحاكم في باب الأملاك والحقوق هم العقلاء وأهل العرف ما لم يرد من الشرع ردع، وهم يفرقون بين الموارد: فمثل الطريق الشرب يعدان ملكا عندهم بخلاف مرعى الماشية والمحتطب ونحوهما فلا يثبت فيهما سوى الحق، ويختلف حدود ذلك بحسب الأعصار والبلاد ومقدار الاحتياجات; فرب بلد لا يحتاج فيه إلى المرعى أو المحتطب وربما يحتاج إليهما في زمان دون آخر، والملاك هو رفع الحاجة والضرر في مقام الانتفاع، والحكم دائر مدار ذلك فمثل حريم البئر أو القناة مثلا يحرم استفادة الغير منهما بحفر البئر أو القناة مما يضر بمائهما فلا مانع من أن يستفاد منهما بالزرع والبناء مثلا كما هو واضح لمن راجع سيرة العقلاء، وكذا المراتع والمراعي فلا يجوز مزاحمة ذوي الحقوق فيها في جهة الرعي وأما الانتفاعات الأخر فلا دليل على منعها، وهذا من أقوى الشواهد على عدم ملكية رقبة الحريم وإلا لم يجز التصرف فيه أصلا، فتدبر. هذا. وراجع في حكم حريم العامر والقرية المغني لابن قدامة (2). هذا. وفي المغني: " وما قرب من العامر وتعلق بمصالحه من طرقه ومسيل مائه ومطرح قمامته وملقى ترابه وآلاته فلا يجوز احياؤه بغير خلاف في المذهب، وكذلك ما تعلق بمصالح القرية كفنائها ومرعي ماشيتها ومحتطبها وطرقها ومسيل مائها لا يملك بالإحياء ولا نعلم فيه أيضا خلافا بين أهل العلم، وكذلك حريم البئر والنهر والعين، وكل مملوك لا يجوز إحياء ما تعلق بمصالحه... " (3) وفي الجواهر في ذيل الشرط الثالث بعد اختيار المحقق عدم المنع من تعمير
1 - الجواهر 38 / 35 و 36. 2 - المغني 6 / 151. 3 - المغني 6 / 151. 170 ما لا يضر من المشاعر قال: انه من الغريب بل كان أن يكون كالمنافي للضروري، بل فتح هذا الباب فيها يؤدي إلى اخراجها عن وضعها. (1) أقول: إن كان المقصود تعمير قطعة من المشعر وتملكها بحيث يمنع غيره منها فالظاهر ورود إشكال صاحب الجواهر. وإن كان المقصود تعميرها ليستفاد منها في مواقع الحر البرد من دون أن يمنع غيره منها فالظاهر عدم الإشكال فيه. وفي الجواهر أيضا في ذيل الشرط الرابع أعني عدم كون الأرض مما أقطعه إمام الأصل قال: " الذي لا خلاف في أن له ذلك كما عن المبسوط، بل ولا إشكال، ضرورة كون الموات من ماله الذي هو مسلط عليه، مع أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم. " (2) أقول: يظهر من المحقق اختصاص الإقطاع بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام المعصوم، ونحن لا نرى لذلك وجها بعدما بيناه في محله من سعة حدود الولاية للفقيه الجامع لشرائط الحكم وكذلك له أن يحمي موضعا لنعم الصدقة ونحوها، إذ الملاك الذي أوجب جعل اختيار الأموال العامة بيد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الإمام يوجب جعل اختيارها في عصر الغيبة بيد النواب أيضا، فتدبر. هذا. وأقطع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عبد الله بن مسعود الدور، ووائل بن حجر أرضا بحضر موت، وبلال بن الحارث العقيق على ما روي. والدور على ما في الجواهر موضع بالمدينة بين ظهراني عمارة الأنصار، ويقال: إنه أقطعه ذلك ليتخذها دورا. وفي الجواهر أيضا في ذيل الشرط الخامس أعني عدم السبق بالتحجير قال: " بلا خلاف بل يمكن تحصيل الإجماع عليه كما أنه يمكن تحصيله على غير ذلك مما
1 - الجواهر 38 / 54. 2 - الجواهر 38 / 54. 171 سمعته، بل في الرياض: عليه الإجماع في كلام جماعة كالمسالك وغيرها... " (1) أقول: يأتي البحث في التحجير وأحكامه في المسألة التالية، فانتظر. هذا. وفي التذكرة ما ملخصه مع حفظ ألفاظه: " الفصل الثاني: في شرائط الإحياء، وهي خمسة: الأول: أن لا يكون على الأرض يد مسلم لأن ذلك يمنع من إحياء الأرض لغير المتصرف، ولو اندرست العمارة لم يجز إحياؤها لأنها ملك لمعين على خلاف تقدم. الثاني: أن لا يكون حريما للعامر، لأن مالك المعمور استحق باستحقاقه المواضع التي هي من مرافقه كالطريق فإنه لا يجوز لأحد أخذ طريق يسلك فيه المالك إلى عمارته لما فيه من التضرر المنفي بالإجماع. وكذا الشرب وما شابه ذلك من مسيل ماء العامر وطرقه ومطرح قمامته وملقى ترابه وآلاته وكل ما يتعلق بمصالحه، ولا نعلم خلافا بين فقهاء الأمصار أن كل ما يتعلق بمصالح العامر مما تقدم، أو بمصالح القرية كبنائها (كفنائها - ظ، كما في المغني) ومرعى ماشيتها ومحتطبها وطرقها ومسيل مياهها لا يصح لأحد إحياؤه لا يملك بالإحياء. وكذا حريم الآبار والأنهار والحائط والعيون، وكل مملوك لا يجوز إحياء ما يتعلق بمصالحه. هذا مما لا خلاف فيه، إنما الخلاف في مالك العامر هل يملك الحريم أو يكون أولى أحق به من غيره؟ فقال بعضهم: إنه يملك كما يملك العامر وهو أصح وجهي الشافعية لأنه مكان استحقه بالإحياء فملك كالمحيي، ولأن معنى الملك موجود البتة لأنه يدخل مع المعمور في بيع المعمور، ولأنه ليس لغيره إحياؤه ولا الاعتراض فيها، ولأن الشفعة تثبت بالشركة في الطريق المشترك. وقال بعضهم: إنه غير مملوك لمالك العامر لأن الملك يحصل بالإحياء ولم يوجد فيها إحياء، وليس بجيد لمنع المقدمتين فإن عرصة الدار تملك ببناء الدار وإن لم يوجد في نفس العرصة احياء، ولأن الإحياء تارة يكون بجعله معمورا وتارة يكون
1 - الجواهر 38 / 56. 172 بجعله تبعا للمعمور. الثالث: أن لا يكون مشعرا للعبادة بوضع الشارع كعرفة ومنى والمشعر، لأن في تسويغ تملكها تفويت هذا الغرض ومنافاة لهذه المصلحة. وللشافعية قولان في أنه هل تملك أراضي عرفة بالإحياء كسائر البقاع أم لا؟ لتعلق حق الوقوف بها. وعلى تقدير القول بالملك ففي بقاء حق الوقوف فيما ملك وجهان. الرابع: أن لا يكون قد سبق إليه من حجره، فإن الحجر عندنا لا يفيد الملك بل الأولوية والأحقية، والشارع في إحياء الموات محجر ما لم يتمه. وقال بعض الشافعية: إن التحجير يفيد التملك. والمشهور أنه يفيد الأولوية لأن الإحياء إذا أفاد الملك وجب أن يفيد الشروع فيه الأحقية كالاستيام مع الشراء. الخامس: أن لا يكون مقطعا من الإمام، فإن لإقطاع الإمام مدخلا في الموات، بل عندنا أنه هو المالك للموات فيجوز للإمام أن يقطع غيره أرضا من الموات خالية من التحجير لمن يحييها ويصير المقطع أولى، ويفيد الإقطاع التخصيص والأحقية كالتحجير يمنع الغير من المزاحمة له ولا يصح رفع هذا الاختصاص بالإحياء. السادس: أن لا يكون قد حماه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمراد من الحمى أن يحمي بقعة من الموات لمواش بعينها ويمنع سائر الناس من الرعي فيها. والحمى قد كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لخاص نفسه وللمسلمين لما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " لا حمى إلا لله لرسوله "، وعندنا أن للإمام أن يحمي لنفسه ولإبل الصدقة ونعم الجزية وخيل المجاهدين على حد ما كان للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأما غيرهما من آحاد المسلمين فليس لهم أن يحموا لأنفسهم لا لغيرهم لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا حمى إلا لله ولرسوله. " " (1) أقول: ذكر العلامة أن شروط الإحياء خمسة ولكنه في التفصيل ذكر ستة بزيادة عدم الحمى. وهل أراد بالإمام في الإقطاع والحمى الإمام المعصوم أو مطلق
1 - التذكرة 2 / 410 و 411. 173 الإمام الواجد لشرائط الولاية؟ وجهان، ولعل الأظهر منهم هو الأول ولكن الظاهر عندنا صحة الثاني كما مر فيكون الحق لمطلق من ولي أمر المسلمين عن حق إذا كان في طريق مصالح المسلمين. والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا كان له الحمى بما أنه كان إمام المسلمين وولي أمرهم. وفي الدروس ذكر للتملك بالإحياء شروطا تسعة: (1) أحدها: إذن الإمام على الأظهر. وثانيها: أن يكون المحيي مسلما. وثالثها: وجود ما يخرجها عن الموات; فالمسكن بالحائط والسقف، والحظيرة بالحائط. ورابعها: أن لا يكون مملوكا لمسلم أو معاهد... والمحجر في حكم المملوك على ما تقرر. وخامسها: أن لا يكون مشعرا للعبادة كعرفة ومنى. وسادسها: أن لا يكون مما حماه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الإمام لمصلحة كنعم الصدقة والجزية. وسابعها: أن لا يكون حريما لعامر. وثامنها: أن لا يكون الموات مقطعا من النبي أو الإمام. وتاسعها: قصد التملك ولو فعل أسباب الملك بغير قصد التملك فالظاهر أنه لا يملك. أقول: فيما ذكره من اشتراط كون المحيي مسلما كلام يأتي في المسائل الآتية. ومورد موثقة محمد بن مسلم في باب إحياء الموات هو أرض اليهود والنصارى وستأتي. والأمر الثالث الذي ذكره هو نفس الإحياء فلاوجه لعده من الشرائط. وأما ما ذكره أخيرا من اشتراط قصد التملك ففيه أولا: أن سببية الإحياء لملكية الرقبة أول الكلام وفيه خلاف كما سيأتي. وثانيا: أن اشتراط القصد أيضا محل خلاف: قال في التذكرة: " هل يعتبر القصد إلى الإحياء في تحقق الملك للمحيي؟ الوجه أن نقول: إن كان الفعل الذي فعله للإحياء لا يفعل في العادة مثله إلا للتملك كبناء الدار واتخاذ
1 - الدروس / 292 - 294. 174 البستان ملك به إن لم يوجد منه قصد التملك. وإن كان مما يفعله المتملك وغير المتملك كحفر البئر في الموات وزراعة قطعة من الموات اعتمادا على ماء السماء افتقر تحقق الملك إلى تحقق قصده فإن قصد أفاد الملك وإلا فإشكال ينشأ من أن المباحات هل تملك بشرط النية أم لا؟ وللشافعية وجهان. وما لا يكفي به للتملك كتسوية موضع النزول وتنقيته عن الحجارة لا تفيد التملك وإن قصده... " (1) أقول: ما ذكره أولا من القصد إلى الإحياء أراد به القصد إلى التملك كما يظهر مما بعده، ولعله ذكر اشتباها أو غلطا. والظاهر أن في كلامه خلطا بين مقام الثبوت ومقام الإثبات، إذ كلامنا في اشتراط القصد ثبوتا، وكلامه التشقيق في مقام الإثبات. وإلى هذا الإشكال أشار في الدروس، قال في تعقيب كلامه السابق: " وكذا سائر المباحات كالاصطياد والاحتطاب والاحتشاش، فلو اتبع ظبيا يمتحن قوته فأثبت يده عليه لا بقصد التملك لم يملك، وإن اكتفينا بإثبات اليد ملك. وربما فرق بين فعل لاتردد فيه كبناء الجدران في البرية والتسقيف مع البناء في البيت، وبين فعل محتمل كإصلاح الأرض للزراعة فإنه محتمل لغير ذلك كالنزول عليها وإجراء الخيل فيها فتعتبر النية بخلاف غير المحتمل، ويكون وزان ذينك كوزان صريح اللفظ وكنايته. يضعف بأن الاحتمال لا يندفع ونمنع استغناء الصريح عن النية. " (2) وصاحب الجواهر مصر على عدم اشتراط القصد، قال: " لا دليل على اشتراط ذلك بل ظاهر الأدلة خلافه، والإجماع مظنة عدمه لا العكس، كما أن دعوى الانسباق من النصوص ولا أقل من الشك واضحة المنع وإن مال إليه في الرياض لذلك. وعدم ملك الوكيل والأجير الخاص لا لعدم قصد تملكهما وقصد تملك غيرهما، بل
1 - التذكرة 2 / 413. 2 - الدروس / 294. 175 لصيرورة الإحياء الذي هو سبب الملك لغيرهما بقصد الوكالة والإجارة فيكون الملك له فلا يستفاد من ذلك اشتراط قصد التملك كما توهم. بل لا يستفاد منه اعتبار عدم قصد العدم فضلا عن القصد; ضرورة ظهور الأدلة في أنه متى وجد مصداق إحياء ترتب الملك عليه وإن قصد العدم لأن ترتب المسبب على السبب قهري وإن كان إيجاد السبب اختياريا، اللهم إلا أن يشك في السبب حينئذ. وفيه منع لإطلاق الأدلة، بل لعل ما سمعته من ملك الموكل والمستأجر بفعل الوكيل والأجير الخاص وإن لم يقصد الإحياء دليل على ما قلنا، فتأمل جيدا. " (1) أقول: يمكن أن يقال: إن دعوى انصراف النصوص على فرض دلالتها على الملكية إلى خصوص صورة قصد التملك غير بعيدة، والملكية القهرية خلاف القاعدة وخلاف سلطنة الإنسان على نفسه فيقتصر فيها على ما دل عليه الدليل كالميراث ونحوه، ولعل العرف أيضا يساعد على اعتبار القصد، وهو الحاكم في باب الأملاك والحقوق، نعم الإحياء والحيازة يوجبان أحقية المحيي والحائز عرفا بحيث لا يجوز مزاحمة الغير لهما إلا بعد إعراضهما، فوزانهما وزان التحجير ما لم يقصد التملك. هذا. ولكن لأحد أن يقول: لما كان أساس الملكية الاعتبارية، الواجدية التكوينية كما مر بيانه، فإذا صدر الإحياء من الإنسان فحيث إنه صدر منه بسبب فكره وقواه وجوارحه هو يملك الفكر والقوى والجوارح تكوينا مطلقا فلا محالة يملك محصولها أيضا من آثار الإحياء مطلقا سواء قصد التملك أم لا، فتدبر. وتفصيل البحث في المسألة وفي أن الإحياء والحيازة والسبق إلى المباحات هل تقبل النيابة أم لا محل ذلك كله كتاب إحياء الموات والوكالة والإجارة، فراجع.
1 - الجواهر 38 / 32. 176 المسألة الخامسة: في إشارة إجمالية إلى مفاد الإحياء والتحجير وما به يتحققان: ونحيل التفصيل إلى الكتب الفقهية. لا يخفى أن الألفاظ المستعملة في الكتاب والسنة إن كانت لها معان خاصة مصطلحة عند الشرع حملت عليها عند الإطلاق، وإلا حملت على معانيها العرفية المتداولة بين أهل اللسان في عصر صدور الألفاظ، ومع التعدد يرجع إلى القرائن. وقد مر منا في ذيل القسم الثاني من الأنفال أعني الأرض الموات بيان مفهوم الموات والموات بحسب العرف واللغة، وقلنا إن المتبادر من موت الأرض خرابها وعطلتها بنحو لا تصلح أن ينتفع بها إلا بإعدادها وإصلاحها وإن فرض بقاء بعض رسوم العمارة وآثارها فيها كالقرى الخربة. ويقابله الحياة تقابل الملكة والعدم، والمتبادر منها أولا هو ما يكون مبدأ للحس الحركة في الحيوان، ولكن شاع استعمالها فيما يكون مبدأ للنمو في النباتات أيضا، وكذا إطلاقها بنحو الاستعارة والمجاز على كيفية في الأرض تجعلها مستعدة لأن يستفاد منها ويترتب عليها الغايات المتعارفة المترقبة منها، ولا محالة يختلف ذلك بحسب اختلاف الغايات والشرائط. فمعنى إحياء الأرض إعدادها لأن ينتفع بها فيما يترقب منها من الغايات العقلائية المقصودة. ولم يرد من ناحية الشرع ما يدل على حدود هذه الكيفية وشرائطها، فيرجع في التشخيص إلى العرف، وقد يتحقق لها مصاديق مشتبهة أيضا كسائر المفاهيم العرفية. واختلف تعبيرات الفقهاء فيما به تتحقق وان تقارب بعضها بعضا:
177 1 - قال الشيخ في إحياء الموات من المبسوط: " وأما ما به يكون الإحياء فلم يرد الشرع ببيان ما يكون إحياء دون ما لا يكون غير أنه إذا قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أحيا أرضا فهي له " ولم يوجد في اللغة معنى ذلك فالمرجع في ذلك إلى العرف والعادة; فما عرفه الناس إحياء في العادة كان إحياء وملكت به الموات، كما أنه لما قال: " البيعان بالخيار ما لم يفترقا، وأنه نهى عن بيع ما لم يقبض، وأن القطع يجب في قيمة المجن " رجع في جميع ذلك إلى العادة. فإذا ثبت ذلك فجملة ذلك على أن الأرض تحيى للدار والحظيرة والزراعة: فإحياؤها للدار فهي بأن يحوط عليها حائط ويسقف عليه، فإذا فعل ذلك فقد أحياها وملكها ملكا مستقرا. ولافرق بين أن يبني الحائط بطين أو بآجر وجص أو خشب. وأما إذا أخذها للحظيرة فقدر الإحياء أن يحوطها بحائط من آجر أو لبن أو طين وهو الرهص، أو خشب. وليس من شرط الحظيرة أن يجعل لها سقف. وتعليق الأبواب في الدور والحظيرة ليس من شرطه، وفيهم من قال: هو شرط، والأول أقرب. وأما الإحياء للزراعة فهو أن يجمع حولها ترابا وهو الذي يسمى مرزا، وأن يرتب لها الماء إما بساقية فيحفرها ويسوق الماء فيها، أو بقناة يحفرها أو بئر أو عين يستنبطها، لا خلاف أن هذه الثلاثة شرط في الإحياء للزراعة. وفي الناس من ألحق بها أن يزرعها ويحرثها، والصحيح أنه ليس من شرطه، كما أن سكنى الدار ليس من شرط الإحياء. وأما إذا أحياها للغراس فإنه يملكها إذا ثبت الغراس فيها ورتب الماء فيها، فإذا فعل ذلك فقد أحياها فإذا أحياها وملكها فإنه يملك مرافقها التي لاصلاح للأرض إلا بها. " (1)
1 - المبسوط 3 / 271 - 272. 178 أقول: ظاهره أن صدق الإحياء يختلف بحسب اختلاف ما يقصد من العمارة: فيعتبر في صدق الدار والمسكن التحويط والتسقيف معا، وفي الحظيرة التحويط فقط، وفي المزرعة المرز وحفر الساقية وسوق الماء، وفي البستان المرز والساقية والماء والغراس. والظاهر أن إعداد الماء وتهيئته يكفي في الصدق ولا يشترط سوقه إلى الأرض فعلا، بل ربما لا يحتاج إلى السقي أصلا لكون الأرض مما يسقى بماء السماء عادة. كما أن الظاهر أن المذكورات من باب المثال، إذ بناء الدكاكين والمخازن والمعامل المصانع والمدارس والكليات والدوائر بشعبها والبنوك ونحو ذلك مما يحتاج إليها الناس من أظهر مصاديق الإحياء قطعا، وكيفية الإحياء فيها مختلفة تابعة للأغراض والمقاصد. 2 - وفي إحياء الموات من الشرائع: " الطرف الثاني: في كيفية الإحياء. والمرجع فيه إلى العرف لعدم التنصيص شرعا ولغة. وقد عرف أنه إذا قصد سكنى أرض فأحاط ولو بخشب أو قصب أو سقف مما يمكن سكناه سمي إحياء. وكذا لو قصد الحظيرة فاقتصر على الحائط من دون السقف. وليس تعليق الباب شرطا. ولو قصد الزراعة كفى في تملكها التحجير بمرز أو مسناة وسوق الماء إليها بساقية أو ما شابهها، ولا يشترط حراثتها ولا زراعتها لأن ذلك انتفاع كالسكنى. ولو غرس أرضا فنبت فيها الغرس وساق إليها الماء تحقق الإحياء. وكذا لو كانت مستأجمة فعضد شجرها وأصلحها، وكذا لو قطع عنها المياه الغالبة وهيأها للعمارة فإن العادة قاضية بتسمية ذلك كله إحياء لأنه أخرجها بذلك إلى حد الانتفاع الذي هو ضد الموت. " (1)
1 - الشرائع 3 / 275 (= طبعة أخرى / 794). 179 أقول: والظاهر أنه أراد بقوله: " أو سقف " أنه يكفي في صدق المسكن التحويط لبعض الأرض والتسقيف للبعض الآخر كما هو المتعارف في الدور، لا أن كل واحد منهما بانفراده يكفي في صدق المسكن، ويمكن أن يكون: وسقف بالواو فلا إشكال. وقد عرفت أن إعداد الماء يكفي في الصدق ولا يتوقف على سوقه فعلا. وقوله: " وكذا لو كانت مستأجمة الخ. " يريد بذلك أن رفع الموانع من الأشجار الزائدة والمياه الغالبة إذا تعقبه إصلاح الأرض وتهيئتها للعمارة كاف في صدق الإحياء المطلق. ويرد عليه أن مجرد إصلاح الأرض وتهيئتها للعمارة لا يكفي في صدق الإحياء ما لم تصدق العمارة فعلا. وعمارة كل واحد من الدار والحظيرة والمزرعة والبستان تختلف مع غيرها. وظاهر المسالك عطف الجملتين على قوله: " ولو غرس أرضا " وحمل الثلاثة على صورة إرادة إحداث البستان، مع أن الظاهر كون المقصود في الأخيرتين مطلق الإحياء لا الإحياء لغرض البستان فقط بل ليس في كلام المصنف اسم من البستان وقصده وإنما ذكر أن الغرس مع سوق الماء يوجبان تحقق الإحياء، وهذا مما لا إشكال فيه. 3 - وفي التذكرة في هذا المجال ما ملخصه مع حفظ ألفاظه: " من عادة الشرع إذا أطلق لفظا ولم ينص على مسمى عنده يخالف العرف فإنه ينزل على معناه في العرف كالقبض والحرز في السرقة وقد ورد الشرع بالإحياء ولم يبينه فانصرف إطلاقه إلى المتعارف بين الناس وذلك يختلف باختلاف المحيي. مسألة: إذا أراد السكنى في الملك الذي يقصد إحياؤه فإنما يكون ذلك بصيرورته دارا، وإنما يصير كذلك بأن يدار عليها حائط ويسقف بعضها، والتحويط إما بالآجر أو اللبن أو بمحض الطين أو ألواح الخشب أو القصب بحسب العادة. هذا قول الشيخ، وهو قول أكثر الشافعية. وبعضهم لم يشترطوا التسقيف في إحياء الدار، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من أحاط حائطا على
180 أرض فهي له. " ولأن الحائط حاجز منيع فكان إحياء، كما لو جعلها حظيرة للغنم لأن القصد لا اعتبار به لأنه لو أرادها حظيرة للغنم فبناها بجص وآجر وقسمها بيوتا فإنه يملكها وهذا لا يعمل للغنم مثله، ولأنه لو بناها للغنم ملكها بمجرد الحائط فإذا ملكها جاز له أن يبنيها دارا من غير اشتراط تسقيف لا بأس بذلك. واشتراط أكثر الشافعية في إحياء الدار تعليق الباب، لأن العادة في المنازل أن يكون لها أبواب، ولم يذكره الشيخ. مسألة: لو أراد إحياء أرض يتخذها زريبة للدواب أو حظيرة تجفف فيها الثمار أو يجمع فيها الحطب أو الحشيش اشترط التحويط لاغير، ولا يشترط التسقيف هنا إجماعا قضاء للعرف، وفي اشتراط تعليق الباب ما سبق من الخلاف. مسألة: لو قصد الإحياء لاتخاذ الموات مزرعة اعتبر في إحيائه أمور: 1 - جمع التراب في حواليه لينفصل المحيى عن غيره، ويسمى المرز، وفي معناه نصب قصب وحجر شوك وشبهه، ولا حاجة إلى التحويط إجماعا. 2 - تسوية الأرض بطم الحفر التي فيها وإزالة الارتفاع من المرتفع وحراثتها وتليين ترابها. 3 - ترتيب مائها إما بشق ساقية من نهر أو حفر بئر أو قناة وسقيها إن كانت عادتها أنها لا يكتفى في زراعتها بماء السماء، لم يشترط إجراء الماء ولا سقي الأرض، وإن لم يحفر بعد فللشافعية وجهان. وبالجملة، السقي نفسه غير محتاج إليه في تحقق الإحياء. وأراضي الجبال التي لا يمكن سوق الماء إليها ولا يصيبها إلا ماء السماء قال بعض الشافعية لا مدخل للإحياء فيها، والوجه أنها تملك بالحراثة وجمع التراب على الحدود. وهل يشترط الزراعة لحصول الملك في الزراعة؟ الوجه العدم، لأن الزراعة استيفاء منفعة الأرض، كما أنه لا يعتبر في إحياء الدار أن يسكنها، وهو أحد وجهي الشافعية الثاني الاشتراط. مسألة: لو قصد الإحياء بزرع بستان فلا بد من التحويط ويرجع فيما يحوط به إلى العادة، والقول في سوق الماء إليه على ما تقدم في المزرعة. وهل يعتبر غرس الأشجار
181 أم لا؟ من اعتبر الزرع في المزرعة اعتبر في البستان بالطريق الأولى، ومن لا يعتبره اختلفوا في الغرس على وجهين، ومعظمهم اعتبره، والفرق أن اسم المزرعة يقع على البقعة قبل الزراعة واسم البستان لا يقع قبل الغراس. والوجه أنه لا بد من أحد أمرين: إما الحائط أو الغرس لتحقق الاسم. " (1) أقول: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أحاط حائطا على أرض فهي له " لم يصرح فيه بكونه إحياء، فلعله من قبيل التحجير. واللام فيه لمطلق الاختصاص والأولوية، نظير قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في رواية سمرة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أحاط على شيء فهو أحق به. " (2) والمرز في المزرعة إن كان لتوقف السقي عليه اعتبر قطعا، وإن كان لانفصال المحياة عن غيرها فقط فلا دخل له في صدق الإحياء، كالتحويط الذي لا يعتبر في إحياء المزرعة قطعا. والتميز بين المحياة وغيرها يحصل بقابلية الانتفاع وعدمها لا بالمرز والحائط. كذلك لا يعتبر فيها الحراثة ولا الزراعة ولا السقي فعلا كما هو واضح. وقد تعرض لأكثر ما ذكره العلامة الشهيد في المسالك (3) أيضا وغيره من فقهائنا، كلماتهم يشبه بعضها بعضا. وبعد ما صرح الأصحاب بعدم ورود شيء من الشرع في تحديد الإحياء وأن المرجع فيه العرف والعادة لا نرى وجها للتطويل والتعرض لكلماتهم في المقام أزيد مما ذكرنا. 4 - وابن إدريس في السرائر حكى عن مبسوط الشيخ كون المرجع في الإحياء إلى العرف والعادة وقال ما ملخصه: هو الحق: اليقين الذي يقتضيه أصل المذهب، ثم نسب التقسيمات والتفريق بين مثل الدار والحظيرة وأرض الزراعة إلى أهل الخلاف واعترض عليها أشد اعتراض وقال: " إن إحياء الدار عندهم بأن يحوط عليها بحائط ويسقف عليها... فأما عندنا فلو خص عليها خصا أو حجرها أو حوطها بغير الطين والآجر والجص ملك التصرف فيها وكان أحق بها من غيره "، ثم قال: " إن المبسوط قد ذكر فيه مذهبنا ومذهب
1 - التذكرة 2 / 412. 2 - سنن البيهقي 6 / 142، كتاب إحياء الموات، باب من أحيا أرضا ميتة ليست لاحد... 3 - المسالك 2 / 291. 182 المخالفين... القارئ فيه يخبط خبط عشواء. " (1) وناقشه في الجواهر: ب " أنه هو وقع في خبط العشواء، ضرورة عدم مدخلية الموافق والمخالف في تحقيق الصدق العرفي المعلوم عدمه بالتحجير كما توهمه وإن قلنا إنه الشروع في أثر الإحياء. " (2) هذا. 5 - وفي مختصر أبي القاسم الخرقي في فقه الحنابلة قال: " وإحياء الأرض أن يحوط عليها حائطا أو يحفر فيها بئرا. " وقال في المغني في شرح العبارة: " ظاهر كلام الخرقي أن تحويط الأرض إحياء لها سواء أرادها للبناء أو للزرع أو حظيرة للغنم أو الخشب أو غير ذلك، ونص عليه أحمد في رواية علي بن سعيد فقال: الإحياء أن يحوط عليها حائطا أو يحفر فيها بئرا أو نهرا، ولا يعتبر في ذلك تسقيف. ذلك لما روى الحسن عن سمرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من أحاط حائطا على أرض فهي له. " رواه أبو داود والإمام أحمد في مسنده، ويروى عن جابر، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مثله. ولأن الحائط حاجز منيع فكان إحياء شبه ما لو جعلها حظيرة للغنم، ويبين هذا أن القصد لا اعتبار به بدليل ما لو أرادها حظيرة للغنم فبناها بجص وآجر وقسمها بيوتا فإنه يملكها وهذا لا يصنع للغنم مثله. " (3) ثم تعرض لتفصيل كيفية الإحياء في الدار والحظيرة والمزرعة، فراجع. بقي هنا أمران: الأول: ظاهر ما مر من المبسوط والشرائع والتذكرة وكذا المسالك أن صدق
1 - السرائر / 111 - 112. 2 - الجواهر 38 / 68. 3 - المغني 6 / 178. 183 الإحياء يختلف بحسب ما يقصد من العمارة، فالتحويط على أرض بقصد الحظيرة إحياء لها بقصد الدار تحجير ولا يصدق عليه الإحياء إلا بعد التسقيف ولو ببعضها. ويظهر من بعض عدم دخل القصد في ذلك وأنه يكتفي بأدنى العمارات في صدق الإحياء مطلقا. ويظهر من موضع من التذكرة أيضا اختيار ذلك، قال: " لو قصد نوعا وفعل إحياء يملك به نوعا آخر، كما إذا حوط بقعة بقصد السكنى، وهذا الإحياء إنما يتحقق في تملك حظيرة الغنم وشبهها هل يفيد الملك؟ الوجه عندي ذلك، فإنه مما يملك به الحظيرة لو قصدها وهو أحد وجهي الشافعية. والثاني أنه لا يملك به وإلا لزم الاكتفاء بأدنى العمارات أبدا، واستحالة التالي ممنوعة. " (1) ويظهر من الجواهر كفاية القصد المتأخر بسبب العدول، قال: " كما يجوز العدول عن قصد الدار بعد التحويط واتخاذها حظيرة، فإنه يملكها بذلك لصدق الإحياء عليها عرفا ولو باعتبار إخراجها عن التعطيل الأول وصيرورتها ذات منفعة تخرج بها عن اسم الموات. " (2) أقول: بعدما لم يرد لنا نص في كيفية الإحياء وأحيل أمره إلى العرف فنحن نرى أن العرف يفرق بين مصاديقه بحسب الاختلاف في الغايات المقصودة. نعم فيما يكتفي فيه بالمرتبة الدانية يكون اعتبارها لا بشرط لا بشرط لا، فلو قصد الحظيرة ولكنه سقف وبنى بيوتا أيضا لذلك صدق الإحياء قطعا، ولا يكفي العكس فلو قصد الدار واكتفى بالتحويط فقط لم يكن إحياء وإن صدق التحجير. وأما العدول عن القصد فإن رتب عليه آثار المعدول إليه كفى قطعا، وأما كفاية مجرد القصد المتأخر فمحل اشكال، ولعله أشار إلى ذلك صاحب الجواهر أيضا بقوله: " ولو باعتبار إخراجها عن التعطيل الأول. " إذ لا يصدق الإخراج عن
1 - التذكرة 2 / 413. 2 - الجواهر 38 / 66. 184 التعطيل إلا بترتيب الآثار خارجا. ولو حوط بقصد الحظيرة ثم قصد اتخاذه دارا فالظاهر بقاء الملكية ولا تتوقف على التسقيف حينئذ. هذا. ولكن يمكن أن يقال: إن الأمور الخارجية التكوينية ليس قوامها وافتراق بعضها عن بعض بالقصد، وإنما يتقوم به ويمتاز بسببه الأمور الاعتبارية المحضة. والإحياء العناوين الحاصلة بسببه أمور خارجية تكوينية فلا تتقوم ولا تمتاز بالقصد. ويؤيد ذلك أنه لو حوط رجل أرضا فالعرف إما أن يحكم عليه بأنه إحياء أو لا يحكم، لا أنهم يحيلون الأمر إلى السؤال عن المحوط وعن قصده وأنه هل قصد بالتحويط الحظيرة أو الدار مثلا. وعلى هذا فالملاك في صدق الإحياء تهيؤ الأرض فعلا لأن ينتفع بها بواحد من الانتفاعات المتعارفة المترقبة، فتدبر. الأمر الثاني في التحجير وأحكامه: المشهور على أن الإحياء يوجب التملك، التحجير يوجب الأولوية: 1 - قال في المبسوط: " إذا أقطع السلطان رجلا من الرعية قطعة من الموات صار أحق به من غيره بإقطاع السلطان إياه بلا خلاف، وكذلك إذا تحجر أرضا من الموات. والتحجير أن يؤثر فيها أثرا لم يبلغ به حد الإحياء مثل أن ينصب فيها المروز أو يحوط عليها حائطا وما أشبه ذلك من آثار الإحياء، فإنه يكون أحق بها من غيره، فإقطاع السلطان بمنزلة التحجير. " (1) 2 - وقد مر عن الشرائع في عداد شروط الإحياء قوله: " الخامس: أن لا يسبق إليه سابق بالتحجير، فإن التحجير يفيد الأولوية لا ملكا للرقبة إن ملك به التصرف حتى لو هجم عليه من يروم الإحياء كان له منعه،
1 - المبسوط 3 / 273. 185 ولو قاهره فأحياها لم يملكه. " (1) 3 - وذيله في الجواهر بقوله: " بلا خلاف بل يمكن تحصيل الإجماع عليه... بل في الرياض عليه الإجماع في كلام جماعة كالمسالك وغيرها. " (2) 4 - ومر عن التذكرة في شروط الإحياء ما ملخصه: " الرابع: أن لا يكون قد سبق إليه من حجره، فإن الحجر عندنا لا يفيد الملك بل الأولوية والأحقية. والشارع في إحياء الموات محجر ما لم يتمه. وقال بعض الشافعية: إن التحجير يفيد التملك. والمشهور أنه يفيد الأولوية... " (3) 5 - وفي الدروس: " والمحجر في حكم المملوك على ما تقرر، ومجرد ثبوت يد محترمة كاف في منع الغير عن الإحياء. " (4) 6 - وفي المغني لابن قدامة: " وإن تحجر مواتا، وهو أن يشرع في إحيائه مثل أن أدار حول الأرض ترابا أو أحجارا أو حاطها بحائط صغير، لم يمكلها بذلك لأن الملك بالإحياء، وليس هذا إحياء، لكن يصير أحق الناس به لأنه روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به. " رواه أبو داود. فإن نقله إلى غيره صار الثاني بمنزلته لأن صاحبه أقامه مقامه، وإن مات فوارثه أحق به... فإن سبق غيره فأحياه ففيه وجهان: أحدهما أنه يملكه لأن الإحياء يملك به والحجر لا يملك به... والثاني لا يملكه لأن مفهوم قوله (عليه السلام): " من أحيا أرضا ميتة ليست لأحد " وقوله: " في حق غير مسلم فهي له " أنها لا تكون له إذا كان لمسلم فيها حق، وكذا قوله (عليه السلام): من
1 - الشرائع 3 / 274 (= ط. أخرى / 794، الجزء 4). 2 - الجواهر 38 / 56. 3 - التذكرة 2 / 410. 4 - الدروس / 292. 186 سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به. " (1) أقول: ويدل على إفادة التحجير الأولوية والأحقية - مضافا إلى ما مر من الجواهر من نقل الإجماع وعدم الخلاف، وإلى مساعدة العرف لذلك حيث يعدون المزاحمة للبادئ المحجر ظلما عليه وتضييعا لحقه -: 1 - ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو أحق به. " رواه في المستدرك عن عوالي اللئالي (2) ومر نحوه عن المغني، عن أبي داود. 2 - وما رواه أبو داود بسنده، عن سمرة، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: " من أحاط حائطا على أرض فهي له. " (3) 3 - وما رواه البيهقي بسنده، عن سمرة، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أحاط على شيء فهو أحق به. " (4) هذا. وأما معنى التحجير وما به يتحقق فالظاهر أنه أمر عرفي يتحقق بالتخطيط ونصب المروز والعلامات ونحو ذلك، وفي حكمه الشروع في الإحياء وإيجاد بعض آثاره، قال في التذكرة كما مر: " الشارع في إحياء الموات محجر ما لم يتمه. " وعرفت عن المبسوط والمغني أيضا كلاما في هذا المجال. 1 - وفي نهاية ابن الأثير: " يقال: حجرت الأرض واحتجرتها: إذا ضربت عليها منارا تمنعها به عن غيرك. " (5)
1 - المغني 6 / 153. 2 - مستدرك الوسائل 3 / 149، الباب 1 من أبواب كتاب إحياء الموات، الحديث 4، عن العوالي 3 / 480. 3 - سنن أبي داود 2 / 159، كتاب الخراج والفئ والإمارة، باب في إحياء الموات. 4 - سنن البيهقي 6 / 142، كتاب إحياء الموات، باب من أحيا أرضا ميتة ليست لأحد... 5 - النهاية 1 / 341. 187 2 - وفي الشرائع: " والتحجير: هو أن ينصب عليها المروز، أو يحوطها بحائط. ولو اقتصر على التحجير وأهمل العمارة أجبره الإمام على أحد الأمرين: إما الإحياء، وإما التخلية بينها وبين غيره. ولو امتنع أخرجها السلطان من يده لئلا يعطلها، ولو بادر إليها من أحياها لم يصح ما لم يرفع السلطان يده أو يأذن في الإحياء... ومن فقهائنا الآن من يسمي التحجير إحياء، وهو بعيد. " (1) هذا. وقد ذكر فقهاء الفريقين للتحجير وأحكامه فروعا كثيرة محل بحثها كتاب إحياء الموات، ولكن نتعرض هنا لبعض الكلمات بمقدار يناسب المقام: 1 - قال في التذكرة: " ولا ينبغي أن يزيد المحجر على قدر كفاية ويضيق على الناس، ولا أن يحجر ما لا يمكنه القيام بعمارته، فإن فعل ألزمه الحاكم بالعمارة والتخلي عن الزيادة فيسلمها إلى من يقوم بعمارتها. وكذا لو ترك المحجر الإحياء ألزمه الحاكم بالعمارة أو الترك، لما وجد في كتاب علي (عليه السلام) قال: " وإن تركها أو أخربها فأخذها رجل من المسلمين بعده فعمرها وأحياها فهو أحق بها من الذي تركها. " وهو قول بعض الشافعية. وقال آخرون: ليس لأحد أخذ الزيادة لأن ذلك القدر غير متعين. " (2) أقول: وما ذكره من الرواية مأخوذة من صحيحة أبي خالد الكابلي (3) وسيأتي بحثها. 2 - وفيه أيضا ما ملخصه مع حفظ ألفاظه: " إذا حجر أرضا من الموات فقد قلنا إنه يصير أولى وأحق وإن لم يكن مالكا لها، ينبغي له أن يشتغل بالعمارة عقيب التحجير حذرا من التعطيل. فإن طالت المدة ولم يحي أمره السلطان بأحد أمرين: إما العمارة، أو رفع يده ليتصرف غيره فيها
1 - الشرائع 3 / 275 - 276 (= ط. أخرى / 794 - 795، الجزء 4). 2 - التذكرة 2 / 411. 3 - الوسائل 17 / 329، الباب 3 من أبواب كتاب إحياء الموات، الحديث 2. وبحثها في ص 200 من هذا الجزء. 188 فينتفع بها فإن عمارتها منفعة لدار الإسلام. فإن طلب التأخير من السلطان والمهلة أمهله مدة قريبة يستعد فيها للعمارة، ولا يتقدر تلك المدة بقدر بل بحسب ما يراه السلطان، وهو أصح وجهي الشافعية. وقال أبو حنيفة: مدة التحجير ثلاث سنين ما لم يطالب فيها بالعمارة، فإذا مضت مدة الإمهال ولم يشتغل بالعمارة بطل حقه. " (1) 3 - وفيه أيضا: " لو باع المتحجر ما تحجره قبل أن يحييه لم يصح بيعه، لأنه لا يملكه بالتحجير. يحتمل الصحة، لأن له حقا فيه. وللشافعية وجهان: أحدهما: أنه لا يصح، فإن حق التملك لا يصح بيعه ولهذا لا يصح بيع الشفيع قبل الأخذ بالشفعة. والثاني: أنه يصح، لأنه أحق من غيره فكأنه بيع حق الاختصاص. " (2) أقول: حيث إن الأراضي والمعادن والمياه ونحوها تكون من الأموال العامة التي خلقها الله - تعالى - لمصالح جميع الأنام ولا يختص بها واحد دون آخر فمقتضى العدل الإنصاف الذي يحكم به العقل والشرع أن يراعى فيها مع حقوق الأشخاص حقوق المجتمع أيضا. فمن أوجد بعض مقدمات الإحياء بقصد الإحياء كان عمله هذا موجبا لاعتبار حق له عرفا، ولا يضر هذا المقدار بالمجتمع، بل يكون في طريق مصالح المجتمع وأهداف الخلقة طبعا، فيكون بحكم العقل والشرع أحق بآثار أعماله ونشاطاته، لو عرض له مانع من إكمال عمله كان له بحكم العرف نقل حقوقه الحادثة بالشروع في الإحياء إلى غيره كما تنتقل إلى وارثه أيضا بلا إشكال. وأما من لا يريد الإحياء أو لا يقدر عليه فهل له أن يوجد بعض المقدمات بقصد التجارة بها ونفلها إلى غيره؟ وهل يحكم العرف والشرع بثبوت هذا الحق له في الموضع الذي يتعلق بالمجتمع؟ مشكل جدا بعد التدبر في أغراض الشرع المبين وأهداف الخلقة، والظاهر أن أدلة أولوية المحجر منصرفة عن مثله. وإن شئت قلت: بعدما
1 - التذكرة 2 / 411. 2 - التذكرة 2 / 411. 189 كانت الأراضي للإمام والتصرف فيها منوطا بإذنه كما مر فالمستفاد من أخبار الإحياء وأخبار السبق هو الإذن في الإحياء وفي مقدماته الواقعة في طريقه وبقصده فقط، وأما الواقعة بقصد التجارة فثبوت الإذن فيها مما لا دليل عليه. فلا يثبت له حق حينئذ حتى ينتقل إلى غيره، فتدبر. 4 - وفي الجواهر عن كتاب الإسعاد الذي هو من أجل كتب الشافعية عنده قال: " وينبغي أن يشتغل بالعمارة عقيب الحجر، فإن أهمل الإحياء وأطال الإهمال بأن مضى زمن يعد مثله طويلا عرفا نوزع فيقول له الحاكم: أحي أو ارفع يدك، لأنه ضيق على الناس في حق مشترك فيمنع منه، كما لو وقف في شارع. فإن ذكر عذرا واستمهل أمهل مدة قريبة دفعا للضرر. ولا يتقدر بثلاثة أيام (سنين - ظ.) على الأصح، بل باجتهاد الحاكم، فإذا مضت ولم يشتغل بالعمارة بطل حقه، وإن استمهل ولم يذكر عذرا فمقتضى عبارة أصل الروضة أنه لا يمهل. وقال السبكي: ينبغي إذا عرف الإمام أنه لا عذر له في المدة أن ينزعها منه في الحال، وكذا إذا لم تطل المدة وعلم منه الاعراض. " (1) 5 - وفيه عنه أيضا: " وإنما يتحجر ما يطيق إحياءه. بل ينبغي أن يقتصر على قدر كفايته لئلا يضيق على الناس. فإن تحجر ما لا يطيق إحياءه أو زائدا على قدر كفايته فلغيره أن يحيي الزائد على ما يطيقه وعلى قدر كفايته، كما قواه في الروضة بعد أن نقله فيها كأصلها عن المتولي. " (2) وراجع في فروع التحجير المغني أيضا. (3) 6 - وروى الكليني، عن عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن الريان بن
1 - الجواهر 38 / 59. 2 - الجواهر 38 / 60. 3 - المغني 6 / 153 وما بعدها. 190 الصلت، أو رجل عن الريان، عن يونس، عن العبد الصالح (عليه السلام)، قال: قال: " إن الأرض لله - تعالى - جعلها وقفا على عباده، فمن عطل أرضا ثلاث سنين متوالية لغير ما علة أخذت من يده دفعت إلى غيره. الحديث. " ورواها الشيخ أيضا بسنده، عن سهل. (1) 7 - وروى الكليني والشيخ، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " من أخذت منه أرض ثم مكث ثلاث سنين لا يطلبها لم يحل له بعد ثلاث سنين أن يطلبها. " (2) أقول: وضعف سند الخبرين بالترديد والإرسال واضح. والأرض في قوله: " فمن عطل أرضا " تعم بإطلاقها للمحياة والمحجرة معا، وإن كان المترائي من التعطيل إرادة القسم الأول ولكن يدل على حكم الثاني بطريق أولى. وفي مرآة العقول في ذيل الخبرين قال: " لم أر قائلا بظاهر الخبرين، إلا أن يحمل الأول على أنه إذا تركها وعطلها ثلاث سنين يجبره الإمام على الإحياء فإن لم يفعل يدفعها إلى من يعمرها ويؤدي إليه طسقها كما قيل... " (3) أقول: استحقاق المحجر للطسق غير واضح، نعم قيل بذلك في المحياة بعد تركها لرواية سليمان بن خالد (4) كما تأتي. ويحمل الخبر الثاني على استفادة الإعراض من عدم الطلب، أو أن عدم الطلب مع الإمكان دليل على عدم إرادة الإحياء فيكون تعطيلا. وقد مر عن أبي الصلاح الحلبي: أنه عد من الأنفال كل أرض عطلها مالكها ثلاث سنين. (5) وإطلاق كلامه يشمل المحياة أيضا بل لعلها المترائي منه، وإذا اختار هذا في المحياة فلا محالة يلتزم به في المحجرة بطريق أولى. هذا.
