بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: كتاب البيع المؤلف: الشيخ محمد حسن قديري الجزء: الوفاة: معاصر المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن تحقيق: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني الطبعة: الأولى سنة الطبع: 1418 - 1376 ش المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج الناشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني ردمك: ملاحظات: تقرير لما أفاده الأستاذ الأكبر آية الله العظمى الإمام الخميني البيع تقرير لما أفاده الأستاذ الأكبر آية الله العظمى الإمام الخميني (قدس سره) تأليف آية الله الشيخ محمد حسن القديري تحقيق مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره)
تعريف الكتاب 1 هوية الكتاب اسم الكتاب: البيع المؤلف: محمد حسن قديري * سنة الطبع: پاييز 1376 ه. ش - 1418 ه. ق الطبعة: الأولى المطبعة: مطبعة مؤسسة العروج الكمية: 3000 نسخة السعر: 15000 ريال جميع الحقوق محفوظة ومسجلة لمؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره)
تعريف الكتاب 2 بسم الله الرحمن الرحيم
تعريف الكتاب 3 مقدمة التحقيق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، واللعن على أعدائهم أجمعين لقد دأبت مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره) على نشر آرائه الإسلامية وأفكاره الدينية طاب ثراه وتقديمها للقارئ الكريم بحلل جديدة زاهية، وبالأخص أفكاره ورؤاه التي ابتنت عليها الحكومة الإسلامية الإلهية، وذلك هو الفقه الإسلامي الذي هو الأساس لآراء الإمام الخميني الكبير السياسية التي أقام عليها دولته الإسلامية ونظامها وسياستها الداخلية والخارجية. وهكذا استأثر الفقه في هذا المضمار بالجانب الأعظم، لأنه نظام الدين والدنيا والمجتمع والفرد على حد سواء، لم يترك الصادع به (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرا إلا وبينه، ولا حكما إلا وأوضحه، وما من شئ يقرب إلى الجنة ويبعد من النار إلا وأبانه (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك على مختلف المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن الجانب الفردي العبادي. فالفقه الإسلامي قوانين وأنظمة تتناول كافة الأبعاد والجوانب، والتي من أهمها الحكومة الإسلامية وسبل إرساء دعائمها. وما أبعد هذه النظرة الواقعية الشاملة للإسلام الحنيف للإمام الراحل - رضوان الله عليه - النابعة من فهمه العميق لدين الله وخبرته الواسعة بالغايات العليا التي بعث
1 الله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أجلها وبينها أئمتنا الطاهرون من بعده، فكان - رضوان الله عليه - منطلقا في حركته الدينية العالمية من إيمانه بالواجب الشرعي الإلهي الملقى على عاتق كل مسلم وعلى عاتق الفقيه بالخصوص، وهو الفقيه الزاهد الذي شهد بزهده العدو قبل الصديق، وهو من أركان العرفان وأهل اليقين الذين هانت لديهم الدنيا الزائفة بكل مباهجها وزخارفها، حتى استوى لديه التبر والتراب، وهو الذي كان كل همه أداء مسؤوليته الإلهية وإسعاد أمته الإسلامية من خلال الفقه ومسائله التي استنبطها من القرآن العظيم والسنة المطهرة وهو المجتهد الأكبر الذي غاص في بحر الفقه الإسلامي مستنبطا كنوزه الغالية التي فيها سعادة الدنيا والآخرة للناس أجمعين. أقول: ما أبعد هذه النظرة الواقعية الشاملة والفهم العميق للإسلام الحنيف عن التفسير الخاطئ الذي تروق نسبته إلى الإسلام من قبل المخالفين لخط الإمام الناصع، ممن نفوا الدور القيادي للفقيه في زمان الغيبة الكبرى، وحصروا دوره بالفتيا ومسائل الحلال والحرام المعهودة، وبهذا يخلو كرسي الزعامة من الحاكم الفقيه، ويتسنم عرشه الشيطان الأكبر وأذنابه وعملاؤه، لينهبوا ثروات البلاد الإسلامية وخيراتها، ويتحكموا في دماء المستضعفين ومصائرهم. وقد وقف إمامنا الراحل طاب ثراه بوجه أصحاب هذه الأفكار الخاطئة، وأثبت بطلانها من خلال أقواله وأفعاله وأبحاثه وخطبه، وحذر الناس من هذا الاتجاه الخطير على مصير الإسلام والمسلمين. وتعد بحوث الإمام الخميني (رحمه الله) التي دونها الأعلام المحققون من تلامذته شروحا وافية لبيان آرائه وأفكاره، لذا أولت المؤسسة هذه التقريرات أهمية خاصة، كي لا يلتبس الأمر في فهم هذه التحقيقات الرائعة. والكتاب الذي بين يديك واحد من سلسلة واسعة لتقريرات أبحاث إمامنا
2 الراحل، وهو بقلم آية الله الحاج الشيخ محمد حسن قديري دام ظله العضو الهام في المجلس السابق لاستفتاءات الإمام الراحل (قدس سره). وموضوع الكتاب هو البيع، وقد طبع في السابق مع حواشي المصنف طبعة غير مصححة، ولا محققة، فقمنا بتصحيح متنه، واستخراج أقواله، وعنونة الكثير من أبحاثه، تسهيلا لرجوع القارئ الكريم إليه. ومما يجدر ذكره: أن الإمام الخميني أفاض الله عليه شآبيب رحمته، كان قد ألف كتابه الحافل البيع في مدينة قم المقدسة، وألقى أبحاثه العالية على المحققين الأفاضل إلى أواخر بيع الفضولي، وذلك قبل نهضته المباركة ونفيه إلى تركيا، فلما حل في جوار جده أمير المؤمنين (عليه السلام) أعاد التدريس من أول البيع، فاستمر فيه حتى نهايته وأضاف إلى كتابه الذي كتبه في قم المقدسة بحوثه التي ألقاها في النجف الأشرف، وهذا التقرير الذي بين يديك - أيها القارئ الكريم - يمثل دروس السيد الإمام في النجف الأشرف. وفي الختام نتضرع إلى المولى عز وجل أن يوفقنا في السير على نهج الإمام (رحمه الله)، وأن يوفقنا في تحقيق التراث العلمي لإمامنا العظيم، ونشره بأحسن وجه وأتمه. مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (قدس سره) قم / قسم التحقيق خرداد / 1376، محرم الحرام / 1418
3 البيع
4 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين المقدمة وبعد، المباحث الواقعة في هذا الكتاب كغيره، إنما هي باعتبار إضافات الماهية إلى غيرها، ولذا نرى في هذا الكتاب المباحث الراجعة إلى ماهية البيع بالإضافة إلى سببه، فيقسم البيع إلى معاطاة وعقدي، وبالإضافة إلى المتعاملين، وهي شرائط المتعاقدين، وبالإضافة إلى العوضين، وهي شرائط العوضين، وبالإضافة إلى الشروط الواقعة في البيع، وهي مباحث الشروط، وبالإضافة إلى تأثير الفسخ فيه وعدمه، وهي مباحث الخيارات. نعم، نرى بعض مباحث هذا الكتاب غير مرتبطة به، كمباحث المقبوض بالبيع الفاسد، وإرث الخيار، ولكن يبحث عنها استطرادا، بداهة أن المناسب للأول كتاب الغصب، والمناسب للثاني كتاب الإرث.
5 المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين وبعد، المباحث الواقعة في هذا الكتاب كغيره، إنما هي باعتبار إضافات الماهية إلى غيرها، ولذا نرى في هذا الكتاب المباحث الراجعة إلى ماهية البيع بالإضافة إلى سببه، فيقسم البيع إلى معاطاة وعقدي، وبالإضافة إلى المتعاملين، وهي شرائط المتعاقدين، وبالإضافة إلى العوضين، وهي شرائط العوضين، وبالإضافة إلى الشروط الواقعة في البيع، وهي مباحث الشروط، وبالإضافة إلى تأثير الفسخ فيه وعدمه، وهي مباحث الخيارات. نعم، نرى بعض مباحث هذا الكتاب غير مرتبطة به، كمباحث المقبوض بالبيع الفاسد، وإرث الخيار، ولكن يبحث عنها استطرادا، بداهة أن المناسب للأول كتاب الغصب، والمناسب للثاني كتاب الإرث.
6 تعريف البيع لحاظات البيع وموارد صدقه عرفا قد يلحظ البيع بما أنه صادر عن البائع، وقد يلحظ بما أنه أمر حاصل مع قطع النظر عن منشئه، ومن المعلوم أنه يختلف تعريفه بحسب كل واحد من اللحاظين، ولكن الأنسب بالتدوين أن يلحظ بلحاظ الثاني، والأمر في ذلك سهل. ثم إن للبيع - كسائر العقود - مفهوما عرفيا، وليس فيه تأسيس من الشارع، وإن اعتبر في صحته بنظره قيود تظهر إن شاء الله تعالى، فلا بد من التفتيش والفحص عن موارد صدق البيع عليها بنظر العرف حتى يمكن تعريفه، وإليك بعض هذه الموارد: 1 - هل تكون معاوضة المتاع بالمتاع بيعا، أو يختص البيع بمعاوضته بالنقد؟ 2 - هل تكون معاوضة النقد بالنقد بيعا، أو يختص البيع بمعاوضة المتاع به؟ 3 - هل تكون معاوضة النقد بالمتاع بيعا، أو يختص البيع بمعاوضة المتاع بالنقد؟ 4 - هل يتحقق البيع بإنشائه بالمبادلة، أو لا بد من إنشائه بالتبديل وما أشبهه؟ 5 - هل يعتبر في مفهوم البيع أن يكون متعلقه عينا، أو يعم المنافع
7 والحقوق أيضا؟ 6 - هل يعتبر في مفهوم البيع أن يكون متعلقه جزئيا حقيقيا، أو يعم الكلي والمشاع أيضا؟ 7 - هل يعتبر في مفهوم البيع الملكية والمالية للمبيع، أم لا؟ أما بالنسبة إلى الأسئلة الثلاثة الأول: فالظاهر صدق البيع عرفا في جميع تلك الموارد والبائع من يبدل ماله بغيره ولو كان ماله من النقد. وأما بالنسبة إلى الرابع: فالظاهر التحقق، بل يصدق على كل من المتبايعين أنه بائع والآخر مشتر. في بيع الحقوق والمنافع وأما بالنسبة إلى الخامس: فالظاهر التعميم، فلا ينبغي الاشكال في إمكان بيع الحقوق عرفا (1)، كما أنه يمكن بيع المنافع أيضا، والنقض بالإجارة لا وجه له، فإن الإجارة ليست من قبيل التمليك، فإن مالك العين لا يملك منافعها المعدومة حتى يملكها الغير، بل حقيقة الإجارة جعل المالك غيره مقام نفسه في المنافع، بحيث توجد ملكا للمستأجر، وهذا بخلاف بيع المنافع، فإنه من قبيل بيع الكلي الذي يوجد مصداقه فيما بعد، فهو تمليك، لا تمليك المصداق، حتى يورد عليه بما يرد على الإجارة، بل تمليك الكلي (2).
1 - المكاسب والبيع (تقريرات المحقق النائيني) الآملي 1: 88 أنظر منية الطالب 1: 43 - 44، حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 11 - 12. 2 - أقول: أولا: لا منافاة بين عدم اتصاف الشئ بالملكية فعلا وإمكان التمليك بالفعل كالواجب التعليقي، فإن التمليك فعلي والملكية متأخرة، فالإجارة تمليك المنفعة، بحيث كلما وجدت تتصف بالملكية. إن قلت: على ذلك المنفعة في الإجارة توجد في ملك المستأجر فقد ملك المؤجر شيئا غير مملوك له أبدا. قلت: أولا: هذا إشكال آخر غير ما أفاده الأستاذ مد ظله. وثانيا: نفس اقتضاء وجود الشئ في ملك الشخص وقابليته كاف في التمليك، فهذا التمليك من قبيل الدفع لا الرفع. ثانيا: عدم وجود المنفعة حال البيع في بيع المنفعة المتأخرة لا يوجب كلية المبيع، فإن المبيع لو كان قابلا للصدق على الكثيرين فكلي، وجد المبيع حال البيع أم لم يوجد، وإلا فجزئي، وجد ذلك أم لم يوجد، فلا بد من النظر في ما قصد بالبيع، فلو كان مقصود المتبايعين المنفعة الكلية فكلي، وإلا فالمبيع جزئي بلا إشكال. ولو كان ظرف وجوده متأخرا عن حال البيع فإذا ينتقض بيع المنافع بالإجارة على أن الكلي بغير معنى الوجود السعي غير قابل للبيع والشراء. ويأتي توضيحه أزيد من ذلك - إن شاء الله - فالاشكال الآتي في الإجارة آت في بيع المنافع أيضا. المقرر حفظه الله. 8 في الاشكال على بيع الكلي وجوابه وأما بالنسبة إلى السادس: فقد أوردوا على بيع الكلي إشكالا: وهو أن الكلي غير موجود بنفسه فلا يعقل تعلق البيع به (1). وغير خفي أن هذا الاشكال لو تم لا ينحصر بالكلي في الذمة وإن قال السيد (قدس سره) بالانحصار (2)، بل يعم الكلي في المعين والمشاع أيضا، فإن مناط الاشكال عدم وجود الكلي وهو مشترك الورود، بل الاشكال في المشاع آكد، فإن الالتزام بوجود الكسر المشاع، موجب لالتزام وجود الكسور الغير المتناهية في الجسم، وهو محال، لأنه من الالتزام بوجود جسم غير محصور بين الحاصرين. أما الجواب عن عدم وجود الكلي فظاهر، فإن البديهة تنادي بوجود ذلك،
1 - أنظر حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 3 / سطر 3. 2 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 53 / سطر 34 - 35. 9 فإنه يحمل عليه أمور واقعية، ومعه كيف يلتزم بعدم الوجود؟! إن قلت: صقع وجود الكلي: إما في الخارج، أو في الذهن، ولا ثالث، والموجود في كل منهما جزئي، فأين الكلي (1)؟ قلت: الموجود في الذهن لا يعقل أن يكون لحاظه دخيلا فيه نفسه، نعم يمكن أن يلاحظ مع ذلك اللحاظ بلحاظ آخر، فالجزئي الذهني هو الموجود في الذهن بقيد اللحاظ، أما الملحوظ بهذا اللحاظ فلا يمكن أن يلتزم بعدم وجوده، وليس جزئيا ذهنيا، لعدم تقيده باللحاظ، وليس جزئيا خارجيا، وهذا ظاهر، بل هو كلي قابل للانطباق على الجزئيات الخارجية والذهنية، وبهذا المعنى يصح أن يحكم عليه بأحكام عقلية، مثل أن الكلي ما يكون قابلا للانطباق على كثيرين، فكيف بالأحكام الاعتبارية؟! كلام السيد في المقام وجوابه وأما ما أجاب به السيد (قدس سره) عن الاشكال: من أن الملكية أمر اعتباري، فلا مانع من أن يكون عارضا لأمر اعتباري، والكلي وإن لم يكن موجودا حقيقة، إلا أنه يعتبر العقلاء الوجود له، وهذا المقدار كاف في البيع (2). فبطلانه ظاهر، فإن الأمر الاعتباري غير موجود، فضلا عن قابليته للبيع والشراء مضافا إلى أنه لو اعتبر الوجود الخارجي له فيكون جزئيا خارجيا، ولو اعتبر الوجود الذهني له يكون جزئيا ذهنيا، فأين الكلي القابل للصدق على كثيرين؟! فالصحيح في الجواب عن الاشكال ما ذكرناه. إن قلت: إن الكلي بهذا المعنى لا مالية له، فليس قابلا للانتقال والبيع (3).
1 - أنظر الحكمة المتعالية 2: 8. 2 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 53 - 54. 3 - المكاسب: 79 / سطر 7. 10 قلت: مالية كل شئ بحسب اعتبار العقلاء ذلك فيه، فالدينار الرائج فعلا ليس إلا ورقا محضا لا قيمة له، وماليته من جهة اعتبار العقلاء ذلك فيه، والكلي - عينا - من هذا القبيل، العقلاء يعتبرون المالية للكلي لمن كان موسرا وواجدا للمال، ويجعلون بإزاء ذمته قيمة دون غيره. وبعبارة أخرى: كما اينكه دينار پشتوانه دارد وآن طلا است كذلك ذمه هم پشتوانه دارد وآن خروار گندم خارجي است مثلا (1). إن قلت: إن الكلي غير قابل للملك والتمليك وإن كان مالا (2). قلت: إنا لا نلتزم باعتبار الملكية في المبيع في صدق البيع، وسيظهر قريبا إن شاء الله (3). وبما ذكرنا يمكن تصحيح البيع في مورد ضم الثمرة الفعلية إلى المتأخرة فإنه من قبيل ضم الجزئي إلى الكلي، وإلا كيف يمكن تمليك ما ليس بموجود فعلا؟! مع أن المملك غير مالك له بالفعل، وهكذا في مورد بيع المنافع ووقفها والصلح
1 - كما أن للدينار مقابل من الذهب وهو مناط الاعتبار عند العقلاء فكذلك الكلي في الذمة فإن له مقابل في الخارج يقوم به الاعتبار كمقدار المعين من الحنطة مثلا. 2 - أنظر المكاسب والبيع (تقريرات المحقق النائيني) الآملي 1: 89. 3 - يمكن أن يقال باعتبار التمليك في البيع ولو تمليك الأمر المتأخر، كما سيظهر قريبا - إن شاء الله - مع أن العنوان غير قابل للبيع والشراء، بل العنوان حاك عن المعنون، وأخذ موضوعا بما أنه يشير إلى معنونه. وبعبارة أخرى: أن البائع لا يبيع المفهوم وإن تجرد عن قيد الوجود الذهني، بل المقصود بالبيع هو الشئ الخارجي. نعم، الخصوصيات الفردية والمشخصات الخارجية ملغاة عن مقصوده، وهذا هو الذي يسمى بالوجود السعي، وهو قابل للتمليك، لأنه مال، بل مالية الفرد به بلا دخل للخصوصية في المالية، وموجود في الخارج بلا إشكال، لصدق الكلي عليه، وصحة الحمل دليل الوجود. المقرر حفظه الله. 11 عليها وغير ذلك (1). جواب الاشكال في بيع الكسر المشاع وأما الجواب عن الاشكال في بيع الكسر المشاع: فإن المشاع وإن كان يغاير الكلي في المعين، فإن الكلي قابل للانطباق على كل فرد، بخلاف المشاع، فإنه سار في جميع المال، ولذا يتحقق التسليم في الكلي بتسليم أي فرد شاءه البائع، بخلاف المشاع، فإنه لا يحصل إلا بتسليم جميع العين، وهذا ظاهر، ولذا لا يمكن تصحيح بيع الكسر المشاع بما قلنا في بيع الكلي، إلا أن الكسر المشاع موجود بنظر العقلاء، والاشكال المتقدم إنما هو بنظر العقل، فإن العقل لا يرى إلا شيئا واحدا، ولكن حيث إن ذلك الشئ مشتمل على النصف وغيره من الكسور، وليس فرض النصف وغيره
1 - أولا: الوجدان حاكم بأنه يمكن قصد بيع الشئ المتأخر بشخصه، بل هذا واقع في مورد بيع الثمرة وغيرها، فإن البائع لا يبيع الكلي القابل للانطباق على الموجود في ظرفه وغيره، بل المقصود بالبيع نفس الثمرة المتأخرة وجدانا، بحيث لو كانت موجودة بالفعل لأشار إليها البائع، والزمان لا يقلب الجزئي إلى الكلي، فلكم البرهان ولنا الوجدان، ولا يمكن رفع اليد عن الوجدان بالبرهان. وثانيا: أن معنى بيع المتأخر هو تمليك الملك المتأخر، وغاية الاشكال: إنه كيف يمكن انفكاك التمليك عن الملك؟! أو إنه يلزم من فرض صحة التمليك عدمها، للزوم تمليك ما لم يدخل في ملك المملك أبدا على فرض الصحة. والاشكال الأول بعينه هو الاشكال في الواجب التعليقي، والجواب الجواب، من أن اعتبار أمر متأخر ممكن بالفعل. ومر الجواب عن الاشكال الثاني، من أن اقتضاء المالكية يكفي في التمليك بنظر العقلاء، غايته أن هذا دفع لا رفع. نعم، هنا شئ، وهو أنه في ظرف التمليك لا وجود للملك إلا تصورا فالموجود ليس إلا العنوان لا المعنون، إلا أن هذا لا يقلب الجزئي كليا، فإن العنوان المنتزع من الفرد المشخص - في ظرفه - غير قابل للصدق على الكثيرين. المقرر حفظه الله. 12 من قبيل فرض أمر مباين للشئ، ولذا يرى العقلاء نحو وجود للكسور في الشئ، والعبرة في ترتب الآثار إنما هي بنظر العقلاء، لا بالنظر الدقي العقلي، فيقع البيع لهذا الموجود بنظرهم. هذا، ولو أغمضنا عن ذلك فلا بد من طرح الاشكال أيضا، فإنه من قبيل الشبهة في مقابلة البديهة. في اعتبار ملكية المبيع وماليته في صدق البيع وأما بالنسبة إلى السابع: فلا تعتبر ملكية المبيع في صدق البيع بنظر العقلاء، فإن بيع السمكة في الماء مع القدرة على التسليم بيع عقلائي بلا إشكال، مع عدم حصول الملكية بعد (1). وأما مالية المبيع فمعتبرة في صدق البيع بلا إشكال، وما ذكره السيد (قدس سره): من أن بيع كف من التراب بيع، غاية الأمر أنه غير صحيح (2)، لا يرجع إلى محصل صحيح، فإن العقلاء لا يرون هذا بيعا، بل يرونه لعبا محضا. في جعل عمل الحر ثمنا في البيع ثم إنهم أفردوا الكلام عن ثمن البيع، ولا بأس بالإشارة إلى ذلك إجمالا. هل يصح جعل عمل الحر ثمنا للمبيع، أم لا؟
1 - قد مر: أنه لا منافاة بين عدم اعتبار الملكية في المبيع بالفعل وأن يكون البيع تمليكا بالفعل، فإن تمليك الملك المتأخر صحيح على ما مر. والظاهر أنه لا مجال لانكار اعتبار التمليك في البيع ولو بنحو تمليك الأمر المتأخر. المقرر حفظه الله. 2 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 54 / سطر 22. 13 قد ظهر مما سبق: صحة جعله مثمنا، فضلا عن جعله ثمنا. والاشكال المتوهم أمران: أحدهما: عدم وجود للعمل حال المعاوضة. والثاني: عدم كونه مالا. ومن جهة الأخير فصلوا بين العمل بعد وقوع المعاوضة عليه وقبله (1). وقد تقدم الجواب عن كلا الاشكالين، وأن المتعلق - في المقام ونظائره - هو الكلي القابل للانطباق على فرده وإن لم يكن له فرد بالفعل، فإن الكلي موجود في صقع وجوده بالفعل، وهو مال متعلق لرغبة العقلاء باعتبار قابليته للانطباق على الخارج (2)، فلا يفرق بين عمل الحر والعبد من حيث المالية أبدا. وظهر مما تقدم: أن الحقوق أيضا قابلة لجعلها ثمنا - بل مثمنا - في البيع، لصدق المال عليها وإمكان تعلق البيع بها عرفا. ولا يهمنا التفصيل في البحث عن الحق والحكم، فإنه تطويل بلا طائل، وموجب لاتلاف الوقت بلا موجب. التعريف المختار فتحصل من جميع ما ذكرناه: أن أحسن التعريفات للبيع ما ذكره المصباح: من أنه مبادلة مال بمال (3). فإنه مع سلامته عما أوردوا عليه سالم عن النقوض والاشكالات الواردة على غيره (4).
1 - المكاسب: 79 / سطر 6، حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 55. 2 - قد مر عدم تمامية ما أفاده في نفسه ووجه التخلص عن الاشكالين. المقرر حفظه الله. 3 - المصباح المنير: 87 / سطر 9. 4 - الأولى أن يعرف البيع بتمليك مال بمال، فإن صرف المبادلة غير محقق للبيع عرفا، بل يشترط فيه التمليك ولو للأمر المتأخر. وأما بيع الحاكم شيئا من الوقف أو اشتراؤه شيئا له وغير ذلك من النقوض، كسهم في سبيل الله في الزكاة والوصية لذلك وغيرها، التي يصح بيعها مع توهم عدم مالك من طرف واحد أو من الطرفين، فلا تنافي ما ذكرناه، فإنه لا مانع من الالتزام بقابلية المذكورات لأن تملك، بل المقتضي موجود، وهو معاملة العقلاء معها معاملة الملك، مع أنه سيظهر في ما بعد في بحث الفضولي وغيره - إن شاء الله - أنه لا منافاة بين عدم الملك وإنشاء التمليك عليه، وأن التمليك الانشائي غير موقوف على الملك، بل هو تابع لمبادئ إنشائه، وحصول الملكية في الواقع للمشتري مترتب على الانشاء لا الملكية. هذا. نعم، قد يورد على التعريف نقض بالإجارة. والجواب: أن الإجارة قسم خاص من البيع عبر عنه بعنوان خاص، ولذا ورد التعبير عنها بالبيع في بعض الروايات، نعم، التعبير عنها بالبيع غير متعارف، فلا يمكن التمسك بما دل على الآثار المترتبة على البيع لاثباتها في مورد الإجارة. المقرر حفظه الله. 14 التمسك بالاطلاق عند الشك في اعتبار شئ في البيع هل يمكن التمسك بالاطلاقات عند الشك في دخل شئ وجودي أو عدمي في البيع أم لا؟ نقل الشيخ (قدس سره) كلام الشهيدين (1) في المقام، وأنهما ملتزمان بوضع ألفاظ العقود والمعاملات للصحيح. وأشكل عليهما: بعدم إمكان التمسك بالاطلاقات حينئذ، مع أن سيرة العلماء التمسك بها. ثم قال: ويمكن أن يقال: إن الألفاظ موضوعة للحاصل من المصدر الصحيح المؤثر، الذي ينتقل إلى الذهن من لفظة بعت بلا اختلاف بين العرف والشرع في مفهوم ذلك، والاختلاف بينهما إنما هو في المصداق، فقد يرى العرف والشرع كلاهما شيئا مصداقا لذلك، وقد يراه العرف دون الشرع، وهذا لا يوجب تغييرا في المفهوم واختلافا بينهما في ذلك.
1 - مسالك الأفهام 2: 159 / سطر 36، القواعد والفوائد 1: 158. 15 ووجه إمكان التمسك بالاطلاقات: أنها واردة على طبق العرف، فيحمل على المؤثر عنده، وأن الشارع أيضا يرى التأثير فيه (1). هذا، ولا بد أولا من تحقيق مراد الشهيدين والشيخ الأعظم (قدس سرهم)، وثانيا بيان إمكان التمسك بالاطلاقات على كل من المباني، وثالثا بيان الحق في المقام. أما مراد الشهيدين (قدس سرهما)، فلا يمكن أن يكون دخل الصحيح بمفهومه - أي ما يكون بالحمل الأولي صحيحا - في مفاهيم العقود، فإنه ظاهر الفساد، ولا بمصداقه، أي ما يكون بالحمل الشائع صحيحا، لأنه يلزم من ذلك كون الموضوع له فيها خاصا، وهذا أيضا ظاهر الفساد. وغاية ما يمكن أن يقال في توجيه مرادهما: إن الألفاظ وضعت للمفاهيم التامة الأجزاء والشرائط، التي لو انطبقت على الخارج لاتصفت بالصحيح، دون الأعم التي لو انطبقت على الخارج لاتصفت بالصحيح تارة وبالفاسد أخرى. والصحيح والفاسد كالتام والناقص مشير إلى تلك الماهية، وإلا فلا يكون شئ دخيلا في حقيقتها إلا أجزاءها وشرائطها، وبهذا المعنى يمكن أن يقع النزاع في بحث الصحيح والأعم بينهم، ولذا غيرنا عنوان ذلك البحث بالتام والأعم (2). وعلى أي حال لا يمكن توجيه مراد الشيخ (قدس سره) بما ذكرناه، بل عبارته صريحة في الوجه الأول، ودخل مفهوم الصحة في مفهوم المعاملات، ولا أظن أن يلتزم هو (قدس سره) بذلك، فإن مصداق الصحيح مختلف عند الشارع والعرف، كما أن الماهية التامة أيضا مختلفة عند الشارع والعرف، فلو أريد منها التامة العرفية فقد لا تكون تامة شرعا، ولو أريد منها الشرعية فهذا التزام بالحقيقة الشرعية في المعاملات، مع أنه لا يلتزم بذلك (3)، مضافا إلى أن التامة الشرعية لا تكون جامعة
1 - المكاسب: 80 - 81. 2 - أنظر مناهج الوصول 1: 142 - 145. 3 - المكاسب: 79 / سطر 13 - 14، مطارح الأنظار (تقريرات الشيخ الأنصاري) الكلانتر: 5 / سطر 2. 16 بين الشرعية والعرفية، بحيث يكون الاختلاف في المصاديق كما أفاده (قدس سره). فكلامه لا يتم إلا على الوجه الأول، وأن الصحة بالحمل الأولي مأخوذة في المفهوم. وأما إمكان التمسك بالاطلاقات وعدمه، فعلى القول بوضع الألفاظ للماهية التامة عند الشارع - كما هو الظاهر من كلام الشهيدين، لمكان القيدين، وهما استثناء الحج والاستشهاد بالاقرار (1) - لا يمكن التمسك بها، فإن الشك في اعتبار شئ عند الشارع في الصحة شك في المسمى، ومعه يكون التمسك بالاطلاق من قبيل التمسك به في الشبهة المصداقية، فعلى ذلك الاشكال الذي أورده الشيخ (قدس سره) على الشهيدين وارد عليه أيضا. ولو قلنا بأنها وضعت للمفاهيم العرفية، فهل هي موضوعة للأسباب المؤثرة، أو المسببات الحاصلة، أو نفس الأسباب، أو نفس المسببات؟ فالأولان واضحا البطلان، للزوم أخذ مفهوم المؤثر أو الحاصل في مفهوم المعاملة، أو كون الموضوع له فيها خاصا، فبقي الآخران، فعلى الأول منهما يكون للبحث عن الصحيح والأعم مجال، بخلاف الثاني، فإن أمره دائر بين النفي والاثبات، والعرف والشرع لا يختلفان في المسمى بهذا المعنى، فإن المفهوم واحد عندهما. نعم قد يكون ذلك معتبرا عند الشارع، وقد لا يكون كذلك، وهذا أمر آخر غير مرتبط بالموضوع له اللفظ. وعلى جميع التقادير يمكن التمسك بالاطلاقات لدفع شئ شك في اعتباره في الصحة عند الشارع وعدمه، بعد إحراز المعنى العرفي. الاشكال بعدم التمسك بالاطلاق في الأسباب وما يقال: من أنه بناء على الأخير لا يمكن التمسك بالاطلاق، فإن الشك في الاعتبار راجع إلى السبب، والمفروض أن البيع موضوع للمسبب، فكيف يمكن
1 - مسالك الأفهام 2: 159 / سطر 37 - 38، أنظر القواعد والفوائد 1: 158. 17 التمسك بالاطلاق لدفع ذلك المشكوك؟! وبعبارة أخرى: أن مدار فهم الموضوع في المطلق، مثل قوله تعالى: (أحل الله البيع) (1) وهو المسبب، إنما هو العرف، كما هو المفروض، وأما أن هذا المفهوم بم يتحقق؟ الذي يكون مقام تطبيق هذا المفهوم، فليس بنظر العرف، فإن الفهم العرفي متبع في مفاهيم الألفاظ لا تطبيقاتها، فلا يمكن التمسك بالاطلاق لدفع ما شك في دخلها في الأسباب، لأنه من الشك في اعتبار شئ في تطبيق المفهوم المعين على المصداق المشكوك فيه (2). جواب الاشكال مدفوع: لأنه بعد الفراغ عن أن المسبب أمر عرفي، وفي مقام الاصطلاح لا يختلف الشرع عن العرف في ذلك، بل إنما تكلم على نحو المحاورات العرفية، فلا بد من الرجوع إلى العرف لتعيين موارد حصوله وعدمه، وإن شئت فاختبر في هذا المثال لو كان بدل قوله تعالى: (أحل الله البيع)، أحل الله مبادلة مال بمال، معنى ذلك أن كل مورد يراه العرف أنه مبادلة مال بمال فهو حلال، فعلى ذلك يكون تطبيق هذا المفهوم أيضا بنظر العرف، ولا يحتمل أن يكون فهم مبادلة مال بمال بنظر العرف وتطبيقه على العقد الفارسي مثلا، وأنه هل هو سبب مبادلة مال بمال أو لا بنظر غيره؟ فعند الشك في أن الشارع اعتبر قيدا في السبب يمكن دفعه بالاطلاق، بعد إحراز أنه مبادلة مال بمال عرفا. هذا، والحق في المقام هو ذلك، وأن الألفاظ موضوعة للمسببات، والعرف
1 - البقرة 2: 275. 2 - المكاسب والبيع (تقريرات المحقق النائيني) الآملي 1: 116 - 117، أنظر منية الطالب 1: 37. 18 والشرع لا يختلفان في ذلك، ولو كان شئ وجودي أو عدمي معتبرا عند الشارع في الصحة، لبينه واعتبره في السبب، ولا يضر ذلك بالمسمى، وذلك لوجود علامات الحقيقة والمجاز في ما ذكر، ولا موجب للالتزام بغيره، فإذا يمكن التمسك بالاطلاق لدفع ما شك في اعتباره في الصحة وعدمه عند الشارع. ثم إنه دفع ذلك القائل الاشكال: بأن وزان المنشأ بالصيغة ونفسها ليس وزان المسبب والسبب، بحيث يكون المنشئ فاعلا تسبيبا، بل وزانهما وزان ذي الآلة والآلة، والفاعل فاعل مباشرة، غاية الأمر بالآلة كالكتابة بالقلم، فإن الشخص كاتب بنفسه، لكن بالآلة وهي القلم. وبما أن المصدر والحاصل منه متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار، فيكون الفعل الصادر من البائع والمبادلة الحاصلة منه كذلك، فحينئذ يصح التمسك بالاطلاق لدفع ما شك في اعتباره في الفعل ولو كان اللفظ موضوعا للحاصل منه (1). ويرد عليه: أولا: إنه لو كان المراد من المصدر والحاصل - في كلامه - اللفظ والتلفظ، فهما وإن كانا واحدا ذاتا ويختلفان بالاعتبار، ولكن لا ربط لذلك بمفهوم البيع، حتى يتمسك بإطلاق دليله لدفع ما شك في اعتباره في وقوعه شرعا، ولو كان المراد منهما الأثر والتأثير فأجنبيان عن الصيغة، فلا يمكن التمسك بالاطلاق لدفع ما شك في اعتباره في الصيغة حسب مبناه، ولو كان المراد منهما الآلة وذا الآلة فذلك يستلزم إيجاد الآلة بالآلة، وهو مستحيل، فلا يفهم معنى محصل من اتحاد المصدر والحاصل في المقام، بحيث ينتج وجها للتمسك بالاطلاق.
1 - المكاسب والبيع (تقريرات المحقق النائيني) الآملي 1: 112 - 113، منية الطالب 1: 38 - 39. 19 وثانيا: لو فرضنا انطباق اتحاد المصدر والحاصل على المقام، فمع ذلك لا يمكن الأخذ بالاطلاق، فإنهما وإن كانا متحدين بالذات، إلا أنه ما مختلفان بالاعتبار، بمعنى أنهما عنوانان منتزعان من ذات واحدة باعتبارين، وبما أن المسمى هو أحد العنوانين، فلا يمكن الأخذ بإطلاق دليل تنفيذه لرفع الشك عن الآخر، لاستحالة تعلق الحكم المتعلق بعنوان على غيره. مثلا حكم الحلية متعلقة بطبيعة البيع في (أحل الله البيع) (1)، كما أن حكم وجوب الوفاء متعلقة بكل عقد في قوله تعالى: (أوفوا بالعقود) (2). والبيع الخارجي معنون بعناوين كثيرة، مثل صادر من زيد في شهر كذا في مكان كذا، وهكذا، فهل يمكن أن يقال: إن الآيتين دالتان على صحة هذا البيع بعنوان أنه معنون بالعناوين المذكورة؟ أو يقال: إنه صحيح، لأنه بيع، أو لأنه عقد. وكذلك الآيتان دالتان على أن البيع بمعناه الواقعي - وهو الحاصل من المصدر - نافذ، وأما أنه بمعناه المصدري فأجنبي عن مفادهما، فالمعتبر هنا هو اختلافهما الاعتباري، ولا عبرة باتحادهما الذاتي (3).
1 - البقرة 2: 275. 2 - المائدة 5: 1. 3 - وبما أفاده مد ظله ظهر جواز اجتماع الأمر والنهي مطلقا، فالتفصيل الذي أفاده بعض أعاظم أساتيذنا - وهو الفرق بين العنوانين المتأصلين والانتزاعيين من معنون واحد ومتأصل وانتزاعي من الأول، بالجواز في الأول وعدمه في الأخيرين، بدعوى أن التركيب في الأول انضمامي، بخلاف الأخيرين، فإنه اتحادي لا وجه له. فإن تعدد العنوان وإن لم يستلزم تعدد المعنون، إلا أن العناوين المتعددة قابلة للانطباق على معنون واحد، وسراية الحكم المتعلق بعنوان إلى عنوان آخر غير معقول، فلو لم يكن في الوضوء بالماء المغصوب إجماع على البطلان، فإنا نلتزم بالصحة مع تمشي قصد القربة ولو في صورة العلم والعمد، فضلا عن غيرها. وكذلك لا معنى لتعارض الدليلين بنحو العموم من وجه، إلا أن يعلم من الخارج بكذب أحد الدليلين في المجمع وهذا أمر آخر، فلو ورد دليل بأنه يجب إكرام العالم، وورد دليل آخر بأنه يحرم إكرام الفاسق، فأكرم المكلف عالما فاسقا، امتثل الأول وعصى الثاني بعين ما تقدم. المقرر حفظه الله. 20 إشكال ودفع لا إشكال في عدم حصول الأثر المتوقع من البيع بمجرد الايجاب قبل القبول، وهذا واضح، إلا أن الشيخ (قدس سره) ذكر: أن الأثر وإن كان مترتبا على الايجاب والقبول معا، لكن المكلف باعتقاده يرى حصول الأثر بإيجابه المجرد، وهذا من قبيل الايجاب والوجوب، لا الكسر والانكسار (1)، أي كما أن الايجاب قد يتخلف عن الوجوب، مثلما إذا لم يلتفت الآمر إلى عدم أهليته للأمر، فإنه يحصل منه الايجاب، ولا يتحقق في الخارج الوجوب، كذلك يتخلف ما هو معتقد للموجب في المقام - وهو حصول الأثر بالايجاب فقط - عما هو معتبر عند الشارع، وهو حصوله به وبالقبول معا. ولا يخفى عدم تمامية ما ذكره (رحمه الله)، فإنه لو أراد من أن المكلف يرى حصول الأثر بمجرد الايجاب، ذلك إذا لم يلتفت المكلف إلى اشتراط القبول في حصول الأثر، فهذا نادر جدا. ولو أراد منه مع الالتفات فلا واقعية لذلك، فإن الملتفت لعدم حصول الأثر إلا بالقبول، كيف يعتقد حصوله بمجرد ايجابه؟! بل لا يعتقد إلا ما هو الواقع، وهو الحصول بالقبول. وإذا كان الأمر كذلك يظهر إشكال: وهو أن المعتقد لعدم حصول الأثر بفعله، كيف يحصل الجد منه في ذلك؟! أي كيف ينشئ الموجب الملكية جدا مع علمه بتوقفها على قبول الآخر (2)؟! ونظير ذلك في تكليف العصاة والكفار مع العلم بعدم الامتثال، من أنه كيف يأمر الشارع المذكورين جدا؟! وكيف يريد منهم الفعل كذلك
1 - المكاسب: 80 / سطر 21 - 22، ردا على مقابس الأنوار: 107 / سطر 31. 2 - أنظر البيع، الأراكي 1: 23. 21 مع علمه بعدم حصول الداعي لهم للامتثال؟! ومآل هذا الاشكال عدم تحقق الإرادة الجدية من العالم بعدم حصول مراده في الخارج، أو توقفه على شئ غير اختياري له، وهذا الاشكال سار في جميع أبواب العقود، وفي الفضولي، حتى بالنسبة إلى القبول. وأما الدفع: فإن الفعل في المقام - وهو الانشاء - ليس سببا لتحقق الأثر، وهو الملك في الخارج، فإن الملكية أمر اعتباري لا بد من أن يعتبرها العقلاء ولو بالارتكاز العقلائي، بحيث لو عرض عليهم الفعل لاعتبروا ذلك الأثر، ولا يمكن أن يكون فعل أحد سببا لاعتبار العقلاء، فإن الاعتبار أمر تكويني قائم بالنفس مسبوق بمبادئه الخاصة، بلا دخل لفعل أحد فيه، كما أنه ليس الفعل آلة لذلك، بحيث يكون الفاعل فاعلا مباشريا لكن بالآلة بعين البيان المتقدم، فإنه لا يمكن أن يكون أحد فاعلا لاعتبار العقلاء مباشرة، فإن الاعتبار ينشأ من مبادئه الخاصة كما مر، بل الفعل موضوع للاعتبار، وأن العقلاء بعد تحقق ذلك الفعل يعتبرون ذلك الأثر. وعليه يندفع الاشكال، فإن الموجب وإن كان معتقدا لعدم اعتبار العقلاء الأثر إلا بالقبول، لكن حيث إنه يرى دخل فعله في موضوع الاعتبار يحصل الجد منه، وينشئ المفهوم بالإرادة الجدية، بل لو فرضنا أن الفعل سبب أو آلة لتحقق الأثر، إلا أن الايجاب ليس سببا تاما أو آلة تامة، بل هو جزء السبب أو جزء الآلة، والإرادة الجدية بهذا المقدار حاصلة يقينا.
22 المعاطاة
23 تمهيد قبل الشروع في المباحث المرتبطة بالمعاطاة لا بد من التنبه إلى جهات: 1 - كلمة المعاطاة لم ترد في نص من النصوص، حتى ندور مدار مفهومها، بل المراد منها في المقام كل إنشاء فعلي قبال الانشاء القولي، فلا تنحصر المعاطاة بالتعاطي مطلقا. 2 - لا إشكال في أن الجهة المبحوث عنها في مسائل الفقه هي ما كان راجعا إلى وظيفة المكلفين في أفعالهم، وأما الاحتمالات العقلية في كل مسألة فخارجة عن نظر الفقيه. فحينئذ لا بد من البحث عن حكم المعاملات العرفية الرائجة بينهم، وينشئونها بالفعل. 3 - لا إشكال في عدم الفرق بين البيع بالصيغة والمعاطاة في نظر العرف من حيث المعنى الانشائي، والفرق إنما هو في الحاكي عن ذلك، وأن في أحدهما أوقع البيع بالصيغة، وفي الآخر بالفعل، فالتقسيم في البيع ليس بحسب المفهوم، بل إنما هو بحسب الموضوع. 4 - تحصل مما مر: أن تقسيم المعاطاة بما قصد بها الإباحة وبما قصد بها الملك، غير مرتبط بما نحن بصدده، بل موضوع البحث هو المعاطاة الرائجة في
25 سوق العقلاء، وينحصر البحث في أنه هل المعتبر بنظر الشارع جميع ما هو متداول بين العرف من المعاملات، سواء أوقع بالصيغة أو بالفعل، أو المعتبر عنده ما كان واقعا بالصيغة فقط، وما وقع بالفعل غير معتبر عنده؟ هذا تحرير عنوان البحث. وأما حكم ذلك، فيستدل على عدم اعتبار الصيغة في المعاملات عند الشارع بعدة وجوه:
26 دلائل صحة المعاطاة الاستدلال بسيرة العقلاء 1 - السيرة القطعية بين العقلاء من لدن تشكيلهم للمجتمع إلى زماننا هذا، ولم يردع عنها الشارع، وإلا لظهر واشتهر ظهور الشمس في رائعة النهار واشتهار النار على المنار. وما ذكره الشيخ (قدس سره): من أنه لعل منشأ هذه السيرة عدم المبالاة بالدين (1). واضح الدفع: فإن السيرة قائمة بين جميع ملل العالم المليين وغيرهم، بل المتشرعة والعلماء أيضا على ذلك. فكيف يمكن دعوى أن المنشأ ذلك؟! فمن هذا يقطع بعدم اعتبار اللفظ في المعاملات. الاستدلال بآية الحل 2 - الآية الكريمة: (أحل الله البيع) (2)، وتقريب الاستدلال: أن في الآية احتمالين:
1 - المكاسب: 83 / سطر 29. 2 - البقرة 2: 275. 27 أحدهما: أن تكون ناظرة إلى حلية المنفعة المترتبة على البيع في مقابل الربا، وهي الزيادة، وحيث إن المخالفين كانوا يرون التسوية بين الزيادتين وردت الآية في ردعهم، وأن الزيادة الحاصلة من البيع ليس مثل الزيادة الربوية، بل (أحل الله البيع وحرم الربا) (1)، فعلى هذا الاحتمال الحلية حلية تكليفية متعلقة بالمنافع، وتدل الآية حينئذ على نفوذ البيع بالملازمة العقلية، لعدم احتمال أن تكون حلية المنافع ناشئة من غير ناحية صحة البيع. ثانيهما: أن تكون ناظرة إلى حلية نفس البيع، ويكون المراد من الربا البيع الربوي (2)، لعدم احتمال رؤية المخالفين التسوية بين البيع والزيادة الربوية، فتدل الآية حينئذ على أن البيع الغير الربوي حلال، والبيع الربوي حرام، لا بمعنى أن الانشائين كذلك، بل بمعنى أن البيع الغير الربوي باعتبار أثره حلال، والبيع الربوي باعتبار أثره حرام. وعليه تكون الحلية وضعية، أي استعملت في معناها اللغوي بداعي الارشاد إلى صحة البيع ونفوذه. فعلى كلا الاحتمالين تدل الآية على صحة البيع. هذا أصل الدلالة إجمالا. الاشكال على إطلاق الآية بوجهين وأما الاطلاق بحيث يتمسك به لدفع ما شك في اعتباره في البيع، فقد استشكل عليه بوجهين: الأول: أن الآية في مقام بيان عدم التسوية بين البيع والربا، وردع المخالفين عن قولهم: بأن البيع مثل الربا، لا في مقام بيان نفوذ البيع على الاطلاق حتى
1 - مجمع البيان 2: 670، التفسير الكبير 7: 96 - 97. 2 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 69 / سطر 16 - 21. 28 يتمسك بإطلاقها (1). الثاني: أن التعيير الواقع في الآية دال على أن الحكمين - وهما حلية البيع وحرمة الربا - كانا سابقين على نزول الآية الكريمة، وإلا لم يكن للتعيير والذم وجه. فإذا ليست الآية في مقام التشريع، بل إنما هي في مقام الحكاية عن قضية خاصة، وليست خصوصيات تلك القضية معلومة لنا، فلا يمكن التمسك بإطلاقها. وبعبارة أخرى: إن الآية واردة في مورد خاص، وهو مورد قول المخالفين بالتسوية بين البيع والربا وردعهم عن ذلك، فهي حاكية عما كان مجعولا قبل ذلك، وليست في مقام بيان المحكي وشرائطه، حتى يتمسك بإطلاقه، فإما نعلم بالمحكي من الخارج، وإلا فلا يمكن التمسك بإطلاق الآية أصلا، فإنها مهملة من جهة الشرائط المعتبرة في البيع. مناقشة الوجه الثاني ويمكن دفع هذا الأخير بأن الآية وإن كانت حاكية عن القضية الخاصة، وليست في مقام التشريع، إلا أن صون الكلام عن محذور الكذب يقتضي إطلاق المحكي بها، فإن في الآية حكايتين: إحداهما حكاية قول المخالفين بالتسوية بين البيع والربا، والأخرى حكاية تشريع الحل للبيع والحرمة للربا، وبما أن الموضوع في الحاكي مطلق، والصون عن محذور الكذب يقتضي التطابق بين الحاكي والمحكي، فاللازم تشريع الحل لمطلق البيع وتشريع الحرمة لمطلق الربا. وقد يورد على ذلك: بأن إطلاق المحكي مناف لما علم من الخارج من عدم حلية بعض البيوع، كبيع الملامسة والمنابذة وغيرهما، فلا يمكن كشف إطلاق التشريع من الآية.
1 - حاشية المكاسب، المحقق الخراساني: 11، جامع المدارك 3: 71. 29 ويمكن الجواب عن هذا بوجهين: أحدهما: أن دفع محذور الكذب شاهد على كون الحكم الفعلي في زمان نزول الآية حلية مطلق البيع، وأما عدم حلية ما ذكر فقد جعلت بعد ذلك. وثانيهما: أن عدم الحلية فيما ذكر وإن كان صحيحا، إلا أنه لا ينافي حكاية الاطلاق في الآية الكريمة، فإن المحكي بها حكم قانوني، وعدم حلية ما ذكر من باب التقييد فيه، فما ثبت مقيدا يؤخذ به ويقيد به ذلك، وإلا فيؤخذ بإطلاق المحكي. والحاصل: أن التنافي بين الحكمين الفعليين، لا بين الحكم القانوني والفعلي، ونظير ذلك القوانين المجعولة اليوم، فإنه يجعل أولا حكم قانوني، ثم يبين قيوده والشرائط المعتبرة فيه. فالاشكال الأخير مدفوع. على أنه يمكن أن يقال: إن الآية واردة مقام إنشاء الحكم لا الإخبار، بتقريب أن صدرها، وهو (إن الذين يأكلون الربا...) قضية حقيقية لا خارجية، وتوطئة لبيان الحكم، وهو (أحل الله البيع وحرم الربا)، وأما التعيير فإنما هو من جهة أهمية الحكم، فلا يكون قرينة على سبق الحكم، فتأمل. مناقشة الوجه الأول وأما الاشكال الأول، فلو تم فلا يمكن الجواب عنه بما أجبنا به عن الأخير، لعدم توهم الكذب في المقام، فإن الآية في مقام الحكاية عن قول المخالفين بالتسوية والحكاية عن عدم التسوية في الشريعة المقدسة، وليست في مقام الحكاية عن التشريع، حتى يقال: إن إطلاق الحكاية يقتضي إطلاق التشريع، فإن غاية ما يقتضيه إطلاق الحكاية هو إطلاق المحكي، والمحكي حكمهم بالتسوية وعدم التسوية في الشرع.
30 ويمكن دفع ذلك أيضا: بأن في الآية حكايتين: إحداهما الحكاية عن قول المخالفين بالتسوية، والأخرى الحكاية عن حل البيع وحرمة الربا، فلو كانت الثانية تفريعا على الأولى، بحيث تكون ناظرة إلى نفي التسوية فيما قالوا فيه بها، لكان للاشكال وجه، إلا أن ملاحظة سياق الآية تشهد بأنها في مقام بيان الكبرى وتطبيقها على المورد، كأنه قال تعالى: قالوا بالتسوية والحال أن البيع حلال والربا حرام، فالجملة الثانية وإن كانت في مقام نفي التسوية فيما قالوا فيه بها إلا أنها بلسان بيان الكبرى والتطبيق، لا بلسان بيان الحكم في المصداق الخاص. إشكال ثالث في إطلاق الآية ودفعه نعم بقي إشكال آخر في إطلاق الآية المباركة: وهو أنها غير واردة في مقام بيان حلية البيع، فإن محط النزاع ومحور الكلام في قولهم: (إنما البيع مثل الربا) وقوله تعالى: (أحل الله البيع وحرم الربا) (1)، إنما هو حرمة الربا، وإلا فحل البيع مفروغ عنه عند الجميع. وعليه فالآية في مقام ردعهم وذمهم من حيث استحلالهم الربا، فلا تكون واردة في مقام بيان حكم البيع حتى يؤخذ بإطلاقها، فالمسألة محل نظر وإشكال (2).
1 - البقرة 2: 275. 2 - أقول: الظاهر أن المسألة من جهة الاشكال الأخير أيضا ليست محل نظر وإشكال، فإن الآية وإن كانت في مقام بيان حكم الربا، إلا أنه لا بد من ملاحظة لسانها، كما أفاد هو - دام ظله - في دفع الاشكال المتقدم، فإنها واردة في مقام بيان حكم الربا بلسان (أحل الله البيع وحرم الربا)، واللسان شاهد على أنه تعالى يبين كلا الحكمين وإن كان محور الكلام خصوص الربا. وأما الاشكالان الآخران فقد أجاب هو - دام ظله - عنهما بما لا مزيد عليه. فلو كنا نحن وهذه الآية لعملنا بالاطلاق، إلا أن المسألة مشكلة من جهة أخرى: وهي أن الآية الكريمة - كما أفاده - ذات احتمالين: أحدهما: أن يكون الحل مترتبا على الزيادة الحاصلة من البيع. وثانيهما: أن يكون مترتبا على نفس البيع. وحيث إنه على الأول منهما يثبت تنفيذ البيع من باب الملازمة العقلية، وليست الآية ناظرة إلى بيان ذلك، فلا يمكن الأخذ بإطلاقها في الموارد المشكوكة وإن كان الاطلاق تاما على الاحتمال الثاني، فإن الاحتمالين متكافئان لا ترجيح لأحدهما على الآخر. والحاصل أنه لم يثبت أن الآية في مقام بيان نفوذ البيع، حتى يتمسك بإطلاقها في موارد الشك في الصحة وحلية الزيادة وإن استلزمت نفوذ البيع، إلا أنه ا لا تستلزم نفوذ مطلق البيع، لعدم ورودها في مقام بيان ذلك، بل واردة في مقام بيان حلية الزيادة فقط، وكم فرق بين الحكم بحلية مطلق الزيادة الحاصلة من البيع، والحكم بحلية مطلق زيادة حاصلة من مطلق البيع؟! المقرر حفظه الله. 31 نعم، في خصوص المقام - وهو كفاية المعاطاة في حصول الأثر - يمكن الأخذ بالآية الكريمة على جميع التقادير، فإن القدر المتيقن من البيع هو المعاطاة، فإنه المتداول، بل قلما يتفق بيع بالصيغة، بل في مورد البيع بالصيغة يأتي العرف بها من باب التشديد والاحتياط، فالآية وإن كانت مهملة، لكن مع ذلك يمكن التمسك بها لتصحيح المعاطاة (1).
1 - الظاهر أن هذا الذي أفاده - مد ظله - يشبه المغالطة، فإنه ليس المراد من القدر المتيقن - المحمولة عليه القضية المهملة - المتداول الشائع، بل المراد منه هو القدر الذي تيقن من ترتب الحكم الثابت في القضية عليه، والمتيقن هو البيع بالصيغة، والمعاطاة مشكوك فيها، ولذا نبحث عنه، ونريد إثبات صحتها بالتمسك بالآية. نعم، تداولها بين العقلاء مع عدم ردع الشارع عنها يثبت الصحة، إلا أن هذا دليل آخر تقدم، والبحث في المقام مع قطع النظر عن ذلك الدليل، وأنه لو كنا نحن وهذه الآية الكريمة، يمكننا إثبات صحة المعاطاة بها، أم لا، مع فرض العلم بصحة البيع بالصيغة من الخارج والشك في صحتها؟ المقرر حفظه الله. 32 الاستدلال بآية التجارة 3 - الآية الكريمة: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) (1). وفي الآية احتمالات: أ - نصب التجارة على أن تكون سادا مسد خبر الكون واسمه ضمير راجع إلى الأموال، فمآل الكلام إلا أن تكون الأموال أموال تجارة عن تراض، واللازم من ذلك التقدير. ب - نصبها على أن تكون خبر الكون والاسم ما ذكر، أي تكون الأموال تجارة، واللازم من ذلك الادعاء. ج - رفعها على أن تكون فاعلا للكون التام (2). وفي جميع ذلك يحتمل أن يكون الاستثناء متصلا، فتكون بالباطل تعليلا للحكم، ويحتمل أن يكون منقطعا، فالآية متكفلة ببيان الحكمين على موضوعين. وكذا يحتمل أن يكون المراد من التجارة البيع، كما قيل (3)، ويحتمل أن يكون المراد منها مطلق النقل والانتقال، كما هو الظاهر منها. هذه محتملات الآية، إلا أنه لا يحصل فرق فيما نحن بصدده، وهو الأخذ بالآية لتصحيح بيع المعاطاة، بل مطلق البيع، بل مطلق التجارة في الأموال، بل لعل غيرها كالايقاعات والعقود المترتبة على غير الأموال بين هذه المحتملات، وذلك فإن ظاهر المستثنى منه في الآية الكريمة - بقرينة مناسبة الحكم والموضوع - أن
1 - النساء 4: 29. 2 - مجمع البيان 3: 59. 3 - نفس المصدر. 33 تمام الموضوع لحرمة الأكل هو البطلان، سواء كان الاستثناء متصلا، أي تكون بالباطل علة للحكم، أو منقطعا، أي يكون ذلك قيدا لموضوعه، لعدم احتمال أن يكون الأكل أو المال - أو غير ذلك مما ذكر في الآية - دخيلا في الحكم، وبقرينة التقابل بين البطلان والتجارة يفهم أن علة جواز الأكل بالتجارة هو الحق وعدم البطلان، لعدم احتمال تعبد الشارع بجواز الأكل بالتجارة مع أنه باطل. فتصبح النتيجة: أن الآية في مقام بيان عدم جواز أكل المال الحاصل بالباطل، وجوازه الحاصل بالحق، وبما أن الموضوع وقيوده لا بد من أن تؤخذ من العرف، فالنتيجة حرمة أكل المال الحاصل بالأسباب الباطلة عرفا، وحلية أكله الحاصل بالأسباب الحقة عرفا، وبما أنه لا يحتمل حلية الأكل من غير جهة إمضاء الأسباب - كما مر في الآية السابقة - فيعلم من الآية إمضاء الشارع جميع الأسباب الحقة بنظر العرف، ومنها المعاطاة (1).
1 - إن موضوع الحكم وإن كان اللازم أخذه من العرف، إلا أنه في خصوص المقام الآية مبتلية بالمخصص العقلي، وهو أن حلية الأكل وحرمته غير مترتبين على الحق والباطل العرفيين مطلقا، بل العقل يحكم بأنهما مترتبتان على الحق والباطل العرفيين النافذين عند الشارع، فيكون الشك في التنفيذ شبهة مصداقية للآية. وبعبارة أخرى: لو كان المدلول المطابقي للآية الكريمة إنفاذ العقد، لكان الشك في الانفاذ من الشك في التخصيص، إلا أن مدلولها حلية الأكل والتصرفات وحرمتها، وهذه غير مترتبة على الموضوع العرفي مطلقا قطعا، بل مختص بما أمضاه الشارع وبما هو نافذ عنده، فتكون الشبهة مصداقية. هذا على التقريب الذي أفاده السيد الأستاذ مد ظله، وهو استفادة الانفاذ بالدلالة الالتزامية. وأما على ما هو الظاهر من أن الأمر والنهي في الآية المباركة إرشاد إلى إنفاذ الحق والباطل، فالآية وإن كانت سليمة عن المخصص العقلي، إلا أن فيها إشكالا آخر يتعرض السيد الأستاذ له فيما بعد، وهو أن نظر العرف للباطل والحق، معلق بعدم تصرف الشارع بدخل أمر وجودي أو عدمي في المعاملة، فمع الشك في ذلك يشك في الموضوع العرفي أيضا، فتكون الشبهة مصداقية. المقرر حفظه الله. 34 فظهر بهذا البيان عدم الفرق بين تلك المحتملات، في دلالة الآية على إنفاذ البيع وفي إطلاقها، لورودها في مقام بيان الحكمين، ولا سيما إذا كان الاستثناء منقطعا، كما هو الظاهر. فإنه يمكن أن يقال في الاستثناء المتصل: إن الجملة واردة في مقام بيان المستثنى منه فقط، بخلاف المنقطع. وما قيل: من أن المنقطع خلاف الفصاحة (1). مردود: بأنه قد يكون اللطف في الكلام من جهة انقطاع الاستثناء، كالآية المباركة: (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما) (2). الاستدلال بآية الوفاء بالعقود 4 - الآية الكريمة: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) (3). فقد يقال: إن المراد من العقد العهد (4)، إلا أن العقد موضوع لعقد الحبل أو غيره، وهذا المعنى هو المناسب للمقام، فقد استعير العقد لتبادل الإضافتين، كأنه يحصل ربط خاص بينهما كعقد الحبل، والعهد هو التزام ذهني، وبينهما بون بعيد. نعم يمكن أن يقال: إن بينهما عموما وخصوصا موردا، فإن في مورد كل عقد عهد، ولا عكس (5)، إلا أن ذلك لا يوجب اتحادهما كما لا يخفى. وفي المجمعين وكلام بعض الأعاظم: أن كل عهد عقد ولا عكس، ولا يفهم
1 - أنظر حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 126 - 127 2 - الواقعة 56: 25 - 26. 3 - المائدة 5: 1. 4 - عوائد الأيام: 2، المكاسب: 215 / سطر 13. 5 - مجمع البيان 3: 232، مجمع البحرين 3: 103، حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 35 / سطر 17. 35 معنى محصل منه، فراجع. وقد يقال: بأن العقد هو العهد المشدد (1)، ولعل المراد منه هو العهد على وجه اللزوم لا الجواز، إلا أن الفارق بين العقد والعهد قد تقدم. وأما أنه هو خصوص المشدد واللازم، فقد استدل عليه بأن ألفاظ العقود بنحو الدلالة الالتزامية تدل على التزام الطرفين بالوفاء بمضمونها وترتيب آثارها، فيختص العقد بخصوص اللازم والمشدد، وبما أن المعاطاة جائزة فليست بعقد. والجواب عن ذلك: أولا: إنه لا دلالة التزامية في المقام أبدا، بل إنما الموجود في المقام، هو بناء الطرفين على ما ذكر من جهة بناء العقلاء على ذلك، ولا اختصاص لذلك بخصوص البيع بالصيغة، بل يعم المعاطاة أيضا. وثانيا: حتى لو قلنا بالدلالة الالتزامية في المقام، إلا أن الدلالة الالتزامية ليست ناشئة من اللفظ، بل إنما هي من جهة أن المدلول الالتزامي لازم للمعنى، والمعنى كما أنه موجود في البيع بالصيغة موجود في المعاطاة أيضا، فلازمه أيضا موجود. فلو قلنا بأن العقد هو خصوص اللازم والمشدد يعم المعاطاة أيضا، ولا يختص بالبيع بالصيغة. والصحيح عدم دخل اللزوم والتشديد في معنى العقد، فإنه مستعار عن عقد الحبل، والمراد من العقد - كما يظهر من كتب اللغة - مطلق الربط الخاص (2) بلا دخل للتشديد فيه، فلو قلنا باختصاص العقد بخصوص اللازم، لزم من ذلك الالتزام باستعارتين فيه: إحداهما: استعارة العقد المشدد من العقد.
1 - مجمع البيان 3: 232. 2 - المفردات في غريب القرآن: 341، لسان العرب 9: 309، المصباح المنير: 502. 36 والثانية: استعارة الربط بين الإضافتين من العقد المشدد، وهذا لو جاز فلا أقل من أنه خلاف الأصل. فالعقد هو تبادل الإضافتين بلا دخل للتشديد فيه، لاستعارته من عقد الحبل، وهو الربط الخاص فيه. هذا مضافا إلى تصريح اللغويين بشمول العقد للبيع (1)، بل صريح كلام بعضهم عدم اعتبار اللزوم فيه، مع تعريفه العقد بالعهد المشدد (2)، فيعلم من هذا أن المراد من المشدد في كلامهم هو نفس الربط الخاص، لا اللزوم، ويعبر عنه بالفارسية بسته شده. فالمعاطاة عقد، لأنها بيع - كما مر - بل لأنها العهد المشدد ولو قلنا بجوازها. المراد بالوفاء بالعقود وأما الوفاء بالعقد في الآية الكريمة، فالمراد به - كما يظهر من العرف واللغة - هو العمل بمقتضاه تاما (3)، وهذا إنما يتحقق بتسليم العوضين وكون المتعاقدين ثابتين على ذلك، بأن لا يسترد ما سلمه إلى الآخر عنه، ولازم ذلك صحة العقد، وإلا لم يجب الوفاء به. ودلالة الآية على اللزوم سيجئ الكلام فيها. والمعاطاة - على ما تقدم - عقد، ويتصور الوفاء بالمعنى المذكور فيها بجميع أقسامها، سواء وقع التعاطي من الجانبين، أو من جانب واحد، فيجب الوفاء بها، ولازم هذا صحة المعاطاة. إن قلت: هذا إنما يصح لو كان المراد من العقد العهد، وأما بناء على ما ذكر:
1 - نفس المصادر. 2 - مجمع البيان 3: 232 - 233. 3 - لسان العرب 15: 359، أنظر عوائد الأيام: 4. 37 من أنه هو المعنى المستعار عن العقدة، فلا معنى لوجوب الوفاء به. قلت: الوفاء بذلك أيضا متصور، باعتبار القول والقرار وتباني الطرفين والتزامهما بما التزما به، فلا إشكال. نعم، لا بد من كون مدلول الآية عاما حتى يمكن التمسك بها لاثبات ذلك، وظاهرها العموم. ولكن يستشكل في ذلك بوجوه (1): أ - أن اللام في العقود للعهد، بقرينة مسبوقية الآية بتشريع المعاملات، فإنها واقعة في سورة المائدة، وهي آخر سورة نزلت على نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالآية ناظرة إلى أن العقود السابقة لازم الوفاء، فلا عموم لها. ب - لو سلمنا العموم لزم من ذلك استعمال الآية في التأكيد والتأسيس معا، فإن بعض العقود قد شرعت قبلها جزما، وهذا أردأ من استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد. ج - أن الاستعمال في الآية المباركة استعمال مجازي استعاري - على ما مر - فلا عموم لها، لأن المعاني المجازية متكثرة، فلا ظهور في أحدها. وفي الكل ما لا يخفى، فإن المسبوقية بالذكر - لو سلمت - لا تصلح للقرينية بعد ظهور الآية في العموم. والتأكيد والتأسيس ليسا قيدين للمستعمل فيه اللفظ، بل المستعمل فيه هو البعث فقط، والوصفان منتزعان منه باعتبار المسبوقية بالذكر وعدمها. وكثرة المعاني المجازية لا توجب عدم العموم بعد ظهور الآية فيه. فالصحيح إمكان التمسك بالآية المباركة لاثبات صحة المعاملة المعاطاتية.
1 - أنظر عوائد الأيام: 7 - 8. 38 إشكال وجواب ربما يقال: إنه لا بد من حمل اللام في الآية المباركة على العهد، للزوم تخصيص الأكثر لو حملناه على ظاهره، لأن العقود الجائزة أكثر من العقود اللازمة، ولا سيما بملاحظة الخيارات الواقعة في العقود اللازمة. وحينئذ يقع الاجمال في الآية المباركة، لعدم علمنا بما هو المعهود (1). والجواب عن ذلك: أولا: أن أكثرية العقود الجائزة من اللازمة غير معلومة، بل الأمر بالعكس، كما يظهر بملاحظة عناوين العقود وعدها. وثانيا: لو سلمنا الأكثرية إلا أنه ليس كل تخصيص الأكثر قبيحا، بل القبح إنما هو في مورد الاستهجان، ولا استهجان في المقام وإن كان منشأ تخصيص الأكثر كثرة التخصيص، ولا سيما بملاحظة قانونية الجعل. وثالثا: أن العقد دال على نفس الطبيعة، واللام لو دل على العموم دال على التكثير، والإضافة دالة على تكثير نفس الطبيعة، وتكثير نفس الطبيعة إنما هو بالأفراد لا الأنواع، فمفاد الآية الكريمة وجوب الوفاء بكل فرد من العقد، فعلى ذلك لا مجال لدعوى تخصيص الأكثر، فإن أفراد العقود اللازمة أكثر من أفراد العقود الجائزة بمراتب، كما هو ظاهر. وما يقال: من أن دليل المخصص يدل على جواز النوع، فيكون قرينة لدلالة الآية على تكثير النوع. مدفوع: فإن ظاهر الآية ما ذكرناه، والمخصص لا يكون متصلا حتى يكون
1 - أنظر عوائد الأيام: 6. 39 قرينة على لزوم رفع اليد عن ظهورها، والمنفصل غير صالح لصرف الآية عن ظهورها في تكثير الفرد، بل دلالته على جواز النوع مستلزم لدلالته على جواز كل فرد من ذلك النوع، وبهذا تخصص الآية المباركة (1). الاستدلال بحديث السلطنة 5 - النبوي المعروف: الناس مسلطون على أموالهم (2). تقريب الاستدلال: أن إطلاق التسلط على المال يقتضي صحة المعاملة المعاطاتية، وإلا فلا معنى للتسلط. إشكال الشيخ وجواب السيد عليه وأجاب عن ذلك الشيخ (قدس سره): بأنه يمكن أن يكون التسلط على المال بلحاظ نوع السبب الناقل، لا صنفه، فلا يشمل المعاطاة (3). وأشكل عليه السيد (قدس سره): بأن إطلاق التسلط يقتضي التسلط على النقل حتى بلحاظ صنف السبب، فيشمل المعاطاة (4).
1 - الآية الكريمة وإن كانت سليمة عن هذه الشبهات، إلا أنه ا بالنسبة إلى خصوص إنفاذ العقد مبتلية بالمخصص العقلي، وهو أن العقل يحكم بأن وجوب الوفاء - أي التسليم والثبات - غير مترتب على مطلق العقود العرفية، بل مترتب على العقود النافذة عند الشارع، فإذا يكون التمسك بها في مورد الشك في النفوذ تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية. نعم، يمكن التمسك بها لاثبات اللزوم، بعد الفراغ عن إثبات الانفاذ بدليل آخر، ويجئ الكلام في ذلك إن شاء الله. المقرر حفظه الله. 2 - عوالي اللآلي 1: 222 / 99، بحار الأنوار 2: 272 / 7. 3 - المكاسب: 83 / سطر 20. 4 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 29 / سطر 31. 40 التحقيق في المقام والتحقيق: أن نفوذ المعاملة يتوقف على أمرين، كما يظهر من ملاحظة العرف والعقلاء في معاملاتهم: أحدهما: تسلط كل من المتعاملين على مالهما، بمعنى جواز تصرفهما فيه، وعدم كونهما محجورين في التصرف فيه. وثانيهما: وقوع المعاملة على طبق المقررات العقلائية والشرعية لو كان في البين دخل شرعي. وأحد الأمرين أجنبي عن الآخر، كما هو ظاهر، والدليل المتكفل لاثبات أحدهما لا يكون ناظرا إلى الآخر نفيا ولا إثباتا، والنبوي ناظر إلى إثبات الأمر الأول، وأن الناس مسلطون على أموالهم، يجوز لهم التصرف فيه بالأكل والشرب والنقل وغير ذلك، وإطلاق الرواية أيضا لا يزيد على إطلاق جواز التصرف، الشامل لاطلاق جواز النقل. وأما الأمر الآخر، وهو أن النقل بم يتحقق؟ وأن المقرر عند العقلاء والشارع فيه ما هو؟ فأجنبي عن مدلول الرواية بالكلية، فلا يمكن التمسك بإطلاقها بلحاظ ذلك. وبعبارة أخرى: أن النبوي وارد مورد بيان نفوذ المسبب، وهو النقل، ولا يكون ناظرا إلى حكم سبب النقل، فلا يمكن التمسك بإطلاقه لذلك. وبهذا البيان ظهر: أنه لا يعقل التمسك بالاطلاق في المقام، فإن الحكم في المطلق متعلق بنفس الطبيعة المدلول عليها باللفظ، وتمام الموضوع للحكم هو ذلك، فلا يمكن أن يكون أمر آخر ما وراء ذلك دخيلا في الحكم، وإلا لما كانت تمام الموضوع، والحكم في المقام متعلق بالمال، فلا يمكن تعلقه بالعقد على المال، لأنه
41 ليس تصرفا في المال، والتسلط عليه ليس تسلطا على المال، فهو خارج عن التسلط عليه، فلا يمكن التمسك بالاطلاق لذلك. ولو سلمنا أن التمسك بالاطلاق للخصوصيات الزائدة عن نفس الطبيعة أمر معقول، إلا أنه يمكن أن يقال: إنه لا إطلاق للرواية بالنسبة إلى أسباب النقل، فإن الحكم فيها حيثي، كالحكم في الآية الكريمة: (أحلت لكم بهيمة الأنعام) (1)، فإن حكم الحلية متعلق ببهيمة الأنعام من هذه الحيثية فقط، وأما من الحيثيات الأخر - ككونها مغصوبة مثلا - فلا. فالاطلاق المستفاد من الآية الكريمة من الحيثية الأولى، ولا إطلاق لها من سائر الحيثيات، وهكذا في الرواية، أي جواز التسلط متعلق بالمال من حيث إنه مال، وأما الحيثيات الأخر، كإنشاء نقله بالمعاطاة، فخارجة عن الحيثية المأخوذة في الرواية، فلا إطلاق لها لذلك، ولذا نرى أنه لا معارضة بين أدلة المحرمات وغيرها وبين هذه الرواية. وحكي عن المرحوم الآخوند الخراساني (قدس سره): أنه ذكر أن النبوي ناظر إلى بيان التسلط على المال في قبال الحجر، فلا يكون ناظرا إلى الأسباب (2). واعترض عليه تلميذه العظيم باعتراضين: عقلي، وعقلائي. أما العقلائي: فإن مدلول الرواية هو التسلط لا عدم الحجر. وأما العقلي: فإن الحكم بوجود المقتضى - بالفتح - استنادا إلى وجود المقتضي - بالكسر - أمر معقول، إلا أن الحكم بعدم المانع استنادا إلى وجود المقتضي - بالكسر - أمر غير معقول، وهذا ظاهر، وفي الرواية حكم بالتسلط على المال استنادا إلى أنه مال، فلو كان الحكم هو عدم الحجر للزم المحذور المتقدم،
1 - المائدة 5: 1. 2 - حاشية المكاسب، المحقق الخراساني: 14. 42 وهو الحكم بعدم المانع استنادا إلى وجود المقتضي (1). هذا، ولا يخفى ما في كلا الاعتراضين، فإن المجيب لا يريد بذلك: أن المجعول في الرواية عدم الحجر، بل يريد به: أن الرواية مهملة من جهة الأسباب، وإطلاقها لا يزيد عن مدلول متعلق الحكم فيها، وهو المال، فهي متكفلة ببيان التسلط على المال لا غير، وأشار إلى بيان مراده بقوله: في قبال الحجر وأين هذا من كون المجعول عدم الحجر؟! على أنه لو قلنا بأن المجعول عدم الحجر فلا يتصور أي مانع منه، فهل ترى أن الشارع لو قال بدل الرواية: إن الناس غير محجورين عن التصرف في مالهم لفعل أمرا غير معقول؟! بل لو كان الأمر كما ذكره، وأن المال يقتضي التسلط، فلا بد من أن يكون المجعول ذلك، فإن المقتضى مترتب على المقتضي لو لم يكن مانع، والمفروض وجود المقتضي، فيترتب عليه المقتضى بلا حاجة إلى جعل الشارع. نعم، الشارع قد أخبر بعدم المانع حتى لا يتوقف في ترتب المقتضى عليه. والحاصل: أن الوصف وهو كلمة في مالهم وإن كان مشعرا بالعلية، إلا أنه ليس من باب المقتضي والمقتضى التكوينيين، بل إنما هو من قبيل الموضوع والحكم، والمحذور المتقدم إنما يتم في الأول لا في الأخير، فإنه كما يمكن جعل التسلط على المال، يمكن جعل عدم الحجر عليه، ولا محذور فيه أبدا. الاستدلال بحديث الشرط 6 - قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): المؤمنون عند شروطهم (2) أو المسلمون عند
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 26 / سطر 26. 2 - تهذيب الأحكام 7: 371 / 1503، الاستبصار 3: 232 / 835، وسائل الشيعة 15: 30 كتاب النكاح، أبواب المهور، الباب 20، الحديث 4. 43 شروطهم (1). ولا بد في إمكان التمسك بهذه الرواية لصحة المعاطاة من إثبات أمرين: انطباقها على موارد الشروط الابتدائية، وكون المعاطاة من الشروط. فلا بد من تحقيق معنى الشرط أولا، ثم نرى أنه هل ينطبق على المعاطاة أم لا؟ بحث في معنى الشرط لغويا وعقلائيا أما معنى الشرط، فما يظهر من اللغة - كما في القاموس وأقرب الموارد وغيرهما - ويساعده اعتبار العقلاء أيضا: أن الشرط هو الالتزام في البيع ونحوه (2). ومعنى ذلك أنه جعل شئ في ضمن جعل آخر، لا على نحو التقييد ولا التعليق، بل على نحو الظرف والمظروف. وهنا معنى آخر للشرط: وهو تعليق شئ على شئ، ك إن فعلت كذا أفعل كذا، وهذا المعنى وإن لم نجده في كتب اللغة، إلا أن الاعتبار العقلائي مساعد عليه، ولا يبعد أن يكون ما ذكره الشيخ (رحمه الله) معنى جامدا للشرط (3) راجعا إلى هذا المعنى، بل المعاني الاصطلاحية - كاصطلاح النحويين (4) وأهل المعقول (5) أيضا - راجع إليه. فهنا معنيان للشرط: لغوي يساعد عليه فهم العقلاء، وعقلائي، ولا جامع
1 - عوالي اللآلي 2: 258 / 8، وسائل الشيعة 12: 353، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 6، الحديث 1 و 2 و 5. 2 - لسان العرب 7: 82، القاموس المحيط 2: 381، معيار اللغة 2: 57، أقرب الموارد 1: 583. 3 - المكاسب: 275 / سطر 27. 4 - شرح الكافية، الرضي 2: 110 / سطر 20، مغني اللبيب: 51 / سطر 3 - 7. 5 - الحكمة المتعالية 2: 127. 44 بينهما، حتى يقال: إن الشرط موضوع للجامع، وكل منهما مصداق لذلك المعنى، فأي جامع بين جعل شئ في ضمن الآخر وتعليق شئ على شئ؟! وما ذكر جامعا للمعنيين - كربط شئ بشئ، أو تقيد شئ بشئ، وغير ذلك (1) - كلها لا يرجع إلى محصل، لانطباقه على غير المعنيين، بل عدم انطباقه على كلا المعنيين، فأي تقيد أو ربط بين الشيئين في المعنى الأول؟! فلا بد من أن يقال بإجمال الرواية، لاشتراك الشرط بحسب المعنى، أو أن تقام قرينة على أن يكون المراد من الشرط فيها أحد المعنيين. واستشهاد الإمام (عليه السلام) بالرواية في موارد الشروط الضمنية (2) يكون قرينة على المعنى الأول، فموارد التعليق خارجة عن موضوع الرواية (3). وأما عدم انطباق شئ من المعنيين على المعاطاة أو البيع أو الصلح وغير ذلك من عناوين العقود والايقاعات، فلعله أوضح مما تقدم، فإن المفروض أنه لا جعل في ضمن جعل آخر في المذكورات، ولا تعليق فيها أيضا، فلا يمكن التمسك بالرواية لتصحيح شئ منها.
1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 2: 107 / سطر 26، حاشية المكاسب، الإيرواني 2: 61 / سطر 7، حاشية المكاسب، الأصفهاني 2: 138 / سطر 5. 2 - تهذيب الأحكام 7: 371 / 1503، وسائل الشيعة 15: 30، كتاب النكاح، أبواب المهور، الباب 20، الحديث 4. 3 - أقول: إن الشرط بمعنى التعليق لا يمكن أن يكون موضوعا للرواية، فهل ترى إمكان أن يقال: المؤمنون عند تعليقاتهم؟! بل المعقول هو القول والقرار المعلق، وهنا معنى مجازي للشرط بمعنى التعليق. والمعنى الأول هو القول والقرار الضمني، معنى حقيقي للشرط، وهو الالتزام في الالتزام، والجامع هو الحصة الخاصة من الجعل، وهو غير قابل للانطباق إلا على المعلق والضمني وإن كان معقولا ومتصورا، إلا أنه جامع بين المعنى الحقيقي والمجازي، فإذا لا بد من الالتزام بكون المراد من الرواية المعنى الأول، وهو القرار الضمني، فإنه الأصل عند دوران الأمر بين الحقيقة والمجاز. المقرر حفظه الله. 45 في معنى الشرط في الروايات وما قيل: من أن الشرط في الروايات قد استعمل في الالزامات الابتدائية، فكيف يدعى خروج ذلك عن معناه (1)، مدفوع - مضافا إلى أن الاطلاق أعم من الحقيقة، كما هو معروف -: بأن جميع هذه الموارد التي استعملت فيها كلمة الشرط راجع إلى أحد المعنيين المذكورين: أما في دعاء الندبة (2)، فقد استعمل في المعنى الثاني، وهو التعليق، فإن المراد: أن الله تعالى استخلصهم لنفسه، واختار لهم جزيل ما عنده من النعيم... إلى آخره، معلقا على زهدهم في درجات هذه الدنيا الدنية. وهكذا في دعاء التوبة (3)، فإن المراد: أنه يا رب! إن قبلت توبتي فأنا لا أعود في مكروهك (4). وأما قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في الرد على مشترط عدم التزوج بامرأة أخرى في النكاح: إن شرط الله قبل شرطكم (5)، فإما أنه استعمل في الحكم مجازا من جهة تناسب ما شرط لفظا، أو أنه استعمل أيضا في المعنى الثاني، فإن شرط صحة الشرط أن لا يكون مخالفا للكتاب والسنة، فالمراد أن شرط الله - وهو تعليق الصحة على عدم المخالفة - قبل شرطكم، ويعين هذا قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حكاية بيع
1 - المكاسب: 275 / سطر 22. 2 - بحار الأنوار 99: 104 - 110، المزار الكبير: 190 - 194، مصباح الزائر: 230 - 234. 3 - الصحيفة السجادية: 154 / 8. 4 - الظاهر أن الشرط في هذا الدعاء ضمني، أي يا رب! اقبل توبتي، وأنا أشترط لك أن لا أعود في مكروهك، فإن هذا أليق بمقام التوبة. المقرر حفظه الله. 5 - تفسير العياشي 1: 240 / 121، بحار الأنوار 101: 68 / 1. 46 بريرة: إن قضاء الله أحق، وشرطه أوثق (1). وأما روايات خيار الحيوان (2)، فإما أن يقال: إن الشرط فيها قد استعمل في الحكم مجازا من باب المناسبة لخيار الشرط، أو يقال: إنه أيضا بمعنى التعليق، أي شرط جواز الفسخ. وأما قول صاحب الحدائق (قدس سره): من أن الشرط قد استعمل في البيع في بعض الروايات (3)، فإنه وإن لم يكن لانكاره مجال، فإنه من المتتبعين في الأخبار، وقفنا أيضا على بعض هذه الموارد، إلا أنه لم يستعمل الشرط فيها في البيع بما أنه بيع (4)، بل استعمل فيها من حيثية أخرى، فقد ورد في البيع بثمنين أنه لا يجوز بيعان في بيع، وهكذا ورد: أنه لا يجوز شرطان في بيع (5)، إلا أن حيثية استعمال البيع مغايرة لحيثية استعمال الشرط، فإن الأول من جهة المبادلة، والثاني من جهة التعليق. وكيف كان لم يثبت أن المعاطاة - كغيرها من أقسام البيع وسائر العقود - معنى حقيقي للشرط، حتى نتمسك لاثبات صحتها بالرواية حتى لو اشتملت على الشروط الابتدائية أيضا. توهم ودفع وقد يتوهم: أن خبر منصور - الوارد فيمن طلق زوجته، فأراد أن يراجعها،
1 - سنن ابن ماجة 2: 843 / 2521، كتاب الله بدل قضاء الله. 2 - وسائل الشيعة 12: 348، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 3 و 4. 3 - الحدائق الناضرة 20: 73. 4 - تهذيب الأحكام 7: 230 / 1005، الفقيه 4: 4 / 1، وسائل الشيعة 12: 368، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 2، الحديث 4 و 5. 5 - تهذيب الأحكام 7: 231 / 1006، وسائل الشيعة 12: 367، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 2، الحديث 3. 47 فأبت عليه إلا أن يجعل لله عليه أن لا يطلقها ولا يتزوج عليها، فأعطاها ذلك - دال على إلحاق الشروط الابتدائية بالشروط الضمنية ولو إلحاقا حكميا. فإن الإمام (عليه السلام) قال: فليف للمرأة بشرطها، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: المؤمنون عند شروطهم (1) بدعوى أن الخبر ظاهر في تطبيق عنوان الشرط على النذر، المدلول عليه بكلمة يجعل لله عليه (2)، إلا أنه مع أن الشرط قد استعمل في الخبر في معناه الحقيقي، فإن العقد المبني على شئ مشروط به، وهذا شرط له لا محالة وإن لم يذكر باللفظ في ضمن العقد. لكنه مدفوع: فالرواية مخالفة للأخبار الصحيحة الكثيرة الدالة على فساد هذا الشرط (3)، وغير معمول بها أيضا، فلا يمكن الاعتماد عليها في الالحاق الحكمي، بل لا بد من حملها على محمل ما كتقية ونحوها (4). اللهم إلا أن يقال: إن الشرط وإن كان حقيقة في الشروط الضمنية، إلا أن المتفاهم العرفي من النبوي: المؤمنون عند شروطهم: أن المدار في وجوب الوفاء هو القول والقرار، لعدم احتمال خصوصية في كون القرار في ضمن العقد، وهذا ليس من القياس أو تنقيح المناط في شئ، بل هو من التمسك بالظهور العرفي للكلام، نظير التمسك برجل شك بين الثلاث والأربع (5) لعموم الحكم للمرأة أيضا،
1 - تهذيب الأحكام 7: 371 / 1503، وسائل الشيعة 15: 30، كتاب النكاح، أبواب المهور، الباب 20، الحديث 4. 2 - أنظر حاشية المكاسب، الأصفهاني 2: 138 / سطر 32 - 35. 3 - وسائل الشيعة 15: 29، كتاب النكاح، أبواب المهور، الباب 20. 4 - أنظر الاستبصار 3: 232. 5 - الكافي 3: 351 / 1، تهذيب الأحكام 2: 185 / 735، وسائل الشيعة 5: 322، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 10، الحديث 7. 48 أو اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل (1) - مخاطبا لزرارة - لعموم الحكم بالنسبة إلى غير زرارة أيضا بعين البيان، أي لا يحتمل خصوصية لكون الشاك رجلا وكون المأمور زرارة، فتأمل (2). بقي أمر: وهو أنه لا فرق بين دلالة النبوي على الحكم التكليفي أو الوضعي أو كليهما في دلالتها على نفوذ الشرط، كما هو ظاهر، فإن وجوب الوفاء متفرع على نفوذ الشرط، ولا يحتمل وجوب الوفاء بالشرط الفاسد، وملازمة المؤمن لشرطه أيضا متفرعة على صحة الشرط، لعدم احتمال أن تكون الرواية في مقام بيان ملازمة المؤمن لشرطه الفاسد. وبقية الكلام في أحكام الشرط في باب الشروط إن شاء الله. هذا تمام الكلام في الأدلة التي استدل بها على صحة المعاطاة وعدم اعتبار اللفظ في العقد.
1 - الكافي 3: 57 / 3، تهذيب الأحكام 1: 264، وسائل الشيعة 2: 1008، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 8، الحديث 2. 2 - يمكن أن يقال: إن المستفاد من الرواية بالدلالة الالتزامية نفوذ العقد في الجملة لا مطلقا، فإن الشرط على الفرض ضمني، والمتفاهم العرفي من دليل نفوذه نفوذ عقده أيضا. تعرضت لذلك في مجلس الدرس، فأجاب السيد الأستاذ دام ظله عن ذلك: بأنه أي ملازمة بين نفوذ الشرط ونفوذ العقد؟! فإن الشرط ضمني، ولو لم يكن دليل نفوذه دالا على نفوذ العقد. أقول: ما أجاب به مد ظله وإن كان موافقا للصناعة، إلا أن المتفاهم العرفي - كما ذكرنا - من دليل نفوذ الشرط نفوذ العقد أيضا، ولذلك لم يقل أحد بنفوذ الشرط الواقع في ضمن العقد الفاسد. نعم، على هذا لا إطلاق للدليل المذكور لاثبات صحة ما شك فيه كالمعاطاة، لأن دلالته على نفوذ العقد التزامية على المبنى المذكور، ولا إطلاق للدلالة الالتزامية، كما بين في محله. المقرر حفظه الله. 49 أدلة لزوم المعاطاة ويقع الكلام في ما استدل به على لزوم المعاطاة، وقد استدل على ذلك بعدة وجوه: الاستدلال بالاستصحاب على المقام 1 - الاستصحاب (1): وتقريب ذلك: أنه بعد ما ثبت حصول الملكية بالمعاطاة، يرجع الشك في اللزوم والجواز إلى أنه هل الحاصل بسبب المعاطاة الملكية المستقرة، بحيث لا تزول بالفسخ، أو أنه الملكية الغير المستقرة، بحيث تزول بالفسخ، فأمر الملكية الحاصلة دائر بين فردين طويل وقصير، فبعد الفسخ والشك في تأثيره يرجع إلى استصحاب الملكية، فإن أركان الاستصحاب تامة، من جهة حصول الملكية ثبوتا، والشك في ارتفاعها من جهة حصول الفسخ، كما أن القضية المتيقنة متحدة مع القضية المشكوكة، وهذا من قبيل استصحاب القسم الثاني من الكلي. مناقشة تقريب الاستدلال بالاستصحاب وإنتاج هذا التقريب موقوف على إثبات أمرين:
1 - المكاسب: 85 / سطر 4. 51 الأول: جريان الاستصحاب في القسم الثاني من الكلي. الثاني: كون المقام من مصاديق هذا القسم من الاستصحاب. في جريان استصحاب الكلي من القسم الثاني في المقام أما الأمر الأول: فيمكن أن يستشكل فيه: أن الاستصحاب إبقاء ما كان، فلا بد من وجود المستصحب سابقا، حتى يحكم ببقائه لاحقا، والكلي بنعت الكلية لا وجود له في الخارج، بل الموجود هو الفرد، ووجود الكلي عين وجود فرده، والكلي الموجود في ضمن كل فرد مغاير للكلي الموجود في ضمن فرد آخر (1). وبعبارة أخرى: إن أريد من استصحاب الكلي استصحابه بشرط الخصوصية، فمع أنه يرجع إلى استصحاب الفرد المردد، ولا وجود له، يغاير كل من متعلق اليقين والشك مع الآخر، فإن متعلق اليقين هو المعلوم بالاجمال، ومتعلق الشك هو الكلي المتشخص بالفرد الطويل. وإن أريد منه استصحابه بشرط التعري عن الخصوصية فعدم وجوده ظاهر. والظاهر أنه لا يريد أحد من القائلين باستصحاب الكلي هذين الوجهين. وإن أريد منه استصحابه لا بشرط - كما هو الصحيح - فالاشكال المتقدم وارد عليه، وهو أن وجود الكلي عين وجود فرده، ومع تردد الفرد يتردد الكلي أيضا، فإن الكلي يتعدد حسب تعدد الفرد، ويتغاير كل كلي مع الآخر، كتغاير كل فرد مع الآخر، فالكلي بنعت الكلية غير موجود في الخارج، وما هو الموجود في الخارج لا يجري فيه الاستصحاب، لتغاير متعلق اليقين والشك. هذا، والظاهر أنه لا يمكن الجواب العقلي عن هذا الاشكال، نعم الجواب العقلائي ممكن، فإن الكلي بنعت الكلية وإن لم يكن له وجود في الخارج عقلا، إلا
1 - درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 339. 52 أنه موجود بنظر العقلاء، ومسألة الاستصحاب مسألة عقلائية لا عقلية، والمتبع في وجود المستصحب واتحاد المتيقن والمشكوك نظرهم، لا النظر الدقي الفلسفي، فلا مانع - من هذه الجهة - من جريان استصحاب الكلي. وما يقال: من أن الكلي موجود، فإنه لا يمكن اجتماع علتين مستقلتين على معلول واحد إلا بتأثيرهما بجامعهما، وهذا كاجتماع البندقيتين في التأثير في القتل الواحد، وكاجتماع الشمعتين في التأثير في إضاءة واحدة، وكاجتماع أفراد ماهية واحدة في انتزاع تلك الماهية منها (1). خلط بين العلل الإلهية والطبيعية، فإن الممثل له من قبيل الأول، ولا يعقل اجتماع علتين مستقلتين كذلك على معلول واحد، فإن المعلول بتمام هوية حقيقته ينشأ من العلة بتمام هوية حقيقتها، والأمثلة من قبيل الثاني، فإن في الأولين التأثير بمجموع العلتين في أمرين مجتمعين، لا بجامعهما في أمر واحد، والثالث ليس من العلية والمعلولية في شئ، فإن الذهن قد يلحظ الأفراد باستقلالها وبجميع مشخصاتها، وقد يلحظها معراة عن الخصوصيات، ويرى اشتراك الملحوظ في نوع واحد أو جنس واحد وغير ذلك، وأين هذا مما نحن بصدده؟! في فقد الاستصحاب لبعض أركانه وقد يستشكل فيه: بأنه لا بد في جريان الاستصحاب من كون المستصحب حكما شرعيا، أو موضوعا ذا حكم شرعي، والجامع بين الحكمين لا حكم شرعي ولا موضوع ذو حكم شرعي، فإن المجعول هو الملكية المستقرة والملكية المتزلزلة - على المبنى الذي نسلكه فعلا - والجامع بينهما غير مجعول (2).
1 - أنظر مناهج الوصول 2: 72 - 73. 2 - المكاسب والبيع (تقريرات المحقق النائيني) الآملي 1: 167 / سطر 10. 53 وهذا الاشكال كما ترى يجري في جميع موارد استصحاب الكلي في الأحكام، ويمكن الجواب عن ذلك بعين ما مر: وهو أن العقل وإن يرى انفكاك الحكم بنعت الكلية عن الحكم بنعت التشخص، إلا أن العقلاء بعد العلم بأحد الحكمين إجمالا يرون وجود الحكم الشرعي في البين، ومع الشك في البقاء واتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة بنظرهم، يجري الاستصحاب لا محالة. وقد يستشكل أيضا: بعدم الاتحاد بين المتيقنة والمشكوكة في هذا القسم من الاستصحاب، فإن المتيقن هو القابل للانطباق على كل من الفردين، والمشكوك غير قابل للانطباق إلا على فرد واحد، وهو الطويل (1). والجواب: أن انحصار الفرد وتعدده لا يضر في الكلي، فإن الكلي هو القابل للانطباق على كثيرين، سواء كان له فرد واحد أو أكثر، وبهذا المعنى تتحد القضيتان. في كلام بعض الأعاظم وجوابه ثم إن بعض الأعاظم ذكر في المقام ما ملخصه: حيث إن اختلاف الملك ليس إلا بنفس الارتفاع والبقاء، فالشك في بقاء الكلي وعدمه عبارة عن الشك في أن الحادث ما هو؟ وأن تنوع الملك بنفس اللزوم والجواز موجب لانتفاء أحد ركني الاستصحاب، لأن الملك الجائز مقطوع الارتفاع، واللازم مشكوك الحدوث من أول الأمر. وبعبارة أخرى: حيث إنه يعتبر في القضية أن يكون الموضوع فيها مجردا عن عقد الحمل حتى يصح الحمل، فيكون المقام خارجا عن دليل الاستصحاب، فإن الترديد بين الأمرين ليس إلا الترديد في البقاء والارتفاع، فمعنى استصحاب الملك هو استصحاب الملك الباقي، فيصير البقاء الذي هو عقد الحمل داخلا في عقد
1 - حاشية المكاسب، الإيرواني 1: 79 / سطر 22 - 23. 54 الوضع، ولا شبهة في خروج هذا القسم من الاستصحاب من عموم لا تنقض (1) عقلا. ثم قال: ومرجع هذا الاشكال - في الحقيقة - إلى أن النوعين من الملك متباينان بتمام هويتهما، وفي كل واحد منهما أحد ركني العقد منتف، كما لا يخفى، وعلى هذا يمكن أن يكون وجه التأمل في كلام المصنف راجعا إلى ما ذكرنا (2). انتهى ملخصا. وليت شعري كيف يكون الملك القابل للبقاء والملك القابل للارتفاع، مختلفين بتمام هويتهما، أفيكون أحدهما ملكا والآخر لا ملكا؟! وكيف يكون الحكم ببقاء الملك - عند الترديد في أن الحادث هو القابل للبقاء أو غير القابل له - موجبا لدخول عقد الحمل في عقد الوضع؟! أفيريد من ذلك أن البقاء والارتفاع أمران داخلان في حقيقة الملك؟! فالملك قسمان: ملك باق وملك مرتفع ولو قبل الفسخ، فهذا ضروري الفساد. أو يريد من ذلك الملك الباقي بعد الفسخ والمرتفع بعد الفسخ، فكيف يلزم من استصحاب بقاء القدر المشترك عند الترديد فيهما الحكم ببقاء الملك الباقي بعد الفسخ؟! ولو أراد من ذلك القابل للبقاء والقابل للارتفاع فالأمر أوضح. والحاصل: أنه لا يظهر معنى محصل لما ذكره، فضلا أن يجعل ذلك وجها للتأمل في كلام الشيخ (رحمه الله). في جملة من الاشكالات وجوابها وقد يستشكل أيضا: بأن الاستصحاب في القسم الثاني من الكلي وإن كان
1 - الكافي 3: 351 / 3، تهذيب الأحكام 2: 186 / 41، الاستبصار 1: 373 / 1416، وسائل الشيعة 5: 321، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 10، الحديث 3. 2 - منية الطالب 1: 60 - 61. 55 جاريا في نفسه، إلا أنه مبتلى بأصل حاكم، وهو أصالة عدم حدوث الفرد الطويل، فإن الشك في بقاء الكلي وعدمه مسبب عن الشك في حدوث الفرد الطويل وعدمه، ومع جريان الأصل في السبب لا تصل النوبة إلى الأصل المسببي (1). وقبل الجواب عن هذا لا بأس بالتوجه إلى أمور: 1 - ذكروا: أنه لا بد من ترتيب الآثار مع الواسطة للمستصحب بنفس الاستصحاب فيه إذا كانت شرعية (2)، مع أن هنا إشكالا عقليا، وهو أن التعبد بالاستصحاب لترتيب أثر نفس المستصحب، يكون موضوعا لترتيب أثر الأثر... وهكذا، وهذا مستحيل، للزوم اتحاد الحكم والموضوع، وإشكالا عقلائيا، وهو أن ظاهر الدليل هو التعبد بلحاظ أثر نفس المستصحب، وأثر الأثر ليس أثرا (3). 2 - ما هو الميزان للتفريق بين الأصول المثبتة وغيرها؟ 3 - ما هو الملاك في تقديم الأصل الجاري في السبب على الأصل الجاري في المسبب؟ والجواب عن جميع ذلك: أن المتعبد به في الاستصحاب ليس ترتيب الأثر، بل إنما هو نفس المستصحب، فاستصحاب عدالة زيد - مثلا - لا يكون متكفلا بالتعبد بشئ إلا نفس عدالة زيد. نعم، لا بد وأن يكون في البين أثر شرعي، صونا لكلام الحكيم من اللغوية في التعبد، وهذا أمر آخر، وأما المثبت للآثار فهو أدلة تلك الآثار، كجواز الطلاق عند العادل، فاستصحاب العدالة منقح لموضوع تلك الكبرى الشرعية، ولزوم تربص المطلقة يثبت بدليله الشرعي كقوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة
1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 73 / سطر 8. 2 - أنظر كفاية الأصول: 473. 3 - كفاية الأصول: 341 و 472 - 473، الاستصحاب، الإمام الخميني (قدس سره): 153 - 154. 56 قروء) (1)، وهكذا. وبهذا يندفع الاشكال المتقدم في الآثار مع الواسطة، لا بما قد يجاب به عن الأخبار مع الواسطة (2)، فإن صدق العادل - مثلا - قضية حقيقية تنطبق على جميع الوسائط، بخلاف المقام، فإن الآثار ليست موضوعا لدليل الاستصحاب، لفقد الأركان فيها، أو كون الاستصحاب فيها على خلاف استصحاب موضوعها، والمفروض بل المطلوب ترتيب جميع الآثار باستصحاب واحد، وهو استصحاب رأس السلسلة وإن كان الاستصحاب فيها موافقا للاستصحاب فيه. وقد ظهر بذلك أيضا: ميزان الفرق بين الأصول المثبتة وغيرها، فإن الاستصحاب لو نقح موضوع دليل شرعي، ليس بمثبت، وهو حجة لما تقدم، وأما مع كون الأثر عقليا، فلا ينطبق على المستصحب دليل شرعي، والأثر العقلي غير مترتب إلا على واقع موضوعه، لا على موضوعه التعبدي، فإن الحاكم هو العقل، ولا يرى ترتيب أثره على ما تعبد به الشارع. وقد ظهر بذلك أيضا: وجه تقديم الأصل السببي على المسببي، فإن الأول ينقح موضوع دليل ترتب المسبب على ذلك السبب، فلا مجال للثاني لحكومة دليل الاجتهادي على الأصل. وبما ذكرنا ظهر: أن ما ذكره الأصوليون في وجه طهارة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة: من تعارض الأصول الجارية في الأطراف، ووصول النوبة إلى الأصل الجاري في الملاقي بلا معارض (3). لا يتم فإن أصالة الطهارة في الملاقى - بالفتح - لا يكون مقدما على أصالة
1 - البقرة 2: 228. 2 - أنظر فرائد الأصول 1: 122 - 123، كفاية الأصول: 341 - 342. 3 - فرائد الأصول 2: 424، نهاية الأفكار 3: 357 - 358. 57 الطهارة في الملاقي - بالكسر - لعدم وجود دليل على طهارة ملاقي الشئ الطاهر حتى ينقح موضوع ذلك الدليل، فالأصول في عرض واحد، بل وجه الحكم بطهارة الملاقي أمر آخر، لا بد من التعرض له في محله. ولما ذكرنا: من عدم تقدم كل أصل سببي على المسببي، نرى في نفس دليل الاستصحاب إجراء الأصل في الطهارة مع كون الشك في النوم. ووجهه: أن أصالة عدم النوم لا ينقح موضوع دليل شرعي، لعدم ورود دليل: بأنه من كان على وضوء ولم ينم فوضوؤه باق، بل هذا حكم عقلي مترتب على حكم الشارع بناقضية النوم (1)، فاستصحاب عدم النوم لا يثبت الطهارة إلا على الاثبات. فظهر: أن في المقام أصالة عدم حدوث الفرد الطويل، لا يكون حاكما على استصحاب الكلي بوجه، لعدم تنقيح ذلك الأصل موضوع دليل شرعي، واتحاد الكلي مع فرده خارجا لا يوجب اتحادهما في لسان الدليل أيضا، بل المتبع موضوع الأثر عند الشارع، والاتحاد لا يوجب الحكم بعدم الكلي من جهة أصالة عدم الفرد، فإنه من أوضح الأصول المثبتة. الاشكال بكون المقام من استصحاب الشخصي وجوابه وأما الأمر الثاني: فقد يقال: بأن المقام من قبيل استصحاب الشخصي، ولا يجري فيه استصحاب الكلي، وذلك لأن الملكية هو اعتبار المقولة، إما الجدة، وإما الإضافة. ومن الواضح أن المقولات كلها أجناس عالية، فكيف يمكن فرض ملكيتين؟! مع أن لازمه فرض مقولتين كلتاهما جدة أو الإضافة، ولازم ذلك أن يكون فوقهما جنس يشملهما، وهذا خلف، فالملكية أمر واحد لا تعدد فيها، فيجري
1 - وسائل الشيعة 1: 179، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 3. 58 فيها الاستصحاب الشخصي لا غير (1). والجواب عن ذلك: أن زمان اعتبار الملكية متقدم على زمان كشف المقولات، ولازم اعتبار المقولة دركها، وليس فليس، مع أنه ما المانع من كون الملكيتين نوعين من المقولة كالتعمم والتقمص، لا أن تكون الملكية نفس المقولة حتى لا تقبل التخصيص، وإن أبيت فما المانع من كون الملكية ذات مراتب كالنور مثلا. والحاصل: أن الاشكال وارد على فرض كون الملكية نفس المقولة لا تحتها، ولا دليل على أنها نفسها. تحقيق في حقيقة الملكية ولا بد لنا من تحقيق: أنه هل الملكية من قبيل الحقائق التي تكون ذات مراتب، أو أن لها نوعين، أو لا هذا ولا ذاك، بل الملكية أمر واحد شخصي، والاستقرار والتزلزل غير منوع لها؟ لا إشكال في أن الملكية ليست من قبيل الأول عند العقلاء، أي يكون ما به الامتياز فيها عين ما به الاشتراك كالنور، أترى أن العقلاء يرون في مورد مرتبة من الملكية وفي مورد آخر مرتبة أشد منها، فالشخص في الأول مالك، وفي الآخر أشد مالكية؟ وأما الثاني: فإما أن يقال: إن التنويع في نفس الملكية والاعتبار أن اللزوم والجواز فيها نفسها، لا بلحاظ سببها، فهذا خلاف الضرورة عند العقلاء. وإما أن يقال: إنهما معتبران في سببهما، وحينئذ إما أن يقال بنشو اعتبار من ذلك في المسبب أيضا، كما يقال بنشو وجوب المقدمة من وجوب ذيها (2)، فهذا
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 32 / سطر 18. 2 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 262. 59 لا محصل له، كما ذكرنا في بحث المقدمة، وقلنا: إن كل إرادة تنشأ من مباديها الخاصة (1) وإن كانت غاية الإرادة الثانية الوصول بالمراد الأول، ولا معنى لنشو الإرادة من الإرادة. وإما أن يقال: إنه مع فرض الاعتبار في السبب اعتبر في المسبب أيضا، فهذا يعد من اللغو، لحصول الفرض بالاعتبار الأول. فبقي في البين احتمالان: أحدهما: أن يكون اللزوم والجواز من أحكام العقد، بحيث لو أسندا إلى الملك لكان بالعرض والمجاز. ثانيهما: عكس ذلك، أي يكونان من أحكام الملك، بحيث لو أسندا إلى العقد لكان بالعرض والمجاز. والظاهر أن نظر العقلاء مساعد على الأول منهما. وعلى أي تقدير: إن العقلاء لا يرون الملكية إلا قسما واحدا، واللزوم والجواز اعتبار آخر عندهم، وهما من الأحكام المترتبة إما على العقد كما هو الظاهر أو على الملكية. فعلى هذا يجري استصحاب الشخصي - كالكلي من القسم الأول - في الملكية. في استصحاب بقاء علقة المالك الأول ثم إنه ذكر الشيخ (رحمه الله): دعوى حكومة استصحاب بقاء علقة المالك الأول على استصحاب الملك، إشارة في باب المعاطاة، وتفصيلا في باب الخيارات، وبين فيه وجوها وأجوبة (2) لا تخلو جميعا عن مناقشة، ونحن نذكر محتملات هذا
1 - مناهج الوصول 1: 324 - 327. 2 - أنظر جواهر الكلام 22: 220، والمكاسب: 85 و 216. 60 الاستصحاب، ثم نرى أن أيا منها مقبول أو مردود. في الاستصحاب التعليقي وصوره الأول: أن يراد من ذلك الاستصحاب التعليقي، بتقريب: أن لكل مالك الرجوع إلى ملكه لو نقله إلى غيره، خرجت عن هذا الحكم التعليقي العقود اللازمة. فما شك في لزومه وجوازه - كالمعاطاة - يتمسك لجواز الرجوع فيه بالاستصحاب، فنقول: هذا المالك قبل البيع كان ثابتا له الرجوع إلى ملكه على تقدير النقل والخروج، فبعد البيع أيضا كما كان. والجواب عن ذلك يظهر بملاحظة صور الاستصحاب التعليقي، والتمييز بين صور حجيتها عن غيرها. فنقول: قد يكون التعليق شرعيا، وقد يكون عقليا. في التعليق الشرعي وفي الأول: إما أن يكون المجعول الحكم المعلق على شئ، أو سببية المعلق عليه للحكم، أو الملازمة بين المعلق عليه والحكم. فعلى الأول لا مانع من جريان الاستصحاب في الحكم المعلق مع تمامية أركانه. وتوهم الاثبات (1) مندفع: بأن وزان هذا الاستصحاب وزان الاستصحاب التنجيزي في الأحكام، فكما أن استصحاب الحكم التنجيزي لا يكون مثبتا بعد تحقق موضوعه، وينطبق الحكم المستصحب على ذلك الموضوع قهرا، كذلك الاستصحاب التعليقي أيضا غير مثبت بعد تحقق المعلق عليه، بل الانطباق هنا أيضا
1 - أنظر حاشية المكاسب، الإيرواني 1: 79 / سطر 35. 61 قهري (1). وأما على الثاني والثالث فاستصحاب السببية والملازمة وإن كان صحيحا في نفسه كجعلهما، إلا أن ترتب المسبب - وهو الحكم على السبب بعد تحققه - أمر عقلي لا يثبته الاستصحاب. وإن شئت فطبق المذكورات على المثال المعروف في الباب، وهو أن العصير العنبي إذا غلا ونش يحرم، فإنه بعد صيرورته زبيبا يجري فيه الاستصحاب على الأول كما هو الظاهر، ولا يجري بناء على الأخيرين. لا يقال: إن موضوع النص العنب والمفروض أنه انقلب زبيبا، فلا يجري الاستصحاب (2) بناء على الأول أيضا. ولو قيل بأنهما واحد، فيشمله النص بلا حاجة إلى الاستصحاب. فإنه يقال: إن موضوع النص وإن كان منقلبا، إلا أن موضوع الاستصحاب لم ينقلب، فإن في ظرف اليقين بعد ضم كبرى تعليقية - وهو النص - إلى صغرى وجدانية، وهي هذا عنب، يحصل: أن هذا إذا غلا يحرم، فموضوع الاستصحاب هذا لا عنب، وهو باق في ظرف الشك. ولا يتوهم أخذ عنوان العنب في هذا، فإن موضوع الصغرى هذا، لا هذا العنب، وإلا لزم أخذ المحمول في الموضوع، وهو مستحيل. هذا إذا كان التعليق شرعيا. في التعليق العقلي وأما إذا كان عقليا، كما إذا ورد: أن العصير المغلي يحرم الراجع عند العقل
1 - الاستصحاب، الإمام الخميني (قدس سره): 134 - 136. 2 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 4: 471. 62 إلى تعليق، وهو أن العصير إذا غلى يحرم، فوجه عدم جريان الاستصحاب حينئذ لاثبات الحكم ظاهر، لاستلزامه الاثبات، فإن موضوع الحكم - وهو العصير المغلي - لازم عقلي للحرمة التقديرية. ولا فرق في ما ذكرنا بين الاستصحاب في الأحكام كما مر، أو الاستصحاب في الموضوعات، ك الماء إذا بلغ الأشبار المعلومة فهو كر، أو الماء البالغ حجمه كذا فهو كر. (المثال الأول للتعليق الشرعي، والمثال الثاني للتعليق العقلي). إذا عرفت ذلك، فاستصحاب جواز الرجوع على تقدير الخروج، وإن كان حاكما على استصحاب الملكية لو تم لتنقيحه موضوع ذلك، وهو تأثير الفسخ، إلا أنه في نفسه غير جار، فإن التعليق غير ثابت، مضافا إلى أنه عقلي لا شرعي، مع أن خروج العقود اللازمة عن ذلك - كما ذكر - موجب لعدم العلم بدخول المقام في أي من العنوانين من الأول، ومعه كيف يجري الاستصحاب؟! وغير ذلك مما هو واضح الورود عليه. في استصحاب الكلي من القسم الثالث الثاني: أن يراد من ذلك الاستصحاب القسم الثالث من الكلي، بتقريب: أنه قبل البيع كان للمالك علاقة، وهي علاقة الملك، وبعده يشك في حدوث علاقة أخرى، وهي علاقة استرجاع العين، فنستصحب طبيعي العلاقة. ولا بأس قبل الجواب عن ذلك بالإشارة إلى جريان الاستصحاب في القسم الثالث وعدمه. في كلام بعض المحققين في المقام وجوابه ذكر بعض المحققين: أن الاستصحاب غير جار فيه، فإن الحصة الموجودة من الكلي في كل فرد مغايرة للحصة الموجودة في الآخر، ولذا يقال: إن نسبة الكلي إلى
63 الأفراد نسبة الآباء إلى الأبناء، لا كنسبة أب واحد إلى أبناء متعددة (1). ويظهر من كلامه (رحمه الله) في عدة مواضع: أنه ملتزم بأن جميع هذه الحصص تحت طبيعة جامعة نسبتها إليها نسبة الجد إلى الآباء. ولا يخفى ما في ذلك، فإن الفرد تمام حقيقة الطبيعة بالضرورة، لا حصة منها، ويغاير كل فرد من طبيعة مع الآخر بالدقة العقلية - كما مر - لا بالمسامحة العرفية العقلائية، وحيث إن مبنى الاستصحاب على الثاني يجري الاستصحاب في هذا القسم أيضا كالقسم الثاني. وحيث إن صاحب الكفاية (قدس سره) رأى التغاير بين الطبيعتين، أنكر الاستصحاب في المقام (2)، وما ذكرناه دليل على رده. ويظهر من الشيخ الأعظم (رحمه الله) التفاوت بين الاستصحاب في القسم الثاني والثالث (3)، وصرح بذلك بعض الأعاظم أيضا، فإنه في القسم الثاني متعلق الشك بقاء نفس ما كان موجودا، بخلاف المقام، فإن الموجود قد ارتفع يقينا، والمشكوك فيه طبيعة أخرى مغايرة للأولى (4). وهذا أيضا لا يتم، فإن المشكوك بقاؤه غير متيقن حدوثه، بل محتمل الحدوث، فلا يكون مجرى الاستصحاب. وبعبارة أخرى: أن الاستصحاب متقوم باليقين والشك والاتحاد بين قضيتيهما، فإن لوحظ التغاير بين الطبيعتين لا يجري الاستصحاب في القسم الثاني أيضا، فإن متعلق الشك هو الطبيعة الموجودة في الفرد الطويل، وهذا غير متعلق
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 4: 424، أنظر رسائل ابن سينا: 462. 2 - كفاية الأصول: 462 - 463. 3 - فرائد الأصول 2: 640. 4 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 4: 425. 64 لليقين وإن لم يلاحظ ذلك، بل بني على المسامحة العرفية، فيجري الاستصحاب في القسم الثالث أيضا. نعم يمكن أن لا يرى العرف الاتحاد في بعض الموارد، إلا أنه لا يمنع من جريان الاستصحاب في غير هذه الموارد. إذا عرفت ذلك ففي المقام الاستصحاب جار في نفسه، فإنه من القسم الثالث، والعرف لا يرى التغاير بين المتيقن والمشكوك، إلا أنه حيث لا أثر على كلي العلاقة، بل الأثر مترتب على الفرد، وهو علاقة الاسترجاع، لا يجري الاستصحاب. نعم لو كان الاستصحاب جاريا لكان حاكما على استصحاب الملكية، لتنقيح الموضوع فيها، وهو جواز الفسخ. في الشبهة العبائية وجوابها وبهذا أجبنا عن الشبهة العبائية المعروفة: وهي أنه لو علمنا إجمالا بملاقاة النجاسة لأحد طرفي العباءة، وغسلنا طرفا منها، فلا بد من الحكم بطهارة ملاقي الطرف الآخر، لطهارة ملاقي أحد الأطراف، والحكم بنجاسة ملاقي الطرفين حينئذ لاستصحاب النجاسة في العباءة. وهذا بديهي الفساد، للزوم دخل الطرف الطاهر في الحكم بنجاسة الملاقي (1). والجواب عن ذلك: أن استصحاب وجود النجاسة في الطرفين استصحاب كلي، فلو كان لها بنعت الكلية أثر كعدم جواز الصلاة في العباءة يترتب، وأما الحكم بنجاسة ملاقي الطرفين فلا، فإنه موقوف على إثبات الملاقاة مع تلك الطبيعة، ولم يحرز، وإثباته بنفس الاستصحاب لا يمكن إلا على القول بالأصل
1 - نهاية الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) البروجردي 4: 130. 65 المثبت (1) (2). ويمكن بيان هذا الاستصحاب بوجوه أخر ظهر الجواب عن جميعها مما تقدم: كاستصحاب زوال الملك على تقدير الفسخ المتيقن زمان الخيار. وقد تقدم أن مثل هذا الاستصحاب التعليقي - الذي يكون التعليق فيه عقليا لا شرعيا - غير جار، فإن المجعول في المقام حق الخيار، لا التعليق المذكور. وكاستصحاب بقاء الحق المتيقن زمان الخيار أيضا. وقد تقدم: أن مثل هذا الاستصحاب - الذي لا أثر فيه للكلي القابل
1 - الاستصحاب، الإمام الخميني (قدس سره): 88. 2 - أقول: لو كان اللازم إثبات الملاقاة مع النجس لما جرى الاستصحاب حتى في موارد استصحاب الفرد أيضا، فإن استصحاب النجاسة لا يثبت الملاقاة مع النجس، وما هو محرز بالوجدان الملاقاة مع الماء مثلا، وأما مع النجس فلا. والجواب عن جميع الموارد واحد: وهو أن موضوع نجاسة الملاقي مركب من أمرين: نجاسة الملاقى - بالفتح - والملاقاة. وبهذا يمكن القول بنجاسة الملاقي في استصحاب الفرد أيضا، وفي المقام الملاقاة موجودة بالوجدان، والملاقي مستصحب النجاسة، فيترتب حكمه، فلا بد من الحكم بالنجاسة في مورد الشبهة، ولا مانع منه بعد تمامية أركان الاستصحاب وحكومته على الأصل الجاري في الملاقي - بالكسر - بخلاف ما إذا كانت الملاقاة مع أحد الأطراف فقط، فإن أصالة الطهارة في الملاقي - بالكسر - بلا حاكم وبلا معارض. وبعبارة أخرى: إنه كما يظهر في محله أن المستصحب في جميع المقامات قضية، وفي المقام القضية المستصحبة قضية منفصلة، وهي أنه إما هذا نجس أو ذاك والمنفصلة تتلاءم مع الشك في الطرفين والعلم في أحدهما، فالاستصحاب يجري بلا مانع. والحاصل: أنه فرق بين الكلي والعلم الاجمالي، فإن القضية الكلية حملية قابلة للانطباق على الطرفين، بخلاف العلم الاجمالي، فإن القضية فيه منفصلة، ولذا لا يحكم بالنجاسة في كلا الطرفين في مورد العلم الاجمالي، واللازم في مورد استصحاب الكلي الحكم بنجاسة جميع الأطراف، لانطباق الكلي - ولو عنوان أحد الطرفين - عليهما، وهذا كما ترى، مع أن الحكم بنجاسة الكلي لا يخفى ما فيه. فليتدبر. المقرر حفظه الله. 66 للاستصحاب، وما له الأثر، وهو شخص الحق، غير قابل له، ولا يمكن إثباته باستصحاب الكلي - غير جار، إلى غير ذلك مما ذكر في بيان الاستصحاب في المقام، الظاهر جوابه مما ذكرنا. وقد ظهر مما مر أيضا: وجه عدم جريان استصحاب عدم لزوم العقد في المقام، فإنه لو سلم جريانه، وأغمض عما أورد على الاستصحاب في الأعدام الأزلية نعتا، ومطلقا (1) لا أثر لهذا الاستصحاب أبدا، فلا يكون حاكما على استصحاب بقاء الملك، وقد فصلنا وجه ذلك في وجه حكومة الأصل السببي على المسببي المفقود في المقام. ثم لو شككنا في أن اللزوم والجواز ممنوعان للملك، أو هما حكمان للعقد، والملك ليس إلا نوعا واحدا، فهل يجري الاستصحاب أم لا؟ التزم الشيخ (رحمه الله) بالجريان (2). وقد استشكل عليه: بأن المورد من قبيل الشبهة المصداقية لدليل الاستصحاب. وأجاب المستشكل عن ذلك: بأن المخصص في المقام لبي (3)، ولا مانع من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص إذا كان المخصص لبيا. أما كون المقام من الشبهة المصداقية لدليل الاستصحاب فلا وجه له، فإن الأطراف الثلاثة كلها مشكوكة حدوثا، فلا تكون مجرى للاستصحاب الشخصي، والكلي الجامع بين الأطراف مورد للاستصحاب لتمامية الأركان، فأين الشبهة المصداقية؟ وبعبارة أخرى: الأمر غير دائر بين ما يجري فيه الاستصحاب وما لا يجري،
1 - الاستصحاب، الإمام الخميني (قدس سره): 101 - 102. 2 - المكاسب: 85 / سطر 9. 3 - منية الطالب 1: 61 / سطر 13. 67 فإن موضوع الاستصحاب هو اليقين والشك، وليس في الأشخاص ذلك، فلا يجري الاستصحاب في شخص منها، فأين الدوران؟! نعم من التزم بعدم جريان استصحاب الكلي في مورد الدوران بين الملكية المستقرة والمتزلزلة (1)، لا يمكنه إجراء الاستصحاب في المقام، لا لأنه من الشبهة المصداقية، بل لما بنى عليه في وجه عدم الجريان في ذلك المقام. وأما أن المخصص إذا كان لبيا فلا مانع من التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية له، فأيضا غير صحيح، لعدم الفرق في الشبهة المصداقية بين المخصص اللفظي واللبي. وما قيل: من أنه في اللبيات يقتصر على القدر المتيقن (2) غير مرتبط بالمقام، فإنه مختص بما لو دار الأمر بين كثرة التخصيص وقلته، إلا أن المقام ليس من هذا القبيل، فإن المفروض أن الشبهة مصداقية. فالصحيح جريان استصحاب الكلي في المقام، كما التزم به الشيخ (رحمه الله)، ولا يخفى أن هذا الاستصحاب هو القسم الثاني من الكلي وإن كثرت أطرافه، فإن الأمر بالآخرة دائر بين القصير والطويل، وهذا ظاهر. الاستدلال على لزوم المعاطاة بحديث السلطنة 2 - النبوي المعروف: الناس مسلطون على أموالهم (3). تقريب الاستدلال كما ذكره الشيخ (رحمه الله) (4) أي بحيث لا يلزم منه الشبهة
1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 73 / سطر 8. 2 - كفاية الأصول: 259، مطارح الأنظار (تقريرات الشيخ الأنصاري) الكلانتر: 194 / سطر 26. 3 - تقدم في الصفحة 40. 4 - المكاسب: 85 / سطر 17. 68 المصداقية (1)، أن إطلاق السلطنة على المال وتمامها، كما يقتضي جواز أي تصرف شاءه المالك فيه ولو تصرفا بالاعدام أو بالابقاء، كذلك يقتضي عدم جواز مزاحمة الغير، أي لا يجوز لغيره أي تصرف مناف لسلطنته ولو كان بإعدام الملك وإزالته، فلا يجوز له الفسخ. ولا نريد بذلك - كما قيل - أن الرواية ذات عقدين إيجابي وسلبي (2)، بل ليس لها إلا عقد واحد، وهو جعل السلطنة، لكن إطلاقها يقتضي عدم جواز تصرف الغير في المال تصرفا منافيا لسلطنة المالك عليه. ولا نريد أيضا التمسك بإطلاق الرواية بلحاظ ما بعد الفسخ، حتى يقال: إن الشبهة مصداقية (3)، بل التسلط على المال في المرتبة السابقة على الفسخ يقتضي عدم تأثير الفسخ في إزالة سلطنة المالك. إشكال بعض المحققين وجوابه وقد استشكل بعض المحققين على ذلك: بأن الاطلاق لا يقتضي انحفاظ موضوعه، فإن إطلاق السلطنة وإن كان ثابتا، إلا أنه ا مترتبة على المال، فلا بد من فرض وجود المال في المرتبة السابقة على السلطنة، حتى يكون المالك مسلطا عليه، والفسخ معدم للمال، فيكون نفي السلطنة من قبيل السلب بانتفاء الموضوع، فلا يمكن التمسك بإطلاقه لاثبات عدم تأثير الفسخ في إعدام المال، فإنه هو التمسك بالاطلاق لاثبات موضوعه (4).
1 - أنظر حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 34 / سطر 6. 2 - منية الطالب 1: 63 / سطر 9، المكاسب والبيع (تقريرات المحقق النائيني) الآملي 1: 177 - 178. 3 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 34 / سطر 6 - 7. 4 - حاشية المكاسب، الإيرواني 1: 80 / سطر 28. 69 وفيه: أن الكبرى في ما ذكره وإن كانت صحيحة، أي الاطلاق لا يقتضي انحفاظ موضوعه، إلا أن المال ليس موضوعا للسلطنة، بل الموضوع هو الناس، والمال طرف لإضافة السلطنة إليه. نعم حيث إن المتضايفين متكافئان قوة وفعلا، لا بد من فرض وجود المال، حتى يصح إضافة السلطنة إليه، وحينئذ نقول: كما أن جميع تصرفات المالك في ماله - ولو بالاعدام والابقاء - من شؤون هذه الإضافة بنظر العقلاء، كذلك عدم جواز تصرفات الغير أيضا من شؤونها، وكما أن السلطنة على المال مقتض لجواز إزالته والاعراض عنه من قبل المالك، كذلك السلطنة عليه أيضا مقتض لعدم جواز إعدام غير المالك إياه، فلا يلزم عدم وجود المال في مرتبة السلطنة، بل السلطنة على المال تقتضي عدم نفوذ الفسخ في إزالة المال وهدم إضافة السلطنة عليه. إشكال بعض الأعيان وجوابه وقد استشكل بعض الأعيان أيضا: بأن إطلاق الرواية مقتض لتمام السلطنة على الملك، لا الملكية، وعدم تأثير الفسخ من شؤون السلطنة على الملكية، لا على الملك، فإن الفسخ إعدام الملكية (1). ولا يخفى ما في ذلك بعد ما ذكرنا، فإنه كما أن إزالة الملكية من قبل المالك من شؤون السلطنة على الملك، كذلك إزالة الملكية من قبل غيره أيضا مناف لتمام سلطنته عليه، فإن تمام سلطنته على المال يقتضي عدم جواز تصرف الغير تصرفا منافيا لذلك، والمفروض أن إزالة الملكية موجبة لاعدام السلطنة على المال أيضا. فالصحيح دلالة النبوي على اللزوم وعدم تأثير الفسخ في المقام.
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 34 / سطر 8. 70 شبهات وردود ولا يتوهم: أن ما ذكرنا سابقا: من أن دليل السلطنة دال على السلطنة على المال، لا على المقررات الشرعية، مناف لذلك (1)، فإنه كما أن إبقاء الملك وإزالته من قبل المالك من شؤون السلطنة على المال، كذلك إزالته من قبل الغير منافية لها، والمقررات الغير المنافية لها إنما تتصور في كيفيات التصرف وأسبابه لا في أصله. والفسخ من هذا القبيل فإنه رافع لأصل المال، وهو مناف لتمام السلطنة عليه. ولا يتوهم أيضا: أن السلطنة على المال قاعدة عقلائية، وأنها غير مختصة بالشرع، بل في الشرع أيضا واردة على طبق ما هو الثابت عند العقلاء، والعقلاء إنما يرون هذه القاعدة في ما إذا لم يكن في البين سلطنة إلهية على الخلاف، فإذا يكون دليل السلطنة مقيدا بقيد متصل، ومعه يكون الشك في تأثير الفسخ وعدمه من الشبهة المصداقية للعام. فإن حاصل الدليل: أن الناس مسلطون على أموالهم لو لم يكن في البين سلطنة إلهية، والشك إنما هو في وجود السلطنة الإلهية، فلا يمكن التمسك بدليل السلطنة لنفي ذلك، فإنه لو كان الأمر كما ذكر للزم أن يتبادر - بنظر العقلاء بمجرد سماعهم دليل السلطنة - تقيدها بذلك القيد، ومن الواضح عدم التبادر عندهم إلا ما هو الظاهر منه، والسلطنة الإلهية وإن كانت ثابتة عند العقل، إلا أنه ا من الأمور النظرية، ودليلها غير مرتبط بدليل الأول ومنفصل عنه، فمع الشك في وجود السلطنة الإلهية يرجع الشك إلى وجود المخصص، فيمكن التمسك بالعموم عندئذ كما لا يخفى.
1 - تقدم في الصفحة 41. 71 ولا يتوهم أيضا: أنه - على ما ذكرنا سابقا (1) - أن الاطلاق حيثي، كإطلاق الآية المباركة: (أحلت لكم بهيمة الأنعام) (2) التي لا ينافيها دليل حرمة الموطوءة مثلا، فإن السلطنة على المال من حيث إنه مال لا تنافي جواز الفسخ من حيث إنه فسخ (3). وقد ظهر جواب ذلك مما ذكرنا: فإنه بالفسخ يزول المال، وترتفع إضافة السلطنة عليه، ومعه كيف يقال: إن جواز الفسخ غير مناف لها، فإن الحكم فيها حيثي. وبعبارة أخرى: أن بالفسخ ترتفع نفس هذه الحيثية، فيمكن التمسك بإطلاقها لنفيه. وإن شئت فطبق بين المثال والمقام، فإن البهيمة الموطوءة - مثلا - مجمع للحيثيتين فهي من إحداهما حلال، ومن الأخرى حرام. وأما في المقام فبالفسخ يزول المال والسلطنة عليه، ولا يبقى له مجال. فالتنافي بينهما أظهر من أن يخفى. فتحصل: إمكان التمسك بدليل السلطنة لاثبات اللزوم. الاستدلال على لزوم المعاطاة بموثقة سماعة 3 - موثقة سماعة: لا يحل دم امرئ مسلم أو ماله إلا بطيبة نفس منه (4). والتقريب: عين ما تقدم في الرواية السابقة، فلا يلزم من الاستدلال بها
1 - تقدم في الصفحة 42. 2 - المائدة 5: 1. 3 - أنظر البيع، الأراكي 1: 63. 4 - الكافي 7: 273 / 12، و 275 / 5، الفقيه 4: 67 / 195، تفسير القمي 1: 172، وسائل الشيعة 3: 424، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، الباب 3، الحديث 1، وسائل الشيعة 19: 3، كتاب القصاص، أبواب القصاص في النفس، الباب 1، الحديث 3. 72 التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية. إشكال وجواب وقد يقال: إن الحل - كالحرمة - حكم شرعي، وله قسمان تكليفي ووضعي، وبما أن الاستعمال في كلا القسمين: إما غير جائز، أو خلاف المحاورة العرفية، فلا بد من أن يراد منه أحدهما، فإما أن يحكم بإجمال الرواية من هذه الجهة، أو يقال: إن تعلق الحل بالمال غير ممكن، فلا بد من تقدير، وبما أن التقدير في تعلق الحل بالذات لا يناسب إلا التصرفات، فيكون الحل حلية تكليفية، ونتيجة ذلك عدم جواز التصرف في مال الغير، كأكلة وشربه ولبسه وغير ذلك من التصرفات إلا بإذنه. وأما البيع والفسخ ونحوهما فلا تعد تصرفا في المال حتى تكون الرواية ناظرة إليها. وبعبارة أخرى: أن التصرف المناسب تقديره - من جهة تعلق الحكم بذات المال نفسه - غير مناسب إلا للحكم التكليفي، وما هو المناسب للحكم الوضعي ليس من قبيل التصرف في المال، فالمتعين كون الحكم تكليفيا لا غير، فلا يمكن التمسك بالرواية في ما نحن بصدده، فإن الكلام في المقام في الحكم الوضعي (1)، كما لا يخفى. ولا بد لنا في الجواب عن ذلك من ملاحظة أنه: أولا: هل استعمال الحل في القسمين المذكورين من قبيل استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، أو لا؟ وثانيا: ما هو الظاهر من تعلق الحكم بغير ما هو له، كالذات في المقام؟ أما الأول: فقد مر سابقا: أن التكليف والوضع ليسا دخيلين في الموضوع له لفظ الأحكام، ولا في المستعمل فيه تلك الألفاظ، بل الموضوع له والمستعمل فيه
1 - حاشية المكاسب، الإيرواني 1: 80 / سطر 38. 73 في موردهما ليس إلا أمر واحد، وهو البعث والزجر، والتكليف والوضع أمران انتزاعيان ينتزعان من ذلك بملاحظة المقامات، فمع تعلق البعث والزجر بنفس طبيعة شئ، كحرمة شرب الخمر ووجوب إعطاء الزكاة مثلا، يفهم منه التكليف، ومع تعلق ذلك بشئ في ضمن شئ، كالبعث نحو الطهارة في الصلاة، أو الزجر عن الكلام فيها، أو تعلقه بشئ مع شئ، كالبعث نحو الصلاة مع الطهارة، والزجر عن الصلاة في وبر ما لا يؤكل لحمه (1)، يفهم منه الوضع كالشرطية والمانعية والصحة والفساد. فالموضوع له فيهما واحد، والقسمان أمران خارجان عن الموضوع له، فما المانع من استعمال ذلك في معناه، بحيث يفهم منه التكليف في مورد، والوضع في مورد آخر؟ ولذا ذكرنا في بحث التقية: أن صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): التقية في كل شئ اضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله (2) قد استعملت فيها الحلية في معناها، وتشمل الرواية مورد التكليف والوضع كليهما (3)، فلو كان الفعل المتقى به متعلقا للحكم التكليفي، كالكذب - مثلا - يرتفع حكمه، وقد أحله الله، ولو كان متعلقا للحكم الوضعي، كالتكتف في الصلاة - مثلا - يرتفع حكمه أيضا، وقد أحله الله، فإن ثبوت الحل في مقام التكليف ترخيص تكليفي، وثبوت الحل في مقام الوضع ترخيص وضعي، وقد استعمل الحل في المقامين في معنى واحد، وهو الترخيص وعدم المنع. ومقامنا أيضا من هذا القبيل، فقوله (عليه السلام): لا يحل أي
1 - الكافي 3: 397 / 1، الفقيه 4: 265 / 824، تهذيب الأحكام 2: 209 / 818، وسائل الشيعة 3: 250 - 251، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلي، الباب 2، الحديث 1 و 7. 2 - المحاسن: 259 / 308، الكافي 2: 175 / 18، وسائل الشيعة 11: 468، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، الباب 25، الحديث 2. 3 - الرسائل، الإمام الخميني (قدس سره) 2: 190. 74 لا ترخيص، والتكليف والوضع مستفادان من مقام الاستعمال. وأما الثاني: فلا بد في تحقيق ذلك من ملاحظة: أن باب المجازات المرسلة والاستعارات، هل هو باب استعمال اللفظ في غير ما وضع له، كما عليه المشهور (1)، أو باب ادعاء كون المستعمل فيه اللفظ فردا للمعنى الحقيقي، كما هو مذهب السكاكي (2) في الاستعارات وإن تبع المشهور في المجازات المرسلة (3)، أو لا هذا ولا ذاك، بل اللفظ لم يستعمل إلا في معناه، والادعاء إنما هو في تطبيق المعنى على غير ما هو له، كما عليه شيخنا أبو المجد الشيخ محمد رضا الأصفهاني (رحمه الله) (4)؟ والفرق بين الأخيرين: أن الإرادة الجدية على خلاف المستعمل فيه بالإرادة الاستعمالية على مذهب شيخنا، وكونها عينه على مذهب السكاكي. والمختار هو القول الأخير، إذ التلاعب بالألفاظ لا حسن فيه، وكون زيد أسدا لفظا لا بلاغة فيه، بل حسن المجازات إنما هو من جهة توسعة المفاهيم إلى ما لا يسعه وضع ألفاظها، ولا يشمله نفس تلك المفاهيم ابتداء، ولكن بعد ادعاء كون هذا منه تشمله حكما. ولا فرق في ما اختاره (قدس سره) بين موارد الاستعارة والمجاز المرسل، وأنه أيضا من هذا الباب، فإطلاق العين على الربيئة ليس إلا بادعاء كونه عينا باصرة بتمام وجوده، لكمال مراقبته. وتمام الكلام في محله (5).
1 - مفتاح العلوم: 155، مبادئ الوصول إلى علم الأصول: 77 و 80، المطول: 353، شروح التلخيص 4: 22 - 26، قوانين الأصول 1: 13 / سطر 5، الفصول الغروية: 14 / سطر 12. 2 - مفتاح العلوم: 156، وانظر مناهج الوصول 1: 102. 3 - أنظر المطول: 354 / سطر 19. 4 - وقاية الأذهان: 103. 5 - أنظر مناهج الوصول 1: 104 - 106. 75 التحقيق في المقام إذا عرفت ذلك، ففي المقام قد أسند الحكم إلى المال، وهو غير مراد جدا وإن كان مستعملا فيه اللفظ بالإرادة الاستعمالية. وقد ادعي: أن ما هو المراد جدا من ذلك هو المفهوم الحقيقي من المال، وبما أن الادعاء لا بد له من مصحح، لا يكون متعلق الجد إلا جميع شؤون المال، من التصرفات الحسية والاعتبارية، وجميع التقلبات والتحولات فيه، فإن المصحح للادعاء هو ذلك، ولا يصح ادعاء أن بعضا منها - ولا سيما التصرفات الحسية - مال حقيقة، فعلى هذا تكون الموثقة دالة على عدم جواز التصرف في مال الغير حسيا واعتباريا تكليفا ووضعا، فالفسخ - وهو استرداد المال - حيث إنه تصرف اعتباري في مال الغير غير نافذ، فإنه لا يحل. ولا يخفى عليك أن هذا ليس تقديرا في اللفظ، بل اللفظ قد استعمل في معناه الحقيقي، وتعلقت الإرادة الجدية بما يصح الادعاء بأنه هو المستعمل فيه اللفظ، وليس ذلك إلا جميع شؤون المال. ولو تنزلنا عن ذلك، والتزمنا بصحة التقدير، فالصحيح - بمناسبة حذف المتعلق الدال على العموم، ومناسبة الحكم والموضوع - تقدير جميع ما هو من شؤون المال، لا خصوص التصرفات. ولو تنزلنا أيضا، والتزمنا بأن المقدر خصوص التصرفات، فما وجه اختصاص ذلك بالتصرفات الحسية؟! فإن البيع والفسخ ونحوهما أيضا تعد من التصرف بنظر العقلاء، بل اللغة أيضا شاهد على ذلك، فراجع القاموس واللسان والمجمع ترى أنه فسر الصرف بالبيع ونحوه من الاعتباريات (1).
1 - المنجد: 422 - 423. 76 ولو تنزلنا أيضا، والتزمنا بأن المقدر خصوص التصرفات الحسية، إلا أن إلغاء الخصوصية عن ذلك قطعي عند العقلاء، أترى أنه لو عرضت هذه الرواية على العقلاء فإنهم يرون عدم جواز تصرف أحد في مال الغير، من الأكل والشرب واللبس وغيرها، وأما لو باع ذلك المال للزم على المالك الوفاء به وتسليم المال إلى المشتري، بدعوى أنه لا دلالة في الرواية على عدم جواز هذا النحو من التصرف. فعلى جميع التقادير دلالة الرواية على عدم نفوذ الفسخ تامة. وقد ظهر بهذا البيان أن التوقيع الشريف - وهو لا يجوز لأحد التصرف في مال غيره إلا بإذنه (1) - أيضا من أدلة المقام، ولو صرح فيه بلفظ التصرف، فضلا عن عدم كونه دليلا على الخلاف، كما توهم. وقد يستشكل في الموثقة: بأن الحل فيها تكليفي بقرينة المورد، وهو رد الأمانة إلى أهلها، وبقرينة الدم المذكور فيها (2). ولكن ظهر الجواب عنه مما مر، فإنه بعد ما علم أن التكليف والوضع خارجان عن مدلول الحل، والمورد غير مخصص للكبرى الكلية الملقاة تعليلا للحكم في ذلك المورد، وعدم المنافاة بين استفادة التكليف في الدم من المقام واستعمال الحل في معناه الحقيقي، يندفع الاشكال بالكلية. ويظهر من تطبيق التعليل - وهو عدم حلية المال - على المورد - وهو ترك رد الأمانة - أن ترك الرد مما لا يحل، مع أنه ليس من التصرفات الحسية. فالرواية أيضا شاهدة على أن الممنوع مطلق التصرف، حسيا كان أو غيره.
1 - كمال الدين: 521، الاحتجاج 2: 559، وسائل الشيعة 6: 377، كتاب الخمس، أبواب الأنفال وما يختص بالإمام، الباب 3، الحديث 6، وسائل الشيعة 17: 309، كتاب الغصب، أبواب الغصب، الباب 1، الحديث 4. 2 - أنظر حاشية المكاسب، الأصفهاني 2: 9 / سطر 25. 77 الاستدلال للمقام بآية التجارة 4 - الآية الكريمة: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) (1). ويختلف تقريب الاستدلال بها - حسب الاستدلال بعقد المستثنى منه، وعقد المستثنى، والحصر المستفاد من الاستثناء - على ثلاثة وجوه: الاستدلال بعقد المستثنى منه الأول: الاستدلال بعقد المستثنى منه، وتقريبه أيضا بوجهين: أحدهما: أن يكون النهي عن الأكل بالأسباب الباطلة، إرشادا إلى عدم نفوذ تلك الأسباب، وعدم ترتب الأثر عليها. وبما أن المتبع في فهم المراد من مثل هذه الآيات - المتكفلة ببيان وظائف الناس وأهل العرف - نظرهم، تكون النتيجة عدم نفوذ الأسباب الباطلة بنظر العرف، وحيث إن العرف والعقلاء بعد تمامية البيع - ومنه المعاطاة - يتعاملون معه معاملة اللزوم، ولا يعتنون بفسخ أحد المتعاقدين من دون رضا الآخر، فيكون الفسخ من الأسباب الباطلة بنظرهم، فتدل الآية على عدم نفوذه شرعا أيضا. وثانيهما: أن يكون النهي دالا على الحرمة، إلا أن حرمة الأكل بالأسباب الباطلة ملازم لعدم نفوذ تلك الأسباب، لعدم احتمال أن يكون حرمة الأكل حكما تعبديا ولو كانت الأسباب نافذة شرعا، وحينئذ يتم المقصود بالتقريب المتقدم. ولكن هذا التقريب لا يتم، فإن تمامية ذلك موقوفة على أن يكون منشأ احتمال نفوذ الفسخ احتمال التخصيص الحكمي، أي يحتمل أن الشارع حكم بنفوذ
1 - النساء 4: 29، أنظر المكاسب: 85 / سطر 21. 78 ذلك مع كونه باطلا. وعلى هذا وإن صح التمسك بهذا العقد من الآية - عند احتمال التخصيص والحكم بعدم نفوذ الفسخ - إلا أن هذا الاحتمال سخيف جدا، فإنه مع ورود دليل على نفوذ الفسخ لا يراه العقلاء مخصصا للآية، وأن الفسخ مع كونه باطلا نافذ، بل نظر العقلاء ببطلان السبب معلق على عدم ورود تعبد من الشارع بنفوذه، وحينئذ يكون الشك في نفوذ الفسخ وعدمه، راجعا إلى الشك في ورود تعبد من الشارع بذلك وعدمه، الراجع إلى الشك في بطلان الفسخ وعدمه، فيكون من الشبهة المصداقية للآية الكريمة. لا يقال: إن نظر العقلاء ببطلان السبب وإن كان معلقا على عدم ورود إنفاذ شرعي فيه، إلا أنه ليس بديهيا، بحيث يصلح لكونه قرينة حافة بالكلام، بل إنه من الأمور النظرية، فهي من قبيل القرينة المنفصلة، فمع الشك في ورود الانفاذ الشرعي يتمسك بالآية، فإن ظهورها تام على ما ذكر. وقد مر مثل ذلك في دليل السلطنة (1). فإنه يقال: كم فرق بين المقام ودليل السلطنة؟! فإن الموضوع والمتعلق كانا محفوظين في ذلك الدليل حتى حال الشبهة، وكان الشك في ورود سلطنة إلهية راجعا إلى تخصيص دليل السلطنة، بخلاف المقام، فإنه مع ورود دليل الانفاذ يتبدل الباطل بغير الباطل، فالشك فيه يكون شكا في البطلان وعدمه، فلا يمكن التمسك بالآية حينئذ. الاستدلال بعقد المستثنى الثاني: الاستدلال بعقد المستثنى، ويحتمل فيه أيضا الوجهان المتقدمان: أحدهما: أن يكون في مقام إنفاذ التجارة. ثانيهما: أن يكون في مقام بيان حلية أكل المال الحاصل عن التجارة.
1 - تقدم في الصفحة 71. 79 وتقريب الاستدلال هنا: لا يمكن على الاحتمال الأول، فإن التجارة بعد الفسخ مشكوك فيها، فلا يمكن التمسك بدليل نفوذ التجارة حينئذ، فإن الشبهة مصداقية، ويتضح أزيد من ذلك في دليل الوفاء بالعقد إن شاء الله. وأما على الاحتمال الثاني، فتقريب الاستدلال: أن حلية الأكل إذا حصلت بالتجارة مطلقة ثابتة بالاطلاق حتى بعد الفسخ، ويلزمها عدم نفوذ الفسخ واللزوم. ولكن هذا التقريب أيضا لا يتم، فإنه لو كان المال مقيدا بالتجارة فتكون الشبهة مصداقية كالسابق، ولو لم يكن مقيدا بذلك فالاطلاق ممنوع، فإن المال وإن لم يكن مقيدا، إلا أن ترتب حلية أكل المال على التجارة يستلزم تضييقا فيه، بحيث لا يشمل غير مورد التجارة. وإن شئت فعبر عنه بالحصة الخاصة من المال، فإذا تكون الشبهة مصداقية أيضا. الاستدلال بالاستثناء المفيد للحصر الثالث: الاستدلال بالحصر المستفاد من الاستثناء، بتقريب: أن الآية الكريمة دالة على حصر سبب جواز الأكل بالتجارة عن تراض، والفسخ ليس منها، فلا يكون نافذا. وأما وجه الحصر، فلأن الاستثناء في الآية متصل، فإن المنقطع مناف للفصاحة، ولا يقع في كلام الفصيح، والاستثناء المتصل دال على الحصر، كما برهن في محله. ولكن هذا التقريب أيضا لا يتم، أما أن الاستثناء المنقطع مناف للفصاحة، فقد مر أنه مؤكد للفصاحة في بعض الموارد (1)، وأما أن الاستثناء في الآية متصل، فخلاف ظاهرها، ولا وجه لارتكاب خلاف الظاهر، وأما الحصر، فقد مر: أن العرف
1 - تقدم في الصفحة 35. 80 بملاحظة الآية يرى أن علة الحكم بحرمة الأكل هو البطلان، وبقرينة المقابلة يفهم أن الباطل غير نافذ والحق نافذ، فلا حصر. ولا يمكن التمسك بالآية لاثبات اللزوم للشك في أن الفسخ من الباطل أو الحق، ولا فرق حينئذ بين كون الاستثناء متصلا أو منقطعا، فإن العرف يفهم من الآية التفصيل المذكور على أي تقدير (1). الاستدلال للزوم المعاطاة بأدلة خيار المجلس 5 - أدلة خيار المجلس: ونحن نذكر أولا ما هو الأشمل من جميع روايات الباب ونتكلم فيه، ثم في سائرها. الاستدلال بصحيحة الحلبي أما الأول: فصحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام): أيما رجل اشترى من رجل بيعا فهما بالخيار حتى يفترقا، فإذا افترقا وجب البيع (2). الاستدلال بصدر الرواية ومناقشته ويمكن الاستدلال بها على ثلاثة وجوه: أحدها: التمسك بصدر الرواية، بتقريب: أن المستفاد من هذا الاطلاق أن البيع فيه الخيار، وحيث إن جعل الخيار للعقد الجائز لغو بحكم العقل، فيعلم أن البيع
1 - تقدم في الصفحة 33 - 34. 2 - الكافي 5: 170 / 7، تهذيب الأحكام 7: 20 / 86، الاستبصار 3: 72 / 241، وسائل الشيعة 12: 346، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 1، الحديث 4. استدل بها الشيخ الأنصاري (قدس سره)، والمحقق النائيني (قدس سره)، أنظر المكاسب: 85 / سطر 26، ومنية الطالب 2: 9 / سطر 7. 81 لازم، ومن البيع المعاطاة، فهي لازمة (1). ولكن لنا أن نقول: إن هذا الحكم العقلي لو كان من البديهة، بحيث يكون من القرينة الحافة بالكلام، فتكون الشبهة مصداقية، وهذا واضح، ولو كان من قبيل الأمور النظرية، بحيث يعد من القرينة المنفصلة عن الكلام، فأيضا الأمر كذلك، فإن تنافي جواز العقد والخيار، موجب للعلم بأن ما دل على أن البيع فيه الخيار لم يرد منه البيع الجائز، فإذا تكون الشبهة مصداقية (2). الاستدلال بمفهوم الغاية ومناقشته ثانيها: التمسك بمفهوم الغاية (3)، ولكن غاية ما يدل المفهوم عليه: أنه لا خيار
1 - استظهر المحقق الأصفهاني من كلام الشيخ الأنصاري (قدس سره)، أنظر حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 35 / سطر 8. 2 - ما أفاده دام ظله وإن كان قويا في النظر، إلا أن الأقوى أن هذا الحكم العقلي غير مقيد للكلام، فإنه مطلق بحسب الإرادة الاستعمالية على الفرض، والتقييد في الإرادة الجدية غير معلوم. نعم، لو كان للبيع فرد جائز لكنا نحكم بخروجه والتقييد، إلا أنه لا يعلم ذلك، فيقع الشك في التقييد وتطابق الإرادة الجدية والاستعمالية والأصل الاطلاق، فبضم الدليلين يعلم أن البيع مطلقا غير جائز، ومنه المعاطاة. وبعبارة أخرى: إنه لا يعلم بوجود البيع الجائز، فلا معنى لأن يقال: إنه لم يرد من الرواية البيع الجائز، بل لو لم يوجد البيع الجائز، فإطلاق الرواية محفوظ بلا كلام، فحيث لا يعلم وجود البيع الجائز وعدمه لا يمكن رفع اليد عن الاطلاق. فنتيجته أن كل بيع فيه الخيار، والحكم العقلي بمنزلة الكبرى لذلك: وهو أن كل ما فيه الخيار فهو لازم، فكل بيع لازم، ومنه المعاطاة. نعم، لو كنا نعلم بوجود البيع الجائز لتم ما أفاده، وكانت الشبهة مصداقية. وما أسرني لما وقفت على أن الشيخ الأعظم (قدس سره) أيضا موافق لهذا التفصيل في المخصصات اللبية (مطارح الأنظار - تقريرات الشيخ الأنصاري - الكلانتر: 194 - 195). نعم، أصل الاستدلال في المقام غير تام، لعدم المنافاة بين الجواز والخيار، كاجتماع أسباب الخيار في زمان واحد، ولا لغوية في ذلك أصلا، كما ذكر في محله. المقرر حفظه الله. 3 - حاشية المكاسب، البلاغي: 7 / سطر 17. 82 بعد الافتراق، وأما جواز العقد - الذي هو حكم شرعي - فلا يدل على نفيه (1). الاستدلال بذيل الرواية ومناقشته ثالثها: التمسك بذيل الرواية، بتقريب: أن إطلاق الوجوب يقتضي اللزوم (2). ولكن هذا التقريب أيضا لا يتم، فإنه لو لم يكن صدر الرواية مطلقا بحيث يشمل البيع الجائز، فتختص الرواية بالبيع اللازم، فتكون الشبهة مصداقية، ولو كان مطلقا لشمل ذلك، فمع إطلاق الوجوب يقع التنافي بين الصدر والذيل، فإن المفروض أن الصدر شامل للبيع الجائز، والذيل دال على عدم الجواز فلا بد من أحد التقييدين، إما في الصدر بخروج البيع الجائز، فتكون الشبهة مصداقية، وإما في الذيل بأن الوجوب حيثي، أي من حيث الخيار، فلا ينافي جواز المعاطاة. فعلى أي تقدير لا يمكن التمسك بهذه الصحيحة لاثبات المطلب (3).
