بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد المؤلف: ابن رشد الحفيد الجزء: 2 الوفاة: 595 المجموعة: مصادر فقهية مستقلة تحقيق: تنقيح وتصحيح : خالد العطار / إشراف : مكتبة البحوث والدراسات الطبعة: جديدة منقحة ومصححة سنة الطبع: 1415 - 1995 م المطبعة: الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان ردمك: ملاحظات: بداية المجتهد و نهاية المقتصد للامام القاضي أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي الأندلسي الشهير (بابن رشد الحفيد) المتوفى سنة 595 ه تنقيح وتصحيح خالد العطار الجزء الثاني طبعة جديدة منقحة ومصححة إشراف مكتب البحوث والدراسات دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
1 جميع حقوق إعادة الطبع محفوظة للناشر 1415 ه - 1995 م بيروت - لبنان دار الفكر: حارة حريك - شارع عبد النور - برقيا: فكسي - تلكس: 41392 فكر ص. ب: 61. 7 / 11 - تلفون: 643681 - 838053 - 837898 - دولي: 860962 فاكس: 2124187875 - 001
2 من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين حديث شريف بسم الله الرحمن الرحيم كتاب النكاح وأصول هذا الكتاب تنحصر في خمسة أبواب: الباب الأول: في مقدمات النكاح. الباب الثاني: في موجبات صحة النكاح. الباب الثالث: في موجبات الخيار في النكاح. الباب الرابع: في حقوق الزوجية. الباب الخامس: في الأنكحة المنهي عنها والفاسدة. الباب الأول: في مقدمات النكاح وفي هذا الباب أربع مسائل في حكم النكاح وفي حكم خطبة النكاح، وفي الخطبة على الخطبة، وفي النظر إلى المخطوبة قبل التزويج. فأما حكم النكاح فقال قوم: هو مندوب إليه، وهم الجمهور، وقال أهل الظاهر: هو واجب وقال المتأخرة من المالكية: هو في حق بعض الناس واجب وفي حق بعضهم مندوب إليه، وفي حق بعضهم مباح، وذلك بحسب ما يخاف على نفسه من العنت. وسبب اختلافهم: هل تحمل صيغة الامر به في قوله تعالى: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * وفي قوله عليه الصلاة والسلام تناكحوا فإني مكاثر بكم الأمم وما أشبه ذلك من الأخبار الواردة في ذلك على الوجوب أم على الندب أم على الإباحة؟. فأما من قال إنه في حق بعض الناس واجب وفي حق بعضهم مندوب إليه، وفي حق بعضهم مباح، فهو التفات إلى المصلحة، وهذا النوع من القياس هو الذي يسمى المرسل، وهو الذي ليس له أصل معين يستند إليه، وقد أنكره كثير من العلماء، والظاهر من مذهب مالك القول به. وأما خطبة النكاح المروية عن النبي (ص) فقال الجمهور إنها ليست واجبة، وقال داود هي واجبة. وسبب الخلاف: هل يحمل فعله في ذلك عليه الصلاة والسلام على الوجوب أو على الندب؟ فأما الخطبة على الخطبة، فإن النهي في ذلك ثابت عن النبي عليه الصلاة
3 والسلام. واختلفوا هل يدل ذلك على فساد النهي عنه أو لا يدل، وإن كان يدل ففي أي حالة يدل؟ فقال داود يفسخ، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يفسخ، وعن مالك القولان جميعا، وثالث وهو أن يفسخ قبل الدخول ولا يفسخ بعده، وقال ابن القاسم: إنما معنى النهي إذا خطب رجل صالح على خطبة رجل صالح، وأما إن كان الأول غير صالح والثاني صالح جاز. وأما الوقت عند الأكثر فهو إذا ركن بعضهم إلى بعض لا في أول الخطبة، بدليل حديث فاطمة بنت قيس، جاءت إلى النبي (ص) فذكرت له أن أبا جهم بن حذيفة ومعاوية بن أبي سفيان خطباها، فقال: أما أبو جهم فرجل لا يرفع عصاه عن النساء، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، ولكن انكحي أسامة. وأما النظر إلى المرأة عند الخطبة، فأجاز ذلك مالك إلى الوجه والكفين فقط، وأجاز ذلك غيره إلى جميع البدن عدا السوأتين. ومنع ذلك قوم على الاطلاق، وأجاز أبو حنيفة النظر إلى القدمين مع الوجه والكفين. والسبب في اختلافهم: أنه ورد الامر بالنظر إليهن مطلقا، وورد بالمنع مطلقا، وورد مقيدا: أعني بالوجه والكفين على ما قاله كثير من العلماء في قوله تعالى: * (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) * أنه الوجه والكفان، وقياسا على جواز كشفهما في الحج عند الأكثر، ومن منع تمسك بالأصل وهو تحريم النظر إلى النساء. الباب الثاني: في موجبات صحة النكاح وهذا الباب ينقسم إلى ثلاثة أركان: الركن الأول: في معرفة كيفية هذا العقد. الركن الثاني: في معرفة محل هذا العقد. الثالث: في معرفة شروط هذا العقد. الركن الأول: في الكيفية. والنظر في هذا الركن في مواضع: في كيفية الاذن المنعقد به، ومن المعتبر رضاه في لزوم هذا العقد، وهل يجوز عقده على الخيار أم لا يجوز؟ وهل إن تراخى القبول من أحد المتعاقدين لزم ذلك العقد، أم من شرط ذلك الفور؟ الموضع الأول: الاذن في النكاح على ضربين: فهو واقع في حق الرجال والثيب من النساء بالألفاظ. وهو في حق الابكار المستأذنات واقع بالسكوت: أعني الرضا. وأما الرد فباللفظ ولا خلاف في هذه الجملة إلا ما حكي عن أصحاب الشافعي أن إذن البكر إذا كان المنكح غير أب ولا جد بالنطق، وإنما صار الجمهور إلى أن إذنها بالصمت للثابت من قوله عليه الصلاة والسلام الأيم أحق بنفسها من وليها. والبكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها واتفقوا على أن انعقاد النكاح بلفظ النكاح ممن إذنه اللفظ وكذلك بلفظ التزويج. واختلفوا في انعقاده بلفظ الهبة أو بلفظ البيع أو بلفظ الصدقة، فأجازه قوم، وبه قال مالك وأبو حنيفة. وقال الشافعي: لا ينعقد إلا بلفظ النكاح أو التزويج. وسبب اختلافهم: هل هو عقد يعتبر فيه
4 مع النية اللفظ الخاص به؟ أم ليس من صحته اعتبار اللفظ؟ فمن ألحقه بالعقود التي يعتبر فيها الأمران قال: لا نكاح منعقد إلا بلفظ النكاح أو التزويج، ومن قال: إن اللفظ ليس من شرطه اعتبارا بما ليس من شرطه اللفظ أجاز النكاح بأي لفظ اتفق إذا فهم المعنى الشرعي من ذلك، أعني أنه إذا كان بينه وبين المعنى الشرعي مشاركة. الموضع الثاني: وأما من المعتبر قبوله في صحة هذا العقد، فإنه يوجد في الشرع على ضربين: أحدهما: يعتبر فيه رضا المتناكحين أنفسهما: أعني الزوج والزوجة، إما مع الولي، وإما دونه على مذهب من لا يشترط الولي في رضا المرأة المالكة أمر نفسها. والثاني: يعتبر فيه رضا الأولياء فقط، وفي كل واحد من هذين الضربين مسائل اتفقوا عليها، ومسائل اختلفوا فيها، ونحن نذكر منها قواعدها وأصولها فنقول: أما الرجال البالغون الأحرار المالكون لأمر أنفسهم فإنهم اتفقوا على اشتراط رضاهم وقبولهم في صحة النكاح، واختلفوا هل يجبر العبد على النكاح سيده والوصي محجوره البالغ أم ليس يجبره؟ فقال مالك: يجبر السيد عبده على النكاح، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا يجبره. والسبب في اختلافهم: هل النكاح من حقوق السيد أم ليس من حقوقه؟ وكذلك اختلفوا في جبر الوصي محجوره، والخلاف في ذلك موجود في المذهب. وسبب اختلافهم: هل النكاح مصلحة من مصالح المنظور له أم ليس بمصلحة وإنما طريقه الملاذ؟ وعلى القول بأن النكاح واجب ينبغي أن لا يتوقف في ذلك. وأما النساء اللاتي يعتبر رضاهن في النكاح، فاتفقوا على اعتبار رضا الثيب البالغ لقوله عليه الصلاة والسلام والثيب تعرب عن نفسها إلا ما حكي عن الحسن البصري. واختلفوا في البكر البالغ وفي الثيب الغير البالغ ما لم يكن ظهر منها الفساد. فأما البكر البالغ فقال مالك والشافعي وابن أبي ليلى: للأب فقط أن يجبرها على النكاح، وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأبو ثور وجماعة: لا بد من اعتبار رضاها، ووافقهم مالك في البكر المعنسة على أحد القولين عنه. وسبب اختلافهم: معارضة دليل الخطاب في هذا للعموم، وذلك أن ما روي عنه عليه الصلاة والسلام من قوله: لا تنكح اليتيمة إلا بإذنها وقوله تستأمر اليتيمة في نفسها خرجه أبو داود، والمفهوم منه بدليل الخطاب أن ذات الأب بخلاف اليتيمة، وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس المشهور والبكر تستأمر يوجب بعمومه استئمار كل بكر. والعموم أقوى من دليل الخطاب، مع أنه خرج مسلم في حديث ابن عباس زيادة، وهو أنه قال عليه الصلاة والسلام: والبكر يستأذنها أبوها وهو نص في موضع الخلاف. وأما الثيب الغير البالغ، فإن مالكا وأبا حنيفة قالا: يجبرها الأب على النكاح، وقال الشافعي: لا يجبرها، وقال المتأخرون: إن في المذهب فيها ثلاثة أقوال: قول إن الأب يجبرها ما لم تبلغ بعد الطلاق، وهو قول أشهب، وقول إنه يجبرها وإن بلغت، وهو قول سحنون، وقول
5 إنه لا يجبرها وإن لم تبلغ، وهو قول أبي تمام، والذي حكيناه عن مالك هو الذي حكاه أهل مسائل الخلاف كابن القصار، وغيره عنه. وسبب اختلافهم: معارضة دليل الخطاب للعموم، وذلك أن قوله عليه الصلاة والسلام تستأمر اليتيمة في نفسها ولا تنكح اليتيمة إلا بإذنها يفهم منه أن ذات الأب لا تستأمر إلا ما أجمع عليه الجمهور من استئمار الثيب البالغ، وعموم قوله عليه الصلاة والسلام الثيب أحق بنفسها من وليها يتناول البالغ وغير البالغ، وكذلك قوله لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح حتى تستأذن يدل بعمومه على ما قاله الشافعي. ولاختلافهم في هاتين المسألتين سبب آخر: وهو استنباط القياس من موضع الاجماع، وذلك أنهم لما أجمعوا على أن الأب يجبر البكر غير البالغ، وأنه لا يجبر الثيب البالغ إلا خلافا شاذا فيهما جميعا كما قلنا اختلفوا في موجب الاجبار هل هو البكارة أو الصغر؟ فمن قال الصغر قال: لا تجبر البكر البالغ، ومن قال البكارة قال: تجبر البكر البالغ ولا تجبر الثيب الصغيرة، ومن قال كل واح منهما يوجب الاجبار إذا انفرد قال: تجبر البكر البالغ والثيب الغير البالغ، والتعليل الأول تعليل أبي حنيفة، والثاني تعليل الشافعي، والثالث تعليل مالك، والأصول أكثر شهادة لتعليل أبي حنيفة. واختلفوا في الثيوبة التي ترفع الاجبار وتوجب النطق بالرضا أو الرد، فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها الثيوبة التي تكون بنكاح صحيح أو شبهة نكاح أو ملك، وأنها لا تكون بزنا ولا بغصب، وقال الشافعي: كل ثيوبة ترفع الاجبار. وسبب اختلافهم هل يتعلق الحكم بقوله عليه الصلاة والسلام: (الثيب أحق بنفسها من وليها) بالثيوبة الشرعية أم بالثيوبة اللغوية؟ واتفقوا على أن الأب يجبر ابنه الصغير على النكاح، وكذلك ابنته الصغيرة البكر، ولا يستأمرها لما ثبت: (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله عنها بنت ست أو سبع وبنى بها وهي بنت تسع بإنكاح أبي بكر رضي الله عنه إلا ما روي من الخلاف عن ابن شبرمة. واختلفوا من ذلك في مسألتين: إحداهما: هل يزوج الصغيرة غير الأب؟ والثانية: هل يزوج الصغير غير الأب؟ فأما هل يزوج الصغيرة غير الأب أم لا؟ فقال الشافعي: يزوجها الجد أبو الأب والأب فقط، وقال مالك: لا يزوجها إلا الأب فقط، أو من جعل الأب له ذلك إذا عين الزوج إلا أن يخاف عليها الضيعة والفساد، وقال أبو حنيفة: يزوج الصغيرة كل من له عليها ولاية من أب وقريب وغير ذلك، ولها الخيار إذا بلغت. وسبب اختلافهم: معارضة العموم للقياس، وذلك أن قوله عليه الصلاة والسلام والبكر تستأمر وإذنها صماتها يقتضي العموم في كل بكر إلا ذات الأب التي خصصها الاجماع، إلا الخلاف الذي ذكرناه، وكون سائر الأولياء معلوما منهم النظر والمصلحة لولايتهم يوجب أن يلحقوا بالأب في هذا المعنى، فمنهم من ألحق به جميع الأولياء ومنهم من ألحق به الجد فقط، لأنه فمعنى الأب إذ كان أبا أعلى، وهو الشافعي، ومن قصر ذلك على الأب رأى أن ما للأب في ذلك غير موجود
6 لغيره، إما من قبل أن الشرع خصه بذلك وإما من قبل أن ما يوجد فيه من الرأفة والرحمة لا يوجد في غيره، وهو الذي ذهب إليه مالك رضي الله عنه، وما ذهب إليه أظهر والله أعلم إلا أن يكون هناك ضرورة. وقد احتج الحنفية بجواز إنكاح الصغار غير الآباء بقوله تعالى: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * قال: واليتيم لا ينطلق إلا على غير البالغة. والفريق الثاني قالوا: إن اسم اليتيم قد ينطلق على بالغة بدليل قوله عليه الصلاة والسلام تستأمر اليتيمة والمستأمرة هي من أهل الاذن وهي البالغة، فيكون لاختلافهم سبب آخر، وهو اشتراك اسم اليتيم، وقد احتج أيضا من لم يجز نكاح غير الأب لها بقوله عليه الصلاة والسلام تستأمر اليتيمة في نفسها قالوا: والصغيرة ليست من أهل الاستئمار باتفاق، فوجب المنع، ولأولئك أن يقولوا: أن هذا حكم اليتيمة التي هي من أهل الاستئمار، وأما الصغيرة فمسكوت عنها. وأما: هل يزوج الولي غير الأب الصغير؟ فإن مالكا أجازه للوصي، وأبا حنيفة أجازه للأولياء، إلا أن أبا حنيفة أوجب الخيار له إذا بلغ، ولم يوجب ذلك مالك. وقال الشافعي: ليس لغير الأب إنكاحه. وسبب اختلافهم: قياس غير الأب في ذلك على الأب. فمن رأى أن الاجتهاد الموجود فيه الذي جاز للأب به أن يزوج الصغير من ولده لا يوجد في غير الأب لم يجز ذلك ومن رأى أنه يوجد فيه أجاز ذلك. ومن فرق بين الصغير في ذلك والصغيرة فلان الرجل يملك الطلاق إذا بلغ ولا تملكه المرأة، ولذلك جعل أبو حنيفة لهما الخيار إذا بلغا. وأما الموضع الثالث: وهو هل يجوز عقد النكاح على الخيار، فإن الجمهور على أنه لا يجوز، وقال أبو ثور يجوز. والسبب في اختلافهم: تردد النكاح بين البيوع التي لا يجوز فيها الخيار، والبيوع التي يجوز فيها الخيار، أو نقول إن الأصل في العقود أن لا خيار إلا ما وقع عليه النص وعلى المثبت للخيار الدليل، أو نقول إن أصل منع الخيار في البيوع هو الغرر والأنكحة لا غرر فيها، لان المقصود بها المكارمة لا المكايسة، ولان الحاجة إلى الخيار والرؤية في النكاح أشد منه في البيوع. وأما تراخي القبول من أحد الطرفين عن العقد، فأجاز مالك من ذلك التراخي اليسير، ومنعه قوم، وأجازه قوم وذلك مثل أن ينكح الولي امرأة بغير إذنها، فيبلغها النكاح فتجيزه، وممن منعه مطلقا الشافعي، وممن أجازه مطلقا أبو حنيفة وأصحابه، والتفرقة بين الامر الطويل والقصير لمالك. وسبب الخلاف: هل من شرط الانعقاد وجود القبول من المتعاقدين في وقت واحد معا، أم ليس ذلك من شرطه؟ ومثل هذا الخلاف عرض في البيع.
7 الركن الثاني: في شروط العقد، وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: في الأولياء، والثاني: في الشهود، والثالث: في الصداق. الفصل الأول: في الأولياء والنظر في الأولياء في مواضع أربعة: الأول: في اشتراط الولاية في صحة النكاح. الموضع الثاني: في صفة الولي. الثالث: في أصناف الأولياء وترتيبهم في الولاية. وما يتعلق بذلك. الرابع: في عضل الأولياء من يلونهم، وحكم الاختلاف الواقع بين الولي والمولى عليه. الموضع الأول: اختلف العلماء هل الولاية شرط من شروط صحة النكاح أم ليست بشرط؟ فذهب مالك إلى أنه لا يكون النكاح إلا بولي، وأنها شرط في الصحة في رواية أشهب عنه، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة وزفر والشعبي والزهري: إذا عقدت المرأة نكاحها بغير ولي وكان كفؤا جاز، وفرق داود بين البكر والثيب فقال باشتراط الولي في البكر وعدم اشتراطه في الثيب. ويتخرج على رواية ابن القاسم عن مالك في الولاية قول رابع: أن اشتراطها سنة لا فرض، وذلك أنه روي عنه أنه كان يرى الميراث بين الزوجين بغير ولي، وأنه يجوز للمرأة غير الشريفة أن تستخلف رجلا من الناس على إنكاحها، وكان يستحب أن تقدم الثيب وليها ليعقد عليها، فكأنه عنده من شروط التمام لا من شروط الصحة بخلاف عبارة البغداديين من أصحاب مالك. أعني أنهم يقولون إنها من شروط الصحة لا من شروط التمام. وسبب اختلافهم: أنه لم تأت آية ولا سنة هي ظاهرة في اشتراط الولاية في النكاح فضلا عن أن يكون في ذلك نص، بل الآيات والسنن التي جرت العادة بالاحتجاج بها عند من يشترطها هي كلها محتملة. وكذلك الآيات والسنن التي يحتج بها من يشترط اسقاطها هي أيضا محتملة في ذلك، والأحاديث مع كونها محتملة في ألفاظها مختلف في صحتها إلا حديث ابن عباس وإن كان المسقط لها ليس عليه دليل، لان الأصل براءة الذمة. ونحن نورد مشهور ما احتج به الفريقان ونبين وجه الاحتمال في ذلك. فمن أظهر ما يحتج به من الكتاب من اشترط الولاية قوله تعالى: * (فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) * قالوا: وهذا خطاب للأولياء، ولو لم يكن لهم في الولاية لما نهوا عن العضل. وقوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) * قالوا: وهذا خطاب للأولياء أيضا. ومن أشهر ما احتج به هؤلاء من الأحاديث ما رواه الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله (ص) أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل (ثلاث مرات) وإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها. فإن اشتجروا فالسلطان
8 ولي من لا ولي له خرجه الترمذي وقال فيه: حديث حسن وأما ما احتج به من لم يشترط الولاية من الكتاب والسنة. فقوله تعالى: * (فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف) * قالوا: وهذا دليل على جواز تصرفها في العقد على نفسه. قالوا وقد أضاف إليهن في غير ما آية من الكتاب الفعل فقال: * (أن ينكحن أزواجهن) * وقال * (حتى تنكح زوجا غيره) * وأما من السنة فاحتجوا بحديث ابن عباس المتفق على صحته، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها وبهذا الحديث احتج داود في الفرق عنده بين الثيب والبكر في هذا المعنى، فهذا مشهور ما احتج به الفريقان من السماع. فأما قوله تعالى: * (فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن) * فليس فيه أكثر من نهي قرابة المرأة وعصبتها من أن يمنعوها النكاح، وليس نهيهم عن العضل مما يفهم منه اشتراط إذنهم في صحة العقد، لا حقيقة ولا مجازا، أعني بوجه من وجوه أدلة الخطاب الظاهرة أو النص بل قد يمكن أن يفهم منه ضد هذا، وهو أن الأولياء ليس لهم سبيل على من يلونهم، وكذلك قوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) * هو أن يكون خطابا لأولي الامر من المسلمين أو لجميع المسلمين أحرى منه أن يكون خطابا للأولياء، وبالجملة فهو متردد بين أن يكون خطابا للأولياء أو لأولي الامر. فمن احتج بهذه الآية فعليه البيان أنه أظهر في خطاب الأولياء منه في أولي الامر، فإن قيل إن هذا عام والعام يشمل ذوي الامر والأولياء قيل إن هذا الخطاب إنما هو خطا ب بالمنع، والمنع بالشرع، فيستوي فيه الأولياء وغيرهم، وكون الولي مأمورا بالمنع بالشرع لا يوجب له ولاية خاصة في الاذن أصله الأجنبي، ولو قلنا إنه خطاب للأولياء يوجب اشتراط إذنهم في صحة النكاح لكان مجملا لا يصح به عمل، لأنه ليس فيه ذكر أصناف الأولياء ولا صفاتهم ولا مراتبهم، والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة، ولو كان في هذا كله شرع معروف لنقل تواترا أو قريبا من التواتر. لان هذا مما تعم به البلوى، ومعلوم أنه كان في المدينة من لا ولي له. ولم ينقل عنه (ص) أنه كان يعقد أنكحتهم ولا ينصب لذلك من يعقدها، وأيضا فإن المقصود من الآية ليس هو حكم وإنما المقصود منها تحريم نكاح المشركين والمشركات وهذا ظاهر، والله أعلم. وأما حديث عائشة فهو حديث مختلف في وجوب العمل به، والأظهر أن ما لا يتفق على صحته أنه ليس يجب العمل به. وأيضا فإن سلمنا صحة الحديث فليس فيه إلا اشتراط إذن الولي لمن لها ولي: أعني المولى عليها، وإن سلمنا أنه عام في كل امرأة فليس فيه أن المرأة لا تعقد
9 على نفسها، أعني أن لا تكون هي التي تلي العقد بل الأظهر منه أنه إذا أذن الولي لها جاز أن تعقد على نفسها دون أن تشترط في صحة النكاح إشهاد الولي معها. وأما ما احتج به الفريق الآخر من قوله تعالى: * (فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف) * فإن المفهوم منه النهي عن التثريب عليهن فيما استبددن بفعله دون أوليائهن، وليس ههنا شئ يمكن أن تستبد به المرأة دون الولي إلا عقد النكاح. فظاهر هذه الآية - والله أعلم - أن لها أن تعقد النكاح وللأولياء الفسخ إذا لم يكن بالمعروف وهو الظاهر من الشرع إلا أن هذا لم يقل به أحد، وأن يحتج ببعض ظاهر الآية على رأيهم ولا يحتج ببعضها فيه ضعف. وأما إضافة النكاح إليهن فليس فيه دليل على اختصاصهن بالعقد، لكن الأصل هو الاختصاص إلا أن يقوم الدليل على خلاف ذلك. وأما حديث ابن عباس فهو لعمري ظاهر في الفرق بين الثيب والبكر، لأنه إذا كان كل واحد منهما يستأذن ويتولى العقد عليهما الولي فبماذا ليت شعري تكون الأيم أحق بنفسها من وليها؟ وحديث الزهري هو أن يكون موافقا هذا الحديث أحرى من أن يكون معارضا له، ويحتمل أن تكون التفرقة بينهما في السكوت والنطق فقط، ويكون السكوت كافيا في العقد والاحتجاج بقوله تعالى: * (فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف) * هو أظهر في أن المرأة تلي العقد من الاحتجاج بقوله: * (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) * على أن الولي هو الذي يلي العقد. وقد ضعفت الحنفية حديث عائشة، وذلك أنه حديث رواه جماعة عن ابن جريج عن الزهري. وحكى ابن علية عن ابن جريج أنه سأل الزهري عنه فلم يعرفه، قالوا: والدليل على ذلك أن الزهري لم يكن يشترط الولاية، ولا الولاية من مذهب عائشة. وقد احتجوا أيضا بحديث ابن عباس أنه قال لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ولكنه مختلف في رفعه. وكذلك اختلفوا أيضا في صحة الحديث الوارد في نكاح النبي عليه الصلاة والسلام أم سلمة وأمره لابنها أن ينكحها إياه. وأما احتجاج الفريقين من جهة المعاني فمحتمل، وذلك أنه يمكن أن يقال إن الرشد إذا وجد في المرأة اكتفي به في عقد النكاح كما يكتفى به في التصرف في المال، ويشبه أن يقال إن المرأة مائلة بالطبع إلى الرجال أكثر من ميلها إلى تبذير الأموال، فاحتاط الشرع بأن جعلها محجوزة في هذا المعنى على التأبيد، مع أن ما يلحقها من العار في إلقاء نفسها في غير موضع كفاءة يتطرق إلى أوليائها، لكن يكفي في ذلك أن يكون للأولياء الفسخ أو الحسبة، والمسألة محتملة كما ترى، ولكن الذي يغلب على الظن أنه لو قصد الشارع اشتراط الولاية لبين جنس الأولياء وأصنافهم ومراتبهم، فإن تأخر البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فإذا كان لا يجوز عليه - عليه الصلاة والسلام - تأخير البيان عن وقت
10 الحاجة وكان عموم البلوى في هذه المسألة يقتضي أن ينقل اشتراط الولاية عنه (ص) تواترا أو قريبا من التواتر ثم لم ينقل، فقد يجب أن يعتقد أحد أمرين: إما أنه ليست الولاية شرطا في صحة النكاح وإنما للأولياء الحسبة في ذلك، وإما إن كان شرطا فليس من صحتها تمييز صفات الولي وأصنافهم ومراتبهم، ولذلك يضعف قول من يبطل عقد الولي الأبعد مع وجود الأقرب. الموضع الثاني: وأما النظر في الصفات الموجبة للولاية والسالبة لها، فإنهم اتفقوا على أن من شرط الولاية: الاسلام والبلوغ والذكورية، وأن سوالبها أضداد هذه: أعني الكفر والصغر والأنوثة. واختلفوا في ثلاثة: في العبد والفاسق والسفيه. فأما العبد فالأكثر على منع ولايته، وجوزها أبو حنيفة. وأما الرشد فالمشهور في المذهب: أعني عند أكثر أصحاب مالك أن ذلك ليس من شرطها، وقد روي عن مالك مثل قول الشافعي، وبقول الشافعي قال أشهب وأبو معصب. وسبب الخلاف: تشبيه هذه الولاية بولاية المال، فمن رأى أنه قد يوجب الرشد في هذه الولاية مع عدمه في المال قال: ليس من شرطه أن يكون رشيدا في المال، ومن رأى أن ذلك ممتنع الوجود قال: لا بد من الرشد في المال، وهما قسمان كما ترى. أعني أن الرشد في المال غير الرشد في اختيار الكفاءة لها. وأما العدالة فإنما اختلفوا فيها من جهة أنها نظر للمعنى: أعني هذه الولاية فلا يؤمن مع عدم العدالة أن لا يختار لها الكفاءة. وقد يمكن أن يقال إن الحالة التي بها يختار الأولياء لمولياتهم الكفء غير حالة العدالة وهي خوف لحوق العار بهم، وهذه هي موجودة بالطبع وتلك العدالة الأخرى مكتسبة، ولنقص العبد يدخل الخلاف في ولايته كما يدخل في عدالته. الموضع الثالث: وأما أصناف الولاية عند القائلين بها فهي نسب وسلطان ومولى أعلى وأسفل. ومجرد الاسلام عند مالك صفة تقتضي الولاية على الدنيئة. واختلفوا في الوصي، فقال مالك: يكون الوصي وليا، ومنع ذلك الشافعي. وسبب اختلافهم: هل صفة الولاية مما يمكن أن يستناب فيها، أم ليس يمكن ذلك؟ ولهذا السبب بعينه اختلفوا في الوكالة في النكاح، لكن الجمهور على جوازها، إلا أبا ثور، ولا فرق بين الوكالة والايصاء، لان الوصي وكيل بعد الموت، والوكالة تنقطع بالموت. واختلفوا في ترتيب الولاية من النسب. فعند مالك أن الولاية معتبرة بالتعصيب إلا الابن، فمن كان أقرب عصبة كان أحق بالولاية، والأبناء عنده أولى وإن سفلوا ثم الآباء ثم الإخوة للأب والأم. ثم للأب ثم بنو الإخوة للأب والأم ثم للأب فقط ثم الأجداد للأب وإن علوا. وقال المغيرة: الجد وأبوه أولى من الأخ، وابنه ليس من أصل، ثم العمومة على ترتيب الاخوة وإن سفلوا ثم المولى
11 ثم السلطان. والمولى الأعلى عنده أحق من الأسفل، والوصي عنده أولى من ولي النسب: أعني وصي الأب. واختلف أصحابه فيمن هو أولى: وصي الأب أو ولي النسب؟ فقال ابن القاسم: الوصي أولى، مثل قول مالك، وقال ابن الماجشون وابن عبد الحكم: الولي أولى. وخالف الشافعي مالكا في ولاية البنوة فلم يجزها أصلا، وفي تقديم الاخوة على الجد فقال: لا ولاية للابن، وروي عن مالك أن الأب أولى من الابن وهو أحسن، وقال أيضا: الجد أولى من الأخ، وبه قال المغيرة، والشافعي اعتبر التعصيب، أعني أن الولد ليس من عصبتها لحديث عمر لا تنكح المرأة إلا بإذن وليها أو ذي الرأي من أهلها أو السلطان ولم يعتبره مالك في الابن لحديث أم سلمة أن النبي (ص) أمر ابنها أن ينكحها إياه ولأنهم اتفقوا: أعني مالكا والشافعي على أن الابن يرث الولاء الواجب للأم، والولاء عندهم للعصبة. وسبب اختلافهم في الجد: هو اختلافهم فيمن هو أقرب: هل الجد أو الأخ؟ ويتعلق بالترتيب ثلاث مسائل مشهورة: أحدها: إذا زوج الأبعد مع حضور الأقرب. والثانية: إذا غاب الأقرب هل تنتقل الولاية إلى الأبعد أو إلى السلطان؟ والثالثة: إذا غاب الأب عن ابنته البكر هل تنتقل الولاية أو لا تنتقل؟ فأما المسألة الأولى: فاختلف فيها قول مالك، فمرة قال: إن زوج الأبعد مع حضور الأقرب فالنكاح مفسوخ، ومرة قال: النكاح جائز، ومرة قال: للأقرب أن يجيز أو يفسخ، وهذا الخلاف كله عنده فيما عدا الأب في ابنته البكر والوصي في محجورته، فإنه لا يختلف قوله أن النكاح في هذين مفسوخ، أعني تزويج غير الأب البنت البكر مع حضور الأب أو غير الوصي المحجورة مع حضور الوصي، وقال الشافعي: لا يعقد أحد مع حضور الأب لا في بكر ولا في ثيب. وسبب هذا الاختلاف: هو هل الترتيب حكم شرعي: أعني ثابتا بالشرع في الولاية، أم ليس بحكم شرعي؟ وإن كان حكما فهل ذلك حق من حقوق الولي الأقرب، أم ذلك حق من حقوق الله؟ فمن لم ير الترتيب حكما شرعيا قال: يجوز نكاح الأبعد مع حضور الأقرب، ومن رأى أنه حكم شرعي ورأي أنه حق للولي قال: النكاح منعقد، فإن أجازه الولي جاز، وإن لم يجزه انفسخ، ومن رأى أنه حق لله قال: النكاح غير منعقد، وقد أنكر قوم هذا المعنى في المذهب: أعني أن يكون النكاح منفسخا غير منعقد. وأما المسألة الثانية: فإن مالكا يقول: إذا غاب الولي الأقرب انتقلت الولاية إلى الأبعد، وقال الشافعي: تنتقل إلى السلطان. وسبب اختلافهم: هل الغيبة في ذلك بمنزلة الموت أم لا؟ وذلك أنه لا خلاف عندهم في انتقالها في الموت. وأما المسألة الثالثة: وهي غيبة الأب عن ابنته البكر، فإن في المذهب فيها تفصيلا واختلافا، وذلك راجع إلى بعد المكان وطول الغيبة أو قربه والجهل بمكانه أو العلم به.
12 وحاجة البنت إلى النكاح إما لعدم النفقة، وإما لما يخاف عليها من عدم الصون. وإما للامرين جميعا، فاتفق المذهب على أنه إذا كانت الغيبة بعيدة أو كان الأب مجهول الوضع أو أسيرا وكانت في صون وتحت نفقة، أنها إن لم تدع إلى التزويج لا تزوج وإن دعت فتزوج عند الأسر وعند الجهل بمكانه. واختلفوا هل تزوج مع العلم بمكانه أم لا إذا كان بعيدا، فقيل تزوج وهو قول مالك، وقيل لا تزوج، وهو قول عبد الملك وابن وهب. وأما إن عدمت النفقة أو كانت في غير صون فإنها تزوج أيضا في هذه الأحوال الثلاثة: أعني في الغيبة البعيدة، وفي الأسر، والجهل بمكانه، وكذلك إن اجتمع الأمران فإذا كانت في غير صون تزوج وإن لم تدع إلى ذلك، ولم يختلفوا فيما أحسب أنها لا تزوج في الغيبة القريبة المعلومة لمكان إمكان مخاطبته، وليس يبعد بحسب النظر المصلحي الذي انبنى عليه هذا النظر أن يقال إن ضاق الوقت وخشي السلطان عليها الفساد زوجت وإن كان الموضع قريبا. وإذا قلنا إنه تجوز ولاية الأبعد مع حضور الأقرب، فإن جعلت امرأة أمرها إلى وليين فزوجها كل واحد منهما، فإنه لا يخلو أن يكون تقدم أحدهما في العقد على الآخر أو يكونا عقدا معا، ثم لا يخلو ذلك من أن يعلم المتقدم أو لا يعلم، فأما إذا علم المتقدم منهما فأجمعوا على أنها للأول إذا لم يدخل بها واحد منهما واختلفوا إذا دخل الثاني، فقال قوم: هي للأول، وقال قوم هي للثاني، وهو قول مالك وابن القاسم، وبالأول قال الشافعي وابن عبد الحكم، وأما إن أنكحاها معا فلا خلاف في فسخ النكاح فيما أعرف. وسبب الخلاف: في اعتبار الدخول أولا اعتباره معارضة العموم للقياس، وذلك أنه قد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: أيما امرأة أنكحها وليان فهي للأول منهما فعموم هذا الحديث يقتضي أنها للأول دخل بها الثاني أو لم يدخل، ومن اعتبر الدخول فتشبيها بفوات السلعة في البيع المكروه وهو ضعيف. وأما إن لم يعلم الأول فإن الجمهور على الفسخ، وقال مالك: يفسخ ما لم يدخل أحدهما، وقال شريح: تخير فأيهما اختار ت كان هو الزوج، وهو شاذ، وقد روي عن عمر بن عبد العزيز. الموضع الرابع: في عضل الأولياء: واتفقوا على أنه ليس للولي أن يعضل وليته إذا دعت إلى كفء وبصداق مثلها وأنها ترفع أمرها إلى السلطان فيزوجها ما عدا الأب، فإنه اختلف فيه المذهب. واختلفوا بعد هذا الاتفاق فيما هي الكفاءة المعتبرة في ذلك وهل صداق المثل منها أم لا؟ وكذلك اتفقوا على أن للمرأة أن تمنع نفسها من إنكاح من له من الأولياء جبرها إذا لم تكن فيها الكفاءة موجودة كالأب في ابنته البكر، أما غير البالغ باتفاق، والبالغ والثيب الصغيرة باختلاف على ما تقدم، وكذلك الوصي في محجوره على القول بالجبر. فأما الكفاءة فإنهم اتفقوا على أن الدين معتبر في ذلك إلا ما روي عن محمد بن الحسن من اسقاط اعتبار الدين، ولم يختلف المذهب أن البكر إذا زوجها الأب من شارب الخمر وبالجملة من فاسق أن لها أن تمنع نفسها من النكاح وينظر الحاكم في
13 ذلك فيفرق بينهما، وكذلك إن زوجها ممن ماله حرام. أو ممن هو كثير الحلف بالطلاق. واختلفوا في النسب هل هو من الكفاءة أم لا؟ وفي الحرية وفي اليسار وفي الصحة من العيوب، فالمشهور عن مالك أنه يجوز نكاح الموالي من العرب وأنه احتج لذلك بقوله تعالى: * (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) * وقال سفيان الثوري وأحمد: لا تزوج العربية من مولى، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تزوج قرشية إلا من قرشي، ولا عربية إلا من عربي. والسبب في اختلافهم: اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام تنكح المرأة لدينها وجمالها ومالها وحسبها فاظفر بذات الدين تربت يمينك فمنهم من رأى أن الدين هو المعتبر فقط لقوله عليه الصلاة والسلام فعليك بذات الدين تربت يمينك، ومنهم من رأى أن الحسب في ذلك هو بمعنى الدين وكذلك المال، وأنه لا يخرج من ذلك إلا ما أخرجه الاجماع. وهو كون الحسن ليس من الكفاءة، وكل من يقول برد النكاح من العيوب يجعل الصحة منها من الكفاءة، وعلى هذا فيكون الحسن يعتبر لجهة ما، ولم يختلف المذهب أيضا أن الفقر مما يوجب فسخ إنكاح الأب ابنته البكر، أعني إذا كان فقيرا غير قادر على النفقة عليها فالمال عنده من الكفاءة، ولم ير ذلك أبو حنيفة. أما الحرية فلم يختلف المذهب أنها من الكفاءة لكون السنة الثابتة لتخيير الأمة إذا عتقت. وأما مهر المثل فإن مالكا والشافعي يريان أنه ليس من الكفاءة، وأن للأب أن ينكح ابنته بأقل من صداق المثل: أعني البكر، وأن الثيب الرشيدة إذا رضيت به لم يكن للأولياء مقال، وقال أبو حنيفة: مهر المثل من الكفاءة. وسبب اختلافهم: أما في الأب فلاختلافهم هل له أن يضع من صداق ابنته البكر شيئا أم لا؟ وأما في الثيب فلاختلافهم هل ترتفع عنها الولاية في مقدار الصداق إذا كانت رشيدة كما ترتفع في سائر تصرفاتهم المالية أم ليس ترتفع الولاية عن مقدار الصداق إذ كانت لا ترتفع عنها في التصرف في النكاح، والصداق من أسبابه؟ وقد كان هذا القول أخلق بمن يشترط الولاية ممن لم يشترطها، لكن أتى الامر بالعكس. ويتعلق بأحكام الولاية مسألة مشهورة، وهي هل يجوز للولي أن ينكح وليته من نفسه أم لا يجوز ذلك؟ فمنع ذلك الشافعي قياسا على الحاكم والشاهد، أعني أنه لا يحكم لنفسه ولا يشهد لنفسه، وأجاز ذلك مالك ولا أعلم له حجة في ذلك إلا ما روي من أنه عليه الصلاة والسلام تزوج أم سلمة بغير ولي لان ابنها كان صغيرا، وما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام أعتق صفية فجعل صداقها عتقها. والأصل عند الشافعي في أنكحة النبي (ص) أنها على الخصوص حتى يدل الدليل على العموم لكثرة خصوصيته في هذا المعنى (ص)، ولكن تردد قوله في الامام الأعظم.