1 - الوسائل 17 / 345، الباب 17 من أبواب كتاب إحياء الموات، الحديث 1. 2 - الوسائل 17 / 345، الباب 17 من أبواب كتاب إحياء الموات، الحديث 2. 3 - مرآة العقول 19 / 406 (= ط. القديم 3 / 435). 4 - راجع الوسائل 17 / 329، الباب 3 من أبواب كتاب إحياء الموات، الحديث 3. 5 - راجع الكافي لأبى الصلاح / 170. 191 8 - وفي خراج أبي يوسف: حدثني ليث، عن طاووس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " عادى الأرض لله وللرسول ثم لكم من بعد. فمن أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين. " (1) 9 - وفيه أيضا حدثني محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله: أن عمر بن الخطاب قال على المنبر: " من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين. " وروى مثله بسنده عن سعيد بن المسيب عن عمر أيضا. (2) 10 - وروى البيهقي بسنده، عن عمرو بن شعيب: " أن عمر جعل التحجر ثلاث سنين، فإن تركها حتى يمضي ثلاث سنين فأحياها غيره فهو أحق بها. " (3) 11 - وفي المغني لابن قدامة قال: روى سعيد في سننه أن عمر قال: " من كانت له أرض يعني من تحجر أرضا فعطلها ثلاث سنين فجاء قوم فعمروها فهم أحق بها. " (4) 12 - وفي كتاب الأموال لأبي عبيد في التحجير قال: " وقد جاء توقيته في بعض الحديث عن عمر أنه جعله ثلاث سنين. " (5) 13 - وفيه أيضا بسنده، عن الحارث بن بلال المزني، عن أبيه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أقطعه العقيق أجمع. قال: فلما كان زمن عمر قال لبلال: " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقطعك لتحجره عن الناس، إنما أقطعك لتحمل فخذ منها
1 - الخراج / 65. 2 - الخراج / 65. 3 - سنن البيهقي 6 / 148، كتاب إحياء الموات، باب ما يكون إحياء وما يرجى فيه من الأجر. 4 - المغني 6 / 154. 5 - الأموال / 367. 192 ما قدرت على عمارته ورد الباقي. " (1) أقول: ويشبه أن يكون نظر عمر موردا للعمل في عصره وفيما بعده، ولو كان هذا خلاف حكم الله - تعالى - لصدر عن أئمتنا (عليهم السلام) مخالفته والإجهار كما في سائر المبدعات، ولم ينقل ذلك بل تقل خلافة في خبر يونس، عن العبد الصالح (عليه السلام). نعم، يحتمل أن يكون التحديد بثلاث سنين حكما سلطانيا فلا يتعين الأخذ به في جميع الأعصار والأمكنة، فتدبر.
1 - الأموال / 368. 193 المسألة السادسة: هل الإحياء في الأرض الموات يوجب مالكية المحيي لرقبة الأرض وخروجها بذلك عن ملك الإمام رأسا، أو لا يوجب إلا أحقية المحيي بها من غيره بحيث يختص به الاستفادة منها ولا يجوز مزاحمته نظير ما قيل في التحجير من دون أن تخرج بذلك عن ملك الإمام، وإن شئت قلت: إنه يملك حيثية الإحياء وآثاره دون الرقبة فللإمام أن يشترط عليه شروطا ويفرض عليه طسقا، أو يفصل في ذلك بين المسلم والكافر، كما يظهر من التذكرة، فيثبت الملكية للمسلم ولا يثبت للكافر إلا الأولوية؟ في المسألة وجوه بل أقوال. ظاهر اللام في قوله: " فهي له " الوارد في أكثر أخبار الباب كونها للملك، فإنها وإن وضعت لمطلق الاختصاص ولكن الاختصاص التام عبارة عن الملكية. وبالجملة، فرق بين مطلق الاختصاص والاختصاص المطلق فالأول أعم، الثاني ينصرف إلى خصوص الملكية التامة، وهي المشهورة بين فقهاء أصحابنا الإمامية على ما قيل بل بين فقهاء الفريقين يظهر لمن تتبع كلماتهم في هذا الباب وفي سائر الأبواب كالبيع والوقف ونحوهما، إذ لا بيع ولا وقف إلا في ملك. هذا. 1 - ولكن الشيخ في التهذيب بعد ذكر إباحة أراضي الخراج وأراضي الأنفال في عصر الغيبة قال: " فإن قال قائل: إن جميع ما ذكرتموه إنما يدل على إباحة التصرف لكم في هذه الأرضين ولم يدل على أنه يصح لكم تملكها بالشراء والبيع، فإذا لم يصح الشراء والبيع فما يكون فرعا عليه أيضا لا يصح مثل الوقف والنحلة والهبة وما يجري مجرى ذلك.
194 قيل له: إنا قد قسمنا الأرضين فيما مضى على ثلاثة أقسام: أرض يسلم أهلها عليها، فهي تترك في أيديهم وهي ملك لهم، فما يكون حكمه هذا الحكم صح لنا شراؤها وبيعها. وأما الأرضون التي تؤخذ عنوة أو يصالح أهلها عليها فقد أبحنا شراءها وبيعها لأن لنا في ذلك قسما لأنها أراضي المسلمين، وهذا القسم أيضا يصح الشراء والبيع فيه على هذا الوجه. وأما الأنفال وما يجري مجراها فليس يصح تملكها بالشراء والبيع وإنما أبيح لنا التصرف حسب. " (1) أقول: أرض الخراج ملك لعنوان المسلمين لا للإشخاص بنحو الإشاعة حتى يكون لكل فرد منهم قسم. نعم، قد مر في بحث الأراضي المفتوحة عنوة جواز شراء ما للزارع فيها من بناء أو غرس أو مرز ولا أقل من شراء حق اختصاصها به، كما تعارف بين الزراع الذين لا يملكون رقبة الأرض في القرى، وبذلك جمعنا بين أخبار المسألة هناك، فراجع. وظاهر كلامه الأخير عدم جواز تملك الرقبة في أرض الأنفال وعدم جواز الشراء البيع لذلك. ولكن يرد عليه أن أرض الأنفال لا تقل عن أرض الخراج قطعا، فإذا صح النقل الانتقال في أرض الخراج بلحاظ حق الزارع فيها فلم لا يجوز ذلك في أرض الأنفال بهذا اللحاظ؟ اللهم إلا أن يراد عدم الجواز فيها قبل الإحياء وثبوت الحق به. كيف كان فظاهره عدم ملكية الرقبة بل إباحة التصرف فقط. 2 - وقال في الاستبصار بعد ذكر أخبار الإحياء: " الوجه في هذه الأخبار وما جرى مجراها مما أوردنا كثيرا منها في كتابنا الكبير أن من أحيا أرضا فهو أولى بالتصرف فيها دون أن يملك تلك الأرض، لأن هذه الأرضين من جملة الأنفال التي هي خاصة للإمام إلا أن من أحياها أولى بالتصرف فيها إذا أدى واجبها للإمام. وقد دللنا على ذلك في كتابنا المذكور بأدلة
1 - التهذيب 4 / 145، باب الزيادات (بعد باب الأنفال). 195 مستوفاة وأخبار كثيرة. " (1) ثم استدل هنا بصحيحة أبي خالد الكابلي الآتية. 3 - وقال في كتاب المتاجر من النهاية (باب بيع المياه والمراعي): " والأرضون على أقسام أربعة: منها أرض الخراج... ومنها أرض الصلح... ومنها أرض من أسلم عليها طوعا... ومنها أرض الأنفال، وهي كل أرض انجلى أهلها عنها من غير قتال، والأرضون الموات ورؤس الجبال والآجام والمعادن وقطائع الملوك. وهذه كلها خاصة للإمام، يقبلها من شاء بما أراد ويهبها ويبيعها إن شاء حسب ما أراد. ومن أحيا أرضا ميتة كان أملك بالتصرف فيها من غيره; فإن كانت الأرض لها مالك معروف كان عليه أن يعطي صاحب الأرض طسق الأرض، وليس للمالك انتزاعها من يده ما دام هو راغبا فيها. وإن لم يكن لها مالك وكانت للإمام وجب على من أحياها أن يؤدي إلى الإمام طسقها. ولا يجوز للإمام انتزاعها من يده إلى غيره، إلا أن لا يقوم بعمارتها كما يقوم غيره أو لا يقبل عليها ما يقبله الغير. ومتى أراد المحيي لأرض من هذا الجنس الذي ذكرناه أن يبيع شيئا منها لم يكن له أن يبيع رقبة الأرض وجاز له أن يبيع ماله من التصرف فيها. " (2) 4 - وأيضا في كتاب المتاجر منه: " ومن أخذ أرضا ميتة فأحياها كانت له، وهو أولى بالتصرف فيها إذا لم يعرف لها رب وكان للسلطان طسق الأرض، وإن عرف لها رب كان له خراج الأرض وطسقها. " (3) 5 - وقال في كتاب الزكاة من النهاية (باب أحكام الأرضين): " والضرب الرابع: كل أرض انجلى أهلها عنها أو كانت مواتا فأحييت أو كانت آجاما وغيرها مما لا يزرع فيها فاستحدثت مزارع فإن هذه الأرضين كلها للإمام خاصة، ليس لأحد معه فيها نصيب، وكان له التصرف فيها بالقبض والهبة والبيع والشري حسب ما يراه، وكان له أن يقبلها بما يراه من النصف أو الثلث أو الربع،
1 - الاستبصار 3 / 108، كتاب البيوع، باب من أحياء أرضا، ذيل الحديث 4 من الباب. 2 - النهاية / 418 - 420. 3 - النهاية / 442. 196 وجاز له أيضا بعد انقضاء مدة القبالة نزعها من يد من قبله إياها وتقبيلها لغيره، إلا أن الأرضين التي أحييت بعد مواتها فإن الذي أحياها أولى بالتصرف فيها ما دام يقبلها بما يقبلها غيره، فإن أبى ذلك كان للإمام أيضا نزعها من يده وتقبيلها لمن يراه. " (1) 6 - وفي كتاب الجهاد من المبسوط بعد ذكر الأراضي المفتوحة عنوة قال: " فأما الموات فإنها لا تغنم، وهي للإمام خاصة، فإن أحياها أحد من المسلمين كان أولى بالتصرف فيها ويكون للإمام طسقها. " (2) فهذا الشيخ الطوسي خريت فقه الشيعة الإمامية ينكر ملكية رقبة الأرض المحياة للمحيي في كتب الأربعة. نعم، في إحياء الموات من المبسوط قال: " الأرضون الموات عندنا للإمام خاصة لا يملكها أحد بالإحياء إلا أن يأذن له الإمام. " (3) وظاهره هنا حصول الملك، اللهم إلا أن يحمل الملك على ملكية حيثية الإحياء آثاره، أو يريد بإذن الإمام إذنه في التملك كأن يبيع الرقبة له، فلا تهافت. 7 - وقال القاضي ابن البراج في المهذب في باب ذكر أرض الأنفال: " وهي للإمام (عليه السلام) خاصة دون غيره من سائر الناس، وله أن يتصرف فيها بالهبة والبيع وغير ذلك من سائر أنواع التصرف حسب ما يراه، وله (عليه السلام) أن يقبلها بما يراه من نصف أو ثلث أو ربع، وله بعد انقضاء مدة القبالة أن يقبضها وينزعها ممن هي في يده بالقبالة يقبلها لغيره، إلا أن تكون مما كانت مواتا فأحييت فإنها إذا كانت كذلك لم تنتزع من يد من أحياها، وهو أولى بالتصرف فيها ما دام يتقبلها بما يتقبلها به غيره، فإن لم يتقبلها بذلك جاز للإمام (عليه السلام) أن ينتزعها من يده ويقبلها لغيره كما يراه. " (4)
1 - النهاية / 196. 2 - المبسوط 2 / 29. 3 - المبسوط 3 / 370. 4 - المهذب 1 / 183. 197 8 - وقال ابن زهرة في جهاد الغنية: " وأما أرض الأنفال - وهي كل أرض أسلمها أهلها من غير حرب أو جلوا عنها وكل أرض مات مالكها ولم يخلف وارثا بالقرابة ولا بولاء العتق وبطون الأودية ورؤوس الجبال والآجام وقطائع الملوك من غير جهة غصب والأرضون الموات - فللإمام خاصة دون غيره، وله التصرف فيها بما يراه من بيع أو هبة أو غيرهما وأن يقبلها بما يراه، وعلى المتقبل بعد حق القبالة وتكامل الشروط الزكاة. " (1) 9 - وفي إحياء الموات من الغنية: " قد بينا فيما مضى أن الموات من الأرض للإمام القائم مقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة وأنه من جملة الأنفال يجوز له التصرف فيه بأنواع التصرف ولا يجوز لأحد أن يتصرف فيه إلا بإذنه. ويدل على ذلك إجماع الطائفة، ويحتج على المخالف بما رووه من قوله (عليه السلام): " ليس لأحدكم إلا ما طابت به نفس إمامه. " من أحيا أرضا بإذن مالكها أو سبق إلى التحجير عليها كان أحق بالتصرف فيها من غيره، وليس للمالك أخذها منه إلا أن لا يقوم بعمارتها ولا يقبل عليها ما يقبل غيره بالإجماع المشار إليه، ويحتج على المخالف بما رووه من قوله (عليه السلام): " من أحيا أرضا ميتة فهي له. " وقوله: " من أحاط حائطا على أرض فهي له. " المراد بذلك ما ذكرناه من كونه أحق بالتصرف لأنه لا يملك رقبة الأرض بالإذن في إحيائها. " (2) 10 - وفي باب أحكام الأرضين من السرائر قال: " والضرب الرابع: كل أرض انجلى أهلها عنها أو كانت مواتا فأحييت أو كانت آجاما وغيرها مما لم يزرع فيها فأحدثت مزارع، فإن هذه الأرضين كلها للإمام خاصة ليس لأحد معه فيها نصيب وكان له التصرف فيها بالقبض والهبة والبيع والشري حسب ما يراه، وكان له أن يقبلها بما يراه من النصف أو الثلث أو الربع، وجاز له أيضا بعد انقضاء مدة القبالة نزعها من يد من قبله إياها وتقبيلها لغيره. وقد استثني من ذلك الأرض التي أحييت بعد مواتها، فإن الذي أحياها أولى بالتصرف
1 - الجوامع الفقهية / 523 (= ط. أخرى / 585). 2 - الجوامع الفقهية / 540 (= ط. أخرى / 602). 198 فيها ما دام تقبلها بما تقبلها غيره، فإن أبى ذلك كان للإمام أيضا نزعها من يده وتقبيلها لمن يراه على ما روي في بعض الأخبار. " (1) 11 - وفي إحياء الموات من الشرائع: " وإذنه شرط، فمتى أذن ملكه المحيي له إذا كان مسلما... وكل أرض جرى عليها ملك لمسلم فهي له أو لورثته بعده، وإن لم يكن لها مالك معروف معين فهي للإمام (عليه السلام) لا يجوز إحياؤها إلا بإذنه. فلو بادر مبادر فأحياها بدون إذنه لم يملك. وإن كان الإمام (عليه السلام) غائبا كان المحيي أحق بها ما دام قائما بعمارتها. فلو تركها فبادت آثارها فأحياها غيره ملكها، ومع ظهور الإمام - عليه السلام - يكون له رفع يده عنها. " (2) وقد احتملنا سابقا أن يكون جميع كلامه إلى قوله: " وإن كان الإمام غائبا " مرتبطا بزمان الحضور ويراد بالإذن الإذن في التملك، وفي عصر الغيبة حيث لا إذن فيه صار الإحياء موجبا للأحقية فقط. 12 - ونظير ذلك في المختصر، ففي إحياء الموات منه بعد بيان معنى الموات وأنه للإمام قال: " ومع إذنه يملك بالإحياء، ولو كان الإمام غائبا فمن سبق إلى إحيائه كان أحق به، مع وجوده له رفع يده. " (3) 13 - وفي إحياء الموات من التذكرة: " ولا يجوز لأحد إحياؤها إلا بإذنه، فإن بادر إليها إنسان وأحياها من دون إذنه لم يملكها. ولو كان الإحياء حال غيبة الإمام - عليه السلام - كان المحيي أحق بها ما دام قائما بعمارتها، فإن تركها فزالت آثارها فأحياها غيره ملكها فإذا ظهر الإمام (عليه السلام) يكون له رفع يده عنها لما تقدم. " (4) وذكر نحو ذلك في موضع آخر أيضا. (5)
1 - السرائر / 111. 2 - الشرائع 3 / 271 - 272 (= ط. أخرى / 791 - 792، الجزء 4). 3 - المختصر النافع / 259 (الجزء 2). 4 - التذكرة 2 / 401. 5 - التذكرة 2 / 403. 199 فيستفاد: من هذه العبارات عدم القول بالملك في عصر الغيبة، وهذا هو محل ابتلائنا كما لا يخفى. وكيف كان فهؤلاء الأعلام من فقهائنا يصرحون بأن الأرض الموات للإمام وأن له أن يتصرف فيها بالبيع والهبة ونحو ذلك، ولا محالة يصير المشتري والموهوب له حينئذ مالكا لرقبتها. ولكن يظهر منهم أن مجرد إحيائها لا يوجب ملكية الرقبة للمحيي وليس له بيع الرقبة، بل يكون هو أولى بالتصرف فيها وأحق بها من غيره وعليه طسقها، إلا أن يتركها ولا يقوم بعمارتها أو لا يقبل عليها ما يقبله غيره من الطسق. نعم، صرح الشيخ في النهاية كما مر بأن له أن يبيع ماله من التصرف فيها نظير ما قالوه في الأرض المفتوحة عنوة. هذا. وأما الأخبار: 1 - ففي الوسائل، عن الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي خالد الكابلي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " وجدنا في كتاب علي (عليه السلام): " أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الأرض ونحن المتقون، والأرض كلها لنا فمن أحيا أرضا من المسلمين فليعمرها وليؤد خراجها إلى الإمام من أهل بيتي، وله ما أكل منها، فإن تركها أو أخربها فأخذها رجل من المسلمين من بعده فعمرها وأحياها فهو أحق بها من الذي تركها، فليؤد خراجها إلى الإمام من أهل بيتي وله ما أكل منها، حتى يظهر القائم (عليه السلام) من أهل بيتي بالسيف فيحوبها ويمنعها ويخرجهم منها كما حواها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منعها، إلا ما كان في أيدي شيعتنا فإنه يقاطعهم على ما في أيديهم ويترك الأرض في أيديهم. " ورواها أيضا عن الشيخ بإسناده، عن الحسن بن محبوب. (1) والرواية صحيحة. وأبو خالد الكابلي - واسمه كنكر، وقيل: وردان - من
1 - الوسائل 17 / 329، الباب 3 من أبواب كتاب إحياء الموات، الحديث 2. 200 أصحاب الإمام السجاد والإمام الباقر (عليهما السلام). أقول: يستفاد من هذه الصحيحة أمور: الأول: أن الأرضين كلها للإمام بما هو إمام، يعني أن له الولاية عليها وتكون تحت اختياره. الثاني: أن كل مسلم مجاز في إحيائها عمرانها. الثالث: أنه يجب على من أحيا شيئا منها أن يؤدي خراجها إلى الإمام من أهل بيتي، يعني من له حق الإمامة لا كل من يدعيها ويتقمصها جورا. ولازمه عدم تملك المحيي للرقبة وإن صار أحق بها من غيره. الرابع: أن حق المحيي ثابت ما دام يتوجه إليها وإلى إحيائها، فإن تركها بالكلية أو خربت وزالت آثار إحيائه زالت علاقة المحيي بها بالكلية وجاز لغيره إحياؤها وأداء خراجها إلى الإمام. الخامس: أن للقائم من آل محمد (عليهم السلام) الذي صار قادرا مبسوط اليد أن يأخذ الأرض ممن فيها، نعم لا يأخذها من شيعته ولعله لشفقته الخاصة بهم. ومقتضى جميع ذلك بقاء علاقة الإمام بالأرض في جميع المراحل، فيكون وزان الإمام في إذنه لإحياء الأرض وزان من حفر قناة وهيأ ماء لمنطقة خاصة ثم نادى: من أحيا وعمر قسمة من هذه المنطقة صار أحق بها من غيره، فليس معنى ذلك إلا أنه أولى بالتصرف فيها وأنه يملك آثار إحيائه لا أنه يملك رقبة الأرض وتنقطع علاقة المالك عنها. 2 - وروي في الوسائل عن الشيخ باسناده، عن محمد بن علي بن محبوب، عن محمد بن الحسين، عن الحسن بن محبوب، عن عمر بن يزيد، قال: سمعت رجلا من أهل الجبل يسأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أخذ أرضا مواتا تركها أهلها فعمرها وكرى أنهارها وبني فيها بيوتا وغرس فيها نخلا وشجرا. قال: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): " كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: " من أحيا أرضا من المؤمنين فهي له، وعليه طسقها يؤديه إلى الإمام في حال الهدنة، فإذا ظهر القائم (عليه السلام) فليوطن نفسه على أن تؤخذ منه. " (1) والظاهر أن المراد بعمر بن يزيد عمر بن محمد بن يزيد بياع السابري الثقة، فالرواية صحيحة.