1 - التفاوت بين الخيار الحقي والجواز الحكمي غير مرتبط بما يستفاد من الرواية عرفا، فإن الخيار عرفا بمعنى التخيير في الفسخ، فالمستفاد من الرواية عرفا أن البيع يمكن فسخه قبل التفرق، وبعده يثبت، ولا يمكن فسخه، تأمل. وبهذا يجاب عن توهم: أن الحكم المستفاد من المفهوم حيثي، أي المنتفي بعد الافتراق هو ما كان ثابتا قبله، وهو خيار المجلس، فلا ينافي ثبوت غيره، فإن تعنون الخيار بالمجلس وغيره غير مرتبط بما يستفاد من الرواية عرفا، وهو ما ذكرناه، فتأمل. المقرر حفظه الله. 2 - منية الطالب 2: 9 / سطر 10. 3 - هذا لو علمنا من الخارج أن البيع قسمان: جائز ولازم، وأما لو لم نعلم بوجود البيع الجائز فلا معنى لاطلاق الرواية من هذه الجهة، بل الصدر يدل على أن كل بيع فيه الخيار، والذيل يدل على أن الموضوع المذكور يجب بالافتراق، فكل بيع يجب بالافتراق. وبعبارة أخرى: إنه بتحاكم الصدر والذيل يعلم أن كل بيع لازم، فليس في البين بيع جائز حتى يقع ما ذكر من التنافي. المقرر حفظه الله. 83 الاستدلال بباقي روايات خيار المجلس وأما الثاني: فالروايات الواردة في الباب على ثلاث طوائف: منها: ما لا تكون الجملة الأخيرة مذكورة فيها، كصحيحة محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): البيعان بالخيار حتى يفترقا، وصاحب الحيوان بالخيار إلى ثلاثة أيام (1). ومنها: ما اشتمل على تلك الجملة أيضا، كصحيحة الحلبي المتقدمة وصحيحة الفضيل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: ما الشرط في الحيوان؟ قال: ثلاثة أيام للمشتري. قلت له: ما الشرط في غير الحيوان؟ قال: البيعان بالخيار ما لم يفترقا، فإذا افترقا فلا خيار بعد الرضا منهما (2). ومنها: ما دل على فعل أبي جعفر (عليه السلام)، كصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: إن أبي اشترى أرضا يقال لها العريض، فلما استوجبها قام فمضى. فقلت له: يا أبه! عجلت القيام؟ فقال: يا بني أردت أن يجب البيع (3).
1 - الكافي 5: 170 / 5، وسائل الشيعة 12: 345، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 1، الحديث 1. 2 - الكافي 5: 170 / 6، الخصال: 127، تهذيب الأحكام 7: 20 / 85، الاستبصار 3: 72 / 240، وسائل الشيعة 12: 346، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 1، الحديث 3 و 349، الباب 3، الحديث 5. 3 - الفقيه 3: 127 / 556، وسائل الشيعة 12: 347، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 2، الحديث 1. 84 الجواب عن روايات الباب وشئ منها لا يدل على لزوم المعاطاة: فإن الأخيرة: فيها - مضافا إلى ورود لفظ الاستيجاب فيها الدال على أن شراءه (عليه السلام) كان باللفظ، ولا سيما في الأرض، فإن المعاطاة فيها غير متعارفة - أن الفعل الواقع في موقع خاص لا إطلاق له ليتمسك به عند الشك. وأما الطائفة الأولى: فإرادة مطلق الخيار منها غير ممكن، للزوم الاستهجان بتقييدات كثيرة لسائر الخيارات، وإرادة خصوص خيار المجلس منها لا يجدي لاثبات اللزوم بعد انقضاء زمان الخيار، حتى يتمسك بها لاثبات لزوم المعاطاة، فإن قوله (عليه السلام): حتى يفترقا يكون قيدا محققا لموضوع هذا الخيار، فلا مفهوم له إلا على نحو السلب بانتفاء الموضوع. ومما يدل على ذلك عطف خيار الحيوان على هذا الخيار في عدة من الروايات، ومنها الصحيحة المتقدمة، فإن هذا العطف ظاهر في تنويع الخيار في المجلس والحيوان، فالثابت للبيعين قبل الافتراق خيار خاص، وسماه الفقهاء بخيار المجلس من هذه الجهة، واستدلوا على ذلك الخيار فقط بهذه الجملة لذلك. وقد ظهر بهذا الجواب عن الطائفة الثانية أيضا، فإن الخيار فيها ليس على إطلاقه، وإلا لزم الاستهجان، بل هو خيار خاص، فالقيد محقق للموضوع والوجوب، أو عدم الخيار حيثي من جهة تلك العلة. ويدل على ذلك استعمال وجب البيع في غير خيار المجلس أيضا، كرواية علي بن رئاب في خيار الحيوان: فإذا مضت ثلاثة أيام فقد وجب الشراء (1)، فإن المستفاد من هذا أن الحكم حيثي، ولا إطلاق له حتى يقال: إنه بعد انقضاء زمان
1 - قرب الإسناد: 78 / 3، وسائل الشيعة 12: 350، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 3، الحديث 9. 85 خيار المجلس أو خيار الحيوان يجب البيع مطلقا، بل يستفاد منها وجوب البيع من حيث تلك الخيارات (1). الاستدلال على المقام بآية الوفاء بالعقود 6 - الآية الكريمة: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) (2). وتقريب الاستدلال بوجهين: الأول: ما هو المعروف من أن الوفاء بالعقد - كالوفاء بالنذر والعهد وغيرهما -
1 - أقول: يمكن أن يقال: إن المستفاد من العطف المذكور في الروايات إطلاق الحكم، لا حيثيته، والاقتصار على الخيارين - مع أن الإمام في مقام البيان - وعدم التعرض لغيرهما، يدلنا على ذلك، فإن السر في عدم ذكر سائر الخيارات: أنها خارجة عن طبع البيع، بل تحصل عند عروض أسباب خاصة، وما هو في طبع البيع ومشترك بين جميع البيوع منحصر بهما، ففي بيع الحيوان إلى ثلاثة أيام لصاحب الحيوان، وفي المجلس إلى زمان التفرق، فالروايات تدلنا على أنه بعد التفرق أو بعد الثلاثة يجب البيع بطبعه. فما دل على سائر الخيارات غير مقيدة لذلك، فضلا عن لزوم الاستهجان، بل لا معنى لأن يقال: إن وجب البيع حيثي، فإن الوجوب الحيثي على تقدير أن يكون القيد محققا للموضوع، يكون من باب السلب بانتفاء الموضوع لا يحتاج إلى الذكر، بل ذكره لا يخلو عن اللغوية، بل إضافة الوجوب إلى البيع وإرادة الحيثية لا يخلو عن شئ. وعلى أي حال ما يمكن أن يقال: إن الروايات - ولا سيما من جهة العطف - وإن كانت ظاهرة في تنوع الخيارين، إلا أن الوجوب الواقع في الذيل مطلق في جميع موارد إطلاقه، فإن في كل مورد فرض انقضاء خيار مختص بذلك المورد، ومع قطع النظر عن غير ذلك الخيار أسند الوجوب إلى البيع، مثلا: بعد الافتراق وتمامية خيار المجلس، قطع النظر عن وجود خيار آخر كالحيوان، وأسند الوجوب إلى البيع، وهكذا في ما بعد الثلاثة في خيار الحيوان، وهذا يدل على وجوب البيع بالطبع، بحيث لو لم يكن خيار وجب، ومنه المعاطاة، فهي أيضا لازمة بالطبع. المقرر حفظه الله. 2 - المائدة 5: 1. 86 هو العمل بما يقتضيه ذلك العقد من تسليم المال إلى من انتقل إليه والبقاء على ذلك، فإذن لا يجوز أخذه منه بفسخ أو غيره، فإنه مناف للعمل بمقتضى العقد (1). والتقريب على هذا المبنى على أنحاء ثلاثة: أ - أن الأمر بالوفاء بالعقد - أي العمل بما يقتضيه - كناية عن لزوم العقد، من باب استعمال اللفظ في اللازم بحسب الإرادة الاستعمالية وإرادة الملزوم بحسب الجد، فإن لازم اللزوم هو العمل بالمقتضى، فعلى هذا التقريب يكون الأمر بالوفاء إرشادا إلى اللزوم. ب - أن الأمر بالوفاء بالعقد - أي العمل بما يقتضيه - تعلق بالعمل بالمقتضى حتى بحسب الإرادة الجدية، لكنه ليس أمرا مولويا، بل أمر على نحو ما هو ثابت عند العقلاء من لزوم العمل بما يقتضيه العقد، وحيث إن بين لزوم العقد وذلك ملازمة عند العقلاء، فالآية تدل على لزوم العقد بالدلالة الالتزامية، فعلى ذلك الملازمة والطرفان كلها عقلائية. فهذا التقريب دال على اللزوم العقلائي. ج - أن الأمر بالوفاء أمر مولوي، إلا أن العقلاء يرون الملازمة بين وجوب العمل بمضمون العقد ولزوم ذلك وإن لم تكن ملازمة عند العقل، لامكان أن يكون الفسخ محرما ومؤثرا، فالملازمة عقلائية وإن كان الطرفان شرعيين. وعلى هذا التقريب اللزوم أمر شرعي. هذه هي المحتملات. ومقتضى الجمود على اللفظ الاحتمال الثالث، وهو الأقرب، فإن ظاهر الأمر الوجوب المولوي، ومقتضى الاعتبار وفهم العقلاء أيضا من الرواية هو الاحتمال الثاني، أي يكون الأمر إرشادا إلى ما هو الثابت عند العقلاء، وبالملازمة العقلائية يستكشف اللزوم.
1 - المكاسب: 215 / سطر 13. 87 وأما الاحتمال الأول فبعيد، ومخالف لظهور الكلام وفهم العقلاء من ملاحظة الرواية. الثاني: أن يقال: إن مفهوم العقد لم يرد قطعا، بل هو عنوان كنائي عن القول والقرار، ووجوب الوفاء بذلك ليس إلا الثبات عليه وعدم نقضه، فبالمطابقة يكون معنى الرواية لزوم العقد. إشكال ودفع وهنا إشكال: وهو أن متعلق الأوامر لا بد وأن يكون مقدورا للمكلف، ففي المقام الأمر بالثبات على العقد لا يمكن إلا مع كون العقد جائزا، وإلا فالأمر بالثبات على ما هو ثابت في نفسه ولا يمكن نقضه، من التكليف بغير المقدور (1). ولكن هذا يتم فيما إذا كان الأمر أمرا مولويا شرعيا، وأما لو كان أمرا إرشاديا إلى اللزوم، كقوله: لا تفسخ فإن الفسخ لا يؤثر، فلا يتم، نظير لا تصل في وبر ما لا يؤكل لحمه (2)، فإنه إرشاد إلى فساد الصلاة في ذلك، لا حرمتها حتى يقال: إن النهي فرع الصحة، وإلا تعلق التكليف بغير المقدور (3)، فيدور الأمر بين أن يكون الأمر بالوفاء مولويا أو إرشاديا إلى عدم تأثير الفسخ، والاحتمال الثاني أقرب بنظر العقلاء، فإنه لا يحتمل أن يكون الفسخ من المحرمات الشرعية. إن قلت: إن احتمال حرمة الفسخ شرعا وكون الأمر مولويا وإن كان ساقطا، إلا أن هنا احتمالا آخر: وهو أنه جعل في الآية الكريمة وجوب الوفاء بالعقد
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 36 / سطر 8. 2 - تقدم في الصفحة 74. 3 - دلالة النهي على الصحة هي قول أبي حنيفة، أنظر مطارح الأنظار (تقريرات الشيخ الأنصاري) الكلانتر: 166 / سطر 15. 88 مولويا وحرمة الفسخ شرعا مستعملا فيه اللفظ بحسب الإرادة الاستعمالية، وتعلق الجد بلازمه، وهو جواز العقد. فحرمة الفسخ شرعا وإن لا يحتمل إرادتها من الآية، إلا أنه يحتمل جعلها كناية عن جواز العقد، فدار الأمر بين كون الأمر إرشادا إلى اللزوم، أو كناية عن الجواز، فأي ترجيح للأول على الثاني؟ قلت: الاحتمال الثاني يشبه الأحجية عند العقلاء، وجعل وجوب الوفاء كناية عن جواز العقد أمر لا تقبله الطباع، بل هو مستنكر عند العقلاء، بخلاف جعله إرشادا إلى اللزوم. هذا لو أريد من وجوب الوفاء المعنى الكنائي فقط. وإن أريد منه معناه الحقيقي والكنائي معا، فمضافا إلى ما ذكرنا من عدم احتمال كون الوجوب مولويا شرعيا، وجعل وجوب الوفاء كناية عن الجواز أمر مستنكر عند العقلاء، أن أمر هذا الاستعمال أصعب من استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، فإنه مستلزم لاجتماع اللحاظين - الاستقلالي والآلي - في لحاظ واحد. تقريب ثالث للاستدلال بالآية للمقام وجوابه هذا بناء على أن يراد من الوفاء أحد الوجهين، وعلى تقدير كون الوفاء أعم من كل واحد من الوجهين، فيمكن تقريب الاستدلال بوجه آخر: وهو أنه على تقدير اقتضاء الأمر بشئ للنهي عن ضده العام، يكون الفسخ وترك التسليم - حدوثا وبقاء - منهيا عنه، فبمقتضى حكم العرف، نفهم من النهي عن ترك التسليم أنه حرام تكليفا، ومن النهي عن الفسخ أنه حرام وضعا، وقد ذكرنا أن هذا ليس استعمالا في المعنيين، بل هو استعمال في معنى واحد، والتكليف والوضع يفهمان من مقام الاستعمال. ولكن قد حقق في محله: أن العقلاء لا يفهمون من الأمر بشئ النهي عن
89 ضده (1)، إلا أن يقال: إن الأمر في الملازمات بيد العقل لا العقلاء، فإن العقلاء إذا فهموا من كلام - مثلا - الوجوب وإن لم يفهموا منه وجوب المقدمة، لكن العقل يحكم بوجوبها، وهكذا النهي عن الضد العام، إلا أن الشأن في الاقتضاء، مضافا إلى أن حكم العقل بالاقتضاء لا يختلف بحسب الموارد، حتى يقال: إن الحكم في مورد تكليفي، وفي مورد آخر وضعي (2). وجه رابع في دلالة الآية على لزوم المعاطاة وجوابه ويمكن توجيه آخر لدلالة الآية على اللزوم: وهو أن وجوب الوفاء بالعقد
1 - مناهج الوصول 2: 16 - 17. 2 - لا يخفى أنه لو كان تقريب الاستدلال على الأعم، متوقفا على اقتضاء الأمر بشئ للنهي عن ضده، ليس هذا من جهة إرادة الأعم، بل من جهة أن الأمر بالثبات على العقد غير مرتبط بالفسخ إلا على الاقتضاء، وهذا يجري في التقريب الثاني من الوجهين المتقدمين أيضا. والحق: أن إثبات عدم تأثير الفسخ غير متوقف على الاقتضاء، فإن معنى الأمر بالثبات على العقد (پايدارى بعقد) إدامته، وحيث إن الأمر إرشاد إلى أن الإدامة ثابتة لا محالة، ولا مفر منها، فنفهم منه اللزوم وعدم تأثير الفسخ بلا توقف على الاقتضاء. وعين هذا البيان يجري في إرادة الأعم أيضا، وهو أن الأمر بالوفاء بالعقد بعث إلى التسليم والثبات على العقد، ويفهم عقلائيا أن الأول تكليفي والثاني وضعي، ولا نريد أزيد من ذلك. هذا، وحيث إن الوفاء بالعقد مطلق عرفا، أي العرف يرى التسليم من الوفاء بالعقد، ويرى الثبات على العقد أيضا من الوفاء به، فنقول: إنه أريد من الآية الكريمة كلا الأمرين معا، فيثبت أن التسليم واجب والثبات على العقد لازم، فلو لزم من التمسك بالآية بعد الفسخ - بناء على إرادة التسليم من الوفاء - التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لم يلزم منه بناء على إرادة الثبات على العقد منها، وبناء على الصحيح من إرادة الأعم. ولا يتوهم: أن الاستعمال في الأعم يستلزم استعمال الوفاء في المعنيين، وهو الثبات على نفس العقد والعمل بمقتضاه، وهو التسليم، فإن الثبات والتسليم غير مستعمل فيهما اللفظ، بل الوفاء قد استعمل في معناه، ومحقق الوفاء هو التسليم والثبات، وهذا معنى إرادة الأعم. خذ واغتنم. المقرر حفظه الله. 90 معناه تسليم المال إلى من انتقل إليه، وعدم التصرف فيه تصرفا مناقضا لذلك العقد، وأخذ المال ولو بالفسخ تصرف مناقض لذلك، فلا يجوز. ولكن هذا التقريب أيضا لا يتم، فإنه لو كان الأخذ بعد إنشاء الفسخ ولو كان بإبرازه بالتصدي نحو الأخذ، فهو من الشبهة المصداقية للتصرف في مال الغير. ولو كان إنشاء الفسخ بالأخذ، بحيث يكون الأخذ مقدما على الفسخ رتبة، فعدم جوازه لا ينافي تأثير الفسخ. تقريب خامس لدلالة الآية على المقام وأما الشيخ (رحمه الله) فقد ذكر في وجه دلالة الآية على اللزوم ما ملخصه: أن المراد من وجوب الوفاء - في الآية المباركة - هو وجوب العمل بمقتضى العقد من ترتيب آثار ملكية المنتقل إليه المال، فيحرم جميع ما يكون نقضا لمضمون العقد، ومنها التصرفات الواقعة بعد فسخ المتصرف، وهذا لازم مساو للزوم العقد، فقد استدل بالحكم التكليفي على الحكم الوضعي، بل قد حقق في محله: أنه لا معنى للحكم الوضعي إلا ما انتزع من الحكم التكليفي (1). انتهى ملخصا. إيرادان على تقريب الشيخ وجوابهما وأورد على ذلك: أولا: بأن الوفاء بالعقد أجنبي عن التصرفات، بل هو التسليم والتسلم. وثانيا: بأن خاصة الأمر الانتزاعي الاتحاد مع منشأ الانتزاع، فهو قابل للحمل عليه، كالفوق القابل للحمل على منشأ انتزاع الفوقية منه، ولا يمكن حمل الحكم الوضعي على الحكم التكليفي المنتزع منه ذلك (2).
1 - المكاسب: 215 / سطر 13. 2 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 2: 6 / سطر 32، نهاية الدراية 5: 114. 91 ويمكن دفع كلا الايرادين: أما الأول: فالشيخ (رحمه الله) لا يريد من التصرفات مطلقها حتى يقال: إنها أجنبية عن الوفاء بالعقد، بل أراد بذلك التصرفات الناقضة، بقرينة كلامه المتقدم، ولا شبهة أنها منافية للوفاء بالعقد. وأما الثاني: فهو (رحمه الله) لا يريد من الانتزاعي معناه المصطلح، بل بقرينة وهذا لازم مساو للزوم العقد أراد بذلك أن هذا من قبيل حصول إرادة عقيب إرادة أخرى. وكيف كان، فالمهم في كلامه (رحمه الله) هو الشبهة المصداقية، فإنه بعد الفسخ لا يعلم بقاء العقد حتى يقال: إن التصرفات الواقعة بعد الفسخ منافية لمقتضى العقد. وقد يجاب عن الشبهة: بأن المراد بالعقد هو الانشاء، وهو آني الحصول، أو بأن العقد ولو كان بالفعل فهو متصرم الوجود، والوفاء بذلك ولو بعد الفسخ متصور، فلا شبهة في البين (1). وهذا الجواب غير صحيح، فإن الانشاء الآني الحصول أو العقد المتصرم في الوجود غير قابل للفسخ، وما هو قابل له هو المنشأ، وهو القول والقرار، وهذا المعنى له وجود حدوثا وبقاء، وباعتبار وجوده البقائي قابل للفسخ، وبعد الفسخ في المعاطاة لا يعلم بقاؤه حتى يتمسك بالآية، فتكون الشبهة مصداقية. الاستدلال بالآية على اللزوم في العقود اللفظية دون المعاطاة ثم إنه ذكر بعض الأعاظم: أنه يمكن التمسك بالآية الكريمة لاثبات اللزوم في العقود اللفظية، دون المعاطاة، ولا يلزم من التمسك بها في العقود اللفظية التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فإنه على ما هو الصحيح من القول بأصالة الجعل في
1 - حاشية المكاسب، الإيرواني 1: 81 / سطر 218، أنظر حاشية المكاسب، الأصفهاني 2: 7 / سطر 7، حاشية المكاسب، الشيرازي 2: 71 / سطر 12. 92 اللزوم - ولو لم نقل بها في بعض الأحكام الوضعية - ظاهر، فإن الآية الكريمة حينئذ إرشاد إلى اللزوم. وعلى القول بالتبعية فما هو مناسب لانتزاع اللزوم منه ليس هو العقد بمعناه الاسم المصدري، بل هو الالتزام والتعقيد بالمعنى المصدري، وحينئذ لا يلزم من التمسك بالآية - بعد الفسخ - لاثبات اللزوم التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فإن الشبهة في العقد بالمعنى الاسم المصدري لا في الالتزام والتعقيد بالمعنى المصدري. هذا في العقود اللفظية. وأما في المعاطاة فلا يمكن التمسك بالآية لاثبات اللزوم فيها. والفرق بينهما: أنه في العقود اللفظية ينشأ أمران: أحدهما بالمطابقة، وهو النقل والانتقال، والآخر بالالتزام، وهو التزام المتعاقدين بمضمون العقد، وفي المعاطاة بما أنه لا دلالة التزامية للفعل لا ينشأ إلا الأمر الأول، فجواز التمسك بالآية لاثبات اللزوم منحصر بالعقود اللفظية، لا المعاطاة، لأن فيها لا ينشأ التزام المتعاقدين بمضمون العقد، حتى يتمسك بالآية لاثبات وجوب الوفاء به. مناقشة ما ذكره بعض الأعاظم هذا محصل كلامه في المعاطاة (1) وفي أول الخيارات (2)، وللمناقشة في هذا الكلام مجال واسع. أما في ما ذكره في العقود اللفظية: من أنه بناء على القول بالتبعية لا بد من إرادة الالتزام والتعقيد من العقد، حتى يناسب انتزاع اللزوم منه، فإن محل النزاع هو اللزوم.
1 - أنظر منية الطالب 1: 64 / سطر 6. 2 - منية الطالب 2: 5 - 6. 93 وظاهر هذا الكلام أنه أخذ اللزوم مفروغا عنه. وبعبارة أخرى: الكلام في إثبات اللزوم من الدليل، لا تأويل الدليل، بحيث يكون موافقا للزوم. على أنه ما المراد بالوفاء بالتعقيد والالتزام؟ فلا أظن أن هذا القائل يلتزم بوجوب التعقيد والالتزام بعد الفسخ ولو كان مؤثرا. فلو سلمنا أن المراد من العقد هو التعقيد، إلا أن وجوب الوفاء بالتعقيد أيضا يدور مدار وجود العقد، فإذا لزم المحذور، وهو التمسك بالاطلاق في الشبهة المصداقية. وأما ما ذكره في المعاطاة فقد مر الجواب عنه (1)، وقلنا: إن العقلاء لا يرون فرقا بين العقود اللفظية وغيرها بالنسبة إلى التزام المتعاقدين بالثبات على العقد، وأيضا الدلالة الالتزامية ليست دلالة لفظية، بل إنما هي دلالة المعنى، فلو التزمنا بوجود هذه الدلالة في العقود اللفظية لا بد من أن نلتزم بوجودها في المعاطاة أيضا، فإن الملزوم - وهو تبادل الإضافتين - موجود في المعاطاة أيضا، فيتبعه لازمه. على أن الباب ليس باب الدلالة أبدا، لا في العقود اللفظية، ولا في غيرها، فإن الدلالة فرع القصد، والمتعاملان غير قاصدين بالنسبة إلى إبقاء العقد وعدمه، بل وجه اللزوم في العقود اللفظية، هو اعتبار العقلاء بأن بعد تمامية المعاملة، لا بد من أن يكون المتعاملان ثابتين عليه، وهذا الاعتبار بعينه موجود في المعاطاة أيضا. والحاصل: أن الآية لو أثبتت اللزوم في العقود اللفظية تثبت ذلك في المعاطاة أيضا، إلا أن الشأن في إمكان التمسك بها بعد الفسخ من جهة الشبهة المصداقية. دفاع عن الشيخ في دفعه للشبهة المصداقية وقد يدافع عن الشيخ (رحمه الله) في دفع الشبهة المصداقية: بأن الفسخ كسائر
1 - تقدم في الصفحة 36 - 38. 94 المعاملات لا بد فيه من الطرفين، وفي المقام حيث إنه ليس هناك إلا طرف واحد فليس بمعتبر، فيجب الوفاء بالعقد بلا محذور التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية. ولو أغمضنا عما ذكرنا في الفسخ، فأيضا يمكن دفع الشبهة: بإمكان تصوير العقد بضم إنشاء الفاسخ حدوثا إلى إنشاء غير الفاسخ بقاء، وهذا المقدار كاف في تحقق العقد، فلا شبهة مصداقية في المقام (1). والجواب عن هذا ظاهر، فإن الفسخ هو سلب الربط، وهذا كما يمكن ببناء الطرفين على ذلك، يمكن ببناء أحدهما على ذلك أيضا، فإن الربط قائم بالطرفين، ومع سلب أحدهما ينتفي لا محالة، مضافا إلى أنه في محيط العقلاء الفسخ في موارده غير متوقف على إمضاء الطرفين، كما لا يخفى. وأما تصوير العقد بما ذكر فأيضا فاسد، لا بما قيل: من أنه ضم الموجود إلى المعدوم، بل لأنه لا ربط بين الانشائين: أحدهما بحسب الحدوث، والآخر بحسب البقاء، وهذا أيضا ظاهر. دفع الشبهة المصداقية على مذهب الأكثر والمهم في دفع الشبهة ما ذكره الأكثر: وهو أن المعاطاة عقد عرفي ولو بعد الفسخ، والشك في تأثير الفسخ إنما هو الشك في حكم الشارع بنفوذه، فعلى ذلك لا بأس بالتمسك بعموم (أوفوا بالعقود) لدفع الشك (2). وتقريب هذا: أن موضوعات الأحكام: قد تكون من قبيل الأمور التكوينية، كالماء والخمر... وهكذا، ففي هذا القسم الشارع لا يمكنه التصرف فيه موضوعا، بل غايته أن يتصرف فيه حكما بالتخصيص فيه، فإن الأمور التكوينية غير قابلة للجعل
1 - حاشية المكاسب، محمد كاظم الشيرازي 2: 71 / السطر 15. 2 - حاشية المكاسب، محمد كاظم الشيرازي 2: 72 / السطر 11، حاشية المكاسب، الأصفهاني 2: 7 / السطر 24. 95 نفيا وإثباتا، ويد التشريع منتفية عنها. وقد تكون من قبيل الأمور الاعتبارية العقلائية، كالبيع والفسخ وغير ذلك، وهذا على نحوين: أحدهما: أن يكون التصرف الشرعي - كالقسم الأول - خروجا تخصيصيا عن الدليل الأول، كحرمة البيع الربوي مثلا. وثانيهما: أن يكون اعتبار العقلاء معلقا على عدم اعتبار من الشارع، كالباطل على ما مر (1)، فإن حكم العقلاء بالبطلان موقوف على عدم أثر في البين أصلا، ومع حكم الشارع بالتأثير والنفوذ فلا موضوع لحكم العقلاء بالبطلان، وهذا كالمالية التي تعتبرها العقلاء إذا رغب في الشئ جماعة ولو لم يرغب فيه جماعة آخرون. فلا بد لنا من النظر في أن الفسخ هل هو من قبيل النحو الأول أو الثاني؟ ونتيجة ذلك أنه لو كان على النحو الأول، فيمكن التمسك بالعموم لدفع الشبهة بلا محذور، وأما لو كان على النحو الثاني فتكون الشبهة مصداقية، ولا يمكن دفعها بالتمسك بالعموم. ولا يخفى أنه عند العقلاء اعتبار العقد غير معلق على عدم ورود دليل من الشارع على بطلانه حتى في موارد بيع الخمر والخنزير، فضلا عن مورد الفسخ ولو حكم الشارع بجوازه، والعقل أيضا حاكم على ذلك، فإن كل اعتبار مسبوق بمبادئه الخاصة، وبعد تمامية المبادئ يعتبره العقلاء، سواء أمضاه الشارع، أم لا. وأما في مورد اعتبار البطلان، فموضوع الاعتبار - وهو البطلان - أمر غير قابل للاعتبار مع حكم الشارع بعدم البطلان - كما مر - بخلاف العقد والبيع والتجارة وغيرها من العناوين الاعتبارية العقلائية، التي يعتبرونها بلا لحاظ أي حكم من الشارع، ولو تصرف الشارع بدخل قيد وجودي أو عدمي فيه فهو تخصيص حكمي،
1 - تقدم في الصفحة 79. 96 لا خروج موضوعي. وبعبارة أخرى: إن الاعتبار الشرعي في البيع - مثلا - غير مغير للبيع العقلائي، وهذا ظاهر، بل أمره دائر بين التقييد في المسبب - وهو الملكية - أو التضييق في الأثر ولو مع حصول الملكية، وحيث إنا نجزم بخلاف الثاني، فالأول هو المتعين، فالعقد العرفي محفوظ على حاله، ومع تصرف الشارع يقيد ما هو مسبب عن العقد، وهذا - كما ترى - جار في جميع موارد الشك في دخل شئ وجودي أو عدمي في المعاملة، ومنها المقام، وهو الشك في اعتبار عدم الفسخ في بقاء العقد، فإن العقد العرفي موجود، فلا مانع من التمسك بالاطلاق لدفع الشك، والشبهة ليست بمصداقية. ولو تنزلنا وسلمنا أن الاعتبار الشرعي موجب للخروج عن العقد موضوعا، وأن اعتبار العقلاء معلق على عدمه، إلا أنه ليس من قبيل البطلان، الذي هو أمر واقعي منتزع من منشأ انتزاع واقعي، وهو عدم ترتب أثر على المعنون به أصلا، بل هنا لو سلم تعليق الاعتبار، فهو معلق على عدم وصول الاعتبار الشرعي، فما لم يصل ذلك - ولو في ظرف الشك - فالاعتبار العقلائي موجود. فعلى هذا أيضا ليست الشبهة مصداقية. كلام بعض الأعاظم في المقام ثم إنه ذكر بعض أعاظم المحققين (قدس سره) - توضيحا لما ذكره الأكثر في دفع الشبهة - ما حاصله: أن موضوع الحكم ليس هو اللفظ أو الانشاء أو الالتزام القلبي، فإن كل ذلك وجد وانعدم، ولا معنى لوجوب الوفاء به، وليس هو أمرا واقعيا، بحيث يكون العرف والشرع معرفا له، حتى يلزم من الاستثناء تخطئة العرف، بل هو أمر اعتباري - عرفي أو شرعي - تشخصه بنفس الاعتبار، ووعاء وجوده ظرف
97 الاعتبار، وهل هو الاعتبار الشرعي، أو العرفي؟ فحيث إن الموضوع لا بد وأن يؤخذ من العرف، فالأول هو المتعين، ومحذور التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية إنما يلزم على الثاني دون الأول، إنما الكلام في أن الاعتبار العرفي، هل أخذ تمام الموضوع للحكم أو لا، بل المأخوذ هو الاعتبار الموافق للاعتبار الشرعي؟ وبعبارة أخرى: هل أخذ الاعتبار العرفي موضوعا للحكم، أو طريقا إليه، وهو الاعتبار الشرعي؟ المتعين هو الثاني للزوم التخصيص الحكمي من الاستثناء في الأول، وهو بعيد. ومعنى ذلك أنه حيث إن الشارع رأى الملازمة بين اعتباره واعتبار العرف، أخذ الاعتبار العرفي موضوعا لحكمه، فالاستثناء يرجع إلى الملازمة، فليس في البين تخصيص حكمي، ولا تمسك بالعموم في الشبهة المصداقية، ولا تخطئة في اعتبار العرف، ولا تبدل الموضوع، بل في مورد الشك يؤخذ بإطلاق الدليل، فإن الموضوع - وهو الاعتبار العرفي - موجود، والشك في الملازمة يرجع إلى الشك في التخصيص (1). هذا محصل كلامه (قدس سره)، إلا أنه يشبه تطبيق الدعوى على الدليل، لا إقامة الدليل على المدعى، وذلك: أولا: أن ما أفاده مبني على الالتزام بوجود اعتبار شرعي في العقد ونحوه، ولا يمكن الالتزام به، فإن ما هو مرتبط بالشارع المقدس بيان الأحكام، وأما موضوعاتها فلا بد من أخذها من العرف. وثانيا: أن أخذ كل عنوان في موضوع دليل ظاهر في موضوعيته له، وأما كونه طريقا إلى الموضوع فخلاف الظاهر، ولا ملزم لنا لارتكاب هذا المخالف للظهور، عدا ما أفاده من لزوم التخصيص الحكمي، ولا محذور في ذلك، فإن العام
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 2: 7 / سطر 26. 98 يخصص، والمطلق يقيد، ومجرد الاستبعاد لا يوجب ارتكاب خلاف الظاهر. فالنتيجة: أن موضوع الحكم هو الاعتبار العرفي، والاستثناء راجع إلى التخصيص في الحكم، والشبهة المصداقية أيضا مندفعة، كما ذكرنا. وأما ما التزم به (قدس سره): من أن الموضوع هو الاعتبار العرفي، لأن الشارع رأى الملازمة بين اعتباره وذلك، والاستثناء راجع إلى الملازمة. ففيه أولا: أنه إن أراد بذلك أن موضوع الحكم واقعا هو الاعتبار الشرعي، فلا يمكنه التخلص من الشبهة المصداقية، والملازمة بين العرف والشرع لا تدفعها، فإن الشك في الملازمة راجع إلى الشك في الموضوع، فكيف يمكن التمسك بالاطلاق مع ذلك؟! وإن أراد به أن موضوع الحكم هو الاعتبار العرفي، فلا يمكنه التخلص من التخصيص الحكمي، ومجرد فرض اعتبار شرعي في البين لا يوجب ذلك. وثانيا: أن الملازمة في ما ذكره - من أن الشارع رأى الملازمة بين العرف والشرع - غير قابلة للتخصيص، فإن ما هو قابل له إنما هو الأحكام المجعولة قانونا، لا الأمر الواقعي الظاهر من كلامه من جهة التعبير بالرؤية، وإن أراد بذلك أن الشارع جعل الملازمة بينهما يلزم منه اجتماع اللحاظين - الآلي والاستقلالي - في كلام واحد، فإن المفروض أن الكلام في مقام جعل الحكم للاعتبار العرفي استقلالا، فلو كان في مقام بيان الملازمة أيضا للزم المحذور، وإن أراد به أن الآية في مقام جعل الملازمة فقط، فهو خلاف ظاهر الدليل، كما لا يخفى. فالمتحصل: أن الصحيح جواز التمسك بعموم الآية لاثبات لزوم المعاطاة، وفي جميع موارد الشك في اعتبار شئ وجودي أو عدمي في صحة العقد، ولا تتصور الشبهة المصداقية - على ما ذكرنا - في تقريب الآية، وهي مندفعة على
99 تقريب الشيخ (رحمه الله) (1).
1 - أقول: الظاهر لزوم المحذور على تقريب الشيخ (رحمه الله)، فإن موضوع الحكم وإن كان عرفيا، إلا أنه مبتلى بالمخصص العقلي، وهو أنا نعلم بأن العقد الغير المؤثر عند الشارع لا يجب الوفاء به، وقد خصصت الآية بذلك جزما، فمع الشك في أن العقد مؤثر أم لا، لا يمكن التمسك بالآية، فإنه من قبيل التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية للمخصص، بل للعموم، للعلم بأنه لم تتعلق الإرادة الجدية بالعقد الغير المؤثر جزما. وأما على ما أفاده دام ظله في تقريب الآية: من أن الوفاء بالعقد هو التسليم والتسلم حدوثا وبقاء، ومعناه البقاء على التسليم والثبات عليه، ولازمه اللزوم بنظر العقلاء، أو أنه الثبات على القرار، ومعناه اللزوم، فالشبهة المصداقية غير متصورة على التقريب الثاني، بخلاف التقريب الأول، فإنه بمناسبة الحكم والموضوع يعلم أن لزوم التسليم والتسلم والبقاء عليه، إنما هو من جهة العقد، كأن مفاد الدليل هكذا لزم التسليم والتسلم ما دام العقد باقيا، فمع الشك في بقاء العقد تكون الشبهة مصداقية، وحينئذ احتمال إرادة هذا التقريب يسقط الاستدلال بالآية الكريمة. وأما على ما ذكرناه سابقا - من إرادة الأعم من الوفاء - فلا تلزم الشبهة، فإنه قد استعمل في معنى يرى العرف أنه يتحقق بالتسليم والثبات على العقد، وقد مر. وعلى هذا فالشبهة المصداقية - ولو من جهة الابتلاء بالمخصص العقلي - مندفعة، فإن المفروض تعلق الأمر بالثبات على العقد العرفي المؤثر عند الشارع، ومعناه عدم تأثير الفسخ. ولا يتوهم: أن العقد بعد الفسخ لا يعلم أنه مؤثر عند الشارع أم لا، فإنه على هذا التقريب أن الأمر بالثبات متعلق بالعقد بلحاظ ما قبل الفسخ لا ما بعده، والمفروض أنه قبل الفسخ كان مؤثرا أيضا، فلا بد من الثبات عليه، ولكن لا يخفى أن الشبهة مندفعة في مورد الفسخ فقط، لكن في سائر موارد الشك - كتقديم القبول على الايجاب والفارسية.. وهكذا - الشبهة موجودة حتى بناء على إرادة الأعم، للشك في صدق الموضوع، ولا تدفعها عرفية العقود للعلم بتخصيص الآية بالعقود المؤثرة عند الشارع. نعم، لو كانت الآية دالة على نفوذ العقد لكانت الشبهة مندفعة، فإنه من الشك في التخصيص، إلا أن معنى الآية وجوب الوفاء بمعنى التسليم والثبات على العقد، فالموضوع هو العقد، وبحكم العقل أنه العقد النافذ والمؤثر عند الشارع. المقرر حفظه الله. 100 الاستدلال للمقام بحديث الشرط 7 - قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): المؤمنون أو المسلمون عند شروطهم (1). وقد فصلنا الكلام في معنى الشرط، وقلنا بعدم شموله للبيع ونحوه من العقود، ولو قلنا بشموله للشروط الابتدائية، إلا أنه ذكرنا أخيرا أنه لا يبعد أن يقال: إن العرف - بمناسبة الحكم والموضوع في الرواية - لا يرى خصوصية في الشرط، للزوم كون المؤمن عنده إلا القول والقرار، فمن جهة إلغاء الخصوصية يفهم شمول الحكم للعقود أيضا (2). ثم إنه لا يخفى أن في الرواية ادعاءين: أحدهما: تنزيل الأمر المعقول، وهو الشرط منزلة المحسوس. ثانيهما: بيان الأمر والبعث والطلب بمفاد الجملة الخبرية، الذي ظاهره وقوع المخبر به في الخارج. ولذا قيل: إن الجملة الخبرية آكد وأبلغ في إفهام الطلب (3)، فإن معناها أن المطلوب كأنه موجود في الخارج، ومن هذا يفهم أنه لا بد من إيجاد المطلوب. فمعنى الرواية أنه لا بد من كون المؤمن عند شرطه، وبما نفينا البعد عنه، وهو إلغاء الخصوصية عن الشرط، وشمول الرواية للعقد أيضا، يكون مفاد الرواية باعتبار شمولها للعقد، عين مفاد آية العقود، والتقريبات والشبهات والأجوبة التي ذكرناها فيها تجري هنا حرفا بحرف، فلا نعيد.
1 - تقدم في الصفحة 43، المكاسب: 85 / سطر 28. 2 - تقدم في الصفحة 48. 3 - كفاية الأصول: 93. 101 تأييد دلالة الحديث بروايات واردة في المقام هذا بملاحظة نفس هذه العبارة، وأما بملاحظة الروايات الواردة في المقام فيظهر أن ما ذكرناه: وهو استفادة نفوذ الشرط ولزومه ووجوب الوفاء به تكليفا، أوضح من ذلك. وإليك بعض هذه الروايات: أ - موثقة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: من اشترط شرطا مخالفا لكتاب الله فلا يجوز له، ولا يجوز على الذي اشترط عليه، والمسلمون عند شروطهم مما وافق كتاب الله عز وجل (1). والمستفاد منها: أن الشرط إذا لم يكن مخالفا لكتاب الله يجوز للمشروط له وعلى المشروط عليه، وهذا معنى نفوذ الشرط، أي الحكم الوضعي، وأما الحكم التكليفي فلا يستفاد من هذه الرواية، ولا يبعد استفادة اللزوم أيضا منها، فإن معنى يجوز عليه أنه لا بد من الوفاء به ولا مفر، ومعنى ذلك اللزوم. ب - رواية إسحاق بن عمار، عن جعفر، عن أبيه (عليه السلام): أن علي بن أبي طالب كان يقول: من شرط لامرأته شرطا فليف لها به، فإن المسلمين عند شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما (2). ولا يخفى ظهورها في وجوب الوفاء تكليفا. ج - خبر منصور السابقة عن العبد الصالح، قال: قلت له: إن رجلا من مواليك تزوج امرأة، ثم طلقها، فبانت منه، فأراد أن يراجعها، فأبت عليه إلا أن يجعل لله
1 - الكافي 5: 169 / 1، تهذيب الأحكام 7: 22 / 94، وسائل الشيعة 12: 353، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 6، الحديث 1. 2 - تهذيب الأحكام 7: 467 / 1872، وسائل الشيعة 12: 353، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 6، الحديث 5. 102 عليه أن لا يطلقها، ولا يتزوج عليها، فأعطاها ذلك، ثم بدا له في التزويج بعد ذلك، فكيف يصنع؟ فقال: بئس ما صنع، وما كان يدريه ما يقع في قلبه بالليل والنهار. قل له: فليف للمرأة بشرطها، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: المؤمنون عند شروطهم (1). وظاهر هذه الرواية بقرينة فليف بشرطها أن قوله: إلا أن يجعل لله عليه ليس بشرط النذر، وإلا فقد وفى الرجل بشرطها، أي النذر، لقوله: فأعطاها ذلك، فلا معنى لقوله (عليه السلام): فليف بشرطها، والوفاء بالنذر ليس الوفاء بشرطها، بل تكون قرينة على أن المراد من ذلك هو الشرط المصطلح، فيستفاد من الرواية وجوب الوفاء بالشرط تكليفا، بل يستفاد من نفس إباء المرأة إلا مع الشرط وإقدام الرجل على الشرط، وقوله (عليه السلام): بئس ما صنع، وما كان يدريه ما يقع في قلبه بالليل والنهار، أن الشرط نافذ ولازم، فإنه لو كان جائزا لأمكنه التخلص منه بفسخه، ولم يكن لما ذكر أثر أصلا. ولو قيل: بأن الوجوب التكليفي كاف في ذلك. فإنه يقال: إن الوجوب التكليفي يدور مدار وجود موضوعه، وهو الشرط، فمع انتفاء الشرط بالفسخ لا معنى لبقاء وجوب الوفاء بالشرط. ولو قيل: إن الرواية غير معمول بها وواردة مورد التقية (2). فإنه يقال: إن التقية إنما هي في تطبيق مفادها على موردها، لا نفس مفادها، وهو وجوب الوفاء بالشرط تكليفا ووضعا.
1 - الكافي 5: 404 / 8، تهذيب الأحكام 7: 371 / 1503، الاستبصار 3: 232 / 835، وسائل الشيعة 15: 30، كتاب النكاح، أبواب المهور، الباب 20، الحديث 4. 2 - الاستبصار 3: 232 / 835. 103 الاستدلال على المقام بآية الحل 8 - الآية الكريمة: (أحل الله البيع) (1). وقد ذكرنا سابقا (2) احتمالين في المقام: أحدهما: تعلق الحلية بنفس البيع الذي مفاده إنفاذ البيع. وثانيهما: تعلقها بالمنافع الحاصلة من البيع واستفادة الانفاذ بالدلالة الالتزامية. وعلى كلا المعنيين ظهر تقريب الاستدلال من الآية السابقة مع الشبهات والأجوبة، فلا نعيد (3). الاستدلال على المقام بالاستصحاب ثم إنه لو بنينا على أن ما بعد الفسخ من الشبهة المصداقية لموضوع الأدلة المتقدمة، فيمكن إحراز ذلك بالاستصحاب، أي استصحاب بقاء العقد أو التجارة أو
1 - البقرة 2: 275. 2 - تقدم في الصفحة 28. 3 - ظهر مما تقدم: أن الآية على الاحتمال الأول يمكن الاستدلال بها لنفي احتمال دخل شئ في نفوذ البيع شرعا، ولا يلزم منه الشبهة المصداقية، فإنها بالمطابقة تدل على الانفاذ، والشبهة راجعة إلى الشك في التخصيص، وحكم العقل غير موجود هنا، فإنه لا معنى لحكم العقل بأن العقد النافذ نافذ، وهذا بخلاف الاحتمال الثاني لوجود الحكم العقلي، فإن حلية المنافع غير مترتبة على مطلق البيع العرفي بحكم العقل، بل هي مترتبة على ذلك مع كونه مؤثرا شرعا، لأن البيع الغير المؤثر شرعا لا تحل منافعه بحكم العقل، فتلزم الشبهة المصداقية للشك في كون ذلك البيع مؤثرا شرعا، ولا فرق فيما ذكرنا بين مورد الفسخ وغيره، مما هو محتمل انتفاء بعض شرائط نفوذه شرعا، ومع تساوي الاحتمالين تسقط الآية عن الدلالة. هذا على ما أفاده مد ظله، ولكن استظهرنا من الآية الكريمة الاحتمال الأول، فراجع. المقرر حفظه الله. 104 البيع.. وهكذا، فينطبق عليه دليل ذلك. الكلام في استصحاب العدم الأزلي ولا بأس بجر الكلام إلى استصحاب عدم تأثير الفسخ وملاحظة الحال في الأعدام الأزلية، وهل يجري الاستصحاب فيها أم لا؟ الكلام في اشتمال القضايا على النسبة وقبل الورود في ذلك لا بد من ملاحظة وضع القضايا السالبة لتوقفه عليه، ونبين القضايا الحملية الموجبة - أولا - استطرادا، لما فيها من الفائدة. القضايا الموجبة فاعلم أن المعروف بين المحققين خلفا عن سلف: أن القضية مركبة من الموضوع والمحمول والنسبة (1)، لكن لما بحثنا عن ذلك وفتشنا القضايا على اختلافها - حملا ومحمولا، إيجابا وسلبا - ما وجدنا، لا في الخارج، ولا في القضية المعقولة، ولا في الملفوظة، ما يكون نسبة بين المحمول والموضوع، إلا في القضايا الموجبة التي لوحظ فيها النسبة بين الأمرين، وسميناها بالقضايا الحملية المؤولة، نحو زيد في الدار وعمرو على السطح وغير ذلك، بلا فرق بين الخارج والمعقولة والملفوظة، ولذلك يعبر عن تلك النسبة في هذه القضايا بحرف من الحروف.
1 - أساس الاقتباس: 65، شرح المنظومة (قسم المنطق): 45. 105 الدليل على فقد النسبة في القضايا الحملية الحقيقية والدليل على ما ادعينا - من أن القضايا الحملية الحقيقية فاقدة للنسبة -: أن طرفيها متحدان في الخارج بالضرورة، بل الحمل حقيقة عبارة عن الهوهوية والاتحاد، والنسبة لا يعقل قيامها إلا بالمنتسبين، فمع فرض الاتحاد خارجا والحكم بالهوهوية، كيف يعقل وجود النسبة خارجا؟! بل ليس في الخارج إلا شئ واحد منتزع منه عنوانان: أحدهما موضوع، والآخر محمول، والحمل في طرف المباينة من النسبة، لما ذكرنا: من أن النسبة قائمة بالمنتسبين، والحمل عبارة عن الهوهوية، فالقول بوجود النسبة في القضايا الحملية خارجا خلف ومناقضة، ولذلك ترى أنه في أمثال هذا التركيب من القضايا زيد زيد، الوجود موجود، الله - جل جلاله - موجود أو عالم، زيد موجود، لا يعقل وجود النسبة بين عقديها في الخارج، فإن الالتزام به موجب للالتزام بمغايرة الشئ ونفسه، والالتزام بأصالة الماهية، والالتزام بزيادة الصفات عن البارئ، والشرك تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فليكن الأمر في الهليات المركبة - مثل زيد قائم - كذلك أيضا بعين البيان. هذا بحسب الخارج، وأما المعقولة والملفوظة فهما حاكيتان عن الخارج، فوجود النسبة فيهما دون الخارج مستلزم لعدم تطابق الحاكي والمحكي، وهذا كبطلانه ظاهر. وبعبارة أخرى: إن الحاجة إلى تفهيم الواقعيات وتفهمها اقتضت وضع الألفاظ لمداليلها، فلا بد من ملاحظة الواقع وما هو المتكلم بصدد بيانه، ففي مثل القيام لزيد الواقع هو الربط بين العرض والجوهر القائم به، فهنا عارض ومعروض وعروض كل منها مدلول لدال لفظي، وحيث إن هذا المقدار غير كاف للدلالة على تصديق المتكلم بالربط، ولذلك ترى عدم دلالة موضوع هذه الجملة القيام لزيد
106 ثابت على ذلك، وضعت الهيئة للدلالة عليه، ونسميه بالدلالة التصديقية، فهنا نسبة وطرفاها والتصديق بثبوتها لهما، ولكل منها دال، وليس في البين حمل إلا بالتأويل والاستمداد من الكون الرابط، وفي مثل زيد موجود أو الله موجود أو عالم الواقع ليس إلا الاتحاد بين العنوانين المنتزعين أو المدركين، فلو أريد من ذلك زيد له الوجود، أو الله جل جلاله له الوجود، أو العلم، فهي خلاف الواقع، وخلاف ما كان المتكلم بصدد بيانه، مع أنه يلزم من الأول زيادة الوجود عن الماهية وأصالتها كالوجود، ومن الثاني أن يكون البارئ جل اسمه معروضا لعوارض قد برهن فساد كل منها في محله (1)، وهكذا الحال في الحمل الأولي الذاتي، كحمل الحد على المحدود، وما كان كذلك من الحمل الشائع، كحمل الذاتيات على الشئ. وأما في موارد الهليات المركبة ك زيد قائم، فالأمر أيضا كذلك وإن لم يلزم منه تلك الاستحالات، فإن الواقع هو الاتحاد، لا الربط بين الموضوع والمحمول، والمتكلم في مقام بيان هذا الاتحاد والهوهوية. فلو أخذت النسبة بينهما في الملفوظة تكون خلاف الواقع، ففي هذا القسم من الحمل - الذي هو الحمل الحقيقي - موضوع ومحمول، ولكل منهما دال، والهيئة دالة على الهوهوية التصديقية، وفي مثل زيد القائم الهيئة دالة على الهوهوية التصورية (2).
1 - شرح المنظومة (قسم الحكمة): 5 و 154. 2 - أقول تتميما لما استفدته مما أفاده مد ظله: إن الهيئة غير دالة إلا على التصديق بمفاد الجملة، وهي مشتركة بين جميع ما أفيد من القضايا، ويعبر عنها ب است بالفارسية، كما أنها موجودة في القضايا السالبة أيضا، مع أنه لا هو هوية فيها. وأما الاتحاد والهوهوية فيفهم من مقام الحمل الموجود في زيد القائم أيضا فهنا دوال أربعة: زيد والقائم والحمل والهيئة، وهذا بخلاف القسم الأول، فإن الحمل غير موجود هناك، بل الموجود فيه الربط والنسبة. فتحصل: أن في القسم الأول منسوبا ومنسوبا إليه والنسبة والتصديق بها، وفي القسم الثاني محمولا وموضوعا والحمل والتصديق به، ولذا كان الأنسب تسمية القضايا في القسم الأول بالقضايا النسبية، وفي القسم الثاني بالقضايا الحملية. ولو قيل: بأن الحمل أيضا قسم من النسبة - وهي النسبة الاتحادية، فإنها تدل على اتحاد العنوانين المتغايرين بحسب المفهوم خارجا - لم يكن به بأس، والجهات في القضايا الموجهة - ك زيد كاتب بالامكان - راجعة إلى هذا المعنى من النسبة، والشك والظن والقطع متعلقة بها أيضا. ولعل القوم أيضا أرادوا ب النسبة ذلك، فيصبح النزاع لفظيا. وعلى أي تقدير لا بد من التفصيل المذكور الذي أفاده دام ظله، فإن القسم الأول مما أفاد لا حمل فيه إلا مؤولا، والأمر ظاهر. وهنا نكتة لا بأس بالتنبه إليها: وهي أن المحكي بالقضية ليس هو الخارج أو الواقع، فإنه قد لا يكون للقضية واقع أصلا، بل في نفس القضية يحكم بعدم الواقع، كالقضايا السالبة والموجبة المعدولة المحمول، بل المحكي بها هي المفاهيم، فمحكي زيد مفهومه، كما أن محكي شريك الباري أيضا مفهومه، لا أريد من المفهوم الوجود الذهني، بل أريد منه ما هو منسلخ عنه قابل للانطباق عليه، الذي قد يعبرون عنه بالماهية، ولذا يقال: إن الألفاظ موضوعة للمفاهيم، والوجود الخارجي أو الذهني غير دخيلين في الموضوع له، ف زيد قائم قضية مركبة مما دل على مفهوم زيد، وهو الموضوع، وما دل على مفهوم القائم، وهو المحمول، ومما دل على اتحادهما، وهو الحمل، وما دل على التصديق بالحمل، وهي الهيئة. وأما خصوصية الخارجية فتفهم من المقام، بمعنى أنه - مع إمكان تطبيق أجزاء القضية على الخارج، ووجود المصداق لها خارجا - العقلاء يفهمون من القضية الاتحاد الخارجي، وإلا فلا يفهمون منها إلا مجرد المفهوم. وقد ظهر: أن معنى قضية شريك الباري ممتنع - مثلا - اتحاد مفهوم شريك الباري و الممتنع، وبهذا أيضا يمكن تصوير النسبة الاتحادية، فإن المفهومين المحكيين متغايران، فليتدبر. المقرر حفظه الله. 107 هذا حال القضايا الموجبة. القضايا السالبة وأما السوالب فلا نسبة في شئ منها: أما في الهليات البسيطة ك زيد ليس بموجود، والقضايا السالبة المحصلة
108 السالبة الموضوع ك العنقاء ليس بأبيض، فلا واقع لشئ من طرفيها أصلا، فضلا عن النسبة بينهما، بل مفادها سلب تحقق الشئ في الأول، وسلب الوصف من باب سلب الموصوف في الثاني، ففرض وجود النسبة واقعا خلاف الواقع، بل خلف. وأما في الهليات المركبة ك زيد ليس بقائم، والقضايا الحملية المؤولة ك زيد على السطح، فسالبتها تمكن بوجهين: أحدهما: أن تكون من باب سلب الموضوع، وقد ذكر حاله. وثانيهما: أن تكون سالبة محققة الموضوع، ففي ذلك لا واقع لأجزاء القضية إلا لموضوعها، وأما المحمول أو النسبة فلا. وفرض وجودهما - مضافا إلى أنه خلاف الواقع - خلف. ولا يتوهم: أن السلب أيضا نسبة، فإن السلب نفي الهوهوية في الأول ونفي النسبة في الثاني، فكيف يعقل أنها نسبة؟! مضافا إلى أن النسبة قائمة بالمنتسبين، والمفروض انتفاء أحدهما، بل لو فرض وجودهما تنقلب السالبة موجبة. هذا حال القضية الواقعية، وأما المعقولة والملفوظة فقد عرفت لزوم تطابقها والواقع، فلا يمكن اشتمالها على النسبة، وأما الطرفان فيهما وإن كان لا واقع لشئ منهما في الهليات البسيطة والسوالب السالبة الموضوع، ولا واقع لأحدهما في السوالب المحققة الموضوع، لكنهما مدركان في المعقولة وملفوظان في اللفظية، لا للحكاية عن وجودهما خارجا، بل لتعلق السلب بهما للحكاية عن عدم التحقق خارجا موضوعا ومحمولا فقط في الثاني (1).
1 - قد عرفت - مما ذكرنا سابقا - وجود الحكاية هنا أيضا، فإن المحكي هو المفهوم مع قطع النظر عن الوجود، والسلب أيضا متعلق بذلك، وسلب التحقق خارجا، أو سلب الهوهوية في الخارج، أو سلب النسبة في الخارج، يعلم من المقام بالمعنى المتقدم. نعم، لا ينبغي الاشكال في عدم اشتمال السالبة للنسبة، فإن نفي النسبة أو الهوهوية مباين للنسبة، فلا يعقل كونها نسبة، إلا أن يقال: إن سلب مفهوم عن مفهوم أيضا نسبة، كالاتحاد بينهما، لكن هذا مجرد تعبير لا واقع له، والقياس مع الفارق، كما لا يخفى. المقرر حفظه الله. 109 خلاصة البحث والحاصل: أن الموجبة على قسمين: الأول: ما كان مفادها الحمل والهوهوية. والثاني: ما كان مفادها النسبة بين العرض ونحوه ومحله. والسالبة أيضا على قسمين: الأول: ما كان مفادها سلب الهوهوية. والثاني: ما كان مفادها سلب النسبة. وشئ من هذه القضايا غير مشتمل على النسبة إلا القسم الثاني من الموجبات. وأما القضايا الموجبة المعدولة فأيضا حكمها حكم الموجبات، فإن المعتبر من القضايا المعدولة ما كان المنفي فيها من باب العدم والملكة، فلا يقال للجدار: إنه لا بصير، ولو أريد أن هذا المفاد يلقى بالسالبة التحصيلية، أي الجدار ليس له البصر، فعلى ذلك يكون له حظ من الوجود، فيمكن جعلها محمولا للقضية الحملية أو موضوعا لها، أو طرفا للنسبة في الحملية المؤولة. فقد علم أن وضع الحكاية في الموجبات يختلف عنه في السوالب، فإنه في الأول حكاية عن أمر واقع في نفس الأمر، بخلاف الثاني، فإن الحكاية فيه عن عدم التحقق في الواقع ونفس الأمر. مناط الصدق في القضايا وبهذا ظهر: أن مناط الصدق في القضايا الموجبة والسالبة هو موافقة القضية
110 مع صفحة الوجود، لكن تختلف الموجبة عن السالبة، بأن المحكي في الأول أمر له واقع في صفحة الكون، وباعتبار توافقه مع ذلك الواقع وعدمه يتصف بالصدق والكذب، بخلاف الثاني، فإن المفروض أنه لا واقع له في صفحة الكون، وباعتبار توافقه مع ذلك وعدمه - أي خلو صفحة الوجود عنه وعدمه - يتصف بهما. استصحاب عدم القرشية هذا حال القضايا، فلنرجع إلى ما كنا بصدد بيانه، وهو جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية، كاستصحاب عدم قرشية المرأة للحكم بعدم تحيضها بعد الخمسين، فنقول: إن موضوع الحكم - الذي هو المستصحب - يتصور على أنحاء ثلاثة: 1 - المرأة المتصفة بغير القرشية، بحيث تكون القضية المتشكلة عن ذلك قضية إيجابية معدولة المحمول، وهي المرأة غير القرشية. 2 - المرأة التي ليست بقرشية، بحيث تكون القضية المتشكلة عن ذلك قضية إيجابية سالبة المحمول، وهي: المرأة هي التي ليست بقرشية. 3 - من لم تكن قرشية، بحيث تكون القضية المتشكلة عن ذلك قضية سالبة محصلة، وهي: المرأة ليست بقرشية. وهذا الأخير يتصور على أنحاء ثلاثة أيضا: أ - سالبة تحصيلية مع فرض وجود الموضوع. ب - سالبة تحصيلية بسلب الموضوع. ج - سالبة تحصيلية أعم منهما. ومن الظاهر أن الأخيرين لا يكونان موضوعا للحكم، فإن الحكم مترتب على المرأة مع رؤيتها الدم.
111 فانحصر المحتملات على أنحاء ثلاثة: أما الأولان فعدم جريان الاستصحاب فيهما ظاهر، لفقد الحالة السابقة فيهما، فأي زمان كانت المرأة غير قرشية، أو التي ليست بقرشية، حتى يحكم ببقاء ذلك؟! وأي زمان كان غير القرشية موجودا يقينا حتى يستصحب؟! وأما الأخير وهو السالبة مع وجود الموضوع، فأيضا لا يجري فيه الاستصحاب، وذلك لأن القضية المتيقنة ليست سالبة مع وجود الموضوع، فإنه أي زمان كانت المرأة موجودة ولم تكن قرشية؟ بل هي سالبة بسلب الموضوع، والقضية المشكوكة سالبة مع فرض وجود الموضوع، فالقضيتان متغايرتان، فلا يجري فيهما الاستصحاب، ولو قيل بجريان استصحاب الأعم لا يمكن إثبات الأخص به إلا على القول بالأصل المثبت، فالاستصحاب في هذا القسم: إما غير جار، أو مثبت (1).
1 - أقول: هذا لو كانت القضية المتيقنة قضية سلبية بسلب الموضوع، وهي المرأة لم تكن بقرشية، والمفروض أنها لم تكن فلم تكن قرشية، لكن إذا شكلنا قضية سالبة موضوعها المرأة الموجودة بالفعل فتتحد القضيتان. والحاصل: أنه لا فاصل بين الوجود والعدم، فلو لم يمكن لنا أن نقول: هذه المرأة الموجودة كانت متصفة بالقرشية، فلا محالة يصح لنا أن نقول: هذه المرأة الموجودة بالفعل لم تكن قرشية سابقا، فالآن أيضا ليست بقرشية. ولا يتوهم: أن عدم كون هذه المرأة قرشية سابقا من باب عدم الموضوع، فإن هذا هو منشأ السلب، وإلا فأركان الاستصحاب تامة على ما ذكرنا. نعم، على ما أفاده دام ظله من أن القضية المتيقنة عدم الموضوع دخيل فيها، وبه تنهدم الأركان. وكنا نورد على السيد الأستاذ مد ظله هذا الاشكال سابقا، إلا أن فيه غفلة عن نكتة: وهي أن القضية السابقة - وهي هذه ما كانت قرشية سابقا - قضية موجبة سالبة المحمول، والقضية اللاحقة - وهي هذه ليست بقرشية فعلا - قضية سالبة، فاختلفت القضيتان، ولو قيل بغير ذلك يعود المحذور المذكور في كلام الأستاذ مد ظله، فتدبر جيدا. المقرر حفظه الله. 112 استصحاب عدم تأثير الفسخ هذا في استصحاب عدم القرشية، وأما استصحاب عدم تأثير الفسخ في ما نحن فيه، فمضافا إلى عدم جريانه - لما ذكرنا في استصحاب عدم القرشية - أنه لا يثبت بقاء العقد حتى يترتب عليه آثاره، من لزوم الوفاء به وحليته.. وهكذا، فلا تندفع الشبهة المصداقية بهذا الاستصحاب. نعم لو فرضنا جريان هذا الاستصحاب لم تصل النوبة إلى جريان استصحاب العقد، لحكومته عليه بالبيان المتقدم في وجه الحكومة. هذا تمام الكلام في الأدلة الدالة على صحة المعاطاة ولزومها.
113 أدلة عدم صحة ولزوم المعاطاة وأما ما استدل به على خلاف ذلك فعدة وجوه: الاستدلال بالأصل على المقام وجوابه منها: الأصل على ما في الجواهر وغيره (1). والجواب عنه ظاهر، لعدم وصول النوبة إلى الأصل مع وجود الدليل الاجتهادي. الاستدلال على المقام بروايات إنما يحرم الكلام ومنها: عدة روايات مذيلة بجملة إنما يحرم الكلام (2)، وفي رواية واحدة منها - وهي رواية خالد بن الحجاج -: إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام (3)، بتقريب: أن الرواية قد حصرت التحليل والتحريم بالكلام، فمع عدم الكلام - كما في
1 - الحدائق الناظرة 18: 355، جواهر الكلام 22: 210. 2 - وسائل الشيعة 13: 199 - 210، كتاب المزارعة والمساقاة، أبواب المزارعة والمساقاة، الباب 8، الحديث 4 و 6 و 10. 3 - الكافي 5: 201 / 6. 115 باب المعاطاة - لا يترتب أي أثر على ذلك. ولا بد لنا من البحث عن ذلك في جهات ثلاث: أولا: لو سلمنا تمامية هذا الذيل سندا ودلالة، فهل يمكن التمسك بمثله للحكم بعدم نفوذ المعاطاة، أو لا؟ قد ذكرنا سابقا (1): أن مثل هذه المسألة المتداولة بين العقلاء، بحيث إن قوام سوقهم بالمعاملات المعاطاتية، ولا يجرون الصيغة إلا في بعض المعاملات للتشديد والأحكام، كالثبت في الدفاتر الرسمية - مثلا - في أيامنا، لو لم تكن ممضاة عند الشارع لا يمكن الردع عنه برواية ولا روايتين، ولا سيما بمثل هذه الرواية مع جهالة راويها (2) والاشتباه في المراد منها، بل لا بد في الردع عنه من الاعلان في الأسواق والبلاد، ولو كان لما خفي علينا، فهل يحتمل أنه بعد صدور هذه الرواية قد تغير سوق المدينة أو غيرها، والتزموا في معاملاتهم بإجراء الصيغة، أو المقطوع خلاف ذلك؟ فعليه يعلم أنه ليس المراد من الرواية نفي ترتب الأثر على المعاطاة، بل المراد منها شئ آخر، سنبينه إن شاء الله. وثانيا: أنه لو كنا نحن ونفس هذا الذيل، وسلمنا أنها كبرى ملقاة من الشارع، ولاحظنا مفادها على إطلاقها، فهي منطبقة على كلام الشارع أيضا، وبإطلاقها تدل على أن كلام الشارع أيضا محرم ومحلل، كما أن كلام غيره أيضا محلل ومحرم. فالرواية على إثبات صحة المعاطاة أدل منها على إثبات فسادها، فإن الحكم بحليتها مستند إلى كلام الشارع بتنفيذ البيع مطلقا، كما مر. فما أفاده الشيخ (رحمه الله): من أن الاطلاق مستلزم لكثرة التخصيص (3)، لا وجه له،
1 - تقدم في الصفحة 27. 2 - أنظر تنقيح الأصول 1: 389 / سطر 26. 3 - المكاسب: 86 / سطر 25. 116 فإنه على ما ذكرنا ليس في البين تخصيص، فضلا عن كثرته. نعم لو قلنا بعدم شمول الرواية لكلام الشارع لزم التخصيص، وسنبين المراد على هذا التقرير أيضا فيما يأتي إن شاء الله، لكن إطلاق الرواية يدفعه (1). ثم إن الظاهر من الجملة أن الكلام محرم والكلام محلل: إما تكليفا، كتحليل النكاح وتحريم الطلاق الاستمتاعات ولو بالواسطة، وهو إيجاد العقلة وإزالتها، أو وضعا، كتحليل البيع وتحريم الربا. وأما ما ذكر الشيخ (رحمه الله) من المحتملات الأخيرة (2) فخلاف ظاهرها، كما لا يخفى على من لاحظها. فالمتحصل مما ذكرنا: أن إطلاق هذه الجملة على تقدير صدورها شامل لكلام الشارع أيضا، وبذلك يمكن إثبات صحة المعاطاة، فإن المحلل لها هو كلام الشارع. لا يقال: إن تحليل كلام الشارع وتحريمه مغاير لتحليل كلام غيره وتحريمه، فإنه في الأول الكلام محلل ومحرم من جهة تشريع الشارع، ففي الحقيقة إن التشريع محلل ومحرم، وقد قيل في الأصول: إن التحليل والتحريم غير منحصر بالتشريع والكلام، فإن العبد إذا علم بغرض المولى، لزمه تحصيله وإن لم يتكلم به المولى، ولم يشرع ذلك، فكيف انحصر المحلل والمحرم في الرواية بالكلام؟! فهذا شاهد على أن الجملة غير شاملة لكلام الشارع، ولا يخفى أن هذا غير وارد في
1 - أقول: حيث إن ظاهر الرواية أنها في مقام التشريع، لا الأخبار، ولا كليهما، فإن التمسك بها لاثبات الحكم في المورد شاهد على أنه كبرى شرعية، مضافا إلى أن الأخير مستلزم للجمع بين الانشاء والأخبار في كلام واحد، وهو إما غير جائز أو خلاف الظاهر، فكلام الشارع خارج عن مدلولها، فإن تشريع التحليل والتحريم له غير ممكن، فإن العقل حاكم على أن كلام الشارع محلل ومحرم، مضافا إلى أن تشريع الشارع التحليل والتحريم لكلام نفسه لا معنى له، فليتدبر. المقرر حفظه الله. 2 - المكاسب: 86 / سطر 17. 117 كلام غير الشارع، فإن كونه محللا ومحرما ليس من جهة التشريع، فإن التشريع منحصر بالشارع المقدس، كما لا يخفى (1). فإنه يقال: إن قياس المولى الحقيقي بالموالي العرفية ليس في محله، نعم يمكن التفكيك بين إرادة التشريع ونفسه في هذه الموالي، بل يمكن عدم انقداح الإرادة فيهم من جهة الغفلة ونحوها، وأما في المولى الحقيقي - الشارع المقدس - فلا يحتمل فيه الغفلة أو المانع من التشريع وإيجاد الكلام بعد إرادته، فلا يتصور الانفكاك بين التشريع والإرادة في تلك الناحية. نعم يتصور الانفكاك بينهما في الرسول الأكرم والأئمة المعصومين صلوات الله عليهم، إلا أنه م غير مشرعين للأحكام، بل الشارع هو الله تبارك وتعالى وهم مبينون لأحكامه تعالى. نعم لهم الأمر والنهي من جهة السلطنة التي أعطاهم الله تعالى، لكن هذا أجنبي عن الأوامر والنواهي الواردة في مقام تشريع الأحكام وجعلها. هذا على أن دعوى انفهام الحصر من كلمة إنما (2) دعوى غير مسموعة، فإنها على التحقيق حرف تحقيق فقط. وثالثا: أن الرواية المشتملة على هذه الجملة بتمامها منحصرة برواية خالد بن الحجاج، وأما سائرها فمذيلة بجملة إنما يحرم الكلام فقط، ونتكلم أولا في تلك الرواية، ثم في سائرها. الاستدلال برواية خالد بن الحجاج أما رواية خالد بن الحجاج، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يجئ،
1 - أنظر حاشية المكاسب، الإيرواني 1: 81 / سطر 38. 2 - المطول: 167 / سطر 10، المكاسب: 86 / سطر 26، وفي التقريرات نسبه إلى الأزهري: أنظر مطارح الأنظار (تقريرات الشيخ الأنصاري) الكلانتر: 188. 118 فيقول: اشتر هذا الثوب وأربحك كذا وكذا. قال: أليس إن شاء ترك وإن شاء أخذ؟. قلت: بلى. قال: لا بأس به، إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام (1)، وفي نسخة: إنما يحل الكلام ويحرم (2). محتملات الشيخ في مفاد الرواية ومناقشتها فقد احتمل الشيخ (قدس سره) احتمالات أربعا في هذه الرواية (3): 1 - أن يكون المراد منها أن التحليل والتحريم منحصران باللفظ، ومن الواضح أن هذا الاحتمال أجنبي عما تكون الرواية بصدد بيانه. 2 - أن يكون المراد منها أن المطلب الواحد يحلل بكلام ويحرم بكلام آخر، ولا يخفى عدم انطباق هذا أيضا على مفروض الرواية. وقد ذكر هو (قدس سره) أيضا أن الظاهر عدم إرادة هذين المعنيين من الرواية (4). 3 - أن يكون المراد من الكلام المحلل وجوده، ومن الكلام المحرم عدمه، أو بالعكس، أو الكلام الواحد محلل في محل ومحرم في محل آخر. وهذا الاحتمال أيضا ساقط، فإنه - مضافا إلى بعده بالنسبة إلى المحاورات العرفية - فاسد في نفسه، فإنه لو أريد منها أن وجود البيع محرم وعدمه محلل، أو أنه في محل محرم، وفي محل محلل، فلا يخفى فساده، فإن البيع الفاسد غير محرم،
1 - تقدم في الصفحة 115. 2 - تهذيب الأحكام 7: 50 / 216، وسائل الشيعة 12: 376، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 8، الحديث 4. 3 - المكاسب: 86 / سطر 17. 4 - المكاسب: 86 / سطر 27. 119 مضافا إلى أن عدم البيع غير محلل، ولو أريد منها أن وجود المقاولة محلل وعدمه محرم، فأيضا لا يخفى فساده، ولو أريد منها أن وجود البيع محلل وعدمه محرم، فلا ينطبق على مفروض السؤال، مضافا إلى أن عدم البيع ليس بمحرم. 4 - أن يكون المراد من الكلام المحلل خصوص المقاولة، ومن المحرم البيع. وقد ظهر فساد هذا أيضا، لأن المقاولة غير محللة، بل المحلل هو البيع الواقع بعدها، والبيع أيضا ليس بمحرم، بل التحريم ناشئ من أمر آخر كان قبل هذا البيع الفاسد، وهو كون الشئ مالا للغير. فاحتمال أن تكون هذه العبارة صادرة وناظرة إلى إحدى هذه المحتملات، مستلزم لاسناد أمر واضح الفساد إلى الإمام (عليه السلام)، فلا بد إما من الالتزام بعدم صدورها منه، فإن خالد بن الحجاج لم يعرف، ولعله نقل ما فهمه من كلام الإمام بهذه العبارة، أو يعالجها بعلاج آخر. التحقيق في مفاد الرواية والتحقيق أن يقال: إن الظاهر من سؤال خالد بن الحجاج الرجل يجئ، ويقول اشتر هذا الثوب...؟ إنه بصدد السؤال عن حكم الربح الحاصل من معاملة مبنية على المقاولة السابقة، وإلا فاحتمال أن يكون بصدد السؤال عن حكم التلفظ بلفظ اشتر... ساقط جزما، وهكذا بالنسبة إلى حكم المقاولة، بل كأن خالد بن الحجاج كان يعلم ببطلان بيع ما ليس عنده، ويسأل من الإمام (عليه السلام) عما إذا حصل الربح بمبادلة مبنية على مقاولة متقدمة على الشراء، وأجاب الإمام (عليه السلام): بأن هذه المبادلة صحيحة نافذة ومحللة ومحرمة، محللة بالنسبة إلى كل من المتعاملين في ما انتقل إليه، ومحرمة بالنسبة إلى غيره. وأما سؤال الإمام أليس إن شاء ترك وإن شاء أخذ؟ فالظاهر أنه بيان ما كان السائل بصدد السؤال عنه، وأن الربح ليس
120 مستندا إلى المقاولة المتقدمة. والحاصل: أن الظاهر من السؤال والجواب قبل هذه الجملة، أن السائل بصدد استعلام حكم تحصيل الربح بمبادلة مبنية على مقاولة سابقة على الشراء، والمفروض أن المشتري مختار في هذه المبادلة المفروضة في السؤال. فأجاب الإمام (عليه السلام): بأنه لا بأس بذلك، فتكون مفاد هذه الجملة: أن الكلام - أي هذه المبادلة - محللة ومحرمة، فليست ناظرة إلى بيان حكم ما قبل الشراء أبدا، حتى يقال فيه تلك الاحتمالات البعيدة الواضحة الفساد. فسوق الرواية - سؤالا وجوابا - وعدم إمكان تطبيق هذه الجملة على غير البيع الأخير، أقوى شاهد لاختصاصها بذلك، وفساد البيع قبل الشراء وإن يستفاد من مفهوم الرواية، لكن لا من جهة تحريم الكلام، بل من جهة عدم وجود المحلل، وهو الكلام. ومما ذكرنا ظهر: أنه لا يمكن استفادة الكبرى والحصر من هذه الجملة، فإنها في مقام بيان صحة البيع المفروض في السؤال، وأنه محلل ومحرم، لا حصر المحلل والمحرم بالكلام. وأما سائر الروايات فعمدتها في أبواب المزارعة، وتوجد في غيرها أيضا، لكن لا يجدي إطالة الكلام فيها، فإن عدم استفادة اعتبار اللفظ فيها ظاهر لا يخفى. في مفاد روايات المزارعة وأما روايات المزارعة فمتعددة، لكن مضمونها واحد، نذكر واحدا منها، وهي صحيحة الحلبي، قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يزرع الأرض، فيشترط للبذر ثلثا وللبقر ثلثا؟
121 قال: لا ينبغي أن يسمي شيئا، فإنما يحرم الكلام (1). ومن الواضح أن الجملة ناظرة إلى أن التسمية محرمة، وأما أنها في مقام إفادة الحصر فلا. أترى إمكان أن يقال: إن هذه الجملة الواردة في هذه الرواية لبيان تحريم التسمية، رادعة عن المعاملة العقلائية في جميع البلدان والأسواق، وقد تغيرت الأسواق، وتبدلت كيفية المعاملات فيها بعد صدور هذه الرواية من الصادق (عليه السلام)؟ لا أظن أن أحدا يشك في عدم صلاحية هذه الجملة لذلك، بل يحتاج مثل هذه الأمور إلى الاعلان والتشديد عليه، ولو كان لبان (2). الاستدلال على المقام بالاجماع ومناقشته ومنها: الاجماع، ويحتمل في معقد هذا الاجماع المدعى (3) وجوه: 1 - إن المعاطاة في الخارج لا تكون بيعا، بل لا ينشأ من المتعاطيين إلا الإباحة. 2 - إنهما وإن يكونا قاصدين للبيع، إلا أنه ا لا تكون بيعا بنظر العقلاء. 3 - إنها وإن كانت بيعا عقلائيا أيضا، إلا أنه ا ليست ببيع عند الشارع.
1 - تقدم في الصفحة 115. 2 - أقول: استفادة الكبرى من هذه الجملة، بحيث تشمل موردها والمعاطاة معا غير معقول، فإن المفروض أن المورد تحريم التسمية من جهة أنها كلام، فلو كانت الكبرى على ظاهرها - أي كل محرم كلام - فلا تنطبق على موردها، فإن حصر المحرم بالكلام غير مرتبط بتحريم كلام خاص. نعم، لو كانت الجملة بصدد حصر الكلام بالمحرم - أي كل كلام محرم - تنطبق على المورد، لكن لا يستفاد منها حصر المحرم بالكلام، حتى يتمسك بها في المعاطاة، مع أنها كذب محض، فأصل الكبروية غير معقولة، فإن الثاني كذب، والأول غير منطبق على المورد، فلا بد من القول بأنها في مقام بيان تحريم الكلام الواقع في المورد. فليتدبر. المقرر حفظه الله. 3 - الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 524 / السطر 25. 122 ولو قلنا بحصول الإباحة في كل من الاحتمالات الثلاث، يحتمل أن تكون الإباحة الحاصلة مالكية أو شرعية. 4 - إنها وإن كانت بيعا عند الشارع أيضا، إلا أنها فاسدة بنظره. 5 - إنها وإن كانت بيعا صحيحا عند الشارع أيضا، إلا أنها جائزة قابلة للفسخ. أما الأولان فظاهرا الفساد، لأن المتعاطيين قاصدان للبيع خارجا، وبناء العقلاء على ذلك في معاملاتهم. والثالث أيضا ظاهر المنع، لعدم اصطلاح خاص من الشارع في ألفاظ المعاملات. وأما الاحتمال الرابع فاحتمال معقول، إلا أن الإباحة المالكية لا معنى لها، فإن المتعاملين غير قاصدين إلا للبيع، والإباحة حكم شرعي في الرتبة المتأخرة عن إنشائهما، بل ولا يعقل إنشاؤهما ذلك، فإنه مع فرض عدم حصول الملك، كيف ينشئ إباحة التصرف على أنحاء التصرف في ملكه، ومع حصوله فلا معنى لانشاء إباحة التصرف في ملك المتصرف. فالاحتمال الصحيح في كلماتهم: إما الاحتمال الرابع مع كون الإباحة شرعية، أو الخامس. في مفاد كلمات الأعلام في المقام هذه هي المحتملات، وأما كلمات العلماء في المسألة فالأصل فيها كلام المفيد والشيخ الطوسي (قدس سرهما)، ويستفاد منهما عدم تحقق الاجماع، لا على فساد المعاطاة، ولا على جوازها. قال المفيد (رحمه الله) في المقنعة: ينعقد البيع على تراض بين اثنين، فيما يملكان التبايع له، إذا عرفاه جميعا، وتراضيا بالبيع، وتقابضا، وافترقا بالأبدان (1). انتهى.
1 - المقنعة: 591. 123 بقرينة ذكر الافتراق بالأبدان والتقابض في الذيل والتراضي وغيره في الصدر، يعلم أن المراد من الانعقاد هو الانعقاد على وجه اللزوم، وحيث إنه (قدس سره) في مقام بيان جميع ما يشترط في عقد البيع، يعلم عدم اعتبار اللفظ عنده، لا في الوقوع، ولا في اللزوم، ومن ذلك يعلم عدم تحقق الاجماع على اعتبار اللفظ، لا في اللزوم، ولا في الوقوع في زمان المفيد (رحمه الله)، وإلا لم يفت هو (قدس سره) على خلاف الاجماع. قال الشيخ (رحمه الله) في الخلاف: إذا دفع قطعة إلى البقلي أو الشارب، فقال: أعطني بها بقلا أو ماء فأعطاه، فإنه لا يكون بيعا، وكذلك في سائر المحقرات، وإنما يكون إباحة له، فيتصرف كل منهما فيما أخذ تصرفا مباحا من دون أن يكون ملكه، وفائدة ذلك أن البقلي إذا أراد أن يسترجع البقل، وأراد صاحب القطعة أن يسترجع قطعته، كان لهما ذلك، لأن الملك لم يحصل لهما، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يكون بيعا صحيحا وإن لم يوجد الايجاب والقبول، وقال ذلك في المحقرات دون غيرها. دليلنا: أن العقد حكم شرعي، ولا دلالة في الشرع على وجوده هنا، فيجب أن لا يثبت، وأما الإباحة بذلك فهو مجمع عليه، لا يختلف العلماء فيها (1). انتهى. ظاهر هذا الكلام هو الاحتمال الرابع، ويفهم مما ذكره من تعليل الفائدة بجملة لأن الملك لم يحصل لهما، أنه لو كان الملك حاصلا لما جاز الاسترجاع، وقد استدل على الفساد بعدم الدليل على الصحة، وحيث إنا استدللنا عليها فالملك حاصل بنظرنا، فهو لا يخالفنا في البناء على اللزوم، ومن هنا يعلم عدم تحقق الاجماع على الجواز في زمان الشيخ، وإلا لم يخالف الاجماع. وأيضا ذكر في أول الخلاف أنه لو كانت المسألة التي يذكرها في هذا الكتاب إجماعية يستدل لها بالاجماع (2).
1 - الخلاف 3: 41، المسألة 59. 2 - الخلاف 1: 45. 124 وفي هذه المسألة يستدل على عدم الصحة بعدم الدليل عليه، فيعلم من هذا أنه لا إجماع على اعتبار اللفظ في الصحة في زمانه (قدس سره)، ولا سيما مع ادعائه الاجماع على حصول الإباحة بعد هذا بلا فصل (1)، فمن هذا الكلام نفهم أنه لا إجماع، لا على عدم صحة المعاطاة، ولا على عدم لزومها، بل لو أقيم دليل على حصول الملك فيها لكان الشيخ (رحمه الله) أيضا موافقا في لزومها. فعلى هذا كيف ادعوا بعد المفيد والشيخ (قدس سرهما) الاجماع على اعتبار اللفظ، تارة في الصحة، وأخرى في اللزوم، مع أن في عبارة الغنية: فإن ذلك - المعاطاة - ليس ببيع، وإنما هو إباحة للتصرف، يدل على ما قلناه الاجماع المشار إليه (2). انتهى محل الحاجة. يحتمل رجوع الاجماع إلى الأخير كما ذكره الشيخ أيضا، ولا سيما بعد ما نعرف من دأبه من اتباعه كلمات الشيخ (رحمه الله) في هذا الكتاب غالبا. وكيف كان، لو سلم دعوى الاجماع بعد زمان المفيد والشيخ (قدس سرهما)، لا يعتنى بها بعد ما ظهر من كلامهما عدم الاجماع على ذلك في زمانهما، بل يظهر من عبارة العلامة (قدس سره) وغيره: أن القول بعدم اعتبار اللفظ في المعاطاة قول معتد به، فإنه قال: إن الأشهر عندنا أنه لا بد من الصيغة (3)، وكذلك نسبته في المختلف إلى الأكثر (4)، وفي التحرير: إن الأقوى أن المعاطاة غير لازمة (5). ومع هذه الكلمات يعلم أنه لا شهرة على الاعتبار، فضلا عن الاجماع عليه. نعم، لو كانت الشهرة متحققة لكنا خاضعين في قبالها أيضا، إلا أن كلا طرفي المسألة مشهورين، كما عرفنا من العبارات المتقدمة، فلا إشكال في المسألة عندنا.
1 - الخلاف 3: 41. 2 - الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 524 / سطر 25. 3 - تذكرة الفقهاء 1: 461 / سطر 6. 4 - مختلف الشيعة 5: 51. 5 - تحرير الأحكام: 164 / سطر 6. 125 تنبيهات في مبحث المعاطاة التنبيه الأول: المعاطاة بقصد الإباحة ليست بيعا المعاطاة الواقعة بين المتعاطيين لا تكون بيعا - على ما ذكره الشيخ (رحمه الله) (1) - لو وقعت بقصد الإباحة، فلا تشترط بشرائط البيع، ولا يدخل فيها الخيارات المختصة بالبيع، ولو شككنا في حصول الإباحة وعدمها فاقدا لشرط ما فلا بد من ملاحظة دليل إمضاء هذه المعاملة، فلو كان لبيا أخذ بمتيقنه، ويحكم بفساد ذلك الفاقد للشرط، ولو كان لفظيا له إطلاق أخذ بإطلاقه، ويحكم بصحة ذلك. والظاهر الأول، لأن الدليل على ذلك هو السيرة إلا أن يصطاد إطلاق من دليل عدم حلية مال أحد إلا بطيب نفسه (2)، ولو بأن يقال: إن الدليل ناظر إلى ما هو المرتكز عند العقلاء، وهو عدم حلية المال من دون رضا صاحبه، وحليته برضاه، فيندفع بذلك ما قد يتوهم: من أن الرواية ليست في مقام بيان عقد المستثنى. هذا لو بنينا على أن إباحة المال لجميع أنحاء التصرف فيه، مغايرة للتمليك
1 - الخلاف 3: 41 / المسألة 59، المكاسب: 82 / سطر 33، و 90 / سطر 10. 2 - كمال الدين: 521 / 49، الاحتجاج 2: 559، عوالي اللآلي 1: 222 / 98، و 2: 240 / 6، و 3: 473 / 6، وسائل الشيعة 6: 377، كتاب الخمس، أبواب الأنفال، الباب 3، الحديث 6. 127 في اعتبار العقلاء، وإلا فتصبح هذه المعاملة أيضا بيعا، بل وسيجئ عن قريب: أن الإباحة المعوضة أيضا بيع، خلافا لما عليه الشيخ (رحمه الله)، فتشترط بجميع شرائط البيع، وتدخل فيه جميع الأحكام المختصة به. نعم لو كان دليل الاشتراط وذلك الحكم لبيا، أو لفظيا في غير مقام البيان من جهة إطلاق المشروط وعدمه أو توسعة الموضوع وعدمها، لم يشمل المقام، فإن القدر المتيقن منه غير ذلك. وأما لو وقعت بقصد التمليك فقد ذكرنا: أن هذه المعاملة بيع لازم، ويشترط فيها ما اشترط في البيع بالصيغة، لو وجد إطلاق في مقام البيان دال على اشتراط مطلق البيع بذلك، وإلا فيحكم باختصاصه بالبيع بالصيغة، وهكذا بالنسبة إلى الأحكام. ثم لو قلنا: بأن المعاطاة عقد جائز فهل يدخل فيه الخيار، أم لا؟ قد يقال: إن جعل الخيار فيها لغو، فإنها جائزة بالطبع وقابلة للفسخ بنفسها، ولا يقاس ذلك باجتماع الخيارات في مورد واحد، فإن كلا منها قابل للاسقاط والفسخ بالآخر الباقي، بخلاف المقام، فإن الجواز حكمي على الفرض غير قابل للاسقاط، فيصبح الخيار لغوا وبلا أثر (1). الفرق بين الأحكام القانونية والشخصية وهذا وأشباهه - مما صدر عن عدة من الأعاظم - خلط بين الأحكام القانونية والشخصية، وقياس الأولى بالثانية، وكم فرق بين المقامين! فإن في الأحكام الشخصية البعث لا يمكن إلا مع إمكان انبعاث المكلف بشخص التكليف، بخلاف الأحكام القانونية، فإن إمكان البعث غير موقوف على ذلك، بل غايته أنه
1 - حاشية المكاسب، الإيرواني 1: 82 / سطر 39 و 83 / سطر 16، أنظر منية الطالب 1: 68 / سطر 10. 128 موقوف على إمكان البعث نحو الطبيعة، ولو كان بعض أشخاصه غير قابل للامتثال، وهذا يظهر من ملاحظة تكليف الكفار والعصاة الذين يعلم بعدم انبعاثهم بالبعث وانزجارهم بالزجر، ولا يصح البعث الشخصي نحوهم، بخلاف البعث القانوني الشامل لهم ولغيرهم. وبهذا البيان ذكرنا: أن العلم والقدرة ليسا من شرائط التكليف، بل هما من شرائط التنجز، وتفصيل الكلام في محله (1). ولذا ذكرنا في محله: أن ما استدلوا به - في أن خروج بعض أطراف العلم الاجمالي عن محل الابتلاء من أول الأمر، يوجب انحلال العلم الاجمالي -: من لغوية البعث نحو الخارج عن محل الابتلاء، لعدم إمكان البعث نحوه (2)، لا يرجع إلى محصل، فإن عدم إمكان الانبعاث نحو شخص خارجي، لا يوجب لغوية القانون، فإن مبادئ القانون أمور مختصة به، وما يصححه ليس إمكان الانبعاث نحو الأشخاص، بل إمكانه نحو الطبيعة - وإن لم يمكن نحو بعض الأشخاص - كاف في تصحيحه. ففي المقام جعل الخيار قانونا للبيع، موقوف على عدم لغوية هذا الجعل وإن كان في بعض أشخاصه - كالمعاطاة - بلا أثر (3).
1 - مناهج الوصول 2: 23 - 29، أنوار الهداية 2: 216. 2 - فرائد الأصول 2: 420 / سطر 11، فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 4: 54، نهاية الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) البروجردي 3: 338، درر الفوائد، الحائري 2: 464. 3 - أقول: الظاهر أن ما أفاده مد ظله خلط بين قيود الموضوع والمتعلق، ففي المتعلق الأمر كما ذكره، فإن حرمة شرب طبيعة الخمر ثابتة وإن لم تكن جميع أفراده تحت القدرة، بل لو لم يكن الموجود إلا خمرا واحدا، مع ذلك تكون الحرمة فعلية، وهذا بخلاف موضوع التكليف في الواجبات العينية، فإن الالتزام بأن الموضوع هو طبيعة المكلف مناف للالتزام بعينية التكليف، بل يلزم منه كون التكليف كفائيا، فإنه لا معنى للواجب العيني إلا أن كل واحد واحد مكلف بالفعل. لا أقول: يدخل المشخصات في موضوع الحكم، بل أقول بتوجه التكليف إلى كل شخص في الواجبات العينية، ولو من جهة انطباق عنوان - كالمستطيع - عليه. ونتيجة ذلك: الانحلال بحسب تعدد الموضوع، والمدعى اشتراط الموضوع بالقدرة، فإن العاجز غير قابل للبعث والزجر. وبعبارة أخرى: إن البعث والزجر في الواجبات العينية متعلقان بكل شخص شخص، لا بالطبيعة المهملة، فلا بد من إمكان الانبعاث لكل واحد واحد لا للطبيعة المهملة، فمع عجز المكلف عن الامتثال يخرج عن موضوع التكليف، لعدم إمكان الانبعاث بالنسبة إليه، ولذا بنينا في بحث الترتب على اشتراط التكاليف بالقدرة بلا كلام، وأتممناه في ذلك المقام بما يتضح به المرام. هذا، وأما النقض بتكليف العصاة والكفار فليس بوجيه، فإن الكفر والعصيان مستندان إلى اختيارهم، فكيف يدعى عدم إمكان الانبعاث بالنسبة إليهم؟! وصرف العلم بعدم انبعاثهم لا يوجب لغوية الجعل، فإن داعي البعث والزجر من قبل الله تعالى، هو اللطف الذي هو داعي الجعل التكويني أيضا، كما قرر في محله، والعلم بعدم الانبعاث اختيارا غير مناف لذلك، بل عدم البعث والزجر مناف له، فلا بد منهما (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة)، ولذا لا لغوية في ذلك وإن كان التكليف شخصيا. وأما البعث والزجر بالنسبة إلى من لا يمكنه الانبعاث والانزجار، فلغويته أظهر من أن تخفى، فإن مخالفته أو موافقته للتكليف غير مستندة إلى اختياره، فكيف يقتضي اللطف مثل هذا الجعل؟! والحاصل: أن الحكم ينحل بتعدد موضوعه، لا بمعنى أنه إنشاءات متعددة حسب تعدد الموضوع، بل بمعنى أن الحكم المنشأ لكل فرد من المكلفين أو الطبيعة المتكثرة أو الطبيعة السارية يدور مدار موضوعه سعة وضيقا، فمع عدم إمكان شموله لبعض الأفراد لا يمكن جعله إطلاقا، لعدم انقداح الإرادة والكراهة عند المولى العالم الحكيم أولا، ولزوم اللغوية ثانيا. وقد يقال في مقام دفع ذلك: بأنه يكفي فيه ترتب القضاء والنيابة وغير ذلك من الآثار، ولكن تصحيح الجعل بهذه الآثار الواقعة في طول الجعل مستلزم لدور ظاهر. هذا في الأحكام التكليفية، أي ما اشتمل على البعث والزجر، وأما الأحكام الوضعية فجعلها لا يدور مدار القدرة، كما يعلم من أحكام الضمانات، لعدم البعث والزجر فيها. نعم، لا بد من ترتب أثر على ذلك، أي كونه موردا لابتلاء المكلف، وإلا يكون الجعل لغوا، وقانونية الجعل لا تصححه بعد فرض شمول الجعل للواقعة الشخصية أيضا، فالعلم الاجمالي في المثال منحل، كما هو المعروف. نعم، في مسألتنا هذه لا لغوية أبدا لترتب الأثر على الجعل، فإن المكلف يتمكن من إعمال الخيار، كما يتمكن من فسخ العقد بطبعه، ولا مانع من جعل الشارع موضوعين لفسخ العقد في مورد واحد، كما يجعل في العرف علامتان لأمر واحد، وأمثاله كثيرة في العرف، ولا يعد من اللغو أصلا. المقرر حفظه الله. 129 التنبيه الثاني: في توقف المعاطاة على الاعطاء من الطرفين هل يتوقف تحقق المعاطاة على الاعطاء من الطرفين، أو يكفي فيها الاعطاء من طرف واحد وأخذ الآخر، أو لا بد من الاعطاء والأخذ من الطرفين، بحيث يكون الاعطاء من الطرفين غير كاف في ذلك، أو لا يشترط فيها الاعطاء، بل تتحقق بصرف النية؟ وجوه. في توقف المعاطاة على الاعطاء والأخذ وجوابه قد يتخيل: أن المعاطاة لا تتحقق بالاعطاء من الطرفين، بحيث يكون أحدهما بمنزلة القبول للآخر، فإن القبول من قبيل المطاوعة للايجاب، وكل من الاعطاءين إيجاب مستقل لا ربط له بالآخر، فهذه المعاطاة مجردة عن القبول، بل تتحقق المعاطاة بالاعطاء والأخذ، فإن الأخذ مطاوعة للاعطاء، فتتم الأركان. فعلى ذلك لو لم يقصد بالأخذ القبول، وقصد القبول بالاعطاء الثاني، تبطل المعاملة، فإن ما يصلح للقبول لم يقصد به ذلك، وما قصد به ذلك غير صالح له (1). والجواب عن ذلك:
1 - حاشية المكاسب، الإيرواني 1: 83 / سطر 23. 131 أولا: أن ماهية البيع إما مبادلة مال بمال، أو تمليك عين بعوض، وليس فيها من القبول عين ولا أثر. نعم، يشترط في تأثيرها القبول، لكشفه عن رضا المشتري، كإجازة المالك في البيع الفضولي، وأما أنه داخل في ماهية البيع فلا. ولذا ذكرنا: أنه لا يشترط توالي الايجاب والقبول (1) في صحة العقد حسب القاعدة إلا أن يكون التسالم على خلافه. فعلى ذلك إيجاب البيع بالاعطاء الأول قد تحقق، والكاشف عن رضا المشتري متحقق بالاعطاء الثاني، فتتم الأركان. فما ذكره ممنوع من وجهين: أحدهما: عدم اشتراط ماهية البيع بالقبول وعدم اشتراط تأثيره بأزيد من إبراز المشتري رضاه بأي وجه كان. ثانيهما: أن ما ذكره - من عدم الربط بين الاعطاءين لو أراد به عدم الربط بينهما، بمعنى أن أحدهما ليس مطاوعا للآخر - مسلم، لكن الكبرى ممنوعة، ولو أراد به أنه ليس مبرزا لرضا المشتري فالصغرى ممنوعة، بل الاعطاء الثاني مترتبا على الاعطاء الأول مبرز لذلك، وهذا واضح. وثانيا: أن العقلاء في غالب معاملاتهم المعاطاتية، لا يرون تمامية المعاملة بعد إعطاء أحدهما وأخذ الآخر، بحيث لو أراد الآخر قبل إعطائه البدل رد المعاملة، لا يقال له: إنه لم يعمل بالمعاملة، ولم يف بعقده. أترى أنه لو قال صاحب المتاع للمشتري: أعط فلوسك حتى أعطيك المتاع، فأعطاه ذلك، ثم رجع المالك عن بنائه ورد الفلوس، أنه لم يف بالعقد، أو أنه رد المعاملة قبل تمامها؟ وهذا أقوى شاهد على إمكان تحقق المعاطاة بالاعطاء من الطرفين، بل الغالب في المعاملات العرفية كذلك، أي المحقق للقبول هو الاعطاء
1 - أنظر البيع، الإمام الخميني (قدس سره) 1: 227، حيث قد كتب الإمام (قدس سره) أوائل كتاب البيع إلى أواسط الفضولي في قم المقدسة ودرس ثانيا في النجف الأشرف. 132 الثاني، لا أخذ الاعطاء الأول فقط. في توقف القبول في المعاطاة على الاعطاء الثاني وقد يتخيل: أن الاعطاء الثاني لا بد منه في القبول، ويستدل عليه بوجهين: عقلائي وعقلي. أما الأول - أي العقلائي -: فإن القبول متأخر عن الايجاب عند العقلاء، والأخذ مقوم للاعطاء، بحيث لو لم يوجد الأخذ لم يصدق الاعطاء، فلو كان الاعطاء الأول إيجابا للبيع في المعاطاة فلا بد من تأخير القبول عن الأخذ فيه، لما ذكرنا من تأخر القبول عن الايجاب، والأخذ مقوم للاعطاء الذي هو الايجاب. والجواب عنه: أن هذا مناف لما نراه في العرف من جريان المعاطاة سلفا ونسيئة بينهم، واكتفائهم في الايجاب بالاعطاء مجردا عن الأخذ، وفي القبول بأخذ ذلك قاصدا به القبول. وأما الثاني - أي العقلي -: بأن الأخذ مقوم للاعطاء، والمفروض أن الاعطاء هو الايجاب، فلا يعقل أن يكون الأخذ قبولا له (1). والجواب عنه: أولا: لا دليل على لزوم تأخير القبول عن الايجاب إذا لم يكن بلفظ القبول. وثانيا: أن الاعطاء - كسائر المعاني الحدثية المصدرية - قد يلاحظ بالنسبة إلى الفاعل، وأخرى بالنسبة إلى المفعول، وثالثة لا يلاحظ إلا نفسه، فعلى الأول إعطاء، وعلى الثاني أخذ، وعلى الثالث عطاء بالمعنى الاسم المصدري، فكلها متحدة ذاتا والتغاير بالاعتبار. والايجاب إنما هو الاعطاء بالاعتبار الأول، وقبوله الأخذ، أي الفعل بالاعتبار الثاني، والثاني مترتب على الأول رتبة وإن لم يترتب
1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 77 / سطر 36. 133 عليه زمانا. ولو سلمنا لزوم تأخير القبول عن الايجاب لا نسلم ذلك زمانا، بل يكفي التأخر الرتبي في ذلك، وهو حاصل بين الاعطاء والأخذ، فالصحيح كفاية الاعطاء من طرف واحد في المعاطاة، وتحققها بالاعطاء من الطرفين أيضا. إشكال أعمية الفعل وجوابه وهنا إشكال في أصل المعاطاة: وهو أنه كيف تتحقق المعاملة بالتعاطي، مع أن الفعل أعم، ولا يختص بمعاملة إلا بالقصد، فيكون كالعناوين القصدية، ويجري فيه الاشكال الجاري فيها، وهو أنه مع عدم كون التعاطي بيعا - مثلا - كيف يقصد كونه بيعا؟ بل حيث إن المقصود مقدم على القصد رتبة لا بد من تعنونه بالعنوان قبل تعلق القصد به، فمع توقفه على القصد يلزم الدور. فعلى هذا لا تتحقق المعاطاة بالفعل أبدا، فإن الفعل مشترك بين البيع والصلح والهبة وغيرها، ولا يتمحض في البيع إلا بالقصد، فيجري فيه الاشكال (1). وهذا كما ذكر في الاحرام: من أن قصد الاحرام لا يمكن دخله فيه (2)، وإلا يلزم المحذور المذكور. والجواب عن هذا: أما في الاحرام فالمكلف لو قصد العمرة - مثلا - ولبس الثوبين ولبى يصير محرما، والاحرام ليس أمرا زائدا على ذلك، ولا حاجة فيه إلى قصد الاحرام حتى يرد عليه ذلك الاشكال. وأما في المقام فلو كان القصد متعلقا بكون التعاطي بيعا لكان الاشكال وجيها، إلا أن متعلق القصد هو عنوان البيع والمبادلة، الذي شيئيته غير متوقفة على
1 - منية الطالب 1: 68 - 69. 2 - مستمسك العروة الوثقى 11: 359. 134 القصد، فلو وقع التعاطي بهذا القصد ينطبق البيع على التعاطي قهرا، والمقصود أن المتوقف على القصد كون التعاطي مصداقا للبيع، والقصد غير متوقف عليه، فإن المقصود هو عنوان البيع، وهذا نظير العقد اللفظي، فلو قال: بعت بقصد البيع وقع مصداقا له. في كفاية النية المجردة عن التعاطي ثم إنه هل تكفي النية المجردة بلا تعاط حتى من أحد الجانبين؟ وهل يكفي إبقاء المالك العين عنده بقصد تمليكه للمشتري، بدعوى أن الابقاء أيضا فعل؟ الظاهر خروج ذلك عن المعاطاة عند العقلاء وإن أمكن تصحيحها عقلا، لكن المسألة عقلائية. وأما مسألة البقال والسقاء والحمامي فالظاهر أنها خارجة عن مورد المعاطاة، بل لعلها معاملة إذنية عقلائية، وعليه بعض الأعاظم أيضا (1). التنبيه الثالث: ما هو المائز بين البائع والمشتري في المعاطاة؟ وقبل بيان ذلك نقول: إن البيع - أي مبادلة مال بمال أو تمليك عين بعوض - لا يعقل تقومه بسبب خاص - على تعبير - أو بموضوع خاص - على تعبير أصح - أو تقيده بذلك، للزوم تقدم الشئ على نفسه. نعم، يمكن أن يقال: إنه بعد وجود سبب خاص يسمى المسبب بالبيع، إلا أن القبول غير دخيل في السبب بناء على ذلك أيضا، فإن معنى البيع يحصل مع قطع النظر عن القبول، فالقبول خارج عنه، بل اعتباره من باب اظهار المشتري رضاه، ولذا لا يلزم فيه الانشاء، ولا شئ مما يعتبر في الايجاب على القول به. فلو أجرى الوكيل عن الطرفين المعاملة من دون قبول،
1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 77 / سطر 16. 135 صح بلا حاجة إلى ذلك. ثم إنه هل البائع والمشتري أمران واقعيان قبل المعاملة، أو ينتزعان من نفس الانشاء؟ قد يقال بالأول بدعوى أن الاستقراء دلنا على أن من كان نظره في المعاملة إلى حفظ مالية ماله، ولا نظر له إلى الخصوصية، فهو البائع، والمشتري ناظر إلى خصوصية عين صاحبه (1). ولكن هذا لا يتم، فإنه في نفس ما ذكر لو ملك المشتري الثمن وقبل الآخر، أفلا يسمى هذا بيعا؟! أو أنه لو وقعت المعاملة بين الجنسين أو النقدين أفلا يكون ذلك بيعا؟! والتحقيق أن يقال: إن البائع والمشتري والموجب والقابل منتزعان من نفس الانشاء، فالمملك هو البائع، والمتملك هو المشتري، والموجب هو المنشئ، والقابل هو المبرز رضاه لانشاء صاحبه. ولو كان كل منهما مملكا فكل منهما بائع، وعلى ما ذكرنا - من كفاية مطلق ما دل على الرضا في القبول - فكل منهما قابل أيضا، ولو كان كل منهما متملكا فكل منهما مشتر وكل منهما قابل أيضا. وهكذا الحال في بيع الوكيل الواحد من شخصين، فمع إنشائه التمليك من أحد الجانبين فهو بائع والآخر قابل، ومع إنشائه من كلا الطرفين فكل منهما بائع وكل منهما قابل، ولعله ظاهر. التنبيه الرابع: صور قصد المتعاطيين وهي كما يلي: 1 - أن يقصدا بالتعاطي المقابلة بين الملكين، وقد مر بيانه.
1 - حاشية المكاسب، الإيرواني 1: 84 / سطر 1. 136 2 - أن يقصدا به المقابلة بين التمليكين. في إشكال لزوم اجتماع اللحاظين وجوابه وقد يستشكل فيه: بأنه مستلزم لاجتماع اللحاظين في التمليك: الآلي والاستقلالي. ثم ذكر المستشكل أنه يمكن الفرار عن ذلك بالصلح (1). والجواب أولا: الفرار بالصلح غير ممكن، للزوم بطلانه لو وقع على محل النزاع، وهو التقابل بين التمليكين، لاستحالة ذلك، أي لا يمكن العمل بهذه المصالحة للزوم المحال، ولو وقع على غير ذلك فمضافا إلى خروجه عنه، لا يختص الفرار بالصلح، بل يصح البيع أيضا. وثانيا: أن باب الفعل مغاير لباب الألفاظ، فإن الألفاظ وضعت آلة لافهام مداليلها، فمع استعمالها في ذلك ولحاظها مستقلا يجتمع اللحاظان لا محالة، بخلاف الفعل، لامكان لحاظه استقلالا مع كونه آلة لافهام مدلوله بنفسه، فلم يجتمع اللحاظان، مثل أن يشير إلى زيد - مثلا - ويقول: إشارتي كذا. فمع إشارته بلفظ هذا قاصدا حقيقة الإشارة، لا يحصل ذلك إلا بلحاظ المشار إليه استقلالا واللفظ آلة، فلا يمكن لحاظه استقلالا، وأما مع إشارته بالفعل فلا تحتاج حقيقة الإشارة بأزيد من نفس الفعل، فيمكن تعلق اللحاظ به استقلالا. وهكذا في المقام لو قصد التمليك بلفظه لا يمكن لحاظه استقلالا، لأن النظر الاستقلالي تعلق بالمبادلة بين الملكين، ونفس التمليك لوحظ آليا، فلا يمكن لحاظه استقلالا، بخلاف ما لو وقع التمليك بالفعل والاعطاء، فإنه بنفسه تمليك، فيمكن لحاظه استقلالا، ولذا يمكن أن يخبر عنه في مقام الاعطاء: بأن تمليكي كذا مثلا. هذا مضافا إلى أن محل الكلام إنما هو في ما إذا لوحظ التمليك استقلالا، لا آلة.
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 39 - 40 / سطر 25. 137 في إشكال عدم المالية وجوابه وقد يستشكل فيه: بعدم المالية في التمليك بالمعنى المصدري، والمال هو الملك بالمعنى الحاصل من المصدر (1). والجواب أولا: أن المال هو العين الخارجية، لا المصدر، ولا الحاصل منه، ولا ندري أن هذا القائل أي شئ أراد من الحاصل من المصدر. وثانيا: أن مالية الشئ عند العقلاء إنما هي باعتبار الأثر المطلوب منه، وإلا فنفس العين أيضا ليست بمال بالذات، بل ماليتها باعتبار الأثر المطلوب منها، فهي مطلوب بالعرض. وإذا كان الأمر في نفس العين ذلك، فليكن التمليك المصدري والملكية الحاصلة منه أيضا كذلك إذا كانا مرغوبا فيهما عند العقلاء باعتبار ذلك الأثر. والحاصل: أن المالية باعتبار الأثر المطلوب بالذات، وهو خارج عما يعتبر أنه مال، أي المال ما كان مرغوبا فيه بلحاظ ذلك الأثر، فكما أن العين كذلك يمكن أن يكون التمليك أيضا كذلك عند العقلاء. والاشكال المهم: أن متعلق التمليك لا بد من وجوده في المرتبة السابقة عليه، إذ لا يعقل تعلق التمليك بالمعدوم، وحينئذ لو وقع التمليك على التمليك الخارجي لزم تعلقه بالمعدوم، ولو وقع على التمليك الكلي لزم عدم ارتباط الفعل في المعاطاة - وهو الاعطاء - بالتمليك عند العقلاء، فإن العقلاء لا يرون الاعطاء مبرزا لتمليك التمليك، فالاشكال الأول عقلي، والآخر عقلائي. نعم، باللفظ يمكن أن يقال: ملكت تمليكي، وأما بالفعل فالارتباط مفقود بين المبرز والمبرز عند العقلاء.
1 - المكاسب والبيع (تقريرات المحقق النائيني) الآملي 1: 206 - 207، منية الطالب 1: 71 / سطر 21. 138 وهذا الاشكال وارد على المقصود بالتمليك، وهو التمليك في طرف المعوض، لا في طرف العوض، كما يظهر بأدنى تأمل. ويمكن تقريب الاشكال بعبارة أخرى: وهو أن محل الكلام تمليك التمليك الخاص لا الكلي، وفي هذا إشكال، لأنه مع قصد التمليكين بنفس الفعل أو اللفظ يلزم كون الشئ مملكا لنفسه، فإن التمليك واحد في المقام، ومع عدم قصد تمليك نفس العين يلزم عدم وجود متعلق التمليك. وهذا الاشكال غير وارد في طرف الثمن، لأن قصد التمليك غير معتبر فيه (1). في حقيقة معاملة تمليك التمليك ثم إنه هل مثل هذه المعاملة بيع أو هبة أو مصالحة أو عقد جديد أو فاسد بنظر العقلاء؟ ذكر الشيخ (رحمه الله): أنها ليست بيعا، بل إنها هبة معوضة (2). ثم رجع عن ذلك، وقال: إن التمليك في باب الهبة - حتى في المعوضة - ليس في مقابل العوض، بخلاف المقام، فبني على أنها مصالحة أو عقد جديد (3)، لكن الظاهر أن هذا العقد بيع عند العقلاء. فإن التمليك مال، بمعنى أنه قد يكون موردا لرغبة العقلاء، ولا يشترط في المال رغبة جميع العقلاء فيه، بل رغبة فرد واحد أيضا كاف في صدق ذلك، كدواء خاص لداء شخص خاص لا غير، بل لا يشترط في المبيع أن يكون مالا، بمعنى أن يكون موردا لرغبة العقلاء بلحاظ أثره،
1 - أقول: قد مر في أول البيع: أن تمليك الموجود في ظرفه - بحيث يوجد في ملك الشخص المملك - لا مانع منه بوجه، ومن ذلك تمليك التمليك الخارجي الموجود في ظرفه. فليتدبر. المقرر حفظه الله. 2 - المكاسب: 88 / سطر 33. 3 - المكاسب: 88 / سطر 33. 139 بل قد يتعلق غرض العقلاء باشتراء شئ لاعدامه، كما إذا فرضنا أن أحدا قال: كل من مسك عقربا من داري أشتريها منه بكذا، وغرضه من هذا الاشتراء إعدام هذه الحشرة والفرار من أذاها، فلا بد في البيع أن يكون التمليك لغرض عقلائي، وقد يحصل هذا الغرض لتمليك التمليك أيضا، وقد مر أنه لا يشترط في المبيع أن يكون من الأعيان بنظر العقلاء، فلا وجه للقول بعدم كون تمليك التمليك بيعا، حتى يقال: إنها هبة، فيستشكل فيه، ويرجع عنه بدعوى أنها مصالحة، مع أن حقيقة المصالحة هو التسالم، فالمنشأ فيها هو ذلك لا التمليك، وفي المقام المنشأ هو التمليك. 3 - إباحة المال بإزاء المال. في إشكال الشيخ وقد استشكل الشيخ (رحمه الله) في ذلك بإشكالين: الأول: في عدم معقولية إباحة جميع التصرفات: أن إباحة جميع التصرفات - حتى المتوقفة على الملك - مستلزمة لجواز البيع في غير الملك، وهذا غير معقول، لاقتضاء حقيقة المعاوضة التبادل بين الإضافتين، فلا يعقل دخول الثمن في ملك غير مالك المثمن، والعقلاء أيضا على ذلك، مضافا إلى اقتضاء الدليل الشرعي - مثل لأبيع إلا في ملك (1) - ذلك أيضا (2). جواب الاشكال الأول والجواب أولا: أن دعوى اقتضاء المبادلة التبادل بين الإضافتين في الملك،
1 - عوالي اللآلي 2: 247 / 16، مستدرك الوسائل 13: 230، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع، الباب 1، الحديث 3. 2 - المكاسب: 89 / سطر 4. 140 دعوى بلا برهان، بل ملاحظة المعاملات العقلائية تشهد بعدم اعتبار ذلك. والحاصل: أن غاية ما يعتبر في البيع المبادلة بين المالين، ولو كان أحدهما خارجا من ملك شخص، وكان الآخر داخلا في ملك شخص آخر. وأما الدليل الشرعي - ولو بقرينة نظائره ك لا طلاق إلا في ملك (1) - فلا يدل على اعتبار الملك في البيع، بل غاية ما يدل عليه أن بيع غير السلطان على البيع ليس ببيع، فلا ينافي ما ذكرناه. وثانيا: يمكن أن يقال: إن إباحة جميع التصرفات - حتى الموقوفة على الملك بالعوض، بحيث يكون المسلط على التصرفات المباح له فقط، دون المبيح - ليس أمرا آخر غير الملك بنظر العقلاء. ولو قلنا أيضا بأن المبيح لم يقصد ذلك، فإن اعتبار المالكية إنما هو من جهة سلطان الشخص على المال سلطنة تامة، بحيث لا يتمكن غيره من مزاحمته في ذلك، فإذا تكون التصرفات في الملك. وثالثا: لو قلنا بعدم حصول الملك وصحة تلك التصرفات، فمعناه وقوع تلك التصرفات في ملك مالكه، لكنه أباح له ذلك، فبيعه للمال المباح بيعه للمالك وثمنه أيضا يدخل في ملك المالك، لكن يجوز للبائع التصرف في هذا الثمن بعد البيع، كما كان يجوز له التصرف في مثمنه. والحاصل: أنه لا موجب للالتزام بدخول الثمن في ملك المشتري، حتى يقال بمنافاة ذلك لمقتضى المعاوضة الحقيقية.
1 - سنن أبي داود 1: 665 / 2190، عوالي اللآلي 3: 205 / 37، مستدرك الوسائل 13: 230، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع، الباب 1، الحديث 4. 141 في أجوبة الشيخ على إشكاله الأول وقد أجاب الشيخ (رحمه الله) عن هذا الاشكال بأجوبة: الجواب الأول منها: نظير ما عن العلامة (رحمه الله) في مسألة أعتق عبدك عني (1) وهو أن هذا الكلام استدعاء للتمليك، ثم العتق، والعتق جوابه. فيقع النقل والانتقال أولا ثم العتق، فهذا عتق متضمن للبيع أولا. وفي المقام: أن إباحة جميع التصرفات حتى الموقوفة على الملك كالبيع تمليك وتصرف المباح له بالبيع - مثلا - بمنزلة القبول، فيحصل النقل والانتقال ثم البيع (2). ثم أشكل على ذلك: بأن هذا خلاف مقصود المبيح، فإن المفروض أنه قصد الإباحة لا التمليك (3). الكلام في مراد العلامة ولنا كلام في فهم مراد العلامة (رحمه الله) أولا، ثم في إمكان رفع الاشكال بما ذكره الشيخ (رحمه الله) ولو مع قصد المبيح التمليك، وإن كان كلام العلامة خاليا عن المناقشة. أما ما ذكره العلامة (رحمه الله) فلو كان مراده من حصول النقل قبل العتق، حصوله بعد إنشاء العتق، لزم من ذلك التفكيك بين الانشاء والمنشأ، والقول بحصولهما معا
1 - تذكرة الفقهاء 1: 462 / سطر 18. 2 - المكاسب: 89 / سطر 8. 3 - نفس المصدر: 89 / سطر 11. 142 غير ممكن، لعدم تصور كون الشخص الواحد حرا ومملوكا في زمان واحد. وتقدير الملكية آنا ما قبل العتق لا يدفع المحذور، فإن البيع موقوف على الملكية الحقيقية - حسب الفرض - لا التقديرية. ولو كان مراده حصول النقل قبل الانشاء، لزم منه وقوع النقل بلا موجب، أو تأثير الانشاء المتأخر في المنشأ المتقدم، مع أن صريح كلامه حصول النقل والانتقال بالعتق، والبيع ضمني. نعم، يمكن أن يقال: إن مراده من ذلك وقوع الأمرين، النقل والعتق بإنشائه أعتقت عنك، فكأنه أنشأ إنشائين: أحدهما بالمطابقة، والآخر بالالتزام، فيملكه بذلك الانشاء التزاما، ولذا يعبر بكلمة عنك، ويعتقه أيضا به مطابقة، فهنا إنشاءان لكل منهما منشأ. وهذا وإن كان سليما عن تلك الاشكالات العقلية، لكن لا يساعد عليه اعتبار العقلاء، فإن إنشاء الأمرين بإنشاء واحد: أحدهما بالمطابقة، والآخر بالالتزام غير معروف عندهم. مناقشة الشيخ في جوابه الأول وأما ما دفع الشيخ (رحمه الله) به الاشكال فيختص بمناقشات وهي: أن قصد التمليك بالإباحة يتصور على وجهين: الأول: أن يكون المنشأ حقيقة التمليك وإن كان بلفظ الإباحة، فجعلت الإباحة كناية عن التمليك. وهذا وإن كان ممكنا في جعل اللفظ كناية، إلا أن الفعل لا يمكن أن يجعل كناية عن غير ما قصد إيجاده به. والفرق: أن في باب الألفاظ إرادتين استعمالية وجدية يمكن تخلف
143 إحداهما عن الأخرى، وأما الفعل فلم يقع إلا على ما هو عليه، فمع قصد الإباحة به يقع إباحة، ومع قصد التمليك به يقع تمليكا، ولا معنى لجعل أحدهما كناية عن الآخر فيه، مضافا إلى أن هذا خلاف المفروض، فإن المفروض إنشاء الإباحة لا التمليك. الثاني: أن يكون المنشأ التمليك في خصوص التصرفات المتوقفة على الملك، وهذا بحسب مورد الإباحة على وجهين: أحدهما: أن يكون المقصود بالإباحة خصوص ذلك التصرف، ففي هذا الوجه - وإن لم يلزم منه إشكال في طرف الايجاب، عدا عدم إمكان جعل الفعل مقصودا به الإباحة كناية عن التمليك والخروج عن محل البحث - يشكل في طرف القبول: بالبيع، بعدم إمكان إنشائه بالنسبة إلى العالم بالأمر ما لم يتملك أولا، فإن المفروض أنه لأبيع إلا في ملك. هذا بناء على المعروف من اعتبار الانشاء في القبول، وأما على ما ذكرنا - من عدم اعتبار أزيد من رضا القابل المبرز بأي مبرز كان - فلا يرد ذلك. ثانيهما: أن يكون قصد الإباحة بالنسبة إلى جميع التصرفات، وقصد التمليك بالنسبة إلى خصوص البيع ونحوه. فلو أنشأ الإباحة والتمليك منجزين لزم صيرورة المباح له مالكا من حيث وغير مالك من حيث، وهذا كما ترى. ولو أنشأ الإباحة منجزة والتمليك معلقا على إرادة المباح له البيع لزم إنشاء الأمرين بإنشاء واحد، فإن جعل أحدهما كناية عن الآخر يشكل عليه بما مر: من عدم تصور ذلك في باب الأفعال، وعدم تعارفه بين العقلاء في باب الألفاظ. ولو أنشأهما عرضيا لزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى في اللفظ، وتأثير إنشاء واحد فيهما في الفعل، وهذا خلاف المعروف بين العقلاء. هذا في الايجاب، وفي القبول يشكل بما مر في سابقه.
144 والمتحصل: بناء على المعروف من عدم تحقق البيع إلا في ملك، لا يمكن تصحيح البيع ولا إباحته بما ذكره الشيخ (رحمه الله)، سواء كانت الإباحة باللفظ أو بالفعل لما تقدم، كما لا يمكن تصحيح العتق عن الغير في مورد استدعاء الغير له، بناء على أنه لا عتق إلا في ملك بمعناه المعروف. الجواب الثاني من أجوبة الشيخ ومنها: نظير مسألة شراء العمودين، حيث دل الدليل الشرعي على حصول الملكية أولا ثم الانعتاق، وهو مقتضى الجمع بين أدلة جواز الشراء والانعتاق بالشراء، وعدم كون الشخص مالكا لعموديه وعدم وقوع العتق إلا في ملك، فإنه ينكشف بذلك حصول الملك آنا ما - ولو تقديرا - ثم الانعتاق. وفي المقام لو دل دليل على جواز مثل هذه الإباحة المطلقة، وجواز البيع بالنسبة إلى المباح له، وعدم وقوع البيع إلا في ملك، جمع بينها والتزم بحصول الملك آنا ما قبل البيع - ولو تقديرا - ثم البيع (1). وأجاب عن ذلك: بالفرق بين المقام وتلك المسألة، لعدم الدليل على جواز الإباحة المطلقة حتى يجمع بينها وبين تالييها بما ذكر. ودليل التسلط على المال (2) لا يقتضي جواز ذلك، فإن دلالته على التسلط على الأموال لا على الأحكام (3)، وعبر أخيرا عن ذلك: بأن مفادها التسلط على المال فيما هو جائز شرعا (4).
1 - المكاسب: 89 / سطر 15. 2 - تقدم في الصفحة: 40. 3 - المكاسب: 89 / سطر 17. 4 - المكاسب: 89 / سطر 26. 145 مناقشة الشيخ في جوابه الثاني ولنا كلام في إمكان ورود دليل على جواز مثل هذه الإباحة أولا، ثم الوجه في عدم دلالة دليل السلطنة على ذلك. أما الكلام في الامكان فنقول: إن المبيح إذا كان ملتفتا إلى عدم إمكان وقوع البيع في غير ملك، أو عدم جوازه شرعا أو عقلائيا، كيف يمكنه إنشاء إباحة ذلك التصرف، فإنه إنشاء الأمر المستحيل، فإن المباح له لا يتمكن من البيع لنفسه بوجه، لا بإخراج المال عن ملك صاحبه وتملكه العوض بنفسه، فإنه مناف لمقتضى المعاوضة والمبادلة، ولا بإخراج ذلك عن ملك نفسه، فإن المفروض أن المال ملك المبيح، فكيف يخرجه عن ملك نفسه؟! فإباحة التصرف البيعي من دون تمليك غير ممكن، حتى نبحث عن وجود دليل عليها وعدمه، ولا يعقل إقامة دليل على الجواز، فإن إنشاء الإباحة غير معقول، لاستحالة متعلقها، فلا يعقل إرادتها من المبيح، فكيف يستدل على جوازها بدليل شرعي؟! وأما وجه عدم دلالة دليل السلطنة فليس ما ذكره الشيخ (رحمه الله): من أن الدليل قد دل على تسلط الناس على أموالهم فيما هو جائز من قبل الشرع، فإنه بعد تقييد موضوعه بذلك لا فائدة فيه أبدا، بل هو يشبه توضيح الواضحات، فإن معنى الجواز هو التسلط على الفعل، فما معنى أن يقال: إن الناس مسلطون على أموالهم فيما هم مسلطون عليه شرعا؟! بل معناه حسب - ما ذكرنا سابقا - أن الناس مسلطون على أموالهم بالتصرف فيها بأي تصرف كان. نعم، لا بد من تخصيص ذلك بغير التصرفات الممنوعة شرعا، ويبقى ما عدا ذلك تحت الدليل. ولقائل أن يقول: إن الإباحة في المقام من التصرفات، ولم يرد فيها منع شرعي، فتجوز لذلك الدليل. والوجه في عدم دلالة ذلك: أن إخراج المباح له المال عن ملكه، أو إدخاله
146 الثمن في ملكه - بعد إخراج المال عن ملك مالكه - ليس من تصرف المالك في ملكه، حتى يقال: إنه مسلط عليه، والإباحة وإن كانت فعل المالك، إلا أن متعلقها - وهو بيع المباح له مال المالك عن نفسه، أو عن مالكه مع دخول الثمن في ملكه - يبقى بلا دليل، ولا يمكن إثبات جواز ذلك بدليل السلطنة (1)، فدليل السلطنة قاصر عن إثبات ذلك. والحاصل: أنه لا يمكن تصحيح مثل هذه الإباحة بمثل المذكورات، وقد مر ما يمكن أن يقال في الحكم بالصحة. الاشكال الثاني: في اختلاف الإباحة المعوضة عن سائر المعاوضات ذكر الشيخ (رحمه الله) أن الإباحة المعوضة ليست على حد سائر المعاوضات، فإنها راجعة إلى عقد مركب من إباحة وتمليك، فيشكل في صحتها لعدم إمكان تصحيحها بأدلة التجارة والبيع، للتأمل في صدق التجارة عليها، فضلا عن البيع، فإن كلا العوضين ملك للمبيح، فكيف تتحقق التجارة أو البيع؟ إلا أن يكون صلحا، فإنها في معنى التسالم بناء على أنه لا يشترط فيه لفظ الصلح، ولو كانت معاملة مستقلة كفى فيها عموم الناس مسلطون على أموالهم (2) والمؤمنون عند شروطهم (3).
1 - أقول: لو أغمضنا النظر عن استحالة هذا التصرف عقلا، فدليل السلطنة يثبت جواز إباحته، ويثبت جواز متعلقها بالدلالة الالتزامية، فإنه لا معنى لجواز إباحته إلا جوازه. لكن يمكن أن يقال: إن دليل عدم جواز البيع إلا في ملك، أو عدم تصور المعاوضة الحقيقية إلا بدخول الثمن في ملك مالك المثمن، مخصص لدليل السلطنة، بمعنى أن المالك مسلط على جميع التصرفات إلا ما يلزم منه تحقق البيع في غير ملك، أو تحققه على غير وجه المعاوضة الحقيقية. المقرر حفظه الله. 2 - تقدم في الصفحة 40. 3 - تقدم في الصفحة 43. 147 وعلى تقدير الصحة، ففي لزومها مطلقا، لعموم المؤمنون عند شروطهم أو من طرف المباح له، حيث إنه يخرج عن ملكه دون الآخر، أو جوازها مطلقا لأصالة التسلط، وجوه، أقواها أولها، ثم أوسطها، وقد ظهر من ذلك حكم الإباحة بالإباحة أيضا (1). انتهى محصلا. مناقشة الشيخ في إشكاله الثاني أما ما ذكره: من أنها ليست على حد سائر المعاوضات، فإن أريد بها أنها ليست معاوضة فخلافها ظاهر، فإن المالك قد أباح ماله بالعوض، وقبل ذلك الآخر، فقد وقعت المعاوضة بين الإباحة والمال. وإن أريد بها أنها ليست معاوضة مالية فأيضا لا تتم، لأن المال ما يكون موردا لرغبة العقلاء، ويبذل بإزائه مال، وإباحة المال أمر مورد لرغبتهم، وقد فرض الكلام في أنه بذل بإزائها المال. وإن أريد بها أنها ليست بيعا - كما ذكر بعد ذلك - فبناء على أن البيع تمليك العين بالعوض صحيح، إلا أنا قد ذكرنا سابقا: أن خصوصية العين غير دخيلة في البيع، بل البيع مبادلة مال بمال، وهذا في المقام متحقق، فالصحيح أن الإباحة المعوضة بالمال أو الإباحة بيع. وأما ما ذكره: من أن كلا العوضين ملك للمبيح فليس كذلك، لأن أحد العوضين الإباحة، وتكون ملكا للمباح له بعد المعاوضة، وليست العين معوضة حتى يلزم ما ذكر. وأما تصوير الصلح فأيضا لا يتم، لأن المنشأ بالصلح نفس التسالم، وليس الصلح كل ما صدق عليه التسالم ولو أنشئ فيه التمليك بالعوض، فالصلح ما يكون
1 - المكاسب: 90 / سطر 8 - 14. 148 تسالما بالحمل الأولي، لا بالحمل الشائع. وأما ما ذكره: من أنه بناء على أنها معاملة مستقلة كفى فيها دليل السلطنة والشروط، فأيضا غير صحيح، لما بنى عليه هو (قدس سره): من أن دليل السلطنة ناظر إلى السلطنة في الأموال، لا في الأحكام، ودليل الشروط لا يشمل عناوين العقود والايقاعات، مضافا إلى أنه أي فرق بين كون هذه المعاوضة بيعا أو معاوضة مستقلة، في إمكان تصحيحها بالدليلين بناء على الثاني، دون الأول. وقد ظهر مما ذكرنا الحكم في الجواز واللزوم في هذه المعاوضة، فإنه بناء على كونه بيعا - كما قويناه - فهي لازمة بأدلة اللزوم في البيع، وبناء على كونها معاوضة مستقلة، فأيضا لازمة بأصالة اللزوم في كل معاوضة شك في لزومها وجوازها، وقد مرت أدلة ذلك. ومما ذكرنا ظهر الحال في حكم الإباحة بالإباحة، فلا نطيل بتكرار المطالب في ذلك. التنبيه الخامس: في جريان المعاطاة فيما عدا البيع من المعاملات هل تجري المعاطاة في غير البيع من المعاملات أم لا؟ قد ذكرنا: أن مفهوم المعاملة غير متقوم باللفظ عند العقلاء (1)، بلا فرق بين البيع وغيره، كالإجارة والهبة وأمثال ذلك، ولو كان اللفظ معتبرا فيها عند الشارع - كالطلاق مثلا - فإنما يعتبر فيها لترتب الآثار عليها، لا في مفهومها، فعلى ذلك لا بد من التماس الدليل على اعتبار الشارع اللفظ في كل عقد، ومع عدم الدليل عليه ينفى بالأصل، وهو ظاهر.
1 - تقدم في الصفحة 27. 149 إشكالات في جريان المعاطاة في النكاح وجوابها ثم إنه قد وقع الكلام في إمكان جريان المعاطاة في النكاح، وأشكل عليه بإشكالات: أحدها: أنه لو وقع النكاح بالفعل - كالوطء مثلا - يلزم عدم تحقق الزنا إلا في مورد الاكراه. وثانيها: لازم ذلك تأثير السبب المحرم في النكاح. وثالثها: أن حلية الوطء موقوفة على النكاح، فلو كان سببا للنكاح لزم الدور (1). وشئ من هذه الاشكالات لا يتم: أما الأول: فإنه لا يلزم من جواز الوطء بقصد الزواج عدم تحقق الزنا إلا في مورد الاكراه فإنه يمكن الوطء لا بقصد الزواج في غير مورد الاكراه أيضا، وبين الوطء بقصد الزواج والوطء في مورد الاختيار عموم وخصوص مطلق. وأما الثاني: فلأنه لا مانع من تأثير السبب المحرم في العقد بناء على كونه مسببا لذلك السبب، ولذا يمكن أن يصرح الشارع: بأن الوطء حرام في نفسه، لكن لو وقع ترتبت عليه الزوجية، وقد برهن على ذلك في الأصول مفصلا (2)، بل لو قلنا بأن العقد نفس السبب فأيضا الأمر كذلك بعين البيان. هذا أولا. وثانيا لو فرضنا عدم إمكان تأثير السبب المحرم في العقد، فإنه منحصر بما إذا تعلق النهي بعنوان السبب لا بعنوان آخر كالوطء في المقام، فإن بينهما عموما من وجه. وقد بنينا في مبحث اجتماع الأمر والنهي على وجود الحكمين، ولو كان
1 - أنظر حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 45 / سطر 9. 2 - مناهج الوصول 2: 161 / سطر 15. 150 مصداق متعلقيهما أمرا واحدا (1) فإنه لا يعقل سراية الحكم المتعلق بعنوان إلى عنوان آخر، ففي المقام الوطء محرم، وسبب النكاح مؤثر، وقد اتحد المتعلقان بحسب المصداق والخارج وفي ظرف الامتثال، لا بحسب الواقع وفي ظرف الحكم. في إشكال عدم مؤثرية المبغوض في العقد وأما ما يقال بناء على الجواز أيضا يقع الفعل مبغوضا عليه، والمبغوض لا يكون مقربا في العبادات، وفي المقام المبغوض لا يكون مؤثرا في العقد (2)، فمدفوع. وقد ذكرنا في محله: أن الفعل أيضا متحيث بكلتا الحيثيتين من إحداهما مقرب أو مؤثر، ومن الأخرى محرم ومنهي عنه (3). في جواب المحقق الأصفهاني على الاشكال ومناقشته وأما الاشكال الأخير فقد ذكر المحقق الأصفهاني (رحمه الله) في دفعه أجوبة (4) ترجع جميعا إلى أساس واحد، وهو أن الحلية لا تحتاج إلى سبب، بل الحرمة وغيرها من الأحكام محتاج إليه، فإن الحلية من قبيل اللا اقتضاء، والحرمة وغيرها من قبيل الاقتضاء، فما لم يكن الاقتضاء موجودا فيه نحكم بحليته، ومقتضى حرمة الوطء عدم الزوجية، فلو انتفى حكمنا بالحلية، ويندفع بذلك محذور الدور، فإن الحلية غير متوقفة على النكاح، بل الحرمة موقوفة على عدم الزوجية، والمفروض أن الوطء سبب للزوجية، فيلزم تقارن الوطء لها، فليس عنوان الحرمة - وهو عدم
1 - مناهج الوصول 2: 131 - 132. 2 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 45 / سطر 16. 3 - مناهج الوصول 2: 135. 4 - أنظر حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 45 - 46. 151 الزوجية - موجودا حتى يحكم بحرمة الوطء. هذا، ولكنه خلاف ما هو المرتكز عند العقلاء، فإنهم يرون النكاح موضوعا لحلية الوطء، وهذا ظاهر. والجواب: أن حلية الوطء وإن كانت موقوفة على النكاح، إلا أن النكاح غير موقوف على حلية الوطء، لما تقدم في الجواب عن الاشكال الثاني، بل إنه متوقف على نفس الوطء ولو كان محرما، فاندفع الاشكال (1). فالصحيح إمكان تحقق مفهوم النكاح أيضا بالفعل، ولذا يقع بالفعل عند التعذر كالطلاق، وبهذا يمكن استكشاف حلية الفعل أيضا لو وقعت عن إرادة النكاح، ولا سيما إذا كان مسبوقا بالمقاولة بين الطرفين. وكيف كان، فقد وقع التسالم الخارجي على اعتبار الشارع الصيغة في تأثير النكاح شرعا حال الاختيار، فالمتبع هو ذلك.
1 - أقول: يمكن أن يلتزم بالحلية، فإن المفروض حصول الزوجية بنفس الوطء فالوطء وطء الزوجة. وبعبارة أخرى: أن حلية الوطء غير متوقفة على تقدم الزوجية عليها، بل إنها متوقفة على كونه وطء الزوجة، وهو حاصل ولو مع التقارن، فالوطء موضوع للنكاح، والنكاح موضوع لحلية ذلك الوطء، لا نفسه، فلا دور، والمفروض أن الوطء والنكاح متقارنان، لتقارن الحكم وموضوعه، كما أن النكاح وحلية الوطء متقارنان لذلك، فيلزم تقارن الوطء وحليته، فافهم. والاستشكال في ذلك بلزوم تقدم الموضوع على الحكم، فيتقدم الوطء على حليته بمرتبتين. مدفوع: بأن الترتب إنما هو في عالم اللحاظ لا الخارج، وإلا فيمكن اعتبار حكم متقدم على موضوع متأخر في الخارج، ولذا بنينا على إمكان الشرط المتأخر، بل وقوعه، فإن الاعتبار سهل المؤونة، فأي مانع من اعتبار الحلية لوطء أريد به النكاح، ولو بأن يعتبر الشارع النكاح - المتأخر رتبة عن الوطء - موضوعا لحلية نفس ذلك الوطء؟! المقرر حفظه الله. 152 في اتحاد الشرط والمشروط في العقود المتوقفة على القبض وهنا إشكال عقلي في جريان المعاطاة في العقود المتوقفة صحتها على القبض، كالهبة والوقف والقرض وغيرها: وهو لزوم اتحاد الشرط والمشروط في القبض (1). في جواب الشيخ الأصفهاني ومناقشة هذا الجواب وقد أجاب عن ذلك المحقق الأصفهاني (رحمه الله) بجوابين خاص بالقرض وعام يشمل الجميع: أما الأول: فهو أن العقد في باب القرض سبب للملك، والقبض سبب للضمان، وحيث إن الشارع رأى الملازمة بين الملك والضمان لم يعتبر الملكية إلا بعد القبض، وإلا فسبب الملك هو العقد، ولا يشترط فيه القبض أبدا. نعم، بحسب ما رأى الشارع من الملازمة يكون سبب الملك العقد المتعقب بالقبض، لا أن القبض شرط في الملك. فعلى ذلك يندفع الاشكال، فإن التعاطي الخارجي هو العقد وسبب للملك، وليس شرطا في تأثيره حتى يلزم الاتحاد (2). ولكن هذا الجواب لا يتم بوجه، لأنه بناء على أن العقد تمام سبب الملك لا يعقل تفكيك مسببه عنه، وبناء على التلازم بين حصول الملكية والضمان لا بد من التلازم بين سببيهما أيضا، ومع التفكيك: فإما أن يلتزم بحصول الملك بالعقد فيلزم التفكيك في المسببين، وهذا خلف، وإما أن يلتزم بعدم حصول الملك إلا بالقبض فيلزم دخل القبض فيه، فعاد المحذور وهو لزوم اتحاد الشرط والمشروط في القبض.
1 - أنظر حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 47 / سطر 18. 2 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 47 / سطر 20. 153 وأما الجواب العام فهو أن للاقباض حيثيتين - مصدري، والحاصل منه - فالعقد هو الاقباض بالاعتبار الأول، والشرط هو الاقباض بالاعتبار الثاني، فيندفع الاشكال. ويشكل هذا بناء على تمامية العقد إلا بالقبول على ما ذكروه، فإن العقد - وهو الاقباض - لا يتم إلا بالقبض، فعاد المحذور. الجواب الصحيح على الاشكال العقلي والصحيح في الجواب عموما: لحاظ تعدد الحيثيتين في نفس القبض، فإن القبض بالمعنى المصدري دخيل في العقد بناء على ذلك المبنى، وبالمعنى الحاصل منه شرط، لعدم قيام دليل على اعتبار القبض بالاعتبار الأول، وهو الأخذ في صحة العقد، بل غايته اعتبار ذلك بمعنى حصول الشئ في يد من انتقل إليه فيها، فيندفع الاشكال. هذا مضافا إلى أنه لو تم الاشكال فلا يدل على بطلان المعاطاة في العقود المذكورة، بل غايته الدلالة على عدم كفاية قبض واحد للأمرين معا، بل لا بد من قبض آخر - إما حدوثا، أو بقاء - للقبض السابق (1). التنبيه السادس: في ملزمات المعاطاة ولا بأس بالإشارة إجمالا إلى كبرى المسألة ابتداء، فإنها مشتملة على فوائد
1 - أقول: اتحاد الشرط والمشروط في الأمور الاعتبارية ممكن ذاتا، فإن الاعتبار سهل المؤونة. نعم، يمكن الاستشكال فيه بلزوم اللغوية في الاعتبار، ولكن يدفعها قانونية الجعل التي التزم بها السيد الأستاذ، مع أن لزوم اللغوية في الجعل يوجب سقوط الشرط عن الشرطية، لا فساد المعاملة، ولا لزوم تعدد القبض. فليتدبر. المقرر حفظه الله. 154 سارية في الأبواب المتعددة، وهي أنه إذا خصص العام بمخصص في بعض الأزمنة، وليس للمخصص إطلاق أو عموم بالنسبة إلى ما بعد ذلك الزمان، فهل يتمسك فيما بعد ذلك بعموم العام، أو استصحاب حكم المخصص، أو لا هذا ولا ذاك، أو لا بد من التفصيل؟ فنقول: لا بد لتحقيق ذلك من تمهيد مقدمتين: الأولى: في العموم الزماني المنصوص في العام: لو كان العموم الزماني منصوصا في العام - كما إذا قيل: أكرم العلماء في كل زمان، أو مستمرا - فيحتمل رجوع القيد إلى الهيئة، أو إلى المادة، أو إلى الموضوع على نحو من التأويل، أو إلى النسبة الحكمية. والظاهر الأخير، فمعناه: أكرم العلماء وليكن إكرامك إياهم في كل زمان، فجعل موضوع دليل الثاني حكم الأول، فمع ورود التخصيص في الأول يخرج الفرد عن عموم الثاني أيضا، لكن لا من باب التخصيص، بل من باب التخصص والسلب بانتفاء الموضوع، بخلاف ما لو ورد التخصيص أو التقييد في الثاني، فإن عموم الأول باق على حاله، ومع الشك في هذا القسم في تخصيص الزائد أو تقييده، يتمسك بعموم الثاني أو إطلاقه، ولا مجال للتمسك بعموم الأول حينئذ، فإن لسانه مهملة الحكم، وهي موجودة غير مخصصة بشئ، والشك في بقاء ذلك عموما أو إطلاقا، والمتكفل ببيانه دليل الثاني ولو كان متصلا بالأول ومتفرعا عليه، فهنا عمومان أو عموم وإطلاق: فوقاني متكفل ببيان مهملة الحكم، وتحتاني متكفل ببيان بقائها بحسب عمود الزمان. وهكذا الحال فيما إذا استفيد الحكم بالنسبة إلى الزمان من مقدمات الاطلاق - كمسألتنا هذه - فإن (أوفوا بالعقود) (1) لا تدل على عموم الحكم بالنسبة إلى الأزمنة إلا بمقدمات الاطلاق. الثانية: في نوع العموم الوارد على القيد: يحتمل في القيد أن يكون على نحو
1 - المائدة 5: 1. 155 العموم الشمولي - العام الأصولي - وأن يكون على نحو العموم المجموعي، وأن يكون على نحو العموم المستفاد من مقدمات الحكمة في موارد المطلقات، وفيما إذا استفيد الحكم بالنسبة إلى الأزمنة من مقدمات الحكمة الظاهر هو الأخير. والفرق بينه وبين العموم الأصولي هو الفرق بين الاطلاق والعموم، فإن الفرق بينهما لا ينحصر بكون الدلالة في الأول بمقدمات الحكمة، وفي الثاني بالوضع، بل في موارد عموم الحكم متعلق بالطبيعة المتكثرة، بحيث يتكثر الحكم بتكثر الطبيعة حسب تكثر أفرادها، فله إطاعات ومعاص متكثرة حسب تكثره بما ذكر، بخلاف موارد الاطلاق، لأن الحكم متعلق بنفس الطبيعة على إهمالها وكونها لا بشرط. ولذا مع عدم وجود قرينة في البين تحصل الإطاعة بوجود فرد ما في الأوامر، وبعدم فرد ما في النواهي، إلا أن القرينة العرفية في موارد النواهي قائمة على أن النهي عن الطبيعة دال على مبغوضيتها المطلقة، فلا بد من تركها بجميع أفرادها، وفي بعض موارد غير النواهي، مثل (أحل الله البيع) (1) بالنسبة إلى الأفراد، و (أوفوا بالعقود) بالنسبة إلى الأزمان بمقدمات الاطلاق، يعلم أن الحكم فيها سار في جميع موارد انطباق الطبيعة عليها، لكن في الموردين ليس الحكم على نحو العموم الأصولي، بحيث يتكثر الحكم بتكثر الطبيعة حسب تكثر الفرد، ولا على نحو العموم المجموعي، بحيث لو عصى بفرد واحد يسقط التكليف رأسا، بل الحكم فيها حكم واحد متعلق بنفس الطبيعة، فلو ترك الكذب المحرم بجميع أفراده لم تحصل إلا إطاعة واحدة، وإن وجد على فرض المحال جميع أفراده بإيجاد واحد فهو عصيان واحد. نعم لو وجد في ضمن فرد أولا وبعده وجد في ضمن فرد آخر... وهكذا، فقد وجدت المبغوضات المتعددة، لكن هذا من باب حصول الطبيعة المبغوضة مرارا، والمفروض أنها محرمة على إطلاقها، وهكذا في مورد حل البيع والوفاء بالعقد
1 - البقرة 2: 275. 156 بحسب الزمان. وعلى نحو التمثيل الحكم في مورد هذه المطلقات حكم واحد جعل على نحو لازم الماهية يدور مدارها، بخلاف موارد العموم، فإن الحكم فيها يتكثر حسب تكثر الطبيعة بتكثر الأفراد. التمسك بالاطلاق في المقام إذا ظهرت هاتان المقدمتان فقد ظهر: أنه في مورد الشك في مفروض المسألة لا بد من التمسك بإطلاق الدليل بالنسبة إلى العموم الزماني، لا العموم ولا استصحاب الحكم المخصص، فإن (أوفوا بالعقود) (1) بمثابة أوفوا بكل عقد وليكن الوفاء مستمرا على نحو العموم الاطلاقي المذكور، والشك في المقام راجع إلى تقييد الدليل التحتاني لا الفوقاني، فليس الحكم بالجواز في مورد الشك مستلزما لكثرة التخصيص، كما ذكره الشيخ (2) (رحمه الله)، بل هو من باب كثرة التقييد، والأصل الاطلاق. إشكال لزوم التفصيل بين التخصيص من أول الأمر وبينه في الأثناء إن قلت: إن لازم ما ذكر التفصيل بين ورود التخصيص من أول الأمر ووروده في الأثناء، فإنه في الثاني وإن كان تاما، إلا أنه في الأول يحصل العلم الاجمالي بأحد التخصيصين: تخصيص العام الأول إذا كان الحكم مستمرا في ظرف الشك أيضا بلا ارتكاب خلاف الظاهر في الثاني، أو تخصيص العام الثاني إذا اختلف ما قبل الشك وما بعده في الحكم، فإنه موجب لبقاء الأول على ظهوره، فإنه شامل لمهملة الحكم، بخلاف الثاني، فإنه مخصص بغير الحكم الثابت قبل زمان الشك،
1 - المائدة 5: 1. 2 - المكاسب: 242 - 243. 157 فيسقط الدليلان معا، ويرجع إلى الاستصحاب، بخلاف ما لو ورد التخصيص في الأثناء، فإن المرجع عموم الثاني، كما لا يخفى. قلت: إن الأصل الثاني غير جار في نفسه، لأنا نعلم بالحكم في أول الأمر، كما هو المفروض، فمعنى هذا الأصل: أن هذا الفرد المعلوم حكمه غير مرتبط بالدليل الثاني، بل هو خارج عن عموم الأول، فليس الشك في الإرادة الجدية في الدليل الثاني، بل الشك في الإرادة الاستعمالية فيه، وأصالة العموم أو الاطلاق معتبران عند العقلاء في الأول لا الثاني، وهذا بخلاف الأصل الأول، فإن الشك واقع في أن مهملة الحكم في هذا الفرد داخل فيه أو خارج عنه، فيتمسك بعمومه لرفع الشك. وأيضا الدليل الثاني متفرع على الأول، أي ما دل عليه الأول بنحو الاهمال يدل عليه الثاني بنحو الاستمرار، فلو أجرينا الأصل الثاني، وحكمنا بخروج المورد عن الدليل الأول، لم يبق مجال للأصل الثاني، فيلزم من وجوده عدمه. وهذا هو الجواب الصحيح. جواب الشيخ ومناقشته وأما ما أجاب به شيخنا العلامة (رحمه الله)، وهو مبناه في تقديم الشك السببي على المسببي: من أن العام الأول في رتبة الموضوع بالنسبة إلى الثاني، فإذا أجرينا الأصل الأول لم يبق مجال للثاني (1)، فقد مر أن التقدم الرتبي أو الزماني، لا يوجب تقدم أحد الأصلين على الآخر ما لم يكن الترتب شرعيا.