14 الفصل الثاني: في الشهادة واتفق أبو حنيفة والشافعي ومالك على أن الشهادة من شرط النكاح واختلفوا هل هي شرط تمام يؤمر به عند الدخول أو شرط صحة يؤمر به عند العقد، واتفقوا على أنه لا يجوز نكاح السر. واختلفوا إذا أشهد شاهدين ووصيا بالكتمان هل هو سر أو ليس بسر؟ فقال مالك: هو سر ويفسخ، وقال أبو حنيفة والشافعي: ليس بسر. وسبب اختلافهم: هل الشهادة في ذلك حكم شرعي أم إنما المقصود منها سد ذريعة الاختلاف أو الانكار؟ فمن قال حكم شرعي قال: هي شرط من شروط الصحة، ومن قال توثق قال: من شروط التمام. والأصل في هذا ما روي عن ابن عباس لا نكاح إلا بشاهدي عدل وولي مرشد ولا مخالف له من الصحابة، وكثير من الناس رأى هذا داخلا في باب الاجماع وهو ضعيف، وهذا الحديث قد روي مرفوعا ذكره الدارقطني، وذكر أن في سنده مجاهيل. وأبو حنيفة ينعقد النكاح عنده بشهادة فاسقين، لان المقصود عنده بالشهادة هو الاعلان فقط، والشافعي يرى أن الشهادة تتضمن المعنيين: أعني الاعلان والقبول، ولذلك اشترط فيها العدالة، وأما مالك فليس تتضمن عنده الاعلان إذا وصي الشاهدان بالكتمان. وسبب اختلافهم: هل ما تقع فيه الشهادة ينطلق عليه اسم السر أم لا؟ والأصل في اشتراط الاعلان قول النبي عليه الصلاة والسلام أعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالدفوف خرجه أبو داود، وقال عمر فيه: هذا نكاح السر، ولو تقدمت فيه لرجمت. وقال أبو ثور وجماعة: ليس الشهود من شرط النكاح، لا شرط صحة ولا شرط تمام، وفعل ذلك الحسن بن علي، روي عنه أنه تزوج بغير شهادة ثم أعلن النكاح. الفصل الثالث: في الصداق والنظر في الصداق في ستة مواضع: الأول: في حكمه وأركانه. الموضع الثاني: في تقرر جميعه للزوجة. الموضع الثالث في تشطيره. الموضع الرابع: في التفويض وحكمه. الموضع الخامس: الأصدقة الفاسدة وحكمها. الموضع السادس: في اختلاف الزوجين في الصداق. الموضع الأول: وهذا الموضع فيه أربع مسائل: الأولى: في حكمه. الثانية: في قدره. الثالثة: في جنسه ووصفه. الرابعة: في تأجيله. المسألة الأولى: أما حكمه فإنهم اتفقوا على أنه شرط من شروط الصحة وأنه لا يجوز التواطؤ على تركه لقوله تعالى: * (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) * وقوله تعالى: * (فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن) *.
15 المسألة الثانية: وأما قدره فإنهم اتفقوا على أنه ليس لأكثره حد واختلفوا في أقله، فقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وفقهاء المدينة من التابعين: ليس لأقله حد، وكل ما جاز أن يكون ثمنا وقيمة لشئ جاز أن يكون صداقة، وبه قال ابن وهب من أصحاب مالك، وقالت طائفة بوجوب تحديد أقله، وهؤلاء اختلفوا، فالمشهور في ذلك مذهبان: أحدهما: مذهب مالك وأصحابه. والثاني مذهب أبي حنيفة وأصحابه، فأما مالك فقال: أقله ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم كيلا من فضة، أو ما يساوي الدراهم الثلاثة، أعني دراهم الكيل فقط في المشهور، وقيل أو ما يساوي أحدهما، وقال أبو حنيفة: عشرة دراهم أقله، وقيل خمسة دراهم. وقيل أربعون درهما. وسبب اختلافهم: في التقدير سببان: أحدهما: تردده بين أن يكون عوضا من الأعواض يعتبر فيه التراضي بالقليل كان أو بالكثير كالحال في البيوعات، وبين أن يكون عبادة فيكون مؤقتا، وذلك أنه من جهة أنه يملك به على المرأة منافعها على الدوام يشبه العوض، ومن جهة أنه لا يجوز التراضي على إسقاطه يشبه العبادة. والسبب الثاني: معارضة هذا القياس، فالمقتضى التحديد لمفهوم الأثر الذي لا يقتضي التحديد. أما القياس الذي يقتضي التحديد فهو كما قلنا إنه عبادة والعبادات مؤقتة. وأما الأثر الذي يقتضي مفهومه عدم التحديد فحديث سهل بن سعد الساعدي المتفق على صحته، وفيه أن رسول الله (ص) جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك. فقامت قياما طويلا فقام رجل فقال: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال رسول الله (ص): هل معك من شئ تصدقها إياه؟ فقال: ما عندي إلا إزاري. فقال رسول الله (ص): إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك فالتمس شيئا، فقال: لا أجد شيئا، فقال عليه الصلاة والسلام: التمس ولو خاتما من حديد فالتمس فلم يجد شيئا، فقال رسول الله (ص): هل معك شئ من القرآن؟ قال: نعم، سورة كذا وسورة كذا - لسور سماها - فقال رسول الله (ص): قد أنكحتكها بما معك من القرآن قالوا: فقوله عليه الصلاة والسلام التمس ولو خاتما من حديد دليل على أنه لا قدر لأقله لأنه لو كان له قدر لبينه إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهذا الاستدلال بين كما ترى مع أن القياس الذي اعتمده القائلون بالتحديد ليس تسلم مقدماته، وذلك أنه انبنى على مقدمتين: إحداهما: أن الصداق عبادة. والثانية: أن العبادة مؤقتة، وفي كليهما نزاع للخصم، وذلك أنه قد يلغي في الشرع من العبادات ما ليست مؤقتة، بل الواجب فيها هو أقل ما ينطلق عليه الاسم. وأيضا فإنه ليس فيه شبه العبادات خالصا وإنما صار المرجحون لهذا القياس على مفهوم الأثر لاحتمال أن يكون ذلك الأثر خاصا بذلك الرجل لقوله فيه قد أنكحتكها بما معك من القرآن وهذا خلاف للأصول، وإن كان قد جاء في بعض رواياته أنه قال قم فعلمها لما ذكر أنه معه من القرآن، فقام فعلمها، فجاء نكاحا بإجارة، لكن لما التمسوا أصلا يقيسون عليه قدر
16 الصداق لم يجدوا شيئا أقرب شبها به من نصاب القطع على بعد ما بينهما. وذلك أن القياس الذي استعملوه في ذلك هو أنهم قالوا: عضو مستباح بمال، فوجب أن يكون مقدرا أصله القطع، وضعف هذا القياس هو من قبل الاستباحة فيهما هي مقولة باشتراك الاسم، وذلك أن القطع غير الوطئ، وأيضا فإن القطع استباحة على جهة العقوبة والأذى ونقص خلقه، وهذا استباحة على جهة اللذة والمودة، ومن شأنه قياس الشبه على ضعفه أن يكون الذي به تشابه الفرع والأصل شيئا واحدا لا باللفظ بل بالمعنى، وأن يكون الحكم إنما وجد للأصل من جهة الشبه، وهذا كله معدوم في هذا القياس، ومع هذا فإنه من الشبه الذي لم ينبه عليه اللفظ، وهذا النوع من القياس مردود عند المحققين، لكن لم يستعملوا هذا القياس في إثبات التحديد المقابل لمفهوم الحديث إذ هو في غاية الضعف، وإنما استعملوه في تعيين قدر التحديد. وأما القياس الذي استعملوه في معارضة مفهوم الحديث فهو أقوى من هذا. ويشهد لعدم التحديد ما خرجه الترمذي أن امرأة تزوجت على نعلين، فقال لها رسول الله (ص): أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ فقالت: نعم، فجوز نكاحها وقال حديث حسن صحيح. ولما اتفق القائلون بالتحديد على قياسه على نصاب السرقة اختلفوا في ذلك بحسب اختلافهم في نصاب السرقة، فقال مالك: هو ربع دينار أو ثلاثة دراهم، لأنه النصاب في السرقة عنده، وقال أبو حنيفة: هو عشرة دراهم، لأنه النصاب في السرقة عنده، وقال ابن شبرمة: هو خمسة دراهم، لأنه النصاب عنده أيضا في السرقة وقد احتجت الحنفية لكون الصداق محددا بهذا القدر بحديث يروونه عن جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال لا مهر بأقل من عشرة دراهم. ولو كان ثابتا لكان رافعا لموضع الخلاف لأنه كان يجب لموضع هذا الحديث أن يحمل حديث سهل ابن سعد على الخصوص، لكن حديث جابر هذا ضعيف عند أهل الحديث فإنه يرويه، قال مبشر ابن عبيد عن الحجاج بن أرطاة عن عطاء عن جابر، ومبشر والحجاج ضعيفان، وعطاء أيضا لم يلق جابرا، ولذلك لا يمكن أن يقال إن هذا الحديث معارض لحديث سهل بن سعد المسألة الثالثة: أما جنسه فكل ما جاز أن يتملك وأن يكون عوضا. واختلفوا من ذلك في مكانين: في النكاح بالإجارة، وفي جعل عتق أمته صداقها. أما النكاح على الإجارة ففي المذهب فيه ثلاثة أقوال: قول بالإجازة، وقول بالمنع، وقول بالكراهة: والمشهور عن مالك الكراهة، ولذلك رأى فسخه قبل الدخول، وأجازه من أصحابه أصبغ وسحنون، وهو قول الشافعي، ومنعه ابن القاسم وأبو حنيفة إلا في العبد فإن أبا حنيفة أجازه. وسبب اختلافهم: سببان: أحدهما: هل شرع من قبلنا لازم لنا حتى يدل الدليل على ارتفاعه أم الامر بالعكس؟ فمن قال: هو لازم أجازه لقوله تعالى: * (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي
17 هاتين على أن تأجرني ثماني حجج) * الآية، ومن قال ليس بلازم قال: لا يجوز النكاح بالإجارة. والسبب الثاني: هل يجوز أن يقاس النكاح في ذلك على الإجارة؟ وذلك أن الإجارة هي مستثناة من بيوع الغرر المجهول، ولذلك خالف فيها الأصم وابن علية، وذلك أن أصل التعامل إنما هو على عين معروفة ثابتة في عين معروفة ثابتة، والإجارة هي عين ثابتة في مقابلتها حركات وأفعال غير ثابتة ولا مقدرة بنفسها. ولذلك اختلف الفقهاء متى تجب الأجرة على المستأجر. وأما كون العتق صداقا فإنه منعه فقهاء الأمصار ما عدا داود وأحمد. وسبب اختلافهم: معارضة الأثر الوارد في ذلك للأصول. أعني ما ثبت من أنه عليه الصلاة والسلام أعتق صفية وجعل عتقها صداقها مع احتمال أن يكون هذا خاصا به عليه الصلاة والسلام لكثرة اختصاصه في هذا الباب. ووجه مفارقته للأصول أن العتق إزالة ملك، والإزالة لا تتضمن استباحة الشئ بوجه آخر لأنها إذا أعتقت ملكت نفسها، فكيف يلزمها النكاح؟ ولذلك قال الشافعي: إنها إن كرهت زواجه غرمت له قيمتها، لأنه رأى أنها قد أتلفت عليه قيمتها إذا كان إنما أتلفها بشرط الاستمتاع بها، وهذا كله لا يعارض به فعله عليه الصلاة والسلام ولو كان غير جائز لغيره لبينه عليه الصلاة والسلام والأصل أن أفعاله لازمة لنا، إلا ما قام الدليل على خصوصيته. وأما صفة الصداق فإنهم اتفقوا على انعقاد النكاح على العوض المعين الموصوف، أعني المنضبط جنسه وقدره بالوصف، واختلفوا في العوض الغير موصوف ولا معين، مثل أن يقول أنكحتكها على عبد أو خادم، من غير أن يصف ذلك وصفا يضبط قيمته، فقال مالك وأبو حنيفة يجوز، وقال الشافعي: لا يجوز، وإذا وقع النكاح على هذا الوصف عند مالك كان لها الوسط مما سمى. وقال أبو حنيفة: يجبر على القيمة. وسبب اختلافهم: هل يجري النكاح في ذلك مجرى البيع من القصد في التشاح، أو ليس يبلغ ذلك المبلغ بل القصد منه أكثر ذلك المكارمة؟ فمن قال يجري في التشاح مجرى البيع قال: كما لا يجوز البيع على شئ غير موصوف كذلك لا يجوز النكاح، ومن قال ليس يجري مجراه إذ المقصود منه إنما هو المكارمة قال: يجوز. وأما التأجيل فإن قوما لم يجيزوه أصلا، وقوم أجازوه واستحبوا أن يقدم شيئا منه إذا أراد الدخول وهو مذهب مالك، والذين أجازوا التأجيل منهم من لم يجزه إلا لزمن محدود وقدر هذا البعد، وهو مذهب مالك، ومنهم من أجازه لموت أو فراق، وهو مذهب الأوزاعي. وسبب اختلافهم: هل يشبه النكاح البيع في التأجيل أو لا يشبهه؟ فمن قال يشبهه لم يجز التأجيل لموت أو فراق، ومن قال لا يشبهه أجاز ذلك، ومن منع التأجيل فلكونه عبادة. الموضع الثاني: في النظر في التقرر. واتفق العلماء على أن الصداق يجب كله
18 بالدخول أو الموت. أما وجوبه كله بالدخول فلقوله تعالى: * (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) * الآية. وأما وجوبه بالموت فلا أعلم الآن فيه دليلا مسموعا إلا انعقاد الاجماع على ذلك. واختلفوا هل من شرط وجوبه مع الدخول المسيس أم ليس ذلك من شرطه. بل يجب بالدخول والخلوة، وهو الذي يعنون بإرخاء الستور؟ فقال مالك والشافعي وداود: لا يجب بإرخاء الستور إلا نصف المهر ما لم يكن المسيس، وقال أبو حنيفة: يجب المهر بالخلوة نفسها إلا أن يكون محرما أو مريضا أو صائما في رمضان أو كانت المرأة حائضا، وقال ابن أبي ليلى: يجب المهر كله بالدخول ولم يشترط في ذلك شيئا. وسبب اختلافهم في ذلك معارضة حكم الصحابة في ذلك لظاهر الكتاب، وذلك أنه نص تبارك وتعالى في المدخول بها المنكوحة أنه ليس يجوز أن يؤخذ من صداقها شئ في قوله تعالى: * (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض) *، ونص في المطلقة قبل المسيس أن لها نصف الصداق، فقال تعالى: * (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم) * وهذا نص كما ترى في حكم كل واحدة من هاتين الحالتين: أعني قبل المسيس وبعد المسيس ولا وسط بينهما، فوجب بهذا إيجابا ظاهرا أن الصداق لا يجب إلا بالمسيس، والمسيس ههنا الظاهر من أمره أنه الجماع، وقد يحتمل أن يحمل على أصله في اللغة وهو المس، ولعل هذا هو الذي تأولت الصحابة، ولذلك قال مالك في العنين المؤجل: إنه قد وجب لها الصداق عليه إذا وقع الطلاق لطول مقامه معها، فجعل له دون الجماع تأثيرا في إيجاب الصداق. وأما الاحكام الواردة في ذلك عن الصحابة فهو أن من أغلق بابا أو أرخى سترا فقد وجب عليه الصداق، لم يختلف عليهم في ذلك فيما حكموا. واختلفوا من هذا الباب ففرع، وهو إذا اختلفا في المسيس أعني القائلين باشتراط المسيس، وذلك مثل أن تدعي هي المسيس وينكر هو، فالمشهور عن مالك أن القول قولها، وقيل: إن كان دخول بناء صدقت، وإن كان دخول زيارة لم تصدق، وقيل إن كانت بكرا نظر إليها النساء، فيتحصل فيها في المذهب ثلاثة أقوال. وقال الشافعي وأهل الظاهر: القول قوله، وذلك لأنه مدعى عليه، ومالك ليس يعتبر في وجوب اليمين على المدعى عليه من جهة ما هو مدعى عليه، بل من جهة ما هو أقوى شبهة في الأكثر، ولذلك يجعل القول في مواضع كثيرة قول المدعي إذ كان أقوى شبهة. وهذا الخلاف يرجع إلى: هل إيجاب اليمين على المدعى عليه: معلل أو غير معلل؟ وكذلك القول في وجوب البينة على المدعي، وسيأتي هذا في مكانه.
19 الموضع الثالث: في التشطير واتفقوا اتفاقا مجملا أنه إذا طلق قبل الدخول وقد فرض صداقا أنه يرجع عليها بنصف الصداق لقوله تعالى: * (فنصف ما فرضتم) * الآية والنظر في التشطير في أصول ثلاثة: في محله من الأنكحة، وفي موجبه من أنواع الطلاق: أعني الواقع قبل الدخول، وفي حكم ما يعرض له من التغيرات قبل الطلاق. أما محله من النكاح عند مالك فهو النكاح الصحيح، أعني أن يكون يقع الطلاق الذي قبل الدخول في النكاح الصحيح، وأما النكاح الفاسد، فإن لم تكن الفرقة فيه فسخا وطلق قبل الفسخ ففي ذلك قولان. وأما موجب التشطير فهو الطلاق الذي يكون باختيار من الزوج لا باختيار منها مثل الطلاق الذي يكون من قبل قيامها بعيب يوجد فيه. واختلفوا من هذا الباب في الذي يكون سببه قيامها عليه بالصداق أو النفقة مع عسره، ولا فرق بينه وبين القيام بالعيب، وأما الفسوخ التي ليست طلاقا فلا خلاف أنها ليست توجب التشطير إذا كان فيها الفسخ من قبل العقد أو من قبل الصداق، وبالجملة من قبل عدم موجبات الصحة، وليس لها في ذلك اختيار أصلا. وأما الفسوخ الطارئة على العقد الصحيح مثل الردة والرضاع، فإن لم يكن لأحدهما فيه اختيار أو كان لها دونه لم يوجب التشطير وإن كان له فيه اختيار مثل الردة أوجب التشطير. والذي يقتضيه مذهب أهل الظاهر أن كل طلاق قبل البناء فواجب أن يكون فيه التنصيف سواء كان من سببها أو سببه، وأن ما كان فسخا ولم يكن طلاقا فلا تنصيف فيه. وسبب الخلاف: هل هذه السنة معقولة المعنى أم ليست بمعقولة. فمن قال إنها معقولة المعنى وأنه إنما وجب لها نصف الصداق عوض ما كان لها لمكان الجبر على رد سلعتها وأخذ الثمن كالحال في المشتري فلما فارق النكاح في هذا المعنى البيع جعل لها هذا عوضا من ذلك الحق قال: إذا كان الطلاق من سببها لم يكن لها شئ لأنها أسقطت ما كان لها من جبره على دفع الثمن وقبض السلعة، ومن قال إنها سنة غير معقولة واتبع ظاهر اللفظ قال: يلزم التشطير في كل طلاق كان من سببه أو سببها. فأما حكم ما يعرض للصداق من التغيرات قبل الطلاق فإن ذلك لا يخلو أن يكون من قبلها أو من الله، فما كان من قبل الله فلا يخلو من أربعة أوجه: إما أن يكون تلفا للكل، وإما أن يكون نقصا، وإما أن يكون زيادة، وإما أن يكون زيادة ونقصا معا. وما كان من قبلها فلا يخلو أن يكون تصرفها فيه بتفويت مثل البيع والعتق والهبة، أو يكون تصرفها فيه في منافعها الخاصة بها أو فيما تتجهز به إلى زوجها، فعند مالك أنهما في التلف وفي الزيادة وفي النقصان شريكان، وعند الشافعي أنه يرجع في النقصان والتلف عليها بالنصف ولا يرجع بنصف الزيادة. وسبب اختلافهم: هل تملك المرأة الصداق قبل الدخول أو الموت ملكا مستقرا أو لا تملكه؟ فمن قال إنها لا تملكه ملكا مستقرا قال: هما فيه شريكان ما لم تتعد فتدخله في منافعها، ومن قال تملكه ملكا مستقرا والتشطير حق واجب تعين عليها عند الطلاق وبعد استقرار الملك أوجب الرجوع عليها بجميع ما ذهب عندها ولم يختلفوا أنها إذا
20 صرفته في منافعها ضامنة للنصف. واختلفوا إذا اشترت به ما يصلحها للجهاز مما جرت به العادة هل يرجع عليها بنصف ما اشترته أم بنصف الصداق الذي هو الثمن؟ فقال مالك: يرجع عليها بنصف ما اشترته، وقال أبو حنيفة والشافعي: يرجع عليها بنصف الثمن الذي هو الصداق. واختلفوا من هذا الباب في فرع مشهور متعلق بالسماع وهو هل للأب أن يعفو عن نصف الصداق في ابنته البكر؟ أعني إذا طلقت قبل الدخول، وللسيد في أمته؟ فقال مالك: ذلك له، وقال أبو حنيفة والشافعي: ليس ذلك له. وسبب اختلافهم: هو الاحتمال الذي في قوله تعالى: * (إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) * وذلك في لفظة يعفو فإنها تقال في كلام العرب مرة بمعنى يسقط ومرة بمعنى يهب، وفي قوله: * (الذي بيده عقدة النكاح) * على من يعود هذا الضمير هل على الولي أو على الزوج، فمن قال على الزوج جعل يعفو بمعنى يهب ومن قال على الولي جعل يعفو بمعنى يسقط، وشذ قوم فقالوا: لكل ولي أن يعفو عن نصف الصداق الواجب للمرأة، ويشبه أن يكون هذان الاحتمالان اللذان في الآية على السواء، لكن من جعله الزوج فلم يوجب حكما زائدا في الآية: أي شرعا زائدا، لأن جواز ذلك معلوم من ضرورة الشرع. ومن جعله الولي، إما الأب وإما غيره فقد زاد شرعا، فلذلك يجب عليه أن يأتي بدليل يبين به أن الآية أظهر في الولي منها في الزوج وذلك شئ يعسر، والجمهور على أن المرأة الصغير والمحجورة ليس لها أن تهب من صداقها النصف الواجب لها، وشذ قوم فقالوا: يجوز أن تهب مصيرا لعموم قوله تعالى: * (إلا أن يعفون) * واختلفوا من هذا الباب في المرأة إذا وهبت صداقها لزوجها ثم طلقت قبل الدخول، فقال مالك: ليس يرجع عليها بشئ، وقال الشافعي: يرجع عليها بنصف الصداق. وسبب الخلاف: هل النصف الواجب للزوج بالطلاق هو في عين الصداق أو في ذمة المرأة؟ فمن قال في عين الصداق قال: لا يرجع عليها بشئ لأنه قبض الصداق كله، ومن قال هو في ذمة المرأة قال: يرجع وإن وهبته له كما لو وهبت له غير ذلك من مالها. وفرق أبو حنيفة في هذه المسألة بين القبض ولا قبض. فقال: إن قبضت فله النصف وإن لم تقبض حتى وهبت فليس له شئ كأنه رأى أن الحق في العين ما لم تقبض، فإذا قبضت صار في الذمة. الموضع الرابع: في التفويض وأجمعوا على أن نكاح التفويض جائز، وهو أن يعقد النكاح دون صداق لقوله تعالى: * (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة) *. واختلفوا من ذلك في موضعين: أحدهما: إذا طلبت الزوجة فرض الصداق واختلفا في القدر. الموضع الثاني: إذا مات الزوج ولم يفرض هل لها صداق أم لا؟. فأما المسألة الأولى: وهي إذا قامت المرأة تطلب أن يفرض لها مهرا، فقالت طائفة:
21 يفرض لها مهر مثلها، وليس للزوج في ذلك خيار، فإن طلق بعد الحكم، فمن هؤلاء من قال: لها نصف الصداق، ومنهم من قال: ليس لها شئ، لان أصل الفرض لم يكن في عقدة النكاح، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وقال مالك وأصحابه: الزوج بين خيارات ثلاث: إما أن يطلق ولا يفرض، وإما أن يفرض ما تطلبه المرأة به، وإما أن يفرض صداق المثل ويلزمها. وسبب اختلافهم: - أعني بين من يوجب مهر المثل من غير خيار للزوج إذا طلق بعد طلبها الفرض، ومن لا يوجب - اختلافهم في مفهوم قوله تعالى: * (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة) * هل هذا محمول على العموم في سقوط الصداق سواء أكان سبب الطلاق اختلافهم في فرض الصداق أو لم يكن الطلاق سببه الخلاف في ذلك، وأيضا فهل يفهم من رفع الجناح عن ذلك سقوط المهر في كل حال أو لا يفهم ذلك؟ فيه احتمال وإن كان الأظهر سقوطه في كل حال لقوله تعالى: * (ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره) *، ولا خلاف أعلمه في أنه إذا طلق ابتداء أنه ليس عليه شئ. وقد كان يجب على من أوجب لها المتعة مع شطر الصداق إذا طلق قبل الدخول في نكاح غير التفويض وأوجب لها مهر المثل في نكاح التفويض أن يوجب لها مع المتعة فيه شطر مهر المثل، لان الآية لم تتعرض بمفهومها لاسقاط الصداق في نكاح التفويض، وإنما تعرضت لإباحة الطلاق قبل الفرض فإن كان يوجب نكاح التفويض مهر المثل إذا طلب فواجب أن ينشطر إذا وقع الطلاق كما ينشطر في وأما المسمى، ولهذا قال مالك: إنه ليس يلزم فيه مهر المثل مع خيار الزوج المسألة الثانية: وهي إذا مات الزوج قبل تسمية الصداق وقبل الدخول بها، فإن مالكا وأصحابه والأوزاعي قالوا: ليس لها صداق ولها المتعة والميراث. وقال أبو حنيفة: لها صداق المثل والميراث، وبه قال أحمد وداود، وعن الشافعي القولان جميعا، إلا أن المنصور عند أصحابه هو مثل قول مالك. وسبب اختلافهم: معارضة القياس للأثر: أما الأثر فهو ما روي عن ابن مسعود أنه سئل عن هذه المسألة فقال: أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني: أرى لها صداق امرأة من نسائها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث، فقام معقل بن يسار الأشجعي فقال: أشهد لقضيت فيها بقضاء رسول الله (ص) في بروع بنت واشق، خرجه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه. وأما القياس المعارض لهذا فهو أن الصداق عوض، فلما لم يقبض المعوض لم يجب العوض قياسا على البيع، وقال المزني عن الشافعي في هذه المسألة: إن ثبت حديث بروع فلا حجة في قول أحد مع السنة. والذي قاله هو الصواب والله أعلم. الموضع الخامس: في الأصدقة الفاسدة والصداق يفسد إما لعينه وإما لصفة فيه من
22 جهل أو عذر، فالذي يفسد لعينه فمثل الخمر والخنزير وما لا يجوز أن يتملك، والذي يفسد من قبل العذر والجهل فالأصل فيه بالبيوع، وفي ذلك خمس مسائل مشهورة: المسألة الأولى: إذا كان الصداق خمرا أو خنزيرا أو ثمرة لم يبد صلاحها أو بعيرا شاردا، فقال أبو حنيفة: العقد صحيح إذا وقع فيه مهر المثل. وعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما: فساد العقد وفسخه قبل الدخول وبعده وهو قول أبي عبيد. والثانية: أنه إن دخل ثبت ولها صداق المثل. وسبب اختلافهم: هل حكم النكاح في ذلك حكم البيع أم ليس كذلك؟ فمن قال حكمه حكم البيع قال: يفسد النكاح بفساد الصداق كما يفسد البيع بفساد الثمن، ومن قال ليس من شرط صحة عقد النكاح صحة الصداق بدليل أن ذكر الصداق ليس شرطا في صحة العقد قال: يمضي النكاح ويصحح بصداق المثل. والفرق بين الدخول وعدمه ضعيف، والذي تقتضيه أصول مالك أن يفرق بين الصداق المحرم العين وبين المحرم لصفة فيه قياسا على البيع، ولست أذكر الآن فيه نصا. المسألة الثانية: واختلفوا إذا اقترن بالمهر بيع مثل أن تدفع إليه عبدا ويدفع ألف درهم عن الصداق وعن ثمن العبد، ولا يسمى الثمن من الصداق، فمنعه مالك وابن القاسم، وبه قال أبو ثور. وأجازه أشهب، وهو قول أبي حنيفة. وفرق عبد الله فقال: إن كان الباقي بعد البيع ربع دينار فصاعدا بأمر لا يشك فيه جاز، واختلف فيه قول الشافعي، فمرة قال: ذلك جائز، ومرة قال: فيه مهر المثل. وسبب اختلافهم: هل النكاح في ذلك شبيه بالبيع أم ليس بشبيه؟ فمن شبهه في ذلك بالبيع منعه، ومن جوز في النكاح من الجهل ما لا يجوز في البيع قال يجوز. المسألة الثالثة: واختلف العلماء فيمن نكح امرأة واشترط عليه في صداقها حباء يحابي به الأب على ثلاثة أقوال: فقال أبو حنيفة وأصحابه: الشرط لازم والصداق صحيح، وقال الشافعي: المهر فاسد ولها صداق المثل، وقال مالك: إذا كان الشرط عند النكاح فهو لابنته، وإن كان بعد النكاح فهو له. وسبب اختلافهم: تشبيه النكاح في ذلك بالبيع، فمن شبهه بالوكيل يبيع السلعة ويشترط لنفسه حباء قال: لا يجوز النكاح كما لا يجوز البيع، ومن جعل النكاح في ذلك مخالفا للبيع قال: يجوز. وأما تفريق مالك فلانه اتهمه إذا كان الشرط في عقد النكاح أن يكون ذلك الذي اشترطه لنفسه نقصانا من صداق مثلها، ولم يتهمه إذا كان بعد انعقاد النكاح والاتفاق على الصداق. وقول مالك هو قول عمر بن عبد العزيز والثوري وأبي عبيد. وخرج أبو داود والنسائي وعبد الرزاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله (ص) أيما امرأة نكحت على حباء قبل عصمة النكاح فهو لها، وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه، وأحق ما أكرم الرجل عليه ابنته وأخته وحديث عمرو بن شعيب مختلف فيه من قبل أنه صحفه، ولكنه نص في قول مالك، وقال أبو عمر بن عبد البر: إذا روته
23 الثقات وجب العمل به. المسألة الرابعة: واختلفوا في الصداق يستحق، ويوجد به عيب، فقال الجمهور: النكاح ثابت. واختلفوا هل ترجع بالقيمة أو بالمثل أو بمهر المثل؟ واختلف في ذلك قول الشافعي، فقال مرة بالقيمة، وقال مرة بمهر المثل، وكذلك اختلف المذهب في ذلك، فقيل ترجع بالقيمة، وقيل ترجع بالمثل. قال أبو الحسن اللخمي: ولو قيل ترجع بالأقل من القيمة أو صداق المثل لكان ذلك وجها. وشذ سحنون فقال: النكاح فاسد. ومبنى الخلاف: هل يشبه النكاح في ذلك البيع أو لا يشبهه؟ فمن شبهه قال: ينفسخ، ومن لم يشبهه قال: لا ينفسخ. المسألة الخامسة: واختلفوا في الرجل ينكح المرأة على أن الصداق ألف إن لم يكن له زوجة، وإن كانت له زوجة فالصداق ألفان، فقال الجمهور بجوازه، واختلفوا في الواجب في ذلك، فقال قوم: الشرط جائز، ولها من الصداق بحسب ما اشترط، وقالت طائفة: لها مهر المثل، وهو قول الشافعي وبه قال أبو ثور، إلا أنه قال: إن طلقها قبل الدخول لم يكن لها إلا المتعة، وقال أبو حنيفة: إن كانت له امرأة فلها ألف درهم، وإن لم تكن له امرأة فلها مهر مثلها ما لم يكن أكثر من الألفين أو أقل من الألف، ويتخرج في هذا قول إن النكاح مفسوخ لمكان الغرر ولست أذكر الآن نصا فيها في المذهب. فهذه مشهور مسائلهم في هذا الباب وفروعه كثيرة.. واختلفوا فيما يعتبر به مهر المثل إذا قضى به في هذه المواضع وما أشبهها، فقال مالك: يعتبر في جمالها ونصابها ومالها. وقال الشافعي: يعتبر بنساء عصبتها فقط، وقال أبو حنيفة: يعتبر في ذلك نساء قرابتها من العصبة وغيرهم، ومبنى الخلاف هل المماثلة في المنصب فقط أو في المنصب والمال والجمال، لقوله عليه الصلاة والسلام تنكح المرأة لدينها وجمالها وحسبها الحديث. الموضع السادس: في اختلاف الزوجين في الصداق واختلافهم لا يخلو أن يكون في القبض أو في القدر أو في الجنس أو في الوقت: أعني وقت الوجوب، فأما إذا اختلفا في القدر فقالت المرأة مثلا بمائتين وقال الزوج بمائة، فإن الفقهاء اختلفوا في ذلك اختلافا كثيرا، فقال مالك: إنه إن كان الاختلاف قبل الدخول وأتى الزوج بما يشبه والمرأة بما يشبه أنهما يتحالفان ويتفاسخان، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر كان القول قول الحالف، وإن نكلا جميعا كان بمنزلة ما إذا حلفا جميعا، ومن أتى بما يشبه منهما كان القول قوله، وإن كان الاختلاف بعد الدخول فالقول قول الزوج. وقالت طائفة: القول قول الزوج مع يمينه، وبه قال أبو ثور وابن أبي ليلى وابن شبرمة وجماعة، وقالت طائفة: القول قول الزوجة إلى مهر مثلها، وقول الزوج فيما زاد على مهر مثلها. وقالت طائفة: إذا اختلفا تحالفا ورجع
24 إلى مهر المثل، ولم تر الفسخ كمالك، وهو مذهب الشافعي والثوري وجماعة، وقد قيل إنها ترد إلى صداق المثل دون يمين ما لم يكن صداق المثل أكثر مما ادعت وأقل مما ادعى هو. واختلافهم مبني: على اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام البينة على من ادعى واليمين على من أنكر هل ذلك معلل أو غير معلل؟ فمن قال معلل قال: يحلف أبدا أقواهما شبهة، فإن استويا تحالفا وتفاسخا، ومن قال غير معلل قال: يحلف الزوج لأنها تقر له بالنكاح وجنس الصداق وتدعي عليه قدرا زائدا فهو مدعى عليه، وقيل أيضا يتحالفان أبدا، لان كل واحد منهما مدعى عليه، وذلك عند من لم يراع الأشباه. والخلاف في ذلك في المذهب ومن قال القول قولها إلى مهر المثل، والقول قوله فيما زاد على مهر المثل رأى أنهما لا يستويان أبدا في الدعوى، بل يكون أحدهما ولا بد أقوى شبهة، وذلك أنه لا يخلو دعواها من أن يكون فيما يعادل صداق مثلها فما دونه فيكون القول قولها، أو يكون فيما فوق ذلك فيكون القول قوله. وسبب اختلاف مالك والشافعي في التفاسخ بعد التحالف والرجوع إلى صداق المثل، هو هل يشبه النكاح بالبيع في ذلك أم ليس يشبه؟ فمن قال يشبه به قال بالتفاسخ، ومن قال لا يشبه لان الصداق ليس من شرط صحة العقد قال بصداق المثل بعد التحالف. وكذلك من زعم من أصحاب مالك أنه لا يجوز لهما بعد التحالف أن يتراضيا على شئ ولا أن يرجع أحدهما إلى قول الآخر ويرضى به فهو في غاية الضعف. ومن ذهب إلى هذا فإنما يشبه اللعان. وهو تشبيه ضعيف مع أن وجود هذا الحكم للعان مختلف فيه. وأما إذا اختلفا في القبض فقالت الزوجة لم أقبض، وقال الزوج قد قبضت فقال الجمهور: القول قول المرأة وبه قال الشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور، وقال مالك: القول قولها قبل الدخول، والقول قوله بعد الدخول. وقال بعض أصحابه: إنما قال ذلك مالك لان العرف بالمدينة كان عندهم أن لا يدخل الزوج حتى يدفع الصداق، فإن كان بلد ليس فيه هذا العرف كان القول قولها أبدا، والقول بأن القول قولها أبدا أحسن لأنها مدعى عليها، ولكن مالك راعى قوة الشبهة التي له إذا دخل بها الزوج، واختلف أصحاب مالك إذا طال الدخول هل يكون القول قوله بيمين أو بغير يمين أحسن. وأما إذا اختلف في جنس الصداق فقال هو مثلا زوجتك على هذا العبد، وقالت هي زوجتك على هذا الثوب، فالمشهور في المذهب أنهما يتحالفان ويتفاسخان إن كان الاختلاف قبل البناء. وإن كان بعد البناء ثبت وكان لها صداق مثل ما لم يكن أكثر مما ادعت أو أقل مما اعترف به. وقال ابن القصار: يتحالفان قبل الدخول، والقول قول الزوج بعد الدخول، وقال أصبغ: القول قول الزوج إن كان يشبهه سواء أشبه قولهما أو لم يشبه، فإن لم يشبه قول الزوج فإن كان قولها مشبها كان القول قولها، وإن لم يكن قولها مشبها تحالفا وكان لها صداق المثل. وقول الشافعي في هذه المسألة مثل قوله عند اختلافهما في القدر: أعني يتحالفان ويتراجعان إلى
25 مهر المثل. وسبب قول الفقهاء بالتفاسخ في البيع ستعرف أصله في كتاب البيوع إن شاء الله. وأما اختلافهم في الوقت فإنه يتصور في الكالئ. والذي يجئ على أصل قول مالك فيه في المشهور عنه أن القول في الاجل قول الغارم قياسا على البيع وفيه خلاف، ويتصور أيضا متى يجب هل قبل الدخول أو بعده؟ فمن شبه النكاح بالبيوع قال: لا يجب إلا بعد الدخول قياسا على البيع إذ لا يجب الثمن على المشتري إلا بعد قبض السلعة، ومن رأى أن الصداق عبادة يشترط في الحلية قال: يجب قبل الدخول. ولذلك استحب مالك أن يقدم الزوج قبل الدخول شيئا من الصداق. الركن الثالث: في معرفة محل العقد وكل امرأة فإنها تحل في الشرع بوجهين: إما بنكاح، أو بملك يمين. والموانع الشرعية بالجملة تنقسم أولا إلى قسمين: موانع مؤبدة، وموانع غير مؤبدة. والموانع المؤبدة تنقسم إلى متفق عليها، ومختلف فيها. فالمتفق عليها ثلاث: نسب، وصهر، ورضاع. واختلف فيها الزنا، واللعان. والغير مؤبدة تنقسم إلى تسعة: أحدها: مانع العدد. والثاني: مانع الجمع. والثالث: مانع الرق. الرابع: مانع الكفر. والخامس: مانع الاحرام. والسادس: مانع المرض. والسابع: مانع العدة على اختلاف في عدم تأبيده. والثامن: مانع التطليق ثلاثا للمطلق. والتاسع: مانع الزوجية. فالموانع الشرعية بالجملة أربعة عشر مانعا، ففي هذا الباب أربعة عشر فصلا. الفصل الأول: في مانع النسب واتفقوا على أن النساء اللائي يحرمن من قبل النسب السبع المذكورات في القرآن: الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، واتفقوا على أن الأم ههنا: اسم لكل أنثى لها عليك ولادة من جهة الأم أو من جهة الأب، والبنت: اسم لكل أنثى لك عليها ولادة من قبل الابن أو من قبل البنت أو مباشرة، وأما الأخت: فهي اسم لكل أنثى شاركتك في أحد أصليك أو مجموعيهما أعني الأب أو الأم أو كليهما، والعمة: اسم لكل أنثى هي أخت لأبيك أو لكل ذكر له عليك ولادة، وأما الخالة: فهي اسم لأخت أمك أو أخت كل أنثى لها عليك ولادة، وبنات الأخ: اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة من قبل أمها أو من قبل أبيها أو مباشرة، وبنا ت الأخت: اسم لكل أنثى لأختك عليها ولادة مباشرة أو من قبل أمها أو من قبل أبيها فهؤلاء الأعيان السبع محرمات، ولا خلاف أعلمه في هذه الجملة. والأصل فيها قوله تعالى: * (حرمت عليكم) * إلى آخر الآية. وأجمعوا على أن النسب الذي يحرم الوطئ يحرم الوطئ بملك اليمين.