1 - الوسائل 6 / 382، الباب 4 من أبواب الأنفال، الحديث 13. 201 ومفادها أن الأرض للإمام وأن للمؤمن إحياءها، ومع تصريحها بأنها لمن أحياها صرح بأن عليه طسقها وأن للقائم (عليه السلام) أن يأخذها منه. فيستفاد منها بقاء علاقة الإمام بها وعدم مالكية المحيي لرقبتها، فيراد بكونها له أحقيته بها من غيره ومالكيته لآثار إحيائه، وبذلك يفسر سائر الأخبار الحاكمة بأن من أحيا أرضا فهي له. ولعل المقصود بالإمام في حال الهدنة مطلق من له حق الإمامة شرعا لا خصوص المعصوم، كما يحتمل بعيدا أن يراد بالقائم فيها كل من له حق الإمامة إذا قام بالسيف. لا يلازم توطين النفس على أخذ الأرض منه أخذها منه فعلا بل يراد إيمانه بأن الأرض ليست له، فلا ينافي هذا صحيحة الكابلي الحاكمة بعدم أخذها من الشيعة، فتدبر. 3 - ما رواه في الكافي، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن عمر بن يزيد، قال: رأيت مسمعا بالمدينة - وقد كان حمل إلى أبي عبد الله (عليه السلام) تلك السنة مالا فرده أبو عبد الله (عليه السلام) - فقلت له: لم رد عليك أبو عبد الله (عليه السلام) المال الذي حملته إليه؟ قال: فقال لي: إني قلت له حين حملت إليه المال: إني كنت وليت البحرين الغوص فأصبت أربعمأة ألف درهم وقد جئت بخمسها بثمانين ألف درهم وكرهت أن أحبسها عنك وأن أعرض لها وهي حقك الذي جعله الله - تبارك وتعالى - في أموالنا. فقال: " أو مالنا من الأرض وما أخرج الله منها إلا الخمس؟ يا أبا سيار! إن الأرض كلها لنا، فما أخرج الله منها من شيء فهو لنا. فقلت له: وأنا أحمل إليك المال كله؟ فقال: يا أبا سيار، قد طيبناه لك وأحللناك منه، فضم إليك مالك. وكل ما في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون حتى يقوم قائمنا فيجبيهم طسق ما كان في أيديهم ويترك الأرض في أيديهم. وأما ما كان في أيدي غيرهم فإن كسبهم من الأرض حرام عليهم حتى يقوم قائمنا فيأخذ الأرض من أيديهم ويخرجهم صغرة. قال عمر بن يزيد: فقال لي أبو سيار: ما أرى أحدا من أصحاب الضياع ولا ممن يلي الأعمال يأكل حلالا غيري إلا من طيبوا له ذلك. " (1) وروى الشيخ أيضا نحوه. (2)
1 - الكافي 1 / 408، كتاب الحجة، باب أن الأرض كلها للإمام (عليه السلام)، الحديث 3. 2 - الوسائل 6 / 382، الباب 4 من أبواب الأنفال، الحديث 12، عن الكافي، وعن التهذيب 4 / 144. 202 والسند صحيح. وقد مر شرح هذا الحديث في خلال أخبار التحليل، فراجع. (1) ويستفاد منه كون الأرض مطلقا ومنها الموات للإمام وأنها مباحة لشيعتهم ولكن لهم أخذ طسقها بل استرداد أصلها منهم فيدل على عدم انتقال الرقبة إليهم وبقاء علاقة الإمام بها. نعم احتملنا هناك عدم كون اللام في الأرض للاستغراق بل للعهد، فتكون إشارة إلى أرض البحرين وهي مما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب كما في موثقة سماعة. (2) وعلى هذا فلا مجال للاستدلال بها في المقام، فتدبر. وبالجملة، المستفاد من هذه الأخبار الصحيحة التي أفتى بمضمونها الشيخ وابن البراج وابن زهرة في كتبهم المعدة لنقل المسائل المأثورة عن الأئمة (عليهم السلام): هو أن الأرض الموات للإمام وفاقا لسائر الأخبار الحاكمة بذلك، وأن للمسلمين إحياءها وأداء طسقها إليه، وأن للقائم (عليه السلام) إذا قام أخذ الأرض منهم. ومقتضى ذلك كله بقاء علاقة الإمام بها وأن المحيي لا يملك الرقبة بل يملك ما هو أثر فعله من آثار الإحياء ما بقيت ويكون هو أحق بها من غيره وأولى بالتصرف فيها. وأفتى في السرائر أيضا بمثل ما أفتوا به كما مر. فيكون هذا القول مشهورا بين قدماء أصحابنا. بل يمكن أن يقال: إن كل من يقول: إن مالكية المحيي تدور مدار بقاء الحياة في الأرض وأنها تزول بعروض الموت لها وجاز حينئذ للغير إحياؤه لنفسه كان اللازم من كلامه عدم كون الرقبة ملكا للمحيي وإلا لبقيت في ملكه بعد الموت أيضا، وسيأتي البحث في ذلك في مسألة مستقلة. هذا. وفي بلغة الفقيه للعالم المحقق السيد محمد آل بحر العلوم: " منع إفادة أخبار الإحياء التملك المجاني من دون أن يكون للإمام (عليه السلام) فيه حق، فيكون للإمام (عليه السلام) فيه بحسب ما يقاطع المحيي عليها في زمان حضوره وبسط يده، ومع عدمه فله أجرة المثل. ولا ينافي ذلك نسبة الملكية إلى المحيي في أخبار الإحياء،
1 - راجع ص 129 من هذا الجزء من الكتاب. 2 - الوسائل 6 / 367، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 8. 203 وإن هي إلا جارية مجرى كلام الملاكين للفلاحين في العرف العام عند تحريضهم على تعمير الملك: من عمرها أو حفر أنهارها وكرى سواقيها فهي له، الدالة على أحقيته من غيره تقدمه على من سواه، لاعلى نفي الملكية من نفسه وسلب المالكية عن شخصه. فالحصة الراجعة إلى الملاك المعبر عنها بالملاكة مستحقة له غير منفية عنه وإن أضاف الملك إليهم عند الترخيص والإذن العمومي غير أن الشيعة محللون بالنسبة إلى ما يرجع إلى الإمام مما يستحقه من أجرة المثل أو حصة الملاكة. " (1) وفيه أيضا: " ويحتمل قويا عندي كما تقدم بل هو الأقوى: أن الإحياء في الموات التي هي للإمام (عليه السلام) لا يكون سببا لملك المحيي وخروج الرقبة عن ملك الإمام ولا يوجب إلا أحقية المحيي بها وأولويته من غيره بالتصرف فيها، فتكون اللام في عمومات الإحياء لمجرد الاختصاص بقرينة ما دل على دفع خراجها للإمام (عليه السلام) في صحيحة الكابلي، وإن كنا لا نقول به في زمان الغيبة لأخبار الإباحة والتحليل للشيعة المستفاد منها كونها لهم بلا أجرة عليهم. " (2) أقول: فهذا العالم المحقق أيضا قد أفتى بمضمون الصحاح المتقدمة. وقد مر منا أن عمدة نظر أئمتنا (عليهم السلام) في أخبار التحليل كان إلى تسهيل الأمر لشيعتهم في زمان الاختناق وعدم انعقاد الحكومة الصالحة. فلو فرض في عصر الغيبة أيضا انعقاد الحكومة الحقة الصالحة بشرائطها كان لها تحديد التصرف وأخذ الطسق والأجرة أيضا. وقال السيد الشهيد آية الله الصدر - طاب ثراه - بعد نقل فتوى المشهور في المقام: " وهنا رأي فقهي آخر يبدو أكثر انسجاما مع النصوص التشريعية، يقول: إن عملية الإحياء لا تغير من شكل ملكية الأرض، بل تظل الأرض ملكا للإمام أو لمنصب الإمامة، ولا يسمح للفرد بتملك رقبتها وإن أحياها، وإنما يكتسب بالإحياء حقا في الأرض دون مستوى الملكية، ويخول له بموجب هذا الحق استثمار الأرض
1 - بلغة الفقيه 1 / 274 (= ط. أخرى / 88). 2 - بلغة الفقيه 1 / 347 (= ط. أخرى / 125). 204 والاستفادة منها ومنع غيره ممن لم يشاركه في جهده وعمله من مزاحمته وانتزاع الأرض منه ما دام قائما بواجبها. وهذا القدر من الحق لا يعفيه من واجباته تجاه منصب الإمامة بوصفه المالك الشرعي لرقبة الأرض. فللإمام أن يفرض عليه الأجرة أو الطسق كما جاء في الحديث... " (1) وقد تحصل مما ذكرناه أن الأقوى بمقتضى الجمع بين أخبار الباب هو أن إحياء الأرض الموات ولو كان بالإذن لا يوجب انقطاع علاقة الإمام منها بالكلية بل تبقى علاقته بها. فله أن يأخذ طسقها، ولو تركها المحيي أو أخربها قبلها غيره، ولو رأى المصلحة في أخذها بعد انقضاء مدة المتقبل أخذها منه، ولا محالة يشتري آثار المحيي فيها لئلا يتضرر. والمحيي لا يصير مالكا إلا لآثار الإحياء ومحصول فاعليته وقواه. نعم، يمكن أن يقال بملكية الرقبة تبعا لآثار الاحياء ما بقيت، فيجوز بيعها كذلك وهبتها بل وقفها ونحو ذلك. نظير ما يقال في الأراضي المفتوحة عنوة التي هي للمسلمين إجماعا ومع ذلك تدل أخبار مستفيضة على جواز بيعها تبعا للآثار، ففي خبر أبي بردة بن رجاء قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كيف ترى في شراء أرض الخراج؟ قال: ومن يبيع ذلك، هي أرض المسلمين؟ قال: قلت: يبيعها الذي في يده. قال: ويصنع بخراج المسلمين ماذا؟ ثم قال: " لا بأس، اشترى حقه منها ويحول حق المسلمين عليه ولعله يكون أقوى عليها أملى بخراجهم منه. " ونحوه غيره من الأخبار. (2) وفي الحقيقة يكون البيع متعلقا بحقه في الأرض، أعني آثار الإحياء وإن تعلقت ظاهرا بالأرض. فوزان أرض الإمام في ذلك وزان أرض الخراج التي تكون للمسلمين، بل لا يوجد بينهما فرق أساسي. هذا. ويؤيد ما ذكرناه من ملكية حيثية الإحياء وآثاره دون رقبة الأرض ما مر منا من أن التشريع الصحيح الذي يقبله العقل السليم ما وقع على طبق نظام التكوين. فأساس الملكية الاعتبارية هو نحو من الملكية التكوينية. والإنسان يملك تكوينا فكره وقواه جهاز فعله وصنعه وبتبع ذلك لفعله وآثار فعله، فما هو
1 - اقتصادنا / 416 (= ط. أخرى / 463). 2 - الوسائل 11 / 118، الباب 71 من أبواب جهاد العدو. 205 محصول مالكية الإنسان لقواه وجهاز فاعليته تكوينا هو حيثية الإحياء وآثار الحياة دون رقبة الأرض، ولازم ذلك زوال مالكيته بزوال آثار الحياة، فتدبر جيدا. فإن قلت: ما ذكرت من عدم ملكية الرقبة بالإحياء مخالف لظاهر اللام في قوله: " فهي له " أو: " فهي لهم "، فإنها وإن وضعت لمطلق الاختصاص ولكنها تنصرف إلى أظهر المصاديق وأكملها وهي الملكية. قلت: نعم، ولكن الصحاح الثلاث المتقدمة في عدم الملكية أظهر بل كالصريحة إذ مطالبة الطسق وجواز استرداد الأرض من ناحية الإمام تدلان على بقاء علاقة الإمام برقبتها. وفي صحيحة عمر بن يزيد الأولى: " من أحيا أرضا من المؤمنين فهي له وعليه طسقها يؤديه إلى الإمام. " فقد جمع فيها بين اللام والطسق وهذا يدفع ظهور اللام في الملكية ويصير هذا قرينة على المقصود في الأخبار الأخر أيضا، فتحمل على الأحقية المذكورة في كثير من أخبار الفريقين. وإن شئت قلت: الملكية حاصلة ولكن بالنسبة إلى آثار الإحياء وتنسب إلى الأرض تبعا لاتحادهما وجودا كما في أراضي الخراج. ويشهد بذلك أن من أصرح ما ذكروه دليلا على تملك الأرض بالإحياء معتبرة محمد بن مسلم المروية بطرق كثيرة منها صحيحة ومنها موثقة. وبالرجوع إلى طرق الحديث متنه يظهر كون الجميع قطعات من حديث سئل فيه عن الشراء من أرض اليهود النصارى فأجاب (عليه السلام): " ليس به بأس، قد ظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أهل خيبر فخارجهم على أن يترك الأرض في أيديهم يعملونها ويعمرونها فلا أرى بها بأسا لو أنك اشتريت منها شيئا. وأيما قوم أحيوا شيئا من الأرض وعملوها فهم أحق بها وهي لهم. " (1) ونحوها صحيحة أبي بصير. (2)
1 - الوسائل 11 / 118، الباب 71 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2; والوسائل 17 / 326 - 327، الباب 1 من أبواب كتاب إحياء الموات، الحديث 1 وغيره. 2 - الوسائل 17 / 330، الباب 4 من أبواب كتاب إحياء الموات، الحديث 1. 206 وخيبر كانت مفتوحة عنوة أو صلحا على أن تكون أراضيها للمسلمين أو للإمام المسلمين، كما تدل على ذلك أخبار الفريقين: ففي صحيحة البزنطي: " وما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبله بالذي يرى كما صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بخيبر قبل أرضها ونخلها. الحديث. " (1) وفي سنن أبي داود بسنده، عن ابن عباس، قال: " افتتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيبر اشترط أن له الأرض وكل صفراء وبيضاء. قال أهل خيبر: نحن أعلم بالأرض منكم فأعطناها على أن لكم نصف الثمرة ولنا نصف. الحديث " (2) فأراضي اليهود فيها انتقلت منهم إلى المسلمين إجماعا، فلم يكن لليهود إلا عملهم الإحيائي وآثاره، ولا محالة تكون هي المشتراة منهم لا رقبة الأرض. وقد طبق عليها الإمام (عليه السلام) قوله: " وأيما قوم أحيوا شيئا من الأرض وعملوها فهم أحق بها وهي لهم. " فان قلت: ما ذكرت من الصحاح الثلاث الدالة على بقاء علاقة الإمام بالأرض المحياة بإذنه يعارضها ما يدل بالصراحة على انقطاع صلته عنها بالكلية، كصحيحة عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سئل (عليه السلام) وأنا حاضر عن رجل أحيا أرضا مواتا فكرى فيها نهرا وبنى فيها بيوتا وغرس نخلا وشجرا، فقال (عليه السلام): " هي له وله أجر بيوتها، وعليه فيها العشر فيما سقت السماء أو سيل وادي أو عين، وعليه فيما سقت الدوالي والغرب نصف العشر. " (3) فإن اقتصاره (عليه السلام) على ذكر الزكاة فقط في مقام تحديد ما على المحيي يكون كالصريح في ملكية الرقبة بالإحياء وانقطاع علاقة الإمام عنها. ونظير هذه الصحيحة الأخبار الكثيرة التي اقتصر فيها على ذكر الزكاة في
1 - الوسائل 11 / 120، الباب 72 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2. 2 - سنن أبي داود 2 / 235، كتاب البيوع، باب في المساقاة. 3 - الوسائل 17 / 327، الباب 1 من أبواب كتاب إحياء الموات، الحديث 8. والدالية: الناعورة التي يديرها الماء ونحوه. والغرب بالفتح: الدلو العظيمة. 207 الغلات ولا سيما ما وقعت فيها أرض الموات قسيما لأرض الخراج المفروض فيها قبالة الأرض الزكاة معا كخبر صفوان والبزنطي، فراجع الوسائل. (1) وعلى هذا فتسقط الطائفتان بالمعارضة ويكون المرجع نهائيا الأخبار الكثيرة التي مرت من طرق الفريقين الظاهرة في تملك المحيي للرقبة بمقتضى ظهور اللام. وليست هذه الأخبار طرفا للمعارضة مع الصحاح الثلاث، فإن الظهور الإطلاق لا يعارض الصراحة. وقد ذكروا في باب التعارض أنه متى تعارضت طائفتان من الأخبار كانت إحديهما صريحة في النفي مثلا، وكانت الأخرى صنفين: بعضها صريح في الإثبات وبعضها ظاهر فيه، فلا نلتزم بسقوط الجميع في رتبة واحدة إذ الظاهر لا يقاوم الصريح بل تسقط الصريحتان بالمعارضة ثم يرجع إلى الظاهر في مقام العمل. فوزان الظاهر وزان الأصل الذي يرجع إليه بعد تعارض الدليلين وتساقطهما، ولا يكون الظاهر والصريح في رتبة واحدة كما لا يكون الأصل والدليل في عرض واحد. هذا. وقد تعرض لهذا الإشكال إجمالا السيد الشهيد آية الله الصدر - طاب ثراه - في ملاحق كتابه في الاقتصاد. (2) قلت: أما ما ذكرتم من كون صحيحة ابن سنان ونظائرها صريحة في ملكية الرقبة فممنوع أشد المنع، إذ قوله (عليه السلام) فيها: " فهي له " يساوق التعبير الواقع في غيرها، وليس فيه أزيد من الظهور في الاختصاص الملكي مع عدم الدليل على الخلاف. ولا يدل ذكر فرض الزكاة على نفي غيرها بالصراحة، بل غايته الظهور إذا كان في مقام البيان من جميع الجهات. ولو سلم فلعل عدم ذكر فرض الطسق كان من قبيل التحليل في عصر الاختناق، نظير ما مر في صحيحة مسمع، حيث قال (عليه السلام): " وكل ما في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون حتى يقوم قائمنا فيجيبهم طسق ما في أيديهم ويترك الأرض في أيديهم. " فلا ينافي هذا جواز مطالبة الطسق إذا فرض انعقاد حكومة
1 - الوسائل 11 / 119، الباب 72 من أبواب جهاد العدو. 2 - اقتصادنا / 659 (= ط. أخرى / 7 - 746)، الملحق 4. 208 حقه ولو في عصر الغيبة. وفي حاشية المحقق الإصفهاني على المكاسب في هذا المقام: " لا يخفى أن ظهور هذه الأخبار من وجوه عديدة في عدم الملك أقوى بمراتب من ظهور اللام في الملكية. وإثبات خصوص الزكاة عليه بعد السؤال بأنه ماذا عليه لا ينافي عدم الملك، فإنه سؤال عما عليه من الحقوق الإلهية لاعن حق مالكه إماما كان أو غيره. " (1) هذا. وأما ما ذكرتم من عدم مقاومة الظاهر للصريح فيبقى مرجعا نهائيا بعد تساقط الصريحين، ففيه أن عدم مقاومة الظاهر للصريح المعارض له لا يوجب سقوطه رأسا عدم تأييده وتقويته للصريح الموافق له مضمونا، وبالجملة ما اشتهر من الرجوع إلى العموم الفوقي بعد تعارض الخاصين ممنوع عندنا. والقياس على الأصل والدليل مع الفارق، إذ موضوع الأصل هو الشك في الحكم، ومع الدليل لا موضوع له وإنما يتحقق موضوعه بعد تساقط الدليلين. وهذا بخلاف الظاهر الموافق للصريح، فإن وجود الصريح لا يوجب سقوط الظاهر الموافق له عن الحجية بل يجوز الاحتجاج بكليهما. نعم، بالنسبة إلى الصريح المخالف له يسقط عن الحجية بالمعارضة. وبعد سقوطه لا دليل على قيامه ثانيا مرجعا نهائيا بل يكون المرجع النهائي استصحاب بقاء الرقبة على ملك الإمام وبقاء علاقته بها، فتدبر. فإن قلت: إنكار ملكية رقبة الأرض بالإحياء مضافا إلى مخالفته للمشهور مخالف لضرورة الفقه، إذ يوجب ذلك عدم جواز بيع الأرض وهبتها وصلحها ووقفها، والمعلوم من الأخبار والفتاوى خلاف ذلك. قلت: مضافا إلى منع اشتهار ملكية الرقبة بين القدماء من أصحابنا كما مر وأن مخالفة المشهور غير عزيزة في الفقه بعد القيام الدليل كما في مسألة نجاسة البئر التي
1 - حاشية المكاسب 1 / 242. 209 انقلب فيها فتوى المشهور، نقول: إن المحيي يملك عمله الإحيائي وآثار الإحياء الواقعة في الأرض بإذن الإمام. وبعبارة أخرى يملك المحياة بما هي محياة. والبيع والوقف ونحوهما تتعلق بذلك ولامانع منه. وقد مر في عبارة النهاية قوله: " ومتى أراد المحيي لأرض من هذا الجنس الذي ذكرناه أن يبيع شيئا منها لم يكن له أن يبيع رقبة الأرض وجاز له أن يبيع ماله من التصرف فيها. " (1) وقد التزم الفقهاء بذلك فيها الأراضي المفتوحة عنوة أيضا كأراضي العراق ونحوها. بل قد يقال فيها بملكية الأرض تبعا للآثار بحيث تبقي ببقائها وتزول بزوالها، فلا إشكال. ولعل المشهور أيضا لم يريدوا بالملكية أزيد من ذلك ولا سيما القائلون منهم بأن الملكية لو كانت بالإحياء زالت بزوال الحياة وهم كثيرون كما سيأتي. وبالجملة وزان المعاملات الواقعة على الأرض هنا وزان المعاملات الواقعة من الرعايا على أملاك الزراعة والبساتين في القرايا التي لها ملاك. وقد شاع ذلك في جميع البلاد والأعصار. ومن قال في هذه الموارد إن المحيي للأرض يبيع حقه فيها أيضا لا يريد بالحق إلا ما ذكرناه من آثار الإحياء وعمله المتجسد في الأرض لا الحق بمعنى حكم الشارع باستحقاقه للأرض وكونه أحق بها، فلا يرد ما قد يقال: إن الحكم الشرعي لا يمكن أن يصير مبيعا أو موهوبا لعدم إضافة اعتبارية له بالبائع. وبعبارة أخرى المقصود بالحق هنا موضوع الحق ومنشأ انتزاعه واعتباره، فتدبر. فإن قلت: إن الصحاح الثلاث المستدل بها معرض عنها، إذ المشهور على كون الإحياء سببا لملك الرقبة وعدم وجوب الطسق على من أحيا الموات من الأرض. قلت: لا نسلم الإعراض، إذ قد عرفت من الشيخ وابن البراج وابن زهرة وابن
1 - النهاية / 420. 210 إدريس غيرهم الإفتاء بمضمونها، بل قد ترى الأصحاب في كلماتهم يتمسكون بالصحاح المذكورة ولا سيما بصحيحة الكابلي في الأبواب المختلفة، بحيث يظهر منهم اعتناؤهم بها. ولعل عدم إفتائهم بوجوب الطسق في عصر الغيبة كان بلحاظ أخبار التحليل للشيعة لا بسبب الإعراض عن هذه الصحاح واختيار انقطاع صلة الإمام بالأرض. وقد عرفت منا أنه لو فرض انعقاد حكومة صالحة حقة في عصر الغيبة أمكن القول بجواز أخذ الطسق له وتعيين ضوابط خاصة للإحياء وكيفياته. ولو سلم عدم إفتاء المشهور بالصحاح المذكورة فلا يثبت بذلك الإعراض المسقط عن الحجية، إذ لعلهم صنعوا ذلك لعلاج مشكلة التعارض بينها وبين صحيحة ابن سنان نحوها ترجيحا لها على هذه الصحاح، لا أنهم وجدوا فيها خللا من حيث السند أو الدلالة أو الجهة. فإن قلت: بعد اللتيا والتي إنكار ملكية رقبة الأرض بالإحياء وفرض الطسق على من أحياها مخالف للسيرة القطعية المستمرة من عصر الأئمة (عليهم السلام) إلى زماننا هذا، حيث يرى المحيي نفسه مالكا لرقبتها ويعامل عليها معاملة الملاك، ولا يلتزم عملا بالطسق والخراج أصلا. وحمل الصحاح الثلاث على عصر ظهور الحجة (عليه السلام) أيضا لا مجال له بعد كون الكلام لأمير المؤمنين (عليه السلام) الظاهر في بيان الحكم لعصره وما بعده. قلت: مضافا إلى النقض بالأراضي المفتوحة عنوة كأراضي مكة المعظمة والعراق السورية ومصر فإنه يعامل عليها معاملة الأملاك بلا طسق ولا خراج مع أن الأرض فيها للمسلمين والخراج ثابتة فيها بلا إشكال: إن السيرة المدعاة إن أريد بها سيرة الشيعة المتعبدين بنصوص أهل البيت - عليهم السلام - ففيها أن عدم إعطائهم الطسق فيها وكذا في أراضي الخراج لعله كان بلحاظ أخبار التحليل لا بلحاظ ملكية الرقبة وانقطاع صلة الإمام عنها، بل
211 المركوز في أذهان الشيعة بمقتضى الأخبار الواصلة إليهم من الأئمة (عليهم السلام) هو كون الأرض والدنيا كلها للإمام ولكنهم أحلوها لشيعتهم، وأخبار التحليل بنفسها شاهدة على بقاء صلة الإمام بالأراضي. وإن أريد بها سيرة سائر المسلمين ففيها أنهم بحسب موازينهم الفقهية لم يكونوا يرون الأراضي من الأنفال وللإمام وإن أفتى بعضهم بوجوب الاستيذان منه في الإحياء كما مر. وكيف كان فعملهم لا يكون حجة علينا. وأما إيقاع المعاملات على الأراضي فقد مر أنه بلحاظ المالكية لحيثية الإحياء آثاره المتحدة مع الأرض وجودا ويوجد مثله في أراضي الخراج أيضا. فإن قلت: ما مر منكم من جواز أخذ الطسق من قبل الحكومة الحقة لو فرض انعقادها في عصر الغيبية يخالف لما هو الظاهر من صحيحة الكابلي من كون الطسق لأئمة أهل البيت فقط. قلت: قد مر منا مرارا أن الأراضي وغيرها من الأموال العامة ليست لشخص الإمام المعصوم بل تكون تحت اختيار سائر المسلمين ومن له حق الإمامة عليهم، والإمامة بالمعنى الأعم لا تتعطل شرعا ولو في عصر الغيبة، والحصر في صحيحة الكابلي وغيرها إضافي في قبال أئمة الجور المتقمصين بها ظلما، فالمراد نفيهم وأنه ليس لهم حق الإمامة، فوزان الطسق هنا وكذا الخراج في الأراضي المفتوحة عنوة وزان غيرهما من ضرائب الحكومة الإسلامية التي كانت في عصر الأئمة مختصة بهم شرعا ولكنها لا تتعطل كما لا تتعطل الحكومة. وتحليل الأئمة (عليهم السلام) كان بلحاظ عصور الاختناق وعدم الوصلة إلى الحكومة الحقة تسهيلا لشيعتهم في تلك الأعصار، فتدبر. فإن قلت: فهل لا يمكن أن يتملك الإنسان لرقبة الأرض وتصير الأرض ملكا شخصيا كسائر الأموال الشخصية؟
212 قلت: نعم، لو فرض أن الإمام يرى نقل الرقبة بالبيع أو الهبة مثلا مصلحة للمسلمين فله ذلك ولا ننكر جوازه، وإنما المدعى أن إذنهم في الإحياء لا يقتضي أزيد من ملكية حيثية الإحياء وآثاره، وهو المستفاد من أخبار الباب بعد ضم بعضها إلى بعض. فإن قلت: إذا كان أساس الملكية الاعتبارية المعتبرة عند العقل والشرع نحوا من الملكية التكوينية على ما مر منكم فكيف يصح للإمام بيع رقبة الأرض وكيف تصير ملكا للمشتري مع أنها لم تحصل بفعله ونشاطاته؟ قلت: المشتري يحصل الثمن بقواه وفاعليته أو يحصل له بالوراثة من أبيه مثلا وأبوه حصله بفاعليته، فبالأخرة يكون أساس مالكيته للثمن فاعلية نفسه أو مورثه، والوراثة قانون طبيعي موافق لنظام الحياة، والأرض المشتراة تصير بدلا عن الثمن الذي ملكه بالفاعلية أو الوراثة. والمعاملات أمور ضرورية للبشر، إذ لا يمكن لكل شخص تحصيل جميع المحاويج بصنع نفسه مباشرة، فلا بد له من تبديل بعض منتجات صنعه وعمله بنتائج صنع الآخرين إما بلا واسطة أو بواسطة النقود والأثمان. والهبة التي يستحسنها العقل والاعتبار هي التي تقع في قبال خدمة نافعة تصدر من قبل الموهوب له، ولا يقع من قبل الإمام الصالح أمر جزافي بلا ملاك، فتدبر. هذا. والاعتبار العقلي أيضا يساعد على بقاء صلة الأئمة بما أنهم حكام البلاد وساسة العباد بالأرضين بما فيها من المعادن والأنهار والجبال والآجام، إذ هي أموال عامة خلقها الله - تعالى - لجميع الأنام وعليها يبتني نظام معاشهم ومعادهم، ولو فرض خروجها بالإحياء متدرجا عن الملكية العامة بالكلية وصيرورتها متعلقة بالأشخاص فربما أوجب ذلك حرمان الأعقاب والأجيال الآتية وضعف قدرة الأئمة اللاحقة، فالأنسب بالعدل والإنصاف أن لا يكون للرعايا إلا آثار أفعالهم ونشاطاتهم
213 ولا يملكون الأرضين إلا تبعا لها بحيث تزول بزوالها، وإذا تركها أو أخربها المحيي قبلها الإمام غيره لئلا تتعطل الأرضون التي هي منبع الأرزاق للإنسان وجميع الحيوانات. وقد أشير إلى ذلك في مرسلة يونس، عن العبد الصالح (عليه السلام)، قال: إن الأرض لله - تعالى - جعلها وقفا على عباده، فمن عطل أرضا ثلاث سنين متوالية لغير ما علة أخذت من يده ودفعت إلى غيره... " (1) ويمكن القول بما ذكرناه في الأراضي المفتوحة عنوة أيضا، بتقريب أن ما ينتقل إلى المسلمين بالاغتنام ليس إلا ما ملكه الكفار بإحيائهم، وليس هذا إلا آثار عملهم نشاطاتهم، ورقبة الأرض باقية بحالها الأول من كونها من الأموال العامة الواقعة تحت اختيار سائس المجتمع، وإن شئت قلت: إنهم ملكوا الأرض تبعا للآثار، وبالغلبة الاغتنام لا يملك المسلمون أزيد من ذلك، فإذا خربت الأرض رجعت إلى ما كانت عليه قبل الإحياء والعمران. ويمكن أن يتفرع على ما ذكرنا انه لو خرب المسجد المبني في الأرض المحياة أو المفتوحة عنوة ولو بظلم ظالم بحيث زالت آثاره وحيطانه وصارت الأرض مواتا بالكلية جاز القول بخروجه عن المسجدية وارتفاع أحكامه من حرمة التنجيس ومكث الجنب وجوب التطهير ونحو ذلك، إذ لا وقف إلا في ملك. فالمحيي لا يقف ولا يجعل مسجدا إلا ما كان له من حيثية الإحياء وآثاره، ولم يملك رقبة الأرض إلا تبعا للآثار فمسجديتها أيضا كانت بالتبع، فإذا زالت الآثار انعدم موضوع المسجدية، والعرف أيضا لا يراه بعد الخراب مسجدا، والأحكام ثبتت للمسجد بالفعل، وبقاء حق الأولوية بالنسبة إلى الأرض لو سلم لا يستلزم بقاء عنوان المسجدية، فتأمل. ولو وقف دارا أو حماما أو خانا أو بستانا ثم خربت وزالت عناوينها زالت
1 - الوسائل 17 / 345، الباب 17 من أبواب كتاب إحياء الموات، الحديث 1. 214 الوقفية أيضا لارتفاع الملكية. هذا مضافا إلى أن الوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة على ما يستفاد من النبوي المروي، وبخراب الدار وزوال الآثار يرتفع الأصل والمنفعة، فأي شيء يبقى وقفا؟ فإن العرصة لم تصر وقفا إلا تبعا للآثار المملوكة. والتأبيد في الوقف مضافا إلى عدم الدليل عليه إلا الإجماع المدعى مشروط ببقاء الموضوع. وفي البحار عن غيبة الطوسي - قدس سره - في سيرة صاحب الزمان (عليه السلام): " و يوسع الطريق الأعظم فيصير ستين ذراعا ويهدم كل مسجد على الطريق. " (1) فتأمل، وراجع الوسائل. (2) نعم، لو اشترى رقبة الأرض من الإمام ثم وقفها كان لها حكم آخر، وتحقيق المسألة موكول إلى محلها. وقد طال البحث في هذه المسألة، فمن القراء الكرام أعتذر، والحمد لله رب العالمين.
1 - بحار الأنوار 52 / 333 (= ط. القديمة 13 / 186)، تاريخ الإمام الثاني عشر (عليه السلام)، الباب 27 (باب سيره وأخلاقه...)، الحديث 61، عن الغيبة / 283. 2 - راجع الوسائل 17 / 347، الباب 20 من أبواب كتاب إحياء الموات. 215 المسألة السابعة: في أن الإسلام شرط أم لا؟ بناء على كون إحياء الأرض الميتة سببا لملكية رقبتها كما نسب إلى المشهور فهل يستوي في ذلك المسلم والكافر، أو يشترط في ذلك كونه مسلما فلا يملكها الكافر وإن أذن له الإمام؟ وعلى الثاني فهل يوجب فيه الأحقية والأولوية أو لا يوجب شيئا؟ اختلفت كلمات أصحابنا في المقام: 1 - قال في إحياء الموات من الشرائع: " وإذنه شرط، فمتى إذن ملكه المحيي له إذا كان مسلما. ولا يملكه الكافر. ولو قيل: يملكه مع إذن الإمام - عليه السلام - كان حسنا. " (1) 2 - وفي الخلاف في كتاب إحياء الموات (المسألة 4): " إذا أذن الإمام للذمي في إحياء الأرض الموات في بلاد الإسلام فإنه يملك بالإذن، به قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا يجوز للإمام أن يأذن له فيه، فإن أذن له فيه فأحياها لم يملك. دليلنا قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أحيا أرضا ميتة فهي له. " وقوله: " من أحاط حائطا على الأرض فهي له. " وهذا عام في الجميع. " (2) 3 - وفي المبسوط: " الأرضون الموات عندنا للإمام خاصة لا يملكها أحد بالإحياء إلا أن يأذن له الإمام. فأما الذمي فلا يملك إذا أحيا أرضا في بلاد الإسلام، وكذلك المستأمن إلا أن يأذن له الإمام. " (3)
1 - الشرائع 3 / 271 (= ط. أخرى / 791، الجزء 4). 2 - الخلاف 2 / 222. 3 - المبسوط 3 / 270. 216 4 - ولكن في التذكرة: " مسألة: إذا أذن الإمام لشخص في إحياء الأرض الموات ملكها المحيي إذا كان مسلما، ولا يملكها الكافر بالإحياء ولا بإذن الإمام في الإحياء، فإن أذن الإمام فأحياها لم يملك عند علمائنا، به قال الشافعي لما رواه العامة في قوله (عليه السلام): " موتان الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم مني أيها المسلمون. " ومن طريق الخاصة ما تقدم في كتاب علي (عليه السلام)... وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: إنه لافرق بين المسلم والذمي في التملك بالإحياء لعموم قوله (عليه السلام): " من أحيا أرضا ميتة فهي له "، ولأن الإحياء جهة من جهات التملك فاشترك فيها المسلم والذمي كسائر جهاته من الاحتطاب والاحتشاش والاصطياد في دار الإسلام. " (1) أقول: ظاهره إجماع علماء الشيعة على اشتراط الإسلام. وقد مر منا عدم عثورنا على ذيل الرواية التي رواها العلامة عن العامة في كتب الحديث. وظاهر الخلاف والمبسوط والتذكرة كون موضوع البحث الموات في دار الإسلام، لعله لأن الكفار يملكون الأرض بالإحياء في بلاد الكفر وإلا لم ينتقل منهم إلى المسلمين بالاغتنام بل كانت باقية على ملك الإمام. وسيأتي البحث في ذلك. 5 - وفي إحياء الموات من القواعد بعد بيان معنى الموات قال: " وهو للإمام - عليه السلام - خاصة لا يملكه الآخذ وإن أحياه ما لم يأذن له الإمام مع ظهوره فيملكه إن كان مسلما بالإحياء وإلا فلا... ولافرق في ذلك بين الدارين إلا أن معمور دار الحرب يملك بما يملك به سائر أموالهم، ومواتها التي لا يذب المسلمون عنها فإنها تملك بالإحياء للمسلمين والكفار بخلاف موات الإسلام فإن الكافر لا يملكها بالإحياء. " (2) 6 - وفي جامع المقاصد: " وكذا يشترط كون المحيي مسلما، فلو أحياه الكافر لم يملك عند علمائنا وإن كان
1 - التذكرة 2 / 400. 2 - قواعد الأحكام 1 / 219. 217 الإحياء بإذن الإمام... والحق أن الإمام لو أذن له في الإحياء للتملك قطعنا بحصول الملك له، وإنما البحث في أن الإمام (عليه السلام) هل يفعل ذلك أم لا، نظرا إلى أن الكافر أهل له أم لا؟ الذي يفهم من الأخبار وكلام الأصحاب العدم وليس مرادهم أن الإمام يرخصه في التملك ثم لا يملك قطعا. " (1) 7 - وفي الدروس في شرائط التملك بالإحياء قال: " وثانيها: أن يكون المحيي مسلما، فلو أحياها الذمي بإذن الإمام ففي تملكه نظر: من توهم اختصاص ذلك بالمسلمين. والنظر في الحقيقة في صحة إذن الإمام له في الإحياء للتملك، إذ لو أذن كذلك لم يكن بد من القول بملكه وإليه ذهب الشيخ نجم الدين " ره ". " (2) 8 - وفي إحياء الموات من الروضة: " ثم إن كان مسلما ملكها بإذنه، وفي ملك الكافر مع الإذن قولان. ولا إشكال فيه لو حصل، إنما الإشكال في جواز إذنه له نظرا إلى أن الكافر هل له أهلية ذلك أم لا، النزاع قليل الجدوى. " (3) 9 - وقال في المسالك: " ومن أذن له في الإحياء ملك، لكن هل إذنه مختص بالمسلم أم يجوز له الإذن للمسلم والكافر؟ قولان: من أن الحق له، فله الإذن فيه لمن شاء كما يجوز له هبة أرضه بيعها ممن شاء من المسلم والكافر. ومن دلالة ظاهر الأخبار السابقة على أن الكافر ليس أهلا لتملك هذه الأرض بالإحياء. وبالجملة، فإن أذن له الإمام على وجه التملك فلا إشكال عندنا في ملكه لعصمته وإلا لم يصح، فالخلاف عندنا قليل الفائدة بخلافه عند الجمهور فإن النزاع عندهم يبقى وإن أذن لجواز الخطأ عليه عندهم. " (4)
1 - جامع المقاصد 1 / 408 (من ط. القديمة)، ذيل قول المصنف: لا يملكه الآخذ... 2 - الدروس / 292. 3 - اللمعة الدمشقية 7 / 135 (= ط. القديمة 2 / 250). 4 - المسالك 2 / 287. 218 أقول: يظهر من المحقق الثاني والشهيدين أنهم أرادوا بالإمام في المقام خصوص الإمام المعصوم فيكون بيان اشتراط الإسلام في المأذون له من قبله راجعا إلى بيان التكليف والوظيفة له - عليه السلام - وهو قليل الجدوى بل مخالف للأدب أيضا لكونه أعلم بوظائفه، فلذلك أرجعوا البحث إلى بحث صغروي وهو أن الإمام هل يأذن للكافر أم لا؟ ولكن يرد على ذلك أولا: أن بيان وظيفة الإمام المعصوم وسيرته ليتأسى به في مقام العمل مما يكثر فائدته جدا. وثانيا: قد مر منا مرارا أن الأرض من الأموال العامة، وقد وضعها الله - تعالى - للأنام وخلق لهم ما في الأرض جميعا كما نطق بذلك الكتاب العزيز، وهم يحتاجون إليها في معاشهم ومعادهم، ومثل هذا لا يجعل ملكا لشخص، غاية الأمر أنها جعلت تحت اختيار سائس الأمة والحاكم فيهم بالحق في كل عصر دفعا للظلم والخصام، فيراد بالإمام في هذا السنخ من المسائل الاقتصادية والسياسية المعنى الأعم، فيشمل الحاكم الصالح في عصر الغيبة أيضا ونظره هو المتبع فيها. وعلى هذا فالبحث فيه كثير الجدوى جدا. والظاهر عدم الإشكال في حصول التملك بإذنه في التملك لكل من رآه صلاحا للإسلام والمسلمين، مسلما كان أو كافرا. وإن كان فرض كون تملك الكفار لرقاب الأرضين في البلاد الإسلامية صلاحا ومصلحة من أندر الفروض، بداهة أن السلطة على الأرضين مقدمة للسلطة على جميع الشؤون " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ". هذا. ولكن محط البحث هنا ليس صورة الإذن في التملك. بل الذي يبحث فيه هنا هو أن الإحياء الذي عد سببا للملكية بمقتضى ظهور أخبار الإحياء وفتوى مشهور المتأخرين هل يكفي في سببيته لذلك إذن الإمام في الإحياء، أو يشترط فيه مع ذلك إسلام المحيي أيضا، وهذا غير عنوان الإذن في التملك كما هو واضح. ومن الممكن أن يجوز للإمام الإذن للكافر في الإحياء ويؤذن له أيضا ولكن
219 لا يحصل له الملك بذلك مطلقا أو في أراضي البلاد الإسلامية. 10 - وفي المغني لابن قدامة الحنبلي قال: " لافرق بين المسلم والذمي في الإحياء، نص عليه أحمد، وبه قال مالك وأبو حنيفة. قال مالك (الشافعي - ظ.): لا يملك الذمي بالإحياء في دار الإسلام، قال القاضي: وهو مذهب جماعة من أصحابنا لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " موتان الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم مني. " فجمع الموتان وجعله للمسلمين، ولأن موتان الدار من حقوقها، والدار دار للمسلمين فكان مواتها لهم كمرافق الملوك. ولنا عموم قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أحيا أرضا ميتة فهي له. " ولأن هذه جهة من جهات التمليك فاشترك فيها المسلم والذمي كسائر جهاته، وحديثهم لا نعرفه، إنما نعرف قوله: " عادى الأرض لله ولرسوله ثم هو لكم بعد. ومن أحيا مواتا من الأرض فله رقبتها. "... " (1) فهذه بعض كلمات الأعلام في المقام، ويتحصل منها أن المسألة خلافية بين فقهاء الفريقين. ويستدل لاشتراط الإسلام بأمور: الأول: الإجماع المستظهر من عبارة التذكرة جامع المقاصد. وفيه أولا: منعه لوجود الخلاف كما مر بعض الكلمات. وفي الجواهر: " وأما الإجماع المزبور فلم نتحققه، بل لعل المحقق خلافه فإن المحكي عن صريح المبسوط والخلاف والسرائر وجامع الشرائع وظاهر المهذب واللمعة والنافع عدم اعتبار الإسلام. " (2) وثانيا: عدم حجيته في المقام لاحتمال استنادهم إلى ما سيجيء من ظهور بعض الأخبار في الاشتراط، وليست المسألة من المسائل الأصلية المتلقاة عن الأئمة (عليهم السلام)، بل من المسائل التفريعية الاستنباطية، وفي مثلها لا اعتبار بالإجماع والشهرة.