1 - البيع، الأراكي 1: 116. 158 جواب آخر ومناقشته وأيضا ما أجاب به بعض: من أن الشك واقع في التخصيص الزائد، فإنه من الشك في الأقل والأكثر، ففي الزائد نرجع إلى العام الأول. ففيه: أن المفروض أن هنا دليلين علم إجمالا بتخصيص أحدهما دون الآخر، فلا يعلم تخصيص الأول حتى يرجع إليه عند الشك في زيادة التخصيص. تفصيل المحقق النائيني في المقام ثم إن المرحوم النائيني (رحمه الله) ذكر تفصيلا في المقام نذكره مجملا: وهو أنه مع عروض الحكم على العموم الزماني يتمسك بالعموم في مورد الشك، بخلاف ما لو كان العموم عارضا على الحكم. وبعبارة أخرى: لو كان المتقيد بالعموم الزماني المتعلق فإنه يتمسك بالعموم، بخلاف ما لو كان الحكم مقيدا به والفرق بينهما أن في الأول يمكن بيان العموم بنفس دليل الحكم، بخلاف الثاني، للزوم المحال، وهو تقديم ما حقه التأخير، وهو العموم الذي حقه التأخير عن الحكم المدلول لذلك الدليل، ففي الأول يمكن التمسك بالعموم، بخلاف الثاني (1)، لكنه من المعلوم أنا لا نريد استفادة العموم من نفس الدال على الحكم، فإنه يستحيل استفادة ما يزيد عن مدلول الشئ عنه، بل استفادة ذلك إنما هو من دال آخر، وهو تقيد الحكم أو المتعلق ب في كل زمان أو مستمرا، أو من مقدمات الاطلاق، فقوله: أكرم كل عالم مستمرا يفهم منه استمرار الحكم، لا بنفس الدال عليه - وهو أكرم - بل بدال آخر، وهو مستمرا
1 - منية الطالب 2: 87 - 90، فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 4: 535 - 542. 159 مع تعلقه ب أكرم، فاستفادة الحكم وعمومه بتعدد الدال والمدلول، ومع الشك في مفروض المسألة يتمسك بالدال الثاني، بلا فرق بين رجوعه إلى الحكم أو المتعلق. وبعبارة أخرى: أن الدال على الحكم دال عليه مهملا، والدال على العموم الزماني أو الاستمرار لفظا أو بمقدمات الاطلاق، هو الأخير الذي موضوعه مدلول الدال الأول، وهو مهملة الحكم، فمع الشك في مهملة الحكم يتمسك بالعموم الفوقاني - الأول - لرفعه، ومع الشك في استمراره بعد فرض وجود مهملته يتمسك بالعموم التحتاني - الثاني - لرفعه، بلا فرق بين الرجوع إلى الحكم أو المتعلق، وهذا ظاهر. كلام المحقق الحائري في المقام نعم ذكر شيخنا العلامة (رحمه الله) فيما إذا استفيد الاستمرار من مقدمات الحكمة كالمقام: أنه لا يمكن التمسك بالاطلاق في مورد الشك، فإنه فرق بين هذا الاطلاق وسائر الاطلاقات، فإنه في سائر الموارد - ك (أحل الله البيع) (1) - الأفراد في عرض واحد، بخلاف المقام، فإن الأفراد حسب عمود الزمان طولي، ومعنى الاطلاق فيه أن الحكم مترتب على العقد مستمرا، فلو ورد التقييد بالنسبة إلى بعض الأزمنة انقطع الاستمرار، فلا يمكن التمسك بإطلاق الدليل (2)، لكن ليس في الدليل كلمة الاستمرار وما أشبهها حتى ندور مدارها، بل على ما ذكرنا الحكم ثابت على موضوعه، وهو العقد بالنسبة إلى عمود الزمان على الاطلاق، وليس خصوصية الزمان دخيلة في موضوعه، بل الحكم متعلق بطبيعة العقد، ومورد الاطلاق هو الزمان، لا أنه قيد للموضوع، فيكون وزان هذا الاطلاق أيضا وزان سائر المطلقات،
1 - البقرة 2: 275. 2 - الخيارات، الأراكي: 247 - 248. 160 ومع تقييد الدليل بخروج عقد في بعض الأزمنة عنه، لا يوجب ذلك عدم جواز الأخذ بإطلاقه بالنسبة إلى ما عدا ذلك. ثم إن البحث في هذه المسألة مبني على تسليم جواز المعاطاة بإجماع ونحوه، وإلا فلو قلنا بأنها بيع لازم - كالبيع بالصيغة - فلا موضوع لهذا البحث، كما هو ظاهر. كلام الشيخ في اللزوم بعد تلف العينين ثم إن الشيخ (رحمه الله) ذكر: أنه بناء على القول بالملك في المعاطاة، لا بد من القول باللزوم بعد تلف العينين بالأدلة الثمانية المتقدمة (1)، وليعلم أن موضوع بعض تلك الأدلة المال، مثل لا يحل مال امرئ مسلم... (2) إلى آخره، أو يكون المال كالموضوع لبعضها، ك الناس مسلطون على أموالهم (3)، أو يكون موضوع بعضها الملك، كاستصحاب الملكية مثلا، مع أن اعتبار المال والملك موقوف على وجود ما يعتبر فيه، وبعد تلف العينين لا موضوع لذلك أصلا. وما يقال: من إمكان الاعتبار للمعدوم، كالوقف على البطون المتأخرة، أو بيع الثمرة المتجددة، فليمكن ذلك بالمعدوم أيضا. ظهر فساده سابقا، فإن الوقف أو البيع لم يتعلقا بالمعدوم، بل الموقوف عليه في الأول، والمبيع في الثاني، ليس إلا العناوين الغير القابلة للانطباق إلا بعد وجود المعنون بها، نظير البيع الكلي، وإلا فلا يعقل اعتبار شئ للمعدوم، فكيف باعتباره بالمعدوم (4)؟
1 - المكاسب 1: 90 - 91. 2 - سنن البيهقي 6: 100، عوالي اللآلي 1: 222 / 98، و 2: 240 / 6، و 3: 473 / 3. 3 - تقدم في الصفحة 40. 4 - قد ذكرنا سابقا: أن مثل الوقف وبيع الثمرة والمنفعة والإجارة وغيرها - مما يكون من هذا القبيل - كلها من التمليك للأمر المتأخر والتمليك فعلي والملكية متأخرة، نظير الايجاب الفعلي والوجوب المتأخر، والتفكيك بين التمليك والملكية - كالايجاب والوجوب - ممكن، فإن قياس الاعتباريات بالتكوينيات ليس في محله. نعم، اعتبار المال والملك بالمعدوم في ما نحن فيه غير معقول، ووجهه ظاهر، ولا يجئ فيه ما ذكرنا في بيع الأمر المتأخر، كما لا يخفى. المقرر حفظه الله. 161 هذا، مع أن استصحاب الملكية معارض باستصحاب الجواز، فإن لكل منهما حالة سابقة متيقنة. ذكر الشيخ (رحمه الله) في المقام ما لفظه: وأما على القول بالملك فلما عرفت من أصالة اللزوم، والمتيقن من مخالفتها جواز تراد العينين، وحيث ارتفع مورد التراد امتنع، ولم يثبت قبل التلف جواز المعاملة على نحو جواز البيع الخياري حتى يستصحب بعد التلف، لأن ذلك الجواز من عوارض العقد لا العوضين، فلا مانع من بقائه، بل لا دليل على ارتفاعه بعد تلفهما، بخلاف ما نحن فيه، فإن الجواز فيه هنا بمعنى جواز الرجوع في العين، نظير جواز الرجوع في العين الموهوبة، فلا يبقى بعد التلف متعلق الجواز، بل الجواز هنا يتعلق بموضوع التراد لا مطلق الرجوع الثابت في الهبة. هذا، مع أن الشك في أن متعلق الجواز، هل هو أصل المعاملة، أو الرجوع في العين، أو تراد العينين؟ يمنع من استصحابه، فإن المتيقن تعلقه بالتراد، إذ لا دليل في مقابلة أصالة اللزوم على ثبوت أزيد من جواز تراد العينين، الذي لا يتحقق إلا مع بقائهما (1). انتهى كلامه (رحمه الله). مناقشة كلام الشيخ أما ما ذكره أخيرا: من التعليل في مورد الشك بقوله فإن المتيقن تعلقه بالتراد، فغير واقع في محله، فإنه بعد فرض الشك وقطع النظر عن الدليل
1 - المكاسب: 91 / سطر 3. 162 الاجتهادي، كيف يستدل على عدم جريان الاستصحاب بذلك؟! بل لا بد من التعليل بعدم اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة في الترديد المذكور. وأما ما ذكره قبل ذلك: من أن المتيقن خروجه عن أصالة اللزوم في المقام جواز تراد العينين مع كون الجواز من عوارض العوضين. ففيه: أنه لو كان المراد من التراد التراد الخارجي أو التراد في الملك - بمعنى التملك - فلا ينافي أصالة اللزوم، فإنه يكون نظير جواز التملك تقاصا، أو جواز الأكل بالنسبة إلى المارة - على القول بثبوت حق المارة - وهذا المعنى لا ينافي لزوم العقد، فإن العقد بعد باق على لزومه لم ينفسخ، بل التملك والتراد طارئان لأمر آخر غير الفسخ، وإنما المنافي لأصالة اللزوم - الذي يمكن القول بخروجه عنها والأخذ بالقدر المتيقن منه - هو الجواز الوضعي الراجع إلى نفس العقد، فتعلق الجواز بتراد العينين مناف للخروج عن أصالة اللزوم، على أنه لا شبهة في عدم انحصار فسخ المعاطاة بالتراد الخارجي، فإنه لو قال الفاسخ: فسخت بلا تراد، أيضا تنفسخ المعاطاة، ولو وقع التراد غصبا لا بعنوان الفسخ لم تنفسخ، فالتراد الخارجي لا موضوعية له. وأما التراد الاعتباري فلا يعقل إلا بسبب فسخ العقد، فإنه مع بقاء العقد على قوته لا يمكن ذلك، والقول بأن التراد يقع أولا، ويقع الفسخ بعد ذلك، كما ترى. فالمعقول في موضوع الجواز هو العقد المتعلق بالعين حتى في باب البيع الخياري، فإن العقد مطلقا لا يعقل كونه موضوعا للجواز، ومع تعلقه بالعين يكون الاشكال - وهو امتناع الفسخ بعد تلف العين - مشترك الورود، فإن معنى فسخ العقد المتلق بالعين ليس إلا تراد العينين، فإذا قلنا بجواز ذلك في البيع الخياري نقول بالجواز في المعاطاة أيضا. ولو سلمنا تعلق الجواز بتراد العينين فيها، فإن المفروض أن تراد العينين
163 - اعتبارا لا خارجا - لا محذور فيه. وللكلام في حل الاشكال محل آخر، وهو كتاب الخيارات، والمقصود أنه لا مانع من إجراء الاستصحاب في الجواز والاشكال المذكور مشترك الورود في المقام وفي الهبة وفي البيع الخياري، وجوابه مذكور في كتاب الخيارات مفصلا (1). كلام المحقق الأصفهاني في المقام ذكر الشيخ المحقق الأصفهاني (قدس سره) في المقام: أن استصحاب الجواز حاكم على استصحاب الملك، فإنه لا معنى للتعبد بالجواز إلا التعبد بزوال الملك عند الرجوع، والتعبد بذلك بحكم استصحاب الجواز حاكم على استصحاب الملك (2). وتوضيحه: أنه قد ذكر في باب الاستصحابات التعليقية: أن في مورد كل استصحاب تعليقي استصحابا تنجيزيا منافيا له، مثلا: في مورد استصحاب حرمة
1 - يمكن أن يقال: إنه ليس المراد من أن موضوع الجواز هو التراد، إنه صفة للتراد لا العقد، فإن ما هو القابل للتوصيف بالجواز واللزوم ليس إلا العقد، كما أفاده مد ظله، بل المراد منه أنه حيث إن دليل الجواز في المقام الاجماع - وهو لبي - لا بد من الأخذ بمتيقنه، وأيضا العقد بحسب عمود الزمان له نحو وجود بقائي، ولذا تمسكنا لاثبات اللزوم في العقود بالأدلة التي أخذ العقد أو البيع موضوعا لها، فالقدر المتيقن من العقد الموضوع للجواز في المقام هو العقد ما دام التراد ممكنا، لا بنحو الظرفية حتى يقال بإمكان جريان الاستصحاب، بل من باب التقييد، كالجلوس المقيد بما قبل الزوال، وهذا هو القدر المتيقن، فمع عدم إمكان التراد يتبدل الموضوع، ولا يجري فيه الاستصحاب. وبهذا يمكن أيضا دفع ما اعترض مد ظله على ذيل كلامه (قدس سره) في صورة الشك، فإن في جميع الصور الثلاث موضوع الجواز هو العقد، لكن مقيدا في الأولى بإمكان تراد العينين، وفي الثانية بإمكان رد العين، وفي الثالثة مطلقا، فالقدر المتيقن من ذلك هو المقيد بإمكان تراد العينين، وبعد ذلك يكون الشك في تبدل الموضوع، فلا يجري الاستصحاب. المقرر حفظه الله. 2 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 49 / سطر 5. 164 العصير على تقدير الغليان استصحاب حليته تنجيزا، إلا أن الاستصحاب التعليقي المذكور حاكم على الاستصحاب التنجيزي، وذكر وجهه مستوفى في الأصول (1). وفي المقام: معنى استصحاب الجواز هو استصحاب زوال الملك على تقدير الرجوع، وهذا استصحاب تعليقي يجري في مورده استصحاب بقاء الملك تنجيزا، والأول حاكم على الثاني، ويمكن أن يستصحب الجواز تنجيزا أيضا، بمعنى: الرجوع مزيل. مناقشة كلام المحقق الأصفهاني والجواب عن ذلك: أنه لو كان المراد من أنه لا معنى للتعبد بالجواز إلا التعبد بزوال الملك عند الرجوع، اتحاد المعنيين، فهذا أمر مخالف لنظر العقلاء، فإن اللزوم والجواز حكمان للعقد، وتأثير الفسخ وعدمه فيه أمر مترتب على الجواز واللزوم بنظرهم، ولو كان المراد منه أن التعبد بالجواز ملزوم للتعبد بالآخر، فاستصحاب الجواز لا يثبت به لازمه (2). ولا يجري الاستصحاب التعليقي في اللازم نفسه، فإن التعليق عقلي لا شرعي، وعليه فلا حاكمية لاستصحاب الملك، بل يجري استصحاب الجواز ويعارض به استصحاب الملك. هذا بناء على القول بالملك في المعاطاة.
1 - فرائد الأصول 2: 653، أنظر فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 4: 473 - 478، الاستصحاب، الإمام الخميني (قدس سره): 139. 2 - الحكم العقلائي المتعلق بالأعم من الواقع والظاهر، لا مانع من ترتيبه على الاستصحاب، ولم يكن الاستصحاب مثبتا نظير حكم العقل بوجوب الامتثال وإن كان الحكم ثابتا بالاستصحاب. والمقام من هذا القبيل، فإن زوال الملك عند الرجوع حكم عقلائي مترتب على الجواز أعم من الواقع والظاهر، فيمكن إثباته بالاستصحاب. المقرر حفظه الله. 165 وأما بناء على القول بالإباحة فيقع الكلام تارة في صورة وجود العين، وأخرى بعد تلفها. أما في الأول: فتختلف الحال على اختلاف المباني في الإباحة، فإنه إما أن يقال بحصول الإباحة المالكية، أو الشرعية. وعلى الثاني: إما أن يقال: بأن الشارع ألغى سببية المعاطاة لحصول الملك وجعل السببية لها لحصول الإباحة، أو يقال: بأنه جعل المعاطاة موضوعا للإباحة بلا وجود سببية لها أصلا. تقريب اللزوم على الإباحة المالكية أما على القول بالإباحة المالكية فيمكن تقريب اللزوم بوجوه: الأول أن يقال: إن المالك بإجرائه البيع بالمعاطاة ملك الآخر السلعة، وأباح له جميع التصرفات، والاجماع قام على عدم حصول الملكية، وبقيت الإباحة، فلا بد من الالتزام باللزوم، لشمول (أوفوا بالعقود) (1) لهذا العقد بالنسبة إلى الإباحة بلا مانع. الثاني أن يقال: إنه ليس المراد من (أوفوا بالعقود) الالتزام بحصول الملكية لكل من انتقل إليه مال الآخر فقط، بل المراد منه ذلك والتسليم إليه وعدم المزاحمة له في التصرف فيه، والمفروض أن المعاطاة عقد، فيشملها الدليل، غاية الأمر الاجماع قائم على عدم حصول الملك إلا أنه لا بد من الوفاء بالعقد بالنسبة إلى سائر آثار العقد، وهو لزوم التسليم وعدم المزاحمة في التصرف، وليست هذه من آثار الملك، حتى يقال: بأنه بعد قيام الاجماع على عدمه لا دليل على بقاء آثاره، بل قد فرضنا أنها من آثار العقد كالملك، فمع قيام الدليل على عدم لزوم
1 - المائدة 5: 1. 166 الوفاء بالعقد بالنسبة إلى أثره الملك، لا بد من الالتزام به بالنسبة إلى سائر آثاره تمسكا بعموم (أوفوا بالعقود). الثالث أن يقال: إن شأن الشارع ليس إلا التشريع، وأما تغيير بناء العقلاء والأحكام العقلائية فغير مربوط به، فلو كان بيع الخمر بيعا عقلائيا، فليس من شأن الشارع القول بأنه ليس ببيع عند العقلاء، أو لا يؤثر في حصول الملكية عندهم، بل ما هو من شأنه ومربوط به بيان أنه ليس ببيع عنده، أو لا يملك عنده. ففي المقام المفروض أن المعاطاة بيع عقلائي مملك ومبيح لجميع التصرفات عندهم، وليس للشارع التصرف في هذا المقام، بل له أن يقول إنه ليس ببيع أو لا يؤثر في الجملة عنده. والمفروض قيام الاجماع على عدم حصول الملكية بالمعاطاة فقط، لا أنها ليست بعقد أو بيع، ولا أنها لا تؤثر مطلقا، فيتمسك لاثبات تأثيرها في حصول الإباحة بعموم (أوفوا بالعقود)، فإنه عقد عقلائي مؤثر فيها عندهم، والمفروض أن الشارع لم يتصرف فيها من هذه الجهة. وهكذا يتمسك بها لاثبات اللزوم أيضا، كما هو ظاهر. إثبات اللزوم على الإباحة الشرعية وأما على القول بالإباحة الشرعية، فعلى القول الأول منه - وهو إلغاء الشارع سببية المعاطاة للملك وجعله سببيتها للإباحة - فيمكن التمسك بالآية أيضا لاثبات اللزوم حينئذ، فإن المعاطاة عقد سبب للإباحة الشرعية، فيجب الوفاء به، ولو قيل بأن المقصود بها الملك ولم يقع، والواقع الإباحة ولم تقصد، أمكن الجواب عنه: بأن الإباحة ليست أجنبية عن الملك وغير مرتبطة به أصلا، بل إنما هي من لوازمه، فالقصد قد تعلق به ولو تبعا، والشارع ألغى سببية المعاطاة للملزوم، وجعل سببيتها للازمه، فيندفع الاشكال. وأما على القول الثاني: وهو أنه لا سببية بين المعاطاة والإباحة أصلا، وهما
167 أمران غير مرتبط أحدهما بالآخر، والشارع جعل المعاطاة موضوعا للإباحة، كما إذا قال: إذا أفطرت في شهر رمضان فكفر مثلا، فلا يمكن التمسك حينئذ بالآية لاثبات اللزوم، فإن الوفاء بالعقد هو الوفاء بمضمونه، والمفروض أنه لم يقع، والإباحة خارجة عن مضمون العقد، بل هو حكم مترتب على المعاطاة، فلا يمكن التمسك بدليل الوفاء (1) لاثبات ذلك، مع احتمال الامكان بتقريب: أن المراد من الوفاء بالعقد، ترتيب كل ما يكون مترتبا على العقد ولو لم يكن داخلا في مضمونه، كالإباحة في المقام، فافهم. موازنة بين تقريبات اللزوم ولا بد لنا من ملاحظة منشأ حصول الإباحة المالكية أو الشرعية، لترجيح بعض هذه التقريبات، فمن المعلوم أن القول بإنشاء المالك الإباحة في المعاطاة، مخالف لما هو المشاهد من بناء العقلاء بالعيان في معاملاتهم، فإنهم لا ينشئون إلا التمليك والتملك والمبادلة بين الملكين. كما أن القول بإنشاء الملك والإباحة معا - مع أنه خلاف الواقع - يكون من قبيل إباحة مال الغير، فإن المنتقل إليه الملك يباح له التصرف في المال، لأنه ملكه وماله، والناس مسلطون على أموالهم، ولا معنى لإباحة ذلك بالعقد أبدا. وأيضا القول بأن كلا من المتعاطيين راضيان بتصرف الآخر في ماله ساقط، فإن الرضا الحاصل ليس إلا الرضا المعاملي، وأما الرضا بالتصرف مطلقا فلا، بل المتعاطيان غير ملتفتين إليه نوعا، والرضا التقديري - بمعنى أنه لو التفت إلى بطلان المعاملة لكان راضيا - أيضا غير معلوم، بل يختلف باختلاف الموارد، والحكم لا يدور مداره، بل هو دائر مدار الرضا الفعلي.
1 - المائدة 5: 1. 168 والقول بانسلاخ سببية المعاطاة للملك، وجعلها للإباحة، أو جعل الإباحة حكما مترتبا على هذه المعاملة، يحتاج إلى دليل قوي، وصرف الاحتمال لا يكفي في الالتزام به. فغاية ما يمكن أن يقال في تقريب أصالة اللزوم بناء على الإباحة: أن المتعاملين منشئان للملك، كما هو المفروض والمشاهد خارجا، ولازم الملك جواز تصرف من انتقل إليه فيه - أي تصرف شاء - تصرف الملاك في ملكهم، وهذا ثابت ببناء العقلاء أيضا. غاية الأمر أن الاجماع قائم على عدم حصول الملك بالمعاطاة، والشارع لا يتصرف فيما هو ثابت ببناء العقلاء، فإنه ثابت على أي تقدير، بل شأنه التشريع، والمقصود أن مفاد الاجماع ليس عدم حصول الملكية عند العقلاء، بل عدمه عند الشارع. فالنتيجة: أن العقد ثابت عند العقلاء باق على قوته، والملكية ثابتة عندهم، والإباحة اللازمة للملكية ثابتة أيضا عندهم، والدليل الشرعي قائم على أن الملكية غير ثابتة عند الشارع، ولا مانع من التفكيك بين الملزوم ولازمه في وعاء الاعتبار، فلا دليل على عدم حصول الإباحة الحاصلة بالمعاطاة، بمجرد وجود الدليل على عدم حصول الملك بها، بل الدليل قائم على حصولها، فإنها وإن كانت لازمة للملك، إلا أنه ا مستندة إلى العقد ومن شؤونه، فيمكن التمسك بدليل وجوب الوفاء بالعقد لاثباته والحكم ببقائه. ثم إنه لو تم شئ من هذه التقريبات، وأثبتنا اللزوم، كان دليل اللزوم حاكما على دليل السلطنة (1).
1 - لم يتعرض الأستاذ لوجه الحكومة. نعم، يستفاد من كلامه الآتي: أن الوجه أن دليل السلطنة مقيد بعدم وجود سلطنة إلهية، والمفروض أن دليل اللزوم يثبت الإباحة إما تشريعا أو إمضاء، فوجود السلطنة الإلهية والحكم الشرعي بالإباحة تأسيسا أو إمضاء، يدفع موضوع دليل السلطنة. وبعبارة أخرى: الناس مسلطون على أموالهم لا على أحكامهم. المقرر حفظه الله. 169 ومع قطع النظر عن هذه التقريبات ذكر الشيخ (رحمه الله): أن دليل السلطنة يثبت الجواز، ومع قطع النظر عنه استصحاب بقاء السلطنة أيضا يثبت ذلك، ولا يعارضه استصحاب الإباحة على تقدير جريانه، لحكومة الأول عليه (1). وفيه: أن استصحاب بقاء السلطنة إنما يكون حاكما على استصحاب الإباحة إذا كانت السلطنة سببا لنفيها، وكان استصحابها منقحا لموضوع كبرى شرعية، وكلا الأمرين منتفيان في المقام: أما السببية: فلأن سبب الإباحة ليس عدم السلطنة، بل سببها حكم الشارع بها، وأما عدم كونها منقحة لموضوع كبرى شرعية فواضح، لأنه لا دليل شرعيا دالا على أن السلطنة موضوع لعدم الإباحة، حتى يكون استصحاب السلطنة منقحا لموضوعه، بل يمكن أن يقال إن استصحاب الإباحة حاكم على استصحاب السلطنة، لوجود السببية، فإن بقاء السلطنة ولا بقاءها يدوران مدار زوال الإباحة وبقائها، إلا أن الوجه الأخير وهو عدم كون الأصل منقحا لموضوع كبرى شرعية موجب لعدم الحكومة. والحاصل: لو لم نقل بأن استصحاب الإباحة حاكم على استصحاب السلطنة فلا نقول بالعكس جزما. نكتة بقي هنا نكتة في كلام المصنف (رحمه الله) لا بأس بالتنبيه عليها: وهي أنه منع
1 - المكاسب: 90 - 91. 170 جريان استصحاب الإباحة أولا، ثم بنى على حكومة استصحاب السلطنة عليه على تقدير جريانه (1). ولعل وجه المنع: أن المفروض الترديد في أن الإباحة الثابتة في المقام بالاجماع، هل تكون محدودة إلى زمان الرجوع، أو ممتدة حتى بعد الرجوع؟ فالإباحة المجعولة مرددة بين فردين قصير العمر وطويل العمر، فلا يمكن الاستصحاب في شئ من الخصوصيتين، فإنه في الأول متيقن الزوال وفي الثاني مشكوك الحدوث من أول الأمر، فلا بد من القول بالاستصحاب في كلي الإباحة الجامع بينهما، والجامع بين الإباحتين لا حكم شرعي، ولا موضوع ذو حكم شرعي، بل الحكم الشرعي هو إحدى الخصوصيتين. وبعين هذا البيان نمنع جريان استصحاب الكلي في الأحكام، فإن الكلي أمر انتزاعي من الحكم الشرعي، لا أنه حكم شرعي بنفسه. ولعل وجه عدم تسليم الشيخ (رحمه الله) هذا الاستصحاب من جهة الشك في المقتضي، فإن أمر المجعول الشرعي مردد بين ما هو قابل للبقاء وبين ما ليس بقابل له (2).
1 - المكاسب: 91 / سطر 1. 2 - لا يخفى أن الإباحة ليست إلا نوعا واحدا، واللزوم والجواز ليسا منوعين لها كالملك، بل قد تزول بالرجوع بحكم الشارع وقد لا تزول، وهذان حكمان لها بحسب الموارد في اعتبار الشارع لا منوعان لها، فالاستصحاب جار في شخص الإباحة لا كليها. هذا، ولا يمكن أن يكون هذا وجه عدم تسليم الشيخ (رحمه الله)، فإنه ذكر في استصحاب بقاء الملك في أدلة اللزوم هذا الذي ذكرناه، مضافا إلى أنه ذكر في الرسائل في الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين: أنه لا يمكن إثبات وجوب الأكثر باستصحاب بقاء الوجوب بعد الاتيان بالأقل، فإنه من المثبت، ولا يزيد بقاء الوجوب المردد بين الأقل والأكثر تعبدا على العلم بالوجوب المردد بينهما وجدانا، والحال أنا أجرينا البراءة مع العلم الوجداني، فكيف في مورد التعبد؟! انتهى محصلا (فرائد الأصول 2: 463 - 464). ويظهر من ذلك: أنه لا إشكال في نظره (قدس سره) أن المستصحب حكم شرعي، غاية الأمر يلزم منه ما ذكر، مع أنه يمكن أن يقال: إن المستصحب ليس هو الجامع بين الحكمين، ولا واحد من الخصوصيتين، بل يقال: إنا نعلم بحدوث مصداق من الحكم الشرعي وجدانا، ونشك في بقاء نفس هذا المصداق، ومنشؤه الترديد في أن المصداق الحادث، هل يكون طويل العمر، أو قصير العمر؟ فيكون الاستصحاب في الحكم الشرعي. والحاصل: أن متعلق العلم الاجمالي ليس كليا منطبقا على الطرفين أو الأطراف، بل متعلقه ليس إلا الخارج، فإنا نعلم بحدوث الحكم الشرعي وجدانا، ونشك في بقاء نفس ذلك الحكم الشرعي وجدانا، فتتم الأركان، ويستصحب وجود الحكم الشرعي وإن لم يترتب عليه آثار شئ من الخصوصيتين. فتأمل. وأما الشك في المقتضي فهو وإن يحتمل أن يكون وجها لعدم التسليم، إلا أن المقام ليس منه، بل يكون من الشك في الرافع، فإن الإباحة لو لم يرجع فيها تبقى قطعا، فلها مقتضي البقاء، والرجوع مانع عنه. وما يقال: من أنه لا يعلم أن حكم الشارع هل هو محدود بما قبل الرجوع أو يعم ما بعده؟ فالشك في حد اعتبار الشارع، فيكون من الشك في المقتضي، مجرد تعبير، فإن منشأ الشك في بقاء الأحكام في مقام الجعل ليس إلا النسخ وعدمه، ولا معنى لاستصحاب الحكم في مقام الجعل إلا مع هذا الاحتمال. فلو شككنا في أن جعل الشارع هل تعلق بالإباحة المحدودة أو غيرها، فلا معنى لاستصحاب جعل الشارع أصلا. نعم، في مقام المجعول يتصور الاستصحاب، وهو أن الإباحة سابقا هل تبقى بالرجوع أم لا؟ ولا إشكال في أن الرجوع مزيل لهذه الإباحة، فيكون الشك في الرافع لا المقتضي، بل يمكن أن يقال: إن في مقام الجعل أيضا الأمر كذلك، فإن الشارع لم يعتبر الإباحة محدودة أو مطلقة، بل المفروض أنه اعتبر المعاطاة سببا أو موضوعا للإباحة تأسيسا أو إمضاء، وعلى فرض تأثير الرجوع جعله مزيلا لها، فيكون الشك في الرافع، لا في المقتضي. والحمد لله رب العالمين. المقرر حفظه الله. 171 كلام المحقق الأصفهاني في المقام ومناقشته وقد ذكر المحقق الأصفهاني (قدس سره): أنه لو أريد من السلطنة القدرة على
172 التصرفات، فبقاء سلطنة المالك وإباحة المباح له في التصرف غير متنافيين، فضلا عن كون أحدهما دافعا لموضوع الآخر. وإن أريد منها محجورية الغير عن التصرف في المال - التي تكون من لوازم السلطنة لا نفسها - فلا يجري فيها الاستصحاب، فإن المفروض أن المباح له لم يكن محجورا في التصرف. نعم، استصحاب الجواز في المقام جار، فإنه قبل زمان الشك يعلم بوجوده بالاجماع فيستصحب، وهذا حاكم على استصحاب الإباحة، فإن معنى الجواز زوال الملك على تقدير الرجوع، فتزول الإباحة بالرجوع (1). هذا، وفيه: أنه ليس معنى السلطنة تمامها القدرة على التصرفات فقط، بل هي مع القدرة على منع الغير عن التصرف في ماله. قام الاجماع على جواز تصرف المباح له في مال المالك من دون رجوع وأما مع الرجوع بعد ظرف الشك فلا يعلم بارتفاع تمام السلطنة فيستصحب. وبعبارة أخرى: قبل زمان الشك كان المالك قادرا على منع الغير ومن الغير المباح له، والآن كما كان، وهذا معنى استصحاب السلطنة. وأما استصحاب الجواز فقد تقدم الكلام فيه وقلنا بأن الزوال عند الرجوع من الأحكام العقلية والعقلائية للجواز لا نفسه (2) فلا يثبت باستصحاب الجواز تأثير الرجوع وزوال الإباحة (3).
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 49 / سطر 21. 2 - تقدم في الصفحة 165. 3 - فتحصل مما أفاده - مد ظله -: أنه - مع قطع النظر عن التقريبات السابقة لاثبات اللزوم - مقتضى القاعدة التمسك بإطلاق دليل السلطنة، ومع قطع النظر عن ذلك استصحاب بقاء السلطنة يعارض باستصحاب بقاء الإباحة. وليعلم أن شيئا من التقريبات السابقة لا يتم، فإن مضمون العقد ليس إلا الملكية، ومن آثار الملكية جواز تصرف من انتقل إليه المال فيه، وليس هذا من آثار العقد، والمفروض أن القصد أيضا متعلق بحصول الملكية، فمضمون العقد - وهو المقصود في المعاطاة، أعني الملكية - غير واقع بالاجماع، والتفكيك بين الملكية ولوازمها لغو محض، لأنه لا معنى للتعبد بعدم الملك مع بقاء لوازمه، فلا بد إما من القول بالإباحة المالكية من جهة رضاه بجواز التصرفات، أو القول بالإباحة الشرعية من جهة حكم الشارع بها مترتبة على المعاطاة وإن لم يقع مضمونها واقعا، أما الأخير فلا دليل عليه، ولا يمكن التمسك بها بأصالة اللزوم، وأما الأول فالرضا الفعلي ليس إلا الرضا المعاملي، والمفروض عدم وقوع المعاملة، والرضا التقديري لا أثر له، مضافا إلى أنه يختلف بحسب الموارد. ولا يمكن إثبات اللزوم بأدلة اللزوم في مورد الرضا التقديري، وهذا ظاهر، فشئ من هذه التقريبات لا يتم. وأما دليل السلطنة فدلالته ظاهرة، ومع قطع النظر عن ذلك يمكن استصحاب بقاء السلطنة أيضا، فإن المفروض أن المالك قبل ظرف الشك كان مسلطا على الرجوع، والآن كما كان. وتوهم: أن هذا لا يثبت الزوال عند الرجوع، فإنه من الأصل المثبت. مدفوع: بأن الزوال عند الرجوع حكم عقلائي، وليس موضوع الحكم عندهم نفس الجواز واقعا، بل يعم الواقع والظاهر، نظير حكم العقل بلزوم الامتثال في موارد استصحاب الأحكام، فمع التعبد بتسلط المالك على الرجوع يحكم العقلاء بالزوال عند الرجوع، لأن موضوع حكمهم - وهو التعبد بالتسلط أو الجواز - محرز بالوجدان، فافهم. فاستصحاب السلطنة حاكم على استصحاب الإباحة بالتقريب المتقدم، ومن هنا ظهرت تمامية ما ذكره الشيخ (رحمه الله) من حكومة استصحاب السلطنة على استصحاب الإباحة (المكاسب: 91 / سطر 1)، وتمامية ما ذكره المحقق الأصفهاني (رحمه الله) أيضا من حكومة استصحاب الجواز على استصحاب الإباحة (حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 49 / سطر 29). فالنتيجة: جواز المعاطاة على تقدير الإباحة حتى بعد عروض ما يوجب الشك فيه، فإن الكلام في الملزمات بعد تسليم قيام الاجماع على الجواز والإباحة. بقي الكلام في الفارق بين هذه المسألة وما سبق من المصنف (قدس سره)، أي المعاطاة المقصود بها الإباحة: حيث ذكر في تلك المسألة أن الأقوى اللزوم، وبنى على الجواز هنا لقاعدة السلطنة، أو إباحتها مع جريان هذه القاعدة في السابقة أيضا، وقد اعترض المرحوم النائيني (رحمه الله) على المصنف بذلك (منية الطالب 1: 82 - 83)، والفرق بين المسألتين واضح، فإن - في تلك المسألة - المفروض أن المقصود بالمعاطاة الإباحة، فعمومات لزوم العقد جارية فيها، فيثبت اللزوم شرعا، ومعه لا مجال للتمسك بدليل السلطنة، بخلاف المقام، فإن المقصود بها الملك ولم يقع، وما وقع حكم جديد يثبت بالاجماع أو دليل آخر غير مرتبط بالعقد ومضمونه، فإنه إما مستند إلى الرضا التقديري بناء على كونه مالكيا، أو حكم الشارع به بناء على كونه شرعيا، وشئ من الأمرين غير مرتبط بالعقد، فإن الرضا الموجود فيها ليس إلا الرضا المعاملي، وقد ألغاه الشارع عن التأثير، فالعمومات غير جارية في المقام، واستصحاب بقاء الإباحة قد عرفت ما فيه، فلم يبق إلا استصحاب بقاء السلطنة على الرجوع، أو استصحاب الجواز على التقدير المتقدم. فالاعتراض المذكور غير وارد على المصنف. والحمد لله رب العالمين. المقرر حفظه الله. 173 هذا تمام الكلام فيما إذا كانت العينان موجودتين. تقريب لزوم المعاطاة بعد التلف وأما بعد تلف العينين أو إحداهما، مع الغض عن الاشكال في تعلق الملكية بالمعدوم، فيمكن تقريب لزوم المعاطاة بذلك، وصيرورة العوضين ملكا للمتعاقدين حينئذ: بأن إطلاق دليل سببية العقد لمضمونه، يقتضي تحقق مضمونه مطلقا بعد العقد إلى طرو ما يزيل هذا المضمون، خرجنا عن هذا الاطلاق بالاجماع (الفرضي) على عدم تأثير العقد وحصول الإباحة. والقدر المتيقن من هذا الاجماع إنما هو إلى زمان التلف، وأما بعده فلا، بل المتيقن عدم الاجماع حينئذ، وبما أنه لا بد من رفع اليد عن الاطلاق بالمقدار المتيقن من تقييده، ولا بد من التمسك به بالنسبة إلى ما عدا هذا المقدار، يتمسك بإطلاق دليل سببية العقد لمضمونه بعد التلف، وهذا معنى حصول الملكية بالتلف ولزوم المعاملة بعده. نظير ذلك أدلة اشتراط القبض في تأثير العقد في الصرف (1) والسلم (2)، فإن إطلاق دليل العقد يقتضي التأثير بعد العقد، دل الدليل على عدمه قبل حصول القبض، فيتمسك بالاطلاق لاثبات التأثير بعد القبض.
1 - وسائل الشيعة 12: 458 - 459، كتاب التجارة، أبواب الصرف، الباب 2. 2 - وسائل الشيعة 13: 67، كتاب التجارة، أبواب السلف، الباب 10. 175 ومن هنا ظهر: أنه لا نحتاج إلى إثبات الملكية آنا ما - قبل البيع أو العتق المتعلقين بما حصل بالمعاطاة - بما دل على أنه لا بيع إلا في ملك، أو لا عتق إلا في ملك (1)، فإن إطلاق دليل سببية المعاطاة - العقد - لحصول الملكية يقتضي ذلك، لأن القدر المتيقن من تقييده إنما هو بعد العقد إلى ذلك الآن، لأن هذا هو المقدار المجمع عليه، فيتمسك بالاطلاق بالنسبة إلى ما بعد ذلك، فالنتيجة حصول الملكية آنا ما قبل التصرف. كلام للشيخ في المقام ومناقشته ثم إنه ذكر الشيخ (رحمه الله) بعد ما ذكر في وجه جواز رجوع المالك ولو بعد التلف: بأن الأصل عدم اللزوم لأصالة بقاء سلطنة مالك العين الموجودة وملكه لها (2). وفيه: أنها معارضة بأصالة براءة ذمته عن مثل التالف عنده أو قيمته، والتمسك بعموم على اليد هنا في غير محله، بعد القطع بأن هذه اليد - قبل تلف العين - لم تكن يد ضمان، بل ولا بعده إذا بنى مالك العين الموجودة على إمضاء المعاطاة ولم يرد الرجوع، إنما الكلام في الضمان إذا أراد الرجوع، وليس هذا من مقتضى اليد قطعا. ولنا أن نسأل عن وجه ما ادعى (رحمه الله) من القطع بعدم الضمان، فإن إطلاق على اليد يقتضي الضمان مطلقا، ومعنى الضمان هو اللزوم على العهدة، ووجوب الأداء متفرع عليه تفرع الحكم على موضوعه، ولا يعقل إثبات الضمان ووجوب
1 - أنظر سنن أبي داود 1: 665 / 2190، عوالي اللآلي 1: 233 / 136، وسائل الشيعة 15: 286، كتاب الطلاق، أبواب مقدماته وشرائطه، الباب 12، الحديث 1، بحار الأنوار 101: 152 و 196، مستدرك الوسائل 15: 293، كتاب الطلاق، أبواب مقدماته وشرائطه، الباب 12، الحديث 5. 2 - المكاسب: 91 / سطر 9. 176 الأداء بنفس هذا الدليل، بل الدليل على وجوب الأداء أمر آخر دال على وجوب رد مال الغير إليه. والحاصل: أن إطلاق الدليل يقتضي إطلاق الضمان، خرجنا عن هذا الاطلاق في الأمانات المالكية صرفا أو انصرافا، وفي الأمانات الشرعية بالدليل، فيبقى غير ذلك تحته. ولا ينافي ذلك عدم وجوب الأداء، فإن كلا منهما أمر مغاير للآخر، ألا ترى أن أكل مال الغير جائز حال الاضطرار ولو اشتغلت ذمة الأكل به؟! والحاصل: أن إمكان التفكيك بين الضمان ووجوب الأداء في غاية الظهور، وحينئذ نقول: إن دعواه (رحمه الله) القطع بعدم الضمان، إنما تتم لو تمت إحدى الأمانتين: إما المالكية، أو الشرعية. أما المالكية فالمفروض عدمها، لأن الصادر من المالك ليس إلا المعاملة، وليس له إلا الرضا بها، وأما كون المال أمانة عند صاحبه ولو مع عدم تحقق مضمون المعاملة، فغير صادر منه جزما. أما إذا لم يلتفت إلى الحكم، أو كان ملتفتا ولكن لم يكن مباليا بالشرع، فظاهر، وأما مع الالتفات والمبالاة، فلأن المفروض ثبوت الحكم بالإباحة بالمعاطاة، لا بأمر آخر. وبعبارة أخرى: إن مقتضى القواعد كون المعاطاة كالبيع بالصيغة، في حصول الملك واللزوم وسائر الآثار، لكن قد فرض الاجماع على عدم حصول الملك بالمعاطاة، بل تحصل بها الإباحة، لكن هذا - أي حصول الإباحة - موقوف على فرض تحقق المعاطاة، والملتفت المبالي - مع إنشائه المعاطاة - لا يريد الإباحة، إلا الإباحة المترتبة على المعاطاة، لا الإباحة مطلقا، فرضاه أيضا معاملي، فليس في البين من الإباحة المالكية عين ولا أثر، ولذا ذكر هو (قدس سره) في المقبوض بالعقد الفاسد: أن كلا من المتعاملين ضامن لمال الآخر (1).
1 - المكاسب: 101 / سطر 22. 177 وأما الإباحة الشرعية فأيضا غير متحققة في المقام، لأن غاية ما دل عليه الاجماع هو حصول الإباحة، أي جواز التصرف، وأما عدم اشتغال الذمة وكونها فارغة، فلم يدل عليه الاجماع، فإطلاق دليل اليد يقتضي الضمان، لعدم وجود الأمانة المالكية ولا الشرعية. فالنتيجة: أنه مع قطع النظر عن التقريبات السابقة، يمكن تقريب الجواز بدليل الضمان، بأن يقال: إن إطلاقه يقتضي الضمان مطلقا، وهو موضوع لوجوب الأداء، لكن فرض الاجماع على عدم الوجوب قبل التلف وبعده قبل الرجوع، وأما بعد الرجوع فلا إجماع عليه، والاطلاق يقتضي الضمان وكون الذمة مشتغلة بمال الغير، فلا بد من رده إلى صاحبه، لقيام الدليل عليه وعدم ما يوجب تقييده، وهذا ملازم للجواز وتأثير الرجوع. وقد ظهر بما ذكرنا: أنه لا تصل النوبة إلى أصالة عدم الضمان، فضلا عن معارضة أصالة بقاء السلطنة بها. كلام الشيخ في ضمان التالف ومناقشته وقد ذكر الشيخ (رحمه الله): أنه يمكن أن يقال: إن أصالة بقاء السلطنة حاكمة على أصالة عدم الضمان بالمثل أو القيمة (1)، لكن بناء على جريان الأصل الثاني لا وجه لحكومة الأول عليه، فإنه ليس أحدهما مسببا عن الآخر، فضلا عن كونه شرعيا، بل كل من السلطنة وعدم الضمان ثابتان بدليلهما غير مرتبط أحدهما بالآخر. نعم، نعلم إجمالا ببقاء السلطنة أو الضمان، لكن هذا لا يوجب السببية، كما لا يخفى. ثم ذكر الشيخ (رحمه الله): أن ضمان التالف ببدله معلوم، إلا أن الكلام في أن البدل هل هو البدل الحقيقي - أعني المثل أو القيمة - أو البدل الجعلي، أعني العين
1 - المكاسب: 91 / سطر 12. 178 الموجودة، فلا أصل (1)؟ لكن بناء على ما بنى عليه من عدم جريان قاعدة اليد هنا، وانتفاء ضمان اليد، كيف يدعي أن ضمان التالف ببدله معلوم؟ إذ يرد عليه: أولا: مع العلم بانتفاء ضمان اليد هنا، لا يمكن دعوى العلم الاجمالي بالضمان بالبدل الحقيقي أو الجعلي، فإن النتيجة هو العلم التفصيلي بالضمان بالبدل الجعلي. وثانيا: بناء على هذا المبنى - أي انتفاء ضمان اليد هنا - لا موضوع للضمان أصلا، لا بالنسبة إلى البدل الحقيقي، ولا بالنسبة إلى البدل الجعلي: أما الأول فلهذا المبنى. وأما الثاني فلأن المفروض أن المعاملة الجارية بينهما لم تقع شرعا، وحكم الشارع بالإباحة أمر آخر غير مرتبط بإنشائهما أصلا، فلا موضوع للبدل الجعلي أيضا، بل لو فرضنا وجود أحد العينين وتلف الآخر - كما هو محل الكلام - تمكن صاحب العين الموجودة من الرجوع إلى ماله، لقاعدة السلطنة، أو أصالة بقائها، ولا ضمان له لا بالبدل الحقيقي، كما بنى هو (رحمه الله) عليه، ولا بالبدل الجعلي، لأن الموضوع له هو المعاملة الجارية ولم تقع، وحكم الشارع بالإباحة أجنبي عن جعل الضمان بالبدل الجعلي. ثم ذكر الشيخ (رحمه الله): أن عموم الناس مسلطون على أموالهم (2) يدل على السلطنة على المال الموجود بأخذه، وعلى المال التالف بأخذ بدله الحقيقي، وهو المثل أو القيمة (3). وفيه أولا: أن السلطنة على المال التالف غير معقول، لكونه معدوما، فضلا
1 - المكاسب: 91 / سطر 12. 2 - تقدم في الصفحة 40. 3 - المكاسب: 91 / سطر 13. 179 عن كونه بأخذ بدله. وثانيا: أن دليل السلطنة ناظر إلى السلطنة على المال، ولا يمكن إثبات جواز أخذ البدل بدليلها، فإنه متفرع على السلطنة ومتأخر عنها، تفرع الحكم على الموضوع وتأخره عنه. نعم بعد شمول دليل السلطنة للمورد نثبت الضمان بدليل آخر لا بدليلها. وهذا نظير ما ذكرنا في دليل اليد: من أن المجعول فيه ليس إلا الضمان، إما بالعين مطلقا، كما عليه السيد (قدس سره) (1)، وبنينا عليه في برهة من الزمان، أو بما يعم البدل أيضا، وسيظهر إن شاء الله في محله. وأما وجوب أداء العين أو البدل أو جواز أخذهما فخارج عن ذلك، بل لا يمكن دخوله فيه، لترتبه عليه وكونه في طوله ومن أحكامه، فلا يمكن جعله بجعل موضوعه (2). كلام الشيخ فيما إذا كان أحد العوضين دينا ثم ذكر الشيخ (رحمه الله): ولو كان أحد العوضين دينا في ذمة أحد المتعاطيين، فعلى
1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 97 / سطر 17 و 99 / سطر 25. 2 - فتحصل: أن مقتضى القواعد اللزوم بعد تلف العينين أو إحداهما، من جهة إطلاق دليله السالم عن التقييد إلا بما قام عليه الاجماع، والمتيقن منه قبل التلف. ومع الغض عن هذا يمكن إثبات جواز الرجوع بالعين الموجودة بدليل السلطنة، وبالتالفة بدليل الضمان، وعلى ما اخترنا سابقا - من إمكان إجراء استصحاب جواز المعاملة أو السلطنة - فالأمر أيضا ظاهر. ولا يتوهم: أن دليل السلطنة أو الضمان معارض لاطلاق دليل اللزوم، فإن الثاني حاكم على الأول، فإنه من السلطنة الإلهية، ورافع لموضوع الضمان، فإن الضمان لا يتعلق إلا بمال الغير، ودليل اللزوم ينفي كونه مال الغير. المقرر حفظه الله. 180 القول بالملك يملكه من في ذمته، فيسقط عنه، والظاهر أنه في حكم التلف، لأن الساقط لا يعود، ويحتمل العود، وهو ضعيف (1). ذكر السيد (قدس سره): قوله وهو ضعيف. أقول: بلا وجه له (2). كلام بعض المحققين في جواز التراد ذكر بعض المحققين (قدس سره) في تحقيق المقام: أن المراد بجواز التراد إن كان تراد المأخوذ بالمعاطاة بشخصه، فتراد شخص الذمة الساقطة على الفرض غير معقول، لأن الذمة تشخص بتشخص أطرافها، فمع سقوط ما في الذمة لا شخص، وتخلل العدم في شخص واحد محال، ولذا يمتنع إعادة المعدوم. فإن قلت: تراد شخصه وإن كان محالا، إلا أن تراد مثله - المعدود بحسب الاعتبار عين الساقط - ليس بمحال، ولا بد من هذه العناية دائما حتى في تراد العين الموجودة، فإن شخص الملكية المردودة ليست عين الملكية القائمة بالمرجوع إليه. قلت: اعتبار التراد الملكي يقتضي اعتبار بقاء الملك ولو كان المردود غيره بالدقة، وهو في ما نحن فيه محال، إذ بعد سقوط ما في الذمة لا بقاء لما في الذمة ولو بالاعتبار، لأن الشخص كما لا يملك شخص ما في ذمته، كذلك مثل ما في ذمته، فاعتبار سقوط ما في الذمة واعتبار بقائه متنافيان، والمعدوم لا يرد، ولا يعقل تعلق الرد بالمعدوم... إلى أن قال: وإن كان المراد بجواز التراد هو التراد الملكي الباقي بعد تلف العين، فهل حال سقوط ما في الذمة حال التلف، فيجوز التراد الملكي وإن كان العائد مثل الساقط أو لا؟
1 - المكاسب: 91 / سطر 14. 2 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 82 / سطر 33. 181 الظاهر أن أمر السقوط أعظم من التلف، لأن تلف العين لا ينافي بقاء ملكية التالف اعتبارا قبل الرجوع المصحح لاعتبار الرد ملكا، بخلاف السقوط، فإنه لا معنى لاشتغال ذمته بمثل الساقط للغير قبل الرجوع، فإن اعتبار سقوط ما في الذمة واعتبار بقائه متنافيان، مع التسالم على عدم اشتغال ذمته بشئ للغير قبل الرجوع، وقد عرفت أن اعتبار بقائه تصحيحا لاعتبار التراد الملكي لازم، لأن المعدوم لا يرد (1)، انتهى محل الحاجة من كلامه (رحمه الله). التحقيق في المقام والتحقيق أن يقال: إنه ليس المراد بجواز التراد شخص الذمة، ولا مثله الباقي بعد السقوط اعتبارا، فإن الأول لا يبدل بشئ، فإن المتشخص بكونه في الذمة لا وجود له إلا في الذمة، وغير قابل للتسليم، والثاني بلا موجب، بل التراد يقع بنفس ما وقع عليه العقد، وهو نفس طبيعة الشئ، وهذا غير قابل للتكثر بحسب الإضافات والاعتبارات، بل نفس الطبيعة واحدة ولو لوحظت ألف مرة، فإن اشتغال ذمة زيد بدينار وإن كان مغايرا لاشتغال ذمة عمرو بدينار، إلا أن المشتغل به الذمتان ليس إلا نفس طبيعة الدينار. وهذا بما أنه نفس الطبيعة غير قابل للتكثر أبدا، بل تكثرات الطبيعة إما بضم القيود إليها كالانسان الهاشمي وغيره، أو بتشخصها في الوجود، إما في الذهن كزيد الملحوظ في الذهن المتشخص باللحاظ المغاير للملحوظ بلحاظ آخر، أو في الخارج كزيد، وأما نفس الطبيعة القابلة للصدق على جميع المقيدات والمشخصات فغير قابلة للتكثر أصلا، لا في الخارج، ولا في الذهن، فإن لحاظ الشئ كتشخصاته مغاير لنفس الشئ، بل لا يعقل دخله فيه، والشئ المتشخص باللحاظ لا يلحظ إلا باللحاظ ثانيا، وقد مر بيان ذلك سابقا.
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 55 / سطر 7. 182 والشئ بهذا المعنى يقع موردا للمعاملة في الكليات، ويعتبر مالا أو دينا في ذمة الغير، وإلا فالشئ المقيد بكونه في الذمة المتشخص بها لا وجود له إلا فيها، ولا يقع موردا لها، ولا يعتبر كذلك كما مر، والمقصود أن ثبوت الدين في الذمة لا يعقل إلا على هذا النحو، أي كونها مشتغلة بنفس طبيعة الشئ، وبيعه على من هو عليه أيضا لا يعقل إلا كذلك، وحيث إن الإنسان لا يملك ما في ذمته يسقط دينه بشرائه، إما ابتداء، أو بعد تملكه آنا ما على كلام لسنا بصدد البحث عنه. والتراد أيضا لا يعقل إلا كونه بهذا النحو أي تعلقه بنفس الطبيعة، مضافا إلى أنه لا يتعلق إلا بما تعلقت به المعاملة وهو كذلك، كما ذكرنا، والمفروض أن نفس الطبيعة غير قابلة للتكثر، بل ما تعلق به التراد هو عين ما تعلق به العقد، وهو عين ما كانت الذمة مشتغلة به، فلا يعقل تخلل العدم فيها، فإنه فرع التكثر كما هو ظاهر. هذا ما يقتضيه حكم العقل. وأما حكم العقلاء فأيضا ذلك، أترى أنه لو باع زيد ما كان مالكا في ذمة عمرو كدينار - مثلا - منه، ثم فسخ البيع بخيار ونحوه، أن العقلاء يتوقفون في الحكم بنفوذ الفسخ، وكون زيد مالكا لدينار في ذمة عمرو بعد الفسخ، ويرون أن الدينار الساقط قد انعدم، ولا يعقل رده، لأن إعادة المعدوم مما امتنع؟! والظاهر أن الأمر واضح، لكن الخلط إنما نشأ من التمسك ببعض المطالب العقلية في ما لا بد من أن يؤخذ من العقلاء، ويرجع إليهم لكشف حكمه، وقد ظهر أن العقل والعقلاء متفقان على ما ذكرنا. هذا، مع أن ما ذكره أخيرا في وجه أن أمر السقوط أعظم من التلف: من أنه لا معنى لاشتغال ذمته بمثل الساقط للغير، فالظاهر أنه من طغيان القلم، فإن المعتبر قبل التراد الملكي ليس اشتغال الذمة للغير (1)، بل لا يعقل ذلك، لأن المفروض أن
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 55 / سطر 18. 183 بالفسخ تشتغل الذمة للغير، كما في العين الموجودة، فإنه لا يعقل كون الغير مالكا للعين قبل الفسخ، بل بالفسخ يملك ذلك، بل المعتبر على القول بلزوم هذا الاعتبار لتحقق التراد، هو ملكية الشخص لذمة نفسه، كما في العين التالفة، أي يعتبر قبل الفسخ كون من انتقل إليه العين بالعقد مالكا لها، ولو كان معدوما حين هذا الاعتبار لتحقق التراد الملكي، فلم يبق إلا ما ذكره جوابا عن الاشكال المتقدم، وهو أن اعتبار سقوط ما في الذمة واعتبار بقائه متنافيان (1). لكن هذا أيضا يندفع بالقياس إلى الاعتبار في العين التالفة، فكما أن اعتبار الملكية للمعدوم لا يمكن إلا إذا حصل وجه للاعتبار، كالفسخ فيعتبر قبله لتحقق التراد، كذلك في المقام، يعتبر قبل الفسخ ملكية الشخص لما في ذمته آنا ما بعد السقوط لتحقق التراد، كاعتبارها قبل السقوط، والقول بأن اعتبار السقوط واعتبار البقاء متنافيان، مجرد تعبير، فإن المحتاج إليه لتحقق التراد هو اعتبار الملكية قبل التراد، ولو اعتبر السقوط قبل ذلك، ولا محذور فيه أبدا. هذا كله على تقدير البناء على أن التراد يتعلق بمثل الساقط، المعتبر قبل تحقق التراد، وإلا فعلى المبنى الصحيح - وهو تعلقه بعين ما تعلق به العقد - فلا موضوع لذلك، ولا موجب للالتزام به أصلا، كما لا يخفى. وجه لعدم جواز الفسخ عند التلف ذكر بعض الأعاظم (رحمه الله) في المقام - بعد ذكر وجه جواز الرجوع - وجها لعدم الجواز بما لفظه: إن تملك ما في ذمة الغير وإن كان ممكنا، إلا أنه يحتاج إلى موجب، فهو فرع أن يملك، وملكيته فرع أن يمكن له الرجوع، وهذا دور. وبعبارة أخرى: لو كان جواز الفسخ مفروغا عنه - كما في باب الخيارات -
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 55 / سطر 14. 184 لقلنا بأن في مورد التلف يرجع إلى المثل أو القيمة، فإن الرجوع إلى العين التالفة غير معقول، وفي المقام إذا رجع المشتري، لا يرجع أيضا إلى عين ما في الذمة الذي كان سابقا، فإنه إعادة للمعدوم، وهو ممتنع، بل يرجع إلى مثله، وهذا يتوقف على دليل، والأقوى هو الثاني - يعني من الوجهين - فإنه مضافا إلى عدم الدليل على جواز الرجوع وتملك ما في ذمة الغير ثانيا، يمتنع لجهة أخرى، بناء على ما سيجئ في باب خيار المجلس: من أنه يعتبر - في جواز الرجوع بالخيار ونحوه - خروج الملك عن ملك من انتقل إليه إلى ملك من انتقل عنه، نظرا إلى أن خروج أحد العوضين عن ملك أحدهما، يستلزم دخول الآخر فيه ولو آنا ما، وهذا ممتنع في المقام، لأنه إذا رد المشتري العين الموجودة إلى المديون فلا بد أن يخرج الدين عن ملكه، ويدخل في ملك المشتري، ودخول الدين في ملك المشتري نتيجة السقوط دائما، نظير انعتاق العمودين في ملك المشتري لهما، فإنه إذا ملكهما ينعتقان، فإذا كانت نتيجته السقوط يمتنع الرجوع، بل ولو لم نقل باعتبار تلقي الفاسخ الملك من المفسوخ عليه، لكان مجرد احتماله منشأ للشك في جواز الرجوع، والمتيقن غير هذه الصورة (1). انتهى. وفيه أولا: أنه خلط بين مقام الثبوت والاثبات، فلو أراد من ذلك أنه لا دليل على جواز الرجوع في المقام، فقد مر (2) أن المباني في مثله مختلفة: فبين من يتمسك بعموم العام بعد زمان التخصيص المتيقن، وبين من يتمسك بإطلاقه الأزماني كما اخترناه، وبين من تمسك باستصحاب حكم المخصص، كما بنى عليه هذا القائل، فعلى مبناه يثبت الجواز بالاستصحاب، فإن المفروض أن العقد قبل سقوط الذمة جائز.
1 - منية الطالب 1: 89 / سطر 2. 2 - تقدم في الصفحة 155 - 156. 185 ووقع البحث في كون السقوط ملزما له أم لا، فيتمسك باستصحاب الجواز على مبناه، ولا فرق في ذلك بين ما لو قلنا بتحقق الملكية قبل السقوط، أو قلنا بالسقوط بنفس تمامية العقد، فإنه على الثاني أيضا رتبة الجواز مقدمة على السقوط، ولذا يبحث عن كونه ملزما أم لا. مضافا إلى أن صريح كلامه في المقام هو الأول، فإنه ذكر في أثناء كلامه: فإذا اشترى المشتري مال المديون بالثمن الذي في ذمته، فيملك المديون - لا محالة - الثمن الذي في ذمته. نعم، حيث إنه لا يعقل أن يتملك الإنسان لما في ذمته فيسقط (1)، ولو أراد منه الاشكال الثبوتي فلا نرى له وجها محصلا. والدور المذكور في كلامه - وهو توقف كل من الملكية وإمكان الرجوع على الآخر - لا يتصور له معنى، إلا أن يقال: إن كلا من ملكية التملك وإمكان الرجوع متوقف على الآخر، والحال أن كليهما من آثار جواز العقد ومتوقفان عليه، من دون أي توقف بينهما، فإذا ثبت الجواز بالدليل يترتبان عليه لا محالة، كما لا يخفى. وثانيا: أنا قد ذكرنا أن تعلق الجواز بالعين غير معقول، بل المعقول تعلقه بنفس العقد، والفسخ هو حل العقد، لا رد العين من ملك الآخر، نعم بعد الفسخ يرجع كل منهما إلى الآخر بماله، فمع وجوده يأخذه، ومع عدمه يأخذ بدله. وأما لزوم ثبوت الملكية قبل الفسخ فلا دليل عليه، فما ذكره - من أنه يعتبر خروج الملك عن ملك من انتقل إليه إلى ملك من انتقل عنه - غير صحيح. وقد تقدم: أن القدر المتيقن من الاجماع هو جواز العقد ما دامت العين موجودة وملكا للمنتقل إليه على نحو القيدية لا الظرفية، فبعد السقوط لا موضوع للجواز، ولو سلم فاعتبار الملكية للذمة قبل الفسخ - لأجل الخروج - لا مانع منه، كما يعتبر قبل السقوط. والحاصل: أنه بهذه الوجوه العقلية - التي كلها مخدوشة - لا يمكن ردع
1 - منية الطالب 1: 88 / سطر 20. 186 العقلاء عن بنائهم المسلم في المقام وفي كل عقد جائز واقع على الدين، فإنه لا إشكال في أنهم بعد الفسخ يرجعون إلى المديون ويطالبونه بدينهم، من دون أي التفات إلى هذه الوجوه أبدا. في معنى الإباحة في باب المعاطاة ثم ذكر الشيخ (رحمه الله): والظاهر أن الحكم كذلك على القول بالإباحة (1). ذكر بعض الأعاظم (رحمه الله) أن الإباحة - التي هي محل البحث في باب المعاطاة - ليست بالمعنى الذي حملها عليه صاحب الجواهر (قدس سره) (2) من أن إفادة المعاطاة الإباحة، إنما هو فيما إذا كان قصد المتعاطيين الإباحة، بل المراد منها التسليط المالكي، فإذا أوجد مصداق التسليط فلا فرق بينه وبين الملك، فكما أنه لا يعقل أن يتملك الإنسان ما في ذمته، فكذلك لا يمكن أن يكون مسلطا عليه، فنتيجة التسليط أيضا السقوط والتلف، والتالف لا يعود (3). انتهى. وفيه أولا: ذكرنا مرارا: أن في المقام - كغيره من العقود المقصود بها التمليك - التسليط المالكي غير معقول، فإنه من تسليط الغير على ماله. وبعبارة أخرى: الصادر من المتعاملين ليس إلا العقد والرضا به، وسلطنة كل منهما على ما انتقل إليه بالعقد من آثار الملك الثابت بالعقد، أو حكم الشارع بها - كما في ما نحن فيه - لا بتسليط الآخر له، وهذا ظاهر. ففي المقام المفروض عدم وقوع مقصود المتعاملين - وهو التمليك - والإباحة غير مقصودة لهما، فالتسليط المالكي بحسب قصده غير معقول، والواقع غير مرتبط بالمالك وقصده أصلا.
1 - المكاسب: 91 / سطر 15. 2 - جواهر الكلام 22: 218. 3 - منية الطالب 1: 89 / سطر 14. 187 وثانيا: لو سلمنا أن المراد بالإباحة في المعاطاة التسليط المالكي، لكنه أي دليل دل على أنه لا يمكن أن يكون الإنسان مسلطا على ما في ذمته، أترى أن ولي الصغير إذا كان مديونا له، وكانت ذمته مملوكة للصغيرة، أنه غير مسلط على ما في ذمته، من نقله أو تبديله وغير ذلك من أنحاء التصرفات الاعتبارية، أو لو كان المديون وكيلا من قبل الدائن لبيع ذمته، أو تصرف آخر غير البيع فيها، أنه غير مسلط عليها؟! بل لم يقم دليل على عدم جواز تملك الإنسان لما في ذمته، وإن قيل: إنه لا قيمة للذمة بنفسها، بل مدار المالية هو الخارج، وقد تقدم منا تصوير المالية للذمة، واعتبارها لها نظير اعتبار المالية للنقود، وعلى أي حال ولو قلنا بأن الإنسان لا يملك ما في ذمته، وقهرا لا يتسلط على هذا الذي لا يملك، فإن السلطنة فرع الملكية، إلا أن سلطنته على ما في ذمته المملوكة للغير كالمثالين المتقدمين ومحل بحثنا، فلا دليل على امتناعه. ثم إنه بعد فرض وقوع المعاطاة في محل بحثنا وتحقق الإباحة، فهل هي لازمة أو جائزة؟ فعلى القول بالسقوط يثبت اللزوم بالجمع بين إطلاق دليله والقدر المتيقن من الاجماع بالتقريب المتقدم، وأما على القول بعدم السقوط فلا بد من ملاحظة حد الاجماع، وأنه هل يعم المعاطاة الواقعة على الثابت في الذمة أو لا؟ فعلى الأول يثبت الجواز، وعلى الثاني اللزوم على ما مر من التقريبات. في كون النقل كالتلف ثم ذكر الشيخ (رحمه الله): ولو نقل العينان أو إحداهما بعقد لازم فهو كالتلف (1). قد ظهر مما مر أن مقتضى الجمع بين المتيقن من الاجماع وإطلاقات أدلة اللزوم هو الحكم
1 - المكاسب: 91 / سطر 16. 188 باللزوم بمجرد عروض ما يوجب الشك فيه، ومن ذلك نقل العينين أو إحداهما. تنظير التلف والنقل في المقام بهما في باب الخيار وهنا إشكال يمكن إيراده في المقام - بناء على الاغماض عما ذكرناه - نظير وقوع مثل هذا التصرف في زمن الخيار في العقود الخيارية، ومحل الاشكال باب الخيارات نذكره في المقام بالمناسبة، وهو أن الواقع عليه العقد ليس إلا العين، لا البدل، ولا الأعم منهما، وبعد التلف أو التصرف الناقل لا يمكن ردها، ورد بدلها رد لما لم يقع عليه العقد، فما وقع عليه العقد لا يمكن رده، وما يمكن رده لا دليل على جوازه. والحاصل: أن الفسخ هو تراد العينين على ما ذكره الشيخ (رحمه الله) في المقام (1)، وحل العقد على ما هو التحقيق، وبعد التلف أو التصرف الناقل لا موضوع له أبدا، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأن العقد واقع على العين لا غير، والمفروض عدم بقاء العين، فكيف يمكن حل العقد المتعلق بها، والرجوع بالبدل مع عدم تعلق العقد به (2)؟! جواب الاشكال بوجهين ويمكن تقريب الجواب بوجهين: أحدهما: أن يقال: إن الفسخ حل العقد، كما هو الحق، وبذلك تشتغل ذمة من عليه الفسخ بالعين، وحيث إن ردها متعذر يرجع إليه بالبدل، لا أن الفسخ بنفسه
1 - المكاسب: 91 / سطر 3. 2 - أنظر منية الطالب 1: 89 - 90، و 2: 72 / سطر 20، حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 56 / سطر 10. 189 يقتضي الرجوع به حتى نقع في الاشكال، نظير ذلك ما بنى عليه السيد (قدس سره) في الضمان الثابت بدليل اليد، أي تشتغل ذمة المديون بالعين حتى بعد تلفها، وحين الأداء يرجع إلى البدل، لعدم إمكان تأديتها (1)، ولذا يرجع في القيميات بها يوم الأداء. ثانيهما: أنه كما أن العقد هو التمليك بالعوض أو المبادلة بين المالين، ولزوم التسليم والتسلم إنما هو من آثار العقد عرفا ومن مقتضياته، لا أنه من جهة لزوم أداء مال الغير، كذلك الفسخ أيضا حل العقد، ولزوم رد العين إنما هو من لوازمه، لا أنه من جهة لزوم رد مال الغير، كما كان مبنى الوجه الأول، لكن يفرق بين العقد والفسخ في أنه لو تعذر العين في العقد حصل الخيار، وهو خيار تعذر التسليم، بخلاف الفسخ، فإنه بالتعذر يرجع إلى البدل ابتداء. والفارق أنه يكون المؤثر في لزوم التسليم في الأول العقد، وأما في الثاني فالأثر وإن كان للفسخ عرفا، إلا أنه حل العقد وجعله كأن لم يكن، فتستند ملكية العين إلى السبب السابق على العقد، ولذا نقول: الفسخ غير قابل للفسخ، بل الملكية باقية مستندة إلى السبب السابق، ولا تزول إلا بسبب جديد، فالفرق بين هذا الوجه والوجه الأول: أنه في الوجه الأول تشتغل ذمة المفسوخ عليه بالعين بعد الفسخ، ومع تعذره يرجع إليه بالبدل، وفي الوجه الثاني لا تكون ذمته مشغولة بها، بل إنما يلزمه رد العين، لا من باب رد مال الغير، بل من جهة كونه من لوازم الفسخ، فليتدبر. وبما ذكرنا ظهر: أنه لا فرق بين كون الفسخ بعد التلف أو التصرف الناقل، وإن فصل بينهما بعض (2)، ولا بين كون ذلك التصرف لازما أو جائزا، وإن احتمل التفصيل بينهما بلزوم رجوع المفسوخ عليه بعد الفسخ في ذلك العقد الجائز (3).
1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 96 / سطر 26. 2 - حاشية المكاسب، المحقق الخراساني: 24. 3 - أنظر مفتاح الكرامة 4: 157 / سطر 16. 190 وحيث إنه قد طال الكلام في المقام، ولا ثمرة مهمة في الإطالة، واستيفاء البحث في ما بقي من فروع هذا التنبيه، وما بعده من التنبيهات التي ذكرها الشيخ (رحمه الله) (1)، بعد ما ذكرنا من مقتضى القواعد في المعاطاة، وأن هذه الفروع - جلها بل كلها - مبتنية على الفرض والتقدير، فنكتفي بهذا المقدار، ويقع البحث بعد ذلك في شرائط الصيغة إن شاء الله تعالى.
1 - المكاسب: 91 / سطر 27. 191 عقد البيع وشرائطه
193 مقدمة في خصوص ألفاظ البيع حكم بيع الأخرس ذكر الشيخ (رحمه الله) أولا حكم بيع الأخرس، وأنه مع عدم قدرته على التوكيل، لا إشكال ولا خلاف في عدم اعتبار اللفظ، وقيام الإشارة مقامه، وهكذا مع قدرته عليه، لفحوى ما ورد من عدم اعتبار اللفظ في طلاق الأخرس (1)... إلى آخر ما ذكره في المقام، فراجع كلامه (قدس سره) (2). أقول: لو قلنا بأن اللازم في المعاملات العقلائية اتباع العقلاء في خصوص المسببات منها، لا الأسباب، ويرجع في تشخيص حقيقة البيع مثلا - وهو المبادلة بين المالين، أو غير ذلك - إليهم. وأما أسباب حصوله فموكولة إلى نظر المتعاملين، ويحصل ذلك بأي سبب شاءا، من اللفظ، أو الفعل، أو الإشارة، أو الكتابة، أو غير ذلك ولو بسبب مجعول بينهما فقط. فالإشارة أحد الأسباب في عرض سائر الأسباب، ولا معنى لقيام إشارة الأخرس مقام اللفظ حينئذ، لكن المبنى لا يتم، فإن العقد ما لم يكن له تحقق
1 - وسائل الشيعة 15: 300، كتاب الطلاق، أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه، الباب 19. 2 - المكاسب 1: 93 / سطر 24. 195 اعتباري بنظر العقلاء، لم يكن موضوعا لدليل إمضاء الشارع، فإن الشرع في مقام بيان مراده وإظهار مرامه ليس له اصطلاح خاص، بل يتكلم على وفق المحاورات العرفية، فإذا قال: (أوفوا بالعقود) (1) أو (أحل الله البيع) (2) يكون مراده منهما ما يفهمه العرف عقدا وبيعا، ومن الظاهر أن البيع بنظر العرف الواقع في جميع الأسواق، ليس إلا الحاصل بالأسباب المتعارفة، وهي اللفظ والفعل، وأما غيرهما فليس بمتعارف، ولا يمكن أن يقال: إنه بيع بنظرهم، لعدم إحراز اعتبارهم تحققه بذلك. ولو قلنا بأنه كما يلزم اتباع العقلاء في المسببات، كذلك يلزم اتباعهم في الأسباب أيضا، فالبيع بالإشارة - لا باللفظ ولا بالمعاطاة - لا يصح مع القدرة على اللفظ أو الفعل، فلا دليل على قيام الإشارة مقام اللفظ عند عدم القدرة عليه، فإن الأسباب المتعارفة ليست إلا اللفظ والفعل، وأما الأخرس فلم يعهد منه معاملة بالإشارة في السوق، حتى يدعى أن المتعارف بالنسبة إليه ذلك، بل لو وقعت منه معاملة، فإما أن تقع بالمعاطاة في غير المهمات، أو بالتوكيل فيها. وأما الروايات فوردت - في باب الوصية والطلاق - عدة منها يتوهم دلالتها على كفاية وصية الأخرس وطلاقه بالإشارة، ويسري الحكم من ذلك إلى جميع معاملاته، بإلغاء الخصوصية أو الأولوية القطعية، لكن روايات الوصية (3) - على تقدير تسليم دلالتها على قيام إشارة الأخرس مقام لفظه فيها - لا تدل على ذلك في غير الوصية، فإن باب الوصية مخصوص بتسهيلات من قبل الشرع، ولذا لا يضر التعليق فيه، فيجوز قصر الحكم عليها من دون سراية، فالاسراء لا يمكن إلا بالقياس. وأما روايات الطلاق فإنها وإن دلت على أن طلاق الأخرس يقع بالإشارة،
1 - المائدة 5: 1. 2 - البقرة 2: 275. 3 - وسائل الشيعة 13: 436، كتاب الوصايا، أبواب أحكام الوصايا، الباب 48 و 49. 196 إلا أنها لا تدل على قيام إشارته مقام اللفظ، بل لعل الاكتفاء به من جهة إمضاء الطلاق المعاطاتي بالنسبة إليه، أو من جهة أن طلاقه بالإشارة، فلا يمكن الاستدلال بها لاثبات أن إشارته قائمة مقام اللفظ مطلقا، مع إمكان أن يقال: إن جواز اكتفاء الأخرس بالإشارة في الطلاق مع قدرته على التوكيل، يستلزم جواز الاكتفاء بها في سائر المعاملات، قامت الإشارة مقام اللفظ، أم لم تقم، وذلك بالأولوية. بل يمكن أن يدعى قيامها مقام اللفظ من جهة المناسبة العرفية في المقام، وأن السر في جواز الاكتفاء بالإشارة العجز عن اللفظ، فهي قائمة مقامه عند العجز عنه. في الأصل عند الشك في اعتبار التلفظ في العقد وكيف كان فلو شككنا في ذلك، وأنه هل يترتب الأثر على الإشارة مع العجز عن التلفظ، وهكذا في غير ذلك من موارد الشك في دخل شئ في ترتب الأثر، فهل يحكم بترتبه من جهة حديث الرفع (1)، فإن دخل ذلك الشئ في حصول الأثر مشكوك فيه، يرفع بالحديث، أو يحكم بعدم ترتبه من جهة أصالة العدم؟ فقد يقال بالأول، وحكومة الأصل الأول على الثاني، لكونه جاريا في السبب (2)، وقد يقال بالثاني، من جهة أن الشرطية والجزئية والسببية والمانعية - أو جميع الوضعيات - غير مجعولة، فلا يشملها الحديث (3). والتحقيق الثاني، لا من الجهة المذكورة، فإن المذكورات كلها قابلة للجعل مستقلا، كما بيناه في الأصول (4)، ولعلنا نبينه فيما بعد إن شاء الله، بل من جهة أن
1 - الكافي 2: 335 / 2، التوحيد: 353 / 24، الخصال: 417 / 9، وسائل الشيعة 11: 295، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس وما يناسبه، الباب 56، الحديث 1 و 3. 2 - حاشية المكاسب، الإيرواني 1: 89 / 18. 3 - أنظر مصباح الفقاهة 3: 7. 4 - مناهج الوصول 1: 303، الاستصحاب، الإمام الخميني (قدس سره): 70 - 72. 197 الشك في ترتب الأثر ليس مسببا عن الشك في دخل الخصوصية وعدمه، حتى يرفع بالحديث، بل مسبب عن الشك في أن العقد، هل هو تمام السبب أو مقيد بتلك الخصوصية؟ وبعبارة أخرى: إنا لو أحرزنا عدم دخل تلك الخصوصية فلا يمكننا أن نقول: إن السبب هو العقد وعدم تلك الخصوصية، بل السبب التام هو العقد. نعم، لو أحرزنا دخلها فيكون الموضوع مركبا منهما، فالشك واقع في أن السبب التام، هل هو الفاقد للخصوصية أو الواجد لها؟ ولا يمكن إثبات ذلك بجريان الأصل في نفس الخصوصية، إلا على القول بالأصل المثبت. وأيضا قد مر أن شرط حكومة الأصل السببي على المسببي، أن يكون منقحا لكبري شرعية (1) وأصالة عدم دخل الخصوصية غير منقحة لموضوع دليل. وأيضا أنه لو سلمنا وجود الدليل، لكن المجعول فيه سببية الموضوع للحكم، لا ترتب الحكم على الموضوع، فكم فرق بين أن يقال: إن الغليان سبب لحرمة العصير، وأن العصير إذا غلى يحرم، فإن المجعول في الأول السببية، وفي الثاني الحرمة على تقدير الغليان، ومع ذلك لا يمكن الحكم بترتب الأثر بواسطة جريان الأصل المذكور، فإن أصالة عدم الدخل لا يثبت ترتب الحكم على الموضوع، أو المسبب على السبب، إلا على المثبت، فإن الترتب وعدمه من اللوازم العقلية للسببية وعدمها، وقد مر ذلك في الاستصحاب التعليقي أيضا. فالنتيجة: أنه في كل مورد شككنا في اعتبار خصوصية في العقد في ترتب الأثر عليه، نحكم بأصالة عدم حصول الأثر بمقتضى الأصل العملي. وأما الدليل الاجتهادي - لو كان - فيؤخذ بإطلاقه لدفع الخصوصية، لكن قد فرضنا عدم إمكان التمسك بالدليل الاجتهادي في بيع الأخرس بالإشارة، فإنه غير
1 - تقدم في الصفحة 170. 198 متعارف، فلا تشمله أدلة النفوذ. وقد صرفنا النظر عن روايات الطلاق أيضا فيرجع الأمر إلى الأصل العملي، وهو عدم حصول الأثر. وأما أصالة عدم اعتبار خصوصية في عقده - كاللفظ أو الفعل - بحديث الرفع، فقد عرفت حالها. بناء المعاملات على ما هو المتعارف ثم إنه بعد ما تقدم: من أن المعتبر في المعاملات ليس إلا ما هو المتعارف منها سببا ومسببا، وأنه لا بد - في كشف اعتبار خصوصية فيها وعدمه - من ملاحظة بناء العقلاء فيها والرجوع إلى سوقهم، ظهر عدم الحاجة إلى كثير من المباحث الراجعة إلى ألفاظ العقود، مثل اعتبار كون الانشاء بالألفاظ الحقيقية الصريحة وعدمه، فيكفي الانشاء بالمجاز أو الكناية أو المشترك الراجع إلى مواد الألفاظ، أو اعتبار كونه بخصوص الفعل الماضي وعدمه، فيكفي الانشاء بالمضارع أو الجمل الإسمية الراجع إلى هيئاتها المفردة، أو اعتبار الموالاة بين الايجاب والقبول وعدمه، وغير ذلك الراجع إلى الهيئة التركيبية بينهما، فإنه لا بد من ملاحظة ما هو المعتبر عند العقلاء في جميع ذلك، فقد يكون الانشاء بالمجاز أو الكناية أو المشترك أو غير الماضي معتبرا عندهم، كما إذا أنشأ الإجارة بلفظ البيع، أو أنشأ البيع بما هو دال على لازمه ك هذا في ملكك، أو تحت تصرفك، أو أنشأ باسم الفاعل ك أنا بائعك. ولا يخفى أنا لا نريد من لزوم ملاحظة اعتبار العقلاء في الخصوصيات المشكوكة أن فاقد الخصوصية على تقدير اعتبارها عندهم معاملة غير معتبرة، فعلى تقدير اعتبار الماضوية في البيع عندهم يكون الفاقد لها بيعا غير معتبر، بل نريد من ذلك أنه حيث إن المعاملة لا بد وأن تكون معتبرة شرعا، وأنه ليس للشارع المقدس في ألفاظها اصطلاح خاص واختراع جديد، ولم يؤسس في حقيقة
199 المعاملات شيئا غير ما هو المتعارف عند العقلاء، ولو اعتبر شيئا فيها اعتبره شرطا لتأثيرها، لا أن حقيقة المعاملة عنده مغايرة لحقيقتها عند العرف، فلا بد من الرجوع إلى العقلاء فيها، وملاحظة أنه في أي مورد يعتبر تحقق المعاملة عند العقلاء، بلا فرق في ذلك بين الأسباب والمسببات، فكما أنه في تشخيص ماهية البيع بمعناه المسببي يرجع إليهم، كذلك في تشخيص أسبابها أيضا يرجع إليهم، ليرى أنه هل العقلاء في مورد السبب الفلاني - مثلا - يعتبرون تحقق البيع فيتبع، فإنه معتبر شرعا أيضا، إلا أن يدل دليل على إلغاء سببية ذلك في التأثير بنظره، أو لا فلا تشمله أدلة الامضاء. فليتدبر. ثم إنه لا ينبغي الاشكال في عدم اعتبار إنشاء البيع بلفظ التمليك، فإنه وإن كان تمليكا بالعوض على قول (1)، إلا أن البيع الخارجي تمليك بالحمل الشائع، لا بالحمل الأولي، فيمكن إنشاؤه لكل ما دل على التمليك بالحمل الشائع، وهذا ظاهر. الانشاء بألفاظ الكناية والمجاز وأما الانشاء بألفاظ الكنايات والمجازات - وغير ذلك من خصوصيات ألفاظ العقود - فقد تقدم: أن صحة ذلك يدور مدار اعتبار العقلاء تحقق البيع بذلك. كلام المحقق النائيني في المقام ومناقشته وقد ذكر المرحوم النائيني (رحمه الله) في ألفاظ الكنايات: أنه لو قيل: إنها قسم من المجاز، كما عرفها بعضهم: من أنها ذكر اللازم وإرادة الملزوم، فحكمها حكمه، ولو قيل: إنها قسيم المجاز - كما هو الحق - وإن الاستعمال فيها في نفس معناه الحقيقي،
1 - المكاسب: 80 / سطر 7. 200 والانتقال إلى الملزوم من دواعي استعمال هذه الألفاظ في معانيها الموضوعة لها، لا إنها استعملت في الملزوم، فالأقوى عدم صحة إنشاء العنوان بها، فإن إنشاء اللازم وإيجاده في الانشاء القولي ليس إيجادا للملزوم عرفا، وكون الملزوم داعيا ومقصودا من إيجاد اللازم لا أثر له، فإن الأغراض والدواعي لا أثر لها في باب العقود. ثم لو قيل: بأن الملزوم وإن لم ينشأ أصالة إلا أنه منشأ تبعا، وفي المرتبة الثانية من الايجاد، ولا وجه للاقتصار على المنشأ الأول بعد إطلاق أدلة العناوين، فيقال: الايجاد بهذا النحو في كمال الضعف من الوجود، فينصرف الاطلاق عنه (1). انتهى ملخص كلامه (رحمه الله). وفيه - بعد الاغماض عن تناقض صدر الكلام وذيله، فإن في الصدر فرض عدم تعلق الايجاد بالملزوم أبدا، وفرض تعلقه به في المرتبة الثانية، وبعد الاغماض عن أنه لا محصل لضعف الوجود في أمثال المقام، وأن ضعف الوجود لا يكون منشأ لانصراف الأدلة - أنه لو أراد من أنه في الكناية قد استعمل اللفظ في معناه الحقيقي، والانتقال إلى الملزوم من دواعي الاستعمال، أنه قد تعلقت الإرادة الجدية بنفس ذلك المعنى الحقيقي كالإرادة الاستعمالية، والانتقال إلى الملزوم بدلالة أخرى نظير الدلالة الالتزامية، من أن الإرادة الجدية والاستعمالية قد تعلقتا بالمعنى المطابقي، ودل اللفظ على لازم ذلك أيضا على مسلك القوم، أو أن اللفظ لم يدل إلا على معناه، لاستحالة دلالته على خلافه، والدلالة الالتزامية دلالة المعنى على اللازم، لا دلالة اللفظ عليه على مسلكنا (2). فهذا ظاهر البطلان، فإن في الكناية قد تعلقت الإرادة الجدية بنفس الملزوم، وأخذ اللازم طريقا له، ولذا يدور الصدق والكذب فيها مدار وجود الملزوم وعدمه، بلا اعتبار لوجود اللازم وعدمه، بخلاف باب المطابقة والالتزام، فإن الصدق والكذب يدوران مدار وجود المعنى المطابقي
1 - منية الطالب 1: 106 / سطر 4. 2 - تقدم في الصفحة 94. 201 وعدمه، وهذا واضح. ولو أراد منه أنه في الكنايات استعمل اللفظ في اللازم، وتعلقت الإرادة الجدية بالملزوم - كما هو الحق - ففي مورد الانشاء بالكناية لم يوجد إلا الملزوم، فما معنى أن الايجاد تعلق باللازم، وإيجاده ليس إيجادا للملزوم عرفا، أو أنه يوجد بوجود ضعيف، فلم يبق إلا أن يقال: إن اللفظ صريح في إيجاد اللازم، فلا يصلح لايجاد غيره، وهو الملزوم (1)، وهذا مصادرة ظاهرة، فإن الكلام في إمكان ذلك، وأنه هل تعتبر الصراحة، أو يكفي الانشاء بالكناية. حقيقة المعاملات وبساطتها وقد ذكر (رحمه الله) في ألفاظ المجازات والمشتركات: أن البيع - بل كل عنوان من عناوين العقود والايقاعات - عنوان بسيط، فلا يمكن إيجاده تدريجا، بل إما أن يتحقق آنا أو لا يتحقق أصلا، وليس مركبا من الجنس والفصل، بل المركب منهما أيضا لا يمكن أن يوجد تدريجا، فإن تحصل الجنس إنما هو بالفصل، فلا يعقل أن يوجد أحدهما قبل الآخر، فكيف بما هو بسيط وما به امتيازه عين ما به اشتراكه... إلى أن قال: التمليك في كل من البيع والقرض والهبة والإجارة بعين كونه بيعا أو قرضا أو هبة أو إجارة، أي لا يكون التمليك في البيع جنسا وبيعيته فصلا، بل هو بيع بعين كونه تمليكا، بل لا شبهة أنه ليس التمليك شيئا والبيع شيئا آخر، وإن قلنا بأن كل واحد من هذه الأمور الأربعة مباين في السنخ مع الآخر، مضافا إلى أن التمليك في جميع هذه الأمور أمر واحد، وإنما الاختلاف بينهما كالاختلاف بين أفراد البيع. وعلى أي حال المعنى المنشأ بلفظ بعت أمر بسيط، ولا يمكن أن يوجد تدريجا.
1 - أنظر منية الطالب 1: 106 / سطر 7. 202 وفرع على هذه المقدمة الفرق بين المجاز المشهور وغيره، وأنه في الأول لا يلزم إنشاء البسيط تدريجا، فلا مانع منه، وفي الثاني لو كان الانشاء بالقرينة وذيها لزم التناقض وإيجاد البسيط تدريجا، ولو كان الانشاء بذي القرينة فقط، وكانت القرينة كاشفة، فلا يلزم ذلك، إلا أن يمنع كونه آلة لايجاد العنوان عرفا. والفرق بين المشترك اللفظي والمعنوي، وأنه في الأول لا يلزم المحذور، إلا أن يقال بأن القرينة متممة للمراد لا كاشفة عنه فيلزم، وفي الثاني لا بد من التفصيل بين إنشاء العقود التمليكية بالمشترك بينها كالتمليك، وبين إنشاء غيرها بالجامع بينها وبين العقود التمليكية، لعدم لزوم المحذور في الأول، فإن ما به الامتياز فيه عين ما به الاشتراك، بخلاف الثاني، لعدم إمكان إنشاء تمام البسيط به، بل ينشأ الجنس العالي أولا، ثم يميز بالفصل، فتلزم التدريجية (1). انتهى محصل كلامه (رحمه الله). وفيه: أن لازم ما ذكره - من بساطة العقود، واتحاد ما به الاشتراك والامتياز في العقود التمليكية - اتحاد هذه العقود في الحقيقة، فإن حقيقة كل منها التمليك. ولو قيل: بأن الفرق بينها بالخصوصية، وأن البيع تمليك خاص، والقرض تمليك خاص، فهذا اعتراف بوجود ما به الامتياز بينها، وهو تلك الخصوصية، غاية الأمر أن الجنس والفصل في الحقائق الاعتبارية لا يزيد عن الاعتبار، بخلاف الحقائق المتأصلة التكوينية. والحاصل: أنه لا فرق بين الموجودات الحقيقية والاعتبارية - كهذه العقود - في الذاتيات، إلا الحقيقية والاعتبارية، فالبيع مشترك مع القرض في كون كل منهما تمليكا، ويمتاز عنه في كون الأول بالعوض والثاني بالضمان، فعلى ذلك لا نسلم كون حقيقة المعاملات بسيطة، حتى لا يمكن إنشاؤها بالتدريج، بل يمكن إنشاء ذلك المفهوم المركب بالألفاظ المركبة بتعدد الدال والمدلول.
1 - منية الطالب 1: 106 / سطر 14. 203 الوجه في اعتبار الماضوية ومناقشته وقد ذكر في اعتبار الماضوية: أن وجه اعتبارها صراحة الفعل الماضي في إنشاء العناوين به، بخلاف المضارع والأمر واسم الفاعل وغيره. والفرق: أن الماضي وضع للتحقق والثبوت، ولذا يستلزم المضي، بخلاف اسم الفاعل، فإنه وضع لتلبس الفاعل بالمبدأ، وهذا ملازم للتحقق، فاستعماله وقصد الانشاء به دائر مدار القول بصحة الانشاء بالكنايات. وبالجملة: الفعل المضارع مع اسم الفاعل متحدان في المعنى وإن كان بينهما ترتب في النسبة، فإن المضارع وضع لنسبة الفعل إلى الفاعل، وبعد تحقق هذه النسبة يتصف الفاعل بأنه ممن صدر عنه الفعل، ولذا يقال: ضرب يضرب فهو ضارب، وكما لا يصح إنشاء العناوين باسم الفاعل، فكذا لا يصح بالفعل المضارع، نعم في خصوص لفظ طالق دل الدليل على وقوع الايقاع به (1). ومما ذكرنا: ظهر حال الأمر أيضا، فإنه وضع لالقاء نسبة المادة إلى الفاعل، فقوله: زوجني نفسك لا يفيد إلا طلب الانشاء، فحكمه حكم المضارع، فكما أنه أشبه بالوعد كذلك هو أشبه بالمقاولة. وأما الروايات المتوهمة دلالتها على كفاية الفعل المضارع أو الأمر - في أبواب شراء العبد الآبق (2) وبيع المصحف (3) والتزويج (4) - فتوجب القطع بأن الفعل
1 - أنظر وسائل الشيعة 15: 295، كتاب الطلاق، أبواب مقدماته وشرائطه، الباب 16. 2 - وسائل الشيعة 12: 262، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع وشروطه، الباب 11. 3 - وسائل الشيعة 12: 114 - 115، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 31، الحديث 1 و 2 و 3 و 6. 4 - أنظر وسائل الشيعة 14: 194، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 1. 204 المضارع والأمر في هذه الأبواب وقعا مقاولة ووعدا واستدعاء فاعتبار الماضوية لا إشكال فيه (1)، انتهى ملخصا. وفيه: أن الماضي - حسب اعترافه (رحمه الله) - وضع لما يستلزم المضي، لا مطلق التحقق، فإذا كان الأمر كذلك، فكيف يكون صريحا في إنشاء التحقق الغير المستلزم لذلك، وأي فرق بين الماضي والمضارع من هذه الجهة؟! وأما ما ذكره من الفرق بينهما فليس بصحيح، لأن الارتكاز المحاوري العرفي، شاهد على أن الفرق بين الأخبار بالماضي والمضارع، ليس إلا الحكاية عن التحقق في المضي في الأول، وفي الحال أو الاستقبال في الثاني، وأما أن الأول صريح في التحقق والثاني كناية عنه، فليس إلا دعوى بلا بينة ولا برهان، ولا سيما ما ذكره: من أن الفعل المضارع واسم الفاعل متحدان بحسب المعنى مترتبان في النسبة، وليت شعري إذا كانا متحدي المعنى فكيف يحصل الترتب في النسبة؟! أفيكون الشئ مترتبا في النسبة على نفسه، ثم إنه ما الدليل على عدم إمكان الانشاء باسم الفاعل، حتى يجعل ذلك أصلا لعدم إمكانه بالفعل المضارع؟ وأعجب من جميع ذلك التزامه بوقوع الطلاق بما ليس بصريح فيه، وهو لفظ طالق تعبدا، فهل يرتضي أحد بأن الشارع تعبدنا بوقوع الطلاق بما لا دلالة له عليه، وعدم وقوعه بما هو دال عليه. والأعجب من ذلك دعواه القطع بأن الروايات واردة مورد المقاولة وغيرها، مع أنه لو لم يقطع بأنها واردة مورد الانشاء بذلك لم يقطع بما ذكره، فلاحظ الروايات. وكيف كان، الصحيح ما مر: من إمكان الانشاء بكل ما يعتبر العقلاء تحقق المعاملة به ماضيا كان أو مضارعا أو غير ذلك.
1 - منية الطالب 1: 108 / سطر 17. 205 في جملة شروط أخرى للعقد وأما الكلام في لزوم تقديم الايجاب على القبول، أو الموالاة بينهما، أو التطابق بينهما، ونحو ذلك، فمتفرع على القول بلزوم القبول في البيع، وقد مر سابقا مفصلا: أنه لا دليل على ذلك، بل البيع ليس إلا المبادلة بين المالين، أو التمليك بالعوض، وليس هذا إلا معنى الايجاب، ولزوم القبول إنما هو للدلالة على رضا القابل بالمعاملة، وإلا فليس دخيلا في حقيقتها (1)، فلو كان أحد وليا للطرفين أو وكيلا عنهما، وبادل بين مالهما بقوله: بادلت هذا بهذا، وزوجهما بقوله: زوجتك إياها، لا يحتاج إلى قبول أبدا، فبالايجاب تتم المعاملة، ونحتاج في ترتب الأثر عليها إلى رضا الآخر، فمع إحرازه سابقا أو مقارنا أو لاحقا يترتب عليها. الكلام في جواز تقديم القبول على الايجاب في البيع وعدمه وليعلم قبل بيان ذلك: أن الحاجة إلى القبول في العقد، هل هي من جهة توقف العقد عليه، وكونه ركنا له، أو لا، بل شأن القبول ليس إلا الكشف عن رضا القابل بالمعاملة؟ وقد تقدم: أن حقيقة البيع ليس إلا المبادلة بين المالين على ما اخترناه (2)، أو التمليك بالعوض على ما اختاره الشيخ (رحمه الله) (3) ولم يؤخذ في شئ منهما القبول بل المبادلة أو التمليك هو شأن الايجاب فقط، فلو اختار البايع والمشتري معا وكيلا لهما لنقل مال البايع إلى المشتري بعوض منه فأنشأ الوكيل المعاملة بقوله بادلت
1 - تقدم في الصفحة 131 - 135. 2 - تقدم في الصفحة 14. 3 - المكاسب 1: 80 / سطر 8. 206 بينهما أو ملكت هذا بهذا لا يحتاج إلى قوله قبلت بعد ذلك بل لا يرى هذا إلا لغو محض. فمن هذا يعلم أن القبول غير مأخوذ في حقيقة المعاملة بل حقيقة المعاملة تتم بنفس إنشائها، نعم يعتبر في ترتب الأثر على ذلك رضا الطرفين المنكشف بأي كاشف ومنه القبول. الاستدلال للمقام بروايات باب النكاح ويدل على ما ذكرنا الروايات الواردة في باب النكاح، كرواية سهل الساعدي في بيان كيفية تزويج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (1)، ولا ينبغي الاشكال في أن قول الصحابي: زوجنيها ليس من القبول المتقدم في شئ بل إنما هو استدعاء محض وتم النكاح بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): حتى زوجتكها على ما معك من القرآن، وهكذا يدل على ما ذكرنا ما دل على كيفية نكاح المتعة بقوله (عليه السلام): فإذا قالت: نعم، فقد رضيت (2)، فإنها تدل على أن المعتبر هو الرضا لا غير، ويؤيده صدور الايجاب من الزوج في هذه الرواية، وهذا شاهد على أن المعتبر رضا الطرفين وإيقاع حقيقة النكاح كيف اتفق. إذا عرفت ذلك ظهر لك كثير من المباحث الواقعة في المقام على طولها، فإن اعتبار تقديم الايجاب على القبول، إنما يتصور إذا قلنا باعتبار القبول في حقيقة المعاملة، وإلا فيقع البحث بلا موضوع، نعم يعتبر رضا الطرفين بالمعاملة، بلا فرق بين أن يكون الكاشف عنه متقدما على المعاملة أو متأخرا أو مقارنا، وهذا ظاهر نظير الإجازة في البيع الفضولي.
1 - عوالي اللآلي 2: 263 / 8، مستدرك الوسائل 14: 313، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 1، الحديث 4. 2 - الكافي 5: 455 / 3، تهذيب الأحكام 7: 265 / 1145، الاستبصار 3: 150 / 551، وسائل الشيعة 14: 466، كتاب النكاح، أبواب المتعة، الباب 18، الحديث 1. 207 تفصيل الشيخ في المقام ومناقشته ثم لو بنينا على اعتبار القبول في حقيقة البيع، فقد فصل الشيخ (رحمه الله) بين إنشاء القبول بمثل اشتريت أو ابتعت أو ملكت ونحوها، وبين إنشائه بمثل قبلت أو رضيت مما يدل على مطاوعة الفعل، بجواز التقديم في الأول (1) وعدمه في الثاني (2). وذكر في وجه الجواز في الأول: أن الانشاء بمثل ذلك ليس إلا على نحو إنشاء البائع بقوله: بعت، فكما أن بعت من البائع نقل ماله إلى المشتري، كذلك ابتعت من المشتري، نقل مال البائع إلى نفسه، وكما يمكن تقديم بعت على ابتعت كذلك يمكن العكس. وذكر في وجه عدم الجواز في الثاني أمرين: أحدهما: أن القبول مطاوعة الفعل، والمطاوعة لا تعقل إلا مع تقديم الفعل عليه، وهذا كالكسر والانكسار. وثانيهما: أن الأثر في المعاملة يحصل بالقبول، فلا بد من تأخيره، وإلا لزم الانفكاك وحصول الأثر بعد الايجاب (3). أقول: لو سلمنا اعتبار القبول في المعاملة، فلا نسلم اعتباره من خصوص المشتري، لعدم الدليل عليه، بل مع حصول إنشاء المعاملة من كل من الطرفين وقبول الآخر تتم حقيقتها، فعلى ذلك القسم الأول من القبول - المذكور في كلامه (رحمه الله) - خارج عن محل البحث، فإنه ليس من تقديم القبول على الايجاب، بل
1 - المكاسب 1: 97 / سطر 22. 2 - المكاسب 1: 96 / سطر 23. 3 - أنظر المكاسب: 96 / سطر 26، و 97 / سطر 22. 208 من العكس، فإن معنى ابتعت - كما ذكره هو (رحمه الله) - ليس قبول البيع، بل نقل الملك عن الغير إلى نفسه، فلو قال البائع: قبلت يتم المطلوب، وقوله: بعت بعد ذلك، كقول المشتري: ابتعت بعد إيجاب البائع بمنزلة القبول، فليلتزم بخروج ذلك عن حريم النزاع. وأما الوجهان لعدم الجواز في الثاني، ففي الأول منهما: أنه خلط بين التكوين والاعتبار، وكلامنا في الثاني، وأنه مع قبول المشتري - مثلا - قبل إنشاء البائع ما ينشئه بعد ذلك، هل يعتبر العقلاء تحقق البيع أم لا؟ وأين هذا من الكسر والانكسار؟! وأي مانع من قول المشتري: بفروش قبول دارم، ثم يقول البائع: فروختم؟! وأما الثاني منهما: فمصادرة، فإن لزوم حصول الأثر بالقبول في المعاملة متوقف على لزوم تأخر القبول عن الايجاب، وهذا أول الكلام. كلام لبعض المحققين في المقام ومناقشته ذكر في المقام بعض المحققين: أن الابتياع والاشتراء ونحوهما تدل على اتخاذ المبدأ، فلو أراد المشتري بقوله: اشتريت - مثلا - اتخاذ المبدأ من الغير يكون من القبول المتقدم، ومطاوعة للايجاب المتأخر، ولا يجوز، ولو أراد بذلك اتخاذ المبدأ من نفسه فليس كذلك، ولا بأس به (1). وهذا خلط بين المطاوعة المأخوذة في القبول، واتخاذ المبدأ الذي ذكر أنه معنى باب الافتعال، فإن المطاوعة قبول الفعل بالمعنى المصدري، لا المعنى المبدئي، فقول البائع: بعت دال على نقله ملك المشتري إلى ملكه بالعوض، فلو قال المشتري بعده: قبلت معناه: قبلت ما فعلت، وهو نقلك الكذائي، لا قبلت مبدأ النقل. فعلى ذلك لا تكون اشتريت وابتعت ونحوهما متضمنة لمعنى
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 68 / سطر 13. 209 المطاوعة أبدا، بل معناها اتخاذ المبدأ على ما ذكره (رحمه الله)، فلو قال المشتري: اشتريت معناه: اتخذت مالك بالشراء، وهذا إيجاب لا بد من قبوله من قبل البائع، لا أنه قبول متقدم. وكيف كان، لو اعتبرنا القبول في تحقق المعاملة، فلا دليل على اعتبار وقوعه متأخرا عن الايجاب، وأمثال اشتريت وابتعت ليست من هذا الباب على ما تقدم. الكلام في اعتبار الموالاة بين الايجاب والقبول وعدمه قد ظهر مما مر: أنه لا يعتبر ذلك في حقيقة العقد من باب السلب بانتفاء الموضوع، والرضا المعتبر في ترتب الأثر على العقد يمكن أن يكون متأخرا عنه، كالرضا في البيع الفضولي، لعدم الدليل على لزوم المقارنة. إشكال عقلي لبعض الأعاظم وجوابه ذكر بعض الأعاظم في المقام إشكالا عقليا، بعد أن قسم العقود بلحاظ اعتبار الموالاة وعدمه فيها إلى ثلاثة أقسام: قسم يعتبر فيها جزما، وهي العقود المشتملة على المعاوضة كالبيع، وفي حكمها النكاح. وقسم لا يعتبر فيها جزما، وهي العقود الإذنية، كالوكالة والعارية والأمانة ونحوها. وقسم محل إشكال، وهي العقود الخارجة عن هذين القسمين، كالهبة مثلا. وذكر ذلك الاشكال في القسم الأول منها، وقال ما محصله: حيث إن هذه العقود خلع ولبس وإيجاد العلقة بين الشخص والملك.
210 وبعبارة أخرى: حيث إن المعاوضة لا تتم إلا بتبادل الإضافات، فلا بد من المقارنة بين الايجاب والقبول، وإلا لزم تحقق الإضافة بدون المضاف إليه، فإن المفروض خلع لموجب الإضافة عن نفسه وعدم حصول اللبس بالنسبة إلى القابل، فيلزم وجود الإضافة بدون المضاف إليه (1). وفيه أولا: لو تم هذا الاشكال فلا وجه للترديد في مثل الهبة من العقود، باعتبار أن العقلاء لا يرون اعتبار التوالي فيها، فإن الاشكال العقلي لو تم لعم، فما ذكره في هذا القسم من العقود لا محصل له. وثانيا: ما المراد بالعقود الإذنية في كلامه؟ فلو كان المراد منه الإذن نفسه، فليس هو من العقود حتى يحتاج إلى الايجاب والقبول، فضلا عن اعتبار التوالي بينهما، بل هو إيقاع محض، ولو كان المراد منها بعض العقود كالوكالة والعارية، فإطلاق الإذن على ذلك لا يخلو عن مسامحة، فإن الإذن من أحكامه، لا في قوامه، كما لا يخفى، على أن الاشكال المذكور في القسم الأول يجري في ذلك أيضا، ولا سيما العقلائي منه، فلاحظ. وثالثا: الخلع واللبس - وبعبارة أخرى: تبادل الإضافتين - غير معقول في نفسه، فإن الإضافة الشخصية - التي تمام حقيقتها وهويتها قائمة بشخص خاص وملك خاص - لا يعقل قيامها بغير ذلك، فكيف يمكن تصور خلعها ولبس الآخر لها؟! وبعبارة أخرى: بمجرد الخلع لا تبقى إضافة حتى يلبسها الآخر. ورابعا: لو سلمنا ذلك وأغمضنا عما فيه، فالمالك بعد الخلع يكون أجنبيا عن الملك، فكيف يلبس الآخر له؟! وبعبارة أخرى: اللبس مقارنا للخلع لا يمكن، فإنهما مترتبان، وبعد الخلع لا يبقى الملك مضافا إلى المالك، حتى يلبسه الآخر.
1 - منية الطالب 1: 111 / سطر 12. 211 وخامسا: لو أغمضنا عن جميع ذلك، والتزمنا بالاشكال - وهو لزوم تحقق الإضافة بدون الطرف - فمنشأ ذلك ليس عدم التوالي بين الايجاب والقبول، بل منشؤه نفس الايجاب وإن كان مقارنا للقبول، فإن الخلع واللبس فعل الموجب، فبتمامية الايجاب قبل القبول ولو آنا ما يلزم ذلك. وبعبارة أخرى: لو كان المراد من الخلع واللبس، الواقع منهما الحاصل بعد القبول، فلا فرق بين حصول التوالي وعدمه، فإن الخلع واللبس لا يحصلان قبل القبول حتى يلزم المحذور، وبعده لا محذور، ولو كان المراد منه الخلع واللبس الايقاعي فهو حاصل بنفس الايجاب، فيلزم المحذور وإن حصل التوالي. والسر في جميع هذه الاشكالات: أنه قاس المقام بباب العقليات، وأن المعاوضة من قبيل الخلع واللبس، والحال أنه - مع ما ذكرنا في الأصل في العقليات - القياس ليس في محله، فإن الباب عقلائي لا عقلي، والعقلاء يرون البيع - مثلا - المبادلة بين المالين، أو تمليك المال بالعوض، والمالك بسلطنته على ملكه مسلط على هذا التمليك، وهذا سالم عن الاشكالات السابقة، ويعتبر العقلاء تحقق المعاملة بتمامية الايجاب والقبول مع التوالي وعدمه. وبعبارة أخرى: البيع - بنظرهم - يحتاج إلى إعمال المالك سلطنته بتمليك ماله للآخر بالعوض، وإعمال الآخر سلطنته بقبول ذلك على القول باعتباره، ولا يرى في البين محذورا عقليا من عدم حصول التوالي بينهما، على أنا في فسحة من هذا الاشكال، فإن القبول غير معتبر عندنا، والمعاوضة وإن كانت من الخلع واللبس، إلا أن إيقاع ذلك ليس إلا فعل الموجب، فبنفس الخلع يحصل اللبس بلا حاجة إلى القبول. نعم، يشترط - في حصول ذلك واقعا - رضا المشتري، وهذا أمر آخر غير مرتبط بحقيقة المعاملة وما هو مركز الاشكال، وهو الخلع واللبس الايقاعيان لا الواقعيان، وإلا فلا يلزم إشكال بوجه، كما مر.
212 وهنا إشكال آخر: وهو أنه مع عدم التوالي فلا يخلو: إما أن يتعلق القبول بنفس ما تعلق به الايجاب، وهو النقل من حين الايجاب، فيلزم تقدم النقل على القبول، وهذا خلاف المفروض، فإن القبول ركن على الفرض، ولازمه عدم حصول الأثر قبله، ومع عدم تعلقه بذلك وتعلقه بالنقل من حينه، يلزم عدم التطابق بين الايجاب والقبول (1). وجوابه: يظهر من مباحث الإجازة في بيع الفضولي، وأنه ناقل أو كاشف، فبناء على تسليم أن الزمان مأخوذ في الايجاب، وتعلق القبول بنفس ما تعلق به الايجاب، يلزم الكشف، لا خروج القبول عن الركنية، مضافا إلى أن الزمان ليس قيدا لما تعلق به الايجاب، بل هو ظرف له كالمكان، والمتعلق ليس إلا النقل، والقبول متعلق بذلك. وإما أن النقل يحصل من زمان الايجاب، أو في زمان القبول، فهذا أمر آخر غير مرتبط بمتعلقهما، وحيث إن المعاملة لا يترتب عليها الأثر إلا بالقبول بناء على الركنية، أو بالرضا بناء على ما ذكرنا، فالقاعدة تقتضي حصول الأثر بعد ذلك، ولا يلزم منه تعلق القبول بغير ما تعلق به الايجاب. إشكال آخر منسوب إلى الشهيد وهنا إشكال آخر نسبه الشيخ (رحمه الله) إلى الشهيد (قدس سره) (2): وهو أن كل أمر تدريجي الوجود، وله وجود واحد بنظر العرف، فلا بد من التوالي فيه بحيث يعد بنظرهم أمرا واحدا، كقضية الاستثناء والأمثلة التي رتبها على ذلك، وما نحن فيه من هذا القبيل، واستحسنه الشيخ (رحمه الله) لو كان موضوع دليل اللزوم عنوان العقد، وإلا فلا (3).
1 - حاشية المكاسب، الإيرواني 1: 90 / سطر 35. 2 - القواعد والفوائد 1: 234 / 73. 3 - المكاسب 1: 98 / سطر 29. 213 هذا، ولنا سؤال عن الفرق بين العقد والبيع والتجارة، فإن ما هو تدريجي الوجود ليس إلا الايجاب والقبول، وهذا مصداق لكل منها، والقول باعتبار الوحدة في العقد دون البيع ونحوه عرفا غير ممكن التصديق. كلام المحقق النائيني في المقام ومناقشته وقد غير المرحوم النائيني (رحمه الله) العنوان المذكور في كلام الشيخ، وهو الأمر التدريجي الوجود... إلى آخره بعنوان آخر، وهو كل أمرين أو أمور يجمعها عنوان واحد (1)، ولا بأس به، فإن الأثر المطلوب مترتب على اعتبار الوحدة العرفية، سواء كان من الأمر التدريجي أو غيره. لكن ذكر في ذيل كلامه ما حاصله: لا يقال إن لزوم المعاوضة يتوقف على عنوان العقدية، وأما صحتها فلا، لامكان تصحيحها بمثل (أحل الله البيع) (2). لأنا نقول: ليس البيع والتجارة ونحوهما إلا العقود المتعارفة، مع أن هذا النحو من المطلقات ليس في مقام البيان من جميع الجهات، مضافا إلى عدم إمكان التفكيك بين اللزوم والصحة إلا بدليل خارجي، وإلا فكل ما يقع صحيحا ويؤثر في النقل لا ينقلب عما وقع عليه إلا بمؤثر خارجي، فما أثر يؤثر دائما، وهو معنى اللزوم (3). ولا يخفى ما فيه، فإن البيع ونحوه وإن كان من العقود المتعارفة، إلا أنه كما يصدق عليه العقد كذلك يصدق عليه البيع، وكونه مصداقا للعقد لا يكون مانعا من التمسك لتصحيحه ب (أحل الله البيع).
1 - منية الطالب 1: 111 / سطر 16. 2 - البقرة 2: 275. 3 - منية الطالب 1: 111 - 112. 214 وأما ما ذكره: من عدم كون مثل هذه المطلقات في مقام البيان، فلا محصل له، وكيف تمكن هذه الدعوى في مثل الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا (1)؟! وأما ما ذكره أخيرا: من الملازمة بين الصحة واللزوم، فغريب، فقد مر سابقا: أن العقد بعد إثبات صحته يحتاج في لزومه إلى دليل ولو الاستصحاب، فما ذكره: من أن ما وقع صحيحا لا ينقلب عما وقع عليه، أو يؤثر دائما، ونحو هذه الألفاظ، لا واقع لها. التحقيق في حل الاشكال وكيف كان، فالتحقيق في حل الاشكال: أن المراد من العقد أو البيع أو التجارة ونحوها ليس الايجاب والقبول، حتى يقال: لا بد من التوالي بينهما، فإن لهذه العناوين وحدة عرفية، بل المراد منها الأمر الاعتباري الذي يعتبره العقلاء بعد تحقق موضوعه وهو الايجاب والقبول على المعروف، والايجاب فقط على ما ذكرنا، فوحدة عنوان العقد أو البيع هكذا لا تستلزم اعتبار التوالي في موضوعها، مضافا إلى أن التوالي في الموضوع أيضا موجود على مسلكنا ولو تأخر القبول ما تأخر، فإن تمام ماهية العقد يتحقق بالايجاب فقط، وشأن القبول شأن الإجازة في بيع الفضولي، والاحتياج إليه من جهة صحة الاستناد والكشف عن الرضا، كما مر (2).
1 - سنن ابن ماجة 2: 788 / 2353، الفقيه 3: 20 / 52، عوالي اللآلي 1: 219 / 90 وفيه: حلل بدل أحل. و 2: 257 / 4، وسائل الشيعة 13: 164، كتاب الصلح، أبواب أحكام الصلح، الباب 2، الحديث 2. 2 - تقدم في الصفحة 131 - 134. 215 الكلام في اعتبار التنجيز في العقد وعدمه وقبل تحقيق ذلك لا بد من تعيين محل النزاع، وأنه هل هو الانشاء أو المنشأ؟ ظاهر كلمات الأصحاب وذكرهم عنوان العقد في عقد الباب الأول. تحرير المحقق النائيني لمحل النزاع ومناقشته ذكر المرحوم النائيني (رحمه الله) في المقام: أن محل النزاع هو تعليق المنشأ لا الانشاء، فإن الايجاد - سواء كان اعتباريا، أو تكوينيا - يستحيل أن يعلق على شئ، كما لا يمكن أن يعلق وقوع الضرب على أحد على كونه عدوا، فإن الايجاد إما أن لا يحصل رأسا، أو يحصل مطلقا، فوقوع الايجاد معلقا مرجعه إلى التناقض، فما هو محل الكلام التعليق في المنشأ، وصحته لا تخفى على أحد، بل وقوعه في الأحكام الشرعية فوق حد الاحصاء، فإن أغلب الأحكام الشرعية - بل جميعها إلا ما شذ منها - قضايا حقيقية وأحكام مشروطة على تقدير وجود موضوعاتها (1). هذا، ولا يخفى أن إقامة البرهان على الاستحالة، لا يوجب خروج المورد عن حريم النزاع وحصر محله بغيره، بل على ما سيأتي لو لم نلتزم بخروج التعليق في المنشأ عن محل النزاع، فلا نلتزم بخروجه في الانشاء عنه. وأما ما ذكره: من وقوع التعليق في المنشأ في الأحكام الشرعية، فإنها مجعولة على نحو القضايا الحقيقية، ومرجعها إلى قضايا مشروطة، فليس هنا محل بحثه، ونشير إليه إجمالا، فإنه مفيد جدا. وحاصل مراده من ذلك - على ما يظهر من موارد مختلفة على طول بعضها -:
1 - منية الطالب 1: 112 - 113. 216 أن متعلق الأحكام هو الأفراد، والعنوان المأخوذ في المتعلق أخذ مشيرا إليها ومرآة لها، وذكر في وجه توجه الحكم إلى الأفراد المعدومة فعلا: أنها نزلت منزلة الموجود، أو أخذت مفروضة الوجود، أو تعلق الحكم بهما مشروطا - على اختلاف هذه التعبيرات - وجعل الفرق بين القضايا الحقيقية والخارجية - مع اشتراكهما في توجه الحكم في كل منهما إلى الأفراد - أن المتعلق في الأول أعم من الموجودة والمعدومة على النحو المذكور، وفي الثاني الموجودة فقط. هذا، والأمر في القضايا الحقيقية والخارجية ليس كذلك، فإن كلا منهما من القضايا الكلية المعتبرة في الميزان، التي يعتمد عليهما في مقام الاستنتاج. وأما القضية المتكفلة لتعلق الحكم بالفرد الموجود فليست قضية خارجية، بل هي قضية جزئية غير معتبرة في المنطق، والموضوع في كل من القضايا الحقيقية والخارجية هو العنوان لا الأفراد. والفرق بينهما: أن العنوان المأخوذ في الأول غير مقيد بما يوجب عدم انطباقه على غير الأفراد الموجودة، بخلاف الثاني، فإنه مقيد بذلك، فموضوع الحكم في القضايا الحقيقية هو العنوان ونفس الطبيعة، وليس هذا من الشرط في شئ. الكلام في إمكان تعليق الانشاء وأما أصل المطلب، وأنه هل يمكن تعليق الانشاء أو لا؟ وهكذا في المنشأ، فقد ذكر السيد (رحمه الله) استحالة التعليق في الأول، بخلاف الثاني، ولزوم رجوع التعليق إليه، وتبعه المرحوم النائيني (رحمه الله) في كلامه المتقدم (1)، وإليك كلام السيد (رحمه الله): ذكر (رحمه الله): أن نفس الانشاء بما هو إنشاء غير قابل للتعليق، إذ هو نظير الايجاد التكويني، فكما أنه لا يمكن الايجاد التكويني معلقا، فكذا الايجاد
1 - تقدم في الصفحة 216. 217 الانشائي، بل في الأخبار أيضا لا يعقل التعليق في نفس الأخبار، وإنما يجوز في المخبر به، وأما المنشأ فيمكن أن يكون معلقا كالمخبر به، بأن تنشأ الملكية على تقدير كذا (1)... إلى آخره. في بيان معنى الانشاء والمنشأ ولا بد لنا من بيان معنى الانشاء والمنشأ، ليتضح الأمر: لا شبهة في أن الجمل الانشائية، ك اضرب في باب الأمر، وك ملكت في المقام، مزدوجة من هيئة ومادة وتعلق الهيئة بالمادة، ولا رابع، والمادة لا تدل على أزيد من نفس الطبيعة، والدال على الانشاء الهيئة، فهيئة افعل تدل على البعث الانشائي، والمادة تدل على نفس الطبيعة كالضرب في المثال، وتعلق الهيئة بها يدل على تعلق البعث الانشائي بالضرب، وهكذا في ملكت، هيئتها تدل على الانشاء - أي الايجاد - ومادتها تدل على نفس طبيعة الملكية، وتعلق الأول بالثاني يدل على تعلق الانشاء بالملكية، فالانشاء مدلول الهيئة، والمنشأ مدلول المادة، ولك أن تقول في المقام: إن ملكت تدل على إنشاء الملكية، وهو التمليك، لا أن الانشاء متعلق بالتمليك، بل الانشاء متعلق بالملكية ومقوم للتمليك. إذا تمهد ذلك: فتارة نبحث عن التعليق في الانشاء، وأخرى في المنشأ. البحث في تعليق الانشاء أما الأول: فما ذكره السيد (قدس سره) - وتبعه المرحوم النائيني (رحمه الله) -: من الاشكال العقلي، فهو من جهة الخلط بين التكوين والتشريع، فإن الايجاد الاعتباري لا يقاس
1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 91 / سطر 24. 218 بالايجاد التكويني، ولا نرى أي مانع من إيجاد الملكية معلقا على حصول أمر في الخارج، والتناقض المتوهم مبني على تحقق الايجاد وعدمه في الزمان الواحد، وليس كذلك، فإن المفروض أن المنشئ أنشأ الملكية معلقة في مقابل عدم إنشائه أصلا وإنشائه منجزا، فالتناقض إنما يلزم في المقام لو لزم عدم تحقق الانشاء المعلق، أو عدم تنجزه بعد حصول المعلق عليه، ولا يلزم شئ منهما في المقام، وهكذا في الواجب المشروط، فإنه لا مانع من إيجاب شئ - وإن شئت قلت: البعث نحوه - معلقا على حصول أمر في الخارج، فإن البعث الانشائي ليس أمرا تكوينيا، حتى لا يمكن تعليقه ويلزم من تعليقه ما ذكر، بل هو أمر اعتباري، ولا يقاس أحدهما بالآخر، فالمنشئ يوجد على فرض، وينشئ على تقدير، لا أنه ينشئ منجزا، والمنشأ يقع معلقا. البحث في تعليق المنشأ وأما الثاني: وهو التعليق في المنشأ، فغير متصور بوجه، فإن التعليق إنما يتصور بالنسبة إلى الجمل التصديقية، كالجملة الخبرية، وهكذا المخبرية، والجملة الانشائية بالنسبة إلى مدلولها الايقاعي، وأما المنشأ - الذي هو مفرد تصوري - فلا يتصور التعليق فيه، نعم يمكن تقييده، لكن التعليق فيه غير متصور، فأي معنى للملكية المعلقة على مجئ زيد؟! بل المتصور هو تعليق تحقق الملكية لا نفسها، والتحقق مفاد الانشاء، لا المنشأ، وهكذا أي معنى للضرب بمعناه التصوري معلقا على شئ؟! ومن هنا ظهر: أن الواجب التعليقي في مورد النعت والتوصيف ممكن، وأما في مورد التعليق فمستحيل، لاستحالة رجوع التعليق إلى المادة، بخلاف التقييد، وأيضا لازم رجوع التعليق إلى المنشأ بطلان المعاملة.
219 وإن أغمضنا النظر عن الاشكال السابق، وبنينا على إمكان رجوع التعليق إلى المنشأ، فإن الملكية أمر واحد متعلق بالعين، والمالك مالك للعين ملكية واحدة، ولازم رجوع التعليق إلى المنشأ أن التمليك فعلي منجز، والملكية معلقة، ومعناه أن للمالك ملكيات، منها ملكيته المعلقة على ما علقها عليه، فلو قال: ملكتك هذا على تقدير مجئ يوم الجمعة، أو على تقدير مجئ زيد يوم الجمعة، بل لو قال ذلك بنحو التوصيف والتقييد، كقوله: ملكتك هذا يوم الجمعة فلازم رجوع التعليق أو القيد إلى المنشأ - وهو الملكية - أن للمالك ملكيات، منها ملكيته يوم الجمعة، نظير تمليك المنافع في باب الإجارة، ومن المعلوم أن أحدا من الفقهاء، لم يلتزم بثبوت ملكيات في عين واحدة بالنسبة إلى شخص واحد. ولا يخفى أن هذا الاشكال مختص بالمقام. وأما في الواجب التعليقي فلا يلزم ذلك، لامكان أن يتوجه البعث فعلا نحو الضرب يوم الجمعة. نعم، لا بد من أن يؤخذ القيد فيه على نحو التوصيف، لا التعليق، كما مر. ومن هنا ظهر: أنه لا فرق بين أقسام التعليق في المقام، فمع رجوعه إلى المنشأ - وهو مدلول المادة - نحكم بالبطلان، وإن كان تعليقه - بمعنى التوصيف والتقييد - سالما عن الاشكال العقلي المتقدم، ومع رجوعه إلى الانشاء نحكم بالصحة، ولا يلزم منه إشكال عقلي، لا ما تقدم ولا غيره. كلزوم التقييد والتعليق في الهيئة، ومفادها من المعاني الحرفية، فلا يعقل اللحاظ استقلالا (1)، أو أنه جزئي غير قابل للتقييد (2).
1 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 181، أجود التقريرات (تقريرات المحقق النائيني) الخوئي 1: 131. 2 - مطارح الأنظار (تقريرات الشيخ الأنصاري) الكلانتر: 45 - 46. 220 وتفصيل الجواب عن هذا في الأصول، وإجماله: أن جميع التقييدات في جميع الجمل - كان المقيد اسما أو حرفا - لا يمكن أن تلاحظ بنفس اللحاظ المتعلق بالمقيد، بل لا بد من لحاظه مستقلا - ولو ارتكازا - متقدما على لحاظ المقيد أو متأخرا عنه. وكلزوم عدم الجزم في الانشاء على تقدير رجوع التعليق إليه. والجواب أولا: أن الجزم بالانشاء المعلق حاصل، ومعناه الجزم بالايجاد على تقدير حصول العملق عليه، كالجزم بوجوب الاكرام على تقدير مجئ زيد، وبعبارة أخرى: الجزم بالملازم. وثانيا: لا يعتبر الجزم في المعاملات كالعبادات، وأي مانع من تحقق المعاملة رجاء، كتحقق العبادة كذلك. وكلزوم التخلف بين الانشاء والمنشأ. وجوابه ظاهر بعد ما ذكرنا، فإنه لا مانع من التخلف بين الانشاء التعليقي وحصول المعلق عليه في الخارج، وبعد حصوله وتنجز الانشاء لا يلزم أي تخلف. والتفصيل والتطويل في هذه الاشكالات وغيرها موكول إلى محله. بقي في المقام شئ: وهو ملاحظة دعاوى الاجماعات الواقعة في الكلمات، ولكن التتبع في كلمات القدماء يشهد بأن المسألة غير إجماعية، مع أنهم استندوا فيها إلى ما تقتضيه العقول، وما هو بهذا الشأن لا يحصل فيه إجماع تعبدي، يكون حجة استنادية للفقيه. الكلام في التطابق بين الايجاب والقبول الظاهر أنه لا قائل بعدم اعتباره فيهما، بحيث يكون النزاع جاريا في الكبرى، فإنه من القضايا التي قياساتها معها، بل مجرى النزاع في الصغريات، وأنه هل في
221 موارده تكون المطابقة بينهما ثابتة بنظر العقلاء، أم لا؟ وقد ذكر الشيخ (رحمه الله) بعض هذه الموارد، وقال (رحمه الله): لو أوجب البائع البيع على وجه خاص - من حيث خصوص المشتري، أو المثمن، أو الثمن، أو توابع العقد من الشروط - فقبل المشتري على وجه آخر، لم ينعقد. ووجه هذا الاشتراط واضح، وهو مأخوذ من اعتبار القبول، وهو الرضا بالايجاب (1): أما من حيث خصوص المشتري أو المثمن، فالأمر كما ذكره، سواء قلنا باعتبار القبول في ماهية العقد أم لا، فإن الرضا بالايجاب معتبر في ترتب الأثر، كما مر (2)، والمفروض أن ما أوقعه البائع لم يرضه المشتري، وما رضي به لم يوقعه البائع، فالمطابقة غير حاصلة. وأما الثمن فيمكن تصوير المطابقة عرفا في بعض الموارد، كما إذا أوقع البائع البيع بعشرة توأمين متعددة، وقبله المشتري بذلك مفردة، فإن خصوصية التعدد ملغاة عند العقلاء غالبا، وهذا نظير ما ذكرنا سابقا في بيان إلغاء الخصوصية في الروايات، وأنه من التمسك بظاهر اللفظ، لا القياس، ولا تنقيح المناط (3)، فعلى ذلك المطابقة حينئذ حاصلة غالبا. وأما توابع العقد من الشروط، فلا بد من التفصيل بين إيقاع البائع البيع مشروطا على نحو العموم الأفرادي أو المجموعي، فعلى الأول تحصل المطابقة دون الثاني، وهكذا الحال بالنسبة إلى أجزاء مبيع واحد، أو البيع من شخصين مع قبول أحدهما، والوجه ظاهر لا يخفى.
1 - المكاسب: 101 / سطر 1. 2 - تقدم في الصفحة 131 - 134. 3 - تقدم في الصفحة 48. 222 كلام للمحقق النائيني في المقام ومناقشته ذكر المرحوم النائيني (رحمه الله): أنه لا تعتبر المطابقة بين الايجاب والقبول من حيث خصوص المشتري أو البائع، وذلك لأن البيع تبديل أحد طرفي الإضافة بمثله مع بقاء الطرف الآخر على حاله، فالمعاوضة تقع بين المالين، ولا خصوصية لمالكهما، وهذا بخلاف عقد المزاوجة (1). هذا، وقد مر الكلام في ما ذكره في بيان حقيقة البيع من المناقشات العقلية والعقلائية (2)، فعلى المبنى الصحيح - وهو أن البيع مبادلة مال بمال، أو تمليك المال بالعوض، واعتبار قبول المشتري بما أوقعه البائع في حقيقة البيع، أو اعتبار رضاه بذلك في ترتب الأثر - لعل اعتبار المطابقة من جهة خصوص البائع والمشتري يكون من الواضحات، بل على مبناه أيضا كذلك، بل أوضح، فإن تبديل أحد طرفي الإضافة - وهو الإضافة إلى المال مع بقاء الطرف الآخر، وهو الإضافة إلى المالك، بنفسه - يكون دليلا على لزوم المطابقة من هذه الجهة أيضا، فلو قال البائع، وهو زيد: بادلت طرف إضافتي إلى المال، مع بقاء الطرف الآخر - وهو إضافة المال إلي - بطرف إضافة عمرو إلى المال، ثم قال عمرو: قبلت ذلك من خالد، لم يتعلق القبول بما تعلق به الايجاب، فإن ما هو متعلق الانشاء ليس إلا إضافة زيد إلى المال، غاية الأمر الطرف المضاف إلى المال مع بقاء طرفه الآخر، وإضافة خالد إلى المال، لم يقعا موردا للانشاء أصلا، فلا موضوع للقبول أبدا.
1 - منية الطالب 1: 114 / سطر 11. 2 - تقدم في الصفحة 210 - 214. 223 الكلام في قابلية كل من المتعاقدين من أول العقد إلى آخره التزم الشيخ (رحمه الله) باعتبار ذلك، وذكر في وجهه: أنه إن كان عدم القابلية من جهة عدم الأهلية للتخاطب، فلعدم تحقق معنى المعاقدة والمعاهدة، وإن كان من جهة عدم الاعتبار بالرضا فلما ذكر أيضا، لأن المعتبر فيه عرفا رضا كل منهما لما ينشئه الآخر حين إنشائه. وأجاب (رحمه الله): بالنقض بالوصية، بأن القبول ليس ركنا لها، بل حقيقتها الايصاء، ويعد من الايقاع، وذكر: أن الأصل في جميع ما ذكر أن الموجب لو فسخ قبل القبول لغا. وأورد أخيرا على كلامه: بجواز لحوق الرضا لبيع المكره، ومقتضاه عدم اعتباره من أحدهما حين العقد. وأجاب عنه بقوله: اللهم إلا أن يلتزم بكون الحكم في المكره على خلاف القاعدة، لأجل الاجماع (1). انتهى محصلا. ويظهر مما ذكره أخيرا: أن محل النزاع إنما هو في البطلان، بمعنى إلغاء المعاملة عن ترتب الأثر عليها رأسا حتى بالإجازة، وإلا لم يكن للنقض ببيع المكره مجال. وفي ما ذكره (رحمه الله) مواضع للنظر: أولا: أنه لم يعتبر التخاطب في المعاقدة والمعاهدة، بل ليس عقد البيع، إلا المبادلة بين المالين، أو التمليك بالعوض، وليس فيه من اعتبار التخاطب عين ولا أثر. وثانيا: على ما ذكرنا من عدم اعتبار القبول في مفهوم المعاملة، وأن شأنه في المعاملة شأن الإجازة في العقد الفضولي (2)، فيكون عدم اعتبار هذا الشرط في
1 - المكاسب: 101 / سطر 7. 2 - تقدم في الصفحة 131 - 134. 224 العقد واضحا غنيا عن البيان. وثالثا: لو سلمنا الاعتبار من جهة اعتبار التخاطب في المعاقدة، فلا نسلم ذلك في القسم الثاني مما ذكره (رحمه الله)، وهو أن عدم القابلية من جهة عدم الاعتبار بالرضا، فإن التخاطب موجود، ولا دليل على اعتبار فعلية الرضا حال العقد، كما هو مبنى صحة بيع الفضولي والمكره. وأما ما ذكره: من أن الحكم في بيع المكره على خلاف القاعدة من جهة الاجماع، فلا يمكن المساعدة عليه، بل الصحة على وفق القاعدة، لعدم الدليل على لزوم مقارنة الرضا للعقد، كما أن جوابه عن النقض بالوصية أيضا ليس بصحيح، فإن الوصية العهدية - وهي التمليك بعد الموت - منطبق عليها عنوانان: الايصاء، والتمليك، والأول وإن كان إيقاعا غير محتاج إلى القبول، إلا أن الثاني محتاج إليه، فالنقض من هذه الجهة، لا من جهة الايصاء. فما أجاب به: من أن حقيقة الوصية الايصاء، والقبول ليس بركن فيها، صحيح من الجهة الأولى، لا الثانية. وأما ما ذكره: من أن الأصل في جميع ما ذكر أن الموجب لو فسخ قبل القبول لغا، فمردود من جهتين: أولا: الحكم في هذا الأصل غير مسلم، كما سيأتي في الفضولي إن شاء الله، وأن الرد لا يوجب إلغاء المعاملة من رأس، بحيث لا يمكن تصحيحها حتى بإلحاقها الرضا بعد ذلك. وثانيا: أن هذا ليس أصلا في جميع ما ذكر، فإنه لو باع كبير شيئا من صغير صار كبيرا بلا فصل، فقبل ذلك، فكيف يقال: إن الأصل في ذلك أنه لو فسخ الموجب بعد الايجاب قبل القبول لغى الايجاب، فالصحيح عدم اعتبار هذا الشرط في البيع.
225 ومن الغريب أن المرحوم النائيني (رحمه الله) - مع ما بنى عليه في المسألة السابقة، من أن المالكين ليسا بركنين في المعاملة، ولذا بنى على عدم اعتبار التطابق من جهتهما (1) - التزم في المقام باعتبار القابلية المذكورة، وذكر أن هذا من القضايا التي قياساتها معها (2)، مع أن التبادل بين الإضافتين في طرفهما المضاف إلى المال موجود، والمالك ليس بركن في المعاملة على مبناه حتى يلزم محذور فيها من هذه الجهة. فرع: في اختلاف المتعاقدين في شروط الصيغة ذكر الشيخ (رحمه الله): أنه لو اختلف المتعاقدان - اجتهادا أو تقليدا - في شروط الصيغة، فهل يجوز أن يكتفي كل منهما بما يقتضيه مذهبه، أم لا؟ وجوه... إلى أن قال: والأولان مبنيان على أن الأحكام الظاهرية المجتهد فيها بمنزلة الواقعية الاضطرارية، أم هي أحكام عذرية (3)؟ تفسير السيد لكلام الشيخ وبيان الحق في المقام فهم السيد (رحمه الله) من هذا الكلام: أن الشيخ (رحمه الله) يبني المسألة على القول بالسببية والطريقية في الأحكام الظاهرية. وأشكل عليه: بأنا لا نقول بالسببية، ولازم القول بها التصويب المحال (4). لكن الأمر ليس كذلك، ولا يريد الشيخ (رحمه الله) ابتناء المسألة على ذلك، بل مراده النزاع المعروف بين الفقهاء في الاجزاء في الأحكام الظاهرية، وأن إذن الشارع
1 - تقدم في الصفحة 223. 2 - منية الطالب 1: 114 / سطر 22. 3 - المكاسب: 101 / سطر 14. 4 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 92 / سطر 35. 226 بالعمل على وفق أصل أو أمارة، هل يقتضي إجزاءه عن الواقع، أم لا؟ وهذا أجنبي عن مسألة التصويب والسببية بالكلية، فإن صرف اكتفاء الشارع بما أتى به المكلف عن الواقع لا يقتضي ذلك، أترى أنه لو قلنا بجريان قاعدة لا تعاد (1) في الشبهات الحكمية - كما هو الحق (2) - لالتزمنا بالتصويب، أو نقول بأن الشارع في مقام الامتثال يكتفي بما أتى به المكلف عن واقعه وإن كان مخالفا له؟! الاجزاء في موارد الأصول والأمارات والمشهور بينهم الاجزاء في موارد الأصول والأمارات (3)، ودليلهم ما ذكرنا: من أن معنى إذن الشارع وإجازته في العمل على وفق ذلك الاجزاء والصحة، ولكنا فصلنا في محله بين الأصول والأمارات (4) من جهة لسان الدليل، ففي باب الأصول لسان التنزيل وجعل المصداق للواقع تعبدا وإن لم يكن مصداقا له واقعا، فمعناه أن المكلف متعبد بترتيب آثار الواقع على ذلك، فإنه هو بحكم الشارع، ولا نعني بالاجزاء إلا هذا، فقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): رفع ما لا يعلمون (5) دال على أن القيود المشكوك فيها - شرطا أو جزءا أو مانعا - وهكذا الأحكام المشكوك فيها مرفوعة، وحيث إنه لا يمكن القول بذلك بحسب الواقع، فإنه مخالف لضرورتنا، فلا بد لنا من الالتزام بالادعاء والتعبد فيه، وحيث إنه لا بد للادعاء من مصحح، وليس ذلك إلا
1 - الفقيه 1: 225 / 991، تهذيب الأحكام 2: 152 / 597، وسائل الشيعة 4: 934، كتاب الصلاة، أبواب الركوع، الباب 10، الحديث 5. 2 - الخلل في الصلاة، الإمام الخميني (قدس سره): 10 و 11. 3 - أنظر مفاتيح الأصول: 127، والفصول الغروية: 116 في النسبة إلى الأكثر. 4 - مناهج الوصول 1: 315 - 317. 5 - التوحيد: 353 / 24، الخصال: 417 / 9، وسائل الشيعة 11: 295، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس وما يناسبه، الباب 56، الحديث 1. 227 رفع الآثار الظاهرة، أو جميع الآثار، لو لم يكن في البين حكم ظاهر كما في المقام، فيكون معنى النبوي أن ما لا يعلمون بالنظر إلى الآثار منزل منزلة عدم اعتبار ذلك واقعا، فمعنى رفع الجزئية المشكوكة ترتيب آثار عدم الجزئية واقعا، فكأنها لم تكن مجعولة واقعا، فيكون فاقد الجزء صحيحا واقعا، فإنه لا جزئية فيه بحكم الشارع وتعبدا، وإن كانت مجعولة بحسب الواقع المجعول قانونا، فهذا تعميم في الواقع بحكم الشارع، ويستكشف منه أن مطلوب الشارع أعم من الواقع والظاهر، بل لا يتصور فيه كشف الخلاف أبدا، فلا بد من القول بالاجزاء في ذلك. وأما في الأمارات فلا يمكن الالتزام به، فإن اعتبارها ليس إلا بلحاظ مجرد الكشف عن الواقع وطريقيته إليه، قلنا بالتأسيس أو الامضاء. فعلى ذلك يتصور فيه انكشاف الخلاف، ومعه لا يمكن الحكم بالاجزاء. وبعبارة أخرى: لا يستفاد من دليل اعتبار الأمارة، أزيد من معذورية المكلف لو عمل على وفقها في صورة مخالفة الواقع، وأما اكتفاء الشارع بالمأتي به عن الواقع فلا يستفاد من ذلك. كلام للسيد في ترتيب آثار الصحة على اجتهاد المجتهد ومناقشته ذكر السيد (رحمه الله) في المقام: أنه لا بد من ترتيب آثار الصحة على اجتهاد المجتهد، وإن كان اجتهاد من يريد ترتيب الآثار على مخالفته للواقع، أو انكشف الخلاف بالاجتهاد عند نفسه بعد ذلك، لأن دليل حجية ظن المجتهد متساوي النسبة إلى الظنين، وحجية واحد منهما لا تهدم حجية الآخر. نعم لو علم المجتهد بخطأ الآخر، أو علم بخطأ اجتهاده سابقا، لم يجز له ترتيب الأثر، لأن هذا لازم القول بالتخطئة (1).
1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 93 / سطر 2 - 8. 228 هذا، وكيف يمكن تصديق هذا الكلام، مع أن اجتهاد الثاني على بطلان اجتهاد الأول في الأمارات، وأن المأتي به غير مطابق للواقع، والذمة مشغولة به في التكليفيات، ولم يتحقق موضوع الأثر في الوضعيات، على أن تساوي نسبة الدليل إلى الظنين يقتضي أن يحكم القائل بالفساد في المقام بذلك لا الصحة، وإلا لكان تابعا للآخر في ظنه وهدم اجتهاده باجتهاد الآخر. في إجزاء أعمال المقلد المطابقة لفتوى من يقلده ومما ذكرنا ظهر حكم المقلد أيضا بالنسبة إلى إجزاء أعماله - المطابقة لفتوى من يقلده - عن الواقع إذا قلد شخصا آخر بعد ذلك، أو عمل معاملة مع مقلد شخص آخر، يكون عمل هذا المقلد فاسدا عند مجتهد المقلد الأول، صحيحا عند مجتهد نفسه، فلو قلنا: بأن الأصول والأمارات كما هي جارية بالنسبة إلى المجتهد، كذلك تجري بالنسبة إلى المقلد (في الشبهات الحكمية)، غاية الأمر حيث إنه لا يتمكن من الفحص اللازم في أحكامها، ينوب عنه المجتهد في ذلك، وإلا فمستند فعل المكلف ليس إلا الأمارة أو الأصل، فلا بد من التفصيل المتقدم. ولو قلنا: بأن الأصول والأمارات موضوع لها بالنسبة إلى المقلد، فإنه لا يتمكن من تنقيح مجاريها، فإن الفحص اللازم، أو إعمال الترجيح أو غيره بالنسبة إلى المتعارضين، وغير ذلك مما هو معتبر في العمل بالإمارة أو الأصل، منحصر بالمجتهد، فعدم شمول دليل حجية ذلك بالنسبة إلى المقلد من جهة السلب بانتفاء الموضوع، واستناد المقلد في عمله إنما هو إلى فتوى المجتهد، فتكون الفتوى من قبيل الأمارات، فإن المجتهد بعد استناده إلى الأمارة أو الأصل يفتي بالواقع، وفتواه بالنسبة إلى المقلد أمارة إليه، فعلى ذلك يجري فيه ما ذكرنا في الأمارات.
229 في كلام آخر للسيد ومناقشته ثم ذكر السيد (رحمه الله) كلاما نتيجته: أن في المقام البيع فعل واحد تشريكي، ولا بد من كونه صحيحا في مذهب كل منهما، وترتيب الأثر على ظن المجتهد الآخر، إنما يكون فيما لو كان فعله موضوعا للحكم بالنسبة إليه، وفي المقام ليس الأمر كذلك، فإن العقد متقوم بالطرفين، ويجب على كل من المتعاقدين إيجاد عقد البيع، فلا بد من كونه صحيحا في مذهب كل منهما (1). وهذا أيضا لا يرجع إلى محصل، فإن وجوب إيجاد عقد البيع - وهو الايجاب والقبول على ما ذكره - على كل من المتعاقدين، لا يفهم له معنى صحيح، فلو أراد من ذلك أن الايجاب والقبول فعل كل منهما فهذا بديهي البطلان، ولو أراد منه أن البيع يحصل بالايجاب فقط، والقبول مطاوعة لما فعل، ولذا لا بد من صحة البيع عندهما، فأيضا لا يخرج ذلك عن كون الايجاب والقبول فعلين صحيحين كل منهما بنظر صاحبه، فلا بد من ترتب الأثر عليه على ما اختاره من تساوي دليل الاعتبار بالنسبة إلى الظنين. وهنا بعض المناقشات في كلامه لا نتعرض لها رعاية للاختصار. الاجزاء مع صدق العنوان ثم لا يخفى أن ما ذكرنا: من التفصيل بين الأمارات والأصول، أو ما ذكره المشهور، وهو الاجزاء ولزوم ترتيب الأثر في جميع الموارد، إنما هو فيما إذا كان عنوان العبادة والعقد صادقا قطعا، وكان مجرى الأصل أو الأمارة الشك في بعض
1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 93 / سطر 9 - 15. 230 أحكام ذلك، بحيث تدل الأمارة المتأخرة - أو القائمة عند مجتهد آخر غير من قامت عنده الأولى - على فساد ما قامت عليه الأمارة المتقدمة أو الأصل والقائمة عند المجتهد الأول، لا أن يكون مفادها عدم صدق العنوان على ذلك، فلو دلت على عدم الصدق لكان اللازم الحكم بعدم الاجزاء، فإن الأصل أو الأمارة الأولى أو القائمة عند المجتهد الأول، لا يثبتان العنوان حتى يكون موضوعا للأدلة الدالة على لزوم ترتيب الآثار على ذلك العنوان، فلو قامت الأمارة المتقدمة أو الأصل على عدم لزوم القبول في العقد مثلا، وأجرى المجتهد العقد بلا قبول، ثم تبدل رأيه، ورأي باجتهاده الثاني اشتراط القبول في حقيقة العقد، وأن ما أوقعه ليس بعقد، فلا يمكن الحكم بصحة ذلك ولزوم ترتيب الأثر عليه، فإن الاجتهاد الثاني دال على عدم صدق عنوان العقد على ذلك، فلا يمكن للمجتهد تصحيحه بمثل (أوفوا بالعقود) (1). وهكذا الكلام في العبادات، وفي حكم المجتهدين إذا رأى أحدهما عدم صدق العنوان على الواقع بينه وبين الآخر، وإن كان فعل كل منهما صحيحا بنظر مباشره. الاجزاء مع موافقة الواقع طبقا لكلا الاجتهادين وأيضا لا بد في المقام في الحكم بالصحة، ومن كون الواقع على وفق كل من الاجتهادين صحيحا موافقا لنظر المجتهد الموقع، وإن حكم بفساد فعل الآخر، فمع سراية فساد فعل الآخر في ما فعله هذا المجتهد لا يمكن الحكم بذلك، كما إذا رأى لزوم الترتيب بين الايجاب والقبول - مثلا - وأنشأ الآخر القبول أولا، لا يمكن لهذا المجتهد الحكم بصحة العقد بإيجابه المتأخر، فإنه يرى أن إيجابه وقع بلا قبول، فيسري فساد القبول في إيجابه.