26 الفصل الثاني: في المصاهرة وأما المحرمات بالمصاهرة فإنهن أربع: زوجات الآباء والأصل فيه قوله تعالى: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) * الآية. وزوجات الأبناء والأصل في ذلك أيضا قوله تعالى: * (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) * وأمهات النساء أيضا، والأصل في ذلك قوله تعالى: * (وأمهات نسائكم) * وبنات الزوجات، والأصل فيه قوله تعالى: * (وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) * فهؤلاء الأربع اتفق المسلمون على تحريم اثنتين منهن بنفس العقد، وهو تحريم زوجات الآباء والأبناء، وواحدة بالدخول وهي ابنة الزوجة واختلفوا منها في موضعين: أحدهما هل من شرطها أن تكون في حجر الزوج، والثانية هل تحرم بالمباشرة للأم للذة أو بالوطئ؟. وأما أم الزوجة فإنهم اختلفوا هل تحرم بالوطئ أو بالعقد على البنت فقط؟ واختلف أيضا من هذا الباب في مسألة رابعة، وهي هل يوجب الزنا في هذا التحريم ما يوجبه النكاح الصحيح أو النكاح بشبهة؟ فهنا أربع مسائل: المسألة الأولى: وهي هل من شرط تحريم بنت الزوجة أن تكون في حجر الزوج أم ليس ذلك من شرطه؟ فإن الجمهور على أن ذلك ليس من شرط التحريم، وقال داود: ذلك من شرطه، ومبنى الخلاف هل قوله تعالى: * (اللاتي في حجوركم) * وصف له تأثير في الحرمة أو ليس له تأثير، وإنما خرج مخرج الموجود أكثر؟ فمن قال خرج مخرج الموجود الأكثر وليس هو شرطا في الربائب، إذ لا فرق في ذلك بين التي في حجره أو التي ليست في حجره. قال: تحرم الربيبة بإطلاق، ومن جعله شرطا غير معقول المعنى قال: لا تحرم إلا إذا كانت في حجره. المسألة الثانية: وأما هل تحرم البنت بمباشرة الأم فقط أو بالوطئ؟ فإنهم اتفقوا على أن حرمتها بالوطئ. واختلفوا فيما دون الوطئ من اللمس والنظر إلى الفرج لشهوة أو لغير شهوة هل ذلك يحرم أم لا؟ فقال مالك والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والليث بن سعد: إن اللمس لشهوة يحرم الأم. وهو أحد قولي الشافعي، وقال داود والمزني: لا يحرمه إلا الوطئ وهو أحد قولي الشافعي المختار عنده، والنظر عند مالك كاللمس إذا كان نظر تلذذ إلى أي عضو كان، وفيه عنه خلاف، ووافقه أبو حنيفة في النظر إلى الفرج فقط، وحمل الثوري النظر محمل اللمس ولم يشترط اللذة، وخالفهم في ذلك ابن أبي ليلى والشافعي في أحد قوليه فلم يوجب في النظر شيئا. وأوجب في اللمس. ومبنى الخلاف: هل المفهوم من اشتراط الدخول في قوله تعالى: * (اللاتي دخلتم بهن) * الوطئ أو التلذذ بما دون الوطئ؟ فإن كان التلذذ فهل يدخل فيه النظر أم لا؟
27 المسألة الثالثة: وأما الأم فذهب الجمهور من كافة فقهاء الأمصار إلى أنها تحرم بالعقد على البنت دخل بها أو لم يدخل، وذهب قوم إلى أن الأم لا تحرم إلا بالدخول على البنت كالحال في البنت: أعني أنها لا تحرم إلا بالدخول على الأم، وهو مروي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما من طرق ضعيفة. ومبنى الخلاف: هل الشرط في قوله تعالى: * (اللاتي دخلتم بهن) * يعود إلى أقرب مذكور وهم الربائب فقط أو إلى الربائب والأمهات المذكورات قبل الربائب في قوله تعالى: * (وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) * فإنه يحتمل أن يكون قوله - تعالى - * (اللاتي دخلتم بهن) * يعود على الأمهات والبنات، ويحتمل أن يعود إلى أقرب مذكور وهم البنات. ومن الحجة للجمهور ما روى المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي عليه الصلاة والسلام قال أيما رجل نكح امرأة فدخل بها أو لم يدخل فلا تحل له أمها. وأما المسألة الرابعة: فاختلفوا في الزنا هل يوجب من التحريم في هؤلاء ما يوجب الوطئ في نكاح صحيح أو بشبهة؟ أعني الذي يدرأ فيه الحد، فقال الشافعي: الزنا بالمرأة لا يحرم نكاح أمها ولا ابنتها ولا نكاح أبي الزاني لها ولا ابنه. وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي: يحرم الزنا ما يحرم النكاح، وأما مالك ففي الموطأ عنه مثل قول الشافعي أنه لا يحرم، وروى عنه ابن القاسم مثل قول أبي حنيفة أنه يحرم، وقال سحنون: أصحاب مالك يخالفون ابن القاسم فيها، ويذهبون إلى ما في الموطأ، وقد روي عن الليث أن الوطئ بشبهة لا يحرم وهو شاذ. وسبب الخلاف: الاشتراك في اسم النكاح: أعني في دلالته على المعنى الشرعي واللغوي، فمن راعى الدلالة اللغوية في قوله تعالى: * (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم) * قال: يحرم الزنا، ومن راعى الدلالة الشرعية قال: لا يحر الزنا. ومن علل هذا الحكم بالحرمة التي بين الأم والبنت وبين الأب والابن قال يحرم الزنا أيضا، ومن شبهه بالنسب قال: لا يحرم لاجماع الأكثر على أن النسب لا يلحق بالزنا. واتفقوا فيما حكى ابن المنذر على أن الوطئ بملك اليمين يحرم منه ما يحرم الوطئ بالنكاح. واختلفوا في تأثير المباشرة في ملك اليمين كما اختلفوا في النكاح. الفصل الثالث: في مانع الرضاع واتفقوا على أن الرضاع بالجملة يحرم منه ما يحرم منه النسب. أعني أن المرضعة تنزل منزلة الأم، فتحرم على المرضع هي وكل من يحرم على الابن من قبل أم النسب واختلفوا من ذلك في مسائل كثيرة، القواعد منها تسع: إحداها: في مقدار المحرم من
28 اللبن. والثانية: في سن الرضاع. والثالثة: في حل المرضع في ذلك الوقت عند من يشترط للرضاع المحرم وقتا خاصا. والرابعة: هل يعتبر فيه وصوله برضاع والتقام الثدي أو لا يعتبر. والخامسة: هل يعتبر فيه المخالطة أم لا يعتبر. والسادسة: هل يعتبر فيه الوصول من الحلق أو لا يعتبر. والسابعة: هل ينزل صاحب اللبن - أعني الزوج - من المرضع منزلة أب: وهو الذي يسمونه لبن الفحل أم ليس ينزل منه بمنزلة أب. والثامنة: الشهادة على الرضاع. والتاسعة: صفة المرضعة. المسألة الأولى: أما مقدار المحرم من اللبن فإن قوما قالوا فيه بعدم التحديد وهو مذهب مالك وأصحابه، وروي عن علي وابن مسعود وهو قول ابن عمر وابن عباس، وهؤلاء يحرم عندهم أي قدر كان، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي، وقالت طائفة: بتحديد القدر المحرم، وهؤلاء انقسموا إلى ثلاث فرق، فقالت طائفة: لا تحرم المصة ولا المصتان وتحرم الثلاث رضعات فما فوقها، وبه قال أبو عبيد وأبو ثور، وقالت طائفة: المحرم خمس رضعات، وبه قال الشافعي، وقالت طائفة: عشر رضعات. والسبب في اختلافهم في هذه المسألة: معارضة عموم الكتاب للأحاديث الواردة في التحديد ومعارضة الأحاديث في ذلك بعضها بعضا. فأما عموم الكتاب فقوله تعالى: * (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) * الآية، وهذا يقتضي ما ينطلق عليه اسم الارضاع، والأحاديث المتعارضة في ذلك راجعة إلى حديثين في المعنى: أحدهما: حديث عائشة وما في معناه أنه قال عليه الصلاة والسلام لا تحرم المصة ولا المصتان أو الرضعة والرضعتان خرجه مسلم من طريق عائشة، ومن طريق أم الفضل، ومن طريق ثالث، وفيه قال: قال رسول الله (ص) لا تحرم الاملاجة ولا الاملاجتان والحديث الثاني: حديث سهلة في سالم أنه قال لها النبي (ص) أرضعيه خمس رضعات وحديث عائشة في هذا المعنى أيضا قالت كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله (ص) وهن مما يقرأ من القرآن فمن رجح ظاهر القرآن على هذه الأحاديث قال: تحرم المصة والمصتان. ومن جعل الأحاديث مفسرة للآية وجمع بينها وبين الآية ورجح مفهوم دليل الخطاب في قوله عليه الصلاة والسلام لا تحرم المصة ولا المصتان على مفهوم دليل الخطاب في حديث سالم قال: الثلاثة فما فوقها هي التي تحرم، وذلك أن دليل الخطاب في قوله لا تحرم المصة ولا المصتان يقتضي أن ما فوقها يحرم، ودليل الخطاب في قوله أرضعيه خمس رضعات يقتضي أن ما دونها لا يحرم والنظر في ترجيح أحد دليلي الخطاب.
29 المسألة الثانية: واتفقوا على أن الرضاع يحرم في الحولين. واختلفوا في رضاع الكبير فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وكافة الفقهاء: لا يحرم رضاع الكبير، وذهب داود وأهل الظاهر إلى أنه يحرم، وهو مذهب عائشة، ومذهب الجمهور هو مذهب ابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وابن عباس وسائر أزواج النبي عليه الصلاة والسلام. وسبب اختلافهم: تعارض الآثار في ذلك، وذلك أنه ورد في ذلك حديثان: أحدهما: حديث سالم، وقد تقدم. والثاني: حديث عائشة خرجه البخاري ومسلم قالت دخل رسول الله (ص) وعندي رجل، فاشتد ذلك عليه ورأيت الغضب في وجهه، فقلت: يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة فقال عليه الصلاة والسلام: انظرن من إخوانكن من الرضاعة، فإن الرضاعة من المجاعة. فمن ذهب إلى ترجيح هذا الحديث قال: لا يحرم اللبن الذي لا يقوم للمرضع مقام الغذاء، إلا أن حديث سالم نازلة في عين، وكان سائر أزواج النبي (ص) يرون ذلك رخصة لسالم، ومن رجح حديث سالم وعلل حديث عائشة بأنها لم تعمل به قال: يحرم رضاع الكبير. المسألة الثالثة: واختلفوا إذا استغنى المولود بالغذاء قبل الحولين وفطم ثم أرضعته امرأة فقال مالك: لا يحرم ذلك الرضاع، وقال أبو حنيفة والشافعي: تثبت الحرمة به. وسبب اختلافهم: اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام فإنما الرضاعة من المجاعة فإنه يحتمل أن يريد بذلك الرضاع الذي يكون في سن المجاعة كيفما كان الطفل وهو سن الرضاع، ويحتمل أن يريد إذا كان الطفل غير مفطوم، فإن فطم في بعض الحولين لم يكن رضاعا من المجاعة، فالاختلاف آيل إلى أن الرضاع الذي سببه المجاعة والافتقار إلى اللبن هل يعتبر فيه الافتقار الطبيعي للأطفال وهو الافتقار الذي سببه سن الرضاع أو افتقار المرضع نفسه وهو الذي يرتفع بالفطم ولكنه موجود بالطبع؟ والقائلون بتأثير الارضاع في مدة الرضاع سواء من اشترط منهم الفطام أو لم يشترطه اختلفوا في هذه المدة، فقال هذه بالمدة حولان فقط. وبه قال زفر، واستحسن مالك التحريم في الزيادة اليسيرة على العامين، وفي قول الشهر عنه. وفي قول عنه إلى ثلاثة أشهر، وقال أبو حنيفة: حولان وستة شهور. وسبب اختلافهم: ما يظن من معارضة آية الرضاع لحديث عائشة المتقدم، وذلك أن قوله تعالى: * (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) * يوهم أن ما زاد على هذين الحولين ليس هو رضاع مجاعة من اللبن، وقوله
30 عليه الصلاة والسلام إنما الرضاعة من المجاعة يقتضي عمومه أن ما دام الطفل غذاؤه اللبن أن ذلك الرضاع يحرم. المسألة الرابعة: وأما هل يحرم الوجور واللدود، وبالجملة ما يصل إلى الحلق من غير رضاع، فإن مالكا قال: يحرم الوجور واللدود، وقال عطاء وداود: لا يحرم. وسبب اختلافهم: هل المعتبر وصول اللبن كيفما وصل إلى الجوف، أو وصوله على الجهة المعتادة؟ فمن راعى وصوله على الجهة المعتادة وهو الذي ينطلق عليه اسم الرضاع قال: لا يحرم الوجور ولا اللدود، ومن راعى وصول اللبن إلى الجوف كيفما وصل قال: يحرم. المسألة الخامسة: وأما هل من شرط اللبن المحرم إذا وصل إلى الحلق أن يكون غير مخالط لغيره، فإنهم اختلفوا في ذلك أيضا، فقال ابن القاسم: إذا استهلك اللبن في ماء أو غيره ثم سقيه الطفل لم تقع الحرمة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وقال الشافعي وابن حبيب ومطرف وابن الماجشون من أصحاب مالك: تقع به الحرمة بمنزلة ما لو انفرد اللبن أو كان مختلطا لم تذهب عينه. وسبب اختلافهم: هل يبقى للبن حكم الحرمة إذا اختلط بغيره، أم لا يبقى به حكمها كالحال في النجاسة إذا خالطت الحلال الطاهر. والأصل المعتبر في ذلك انطلاق اسم اللبن عليه كالماء هل يطهر إذا خالطه شئ طاهر؟ المسألة السادسة: وأما هل يعتبر فيه الوصول إلى الحلق أو لا يعتبر فإنه يشبه أن يكون هذا هو سبب اختلافهم في السعوط باللبن والحقنة به. ويشبه أن يكون اختلافهم في ذلك لموضع الشك هل يصل اللبن من هذه الأعضاء أو لا يصل؟ المسألة السابعة: وأما هل يصير الرجل الذي له اللبن: أعني زوج المرأة أبا للمرضع حتى بينهما ومن قبلهما ما يحرم من الآباء والأبناء الذين من النسب وهي التي يسمونها لبن الفحل، فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد والأوزاعي والثوري: لبن الفحل يحرم، وقالت طائفة: لا يحرم لبن الفحل، وبالأول قال علي وابن عباس، وبالقول الثاني قالت عائشة وابن الزبير وابن عمر. وسبب اختلافهم: معارضة ظاهر الكتاب لحديث عائشة المشهور: أعني آية الرضاع، وحديث عائشة هو قالت جاء أفلح أخو أبي القعيس يستأذن علي بعد أن أنزل الحجاب فأبيت أن آذن له، وسألت رسول الله (ص) فقال: إنه عمك فأذني له، فقلت يا رسول الله.. إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل، فقال: إنه عمك فليلج عليك خرجه البخاري ومسلم ومالك. فمن رأى أن ما في الحديث شرع زائد على ما في الكتاب، وهو قوله تعالى: * (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) * وعلى قوله (ص) يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة قال: لبن الفحل محرم، ومن رأى أن آية
31 الرضاع وقوله يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة إنما ورد على جهة التأصيل لحكم الرضاع، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة قال: ذلك الحديث إن عمل بمقتضاه أوجب أن يكون ناسخا لهذه الأصول، لان الزيادة المغيرة للحكم ناسخة، من أن عائشة لم يكن مذهبها التحريم بلبن الفحل، وهي الرواية للحديث، ويصعب رد الأصول المنتشرة التي يقصد بها التأصيل والبيان عند وقت الحاجة بالأحاديث النادرة وبخاصة التي تكون في عين، ولذلك قال عمر رضي الله عنه في حديث فاطمة بنت قيس: لا نترك كتاب الله لحديث امرأة. المسألة الثامنة: وأما الشهادة على الرضاع فإن قوما قالوا: لا تقبل فيه إلا شهادة امرأتين، وقوما قالوا: لا تقبل فيه إلا شهادة أربع، وبه قال الشافعي وعطاء، وقوم قالوا: تقبل فيه شهادة امرأة واحدة. والذين قالوا تقبل فيه شهادة امرأتين منهم من اشترط في ذلك فشو قولهما بذلك قبل الشهادة، وهو مذهب مالك وابن القاسم، ومنهم من لم يشترطه، وهو قول مطرف وابن الماجشون. والذين أجازوا أيضا شهادة امرأة واحدة منهم من لم يشترط فشو قولها قبل الشهادة، وهو مذهب أبي حنيفة، ومنهم من اشترط ذلك، وهي رواية عن مالك، وقد روي عنه أنه لا تجوز فيه شهادة أقل من اثنتين. والسبب في اختلافهم: أما بين الأربع والاثنتين فاختلافهم في شهادة النساء هل عديل كل رجل هو امرأتان فيما ليس يمكن فيه شهادة الرجل أو يكفي في ذلك امرأتان، وستأتي هذه المسألة في كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى. وأما اختلافهم في قبول شهادة المرأة الواحدة فمخالفة الأثر الوارد في ذلك للأصل المجمع عليه، أعني أنه لا يقبل من الرجال أقل من اثنين، وأن حال النساء في ذلك إما أن يكون أضعف من حال الرجال، وإما أن تكون أحوالهم في ذلك مساوية للرجال، والاجماع منعقد على أنه لا يقضى بشهادة واحدة. والامر الوارد في ذلك هو حديث عقبة بن الحارث قال يا رسول الله إني تزوجت امرأة فأتت امرأة فقالت: قد أرضعتكما، فقال رسول الله (ص): كيف وقد قيل؟ دعها عنك وحمل بعضهم هذا الحديث على الندب جمعا بينه وبين الأصول، وهو أشبه، وهي رواية عن مالك. المسألة التاسعة: وأما صفة المرضعة فإنهم اتفقوا على أنه يحرم لبن كل امرأة بالغ وغير بالغ، واليائسة من المحيض كان لها زوج أو لم يكن، حاملا كانت أو غير حامل، وشذ بعضهم فأوجب حرمة للبن الرجل، وهذا غير موجود فضلا عن أن يكون له حكم شرعي، وإن وجد فليس لبنا إلا باشتراك الاسم واختلفوا من هذا الباب في لبن الميتة. وسبب الخلاف: هل يتناولها العموم أو لا يتناولها؟ ولا لبن للميتة إن وجد لها إلا باشتراك الاسم، ويكاد أن تكون مسألة غير واقعة فلا يكون لها وجود إلا في القول. الفصل الرابع: في مانع الزنا واختلفوا في زواج الزانية، فأجاز هذا الجمهور، ومنعها قوم. وسبب اختلافهم:
32 اختلافهم في مفهوم قوله تعالى: * (والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، وحرم ذلك على المؤمنين) * هل خرج مخرج الذم أو مخرج التحريم؟ وهو الإشارة في قوله: * (وحرم ذلك على المؤمنين) * إلى الزنا أو إلى النكاح؟ وإنما صار الجمهور لحمل الآية على الذم لا على التحريم لما جاء في الحديث أن رجلا قال للنبي (ص) في زوجته أنها لا ترد يد لامس. فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: طلقها، فقال له إني أحبها. فقال له: فأمسكها وقال قوم أيضا: إن الزنا يفسخ النكاح بناء على هذا الأصل. وبه قال الحسن: وأما زواج الملاعنة من زوجها الملاعن فسنذكرها في كتاب اللعان. الفصل الخامس: في مانع العدد واتفق المسلمون على جواز نكاح أربعة من النساء معا، وذلك للأحرار من الرجال. واختلفوا في موضعين: في العبيد، وفيما فوق الأربع. أما العبيد فقال مالك في المشهور عنه: يجوز أن ينكح أربعا. وبه قال أهل الظاهر. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجوز له الجمع إلا بين اثنتين فقط. وسبب اختلافهم: هل العبودية لها تأثير في اسقاط هذا العدد كما لها تأثير في اسقاط نصف الحد الواجب على الحر في الزنا؟ وكذلك الطلاق عند من رأى ذلك. وذاك أن المسلمين اتفقوا على تنصيف حده في الزنا: أعني أن حده نصف حد الحر، واختلفوا في غير ذلك. وأما ما فوق الأربع فإن الجمهور على أنه لا تجوز الخامسة لقوله تعالى: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) * ولما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لغيلان لما أسلم وتحته عشرة نسوة أمسك أربعا وفارق سائرهن وقالت فرقة: يجوز تسع، ويشبه أن يكون من أجاز التسع ذهب مذهب الجمع في الآية المذكورة، أعني جمع الاعداد في قوله تعالى: * (مثنى وثلاث ورباع) *. الفصل السادس: في مانع الجمع واتفقوا على أنه لا يجمع بين الأختين بعقد نكاح لقوله تعالى: * (وأن تجمعوا بين الأختين) * واختلفوا في الجمع بينهما بملك اليمين، والفقهاء على منعه، وذهبت طائفة إلى إباحة ذلك. وسبب اختلافهم: معارضة عموم قوله تعالى: * (وأن تجمعوا بين الأختين) * لعموم الاستثناء في آخر الآية، وهو قوله تعالى * (إلا ما ملكت أيمانكم) * وذلك أن هذا الاستثناء يحتمل أن يعود لأقرب مذكور، ويحتمل أن يعود لجميع ما تضمنته الآية من التحريم إلا ما وقع الاجماع على أنه لا تأثير له فيه، فيخرج
33 من عموم قوله تعالى: * (وأن تجمعوا بين الأختين) * ملك اليمين، ويحتمل أن لا يعود إلا إلى أقرب مذكور، فيبقى قوله * (وأن تجمعوا بين الأختين) * على عمومه، ولا سيما إن عللنا ذلك بعلة الاخوة أو بسبب موجود فيهم. واختلف الذين قالوا بالمنع في ملك اليمين إذا كانت إحداهما بنكاح والأخرى بملك يمين، فمنعه مالك وأبو حنيفة وأجازه الشافعي، وكذلك اتفقوا فيما أعلم على تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها لثبوت ذلك عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أبي هريرة وتواتره عنه عليه الصلاة والسلام من أنه قال عليه الصلاة والسلام لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها واتفقوا على أن العمة ههنا هي كل أنثى هي أخت لذكر له عليك ولادة إما بنفسه وإما بواسطة ذكر آخر، وأن الخالة: هي كل أنثى هي أخت لكل أنثى لها عليك ولادة إما بنفسها وإما بتوسط أنثى غيرها وهن الحرات من قبل الأم، واختلفوا هل هذا من باب الخاص أريد به الخاص، أم هو من باب الخاص أريد به العام؟ والذين قالوا هو من باب الخاص أريد به العام اختلفوا أي عام هو المقصود به؟ فقال قوم - وهم الأكثر وعليه الجمهور من فقهاء الأمصار -: هو خاص أريد به الخصوص فقط، وأن التحريم لا يتعدى إلى غير من نص عليه. وقال قوم: هو خاص والمراد به العموم، وهو الجمع بين كل امرأتين بينهما رحم محرمة أو غير محرمة، فلا يجوز الجمع عند هؤلاء بين ابنتي عم أو عمة، ولا بين ابنتي خال أو خالة، ولا بين المرأة وبنت عمها أو بنت ت عمتها، أو بينها وبين بنت خالتها، وقال قوم: إنما يحرم الجمع بين كل امرأتين بينهما قرابة محرمة، أعني لو كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى لم يجز لهما أن يتناكحا، ومن هؤلاء من اشترط في هذا المعنى أن يعتبر هذا من الطرفين جميعا، أعني إذا جعل كل واحد منهما ذكرا والآخر أنثى فلم يجز لهما أن يتناكحا، فهؤلاء لا يحل الجمع بينهما، وأما إن جعل في أحد الطرفين ذكر يحرم التزويج ولم يحرم من الطرف الآخر فإن الجمع يجوز كالحال في الجمع بين امرأة الرجل وابنته من غيرها، فإنه إن وضعنا البنت ذكرا لم يحل نكاح المرأة منه لأنها زوج أبيه، وإن جعلنا المرأة ذكرا حل لها نكاح ابنة الزوج لأنها تكون ابنة الأجنبي وهذا القانون هو الذي اختاره أصحاب مالك، وأولئك يمنعون الجمع بين زوج الرجل وابنته من غيرها. الفصل السابع: في موانع الرق واتفقوا على أنه يجوز للعبد أن ينكح الأمة، وللحرة أن تنكح العبد إذا رضيت بذلك هي وأولياؤها. واختلفوا في نكاح الحر الأمة فقال قوم: يجوز بإطلاق، وهو
34 المشهور من مذهب ابن القاسم، وقال قوم: لا يجوز إلا بشرطين: عدم الطول، وخوف العنت، وهو المشهور من مذهب مالك، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي. والسبب في اختلافهم: معارضة دليل الخطاب في قوله تعالى * (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح) * الآية، لعموم قوله: * (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين) * الآية، وذلك أن مفهوم دليل الخطاب في قوله تعالى: * (ومن لم يستطع منكم طولا) * الآية، يقتضي أنه لا يحل نكاح الأمة إلا بشرطين: أحدهما: عدم الطول إلى الحرة، والثاني: خوف العنت. وقوله تعالى: * (وأنكحوا الأيامى منكم) * يقتضي بعمومه إنكاحهن من حر أو عبد، واجدا كان الحر أو غير واجد، خائفا للعنت أو غير خائف، لكن دليل الخطاب أقوى ههنا - والله أعلم - من العموم، لان هذا العموم لم يتعرض فيه إلى صفات الزوج المشترطة في نكاح الإماء، وإنما المقصود به الامر بإنكاحهن وألا يجبرن على النكاح، وهو أيضا محمول على الندب عند الجمهور مع ما في ذلك من إرهاق الرجل ولده. واختلفوا من هذا الباب في فرعين مشهورين، أعني الذين لم يجيزوا النكاح إلا بالشرطين المنصوص عليهما: أحدهما: إذا كانت تحته حرة هل هي طول أو ليست بطول؟ فقال أبو حنيفة: هي طول، وقال غيره: ليست بطول، وعن مالك في ذلك القولان. والمسألة الثانية: هل يجوز لمن وجد فيه هذان الشرطان نكاح أكثر من أمة واحدة ثلاث أو أربع أو ثنتان؟ فمن قال إذا كانت تحته حرة فليس يخاف العنت لأنه غير عزب قال: إذا كانت تحته حرة لم يجز له نكاح الأمة، ومن قال خوف العنت، إنما يعتبر بإطلاق سواء كان عزبا أو متأهلا لأنه قد لا تكون الزوجة الأولى مانعة من العنت، وهو لا يقدر على حرة تمنعه من العنت، فله أن ينكح أمة، لان حاله مع هذه الحرة في خوف العنت كحالة قبلها، وبخاصة إذا خشي العنت من الأمة التي يريد نكاحها. وهذا بعينه السبب في اختلافهم: هل ينكح أمة ثانية على الأمة الأولى أو لا ينكحها؟ وذلك أن من اعتبر خوف العنت مع كونه عزبا إذ كان الخوف على العزب أكثر قال: لا ينكح أكثر من أمة واحدة، ومن اعتبره مطلقا قال: ينكح أكثر من أمة واحدة، وكذلك يقول إنه ينكح على الحرة. واعتباره مطلقا فيه نظر، وإذا قلنا إن له أن يتزوج على الحرة أمة فتزوجها بغير إذنها فهل لها الخيار في البقاء معه أو في فسخ النكاح؟ اختلف في ذلك قول مالك، واختلفوا إذا وجد طولا بحرة: هل يفارق الأمة أم لا؟ ولم يختلفوا أنه إذا ارتفع عنه خوف العنت أنه لا يفارقها. أعني أصحاب مالك، واتفقوا من هذا الباب على أنه لا يجوز أن تنكح المرأة من ملكته وأنها إذا ملكت زوجها انفسخ النكاح.
35 الفصل الثامن: في مانع الكفر واتفقوا على أنه لا يجوز للمسلم أن ينكح الوثنية لقوله تعالى: * (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) * واختلفوا في نكاحها بالملك. واتفقوا على أنه يجوز أن ينكح الكتابية الحرة، إلا ما روي في ذلك عن ابن عمر. واختلفوا في إحلال الكتابية الأمة بالنكاح، واتفقوا على إحلالها بملك اليمين. والسبب في اختلافهم: في نكاح الوثنيات بملك اليمين معارضة عموم قوله تعالى: * (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) * وعموم قوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * لعموم قوله: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * وهن المسبيات، وظاهر هذا يقتضي العموم، سواء كانت مشركة أو كتابية، والجمهور على منعها. وبالجواز قال طاوس ومجاهد، ومن الحجة لهم ما روي من نكاح المسبيات في غزوة أوطاس إذ استأذنوه في العزل فأذن لهم. وإنما صار الجمهور لجواز نكاح الكتابيات الأحرار بالعقد، لان الأصل بناء الخصوص على العموم، أعني أن قوله تعالى: * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) * هو خصوص، وقوله: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * هو عموم، فاستثنى الجمهور الخصوص من العموم، ومن ذهب إلى تحريم ذلك جعل العام ناسخا للخاص، وهو مذهب بعض الفقهاء. وإنما اختلفوا في إحلال الأمة الكتابية بالنكاح لمعارضة العموم في ذلك القياس، وذلك أن قياسها على الحرة يقتضي إباحة تزويجها، وباقي العموم إذا استثني منه الحرة يعارض ذلك، لأنه يوجب تحريمها على قول من يرى أن العموم إذا خصص بقي الباقي على العموم، فمن خصص العموم الباقي بالقياس، أو لم ير الباقي من العموم المخصوص عموما قال: يجوز نكاح الأمة الكتابية. ومن رجح باقي العموم بعدم التخصيص على القياس قال: لا يجوز نكاح الأمة الكتابية، وهنا أيضا سبب آخر لاختلافهم، وهو معارضة دليل الخطاب للقياس. وذلك أن قوله تعالى: * (من فتياتكم المؤمنات) * يوجب أن لا يجوز نكاح الأمة الغير مؤمنة بدليل الخطاب، وقياسها على الحرة يوجب ذلك، (والقياس من كل جنس يجوز فيه النكاح بالتزويج، ويجوز فيه النكاح بملك اليمين أصله
36 المسلمات، والطائفة الثانية أنه ثم لم يجز نكاح الأمة المسلمة بالتزويج إلا بشرط فأحرى أن لا يجوز نكاح الأمة الكتابية بالتزويج)، وإنما اتفقوا على إحلالها بملك اليمين لعموم قوله تعالى: * (إلا ما ملكت أيمانكم) * ولاجماعهم على أن السبي يحل المسبية الغير متزوجة. وإنما اختلفوا في المتزوجة هل يهدم السبي نكاحها، وإن هدم فمتى يهدم؟ فقال قوم: إن سبيا معا - أعني الزوج والزوجة - لم يفسخ نكاحهما وإن سبي أحدهما قبل الآخر انفسخ النكاح، وبه قال أبو حنيفة، وقال قوم: بل السبي يهدم سبيا معا أو سبي أحدهما قبل الآخر، وبه قال الشافعي، وعن مالك قولان: أحدهما: أن السبي لا يهدم النكاح أصلا. والثاني: أنه يهدم بإطلاق مثل قول الشافعي. والسبب في اختلافهم: هل يهدم أو لا يهدم هو تردد المسترقين الذين أمنوا من القتل بين نساء الذميين أهل العهد وبين الكافرة التي لا زوج لها أو المستأجرة من كافر، وأما تفريق أبي حنيفة بين أن يسبيا معا وبين أن يسبى أحدهما فلان المؤثر عنده في الاحلال هو اختلاف الدار بهما لا الرق، والمؤثر في الاحلال عند غيره هو الرق، وإنما النظر هل هو الرق مع الزوجية أو مع عدم الزوجية؟ والأشبه أن لا يكون للزوجية ههنا حرمة لان محل الرق وهو الكفر سبب الاحلال: وأما تشبيهها بالذمية فبعيد لان الذمي إنما أعطى الجزية بشرط أن يقر على دينه فضلا عن نكاحه. الفصل التاسع: في مانع الاحرام واختلفوا في نكاح المحرم فقال مالك والشافعي والليث والأوزاعي وأحمد: لا ينكح المحرم ولا ينكح، فإن فعل فالنكاح باطل، وهو قول عمر بن الخطاب وعلي وابن عمر وزيد بن ثابت. وقال أبو حنيفة: لا بأس بذلك. وسبب اختلافهم: تعارض النقل في هذا الباب: فمنها حديث ابن عباس أن رسول الله (ص) نكح ميمونة وهو محرم وهو حديث ثابت النقل خرجه أهل الصحيح وعارضه أحاديث كثيرة عن ميمونة أن رسول الله (ص) تزوجها وهو حلال قال أبو عمر: رويت عنها من طرق شتى: من طريق أبي رافع، ومن طريق سليمان بن يسار وهو مولاها، وعن يزيد بن الأصم. وروى مالك أيضا من حديث عثمان بن عفان مع هذا أنه قال: قال رسول الله (ص) لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب فمن رجح هذه الأحاديث على حديث ابن عباس قال: لا ينكح المحرم ولا ينكح، ومن رجح حديث ابن عباس أو جمع بينه وبين حديث عثمان بن عفان بأن حمل النهي الوارد في ذلك على الكراهية قال: ينكح وينكح، وهذا راجع إلى تعارض الفعل والقول والوجه الجمع أو تغليب القول.