1 - المغني 6 / 150. 2 - الجواهر 38 / 14. 220 الثاني: صحيحة أبي خالد الكابلي التي مضت، ففيها قوله (عليه السلام): " فمن أحيا أرضا من المسلمين. " وقوله: " فأخذها رجل من المسلمين. " (1) وظاهر القيد الدخل في موضوع الحكم والاحتراز وإلا كان ذكره لغوا. وقد نقحنا في محله أن المفاهيم من قبيل ظهور الفعل لا ظهور اللفظ بما هو لفظ موضوع، حيث إن الفعل إذا صدر من الفاعل المختار العاقل يحمل عند العقلاء على كونه صادرا عنه باختياره بداعي الغاية العادية المترقبة من هذا الفعل. ومن جملة الأفعال التلفظ بالألفاظ الموضوعة ومنها القيود. فيحمل التلفظ بالقيد من الوصف أو الشرط أو غيرهما بما أنه فعل اختياري للافظ على كونه صادرا عنه للغاية الطبيعية المترقبة من القيد عندهم، والغاية المترقبة منه في المحاورات هو الدخل في موضوع الحكم وعدم كون ذات المقيد بدونه تمام الموضوع للحكم. نعم يمكن أن يسد مسد هذا القيد قيد آخر كما هو واضح. وكيف كان فإذا كان ظاهر الصحيحة التقييد بالإسلام حمل عليها الأخبار المطلقة قهرا، فتدبر. الثالث: صحيحة عمر بن يزيد التي مضت، وفيها: " من أحيا أرضا من المؤمنين فهي له. " (2) وتقريب الاستدلال بها يظهر مما مر. والمؤمن إن أريد به المعنى العام ساوق المسلم وإلا كان قيدا آخر أخص من المسلم. الرابع: صحيحته الأخرى الحاكية لقصة مسمع وحمله المال إلى أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها قوله (عليه السلام): " وكل ما في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون حتى يقوم قائمنا فيجبيهم طسق ما كان في أيديهم ويترك الأرض في أيديهم. وأما ما كان في أيدي غيرهم فإن كسبهم من الأرض حرام عليهم حتى يقوم قائمنا فيأخذ الأرض من أيديهم ويخرجهم صغرة. " (3) بناء على عموم الأرض فيها، وأما إذا حمل اللام على العهد وأريد بالأرض فيها
1 - الوسائل 17 / 329، الباب 3 من أبواب كتاب إحياء الموات، الحديث 2. 2 - الوسائل 6 / 383، الباب 4 من أبواب الأنفال، الحديث 13. 3 - الكافي 1 / 408، كتاب الحجة، باب أن الأرض كلها للإمام (عليه السلام)، الحديث 2. ورواه عنه وعن الشيخ في الوسائل 6 / 382، الباب 4 من أبواب الأنفال، الحديث 12. 221 خصوص ما لم يوجف عليها كأراضي البحرين فلا مجال للاستدلال بها في المقام. الخامس: ما رووه من قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " عادى الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم مني. " وفي التذكرة: " ثم هي لكم مني أيها المسلمون ". ولكن يرد على هذا أن ما في التذكرة لم نجده في كتب الحديث. ولعل المخاطب في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لكم " جميع الناس لا خصوص المسلمين. وقد مر عن ابن قدامة عدم معرفة هذا الحديث، وهم أبصر بأحاديثهم. وبالجملة فالجمع بين أخبار الإحياء المطلقة وهذه الأخبار المقيدة يقتضي حمل المطلقات عليها، وكذلك تخصيص العمومات بسببها فيكون الإذن قد صدر عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) لخصوص المسلمين أو المؤمنين أو الشيعة. مضافا إلى أن الشك في تحقق الإذن لغيرهم أيضا كاف في عدم جواز التصرف بعدما كانت الأرض للرسول أو الإمام. وعلى فرض تحقق الإذن في مورد خاص للكافر أيضا فمن الممكن أن لا يصير إحياؤه مملكا له، فيكون التملك متوقفا على الإذن والإسلام معا كما هو مقتضى إجماع علمائنا - الظاهر من التذكرة وجامع المقاصد - على عدم حصول الملك له وإن إذن له الإمام فيكون مقتضى الإذن له جواز ا لتصرف أو الأحقية فقط، فتذكر. هذا. ويستدل على التعميم وعدم اشتراط الإسلام أيضا بأمور: الأول: إطلاقات أخبار الإحياء بكثرتها مع كونها في مقام البيان، بل ورد بعضها بلفظ عام كقوله (عليه السلام) في صحيحة محمد بن مسلم: " أيما قوم أحيوا... " فيعم المسلم والكافر. التقييد بالمسلمين أو المؤمنين في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) على ما في صحيحة الكابلي وعمر بن يزيد لا يوجب التقييد في الأخبار الكثيرة الصادرة عن
222 النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والصادقين (عليه السلام)، إذ لا يحمل المطلق على المقيد إلا مع إحراز وحدة الحكم، وهذا إنما يجري في الأحكام الإلهية العامة المستمرة، وأما في الأحكام السلطانية فيمكن تعددها واختلافها بحسب الموضوع عموما وخصوصا حسب اختلاف شرائط الزمان المصالح المنظورة ونظر الإمام الآذن. هذا مضافا إلى احتمال كون ذكر المسلمين أو المؤمنين لبيان عناية خاصة بهما أو غلبة الابتلاء بهما لا لاختصاص الحكم بهما، ويكفي هذا لدفع محذور اللغوية في ذكرهما. وإثبات الحكم لموضوع خاص لا ينفي الحكم عما عداه، إذ يكون هذا من قبيل مفهوم اللقب وليس بحجة. ويؤيد التعميم ما ذكرناه مرارا من أن نظام التشريع الصحيح يوافق نظام التكوين، أساس الملكية الاعتبارية هو الملكية التكوينية، وملكية آثار الإحياء أمر يقتضيه نظام التكوين بلا تفاوت في ذلك بين المسلم والكافر، إذ كل منهما يملك تكوينا فكره وقواه وجهاز فاعليته فيملك قهرا آثار فعله، ولو فرض كون ذلك سببا لملكية رقبة الأرض أيضا فلا فرق فيه بينهما، فيكون الفرق جزافا. اللهم إلا أن يقال: إن ملكية الكفار لرقبة الأراضي في البلاد الإسلامية حيث يوجب ذلك سلطتهم بالتدريج على السياسة والاقتصاد والثقافة صار هذا سببا لمنع الشارع من حصولها. وبعبارة أخرى المقتضي للملكية وإن كان موجودا في كليهما ولكن ضرر سلطة الكفار على البلاد الإسلامية وشؤون المسلمين مانع من اعتبار الملكية لهم شرعا، المتيقن منها على القول بها إنما هو في المسلم وأما الكافر فيثبت له الجواز أو الأحقية فقط، فتدبر. الثاني: أن مورد موثقة محمد بن مسلم وصحيحة أبي بصير ومرسلة الصدوق هو أرض الذمي ولا يجوز تخصيص المورد: ففي موثقة محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الشراء من أرض
223 اليهود النصارى، فقال: " ليس به بأس، قد ظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أهل خيبر فخارجهم على أن يترك الأرض في أيديهم يعملونها ويعمرونها فلا أرى بها بأسا لو أنك اشتريت منها شيئا، وأيما قوم أحيوا شيئا من الأرض وعملوها فهم أحق بها وهي لهم. " (1) وفي صحيحة أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن شراء الأرضين من أهل الذمة فقال (عليه السلام): " لا بأس بأن يشتريها منهم، إذا عملوها وأحيوها فهي لهم. وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين ظهر على خيبر وفيها اليهود خارجهم على أن يترك الأرض في أيديهم يعملونها ويعمرونها. " (2) ونحو ذلك مرسلة الصدوق. (3) فأنت ترى أن الإمام (عليه السلام) حكم بجواز شراء الأراضي من اليهود والنصارى وطبق على أرضيهم الحكم الكلي الوارد في الإحياء وكون الأرض للمحيي، فلو كان الإحياء سببا لملكية رقبة الأرض على ما هو المفروض عند القوم فلا مجال لاستثناء الكفار منها لاستهجان تخصيص المورد. هذا، ولكن يرد على ذلك أن أراضي خيبر كانت أراضي خراج ولم تبق رقبتها لليهود بل انتقلت إلى المسلمين أو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيراد بالشراء في هذه الأخبار شراء ما كان لليهود فيها من آثار الإحياء والعمل. وبهذه الأخبار أيضا تمسكنا نحن لإنكار كون الإحياء سببا لملكية الرقبة كما مر. نعم، دلالتها على ثبوت الأحقية والأولوية واضحة. الثالث: وجود الاتفاق منا على أن الأرض المفتوحة عنوة من الكفار ينتقل منهم إلى المسلمين بما هم مسلمون وإن كان الكفار ملكوها بالإحياء، ولو أن إحياء الكفار غير مملك أو غير مأذون فيه لوجب أن تبقى الأرض على ملك الإمام أو إباحتها الأصلية، قد استدل بهذا في الجواهر. (4) هذا.
1 - الوسائل 11 / 118، الباب 71 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2. 2 - الوسائل 17 / 330، الباب 4 من أبواب كتاب إحياء الموات، الحديث 1. 3 - الوسائل 17 / 327، الباب 1 من أبواب كتاب إحياء الموات، الحديث 7. 4 - الجواهر 38 / 15. 224 ولكن يمكن أن يقال: إن إحياء الكفار للأراضي قبل طلوع نير الإسلام وإن كان مملكا لهم بحكم العقلاء، ولاقتضاء مالكيتهم للقوى والنشاطات الصادرة عنهم لذلك أيضا على ما قد يقال، لكن بعد نزول آية الأنفال وجعلها للرسول أو للإمام وتوقف التصرف فيها على إذن الإمام من المحتمل أن لا يعم الإذن للكفار، أو يتوقف الملكية على الإذن والإسلام معا بلحاظ المصالح المنظورة، والمفروض في صحيحتي الكابلي وعمر بن يزيد صدور الإذن للمسلمين والمؤمنين فقط. نعم، قوله: " من أحيا أرضا ميتة فهي له " مطلق ولكن الاستدلال به رجوع إلى الدليل الأول وليس دليلا مستقلا. وبالجملة، من الممكن وجود الفرق بين ما قبل نزول اية الأنفال وما بعده، فسببية الإحياء لملكيتهم قبل نزولها لا تفيد لما بعد ذلك. اللهم إلا أن يقال: الحكم بكون الأراضي المفتوحة عنوة للمسلمين يشمل الفتوحات الواقعة بعد نزول الآية أيضا، إذ مصداقها البارز أراضي العراق، وهي فتحت في زمن عمر، ولعل كثيرا منها أحييت بعد نزول الآية فلا مجال للفرق من هذه الجهة. نعم، يمكن أن يفرق بين الموات في بلاد الكفر والموات في بلاد الإسلام، فيقال بأن الإحياء في الأول يفيد الملكية مطلقا على وفق القاعدة واقتضاء الطبيعة، وهذا بخلاف الثاني إذ مالكية الكفار للأراضي في البلاد الإسلامية توجب سلطتهم على شؤون المسلمين فمنع الشارع منها سواء حصل الإذن لهم أم لم يحصل. وعلى هذا القسم أيضا تحمل صحيحتا الكابلي وعمر بن يزيد المتعرضتان لإذن أمير المؤمنين (عليه السلام) في الإحياء، لانصراف إذنه عن بلاد الكفر، فتدبر. هذا. والذي يسهل الخطب ما مر منا في المسألة السابقة مفصلا من الإشكال في سببية الإحياء لملكية الرقبة ولو كان من مسلم، نعم تحصل ملكيتها لو ملكها الإمام، والملكية لحيثية الإحياء وآثاره كما مر مرارا أمر يقتضيه نظام التكوين ويحكم به العقلاء بلا تفاوت في ذلك بين المسلم والكافر إذ كل منهما يملك فكره وقواه وجهاز
225 فاعليته تكوينا فيملك قهرا آثار فعله، ونظام التشريع الصحيح موافق لنظام التكوين، ويدل على ذلك في خصوص الكافر موثقة محمد بن مسلم وصحيحة أبي بصير كما مر، نعم يتوقف التصرف على الإذن كما مر. وأما الرقبة فليست حاصلة بعمل المحيي ونشاطاته حتى يحكم بمالكيته لها بذلك كما هو واضح. ويمكن اختيار هذا في الأراضي المفتوحة عنوة أيضا، إذ ما ينتقل إلى المسلمين بالغلبة والاغتنام ليس إلا ما ملكه الكفار بإحيائهم، وليس هذا على ما مر إلا آثار عملهم نشاطاتهم. وأما رقبة الأرض فهي باقية على حالها الأول من كونها من الأموال العامة التي خلقها الله - تعالى - لجميع الأنام. وإن شئت قلت: إنهم ملكوا الأرض أيضا ولكن تبعا للآثار، وبالغلبة عليهم لا يملك المسلمون أزيد من ذلك، فإذا خربت الأرض رجعت إلى ما كانت عليه قبل الإحياء العمران. وما فرض ملكا لأهل الذمة في موثقة محمد بن مسلم وصحيحة أبي بصير السابقتين هو ما صدر عنهم من آثار الإحياء بعد الفتح وتقبلهم الأرض من قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لاما كانت من قبل وانتقلت إلى المسلمين، فتدبر. هذا. وفي إحياء الموات من الروضة بعد قول المصنف: " ويتملكه من أحياه مع غيبة الإمام " قال: " سواء في ذلك المسلم والكافر، لعموم " من أحيا أرضا ميتة فهي له. " ولا يقدح في ذلك كونها للإمام على تقدير ظهوره، لأن ذلك لا يقصر عن حقه من غيرها كالخمس المغنوم بغير إذنه، فإنه بيد الكافر والمخالف على وجه الملك حال الغيبة لا يجوز انتزاعه منه، فهنا أولى. " (1) وفي إحياء الموات من جامع المقاصد: " ولا يخفى أن اشتراط إذن الإمام (عليه السلام) إنما هو مع ظهوره، أما مع غيبته فلا وإلا لامتنع الإحياء.
1 - اللمعة الدمشقية 7 / 135 (= ط. القديم 2 / 250). 226 وهل يملك الكافر بالإحياء في حال الغيبة؟ وجدت في بعض الحواشي المنسوبة إلى شيخنا الشهيد على القواعد في بحث الأنفال من الخمس أنه يملك به ويحرم انتزاعه منه، وهو محتمل. ويدل عليه أن المخالف والكافر يملكان في زمان الغيبة حقهم من الغنيمة لا يجوز انتزاعه من يد من هو في يده إلا برضاه، وكذا القول في حقهم (عليه السلام) من الخمس عند من لا يرى إخراجه، بل حق باقي أصناف المستحقين للخمس لشبهة اعتقاد حل ذلك، فالأرض الموات أولى. ومن ثم لا يجوز انتزاع أرض الخراج من المخالف الكافر. ولا يجوز أخذ الخراج والمقاسمة إلا بأمر سلطان الجور، وهذه الأمور متفق عليها. ولو باع أحد أرض الخراج صح باعتبار ما ملك فيها وإن كان كافرا، وحينئذ فيجري العمومات مثل قوله (عليه السلام): " من أحيا أرضا ميتة فهي له " على ظاهرها في حال الغيبة، ويقصر التخصيص على حال ظهور الإمام (عليه السلام) فيكون أقرب إلى الحمل على ظاهرها. وهذا متجه قوى متين. " (1) أقول: مضافا إلى امكان منع بعض ما ذكره هذان العلمان، ومنع كون جميع هذه الأمور متفقا عليها، يرد عليهما: أولا: أنه قد مر منا اشتراط الإحياء بالإذن مطلقا ولو في عصر الغيبة، فإنه مقتضى كون الأنفال للإمام وعدم جواز التصرف فيما للغير إلا بإذنه. نعم، يكفي الإذن العام كما ادعي ذلك مستندا إلى أخبار التحليل أو أخبار الإحياء أو السيرة المستمرة مع عدم الردع. وثانيا: أن الأنفال ومنها الأرض الموات ليست ملكا لشخص الإمام المعصوم على ما هو الظاهر من كلماتهم، بل هي أموال عامة خلقها الله - تعالى - للأنام إلى يوم القيام عليها تدور رحى معاشهم ومعادهم، غاية الأمر أنها جعلت تحت اختيار الإمام بما أنه سائس المسلمين دفعا للاستبداد والظلم والخصام، وليس عصر الغيبة عصر الهرج المرج شرعا ولا تتعطل فيه وظائف الإمامة، فلا محالة يتصدى لها من وجد فيه شرائط الحكم، ويكون لهم من الاختيارات في شؤون الحكم ما كان للأئمة
1 - جامع المقاصد 1 / 408 (من ط. القديم) ذيل قول المصنف: لا يملكه الآخذ... 227 المعصومين (عليهم السلام) وإن لم يكن لهم عصمتهم ومقاماتهم الشامخة العالية كما مر بيانه في مباحث هذا الكتاب. فأمور الأنفال ومنها الأراضي راجعة إليهم ولهم الإجازة والمنع فيها كما مر حسب ما يرونه من المصالح. وعلى هذا فلهم إجازة الإحياء للكفار أيضا إذا رأوه صلاحا للإسلام والمسلمين، وإن كان تمليك أراضي البلاد الإسلامية للكفار مخالفا للمصلحة غالبا، حيث يصير هذا مقدمة لسلطتهم على المسلمين. هذا إذا فرض انعقاد حكومة حقه في عصر الغيبة. وأما إذا لم تنعقد ذلك بأي سبب كان فالظاهر أن صلاح الإسلام والمسلمين رعاية ما ذكره هذان العلمان حفظا للنظام بقدر الإمكان حتى يظهر صاحب الزمان ويرى رأيه، فتدبر.
228 المسألة الثامنة: في حكم الأرض المحياة إذا صارت مواتا: إذا خربت الأرض المحياة وصارت مواتا فإن أعرض عنها أهلها بالكلية وأحرز ذلك رجعت الأرض ملكا للإمام، وحكمها حكم سائر الموات ويشملها عموم أدلته. فإن الناس بالطبع مسلطون على أموالهم وأنفسهم، وكما للإنسان أن يتملك الشيء بفعله نشاطاته فكذلك له أن يخرج الشيء عن ملك نفسه، وكون الإعراض مخرجا عن الملكية أمر يساعده العرف، والحاكم في باب الأملاك والحقوق هو العرف. وإن باد أهلها وهلكوا جميعا فهي أيضا للإمام، وقد مر عدها من الأنفال وبه وردت الأخبار، إما لرجوعها بالموت إلى أصلها، أو لكونها ميراث ولا وارث له، وإن كان يحتمل الفرق بينهما من جهة المصرف لاحتمال تعين الثاني للفقراء مطلقا أو لفقراء البلد كما مر. هذا. ولكن الظاهر من الأخبار والفتاوى الواردة في الأرض الخربة التي باد أهلها كونها بنفسها موضوعا مستقلا في قبال الميراث، فراجع ما مر في القسم الثاني من الأنفال. وإن لم يثبت الإعراض ولم يبد الأهل أيضا فإما أن يكون صاحبها معلوما معينا أولا، فهي على قسمين: القسم الأول: ما كان صاحبها معلوما معينا. وقد وقع البحث في أنها هل تخرج بصيرورتها مواتا عن ملكه وترجع إلى أصلها مطلقا، أو لا تخرج مطلقا، أو يفصل بين ملكها بالإحياء فتخرج أو بغيره فلا تخرج؟
229 في المسألة وجوه بل أقوال، وربما أنهيت الأقوال إلى ستة وإن كان بعضها في طول بعض كما سيظهر: الأول: بقاء الأرض على ملك صاحبها الأول مطلقا، قال في الجواهر: " المحكي عن المبسوط والمهذب والسرائر والجامع والتحرير والدروس وجامع المقاصد أنها باقية على ملكه أو ملك وارثه، بل قيل: إنه لم يعرف الخلاف في ذلك قبل الفاضل في التذكرة. " (1) أقول: وهذا القول مختار صاحب الجواهر أيضا، بل لعله المشهور بين المتأخرين من أصحابنا، ولكن في اشتهاره بين القدماء من أصحابنا كلام بل منع كما سيظهر. الثاني: خروجها عن ملكه مطلقا، فيجوز لكل أحد إحياؤها كسائر الموات، ولاحق للأول فيها أصلا. ولم أعثر إلى الآن على مصرح بهذا القول، وإن كان ربما يلوح من بعض العبارات. الثالث: أن يفصل بين ما كان ملكها بالإحياء فتزول بزوال الحياة وبين ما كان بغيره من الشراء أو الاتهاب أو الوراثة أو نحوها فتبقى على ملكه. قالوا: ومن هذا القبيل أيضا أراضي الخراج إذا ماتت للعلم بصاحبها وهو عنوان المسلمين، وقد حصلت لهم بغير الإحياء. قال في الجواهر: " قيل: ربما أشعرت به (أي بهذا القول الثالث) عبارة الوسيلة واختاره في المسالك الروضة بعد أن حكاه عن جماعة منهم العلامة في بعض فتاواه، ومال إليه في التذكرة، وفي الكفاية: " أنه أقرب " وفي المفاتيح: " أنه أوفق بالجمع بين الأخبار. " بل في جامع المقاصد: " أن هذا القول مشهور بين الأصحاب ". " (2)
1 - الجواهر 38 / 21. 2 - الجواهر 38 / 21. 230 الرابع: أن يقال بعدم خروجها عن ملكه بمجرد موتها، ولكنها تخرج عن ملكه بإحياء الغير لها واستيلائه عليها. وربما يذكر هذا بنحو الاحتمال. ويوجه بالجمع بين استصحاب ملكية الأول وبين ما دل على مالكية المحيي الثاني، كصحيحة الكابلي ونحوها، فتبقى ملكية الأول إلى زمان إحياء الثاني. الخامس: أن يقال ببقائها على ملك الأول ولكن يجوز للغير إحياؤها وأداء طسقها إلى الأول أو وارثه، ويصير الثاني بالإحياء أحق بها من غيره. نسبه في المسالك (1) إلى المبسوط والمحقق في كتاب الجهاد والأكثر. السادس: القول بذلك مع الاستيذان من المالك أو الحاكم إن أمكن وإلا فيحييها بنفسه، وبه قال في الدروس كما يأتي. والعمدة في المقام بيان ما هو الحق من الأقوال الثلاثة الأول. وقد يختلج بالبال ابتناء المسألة على القول بملكية الرقبة وعدمها: فإن قلنا بملكيتها فالأصل يقتضي بقاءها في ملك مالكها، ولأن طبع الملكية هو البقاء والاستمرار إلا أن تنتقل بالنواقل العرفية أو الشرعية. وإن قلنا بعدم ملكيتها فالقاعدة تقتضي رجوعها إلى الإمام بالكلية لزوال علة الاختصاص وهي الإحياء وآثاره، وكون علة الحدوث علة للبقاء أيضا يحتاج إلى عناية زائدة ودليل قطعي، بل الظاهر أن موضوع الحق هو آثار الإحياء، والمفروض زوالها بالكلية.
1 - المسالك 2 / 288. 231 وكيف كان: فلنذكر بعض عبارات الفقهاء ثم نشير إلى ما هو الأظهر عندنا: 1 - قال في المبسوط: " وأما الذي جرى عليه ملك المسلم فمثل قرى المسلمين التي خربت وتعطلت فإنه ينظر، فإن كان صاحبه معينا فهو أحق بها وهو في معنى العامر، وإن لم يكن معينا فإنه يملك بالإحياء لعموم الخبر، وعند قوم لا يملك... " (1) 2 - وفيه أيضا في الغامر من بلاد الشرك: " وأما الذي جرى عليه ملك فإنه ينظر، فإن كان صاحبه معينا فهو له، ولا يملك بالإحياء بلا خلاف، وإن لم يكن معينا فهو للإمام عندنا، وفيهم من قال: يملك بالإحياء، فيهم من قال: لا يملك بالإحياء... " (2) فهو - قدس سره - حكم ببقاء الخراب لمالكه الأول إذا كان معينا مسلما كان أو كافرا، وظاهره العموم ولو لما ملك بالإحياء. 3 - وفي إحياء الموات من المهذب: " والغامر ضربان: غامر لم يجر عليه ملك لمسلم... وغامر جرى عليه ملك مسلم، فهو مثل قرى أهل الإسلام التي خربت وتعطلت. فإن كان لشيء منها صاحب معين أو لصاحبه عقب معين كان صاحبه المعين أو عقبه أحق به من كل أحد. وإن لم يكن له صاحب ولا عقب لصاحبه معين صح أن يملك بالإحياء، وذلك يكون بأمر الإمام - عليه السلام -. " (3) 4 - وقال في الغامر من بلاد الشرك: " وأما ما جرى عليه ملك وصاحبه معين فهو له ولا يملك بالإحياء، وإن لم يكن له صاحب معين كان للإمام. " (4)
1 - المبسوط 3 / 269. 2 - المبسوط 3 / 269. 3 - المهذب 2 / 28. 4 - المهذب 2 / 28. 232 5 - وفي إحياء الموات من اللمعة: " ولو جرى عليه ملك مسلم فهو له ولوارثه بعده، ولا ينتقل عنه بصيرورته مواتا. " (1) 6 - وفي إحياء الموات من الشرائع: " وكل أرض جرى عليها ملك لمسلم فهي له أو لورثته بعده. وإن لم يكن لها مالك معروف معين فهي للإمام - عليه السلام - ولا يجوز إحياؤها إلا بإذنه. فلو بادر مبادر فأحياها بدون إذنه لم يملك. وإن كان الإمام (عليه السلام) غائبا كان المحيي أحق بها ما دام قائما بعمارتها. فلو تركها فبادت آثارها فأحياها غيره ملكها، ومع ظهور الإمام (عليه السلام) يكون له رفع يده عنها. " (2) أقول: إطلاق عبارة الصدر يشمل ما إذا صارت مواتا أيضا سواء ملك الأول بالإحياء أو بغيره. ولكن مقتضى الذيل ارتفاع حق الأول بصيرورتها مواتا إن كان ملكها بالإحياء. اللهم إلا أن يراد بتركها الإعراض عنها بالكلية، أو تحمل عبارة الصدر على زمان الظهور وتحقق الإذن في خصوص التملك فإذا حصل الملك بقي ولو بعد صيرورة الأرض مواتا، وتحمل عبارة الذيل على صورة عدم تحقق الإذن في التملك لغيبة الإمام وعدم إمكان الاستيذان منه فلم يحصل الملك للمحيي بل حق الأولوية فقط بمقتضى أخبار الإحياء، وبعبارة أخرى ملكية الآثار فقط، ولذا يجوز للإمام رفع يده عنها بعد ظهوره، فتكون النتيجة أن الإحياء في عصر الغيبة لا يوجب ملكية الرقبة أصلا ويزول الحق بصيرورتها مواتا. فالملكية تتوقف على الإذن الخاص من الإمام ولا يكفي فيها أخبار الإحياء. 7 - ونظير عبارة الشرائع عبارة العلامة في موضع من التذكرة قال: " كل أرض جرى عليها ملك لمسلم فهي له أو لورثته بعده، وإن لم يكن لها مالك معروف فهي للإمام ولا يجوز إحياؤها إلا بإذنه، ولو بادر إنسان فأحياها من دون إذنه لم يملكها حال الغيبة ولكن يكون المحيي أحق بها ما دام قائما بعمارتها، فلو تركها
1 - اللمعة الدمشقية (مع شرحه الروضة) 7 / 138 (= ط. القديم 2 / 251). 2 - الشرائع 3 / 272 (= ط. أخرى / 792، الجزء 4). 233 فبادت آثارها فأحياها غيره فهو أحق، ومع ظهوره (عليه السلام) له رفع يده عنها. " (1) ومورد الاستشهاد هنا صدر العبارة. وبالجملة، فالظاهر من العبارات التي مرت بقاء الملكية بعد الموت أيضا فيما إذا كان المالك معينا وإن حصل الملك بالإحياء. ولكن الظاهر من التذكرة والمسالك والروضة وجامع المقاصد والكفاية هو التفصيل بين ما كان الملك بالإحياء أو بغيره. 8 - فلنذكر عبارة التذكرة فإنها أول ما يرى فيه التفصيل، قال فيها: " مسألة: لو لم تكن الأرض التي في بلاد الإسلام معمورة في الحال ولكنها كانت قبل ذلك معمورة جرى عليها ملك مسلم فلا يخلو إما أن يكون المالك معينا أو غير معين، فإن كان معينا فإما أن تنتقل إليه بالشراء أو العطية وشبهها، أو بالإحياء، فإن ملكها بالشراء شبهه لم تملك بالإحياء، قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن ما عرف بملك مالك غير منقطع أنه لا يجوز إحياؤه لأحد غير أربابه. وإن ملكها بالإحياء ثم تركها حتى دثرت وعادت مواتا فعند بعض علمائنا وبه قال الشافعي وأحمد: أنه كالأول لا يصح لأحد إحياؤه ولا يملك بالإحياء والعمارة بل يكون للمالك أو لورثته، لقوله (عليه السلام): " من أحيا أرضا ميتة في غير حق مسلم فهو أحق بها "، ولأنها أرض يعرف مالكها فلم تملك بالإحياء كالتي ملكت بشراء أو بعطية، ولقوله (عليه السلام): " وليس لعرق ظالم حق " وقد تقدم أن العرق الظالم هو أن يأتي الرجل الأرض الميتة لغيره فيغرس فيها، ولأن سليمان بن خالد سأل الصادق (عليه السلام) عن الرجل يأتي الأرض الخربة فيستخرجها ويجري أنهارها ويعمرها ويزرعها فماذا عليه؟ قال: الصدقة. قلت: فإن كان يعرف صاحبها؟ قال: فليؤد إليه حقه. وقال مالك: يصح إحياؤها ويكون الثاني المحيي لها أحق بها من الأول، لأن هذه
1 - التذكرة 2 / 403. 234 أرض أصلها مباح فإذا تركها حتى عادت إلى ما كانت عليه صارت مباحة، كما لو أخذ ماء من دجلة ثم رده إليها، ولأن العلة في تملك هذه الأرض الإحياء والعمارة، فإذا زالا زالت العلة فيزول المعلول وهو الملك، فإذا أحياها الثاني فقد أوجد سبب الملك فيثبت الملك له، كما لو التقط شيئا ثم سقط من يده وضاع عنه فالتقطه غيره فإن الثاني يكون أحق. ولا بأس بهذا القول عندي، فيدل عليه ما تضمنه قول الباقر (عليه السلام) حكاية عما وجده في كتاب علي (عليه السلام)، ولقول الصادق (عليه السلام): أيما رجل أتى خربة بائرة. الحديث. " (1) أقول: ما ذكره أخيرا إشارة إلى صحيحتي الكابلي ومعاوية بن وهب الآتيتين. 9 - وراجع في هذا المجال المسالك أيضا، فإنه حرر المسألة بالتفصيل وقوى فيها التفصيل بين ما كان الملك بالإحياء وبين غيره فقال: " وإن خربت فإن كان انتقالها إليه بالقهر كالمفتوحة عنوة بالنسبة إلى المسلمين أو بالشراء أو العطية ونحوهما لم يزل ملكه عنها أيضا إجماعا على ما نقله في التذكرة عن جميع أهل العلم. وإن ملكها بالإحياء ثم تركها حتى عادت مواتا فعند المصنف وقبله الشيخ وجماعة أن الحكم كذلك... وذهب جماعة من أصحابنا منهم العلامة في بعض فتاويه ومال إليه في التذكرة إلى صحة إحيائها وكون الثاني أحق بها من الأول... وهذا القول قوى لدلالة الروايات عليه... " (2) 10 - وفي إحياء الموات من الروضة: " وموضع الخلاف ما إذا كان السابق قد ملكها بالإحياء، فلو كان قد ملكها بالشراء نحوه لم يزل ملكه عنها إجماعا على ما نقله العلامة في التذكرة عن جميع أهل العلم. " (3) 11 - وفي إحياء الموات من المغني في ذيل قول الخرقي: " ومن أحيا أرضا لم تملك فهي له " قال:
1 - التذكرة 2 / 401. 2 - المسالك 2 / 288. 3 - اللمعة الدمشقية 7 / 139 (= ط. القديم 2 / 251). 235 " وجملته أن الموات قسمان: أحدهما: ما لم يجر عليه ملك لأحد ولم يوجد فيه أثر عمارة... القسم الثاني: ما جرى عليه ملك مالك وهو ثلاثة أنواع: أحدها: ماله مالك معين وهو ضربان: أحدهما: ما ملك بشراء أو عطية، فهذا لا يملك بالإحياء بغير خلاف. وقال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن ما عرف بملك مالك غير منقطع أنه لا يجوز إحياؤه لأحد غير أربابه. الثاني: ما ملك بالإحياء ثم ترك حتى دثر وعاد مواتا، فهو كالذي قبله سواء. وقال مالك يملك هذا لعموم قوله: " من أحيا أرضا ميتة فهي له. " ولأن أصل هذه الأرض مباح فإذا تركت حتى تصير مواتا عادت إلى الإباحة كمن أخذ ماء من نهر ثم رده فيه. ولنا أن هذه أرض يعرف مالكها فلم تملك بالإحياء كالتي ملكت بشراء أو عطية. الخبر مقيد بغير المملوك بقوله في الرواية الأخرى: " من أحيا أرضا ميتة ليست لأحد " وقوله: " في غير حق مسلم ". " (1) إلى آخر ما ذكره، فراجع. أقول: توفي ابن قدامة مؤلف المغني في " 630 "، والعلامة في " 726 " وربما يظهر لمن راجع المغني والتذكرة والمنتهى أن العلامة كان يراجع المغني ويستفيد منه. وأنت ترى أن التفصيل بين ما ملك بشراء ونحوه وبين ما ملك بالإحياء. ونقل الإجماع من ابن عبد البر في الأول منهما قد تعرض لهما ابن قدامة، فلعل العلامة أخذهما منه، والشهيد في الروضة والمسالك أخذهما من التذكرة. والفقيه الحافظ ابن عبد البر الأندلسي صاحب كتاب الاستيعاب كان من علماء السنة، وقد توفي في " 463 ". الظاهر أنه المراد في عبارة المغني. والإجماع المنقول لا نعتمد عليه نحن في فقهنا فكيف بما ادعاه هو. ثم إن معقد إجماع ابن عبد البر على ما ترى لا يختص بما إذا كان ملك الأول بالشراء ونحوه، بل يعم ما ملك بالإحياء أيضا، فتدبر. هذا. ولم نجد في كلمات القدماء من أصحابنا أثرا من التفصيل بين ما ملك بالإحياء
1 - المغني 6 / 147. 236 وبين غيره. بل الظاهر من إطلاق من إطلاق عباراتهم عدم الفرق بينهما. والشيخ في المبسوط أيضا لم يفرق بينهما، فراجع ما مر من عبارتيه. (1). نعم، يمكن أن يقال: إن الشيخ كان قد أفتى في التهذيبين والنهاية والمبسوط بأن الإحياء لا يفيد الملك للرقبة بل الأولوية فقط كما مر في المسألة السادسة، فيجعل هذا قرينة على أن قوله في المقام: " الذي جرى عليه ملك " أراد به ما ملك بالشراء ونحوه. هكذا الكلام في كلام المهذب. ثم إنه يرد على التفصيل إشكال، وهو أن مالكية الأول وإن فرض كونها بغير الإحياء مباشرة ولكنها بالأخرة تنتهي إلى الإحياء، بأن اشتراها أو ورثها مثلا أو اغتنمها المسلمون ممن أحياها ولو بوسائط. فهذه الأسباب الناقلة كلها فروع على الإحياء، الفرع لا يزيد على الأصل، فلا ينتقل إلى الثاني غير ما ثبت للأول بإحيائه. اللهم إلا أن يقال: إن المراد بالشراء ونحوه شراء الرقبة من الإمام أو الوراثة منه أو ممن اشتراها أو ورثها منه. وقد أشار إلى هذا في الجواهر حيث قال بعد التعرض للإجماع الذي حكاه التذكرة عن ابن عبد البر: " وبالجملة، المسلم من الإجماع المزبور إذا ملكه بغير الإحياء كالشراء من الإمام - عليه السلام - مثلا، أما إذا كان أصل الملك بالإحياء ثم باعه من آخر أو ورثه منه آخر فالظاهر جريان البحث في بقاء الملك لمن هو له على نحو الملك بالإحياء. " (2) أو يقال كما في بلغة الفقيه: " إن الإباحة منهم لشيعتهم جميع التصرفات حتى المتوقفة على الملك مستلزمة إما لدخوله آناما في ملكه عند إرادة التصرف الخاص، أو يكون من الفضولي المتحقق معه الإجازة من المالك، فتخرج الرقبة حينئذ عن ملك الإمام - عليه السلام -
1 - راجع المبسوط 3 / 269. 2 - الجواهر 38 / 21. 237 ويملكها من انتقلت إليه، كما لو اشتراه من الإمام (عليه السلام) نفسه. ومنه يعلم أنه لاوجه لإلحاق الانتقال بالإرث من المحيي بسائر النوافل الشرعية منه كالشراء والعطية وغيرهما كما وقع من شيخنا في الجواهر تبعا للرياض وجامع المقاصد... " (1) أقول: ولكن لنا أن نقول: إن البائع يمكن أن يبيع ما حصل له بالإحياء من آثار الإحياء كما قاله الشيخ في النهاية في عبارته التي مرت في المسألة السادسة نظير ما في بيع الأراضي المفتوحة عنوة وما في نقل الرعايا حقوقهم في الأراضي في القرى التي لها ملاك، وهذا يجري في الإرث ونحوه أيضا، فتدبر. وكيف كان: فإن كان ملك الأول باشتراء الرقبة من الإمام أو الوراثة منه مثلا لو بوسائط كان مقتضى الأصل وبعض الأدلة الآتية بقاءها على ملكه. كيف وطبع الملكية عند العقلاء يقتضي الدوام والاستمرار وعدم انقطاعها إلا بالنواقل العرفية. أو الشرعية. ولا دليل على كون الخراب أو تصرف الغير منها، وهذا هو القدر المتيقن من الإجماع المدعى على فرض صحته. وأما إذا كان منشأ الاختصاص أو الملكية على القول بها هو الإحياء سواء أحياها بنفسه أو انتقلت إليه ممن أحياها ولو بوسائط فهل يبقى بعد صيرورتها مواتا أو يزول إما بمجرد الموت أو بتصرف الغير وإحيائه؟ وجهان بل قولان. وليست المسألة إجماعية لا مشهورة شهرة قدمائية كاشفة عن أقوال المعصومين (عليهم السلام)، بل هي مختلف فيها، فاللازم الاستناد فيها إلى القواعد والأخبار الواردة. واستدل للقول الأول بوجوه: الأول: الاستصحاب ما لم يثبت المزيل.