1 - المائدة 5: 1. 231 وهذا مراد الشيخ (رحمه الله) من كلامه الأخير في المقام، فلاحظ وطبق هذه الكبرى على ما ذكره من الأمثلة، فإن الحكم يختلف فيها حسب اختلاف المباني فيها. ثم إنه - على ما ذكرنا - يمكن أن يكون عقد صحيحا من قبل أحد الطرفين فاسدا من طرف الآخر، وقد أنكر السيد (رحمه الله) في أول العروة ذلك (1)، وأشكل المحشون عليه، ولكن هنا شبهة في شمول دليل وجوب الوفاء لمثل هذا العقد، ودعوى انصرافه عنه غير بعيدة، ومن جهة هذه الشبهة لا بأس بالاحتياط في ذلك.
1 - العروة الوثقى 1: 20، المسألة 55، من مسائل التقليد. 232 أحكام المقبوض بالعقد الفاسد الأمر الأول الضمان لا إشكال في عدم حصول الملك بذلك، فإنه مقتضى فساد العقد، إنما الكلام في الحكم التكليفي، وهو جواز التصرف فيه وعدمه، والحكم الوضعي، وهو الضمان وعدمه، فقد يقال بجواز التصرف بدعوى أن المالك قد أجاز التصرف بهذا العقد الفاسد (1)، وهذا - كما ترى - واضح الدفع، فإن الصادر من المالك ليس إلا المعاملة، وأما إجازة التصرف فلا. ولكل من المعاملة وإجازة التصرف مبادئ خاصة به، بل لا يمكن أن يقال: إن المالك قد أجاز التصرف بهذه المعاملة، لأنه لو أريد بذلك أن المالك أجاز التصرف في مال صاحبه بعد هذه المعاملة، فهو أجنبي عن هذه الإجازة. ولو أريد به أنه أجاز التصرف في ماله بعد المعاملة، فالمفروض أنه يخرج المال عن ملكه، فكيف يجيز التصرف في ماله بعد خروجه عن ملكه؟!
1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 95 / سطر 22، أنظر حاشية المكاسب، الإيرواني 1: 95 / سطر 33. 233 ولو أريد به أنه أجاز ذلك في ماله قبل المعاملة، فهذا خارج عن محل البحث، ولا فائدة في هذه الإجازة لمسألتنا. ولو أريد به أن المالك حيث يعلم بفساد العقد، وأن المال لا يخرج عن ملكه بذلك، ومع ذلك يقدم على ما فيه استيلاء الآخر على ماله، فهو راض بتصرف الآخر فيه، فهذا أيضا خروج عن محل البحث، فإن الكلام في أن المقبوض بالعقد الفاسد - بما أنه مقبوض بالعقد الفاسد - هل يجوز التصرف فيه أو لا؟ وأما صورة قيام قرينة على أن المالك راض بهذا التصرف، فهي خارجة عن مورد النزاع. هذا بالنسبة إلى الحكم التكليفي. وأما الضمان فمع الاتلاف عقلائي يذكر في محله - إن شاء الله تعالى - وأما مع التلف فليس كذلك، بل لا بد له من التماس دليل.
234 أدلة الضمان مع التلف الاستدلال بدليل على اليد وقد استدل عليه: أولا: بدليل اليد: على اليد ما أخذت حتى تؤديه (1) ذكر الشيخ في المبسوط هذه الرواية مسندة، والراوي الأخير سمرة بن جندب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (2)، أو على اليد ما جنت حتى تؤديه نقلها السيد في الانتصار مرسلا (3)، أو على اليد ما قبضت حتى تؤدي نقلها السيد] ابن زهرة [في الغنية مرسلا (4). ويقع الكلام في هذا الحديث تارة من حيث السند، وأخرى من حيث الدلالة وفقه الحديث: أما سنده فكما ترى سنده ضعيف بسمرة وغيره مرسل، ولم يعلم استناد القدماء إليه في الحكم بالضمان، فإن الشيخ والسيدين ذكروه احتجاجا على العامة، لا استنادا إليه، فلا يمكن دعوى انجباره باستناد القدماء إليه، لكن ابن إدريس مع عدم عمله بخبر الواحد يستند إلى ذلك في مورد من السرائر جزما (5)، وإن أسند الحديث في مورد آخر منه إلى العامة (6)، والمتأخرون طرا يستندون إليه في الحكم
1 - سنن أبي داود 2: 802 / 2400، سنن البيهقي 6: 90 / سطر 4، عوالي اللآلي 1: 224 / 106 و 3: 251 / 3، وفيه: حتى تؤدي، مستدرك الوسائل 14: 8، كتاب الوديعة، أبواب وجوب أداء الأمانة، الباب 1، الحديث 12. وفيه: ورواه الشيخ أبو الفتوح في تفسيره حتى تؤديه. 2 - المبسوط 3: 59. 3 - الانتصار، ضمن الجوامع الفقهية: 192 / سطر 15. 4 - الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 537 / سطر 23. 5 - السرائر 2: 484. 6 - السرائر 2: 481. 235 بالضمان، ومتن الحديث أيضا أقوى من أن يصدر من مثل سمرة، ولذا وقعنا في الاشكال في سند هذا الحديث. وأما فقه الحديث فقد ذكر الشيخ (قدس سره): أن الحديث ظاهر في إثبات الوضع، بقرينة كلمة على وتعلقها بالعين لا الفعل، ولذا يمكن التمسك به لاثبات الضمان في الصبي والمجنون (1)، ولكن نفس كلمة على ظاهرة في ذلك، فإن مفادها العهدة وإن تعلقت بالفعل نحو: (لله على الناس حج البيت) (2)، وكم فرق بين ذلك وقوله يا أيها الناس حجوا ويجب على الناس الحج مثلا! فإن الآية الكريمة دالة على ثبوت الحج في العهدة نظير الدين، بل هو هو كما في بعض الروايات: دين الله أحق أن يقضى (3)، ولذا يخرج من أصل التركة. الاشكال على الشيخ في ظهور الحديث في إثبات الوضع وجوابه أشكل بعض المحققين (قدس سره) على الشيخ (رحمه الله): بأن الحديث لو كان في مقام التشريع وجعل الوضع، فهذا خلاف مبناه (رحمه الله)، ولو كان في مقام الأخبار عن الوضع المنتزع عن التكليف، فمضافا إلى خلاف الظهور، لا يمكن التمسك به لاثبات الضمان في الصبي والمجنون، ولو قيل بأن الوضع منتزع من التكليف المشروط بالبلوغ والعقل، فالانفكاك غير معقول (4). ولكن يمكن دفع هذا الاشكال على مذاق الشيخ (رحمه الله) أيضا بأن يقال: إن الحديث في مقام التشريع وجعل الوضع، لكن لا جدا ليرد عليه ما ذكر في وجه الاستحالة
1 - المكاسب: 101 / سطر 26. 2 - آل عمران 3: 97. 3 - سنن البيهقي 4: 255 / سطر 19، بحار الأنوار 85: 308 و 316 وفيه: بالقضاء بدل أن يقضى. 4 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 74 - 75. 236 عقلا، بل جعل الوضع صوري بداعي الارشاد إلى التكليف المنتزع منه ذلك. وأما النقض بالصبي والمجنون، فيمكن الجواب عنه أيضا على مبناه في الواجبات المشروطة: من رجوع القيد إلى المادة (1)، فإن التكليف على هذا المبنى في الصبي والمجنون، يكون فعليا والواجب استقباليا، فيصح انتزاع الضمان من التكليف الفعلي وإن كان ظرف الواجب - وهو الأداء - بعد البلوغ والعقل. نعم، يمكن النقض بالصبي الذي مات قبل بلوغه والمجنون الذي لم تحصل له الإفاقة أبدا حتى مات. ويمكن الجواب عن هذا أيضا: بأنه لا يعتبر في الأحكام القانونية، أن يكون جميع موارد انطباقها واجدة للشرائط، ولذا ذكرنا: أن القدرة والعلم ليسا بشرطين للتكليف والخطاب، بل إنهما قيدان في مرحلة التنجز، والعجز والجهل معذران للمكلف لا موجبان لانتفاء توهم الخطاب إليه (2)، ولذا بنى المشهور على الاحتياط عند الشك في القدرة (3). وعلى هذا يمكن تصوير تكليف العصاة والكفار، وقد مر بيان ذلك. وفي ما نحن فيه يمكن أن يقال: بأن المجنون كالنائم مكلف قانونا وإن كان معذورا في ترك الامتثال، وهكذا في الصبي فليتدبر. هذا، ولكنا في سعة عن هذه التوجيهات، لأن الأحكام الوضعية - حتى الجزئية والشرطية - قابلة للجعل مستقلا على مسلكنا.
1 - مطارح الأنظار (تقريرات الشيخ الأنصاري) الكلانتر: 46 / سطر 1. 2 - مناهج الوصول 2: 26 - 28، أنوار الهداية 2: 214 - 216. 3 - أنظر أنوار الهداية 2: 157 / سطر 12. 237 كلام للسيد في باب الضمان ومناقشته بقي شئ: وهو أن السيد (رحمه الله) ذكر في باب الضمان: أن الذمة مشغولة بنفس العين ولو بعد تلفه، وعند الأداء حيث إن رد العين متعذر لا بد من أداء بدله، فلو كان قيميا تعطى قيمته يوم الأداء (1)، لكنه لو أراد بأن الذمة مشغولة بالعين أن نفس العين الخارجية تعتبر في الذمة، فبقاء الضمان تابع لبقاء العين، وبعد تلف العين يسقط الضمان لا محالة. ولو أراد بذلك أنه يعتبر وجود العين في الذمة والعهدة، فلم تثبت اليد على الوجود الاعتباري للعين، حتى يقع مضمونا على الشخص، مضافا إلى لزوم كون المالك مالكا للعين والعهدة في ظرف وجود العين، وفي مورد ترتب الأيادي يلزم كونه مالكا لجميع العهدات، ولا يمكن الالتزام بذلك. ولو أراد بذلك أن العهدة متعلقة بالعين نظير الكفالة، بمعنى أن الشخص لا بد له من رد العين إلى مالكها، فمعناه سقوط العهدة بتلف العين لانعدام طرف الإضافة. لا يقال: إن هذا أمر عقلائي لا عقلي، ويمكن تلف العين مع بقاء الكلي المنطبق عليها بنظر العقلاء، نظير ما يقال في استصحاب الكلي، وهنا وإن تلفت العين إلا أن ماهيتها النوعية - القابلة للانطباق على مثلها - وماليتها باقية بنظرهم. فإنه يقال: انعدام الفرد انعدامه بجميع شؤونه وحيثياته، وبقاء ذلك بنظر العقلاء إنما هو في مورد قيام فرد مقام ذلك المعدوم، وإلا فلا، وقيام فرد مقام العين في المقام أول الكلام. والحاصل: أن اعتبار العين في العهدة - بأي من المعاني المذكورة - لا يساعد عليه الفهم العرفي، فضلا عن بقائها بماهيتها النوعية أو ماليتها، ولا سيما ما يقال: من
1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 96 / سطر 26 و 102 / السطر الأخير. 238 أن أداء المثل أو القيمة أداء العين ببعض مراتبها (1). التحقيق في المقام والتحقيق حسب ما يقتضيه فهم العقلاء: أن الضمان هو عهدة الدرك والخسارة، كما ذكره المشهور، فمعنى الحديث على هذا أن المأخوذ على الشخص، أي الشخص ضامن له، وهذا غير اعتبار العين - بأي من الوجوه السابقة - على الشخص، ونتيجة هذا أمر تعليقي، وهو أنه لو تلفت العين لا بد على الشخص من تداركها، وهذا هو معنى الضمان المستفاد من الحديث، فالضمان أمر تعليقي، وهو عهدة التدارك لو تلفت العين، وتدارك المثلي بالمثل والقيمي بالقيمة، وإلا فمع وجود العين لا بد من أدائها، والضمان الفعلي غير متحقق مع وجود العين إلا على نحو التعليق المذكور. وبهذا البيان نقول: بأن مقتضى الحديث ضمان القيميات بقيمة يوم التلف، فإنه وقت فعلية التعليق المذكور وتنجيزه، والعرف يفهم من القول بأنه لو تلف يتدارك بالقيمة، أنها قيمة يوم التلف، وهذا بخلاف ما ينتج من مبنى السيد (رحمه الله) - المختار عندنا سابقا - فإن مقتضى بقاء العين على العهدة حتى بعد التلف لزوم أداء قيمة يوم الأداء في القيميات، كما لا يخفى (2).
1 - أنظر حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 79 / سطر 2. 2 - أقول: إن المستفاد من التعليق وإن كان ثبوت القيمة في الذمة عند التلف، إلا أن القيمة الثابتة في الذمة، ليست قيمة مطلقة من دون المضاف إليه، بل الثابت في الذمة هو قيمة العين عند التلف، فالذمة مشتغلة بقيمة العين، ولو كان مبدأ ثبوتها في الذمة زمان التلف، فلا بد من أداء قيمة العين بعد التلف، وأداء قيمة العين لا يحصل إلا بأداء قيمة يوم الأداء، وهذا نظير ما ذكر هو - مد ظله - في باب إرث الزوجة قيمة الأعيان في البناء والأشجار، فإن الميراث قيمة الأعيان، وأداء هذا يحصل بقيمة يوم الأداء، والثابت في ذمة الضامن بعد التلف - كالميراث في هذه المسألة - هو عنوان قيمة العين، لا القيمة الخاصة والمصداق. المقرر حفظه الله. 239 ثم إن النبوي جعل مدخول على اليد، وهذا ادعاء، حيث إن تمام التسلط على مال الغير يحصل باليد، فيدعي أن العهدة على اليد نظير العين في الربيئة، واستعمال لفظ الجزء في الكل - كما قيل - من الأغلاط، وقد مر بيان الحقيقة الادعائية (1). وتتمة الحديث في المباحث الآتية إن شاء الله تعالى. في شمول حديث اليد للأعمال والمنافع ثم إنه هل يشمل حديث اليد الأعمال والمنافع، أم لا؟ ذكر الشيخ (رحمه الله): أن النبوي لا يشمل الأعمال والمنافع (2). وليس الوجه في ما ذكره ما توهم: من عدم إمكان أخذ ذلك باليد (3)، فإن اليد المذكورة في النبوي ليست مرادة على ظاهرها، وإلا لكان اللازم القول بأن الضامن هو اليد لا الإنسان، بل الوجه فيه - على ما يذكره هو (قدس سره) فيما بعد -: عدم صدق الأخذ بالنسبة إلى ذلك (4). لكن يدفع ذلك: أولا: أنه لو تم ذلك فلا بد من الالتزام بخروج معظم الأعيان عن القاعدة، لعدم صدق هذا العنوان على مثل المزرعة ونحوها، بل الصادق عليها عنوان الاستيلاء، بل يدخل بعض المنافع فيها، وهي الأعيان التي تعد بنظر العرف منفعة للشئ، كماء البئر وثمرة الشجرة في بعض الموارد.
1 - تقدم في الصفحة 75. 2 - المكاسب: 103 سطر 2. 3 - أنظر حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 78 / سطر 19. 4 - المكاسب: 104 / سطر 34. 240 وثانيا: أن عمومية القاعدة وقانونيتها - أي ذكرها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ضربا للقانون - تقتضي عمومية الأخذ، أترى أن القاعدة تثبت الضمان في موارد صدق الأخذ - في الأشياء اليسيرة - ولا تثبت ذلك في مورد صدق الاستيلاء في الأشياء العظيمة مع أنها وردت لبيان القانون، فالنظر العرفي يدلنا على أن عموم الموصول موسع لدائرة صلته، لا خصوص الصلة مضيق لدائرة الموصول، فالمراد من الأخذ هو الاستيلاء. إشكال عقلي في صدق اليد على المنافع والأعمال ومناقشته نعم، هنا إشكال عقلي في صدق الاستيلاء بالنسبة إلى المنافع والأعمال، وهو أنه كما أن الزمان أمر غير قار الوجود، بل هو متدرج الوجود متصرم فيه، كذلك الزمانيات - كالحركة والتكلم - لا يمكن ثبات جزء منها في آن، بل يوجد جزء منها فينعدم.. وهكذا، وبما أن الاستيلاء إضافة بين المستولي والمستولى عليه، والمتضايفان متكافئان قوة وفعلا، فلا بد من وجود الطرفين حتى يتحقق الاستيلاء، والمفروض أن المنافع لا تحقق لها، فالاستيلاء عليها غير معقول (1). وبهذا التقريب لا فرق بين المنافع المستوفاة والفائتة، في عدم صدق الاستيلاء عليها، فلا يشمل الحديث شيئا منها. جواب المحقق الأصفهاني عن الاشكال وقد يجاب عن ذلك بما أجاب به بعض المحققين: وهو أنه كما أن في باب الإجارة يتعلق التمليك بالمنافع مع أنها غير موجودة في ظرف العقد، ويقال: إن
1 - عوائد الأيام: 257 / سطر 10، حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 78 / سطر 24. 241 المنفعة المعدومة فعلا الموجودة في ظرفها تفرض موجودة، وتقع موردا للتمليك، فكذا في المقام نقول بإمكان تعلق الاستيلاء بالمنافع المعدومة بفرض وجودها (1). وفيه منع أصلا وفرعا: أما الأصل: ففرض وجود الشئ لا يصيره موجودا بحيث يكون موردا لرغبة العقلاء، وما هو مورد لرغبتهم في الإجارة حقيقة المنفعة لا المنفعة المفروضة، وهذا ظاهر. فلا بد في باب الإجارة: إما أن يقال بإمكان تمليك المنفعة المتأخرة بالفعل بنظر العقلاء، أو يقال بأن الإجارة ليست من تمليك المنفعة في شئ، بل هي جعل المستأجر مقام المؤجر في أن توجد المنفعة ملكا له، وقد مر بيان ذلك وتصوير بيع المنافع في أول الكتاب (2). وأما الفرع: فلو سلمنا إمكان تعلق التمليك بالمنفعة المعدومة بمجرد فرض وجودها، لكن في باب الضمان لا يمكن أن يقال: إن موضوعه هو الاستيلاء على المنفعة المعدومة المفروض وجودها، وهذا واضح، مضافا إلى أن قياس الاستيلاء على الملكية قياس التكوين بالتشريع، وفساده أظهر من أن يبين، فإنه لو سلم إمكان اعتبار ملكية الأمر المتأخر من جهة اعتبار الوجود فعلا، فلا يمكن تصوير تعلق الاستيلاء - الذي هو من التكوين - بما فرض وجوده ولم يوجد بعد. فهذا الجواب لا يتم. والجواب الصحيح عن الاشكال: أن المنافع والأعمال وإن كانت بحسب الوجود متصرمة وغير مستقرة، لكنها موجودة لا يمكن سلب الوجود عنها، بل هي نحو وجود مستمر خاص، والاستيلاء على هذا الوجود الخاص كاستيفائه يكون على نحو ذلك الوجود، أي المنفعة الموجودة في كل آن توجد تحت استيلاء
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 78 / سطر 27.. 2 - تقدم في الصفحة 8 - 9. 242 المستولي، فطرفا الاستيلاء موجودان بالفعل، غاية الأمر أحد طرفيه مستقر الوجود والآخر مستمر الوجود، وهذا لا يضر بتحقق الاستيلاء. نعم، هنا فرق بين الاستيلاء على الوجود المستمر والاستيلاء على الوجود المستقر، في مسألة تعاقب الأيادي على مال الغير، وهو أن تعاقب الأيادي على الأعيان ممكن، ولذا يحكم بضمان جميعها لتلك العين. وأما في المنافع فلا يمكن تصوير تعاقب الأيادي على المنفعة الواحدة، فكل يد ضامنة لما استولت عليه من المنفعة. وأيضا في باب الإجارة لو تلفت العين أثناء مدة الإجارة، فإنه في فرض فساد الإجارة لم يتحقق الاستيلاء بالنسبة إلى ما بعد التلف من المنافع، حتى يحكم بضمانها. في تفصيل بعض المحققين في المقام وقد فصل بعض المحققين بين المنافع المستوفاة والفائتة، فحكم بتحقق الاستيلاء في الأول وعدمه في الثاني، فإن فعلية المنفعة تتوقف على استيفائها، وإلا فليست إلا قوة محضة، وليست نسبة المنفعة إلى العين كنسبة العرض إليها، بل إنها كنسبة القابل إلى المقبول، فالركوب - وهو منفعة الدابة - لا يكون قائما بالشخص وإن لم يركب، وإنما يكون فعليا مع استيفاء ذلك (1). ولكن هذا إنما يتم على تقدير تسليم ما ذكره: من أن منفعة الشئ لا تكون فعلية إلا بالاستيفاء، أما لو قلنا بأن المنفعة هي الجامعة بين مورد الاستيفاء والتفويت فلا، وهذا هو الصحيح، فإن منفعة الدابة - مثلا - ليس هو الركوب الفعلي، وإلا فهو ليس قابلا للاستيفاء، فإنه المستوفى على الفرض، فكيف يقبل الاستيفاء؟! بل منفعتها ما يقبل الاستيفاء والتفويت، وهي الظرفية الخاصة لظهر الدابة، وكذلك
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 78 / سطر 22. 243 في منفعة الدار، والمنفعة بهذا التقريب قابلة للاستيلاء عليها ولو مع عدم الاستيفاء، ولذا لا يوجد فقيه أفتى بعدم ضمان المنافع الفائتة، مع أن دليل الضمان لا يشملها، مع عدم فعليتها إلا بالاستيفاء. وما ذكرناه من التقريب موافق لنظر العقلاء ولذا يكون المفوت للمنفعة ضامنا بنظرهم أيضا. إشكال آخر وجوابه وهنا إشكال آخر ذكره بعض المحققين أيضا: وهو أن الغاية الواردة في النبوي تدلنا على أن موضوع الضمان هو اليد الواقعة على ما هو قابل للتأدية، والمنفعة ليست كذلك، فإن المستوفاة أو الفائتة منها غير قابلة لها، وهو ظاهر، ومجموع ذلك والمنافع الآتية أيضا كذلك، والمنافع الآتية معدومة فعلا، فكيف تقبل الأداء؟! ولو قلنا بالقابلية فيها، وكفايتها في دخول المنافع تحت النبوي، لزم الحكم بعدم الضمان لو استوفى مدة منافع الدار، وأدى ما بعدها من المنافع إلى مالكها، فإن أداء المنفعة قد حصل على الفرض (1). هذا محصل كلامه (قدس سره). والجواب عن ذلك: أولا بالنقض: وهو أنه على مسلكه (قدس سره) لا بد من الالتزام بأن المنافع قابلة للتأدية، فإن المنافع الآتية المعدومة فعلا يمكن فرض وجودها فعلا، وبهذا صحح تحقق الاستيلاء على المنافع، فإذا كان فرض وجود المنفعة كافيا في إمكان الاستيلاء، فليكن فرضه كافيا لامكان التأدية. وثانيا بالحل: وهو أن الغاية المأخوذة في النبوي ليست محددة للموضوع، بل هي غاية الحكم ورافعة له عند حصوله فقط، والمستفاد من النبوي أن التسلط
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 78 - 79. 244 على مال الغير موجب للضمان، والرافع له الأداء، وأما القابلية للتأدية وعدمها - بل نفس التأدية وعدمها - غير مأخوذين في موضوع الحكم بوجه. وبعبارة أخرى: أن المأخوذ غاية للحكم نفس التأدية، لا إمكانها، فلو كانت الغاية محددة لموضوع الحكم لكانت النتيجة أن المال الغير المؤدى مضمون على اليد الآخذة له، والقابلية وعدمها أجنبيتان عن هذا، ولازم ذلك عدم صلاحية الدليل لاثبات الضمان في شئ من الموارد، فإن المستشكل هو بنفسه ذكر في أثناء كلامه: أنه لو أخذ عدم الغاية قيدا للموضوع، فلا بد من أخذه بنحو السلب بانتفاء المحمول، لا الموضوع، فإن الظاهر من القضية السالبة ذلك (1)، وعلى هذا يكون معنى الرواية المال الموجود الغير المؤدى... إلى آخره، فالدليل قاصر عن إثبات حكم الضمان عند تلف المال، فإن عدم الأداء وإن كان صادقا فيه أيضا، إلا أنه من جهة السلب بانتفاء الموضوع لا المحمول، ويعلم من ذلك أن الغاية لم تؤخذ محددة للموضوع، وإلا لزم ما ذكر، بل موضوع الضمان المستفاد من النبوي هو التسلط على مال الغير عدوانا، ورافعه الأداء. ثم ذكر بعض المحققين بعد ذلك: إن قلت: إذا أخذت العين فقد دخلت في العهدة بجميع شؤونها، وهي حيثية شخصيتها، وحيثية نوعيتها، وحيثية ماليتها، فللعين مراتب من العهدة وبحسبها مراتب من الأداء، وامتناع بعض المراتب لا يوجب سقوط المراتب الممكنة، فكذلك المنفعة فقد دخلت بجميع شؤونها، وامتناع أداء تشخصها - لكونها تدريجية - لا يوجب امتناع أداء سائر المراتب. قلت: إن شؤون العين متقومة بها، فتلك الحصة من الطبيعي غير الحصة الأخرى المتقررة في فرد آخر مماثل لها، ضرورة أن الطبيعي من كل معنى موجود
1 - نفس المصدر 1: 78 / سطر 35. 245 بوجودات متعددة، فإذا تلفت فقد تلفت بجميع شؤونها، وعليه فلا بد أولا من شمول الخبر للمأخوذ المعين بأداء نفسه، ثم ترتيب أحكامه من أداء مثله أو قيمته، والمنافع حيث إنها غير قابلة للأداء بنفسها، فلا يعمها الخبر (1). هذا ملخص كلامه، ولكنه خلط بين المسألة العقلية والعقلائية، فإن وجود الطبيعي في كل فرد وإن كان مغايرا للآخر، ولذا لو تلف الفرد الأول لتلف بجميع شؤونه وحيثياته، إلا أن هذا حكم العقل الدقيق. وأما العقلاء فيرون جامعا مشتركا بين أفراد الطبيعة الواحدة، ولذا لا يقال: إن الإنسان يعدم ويوجد، بل يقال: إنه باق من لدن آدم إلى الآن، وقد تقدم الكلام في ذلك عند الكلام في جريان استصحاب الكلي مفصلا، فأداء الشئ بنوعيته أو ماليته، يعد نحو أداء له بنظر العقلاء وإن كان بالنظر الدقيق مغايرا له. وعليه فدعوى شمول الخبر للمنافع - فإنها قابلة للأداء بحيثيتها النوعية أو المالية - ممكنة. ويمكن تقريب إشكال آخر بالنسبة إلى شمول النبوي للأعمال والمنافع: بأن المنافع متصرمة الوجود، ولا يمكن الالتزام بأن العهدة مشغولة بمثل ذلك، لعدم تقرر له، والقول بأن الثابت في العهدة هو أمر ثابت متقرر لا يتم، فإن اليد وقعت على المتصرم لا الثابت، فما هو تحت اليد لا يمكن اشتغال العهدة به، وما يمكن اشتغالها به لم يقع تحت اليد (2). وجوابه أيضا ظاهر: أولا: هذا مبني على المبنى غير الصحيح، وهو لزوم نفس العين في العهدة لا ما ذكرناه من معنى الضمان من الأمر التعليقي.
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 79 / سطر 1. 2 - أنظر غاية الآمال 1: 272 / سطر 18. 246 وثانيا: لو سلم ذلك المبنى فلا يمكن الالتزام بأن الخارج يثبت في الذمة، وهذا ظاهر. فصاحب هذا المبنى يريد بذلك: أن الذمة مشغولة بعنوان غير قابل للانطباق في الخارج إلا على فرد واحد، ولا يلزم أن يكون العنوان متصرم الوجود كمعنونه، فالذمة مشغولة بالعنوان، وهو أمر ثابت، والمعنون بهذا العنوان وقع تحت اليد، وهو متصرم الوجود. كلام الشيخ في إثبات ضمان المنافع والأعمال ومناقشته قال الشيخ (رحمه الله) لاثبات الضمان في المنافع والأعمال: اللهم إلا أن يستدل على الضمان فيها بما دل على احترام مال المسلم، وأنه لا يحل إلا عن طيب نفس منه (1)، وأن حرمة ماله كحرمة دمه (2) (3). أما الجملة الأخيرة: أن حرمة ماله كحرمة دمه، فيحتمل كون المراد من الحرمة فيها الحرمة التكليفية، كما قيل (4) أيضا، بمعنى أن التصرف حرام كما أن إراقة الدم حرام، فعليه لا تدل الرواية على الضمان بوجه، وهذا ظاهر. ولكن ملاحظة سياق الرواية تشهد بأن الحرمة وضعية، وأن مال المسلم محترم كدمه، وحيث إن ظاهر التشبيه كونه بلحاظ جميع الآثار، فتدل الرواية على أن مال المسلم كدمه في الاحترام، ومعناه أنه لا يجوز التصرف فيه كما لا يجوز إراقته، وعند التلف لا بد من جبره، كما أنه في الدم أيضا كذلك، فتدل الرواية حينئذ
1 - مسند أحمد بن حنبل 5: 72، الكافي 7: 273 / 12، سنن البيهقي 6: 100، عوالي اللآلي 1: 222 / 98، وسائل الشيعة 19: 3، كتاب القصاص، أبواب القصاص، الباب 1، الحديث 3. 2 - الكافي 2: 268 / 2، الفقيه 4: 300 / 909، عوالي اللآلي 3: 473 / 4، وسائل الشيعة 8: 610، كتاب الحج، أبواب أحكام العشرة، الباب 158، الحديث 3. 3 - المكاسب: 130 / سطر 3. 4 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 80 / سطر 8. 247 على الضمان، بل لو لم تكن الفتوى بوجوب جبر مال المسلم الذي لا يعلم متلفه من بيت المال مخالفا للاجماع، لقلنا بذلك فإن الدم كذلك، ولكن لا بد من تقييد الرواية من جهة الاجماع على عدم وجوب ذلك. إشكال بعض المحققين في المقام وجوابه وقد أشكل بعض المحققين (رحمه الله) على الاستدلال بهذه الرواية - بعد أن ذكر: أن المراد من الحرمة الحرمة التكليفية، وذكر مطالب أخرى لا نتعرض لها - بأن تقييد المال بالمسلم يدل على أن موضوع الحكم متحيث بالحيثية التقييدية، والقيد هو سلطان المسلم على المال، فتدل الرواية على أن موضوع الحرمة هو هذا القيد، أي السلطنة، فالسلطنة محترمة، ولا تدل الرواية على احترام نفس المال، وإلا لم يجز التصرف فيه حتى بالنسبة إلى صاحبه. فعليه ما تكون الرواية بصدد بيانه هو احترام السلطنة، ولا يدل هذا على الضمان، وما هو دال عليه هو احترام المال، فإنه معناه، وليست الرواية ناظرة إليه (1). وفيه: أن ترتب الحكم على الموضوع المتحيث بالحيثية التقييدية يدل على أن الموضوع هو المقيد لا القيد، فالموضوع في الرواية هو المال المقيد بكونه من مسلم، لا السلطنة، فمال المسلم محترم، ومعناه ما ذكرناه. وما ذكره: من أن لازم احترام نفس المال عدم جواز تصرف صاحبه فيه، غريب أيضا، فإن معنى احترام مال كل أحد عدم جواز تصرف الغير فيه من دون إذنه، لا عدم جواز تصرف نفسه فيه، وهذا ظاهر.
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 80 / سطر 11. 248 التحقيق في المقام هذا، ومع ذلك لا يمكن التمسك بالرواية لاثبات ما نحن بصدده، وهو ضمان المقبوض بالعقد الفاسد ولو بالتلف السماوي، فإن المستفاد منها حكم الاتلاف لا التلف، ولذا ليس لتلف المسلم بنفسه أيضا حرمة ولا ضمان، فلا تدل على الضمان بالنسبة إلى تلف ماله بطريق أولى، بل يمكن التمسك بها على عكس المطلوب، فإن أخذ مال القابض عوضا عن المبيع المقبوض بالعقد الفاسد التالف بنفسه أو المتلف بإتلاف غير القابض، مناف لحرمة ماله، فلا يجوز. نعم، لو كان متلفا بإتلاف نفس القابض لكان الأخذ منه جائزا، فإنه مقتضى حكم العقلاء بضمان المتلف، إلا أن الكلام في غير الاتلاف، كما ذكرنا غير مرة. فعلى هذا تكون الرواية على خلاف المطلوب - وهو عدم ضمان القابض - أدل، والتوفيق بينها وبين حديث اليد: أن الحديث حاكم عليها، فإنه يثبت الضمان والعهدة، ويترتب على ذلك جواز الأخذ، وهذا موافق ومؤكد لاحترام مال المسلم، لا مناف له، فإن للبائع على القابض مالا لقاعدة اليد، وهو محترم لقاعدة الاحترام، فلا بد للقابض من أدائه، فالحديث في رتبة الموضوع للرواية. وأما الجملة الأولى: وهي لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه فقد ورد بهذا المضمون في عدة من الروايات، منها ذيل موثقة الشحام (1)، وصدرها مضمون الجملة السابقة، فلو قلنا: بأن الصدر قرينة للذيل، فيكون المراد من عدم الحلية الحرمة بالمعنى السابق، فتكون النتيجة عين ذلك. ولو أغمضنا عن ذلك، وقلنا: بأن الذيل مستأنف ومستقل، فلا بد من أن نقول:
1 - الكافي 7: 273 / 12، وسائل الشيعة 19: 3، كتاب القصاص، أبواب القصاص في النفس، الباب 1، الحديث 3. 249 بأن إسناد عدم الحلية إلى نفس المال - وهو الذات - لا يمكن إلا بالادعاء، كما مر مفصلا، والادعاء يحتاج إلى مصحح، فلا بد إما من كون المال ذا أثر ظاهر، بحيث يدعى سائر الآثار في حكم العدم، أو يقال: إن عدم الحلية مترتب على جميع آثار مال الغير وشؤونه، فكأنه تعلق بنفس المال، وحيث إنه ليس للمال أثر ظاهر - بحيث تكون سائر الآثار في جنبه كالعدم - فالثاني هو المتعين، وليس المراد منها عدم جواز التصرف في المال فقط لما ذكرنا، بل موردها أيضا ليس من قبيل التصرف في شئ، بل المورد الأمانة، وهي استنابة في الحفظ، ولذا عبر في الرواية بعدم حل المال، ومن آثار المال حفظه، بخلاف رواية الاحتجاج (1)، فإنه عبر فيها بعدم حلية التصرف في المال، ولكن لا يخفى أن هذه لا تدل على الضمان في المقبوض بالعقد الفاسد بوجه، والضمان أجنبي عن مدلولها، ولو سلمنا فهي ناظرة إلى الاتلاف لا التلف، بل يمكن أن يقال فيها ما قلنا في سابقها أيضا: من أنها على خلاف المطلوب أدل. تمسك الشيخ للضمان بقاعدة لا ضرر ومناقشته وقد تمسك الشيخ (رحمه الله) لاثبات الضمان بقاعدة لا ضرر (2)، ولسنا فعلا بصدد تحقيق بيان القاعدة ودلالتها ولكن نبين إمكان التمسك بها في المقام لاثبات الضمان وعدمه، فنقول:
1 - أنظر كمال الدين: 521 / 49، الاحتجاج 2: 559 / 351، وسائل الشيعة 6: 377، كتاب الخمس، أبواب الأنفال، الباب 3، الحديث 6. 2 - الكافي 5: 294 / 8، الفقيه 4: 243 / 2، عوالي اللآلي 1: 383 / 11 و 2: 74 و 3: 220، وسائل الشيعة 17: 341، كتاب إحياء الموات، أبواب إحياء الموات، الباب 12، الحديث 4، المكاسب: 103 / سطر 4. 250 إن غاية ما يمكن أن يقال في تقريب القاعدة لاثبات ذلك وجهان: أحدهما: أن لا ضرر قد أطلقت على نحو الحقيقة الادعائية، فإن الضرر في مواردها موجود تكوينا، والمصحح للادعاء إنما هو لزوم تدارك الضرر، فالضرر المتدارك كأنه لا ضرر، ولذا ادعي أنه كذلك، ف لا ضرر ورد لبيان لزوم التدارك، وهذا معنى الضمان. ثانيهما: أن لا ضرر ينفي كل ما يكون ضرريا في الشريعة المقدسة، ومنها الأحكام الضررية، ومنها إضرار الناس بعضهم ببعض، ومنها عدم اشتغال ذمة الضار بما أضر به، فإنه ضرري على الآخر، فيلزم تداركه، وهذا معنى الضمان. وعلى أي تقدير، تمت هذه التقريبات لولا القاعدة على عكس المطلوب أدل، فإن أخذ مال القابض - المفروض عدم كون التلف مستندا إليه، لا مباشرة ولا تسبيبا - لتدارك المال التالف ضرر عليه، ولا ضرر، فالقاعدة تثبت عدم ضمان التلف. والتوفيق بينها وبين حديث اليد (1): إما بتخصيصها بالحديث، أو أن يقال: بأن رتبة المجعول في الحديث غير ضرري، فإن العهدة المحضة لا ضرر فيها أبدا، والمرتبة المتأخرة عنها - وهي مرتبة وجوب الأداء - وإن كانت مرتبة شمول القاعدة، إلا أنه بعد ثبوت العهدة بالحديث يكون الأداء من قبيل أداء مال الغير، وهذا أجنبي عن مفاد القاعدة، وهذا نظير ما يقال في الزكاة: من أن رتبة جعل الشارع تشريك الفقراء في المال مع صاحبه، مقدمة على رتبة شمول لا ضرر، وبعد ثبوت جعل التشريك - لعدم مزاحمة القاعدة له في هذه المرتبة - يكون وجوب الأداء من قبيل وجوب أداء مال الغير، فتصبح القاعدة سالبة بانتفاء الموضوع. وكيف كان، فتجشم هذه الوجوه لدفع التدافع بين الحديث والقاعدة، إنما هو على مذاق القوم في مفاد القاعدة، وإلا فالأمر عندنا سهل، والتحقيق في مفادها
1 - تقدم في الصفحة 235. 251 موكول إلى محله. في الفرق بين مورد العلم والجهل في المقام ثم ذكر الشيخ (رحمه الله): لا فرق في ما ذكرنا من الضمان في الفاسد بين جهل الدافع بالفساد، وبين علمه مع جهل القابض (1). وما يمكن أن يقال - في تقريب الفرق بين مورد الجهل والعلم - أمران: أحدهما: أن العالم منهما قد سلط الآخر على ماله مع علمه بفساد المعاملة، وهذا كاشف عن رضاه بتصرف الآخر في المال ولو بالاتلاف، وإن لم يحصل له ملك العوض، وهذا معنى التسليط بالمجان، وهو خارج عن عموم حديث اليد (2). ثانيهما: أن العالم منهما قد غر الجاهل بكون الملك له، فليس له الرجوع إليه مع إتلافه المال، فضلا عن تلفه، وللجاهل الرجوع إلى العالم بملكه على فرض فساد المعاملة وعدم الغرور (3). ولكن لا يمكن رفع اليد عن عموم الحديث بشئ من هذين الأمرين: أما الأول: فلو لم يكن الطرفان من المعتنين بالشرع، فليس الحاصل منهما إلا الرضا المعاملي، فإن المفروض عدم صدور شئ منهما إلا هذه المعاملة الفاسدة، والرضا بالتسليط مجانا أجنبي عن ذلك. ولو كانا منهم فحصول ذلك غير بعيد، لكنه خلاف المفروض، فإن الفرض في المقبوض بالعقد الفاسد، أنه هل هذا القبض والاقباض - بما هو كذلك - مؤثر في رفع الضمان والخروج عن قاعدة اليد أم لا؟ ذكر بعض المحققين في المقام - بعد حكمه بالضمان ولو مع علمهما أو
1 - المكاسب 1: 103 / سطر 11. 2 - أنظر حاشية المكاسب، الإيرواني 1: 94 / سطر 25. 3 - أنظر مفتاح الكرامة 4: 169 / سطر 16. 252 أحدهما - فرقا بين ما نحن فيه وبين المعاطاة المقصود بها الملكية الحاصل منها الإباحة. وحاصل الفرق: أنه في البيع الفاسد التسليم مبني على العقد والرضا به، ومترتب عليه كترتب المعلول على علته، وحيث إن الرضا بالعقد ليس إلا الرضا المعاملي، فالتسيلم أيضا يكون مبتنيا على ذلك، ولم يحصل الرضا بالتسليم مطلقا، بل الحاصل هو التسليم المبني على الرضا بالتمليك، بخلاف المعاطاة، فإن الأمر فيها بالعكس، فإن المقصود وإن كان هو التمليك، إلا أنه مترتب على التسليم والرضا به، وبالتسليم المبني على الرضا به يحصل الملك، وحينئذ لا معنى لتقييد الرضا بالملك، فإنه من قبيل تقييد العلة بمعلولها، وهو غير ممكن (1). وفيه: أن أصل هذه المسألة العقلية - وهو عدم إمكان تقييد العلة بمعلولها - وإن كان صحيحا، إلا أنه كما لا يمكن التقييد لا يمكن الاطلاق أيضا، والمؤثر إنما هو عنوان غير قابل للانطباق إلا على ما يصدر منه المعلول وتمام الكلام في محله. وأما ما ذكره في المعاطاة فلا يصح، فإن المسألة العقلائية لا تقاس بالعقلية، بل لا بد من ملاحظة العقلاء فيها، ومن المعلوم في المعاملات العقلائية المعاطاتية، أن التسليم المترتب عليه الملك ليس هو التسليم المرضي به مطلقا، فإن المتعاقدين ينشئان به الملكية، فلم يحصل منهما إلا الرضا بالملك، وأين هذا من الرضا بالتسليم المطلق؟! في الفرق بين الغصب والمقام وذكر أيضا فرقا بين بيع الغصب والمقام: وهو أن المعاوضة الحقيقية في
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 81 / سطر 19. 253 الغاصب غير متصورة، إلا بتمليك عنوان المالك، وادعاء أن الغاصب هو المالك، وحينئذ حيث إن الاقباض أمر خارجي لا يعقل قيامه بالعنوان، والمفروض أن المالك الحقيقي غير قابض، بل المشتري العالم فرضا قد أقبض الغاصب ماله، وهذا الاقباض الصادر عن الرضا ينافي التضمين. وحاصل ما ذكره: أن المشتري ملك ماله بالعنوان، لامكان تمليك العنوان ولابديته في المقام، وسلط الغاصب بذاته على المال مع علمه بأنه غاصب، الكاشف عن رضاه بهذا التسليط، أي تسليطه على ماله، وهذا ينافي تضمين الغاصب، مع عدم إجازة المالك للعقد، بخلاف ما نحن فيه، فإن البائع العالم بالفساد قد ملك ماله للمالك، وسلط المالك على المال، وهذا التسليط ليس إلا تسليط المالك، فلا يكشف إلا عن الرضا بتسليط المالك، والمفروض فساد البيع، فلا ينافي التضمين (1). ولكن الأمر في الغاصب ليس كما ذكره، ولا فرق بين المقام وبيع الغصب، فإن المشتري العالم بالغصب - مع عدم اعتنائه بالشرع كما مر - لا يملك المالك، وتسليطه أيضا مبتن على هذا التمليك، فكيف يكشف عن رضاه بالتسليط مطلقا؟! والتحقيق: أن دعوى المالكية في الغاصب ليس كما ذكرنا في الادعاء في المجازات: بأن اللفظ قد استعمل في معناه، والادعاء إنما هو في كون المعنى المراد عين معنى اللفظ أو فرده (2)، بل هذا نظير الادعاء في المجاز على مذهب السكاكي (3)، وهو أن اللفظ لم يستعمل إلا في المعنى المراد، غاية الأمر ادعى أنه معناه أو فرد معناه. وبعبارة أخرى: التمليك واقع بالشخص، وهو الغاصب، غاية الأمر بدعوى
1 - نفس المصدر 1: 81 / سطر 23. 2 - تقدم في الصفحة 75. 3 - تقدم في الصفحة 75. 254 أنه المالك، لا أن التمليك وقع بالعنوان، وادعى أن الغاصب معنون به، فعلى ذلك التمليك والتسليط واقعان لشخص واحد، وهو الغاصب، ولم يحصل في البين إلا الرضا المعاملي، لا الرضا بالتسليط مطلقا. وأما الثاني: فلا بد من التفصيل فيه، فإنه قد يكون الجاهل بحيث لا يعتني بصحة المعاملة وفسادها، أي لو علم بالفساد أيضا لكان مقدما على هذه المعاملة، فلا يصدق عليه أنه مغرور، بخلاف ما لو كان معتنيا بذلك، بحيث لو لم تصح المعاملة لا يقبض ماله، ولا يقبض مال الآخر، فيصدق عليه أنه مغرور مع علم الآخر بالفساد.
255 الأمر الثاني وجوب رد المأخوذ بالعقد الفاسد إلى المالك قوله (قدس سره) الثاني: وجوب رده إلى المالك (1)، والاستدلال على ذلك: إما بقوله (عليه السلام): لا يجوز لأحد أن يتصرف في مال غيره إلا بإذنه (2)، بتقريب: أن إمساك مال الغير نحو تصرف فيه بلا إذن، فلا يجوز، وإذا كان الامساك حراما يجب الرد فورا. وقوله (قدس سره) في ذيل الرواية السابقة: لا يحل مال امرئ مسلم لأخيه إلا بطيب نفسه (3)، بتقريب: أن إسناد الحل إلى المال يدل على حرمة جميع التقلب فيه - لما مر مرارا في بيان الحقائق الادعائية - ومنها الامساك، فيجب الرد، لا من جهة أن فعل الرد مقدمة لترك الامساك، وإذا كان الامساك حراما يكون تركه واجبا، وتجب مقدمته، كي يشكل على الشيخ (رحمه الله) بما أشكله الآخوند (رحمه الله) (4)، وكذا تلميذه
1 - المكاسب: 104 / سطر 10. 2 - تقدم في الصفحة 77. 3 - تقدم في الصفحة 249. 4 - أنظر حاشية المكاسب، المحقق الخراساني: 33. 257 المحقق (رحمه الله) (1): من أنه قد بين في الأصول عدم سراية الحكم من متعلقه إلى آخر، أو أن الامساك والرد من الضدين اللذين لهما ثالث، وهو التخلية، ولا سائر ما ذكر المحقق الأصفهاني (رحمه الله) في تحقيق ذلك على إشكالات فيها. بل من جهة أن العقلاء يفهمون من حرمة الامساك وجوب الرد، وهذا حكم عقلائي لا عقلي، ولذا طبق (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه العبارة على وجوب رد الأمانات. ثم إنه لا فرق فيما ذكرنا بين مورد جهل الدافع بالفساد وعلمه، فإن وجوب الرد من جهة حرمة الامساك بلا إذن من المالك، ولا فرق بين الموردين من هذه الجهة. نعم ذكر السيد (رحمه الله): أنه في مورد العلم بالفساد يكون الرضا بالتسليط موجودا (2)، ولكن قد مر عدم إمكان المساعدة على ذلك، فإن مبادئ المعاملة غير مبادئ التسليط، ولا يعقل أن تكون مبادئ المعاملة مبادئ غيرها، والمفروض عدم حصول غير هذه المعاملة ولو من العالم بالفساد، فإنه أيضا يعامل معاملة عقلائية، ومن حصول الرضا بالتسليط مطلقا يخرج المقام عن مفروض النزاع، بل لا يعقل الإذن في التصرف في المقام، فإن المفروض أنهما ينشئان المعاملة، فكل منهما يملك الآخر على المال، فالإذن في التصرف بعد التمليك ليس إلا الإذن في تصرف المالك في ملكه، ولا يحصل الجد بالنسبة إلى هذا الإذن، وفرض الإذن فيه قبل التمليك خروج عن المتنازع فيه. ثم إنه ليس موضوع ضمان القابض ما توهمه المحقق النائيني (رحمه الله) (3)، بل الموضوع عدم تحقق الإذن من المالك في الامساك، فلا فرق بين العقود التي فيها ضمان وغيرها. نعم، لو بنينا على أن العقود المعبر عنها بالعقود الإذنية - كالوكالة
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 85 - 86. 2 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 95 / سطر 22. 3 - منية الطالب 1: 121 / سطر 15 و 131 / سطر 16. 258 والعارية - مشتملة على الإذن، أو لازمها البين الإذن، وملزوم هذا اللازم العقد العقلائي وإن كان فاسدا شرعا، فهذه العقود بعناوينها وإن كانت فاسدة، إلا أن المفروض حصول الإذن بإنشائها، ولا دليل على عدم اعتبار هذا الإذن الحاصل بها، فلا يجب الرد حينئذ. لكن لو قلنا بأن عقد الوكالة - مثلا - عنوان اعتباري يتبعه جواز التصرف يكون الحال كالبيع، لكن الظاهر الأول، ولا يقاس ذلك بالبيع ونحوه، فإن تحقق الإذن زائدا على مفهوم المعاملة غير معقول فيها، بخلاف المقام، فإن العقد مشتمل عليه وإن كان منطبقا عليه عنوان فاسد شرعا. في تعيين الطرف المتحمل لمؤونة الرد ثم إنه هل تكون مؤونة الرد على الدافع أو القابض؟ فيه أقوال، اختار المرحوم النائيني التفصيل بين ما إذا كان الدفع بطبعه مستلزما للمؤونة، وما إذا لم يكن كذلك، بكون المؤونة على القابض في الأول، وعلى المالك في الثاني. والفرق بينهما: أن حديث نفي الضرر لا يشمل ما كان مستلزما للضرر في طبعه كالزكاة والجهاد، والأول من هذا القبيل، دون الثاني (1). ولكن لا وجه للالتزام بكون المؤونة على الدافع بوجه، فإما أن يكون على القابض، أو يسقط الرد، فإن الرد بماهيته ليس في طبعه الضرر، بل الضرر لو كان فإنما هو في بعض مصاديقه، وهذا لا يوجب عدم شمول دليل الضرر بالنسبة إليه، فإن وجه عدم شموله لموارد الزكاة والجهاد ونظيرهما، إنما هو لزوم لغوية الجعل فيها، فإن في طبعها الضرر، ولا يلزم ذلك في ما إذا كان في طبع بعض مصاديقها الضرر، نظير الوضوء الضرري.
1 - منية الطالب 1: 132 / سطر 10. 259 وإذا بنينا على تحكيم الحديث على أدلة الأحكام - كما عليه القوم (1) - يسقط هذا المصداق من الرد، وليس على الدافع شئ، ولو بنينا على عدم التحكيم - كما اخترناه (2) - فالنتيجة لزوم الرد وكون المؤونة على القابض، مضافا إلى أنه يمكن القول بأن الرد غير مستلزم للضرر بنفسه حتى في مصاديقه، بل الضرر مترتب على المقدمات، وحينئذ لو بنينا على الوجوب الشرعي فيها فينفي بحديث نفي الضرر بناء على التحكيم، والنتيجة سقوط وجوب الرد، لعدم وجوب مقدمته شرعا، ولو بنينا على الوجوب العقلي كانت النتيجة مبتنية على شمول الحديث للأحكام التي يكون في امتثالها ضرر، لا في نفسها، بل في مقدمات امتثالها، فعلى الشمول يسقط الرد أيضا، وعلى عدم الشمول لا بد من الرد، وتكون المؤونة على القابض. ونظير ذلك في دليل الحرج (3)، بل يمكن استظهار رفع الحكم عند الحرج في المقدمات من رواية عبد الأعلى (4)، فليتدبر. فما اختاره (رحمه الله) ممنوع من وجوه، كما ظهر. في لزوم الرد في بلد القبض ثم إنه هل يلزم الرد في بلد القبض، أو لا؟ فيه أقوال. فصل المرحوم النائيني تفصيلا (5) لا يمكن المساعدة عليه، والصحيح أنه لا بد
1 - فرائد الأصول 2: 535، كفاية الأصول: 433. 2 - أنظر بدائع الدرر في قاعدة نفي الضرر: 129. 3 - البقرة 2: 185، المائدة 5: 6، الحج 22: 78، أنظر حول أدلة لا حرج رسالة القواعد والفوائد 1: 123 - 132، وعوائد الأيام: 173. 4 - الكافي 3: 33 / 4، تهذيب الأحكام 1: 363 / 1097، الاستبصار 1: 77 / 240، وسائل الشيعة 1: 327، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 39، الحديث 5. 5 - منية الطالب 1: 132 / سطر 16. 260 من الرد إلى مالك المال، كما يظهر من مبنى المسألة، وهو الحديثان المتقدمان (1)، فمع عدم الضرر واضح، وإلا يسقط وجوب الرد من رأس لو قلنا بالتحكيم. نعم، يمكن في المقام تفصيل آخر: وهو أنه لو كان القابض جاهلا بالفساد - بحيث لو علم به لم يقدم على الأخذ والاعطاء - والدافع عالم بذلك، ومع ذلك دفع إليه المال، فهذا نحو غرور من الدافع بالنسبة إلى القابض، وحينئذ يمكن القول بعدم وجوب الرد، فضلا عن كون المؤونة على القابض، أو لزوم الانتقال إلى بلد القبض أو غيره، ولو كان الأمر بعكس ذلك، فيكون القابض كالغاصب، يؤخذ بأشق الأحوال، وحديث الضرر والحرج منصرف عنه، فلا بد له من رد المال إلى مالكه بلغ ما بلغ، ولو كانا عالمين أو جاهلين سقط الرد عند لزوم الضرر بناء على التحكيم، وإلا فلا بد من رد المال إلى مالكه.
1 - تقدم في الصفحة 257. 261 الأمر الثالث ضمان المنفعة المستوفاة قوله (قدس سره): الثالث: أنه لو كان للعين المبتاعة منفعة استوفاها المشتري قبل الرد... (1) إلى آخره. تقدم الكلام في ذلك، وقلنا: مقتضى حديث اليد الضمان في المستوفاة والفائتة (2)، ومقتضى دليل عدم حلية مال أحد إلا عن طيب نفسه، وما دل على احترام مال المسلم، وأن حرمة ماله كحرمة دمه، الضمان في المستوفاة، فإنها على ما مر ناظرة إلى موارد الاتلاف لا التلف (3). نعم، لو كان الفوات مستندا إلى القابض بنحو من التسبيب - ولو لم يكن مستوفيا لها - شملته هذه الأدلة أيضا.
1 - المكاسب: 104 / سطر 17. 2 - تقدم في الصفحة 241. 3 - تقدم في الصفحة 249. 263 هذا، ويمكن الاستدلال على الضمان في الكل بقاعدة الاتلاف (1)، المستفادة من بناء العقلاء والروايات الواردة في الأبواب المختلفة، وقد ذكرنا سابقا أيضا: أن حكم الضمان في مورد التلف ليس عقلائيا، بخلاف مورد الاتلاف، فإنه عقلائي (2)، وقد تقدم التفصيل بين المستوفاة والفائتة من بعض المحققين والجواب عنه (3)، فلا نعيد. الاستدلال على عدم الضمان في المقام ثم إن هنا توهما: وهو أن ما دل على أن الخراج بالضمان (4) يدلنا على عدم الضمان في المنافع (5)، لكن على ما ذكره الشيخ (رحمه الله) من أن دلالة الرواية لا تقصر عن سندها في الوهن، فلا تترك لأجلها قاعدة ضمان مال المسلم واحترامه (6). وما ذكره المرحوم النائيني: من أن الظاهر من الضمان - من جهة ظهور الباء في المقابلة والاحتياج إلى الطرفين - الضمان الجعلي، أي المعاملي، فتدل العبارة على أن في المعاملة الصحيحة التي أقدم فيها على الضمان يكون الخراج للضامن، فلا تدل على ما نحن بصدده، فإن المفروض أن المعاملة فاسدة (7)، فلا نعقل له وجها محصلا، فإن
1 - وهي قاعدة من أتلف: قاعدة اصطيادية من عدة روايات لم ترد بهذا النص. أنظر حول قاعدة الاتلاف القواعد الفقهية، البجنوردي 2: 17، أنظر الكافي 5: 234، وعيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 198، والوافي 10: 118، وبحار الأنوار 49: 206. 2 - تقدم في الصفحة 234. 3 - تقدم في الصفحة 243. 4 - أنظر سنن الترمذي 2: 376 / 1303 و 377 / 1304، سنن أبي داود 2: 306 / 3508 - 3510، سنن ابن ماجة 2: 754 / 2243، سنن البيهقي 5: 321، عوالي اللآلي 1: 219 / 89. 5 - الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 255. 6 - المكاسب: 104 / سطر 26. 7 - منية الطالب 1: 132 - 133. 264 الباء لا تكون ظاهرة في ما ذكره، فإنها إما للسببية أو المقابلة، وشئ منهما لا يدل على أن الضمان هو الضمان المعاملي، فإن الباء تدل على أن سبب الخراج الضمان، أو الخراج في مقابل الضمان، وأما الضمان هل هو حقيقي أو معاملي أو شئ آخر؟ فليست الباء ناظرة إليه، فلعل المراد منها ما قال أبو حنيفة فيها، وهو أن ما كان الشخص ضامنا له حقيقة فمنافعه له، فإن الخراج بالضمان، بل الضمان بالبدل الجعلي من الأغلاط على ما مر، بل فيه ليست إلا معاملة وجعل شئ في مقابل شئ، وهذا ليس من معنى الضمان في شئ. نعم، ملاحظة صدر هذه العبارة - الذي يكون موردها - تشهد بأن الضمان لم يستعمل في معناه الأصلي، وعدل عنه إلى معنى آخر، فإن موردها المعاملة الصحيحة، وقضية لزوم الانطباق عدم صلاحيتها للاستدلال بها في المقام، فإنه لا جامع بين الضمان في المعاملة المفروضة صحتها والضمان في المقام. وأيضا بمناسبة المورد - وهو العبد - يعلم أن المراد من الخراج هو ما يضرب على العبد، كما يأخذ السلطان بعنوان الخراج من الأراضي وغيرها، وأين هذا المعنى من منافع الشئ؟! فلا دلالة لهذه العبارة بملاحظة الصدر - بل من دون ملاحظته أيضا - على عدم ضمان المنافع.
265 الأمر الرابع ضمان المثلي والقيمي قوله (قدس سره): الرابع في المثلي والقيمي (1). وقد استدل على أن ضمان المثلي بالمثل والقيمي بالقيمة بالآية الكريمة: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) (2) (3)، ولا دلالة لها على ذلك، فإن ملاحظة سياقها تدلنا على أنها واردة في مورد الحرب ونظيره، ولا يعتبر المماثلة في الاعتداء في هذه الموارد قطعا، فليس المراد من المثل في الآية الكريمة ما نحن بصدده، ومقتضى لزوم الانطباق على مورده عدم إمكان الاستدلال بها في المقام، فإن المثل في المقام غير المثل في الآية. وقد استدل على ذلك بحديث اليد، بدعوى: أن الاستيلاء على العين يقتضي
1 - المكاسب: 105 / سطر 16. 2 - البقرة 2: 196. 3 - المبسوط 3: 6، الخلاف 3: 402، مجمع البيان 1: 514، تذكرة الفقهاء 1: 383، الدروس الشرعية 3: 113، جامع المقاصد 6: 245. 267 الاستيلاء عليها بجميع حيثياتها، ومنها ماهيتها النوعية - القابلة للانطباق على مثلها - وماليتها، ولا بد من أدائها بجميع هذه الحيثيات، وإذا تعذر بعضها تصل النوبة إلى الآخر، وهذا هو المطلوب، فأداء المثل والقيمة هو أداء العين، لكن لا بجميع مراتبها، بل ببعضها. والحاصل: أن بالاستيلاء تتعلق العهدة بالعين بجميع شؤونها وحيثياتها، ولا بد من أدائها بجميع ذلك، وبالتعذر يكتفى بالميسور حال الأداء، ولا نريد من جميع الحيثيات جنسها وفصلها وجميع العناوين القابلة للانطباق عليها، حتى يقال: لو تعذر الحيوان لا بد من رد الجسم النامي أو الجسم المطلق.. وهكذا، بل نريد منها الحيثيات المعتبرة عند العقلاء في أبواب الضمانات، وليست إلا الماهية النوعية - بالمعنى المتقدم - والمالية، والمراد من المالية هي النقد المتعارف، لا مطلق المالية، ولعل وجهه ظاهر (1). وقد مر بعض الاشكالات على ذلك (2). والتحقيق: أن معنى ضمان الشئ ليس اعتباره في العهدة عند العقلاء، فإن هذا المعنى أمر دقي عقلي لا يلتفت إليه العقلاء، بل معنى الضمان عند العقلاء ليس إلا عهدة خسارة الشئ، فمع وجوده تكون عهدة الضامن مشغولة بخسارته لو تلف، ومع تلفه عهدته مشغولة بخسارة التالف. وأما انسلاخ العين الخارجية عن الوجود واعتبارها في العهدة - كما ذكر السيد (رحمه الله) (3) - فلا يساعد عليه النظر العرفي، وكل دليل أسند فيه الضمان إلى الذات فالمراد منه ما ذكرنا، فلا يتوهم أن ظاهر إسناد الضمان إلى نفس الشئ اعتباره في العهدة بنفسه، فإن هذا الاسناد يلائم المعنى المذكور أيضا الموافق لنظر العقلاء، ومن
1 - أنظر حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 79 / سطر 2، منية الطالب 1: 135 - 136. 2 - تقدم في الصفحة 238 - 240. 3 - تقدم في الصفحة 238. 268 ذلك حديث اليد، فإن معنى على اليد ما أخذت ليس إلا أن الشخص ضامن لما أخذت، ومعناه أن عهدته مشغولة بخسارته، وإن كنت في شك من ذلك فلاحظ المثال، لو قيل: ألق متاعك هنا، وعلي ضمانه، فهل ترى أن هذا هو اعتبار العين في العهدة بنظر العقلاء، أو معناه: أنه لو تلف المتاع يجبره الضامن ويؤدي خسارته؟ في ضمان المشكوك كونه مثليا أو قيميا ثم لو شككنا في أن الشئ مثلي أو قيمي، فعلى القول بأن العين معتبرة في العهدة، وفي المثلي يسقط ذلك بأداء المثل، وفي القيمي بالقيمة، فالشك يرجع إلى سقوط العهدة بأداء أحدهما، وحينئذ لو قلنا: بأنه في القيمي يحصل الأداء بأداء مطلق المالية، لا النقد المتعارف، فيمكن حصول العلم بسقوط العهدة بأداء المثل لو كان مساويا للقيمة أو أزيد، أو تتميمه بزيادة القيمة عليه لو كان أنقص، ولا بد منه لقاعدة الاشتغال. ولو بنينا على عدم كفاية أداء مطلق المالية في القيمي، ولزوم أداء النقد المتعارف، فلو تراضيا بشئ من المثل والقيمة فهو، وإلا فلا بد للضامن من الجزم بخروجه عن العهدة، وهل اللازم في ذلك تمليك كليهما، أو يحصل الجزم ولو بتسليمهما وتسليط المالك عليهما لاختيار أيهما شاء؟ الظاهر الثاني. وعلى الأول: هل يمكن رفعه بقاعدة الضرر، ولو على مبنى القوم: من حكومتها على أدلة الأحكام؟ ذكر السيد (رحمه الله): أن ما مر سابقا في المقدمات الوجودية جار في المقدمات
269 العلمية، ومنها المقام، فلا تشمله القاعدة (1). وما ذكره (رحمه الله) سابقا - على ما عرفت - من عدم جريان القاعدة في ما إذا كان الرد بطبعه مستلزما للمؤونة والضرر، فقد ذكرنا ما فيه، ولا يجري ذلك في المقدمات العلمية، فإن رد المثل أو القيمة إلى المالك لا يكون في طبعه الضرر، بل لا ضرر فيه، والضرر من الجمع بينهما الناشئ لزومه من حكم العقل في مورد الجهل، فالشأن في شمول القاعدة لما إذا كان تحصيل العلم بالامتثال مستلزما للضرر - الضرر في المقدمات العلمية، لا الوجودية - فإن امتثال نفس الحكم لا يكون ضرريا، ولا في مقدماته ضرر، والضرر ناشئ من جهل المكلف في مرحلة الامتثال - كما ذكرنا - فلا تشمله القاعدة، فإنه يرفع - حسب نظر القوم - الحكم الشرعي المستلزم للضرر في امتثاله بنفسه أو بمقدماته. وعلى الثاني: لو قبل المالك واختار أحدهما فهذا تراض بينهما، ولا كلام فيه. ولو قبل، ولكن لم يختر أحدهما، بل أراد حقه، فالمرجع القرعة، فإن المقام مقام التنازع في الأموال، وهذا مصب دليل القرعة (2)، فإن أحد المالين للمالك والآخر للدافع، (والمتكفل للاقتراع الحاكم). ولو لم يقبل أصلا، أو لم يسلم الآخر، بل كل يريد حقه، فيرفع النزاع إلى الحاكم، والحاكم إما يجبرهما على التصالح، أو يختار، وهذا هو الخيار في مقام القضاء - لا الفتوى، كما يظهر من كلام الشيخ (3)، وأشكل عليه بعض المحشين (4) -
1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 97 / سطر 21. 2 - وسائل الشيعة 14: 566 - 567، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء، الباب 57، الحديث 1 - 5، أنظر الاستصحاب، الإمام الخميني (قدس سره): 384 - 392. 3 - المكاسب: 106 / سطر 17. 4 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 97 / سطر 25، حاشية المكاسب، الإيرواني 1: 97 / سطر 37، حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 90 / سطر 4. 270 بأن يختار دفع المثل إلى المالك أو القيمة، فيجبر الآخر على ما اختاره الحاكم. ولو قلنا: بأن ضمان الشئ هو اعتبار مفهوم البدل أو العوض في العهدة، فالكلام فيه ما مر. ولو قلنا: بأن مقتضاه اعتبار المثل في العهدة مطلقا، أو تبديل العين بالمثل بالتلف مطلقا، فالأمر فيه قد ظهر، وهكذا لو قلنا: بأن مقتضى الضمان اعتبار القيمة السوقية في العهدة مطلقا، فإن الشك حينئذ في مرحلة السقوط لا الثبوت. في كلام المحقق الأصفهاني وجوابه فما ذكره المحقق الأصفهاني (قدس سره) - في القول: بأن الضمان بالمثل والأداء في القيميات بالقيمة إرفاق من الشارع -: من أن هذا راجع إلى الدوران بين التعيين والتخيير، فإن الاشتغال بمطلق المالية معلوم، والشك في خصوصية المثل (1). خلط بين مرحلة الثبوت والسقوط، فلو قلنا بالبراءة في مسألة الدوران في مرحلة الثبوت، لا نقول بها في مرحلة السقوط والأداء، بل المرجع هو الاشتغال، ولو قلنا: بأن الضمان هو اشتغال الذمة بمطلق مالية الشئ - بلا فرق بين المثلي والقيمي - فالأقوى التخيير للضامن، والأحوط أداء المثل كما لا يخفى. ولو قلنا: بأن مقتضاه تبديل الشئ بالمثل في المثلي والقيمة بالقيمي في التلف، فهنا يرجع الشك إلى أنه هل اشتغلت الذمة بالمثل أو القيمة؟ فلو قلنا بأن القيمة مالية الشئ بحسب النقد المتعارف، فالعلم الاجمالي يقتضي تحصيل البراءة اليقينية، وقد تقدم بحثه. ولو قلنا: بأن القيمة نفس مالية الشئ مطلقا، فمع اتفاق قيمة المثل وقيمة الشئ الأمر واضح، ومع الاختلاف يرجع إلى البراءة عن الزائد.
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 89 / سطر 7. 271 ذكر المحقق النائيني (رحمه الله): أن القاعدة على هذا القول - وهو المشهور - وإن اقتضت الاحتياط، إلا أن الاجماع على عدم وجوبه في المقام (1) يدل على تخيير الضامن في الأداء (2)، وأنت خبير بأن ما هو مظنة الاجماع ليس عدم وجوب الاحتياط، بل إنما هو عدم خروج المثل والقيمة معا من كيس الضامن، فيمكن تحصيل الموافقة القطعية بتسليمهما إلى المالك حتى يختار أحدهما، ومع عدم الاختيار يرفع أمره إلى الحاكم، ويجئ فيه ما تقدم، وهذا أمر آخر بعد حصول الموافقة القطعية، ولا تصل النوبة إلى الاحتمالية. ولو شككنا في معنى الضمان، ولم ندر - من جهة إجمال الدليل مثلا - أنه هل هو اعتبار العين في العهدة أو غيرها مما سبق؟ فالمرجع هو الاحتياط، فإن عهدة العين والمثل والقيمة أمور متباينة، فلا بد من رد المثل والقيمة معا بعد تلف العين إلى المالك، حتى تحصل البراءة اليقينية، والعلم الاجمالي بعد ذلك قد ظهر بحثه فيما تقدم (3).
1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 97 / سطر 20. 2 - منية الطالب 1: 138 / سطر 6 - 13. 3 - بل المرجع هو البراءة عن غير القيمة السارية، أي مطلق المالية، فإنها سارية في العين والمثل والقيمة السوقية، فيدور الأمر بين الاطلاق والتقييد، والمرجع البراءة عن التقييد. المقرر حفظه الله. 272 الأمر الخامس إذا لم يوجد المثل إلا بأكثر من ثمن المثل قوله (قدس سره): الخامس: ذكر في القواعد: أنه لو لم يوجد المثل إلا بأكثر من ثمن المثل، ففي وجوب الشراء تردد (1). مقدمة: في تعارض دليلي الضرر والحرج ولنقدم مقدمة قبل بيان صور المسألة وحكمها: وهي أنه لو تعارض دليلا الضرر والحرج في مورد، فهل يتقدم الأول على الثاني، أو بالعكس، أو يسقطان بالتعارض؟ يمكن تقريب الأول: بأن لسان دليل الضرر حقيقة ادعائية، ولا بد لها من المصحح للادعاء، ولا يمكن إلا بعدم وجود الضرر في محيط الشرع أبدا، فلو قدمنا دليل الحرج عليه فمعناه وجود هذا الضرر في الشرع، وهذا لا يجتمع مع الادعاء، فلا بد من تقديم دليل الضرر على الحرج حتى يصح الادعاء المذكور. ويمكن تقريب الثاني: بأن دليل الحرج ناظر إلى عدم جعل الحرج ودليل
1 - المكاسب: 107 / سطر 5، قواعد الأحكام: 204 / سطر 8 وفيه: نظر بدل تردد. 273 الضرر غير ناظر إلى ذلك، بل بالحمل الشائع يجعل عدم الضرر في الشرع، فهو ناظر إلى المجعول والمرتبة المتأخرة عن الجعل، فلا بد من تقديم الأول عليه، كما هو الشأن في تقديم دليل الحرج على أدلة الأحكام. والحاصل: أن الدليل المتكفل ببيان المرتبة المتقدمة على الجعل، - كالإرادة في (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (1)، ونفس الجعل ك (ما جعل عليكم في الدين من حرج) (2)، والمرتبة المتأخرة عنه كحديث لا تعاد (3) - مقدم على دليل بيان الحكم وحاكم عليه، لأن العقلاء لا يرون المعارضة بينهما، بخلاف ما إذا كان كلاهما متكفلا ببيان الحكم، ك أكرم كل عالم، ولا تكرم الفساق من العلماء، أو مطلقا، ولكن العقلاء لا يرون تقدم دليل الحرج على الضرر في المقام، ويرون الفرق بين المقام وسائر أدلة الأحكام في حكومة دليل الحرج عليه، ولعل السر في ذلك الادعاء المذكور، أو أن دليل الضرر أيضا ناظر إلى الجعل، وكيف كان لا يمكن الحكم بتقديم أحدهما على الآخر؟! هذا على مبنى القوم من تحكيم دليل الضرر على أدلة الأحكام (4). وأما على مسلكنا (5) فيؤخذ بدليل الحرج بلا معارض. وتوهم: أن دليل الحرج امتناني، فلا يشمل مورد عدم الامتنان على الغير (6).
1 - البقرة 2: 185. 2 - الحج 22: 78. 3 - الفقيه 1: 225 / 991، تهذيب الأحكام 2: 152 / 597، وسائل الشيعة 4: 934، كتاب الصلاة، أبواب الركوع، الباب 10، الحديث 5. 4 - فرائد الأصول 2: 535، بحر الفوائد: 227، فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 4: 304، منية الطالب 2: 213 / سطر 12، درر الفوائد، الحائري 2: 507. 5 - بدائع الدرر في قاعدة نفي الضرر: 103 و 129 - 131. 6 - كما يقال به في قاعدة لا ضرر - راجع فرائد الأصول 2: 535 - 536 وكفاية الأصول: 434 - 435، وحديث الرفع - فرائد الأصول 1: 322 - 324 وكفاية الأصول: 387. 274 مندفع: بأن الامتنان في الأدلة الامتنانية إنما هو الامتنان على الأمة، لا على الشخص، فلا بد من لحاظ الامتنان في القانون، لا الأشخاص والأفراد، والخلط بين الأمرين أوجب اشتباهات كثيرة في كلماتهم، ولذا بنينا على أن تحمل الحرج والآتيان بالمأمور به لا يسقط الأمر، والقول: بأن الجعل امتناني، وإني لا أريد الامتنان، مخالف للإرادة التشريعية من الله تعالى: (يريد بكم اليسر)، فكيف يمكن خلافه؟! فمعنى حكومة دليل الحرج رفع الحكم الناشئ من جعله الحرج، وفي هذا الرفع امتنان على الأمة، والامتنان عليهم اقتضى هذا الجعل والقانون، لا الامتنان الشخصي في مورد خاص حتى يقال: الدليل الامتناني لا يشمل مورد خلاف الامتنان على الغير، أو الامتنان يقتضي المعذورية، لا عدم المشروعية. في صور ضمان المثل بأكثر من ثمنه وأما صور المسألة وحكمها، فبناء على أن ازدياد قيمة المثل عن ثمن المثل - من جهة ارتفاع القيمة السوقية سواء حصلت لكثرة الرغبات أو قلة الوجود - فلا بد للقابض من شراء المثل، فإنه مقتضى ضمانة العين، وأما حديث الضرر فغير منطبق على المقام ولو على مبنى القوم، فإن شراء الشئ بثمن مثله ليس ضرريا. وربما يقال: إن حديث الضرر يشمل الجانبين، فتقع المعارضة بين مفاده في المقام، وأنت خبير بأن إعطاء القابض المثل للمالك، لا يكون ضررا عليه ولو نقصت قيمته بمراحل، بل هو من قبيل عدم النفع، فيمكن أن يصبر المالك حتى تتساوى قيمة المثل مع قيمته يوم تلف العين بلا ضرر عليه. نعم لو كان الصبر حرجا على المالك حكم بلزوم الشراء، كما أنه لو كان الشراء حرجا على القابض حكم بلزوم الصبر، ومع لزوم الحرج في الجانبين يحكم بالتساقط ولزوم الشراء، لاقتضاء الضمان ذلك.
275 وأما بناء على أن يكون ذلك من جهة تعذر المثل، وعدم وجدانه إلا عند من يعطيه بأزيد من ثمن المثل، فمقتضى القاعدة لزوم الشراء لاطلاقات أدلة الضمان، وحديث نفي الضرر أجنبي عن ذلك على مسلكنا. وأما على مسلك القوم من تحكيمه على الأدلة، فقد أفتى الشيخ (رحمه الله) بلزوم الشراء مع فرضه لزوم الضرر على الضامن (1)، ولعل الوجه في ما ذكره: عدم شمول الحديث لمورد كان الضرر في مقدمات الفعل لا في نفسه، فإن جعل الحكم بنفسه ليس ضررا في أي مورد، بل الضرر إنما هو في الاتيان بالمتعلق لو كان، فمعنى الحديث عدم جعل الحكم الذي يكون في الاتيان بمتعلقه ضرر، وهنا إطلاقات الحكم هي إطلاقات الضمان المقتضي للزوم دفع المثل، والدفع وإن كان ضرريا، إلا أن الضرر في طبعه، لما مر من أن الضمان وعهدة الخسارة بنفسه ضرر، ولا يمكن شمول دليل نفي الضرر لمثله، والشراء أيضا وإن كان ضررا، إلا أن الشراء مقدمة للاتيان بالمتعلق، لا متعلق الحكم بنفسه. هذا، ولكن بناء على تحكيم دليل الضرر على أدلة الأحكام - كما ذكروا - تكون النتيجة عدم جعل الحكم الناشئ منه الضرر ولو في المقدمات، نظير دليل الحرج، ألا ترى أن مورد رواية عبد الأعلى (2) مشتمل على الحرج في المقدمات، وهي حل المرارة، وإلا فنفس المسح على البشرة لا ضرر فيه، ومع ذلك يقول الإمام (عليه السلام): هذا وأشباهه يعرف من كتاب الله (ما جعل عليكم في الدين من حرج) وهذا أقوى دليل على أن مبنى عدم جعل الحكم الحرجي ما يشمل الحرج في المقدمات، بل لا بد من أن يفهم السائل ذلك من الكتاب، ففي المقام أيضا الأمر كذلك، أي معنى عدم جعل الحكم الضرري ما يشمل الضرر في المقدمات.
1 - المكاسب: 107 / سطر 7 - 13. 2 - تقدم في الصفحة 260. 276 وأما المقدمات العلمية فقد تقدم الكلام فيها (1). ولعل الوجه في ما ذكره ما مر من أن الدليل الامتناني لا يشمل مورد عدم الامتنان بالنسبة إلى الغير، وقد عرفت ما فيه (2)، وأن الامتنان في جعل القانون لا يلازم الامتنان بالنسبة إلى الأشخاص والأفراد المنطبق عليها القانون. أضف إلى ذلك أنه لا دليل على أن يكون الامتنان في الدليل الامتناني علة للحكم، بل لعله علة للجعل ونكتة للتشريع، وعليه فنفس تعلق النفي بطبيعة الضرر يدل على أن مطلق الضرر منتف، ولا بد في رفع اليد عنه من حجة محرزة ولا حجة في المقام. وبعبارة أخرى: أنه لو أحرزنا علية الامتنان للحكم - بحيث يدور مداره - نرفع اليد عن لا ضرر في مورد عدم الامتنان، وأما مع الشك فلا بد من الأخذ بما يفهم العرف من الدليل، والعرف بملاحظة هذه العبارة يساعد على الاطلاق، وأن طبيعة الضرر منتفية، ومرجع الشك إلى الشك في الانصراف، والمرجع فيه الاطلاق بنظر العرف (3). ولو سلمنا العلية للحكم، وأغمضنا النظر عما مر - من عدم الملازمة بين الامتنان في جعل القانون والامتنان في الموارد الشخصية - فغاية ما تدل عليه قضية الامتنان: أنه لا بد في التمسك بدليل الضرر من كون نفي الضرر امتنانا على الشخص الموضوع له، وأما لزوم الامتنان على الغير، أو عدم لزوم خلاف الامتنان بالنسبة إلى الغير، فأجنبي عن مفاده، وهكذا في جميع الأدلة الامتنانية، فرفع الاضطرار امتنان
1 - تقدم في الصفحة 270. 2 - تقدم في الصفحة 274 و 275. 3 - أقول: الأصل العقلائي في باب الاطلاقات - كما استفدنا منه مد ظله - ليس إلا أصالة التطابق بين الجد والاستعمال، والشك في العلية راجع إلى الشك في الإرادة الاستعمالية، ومعه لا يمكن التمسك بالأصل المذكور. المقرر دام عزه. 277 على المضطر، والحكم مرتفع عنه وإن استلزم خلاف الامتنان بالنسبة إلى الآخر، ولذا يجوز أكل مال الغير عند الاضطرار إليه. ولعل الوجه في ما ذكره إقدام المشتري على هذا الضرر. وقد أجبنا عن هذا سابقا (1): بأن المتعاملين العالمين بفساد المعاملة المعتنين بالشرع لم يحصل منهم الجد بالمعاملة، فهذا الفرض خارج عن مسألة المقبوض بالعقد الفاسد، ومورد هذه المسألة الجاهل ولو كان معتنيا بالشرع والعالم الغير المعتني بالشرع، بحيث يحصل منهم الجد بالمعاملة العقلائية، وعليه فلم يقدم المتعاملان إلا على المعاملة الخاصة، وأما الاقدام على شئ آخر - كالضرر في المقام - فلا. وقد يقال في الجواب عن الاقدام: بأن الاستدلال بالاقدام مستلزم للدور، فإن الاقدام على الضرر إنما يفيد لو جعل ذلك قبل الاقدام، فلو كان منشأ الضرر الاقدام لزم الدور (2). وفيه: أن الحكم بلزوم الشراء وهو الضرر في المقام ليس من جهة الاقدام، بل الدليل عليه نفس إطلاقات أدلة الضمان، ولا يدعي أحد أن الاقدام يوجب لزوم الشراء، بل المدعى أن الاقدام يوجب عدم شمول دليل نفي الضرر للمورد، فلا بد من التمسك بالاطلاقات والحكم بلزوم الشراء. كلام للمحقق النائيني في المقام ومناقشته ذكر المحقق النائيني (رحمه الله) في المقام: أن إعواز المثل يوجب كون الشئ قيميا، كما أن التعذر البدوي أوجب ذلك، فلا يجب شراء المثل ولو ببذل مال كثير، بل يسقط.
1 - تقدم في الصفحة 252 - 253 و 258. 2 - حاشية المكاسب، الإيرواني 1: 98 / سطر 31. 278 وبالجملة: وجوده عند من لا يبيعه إلا بأضعاف قيمته في حكم التعذر، ومقتضى قاعدة الضرر عدم وجوب شرائه على الضامن (1). وأنت خبير بأن الاعواز وعدمه - بل التعذر البدوي وعدمه - أجنبيان عن القيمية والمثلية عند العقلاء، فإن الحنطة مثلية عندهم ولو لم يوجد منه شئ في الخارج، والظرف المنقوش الكذائي قيمي عندهم ولو وجد فرد أو فردان مثله. ثم لو سلمنا أن الاعواز يوجب القيمية، فما معنى أن مقتضى قاعدة الضرر عدم وجوب شراء المثل، بل الاعواز أوجب انتقال الذمة إلى القيمة، فلا موضوع لوجوب شراء المثل، ولا موضوع لدليل الضرر؟! في كلام للشيخ والسيد في مكان مطالبة المالك بالمثل ومناقشته ثم إنه ذكر الشيخ (رحمه الله) في ذيل هذا الأمر: ثم إنه لا فرق في جواز مطالبة المالك بالمثل بين كونه في مكان التلف أو غيره... (2) إلى آخره. وذكر السيد (رحمه الله) في الحاشية على ذلك: أن هنا مسألتين: الأولى: لا إشكال في جواز مطالبة المالك بماله من العين أو المثل في أي مكان، لعموم الناس مسلطون (3) وإن لم تكن العين أو المثل موجودا في ذلك المكان، إذ غايته أن معه ينتقل إلى القيمة. الثانية: أنه ليس للمالك إلا الالزام بالرد إلى المكان الذي وصلت العين إليه أو المثل في مكان وجود العين وتلفها، فمع الانتقال إلى القيمة يأخذ قيمة المثل هناك، فلو أدارها في البلدان له إلزامه بالرد إلى كل واحد منها، لأن له أن يقول: إني
1 - منية الطالب 1: 139 / سطر 20. 2 - المكاسب: 107 / سطر 13. 3 - عوالي اللآلي 1: 222 / 99، بحار الأنوار 2: 272 / 7. 279 أريد بقاء مالي في ذلك البلد الذي وصل إليه، وليس له إلزامه بالنقل إلى مكان لم يصل إليه وإن كان المالك هناك، وجواز المطالبة لا يستلزم ذلك. وكذا بالنسبة إلى المثل وقيمته مع تعذره، له المطالبة في جميع الأمكنة التي وصلت العين إليها في مكان المطالبة. ووجهه: انصراف أدلة الضمان إلى وجوب الرد والدفع في مكان ذلك المال. نعم، لو كان المثل في بلد المطالبة مساويا في القيمة للمثل في مكان التلف، أمكن جواز مطالبته، بمعنى عدم الانتقال إلى القيمة على فرض المطالبة (1). انتهى ملخصا. أقول: أما في المسألة الأولى: فجواز المطالبة موقوف على إمكان المطالبة، وهذا إنما يتحقق مع إمكان الدفع، ومعه لا بد من دفع نفس العين أو المثل، ولا تصل النوبة إلى القيمة، أما مع التعذر فلا يمكن المطالبة جدا مع الالتفات إلى ذلك، نظير ما ذكرنا في الأمر بغير المقدور، وما لا ينبعث إليه بالبعث نحوه، مع الالتفات إلى ذلك، فإن الأمر حينئذ مستحيل، لعدم تحقق مباديه وعدم حصول الجد بالبعث، لا أنه ممكن وقبيح. نعم، في الأحكام القانونية ذكرنا وجه إمكان الأمر والبعث بنحو القانون، مع عدم إمكان الانبعاث في بعض أفراده لتغاير مبادئ جعل القانون ومبادئ جعل الحكم الشخصي، وهذا أمر آخر غير ما نحن فعلا بصدد بيانه. وما يتوهم: من أن المقام نظير تحقق قصد الإقامة بالنظر إلى مصلحة في نفس القصد، وهو الاتيان بالصلاة تامة مع عدم وجود مصلحة في المقصود، ونظير الأوامر الامتحانية التي تكون المصلحة في نفس الأمر لا المأمور به. مندفع: بأن النظر إلى مصلحة الاتيان بالصلاة تامة يوجب الجد بالمقصود، وهو الإقامة عشرة أيام فيقصد، وإلا فكيف يمكن تعلق القصد بما لا يحصل الجد به؟! والأوامر الامتحانية أوامر صورية، لا أنها بعث حقيقة، وأما في المقام
1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 98 - 99. 280 فلا يحصل الجد بالمطالبة مع الالتفات إلى عدم إمكان الدفع، ومن مبادئ المطالبة تعلق الإرادة الجدية نحو المطلوب. ثم إنه لو سلمنا إمكان المطالبة والجواز متفرعا عليه لدليل السلطنة، فأي دليل دل على الانتقال إلى القيمة بمجرد المطالبة؟! بل بناء على مبناه (رحمه الله) لا بد من الالتزام بثبوت العين في العهدة إلى زمان الأداء، كما هو أيضا يلتزم بذلك، وعلى المشهور لا بد من الالتزام بثبوت المثل على تقدير تلف العين في العهدة إلى زمان الأداء، وأداء القيمة من مراتب الأداء، لا أن الذمة منتقلة إلى ذلك. وثمرة هذا: لزوم قيمة يوم المطالبة بناء على الأول، ويوم الأداء على الثاني. تحصل من هذه المسألة: أنه لا يمكن مطالبة العين أو المثل عند التعذر، فضلا عن الانتقال إلى القيمة بالمطالبة. نعم، المطالبة بتدارك الخسارة أمر آخر، وهو المطالبة بالقيمة، وسيجئ إن شاء الله. وأما في المسألة الثانية: فدعواه انصراف الأدلة غير مسموعة، فأي منشأ لانصراف مثل المغصوب مردود (1) أو من أتلف مال الغير فهو له ضامن (2). وما ذكره: من أنه للمالك أن يقول: إني أريد بقاء مالي في ذلك البلد الذي وصل إليه فله إلزامه بالرد إلى ذلك البلد. مدفوع: بمنع الملازمة، مضافا إلى أنه لو سلمنا ما ذكره، وأن للمالك المطالبة بالعين في جميع ما أدارها فيه من البلاد، فلا بد من الالتزام بأن له المطالبة بالمثل أو القيمة في جميع البلاد التي وصل المالك إليها، فإن المثل والقيمة الثابتين في عهدة الضامن على المشهور، والعين الثابتة في عهدته على مبناه (رحمه الله)، تنتقلان بتبع انتقال الضامن.
1 - الكافي 1: 455 / 4، تهذيب الأحكام 4: 130 / 102، الوافي 10: 118، وسائل الشيعة 17: 309، كتاب الغصب، أبواب الغصب، الباب 1، الحديث 3. 2 - تقدم في الصفحة 264. 281 أقوال أخر في المسألة وهنا أقوال أخر غير ذلك، مثل أن للمالك حق المطالبة في بلد الغصب (1) أو الشراء مع وجود العين، وبلد التلف مع تلفها (2)، ومثل أن له حق المطالبة في بلد المطالبة (3)، ومثل أن له حق المطالبة في بلد تعذر المثل في مورد التعذر. محتملات الموصول في دليل اليد وتحقيق المطلب - على ما سيجئ -: أن محتملات الموصول في دليل اليد كثيرة: 1 - الشئ بماهيته الشخصية ولو مع اختلاف رغبات العقلاء في ذلك، فلو تلفت في يده الحنطة الكذائية، جاز له أداء الحنطة ولو لم يكن من ذلك الصنف، فإن الحنطة ماهية واحدة. 2 - الشئ بجميع آثاره الوجودية ولو لم تكن موجبة لاختلاف الرغبات، فلو تلفت في يده حنطة قرية كذا، لا بد له من أداء حنطة تلك القرية ولو كانت حنطة تلك القرية وغيرها مساوية في رغبة العقلاء. 3 - الشئ بجميع ما يكون موجبا لاختلاف رغبة العقلاء بوجوده وعدمه. وفي الاحتمال الأخير يحتمل أن يكون المضمون الشئ بآثاره الواقعية، أو الأعم منه والانتزاعية، فلو كان وجود الشئ في مكان كذا موجبا لمزيد رغبة العقلاء، كان ذلك مضمونا للمالك، فلو قلنا: بأن المضمون عند العقلاء، هو الشئ
1 - المبسوط 3: 76. 2 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 97 / سطر 11. 3 - المكاسب: 107 / سطر 13. 282 بجميع ما يكون دخيلا في رغبتهم فيه - واقعيا كان أو انتزاعيا - جاز للمالك المطالبة بالعين بجميع ذلك، فلو كان وجودها في زمان كذا - كالثلج في الشتاء - أو مكان كذا، موجبا لزيادة الرغبة فيها، فله أن يطالب بالعين وباختلاف القيمة، ولو قلنا بجواز إلزام الضامن بتحصيل الخصوصية التالفة، فله إلزامه بالرد إلى ذلك المكان، ويجئ زيادة توضيح لذلك.
283 الأمر السادس جواز مطالبة المالك بالقيمة عند تعذر المثل ذكر الشيخ (رحمه الله): لو تعذر المثل في المثلي فمقتضى القاعدة وجوب دفع القيمة مع مطالبة المالك (1). والأحسن أن يقال في عنوان ذلك: إنه لو تعذر ذلك فهل يجوز للمالك المطالبة بالقيمة، أو لا؟ فإن العين قد تلفت والمثل قد تعذر، فمع جواز المطالبة بالقيمة يجب دفعها، وإلا فينتظر المالك زمان رفع التعذر. وجوه جواز المطالبة ومناقشتها ذكر في وجه جواز المطالبة وجوه: منها: أن ظاهر اليد أن العين ثابتة في العهدة، وأداء المثل أو القيمة من مراتب أدائها، اعتبر مراعاة لحق المالك، فله أن يسقط بعض المراتب ويطالب بالأخرى، ففي مورد تعذر المثل يسقط ذلك ويطالب بالقيمة (2).
1 - المكاسب: 107 / سطر 15. 2 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 99 / سطر 11 - 28. 285 وفيه: أن العقلاء لا يساعدون على جواز مطالبة المالك بغير ما هو ثابت في ذمته، ولذا لا يجوز إسقاط المرتبة الأولى مع وجود العين والمطالبة بالمثل، ولا إسقاط المرتبة الثانية مع وجود المثل والمطالبة بالقيمة. ومنها: أن الثابت في الذمة هو العين بجميع شؤونها الثلاثة، فللمالك إسقاط بعضها والمطالبة بالآخر (1). وفيه: عدم الخصوصية لتعذر المثل حينئذ، كما مر، مع أن الثلاثة من شؤون المضمون، لا من مراتب الضمان، بل الضمان أمر واحد متعلق بذي شؤون ثلاثة، فلا دليل على أن للمالك المطالبة ببعض الشؤون وإسقاط بعضها الآخر. ومنها: ما ذكره المحقق الآخوند (رحمه الله): من أن الثابت في الذمة العين، ولذلك آثار عند العقلاء، فمع وجود العين لا يجوز المطالبة بغيرها، ولا بد من أدائها، ومع تلفها وإمكان المثل لا بد من أدائه، ومع التعذر أو كون الشئ قيميا يكون الأثر هو جواز المطالبة بالقيمة ولزوم أدائها، وفي مورد تعذر المثل القيمة تكون بدل الحيلولة للمثل (2). وفيه: ما يجئ في بدل الحيلولة: أن ذلك غير مسلم عند العقلاء في جميع الموارد، مضافا إلى بطلان أصل المبنى، وأن جواز المطالبة بالقيمة عند تعذر المثل في الجملة لا دائما عند العقلاء، وكونه من آثار ثبوت العين في العهدة يمكن منعه. ومنها: ما ذكره الشيخ (رحمه الله): من أن الجمع بين الحقين يوجب وجوب دفع القيمة، لأن منع المالك ظلم، وإلزام الضامن بالمثل منفي بالتعذر، فوجبت القيمة (3). وهذا لا يمكن المساعدة عليه، لأن منع المالك عن القيمة لا يكون ظلما إلا إذا كان له المطالبة بها، وهذا أول الكلام، فيلزم الدور، ومنعه عن المثل أيضا ليس
1 - منية الطالب 1: 135 - 136. 2 - حاشية المكاسب، المحقق الخراساني: 37. 3 - المكاسب: 107 / سطر 16. 286 بظلم للتعذر. وبعبارة أخرى: بناء على المشهور: من كون المثل ثابتا في العهدة في المثليات، ليس للمالك المطالبة إلا به، والظلم إنما يتصور إذا منع عنه، والمفروض في المقام أن التعذر أوجب المنع. وأما القيمة فليس للمالك المطالبة بها، ولا ظلم في منعه عنها، لعدم الاستحقاق، فما هو مستحق له ممنوع عنه للتعذر، والقيمة غير مستحقة له، فأين الظلم؟! ويمكن توجيه ما ذكره: بأن للمالك تبديل ماله بالقيمة، ومنعه عن ذلك ظلم، فيرفع الدور. إلا أن هذا لا يستلزم وجوب دفع القيمة، فإنه متفرع على فعلية التبديل، والمفروض المنع عن ذلك، فلا تبديل، مع أنه لا يتصور حق للآخر حينئذ حتى يحكم بلزوم القيمة جمعا بين الحقين، بل بناء على التقريب السابق أيضا لا حق له، فإن تعذر المثل لا يوجب حقا للضامن، بل هذا أمر تكويني طارئ، والجمع بينه وبين حق المالك لو كان يستلزم وجوب دفع القيمة، وكأنه (رحمه الله) أطلق الحق على ذلك مسامحة (1). ومنها: ما ذكره الشيخ (رحمه الله) أيضا، وهو الآية الكريمة: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) (2)، بتقريب: أن الالزام بالقيمة حينئذ ليس
1 - أقول: التحقيق: أنه ليس معنى الضمان اعتبار العين في العهدة، ولا اعتبار المثل في المثلي والقيمة في القيمي فيها، بل الضمان هو ما ذكره الشيخ (رحمه الله) سابقا، وهو عهدة تدارك الخسارة، وحصول التدارك بالمثل تارة وبالقيمة أخرى أمر آخر غير دخيل في حقيقة الضمان، ومفاد دليل اليد أيضا ذلك. فعلى ذلك يظهر وجه ما ذكره (رحمه الله) من الجمع بين الحقين، وهو أن للمالك على الضامن حقا، وهو مطالبة تدارك الخسارة، وللضامن حق وإن كان من باب التسامح، وهو تعذر المثل، والجمع يقتضي وجوب دفع القيمة. والظاهر أن هذا هو الصحيح، غاية الأمر في التعذر الدائم ظاهر، وفي التعذر الموقت تكون القيمة بدل الحيلولة. المقرر دام عزه. 2 - البقرة 2: 194. 287 أمرا زائدا على الاعتداء بالمثل (1). والجواب عن ذلك - مضافا إلى ما مر سابقا: من أن الآية واردة في مقام الحرب، وليس المراد من المثل فيها ما نحن فيه -: أنه بعد ما فرض أن الشئ مثلي، فالالزام بغير المثل إلزام زائد على الاعتداء، مضافا إلى أن الآية في مقام بيان عدم جواز الاعتداء زائدا على المثل، لا جواز كل ما لم يكن زائدا عليه. ومنها: أن جعل الضمان في مورد تعذر المثل مع عدم وجوب دفع القيمة لغو، فيجب ذلك دفعا لمحذور لغوية جعل الضمان (2). والجواب أولا: أن هذا إنما يتم في التعذر المطلق، لا في الجملة، لوجود الأثر حينئذ، وهو لزوم دفع المثل بعد رفع التعذر. وثانيا: أن هذا خلط بين الأحكام القانونية والشخصية كما مر مرارا، وقلنا: إن مبادئ جعل القانون مغاير لمبادئ جعل الحكم الشخصي، وهنا لا لغوية في جعل الضمان قانونا وإن لم يكن له في هذا المورد الشخصي أثر. ولا يمكن تصحيح تكليف العصاة والكفار إلا على هذا المبنى، فإن الجد في الحكم الشخصي لا يمكن، ولذا ذكرنا أن الخروج عن محل الابتلاء، لا يوجب عدم ثبوت الحكم فيه كالوضع، وذكرنا أيضا: أن العجز كالجهل من الأعذار العقلية، لا قيد في التكاليف (3). ومنها: بناء العقلاء على وجوب دفع القيمة في مورد تعذر المثل (4). وهذا في الجملة صحيح، وهو في مورد التعذر الدائم أو إلى الأمد البعيد، وأما
1 - المكاسب: 107 / سطر 17. 2 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 93 / سطر 25 - 32، أنظر منية الطالب 1: 141 / سطر 1. 3 - أنظر أنوار الهداية 2: 214 - 216. 4 - حاشية المكاسب، المحقق الخراساني: 37، نهج الفقاهة: 147. 288 التعذر إلى أيام أو شهر وشهرين فلم يحرز ذلك منهم. ومنها: أن تعذر المثل موجب لانقلاب المثلي إلى القيمي (1). وقد ذكر المرحوم النائيني في هذا المقام: أن مناط المثلية والقيمية ليس إلا وجود المثل وعدمه، فمع إعواز المثل ابتداء أو طارئا يكون الشئ قيميا (2). ويمكن تقريب ذلك على مبنى الشيخ (رحمه الله) - من تبعية الأحكام الوضعية للأحكام التكليفية في الجعل -: بأنه لا إشكال في ثبوت أصل الضمان في مورد إعواز المثل، فإنه المتسالم عليه عند العقلاء، ومنهم الفقهاء قدس الله أسرارهم، وهذا هو مقتضى إطلاق أدلة الضمانات أيضا، وبما أن الضمان حكم وضعي فلا بد من تبعيته لحكم تكليفي مستقل بالجعل، وليس ذلك إلا وجوب أداء المثل أو القيمة، والأول غير معقول للزوم التكليف بالمتعذر، والثاني ينتج المطلوب، فإن الضمان المنتزع منه هو ضمان القيمة. ولكن يرد على المحقق النائيني (رحمه الله): أن الحكم المتعلق بطبيعة لا يعقل أن يسري إلى غيرها ولو تشخصاتها الوجودية أو حالاتها، كما مر منا مرارا، والضمان متعلق بطبيعة المثل، وإعواز المثل وعدمه من حالات مصاديق المتعلق، ولا يمكن أن يكون ذلك ناظرا إلى حالات مصاديقه. والظاهر أنه (رحمه الله) أخذ ذلك من الشيخ (رحمه الله). والله العالم. والحاصل: أن الاعواز وعدمه في المرتبة المتأخرة عن كون الشئ مثليا، ولا يعقل دخلهما في المثلية والقيمية، وقد مر مناط المثلية والقيمية. وأما الجواب عن التقريب المذكور: فمضافا إلى بطلان أصل المبنى، وإمكان جعل الوضعيات مستقلا حتى الجزئية والشرطية والمانعية عندنا، أن التعذر إلى أمد
1 - حاشية المكاسب، الإيرواني 1: 99 / سطر 28. 2 - منية الطالب 1: 137 / سطر 1 و 140 / سطر 14. 289 لا يوجب كون التكليف بالمثل من التكليف بالمتعذر، فإن التكليف به على نحو الوجوب التعليقي أو المشروط - على مبنى الشيخ (رحمه الله): من رجوع القيود إلى المادة، لا إلى الهيئة (1) - ممكن، ويكفي في انتزاع الضمان الفعلي عن التكليف، كونه فعليا ولو كان الواجب استقباليا. وأما في التعذر إلى الأبد فقد مر مفصلا: أن الأحكام القانونية لا تقاس بالأحكام الشخصية، لتغاير مبادئهما، ويمكن تحقق مبادئ جعل القانون ولو كان في بعض مصاديقه غير قابل للامتثال، فتعذر المثل في المورد الشخصي لا يوجب عدم تحقق المبادئ في جعل حكم قانوني، وهو ضمان المثلي بالمثل. فتحصل من جميع ما ذكرنا: عدم دليل صالح للقول بانقلاب المثلي إلى القيمي بالتعذر مطلقا، أو بلزوم دفع القيمة بالتعذر كذلك. بيان الشيخ للمراد من إعواز المثل ومناقشته ذكر الشيخ (رحمه الله) في بيان المراد من إعواز المثل - بعد ما حكى عن التذكرة والمسالك وجامع المقاصد -: أن مقتضى عموم وجوب أداء مال الناس وتسليطهم على أموالهم، لزوم تحصيل المثل وإن كان ذلك في البلاد النائية وفي تحصيله مشقة، كلزوم تحصيل عين المال مع وجوده كذلك (2). والحاصل: أن مقتضى الدليلين هو الاعواز العقلي لا العرفي. ومراده (قدس سره) من عموم وجوب أداء مال الناس، ما ذكره سابقا في دليل وجوب رد المقبوض بالبيع الفاسد، وهو دليل لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه
1 - مطارح الأنظار (تقريرات الشيخ الأنصاري) الكلانتر: 52 / سطر 31. 2 - المكاسب: 108 / سطر 25، تذكرة الفقهاء 2: 383 / سطر 16، مسالك الأفهام 2: 208 / سطر 30، جامع المقاصد 6: 245. 290 بالتقريب المتقدم (1). ويمكن أن يقال: إن بناء العقلاء في موارد الاعواز العرفي على مطالبة القيمة أو الصبر حتى يوجد المثل، يقيد إطلاق الدليلين. ويمكن أن يجاب عنه: بأن بناء العقلاء في نفسه لا حجية له، بل حجيته من جهة كشفه عن مذاق الشرع إما بإمضائه أو عدم ردعه، فحجيته تعليقية وحجية الاطلاقين تنجيزية، فيتمسك بها، وبذلك يثبت الردع لبناء العقلاء (2). ولكن هذا إنما يتم في الدليل الأول، حيث إن الحكم المجعول فيه - وهو الحلية - حكم شرعي، وأما الدليل الثاني - وهو سلطنة الناس على أموالهم - وارد مورد ما هو ثابت عند العقلاء، وما هو هذا شأنه من الأدلة ينصرف إلى ذلك الثابت عند العقلاء، فلا إطلاق له. وبعبارة أخرى: حيث إن السلطنة المذكورة قانون عقلائي ثابت عندهم، فلا يفهم العقلاء من دليل السلطنة الوارد في الشريعة المقدسة إلا ذلك القانون العقلائي. والمفروض أن العقلاء بأنفسهم يرون عدم لزوم تحصيل المثل، فيقدم هذا على ذلك، لا العكس، وهذا بخلاف الدليل الأول، فإنه متكفل ببيان حكم شرعي، وله إطلاق يتمسك به، ويثبت به ردع بناء العقلاء (3).
1 - تقدم في الصفحة 257. 2 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 96 / سطر 13. 3 - يمكن أن يتوهم: أن رادعية الاطلاق لبناء العقلاء مستلزم للدور، كما ذكره المرحوم صاحب الكفاية في جواب رادعية إطلاقات نفي حجية الظن لبناء العقلاء على العمل بخبر الواحد (كفاية الأصول: 348). ولكن أجاب عن ذلك السيد الأستاذ - مد ظله - في ذلك الباب (أنوار الهداية 1: 313 و 279) وفي المقام بالتنجيز والتعليق، وبيانه وتفصيل تقريبه يؤخذ من التقريرات (تهذيب الأصول)، المقرر دام عزه. 291 وأما ما ذكره: من استئناس الحكم فيما نحن فيه بما ورد في بعض أخبار السلم (1) من أنه لا يقدر المسلم إليه بأن المراد منه عدم القدرة عرفا لا عقلا (2)، فلا نفهم له وجها محصلا، لعدم مناسبة بين المقام وباب السلم، على أن في ذلك الباب أيضا كلاما، ولا بد من الرجوع إلى رواياته. أداء القيمة بعد تقويم المثل بصفاته الدخيلة في القيمة ثم إنه في مورد الاعواز وجواز المطالبة بالقيمة، لا بد للضامن من أداء القيمة يوم الأداء على مبنى ثبوت العين في العهدة، ومبنى المشهور، أي ثبوت المثل فيها، ووجهه ظاهر، وقد تقدم. ولا بد من تقويم المثل بجميع صفاته الحقيقية وغيرها، كالمكان والزمان إذا كانت تلك الصفات دخيلة في القيمة عند العقلاء، كتقويم العين في القيمية كذلك، فالعبد الكاتب الواقع تحت اليد مضمون بذلك الوصف، والثلج الكائن في الصيف مضمون بذلك الوصف، والماء الكائن في المفازة مضمون بذلك الوصف، غاية الأمر يعتبر قيمة المضمون بجميع هذه الأوصاف حال الأداء، بل مع وجود العين وزوال الوصف لا بد من رد العين وتفاوت القيمة، بلا فرق بين الصفات الحقيقية وغيرها. ولا يرد على ذلك ما توهم: من أن المضمون نفس الشئ والمال، لا مالية المال، ألا ترى أن ظاهر من أتلف مال الغير فهو له ضامن (3) أن إتلاف المال
1 - أنظر الكافي 5: 185 / 3 و 221 / 8 و 9، الفقيه 3: 167 / 736، تهذيب الأحكام 7: 28 / 122 و 32 / 132، الاستبصار 3: 74 / 248، وسائل الشيعة 13: 68، كتاب التجارة، أبواب السلف، الباب 11، الحديث 1 و 2. 2 - المكاسب: 108 / سطر 29. 3 - تقدم في الصفحة 264. 292 موجب للضمان، فإذا كان المال موجودا، وزالت ماليته بالنقل من مكان إلى مكان، أو الحبس من زمان إلى زمان، فلا يوجب الضمان لعدم تلف ذات المال (1). فإن هذا مجرد توهم، لأن ضمان الشئ عند العقلاء ليس باعتبار ذاته، بل باعتبار ما يوجب الرغبة إليه، وهو ماليته، ولذا لا نلتزم بالضمان في موارد أخذ شئ لا قيمة له، على أن هذا لو تم لا يمكننا الحكم بالضمان في موارد زوال الأوصاف الحقيقية مع بقاء الذات، فإن المضمون واجد الوصف، لا نفس الوصف، لعدم استقلال اليد إلا على الموصوف لا الوصف، مضافا إلى أن كون الشئ في مكان أو زمان من الأوصاف - ولو الانتزاعية - فهو أيضا مضمون كالأوصاف الحقيقية. وبعبارة أخرى: لو قلنا: بأن تعلق اليد بالموصوف بعين تعلقها بالوصف، ولذا يضمن الشخص بالنسبة إلى الأوصاف الحقيقية، لقلنا في الأوصاف غير الحقيقية أيضا ذلك، فلا بد من الحكم بالضمان فيها أيضا. والحاصل: أن وجود الذات مشترك في كلا الموردين، وزوال المالية أيضا مشترك فيهما، وتقريب الضمان في الأوصاف الحقيقية موجود في الأوصاف غير الحقيقية، فلا بد من الحكم بالضمان فيهما. فرع: في كون المضمون نقدا سقط عن الرواج لو كان المضمون من النقود - كالدرهم والدينار - وأسقط عن الرواج، وصار الرائج نقدا آخر، فمقتضى ما ذكرنا في دلالة حديث اليد، أنه لا بد من رد العين وتدارك جميع الأوصاف الفائتة، وهو وصف الرواج في المقام، بلا فرق بين سقوط النقد عن القيمة لسقوطه عن الرواج، وعدم السقوط بذلك، وبلا فرق بين سقوطه عن
1 - حاشية المكاسب، المحقق الخراساني: 39 / سطر 4، حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 97 / سطر 20. 293 الرواج مطلقا أو في الجملة. منشأ اختلاف الآراء في المقام وقد اختلفت الآراء في المقام، ومنشؤه ما تخيل من اختلاف الأخبار. ففي مكاتبة يونس عن الرضا (عليه السلام): كانت تلك الدراهم تنفق بين الناس تلك الأيام، وليست تنفق اليوم؟ فكتب (عليه السلام): لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس، كما أعطيته ما ينفق بين الناس (1). وهذه ظاهرة في أنه بسقوط النقد عن الرواج يستحق المالك المطالبة بالرائج. وفي مكاتبته الأخرى: أسقط تلك الدراهم... ولها اليوم وضيعة؟ فكتب (عليه السلام): لك الدراهم الأولى (2). وقد توهم: أن هذه المكاتبة معارضة للأولى، والصدوق (رحمه الله) جمع بين الروايتين - على ما في الوسائل -: بأن الدرهم المضمون لو كان بنقد معروف فليس للمالك إلا ذلك النقد، ومتى كان بوزن معلوم بغير نقد معروف، فإنما له الدراهم التي تجوز بين الناس (3)، مع أنه لا شاهد لهذا الجمع في الروايتين كما ترى. وجمع الشيخ (رحمه الله) بينهما: بأن للمالك قيمة الدراهم السابقة من النقد الرائج،
1 - الكافي 5: 252 / 1، تهذيب الأحكام 7: 116 / 505، الاستبصار 3: 100 / 345، وسائل الشيعة 12: 488، كتاب التجارة، أبواب الصرف، الباب 20، الحديث 1. 2 - الفقيه 3: 118 / 503، تهذيب الأحكام 7: 117 / 507، الاستبصار 3: 99 / 343، وسائل الشيعة 12: 488، كتاب التجارة، أبواب الصرف، الباب 20، الحديث 2. 3 - الفقيه 3: 118 / 503، وسائل الشيعة 12: 488، كتاب التجارة، أبواب الصرف، الباب 20، الحديث 2. 294 فحمل الأولى على أن أداء الرائج من باب أداء قيمة المضمون (1)، ولكن هذا أيضا بلا شاهد كما ترى. وجمع المرحوم النائيني (رحمه الله) بينهما بأن الدراهم الأولى مطلقا من حيث ضم تفاوت السكة وعدمه إليها، وقوله (عليه السلام): لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس مقيد له، أي تأخذ الدراهم الأولى بقيمة ما ينفق. وذكر في الحاشية: أنه لا يخفى أن هذا خلاف ظاهر قوله (عليه السلام): لك أن تأخذ، فإن ظاهره استحقاقه لأخذ عين الدرهم الرائج، فالطائفتان متباينتان، فإما يطرحان، ويرجع إلى القواعد المقتضية لضمان نقص السكة، وإما يطرح خصوص ما دل على استحقاقه للرائج - كما اختاره العلامة وصاحب الحدائق - إما لضعف سنده أو لحمله على التقية، وحيث إن المسألة مشكلة فالاحتياط بالصلح طريق للتخلص (2). انتهى. وفيه: أنه أما ضعف السند فليس في الرواية إلا محمد بن عيسى، وهو وإن ضعفه ابن الوليد، إلا أن النجاشي وثقه صريحا (3)، مع أن تضعيف ابن الوليد ليس من جهة عدم وثاقته، بل لصغر سنه على أن الرجل وارد في سند كلتا الطائفتين. وأما الجمع أو الطرح فلا تصل النوبة إليهما، فإن الروايتين غير متعارضتين بوجه، فإن مورد السؤال في الرواية الأولى سقوط النقد عن الرواج بالكلية، وفي الثانية سقوطه عنه في الجملة، بحيث يقبل بوضيعة ولزوم أداء الرائج في الأول وأداء الأولى في الثاني موافق للقاعدة والرواية، فلا حاجة إلى الجمع أصلا. وهنا رواية ثالثة توهم معارضتها للرواية الأولى: وهي مضمرة معاوية بن سعيد: استقرض دراهم، وسقطت تلك الدراهم، أو تغيرت، فقال (عليه السلام): لصاحب
1 - الاستبصار 3: 100 / سطر 7. 2 - منية الطالب 1: 144 / سطر 20. 3 - رجال النجاشي: 348. 295 الدراهم الدراهم الأولى (1). وهذه بعد كونها مضمرة، وعدم تمامية شرائط الحجية فيها، واردة في مورد استقراض الدراهم الساقطة حال الاستقراض، فإن وحالية، أو تحمل على السقوط في الجملة الثانية، فلا تنافي بين الروايات، مع أنها واردة في القرض وقياس المقام فيه قياس مع الفارق، كما يظهر بأدنى تأمل. في أداء العين أو المثل أو القيمة بعد سقوطهما عن القيمة ثم إنه لو شككنا أنه بعد سقوط العين عن القيمة، هل يتعين أداء العين فقط، أو لا بد من أداء قيمته أيضا؟ وهكذا في صورة تلف المثلي وسقوط المثل عن القيمة بعده، هل يتعين المثل فقط، أو لا بد من أداء القيمة أيضا؟ فعلى مبنى تعلق العين بالعهدة في باب الضمانات لا بد من أدائهما معا، فإن اشتغال الذمة بالعين يقتضي تحصيل البراءة اليقينية ولا تحصل إلا بذلك، ويمكن إجراء استصحاب اشتغال الذمة بالعين بعد أدائها في الأول، وبعد أداء المثل في الثاني، فلا بد من أداء القيمة. وقد ظهر بذلك عدم الفرق بين وجود العين وسقوطها عن المالية وبين تلفها وسقوط مثلها عن المالية، فإن استصحاب عهدة العين ولزوم الخروج عن العهدة بحكم العقل، مشترك بين الصورتين. إشكال ودفع نعم، فرق بينهما المحقق الأصفهاني (قدس سره)، وأشكل على الأصل المذكور في مورد وجود العين وسقوطها عن المالية: بأن لزوم أداء القيمة أثر عقلي مترتب على
1 - تهذيب الأحكام 7: 117 / 508، الاستبصار 3: 99 / 344، وسائل الشيعة 12: 488، كتاب التجارة، أبواب الصرف، الباب 20، الحديث 4. 296 اشتغال الذمة بالعين بعد أدائها، فلا يثبت بالاستصحاب (1). وهذا الاشكال مندفع: بأن الأثر العقلي المترتب على الأعم من الواقع والظاهر، كلزوم إطاعة المولى الثابت للأعم منهما، يثبت بالاستصحاب، لتحقق موضوع هذا الأثر العقلي، ففي المقام موضوع لزوم أداء القيمة بنظر العقل هو الاشتغال أو التعبد، والأخير موجود بالاستصحاب. في استصحاب الخروج عن العهدة بأداء العين وجوابه ثم أسس هذا المحقق أصلا آخر: وهو استصحاب خروج العهدة بأداء العين، فإنه قبل السقوط عن القيمة بأداء العين يحصل الفراغ فيستصحب (2). وأنت خبير بأن هذا استصحاب تعليقي في الموضوع، وغير منقح لموضوع حكم شرعي، فلا يجري، مع أن خروج العهدة بأداء العين لا حكم شرعي، ولا موضوع لحكم شرعي، بل هو حكم عقلي مترتب على اشتغال الذمة بالعين قبل سقوطها عن القيمة، ولا يجري الاستصحاب في الحكم العقلي، مضافا إلى أن إثبات ترتب الملازم على الملازم، أو المسبب على السبب - باستصحاب الملازمة - من المثبت، اللهم إلا أن يدعى جريان الاستصحاب في نفس الملازم على تقدير وجود ملازمة، فحينئذ يندفع هذا الاشكال، كما قرر في باب الاستصحاب التعليقي. وأشكلنا على الشيخ الأعظم (قدس سره) حيث أجرى الاستصحاب في السببية والشرطية والملازمة في موارد التعليق (3) بالاثبات المذكور (4).
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 97 / سطر 29. 2 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 97 / سطر 33. 3 - فرائد الأصول 2: 654. 4 - الاستصحاب، الإمام الخميني (قدس سره): 136 - 138. 297 ولو سلمنا أن التعليق شرعي، والاستصحاب جار، فلا بد من أن نلتزم بحكومة هذا الاستصحاب على الاستصحاب التنجيزي المتقدم، لا لكونه أصلا جاريا في السبب والثاني أصلا جاريا في المسبب، فإن ميزان تقدم أصل على أصل ليس ذلك، بل الميزان تنقيح أحد الأصلين موضوع دليل اجتهادي، فيرتفع موضوع الأصل الآخر، لحكومة الدليل الاجتهادي على الأصل، وقد مر هذا مفصلا في المباحث السابقة. ففي المقام استصحاب سقوط الذمة - على تقدير أداء العين - استصحاب في حكم كلي ينتج حكما كليا، وهو سقوط الذمة على ذلك التقدير، فلو أدى العين وجدانا أحرز سقوط الذمة لضم تلك الكبرى الشرعية المستصحبة إلى هذه الصغرى الوجدانية، وعليه فلا شك في سقوط الذمة حتى يجري استصحاب بقاء العهدة. ونظير هذا ذكرنا في وجه حكومة جميع موارد الاستصحابات التعليقية على التنجيزية (1)، فاستصحاب الحرمة على تقدير الغليان - في المثال المعروف - بضم الغليان وجدانا ينتج حرمة هذا، فلا شك في الحرمة حتى تستصحب الحلية. وبعبارة أخرى: موضوع دليل الاستصحاب هو الشك، ففي الاستصحاب التعليقي الشك في بقاء الكبرى الشرعية، كالحرمة على تقدير الغليان، أو السقوط على تقدير الأداء، وفي الاستصحاب التنجيزي الشك في الحكم الفعلي، وبعد إحراز الكبرى بالاستصحاب لا يبقى شك في الحكم الفعلي حتى يستصحب (2).
1 - نفس المصدر: 173. 2 - أقول: الدليل كما لا يمكن تكفله بوجود موضوعه كذلك لا يمكن تكفله بنفي موضوعه، وهذا ظاهر، والمفروض أن دليل الاستصحاب إنما هو بلسان واحد متكفل ببيان حرمة النقض في مورد اليقين والشك، ولا يعقل إعدام موضوعه في مورد بغرض شموله لمورد آخر. وبعبارة أخرى: لو لم يكن في البين دليل على الاستصحاب، لكنا على يقين من الحكم التعليقي والشك فيه، وعلى يقين من الحكم التنجيزي والشك فيه، وحينئذ إذا لاحظنا دليل الاستصحاب وعدم إمكان شموله للحكمين معا، كيف يمكننا إحراز شموله للحكم التعليقي؟! نعم، لو شمله لانتفى موضوع الثاني، إلا أن الشمول أول الكلام. والحاصل: أن ميزان اليقين والشك في دليل الاستصحاب، اليقين والشك مع قطع النظر عن هذا الدليل، وهذا موجود في كلا الحكمين. فالصحيح وقوع المعاوضة في موارد جريان الاستصحابات التعليقية. وبعبارة أخرى: الحكم بعدم شمول دليل الاستصحاب للحكم التنجيزي بدعوى شموله للحكم التعليقي. وانتفاء موضوع الاستصحاب في التنجيزي دوري، لأنه لو شمل لكان كذلك، لكن الكلام في الشمول، والقول بأن موضوع الاستصحاب موجود في التعليقي فيشمله الدليل، فينتفي موضوع الثاني، لا يجدي نفعا، لأن مع قطع النظر عن شمول الدليل للتعليقي يشمل التنجيزي أيضا، فلو قدمنا الاستصحاب في التعليقي لانتفى موضوعه في التنجيزي، لكن السؤال في وجه تقديم الاستصحاب في التعليقي، حتى ينتفي موضوعه في التنجيزي بإحراز الكبرى بالاستصحاب، بل شمول الدليل للموردين بمرتبة واحدة، ولا مجال للتقديم حتى تصل النوبة إلى رفع الشك في الآخر. المقرر دامت بركاته. 298 منع استصحاب سقوط الذمة بأداء المثل ومناقشته وقد عكس المحقق المذكور الأمر في مورد تلف العين المثلية وسقوط مثلها عن المالية، وأجرى استصحاب بقاء عهدة العين، ومنع استصحاب سقوط الذمة على تقدير أداء المثل. وذكر في وجه ذلك: أن لزوم أداء المثل قبل سقوطه عن المالية، إنما هو من باب أقربيته إلى التالف، فلا يمكننا استصحاب سقوط الذمة على تقدير أداء المثل، لأنا لا ندري أن الأقرب إلى التالف بعد سقوط المثل عن المالية، هل هو المثل الساقط عن المالية، أو القيمة، أو هما معا؟ فيرجع الشك إلى الشك في الموضوع، فلا يجري الاستصحاب، لكن نعلم اشتغال الذمة بالعين قبل أداء هذا المثل، ونشك
299 في سقوطها به، فنستصحب بقاء العهدة حتى تؤدى القيمة (1). انتهى محصلا. وأنت خبير بأن استصحاب بقاء العهدة لو كان مثبتا في الفرض السابق، فهو مثبت هنا أيضا، لأن المفروض أن المجعول الشرعي إنما هو عهدة العين، ولزوم أداء المثل أو القيمة لفراغ العهدة عقلي لا شرعي، فإن الكلام على هذا المبنى، لا المبنى المشهور في حديث اليد. وأما ما ذكره في وجه عدم جريان الاستصحاب التعليقي، ففيه: أن الترديد في ما هو الأقرب إلى التالف محقق للشك موضوع دليل الاستصحاب. وبعبارة أخرى: لو سلمنا أن موضع الدليل الاجتهادي، هو الأقرب إلى التالف على نحو الواسطة في العروض - ولا نسلم كما عرفت - مع ذلك يجري الاستصحاب، فإنه بانطباق هذا العنوان على المثل قبل سقوطه عن المالية نحرز سقوط الذمة على تقدير أداء المثل، وبعد سقوطه عن المالية - من جهة الشك في انطباق العنوان على المثل الصوري، أو القيمة، أو هما معا - نشك في بقاء هذا الحكم التعليقي، فنستصحب ذلك، ونحكم بسقوط الذمة على تقدير أداء هذا المثل، فنقول: هذا كان بحيث لو أدى سابقا لسقطت العين عن العهدة، والآن كما كان. والحاصل: أنا في الاستصحاب لا نحتاج إلى بقاء موضوع الدليل الاجتهادي، بل نحتاج إلى اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة وهو حاصل، ولذا لو شككنا في أن عنوان الموضوع للدليل الاجتهادي، هل هو على نحو الواسطة في العروض، أو الواسطة في الثبوت، أمكننا إجراء الاستصحاب، ونشير إلى المصداق، ونقول: هذا كان كذا، والآن كما كان، فليكن في المقام - وهو مورد الشك في الانطباق - أيضا كذلك. والحاصل: أنه لا فرق بين الصورتين - وجود العين وتلفها - في جريان
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 97 / سطر 34 و 98 / سطر 14. 300 الاستصحاب، والصحيح أن استصحاب بقاء العهدة جار في الصورتين، والعقل بعد ذلك يحكم بلزوم الجزم بالخروج عن العهدة، بأداء العين والقيمة في الصورة الأولى، وأداء المثل والقيمة في الثانية، والاستصحاب التعليقي غير جار في الصورتين، فإنه من التعليق في الموضوع بلا ترتب أثر شرعي عليه. ثم ذكر المحقق المذكور بعد ذلك: أنه لو استفدنا من دليل اليد أن الثابت في العهدة - بعد تلف العين - المثل في المثليات، فلا يمكن إجراء استصحاب بقاء المثل في العهدة، لسقوطه عن القيمة، فإنه من المحتمل أن يكون الثابت المثل المتقوم بالمالية، فيسقط بسقوطه عن المالية، ولا بد من أداء المالية، ومن المحتمل أن يكون الثابت المثل، وإن لم يكن كذلك - بل كان صوريا - فيثبت في الذمة ولو بعد سقوطه عن المالية، فيدور أمر المستصحب بين ما هو مشكوك الحدوث وما هو مرتفع قطعا، فلا يجري فيه الاستصحاب (1). ونقول: إنه لو أراد من ذلك أن هذا الترديد يمنع من الاستصحاب، فلا بد من المنع في جميع موارد الاستصحاب، ولا سيما استصحاب القسم الثاني من الكلي، فإن أمر المستصحب دائر بين البقاء والزوال، والذي يسهل الخطب أن هذا الترديد محقق للشك، وهو موضوع الاستصحاب، ففي المقام من جهة ذلك الترديد نشك في بقاء المثل على العهدة فيستصحب. ولو أراد منه ما ذكرنا سابقا، وأجبنا عنه: بأن الكلي لا وجود له خارجا إلا بالفرد، فلا معنى لاستصحابه، فقد مر أن هذا خلط بين العقليات والعقلائيات، فراجع. ولو أراد منه: أن الجامع في المقام ليس بحكم شرعي، ولا موضوع ذي أثر شرعي. فجوابه: أن المحتمل في المقام أن يكون المجعول الشرعي عهدة نفس
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 98 / سطر 30. 301 طبيعة المثل، الجامع بين المتقوم بالمالية وغيره، فنعلم بهذا الجامع، ونشك في بقائه، فنستصحب ذلك، ويكفي في الاستصحاب أن يكون المستصحب مجعولا شرعيا ولو بلحاظ أحد أطراف الاحتمال، فالجامع وإن لم يكن مجعولا شرعيا - على تقدير أن يكون المجعول عهدة الفرد الخاص - إلا أنه على التقدير الآخر - وهو كونه مجعولا - حكم شرعي، وهذا كاف في الاستصحاب. فتحصل: أن عهدة المثل متيقنة، وقد شك في بقائها لسقوط المثل عن المالية، فنستصحب بقاء العهدة، والحكم العقلي بلزوم القطع بالفراغ عنها يستدعي أداء المالية أيضا. وذكر في ذيل كلامه: أن وجه منع الاستصحاب في المقام: هو عدم إحراز بقاء الموضوع، ولا بد في الاستصحاب من إحراز ذلك (1). وهذا مأخوذ من كلام الشيخ الأعظم (قدس سره)، وتبعه في ذلك المحقق النائيني (رحمه الله) (2) أيضا. في استدلال الشيخ على منع الاستصحاب في المقام ومناقشته وقد استدل الشيخ على ذلك: بأن المستصحب في الهليات المركبة - مثل زيد قائم - هو قيامه العارض له، فمع عدم بقاء زيد في ظرف الشك: فإما أن يبقى العارض بلا محل، وهو محال، وإما أن ينتقل إلى موضوع آخر، وهو أيضا محال، لاستحالة انتقال العرض، وإما أن يحدث مثله في موضوع آخر، وهذا أيضا ليس إبقاء، فيخرج عن الاستصحاب (3).
1 - نفس المصدر 1: 98 / سطر 20. 2 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 4: 424 - 425. 3 - فرائد الأصول 2: 691. 302 وفيه أولا: أن ما أفاده من أن المستصحب عارض الموضوع، والموضوع معروضه، ولا بد من إحراز بقائه، ففيه مسامحة ظاهرة، لأن المستصحب هو متعلق اليقين وليس ذلك إلا مفاد القضية، لا محمولها الذي هو عارض، فإنه لا يعقل أن يتعلق اليقين بالمفردات، وكذا الظن والشك لا يتعلقان بالتصورات، بل متعلق هذه الأمور ليس إلا الأمور التصديقية التي هي مفاد القضايا. نعم، لا بد من اعتبار وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة، وهذا أمر آخر غير اعتبار إحراز بقاء الموضوع، فمع كون موضوع الأثر على نعت الكون الرابط - مثل كون زيد قائما - تكون القضية من الهلية المركبة، مثل زيد كان قائما، والآن كما كان، ومع كون موضوع الأثر على نعت الكون المحمولي - مثل قيام زيد - تكون القضية من الهلية البسيطة، مثل قيام زيد كان موجودا، والآن كما كان. وبذلك تندفع الشبهة الواردة في الهليات البسيطة: من عدم إحراز بقاء الموضوع فيها، فإن الشرط هو اتحاد القضيتين، وهو حاصل. وأما ما أجاب به الشيخ (رحمه الله) عن الشبهة: من أن الموضوع فيها التقرر الذهني (1)، فلا يخفى ما فيه، لأن الموضوع في زيد موجود ليس زيدا المقرر في الذهن، لأنه لا يمكن أن يوجد في الخارج، فالموضوع في مثل تلك القضايا هو نفس زيد عاريا عن لحاظ شئ معه، وغير متقيد بالتقرر الخارجي أو الذهني، وهو لا يتصف بالبقاء والمحرزية إلا بتبع الوجود الذهني أو الخارجي. وبما ذكرنا ظهر إشكال ثان فيما ذكره الشيخ (رحمه الله): وهو أنه لا يمكن إحراز الموضوع في بعض القضايا، وهو الهليات البسيطة، فإن معنى إحرازه هو إحراز بقائه أو وجوده مثلا، لعدم تعلق الاحراز بالمفرد، ومعه لا يبقى شك، فلا موضوع للاستصحاب في هذه القضايا. والجواب عن ذلك: بأن الموضوع فيها هو التقرر الذهني، قد عرفت ما فيه.
1 - فرائد الأصول 2: 690. 303 في التمكن من المثل بعد تعذره ودفع القيمة قوله (قدس سره): فرع: لو دفع القيمة في المثل المتعذر مثله، ثم تمكن من المثل، فالظاهر عدم عود المثل في ذمته (1). وتقريب المبنى في هذه المسألة يمكن بوجهين تختلف نتيجتهما: أحدهما: أن يقال: إن دفع القيمة في المثل المتعذر موجب لسقوط ما في الذمة قهرا، فإنه مرتبة من مراتب أدائه، بمعنى أنه في حال تعذر المثل أداء القيمة جبران لتمام الدرك بنظر العقلاء، ولا معنى لبقاء العهدة بعد أداء ما فيها، وعود الساقط بعد رفع التعذر يحتاج إلى دليل، وليس عندنا دليل. ثانيهما: أن يقال: إن دفع القيمة في المثل المتعذر، إنما هو من جهة تعذر المثل وعدم إمكان أدائه، وأداء القيمة ليس أداءه بجميع مراتبه، بل أداؤه ناقصا. نعم، ليس للمالك المطالبة بجميع مراتب الأداء فعلا، لعدم التمكن منه، بل قلنا بعدم تحقق الجد بالمطالبة في مورد تعذر الأداء. وأما سقوط ذمة الضامن بأداء بعض المراتب عن سائرها فيحتاج إلى دليل، فمع التمكن منها يستحق المالك مطالبتها برد القيمة وأخذ المثل المتمكن منه. ولا فرق في ذلك بين القول بثبوت العين في العهدة إلى زمان الأداء في الضمانات، وبين القول المشهور، وهو ثبوت المثل في العهدة في المثليات، فإن التقريبين جاريان فيهما. ولكن الانصاف مساعدة العقلاء على الوجه الأول واعتبارهم سقوط ما في الذمة بأداء القيمة، أترى أن العقلاء مع أداء قيمة المثل في موارد التعذر، والتمكن منه بعد ذلك بأمد بعيد كخمسين سنة مثلا أو أزيد، كما هو موضوع المسألة، فإنا
1 - المكاسب: 109 / سطر 9. 304 قد ذكرنا عدم جواز المطالبة بالقيمة في مورد التعذر إلى أمد قصير أن العقلاء يرون استحقاق مطالبة المالك بالمثل ورده القيمة؟! نعم، لو فرضنا حدوث العين على نحو خرق العادة، فالعقلاء حاكمون بلزوم رد العين من جهة رد المال المحترم إلى صاحبه، بخلاف صورة حدوث المثل بعد تعذره، والوجه ما تقدم من: تحقق جبران الخسارة بتمامها بنظر العقلاء في مورد تعذر المثل بأداء القيمة، فسقطت الذمة، والساقط لا يعود إلا بدليل مفقود. وقد ذكر الشيخ (رحمه الله) في المقام: أنه بناء على المختار - من عدم سقوط المثل عن الذمة بالاعواز - يسقط بأداء عوضه، وهو القيمة بالتراضي، فلا يعود كما لو تراضيا بعوضه. وأما على القول بسقوطه وانقلابه قيميا، فإن قلنا: بأن المغصوب انقلب قيميا عند تعذر مثله فأولى بالسقوط، لأن المدفوع نفس ما في الذمة، وإن قلنا: إن المثل بتعذره النازل منزلة التلف صار قيميا، احتمل وجوب المثل عند وجوده، لأن القيمة حينئذ بدل الحيلولة عن المثل (1). أقول: تقريب بدل الحيلولة على المختار - من عدم سقوط المثل - أسهل منه على القولين الأخيرين، فإن المفروض فيه عدم سقوط المثل، وأداء القيمة من جهة عدم التمكن من المثل الثابت في الذمة، فمع التمكن منها لا بد من أدائها، والقيمة بدل الحيلولة. وأما على القول بكون ما في الذمة قيميا، أو صيرورة المثل قيميا، فلا معنى لكون القيمة بدل الحيلولة، فإن أداءها أداء نفس ما في الذمة، هذا، مع أن فرض سقوط المثل بأداء القيمة بالتراضي خروج عن محل البحث، كما لا يخفى.
1 - المكاسب: 109 / سطر 9. 305 الأمر السابع الضمان بالقيمة في التالف القيمي في البيع الفاسد قوله (قدس سره): السابع: لو كان التالف - المبيع فاسدا - قيميا، فقد حكي الاتفاق على كونه مضمونا بالقيمة، ويدل عليه الأخبار المتفرقة في كثير من القيميات (1). ونحن نذكر: أولا ما هو مقتضى القاعدة العقلائية في هذا المقام، وثانيا الأخبار ومقتضاها. أما الأول: فقد مر سابقا: أن المعتبر عند العقلاء في الغرامات وجبر الخسارات، أداء ما هو قائم مقام العين في جميع الخصوصيات، التي بها تتفاوت الرغبات عندهم. نعم، الخصوصية العينية ملغاة عندهم في هذا المقام، لتلفها وعدم دخلها في ما هو مناط رغبتهم، فإن أداء مثل الحنطة، جابر لخسارة التلف بجميع ما هو مورد لرغبة العقلاء بلا نقص، كما هو ظاهر، فمع وجود مماثل للشئ التالف - ولو نادرا - لا بد من تحصيله وأدائه، فإن ما هو قائم مقام العين في تلك الخصوصيات هو المثل، لا القيمة.
1 - المكاسب: 109 / سطر 13. 307 فعلى هذا يمكن أن يقال: إن أداء القيمة في القيميات التي لا يوجد لها مماثل أبدا، ليس من جهة أنها مضمونة بالقيمة، بل إنما هو من جهة تعذر ما هو قائم مقام العين كذلك، وهو المثل، فالقيميات أيضا مضمونة بالمثل كالمثليات، فلا بد من أدائه عند التمكن، ومع عدمه تصل النوبة إلى أداء القيمة من جهة تعذر المثل، وقد مر تفصيل الكلام فيه. وبالجملة: جبر القيميات بالقيمة عند العقلاء إرفاق بحال الضامن، لا قهر عليه وعلى المضمون له. هذا بحسب القواعد وما هو ثابت ببناء العقلاء، واعتبار ذلك بنظر الشارع يثبت من إطلاق أدلة الضمانات، بمعنى جعله الضمان وسكوته عن كيفيته وعدم ردعه عن الثابت عند العقلاء، فمن ذلك يستكشف أن كيفية الضمان شرعا أيضا ذلك، والاطلاق المذكور في كلام الشيخ (رحمه الله) (1)، لعله هذا المعنى أيضا، والله العالم. في دلالة الأخبار على المقام وأما بحسب الأخبار: فقد وردت عدة من الأخبار في الأبواب المتفرقة، تدل بالاطلاق على أن ضمان جميع الأشياء بالقيمة، نخرج عنها في المثليات بالاجماع، فإن القدر المتيقن منه ذلك، ويبقى الباقي - وهو القيميات بجميع أقسامها - مضمونا بالقيمة، وإليك بعض هذه الأخبار: منها: موثقة إسحاق بن عمار قال: سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن الرجل يرهن الرهن بمائة درهم، وهو يساوي ثلاثمائة درهم فيهلك، أعلى الرجل أن يرد على صاحبه مائتي درهم؟ قال: نعم، لأنه أخذ رهنا فيه فضل وضيعه (2) الحديث.
1 - المكاسب: 109 / سطر 15. 2 - الكافي 5: 234 / 9، الفقيه 3: 199 / 904، تهذيب الأحكام 7: 172 / 763، الاستبصار 3: 120 / 429، وسائل الشيعة 13: 129، كتاب الرهن، أبواب الرهن، الباب 7، الحديث 2. 308 وهذه رواية تدل بإطلاقها المستفاد من ترك الاستفصال: أن العين مرهونة مضمونة بالقيمة، وإلا لم يكن معنى لحصول التهاتر وتراد الفضل. واحتمال خصوصية الرهن، مدفوع بالتعليل الوارد فيها، أعني قوله (عليه السلام): وضيعه. وقد أشار الشيخ (قدس سره) إلى هذه الرواية (1)، ونعمت الإشارة، واعترض عليه السيد (رحمه الله) بقوله: ولكن لم أعثر على هذا الخبر (2)، وقد عرفت الرواية ووجه دلالتها، وتدل على ذلك غير هذه الرواية في هذا الباب أيضا فلاحظ. ومنها: الروايات التي تدل على أن غلة الرهن تحسب لصاحب الرهن مما عليه (3)، مع أنها قد تكون مثلية، وهذه أيضا تدل بإطلاقها على أنها مضمونة بالقيمة. ومنها: الروايات الواردة في باب موجبات الضمان في الديات، كموثقة السكوني، عن جعفر، عن أبيه عن علي (عليه السلام): أنه قضى في رجل أقبل بنار فأشعلها في دار قوم، فاحترقت واحترق متاعهم، قال: يغرم قيمة الدار وما فيها، ثم يقتل (4). ومنها: ما ورد في بعض أبواب كتاب العتق (5). ومنها: موثقة السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة، كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها، وفيها سكين، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): يقوم ما فيها، ثم يؤكل، لأنه يفسد وليس له بقاء،
1 - المكاسب: 109 / سطر 22. 2 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 103 / سطر 3. 3 - وسائل الشيعة 13: 132، كتاب الرهن، أبواب الرهن، الباب 10. 4 - الفقيه 4: 120 / 419، تهذيب الأحكام 10: 231 / 912، وسائل الشيعة 19: 210، كتاب الديات، أبواب موجبات الضمان، الباب 41، الحديث 1. 5 - الكافي 6: 182 / 1 و 183 / 5، تهذيب الأحكام 8: 220 / 789، الاستبصار 4: 3 / 8، وسائل الشيعة 16: 25 - 26، كتاب العتق، أبواب العتق، الباب 18، الحديث 1 و 5 و 6. 309 فإن جاء طالبها غرموا له الثمن (1) الحديث. نعم روى عبد الله بن جعفر - في قرب الإسناد - عن عبد الله بن الحسن، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام)، قال: سألته عن رجل أصاب شاة في الصحراء، هل تحل له؟ قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هي لك، أو لأخيك، أو للذئب، فخذها وعرفها حيث أصبتها، فإن عرفت فردها إلى صاحبها، وإن لم تعرف فكلها وأنت ضامن لها إن جاء صاحبها يطلب ثمنها أن تردها عليه (2). وهذه الرواية تدل بتقريب على ضمان الشئ بالمثل ولو كان قيميا، وذلك لعود ضمير ها في قوله: تردها على نفس العين ورد المثل أو القيمة نحو أداء من العين، فمع إمكان الأول لا تصل النوبة إلى الثاني. ولكن الظاهر عود الضمير إلى ثمنها، وعدم أنس الذهن مع عود الضمير بالنحو المتقدم. ونحوها صحيحة صفوان الجمال أنه قال: سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من وجد ضالة فلم يعرفها: ثم وجدت عنده، فإنها لربها أو مثلها عن مال الذي كتمها (3). وهذه أيضا يمكن تقريبها بنحو تدل على ذلك، فإن كلمة أو مثلها لا تستقيم إلا مع فرض تلف العين، ولكن هذه الكلمة لا تدل على اصطلاح الفقهاء الحادث جديدا في المثل، بل الظاهر منه المماثل للشئ في المقدار، لا المثل
1 - الكافي 6: 297 / 2، وسائل الشيعة 17: 372، كتاب اللقطة، أبواب اللقطة، الباب 23، الحديث 1. 2 - مسائل علي بن جعفر: 104 / 5، قرب الإسناد: 116، وسائل الشيعة 17: 365، كتاب اللقطة، أبواب اللقطة، الباب 13، الحديث 7. 3 - الكافي 5: 141 / 17، الفقيه 3: 187 / 843، تهذيب الأحكام 6: 393 / 1180، وسائل الشيعة 17: 365، كتاب اللقطة، أبواب اللقطة، الباب 14، الحديث 1. 310 المصطلح عليه، فلا تنافي الرواية ما دل على ضمان القيمي بالقيمة، وإن أبيت فنلتزم بذلك من جهة الجمع العرفي، ولا مانع منه. الاختلاف في تعيين القيمة بحسب المباني ثم إنه هل المدار في أداء القيمة يوم الأداء، كما نسب إلى الأكثر (1)، أو يوم التلف كما نسب إلى الأكثر أيضا (2)، أو القبض كما نسب إلى الأكثر أيضا (3)، أو أعلى القيم من يوم القبض إلى يوم الأداء (4)، أو التلف (5)، وغير ذلك من الأقوال؟ يختلف الحال حسب اختلاف المباني، فعلى القول بثبوت العين في العهدة في باب الضمانات، فلا بد من أداء قيمة يوم الأداء، سواء قلنا بأن المعتبر في العهدة هو العين بخصوصيتها الشخصية، أو العين بجميع صفاتها، أو العين بجميع ما له الدخل في حصول الرغبات، وهكذا الحال على مبنى اعتبار المثل في العهدة. والوجه في الجميع: أن العين أو المثل ثابت في الذمة إلى هذا الزمان، ولا بد من أدائها، ولا يمكن إلا بأداء قيمتها حينئذ. القول بقيمة يوم الأداء وللمرحوم النائيني كلام في المقام: وهو أن منشأ القول بلزوم أداء القيمة يوم الأداء أمران:
1 - المكاسب: 107 / سطر 23. 2 - الدروس الشرعية 3: 113. 3 - تحرير الأحكام 2: 139 / سطر 15. 4 - الدروس الشرعية 3: 113، مفتاح الكرامة 4: 200 / سطر 17. 5 - الدروس الشرعية 3: 113، اللمعة الدمشقية، ضمن الروضة البهية 2: 229 / سطر 15. 311 الأول: أن العين الشخصية في عهدة الضامن إلى زمان الأداء. الثاني: أن قوام الشئ بماليته، وهو الركن له، والمالية عبارة عما ينتفع به من غير تقديرها بقيمة، كعنوان ما يشبع عشرة أنفس في الحنطة، وهذا المعنى يبقى إلى زمان الأداء. وأشكل على الأمر الأول، دون الثاني، وظاهره الرضا به. والاشكال على الأول: أولا: أن جعل الأداء غاية للضمان ملازم لاعتبار الضمان بما يمكن أداؤه، وشخص العين حين التلف لا يمكن أداؤه، فلا يعتبر الضمان به. وثانيا: أن الذمة ظرف للكليات لا الخارجيات. وثالثا: أن لازم ذلك: إما الالتزام بسقوط الضمان، وإما بعدم تعين قيمة يوم الأداء، لأن الخصوصية لو كانت مضمونة يسقط الضمان بالتلف، وإلا يلزم التكليف بما لا يطاق، ولو لم تكن مضمونة فلا موجب لتعين قيمة يوم الأداء (1). انتهى ملخصا. وفيه أولا: أن منشأ هذا القول ليس منحصرا في هذين الأمرين كما عرفت. وثانيا: أنا قد ذكرنا: أن أداء المثل أو القيمة نحو أداء للشئ عند العقلاء، وقد التزم به هو أيضا (قدس سره) في الأمر الرابع (2)، فيمكن اعتبار الشئ بخصوصيته في العهدة، ولا ينافي ذلك جعل الأداء غاية لضمانه، لامكان أدائه ولو ببعض الأنحاء. وأما ما ذكره: من أن الذمة ظرف للكليات لا الخارجيات فمخدوش من وجهين: أولا: لا يلزم في الضمانات أن تكون الذمة ظرفا للمضمون، بل يكفي تعلق العهدة به، نظير باب الكفالة حيث تعلقت عهدة الكفيل بالشخص الخارجي. وثانيا: أن الخارج بخارجيته ووجوده التكويني غير قابل لحصوله في
1 - منية الطالب 1: 147 / سطر 10. 2 - نفس المصدر 1: 149. 312 الذهن، إلا أن اعتبار الخارج في الذهن لا محذور فيه أبدا. وبما ذكرنا ظهر الجواب عما ذكره أخيرا، فإنه يمكن الالتزام بأن الخصوصية مضمونة، ومع ذلك لا يسقط الضمان بالتلف، وليس التكليف بالأداء من التكليف بما لا يطاق، لامكان أدائه بمثله أو قيمته، وأداء المثل أو القيمة نحو أداء لذلك الشئ. وأما ما ذكره من الأمر الثاني الذي قلنا: إن ظاهره رضاه (قدس سره) به، ففيه: أولا: أن قوام الشئ ليس بماليته، بل إنما هو بجميع الصفات الدخيلة في رغبات العقلاء بالنسبة إليه، بل مالية الشئ إنما يعتبر بلحاظ هذه الصفات، فلا يمكن دخلها في قوام الشئ. وثانيا: أن المالية ليست عبارة عما ذكره، مع أن ما ينتفع به وما يشبع عشرة أنفس اللذين بهما فسر المالية لا يتلائمان معها. وثالثا: أنه لو كان المضمون في الحنطة - مثلا - عنوان ما يشبع كما ذكره، فما وجه لزوم أداء الحنطة في مورد ضمانها، بل يكفي أداء الشعير أيضا، فإنه مصداق لهذا العنوان؟ ولو قيل: بأن المراد منه مصداق ما يشبع، وهو الحنطة، فهذا كر على ما فر منه، وهو اعتبار الشخص في العهدة، لا ما يقومه، وهو المالية. القول بقيمة يوم التلف وذكر المحقق الأصفهاني (قدس سره) في المقام: أن الصحيح الموافق للاعتبار لزوم قيمة يوم التلف، وإن قلنا بثبوت العين في العهدة في الضمان. وذكر في وجه ذلك ما حاصله: أن مالية العين لا تعين لها في نفسها، بل هي أمر مبهم تتعين بالإضافة إلى زمان أو مكان ومع الإضافة إلى ذلك، فتلك المالية مالية العين بقول مطلق، وحيث إن مالية العين في مقام الثبوت هكذا، فتعيينها في مقام الاثبات يحتاج إلى معين...