37 الفصل العاشر: في مانع المرض واختلفوا في نكاح المريض. فقال أبو حنيفة والشافعي: يجوز وقال مالك في المشهور عنه: إنه لا يجوز، ويتخرج ذلك من قوله أنه يفرق بينهما وإن صح ويتخرج من قوله أيضا أنه لا يفرق بينهما أن التفريق مستحب غير واجب. وسبب اختلافهم: تردد النكاح بين البيع وبين الهبة، وذلك أنه لا تجوز هبة المريض إلا من الثلث ويجوز بيعه ولاختلافهم أيضا سبب آخر، وهو هل يتهم على إضرار الورثة بإدخال وارث زائد أو لا يتهم؟ وقياس النكاح على الهبة غير صحيح، لأنهم اتفقوا على أن الهبة تجوز إذا حملها الثلث، ولم يعتبروا بالنكاح هنا بالثلث، ورد جواز النكاح بإدخال وارث قياس مصلحي لا يجوز عند أكثر الفقهاء، وكونه يوجب مصالح لم يعتبرها الشرع إلا في جنس بعيد من الجنس الذي يرام فيه إثبات الحكم بالمصلحة، حتى أن قوما رأوا القول بهذا القول شرع زائد وإعمال هذا القياس يوهن ما في الشرع من التوقيف، وأنه لا تجوز الزيادة فيه كما لا يجوز النقصان. والتوقف أيضا عن اعتبار المصالح تطرق للناس أن يتسرعوا لعدم السنن التي في ذلك الجنس إلى الظلم، فلنفوض أمثال هذه المصالح إلى العلماء بحكمة الشرائع الفضلاء الذين لا يتهمون بالحكم بها، وبخاصة إذا فهم من أهل ذلك الزمان أن في الاشتغال بظواهر الشرائع تطرقا إلى الظلم، ووجه عمل الفاضل العالم في ذلك أن ينظر إلى شواهد الحال، فإن دلت الدلائل على أنه قصد بالنكاح خيرا لا يمنع النكاح، وإن دلت على أنه قصد الاضرار بورثته منع من ذلك كما في أشياء كثيرة من الصنائع يعرض فيها للصناع الشئ وضده مما اكتسبوا من قوة مهنتهم إذ لا يمكن أن يحد في ذلك حد مؤقت صناعي، وهذا كثيرا ما يعرض في صناعة الطب وغيرها من الصنائع المختلفة. الفصل الحادي عشر: في مانع العدة واتفقوا على أن النكاح لا يجوز في العدة كانت عدة حيض أو عدة حمل أو عدة أشهر. واختلفوا فيمن تزوج امرأة في عدتها ودخل بها، فقال مالك والأوزاعي والليث: يفرق بينهما ولا تحل له أبدا، وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري: يفرق بينهما، وإذا انقضت العدة بينهما فلا بأس في تزويجه إياها مرة ثانية. وسبب اختلافهم: على قول الصاحب حجة أم ليس بحجة؟ وذلك أن مالكا روى عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أن عمر بن الخطاب فرق بين طليحة الأسدية وبين زوجها راشدا الثقفي لما تزوجها في العدة من زوج ثان وقال: أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم كان الآخر خاطبا من الخطاب، وإن كان دخل بها فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم اعتدت من الآخر، ثم لا يجتمعان أبدا قال سعيد: ولها مهرها بما استحل منها. وربما عضدوا هذا القياس
38 بقياس شبه ضعيف مختلف في أصله، وهو أنه أدخل في النسب شبهة فأشبه الملاعن. وروي عن علي وابن مسعود مخالفة عمر في هذا. والأصل أنها لا تحرم إلا أن يقوم على ذلك دليل من كتاب أو سنة أو إجماع من الأمة. وفي بعض الروايات أن عمر كان قضى بتحريمها، وكون المهر في بيت المال، فلما بلغ ذلك عليا أنكره فرجع عن ذلك عمر، وجعل الصداق على الزوج ولم يقض بتحريمها عليه، رواه الثوري عن أشعث عن الشعبي عن مسروق. وأما من قال بتحريمها بالعقد فهو ضعيف. وأجمعوا على أنه لا توطأ حامل مسبية حتى تضع، لتواتر الاخبار بذلك عن رسول الله (ص). واختلفوا إن وطئ هل يعتق عليه الولد أو لا يعتق، والجمهور على أنه لا يعتق. وسبب اختلافهم: هل ماؤه مؤثر في خلقته أو غير مؤثر؟ فإن قلنا إنه مؤثر كان له ابنا بجهة ما، وإن قلنا إنه ليس بمؤثر لم يكن ذلك. وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: كيف يستعبده وقد غذاه في سمعه وبصره. وأما النظر في مانع التطليق ثلاثا. فسيأتي في كتاب الطلاق. الفصل الثاني عشر: في مانع الزوجية وأما مانع الزوجية فإنهم اتفقوا على أن الزوجية بين المسلمين مانعة وبين الذميين. واختلفوا في المسبية على ما تقد، واختلفوا أيضا في الأمة إذا بيعت هل يكون بيعها طلاقا؟ فالجمهور على أنه ليس بطلاق. وقال قوم: هو طلاق. وهو مروي عن ابن عباس وجابر وابن مسعود وأبي بن كعب. وسبب اختلافهم: معارضة مفهوم حديث بريرة لعموم قوله تعالى: * (إلا ما ملكت أيمانكم) * وذلك أن قوله تعالى: * (إلا ما ملكت أيمانكم) * يقتضى المسبيات وغيرهن. وتخيير بريرة يوجب أن لا يكون بيعها طلاقا. لأنه لو كان بيعها طلاقا لما خيرها رسول الله (ص) بعد العتق. ولكان نفس شراء عائشة لها طلاقا من زوجها. والحجة للجمهور ما خرجه ابن أبي شيبة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ص) بعث يوم حنين سرية فأصابوا حيا من العرب يوم أوطاس فهزموهم وقتلوهم وأصابوا نساء لهن أزواج. وكان ناس من أصحاب رسول الله (ص) تأثموا من غشيانهن من أجل أزواجهن، فأنزل الله عز وجل * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * وهذه المسألة هي أليق بكتاب الطلاق. فهذه هي جملة الأشياء المصححة للأنكحة في الاسلام، وهي كما قلنا راجعة إلى ثلاثة أجناس: صفة العاقد والمعقود عليها، وصفة العقد، وصفة الشروط في العقد. وأما الأنكحة التي انعقدت قبل الاسلام ثم طرأ عليها الاسلام، فإنهم اتفقوا على أن الاسلام إذا كان منهما معا - أعني من الزوج والزوجة - وقد كان عقد النكاح على من يصح ابتداء العقد عليها في الاسلام أن الاسلام يصحح ذلك، واختلفوا في
39 موضعين: أحدهما: إذا انعقد النكاح على أكثر من أربع أو على من لا يجوز الجمع بينهما في الاسلام. والموضع الثاني: إذا أسلم أحدهما قبل الآخر. فأما المسألة الأولى: وهي إذا أسلم الكافر وعنده أكثر من أربع نسوة أو أسلم وعنده أختان، فإن مالكا قال: يختار منهن أربعا ومن الأختين واحدة أيتهما شاء، وبه قال الشافعي وأحمد وداود: وقال أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى: يختار الأوائل منهن في العقد، فإن تزوجهن في عقد واحد فرق بينه وبينهن، وقال ابن الماجشون من أصحاب مالك: إذا أسلم وعنده أختان فارقهما جميعا ثم استأنف نكاح أيتهما شاء، ولم يقل بذلك أحد من أصحاب مالك غيره. وسبب اختلافهم: معارضة القياس للأثر، وذلك أنه ورد في ذلك أثران: أحدهما: مرسل مالك أن غيلان بن سلامة الثقفي أسلم وعنده عشر نسوة أسلمن معه، فأمره رسول الله (ص) أن يختار منهن أربعا الحديث الثاني: حديث قيس بن الحارث أنه أسلم على الأختين، فقال له رسول الله (ص) اختر أيتهما شئت. وأما القياس المخالف لهذا الأثر فتشبيه العقد على الأواخر قبل الاسلام بالعقد عليهن بعد الاسلام: أعني أنه كما أن العقد عليهن فاسد في الاسلام كذلك قبل الاسلام وفيه ضعف. وأما إذا أسلم أحدهما قبل الآخر. وهي المسألة الثانية ثم فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي: أنه إذا أسلم الآخر، فإنهم اختلفوا في ذلك أسلمت المرأة قبله فإنه إن أسلم في عدتها كان أحق بها، وإن أسلم هو وهي فنكاحها ثابت لما ورد في ذلك من حديث صفوان بن أمية، وذلك أن زوجه عاتكة ابنة الوليد بن المغيرة أسلمت قبله، ثم أسلم هو فأقره رسول الله (ص) على نكاحه قالوا: وكان بين إسلام صفوان وبين إسلام امرأته نحو من شهر. قال ابن شهاب: ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول الله (ص) وزوجها كافر مقيم بدار الكفر إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها. وأما إذا أسلم الزوج قبل إسلام المرأة فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال مالك: إذا أسلم الزوج قبل المرأة وقعت الفرقة إذا عرض عليها الاسلام فأبت، وقال الشافعي: سواء أسلم الرجل قبل المرأة أو المرأة قبل الرجل إذا وقع إسلام المتأخر في العدة ثبت النكاح. وسبب اختلافهم: معارضة العموم للأثر والقياس، وذلك أن عموم قوله تعالى: * (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) * يقتضي المفارقة على الفور. وأما الأثر المعارض لمقتضى هذا العموم فما روي من أن أبا سفيان بن حرب أسلم قبل هند بنت عتبة امرأته، وكان إسلامه بمر الظهران، ثم رجع إلى مكة وهند بها كافرة، فأخذت بلحيته وقالت: اقتلوا الشيخ الضال، ثم أسلمت بعده بأيام فاستقرا على نكاحهم. وأما القياس المعارض للأثر فلانه يظهر أنه لا فرق بين
40 أن تسلم هي قبله أو هو قبلها، فإن كانت العدة معتبرة في إسلامها قبل فقد يجب أن تعتبر في إسلامه أيضا قبل. الباب الثالث: في موجبات الخيار في النكاح وموجبات الخيار أربعة: العيوب، والاعسار بالصداق أو بالنفقة والكسوة. والثالث: الفقد - أعني فقد الزوج -. والرابع: العتق للأمة المزوجة.. فيعقد في هذا الباب أربعة فصول: الفصل الأول: في خيار العيوب اختلف العلماء في موجب الخيار بالعيوب لكل واحد من الزوجين، وذلك في موضعين: أحدهما: هل يرد بالعيوب أو لا يرد؟ والموضع الثاني: إذا قلنا إنه يرد فمن أيها يرد، وما حكم ذلك؟ فأما الموضع الأول فإن مالكا والشافعي وأصحابهما قالوا: العيوب توجب الخيار في الرد أو الامساك: وقال أهل الظاهر: لا توجب خيار الرد والامساك، وهو قول عمر بن عبد العزيز. وسبب اختلافهم: شيئان: أحدهما: هل قول الصاحب حجة، والآخر: قياس النكاح في ذلك على البيع؟ فأما قول الصاحب الوارد في ذلك فهو ما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: أيما رجل تزوج امرأة وبها جنون أو جذام أو برص - وفي بعض الروايات: أو قرن - فلها صداقها كاملا وذلك غرم لزوجها على وليها. وأما القياس على البيع فإن القائلين بموجب الخيار للعيب في النكاح قالوا: النكاح في ذلك شبيه بالبيع، وقال المخالفون لهم: ليس شبيها بالبيع لاجماع المسلمين على أنه لا يرد النكاح بكل عيب ويرد به البيع. وأما الموضع الثاني في الرد بالعيوب فإنهم اختلفوا في أي العيوب يرد بها وفي أيها لا يرد وفي حكم الرد، فاتفق مالك والشافعي على أن الرد يكون من أربعة عيوب: الجنون والجذام والبرص وداء الفرج الذي يمنع الوطئ: إما قرن أو رتق في المرأة أو عنة في الرجل أو خصا، واختلف أصحاب مالك في أربع: في السواد والقرع وبخر الفرج وبخر الفم، فقيل ترد بها، وقيل لا ترد، وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: لا ترد المرأة في النكاح إلا بعيبين فقط: القرن والرتق. فأما أحكام الرد فإن القائلين بالرد اتفقوا على أن الزوج إذا علم بالعيب قبل الدخول طلق ولا شئ عليه. واختلفوا إن علم بعد الدخول والمسيس، فقال مالك: إن كان وليها الذي زوجها ممن يظن به لقربه منها أنه عالم بالعيب مثل الأب والأخ فهو غار يرجع عليه الزوج بالصداق وليس يرجع على المرأة بشئ، وإن كان بعيدا رجع الزوج على المرأة بالصداق كله إلا ربع دينار فقط. وقال الشافعي: إن دخل لزمه الصداق كله بالمسيس ولا رجوع له عليها ولا على ولي. وسبب اختلافهم: تردد تشبيه النكاح بالبيع أو بالنكاح الفاسد الذي وقع فيه المسيس، أعني اتفاقهم على وجوب المهر في
41 الأنكحة الفاسدة بنفس المسيس، لقوله عليه الصلاة والسلام: أيما امرأة نكحت بغير إذن سيدها فنكاحها باطل ولها المهر بما استحل منها فكان موضع الخلاف تردد هذا الفسخ بين حكم الرد بالعيب في البيوع، وبين حكم الأنكحة المفسوخة: أعني بعد الدخول، واتفق الذين قالوا بفسخ نكاح العنين أنه لا يفسخ حتى يؤجل سنة يخلى بينه وبينها بغير عائق. واختلف أصحاب مالك في العلة التي من أجلها قصر الرد على هذه العيوب الأربعة، فقيل لان ذلك شرع غير معلل، وقيل لان ذلك مما يخفى، ومحمل سائر العيوب على أنها مما تخفى، وقيل لأنها يخاف سرايتها إلى الأبناء، وعلى هذا التعليل يرد بالسواد والقرع، وعلى الأول يرد بكل عيب إذا علم أنه مما خفي على الزوج. الفصل الثاني: في خيار الاعسار بالصداق والنفقة واختلفوا في الاعسار بالصداق، فكان الشافعي يقول: تخير إذا لم يدخل بها، وبه قال مالك. واختلف أصحابه في قدر التلوم له، فقيل ليس له في ذلك حد، وقيل سنة، وقيل سنتين، وقال أبو حنيفة: هي غريم من الغرماء لا يفرق بينهما ويؤخذ بالنفقة، ولها أن تمنع نفسها حتى يعطيها المهر. وسبب اختلافهم: تغليب شبه النكاح في ذلك بالبيع أو تغليب الضرر اللاحق للمرأة في ذلك من عدم الوطئ تشبيها بالايلاء والعنة. وأما الاعسار بالنفقة فقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وأبو عبيد وجماعة: يفرق بينهما، وهو مروي عن أبي هريرة وسعيد بن المسيب، وقال أبو حنيفة والثوري: لا يفرق بينهما، وبه قال أهل الظاهر. وسبب اختلافهم: تشبيه الضرر الواقع من ذلك بالضرر الواقع من العنة، لان الجمهور على القول بالتطليق على العنين حتى لقد قال ابن المنذر إنه إجماع. وربما قالوا النفقة في مقابلة الاستمتاع، بدليل أن الناشز لا نفقة لها عند الجمهور. فإذا لم يجد النفقة سقط الاستمتاع فوجب الخيار. وأما من لا يرى القياس فإنهم قالوا قد ثبتت العصمة بالاجماع فلا تنحل إلا بإجماع أو بدليل من كتاب الله أو سنة نبيه فسبب اختلافهم معارضة استصحاب الحال للقياس. الفصل الثالث: في خيار الفقد واختلفوا في المفقود الذي تجهل حياته أو موته في أرض الاسلام، فقال مالك: يضرب لامرأته أجل أربع سنين من يوم ترفع أمرها إلى الحاكم، فإذا انتهى الكشف عن حياته أو موته فجهل ذلك ضرب لها الحاكم الاجل، فإذا انتهى اعتدت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا وحلت، قال: وأما ماله فلا يورث حتى يأتي عليه من الزمان ما يعلم أن المفقود لا يعيش إلى مثله غالبا، فقيل سبعون وقيل ثمانون، وقيل تسعون، وقيل مائة فيمن غاب وهو دون هذه الأسنان، وروي هذا القول عن عمر بن الخطاب، وهو مروي أيضا عن عثمان وبه قال الليث، وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري: لا تحل امرأة المفقود
42 حتى يصح موته، وقولهم مروي عن علي وابن مسعود. والسبب في اختلافهم: معارضة استصحاب الحال للقياس، وذلك أن استصحاب الحال يوجب أن لا تنحل عصمة إلا بموت أو طلاق حتى يدل الدليل على غير ذلك. وأما القياس فهو تشبيه الضرر اللاحق لها من غيبته بالايلاء والعنة، فيكون لها الخيار كما يكون في هذين والمفقودون عند المحصلين من أصحاب مالك أربعة: مفقود في أرض الاسلام وقع الخلاف فيه، ومفقود في أرض الحرب، ومفقود في حروب الاسلام، أعني فيما بينهم، ومفقود في حروب الكفار، والخلاف عن مالك وعن أصحابه في الثلاثة الأصناف من المفقودين كثير. فأما المفقود في بلاد الحرب فحكمه عندهم حكم الأسير لا تتزوج امرأته ولا يقسم ماله حتى يصح موته، ما خلا أشهب، فإنه حكم له بحكم المفقود في أرض المسلمين. وأما المفقود في حروب المسلمين فقال: إن حكمه حكم المقتول دون تلوم، وقيل يتلوم له بحسب بعد الموضع الذي كانت فيه المعركة وقربه وأقصى الاجل في ذلك سنة. وأما المفقود في حروب الكفار ففيه في المذهب أربعة أقوال: قيل حكمه حكم الأسير، وقيل حكمه حكم المقتول بعد تلوم سنة، إلا أن يكون بموضع لا يخفى أمره فيحكم له بحكم المفقود في حروب المسلمين وفتنهم، والقول الثالث أن حكمه حكم المفقود في بلاد المسلمين، والرابع حكمه حكم المقتول في زوجته، وحكم المفقود في أرض المسلمين في ماله أعني يعمر وحينئذ يورث، وهذه الأقاويل كلها مبناها على تجويز النظر بحسب الأصلح في الشرع، وهو الذي يعرف بالقياس المرسل، وبين العلماء فيه اختلاف: أعني بين القائلين بالقياس. الفصل الرابع: في خيار العتق واتفقوا على أن الأمة إذا عتقت تحت عبد أن لها الخيار، واختلفوا إذا عتقت تحت الحر هل لها خيار أم لا؟ فقال مالك والشافعي وأهل المدينة والأوزاعي وأحمد والليث: لا خيار لها. وقال أبو حنيفة والثوري: لها الخيار حرا كان أو عبدا. وسبب اختلافهم: تعارض النقل في حديث بريرة، واحتمال العلة الموجبة للخيار أن يكون الجبر الذي كان في إنكاحها بإطلاق إذا كانت أمة، أو الجبر على تزويجها من عبد، فمن قال: العلة الجبر على النكاح بإطلاق قال: تخير تحت الحر والعبد، ومن قال الجبر على تزويج العبد فقط قال: تخير تحت العبد فقط. وأما اختلاف النقل فإنه روي عن ابن عباس أن زوج بريرة كان عبدا أسود. وروي عن عائشة أن زوجها كان حرا. وكلا النقلين ثابت عند أصحاب الحديث، واختلفوا أيضا في الوقت الذي يكون لها الخيار فيه، فقال مالك والشافعي: يكون لها الخيار ما لم يمسها، وقال أبو حنيفة: خيارها على المجلس، وقال الأوزاعي: إنما يسقط خيارها بالمسيس إذا علمت أن المسيس يسقط خيارها.
43 الباب الرابع: في حقوق الزوجية واتفقوا على أن من حقوق الزوجة على الزوج النفقة والكسوة لقوله تعالى: * (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) * الآية. ولما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام: ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ولقوله لهند خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف. فأما النفقة فاتفقوا على وجوبها. واختلفوا في أربعة مواضع: في وقت وجوبها، ومقدارها، ولمن تجب؟ وعلى من تجب؟ فأما وقت وجوبها فإن مالكا قال: لا تجب النفقة على الزوج حتى يدخل بها أو يدعى إلى الدخول بها وهي ممن توطأ وهو بالغ، وقال أبو حنيفة والشافعي: يلزم غير البالغ النفقة إذا كانت هي بالغا. وأما إذا كان هو بالغا والزوجة صغيرة فللشافعي قولان: أحدهما مثل قول مالك، والقول الثاني أن لها النفقة بإطلاق. وسبب اختلافهم: هل النفقة لمكان الاستمتاع أو لمكان أنها محبوسة على الزوج كالغائب والمريض. وأما مقدار النفقة فذهب مالك إلى أنها غير مقدرة بالشرع وأن ذلك راجع إلى ما يقتضيه حال الزوج وحال الزوجة، وأن ذلك يختلف بحسب اختلاف الأمكنة والأزمنة والأحوال، وبه قال أبو حنيفة، وذهب الشافعي إلى أنها مقدرة، فعلى الموسر مدان، وعلى الأوسط مد ونصف، وعلى المعسر مد. وسبب اختلافهم: تردد حمل النفقة في هذا الباب على الاطعام في الكفارة أو على الكسوة، وذلك أنهم اتفقوا أن الكسوة غير محدودة وأن الاطعام محدود. واختلفوا من هذا الباب في هل يجب على الزوج نفقة خادم الزوجة؟ وإن وجبت فكم يجب؟ والجمهور على أن على الزوج النفقة لخادم الزوجة إذا كانت ممن لا تخدم نفسها، وقيل بل على الزوجة خدمة البيت، واختلف الذين أوجبوا النفقة على خادم الزوجة على كم تجب نفقته؟ فقالت طائفة: ينفق على خادم واحدة، وقيل على خادمين إذا كانت المرأة ممن لا يخدمها إلا خادمان وبه قال مالك وأبو ثور. ولست أعرف دليلا شرعيا لايجاب النفقة على الخادم إلا تشبيه الاخدام بالاسكان. فإنهم اتفقوا على أن الاسكان على الزوج للنص الوارد في وجوبه للمطلقة الرجعية، وأما لمن تجب النفقة فإنهم اتفقوا على أنها تجب للحرة الغير ناشز. واختلفوا في الناشز والأمة. فأما الناشز فالجمهور على أنها لا تجب لها نفقة، وشذ قوم فقالوا تجب لها النفقة. وسبب الخلاف: معارضة العموم للمفهوم. وذلك أن عموم قوله عليه الصلاة والسلام ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف يقتضي أن الناشز وغير الناشز في ذلك سواء، والمفهوم من أن النفقة هي في مقابلة الاستمتاع يوجب أن لا نفقة للناشز. وأما الأمة فاختلف فيها أصحاب مالك اختلافا كثيرا، فقيل: لها النفقة كالحرة، وهو المشهور، وقيل
44 لا نفقة لها وقيل أيضا إن كانت تأتيه فلها النفقة، وإن كان يأتيها فلا نفقة لها، وقيل لها النفقة في الوقت الذي تأتيه، وقيل إن كان الزوج حرا فعليه النفقة، وإن كان عبدا فلا نفقة عليه. وسبب اختلافهم: معارضة العموم للقياس، وذلك أن العموم يقتضي لها وجوب النفقة، والقياس يقتضي أن لا نفقة لها إلا على سيدها الذي يستخدمها، وتكون النفقة بينهما لان كل واحد منهما ينتفع بها ضربا من الانتفاع، ولذلك قال قوم: عليه النفقة في اليوم الذي تأتيه. وقال ابن حبيب: يحكم على مولى الأمة المزوجة أن تأتي زوجها في كل أربعة أيام. وأما على من تجب، فاتفقوا أيضا أنها تجب على الزوج الحر الحاضر، واختلفوا في العبد والغائب. فأما العبد فقال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن على العبد نفقة زوجته. وقال أبو المصعب من أصحاب مالك: لا نفقة عليه. وسبب الخلاف: معارضة العموم لكون العبد محجورا عليه في ماله. وأما الغائب فالجمهور على وجوب النفقة عليه، وقال أبو حنيفة: لا تجب إلا بإيجاب السلطان. وإنما اختلفوا فيمن القول قوله إذا اختلفوا في الاتفاق، وسيأتي ذلك في كتاب الأحكام إن شاء الله. وكذلك اتفقوا على أن من حقوق الزوجات العدل بينهن في القسم لما ثبت من قسمه (ص) بين أزواجه ولقوله عليه الصلاة والسلام: إذا كان للرجل امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل ولما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد السفر أقرع بينهن واختلفوا في مقام الزوج عند البكر والثيب وهل يحتسب به أو لا يحتسب إذا كانت له زوجة أخرى؟ فقال مالك والشافعي وأصحابهما: يقيم عند البكر سبعا وعند الثيب ثلاثا، ولا يحتسب إذا كان له امرأة أخرى بأيام التي تزوج، وقال أبو حنيفة: الإقامة عندهن سواء بكرا كانت أو ثيبا. ويحتسب بالإقامة عندها إن كانت له زوجة أخرى. وسبب اختلافهم: معارضة حديث أنس لحديث أم سلمة، وحديث أنس هو: أن النبي (ص) كان إذا تزوج البكر أقام عندها سبعا، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا وحديث أم سلمة هو أن النبي (ص) تزوجها فأصبحت عنده فقال: ليس بك على أهلك هوا إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن وإن شئت ثلثت عندك ودرت فقالت: ثلث وحديث أم سلمة هو مدني متفق عليه خرجه مالك والبخاري ومسلم، وحديث أنس حديث بصري خرجه أبو داود، فصار أهل المدينة إلى ما خرجه أهل البصرة، وصار أهل الكوفة إلى ما خرجه أهل المدينة. واختلف أصحاب مالك في هل مقامه عند البكر سبعا وعند الثيب ثلاثا واجب أو مستحب؟ فقال ابن القاسم: هو واجب: وقال ابن عبد الحكم: يستحب. وسبب الخلاف: حمل فعله عليه الصلاة والسلام على الندب أعلى الوجوب. وأما حقوق الزوج على الزوجة بالرضاع وخدمة البيت على اختلاف بينهم في ذلك، وذلك أن قوما أوجبوا عليها الرضاع على الاطلاق، وقوم لم يوجبوا ذلك عليها بإطلاق وقوم أوجبوا ذلك على الدنيئة
45 ولم يوجبوا ذلك على الشريفة، إلا أن يكون الطفل لا يقبل إلا ثديها، وهو مشهور قول مالك. وسبب اختلافهم: هل آية الرضاع متضمنة حكم الرضاع: أعني إيجابه، أو متضمنة أمره فقط؟ فمن قال أمره قال: لا يجب عليها الرضاع إذ لا دليل هنا على الوجوب، ومن قال تتضمن الامر بالرضاع وإيجابه وأنها من الاخبار التي مفهومها مفهوم الامر قال: يجب عليها الارضاع. وأما من فرق بين الدنيئة والشريفة فاعتبر في ذلك العرف والعادة. وأما المطلقة فلا رضاع عليها إلا أن لا يقبل ثدي غيرها فعليها الارضاع وعلى الزوج أجر الرضاع، هذا إجماع لقوله سبحانه وتعالى: * (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) * والجمهور على أن الحضانة للأم إذا طلقها الزوج وكان الولد صغيرا لقوله عليه الصلاة والسلام من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة ولان الأمة والمسبية إذا لم يفرق بينها وبين ولدها فأخص بذلك الحرة. واختلفوا إذا بلغ الولد حد التمييز فقال قوم: يخير، ومنهم الشافعي واحتجوا بأثر ورد في ذلك، وبقي قوم على الأصل لأنه لم يصح عندهم هذا الحديث، والجمهور على أن تزويجها لغير الأب يقطع الحضانة لما روي أن رسول الله (ص) قال أنت أحق به ما لم تنكحي ومن لم يصح عنده هذا الحديث طرد الأصل. (وأما نقل الحضانة من الأم إلى غير الأب فليس في ذلك شئ يعتمد عليه). الباب الخامس: في الأنكحة المنهي عنها بالشرع والأنكحة الفاسدة وحكمها والأنكحة التي ورد النهي فيها مصرحا أربعة: نكاح الشغار، ونكاح المتعة، والخطبة على خطبة أخيه، ونكاح المحلل. فأما نكاح الشغار فإنهم اتفقوا على أن صفته هو أن ينكح الرجل وليته رجلا آخر على أن ينكح الآخر وليته ولا صداق بينهما إلا بضع هذه ببضع الأخرى، واتفقوا على أنه نكاح غير جائز لثبوت النهي عنه، واختلفوا إذا وقع هل يصحح بمهر المثل أم لا؟ فقال مالك: لا يصحح ويفسخ أبدا قبل الدخول وبعده، وبه قال الشافعي إلا أنه قال: إن سمى لإحداهما صداقا أو لهما معا فالنكاح ثابت بمهر المثل، والمهر الذي سمياه فاسد، وقال أبو حنيفة: نكاح الشغار يصح بفرض صداق المثل، وبه قال الليث وأحمد وإسحاق وأبو ثور والطبري. وسبب اختلافهم: هل النهي المعلق بذلك معلل بعدم العوض أو
46 غير معلل؟ فإن قلنا غير معلل لزم الفسخ على الاطلاق، وإن قلنا العلة عدم الصداق صح بفرض صداق المثل مثل العقد على خمر أو على خنزير، وقد أجمعوا على أن النكاح المنعقد على الخمر والخنزير لا يفسخ إذا فات بالدخول. ويكون فيه مهر المثل، وكأن مالكا رضي الله عنه رأى أن الصداق وإن لم يكن من شرط صحة العقد ففساد العقد ههنا من قبل فساد الصداق مخصوص لتعلق النهي به، أو رأى أن النهي إنما يتعلق بنفس تعيين العقد، والنهي يدل على فساد المنهي. أما نكاح المتعة، فإنه وإن تواترت الاخبار عن رسول الله (ص) بتحريمه إلا أنها اختلفت في الوقت الذي وقع فيه التحريم، ففي بعض الروايات أنه حرمها يوم خيبر، وفي بعضها يوم الفتح، وفي بعضها في غزوة تبوك، وفي بعضها في حجة الوداع، وفي بعضها في عمرة القضاء، وفي بعضها في عام أوطاس، وأكثر الصحابة وجميع فقهاء الأمصار على تحريمها، واشتهر عن ابن عباس تحليلها، وتبع ابن عباس على القول بها أصحابه من أهل مكة وأهل اليمن، ورووا أن ابن عباس كان يحتج لذلك لقوله تعالى: * (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم) * وفي حرف عنه: إلى أجل مسمى. وروي عنه أنه قال: ما كانت المتعة إلا رحمة من الله عز وجل رحم بها أمة محمد (ص)، ولولا نهي عمر عنها ما اضطر إلى الزنا إلا شقي. وهذا الذي روي عن ابن عباس رواه عنه ابن جريج وعمرو بن دينار. وعن عطاء قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: تمتعنا على عهد رسول الله (ص) وأبي بكر ونصفا من خلافة عمر ثم نهى عنها عمر الناس. وأما اختلافهم في النكاح الذي تقع فيه الخطبة على خطبة غيره، فقد تقدم أن فيه ثلاثة أقوال: قول بالفسخ، وقول بعدم الفسخ. وفرق بين أن ترد الخطبة على خطبة الغير بعد الركون والقرب من التمام أو لا ترد وهو مذهب مالك. وأما نكاح المحلل: أعني الذي يقصد بنكاحه تحليل المطلقة ثلاثا، فإن مالكا قال: هو نكاح مفسوخ، وقال أبو حنيفة والشافعي: هو نكاح صحيح. وسبب اختلافهم: اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام لعن الله المحلل الحديث. فمن فهم من اللعن التأثيم فقط قال: النكاح صحيح، ومن فهم من التأثيم فساد العقد تشبيها بالنهي الذي يدل على فساد النهي عنه قال: النكاح فاسد. فهذه هي الأنكحة الفاسدة بالنهي. وأما الأنكحة الفاسدة بمفهوم الشرع فإنها تفيد إما بإسقاط شرط من شروط صحة النكاح. أو لتغيير حكم واجب بالشرع من أحكامه مما هو عن الله عز وجل، وإما بزيادة تعود إلى إبطال شرط من شروط
47 الصحة. وأما الزيادات التي تعرض من هذا المعنى فإنها لا تفسد النكاح باتفاق، وإنما اختلف العلماء فلزوم الشروط التي بهذه الصفة أو لا لزومها، مثل أن يشترط عليه أن لا يتزوج عليها أو لا يتسرى أو لا ينقلها من بلدها، فقال مالك: إن اشترط ذلك لم تلزمه إلا أن يكون في ذلك يمين بعتق أو طلاق، فإن ذلك يلزمه إلا أن يطلق أو يعتق من أقسم عليه، فلا يلزم الشرط الأول أيضا، وكذلك قال الشافعي وأبو حنيفة. وقال الأوزاعي وابن شبرمة: لها شرطها وعليه الوفاء، وقال ابن شهاب: كان من أدركت من العلماء يقضون بها، وقول الجماعة مروي عن علي، وقول الأوزاعي مروي عن عمر. وسبب اختلافهم: معارضة العموم للخصوص. فأما العموم فحديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي (ص) خطب الناس فقال في خطبته كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط وأما الخصوص فحديث عقبة بن عامر عن النبي (ص) أنه قال أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج والحديثان صحيحان خرجهما البخاري ومسلم، إلا أن المشهور عند الأصوليين القضاء بالخصوص على العموم وهو لزوم الشروط وهو ظاهر ما وقع في العتبية وإن كان المشهور خلاف ذلك. وأما الشروط المقيدة بوضع من الصداق فإنه قد اختلف فيها المذهب اختلافا كثيرا: أعني في لزومها أو عدم لزومها، وليس كتابنا هذا موضوعا على الفروع. وأما حكم الأنكحة الفاسدة إذا وقعت فمنها ما اتفقوا على فسخه قبل الدخول وبعده. وهو ما كان منها فاسدا بإسقاط شرط متفق على وجوب صحة النكاح بوجوده، مثل أن ينكح محرمة العين، ومنها ما اختلفوا فيه بحسب اختلافهم في ضعف علة الفساد وقوتها ولماذا يرجع من الاخلال بشروط الصحة ومالك في هذا الجنس - وذلك في الأكثر - يفسخه قبل الدخول ويثبته بعده والأصل فيه عنده أن لا فسخ، ولكنه يحتاط بمنزلة ما يرى في كثير من البيع الفاسد أنه يفوت بحوالة الأسواق وغير ذلك، ويشبه أن تكون هذه عنده هي الأنكحة المكروهة، وإلا فلا وجه للفرق بين الدخول وعدم الدخول، والاضطراب في المذهب في هذا الباب كثير، وكأن هذا راجع عنده إلى قوة دليل الفسخ وضعفه: فمتى كان الدليل عنده قويا فسخ قبله وبعده، ومتى كان ضعيفا فسخ قبل ولم يفسخ بعد، وسواء كان الدليل القوي متفقا عليه أو مختلفا فيه. ومن قبل هذا أيضا اختلف المذهب في وقوع الميراث في الأنكحة الفاسدة إذا وقع الموت قبل الفسخ وكذلك وقوع الطلاق فيه، فمرة اعتبر فيه الاختلاف والاتفاق، ومرة اعتبر فيه الفسخ بعد الدخول أو عدمه، وقد نرى أن نقطع ههنا القول في هذا الكتاب، فإن ما ذكرنا منه كفاية بحسب غرضنا المقصود.
48 كتاب الطلاق والكلام في هذا الباب ينحصر في أربع جمل: الجملة الأولى: في أنواع الطلاق. الجملة الثانية: في أركان الطلاق. الجملة الثالثة: في الرجعة. الجملة الرابعة: في أحكام المطلقات. الجملة الأولى وفي هذه الجملة خمسة أبواب: الباب الأول: في معرفة الطلاق البائن والرجعي. الباب الثاني: في معرفة الطلاق السني من البدعي. الباب الثالث: في الخلع. الباب الرابع: في تمييز الطلاق من الفسخ. الباب الخامس: في التخيير والتمليك. الباب الأول: في معرفة الطلاق البائن والرجعي واتفقوا على أن الطلاق نوعان: بائن ورجعي. وأن الرجعي هو الذي يملك فيه الزوج رجعتها من غير اختيارها وأن من شرطه أن يكون في مدخول بها، وإنما اتفقوا على هذا لقوله تعالى: * (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة) * إلى قوله تعالى: * (لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) * وللحديث الثابت أيضا من حديث ابن عمر أنه (ص) أمره أن يراجع زوجته لما طلقها حائضا. ولا خلاف في هذا. وأما الطلاق البائن، فإنهم اتفقوا على أن البينونة إنما توجد للطلاق من قبل عدم الدخول ومن قبل عدد التطليقات ومن قبل العوض في الخلع على اختلاف بينهم هل الخلع طلاق أو فسخ على ما سيأتي بعد. واتفقوا على أن العدد الذي يوجب البينونة في طلاق الحر ثلاث تطليقات إذا وقعت مفترقات لقوله تعالى: * (الطلاق مرتان) * الآية. واختلفوا إذا وقعت ثلاثا في اللفظ دون الفعل، وكذلك اتفق الجمهور على أن الرق مؤثر في اسقاط أعداد الطلاق، وأن الذي يوجب البينونة في الرق اثنتان. واختلفوا هل هذا معتبر برق الزوج أو برق الزوجة أم برق من رق منهما، ففي هذا الباب إذن ثلاث مسائل: المسألة الأولى: جمهور فقهاء الأمصار على أن الطلاق بلفظ الثلاث حكمه حكم الطلقة الثالثة، وقال أهل الظاهر وجماعة: حكمه حكم الواحدة ولا تأثير للفظ في ذلك، وحجة هؤلاء ظاهر قوله تعالى: * (الطلاق مرتان) * إلى قوله في الثالثة * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) * والمطلق بلفظ الثلاث مطلق واحدة لا مطلق
49 ثلاث، واحتجوا أيضا بما خرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله (ص) وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فأمضاه عليهم عمر واحتجوا أيضا بما رواه ابن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال طلق ركانة زوجه ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، فسأله رسول الله (ص): كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثا في مجلس س واحد، قال: إنما تلك طلقة واحدة فارتجعها وقد احتج من انتصر لقول الجمهور بأن حديث ابن عباس الواقع في الصحيحين إنما رواه عنه من أصحابه طاوس، وأن جلة أصحابه رووا عنه لزوم الثلاث منهم سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار وجماعة غيرهم، وأن حديث ابن إسحاق وهم، وإنما روى الثقات أنه طلق ركانة زوجه البتة لا ثلاثا. وسبب الخلاف: هل الحكم الذي جعله الشرع من البينونة للطلقة الثالثة يقع بإلزام المكلف نفسه هذا الحكم في طلقة واحدة أم ليس يقع؟ ولا يلزم من ذلك إلا ما ألزم الشرع؟ فمن شبه الطلاق بالأفعال التي يشترط في صحة وقوعها كون الشروط الشرعية فيها كالنكاح والبيوع قال: لا يلزم، ومن شبهه بالنذور والايمان التي ما التزم العبد منها لزمه على أي صفة كان ألزم الطلاق كيفما ألزمه المطلق نفسه، وكأن الجمهور غلبوا حكم التغليظ في الطلاق سدا للذريعة ولكن تبطل بذاك الرخصة الشرعية والرفق المقصود في ذلك أعني في قوله تعالى: * (لعل الله يحد ث بعد ذلك أمرا) *. المسألة الثانية: وأما اختلافهم في اعتبار نقص عدد الطلاق البائن بالرق فمنهم من قال المعتبر فيه الرجال، فإذا كان الزوج عبدا كان طلاقه البائن الطلقة الثانية، سواء كانت الزوجة حرة أو أمة، وبهذا قال مالك والشافعي، ومن الصحابة عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وابن عباس، وإن كان اختلف عنده في ذلك، لكن الأشهر عنه هو هذا القول. ومنهم من قال: إن الاعتبار في ذلك هو بالنساء، فإذا كانت الزوجة أمة كان طلاقها البائن الطلقة الثانية سواء كان الزوج عبدا أو حرا. وممن قال بهذا القول من الصحابة: علي وابن مسعود، ومن فقهاء الأمصار أبو حنيفة وغيره. وفي المسألة قول أشذ من هذين، وهو أن الطلاق يعتبر برق من رق منهما، قال ذلك عثمان البتي وغيره وروي عن ابن عمر. وسبب هذا الاختلاف: هل المؤثر في هذا هو رق المرأة أو رق الرجل، فمن قال التأثير في هذا هو لمن بيده الطلاق قال: يعتبر بالرجال ومن قال التأثير في هذا الذي يقع عليه الطلاق قال: هو حكم من أحكام المطلقة فشبهوها بالعدة. وقد أجمعوا على أن العدة بالنساء: أي نقصانها تابع لرق النساء. واحتج الفريق الأول بما روي عن ابن عباس مرفوعا إلى النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال الطلاق بالرجال، والعدة بالنساء إلا أنه حديث لم يثبت في الصحاح.