1 - بلغة الفقيه 1 / 347 (= ط. أخرى / 125). 238 الثاني: إطلاق أخبار الإحياء، حيث إن الظاهر منها بالإطلاق الأزماني والأحوالي ثبوت الاختصاص أو الملك ابتداء واستدامة ولا سيما على القول بالملك فإن طبع الملك يقتضي الدوام ولا دليل على كون الخراب مزيلا له. ولا ينتقض بشمول إطلاقها للمحيي الثاني أيضا، لتقيدها بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أحيا مواتا من الأرض في غير حق مسلم فهو له، وليس لعرق ظالم حق " وبقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أحيا أرضا ميتة لم تكن لأحد قبله فهي له، وليس لعرق ظالم حق " (1) وعن هشام بن عروة أنه قال: " العرق الظالم أن يأتي الرجل الأرض الميتة لغيره فيغرس فيها. " (2) الثالث: خبر سليمان بن خالد، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يأتي الأرض الخربة فيستخرجها ويجري أنهارها ويعمرها ويزرعها، ماذا عليه؟ قال: الصدقة. قلت: فإن كان يعرف صاحبها؟ قال: فليؤد إليه حقه. (3) والسند إلى سليمان صحيح. وسليمان بن خالد وإن ناقشوا فيه بأنه ممن خرج مع زيد ولكن وثقه جماعة وقالوا إنه تاب ورجع وكان فقيها وجها. وعلى ما مر منا من تأييد أئمتنا (عليه السلام) لخروج زيد يكون خروج سليمان معه من محاسنه لا من مساويه، فتأمل. وروى هذه الرواية في الوسائل (4) عن الشيخ بسند صحيح، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أيضا، فراجع التهذيب باب المزارعة (5) وفيه: " فليرد إليه حقه ". والمراد بحقه إما أصل الأرض أو طسقها. وعلى الثاني يكون تقريرا لأصل التصرف والإحياء، فيكون الخبر دليلا للقول الخامس الذي مر وسيأتي بيانه. ولعل
1 - سنن البيهقي 6 / 142، كتاب إحياء الموات، باب من أحيا أرضا ميتة ليست لأحد... 2 - التذكرة 2 / 400; ونحو ما فيه عن هشام في سنن البيهقي 6 / 142. 3 - الوسائل 17 / 329، الباب 3 من أبواب كتاب إحياء الموات، الحديث 3. 4 - الوسائل 17 / 329، ذيل الحديث السابق. 5 - التهذيب 7 / 201، باب المزارعة، الحديث 34. 239 الظاهر على نقل الحلبي رد أصل الأرض. هذا. ويناقش هذه الأدلة: أما الأول فبأن الاستصحاب أصل لا يقاوم الأدلة الآتية للقول الثاني. وأما الثاني فبأن إطلاق أخبار الإحياء كما يشمل المحيي الأول يشمل الثاني أيضا، بل دلالتها عليه أقوى، لأنه سبب طار مملك وإذا طرأ سبب مملك على سبب سابق كان التأثير للثاني، كما يدل على ذلك الصحاح الآتية. وكون الأرض بعد خرابها ملكا للأول أو حقا له في مفروض البحث أول الكلام. وتفسير هشام بن عروة ليس بحجة مضافا إلى عدم ثبوت كون الأرض الميتة للأول. والخبران يمكن أن يحملا على موات لا يخرج بالموت عن الملك كما إذا كانت مالكية الأول بانتقال الرقبة إليه من قبل الإمام بشراء أو نحوه ولو بوسائط، أو يحملا على خراب لم يبلغ حدا يفتقر إلى إحياء جديد بل يكفيه إصلاح ما فلم تنقطع عنه علاقة الأول عرفا، فتدبر. ويناقش الثالث أولا بإمكان حمله على ما إذا كان ملك الأول بالشراء من الإمام نحوه كما هو الظاهر من لفظ الصاحب المضاف إلى الأرض، فتأمل. وثانيا بأن الحق في الخبر مجمل فكما يحتمل إرادة الأرض أو طسقها يحتمل أيضا إرادة غيرهما كالآلات الباقية منه في الأرض أو أجرة تسطيح الأرض أو بعض المروز الباقية مثلا أو شيء في ذمة المحيي الثاني. ولا دلالة أيضا في لفظ: " صاحبها " على بقاء علاقة الأول، لإطلاق المشتق كثيرا على من قضى. بل جواز تصرف الثاني وعدم ردعه عنه يدل على عدم كونها ملكا للأول فعلا وإلا لما جاز التصرف فيها ولزم الإشارة إلى ردعه، فتأمل. ويستدل للقول الثاني، أعني جواز إحياء الغير وكون الأرض له - مضافا إلى
240 إطلاقات أخبار الإحياء وعموماتها بل كون شمولها له أقوى بتقريب مر، وإلى ما مر عن التذكرة من التعليلين لقول مالك - بصحاح ثلاث: الأولى: صحيحة أبي خالد الكابلي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " وجدنا في كتاب علي (عليه السلام): أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الأرض ونحن المتقون، والأرض كلها لنا، فمن أحيا أرضا من المسلمين فليعمرها وليؤد خراجها إلى الإمام من أهل بيتي وله ما أكل منها، فإن تركها أو أخربها فأخذها رجل من المسلمين من بعده فعمرها وأحياها فهو أحق بها من الذي تركها، فليؤد خراجها إلى الإمام من أهل بيتي، وله ما أكل منها حتى يظهر القائم " ع " من أهل بيتي بالسيف فيحوبها ويمنعها ويخرجهم منها كما حواها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منعها، إلا ما كان في أيدي شيعتنا فإنه يقاطعهم على ما في أيديهم ويترك الأرض في أيديهم. " (1) وقد مر شرح سند الحديث ومتنه في المسألة السادسة، فراجع. ومقتضاها بقرينة ثبوت الخراج وجواز إخراج المحيي منها عدم سببية الإحياء لملكية الرقبة وأنه بعد خرابها يكون الثاني أحق بها. وحمل قوله: " فإن تركها أو أخربها " على خصوص الإعراض الكلي خلاف الظاهر، إذ الظاهر من الحكم بأحقية الثاني عدم إعراض الأول بالكلية واحتمال ثبوت حق له أيضا. مضافا إلى أن فرض عدم ملكية الرقبة وكون متعلق الحق هو آثار الإحياء فقط يقتضي انتفاء الحق بانتفاء موضوعه قهرا، فتدبر. وحمل الملكية للإمام في الصحيحة وغيرها على الملكية المعنوية كما قيل بلا وجه بعد ظهورها في الملكية الاعتبارية الشرعية. ويشهد لذلك تفريع آثارها من أخذ الخراج وجواز الإخراج. مضافا إلى ما مر منا من أن الأرض من الأموال العامة التي خلقها الله - تعالى - للأنام، وأن معنى كونها للإمام كونها تحت اختياره وتصرفه بما هو ولى أمر الأمة نظير سائر الأولياء المتصرفين في أموال المولى عليهم.
1 - الوسائل 17 / 329، الباب 3 من أبواب كتاب إحياء الموات، الحديث 2. 241 وكيف كان فدلالة الحديث على انقطاع علاقة المحيي الأول عن الأرض بموتها أو بإحياء الثاني لها واضحة. الثانية: صحيحة عمر بن يزيد، قال: سمعت رجلا من أهل الجبل يسأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أخذ أرضا مواتا تركها أهلها فعمرها وكرى أنهارها وبنى فيها بيوتا وغرس فيها نخلا وشجرا. قال: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: " من أحيا أرضا من المؤمنين فهي له، وعليه طسقها يؤديه إلى الإمام في حال الهدنة، فإذا ظهر القائم (عليه السلام) فليوطن نفسه على أن تؤخذ منه. " (1) وتقريب الاستدلال بها يظهر مما مر. وقوله: " تركها أهلها " يعم الأهل المعينين أيضا، والترك أعم من الإعراض كما مر. الثالثة: صحيحة معاوية بن وهب، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " أيما رجل أتى خربة بائرة فاستخرجها وكرى أنهارها وعمرها فإن عليه فيها الصدقة. فإن كانت أرض لرجل قبله فغاب عنها وتركها فأخربها ثم جاء بعد يطلبها فإن الأرض لله ولمن عمرها. " (2) ودلالتها واضحة وحمل قوله: " تركها فأخربها " على صورة إعراض الأول مشكل لا سيما وأن طلبه بعد يدل على عدم إعراضه. وظاهر العبارة أن مجرد الترك أوجب الخراب. واحتمال كون المراد أن الأرض للأول الذي عمرها سابقا كما في الجواهر (3) بعيد غاية البعد، فإن الظاهر من التعبير بمناسبة الحكم والموضوع كونه لبيان ثبوت الحق للثاني لعمرانه الفعلي لا لبيان بقاء الحق للأول الذي زال أثر عمرانه. فإن قلت: ظاهر هذه الصحاح الثلاث هو كون المحيي الثاني أحق وأن علاقة
1 - الوسائل 6 / 383، الباب 4 من أبواب الأنفال، الحديث 13. 2 - الوسائل 17 / 328، الباب 3 من أبواب كتاب إحياء الموات، الحديث 1. 3 - الجواهر 38 / 22. 242 الأول تنقطع عن الأرض بعد إحياء الثاني لها، ولكن من المحتمل عدم انقطاع علاقته بمجرد الموت والخراب بل تبقى إلى حين الإحياء، وبالإحياء تزول. وكون جواز الإحياء بما أنه تصرف متوقفا على خروجها عن ملك الأول ممنوع لاحتمال إجازة الشارع فيه حسبة للأمة حذرا من تعطيل الأراضي. هذا مضافا إلى امكان القول بتحقق الملكية للثاني آناما قبل التصرف بدلالة الاقتضاء. قلت: هذا البحث لا يفيدنا فيما هو المهم في مقام العمل، فإن الغرض من البحث الحكم بأحقية الثاني بعد عملية الإحياء، وعدم وجوب الطسق عليه للأول، ولا يفرق في ذلك بين انقطاع علاقة الأول بمجرد الموت والخراب أو بعد عملية الإحياء. هذا مضافا إلى أن علاقة الأول بالأرض إما أن يحكم بدوامها وإما أن يحكم بانقطاعها، وحيث إن المفروض هو الثاني فبمناسبة الحكم والموضوع يظهر أن انقطاعها يستند لا محالة إلى انتفاء الموضوع والمحل أعني آثار الحياة، فإذا انتفت انتفت، إذ لو كان الموضوع نفس الرقبة لم يكن وجه لانقطاع العلاقة لبقاء الرقبة دائما. وبالجملة، فاحتمال بقاء العلاقة إلى زمان الإحياء وارتفاعها به احتمال بدوي يزول بالدقة. وبذلك يظهر بطلان القول الرابع من الأقوال الستة على فرض وجود القائل به، فتدبر. هذا. وحيث ظهر لك أدلة القولين فلنرجع إلى المقايسة بينهما والسعي في رفع التهافت إن أمكن. والعمدة في المقام صحيحتا سليمان بن خالد والحلبي في ناحية، والصحاح الثلاث في ناحية أخرى. وقد قيل في الجمع بينهما ورفع التهافت وجوه: الوجه الأول: ما يظهر من بلغة الفقيه. ومحصله بتوضيح منا: أن مفاد صحيحتي
243 سليمان والحلبي بقاء علاقة الأول، ومفاد الصحاح الثلاث انقطاعها فيكون بينهما التباين من هذه الجهة. والموضوع في صحيحتي سليمان والحلبي وكذا في صحيحتي معاوية بن وهب عمر بن يزيد مطلق يعم بإطلاقه مالكية الأول بالإحياء أو بغيره. ولكن الموضوع في صحيحة الكابلي خاص حيث يختص بما كانت مالكية الأول بالإحياء، فبصحيحة الكابلي يقيد إطلاق الموضوع في صحيحتي سليمان والحلبي فتحملان على غير صورة الإحياء جمعا، وبعد هذا التقييد تنقلب النسبة بين صحيحتي سليمان والحلبي وبين صحيحتي معاوية بن وهب وعمر بن يزيد، إذ يصير الموضوع في صحيحتي سليمان الحلبي خاصا بالنسبة إليهما فيحمل بسببهما المطلق في صحيحتي معاوية بن وهب وعمر بن يزيد على صورة الإحياء فقط جمعا، فتكون النتيجة التفصيل بين مالكية الأول بالإحياء أو بغيره. (1) أقول: قد ضعف في البلغة هذا الوجه أولا بمنع صحة الترتيب في النسبة المؤدي إلى انقلاب النسبة كما حقق في الأصول. وثانيا بأن تقييد صحيحتي سليمان والحلبي بصحيحة الكابلي فرع ظهور صحيحة الكابلي في مالكية الثاني وهو ممنوع، إذ ليس فيها إلا أحقية الثاني، وهذه لا تنافي مالكية الأول ووجوب أداء الطسق إليه، فتأمل. هذا. ولنا أن نقرر الجمع المذكور بنحو لا يرد عليه إشكال انقلاب النسبة بأن يقال: إن الموضوع في صحيحتي سليمان والحلبي وكذا في صحيحتي معاوية بن وهب وعمر بن يزيد مطلق، وفي صحيحة الكابلي مقيد بما إذا كان المالكية بالإحياء فيقيد بهذه الصحيحة منطوقا ومفهوما كل واحد من موضوعي النفي والإثبات في عرض واحد. وكما يحمل المطلق على المقيد في المتخالفين حكما يحمل عليه في المثبتين أيضا ضرورة تعارض المطلق والمقيد وإن كانا مثبتين مع ظهور القيد في
1 - بلغة الفقيه 1 / 345 (= ط. أخرى / 123). 244 الدخالة، اللهم إلا أن ينكر هذا الظهور في صحيحة الكابلي. الوجه الثاني: ما يظهر من البلغة أيضا. ومحصله بتوضيح منا أن صحيحتي سليمان الحلبي كالنص في بقاء علاقة الأول، إذ حكم فيهما بوجوب أداء حقه. وحيث إن آثار الحياة انعدمت فرضا فلا محالة يكون موضوع الحق الباقي نفس رقبة الأرض، يراد بأداء حق الأول أداء طسق الأرض وأجرتها. وتحمل الصحاح الثلاث على كون علاقة الثاني بنحو الأحقية فقط بمقتضى عمله ونشاطاته. ولا منافاة بين أحقية الثاني بمقتضى عمله وبين وجوب أداء الطسق عليه بمقتضى مالكية الأول للرقبة. (1) أقول: يرد على هذا أولا: أن الحق في صحيحتي سليمان والحلبي مجمل ولعله أراد به نفس الأرض لا طسقها ولا سيما في صحيحة الحلبي حيث عبر فيها بالرد. وثانيا: أن اللام في قوله في صحيحة معاوية بن وهب: " فإن الأرض لله ولمن عمرها " حيث دخلت على الله وعلى العامر معا يكون لها ظهور تام في مالكية الثاني وانقطاع علاقة الأول عنها بالكلية. وثالثا: أن الطسق في صحيحتي الكابلي وعمر بن يزيد جعل للإمام لا للمحيي لأول. اللهم إلا أن يقال: إن الطسق فيهما قد فرض للإمام بما أنه مالك للأرض ومسلط عليها شرعا، والمجعول فيهما للمحيي هو الأحقية. وأما في صحيحة سليمان فحيث فرضت مالكية الأول للرقبة حكم فيها بأداء الطسق إليه، ولعل مالكيته كانت باشتراء الرقبة مثلا من الإمام. فتكون نتيجة الجميع أن المحيي أحق بمقتضى عمله، والطسق فرض عليه للمالك إماما كان أو غيره. الوجه الثالث: أن مورد صحيحتي سليمان بن خالد والحلبي ما إذا كان صاحب الأرض معروفا، فتحمل الصحاح - الثلاث على ما إذا لم يعرف صاحبها.
1 - بلغة الفقيه 1 / 346 (= ط. أخرى / 124). 245 وفيه مضافا إلى ظهور الصحاح الثلاث في أن الملاك لأحقية الثاني صيرورة الأرض خرابا وكون الثاني عامرا لها فلا يؤثر في ذلك معروفية الصاحب السابق وعدمها: أن المصرح به في صحيحة معاوية بن وهب أحقية الثاني وإن كانت الأرض لرجل فجاء بعد يطلبها. وظاهر أن الرجل ظاهر في المعين. الوجه الرابع: أن تحمل الصحاح الثلاث على صورة إعراض الأول بالكلية، وصحيحتا سليمان والحلبي على صورة عدم الإعراض. وفيه أنه جمع تبرعي لا شاهد له، إذا لترك والإخراب أعم من الإعراض، فتدبر. فهذه الوجوه الأربعة بعض ما قيل في المقام لرفع التهافت بين أخبار الباب. وملخص الكلام في المقام أنه لو فرض حمل صحيحة عمر بن يزيد على ما إذا لم يعرف صاحب الأرض وحملت صحيحة الكابلي على ما إذا كان الاختصاص بنحو الأحقية فقط فلا إشكال في بقاء صحيحتي سليمان بن خالد ومعاوية بن وهب متخالفتين بالتباين، ويشكل إثبات المرجح لأحدهما فتتساقطان ويرجع لا محالة إلى استصحاب مالكية الأول مؤيدا بأن طبع الملك يقتضي الدوام والاستمرار، أو يقال: إن صحيحة سليمان نص في بقاء علاقة الأول، وصحيحة معاوية ظاهرة في انقطاعها لعدم التصريح فيها بعدم وجوب الطسق للأول فيجمع بينهما بأحقية الثاني ووجوب الطسق عليه للأول كما أفتى به بعض وتقدم عن البلغة أيضا. هذا. والأولى إحالة المسألة إلى ما مر في المسألة السادسة، فإن ثبتت ملكية الرقبة لو بسبب الإحياء فالظاهر بقاؤها بعد الخراب أيضا إذ طبع الملك يقتضي الدوام. والمفروض أن موضوع الملكية وهي الرقبة باقية بعد الموت أيضا، والملك يحتاج إلى العلة في الحدوث لا في البقاء فإذا حدث يبقى إلى أن يتحقق إحدى النواقل العرفية أو الشرعية.
246 وأما إذا كان الاختصاص بنحو الأحقية فقط كما اخترناه بالنسبة إلى عملية الإحياء لو فرض التعبير بالملكية أيضا كان الموضوع لها آثار الحياة المنتجة من الفكر القوي والنشاطات، فلا محالة تنتفي بانتفاء موضوعها أعني الآثار بالكلية، فتعود الرقبة إلى أصلها الأولي. وعلى هذا فيجب أن تحمل صحيحة سليمان بن خالد على ما إذا فرض تحقق ملكية الرقبة كما إذا اشتراها من الإمام مثلا، أو يحمل الحق فيها على ما إذا بقي بعض الآثار الآلات. ويحتمل بعيدا إرادة الإمام - عليه السلام - من لفظ صاحبها ولم يصرح به تقية، فيكون مفادها مفاد صحيحتي الكابلي وعمر بن يزيد من فرض الطسق للإمام، فلاحظ. تتميم لا يخفى أن مقتضى بقاء علاقة الأول بالأرض عدم جواز التصرف فيها وإحياؤها بدون إذنه، وعدم ترتب الأثر على إحياء لو فعل. ولكن قال في المسالك: " واعلم أن القائلين بعدم خروجها عن ملك الأول اختلفوا: فذهب بعضهم إلى عدم جواز إحيائها ولا التصرف فيها مطلقا إلا بإذن الأول كغيرها من الأملاك. وذهب الشيخ في المبسوط والمصنف في كتاب الجهاد والأكثر إلى جواز إحيائها صيرورة الثاني أحق بها لكن لا يملكها بذلك بل عليه أن يؤدي طسقها إلى الأول أو وارثه، ولم يفرقوا في ذلك بين المنتقلة بالإحياء وغيره من الأسباب المملكة حيث يعرض لها الخراب وتصير مواتا. وذهب الشهيد في الدروس إلى وجوب استيذان المحيي للمالك أولا، فإن امتنع فالحاكم وله الإذن فيه، فإن تعذر الأمران جاز الإحياء وعلى المحيي طسقها للمالك.
247 وحاولوا في هذين القولين الجمع بين الأخبار بحمل أحقية الثاني في الأخبار الصحيحة على أحقية الانتفاع بها بسبب الإحياء وإن لم يكن مالكا، ووجوب الطسق من خبر سليمان بن خالد في قوله (عليه السلام): " إذا كان يعرف صاحبها فليؤد إليه حقه. " فإن الحق إن كان أعم من أجرة الرقبة إلا أن الجمع بين الأخبار يقتضي حمله على الأجرة خاصة. في قيود الشهيد مراعاة لحق المالك وحق الإحياء (الأخبار خ. ل) " (1) وفي الجواهر: بعد نقل كلام المسالك قال: " قد عرفت أنه لا نصوص دالة إلا صحيح الكابلي الذي سمعت البحث فيه، مع أنه مشتمل على الطسق للإمام - عليه السلام - لا المحيي الأول كصحيح عمر بن يزيد... صحيح معاوية بن عمار (معاوية بن وهب - ظ.) الذي هو مجمل أو كالمجمل. خبر سليمان بن خالد الذي يمكن بل قيل: إن الظاهر إرادة نفس الأرض من حقه فيها، فلا مخرج عن قاعدة قبح التصرف في مال الغير، فضلا عن أن يترتب له أحقية بذلك على وجه لا يجوز للمالك انتزاعها منه. " (2) أقول: صاحب الجواهر ذكر قبيل ذلك: " أن صحيح الكابلي يمكن أن يكون من المتشابه الذي ينبغي أن يرد علمه إليهم (عليه السلام)... وأن المشهور أعرضوا عنه. " (3) ولم يظهر لي وجه التشابه فيه، وقد مر في المسألة السادسة شرح الحديث وأن المشهور من قدمائنا أفتوا بمضمونه. ويمكن أن يقال كما مر: إن مساق صحيحتي الكابلي وعمر بن يزيد هو بعينه مساق صحيحة سليمان بن خالد، إذ مفاد الجميع فرض الطسق للمالك، غاية
1 - المسالك 2 / 288. 2 - الجواهر 38 / 25. 3 - الجواهر 38 / 23. 248 الأمر أن المالك في الصحيحتين هو الإمام وفي صحيحة سليمان غيره على الظاهر ويحتمل فيها أيضا إرادة الإمام كما مر. ولا نرى إجمالا في صحيحة معاوية بن وهب ولا في غيرها. هذا مضافا إلى أن عمومات أخبار الإحياء ولا سيما مثل قوله (عليه السلام) في موثقة محمد بن مسلم: " أيما قوم أحيوا شيئا من الأرض وعملوها فهم أحق بها وهي لهم " تشمل المقام أيضا، ولا ينافي هذا وجوب الطسق للمالك كما في مورد الموثقة أعني أراضي أهل الذمة، فتأمل. ورقبة الأرض وإن فرض نسبتها إلى شخص خاص واختصاصها به إجمالا، لكن الأرض وما فيها وضعت للأنام وتعطيلها واحتكارها يضر بالمجتمع، فلا يظن بالشرع العقلاء إجازة تعطيلها وترك استثمارها عمدا. فالحكم بجواز إحيائها وأحقية المحيي بها مع إيجاب الطسق للمالك جمع بين الحقين ولا يبعد صدوره من قبل الله - تعالى - مولى الموالي حسبة. وقد مر خبر يونس، عن العبد الصالح (عليه السلام)، قال: " إن الأرض لله - تعالى - جعلها وقفا على عباده، فمن عطل أرضا ثلاث سنين متوالية لغير ما علة أخذت من يده ودفعت إلى غيره... " (1) وبالجملة، فيمكن أن يكون حكم أرض الغير يخالف حكم سائر الأموال، والاحتياط يقتضي إحالة ذلك في كل عصر إلى حاكم المسلمين وسائسهم كما أشار إليه في الدروس، فتدبر. والأولى نقل بعض كلمات الأعلام في المقام، فنقول: 1 - قال الشيخ في متاجر النهاية: " ومن أحيا أرضا ميتا كان أملك بالتصرف فيها من غيره، فإن كانت الأرض لها مالك معروف كان عليه أن يعطي صاحب الأرض طسق الأرض، وليس للمالك انتزاعها من يده ما دام هو راغبا فيها. " (2)
1 - الوسائل 17 / 345، الباب 17 من أبواب كتاب إحياء الموات، الحديث 1. 2 - النهاية / 420. 249 وقد يظن وجود قريب من هذه العبارة في المبسوط أيضا كما يظهر مما مر من المسالك ولكن لم أقف على ذلك إلى الآن. 2 - نعم، في زكاة المبسوط في الأرض التي أسلم أهلها طوعا، قال: " فإن تركوا عمارتها وتركوها خرابا جاز للإمام أن يقبلها ممن يعمرها بما يراه من النصف أو الثلث أو الربع، وكان على المتقبل بعد إخراج حق القبالة ومؤونة الأرض إذا بقي معه النصاب العشر أو نصف العشر، ثم على الإمام أن يعطي أربابها حق الرقبة. " (1) 3 - وفي جهاد الشرائع: " خاتمة: كل أرض ترك أهلها عمارتها كان للإمام تقبيلها ممن يقوم بها، وعليه طسقها لأربابها. وكل أرض موات سبق إليها سابق فأحياها كان أحق بها، وإن كان لها مالك معروف فعليه طسقها. " (2) 4 - وفي جهاد المختصر النافع: " وكل أرض ترك أهلها عمارتها فللإمام تسليمها إلى من يعمرها، وعليه طسقها لأربابها. وكل أرض موات سبق إليها سابق فأحياها فهو أحق بها، وإن كان لها مالك فعليه طسقها له. " (3) 5 - وفي الدروس في شرائط التملك بالإحياء قال: " ورابعها: أن لا يكون مملوكا لمسلم أو معاهد. فلو سبق ملك واحد منهما لم يصح الإحياء. نعم، لو تعطلت الأرض وجب عليه أحد الأمرين إما الإذن لغيره أو الانتفاع، فلو امتنع فللحاكم الإذن وللمالك طسقها على المأذون، ولو تعذر الحاكم فالظاهر جواز الإحياء مع الامتناع من الأمرين وعليه طسقها. " (4)
1 - المبسوط 1 / 235. 2 - الشرائع 1 / 323 (= ط. أخرى / 247). 3 - المختصر النافع / 114. 4 - الدروس / 292. 250 أقول: قد اختلفت كلمات فقهائنا - رضوان الله عليهم - في أرض أسلم أهلها طوعا تركها أهلها ولم يعمروها فخربت فقال بعضهم: إن الإمام يقبلها ممن يعمرها وكانت للمسلمين. وقال بعضهم: عليه طسقها لأربابها. ويظهر من بعضهم الجمع بين الحقين أعني كون الحاصل للمسلمين مع وجوب الطسق لأربابها أيضا. قال العلامة في جهاد المختلف: " أرض من أسلم أهلها عليها طوعا ملك لهم يتصرفون فيها كيف شاؤوا، فإن تركوا عمارتها يقبلها الإمام من يعمرها ويعطي صاحبها طسقها وأعطى المتقبل حصته، ما يبقى فهو متروك لمصالح المسلمين في بيت مالهم. قاله الشيخ وأبو الصلاح... " (1) وأنكر ابن إدريس جواز التصرف أصلا فقال في أحكام الأرضين من السرائر: " ضرب منها أسلم أهلها عليها طوعا... فإن تركوها خرابا أخذها إمام المسلمين قبلها من يعمرها وأعطى أصحابها طسقها وأعطى المتقبل حصته، وما يبقى فهو متروك لمصالح المسلمين في بيت مالهم على ما روي في الأخبار. أورد ذلك شيخنا أبو جعفر. والأولى عندي ترك العمل بهذه الرواية، فإنها تخالف الأصول والأدلة العقلية والسمعية، فإن ملك الإنسان لا يجوز لأحد أخذه ولا التصرف فيه بغير إذنه واختياره، فلا يرجع عن الأدلة بأخبار الآحاد. " (2) وقال العلامة في المختلف بعد نقل الأقوال: " والأقرب ما اختاره الشيخ. لنا أنه أنفع للمسلمين وأعود عليهم فكان سائغا، وأي عقل يمنع من الانتفاع بأرض يترك أهلها عمارتها وإيصال أربابها حق الأرض؟ مع أن الروايات متظاهرة بذلك: روى صفوان بن يحيى وأحمد بن محمد بن أبي نصر، قالا: ذكرنا له الكوفة وما وضع عليها من الخراج وما سار فيها أهل بيته، فقال: " من أسلم طوعا تركت أرضه في يده وأخذ منه العشر مما سقي بالسماء والأنهار، ونصف العشر مما كان بالرشا فيما عمروه منها. وما لم يعمروه منها أخذه الإمام فقبله ممن
1 - المختلف 1 / 332. 2 - السرائر / 110. 251 يعمره وكان للمسلمين، وعلى المتقبلين في حصصهم العشر أو نصف العشر. " وفي الصحيح، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: ذكرت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام) الخراج وما سار به أهل بيته فقال: " العشر ونصف العشر على من أسلم طوعا تركت أرضه في يده وأخذ منه العشر نصف العشر فيما عمر منها، وما لم يعمر منها أخذه الوالي فقبله ممن يعمره، وكان للمسلمين ". " (1) أقول: الخبران ذكرهما في جهاد الوسائل (2)، ويحتمل اتحادهما وقد مضى شرحهما في بحث الأراضي المفتوحة عنوة. (3) وأنت ترى أنه ليس فيهما ذكر من أداء الطسق لصاحب الأرض، وأظن أن المراد بما لم يعمروه فيهما أرض الموات الموجودة في بلاد الكفر، وواضح أنها من الأنفال فتكون من الأموال العامة وتكون تحت اختيار الإمام بما أنه إمام وسائس للمسلمين فيقبلها بما يرى ويصرف الحاصل في مصالح المسلمين، فالاستدلال بهما لما أفتى به العلامة وغيره بلا وجه. فلا يبقى للقول بجواز إحياء أرض الغير ووجوب أداء الطسق إليه إلا صحيحة سليمان بن خالد والحلبي، بناء على كون المراد بحقه الطسق فتكون إمضاء لأصل الإحياء، ولكن من المحتمل أن يراد به أصل الأرض ولا سيما بنقل الحلبي: " فليرد إليه حقه "، فلا إمضاء. نعم، للحاكم الإسلامي إعمال ذلك ولاية وحسبة للشخص وللأمة كما مر. هذا كله فيما إذا كان صاحب الأرض التي صارت مواتا معلوما معينا. القسم الثاني من الأرض التي عرضها الموت: ما كان صاحبها غير معلوم، والمفروض عدم إحراز بياد الأهل أو إعراضه بالكلية، فمقتضى القاعدة أن يقال:
1 - المختلف 1 / 332 (مع سقط في الرواية الثانية وقع من قلم الناسخ). 2 - الوسائل 11 / 120، الباب 72 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1 و 2. 3 - راجع 3 / 192 - 195 من الكتاب. 252 إن قلنا بأن الصاحب لم يكن مالكا لنفس الرقبة لزم القول برجوعها إلى الإمام بالكلية وشملها أدلة الإذن في الإحياء، إذ المفروض زوال علة الاختصاص السابق وهو الإحياء. وكون علة الحدوث علة للبقاء أيضا يحتاج إلى عناية زائدة ودليل قطعي. بل الظاهر أن موضوع الحق هو آثار الإحياء السابق والمفروض زوالها بالكلية. وأما إن قلنا بأن صاحبها كان مالكا لنفس الرقبة فالقاعدة تقتضي بقاءها في ملكه وكونها محكومة بحكم مجهول المالك كالأرض المحياة وغيرها من الأموال إذا فرض جهل مالكها، فإن طبع الملكية كما مر هو الدوام والاستمرار مع بقاء الموضوع إلا أن تنتقل إلى الغير بإحدى النواقل الشرعية. والمستفاد من الأخبار والفتاوى في المال الذي جهل مالكه أو عرف ولم يمكن إيصاله إليه أنه يتصدق به عن صاحبه. والأحوط بل الأقوى أن يكون هذا بإذن المجتهد الجامع لشرائط الحكم، لأنه ولى الغائب، ولأنه مقتضى الجمع بين ما دل على التصدق به - كما في أخبار كثيرة متفرقة في الأبواب المختلفة ومنها خبر يونس عن الرضا (عليه السلام) فيمن أصاب معه بعض متاع من رافقه بمكة ولا يعرف بلده - وبين ما دل على كونه للإمام كقول أبي عبد الله (عليه السلام) في رواية داود بن يزيد: " ماله صاحب غيري "، وقول أبي الحسن (عليه السلام) في رواية محمد بن القاسم بن الفضيل: " ما أعرفك لمن هو " يعني نفسه، فراجع الوسائل. (1) ولعله لذا قال في الشرائع: " وكل أرض جرى عليها ملك لمسلم فهي له أو لورثته بعده، وإن لم يكن لها مالك معروف معين فهي للإمام - عليه السلام -، ولا يجوز إحياؤها إلا بإذنه. " (2) فتحمل الأرض في كلامه - قدس سره - على الأعم من الحية والميتة كما هو الظاهر من إطلاقه، وليس الذيل قرينة على إرادة خصوص الميتة بل بيان لحكم قسم منها. ويراد بقوله: " فهي للإمام " كونها تحت اختياره وتصرفه لا كونها ملكا
1 - الوسائل 17 / 357، الباب 7 كتاب اللقطة، الحديث 1; والوسائل 17 / 585، الباب 6 من أبواب ميراث الخنثى وما أشبهه، الحديث 12. 2 - الشرائع 3 / 272 (= ط. أخرى / 792، الجزء 4). 253 لشخصه، وهذا صادق في الأنفال وفي مجهول المالك كليهما على وزان واحد لما مر من أن الأنفال أيضا ليست ملكا لشخص الإمام. وبهذا يظهر الإشكال على ما في المسالك في المقام، حيث قال: " الحكم هنا مقيد بما لو كانت ميتة، إذ لو كانت حية فهي مال مجهول المالك، وحكمه خارج عن ملكيته للإمام له بالخصوص. فأما إذا كانت ميتة والحال أنها كانت في الأصل مملوكة ثم جهل مالكها فهي للإمام. " (1) أقول: على القول بمالكية الأول للرقبة وبقائها بعد الموت أيضا لا يبقى فرق بين الحية والميتة في كونهما من مصاديق مجهول المالك. وظاهر عبارة الشرائع أيضا التعميم. وقد صرح بهذا الإشكال في الجواهر أيضا ثم قال: " اللهم إلا أن يثبت من الأدلة إخراج خصوص الأرض من بين مجهول المالك في كونها للإمام - عليه السلام - ولو لاندراجها في الخربة التي ورد في النصوص أنها من الأنفال، أو فيما لا رب لها خصوصا مع عدم العلم بوجود المالك، أو قلنا بخروجها عن ملك الأول بالموت إذا فرض أن ملكه لها بالإحياء، ولكن قد عرفت ما في الأخير. " (2) هذا. ويحتمل في عبارة الشرائع أن لا يجعل قوله: " وإن لم يكن لها مالك معروف " قسما من قوله: " وكل أرض جرى "، بل يجعل قسيما له ومعطوفا عليه فيراد به الأرض الخربة التي باد أهلها ولم يعلم جريان ملك المسلم عليها. وقد مر في محله أن الموات بقسميه يكون من الأنفال ويكون للإمام أصليا كان أو عارضيا. وعلى هذا فلا إشكال. هذا. ولكن ظاهر التذكرة تقسيم ما جرى عليه ملك لمسلم إلى قسمين فقال كما مر: " لو لم تكن الأرض التي في بلاد الإسلام معمورة في الحال ولكنها كانت قبل ذلك
1 - المسالك 2 / 288. 2 - الجواهر 38 / 27. 254 معمورة جرى عليها ملك مسلم فلا يخلو إما أن يكون المالك معينا أو غير معين، فإن كان معينا... وإن كان المالك لهذه الأرض السابق غير معين ثم خربت وزالت آثار العمارة منها فإنها للإمام عندنا ولا يجوز لأحد إحياؤها إلا بإذنه، فإن بادر إليها إنسان وأحياها من دون إذنه لم يملكها، ولو كان الإحياء حال غيبة الإمام (عليه السلام) كان المحيي أحق بها ما دام قائما بعمارتها، فإن تركها فزالت آثارها فأحياها غيره ملكها، فإذا ظهر الإمام (عليه السلام) يكون له رفع يده عنها لما تقدم. واختلفت العامة: فقال أبو حنيفة: إنها تملك بالإحياء، وبه قال مالك، لما تقدم من عموم الأخبار، ولأنها أرض موات لا حق فيها لقوم بأعيانهم فأشبهت ما لم يجر عليه ملك مالك، ولأنها إن كانت في أرض دار الإسلام فهي كلقطة دار الإسلام، وإن كانت في أرض دار الكفر فهي كالركاز. وللشافعي قولان. هذا أحدهما لما تقدم، والثاني: أنه لا يجوز إحياؤها، لقوله (عليه السلام): " من أحيا أرضا في غير حق مسلم فهو أحق بها. " قيد بقوله: " في غير حق مسلم. " ولأن هذه الأرض لها مالك فلا يجوز إحياؤها كما لو كان معينا. وعن أحمد روايتان كالقولين... " (1) أقول: وقد مرت في صدر المسألة عبارتا المبسوط والمهذب وعبارة أخرى للتذكرة أيضا في حكم ما لو لم يكن صاحبها معينا وأنه يجوز إحياؤها بإذن الإمام، فراجع. وفي المغني لابن قدامة: " النوع الثالث: ما جرى عليه الملك في الإسلام لمسلم أو ذمي غير معين فظاهر كلام الخرقي أنها لا تملك بالإحياء وهو إحدى الروايتين عن أحمد... لما روى كثير بن عبد الله بن عوف، عن أبيه، عن جده، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " من أحيا أرضا مواتا في غير حق مسلم فهي له. " فقيده بكونه في غير حق مسلم، ولأن هذه الأرض لها مالك فلم يجز إحياؤها كما لو كان معينا، فإن مالكها إن كان له ورثة فهي لهم وإن لم يكن له ورثة ورثها المسلمون. والرواية الثانية أنها تملك بالإحياء. نقلها صالح وغيره، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، لعموم
1 - التذكرة 2 / 401. 255 الأخبار، ولأنها أرض موات لا حق فيها لقوم بأعيانهم أشبهت ما لم يجر عليه ملك مالك، ولأنها إن كانت في دار الإسلام فهي كلقطة دار الإسلام وإن كانت في دار الكفر فهي كالركاز. " (1) أقول: والذي يختلج بالبال عاجلا أنه إن اندرست الآثار بالكلية وتقادم عهدها وانقطع ارتباطها بملاكها عرفا - وإن فرض احتمال وجود الوارث الشرعي لها بوسائط في خلال المجتمع - كانت من الأنفال ومحكومة بحكمها، لصدق بياد الأهل عليها عرفا فتشملها أدلته التي مرت. وأما إن لم يتقادم عهدها بملاكها بل كانت بحيث يصدق عليها كونها لمالك مجهول فالظاهر كونها محكومة بحكمه، ولا دليل على افتراق حكم الأرض عن غيرها من الأموال التي جهل مالكها. هذا. وقد طال البحث في مسألة الأراضي وإحيائها. ومحل بحث هذه المسائل كتاب إحياء الموات، وإنما تعرضنا لبعضها هنا استطرادا، فراجع مظانها.
1 - المغني 6 / 149. 256 الفصل السادس في إشارة إجمالية إلى حكم سائر الضرائب التي ربما تمس الحاجة إلى تشريعها وضعها زائدا على الزكوات والأخماس والخراج والجزايا المعروفة المشروعة لا يخفى أن الظاهر من بعض الأخبار حرمة وضع العشور والكمارك ونحوها وذم الماكسين والعشارين. ولكن المستفاد من بعض الروايات جواز وضع العشور على تجار اليهود والنصارى، وأنها كانت تؤخذ من تجار أهل الذمة وأهل الحرب، بل وتجار المسلمين أيضا. وقد استقرت السيرة على أخذ العشور والكمارك في عصر الخلفاء إلى عصرنا هذا ووضع الضرائب والماليات على أهل المكنة والمستغلات والحرف حسب إمكاناتهم في البلاد الإسلامية. ولا شك أن إدارة شؤون البلاد لا يمكن إلا بتشريع نظام مالي كافل لسد جميع الخلات. ولا يكفي في ذلك ما نعرفه من الأخماس والزكوات نحوها. اللهم إلا أن يؤخذ بما احتملناه سابقا في بحث الزكاة من إحالة تعيين ما فيه الزكاة إلى حكام العصر الواجدين للشرائط فيدخل فيها كل ما شرع من قبلهم في كل عصر ومكان حسب الإمكانات والشرائط والحاجات. وكيف كان فلنبحث هنا أيضا في جهات:
257 الجهة الأولى: في التعرض لأخبار متفرقة يظهر منها إجمالا ذم العشارين: وهذا السنخ من الأخبار كثير جدا في كتب الفريقين نقتصر هنا على ذكر بعضها: 1 - ففي نهج البلاغة مخاطبا لنوف البكالي: " يا نوف، إن داود - عليه السلام - قام في مثل هذه الساعة من الليل فقال: إنها ساعة لا يدعو فيها عبد إلا استجيب له إلا أن يكون عشارا أو عريفا أو شرطيا أو صاحب عرطبة - وهي الطنبور - أو صاحب كوبة - وهي الطبل. " (1) ورواها في مصادر نهج البلاغة عن الخصال وكمال الدين للصدوق والمجالس للمفيد وحلية الأولياء وتاريخ بغداد وتاريخ دمشق ودستور معالم الحكم وكنز الفوائد، فراجع. (2) أقول: العشار لا يتعين فيمن يأخذ العشور المحرمة، بل كان يطلق العشر كثيرا على الصدقات الواجبة كما يظهر من الأخبار، اللهم إلا أن يقال بانصراف لفظ العشار إلى خصوص الآخذين للعشور غير المشروعة. والحكومة الحقة مثل الباطلة لا بد لها من عشار وشرطي وعريف، فيمكن أن يقال: إن هذه التعبيرات الواردة في الروايات مع غلظتها وردت لبيان خطورة هذه الحرف ولزوم الدقة والاحتياط فيها لكثرة وقوع الزلات فيها، وكل عشار رهين بحسن عمله وحساب ما جباه من الأموال، والحساب رقيق دقيق. ويمكن أن يحمل أخبار الذم على خصوص الظالمين.