313 إلى أن قال في ذيل كلامه في وجه تعيين زمان التلف: إن مالية العين من زمان الأخذ إلى زمان التلف، مالية لم يكن معنى عهدتها إلا أداءها بأداء العين، لا تداركها بحصة مماثلة لها، ومالية العين ما دامت في العهدة بعد زمان التلف، مالية فرضية لا عروض للتلف عليها حتى يجب تداركها، بل فرضها بتبع فرض العين في العهدة، ومعناه لزوم تدارك العين لعدم سقوطها عن العهدة، فلم يبق إلا مالية العين في زمان التلف، وهي مالية واقعية معنى عهدتها تدارك العين بأدائها، فتعين لزوم أداء قيمة يوم التلف (1). هذا، وأما ما ذكره: من إبهام المالية وتعينها بالإضافة، وبعد الإضافة تكون المالية مالية العين بقول مطلق، فلا يساعد عليه الرجوع إلى اعتبار العقلاء في ذلك، فإن مالية الشئ بقول مطلق عندهم، ليست إلا المالية في زمان تبديله بالمال، أو سقوطه بأداء المال، وتعين المالية بالإضافة إلى هذا الزمان لا يحتاج إلى معين، بخلاف سائر الأزمنة، ولعله أظهر من أن يفصل. فعليه لا بد من أداء مالية العين بالإضافة إلى زمان الأداء فإن المفروض بقاء العين في العهدة إلى هذا الزمان، وماليتها بقول مطلق ليست إلا ماليتها بالإضافة إلى زمان سقوطها عن العهدة، وهو زمان الأداء. وأما ما ذكره: من أن المالية بعد زمان التلف، مالية فرضية بتبع فرض العين في العهدة (2)، فمبني على ما مر سابقا من توهم: عدم كون العهدة مالا حقيقة، وعدم اعتبار المالية لها إلا فرضا، وقد ظهر عدم تمامية هذا المبنى، وأن العقلاء كما يعتبرون المالية للأعيان الخارجية، كذلك يعتبرونها للذمم أيضا، غاية الأمر أن اعتبار المالية للذمم من جهة إمكان أدائها بأداء العين في الخارج (3)، ولذا في باب
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 100 / سطر 9 - 19. 2 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 100 / سطر 14. 3 - في الفارسية نقول مثلا: ارزش عهده به لحاظ پشتوانه است، نظير اسكناس. المقرر دامت بركاته. 314 السلم يبذل بإزاء العهدة مال، مع أن المال الخارجي غير موجود بالفعل، فالصحيح ما مر: من أنه بناء على اعتبار العين في العهدة إلى زمان الأداء، لها مالية باعتبار إمكان أدائها بأداء قيمتها، وماليتها بقول مطلق ليست إلا ماليتها في زمان الأداء، فلا بد من أداء قيمة ذلك الزمان (1). فقد تحصل مما مر: أن منشأ لزوم أداء قيمة يوم الأداء: هو الالتزام باشتغال الذمة بالعين إلى هذا اليوم، أو الالتزام باشتغالها بالمثل كذلك حتى في القيميات. القول بقيمة يوم القبض وأما منشأ لزوم أداء قيمة يوم الأخذ: فهو الالتزام باشتغال الذمة بالمثل في المثليات والقيمة في القيميات بمجرد الأخذ، وكون الضمان كذلك فعليا في زمان الأخذ، بدعوى استفادة ذلك من حديث اليد (2)، فإن ذلك يقتضي ظهور جعل العهدة بالأخذ، ولازم هذا القول سقوط المثل أو القيمة عن الذمة بأداء العين في صورة وجودها، عكس المبنى السابق في صورة تلفها حيث كانت تسقط العين عن الذمة بأداء المثل أو القيمة. وقد مر أن ظاهر دليل اليد ليس إلا جعل الضمان والعهدة، والضمان بنظر العقلاء هو تدارك الخسارة (3)، ويحصل ذلك تارة بأداء المثل، وأخرى بأداء القيمة، ولازم هذا المبنى في صورة وجود العين أمر تعليقي، وهو أنه لو تلفت العين فالذمة مشتغلة بالمثل أو القيمة، فلا منافاة بين كون الضمان فعليا، والاشتغال بالمثل أو القيمة تعليقيا، فعلى ذلك ليست الذمة مشتغلة بالقيمة في زمان الأخذ
1 - تقدم في الصفحة 239. 2 - تقدم في الصفحة 235. 3 - تقدم في الصفحة 239. 315 فعلا، حتى يتم ذلك المبنى. القول بلزوم أداء أعلى القيم وأما منشأ لزوم أداء أعلى القيم من زمان الأخذ إلى زمان التلف: فهو أن العين بجميع أوصافها الحاصلة تحت اليد مضمونة على الأخذ، ومن الأوصاف تفاوت القيمة السوقية. وقد مر الجواب عن ذلك، وقلنا: إن تفاوت القيمة السوقية بمجرده ليس من الأوصاف بنظر العقلاء، وإن كان منشؤه اختلاف الأوصاف بالدقة العقلية، والمعيار في أمثال المقام بناء العقلاء، لا الدقائق الفلسفية. وأما منشأ لزوم أداء أعلى القيم من زمان الأخذ إلى زمان الأداء فأمور ثلاثة: أحدها: ثبوت العين في العهدة في الضمانات. ثانيها: كون اختلاف القيمة السوقية مضمونا كسائر الأوصاف. ثالثها: كون اعتبار العين في العهدة محققا لاستيلاء الضامن على ذلك، وإلا فلا معنى لضمان اختلاف القيمة الحاصل بعد تلف العين. ولو سلمنا الأمرين الأولين فلا يمكن تسليم الأخير، لأن اعتبار العين في العهدة غير الاستيلاء والأخذ، بل يمكن أن يقال: إن العهدة مسلطة على الضامن، لا العكس، فإن المستفاد من كلمة على - المفيدة للعهدة - هذا المعنى. وبالجملة: نمنع صدق عنوان الاستيلاء على العهدة حتى تقع مضمونة بعد تلف العين، مع أنه يلزم من إثبات ضمان العهدة بدليل اليد، ما قيل في الأخبار مع الواسطة من استلزام ذلك كون دليل الحكم محققا لموضوع نفسه (1)، فإنه بتحقق اليد تثبت العهدة، فيتحقق الاستيلاء على الفرض، فلو قلنا بتطبيق دليل اليد على هذا
1 - كفاية الأصول: 341. 316 الاستيلاء لزم المحذور. ولا يمكن الجواب عن ذلك بما أجيب به في الأخبار مع الواسطة: من كون الدليل على نحو القضية الحقيقية، أو منحلة إلى قضايا متعددة (1)، لعدم مساعدة العرف والعقلاء هنا على ذلك وإن قلنا بمساعدتهم عليه هناك، فإن العقلاء لا يرون فرقا بين الأخبار مع الواسطة وبدون الواسطة في ترتيب الآثار، والواسطة مغفول عنها عندهم، بل يرون الأثر المخبر به أخيرا أثرا للخبر، من دون نظرهم إلى كونه مع الواسطة أو بدون الواسطة، بخلاف المقام، لأن المفروض أن كل استيلاء موضوع مستقل غير مغفول عنه، وتطبيق دليل واحد على الموضوع الأول، وإثبات موضوع نفسه وتطبيقه ثانيا على هذا الموضوع، أمر منكر بنظرهم، مع أن الالتزام بجعل العهدة على العهدة لا يمكن، وإلا يلزم التسلسل (2)، مع أنه لو سلمنا جميع ذلك، وعدم ورود شئ من الاشكالات، لكن الدليل منصرف عن الاستيلاء الحاصل من حكم الشارع بالضمان. المختار من الأقوال ودليله هذا، والمتحصل مما تقدم: عدم صحة شئ من هذه الأقوال، والصحيح هو الضمان بقيمة يوم التلف، لظهور دليل اليد وغيره في ذلك، لأن معنى الضمان على ما حقق سابقا: أنه لو تلف لزم التدارك بالمثل في المثليات والقيمة في القيميات، والقيمة بقول مطلق عند العقلاء في مثل هذا الكلام قيمة يوم التلف، وغيرها يحتاج إلى قيد ومؤونة زائدة (3) (4).
1 - نهاية الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) البروجردي 3: 124. 2 - الظاهر عدم ورود هذا الاشكال، ويظهر بالتأمل. المقرر دام عزه. 3 - تقدم في الصفحة 239. 4 - قد مر تقريب وجه الضمان بقيمة يوم الأداء حتى على هذا المبنى المشهور من معنى الضمان المستفاد من دليل اليد. فراجع. المقرر دامت بركاته. 317 الاستدلال بالروايات على المختار هذا بحسب القواعد، وأما بحسب الروايات فهنا عدة روايات: منها: صحيحة أبي ولاد (1) ونتكلم في كل فقرة منها: الكلام في الفقرة الأولى قوله (عليه السلام) في جواب سؤال أبي ولاد: أرأيت لو عطب البغل أو نفق أليس كان يلزمني؟: نعم قيمة بغل يوم خالفته. كلام الشيخ في فقه الرواية ذكر الشيخ (رحمه الله): الظاهر أن اليوم قيد للقيمة: إما بإضافة القيمة المضافة إلى البغل إليه ثانيا، يعني قيمة يوم المخالفة للبغل، فيكون إسقاط حرف التعريف من البغل للإضافة، لا لأن ذا القيمة بغل غير معين... إلى أن قال: وإما بجعل اليوم قيدا للاختصاص الحاصل من إضافة القيمة إلى البغل (2). انتهى. مناقشة المحقق الخراساني لكلام شيخه وقد أشكل صاحب الكفاية (قدس سره) في تعليقته على المكاسب على كلام الشيخ،
1 - الكافي 5: 290 / 6، تهذيب الأحكام 7: 215 / 943، الاستبصار 3: 143 / 483، وسائل الشيعة 13: 256، كتاب الإجارة، أبواب الإجارة، الباب 17، الحديث 1. 2 - المكاسب: 110 / السطر 14. 318 وقال: قوله (رحمه الله): وإما بإضافة القيمة المضافة إلى البغل ثانيا... إلى آخره فيه إشكال، فإن إضافة المضاف بما هو مضاف ثانيا، يستلزم أن تكون الإضافة - بما هي إضافة - ملحوظة باللحاظ الآلي طرفا لها وملحوظة على الاستقلال، فإنها من مقوماته في الإضافة الثانية، ولو كان المراد إضافته ثانيا لا بما هو كذلك، لزم أن يكون حين التلفظ به طرفا لهذا على حدة ولذاك كذلك، وهذا يستلزم أن ينظر إليه ذلك الحين بالنظرين المتباينين، ضرورة تنافي النظر إليه بما هو مضاف لأحدهما مع النظر إليه بما هو مضاف للآخر كما لا يخفى على من تدبر، مع أنه غير مفيد، فإنه لا يوجب اختصاص قيمة البغل بيوم المخالفة. وقد انقدح بذلك حال إضافة مجموع المضاف والمضاف إليه، فإنه لا بد فيها من ملاحظة الإضافة الأولى ثانيا على حدة، لكونها من مقومات المضاف في الثانية. اللهم إلا أن لا يكون اللحاظ الثاني الاستقلالي حين اللحاظ الآلي - وهو حال التلفظ بالمضاف والمضاف إليه في الأولى - بل بعده، بأن يكون إضافة المجموع أو إضافة المضاف منه ثانيا بحسب المعنى (1). انتهى. مناقشة المحقق الأصفهاني لكلام الشيخ وتبعه في ذلك تلميذه المحقق (رحمه الله)، وذكر في هذا المقام: أنه كان اللازم تأويل كلام الشيخ، بأن مراده من الإضافة هنا هي الإضافة رتبة ولبا، لا الإضافة لفظا، ولا مفهوما. أما وجه عدم إمكان كون المراد هي الإضافة لفظا، فلعدم تعدد اللفظ المضاف إلى البغل وإلى اليوم، بل ليس إلا لفظ واحد، وقد أضيف إلى البغل فقط. وأما منع كون الإضافة مفهومية، فلأنه يلزم اجتماع اللحاظين في لحاظ
1 - حاشية المكاسب، المحقق الخراساني: 41. 319 واحد، لأن ملاحظة مفهوم إضافة القيمة إلى اليوم على نهج خاص به، وملاحظة مفهوم إضافة القيمة إلى البغل على نهج خاص به كان بنحو اللحاظ الآلي، وهذا يتبع المفهومين الملحوظين باللحاظ الاستقلالي، ولا يعقل ملاحظة مفهوم القيمة مع مفهومين - مترتبين في مرحلة الاستعمال - في استعمال واحد متقوم بلحاظ واحد. هذا إذا أريد إضافة ذات القيمة إلى اليوم، كما أضيفت بذاتها إلى البغل. وأما إذا أريد إضافة القيمة إلى اليوم بما هي مضافة، فيزيد على الاشكال السابق - من اجتماع اللحاظين في لحاظ واحد - إشكال آخر: وهو اجتماع اللحاظ الآلي مع اللحاظ الاستقلالي، لأن لحاظ إضافة القيمة إلى البغل لحاظ آلي، قد اجتمع مع لحاظ إضافة القيمة وما بعدها إلى اليوم، وهذا لحاظ استقلالي، وإلا فالملحوظ باللحاظ الآلي لا يعقل إضافته، لأن المفهوم الحرفي لا يقع طرفا، كما أن إضافة مجموع المضاف والمضاف إليه إلى اليوم كذلك (1). انتهى. هذا محصل الاشكال العقلي على كلام الشيخ (رحمه الله). رد مناقشتي العلمين لكلام الشيخ ولكن لا يرد عليه شئ من ذلك، فإنه قد مر سابقا: أنه لا يعقل في مقام استعمال اللفظ إلا لحاظ نفس معناه، والمعاني المركبة إنما تفهم من تعدد الدال والمدلول، ففي إضافة غلام إلى زيد لا يلحظ زيد حال استعمال غلام، بل إنما يلحظ معناه فقط، ولا يلحظ غلام حال استعمال زيد، بل إنما يلحظ معناه فقط، وباستعمال هذه الهيئة الخاصة لا يلحظ إلا نفس معناه، وهو المعنى الربطي، غاية الأمر أن اللحاظين الأولين استقلاليان، وهذا اللحاظ آلي.
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 100 / سطر 34. 320 ولو أريد من الإضافة لحاظ المضاف حال لحاظ المضاف إليه وإضافته إليه في هذا الحال، فهذا غير ممكن، لأن حال لحاظ غلام والتلفظ به لم يتلفظ ب زيد ولم يلحظ بعد، وحال لحاظ زيد والتلفظ به انعدم التلفظ ب غلام ولحاظه، فلا مورد لاجتماعهما معا. فعلى ذلك ظهر دفع جميع ما ذكر من الاشكالات المتقدمة، فإن حال استعمال القيمة لم يلحظ إلا معناها، كما أن حال استعمال البغل واليوم أيضا كذلك، وإضافة القيمة إلى البغل وإضافتها إلى القيمة تفهمان من الهيئتين، هيئة إضافتها إلى الأول وهيئة إضافتها إلى الثاني. والحاصل: أن قبل استعمال الألفاظ يتصور المتكلم ما يريد إفهامه، وبعد ذلك يبرزه باللفظ، ويفهمه المخاطب بتعدد الدال والمدلول، ولا يلزم شئ من اجتماع اللحاظين المتنافيين - أو الآلي والاستقلالي - لا قبل الاستعمال ولا حاله، وهذا ظاهر. أترى أنه لو قال: غلام زيد وعمرو لزم منه محذور؟! فمع قطع النظر عن الاشكال اللغوي والعرفي، لم يكن إشكال في مثل إضافة غلام زيد عمرو أيضا. الصحيح في الاشكال على الشيخ فالأولى الاشكال على كلام الشيخ بالاشكال اللغوي: وهو أن إضافة شئ واحد إلى أمرين مترتبين بالإضافة، غير معهود في اللغة والعرف، مضافا إلى أن ظاهر تتابع الإضافات فيما لم تكن قرينة على الخلاف، تخصيص المضاف الأول بالثاني، وتخصيص المضاف الثاني بالمضاف إليه، فيكون مفاد الإضافة في المقام: أنه لا بد من أداء قيمة بغل يوم المخالفة، لا أداء قيمة يوم المخالفة للبغل. نعم، لو لم يكن وجه لإضافة البغل إلى اليوم أمكن القول بإضافة القيمة إليه، وأما مع
321 الوجه المعتبر في هذه الإضافة، وهو كون البغل معرضا للهزال وغيره في مثل هذا السفر، ولذا يكون الاعتبار بقيمة بغل يوم المخالفة، فلا وجه للالتزام بإضافة القيمة إلى اليوم. ولعل الشيخ (رحمه الله) أيضا أراد بإضافة القيمة إلى اليوم هذا المعنى، وهو الإضافة مع الوسط لا بالذات، والشاهد على ذلك قوله: إسقاط حرف التعريف. وكيف كان فقراءة هذه العبارة بدون إضافة البغل إلى اليوم أولى منها مع هذه الإضافة بالنظر العرفي. وهذا هو الوجه الثاني في كلام الشيخ (قدس سره) بقوله: قيدا للاختصاص. ومما ذكرنا ظهر: عدم ورود الاشكال على هذا الوجه بأن الاختصاص معنى حرفي، وهو غير قابل للتقييد، وإلا يلزم الجمع بين اللحاظين، فإن التقييد يستفاد من الهيئة، ولا يلزم الجمع في مقام الاستعمال ولا قبله كما مر، مع أن لحاظ المعنى الحرفي ثانيا باللحاظ الاستقلالي - لأجل التقييد - لا مانع منه، مضافا إلى أن جل القيود الواقعة في الكلام راجع إلى مفاد الهيئات، والتفصيل موكول إلى محله. التحقيق في فقه الرواية والتحقيق أن يقال: إن تعلق الظرف بالقيمة أن يكون فيه الاختصاص أو البغل، خلاف القواعد العربية والمحاورات العرفية، بل الظاهر تعلقه بفعل أو شبه فعل، وليس في المقام إلا نعم القائم مقام ما هو المفروض في كلام السائل فكأن العبارة هكذا: لو عطب البغل أو نفق يلزمك قيمة بغل يوم خالفته بمعنى أنه يلزمك يوم المخالفة قيمة البغل لو عطب أو نفق. فهذا المعنى التعليقي يتعلق بالعهدة ومبدؤه يوم المخالفة، وليس هذا إلا ما ذكرنا من مفاد حديث اليد (1).
1 - تقدم في الصفحة 235. 322 فالمتحصل من الرواية: أنه لا بد من أداء قيمة يوم التلف، لأن القيمة المطلقة المعلقة على فرض التلف ظاهرة في هذه القيمة، وقد مر ذلك في دليل اليد. هذا على تقدير عدم إضافة البغل إلى اليوم، وأما على تقدير الإضافة فقد مر أن ظاهره لزوم أداء قيمة بغل يوم المخالفة، لا قيمة يوم المخالفة للبغل، ومع ضمه إلى مفروض السؤال تنتج النتيجة السابقة، مع أن هذه القراءة غير معهودة عرفا كما سبق. والحاصل: أن سؤال أبي ولاد متكفل بجهتين: الأولى: السؤال عن أصل الضمان. والثانية: ارتكاز السائل بأنه على تقدير الضمان لا بد من دفع قيمة يوم التلف، وهذه تستفاد من ظاهر التعليق. ثم إن الإمام (عليه السلام) أجاب عن الوجه الأول بثبوت الضمان، وقرر الوجه الثاني ولم يردع عنه، فيستفاد من ضم الجواب إلى السؤال وما هو مرتكز السائل - المستفاد من ظهور الجملة التعليقية في السؤال - أن الضمان ثابت من يوم المخالفة، وأنه لو عطب أو نفق لا بد من أداء القيمة، ووجه ذكر يوم المخالفة دفع احتمال أن مبدأ الحكم بالضمان يوم الأخذ، وإثبات أن مبدأه يوم الغصب والمخالفة نظير مفاد حديث اليد. وقد ظهر مما ذكرنا ما في كلام المرحوم النائيني: من أن الصحيحة تدل على أن المدار قيمة يوم الأخذ حتى على القول بتعلق الظرف ب نعم، بدعوى: أنه على هذا الفرض تدل الصحيحة بالالتزام على لزوم قيمة يوم المخالفة، لأن مالية المال إذا قدرت بالقيمة يوم المخالفة، فلا محالة تكون القيمة قيمة ذلك اليوم، لأنه لا يعقل أن يكون الضمان بقيمة يوم المخالفة فعليا، ويقدر قيمة يوم ما بعد المخالفة (1).
1 - منية الطالب 1: 148 - 149. 323 وأنت خبير بأن فرض تعلق الظرف ب نعم مناف للقول بتقدير القيمة بيوم المخالفة، بل تصبح القيمة قيمة بقول مطلق، وتعليقها بالتلف ينتج لزوم قيمة يوم التلف، كما مر تفصيله. الكلام في الفقرة الثانية قوله (عليه السلام): عليك قيمة ما بين الصحة والعيب يوم ترده (1) في جواب سؤال أبي ولاد: فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو غمز، والمعروف والمتداول في الكتب وجود كلمة يوم فيها، وحكي عدمها (2) أيضا. الكلام في أداء المغصوب صحيحا بعد تعيبه وكيف كان، فقبل بيان المحتملات في هذه العبارة وبيان المختار منها، نتعرض لفرع ذكره الشيخ (رحمه الله) في المقام (3): وهو أنه لو حدث عيب في المغصوب، ثم زال عنه، وأدى صحيحا، هل يكفي ذلك في رفع ضمان الوصف، أو لا؟ أقوال ثالثها - وهو الحق - التفصيل في أقسام العيوب، فلو كانت الصحة الحادثة بعد التعيب عود نفس الصحة السابقة بنظر العرف، فلا ضمان، كما إذا نسي العبد المغصوب الكتابة ثم تذكر، بخلاف ما إذا كانت وصفا حادثا بعد زوال الوصف الأول عرفا، كما إذا خربت الدار، ثم بناها كسابقها. والوجه في ذلك: صدق الأداء في الأول دون الثاني، فإن الأداء أخذ غاية للضمان في حديث اليد، بل في الاتلاف أيضا كذلك وإن لم يؤخذ الأداء غاية له فيه، فإنه بأداء نفس المغصوب يرتفع الضمان بنظر العقلاء، وهذا واضح. فما ذكره
1 - تقدم في الصفحة 318. 2 - جواهر الكلام 37: 102. 3 - المكاسب: 110 / سطر 25. 324 المحقق الأصفهاني (قدس سره): من عدم الضمان مطلقا (1)، نظرا إلى أن إعادة المعدوم وإن كانت مستحيلة عقلا، لكنها جائزة عقلا، وما ذكره المرحوم النائيني (قدس سره) من الضمان مطلقا (2)، نظرا إلى أن الحادث وصف ثان طارئ على زوال الوصف الأول، ظهر الكلام فيهما. الاحتمالات المتصورة في هذه الفقرة وأما احتمالات العبارة فكثيرة تبلغ اثني عشر، حاصلة من ضرب احتمالين في عليك، في احتمالات ثلاثة في متعلق الظرف، في احتمالين في مرجع ضمير ترده، فإن مفاد عليك: إما وضعي أو تكليفي، والمتعلق: إما عليك أو القيمة أو العيب، والمرجع: إما البغل أو الأرش، ويختلف المعنى على هذه التقادير، كما هو ظاهر. الاشكالات الواردة على هذه الاحتمالات وهنا إشكالان مشتركا الورود في جميع هذه الاحتمالات: الأول: لازم جميع هذه الاحتمالات أن يكون الضمان معلقا على حصول الرد، فمع عدم حصوله لا ضمان: أما على تعلقه ب عليك فظاهر، وأما على تعلقه ب القيمة أو العيب، فلعدم تحقق قيمة يوم الرد، وعدم ثبوت التفاوت بين الصحة وعيب يوم الرد، فلا موضوع للضمان على أي تقدير، وهذا كما ترى. الثاني: لازم ذلك أن يكون المضمون قيمة تقديرية وفرضية، لا حقيقية: أما على تعلقه ب القيمة أو العيب، فالضمان الفعلي متعلق بالقيمة الثابتة
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 102 / سطر 28. 2 - منية الطالب 1: 150 / سطر 19. 325 فيما بعد، ولا يمكن إلا بالفرض والتقدير. وأما على تعلقه ب عليك فالضمان في يوم الرد متعلق بالقيمة المتقدمة على ذلك اليوم، وهو يوم تلف الوصف (بالتقريب المتقدم في دليل اليد والفقرة الأولى). وهذا أيضا لا يمكن إلا بالفرض والتقدير، وهو أيضا كما ترى. وهنا إشكال مختص ببعض هذه الاحتمالات: وهو أنه على تقدير تعلق الظرف ب عليك يلزم ثبوت الضمان حال الرد (فإن اليوم لأدخل له في ذلك)، ولازمه اجتماع الثبوت والسقوط في حال واحد، ودخل أمر واحد - وهو الرد - في الثبوت والسقوط معا، وهذا أيضا كما ترى. ولكن هذه الاشكالات إنما تلزم على المداقة في كلمات الرواية، ولحاظها بالدقة الخارجة عن المتعارف، وأما لحاظها على وفق المتفاهم العرفي في الرواية، فيقتضي عدم دخل اليوم في المطلب أصلا، بل معناه أنه لا بد من رد الأرش يوم رد البغل (1). وأما تعليق الضمان باليوم أو القيمة أو العيب به، فلا يفهم عرفا منه، فإذن بضميمة الجواب إلى السؤال نستفيد ما ذكرناه في الفقرة الأولى بلا زيادة ونقصان. في جواب بعض المحققين على الاشكالات ذكر بعض المحققين في المقام: أن الظرف متعلق ب عليك، وأجاب عن الاشكالات المتقدمة: بأن الظرف لبيان استقرار الوضع أو التكليف يوم الرد، فيفيد فائدة عود الظرف إلى العيب، وتكون هذه الفقرة ساكتة عن يوم القيمة، فيرجع إلى ما تقتضيه القاعدة في الضمانات (2). انتهى.
1 - في الفارسية نقول: هنگامى كه خواستى قاطررا بدهى، آن تفاوت را هم بده. المقرر حفظه الله. 2 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 103 / سطر 1. 326 لكن ما ذكره خلاف ظاهر الرواية، فإن تعلق اليوم ب عليك يقتضي ثبوت أصل الضمان في ذلك اليوم، لا استقراره. الكلام في الفقرة الثالثة قوله (عليه السلام) في جواب سؤاله: ومن يعرف ذلك؟: أنت وهو... إلى آخره. والفقهاء رحمهم الله أرجعوا ذلك إلى قيمة البغل المذكورة في الفقرة الأولى، ولذا وقعوا في حيرة والتباس، بأنه يلزم قبول قول المالك مع يمينه مع أنه مدع حينئذ، ولزوم الجمع بين قبول يمينه وقبول بينته مع أنه إما منكر أو مدع (1). وفصل الشيخ (رحمه الله) بما فصل، وجعل هذه الفقرة مؤيدة لثبوت قيمة يوم التلف (2). وذكر صاحب الكفاية (قدس سره)، وتبعه تلميذه المحقق (قدس سره): أن الحلف هنا ليس اليمين في باب القضاء، بل يكون الحلف المتعارف (3). وذكر بعضهم: أنه لا ضير في تخصيص أدلة باب القضاء بهذه الرواية في مورد الغصب أو غصب البغل (4)، مع أن الظاهر من الرواية رجوعها إلى ما يليها، وهو قيمة التفاوت المذكورة في الفقرة الثانية، ويمكن تقريبها على مقتضى قواعد باب القضاء، فإن الاختلاف في هذا التفاوت يتصور على ثلاث صور بالطبع: فإنه إما أن يكون النزاع في قيمة المعيب مع موافقتهما في الصحيح، وإما بالعكس، وإما كلا الأمرين. أما على الأولى: فالقول قول المالك، لأنه ينكر زيادة قيمة المعيب طبعا طلبا
1 - الحدائق الناضرة 21: 595، جواهر الكلام 37: 223 - 224، المكاسب: 110 - 111، حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 105 / سطر 19. 2 - المكاسب: 111 / سطر 1. 3 - حاشية المكاسب، المحقق الخراساني: 43، حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 103 - 104. 4 - حاشية المكاسب، الإيرواني 1: 102 / سطر 26. 327 لزيادة الأرش. وأما على الثانية: فالقول قول الضامن، لأنه ينكر زيادة قيمة الصحيح حتى لا يدفع هذه الزيادة. وعلى الثالثة: فكل منهما منكر ومدع، ويظهر حكمها من الصورتين الأوليين، فإذا أرجعنا ذلك إلى قيمة التفاوت يحكم على طبق حلف المالك على الأولى، وعلى طبق بينته على الثانية، وصريح الرواية أيضا هذه الصورة على تقدير قبول بينته، فإن البغل يوم الاكتراء صحيح بحسب الفرض، ولم يتعرض في الرواية لحكم الصورة الثالثة لظهور حكمها من الصورتين. هذا مضافا إلى أن القاعدة المعروفة في باب القضاء: من أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر (1) قاعدة عقلائية مرتكزة في الأذهان، وهذا الارتكاز أيضا موجب لصرف الرواية إلى ما ذكرناه، واحتمال ذلك أيضا كاف في عدم جواز تخصيص العمومات، مع أن هذا التخصيص مما لا يمكن الالتزام به، بل لعله مستبشع، فإن تخصيص القاعدة العقلائية بغير الغصب أو البغل - مثلا - مما يعد تخصيصا منكرا عندهم، كما أن حمل الحلف على خلاف الحلف في باب القضاء خلاف الظاهر جدا. والحاصل: أنه لو دار الأمر بين ما ذكرناه وما ذكره القوم، فما ذكرناه أوفق بقواعد باب المحاورة، وأقل محذورا مما ذكروه، وعليه فلا تدل هذه الفقرة على اعتبار شئ من قيمة يوم الغصب أو التلف أو غير ذلك (2).
1 - علل الشرائع: 190 / 1، تفسير القمي 2: 156، الاحتجاج: 92، وسائل الشيعة 18: 215، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، الباب 25، الحديث 3. 2 - فإن ذكر يوم الاكتراء من جهة سهولة الاشهاد عليه، مع أنه دليل على أن الرواية غير ناظرة إلى شئ من القيم المذكورة، لعدم العبرة بقيمة يوم الاكتراء إجماعا، بل لم يفرض في الرواية اختلاف قيمة حتى نحتاج إلى التقييد. المقرر حفظه الله. 328 كلام حول الفقرة الأخيرة من الرواية بقي شئ مذكور في آخر هذه الرواية: وهو أن رضا المالك - بتوهم صحة فتوى أبي حنيفة بما أعطاه أبو ولاد - لا يكفي في رفع ضمانه ما لم يجعله في حل بعد إخباره بما ذكره الصادق (عليه السلام). وهذا يقتضي تعميم الحكم في نظائر ذلك، كما إذا رضي بدخول شخص في داره بتوهم أنه صديقه مع أنه عالم بخلافه، وغير ذلك من الأمثلة، خلافا لبعض الفقهاء، حيث أفتوا بحصول الرضا وجواز التصرف وعدم لزوم الأخبار بالواقع. في إمكان إسراء الحكم من الغصب إلى المقبوض بالعقد الفاسد ثم إنه هل يمكن إسراء الحكم من مورد الرواية - وهو الغصب - إلى محل كلامنا، وهو المقبوض بالعقد الفاسد، أم لا؟ أما على ما اخترناه: من أن عهدة قيمة يوم التلف في جميع أبواب الضمانات عقلائية ويقتضيها أيضا دليل اليد وإطلاقات أدلة الضمان - على تقريب قد مر - فلا نحتاج إلى الأسراء كما لا يخفى. ولو فرضنا انحصار دليل ذلك بهذه الرواية، فيمكن أيضا تعميم الحكم في جميع الموارد والتعدي عن مورد الرواية، وذلك لعدم احتمال الخصوصية في الغصب، فإنه لو كان المضمون على نحو احتمل خصوصية الغصب لذلك، كأعلى القيم - مثلا - لم يكن وجه لالغاء الخصوصية، بخلاف ما لم يكن كذلك، مثل قيمة يوم التلف، فقد تكون أنقص من غيرها، وقد تكون أزيد، وقد تساوي ذلك، فعليه لا بد من إلغاء الخصوصية لفهم العرف موضوعية الضمان لقيمة يوم التلف، بلا دخل لخصوصية الغصب فيها، كما مر نظير ذلك في المباحث السابقة، ومثلنا
329 لذلك بمثل رجل شك بين الثلاث والأربع، وأصاب ثوبه دم رعاف (1)، فراجع. الاستدلال للمقام بروايات باب الرهن ومنها: بعض الروايات الواردة في باب الرهن، الدالة على أنه لو ضاعت العين المرهونة أو عطبت يترادان الفضل (2). وظاهر ذلك تعلق قيمة يوم الضياع أو العطب على العهدة والتهاتر وتراد الفضل. ذكر المرحوم النائيني (رحمه الله): أن هذه الروايات واردة في مورد الاتلاف (3)، فلا يمكن التعدي عنها إلى التلف. مع أنه لو سلمنا إطلاقها فلا بد من فرض التعدي أو التفريط، وإلا فالمرتهن لا يضمن بدونهما، فيخرج أيضا عن مفروض البحث، وهو التلف، لكن الروايات بعضها صريحة في مورد التلف، لا الاتلاف، أترى أن ضاع أو عطب مصداق للاتلاف؟! ثم إن ما ذكره: من الخروج عن صدق التلف لو سلم الاطلاق، لأن الضمان في باب الرهن مشروط بالتعدي أو التفريط (4)، فغريب، فإن التعدي والتفريط يخرج اليد عن الأمانية ويدخلها في العادية ويد الضمان، لا أنه يوجب عدم صدق عنوان التلف. فالصحيح دلالة هذه الروايات على المطلوب، والتعدي عن مورد الرهن إلى سائر أبواب الضمانات بإلغاء الخصوصية، على التقريب المتقدم.
1 - تقدم في الصفحة 48. 2 - تقدم في الصفحة 308. 3 - منية الطالب 1: 153 / سطر 12. 4 - نفس المصدر. 330 الاستدلال بروايات من أبواب متفرقة وهنا عدة من الروايات في الأبواب المتفرقة (1) دالة على ذلك، بحيث لو لوحظت مع ما هو المرتكز في أذهان العقلاء في الضمان لا يشك فيه. نعم، هنا روايات في نكاح البهيمة، ظاهرها يوهم خلاف ذلك، فإن مضمونها: قومت وأخذ ثمنها منه، ودفع إلى صاحبها وذبحت... (2) إلى آخره. وظاهر ذلك يوهم أن التقويم بقيمة يوم الذبح، والحال أن الافساد من يوم الاتيان بها، ولكن لو بنينا على عدم إزالة الملك بالاتيان بها، فالروايات أجنبية عن محل كلامنا، بل مفادها حكم تعبدي برد القيمة والذبح في ما يؤكل لحمه، والاخراج في ما يركب ظهره. ولو بنينا على إزالة الملك فالرواية دالة على أن سبب التغريم هو الوطء، فلا تكون ظاهرة في غير قيمة يوم الوطء، وهو يوم الافساد، بل هذه الروايات غير ناظرة إلى مورد تفاوت القيمة، ولا تكون في مقام البيان من جهة تعيين يوم القيمة، فلا يمكن دعوى ظهورها في شئ من ذلك. فالمتحصل من جميع ما مر: أن ضمان القيميات بقيمة يوم التلف، وذلك أولا من جهة ما هو المرتكز عند العقلاء في أبواب الضمانات بلا ردع من الشارع. وثانيا: ظهور إطلاق أدلة الضمانات، نظير دليل اليد وقاعدة الاتلاف. وثالثا: الأدلة الدالة على ذلك بظهور كالصريح، وما توهم مخالفته لذلك - نظير صحيحة أبي ولاد، وبعض ما في نكاح البهيمة - عرفت حاله، وأنه على ما
1 - تقدم في الصفحة 309 - 310. 2 - الكافي 7: 204 / 3، تهذيب الأحكام 10: 60 / 218، الاستبصار 4: 222 / 831، وسائل الشيعة 18: 570، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب نكاح البهائم، الباب 1، الحديث 1. 331 ادعيناه أدل من غيره (1). وجوه تقريب الضمان بأعلى القيم ثم إنه لا بأس بالتعرض لبعض ما يقال في تقريب كون الضمان بأعلى القيم من يوم الأخذ إلى يوم التلف، وهي وجوه: الاستدلال بصحيحة أبي ولاد ومناقشته منها: التمسك بصحيحة أبي ولاد: قيمة بغل يوم خالفته (2). وتقريبه: أما على كون القيد متعلقا ب نعم، ليكون مفاد العبارة نظير حديث اليد كما مر، فما هو مضمون ليس قيمة مطلق البغل، وإن كان خاليا عن اللام، ومنكرا، وهذا واضح. بل المضمون قيمة البغل المشابه للتالف في جميع الصفات، ومنها علو القيمة فيضمن. وأما على كون القيد متعلقا بالقيمة، فلا نحتمل دخل خصوص اليوم أو عنوان يوم خالفته في الضمان، بل الموضوع للضمان هو الاستيلاء على مال الغير عدوانا، فهذا القيد مشير إلى موضوع الضمان، وهو الاستيلاء بغير حق، فيكون مفاد العبارة: أنه لا بد من أداء قيمة البغل المستولي عليه عدوانا، وحينئذ نقول: إن
1 - قد مر أن الأقوى هو الضمان بقيمة يوم الأداء، لا لما ذكره السيد (رحمه الله): من اعتبار العين في العهدة (أ)، بل لما ذكرنا: من أن المعنى التعليقي المشهور في معنى الضمان أيضا يقتضي ذلك، فإنه بالتلف تثبت قيمة العين إلى الذمة عنوانا لا مصداقا، نظير إرث الزوجة لقيمة الأعيان، وهذا لا ينافي المرتكز عند العقلاء والروايات. المقرر دامت بركاته. أ - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 96 / سطر 26 و 99 / سطر 25. 2 - تقدم في الصفحة 318، الرقم 1، أنظر مسالك الأفهام 2: 209، وجواهر الكلام 37: 103. 332 المضمون ليس قيمة مطلق البغل، بل قيمة البغل المشابه للتالف في جميع الأوصاف، ومنها علو القيمة فيضمن. والجواب عن هذا قد تقدم في تقريب دليل اليد على الضمان بأعلى القيم: من أن ظاهره تعلق قيمة العين بجميع صفاتها بالعهدة، ومنها علو القيمة، وقلنا: بأن القيمة يقدر بإزاء المضمون، فلا يعقل كونه مضمونا، لرجوعه إلى لزوم رد قيمة القيمة، على أن علو القيمة ليس من الأوصاف الدخيلة في ضمان الشئ بنظر العقلاء، ولذا لو أدى العين في صورة وجودها بعد تنزل القيمة لا يطالب بالنقص (1). وقد ذكر بعض المحققين وجها - في تقريب دلالة الصحيحة على كون الضمان بأعلى القيم -: وهو أن كل يوم من أزمنة الغصب هو يوم المخالفة، وإذا دفع أعلى القيم فقد دفع قيمة يوم المخالفة بقول مطلق، لدخول الأدنى تحت الأعلى، وإذا أدى غير هذه القيمة فقد أدى قيمة بعض أيام المخالفة (2). ثم استشكل على ذلك: بأن مقتضى إطلاق الصحيحة قيمة مطلق يوم المخالفة، لا قيمة يوم المخالفة بقول مطلق، فإن تعين اللا بشرط القسمي وإن كان على حد تعين البشرط شئ عقلا، إلا أن الأول كأنه لا يزيد على الطبيعة بشئ عرفا، بخلاف الثاني، فإنه نحو تعين يجب التنبيه عليه (3). وببالي أنه (قدس سره) ذكر في باب الاطلاق والتقييد نظير ذلك، وأن المطلق موضوع للماهية اللا بشرط القسمي عرفا وإن احتاج إلى التقييد عقلا (4). أما ما ذكره من الوجه فخلاف ظاهر الصحيحة، كما اعترف به.
1 - تقدم في الصفحة 315. 2 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 104 / سطر 11. 3 - نفس المصدر / سطر 12. 4 - نهاية الدراية 2: 493 / سطر 15. 333 وأما ما ذكر في الاستشكال وفي باب الاطلاق والتقييد: من أن ظاهر المطلق أنه موضوع للماهية اللا بشرط القسمي فقد مر عدم إمكان المساعدة عليه، وأن المطلق موضوع لنفس الماهية والطبيعة (1) التي سموها بال لا بشرط المقسمي، وكل من الاطلاق والتقييد محتاج إلى التقييد. وأما دعوى أن اللا بشرط القسمي لا يغاير المقسمي عرفا فعلى مدعيها، بل التقسيم - كما ذكرنا في الأصول - تقسيم واقعي، والمقسم مغاير للأقسام، فراجع. تقريب الشيخ لضمان أعلى القيم ومنها: ما ذكره الشيخ (رحمه الله) في تقريب ذلك: وهو أن للعين - في كل زمان من أزمنة تفاوت قيمتها - مرتبة من المالية أزيلت يد المالك عنها، وانقطعت سلطنته عنها، فإن ردت العين فلا مال سواها يضمن، وإن تلفت استقرت عليا تلك المراتب، لدخول الأدنى تحت الأعلى (2). لكن يرد عليه: أن علو القيمة لو كان من الأوصاف الموجبة للضمان، فلا وجه لعدم ضمانه في صورة رد العين، وإلا فلا وجه لضمانه في صورة تلف العين، مع أن الحيلولة لا توجب الضمان لعدم الدليل عليه، بل الضمان يدور مدار شمول دليل اليد أو الاتلاف، وقد عرفت مقتضاهما. تمسك السرائر للمقام بأصالة الاشتغال ومناقشته ومنها: ما حكى الشيخ (قدس سره) عن السرائر: وهو التمسك بأصالة الاشتغال، لاشتغال ذمته بحق المالك، ولا تحصل البراءة إلا بالأعلى.
1 - مناهج الوصول 2: 233 - 232. 2 - المكاسب: 111 / سطر 17. 334 ثم قال: وقد يجاب: بأن الأصل في المقام البراءة، حيث إن الشك في التكليف بالزائد. نعم، لا بأس بالتمسك باستصحاب الضمان المستفاد من حديث اليد (1). ولا يخفى أن مقتضى الأصل يختلف على مبنى ثبوت العين أو المثل في العهدة عنه على مبنى ثبوت القيمة في العهدة في ضمان القيميات، فإن الشك على الأول يرجع إلى الشك في سقوط الذمة بأداء الأدنى، والشك على الثاني راجع إلى الشك في ثبوت الأعلى في الذمة، والأول مجرى الاشتغال، والثاني مجرى البراءة. وحيث إن مبنى الشيخ هو الثاني - كما عرفت - فلا وجه لما ذكره من الاستصحاب، فإن ما هو متيقن الثبوت في العهدة هو الأدنى، والأعلى مشكوك من الأول، والجامع - وهو عنوان القيمة أو غيرها - ليس بحكم شرعي، ولا موضوع ذي حكم. نعم، لو قلنا بأن المضمون في القيميات هو عنوان القيمة - لا واقعها - رجع الشك إلى الشك في سقوط الذمة بأداء الأدنى، وأمكن القول باستصحاب اشتغال الذمة بهذا العنوان، إلا أن الشأن في إثبات ذلك، وهو (قدس سره) أيضا غير ملتزم به، فعلى الصحيح - وهو تعلق القيمة بالعهدة في القيميات - يرجع إلى البراءة عن الأعلى. ثم إنه يمكن أن يقال بالرجوع إلى البراءة، على مبنى ثبوت العين أو المثل في العهدة أيضا بتقريب: أن الثابت في الذمة لا يسقط بأداء البدل، وهو القيمة، ووجوب أداء القيمة تكليف جديد من باب تعذر أداء العهدة، فالثابت أولا لا يسقط، والثابت ثانيا أمره مردد بين الأقل والأكثر يرجع فيه إلى البراءة. ولكن يرد عليه: أن بقاء العهدة بعد أداء القيمة لغو محض، لأن المفروض عدم التمكن من أدائها، بل الظاهر من الأدلة أن دفع القيمة مسقط للذمة، ووجوب دفعها إنما يكون من هذه الجهة، فيرجع الشك إلى مرحلة السقوط، والمرجع هو الاشتغال.
1 - السرائر 2: 481 / سطر 6، المكاسب: 111 / سطر 22. 335 في كلام بعض المحققين ومناقشته وقد ذكر بعض المحققين كلاما مرتبطا بالمقام في المثل المتعذر في باب المثلي: وهو أنه على مبنى المشهور أيضا يرجع إلى أصالة الاشتغال، فإن المالية القائمة بالأعيان أمر اعتباري بسيط، غير قابل للقلة والكثرة، أو الزيادة والنقصان، أو الشدة والضعف، وليست نظير المقولات الحقيقية القابلة لذلك، فالدوران حينئذ بين المتباينين لا الأقل والأكثر. وبعبارة أخرى: أن أنحاء المالية بسائط متباينة، والقلة والكثرة في ما هو مال بالحمل الشائع، وهو الدرهم والدينار اللذان لا تشتغل الذمة بهما، فيشك حينئذ في أن المالية التي قد اشتغلت الذمة بها - أو وجب تداركها - هذه المالية المتعينة، أو مالية أخرى متعينة بتعين آخر، وهما بسيطان متباينان، فلا مجال إلا للاشتغال، فتدبره فإنه حقيق به (1). وما ذكره (قدس سره): من أن المالية أمر اعتباري بسيط - فأنحاؤها متباينة - وإن كان صحيحا عقلا، إلا أنه ا عند العقلاء أمر كلي مقول بالتشكيك، ولذا يقال: إن هذا أعلى قيمة من ذلك، والمرجع في أمثال هذا الأمر العقلائي هو فهم العقلاء، لا الدقائق العقلية الفلسفية. والحاصل: أنا وإن لم نقل بأن مالية الأشياء هي الدراهم والدنانير، بل نقول: بأنها أمر اعتباري قائم بالأشياء يقدر بالدراهم والدنانير، إلا أنه لا يمكننا تسليم أن أنحاء المالية بسائط متباينة عند العقلاء، بل ندعي أنها مراتب من أمر واحد - يسمى في الفارسية ب ارزش - وهذا يختلف قلة وكثرة في الأشياء، وسند هذه الدعوى فهم العقلاء في ذلك، وعليه يرجع الشك في المقام إلى الأقل والأكثر، والمرجع هو
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 93 - 94. 336 البراءة عن الأعلى. فتحصل: أنه لا وجه للقول بضمان أعلى القيم من زمان الأخذ إلى زمان التلف، وأما القول بضمان أعلى القيم إلى ما بعد زمان التلف - وهو يوم الرد - فقد مر الكلام فيه، فلا نطيل بإعادته. في اعتبار محل التلف ذكر الشيخ (رحمه الله): ثم إن ما ذكرنا من الخلاف، إنما هو في ارتفاع القيمة بحسب الأزمنة، وأما إذا كان بسبب الأمكنة فالظاهر اعتبار محل التلف (1). الوجه في اعتبار محل التلف ما مر في اعتبار زمانه، وهو أن هذه القيمة هي قيمة المضمون واقعا وبقول مطلق، وأما غيرها فقيمة فرضية ومقيدة على ما سبق من التقريب (2). ثم إن الشيخ (رحمه الله) استقرب في ذيل صحيحة أبي ولاد اعتبار قيمة يوم المخالفة (3)، وهنا اعتبر قيمة مكان التلف، والجمع بينهما يقتضي اعتبار قيمة يوم المخالفة في مكان التلف، ولا يمكن تتميم هذا بدليل، لا بالسيرة العقلائية، ولا بدليل شرعي. أما السيرة العقلائية: فقد مر أنها قائمة على اعتبار زمان التلف (4)، وهكذا بالنسبة إلى مكان التلف، فإن الشئ قبل التلف لم يكن معنى ضمانه إلا ما مر من التعليق، وهو أن الذمة مشغولة بالبدل على تقدير التلف، وعند التلف يتنجز ذلك،
1 - المكاسب: 111 / سطر 28. 2 - تقدم في الصفحة 238 - 239 و 314 - 316. 3 - المكاسب: 110 / سطر 13. 4 - أنظر في الصفحة 329. 337 وتشتغل الذمة بالبدل تحقيقا، فلا بد من مراعاة مكان التلف، كما يراعى زمانه. ولو قلنا بأن السيرة قائمة على غير ذلك الزمان - كزمان الأخذ مثلا - فليكن كذلك بالنسبة إلى المكان أيضا، فإن التفصيل بينهما غير موافق لبناء العقلاء جزما. وأما دليل اليد: فمقتضاه اعتبار مكان التلف كزمانه، كما مر من التقريب. ولو سلم دلالته على غير ذلك فبالنسبة إلى الزمان والمكان سواء، فلا يدل على التفصيل بينهما. وأما صحيحة أبي ولاد فمقتضاها على ما ذكرناه موافق لمقتضى دليل اليد. وأما على ما استقربه الشيخ (رحمه الله) منها من اعتبار يوم المخالفة، فتدل على اعتبار مكانها أيضا، لأنه لا خصوصية لليوم قطعا كما مر، بل الظاهر من الصحيحة أنه لا بد من مراعاة قيمة الشئ حال المخالفة، وقيمته حال المخالفة - بقول مطلق - هي قيمته في مكان المخالفة. ومن هنا ظهر: أن توجيه التفصيل، بأن أدلة الضمان بإطلاقها تدل على اعتبار قيمة الشئ في زمان التلف ومكانه، نخرج عن هذا الاطلاق بصحيحة أبي ولاد، فإنه نص على أن المعتبر بالنسبة إلى الزمان هو يوم المخالفة، فالجمع بين تلك الأدلة وهذه الصحيحة يقتضي التفصيل. غير وجيه، لأن الصحيحة كما تدل على اعتبار قيمة يوم المخالفة - على مبنى المستدل - كذلك تدل على اعتبار قيمة مكانه أيضا، فبين الطائفتين نحو تعارض لا بد من علاجه، كتقييد المطلقات بغير الغصب أو البغل. وكيف كان، فلا وجه لما أفاده الشيخ (رحمه الله) من التفصيل بين المكان والزمان، والحق اعتبار قيمة يوم التلف ومكان التلف، والدليل عليه عين ما مر في اعتبار قيمة يوم التلف بلا زيادة ولا نقصان. ثم لا يخفى أن ما ذكرناه، إنما هو في مورد اختلاف القيمة السوقية فقط
338 بسبب اختلاف الأمكنة، فلو كان منشأ الاختلاف تبديل خصوصية معتبرة في الضمان عند العقلاء بسبب اختلاف الأمكنة، فلا بد من ملاحظة تلك الخصوصية أيضا، كما في اختلاف الأزمنة، وقد مر تفصيل ذلك، ومثال ذلك في المكان: الماء في المفازة وعند الشاطئ، وفي الزمان: الثلج في الصيف والشتاء. الكلام في بدل الحيلولة عند تعذر العين ذكر الشيخ (رحمه الله): ثم إن في حكم تلف العين حكم تعذر الوصول إليه (1). وقبل بيان أحكام هذه المسألة، لا بد لنا من البحث عن أنه هل قام دليل على لزوم دفع بدل الحيلولة، عند تعذر الوصول إلى العين ولو في الجملة، أم لا؟ أدلة بدل الحيلولة ومناقشتها 1 - دليل اليد وقد استدل على ذلك بدليل اليد (2). وذكر بعض المحققين (رحمه الله) في تقريب ذلك - بناء على مسلكه: من أن مفاد دليل اليد اعتبار العين في العهدة -: أن هذا الاعتبار فعلا في كل زمان يحتاج إلى أثر مصحح، وإلا كان اعتبارها لغوا. ومن الواضح أنه عند تعذر ردها وعدم تلفها ليس لها عهدة تكليفية، حيث يستحيل التكليف بردها، وليس لها عهدة تداركية لنفسها،
1 - المكاسب: 111 / سطر 31. 2 - مسند أحمد بن حنبل 5: 8 و 12، عوالي اللآلي 1: 224 / 106 و 3: 251 / 3، مستدرك الوسائل 14: 7، كتاب الوديعة، أبواب وجوب أداء الأمانة، الباب 1، الحديث 12، جواهر الكلام 37: 131. 339 حيث إنها غير تالفة، فلو لم يجب تداركها من حيث فوات السلطنة على الانتفاعات بها، كان اعتبار عهدتها فعلا لغوا، فالالتزام بكونها في العهدة فعلا يقتضي الالتزام بأثر لها فعلا (1). انتهى محل الحاجة. والجواب عن ذلك: أولا: أن دفع محذور اللغوية غير منحصر بالالتزام ببدل الحيلولة، بل المحذور يندفع بترتب أثر آخر على هذا الاعتبار، كجواز المصالحة عليه وبيعه وغير ذلك من الآثار. وثانيا: قد مر مرارا أن قياس الأحكام القانونية بالشخصية أوجب مثل هذه الاشكالات، والحال أن مبادئ كل منهما وغاياته مغايرة لمبادئ الآخر وغاياته، وصحة جعل القانون لا يدور مدار وجود المبادئ والغايات في الأشخاص، بل المصحح له وجود أثر في محيط هذا القانون ولو في بعض الأفراد، وقد مر تفصيل ذلك، فلاحظ. نعم، يمكن تقريب هذا الدليل على نحو آخر يثبت ضمان بدل الحيلولة في الجملة: وهو أن دليل اليد مثبت لضمان اليد بالنسبة إلى ما أخذت، وقد مر: أن معنى الضمان أمر تعليقي، وهو تعلق المثل أو القيمة بالعهدة على تقدير التلف، فهل التلف المذكور في المقام له موضوعية لفعلية الضمان، أو أنه أحد مصاديق موضوعها، والحكم بالضمان من جهة الحيلولة بين المالك وماله؟ لا ينبغي الاشكال في أن موضوع الضمان عند العقلاء ليس منحصرا بالتلف، بل الموضوع عندهم إزالة سلطنة المالك عن ماله، بحيث لا يمكنه الوصول إلى ماله، ولذا لو أخذ قاهر مال زيد من يد الغاصب، كان الغاصب ضامنا له، مع عدم إمكان أخذ ماله من القاهر وإن لم يتلف المال بعد، فالميزان بنظر العقلاء هو الحيلولة وإزالة
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 106 / سطر 34. 340 سلطنة المالك عن ماله، بحيث لا يمكنه الوصول إليه. وبعبارة أخرى: أنه ليس في دليل اليد كلمة التلف حتى نبحث في مفهومه، بل مفاد هذا الدليل التعبد بضمان اليد بالنسبة إلى ما أخذت، ومعنى الضمان أمر عقلائي كما ذكرنا، بل في قاعدة الاتلاف (1) أيضا الأمر كذلك، فإن الاتلاف وإن كان مذكورا في القاعدة، إلا أنه من باب ذكر أظهر المصاديق، فإن هذه القاعدة كمعنى الضمان عقلائية، والأمر عند العقلاء ما ذكرنا، وفي الشرع وإن وردت كلمة الاتلاف والتضييع موضوعا لذلك، إلا أن الخصوصية ملغاة عن ذلك بنظر العقلاء، بحيث لا يفهمون من الدليل إلا أن قطع يد المالك عن ماله موجب للضمان. فبهذا التقريب يمكن إثبات ضمان بدل الحيلولة في الجملة، بل ظهر بما ذكر: أن الضمان في جميع الموارد هو ضمان الحيلولة، لعدم خصوصية في الاتلاف والتلف ونحوهما من العناوين المشابهة لهما، وتفصيل ذلك يأتي في ضمن مطالب هذه المسألة. 2 - دليل قاعدة السلطنة ثم إنه استدل الشيخ (رحمه الله) على ذلك بقاعدة السلطنة (2) بتقريب: أن هذه القاعدة تثبت جواز مطالبة المالك بماله، وحيث إن أداء نفس المال متعذر على الفرض يرجع إلى بدله، جمعا بين الحقين، كما مر في المثلي المتعذر مثله (3). وقد مر ما في ذلك في تلك المسألة (4)، وقلنا بعدم إمكان المطالبة عقلا لعدم تحقق مبادئها. وفي المقام خصوصية لا يمكن الالتزام معها بما ذكره وإن التزمنا به
1 - تقدم في الصفحة 364. 2 - تقدم في الصفحة 279. 3 - المكاسب: 112 / سطر 1. 4 - تقدم في الصفحة 286 - 287. 341 في المسألة السابقة، وهي أنه يمكن أن يقال هناك: إن ضمان المثل فعلي، والمالك يمكنه رفع اليد عن الخصوصية النوعية والأخذ بالمالية، وأما هنا فالمالك لا يملك إلا نفس العين، ولا مال له سواها حتى يقال بأنه مسلط عليه، ودليل اليد لا يثبت مالا آخر للمالك مع وجود العين. أما على المبنى المشهور (1) فواضح. وأما على المبنى الآخر - وهو تعلق العين بالعهدة (2) - فأيضا الأمر كذلك، فإن القائل بذلك لا يمكنه أن يريد به تعلق العين بماليتها بالعهدة، وإلا لزم الجمع بين العين وبدلها في ملك المالك، أو الالتزام بما نسب إلى أبي حنيفة: من أن المغصوب بالغصب يخرج عن ملك مالكه، ويدخل في ملك الغاصب (3) وعليه ضمانه. ولو أراد به تعلق العين مسلوبة المالية بالعهدة مع وجود العين، وتعلقها بماليتها عند التلف، أو أراد به أنه في زمان وجود العين الذمة مشغولة بأداء العين، وبعد التلف تشتغل بنفسها، لزم منه الجمع بين المعنيين للضمان، وإرادتهما من كلمة على، والجمع بين التعليق والتنجيز فيها. والحاصل: أنه لا مال للمالك مع وجود العين غير العين حتى يكون مسلطا عليه، وتكليف الضامن بأداء العين ساقط بالتعذر، فلا موضوع للجمع بين الحقين. 3 - دليل لا ضرر وقد استدل على ذلك بدليل لا ضرر (4)، وتقريب ذلك - بعد الاغماض عن
1 - أنظر في الصفحة 287. 2 - حاشية المكاسب، المحقق الخراساني: 37، حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 99 / سطر 25، هداية الطالب: 228 / سطر 23. 3 - المبسوط، السرخسي 11: 93 - 94، المغني 5: 417. 4 - تقدم في الصفحة 250، المكاسب: 103 / سطر 4. 342 مسلكنا في هذا الدليل - ظهر مما تقدم (1)، فإن ادعاء عدم الضرر في محيط الشرع لا يمكن إلا بسد جميع أبواب الضرر شرعا، فلا بد من الالتزام بضمان بدل الحيلولة، وإلا يلزم الضرر على المالك، ولا يصح هذا الادعاء. تتمة الكلام في بدل الحيلولة تقريبان للاستدلال بأدلة الضمان على بدل الحيلولة ومناقشتهما ظهر مما تقدم: أن عمدة الدليل على ضمان بدل الحيلولة، حديث اليد وسائر أدلة الغرامات والضمانات، لا بالتقريب المذكور في كلام صاحب الكفاية: من اختصاص هذه الأدلة بضمان بدل الحيلولة، لوجهين: ظهورها في فعلية الضمان حتى قبل تلف العين، ولا معنى لذلك إلا كون الضمان ببدل الحيلولة، وظهورها في ارتفاع الضمان بأداء العين، ولا معنى لأداء العين بعد التلف، فتختص هذه الأدلة بإثبات الضمان قبل التلف، والضمان حينئذ إنما هو ببدل الحيلولة لا غير (2)، فإن ما ذكرنا من معنى الضمان، وأنه أمر تعليقي، ولا ينافي ذلك ثبوته بالفعل، يدفع الوجهين، كما لا يخفى. ولا بما قد يقال في تقريب ذلك: من أن إطلاق هذه الأدلة يشمل ما بعد التلف وما قبله، فيثبت ضمان بدل الحيلولة أيضا (3)، فإن الضمان إنما هو ثابت قبل التلف جزما، وإنما هو أمر تعليقي لا بد من ملاحظة المعلق عليه فيه، فإذا كان المعلق عليه التلف، فلا يمكن إثبات ضمان بدل الحيلولة بهذا الاطلاق.
1 - تقدم في الصفحة 250 - 251. 2 - حاشية المكاسب، المحقق الخراساني: 37. 3 - حاشية المكاسب، الإيرواني 1: 103 / سطر 21. 343 بل من جهة ما ذكرنا من التقريب (1)، وأن المعلق عليه في الضمان بنظر العقلاء ليس التلف، لعدم خصوصية فيه بنظرهم في الضمان، بل الحيلولة بين المالك وماله، موجبة للزوم البدل في عهدة الضامن بنظرهم حتى في مورد التلف، فإن التلف من أظهر مصاديق الحيلولة، وبما أنه لا بد من الرجوع في فهم هذه المعاني إلى العقلاء، فيكون مفاد الحديث لزوم البدل في العهدة على تقدير الحيلولة بين المالك، وماله وتعذر وصوله إليه سواء كان التعذر إلى الأبد كالتالف، أو إلى أمد كالمسروق والغارق والضائع والآبق أو غير ذلك. وقد ظهر بهذا التقريب: أنه لا فرق في صورة التعذر بين حصول اليأس من الوصول إليه أو عدم رجاء وجدانه، وبين ما لو علم أنه سيجده في مدة طويلة أنه يصدق في الحالين عنوان الغرامة والتدارك على أداء البدل. وأيضا ظهر: أنه لا فرق بين التعذر المسقط للتكليف وغيره، مما يمكن معه الوصول إلى العين بالسعي في مقدماته، لصدق الحيلولة في جميع ذلك، فتشملها الأدلة، ومعها لا تصل النوبة إلى أصالة عدم تسلط المالك على أزيد من إلزامه برد العين، كما ذكرها الشيخ (رحمه الله) وأمر بعده بالتأمل (2). نعم، لا يخفى ثبوت الفرق بين طول المدة وقصرها، بحيث لا يحصل صدق عنوان الغرامة والتدارك على أداء البدل في تلك المدة، لعدم شمول الأدلة لذلك. في ثبوت القيمة مع تعذر العين ثم ذكر الشيخ (رحمه الله): أن ثبوت القيمة مع تعذر العين، ليس كثبوتها مع تلفها في كون دفعها حقا للضامن، فلا يجوز للمالك الامتناع، بل له أن يمتنع من أخذها،
1 - تقدم في الصفحة 340 - 341. 2 - المكاسب: 112 / سطر 4. 344 ويصبر إلى زوال العذر، كما صرح به الشيخ في المبسوط (1)، ويدل عليه قاعدة تسلط الناس على أموالهم (2). انتهى. وقد تقدم: أن الجد بمطالبة العين بعد التعذر مستحيل بالنسبة إلى العالم به، فلو كان المالك مستحقا للمطالبة، فهو إنما يستحق مطالبة البدل، وحينئذ لو لم تكن عهدة الضامن مشغولة بالبدل، فكيف يمكن مطالبته به؟! ولو كانت عهدته مشغولة به فلماذا لا يستحق الضامن إلزامه بأخذه؟! والصحيح حسب ما ذكرنا في تقريب دليل الضمان - من أن المستفاد منه اشتغال ذمة الضامن بالبدل عند الحيلولة بين المالك وماله - عدم الفرق بين التلف وغيره من أقسام الحيلولة، واستحقاق الضامن إلزام المالك بأخذ ماله الثابت في ذمته، فعلى ذلك لا يمكن التمسك بدليل السلطنة لاثبات عدم استحقاق الالزام، فإن المفروض أن التسلط - بمعنى جواز المطالبة - غير معقول، وغيره من أنحاء التسلط لا ينافي ثبوت بدل الحيلولة، بل يؤكده، كما لا يخفى على المتأمل. في ملكية البدل أو إباحته مطلقا قبل تلف العين المتعذرة ثم ذكر الشيخ (رحمه الله): إن المال المبذول يملكه المالك بلا خلاف، كما في المبسوط (3) والغنية (4) والخلاف (5) والتحرير (6). ولعل الوجه فيه: أن التدارك لا يتحقق إلا بذلك، ولولا ظهور الاجماع وأدلة
1 - أنظر المبسوط 3: 76 و 95. 2 - المكاسب: 112 / سطر 5. 3 - المبسوط 3: 76 و 95. 4 - الغنية، ضمن الجوامع الفقهية: 538 / سطر 3. 5 - الخلاف 3: 412. 6 - تحرير الأحكام 2: 140 / سطر 24. 345 الغرامة في الملكية، لاحتملنا أن يكون مباحا له إباحة مطلقة وإن لم يدخل في ملكه، ويكون دخوله في ملكه مشروطا بتلف العين... إلى أن قال (رحمه الله): وعلى أي تقدير، فلا ينبغي الاشكال في بقاء العين المضمونة على ملك مالكها، إنما الكلام في البدل المبذول، ولا كلام أيضا في وجوب الحكم بالإباحة وبالسلطنة المطلقة عليها، وبعد ذلك فيرجع محصل الكلام حينئذ إلى أن إباحة جميع التصرفات - حتى المتوقفة على الملك - هل تستلزم الملك من حين الإباحة، أو يكفي فيها حصوله من حين التصرف (1). انتهى. وقد اختار صاحب الكفاية، ورضي به بعض المحققين (قدس سرهما): أن إطلاق الإباحة وعدم تقييدها بما قبل التصرف آنا ما، يقتضي الملك من حين أداء البدل، فإنه لا يعقل الإباحة المعلولة للملك من الأول، إلا مع ثبوت علتها، وهو الملك من الأول (2). ونقول: أما ما ادعاه الشيخ (رحمه الله) من الاجماع على حصول الملك، فلا يمكن تصديقه فإن المسألة اجتهادية، ولا يمكن تحصيل الاجماع فيها. وأما ما استظهره من أدلة الغرامة - من حصول الملك - فأيضا لا يتم، لأن ظهور هذه الأدلة في ثبوت الغرامة عند حصول التلف والحيلولة، والغرامة إنما هي بمقدار الخسارة لا أكثر، ففي مورد زوال الملك لا بد من التدارك بالتمليك، وأما مع عدمه - كما هو المفروض في بدل الحيلولة - فاللازم التدارك بجميع السلطنة الفائتة. وأما استكشاف الملك بالدلالة الالتزامية، وكشف العلة عن المعلول - كما حكينا عن صاحب الكفاية وتلميذه المحقق (قدس سرهما) فأيضا غير صحيح، فإن التصرفات الموقوفة على الملك لا تقتضي التمليك، أما بيع البدل فيمكن للمالك بيعه للغاصب،
1 - المكاسب: 112 / سطر 7 - 22. 2 - حاشية المكاسب، المحقق الخراساني: 43، حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 108 / سطر 11. 346 والتصرف في ثمنه كما يتصرف في ثمن ملكه على تقدير بيعه، وأما العتق فلا بد للمالك من إباحته بنحو ممكن مشروع، كأن يتملك من قبله أولا، ثم يعتقه عن نفسه، وأما الوطء فغير موقوف على الملك، بل لا بد من إباحته له. والحاصل: أنه لا بد للغاصب من جبر الخسارة الواردة على المالك بمقدارها لا أزيد، ويمكن ذلك في مثل هذه التصرفات بلا استكشاف حصول الملك من الأول أو آنا ما، خلافا للقواعد (1)، بل اللازم إباحة الغاصب له على النحو المعقول المشروع كما ذكرناه. فالصحيح ما حكاه الشيخ عن المحقق القمي (رحمهما الله): من عدم حصول الملك، والثابت إنما هي السلطنة المطلقة على النحو المذكور (2). في ضمان المنافع بعد تعذر العين ذكر الشيخ (قدس سره): ثم إن مقتضى صدق الغرامة على المدفوع، خروج الغارم عن عهدة العين وضمانها، فلا يضمن ارتفاع قيمة العين بعد الدفع، سواء كان للسوق، أو للزيادة المتصلة، بل المنفصلة كالثمرة، ولا يضمن منافعه، فلا يطالب الغارم بالمنفعة بعد ذلك (3). انتهى. وظاهره كغيره ضمان المنافع بعد تعذر العين قبل أداء الغرامة، لعدم تعرضهم لحكم ذلك، وكأنه أرسل إرسال المسلمات. وما يمكن أن يقال في وجه ذلك: هو صدق اليد على المنافع بتبع اليد على الأعيان، أو عدم اعتبار صدق اليد على المنافع في ضمانها بعد ثبوت اليد على الأعيان.
1 - قواعد الأحكام: 205 / سطر 5. 2 - جامع الشتات (كتاب الغصب): 582 - 583، المكاسب: 112 / سطر 10. 3 - المكاسب: 113 / سطر 10. 347 وكلاهما مخدوش: أما الثاني فواضح، فإن ظاهر أدلة الغرامات أنها من جهة إثبات اليد على المضمون. وأما الأول فلأن اليد على المنافع وإن كانت حاصلة بتبع اليد على الأعيان، لكن فيما إذا كانت العين تحت اليد بحيث تفوت المنافع تحتها. وأما بعد تعذر العين وخروجها عن تحت اليد، فلا، لعدم صدق اليد على العين حينئذ، فكيف بمنافعها؟! فالحق عدم ضمان المنافع بعد تعذر العين، سواء كان بعد أداء الغرامة أو قبلها. ثم إنه لو قلنا بالضمان بعد التعذر وقبل الأداء، فهل يمكن الحكم بعدم الضمان بعد أداء الغرامة، كما ذكره الشيخ (رحمه الله)، وقواه المرحوم النائيني (رحمه الله) (1) على مبناه: من أن وجوب البدل إنما هو من باب تدارك المالية لا تدارك السلطنة، وبعد سقوط خصوصية العين عن العهدة بالتعذر وتدارك المالية لا موضوع لضمان المنافع. والتحقيق: حسب ما ذكرنا في معنى حديث اليد (2)، وأنه يثبت الغرامة في مورد الخسارة بمقدار الخسارة، فلا بد من الحكم بالضمان حينئذ لو أغمضنا عما تقدم من عدم ضمان المنافع بعد تعذر العين، لأنه لم يخرج الضامن بعد عن عهدة المضمون، بل المتدارك خصوص الخسارة الفعلية. وأما على مبنى السيد والنائيني (رحمهما الله) في معنى الحديث، وأن الثابت في العهدة نفس العين (3)، فالأمر أوضح كما لا يخفى. فما ذكر الشيخ (رحمه الله): من أن صدق الغرامة يقتضي خروج الغارم عن عهدة العين، لا يتم، لأن الغرامة قد حصلت بمقدار الخسارة لا أزيد، ولذا لم نقل بخروج
1 - منية الطالب 1: 161 / سطر 18. 2 - تقدم في الصفحة 235 - 236. 3 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 96 / سطر 27، منية الطالب 1: 138 / سطر 24، و 141 / سطر 6. 348 المضمون عن ملك المالك. في وجوب رد العين عند ارتفاع التعذر ذكر الشيخ (رحمه الله): ثم إنه لا إشكال في أنه إذا ارتفع تعذر رد العين، وصار ممكنا، وجب ردها إلى مالكها - كما صرح به في جامع المقاصد (1) - فورا وإن كان في إحضارها مؤونة، كما كان قبل التعذر، لعموم على اليد ما أخذت حتى تؤدي (2) ودفع البدل لأجل الحيلولة إنما أفاد خروج الغاصب عن الضمان، بمعنى أنه لو تلف لم يكن عليه قيمته... إلى أن قال: وسقوط وجوب الرد حين التعذر للعذر العقلي، فلا يجوز استصحابه، بل مقتضى الاستصحاب والعموم هو الضمان المدلول عليه بقوله (عليه السلام): على اليد ما أخذت المغيى بقوله (عليه السلام): حتى تؤدي (3). انتهى. وقد يقال: بأن باب الغرامات من المعاوضات العقلائية المالكية، أو القهرية الشرعية، أو القهرية العقلائية، وعليه تخرج العين بأداء الغرامة عن ملك مالكها، وتدخل في ملك الغارم لاقتضاء المعاوضة ذلك، وإلا يلزم الجمع بين العوض والمعوض، وحينئذ عود الملك إلى مالكه الأول بعد ارتفاع التعذر يحتاج إلى دليل مفقود، فإنه من رد ملك الضامن إلى غيره (4)، لكنك خبير بما في ذلك، فإن باب الغرامة ليس من المعاوضة في شئ، وإلا يلزم المعاوضة بين الموجود والمعدوم في مورد التلف الحقيقي، بل العرفي كالغرق، بحيث لا يمكن الوصول إليه أبدا، بل
1 - جامع المقاصد 6: 255 - 256. 2 - تقدم في الصفحة 235. 3 - المكاسب: 113 / سطر 18. 4 - جواهر الكلام 37: 80 و 130 و 132 - 135، حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 107 / سطر 33. 349 مقتضى أدلة الغرامات: إما ثبوت العين على عهدة الضامن أو بدله على ما مر الكلام فيه، ولا دليل على خروج الضامن عن العهدة بأداء الغرامة في مورد بدل الحيلولة، فإن الغرامة بمقدار الخسارة على ما مر، ولذا لم تخرج العين عن ملك مالكها، فإذا رجعت الهوية كانت لصاحبها. وقد نقل السيد (رحمه الله) عن صاحب الجواهر: تنظير ذلك بالبهيمة الموطوءة إذا كانت مما يركب ظهرها، فإن أخذ الغرامة فيها من جهة حصول معاوضة شرعية بين الغرامة والبهيمة (1). وفيه: أن هذه ليست من باب الغرامة لا عرفا ولا شرعا، لأن من وطئ البهيمة يشتريها من صاحبها، ثم يبيعها في بلد آخر، وعليه فهذا حكم أجراه الشارع في حقه، دفعا للعيب والفضيحة على صاحبها، فلم تتلف البهيمة حتى كانت من باب الغرامات، ولعل منشأ الاشتباه كلمة أغرمه الموجودة في الرواية، ولكن هذا التعبير لا ينافي ما ذكرنا، كما لا يخفى. إن قلت: لو لم يكن أخذ بدل الحيلولة من جهة حصول المعاوضة، لزم كون العين بعد الأخذ وقبل الوصول بلا مالك، ولا يعقل المال بلا مالك. وفيه أولا: - على ما مر - أن مالك العين هو مالكها الأصلي. وثانيا: المال بلا مالك معقول، نظير جميع الأموال المخزونة تحت الأرض من المعادن وغيرها، وما ليس بمعقول إنما هو الملك بلا مالك، لا المال بلا مالك. هذا كله بالنسبة إلى بقاء الملك وعدمه. وأما مسألة وجوب الرد: فقد ذكر الشيخ (رحمه الله) ذلك من جهة حديث اليد (2)، وهذا إنما يتم على مسلك من قال بثبوت العين في العهدة في باب الضمانات، فإن
1 - جواهر الكلام 41: 640 - 641، حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 107 / سطر 33. 2 - أنظر المكاسب: 113 / سطر 18. 350 لزوم الأداء من شؤون ثبوت العين في العهدة، فتأمل. وأما لو قلنا بأن مفاد الحديث ثبوت البدل على تقدير التلف - كما هو الصحيح، وعليه المشهور، ومنهم الشيخ (رحمه الله) - فلا، فإن الضمان شئ ووجوب الأداء شئ آخر. نعم، لو قلنا ببقاء الملك يمكن التمسك لذلك بدليل احترام مال المسلم (1)، وإلا فلا يمكن التمسك بذلك أيضا. وأما استصحاب عدم وجوب الرد، أو استصحاب الضمان المذكور في كلامه (رحمه الله)، فالتحقيق أن يقال: إن التعذر العقلي لا يوجب سقوط التكليف، بل إنما هو مجرد عذر في عدم الامتثال، وعليه فمع الشك في سقوط التكليف بوجوب الأداء، يستصحب ذلك بعد التعذر أو الوصول، ولعل هذا هو المراد من استصحاب الضمان المذكور في كلام الشيخ (رحمه الله) (2)، لا ما ذكره بعض المحشين وأشكل عليه (3). في حكم الغرامة المدفوعة بعد ارتفاع التعذر ذكر الشيخ (رحمه الله): وهل الغرامة المدفوعة يعود ملكها إلى الغارم بمجرد طرو التمكن، فيضمن العين من يوم التمكن ضمانا جديدا بمثله، أو قيمته يوم حدوث الضمان، أو يوم التلف، أو أعلى القيم، أو أنها باقية على ملك مالك العين، وأن العين مضمونة بها - لا بشئ آخر - في ذمة الغاصب، فلو تلفت استقر ملك المالك على الغرامة، فلم يحدث في العين إلا حكم تكليفي بوجوب رده، وأما الضمان وعهدة جديدة فلا؟ وجهان، أظهرهما الثاني، لاستصحاب كون العين مضمونة بالغرامة، وعدم
1 - وسائل الشيعة 19: 3، كتاب القصاص، أبواب القصاص في النفس، الباب 1، الحديث 3، وسائل الشيعة 6: 376، كتاب الخمس، أبواب الأنفال، الباب 3، الحديث 6. 2 - المكاسب: 113 / سطر 25. 3 - حاشية المكاسب، الإيرواني 1: 105 / سطر 32، حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 111 / سطر 32. 351 طرو ما يزيل ملكيته عن الغرامة، أو يحدث ضمانا جديدا (1). انتهى محل الحاجة. وهذا الكلام إنما يصح لو بنينا على ثبوت ملكية مالك العين بالنسبة إلى الغرامة المدفوعة، وإلا فالملكية غير ثابتة من الأول. نعم، يمكن البحث عن أنه بمجرد طرو التمكن، هل ترتفع الإباحة المطلقة الثابتة لمالك العين في الغرامة المدفوعة، أو لا؟ وأما الاستصحابات فالصحيح أن يعتبر في الأول منها استصحاب بقاء كون المدفوع غرامة، كما لا يخفى، وفي الثاني منها استصحاب بقاء الملك، وإلا فإثبات الملكية باستصحاب عدم المزيل من الأصول المثبتة، ولا نقول بها. وقد ظهر: أن استصحاب الأول - وهو كون المدفوع غرامة - والثالث - وهو عدم حدوث ضمان جديد - أيضا مثبتان. نعم، لا بأس باستصحاب الثاني، وهو استصحاب بقاء الملكية أو الإباحة المطلقة حتى يدفع الغارم العين إلى مالكه، بناء على جريان الاستصحاب في الشك في المقتضي، كما هو المختار خلافا للماتن (قدس سره) في الأصول (2). وليعلم أن جريان الاستصحاب موقوف على عدم إحراز موضوع الغرامة، وإلا فلو أحرزنا أن موضوعها العين المتعذرة على نحو الحيثية التقييدية، فلا يجري الاستصحاب، للقطع بارتفاع الغرامة بارتفاع موضوعه، وهو التعذر. وأما لو أحرزنا أن موضوعها ذلك، لكن التعذر حيثية تعليلية، بمعنى أن هذه العين مضمونة بالغرامة للتعذر، فبارتفاع التعذر نشك في بقاء موضوع الغرامة، وكذا لو شككنا في أن الحيثية تعليلية أو تقييدية، فيمكن التمسك بالاستصحاب بناء على جريانه في الأصول المثبتة.
1 - المكاسب: 113 / سطر 22، منية الطالب 1: 162 / سطر 6. 2 - فرائد الأصول 2: 561، الاستصحاب، الإمام الخميني (قدس سره): 32 - 37. 352 في ضمان الغارم العين بعد ارتفاع التعذر وأما مسألة ضمان الغارم العين بعد ارتفاع التعذر قبل الرد، فما يمكن أن يقال فيه وجوه: الأول: عدم الضمان، فإنه بعد أداء الغرامة يسقط الضمان، وحصوله ثانيا يحتاج إلى دليل (1). الثاني: أن يكون الضمان ضمانا سابقا، فإن اليد اقتضت ضمان العين مطلقا، سقط الضمان بأداء الغرامة ما دام التعذر، فإذا ارتفع التعذر تؤثر اليد السابقة في الضمان حينئذ (2). الثالث: أن يكون الضمان ضمانا جديدا، فإنه بعد أداء الغرامة يسقط الضمان، ولا يعقل عود الضمان بعد سقوطه، وإلا لزم كون الغرامة لا غرامة، فمع القول بالضمان بعد التمكن يكون الضمان ضمانا جديدا، سواء كان أثره اليد السابقة أو غيرها (3). فنقول: إنه لو قلنا بأنه في باب التعذر والتلف العرفي تخرج العين بأداء الغرامة عن ملك مالكها، وتدخل الغرامة في ملكه، فلا بد من الحكم بعدم الضمان بعد التمكن، أو القول بالضمان الجديد، فإن المفروض أداء غرامة العين وبدلها وخروج الغارم عن ضمانها، ولا يعقل عود الضمان بعد سقوطه كما مر. وأيضا لو قلنا بأن العين باقية في ملكه، لكن الغرامة تدخل في ملكه، فالأمر كذلك لأداء بدل العين. ولو قلنا بعدم خروج العين عن ملك المالك وعدم دخول الغرامة في ملكه،
1 - المكاسب: 113 / سطر 24، حاشية المكاسب، الإيرواني 1: 105 / سطر 21. 2 - أنظر منية الطالب 1: 162 / سطر 11، جواهر الكلام 37: 130 - 132. 3 - نقله الشيخ في المكاسب: 213 / 22. 353 بل الغرامة بمقدار الخسارة من جهة تدارك السلطنة الفائتة بمقدارها، فإنه لا يمكن الالتزام بعدم خروج الغارم عن ضمان العين بأداء الغرامة على هذا المبنى أيضا. أترى أنه لو تلفت العين بعد أدائه الغرامة لزمته غرامة أخرى غير ما أداه، بل معنى الخروج عن الضمان هو تدارك ما فات المالك من الانتفاعات، وأما كونه مالكا أو لا، فلا يعتني به العقلاء، فمع تدارك الضامن السلطنة الفائتة، بحيث يقدر المالك على جميع التصرفات في الغرامة على نحو تصرفه في العين، يحكم العقلاء بخروجه عن الضمان وإن لم يكن المالك مالكا للغرامة. فتحصل: أنه لا فرق بين هذه الأقسام، من أنه على تقدير الضمان بعد التمكن يكون الضمان جديدا، فإن الغارم قد خرج عن الضمان السابق بأداء الغرامة، ولا يعقل خروج الغرامة عن كونها غرامة، نعم، يمكن كون موضوع الضمان الجديد هو اليد السابقة. والصحيح هو الضمان، فإن الغرامة إنما كانت ما دام التعذر، فمع ارتفاع موضوعها تسقط عن كونها غرامة، فلا شئ موجبا لسقوط أثر اليد السابقة بعد سقوط الغرامة عن كونها غرامة (1). ذكر الشيخ (رحمه الله): ومما ذكرنا يظهر: أنه ليس للغاصب حبس العين إلى أن يدفع المالك القيمة (2)... إلى آخره. والصحيح أنه لو قلنا بسقوط أثر الغرامة بعد التمكن من أداء العين، فحينئذ يكون ملك الغارم عند مالك العين، والعين عند الغارم، فيجوز للغارم حبس العين حتى يدفع المالك القيمة، والحاكم على ذلك بناء العقلاء، ولا اختصاص لجواز الحبس بباب المعاوضات أو فسخها، كما يظهر من الشيخ (رحمه الله) (3)، وكما هو صريح
1 - لكنه يجري استصحاب عدم تجدد الضمان على التقريب المتقدم في كلامه - دام ظله -. المقرر دامت بركاته. 2 - المكاسب: 113 / سطر 31. 3 - المكاسب: 113 / سطر 33. 354 كلام المحقق النائيني (رحمه الله) (1)، كما أنه ليس مدرك جواز الحبس في الأول الشرط الضمني وفي الثاني الاجماع، كما ذكره المحقق النائيني (رحمه الله) (2)، بل الدليل ما ذكرناه، وهو حكم العقل والعقلاء في هذه المقامات كما لا يخفى. ولو قلنا بعدم سقوط أثر الغرامة بعد التمكن، وأن المسقط هو أداء العين، فلا دليل على وجوب الرد حينئذ وتحصيل المسقط لأثر الغرامة. ولا فرق في القولين بين ما لو بنينا على حصول المعاوضة بين الغرامة والعين بأداء الغرامة، أو الجمع بينهما في ملك صاحب العين، أو عدم حصول الملك، لا بالنسبة إلى الغرامة ولا العين، بل العين باقية على ملك صاحبها، والغرامة قد أبيحت له تداركا لسلطنته الفائتة، فإن الميزان هو سقوط أثر الغرامة، بلا فرق بين الملك أو الإباحة وعدمه، وقد مر أن الحق عدم سقوط أثر الغرامة للاستصحاب، فلا يجب الرد ما لم يدفع المالك الغرامة، نظير المعاوضات (3). في ثبوت تمام القيمة بعد خروج العين عن التقويم ذكر الشيخ (رحمه الله): أما لو خرج عن التقويم مع بقائها على صفة الملكية، فمقتضى قاعدة الضمان وجوب كمال القيمة مع بقاء العين على ملك المالك، لأن القيمة عوض الأوصاف والأجزاء التي خرجت العين - لفواتها - عن التقويم، لا عوض العين نفسها، كما في الرطوبة الباقية بعد الوضوء بالماء المغصوب، فإن بقاءها على ملك مالكها لا ينافي معنى الغرامة، لفوات معظم الانتفاعات، فيقوى عدم جواز المسح بها إلا بإذن المالك ولو بذل القيمة (4).
1 - منية الطالب 1: 163 / سطر 6. 2 - منية الطالب 1: 163 / سطر 7. 3 - تقدم في الصفحة 352. 4 - المكاسب: 112 / سطر 26. 355 أقول: أما مسألة الرطوبة الباقية بعد الوضوء فخارجة عن محل الكلام، فإن البحث فيما لو خرجت العين عن التقويم مع بقاء العين، والرطوبة كاللون والرائحة، تعد من العرض عرفا وإن كانت بالدقة العقلية من العين نفسها، ولذا لو غسل الدم وبقي لونه فلا يحكم بنجاسته، وكذا لو وصلت رطوبة الطبخ أو رائحته إلى ثياب الداخل في المطبخ عدوانا، جازت الصلاة فيها وإن منع عنها المالك. والحاصل: أن بقاء العين بالدقة لا أثر له، بل الأثر مترتب على بقائها عرفا، ومسألة الرطوبة تعد من تلف العين عرفا، فلو توضأ بالمغصوب جهلا، ثم علم به قبل المسح، جاز له المسح بالرطوبة الباقية حتى مع منع المالك، فضلا عن عدم المنع. وأما ما أفاده من بقاء العين على ملك مالكها فهو الصحيح، لما ذكره بلا مزيد عليه، فإن الغرامة - بنظر العقلاء - إنما هي بإزاء السلطنة الفائتة وتفويت الانتفاعات على مالك العين، لا بإزاء العين مسلوبة الانتفاع، فتبقى العين على ملك مالكها بلا أداء غرامة بإزائها. لا يقال: إن العين مسلوبة الانتفاع لا مالية لها، فلا معنى لبقائها على صفة الملكية، كما يظهر من السيد (قدس سره) (1). لأنه يقال: لا ملازمة بين الخروج عن المالية والملكية، كما هو ظاهر. لا يقال: إنا ولو سلمنا بقاء الملكية، إلا أنه يجوز للغارم التصرف فيها، فإن موضوع حرمة التصرف إنما هو مال الغير، لا ملك الغير (2) لا يحل مال امرئ مسلم (3)، أو حرمة مال المسلم (4)، وغير ذلك.
1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 108 / سطر 29. 2 - أنظر حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 110 / سطر 5. 3 - سنن البيهقي 6: 100، مسند أحمد بن حنبل 5: 72، عوالي اللآلي 1: 222 / 98، و 3: 473 / 3. 4 - الكافي 2: 268 / 2، الفقيه 4: 300 / 909، عوالي اللآلي 3: 473 / 4، وسائل الشيعة 8: 610، كتاب الحج، أبواب أحكام العشرة، الباب 158، الحديث 3. 356 لأنه يقال: أولا: المراد من المال في هذه الأدلة ليس هو المصطلح بين الفقهاء، وهو ما يبذل بإزائه المال، بل المراد منه معناه العرفي كما في قول القائل: هذا مال زيد مثلا، وهذا معنى أعم من المال المصطلح. وثانيا: لو سلم أن المراد من المال فيها معناه الاصطلاحي، إلا أنه بمناسبة الحكم والموضوع تلغى الخصوصية، ويحكم بعدم جواز التصرف في ملك الغير حتى إذا سلبت عنه المالية، فإن موضوع الحكم بنظر العقلاء إنما هو ذلك. حكم خياطة الثوب بخيوط مغصوبة ثم تعرض الشيخ (رحمه الله) لحكم ما لو خاط ثوبه بخيوط مغصوبة (1). والكلام في هذه المسألة ونظائرها يقع في مواضع: الأول: ما إذا أمكن رد المغصوب بلا حصول فساد في مال الغاصب أو المغصوب منه، وحكمه ظاهر. الثاني: ما إذا لم يمكن الرد إلا بإفساد مال الغاصب، كما إذا توقف رد اللوح المغصوب على إفساد السفينة وغرقها، أو توقف رد الخشبة المغصوبة أو الأجر المغصوب على خراب بناء الغاصب. فقد يقال بلزوم الرد على الغاصب وإن بلغ ما بلغ، من جهة انصراف أدلة الضرر والحرج عن الغاصب، وأنه يؤخذ بأشق الأحوال (2). ولكنه لم يثبت هذا الانصراف، والانصراف المسلم والأخذ بأشق الأحوال،
1 - المكاسب: 112 / سطر 29. 2 - إيضاح الفوائد 2: 187، أنظر مسالك الأفهام 2: 207 / سطر 40، وجامع المقاصد 6: 304، وجواهر الكلام 37: 77 - 78 و 81 / سطر 12. 357 إنما هو فيما إذا استلزم الرد تحمل بعض المشاق والضرر أو الحرج في مقدمات الرد، كالسفر ونحوه، وأما إذا استلزم فساد مال الغاصب فهذا غير مسلم. وأما التمسك بأن المغصوب مردود (1)، ففيه: مضافا إلى أنه في مقام بيان أصل وجوب الرد وإطلاقه، محكوم بأدلة الحرج والضرر، يمكن: أن يقال إن رد البدل أيضا رد للمغصوب، فتأمل. هذا مضافا إلى أن الرواية مرسلة. نعم، قد يتمسك بروايات وردت في باب الغصب، ومضمونها ما إذا بنى الغاصب دارا في أرض مغصوبة، كان عليه أن يخربها وتحويل التربة كما كانت، فإنه ليس لعرق ظالم حق (2). وسند أكثر هذه الروايات ضعيف. مضافا إلى الفرق بين ما نحن فيه ومضمون الرواية، فإن مضمون الرواية نزع مال الغاصب عن مال المغصوب منه، وما نحن فيه نزع مال المغصوب منه عن مال الغاصب. ولو سلمنا وجوب النزع في الأول - من جهة أنه ليس لعرق ظالم حق - لا نسلمه في الثاني. وأما ما ذكره صاحب الجواهر (قدس سره) عن علي (عليه السلام) في نهج البلاغة: الحجر
1 - الكافي 1: 455، تهذيب الأحكام 4: 130 / 366، وسائل الشيعة 6: 365، كتاب الخمس، أبواب الأنفال، الباب 1، الحديث 4، وسائل الشيعة 17: 309، كتاب الغصب، أبواب الغصب، الباب 1، الحديث 3. 2 - تهذيب الأحكام 6: 294 / 819 و 7: 207 / 909، سنن البيهقي 6: 142 / سطر 4، وسائل الشيعة 13: 283، كتاب الإجارة، الباب 33، الحديث 3، وسائل الشيعة 17: 311، كتاب الغصب، أبواب الغصب، الباب 3، الحديث 1. 358 المغصوب في الدار رهن على خرابها (1)، فهو - على فرض صحة سنده - رواية أخلاقية ناظرة إلى أن مثل هذه الدار يخرب من قبل الله تعالى. وبالجملة: وجوب رد المال المغصوب في مفروض المسألة أمر يستنكره عقلاء العالم، والشرع وإن أمكنه الحكم بلزوم الرد بلغ ما بلغ، تأديبا للغاصب وإصلاحا للمجتمع من جهة قلع مادة الفساد، إلا أنه إذا دل عليه دليل، وليس في المقام دليل عدا ما مر، ولا يمكن الاستدلال بما ذكر لهذا الأمر المستنكر عند العقلاء، أترى أن العقلاء يحكمون بلزوم رد اللوح المغصوب في وسط البحر، وإن استلزم نزع اللوح عن السفينة غرق السفينة وجميع أموال الغاصب؟! وعلى هذا تصل النوبة - في مورد اللوح - إلى بدل الحيلولة، وفي مورد الخشبة والأجر في البناء يعلم حكمه مما سيأتي. الثالث: ما إذا لم يمكن الرد إلا بإفساد نفس المغصوب، كالخيوط المغصوبة التي خيط بها ثوب الغاصب، فقد يقال بلزوم الرد ودفع الغرامة (2)، من جهة لزوم رد ملك الغير وتدارك الخسارة. ولكنه مندفع: بأن مثل هذا الرد أمر سفهي عند العقلاء، ولا دليل شرعا على لزومه، فإن قوله: المغصوب مردود ناظر إلى لزوم الرد فيما إذا لم يستلزم الرد التلف، والمقام من هذا القبيل، فإن الخيوط بعد النزع تالفة حكما بنظر العقلاء. والحاصل: أنه لا يمكن امتثال حكم مستلزم لاعدام موضوعه، كما فيما نحن فيه، مضافا إلى أن هذا يعد من التبذير، مع أن الرد لا يتوقف على النزع، بل يمكن
1 - نهج البلاغة، عبده: 710 / 242، وفيض الإسلام: 4 - 6: 1193 وفيه: الغصب، وسائل الشيعة 17: 309، كتاب الغصب، أبواب الغصب، الباب 1، الحديث 5. وفيه: الحجر الغصب، جواهر الكلام 37: 75. 2 - مسالك الأفهام 2: 207 - 208، جامع المقاصد 6: 304 - 305. 359 الرد بتسليط المغصوب منه على الثوب. ومن هنا يظهر: أنه لا يمكن الحكم بعدم لزوم الرد أصلا، من جهة أن الخيوط المذكورة بحكم التالفة، فإنها ممنوعة كبرى وصغرى. أما الصغرى: فلأن الخيوط ما دامت في الثوب ليست بحكم التالفة، نعم، بعد النزع كذلك، إلا أنا لا نوجب النزع، بل لا نجوزه للتبذير. وأما الكبرى: فلزوم الرد غير متوقف على المالية، بل الملكية كافية في ذلك كما مر. فالصحيح أن يقال: إن الخيوط باقية بعد على ملك مالكها، والثوب ملك للغاصب، ولا بد للغاصب من رد الخيوط، إلا أنه أيضا مسلط على ملكه، كما أن المغصوب منه مسلط على ملكه، لكن لا يمكنه المطالبة بنفس خيوطه، لاستلزام النزع أو تسليط الغاصب إياه على الثوب، وهو مناف لسلطنته عليه، ولا دليل على عدم احترام سلطنة الغاصب على ملكه، فالجمع بين التحفظ على سلطنة الغاصب على الثوب والمغصوب منه على الخيوط، يقتضي التصالح، أو بيعهما معا إلى ثالث وتقسيم ثمنه، أو بيع أحدهما من الآخر، وإلا فلا يجوز لأحدهما التصرف بلا رضى الآخر في الثوب. وهنا صورة أخرى علم حكمها من ذلك: وهي ما إذا استلزم الرد فساد المغصوب ومال الغاصب معا، فلا يحتاج إلى التفصيل. في خروج المضمون عن الملكية ذكر الشيخ (رحمه الله): ثم إن هنا قسما رابعا: وهو ما لو خرج المضمون عن الملكية مع بقاء حق الأولوية فيه، كما لو صار الخل خمرا. فاستشكل في القواعد في
360 وجوب ردها مع القيمة (1)، ولعله من استصحاب وجوب ردها، ومن أن الموضوع في المستصحب ملك المالك إن لم يجب إلا رده، ولم يكن المالك إلا أولى به. إلا أن يقال: إن الموضوع في الاستصحاب عرفي، ولذا كان الوجوب مذهب جماعة، منهم الشهيدان (2) والمحقق الثاني (3)، ويؤيده أنه لو عاد خلا رد إلى المالك بلا خلاف ظاهر (4). انتهى. ونحن الآن في تصوير خروج الخمر المذكور عن الملكية، فهل ذلك من جهة عدم اعتبار العقلاء الملكية له، أو أن الشارع خطأهم في هذا الاعتبار، أو أن للشارع اعتبارا خاصا في مقابل اعتبار العقلاء في ذلك؟ كل ذلك كما ترى، وما هو الموافق للاعتبار والأدلة: أن الشرع قد ألغى الآثار المترتبة على الملكية عند العرف، فما دل على أن ثمن الخمر سحت (5)، أو لا بد من إهراقه (6)، أو غير ذلك، غير ناظر إلى زوال الملك بوجه، كما هو ظاهر، بل هذه الأدلة ناظرة إلى الخمر المعد للشرب، لا الخمر المنقلب عن الخل من باب الاتفاق، مع إمكان علاجه، أو انقلابه خلا بعد ذلك بالطبع. ثم لو قلنا بزوال الملكية فحينئذ إذا انقلب خلا بعد ذلك، فهل يرجع إلى ملك صاحبه، أو يصير من المباحات؟ وهل يمكن التمسك بالاستصحاب لاثبات آثار
1 - قواعد الأحكام: 206 / سطر 11. 2 - الدروس الشرعية 3: 112، مسالك الأفهام 2: 214 / سطر 38. 3 - جامع المقاصد 6: 292 / سطر 5. 4 - المكاسب: 113 / سطر 8. 5 - الفقيه 3: 105 / 435، وسائل الشيعة 12: 63، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 8. 6 - الكافي 5: 230 / 2، تهذيب الأحكام 7: 136 / 601، وسائل الشيعة 12: 164، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 55، الحديث 1. 361 الملكية، أو لا؟ فيه كلام: وهو أنه لا ينبغي الاشكال في إطباق العقلاء على رجوعه إلى ملك صاحبه. ولو أغمضنا عن ذلك، فيمكننا إجراء استصحاب الآثار الثابتة قبل عروض الخمرية، فإن ترتب تلك الآثار وإن كان من جهة الملكية، لكن لا يعلم أن الملكية كانت واسطة في عروضها لها، حتى تزول تلك الآثار بزوالها، أو كانت واسطة في ثبوتها للخل حتى تبقى ولو بعد زوال الملكية، وبما أن موضوع الاستصحاب غير موضوع الدليل الاجتهادي - كما مر سابقا - فيمكننا الإشارة إلى ذلك المائع، ونقول: هذا كان موضوعا لذلك الأثر، والآن كما كان. فظهر: أن العصير أو الخل لو انقلب خمرا جاز بيعه ولو قبل انقلابه خلا ثانيا، فضلا عما بعده، كل ذلك للاستصحاب لو لم نقل بعدم زوال الملكية بذلك. ثم لو قلنا بزوال الملك، فهل يمكننا القول بثبوت حق الاختصاص، أو لا؟ فنقول: أما موارد ثبوت حق الاختصاص كالحيازة، وحق الاختصاص بالنسبة إلى الأشياء المرتبطة بالإنسان كدمه وثناياه - مثلا - وغير ذلك، فكلها عقلائية، وحكم الشرع بأن من حاز شيئا فهو له (1)، أو من سبق إلى شئ فهو أحق به (2)، إرشاد إلى ذلك. وعليه لو لاحظنا حكم العقلاء في الخمر المنقلب عن الخل، فهم ملتزمون بالملك، ومع الغض عن ذلك فلا دليل لنا على ثبوت حق الاختصاص. ودعوى: أن الحق مرتبة ضعيفة من الملك، ومع زوال المرتبة القوية يحتاج زوال المرتبة الضعيفة إلى دليل، فنحكم ببقاء الحق حتى بعد زوال الملك، كما قال به المحقق النائيني (رحمه الله) (3).
1 - سنن البيهقي 6: 142 / سطر 23، وفيه: من أحاط بدل حاز. 2 - سنن البيهقي 6: 142 / سطر 27 وفيه: فهو له، عوالي اللآلي 3: 480 / 4. 3 - منية الطالب 1: 159 / سطر 22. 362 مندفعة: لا بما قاله السيد (رحمه الله) من عدم جريان المراتب في الأمر البسيط (1)، فإن النور أمر بسيط قابل للمراتب، ويمكن أن يكون الشئ بسيطا اعتباريا مع كونه ذا مراتب، فإنه يدور مدار كيفية الاعتبار، كما لا يخفى، بل من جهة أن المفروض زوال الملك بتمام مراتبه، ولو ثبت حق في البين فهو أمر حادث قائم مقام الملك، لا أن المرتبة الضعيفة السابقة باقية، وفي مثله يحتاج ثبوت الحق إلى دليل، فليتدبر. والحمد لله رب العالمين.
365 الشرط الأول: القصد مسألة: ومن جملة شرائط المتعاقدين قصدهما لمدلول العقد الذي يتلفظان به، واشتراط القصد بهذا المعنى في صحة العقد، بل في تحقق مضمونه، مما لا خلاف فيه ولا إشكال. هكذا أفاد الشيخ الأعظم (1) (قدس سره)، والأمر كما أفاد، وذلك من القضايا التي قياساتها معها، فإن جميع العقود والايقاعات من العناوين القصدية، ولذا يقال: العقود تابعة للقصود. اعتبار تعيين المالكين ثم ذكر - بعد هذا - كلام صاحب المقابيس في اعتبار تعيين المالكين، اللذين يتحقق النقل والانتقال بالنسبة إليهما وعدمه وقد فرض الكلام تبعا له (قدس سره) في جهتين: الأولى: توقف تعين المالك على التعيين، وهذا إنما هو في الكليات، وقد عبر الشيخ (رحمه الله) عن ذلك: بما لا يتشخص إلا بإضافته إلى مالك، كما في الذمم. الثانية: عدم التوقف، كما في المعينين (2). ونحن أيضا نقتفي أثرهما، ونقول:
1 - المكاسب: 117 / سطر 3. 2 - نفس المصدر: / سطر 8 - 35. 367 أما الجهة الأولى في توقف تعين المالك على التعيين في الكليات: فمحل الكلام فيها مشتمل على صور: منها: أن يبيع أحد المالكين أو الملاك إلى أحد المالكين أو الملاك، ويقبل الآخر كذلك. ومنها: أن يبيع أحدهما أو أحدها إلى شخص، ويقبل هو كذلك. ومنها: أن يبيع شخص إلى أحدهما أو أحدها، ويقبل الآخر كذلك. ومنها: أن يبيع أحدهما أو أحدها إلى شخص، ويقبل هو من فرد منهما أو منها. ومنها: أن يبيع شخص إلى أحدهما أو أحدها، فيقبل فرد منهما أو منها. ويتصور صور أخرى يعلم حكمها مما ذكر. في كلام صاحب المقابيس في المقام إذا عرفت ذلك، فقد استدل صاحب المقابيس على اعتبار تعيين المالكين بما يرجع إلى إشكالات بعضها عقلية وبعضها نقلية على فرض عدم التعيين: أما الاشكال العقلي: فقد ذكر أنه لولا ذلك لزم بقاء الملك بلا مالك (1). وأنت خبير بأن هذا الاشكال لا يتم في الصورتين الأخيرتين، لعدم حصول الانتقال قبل القبول، وبعده المالك معلوم. وأما في الصور الباقية فما يمكن أن يقال في وجه بقاء الملك بلا مالك: أن عنوان أحدهما أو أحدها عنوان مبهم لا واقع له، والمفروض أنه ليس طرف المعاوضة إلا ذلك، فيقع الملك بلا مالك لو فرض الانتقال، كما هو مقتضى صحة المعاملة.
1 - مقابس الأنوار: 115 / سطر 21. 368 والجواب عن ذلك: أن ما ذكر من العنوان - أحدهما أو أحدها - وإن كان بحسب المفهوم وما هو بالحمل الأولي مرددا ومبهما، إلا أنه معين بالحمل الشائع، وإلا لم يكن قابلا للتصور، وهذا كما في جميع المفاهيم التي لا واقع لها في الخارج - كنفس عنوان العدم - فإنه بالحمل الأولي عدم، لكن بالحمل الشائع عنوان موجود في الذهن، فإذا كان الأمر كذلك فأي مانع من أن يكون المالك هو هذا العنوان. والحاصل: أن الاشكال المتقدم، وهو بقاء الملك بلا مالك من جهة عدم وجود المالك، وهو عنوان أحدهما أو أحدها مندفع. نعم، يمكن أن يستشكل في ذلك: بأن هذا العنوان غير مالك، والمالك هو الواقع، ولم يقع طرفا للمعاملة. والجواب عن هذا: أنه لا يعتبر الملكية حال العقد في بيع الكليات جزما، أترى أن البائع في بيع السلف مالك لشئ بالفعل؟! بل المصحح لهذا البيع - بنظر العقلاء - إنما هو اعتبار الذمة بحيث يقتدر على تسليم العوضين، وهذه الكبرى في المقام أيضا موجودة، فإن عنوان أحدهما - من حيث إمكان تطبيقه على كل من الفردين - معتبر بنظر العقلاء وإن لم يكن مالكا للمبيع، فإن هذا الاعتبار العقلائي كاف في بيع الكليات بل الشخصيات، كما مر في أول الكتاب. مضافا إلى أنه على فرض ورود الاشكال العقلي السابق أو الآتي وهذا الاشكال العقلائي، فغاية ما يلزم اعتبار شرط زائد على هذه المعاملة، هو تعيين المالكين ولو بعد وقوع المعاملة، لا لزوم التعيين حالها، فإن الاعتبار بالملكية حال الانتقال، لا الملكية حال الانشاء، فيكون المقام نظير البيع الفضولي، ولا يلزم كونه باطلا رأسا، إلا أن يقال: إن إنشاء مثل هذه المعاملة غير معقول، فإنه من إيجاد الإضافة بين الموجود والمعدوم، ولا يحصل الجد بذلك، فإنه مستحيل. وقد ظهر الجواب عن هذا مما تقدم ومما يأتي.
369 تقريب الاشكال العقلي بوجه آخر وجوابه ويمكن تقريب الاشكال العقلي بوجه آخر: وهو أن البيع هو تبادل الإضافتين، وحيث إن عنوان أحدهما مبهم معدوم لا يمكن أن يقع طرفا للإضافة. وقد عرفت الجواب عن هذا التقريب أيضا، فإن عنوان أحدهما موجود بالحمل الشائع وقابل للاعتبار العقلائي. الاستدلال بلزوم الجزم في العقود على اعتبار التعيين وأما سائر الاشكالات فقد ذكر: أنه لا يحصل الجزم بشئ من العقود التي لم يتعين فيها العوضان، ولا بشئ من الأحكام والآثار المترتبة على ذلك، وفساد ذلك ظاهر (1). انتهى. ولعل فساد ما ذكره ظاهر، فإنه مضافا إلى حصول الجزم في المقام في بعض الموارد، لا دليل على اعتبار الجزم في العبادات، فضلا عن المعاملات، بل هذا أول الكلام في هذا البحث، وإثبات اعتبار التعيين بلزوم حصول الجزم مصادرة، على أنا ندعي حصول الجزم في جميع الموارد، ودليل هذا المدعى يظهر مما تقدم، فإن المعاملة في المقام تقع بين العنوانين، والجزم بذلك حاصل. وقد ذكر أيضا: أنه لا دليل على تأثير التعيين المتعقب (2). وقد عرفت: عدم اعتبار التعيين أصلا، ومع اعتباره فلا دليل على لزومه حال البيع، بل غايته الاعتبار حال الانتقال، نظير بيع الفضولي، فإن لزوم التعيين من جهة دفع الاشكال العقلي، ويدفع بالقول باعتباره ولو متعقبا، وقد مر هذا وما يمكن
1 - مقابس الأنوار: 115 / سطر 22. 2 - مقابس الأنوار: 115 / سطر 22. 370 أن يقال فيه. ثم ذكر: أنه لا دليل على صحة العقد المبهم، لانصراف الأدلة إلى الشائع المعروف (1). وهذا أيضا مدفوع: بأن الظاهر من دليل النفوذ نظير (أحل الله البيع) (2) و (أوفوا بالعقود) (3) أن الموضوع لذلك العقد والبيع، بل نجزم بعدم دخل خصوصية أخرى فيه، فكأنه في مقام بيان أن الإنسان لا بد وأن يكون ثابتا عند قوله وقراره، وهذا لا يمكن حمله على الأفراد الشائعة المعروفة، فهذه الأدلة في نفسها دالة على التعميم، مضافا إلى أن الشيوع والغلبة لا يوجبان الانصراف، ولذا نحكم بصحة جميع المعاملات الحادثة اليوم بهذه الأدلة، إلا أن يوجد دليل شرعي على بطلانها. الاستدلال بتوقف اعتبار ملكية ما في الذمم على اعتبار التعيين وقد ذكر الشيخ (قدس سره) في المقام: أن اعتبار التعيين إنما هو لتوقف اعتبار ملكية ما في الذمم على تعيين صاحب الذمة، لا أنه معتبر في المعاملة في عرض سائر الشرائط (4). فعلى ما ذكره لا بد من تعيين الشخص مراعاة لتحصيل الملكية في العوضين، وتمامية ذلك تتوقف على إثبات مقدمات: منها: أن البيع هو المبادلة في الملكين. ومنها: أنه لا بد من كون المبادلة واقعة على الملكين، بحيث تكون الملكية
1 - مقابس الأنوار: 115 / سطر 23. 2 - البقرة 2: 275. 3 - المائدة 5: 1. 4 - المكاسب: 117 / سطر 26 - 30. 371 سابقة عليها. ومنها: أن ما في الذمة ملك. ومنها: أن ملكية ما في الذمة موقوفة على تعيين صاحب الذمة. أما الأوليان فقد مر عدم اعتبار الملكية في العوضين في بيع الشخصيات، فضلا عن الكليات. مضافا إلى أنه لو سلمنا الاعتبار فغايته الاعتبار حال الانتقال، لا حال المعاملة. وقد ذكرنا سابقا: أن الملكية في بعض الصور تحصل بالقبول، وفي بعضها يمكن تحصيلها بالتعيين بعد المعاملة، نظير الإجازة في البيع الفضولي. وأما الأخيران فلعل الثالثة ظاهرة البطلان، إذ كيف يمكن أن يقال: إن الإنسان مالك لآلاف في ذمته، مع أنه لا يملك إلا دار سكناه، وسائر ما عنده من الخارجيات؟ وأما المعاملة في الكليات فقد ذكرنا: أنه ليس من قبيل المبادلة في الملك، بل الشخص المعتبر عند العقلاء، ذمته أيضا معتبرة عندهم، باعتبار إمكانه أداء ما يبيع. نعم، بعد تحقق المعاملة يعتبر العقلاء كون المشتري مالكا في عهدة البائع ما اشتراه، ولا بد للبائع من أداء ذلك من الخارجيات، فالبائع للحنطة كليا لا يبيع ما يملك، بل يبيع ما يمكنه أداؤه، وهذا المقدار كاف في تحقق البيع. وأما الرابعة - وهو توقف ملكية العوض على التعيين - فقد مر عدم الملكية في الكليات مع التعيين ومع عدمه. ولكن الشيخ (رحمه الله) ذكر في بيان ذلك: أن ما في الذمة ما لم يضف إلى شخص معين، لم يترتب عليه أحكام المال من جعله ثمنا أو مثمنا (1). ونقول: - بعد العلم بأن الذمة ليست ظرفا للأموال والأملاك كما مر، وهو أيضا لا بد وأن يلتزم بذلك، لما ذكر: من توقف الملكية إلى الإضافة - يرد عليه:
1 - المكاسب: 117 / سطر 31. 372 أفهل تكون الإضافة من المملكات؟ وكيف تحصل الملكية لما لم تكن ملكا بالإضافة؟ بل لنا أن ندعي: أن الإضافة تخرج الملك عن الملكية والمال عن المالية، فإن الإضافة إلى ذمة شخص تصير الشئ كليا عقليا غير قابل للانطباق على الخارجيات. والحاصل: أنه في باب الكليات لا نحتاج إلى الملكية قبل البيع لتصحيحه، بل الاعتبار العقلائي - من جهة إمكان التأدية - كاف في ذلك، وهذا موجود في بيع المبهم، والله العالم. في عدم التوقف على التعيين في المعينين وأما الجهة الثانية، فلا بد فيها من فرض محل الكلام بحيث يمكن فيه النزاع، وأن يقع محط بحث الأعلام. وما يشاهد في الكلمات في ذلك - وهو كون العوضين شخصيين، والمالكين متعينين، والعاقد ملتفتا إلى ذلك - غير قابل للنزاع والخلاف فيه، فإنه لا معنى للبحث عن تعيين المعين. فنقول: قد يفرض الكلام في مورد الجهل بالمالكين، وأخرى في مورد العلم، وفي الصورتين: إما أن لا يقصد العاقد المالك، أو يقصد بعنوان مالكه الواقعي، وفي ذلك لا ينبغي الاشكال في صحة العقد للتعين واقعا، وعدم الحاجة إلى قصد المالك حينئذ، بل في الثانية قصد ذلك ولو إجمالا. وقد يفرض الكلام في الصورتين إذا قصد الابهام أحدهما والعاقد فضولي، إما منهما معا، أو من المالك بداعي أنه لو لم يجز المالك المعاملة، وصار الآخر مالكا للمال بعد ذلك، وأجاز، تتم المعاملة بناء على صحة مثل بيع هذا الفضولي لقاعدة من باع شيئا ثم ملكه (1).
1 - يأتي في الصفحة 597. 373 وقد يفرض الكلام في ما إذا علم الوكيل لشخصين - علما إجماليا - بكون العين الخارجي ملكا لأحدهما، وأوقع المعاملة لهذا العنوان كما مر. وما ينبغي أن يكون محلا للنزاع بين الفقهاء - بعد ما مر: من أنه لا معنى للنزاع في تعيين المعين واقعا والتفاتا - الفرضان الأخيران، والكلام فيه - دليلا ودعوى - عين ما مر في العوضين الكليين. الكلام في قصد الخلاف هذا، وأما الكلام في قصد الخلاف فقد يفرض في صورة الجهل بالمالكين، وأخرى في صورة العلم بهما. وفي الصورة الأولى: قد يكون قصد الخلاف تطبيقا، وأخرى تقييدا. والحكم الصحة في الأول، لحصول التعيين حينئذ، والاشتباه في التطبيق لا يضر، وفي الثاني الحكم هو البطلان، بناء على أن البيع تبادل الإضافتين، والصحة بناء على أنه المبادلة بين المالين في الملكية، وهذا ظاهر. وفي الصورة الثانية: قد يكون قصد الخلاف بمعنى قصد خروج ملك شخص عن شخص آخر، كقوله: بعت مالي عنه، وأخرى بمعنى قصد دخول عوض ماله في ملك شخص آخر، كقوله: بعت مالي له، بمعنى خروج المثمن عن ملكي ودخول ثمنه في ملكه. والتحقيق: البطلان في الصورتين، لاستحالة حصول الجد بإنشاء خروج ملك شخص عن شخص آخر، فإنه مستلزم للدور، فإن إنشاء الخروج في طول حصول الملكية للآخر وفي المرتبة المتأخرة عنه، واستحالة حصول الجد بإنشاء المبادلة بين الملكين - بوصف المملوكية - مع عدم وقوع التبادل بينهما من جهة المالكين، فإن المملوكية والمالكية متضايفتان، ولا يعقل التبادل بين الملكين بلحاظ
374 الأول دون الثاني. هذا، فقد عرفت عدم تمامية ما ذكر في الحكم بالصحة: من أن هذا بيع فيه معنى الهبة، أو بيع وهبة، لاستحالة إنشاء جدي كذلك، مع أن الهبة تحتاج إلى القبول والقبض، إلا أن يقال: إن هذه معاملة خاصة فيه معنى البيع والهبة، فيرد عليه الاشكال العقلي المتقدم. وعرفت أيضا: عدم تمامية ما ذكر من الحكم بصحة المعاملة وبطلان التقييد، فإن هذا ليس من قبيل إنشاء تمليك ما يملك وما لا يملك، بل متعلقه أمر واحد بسيط، كما لا يخفى. ثم ذكر الشيخ (رحمه الله) بعد هذا فروعا أخر: في اعتبار معرفة المتبايعين المنتقل إليه المال منها: أنه هل يعتبر معرفة كل من البائع والمشتري من ينتقل إليه المال، أم لا؟ (1) وهذا - كما ترى - مغاير للمسألة السابقة، وإن توهم المحقق النائيني (رحمه الله) أنهما مسألة واحدة (2). والظاهر عدم الاشكال من أحد في عدم الاعتبار، ووجهه ظاهر، فإن المراد المبادلة بين المالين بحيث يدخل كل منهما في ملك مالك الآخر. وهذا يحصل من دون المعرفة أيضا، ولا دليل على اعتبارها في البيع، بل في النكاح أيضا، وإن قيل بالاعتبار فيه. نعم، إيجاد العلقة للمجهول المطلق مستحيل، لكن مرادنا من عدم المعرفة ما لا بد منه في الثمن والمثمن في البيع، بحيث يسد باب الغرر، فإنه لا دليل على اعتبار مثل ذلك في النكاح ولزوم سد باب الغرر فيه.
1 - المكاسب: 118 / سطر 12. 2 - منية الطالب 1: 181 - 182. 375 في جواز مخاطبة غير المخاطب في العقود ومنها: أنه هل يجوز الخطاب مثل بعتك أو أنكحتك مع قصد غير المخاطب، أم لا، أم يفرق بين البيع والنكاح (1)؟ فالظاهر الجواز في البيع دون النكاح، وذلك للتعارف في الأول دون الثاني، وقد مر لزوم اتباع العرف في الأسباب أيضا، كالمسببات في باب المعاملات. وأما وجه التعارف في البيع دون النكاح، فهو تعلق الغرض بالمبادلة بين المالين في البيع، ولا نظر فيه إلى الأشخاص غالبا، بخلاف النكاح، فإن المتعلق للغرض فيه هو الأشخاص نوعا، وهذا ظاهر. اعتبار الظهور في العقود ومنها: أنه هل يعتبر ظهور الخطاب - بحيث لا يمكن القبول بالنسبة إلى غير المخاطب - أم لا، أم يفرق بين البيع والنكاح؟ (2) والظاهر أن الظهور متبع حتى في البيع، للزوم اتباع الظهورات عرفا، وإن أمكن القول بعدم اعتباره في البيع من جهة عدم تعلق الأغراض بالأشخاص فيه، فالخصوصية ملغاة عرفا، فتأمل.
1 - المكاسب: 118 / سطر 12 - 18. 2 - المكاسب: 118 / سطر 15. 376 الشرط الثاني: الاختيار مسألة: ومن شرائط المتعاقدين الاختيار: على ما أفاد الشيخ (رحمه الله)، قال: والمراد به القصد إلى وقوع مضمون العقد عن طيب نفس، في مقابل الكراهة وعدم طيب النفس، لا الاختيار في مقابل الجبر (1). ولا بد لنا أولا من تحرير محل النزاع، فنقول: إن الاختيار هو الافتعال من الخير بمعنى طلب الخير وترجيح ما يراه الفاعل خيرا له على غيره، ولذا يريده ويتصدى لفعله ويفعله، وبما أنه فعل من أفعال النفس، فيحتاج حصوله إلى مبادئ كسائر الأفعال الاختيارية، فقد يكون المبدأ له الميل النفسي وشهوتها، وأخرى يكون المبدأ له الالجاء أو الاضطرار أو الاكراه، فالمكره أيضا يختار الفعل ويفعله مثل المشتاق، فالاكراه في طول الاختيار في الفعل الاختياري، لا في عرضه، فلا معنى للقول بأن شرط العقد الاختيار في مقابل الاكراه، كما أن تفسير الاختيار بالقصد عن طيب نفس أيضا لا يصح، فإنه لو كان المراد من طيب النفس الاشتياق فلا يعتبر في صحة المعاملة، ولو كان المراد منه الجد في مقام الانشاء فهو حاصل في العقد المكره أيضا كغيره.
1 - المكاسب: 118 / سطر 28. 377 والحاصل: أنه لا فرق بين عقد المكره وغيره من جهة الانشاء والاختيار، وإنما الفرق بينهما في مبدأ الاختيار، فإنه في الأول إكراه المكره وفي الثاني غيره. ومن هنا ظهر: أن الصحيح في عقد البحث أن يقال: إنه هل يعتبر في صحة المعاملة عدم وقوعه عن إكراه مكره، أو لا؟ فلو قلنا بأن المانع الشرعي أمر معقول، فيكون الاكراه مانعا، وإلا فيكون عدمه شرطا على القول بالاعتبار، وجعل الاختيار شرطا في المعاملة ومعقدا لهذا البحث غير تام، كما مر (1). أدلة بطلان بيع المكره انصراف أدلة حلية البيع عنه وكيف كان، لا إشكال في أن بيع المكره لا يترتب عليه الأثر عند العقلاء، فلو لم يكن دليل شرعي على بطلانه لكفى ذلك في إثبات البطلان، فإن الأدلة العامة مثل
1 - أقول: ينبغي التوجه إلى نكتة وهي الفرق بين عقد المكره وغيره في القصد، فإن المكره الذي لا يرضى بتمليك ماله إلى الغير لا يقصد التمليك جدا، بخلاف غيره. وبعبارة أخرى: إن من المعتبر في المعاملات وقوعها عن جد من المنشي لمضمونها، والاكراه إلى الجد أمر غير معقول، فإن الجد أمر قصدي نفسي لا يطلع عليه أحد غير نفس المنشي للمعاملة، ولا معنى لأن يكرهه أحد على ذلك لامكان التعمية وعدم الجد. فإذن المكره لو لم يقصد مضمون العقد جدا فيبطل العقد لذلك، ولا تصل النوبة إلى حديث الرفع، ولا تؤثر فيه الإجازة المتأخرة، لفقد ركن المعاملة وهو الانشاء جدا. ولو قصد ذلك فيصح العقد لعدم تعلق الاكراه بهذا القصد فوقع بلا إكراه. نعم، لعله يمكن دعوى أنه قد يتفق نادرا إنشاء المكره جدا بالنسبة إلى مضمون العقد، ولكنا - بعد - في تصور إمكان تحقق الجد إلى المضمون من المكره الغير الراضي بالمعاملة، ولذلك عبر الأصحاب بأن المكره قاصد إلى اللفظ دون المعنى. المقرر حفظه الله. 378 (أحل الله البيع) (1) وغيره من الأدلة منصرفة إلى ما هو المتعارف بين العقلاء. فعلى هذا يكون البحث عن سائر الأدلة من باب التأييد. الاستدلال بحديث الرفع ومما استدل به في المقام: الحديث الشريف رفع ما استكرهوا عليه (2). وتقريب الاستدلال: ما مر غير مرة من أن إسناد الشارع الرفع إلى الذات مع أنه غير مرفوع حقيقة، لا يصح إلا ادعاء، وحيث إن الادعاء يحتاج إلى مصحح، ولا مصحح إلا بأن تكون جميع الآثار مرفوعة، أو الآثار الظاهرة بحيث يمكن ادعاء أنها تمام آثار الشئ، وبلحاظه يمكن ادعاء رفع الشئ نفسه في محيط الشرع، فيكون معنى الحديث رفع جميع الأحكام التكليفية والوضعية، ومنها صحة المعاملة المكره عليها. وأما تقريب الاستدلال: بأن تعليل رفع ما استكرهوا عليه في بعض الروايات الوسائل عن الكافي، أبواب الجهاد بالآية الكريمة (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان) (3) - الواردة في مورد إكراه عمار بن ياسر بالتبري من النبي الأكرم وسبه (صلى الله عليه وآله وسلم) - يدل على عموم الرفع للأحكام الوضعية، فإن المرفوع في مورد الآية غير منحصر بالحكم التكليفي، وهو الحرمة، بل الأحكام الوضعية - مثل الكفر وبينونة الزوجة وغير ذلك - أيضا مرفوعة، فلا يتم، لأن رفع الآية الكريمة الحكم التكليفي فقط عن موردها، كاف في رفع تلك الأحكام الوضعية، فإنه ما لم
1 - البقرة 2: 275. 2 - الكافي 2: 335 / 2، الفقيه 1: 36 / 132، التوحيد: 353 / 24، وسائل الشيعة 11: 295، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1 و 2. 3 - النحل 16: 106، الكافي 2: 335 / 1، وسائل الشيعة 11: 295، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس وما يناسبه، الباب 56، الحديث 2. 379 يحرم التبري والسب لا يوجب ذلك كفر المتبري والساب، فلا يترتب عليه آثار الكفر، فإذن لا يلزم كون الآية بنفسها في مقام رفع كلا الحكمين معا، فلا يتم الاستشهاد. وأما ما أفاده الشيخ (رحمه الله): من أن تطبيق الإمام (عليه السلام) حديث الرفع على الاكراه باليمين بالطلاق (1)، يدل على عموم الرفع، فإن التطبيق على المورد وإن كان عن تقية، إلا أن نفس إلقاء هذه الكبرى في مورد الحكم الوضعي كاف في ذلك (2)، فأيضا لا يتم، لأنه بعد البناء على أن التطبيق واقع تقية فكيف يمكن دلالة هذا التطبيق الذي وقع في غير مورده على عموم الكبرى، فليتدبر، فإنه به حقيق. الاستدلال بحديث الحل وأما حديث لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه (3) فيمكن دعوى كونه أجنبيا عن المقام، فإنه في مقام بيان حلية مال الغير وعدم حليته، لا في مقام بيان شرط صحة المعاملة الواقعة عليه. ويمكن دعوى: أن الآية الكريمة (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) (4) أيضا ناظرة إلى أن المعتبر في المعاملة عدم إكراه المكره، أو أوسع من ذلك ومن اعتبار عدم إيهام إكراه المكره وإن لم يكن مكره، فإن الرضا - بمعنى الاشتياق - غير معتبر في المعاملة جزما، والمعتبر هو الرضا في مقابل المنع،
1 - المحاسن: 339 / 124، وسائل الشيعة 16: 136، كتاب الايمان، أبواب الايمان، الباب 12، الحديث 12. 2 - المكاسب: 118 / سطر 31. 3 - مسند أحمد بن حنبل 5: 72، الكافي 7: 273 / 12، سنن البيهقي 6: 100، عوالي اللآلي 1: 222 / 98، وسائل الشيعة 19: 3، كتاب القصاص، أبواب القصاص، الباب 1، الحديث 3 . 4 - النساء 4: 29. 380 وبالفارسية تن دردادن، أو أخص من ذلك، أي الرضا في مقابل الاكراه. وكيف كان، فيكفينا حديث الرفع (1). قال الشيخ (رحمه الله): ثم إن حقيقة الاكراه - لغة وعرفا - حمل الغير على ما يكرهه (2). أقول: لا يعتبر فيها الحمل ولا الحمل على ما يكرهه، فإنه يصدق الاكراه بأمر الأمر مع عدم إمكان التخلف عنه للخوف من قهره، بل يصدق ذلك ولو لم يكن له قهر، ولكن حصل الخوف من إيقاعه ضررا ولو بدعاء أو هتك عرض وغير ذلك. نعم، يقع الاشكال فيما لو أوقع المعاملة مع توهم الاكراه مع عدم مكره في البين واقعا، فلو تمسكنا لبطلان عقد المكره بحديث الرفع أو بالآية الكريمة (3)، مع حمل الرضا على عدم إكراه مكره، فتصح هذه المعاملة لعدم المكره.
1 - أقول: قد تقدم أن الاكراه على الجد لا يعقل، كما أن الجد على الاكراه على الجد أيضا غير معقول، فإن الجد بالمعاملة لا يعلم إلا من قبل صاحبه، فكيف يمكن إكراهه عليه مع إمكانه عدم الجد بالمعاملة؟! والظاهر أن الرضا في الآية المباركة وهو الرضا المعاملي ليس إلا ذلك، وما أفاده - مد ظله - من كلمة تن دردادن أيضا هو ذلك. فمعاملة المكره خالية عن إنشاء جدي، وتبطل بذلك، بلا حاجة إلى حديث الرفع. ولو أنشأ جدا فقد أنشأ ما ليس بمكره عليه، فيصح لتمامية أركان المعاملة ولا يمكن رفعها بحديث الرفع، لعدم الموضوع. وأما حمل الرضا على عدم إكراه مكره، كما ترى، فإن الرضا أمر وجودي في نفس العاقد، فكيف يمكن حمله على معنى عدمي؟! وبالجملة، إما أن يقال بالفرق بين المكره وغيره في حالاته النفسية حين المعاملة، بحيث لا يكون الأول راضيا - بأي معنى شئت - بخلاف الثاني، أو يقال بعدم الفرق، بل الفرق من الخارج - وهو وقوع المعاملة عن إكراه في الأول دون الثاني - فلو قيل بالثاني، فالرضا المعاملي حاصل - على الفرض -، لأن حمل الرضا على عدم الاكراه فقط حمل الوجودي على العدمي، فإثبات البطلان لا يمكن إلا بحديث الرفع، وقد مر ما فيه. ولو قيل بالأول، فمقتضاه بطلان معاملة المكره عليها، لعدم حصول الرضا المعاملي فيها. المقرر دامت بركاته. 2 - المكاسب: 119 / سطر 12. 3 - النساء 4: 29. 381 ولو تمسكنا بالآية، وقلنا: بأن الرضا أمر وجودي قائم بنفس المالك، وهو مفقود في عقد المكره، فنحكم بالبطلان في ذلك. ويجئ تمام الكلام في معنى الرضا فيما سيأتي. وأيضا يصدق الاكراه في مورد اشتياق الشخص إلى المعاملة، لكن لا يرضى بوقوعه تحت قهر قاهر وإكراه مكره، وأكرهه أحد على المعاملة، فهو مشتاق إلى المعاملة، ومع ذلك مكره من قبل القاهر. فما أفاده لا يتم طردا وعكسا، بل حقيقة الاكراه هو الالزام قهرا من الملزم والقاهر، سواء كره المكره المعاملة، أو لا، فالمعاملة الواقعة عن إلزام الملزم وقهر القاهر وإكراه المكره وجبر الجابر - سمه بما شئت - باطلة لحديث الرفع. ثم ذكر الشيخ (رحمه الله) بعد ذلك: ويعتبر في وقوع الفعل من ذلك الحمل اقترانه بوعيد منه، مظنون الترتب على ترك ذلك الفعل، مضر بحال الفاعل أو متعلقه نفسا وعرضا (1). أقول: ظهر مما تقدم أنه لا يعتبر في صدق الاكراه اقتران الحمل بالوعيد، لصدق الاكراه مع الالزام وعدم إمكان التخلف عن ذلك، لخوف ترتب ضرر من الملزم على ترك الفعل. وكذا لا يعتبر الظن بالترتب، فإن الاحتمال العقلائي المنشأ لحصول الخوف كاف في ذلك. وأما اعتبار الضرر فهو في محله، ولا يلزم من وصوله إلى حد الحرج، بل مطلق الضرر العقلائي، الذي يرى العقلاء أن الشخص مكره على الفعل، لوقوعه في هذا الضرر لو ترك الفعل، كاف في ذلك. والحاصل: أن عنوان الاكراه بمعنى الالزام عن قهر أوضح في نظر العقلاء من
1 - المكاسب: 119 / سطر 12. 382 تعريفه بما أفاده (قدس سره). ويعتبر في المعاملة أن لا يكون عن إكراه مكره وإلزام ملزم. في اعتبار عدم المندوحة في تحقق الاكراه قال الشيخ (رحمه الله): ثم إنه هل يعتبر في موضوع الاكراه أو حكمه، عدم إمكان التفصي عن الضرر المتوعد به بما لا يوجب ضررا آخر، أم لا؟ الذي يظهر من النصوص والفتاوى عدم اعتبار العجز عن التورية، لأن حمل عموم رفع الاكراه - وخصوص النصوص الواردة في طلاق المكره وعتقه ومعاقد الاجماعات والشهرات المدعاة في حكم المكره - على صورة العجز عن التورية لجهل أو دهشة، بعيد جدا، بل غير صحيح في بعضها من جهة المورد، كما لا يخفى على من راجعها، مع أن القدرة على التورية لا تخرج الكلام عن حيز الاكراه عرفا (1)، انتهى. أقول: قد اضطرب كلام الشيخ (رحمه الله) في هذا المقام، والحق أن يقال: إنه مع إمكان التورية، للالتفات إليها ومعرفة طريقها، أو التفصي بوجه آخر على نحو لا يوجب ضررا آخر عليه، لا يصدق الاكراه عرفا، وإلا يصدق بلا فرق بينهما. وأما ما أفاده: من أن بعد حمل النصوص على مورد العجز عن التورية، يثبت عدم اعتبار العجز عنها في الاكراه، فلو أراد من ذلك أن الروايات تدل على أن مفهوم الاكراه كذا، فهذا إثبات المفهوم اللغوي بالتعبد والرواية، ولا يصح. وأما لو أراد من ذلك الالحاق الحكمي، فلا يمكن في مثل ما أفاده من النصوص عقلا، فإن موضوع الرفع هو الاكراه فهو تعبد برفع الاكراه لا به وبرفع ما ليس بإكراه.
1 - المكاسب: 119 / سطر 20. 383 وبالجملة: إن التعبد برفع الاكراه أمر، وتنزيل ما ليس بإكراه منزلة الاكراه أمر آخر، ولا يمكن إثبات الثاني بدليل الأول، كما هو أظهر من أن يخفى. وهكذا الكلام بالنسبة إلى نصوص طلاق المكره ومعاقد الاجماعات. ثم ذكر بعد هذا: وربما يستظهر من بعض الأخبار: عدم اعتبار العجز عن التفصي بوجه آخر غير التورية أيضا في صدق الاكراه، مثل رواية ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: لا يمين في قطيعة رحم، ولا في جبر، ولا في إكراه. قلت: أصلحك الله، وما الفرق بين الجبر والاكراه؟ قال: الجبر من السلطان، ويكون الاكراه من الزوجة والأم والأب، وليس ذلك بشئ (1) (2). أقول: وجه استدلاله بهذه الرواية إمكان التفصي من إكراه الزوجة والأم والأب غالبا، ولكنه قد لا يمكنه التفصي عن ذلك أيضا، لما ذكرنا سابقا: من أن الاكراه يصدق في غير مورد قهر القاهر أيضا، مثل الزوجة - مثلا - كإلزامها زوجها بفعل، وإلا لفعلت ما لا يليق بشأنه، وتهتك عرضه مما لا يمكن للزوج التفصي عنه، فيمكن أن يكون معنى الاكراه في الرواية ذلك. وبالجملة: إن إثبات المفهوم بالرواية غير صحيح، بل لا بد من إثبات موضوع الرواية بما يستفاد عرفا من اللفظ، مضافا إلى أن الجبر لا يباين الاكراه مفهوما، بل هو أيضا إلزام من الملزم، غاية الأمر أنه من القاهر، والاكراه مفهوما أعم من ذلك، فالتعبد في مورد الاكراه يغني عن التعبد في مورد الجبر، بل التعبد الأخير يصبح لغوا محضا. فيصير معنى الرواية: أنه لا يمين في مورد الاكراه بلا فرق بين مورد الجبر
1 - الكافي 7: 442 / 16، تهذيب الأحكام 8: 286 / 1053. 2 - المكاسب: 119 / سطر 23 - 25. 384 وغيره، فلا يمكننا تنزيل غير الاكراه منزلة الاكراه بهذا الدليل كما مر. فالالحاق الحكمي أيضا لا يمكن بهذه الرواية. نعم، لو كان الاكراه من الزوجة أو الأم والأب ملازما دائما لامكان التفصي، أمكننا الالحاق، لا تعيين الموضوع، إلا أن الملازمة الدائمية ممنوعة. ثم ذكر (قدس سره): أن العجز عن التورية لو كان معتبرا لأشير إليه في الأخبار الكثيرة، المجوزة للحلف كاذبا عند الخوف والاكراه، خصوصا في قضية عمار... إلى أن قال: فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن عادوا عليك فعد، ولم ينبهه على التورية (1). انتهى. وقد ذكرنا سابقا: أنه لا يمكن تعيين مفهوم الاكراه بهذه الروايات، ولا الالحاق الحكمي. وأما وجه عدم الإشارة في الروايات وهكذا في قضية عمار: فهو أن التورية أمر مغفول عنه عند الناس، وفي موردها مشكل لا يمكن ذلك بسهولة بحيث لا يفهمها الآخر، ولذا لم تذكر في الروايات، لعدم إمكان التورية غالبا، والاشفاق بالنسبة إلى عمار اقتضى عدم بيان التورية، من جهة احتمال أنه لو أراد التورية لأوقع نفسه في الهلاك. وأما ما ذكره المحقق النائيني (رحمه الله): من أن التورية أيضا كذب (2)، ففيه ما فيه، لأن التورية إخبار عن الواقع لا خلافه، نعم، لا يفهمه المخاطب. وأما ما قيل: من أن مناط حرمة الكذب موجود في التورية، وهو الاغراء بالجهل (3)، فكما ترى، فإن الكذب حرام وإن لم يوجب الاغراء، والاغراء جائز
1 - المكاسب: 119 - 120. 2 - منية الطالب 1: 187 / سطر 16، و 188 / سطر 18. 3 - حاشية المكاسب، الإيرواني 1: 40 / سطر 19، حاشية المكاسب، المحقق الأصفهاني 1: 122 / سطر 18. 385 حتى في مورد الكذب، فضلا عن غيره. والحاصل: أنه لو أمكن التفصي بتورية وغيرها بسهولة - بحيث لا يصدق الاكراه عرفا - فالمعاملة صحيحة. ثم ذكر الشيخ (رحمه الله): أن ما ذكرنا: من اعتبار العجز عن التفصي، إنما هو في الاكراه المسوغ للمحرمات، ومناطه توقف دفع ضرر المكره على ارتكاب المكره عليه. وأما الاكراه الرافع لأثر المعاملات، فالظاهر أن المناط فيه عدم طيب النفس بالمعاملة، وقد يتحقق مع إمكان التفصي (1). ثم ذكر لذلك المثال، فلاحظ المتن. وذكر بعض المحققين في المقام: أنه ليس غرض الشيخ (قدس سره) من هذا الكلام ما هو ظاهره، من سعة دائرة الاكراه في المعاملات، وضيقها المساوق للاضطرار في التكليفيات، بل غرضه - كما تشهد به الأمثلة المذكورة في المتن - أن التفاوت في مراتب الاكراه يوجب التفاوت في مراتب التفصي، فالعدول من مكروه إلى مكروه - كما في المثال الأول - ليس من التفصي، بل التفصي من المكروه إلى غير المكروه، فعدم العدول لا يوجب عدم صدق الاكراه، بخلاف عدم أمر خدمه بطرده، فإنه ليس بمكروه، فلو لم يأمر لكان كاشفا عن كونه طيب النفس بالمعاملة، بخلاف المحرمات، فإن الاكراه الرافع لها ما يساوق الاضطرار، فكون المتفصى به ما يكرهه طبعا لا يوجب العدول عن المضطر إليه إلى المضطر إليه حتى لا يمنع من صدق الاضطرار (2). هذا، وأنت خبير بأن ما أفاداه مبني على ما ذكره الشيخ (رحمه الله) سابقا في معنى الاكراه، وقبله هذا المحقق: من أنه حمل الغير على ما يكرهه، واعتبار طيب النفس بمعنى الابتهاج في المعاملات (3).
1 - المكاسب: 120 / سطر 7. 2 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 123 / سطر 13. 3 - تقدم في الصفحة 381، حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 121. 386 وأما على ما ذكرنا: من أن الاكراه هو حمل الغير على شئ قهرا وإلزاما، سواء كرهه أم لا، والرضا والطيب المعاملي ليسا بمعنى الابتهاج، بل هما في مقابل الاكراه والاعتبار بعدم وقوع المعاملة عن قهر قاهر وإلزام ملزم (1)، فلا يظهر فرق بين المعاملات والمحرمات في ذلك، فإن مفهوم الاكراه أمر واحد، فلو كان صادقا مع إمكان التفصي يصدق في الموردين، وإلا فلا يصدق فيهما، مضافا إلى أن الاكراه المساوق للاضطرار بنفسه، كاف في رفع الحكم بلا حاجة إلى رفعه بالاضطرار، بل لا تصل النوبة إليه، لتقدم الاكراه عليه تقدم الفعل على الانفعال، كما أن الاضطرار في المعاملة لا يوجب رفع الحكم، وإلا لكان اللازم منه وقوع المضطر إلى المعاملة في الاضطرار. والحاصل: أن الاكراه موجب لرفع الحكم في الوضعيات والتكليفيات، بلا فرق بين الموردين في اعتبار عدم إمكان التفصي عرفا في صدقه، سواء وصل إلى حد الاضطرار والالجاء أم لا، والاضطرار بنفسه لا يوجب رفع الوضع، ولا رفع التكليف في مورد حصوله بسبب الاكراه. فما ذكره الشيخ: من أن الاكراه الرافع لأثر الحكم التكليفي، أخص من الرافع لأثر الحكم الوضعي مفهوما، والنسبة بينهما موردا عموم وخصوص من وجه (2)، لا يتم فإن الرافع للوضع والتكليف هو الاكراه، وهو مفهوم واحد، وصدقه في الموردين على حد سواء. نعم، يحصل منه الاضطرار في بعض الموارد، وتقدم حكم ذلك. في دائرة دليل الاكراه ونظائره هذا، وينبغي هنا التنبه على أمر: وهو أن دليل الاكراه وغيره من الحواكم
1 - تقدم في الصفحة 381 - 383. 2 - المكاسب: 120 / سطر 17. 387 الامتنانية، كالتقية (1) والضرر (2) والاضطرار (3) وغير ذلك (4)، لا تشمل الموارد المهمة التي علمنا من الخارج اهتمام الشارع بها، كما إذا هجم الكفار على بلاد المسلمين، وخيف على اضمحلال شعار من شعائر الدين، أو هتك نواميس المسلمين، أو إمحاء بعض أحكام الإسلام، بل تلاحظ الأهمية في هذه المقامات. ولذلك ترى أن سيرة الأنبياء والأئمة - في أمثال هذه المهمات - هي القيام والنهضة ولو حصل منه سفك دم أو غيره من أنحاء الضرر (5). ثم إن الاكراه كما يتعلق بالشخص، كذلك يتعلق بالطبيعي على نحو العموم أو الاطلاق الشمولي أو البدلي، كما ذكر في باب التكاليف الإلهية والأوامر والنواهي الشرعية. وقد مر منا مرارا: أنه بجريان مقدمات الحكمة في المطلقات لا ينقلب معنى المطلق عاما، فإن العموم دال على تكثير الطبيعة بدال نحو كل ولأم الاستغراق، بخلاف المطلق، فإنه لا يدل على التكثير ولو بعد جريان مقدمات الحكمة، بل نتيجتها أن تمام متعلق الحكم في المطلق نفس الطبيعة والماهية لا غير، ولا يعقل سراية الحكم المتعلق بالطبيعة إلى غيرها (ولو تشخصاتها الفردية وتفرداتها الخارجية)، فإن الإرادة الأمرية قد تعلقت بنفس الطبيعة على الفرض، وفي هذا اللحاظ لا يمكن لحاظ شئ آخر سواها حتى يسري الحكم إلى ذلك الملحوظ (6). نعم، قد يكون غرض الأمر من تعليقه الحكم بالطبيعة على نحو الشمول،
1 - المحاسن: 259 / 308، الكافي 2: 175 / 18. 2 - تقدم في الصفحة 250. 3 - أنظر وسائل الشيعة 11: 294، الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث: 1 و 3. 4 - تقدم في الصفحة 260. 5 - أنظر التقية، ضمن الرسائل، الإمام الخميني (قدس سره) 2: 177. 6 - أنظر مناهج الوصول 2: 231 - 232. 388 بحيث ينطبق الأمر في جميع موارد انطباق الطبيعة، ك (أحل الله البيع) (1)، وقد يكون غرضه من ذلك إيجاد الطبيعة على نحو صرف الوجود، ك أعتق رقبة، وهذه الجهة لا توجب سراية الحكم من متعلقه - وهو نفس الطبيعة - إلى شئ آخر، بل في العموم أيضا التشخصات غير دخيلة في متعلق الحكم، والتكثير ليس إلا تكثير ما يلي الأداة، ف أكرم كل عالم دال على أن وجوب الاكرام متعلق بالمتكثر، لكن كل فرد من هذه المتكثرات محكوم بالوجوب بما أنه عالم، لا بسائر العناوين المنطبقة عليه، ولا بسائر تشخصاته. والاكراه أيضا قد يتعلق بنحو العموم، أي على نحو التكثير، وأخرى يتعلق بالطبيعة على نحو السريان، وثالثة يتعلق بها على نحو صرف الوجود. ففي الأول والثاني كل فرد من أفراد المعاملة متحقق بنعت المكرهية، لانطباق الطبيعة عليه، وهكذا الثالث، إلا أنه لو كان لخصوصية منها أثر ترتب ذلك الأثر لو أوجد المكره تلك الخصوصية، فإن الفرد المتحقق وإن اتصف بالمكرهية، لكن لا بما هو فرد ومتشخص بخصوصية ما، بل بما هو معاملة، فلو أوجد المكره على البيع البيع وقت النداء، وقلنا بحرمة ذلك - أعم من كونه صحيحا أو فاسدا - فيحرم وإن كان البائع مكرها على البيع. الاتيان بعدة أفراد عند الاكراه على الطبيعة ثم إنه لو كان مكرها على نفس طبيعة البيع - على نحو صرف الوجود - وأوجد الطبيعة بأفراد متعددة دفعة، فهل يقع كل منها على صفة المكرهية، أو فرد معين منها، أو غير معين، أو لا يقع؟ فلنقدم الكلام في تحقيق المسألة في التكاليف الشرعية. فلو تعلق الأمر بالطبيعة على ذلك النحو، وأوجد المكلف أفرادا منها، فهل
1 - البقرة 2: 275. 389 يكون كل من ذلك امتثالا، أو هنا امتثال واحد بفرد معين، أو غير معين، أو بالمجموع، أو بالجامع، أو لا يكون امتثالا؟ لا إشكال في حصول الامتثال حينئذ كما يشهد به الوجدان، والامتثال بفرد معين ترجيح بلا مرجح، والفرد الغير المعين لا وجود له، والمجموع لم يتعلق به أمر، فيدور الأمر بين أمرين: إما أن يقال بحصول الامتثالات بعدد الأفراد المتحققة، أو الامتثال الواحد بالجامع. فيمكن أن يقال: إن الجامع بنعت الجامعية لا وجود له، بل الموجود هو الفرد، والطبيعة (1) موجودة بوجوده، فالطبيعة الموجودة متكثرة لا محالة، والجامع لا وجود له إلا بنعت الكثرة، فلا يمكن الالتزام بحصول امتثال واحد بالجامع لتكثره، فهنا امتثالات بعدد تكثير الطبيعة. والتحقيق: حصول امتثال واحد بالاتيان بالجامع وهو نفس الطبيعة. بيان ذلك: أنه قد مر آنفا: أن الأمر المتعلق بشئ لا يمكن أن يسري إلى غيره والمفروض أن الأمر متعلق بنفس الطبيعة. غاية الأمر أن الطبيعة في نشأة لحاظها موجودة بنعت الوحدة، وفي نشأة تحققها قد توجد بنعت الكثرة، لكن امتثال الأمر المتعلق بنفس الطبيعة هو الاتيان بنفس الطبيعة، وكما لم يؤخذ شئ من الكثرات والخصوصيات المشخصة وغير ذلك في متعلق الأمر، كذلك شئ من ذلك غير دخيل في مقام الامتثال، بل عالم الامتثال مثل عالم تعلق الأمر - وهو لحاظ الأمر متعلق أمره - عالم التجريد عن جميع الخصوصيات عدا نفس الطبيعة. وفي المقام وإن وجدت أفراد متكثرة دفعة في مقام الامتثال، إلا أن ما به الامتثال إتيان نفس الطبيعة مجردة عن جميع لواحقه، والوحدة والكثرة - وهما المساوقان
1 - أنظر نهاية الأصول: 124، وتهذيب الأصول 1: 131. وللإمام الخميني (رحمه الله) تقريرات مباحث أصول المحقق البروجردي (قدس سره). 390 للتشخص - خارجان عن ذلك. وبالجملة: الامتثال قد تحقق بالاتيان بنفس الطبيعة، غاية الأمر هنا وجدت نفس الطبيعة بنعت الكثرة، وهذا لا يضر بوحدة الامتثال، فإن الاتيان بالطبيعة المتكثرة غير الاتيان بالمأمور به متكثرا، بل هو الاتيان بالمأمور به] القابل للتحقق بنعت الوحدة الشخصية وبنعت الكثرة [بنعت الكثرة، وما به الامتثال شئ مجرد عن الوحدة الشخصية والكثرة، وهو نفس الطبيعة. ويمكن تقريب الاستدلال بوجه أسهل: وهو أن الأمر الواحد المتعلق بطبيعة لا يقتضي إلا إيجاد متعلقه، أي الاتيان بهذه الطبيعة، والطبيعة في عالم لحاظها أمر واحد، ولا قيد فيها حتى لحاظها، لعدم إمكان لحاظ الطبيعة المقيدة باللحاظ بنفس هذا اللحاظ، وفي هذه النشأة تتصف بالكلية والجزئية، فإنها هي القابلة للصدق على كثيرين، أو لا يقبل الصدق إلا على الواحد، وهذا مراد من قال: بأن الطبيعة من حيث هي ليست إلا هي، لا ما فهمه بعض: من أنها غير قابلة للحوق خصوصية بها، ولذا بنى على أن متعلق الأمر الطبيعة مرآة إلى ما في الخارج (1)، وقد ذكرنا ما في ذلك من الاشكال العقلي (2)، فالطبيعة في هذا اللحاظ ليست إلا ذاتها، وقابلة للانطباق على الواحد وعلى الكثير في الطبيعة الكلية التي هي مفروض كلامنا، وحيث إن الامتثال هو الاتيان بالمأمور به، فيحصل امتثال الأمر بالطبيعة بإتيان هذه الطبيعة وإيجادها في وعاء الأين كيف اتفقت ولو متكثرة، لصدق الطبيعة على الواحد والكثير كما مر. نعم، الاتيان بالكثرات بهذا النعت ليس امتثالا له، بل الامتثال هو الاتيان بنفس الطبيعة الموجودة بنعت الكثرة في مفروض كلامنا هذا، مضافا إلى ما ذكرنا
1 - نهاية الأفكار 1: 380 - 381. 2 - مناهج الوصول 2: 68 - 69. 391 سابقا - في وجه جريان الاستصحاب في القسم الكلي - من أن العقل وإن يحكم بتكثر الطبيعة في الخارج، إلا أن العقلاء يرونها أمرا واحدا قابلا للبقاء وباقيا في بعض الموارد (1)، فإن الطبيعة بنظر العقلاء توجد بوجود فرد ما، وتنعدم بانعدام جميع الأفراد، وباب الإطاعة والعصيان ليس من الأبواب الموكول فهمها إلى العقل الدقيق، بل فهمها موكول إلى عقل العرف، والمفروض أن العقلاء في مقامنا يرون اشتراك الكثرات في أمر واحد، وهو نفس الطبيعة التي بها حصل الامتثال بنظرهم. هذا في باب التكاليف الشرعية. وأما الاكراه على طبيعة معاملة، فمع إيجاد المكره الطبيعة في ضمن أفراد، مع إمكان إيجاده في ضمن فرد واحد، فهل تقع جميع المعاملات باطلة، أو تصح جميعها، وهكذا في التكليفيات، أو هنا تفصيل بين الوضعيات وغيرها؟ في الاكراه على المتعدد بنحو التخيير فنتوسع في الكلام إلى الاكراه على أمرين - أو أمور - على وجه التخيير، لاشتراكهما في الوجه. ونقدم أولا البحث عن الواجب التخييري للمناسبة، ونقول: في كلام صاحب الكفاية في المقام ومناقشته الظاهر خفاء محل الكلام على الأعلام، فقد ذكر صاحب الكفاية (قدس سره): أنه مع اتحاد الغرض بالنسبة إلى الأفراد، فلا بد من الالتزام بأن التكليف هو الجامع ولو الانتزاعي، وإلا فالوجوب التخييري سنخ من الوجوب قبال التعييني (2).