50 وأما من اعتبر من رق منهما فإنه جعل سبب ذلك هو الرق مطلقا ولم يجعل سبب ذلك لا الذكورية ولا الأنوثية مع الرق. المسألة الثالثة: وأما كون الرق مؤثرا في نقصان عدد الطلاق فإنه حكى قوم أنه إجماع، وأبو محمد بن حزم وجماعة من أهل الظاهر مخالفون فيه، ويرون أن الحر والعد في هذا سواء. وسبب الخلاف: معارضة الظاهر في هذا للقياس، وذلك أن الجمهور صاروا إلى هذا المكان قياس طلاق العبد والأمة على حدودهما، وقد أجمعوا على كون الرق مؤثرا في نقصان الحد. أما أهل الظاهر فلما كان الأصل عندهم أن حكم العبد في التكاليف حكم الحر إلا ما أخرجه الدليل، والدليل عندهم هو نص أو ظاهر من الكتاب أو السنة، ولم يكن هناك دليل مسموع صحيح وجب أن يبقى العبد على أصله، ويشبه أن يكون قياس الطلاق على الحد غير سديد، لان المقصود بنقصان الحد رخصة للعبد لمكان نقصه، وأن الفاحشة ليست تقبح منه قبحها من الحر. وأما نقصان الطلاق فهو من باب التغليظ، لان وقوع التحريم على الانسان بتطليقتين أغلظ من وقوعه بثلاث لما عسى أن يقع في ذلك من الندم والشرع إنما سلك في ذلك سبيل الوسط، وذلك أنه لو كانت الرجعة دائمة بيد الزوجة لعنتت المرأة وشقيت، ولو كانت البينونة واقعة في الطلقة الواحدة لعنت الزوج من قبل الندم، وكان ذلك عسرا عليه، فجمع الله بهذه الشريعة بين المصلحتين، ولذلك ما نرى - والله أعلم - أن من ألزم الطلاق الثلاث في واحدة، فقد رفع الحكمة الموجودة في هذه السنة المشروعة. الباب الثاني: في معرفة الطلاق السني من البدعي أجمع العلماء على أن المطلق للسنة في المدخول بها هو الذي يطلق امرأته في طهر لم يمسها فيه طلقة واحدة، وأن المطلق في الحيض أو الطهر الذي مسها فيه غير مطلق للسنة وإنما أجمعوا على هذا لما ثبت من حديث ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله (ص)، فقال عليه الصلاة والسلام: مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء. واختلفوا من هذا الباب في ثلاثة مواضع: الموضع الأول: هل من شرطه أن لا يتبعها طلاقا في العدة؟ والثاني: هل المطلق ثلاثا: أعني بلفظ الثلاث مطلق للسنة أم لا؟ والثالث: في حكم من طلق في وقت الحيض. أما الموضع الأول: فإنه اختلف فيه مالك وأبو حنيفة ومن تبعهما، فقال مالك: من شرطها أن لا يتبعها في العدة طلاقا آخر. وقال أبو حنيفة: إن طلقها عند كل طهر طلقة واحدة كان مطلقا للسنة. وسبب هذا الاختلاف: هل من شرط هذا الطلاق أن يكون في حال
51 الزوجية بعد رجعة أم ليس من شرطه؟ فمن قال هو من شرطه قال: لا يتبعها فيه طلاقا، ومن قال ليس من شرطه أتبعها الطلاق ولا خلاف بينهم في وقوع الطلاق المتبع. وأما الموضع الثاني: فإن مالكا ذهب إلى أن المطلق ثلاثا بلفظ واحد مطلق لغير سنة وذهب الشافعي إلى أنه مطلق للسنة. وسبب الخلاف: معارضة إقراره عليه الصلاة والسلام للمطلق بين يديه ثلاثا في لفظة واحدة لمفهوم الكتاب في حكم الطلقة الثالثة. والحديث الذي احتج به الشافعي هو ما ثبت من أن العجلاني طلق زوجته ثلاثا بحضرة رسول الله (ص) بعد الفراغ من الملاعنة قال: فلو كان بدعة لما أقره رسول الله (ص). وأما مالك فلما رأى أن المطلق بلفظ الثلاث رافع للرخصة التي جعلها الله في العدد قال فيه إنه ليس للسنة. واعتذر أصحابه عن الحديث بأن المتلاعنين عنده قد وقعت الفرقة بينهما من قبل التلاعن نفسه، فوقع الطلاق على غير محله، فلم يتصف لا بسنة ولا ببدعة، وقول مالك - والله أعلم - أظهر ههنا من قول الشافعي. وأما الموضع الثالث: في حكم من طلق في وقت الحيض فإن الناس اختلفوا من ذلك في مواضع: منها أن الجمهور قالوا يمضي طلاقه، وقالت فرقة: لا ينفذ ولا يقع، والذين قالوا ينفذ قالوا: يؤمر بالرجعة وهؤلاء افترقوا فرقتين فقوم رأوا أن ذلك واجب وأنه يجبر على ذلك، وبه قال مالك وأصحابه. وقالت فرقة بل يندب إلى ذلك ولا يجبر، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد والذين أوجبوا الاجبار اختلفوا في الزمان الذي يقع فيه الاجبار، فقال مالك وأكثر أصحابه ابن القاسم وغيره يجبر ما لم تنقض عدتها، وقال أشهب: لا يجبر إلا في الحيضة الأولى. والذين قالوا بالأمر بالرجعة اختلفوا متى يوقع الطلاق بعد الرجعة إن شاء، فقوم اشترطوا في الرجعة أن يمسكها حتى تطهر من تلك الحيضة ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء طلقها وإن شاء أمسكها، وبه قال مالك والشافعي وجماعة، وقوم قالوا: بل يراجعها، فإن طهرت من تلك الحيضة التي طلقها فيها فإن شاء أمسك وإن شاء طلق، وبه قال أبو حنيفة والكوفيون، وكل من اشترط في طلاق السنة أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه لم ير الامر بالرجعة إذا طلقها في طهر مسها فيه، فهنا إذن أربع مسائل: أحدها: هل يقع هذا الطلاق أم لا؟ والثانية: إن وقع فهل يجبر على الرجعة أم يؤمر فقط؟ والثالثة: متى يوقع الطلاق بعد الاجبار أو الندب. والرابعة: متى يقع الاجبار. أما المسألة الأولى: فإن الجمهور إنما صاروا إلى أن الطلاق إن وقع في الحيض اعتد به، وكان طلاقا لقوله (ص) في حديث ابن عمر مره فليراجعها قالوا: والرجعة لا تكون إلا بعد طلاق، وروى الشافعي عن مسلم بن خالد عن ابن جريج أنهم أرسلوا إلى نافع يسألونه هل حسبت تطليقة ابن عمر على عهد رسول الله (ص)؟ قال نعم، وروى أنه
52 الذي كان يفتي به ابن عمر. وأما من لم ير هذا الطلاق واقعا فإنه اعتمد عموم قوله (ص): كل فعل أو عمل ليس عليه أمرنا فهو رد وقالوا: أمر رسول الله (ص) برده يشعر بعدم نفوذه ووقوعه. وبالجملة فسبب الاختلاف: هل الشروط التي اشترطها الشرع في الطلاق السني هي شروط صحة وإجزاء. أم شروط كمال وتمام؟ فمن قال شروط إجزاء قال: لا يقع الطلاق الذي عدم هذه الصفة، ومن قال: شروط كمال وتمام قال يقع ويندب إلى أن يقع كاملا، ولذلك من قال بوقوع الطلاق وجبره على الرجعة فقد تناقض، فتدبر ذلك. وأما المسألة الثانية: وهي هل يجبر على الرجعة أو لا يجبر؟ فمن اعتمد ظاهر الامر وهو الوجوب على ما هو عليه عند الجمهور قال: يجبر، ومن لحظ هذا المعنى الذي قلناه من كون الطلاق واقعا قال: هذا الامر هو على الندب. وأما المسألة الثالثة: وهي متى يوقع الطلاق بعد الاجبار فإن من اشترط في ذلك أن يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإنما صار لذلك لأنه المنصوص عليه في حديث ابن عمر المتقدم قالوا: والمعنى في ذلك لتصح الرجعة بالوطئ في الطهر الذي بعد الحيض لأنه لو طلقها في الطهر الذي بعد الحيضة لم يكن عليها من الطلاق الآخر عدة لأنه كان يكون كالمطلق قبل الدخول. وبالجملة فقالوا إن من شرط الرجعة وجود زمان يصح فيه الوطئ، وعلى هذا التعليل يكون من شروط طلاق السنة أن يطلقها في طهر لم يطلق في الحيضة التي قبله، وهو أحد الشروط المشترطة عند مالك في طلاق السنة فيما ذكره عبد الوهاب، وأما الذين لم يشترطوا ذلك، فإنهم صاروا إلى ما روى يونس بن جبير وسعيد بن جبير وابن سيرين ومن تابعهم عن ابن عمر في هذا الحديث أنه قال: يراجعها فإذا طهرت طلقها إن شاء، وقالوا: المعنى في ذلك أنه إنما أمر بالرجوع عقوبة له لأنه طلق في زمان كره له فيه الطلاق، فإذا ذهب ذلك الزمان وقع منه الطلاق على وجه غير مكروه فسبب اختلافهم تعارض الآثار في هذه المسألة وتعارض مفهوم العلة. وأما المسألة الرابعة: وهي متى يجبر؟ فإنما ذهب مالك إلى أنه يجبر على رجعتها لطول زمان العدة لأنه الزمان الذي له فيه ارتجاعها. وأما أشهب فإنه إنما صار في هذا إلى ظاهر الحديث، لان فيه مره فليراجعها حتى تطهر فدل ذلك على أن المراجعة كانت في الحيضة، وأيضا فإنه قال: إنه أمر بمراجعتها لئلا تطول عليها العدة، فإنه إذا وقع عليها الطلاق في الحيضة لم تعتد بها بإجماع فإن قلنا إن يراجعها في غير الحيضة كان ذلك عليها أطول، وعلى هذا التعليل فينبغي أن يجوز إيقاع الطلاق في الطهر الذي بعد الحيضة. فسبب الاختلاف هو سبب اختلافهم في علة الامر بالرد.
53 الباب الثالث: في الخلع واسم الخلع والفدية والصلح والمبارأة كلها تؤول إلى معنى واحد، وهو بذل المرأة العوض على طلاقها، إلا أن اسم الخلع يختص ببذلها له جميع ما أعطاها والصلح ببعضه والفدية بأكثره والمبارأة بإسقاطها عنه حقا لها عليه - على ما زعم الفقهاء -. والكلام ينحصر في أصول هذا النوع من الفراق في أربعة فصول: في جواز وقوعه أولا، ثم ثانيا: في شروط وقوعه: أعني جواز وقوعه، ثم ثالثا: في نوعه: أعني هل هو طلاق أو فسخ؟ ثم رابعا: فيما يلحقه من الاحكام. الفصل الأول: في جواز وقوعه فأما جواز وقوعه فعليه أكثر العلماء. والأصل في ذلك الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: * (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) *. وأما السنة فحديث ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي (ص) فقالت: يا رسول الله.. ثابت بن قيس لا أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر بعد الدخول في الاسلام، فقال رسول الله (ص): أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. قال رسول الله (ص): اقبل الحديقة وطلقها طلقة واحدة خرجه بهذا اللفظ البخاري وأبو داود والنسائي، وهو حديث متفق على صحته، وشذ أبو بكر ابن عبد الله المزيني عن الجمهور فقال: لا يحل للزوج أن يأخذ من زوجته شيئا، واستدل على ذلك بأنه زعم أن قوله تعالى: * (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) * منسوخ بقوله تعالى: * (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) * الآية. والجمهور على أن معنى ذلك بغير رضاها، وأما برضاها فجائز. فسبب الخلاف حمل هذا اللفظ على عمومه أو على خصوصه. الفصل الثاني: في شروط وقوعه فأما شروط جوازه فمنها ما يرجع إلى القدر الذي يجوز فيه، ومنها ما يرجع إلى صفة الشئ الذي يجوز به ومنها ما يرجع إلى الحال التي يجوز فيها، ومنها ما يرجع إلى صفة من يجوز له الخلع من النساء أو من أوليائهن ممن لا تملك أمرها، ففي هذا الفصل أربع مسائل: المسألة الأولى: أما مقدار ما يجوز لها أن تختلع به فإن مالكا والشافعي وجماعة قالوا: جائز أن تختلع المرأة بأكثر مما يصير لها من الزوج في صداقها إذا كان النشوز من
54 قبلها وبمثله وبأقل منه. وقال قائلون: ليس له أن يأخذ أكثر مما أعطاها على ظاهر حديث ثابت. فمن شبهه بسائر الأعواض في المعاملات رأى أن القدر فيه راجع إلى الرضا، ومن أخذ بظاهر الحديث لم يجز أكثر من ذلك. وكأنه رآه من باب أخذ المال بغير حق. المسألة الثانية: وأما صفة العوض، فإن الشافعي وأبا حنيفة يشترطان فيه أن يكون معلوم الصفة ومعلوم الوجوب. ومالك يجيز فيه المجهول الوجود والقدر والمعدوم، مثل الآبق والشارد والثمرة التي لم يبد صلاحها والعبد غير الموصوف. وحكي عن أبي حنيفة جواز الغرر ومنع المعدوم. وسبب الخلاف: تردد العوض ههنا بين العوض في البيوع أو الأشياء الموهوبة والموصى بها. فمن شبهها بالبيوع اشترط فيه ما يشترط في البيوع وفي أعواض البيوع. ومن شبهه بالهبات لم يشترط ذلك. واختلفوا إذا وقع الخلع بما لا يحل كالخمر والخنزير هل يجب لها عوض أم لا بعد اتفاقهم على أن الطلاق يقع؟ فقال مالك: لا يستحق عوضا. وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي: يجب لها مهر المثل. المسألة الثالثة: وأما ما يرجع إلى الحال التي يجوز فيها الخلع من التي لا يجوز فإن الجمهور على أن الخلع جائز مع التراضي إذا لم يكن سبب رضاها بما تعطيه إضراره بها. والأصل في ذلك قوله تعالى: * (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) * وقوله تعالى: * (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به) * وشذ أبو قلابة والحسن البصري فقالا: لا يحل للرجل الخلع عليها حتى يشاهدها تزني، وحملوا الفاحشة في الآية على الزنا، وقال داود: لا يجوز إلا بشرط الخوف أن لا يقيما حدود الله على ظاهر الآية، وشذ النعمان فقال: يجوز الخلع مع الاضرار، والفقه أن الفداء إنما جعل للمرأة في مقابلة ما بيد الرجل من الطلاق، فإنه لما جعل الطلاق بيد الرجل إذا فرك المرأة جعل الخلع بيد المرأة إذا فركت الرجل، فيتحصل في الخلع خمسة أقوال: قول إنه لا يجوز أصلا. وقول إنه يجوز على كل حال: أي مع الضرر. وقول إنه لا يجوز إلا مع مشاهدة الزنا. وقول مع خوف أن لا يقيما حدود الله. وقول إنه يجوز في كل حال إلا مع الضرر، وهو المشهور. المسألة الرابعة: وأما من يجوز له الخلع ممن لا يجوز فإنه لا خلاف عند الجمهور أن الرشيدة تخالع عن نفسها، وأن الأمة لا تخالع عن نفسها إلا برضا سيدها، وكذلك السفيهة مع وليها عند من يرى الحجر، وقال مالك: يخالع الأب على ابنته الصغيرة كما
55 ينكحها وكذلك على ابنه الصغير لأنه عنده يطلق عليه والخلاف في الابن الصغير، قال الشافعي وأبو حنيفة: لا يجوز لأنه لا يطلق عليه عندهم والله أعلم. وخلع المريضة يجوز عند مالك إذا كان بقدر ميراثه منها، وروى ابن نافع عن مالك أنه يجوز خلعها بالثلث كله، وقال الشافعي: لو اختلعت بقدر مهر مثلها جاز، وكان من رأس المال، وإن زاد على ذلك كانت الزيادة من الثلث. وأما المهملة التي لا وصي لها ولا أب فقال ابن القاسم: يجوز خلعها إذا كان خلع مثلها، والجمهور على أنه يجوز خلع المالكة لنفسها، وشذ الحسن وابن سيرين فقالا: لا يجوز الخلع إلا بإذن السلطان. الفصل الثالث: في نوعه وأما نوع الخلع فجمهور العلماء على أنه طلاق، وبه قال مالك، وأبو حنيفة سوى بين الطلاق والفسخ، وقال الشافعي: هو فسخ، وبه قال أحمد وداود ومن الصحابة ابن عباس. وقد روي عن الشافعي أنه كناية، فإن أراد به الطلاق كان طلاقا وإلا كان فسخا، وقد قيل عنه في قوله الجديد إنه طلاق. وفائدة الفرق هل يعتد به في التطليقات أم لا؟ وجمهور من رأى أنه طلاق يجعله بائنا، لأنه لو كان للزوج في العدة منه الرجعة عليها لم يكن لافتدائها معنى، وقال أبو ثور: إن لم يكن بلفظ الطلاق لم يكن له عليها رجعة، وإن كان بلفظ الطلاق كان له عليها الرجعة. فاحتج من جعله طلاقا بأن الفسوخ إنما هي التي تقتضي الفرقة الغالبة للزوج في الفراق مما ليس يرجع إلى اختياره، وهذا راجع إلى الاختيار فليس بفسخ، واحتج من لم يره طلاقا بأن الله تبارك وتعالى ذكر في كتابه الطلاق فقال: * (الطلاق مرتان) * ثم ذكر الافتداء ثم قال: * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) * فلو كان الافتداء طلاقا لكان الطلاق الذي لا تحل له فيه إلا بعد زوج هو الطلاق الرابع، وعند هؤلاء أن الفسوخ تقع بالتراضي قياسا على فسوخ البيع: أعني الإقالة، وعند المخالف أن الآية إنما تضمنت حكم الافتداء على أنه شئ يلحق جميع أنواع الطلاق لا أنه شئ غير الطلاق. فسبب الخلاف: هل اقتران العوض بهذه الفرقة يخرجها من نوع فرقة الطلاق إلى نوع فرقة الفسخ أم ليس يخرجها؟ الفصل الرابع: فيما يلحقه من الاحكام وأما لواحقه ففروع كثيرة، لكن نذكر منها ما شهر: فمنها هل يرتدف على المختلعة طلاق أم لا؟ فقال مالك: لا يرتدف إلا إن كان الكلام متصلا، وقال الشافعي: لا يرتدف وإن كان الكلام متصلا، وقال أبو حنيفة: يرتدف، ولم يفرق بين الفور والتراخي. وسبب
56 الخلاف: أن العدة عند الفريق الأول من أحكام الطلاق، وعند أبي حنيفة من أحكام النكاح، ولذلك لا يجوز عنده أن ينكح مع المبتوتة أختها. فمن رآها من أحكام النكاح ارتدف الطلاق عنده، ومن لم ير ذلك لم يرتدف، ومنها أن جمهور العلماء أجمعوا على أنه لا رجعة للزوج على المختلعة في العدة. إلا ما روي عن سعيد بن المسيب وابن شهاب أنهما قالا: إن رد لها ما أخذ منها في العدة أشهد على رجعتها. والفرق الذي ذكرناه عن أبي ثور بين أن يكون بلفظ الطلاق أو لا يكون. ومنها أن الجمهور أجمعوا على أن له أن يتزوجها برضاها في عدتها، وقالت فرقة من المتأخرين: لا يتزوجها هو ولا غيره في العدة. وسبب اختلافهم: هل المنع من النكاح في العدة عبادة أو ليس بعبادة بل معلل؟ واختلفوا في عدة المختلعة وسيأتي بعد. واختلفوا إذا اختلف الزوج والزوجة في مقدار العدد الذي وقع به الخلع فقال مالك: القول قوله إن لم يكن هنالك بينة. وقال الشافعي: يتحالفان ويكون عليها مهر المثل شبه الشافعي اختلافها باختلاف المتبايعين، وقال مالك: هي مدعى عليها وهو مدع. ومسائل هذا الباب كثيرة وليس مما يليق بقصدنا. الباب الرابع: في تمييز الطلاق من الفسخ واختلف قول مالك رحمه الله في الفرق بين الفسخ الذي لا يعتد به في التطليقات الثلاث وبين الطلاق الذي يعتد به في الثلاث إلى قولين: أحدهما: أن النكاح إن كان فيه خلاف خارج عن مذهبه: أعني في جوازه. وكان الخلاف مشهورا فالفرقة عنده فيه لكلامه مثل الحكم بتزويج المرأة نفسها والمحرم، فهذه على هذه الرواية هي طلاق لا فسخ. والقول الثاني: أن الاعتبار في ذلك هو بالسبب الموجب لا للتفرق. فإن كان غير راجع إلى الزوجين مما لو أراد الإقامة على الزوجية معه لم يصح كان فسخا مثل نكاح المحرمة بالرضاع أو النكاح أو العدة وإن كان مما لهما أن يقيما عليه مثل الرد بالعيب كان طلاقا. الباب الخامس: في التخيير والتمليك ومما يعد من أنواع الطلاق مما يرى أن له أحكاما خاصة: التمليك والتخيير، والتمليك عن مالك في المشهور غير التخيير، وذلك أن التمليك هو عنده تمليك المرأة إيقاع الطلاق، فهو يحتمل الواحدة فما فوقها، ولذلك له أن يناكرها عنده فيما فوق الواحدة، والخيار بخلاف ذلك لأنه يقتضي إيقاع طلاق تنقطع معه العصمة إلا أن يكون تخييرا مقيدا مثل أن يقول لها اختاري نفسك أو اختاري تطليقة أو تطليقتين. ففي الخيار المطلق عند مالك ليس لها إلا أن تختار زوجها أو تبين منه بالثلاث. وإن اختارت واحدة لم يكن لها ذلك، والمملكة لا يبطل تمليكها عنده إن لم توقع الطلاق حتى يطول الامر بها على إحدى الروايتين أو يتفرقا من المجلس. والرواية الثانية أنه يبقى لها التمليك إلى أن ترد أو تطلق. والفرق عند مالك بين التمليك وتوكيله إياها على تطليق نفسها أن في
57 التوكيل له أن يعزلها قبل أن تطلق، وليس له ذلك في التمليك. وقال الشافعي: اختاري وأمرك بيدك سواء، ولا يكون ذلك طلاقا إلا أن ينويه، وإن نواه فهو ما أراد إن واحدة فواحدة وإن ثلاثا فثلاث، فله عنده أن يناكرها في الطلاق نفسه، وفي العدد في الخيار أو التمليك، وهي عنده إن طلقت نفسها رجعية، وكذلك هي عند مالك في التمليك. وقال أبو حنيفة وأصحابه: الخيار ليس بطلاق، فإن طلقت نفسها في التمليك. واحدة فهي بائنة، وقال الثوري: الخيار والتمليك واحد لا فرق بينهما، وقد قيل: القول قولها في أعداد الطلاق في التمليك، وليس للزوج مناكرتها، وهذا القول مروي عن علي وابن المسيب وبه قال الزهري وعطاء وقد قيل إنه ليس للمرأة في التمليك إلا أن تطلق نفسها تطليقة واحدة، وذلك مروي عن ابن عباس وعمر رضي الله عنهما، روي أنه جاء ابن مسعود رجل فقال: كان بيني وبين امرأتي بغض ما يكون بين الناس، فقالت: لو أن الذي بيدك من أمري بيدي لعلمت كيف أصنع، قال: فإن الذي بيدي من أمرك بيدك، قالت: فأنت طالق ثلاثا، قال: أراها واحدة وأنت أحق بها ما دامت في عدتها، وسألقى أمير المؤمنين عمر، ثم لقيه فقص عليه القصة فقال: صنع الله بالرجال وفعل، يعمدون إلى ما جعل الله في أيديهم فيجعلونه بأيدي النساء بفيها التراب، ماذا قلت فيها؟ قال: قلت أراها واحدة وهو أحق بها قال: وأنا أرى ذلك، ولو رأيت غير ذلك علمت أنك لم تصب. وقد قيل ليس التمليك بشئ لان ما جعل الشرع بيد الرجل ليس يجوز أن يرجع إلى يد المرأة بجعل جاعل. وكذلك التخيير وهو قول أبي محمد بن حزم وقول مالك في المملكة أن لها الخيار في الطلاق أو البقاء على العصمة ما دامت في المجلس وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والأوزاعي وجماعة فقهاء الأمصار، وعند الشافعي أن التمليك إذا أراد به الطلاق كالوكالة. ولو أن يرجع في ذلك متى أحب ذلك ما لم يوقع الطلاق وإنما صار الجمهور للقضاء بالتمليك أو التخيير، وجعل ذلك للنساء لما ثبت من تخيير رسول الله (ص) نساءه، قالت عائشة: خيرنا رسول الله (ص) فاخترناه فلم يكن طلاقا، لكن أهل الظاهر يرون أن معنى ذلك أنهن لو اخترن أنفسهن طلقهن رسول الله (ص) لا أنهن كن يطلقن بنفس اختيار الطلاق. وإنما صار جمهور الفقهاء إلى أن التخيير والتمليك واحد في الحكم، لان من عرف دلالة اللغة أن من ملك إنسانا أمرا من الأمور إن شاء أن يفعله أو لا يفعله فإنه قد خيره. وأما مالك فيرى أن قوله لها اختاريني أو اختاري نفسك أنه ظاهر بعرف الشرع في معنى البينونة بتخيير رسول الله (ص) نساءه لان المفهوم منه إنما كان البينونة. وإنما رأى مالك أنه لا يقبل قول الزوج في التمليك أنه لم يرد به طلاقا إذا زعم ذلك لأنه لفظ ظاهر في معنى جعل الطلاق بيدها. وأما الشافعي فلما لم يكن اللفظ عنده نصا اعتبر فيه النية. فسبب الخلاف: هل يغلب ظاهر اللفظ أو دعوى النية. وكذلك فعل في التخيير، وإنما
58 اتفقوا على أن له مناكرتها في العدد: أعني في لفظ التمليك، لأنه لا يدل عليه دلالة محتملة فضلا عن ظاهره. وإنما رأى مالك والشافعي أنه إذا طلقت نفسها بتمليكه إياها طلقة واحدة أنها تكون رجعية، لان الطلاق إنما يحمل على العرف الشرعي وهو طلاق السنة. وإنما رأى أبو حنيفة أنها بائنة لأنه إذا كان له عليها رجعة لم يكن لما طلبت من التمليك فائدة ولما قصد هو من ذلك. وأما من رأى أن لها أن تطلق نفسها في التمليك ثلاثا وأنه ليس للزوج مناكرتها في ذلك، فلان معنى التمليك عنده إنما هو تصيير جميع ما كان بيد الرجل من الطلاق بيد المرأة فهي مخيرة فيما توقعه من أعداد الطلاق. وأما من جعل التمليك طلقة واحدة فقط أو التخيير، فإنما ذهب إلى أنه أقل ما ينطلق عليه الاسم، واحتياطا للرجال لان العلة في جعل الطلاق بأيدي الرجال دون النساء هو لنقصان عقلهن وغلبة الشهوة عليهن مع سوء المعاشرة، وجمهور العلماء على أن المرأة إذا اختارت زوجها أنه ليس بطلاق لقول عائشة المتقدم. وروي عن الحسن البصري أنها إذا اختارت زوجها فواحدة، وإذا اختارت نفسها فثلاث، فيتحصل في هذه المسألة الخلاف في ثلاثة مواضع، أحدها: أنه لا يقع بواحد منهما طلاق. والثاني: أنه تقع بينهما فرقة. والثالث: الفرق بين التخيير والتمليك فيما تملك به المرأة، أعني أن تملك بالتخيير البينونة، وبالتمليك ما دون البينونة، وإذا قلنا بالبينونة فقيل تملك واحدة، وقيل تملك الثلاث، وإذا قلنا إنها تملك واحدة فقيل رجعية، وقيل بائنة. وأما حكم الألفاظ التي تجيب بها المرأة في التخيير والتمليك فهي ترجع إلى حكم الألفاظ التي يقع بها الطلاق في كونها صريحة أو كناية أو محتملة، وسيأتي تفصيل ذلك عند التكلم في ألفاظ الطلاق. الجملة الثانية وفي هذه الجملة ثلاثة أبواب: الباب الأول: في ألفاظ الطلاق وشروطه. الباب الثاني: في تفصيل من يجوز طلاقه ممن لا يجوز. الباب الثالث: في تفصيل من يقع عليها الطلاق من النساء ممن لا يقع. الباب الأول: في ألفاظ الطلاق وشروطه وهذا الباب فيه فصلان: الفصل الأول: في أنواع ألفاظ الطلاق المطلقة. الفصل الثاني: في أنواع ألفا الطلاق المقيدة. الفصل الأول: في أنواع ألفاظ الطلاق المطلقة أجمع المسلمون على أن الطلاق يقع إذا كان بنية وبلفظ صريح. واختلفوا هل يقع بالنية مع اللفظ الذي ليس بصريح أو بالنية دون اللفظ، أو باللفظ دون النية، فمن اشترط فيه النية واللفظ الصريح فاتباعا لظاهر الشرع، وكذلك من أقام الظاهر مقام الصريح، ومن شبهه بالعقد في النذر وفي اليمين أوقعه بالنية فقط، ومن أعمل التهمة أوقعه باللفظ فقط. واتفق الجمهور على أن ألفاظ الطلاق المطلقة صنفان: صريح، وكناية. واختلفوا في
59 تفصيل الصريح من الكناية وفي أحكامها وما يلزم فيها، ونحن إنما قصدنا من ذلك ذكر المشهور وما يجري مجرى الأصول، فقال مالك وأصحابه: الصريح هو لفظ الطلاق فقط، وما عدا ذلك كناية، وهي عنده على ضربين ظاهرة ومحمولة وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي: ألفاظ الطلاق الصريحة ثلاث: الطلاق، والفراق والسراح، وهي المذكورة في القرآن، وقال بعض أهل الظاهر: لا يقع طلاق إلا بهذه الثلاث. فهذا هو اختلافهم في صريح الطلاق من غير صريحه. وإنما اتفقوا على أن لفظ الطلاق صريح لان دلالته على هذا المعنى الشرعي دلالة وضعية بالشرع فصار أصلا في هذا الباب. وأما ألفاظ الفراق والسراح فهي مترددة بين أن يكون للشرع فيها تصرف أعني أن تدل بعرف الشرع على المعنى الذي يدل عليه الطلاق، أو هي باقية على دلالتها اللغوية، فإذا استعملت في هذا المعنى: أعني في معنى الطلاق كانت مجازا إذ هذا هو معنى الكناية أعني اللفظ الذي يكون مجازا في دلالته، وإنما ذهب مذهب إلى أنه لا يقع الطلاق إلا بهذه الألفاظ الثلاث، لان الشرع إنما ورد بهذه الألفاظ الثلاثة وهي عبادة، ومن شرطها اللفظ، فوجب أن يقتصر بها على اللفظ الشرعي الوارد فيها. فأما اختلافهم في أحكام صريح ألفاظ الطلاق ففيه مسألتان مشهورتان: إحداهما: اتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة عليها. والثانية: اختلفوا فيها. فأما التي اتفقوا عليها فإن مالكا والشافعي وأبا حنيفة قالوا: لا يقبل قول المطلق إذا نطق بألفاظ الطلاق إنه لم يرد به طلاقا إذا قال لزوجته أنت طالق. وكذلك السراح والفراق عند الشافعي. واستثنت المالكية بأن قالت: إلا أن تقترن بالحالة أو المرأة قرينة تدل على صدق دعواه، مثل أن تسأله أن يطلقها من وثاق هي فيه وشبهه، فيقول لها أنت طالق. وفقه المسألة عند الشافعي وأبي حنيفة أن الطلاق لا يحتاج عندهم إلى نية، وأما مالك فالمشهور عنه أن الطلاق عنده يحتاج إلى نية، لكن لم ينوه ههنا لموضع التهم، ومن رأيه الحكم بالتهم سدا للذرائع، وذلك مما خالفه فيه الشافعي وأبو حنفية. فيجب على رأي من يشترط النية في ألفاظ الطلاق ولا يحكم بالتهم أن يصدقه فيما ادعى. وأما المسألة الثانية: فهي: اختلفوا فيمن قال لزوجته أنت طالق، وادعى أنه أراد بذلك أكثر من واحدة إما اثنتين وإما ثلاثا، فقال مالك: هو ما نوى وقد لزمه، وبه قال الشافعي إلا أن يقيد فيقول طلقة واحدة، وهذا القول هو المختار عند أصحابه، وأما أبو حنيفة فقال: لا يقع ثلاثا بلفظ الطلاق لان العدد لا يتضمنه لفظ الافراد، لا كناية ولا تصريحا. وسبب اختلافهم: هل يقع الطلاق بالنية دون اللفظ أو بالنية مع اللفظ المحتمل؟ فمن قال بالنية أوجب الثلاث، وكذلك من قال بالنية واللفظ المحتمل ورأي أن لفظ الطلاق يحتمل العدد، ومن رأى أنه لا يحتمل العدد وأنه لا بد من اشتراط اللفظ في الطلاق مع النية قال: لا يجب العدد وإن نواه، وهذه المسألة اختلفوا فيها، وهي من مسائل شروط