1 - نهج البلاغة، فيض / 1134; عبده 3 / 174; لح / 487، الحكمة 104. 2 - راجع مصادر نهج البلاغة 4 / 96 و 97. 258 منهم في استيفاء الحقوق وهم كانوا كثيرين في تلك الأعصار كما سيأتي. وقد ورد نظير هذه التهديدات في العرافة كما مر في فصل الاستخبارات. ومع ذلك وردت روايات كثيرة تدل على مشروعية العرافة وأنه لا بد منها، فراجع ما حررناه هناك. ومثله الشرطي أيضا. 2 - وفي البحار عن أمالي الصدوق بسنده عن نوف البكالي، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " يا نوف، اقبل وصيتي: لا تكونن نقيبا ولا عريفا ولا عشارا ولا بريدا. " (1) 3 - وفيه أيضا عن الخصال بسنده عن نوف، قال: قال: أمير المؤمنين (عليه السلام): " يا نوف، إياك أن تكون عشارا أو شاعرا أو شرطيا أو عريفا أو صاحب عرطبة وهي الطنبور أو صاحب كوبة وهي الطبل، فإن نبي الله (عليه السلام) خرج ذات ليلة فنظر إلى السماء فقال: إنها الساعة التي لا يرد فيها دعوة إلا دعوة عريف أو دعوة شاعر أو دعوة عاشر أو شرطي أو صاحب عرطبة أو صاحب كوبة. " (2) 4 - وفيه أيضا عن الخصال بسنده، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا يدخل الجنة مدمن خمر... ولا عشار ولا قاطع رحم ولا قدري. " (3) 5 - وفيه أيضا عن ثواب الأعمال في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " على العشار كل يوم وليلة لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا. " (4) 6 - وفي مسند أحمد بسنده عن الحسن، قال: مر عثمان بن أبي العاص على كلاب بن أمية وهو جالس على مجلس العاشر بالبصرة فقال: ما يجلسك ههنا؟ قال: استعملني هذا على هذا المكان يعني زيادا. فقال له عثمان: ألا أحدثك
1 - بحار الأنوار 72 / 343 (= ط. إيران 75 / 343)، الباب 81 من أبواب كتاب العشرة، الحديث 33. 2 - بحار الأنوار 72 / 342 (= ط. إيران 75 / 342)، الباب 81 من أبواب كتاب العشرة، الحديث 30، عن الخصال / 338، باب الستة، الحديث 40. 3 - بحار الأنوار 72 / 343 (= ط. إيران 75 / 343)، الباب 81 من أبواب كتاب العشرة، الحديث 32. 4 - بحار الأنوار 73 / 369 (= ط. إيران 76 / 369)، الباب 67 من كتاب الآداب والسنن، الحديث 30. 259 حديثا سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: بلى. فقال عثمان: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: كان لداود نبي الله - عليه السلام - من الليل ساعة يوقظ فيها أهله فيقول: يا آل داود، قوموا فصلوا، فإن هذه ساعة يستجيب الله فيها الدعاء إلا لساحر أو عشار، فركب كلاب بن أمية سفينته فأتى زيادا فاستعفاه فأعفاه. (1) 7 - وفي المسند أيضا بسنده عن مالك بن عتاهية، قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " إذا لقيتم عشارا فاقتلوه. " ثم حكى عن قتيبة بن سعيد قال: " يعني بذلك الصدقة يأخذها على غير حقها. " (2) وروى الرواية مع التفسير أبو عبيد في الأموال أيضا، ورواها أيضا بلفظ آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من لقي صاحب عشور فليضرب عنقه. " (3) أقول: قال ابن الأثير في النهاية: " فيه: إن لقيتم عاشرا فاقتلوه. أي إن وجدتم من يأخذ العشر على ما كان يأخذه أهل الجاهلية مقيما على دينه فاقتلوه لكفره أو لاستحلاله لذلك إن كان مسلما وأخذه مستحلا وتاركا فرض الله وهو ربع العشر. فأما من يعشرهم على ما فرض الله - تعالى - فحسن جميل. وقد عشر جماعة من الصحابة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وللخلفاء بعده. " (4) 8 - وفي المسند أيضا بسنده عن عقبة بن عامر الجهني، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " لا يدخل الجنة صاحب مكس. " يعني العشار. (5) ورواه أيضا أبو عبيد بلا تفسير. ورواه الدارمي أيضا في سننه. ورواه أيضا أبو داود في السنن ثم روى عن ابن إسحاق قال: " الذي يعشر الناس يعني صاحب المكس. " (6)
1 - مسند أحمد 4 / 22. 2 - مسند أحمد 4 / 234. 3 - الأموال / 634. 4 - النهاية لابن الأثير 3 / 238. 5 - مسند أحمد 4 / 143 و 150. 6 - راجع الأموال / 632; وسنن الدارمي 1 / 393، باب كراهية أن يكون الرجل عشارا; وسنن أبي داود 2 / 120، كتاب الخراج والفئ والإمارة، باب في السعاية على الصدقة. 260 وفي النهاية: " فيه: لا يدخل الجنة صاحب مكس. المكس: الضريبة التي يأخذها الماكس وهو العشار. " (1) 9 - وفي المسند أيضا بسنده عن أبي الخير، قال: عرض مسلمة بن مخلد، وكان أميرا على مصر، على رويفع بن ثابت أن يوليه العشور فقال: إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " إن صاحب المكس في النار " ورواه أيضا أبو عبيد. (2) أقول: لا دلالة في هذا القبيل من الأخبار على إرادة الجباة للعشور غير المشروعة فقط، بل لعل المراد بالعشور فيها الزكوات المقدرة شرعا بالعشر ونصف العشر وربع العشر، ووردت هذه الأخبار للإشارة إلى ما كان عليه غالب العشارين في تلك الأعصار من الظلم والإجحاف والاعتداء، والمطالبة ثانيا ممن أدى زكاة ماله، وأخذ الزيادة باسم الهدايا ونحو ذلك، ولعل كلمة المكس مأخوذة من المماكسة فإنهم كانوا يماكسون الناس في أخذ الزيادة: قالب شمس الدين السرخسي في المبسوط: " العاشر من ينصبه الإمام على الطريق ليأخذ الصدقات من التجار وتأمن التجار بمقامه من اللصوص... والذي روي من ذم العشار محمول على من يأخذ مال الناس ظلما كما هو في زماننا دون من يأخذ ما هو حق وهو الصدقة. " (3) وفي خراج أبي يوسف قال: " حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي حميد الساعدي، قال: استعمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رجلا يقال له ابن اللتبية على صدقات بني سليم، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي إلى. قال: فقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على المنبر فحمد الله وأنثى عليه، ثم قال: " ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلى،
1 - النهاية لابن الأثير 4 / 349. 2 - مسند أحمد 4 / 109; والأموال / 632. 3 - المبسوط 2 / 199، كتاب الزكاة، باب العشر. 261 أفلا قعد في بيت أبيه وبيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته: إما بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر. " ثم رفع يديه حتى رؤى بياض إبطيه، فقال: اللهم هل بلغت؟ " (1) وروى نحو ذلك مسلم في صحيحة. (2) أقول: الرغاء: صوت الإبل، واليعار: صوت الشاة. وهذا الحديث ونحوه إخطار تهديد بالنسبة إلى من يستفيد من موقعيته الاجتماعية والسياسية استفادة شخصية ويزعم أنها محللة له. وفي الأموال لأبي عبيد بسنده، قال: " كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدى بن أرطاة: " أن ضع عن الناس الفدية، وضع عن الناس المائدة، وضع عن الناس المكس وليس بالمكس، ولكنه البخس الذي قال الله - تعالى -: " ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين " فمن جاءك بصدقة فاقبلها منه، ومن لم يأتك بها فالله حسيبه. " (3) فيظهر من هذه الروايات أن الإجحاف والاعتداء على الناس في أخذ الصدقات كان متعارفا في تلك الأعصار. والناس عبيد الدنيا إلا من عصم الله، ولعل الأمر بقتل العاشر فيما مر من حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا كان يراد به قتل من بلغ منهم حد الإفساد. وأما من يطمئن من نفسه بالاحتياط والتقوى ورعاية حال الضعفاء فتصديه لجباية الصدقات الأموال الشرعية والضرائب يكون مرغوبا فيه شرعا بل ربما يجب مع التعين. وفي خراج أبي يوسف بسنده عن رافع بن خديج، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " العامل على الصدقة بالحق كالغازي في سبيل الله. " (4) ورواه الحاكم في المستدرك بسنده، عن رافع، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وزاد في آخره: " حتى
1 - كتاب الخراج / 82. 2 - صحيح مسلم 3 / 1463، كتاب الإمارة، باب تحريم هدايا العمال، الحديث 1832. 3 - الأموال / 633. 4 - الخراج / 81. 262 يرجع إلى بيته. " وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم (1) هذا. وأما ما ورد في أخبارنا من الحلف كاذبا للعشارين لتخليص المال منهم: 1 - كما في صحيحة زرارة، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): " نمر بالمال على العشار فيطلبون منا أن نحلف لهم ويخلون سبيلنا ولا يرضون منا إلا بذلك، قال: فاحلف لهم فهو أحل (أحلى خ. ل) من التمر والزبد. " (2) 2 - وفي خبر الحلبي أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يحلف لصاحب العشور يجوز (يحرز خ. ل) بذلك ماله؟ قال: نعم. " (3) 3 - وفي خبر معمر بن يحيى، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إن معي بضائع للناس ونحن نمر بها على هؤلاء العشار فيحلفونا عليها فنحلف لهم؟ فقال: " وددت أني أقدر على أن أجيز أموال المسلمين كلها وأحلف عليها، كل ما خاف المؤمن على نفسه فيه ضرورة فله فيه التقية. " (4) 4 - وفي خبر إسماعيل الجعفي، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): " أمر بالعشار ومعي المال فيستحلفوني فإن حلفت تركوني وإن لم أحلف فتشوني وظلموني؟ فقال: " احلف لهم. قلت: إن حلفوني بالطلاق؟ قال: فاحلف لهم. قلت: فإن المال لا يكون لي؟ قال: تتقي مال أخيك. " (5) ونحوه صحيح إسماعيل الجعفي (6). إلى غير ذلك من الأخبار، فالظاهر أن هذا كان من جهة كونهم عشارين لحكومات الجور وكان أداء المال لهم تقوية لهم فكان الأولى تخليص المال منهم حتى الزكوات الواجبة، فتدبر.
1 - مستدرك الحاكم 1 / 406، كتاب الزكاة. 2 - الوسائل 16 / 135، الباب 12 من كتاب الأيمان، الحديث 6. 3 - الوسائل 16 / 135، الباب 12 من كتاب الأيمان، الحديث 8. 4 - الوسائل 16 / 136، الباب 12 من كتاب الأيمان، الحديث 16. 5 - الوسائل 16 / 136، الباب 12 من كتاب الأيمان، الحديث 17. 6 - الوسائل 15 / 298، الباب 18 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه، الحديث 5. 263 الجهة الثانية: في التعرض لبعض كلمات الأعلام وللأخبار الواردة في العشور: 1 - قال الشيخ في كتاب الجزية من الخلاف (المسألة 15): " إذا دخل حربي دار الإسلام أو أهل الذمة دخلوا الحجاز من غير شرط لما يؤخذ منهم فإنه لا يؤخذ منهم شيء وهو ظاهر مذهب الشافعي، وفي أصحابه من قال: يؤخذ من الذمي إذا دخل الحجاز سوى الحرم نصف العشر، وفي الحربي إذا دخل دار الإسلام العشر. وقال أبو حنيفة: يؤخذ منهم ما يأخذون هم من المسلمين إذا دخلوا دار الحرب: فإن عشروهم عشرناهم وإن أخذوا منهم نصف العشر فمثل ذلك. وإن عفوا عنهم عفونا عنهم. دليلنا أن الأصل براءة الذمة وتقدير ما يؤخذ منهم يحتاج إلى شرع أو شرط، وليس ههنا واحد منهما. " (1) 2 - وفي الجزايا من المبسوط: " لا يجوز للحربي أن يدخل إلى دار الإسلام إلا بإذن الإمام. ويجوز أن يدخلها بغير إذنه لمصلحة من أداء رسالة أو عقد هدنة وما أشبه ذلك... فأما إن استأذن في الدخول فإن كان في رسالة بعقد هدنة أو أمان إلى مدة ترك بغير عوض. وإن كان لنقل ميرة إلى المسلمين بهم غنى عنها أو لتجارة لم يجز تركه إلا بعوض يشرط عليه حسب ما يراه الإمام من المصلحة سواء كان عشرا أو أقل أو أكثر... وأما أهل الذمة إذا اتجروا في سائر بلاد الإسلام ما عدا الحجاز لم يمنعوا من ذلك
1 - الخلاف 3 / 240. 264 لأنه مطلق لهم ويجوز لهم الإقامة فيها ما شاؤوا. وأما الحجاز فلا يدخلون الحرم منه على حال وما عداه على ما قدمناه في دخول أهل الحرب بلاد الإسلام في أكثر الأحكام... إذا دخل أهل الذمة الحجاز، أو أهل الحرب دخلوا بلد الإسلام من غير شرط فإن للإمام أن يأخذ منهم مثل ما لو دخلوها بإذن. وقيل: ليس له أن يأخذ منهم شيئا وهو قوي لأن الأصل براءة الذمة. وقيل إنهم يعاملون بما يعامل المسلمون إذا دخلوا بلاد الحرب سواء. إذا اتجر أهل الذمة في الحجاز فإنه يؤخذ منهم ما يجب عليهم في السنة مرة واحدة بلا خلاف. وأما أهل الحرب إذا اتجروا في بلاد الإسلام فالأحوط أن يؤخذ منهم في كل دفعة يدخلونها لأنهم ربما لا يعودون. وقيل: إنه لا يؤخذ منهم إلا في السنة دفعة واحدة يكتب لهم براءة إلى مثله من الحول. " (1) 3 - وقال العلامة في جهاد التذكرة: " مسألة: مع أداء الجزية لا يؤخذ سواها، سواء اتجروا في بلاد الإسلام أو لم يتجروا إلا في أرض الحجاز على ما يأتي، وبه قال الشافعي لقوله - تعالى -: " حتى يعطوا الجزية. " جعل إباحة الدم ممتدا إلى إعطاء الجزية، وما بعد الغاية يخالف ما قبلها. وما رواه العامة من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " فادعهم إلى الجزية فإن أجابوك فدعهم وكف عنهم. " ومن طريق الخاصة رواية محمد بن مسلم في الصحيح عن الباقر (عليه السلام) في أهل الجزية أيؤخذ من أموالهم ومواشيهم شيء سوى الجزية؟ قال: لا. (2) وقال أحمد: إذا خرج من بلده إلي أي بلد كان من بلاد الإسلام تاجرا أخذ منه نصف العشر لقوله (عليه السلام): " ليس على المسلمين عشور، إنما العشور على اليهود والنصاري. " ويحتمل أن يطلق لفظ العشور على الجزية أو يحمل على المتجرين بأرض الحجاز. " (3) وذكر نحو ذلك في المنتهى أيضا، فراجع. (4)
1 - المبسوط 2 / 48. 2 - الوسائل 11 / 115، الباب 68 من أبواب جهاد العدو...، الحديث 4. 3 - التذكرة 1 / 442. 4 - المنتهى 2 / 967. 265 أقول: واستثناء أرض الحجاز من جهة كونهم ممنوعين من دخولها فإن دخلوها صاروا بحكم أهل الحرب، كما يأتي في عبارته الآتية. 4 - وفي التذكرة أيضا: " إذا استأذن الحربي في دخول دار الإسلام أذن له الإمام إن كان يدخل للرسالة أو حمل ميرة أو متاع تشتد حاجة المسلمين إليه، ولا يجوز توظيف مال على الرسول المستجير لسماع كلام الله - تعالى -، فإن لهما الدخول من غير إذن. وإن كان يدخل لتجارة لا تشتد الحاجة إليها فيجوز أن يأذن له، ويشترط عليه عشر ما معه من مال التجارة لأنه لما ارتفق بالتجارة جعل عليه في مقابلة إرفاقه شيء. وإنما يؤخذ العشر من مال التجارة ولا يعشر ما معه من ثوب ومركوب. وللشافعية وجهان في أنه هل يجوز للإمام أن يزيد المشروط على العشر، أصحهما عنده الجواز. وكذا يجوز نقصها فيرد العشر إلى نصف العشر فما دون خصوصا فيما تكثر حاجة المسلمين إليه كالميرة... وأما الذمي فله أن يتجر فيما سوى الحجاز من بلاد الإسلام ولا يؤخذ من تجارته شيء إلا أن يشترط عليه مع الجزية. ثم الذمي في بلد الحجاز كالحربي في بلد الإسلام. لا يؤخذ منهما في كل حول إلا مرة واحدة إذا كان يدور في بلاد الإسلام تاجرا يكتب له وللذمي براءة حتى لا يطالب في بلد آخر قبل مضى الحول... فأما إذا أذن للحربي في دخول دار الإسلام أو الذمي في دخول الحجاز بلا شرط فوجهان: أحدهما يؤخذ حملا للمطلق على المعهود، والثاني المنع لأنهم لم يلتزموا. وقال أبو حنيفة: إن كانوا يأخذون من المسلمين إذا دخلوا دارهم تجارا أخذ منهم مثل ما يأخذون وإن لم يشترط، وإلا فلا يؤخذ منهم. واعترض عليه بأنه مجازاة غير الظالم... " (1) 5 - وقال في المنتهى: " لا يجوز لأهل الحرب أن يدخلوا بلاد الإسلام إلا بإذن الإمام... وأما إذا كان
1 - التذكرة 1 / 444. 266 تاجرا لا يحتاج المسلمون إلى تجارته كالبر والعطر وغير ذلك لم يأذن له إلا بعوض يشترط عليه بحسب ما يراه الإمام من مصلحة من قليل أو كثير سواء كان عشر أموالهم أو لم يكن، ولو أذن لهم بغير عوض للمصلحة جاز لأن ذلك إلى اجتهاده. ولو أذن لهم في الدخول مطلقا ولم يشترط العوض ولا عدمه فللشافعي قولان. أحدهما: أنه ليس له أن يطالبهم بالعوض لأنه لم يشترطه عليهم فلم يستحق كما لو أذن لهم بغير عوض. والثاني: يؤخذ منهم العشر لأن مطلق الإذن يحمل على المعهود في الشرع، وقد أخذ عمر منهم فيؤخذ ذلك. وقوى الشيخ " ره " الأول وهو جيد عملا ببراءة الذمة وعدم المعارض. وقال أبو حنيفة: ينظر الإمام فإن كانوا يأخذون من المسلمين إذا دخل عليهم العشر أخذ منهم مثله وإن لم يأخذه شيئا لم يعشرهم لأنهم إذا فعلوا ذلك فقد رضوا به. وقال أحمد: يؤخذ منهم العشر مطلقا لأن عمر أخذ العشر ولم ينقل أنه شرط ذلك عليهم، واشتهر ذلك بين الصحابة وعمل به الخلفاء بعده فكان إجماعا. ونحن نمنع ذلك مطلقا... " (1) 6 - وفي خراج أبي يوسف: " أما العشور فرأيت أن توليها قوما من أهل الصلاح والدين وتأمرهم أن لا يتعدوا على الناس فيما يعاملونهم به فلا يظلموهم ولا يأخذوا منهم أكثر مما يجب عليهم... ثم يؤخذ من المسلمين ربع العشر، ومن أهل الذمة نصف العشر، ومن أهل الحرب العشر من كل ما مر به على العاشر وكان للتجارة وبلغ قيمة ذلك مأتي درهم فصاعدا أخذ منه العشر، وإن كانت قيمة ذلك أقل من مأتي درهم لم يؤخذ منه شيء. وكذلك إذا بلغت القيمة عشرين مثقالا أخذ منها العشر... وإذا مر عليه بمأتي درهم مضروبة أو عشرين مثقالا تبرا أو مأتي درهم تبرا أو عشرين مثقالا مضروبة أخذ من ذلك ربع العشر من المسلم نصف العشر من الذمي والعشر من الحربي ثم لا يؤخذ منها شيء إلى مثل ذلك الوقت من الحول وإن مر بها غير مرة.
1 - المنتهى 2 / 971. 267 وكذا إذا مر بمتاع قد اشتراه للتجارة فإن كان المتاع يساوي مأتي درهم أو عشرين مثقالا أخذ منه... وما لم يكن من مال التجارة ومروا به على العاشر فليس يؤخذ منه شيء... قال: يعشر الذمي التغلبي، والذمي من أهل نجران كسائر أهل الذمة من أهل الكتاب في أخذ نصف العشر منهم. والمجوس والمشركون في ذلك سواء. قال: وإذا مر التاجر على العاشر بمال أو بمتاع وقال: قد أديت زكاته وحلف على ذلك فإن ذلك يقبل منه ويكف عنه، ولا يقبل في هذا من الذمي ولا من الحربي لأنه لا زكاة عليهما يقولان قد أديناها... قال أبو يوسف: فإن عمر بن الخطاب وضع العشور، فلا بأس بأخذها إذا لم يتعد فيها على الناس ويؤخذ بأكثر مما يجب عليهم. وكل ما أخذ من المسلمين من العشور فسبيله سبيل الصدقة وسبيل ما يؤخذ من أهل الذمة جميعا وأهل الحرب سبيل الخراج... " (1) أقول: لا يخفى أن أبا يوسف تلميذ أبي حنيفة ومع ذلك لم يفرق في كلامه بين أخذهم من المسلمين وعدمه كما مر عن أبي حنيفة ولا بين صورة الاشتراط وعدمه كما مر عن الشافعي وغيره، بل حكم بجواز الأخذ مطلقا كما عن أحمد. 7 - وفي أم الشافعي بعد نقل ما رواه مالك من أخذ عمر من النبط كما يأتي قال: " لست أحسب عمر أخذ ما أخذ من النبط إلا عن شرط بينه وبينهم كشرط الجزية، كذلك أحسب عمر بن عبد العزيز أمر بالأخذ منهم، ولا يأخذ من أهل الذمة شيئا إلا عن صلح. ولا يتركون يدخلون الحجاز إلا بصلح ويحدد الإمام فيما بينه وبينهم في تجاراتهم وجميع ما شرط عليهم أمرا يبين لهم وللعامة ليأخذهم به الولاة غيره. ولا يترك أهل الحرب يدخلون بلاد المسلمين تجارا فإن دخلوا بغير أمان ولا رسالة
1 - الخراج / 132 - 134. 268 غنموا. وإن دخلوا بأمان وشرط أن يأخذ منهم عشرا أو أكثر أو أقل أخذ منهم. فإن دخلوا بلا أمان ولا شرط ردوا إلى مأمنهم ولم يتركوا يمضون في بلاد الإسلام، ولا يؤخذ منهم شيء وقد عقد لهم الأمان إلا عن طيب أنفسهم، وإن عقد لهم الأمان على دمائهم لم يؤخذ من أموالهم شيء إن دخلوا بأموال إلا بشرط على أموالهم أو طيب أنفسهم. قال الشافعي: وسواء كان أهل الحرب بين قوم يعشرون المسلمين إن دخلوا بلادهم أو يخمسونهم لا يعرضون لهم في أخذ شيء من أموالهم إلا عن طيب أنفسهم أو صلح يتقدم منهم أو يؤخذ غنيمة أو فيئا إن لم يكن لهم ما يأمنون به على أموالهم. " (1) 8 - وفي المدونة الكبرى في فتاوى مالك: " قلت: أرأيت النصراني إذا تجر في بلدة... فإذا خرج من بلدة إلى غيرها من بلاد المسلمين تاجرا لم يؤخذ منه مما حمل قليل ولا كثير حتى يبيع. فإن أراد أن يرد متاعه إلى بلاد أو يرتحل به إلى بلاد أخرى فذلك له وليس لهم أن يأخذوا منه شيئا إذا خرج من عندهم بحال ما دخل عليهم ولم يبع في بلادهم شيئا ولم يشتر عندهم شيئا. فإن كان قد اشترى عندهم شيئا بمال ناض كان معه أخذ منه العشر مكانه من السلعة التي اشترى حين اشترى... قلت: وإن دخل عليهم بغير مال ناض إنما دخل عليهم بلادهم بمتاع متى يؤخذ منه؟ فقال: إذا باعه. قلت: فإذا باعه أخذ منه العشر مكانه من ثمن المتاع؟ قال: نعم... قلت: أرأيت الذمي إذا خرج بمتاع إلى المدينة فباع بأقل من مأتي درهم أيؤخذ منه العشر؟ فقال: نعم. قلت: فيؤخذ منه مما قل أو كثر؟ فقال: نعم. قلت: وهذا قول مالك؟ فقال: نعم. " (2) أقول: فمالك جعل العشر في كل ما يبيعه أهل الذمة أو يشتريه فيؤخذ منه فورا لم يحدد له نصابا. 9 - وفي مختصر الخرقي في فقه الحنابلة: " ومن يجز من أهل الذمة إلى غير بلده أخذ منه نصف العشر في السنة. " (3)
1 - الأم 4 / 125، كتاب الجزية، ذكر ما أخذ عمر من أهل الذمة. 2 - المدونة الكبرى 1 / 240، تعشير أهل الذمة. 3 - المغني لابن قدامة 10 / 597. 269 قال ابن قدامة في شرح العبارة: " اشتهر هذا عن عمر وصحت الرواية عنه به. وقال الشافعي: ليس عليه إلا الجزية... " (1) وفي المختصر أيضا: " وإذا دخل إلينا منهم تاجر حربي بأمان أخذ منه العشر. " وقال ابن قدامة في شرح العبارة: " وقال أبو حنيفة: لا يؤخذ منه شيء إلا أن يكونوا يأخذون منا شيئا فنأخذ منهم مثله.. وقال الشافعي: إن دخل إلينا بتجارة لا يحتاج إليها المسلمون لم يأذن له الإمام إلا بعوض يشرطه عليه ومهما شرط جاز، ويستحب أن يشترط العشر ليوافق فعله فعل عمر... ولنا ما رويناه في المسألة التي قبلها، وأن عمر أخذ منهم العشر، واشتهر ذلك فيما بين الصحابة، وعمل به الخلفاء الراشدون بعده والأئمة بعده في كل عصر من غير نكير، فأي إجماع يكون أقوى من هذا؟ ولم ينقل أنه شرط ذلك عليهم عند دخولهم... " (2) 10 - وفي بدائع الصنائع في فقه الحنفية: " وأما القدر المأخوذ مما يمر به التاجر على العاشر فالمار لا يخلوا إما أن كان مسلما أو ذميا أو حربيا، فإن كان مسلما يأخذ منه في أموال التجارة ربع العشر لأن المأخوذ منه زكاة... وإن كان ذميا يأخذ منه نصف العشر ويؤخذ على شرائط الزكاة لكن يوضع موضع الجزية والخراج ولا تسقط عنه جزية رأسه... وإن كان حربيا يأخذ منه ما يأخذونه من المسلمين فإن علم أنهم يأخذون منا ربع العشر أخذ منهم ذلك القدر، وإن كان نصفا فنصف، وإن كان عشرا فعشر... فإن كان لا يعلم ذلك يأخذ منه العشر. وأصله ما روينا عن عمر أنه كتب إلى العشار في الأطراف أن خذوا من المسلم
1 - المغني لابن قدامة 10 / 597. 2 - المغني لابن قدامة 10 / 602. 270 ربع العشر ومن الذمي نصف العشر ومن الحربي العشر، وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم يخالفه أحد منهم فيكون إجماعا منهم على ذلك. وروي أنه قال: " خذوا منهم ما يأخذون من تجارنا. " فقيل له: إن لم نعلم ما يأخذون من تجارنا؟ فقال: " خذوا منهم العشر. " ما يؤخذ منهم فهو في معنى الجزية. " (1) فهذه بعض كلمات الأعلام في المقام; فحكم البعض بجواز أخذ العشر أو نصف العشر أو ربع العشر مطلقا، وبعضهم بجواز الأخذ مع الاشتراط، وإلا فلا، وبعضهم بجواز الأخذ منهم إن أخذوا منا، وبعضهم بالأخذ بعد البيع أو الشراء. وظاهر الجميع أن المأخوذ من المسلم زكاة مال التجارة المشروعة سنوية. والأكثر استدلوا للمسألة بفعل عمر وقوله، فكأنه لم يثبت عندهم صحة الروايات المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا المجال أو إطلاقها سيأتي ذكرها. وقد تعرض فقهاء السنة لفروع العشر وحكم العاشر في كتاب الزكاة أو باب الجزية من الجهاد، وأرادوا بالعاشر من نصبه الإمام على الطريق ليأخذ الصدقات والعشور من المارين بأموالهم مسلما كان المار أو ذميا أو حربيا، فراجع مبسوط السرخسي وحاشية ابن عابدين (2) وغيرهما مما مر بعضها. وقد تعرضوا لذلك لما استمر عليه سيرة خلفائهم وحكامهم في مقام العمل. وراجع لتفصيل المسألة أيضا كتاب آثار الحرب للدكتور وهبة الزحيلي. (3) وأما الأخبار الواردة في العشور وقد وردت من طرق السنة: 1 - فروى أبو داود في كتاب الخراج من السنن بسنده، عن حرب بن عبيد الله، عن جده أبي أمه، عن أبيه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنما العشور على اليهود
1 - بدائع الصنائع 2 / 38، كتاب الزكاة. 2 - مبسوط السرخسي 2 / 199; وحاشية ابن عابدين 2 / 37 وما بعدها، باب العاشر. 3 - آثار الحرب / 524 وما بعدها. 271 والنصارى، ليس على المسلمين عشور. " وروى بسند آخر عن حرب بن عبيد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمعناه وقال: " خراج " مكان " العشور. " (1) أقول: فالحديث على فرض صحته النقلان فيه يتعارضان ويتساقطان. ولعل المراد بالخراج فيه الجزية. وعلى فرض صحة النقل الأول فلا إطلاق للفقرة الأولى منه حتى يدل على جواز أخذ العشور منهم وإن لم تشترط، إذ محط النظر في الحديث هو الفقرة الثانية منه أعني عقد النفي كما لا يخفى. 2 - وفي الزكاة من سنن الترمذي في ذيل حديث: " ليس على المسلمين جزية " قال: وقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " ليس على المسلمين جزية عشور " إنما يعني به جزية الرقبة. وفي الحديث ما يفسر هذا، حيث قال: " إنما العشور على اليهود والنصارى، وليس على المسلمين عشور. " (2) أقول: تفسير العشور بالجزية على الرقبة من اجتهاد الترمذي، ولا دليل على صحة اجتهاده. 3 - وفي سنن أبي داود أيضا بسنده، عن رجل من بكر بن وائل، عن خاله، قال: قلت: يا رسول الله، أعشر قومي؟ قال: " إنما العشور على اليهود والنصارى. " (3) ورواه عنه أحمد أيضا وزاد في آخره: " وليس على الإسلام عشور. " (4) 4 - وفي سنن أبي داود أيضا بسنده، عن رجل من بني تغلب، قال: أتيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأسلمت وعلمني الإسلام، وعلمني كيف آخذ الصدقة من قومي ممن أسلم ثم رجعت إليه فقلت: يا رسول الله، كل ما علمتني قد حفظت إلا الصدقة أفأعشرهم؟ قال: " لا، إنما العشور على النصارى واليهود. " (5)
1 - سنن أبي داود 2 / 151، كتاب الخراج والفئ والإمارة، باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات. 2 - سنن الترمذي 2 / 73، أبواب الزكاة، الباب 11 (باب ما جاء ليس على المسلمين جزية)، الحديث 629. 3 - سنن أبي داود 2 / 151، كتاب الخراج والفئ والإمارة، باب في تعشير أهل الذمة... 4 - مسند أحمد 4 / 322. 5 - سنن أبي داود 2 / 151، كتاب الخراج والفئ والإمارة، باب في تعشير أهل الذمة... 272 وقد تعرض لهذه الأخبار البيهقي في السنن ثم قال: " وهذا إن صح فإنما أراد - والله أعلم - تعشير أموالهم إذا اختلفوا بالتجارة، فإذا أسلموا رفع ذلك عنهم. " (1) أقول: فيظهر من البيهقي الترديد في صدور هذا الخبر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). ويؤيد ذلك أن أكثر فقهائهم يتمسكون لجواز أخذ العشور بفعل عمر وقوله لا بقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما مرت عباراتهم. وفي نهاية ابن الأثير في لغة " عشر " قال: " ومنه الحديث: ليس على المسلمين عشور، إنما العشور على اليهود والنصارى. العشور: جمع عشر يعني ما كان من أموالهم للتجارات دون الصدقات. والذي يلزمهم من ذلك عند الشافعي ما صولحوا عليه وقت العهد، فإن لم يصالحوا على شيء فلا يلزمهم إلا الجزية. وقال أبو حنيفة: إن أخذوا من المسلمين إذا دخلوا بلادهم للتجارة أخذنا منهم إذا دخلوا بلادنا للتجارة. ومنه الحديث: احمدوا الله، إذ رفع عنكم العشور. يعنى ما كانت الملوك تأخذه منهم. وفيه: أن وفد ثقيف اشترطوا أن لا يحشروا ولا يعشروا ولا يجبوا، أي لا يؤخذ عشر أموالهم. " (2) 5 - وفي نصب الراية بسنده عن أنس بن مالك، قال: " فرض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أموال المسلمين في كل أربعين درهما درهم، وفي أموال أهل الذمة في كل عشرين درهما درهم، وفي أموال من لا ذمة له من كل عشرة دراهم درهم. " (3) رواه الطبراني في الأوسط. ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد أيضا. (4) وفي نصب الراية عن الطبراني: " لم يسند هذا الحديث إلا محمد بن المعلى، تفرد به زنيج. وقد رواه أيوب وسلمة بن علقمة ويزيد بن إبراهيم وجرير بن حازم وحبيب بن الشهيد والهيثم الصيرفي وجماعة
1 - سنن البيهقي 9 / 199، كتاب الجزية، باب الذمي يسلم فيرفع عنه الجزية ولا يعشر ماله... 2 - النهاية 3 / 239. 3 - نصب الراية 2 / 379، كتاب الزكاة، باب فيمن يمر على العاشر. 4 - مجمع الزوائد 3 / 70، كتاب الزكاة، فيما تجب فيه الزكاة. 273 عن أنس بن سيرين عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب فرض. " فذكر الحديث. (1) أقول: يأتي نقل الخبر عن أنس عن عمر بأسانيد مختلفة، والظاهر أنه الصحيح. 6 - وفي باب العشر من مبسوط السرخسي: " قد روي أن عمر بن الخطاب أراد أن يستعمل أنس بن مالك على هذا العمل، فقال له: أتستعملني على المكس من عملك؟ فقال: ألا ترضى أن أقلدك ما قلدنيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ " (2) أقول: لم أعثر على هذا النقل في كتب حديث السنة. بل ورد نظير هذه المقاولة بين أنس بن سيرين وأنس بن مالك فقال له: " ألا ترضى أن أجعلك على ما جعلني عليه عمر بن الخطاب؟ (3) " وسيأتي نقله. فهذه ما وقفت عليه عاجلا من الرواية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الباب. 7 - وفي المصنف لعبد الرزاق بسنده عن مسلم بن سكرة أنه سأل ابن عمر: أعلمت عمر أخذ من المسلمين العشور؟ قال: لم أعلمه، لم أعلمه. وروى أبو عبيد بسنده عن مسلم بن شكرة نحوه. قال: وقال غير حجاج: مسلم بن المصبح. (4) 8 - وروى أبو عبيد بسنده عن زياد بن حدير، يقول: أنا أول عاشر عشر في الإسلام، قلت: ومن كنتم تعشرون؟ قال: ما كنا نعشر مسلما ولا معاهدا، كنا نعشر نصارى بني تغلب. (5) 9 - وفي سنن البيهقي بسنده عن زياد بن حدير، قال: بعثني عمر إلى نصارى بني تغلب وأمرني أن آخذ منهم نصف عشر أموالهم، ونهاني أن أعشر مسلما أو ذا
1 - نصب الراية 2 / 379، كتاب الزكاة باب فيمن يمر على العاشر. 2 - مبسوط السرخسي 2 / 199، كتاب الزكاة، باب العشر. 3 - سنن البيهقي 9 / 210، كتاب الجزية، باب ما يؤخذ من الذمي إذا اتجر في غير بلده... 4 - المصنف 4 / 139، كتاب الزكاة، باب العشور، الرقم 7248; والأموال / 634. 5 - الأموال / 635. 274 ذمة يؤدي الخراج. (1) 10 - وروى أبو عبيد بسنده عن عبد الرحمن بن معقل، قال: سألت زياد بن حدير: من كنتم تعشرون؟ قال: ما كنا نعشر مسلما ولا معاهدا. قلت: فمن كنتم تعشرون؟ قال: تجار الحرب كما كانوا يعشروننا إذا أتيناهم. (2) ورواه البيهقي بسنده، عن عبد الله بن معقل، عن زياد بن حدير. (3) ورواه يحيى القرشي في خراجه بسنده، عن عبد الله بن مغفل، عن زياد بن حدير. (4) 11 - وفي خراج أبي يوسف: " حدثني إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، قال: سمعت أبي يذكر، قال: سمعت زياد بن حدير قال: أول من بعث عمر بن الخطاب على العشور أنا. قال: فأمرني أن لا أفتش أحدا، وما مر على من شيء أخذت من حساب أربعين درهما درهما واحدا من المسلمين. ومن أهل الذمة من كل عشرين واحدا، وممن لا ذمة له العشر. قال: وأمرني أن أغلظ على نصارى بني تغلب، وقال: إنهم قوم من العرب ليسوا بأهل كتاب فلعلهم يسلمون. قال: وكان عمر قد اشترط على نصارى بني تغلب أن لا ينصروا أبناءهم. " (5) 12 - وفيه أيضا بسنده عن زياد بن حدير الأسدي: " أن عمر بن الخطاب بعثه على عشور العراق والشام وأمره أن يأخذ من المسلمين ربع العشر، ومن أهل الذمة نصف العشر، ومن أهل الحرب العشر. الحديث. " (6) 13 - وفيه أيضا بسنده عن زياد بن حدير أنه مد حبلا على الفرات فمر عليه
1 - سنن البيهقي 9 / 218، كتاب الجزية، باب ما جاء في تعشير أموال بني تغلب... 2 - الأموال / 635. 3 - سنن البيهقي 9 / 211، كتاب الجزية، باب ما يؤخذ من الذمي إذا اتجر في غير بلده... 4 - كتاب الخراج / 169. 5 - الخراج / 135. 6 - الخراج / 135. 275 رجل نصراني فأخذ منه، ثم انطلق فباع سلعته فلما رجع مر عليه فأراد أن يأخذ منه، فقال: كلما مررت عليك تأخذ مني؟ فقال: نعم. فرحل الرجل إلى عمر بن الخطاب فوجده بمكة يخطب الناس. الحديث. " (1) 14 - وفي سنن البيهقي بسنده عن زياد بن حدير، قال: كتبت إلى عمر في أناس من أهل الحرب يدخلون أرضنا أرض الاسلام فيقيمون. قال: فكتب إلى عمر: " إن أقاموا ستة أشهر فخذ منهم العشر، وإن أقاموا سنة فخذ منهم نصف العشر. " (2) أقول: لا يخفى وجود التهافت بين ما روي عن زياد بن حدير في هذا الباب، إلا أن يحمل على اختلاف الأزمنة. 15 - وفي خراج أبي يوسف: حدثنا أبو حنيفة، عن القاسم، عن أنس بن سيرين، عن أنس بن مالك، قال: " بعثني عمر بن الخطاب على العشور وكتب لي عهدا أن آخذ من المسلمين مما اختلفوا فيه لتجاراتهم ربع الشعر، ومن أهل الذمة نصف العشر، ومن أهل الحرب العشر. " (3) 16 - وفي سنن البيهقي بسنده، عن أبي حنيفة، عن الهيثم وكان صيرفيا بالكوفة، عن أنس بن سيرين أخي محمد بن سيرين، قال: " جعل عمر بن الخطاب أنس بن مالك على صدقة البصرة فقال لي أنس بن مالك: أبعثك على ما بعثني عليه عمر بن الخطاب، فقلت: لا أعمل ذلك حتى تكتب لي عهد عمر بن الخطاب الذي عهد إليك. فكتب لي: " أن خذ من أموال المسلمين ربع العشر، ومن أموال أهل الذمة إذا اختلفوا للتجارة نصف العشر، ومن أموال أهل الحرب العشر. " (4) أقول: يشبه أن يكون الهيثم في سند هذا الحديث والقاسم في سند ما قبله أحدهما مصحفا من الآخر. ولا يخفى ما في التعبير عن مطلق العشور بالصدقة من
1 - الخراج / 136. 2 - سنن البيهقي 9 / 210، كتاب الجزية، باب ما يؤخذ من الذمي إذا اتجر في غير بلده... 3 - الخراج / 135. 4 - سنن البيهقي 9 / 210، كتاب الجزية، باب ما يؤخذ من الذمي إذا اتجر في غير بلده... 276 الخفاء، ولكن التعبير من أنس بن سيرين. 17 - وفي السنن أيضا بسنده عن أنس بن سيرين، قال: أرسل إلى أنس بن مالك، فأبطأت عليه، ثم أرسل إلى فأتيته، فقال: إن كنت لأرى لوأني أمرتك أن تعض على حجر كذا وكذا ابتغاء مرضاتي لفعلت. اخترت لك خير عمل فكرهته، إني أكتب لك سنة عمر. قلت: فاكتب لي سنة عمر. قال: فكتب: " من المسلمين من كل أربعين درهما درهم. ومن أهل الذمة من كل عشرين درهما درهم. وممن لا ذمة له من كل عشرة دراهم درهم. " قال: قلت: من لا ذمة له؟ قال: " الروم، كانوا يقدمون الشام. " (1) 18 - وفي السنن أيضا بسنده عن أنس بن سيرين، قال: بعثني أنس بن مالك على العشور، فقلت: تبعثني على العشور من بين علمك (غلمتك - ظ.)؟ فقال: ألا ترضى أن أجعلك على ما جعلني عليه عمر بن الخطاب، أمرني أن آخذ من المسلمين ربع العشر، من أهل الذمة نصف العشر، وممن لا ذمة له العشر. (2) 19 - وفي خراج أبي يوسف: " حدثنا محمد بن عبد الله، عن أنس بن سيرين، قال: " أرادوا أن يستعملوني على عشور الأبلة، فأبيت، فلقيني أنس بن مالك فقال: ما يمنعك؟ فقلت: العشور أخبث ما عمل عليه الناس. قال: فقال لي: لا تفعل، عمر صنعه; فجعل على أهل الاسلام ربع العشر، وعلى أهل الذمة نصف العشر، وعلى المشركين ممن ليس له ذمة العشر. " (3) في النهاية في معنى الأبلة: " هي بضم الهمزة والباء وتشديد اللام: البلد المعروف قرب البصرة من جانبها البحري. " (4)