1 - تقدم في الصفحة 52 - 54. 2 - كفاية الأصول: 174. 392 ففيه أولا: أن فرض تعلق التكليف بالجامع يخرج البحث عن محل الكلام، فإن التكليف بالجامع من الواجب التعييني، والتخيير حينئذ عقلي لا شرعي، على أن الغرض الواحد يوجب وحدة موضوع الأمر، فهذا أجنبي عن مقامنا، فإن هذا ليس من العلة والمعلول في شئ، حتى يجئ فيه ما ذكر في ذلك الباب: من أن الواحد لا يصدر منه إلا الواحد (1)، مع أن الكلام في متعلق البعث في الواجب التخييري، لا متعلق الغرض، ولا ملازمة بينهما في الوحدة والتعدد، كما يرى في عقوبات الحكومات والدول بالنسبة إلى ما يرونه جرما، فالغرض هو العقوبة، ومع ذلك يكون البعث نحو الحبس أو إعطاء مبلغ من المال. وأما ما أفاده: من أن الوجوب التخييري سنخ من الوجوب، فهذا إشارة إلى المجعول، ونحن لا نريد إلا أنه أي سنخ من الوجوب. فعلى ذلك لا بد من ملاحظة ما ذكر في المقام من الاشكال العقلي، فلو لم يمكن الجواب عنه فلا بد من رفع اليد عن ظهور الأدلة بتوجيه البعث فيها إلى الأطراف لا الجامع، ولا سيما الانتزاعي منه، وإلا فلا موجب لذلك بعد ما مر من استحالة سراية الحكم من عنوان متعلقه إلى عنوان آخر. الاشكال العقلي في المقام ودفعه والاشكال العقلي: أن العلم والإرادة من الصفات الحقيقية ذات الإضافة، لا يمكن تعلقهما بالمعدوم، والبعث إلى المعدوم أيضا أمر غير معقول، وفي الواجب التخييري لا يتعلق الوجوب بالفردين على البدل، أي الفرد المردد، لأنه لا وجود له، لأن الوجود مساوق للتعين والتشخص، بل هو هو، فالوجود المردد لا معنى له، فلا
1 - الحكمة المتعالية 2: 204، كفاية الأصول: 174. 393 يمكن تصوير الوجوب التخييري، إلا بأن يلتزم بتعلق الأمر بالجامع بين الأفراد (1). ولكن هذا الاشكال مندفع: بالنقض أولا: فإنه لا جامع في بعض موارد التكاليف التخييرية، مثل ما لو قال: لا تفعل الفعل الكذائي، أو افعل كذا. وبالحل ثانيا: لوضوح أن البعث في الواجب التخييري قد تعلق بكل من الأطراف معينا، ووجدت مباديه من التصور والتصديق إلى إرادة البعث والتشريع، وحصل البعث نحو كل منها، وجواز الاكتفاء بأحد الأطراف يستفاد من أو، لا الوجوب، فالتخيير لا يستفاد من البعث، بل يستفاد من هذه الكلمة، فلا إشكال (2). تصوير الواجب التخييري بالواجب المشروط هذا، وقد يقال: بأن الواجب التخييري قسم من الواجب المشروط، فإن وجوب كل من الأطراف مشروط بعدم الاتيان بالآخر (3). ولا موجب لذلك بعد ما ذكرنا: من إمكان التمسك بظهور الكلام في الوجوب التخييري، مضافا إلى أنه يرد على ذلك ما ذكرنا في أساس بطلان الترتب: من أن هذا الشرط - وهو عدم الاتيان - إنما يتحقق بعد مضي زمان الواجب، وحينئذ يسقط الأمر بالآخر (4). ولو قيل: بأن الشرط هو قصد عدم الاتيان بالبعض، عاد الاشكال في المقام
1 - حاشية المحقق الأصفهاني على الكفاية 2: 69 - 70. 2 - أقول: الظاهر أن السيد الأستاذ - مد ظله - خلط بين ما يستفاد من الهيئة - أي البعث - وحقيقة الوجوب، فإن الوجوب ليس ببعث فقط، بل الوجوب هو البعث بداعي الالزام، فعاد المحذور. المقرر دامت بركاته. 3 - فوائد الأصول 1: 232 - 233. 4 - مناهج الوصول 2: 38 - 40. 394 وفي ذلك الباب إذا قصد عدم إتيانهما، ومع قصد إتيانهما يسقط الواجبان، لعدم حصول شرطهما (1).
1 - أقول: أما ما أفاده من الاشكال على تصوير الواجب المشروط في المقام وفي باب الترتب، فغير وارد، لأن عدم الاتيان كالاتيان له شروع وختم وحال، والشرط هو الأخير، لا الثاني، ولا الأول، فمعنى أن وجوب المهم مشروط بترك الأهم: أن حال ترك الأهم الأمر بالمهم موجود، وهكذا في الواجب التخييري. نعم، مع إمكان التمسك بظهور الكلام لا موجب لرفع اليد عنه، ولذا ذكرنا في بحث الترتب عدم الحاجة إليه، لاشتراط القدرة في التنجز وإن صح على تقدير الحاجة لفرض اشتراط القدرة في التعلق. وأما في المقام فلا نلتزم بما أفاده بعض أعاظم أساتيذنا: من أن متعلق الوجوب هو عنوان أحد الأطراف، ولا ما أفاده سيدنا الأستاذ المحقق: من أن متعلقه هو جميع الأطراف، لعدم الملزم للأول، وعدم تعلق الالزام بالجميع في الثاني، بل نلتزم بوسط بين الكلامين، ونقول: الوجوب التعييني هو البعث نحو شئ بداعي الالزام بالنسبة إليه، والوجوب التخييري هو البعث نحو شيئين أو أشياء بداعي الالزام بالنسبة إلى أحدهما أو أحدها، ويظهر وجهه مما قررناه وما علقناه عليه. نعم، لو قلنا بأن الالزام في الواجب التخييري أيضا متوجه إلى جميع الأطراف، لكن على نحو التخيير كالبعث، وهذا سنخ من الالزام والوجوب، كما بنينا على ذلك سابقا، ومراد صاحب الكفاية (قدس سره) أيضا من السنخ (كفاية الأصول: 174) ذلك، فلا تصل النوبة إلى ما قربناه هنا، لكن الصحيح ما ذكرنا أخيرا. وقد ظهر بذلك تصوير التخيير في مورد نقض السيد الأستاذ - مد ظله -، فإن البعث تعلق بالمأمور به، والزجر تعلق بالمنهي عنه بداعي الالزام بأحدهما، أي فعل الأول وترك الآخر. والحاصل: أن الواجب التعييني هو البعث نحو شئ بداعي الالزام به، والاستحباب التعييني هو البعث نحوه لا بداعي الالزام به، والواجب التخييري هو البعث نحو شيئين أو أشياء معينا بداعي الالزام بأحدها، والحرمة التعيينية هي الزجر عن شئ بداعي الالزام بتركه، والكراهة التعيينية هي الزجر عنه لا بداعي ذلك، والحرمة التخييرية هي الزجر عن شيئين أو أشياء بداعي الالزام بترك أحدهما أو أحدها. وعلى ذلك، معنى التخيير بين وجوب شئ وحرمة الآخر هو البعث نحو الأول والزجر نحو الثاني بداعي الالزام بواحد، من فعل الأول وترك الآخر. فليتدبر. المقرر دامت بركاته. 395 في الفرق بين بابي الأوامر والاكراه في المقام هذا في باب الأوامر. وأما في باب الاكراه، فهنا فرق بين البابين: وهو أنه لو أمر المولى بالطبيعة، وأوجد المكلف الفرد الأهم - أو أفراد متعددة - لصدقت الطبيعة على المأتي به، ويسقط أمر المولى، ولا بحث. وأما لو أكره المكره على الطبيعة المحرمة، وتمكن العبد من الاتيان بالفرد غير الأهم ليس له الاتيان بالأهم، لا لعدم صدق الطبيعة على ذلك، أو عدم الاكراه على الطبيعة، بل لأن العقل لا يعذر المتمكن من ترك الأفسد بالفاسد، ومع ذلك ارتكب الأفسد، ودليل الاكراه لا يشمل مثل ذلك. هذا في المحرمات. وأما في المعاملات فلا فرق بين الفردين في صدق الاكراه، فلو أكرهه على بيع، وتمكن من بيع كتابه، ومع ذلك باع داره مستندا إلى إكراه المكره، شمله الدليل، فإنه لا معنى للتعذير العقلي وعدمه في الوضعيات. وهكذا الأمر على وجه التخيير، والاكراه على وجه التخيير، لعين ما ذكر، فلو أكرهه على شرب مائع متنجس أو شرب الخمر ليس له شرب الخمر، فإن العقل لا يعذر مثل هذا الشخص، بخلاف ما لو أكرهه على بيع كتابه أو داره فإنه يصدق الاكراه على الفعلين. نعم، قد مر: أن الاكراه على الطبيعة لا يكون إكراها على الشخص، فلا يرفع الأثر المترتب على الخصوصية، إلا مع الاضطرار إليها ولو بسبب الاكراه على الطبيعة. ولو أكرهه على الطبيعة أو أحد الفردين أو الأفراد على نحو الوجوب التخييري، وأوجد المكلف فردين أو أزيد بإيجاد واحد، فالأمر في المحرمات ظاهر، لعدم الاكراه بالنسبة إلى الزائد عن الواحد.
396 وأما في المعاملات، فقد ذكر الشيخ (رحمه الله) أن جميع المعاملات صحيحة، فإن المكره عليه الطبيعة على نحو صرف الوجود، والمأتي به وجودات متكثرة غير مكره عليها، فتصح الجميع (1). واحتمل السيد (رحمه الله) بطلان الجميع، لصدق الاكراه بالنسبة إلى الجميع، لصدق الطبيعة المكره عليها على الجميع. وذكر بعد ذلك: أن الرضا المعاملي موجود ولو مع الاكراه، والاكراه موجب للبطلان من جهة عدم اقتضاء الصحة، والرضا اقتضاء لها، فيصح الجميع. واحتمل أيضا صحة البعض وبطلان البعض، ويعين بالقرعة (2). والصحيح أن يقال: إنه لا ينبغي الريب في صدق الاكراه في المقام، فإن إيجاد المعاملات مستند إلى إكراه المكره وإلا فلم يقدم المكره على المعاملة. ولا ينبغي الريب في عدم الصدق بالنسبة إلى الزائد عن الواحد، لامكان التفصي عنه بالاكتفاء بالواحد، فلا محالة يبطل واحد ويصح غيره، لكن لا البطلان من رأس، لامكان تصحيح بيع المكره بالإجازة، ولا الصحة الفعلية، لعدم تعيين موضوعها فعلا، فنحتاج إلى المتمم، فلو أجاز تصح الجميع، وإلا فلا بد من تتميم ذلك بشئ، للزوم الوفاء بالعقد الصحيح، فتصل النوبة إلى القرعة، فالقرعة متممة للمعاملة، كالإجازة في البيع الفضولي. هذا، ولا يقال: إن موضوع الصحة من الفرد المردد، ولا وجود له، فيبطل الجميع (3)، لأن العقد قد وقع على الجميع، فلو لم يكن مانع لحكمنا بصحة الجميع، فلا إبهام من هذه الجهة، والاكراه واقع على الطبيعة أو الأفراد على نحو التخيير، ولا
1 - أنظر المكاسب: 121 / سطر 10. 2 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 125 / سطر 1 - 11. 3 - أنظر حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 125 / سطر 19. 397 إبهام في ذلك أيضا، فبمقدار هذا المانع نرفع اليد عن اقتضاء المقتضي، فيؤثر بالنسبة إلى الزائد، وينطبق عليه وجوب الوفاء بالعقد، ولا يمكن إلا بتتميمها بالقرعة، فإنها لكل أمر مشكل. نظير ذلك ما وقع موردا للنص والفتوى، مثل الجمع بين الأختين في عقد واحد دفعة لا تدريجا، والحكم تخيير الزوج في واحدة منهما، وأن يخلي سبيل الأخرى (1)، وهكذا الجمع بين النصاب والزائد بعقد واحد دفعة، والحكم كما ذكر، يختار النصاب ويخلي سبيل الزائد (2)، وهكذا لو أسلم الكتابي على سبع زوجات، يختار النصاب ويخلي الثلاث، كما في النص (3)، بناء على القول بعدم الصحة من الأول صحة تامة، وتصح صحة تأهلية، ومتممها التخيير. وهذا أحد الاحتمالات، وهنا احتمالات أخر يرجع فيها إلى محلها (4).
1 - أنظر جواهر الكلام 29: 383 - 385، والكافي 5: 431 / 3، والفقيه 3: 265 / 1260، وتهذيب الأحكام 7: 285 / 1203، ووسائل الشيعة 14: 367 - 368، كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها، الباب 25، الحديث 1 و 2. 2 - الكافي 5: 403 / 5، تهذيب الأحكام 7: 295 / 1237، وسائل الشيعة 14: 403، كتاب النكاح، أبواب ما يحرم باستيفاء العدد، الباب 4، الحديث 1. 3 - الكافي 5: 436 / 7، تهذيب الأحكام 7: 295 / 1238، وسائل الشيعة 14: 404، كتاب النكاح، أبواب ما يحرم باستيفاء العدد، الباب 6، الحديث 1. 4 - يمكن تصوير ذلك بنحو لا يلزم المحذور بصحة النصاب وبطلان الزائد بنحو الكلي في المعين، ويختار الزوج تطبيق ذلك بالنص. نعم، لو قلنا بأن نكاح الكلي غير عقلائي، فما أفاده من الوجه كاف في دفع الاشكال، إلا أن في المقام المفروض وقوع واحد عن إكراه، وهذا كلي لا شخصي، فإن التشخص مساوق للتعيين، وهكذا غيره صحيح. وهذا أيضا كلي فهذا من قبيل بيع الكلي في المعين والاختيار بيد البائع بلا حاجة إلى القرعة. المقرر دامت بركاته. 398 تعرض إجمالي لفروع بيع المكره ثم إن هنا فروعا نتعرض لها على سبيل الاجمال والاختصار، لوضوحها من المطالب السابقة. 1 - لو أكرهه المكره على المحرم أو الفضولي: فقد مر: أن كلا منهما مكره عليه إلا أن العقل يلاحظ الأهمية في الأحكام التكليفية، وفي المثال لا يعذر المرتكب للحرام مع إمكانه بيع الفضولي. 2 - لو أكرهه على البيع الصحيح أو الفضولي: قالوا: إن الاكراه في المقام لا يرفع أثر البيع الصحيح، فإن الفضولي لا أثر له، فيمكن التفصي عما له أثر بما لا أثر له (1)، ولكن المقامات مختلفة، فإنه قد يكون للمعاملة الفضولية منقصة بالنسبة إلى العاقد، كما لو أكرهه على بيع داره، أو تزويج أخته من عبده، فالتزويج وإن كان فضوليا، إلا أنه يوجب المنقصة، خصوصا بالنسبة إلى الأشراف، ولا سيما لو كان الاكراه على ذلك على رؤوس الأشهاد، ففي مثل ذلك يقع البيع مكرها عليه. 3 - لو أكرهه على ماله مقدمة وجودية: كما لو أكرهه على بذل المال، ولا مال له فعلا، فباع داره لتحصيل المال، فلو قلنا بأن الأمر بذي المقدمة أمر بالمقدمة، فتقع المقدمة أيضا مكرها عليها، فإن الاكراه أيضا إلزام - ولو لم نقل بذلك - فتقع المقدمة مضطرا إليها. ثم إن هنا فرقوا بين الاكراه والاضطرار (2)، وقد أشرنا إليه سابقا: بأن الاضطرار لا يوجب رفع أثر المعاملة للامتنان، فإن رفع ذلك هو الايقاع في الاضطرار، لا رفع الاضطرار، بخلاف الاكراه، فإنه يوجب رفع أثر المعاملة لعدم هذا المحذور.
1 - منية الطالب 1: 191 / سطر 3. 2 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 120 / سطر 24. 399 ولكن لا فرق بينهما ولا عموم لشئ منهما، والميزان الامتنان وعدمه، فمع وجود الامتنان يرفع الأثر في كلا المقامين، ومع عدمه لا يرفع في كلا المقامين، وفي مفروض مسألتنا حيث إن رفع أثر المعاملات لا امتنان فيه، بل مخالف للامتنان، فلا يشمله لا حديث الاكراه ولا الاضطرار (1). 4 - لو أكرهه على الطبيعة على نحو الواجب الموسع: فهل يرفع الأثر لو أوجد المكره الطبيعة في ضمن أي فرد من الأفراد الطولية، أو لا يرفع الأثر إلا إذا أوجدها في ضمن الفرد الأخير، أو فرق بين التكليف والوضع بالالتزام بالثاني في الأول، والأول في الثاني؟ الظاهر عدم الفرق بينهما، والالتزام برفع الأثر مطلقا، لوقوع ذلك مصداقا للمكره عليه مطلقا، وإن كان النظر المسامحي مساعدا للوجه الثاني، إلا أن التحقيق هو الأول، فإن التفصي عن الفاسد بالفاسد لا يوجب عدم صدق الاكراه على الأول. وهكذا الكلام في مورد الاكراه على الأفراد الطولية بنحو الواجب التخييري، فإن الاكراه صادق على كلا الطرفين. 5 - لو أكرهه على البيع أو إيفاء دينه: فقالوا: إن الاكراه على الثاني إكراه عن حق، ولا يرفع أثره، والتزموا لذلك بأنه لو باع حينئذ لم يرفع أثر البيع لامكانه التفصي بإيفاء دينه الواجب عليه (2)، وهذا من قبيل الاكراه على أحد الأمرين: ماله الأثر، وما ليس له الأثر. ولكن هذا لا يوجب عدم صدق الاكراه بالنسبة إلى البيع، كما لا يوجب عدم صدقه بالنسبة إلى الإيفاء، إلا أن الاكراه بالحق خارج عن دليل الاكراه صرفا أو انصرافا، ولا دليل على خروج العدل له - وهو البيع - عن ذلك، ومجرد إمكان
1 - ومن هذا القبيل لو باع المكره الشئ، وجد بالمعاملة فرارا من تبعات المقبوض بالعقد الفاسد، لعدم الامتنان في رفع أثر ذلك. وقد سبق بيانه. المقرر دامت بركاته. 2 - المكاسب: 120 / سطر 28. 400 التفصي عنه لا يوجب رفع أثر الاكراه، بعد الالتزام بصدق الاكراه بالنسبة إلى الثاني أيضا، ووجود داع للمكره من عدم إيفاء الدين. 6 - لو أكره أحد الشخصين على معاملة: فمع خوف كل منهما من الضرر وإيجادهما أو أحدهما المعاملة فلا تصح المعاملة، ومع احتمال أحدهما سبق صاحبه إلى ذلك فليس له المبادرة، وإلا يصح. ولو أمكنه إكراه صاحبه، فمع كون الاكراه بحق لا بد لذلك، وإلا تصح معاملته، ومع عدمه ليس له الاكراه ولا تصح معاملته، ووجه الكل ظاهر. 7 - لو أكرهه على توكيل أحد في بيع داره مثلا: فالوكالة باطلة والبيع فضولي، فلو أجاز البيع أو أجاز الوكالة، وقلنا بأن الإجازة كاشفة حقيقة أو حكما، فالأمر واضح، ولو قلنا بأن الإجازة ناقلة، فلا يصح البيع إلا بإجازته. ولو أكرهه على توكيل أحد في طلاق زوجته، فلا يصح الطلاق في شئ من الصور السابقة، إلا على القول بالكشف الحقيقي أو الحكمي، وأجاز الوكالة، فإن الايقاعات لا تقبل الفضولية. ولو أكرهه على بيع مال فوكله في البيع، فالظاهر صحة البيع، فإنه واقع عن الوكيل، ولا دليل على رفع أثر هذا اللفظ الصادر من الوكيل، فإن حديث الرفع يرفع ما في وضعه ثقل على الأمة قضية للامتنان، وتأثير هذا اللفظ ليس ثقلا على الوكيل ولا الموكل، لأنه قد وكل الوكيل باختياره. ولو أكرهه على قبول الوكالة فالوكالة تكون مكرها عليها، ويترتب على ذلك ما ذكرنا في أول الفروض. وما ذكره المحقق النائيني (رحمه الله): من أن الوكالة من العقود الإذنية، والإذن لا يحتاج إلى القبول، والمعاملة وقعت عن إذن وإن بطلت الوكالة (1).
1 - أنظر منية الطالب 1: 109 - 112 و 193 - 194. 401 مدفوع: بما مر منا سابقا من أن إنشاء الإذن لم يتحقق، فإن المفروض عدم تحقق غير الوكالة الباطلة. نعم، رضا المالك بالمعاملة موجود، فيدخل تحت كبرى كفاية الرضا الباطني في صحة المعاملة، أو لزوم الانشاء في الإجازة. في طلاق المكره مع النية هذا، ثم ذكر الشيخ (رحمه الله) كلام العلامة (رحمه الله) (1)، وتعرض له المرحوم النائيني مفصلا، ونحن نقتفي أثرهم لما في التعرض من كثير الفائدة، وهو أنه قال: لو أكره على الطلاق فطلق ناويا، فالأقرب وقوع الطلاق. كلام الشيخ في أقسام طلاق المكره وذكر الشيخ (رحمه الله) أقساما في هذا الفرع (2): أحدها: أن لا يكون للاكراه دخل في الطلاق أصلا، بل يوقع الطلاق قصدا إليه عن طيب النفس، وذكر عدم جواز حمل كلام العلامة على ذلك، وحكم بصحة الطلاق حينئذ، والأمر كما أفاده (قدس سره). وثانيها: أن لا يكون الاكراه مستقلا في الداعوية، بل هو بضميمة شئ اختياري للفاعل، وذكر أنه لا ينبغي التأمل في وقوع الطلاق حينئذ أيضا، ويجئ الكلام في ذلك عند التعرض لكلام المحقق النائيني (رحمه الله). وثالثها: أن يكون الاكراه مستقلا في الداعوية، لكن الضرر المتوعد به هو الضرر اللاحق للمكره - بالكسر -. ورابعها: أن يكون الاكراه مستقلا في الداعوية، والاقدام على الفعل من جهة
1 - أنظر تحرير الأحكام 2: 51 / سطر 25، ففيه فالأقرب أنه غير مكره. 2 - المكاسب: 121 / سطر 23. 402 الشفقة الدينية. وخامسها: أن يكون الاكراه مستقلا في الداعوية، مع كون الضرر المتوعد به هو الضرر اللاحق للمكره، مع عدم إمكان التخلص عن الاكراه بعدم القصد، كما يتفق ذلك كثيرا في العوام. وذكر في الثلاثة الأخيرة: أنه لا يخلو الحكم عن إشكال، واستقرب تحقق الاكراه في الأخير، والمدار هو صدق الاكراه في هذه الأقسام الثلاثة، فلو كان ضرر المكره - بالكسر - يعد من الضرر على المكره - بالفتح -، كما لو كان ابنا له، فيصدق الاكراه في الأوليين منها، وإلا فلا. وقد مر حكم الأخير، وقلنا بأنه مع إمكان التخلص بالتورية وعدم القصد بسهولة فلا يصدق الاكراه، ويتفق هذا نادرا بالنسبة إلى بعض الأشخاص العارفين بفنون الكلام، وإلا فيصدق ذلك مع القصد أيضا، كما يتفق كثيرا في العوام. وما يخطر بالبال من كلام العلامة، هذا المعنى الذي كان محلا للبحث في بيع المكره: وهو أنه لا يمكن الاكراه بالنسبة إلى القصد، فلو أكره على الطلاق لا يكون مكرها على قصده، فلو طلق ناويا فالأقرب الصحة لعدم وقوعه عن إكراه. ولكن قد ظهر مما تقدم: أن إمكان التخلص عن الاكراه بعدم القصد أمر غير ملتفت إليه غالبا ولا سيما عند الاكراه. نعم، يتفق نادرا، فلا بد من التفصيل السابق في هذا الفرع: وهو أنه لو أمكن التخلص بعدم القصد فلا يصدق الاكراه، وإلا يصدق، كما يتفق ذلك كثيرا في العوام. احتمالات المحقق النائيني في كلام العلامة ذكر المحقق النائيني (رحمه الله) احتمالات خمسة (1) في كلام العلامة:
1 - منية الطالب 1: 196 - 197. 403 الأولان موجودان في ما ذكره الشيخ (رحمه الله). وثالثها: أن يكون كل من الاكراه والرضا سببا مستقلا في الداعوية، وحيث إنه لا يمكن اجتماع علتين مستقلتين في معلول واحد فيؤثران بمجموعهما. وذكر في حكم ذلك: أن الأقوى الفساد، لأن العلتين المستقلتين إذا وردتا على معلول واحد، فلا تأثير لأي منهما، إلا أن يقال: بأنهما من قبيل تعارض المقتضي واللا مقتضي، فإن الاكراه غايته أن لا يقتضي الصحة، لا أنه يقتضي الفساد فيؤثر الرضا. ورده: بأن مقتضى الصحة هو الرضا والطيب مستقلا، وهذا في المقام مفقود، ومن هذه الجهة حكم بالفساد في الاحتمال الثاني والثالث. ورابعها: أن يطلق من غير تورية، مع علمه بأنه يمكن التلفظ بلا قصد المعنى. وذكر: أنه لا يخفى أن هذا الاحتمال ليس مراده، لأن عدم إمكان التفصي بالتورية لا دليل على اعتباره. ولا ندري كيف فهم مراد العلامة من عدم الدليل على اعتبار ذلك عنده. وخامسها: أن يكون الاكراه داعيا للداعي على الطلاق، وهو الرضا به. ونحن بعد في تصوير الجمع بين الاكراه والرضا على مبنى الشيخ ومن تبعه - ومنهم المحقق النائيني (رحمه الله) - في معنى الاكراه والرضا، فحمل الغير على ما يكرهه] أي بغير طيب النفس، كما فسره النائيني (رحمه الله) [(1) كيف يجتمع مع طيب النفس والرضا، حتى يقال: بأنهم تواردا مستقلا، أو منضما، أو بنحو الداعي للداعي على المعاملة، بل على ما بنينا عليه: من أن الاكراه هو حمل الغير على شئ قهرا وإلزاما (2)، أيضا لا يمكن الاجتماع مستقلا، لا عرضا ولا طولا، لأن الرضا لا يجتمع مع القهر بمعنى
1 - منية الطالب 1: 185 / سطر 5. 2 - تقدم في الصفحة 381 - 382. 404 المقهورية، لأنه من اجتماع القهر واللاقهر. نعم، يمكن تصور الاجتماع على مسلكنا على نحو جزء الموضوع، ونذكر حكم ذلك. وأما ما ذكره: من أنه مع توارد الاكراه والرضا مستقلا يتعارض مقتضي الصحة ولا مقتضي الفساد، وسلمه بحسب الكبرى، وناقش فيه من جهة الصغرى، وهو عدم وجود مقتضي الصحة، فلا يتم أيضا، فإن الاجتماع - كما هو مفروض كلامه - محقق لمورد الحكومة، فيتقدم دليل الاكراه على دليل الصحة. أترى أن دليل حرمة الخمر - مثلا - يتقدم على دليل الاكراه من جهة تقدم المقتضي على اللامقتضي. بحث في دليل بطلان المعاملة المكره عليها وهنا بحث: وهو أن دليل بطلان المعاملة المكره عليها، هل هو دليل رفع الاكراه، حتى يقال بحكومتها على دليل الصحة في مورد الاجتماع، أو دليل الصحة قاصر عن الشمول لمورد الاكراه؟ أما على مسلكهم: من اعتبار الرضا والطيب في المعاملة، فلا تصل النوبة إلى دليل الاكراه، بل مقتضي الصحة قاصر في المعاملة المكره عليها، والتمسك بدليل الرفع حينئذ من قبيل التمسك بالأصل مع وجود الدليل الاجتهادي. وأما على مسلكنا: من عدم اعتبار ذلك، وأن جميع أركان المعاملة موجودة في مورد الاكراه، والبطلان مستند إلى الاكراه فقط، وهو الالزام والقهر على المعاملة، فيمكن التمسك بدليل الاكراه، ويلتزم بحكومته على الأدلة الأولية. إشكال وجواب نعم، هنا إشكال: وهو أنه لو قلنا بأن المراد من التراضي في آية التجارة، هو
405 القصد إلى المعاملة يكون من القيد الزائد، فإن في مورد عدم القصد لا تصدق التجارة، ولو كان شئ آخر زائدا على ذلك - وهو الرضا المعاملي، لا طيب النفس بمعنى الاشتياق - فلا وجه للحكومة أيضا، لفقد مقتضي الصحة في مورد الاكراه. ويمكن الجواب عن ذلك: بعد الاغماض عن عدم وجود ملزم للالتزام بكون القيد احترازيا، ولا سيما بعد ملاحظة كونه قيدا غالبيا، فيمكن حمل الرضا على القصد، بأن التجارة تحصل بنفس إيجاب البائع، وقبول المشتري شرط في تأثير البيع، لا مقوم لحقيقته، كما مر (1)، فيمكن حمل الآية على أن شرط تأثير التجارة وهو فعل البائع قصد الآخر أيضا، فيكون القيد احترازيا. وكيف كان، فالمهم في المقام هو إحراز بناء العقلاء على بطلان المعاملة المكره عليها، وبما أن أدلة التنفيذ كلها إرشادية إلى المتعارف بين العقلاء، فلا محالة لا تشمل غير المتعارف بينهم، فدليل التجارة قاصر عن الشمول للتجارة الاكراهية، حتى يكون دليل الاكراه حاكما عليه. والمتحصل من ذلك: أن دليل بطلان المعاملة الاكراهية فقد دليل الصحة، بل وجود دليل الفساد، وهو بناء العقلاء، لا حديث الرفع، وهذا في مقابل ما ذكره بعض المحققين: من اختصاص دليل رفع الاكراه بالمعاملات (2)، فإنه بهذا البيان ظهر اختصاصه بالتكاليف، ولا فرق في ما ذكرنا: من كون القيد توضيحيا أو احترازيا، بل دليل (أوفوا بالعقود) (3) وغيره أيضا يجري فيه ذلك. فعليه لا يمكن الحكم بصحة العقد لو توارد الاكراه والرضا في مورد إمكان الاجتماع، أي على نحو جزء الموضوع، لا بدليل الرفع، فإنه قاصر عن الشمول لهذا
1 - تقدم في الصفحة 206 - 207. 2 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 123 / سطر 24. 3 - المائدة 5: 1. 406 المورد أيضا، لأن الظاهر منه أن الاكراه يكون مستقلا في الداعوية، وفي المقام ليس كذلك، بل من جهة عدم شمول دليل التنفيذ للمورد، لأنه أيضا ظاهر في كون العقد مستندا إلى الرضا المعاملي بنحو الاستقلال في الداعوية، فلا يمكن الحكم بصحة مثل هذه المعاملة. في رضا المكره بعقده قال الشيخ (رحمه الله): ثم إن المشهور بين المتأخرين أنه لو رضي المكره بما فعله صح العقد (1). في اعتبار الرضا في مفهوم العقد وصور المسألة ويقع البحث أولا في أنه هل يعتبر الرضا في مفهوم العقد، أو لا؟ وصور المسألة ثلاث: الأولى: أن يقطع المكره بنفوذ العقد الاكراهي، ولذلك أنشأه جدا. الثانية: أن يعلم بعدم نفوذه من دون لحوقه بالإجازة، إلا أنه يعلم بصحته مع اللحوق، ويعلم أو يحتمل اللحوق. الثالثة: أن يعلم بعدم نفوذ عقده من جهة اعتقاده بعدم إجازته بعد ذلك، أو اعتقاده عدم تصحيح عقده بالإجازة. أما في الصورة الأولى: فالفرق بين هذا العقد الواقع عن إكراه وغيره مما لم يقع عليه إكراه، أمران: أحدهما بحسب المبدأ: وهو أن الاكراه واقع في مبادئ المعاملة، المفروض وقوعها عن قصد إليها وعن جد بها في الأول دون الثاني.
1 - شرائع الإسلام 2: 8، مفتاح الكرامة 4: 173 / سطر 7، المكاسب: 121 / سطر 34. 407 والآخر بحسب المنتهى: وهو عدم ترتب الأثر على العقد في الأول دون الثاني. وشئ منهما لا يكون دخيلا في مفهوم العقد، أما ما في المرتبة السابقة على العقد وفي مبادئه، وهو الاكراه وعدمه، فلا يمكن دخله في المرتبة المتأخرة، وهو العقد، فإنه غير معقول، وهكذا بالنسبة إلى ترتب الأثر وعدمه، فإنهما متأخران عن العقد، فلا يمكن دخلهما في مفهومه. وبعبارة أخرى: الأثر غير دخيل في العقد، لا مفهوما وهذا واضح، ولا مصداقا، للزوم وضع العام والموضوع له الخاص في أبواب العقود، وذكرنا ذلك في مبحث الصحيح والأعم مفصلا (1)، وقلنا: بأن تعنون هذا المبحث بذلك مما لا ينبغي، لأن مفهوم الصحة غير دخيل في العبادات والمعاملات، ومصداقها مترتب على وجود العقد، فيلزم تعدد الموضوع له حسب تعدد الوجودات، فراجع ذلك المقام، ففي هذه الصورة العقد تام من جهة كونه عقدا، وأما من جهة التأثير فسيجئ الكلام فيه. وأما في الصورة الثالثة: وهو العلم بعدم نفوذ العقد، فلا يمكن الجد به، كما مر مرارا: من أن الانشاء من الأفعال الاختيارية المسبوقة بالمبادئ والانشاء الجدي مع العلم بعدم تأثيره من الانشاء بلا مبدأ، وهو العلم بالفائدة. نعم، صورة الانشاء موجودة إلا أن الانشاء الصوري ليس بعقد. نعم، في الصورة الثانية وهي صورة العلم بالنفوذ مع اللحوق بالإجازة مع احتمالها أو العلم بها يمكن الجد حينئذ لوجود المبادئ بتمامها. إن قلت: الاشكال مشترك الورود بين الصورتين، لأنه ما لم تلحق الإجازة بالعقد لا أثر له، فكيف يمكن الجد بالعقد مع العلم بأنه لا أثر له فعلا (2). قلت: قد ذكرنا هذا الاشكال، وأجبنا عنه في ألفاظ العقود في إيجاب البائع
1 - مناهج الوصول 1: 142. 2 - البيع، الأراكي 1: 23. 408 قبل القبول، وقلنا بأن الايجاب غير مؤثر في التمليك بنحو العلية، وهكذا المركب من الايجاب والقبول، بل إنهما من قبيل الموضوع بالنسبة إلى حكمه (1)، وحيث إن الموضوع مركب من فعل البائع وفعل المشتري، فمع علم البائع أو احتماله قبول المشتري، يحصل الجد منه بالنسبة إلى الأثر المترتب على المركب منهما، بخلاف ما لو علم بعدم قبوله لعدم حصول الجد منه في هذه الحالة، ومقامنا عينا من هذا القبيل، فلاحظ. وبالجملة: إن من يرى عدم صدق العقد في مورد الاكراه، لا بد له من دعوى أحد أمرين: إما أن يدعي دخل الرضا - بأي معنى فسرناه - في ماهية العقد، وهذا غير معقول بعد وضوح عدم دخل مفهوم الرضا - أي بالحمل الأولي - فيه، فإن واقع الرضا في مرتبة وجود العقد وتحققه، ولا يعقل دخل وجود نفس الماهية فيها، فضلا عن غيره. وإما أن يدعي دخله في تحقق العقد، ومن المعلوم أنه مع تحقق مبادئ وجود العقد يتحقق لا محالة، ومع عدمه لا يتحقق، فالمدعي لا بد له من دعوى عدم تحقق المبادئ عند عدم الرضا، وإلا فدخل الرضا في نفس العقد في مرحلة التحقق - بعد عدم دخله في الماهية - غير ممكن. وهذه الدعوى إنما تتم في الصورة الثالثة فقط، لا الأوليين، لوجود المبادئ فيهما وعدمها فيها على ما مر. هذا بالنسبة إلى دخل الرضا في مفهوم العقد. في دخل الرضا في ترتب الأثر على عقد المكره وأما بالنسبة إلى دخله في ترتب الأثر عليه فهو مما لا إشكال فيه، وقد مر
1 - تقدم في الصفحة 21. 409 مفصلا، وإنما الكلام في أنه هل تعتبر مقارنته للعقد في ذلك، أم لا؟ في دليل اعتبار مقارنة الرضا للعقد فقد يقال باعتبار المقارنة، من جهة استفادة ذلك من كلمة عن النشوية في الآية المباركة: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض) (1)، فإن حصر جواز الأكل بالتجارة الناشئة عن تراض، يدل على عدم جواز الأكل في بيع المكره، ودخول ذلك في عقد المستثنى منه (2). وقد مر (3) في تقريب ما يستفاد من هذه الآية: أن الظاهر منها ترتب الحكم بعدم الجواز على الباطل، والحكم بالجواز على غير الباطل، وهذا الوصف المأخوذ في موضوع ذلك الحكم - كسائر موضوعات الأحكام - فهمه موكول إلى نظر العرف، وليس للشارع تصرف فيه، ومن الواضح أن العرف والعقلاء لا يرون الأكل في بيع المكره - بعد رضاه بالبيع - من الأكل بالباطل، فعلى ذلك لا فرق بين أن يقال بظهور الآية في الحصر وعدمه، وبين كون الاستثناء منقطعا أو متصلا، وبين القول بظهور الكلمة في النشو وعدمه، هذا، مع أن وصف التراضي قيد غالبي لا مفهوم له، فكأنه استثني عن الأكل بالباطل الأكل بالتجارة، وحينئذ المستثنى يشمل المقام. وبعبارة أخرى: إن فهم مداليل الألفاظ موكول إلى نظر العرف، والعرف - بملاحظة بعض المناسبات المغروسة في ذهنه - يلغي الخصوصية في بعض المقامات، كما مر (4) ذلك، ومثلنا له بمثالين] رجل شك بين الثلاث والأربع
1 - النساء 4: 29. 2 - مجمع الفائدة والبرهان 8: 156. 3 - تقدم في الصفحة 33 - 34. 4 - تقدم في الصفحة 48 - 49. 410 وأصاب ثوبي دم رعاف [، فإنه يلغي خصوصية كون الشاك رجلا في الأول وخصوصية إضافة الثوب إلى زرارة وكون الدم رعافا في الثاني، كذلك في المقام، فإن العرف يحكم بإلغاء الخصوصية في المستثنى وفي المستثنى منه: أما في المستثنى منه، فلا يرى موضوع الحكم بعدم جواز الأكل إلا كون الأكل باطلا، فالبطلان موضوع للحكم بنظره، وحيث إن الاستثناء ليس من الباطل، فإنه غير قابل للتخصيص، أي يحكم الشارع بجواز الأكل في مورد البطلان. وأيضا التجارة عن تراض لا تكون باطلا قطعا، فالعرف يرى أن الآية في مقام مقابلة الباطل بالتجارة بما أنها غير باطل، لا بما أنها تجارة ناشئة عن تراض، فالمستفاد من الآية المباركة عدم جواز الأكل في مورد البطلان وجوازه في مورد الحق، وبما أن فهم البطلان والحق - كسائر الموضوعات المأخوذة في الأدلة - موكول إلى نظر العرف، فلا بد من ملاحظة معناهما في نظر العرف والعقلاء، والعقلاء لا يرون بيع المكره بعد حصول الرضا من أقسام الباطل. فبهذا البيان ظهر عدم استفادة حصر الحل في التجارة عن تراض من الآية الكريمة. وأما في المستثنى، فظهور الكلمة في النشو وإن كان لا ينكر، إلا أن العرف يلغي هذه الخصوصية، بملاحظة أن وجه التقييد بالتراضي هو حصول الرضا في المعاملة، وأما نشو المعاملة عن الرضا فلا خصوصية فيه، ولا سيما بملاحظة الاستثناء عن الباطل واستفادة أن وجه الاستثناء هو كون التجارة عن تراض من غير الباطل، وأما وجه ذكر هذا الفرد في المستثنى فكونه من أوضح الأفراد وأغلبها. وقد ظهر بذلك: عدم الحاجة إلى البحث عن اتصال الاستثناء وانقطاعه، وإن ذهب السيد (رحمه الله) - وتبعه المحقق النائيني (رحمه الله) - إلى لزوم توجيه الاستثناء بحيث يرجع إلى الاتصال، ولذا ذكروا: أن الآية بمعنى لا تأكلوا أموالكم بينكم بوجه من
411 الوجوه - إلا التجارة عن تراض - لكونه باطلا (1). وهذا لا يرجع إلى محصل صحيح، فإن الآية ظاهرة في الاستثناء المنقطع، ولا محذور في الالتزام بذلك، ولا ينافي ورود الآية في كلام البليغ، فإن البلاغة قد تقتضي الاتيان بالاستثناء منقطعا لبعض الدواعي، كتأكيد المستثنى منه، مثل (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما) (2)، أو داع آخر يرجع في ذلك إلى المفصلات، بل أول الاستثناء في أمثال هذه الموارد إلى الاتصال والالتزام باستفادة الحصر منه مناف للفصاحة، أترى أنه لا يسمع شئ في الجنة إلا السلام؟! وهذا ظاهر. في توهم الحصر في آية التجارة والحاصل: أن الحصر المتوهم في الآية الكريمة يندفع بوجوه: 1 - عدم حجية مفهوم الوصف، ولا سيما إذا كان وصفا غالبيا، ك (ربائبكم اللاتي في حجوركم) (3). 2 - إلغاء الخصوصية عن نشو التجارة عن تراض. 3 - ظهور الاستثناء في الانقطاع، فإن الاستثناء المنقطع يؤتى به بدواع غير حقيقة الاستثناء، كتأكيد المستثنى منه، كما مثلنا له. 4 - استفادة أن المجوز للأكل هو ما لم يكن باطلا مطلقا بمناسبة الحكم والموضوع.
1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 127 / سطر 11. منية الطالب 1: 199 / سطر 22. 2 - الواقعة 56: 25 - 26. 3 - النساء 4: 23. 412 الاستدلال بالآية مع تسليم الحصر على المقام ومع تسليم الحصر إنما يتم الاستدلال بالآية لو كان المراد من التراضي ما هو مفقود في المكره، ولو كان المراد منه أمرا آخر - كبعض ما احتملنا سابقا في معناه، وكما ذكره صاحب مجمع البيان في تفسير هذه الآية: من أن التراضي هو الرضا باللزوم (1) وعدم الفسخ بالخيار - فلا يتم الاستدلال. وقد يقال باعتبار المقارنة بحديث الرفع (2)، وتقريب الاستدلال ظاهر، فإن رفع ما أكره عليه ادعاء بمصحح رفع جميع الآثار، يقتضي اعتبار الشارع وجوده كالعدم، فلا شئ حينئذ حتى يلحقه الرضا ويصح به. كلام الشيخ في رد التمسك بحديث الرفع في المقام ومناقشته ذكر الشيخ الأعظم (رحمه الله) في المقام: أنه لا يمكن التمسك بحديث الرفع لاثبات ذلك، واستدل على ما أفاده بوجهين: الأول: أن الامتنان يقتضي أن يكون المرفوع خصوص المؤاخذة، أو ما يوجب المؤاخذة، وهي الالزامات الشرعية، وقابلية العقد للصحة بلحوق الإجازة به ليس من هذا القبيل، والامتنان لا يقتضي رفعها. الثاني: أن الحديث يرفع أثر العقد المترتب عليه مع قطع النظر عن الاكراه، وقابلية التصحيح بلحوق الرضا بالعقد مترتبة على وقوعه عن إكراه، لا على وقوعه مطلقا حتى يرفع بحديث الرفع (3).
1 - مجمع البيان 3: 59. 2 - أنظر وسائل الشيعة 11: 295، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56. 3 - المكاسب: 122 / سطر 13 - 19. 413 ثم ذكر: أن رفع أثر العقد - وهي مسببيته لحصول الأثر - كاف في البطلان، لعدم وجود مقتضي الصحة، بعد تحكيم حديث الرفع على الأدلة الواقعية الدالة على نفوذ العقد. وأجاب عن ذلك: بأن الأثر مترتب على العقد والرضا معا، وليس للعقد المجرد أثر شرعي غير كونه جزء المؤثر، وهو عقلي لا شرعي، فدليل الرضا قاصر عن الشمول لاثبات بطلان عقد المكره وعدم قابليته للتصحيح بالرضا المتأخر (1). ولكن بما ذكرنا من التقريب يظهر ما في كلا الوجهين، فإن حديث الرفع لا يرفع المؤاخذة أو الأحكام الالزامية أو السببية المطلقة أو المقيدة، بل يرفع العناوين ادعاء بمصحح رفع جميع الآثار، وقضية الامتنان لا ينافي ذلك، فإن ادعاء رفع العنوان كرفع ما أكرهوا عليه، لا يمكن إلا إذا ادعي قابلية هذا العنوان للوضع، ومصحح ادعاء وضع العنوان كون العنوان موضوعا للآثار التي كلها - أو عمدتها - إلزامية، ويكفي كون عمدة الآثار إلزامية لتصحيح الادعاء، وبما أن الرفع قد تعلق بنفس هذا العنوان القابل للوضع، فيرفع نفس العنوان بما له من الآثار وإن كان بعض الآثار المترتب عليه غير إلزامي، فإن المصحح للادعاء ما ذكرنا، وبعد رفع العنوان واعتبار وجوده كالعدم لا شئ حتى يلحقه الرضا ويصح به. التحقيق في المقام والتحقيق أن يقال: الاحتمالات في حديث الرفع ثلاثة: أحدها: كون الموصول مفهوما اسميا مقيدا بصلته بنحو الحيثية التقييدية، فيكون مفاده رفع المكره عليه. ثانيها: كون الموصول إشارة إلى الذوات كالبيع ونحوه، وكون الحيثية
1 - المكاسب: 122 / سطر 21 - 28. 414 تعليلية، فيكون مفاده رفع الذوات - كالبيع - لكونها مكرها عليها، وقد ذكرنا في الأصول: أن الموصولات كالضمائر كلها من قبيل الحروف، وأسماء الإشارة أيضا من هذا القبيل، كلها أدوات للإشارة إلى ما تشير إليه (1)، فالمتعين بحسب الظاهر هذا الاحتمال. ثالثها: كون الموصول إشارة إلى ذلك، مع كون الحيثية من قبيل نكتة الجعل، فيكون مفاده رفع الذوات - كالبيع - في مورد الاكراه عليها. وأدلة النفوذ، مع قطع النظر عن تقيدها بالرضا المعاملي (لأنه قد مر وسيأتي أنه لو فرضنا التقيد في الأدلة الأولية لا تصل النوبة إلى حديث الاكراه) إما مطلقة، ك (أحل الله البيع) (2) وآية التجارة (3)، بناء على عدم استفادة الحصر منها، لكون القيد - وهو الرضا - غالبيا، أو غير ذلك، وإما عامة ك (أوفوا بالعقود) (4)، وقد مر الفرق بين المطلق والعام، وقلنا: إن الموضوع في باب المطلقات نفس الطبيعة، وفي باب العموم الطبيعة المتكثرة (5)، فلو أمر المولى عبده بإكرام كل عالم، وأكرم العبد جميعهم، وفيهم الفساق، فإنه يحتج العبد على المولى - لو قال المولى: لم أكرمت الفساق من العلماء؟ - بأنك قلت: أكرم كل عالم، ولو أمر بإكرام العالم، وأكرم الفاسق منه، فإنه يحتج عليه - لو قال: لم أكرمته؟ - بأنك ما قلت أزيد من العالم، فلو أردت العالم العادل لكان اللازم عليك التقييد. وهذا معنى دلالة العموم باللفظ، ودلالة المطلق بمقدمات الحكمة، فالدال على التكثير في باب العموم اللفظ، نحو كل وغيره،
1 - مناهج الوصول 1: 96 - 98. 2 - البقرة 2: 275. 3 - النساء 4: 29. 4 - المائدة 5: 1. 5 - تقدم في الصفحة 388. 415 والدال على عدم اعتبار قيد في متعلق الأمر في المطلق، عدم التقييد في مقام البيان (1). فلو كان دليل النفوذ مطلقا، فعلى الاحتمالين الأولين في الموصول يتمسك بالاطلاق لتصحيح عقد المكره بعد حصول الرضا، لعدم الاكراه حينئذ، فإن الرفع يدور مدار قيده في الأول وعلته في الثاني، فلا يصلح حديث الرفع لتقييد دليل النفوذ بنحو لا ينطبق على المقام، وعلى الاحتمال الثالث لا يمكن التصحيح بالرضا، فإن دليل النفوذ يقيد بحديث الرفع بغير العقد الواقع عن إكراه، بحيث يرفع ذات العقد، فلا يبقى مجال لالحاق الرضا به. ولو شككنا في الاحتمالات في الموصول فيؤول الشك إلى تقييد الزائد والناقص، ويرجع حينئذ لدفعه إلى أصالة الاطلاق، فإن المفروض أن دليل القيد منفصل عن دليل المطلق، إلا أن يقال إن دليل الحاكم وإن كان موافقا لدليل المقيد من حيث إن كلا منهما يقيد المطلق، إلا أنه يفترق عنه: بأن إجمال دليل المقيد المنفصل لا يسري إلى المطلق، بخلاف دليل الحاكم، فإن إجماله يسري إليه في بعض الموارد، فإن دليل الحاكم لو كان ناظرا إلى دليل المحكوم نظر شرح وتفسير، فإجمال الشارح والمفسر يرجع إلى المشروح والمفسر لا محالة (2).
1 - الظاهر اشتراك العموم والاطلاق من حيث الوضع وجريان مقدمات الحكمة، وإن كانا متغايرين بحسب المفاد، فإن مفاد العام تكثير الطبيعة، ومفاد الاطلاق نفس الطبيعة. لكن كليهما - بحسب الدلالة التصورية - دالان على معناهما بالوضع وبحسب الدلالة التصديقية، وهو كون العام في الأول والمطلق في الثاني موضوعا للحكم، يحتاج إلى مقدمة عقلية، وهو كون المتكلم في مقام البيان، وعدم ما يوجب رفع اليد عن ظهور الأول في العموم والثاني في الاطلاق. وبعد تمامية ذلك يعلم أن موضوع الحكم في الأول الطبيعة المتكثرة، وفي الثاني نفس الطبيعة. نعم، هنا فرق بين العام والمطلق في مقام الاحتجاج: وهو أن المحتج به في العموم بيان التكثير، وفي المطلق عدم بيان القيد، وهذا لا يوجب تفاوتا بينهما بما هو المعروف، من أن دلالة العام بالوضع ودلالة المطلق بمقدمات الحكمة. فتدبر جيدا. المقرر دامت بركاته. 2 - أنظر مناهج الوصول 2: 246. 416 نعم، لو لم يكن ناظرا إليه يكون وزانه وزان المقيد المنفصل، نظير حكومة الأمارات على الأصول. والمقام من قبيل الأول، فإن دليل رفع ما أكره عليه ناظر إلى الأدلة الأولية للأحكام، ويشرح موضوعها، وإنها واردة في غير مورد الاكراه، فعلى ذلك يصبح العقد الاكراهي بعد الرضا بلا دليل دال على نفوذه، لاجمال دليل النفوذ بإجمال الحاكم، وهو حديث الرفع. ولو كان دليل النفوذ عاما، فقد مر في بعض المباحث السابقة: أن العام وإن كان دالا على تكثير الفرد بنحو العموم، إلا أن دلالته على عدم تقيد الأفراد بحالة دون حالة بنحو الاطلاق، ف أكرم العلماء وإن كان دالا على وجوب إكرام كل عالم بنحو العموم، إلا أن دلالته على عدم اختصاص وجوب الاكرام بما إذا كان العالم في المدرسة، أو في حال التدريس، أو في زمان خاص، أو غير ذلك من الحالات، إنما هي بالاطلاق (1). وذكرنا أيضا: أن هذا الاطلاق تابع للعموم، فلو ورد تخصيص في العموم لم يوجب ذلك تقييدا في الاطلاق، لعدم الموضوع للتقييد، ولو ورد تقييد في هذا الاطلاق لم يوجب تخصيصا في العموم. وهذا ظاهر. وحينئذ، على الاحتمالين الأولين في الموصول، يكون دليل الاكراه مقيدا لاطلاق دليل العام بالنسبة إلى حالتي الاكراه وغيره، فيقيد إطلاق دليل العموم بغير حالة الاكراه، فيمكن التمسك بدليل العام بعد لحوق الرضا بالعقد المكره عليه، لزوال حالة الاكراه، فإن العموم الأفرادي والاطلاق الأحوالي كليهما شاملان له حينئذ. وأما على الاحتمال الأخير فيخصص العام بغير الفرد الواقع عن إكراه، فلا موضوع للاطلاق والتقييد حينئذ، فلا يصح العقد بلحوق الرضا به.
1 - تقدم في الصفحة 388 - 389. 417 شبهة في المقام وحلها ولو شككنا في الاحتمالات الثلاثة فهنا شبهة: وهي أن العلم الاجمالي بتخصيص العام أو تقييد المطلق، موجب لسقوط كلا الأصلين، فلا يمكن تصحيح المعاملة، إلا أنه حيث إن الدوران في المطلق بين التقييد والتقيد، مع العلم بعدم تعلق الإرادة الجدية بحالة الاكراه، ولا أصل عقلائيا للبناء على التقييد حينئذ، بل الأصل جار لتشخيص الإرادة الجدية، لا لتعيين كيفيتها بعد العلم بها والدوران في العام بين التخصيص وعدمه، فتبقى أصالة العموم بلا معارض، فينحل العلم الاجمالي لا محالة، وأصالة الاطلاق بالنسبة إلى ما بعد زوال الاكراه أيضا جارية بلا مزاحم، فيصح العقد حينئذ، بل لا نحتاج إلى هذا الأصل، ويكفي نفس جريان أصالة العموم لاثبات الحكم بالنسبة إلى الحالة المتأخرة على ما سيجئ. وأيضا لا معارضة بين الأصلين، فإن جريان أصالة الاطلاق مستلزم لعدم جريانه، لأن جريان هذا الأصل بالنسبة إلى العقد المكره عليه قبل حصول الرضا - لاثبات دخوله في أدلة النفوذ - لا يمكن للعلم بخروجه، وجريانه فيه لاثبات لازمه، وهو ورود التخصيص في العام، مستلزم لنفي موضوع الاطلاق، فإن الاطلاق متفرع على العموم، والتخصيص يوجب خروج الفرد عن العام، وهذا موجب لانعدام موضوع الاطلاق، فجريان الاطلاق لاثبات التخصيص في العموم مستلزم لانعدام موضوع الاطلاق، فأصالة الاطلاق غير جارية في نفسها، فتبقى أصالة العموم بلا معارض. ولا يتوهم: أنه في ما بعد لحوق الرضا يمكن إجراء الاطلاق بلا محذور، والمحذور إنما هو في جريان الاطلاق بالنسبة إلى الحالة المتقدمة، فإن الشبهة إنما هي في مورد العلم الاجمالي بطرو التقييد أو التخصيص، وهذا يتم بالنسبة إلى ما قبل
418 ذلك، كما لا يخفى. وأما بالنسبة إلى ما بعده، فيدور الأمر بين تقييد المطلق وعدمه، وهذا راجع إلى الشك في تخصيص العام وعدمه، فإن تقييده بالنسبة إلى ما بعد لحوق الرضا - مع العلم بعدم شمول الاطلاق بالنسبة إلى ما قبل ذلك - موجب لخروج أصل الفرد عن العموم، فيدور الأمر بين تخصيص العام وعدمه، وأصالة العموم تثبت لزوم الوفاء بالعقد بالنسبة إلى هذه الحالة، وهل نحتاج بعد هذا الأصل إلى جريان أصالة الاطلاق أيضا، أولا، بل يكفي نفس جريان الأصل الأول؟ الظاهر كفاية ذلك، فإن شمول العموم بالنسبة إلى هذا الفرد - مع العلم بعدم شمول إطلاقه بالنسبة إلى الحالة المتقدمة - موجب لثبوت حكم العام للفرد بالنسبة إلى الحالة المتأخرة بلا حاجة إلى التمسك بالاطلاق الأحوالي (1). في حكومة دليل الاكراه على الأدلة الأولية هذا تمام الكلام على مبنى عدم تقييد الأدلة الأولية بالرضا والطيب المعاملي، ووصول النوبة إلى حكومة دليل الاكراه. وأما على ما مر (2) من أن بناء العقلاء إنما هو في ترتب الأثر على المعاملات الحاصلة عن الرضا، ولا يرتبون ذلك على العقد الاكراهي، والأدلة الواردة في النفوذ كلها منصرفة إلى ذلك، وإن لم نقل باستفادة المفهوم من آية التجارة، فلا يبقى مجال لحكومة دليل الرفع حتى تحصل الاحتمالات المتقدمة، فلا بد لاثبات صحة العقد
1 - كل ما أفاده مبني على استفادة الحكومة من دليل الرفع، وأما على مسلك الحق - وهو أن حديث الرفع لا يستفاد منه إلا أحكام تعذيرية - فيكون أجنبيا عن مثل هذه المقامات بالكلية، وحررنا ذلك في رسالة مفردة في حديث الرفع مفصلا. المقرر دامت بركاته. 2 - تقدم في الصفحة 378 و 406. 419 المكره عليه - بعد لحوق الرضا - من التمسك بإطلاقات النفوذ أو بناء العقلاء. والظاهر صحة كلا الوجهين بلا وجود حاكم في البين. هذا تمام الكلام في العقد المكره عليه، ونبحث عن بقية المسائل المرتبطة بذلك في العقد الفضولي، لاشتراك الجهة المبحوث عنها في المسألتين. والحمد لله رب العالمين.
420 البيع الفضولي الشرط الثالث: الملكية في الفرق بين العقد الفضولي والايقاع فضوليا قال الشيخ (قدس سره): بعد اتفاقهم على بطلان إيقاعه (1). لا بد لنا من الفحص عن أنه هل هنا ما به يمتاز العقد عن الايقاع في هذا الحكم، أم لا؟ فنقول: أما بحسب المبادئ التصورية والتصديقية، فبما أن كليهما من الأفعال الاختيارية للإنسان، فكل منهما مسبوق بمبادئ الفعل الاختياري لا محالة كسائر الأفعال الاختيارية، ولا فرق بينهما من هذه الجهة، فلو أشكلنا في حصول الجد في الايقاع يرد الاشكال في العقد أيضا، وإلا فلا إشكال في كليهما. وأما بحسب الأسباب - وهي الألفاظ في موردها - فكلاهما منشئان بذلك، والعاقد يستعمل الألفاظ في معانيها في كليهما، فلا فرق من هذه الجهة أيضا بينهما. وأما بحسب المسبب - وهو حصول المنشأ في عالم الاعتبار بنظر من بيده
1 - المكاسب: 124 / سطر 14. 421 الاعتبار من الشرع والعقلاء - فكلاهما أيضا مشتركان في عدم كون ذلك اختياريا للمتعاقدين إلا بإيجاد موضوع ذلك، وهي الأسباب المذكورة. والحاصل: أن ما هو بيد المتعاقدين وتحت اختيارهما - من مبادئ العقد ونفسه من الأسباب، بمعنى استعمال الألفاظ في معانيها، وإن شئت فعبر عنه: بإيجاد الأمر الاعتباري الانشائي - فمشترك فيه بين الموردين، وما هو خارج عن ذلك من وقوع المعتبر في وعائه فأيضا كذلك في الموردين، فلا فرق بين العقود والايقاعات بحسب القواعد، من جهة الحكم بصحة الفضولي فيهما أو البطلان فيهما. وأما بحسب الأدلة الخارجية فلا دليل على الفرق بينهما، غير الاتفاق المدعى في كلام الشيخ، نقلا عن غاية المراد (1)، ولا حجية في ذلك بحسب الكبرى، ولا اتفاق بحسب الصغرى. في عدم الفرق بين العقد الفضولي وغيره عقلائيا ومما ذكرنا: من الفرق بين الوجود الاعتباري الحقيقي، وبين الوجود الاعتباري الانشائي، وأن الأول خارج عن اختيار المتعاقدين دون الثاني، وأن الثاني بعد إلحاق جميع ما يعتبر في تحقق الأول به، يكون موضوعا للأول، يظهر عدم الفرق بين العقد الفضولي وغير الفضولي، بحسب القواعد العقلائية، وشمول أدلة النفوذ الشرعية لهما أيضا، فإن ما هو باختيار المتعاقدين من إيجاد الأمر الاعتباري الانشائي موجود في الفضولي وغيره، وأما رضا المالك فغير معتبر في حقيقة هذا الأمر، كما هو ظاهر، وقد تقدم في بحث الاكراه ما يكون برهانا له أيضا (2)، بل إنما هو معتبر في تحقق الأمر الاعتباري الحقيقي، ولذا ذكرنا في بحث
1 - المكاسب: 124 / سطر 14، ولم يطبع غاية المراد بعد. 2 - تقدم في الصفحة 407 - 408. 422 الموالاة بين الايجاب والقبول: أن بفعل الموجب قد تحقق تمام حقيقة العقد، وهو الاعتبار الانشائي، والقبول إنما هو لاظهار رضا القابل بما فعله الموجب، من نقل ملكه إليه بما يقابله من ملك القابل (في البيع مثلا)، فالقبول غير دخيل في حقيقة المعاملة والعقد، بل إنما هو دخيل في الاعتبار الحقيقي، بمعنى أنه موضوع لذلك (1)، بل رضا الموجب أيضا كذلك، فرضا المالكين - سواء كانا متعاقدين أو غيرهما - خارج عن حقيقة العقد، وهو الايجاد الانشائي. نعم، لا بد في اعتبار الشرع والعقلاء لحصول الأثر من أمور ثلاثة: العقد وهو الايجاد الانشائي، وظهور رضا المالكين. وفي عقد الأصيلين - كالمالكين - حصل العقد، وظهر رضا الموجب بفعل واحد، وهو الايجاب، وظهر رضا القابل بقبوله، فوزان القبول في معاملة الأصيلين وزان الإجازة في العقد الفضولي، فإنها أيضا لاظهار رضا المالك. فعلى ذلك، البحث عن صحة البيع الفضولي وبطلانه، بعينه هو البحث عن اعتبار التوالي بين الايجاب والقبول وعدمه، فلو قلنا بعدم الاعتبار في ذلك، لعدم دخل القبول في حقيقة المعاملة، وعدم دليل على اعتبار مقارنته بالعقد في حصول الاعتبار الحقيقي، بل الدليل قائم على خلافه، فلا بد لنا من الحكم بالصحة في البيع الفضولي أيضا لوجود العقد، وهو الاعتبار الانشائي، والرضا المتأخر من قبيل القبول المتأخر، بل هو بعينه حتى في ظرف الموجب، فإن إظهاره الرضا بالعقد هو قبوله العقد كقبول المشتري. وبعبارة أخرى: العقد متقوم بأمر واحد، وهو الانشاء، واعتبار ذلك بنظر العقلاء والشرع موقوف على قبول المالكين ذلك العقد، فنحتاج في اعتبار العقد إلى قبولين، غاية الأمر يحصل قبول المالك الموجب الأصيل وإنشاء العقد بأمر واحد، وهو الايجاب، فلو قلنا بعدم اعتبار توالي القبول مع الايجاب - كما قلنا - لصح بيع
1 - تقدم في الصفحة 215. 423 الفضولي أيضا، فإنه من العقد المتأخر قبوله. ومن هنا ظهر: أن قبول الفضولي لا أثر له أصلا، لا في العقد، ولا في أثره، بل إيجاب الفضولي أيضا لا أثر له بالنسبة إلى قبول المالك، بل الفضولي ينشئ العقد والإجازة في بيع الفضولي بعينه القبول في غير الفضولي. والحاصل: أنه لا فرق بين العقد الفضولي وغيره، إلا في حصول العقد من المالك أو المأذون في الثاني، ومن غيره في الأول، وهذا لا يوجب الفرق بينهما في حقيقة العقد، ولا في ما هو المعتبر في الاعتبار الحقيقي. في شمول أدلة نفوذ المعاملة للعقد الفضولي فمن هنا ظهر: أن وجه شمول إطلاقات أدلة النفوذ للعقد الفضولي بعينه، هو الوجه في شمولها للعقد غير الفضولي، فإن الإجازة لو حصلت مقارنة للعقد، فهي القبول المقارن بعينه حتى في الايجاب، ولو لحقت العقد فهي القبول المتأخر بعينه الذي مر بحثه، فافهم واغتنم. فما قيل: من أن ظاهر أدلة النفوذ نفوذ المعاملة المستندة إلى المالك، فمعنى (أوفوا بالعقود) (1) أوفوا بعقودكم، فلا تشمل المعاملة الفضولية (2). ممنوع: بأن في القدر المتيقن من مورد شمول هذه الأدلة - وهو عقد الأصيل أو الوكيل أو المأذون - لا يصح هذا الاستناد، لأن العقد غير مستند إلى المالكين في الأخيرين، وفي الأصيل غير مستند بتمامه إليهما، على القول المشهور: من كون
1 - المائدة 5: 1. 2 - حاشية المكاسب، المحقق الخراساني: 52 - 53، حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 133 / سطر 34، حاشية المكاسب، الإيرواني 1: 117 / سطر 2 - 7، منية الطالب 1: 210 / سطر 7. 424 القبول دخيلا في قوام العقد. وأما على مسلكنا فالعقد مستند إلى الموجب فقط لا القابل، وقد يكون الموجب مغايرا للمالكين معا كالمأذون والوكيل، فأين الاستناد حتى يقال باعتباره. والحاصل: أن وضع شمول أدلة النفوذ للقدر المتيقن من موارد شموله، بعينه هو الوضع في شموله في مورد الفضولي، فصحة العقد الفضولي موافقة للقاعدة العقلائية والشرعية، والإجازة في العقد الفضولي هي القبول بعينه في غيره، وهي تنفذ العقد، لا أنها مقومة له، كما مر في القبول. كلام المحقق النائيني في المقام ونقده ثم إن للمحقق النائيني (رحمه الله) كلاما في المقام، نذكره إجمالا مع الإشارة إلى ما فيه. ذكر في مقام الرد على ما ذهب إليه الشيخ (قدس سره) - من كفاية الرضا الباطني في خروج العقد عن الفضولية -: بأن الرضا غير كاف في ذلك، فإن المعتبر في تصحيح العقد هو الاستناد إلى المالك، وهو أمر إنشائي يحتاج إلى الابراز (1). وفيه: أنه لو كان المراد بالاستناد صيرورة العقد عقد المالك، بحيث يصح أن يقال: إنه فعله، فبطلانه ظاهر، ولو كان المراد منه مجرد الربط بالمالك فهو حاصل بنفس الرضا، مع أن كون الاستناد أمرا إنشائيا لا محصل له، كما لا يخفى. وذكر (رحمه الله) في مقام بيان كون الفضولي موافقا للقاعدة مع اعتباره الاستناد: أن المعتبر استناد المسبب إلى المالك - والمسبب هو الأثر المترتب بنظر العقلاء - لا السبب - وهو العقد الانشائي - حتى يقال: لا ينقلب الشئ عما وقع عليه، لعدم الدليل على اعتبار استناد الأسباب إلى المالك (2).
1 - منية الطالب 1: 209 - 210. 2 - منية الطالب 1: 213 / سطر 5. 425 وفيه: أنه لو كان دليل نفوذ المعاملة بناء العقلاء، فمع حصول الأثر بنظرهم، يكون اعتبار استناد الأثر إلى المالك لغوا، ولو كان الدليل العمومات نظير (أوفوا بالعقود) (1) بمعنى العقد المستند، فالتمسك بها لاثبات النفوذ - بناء على ما ذكره - دوري، لأنه ما لم يحصل الأثر ولم يثبت الاستناد، لم يمكن التمسك بالعموم لاثبات حصول الأثر، فالصحيح عدم اعتبار الاستناد، لا في السبب لعدم الدليل عليه وعدم الامكان في بيع الوكيل، ولا في المسبب لما ذكر من الاشكال العقلي، مضافا إلى عدم الدليل على اعتبار الاستناد كما مر. نعم، غاية ما يمكن أن يدعى انصراف الأدلة عن العقد الغير المرتبط بالمالك بوجه، لكن مع حصول الارتباط بوجه، مثل وقوع العقد على ماله وحصول الرضا مقارنا أو متأخرا، فتشمله الأدلة، ولا وجه لدعوى اعتبار أمر زائد على ذلك، فكيف إذا حصلت الإجازة من المالك؟! والمتحصل من جميع ذلك: أن التمسك بالأدلة العامة لاثبات صحة الفضولي، لا يحتاج إلى مؤونة زائدة على التمسك بها لانفاذ معاملة الأصيلين. ومما ذكرنا: ظهر خروج العقد المقرون برضا المالك واقعا - ولو صدر من غير المالك ولم يبرز المالك رضاه بإنشاء أو غيره - عن العقد الفضولي، بل على مسلكنا في القبول أيضا يكفي رضا القابل بذلك بلا حاجة إلى الابراز والانشاء، كل ذلك لما مر من تحقق حقيقة العقد، ويكفي في إنفاذه نفس تحقق الرضا من المالك، لعدم الدليل على أزيد من ذلك بعد شمول الاطلاقات له. ثم ذكر (رحمه الله) أثناء كلامه في هذا المقام: أنه يعتبر في صحة الفضولي بالإجازة أمران: أحدهما: عدم كون الفعل علة تامة لتحقق أثره. وثانيهما: عدم كون إجازة المجيز علة تامة لتحقق أثرها.
1 - المائدة 5: 1. 426 وبمقتضى الأمر الأول تخرج جملة من الايقاعات عن عنوان الفضولي، كالقبض والاقباض وإعطاء الدين، بل إعطاء الخمس والزكاة لو قيل بجريان التبرع فيهما، وبمقتضى الأمر الثاني تخرج العقود الإذنية، كالوكالة في التصرف والعارية والوديعة، وجملة الايقاعات، كالفسخ والإجازة والابراء والجعالة بناء على كونها منها، فإن إجازة هذه بنفسها تكون وكالة وعارية ووديعة وفسخا وإجازة وإبراء وجعلا (1). وما ذكره من الكبرى وإن كان صحيحا، إلا أنه لا مصداق لها وشئ من الأمثلة المذكورة لا يكون مصداقا لذلك. أما القبض والاقباض في الكليات، فحيث لا يتعين الكلي إلا بوقوع القبض والاقباض من أهله، يمكن تصوير الفضولية فيه، فلو أقبض الفضولي المشتري من مال البائع مصداق ما باعه كليا أو قبض الفضولي من البائع ذلك، فالأول يحتاج إلى إجازة البائع، والثاني إلى إجازة المشتري، وهذا ظاهر. وأما في الشخصيات فقبض الفضولي فيها أيضا متوقفة على الإجازة، وأما إقباض الفضولي فلا يحتاج إلى الإجازة، لا لما ذكره، بل لعدم أثر للاقباض حتى يحصل بالإجازة، والأثر يترتب على القبض، وهو ليس فضوليا. وأما إعطاء الدين والخمس والزكاة، فالتبرع بذلك عن ملك نفس المتبرع خارج عن البحث والفضولية، والبحث إنما هو في إخراج ذلك من مال المالك، وعليه لم لا تجري الفضولية فيها؟! وأما ما ذكره: من أن الإجازة في العقود الإذنية والايقاعات المذكورة، بنفسها علة تامة لتحقق أثرها، فلا محصل له، أما العقود الإذنية فقد مر في بعض المباحث السابقة: أنه لو كان المراد من ذلك أن هذه العقود بنفسها إذن، ولا تزيد عن حقيقة الإذن بشئ، فهذا ظاهر البطلان، فإن الإذن شئ والعارية والوديعة - مثلا - شئ
1 - منية الطالب 1: 212 / سطر 18. 427 آخر، والأول إيقاع، والثاني عقد، ولذا لو لم يقبل المأذون له، بل رد الإذن يصح له التصرف، وأما في هذه العقود فلو لم يقبل القابل فيها لم يصح له التصرف. ولو كان المراد من ذلك أنها مشتملة على الإذن، فمضافا إلى أنها خلاف التحقيق لما ذكرنا من تغاير المفهومين، وجواز التصرف من لوازم هذه العقود (1)، لا مانع من جريان الفضولية فيها، فإن إنشاء العارية من الفضولي نظير إنشاء البيع من الفضولي، والإجازة ترجع إلى إنفاذ ذلك المنشأ، ولا معنى لأن يقال: الإجازة عارية، بعد ما ظهر من تغاير مفهوم الإذن والعارية ورجوع الإجازة إلى إنفاذ ما سبق. ولعل هذا في غاية الظهور، فلا محصل للتعبير عن هذه العقود بالعقود الإذنية. وقد ظهر من ذلك ما في أمثلة الايقاعات، فإن الإجازة شئ والابراء شئ كما لا يخفى، فيمكن تصوير الفضولية في جميع ما ذكره من الأمثلة. والمتحصل مما مر أمور: 1 - عدم الفرق بين الايقاعات والعقود بأنواعها في قبولهما الفضولية. 2 - كفاية الرضا الباطني في خروج العقد عن الفضولية، وفي إجازة العقد الواقع فضولا، بل وفي قبول العقد بلا حاجة إلى الانشاء. 3 - إن صحة العقد الفضولي موافقة للقاعدة نظير غير الفضولي، وشمول أدلة النفوذ لكلا العقدين، على نحو واحد وطرز فارد بلا أي فرق بينهما.
1 - تقدم في الصفحة 211. 428 مباحث البيع الفضولي ثم إنه ذكر الشيخ مباحث البيع الفضولي في ضمن مسائل: المسألة الأولى: أدلة بيع الفضولي للمالك مع عدم منعه في أن يبيع الفضولي للمالك مع عدم سبق المنع عنه (1). وقد استدل لصحة العقد الفضولي كذلك بوجوه: الأول: رواية عروة البارقي (2) البحث السندي ولم تذكر في كتبنا، وإنما ذكرت في كتب العامة من طرقهم، فمن جهة السند لا حجية فيها.
1 - المكاسب: 124 / سطر 30. 2 - مسند أحمد بن حنبل 4: 376 / سطر 9، سنن الترمذي 2: 365 / 1276، ثاقب المناقب: 40، عوالي اللآلي 3: 205 / 36، مستدرك الوسائل 13: 245، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع وشروطه، الباب 18، الحديث 1. 429 وتوهم: الانجبار بعمل المشهور (1). مدفوع: بلزوم إحراز استنادهم إليها، ولا يمكن الاحراز بعد كون صحة العقد الفضولي على وفق القاعدة، وإمكان أن ذكرهم للرواية من جهة التأييد لا الاستناد. البحث الدلالي وكيف كان، فالظاهر من الرواية أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أذن لعروة في شراء شاة واحدة، ودفع إليه دينارا لاعطاء ثمنها منه، واحتمال عدم تقيد الشاة بالوحدة خلاف الظاهر، كاحتمال تقيد الثمن بكونه دينارا لا أقل. وعليه لو كان اشتراؤه للشاتين على نحو التدريج، كان الأول صحيحا والأخير فضوليا، لكن الظاهر وحدة الاشتراء المتعلق بهما معا، وعليه فلا يمكن القول بصحة أحدهما معينا. فلو تصورنا الفرد المردد قلنا: بأن الواقع صحيح بالنسبة إلى أحدهما، فضولي بالنسبة إلى الآخر، فإن أجيز وإلا يعين الصحيح بالقرعة. ولو لم نتصور ذلك فنقول: لا إشكال في شمول دليل وجوب الوفاء بالعقد للمورد، فلا بد من العمل به مهما أمكن، وحيث إن الحكم بكون العقد فضوليا بالنسبة إلى كل منهما مناف للعمل بهذا الدليل، ومع عدم الإجازة لا يمكننا الحكم بصحة شئ من العقدين، فلا بد من تتميم العقد بالقرعة، فالقرعة هنا متمم، وهناك معين (2). وعلى هذا فالشراء فضولي في الجملة، وكون البيع فضوليا أوضح.
1 - جواهر الكلام 22: 277. 2 - أقول: الظاهر عدم إمكان التتميم بالقرعة، لأن إثبات لزوم التتميم بدليل الوفاء دوري، فإن الظاهر منه أن الواجب الوفاء بالعقد التام، بل الحكم حينئذ تخيير البائع في تعيين المبيع، لأن المبيع (صحيحا) بعد ما لم يكن فردا معينا ولا مرددا، يكون كليا لا محالة، فيكون المقام من قبيل بيع الكلي في المعين، والحكم فيه ما ذكر. المقرر دامت بركاته. 430 وحينئذ يرد على من اعتبر في صحة العقد الاستناد، وذكر عدم حصول الاستناد بالرضا المجرد، واعتبر إنشاء الإجازة في ذلك: أنه كيف يعقل تصحيح كلا الأمرين - الشراء والبيع - بإنشاء واحد، فإنه مستلزم لدخول الشاة في ملك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في آن خروجها عنه، وهذا غير معقول. نعم، على مسلكنا من عدم الحاجة إلى شئ من ذلك وكفاية الرضا، يصح الشراء بالرضا المستفاد من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): بارك الله... إلى آخره، والبيع من الرضا في المرتبة المتأخرة. ثم إنه ذكر في هذه الرواية: أنها واردة في قضية شخصية، ولعل عروة كان وكيلا مفوضا من النبي الأكرم (1). وأنت خبير بأن هذا خلاف ظاهر الرواية. وأيضا ذكر: أن القبض والاقباض في العقد الفضولي محرم، وهذا مناف لتقرير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيعلم أن المعاملة لم تكن فضولية (2). وقد أفاد الشيخ الأعظم (رحمه الله): أن الرضا الباطني كاف في خروج العقد عن الفضولية، والقبض والاقباض عن الحرمة (3). وفيه: أن الرضا الفعلي من النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن قطعا، لعدم التفاته وتوجهه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى فعل عروة حين الفعل، ولذا بين له عروة بعد ما أتاه، والرضا التقديري لا دليل على كفايته في ما ذكره، فالفضولية محققة. ومع ذلك يمكن القول: بأن اعتقاد عروة برضا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واعتقاده بأن تصرفه موافق للرضا وغير محرم، كاف في عدم ارتكابه محرما، فلا ينافي التقرير. فدلالة الرواية على صحة البيع الفضولي وشرائه تامة، لكن السند ضعيف
1 - منية الطالب 1: 213 / سطر 21. 2 - المكاسب: 124 / سطر 20 و 125 / سطر 8. 3 - نفس المصدر: 124 / سطر 24. 431 على ما مر. الثاني: صحيحة محمد بن قيس (1) إشكال الشيخ عليها بورودها في الإجازة بعد الرد وجوابه أشكل الشيخ (رحمه الله): بأنها واردة في مورد الإجازة بعد الرد، مع أن العقد فاسد حينئذ إجماعا، فالرواية غير معمول بها في موردها، والشاهد على الرد المخاصمة، وأخذ الوليدة وابنها، ومناشدة المشتري له (عليه السلام) (2). ولكن لا إشعار للرواية بالرد، لعدم ذكر كيفية المخاصمة فيها، فلعل المولى يريد بدعواه أن يعطيه المشتري ثمن الجارية حتى ينفذ له البيع، مع أنه أعطى الثمن إلى الولد قبل ذلك، ولذا يأبى عن الاعطاء ثانيا. وهكذا أخذ الوليدة لا يدل على أزيد من عدم الرضا، فإن المالك ما لم يرض لم يخرج الملك عن ملكه. وهكذا بالنسبة إلى المناشدة. فظهور الرواية في كون الإجازة بعد الرد، ممنوع. في تقريب الشيخ للاستدلال بالصحيحة ومناقشته وأما ما ذكر (رحمه الله) في تقريب الاستدلال بالصحيحة بعد ذلك الاشكال: من أن السياق يقتضي إمكان التصحيح بالإجازة ولو لم يكن المورد مصداقا له (3).
1 - الكافي 5: 211 / 12، الفقيه 3: 140 / 615، تهذيب الأحكام 7: 488 / 1960، الاستبصار 3: 85 / 4 و 205 / 739، وسائل الشيعة 14: 591، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء، الباب 88، الحديث 1. 2 - المكاسب: 125 / سطر 18. 3 - المكاسب: 125 / سطر 22. 432 ففيه: أن المذكور في الرواية ليس إلا قضية شخصية، وليس هنا عموم ومورد حتى يؤخذ بالعموم في غير المورد، فإن قلنا به في مورده، وإلا فلا يمكننا الأخذ بالرواية. الثالث: ما دل على صحة نكاح الفضولي بالإجازة المتأخرة ومنه ما استدل به الشيخ (رحمه الله) أخيرا لاثبات صحة الفضولي: وهو موثقة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سألته عن مملوك تزوج بغير إذن سيده؟ فقال (عليه السلام): ذاك إلى سيده إن شاء أجازه، وإن شاء فرق بينهما.... إلى أن يقول: فقال أبو جعفر (عليه السلام): إنه لم يعص الله تعالى، إنما عصى سيده، فإذا أجازه فهو له جائز (1). بتقريب: أن وجه السؤال ليس عن خصوصية في النكاح، بل الفهم العرفي شاهد على أن الوجه هو تصرف غير مالك التصرف بغير إذنه، مضافا إلى أن ذيل الرواية - وهو التعليل - يدلنا على ذلك. فنفس الرواية دالة على تعميم الحكم لجميع العقود، فلا حاجة إلى التمسك بالأولوية مع الاغماض عما فيها على ما سيجئ، أو إلغاء الخصوصية. ونفي عصيان الله في الرواية مع إثبات عصيان السيد اللازم منه عصيان الله أيضا، إنما يتم بناء على مسلكنا: من أن الأحكام تدور مدار عناوينها بلا سراية منها إلى غيرها، فالنكاح عصيان السيد، وليس عصيان الله، وما هو عصيان الله مخالفة السيد وعصيانه والخروج عن طاعته، ولا يسري حكم كل من العنوانين إلى
1 - الكافي 5: 478 / 3، الفقيه 3: 350 / 1675، تهذيب الأحكام 7: 351 / 1432، وسائل الشيعة 14: 523، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء، الباب 24، الحديث 1، المكاسب: 126 / سطر 31. 433 الآخر وإن وجدا في الخارج بوجود واحد. ويدل على ذلك: ما في ذيل خبر آخر لزرارة: فقال أبو جعفر (عليه السلام): إنما أتى شيئا حلالا، وليس بعاص لله، إنما عصى سيده ولم يعص الله، إن ذلك ليس كإتيان ما حرم الله عليه من نكاح في عدة وأشباهه (1). فإن إسناد الحلية وعدم التحريم إلى هذا النكاح، لا يتم إلا بما ذكرناه: من التمايز بين الأحكام لتمايز عناوين موضوعاتها. ومن ذلك صحيحة الحذاء: وفيها عن غلام وجارية زوجهما وليان لهما وهما غير مدركين؟ فقال: النكاح جائز، وأيهما أدرك كان له الخيار (2) الحديث. والحكم في هذه الرواية بجواز النكاح وثبوت الخيار، وذيل هذه الرواية يدلنا على أن المراد بالولي، هو الولي العرفي، لا الشرعي. وتقريب الاستدلال ما مر في الرواية السابقة: من استفادة التعميم من وجه السؤال. وهنا روايات كثيرة دالة على هذا الحكم في مورد النكاح (3)، وتقريب الاستدلال واحد، فلاحظ.
1 - الكافي 5: 478 / 2، تهذيب الأحكام 7: 351 / 1431، الفقيه 3: 283 / 1349، وسائل الشيعة 14: 523 - 524، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء، الباب 24، الحديث 2. 2 - الكافي 7: 131 - 132، تهذيب الأحكام 7: 388 / 1555، وسائل الشيعة 17: 527، كتاب الفرائض والمواريث، أبواب ميراث الأزواج، الباب 11، الحديث 1. 3 - وسائل الشيعة 14: 207، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، الباب 6، الحديث 2، و 17: 528، كتاب الفرائض والمواريث، أبواب ميراث الأزواج، الباب 11، الحديث 2 و 4. 434 تمسك الشيخ بالأولوية للمقام وجوابه وأما ما ذكره الشيخ (رحمه الله): من التمسك بالأولوية (1)، فمع أن الأولوية لا حجية فيها في شئ من الموارد - فإن أبان كان متمسكا بالأولوية القطعية، وكان يزعم أن الآتي بالحكم الشيطان، ومع ذلك ردعه الإمام (عليه السلام)، وقال: إن السنة إذا قيست محق الدين (2) - أن الأولوية تقتضي التسهيل في أسباب النكاح، فإنه مع اهتمام الشارع به - لأن منه الولد وارتباط مهمات الدين به - لو كان أسباب حصوله صعبا، بحيث لم يتمكن منه إلا الأوحدي من الناس، لوقع العوام في المحرم كثيرا، ويكون هذا نقضا للغرض من الاهتمام بذلك. وأما ما ذكره الشيخ (رحمه الله): من أن الأولوية بالعكس (3) لما استدل به من الرواية، فلا يمكن المساعدة عليه، فإن الرواية في مقام الردع عن التمسك بالاستحسان، لا أن الاحتياط في باب النكاح يقتضي الصحة، وإلا فالاحتياط قد يقتضي البطلان، فإن الزوجة بعد عزلها الوكيل قبل الوصول إليه، لو زوجت نفسها إلى الغير، فالحكم بصحة نكاح الوكيل يقتضي أن يكون الوطء - من جهة تزويجها نفسها - زنا بذات البعل، بخلاف الحكم بالبطلان، وهذا هو نظير ما وجه به اقتضاء الاحتياط للحكم بالصحة، مع أن الاحتياط حينئذ يقتضي البطلان. وكيف كان، فلا حاجة إلى هذه التطويلات بعد دلالة نفس الروايات على المطلوب.
1 - المكاسب: 125 / سطر 31. 2 - الكافي 7: 299 - 300 / 6، تهذيب الأحكام 10: 184 / 719، الفقيه 4: 88 / 283، وسائل الشيعة 19: 268، كتاب الديات، أبواب ديات الأعضاء، الباب 44، الحديث 1. 3 - المكاسب: 126 / سطر 2. 435 استدلال الشيخ للمقام بروايات متفرقة ثم ذكر الشيخ (رحمه الله): ثم إنه ربما يؤيد صحة الفضولي - بل يستدل عليها - بروايات كثيرة وردت في موارد خاصة (1)، وذكر عدة روايات لا يرتبط شئ منها بمبحث الفضولي عدا رواية ابن أشيم (2). أما روايات المضاربة فغير موثقة جميل (3) - التي ذكرها الشيخ - كلها دالة على حكم تخلف العامل عن الشرط المجعول في المضاربة، لا تخلفه عن المضاربة المقيدة حتى تكون المعاملة فضولية. وأما موثقة جميل فهي وإن كانت ظاهرة في التقييد، إلا أن حملها على الاشتراط، أولى وأوفق بالنظر من الالتزام بورودها في مقام بيان هذا الحكم المخالف للقواعد، فإن القاعدة تقتضي حينئذ وقوف المعاملة على إجازة المالك، لا الصحة مطلقا، وأيضا مع عدم الإجازة لا ربح كما هو ظاهر، ومع الإجازة تمام الربح للمالك، لا كون الربح بينهما. وأما روايات التجارة بمال اليتيم فأيضا أجنبية عن المقام، فإن ظاهر جميعها أن المعامل هو الولي: إما لنفسه لو اقترض المال وأخذه بالضمان في صورة كونه مليا، أو للطفل لو لم يقترض، أو اقترض ولم يكن مليا، وفي جميع الموارد حكم بضمان الولي، إلا إذا كان وصيا من الأب في المضاربة، والربح في الأول للولي، وفي الثاني للطفل، وشئ من ذلك لا يرتبط بمبحث الفضولي. والروايات وردت في باب
1 - المكاسب: 126 / سطر 11. 2 - الكافي 7: 62 / 20، تهذيب الأحكام 7: 234 / 1023 و 9: 243 / 945. وسائل الشيعة 13: 53، كتاب التجارة، أبواب بيع الحيوان، الباب 25، الحديث 1. 3 - تهذيب الأحكام 7: 193 / 853. وسائل الشيعة 13: 182، كتاب المضاربة، في أحكام المضاربة، الباب 1، الحديث 9. 436 الزكاة (1) والتجارة (2) والوصية (3) فلاحظ الوسائل. ولا يهمنا التعرض لسائر الوجوه (4). وأما رواية ابن أشيم (5) فهي وإن كانت من جهة السند ضعيفة، إلا أن دلالتها تامة، فإنه لو أقام الوراث البينة على أنه اشتراه بماله كان رقا له، وحيث إنه يحتمل في الرواية أن الدافع قد دفع المال إلى المأذون ليشتري به نسمة... إلى آخره، أن ذلك من قبيل الوكالة لا الايصاء، فبعد موت الدافع لو وقع الاشتراء بهذا المال - كما هو المفروض من جهة قيام البينة - يكون فضوليا لا محالة، والرواية تدل على الصحة بإجازة الورثة، والايصاء وإن كان محتملا، إلا أنه لا بد من الاثبات. نعم، لو أحرز الايصاء تخرج المعاملة عن الفضولية، وإلا فمقتضى القاعدة وقوع المعاملة على ملك الوراث، فهي فضولية. أدلة بطلان العقد الفضولي ومناقشتها واحتج للبطلان بوجوه: 1 - عدم إنفاذ الاطلاقات للعقد الفضولي مطلقا - البيع وغيره - فإن الظاهر منها اعتبار الاسناد إلى المالك، بحيث يمكن القول: بأن العقد عقده والبيع بيعه، فإن الظاهر من (أوفوا بالعقود) (6) أوفوا بعقودكم، وكذا آية البيع (7) والتجارة (8). وهذا
1 - وسائل الشيعة 6: 54 - 58، كتاب الزكاة، أبواب من تجب عليه الزكاة، الباب 1 - 2. 2 - وسائل الشيعة 12: 190 - 194، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 75 - 76. 3 - وسائل الشيعة 13: 478، كتاب الوصايا، أحكام الوصايا، الباب 92. 4 - أفاد سيدنا الأستاذ حكم هذه المسائل في البحث مفصلا، ونحن تركنا التعرض لها، لعدم دخلها بما كنا بصدده. المقرر دامت بركاته. 5 - تقدم في الصفحة 436. 6 - المائدة 5: 1. 7 - البقرة 2: 275. 8 - النساء 4: 29. 437 الاسناد غير ثابت في المعاملة الفضولية ولو بعد الإجازة، لا حقيقة وهذا ظاهر، ولا ادعاء فإن المالك إنما يجيز فعل غيره، لا أنه يدعي أن الفعل فعله، مضافا إلى عدم شمول الاطلاقات لغير الحقائق. وهذا الاستدلال - على مبنى الشيخ ومن تبعه، ومنهم المرحوم النائيني (رحمه الله) (1) - تام، ولذا يلزمهم الاستدلال للصحة بالأدلة الخاصة، وأما على ما ذكرنا: من عدم اعتبار مثل هذا الاسناد، فالصحة مقتضى القاعدة، كما مر (2). 2 - آية التجارة (3): دالة على البطلان بوجهين: أحدهما: ظهور المستثنى في أن سبب جواز الأكل تجارتكم، والاستناد مفقود، كما مر تقريبا وجوابا (4). وثانيهما: ظهور الاستثناء في الحصر (5)، وقد مر الجواب عن ذلك أيضا مفصلا (6)، فلا نعيد. 3 - عدة من الروايات. منها النبوي المستفيض: وهو قوله لحكيم بن حزام: لا تبع ما ليس عندك (7)، وفي معناه ما ورد من أنه نهى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن بيع ما ليس عندك (8). ويحتمل في الرواية مع قطع النظر عن صدرها أن يكون المراد من ليس
1 - منية الطالب 1: 210 / سطر 7. 2 - تقدم في الصفحة 425 - 426. 3 - النساء 4: 29. 4 - تقدم في الصفحة 78 - 80 و 410 - 412. 5 - المكاسب: 126 / سطر 35. 6 - تقدم في الصفحة 80 - 81. 7 - مسند أحمد بن حنبل 3: 402 / 1 و 2، سنن البيهقي 5: 339. 8 - تهذيب الأحكام 7: 230 / 1005، الفقيه 4: 4 / 1، وسائل الشيعة 12: 374 - 375، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 7، الحديث 2 و 5. 438 عندك - بعد العلم بأنه ليس المراد منه الحضور الخارجي - عدم المملوكية، لتنطبق الرواية على الفضولي، أو عدم إمكان التسليم مطلقا، بعد العلم بعدم اعتبار إمكان التسليم فعلا في صحة العقد. وهذا المعنى أجنبي عن بيع الفضولي بالكلية، بل هو ما يكون ثابتا عند العقلاء من اعتبار القدرة على التسليم في صحة البيع، وقد يكون الفضولي قادرا على التسليم، مع أنه لا اعتبار بقدرة العاقد على التسليم، بل العبرة بقدرة المالك. فعلى هذا لا تنطبق الرواية على البيع الفضولي، وليس واحد من الاحتمالين أظهر من الآخر، مضافا إلى أنه - بناء على الاحتمال الأول - النهي عن بيع ما لا يملكه العاقد، لا يدل على بطلان الفضولي، إلا إذا تعلق النهي بالبيع مطلقا، والظاهر من هذا التركيب أن تعلق النهي باعتبار عدم ملكية العاقد، فلا يقع عن غير مالكه ولا عنه بحيث لم يحتج إلى رضاه، وأما عدم وقوعه عن المالك بعد إجازته فخارج عن مفاد هذه الرواية. في الاستدلال للمقام بحديث لأبيع إلا في ملك وبهذا ظهر ما في الاستدلال بالنبوي الآخر: لأبيع إلا في ملك (1)، وإن كان بحسب اللسان أقوى من النبوي السابق، لتعلق النفي هنا بماهية البيع، فيقال: إما أن المراد من عدم البيع التعبد بعدمه، أو ادعاء عدمه، والتعبد والادعاء إنما هو بلحاظ جميع الآثار، فلا أثر للبيع الواقع عن غير المالك مطلقا. لكن الظاهر أن النفي إنما هو عن وقوع البيع على النحو المتعارف في الخارج، بحيث يترتب عليه الآثار بالفعل
1 - عوالي اللآلي 2: 247 / 16 و 3: 205 / 37. مع اختلاف يسير، مستدرك الوسائل 13: 230، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع وشروطه، الباب 1، الحديث 3 و 4. و 15: 293، كتاب الطلاق، أبواب مقدماته وشروطه، الباب 12، الحديث 5. مع اختلاف يسير. 439 مطلقا، وأما نفي ذلك بحيث لم يقبل لحوقه بالإجازة، فغير ظاهر منه، مع إمكان دعوى أنه يكفي في التعبد والادعاء نفي الآثار الظاهرة لا مطلقا، فلا يستفاد بطلان الفضولي من ذلك. هذا مع قطع النظر عن صدر النبوي السابق، وأما مع ملاحظته، وأن حكيم بن حزام يسأل عن حكم البيع أولا، ثم الشراء من مالكه والدفع إلى المشتري، فأجاب الإمام (عليه السلام) بهذه العبارة: نهى النبي عما ليس عندك (1)، فظاهر السؤال عن حكم البيع على النحو المتعارف بين الدلالين، والمتعارف إنما هو بيع الكلي لا الشخصي، ووجود النص والفتوى على صحة البيع الكلي حينئذ، لا يوجب رفع اليد عن ظهور الرواية وحملها على بيع العين الشخصية، بل لا بد من علاج الرواية على الوجه المقرر له في الأصول. فعلى ذلك لا يمكن الاستدلال بالرواية لبطلان الفضولي، ولو قلنا بأن المبيع شخصي، على ما أفاده الشيخ (رحمه الله) (2)، فالاحتمال الثاني ساقط، لكن هذا بعينه ما يجئ في مسألة من باع شيئا ثم ملكه فأجاز (3)، وبحثه غير مرتبط بمقامنا، وهو أن الفضولي باع عن المالك مع عدم سبق المنع، فأجاز المالك، والعموم المستفاد من التعليل بدوا نزل على ذلك، مضافا إلى أن صرف الإمام (عليه السلام) نظره عن جواب السائل - ب لا أو نعم مع أنه أخصر - إلى هذه العبارة، شاهد على أن المراد إلقاء الكبرى لتشخيص المنهي عنه عن غيره، بلا نظر إلى التطبيق على مورد السؤال، بل أوكل الإمام (عليه السلام) ذلك إلى نفس السائل، فالسائل سأل عن حكم القضية، وأجاب الإمام (عليه السلام): بأن المنهي عنه هو بيع ما ليس عندك، واختيار التطبيق بيد
1 - تقدم في الصفحة 438. 2 - المكاسب: 127 / سطر 13. 3 - يأتي في الصفحة 597. 440 السائل، فعلى ذلك يجئ فيه الاحتمال الثاني أيضا، فليتدبر. وأما توقيع الصفار لا يجوز بيع ما ليس يملك (1)، فمضافا إلى ما سبق يحتمل فيه قراءة يملك مبنيا للمجهول، فيخرج بيع الفضولي عن مفاده. وأما سائر الروايات، فقد ذكر الشيخ (رحمه الله) ما هو المهم منها، وأجاب عنه بأجوبة متينة (2)، فلا نطيل بالتعرض لها. ثم إنه لو تمت هذه الروايات فتقيد بها إطلاقات أدلة التنفيذ، وهذا ظاهر. في تقييد أدلة البطلان العامة بأدلة الصحة الخاصة وهل يمكن تقييدها بالروايات الخاصة الدالة على صحة الفضولي، أم لا؟ فقد ذكر الشيخ (رحمه الله): أن النسبة بينهما عموم وخصوص مطلق (3)، فإن النهي عن بيع ما لا يملك عام، يشمل بيع العاقد لنفسه أو لمالكه مع حصول الإجازة وعدمه، وأما حديث عروة (4) فظاهره بيع العاقد لمالكه مع حصول الإجازة، وهذا أخص، فتثبت صحة العقد الفضولي في محل بحثنا. ولكن ذكر المحقق النائيني (رحمه الله): أن النسبة بينهما نسبة التباين (5) فتتساقطان، ويرجع إلى الاطلاقات. والوجه في ذلك: أن البيع لنفسه أو للمالك بلا إجازته، لم يكن موردا لتوهم الصحة، حتى يرد المنع بنحو العموم، فلم يبق تحت الأدلة المانعة إلا البيع للمالك مع
1 - الكافي 7: 402 / 4، الفقيه 3: 153 / 674، تهذيب الأحكام 7: 150 / 667، وسائل الشيعة 12: 252، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع، الباب 2، الحديث 1. 2 - المكاسب: 127. 3 - المكاسب: 127 / سطر 19. 4 - تقدم في الصفحة 429. 5 - منية الطالب 1: 222 / سطر 1. 441 إجازته، وهذا مورد أدلة الصحة أيضا. وفيه: أن بيع العاقد لنفسه ثم الاشتراء والإجازة مورد لتوهم الصحة، وقد وقع فيه الخلاف أيضا، والأدلة المانعة شاملة لذلك، كما هو مورد بعضها، بخلاف أدلة الصحة، فالنسبة عموم وخصوص مطلقا. نعم لو لزم من التخصيص الاستهجان يعامل معهما معاملة التعارض بالتباين، ولكنه لا يلزم ذلك. والذي يسهل الخطب عدم وصول النوبة إلى المعارضة على ما مر. 4 - الاجماع: وتقريبه والجواب عنه ذكر في المتن (1)، فراجع. 5 - الدليل العقلي والعقلائي: وتقريب ذلك بوجوه: التقريب الأول: أن التصرف في مال الغير من دون إذنه قبيح عقلا وشرعا، وبيع مال الغير تصرف فيه، فهو قبيح عقلا، ومحرم شرعا لو وقع بلا إذن من مالكه، ونتيجة التحريم الفساد. ويرد عليه: أولا: أن البيع ليس من التصرف في شئ، لا من العاقد، ولا من العقلاء، ولو سلم فإنه تصرف من العقلاء لا العاقد، فإن ما يوجده العاقد ليس إلا الانشاء، وأما المبادلة فهي مترتبة على ذلك ترتب الحكم على موضوعه من جهة اعتبار العقلاء ذلك. والحاصل: أنه قد مر سابقا الفرق بين الاعتبار الانشائي والحقيقي (2)، ولو سلمنا كون البيع تصرفا، فإنما هو الاعتبار الحقيقي منه الذي هو قائم بنفس العقلاء، ولا يمكن إيجاد العاقد له، فإنه من إيجاد فعل الغير، وما هو بيد العاقد ليس إلا الانشاء، وهذا ليس تصرفا (3).
1 - المكاسب: 127 / سطر 29. 2 - تقدم في الصفحة 422 - 423. 3 - ولو سلمنا أن الانشاء تصرف، لكن لا نسلم ذلك على الاطلاق، بل المسلم هو الانشاء المترتب عليه الأثر، وإلا فالبيع الفاسد ليس تصرفا في شئ. فعلى ذلك التمسك بدليل عدم حل التصرف لاثبات الفساد دوري، كما لا يخفى على المتأمل. المقرر دامت بركاته. 442 ثم إن ما ذكر من أن نتيجة التحريم الفساد، فلو لم نقل باقتضائه الصحة - كما عن أبي حنيفة والشيباني (1) - فلا نقول باقتضائه الفساد أيضا، لعدم الملازمة، كما برهن عليه في الأصول (2)، مضافا إلى أن متعلق النهي التصرف لا البيع، فيدخل في مسألة الاجتماع، لا دلالة النهي على الفساد، وقد ذكرنا مرارا: أنه يكفي في دفع غائلة الاجتماع، تعدد العنوان وإن لم يوجب ذلك تعدد المعنون (3)، فإن مركز تعلق الأمر والاتحاد مختلفان. ولو قلنا بأن النهي متعلق بالبيع، فأيضا لا يدل على الفساد وإن قلنا بدلالة النهي على الفساد، فإن مركز تعلق النهي نفس طبيعة البيع والعقد، وهي سابقة على الوجود، ومركز تعلق وجوب الوفاء العقد الخارجي والبيع الخارجي، لا أقول بتعلقه بالفرد بخصوصياته المشخصة له، بل أقول: نفس طبيعة العقد غير قابلة للوفاء بها، بل القابل للوفاء هو العقد الخارجي، وإن كان ذلك موضوعا لوجوب الوفاء بما هو عقد لا غير، فقد اختلف الموضوعان، ونتيجة ذلك أن طبيعة العقد منهي عنها، لكن لو تحققت هذه الطبيعة وجب الوفاء بها، مضافا إلى أن المنهي عنه فعل الفضولي، والمكلف بالوفاء المالك بعد إجازته، وعلى هذا أيضا يختلف الموضوعان، فلا وجه لتوهم دلالة هذا النهي على الفساد، وإن قلنا بدلالة النهي في المعاملات على الفساد. وقد عرفت: أنه لا فرق بين تعلق النهي بالأسباب أو المسببات (4)، وإن فصل
1 - أنظر مطارح الأنظار (تقريرات الشيخ الأنصاري) الكلانتر: 166 / سطر 15. وشرح تنقيح الفصول: 173. 2 - أنظر مناهج الوصول 2: 161 - 163. 3 - مناهج الوصول 2: 131 / سطر 15. 4 - تقدم في الصفحة 425 - 426. 443 المحقق النائيني (رحمه الله) بينهما، وقال بدلالة النهي عن المسببات على الفساد. وذكر في وجهه: أن النهي عن المسبب يوجب خروجه عن تحت قدرة المكلف، فلا يمكن شمول أدلة النفوذ له. وذكر: أن الظاهر من النهي عن التصرف النهي عن التمليك الحاصل من السبب (1). ولا يخفى ما فيه، فإنه بعد الجزم بأن النهي لا يوجب خروج متعلقه عن تحت قدرة المكلف تكوينا، يصبح ما ذكره من التعليل مصادرة، فإنه لا معنى لكون خروج الشئ عن تحت القدرة تشريعا، إلا كونه حراما، فمعنى ما ذكره: أن الحرمة تدل على الفساد للحرمة. وبما ذكرنا ظهر: أنه لا فرق أيضا بين إنشاء العاقد متوقعا للإجازة أو غير متوقع لذلك في عدم كون شئ منهما تصرفا، ولو قلنا بأن الثاني تصرف فالأول أيضا كذلك، لعدم الفرق بينهما في الانشاء ومبادئه، والاعتبار الحقيقي في كل منهما - وجودا وعدما - خارج عما يوجده العاقد، وإن فصل المحقق النائيني (رحمه الله) بينهما (2)، فلاحظ كلامه تعرف مرامه، ولا يخفى أنه تبع الشيخ (رحمه الله) في هذا التفصيل (3). التقريب الثاني: أن العاقد الفضولي لا يحصل الجد منه في إنشائه، ويجئ الكلام في إطلاق ذلك وأصله في المسألة الثالثة. ومحصل الكلام: أنه مع غفلة العاقد أو عدم مبالاته بالشرع، يمكن حصول الجد منه، ولكن مع علمه بعدم ترتب الأثر على معاملته فيشكل الأمر، والظاهر عدم
1 - منية الطالب 1: 222 - 223، فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 2: 471 - 472. 2 - منية الطالب 1: 222 / سطر 16. 3 - المكاسب: 127 / سطر 34. 444 حصول الجد منه. نعم، بناء على ما مر سابقا في باب الايجاب والقبول، وذكرنا في الفضولي أيضا: من أن ما بيد العاقد نفس اعتباره الانشائي، والاعتبار العقلائي أمر غير اختياري له ويترتب على موضوعه (1)، فيمكن حصول الجد أيضا مع توقع الإجازة، وأما مع العلم بعدم تحقق الإجازة بعد ذلك، فلا يحصل الجد نظير ما سيجئ، فانتظر. التقريب الثالث: أنهم ذكروا في بحث الصحيح والأعم في الأصول: أن أسامي المعاملات بنظر العقلاء موضوعة للمسببات لا الأسباب (2)، ولذلك لا تقبل الصحة والفساد، بل أمرها دائر بين النفي والاثبات دائما بلا واسطة تكون فاسدها، فالعقد الفاسد عرفا ليس بعقد عندهم، وعليه لا يمكن تصحيح العقد الفضولي بالإجازة، فإن العقد الصادر منه بمجرده لا يترتب عليه الأثر عند العقلاء، فليس بعقد عندهم، ويكون في حكم العدم، والإجازة تصحح العقد، لا ما يكون في قوة العدم (3). والجواب عن ذلك: فساد المبنى، فإن الصحيح أن الألفاظ موضوعة لما ينشئه العاقد من الألفاظ أو المعاني الانشائية، والمعاملات تتصف حينئذ بالصحة والفساد، كما لا يخفى (4).
1 - أنظر في الصفحة 421 - 422. 2 - فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 80، نهاية الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) البروجردي 1: 97. 3 - ويمكن التقريب بأنه بناء على القول بأن أسامي المعاملات موضوعة للمسببات - أي المعتبرة بعد الانشاء - لا يمكن التمسك بالأدلة العامة لانفاذ الفضولي، فإنه من الشبهة المصداقية لها. المقرر دامت بركاته. 4 - هذا مضافا إلى أنه لو سلمنا الوضع للمسببات، لكن لا نسلم الوضع للمسببات الشرعية، أي بلحاظ حكم الشارع بترتب الآثار، بل بما أن ماهية المعاملات من الأمور العرفية، فعلى القول بوضع أساميها للمسببات، لا بد من القول بأن المسمى هي المسببات العرفية والعقلائية، وبهذا المعنى أيضا قابل للصحة والفساد شرعا، ولا يكون العقد الفضولي من الشبهة المصداقية في شئ، فإنه لم يقع الترديد في بناء العقلاء في الفضولي، وقد تقدم بناؤهم على ترتيب الآثار. المقرر دامت بركاته. 445 ولا يخفى عليك أن التقريب الأول عقلائي محض، والثاني عقلي محض، والثالث مركب من العقلي والعقلائي، فتدبر جيدا. التقريب الرابع: أن الفضولي غير قادر على التسليم، أو أنه حيث إن إجازة المالك بعد ذلك غير معلومة، فتكون المعاملة غررية. والجواب عن هذا أظهر من أن يخفى، فإن الدليلين أخصان من المدعى، مع أن القدرة المعتبرة إنما هي بالنسبة إلى المالك لا العاقد، والغرر المنهي عنه غير منطبق على المقام، فإن العوضين بجميع خصوصياتهما معلومان، وتوقع إجازة المالك مع الجهل بحصولها لا يصير المعاملة غررية، مع أن الغرر المنهي عنه إنما هو بالنسبة إلى ما بعد تمامية العقد بشرائطه وأركانه، ومن المعلوم أن بعد إجازة المالك لا جهالة، وقبلها لم تتم المعاملة كذلك. التقريب الخامس: أن الأمر دائر بين بطلان الفضولي، أو تأثير العقد بشرط تحقق الإجازة المتأخرة، أو تأثير الإجازة بشرط تحقق العقد المتقدم، أو تأثيرهما معا، ولا خامس، وحيث إن الثاني من الشرط المتأخر، والثالث من الشرط المتقدم، والرابع من ضم الموجود إلى المعدوم، وجميعها مستحيل، فلا بد من الالتزام بالأول، وهو البطلان. والجواب أولا: بالنقض بالايجاب والقبول، فإنه يجئ فيهما الدوران المذكور أيضا. وثانيا بالحل: وهو أنه لا تقاس الأمور الاعتبارية بالتكوينية كما مر مرارا، ولا مانع من الالتزام بتأثيرهما معا، بمعنى أنه في زمان حصول الإجازة وإن كانت
446 ألفاظ المعاملة معدومة، إلا أن أثرها - وهو المعنى المنشأ - موجود باعتبار العقلاء حينئذ، وكما أنهم يعتبرونه حدوثا يعتبرونه بقاء أيضا، فيرتفع الاشكال. وأما بحث جواز الشرط المتأخر وعدمه فموكول إلى محله، وسيجئ شطر من الكلام فيه في مسألة الكشف والنقل (1). وهنا وجوه أخر مذكورة في الكتب المفصلة لا يهمنا ذكرها، لوضوح الجواب عنها.
1 - يأتي في الصفحة 479. 447 المسألة الثانية في أن يبيع الفضولي للمالك مع سبق النهي منه في الاطلاقات الدالة على الصحة في المقام فنقول: لا يخفى أنه لا بد من الرجوع في أمثال هذه المسائل إلى بناء العقلاء، بمعنى عملهم، فإن القوانين العقلائية في المعاملات كلها مأخوذة من أعمالهم فيها التي دعتهم احتياجاتهم في معاشراتهم إلى هذه الأعمال، فالعمل مقدم على القانون لا العكس، وهذا ظاهر. وحينئذ لو قلنا بمقالة بعضهم: من اعتبار الاستناد إلى المالك في نفوذ المعاملات، بمعنى أن يكون العقد عقده والبيع بيعه، فلا يمكننا إحراز نفوذ مفروض مسألتنا، لاحتمال عدم اعتبار العقلاء استناد المعاملة المنهي عنها من المالك إليه، ومعه تكون المعاملة شبهة مصداقية لدليل النفوذ، فلو ادعى اعتبار الاستناد فيها أيضا عندهم، قيل له: لا تتحقق مثل هذه المعاملة في الخارج إلا نادرا، فكيف يدعي الاعتبار العقلائي فيها، ولا شئ غير بناء العقلاء يتمسك به لاثبات الاستناد؟! وكون العقد المنهي عنه من المالك بعد إجازته، عقده من التخريجات العقلية التي لا ربط لها بأمثال المسألة، فإنها من المسائل العقلائية لا العقلية. نعم، بناء على مسلكنا من عدم اعتبار ذلك مطلقا، وأن الميزان تحقق العقد فقط والخارج من دليل نفوذ ذلك - صرفا أو انصرافا - ما يكون المالك أجنبيا عنه بالكلية، فيمكننا تصحيح هذا العقد بالاطلاقات، فإن عنوان العقد منطبق على المنهي
448 عنه أيضا، وإلا لم يكن عصيانا لنهي المالك. هذا حال الاطلاقات. في الأدلة الخاصة الشاملة للمقام وأما الأدلة الخاصة فأيضا تشمل المسألة: أما أدلة النكاح: فهي وإن كان موردها عدم الإذن - لا النهي - إلا أن التعليل في بعضها: بأنه لم يعص الله بل إنما عصى سيده (1) عام يشمل المقام. دلالة موثقة محمد بن قيس على المقام ومناقشتها وأما موثقة محمد بن قيس (2) فقد ذكر الشيخ: أنها تدل على ذلك من جهة ترك الاستفصال (3)، ولا يخفى عدم إمكان المساعدة على ما أفاد، لظهور قول السائل فيها باعها ابني بغير إذني في عدم تحقق منع من الأب، وإلا لكان احتجاجه بذلك أولى مما احتج به. وكيف كان، فقد يقال: بأن الرواية ظاهرة في أن الأب رد المعاملة أولا ثم أجاز، ولازم عدم هادمية الرد عدم هادمية النهي السابق، فإنهما من واد واحد، بل عدم الهادمية للنهي أولى من عدم هادمية الرد (4)، كما لا يخفى.
1 - الكافي 5: 478 / 2 و 3، الفقيه 3: 350 / 1675 و 283 / 1349 و 76 / 271، تهذيب الأحكام 7: 351 / 1431 و 1432 و 8: 269 / 978، وسائل الشيعة 14: 523، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء، الباب 24، الحديث 1 و 2. 2 - تقدم في الصفحة 432. 3 - المكاسب: 128 / سطر 14. 4 - أنظر حاشية المكاسب، الإيرواني 1: 122 / سطر 24. 449 ولو سلم أن الاجماع دل على هادمية الرد، لطرح المدلول المطابقي وأخذ بالمدلول الالتزامي، كما ذكر في باب تعارض الروايات، وأن سقوط الأدلة المتعارضة في مدلولها المطابقي، لا يستلزم سقوطها في مدلولها الالتزامي أيضا بعد عدم المعارضة في ذلك، فإن الدلالة الالتزامية وإن كانت تابعة للدلالة المطابقية، إلا أن حجية الدليل بالنسبة إلى المدلول الالتزامي، لا تتبع حجيته بالنسبة إلى المدلول المطابقي، وتبعية الدلالة شئ، وتبعية حجية الدليل شئ آخر (1). والحاصل: أن الدليل كما يخبر عن المدلول المطابقي، يخبر عن المدلول الالتزامي أيضا في عرض إخباره عن الأول، ولا دليل على سقوط حجيته في الثاني إذا سقطت في الأول، وفي المقام الموثقة دلت بالمطابقة على عدم هادمية الرد، ولازم ذلك عدم هادمية النهي أيضا، فلو سقطت الموثقة عن الحجية في الأول للاجماع، فلا دليل على سقوطها عنها في الثاني. هذا، وقد يقال بعكس ذلك، وأن هادمية الرد المجمع عليها تستلزم هادمية النهي أيضا، فإن الرد رفع والنهي دفع، والدفع أهون من الرفع، أو أن النهي السابق على العقد موجود بعد العقد أيضا، وهو بعينه الرد. أقول: أما مسألة الدلالة الالتزامية فقد تقدم: أنها ليست من الدلالة اللفظية في شئ، بل إنما هي من دلالة المعنى، فإذن الأخبار ليس إلا إخبارا عن المدلول المطابقي، فليس هنا خبران، حتى يقال بعدم الملازمة بين سقوط أحدهما عن الحجية وسقوط الآخر عنها، بل الموجود خبر واحد، ومع سقوطه عن الحجية لا يمكن الحكم بالمدلول المطابقي، فكيف يدل هذا المدلول على لازمه؟! نعم، بناء على مسلك القوم من كون الدلالة الالتزامية دلالة لفظية، فيمكن
1 - درر الفوائد، الحائري 2: 650، فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 4: 755. 450 القول بتعدد الأخبار وعدم الملازمة بينهما في الحجية، مع أن مسألتنا أولى بسقوط اللازم من مسألة التعارض، فإن سقوط اللازم في تلك المسألة من جهة عدم الدليل على الملزوم، وفي المقام الدليل - وهو الاجماع - موجود على عدم الملزوم، وهو هادمية الرد، فيسقط اللازم حينئذ جزما. وأما ما قيل: من أن الدفع أهون من الرفع فهو ليس كبرى شرعية ولا عقلية، بل المقامات مختلفة، فقد يكون الدفع أهون من الرفع، وقد يكون الأمر بالعكس، وقد يتساويان، مع أنه قد مر عدم إمكان الاعتماد على مثل هذه الأولويات. وأما وجود النهي بعد العقد فغير معقول، لأنه من النهي عن الموجود، ولو أريد ببقاء النهي بقاء المبغوضية والكراهة فهذا ليس من الرد في شئ، فالصحيح عدم إمكان التمسك بالموثقة، لا لاثبات هادمية النهي، ولا لاثبات عدمها.
451 المسألة الثالثة في بيع الفضولي لنفسه في الاشكال العقلي في المقام وفيه: إشكال عقلي ذكره غير واحد، منهم الشيخ (رحمه الله) وهو أن الفضولي إذا كان ملتفتا إلى أن المعاملة لا تقع له، وأنه مبال بالشرع، كيف يحصل الجد منه إلى هذه المعاملة، وهو البيع لنفسه، بحيث يخرج المثمن من كيسه، ويدخل الثمن في كيسه، مع أنه غير مالك للمثمن، وهو يعلم بذلك، أو يخرج المثمن من كيس مالكه، ويدخل الثمن في كيسه، مع أنه عالم بعدم دخول الثمن إلا في كيس من خرج المثمن من كيسه (1). جواب الشيخ على الاشكال ومناقشته وقد أجاب الشيخ (رحمه الله) عن ذلك بنظير ما قيل في الحقائق الادعائية: وهو أن الفضولي يدعي الملكية، أو كونه مالكا أولا، ثم يعامل، فالمعاملة تقع بين المالكين حسب هذا الادعاء، ويحصل الجد حينئذ. ونقول: إنه لو أراد (قدس سره) بذلك نظير ما اخترناه في باب الحقائق الادعائية: من أن الادعاء متأخر رتبة عن الاستعمال، واستعمال الألفاظ كلها في معناها، والادعاء إنما هو في الحمل ومفاد الهيئة، وهو الهوهوية (2)، فلا يبقى في المقام مجال للادعاء
1 - المكاسب: 128 / سطر 26. 2 - مناهج الوصول 1: 104 - 105. 452 بعد وقوع البيع للمالكين، بخلاف ذلك المقام، كما لا يخفى. ولو أراد (قدس سره) بذلك نظير ما ذكره السكاكي في ذلك الباب، وهو أن الادعاء مقدم رتبة على الاستعمال (1)، فيدعي المتكلم أولا أن زيدا أسد، ويستعمل الأسد فيه - الذي قد مر أنه من التلاعب بالألفاظ، ولا بلاغة فيه - فالادعاء في المقام وإن كان له مجال، إلا أنه لا يحل العقدة، فإن الفضولي الملتفت إلى عدم وقوع المعاملة لنفسه، بل لا تقع إلا لمالكه الحقيقي، كيف يحصل الجد منه بالادعاء المذكور، فإنه يعلم بأن مالكيته ادعائية وصورية لا أثر لها. وقد اعترض المحقق النائيني (رحمه الله) على الشيخ (رحمه الله) في ما ذكره: من أنه قد يدعي الفضولي الملكية، وقد لا يدعي، فلا بد من إثبات الادعاء حتى يترتب على عقده الآثار. في جواب المحقق النائيني على الاشكال ومناقشته وأجاب عن الاشكال: بأن السارق حينما يسرق الشئ بادعائه يسرق إضافته إلى مالكه أيضا، ففي ادعائه هو مالكه، لا مالكه الواقعي (2). وفيه - بعد ما مر من الاشكال على الجواب السابق -: أن ما أشكل هو (قدس سره) على الشيخ (رحمه الله)، يرد عليه قبل المعاملة، كما هو ظاهر. تفصيل المحقق الأصفهاني للمسألة بحسب المباني ومناقشته وقد فصل المحقق الأصفهاني (رحمه الله) حكم هذه المسألة على حسب المباني (3)،
1 - مفتاح العلوم: 156. 2 - منية الطالب 1: 225 / سطر 18. 3 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 140 / سطر 8. 453 وأنه على مبنى الشيخ التستري صاحب المقابس: من عدم اعتبار شئ في المعاملة إلا القصد إلى اللفظ مستشعرا معناه (1)، والشيخ الأعظم (رحمه الله): من أن المعتبر هو إنشاء النقل بنظر المتعاقدين (2)، وإن لم يترتب عليه الأثر واقعا، يمكن تصحيح المعاملة بما ذكره الشيخ (رحمه الله) من الادعاء. وأما على ما بنى هو (قدس سره) عليه: من أن المعتبر في المعاملة هو التسبب إلى حصول الأثر الواقعي، ولو بنحو التسبب في الايجاب الذي لا يمكن إلا بعد القبول، فقد ذكر أنه لا يمكن التصحيح بهذا الادعاء، فإنه بالادعاء لا يمكن التسبب المذكور، والحال أنه ملتفت إلى عدم حصول الأثر المقصود (3). في تحقيق مراد المحقق التستري ولا بد لنا - أولا - من تحقيق مراد الشيخ التستري (رحمه الله)، والمحتمل قريبا أن يكون مراده (رحمه الله)، نظير ما ذكرناه في الايجابات القانونية في العمومات مع ورود مخصصات عليها بعد ذلك، وقد مر قريبا أيضا في الفرق بين الاعتبار الحقيقي والانشائي في المعاملات. وحاصله: أن الإرادة الانشائية - المسماة بالإرادة الاستعمالية في الايجابات المذكورة - أمر، والإرادة الجدية أمر آخر، وبذلك يمكننا الجمع بين العام والخاص ودفع التنافي بينهما، كما بين في محله، والمعتبر في المعاملة - أي مفهومها - الإرادة الانشائية، أي القصد إلى اللفظ مستشعرا معناه المذكور في كلامه، لا الإرادة الجدية، أي الجد بحصول النقل، بل يمكن القول بأنه غير ممكن، فإن النقل الواقعي اعتبار
1 - مقابس الأنوار: 114 / سطر 33. 2 - أنظر حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 140 / سطر 12. 3 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 140 / سطر 33. 454 عقلائي يعتبره العقلاء، ولا يعقل جد أحد إلى فعل غيره، وسيجئ تحقيق هذا الكلام وإمكان تصديقه وعدمه. عدم إمكان تصحيح المعاملة بحسب مبنى الشيخ وأما بحسب مبنى الشيخ (رحمه الله) فقد ذكرنا: أنه لا يحل العقدة، فإن الادعاء بعد البيع لا مجال له، وقبله لا يفيد، فإن الفضولي في بيعه لنفسه مع التفاته إلى عدم وقوع المعاملة لغير مالكه الحقيقي، ملتفت إلى أن ادعاءه صوري، ولا يمكنه الجد بالنقل ولو بالادعاء. مناقشة مبنى المحقق الأصفهاني في تصحيح المعاملة وأما ما بنى عليه المحقق المذكور (رحمه الله) ففيه: أن التسبب إلى فعل الغير مستحيل، ولا سيما التسبب بعد فعل أحد إلى فعل شخص آخر، نظير ما ذكره في الايجاب والقبول (1). نعم، لو كانت الملكية الواقعية أمرا واقعيا كشف عنه الشارع، وهكذا عن موجده، فيمكن القول بالتسبب، إلا أنه ا أمر اعتباري عقلائي قائم بنفس العقلاء، وله مبادئ في أنفسهم، فلا يمكن التسبب بالانشاء إلى ذلك. نعم، موضوع اعتبار العقلاء هو إنشاء المعاملة، ووجود جميع ما يعتبر في حصول الأثر عندهم، وهذا لا يزيد عما ذكره الشيخ التستري وشيخنا الأنصاري (رحمهما الله) بشئ. هذا، ويمكن أن يقال: إن كلامهما أيضا راجع إلى مفاد واحد، فإن إنشاء النقل بنظر المتعاقدين ليس إلا الإرادة الانشائية بالمعاملة، أي القصد إلى اللفظ مستشعرا معناه.
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 69 / سطر 24. 455 وأما على ما هو ظاهر كلام الشيخ (رحمه الله) والمنسوب إليه: من أنه لا بد في المعاملة من قصد النقل واقعا بنظر المتعاقدين، فغير معقول حتى في معاملة الأصيل والفضولي لغيره، فإن الموجب وكذا الفضولي لغيره والمكره مع علمهم بعدم النقل واقعا - إلا بعد القبول في الأول، والإجازة في الأخيرين - كيف يعتقدان النقل الواقعي ويقصدانه في الانشاء. التحقيق في المقام والصحيح أن يقال: إن بيع الفضولي لنفسه على نحوين: فإنه تارة: يبيع مثل ما هو المتعارف، وهو المبادلة بين المالين، والقصد لنفسه من الأغراض والدواعي الموجبة للبيع، وهو أن يأخذ ثمنه ويتصرف فيه. وأخرى: يبيع بنحو التقييد. والظاهر أن محل الكلام بين الأعلام إنما هو النحو الأول لا الثاني، كما لا يخفى، فإنه المتعارف الذي يناسب الاهتمام ببيانه والبحث عنه. فلو أوقع الفضولي المعاملة على النحو الأول، لغرض أخذه الثمن والتصرف فيه بنفسه، فلا يرد عليه الاشكال العقلي، فإن الجد الحاصل في هذه المعاملة، لا ينقص عن معاملة الفضولي لمالكه ومعاملة المكره ومعاملة الأصيل بشئ، وهو الجد بإنشاء المعاملة، وأما ترتب الأثر على المعاملة وعدمه، فأجنبي عن إنشاء المعاملة وما هو المعتبر فيه، فإن الالتزام بصحة معاملة الفضولي لمالكه، اعتراف بعدم إخلال العلم بعدم ترتب الأثر حال المعاملة في حصول الجد بالمعاملة، بل صحة معاملة الأصيل أيضا يستلزم ذلك كما مر. والحاصل: أن المعتبر في إنشاء المعاملة هو الجد بالانشاء ولو مع العلم بعدم ترتب الأثر عليه فعلا، نظير الجد بالانشاء في العمومات القانونية مع العلم باختصاص الحكم ببعض الأفراد.
456 وبالجملة: إن اعتبار الفضولي المعاملة لنفسه - في المعاملات المتعارفة - غير دخيل في حقيقة معاملته، حتى يقال بعدم إمكان تعلق الجد بها للعلم بعدم تحققها أبدا، بل إنه داع للمعاملة وغرض لها، والمبادلة تقع بين المالين، وبطلان الداعي لا يوجب بطلان المعاملة، كما لا يخفى. والاشكال العقلي مندفع حينئذ، لامكان الجد بالمبادلة بين المالين إنشاء، نظير الأصيل والمكره والفضولي لغيره، بل البيع لمالكه أيضا إنما هو بغرض إجازته، وبيع المكره أيضا لغرض التخلص عن الضرر، وكذا بيع الأصيل بتوقع حصول القبول، وجميع ذلك من الدواعي الموجبة للمعاملة، وهذا لا يضر بحصول الجد بالمعاملة كما ذكرنا. فما ذكره الشيخ التستري (رحمه الله) - على ما وجهنا به كلامه (1) - هو الصحيح في المعاملات المتعارفة من الفضولي لنفسه. وأما لو وقعت المعاملة بنحو التقييد، فمع أنه نادر يمكن تصحيحه بالقول: بأن المعاملة الواقعة على العين الشخصية لا تقع إلا لمالكها، والتقييد لا يوجب تغير ذلك، نظير ما لو باع الفرس المقيد بكونه عربيا مع كونه شخصيا، والحال أنه غير عربي، فإنه يصح البيع حينئذ وإن تخلف الوصف، ويجئ فيه الخيار. والحاصل: أن الفضولي الملتفت وإن قيد المبيع بأنه ملكه، إلا أنه يلتفت إلى أن ذلك ليس إلا مجرد دعوى، والبيع لا يقع على هذا المبيع الشخصي إلا لمالكه، فيمكنه الجد بالمعاملة وتقييده لغو، وتصح المعاملة - بإجازة المالك - للمالك. إشكال عقلائي في المقام وجوابه وهنا إشكال عقلائي آخر في مسألة بيع الفضولي لنفسه: وهو أن ماهية البيع
1 - أنظر في الصفحة 454. 457 تبادل الإضافتين، وهذا لا يعقل إلا إذا دخل الثمن في كيس مالك المثمن وبالعكس، والفضولي لنفسه يريد أن يخرج المال من كيس مالكه، ويدخل ثمنه في كيس نفسه، وهذا خلاف حقيقة المعاوضة، فالمعاملة في نفسها باطلة غير قابلة للإجازة. وبعبارة أخرى: إنه لو أجاز المالك ما أنشأه الفضولي، فقد أجاز ما هو مناف لحقيقة المعاوضة، ومعناه أنه أجاز أمرا فاسدا، ولو أجاز البيع لنفسه فقد أجاز ما لم ينشأ، فما أنشأه الفضولي غير قابل للتصحيح بالإجازة، وما هو قابل لذلك لم ينشأ، فلا مصحح لبيع الفضولي لنفسه. هذا، وقد مر غير مرة أن حقيقة البيع ليس أمرا زائدا عن مبادلة المال بالمال، ولا يلزم فيها إخراج المبيع عن ملك شخص، أو إدخاله في ملك آخر، وهكذا في الثمن، ولذا لم يتوقف أحد في صدق عنوان البيع على بيع الكليات، مع أنها ليست ملكا للبائع، بحيث يصدق عليه أنه مالك للحنطة الكلية والحنطة الخارجية، فله ملكان في الخارج وفي الذمة. نعم، بعد البيع يملك المشتري في ذمة البائع ما باعه من الكلي، وهذا غير إخراج الملك عن ملك البائع. وهكذا لم يتوقف أحد في صدق البيع على بيع الوقف في مورده، مع أن الموقوف عليهم غير مالكين للوقف، فإن حقيقة الوقف هي الايقاف للانتفاع لا التمليك. وهكذا في صدق البيع على بيع الزكاة في مورده، مع أنها قبل الصرف في مصرفه ليست ملكا لأحد. فالبيع غير متقوم بالخلع واللبس، كما ذكره المرحوم النائيني، أو التبادل في الملكية (1)، بل ملاحظة المصاديق الواضحة للبيع عرفا كالأمثلة السابقة، تدلنا على أن حقيقة البيع أوسع من ذلك، بل تشمل ما لم يخرج عن ملك ولم يدخل في ملك، نظير مبادلة الوقف بالوقف في مورد جوازها.
1 - منية الطالب 1: 111 / سطر 12، وانظر في الصفحة 211. 458 والفضولي لنفسه وإن أنشأ البيع، وقصد فيه إخراج المبيع عن ملك مالكه وإدخال ثمنه في ملكه، إلا أن هذا القصد غير دخيل في حقيقة البيع كما مر، بل البيع في هذا المورد وفي مورد بيع الوقف ماهية واحدة، وهي مقصودة في المقام، فإن الفضولي قصد المبادلة بين المالين وإن قصد إخراج أحدهما عن ملك أحد وإدخال الآخر في ملك آخر، وهذا أمر زائد غير دخيل في حقيقة المعاملة، لا وجودا ولا عدما. هذا في بيع الغاصب المتعارف واضح، وأما في مورد التقييد فإنه وإن لم يكن بهذا الوضوح، إلا أنه أيضا كذلك، فإن تقييد المبيع الشخصي بكونه ملكا لمالكه، وتقييد الثمن بدخوله في ملك الفضولي، لا يضر بالمبادلة بين المالين، نظير تقييد المبيع بالوصف مع تخلفه عنه كما مر (1). في تصحيح الشيخ للمعاملة ومناقشته وأما ما ذكره الشيخ (رحمه الله) في العلاج وتصحيح هذه المعاملة: من أن الفضولي يدعي الملكية أولا، ثم ينشئ المعاملة لنفسه (2)، واختاره المحقق النائيني (رحمه الله) بتقريب: أن الغاصب وجود تنزيلي للمالك بعد سرقته الإضافة، نظير الوكيل، فإنه وجود تنزيلي للموكل، وعليه فقد أنشأ الفضولي المعاملة بين المالكين (3). فلا يصح صغرى وكبرى، فإن ادعاء الملكية أو المالكية لا يوجب المالكية، وأيضا هذا الادعاء والتنزيل على خلاف المقصود أدل، فإن تنزيل الغاصب نفسه مقام المالك إنما هو لانشاء البيع لنفسه لا لمالكه، نظير تنزيل شخص منزلة حاتم،
1 - تقدم في الصفحة 457. 2 - المكاسب: 128 / سطر 27. 3 - منية الطالب 1: 225 / سطر 4. 459 فإنه لاثبات السخاوة للمنزل لا للمنزل عليه. فإشكال المسألة لم يرتفع بذلك، فإن الفضولي بالادعاء والتنزيل باع المال لنفسه، فلا يمكن تصحيحه لمالكه، فإنه لم ينشأ، ولا للفضولي، فإن الادعاء لا يوجب ملكيته حقيقة، مع أن مقصود الشيخ والنائيني (رحمهما الله) تصحيح المعاملة لمالكه بإجازته، نظير بيع الوكيل للموكل. مضافا إلى ما عرفت: من أن هذا التنزيل والادعاء ليس دائميا، بل مغفول عنه في المتعارف، فالدليل أخص من المدعى. وأما مسألة الوكيل فأجنبية عن التنزيل بالكلية، فإن الوكالة إيكال الأمر إلى الوكيل، لا جعل الوكيل منزلة المالك، وهذا ظاهر. كلام للمحقق كاشف الغطاء في المقام ثم ذكر الشيخ (رحمه الله) كلاما عن كاشف الغطاء (رحمه الله): وهو أنه لو أجازه المالك على نحو ما قصده الغاصب، احتمل رجوعه إلى هبة وبيع معا، كقوله: اشتر بمالي لنفسك كذا (1)، وأما مع قصد الغاصب تمليك نفسه ثم البيع، فلا بحث في رجوعه إلى ذلك. وحكى الشيخ عنه تنظير المقام بمسألة أعتق عبدك عني أو بع مالي عنك أو اشتر لك بمالي كذا، ويمكن ضميمة أعتق عبدي عنك أيضا إلى تلك الأمثلة. ولا بد لنا من التعرض لحكم الأمثلة أولا، ثم الكلام في حكم المقام: الكلام في مسألة أعتق عبدك عني أما مسألة أعتق عبدك عني فلو قال أحد لمالك العبد: أعتق عبدك عني
1 - شرح قواعد الأحكام، كاشف الغطاء (المخطوط): 119 / سطر 16، بيع الغاصب، المكاسب: 129 / سطر 31. 460 فأعتقه عنه، فيحتمل أن يكون قوله ذلك استيهابا من المالك أولا والأمر بالعتق بعده، وأن يكون إنشاء المالك إنشاء للهبة والعتق معا على حسب الأمر الأول. ففي هذا الفرض لا يعقل إنشاء المالك للأمرين معا، فإن الملكية والعتق مترتبان، أحدهما موضوع للآخر، فلا بد من تحقق الملكية أولا ثم العتق بعده، فلو أنشأ الملكية والعتق معا فلا بد من تحقق الملكية أولا، وبعده يحتاج العتق إلى إنشاء جديد. والحاصل: أن الأمرين المترتبين - أحدهما في طول الآخر - لا يعقل إنشاؤهما بإنشاء واحد (1)، فإنه بعد تحقق الموضوع بهذا الانشاء يحتاج تحقق الحكم إلى إنشاء مفقود. ويحتمل أن يكون قوله ذلك إنشاء للتملك فضولا، والمالك بإنشائه يجيز ذلك أولا ويعتق بعده. ففي هذا الفرض يحتمل في المنشئ الأول إنشاؤه التملك فقط، ويحتمل إنشاء ذلك والأمر بالعتق معا، وأيضا يحتمل في المنشئ الثاني إجازة التملك أولا ثم العتق، ويحتمل إنشاؤهما معا كما هو الفرض، فرض تعدد الانشاء خارج عن محل البحث. وعليه وإن أمكن القول بأن إنشاء المجيز قابل للأمرين معا، فإن إنشاءه بمجرد النطق بأول جزئه، يكشف عن رضاه بإنشاء الأمر التملك، وبتمام إنشائه يتحقق العتق، ولا بأس بذلك، فإن الإجازة لا تحتاج إلى الانشاء، بل مجرد اظهار
1 - أقول: لو سلم إمكان إنشاء الأمرين العرضيين بإنشاء واحد، فلا مانع من إنشاء المترتبين بذلك، فإن ترتب أحد المنشأين على الآخر لا يقتضي ترتب إنشائهما، بل المنشئ ينشئهما معا، غاية الأمر لا يتحقق الحكم المنشأ إلا بعد تحقق الموضوع المنشأ. وبالجملة: الترتب بين المنشأين، لا الانشائين حتى يقال: لا يمكن وجودهما بإنشاء واحد. المقرر دامت بركاته. 461 الرضا من المجيز كاف فيها. فلا يرد الاشكال العقلي المتقدم في ذلك، إلا أن الأمر بالعتق لو كان نظره إلى إنشاء التملك فقط، وقلنا بجواز هذا الانشاء بالكناية، فإنشاء المجيز العتق فضولي، فإنه بإجازته يملك الأمر، فالعتق يحصل من ملكه بلا أمر منه جدا، وهذا خارج عن مفروض كلامنا. ولو كان نظره إلى إنشاء التملك والأمر بالعتق معا، فالاشكال وإن كان مندفعا عن إنشاء المجيز، إلا أن جمع الأمر بين الأمرين مشكل، لعدم إمكان الجمع بالدلالة المطابقية، وأما الجمع بينهما بالدلالة الالتزامية والمطابقية، بحيث يريد جدا إنشاء الملكية والأمر بالعتق معا، فهذا لا يمكن، فإنهما مترتبان كما ذكرنا (1). مع أن إنشاء الملكية غير ممكن بالدلالة الالتزامية، فإن الدلالة الالتزامية دلالة المعنى على لازمه، لا دلالة اللفظ على لازم معناه، كما مر بيانه (2)، فلا يمكن تصحيح العتق على النحو المذكور بوجه. وأما سائر الأمثلة فتغاير المثال السابق، فلو قال: أعتق عبدي عنك فهو في معنى تمليكه العبد للعتق، والمعتق بمجرد نطقه بالانشاء يقبل ذلك، وبتمامه ينشئ العتق، ولا يلزم أزيد من اظهار الرضا في القبول، كما ذكرنا سابقا. وهكذا في المثالين الآخرين. هذا تمام الكلام في الأمثلة.
1 - على ما مر: من عدم لزوم الترتيب في الانشاء، لا يمكن المساعدة على ما أفاده، بل هنا أظهر من السابق، فإن الترتيب إنما هو بين واقع الملكية والعتق، لا الانشائي منهما. نعم، يرد على ذلك ما أفاده أخيرا على مسلك الحق، وأما على مسلك المشهور فيرد عليه: عدم إمكان الجمع بين اللحاظين - الآلي والاستقلالي - في لحاظ واحد، واستعمال اللفظ في معناه الحقيقي وإرادة ذلك والكنائي معا، مستلزم لذلك. المقرر دامت بركاته. 2 - تقدم في الصفحة 94 و 450. 462 الكلام في حكم المقام وأما في مسألة بيع الفضولي لنفسه مع إجازة المالك، فهل يمكن الالتزام بما حكي عن الشيخ كاشف الغطاء من وقوع البيع للفضولي بالإجازة، فإنها هبة وبيع، أو لا؟ الاحتمالات المتصورة في المقام الاحتمالات في ذلك وجوه: الأول: أن يستوهب الفضولي من المالك ببيعه هذا، والمالك بإجازته يحقق أمرين: الهبة وإجازة البيع، كما هو ظاهر الكلام المحكي عن كاشف الغطاء. الثاني: أن ينشئ الفضولي الملكية لنفسه ببيعه، بحيث يحقق أمرين: إنشاء ملكية المبيع لنفسه وإنشاء بيع ذلك من المشتري الأصيل، والمالك بإجازته يجيز الأمرين معا. الثالث: أن ينشئ الفضولي ما ذكر، والمالك يجيز إنشاء تمليكه فقط، أو إنشاء بيعه فقط. الرابع: وهو المتعارف أن ينشئ الفضولي البيع بداعي تملكه الثمن، أو أخذه بلا قصد التملك، والمالك بإجازته يجيز الأمرين معا. ويمكن تصوير غير هذه المحتملات أيضا، إلا أن المهم في ذلك ما ذكرنا: الكلام في المحتملات الأربعة أما الأول: فالتمليك والبيع مترتبان، ولا يعقل إنشاؤهما معا بإجازة المالك كما مر، مع أن المالك بعد إجازته التمليك يصير أجنبيا عن البيع، فتلغى إجازته له، بل
463 تدخل المسألة في مسألة من باع شيئا ثم ملك (1). وأما الثاني: فشروع المالك بالإجازة يحقق ملكية الفضولي، فإجازته للبيع تكون من إجازة الأجنبي، فلا تفيد، بل المسألة تدخل في مسألة من باع شيئا ثم ملك، ويجئ الكلام فيها، مع أن إنشاء الفضولي للأمرين - أحدهما في طول الآخر - مشكل كما مر. وأما الثالث: فيرد على إنشاء الفضولي ما ورد على إنشائه في الاحتمال السابق، وأما في المجيز فإجازته للتمليك تدخل المسألة في مسألة من باع شيئا ثم ملك، وإجازته للبيع لا تفيد وقوع البيع للفضولي كما هو ظاهر، بل إما أن تلغى، ولا يمكن تصحيح البيع، أو تؤثر ويقع البيع للمالك المجيز على المبنى. فعلى هذه الاحتمالات، لا يمكن الالتزام بما ذكره الشيخ كاشف الغطاء على ما حكي عنه. وأما الرابع: فيمكن القول بالصحة، بتقريب: أن إجازة الأمرين الواقعين - أحدهما البيع للمالك، والآخر تملك الثمن بأخذه - ممكن بلفظ واحد، فإنه كاف في إبراز رضا المالك بالأمرين معا. ولا يرد على ذلك الاشكال المتقدم، فإن الفضولي يبيع للمالك أولا، ويقصد تملكه الثمن ثانيا بأخذه. ولكن هذا كما ترى خلاف المتعارف، بل المتعارف في الغاصبين عدم قصدهم تملك الثمن، بل إنما يريدون أخذه والاستيلاء عليه، فإجازة المالك لا تنفع أزيد من ذلك، مضافا إلى أن هذا بعد التفات المالك إلى قصد الفضولي أخذه الثمن، وإجازته ذلك، وإلا فصرف إجازته البيع لا يوجب إجازته لأخذ الفضولي الثمن، فضلا عن تملكه ذلك.