60 ألفاظ الطلاق: أعني اشتراط النية مع اللفظ، أو بانفراد أحدهما، فالمشهور عن مالك أن الطلاق لا يقع إلا باللفظ والنية، وبه قال أبو حنيفة، وقد روي عنه أنه يقع باللفظ دون النية، وعند الشافعي أن لفظ الطلاق الصريح لا يحتاج إلى نية، فمن اكتفى بالنية احتج بقوله (ص) إنما الأعمال بالنيات ومن لم يعتبر النية دون اللفظ احتج بقوله عليه الصلاة والسلام رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما حدثت به أنفسها والنية دون قول حديث نفس. قال: وليس يلزم من اشتراط النية في العمل في الحديث المتقدم أن تكون النية كافية بنفسها. واختلف المذهب هل يقع بلفظ الطلاق في المدخول بها طلاق بائن إذا قصد ذلك المطلق ولم يكن هنالك عوض؟ فقيل يقع، وقيل لا يقع، وهذه المسألة من مسائل أحكام صريح ألفا الطلاق وأما ألفاظ الطلاق التي ليست بصريح، فمنها ما هي كناية ظاهرة عند مالك، ومنها ما هي كناية محتملة. ومذهب مالك أنه إذا ادعى في الكناية الظاهرة أنه لم يرد طلاقا لم يقبل قوله إلا أن تكون هنالك قرينة تدل على ذلك كرأيه في الصريح، وكذلك لا يقبل عنده ما يدعيه من دون الثلاث في الكنايات الظاهرة وذلك في المدخول بها إلا أن يكون قال ذلك في الخلع. وأما غير المدخول بها فيصدقه في الكناية الظاهرة فيما دون الثلاث، لان طلاق غير المدخول بها بائن، وهذه هي مثل قولهم: حبلك على غاربك، ومثل البتة، ومثل قولهم: أنت خلية وبرية. وأما مذهب الشافعي في الكنايات الظاهرة فإنه يرجع في ذلك إلى ما نواه، فإن كان نوى طلاقا كان طلاقا وإن كان نوى ثلاثا كان ثلاثا أو واحدة كان واحدة، ويصدق في ذلك. وقول أبي حنيفة في ذلك مثل قول الشافعي، إلا أنه على أصله واحدة أو اثنتين وقع عنده طلقة واحدة بائنة، وإن اقترنت به قرينة تدل على الطلاق وزعم أنه لم ينوه لم يصدق، وذلك إذا كان عنده في مذاكراته الطلاق. وأبو حنيفة يطلق بالكنايات كلها إذا اقترنت بها هذه القرينة إلا أربع: حبلك على غاربك، واعتدي، واستبرئي. وتقنعي، لأنها عنده من المحتملة غير الظاهرة. وأما ألفاظ الطلاق المحتملة غير الظاهرة فعند مالك أنه يعتبر فيها نيته كالحال عند الشافعي في الكناية الظاهرة، وخالفه في ذلك جمهور العلماء فقالوا: ليس فيها شئ وإن نوى طلاقا فيحصل في الكنايات الظاهرة ثلاثة أقوال: قول أن يصدق بإطلاق. وهو قول الشافعي، وقول إنه لا يصدق بإطلاق إلا أن يكون هنالك قرينة وهو قول مالك، وقول إنه يصدق إلا أن يكون في مذاكرة الطلاق، وهو قول أبي حنيفة. وفي المذهب خلاف في مسائل يتردد حملها بين الظاهر والمحتمل، وبين قوتها وضعفها في الدلالة على صفة البينونة فوقع فيها الاختلاف وهي راجعة إلى هذه الأصول، وإنما صار مالك إلى أن لا يقبل قوله في الكنايات الظاهرة إنه لم يرد به طلاقا، لان العرف اللغوي والشرعي
61 شاهد عليه، وذلك أن هذه الألفاظ إنما تلفظ بها الناس غالبا. والمراد بها الطلاق، إلا أن يكون هنالك قرينة تدل على خلاف ذلك وإنما صار إلى أنه لا يقبل قوله فيما يدعيه دون الثلاث، لأن الظاهر من هذه الألفاظ هو البينونة، والبينونة لا تقع إلا خلعا عنده في المشهور أو ثلاثا، وإذا لم تقع خلعا لأنه ليس هناك عوض فبقي أن يكون ثلاثا، وذلك في المدخول بها. ويتخرج على القول في المذهب بأن البائن تقع من دون عوض ودون عدد أن يصدق في ذلك وتكون واحدة بائنة، وحجة الشافعي أنه إذا وقع الاجماع على أنه يقبل قوله فيما دون الثلاث في صريح ألفاظ الطلاق كان أحرى أن يقبل قوله في كنايته لان دلالة الصريح أقوى من دلالة الكناية. ويشبه أن تقول المالكية إن لفظ الطلاق وإن كان صريحا في الطلاق فليس بصريح في العدد، ومن الحجة للشافعي حديث ركانة المتقدم، وهو مذهب عمر في حبلك على غاربك، وإنما صار الشافعي إلى أن الطلاق في الكنايات الظاهرة إذا نوى ما دون الثلاث يكون رجعيا لحديث ركانة المتقدم، وصار أبو حنيفة إلى أنه يكون بائنا لأنه المقصود به قطع العصمة ولم يجعله ثلاثا لان الثلاث معنى زائد على البينونة عنده. فسبب اختلافهم: هل يقدم عرف اللفظ على النية أو النية على عرف اللفظ؟ وإذا غلبنا عرف اللفظ فهل يقتضي البينونة فقط أو العدد؟ فمن قدم النية لم يقض عليه بعرف اللفظ ومن قدم العرف الظاهر لم يلتفت إلى النية. ومما اختلف فيه الصدر الأول وفقهاء الأمصار من هذا الباب: أعني من جنس المسائل الداخلة في هذا الباب لفظ التحريم: أعني من قال لزوجته أنت علي حرام وذلك أن مالكا قال: يحمل في المدخول بها على البت: أي الثلاث وينوي في غير المدخول بها، وذلك على قياس قوله المتقدم في الكنايات الظاهرة، وهو قول ابن أبي ليلى، وزيد بن ثابت وعلي من الصحابة، وبه قال أصحابه إلا ابن الماجشون فإنه قال: لا ينوي في غير المدخول بها وتكون ثلاثا فهذا هو أحد الأقوال في هذه المسألة، والقول الثاني: أنه إن نوى بذلك ثلاثا فهي ثلاث وإن نوى واحدة فهي واحدة بائنة، وإن نوى يمينا فهو يمين يكفرها وإن لم ينو به طلاقا ولا يمينا فليس بشئ، هي كذبة، وقال بهذا القول الثوري والقول الثالث: أن يكون أيضا ما نوى بها وإن نوى واحدة فواحدة أو ثلاثا فثلاث، وإن لم ينو شيئا فهو يمين يكفرها، وهذا القول قاله الأوزاعي. والقول الرابع: أن ينوي فيها في الموضعين في إرادة الطلاق وفي عدده، فما نوى كان ما نوى، فإن نوى واحدة كان رجعيا، وإن أراد تحريمها بغير طلاق فعليه كفارة يمين وهو قول الشافعي. والقول الخامس: أنه ينوي أيضا في الطلاق وفي العدد، فإن نوى واحدة كانت بائنة، فإن لم ينو طلاقا كان يمينا وهو مول، فإن نوى الكذب فليس بشئ، وهذا القول قاله أبو حنيفة وأصحابه. والقول السادس: أنها يمين يكفرها ما يكفر اليمين، إلا أن بعض هؤلاء قال يمين مغلظة، وهو قول عمر وابن
62 مسعود وابن عباس وجماعة من التابعين، وقال ابن عباس وقد سئل عنها: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، خرجه البخاري ومسلم ذهب إلى الاحتجاج بقوله تعالى: * (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) * الآية. والقول السابع: أن تحريم المرأة كتحريم الماء، وليس فيه كفارة ولا طلاق لقوله تعالى: * (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) * وهو قول مسروق والأجدع وأبي سلمة بن عبد الرحمن والشعبي وغيرهم. ومن قال فيها إنها غير مغلظة بعضهم أوجب فيها الواجب في الظهار. وبعضهم أوجب فيها عتق رقبة. وسبب الاختلاف: هل هو يمين أو كناية؟ أو ليس بيمين ولا كناية؟ فهذه أصول ما يقع من الاختلاف في ألفاظ الطلاق. الفصل الثاني: في ألفاظ الطلاق المقيدة والطلاق المقيد لا يخلو من قسمين: إما تقييد اشتراط، أو تقييد استثناء، والتقيد المشترط لا يخلو أن يعلق بمشيئة من له اختيار أو بوقوع فعل من الأفعال المستقبلة أو بخروج شئ مجهول العلم إلى الوجود على ما يدعيه المعلق للطلاق به مما لا يتوصل إلى علمه إلا بعد خروجه إلى الحس، أو إلى الوجود أو بما لا سبيل إلى الوقوف عليه مما هو ممكن أن يكون أو لا يكون. فأما تعليق الطلاق بالمشيئة فإنه لا يخلو أن يعلقه بمشيئة الله أو بمشيئة مخلوق، فإذا علقه بمشيئة الله وسواء علقه على جهة الشرط مثل أن يقول أنت طالق إن شاء الله، أو على جهة الاستثناء مثل أن يقول أنت طالق إلا أن يشاء الله، فإن مالكا قال: لا يؤثر الاستثناء في الطلاق شيئا وهو واقع ولا بد. وقال أبو حنيفة والشافعي إذا استثنى المطلق مشيئة الله لم يقع الطلاق. وسبب الخلاف: هل يتعلق الاستثناء بالأفعال الحاضرة الواقعة كتعلقه بالأفعال المستقبلة أو لا يتعلق؟ وذلك أن الطلاق هو فعل حاضر، فمن قال لا يتعلق به قال: لا يؤثر الاستثناء ولا اشتراط المشيئة في الطلاق، ومن قال يتعلق به قال: يؤثر فيه، وأما إن علق الطلاق بمشيئة من تصح مشيئته ويتوصل إلى علمها فلا خلاف في مذهب مالك أن الطلاق يقف على اختيار الذي علق الطلاق بمشيئته. وأما تعليق الطلاق بمشيئة من لا مشيئة له، ففي خلاف في المذهب، قيل يلزمه الطلاق، وقيل لا يلزمه، والصبي والمجنون داخلان في هذا المعنى فمن شبهه بطلاق الهزل وكان الطلاق بالهزل عنده يقع قال: يقع هذا الطلا، ومن اعتبر وجود الشرط قال: لا يقع لان الشرط قد عدم ههنا. وأما تعليق الطلاق بالأفعال المستقبلة، فإن الأفعال التي يعلق بها توجد على ثلاثة أضرب: أحدها: ما يمكن
63 أن يقع أو لا يقع على السواء كدخول الدار وقدوم زيد، فهذا يقف وقوع الطلاق فيه على وجود الشرط بلا خلاف. وأما ما لا بد من وقوعه كطلوع الشمس غدا، فهذا يقع ناجزا عند مالك، ويقف وقوعه عند الشافعي وأبي حنيفة على وجود الشرط، فمن شبهه بالشرط الممكن الوقوع قال: لا يقع إلا بوقوع الشرط، ومن شبهه بالوطئ الواقع في الاجل بنكاح المتعة لكونه وطئا مستباحا إلى أجل قال: يقع الطلاق، الثالث هو الأغلب منه بحسب العادة وقوع الشرط، وقد لا يقع كتعليق الطلاق بوضع الحمل ومجئ الحيض والطهر، ففي ذلك روايتان عن مالك: إحداهما: وقوع الطلاق ناجزا، والثانية: وقوعه على وجود شرطه، وهو الذي يأتي على مذهب أبي حنيفة والشافعي، والقول بإنجاز الطلاق في هذا يضعف لأنه مشبه عنده بما يقع ولا بد، والخلاف فيه قوي. وأما تعليق الطلاق بالشرط المجهول الوجود فإن كان لا سبيل إلى علمه مثل أن يقول: إن كان خلق الله اليوم في بحر القلزم حوتا بصفة كذا فأنت طالق. فلا خلاف أعلمه في المذهب أن الطلاق يقع في هذا، وأما إن علقه بشئ يمكن أن يعلم بخروجه إلى الوجود مثل أن يقول: إن ولدت أنثى فأنت طالق فإن الطلاق يتوقف على خروج ذلك الشئ إلى الوجود. وأما إن حلف بالطلاق أنها تلد أنثى، فإن الطلاق في الحين يقع عنده وإن ولدت أنثى، وكان هذا من باب التغليظ، والقياس يوجب أن يوقف الطلاق على خروج ذلك الشئ أو ضده. ومن قول مالك إنه إذا أوجب الطلاق على نفسه بشرط أن يفعل فعلا من الأفعال أنه لا يحنث حتى يفعل ذلك الفعل، وإذا أوجب الطلاق على نفسه بشرط ترك فعل من الأفعال فإنه على الحنث حتى يفعل ويوقف عنده عن وطئ زوجته، فإن امتنع عن ذلك الفعل أكثر من مدة أجل الايلاء ضرب له أجل الايلاء ولكن لا يقع عنده حتى يفوت الفعل إن كان مما يقع فوته، ومن العلماء من يرى أنه على بر حتى يفوت الفعل، وإن كان مما لا يفوت كان على البر حتى يموت. ومن هذا الباب اختلافهم في تبعيض المطلقة، أو تبعيض الطلاق وارداف الطلاق على الطلاق. فأما مسألة تبعيض المطلقة، فإن مالكا قال إذا قال يدك أو رجلك أو شعرك طالق طلقت عليه، وقال أبو حنيفة: لا تطلق إلا بذكر عضو يعبر به عن جملة البدن كالرأس والقلب والفرج، وكذلك تطلق عنده إذا طلق الجزء منها، مثل الثلث أو الربع، وقال داود: لا تطلق، وكذلك إذا قال عند مالك: طلقتك نصف تطليقة طلقت، لان هذا كله عنده لا يتبعض، وعند المخالف إذا تبعض لم يقع وأما إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق أنت طالق أنت طالق نسقا، فإنه يكون ثلاثا عند مالك، وقال أبو حنيفة والشافعي: يقع واحدة فمن شبه تكرار اللفظ بلفظه بالعدد، أعني بقوله طلقتك ثلاثا قال: يقع الطلاق ثلاثا، ومن رأى أنه باللفظة الواحدة قد بانت منه قال: لا يقع عليها الثاني والثالث. ولا خلاف بين المسلمين في ارتدافه في الطلاق الرجعي. وأما الطلاق المقيد بالاستثناء فإنما يتصور في العدد فقط، فإذا طلق أعدادا من الطلاق، فلا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يستثني ذلك العدد بعينه، مثل أن يقول: أنت طالق
64 ثلاثا إلا ثلاثا، أو اثنتين إلا اثنتين، وإما أن يستثني ما هو أقل، فإما أن يستثني ما هو أقل مما هو أكثر، وإما أن يستثني ما هو أكثر مما هو أقل، فإذا استثنى الأقل من الأكثر، فلا خلاف أعلمه أن الاستثناء يصح ويسقط المستثنى، مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة، وأما إن استثنى الأكثر من الأقل فيتوجه فيه قولان: أحدهما: أن الاستثناء لا يصح وهو مبني على من منع أن يستثني الأكثر من الأقل. والآخر: أن الاستثناء يصح، وهو قول مالك. وأما إذا استثنى ذلك العدد بعينه مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا، فإن مالكا قال: يقع الطلاق لأنه اتهمه على أنه رجوع منه. وأما إذا لم يقل بالتهمة وكان قصده بذلك استحالة وقوع الطلاق فلا طلاق عليه. كما لو قال أنت طالق لا طالق معا. فإن وقوع الشئ مع ضده مستحيل. وشذ أبو محمد بن حزم فقال: لا يقع طلاق بصفة لم تقع بعد ولا بفعل لم يقع، لان الطلاق لا يقع في وقت وقوعه إلا بإيقاع من يطلق في ذلك الوقت ولا دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع على وقوع طلاق في وقت لم يوقعه فيه المطلق، وإنما ألزم نفسه إيقاعه فيه، فإن قلنا باللزوم لزم أن يوقف عند ذلك الوقت حتى يوقع. هذا قياس قوله عندي وحجته. وإن كنت لست أذكر في هذا الوقت احتجاجه في ذلك. الفصل الثاني: في المطلق الجائز الطلاق واتفقوا على أنه الزوج العاقل البالغ الحر غير المكره، واختلفوا في طلاق المكره والسكران وطلاق المريض وطلاق المقارب للبلوغ. واتفقوا على أنه يقع طلاق المريض إن صح واختلفوا هل ترثه إن مات أم لا؟ فأما طلاق المكره فإنه غير واقع عند مالك والشافعي وأحمد وداود وجماعة، وبه قال عبد الله بن عمر وابن الزبير وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس وفرق أصحاب الشافعي بين أن ينوي الطلاق أولا ينوي شيئا، فإن نوى الطلاق فعنهم قولان أصحهما لزومه، وإن لم ينو فقولان أصحهما أنه لا يلزم، وقال أبو حنيفة وأصحابه: هو واقع. وكذلك عتقه دون بيعه، ففرقوا بين البيع والطلاق والعتق. وسبب الخلاف: هل المطلق من قبل الاكراه مختار أم ليس بمختار؟ لأنه ليس يكره على اللفظ إذ كان اللفظ إنما يقع باختياره. والمكره على الحقيقة هو الذي لم يكن له اختيار في إيقاع الشئ أصلا، وكل واحد من الفريقين يحتج بقوله عليه الصلاة والسلام رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ولكن الأظهر أن المكره على الطلاق وإن كان موقعا للفظ باختياره أنه ينطلق عليه في الشرع اسم المكره لقوله تعالى: * (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان) * وإنما فرق أبو حنيفة بين البيع والطلاق، لان الطلاق مغلظ فيه، ولذلك استوى جده وهزله. وأما طلاق الصبي، فإن المشهور عن مالك أنه لا يلزمه
65 حتى يبلغ، وقال في مختصر ما ليس في المختصر: إنه يلزمه إذا ناهز الاحتلام، وبه قال أحمد بن حنبل إذا هو أطاق صيام رمضان، وقال عطاء: إذا بلغ اثنتي عشرة سنة جاز طلاقه، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وأما طلاق السكران، فالجمهور من الفقهاء على وقوعه، وقال قوم: لا يقع، منهم المزني وبعض أصحاب أبي حنيفة. والسبب في اختلافهم: هل حكمه حكم المجنون أم بينهما فرق؟ فمن قال هو والمجنون سواء إذ كان كلاهما فاقدا للعقل، ومن شرط التكليف العقل قال: لا يقع، ومن قال الفرق بينهما أن السكران أدخل الفساد على عقله بإرادته والمجنون بخلاف ذلك ألزم السكران الطلاق، وذلك من باب التغليظ عليه، واختلف الفقهاء فيما يلزم السكران بالجملة من الاحكام وما لا يلزمه، فقال مالك: يلزمه الطلاق والعتق والقود من الجراح والقتل، ولم يلزمه النكاح ولا البيع، وألزمه أبو حنيفة كل شئ، وقال الليث: كل ما جاء من منطق السكران فموضوع عنه، ولا يلزمه طلاق ولا عتق ولا نكاح ولا بيع ولا حد في قذف، وكل ما جنته جوارحه فلازم له، فيحد في الشرب والقتل والزنا والسرقة وثبت عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان لا يرى طلاق السكران، وزعم بعض أهل العلم أنه لا مخالف لعثمان في ذلك من الصحابة. وقول من قال: إن كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه ليس نصا في إلزام السكران الطلاق لان السكران معتوه ما، وبه قال داود وأبو ثور وإسحاق وجماعة من التابعين: أعني أن طلاقه ليس يلزم، وعن الشافعي القولان في ذلك، واختار أكثر أصحابه قوله الموافق للجمهور واختار المزني من أصحابه أن طلاقه غير واقع. وأما المريض الذي يطلق طلاقا بائنا ويموت من مرضه، فإن مالكا وجماعة يقول: ترثه زوجته، والشافعي وجماعة لا يورثها، والذين قالوا بتوريثها انقسموا ثلاث فرق: ففرقة قالت لها الميراث ما دامت في العدة، وممن قال بذلك أبو حنيفة وأصحابه والثوري. وقال قوم: لها الميراث ما لم تتزوج، وممن قال بهذا أحمد وابن أبي ليلى، وقال قوم: بل ترث كانت في العدة أو لم تكن، تزوجت أم لم تتزوج، وهو مذهب مالك والليث. وسبب الخلاف: اختلافهم في وجوب العمل بسد الذرائع، وذلك أنه لما كان المريض يتهم في أن يكون إنما طلق في مرضه زوجته ليقطع حظها من الميراث، فمن قال بسد الذرائع أوجب ميراثها، ومن لم يقل بسد الذرائع ولحظ وجوب الطلاق لم يوجب له ميراثا، وذلك أن هذه الطائفة تقول: إن كان الطلاق قد وقع فيجب أن يقع بجميع أحكامه لأنهم قالوا: إنه لا يرثها إن ماتت. وإن كان لم يقع فالزوجية باقية بجميع أحكامها، ولا بد لخصومهم من أحد الجوابين، لأنه يعسر أن يقال إن في الشرع نوعا من الطلاق توجد له بعض أحكام الطلاق وبعض أحكام الزوجية، وأعسر من ذلك القول بالفرق بين أن يصح أو لا يصح، لان هذا يكون طلاقا موقوف الحكم إلى أن يصح أو لا يصح وهذا كله مما يعسر القول به في الشرع، ولكن
66 إنما أنس القائلون به أنه فتوى عثمان وعمر حتى زعمت المالكية أنه إجماع الصحابة، ولا معنى لقولهم فالخلاف فيه عن ابن الزبير مشهور. وأما من رأى أنها ترث في العدة، فلان العدة عنده من بعض أحكام الزوجية، وكأنه شبهها بالمطلقة الرجعية، وروي هذا القول عن عمر وعن عائشة. وأما من اشترط في توريثها ما لم تتزوج فإنه لحظ في ذلك إجماع المسلمين على أن المرأة الواحدة لا ترث زوجين، ولكون التهمة هي العلة عند الذين أوجبوا الميراث. واختلفوا إذا طلبت هي الطلاق أو ملكها أمرها الزوج فطلقت نفسها، فقال أبو حنيفة: لا ترث أصلا، وفرق الأوزاعي بين التمليك والطلاق فقال: ليس لها الميراث في التمليك، ولها في الطلاق. وسوى مالك في ذلك كله حتى لقد قال: إن ماتت لا يرثها، وترثه هي إن مات، وهذا مخالف للأصول جدا. الباب الثالث: فيمن يتعلق به الطلاق من النساء ومن لا يتعلق وأما من يقع طلاقه من النساء، فإنهم اتفقوا على أن الطلاق يقع على النساء اللاتي في عصمة أزواجهن، أو قبل أن تنقضي عددهن في الطلاق الرجعي، وأنه لا يقع على الأجنبيات: أعني الطلاق المعلق. وأما تعليق الطلاق على الأجنبيات بشرط التزويج مثل أن يقول: إن نكحت فلانة فهي طالق فإن للعلماء في ذلك ثلاثة مذاهب: قول إن الطلاق لا يتعلق بأجنبية أصلا عم المطلق أو خص، وهو قول الشافعي وأحمد وداود وجماعة، وقول إنه يتعلق بشرط التزويج عم المطلق جميع النساء أو خصص، وهو قول أبي حنيفة وجماعة، وقول إنه إن عم جميع النساء لم يلزمه، وإن خصص لزمه، وهو قول مالك وأصحابه، أعني مثل أن يقول: كل امرأة أتزوجها من بني فلان أو من بلد كذا فهي طالق، وكذلك في وقت كذا، فإن هؤلاء يطلقن عند مالك إذا زوجن. وسبب الخلاف: هل من شرط وقوع الطلاق وجود الملك متقدما بالزمان على الطلاق أم ليس ذلك من شرطه؟ فمن قال هو من شرطه قال: لا يتعلق الطلاق بالأجنبية، ومن قال ليس من شرطه إلا وجود الملك فقط قال: يقع بالأجنبية. وأما الفرق بين التعميم والتخصيص فاستحسان مبني على المصلحة، وذلك أنه إذا عمم فأوجبنا عليه التعميم لم يجد سبيلا إلى النكاح الحلال، فكان ذلك عنتا به وحرجا، وكأنه من باب نذر المعصية، وأما إذا خصص فليس الامر كذلك إذا ألزمناه الطلاق، واحتج الشافعي بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله (ص) لا طلاق إلا من بعد نكاح وفي رواية أخرى لا طلاق فيما لا يملك ولا عتق فيما لا يملك وثبت ذلك عن علي ومعاذ وجابر بن عبد الله وابن عباس وعائشة، وروي مثل قول أبي حنيفة عن عمر وابن مسعود، وضعف قوم الرواية بذلك عن عمر رضي الله عنهم. الجملة الثالثة في الرجعة بعد الطلاق. ولما كان الطلاق على ضربين: بائن،
67 ورجعي، وكانت أحكام الرجعة بعد الطلاق البائن غير أحكام الرجعة بعد الطلاق الرجعي وجب أن يكون في هذا الجنس بابان: الباب الأول: في أحكام الرجعة في الطلاق الرجعي. الباب الثاني: في أحكام الارتجاع في الطلاق البائن. الباب الأول: في أحكام الرجعة في الطلاق الرجعي وأجمع المسلمون على أن الزوج يملك رجعة الزوجة في الطلاق الرجعي ما دامت في العدة من غير اعتبار رضاه لقوله تعالى: * (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك) * وأن من شرط هذا الطلاق تقدم المسيس له. واتفقوا على أنها تكون بالقول والاشهاد. واختلفوا هل الاشهاد شرط في صحتها أم ليس بشرط؟ وكذلك اختلفوا هل تصح الرجعة بالوطئ؟ فأما الاشهاد فذهب مالك إلى أنه مستحب، وذهب الشافعي إلى أنه واجب. وسبب الخلاف: معارضة القياس للظاهر، وذلك أن ظاهر قوله تعالى: * (وأشهدوا ذوي عدل منكم) * يقتضي الوجوب، وتشبيه هذا الحق بسائر الحقوق التي يقبضها الانسان يقتضي أن لا يجب الاشهاد. فكان الجمع بين القياس والآية حمل الآية على الندب. وأما اختلافهم فيما تكون به الرجعة، فإن قوما قالوا: لا تكون الرجعة إلا بالقول فقط، وبه قال الشافعي، وقوم قالوا: تكون رجعتها بالوطئ. وهؤلاء انقسموا قسمين: فقال قوم: لا تصح الرجعة بالوطئ إلا إذا نوى بذلك الرجعة، لان الفعل عنده يتنزل منزلة القول مع النية، وهو قول مالك. وأما أبو حنيفة فأجاز الرجعة بالوطئ إذا نوى بذلك الرجعة ودون النية. فأما الشافعي فقاس الرجعة على النكاح وقال: قد أمر الله بالاشهاد، ولا يكون الاشهاد إلا على القول. وأما سبب الاختلاف بين مالك وأبي حنيفة فإن أبا حنيفة يرى أن الرجعية محللة الوطئ عنده قياسا على المولى منها وعلى المظاهرة ولان الملك لم ينفصل عنده، ولذلك كان التوارث بينهما، وعند مالك أن وطئ الرجعية حرام حتى يرتجعها، فلا بد عنده من النية، فهذا هو اختلافهم في شروط صحة الرجعة. واختلفوا في مقدار ما يجوز للزوج أن يطلع عليه من المطلقة الرجعية ما دامت في العدة، فقال مالك: لا يخلو معها ولا يدخل عليها إلا بإذنها ولا ينظر إلى شعرها، ولا بأس أن يأكل معها إذا كان معهما غيرهما. وحكى ابن القاسم أنه رجع عن إباحة الأكل معها، وقال أبو حنيفة: لا بأس أن تتزين الرجعية لزوجها وتتطيب له وتتشوف وتبدي البنان والكحل، وبه قال الثوري وأبو يوسف والأوزاعي، وكلهم قالوا: لا يدخل عليها إلا أن تعلم بدخوله بقول أو حركة من تنحنح أو خفق نعل واختلفوا في هذا
68 الباب في الرجل يطلق زوجته طلقة رجعية وهو غائب ثم يراجعها فيبلغها الطلاق ولا يبلغها الرجعة فتتزوج إذا انقضت عدتها، فذهب مالك إلى أنها للذي عقد عليها النكاح دخل بها أو لم يدخل، هذا قوله في الموطأ، وبه قال الأوزاعي والليث. وروى عنه ابن القاسم أنه رجع عن القول الأول، وأنه قال: الأول أولى بها إلا أن يدخل الثاني، وبالقول الأول قال المدنيون من أصحابه. قالوا: ولم يرجع عنه لأنه أثبته في موطئه إلى يوم مات وهو يقرأ عليه، وهو قول عمر بن الخطاب ورواه عنه مالك في الموطأ، وأما الشافعي والكوفيون وأبو حنيفة وغيرهم فقالوا: زوجها الأول الذي ارتجعها أحق بها دخل بها الثاني أو لم يدخل، وبه قال داود وأبو ثور، وهو مروي عن علي وهو الأبين. وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في هذه المسألة: إن الزوج الذي ارتجعها مخير بين أن تكون امرأته أو أن يرجع عليها بما كان أصدقها، وحجة مالك في الرواية الأولى ما رواه ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أنه قال: مضت السنة في الذي يطلق امرأته ثم يراجعها فيكتمها رجعتها حتى تحل فتنكح زوجا غيره أنه ليس له من أمرها شئ ولكنها لمن تزوجها، وقد قيل إن هذا الحديث إنما يروى عن ابن شهاب فقط. وحجة الفريق الأول أن العلماء قد أجمعوا على أن الرجعة صحيحة وإن لم تعلم بها المرأة، بدليل أنهم قد أجمعوا على أن الأول أحق بها قبل أن تتزوج، وإذا كانت الرجعة صحيحة كان زواج الثاني فاسدا، فإن نكاح الغير لا تأثير له في إبطال الرجعة لا قبل الدخول ولا بعد الدخول وهو الأظهر إن شاء الله، ويشهد لهذا ما خرجه الترمذي عن سمرة بن جندب أن النبي (ص) قال أيما امرأة تزوجها اثنان فهي للأول منهما، ومن باع بيعا من رجلين فهو للأول منهما. الباب الثاني: في أحكام الارتجاع في الطلاق البائن والطلاق البائن، إما بما دون الثلاث فذلك يقع في غير المدخول بها بلا خلاف، وفي المختلعة باختلاف، وهل يقع أيضا دون عوض؟ فيه خلاف. وحكم الرجعة بعد هذا الطلاق حكم ابتداء النكاح أعني في اشتراط الصداق والولي والرضا، إلا أنه لا يعتبر فيه انقضاء العدة عند الجمهور، وشذ قوم فقالوا: المختلعة لا يتزوجها زوجها في العدة ولا غيره، وهؤلاء كأنهم رأوا منع النكاح في العدة عبادة. وأما البائنة بالثلاث، فإن العلماء كلهم على أن المطلقة ثلاثا لا تحل لزوجها الأول إلا بعد الوطئ لحديث رفاعة بن سموأل أنه طلق امرأته تميمة بنت وهب في عهد رسول الله (ص) ثلاثا فنكحت عبد الرحمن بن الزبير. فاعترض عنها فلم يستطع أن يمسها ففارقها، فأراد رفاعة زوجها الأول أن ينكحها، فذكر ذلك لرسول الله (ص) فنهاه عن تزويجها وقال: لا تحل لك حتى تذوق العسيلة. وشذ سعيد بن المسيب فقال: إنه جائز أن ترجع إلى
69 زوجها الأول بنفس العقد لعموم قوله تعالى: * (حتى تنكح زوجا غيره) * والنكاح ينطلق على العقد، وكلهم قال: التقاء الختانين يحلها، إلا الحسن البصري فقال: لا تحل إلا بوطئ إنزال. وجمهور العلماء على أن الوطئ الذي يوجب الحد ويفسد الصوم والحج ويحل المطلقة ويحصن الزوجين ويوجب الصداق هو التقاء الختانين. وقال مالك وابن القاسم: لا يحل المطلقة إلا الوطئ المباح الذي يكون في العقد الصحيح في غير صوم أو حج أو حيض أو اعتكاف، ولا يحل الذمية عندهما وطئ زوج ذمي لمسلم، ولا وطئ ملم يكن بالغا، وخالفهما في ذلك كله الشافعي وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي فقالوا: يحل الوطئ وإن وقع في عقد فاسد أو وقت غير مباح. وكذلك وطئ المراهق عندهم يحل، ويحل وطئ الذمي الذمية للمسلم، وكذلك المجنون عندهم، والخصي الذي يبقى له ما يغيبه في فرج والخلاف في هذا كله آيل إلى هل يتناول اسم النكاح أصناف الوطئ الناقص أم لا يتناوله؟ واختلفوا من هذا الباب في نكاح المحلل: أعني إذا تزوجها على شرط أن يحللها لزوجها الأول، فقال مالك: النكاح فاسد يفسخ قبل الدخول وبعده، والشرط فاسد لا تحل به، ولا يعتبر في ذلك عنده إرادة المرأة التحليل، وإنما يعتبر عنده إرادة الرجل، وقال الشافعي وأبو حنيفة: النكاح جائز، ولا تؤثر النية في ذلك، وبه قال داود وجماعة وقالوا: هو محلل للزوج المطلق ثلاثا، وقال بعضهم: النكاح جائز والشرط باطل: أي ليس يحللها، وهو قول ابن أبي ليلى، وروي عن الثوري واستدل مالك وأصحابه بما روي عن النبي (ص) من حديث علي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي هريرة وعقبة بن عامر أنه قال (ص) لعن الله المحلل والمحلل له فلعنه إياه كلعنه آكل الربا وشارب الخمر. وذلك يدل على النهي، والنهي يدل على فساد المنهي عنه، واسم النكاح الشرعي لا ينطلق على النكاح المنهي عنه. وأما الفريق الآخر فتعلق بعموم قوله تعالى: * (حتى تنكح زوجا غيره) * وهذا ناكح، وقالوا: وليس في تحريم قصد التحليل ما يدل على أن عدمه شرط في صحة النكاح، كما أنه ليس النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة، مما يدل على أن من شرط صحة الصلاة صحة مالك البقعة أو الاذن من مالكها في ذلك، قالوا وإذا لم يدل النهي على فساد عقد النكاح فأحرى أن لا يدل على بطلان التحليل. وإنما لم يعتبر مالك قصد المرأة لأنه إذا لم يوافقها على قصدها لم يكن لقصدها معنى مع أن الطلاق ليس بيدها. واختلفوا في هل يهدم الزوج ما دون الثلاث؟ فقال أبو حنيفة يهدم، وقال مالك والشافعي لا يهدم: أعني إذا تزوجت قبل الطلقة الثالثة غير الزوج الأول ثم راجعها هل يعتد بالطلاق الأول أم لا؟ فمن رأى أن هذا شئ يخص الثالثة بالشرع قال: لا يهدم ما دون الثالثة عنده، ومن رأى أنه إذا هدم الثالثة فهو أحرى أن يهدم ما دونها قال: يهدم ما دون الثلاث، والله أعلم.