1 - سنن البيهقي 9 / 210، كتاب الجزية، باب ما يؤخذ من الذمي إذا اتجر في غير بلده... 2 - سنن البيهقي 9 / 210، كتاب الجزية، باب ما يؤخذ من الذمي إذا اتجر في غير بلده... 3 - الخراج / 137. 4 - النهاية 1 / 16. 277 أقول: والظاهر أنها معربة " پل " بمعنى الجسر، وكان البلد مرسى سفن البصرة ومحلا لأخذ العشور ولذا يطلق عليه في أعصارنا: " العشار ". ويظهر مما مر من خبر زياد بن حدير ومن استدلال أنس بصنع عمر عدم تعارف أخذ العشر في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عدم ثبوت ما روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا المجال عندهم وإلا كان الأوفق الاستدلال بها. ولم يرد بالعشر في هذه الروايات زكاة التجارة المشروعة في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشرائطها التي منها الحول، بل كان أمرا يشبه الحقوق الجمركية المتعارفة في أعصارنا، ويظهر من الروايات أنه كان أمرا منكرا عندهم. نعم يمكن أن يقال إن المأخوذ من المسلمين كان بعنوان زكاة التجارة ولذا كان يؤخذ منهم ربع العشر، فتأمل. 20 - وفي خراج أبي يوسف أيضا: حدثنا عاصم بن سليمان، عن الحسن، قال: كتب أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب: " أن تجارا من قبلنا من المسلمين يأتون أرض الحرب فيأخذون منهم العشر. " قال: فكتب إليه عمر: " خذ أنت منهم كما يأخذون من تجار المسلمين، وخذ من أهل الذمة نصف العشر ومن المسلمين من كل أربعين درهما درهما، وليس فيما دون المأتين شيء، فإذا كانت مأتين ففيها خمسة دراهم وما زاد فبحسابه. " (1) وروى نحوه البيهقي أيضا وروى نحوه يحيى القرشي أيضا في خراجه. (2) 21 - ورواه يحيى القرشي في خراجه أيضا بسنده عن الحسن هكذا: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري: أن خذ من تجار المسلمين من كل مأتين خمسة دراهم، وما زاد على المأتين فمن كل أربعين درهما درهم، ومن تجار أهل الخراج نصف العشر، ومن تجار المشركين ممن لا يؤدي الخراج العشر. قال: يعني أهل الحرب. (3)
1 - الخراج / 135. 2 - سنن البيهقي 9 / 210، كتاب الجزية، باب ما يؤخذ من الذمي إذا اتجر في غير بلده...; وخراج يحيى القرشي / 169. 3 - الخراج / 169. 278 22 - وفي خراج أبي يوسف أيضا: حدثنا عبد الملك بن جريج، عن عمرو بن شعيب أن أهل منبج - قوم من أهل الحرب - وراء البحر كتبوا إلى عمر بن الخطاب: " دعنا ندخل أرضك تجارا وتعشرنا. " قال: فشاور عمر أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك، فأشاروا عليه به، فكانوا أول من عشر من أهل الحرب. ورواه عبد الرزاق في المصنف أيضا. (1) 23 - وفي زكاة الموطأ: " حدثني يحيى، عن مالك، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه: أن عمر بن الخطاب كان يأخذ من النبط من الحنطة والزيت نصف العشر; يريد بذلك أن يكثر الحمل إلى المدينة ويأخذ من القطنية العشر. " (2) 24 - وفيه أيضا: " وحدثني عن مالك، عن ابن شهاب، عن السائب بن يزيد أنه قال: كنت غلاما عاملا مع عبد الله بن عتبة بن مسعود على سوق المدينة في زمان عمر بن الخطاب فكنا نأخذ من النبط العشر. وحدثني عن مالك أنه سأل ابن شهاب على أي وجه كان يأخذ عمر بن الخطاب من النبط العشر، فقال ابن شهاب: كان ذلك يؤخذ منهم في الجاهلية فألزمهم ذلك عمر. " (3) أقول: وروى في الأم الخبرين عن مالك ورفع التهافت بينهما بوجهين: الأول: أن يحمل العشر في خبر السائب على عشر القطنية. الثاني: أن يكون الاختلاف باختلاف الوقت، قال: " ولعله كله بصلح يحدثه في وقت برضاه ورضاهم. " (4) وروى الخبرين أبو عبيد أيضا بسنده عن مالك. (5) ورواهما البيهقي أيضا بسنده عن مالك. (6)
1 - الخراج / 135; والمصنف 10 / 335، كتاب أهل الكتابين، باب ما يؤخذ من أرضيهم وتجاراتهم، الحديث 19280. 2 - الموطأ 1 / 208، كتاب الزكاة، عشر أهل الذمة. 3 - الموطأ 1 / 208، كتاب الزكاة، عشر أهل الذمة. 4 - الأم 4 / 125، كتاب الجزية، ذكر ما أخذ عمر من أهل الذمة. 5 - الأموال / 640 و 641. 6 - سنن البيهقي 9 / 210، كتاب الجزية، باب ما يؤخذ من الذمي إذا اتجر في غير بلده... 279 وفي النهاية في معنى القطنية: " هي بالكسر والتشديد: واحدة القطاني، كالعدس والحمص واللوبياء ونحوها. " (1) وفيه أيضا: " النبط والنبيط: جيل معروف كانوا ينزلون بالبطائح بين العراقين. " (2) وفي حاشية الأموال عن المنجد: " نبط وأنباط: قوم من العرب قطنوا قديما جنوبي فلسطين، كانوا من التجار يرحلون إلى مصر والشام وبلاد الفرات وروما... " (3) 25 - وفي سند البيهقي بسنده عن السائب بن يزيد، قال: " كنت أعاشر مع عبد الله بن عتبة زمان عمر بن الخطاب فكان يأخذ من أهل الذمة أنصاف عشور أموالهم فيما تجروا فيه. " (4) 26 - وفي خراج أبي يوسف: حدثني يحيى بن سعيد، عن زريق بن حيان - وكان على مكس مصر -، فذكر أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه: " أن انظر من مر عليك من المسلمين فخذ مما ظهر من أموالهم العين، ومما ظهر من التجارات من كل أربعين دينارا دينارا. ما نقص فبحساب ذلك حتى يبلغ عشرين دينارا. فإن نقصت تلك الدنانير فدعها لا تأخذ منها شيئا. وإذا مر عليك أهل الذمة فخذ مما يديرون من تجاراتهم من كل عشرين دينارا دينارا، فما نقص فبحساب ذلك حتى تبلغ عشرة دنانير ثم دعها فلا تأخذ منها شيئا واكتب لهم كتابا بما تأخذ منهم إلى مثلها من الحول. " (5) أقول: ما روى نحو ذلك عبد الرزاق في المصنف، وفيه: " من مر بك من
1 - النهاية لابن الأثير 4 / 85. 2 - النهاية لابن الأثير 5 / 9. 3 - الأموال / 641. 4 - سنن البيهقي 9 / 210، كتاب الجزية، باب ما يؤخذ من الذمي إذا اتجر في غير بلده... 5 - الخراج / 136. 280 المسلمين ومعه مال يتجر به فخذ منه صدقته. " (1) فيظهر منه أن ما كان يؤخذ من المسلم كان بعنوان زكاة مال التجارة، ويشهد له ذكر الحول في آخر الخبر أيضا. وروى ذيل الخبر أبو عبيد أيضا، فراجع (2) 27 - وفي المصنف: عن معمر عن يحيى بن أبي كثير، قال: " يؤخذ من أهل الكتاب الضعف مما يؤخذ من المسلمين من الذهب والفضة. فعل ذلك عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز. " (3) إلى غير ذلك من الروايات الواردة في هذا المجال. أقول: المستفاد من مجموع هذه الروايات أن أخذ العشور الجمركية كان أمرا متعارفا مستمرا في تلك الأعصار وكان مشروعا عندهم إجمالا، غاية الأمر أنه كان يؤخذ من المسلمين ربع العشر باسم زكاة مال التجارة. وقد مر الترديد في صحة ما روي في هذا المجال عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن القائلين بالجواز من فقهاء السنة أكثرهم كانوا يستدلون لذلك بقول عمر وصنعه لا بالأخبار النبوية. وقد مر في عبارة المنتهى عن أحمد في أهل الحرب: أنه يؤخذ منهم العشر مطلقا لأن عمر أخذ العشر ولم ينقل أنه شرط ذلك عليهم، اشتهر ذلك بين الصحابة، وعمل به الخلفاء بعده فصار إجماعا، ومر دعوى الإجماع بهذا التقريب في عبارة المغني وبدائع الصنائع أيضا، فيظهر منهم إرادة إثبات الحكم بالإجماع. ولا يخفى أن رأينا في الإجماع وملاك حجيته يخالف رأى فقهاء السنة، إذ نفس اتفاق الكل وإجماعهم عندهم حجة في قبال السنة، وأما نحن فلا نعتبره حجة إلا إذا كشف بنحو من الأنحاء عن قول المعصوم أو فعله أو تقريره فيكون من طرق إثبات السنة. والتحقيق يطلب من محله.
1 - المصنف 10 / 334، كتاب أهل الكتابين، باب ما يؤخذ من أرضيهم وتجاراتهم، الحديث 19278. 2 - الأموال / 641. 3 - المصنف 10 / 335، كتاب أهل الكتابين، باب ما يؤخذ من أرضيهم وتجاراتهم، الحديث 19281. 281 ويمكن المناقشة في أصل وجود الاتفاق أيضا، إذ يظهر من بعض الكلمات عدم التزام الجميع في تلك الأعصار بحلية العشور ومشروعيتها إلا مع الشرط، بل يظهر منها أن أخذها كان أمرا منكرا عند الملتزمين بالموازين الشرعية. قال أبو عبيد في كتاب الأموال: " وجوه هذه الأحاديث التي ذكرنا فيها العاشر، وكراهة المكس والتغليظ فيه: أنه قد كان له أصل في الجاهلية يفعله ملوك العرب والعجم جميعا فكانت سنتهم أن يأخذوا من التجار عشر أموالهم إذا مروا بها عليهم. يبين ذلك ما ذكرنا من كتب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لمن كتب من أهل الأمصار مثل ثقيف والبحرين ودومة الجندل وغيرهم ممن أسلم: أنهم لا يحشرون ولا يعشرون، فعلمنا بهذا أنه قد كان من سنة الجاهلية، مع أحاديث فيه كثيرة فأبطل الله ذلك برسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبالإسلام. وجاءت فريضة الزكاة بربع العشر من كل مأتي درهم خمسة فمن أخذها منهم على فرضها فليس بعاشر، لأنه لم يأخذ العشر إنما أخذ ربعه... فإذا كان العاشر يأخذ الزكاة من المسلمين إذا أتوه بها طائعين غير مكرهين فليس بداخل في هذه الأحاديث، فإن استكرههم عليها (لم - ظ.) آمن أن يكون داخلا فيها وإن لم يزد على ربع العشر، لأن سنة الصامت خاصة أن يكون الناس فيه مؤتمنين عليه: من ذلك حديث مسروق الذي ذكرناه: قوله: لا أدري ما هذا الحبل الذي لم يسنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا أبو بكر ولا عمر - كان حبلا يعترض به النهر يمنع السفن من المضي حتى تؤخذ منهم الصدقة فأنكر مسروق أن تؤخذ منهم على استكراه. وقد فسره حديث عمر بن عبد العزيز الذي ذكرناه: قوله: " من جاءك بصدقة فاقبلها، ومن لم يأتك بها فالله حسيبه. " وكذلك حديث عثمان: قوله: " ومن أخذنا منه لم نأخذ منه حتى يأتينا بها تطوعا ". " (1) وفي كتاب الأموال أيضا قبل ذلك: " حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن مسروق أنه قال: " والله
1 - الأموال / 636 - 638. 282 ما علمت عملا أخوف عندي أن يدخلني النار من عملكم هذا. وما بي أن أكون ظلمت فيه مسلما لا معاهدا دينارا ولا درهما، ولكني لا أدري ما هذا الحبل الذي لم يسنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا أبو بكر ولا عمر. قالوا: فما حملك على أن دخلت فيه؟ قال: لم يدعني زياد ولا شريح ولا الشيطان حتى دخلت فيه. " (1) وفيه أيضا بسنده عن عبد الرحمن قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدى بن أرطاة: " أن ضع عن الناس الفدية، وضع عن الناس المائدة، وضع عن الناس المكس، وليس بالمكس، ولكنه البخس الذي قال الله - تعالى -: " ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين. " فمن جاءك بصدقة فاقبلها منه، ومن لم يأتك بها فالله حسيبه. " (2) وفي نهاية ابن الأثير: " في الحديث: " يأتي على الناس زمان يستحل فيه الربا بالبيع والخمر بالنبيذ والبخس بالزكاة. " البخس: ما يأخذه الولاة باسم العشر والمكوس يتأولون فيه الزكاة الصدقة. " (3) فيستفاد من جميع ذلك ومن نظائرها عدم وضوح مشروعية أخذ العشور عندهم بل كونه أمرا منكرا. هذا. ولكن مع ذلك كله يمكن أن يستدل للجواز - مضافا إلى أن عمل الخليفة وعماله كان بمرأى الصحابة ومسمعهم ولم يسمع منهم ردع عن ذلك ولو كان لبان -: أن أمير المؤمنين (عليه السلام) بعدما تصدى للخلافة لم يرد من ناحيته ردع عن هذا العمل المستمر في البلاد الإسلامية بسعتها بل كان يقبل الأموال التي كانت تجلب إليه من البلاد فكان هذا إمضاء منه (عليه السلام) للعشور أيضا. فأنت ترى في مصنف أبي بكر ابن أبي شيبة مثلا بسنده، قال: " أتى المختار علي بن أبي طالب بمال من المدائن وعليها عمه سعد بن مسعود، قال: فوضع المال بين يديه وعليه مقطعة حمراء، قال: فأدخل يده فاستخرج كيسا فيه نحو من خمس عشرة مأة، قال: هذا من أجور
1 - الأموال / 635. 2 - الأموال / 633. 3 - النهاية 1 / 102. 283 المومسات. قال: فقال علي (عليه السلام): لا حاجة لنا في أجور المومسات. قال: وأمر بمال المدائن فرفع إلى بيت المال. " (1) فيظهر بذلك إمضاء غير أجورهن، ومن البعيد جدا عدم وجود العشور أيضا فيما أمضاه وقبله لما عرفت من تعارف أخذها في البلاد الإسلامية. واحتمال أن بعض البدع قد رسخ في أعماق القلوب بحيث لم يكن يتمكن أمير المؤمنين (عليه السلام) من ردعه نظير الجماعة في صلاة التروايح مثلا، مدفوع بأن الثابت خلاف ذلك في كثير من المسائل المبدعة ولا سيما في أواخر خلافته واستقرار أمره، فتدبر. هذا. وملخص الكلام في المقام أن مقتضى الأصل الأولي هو سلطة الناس على أنفسهم أموالهم، وحرمة إكراه الغير، وأن حرمة مال الإنسان كحرمة دمه إلا فيما ثبت من ناحية الشرع المبين خلافه كما ثبت من تشريع الزكوات والأخماس والجزايا ونحوها جواز مطالبتها من ناحية الولاة. وفي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " والزكاة نسخت كل صدقة. " (2) وفيه أيضا عن أبي جعفر (عليه السلام): " لا يسأل الله عبدا عن صلاة بعد الفريضة ولا عن صدقة بعد الزكاة. " (3) وفيما وصى به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: " فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم طاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب. " (4)
1 - المصنف 11 / 114، كتاب الأمراء، الحديث 10670. 2 - الوسائل 6 / 6، الباب 1 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 13. 3 - الوسائل 6 / 6، الباب 1 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 12. 4 - صحيح البخاري 3 / 73، كتاب المغازي، بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع. 284 وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): " في أهل الجزية يؤخذ من أموالهم مواشيهم شيء سوى الجزية؟ قال: لا. " (1) والأخبار الواردة في العشور مع كثرتها لم تصل عندنا إلى حد الإقناع والحجية، بل وردت أخبار كثيرة في ذم العاشر والماكس كما مر. وقد مر الترديد في صحة ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا المجال، ولو سلم صحة ما روي عنه أعني قوله: " إنما العشور على اليهود والنصارى، وليس على المسلمين عشور " فالظاهر أن محط النظر في هذه العبارة بيان عقد النفي لا عقد الإثبات فلا إطلاق فيه، ولعل المراد به كان صورة شرطها في عقد الجزية فلا إشكال فيها حينئذ لكون مقدار الجزية عندنا موكولا إلى نظر الإمام، أو يراد بالعشور الجزية كما مر عن الترمذي. هذا مضافا إلى أنه لم يثبت أن المأخوذ في عصر عمر كان بدون الاشتراط فلعلهم كانوا يشرطونها. وللدولة الإسلامية منع أهل الحرب من الدخول في دار الإسلام وعدم إعطاء الأمان لهم إلا بشروط فيكون منها إعطاء مال خاص سواء كان عشرا أو أقل أو أكثر. كما أنه لو كانت للدولة الإسلامية مرافق وإمكانات محدثة كالمراسي والمحطات والطرق المبلطة والجسور ونحوها فلها أن تعلق إجازة الاستفادة منها على إعطاء حقوق خاصة من غير فرق في ذلك بين المسلمين وغيرهم. هذا كله مع قطع النظر عما يأتي بحثه في الجهة التالية من جواز تشريع الضرائب الضرورية التي ربما يحتاج إليها الأنظمة ووجوب إعطائها حفظا للنظام، بل احتمال دخولها حينئذ في عنوان الزكاة بناء على إحالة تعيين ما فيه الزكاة ومقدارها إلى ولاة العصر في كل صقع وزمان. وقد مر تفصيل ذلك في فصل الزكاة من هذا الكتاب، فراجع. (2)
1 - الوسائل 11 / 115، الباب 68 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه، الحديث 4. 2 - راجع أوائل الجزء الثالث. 285 الجهة الثالثة: في البحث في ضرائب أخرى غير الضرائب المعروفة: لو لم تكف الضرائب المشروعة المعروفة من الزكوات والأخماس والخراج والجزايا، وما يمكن أن يتحصل من طسق أراضي الأنفال على ما اخترناه، ومن استخراج المعادن الغنية وأخذ الحقوق الجمركية من تجار أهل الحرب، وأرباح التجارات الخارجية التي يتصدى لها الحكومات غالبا ونحو ذلك من المنابع المالية للحكومات، لو لم تكف جميع ذلك لإدارة شؤون الدولة الإسلامية وسد خلاتها فهل يجوز تشريع ضرائب أخرى مرتجلة على الأعمال والأموال والمصانع والأبنية والسيارات ونحوها حسب الحاجة إليها؟ فنقول: الأصل الأولي كما مر وإن اقتضى سلطة الناس على أنفسهم وأموالهم، وأن حرمة مال الإنسان كحرمة دمه، ولكن من الضروري بحكم العقل والشرع وجوب تأسيس الدولة الإسلامية وحفظ النظام الإسلامي وسلطاتها الثلاث بشعبها وإيجاد الأمن في البلاد وحفظ الثغور والأطراف وإقامة دعائم الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعنى الواسع لهما يعني بسط المعروف في المجتمع وقطع جذور المنكر والفساد، ونحو ذلك من شؤون الحكومة الحقة الصالحة. وقد مر في هذا الكتاب بالتفصيل بيان عدم جواز إهمال الحكومة الإسلامية وتعطيل شؤونها المختلفة حتى في عصر الغيبة، بل عد الحكومة والولاية أفضل دعائم الاسلام: ففي صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " بني الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية. " قال زرارة: فقلت: وأي شيء من ذلك
286 أفضل؟ قال: " الولاية أفضل لأنها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن. " (1) ومن الواضح توقف إقامة الدولة بشؤونها على تحقيق نظام مالي واسع غنى يتكفل لسد جميع الخلات ورفع جميع الحاجات. فهذا من المحكمات التي لا مجال للريب فيها. وحينئذ فلا بد من القول بأحد أمرين: الأول: أن يقال: إن الزكاة اسم لكل واجب مالي يشرع من قبل الحكام الواجدين للشرائط حسب الأموال والحاجات. فأصل الزكاة مما شرعها الله - تعالى - في الكتاب العزيز وأمر بإعطائها وأخذها فقال: " أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة "، وقال: " يا أيها الذين آمنوا، أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض. " (2) فهي وظيفة مالية شرعها الله - تعالى - في الاسلام وفي الشرائع السابقة في جنب الصلاة التي هي من أهم الوظائف العبادية البدنية. ولم يذكر في الكتاب العزيز خصوص ما تتعلق به، بل ظاهر الآية الأخيرة تعلقها بجميع ما يحصل للإنسان سواء كان بالكسب أو بالاستخراج من الأرض. كما أن ظاهر قوله: " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها " (3) جواز أخذها من جميع الأموال لظهور الجمع المضاف في العموم. فالمتعلق بحسب الحكم الاقتضائي والإنشائي جميع الأموال، وقد فوض تعيين ما تؤخذ منها تطالب فعلا إلى أولياء المسلمين وحكام الحق في كل صقع وزمان، حيث إن ثروات الناس وأعيان أموالهم تختلف بحسبهما، والشريعة الإسلامية شريعة خالدة عامة لجميع الأصقاع والأزمان إلى يوم القيامة. فعلى والي المسلمين في كل عصر ومكان ملاحظة ثروات الناس والاحتياجات الموجودة في عصره ومقر حكمه، ووضع الضرائب بحسبهما وتنصبغ هذه قهرا بصبغة الزكاة. وهكذا كانت الزكاة المشرعة في الشرائع السابقة أيضا لا محالة فكانت مناسبة
1 - الوسائل 1 / 7، الباب 1 من أبواب مقدمات العبادات، الحديث 2. 2 - سورة البقرة (2)، الآية 267. 3 - سورة التوبة (9)، الآية 103. 287 للثروات والحاجات. وقد وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أنه كان إمام المسلمين وحاكما عليهم في عصره الزكاة على تسعة أشياء معهودة لما كانت هذه التسعة عمدة ثروة العرب في عصره ومجال حكمه، وعفا عما سوى ذلك كما دل على ذلك صحاح مستفيضة، والعفو لا يصدق إلا مع وجود الحكم لولاه: ففي صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير وبريد بن معاوية والفضيل بن يسار كلهم عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام)، قالا: " فرض الله - عز وجل - الزكاة مع الصلاة في الأموال وسنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تسعة أشياء، وعفا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عما سواهن: في الذهب والفضة، والإبل والبقر والغنم، والحنطة والشعير والتمر والزبيب، وعفا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عما سوى ذلك. (1) وفي خبر أبي بكر الحضرمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الزكاة على تسعة أشياء: الحنطة والشعير والتمر والزبيب، والذهب والفضة، والإبل والبقر والغنم، وعفا عما سوى ذلك. " قال يونس: معنى قوله: إن الزكاة في تسعة أشياء وعفا عما سوى ذلك، إنما كان ذلك في أول النبوة، كما كانت الصلاة ركعتين ثم زاد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها سبع ركعات، وكذلك الزكاة وضعها وسنها في أول نبوته على تسعة أشياء ثم وضعها على جميع الحبوب (2). إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المجال وقد مر تفصيلها وشرحها في فصل الزكاة من هذا الكتاب، فراجع. ويشهد لما ذكرناه ما ورد من جعل أمير المؤمنين (عليه السلام) الزكاة في الخيل، وظاهر ذلك بكونه بنحو الوجوب: ففي صحيحة محمد بن مسلم وزرارة، عنها - عليهما السلام - جميعا، قالا: " وضع
1 - الوسائل 6 / 34، الباب 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 4. 2 - الكافي 3 / 509، كتاب الزكاة، باب ما وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أهل بيته الزكاة عليه، الحديث 2. 288 أمير المؤمنين (عليه السلام) على الخيل العتاق الراعية في كل فرس في كل عام دينارين، وجعل على البراذين دينارا. " (1) والظاهر أن المراد بذلك الزكاة لا الخراج والجزية لتسميته صدقة في صحيحة زرارة، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) هل في البغال شيء؟ فقال: لا. فقلت: فيكف صار على الخيل لم يصر على البغال؟ فقال: " لأن البغال لا تلقح، والخيل الإناث ينتجن، وليس على الخيل الذكور شيء. قال: قلت: فما في الحمير؟ قال: " ليس فيها شيء. قال: قلت: هل على الفرس أو البعير يكون للرجل يركبها شيء؟ فقال: لا، ليس على ما يعلف شيء، إنما الصدقة على السائمة المرسلة في مرجها عامها الذي يقتنيها فيه الرجل. " (2) وفي سنن البيهقي بسنده، عن غورك بن الحصرم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " في الخيل السائمة في كل فرس دينار. " تفرد به غورك (3) ولعله كان في عصره (صلى الله عليه وآله وسلم) بنحو الاستحباب. وفيه أيضا بسنده عن حارثة بن مضرب، قال: جاء ناس من أهل الشام إلى عمر فقالوا: إنا قد أصبنا أموالا: خيلا ورقيقا نحب أن يكون لنا فيه زكاة وطهور. قال: ما فعله صاحباي قبلي فأفعله، فاستشار عمر عليا (عليه السلام) في جماعة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال علي (عليه السلام): " هو حسن إن لم يكن جزية يؤخذون بها راتبة. " (4) يظهر من هذا الحديث أيضا أصل مشروعية الزكاة وحسنها في الخيل، وإنما الذي خاف منه أمير المؤمنين (عليه السلام) أن تنصبغ بصبغة الجزية التي فيها نوع من الذلة. وهل يمكن الالتزام في مثل أعصارنا بحصر الزكاة مع سعة مصارفها الثمانية في خصوص التسعة المعهودة بشرائطها الخاصة؟ مع أن الذهب والفضة المسكوكتين وكذا الأنعام الثلاثة السائمة لا توجد إلا أقل قليل، والغلات الأربع في قبال سائر
1 - الوسائل 6 / 51، الباب 16 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 1. 2 - الوسائل 6 / 51، الباب 16 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 3. 3 - سنن البيهقي 4 / 119، كتاب الزكاة، باب من رأى في الخيل صدقة. 4 - سنن البيهقي 4 / 118، كتاب الزكاة، باب لا صدقة في الخيل. 289 منابع الثروة من المصانع العظيمة والتجارات الضخمة، والأبنية المرتفعة والسفن والسيارات المحصولات الزراعية المتنوعة غير الغلات الأربع قليلة القيمة جدا المصارف الثمانية التي تساوق عمدة خلات المجتمع والدول تحتاج إلى أموال كثيرة، وقد دلت أخبار كثيرة على أن الله - تعالى - فرض للفقراء في أموال الأغنياء ما يكفيهم ولو علم أن الذي فرض لهم لا يكفيهم لزادهم، ولعل الفقراء من باب المثال فيراد به المصارف الثمانية للزكاة، فراجع الوسائل. (1) وإن أبيت ما ذكرناه من تفويض تعيين ما فيه الزكاة إلى ولاة العصر وثقل عليك قبوله فلا محالة يلتزم بذلك فيما إذا فرضها الولاة في الموارد التي جعلت فيها الزكاة بنحو الاستحباب، وهي كثيرة أنهيناها في المجلد الثاني من كتابنا في الزكاة إلى اثني عشر موردا، فنقول: إن الزكاة في هذه الموارد وإن كانت بحسب الجعل الشرعي مندوبة ولكن لوالي المسلمين في كل صقع وزمان أن يفرضها حسب الاحتياج كما صنع أمير المؤمنين (عليه السلام) في الخيل، فتدبر. هذا كله مما يتعلق بالأمر الأول من الأمرين. الأمر الثاني: أن يقال: إن الضرائب الشرعية المعروفة إنما شرعت لرفع الحاجات وسد الخلات في الأوضاع والشرائط العادية، وأما إذا فرضنا الحاجة إليها لشرائط خاصة حادثة فحيث إن حفظ النظام الإسلامي بشعبها وشؤونها العامة من أهم الفرائض على جميع الأمة فلا محالة يجب على الولاة تقدير الحاجات والأموال اللازمة ووضع ضرائب بمقدارها مع رعاية العدل والإنصاف، ويجب على الأمة تأديتها وإن لم ينطبق عليها أحد العناوين المعروفة، كل هذا لضرورة وجوب المقدمة بوجوب ذيها. وربما يوجد في بعض الأخبار الإشعار بهذا السنخ من الضرائب والاحتياج إليها:
1 - الوسائل 6 / 3، الباب 1 من أبواب ما تجب فيه الزكاة. 290 1 - ففي موثقة سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " ولكن الله - عز وجل - فرض في أموال الأغنياء حقوقا غير الزكاة فقال - عز وجل -: والذين في أموالهم حق معلوم للسائل المحروم. فالحق المعلوم غير الزكاة، وهو شيء يفرضه الرجل على نفسه في ماله يجب عليه أن يفرضه على قدر طاقته وسعة ماله... ومما فرض الله - عز وجل - أيضا في المال من غير الزكاة قوله - عز وجل -: " الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل. " الحديث. " (1) 2 - وفي نور الثقلين، عن تفسير العياشي، عن الحسين بن موسى، قال: روى أصحابنا، قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن قول الله - عز وجل -: " الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل " فقال: هو صلة الإمام في كل سنة بما قل أو كثر، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): وما أريد بذلك إلا تزكيتكم. (2) 3 - وفي نور الثقلين أيضا عن مجمع البيان. روى الوليد بن أبان، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: قلت له: هل على الرجل في ماله سوى الزكاة؟ قال: نعم، أين ما قال الله: " والذين يصلون. الآية. " (3) وراجع مجمع البيان تفسير سورة الرعد أيضا. (4) ولا يخفى أن صلة إمام المسلمين بما هو إمامهم وقائدهم لايراد بها إلا مساعدته تقويته بالأموال والطاقات في جميع المجالات والحاجات الحادثة له في إدارة شؤون المسلمين وتنظيم أمورهم وحفظ ثغورهم ونحو ذلك من الأمور المتوقعة من الإمام بما هو إمام. وإلا فشخص الإمام بما هو شخص ليس له كثير حاجة إلى الأمة. 4 - وفي نهج البلاغة في كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك: " وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج
1 - الوسائل 6 / 27، الباب 7 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 2. 2 - تفسير نور الثقلين 2 / 495. 3 - تفسير نور الثقلين 2 / 495. 4 - مجمع البيان 3 / 289 (الجزء 6). 291 بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد... ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك باستفاضة العدل فيهم معتمدا فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم، فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به، فإن العمران محتمل ما حملته، وإنما يؤتي خراب الأرض من إعواز أهلها. " (1) أقول: التبجح: السرور. والإجمام: الإراحة. 5 - وروى نحو ذلك في تحف العقول في كتابه (عليه السلام) له وفيه: " فلا يثقلن عليك شيء خففت به عنهم المؤونات فإنه ذخر يعودون به عليك لعمارة بلادك... مع أنها عقد تعتمد عليها إن حدث حدث كنت عليهم معتمدا لفضل قوتهم بما ذخرت عنهم من الجمام والثقة منهم بما عودتهم من عدلك ورفقك، ومعرفتهم بعذرك فيما حدث من الأمر الذي اتكلت به عليهم فاحتملوه بطيب أنفسهم فإن العمران محتمل ما حملته، وإنما يؤتى خراب الأرض لإعواز أهلها. " (2) 6 - وروى نحو ذلك في دعائم الإسلام في كتابه (عليه السلام) له وفيه: " فإن حزبك أمر تحتاج فيه إلى الاعتماد عليهم، وجدت معتمدا بفضل قوتهم على ما تريد بما ذخرت فيهم من الجمام. وكانت مودتهم لك وحسن ظنهم فيك وثقتهم بما عودتهم من عدلك ورفقك مع معرفتهم بعذرك فيما حدث من الأمور قوة لهم يحتملون بها ما كلفتهم، ويطيبون بها نفسا بما حملتهم فإن العدل يحتمل بإذن الله ما حملت عليهم. " (3) أقول: قوله: حزبك أي أصابك واشتد عليك. ولا يخفى كون بعض النقول أو جميعها نقلا بالمعنى. 7 - وفي آخر كتاب الزكاة من الكافي بسنده، عن معاذ بن كثير، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " موسع على شيعتنا أن ينفقوا مما في أيديهم بالمعروف، فإذا قام قائمنا حرم
1 - نهج البلاغة، فيض / 1013; عبده 3 / 106 - 108; لح / 436، الكتاب 53. 2 - تحف العقول / 138. 3 - دعائم الإسلام 1 / 362، كتاب الجهاد - ذكر ما يجب للأمراء وما يجب عليهم. 292 على كل ذي كنز كنزه حتى يأتيه به فيستعين به على عدوه، وهو قول الله - عز وجل -: " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم. " (1) ولا يراد بالكنز هنا المال المدفون، بل كل زائد على النفقات اليومية فيدخر كالأموال المودعة في البنوك والأمتعة المدخرة في المخازن ونحو ذلك، فيظهر من الحديث أنه مع احتياج الحكومة الحقة الصالحة لا يجوز ادخار الأموال بل يجب الإتيان بها إليه، ولفظ القائم كناية عن المتصدي للحكومة الحقة الصالحة، نعم قائم آل محمد (عليه السلام) في آخر الزمان من أبرز مصاديقها، فتأمل. 8 - ويمكن أن يستأنس للمقصود أيضا بقوله - تعالى - في سورة الأعراف: " خذ العفو. " (2) بضميمة قوله في سورة البقرة: " ويسألونك ماذا ينفقون، قل العفو. " (3) فيراد بالعفو المال الزائد على النفقة على ما فسره بعض. قال في المجمع في معنى العفو: " فيه أقوال: أحدها: أنه ما فضل عن الأهل والعيال، أو الفضل عن الغنى، عن ابن عباس وقتادة. وثانيها: أن العفو: الوسط من غير إسراف ولا إقتار، عن الحسن وعطاء، هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام). وثالثها: أن العفو ما فضل عن قوت السنة، عن أبي جعفر الباقر، قال: ونسخ ذلك بآية الزكاة، وبه قال السدي. ورابعها: أن العفو أطيب المال أفضله. " (4) أقول: نسخ الوجوب لا ينافي بقاء الاقتضاء والرجحان فيصير واجبا بحكم الحاكم الشرعي، فتأمل. 9 - وفي خراج أبي يوسف: " قد بلغنا عن علي بن أبي طالب أنه وضع على أجمة برس أربعة آلاف درهم، وكتب لهم كتابا في قطعة أدم، وإنما دفعها إليهم على
1 - الكافي 4 / 61، كتاب الزكاة، باب النوادر، الحديث 4. 2 - سورة الأعراف (7)، الآية 199. 3 - سورة البقرة (2)، الآية 219. 4 - مجمع البيان 1 / 316 (الجزء الثاني). 293 معاملة قصبها. (1) أقول: برس بالضم قيل: ناحية بأرض بابل. وفي القاموس: " قرية بين الكوفة الحلة. " (2) ولعل المتتبع يعثر على موارد كثيرة من هذا القبيل يستفاد منها جواز وضع الضرائب من قبل حكام الحق. ويمكن أن يستدل للمقصود بوجهين آخرين أيضا: الأول: ما أشرنا إليه سابقا من أن للإمام وعماله أن يعلقوا إجازة الانتفاع من المشاريع العامة التي يحدثونها من المراسي والمحطات والطرق المبلطة والقناطر والمستشفيات المعاهد ونحو ذلك على أداء مال خاص مطلقا أو لأمر خاص وبالنسبة إلى أصناف خاصة، فيصير هذا قرارا منهم مع كل مواطن، ومن أراد الانتفاع منها فلا محالة يتعين عليه أن يؤدي ما قرروه. الثاني: أن ولاية الوالي إن كانت بانتخاب المجتمع ومبايعتهم له كما قربناه في محله فله أن يشترط في عقد البيعة العامة شرائط خاصة ومنها السماح له لوضع ضرائب خاصة فيتعين عليهم العمل بها. وإن كانت بجعل الشارع فنقول إن جعل الشارع ليس جزافا بل يكون لا محالة لتنظيم أمور المجتمع وإدارة شؤونه العامة وجبر نقائصه وسد خلاته، فيجوز للوالي بل يجب عليه الحكم بكل ما رآه صلاحا لهم ولنظامهم، ومن أهم المصالح العامة تعيين نظام مالي كافل لسد جميع الخلات والحاجات، ويسمى هذا القبيل من الأحكام بالأحكام الولائية والسلطانية فيتعين هذا شرعا. وقد جعل الله - تعالى - هذا المنصب الشريف للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم. " (3) فإذا كان لكل أحد أن يتصرف في نفسه وماله بعض
1 - الخراج / 87. 2 - القاموس / 342. 3 - سورة الأحزاب (33)، الآية 6. 294 التصرفات فلا محالة يصير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمقتضى هذه الآية الشريفة أولى به في هذه التصرفات من نفسه. وقد عرفت في محله أن مقتضى ولاية الفقيه وخلافته عن رسول الله في الأمور العامة أن يكون له كل ما كان للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بحق ولايته الشرعية. اللهم إلا أن يقال: إن وظيفة الحاكم الإسلامي ليس إلا تنظيم أمور المجتمع على أساس ما أنزله الله - تعالى - لاعلى أساس ما يقترحه، وليس الفقيه أولى من نفس النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد خاطبه الله - تعالى - بقوله: " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله. " (1) وبقوله: " وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق. " (2) وبعبارة أخرى ليس جعل الولاية بداعي الجعل والتشريع، بل بداعي تنفيذ ما أنزل الله - تعالى -، فتدبر. هذا. وإلى هنا قد تم ما أردنا ذكره في بيان المنابع المالية للدولة الإسلامية المعقود لبيانها الباب الثامن من كتابنا هذا، وقد طال البحث فأعتذر من القراء الكرام.