1 - يأتي في الصفحة 597. 464 والمتحصل من جميع ذلك: أن معاملة الفضولي لنفسه - المتعارف منها وغيره، أي على نحو التقييد - قابلة للتصحيح بالإجازة، وتقع للمالك، إلا إذا أنشأ الفضولي البيع للمالك وأخذ ثمنه منشئا للتملك، وأجاز المالك الأمرين معا ولو بلفظ واحد، أو أنشأ الفضولي التملك للثمن أولا، وأنشأ البيع ثانيا، وأجاز المالك إنشاء التملك، على ما سيجئ من صحة معاملة من باع شيئا ثم ملك. وأما لو أنشأ الفضولي الأمرين معا بإنشاء واحد فلا يمكن التصحيح بالإجازة، لما مر من عدم إمكان تحقق ذلك، فإنه من إنشاء الأمرين المترتبين (1) (2). إشكال آخر في المقام وجوابه ثم ذكر الشيخ (رحمه الله) إشكالا آخر على بيع الفضولي لنفسه: وهو أن الأصحاب - على ما حكي عنهم - التزموا بعدم جواز رجوع المشتري الأصيل إلى الفضولي بالثمن لو رد المالك البيع، وهذا يكشف عن عدم صحة البيع حتى تأهلا، فلو أجاز المالك ذلك أيضا فلا يمكنه الرجوع بالثمن، لسبق حق الفضولي بالنسبة إليه، فإن المشتري سلم إليه الثمن مطلقا، فيكون البيع بلا ثمن، وهو فاسد. أجاب الشيخ (رحمه الله) عن ذلك، وتبعه المرحوم النائيني: بأنه لو سلمنا التزام الأصحاب بما ذكر، وسلمنا صحته أيضا، إلا أنه إنما يتم بناء على النقل، وأما على الكشف فيكشف عن سبق ملكية المالك للمال (3). أقول: إن الاشكال لا يتم حتى لو سلمنا النقل أيضا، فإن المتعارف في الأثمان في باب المعاملة وقوعها طرفا لها كليا لا شخصيا، وعليه فإنه ولو سلم
1 - تقدم في الصفحة 461 - 464. 2 - وقد مر منا إمكان ذلك. نعم، ليس للمالك إلا إجازته للتمليك، فتدخل المسألة في من باع شيئا ثم ملك، أو إجازته للبيع، فتقع المعاملة له. المقرر دامت بركاته. 3 - المكاسب: 130 / سطر 15. منية الطالب 1: 228 - 229. 465 المشتري فردا منه إلى الفضولي، إلا أن إجازة البيع لا توجب حصر الثمن بذلك الفرد، بل المجاز هو البيع المتحقق، وثمنه كلي، فيجوز للمالك بعد إجازته أخذ الثمن من المشتري، فكيف يكون البيع بلا ثمن؟! بل ولو كان الثمن شخصيا، إلا أن المشتري الأصيل بعد قبوله العقد، يصير مشمولا لدليل لزوم الوفاء بالعقد (1)، فلا بد من تسليمه الثمن إلى مالك المثمن، والمالك بعد مخير بين رد العقد وإجازته، إلا أن له حقا في الثمن حتى قبل الإجازة، من جهة التزام المشتري المشمول لدليل اللزوم، وعليه لا يجوز للمشتري تسليم الثمن إلى الفضولي، ومع تسليمه يكون ضامنا وعدم تأثير تسليمه على الاطلاق في عدم جواز الرجوع إلى الفضولي، فإن سلم الفضولي متعلق حق المالك، فيجوز للمالك مع إجازته الرجوع إليه بذلك، بل لو تلف الثمن في يد الفضولي، وأجاز المالك العقد، جاز له الرجوع إلى المشتري ببدل الثمن لالتزامه بالعقد، فيلزمه الوفاء به من تسليم الثمن لو أمكن، وإلا بدله. فمع تسليم جميع ما ذكر لا إشكال في المقام، فكيف بعدم التسليم؟! كما هو الحق، وهو أظهر من أن يخفى. ثم تعرض الشيخ (رحمه الله) لأمرين: أحدهما: عدم الفرق بين بيع الفضولي عينا شخصية أو كليا في الذمة أنه لا فرق في ما ذكر - في البيع الفضولي - بين أن يبيع الفضولي عينا شخصية من مال الغير، أو كليا في ذمة الغير (2). ولا يخفى أن بيع الدين الثابت في ذمة المديون، يحتاج إلى إجازة الدائن، ولا فرق في ذلك بينه وبين بيع العين الشخصية، لكن الكلام في بيع الكلي في ذمة الغير ابتداء، نظير ما لو باع مقدارا من الحنطة في ذمة الغير، فهل يمكن تصحيح هذه المعاملة بإجازة ذلك الغير، أم لا؟
1 - المائدة 5: 1. 2 - المكاسب: 130 / سطر 28. 466 الاشكال بعدم اتصاف الكليات بالمالية وجوابه فقد يقال: بأن الكليات غير متصفة بالمالية، ولا سيما بإضافتها إلى الذمة، فإن الكلي المقيد بكونه في الذمة غير قابل للانطباق على الخارجيات. وبالجملة: إن من له من من الحنطة خارجا، لا يملك من الحنطة إلا نفس هذا المن منها، فلا يقال: إنه مالك لمن في الخارج ولمن أو أزيد في ذمته (1). ومرجع الاشكال إلى أمرين: عدم اتصاف الكلي بالمالية، وعدم كون الشخص مالكا لما في ذمته. وقد مر الجواب عن كلا الأمرين في المباحث السابقة (2)، وأن الكليات متصفة بالمالية، ولذا يقال: إن قيمة الحنطة كذا، واتصافها بذلك على حسب إمكان تحققها في الخارج، ولذا يعتبر ذمة الملئ، ولا يعتبر ذمة المعسر شيئا. والحاصل: أن مالية الكليات نظير مالية الأوراق النقدية، وقد مر ذلك مفصلا في المباحث السابقة. ولو سلمنا عدم مالية الكليات فإضافتها التصورية إلى ذمة أحد لا يصيرها مالا، وإن كان هذا يظهر من المحقق النائيني (رحمه الله) (3)، وأما إضافتها التصديقية فموقوفة على تحقق البيع، ولو قلنا باعتبار المالية في البيع فلا يمكن تصوير أن يحقق البيع المالية، فإنه من إيجاد الحكم موضوعه، وهذا غير ممكن. وأما الأمر الأخير، وهو عدم مالكية الشخص لما في ذمته، فيندفع بما سبق أيضا: من عدم اعتبار الملكية في المبيع، بل لا بد من ملاحظة العقلاء في صدق البيع
1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 53 - 54، حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 3 / سطر 3، المكاسب والبيع (تقريرات المحقق النائيني) الآملي 1: 88 - 89. 2 - تقدم في الصفحة 9 - 11. 3 - منية الطالب 1: 229 / سطر 16. 467 على مورد، ويصدق البيع على بيع الكلي في ذمة أحد، ويصير فضوليا كالأعيان الشخصية، فيصح بإجازة من بيع في ذمته. وهذا الاشكال كما ترى، غير مختص بالفضولي، بل يعم بيع الأصيل أيضا، فإن الكليات لو لم تكن مالا، أو اعتبرنا ملكية المتبايعين قبل البيع في تحققه، فلا يمكن بيع الكليات حتى في الأصيل. والجواب ما ذكرنا: من أن الكليات كالمباحات الأصلية، متصفة بالمالية ولو لم تكن لها مالك فعلا، واتصافها بالمالية غير معلقة على الإضافة، بل الإضافة تخرج ذلك عن المالية، فالمطلب على عكس ما ذكره المحقق النائيني (رحمه الله) (1)، كما لا يخفى. وأما اعتبار الملكية قبل العقد فقد عرفت عدمه، بل البيع ليس إلا إنشاء المبادلة بين المالين، فقد يلازم ذلك خروج المبيع عن ملك البائع، كبيع الأعيان الشخصية المملوكة للبائع، وقد لا يلازم ذلك، بل لا يلزم حصول الملكية حتى بعد البيع، نظير بيع الوقف بالوقف، وقد يلزم حصولها بعد البيع، نظير بيع الكليات، فإنها بعد بيعها تكون ملكا للمشتري في ذمة البائع. والحاصل: أن المبيع في الكليات نفس طبيعتها، كالمن من الحنطة، لا الحنطة المضافة إلى الذمة، ولا الواقعة في الذمة، فإن مثل هذه الإضافة يخرجها عن قابليتها لكونها مبيعا، لعدم المالية وعدم القدرة على تسليمها، لعدم انطباقها على ما في الخارج، والظرفية وإن كانت سليمة عن هذا الاشكال إلا أن الحنطة الواقعة في الذمة بنحو الظرفية ليست بحنطة، وهذا واضح. نعم، لو أريد بذلك نفس الطبيعة - التي صقع وجودها صقع وجود سائر الكليات - فهو صحيح، إلا أنه ا غير متعينة بالإضافة، وماليتها غير متوقفة على الإضافة.
1 - تقدم في الصفحة 467. 468 في الفرق بين البيع الأصيل والفضولي في الكليات والفرق بين البيع الأصيل والفضولي في الكليات - مع أن المبيع في كليهما نفس الطبيعة بلا إضافة - إنما هو من ناحية إضافة البيع، فالبيع من قبل نفسه غير فضولي، ومن قبل غيره فضولي. وهذا الكلام بعينه جار في الشخصيات أيضا، فكون البيع في الأعيان الشخصية فضوليا، ليس من جهة إضافة المبيع إلى غير البائع، بل من جهة إضافة الفضولي البيع إليه. نعم، لو لم يكن المبيع ملكا لذلك الغير، ولم يمكنه تحصيله بوجه، لم يمكنه إجازة البيع لكونه أجنبيا عن ذلك، فمناط كون البيع فضوليا ليس من ناحية إضافة المبيع إلى الغير، بل البيع الفضولي هو التصرف البيعي الذي سلطانه الغير، بلا فرق بين الأعيان الشخصية والكليات، وبلا فرق بين كون البيع راجعا إلى ملك الغير أو لا، فتدبر جيدا، فإنه به حقيق. في الفرق بين الأعيان الشخصية والكليات نعم، هنا فرق بين الأعيان الشخصية والكليات، فإن تعين الأولى لا يحتاج إلى التعيين، بخلاف الثانية، فإن الكلي بما هو كلي غير متعين وإن اتصف بالمالية، فلا معنى للمبادلة بين الكليين بهذا النعت، بخلاف المبادلة بين الشخصيين، فإنها لا تحتاج إلى تعيين من انتقل عنه وإليه، لكن مع ذلك لا نقول بتعين الكلي بإضافته إلى الذمة، لا تصورا ولا تصديقا كما مر، بل تعينه بتعيين من له العقد فالإضافة في البيع، لا في المبيع. وهل يفرق بين تعيين هذه الإضافة باللفظ وبين تعيينها بالقصد؟ أما لو أجاز من أضيف إليه، فلا إشكال ولا كلام في الصحة ووقوع المعاملة عنه، وأما لو رد
469 المعاملة فقد يقال بالصحة مطلقا ووقوع المعاملة للفضولي (1)، وقد يفصل بين صورة تعيين الإضافة باللفظ فتبطل، وبين صورة تعيينها بالقصد فتصح، وتقع للفضولي، والمفصل المحقق النائيني (رحمه الله)، وذهب الشيخ (رحمه الله) إلى البطلان (2)، وهو المختار. أما وجه القول بالصحة مطلقا فقياس المقام بالأعيان الشخصية، فلو باع الفضولي العين الشخصية لنفسه لغا القيد، ويصح لمالكه، فليكن كذلك في محل كلامنا، فلو رد المالك المعاملة لغا القيد، وهو إضافة الكلي إليه، ويصح لعاقده، وكم فرق بين الموردين! فإن تعين الأعيان الشخصية غير متوقف على التعيين، فمع وقوع العقد عليها يقع لمالكها، قصد أم لم يقصد، أم قصد الخلاف، بخلاف الكليات، فإنها غير متعينة إلا بالتعيين، فمع إلغاء القيد لا تعين للمبيع، فكيف يلتزم بوقوع المعاملة عن العاقد؟! في كلام المحقق النائيني في المقام وجوابه وأما وجه التفصيل فقد ذكر المحقق النائيني (رحمه الله) ما لفظه: وبالجملة: إذا أسند المعاملة إلى الغير لفظا فليس هو ملزما بها، بل تقع للغير إذا أجاز، وتبطل إذا رد. وأما لو قصد الغير من دون إشارة في اللفظ إليه، فلو رد الغير تقع للعاقد ولو أجاز تقع لنفسه. أما وقوعها للعاقد إذا ردها فلأمور مسلمة في باب المعاملات: أولها: أن الأمور البنائية والأغراض المنوية، لا أثر لها ما لم تنشأ بما هو آلة لانشائها من القول أو الفعل. وثانيها: أن الالتزامات العقدية يملكها كل من المتعاقدين على الآخر، إلا أن
1 - نسبه المحقق النائيني إلى الشرائع والتذكرة، منية الطالب 1: 231. 2 - المكاسب: 130 / سطر 32، منية الطالب 1: 232 / سطر 8. 470 يجعل ملك كلا الالتزامين لواحد منهما، إما بجعل شرعي كالخيارات الشرعية، أو بجعل من المتعاقدين فيما لهما حق الجعل، لا في النكاح وأمثاله. وثالثها: عدم اعتبار تعيين المالكين في المعاوضات. ومقتضى هذه الأمور أن يكون نفس العاقد هو الملزم بالالتزامات الصريحة والضمنية، وأن طرفه يملك هذه الالتزامات عليه، كما أنه يملك التزامات طرفه، فلا وجه لبطلان المعاملة لو رد من قصده العاقد. وأما وقوعها له لو أجاز أو أقر بالوكالة، فلأن القصد وإن لم يؤثر في صرف الالتزامات إلى الغير، إلا أنه لا ينفك عن أثره التكويني، فيجعل المعاملة كالمادة الهيولانية القابلة لصرفها إلى الغير بإجازته أو إقراره، فيكون القصد كجعل التولية للغير، وتكون الإجازة أو الاقرار بمنزلة قبول التولية. فالقول بأن المعاملة تقع لنفس المباشر واقعا إذا رد من قصدت له، منطبق على القواعد، وقياسها على ما إذا أسندها إلى الغير لفظا مع الفارق (1)، انتهى. وشئ مما ذكره لا يتم: أما ما ذكره في أول المقدمات، من المسلم في باب المعاملات، وهو توقف ترتب الأثر في الأمور البنائية على الانشاء، فهذا وإن كان صحيحا، إلا أن مورد ذلك إنما هو موارد الانشائيات، كالعقد والشرط في ضمن العقد. وأما تعيين من له العقد، فهذا خارج عن هذه الموارد، بل المتعارف في السوق في ذلك هو التعيين قصدا، فمن كان وكيلا عن غيره في شراء مال، وهو أيضا يريد شراءه لنفسه، لا يتوقف تعيين المشتري على قوله: لنفسي أو لموكلي، بل القصد كاف في ذلك. وما ذكره: من أن هذا من المسلمات، لو لم يكن خلافه من المسلمات ليس
1 - منية الطالب 1: 232 / سطر 8. 471 هو من المسلمات. وأما ما ذكر في ثاني المقدمات فهو أيضا صحيح، إلا أن المفروض أن العاقد القاصد للإضافة إلى الغير غير ملتزم بشئ حتى يملكه الطرف الآخر، فما التزم به قد رده صاحب الإضافة، ولم يلتزم بشئ آخر. وأما ما ذكر في ثالث المقدمات فهو صحيح في الأعيان الشخصية، وأما الكليات التي لا تعين لها إلا بالإضافة إلى شخص، وقد صرح هو بذلك، فكيف يمكن تصوير تعينها بدون تعين المالكين؟! وأما ما ذكره أخيرا: من أن القصد لا ينفك عن أثره التكويني، فهذا رجوع عما ذكره في أول المقدمات، فلو كان للقصد أثر قابل للصرف إلى الغير بالإجازة، فمع رد ذلك الغير يلغى القصد، ولا شئ آخر مقصودا حتى يقع للعاقد، ولو لم يكن لهذا القصد أثر فهو ملغى من الأول، فكيف يقع للغير بإجازته، وقياس ذلك بالتولية أيضا فاسد، فإن جعل التولية إنما هو باللفظ، والمفروض عدم اللفظ في المقام. والحاصل: أن مقتضى القاعدة في ذلك العقد - بعد رد من أضيف إليه العقد - البطلان، لا وقوعه للعاقد، فإن تعين الكلي متوقف على التعيين، فما عين له لم يقع له، وغيره لم يعين له، وهذا ظاهر. الكلام في الشراء لغيره أو لنفسه بما في ذمته أو بما في ذمة الغير بقي الكلام فيما لو اشترى لنفسه بما في ذمة الغير، أو اشترى لغيره بما في ذمة نفسه، فإن الجمع بين القيدين لا يمكن، لمنافاته لحقيقة المعاوضة، ولا يخفى أن محل الكلام إنما هو في إمكان حصول الجد بالمعاملة، ومورده صورة عدم التفات العاقد إلى جميع أطراف المسألة، وقد مر توضيحه في مسألة الفضولي لنفسه (1).
1 - تقدم في الصفحة 452. 472 كلام المحقق النائيني في المقام ومناقشته ذكر المرحوم النائيني (رحمه الله): أن الحق في المثالين هو الصحة ووقوع العقد لنفس العاقد، ولا أثر لإجازة الغير، وتوضيح ذلك يحتاج إلى بيان أمرين: الأول: أن العقد الصادر من شخص يقتضي في طبعه وقوعه لنفس العاقد، فلو أوقع العقد على الكلي لاقتضى أن يكون الكلي في ذمته، بحيث لو أراد وقوعه للغير وتعلق الكلي في ذمة الغير، فلا بد من صرفه من نفسه إلى الغير. وبعبارة أخرى: ليس واقع الحال مرددا بين وقوعه لنفسه ووقوعه لغيره، لأن وقوعه للغير ليس في عرض وقوعه للنفس، بل وقوعه للغير مترتب على عدم وقوعه للنفس، فإطلاق العقد يقتضي أن يكون الملزم به هو العاقد. الثاني: أن كل قيد وقع بعد تمامية أركان العقد - بحيث لم يكن منافيا لمقتضاه، وكان منافيا لبعض الخصوصيات الخارجة عن حقيقته - يقع لغوا، ولا يضر بصحة العقد. ثم رتب على هذين الأمرين وقوع الشراء في الصورتين لنفس العاقد، لأن القيدين المتنافيين يسقطان، فيرجع إلى مقتضى طبع العقد وإطلاقه بلا فرق بين المثالين (1). هذا، والمقدمتان وإن لم يكن بهما بأس في موردهما، إلا أنه ما أجنبيتان عن محل بحثنا. نعم، لو أوقع العقد على الكلي، ولم يصرفه من نفسه إلى الغير، وقع له، لما ذكره من اقتضاء طبع العقد وإطلاقه ذلك، أو لما هو الحق من ارتكاز العاقد في
1 - منية الطالب 1: 230 / سطر 10. 473 طبعه ذلك، لكن المفروض عدم وقوع العقد في مقام الثبوت على الاطلاق، بل قيد بقيدين متنافيين. وما ذكره: من سقوط القيدين والرجوع إلى الاطلاق، إنما يتم لو كان للعقد إطلاق، والمفروض خلافه. وبالجملة: عدم إمكان الأخذ بالقيد لا يوجب إمكان الأخذ بالاطلاق، إلا إذا كان في البين إطلاق، وليس في البين إلا المقيد بالقيدين، فأين الاطلاق؟! هذا على مبناه (رحمه الله). وأما على ما ذكرنا: من اقتضاء الارتكاز الطبعي وقوع العقد للعاقد، إلا إذا قيده بالغير فأوضح، فإن ارتكازه ليس إلا إيقاع العقد المقيد بالقيدين، لا المطلق، ولا من نفسه مطلقا. في تفصيل آخر في المقام وقد يفصل بين المثالين، بوقوع العقد للغير في الأول بإجازته، ووقوعه للعاقد في الثاني (1)، بتقريب: أن الكلي ما لم يضف إلى أحد ليس ملكا لشخص، وهذا ظاهر، وبالإضافة يكون ملكا للمضاف إليه، وحينئذ كما أنه لو وقع العقد على الأعيان الشخصية، وقع لمالكها وإن قصد خلافه، كما مر في بيع الفضولي لنفسه، فكذلك فيما نحن فيه، فالعقد الواقع على ما في ذمة الغير يقع له وإن قصد العاقد وقوعه لنفسه، والعقد الواقع على ما في ذمة نفسه يقع له وإن قصد وقوعه لغيره، فإن العقد في الأول واقع على ملك الغير، وفي الثاني واقع على ملك العاقد. وبعبارة أخرى: إن مالية الكليات موقوفة على إضافتها على ذمة ما، وحينئذ
1 - المكاسب: 131 / سطر 4. 474 الإضافة محققة للمالية المقومة للبيع، ونسبة البيع إلى غير المضاف إليه متأخرة بحسب المرتبة عن الإضافة المقومة للموضوع، فلا بد من مراعاة الإضافة والحكم بوقوع المعاملة لصاحب الإضافة وإلغاء القيد الآخر، وهي النسبة ترجيحا للقيد المقوم على غيره. وقد ظهر مما تقدم: أن الملكية غير معتبرة في المبيع، والملكية في الكليات تعتبر بعد البيع، نظير ملكية المتلف على التالف بعد التلف، فهو حدوث الملكية لا نقلها، وهكذا في القرض، فليتدبر. وإنما المعتبر فيه المالية، والكليات مال، وماليتها غير موقوفة على الإضافة، بل الإضافة وهكذا الطرفية مخلة بالمالية، مع أن الكلي لو لم يكن بنفسه مالا، فلماذا تختلف الكليات في المالية بسبب الإضافة؟! وأي فرق بين الحنطة المضافة والشعير المضاف لو لم يكونا قبل الإضافة مالين؟! ولماذا لا تتصف بعض الكليات بالمالية بهذه الإضافة؟! هذا مضافا إلى أن المتعارف من البيع الواقع على الكليات، ليس إلا بيع نفس طبيعتها بلا لحاظ أي إضافة ولا طرفية. نعم، بعد بيعها يعتبر العقلاء ذلك على ذمة البائع دينا، وهذا أجنبي عما ذكروه، كما هو واضح، وعليه فالإضافة إنما تعتبر لتعيين المتبايعين، ففي الشخصيات الإضافة متحققة بلا حاجة إليها، بخلاف الكليات، فإن تعين البائع الواقعي والمشتري كذلك موقوف على الإضافة. فالنتيجة: أن الجمع بين القيدين المتنافيين موجب لإضافة البيع إلى شخصين، بأن يكون البائع شخصين، كل منهما بائع مستقل، أو يكون المشتري كذلك، ولا مصحح لمثل هذا البيع.
475 ثانيهما: أنه لا فرق في الفضولي بين العقدي والمعاطاة (1) أدلة القول بالفرق بينهما قد يقال بالفرق، واستدل عليه بوجوه: الأول: انصراف أدلة نفوذ العقود إلى العقدي منها (2). وهذا الاستدلال قد تقدم في بحث المعاطاة، وقلنا: إنه لو تم الانصراف فلا بد من الانصراف إلى المعاطاتي منها، فإنها المتعارف في العقود، ولكن الانصراف ممنوع (3). الثاني: انصراف أدلة نفوذ الفضولي إلى العقدي منه (4). وفيه مضافا إلى ما سبق في الوجه الأول: أن الفضولي على وفق القاعدة، فلا نحتاج في نفوذه إلى التمسك بالأدلة الخاصة، حتى يدعى الانصراف فيها. الثالث: ما ذكره الشيخ (رحمه الله) وأجاب عنه: وهو أن التعاطي في الفضولي محرم، وهذا مناف لنفوذه (5). وقد مر هذا الاشكال في مطلق الفضولي، وأجبنا عنه بالمنع صغرى وكبرى (6)، ولكن منع الصغرى لا يأتي هنا فإن القبض والاقباض تصرف كما لا يخفى، لكن ما ذكرنا في منع الكبرى، وهو عدم دلالة النهي على الفساد، وأن
1 - المكاسب: 131 / سطر 17. 2 - أنظر منية الطالب 1: 64 - 65. 3 - تقدم في الصفحة 32. 4 - أنظر حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 147 / سطر 11. 5 - المكاسب: 131 / سطر 20. 6 - تقدم في الصفحة 442 - 444. 476 متعلق النهي التصرف ومتعلق النفوذ العقد، فيدخل في مسألة الاجتماع، وأن متعلق النهي - قبل الوجود والنفوذ - راجع إلى ما بعد الوجود، يأتي هنا، كما هو ظاهر. ولكن لا يخفى ما في جواب الشيخ (رحمه الله) أخيرا: من أن النهي يقتضي عدم النفوذ مستقلا، وأما بنحو جزء المؤثر فلا (1). الرابع: ما ذكره المحقق النائيني (رحمه الله): وهو أنه أما على الإباحة فلأن الإباحة المؤثرة هي التسليط المالكي، لا تسليط غيره، وإجازة المالك تسليط الغير هي بنفسها مؤثرة، لا لكونها إجازة لإباحة الغير، لأن العقود الإذنية والأمور المتقومة برضا المالك، لا تتوقف على سبب خاص، فإجازة الإباحة هي بنفسها إباحة، ومحل النزاع في الفضولي هو ما كانت الإجازة قابلة للنزاع في الكشف والنقل فيها. وأما بناء على الملك فلأن الفعل الواقع من الفضولي، لا يعنون إلا بعنوان الاعطاء والتبديل المكاني، وأما تبديل طرف الإضافة، فمصداقه: إما إيجاد المادة بالهيئة، وإما فعل المالك، فإنه حيث يقع في مقام البيع أو الشراء، يعنون بالعنوان الثانوي بتبديل طرف الإضافة، والفرق بينه وبين القول: هو أنه يمكن انفكاك حاصل المصدر من المصدر في الانشاء القولي، فإذا أجاز المالك وأسنده إلى نفسه وقع له، وأما الفعل فاسم المصدر منه لا ينفك عن مصدره، بمعنى أنه ليس للاعطاء اسم مصدر غير العطاء، وهذا لا ينفك عنه، وبإجازة المالك لا ينقلب عما وقع عليه (2). انتهى موضع الحاجة من كلامه.
1 - المكاسب: 131 / سطر 22. 2 - منية الطالب 1: 233 / سطر 13. 477 مناقشة كلام المحقق النائيني وأنت خبير بما فيه: فإنه كيف يعنون فعل المالك بالعنوان الثانوي ولا يعنون فعل الفضولي بذلك العنوان، مع أن ما صدر منهما تكوينا ليس إلا الأخذ والاعطاء، كل منهما ينشئ المعاملة بالفعل، فإيجاد المعاملة اعتبارا وإنشاء أيضا مشترك بينهما، والأثر الواقعي الذي سماه بحاصل المصدر غير مرتبط بالمالك والفضولي، وكيف يكون الحاصل من المصدر في فعل الفضولي العطاء، بخلاف المالك، فإن حاصل مصدر إعطائه أثر البيع؟! فقد ظهر: أنه لا فرق بين المعاملة الفعلية - من المالك ومن الفضولي - في شئ مما يصدر عن العاقد، فإذا صحت المعاملة في الأول صحت في الثاني بإجازة المالك أيضا، كما لا فرق بين العقدي والمعاطاة في شئ مما يصدر من الفضولي، غير التلفظ في الأول والفعل في الثاني، وإلا فكل منهما ينشئ المعاملة، فإذا صح بالإجازة في الأول يصح في الثاني، وهذا ظاهر. هذا بناء على الملك. وأما على الإباحة فقد مر ما فيما ذكره من حصول الإباحة بنفس الإجازة كسائر العقود الإذنية (1)، فإن الإذن شئ وتلك العقود أمر آخر، والإباحة شئ والإجازة شئ آخر بلا حاجة إلى مزيد بيان وإطالة كلام.
1 - تقدم في الصفحة 427 - 428. 478 إجازة العقد الاختلاف في كون الإجازة كاشفة أو ناقلة اختلفوا في أن الإجازة كاشفة أو ناقلة، وعلى الكشف في كيفيته (1). ولا بد من ملاحظة أنه هل هنا إشكال عقلي على أحد القولين أو كليهما، حتى نحمل الأدلة على القول الذي لا إشكال فيه، ولو كان لها ظهور في ذلك القول الذي فيه الاشكال، أولا، حتى يؤخذ بظهور الدليل لو كان له ظهور؟ إشكال فخر المحققين على النقل وجوابه أما النقل فلم يشكل فيه بإشكال عقلي، عدا ما نقل عن فخر المحققين: من أن الالتزام بالنقل مستلزم للقول بتأثير المعدوم - وهو العقد حال الإجازة - في الموجود، وهي الملكية، وهذا غير معقول (2). وقد مر الجواب عن ذلك في ما استدل به - من الدليل العقلي - على بطلان
1 - مفتاح الكرامة 4: 189 / سطر 19، جواهر الكلام 22: 285، المكاسب: 132 / سطر 2. 2 - إيضاح الفوائد 1: 419 - 420. 479 الفضولي: وهو أن القول بالصحة مستلزم للالتزام بتأثير المعدوم في الموجود. وقلنا: بأن هذا خلط بين الاعتباريات والخارجيات (1)، فإن الاعتبار أوسع من التكوين، واعتبار بقاء العقد حال الإجازة لا مانع منه، فالعقد موجود حالها بقاء اعتبارا، نظير الفسخ، فإنه ما لم يعتبر بقاء العقد حال الفسخ لا يمكن فسخه والمراد ببقاء العقد بقاء المعنى الانشائي، لا الاعتبار الحقيقي كحدوثه كما لا يخفى. كلام المحقق النائيني في تقريب إشكال الفخر وجوابه ذكر المحقق النائيني (رحمه الله) في الجواب عن هذا الاشكال العقلي - بعد تقريبه كلام فخر المحققين: بأنه يريد بذلك عدم تحقق المنشأ بإنشاء المنشئ، بل يتحقق حال الإجازة، فهو ينكر تخلف اسم المصدر عن المصدر -: أن المنشأ بنظر المنشئ لا يتخلف عن إنشائه، وإنما المتخلف هو الانشاء في عالم الاعتبار العقلائي أو الشرعي، وهو إذا كان متوقفا على رضا المالك لا يتحقق بمجرد إنشاء الفضولي (2). مناقشة كلام المحقق النائيني وفيه - بعد البناء على أن مراده من اسم المصدر، هو الأثر المترتب على العقد على خلاف الاصطلاح، كما صرح هو (قدس سره) بذلك في بعض المباحث السابقة (3)، وهذا لا محالة يتخلف عن المصدر في الفضولي -: كيف يمكن دعوى أن المنشأ - اسم المصدر - بنظر المنشئ لا يتخلف عن إنشائه، مع التفات المنشئ إلى أن العقد فضولي لا يؤثر إلا بعد الإجازة.
1 - تقدم في الصفحة 446. 2 - منية الطالب 1: 236 / سطر 1. 3 - منية الطالب 1: 39 / سطر 4. 480 هذا مضافا إلى أنه لا ربط لهذا الجواب بالاشكال العقلي بوجه، فإن الاشكال إنما هو في عدم إمكان تأثير الانشاء - وهو العقد - في المنشأ، وهو اسم المصدر على اصطلاحه - أي الملكية - فإن العقد معدوم حال الأثر، وعدم التخلف في نظر العاقد لا يصحح المطلب. نعم، على مسلكنا: من أن المصدر - وهو العقد - لم يتخلف عن اسم المصدر، وهو الاعتبار الانشائي، ولهذا المعنى الانشائي نحو بقاء بالاعتبار حال الإجازة، لم ينفك الأثر عن العقد أيضا، فيرتفع الاشكال، نظير الفسخ (1).
1 - أقول: الظاهر عدم الحاجة إلى الالتزام باعتبار بقاء المعنى الانشائي لدفع الاشكال، بل الالتزام بذلك لا يخلو عن شئ في بعض الموارد، نظير باب الوصية، فلو أوصى بإعطاء مال لزيد، فالانشاء وأثره الانشائي موجود حال الانشاء، وأثره الاعتباري العقلائي يوجد بعد موته وإن كان منفكا عن الانشاء، فإن محذور الانفكاك إنما يتم في الخارجيات لا الاعتباريات، ولا تقاس هذه بتلك، كما مر غير مرة، والالتزام ببقاء المعنى الانشائي اعتبارا حينئذ التزام بلا ملزم. نعم، يمكن القول بلزوم هذا الاعتبار في الفسخ، فإنه من حينه، لا من حين العقد، فلا بد من ثبوت العقد حال الفسخ حتى ينحل حينئذ، إلا أن يقال: إن الفسخ يزيل الأثر، وهو خلاف التحقيق، فتأمل، بخلاف العقد الفضولي على القولين، فإن المفروض أن الإجازة فيها مثبتة للأثر لا مزيلة له، وفي الأول لا ملزم لاعتبار البقاء، بخلاف الثاني على أحد الوجهين. ولا بأس بذكر ما فهمه بعض علماء العصر - مد ظله - من كلام المرحوم النائيني فيما تقدم: وهو أن المصدر هو العقد، وهو استعمال اللفظ في معناه بداعي إيجاد مضمونه، الذي نسميه بالانشاء، واسم المصدر هو المعنى المنتزع من فعل المتعاقدين، وهي المبادلة القائمة بالمالين في عقد البيع، لا الحقيقي منها، بل المنتزع من إنشائها. وبالجملة: إن هنا أمورا ثلاثة: إيجاد المعنى باللفظ المسمى بالانشاء، والمصدر، والمنتزع منه، وهو المنشأ، واسم المصدر والأثر الواقعي وما هو قابل للإجازة هو المنشأ، واسم المصدر كما أنه هو القابل للاستناد إلى المالك، فإن الأول - وهو فعل الفاعل - غير قابل للاستناد إلى غيره، ولا يتطرق فيه التزلزل. وبذلك ترتفع جملة من الاشكالات التي أورد أستاذنا المحقق - مد ظله - عليه كما لا يخفى. نعم، يبقى فيه عدم الدليل على لزوم الاستناد، غير ما مر من لزوم نحو ربط للعقد بالمالك إما بإذنه أو رضاه، ولعله أيضا لا يريد أزيد من ذلك، فيرجع النزاع لفظيا. نعم، يرد عليه إشكال: وهو أن الإجازة راجعة إلى فعل العاقد، لا المنتزع منه، فقوله: بارك الله في صفقة يمينك تبريك وإمضاء لعقده، لا أنه تصحيح للمعنى المنتزع من ذلك، اللهم إلا أن يقال: إن إمضاء العقد ينفذ العقد من جهة تصحيحه المبادلة الحاصلة، فكأنه قال: قبلت المبادلة الحاصلة والتزمت بها، وهذا معنى الاستناد إلى المالك. فعلى هذا لو كان تقريب كلام الفخر (رحمه الله): أن العقد والمنتزع منه غير قابل للانفكاك، والالتزام بالنقل التزام بالانفكاك، لارتبط جواب المحقق النائيني (رحمه الله) به، فإن المنتزع حاصل بالعقد، والانفكاك واقع بين العقد والأثر، ولا ضير فيه كما قال: وعلى هذا التقريب لا يرد عليه النقض بالأمور المتصرمة والأجزاء المتدرجة في الوجود، فإنه لا ينكر إمكان ترتب المعلول على علة ذات أجزاء متصرمة، والمترتب على الأمور التدريجية، بل ينكر تخلف اسم المصدر عن المصدر (منية الطالب 1: 236 / سطر 2). وكلامه هذا ينادي بأعلى صوته: بأن اسم المصدر مغاير للأثر، فكيف يمكن أن يسند خلافه إليه؟! ومن غريب الأمر أن كلامه هنا صريح في ذلك، وفي المسألة السابقة صرح: بأن الانشاء القولي يمكن انفكاكه عن اسم المصدر، فراجع. وقد علم من ذلك أمر آخر يوافق ما ذكرنا: وهو عدم وجود ملزم لاعتبار البقاء، فإن المعلول المترتب على الأمر التدريجي موجود في التكوين - فليتدبر - فضلا عن التشريع. المقرر دامت بركاته. 481 الاشكال العقلي على الكشف الانقلابي بمعنييه وأما الكشف، فنحو منه مشكل بإشكال عقلي، وهو الكشف الانقلابي بمعنييه، وهما: أن الملك بعد العقد قبل الإجازة باق على ملك مالكه واقعا، ولا يملكه الآخر في هذه الحال، وبالإجازة ينقلب الأمر، فيصير غير المالك بعد الإجازة مالكا من أول العقد، والمالك أيضا يصير غير مالك من الأول، أو أنه لم تنقلب ملكيته. فبالفعل - أي بعد الإجازة - يحصل الملك من أول العقد مع انقلاب ملك المالك أيضا أو عدمه.
482 ووجه الاشكال: أنه لا يمكن الالتزام بانقلاب ملك المالك، فإنه لا ينقلب الشئ عما وقع عليه، ولا يمكن الالتزام بعدم انقلاب ذلك مع الالتزام بحصول الملك - حينئذ - من أول الأمر، فإنه مستلزم للالتزام باجتماع مالكين مستقلين على شئ واحد، وهذا غير ممكن عقلا، ومع التنزل غير معتبر عقلائيا (1). الكلام في الكشف المحض ونحو منه سالم عن الاشكال العقلي، وهو الكشف المحض، نظير كشف البينة عن ذيها، ولكن لا أظن أحدا يلتزم بذلك، فإن العقد المجرد عن رضا المالك لا يؤثر جزما. ومن غريب الأمر أن المحقق الأصفهاني (رحمه الله) (2) في حاشيته، نسب هذا القول
1 - أما المعنى الأول: فهو أن الملكية الموجودة بعد العقد وقبل الإجازة المتصف بها شخصان، شخص قبل الإجازة وشخص بعدها، فلم يجتمع المالكان المستقلان في ظرف واحد. نعم، الاشكال المذكور موجود هنا، وهو اعتبار تلك الملكية وجودا في زمان وعدما في زمان آخر لشخص واحد، وهذا ليس من التناقض، بل اعتبار أمرين متناقضين، وهذا الاعتبار ممكن مع وجود أثر له. وأما المعنى الثاني: فهو أن تلك الملكية قبل الإجازة لشخص واحد، وبعدها لشخصين، وهذا هو اجتماع المالكين المستقلين في شئ واحد، وهو غير ممكن، فالانقلاب بالمعنى الأول غير مستحيل بذلك الوجه. نعم، نحن بعد في تصوير الانقلاب، وأنه ما معنى انقلاب عدم الملك بالفعل من الأول؟ هل هو من كون الاتصاف بالملكية بالفعل والملكية متقدمة، وهو غير معقول، فإن المتضايفين متكافئان، ولا يعقل انفكاك المالكية عن الملكية، أو إنه من كون الاتصاف بهما متقدما، وهذا هو الكشف الحقيقي، أو إنه من كون الاتصاف بهما بالفعل، وهذا هو النقل، أو إنه من كون الاتصاف بهما بالفعل متقدما، وهذا لا معنى له؟ فافهم. المقرر دامت بركاته. 2 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 144 / سطر 30 - 31. 483 إلى صاحب الجواهر والمحقق الثاني، والحال أن كلام الأول صريح في خلافه (1)، وأنه ملتزم بمقالة المشهور، وهو تأثير العقد مشروطا بشرط متأخر، وأما الثاني فلم أر كلامه (2)، ولكنني مطمئن بعدم ذهابه إلى ذلك، ولعله (رحمه الله) لم يرجع إلى كلامهما حال إسناده إليهما، واتكل على حفظه. الكلام في النحو الثالث من الكشف إنما الكلام في النحو الثالث من الكشف الذي أسند إلى المشهور: وهو تأثير العقد حاله مشروطا بالشرط المتأخر، وهل هذا ممكن، أو لا؟ فالبحث عنه لا بد وأن يقع في الأصول، إلا أنه حيث تعرض بعضهم لذلك في هذا المقام، فنحن أيضا نتعرض له متوسطا، ونقول: الاختلاف في الشرط المتأخر اختلفوا في إمكان الشرط المتأخر مطلقا، وعدمه مطلقا، والتفصيل بين التكويني منه والتشريعي، بعدم الجواز في الأول والجواز في الثاني، على أقوال: كلام المحقق العراقي في إمكان الشرط المتأخر ومناقشته ذهب المحقق الآقا ضياء الدين العراقي (رحمه الله) إلى الأول. وحاصل كلامه: أن ما يمتنع انفكاكه عن المعلول هو ما يترشح منه ذات المعلول، فإن الانفكاك بينهما يستلزم جواز تأثير المعدوم في الموجود. وأما الشرط
1 - جواهر الكلام 22: 285 - 286. 2 - أنظر جامع المقاصد 4: 74 - 75. 484 فالحق إمكان تقدمه على المشروط وتأخره عنه، فإنه لا شبهة في أن المقتضي للمعلول حصة خاصة من طبيعي المقتضي لا نوعه، فالمؤثر في الاحراق الخارجي ليس مطلق النار، بل حصة خاصة من طبيعيها، وهي النار التي تماس الجسم المستعد باليبوسة لقبول الاحتراق، وحينئذ الخصوصية التي بها تخصصت الحصة المقتضية للمعلول، لا بد لها من محصل، وما به التحصل يسمى شرطا، وتلك الخصوصية هي النسبة القائمة بتلك الحصة حاصلة من إضافة الحصة إلى شئ ما، وهو الشرط، فالمؤثر في المعلول هو نفس الحصة الخاصة، والشرط محصل لخصوصيتها، وهو طرف الإضافة، وما يكون شأنه كذلك جاز أن يتقدم على ما يضاف إليه أو يقترن به أو يتأخر عنه (1). هذا محصل كلامه فارجع إليه لملاحظة تمامه. وفيه أولا: المؤثر في المعلول ليس الحصة الحاصلة بالإضافات والاعتبارات التخييلية، بل هو نحو وجود خاص متشخص من ناحية علله، فالنار بوجودها مقتضية للاحراق، من غير أن يكون الوقوع فيها والتماس معها وقابلية التأثر بها محصلات للحصة المؤثرة، وهو أوضح من أن يحتاج إلى البيان. وثانيا: الإضافة إلى المتقدم أو المتأخر مما لا يعقل، فإنه من الإضافة إلى المعدوم، ولا تعقل فعلية الإضافة مع انعدام طرفها، فإن المتضايفين متكافئان قوة وفعلا، وهذا أيضا ظاهر، فالتخصص المتحصل من الإضافة المستحيلة مستحيل، ولذا ذكرنا: أن العلية والمعلولية والتقدم والتأخر الزماني وفي أجزاء الزمان - بالمعنى الإضافي المقولي - غير ممكنة، فإن في زمان المتقدم المتأخر معدوم وبالعكس.
1 - نهاية الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) البروجردي 1 - 2: 279 - 282. بدائع الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) الآملي 1: 320 - 321. 485 نعم، ذات العلة لا بوصفها والمتقدم لا بوصفه يوجد أولا، ثم يوجد الثاني بعد انعدام الأول، وإلا فهذه الإضافات متكافئات لا يتقدم شئ منها على المضاف الآخر حتى في الرتبة العقلية. فإن قلت: إن إسراء المذكور إلى المقام خلط بين الحقائق والاعتباريات، والإضافة الاعتبارية بين الموجود والمعدوم لا مانع منها. قلت: نعم، قياس الاعتبار بالتكوين أمر غير صحيح، لكن للمقام خصوصية: وهي أن الإضافة - ولو الاعتبارية منها - نحو إشارة، ولا تمكن الإشارة إلى المعدوم، فإن الإشارة إلى شئ نحو إثبات شيئية له، فإذا تحققت الإضافة بين الموجود والمعدوم ولو اعتبارا، يلزم إثبات الوجود للمعدوم في حال عدمه، وهو محال. وإن شئت قلت: لو صحت هذه الإضافة فلا بد من صدق قولنا: المعدوم مضاف وثبوت شئ لشئ فرع ثبوت المثبت له، فلزم المحذور (1).
1 - أقول: الذي يقوى في النظر القاصر إمكان الإضافة الاعتبارية بالنسبة إلى المعدوم، مثل أن يؤخذ المعدوم موضوعا لحكم تكليفي أو وضعي، كما إذا قيل: إن لم يجئك زيد فتصدق بدرهم أو إن لم يكن في البيع غرر فهو نافذ، والشرطية والسببية والمانعية الاعتباريات كلها راجعة إلى أخذها في موضوع الحكم تكليفا أو وضعا، فهذه الإضافات بين الحكم وموضوعه - المفروض عدما - موجودة اعتبارا، ولنا الوجدان وإن كان لكم البرهان، فإن البرهان يطرح بالوجدان، كما لا يخفى. وأما قضية عدم إمكان الإشارة إلى المعدوم أو عدم ثبوته، فكيف يثبت له شئ؟ فغير مرتبطة بالمقام، فإنه يكفي في الإشارة إلى المعدوم لحاظه، وهو ممكن، والربط الاعتباري لا يتوقف على وجود الموضوع، بل لا يتوقف على واقع طرفه ونفس أمريته، وهذا ثابت في الأعدام أيضا. نعم، لا مجال لدعوى الإضافة الاعتبارية في المقام، فإن كلا من العقد والإجازة موجود في ظرفه، ولم يدع: أن الربط بينهما - كالتعقب وغيره من الإضافات - اعتباري، ولم تعتبر بينهما إضافة حتى يتخلص من الاشكال بذلك. وأما دعوى: اشتراط حصول الملكية بالإجازة، وهذه إضافة اعتبارية بين الملكية والإجازة، فأجنبية عما ذكر من الإضافة بين العقد والإجازة. المقرر دامت بركاته. 486 وقد ظهر بذلك: أنه لا يمكن التخلص عن الاشكال بما ذكره في الفصول وعليه المحقق النائيني (رحمه الله) أيضا: من أخذ العناوين الانتزاعية شرطا كالتقدم والتأخر (1)، فإن هذه العناوين من الإضافات، ولا يمكن الإضافة إلى المعدوم، على أن هذا التزام بالاشكال في الشرط المتأخر، والتخلص منه بإرجاع ذلك إلى المقارن. كلام المحقق الخراساني في المقام ومناقشته وقد تفصى صاحب الكفاية (قدس سره) عن الاشكال بوجه آخر، وهو أيضا من إرجاع المسألة إلى الشرط المقارن - وإن أسند تلميذه المحقق إليه: أنه ملتزم بالشرط المتأخر (2) - وذكر في بيان ذلك: أن الأفعال الاختيارية - ومنها الأحكام التكليفية والوضعية - إنما تتوقف على مبادئ علمية لما يريد الشخص أن يفعله ويأمر به عبده. وبالجملة: أن قيود الفعل بوجودها العلمي موقوفة عليها، لا بوجودها الخارجي، لعدم السنخية بين الفعل الاختياري وبينها بهذا الوجود، وإنما هي بينه وبينها بوجودها العلمي، كما لا يخفى. وعليه يكون حال السابق أو اللاحق بعينه حال المقارن في الدخل، مثلا: إذا فرض أن الذي يكون مؤثرا بنظر الشارع هو العقد الخاص، الذي انتزعت
1 - الفصول الغروية: 80 / سطر 36، فوائد الأصول (تقريرات المحقق النائيني) الكاظمي 1: 281. 2 - كفاية الأصول: 119، نهاية الدراية 1: 284. 487 خصوصيته من ملاحظة رضاء مقارن أو لاحق، فكما لا دخل للرضاء المقارن حينئذ، إلا أنه بملاحظته جعله الشارع سببا، كذلك حال الرضاء اللاحق، فيكون دخل كل في التأثير نحو دخل الآخر فيه، وهو ملاحظة خصوصية العقد المنتزعة عن رضاء مقارن أو لاحق. انتهى محصل محل الحاجة من كلامه زيد في علو مقامه، فراجع فوائده (1) للإحاطة بتمام مرامه (2). وفيه: أن المؤثر في الفعل الاختياري وإن كان مبادئه العلمية، إلا أنه في الأحكام الوضعية زيادة على غيرها من الأفعال الاختيارية، وهي أن الخصوصية الملحوظة المعلومة بالعرض، لا بد وأن تكون قابلة للدخل في التأثير، حتى يكون لحاظها مبدأ لحكم الشارع به، فحكم الشارع بتأثير العقد في الملكية وإن لم يتوقف على الإجازة بوجودها الخارجي، بل يتوقف عليها بوجودها العلمي، وهو لحاظها، إلا أنه ما لم يكن الملحوظ المعلوم بالعرض - وهي خصوصية العقد المنتزعة عن الإجازة - قابلا للتأثير لم يكن لحاظها باعثا لحكم الشارع به، وإلا لزم دخل لحاظ كل شئ في حكم الشارع، وهذا واضح. وحينئذ نتكلم في هذه الخصوصية الملحوظة: هل هي منتزعة من الإجازة قبل وجودها، فهذا من الإشارة إلى المعدوم، أو بعدها فهذا ليس من الكشف في شئ؟ وبالجملة: لحاظ الشارع الإجازة بعد وجودها، وحكمه بالنفوذ مسببا عن هذا اللحاظ، موجبان لكون الإجازة ناقلة لا كاشفة، ولحاظه إياها قبل وجودها
1 - الفوائد (المطبوعة في آخر حاشيته على الرسائل): 302 فائدة 6 / سطر 7. 2 - نقلنا ذلك عن فوائده، وعبارة الكفاية وحاشيته على مكاسب الشيخ (حاشية المكاسب، الآخوند الخراساني: 59 - 60) مع اختلافهما يختلفان مع العبارة، كما تنبه إليه المحقق الأصفهاني (قدس سره) أيضا. ونقل سيدنا الأستاذ ذلك عن حاشية المكاسب. المقرر دامت بركاته. 488 لا يكون مبدأ للحكم، فإن الملحوظ - وهو إضافة العقد إلى الإجازة قبل وجودها - مستحيل كما مر. فهذا الجواب أيضا لا يتم. والتحقيق في الجواب أن يقال: إن المتضايفين - كالتقدم والتأخر - وإن كانا متكافئين قوة وفعلا، إلا أن هذه القاعدة مختصة بالمفاهيم المتضايفة، والعناوين الإضافية بالمعنى الإضافي المقولي، ولا يلزم أن يكون مصداق المعنى الإضافي إضافيا كالعلة والمعلول، وهكذا التقدم والتأخر بواقعهما لا مفهومهما. وبالجملة: أن الأمور المتصرمة والمتدرجة في الوجود، كالزمان والزمانيات - تبعا للزمان، فإن لها نحو اتحاد معه، كما حقق في محله - لا تكون متصرمة ومتدرجة، إلا إذا كان بعضها متقدما على البعض الآخر بواقع التقدم، وإن لم يكن المتأخر حال وجود المتقدم موجودا، لكن يوجد في ظرف وجوده، فاليوم مقدم على الغد بواقع التقدم، والحركة في الساعة الأولى مقدمة على الحركة في الساعة الثانية كذلك وإن لم يوجد المتأخر بالفعل، لكنه يوجد في ظرفه، ففرض التصرم والتدرج في الوجود مع اتصال الأجزاء، موجب لكون الجزء الأول متقدما حق التقدم. نعم، لو انقطع الاتصال لا يثبت التقدم لذلك، لكن المفروض أن عدم الانقطاع والاتصال موجب لما ذكر حال وجود المتقدم، ففي السلسلة المتدرجة المتقدم متقدم بواقعه حال وجوده ولو قبل تحقق المتأخر، وليس هذا من تأثير وجود المتأخر في ثبوت التقدم للمتقدم، ليلزم محذور الشرط المتأخر، بل المتقدم متقدم بذاته لذاته حق التقدم وبواقعه. إذا تمهد ذلك فنقول: يمكن أن يجاب عن الاشكال العقلي: بأن الموضوع في الوضعيات وما هو شرط في متعلق الأحكام، هو ما يكون متقدما بحسب الواقع على حادث خاص، مثلا: الموضوع في صوم المستحاضة ما يكون متقدما بالتقدم
489 الواقعي على الأغسال الآتية تبعا للزمان، بحيث لو لم توجد الأغسال في محلها لا يصير الصوم متقدما بالذات عليها، وهكذا الأثر في البيع الفضولي مترتب على العقد المتقدم بالحقيقة تبعا للزمان على وقوع الإجازة، بحيث لا يكون العقد متقدما عليها بواقع التقدم التبعي إلا أن تكون الإجازة متحققة في ظرفها، فوقوع الإجازة في عمود الزمان المتأخر يوجب كون العقد متقدما حق التقدم، وهو متقدم كذلك حال وجوده لوقوعها في ظرفها. هذا، ويمكن حل الاشكال بنظر العرف، فإن الموضوعات الواقعة في لسان الأدلة أمور عرفية لا تنالها يد الدقة العقلية، والعرف يرى الإضافة إلى المتقدم والمتأخر كالمقارن، ويرى العقد متعقبا بالفعل مع عدم الإجازة الفعلية، فيصح انتزاع هذه العناوين عندهم لأجل الملاكات والتخييلات المركوزة في أذهانهم، ومن الممكن كون الأثر مترتبا على المتعقب في نظر العرف دون العقل، كما هو مقتضى أخذ الموضوعات من العرف (1).
1 - أقول: هذا التدقيق والتعمق العقلي من سيدنا الأستاذ المحقق - مد ظله - وإن بلغ غايته ووصل نهايته، ولعله لم يكن له بديل، إلا أنه : أولا: ليس من تصحيح الشرط المتأخر في شئ، بل هو من التخلص عنه إلى الشرط المقارن، نظير صاحب الفصول وصاحب الكفاية (قدس سرهما). وثانيا: أنه لا يمكن الالتزام بذلك في التكوينيات، فإن الأمر المتقدم بواقع التقدم لا يغاير حقيقته بحسب التكوين، مثلا: ليس في العقد المتقدم وحقيقته شئ زائد على حقيقة نفس العقد، والاختلاف في الأثر في التكوين فرع اختلاف المؤثر في الحقيقة. نعم، يمكن الالتزام به في باب التشريع، فإن للاعتبار فيه مجالا، فيمكن اعتبار حقيقة العقد موضوعا للأثر، ويمكن اعتبار العقد المتقدم كذلك. فإذا وصل الكلام إلى الاعتبار لنا أن نقول: ما المانع من اعتبار المعتبر نفس الأمر المتأخر موضوعا لحكمه المتقدم، كمثالنا السابق، أو المركب من المتقدم والمتأخر موضوعا له؟ ولا نرى أي مانع من اعتبار الشارع العقد الفعلي والرضا المتأخر موضوعا لحكمه بالنفوذ فعلا، لا وجدانا، بل الوجدان شاهد على إمكانه، ولا عقلا، فإنه اعتبار محض لما هو قابل للاعتبار، وهو أخذ الشئ موضوعا للحكم ودخيلا فيه اعتبارا. وليس هذا من قبيل وقوع التناقض في الاعتبار، كما مثل به الشيخ (رحمه الله) في مقام النقض، ولعله أظهر من أن يخفى. ولعمري إن إمكان الشرط المتأخر بهذا المعنى من واضحات الأصول، ولا يحتاج إلى مثل هذه التدقيقات الرشيقة الفائقة. وأما ما هو الدخيل في متعلق الحكم من الأمر المتأخر، ليس إلا نظير ما هو الدخيل فيه من الأمر المقارن والمتقدم، من اعتبار تقيد المأمور به في المتعلق، وكما أنه لا بد من تحصيل هذا التقيد في المقارن والمتقدم، كذلك لا بد من تحصيل هذا التقيد في المتأخر أيضا، وبما أن المقام مقام الاعتبار فلا مانع من الأمر بما هو متقيد كذلك، بحيث يقع المأتي به مصداقا للأمر من الأول بشرط حصول القيد في ظرفه. والحاصل: أن هذا التقيد ليس أمرا حقيقيا تكوينيا، حتى يقال بامتناع حصول التقيد بدون حصول قيده، بل هو أمر اعتباري لا مانع من أخذه في المأمور به، بحيث يكون التقيد موجودا بالفعل لحصول القيد في ظرفه. وأما قضية السبق واللحوق أو التقدم والتأخر مفهوما وواقعا، فهذا فرار عن الاشكال، لا جواب عنه، مع عدم مساعدة الأدلة على شئ منه، وبعبارة أخرى: خروج عن المتنازع فيه. ولا بأس بالتعرض لشرائط التكليف، تتميما للفائدة. دفع سيدنا الأستاذ المحقق - مد ظله - الاشكال عن ذلك بما دفع صاحب الكفاية (قدس سره) ذلك به، فإن البعث والزجر من الأفعال الاختيارية للمولى، والشئ بوجوده اللحاظي شرط لذلك، لا الواقعي. وفيه أولا: ما أشكل هو - مد ظله - على صاحب الكفاية: من أن الملحوظ: هل هو الشرط حال وجوده، فيلزم ترتب الحكم عليه حال وجوده، أو أنه هو الشرط حال عدمه، فهو من الإشارة إلى المعدوم، ولا يعقل؟ وثانيا: أن محل الكلام في شرائط التكليف وليس مقام الجعل منها، بل إنه مقام المجعول وانطباق الجعل، وشرائط الجعل غير شرائط المجعول. والكلام في أنه كيف يعقل وجود الحكم في مرحلة الانطباق مع عدم وجوده وموضوعه بالفعل؟! وهل هذا إلا تخلف الأثر عن المؤثر؟! والجواب عن الاشكال ما ذكرناه: من عدم إمكان المقايسة بين الاعتبار والتكوين، ولا مانع من أخذ شئ متأخر موضوعا للتكليف، وعليه عدة من العلماء العظام والأساتذة الكرام. نقل أستاذنا المحقق - مد ظله - كلام المحقق النائيني (رحمه الله)، أنظر فوائد الأصول - تقريرات المحقق النائيني - الكاظمي 1: 275 - 276) على ما قرره المقرر في تهذيب الأصول. وملخصه: خروج المقدمات العقلية والانتزاعيات وشرائط الجعل وقيود المأمور به عن حريم النزاع، وكون النزاع في شرائط الحكم - وضعا وتكليفا - في مرحلة الفعلية والمجعول (تهذيب الأصول - تقريرات الإمام الخميني (رحمه الله) - السبحاني 1: 169 - 170). وأورد عليه بإيرادات كلها مسلم، عدا ما أفاد بقوله: ورابعا: فإن إخراج شرائط المأمور به مما لا وجه له، لأن الكلام ليس في تقييد المركب بقيد خارجي، بل في صحة المأمور به فعلا، أعني صوم المستحاضة إذا أتت بالأغسال المستقبلة (تهذيب الأصول - تقريرات الإمام الخميني (رحمه الله) - السبحاني 1: 170). والاشكال المتوهم في هذا الباب جار في الأجزاء أيضا، لو قيل بصحة الجزء الأول كصحة التكبيرة بالفعل مع كونها مشروطة بوقوع الأجزاء الأخر، فلا ينفع الفرار عن الاشكال بجعل شرائط المأمور به من قبيل الأجزاء حكما. أقول مستعينا بالله: إن الصحة ليست حكما شرعيا، حتى يقال: بأنه كيف قيدت بشرط متأخر، بل إنما هي منتزعة من انطباق المأمور به على المأتي به، فإذا سلم إمكان تقيد المأمور به بأمر متأخر، وخروج هذا عن محل الكلام، فلا مجال للحكم بعدم الصحة فعلا لعدم حصول الشرط، فإن الانطباق قهري، فإنه يدور مدار كيفية متعلق الجعل والمأتي به، فلو فرض إمكان التقييد كذلك - والمفروض تحققه خارجا كذلك - انتزعت الصحة لا محالة. نعم، يبقى السؤال عن إمكان حصول التقيد مع عدم حصول القيد، وجوابه ما مر: من أن التقيد الاعتباري أمره بيد من بيده الاعتبار، وتحققه يدور مدار انطباق الاعتبار عليه. وأما ما أفاده في الواجبات المركبة وجريان الاشكال فيه، فغريب، لأنه هل يتمكن من إنكار مثل هذه الواجبات، أو يتمكن من إنكار اتصاف الأجزاء بالصحة الفعلية، أو يتمكن من إنكار اشتراط صحة الأجزاء السابقة بالاتيان باللاحقة؟! كل ذلك لا سبيل إليه، والانصاف أن الواجبات المركبة أقوى مادة نقض للقائلين باستحالة الشرط المتأخر بالنسبة إلى قيود المأمور به، بل مطلقا، فإنه لو أنكرنا إمكان الاعتبار كذلك فلا بد من إنكار الواجبات المركبة أيضا، فإنه لا ينبغي الاشكال في اتصاف الأجزاء اللاحقة بالصحة الفعلية حال وجودها بشرط إتمام العمل، فإن إنكار الاتصاف مناف للقول بتعلق الأمر به، فإن الأجزاء بأسرها عين المركب، والقول بالاتصاف بعد تمام العمل لا يقل محذورا عن محذور الشرط المتأخر، فإنه أيضا من الإشارة إلى المعدوم، فلم يبق إلا ما ذكرنا، والوجه في تصوير هذه الواجبات هو الوجه في الشرط المتأخر في القيود المركبة، فلا نعيد. وأما ما ذكره المرحوم النائيني في وجه استحالة الشرط المتأخر في الأحكام: من لزوم تأخر أجزاء العلة الفعلية عن المعلول، ولزوم الخلف والمناقضة من وجود الحكم قبل وجود موضوعه (فوائد الأصول - تقريرات المحقق النائيني - الكاظمي 1: 276 - 280)، فقد عرفت أنه من الخلط بين التكوين والتشريع. وممن يؤيدنا في ما ذكرناه المحقق الأصفهاني (قدس سره) في حاشيته على المكاسب، حيث قال: إن الإجازة الخارجية ليست دخيلة في الملكية، لا بنحو الاقتضاء بمعنى السببية، ولا بنحو الشرطية التي هي إما مصححة للفاعلية، أو متممة للقابلية، وعليه كما يمكن اعتبار الملكية للمعدوم مالكا ومملوكا، كذلك يمكن اعتباره للموصوف بوصف عنواني في أفق وجوده، بأن تعتبر الملكية فعلا لمن يمضي العقد فيما بعد. (حاشية المكاسب، المحقق الأصفهاني 1: 145 / سطر 31). هذا محصل كلامه (رحمه الله) فراجع لملاحظة تمامه. نعم، تنظيره باعتبار الملكية للمعدوم مالكا ومملوكا لا يصح فإنه غير معقول. وما توهم فيه ذلك، نظير الوقف على البطون، أو بيع الثمرة المتأخرة، وغير ذلك، فكلها من اعتبار الملكية للعناوين مالكا ومملوكا، فلا تغفل. والحمد لله رب العالمين. المقرر دامت بركاته. 490 الكلام فيما تقتضيه الأدلة في المقام فتحصل من جميع ما مر: أنه ليس في البين إشكال عقلي، لا في الكشف ولا في النقل، حتى يوجب رفع اليد عن ظواهر الأدلة لو كان في البين ظهور. فلا بد لنا حينئذ من البحث عن مقام الاثبات ودلالة الأدلة، ويقع الكلام أولا في ما تقتضيه الأدلة العامة، ثم ينظر إلى مفاد الأدلة الخاصة.
493 المقام الأول: ما تقتضيه العمومات كلام المحقق الرشتي في المقام فقد استدل بها على القول بالكشف على أنحائه، وممن استدل بها على ذلك المحقق الميرزا حبيب الله الرشتي (رحمه الله) بتقريب: أن الإجازة ليست مؤثرة في تأثير السبب وتماميته، وإنما اعتبرت لكونها كاشفة عن الرضا الذي لا تتم التجارة إلا به. فإن قلت: إن الرضا المعتبر في العقود إنما هو الرضا الفعلي، وهو إنما يحدث بحدوث الإجازة، وحينئذ يعود الاشكال. قلت: إنا نمنع اعتبار الرضا الفعلي خاصة، بل يكفي في صحة المعاملة الرضا التقديري الشأني، نظير الإذن المستفاد من شاهد الحال، ومعنى الرضا التقديري المنكشف بالإجازة: أنه لو اطلع المالك على حقيقة الحال لرضي، ويدل عليه عموم قوله تعالى: (إلا أن تكون تجارة عن تراض) (1) وقوله (عليه السلام): لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه (2)، فإن الرضا وطيب النفس أعمان من أن يكونا فعليين أو شأنيين. فإن قلت: فعلى ما ذكرت لزم القول بصحة العقد مع العلم بالرضا في الابتداء، من غير إذن أو توكيل. قلت: أولا: لا مضايقة عن القول بذلك، لعموم الأدلة كما جنح إليه شيخنا العلامة طاب ثراه.
1 - النساء 4: 29. 2 - تقدم في الصفحة 380، عوالي اللآلي 1: 222 و 2: 240 و 3: 473. 494 وثانيا: إنه يحتمل أن يكون لصحة العقد عند الشارع شرط آخر غير الرضا، والكاشف عنه الإذن أو التوكيل أو الإجازة اللاحقة. فإن قلت: مقتضى ما ذكرت تأثير الإجازة بعد الرد أيضا. قلت: أولا: لا بأس بالالتزام بذلك للعمومات. وثانيا: إن الرد موجب لزوال ارتباط العقد بالمالك، كما يوجبه تخلل جملة من الموانع بين الايجاب والقبول، فإذا بطل العقد بتخلل الرد بينه وبين الإجازة لم يكن الرضا المستكشف من الإجازة الواقعة بعد الرد مفيدا (1) (2). انتهى ملخصا. مناقشة كلام المحقق الرشتي فإن كلامه (رحمه الله) مركب من صغرى وكبرى: أما الصغرى: فهي أن الإجازة تكشف عن الرضا التقديري. وأما الكبرى: فهي كفاية الرضا التقديري في صحة العقد. وشئ من ذلك لا يتم: المناقشة في الصغرى أما أن الإجازة تكشف عن الرضا التقديري، فهذا الكشف: إما من كشف اللفظ عن مفاده، أو أنه من كشف ذي المبدأ عن مبدئه، ولا مجال للقول بالأول، فإن مفاد أجزت ليس هو الرضا التقديري بالعقد، فيبقى الثاني، وبما أن الإجازة من
1 - بدائع الأفكار: 323 / سطر 8، الإجارة، الرشتي: 184 - 185. 2 - نقلنا هذا عن كتاب البدائع في الأصول للمستدل، ونقل السيد الأستاذ في الدرس عن رسالته في البيع الفضولي، الملحق بآخر كتابه في الإجارة، والاختلاف بينهما في العبارة، ولا اختلاف في مطالبه. المقرر دامت بركاته. 495 الأفعال الاختيارية للمجيز فلا بد لها من مبادئ الفعل الاختياري، ولا يمكن أن يكون من مبادئه الرضا التقديري، لعدم السنخية بين التقدير والتنجيز، بل المبدأ للعقد التنجيزي هو الرضا الفعلي لا غير، وحينئذ فلو أريد من كشف الإجازة عن الرضا التقديري: أن المبدأ لها ذلك فقط، فهو باطل، لعدم السنخية. وإن أريد منه أن المبدأ لها الرضا التقديري والفعلي معا، فهذا أيضا لا يمكن، لعدم إمكان دخل التقدير في التنجيز بوجه، وعدم إمكان الجمع بين التقديري والفعلي معا في المبدئية. ولو أريد به أن المبدأ هو الرضا الفعلي، وهو كاشف عن الرضا التقديري حال العقد، فهذا التزام بعدم اعتبار الإجازة أولا، فإن الكاشف هو الرضا الفعلي لا الإجازة، على أن الرضا التقديري معدوم، ولا معنى لكشف المعدوم. مع أنه لو سلمنا أن المعتبر في تمامية العقد هو الرضا التقديري فليس لرده معنى، فلو أجاز العقد بعد الرد استكشفت تمامية العقد وورود الرد على معاملة تامة. فما ذكره: من أن الرد موجب لزوال ارتباط العقد بالمالك، مناقض لاعتباره الرضا التقديري في تمامية العقد. وبالجملة: الرضا التقديري ليس شيئا غير الفرض والتقدير، فهو معدوم فلا معنى لكشفه بأي نحو من الكشف، لا بنحو كشف الحاكي عن المحكي وهذا ظاهر، ولا بنحو المعلول عن علته وهذا واضح، ولا بنحو ذي المبدأ عن مبدئه، لعدم السنخية أولا، وعدم إمكان المبدئية للعدم ثانيا، ولا بنحو كشف الملازم عن الملازم بدعوى أن الإجازة أو الرضا الفعلي الذي هو مبدأ للإجازة ملزوم للرضا التقديري، فإن الرضا التقديري ليس محض، ولا معنى لكونه لازما لشئ، لا عقلا ولا بنظر العقلاء. نعم، يمكن دعوى الملازمة بنظر العقلاء بين الرضا الفعلي وقضية تعليقية،
496 وهي أنه لو علم المالك بالعقد لرضي. ولكن أولا: هذا خلاف المدعى فإن المدعى دخل واقع الرضا التقديري في العقد، لا هذه القضية والرضا التقديري معدوم. وثانيا: هذه القضية بإطلاقها غير مسلمة حتى عند المستدل، بل لها قيد، وهو أنه لو علم بالعقد وبالصلاح لرضي، وحينئذ لا بد من دعوى الملازمة بين الصلاح في زمان الإجازة والصلاح في زمان العقد، ولا ملازمة بينهما، لا عقلا ولا عقلائيا. هذا ما في صغرى كلامه (رحمه الله). المناقشة في كبرى كلام المحقق الرشتي وأما الكبرى: وهي كفاية الرضا التقديري في صحة البيع. ففيها أولا: أن هذا كر على ما فر منه من الاشكال العقلي، فإن الرضا التقديري معدوم، ولا يعقل دخل المعدوم في صحة البيع. وثانيا: هذا خلاف ظواهر الأدلة، فإن ظهور الرضا والطيب في فعليتهما غير قابل للانكار، وما ادعاه من التعميم خلاف الظاهر جدا. وثالثا: هذا خلاف الواقع جدا بنظر العقلاء، أترى أنه لو تخيل المالك كون العقد ذا مفسدة محضة، ولا يرضى به حال العقد، بل ينادي بأعلى صوته: أني لا أريد بيع داري، ولا أرضى به، مع ذلك يجوز بيع داره بدعوى، أنه لا يفهم بأن في هذا البيع صلاحا ولو علم به لرضي، أفيمكن الالتزام بمثل هذا الحكم الموجب للاغتشاش في المجتمع؟! ولذا لا نلتزم بكفاية مثل ذلك في الحكم بحلية أكل مال الغير أيضا. نعم، الرضا الارتكازي كاف في ذلك، ولكنه غير الرضا التقديري، فإن الأول موجود بالفعل في الارتكاز، كما لا يخفى على من له أدنى تأمل.
497 ورابعا: لو سلمنا كفاية الرضا التقديري في صحة البيع، فيخرج الفضولي عن الفضولية بعد الإجازة، فلا بد على المستدل من الالتزام بعدم إمكان البيع الفضولي مع إجازة المالك، مع أنه لا يلتزم بذلك، كما يظهر من المطالب التي ذكرها مفصلا في أول البيع الفضولي. ثم إنه (قدس سره) أيد ما ذكره بروايات خاصة (1) سيجئ الكلام فيها - إن شاء الله - وهي مؤيدات لمطلق الكشف، لا خصوص ما بنى عليه. الاستدلال على الكشف الانقلابي بالعمومات وقد استدل بعضهم بالقواعد والعمومات على الكشف الانقلابي، بتقريب: أن الإجازة متعلقة بمضمون العقد السابق، وهي الملكية المقيدة بحصوله من ذلك الزمان، أو الملكية التي كان الزمان السابق ظرفا لها، والممضى شرعا إنما هو الملكية المرضية للمالك، ولا تكون المبادلة مرضية للمالك إلا بعد الإجازة، فحينئذ يلحقها الامضاء الشرعي، فمن لم يكن مالكا قبل الإجازة يصير مالكا بعدها من زمان صدور العقد (2). هذا، وبعد الاغماض عما مر من الايراد على هذا الاستدلال: من لزوم اجتماع مالكين مستقلين على شئ واحد وعدم إمكان الانقلاب، فإن تصوير هذا المعنى من الكشف مشكل، فإن المفروض عدم الملكية قبل الإجازة، وحالها تنقلب الملكية من الأول، ومعنى هذا إما لزوم التفكيك بين المالكية والملكية، لو قلنا بأن المالكية بالفعل والملكية من قبل، وإما لزوم اتحاد الزمانين خارجا، لو قلنا بحصول
1 - الإجارة، الرشتي: 185 / سطر 18. 2 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 151 / سطر 35. 498 الملكية المقيدة بالزمان السابق، أو المظروفة فيه في زمان الإجازة (1). مضافا إلى أن الملكية المقيدة أو المستمرة أو المظروفة لم تنشأ، بل المنشأ نفس طبيعة الملكية، والإجازة قد تعلقت بها، وقد أمضاها الشارع حال الإجازة، ومعنى هذا هو النقل لا الانقلاب. وأما الكشف الحقيقي: فهو وإن قلنا بعدم ورود الاشكال العقلي فيه، إلا أن
1 - فرض الانقلاب على وجهين: أحدهما: فرضه على نحو تحصل المالكية بالفعل والملكية من الأول. وفيه ما فيه: من لزوم معية المتضايفين. ثانيهما: حصول الاعتبار بالفعل والمعتبر أمر سابق، نظير الوصية، فإن فيها فعلية الاعتبار وتأخر المعتبر. وما نحن فيه عكس ذلك، فعلى هذا لا يرد على هذا القول لزوم التفكيك بين المتضايفين منه. نعم، يرد عليه: لزوم الانقلاب واجتماع المالكين المستقلين على شئ واحد. وقد أجبنا عن الانقلاب: بأن الاعتبار ممكن ذاتا حتى اعتبار النقيضين، نعم، لا بد من وجود مصلحة له وكون المورد مما يقبل الاعتبار، ومعهما لا مجال لمنع الاعتبار كما في المقام، فإن اعتبار الملكية وعدمها ممكن من جهة قابلية المعتبر ووجود المصلحة. وأجبنا عن اجتماع المالكين: بأن الاجتماع إنما هو في ظرف المعتبر، لا في ظرف الاعتبار، فلم يتحقق مورد وقع التزاحم بين المالكين، فتأمل، فإن الشئ بعد العقد وقبل الإجازة مملوك لشخصين وإن كان زمان الاعتبار مختلفا، وعليه فإن تصرف كل منهما فيه تصرف في ملكه وفي ملك الآخر، ونماؤه مملوك لهما على الاستقلال، وهذا لا يمكن فرضه. والذي يرد على هذا القول، وهو العمدة: أن الإجازة وإن قلنا بتعلقها بالملكية المتقدمة، والمجيز اعتبرها بالفعل، إلا أن الامضاء الشرعي ليس على نحو إمضاء المالك، بمعنى أنه أيضا يجيز بالفعل الملكية المتقدمة، بل إمضاء الشارع لا يستفاد من غير الأدلة، وهي عمومات (أوفوا بالعقود) وغيرها، الصارفة أو المنصرفة إلى العقد المرضي به - الأعم من الرضا الفعلي أو اللاحق - فإمضاء الشارع متحقق قبل الإجازة حال العقد، أي الشارع قد أمضى العقد المرضي به ولو متأخرا لا الإجازة، فالنتيجة هي الكشف الحقيقي لا الانقلاب، فتدبر. المقرر دامت بركاته. 499 ظاهر الأدلة اعتبار الرضا في نفوذ العقد، والمفروض أنه معدوم حال العقد. نعم، للعقد اعتبار بقاء بنظر العقلاء، وفي حال الإجازة يلحقه الرضا فيؤثر، فالنتيجة هي النقل. وأما سائر وجوه الكشف - من الكشف المحض، أو اشتراط وصف التعقب في نفوذ العقد - فمضافا إلى ما قد سلف هي خلاف ظواهر الأدلة، كما لا يخفى. فالتحقيق: أن المستفاد من القواعد والأدلة العامة هو النقل، وقد ظهر تقريبه (1).
1 - أقول وأستعين بالله: إنه لو اقتصرنا على الظهور البدوي لأدلة الرضا جامدين عليه، فلا بد لنا من الحكم ببطلان الفضولي، لمكان كلمة عن في آية التجارة. لكن التحقيق يقتضي رفع اليد عن الخصوصية المقارنة للقرائن السابقة. ذلك ما ذكره الأستاذ مد ظله. ولنا أن نقول: إن العقلاء لا يرون خصوصية في فعلية الرضا بل يرون الرضا فيما سيأتي كافيا في نفوذ العقد. وإن شئت قلت: إن أدلة اعتبار الرضا لا تكون مقيدة للعمومات نظير (أوفوا بالعقود)، بل العمومات في نفسها منصرفة عن العقد غير المرضي به، فإذا وصل الأمر إلى الانصراف، فالقدر المعلوم من خروجه هو العقد الذي لا رضا فيه مقارنا أو سابقا أو لاحقا، وأما العقد الذي سيلحقه الرضا فلا مانع من شمول الدليل له. فالنتيجة: وجوب الوفاء بالعقد الذي سيلحقه الرضا، وهذا معنى الكشف الحقيقي. وأما ما أفاده سيدنا الأستاذ: من أن الرضا ليس بفعلي، وهو معدوم، فقد عرفت عدم اعتبار فعلية الرضا، وإمكان أن يجعل الشارع العقد المرضي به مؤثرا ولو فيما سيأتي، بلا ورود إشكال عقلي عليه، وظهور القواعد والعمومات في ذلك أيضا. فالنتيجة: صحة القول المشهور الذي عليه الأعاظم من المتأخرين، ومنهم صاحب الجواهر (قدس سره)، فالأخذ به متعين. مع أن هنا إشكالا في النقل: وهو أن مقتضى العقد تحقق مضمونه من حينه. لا أقول: إن المنشأ بالعقد هي الملكية المقيدة أو المظروفة، بل أقول: إن المنشأ وإن كانت نفس طبيعة الملكية، إلا أنه معنى نفوذ العقد وقوع الملكية من حينه. وإن شئت قلت: إن مقتضى العقد وإن كانت نفس طبيعة المبادلة، إلا أن إطلاقها يقتضي وقوع المبادلة من حين العقد، والإجازة لا تقيد العقد، بل ناظرة إلى نفس العقد، وموجبة لانفاذ نفس العقد الواقع مطلقا، فلا بد إما من الالتزام بالكشف الحقيقي أو الانقلاب، وحيث إن الثاني غير معقول، بل مخالف للقواعد، فلا بد من الالتزام بالأول. وحاصل الاشكال: أن القول بالنقل مخالف لمقتضى إطلاق العقد. وبعبارة أخرى: لو كان العقد نافذا يؤثر من حينه، وإلا فلا يؤثر بعده أيضا. وهذا المعنى لو لم يكن أمرا عقليا، لكن لا ينبغي الاشكال في موافقته لنظر العقلاء، ومن المطمئن به أن المحقق والشهيد الثانيين يريدان باستدلالهما الثاني هذا المعنى، ومن استدلالهما الأول ما ذكرناه في تقريب الكشف. وبالجملة: أن جميع أنحاء الكشف - عدا الحقيقي منه - مخالف لظواهر الأدلة، بل في بعضها إشكال ثبوتي، وفي النقل أيضا إشكال عقلائي، ولا أقل من أنه خلاف ظواهر الأدلة الدالة على نفوذ العقد، فإن مقتضاها وقوع المضمون من حينه على التقريب المتقدم. وسيجئ الاشكال في الكشف الحكمي عند تعرض سيدنا الأستاذ له، فلم يبق إلا الكشف الحقيقي المساعد عليه نظر العقلاء وظواهر الأدلة والشهرة بين العلماء وذهاب جمع من أكابرهم إليه، فلا بد من الالتزام به، والحمد لله. المقرر دامت بركاته. 500 ولا بأس بالتعرض لبعض ما ذكره في المقام تتميما للفائدة. في كلام المحقق النائيني في الفرق بين الكشف والإجازة ومناقشته وقد ذكر المحقق النائيني (رحمه الله): أنه يمكن أن يقال بالفرق بين القبض والإجازة: وهو أن القبض جزء المؤثر، ولكن الإجازة صورة للمادة المتحققة وإنفاذ من المالك لما سبق، فمن جهة أن السبب التام للنقل لا يتحقق بدونها فالإجازة ناقلة، ومن حيث إنها إنفاذ لما تحقق فهي كاشفة، فعلى هذا يقع التفكيك بين الملك وآثاره من النماء والمنافع، ويلتزم بالنقل في الأول وبالكشف في الثاني، فإن الملكية لا يمكن تحققها من قبل، بعد دخل الإجازة في تحققها، وليس للملكية السابقة اعتبار وجود في الحال، بخلاف المنافع، فإنه يمكن تحقق ملك المنفعة من قبل، لأن لها اعتبار وجود في الحال باعتبار تعلق الضمان بها ووجود أجرتها، فيصح تعلق
501 الإجازة بها التي مرجعها إلى إسقاط الضمان، فبالنقل في الحال يصح تحققها من قبل، كما يصح تحققها بعد ذلك بالنقل في الحال، كما في إجارة الدار المتعلقة بالسنة الآتية (1). انتهى ملخصا. وكلامه هذا محتمل للأمرين، فيمكن أن يريد بذلك: أن الإجازة كاشفة عن ثبوت ملكية المنافع واقعا من الأول فعلا، ويمكن أن يريد به الكشف الحكمي، الذي نسبه الشيخ (رحمه الله) إلى شريف العلماء (رحمه الله) (2). أما على الأول: فيرد عليه - بعد الاغماض عما أوردناه في الانقلاب: من عدم إمكانه، ولزوم اجتماع مالكين مستقلين في مملوك واحد، وقياس ذلك بالنقل في الحال بالنسبة إلى الملك المتأخر كالإجارة المذكورة، قياس مع الفارق، لعدم لزوم الانقلاب في الثاني دون الأول -: أن أثر العقد إنما هو نقل العين فقط، وأما نقل المنافع فليس له أثر بحيث ينشئ العاقد أمرين: نقل العين ونقل المنافع، بل نقل المنافع يتبع نقل العين، وعليه لا معنى لتعلق الإجازة بالعقد بالنسبة إلى المنافع، فإن نقل المنافع لم ينشأ بالعقد حتى ينفذ بالإجازة، فلو لاحظنا أن الإجازة إنفاذ لما سبق، وقلنا بأن نتيجته الكشف، فلا بد من الالتزام به في الملك، وتتبعه المنافع، ولو قلنا بأن للإجازة دخلا في التأثير، فلا بد من الالتزام بالنقل في الملك، وتتبعه المنافع، فالتفكيك لا يرجع إلى محصل، إلا أن يقال: بأن الإجازة متعلقة بنفس العقد لا المنافع، لكنه موجب لتأثيره في نقل العين بعدها ونقل المنافع بعده. فتأمل. وقد ظهر مما تقدم: أن الصحيح هو الالتزام بالنقل، ولا منافاة بين إنفاذ ما سبق والنقل من حين الانفاذ، فإنه ليس في السابق إلا العقد، وهو إنشاء النقل،
1 - منية الطالب 1: 235 / سطر 9. 2 - المكاسب: 133 / سطر 17. 502 والمفروض أن تأثيره موقوف على الإجازة، فيعتبر بقاؤه حال الإجازة، وبها ينفذ، وهذا هو النقل. اللهم إلا أن يقال: بأن البقاء هنا ليس على نحو البقاء في سائر الموارد، فإن البقاء فيها إنما هو الامتداد تبعا للزمان، وأما البقاء هنا فهو اعتبار العقد المقيد، أو المظروف في الزمان السابق في مرحلة البقاء، ونتيجة ذلك الانقلاب، فتأمل. وأما على الثاني: فأصل المدعى وإن كان صحيحا على ما يأتي، إلا أن الدليل على ذلك هو الروايات الخاصة الظاهرة في الكشف، وحيث إنه على خلاف القواعد - كما مر - نلتزم بالتعبد، وهو الكشف الحكمي، وسيجئ بيانه، ولا يمكن إتمام ذلك على القواعد لعين الاشكال المتقدم، فإن المنشأ بالعقد نقل الملك لا المنافع، فلا تتعلق الإجازة به بلحاظ نقل المنافع، حتى يلتزم بالكشف الحكمي على القواعد. ثم إن ما ذكره: - من أنه ليس للملكية السابقة اعتبار وجود في الحال، بخلاف المنافع، فإن لها اعتبار وجود حينئذ باعتبار تعلق الضمان بها وثبوت أجرتها - لا يتم أيضا، فإن ملكية المنافع اللازم منها الضمان وثبوت الأجرة، من آثار ملكية العين، فكيف يقال بعدم اعتبار وجودها في الحال، لعدم ثبوت أثر عليها حينئذ؟! بل لو بنينا على الكشف الحكمي لالتزمنا بثبوت الملك من الأول تعبدا، والمنافع تتبعه، وسيأتي إن شاء الله. وهنا مناقشات أخر في كلامه (رحمه الله) لا يهمنا التعرض لها، والمهم منها ما ذكر. في أقسام الكشف عند المحقق النائيني وقد ذكر في آخر كلامه في بيان أقسام الكشف، وما قيل أو يقال في الكشف الحكمي: أن أقوى الوجوه هو الواسطة بين الكشف الحقيقي والنقل، التي يعبر عنها بالكشف الحكمي، ولكن لا من باب التعبد الصرف، بل بمقتضى القاعدة، وذلك للفرق
503 بين الأمور المتأخرة التي لها دخل في المتقدم، فإنها لا تخلو عن أحد أقسام ثلاثة: الأول: كالقبض في الصرف والسلم، والقبض في الهبة والوقف، ونحو ذلك. والثاني: كالإجازة من المالك والمرتهن ونحوهما. والثالث: كإخراج الزكاة بعد بيع الزكوي، وإبراء الدين من المرتهن، وفك الراهن الرهانة، ونحو ذلك. أما القسم الأول: فيتوقف تأثير العقد على وجوده، ولا مجال لتوهم الكشف فيه مطلقا، سواء كان جزء المؤثر، كالقبض في الصرف والسلم، أم كان شرطا للصحة في الرهن والهبة والوقف. وأما الثاني: فحيث إنه ناظر إلى ما وقع وإنفاذ لما سبق، فيوجب تأثيره فيما سبق بالنسبة إلى ما يمكن أن يتعلق به الانفاذ. وأما الثالث: فهو وإن لم يكن في الظهور مثل الثاني، إلا أنه في نظر العقلاء حكمه حكم الثاني، فإن العرف والعادة - بحسب ما ارتكز في أذهانهم - يرون الأمر الذي يصير موضوعا للحكم بتوسط العنوان المتأخر، أنه هو الموضوع، فالآثار المترتبة على هذا الموضوع تترتب عليه من أول الأمر، وهذا الأمر المتأخر بمنزلة الواسطة في الثبوت، والأدلة الواردة في هذا الباب إمضاء لما ارتكز في أذهان العقلاء، وناظرة إلى ما هم عليه، والجامع بين القسمين الأخيرين أن موضوع الحكم هو المنفذ، والانفاذ وما يرجع إليه ناظر إلى المتقدم (1). انتهى محل الحاجة. مناقشة كلام المحقق النائيني في أقسام الكشف وفي جميع ما ذكره في هذه الأقسام نظر:
1 - منية الطالب 1: 241 / سطر 3 - 14. 504 أما ما ذكره في القسم الأول: من أنه لا مجال لتوهم الكشف فيه، فلم نعرف لهذا المدعى وجها، بل صريح عبارة صاحب الجواهر في باب بيع السلم: من أن القبض دخيل كشفا أو نقلا (1)، أنه يحتمل فيه الكشف أيضا، بل توهم الكشف في القبض أولى من توهمه في الإجازة، فإن الرضا في العقد متمم للعقد الموضوع لدليل وجوب الوفاء، لحصول ارتباط العقد بالمالك بنحو سبق بيانه، بخلاف القبض، فإن العقد تام، والقبض والتسليم متفرعان على تماميته، فالقول بالكشف هنا أولى. ثم إن ما ذكره: من أن القبض على نحوين: جزء وشرط، فهذا أيضا لا دليل عليه، بل المستفاد من الأدلة - نحو لا رهن إلا مقبوضا (2) أو يدا بيد (3) في باب السلم - الاشتراط. وأما ما ذكره في الثاني: من أن الإجازة ناظرة إلى ما وقع... إلى آخره، ففيه: أولا: الاشكال العقلي المتقدم، وأنه لا يعقل انقلاب الشئ عما وقع عليه حتى اعتبارا. وثانيا: إنفاذ ما سبق إنما هو في مضمونه، والمفروض أن مضمون العقد - وهو الملكية - غير قابل للانفاذ، وليست الآثار من مضمون العقد حتى تنفذ بالإجازة. وثالثا: أن هذا خلاف القواعد، فإنها دالة على اعتبار الرضا في التأثير. ومقتضى ذلك بحسب فهم العقلاء النقل، لا ما ذكر. وأما ما ذكره ثالثا: فمضافا إلى ما ذكر في الثاني من الاشكالات، يرد عليه:
1 - جواهر الكلام 24: 289. 2 - تهذيب الأحكام 7: 176 / 779، وسائل الشيعة 13: 123، كتاب الرهن، أحكام الرهن، الباب 3، الحديث 1. 3 - الكافي 5: 222 / 12، وسائل الشيعة 13: 57، كتاب التجارة، أبواب السلف، الباب 2، الحديث 1. 505 أن في البيع الزكوي لو قلنا: بأن الزكاة تتعلق بالعين، بحيث تشترك العين بين المالك والفقراء، فالبائع باع مال نفسه وغيره، وبعد أداء الزكاة يملك ما باعه أولا وكان ملكا للفقراء، فهذا يدخل في مسألة من باع شيئا ثم ملك، وهذا قسم خاص من الفضولي نتعرض له إن شاء الله. ولو قلنا بعدم الاشتراك وتعلق الزكاة بالزكوي على النحو الكلي في المعين، فلو باع المالك جميع المال فقد باع ملك الفقراء أيضا، وبعد أداء الزكاة يملكه، وهذا أيضا يدخل في تلك المسألة، وأما لو باع المالك ما عدا الزكاة كليا فبيعه صحيح، وليس بفضولي، كما لا يخفى. ولو قلنا: بأن الزكاة حق في العين، نظير حق الرهانة، وبأدائها تنفك العين عن الحق، فقد باع المالك ملكه، وقد ارتفع الحق عنه بأدائه الزكاة، فهذا أيضا خارج عن الفضولي، أو يدخل في نظير تلك المسألة على حسب اختلاف المبنى. وقد ظهر الحال في المثالين الآخرين، فتدبر جيدا. التنبيه على نكتة في كلامي الشيخ الأعظم والمحقق النائيني ثم إن في كلام المحقق النائيني (رحمه الله) - تبعا للشيخ الأعظم (رحمه الله) - نكتة لا بد من التنبيه عليها: وهي كما في عبارة الشيخ: فإذا دل الدليل الشرعي - العمومات والقواعد، كما يظهر من سابق كلامه - على إمضاء الإجازة على هذا الوجه الغير المعقول، فلا بد من صرفه - بدلالة الاقتضاء - إلى إرادة معاملة العقد بعد الإجازة معاملة العقد الواقع مؤثرا، من حيث ترتب الآثار الممكنة... (1) إلى آخره. وقد مر سابقا: أنه يحتمل في كلام المرحوم النائيني هذا المعنى المذكور في
1 - المكاسب: 133 / سطر 13، منية الطالب 1: 241 / سطر 16. 506 كلام الشيخ (رحمه الله)، وهو الكشف التعبدي، ويحتمل الانقلاب الواقعي، وقد تقدم تفصيله (1). وكيف كان، فتتميم ما ذكراه على القواعد في غاية الاشكال: أما أولا: فإن إنفاذ العقد في مضمونه لا يمكن، وإنفاذ الآثار لا معنى له بعد عدم إمكان إنفاذ المؤثر، مضافا إلى أن الأدلة العامة دالة على تصحيح العقد في المضمون، وهذا اللسان يغاير التعبد بترتيب الآثار لو لم يمكن تحقق المضمون، كما لا يخفى، فلا يمكن شمول تلك الأدلة لكلا المقامين. كلام لصاحب الكفاية في المقام وقد ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) في المقام: أن العقد إن كان مثل الإجارة وعقد التمتع، فمضمون العقد ملكية منفعة الدار من أول السنة - مثلا - إلى آخرها، أو زوجية المرأة في تلك المدة، فلا بد من اعتبار هذا المضمون عند تحقق الإجارة، وإلا فملكية المنفعة حين الإجازة، أو الزوجية من حين الإجازة، بعد مضي مدة منهما، ليست تمام مضمون العقد، فيكون تبعيضا في مضمون عقد الإجارة وعقد التمتع، مع أن عموم (أوفوا بالعقود) (2) يقتضي الوفاء بتمام ما عقد عليه عند تمامية علته. وإن كان العقد مثل البيع والنكاح الدائم، فمضمون العقد هي الملكية المرسلة الغير المحدودة من حيث المبدأ والمنتهى، وكذلك الزوجية الغير موقتة من حيث البداية والنهاية، فلو لم يجب ترتيب الأثر على هذا المضمون المرسل، لكان التزاما بالملكية المبعضة والزوجية المبعضة المحدودتين من حيث المبدأ، مع أنه لا حد
1 - تقدم في الصفحة 502. 2 - المائدة 5: 1. 507 لهما من حيث المبدأ بحسب مضمون عقدهما (1). انتهى على ما قرره تلميذه المحقق (قدس سره) (2) بعد ما ذكر: من إمكان تعلق الاعتبار بالمتقدم كالمتأخر، وجوابه عن إشكال الانقلاب: بأن زمان الاعتبار مختلف، وهذا يكفي في رفع الاستحالة. إشكال المحقق الأصفهاني على شيخه وأشكل على شيخه الأستاذ بعد ما قرر مرامه: بأن اعتبار ملكية المنفعة السابقة الفائتة بنحو الانقلاب، لا أثر له إلا الرجوع بالبدل، مع أن التلف - على الفرض - لم يرد خارجا إلا على المنفعة الغير المملوكة للمجاز له، وإنما اعتبرت ملكيتها له فعلا بنحو الانقلاب، فالاعتبار متأخر عن التلف، وفرض الانقلاب وإن كان لازمه فرض ورود التلف على المملوك بالملكية السابقة للمجاز له، إلا أن ورود التلف عليه بالاعتبار لا بالحقيقة، ولا دليل إلا على كون التلف الحقيقي مضمنا، لا التلف الفرضي الاعتباري (3). انتهى محل الحاجة. مناقشة المحقق الأصفهاني في إشكاله على شيخه أما ما ذكره: من إمكان تعلق الاعتبار بالمتقدم، فقد ظهر مما تقدم استحالة ذلك، وأنه لا يقاس بالمتأخر فلا نعيد. كما أنه مر عدم إمكان التفصي عن الاشكال باختلاف زمان الاعتبار، فلاحظ. وأما لو بنينا على الانقلاب وعدم لزوم أي محذور فيه، فما أشكل به على
1 - حاشية المكاسب، المحقق الخراساني: 61 - 62. 2 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 149 / سطر 10. 3 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 149 / سطر 17. 508 صاحب الكفاية (رحمه الله) غير صحيح، فإن المفروض اعتبار الملكية من الأول ولو كان ظرف الاعتبار حال الإجازة، فالتلف التكويني الخارجي واقع على الملكية المعتبرة بذلك الاعتبار، فلا محصل للقول بأن هذا التلف فرضي اعتباري. نعم، يرد على صاحب الكفاية ما ذكر من الاشكالات العقلية، وعليه فلا بد من الالتزام: إما ببطلان الإجارة والمتعة، أو التبعيض فيهما، كما هو الصحيح على ما حقق من جواز التبعيض في المنشأ، ونظائره كثيرة في الفقه، كما لا يخفى. والالتزام بالنقل في البيع ونحوه لعدم دخل الزمان في المنشأ، ومقتضى اعتبار الرضا في التأثير هو ذلك، فمقتضى القواعد هو النقل، أي يعتبر العقلاء العقد باقيا حال الإجازة، وبإجازته تترتب الآثار، والمستفاد من الأدلة العامة هذا المعنى. نعم، لو أغمضنا النظر عن ذلك فالأوفق بالقواعد الكشف الحقيقي، لا الحكمي، كما ذكره الشيخ (رحمه الله) (1)، ولعله ظاهر مما تقدم. المقام الثاني: مقتضى الأدلة الخاصة في الاستدلال على الكشف بجملة من الروايات لكن ورد هنا روايات - صحيحة وغير صحيحة - قد ادعي دلالتها على الكشف (2)، كصحيحة محمد بن قيس (3)، الدالة على أن الإجازة توجب خروج نماء
1 - المكاسب: 133 / سطر 23. 2 - أنظر المكاسب: 133 / سطر 25. 3 - الكافي 5: 211 / 12، الفقيه 3: 140 / 615، تهذيب الأحكام 7: 488 / 1960، الاستبصار 3: 205 / 739، وسائل الشيعة 14: 591، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء، الباب 88، الحديث 1. 509 المبيع الحاصل قبل الإجازة - وهو الولد - عن ملك المالك وصيرورته حرا، ولا يتم هذا إلا على الكشف. وصحيحة أبي عبيدة (1) الدالة على أن الزوجة بإجازتها، ترث ميراث زوجها الميت قبل هذه الإجازة، وهذا أيضا لا يتم إلا على الكشف، وغيرهما مما نتعرض له إن شاء الله. أما ما ذكر في دلالة الأولى على الكشف، فلا يصح، لأن الولد في مفروض الرواية حر ولو لم تحصل الإجازة لمكان الشبهة. وأما أخذ المالك الولد قبل الإجازة - من جهة أن المشتري ضامن لقيمة الولد - فأخذه لأخذ القيمة منه. ويدل على ذلك عدة من الروايات، منها موثقة جميل الواردة في هذا الباب (2)، فإن فيها: أنه يدفع إليه المبتاع قيمة الولد. في تقريب دلالة صحيحة محمد بن قيس على الكشف ومناقشته وقد يقال في تقريب الاستدلال بالصحيحة للكشف: إن لازم النقل لزوم دفع المشتري قيمة الولد وعوض خدمة الجارية إلى المالك، والحال أن الصحيحة ساكتة عن ذلك مع كونه في مقام البيان. فمن هنا يعلم عدم لزوم دفع القيمة، ولا يتم هذا إلا على الكشف (3). وفيه: أن الأمر وإن كان كذلك، إلا أن الصحيحة حاكية عن قضاء أمير
1 - الكافي 7: 131 / 1، تهذيب الأحكام 7: 388 / 1555، وسائل الشيعة 17: 527، كتاب الفرائض والمواريث، أبواب ميراث الأزواج، الباب 11، الحديث 1. 2 - تهذيب الأحكام 7: 82 / 353، وسائل الشيعة 14: 592، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء، الباب 88، الحديث 5. 3 - جواهر الكلام 22: 287. 510 المؤمنين (عليه السلام)، وليست جهة القضاء وخصوصياته مذكورة فيها، ومن هنا يعلم أن الصحيحة ليست في مقام البيان، إلا من جهة نفوذ الإجازة فقط، وأما لزوم دفع القيمة وعوض الخدمة أو عدم لزوم ذلك، فليست الرواية في مقام بيانها (1). في مناقشة دلالة صحيحة أبي عبيدة على الكشف وأما الصحيحة الثانية، فغير ناظرة إلى تصحيح العقد بالإجازة أصلا، بل مضمونها نفوذ العقد وثبوت الخيار، لا توقف نفوذه على الإجازة. والدال على ذلك مواضع عديدة في هذه الرواية: منها: النكاح جائز، وهذا ظاهر في أن النكاح نافذ فعلي. ومنها: له الخيار، وهذا أيضا دال على حق فسخ العقد النافذ. ومنها: يجوز ذلك عليه إن هو رضي فإن هذا دال على نفوذ العقد بالنسبة إلى الراضي به، ولزومه عليه قبل إدراك الآخر وحصول الرضا منه، وهذا لا يتم إلا إذا كان العقد صحيحا نافذا، فيلزم بالنسبة إلى من رضي به وإن كان بعد جائزا بالنسبة
1 - أقول: ضم قول المشتري: لا أرسل ابنك حتى ترسل ابني إلى قوله (عليه السلام): فلما رأى ذلك السيد أجاز بيع ابنه ينتج أن الإجازة كانت دخيلة في إرسال الابن، وهذا لا يمكن من جهة صيرورته حرا بالإجازة، فإن الولد حر من الأول، كما أفاد، فيتعين كون الإجازة دخيلة في إرسال الابن وكاشفة عن كونه رهنا للقيمة، وهذا لا يتم إلا على الكشف، بل الصحيحة دالة على الكشف الحقيقي لا الحكمي، فإنها ليست في مقام التعبد بحكم مخالف للقاعدة، بل لسانها جار مجرى ما هو المرتكز والموافق للقاعدة. ولعمري إن ملاحظة نفس هذه الصحيحة - بعين التدقيق والانصاف - كافية في الجزم بالقول المشهور، وهو دخل الإجازة المتأخرة في الأمر المتقدم لا بنحو الانقلاب، فإنه غير متصور في نفسه، ومخالف للقواعد على ما مر، بل بنحو الشرط المتأخر، والعرف أيضا مساعد على ذلك وجواز حبس السيد الوليدة وابنها من جهة استصحاب عدم تحقق الإجازة، وهذا واضح. المقرر دامت بركاته. 511 إلى الآخر، وإلا فما لم تحصل الإجازة في الفضولي من الطرفين لا يكون العقد لازما على أي منهما. ومنها: يعزل ميراثها منه، فإنها ظاهرة في الميراث الفعلي، لا ما يكون ميراثا بعد الإجازة، وهذا أيضا دال على نفوذ العقد فعلا، ولزوم الحلف على أنها ما دعاها إلى أخذ الميراث إلا رضاها بالتزويج، لا ينافي ذلك، فإن الحاصل من هاتين العبارتين ثبوت الإرث فعلا غير مستقر، وإنما يستقر بالرضا، نظير العقد الخياري. والحاصل أن ظاهر الرواية - بل صريح بعض فقراتها - أن النكاح تام نافذ، والميراث ثابت بالفعل، لكنهما جائزان قابلان للزوال بالخيار، وأما دلالتها على إمكان تصحيح العقد الفضولي بالإجازة فلا. نعم، مضمون الرواية غير معمول به عند الأصحاب، ومخالف للروايات الصحيحة الواردة في ذلك، إلا أن هذا لا يوجب تأويل الرواية وصرفها عن مضمونها إلى ما هي غير ظاهرة فيها، بل الرواية تسقط عن الحجية ولزوم العمل بها في موردها، وهو النكاح، فضلا عن التعدي عنه إلى غيره. الاستدلال على الكشف بصحيحة الحلبي ومناقشته ومما استدل به على القول بالكشف، صحيحة الحلبي: قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الغلام له عشر سنين فيزوجه أبوه في صغره، أيجوز طلاقه وهو ابن عشر سنين؟ قال: فقال: أما تزويجه فهو صحيح، وأما طلاقه فينبغي أن تحبس عليه امرأته حتى يدرك، فيعلم أنه كان قد طلق، فإن أقر بذلك وأمضاه فهي واحدة بائنة، وهو خاطب من الخطاب (1) الحديث.
1 - الفقيه 4: 227 / 722، وسائل الشيعة 17: 528، كتاب الفرائض والمواريث، أبواب ميراث الأزواج، الباب 11، الحديث 4. 512 وهذه الرواية مما تدل على أن الايقاعات أيضا قابلة للفضولية. ووجه الاستدلال بها على الكشف: أن حبس المرأة عليه قبل إجازة الطلاق، إنما هو من جهة احتمال حصول الإجازة وإزالة العلقة بسبب الطلاق، وهذا لا يتم إلا على الكشف، ولكن لهذه الجملة تحبس عليه امرأته احتمالين: أحدهما: ما ذكر، وهو يدل على الكشف. ثانيهما: أن تحبس من جهة عدم مس الزوج إياها، مع احتمال تحقق الإجازة وحصول البينونة بينهما فيما بعد، لئلا يلزم العار على الزوجة، وهذا الاحتمال لا ينافي ثبوت الزوجية فعلا، كما لا يخفى. ومع هذين الاحتمالين لا يمكن التمسك بالرواية لاثبات الكشف. وفي ذيل رواية بريد الكناسي (1) الطويلة الواردة في أبواب أولياء العقد في النكاح ما هو نظير ذلك، وظاهرها وجوب حبس المرأة قبل بلوغ الزوج، بخلاف هذه الصحيحة، لمكان ينبغي. وكيف كان، فلزوم الحبس أو استحبابه أعم من الكشف والنقل على ما ذكر. ثم إن تزويج الأولياء الصغيرين صحيح نافذ لازم، ليس لأحدهما خيار بعد البلوغ بلا خلاف، ولا إشكال في الأب، والجد أيضا ملحق به على المشهور شهرة عظيمة، ويدل على ذلك عدة من الصحاح فالمسألة مسلمة، وذيل صحيحة الحذاء أيضا ظاهر في ذلك بالنسبة إلى الأب، بخلاف ذيل صحيحة الحلبي وما في رواية الكناسي وغيرها، إلا أن ذلك شاذ نادر لا بد من طرحه، مع ما في رواية الكناسي من ضعف السند ومخالفة فتوى الأصحاب في عدة مواضع، فلاحظ، ومع هذا لا يمكن الاعتماد على مثلها في مقام الفتوى.
1 - تهذيب الأحكام 7: 382 / 1544. وفيه: يزيد بدل بريد، الاستبصار 3: 237 / 855، وسائل الشيعة 14: 209، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، الباب 6، الحديث 9. 513 وصحيحة الحلبي وإن صحت بحسب السند، إلا أن متنها معرض عنه بين الأصحاب، فهي أيضا غير قابلة للاستناد إليها. الاستدلال برواية مسمع على الكشف ومناقشته ومما استدل به على القول بالكشف رواية مسمع أبي سيار (1): قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أنا كنت استودعت رجلا مالا، فجحدنيه وحلف لي عليه، ثم جاء بعد ذلك بسنين بالمال الذي كنت استودعته إياه، فقال: هذا مالك فخذه، وهذه أربعة آلاف درهم ربحتها في مالك، فهي لك مع مالك، واجعلني في حل. فأخذت المال منه، وأبيت أن آخذ الربح، وأوقفت المال الذي كنت استودعته، وأتيت حتى أستطلع رأيك، فما ترى؟ قال: فقال: خذ الربح، وأعطه النصف، وأحله، إن هذا رجل تائب، والله يحب التوابين (2). أما سند الرواية: فضعيف، فإن حسن بن عمارة وأباه لم يوثقا، وفي إسناد الصدوق إلى مسمع أيضا ضعف. وأما دلالتها: فعلى مبنى القوم: من أنه لو اشترى المشتري كليا في ذمته، وأدى مال الغير في مقام الأداء، صحت المعاملة له، وما أداه إلى البائع بعد ملك للغير، وذمته مشغولة للبائع، فهذه الرواية مخالفة للقاعدة، لأن المتعارف في المعاملات هو الاشتراء بالثمن كليا في الذمة، فلا يستحق المستودع المذكور في
1 - تهذيب الأحكام 7: 180 / 793، الفقيه 3: 194 / 882، وسائل الشيعة 13: 235، كتاب الوديعة، أبواب الوديعة، الباب 10، الحديث 1. 2 - وتقريب الاستدلال: أن أخذ الربح لا يمكن إلا إذا تعلقت الإجازة بالعقد، وكشفت عن صحته من الأول، وإلا فلا يستحق المجيز الربح، نظير باب المنافع. المقرر دامت بركاته. 514 الرواية غير ماله على القاعدة، ولا ترتبط الرواية بباب الفضولي أبدا. ولكن قد بنينا على عدم تمامية ذلك في جميع الموارد، فإن السارق الذي سرق المال، وذهب به إلى السوق ليشتري به شيئا، ويؤديه ثمنا لذلك الشئ، يشتري بمال الغير وإن اشترى كليا في ذمته. وهذا أمر عقلائي موافق للروايات أيضا، كروايات باب الاتجار بمال اليتيم (1) والمضاربة (2) والاتجار بالزكاة (3)، فإن المتعارف في جميع هذه الموارد هو الاتجار على النحو الكلي في الذمة، وفي مقام الأداء يؤدي مال اليتيم أو الزكاة أو مال المالك، ومع ذلك لا تقع المعاملة للعاقد، وتؤيد ذلك نفس هذه الرواية، فإن مجئ الودعي بالمال والربح، وقوله هكذا، يدلنا على أن الارتكاز العقلائي مساعد على وقوع التجارة لصاحب المال، وإن كان المشتري قد أتجر بثمن كلي. وإن احتملت وقوع المعاملة في مفروض الرواية شخصيا، فترك استفصال الإمام (عليه السلام) يدل على ذلك. وعلى هذا المبنى تتصور الفضولية في الرواية. ثم إن الحكم بعدم اعتبار الإجازة، وتعبد الشارع بأن الربح لصاحب المال ولو مع عدم الإجازة، مخالف للفهم العقلائي من الرواية، بل الظاهر أن المالك بإجازته يملك الريح. ثم إن الظاهر من الرواية: وقوع معاملات متعددة من الودعي لتحصيل هذا القدر من الربح، وإن أبيت فلا أقل من عموم الرواية لذلك من جهة ترك الاستفصال. وعليه فهنا إشكال: وهو أنه لا يمكننا تصحيح جميع هذه العقود بإجازة واحدة - على القول بالكشف بأقسامه أو النقل - إلا إذا قلنا بكفاية الإجازة المتقدمة
1 - وسائل الشيعة 12: 190 - 191، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 75. 2 - وسائل الشيعة 13: 181 - 183، كتاب المضاربة، في أحكام المضاربة، الباب 1. 3 - وسائل الشيعة 6: 50، كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، الباب 15. 515 على الملك في تصحيح المعاملة الواقعة على الملك المتأخر، فإن الإجازة الواحدة بالنسبة إلى العقود المتعددة وإن كانت منحلة بتعداد هذه العقود إلا أن انحلالها عرضي، والعقود المترتبة في المقام طولية، فمبدأ السلسلة يصح بهذه الإجازة كشفا أو نقلا، فلو صحت سائر أفراد السلسلة بنفس هذه الإجازة لزم تأثير الإجازة في ما يملكه المجيز في الرتبة المتأخرة عن هذه الإجازة. وسيجئ شطر من الكلام في ذلك في المباحث الآتية - إن شاء الله - وما يقال في الجواب عن هذا الاشكال، والاشكال وجوابه مشتركان على القولين، فالرواية لا تدل على الكشف، لأن الربح على القول بالنقل أيضا ملك للمجيز، بناء على رفع هذا الاشكال، وبناء على وروده ليس له حتى على القول بالكشف أيضا، فعلى هذا المبنى تكون الرواية مخالفة للقاعدة على القولين. هذا بناء على القول باعتبار الانشاء في الإجازة، وأما على القول بكفاية الرضا فيها - كما هو الصحيح - فلا إشكال أصلا، لأن حدوث الرضا يصحح مبدأ السلسلة، وبقاؤه يصحح سائر أفرادها، والربح للمالك على القولين، فلا دلالة للرواية على الكشف على جميع المباني. ثم إن الحكم برد النصف في الرواية أمر استحبابي، فإن الرجل تائب، والله يحب التوابين (1).
1 - أقول: الاشكال المذكور: وهو لزوم تقديم الإجازة على حصول الملك، فإنه ما لم تتعلق بمبدأ السلسلة لا يحصل ملك المبيع في البيع الثاني للمجيز، فرتبة حصول هذا الملك متأخرة عن رتبة الإجازة، فلو أثرت هذه الإجازة أو ما في عرضها في البيع الثاني أيضا، لزم تأثيرها في العقد الواقع على الملك المتأخر عن الإجازة غير وارد على الكشف الحقيقي على نحويه من كون الإجازة شرطا متأخرا أو التعقب بها وصفا أو ذاتا شرطا مقارنا، فإن الملكية في جميع السلسلة تحصل في ظرف وقوع أفرادها، فالملكيات مترتبات، لحصول شرط جميعها، وهو الإجازة في ظرفها على الأول، والتعقب بها في جميعها على الثاني، فأين تأخير الملك على الإجازة؟! وتوهم: أن المصحح لمبدأ السلسلة الإجازة، فلا يمكن أن تكون مصححة للثاني والثالث وهكذا، لأنه ما لم يصحح الأول لا يمكنه تصحيح الثاني لترتبهما، فيلزم إشكال تأخير ما حقه التقدم. مدفوع: بأن هذا التقريب خلاف مبنى الكشف، فإن المصحح على الأول وإن كان نفس الإجازة، إلا أن التصحيح فعلي، والمصحح متأخر على هذا المبنى، فالعقد الثاني مترتب على العقد الصحيح الفعلي، لحصول المصحح في ظرفه، ويصح العقد الثاني أيضا لحصول المصحح في ظرفه، ولا يلزم على هذا القول تقديم المصحح على المصحح، ليلزم المحذور، وعلى الثاني المصحح هو التعقب، وتعقب الأول بالإجازة يغاير تعقب الثاني بالإجازة، فلا محذور. نعم، الاشكال وارد على النقل والانقلاب، فإنهما بالنسبة إلى مبدأ السلسلة متوقفان على حصول الإجازة، فلو أثرت الإجازة في سائرها لزم تأثيرها في العقد الواقع على الملك المتأخر عنها، فلو قلنا بتأخير الإجازة عن هذا الملك رتبة لزم محذور تقديم ما حقه التأخير، وإلا فلا إشكال هنا أيضا، وتحقيقه موكول إلى محله. كما أنه لو بنينا على ما هو الصحيح: من عدم اعتبار الانشاء في الإجازة بل كفاية الرضا المبرز بمبرز ما، فيرتفع الاشكال أيضا. فتحصل: أنه لا دلالة في الرواية، لا على الكشف، ولا على النقل، على المبنى الصحيح وعلى البناء على دفع الاشكال، وإلا فتدل الرواية على الكشف، فتدبر جيدا. المقرر دامت بركاته. 516 في تقريب الاستدلال على الكشف برواية مسمع ويمكن تقريب الاستدلال بالرواية على الكشف: بأن حصول الربح بالمال المستودع: إما بالتجارة، أو باشتراء شئ كالبستان ونحوه مما له نماءات ومنافع بعد الاشتراء، فيمكن أن تكون الأربعة آلاف درهم - المذكورة في الرواية - قيمة هذه النماءات والمنافع، واستحقاق المجيز لها لا يمكن إلا على الكشف، وهذا الاحتمال كاف في دلالة الرواية على الكشف لعدم الاستفصال.
517 إلا أن الرواية منصرفة عن ذلك، وما يحصل في النظر بدوا من الرواية حصول الربح من التجارة، وهذا موجب لانصراف الرواية إليه، فهذا التقريب أيضا لا يتم (1). الاستدلال للكشف برواية البارقي وجوابه ومما استدل على القول بالكشف رواية عروة البارقي المتقدمة (2)، فإن تقرير النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فعله دال على جوازه، ولا يمكن إلا على الكشف، فإنه على النقل تصرف تصرفا محرما، وهذا مناف للتقرير. وجوابه ظاهر، فإنه لو تم الاشكال ورد على الكشف أيضا، فإن التصرف المذكور مصداق للتجري القبيح، وهذا مناف للتقرير. إلا أن يقال: بأن عروة كان يعلم بأن الإجازة كاشفة، ويعلم بحصول الإجازة فيما بعد، فيخرج التصرف حينئذ عن عنوان التجري، وهذا كما ترى. والجواب الحلي: أنه لو كان عروة عالما برضا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تقديرا أو متأخرا، وكان معتقدا - ولو فاسدا - بجواز هذا التصرف مع رضاه (صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك، فهذا يكفي في جواز التقرير وإن التزمنا بالنقل. فهذه الرواية أيضا لا تدل على الكشف. ومما استدل به على الكشف أخبار تحليل الخمس للشيعة (3)، وقد ذكر الميرزا الرشتي (قدس سره) أنها صريحة في الكشف (4)، فإن التحليل متأخر عن وقوع بعض
1 - أقول: الظاهر من كلمة الربح - الذي يعبر عنه بالفارسية ب سود - منافع التجارة، لا مطلق المنفعة، وعليه فدلالة الرواية - عرفا ولغة - منحصرة في ذلك، ولا تصل النوبة إلى دعوى الانصراف. المقرر دامت بركاته. 2 - تقدم في الصفحة 429. 3 - وسائل الشيعة 6: 379 - 386، كتاب الخمس، أبواب إباحة حصة الإمام في الخمس للشيعة، الباب 4. 4 - الإجارة، الرشتي: 186 / سطر 1. 518 المعاملات، ومورد بعضها أيضا العقود المتقدمة على التحليل. ولكن بالرجوع إلى هذه الأخبار يعلم أن التحليل من زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنسبة إلى الشيعة، مع أنهم وجدوا بعده (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا إشعار لهذه الروايات بذلك، فضلا عن الصراحة. في عدم دلالة روايات المضاربة على المقام بقي الكلام في روايات باب المضاربة والاتجار بمال اليتيم، مع أن الربح للمالك واليتيم. وقد تقدم الحديث عنها، وقلنا بعدم دلالتها على بحث الفضولي، ولو تنزلنا فدلالتها نظير دلالة رواية مسمع أبي سيار، فلاحظ، فلا تدل على الكشف. وأما الشهرة الفتوائية على الكشف، فهي مستندة إلى هذه الوجوه، ولا حجية فيها، فلم نجد ما يدل على الكشف، لا بحسب القواعد ولا تعبدا (1).
1 - أقول: تحصل مما تقدم: أن مقتضى القواعد الكشف الحقيقي مع كون الإجازة شرطا متأخرا. وتدل على الكشف صحيحة محمد بن قيس لا تعبدا، بل تدل على أنه أمر عقلائي، ويؤيدنا ذهاب كثير من الأعاظم إليه، بحيث أسند الكشف إلى المشهور، مع ورود إشكال عقلائي على النقل كما مر، وعقلي على الانقلاب كما مر، ووعدنا التعرض للاشكال على الكشف الحكمي: أما على ما اختاره الشيخ (رحمه الله): من حكم الشارع بترتيب الآثار على الأول، مع عدم حكمه بذلك بالنسبة إلى الملك، ففيه: أولا: تفكيك الشارع بين حصول الملك وآثاره لغو محض، بل لا معنى للتعبد بالملك إلا التعبد بالآثار. وثانيا: هذا كر على ما فر منه، فإنه لو تعبد قبل الإجازة مع قطع النظر عن الإجازة، فيلزم عدم دخلها فيه، وهذا ظاهر الفساد، ومع النظر إليها يلزم محذور الشرط المتأخر، ولو تعبد بعدها بترتيب الآثار من الأول فهذا معنى الانقلاب، غاية الأمر في الآثار، لا في الملك. وأما على ما يحتمل في معناه: من تعبد الشارع بالملك من الأول في مقابل استفادة الكشف من القواعد، فهذا وإن كان سالما عن الاشكال الأول، إلا أنه مبتلى بالاشكال الثاني. اللهم إلا أن يقال: بأن التعبد بالكشف مع إمكانه في بعض صوره، وهو كون التعقب الذاتي شرطا يوجب الالتزام بذلك، ولكن قد عرفت سابقا عدم تمامية هذا النحو من الكشف أيضا، إلا أن يرجع إلى الاعتبار، ولازم اعتبار العقد المتقدم بالذات موضوعا للآثار، عدم دخل رضا المالك فيها بوجه في البيع الفضولي، واختلاف الاعتبار في الفضولي وغيره، فإن في غيره العقد والرضا موضوع بخلافه، وهذه التوالي كما ترى، مع إن إمكان الاعتبار بنحو الشرط المتأخر - على ما ذكرنا - يغني عن الالتزام بذلك الأمر الدقيق الفلسفي، فيحمل التعبد أيضا على ذلك المعنى الأوفق بنظر العقلاء. وممن وافقنا على الكشف الحقيقي بنحو الشرط المتأخر السيد الفقيه اليزدي (قدس سره) (حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 152 / سطر 15)، لكن لا على القواعد، بل على حسب الأدلة الخاصة، منها صحيحة محمد بن قيس (تقدم في الصفحة 432). المقرر دامت بركاته. 519 الثمرة بين الكشف باحتمالاته والنقل ذكر الشيخ (رحمه الله): أنه بقي الكلام في بيان الثمرة بين الكشف باحتمالاته والنقل (1). ولا بد من بيان الثمرة بين الأقوال في أربعة أقسام: 1 - الكشف الحقيقي: ومعناه حصول الملكية من حين العقد، سواء قلنا بالكشف المحض، أو شرطية التعقب الانتزاعي، أو الذاتي، أو شرطية نفس الإجازة المتأخرة، لعدم ثمرة بين هذه المباني، كما هو ظاهر. 2 - الكشف الحكمي: بمعنى انقلاب العقد من عدم كونه مؤثرا إلى كونه مؤثرا من الأول، أو انقلاب عدم الأثر إلى الأثر، ولا ثمرة بينهما، فإنه على كلا التقديرين تحصل - حال الإجازة - الملكية من الأول بعد ما لم تكن موجودة قبل الإجازة. 3 - الكشف التعبدي: بمعنى تعبد الشارع - إما حال العقد، أو بعد الإجازة - بحصول الملكية من زمان العقد، أو حصول المقدار الممكن من الآثار، كما أفاده الشيخ (رحمه الله) (2). وما هو المنتج في هذا القسم هو الأخير، فإن الأول ملحق بالكشف الحقيقي والثاني بالحكمي، فلا بد من ملاحظة دلالة الدليل، وأنه هل يتعبد بالملكية حتى يندرج الكشف التعبدي تحت الأولين، أو بالآثار الممكنة حتى تحصل الثمرة. 4 - النقل: وأما تكثير الأقسام على حسب المباني كما فعله الميرزا الرشتي (رحمه الله) (3) فقد
1 - المكاسب: 133 / سطر 29. 2 - المكاسب: 133 / سطر 8. 3 - الإجارة، الرشتي: 180 - 182. 521 عرفت أنه لا ثمرة بين الأقسام على اختلاف المباني. ثم إن الثمرة بين هذه الأقسام، من جهة جواز تصرف المشتري الأصيل في الثمن، إنما تظهر لو لم نقل بعدم الجواز حتى على النقل، من جهة شمول دليل الوفاء بالنسبة إلى المشتري الأصيل حتى قبل الإجازة، وإلا فلا تظهر ثمرة بين الأقسام من هذه الجهة، كما هو واضح، وقد مرت قوة ذلك، والآن نبحث مع قطع النظر عن هذه الجهة، ونبني على عدم تمامية العقد حتى بالنسبة إلى المشتري الأصيل قبل الإجازة. في الثمرة بين الكشف الحقيقي وغيره ثم إن الثمرة بين الكشف الحقيقي وغيره - من جهة جواز تصرف المشتري في المبيع والمالك في الثمن وعدمه قبل الإجازة - ظاهرة، فعلى الكشف الحقيقي يجوز واقعا، ولا يجوز ظاهرا إلا إذا علم بتحقق الإجازة في ما بعد، بخلاف الكشف الحكمي والنقل، وأما التعبدي فقد ذكرنا: أنه إما ملحق بالحقيقي أو الحكمي حتى على مبنى التعبد بالآثار الممكنة أيضا، كما لا يخفى. وقد ذكر الشيخ (رحمه الله) - وتبعه غيره (1) أيضا - في وجه عدم جواز التصرف ظاهرا، بناء على الكشف الحقيقي: أن الأصل عدم الإجازة (2). وهذا الاستصحاب مثبت على جميع التقادير: أما لو قلنا بالكشف المحض أو شرطية التعقب فظاهر، فإنه ليس من الآثار الشرعية لعدم الإجازة عدم حصول التعقب أو عدم تأثير العقد. وهكذا لو قلنا بالشرط المتأخر، بمعنى أن العقد مؤثر لو
1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 153 / سطر 30، حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 150 / سطر 22، منية الطالب 1: 242 / سطر 2. 2 - المكاسب: 133 / سطر 32. 522 حصل الشرط في ظرفه، فإنه لو سلم أن تأثير العقد من الآثار الشرعية للإجازة إلا أن عدم التأثير ليس من آثار عدمها، بل هذا أمر عقلي، ولذا لا نرى جريان الاستصحابات العدمية في موضوعات الأحكام، فإنها مثبتة، ويمكن أن يقال: إن وجه عدم إجراء الإمام استصحاب عدم النوم في صحيح زرارة (1)، وحكمه (عليه السلام) باستصحاب الطهارة، هو ذلك، فافهم. مع أنه يمكن منع كون تأثير العقد من الآثار الشرعية للإجازة، فإن المجعول في القضايا التعليقية لو كان ترتب المعلق على المعلق عليه كان المعلق من الآثار الشرعية للمعلق عليه، فيمكن ترتبه باستصحابه. وأما لو كان المجعول نفس التعليق والملازمة، فباستصحاب المعلق عليه لا يمكن إثبات المعلق، فإن ترتبه عليه ليس من الآثار الشرعية للمستصحب. وما هو الضابط في جريان جميع موارد الاستصحابات الموضوعية - كما تقدم سابقا - كون الاستصحاب منقحا لموضوع دليل اجتهادي، وإلا يكون مثبتا، وهذا الضابط غير موجود هنا، فلو كان المجعول نفوذ العقد على تقدير حصول الإجازة، كان للحكم بعدم النفوذ باستصحاب عدم الإجازة وجه، إلا أنه لو كان المجعول الشرعي - كما هو المقرر عند العقلاء - نفس الشرطية والسببية، لا الثبوت عند الثبوت، فلا يمكن الحكم بنفي الأثر باستصحاب عدم الإجازة إلا على الاثبات. وقد ظهر من ذلك: عدم جريان استصحاب عدم التعقب لاثبات عدم الأثر، فإن عدم الأثر عند عدم الإجازة عقلي لا شرعي. نعم، يجري الاستصحاب الحكمي وهو نفس عدم الانتقال والأثر، فالتصرف قبل الإجازة حرام ظاهرا وإن
1 - تهذيب الأحكام 1: 8 / 11، وسائل الشيعة 1: 174 - 175، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 1. 523 كان حلالا واقعا (1). ثم إنه قد مر: أن الكشف الحكمي يتصور على وجهين (2): أحدهما: أن تنقل الملكية السابقة حال الإجازة، فالاعتبار فعلي، والمعتبر سابق، نظير نقل الملكية اللاحقة فعلا. وثانيهما: أن ينقلب الشخص السابق عما هو عليه، فتنقلب اللاملكية إلى الملكية، فلو حصلت سرقة أو حصل وطء من المشتري بالنسبة إلى المبيع، انقلبت السرقة إلى عدمها والزنا إلى عدمه. فعلى الأول: الثمرة بينها وبين الكشف الحقيقي ظاهرة، كما مر. وأما على الثاني: فيشكل الأمر، فهل يحكم بمقتضى ما قبل الإجازة، فتظهر الثمرة، أو بمقتضى الانقلاب، فلا تظهر، أو يفصل بين الحدود وغيره كالعصيان
1 - أقول: لا نحتاج إلى الاستصحاب، لا في المقام حتى الحكمي من الاستصحاب، ولا في موضوعات الأحكام لاثبات عدمها، فإن إثبات كل حكم مترتب على موضوعه متوقف على إحراز ذلك الموضوع، فما لم يحرز لا يترتب عليه الحكم بلا حاجة إلى الاستصحاب، فلو قال المولى: أكرم العادل، وشككنا في كون زيد عادلا لم يجب علينا إكرامه، لعدم إحراز موضوع هذا الحكم وإن لم نعلم بالحالة السابقة فيه أيضا. وكذلك في المقام، حصول النقل والانتقال - الثابت بدليل الوفاء - موقوف على تحقق موضوعه، وهو العقد مشروطا بالإجازة بأي معنى قلنا، ولا يمكن إثبات ذلك إلا بإحراز موضوعه، فما لم يحرز لا يمكننا الحكم بحصول الملكية، وهذا المقدار كاف في الحكم بعدم جواز تصرف المشتري في المبيع والمالك في الثمن، فإن بناء العقلاء على عدم جواز التصرف ما لم يعلم بالدخول في الملك، وهذا أيضا كاف في جواز تصرف البائع في المبيع والمشتري في الثمن، لبناء العقلاء على ذلك ما لم يعلم بالخروج عن الملك، مع أنه يرد على الأستاذ (مد ظله): أن استصحاب عدم الحكم أيضا غير جار، فإن عدم الحكم لا يكون حكما شرعيا، ولا موضوعا لحكم شرعي، ولذا نحتاج إلى أصالة البراءة عند الشك في التكليف، وإلا لكان الاستصحاب حاكما عليها، كما قرر في محله. المقرر دامت بركاته. 2 - تقدم في الصفحة 521. 524 - مثلا - والحكم بأن الحدود تدرأ والعصيان محقق؟ يمكن أن يقال: إن إطلاقات جميع الأدلة منصرفة عن مثل ذلك، فآية السرقة (1)، منصرفة عن السرقة المنقلبة إلى عدمها، وإطلاق حرمة التصرف في مال الغير، منصرف عن التصرف في مال الغير الذي ينقلب إلى مال نفس المتصرف... وهكذا، كما أنه يمكن منع الانصراف، وكما يمكن القول: بأن مثل هذه الشبهة موجبة لسقوط الحد، فإنه يدرأ بالشبهات، بخلاف غيره، فيؤخذ بإطلاق دليله، والمسألة مشكلة، والذي يسهل الخطب فساد أصل المبنى. وهكذا في الكشف التعبدي لو بنينا على أنه يستفاد من دليله التعبد بالانقلاب، وأما لو قلنا باستفادة اعتبار الملكية السابقة بالفعل، أو التعبد بالآثار من الأول، فيدخل هذا القسم من الكشف في الأولين على ما مر. فتحصل: أنه بناء على الكشف الحقيقي، يجوز تصرف المشتري في المبيع والبائع في الثمن، سواء قلنا باشتراط نفس الإجازة بنحو الشرط المتأخر، أو المتعقب بها الحاصل حال العقد. وعلى الكشف الحكمي لا يجوز التصرف قبل الإجازة - على الوجه الأول منه - سواء قلنا باشتراط نفس الإجازة أو التعقب، بناء على أن ترتيب الآثار لا يمكن قبل حصولها أو التعقب بها، والتعقب أيضا لا يحصل إلا بعد حصولها. وأما على الوجه الثاني فيشكل الأمر. وعلى الكشف التعبدي، فعلى القول بأن التعبد من الأول يجوز كالحقيقي، وإلا فلا كالحكمي. وأما على النقل فعدم الجواز ظاهر.
1 - المائدة 5: 38. 525 رفع التناقض في كلام الشيخ ذكر الشيخ (رحمه الله) - في ضمن عدة أسطر - هنا ما ظاهره المناقضة. وقد أشكل عليه بعض المحشين (1) أيضا، لكن يمكن دفعه بالقول: بأن مراده من كون نفس الإجازة شرطا، الكشف الحكمي بالمعنى الذي ذكرناه، أي ما ذكره في الكشف الحقيقي، ومن كون الشرط تعقب العقد بها الكشف الحقيقي، وما ذكره بعد ذلك بقوله: مع كون نفس الإجازة شرطا قيد للحكمي، كما هو ظاهر عبارته، ومعناه الكشف التعبدي، أي تعبد الشارع بترتيب الآثار من الأول حال الإجازة، فينطبق كلامه على ما ذكرنا، وترتفع المناقضة المتوهمة. في ثمرة على الكشف الحقيقي والتعبدي والحكمي ثم ذكر في ذيل كلامه: لو نقل أم الولد عن ملكه... (2). ونقول: لو قلنا بأن مثل هذا التصرف - وهو النقل - محكوم بحكم الرد، من هادميته للعقد بناء على ذلك في الرد - كما هو المسلم بينهم - فلا موضوع للإجازة على جميع التقادير. ولو قلنا بأنه لا يهدم العقد، ومحل الإجازة باق، فعلى الكشف الحقيقي والتعبدي من الأول يصح العقد الأول، ويكشف عن بطلان النقل الثاني، وهذا ظاهر. وعلى الكشف التعبدي من حين الإجازة والكشف الحكمي، فقد ذكر: أن مقتضى الجمع بين عموم الوفاء بالعقد الثاني والتعبد هو الرجوع بالقيمة، ولكنه أيضا لا يتم، فإن التعبد ليس في عرض العموم حتى يجمع بينهما، بل التعبد سابق عليه
1 - المكاسب: 133 / سطر 31، حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 150 / سطر 26. 2 - المكاسب: 133 / سطر 34. 526 ورافع لموضوعه، فمعنى حكم الشارع بلزوم ترتيب الآثار من الأول الحكم بوقوع العقد في ملك المشتري، فيبطل النقل، فمن هذه الجهة لا ثمرة بين الأقوال على مبنى الهادمية وعدمها. كلام للسيد في المقام ومناقشته وذكر المرحوم السيد (رحمه الله) في المقام: أن العقد الثاني - بناء على الكشف الحكمي ونظيره من التعبدي - قد صدر من أهله، ووقع في محله، فيشمله عموم دليل الوفاء (1)، فينتفي موضوع الإجازة، لصيرورة المالك بسبب العقد الثاني أجنبيا عن العقد الأول حال الإجازة، فلا مورد للإجازة (2)، ولكن لا يتم ما ذكره (رحمه الله)، فإن شمول دليل الوفاء للعقد الثاني لانفاذه حتى بعد الإجازة، موقوف على كون المالك أجنبيا عن العقد الأول، وإلا فلا يمكنه الانفاذ حينئذ، والمفروض توقف كونه أجنبيا على شمول الدليل، فنتيجة الشمول دور، فدليل الوفاء لا يشمل العقد الثاني بالنسبة إلى ما بعد الإجازة. ولكن يمكن أن يقال: شمول دليل الوفاء للعقد الأول أيضا دوري، لأنه موقوف على عدم كونه أجنبيا، وهو موقوف على عدم شمول دليل الوفاء للعقد الثاني بالنسبة إلى ما بعد الإجازة، وهو متوقف على حكومة دليل الوفاء بالعقد الأول عليه، وهذا دور. فالنتيجة: عدم إمكان ترتيب آثار العقد الأول بعد الإجازة، وكذا العقد الثاني، فالشئ بعد باق على ملك مالكه، وله حينئذ أن يجيز العقد الأول ثانيا، وكذا العقد الثاني، فليتدبر.
1 - المائدة 5: 1. 2 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 153 / سطر 15 - 28 و: 154 / سطر 5 - 6. 527 الثمرات المذكورة بين الكشف والنقل ثم ذكر الثمرة بين الكشف الحقيقي بأقسامه والنقل في النماءات (1)، وهذه ظاهرة لا نطيل الكلام بذكرها. وأما سائر الثمرات بينهما، فذكر الشيخ (رحمه الله): في فسخ الأصيل قبل إجازة الآخر على النقل والكشف منها: أن فسخ الأصيل لانشائه قبل إجازة الآخر، مبطل له على القول بالنقل، دون الكشف (2). أما في الأول فللمتسالم عليه: من جواز إبطال أحد المتعاقدين لانشائه قبل إنشاء صاحبه، وأما في الثاني فلتمامية العقد من قبل الأصيل. ثم ذكر في آخر كلامه: أن إطلاقات صحة العقود، تدفع احتمال اشتراط عدم تخلل الفسخ على القول بالنقل أيضا، ثم ذكر: ولا يخلو عن إشكال (3). فعلى ما ذكره لا ثمرة بينهما من جهة فسخ الأصيل، فإنه لا يؤثر على الكشف والنقل، لتمامية العقد من قبل الأصيل في الأول، وإطلاقات صحة العقود في الثاني، ولا يمكننا إحراز بناء العقلاء في هذه المسألة، لعدم تعارفها بينهم حتى نرى سيرتهم فيها، فلا بد لنا من ملاحظة العمومات والاطلاقات. والصحيح عدم الثمرة بينهما من هذه الجهة وتأثير الفسخ على كلا القولين: أما على النقل: فلأن المفروض عدم تمامية موضوع وجوب الوفاء، والحلية
1 - المكاسب: 134 / سطر 4. 2 - المكاسب: 134 / سطر 6. 3 - المكاسب: 134 / سطر 10. 528 وجواز الأكل قبل الإجازة، فإنه قد مر أن حقيقة العقد والبيع والتجارة بمعناها الانشائي أمر، وموضوع الأدلة أمر آخر، وأن حقيقة هذه الأمور نفس الايجاب فقط، لكن موضوع ترتب الأثر هو العقد الذي له نحو ارتباط بالمالكين، وهذا المعنى لا يحصل إلا بعد الإجازة، فقبل الإجازة لا موضوع لهذه الأدلة حتى يتمسك بها لدفع احتمال جواز الفسخ، مع أن الوفاء بالعقد في دليل الوفاء، معناه العمل بمضمون العقد، فمفاد (أوفوا بالعقود) (1) لزوم العمل بالمضمون، نظير (وليوفوا نذورهم) (2) وليس معناه عدم جواز فسخ العقد، فمتى كان العقد باقيا يجب الوفاء به، فلو شككنا في أن الفسخ هادم للعقد أو لا، لم يمكننا التمسك بدليل الوفاء لاثبات عدم الهدم، فإنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. ومن هنا ظهر: أنه لا يمكن التمسك بالاطلاقات لدفع احتمال جواز فسخ الأصيل قبل إجازة المالك حتى بعد الإجازة، فإن اعتبار عدم الفسخ يغاير اعتبار سائر الأجزاء والشرائط، فإن الفسخ لو اعتبر يصير هادما للعقد، فإذن نحن في شك من وجود عقد تلحقه الإجازة، حتى يتمسك بالاطلاقات لاحتمال هدم العقد السابق بفسخ الأصيل، ومعه تكون الشبهة شبهة مصداقية للاطلاقات. إن قلت: يمكننا استصحاب بقاء العنوان والعقد بعد الفسخ، وبضميمة الإجازة يلتئم الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل، فيحصل التأثير. قلت: هذا لو لم نقل بأن موضوع الأدلة هو العقد المشروط بالإجازة، لا العقد والإجازة، وإلا يكون الاستصحاب مثبتا، كما لا يخفى. ولعل لهذه الجهات ذكر الشيخ (رحمه الله) في ذيل كلامه: بأنه لا يخلو عن إشكال. ويمكن أن يقال: إن الموضوع ليس بمركب ولا مقيد، بل إنه العقد فقط إذا
1 - المائدة 5: 1. 2 - الحج 22: 29. 529 كان مرتبطا بمالكه، من دون أن يكون لوصف الارتباط دخل في الموضوع شرطا ولا شطرا، نظير الظرفية والقضية الحينية، وعليه يجري الاستصحاب ويحصل الارتباط بالوجدان. وبعبارة أخرى: بقاء العقد إلى زمان الإجازة كاف في التأثير، فإن العقد حينئذ مرتبط بالمالك بالوجدان، فافهم فإنه لا يخلو عن دقة. وأما على الكشف، فعلى الحكمي منه - وما هو بمنزلته من التعبدي - فالكلام هو الكلام السابق، فإنه قبل الإجازة لا موضوع للأدلة، حتى يحكم بعدم جواز الفسخ وبعد الفسخ والإجازة الشك راجع إلى الشك في الموضوع. وأما على الحقيقي - ونظيره من التعبدي - فلا إشكال في دخل الإجازة في التأثير في هذا القول أيضا، غاية الأمر على نحو الشرط المتأخر، ولا يحتمل الكشف المحض وعدم دخالة الإجازة أبدا. وحينئذ إما أن يقال باعتبار بقاء العقد إلى حال الإجازة حتى يؤثر من الأول، أو يقال بكفاية حدوث العقد في التأثير ولو لم يكن باقيا حال الإجازة، ولا يخفى ترجيح الأول، لأنه لا بد من تعلق الإجازة بالعقد، فمع هدم العقد لا يبقى مورد للإجازة، وعليه فلو شككنا في هادمية الفسخ لا يمكننا التمسك بالاطلاقات لاثبات التأثير، ومع التنزل والشك في أن موضوع الأدلة هو العقد الباقي أو الحادث، تكون الشبهة مصداقية أيضا، لعدم ظهور للدليل في العقد الحادث. في تصرف الأصيل قبل الإجازة ومنها: جواز تصرف الأصيل فيما انتقل عنه - بناء على النقل - وإن قلنا بأن فسخه غير مبطل لانشائه، فإن الإجازة على القول بالنقل لها مدخل في العقد شرطا أو شطرا، فما لم يتحقق الشرط أو الجزء لم يجب الوفاء على أحد المتعاقدين، لأن
530 المأمور بالوفاء هو العقد المقيد الذي لا يوجد إلا بعد القيد. وأما على القول بالكشف، فمقتضى عموم وجوب الوفاء بالعقد وجوبه على الأصيل، على المشهور في معنى الكشف: من كون نفس الإجازة المتأخرة شرطا لكون العقد السابق بنفسه مؤثرا تاما، فإن مبنى هذا الكشف كون ما يجب الوفاء به هو العقد من دون ضميمة شئ شرطا أو شطرا، وهذا بخلاف ما ذكره صاحب الفصول: من كون العقد مشروطا بتعقبه بالإجازة (1). ثم ذكر في ذيل كلامه: أنه لا يلزم - على ما ذكرناه في الكشف الحقيقي - جواز تصرف الأصيل فيما انتقل إليه، لأن دليل وجوب الوفاء متكفل بوجوب الالتزام بما التزم على نفسه من المبادلة، وهو عدم تصرفه فيما انتقل عنه، دون وقوع المبادلة تامة، بحيث يجوز تصرفه فيما انتقل إليه، فإنه مما جعله لنفسه لا عليه، وعدم تصرفه فيه لا يعد نقضا لما التزمه (2). هذا محصل كلامه (رحمه الله) في هذا المقام. ولا يتم شئ مما ذكره: أما ما ذكره في الفرق بين الفسخ القولي والتصرف العملي، فلم يظهر له وجه، لأنه لو أمكننا التمسك بالعمومات قبل الإجازة، بالنسبة إلى الأصيل لدفع احتمال تأثير فسخه العقد، أمكننا التمسك بها لدفع احتمال جواز التصرف، وإلا فلا في الموردين، فلا فرق بينهما من هذه الجهة (3). وأما ما ذكره في الكشف الحقيقي، فعبارته تحكي عن أمرين متناقضين:
1 - الفصول الغروية: 80 / سطر 36. 2 - المكاسب: 134 / سطر 11 - 32. 3 - يمكن أن يقال بالفرق بينهما بتقريب: أنه بعد الإجازة - والفسخ قبلها - يتمسك بالعموم لدفع احتمال تأثير الفسخ، ولكن التصرف إنما هو قبل الإجازة، فيجوز على النقل. ولعله ظاهر، ولكن المبنى في إمكان التمسك بالعموم حتى بعد الإجازة فاسد، كما مر منه - مد ظله -. المقرر دامت بركاته. 531 دخل الإجازة شرطا أو شطرا، وعدم دخلها، وكيف يمكن تصوير أنه لا دخل للإجازة في العقد بناء على هذا القول؟! ثم لو قلنا بعدم الدخل فالفرق بين ما انتقل عنه وما انتقل إليه لا يتم. والصحيح ما مر في الفسخ، وأنه يجوز التصرف على النقل والكشف الحكمي ونظيره من التعبدي، لعدم تمامية موضوع الوفاء، كما لا يخفى. وأما على الكشف الحقيقي ونظيره من التعبدي، فيفرق بين ما يعد هادما للعقد وعدمه، بالجواز في الأول، لما مر في الفسخ، وعدمه في الثاني في صورة العلم بحصول الإجازة في ظرفه، وفي صورة الجهل يجوز ظاهرا لا واقعا، والوجه ظاهر. وقد ظهر عدم تمامية ما في القواعد (1) وكشف اللثام (2) الذي ذكره الشيخ (رحمه الله) في المقام (3)، فلاحظ. ثم إنه يرد على ما ذكره الشيخ أخيرا - من التفكيك بين عدم جواز التصرف في ما انتقل عنه وجواز التصرف فيما انتقل إليه -: أن الأصيل لم يلتزم إلا بالمبادلة، فلو وقعت جاز له التصرف فيما انتقل إليه، وإلا فيجوز له التصرف فيما انتقل عنه. والحاصل: أنه لم يحصل منه الالتزام مطلقا، حتى يقال بلزوم الوفاء عليه بدليل الوفاء بالعقود والشروط، بناء على شموله للالتزامات الابتدائية، لعدم حصول الالتزام في الالتزام على الفرض، بل الحاصل منه الالتزام المقيد في ضمن التزام آخر، فلو قلنا بعدم حصول القيد - وهو دخول ما انتقل إليه في ملكه - لم يجب الوفاء حينئذ لعدم موضوعه، كما لا يخفى.
1 - قواعد الأحكام 2: 7 / سطر 19. 2 - كشف اللثام 2: 23 / سطر 20. 3 - المكاسب: 135 / سطر 102. 532 في انسلاخ قابلية الملك عن أحد المتبايعين قبل إجازة الآخر ومنها: ما لو انسلخت قابلية الملك عن أحد المتبايعين بموته قبل إجازة الآخر، أو بعروض كفر مع كون المبيع عبدا مسلما أو مصحفا، فيصح حينئذ على الكشف دون النقل، وكذا لو انسلخت قابلية المنقول، وفي مقابله ما لو تجددت القابلية قبل الإجازة بعد انعدامها حال العقد، وفيما قارن العقد فقد الشروط ثم حصلت (1)... إلى آخره. فلا بد من التكلم في ذلك في ضمن مسائل: الأولى: مسألة عروض الكفر بعد العقد وقبل الإجازة، فهل يحكم ببطلان العقد على الكشف والنقل، كما يظهر من صاحب الجواهر (2)، بدعوى ظهور الأدلة في استمرار القابلية من حين العقد إلى زمان الإجازة حتى على الكشف، أو يحكم بالصحة على الكشف، والبطلان على النقل، كما يظهر من كلام الشيخ (رحمه الله) (3)؟ فتظهر الثمرة حينئذ: فلو قلنا بأن الفضولي على خلاف القواعد، وأثبتنا صحة العقد الفضولي بالأدلة الخاصة، فلا بد من الالتزام بما ذهب إليه صاحب الجواهر: من الحكم ببطلان العقد على الكشف والنقل، فإنه لا إطلاق للأدلة الخاصة - مثل حديث عروة، وصحيحة محمد بن قيس، وغيرهما مما مر (4) - حتى يتمسك به لدفع احتمال اعتبار استمرار قابلية المتبايعين - من زمان العقد إلى حين الإجازة - في صحة العقد، وعليه لا دليل على صحة العقد المفروض، والأصل عدم حصول الانتقال.
1 - المكاسب: 135 / سطر 8. 2 - جواهر الكلام 22: 291 / سطر 2 - 8. 3 - المكاسب: 135 / سطر 9. 4 - تقدم في الصفحة 429 - 433. 533 ولو قلنا بأنه موافق للقاعدة، وقلنا بالكشف، وأنه على القواعد أيضا نتمسك بإطلاق الأدلة العامة لدفع اعتبار الاستمرار المذكور، فيحكم بالصحة، ولا وجه لما ذكره صاحب الجواهر: من أن ظاهر الأدلة اعتبار الاستمرار، فإن دليل الشرطية لا يدل على أزيد من عدم إمكان ملكية الكافر للمسلم والمصحف، وعمومات الوفاء تدلنا على لزومه في مورد الشك، فمع كون زمان الملكية حال العقد - الذي هو حال إسلامهما - يجب الوفاء، لشمول الأدلة العامة وعدم شمول دليل الشرطية له. ولو قلنا بالنقل، فلا بد من إسلام من انتقل إليه العبد المسلم أو المصحف حال الإجازة، فإنه زمان حصول الملك، فمع عروض الكفر بعد العقد وقبل الإجازة لا يمكن تنفيذ العقد بالإجازة، فتظهر الثمرة بين الكشف والنقل من هذه الجهة. بقي الكلام فيما لو قلنا بالكشف التعبدي على خلاف ما تقتضيه القواعد - وهو النقل - فلو شككنا في شمول دليل الكشف للمورد، واحتملنا اعتبار الاستمرار في الكشف، فلا يمكننا الحكم بالكشف التعبدي حينئذ، لعدم إطلاق لأدلته، فلا بد من الالتزام بالنقل، والمفروض أن النقل غير ممكن، لمنافاته لاعتبار الإسلام في من انتقل إليه المسلم والمصحف، فنحكم ببطلان العقد حينئذ لقصور دليل الكشف وعدم إمكان النقل. ولو بنينا على الكشف، وسلمنا إطلاق دليل التعبد به، لكن شككنا في اعتبار الاستمرار في صحة العقد وعدمه، فنتمسك بالاطلاقات الأولية لدفع احتمال الاعتبار، ونحكم بالصحة. لا يقال: المفروض الجري على خلاف ما تقتضيه الاطلاقات، وهو النقل، والحكم بالكشف تعبدا، فكيف يتمسك بها لدفع احتمال ما شك في صحة العقد؟ لأنا نقول: مقتضى القاعدة هو النقل وعدم اعتبار ما شك في دخله في الصحة، خرجنا عن القاعدة من حيث الحكم بالنقل تعبدا، ولا ينافي ذلك إمكان
534 التمسك بها من سائر الحيثيات، كدفع ما شك في اعتباره في الصحة، وهو استمرار القابلية في المقام. فتحصل: أنه على الكشف الحقيقي والتعبدي يحكم بصحة العقد المفروض وعلى النقل يحكم بالبطلان (1). الثانية: مسألة موت أحد المتبايعين قبل إجازة الآخر، فهل يحكم بالصحة على القولين، أو البطلان عليهما، أو الصحة على الكشف دون النقل؟ فلو قلنا: بأن العقد تبادل الإضافتين نظير الخلع واللبس، كما ذكره بعضهم (2)، فلا بد من الحكم بالصحة على الكشف والبطلان على النقل، لامكان التبادل المذكور على الأول، دون الثاني، لقطع إضافة أحدهما بالموت. ولو قلنا: بأنه المبادلة بين المالين محضا، بلا نظر إلى أية إضافة، فنتيجة ذلك الصحة على القولين. ولو قلنا: بأنه المبادلة بين المالين في الملكية، لا بمعنى تبادل الإضافتين، فإنه لا يعقل: أولا للزوم الإضافة بلا طرف حال العقد، كما مر بيانه، وعدم تصور ذلك - ثانيا - في بيع الأوقاف العامة والأخماس والزكوات والكليات كما سبق، بل بمعنى أن البيع ما ذكر، بحيث ينشئ البائع تمليك المشتري في مقابل الثمن، فتحصل المبادلة بين المالين في الملكية، أي يملك البائع الثمن والمشتري المثمن، فلا بد من الحكم بالبطلان على النقل، دون الكشف، لأن العقد كان متكفلا بتمليك المتبايعين وتملكهما، والمفروض موت أحدهما، فعلى الكشف بالإجازة يكشف عن الانتقال والمبادلة في ملكهما، وبموت أحدهما ينتقل ما انتقل إليه إلى وارثه.