70 الجملة الرابعة وهذه الجملة فيها بابان: الأول: في العدة. الثاني: في المتعة. الباب الأول: في العدة والنظر في هذا الباب في فصلين: الفصل الأول: في عدة الزوجات. الفصل الثاني: في عدة ملك اليمين. الفصل الأول: في عدة الزوجات والنظر في عدة الزوجات ينقسم إلى نوعين: أحدهما: في معرفة العدة. والثاني: في معرفة أحكام العدة. النوع الأول: وكل زوجة فهي إما حرة وإما أمة، وكل واحدة من هاتين إذا طلقت فلا يخلو أن تكون مدخولا بها أو غير مدخول بها، فأما غير المدخول بها فلا عدة عليها بإجماع لقوله تعالى: * (فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) *. وأما المدخول بها فلا يخلو أن تكون من ذوات الحيض أو من غير ذوات الحيض وغير ذوات الحيض إما صغار، وإما يائسات، وذوات الحيض إما حوامل وإما جاريات على عاداتهن في الحيض، وإما مرتفعات الحيض، وإما مستحاضات. والمرتفعات الحيض في سن الحيض إما مرتابات بالحمل: أي يحس في البطن، وإما غير مرتابات. وغير المرتابات إما معروفات سبب انقطاع الحيض من رضاع أو مرض، وإما غير معروفات. فأما ذوات الحيض الأحرار الجاريات في حيضهن على المعتاد فعدتهن ثلاثة قروء، والحوامل منهن عدتهن وضع حملهن، واليائسات منهن عدتهن ثلاثة أشهر، ولا خلاف في هذا لأنه منصوص عليه في قوله تعالى: * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) * الآية، وفي قوله تعالى: * (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم) * الآية. واختلفوا من هذه الآية في الأقراء ما هي؟ فقال قوم: هي الأطهار: أعني الأزمنة التي بين الزمنين: وقال قوم: هي الدم نفسه، وممن قال إن الأقراء هي الأطهار: أما من فقهاء الأمصار فمالك والشافعي وجمهور أهل المدينة وأبو ثور وجماعة، وأما من الصحابة فابن عمر وزيد بن ثابت وعائشة، وممن قال إن الأقراء هي الحيض أما من فقهاء الأمصار فأبو حنيفة والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وجماعة، وأما من الصحابة فعلي وعمر بن الخطاب وابن مسعود وأبو موسى الأشعري. وحكى الأثرم عن أحمد أنه قال: الأكابر من أصحاب رسول الله (ص) يقولون: الأقراء هي الحيض. وحكى أيضا عن الشعبي أنه قول أحد عشر أو اثني عشر من أصحاب
71 رسول الله (ص). وأما أحمد بن حنبل فاختلفت الرواية عنه. فروي عنه أنه كان يقول: إنها الأطهار على قول زيد ابن ثابت وابن عمر وعائشة، ثم توقفت الآن من أجل قول ابن مسعود وعلي: هو أنها الحيض والفرق بين المذهبين هو أن من رأى أنها الأطهار رأى أنها إذا دخلت الرجعية عنده في الحيضة الثالثة لم يكن للزوج عليها رجعة وحلت للأزواج، ومن رأى أنها الحيض لم تحل عنده حتى تنقضي الحيضة الثالثة. وسبب الخلاف: اشتراك اسم القرء، فإنه يقال في كلام العرب على حد سواء على الدم وعلى الأطهار، وقد رام كلا الفريقين أن يدل أن اسم القرء في الآية ظاهر في المعنى الذي يراه، فالذين قالوا إنها الأطهار قالوا: إن هذا الجمع خاص بالقرء الذي هو الطهر، وذلك أن القر الذي هو الحيض يجمع على أقراء لا على قروء، وحكوا ذلك عن ابن الأنباري، وأيضا فإنهم قالوا: إن الحيضة مؤنثة والطهر مذكر، فلو كان القرء الذي يراد به الحيض لما ثبت في جمعه الهاء لان الهاء لا تثبت في جمع المؤنث فيما دون العشرة، وقالوا أيضا: إن الاشتقاق يدل على ذلك، لان القرء مشتق من قرأت الماء في الحوض: أي جمعته، فزمان اجتماع الدم هو زمان الطهر، فهذا هو أقوى ما تمسك به الفريق الأول من ظاهر الآية. وأما ما تمسك به الفريق الثاني من ظاهر الآية فإنهم قالوا: إن قوله تعالى: * (ثلاثة قروء) * ظاهر في تمام كل قرء منها لأنه ليس ينطلق اسم القرء على بعضه إلا تجوزا، وإذا وصفت الأقراء بأنها هي الأطهار أمكن أن تكون العدة عندهم بقرأين وبعض قرء، لأنها عندهم تعتد بالطهر الذي تطلق فيه وإن مضى أكثره، وإذا كان ذلك كذلك فلا ينطلق عليها اسم الثلاثة إلا تجوزا، واسم الثلاثة ظاهر في كمال كل قرء منها، وذلك لا يتفق إلا بأن تكون الأقراء هي الحيض لان الاجماع منعقد على أنها إن طلقت في حيضة أنها لا تعتد بها، ولكل واحد من الفريقين احتجاجات متساوية من جهة لفظ القرء، والذي رضيه الحذاق أن الآية مجملة في ذلك. وأن الدليل ينبغي أن يطلب من جهة أخرى، فمن أقوى ما تمسك به من رأى أن الأقراء هي الأطهار حديث ابن عمر المتقدم، وقوله (ص) مره فليراجعها حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم يطلقها إن شاء قبل أن يمسها، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء قالوا: وإجماعهم على أن طلاق السنة لا يكون إلا في طهر لم تمس فيه، وقوله عليه الصلاة والسلام فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء دليل واضح على أن العدة هي الأطهار لكي يكون الطلاق متصلا بالعدة. ويمكن أن يتأول قوله فتلك العدة
72 أي فتلك مدة استقبال العدة لئلا يتبعض القرء بالطلاق في الحيض. وأقوى ما تمسك به الفريق الثاني أن العدة إنما شرعت لبراءة الرحم، وبراءتها إنما تكون بالحيض لا بالأطهار، ولذلك كان عدة من ارتفع الحيض عنها بالأيام، فالحيض هو سبب العدة بالأقراء، فوجب أن تكون الأقراء هي الحيض، واحتج من قال الأقراء هي الأطهار بأن المعتبر في براءة الرحم هو النقلة من الطهر إلى الحيض لا انقضاء الحيض، فلا معنى لاعتبار الحيضة الأخيرة، وإذا كان ذلك فالثلاث المعتبر فيهن التمام: أعني المشترط هي الأطهار التي بين الحيضتين، ولكلا الفريقين احتجاجات طويلة. ومذهب الحنفية أظهر من جهة المعنى، وحجتهم من جهة المسموع متساوية أو قريب من متساوية، ولم يختلف القائلون أن العدة هي الأطهار أنها تنقضي بدخولها في الحيضة الثالثة. واختلف الذين قالوا إنها الحيض، فقيل تنقضي بانقطاع الدم من الحيضة الثالثة، وبه قال الأوزاعي، وقيل حين تغتسل من الحيضة الثالثة، وبه قال من الصحابة عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود، ومن الفقهاء الثوري وإسحاق بن عبيد، وقيل حتى يمضي وقت الصلاة التي طهرت في وقتها، وقيل إن للزوج عليها الرجعة وإن فرطت في الغسل عشرين سنة، حكي هذا عن شريك. وقد قيل تنقضي بدخولها في الحيضة الثالثة. وهو أيضا شاذ. فهذه هي حال الحائض التي تحيض. وأما التي تطلق فلا تحيض وهي في سن الحيض وليس هناك ريبة حمل ولا سبب من رضاع ولا مرض، فإنها تنتظر عند مالك تسعة أشهر فإن لم تحض فيهن اعتدت بثلاثة أشهر، فإن حاضت قبل أن تستكمل الثلاثة الأشهر اعتبرت الحيض واستقبلت انتظاره، فإن مر بها تسعة أشهر قبل أن تحيض الثانية اعتدت ثلاثة أشهر، فإن حاضت قبل أن تستكمل الثلاثة أشهر من العام الثاني انتظرت الحيضة الثالثة، فإن مر بها تسعة أشهر قبل أن تحيض اعتدت ثلاثة أشهر، فإن حاضت الثالثة في الثلاثة الأشهر كانت قد استكملت عدة الحيض وتمتد عدتها، ولزوجها عليها الرجعة ما لم تحل. واختلف عن مالك متى تعتد بالتسعة أشهر؟ فقيل من يوم طلقت، وهو قوله في الموطأ، وروى ابن القاسم عنه: من يوم رفعها حيضتها. وقال أبو حنيفة والشافعي والجمهور في التي ترتفع حيضتها وهي لا تيأس منها في المستأنف: إنها تبقى أبدا تنتظر حتى تدخل في السن الذي تيأس فيه من المحيض، وحينئذ تعتد بالأشهر وتحيض قبل ذلك، وقول مالك مروي عن عمر بن الخطاب وابن عباس. وقول الجمهور قول ابن مسعود وزيد. وعمدة مالك عن طريق المعنى هو أن المقصود بالعدة إنما هو ما يقع به براءة الرحم ظنا غالبا بدليل أنه قد تحيض الحامل، وإذا كان ذلك كذلك فعدة الحمل كافية في العلم ببراءة الرحم هي قاطعة على ذلك، ثم تعتد بثلاثة أشهر عدة اليائسة. فإن حاضت قبل تمام السنة حكم لها بحكم ذوات الحيض، واحتسبت بذلك القرء، ثم تنتظر القرء الثاني أو السنة إلى أن يمضي لها ثلاثة أقراء. وأما الجمهور فصاروا إلى ظاهر قوله تعالى: * (واللائي يئسن
73 من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر) * والتي هي من أهل الحيض ليست بيائسة، وهذا الرأي فيه عسر وحرج، ولو قيل إنها تعتد بثلاثة أشهر لكان جيدا إذا فهم من اليائسة التي لا يقطع بانقطاع حيضتها. وكان قوله * (إن ارتبتم) * راجعا إلى الحكم لا إلى الحيض على ما تأوله مالك ك عليه، فكأن مالكا لم يطابق مذهبه تأويله الآية، فإنه فهم من اليائسة هنا من تقطع على أنها ليست من أهل الحيض، وهذا لا يكون إلا من قبل السن، ولذلك جعل قوله * (إن ارتبتم) * راجعا إلى الحكم لا إلى الحيض، أي إن شككتم في حكمهن، ثم قال في التي تبقى تسعة أشهر لا تحيض وهي في سن من تحيض أنها تعتد بالأشهر. وأما إسماعيل وابن بكير من أصحابه، فذهبوا إلى أن الريبة ههنا في الحيض، وأن اليائس في كلام العرب هو ما لم يحكم عليه بما يئس منه بالقطع، فطابقوا تأويل الآية مذهبهم الذي هو مذهب مالك، ونعم ما فعلوا لأنه إن فهم ههنا من اليائس القطع فقد يجب أن تنتظر الدم وتعتد به حتى تكون في هذا السن: أعني سن اليائس، وإن فهم من اليائس ما لا يقطع بذلك فقد يجب أن تعتد التي انقطع دمها عن العادة وهي في سن من تحيض بالأشهر، وهو قياس قول أهل الظاهر، لان اليائسة في الطرفين ليس هي عندهم من أهل العدة لا بالأقراء ولا بالشهور. أما الفرق في ذلك بين ما قبل التسعة وما بعدها فاستحسان. وأما التي ارتفعت حيضتها لسبب معلوم مثل رضاع أو مرض، فإن المشهور عند مالك أنها تنتظر الحيض، قصر الزمان أم طال، وقد قيل إن المريضة مثل التي ترتفع حيضتها لغير سبب، وأما المستحاضة فعدتها عند مالك سنة إذا لم تميز بين الدمين، فإن ميزت بين الدمين فعنه روايتان: إحداهما أن عدتها السنة. والأخرى أنها تعمل على التمييز فتعتد بالأقراء، وقال أبو حنيفة عدتها الأقراء إن تميزت لها، وإن لم تتميز لها فثلاثة أشهر، وقال الشافعي: عدتها بالتمييز إذا انفصل عنها الدم، فيكون الأحمر ألقاني من الحيضة، ويكون الأصفر من أيام الطهر فإن طبق عليها الدم اعتدت بعدد أيام حيضتها في صحتها. وإنما ذهب مالك إلى بقاء السنة لأنه جعلها مثل التي لا تحيض وهي من أهل الحيض، والشافعي إنما ذهب في العارفة أيامها أنها تعمل على معرفتها قياسا على الصلاة لقول (ص) للمستحاضة: اتركي الصلاة أيام أقرائك فإذا ذهب عنك قدرها فاغسلي الدم. وإنما اعتبر التمييز لقوله (ص) لفاطمة بنت حبيش إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئ وصلى فإنما هو عرق خرجه أبو داود، وإنما ذهب من ذهب إلى عدتها بالشهور إذا اختلط عليها الدم، لأنه معلوم في الأغلب أنها في كل شهر تحيض، وقد جعل الله العدة بالشهور عند ارتفاع الحيض، وخفاؤه كارتفاعه. وأما المسترابة: أعني التي
74 تجد حسا في بطنها تظن به أنه حمل فإنها تمكث أكثر مدة الحمل، وقد اختلف فيه فقيل في المذهب أربع سنين، وقيل خمس سنين، وقال أهل الظاهر: تسعة أشهر. ولا خلاف أن انقضاء عدة الحوامل لوضع حملهن: أعني المطلقات لقوله تعالى: * (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) * وأما الزوجات غير الحرائر فإنهن ينقسمن أيضا بتلك الأقسام بعينها، أعني حيضا ويائسات ومستحاضات ومرتفعات الحيض من غير يائسات. فأما الحيض اللاتي يأتيهن حيضهن، فالجمهور على أن عدتهن حيضتان، وذهب داود وأهل الظاهر إلى أن عدتهن ثلاث حيض كالحرة، وبه قال ابن سيرين. فأهل الظاهر اعتمدوا عموم قوله تعالى: * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) * وهي ممن ينطلق عليها اسم المطلقة. واعتمد الجمهور تخصيص هذا العموم بقياس الشبه وذلك أنهم شبهوا الحيض بالطلاق والحد أعني كونه متنصفا مع الرق. وإنما جعلوها حيضتين لان الحيضة الواحدة لا تتبعض. وأما الأمة المطلقة اليائسة من المحيض أو الصغيرة فإن مالكا وأكثر أهل المدينة قالوا: عدتها ثلاثة أشهر، وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأبو ثور وجماعة عدتها شهر ونصف شهر نصف عدة الحرة وهو القياس إذا قلنا بتخصيص العموم، فكأن مالكا اضطرب قوله، فمرة أخذ بالعموم، وذلك في اليائسات، ومرة أخذ بالقياس وذلك في ذوات الحيض، والقياس في ذلك واحد. وأما التي ترتفع حيضتها من غير سبب فالقول فيها هو القول في الحرة والخلاف في ذلك، وكذلك المستحاضة، واتفقوا على أن المطلقة قبل الدخول لا عدة عليها. واختلفوا فيمن راجع امرأته في العدة من الطلاق الرجعي ثم فارقها قبل أن يمسها هل تستأنف عدة أم لا؟ فقال جمهور فقهاء الأمصار: تستأنف، وقالت فرقة: تبقى في عدتها من طلاقها الأول وهو أحد قولي الشافعي، وقال داود: ليس عليها أن تتم عدتها ولا عدة مستأنفة. وبالجملة فعند مالك أن كل رجعة تهدم العدة وإن لم يكن مسيس، ما خلا رجعة المولي. وقال الشافعي: إذا طلقها بعد الرجعة وقبل الوطئ ثبتت على عدتها الأولى، وقول الشافعي أظهر. وكذلك عند مالك رجعة المعسر بالنفقة تقف صحتها عنده على الانفاق فإن أنفق صحت الرجعة وهدمت العدة إن كان طلاقا، وإن لم ينفق بقيت على عدتها الأولى، وإذا تزوجت ثانيا في العدة فعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما تداخل العدتين، والأخرى نفيه. فوجه الأولى اعتبار براءة الرحم، لان ذلك حاصل مع التداخل. ووجه الثانية كون العدة عبادة، فوجب أن تتعدد بتعدد الوطئ الذي له حرمة، وإذا عتقت الأمة في عدة الطلاق مضت على عدة الأمة عند مالك، ولم تنتقل إلى عدة الحرة، وقال أبو حنيفة: تنتقل في الطلاق الرجعي دون البائن
75 وقال الشافعي تنتقل في الوجهين معا. وسبب الخلاف: هل العدة من أحكام الزوجية أم من أحكام انفصالها؟ فمن قال من أحكام الزوجية قال: لا تنتقل عدتها، ومن قال من أحكام انفصال الزوجية قال: تنتقل كما لو أعتقت وهي زوجة ثم طلقت، وأما من فرق بين البائن والرجعي فبين، وذلك أن الرجعي فيه شبه من أحكام العصمة، ولذلك وقع فيه الميراث باتفاق إذا مات وهي في عدة من طلاق رجعي، وأنها تنتقل إلى عدة الموت، فهذا هو القسم الأول من قسمي النظر في العدة. القسم الثاني: وأما النظر في أحكام العدد، فإنهم اتفقوا على أن للمعتدة الرجعية النفقة والسكنى، وكذلك الحامل لقوله تعالى في الرجعيات: * (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم) * الآية ولقوله تعالى: * (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) *. واختلفوا في سكنى المبتوتة ونفقتها إذا لم تكن حاملا على ثلاثة أقوال: أحدها: أن لها السكنى والنفقة، وهو قول الكوفيين. والقول الثاني: أنه لا سكنى لها ولا نفقة، وهو قول أحمد وداود وأبي ثور وإسحاق وجماعة. الثالث: أن لها السكنى ولا نفقة لها، وهو قول مالك والشافعي وجماعة. وسبب اختلافهم: اختلاف الرواية في حديث فاطمة بنت قيس ومعارضة ظاهر الكتاب له، فاستدل من لم يوجب لها نفقة ولا سكنى بما روي في حديث فاطمة بنت قيس أنها قالت طلقني زوجي ثلاثا على عهد رسول الله (ص)، فأتيت النبي (ص) فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة خرجه مسلم، وفي بعض الروايات أن رسول الله (ص) قال: إنما السكنى والنفقة لمن لزوجها عليها الرجعة وهذا قول مروي عن علي وابن عباس وجابر بن عبد الله. وأما الذين أوجبوا لها السكنى دون النفقة فإنهم احتجوا بما رواه مالك في موطئه من حديث فاطمة المذكورة، وفيه: فقال رسول الله (ص) ليس لك عليه نفقة وأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم، ولم يذكر فيها اسقاط السكنى، فبقي على عمومه في قوله تعالى: * (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم) * وعللوا أمره عليه الصلاة والسلام بأن تعتد في بيت ابن أم مكتوم بأنه كان في لسانها بذاء. وأما الذين أوجبوا لها السكنى والنفقة فصاروا إلى وجوب السكنى لها بعموم قوله تعالى: * (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم) * وصاروا إلى وجوب النفقة لها لكون النفقة تابعة لوجوب الاسكان في الرجعية وفي الحامل وفي نفس الزوجية. وبالجملة فحيثما وجبت السكنى في الشرع وجبت النفقة، وروي عن عمر أنه قال في حديث فاطمة هذا: لا ندع كتاب نبينا وسنته لقول امرأة، يريد قوله تعالى: * (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم) * الآية. ولان المعروف من سنته عليه الصلاة والسلام أنه أوجب النفقة حيث تجب السكنى، فلذلك
76 الأولى في هذه المسألة إما أن يقال إن لها الامرين جميعا مصيرا إلى ظاهر الكتاب والمعروف من السنة، وإما أن يخصص هذا العموم بحديث فاطمة المذكور. وأما التفريق بين إيجاب النفقة والسكنى فعسير ووجه عسره ضعف دليله. وينبغي أن تعلم أن المسلمين اتفقوا على أن العدة تكون في ثلاثة أشياء: في طلاق، أو موت، أو اختيار الأمة نفسها إذا أعتقت. واختلفوا فيها في الفسوخ، والجمهور على وجوبها. ولما كان الكلام في العدة يتعلق فيه أحكام عدة الموت رأينا أن نذكرها ههنا فنقول: إن المسلمين اتفقوا على أن عدة الحرة من زوجها الحر أربعة أشهر وعشرا لقوله تعالى: * (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) *. واختلفوا في عدة الحامل وفي عدة الأمة إذا لم تأتها حيضتها في الأربعة الأشهر وعشرا ماذا حكمها؟ فذهب مالك إلى أن من شرط تمام هذه العدة أن تحيض حيضة واحدة في هذه المدة، فإن لم تحض فهي عنده مسترابة فتمكث مدة الحمل، وقيل عنه إنها قد لا تحيض وقد لا تكون مسترابة، وذلك إذا كانت عادتها في الحيض أكثر من مدة العدة، وهذا إما غير موجود، أعني من تكون عادتها أن تحيض أكثر من أربعة أشهر إلى أكثر من أربعة أشهر، وإما نادر. واختلف عنه فيمن هذه حالها من النساء إذا وجدت، فقيل تنتظر حتى تحيض، وروى عنه ابن القاسم: تتزوج إذا انقضت عدة الوفاة ولم يظهر بها حمل. وعلى هذا جمهور فقهاء الأمصار: أبي حنيفة والشافعي والثوري. وأما المسألة الثانية: وهي الحامل التي يتوفى عنها زوجها، فقال الجمهور وجميع فقهاء الأمصار: عدتها أن تضع حملها مصيرا إلى عموم قوله تعالى: * (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) * وإن كانت الآية في الطلاق وأخذا أيضا بحديث أم سلمة أن سبيعة الأسلمية ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر وفيه فجاءت رسول الله (ص) فقال لها: قد حللت فانكحي من شئت وروى مالك عن ابن عباس أن عدتها آخر الأجلين، يريد أنها تعتد بأبعد الأجلين، إما الحمل، وإما انقضاء العدة عدة الموت، وروي مثل ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والحجة لهم أن ذلك هو الذي يقتضيه الجمع بين عموم آية الحوامل وآية الوفاة. وأما الأمة المتوفى عنها من تحل له، فإنها لا تخلو أن تكون زوجة أو ملك يمين أو أم ولد أو غير أم ولد، فأما الزوجة فقال الجمهور: إن عدتها نصف عدة الحرة قاسوا ذلك على الدية. وقال أهل الظاهر: بل عدتها عدة الحرة، وكذلك عندهم عدة الطلاق مصيرا إلى التعميم. وأما أم الولد فقال مالك والشافعي وأحمد والليث وأبو ثور وجماعة: عدتها حيضة، وبه قال ابن عمر. وقال مالك: وإن كانت ممن لا تحيض
77 اعتدت ثلاثة أشهر، ولها السكنى، وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: عدتها ثلاث حيض، وهو قول علي وابن مسعود، وقال قوم: عدتها نصف عدة الحرة المتوفى عنها زوجها، وقال قوم: عدتها عدة الحرة أربعة أشهر وعشرا، وحجة مالك أنها ليست زوجة فتعتد عدة الوفاة ولا مطلقة فتعتد ثلاث حيض، فلم يبق إلا استبراء رحمها، وذلك يكون بحيضة تشبيها بالأمة يموت عنها سيدها، وذلك ما لا خلاف فيه، وحجة أبي حنيفة أن العدة إنما وجبت عليها وهي حرة، وليست بزوجة فتعتد عدة الوفاة، ولا بأمة فتعتد عدة أمة، فوجب أن تستبرئ رحمها بعدة الأحرار. أما الذين أوجبوا لها عدة الوفاة فاحتجوا بحديث روي عن عمرو بن العاص قال: لا تلبسوا علينا سنة نبينا، عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشرا، وضعف أحمد هذا الحديث ولم يأخذ به. وأما من أوجب عليها نصف عدة الحرة تشبيها بالزوجة الأمة. فسبب الخلاف: أنها مسكوت عنها، وهي مترددة الشبه بين الأمة والحرة، وأما من شبهها بالزوجة الأمة فضعيف، وأضعف منه من شبهها بعدة الحرة المطلقة، وهو مذهب أبي حنيفة. الباب الثاني: في المتعة والجمهور على أن المتعة ليست واجبة في كل مطلقة، وقال قوم من أهل الظاهر: هي واجبة في كل مطلقة، وقال قوم: هي مندوب إليها وليست واجبة، وبه قال مالك والذين قالوا بوجوبها في بعض المطلقات اختلفوا في ذلك، فقال أبو حنيفة: هي واجبة على كل من طلق قبل الدخول، ولم يفرض لها صداقا مسمى، وقال الشافعي: هي واجبة لكل مطلقة إذا كان الفراق من قبله إلا التي سمى لها وطلقت قبل الدخول، وعلى هذا جمهور العلماء. واحتج أبو حنيفة بقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها، فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا) * فاشترط المتعة مع عدم المسيس، وقال تعالى: * (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم) * فعلم أنه لا متعة لها مع التسمية والطلاق قبل المسيس، لأنه إذا لم يجب لها الصداق فأحرى أن لا تجب لها المتعة، وهذا لعمري مخيل، لأنه حيث لم يجب لها صداق أقيمت المتعة مقامه، وحيث ردت من يدها نصف الصداق لم يجب لها شئ. وأما الشافعي فيحمل الأوامر الواردة بالمتعة في قوله تعالى: * (ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره) * على العموم في كل مطلقة إلا التي سمي لها وطلقت قبل الدخول، وأما أهل الظاهر فحملوا الامر على
78 العموم، والجمهور على أن المختلعة لا متعة لها لكونها معطية من يدها كالحال في التي طلقت قبل الدخول وبعد فرض الصداق، وأهل الظاهر يقولون: هو شرع فتأخذ وتعطي. وأما مالك فإنه حمل الامر بالمتعة على الندب لقوله تعالى في آخر الآية * (حقا على المحسنين) * أعلى المتفضلين المتجملين، وما كان من باب الاجمال والاحسان فليس بواجب. واختلفوا في المطلقة المعتدة هل عليها إحداد؟ فقال مالك: ليس عليها إحداد. باب: في بعث الحكمين اتفق العلماء على جواز بعث الحكمين إذا وقع التشاجر بين الزوجين وجهلت أحوالهما في التشاجر: أعني المحق من المبطل لقوله تعالى: * (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) * الآية، وأجمعوا على أن الحكمين لا يكونان إلا من أهل الزوجين: أحدهما: من قبل الزوج، والآخر من قبل المرأة، إلا أن لا يوجد في أهلهما من يصلح لذلك فيرسل من غيرهما، وأجمعوا على أن الحكمين إذا اختلفا لم ينفذ قولهما، وأجمعوا على أن قولهما في الجمع بينهما نافذ بغير توكيل من الزوجين. واختلفوا في تفريق الحكمين بينهما إذا اتفقا على ذلك هل يحتاج إلى إذن من الزوج أو لا يحتاج إلى ذلك؟ فقال مالك وأصحابه: يجوز قولهما في الفرقة والاجتماع بغير توكيل الزوجين ولا إذن منهما في ذلك. وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما: ليس لهما أن يفرقا، إلا أن يجعل الزوج إليهما التفريق وحجة مالك ما رواه من ذلك عن علي بن أبي طالب أنه قال في الحكمين: إليهما التفرقة بين الزوجين، والجمع. وحجة الشافعي وأبي حنيفة أن الأصل أن الطلاق ليس بيد أحد سوى الزوج أو من يوكله الزوج. واختلف أصحاب مالك في الحكمين يطلقان ثلاثا، فقال أبو القاسم: تكون واحدة، وقال أشهب والمغيرة تكون ثلاثا إن طلقاها ثلاثا، والأصل أن الطلاق بيد الرجل إلا أن يقوم دليل على غير ذلك وقد احتج الشافعي وأبو حنيفة بما روي في حديث علي هذا أنه قال للحكمين: هل تدريان ما عليكما؟ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله وبما فيه لي وعلي، فقال الرجل: أما الفرق فلا، فقال علي: لا، والله لا تنقلب حتى تقر بمثل ما أقرت به المرأة، قال: فاعتبر في ذلك إذنه. ومالك يشبه الحكمين بالسلطان، والسلطان يطلق بالضرر عند مالك إذا تبين.
79 بسم الله الرحمن الرحيم وصل الله على سيدنا محمد واله وصحبه وسلم تسليما. كتاب الايلاء والأصل في هذا الباب قوله تعالى: * (للذين يولون من نسائهم تربص أربعة أشهر) * والايلاء: هو أن يحلف الرجل أن لا يطأ زوجته إما مدة هي أكثر من أربعة أشهر أو أربعة أشهر أو بإطلاق، على الاختلاف المذكور في ذلك فيما بعد. واختلف فقهاء الأمصار في الايلاء في مواضع: فمنها هل تطلق المرأة بانقضاء الأربعة الأشهر المضروبة بالنص للمولي، أم إنما تطلق بأن يوقف بعد الأربعة الأشهر؟ فإما فاء وإما طلق؟ ومنها هل الايلاء يكون بكل يمين، أم بالايمان المباحة في الشرع فقط؟ ومنها إذا أمسك عن الوطئ بغير يمين هل يكون موليا أم لا؟ ومنها هل المولي هو الذي قيد يمينه بمدة من أربعة أشهر فقط أو أكثر من ذلك؟ أو المولي هو الذي لم يقيد يمينه بمدة أصلا؟ ومنها هل طلاق الايلاء بائن أو رجعي؟ ومنها إن أبى الطلاق والفئ هل يطلق القاضي عليه أم لا؟ ومنها هل يتكرر الايلاء إذا طلقها ثم راجعها من غير إيلاء حادث في الزواج الثاني؟ ومنها هل من شرط رجعة المولي أن يطأ في العدة أم لا؟ ومنها هل إيلاء العبد حكمه أن يكون مثل إيلاء الحر أم لا؟ ومنها هل إذا طلقها بعد انقضاء مدة الايلاء تلزمها عدة أم لا؟ فهذه هي مسائل الخلاف المشهورة في الايلاء بين فقهاء الأمصار التي تتنزل من هذا الباب منزلة الأصول، ونحن نذكر خلافهم في مسألة مسألة منها، وعيون أدلتهم وأسباب خلافهم على ما قصدنا. المسألة الأولى: أما اختلافهم هل تطلق بانقضاء الأربعة الأشهر نفسها أم لا تطلق وإنما الحكم أن يوقف فإما فاء وإما طلق؟ فإن مالكا والشافعي وأحمد وأبا ثور وداود والليث ذهبوا إلى أنه يوقف بعد انقضاء الأربعة الأشهر، فإما فاء وإما طلق، وهو قول علي وابن عمر، وإن كان قد روي عنهما غير ذلك، لكن الصحيح هو هذا، وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري وبالجملة الكوفيون إلى أن الطلاق يقع بانقضاء الأربعة الأشهر إلا أن يفئ فيها، وهو قول ابن مسعود
80 وجماعة من التابعين. وسبب الخلاف: هل قوله تعالى: * (فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم) * أي فإن فاءوا قبل انقضاء الأربعة الأشهر أو بعدها؟ فمن فهم منه قبل انقضائها قال: يقع الطلاق، ومعنى العزم عنده في قوله تعالى: * (وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم) * أن لا يفئ حتى تنقضي المدة. فمن فهم من اشتراط الفيئة اشتراطها بعد انقضاء المدة قال: معنى قوله * (وإن عزموا الطلاق) * أي باللفظ * (فإن الله سميع عليم) *. وللمالكية في الآية أربعة أدلة: أحدها: أنه جعل مدة التربص حقا للزوج دون الزوجة، فأشبهت مدة الاجل في الديون المؤجلة، الدليل الثاني: أن الله تعالى أضاف الطلاق إلى فعله. وعندهم ليس يقع من فعله إلا تجوزا: أعني ليس ينسب إليه على مذهب الحنفية إلا تجوزا، وليس يصار إلى المجاز عن الظاهر إلا بدليل. الدليل الثالث: قوله تعالى: * (وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم) * قالوا: فهذا يقتضي وقوع الطلاق على وجه يسمع، وهو وقوعه باللفظ لا بانقضاء المدة. الرابع: أن الفاء في قوله تعالى: * (فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم) * ظاهرة في معنى التعقيب، فدل ذلك على أن الفيئة بعد المدة، وربما شبهوا هذه المدة بمدة العتق. وأما أبو حنيفة فإنه اعتمد في ذلك تشبيه هذه المدة بالعدة الرجعية إذ كانت العدة إنما شرعت لئلا يقع منه ندم، وبالجملة فشبهوا الايلاء بالطلاق الرجعي، وشبهوا المدة بالعدة وهو شبه قوي، وقد روي ذلك عن ابن عباس. المسألة الثانية: وأما اختلافهم في اليمين التي يكون بها الايلاء، فإن مالكا قال: يقع الايلاء بكل يمين، وقال الشافعي: لا يقع إلا بالايمان المباحة في الشرع وهي اليمين بالله أو بصفة من صفاته، فمالك اعتمد العموم: أعني عموم قوله تعالى: * (للذين يولون من نسائهم تربص أربعة أشهر) * والشافعي يشبه الايلاء بيمين الكفارة، وذلك أن كلا اليمينين يترتب عليهما حكم شرعي، فوجب أن تكون اليمين التي ترتب عليها حكم الايلاء هي اليمين التي يترتب عليها الحكم الذي هو الكفارة. المسألة الثالثة: وأما لحوق حكم الايلاء للزوج إذا ترك الوطئ بغير يمين، فإن الجمهور على أنه لا يلزمه حكم الايلاء بغير يمين، ومالك يلزمه وذلك إذا قصد الاضرار بترك الوطئ، وإن لم يحلف على ذلك، فالجمهور اعتمدوا الظاهر، ومالك اعتمد المعنى، لان الحكم إنما لزمه باعتقاده ترك الوطئ، وسواء شد ذلك الاعتقاد بيمين أو بغير يمين، لان الضرر يوجد في الحالتين جميعا. المسألة الرابعة: وأما اختلافهم في مدة الايلاء، فإن مالكا ومن قال بقوله يرى أن مدة الايلاء يجب أن تكون أكثر من أربعة أشهر إذ كان الفئ عندهم إنما هو بعد الأربعة
81 الأشهر، وأما أبو حنيفة فإن مدة الايلاء عنده هي الأربعة الأشهر فقط إذ كان الفئ عنده إنما هو فيها، وذهب الحسن وابن أبي ليلى إلى أنه إذا حلف وقتا ما وإن كان أقل من أربعة أشهر كان موليا يضرب له الاجل إلى انقضاء الأربعة الأشهر من وقت اليمين. وروي عن ابن عباس أن المولي هو من حلف أن لا يصيب امرأته على التأبيد. والسبب في اختلافهم في المدة إطلاق الآية، فاختلافهم في وقت الفئ، وفي صفة اليمين ومدته هو كون الآية عامة في هذه المعاني أو مجملة، وكذلك اختلافهم في صفة المولي والمولى منها ونوع الطلاق على ما سيأتي بعد. وأما ما سوى ذلك فسبب اختلافهم فيه هو سبب السكوت عنها. وهذه هي أركان الايلاء: أعني معرفة نوع اليمين ووقت الفئ، والمدة، وصفة المولى منها، ونوع الطلاق الواقع فيه. المسألة الخامسة: فأما الطلاق الذي يقع بالايلاء فعند مالك والشافعي أنه رجعي، لان الأصل أن كل طلاق وقع بالشرع أنه يحمل على أنه رجعي إلى أن يدل الدليل على أنه بائن، وقال أبو حنيفة وأبو ثور: هو بائن، وذلك أنه إن كان رجعيا لم يزل الضرر عنها بذلك لأنه يجبرها على الرجعة. فسبب الاختلاف: معارضة المصلحة المقصودة بالايلاء للأصل المعروف في الطلاق، فمن غلب الأصل قال: رجعي، ومن غلب المصلحة قال بائن. المسألة السادسة: وأما هل يطلق القاضي إذا أبى الفئ أو الطلاق أو يحبس حتى يطلق، فإن مالكا قال: يطلق القاضي عليه، وقال أهل الظاهر: يحبس حتى يطلقها بنفسه. وسبب الخلاف: معارضة الأصل المعروف في الطلاق للمصلحة، فمن راعى الأصل المعروف في الطلاق قال: لا يقع طلاق إلا من الزوج، ومن راعى الضرر الداخل من ذلك على النساء قال: يطلق السلطان وهو نظر إلى المصلحة العامة، وهذا هو الذي يعرف بالقياس المرسل، والمنقول عن مالك العمل به، وكثير من الفقهاء يأبى ذلك. المسألة السابعة: وأما هل يتكرر الايلاء إذا طلقها ثم راجعها؟ فإن مالكا يقول: إذا راجعها فلم يطأها تكرر الايلاء عليه، وهذا عنده في الطلاق الرجعي والبائن. وقال أبو حنيفة: الطلاق البائن يسقط الايلاء وهو أحد قولي الشافعي، وهذا القول هو الذي اختاره المزني. وجماعة العلماء على أن الايلاء لا يتكرر بعد الطلاق إلا بإعادة اليمين. والسبب في اختلافهم: معارضة المصلحة لظاهر شرط الايلاء. وذلك أنه لا إيلاء في الشرع إلا حيث يكون يمين في ذلك النكاح بنفسه لا في نكاح آخر، ولكن إن راعينا هذا وجد الضرر المقصود إزالته بحكم الايلاء، ولذلك رأى مالك أنه يحكم بحكم الايلاء بغير يمين إذا وجد معنى الايلاء. المسألة الثامنة: وأما هل تلزم الزوجة المولى منها عدة أو ليس تلزمها؟ فإن الجمهور على أن العدة تلزمها، وقال جابر بن زيد: لا تلزمها عدة إذا كانت قد حاضت في مدة الأربعة الأشهر ثلاث حيض. وقال بقوله طائفة، وهو مروي عن ابن عباس. وحجته أن العدة إنما
82 وضعت لبراءة الرحم، وهذه قد حصلت لها البراءة. وحجة الجمهور أنها مطلقة فوجب أن تعتد كسائر المطلقات. وسبب الخلاف: أن العدة جمعت عبادة ومصلحة. فمن لحظ جانب المصلحة لم ير عليها عدة، ومن لحظ جانب العبادة أوجب عليها العدة. المسألة التاسعة: وأما إيلاء العبد، فإن مالكا قال: إيلاء العبد شهران على النصف من إيلاء الحر، قياسا على حدوده وطلاقه. وقال الشافعي وأهل الظاهر: إيلاؤه مثل إيلاء الحر أربعة أشهر تمسكا بالعموم. والظاهر أن تعلق الايمان بالحر والعبد سواء، والايلاء يمين، وقياسا أيضا على مدة العنين، وقال أبو حنيفة: النقص الداخل على الايلاء معتبر بالنساء لا بالرجال كالعدة، فإن كانت المرأة حرة كان الايلاء إيلاء الحر وإن كان الزوج عبدا، وإن كانت أمة فعلى النصف. وقياس الايلاء على الحد غير جيد، وذلك أن العبد إنما كان حده أقل من حد الحر، لان الفاحشة منه أقل قبحا، ومن الحر أعظم قبحا، ومدة الايلاء إنما ضربت جمعا بين التوسعة على الزوج وبين إزالة الضرر عن الزوجة، فإذا فرضنا مدة أقصر من هذه كان أضيق على الزوج وأنفى للضرر على الزوجة، والحر أحب التوسعة ونفي الضرر عنه، فلذلك كان يجب على هذا القياس أن لا ينقص من الايلاء إلا إذا كان الزوج عبدا والزوجة حرة فقط، وهذا لم يقل به أحد، فالواجب التسوية. والذين قالوا بتأثير الرق في مدة الايلاء اختلفوا في زوال الرق بعد الايلاء، هل ينتقل إلى إيلاء الأحرار أم لا؟ فقال مالك: لا ينتقل من إيلاء العبيد إلى إيلاء الأحرار، وقال أبو حنيفة: ينتقل، فعنده أن الأمة إذا عتقت وقد آلى زوجها منها انتقلت إلى إيلاء الأحرار، وقال ابن القاسم: الصغيرة التي لا يجامع مثلها لا إيلاء عليها، فإن وقع وتمادى حسبت الأربعة الأشهر من يوم بلغت، وإنما قال ذلك لأنه لا ضرر عليها في ترك الجماع، وقال أيضا لا إيلاء على خصي ولا على من لا يقدر على الجماع. المسألة العاشرة: وأما هل من شرط رجعة المولي أن يطأ في العدة أم لا؟ فإن الجمهور ذهبوا إلى أن ذلك ليس من شرطها، وأما مالك فإنه قال: إذا لم يطأ فيها من غير عذر: مرض أو ما أشبه ذلك فلا رجعة عنده له عليها وتبقى على عدتها، ولا سبيل له إليها إذا انقضت العدة. وحجة الجمهور أنه لا يخلو أن يكون الايلاء يعود برجعته إياها في العدة أو لا يعود، فإن عاد لم يعتبر واستؤنف الايلاء من وقت الرجعة، أعني تحسب مدة الايلاء من وقت الرجعة، وإن لم يعد إيلاء لم يعتبر أصلا إلا على مذهب من يرى أن الايلاء يكون بغير يمين، وكيفما كان فلا بد من اعتبار الأربعة الأشهر من وقت الرجعة، وأما مالك فإنه قال: كل رجعة من طلاق كان لرفع ضرر، فإن صحة الرجعة معتبرة فيه بزوال ذلك الضرر، وأصله المعسر بالنفقة إذا طلق عليه ثم ارتجع، فإن رجعته تعتبر صحتها بيساره. فسبب الخلاف: قياس الشبه، وذلك أن من شبه الرجعة بابتداء النكاح أوجب فيها تجدد الايلاء، ومن شبه هذه الرجعة برجعة المطلق لضرر لم يرتفع منه ذلك الضرر قال: يبقى على الأصل.