1 - سورة النساء (4)، الآية 105. 2 - سورة المائدة (5)، الآية 48. 295 بقيت هنا نكات ينبغي الإشارة إليها: الأولى: أنه يجب على المسؤولين في الدولة الإسلامية إيجاد التوازن بين المنابع المالية الموجودة وبين المصارف; فيحذف المصارف غير الضرورية والدوائر الزائدة التي تتصدى للأعمال التكرارية أو غير اللازمة ويدغم بعض المؤسسات والدوائر في بعض ولا سيما ما يوجب منها صعوبة الأمر على المراجعين وتحمل المشاق وتضييع الأوقات، وكلما كانت الدوائر بسيطة ساذجة والمقررات مرنة سهلة كانت أجلب لرضاية الناس وعلاقتهم برجال الملك ومصادر الأمور، حيث إن أوقات الناس لها قيم كثيرة عندهم. فليعتبر من بساطة حكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسذاجته وما وجد فيه الناس من عدل وراحة. الثانية: أن الواجب اجتناب المتصدين للمصارف عن التبذير والإسراف، إذ لافرق في حرمتهما بين الأموال الشخصية وبين الأموال العامة المتعلقة بالمجتمع، بل الأمر في الأموال العامة آكد، حيث إنها تكون في أيدي المسؤولين من قبيل الوديعة والأمانة، التعدي فيها خيانة: 1 - قال الله - تعالى -: " ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا. " (1) 2 - وقال: " وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين. " (2)
1 - سورة الإسراء (17)، الآية 26 و 27. 2 - سورة الأعراف (7)، الآية 31. 296 3 - وقال: " وإن المسرفين هم أصحاب النار. " (1) 4 - وفي الصحيفة السجادية: " اللهم صل على محمد وآله واحجبني عن السرف الازدياد وقومني بالبذل والاقتصاد، وعلمني حسن التقدير، واقبضني بلطفك عن التبذير. " (2) 5 - وفي البحار عن الخصال بسنده، عن داود الرقي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " إن القصد أمر يحبه الله - عز وجل - وإن السرف يبغضه حتى طرحك النواة، فإنها تصلح لشيء، وحتى صبك فضل شرابك. " (3) 6 - وفي الوسائل عن الخصال بسنده، عن جعفر بن محمد، عن آبائه، عن علي - عليه السلام - أنه كتب إلى عماله: " أدقوا أقلامكم، وقاربوا بين سطوركم، واحذفوا عني فضولكم، واقصدوا قصد المعاني. وإياكم والإكثار، فإن أموال المسلمين لا تحتمل الإضرار. " (4) فليدقق النظر في هذا الكلام الكتاب والمسؤولون الذين لا يرى منهم دقة ولا محاسبة لا في صرف الأموال من بيت المال ولا في إشغال أوقات الأمة والأئمة. 7 - وفيه أيضا، عن تفسير العياشي، عن أبان بن تغلب، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " أترى الله أعطى من أعطى من كرامته عليه، ومنع من منع من هوان به عليه؟ كلا ولكن المال مال الله يضعه عند الرجل ودائع وجوز لهم أن يأكلوا قصدا، ويشربوا قصدا، يلبسوا قصدا، ويركبوا قصدا، وينكحوا قصدا، ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين يرموا به شعثهم، فمن فعل ذلك كان ما يأكل حلالا، ويشرب حلالا، ويركب حلالا، وينكح حلالا. ومن عدا ذلك كان عليه حراما، ثم قال: " لا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين. " أترى الله ائتمن رجلا على مال يقول له (خول له - تفسير العياشي) أن يشتري فرسا بعشرة آلاف درهم وتجزيه فرس
1 - سورة المؤمن - غافر - (40)، الآية 43. 2 - الصحيفة السجادية، الدعاء 30. 3 - بحار الأنوار 68 / 346 (= طبعة إيران 71 / 346)، كتاب الإيمان والكفر - مكارم الأخلاق، الباب 86 (باب الاقتصاد وذم الإسراف)، الحديث 10. 4 - الوسائل 12 / 299، الباب 15 من أبواب آداب التجارة، الحديث 2. 297 بعشرين درهما، ويشتري جارية بألف وتجزيه جارية بعشرين دينارا، ثم قال: لا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين. " (1) الثالثة: ينبغي أن يجعل الحقوق والمزايا مهما أمكن على حسب الأعمال وجودتها لاعلى حسب الأزمنة والأوقات، إذ على الأول تزيد المسارعة والسباق والمداقة في الأعمال، وعلى الثاني يزيد دفع الوقت والإهمال كما لا يخفى. الرابعة: ينبغي أن توجد أرضية الأمن الفكري والمالي في المجالات المختلفة بحيث يتشوق الناس في الإنتاجات النافعة وصرف الأموال فيها، وأن يخطط النظام الاقتصادي في البلاد بنحو يقع رؤوس الأموال والطاقات في قسمة الإنتاجات لا الخدمات التجارات إلا بمقدار الضرورة. الخامسة: ينبغي أن يفوض الزراعات والصناعات والتجارات والمصانع إلى أفراد المجتمع والأخصائيين منهم ولا يبارها الدول مهما أمكن، ولا يتدخلون فيها بالقهر الإجبار إلا عند الضرورة، بل يعطى للأفراد الحرية التامة في انتخاب الأشغال النشاطات الاقتصادية المحللة، فإن التحديدات توجب أن تفقد الأشخاص اعتمادهم على أنفسهم ويضعف عامل التحرك في نفوسهم فلا يزدهر الاستعدادات الكامنة ويقل الإنتاجات النافعة جدا. ومباشرة الحكومات والدول لها توجب أولا كراهة الأمة وبغضائها في قبال الحكومة. وثانيا قلة الجبايات. وثالثا احتياج الدولة إلى استخدام موظفين كثيرين. رابعا إلى وضع ضرائب كثيرة لمصارف الموظفين. وهذه كلها مضرة بالرعايا وبالدولة معا. نعم، تتصدى الدولة للتخطيط الكلي في المجال الاقتصادي والإرشاد والهداية
1 - الوسائل 8 / 366، الباب 23 من أبواب أحكام الدواب، الحديث 5; وتفسير العياشي 2 / 13. 298 فيه إلى الأصلح والأنفع والأحوج، وإيجاد الأرضية الصالحة والإمكانيات بقدر الحاجة. وقد عقد ابن خلدون في الفصل الحادي والأربعين من الفصل الثالث من كتابه الأول فصلا بديعا بعنوان أن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا مفسدة للجباية. وقد ذكرنا نحن محصل كلامه بتناسب ما في أوائل المجلد الثاني من هذا الكتاب نعيده هنا تتميما للفائدة: " إن استحداث التجارة والفلاحة للسلطان غلط عظيم وإدخال الضرر على الرعايا من وجوه متعددة: فأولا مضايقة الفلاحين والتجار في شراء الحيوان والبضائع وتيسير أسباب ذلك، فإن الرعايا متكافئون في اليسار متقاربون، وإذا رافقهم السلطان في ذلك ماله أعظم كثيرا منهم فلا يكاد أحد منهم يحصل على غرضه في شيء من حاجاته يدخل على النفوس من ذلك غم ونكد. ثم إن السلطان قد ينتزع الكثير من ذلك إذا تعرض له غضا أو بأيسر ثمن أو لا يجد من يناقشه في شرائه فيبخس ثمنه على بائعه. ثم إذا حصل فوائد الفلاحة وحصلت بضائع التجارة فلا ينتظرون به حوالة الأسواق إنفاق البياعات لما يدعوهم إليه تكاليف الدولة فيكلفون أهل تلك الأصناف من تاجر أو فلاح بشراء تلك البضائع ولا يرضون في أثمانها إلا القيم وأزيد فيستوعبون في ذلك ناض أموالهم وتبقى تلك البضائع بأيديهم عروضا جامدة وربما تدعوهم الضرورة إلى شيء من المال فيبيعون تلك السلع على كساد من الأسواق بأبخس ثمن. وربما يتكرر ذلك على التاجر والفلاح منهم بما يذهب رأس ماله فيقعد عن سوقه يتكرر ويدخل به على الرعايا من العنت والمضايقة وفساد الأرباح ما يقبض آمالهم عن السعي ويؤدي إلى فساد الجباية. فإذا انقبض الفلاحون عن الفلاحة وقعد التجار عن التجارة ذهبت الجباية
299 جملة أو دخلها النقص المتفاحش. وإذا قايس السلطان بين ما يحصل له من الجباية وبين هذه الأرباح القليلة وجدها بالنسبة إلى الجباية أقل من القليل. ثم فيه التعرض لأهل عمرانه اختلال الدولة بفسادهم ونقصه، فإن الرعايا إذا قعدوا عن تثمير أموالهم بالفلاحة والتجارة نقضت وتلاشت بالنفقات، وكان فيها إتلاف أموالهم، فافهم ذلك. " (1) هذا. وقد تمت كتابة هذه الأوراق - ولله الحمد - في 23 رمضان المبارك 1409 في بلدة قم المكرمة. وأنا العبد المفتقر إلى رحمة ربه الهادي حسينعلي المنتظري النجف آبادي غفر الله لوالديه.
1 - مقدمة ابن خلدون / 197، الفصل 41 من الفصل 3 من الكتاب (= ط. أخرى / 281، الفصل 40). 300 خاتمة الكتاب نذكر فيها كتاب أمير المؤمنين " ع " وعهده إلى مالك الأشتر.
301 سند عهد أمير المؤمنين " ع " إلى مالك الأشتر نذكر في خاتمة الكتاب كتاب أمير المؤمنين - عليه السلام - وعهده إلى مالك الأشتر المتضمن لأهم برامج الحكم الإسلامي وآدابه ليكون ختام الكتاب مسكا. ونفس مضامين العهد الشريف ومحتوياته تكون أقوى شاهد صدق على صدوره إجمالا عن منبع العلم الإلهي ومعدنه، فقد يحس القارئ البصير على كل فقرة منه مسحة من العلم الإلهي وعبقة من الكلام النبوي كما قال الشريف الرضي " ره " في أول نهج البلاغة. وقد روى هذا العهد الشريف قبل الشريف الرضي (المتوفي في " 404 " أو " 406 " من الهجرة) الحسن بن علي بن شعبة (المتوفى في " 332 ") في كتاب تحف العقول في باب ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) باختلاف ما بينه وبين نهج البلاغة، فراجع. (1) وروى قريبا منه في دعائم الإسلام (2) بإضافة في أوله، وقال في أوله: " وعن علي (عليه السلام) أنه ذكر عهدا، فقال الذي حدثناه: أحسبه من كلام علي (عليه السلام) إلا أنا روينا عنه أنه رفعه فقال: عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عهدا كان فيه بعد كلام
1 - تحف العقول / 126 وما بعدها. 2 - دعائم الإسلام 1 / 350، كتاب الجهاد، ذكر ما يجب للأمراء وما يجب عليهم. 303 ذكره: قال (صلى الله عليه وآله وسلم)، فراجع. ويشبه كون ما في الدعائم نقلا بالمعنى. هذا. وفي مصادر نهج البلاغة قال: " رواه النويري في نهاية الأرب باختلاف بسيط جدا. " (1) وفي رجال النجاشي في أصبغ بن نباتة: " كان من خاصة أمير المؤمنين (عليه السلام) وعمر بعده، روى عنه عهد الأشتر ووصيته إلى محمد ابنه، أخبرنا ابن الجندي، عن علي بن همام، عن الحميري، عن هارون بن مسلم، عن الحسين بن علوان، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بالعهد. " (2) وفي فهرست الشيخ الطوسي: " كان الأصبغ من خاصة أمير المؤمنين (عليه السلام) وعمر بعده، وروى عهد مالك الأشتر الذي عهده إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) لما ولاه مصر... أخبرنا بالعهد ابن أبي جيد، عن محمد بن الحسن، عن الحميري، عن هارون بن مسلم والحسن بن ظريف جميعا عن الحسين بن علوان الكلبي، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة. " (3) أقول: فالسندان يلتقيان في الحميري. وابن الجندي في سند النجاشي هو أحمد بن محمود بن عمران بن موسى الذي قال هو في حقه: " أستاذنا " ره " ألحقنا بالشيوخ في زمانه. " وعلي بن همام مجهول لم يذكر في كتب الرجال، ولكن من المظنون جدا كونه مصحف أبي على محمد بن أبي بكر همام بن سهيل الكاتب الإسكافي الثقة جليل القدر. والحميري هو عبد الله بن جعفر الحميري الثقة مؤلف قرب الإسناد. وهارون بن مسلم قال النجاشي في حقه: " ثقة وجه ". والحسين بن علوان قال فيه النجاشي وغيره: " عامي ثقة. "
1 - مصادر نهج البلاغة 3 / 430. 2 - رجال النجاشي / 6 (= ط. أخرى / 8). 3 - الفهرست / 37 (= طبعة أخرى / 62). 304 وسعد بن طريف قال الشيخ في رجاله: " ويقال له: سعد الخفاف صحيح الحديث. " قال النجاشي: " يعرف وينكر. " ولكن عن ابن الغضائري: أنه ضعيف. وأصبغ بن نباتة قالوا في حقه: " من خاصة أمير المؤمنين (عليه السلام) ومن أجلاء أصحابه مشكور. " وأما ابن أبي جيد في سند الشيخ فهو علي بن أحمد بن محمد بن أبي جيد من مشايخ الإجازة، ولعل ذلك يلحقه بالثقات. ومحمد بن الحسن هو ابن الوليد الثقة جليل القدر. والحسن بن ظريف كوفي ثقة. فالظاهر أن السند لا بأس به وإن اختلفوا في سعد بن طريف كما مر. هذا. مضافا إلى شهرة العهد وتلقي الأصحاب له بالقبول، وإلى ما مر من شهادة متنه على صحته إجمالا، فتدبر. هذا. وأوصي رجال الدين والملك المتعهدين بأن يداوموا على مطالعة هذا العهد النفيس يداقوا في مضامينه ونكاته، ويطبقوا أعمالهم ونشاطاتهم السياسية والاجتماعية على دساتيره ودقائقه. وقد حكى العلامة النائيني - طاب ثراه - في كتاب تنبيه الأمة أن المجتهد الكبير العلامة الفذ في عصره الحاج الميرزا حسن الشيرازي - قدس سره - كان يداوم على مطالعة هذا العهد القيم. وفقنا الله - تعالى - للعمل بما يحب الله ويرتضيه في جميع الأحوال وبه نستعين عليه الاتكال. فلنشرع في نقل الكتاب، وقد نقلناه من النسخة المطبوعة بمصر بشرح العلامة الشيخ محمد عبده:
305 53 ومن كتاب له عليه السلام كتبه للأشتر النخعي، لما ولاه على مصر وأعمالها حين اضطرب (أمر) محمد بن أبي بكر، وهو أطول عهد وأجمع كتبه للمحاسن (1) بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أمر به عبد الله على أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه، حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها. أمره بتقوى الله، وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه، وسننه، التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها; وأن ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه; فإنه، جل اسمه، قد تكفل بنصر من نصره، إعزاز من أعزه. وأمره أن يكسر نفسه من الشهوات ويزعها عند الجمحات (2); فإن النفس أمارة بالسوء، إلا ما رحم الله.
1 - وراجع تحف العقول ص 126، إذ يوجد فيما نقله من هذا العهد فقرات مفيدة ليست في نهج البلاغة، ووفاة مؤلفة كما مر في " 332 " ووفاة الرضي في " 404 " أو " 406 ". 2 - يزعها أي يكفها عن مطامعها. 307 ثم اعلم، يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك وشح بنفسك عما لا يحل لك فإن الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحبت أو كرهت. وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا (1) تغتنم أكهلهم فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك صفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك! وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم، ولا تنصبن نفسك لحرب الله فإنه لا يدي لك بنقمته (2)، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته، ولا تندمن على عفو، ولا تبجحن بعقوبة (3)، ولا تسر عن إلى بادرة (4) وجدت منها مندوحة، ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع فإن ذلك إدغال في القلب، ومنهكة للدين، وتقرب من الغير. (5) وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة فانظر إلى عظم ملك الله فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك; فإن ذلك يطامن إليك من طماحك، ويكف عنك من غربك، ويفئ إليك بما عزب عنك من عقلك. (6) إياك ومساماة الله في عظمته (7) والتشبه به في جبروته; فإن الله يذل كل جبار، يهين كل مختال.
1 - ضري الكلب بالصيد: تعوده وأولع به، تطعم بلحمه ودمه. 2 - أي لا تقدر على دفع نقمته. 3 - بجح بالشيء: فرح به. 4 - البادرة: ما يبدر من الحدة عند الغضب. 5 - الإدغال: إدخال الفساد. والمنهكة: المضعفة. والغير بالكسر فالفتح: حوادث الدهر. 6 - الطماح: الجماح. ويطامن منه: يحفض منه. والغرب: الحدة. ويفئ: يرجع. 7 - المساماة: المغالبة في السمو والعلو. 308 أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك; فإنك إلا تفعل تظلم! ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته وكان لله حربا حتى ينزع أو يتوب وليس شئ أدعى إلى تغيير نعمة الله تعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فان الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد. وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل وأجمعها لرضا الرعية، فان سخط العامة يجحف برضا الخاصة (1) وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة. ليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤنة في الرخاء وأقل معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالالحاف وأقل شكرا عند الإعطاء، وأبطأ عذرا عند المنع، وأضعف صبرا عند ملمات الدهر من أهل الخاصة وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة، فليكن صغوك لهم، وميلك معهم. وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعائب الناس فان في الناس عيوبا الوالي أحق من سترها، فلا تكشفن عما غاب عنك منها فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، الله يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك أطلق عن الناس عقدة (2) كل حقد، واقطع عنك سبب كل وتر، وتغاب عن كل ما لا يصح لك ولا تعجلن إلى تصديق ساع (3); فإن الساعي غاش، وإن تشبه بالناصحين. ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جبانا يضعفك عن الأمور، ولا حريصا يزين لك الشره (4) بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله!
1 - يجحف برضا الخاصة، أي يذهب به ويفني أساسه. 2 - أي أزل عن قلوبهم علل الأحقاد بحسن السيرة معهم. 3 - الوتر: العداوة. والتغابي: التغافل. والساعي: النمام. 4 - الشره: بالتحريك: أشد الحرص. 309 إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة فإنهم أعوان الأثمة، وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم ممن لم يعاون ظالما على ظلمه لا آثما على إثمه: أولئك أخف عليك مؤونة، وأحسن لك معونة، وأحنى عليك عطفا، وأقل لغيرك إلفا (1)، فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك، ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه واقعا [ذلك] من هواك حيث وقع. والصق بأهل الورع والصدق، ثم رضهم على أن لا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله (2)، فان كثرة الإطراء تحدث الزهو وتدنى من العزة. ولا يكونن المحسن والمسئ عندك بمنزلة سواء; فإن في ذلك تزهيدا لأهل الاحسان في الاحسان، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة! وألزم كلا منهم ما ألزم نفسه. واعلم أنه ليس شئ بأدعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم وتخفيفه المؤنات عليهم، وترك استكراهه إياهم على ما ليس [له] قبلهم فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك، فإن حسن الظن يقطع عنك نصبا طويلا وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده، وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاؤك عنده. ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية; ولا تحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن فيكون الأجر لمن سنها، والوزر عليك بما نقضت منها. وأكثر مدارسة العلماء، ومنافثة الحكماء (3) في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك. واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض: فمنها
1 - الأحنى: الأميل والأعطف. والإلف بالكسر: الألفة. 2 - أي عودهم على أن لا يزيدوا في مدحك ويفرحوك بنسبة عمل عظيم لم تفعله. 3 - المنافثة: المحادثة. 310 جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل ومنها عمال الانصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكل قد سمى الله [له] سهمه. ووضع على حده فريضة في كتابه أو سنة نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - عهدا منه عندنا محفوظا. فالجنود، بإذن الله، حصون الرعية، وزين الولاة، وعز الدين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم، ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب، لما يحكمون من المعاقد (1) ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها ولا قوام لهم جميعا إلا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ويقيمونه من أسواقهم، ويكفونهم من الترفق بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم، ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم وفي الله لكل سعة، ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه. وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلا بالاهتمام الاستعانة بالله، وتوطين نفسه على لزوم الحق، والصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل. فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيبا (2) وأفضلهم حلما: ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضعفاء، وينبو على الأقوياء (3) وممن لا يثيره العنف، ولا يقعد به الضعف. ثم الصق بذوي [المروءات] الأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة،
1 - هذا وما بعده نشر على ترتيب اللف; فالمعاقد: العقود والمعاهدات، وإحكامها شأن القضاة. وجمع المنافع شأن العمال. والمؤتمنون هم الكتاب. 2 - الجيب: طوق القميص، ونقى الجيب أي طاهر الصدر والقلب. 3 - الحلم: العقل. وينبوا أي يشتد. 311 ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة; فانهم جماع من الكرم، وشعب من العرف، ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما، ولا يتفاقمن في نفسك شيء قويتهم به (1) ولا تحقرن لطفا تعاهدتهم به وإن قل، فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك وحسن الظن بك. ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالا على جسيمها; فإن لليسير من لطفك موضعا ينتفعون به، وللجسيم موقعا لا يستغنون عنه. وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته; وأفضل عليهم من جدته، بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم، حتى همهم هما واحدا في جهاد العدو; فان عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك. وإن أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية، وإنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم، ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة الأمور وقلة استثقال دولهم، وترك استبطاء انقطاع مدتهم; فافسح في آمالهم وواصل في حسن الثناء عليهم وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم; فان كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع، تحرض الناكل، إن شاء الله. ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى، ولا تضيفن بلاء امرئ إلى غيره، ولا تقصرن به دون غاية بلائه، ولا يدعونك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيرا، ولا ضعة امرئ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما. واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك (2) من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور; فقد قال الله تعالى لقوم أحب إرشادهم: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) فالرد إلى الله: الأخذ بمحكم كتابه، والرد إلى الرسول: الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة. ثم آختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور
1 - تفاقم الأمر: اشتد. 2 - ضلعه: ضرب في ضلعه، وأضلعه: أثقله. والمراد ما يشكل عليك. 312 ولا تمحكه الخصوم (1) ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفة (2)، لا تشرف نفسه على طمع ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه; وأوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرما (3) بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم; ممن لا يزدهيه إطراء (4)، ولا يستميله إغراء، أولئك قليل، ثم أكثر تعاهد قضائه وافسح له في البذل ما يزيل علته، وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظرا بليغا; فإن هذا الدين قد كان أسيرا في أيدي الأشرار: يعمل فيه بالهوى، وتطلب به الدنيا. ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختبارا، ولا تولهم محاباة وأثرة; فإنهم جماع من شعب الجور والخيانة; وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة فانهم أكرم أخلاقا، وأصح أعراضا; وأقل في المطامع إشرافا، وأبلغ في عواقب الأمور نظرا. ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك ثم تفقد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية وتحفظ من الأعوان فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا فبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة، ووسمته بالخيانة، وقلدته عار التهمة. وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله; فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم; لاصلاح لمن سواهم إلا بهم; لان الناس كلهم عيال على الخراج وأهله. وليكن
1 - أمحكه: أغضبه وجعله لجوجا. 2 - أي لا يضيق صدره من الرجوع إلى الحق. 3 - التبرم: الملل والضجر. 4 - أصرمهم: أقطعهم للخصومة. لا يزدهيه إطراء: لا يستخفه زيادة الثناء. 313 نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لان ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلا; فإن شكوا ثقلا أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة أرض (1) اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم. ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك، وتزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم، وتبجحك باستفاضة العدل فيهم معتمدا فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم (2) والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم، فربما حدث من الأمور ما إذا عولت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به فإن العمران محتمل ما حملته، وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما يعوز أهلها لاشراف أنفس الولاة على الجمع وسوء ظنهم بالبقاء، وقلة انتفاعهم بالعبر. ثم انظر في حال كتابك فول على أمورك خيرهم; واخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الأخلاق ممن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ، ولا تقصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمالك عليك إصدار جواباتها على الصواب عنك فيما يأخذ لك ويعطي منك، ولا يضعف عقدا اعتقده لك، ولا يعجز عن إطلاق ما عقد عليك، ولا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور; فإن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل، ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك استنامتك (3) وحسن الظن منك; فإن الرجال يتعرفون لفراسات الولاة بتصنعهم حسن خدمتهم، وليس وراء ذلك من النصيحة والأمانة شئ، ولكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك: فاعمد لأحسنهم كان في العامة أثرا، وأعرفهم بالأمانة وجها، فإن ذلك دليل على نصيحتك لله ولمن وليت أمره، واجعل لرأس كل أمر من أمورك رأسا
1 - الثقل: ثقل الخراج المضروب. والبالة: ما يبل الأرض من المطر. وإحالة الأرض: تحويلها البذور إلى الفساد. 2 - الإجمام: الإراحة. 3 - الفراسة: حسن النظر. واستنام إلى الشيء: سكن إليه سكون النائم، والمقصود أن لا يكون انتخابك تابعا لميلك الخاص وحسن ظنك. 314 منهم لا يقهره كبيرها، ولا يتشتت عليه كثيرها، ومهما كان في كتابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته. ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيرا: المقيم منهم والمضطرب بماله، والمترفق ببدنه; فإنهم مواد المنافع، وأسباب المرافق وجلابها من المباعد المطارح في برك وبحرك وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترنؤن عليها; فإنهم سلم لا تخاف بائقته (1) وصلح لا تخشى غائلته، وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك. واعلم - مع ذلك - أن في كثير منهم ضيقا فاحشا، وشحا قبيحا واحتكارا للمنافع، تحكما في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة; فامنع من الاحتكار فان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، منع منه. وليكن البيع بيعا سمحا: بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به; وعاقبه في غير إسراف. ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزمنى (2) فإن في هذه الطبقة قانعا ومعترا (3); واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسما من بيت مالك، وقسما من غلات صوافي الإسلام في كل بلد (4); فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكل قد استرعيت حقه; فلا يشغلنك عنهم بطر (5) فإنك لا تعذر بتضييعك التافه (6) لإحكامك الكثير المهم، فلا تشخص همك عنهم لا تصعر. (7) خدك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن
1 - البائقه: الداهية. 2 - البؤسى: شدة الفقر. والزمنى جمع زمين: المصاب بالزمانة. 3 - القانع: الخاضع بالسؤال. والمعتر: المتعرض للعطاء بلا سؤال. 4 - الصوافي جمع الصافية، وهي أرض الغنيمة. 5 - البطر: طغيان النعمة. 6 - التافه: القليل الحقير. 7 - صعر خده: أماله كبرا. 315 تقتحمه العيون (1) تحقره الرجال، ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله يوم تلقاه (2); فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الانصاف من غيرهم، وكل فأعذر إلى الله في تأدية حقه إليه، وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له، ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل [والحق كله ثقيل] وقد يخففه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبروا أنفسهم ووثقوا بصدق موعود الله لهم. واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع (3)، فإني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يقول في غير موطن: (لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوى غير متتعتع) ثم احتمل الخرق منهم والعي (4)، ونح عنهم الضيق والأنف يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته، وأعط ما أعطيت هنيئا، وامنع في إجمال وإعذار! ثم أمور من أمورك لا بد لك من مباشرتها: منها إجابة عمالك بما يعيا عنه كتابك، منها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك (5)، وأمض لكل يوم عمله; فإن لكل يوم ما فيه، واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله أفضل تلك المواقيت، وأجزل تلك الأقسام وإن كانت كلها لله إذا صلحت فيها النية، وسلمت منها الرعية. وليكن في خاصة ما تخلص به لله دينك: إقامة فرائضه التي هي له خاصة. فأعط الله من بدنك في ليلك ونهارك، ووف ما تقربت به إلى الله من ذلك كاملا غير مثلوم
1 - تقتحمه العيون: تزدريه وتحتقره. 2 - الإعذار: الاجتهاد في أداء الحق بحيث تكون معذورا. 3 - التعتعة في الكلام: التردد فيه من عجز وعى. 4 - الخرق لا ضم: العنف. والعي: العجز عن النطق. 5 - حرج: ضاق. 316 ولا منقوص بالغا من بدنك ما بلغ، وإذا قمت في صلاتك للناس فلا تكونن منفرا ولا مضيعا فإن في الناس من به العلة وله الحاجة. وقد سألت رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، حين وجهني إلى اليمن كيف أصلي بهم؟ فقال " صل بهم كصلاة أضعفهم، وكن بالمؤمنين رحيما ". وأما بعد، فلا تطولن احتجابك عن رعيتك; فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور، والإحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما آحتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل; إنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، وإنما أنت أحد رجلين: إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه؟ أو فعل كريم تسديه، أو مبتلى بالمنع فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك مع أن أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤونة فيه عليك من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف في معاملة. ثم إن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار، وتطاول، وقلة إنصاف في معاملة فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وحامتك قطيعة لا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على غيرهم فيكون مهنأ ذلك لهم دونك وعيبه عليك في الدنيا والآخرة. وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد، وكن في ذلك صابرا محتسبا، واقعا ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع; وعاقبته بما يثقل عليك منه; فإن مغبة ذلك محمودة. وإن ظنت الرعية بك حيفا فأصحر لهم بغذرك، واعدل عنك ظنونهم بإصحارك; فإن في ذلك رياضة منك لنفسك ورفقا برعيتك، وإعذارا تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق. ولا تدفعن صلحا دعاك إليه عدوك [و] لله فيه رضا; فإن في الصلح دعة لجنودك راحة من همومك، وأمنا لبلادك، ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه; فإن العدو ربما قارب ليتغفل فخذ بالحزم، واتهم في ذلك حسن الظن. وإن عقدت بينك
317 وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت; فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعا مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر (1) فلا تغدرن بذمتك ولا تخيسن بعهدك (2) لا تختلن عدوك; فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقى. وقد جعل الله عهده وذمته أمنا أفضاه بين العباد برحمته، وحريما يسكنون إلى منعته، ويستفيضون إلى جواره فلا إدغال ولا مدالسة (3) ولا خداع فيه، ولا تعقد عقدا تجوز فيه العلل، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة، ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحق; فإن صبرك على ضيق أمر ترجوا انفراجه وفصل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته، وأن تحيط بك من الله فيه طلبة، فلا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك. (4) إياك والدماء وسفكها بغير حلها; فإنه ليس شيء أدنى لنقمة، ولا أعظم لتبعة، ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة، من سفك الدماء بغير حقها، والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام; فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله، ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد; لان فيه قود البدن، وإن ابتليت بخطأ وأفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بالعقوبة; فإن في الوكزة فما فوقها مقتلة، فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تودي إلي أولياء المقتول حقهم. وإياك والاعجاب بنفسك، والثقة بما يعجبك منها، وحب الإطراء فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين.
1 - أي وجدوا عواقب الغدر وبيلة. 2 - خاس بعهده: نقضه. والختل: الخداع. 3 - الإدغال:، الإفساد. والمدالسة: الخيانة. 4 - أي تخاف أن تحيط بك من الله مطالبة بحقه في الوفاء بحيث لا يمكنك التخلص منه بمطالبة العفو منه في دنياك أو آخرتك. 318 وإياك والمن على رعيتك بإحسانك، أو التزيد فيما كان من فعلك (1) أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإن المن يبطل الإحسان، والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت عند الله والناس قال الله تعالى: (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون). وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقط فيها عند إمكانها (2) أو اللجاجة فيها إذا تنكرت أو الوهن عنها إذا استوضحت. فضع كل أمر موضعه، وأوقع كل أمر موقعه. وإياك والإستئثار بما الناس فيه أسوة، (3) والتغابي عما تعنى به. (4) مما قد وضح للعيون; فإنه مأخوذ منك لغيرك; وعما قليل تنكشف عنك أغطية الأمور، وينتصف منك للمظلوم; املك حمية أنفك (5)، وسورة حدك، وسطوة يدك، وغرب لسانك; واحترس من كل ذلك بكف البادرة، وتأخير السطوة، حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار، ولن تحكم ذلك من نفسك حتى تكثر همومك بذكر المعاد إلى ربك. والواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدمك من حكومة عادلة، أو سنة فاضلة، أو أثر عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، أو فريضة في كتاب الله، فتقتدي بما شاهدت مما عملنا [به] فيها، وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا، وآستوثقت به من الحجة لنفسي عليك; لكيلا تكون لك علة عند تسرع نفسك إلى هواها. وأنا أسأل الله بسعة رحمته، وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه من الاقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه، مع حسن الثناء في العباد، وجميل الأثر في البلاد، وتمام النعمة، وتضعيف الكرامة (6)، وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة، إنا إليه راجعون. والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين وسلم تسليما كثيرا، والسلام.
1 - التزيد: إظهار الزيادة في الأعمال عن الواقع منها. 2 - التسقط فيها: التهاون فيها. 3 - أي تخص نفسك بشيء من الحقوق العامة التي تجب فيها المساواة. 4 - التغابي عما تعنى به: التغافل عما يجب ان يهثم به. 5 - أي املك نفسك عند الغضب. 6 - أي جعلها أضعافا. 319