1 - ولا يخفى أنه على الكشف الحكمي أيضا لا بد من الحكم بالبطلان، فإن زمان الملكية حال الإجازة، غاية الأمر ينتقل إليه فعلا من الأول، فتدبر جيدا. المقرر دامت بركاته. 2 - منية الطالب 1: 111 / سطر 13 - 14. 535 وأما على النقل فلا يمكن ذلك، لأن إجازة الآخر لا تملك الميت، والوارث لم يقع له العقد. وبالجملة: على هذا القول، العقد الواقع ليس إلا تمليك من مات بعد العقد بالعوض، وهذا غير قابل للإجازة، وما هو قابل للإجازة هو تمليك الوارث، ولم يقع لذلك عقد، نظير بيع الغاصب لنفسه، فلا بد من الحكم ببطلان العقد حينئذ، فتظهر الثمرة على هذا المبنى. لكن الانصاف: أن هذا المقدار أيضا لا يعتبر في البيع، فلو اشترى الأصيل من الفضولي ثم مات، يرى العرف وقوع البيع على مال الوارث، لكنه يحتاج إلى إجازته، كما يحتاج إلى إجازة مالك المبيع، فهذه المعاملة قابلة للتصحيح، وتقع للوارث. هذا على النقل. وأما على الكشف، فتقع للمورث، وينتقل إلى الوارث بالإرث، فلا تظهر ثمرة على هذا المبنى، فنحكم بالصحة على كلا القولين. نعم، لو قلنا باعتبار استمرار القابلية حتى على الكشف - كما ذكره صاحب الجواهر (قدس سره) (1) - فلا بد من الحكم بالبطلان على القولين، فلا تظهر الثمرة، لكنه قد عرفت الكلام في ذلك في المسألة السابقة. وهنا شبهة: وهي أن الكشف لو قلنا به على خلاف القواعد وبالتعبد، وحيث لا إطلاق لأدلة التعبد بالكشف، لورودها في موارد خاصة وعدم إمكان إسراء الحكم منها إلى غيرها إلا قياسا، كصحيحة الحذاء الواردة في خصوص النكاح (2)، وغيرها الوارد في بيان قضية في واقعة، فلا يمكننا دفع شئ مما احتملنا دخله في الكشف، ونحتمل دخل استمرار القابلية في التعبد، فيسقط دليل الكشف، ومقتضى القواعد
1 - تقدم تخريجه في الصفحة 533. 2 - تقدم في الصفحة 434. 536 النقل، والمفروض عدم إمكان النقل إلى الميت، فمع إجازة الوارث يصح لكن نقلا، وإلا يبطل العقد، وهكذا في المسألة الأولى لا بد من الالتزام بالنقل. وعلى هذه الشبهة لا بد من الحكم بالبطلان في المسألة الثالثة - التي تأتي بعد سطور - لسقوط دليل الكشف وعدم إمكان النقل. وفي مسألة الموت توجد شبهة ليست في غيرها: وهي أنه يحتمل على الكشف، اعتبار حصول المعاقدة وتصفيق اليد في الحكم بالنفوذ من الأول، لا العقد الحاصل بين الفضولي والأصيل مع لحوق الإجازة، ولا معاقدة بين الحي والميت، فلا يمكن التمسك بدليل الكشف حينئذ، ولا بد من التماس الأدلة العامة، فتدبر جيدا. الثالثة: مسألة تجدد القابلية قبل الإجازة مع عدم وجودها حال العقد، أو حصول شروط العقد حينئذ مع عدم وجودها حاله. وقد ظهر الحكم فيها على اختلاف المباني مما تقدم، فإنه بناء على أن الفضولي على خلاف القواعد، لا يمكن الحكم بصحة هذا العقد على القولين، لعدم إطلاق للأدلة الخاصة الدالة على صحة الفضولي يشمل ذلك. وبناء على أنه على القواعد فلو قلنا بالكشف لا يمكن تصحيحه أيضا، سواء قلنا بأنه أيضا على القواعد أو بالتعبد، فإن الانتقال من رأس غير ممكن، لعدم القابلية حال العقد. نعم، لو قلنا بالنقل حكمنا بصحة العقد، واحتمال استمرار القابلية من حين العقد إلى حال الإجازة، مدفوع بالاطلاقات كما مر. وأيضا لو بنينا على الكشف التعبدي من الأول، وشككنا في أن التعبد بالكشف يشمل المقام أولا، ولم يكن لدليل التعبد إطلاق، نحكم بالصحة والنقل من جهة الاطلاقات، بخلاف ما لو أحرزنا شمول التعبد بالكشف للمقام، بمعنى أن النقل وإن كان مقتضى القواعد، إلا أنه ملغى بنظر الشارع، والفضولي لا يصح إلا كشفا بالتعبد، فلا بد من الحكم بالبطلان في المقام، لعدم إمكان الكشف وإلغاء دليل النقل.
537 وأما على الكشف الحكمي ونظيره من التعبدي - بناء على شمول دليل التعبد للمقام - فتكون النتيجة كالقول بالكشف الحقيقي ونظيره من التعبدي، فإن الانقلاب أو الاعتبار من رأس مستلزم لذلك، كما لا يخفى (1). وقد ظهر مما مر حكم انسلاخ قابلية المنقول أو تجددها بين العقد والإجازة، فعلى القول بأن الفضولي على خلاف القواعد تبطل المعاملة على القولين، وإلا فعلى الكشف الحقيقي تصح في الأول دون الثاني، وعلى النقل بالعكس، وحيث لا إطلاق لدليل الكشف التعبدي لا يمكننا القول به، لاحتمال دخل الاستمرار في هذا التعبد، فلا بد من الالتزام بما يقتضيه النقل من الحكم بالبطلان في الأول دون الثاني. وأما على الكشف الحكمي يحكم بالصحة في الأول إلا أن يكون تعبديا، وإلا يبطل، ويحكم بالبطلان على الثاني إلا أن يكون تعبديا، وإلا يصح لما تقتضيه القواعد، ولو تخللت القابلية بين العقد والإجازة، أو تخلل عدمها بينهما، فيحكم بالبطلان على جميع التقادير في الأول، والصحة على جميع التقادير في الثاني، وهذا ظاهر. في تلف أحد العوضين بعد العقد وقبل الإجازة ومن جملة ما ذكره المصنف في المقام لموارد ظهور الثمرة: ما إذا تلف أحد العوضين بعد العقد وقبل الإجازة، فإنه يصح العقد على الكشف دون النقل (2). ولكن اعترض المحقق النائيني (رحمه الله) عليه: بأنه حيث إن تلف المبيع قبل قبضه من مال بائعه، فلا بد من الحكم بالبطلان حينئذ حتى على الكشف، فلا تظهر الثمرة (3).
1 - إن ما قررناه في المسائل الثلاثة وإن استفدناه في الدرس إلا أنه - مد ظله - تعرض لها بالاختصار لا بهذا التفصيل، والتقريب بهذا التفصيل منا. المقرر حفظه الله. 2 - المكاسب: 135 / سطر 9. 3 - منية الطالب 1: 250 / سطر 22. 538 وفيه أولا: أن الكلام في الأعم من تلف المبيع، فلو تلف الثمن بعد العقد وقبل الإجازة تظهر الثمرة. وثانيا: إنه يكفي في القبض حصول المبيع في يد البائع حتى قبل العقد، ولا يلزم فيه إنشاء أو قصد أو إحداث، وعليه يمكن فرض تلف المبيع بعد العقد والقبض وقبل الإجازة (1). ذكر الشيخ (رحمه الله) - كما حكينا سابقا -: وكذا فيما لو قارن العقد فقد الشرط (2)، ومثل المرحوم النائيني (رحمه الله) لذلك بالبلوغ (3)، مع أنه من شرائط المتعاقدين، ولا يمكن فرض انسلاخ القابلية أو تجددها في شرائط العقد، إلا في تبدل الرأي بناء على الاجزاء مطلقا على المشهور (4)، أو في خصوص الأصول العملية، كما قويناه (5)، فلو رأى كفاية الانشاء بالصيغة الفارسية، وأنشأ كذلك، ثم تبدل رأيه ثم أجاز المالك، فعلى الكشف يصح، وإلا يبطل، ووجهه ظاهر. وقد ذكر المصنف (رحمه الله) عدة من الموارد لظهور الثمرة (6)، بعضها ظاهر، وبعضها سيجئ الكلام فيه - إن شاء الله - فلا نطيل.
1 - الظاهر عدم الحاجة إلى ذلك، بل ما ذكره النائيني (رحمه الله) في المقام لا يرجع إلى محصل، فإن الغاصب للمال يعامل كسائر الناس ويقبض ما باعه ويقبض ثمنه، فكيف يدعي أن التلف قبل القبض؟! ولو قيل بأن القبض لا يتم إلا بإجازة المالك فيجئ فيه الكشف والنقل أيضا، فعلى الكشف يكون التلف بعد القبض فيصح، وعلى النقل يكون التلف قبل القبض فيبطل العقد، فقد ظهرت الثمرة. نعم، لا يرى هو (قدس سره) الفضولية في القبض كما مر، ولكن قد مر ما فيه أيضا، فراجع. المقرر حفظه الله. 2 - المكاسب: 135 / سطر 17. 3 - منية الطالب 1: 251 / سطر 3 - 4. 4 - أنظر قوانين الأصول: 131 / سطر 23، الفصول الغروية: 116 / سطر 22. 5 - مناهج الوصول 1: 315 - 317. 6 - المكاسب: 135 / سطر 18. 539 تنبيهات بيع الفضولي وينبغي التنبيه على أمور: التنبيه الأول في قصد المجيز الامضاء من حين الإجازة أو العقد على الكشف أو النقل ذكر الشيخ (رحمه الله): أنه لو قصد المجيز الامضاء من حين الإجازة على القول بالكشف، أو الامضاء من حين العقد على القول بالنقل، ففي صحتها وجهان (1). انتهى. فلا بد في هذه المسألة من ملاحظة المباني في القولين: فلو قلنا بالكشف الحقيقي مع كون ملاحظة المتأخر شرطا، كما ذهب إليه المرحوم صاحب
1 - المكاسب: 135 / سطر 21. 541 الكفاية (قدس سره) (1)، أو قلنا بأن الحصة المضافة إلى المتأخر مؤثرة، كما ذهب إليه المرحوم المحقق ضياء العراقي (قدس سره) (2)، أو قلنا بأن العقد المتعقب بالإجازة مؤثر، كما ذهب إليه صاحب الفصول (قدس سره) (3)، أو قلنا بأن نفس الأمر المتأخر شرط، كما يظهر من بعض تعبيرات صاحب الجواهر (قدس سره) (4)، أو قلنا بأن الرضا التقديري المقارن للعقد شرط، كما يظهر من المرحوم الميرزا الرشتي (5)، أو قلنا بأن العقد بواقع التقدم مؤثر، فعلى جميع هذه المباني لا بد من تعلق الإجازة بنفس العقد إنشاء أو منشأ، حتى يحكم بتأثيره، وإلا فمع عدم تعلقها به لا دليل على نفوذه حتى يبحث عن الكشف والنقل. وبعبارة أخرى: الكشفي يقول بأن موضوع أدلة النفوذ هو العقد المتعقب أو المقارن للشرط، كل على مبناه، وعلى جميع المباني لا بد من تعلق الإجازة والرضا بنفس العقد، فمع عدم التعلق - كما في المقام - لا موضوع لأدلة النفوذ، فيبطل على جميع التقادير. وبعبارة ثالثة: حاصل ما يقول به القائل بالكشف: أنه لو صح العقد لا بد من الحكم بنفوذه من الأول لاقتضاء أدلة النفوذ ذلك، وإلا فلا بد من الحكم بالبطلان لعدم الدليل على النفوذ، ومقامنا كذلك كما ذكرنا. وهكذا لو قلنا بالكشف الحكمي، فالقائل به مدع بأن مقتضى القواعد
1 - تقدم في الصفحة 487، كفاية الأصول: 118 - 119. 2 - تقدم في الصفحة 484 - 485، نهاية الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) البروجردي 1: 279 - 280، وبدايع الأفكار (تقريرات المحقق العراقي) الآملي 1: 320 - 321. 3 - الفصول الغروية: 80 / سطر 36. 4 - أنظر جواهر الكلام 22: 290 / سطر 8. 5 - الإجارة، الرشتي: 184 / سطر 13. 542 ذلك، فلو تعلقت الإجازة بخلاف العقد وما يقتضيه، قيدا كما قيل، أو إطلاقا كما لا يبعد (1) وهو النقل من حين العقد فلا مجال للقول بالكشف الحكمي، فلا تشمل القواعد ذلك، فلا بد من الحكم بالبطلان على هذا المبنى أيضا. وأما لو قلنا بالكشف التعبدي، فلا يمكننا القول به، لعدم شمول إطلاق التعبد لمثل ذلك، لعدم الاطلاق أولا، وعدم الموضوع ثانيا، فإن مصب الدليل إنما هو الإجازة المتعلقة بالعقد، لا كل إجازة كما لا يخفى. وأما صحته نقلا - كما هي مقتضى القواعد على هذا المبنى - فيمكن منعها أيضا، فإن ما تقتضيه القواعد هو الحكم بنفوذ العقد من حين الإجازة فيما لو تعلقت الإجازة بما هو مقتضى العقد، وهو المبادلة مطلقا، لا النقل من حين الإجازة، فلو أجاز العقد من حينها فلا يمكننا تصحيح العقد بالقواعد أيضا فيبطل، فتأمل. وأما لو قلنا بالنقل، وأجاز المجيز العقد من الأول، فصورة تعدد المطلوب خارجة عن محل البحث، والحكم فيها الصحة نقلا كما هو مقتضى القواعد، ومحل الكلام صورة وحدة المطلوب، ومعها لم تتعلق الإجازة بما يقتضيه العقد، وهو المبادلة مطلقا، غير مقيدة بكونها من الأول، فلا مصحح لمثل هذا العقد كما مر. فالحكم البطلان في جميع ما هو محل النزاع في هذه المسألة. كلام للمحقق النائيني في المقام ومناقشته بنى المحقق النائيني (رحمه الله) على الصحة وعدمها في المسألة، على القول بأن
1 - أقول: هذا يؤيد ما مر منا من الاشكال على القول بالنقل: وهو أن إطلاق العقد يقتضي تأثيره من حينه، والإجازة إنما تعلقت به، فما معنى القول بتأثيره من حين الإجازة؟! معناه: أن العقد يعمل على خلاف ما يقتضيه ولو بإطلاقه. المقرر دامت بركاته. 543 الشرط الفاسد مفسد أو لا (1)، فإن الإجازة متعلقة بالعقد، وعلى الكشف شرط شرط فاسد، وهو تأثيره من حال الإجازة، وعلى النقل شرط شرط فاسد، وهو تأثيره من حال العقد. وأنت خبير بما فيه، من خروجه عن محل البحث، فإن المفروض عدم تعلق الإجازة بالعقد وما يقتضيه على القولين، لا أنها تعلقت به والشرط أمر زائد عليه، كما لا يخفى.
1 - منية الطالب 1: 252 / سطر 19. 544 التنبيه الثاني في اعتبار الانشاء في الإجازة هل يشترط في الإجازة الانشاء، حتى يبحث عن اعتبار اللفظ وعدمه فيه، واعتبار الصراحة وعدمها في اللفظ، أو لا؟ وعلى هذا هل يعتبر إبراز الرضا في صحة العقد، أو يكفي مجرد الرضا الباطني فيها؟ قد مر سابقا البحث عن جميع ذلك مستقصى، وقلنا: بأن مقتضى القواعد لزوم الوفاء بالعقد المرتبط بالمالك نحو ارتباط، كصدوره منه، أو مسبوقا برضاه، أو مقارنا له، أو متأخرا عنه، ولا دليل على اعتبار الابراز، فضلا عن الانشاء، فضلا عن اعتبار اللفظ في الانشاء، فضلا عن اعتبار الصراحة في اللفظ (1). وفي بعض ما استدل به على نفوذ العقد الفضولي - كصحيحة الحذاء (2) - وبعض ما ذكره الماتن في المقام، توجد كلمة الرضا أيضا (3)، وهذه تدل على عدم اعتبار أزيد من الرضا في تصحيح العقد، ومن ذلك الآية الكريمة (تجارة عن تراض) (4). ومن الغريب عدم استشهاد المصنف (قدس سره) بصحيحة الحذاء في المقام، واستشهاده بروايات قابلة للمناقشة، مع أنه (قدس سره) تمسك بها في تصحيح الفضولي والقول بالكشف فيه (5). وكيف كان، مقتضى القواعد والأدلة الخاصة، عدم اعتبار
1 - تقدم في الصفحة 426. 2 - تقدم في الصفحة 434. 3 - المكاسب: 135 - 136. 4 - النساء 4: 29. 5 - المكاسب: 133 / سطر 26. 545 أزيد من الرضا الباطني في نفوذ العقد مقدما عليه أو مقارنا له أو متأخرا عنه، بل لا ينبغي الاشكال فيه. نعم، يمكن أن يقال بأن الاجماع قائم على اعتبار الابراز والاظهار في الإجازة، لكن دون إثباته - كما ذكره المصنف (قدس سره) (1) - خرط القتاد. ومن اعتبر الانشاء في الإجازة: إما أن يقول به من جهة أنه يرى أن العقود مفاهيم إنشائية، والعقد الفضولي لا يتم إلا بالإجازة، فالإجازة متممة للعقد، فتحتاج إلى الانشاء نظير القبول، فإن العقد لا يتم إلا به، وبما أن العقد محتاج إلى الانشاء، فلا بد من اعتبار الانشاء في القبول. والجواب عن ذلك ظاهر، فإنا لا نرى دخل القبول في حقيقة العقد، فضلا عن الإجازة، بل العقد ليس إلا نفس الانشاء الحاصل بفعل الموجب خاصة، واعتبار القبول شرطا أو شطرا إنما هو في ترتب الآثار، لا في حقيقة العقد، ولو قلنا بدخله في العقد فلا مجال للقول بدخل الإجازة فيه، فإن الإجازة إنفاذ العقد وإمضاؤه، فلا بد من خروجه عن حقيقته، فهذا البيان لا يثبت اعتبار الانشاء في الإجازة. وإما أن يقول به من جهة اعتباره استناد العقد إلى الملاك في إنفاذ العقد، بحيث يكون العقد عقدهم ولو تسبيبا، وهذا المعنى لا يمكن إلا بإنشاء الإجازة من المالك. ففيه ما تقدم أيضا: من عدم اعتبار هذا النحو من الاستناد في العقد، بل لا يعقل، فإن العقد الصادر من الغير - بالمعنى المصدري - والحاصل منه لا ينقلب عما وقع عليه، فكيف يعقل استناده إلى المالك بحيث يكون عقده حقيقة؟! هذا مع أن عقد الوكيل والمأذون والولي والوصي مشمول لدليل الوفاء جزما، مع أنه ليس عقدا للموكل والإذن والمولى عليه والموصي، وهذا ظاهر، بل لو قلنا باعتبار القبول في حقيقة العقد، فالعقد الحاصل بين الأصيلين أيضا غير مشمول لدليل الوفاء على هذا المبنى، فإن العقد - وهو المجموع من الايجاب والقبول - غير مستند، لا إلى
1 - المكاسب: 135 / سطر 35. 546 الموجب، ولا إلى القابل، بحيث يكون العقد عقد الموجب أو القابل، والمستند إلى الأول حقيقة هو الايجاب، وإلى الثاني القبول، ولو سلم الاستناد في العقد الحاصل بين الأصيلين، لكن عدم صحة الاستناد الحقيقي بالنسبة إلى ما مر من الأمثلة، لعله من الواضحات. ولو ادعي الاستناد المجازي فيها، فلازمه عدم إمكان التمسك بالأدلة العامة في هذه الموارد، فإن أصالة الحقيقة فيها موجبة لعدم شمولها لموارد المجاز والادعاء، مع أن الادعاء في المقام ممتنع، فإن حقيقة الإجازة إمضاء ما فعله غير المجيز، فأين دعوى أن فعل الفضولي فعل المجيز؟! وأين هذا التنزيل، حتى يقال بانطباق العموم على موضوعه الادعائي؟! في اعتبار الاستناد في صحة العقد وجوابه والحاصل: أن حقيقة الإجازة مباينة للادعاء المذكور، فليس في البين ادعاء، ولا مصحح لهذا الادعاء، ولا نريد من ذلك أن الشارع - أو غيره - لا يمكنه دعوى أن العقد عقد المالك، بل نحن في مقام رد ما توهم: من لزوم الاستناد في الانفاذ، بدعوى أن معنى (أوفوا بالعقود) (1) أوفوا بعقودكم، والإجازة تصير العقد عقد المالك، لا حقيقة فإنه واضح، بل ادعاء فيشمله العموم. والجواب عنه أمران: أحدهما: أن أصالة الحقيقة حينئذ تقتضي عدم الشمول. وثانيهما: عدم إمكان مثل هذا الادعاء لعدم المصحح له، فإن حقيقة الإجازة إنفاذ فعل الغير، فهي مباينة وفي مقابل التنزيل المذكور، فأين الادعاء حتى ينطبق عليه الدليل؟! فتدبر، فإنه حقيق به. وبهذا يظهر عدم اعتبار ما ذكر من الاستناد في صحة العقد، بل موضوع
1 - المائدة 5: 1. 547 الأدلة العامة العقد المرتبط بالمالك نحو ارتباط، بحيث لا يكون أجنبيا عن العقد، وهذا المعنى موجود في العقد الواقع على مال شخص راض بالعقد باطنا مقارنا للعقد أو متأخرا عنه، ولذا ذكرنا سابقا - تبعا للمصنف (قدس سره) - أن العقد الواقع على مال من كان راضيا بالعقد خارج عن العقد الفضولي (1). ثم إنه لو اعتبر الانشاء فاعتبار اللفظ فيه أو الصراحة بلا دليل. نعم، الانشاء القلبي - الذي ذكره المرحوم صاحب الكفاية (قدس سره) (2) - لا محصل له، وقد مر سابقا في ألفاظ الايجاب والقبول ما يناسب المقام، فراجع. فتحصل من جميع ما مر: عدم اعتبار الابراز في القبول، فضلا عن اعتباره في الإجازة، فضلا عن اعتبار الانشاء في الأول، فكيف باعتباره في الثاني؟! ومع القول باعتبار الانشاء فلا تزيد الإجازة عن نفس العقد، ولا يعتبر اللفظ والصراحة في إنشاء العقد، فكيف بإنشاء الإجازة؟! في كفاية الرضا الباطني في العقد ثم إنه استشكل المصنف أخيرا على ما اختاره - من كفاية الرضا الباطني في صحة العقد -: بأن لازم ذلك كفاية الرضا المقارن في الخروج عن الفضولية، وعدم إمكان الحكم بصحة العقد المكره عليه وكفاية الكراهة الباطنية في الفسخ، كما يكفي الرضا الباطني في الانفاذ (3). ولكن دفع جميع ما ذكره واضح، فإن كفاية الرضا الباطني في الخروج عن الفضولية لا محذور في الالتزام بها، كما التزم هو (قدس سره) أيضا بها، وإمكان تصحيح العقد المكره عليه من جهة تمامية العقد ولحوق شرطه به
1 - تقدم في الصفحة 426. 2 - حاشية المكاسب، المحقق الخراساني: 66. 3 - المكاسب: 136 / سطر 3. 548 وهو الرضا، والكراهة المقارنة لا تضر بذلك، فإن الميزان تمامية موضوع الدليل، وهو العقد والرضا. وأما عدم كفاية الكراهة في الفسخ، فلأن الفسخ - وهو حل العقد - أمر إنشائي نظير نفس العقد، فكما أن مجرد الرضا لا يكفي في تحقق العقد بلا إنشاء، كذلك حل هذا العقد لا يمكن إلا بالانشاء. وأما الإجازة فهي ليست مفهوما إنشائيا، فإن الانشاء قد حصل، والانشاء الحاصل في تأثيره محتاج إلى رضا المالك، لما دل على اعتبار الرضا في تأثير العقد، فإذا حصل الرضا ولو من دون إنشاء يتم الموضوع، ولا بد من ترتيب الآثار عليه. والمتحصل: عدم اعتبار أزيد من الرضا الباطني في الإجازة.
549 التنبيه الثالث في اعتبار عدم سبق الرد في الإجازة ذكر الشيخ (رحمه الله): أن من شروط الإجازة أن لا يسبقها الرد، وأفاد في وجه ذلك: إن الإجازة تجعل المجيز أحد طرفي العقد، وإلا لم يكن مكلفا بالوفاء بالعقد، لما عرفت من أن وجوب الوفاء إنما هو في حق العاقدين أو من قام مقامهما، وقد تقرر: أن من شروط الصيغة أن لا يحصل بين طرفي العقد ما يسقطهما عن صدق العقد، الذي هو في معنى المعاهدة (1). أما ما أفاده في الرد قبل القبول، فإنما يتم بالنسبة إلى رد الموجب فقط، بناء على كون حقيقة الانشاء الإرادة المظهرة، أو كون معنى العقد التعاهد النفساني، كما ذكر في أخير كلامه. وأما على المبنى الصحيح من كون الانشاء هو الايجاد اعتبارا، والبيع نفس المبادلة الانشائية، والعقد هو الربط الخارجي الاعتباري، فلا يتم ذلك حتى في الموجب، وأما في القابل فلا يتم حتى على المبنيين المتقدمين. والوجه في ما ذكرنا: أنه لو قلنا بأن الانشاء هو الإرادة المظهرة، أو أن العقد في معنى المعاهدة، فرد الموجب يوجب هدم إرادته وعهده النفسي، فلم يبق شئ يقبله القابل، وأما رد القابل - على هذا المبنى - فغير دخيل في الإرادة المظهرة والتعاهد النفسي من الموجب، فيحتاج الالتزام بهادميته إلى الاثبات. وأما لو قلنا بأن العقد والانشاء هما من المعاني المنشئة الايجادية، فهادمية رد الموجب تحتاج
1 - المكاسب: 136 / سطر 8. 550 إلى الاثبات، فضلا عن رد القابل، ولا سيما على مسلكنا: من أن حقيقة العقد هو الايجاب فقط، والقبول شرط للتأثير. والوجه في ذلك: أن الواقع وهو الايجاب خارجا - الذي هو بنفسه إنشاء وركن للعقد على مسلك القوم، أو تمام العقد على مسلكنا - لا ينقلب بالرد عما وقع عليه، فلماذا يؤثر الرد في هدمه؟! وكان الشيخ (رحمه الله) جعل هادمية الرد بعد الايجاب وقبل القبول من المسلمات، مع ما عرفت من عدم الدليل عليه، والمسألة ليس موردها رائجا بين العقلاء شائع في العرف، حتى يدعى بناؤهم على الهدم، كما لا يخفى. في قياس الرد قبل الإجازة بالرد قبل القبول ثم إن الرد قبل الإجازة - على مسلكنا - يكون من قبيل الرد قبل القبول، لما مر: من أن الإجازة والقبول أمر واحد، وهو نفوذ العقد الصادر من الموجب (1)، وأما على مسلك القوم: من أن العقد مركب من الايجاب والقبول (2) والإجازة شرط للتأثير (3) - وقد بنى عليه الشيخ (رحمه الله) أيضا - فقياس الرد قبل الإجازة بالرد قبل القبول مع الفارق، إذ فيه: أولا: أن ما أفاده: من أن الإجازة تجعل المجيز أحد المتعاقدين، قد مر: أن الالتزام به بلا موجب، بل إنه غير معقول، ومناف لحقيقة الإجازة، بل حقيقتها إمضاء ما صدر من الغير، والاحتياج إليها لحصول نحو ارتباط للعقد بالمالك، حتى يكون مشمولا لدليل النفوذ على ما مر بيان ذلك. ومغايرته للاستناد الواقع في كلام
1 - تقدم في الصفحة 206 - 207. 2 - أنظر جواهر الكلام 22: 206، والمكاسب: 80 / سطر 19. 3 - المكاسب: 132 - 133. 551 بعضهم، وتوهم: أن المخاطب بالوفاء بالعقد إنما هو العاقدان، مما لا ينبغي، بل المخاطب هو المرتبط به العقد بنحو من الارتباط، كما سبق. وثانيا: أن الرد قبل الإجازة إنما هو بعد تمامية العقد، والرد قبل القبول إنما هو قبل تمامه على مسلكهم، فكيف يقاس أحدهما بالآخر؟! وبعبارة أخرى: إنه ولو سلم صيرورة المجيز أحد المتعاقدين بالإجازة، لكنه يكون عاقدا واقعا لا إنشاء، والعقد الانشائي المتقوم بالعاقد المنشئ له تام على الفرض، فلو قلنا بهدم الرد الواقع بين العقد الانشائي، أمكننا عدم تسليم هدمه إذا وقع بعد العقد الانشائي (1). وقد ظهر بما ذكر: أن احتمال الهادمية وعدمها موجود، ولا دليل على الأول لو لم نقل بأن الهادمية تحتاج إلى الاثبات، فإن ملاحظة نظائر المسألة، كتخلل نية القطع في الصلاة أو الحج أو العمرة وغير ذلك من العبادات - عدا الصوم - وعدم حكمهم بالهادمية مع العود إلى النية الأولى بعد ذلك، تدلنا على عدم الحكم بها ما لم تثبت بدليل. وكيف كان، فاحتمال عدم الهادمية لا دافع له، فيرجع الأمر إلى الاستصحاب، وسيأتي الكلام فيه. تمسك الشيخ لتأثير الرد بسلطنة الناس على أموالهم والمناقشة في ذلك وأفاد الشيخ (رحمه الله) - في ذيل كلامه - وجها آخر لاثبات الهدم: وهو أن مقتضى سلطنة الناس على أموالهم، تأثير الرد في قطع علاقة الطرف الآخر عن ملكه،
1 - هذا مضافا إلى أنه لو كان المتعاقدان كلاهما فضوليين، فرد أحد المالكين قبل إجازتهما إنما هو من قبيل الرد قبل العقد - على ما ذكره الشيخ (رحمه الله) - لا من قبيل الرد بين الايجاب والقبول، والرد قبل العقد لا أثر له، فالدليل أخص من المدعى. المقرر دامت بركاته. 552 فلا يبقى ما تلحقه الإجازة، فتأمل (1). وأمره بالتأمل يدل على عدم تمامية هذا الوجه، وقد أشكل جل المحشين على هذا الوجه بوجوه (2)، ردها المحقق النائيني (رحمه الله)، والتزم بتمامية هذا الوجه: منها: أن السلطنة على إسقاط عقد الفضولي عن قابلية لحوق الإجازة، سلطنة على الحكم، لا على المال. ومنها: أنه لم يتصرف الفضولي في ملك المالك، حتى يكون المالك مسلطا على رده. ومنها: أنه لا نسلم حصول العلقة للطرف الآخر حتى يكون الرد قاطعا لها، بل المال بعد باق بحاله ولم يتعلق به حق الغير. نعم، للمالك أن ينقله إليه بالإجازة، كما كان له أن ينقله إليه قبل بيع الفضولي. مناقشة المحقق النائيني لاشكالات المحققين على الشيخ وقد أورد المرحوم النائيني على الأول: بأن كون إسقاط العقد عن قابلية لحوق الإجازة من الأحكام، لا من الحقوق، دعوى لا شاهد لها، بل كونه راجعا إلى الحقوق المالية ظاهر، فإن البيع من الغير من السلطنة المالية، وثبوتها بأدلة نفوذ البيع أيضا واضح، فرد البيع أيضا من أنحاء السلطنة، وشمول عموم القاعدة لهذا النحو من السلطنة لا ينبغي الاشكال فيه، بل ولو لم نقل بأن السلطنة على إسقاط العقد من السلطنة على المال، بل هو من الأحكام الشرعية الثابتة للمالك، كثبوت جواز البيع والهبة ونحوهما له، إلا أنه لا شبهة أن هذا الذي ثبت له شرعا إذا تحقق منه ينفذ
1 - المكاسب: 136 / سطر 11. 2 - حاشية المكاسب، المحقق الخراساني: 67. حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 159 / سطر 28. 553 عليه، ولا يمكنه حله وإيجاد ضده، فرده عقد الفضولي كجواز البيع له، فكما لا يجوز له فسخ البيع بعد صدوره منه، فكذلك لا ينفذ منه إبطال رده بعد تحققه منه. وأورد على الثاني: بأن الفضولي وإن لم يتصرف في ملك المالك واقعا، ولم يتحقق المنشأ بإنشائه في عالم الاعتبار، إلا أنه تحقق منه المنشأ بنظره، فإنه أوقع التبديل بين المالين، ومقتضى السلطنة المطلقة الثابتة للمالك بمقتضى الناس مسلطون على أموالهم (1) أن يكون له إبطال هذا الانشاء، وإلا تكون سلطنته قاصرة، وعلى هذا يؤثر رده كإجازته. وأورد على الثالث: بأنه وإن لم تحصل له العلقة شرعا، لكنها حصلت له عرفا، فالرد يبطل هذه العلقة. هذا، مع أن تأثير الرد في إبطال أثر العقد لا يتوقف على تحقق العلقة فعلا، بل يكفي شأنية تحققها، ولا شبهة أن عقد الفضولي مادة قابلة للحوق الإجازة بها، بحيث لا تحتاج إلى إنشاء جديد، وليست الإجازة عقدا مستأنفا، فالرد مقابل للإجازة، وهو يسقط العقد عن القابلية (2). هذا محصل كلامه ملخصا. في جواب مناقشة المحقق النائيني وفيه من صدره إلى ساقته ما لا يخفى: أما ما ذكره: من أن كون إسقاط العقد عن قابلية لحوق الإجازة من الحقوق المالية، ظاهر، فإن البيع من السلطنة المالية، فرد البيع أيضا كذلك. واضح المنع، فأي ربط بين كون البيع من السلطنة المالية وكون رده كذلك؟! أليس البيع من التقلب في المال والتصرف فيه اعتبارا، ورد المبيع - أي إنشاء الفضولي - رد فعل الغير بعد عدم تعلقه بالمال واقعا وتوقف تأثيره على إجازة المالك.
1 - عوالي اللآلي 1: 22 / 99، بحار الأنوار 2: 272 / 7. 2 - منية الطالب 1: 255 - 256. 554 وبالجملة: الفضولي لم يصدر منه إلا إنشاء البيع محضا، وهو فعل من أفعاله، وهو مسلط على هذا الفعل، وليس هذا تصرفا في مال الغير كما مر، وإلا لكان بيع الفضولي حراما وفاسدا من رأسه، لو قلنا بالملازمة بين الحرمة والفساد وتأثير هذا البيع موقوف على إجازة المالك، فكيف يقاس رد هذا البيع ببيع المالك ماله؟! مع أن هذا إعمال لسلطنته على ماله، والأول تصرف في سلطان الغير. وبعبارة أخرى: إنشاء الفضولي لا يوجب تضييقا في دائرة سلطنة المالك (1) حتى يتسلط على رده، بل فعل ما يكون المالك مسلطا على إمضائه، وله أن لا يمضيه، وأما تسلطه على رده فلا دليل عليه، بل هذا خلاف سلطنة الفضولي على فعله. ثم إنه أي ربط بين فسخ البيع والإجازة بعد الرد، بحيث لو منعنا الأول منعنا الثاني أيضا؟! أليس وجه المنع في الأول منافاة الفسخ مع وجوب الوفاء بالعقد؟! فأي وجه لعدم نفوذ الإجازة بعد الرد في المقام؟! والحاصل: أن دليل الوفاء موجب لتأثير البيع ونفوذه، بحيث لا يمكن حله وإيجاد ضده، وليس لنا دليل على وجوب الوفاء بالرد، حتى يقال بعدم إمكان حله وإيجاد ضده، وهو الإجازة. وأما ما ذكره: من أن الفضولي لم يتصرف في الملك واقعا، ولكن تصرف فيه بنظره، فيمكن رده لدليل السلطنة. ففيه أولا: أن الفضولي الملتفت إلى أن إنشاءه لا يؤثر، بل يحتاج في تأثيره إلى إجازة المالك، كيف يتصرف في المال بنظره، والأمر واضح. وثانيا: أن دليل السلطنة ناظر إلى سلطنة الناس على أموالهم، لا على ما
1 - بل هو (إنشاء الفضولي) إعانة المالك، لأنه لا يحتاج إلى إنشاء البيع بعده، فإن رضي بذلك الانشاء، ينتقل ماله إلى غيره، فعليه - مضافا إلى أنه لا يوجب إنشاء الفضولي تضييقا في دائرة سلطنة المالك - يكون عونا له. المقرر دامت بركاته. 555 يتخيل سائر الناس، والسلطنة على المال أمر، والسلطنة على الخيال أمر آخر. وأما ما ذكره: من أن العلقة وإن لم تحصل شرعا، لكنها حصلت عرفا، فيجوز للمالك رده. فمنعه أوضح من سابقه: أولا: لعدم مساعدة العرف. وثانيا: الناس مسلطون على أموالهم (1) بحيث إن لهم منع غيرهم من التصرف الواقعي في أموالهم، لا ما يكون تصرفا عرفا غير تصرف شرعا. وثالثا: أنا نجزم بعدم الفرق بين العرف والشرع في التصرف مصداقا ومفهوما. وما ذكره أخيرا: من أن الرد مقابل للإجازة، وهو يسقط العقد عن القابلية، عين المصادرة، فإن محل كلامنا أن الرد المقابل للإجازة، هل يسقط العقد عن القابلية للإجازة أم لا؟ ولو أراد من ذلك: أنه كما لا يؤثر الرد بعد الإجازة، كذلك لا تؤثر الإجازة بعد الرد، فقد عرفت الفرق بينهما، والفارق لزوم الوفاء بالأول بدليله مع عدم شموله للثاني. فتحصل: أن الحق عدم إمكان التمسك بدليل السلطنة لاثبات اشتراط الإجازة بعدم الرد قبلها، فليس لنا دليل على هذا الاشتراط، والاجماع المدعى أيضا ممنوع، فنبقى في شك في الهادمية وعدمها، لعدم قيام دليل على شئ منهما. التمسك بالروايات لتأثير الرد وقد يتمسك لاثبات عدم الهادمية بالروايات: منها: صحيحة محمد بن قيس (2)، وقد عرفت عدم دلالتها على أن سيد
1 - تقدم في الصفحة 554. 2 - الكافي 5: 211 / 12، الفقيه 3: 140 / 615، تهذيب الأحكام 7: 488 / 1960، الاستبصار 3: 205 / 739، وسائل الشيعة 14: 591، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء، الباب 88، الحديث 1. 556 الوليدة رد أولا ثم أجاز. ومنها: صحيحة ابن بزيع، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن امرأة ابتليت بشرب النبيذ، فسكرت، فزوجت نفسها رجلا في سكرها، ثم أفاقت، فأنكرت ذلك، ثم ظنت أنه يلزمها، ففزعت منه، فأقامت مع الرجل على ذلك التزويج، أحلال هو لها، أم التزويج فاسد، لمكان السكر، ولا سبيل للزوج عليها؟ فقال: إذا أقامت معه بعد ما أفاقت فهو رضا منها. قلت: ويجوز ذلك التزويج عليها؟ قال: نعم (1). وتقريب الاستدلال: أن عبارة زوجت نفسها لو لم تكن ظاهرة في التزويج بالتسبيب، من جهة تعارف التسبيب في النكاح، ولا سيما من طرف المرأة لحيائها، فلا أقل من احتمالها ذلك في مقابل احتمال مباشرتها العقد، فبترك الاستفصال يعلم أن الحكم في تزويجها بالتسبيب أيضا ما ذكر في الرواية، وحيث إنه لا اعتبار برضاها حين السكر يكون النكاح فضوليا، مع أنه لو كانت هذه العبارة ظاهرة في المباشرة، فيمكننا إسراء الحكم إلى الفضولي أيضا، لعدم الفرق بين العقد الصادر عن السكري والفضولي من جهة الانشاء وتأخير الرضا، والفرق بينهما إنما هو في مجرد صدور العقد من الزوجة، وتمامية الاستناد بحيث يكون العقد عقدها، بخلاف العقد الصادر من الفضولي، لعدم حصول الاستناد حينئذ، لكن قد تقدم عدم اعتبار الاستناد في العقود بحيث يكون العقد عقده، بل نفس العقد مع حصول رضا المالك
1 - الفقيه 3: 259 / 1230، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 18 / 44، تهذيب الأحكام 7: 392 / 1571، وسائل الشيعة 14: 221، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، الباب 14، الحديث 1. 557 كاف في النفوذ (1)، فلو دل دليل على عدم مانعية الرد قبل الإجازة في بيع المكره نأخذ به، ونثبت عدم المانعية قبل الإجازة في بيع الفضولي أيضا، لعدم الفرق بينهما من جهة تمامية العقد وعدم وجود الشرط، وهو الرضا. ولا ترجيح للأول على الثاني، لعدم اعتبار الاستناد، ولا نحتمل التعبد المحض بحيث تكون للأول خصوصية عند الشارع، وفي المقام السكري زوجت نفسها في تلك الحالة، وحيث إنها ملتفتة إلى ما تقول وتنشئ، لكن لا تلتفت إلى عواقبه، فقد أنشأت العقد، ولم يحصل منها الرضا المعاملي، فلو استفدنا من هذا الدليل جواز الإجازة بعد الرد في تزويجها، أسرينا الحكم في الفضولي من النكاح إلى غيره، لالغاء الخصوصية عرفا بعد عدم الفرق بينهما من جهة موضوع النفوذ، بل يمكن دعوى الأولوية في الفضولي، فإن رد الشخص فعل نفسه تصرف في سلطنة نفسه، بخلاف رده فعل الفضولي، فإنه تصرف في سلطان الغير، فلو لم يكن الرد في الأول نافذا، وأمكن إلحاق الإجازة، لم يكن نافذا في الثاني بطريق أولى، فتدبر. ثم إن قوله: فأنكرت ذلك ظاهر في الرد، لا الانكار في مقابل الدعوى، بقرينة ثم ظنت أنه يلزمها، فإن هذه ظاهرة في اعتراضها بوقوع التزويج، واحتمال أن الانكار مجرد الكراهة لا الرد، مدفوع: بأن الرد ليس أمرا زائدا على اظهار الكراهة بالعقد، ومعنى الانكار أيضا ذلك، فدلالة الانكار على الرد ظاهرة، ومع ذلك حكم الإمام (عليه السلام) بنفوذ التزويج بعد الإقامة معه، وهذا يدلنا على نفوذ الإجازة بعد الرد، واحتمال أن المقام خارج عن الفضولي لوقوع العقد صحيحا، وحكم الإمام (عليه السلام) ليس من جهة حصول الرضا اللاحق، بل من جهة وقوع العقد صحيحا، مدفوع بقوله (عليه السلام): إذا أقامت معه بعد ما أفاقت فهو رضا منها.
1 - تقدم في الصفحة 426. 558 إشكال ودفع والاشكال على الرواية: بأن الرضا الحاصل تعليقي، لظنها بأنه يلزمها. مدفوع: بأن ظنها من قبيل الداعي لرضاها بالعقد، والرضا في المقام معاملي، غير الرضا بمعنى الطيب، ولذا أمر الإمام (عليه السلام) في ذيل صحيحة أبي ولاد بعد قوله: إني كنت أعطيته دراهم ورضي بها وحللني، وقوله (عليه السلام): إنما رضي بها وحللك حين قضى عليه أبو حنيفة بالجور والظلم بقوله (عليه السلام): ولكن ارجع إليه فأخبره بما أفتيتك به، فإن جعلك في حل بعد معرفته فلا شئ عليك بعد ذلك (1). والفارق بين الرضا في المقام الذي ذكرنا - من عدم تعليقه على الظن بالالزام - والرضا في هذه الصحيحة المعلق على حكم أبي حنيفة: أن الأول معاملي، وقد حصل في طول الظن بخلاف الثاني، فإنه طيب النفس، ولم يحصل مطلقا، كما هو ظاهر. فالانصاف تمامية دلالة الرواية على نفوذ الإجازة بعد الرد، وحيث إنه لا يمكن لنا إثبات الهدم على حسب القواعد، فلا إشكال في لزوم الأخذ بالصحيحة والقول بعدم الهدم، بل لو تمت القواعد أيضا لكنا نأخذ بالصحيحة، لامكان تقييد دليل السلطنة، وامكان حكم الشارع بعدم تأثير الرد قبل الإجازة وإن كان مؤثرا قبل القبول، فما ذكره الشيخ (رحمه الله) في ذيل كلامه - من لزوم الطرح أو التأويل (2) - ممنوع، فتأمل.
1 - الكافي 5: 290 / 6، تهذيب الأحكام 7: 215 / 943، الاستبصار 3: 134 / 483، وسائل الشيعة 17: 313، كتاب الغصب، أبواب الغصب، الباب 7، الحديث 1. 2 - المكاسب: 136 / سطر 15. 559 التمسك بالأصل في تأثير الإجازة بعد الرد ثم لو أغمضنا عن الرواية فيمكننا إثبات تأثير الإجازة بعد الرد بالأصل أيضا، فإن الأصل بقاء العقد إلى زمان الإجازة، وليس تقيد العقد بالإجازة موضوعا لوجوب الوفاء، حتى يتوهم الاثبات، بل الظاهر أن العقد مطلقا موضوع له، إلا أن يكون المالك أجنبيا عن العقد بالمرة، فمع وجود العقد بالأصل والإجازة بالوجدان ينطبق الدليل عليه ويحكم بالنفوذ. وهكذا الكلام في الرد قبل القبول بناء على مسلكنا: من أن تمام العقد هو الايجاب فقط. وأما لو قلنا: بأن العقد مركب من الايجاب والقبول، فلا يمكننا استصحاب العقد، بل نستصحب الايجاب، وبضم القبول إليه نحكم بالنفوذ، إلا إذا قلنا: بأن العقد أمر بسيط منتزع من الايجاب والقبول، فإن أصالة بقاء الايجاب بالنسبة إلى الثبوت الانتزاعي مثبت، كما أنه لو قلنا: بأن العقد هو المعاهدة المستندة إلى المالكين بحيث تكون معاهدتهما، فلا يمكننا إثبات ذلك إلا بالأصل المثبت. وهنا بعض المباني الأخر لا يهمنا ذكرها، والصحيح ما مر.
560 التنبيه الرابع في عدم توريث الإجازة ذكر الشيخ (رحمه الله): أن الإجازة من آثار سلطنة المالك فلا تورث (1). ويفهم من هذا الذي ذكره: أنها لو كانت من الحقوق فلا إشكال في التوريث، وكأنه جعل هذا من المسلمات، ولذا لم يتعرض له، مع أن الأمر ليس كذلك، فإنه لو بنينا على عدم جواز مغايرة المجيز والمالك حال العقد - على ما سيأتي - فمعناه: أن الإجازة ولو كانت من الحقوق، إلا أنه ا من الحقوق المختصة بالمالك حال العقد فلا تورث. ولو بنينا على الجواز فمعناه: أن الوارث يستحق الإجازة لانتقال الملك إليه، فلا معنى لانتقال حق الإجازة أيضا إليه، لاستلزام ذلك استحقاق الوارث الإجازة مستقلا، لأنه مالك فعلا، وانتقال الحق إليه بالإرث، مع أن الإجازة أمر واحد، فكيف يعقل استحقاقه الإجازة الشخصية بالأصالة، مع انتقال استحقاق نفس هذه الإجازة إليه؟! وهذا نظير كون الشخص مالكا لشئ بالأصل مع انتقاله إليه بالإرث، وليس هذا نظير اجتماع أسباب متعددة في حق، نظير حق الخيار الثابت من جهة أسباب متعددة، فإنا لا ننكر إمكان اجتماع الأسباب في حق واحد إذا كان له اعتبار عقلائي، بل محط نظرنا: أنه لا يعقل كون الشخص مالكا - أو مستحقا - لشئ في نفسه مع انتقال نفس هذا الشئ إليه بالإرث.
1 - المكاسب: 136 / سطر 15. 561 وكيف كان، فعلى هذا المبنى - وهو جواز مغايرة المجيز للمالك حين العقد - يستحق الوارث الإجازة من جهة انتقال الملك إليه. وعليه لو لم يكن إشكال عقلي في انتقال الحق إليه، فلا إشكال أيضا في عدم اعتبار عقلائي لهذا الانتقال، بعد فرض استحقاقه بالأصالة. نعم، يمكن أن يقال: إن الملك وحق الإجازة ينتقلان إلى الوارث في عرض واحد، واستحقاقه الإجازة بالأصالة مترتب على الملك وفي طول الانتقال، فلا بد من القول باستحقاقه الإجازة من جهة الإرث لا الملك. لكن العرف والعقلاء غير مساعدين على هذه المداقات والرتب العقلية، بل العقلاء يرون المالك مستحقا للإجازة، بلا نظر إلى انتقال هذا الحق إليه من جهة الإرث، فعلى كلا المبنيين لا تورث الإجازة ولو كانت من الحقوق. وهنا إشكال آخر مبنيا على القول بالكشف: فإن القائل بالكشف يرى تأثير الإجازة المتأخرة في العقد المتقدم، لأن مقتضى العقد تأثيره من حينه، وهذا غير ممكن في المقام، لأن الوارث أجنبي عن العقد حاله، والقول بالكشف عن زمان انتقال الملك إليه - وهو موت مورثه - لا يمكن، فإنه خلاف مقتضى العقد (1).
1 - أقول: ما أفاده - مد ظله - من الاشكال الأول وارد على القول بالنقل، وأما على الكشف فلا، فإن الوارث لو أجاز كشف عن عدم انتقال المال إليه وانتقال ثمنه إليه، وإن لم يجز ينتقل المال إليه دون ثمنه، فمحذور الجمع بين الاستحقاق بالأصالة والانتقال في الإجازة الواحدة، مدفوع، بل بما أن المورث كان مستحقا للإجازة وأخذ الثمن، يمكن القول بانتقال هذا الحق إلى وارثه بلا محذور. وأما الاشكال الثاني فدفعه أوضح من ذلك، فإن لازم هذا الاشكال عدم إمكان مغايرة المجيز والمالك حال العقد على الكشف مع أن الحق خلافه، بل يكفي كون العقد واقعا على مال لو أجازه المجيز يأخذ الثمن، وإلا يأخذ المثمن، ولا يستفاد أزيد من ذلك من الأدلة العامة. فتحصل: أنه على النقل يشكل انتقال الحق، بل ينتقل الملك ويستحق الوارث الإجازة من هذه الجهة، وأما على الكشف ينتقل نفس حق الإجازة إليه بناء على كونه حقا، وإلا يبطل العقد، وهذا ظاهر. المقرر حفظه الله. 562 وسيأتي بقية الكلام في ذلك فيما سيأتي إن شاء الله. ثم إن المحقق النائيني (رحمه الله) مع أنه قد صرح بكون البيع والإجازة من الحقوق المالية وأصر عليه، لم يشكل في المقام على الشيخ (رحمه الله)، وقبل جميع ما ذكره، ومنه: أن الإجازة من آثار السلطنة فلا تورث (1)، ولازم ذلك وقوع التناقض في مبناه (قدس سره).
1 - أنظر منية الطالب 1: 41 و 256. 563 التنبيه الخامس في جريان الفضولية في القبض والاقباض ذكر الشيخ ما حاصله: أن إجازة قبض الثمن الشخصي، تكون راجعة إلى إسقاط ضمان الثمن عن عهدة المشتري، وهكذا في طرف المبيع الشخصي، فإن مرجع إجازة قبضه إلى إسقاط ضمانه عن عهدة البائع، فإجازة القبض في الشخصيات ماضية، وأما إجازة قبض الكلي، فتأثيرها في تعينه وقبضه، يحتاج إلى دليل متمم لحكم عقد الفضولي لمثل القبض والاقباض، وإتمام الدليل على ذلك لا يخلو عن صعوبة (1). هذا، ولكن جريان الفضولية في القبض والاقباض، مبني على الجمود على مفهوم ذلك بالنسبة إلى الآثار المترتبة عليه، نظير كون تلف المبيع قبل قبضه من مال بائعه. وأما لو قلنا: بأن المعتبر عند الشرع - كالعقلاء - أوسع من هذا المفهوم، بل المدار على وصول المال إلى مالكه نحو وصول، كما إذا أذن في وضع المال في مكان معين، أو إقباض شخص معين ولو نفس الضامن، أو رضي بذلك بعد تحققه، فلا تجري الفضولية فيهما، لأن تمام الموضوع حينئذ رضا المالك بكون ماله في ذلك المكان، أو عند ذلك الشخص، ولذا لو انتقل ماله من عند الضامن إلى مكان آخر بسبب هبوب الريح ورضي المالك به، كفى في حصول القبض بنظر العقلاء، والشرع أيضا لم يأت بشئ زائد عما هو المعتبر عندهم، أترى أن الفضولي في المقام هو الريح أو المكان؟! والسر في ذلك كفاية مجرد الرضا بذلك في تحقق القبض.
1 - المكاسب: 136 / سطر 18. 564 نعم، في حديث على اليد ما أخذت (1) حتى تؤدي (2) الأخذ أو القبض هو الاستيلاء على الشئ والسلطنة عليه، لا مجرد وضع اليد، أو ما ذكرنا في قبض الثمن أو المثمن، فإن موضوع الضمان عند العقلاء ذلك، وأما التأدية في ذيلها فعين الاقباض هنا، يكفي في حصولها نحو وصول إلى المالك كما مر. هذا في الشخصيات. الفضولية في الكليات وأما في الكليات فتزيد على الشخصيات باحتياجها إلى التعيين والتمييز حتى تؤدى إلى مالكها، ولكن التعيين والتمييز في الكليات أيضا غير متوقف على مفهوم القبض، بل لو ميز بسبب هبوب الريح ورضي به المالك كفى في التعيين، فتمام الموضوع لتعيين الكلي أيضا رضا من يعتبر رضاه، بتطبيق الكلي على فرد ما، فلا تجري فيه الفضولية أيضا. الفرق بين القبض الشخصي والكلي ولو فرق بين القبض في الشخصيات والكليات، بأنه يمكن أن يقال: إن الأفعال الخارجية لا تنقلب عما وقعت عليه، وأما الأمور الاعتبارية فيمكن أن تنتسب إلى الغير، ولذا تجري الفضولية في الكليات، ولا تجري في الشخصيات. فجوابه: أنه قد مر مرارا: أن الانتساب الواقعي غير ممكن، والمجازي غير مشمول للأدلة العامة، ولو قيل بكفاية مجرد الرضا في الانتساب فليكن ذلك كافيا في الشخصيات أيضا.
1 - في نسخة: قبضت. 2 - تقدم في الصفحة 235، عوالي اللآلي 2: 344 / 9، مستدرك الوسائل 14: 8، كتاب الوديعة، أبواب كتاب الوديعة، الباب 1، الحديث 12. 565 في جريان نزاع الكشف والنقل في القبض على فرض الفضولية ثم إنه على تقدير جريان الفضولية في القبض، فهل يجري نزاع الكشف والنقل فيه أو لا؟ فقد منع المحقق النائيني (رحمه الله) ذلك، وقال بلزوم الالتزام بالنقل، فإن الإجازة كالعقود الإذنية، تمام الموضوع فيها هو الرضا، فلا معنى للكشف (1). وفيه أولا: ما مر سابقا: من أنه لا معنى للعقود الإذنية أبدا، فإن العقد في تأثيره محتاج إلى القبول، بخلاف الإذن، فإنه إيقاع محض، وقد سبق تفصيله. وثانيا: أن الجمع بين الالتزام بجريان الفضولية والقول بالنقل - لأن الرضا تمام الموضوع - لا يمكن، فإن الإجازة في الفضولي جزء الموضوع، فكيف تكون تمام الموضوع؟! وثالثا: قد منع هو (قدس سره) جريان الفضولية في القبض في أول الفضولي (2)، ونقلنا عنه (3)، وذلك ينافي ما ذكره هنا. ويمكن أن يقال بالكشف وعدم جريان النزاع، فإن القول بالنقل إنما هو في مورد يكون للصادر عن الفضولي بقاء اعتباري حال الإجازة حتى تلحقه فيلتزم بالنقل، وفي باب القبض أنه أمر تكويني محض ولا اعتبار فيه أصلا حدوثا وبقاء فلو أثرت الإجازة فيه تؤثر كشفا. وفيه منع لزوم اعتبار البقاء في القول بالنقل، بل نفس تحقق القبض ولحوق الإجازة به كاف في تحقق موضوع الأثر بجزئيه، كما يجري القول بالكشف أيضا بتقريب أن القبض المتعقب بالإجازة يؤثر.
1 - منية الطالب 1: 257 / سطر 15. 2 - منية الطالب 1: 212 / سطر 21. 3 - أنظر الصفحة 426 - 427. 566 التفصيل بين القبض في بابي الصرف والسلم والنبوي وقد فصل المحقق الأصفهاني (قدس سره) بين القبض في باب الصرف والسلم، والقبض في النبوي: كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه (1)، بالقول بالكشف في الأول والنقل في الثاني. وقد ذكر في وجه النقل في الثاني: أن الإجازة المتأخرة لا تصحح القبض السابق، ولا يتحقق الانتساب قبل الإجازة (2)، فلو تلف المبيع قبل إجازة القبض كان موردا للنبوي. وأنت خبير بأنه لو قلنا بالكشف واعتبار الرضا التقديري أو لحاظ المتأخر، أو قلنا بأن المؤثر هي الحصة المضافة، أو العقد المتعقب، فلا يجري فيه ما ذكره، فإن شرط التأثير مقارن للعقد، لا متأخر عنه (3). ثم إنه هل إجازة العقد إجازة للقبض أو لا؟ وهذه ليست مسألة فقهية، وإنما هي منوطة بالقرائن الدالة على ذلك، بلا فرق بين ما يعتبر القبض في صحته - كالصرف والسلم - وغيره، ولو أجاز العقد في الصرف والسلم دون القبض، فيحكم ببطلان العقد، لعدم حصول شرطه، وهي الإجازة، ولا وجه لما ذكره الشيخ (رحمه الله): من أن لبطلان العقد أو القبض وجهين (4).
1 - عوالي اللآلي 3: 212 / 59، مستدرك الوسائل 13: 303، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 9، الحديث 1. 2 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 161 / سطر 16. 3 - ولكن التفصيل بين الأمرين لم يظهر له وجه. المقرر حفظه الله. 4 - المكاسب: 136 / سطر 24. 567 تصحيح الفضولية في القبض بالأدلة العامة دون الخاصة ثم إنه لو قلنا بالفضولية في القبض فلا يمكن تصحيحها بالأدلة العامة، نعم، الأدلة الخاصة - نظير روايتي عروة (1) وأبي سيار (2) السابقتين - دالة على ذلك، ولا سيما الأخيرة، فإنها ظاهرة في تحقق القبض في الشخصي والكلي، فإن المعاملات العديدة الواقعة مشتملة عليهما، فإن الثمن كلي نوعا، والمثمن شخصي كذلك.
1 - تقدم في الصفحة 429. 2 - تقدم في الصفحة 514. 568 التنبيه السادس في فورية الإجازة ذكر الشيخ (رحمه الله): أن الإجازة ليست على الفور، للعمومات ولصحيحة محمد بن قيس... (1) إلى آخره. أدلة الفورية ومناقشتها أقول: ما يمكن أن يقال في وجه الفورية أمور ثلاثة: إحداها: أن التراضي موجب لانهدام العقد نظير تأخير القبول عن الايجاب. وأنت خبير بما فيه، فإن العقد تام في الفضولي والإجازة غير دخيلة في حقيقته، فلا معنى للقول بانهدام العقد بتأخير الإجازة، وقياس الإجازة بالقبول على مسلك القوم قياس مع الفارق، لدخله في حقيقة العقد، فيمكن أن يقال: إنه يلزم من التأخير عدم تحقق الوحدة المعتبرة في العقد، بخلافها فإنها خارجة عن العقد. وأما على مسلكنا فالقبول أيضا يجوز تأخيره كالإجازة، مع أن لازم هذا الوجه عدم الفرق بين صورة التأخير عن التفات وعدمه، فإن الالتفات غير دخيل في حقيقة العقد، مع أن القائلين بالفور يلتزمون به بعد الالتفات. ثانيها: أن التراضي موجب لفساد العقد بنظر العقلاء. وفيه ما لا يخفى، فإن موضوع الأثر بنظرهم العقد والرضا به ولو حصل بعد حين.
1 - المكاسب: 136 / سطر 24، تقدم في الصفحة 432. 569 وثالثها: أن الفور قيد معتبر شرعا في صحة العقد. ويدفع هذا الوجه بالاطلاقات وصحيحة محمد بن قيس، بناء على تحقق أمد بين التفات صاحب الوليدة وإجازته، كما هو الظاهر. ومن الواضح أن مبنى هذه المسألة وخيار الغبن ليس ما ذكره المحقق النائيني (رحمه الله): من أن الإنسان مجبول على دفع الضرر وجلب المنفعة (1)، بل المبنى في المقام التمسك بإطلاق الأدلة، وفي تلك المسألة ما هو المعروف من التمسك بالعموم، أو استصحاب حكم المخصص، فتدبر جيدا. في تضرر الأصيل بعدم إجازة المالك وعدم رده ثم ذكر (رحمه الله): ولو لم يجز المالك ولم يرد حتى لزم تضرر الأصيل، بعدم تصرفه فيما انتقل عنه وإليه على القول بالكشف، فالأقوى تداركه بالخيار، أو إجبار المالك على أحد الأمرين (2). أقول: أما صغرى المسألة - وهي لزوم تضرر الأصيل - فهي موقوفة على عدم إمكان فسخ العقد بالنسبة إليه، وهو الصحيح على ما مر، وعدم جواز تصرفه في ما انتقل عنه، وقد سبق: أن الحق جواز تصرفه فيه حتى على الكشف (3)، لا لاستصحاب عدم الإجازة، بل للاستصحاب الحكمي، وهو استصحاب عدم الانتقال أو جواز التصرف، وعليه فلا ضرر على الأصيل بتأخير الإجازة. وأما الكبرى - وهي لزوم تداركه بالخيار أو إجبار المالك على أحد الأمرين - فلا وجه له:
1 - منية الطالب 1: 258 / سطر 13. 2 - المكاسب: 136 / سطر 25 - 26. 3 - تقدم في الصفحة 530 - 531. 570 أما على مسلك القوم - من حكومة دليل لا ضرر (1) على أدلة الأحكام (2) - فظاهر، فإن ما فيه الضرر عدم جواز تصرف الأصيل، لا عدم جواز الفسخ، ولا تأخير المالك الإجازة، فلو جاز له التصرف لا ضرر عليه، وإن لم يجز له الفسخ ولم يجز المالك فورا، فبحكومة لا ضرر يرفع عدم جواز التصرف، ولا تصل النوبة إلى التدارك بالخيار، أو الاجبار على أحد الأمرين. وأما على مسلكنا: من عدم الحكومة (3). فيرجع في حل المشكلة إلى الحاكم، فلو رأى المصلحة في الفسخ فسخ، ولو رآها في جواز تصرف الأصيل، وإن كان العقد باقيا على صحته التأهلية، أجاز كذلك، وهذا نظير مورد دليل لا ضرر حيث إن دخول سمرة في البستان كان ضررا على الأنصاري، فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقلع مادة الفساد، وهو العذق. والحاصل: أن في نظير المسألة من موارد لزوم الضرر على أحد - من جهة تصرف شخص آخر بما يجوز له لو لم يلزم الضرر - لا بد من الرجوع إلى الحاكم الشرعي، ومن هذه الموارد نفس مورد الدليل. وتمام الكلام في الأصول، ومن هذه الجهة قلنا: إن لا ضرر ناظر إلى أمر ولائي، ولا حكومة لها على الأدلة.
1 - الكافي 5: 293 / 2، الفقيه 4: 243 / 777، تهذيب الأحكام 7: 164 / 727، وسائل الشيعة 17: 376، كتاب الفرائض والمواريث، أبواب موانع الإرث، الباب 1، الحديث 10. 2 - أنظر فرائد الأصول 2: 535 / سطر 16. 3 - أنظر بدائع الدرر في قاعدة لا ضرر، الإمام الخميني (قدس سره): 129. 571 التنبيه السابع في اعتبار مطابقة الإجازة للعقد في صحتها ذكر الشيخ (رحمه الله): هل يعتبر في صحة الإجازة مطابقتها للعقد الواقع عموما وخصوصا، أم لا؟ وجهان... (1) إلى آخره. في كون النزاع في المقام كبرويا وظاهر هذه العبارة: أن النزاع في المقام كبروي، كما هو نص كلام المحقق النائيني (رحمه الله) حيث قال: إن حكم الإجازة حكم البيع ابتداء، فكما يجوز للمالك بيع بعض ماله ابتداء، فكذلك يجوز له إجازة بعضه (2). ولكن من الظاهر أنه لا يمكن المساعدة على هذا الكلام، أترى أنه لو وقع البيع الفضولي على الكتاب - مثلا - يجوز للمالك إجازة البيع على الفرس، من جهة أن الإجازة كالبيع الابتدائي، فكما يجوز للمالك بيع فرسه ابتداء يجوز له إجازة البيع له؟! ومن غريب الأمر أن الشيخ (رحمه الله) صرح بلزوم التطابق بين الايجاب والقبول (3)، وفصل في المقام (4)، وكذلك المرحوم النائيني (رحمه الله) صرح هناك بلزوم التطابق، وقال: هذا من القضايا التي قياساتها معها (5)، ومع ذلك ذكر في المقام: أن الإجازة كالبيع
1 - المكاسب: 136 / سطر 26. 2 - منية الطالب 1: 259 / سطر 10. 3 - المكاسب: 100 - 101. 4 - المكاسب: 136 / سطر 26. 5 - منية الطالب 1: 114 / سطر 8. 572 الابتدائي (1)، مع أن الإجازة والقبول كليهما من واد واحد، حيث إنهما موجبان لنفوذ ما دل عليه الايجاب وأنشئ به، بلا فرق بين القول بما التزم به المشهور: من أن العقد مركب من الايجاب والقبول وما بنينا عليه من أن تمام حقيقة العقد يتحقق بنفس الايجاب فقط، فإن القبول على كلا القولين مطاوعة للايجاب، والإجازة منفذة للعقد، فهي أيضا مطاوعة للايجاب، ولو قلنا بتركب العقد فلا معنى للنزاع الكبروي في المقام، أو الفرق بين القبول والإجازة من هذه الجهة، فإن اعتبار المطابقة بين القبول والايجاب وبين الإجازة والعقد، من القضايا التي قياساتها معها، وكيف يمكن الفرق بينهما بالقول: بأن الإجازة كالبيع الابتدائي، بخلاف القبول، مع أن كليهما واردان على أمر آخر، وهو الايجاب على مسلكنا، أو الايجاب في الأول والعقد المركب في الثاني على مسلك القوم، ولا ابتدائية في شئ منهما، كما لا يخفى، مع أن ما ذكره: من أن الإجازة البيع الابتدائي، مناف لمبناه: من أن لزوم الإجازة من جهة حصول الاستناد، لا أن الإجازة مؤثرة بنفسها (2). النزاع في المقام صغروي وبالجملة: أن ما له موقع للنزاع فيه إنما هو صغرى المسألة، وهي تختلف بحسب الموارد، فقد تحصل المطابقة ولو بإجازة بعض ما وقع عليه العقد، وقد لا تحصل. والكلام يقع في ذلك تارة في الأجزاء، وأخرى في الأوصاف، وثالثة في الشرائط.
1 - منية الطالب 1: 259 / سطر 10. 2 - منية الطالب 1: 213 / سطر 15 - 16. 573 في عدم المطابقة بين الإجازة والعقد في الأجزاء أما في الأول: فلو أوقع الفضولي المعاملة على مركب ذي أجزاء، وأجاز المالك تلك المعاملة بالنسبة إلى بعض الأجزاء، فلو قلنا بأن الإجازة لاحقة بإنشاء العقد ومتعلقة بها، فلم تحصل المطابقة بين المجاز والإجازة، فإن العقد أمر واحد غير قابل للتجزي بالنسبة إلى أجزاء متعلقه، وإن ذكر المرحوم المحقق الأصفهاني في المقام: أن العقد المتعلق بمركب منحل إلى عقود متعددة حسب تعدد الأجزاء (1)، فإن المركب عين الأجزاء، فمن باع المركب من الثوب والفرس فقد باع ثوبه وباع فرسه، فيمكن إجازة بعض ما وقع عليه العقد، لحصول المطابقة في ذلك البعض. ولكن هذا الاستدلال - بعد الاغماض عن إشكاله العقلي، وهو أن الشئ الواحد غير قابل للانحلال - غير موافق لنظر العقلاء، أترى أن من باع منظرة الغير، فهل يجوز لمالكه إجازة بعض منه لحصول التطابق؟! أو من باع دار الغير، فهل يجوز لمالكه إجازة آجر منه أو بيت منه لذلك؟! والمعلوم أن العقلاء لا يساعدون على مثل ذلك، مضافا إلى أنه لو سلم الانحلال لزم كون جل المعاملات - إن لم يكن كلها - غرريا، فإن أجزاء الدار - مثلا - غير معلومة للمتبايعين، والثمن الواقع في مقابلتها أيضا غير معلوم، فلو بنينا على تعلق الإجازة بالانشاء فلا يمكن دعوى حصول التطابق بإجازة بعض ما وقع عليه العقد، ولذا ذكرنا في مسألة النذر على أمور متعددة، كصوم كل خميس: أن بمخالفة البعض يحصل الحنث، وبعد ذلك لا يجب الوفاء بالنسبة إلى سائر الأبعاض، فإن ما يلزم الوفاء به إنما هو النذر، وما يوجب الكفارة إنما هو مخالفته، وهو أمر واحد متقوم بالانشاء، فمع مخالفته ولو في بعض ما تعلق به، لا يبقى مجال لموافقته
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 163 / سطر 7. 574 بعد ذلك لعدم الموضوع (1)، نظير ذلك الجمع بين أمور غير واقعة والأخبار بها بإخبار واحد، ك كل نار باردة فهل يمكن القول: بأن ذلك أكاذيب متعددة حسب تعدد أفراد النار؟ والحاصل: أن النذر واحد وإن تعلق بمتعدد. وأما لو قلنا: بأنها متعلقة بالمنشأ، وهي النقل الانشائي لا إنشاء النقل، فيختلف الحال باختلاف الموارد، فلو كان نظر المتبايعين إنشاء نقل واحد متعلق بالمركب، بحيث لم يقع إلا معاملة واحدة بنظر العقلاء، فلم تحصل المطابقة حينئذ، نظير بيع المنظرة والدار الذي سبق ذكره، ولو كان نظرهما نقل كل واحد مما تعلق به العقد، بحيث يكون الجمع في التعبير، وإلا فالواقع معاملات متعددة بنظر العقلاء، كبيع التاجر الكتاب والثوب - مثلا - بإنشاء واحد، فتحصل المطابقة بإجازة البعض أيضا، وهذا ظاهر. والحق: أن الإجازة متعلقة بالمنشأ بنظر العقلاء، لا الانشاء، وشأن الانشاء إنما هي الطريقية، ولا موضوعية له، وتمام الموضوع بالنسبة إلى لحوق الإجازة إنما هو الموجود بالانشاء، وهو النقل لا نفس الانشاء، والدليل هو الرجوع إلى الارتكاز العقلائي في أن إجازة البيع هل هي إجازة النقل وإمضاؤه أو إجازة إنشائه؟ وبالرجوع إلى ذلك يحصل الجزم بالأول، فإن الانشاء لا خصوصية فيه، وعليه يترتب ما مر من اختلاف الموارد في حصول المطابقة وعدمها. هذا في الإجازة المتعلقة بالعقد، والكلام في القبول المتعلق بالايجاب عين الكلام بلا زيادة ونقصان، فلا يحتاج إلى الإعادة. وبالجملة: تختلف الحال - صحة وفسادا - فيما لو أجاز المالك بعض ما وقع عليه العقد، بحسب ملاحظة العقلاء انحلال العقد الواقع على المركب إلى معاملات
1 - تحرير الوسيلة 2: 102، المسألة 15 و 109، طبعة جماعة المدرسين. 575 متعددة وعدمه، فلو اشترى السلعتين المملوكتين لمالك واحد أو مالكين فضوليا، وأجاز المالك الواحد المعاملة الواقعة على أحدهما، أو أجاز أحد المالكين المعاملة الواقعة على ماله، صحت المعاملة لملاحظة العقلاء انحلال المعاملة إلى معاملتين فيها، بخلاف بعض موارد أخرى كبعض الأمثلة المتقدمة. في عدم تطابق الإجازة والعقد في الأوصاف وأما في الثاني وهو الأوصاف: فقد يقع العقد على كلي مقيد بوصف - كالفرس العربي - فلا يمكن إجازة المطلق أو المقيد بغير ذلك الوصف، لعدم حصول المطابقة بنظر العقلاء، وإن قلنا بالانحلال بالتحليل العقلي، ولا نقول، وقد يقع على كلي غير مقيد بشئ، فلا يمكن إجازة المطلق أيضا، لعدم حصول المطابقة كسابقه، وقد يقع على عين شخصية خارجية مقيدة بعنوان، فيجيزه المالك مطلقا أو مقيدا بغيره، فتصح المعاملة حينئذ لوقوع العقد والإجازة على ذلك الشخص، فالمطابقة حاصلة والتقييد بالعنوان لا يضر بها، فإن المفروض عدم وقوع العقد على العنوان، نظير مسألة الاقتداء بزيد فبان أنه عمرو، على مسلكنا من صحة الجماعة مطلقا حتى على التقييد (1)، لوقوع الاقتداء بالخارج، لا بالعنوان. في عدم المطابقة في الشرائط وأما في الثالث وهو الشرائط: فتختلف الحال فيها أيضا بحسب الشروط، ففي موارد الشروط المصححة للعقد، كبيان ما يندفع به الغرر شرطا، والشروط المحددة للموضوع، كبيع الفرس إذا كان عربيا، لا يمكن إجازة العقد فاقدا للشرط،
1 - تحرير الوسيلة 1: 242، المسألة 5، طبعة جماعة المدرسين. 576 لبطلان العقد حينئذ في الأول، وعدم المطابقة في الثاني. كما أنه لا يمكن إجازة العقد الفاقد للشرط في الشرط الذي تعلق الغرض به محضا، وجعله في البيع لغرض من الأغراض، كالفرار عن محذور عدم لزوم الشروط الابتدائية - مثلا - لعدم مساعدة العقلاء على الانحلال حينئذ حتى تحصل المطابقة. نعم، في موارد الشروط الزائدة على العقد مع تعدد الغرض في العقد والشرط، يمكن فرض الانحلال، كما لو باعه شيئا وشرط على المالك الاعتكاف مثلا، وهكذا في الشروط الزائدة على العقد مع دخلها في الغرض الواقعي، كما إذا تعلق غرضه ببيع ماله بعشرين، والفضولي اشتراه بعشرة بشرط أن يخيط المالك ثوب البائع مثلا، فخياطة الثوب دخيلة في الغرض واقعا لمقابلتها العشرة من القيمة غير دخيلة في الثمن الواقع عليه المعاملة، لجعله شرطا زائدا عليها، فيمكن الالتزام بالانحلال أيضا، خلافا للشيخ (رحمه الله) في الشروط (1)، فإن الغرض الواقعي - الذي هو من الدواعي ولا يضر تخلفه بالمعاملة - غير دخيل في المعاملة الانشائية، والمفروض وقوع المعاملة على الشئ بإزاء عشرة وجعل الخياطة شرطا زائدا عليها، فتكون نظير ما سبق من الشروط الزائدة، فيقبل الانحلال، فتأمل. ولو أوقع الفضولي العقد مطلقا، وأجازه المالك مشروطا أو مقيدا (2)، فيقع الكلام في ذلك تارة من جهة تصحيح العقد بالإجازة، وأخرى في لزوم هذا الشرط بناء على التصحيح. أما الأول: فقد يقال بالتفصيل بين كون الشرط للمالك أو عليه، والحكم بالبطلان في الأول دون الثاني، فإنه راجع إلى جعل أمر على المالك زائدا على إجازة ما وقع عليه العقد، بخلاف الأول، لعدم إجازة ما وقع عليه العقد حينئذ، نظير
1 - المكاسب: 136 / سطر 27. 2 - المكاسب: 136 / سطر 29. 577 ما لو وقع العقد مشروطا وأجازه مطلقا، فيفصل بين كون الشرط للمالك أو عليه، بالحكم بالصحة في الأول دون الثاني، لرجوع الأول إلى إسقاط ما جعل له والثاني إلى عدم إمضاء ما وقع عليه العقد، ولكن إسقاط الحق أو جعله على نفسه خارج عن البحث، والكلام في أن العقد لو وقع مطلقا، وأجازه المالك مشروطا غير مطلق، فهل يمكن الحكم بالنفوذ، أو لا؟ ولا يخفى الاختلاف بحسب الموارد كما مر، ففي مورد التقييد في المبيع الكلي لا يمكن الحكم بالصحة، لعدم حصول المطابقة، بخلاف مورد التقييد في الشخصي واشتراط أمر زائد على ما وقع عليه العقد، نظير الوجهين الأخيرين السابقين، لحصول المطابقة حينئذ، على تأمل في الأخير منهما كما مر. وأما الثاني: وهو لزوم الشرط بناء على عدم نفوذ الشروط الابتدائية، فذكر السيد (رحمه الله): أن الشرط الابتدائي وإن كان خارجا عن مفهوم الشرط، إلا أنه لا يعتبر في مفهومه وقوعه في ضمن عقد، بل يكفي تعلقه بمطلق شئ آخر (1) (2). ولا يخفى ما في ذلك، فلو قرأ سورة الحمد - مثلا - وشرط شيئا، فهل يلتزم
1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 160 / سطر 35. 2 - ليس في كلام السيد (رحمه الله) كلمة الشئ ونحوه بل ما يظهر من كلامه: أنه لا يعتبر وقوع الالتزام في ضمن العقد حتى يصدق الشرط عليه، بل إنه التزام في ضمن التزام، فينطبق على الالتزام في ضمن الإجازة أيضا. والظاهر تمامية ما ذكره، وحديث تمامية الايقاع قبل الشرط، مع أنه منتقض بما إذا صدر الايقاع والشرط من الفضولي، وأجاز المالك الأمرين معا، لا يساعد عليه العقلاء. نعم، في بعض الموارد - كالطلاق والتحرير - علم من الخارج أنها غير قابلة للفسخ، فلا يؤثر تخلف الشرط فيه في جواز فسخه. نعم، لو التزمنا بوجوب الشرط تكليفا يكون للشرط في ضمن الطلاق والتحرير أيضا أثر، وأما في غير هذه الموارد كالبذل - مثلا - لو قلنا بأنه إيقاع، فلو بذل واشترط على الآخر شيئا، فلم لا يجب عليه العمل به، ولم يتسلط المشروط له على الفسخ بتخلف الشرط؟! فتدبر. المقرر دامت بركاته. 578 بنفوذ ذلك لوقوع الشرط في ضمن الحمد، بل يعتبر في مفهوم الشرط وقوعه في ضمن عقد، والإجازة خارجة عن العقد؟ ولو قيل بكفاية الايقاع، يقال عليه: إنه بتمامية الايقاع يحصل التأثير، ولا مجال للاشتراط بعد ذلك، ولذا لا نلتزم بكفاية الاشتراط بعد القبول، بل لا بد من الاشتراط في الايجاب والقبول بعده، مع أن نتيجة الشرط قابلية المشروط فيه للفسخ بتخلفه، فلا بد من وجود بقائي اعتباري عند العقلاء لذلك، حتى يحكم بقابليته للفسخ بعد التخلف، وهذا لا يمكن إثباته ببناء العقلاء في الإجازة، فإن الإجازة المشروطة غير متداولة عندهم، حتى يستند في إثبات حكمها ببنائهم، بخلاف البيع - مثلا - ولذا يقبل الفسخ والإقالة بنظر العقلاء، فليتدبر فإنه حقيق به (1).
1 - ذكر بعض أساتيذنا في المقام: أن معنى الشرط الواقع في ضمن العقد، تقييد الالتزام بالوفاء بالالتزام المعاملي بذلك الشرط، ومعنى ذلك: أنه عند تخلف الشرط لا يلتزم المشروط له بالوفاء بالالتزام المعاملي، وهذا غير تعليق الالتزام المعاملي في شئ، وإلا يبطل العقد على المشهور. فعلى ذلك لا بد من الحكم بالبطلان عند الإجازة المطلقة، مع وقوع العقد على المقيد، وبالعكس، لعدم حصول المطابقة، فإن المجاز مطلق، والمبيع حصة خاصة، أي المبيع الذي لم يلتزم المشروط له بالوفاء به لو لم يحصل الشرط. وفيه: أن المبيع هو مطلق الشئ في مقابل الثمن، لا الحصة، غاية الأمر رجع معنى الشرط إلى تقييد الالتزام بالوفاء، وهذا أمر خارج عن البيع والمبيع، فكيف لا يصح إمضاء البيع مطلقا؟! غاية الأمر الأصيل مخير في الفسخ للتخلف، وأين هذا من البطلان؟! كما أن تخلف الشرط في الأصيلين موجب للخيار، لا البطلان. المقرر دامت بركاته. 579 القول في المجيز قال الشيخ (رحمه الله): فاستقصاؤه يتم ببيان أمور: الأول: في شروط المجيز يشترط في المجيز أن يكون حين الإجازة جائز التصرف بالبلوغ والعقل والرشد، ولو أجاز المريض بني نفوذها على نفوذ منجزات المريض، ولا فرق فيما ذكر بين الكشف والنقل (1). انتهى. في توقف إجازة المريض على نفوذ منجزاته الظاهر اختلاف الحال بحسب المباني، فبناء على الكشف المحض واشتراط الرضا التقديري في صحة العقد، يمكن القول بعدم حجر المريض ولو بناء على عدم نفوذ المنجزات إلا من الثلث. نعم، لو قلنا بالنقل أو الكشف بسائر معانيه، بحيث يكون للإجازة نحو تأثير في النقل والانتقال، فنفوذ الإجازة مبني على نفوذ
1 - المكاسب: 136 / سطر 32 - 33. 581 المنجزات، وإن احتمل السيد (رحمه الله) عدم البناء على ذلك - بناء على الكشف - نظير القبض المعتبر في صحة العقد في موارده (1). فإن الظاهر أن الإجازة نحو تصرف مالي عند العقلاء حتى على الكشف، وهو ممنوع من ذلك. والمحقق النائيني (رحمه الله) بعد طرح الدعوى - كما ذكر الشيخ (رحمه الله) - مثل لبيان ذلك بالرهن ونحوه قبل الإجازة، وذكر أن المجيز حينئذ ممنوع من الإجازة كالبيع الابتدائي، فإن تأثير الإجازة حينئذ دوري، فإن بطلان التصرف - الرهن ونحوه - يتوقف على تأثيرها، والتأثير يتوقف على بطلانه (2). ولا يخفى خروج ذلك عن محل الكلام، فإن بحثه راجع إلى هادمية ما ينافي الإجازة وعدم الهادمية، وبحثنا راجع إلى شرائط المجيز، وبينهما بون بعيد. الثاني: وجود المجيز حين عقد الفضولي شرط في صحته قال الشيخ (رحمه الله): الثاني: هل يشترط في صحة عقد الفضولي وجود مجيز حين العقد، أو لا يشترط؟ قولان، أولهما للعلامة في ظاهر القواعد (3)، واستدل له: بأن صحة العقد - والحال هذه - ممتنعة، فإذا امتنع في زمان امتنع دائما (4). قد يقال بوجود المجيز في العقود دائما، فالمسألة لا صغرى لها، فإن الإمام (عليه السلام) ولي من لا ولي له، وله إجازة العقد الذي لا مجيز له فعلا، كبيع مال اليتيم
1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 161 / سطر 20. 2 - منية الطالب 1: 260 - 261. 3 - قواعد الأحكام 1: 124 / سطر 18. 4 - إيضاح الفوائد 1: 419، مقابس الأنوار: 133 / سطر 22، المكاسب: 136 / سطر 33. 582 المذكور مثالا لهذه المسألة (1)، ولذا قيد بعضهم عنوان المسألة بمجيز نافذ الإجازة، بزعمهم عدم نفوذ العقد على مال اليتيم مع المفسدة ولو بإجازة الإمام (2). ولا يخفى ما فيه، فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) أولى بالمؤمنين من أنفسهم، لكن الكلام في كبرى المسألة بلا نظر إلى وجود صغرى لها خارجا، نظير البحث عن حكم الدم المخلوق في الساعة مع عدم وجود الموضوع له في الخارج. في تحقيق مراد العلامة وكيف كان، فلتحقيق ما ذكره العلامة (قدس سره)، لا بد من النظر في المراد من وجود المجيز، لا إشكال في عدم دخل ذات المجيز في صحة العقد، كما لا إشكال في عدم إرادة المجيز بوصفه من كلامه، فإن معناه اعتبار فعلية الإجازة حال العقد، وهذا مناف للفضولية، كما لا يخفى. ولو كان المراد من وجود المجيز أهلية الإجازة، فمع عدم الاشكال في عدم دخلها في صحة العقد، يكون الاستدلال على اعتباره بما ذكره العلامة مصادرة بالمطلوب، فإن الكلام في أنه هل العقد مع عدم وجود من له أهلية الإجازة ممتنع، أو لا؟ ويرد عليه أيضا: أن الامتناع بالذات في المقام لا معنى له، والامتناع بالغير لا يمكن إلا أن يكون المراد منه: أن العقد مع عدم الإجازة ممتنع، لعدم دخل غير الإجازة في صحة العقد، كما ذكرنا، ولازم هذا الكلام بطلان الفضولي رأسا، فإن الفضولي ممتنع حدوثا، فهو ممتنع بقاء، لما ذكره العلامة (رحمه الله): من أنه إذا امتنع في زمان امتنع دائما، مع أن هذه الملازمة ممنوعة جدا، فإن الشئ الممتنع في زمان
1 - حاشية المكاسب، الإيرواني 1: 134 / سطر 7، حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 164 / سطر 1. 2 - حاشية المكاسب، الإيرواني 1: 134 / سطر 5. 583 لعدم حدوث علته، ليس بممتنع في زمان حدوث علته، بل هو واجب، فنفوذ العقد حاله ممتنع لعدم علته، وفي زمان الإجازة واجب لوجود علته، وهي الإجازة. فعلى هذا كبرى ما ذكره العلامة: من أن الممتنع في زمان ممتنع دائما، ممنوعة، ولا سيما بملاحظة ما حكي عنه في ذيل هذه العبارة - تعليلا للتعليل المذكور -: وهو أن الباطل في زمان باطل دائما (1). نعم، يمكن توجيه ما ذكره: من أن العقد الذي لا مجيز له صالح للإجازة، يغاير سائر العقود الفضولية لامكان الإجازة فيها، بخلاف المقام، فبطلان العقد الذي لا مجيز له غير بطلان سائر العقود الفضولية، بل معنى بطلانه عدم قابليته لترتب الأثر عليه ولو بالإجازة، كعقد المجنون مثلا. فعلى هذا التقريب لا ترد عليه المناقشة في الكبرى، كما أورد عليه الشيخ (رحمه الله) (2)، بل لنا السؤال عن الدليل على البطلان كذلك. مناقشة كلام العلامة بحسب فهم مراده ويظهر مما ذكرنا ما في تفسير كلام العلامة من عبارة ولده الفخر (رحمه الله) - على ما في المقابيس (3) - وقد فسر المحقق الأصفهاني (قدس سره) كلام الفخر (رحمه الله) موافقا لما فسرنا، وهو أنه مع عدم وجود المجيز لا تكون للعقد الصحة التأهلية أيضا، فلا يصح دائما (4)، وقد عرفت - بلا مزيد عليه - عدم تمامية هذا الكلام صغرى وكبرى: أما الصغرى: فهذا الدليل مصادرة محضة، مع أن الاطلاقات تنفي اعتبار وجود المجيز في الصحة، والممتنع إنما هو الصحة الفعلية لا التأهلية.
1 - مقابس الأنوار: 133 / سطر 22. 2 - المكاسب: 137 / سطر 2. 3 - مقابس الأنوار: 132 و 133. 4 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 164 / سطر 12 - 17. 584 وأما الكبرى: فلا نسلم هذه الملازمة أيضا، لعدم الدليل عليه، فلو باع الفضولي الخمر الشخصية، ثم انقلبت خلا في زمان الإجازة، أمكن تصحيح العقد بها للاطلاقات. وتحقيق الحال: أنه لو قلنا بأن الكشف على القواعد ومقتضى الاطلاقات، فيمكننا دفع كل ما احتمل دخله في صحة العقد، ومنه وجود المجيز حال العقد بالاطلاقات، كما هو الحال بناء على القول بالنقل. وأما لو قلنا بالكشف تعبدا وإن اقتضت القواعد النقل، فحيث لا إطلاق لأدلة التعبد بالكشف يشمل المقام، لا يمكننا القول به. نعم، ندفع القيد المحتمل بالاطلاقات ونلتزم بالنقل، وقد مر مثل ذلك في ما سبق. فتحصل: عدم اعتبار وجود المجيز - لا ذاتا ولا وصفا - في صحة العقد ونفوذه، وإن اعتبر في الكشف على الكشف التعبدي. إشكال ودفع وقد يشكل على الكشف في مثل بيع مال اليتيم من دون مصلحة، مع حصول الإجازة في زمان وجود المصلحة: بأن الحكم بالصحة ممتنع حتى بعد الإجازة، فإن الكشف لا يمكن لعدم المصلحة في ظرف حدوث العقد، والنقل لا دليل عليه، فإن مقتضى القواعد حسب الفرض الكشف. وأنت خبير بأن الحكم بالامتناع في مثل ذلك أجنبي عن اعتبار وجود المجيز حال العقد، فإن وجهه ليس عدم وجود المجيز ذاتا أو وصفا حاله، بل وجهه ما ذكر: من عدم وقوع العقد موافقا للمصلحة (1).
1 - وقد التزم بعض أساتيذنا في المقام بالصحة مع التزامه بالكشف الانقلابي، بدعوى: أن عدم المصلحة حال الحدوث لا ينافي الصحة، فإن ظرف استناد البيع أو الشراء إلى المجيز زمان الإجازة لا العقد. ويرد عليه - بعد الاغماض عما أفاده سيدنا الأستاذ مد ظله في حديث الاستناد - أنه في زمان الإجازة يستند العقد الواقع على مال اليتيم من دون مصلحة إلى المجيز، فإن هذا معنى الانقلاب، فكيف يمكن الحكم بصحة مثل هذا العقد؟! نعم، لا بأس به على النقل كما هو ظاهر. المقرر دامت بركاته. 585 استدلال المحقق الثاني لاعتبار وجود المجيز حال العقد وجوابه ذكر الشيخ (رحمه الله) لما استدل به لاعتبار وجود المجيز حال العقد ثانيا: وبلزوم الضرر على المشتري، لامتناع تصرفه في العين لامكان عدم الإجازة، ولعدم تحقق المقتضي، ولا في الثمن، لامكان تحقق الإجازة، فيكون قد خرج عن ملكه (1). هذا. وهذا الاستدلال عن] المحقق الثاني (قدس سره) [(2)، وقد تقدم ما هو الجواب عنه] كما ذكرنا في جواب الفخر (رحمه الله) [: وهو أنه أولا: دليل نفي الضرر غير حاكم على العمومات، ومرجع رفع المحذور إلى الحاكم الشرعي (3). وثانيا: منشأ الضرر في المقام إنما هو عدم جواز التصرف، لا صحة العقد، فغايته أن دليل الضرر يثبت جواز التصرف، لا اعتبار وجود المجيز حال العقد فيه. وثالثا: قد سبق أن العقد الفضولي ما لم يلحق به الإجازة غير مشمول لدليل الوفاء، فيجوز تصرف كل منهما في ماله حتى على الكشف، لأصالة عدم الإجازة بالمعنى الذي ذكرناه، فلا تصل النوبة إلى تحكيم دليل الضرر على العمومات،
1 - المكاسب: 136 - 137. 2 - جامع المقاصد 4: 72. 3 - تقدم في الصفحة 571. 586 وصحة العقد تأهلا - مع جواز تصرف كل في ماله - لا ضرر فيها، هذا، وقد مر: أن الايراد مشترك الورود بين المورد والموارد المذكورة فيها ومطلق بيع الفضولي، مع تأخر الإجازة إلى زمان بعيد ولو في صورة جهل المجيز بوقوع العقد على ماله إلى ذلك الزمان. الثالث: عدم اشتراط كون المجيز جائز التصرف قال الشيخ (رحمه الله): الثالث: لا يشترط في المجيز كونه جائز التصرف حال العقد... (1) إلى آخره. لا يخفى أن هذه المسألة متفرعة على المسألة السابقة، فبناء على اعتبار وجود المجيز حال العقد، يقع البحث عن اعتبار كونه جائز التصرف حاله أيضا، أم لا. وقد ذكر الشيخ (رحمه الله): أن عدم جواز تصرف المجيز ناشئ: إما من عدم المقتضي، أو وجود المانع، والأول كعدم كونه مالكا أو مأذونا منه، وكونه محجورا من التصرف في ماله، لسفه أو جنون أو غيرهما، والثاني كما لو باع الراهن بدون إذن المرتهن، ثم فك الرهن، وفي عد المحجور من التصرف في عدم وجود المقتضي، ما لا يخفى. وقد ابتدأ ببيان حكم الأخير في المسألة الأولى، وقال: الأولى: أن يكون المالك حال العقد هو المالك حال الإجازة، لكن المجيز لم يكن حال العقد جائز التصرف لحجر، والأقوى صحة الإجازة، بل عدم الحاجة إليها إذا كان عدم جواز التصرف لتعلق حق الغير، كما لو باع الراهن ففك الرهن قبل مراجعة المرتهن، فإنه لا حاجة إلى الإجازة، كما صرح به في التذكرة (2). انتهى.
1 - المكاسب: 137 / سطر 11. 2 - المكاسب: 137 / سطر 11، تذكرة الفقهاء 2: 50 / سطر 14. 587 في مناقشة كلام الشيخ فلا بد من التكلم في جهات: الأولى: في أصل صحة مثل هذا العقد، وهل هنا فارق بين مطلق الفضولي وهذا العقد، أو لا؟ الثانية: في أنه بناء على الصحة، هل تعتبر في نفوذه الإجازة، أو لا، بل يكفي فك الرهن، أو الاسقاط، أو غير ذلك؟ الثالثة: في أنه هل يجري نزاع الكشف والنقل فيه، أو لا؟ كلام المحقق الأصفهاني في الفارق بين المقام ومطلق الفضولي أما الجهة الأولى] والثانية [: فقد ذكر المحقق الأصفهاني (قدس سره) فارقا بين المقام ومطلق الفضولي: وهو أن دليل اعتبار الرضا يوجب تخصيص عموم وجوب الوفاء بالعقود، أو تقييد إطلاق حلية البيع - مثلا - وبما أن تخصيص العام أو تقييد المطلق يوجب تضييق دائرته، وتنويعه إلى كليين أحدهما ينطبق على أفراد المخصص أو المقيد والآخر على غيرها، فتكون النتيجة وجوب الوفاء بالعقود المرضي بها، أو حلية البيع كذلك وعدم الوجوب، والحلية في غير ذلك، فمتى وجد عقد، ثم تعقبه الرضا، يوجد فرد يندرج تحت ذلك الكلي الواجب وفاؤه، فيصح البيع الفضولي، لشمول دليل النفوذ له بعد الإجازة لوجود مصداق موضوعه، وهذا بخلاف بيع المالك ما تعلق به حق الرهانة، فإن الحكم بصحة البيع - على القول بالكشف - موجب للحكم بفساد الرهن، والمفروض وقوعه صحيحا. وأما على النقل فعن المصنف (قدس سره) في محله: أن العقد مقتض وحق الرهانة مانع، فمع زوال الحق - بفك أو إبراء أو إسقاط - يزول المانع، ويؤثر المقتضي أثره.
588 والتحقيق: أنه لو أريد من المقتضي عموم (أوفوا بالعقود) (1) بالنسبة إلى ما عدا زمان الرهن. ففيه: أنه لا تخصيص ولا تقييد في الباب، بل البيع والرهن فردان للعقد متنافيان متزاحمان، وليس التزاحم العقلي موجبا لتعنون العنوان بكليين، بل إنما هو موجب لعدم شمول العام لهما معا، وحيث إن المفروض سبق حق الرهن ونفوذه، فلا يعقل شمول العام للفرد المزاحم له عقلا - وهو البيع - فلا مصداق لدليل العام حتى يحكم بصحته ونفوذه، سواء لحقته الإجازة أو لا. وإن أريد من المقتضي مثل قوله تعالى: (أحل الله البيع) ونحوه من الأدلة الخاصة، ومن المانع مثل دليل الرهن بالخصوص، فهذا يوجب التنويع، وحيث إن مقتضى مانعية حق الرهانة المانعية ما دام حق الرهانة، فيحكم بنفوذ البيع بعد الفك أو الابراء أو الاسقاط (2). انتهى ملخصا ومحصلا. مناقشة كلام المحقق الأصفهاني ونشير إلى بعض المباني التي ذكرها (رحمه الله): منها: أن التخصيص والتقييد يوجبان تعنون العام بعنوانين، والحق خلافه في التخصيص دون التقييد، فإن تقديم الخاص على العام ليس لأظهريته عنه في الدلالة، بل الدلالات اللفظية كلها على النحو الواحد والطرز الفارد فيهما، والتقديم إنما هو في جهة الصدور لا الدلالة، فإن الأصل العقلائي - وهو تطابق الجد والاستعمال في العمومات الواردة في مقام ضرب القانون - إنما هو في ما إذا لم يكن دليل تخصيص في البين، وإلا يكشف به تضيق دائرة الجد عن دائرة الاستعمال، فليس تصرف
1 - المائدة 5: 1. 2 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 166 / سطر 8. 589 دلالي في العموم، حتى يقال: إن التخصيص موجب للتنويع فيه، بخلاف المطلقات، فإن الحكم بالاطلاق موقوف على إجراء مقدمات الحكمة زائدا على دلالة المطلق على نفس الطبيعة لفظا، فإن جعل مثل هذا الحكم المترتب على نفس الطبيعة، فعل اختياري للمولى الحكيم، فلو كان قيد دخيلا في موضوع حكمه لكان عليه البيان، فبدليل القيد يستكشف موضوع حكم المولى واقعا، وأنه المقيد، وإن أخذ المطلق موضوعا في الدليل فيمكن الحكم بالتنويع فيها (1). ومنها: أن التزاحم موجب لعدم شمول الدليل لهما معا. وقد مر سابقا: أن الحق خلافه، فإن مدلول الدليل ليس إلا ترتب الحكم على عنوان موضوعه، والتزاحم إنما هو في مقام العمل والامتثال، فالدليلان شاملان، ولا يمكن العمل بهما، ولذا قلنا في محله: إنه لا حاجة إلى البحث عن الترتب وإن كان بديهي البطلان، فإن الأمرين موجودان في عرض واحد، ولا علاقة لأحدهما بالآخر. ومنها: أن الأسبقية زمانا من المرجحات في باب التزاحم. والحق خلافه، فإن المتأخر لو كان أهم للزم صرف القدرة فيه بحكم العقل
1 - لقد سمعت مرارا هذا الكلام من السيد الأستاذ - مد ظله - ولاحظته في كتبه أيضا، إلا أنه بعد لم أفهم حقيقة مراده مما أفاده في الفرق، أليس ما أفاده في المطلقات، هو الكشف عن الجد في المطلق بدليل القيد كالعموم. والظاهر - والله العالم - أن وجه التقديم في العمومات والمطلقات ملاك واحد ومناط فارد، وهو الكشف عن تضيق دائرة الجد عن الاستعمال، وجريان مقدمات الحكمة مشترك بينهما، لا في الدلالة اللفظية، بل للحكم بتطابق الجد والاستعمال، ولذا بنيت على عدم الترجيح في مورد تعارض العموم والاطلاق. وكيف كان، الالتزام بالتنويع في غير محله، فإن العموم والمطلق حجتان ببناء العقلاء، ولا يمكن رفع اليد عن الحجة الفعلية إلا بالحجة الثابتة على خلافها، فلا يسري إجمال المخصص المنفصل إلى العام، وهكذا في المقيد المنفصل. نعم، في المتصل منهما لا يمكن التمسك بالعموم في مورد الشك، لفقد الظهور اللفظي حينئذ. وتمام الكلام في محله. المقرر حفظه الله. 590 وإن كان الأول أسبق، بل لو كانا كلاهما مهمين بلا أهمية لأحدهما على الآخر، فالحكم هو التخيير عقلا. فعلى ضوء هذه المباني يظهر عدم تمامية ما ذكره: من عدم شمول دليل الوفاء للبيع والرهن معا، والدليل شامل لهما بلا فرق بين العمومات أو الأدلة الخاصة بالبيع والرهن، فيمكن تصحيح البيع حينئذ، مع أن المزاحمة إنما هي بين البيع حال الرهن والرهن لا بين أصله والرهن، فلو سلمنا عدم شمول الدليل للبيع فلا نسلم خروج الفرد عنه، بل المتيقن تقييد إطلاقه الأحوالي، فلا مانع من التمسك بعمومه الأفرادي بعد حال الرهن. هذا مضافا إلى أن الفرق بين العمومات والأدلة الخاصة لا يرجع إلى محصل، فإن التزاحم والتمانع لو لم يصلح للتخصيص في العمومات، لم يصلح للتقييد في هذه الأدلة أيضا، والتنويع فرع التقييد. والحاصل: أن دليل حلية البيع ونفوذ الرهن كليهما شاملان للمورد، وتقييد أحدهما بالآخر بلا وجه، ورفع اليد عن أحدهما إنما هو من جهة المزاحمة كما في العمومات، على ما اختاره وعلى ما اخترنا: من وجود الاطلاقين وشمولهما للمورد في فرض التمانع والتزاحم، فالأمر - كما مر - من إمكان تصحيح البيع، ولو قلنا بالتعارض بين دليل الحلية ونفوذ الرهن وسقوطهما في المجمع، فلا يمكننا تصحيح البيع حتى بعد الفك والإجازة، لخروج الفرد عن دليل الحلية بالمعارضة. فالتفصيل بين الاستناد إلى العمومات أو دليل الحلية لا يصح بوجه. والتحقيق: أن المقام غير داخل في باب التزاحم والتعارض، لعدم شمول إطلاقهما للمورد، فإن دليل نفوذ الرهن وإن كان منطبقا على الرهن المتقدم على البيع، إلا أن دليل نفوذ البيع - عموما وخصوصا - منصرف عن بيع متعلق حق الغير من جهة الرهن، كما أن دليل نفوذ الرهن لا يشمل الرهن بعد البيع، وعليه فلا يصح
591 البيع ما دام الرهن، ولا يشمله دليل الوفاء، فلا يجب الفك. نعم، بالفك يصح البيع بلا حاجة إلى إجازة الراهن، لتمامية موضوع دليل النفوذ، وهو العقد، وعدم المانع وهو الرهن، والانصراف المدعى أحوالي لا أفرادي، فليتدبر جيدا (1).
1 - أقول: المسألة مبتنية على أن التصرف الممنوع من قبل الراهن، هل هو مطلق التصرف، أو التصرف المنافي لكون العين المرهونة وثيقة؟ فعلى الأول يصح ما ذكر، لكن لا لدعوى الانصراف، بل لأن موضوع وجوب الوفاء هو العقد الانشائي ورضا المالك وعدم المانع، كالرهن على الفرض، ولا دليل على اعتبار المقارنة مع العقد في شئ من ذلك، فمتى تحقق العقد الانشائي ورضا المالك وعدم الرهن، يحكم بالنفوذ ووجوب الوفاء بالعقد. ولو بنينا على الثاني فمقتضى القاعدة صحة البيع ولزومه من قبل الراهن، وانتقال العين إلى المشتري محقوقا بحق الرهانة، نظير بيع العين المستأجرة، غاية الأمر أنه مع جهل المشتري بالحال يجب الفك على الراهن، لوجوب وفائه بالعقد، ومع عدم إمكان الفك، أو عدم الفك مع الامكان، يتخير المشتري في فسخ عقده، وأما مع علم المشتري بالحال وإقدامه على هذه المعاملة مع بقاء الرهن، فلا يجب على الراهن الفك، وتنتقل العين مستحقة إلى المشتري، وللمرتهن بيع العين إذا لم يفكها الراهن. والحق هو الثاني وإن ادعي الاجماع أو الشهرة العظيمة على الأول، واستدل عليه بإطلاق الراهن والمرتهن ممنوعان من التصرف، فإن الاجماع والشهرة مستندان إلى المدرك، وهو الاطلاق المذكور، والاطلاق - بمناسبة الحكم والموضوع - منصرف إلى التصرفات المنافية، ويدل على ذلك صحيحتان لمحمد بن مسلم (الكافي 5: 237 / 20، الفقيه 3: 201 / 910، تهذيب الأحكام 7: 169 / 753، وسائل الشيعة 13: 133، الرهن، في أحكام الرهن، الباب 11، الحديث 1) والحلبي (الكافي 5: 235 / 15، تهذيب الأحكام 7: 169 / 752، وسائل الشيعة 13: 133، الرهن، في أحكام الرهن، الباب 11، الحديث 2)، دالتان على جواز وطء الراهن أمته المرهونة، فالصحيح هو الحكم بصحة البيع ونفوذه، وحتى حال الرهن بلا توقع للإجازة أو الفك، ويجب الفك في بعض الصور كما مر. وهكذا الكلام فيما إذا باع المفلس ما تعلق به حق الغرماء، فتدبر. المقرر حفظه الله. 592 في جريان نزاع الكشف والنقل في المقام] أما الجهة الثالثة [فهل يجري نزاع الكشف والنقل في المقام، أو لا؟ فقد وقع الخلط في كلمات المحققين بين أمرين، لا بد من التكلم في كل منهما: أحدهما: أنه بناء على اعتبار الإجازة، هل يجري نزاع الكشف والنقل في ذلك، أو لا؟ ثانيهما: أنه بناء على كفاية الفك وعدم الحاجة إلى الإجازة، فهل يكون الفك كالإجازة حتى يجري النزاع فيه، أو لا؟ وجهة البحث في كل مغاير للآخر، كما لا يخفى. في كلام المحقق الأصفهاني في المقام ومناقشته أما الكلام في الأول: فقد منع المحقق الأصفهاني (رحمه الله) ذلك من جهة إشكال عقلي في الكشف، وهو وجود المانع لحصول النقل من رأس، وهو الرهن (1)، مع أنه التزم في ما سبق بالكشف الانقلابي العنواني، لا الحقيقي، أي بالإجازة تعتبر الملكية السابقة، فظرف الاعتبار حال الإجازة، والمعتبر حال العقد، نظير ملكية الشخص فعلا المنافع الآتية، لا أنه في زمان الإجازة ينقلب الواقع عما هو عليه، أي اللاملكية السابقة تنقلب إلى الملكية. وعليه يندفع الاشكال العقلي المتقدم، فإن المانع قد ارتفع في ظرف الاعتبار، وما التزمنا بحصول النقل من رأس حتى يقال: إنه مقترن بالمانع، بل النقل حاصل من حين الإجازة، غاية الأمر النقل من حين العقد، فعلى هذا المعنى من الكشف
1 - حاشية المكاسب، المحقق الأصفهاني 1: 165 / سطر 33. 593 لا إشكال فيه. نعم، الكشف الحقيقي بمعانيه لا يمكن في المقام، لما ذكر والكشف الحكمي - أي الانقلابي بالمعنى المذكور ونظيره من التعبدي - لا إشكال فيه بخلاف الانقلابي الحقيقي ونظيره من التعبدي، للزوم الاشكال فيهما أيضا، فنزاع الكشف والنقل يجري في الإجازة بناء على اعتبارها في الجملة. في كلام المحقق النائيني ومناقشته وأما الكلام في الثاني: فذكر المحقق النائيني (رحمه الله) كلاما طويلا فيه لا يرجع إلى محصل، فإنه يظهر من المتن عدم جريان النزاع فيه على اضطراب، ومن الحاشية المذكورة في الكتاب الجريان، لابتناء المطلب على أن الفك هل يرجع إلى العقد أو لا (1)، ولا ندري ما أريد بهذا الكلام، وما معنى رجوع الفك إلى العقد. وكيف كان، فيمكن جريان النزاع في هذا أيضا في الجملة، فإن من التزم بالكشف في الفضولي - بتقريب: أن مضمون العقد وقوع النقل من حينه، والإجازة راجعة إليه، فلا بد من التأثير من الأول - يمكنه أن يلتزم في المقام بأن مضمون العقد وقوع النقل من حينه، غاية الأمر أن من جهة الاقتران بالمانع لا يمكنه التأثير، لكن بعد رفع المانع يؤثر في مضمونه، وهو النقل من حين العقد. والاشكال العقلي المتقدم غير وارد على هذا التقريب، لما مر: من أن ظرف النقل حال الفك لا حال العقد، ولكن ينتقل حينئذ المال من رأس، لأن هذا هو مضمون العقد.
1 - منية الطالب 1: 262 - 263. 594 ومما ذكرنا في الرهن يظهر الحال فيما إذا كانت العين متعلقة لحق الغرماء أيضا، نعم، في السفيه والصغير - مع البناء على عدم كونهما مسلوبي العبارة، كما هو كذلك - يحتاج نفوذ عقدهما على مالهما إلى إجازة الولي، أو إجازتهما بعد رفع المنع، فإن معنى مانعية السفه والصغر: عدم الاعتبار برضاهما، فلا بد من حصول الرضا، إما من الولي، أو منهما بعد ذلك، وأما المجنون والطفل الغير المميز فلا اعتبار بإنشائهما، إلا أن يكون المجنون ملتفتا إلى ذلك، بحيث يكون كالسفيه، والوجه في ذلك ظاهر.
595 حكم من باع شيئا ثم ملك ذكر الشيخ (رحمه الله) في هذه المسألة صورا، وذكر أن المهم هنا التعرض لبيان ما لو باع لنفسه، ثم اشتراه من المالك وأجاز، وما لو باع واشترى ولم يجز، ويعلم حكم غيرهما منهما (1)، ونحن نقتفي أثره. الصحة هي مقتضى الأصل والعمومات أما المسألة الأولى: فقد ذكر الشيخ (رحمه الله): أن مقتضى الأصل والعمومات الصحة (2). أما ما ذكره: من مقتضى العمومات فهو الصحيح، وقد تقدم تقريب ذلك في أول الفضولي. نعم، هنا إيرادات لفقها صاحب المقابيس (رحمه الله) (3) وتعرض لها الشيخ (رحمه الله) مع أجوبتها (4)، وسيجئ الكلام فيها.
1 - المكاسب: 137 / سطر 16. 2 - نفس المصدر / سطر 24. 3 - مقابس الأنوار: 134 / سطر 28. 4 - المكاسب: 137 / سطر 25. 597 مناقشة في كلام الشيخ وأما ما ذكره: من مقتضى الأصل، فغير معلوم المراد، ولذا حمله السيد (رحمه الله) على الأصل المستفاد من العمومات (1)، ولكنه كما ترى. وكيف كان، فلو أراد من الأصل الاستصحاب، فاستصحاب عدم اعتبار اتحاد المالك حال الإجازة، والعقد في العقد الخارجي، لا مجال له، لعدم العلم بالحالة السابقة فيه، واستصحاب عدم اعتبار ذلك في كلي العقد الفضولي مثبت، فإن النقل مترتب على ما هو بالحمل الشائع عقد، والاستصحاب في الكلي لا يثبت صحة العقد كذلك، أي حصول النقل والانتقال خارجا. نعم، يمكن تقريب الاستصحاب بوجه آخر: وهو استصحاب الصحة التأهلية لهذا العقد الخارجي. وفيه: أن إثبات الصحة الفعلية - بعد تحقق الإجازة باستصحاب الصحة التأهلية - مثبت على بعض الوجوه. وتفصيله: أن الصحة التأهلية ترجع إلى قضية تعليقية: وهي أنه لو أجاز المالك تصح المعاملة، وقد ذكرنا في الاستصحابات التعليقية: أنه تختلف الحال فيها باختلاف المجعول في المورد، فلو كان المجعول السببية أو الملازمة، فلا يجري الاستصحاب فيه إلا على الاثبات، فإن ترتب المسبب على السبب والملازم على الملازم لازم عقلي للسببية والملازمة (2). نعم، لو كان المجعول الحكم التعليقي - وهو جعل المسبب على تقدير تحقق السبب - جرى الاستصحاب، وليس من
1 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 163 / سطر 12. 2 - الاستصحاب، الإمام الخميني (قدس سره): 136 - 138. 598 المثبت في شئ، فإن استصحاب الحرمة على تقدير الغليان، مع حصول الغليان خارجا، ينطبق على المورد انطباق الحكم على موضوعه، نظير استصحاب وجوب إكرام العالم المنطبق على زيد العالم. وفي المقام لو كان معنى الصحة التأهلية: أن الشارع جعل سببية الإجازة للنقل، أو جعل الملازمة بينهما، فلا يجري الاستصحاب فيها إلا مثبتا. نعم، لو كان معناها أنه جعل أمرا تعليقيا - وهو النقل على تقدير الإجازة - فيجري الاستصحاب فيها بلا شبهة الاثبات، ولكن أنى لنا طريق إلى إثبات أن المجعول في الباب كذلك؟! واحتمال كون المجعول السببية أو الملازمة كاف في عدم جريان الاستصحاب، مع أن جريان الاستصحاب على الوجه الأخير أيضا لا يخلو عن إشكال في المقام، فإن المتيقن السابق هو الصحة على تقدير إجازة المالك الأول، والمشكوك اللاحق الصحة على تقدير إجازة المالك الثاني، فقد اختلفت القضيتان. وتوهم استصحاب الكلي في المقام، مندفع: بأنا وإن بنينا على جريان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلي أيضا (1)، إلا أنه لا أثر للكلي في المقام، فإن الصحة وحصول الأثر - أي النقل والانتقال - دائر مدار الخارج لا الكلي، فإجازة المالك بالحمل الشائع مؤثرة، لا إجازة المالك الكلي، فليتدبر. هذا، وفي التمسك بالعمومات كفاية. إشكالات صاحب المقابيس وأجوبة الشيخ عليها وأما الايرادات المذكورة في المقام من صاحب المقابيس (رحمه الله) (2)، فهي:
1 - الاستصحاب، الإمام الخميني (قدس سره): 91 - 92. 2 - تقدم في الصفحة 597. 599 الاشكال الأول أنه قد باع مال الغير لنفسه، وقد مر الاشكال فيه، وربما لا يجري فيه بعض ما ذكر هناك. وقد أجاب الشيخ (رحمه الله) عن ذلك: بأنه قد سبق أن الأقوى صحته، وربما يسلم هنا عن بعض الاشكالات الجارية هناك، مثل مخالفة الإجازة لما قصده المتعاقدان (1). إشكال المحقق النائيني وجوابه وقد أشكل المحقق النائيني (رحمه الله) على الشيخ (رحمه الله) ببيان الفرق بين المقام وما سبق، وقال: بأن مبنى الجواب فيما سبق: هو أن الغاصب لما سرق الإضافة، ورأي نفسه مالكا، أجرى العقد بين ملكي المالكين، ولذا يؤخذ بقصده المعاوضة بين ملكي المالكين، ويلغى تطبيق المالك على نفسه. وهذا الجواب لا يجري في المقام، لأنه لم يسرق الإضافة، ولم يغصب المال، فكيف يقصد المبادلة بين الثمن الذي يقصد تملكه والمثمن الذي هو ملك لغيره (2)...؟! إلى آخره. ونقول: لو كان مبنى الجواب فيما سبق هذا الذي يذكره المرحوم النائيني (رحمه الله): من سبق البيع للمالك على دعوى أنه هو المالك، نظير ما اخترناه في الحقائق الادعائية - تبعا لبعض الأعلام (3) - فهذا تثبيت للاشكال الأخير، فإن الواقع هو
1 - تقدم في الصفحة 597. 2 - منية الطالب 1: 264 / سطر 20. 3 - أنظر مناهج الوصول 1: 104 - 105، وقاية الأذهان: 103 - 112. 600 المعاملة للمالك، والإجازة قد تعلقت بالمعاملة للفضولي، أي المالك حال الإجازة. ودعوى: أن البيع واقع لكلي المالك، والإجازة متعلقة به، فينطبق على المالك حال الإجازة، باطلة، لأن كلي المالك غير مالك للمال حتى يقع البيع له، بل المالك هو الشخص، فمع وقوع البيع للمالك الأول لا تتعلق الإجازة به. نعم، لو كان مبنى الجواب تقدم الدعوى على البيع، أي يدعي أنه المالك، ويبيع لنفسه، نظير مجاز السكاكي، فيندفع هذا الاشكال وما تقدم: من أن هذه الدعوى لا تغير الواقع، وهو البيع لنفسه عما هو عليه، فلا يقع البيع بإجازة المالك له. ووجه اندفاع كلا الاشكالين ظاهر، فإن البيع بعد ادعاء المالكية وقع للفضولي الذي هو المالك ثانيا، والإجازة أيضا قد تعلقت به، فتصحيح البيع في المقام أهون مما سبق، لعدم ورود إشكال عدم المطابقة بين المجاز والواقع عليه، وعدم ورود ما ذكرنا من الاشكال على الجواب عن الايراد الأول أيضا. نعم، يبقى إشكال إمكان الجد بهذه الدعوى على حاله، وقد سبق تفصيل الكلام في ذلك، ويأتي إن شاء الله. إشكال آخر في المقام وجوابه وهنا إشكال آخر، نتيجته: عدم إمكان الجمع في الحكم بالصحة بين المقام وما سبق مبنيا على ما ذكره الشيخ (رحمه الله) فيما سبق، وهو المختار: من أن مقتضى المعاوضة والمبادلة خروج كل من العوضين عما يدخل فيه الآخر، وإلا لم تتحقق المعاوضة والمبادلة حقيقة، فإنه لو كان المنشأ المعاوضة بين ما خرج عن ملك المالك الأول وما دخل فيه، فلا بد من الحكم بالبطلان في المقام، ولو كان واقعا على المعاوضة بين ما خرج عن ملك المالك الثاني وما دخل فيه، فلا بد من الحكم
601 بالبطلان فيما سبق (1). ودفع هذا الاشكال غير ممكن، إلا بالالتزام بفساد المبنى، والقول بأن المبادلة لا تقتضي اتحاد الخارج والداخل، بل لو وقعت بين شيئين ولو مبهما يصدق المفهوم، لكن لازم ذلك أنه لو وقعت بين كليين مبهما، يمكن تصحيحها بإجازة كل شخص أجازها، فلو فرضنا أن أحدا باع منا من الحنطة كليا بدينار، صح البيع، ويقع لكل من أجاز ذلك. وهذا كما ترى ليس بيعا عقلائيا. بل التحقيق: أن المبادلة لا تتحقق إلا بالاخراج والادخال بالحمل الشائع، وهذا ينافي الابهام، فلا بد إما من الحكم بالبطلان في المقام، أو في السابق وحيث بنينا على الصحة سابقا موافقا لنظر العقلاء، وذكرنا أن قصد وقوع البيع لنفسه لا يخل بالواقع (2)، نحكم بالبطلان في المقام (3). وبالجملة: إن الجمع بين إمكان تصحيح البيع الفضولي بإجازة المالك، بحيث يقع البيع له، وتصحيحه بشراء البائع الفضولي بعد البيع - سواء قلنا باعتبار إجازته
1 - تقدم في الصفحة 146 - 147 و 450. 2 - تقدم في الصفحة 456. 3 - الظاهر الفرق بين المقامين، أي بيع الغاصب والدلال الذي لا يملك ما يبيعه فعلا، ثم يشتريه للتسليم إلى المشتري الذي عقدت المسألة لبيان حكمه، فإن الغاصب يبيع المال ليأكل ثمنه، ولا يبالي بوقوع البيع لمالكه أو لنفسه، ومعنى قصده المعاملة لنفسه ليس إلا البيع لأكل ثمنه، بخلاف الدلال المبحوث عن حكمه في المقام، فإنه يقصد وقوع البيع لنفسه، بحيث يخرج المبيع عن كيسه، ويدخل الثمن في كيسه، ولذا يشتري المتاع للتسليم، فالمبادلة في الغاصب تحققت بين الخارج عن ملك المالك والداخل فيه، وفي الدلال بين الخارج عن ملكه والداخل فيه. فيندفع هذا الاشكال، لامكان الحكم بالصحة في البابين ووقوع البيع للمالك في الأول، وللدلال في الثاني، فليتدبر. المقرر حفظه الله. 602 وعدمه - بحيث يقع البيع له، لا يمكن وإن بنى عليه الشيخ (رحمه الله) في المقام والمبحث السابق وما سيأتي - إن شاء الله - من ترتب العقود، فإنه لو قلنا بوقوع البيع للمالك إنشاء - بحيث وقعت المبادلة الانشائية بين ما انتقل عن المالك وما انتقل إليه - لم يمكن تصحيحه إلا بإجازة المالك، ولو قلنا بوقوعه للبائع فكذلك لا يمكن تصحيحه بإجازة المالك. وفي المقام لو قلنا بسبق المبادلة على الدعوى، وتطبيق المالك على نفسه، وإلغاء قيد لنفسه، فلا يمكن التصحيح إلا بإجازة المالك. ولو قلنا بسبق الدعوى على المبادلة فلا يمكن التصحيح بذلك، بل لا تقع إلا للبائع، لعدم إلغاء القيد، كما تقدم تفصيله. كل ذلك لما مر: من أن حقيقة البيع وإن كانت المبادلة بين المالين، إلا أن المبادلة والمعاوضة لا تتحقق إلا بالادخال والاخراج، بحيث يتحد المدخل والمخرج، فالعقد الانشائي الواقع لو كان متضمنا لاخراج المبيع عن ملك المالك وإدخال الثمن في ملكه، فلا يمكن تصحيحه إلا بإجازته، ولو كان متضمنا لاخراج ذلك عن ملك البائع وإدخال الثمن فيه فلا يمكن تصحيحه إلا بالاشتراء مع الإجازة أو عدمها. هذا إذا كان المبيع شخصيا. وأما إذا كان كليا فالأمر أوضح، فإن العقد لو كان عن المالك فالكلي يتعين في ذمته، ولو كان عن البائع فهو يتعين في ذمته، وأما المعاملة الواقعة على مطلق الكلي - بحيث لم يكن متعينا حتى بالعقد - فكل من قبله يقع له، فهذا ليس ببيع عقلائي كما لا يخفى. فالصحيح: أنه لو باع الفضولي لنفسه على النحو الذي صححناه سابقا بإجازة
603 المالك، فلا يمكن تصحيحه في المقام، لعدم مطابقة العقد والمجاز (1). ولكن لا يخفى أنا لسنا بصدد تسليم ما ذكره صاحب المقابيس (رحمه الله): من بطلان هذا العقد (2)، فإن العاقد البائع لنفسه مع قصده الادخال في ملكه والاخراج عنه، قصد حقيقة المعاوضة، فلا إشكال من هذه الجهة، ويظهر توضيحه أزيد من ذلك من الجواب عن الايراد الآتي، والغرض هنا عدم توافق التقريبات في الجواب عن إيراد عدم التطابق بين المنشأ والمجاز. الاشكال الثاني لصاحب المقابيس إنا حيث جوزنا بيع غير المملوك، مع انتفاء الملك ورضا المالك والقدرة على التسليم، اكتفينا بحصول ذلك للمالك المجيز لأنه البائع حقيقة والفرض هنا عدم إجازته وعدم وقوع البيع عنه (3). في إشكال الشيخ على صاحب المقابيس ودفعه وقد أشكل الشيخ (رحمه الله) على هذا بما لا يطابق مع الاستدلال، وقال (رحمه الله): وفيه: أن الثابت هو اعتبار رضا من هو المالك حال الرضا، سواء ملك حال العقد، أم لا (1).
1 - قد مر: أنه يختلف الحال بحسب اختلاف قصد البائع، فلو كان قصده لنفسه نظير ما يقصده الغاصب، فلا يمكن تصحيحه إلا بإجازة المالك، ولو كان قصده لنفسه نظير ما يقصده الدلال، فلا يمكن تصحيحه إلا باشتراء البائع الملك عن المالك. نعم، الشبهة المذكورة تأتي في باب ترتب العقود، وبحثه موكول إلى محله. المقرر دامت بركاته. 2 - مقابس الأنوار: 134 / سطر 27. 3 - مقابس الأنوار: 134 / سطر 29. 4 - المكاسب: 137 / سطر 27. 604 وقال (رحمه الله) في القدرة على التسليم: وأما القدرة على التسليم فلا نضايق من اعتبارها في المالك حين العقد (1). في تقريب مراد صاحب المقابيس في إشكاله ولا بد لنا أولا تقريب إيراد صاحب المقابيس ثم تحقيق المقام. إن مراده (رحمه الله) من هذا الايراد: أن العقد واقع لغير المالك، ورضاه غير معتبر في تصحيح العقد، وهو غير قادر على التسليم لعدم كونه مالكا، فمن وقع العقد له فاقد للشرائط، لكونه غير مالك وعدم اعتبار رضاه وعجزه عن التسليم، ومن هو واجد للشرائط - وهو المالك المعتبر رضاه القادر على التسليم - لم يقع العقد له. وعلى هذا التقريب ظهر عدم مطابقته مع ما ذكره الشيخ (رحمه الله): من أنا لا نضايق من اعتبار القدرة على التسليم في المالك حين العقد، مضافا إلى عدم تعرضه لما هو المهم في الايراد، وهو فقد مالكية من وقع له العقد، والمحشون أيضا لم يتعرضوا لهذه الجهة. التحقيق في المقام والصحيح في الجواب أن يقال: أما الايراد من ناحية فقد الملكية فقد ذكرنا سابقا: أنه لا يعتبر في العقد الملكية السابقة على ذلك (2)، ولذا يصح بيع الطير والسمك مع القدرة على الاستنقاذ وإن لم تحصل الملكية بعد، لكون الطير في الهواء والسمك في الماء، وأيضا يصح بيع الكليات، مع أنها غير مملوكة لأحد قبل العقد، وبعده يملكه المشتري في ذمة البائع.
1 - المكاسب: 137 / سطر 29. 2 - تقدم في الصفحة 13. 605 ولو قيل: بأن مثل هذا العقد مناف لحقيقة المعاوضة والمبادلة، فإن الخارج عن ملكه المثمن هو المالك، والداخل في ملكه الثمن العاقد، قيل عليه: إن العاقد وإن لم يكن مالكا حال العقد، إلا أن هذا لا يوجب خروج الانشاء عن المعاوضة الحقيقية، فإن المفروض إنشاء العاقد الخروج عن ملكه والدخول في ملكه، وهذا لا يستلزم كونه مالكا حينئذ، فالمعاوضة الانشائية متحققة فعلا وإن لم يترتب عليها الأثر إلا بعد تحقق الملكية. إن قلت: كيف يحصل الجد من المنشئ العاقد لنفسه، مع عدم كونه مالكا حينئذ؟ قلت: كيف يحصل الجد من الفضولي لنفسه أو لمالكه، مع أنه لا يعلم بحصول الأثر، لاحتمال عدم تحقق الإجازة؟! بل كيف يحصل الجد من الموجب بإدخال الثمن في ملكه مع أنه بيد القابل؟! وقد أجبنا عن هذا الاشكال: بأن عدم الجزم بالتأثير لا يوجب عدم الجد بالانشاء، ويحصل الجد بالانشاء مع رجاء وجود سائر شرائط التأثير، كما في الموجب والفضولي، والمقام أيضا كذلك (1). إن قلت: إن البيع تبادل الإضافتين، وهذا لا يمكن إلا مع الملكية السابقة. قلت: قد مر فساد ذلك (2)، وأن تبادل الإضافتين نتيجة البيع لا نفسه، ولا يعتبر فيه أزيد من إنشاء التبادل، من دون حاجة إلى وجود إضافة واقعية قبله. والحاصل: أن الاشكال من جهة عدم ملكية من وقع له العقد، مندفع: بأن الملكية السابقة غير دخيلة في مفهوم العقد، فإن الجد حاصل، ولا يعتبر أزيد من هذا الربط الخاص في المفهوم بنظر العقلاء، وأيضا إنها غير دخيلة في صحته، فإن احتمالها مدفوع بالاطلاقات.
1 - تقدم في الصفحة 456 - 457. 2 - تقدم في الصفحة 457 - 458. 606 وبهذا يجاب عن إيراد عدم الرضا والقدرة على التسليم، فإن احتمال اعتبارهما في المالك حين العقد، مدفوع بالاطلاقات، ولا سيما في الأخير، لعدم دليل لفظي في اعتباره في صحة العقد مطلقا، والدليل عليه ليس إلا الاجماع وبناء العقلاء، ولا إجماع على البطلان في المقام، وصحته غير منافية لبناء العقلاء، كما لا يخفى (1). الاشكال الثالث لصاحب المقابيس أن الإجازة حيث صحت كاشفة على الأصح مطلقا، لعموم الدليل الدال عليه، ويلزم حينئذ خروج المال عن ملك البائع قبل دخوله فيه (2). وهذا الايراد وارد على الكشف الحقيقي بجميع مبانيه، وعلى الكشف الحكمي بمعناه الانقلابي. وأما الكشف التعبدي فسالم عن ذلك، فإن معنى التعبد ترتيب الآثار وإن لم يحصل الملك. وأما على الكشف الحكمي بمعناه العنواني، فالحكم بالملكية السابقة وإن كان من الآن لا حال العقد، إلا أن البائع بين زمان العقد الأول والثاني أجنبي عن المال، وإجازته العقد الأول بالنسبة إلى ما بين الحدين إجازة الأجنبي، فكيف يمكن الالتزام بتأثير العقد الصادر من الأجنبي، الذي لحقته إجازة الأجنبي؟! وهذا بخلاف التعبد لو كان له دليل، كما لا يخفى، وسيأتي التعرض لهذا الكلام فيما سيأتي أيضا إن شاء الله.
1 - بل يمكن أن يقال: إن الرضا والقدرة على التسليم معتبران فيمن يقع له العقد، واعتبارهما إنما هو حين ترتب الأثر عليه، ومع عدم اعتبار الملكية حال العقد كما ذكرنا، واندفاع الاشكال من هذه الجهة، فلا مجال للاشكال من جهة الرضا والقدرة، فإنهما حاصلان بعد حصول الملكية. المقرر حفظه الله. 2 - مقابس الأنوار: 134 / سطر 30. 607 وهنا إشكال عقلائي على جميع مباني الكشف: وهو لزوم خروج النماءات المتخللة بين زمان العقد وملكية البائع عن ملك المالك بلا سبب حصل منه، وهذا لا يساعد عليه العقلاء، كما لا يخفى. ثم إنه بناء على ورود الاشكال على الكشف، فلو قلنا: بأن الكشف في العقد الفضولي على القواعد، والنقل مخالف له، فلا بد من الحكم بالبطلان هنا، فإن الكشف مشكل، والنقل على خلاف القواعد. ولو قلنا: بأن النقل على القواعد، والتزمنا بالكشف من جهة التعبد، فلا بد من الالتزام بالنقل هنا، لعدم امكان القول بالكشف، ولا دلالة لأدلة التعبد على الملازمة بين صحة الفضولي والكشف دائما، بل هي ناظرة إلى موارد مخصوصة، والمجيز فيها المالك، فلا دلالة فيها على حكم المقام. كلام الشيخ في المقام ولكن الشيخ (رحمه الله)، مع فرض تسليم الكشف الحقيقي، وأن معنى الإجازة إمضاء العقد من حين الوقوع، أو إمضاء العقد الذي مقتضاه النقل من حين الوقوع، قال: إنه لا محيص عن القول: بأن الإجازة كاشفة عن خروج المال عن ملك المجيز في أول أزمنة قابليته، وهو زمان البيع الثاني. وقال: إنه لا يلزم من التزام هذا المعنى - على الكشف - محال عقلي ولا شرعي، حتى ترفع اليد من أجله عن العمومات المقتضية للصحة، فإن كان لا بد من الكلام فينبغي أن يكون في المقتضي للصحة، أو في القول: بأن الواجب في الكشف - عقلا أو شرعا - خروج المال عن ملك المجيز وقت العقد، وقد عرفت أنه لا كلام في مقتضي الصحة، ولا مانع - عقلا ولا شرعا - من كون الإجازة كاشفة من زمان قابلية تأثيرها (1).
1 - المكاسب: 137 - 138. 608 هذا ملخص ما أفاده ومحصله. كلام المحقق الأصفهاني في المقام وذكر المحقق الأصفهاني (رحمه الله): أن المقام نظير بيع الرهن، فكما أنه لا مانع من تأثير البيع بعد زمان الرهن، كذلك لا مانع من تأثيره بعد زمان عدم القابلية هنا (1). وتحقيق مبنى المسألة: أنه لو قلنا بالكشف من جهة أن اقتضاء العقد تحقق مضمونه من حينه، بحيث لو لم يتحقق حينئذ لا يكون مقتضى العقد، بل أمر آخر غير مرتبط به، فلا يمكن الحكم بالصحة في المقام، فإن المنشأ غير قابل للإجازة، والنقل بعد البيع الثاني ليس بمقتضى العقد، فمقتضي الصحة غير موجود، فإن دليلها لا يشمل مثل ذلك العقد الغير القابل للإجازة، لا أن الحكم بعدم الصحة من جهة المانع، فإذا زال المانع يؤثر المقتضي أثره، فإن النقل بعد زمان عدم القابلية ليس مقتضى العقد على الفرض. ولو قلنا: بأن مضمون العقد وإن كان النقل من حينه، إلا أنه ليس معنى ذلك أنه لو كان العقد مقترنا بالمانع، فلا يمكن النقل بعد زوال المانع، لأنه خلاف المقتضي، بل معناه أن العقد يقتضي وقوع النقل من حينه إلى الأبد، وهذا المعنى يستفاد من الاطلاق الزماني في دليل الوفاء، فلو اقترن العقد بالمانع في بعض الأحوال، أمكن التمسك بالاطلاق الأحوالي فيه للحكم بالصحة بعد هذا الحال، فإن التأثير بعد هذا الحال أيضا من مقتضيات العقد. وبهذا صححنا سابقا بيع الرهن، والتزمنا بالتأثير بعد زمان الرهن حتى على مبنى اقتضاء العقد وقوع المضمون من حينه. وبالجملة: إن التأثير الفعلي للعقد في حال لا ينافي كون مقتضاه التأثير من
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 166 / سطر 17. 609 حينه وفي جميع الأحوال، فإذا اقترن العقد بالمانع في بعض الأحوال، نتمسك بالاطلاق الأحوالي للدليل في سائر الأحوال. هذا بحسب المبنى. تحقيق حكم المسألة وأما حكم مسألتنا فيغاير مسألة الرهن، ولا يمكننا القول بوجود مقتضي الصحة فيها، فإن المفروض وقوع البيع من الأجنبي، وإجازته - من زمان البيع الأول إلى زمان البيع الثاني - من إجازة الأجنبي، فلا يمكن دعوى شمول الدليل للعقد الأول بالنسبة إلى ما بين العقدين حتى بنحو الاقتضاء، والالتزام بالتأثير بعد البيع الثاني خلاف مقتضى العقد الأول. نعم، لو أمكن شمول الدليل للمورد من الأول - ولو بنحو الاقتضاء، نظير بيع الرهن - غاية الأمر كان مقترنا بالمانع، لأمكن الالتزام بالتأثير الفعلي بعد زوال المانع، إلا أنه لا يمكن شمول الدليل بالنسبة إلى ما بين العقدين حتى بنحو الاقتضاء، لأنه من عقد الأجنبي، وبالنسبة إلى ما بعد العقد الثاني لم يوجد عقد، والقول بالنقل بعده خلاف مقتضى العقد الأول، فلا يمكن تصحيح العقد الأول. وقد ظهر بذلك: الفرق بين المقام ومسألة الرهن، وعدم تمامية ما ذكر المحقق الأصفهاني (رحمه الله) (1).
1 - أقول: لو قلنا: بأن مضمون العقد أمر بسيط، وهو وقوع مضمونه من حين العقد إلى الأبد، فلا فرق بين القول بعدم شمول الدليل للمورد، أو شموله ووجود المانع في التأثير في الحكم بالبطلان، فعلى هذا المبنى لا بد من الحكم ببطلان بيع الرهن أيضا. ولو قلنا: بأن مضمون العقد إنشاء أمر مستمر، كأنه إنشاء أمور مستمرة، أو قلنا: بأن مضمون العقد إنشاء النقل، ومقتضى هذا المضمون أمر مستمر من حين العقد، كما اخترناه سابقا، فالحكم بالصحة ممكن، وإن قلنا بعدم شمول الدليل بالنسبة إلى بعض الأحوال اقتضاء، فإن النقل بعد ذلك أيضا لا ينافي مضمون العقد، فمبني المسألة بساطة المفهوم واستمراره بناء على أخذ الزمان فيه، وبناء على اقتضاء المفهوم الوقوع من حين العقد مستمرا - كما هو الصحيح - يحكم بالصحة، كما ذكرنا. وأما صحة بيع الرهن، فقد مر أنه غير مرتبط بمسألة الفضولي، ولو سلمنا أنه من باب الفضولي أيضا صح البيع بعد زوال المنع، وهو زمان الرهن لهذا المبنى، ولا بأس بالالتزام بصحة الإجازة من حينها وإن بنينا سابقا على عدم الامكان، فإن هذه الإجازة ليست إجازة مخالفة لمقتضى العقد على هذا المبنى. نعم، لو أجازه كذلك، ولزم ضرر على الأصيل الآخر، أمكن القول بتداركه بالخيار، والله العالم. المقرر. 610 في ورود الاشكال على الكشف الحقيقي دون الحكمي ذكر المحقق الأصفهاني (رحمه الله): أن هذا الاشكال وارد على الكشف الحقيقي بجميع مبانيه، وأما على الكشف الحكمي بمعناه العنواني - الذي هو الصحيح المختار - فلا مجال له، فإن المفروض أن الحكم بالملكية من الآن وإن كان المملوك أمرا سابقا، نظير اعتبار الملكية المتأخرة من الآن (1). هذا، وقد مر: أن الاشكال وارد حتى على هذا المبنى من الكشف أيضا، فإن البائع بين الحدين أجنبي بالنسبة إلى المال والعقد، فكيف يمكن تأثير العقد الصادر من الأجنبي مع إجازة الأجنبي (2). وهذا في باب الإجازة أوضح، فلو آجر الدار فضولا، ثم اشتراه، فأجاز الإجارة، فهل يمكن تصحيح الإجارة بالنسبة إلى المنافع السابقة على زمان الاشتراء؟ أليس هذا من إجازة الأجنبي بالنسبة إلى تلك المنافع؟ هذا على مبنى الكشف الحقيقي والحكمي مع فرض اقتضاء العقد النقل من حينه. وأما إذا قلنا: بأن مقتضاه النقل مطلقا، ومع ذلك بنينا على الكشف، لأن
1 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 168 / سطر 12. 2 - تقدم في الصفحة 607. 611 التعقب بالإجازة شرط، أو الرضا التقديري شرط، أو غير ذلك من مباني الكشف، فلا إشكال حينئذ، بل لا بد من الالتزام بالكشف بالمقدار القابل، فإن إجازة المجيز بالنسبة إلى ما بين الحدين من إجازة الأجنبي، وحيث إنه لا منافاة بين اقتضاء العقد وصحة البيع من حين القابلية، تشمله العمومات، ويحكم بالصحة بلا إشكال. وبعبارة أخرى: العقد له اعتبار بقاء إلى زمان العقد الثاني، وحيث إن مفاده مطلق النقل، ولا ينافي حصوله حينئذ، فيمكن أن يقال: العقد حينئذ متعقب بالإجازة، أو مقارن للرضا التقديري... إلى آخر المباني. كلام للمحقق النائيني في المقام ومناقشته وهنا كلام للمحقق النائيني (رحمه الله) لا بأس بالتعرض له: قال: إن صحة عقد من باع شيئا ثم ملك تتوقف على أمرين: الأول: عدم اعتبار كون شخص خاص طرفا للمعاوضة، لا بمعنى إمكان كونه كليا، فإن هذا غير معقول، لأن الإضافة تتوقف على مضاف إليه معين، بل بمعنى عدم اعتبار خصوص كونه زيدا وبكرا، فلو اشترى من شخص باعتقاد كونه زيدا، فتبين كونه بكرا، فلا يضر، وليس البيع كالنكاح. والثاني: كون مسألة من باع شيئا ثم ملك كمسألة اختلاف المالك حال العقد والإجازة بسبب الموت والوراثة، بأن يكون تبدل الملك كتبدل المالك. فإذا تم هذان الأمران فلا محيص عن الالتزام بالصحة في المقام، وإنكار اقتضاء الإجازة كشفها عن الملك من حين العقد في جميع المقامات. والأمر الأول لا إشكال فيه. وأما الثاني، فقد ظهر في أول مباحث البيع الفرق بين الإرث والبيع، وأن في
612 الإرث التغيير والتبديل في المالك، وفي البيع التبديل في الملك (1)، فإذا باع الفضولي ملك المورث، ثم انتقل إلى الوارث، فحيث إن الملك على حاله، ودل الدليل على قيام الوارث مقام المورث، فالوارث يجيز هذا التبديل، وأما لو باع الفضولي مال زيد، ثم انتقل إلى نفسه، فإجازته لا تتعلق بما وقع أولا، لأن التبديل وقع بين ملك زيد والمشتري، والإجازة تتعلق بملك المشتري، والفضولي الذي لم يكن ملكه طرف الإضافة. وبالجملة: كلما تعلقت الإجازة بما انتقل من المجيز إلى الآخر - ولو في عقود متتابعة - فهي مؤثرة، وأما لو تعلقت بغيره فلا تؤثر وإن كان الملك حين الإجازة ملكا له (2)... إلى آخر ما ذكره. وفيه مواقع للنظر: منها: أن ما ذكره: من امتناع كون طرف المعاوضة كليا، لأن الكلي غير معين، لا يتم، فإن الكلي معين، ولذا يقبل التمليك والتملك، وهذا ظاهر. ومنها: أن تفصيله بين البيع والنكاح - من جهة عدم اعتبار كون الطرف شخصا خاصا، بالمعنى الذي ذكره في البيع دون النكاح - لا يتم، لعدم الدليل على اعتبار ذلك في النكاح أيضا، فلو تزوجت بشخص باعتقاد أنه زيد، فبان أنه عمرو صح التزويج، وهذا نظير ما ذكرناه في مسألة الاقتداء، وقد تقدم (3). ومنها: أن تفصيله بين اشتراء البائع المبيع وإرثه ذلك، بأن الأول تبدل المالك، والثاني تبدل الملك، فلا يصح البيع في مفروض المسألة بالإجازة في الأول، بخلاف الثاني.
1 - منية الطالب 1: 2 - 3 و 1: 35 / سطر 2. 2 - منية الطالب 1: 267 / سطر 10 - 20. 3 - تقدم في الصفحة 576. 613 ممنوع أيضا، لعدم الدليل على أن الإرث من تبديل الملك لا المالك، بل ظاهر الأدلة على خلافه، وأنه من تبديل المالك، فإن ما ترك الميت من مال أو حق فلوارثه. ومنها: أنه لو سلمنا جميع هذه المقدمات، فنتيجته على خلاف مقصوده، وهو التفصيل بين الاشتراء والإرث في الحكم، بالصحة في الأول، والبطلان في الثاني، فإن محل البحث: هو ما لو باع أحد مال الغير لنفسه فملكه فأجاز، وقد تقدم منه (رحمه الله) (1): أن المسألة تغاير مسألة الغاصب الفضولي لنفسه، لوجود الادعاء في الغاصب، دون المقام، فهو يبيع لنفسه واقعا لا ادعاء، وعليه ففي صورة الاشتراء - حيث إن المفروض تبديل المالكين، وقد باع المالك الثاني عن نفسه - فتصح إجازته، بخلاف صورة الإرث، فإن المفروض فيه تبديل الملكين لا المالكين، وأن الوارث هو المورث في ادعاء الشارع، فلا تصح الإجازة حينئذ، لأن العقد وقع لنفسه - أي الوارث - والمجيز هو المورث في الادعاء، وهو أجنبي عن البيع الواقع للوارث. وهنا جهات أخرى في كلامه لا نتعرض لها، والحمد لله. الاشكال الرابع لصاحب المقابيس ومناقشة المحققين أنه على الكشف يلزم اجتماع ملكية المشتري والمالك الأصلي في المبيع في زمان واحد، وهو ما بين العقدين. أما المشتري فواضح. وأما المالك فلتوقف صحة العقد الثاني على مالكيته. وقد أشكل المحقق التستري (رحمه الله) على نفسه: بأن هذا الاشكال وارد في جميع موارد الفضولي على الكشف، فإن صحة الإجازة تتوقف على ملكية المجيز،
1 - أنظر منية الطالب 1: 264 / سطر 20. 614 والمفروض كشف الإجازة عن ملكية المشتري قبلها، فلزم المحذور. وأجاب عن ذلك: بكفاية الملكية الصورية بالاستصحاب في صحة الإجازة، بخلاف المقام، فإن صحة العقد الثاني تتوقف على ملكية المالك واقعا (1). وأجاب السيد (رحمه الله) عنه: بالملكية التقديرية في سائر موارد الفضولي، أي الملكية لو لم تكن إجازة (2). وتوجيه ما ذكراه: أنه بعد قيام الدليل على صحة الفضولي كشفا، وتوقف الإجازة على ملكية المجيز، يحكم بالملكية الصورية أو التقديرية على القولين، وحيث لا دليل على الصحة في المقام لا يمكننا الالتزام بذلك، فنحكم بالبطلان فيه، لما مر: من لزوم المحال على الكشف، وهو اجتماع المالكين على مملوك واحد في زمان واحد، والنقل على خلاف القواعد. وبهذا ظهر عدم تمامية ما ذكره الشيخ (رحمه الله) ردا على صاحب المقابيس: من إمكان القول بالملكية الظاهرية في المقام أيضا (3). وقد أجاب المحقق الأصفهاني (قدس سره) عن الاشكال في مطلق الفضولي: بعدم لزوم مالكية المجيز حين الإجازة، بل تكفي الملكية حال العقد (4). وأنت خبير بأن إجازة غير المالك حين الإجازة من إجازة الأجنبي، فلا توجب نفوذ العقد (5). وقد أجاب المحقق النائيني (رحمه الله) عن الاشكال في المقام ومطلق الفضولي: بأن
1 - مقابس الأنوار: 134 - 135. 2 - حاشية المكاسب، السيد اليزدي 1: 164 / سطر 22. 3 - المكاسب: 138 / سطر 23. 4 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 169 / سطر 9. 5 - لا يخفى ما فيما أفاده - مد ظله -، فإن إجازة من وقع العقد على ماله ليس من إجازة الأجنبي، ولو قلنا بعدم كونه مالكا حين الإجازة للكشف، فالصحيح في الجواب ذلك، لا الملكية الصورية والتقديرية، ولا يخفى ما فيهما من التكلف. المقرر دامت بركاته. 615 الممتنع اجتماع ملكيتين عرضيتين، وأما الطوليتان فلا مانع من اجتماعهما، نظير ملكية العبد بالنسبة إلى ما ملكه المولى، وحيث إن ملكية المشتري في طول ملكية المالك - لتلقي الملك منه - فلا مانع من اجتماعهما (1). وما ذكره لا يرجع إلى محصل، فإن الاشكال العقلي غير قابل للتخصيص، واجتماع ملكيتين مستقلتين في شئ واحد وفي زمان واحد محال عقلا، كان أحدهما في طول الآخر أو في عرضه، وهذا ظاهر. ثم ذكر الشيخ (رحمه الله): أنه بناء على ضم الاشكال الوارد في الفضولي مطلقا، مع الاشكال الخاص الوارد في المقام، يتولد إشكال آخر: وهو اجتماع ملاك ثلاثة في مملوك واحد ما بين العقدين (2)، أما المالك فلتوقف صحة العقد الثاني على ملكيته وأما المشتري فللكشف، وأما البائع فلتلقي المشتري الملك منه. وقد اعترض المرحوم النائيني (رحمه الله) عليه: بأنه لا موجب للالتزام بكون المجيز مالكا من حين العقد الأول إلى زمان الإجازة حتى يجتمع الملاك (3). وذكر المحقق الأصفهاني (رحمه الله) أيضا: أن البائع لا موجب لملكيته (4). وقد عرفت من تقريب كلام الشيخ (رحمه الله) وجه الاشكال، ولا حاجة إلى إطالة الكلام في ذلك (5).
1 - منية الطالب 1: 268 / سطر 7. 2 - المكاسب: 138 / سطر 18. 3 - منية الطالب 1: 266 - 267. 4 - حاشية المكاسب، الأصفهاني 1: 169 / سطر 19. 5 - قد تحصل مما أفاده الأستاذ - مد ظله -: أنه يرد على مبنى الكشف في المقام الاشكالان: الثالث، والرابع. وعلى ما أشرنا سابقا: من أن بيع الدلال - ولو العين الشخصية - خارج عن الفضولي، ولو باع ثم ملك فلا موضوع لذلك، والصحيح أن الدلال باع إنشاء، وتأثير بيعه موقوف على ملكيته، فإذا ملك ينفذ البيع من حين الملك بلا حاجة إلى الإجازة، فلا نلتزم بالكشف في المقام وإن التزمنا به في سائر موارد الفضولي. المقرر حفظه الله. 616