83 كتاب الظهار والأصل في الظهار: الكتاب والسنة. فأما الكتاب فقوله تعالى: * (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة) * الآية. وأما السنة فحديث خولة بنت مالك بن ثعلبة قالت ظاهر مني زوجي أويس بن الصامت، فجئت رسول الله (ص) أشكو إليه، ورسول الله يجادلني فيه ويقول: اتقي الله فإنه ابن عمك، فما خرجت حتى أنزل الله * (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما) * الآيات، فقال: ليعتق رقبة، قالت: لا يجد، قال: فيصوم شهرين متتابعين، قالت: يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به صيام، قال: فليطعم ستين مسكينا. قالت: ما عنده من شئ يتصدق به، قال فإني سأعينه بعرق من تمر. قالت: وأنا أعينه بعرق آخر، قال لقد أحسنت.. اذهبي فأطعمي عنه ستين مسكينا خرجه أبو داود. وحديث سلمة بن صخر البياضي عن النبي (ص). والكلام في أصول الظهار ينحصر في سبعة فصول. منها في ألفاظ الظهار، ومنها في شروط وجوب الكفارة فيه، ومنها فيمن يصح فيه الظهار، ومنها فيما يحرم على المظاهر، ومنها هل يتكرر الظهار بتكرر النكاح؟ ومنها هل يدخل الايلاء عليه؟. ومنها القول في أحكام كفارة الفصل الأول: في ألفاظ الظهار واتفق الفقهاء على أن الرجل إذا قال الظهار لزوجته: أنت علي كظهر أمي أنه ظهار، واختلفوا إذا ذكر عضوا غير الظهر، أو ذكر ظهر من تحرم عليه من المحرمات النكاح على التأبيد غير الأم، فقال مالك: هو ظهار، وقال جماعة من العلماء: لا يكون ظهارا إلا بلفظ الظهر والأم. وقال أبو حنيفة: يكون بكل عضو يحرم النظر إليه. وسبب اختلافهم: معارضة المعنى للظاهر، وذلك أن معنى التحريم تستوي فيه الأم وغيرها من المحرمات، والظهر
84 وغيره من الأعضاء، وأما الظاهر من الشرع، فإنه يقتضي أن لا يسمى ظهارا إلا ما ذكر فيه لفظ الظهر والأم. وأما إذا قال: هي علي كأمي ولم يذكر الظهر، فقال أبو حنيفة والشافعي: ينوي في ذلك لأنه قد يريد بذلك الاجلال لها وعظم منزلتها عنده، وقال مالك: هو ظهار. وأما من شبه زوجته بأجنبية لا تحرم عليه على التأبيد، فإنه ظهار عند مالك، وعن ابن الماجشون: ليس بظهار. وسبب الخلاف: هل تشبيه الزوجة بمحرمة غير مؤبدة التحريم كتشبيهها بمؤبدة التحريم؟. الفصل الثاني: في شروط وجوب الكفارة فيه وأما شروط وجو ب الكفارة، فإن الجمهور على أنها لا تجب دون العود، وشذ مجاهد وطاوس فقالا: لا تجب دون العود، ودليل الجمهور قوله تعالى: * (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة) * وهو نص في معنى وجوب تعلق الكفارة بالعود، وأيضا فمن طريق القياس، فإن الظهار يشبه الكفارة في اليمين، فكما أن الكفارة إنما تلزم بالمحافظة أو بإرادة المخالفة، كذلك الامر في الظهار. وحجة مجاهد وطاوس أنه معنى يوجب الكفارة العليا فوجب أن يوجبها بنفسه لا بمعنى زائد تشبيها بكفارة القتل والفطر، وأيضا قالوا: إنه طلاق الجاهلية فنسخ تحريمه بالكفارة وهو معنى قوله تعالى: * (ثم يعودون لما قالوا) * والعود عندهم هو العود في الاسلام. فأما القائلون باشتراط العود في إيجاب الكفارة، فإنهم اختلفوا فيه ما هو؟ فعن مالك في ذلك ثلاث روايات: إحداهن: أن العود هو أن يعزم على إمساكها والوطئ معا. والثانية: أن يعزم على وطئها فقط، وهي الرواية الصحيحة المشهورة عن أصحابه، وبه قال أبو حنيفة وأحمد. والرواية الثالثة: أن العود هو نفس الوطئ. وهي أضعف الروايات عند أصحابه. وقال الشافعي: العود هو الامساك نفسه. قال: ومن مضى له زمان يمكنه أن يطلق فيه ولم يطلق ثبت أنه عائد ولزمته الكفارة، لان إقامته زمانا يمكن أن يطلق فيه من غير أن يطلق يقوم مقام إرادة الامساك منه، أو هو دليل ذلك. وقال داود وأهل الظاهر: العود هو أن يكرر لفظ الظهار ثانية، ومتى لم يفعل ذلك فليس بعائد ولا كفارة عليه. فدليل الرواية المشهورة لمالك ينبني على أصلين: أحدهما: أن المفهوم من الظهار هو أن وجوب الكفارة فيه إنما يكون بإرادته العود إلى ما حرم على نفسه بالظهار وهو الوطئ. وإذا كان ذلك كذلك وجب أن تكون العودة هي إما الوطئ نفسه، وإما العزم عليه وإرادته. والأصل الثاني: ليس يمكن أن يكون العود نفسه هو وطئ لقوله تعالى في الآية: * (فتحرير رقبة
85 من قبل أن يتماسا) * ولذلك كان الوطئ محرما حتى يكفر. قالوا: ولو كان العود نفسه هو الامساك لكان الظهار نفسه يحرم الامساك فكان الظهار يكون طلاقا. وبالجملة فالمعول عليه عندهم في هذه المسألة هو الطريق الذي يعرفه الفقهاء بطريق السبر والتقسيم، وذلك أن معنى العود لا يخلو أن يكون تكرار اللفظ على ما يراه داود، أو الوطئ نفسه، أو الامساك نفسه، أو إرادة الوطئ. ولا يكون تكرار اللفظ، لان ذلك تأكيد والتأكيد لا يوجب الكفارة، ولا يكون إرادة الامساك للوطئ، فإن الامساك موجود بعد، فقد بقي أن يكون إرادة الوطئ، وإن كان إرادة الامساك للوطئ فقد أراد الوطئ، فثبت أن العود هو الوطئ. ومعتمد الشافعية في إجرائهم إرادة الامساك، أو الامساك للوطئ مجرى إرادة الوطئ أن الامساك يلزم عنه الوطئ فجعلوا لازم الشئ مشبها بالشئ، وجعلوا حكمهما واحدا، وهو قريب من الرواية الثانية، وربما استدلت الشافعية على أن إرادة الامساك هو السبب في وجوب الكفارة أن الكفارة ترتفع بارتفاع الامساك، وذلك إذا طلق إثر الظهار، ولهذا احتاط مالك في الرواية الثانية، فجعل العود هو إرادة الامرين جميعا: أعني الوطئ والامساك، وأما أن يكون العود الوطئ فضعيف ومخالف للنص، والمعتمد فيها تشبيه الظهار باليمين: أي كما أن كفارة اليمين إنما تجب بالحنث كذلك الامر ههنا، وهو قياس شبه عارضه النص. وأما داود فإنه تعلق بظاهر اللفظ في قوله تعالى: * (ثم يعودون لما قالوا) * وذلك يقتضي الرجوع إلى القول نفسه، وعند أبي حنيفة أنه العود في الاسلام إلى ما تقدم من ظهارهم في الجاهلية. وعند مالك والشافعي أن المعنى في الآية: ثم يعودون فيما قالوا. وسبب الخلاف: بالجملة إنما هو مخالفة الظاهر للمفهوم، فمن اعتمد المفهوم جعل العودة إرادة الوطئ أو الامساك، وتأول معنى اللام في قوله تعالى: * (ثم يعودون لما قالوا) * بمعنى الفاء، وأما من اعتمد الظاهر فإنه جعل العودة تكرير اللفظ، وأن العودة الثانية إنما هي ثانية للأولى التي كانت منهم في الجاهلية. ومن تأول أحد هذين، فالأشبه له أن يعتقد أن بنفس الظهار تجب الكفارة كما اعتقد ذلك مجاهد، إلا أن يقدر في الآية محذوفا وهو إرادة الامساك، فهنا إذن ثلاثة مذاهب: إما أن تكون العودة هي تكرار اللفظ، وإما أن تكون إرادة الامساك، وإما أن تكون العودة التي هي في الاسلام، وهذان ينقسمان قسمين: أعني الأول والثالث: أحدهما: أن يقدر في الآية محذوفا، وهو إرادة الامساك فيشترط هذه الإرادة في وجوب الكفارة، وإما ألا يقدر فيها محذوفا فتجب الكفارة بنفس الظهار. واختلفوا من هذا الباب في فروع وهو: هل إذا طلق قبل إرادة الامساك أو ماتت عنه زوجته هل تكون عليه كفارة أم لا؟ فجمهور العلماء على أن لا كفارة عليه إلا أن يطلق بعد إرادة العودة أو بعد
86 الامساك بزمان طويل على ما يراه الشافعي وحكي عن عثمان البتي أن عليه الكفارة بعد الطلاق، وأنها إذا ماتت قبل إرادة العودة لم يكن له سبيل إلى ميراثها إلا بعد الكفارة. وهذا شذوذ مخالف للنص. والله أعلم. الفصل الثالث: فيمن يصح فيه الظهار واتفقوا على لزوم الظهار من الزوجة التي في العصمة، واختلفوا في الظهار من الأمة ومن التي في غير العصمة، وكذلك اختلفوا في ظهار المرأة من الرجل. فأما الظهار من الأمة فقال مالك والثوري وجماعة: الظهار منها لازم كالظهار من الزوجة الحرة، وكذلك المدبرة وأم الولد، وقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وأبو ثور: لا ظهار من أمة، وقال الأوزاعي: إن كان يطأ أمته فهو منها مظاهر، وإن لم يطأها فهي يمين وفيها كفارة يمين، وقال عطاء: هو مظاهر لكن عليه نصف كفارة. فدليل من أوقع ظهار الأمة عموم قوله تعالى: * (والذين يظاهرون من نسائهم) * والإماء من النساء. وحجة من لم يجعله ظهارا أنهم قد أجمعوا أن النساء في قوله تعالى: * (للذين يولون من نسائهم تربص أربعة أشهر) * هن ذوات الأزواج، فكذلك اسم النساء في آية الظهار. فسبب الخلاف: معارضة قياس الشبه للعموم: أعني تشبيه الظهار بالايلاء وعموم لفظ النساء، أعني أن عموم اللفظ يقتضي دخول الإماء في الظهار وتشبيهه بالايلاء يقتضي خروجهن من الظهار. وأما هل من شرط الظهار كون المظاهر منها في العصمة أم لا؟ فمذهب مالك أن ذلك ليس من شرطه، وأن من عين امرأة ما بعينها وظاهر منها بشرط التزويج كان مظاهرا منها، وكذلك إن لم يعين وقال: كل امرأة أتزوجها فهي مني كظهر أمي، وذلك بخلاف الطلاق وبقول مالك في الظهار قال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي، وقال قائلون: لا يلزم الظهار إلا فيما يملك الرجل، وممن قال بهذا القول الشافعي وأبو ثور وداود، وفرق قوم فقالوا: إن أطلق لم يلزمه ظهار وهو أن يقول: كل امرأة أتزوجها فهي مني كظهر أمي، فإن قيد لزمه وهو أن يقول: إن تزوجت فلانة أو سمى قرية أو قبيلة، وقائل هذا القول هو ابن أبي ليلى والحسن بن حي. ودليل الفريق الأول قوله تعالى: * (أوفوا بالعقود) * ولأنه عقد على شرط الملك فأشبه إذا ملك، والمؤمنون عند شروطهم، وهو قول عمر. وأما حجة الشافعي فحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي (ص) قال لا طلاق إلا فيما يملك ولا عتق إلا فيما يملك، ولا بيع إلا فيما يملك، ولا وفاء بنذر إلا فيما يملك خرجه أبو داود والترمذي. والظهار شبيه بالطلاق، وهو قول ابن عباس. وأما الذين فرقوا بين التعميم والتعيين، فإنهم رأوا أن التعميم في الظهار من باب الحرج، وقال الله تعالى: * (وما جعل عليكم في الدين من
87 حرج) *. واختلفوا أيضا من هذا لباب في: هل تظاهر المرأة من الرجل؟ فعن العلماء في ذلك ثلاثة أقوال: أشهرها: أنه لا يكون منها ظهار، وهو قول مالك والشافعي. والثاني: أن عليها كفارة يمين. والثالث: أن عليها كفارة الظهار. ومعتمد الجمهور تشبيه الظهار بالطلاق، ومن ألزم المرأة الظهار فتشبيها للظهار باليمين، ومن فرق فلانه رأى أن أقل اللازم لها في ذلك المعنى هو كفارة يمين وهو ضعيف. وسبب الخلاف: تعارض الأشياء في هذا المعنى. الفصل الرابع: فيما يحرم على المظاهر واتفقوا على أن المظاهر يحرم عليه الوطئ. واختلفوا فيما دونه من ملامسة ووطئ في غير الفرج ونظر اللذة، فذهب مالك إلى أنه يحرم الجماع وجميع أنواع الاستمتاع مما دون الجماع من الوطئ فيما دون الفرج واللمس والتقبيل والنظر للذة ما عدا وجهها وكفيها ويديها من سائر بدنها ومحاسنها، وبه قال أبو حنيفة إلا أنه إنما كره النظر للفرج فقط، وقال الشافعي: إنما يحرم الظهار الوطئ في الفرج فقط المجمع عليه لا ما عدا ذلك، وبه قال الثوري وأحمد وجماعة. ودليل مالك قوله تعالى: * (من قبل أن يتماسا) * وظاهر لفظ التماس يقتضي المباشرة فما فوقها، ولأنه أيضا لفظ حرمت ت به عليه فأشبه لفظ الطلاق، ودليل قول الشافعي أن المباشرة كناية ههنا عن الجماع بدليل إجماعهم على أن الوطئ محرم عليه، وإذا دلت على الجماع لم تدل على ما فوق الجماع لأنها إما أن تدل على ما فوق الجماع، وإما أن تدل على الجماع، وهي الدلالة المجازية، ولكن قد اتفقوا على أنها دالة على الجماع فانتفت الدلالة المجازية، إذ لا يدل لفظ واحد دلالتين: حقيقة ومجازا. قلت: الذين يرون أن اللفظ المشترك له عموم لا يبعد أن يكون اللفظ الواحد عندهم يتضمن المعنيين جميعا: أعني الحقيقة والمجاز، وإن كان لم تجر به عادة للعرب، ولذلك القول به في غاية من الضعف، ولو علم أن للشرع فيه تصرفا لجاز، وأيضا فإن الظهار مشبه عندهم بالايلاء، فوجب أن يختص عندهم بالفرج. الفصل الخامس: هل يتكرر الظهار بتكرر النكاح؟ وأما تكرر الظهار بعد الطلاق: أعني إذا طلقها بعد الظهار قبل أن يكفر ثم راجعها هل يتكرر عليها الظهار فلا يحل له المسيس حتى يكفر؟ فيه خلاف. قال مالك: إن طلقها دون الثلاث ثم راجعها في العدة أو بعدها فعليه الكفارة، وقال الشافعي: إن راجعها في العدة فعليه الكفارة، وإن راجعها في غير العدة فلا كفارة عليه، وعنه قول آخر مثل قول
88 مالك. وقال محمد ابن الحسن: الظهار راجع عليها نكحها بعد الثلاث أو بعد واحدة، وهذه المسألة شبيهة بمن يحلف بالطلاق ثم يطلق ثم يراجع هل تبقى تلك اليمين عليه أم لا؟ وسبب الخلاف: هل الطلاق يرفع جميع أحكام الزوجية ويهدمها، أو لا يهدمها؟ فمنهم من رأى أن البائن الذي هو الثلاث يهدم، وأن ما دون الثلاث لا يهدم، ومنهم من رأى أن الطلاق كله غير هادم، وأحسب أن من الظاهرية من يرى أنه كله هادم. الفصل السادس: في دخول الايلاء عليه وأما هل يدخل الايلاء على الظهار إذا كان مضارا، وذلك بأن لا يكفر مع قدرته على الكفارة؟ فإن فيه أيضا اختلافا، فأبو حنيفة والشافعي يقولان: لا يتداخل الحكمان، لان حكم الظهار خلاف حكم الايلاء، وسواء أكان عندهم مضارا أو لم يكن، وبه قال الأوزاعي وأحمد وجماعة. وقال مالك: يدخل الايلاء على الظهار بشرط أن يكون مضارا وقال الثوري: يدخل الايلاء على الظهار، وتبين منه بانقضاء الأربعة الأشهر من غير اعتبار المضارة، ففيه ثلاثة أقوال: قول إنه يدخل بإطلاق، وقول إنه لا يدخل بإطلاق، وقول إنه يدخل مع المضارة ولا يدخل مع عدمها. وسبب الخلاف: مراعاة المعنى واعتبار الظاهر، فمن اعتبر الظاهر قال: لا يتداخلان، ومن اعتبر المعنى قال: يتداخلان إذا كان القصد الضرر. الفصل السابع: في أحكام كفارة الظهار والنظر في كفارة الظهار في أشياء، منها في عدد أنواع الكفارة وترتيبها، وشروط نوع منها: أعني الشروط المصححة. ومتى تجب كفارة واحدة، ومتى تجب أكثر من واحدة؟ فأما أنواعها فإنهم أجمعوا على أنها ثلاثة أنواع: إعتاق رقبة. أو صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكينا، وأنها على الترتيب، فالاعتاق أولا، فإن ليكن فالصيام، فإن لم يكن فالاطعام، هذا في الحر، واختلفوا في العبد يكفر بالعتق أو بالاطعام بعد اتفاقهم أن الذي يبدأ به الصيام أعني إذا عجز عن الصيام، فأجاز للعبد العتق إن أذن له سيده: أبو ثور وداود، وأبى ذلك سائر العلماء. وأما الاطعام فأجازه له مالك إن أطعم بإذن سيده، ولم يجز ذلك أبو حنيفة والشافعي. ومبنى الخلاف: في هذه المسألة هل يملك العبد أو لا يملك؟ وأما اختلافهم في الشروط المصححة: فمنها اختلافهم إذا وطئ في صيام الشهرين هل عليه استئناف الصيام أم لا؟ فقال مالك وأبو حنيفة: يستأنف الصيام، إلا أن أبا حنيفة شرط في ذلك العمد، ولم يفرق مالك بين العمد في ذلك والنسيان، وقال الشافعي لا يستأنف على حال. وسبب الخلاف: تشبيه كفارة الظهار بكفارة اليمين والشرط الذي ورد في كفارة الظهار: أعني أن تكون قبل المسيس، فمن اعتبر هذا الشرط قال: يستأنف
89 الصوم، ومن شبهه بكفارة اليمين قال: لا يستأنف، لان الكفارة في اليمين ترفع الحنث بعد وقوعه باتفاق. ومنها هل من شرط الرقبة أن تكون مؤمنة أم لا؟ فذهب مالك والشافعي إلى أن ذلك شرط في الاجزاء، وقال أبو حنيفة: يجزئ في ذلك رقبة الكافر، ولا يجزئ عندهم إعتاق الوثنية والمرتدة ودليل الفريق الأول أنه إعتاق على وجه القربة فوجب أن تكون مسلمة أصله الاعتاق في كفارة القتل، وربما قالوا إن هذا ليس من باب القياس، وإنما هو من باب حمل المطلق على المقيد، وذلك أنه قيد الرقبة بالايمان في كفارة القتل وأطلقها في كفارة الظهار فيجب صرف المطلق إلى المقيد. وهذا النوع من حمل المطلق على المقيد فيه خلاف، والحنفية لا يجيزونه، وذلك أن الأسباب في القضيتين مختلفة. وأما حجة أبي حنيفة فهو ظاهر العموم، ولا معارضة عنده بين المطلق والمقيد، فوجب عنده أن يحمل كل على لفظه. ومنها اختلافهم هل من شرط الرقبة أن تكون سالمة من العيوب أم لا؟ ثم إن كانت سليمة فمن أي العيوب تشترط سلامتها؟ فالذي عليه الجمهور أن للعيوب تأثيرا في منع إجزاء العتق، وذهب قوم إلى أنه ليس لها تأثير في ذلك، وحجة الجمهور تشبيهها بالأضاحي والهدايا لكون القربة تجمعهما وحجة الفريق الثاني إطلاق اللفظ في الآية. فسبب الخلاف: معارضة الظاهر لقياس الشبه. والذين قالوا إن للعيوب تأثيرا في منع الاجزاء اختلفوا في عيب عيب مما يعتبر في الاجزاء أو عدمه. أما العمى وقطع اليدين أو الرجلين فلا خلاف عندهم في أنه مانع للاجزاء، واختلفوا فيما دون ذلك، فمنها هل يجوز قطع اليد الواحدة؟ أجازه أبو حنيفة، ومنعه مالك والشافعي. وأما الأعور فقال مالك: لا يجزئ، وقال عبد الملك: يجزئ: وأما قطع الاذنين فقال مالك: لا يجزئ، وقال أصحاب الشافعي: يجزئ. وأما الأصم فاختلف فيه في مذهب مالك، فقيل يجزئ. وقيل لا يجزئ. وأما الأخرس فلا يجزئ عند مالك، وعن الشافعي في ذلك قولان. أما المجنون فلا يجزئ. أما الخصي فقال ابن القاسم: لا يعجبني الخصي، وقال غيره لا يجزئ، وقال الشافعي: يجزئ. وإعتاق الصغير جائز في قوله عامة فقهاء الأمصار، وحكي عن بعض المتقدمين منعه. والعرج الخفيف في المذهب يجزئ، أما البين العرج فلا. والسبب في اختلافهم: في قدر النقص المؤثر في القربة، وليس له أصل في الشرع إلا الضحايا. وكذلك لا يجزئ في المذهب ما فيه شركة أو طرف حرية كالكتابة والتدبير لقوله تعالى: * (فتحرير رقبة) * والتحرير هو ابتداء الاعتاق، وإذا كان فيه عقد من عقود الحرية كالكتابة كان تنجيزا لا إعتاقا، وكذلك الشركة لان بعض الرقبة ليس برقبة. وقالوا أبو حنيفة: إن كان المكاتب أدى شيئا من مال الكتابة لم يجز. وإن كان لم يؤد جاز، واختلفوا
90 هل يجزيه عتق مدبره؟ فقال مالك: لا يجزيه تشبيها بالكتابة لأنه عقد ليس له حلة، وقال الشافعي: يجزيه، ولا يجزي عند مالك إعتاق أم ولده ولا المعتق إلى أجل مسمى. وأما عتق أم الولد فلان عقدها آكد من عقد الكتابة والتدبير، بدليل أنهما قد يطرأ عليهما الفسخ. أما في الكتابة فمن العجز عن أداء النجوم. وأما التدبير فإذا ضاق عنه الثلث. وأما العتق إلى أجل فإنه عقد عتق لا سبيل إلى حله. واختلف مالك والشافعي مع أبي حنيفة في إجزاء عتق من يعتق عليه بالنسب، فقال مالك والشافعي: لا يجزئ عنه وقال أبو حنيفة: إذا نوى به عتقه عن ظهار أجزأ. فأبو حنيفة شبهه بالرقبة التي لا يجب عتقها، وذلك أن كل واحدة من الرقبتين غير واجب عليه شراؤها وبذل القيمة فيها على وجه العتق، فإذا نوى بذلك التكفير جاز، والمالكية والشافعية رأت أنه إذا اشترى من يعتق عليه عتق عليه من غير قصد إلى إعتاقه فلا يجزيه، فأبو حنيفة أقام القصد للشراء مقام العتق، وهؤلاء قالوا: لا بد أن يكون قاصدا للعتق نفسه، فكلاهما يسمى معتقا باختياره، ولكن أحدهما معتق بالاختيار الأول، والآخر معتق بلازم الاختيار، فكأنه معتق على القصد الثاني ومشتر على القصد الأول، والآخر بالعكس. واختلف مالك والشافعي فيمن أعتق نصفي عبدين. فقال مالك: لا يجوز ذلك، وقال الشافعي: يجوز لأنه في معنى الواحد ومالك تمسك بظاهر دلالة اللفظ. فهذا ما اختلفوا فيه من شروط الرقبة المعتقة. وأما شروط الاطعام فإنهم اختلفوا من ذلك في القدر الذي يجزي لمسكين مسكين من الستين مسكينا الذين وقع عليهم النص، فعن مالك في ذلك روايتان أشهرهما أن ذلك مد بمد هشام لكل واحد، وذلك مدان بمد النبي (ص)، وقد قيل هو أقل، وقد قيل هو مد وثلث. وأما الرواية الثانية فمد مد لكل مسكين بمد النبي (ص)، وبه قال الشافعي. فوجه الرواية الأولى اعتبار الشبع غالبا: أعني الغداء والعشاء، ووجه الرواية الثانية اعتبار هذه الكفارة بكفارة اليمين. فهذا هو اختلافهم في شروط الصحة في الواجبات في هذه الكفارة. وأما اختلافهم في مواضع تعددها ومواضع اتحادها، فمنها إذا ظاهر بكلمة واحدة من نسوة أكثر من واحدة هل يجزي في ذلك كفارة واحدة، أم يكون عدد الكفارات على عدد النسوة؟ فعند مالك أنه يجزي في ذلك كفارة واحدة، وعند الشافعي وأبي حنيفة أن فيها من الكفارات بعدد المظاهر منهن إن اثنتين فاثنتين. وإن ثلاثا فثلاثا، وإن أكثر فأكثر، فمن شبهه بالطلاق أوجب في كل واحدة كفارة، ومن شبهه بالايلاء أوجب فيه كفارة واحدة، وهو بالايلاء أشبه. ومنها إذا ظاهر من امرأته في مجالس شتى هل عليه كفارة واحدة، أو على عدد المواضع التي ظاهر فيها؟ فقال مالك: ليس عليه إلا كفارة واحدة، إلا أن يظاهر ثم يكفر ثم يظاهر فعليه كفارة ثانية، وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة والشافعي: لكل ظهار كفارة. وأما إذا كان ذلك في مجلس واحد فلا خلاف عند مالك أن في ذلك كفارة واحدة. وعند أبي حنيفة أن
91 ذلك راجع إلى نيته، فإن قصد التأكيد كانت الكفارة واحدة، وإن أراد استئناف الظهار كان ما أراد ولزمه من الكفارات على عدد الظهار. وقال يحيى بن سعيد: تلزم الكفارة على عدد الظهار سواء أكان في مجلس واحد أو في مجالس شتى. والسبب في هذا الاختلاف: أن الظهار الواحد بالحقيقة هو الذي يكون بلفظ واحد من امرأة واحدة في وقت واحد، والمتعدد بلا خلاف هو الذي يكون بلفظين من امرأتين في وقتين، فإن كرر اللفظ من امرأة واحدة، فهل يوجب تعدد اللفظ تعدد الظهار، أم لا يوجب ذلك فيه تعددا؟ وكذلك إن كان اللفظ واحدا والمظاهر منها أكثر من واحدة؟ وذلك أن هذه بمنزلة المتوسطات بين ذينك الطرفين، فمن غلب شبه الطرف الواحد أوجب له حكمه، ومن غلب شبه الطرف الثاني أوجب له حكمه. ومنها إذا ظاهر من امرأته ثم مسها قبل أن يكفر هل عليه كفارة واحدة أم لا؟ فأكثر فقهاء الأمصار: مالك والشافعي وأبو حنيفة والثور والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود والطبري وأبو عبيد أن في ذلك كفارة واحدة والحجة لهم حديث سلمة بن صخر البياضي أنه ظاهر من امرأته في زمان رسول الله (ص) ثم وقع بامرأته قبل أن يكفر، فأتى رسول الله (ص) فذكر له ذلك فأمره أن يكفر تكفيرا واحدا. وقال قوم: عليه كفارتان: كفارة العزم على الوطئ، وكفارة الوطئ، لأنه وطئ وطأ محرما، وهو مروي عن عمرو بن العاص وقبيصة بن ذؤيب وسعيد بن جبير وابن شهاب، وقد قيل: إنه لا يلزمه شئ لا عن العود ولا عن الوطئ، لان الله تعالى اشترط صحة الكفارة قبل المسيس، فإذا مس فقد خرج وقتها فلا تجب إلا بأمر مجدد، وذلك معدوم في مسألتنا. وفيه شذوذ. وقال أبو محمد ابن حزم: من كان فرضه الاطعام فليس يحرم عليه المسيس قبل الاطعام، وإنما يحرم المسيس على من كان فرضه العتق أو الصيام.
92 كتاب اللعان والقول فيه يشتمل على خمسة فصول بعد القول بوجوبه. الفصل الأول: في أنواع الدعاوي الموجبة له وشروطها. الفصل الثاني: في صفات المتلاعنين. الفصل الثالث: في صفة اللعان. الفصل الرابع: في حكم نكول أحدهما أو رجوعه. الفصل الخامس: في الاحكام اللازمة لتمام اللعان. فأما الأصل في وجوب اللعان: أما من الكتاب فقوله تعالى: * (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم) * الآية. وأما من السنة فما رواه مالك وغيره من مخرجي الصحيح من حديث عويمر العجلاني إذ جاء إلى عاصم بن عدي العجلاني رجل من قومه فقال له: يا عاصم.. أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلوه؟ أم كيف يفعل؟ سل يا عاصم عن ذلك رسول الله (ص)، فسأل عاصم عن ذلك رسول الله (ص)، فلما رجع عاصم إلى أهله جاء عويمر فقال: يا عاصم.. ماذا قال لك رسول الله (ص)؟ فقال: لم تأتني بخير، قد كره رسول الله (ص) المسألة التي سألت عنها، فقال: والله لا أنتهي حتى أسأله عنها، فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله (ص) وسط الناس فقال: يا رسول الله.. أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلوه، أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله (ص): قد نزل فيك وفي صاحبتك قرآن فاذهب فائت بها، وقال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله (ص)، فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره بذلك رسول الله (ص). قال مالك: قال ابن شهاب: فلم تزل تلك سنة المتلاعنين. وأيضا من جهة المعنى لما كان الفراش موجبا للحوق النسب كان بالناس ضرورة إلى طريق ينفونه به إذا تحققوا فساده وتلك الطريق هي اللعان. فاللعان حكم ثابت بالكتاب والسنة والقياس والاجماع، إذ لا خلاف في ذلك أعلمه، فهذا هو القول في إثبات حكمه. الفصل الأول: في أنواع الدعاوي الموجبة له وشروطها وأما صور الدعاوي التي يجب بها اللعان فهي أولا صورتان: إحداهما: دعوى الزنا، والثانية: نفي الحمل، ودعوى الزنا لا يخلو أن تكون مشاهدة: أعني أن يدعي أنه
93 شاهدها تزني كما يشهد الشاهد على الزنا، أو تكون دعوى مطلقة. وإذا نفى الحمل فلا يخلو أن ينفيه أيضا نفيا مطلقا، أو يزعه انه لم يقربها بعد استبرائها، فهذه أربعة أحوال بسائط، وسائر الدعاوي تتركب عن هذه، مثل أن يرميها بالزنا وينفي الحمل، أو يثبت الحمل ويرميها بالزنى. فأما وجوب اللعان بالقذف بالزنا إذا ادعى الرؤية فلا خلاف فيه، قالت المالكية: إذا زعم أنه لم يطأها بعد، وأما وجوب اللعان بمجرد القذف، فالجمهور على جوازه: الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد وداود وغيرهم. وأما المشهور عن مالك، فإنه لا يجوز اللعان عنده بمجرد القذف، وقد قال ابن القاسم أيضا: إنه يجوز، وهي أيضا رواية عن مالك. وحجة الجمهور عموم قوله تعالى: * (والذين يرمون أزواجهم) * الآية، ولم يخص في الزنا صفة دون صفة، كما قال في إيجاب حد القذف، وحجة مالك ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك، منها قوله في حديث سعد أرأيت لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا وحديث ابن عباس، وفيه فجاء رسول الله (ص) فقال: والله يا رسول الله لقد رأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله (ص) ما جاء به واشتد عليه، فنزلت * (والذين يرمون أزواجهم) * الآية وأيضا فإن الدعوى يجب أن تكون ببينة كالشهادة. وفي هذا الباب فرع اختلف فيه قول مالك، وهو إذا ظهر بها حمل بعد اللعان، فعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما: سقوط الحمل عنه، والأخرى لحوقه به. واتفقوا فيما أحسب أن من شرط الدعوى الموجبة اللعان برؤية الزنا أن تكون في العصمة. واختلفوا فيمن قذف زوجته بدعوى الزنا ثم طلقها ثلاثا هل يكون بينهما لعان أم لا؟ فقال مالك والشافعي والأوزاعي وجماعة: بينهما لعان، وقال أبو حنيفة: لا لعان بينهما إلا أن ينفي ولدا ولا حد، وقال مكحول والحكم وقتادة يحد ولا يلاعن. وأما إن نفى الحمل فإنه كما قلنا على وجهين: أحدهما: أن يدعي أنه استبرأها ولم يطأها بعد الاستبراء، وهذا ما لا خلاف فيه. واختلف قول مالك في الاستبراء، فقال مرة: ثلاث حيض، وقال مرة: حيضة. وأما نفيه مطلقا، فالمشهور عن مالك أنه لا يجب بذلك لعان، وخالفه في هذا الشافعي وأحمد وداود، وقالوا: لا معنى لهذا لأن المرأة قد تحمل مع رؤية الدم، وحكى عبد الوهاب عن أصحاب الشافعي أنه لا يجوز نفي الحمل مطلقا من غير قذف واختلفوا من هذا الباب في فرع، وهو وقت نفي الحمل، فقال الجمهور: ينفيه وهي حامل، وشرط مالك أنه متى لم ينفه وهو حمل لم يجز له أن ينفيه بعد الولادة بلعان، وقال الشافعي: إذا علم الزوج بالحمل فأمكنه الحاكم من اللعان فلم يلاعن لم يكن له
94 أن ينفيه بعد الولادة، وقال أبو حنيفة: لا ينفي الولد حتى تضع. وحجة مالك ومن قال بقوله الآثار المتواترة من حديث ابن عباس وابن مسعود وأنس وسهل بن سعد أن النبي عليه الصلاة والسلام حين حكم باللعان بين المتلاعنين قال: إن جاءت به على صفة كذا فما أراه إلا قد صدق عليها قالوا: وهذا يدل على أنها كانت حاملا في وقت اللعان. وحجة أبي حنيفة أن الحمل قد ينفش ويضمحل، فلا وجه للعان إلا على يقين. ومن حجة الجمهور أن الشرع قد علق بظهور الحمل أحكاما كثيرة: كالنفقة والعدة ومنع الوطئ، فوجب أن يكون قياس اللعان كذلك، وعند أبي حنيفة أنه يلاعن وإن لم ينف الحمل إلا وقت الولادة، وكذلك ما قرب من الولادة ولم يوقت في ذلك وقتا، ووقت صاحباه أبو يوسف ومحمد فقالا: له أن ينفيه ما بين أربعين ليلة من وقت الولادة. والذين أوجبوا اللعان في وقت الحمل اتفقوا على أن له نفيه في وقت العصمة، واختلفوا في نفيه بعد الطلاق، فذهب مالك إلى أن له ذلك في جميع المدة التي يلحق الولد فيها بالفراش، وذلك هو أقصى زمان الحمل عنده وذلك نحو من أربع سنين عنده أو خمس سنين، وكذلك عنده حكم نفي الولد بعد الطلاق إذا لم يزل منكرا له. وبقريب من هذا المعنى قال الشافعي. وقال قوم: ليس له أن ينفي الحمل إلا في العدة فقط وإن نفاه في غير العدة حد وألحق به الولد، فالحكم يجب به عند الجمهور إلى انقضاء أطول مدة الحمل على اختلافهم في ذلك. فإن الظاهرية ترى أن أقصر مدة الحمل التي يجب بها الحكم هو المعتاد من ذلك، وهي التسعة أشهر وما قاربها، ولا اختلاف بينهم أنه يجب الحكم به في مدة العصمة، فما زاد على أقصر مدة الحمل وهي الستة أشهر، أعني أن يولد المولود لستة أشهر من وقت الدخول أو إمكانه. لا من وقت العقد، وشذ أبو حنيفة فقال: من وقت العقد، وإن علم أن الدخول غير ممكن حتى أنه إن تزوج عنده رجل بالمغرب الأقصى امرأة بالمشرق الأقصى فجاءت بولد لرأس ستة أشهر من وقت العقد أنه يلحق به إلا أن ينفيه بلعان، وهو في هذه المسألة ظاهري محض، لأنه إنما اعتمد في ذلك عموم قوله عليه الصلاة والسلام الولد للفراش وهذه المرأة قد صارت فراشا له بالعقد، فكأنه رأى أن هذه عبادة غير معللة، وهذا شئ ضعيف. واختلف قول مالك من هذا الباب في فرع، وهو أنه إذا ادعى أنها زنت واعترف بالحمل فعنه في ذلك ثلاث روايات: إحداها: أنه يحد ويلحق به الولد ولا يلاعن. والثانية: أنه يلاعن وينفي الولد. والثالثة: أنه يلحق به الولد ويلاعن ليدرأ الحد عن نفسه. وسبب الخلاف: هل يلتفت إلى إثباته مع موجب نفيه وهو دعواه الزنا؟ واختلفوا أيضا من هذا الباب في فرع، وهو إذا أقام الشهود على الزنا هل له أن يلاعن أم لا؟ فقال أبو حنيفة وداود لا يلاعن لان اللعان إنما جعل عوض الشهود لقوله تعالى: * (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم
95 شهداء إلا أنفسهم) الآية. وقال مالك والشافعي: يلاعن، لان الشهود لا تأثير لهم في دفع الفراش. الفصل الثاني: في صفات المتلاعنين وأما صفة المتلاعنين، فإن قوما قالوا: يجوز اللعان بين كل زوجين حرين كانا أو عبدين، أو أحدهما حر والآخر عبد محدودين كانا أو عدلين أو أحدهما، مسلمين كانا أو كان الزوج مسلما والزوجة كتابية، ولا لعان بين كافرين إلا أن يترافعا إلينا، وممن قال بهذا القول مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا لعان إلا بين مسلمين حرين عدلين، وبالجملة فاللعان عندهم إنما يجوز لمن كان من أهل الشهادة. وحجة أصحاب القول الأول عموم قوله تعالى: * (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم) * ولم يشترط في ذلك شرطا. ومعتمد الحنفية أن اللعان شهادة، فيشترط فيها ما يشترط في الشهادة، إذ قد سماهم الله شهداء لقوله: * (فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله) * ويقولون إنه لا يكون لعان إلا بين من يجب عليه الحد في القذف الواقع بينهما. وقد اتفقوا على أن العبد لا يحد بقذفه، وكذلك الكافر، فشبهوا من يجب عليه اللعان بمن يجب في قذفه الحد، إذ كان اللعان إنما وضع لدرء الحد مع نفي النسب. وربما احتجوا بما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله (ص) قال لا لعان بين أربعة: العبدين، والكافرين والجمهور يرون أنه يمين وإن كان يسمى شهادة، فإن أحدا لا يشهد لنفسه، وأما أن الشهادة قد يعبر عنها باليمين فذلك بين في قوله تعالى: * (إذا جاءك المنافقون قالوا) * الآية، ثم قال: * (اتخذوا أيمانهم جنة) *. وأجمعوا على جواز لعان الأعمى، واختلفوا في الأخرس، فقال مالك والشافعي يلاعن الأخرس إذا فهم عنه، وقال أبو حنيفة: لا يلاعن لأنه ليس من أهل الشهادة. وأجمعوا على أن من شرطه العقل والبلوغ. الفصل الثالث: في صفة اللعان فأما صفة اللعان فمتقاربة عند جمهور العلماء، وليس بينهم في ذلك كبير خلاف، وذلك على ظاهر ما تقتضيه ألفاظ الآية، فيحلف الزوج أربع شهادات بالله لقد رأيتها تزني وأن ذلك الحمل ليس مني، ويقول في الخامسة: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم تشهد هي أربع شهادات بنقيض ما شهد هو به ثم تخمس بالغضب، هذا كله متفق عليه. واختلف الناس هل يجوز أن يبدل مكان اللعنة الغضب، ومكان الغضب اللعنة، ومكان
96 أشهد أقسم، ومكان قوله بالله غيره من أسمائه؟ والجمهور على أنه لا يجوز من ذلك إلا ما نص عليه من هذه الألفاظ أصله عدد الشهادات وأجمعوا على أن شرط صحته أن يكون بحكم حاكم. الفصل الرابع: في حكم نكول أحدهما أو رجوعه فأما إذا نكل الزوج فقال الجمهور: إنه يحد، وقال أبو حنيفة: إنه لا يحد، ويحبس وحجة الجمهور عموم قوله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات) * الآية، وهذا عام في الأجنبي والزوج، وقد جعل الالتعان للزوج مقام الشهود، فوجب إذا نكل أن يكون بمنزلة من قذف ولم يكن له شهود: أعني أنه يحد، وما جاء أيضا من حديث ابن عمر وغيره في قصة العجلاني من قوله عليه الصلاة والسلام إن قتلت قتلت، وإن نطقت جلدت، وإن سكت سكت على غيظ. واحتج الفريق الثاني بأن آية اللعان لم تتضمن إيجاب الحد عليه عند النكول والتعريض لايجابه زيادة في النص، والزيادة عندهم نسخ، والنسخ لا يجوز بالقياس ولا بأخبار الآحاد، قالوا: وأيضا لو وجب الحد لم ينفعه الالتعان ولا كان له تأثير في إسقاطه، لان الالتعان يمين فلم يسقط به الحد عن الأجنبي، فكذلك الزوج. والحق أن الالتعان يمين مخصوصة، فوجب أن يكون لها حكم مخصوص، وقد نص على المرأة أن اليمين يدرأ عنها العذاب، فالكلام فيما هو العذاب الذي يندرئ عنها باليمين، وللاشتراك الذي في اسم العذاب اختلفوا أيضا في الواجب عليها إذا نكلت، فقال الشافعي ومالك وأحمد والجمهور: إنها تحد، وحدها الرجم إن كان دخل بها ووجدت فيها شروط الاحصان، وإن لم يكن دخل بها فالجلد. وقال أبو حنيفة: إذا نكلت وجب عليها الحبس حتى تلاعن، وحجته قوله عليه الصلاة والسلام لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنى بعد إحصان، أو كفر بعد إيمان، أو قتل نفس بغير نفس وأيضا فإن سفك الدم بالنكول حكم ترده الأصول، فإنه إذا كان كثير من الفقهاء لا يوجبون غرم المال بالنكول فكان بالحري أن يجب بذلك سفك الدماء. وبالجملة فقاعدة الدماء مبناها في الشرع على أنها لا تراق إلا بالبينة العادلة أو بالاعتراف. ومن الواجب ألا تخصص هذه القاعدة بالاسم المشترك، فأبو حنيفة في هذه المسألة أولى بالصواب إن شاء الله. وقد اعترف أبو المعالي في كتابه البرهان بقوة أبي حنيفة في هذه المسألة وهو شافعي. واتفقوا على أنه إذا أكذب نفسه حد وألحق به الولد إن كان نفى ولدا. واختلفوا هل له أن يراجعها بعد اتفاق جمهورهم على أن الفرقة تجب باللعان، إما بنفسه وإما بحكم حاكم على ما نقوله بعد: فقال مالك والشافعي والثوري وداود وأحمد وجمهور فقهاء الأمصار: إنهما لا يجتمعان أبدا وإن أكذب نفسه، وقال أبو حنيفة وجماعة: إذا أكذب نفسه جلد الحد وكان خاطبا من الخطاب، وقد قال
97 قوم: ترد إليه امرأته. وحجة الفريق الأول قول رسول الله (ص) لا سبيل لك عليها ولم يستثن فأطلق التحريم. وحجة القول الثاني أنه إذا أكذب نفسه فقد بطل حكم اللعان، فكما يلحق به الولد كذلك ترد المرأة عليه، وذلك أن السبب الموجب للتحريم إنما هو الجهل بتعيين صدق أحدهما مع القطع بأن أحدهما كاذب، فإذا انكشف ارتفع التحريم . الفصل الخامس: في الاحكام اللازمة لتمام اللعان فأما موجبات اللعان، فإن العلماء اختلفوا من ذلك في مسائل: منها هل تجب الفرقة أم لا؟ وإن وجبت فمتى تجب؟ وهل تجب بنفس اللعان أم بحكم حاكم؟ وإذا وقعت فهل هي طلاق أو فسخ؟ فذهب الجمهور إلى أن الفرقة تقع باللعان لما اشتهر من ذلك في أحاديث اللعان من أن رسول الله (ص) فرق بينهما وقال ابن شهاب فيما رواه مالك عنه: فكانت تلك سنة المتلاعنين، ولقوله (ص): لا سبيل لك عليها. وقال عثمان البتي وطائفة من أهل البصرة: لا يعقب اللعان فرقة، واحتجوا بأن ذلك حكم لم تتضمنه آية اللعان، ولا هو صريح في الأحاديث، لان في الحديث المشهور أنه طلقها بحضرة النبي (ص) فلم ينكر ذلك عليه. وأيضا فإن اللعان إنما شرع لدرء حد القذف. فلم يوجب تحريما تشبيها بالبينة، وحجة الجمهور أنه قد وقع بينهما من التقاطع والتباغض والتهاتر وإبطال حدود الله ما أوجب أن لا يجتمعا بعدها أبدا، وذلك أن الزوجية مبناها على المودة والرحمة وهؤلاء قد عدموا ذلك كل العدم، ولا أقل من أن تكون عقوبتهما الفرقة. وبالجملة فالقبح الذي بينهما غاية القبح. وأما متى تقع الفرقة فقال مالك والليث وجماعة: إنها تقع إذا فرغا جميعا من اللعان. وقال الشافعي: إذا أكمل الزوج لعانه وقعت الفرقة. وقال أبو حنيفة: لا تقع إلا بحكم حاكم، وبه قال الثوري وأحمد. وحجة مالك على الشافعي حديث ابن عمر قال: فرق رسول الله (ص) بين المتلاعنين وقال: حسابكما على الله، أحدهما كاذب، لا سبيل لك عليها وما روي أنه لم يفرق بينهما إلا بعد تمام اللعان. وحجة الشافعي أن لعانها تدرأ به الحد عن نفسها فقط، ولعان الرجل هو المؤثر في نفي النسب، فوجب إن كان للعان تأثير في الفرقة أن يكون لعان الرجل تشبيها بالطلاق. وحجتهما جميعا على أبي حنيفة أن النبي (ص) أخبرهما بوقوع الفرقة عند وقوع اللعان منهما، فدل ذلك على أن اللعان هو سبب الفرقة. وأما أبو حنيفة فيرى أن الفراق إنما نفذ بينهما بحكمه وأمره (ص) بذلك حين قال لا سبيل لك عليها فرأى أن حكمه شرط في وقوع الفرقة كما أن حكمه شرط في صحة اللعان. فسبب الخلاف: بين من رأى أنه تقع به فرقة، وبين من لم ير ذلك أن تفريق النبي (ص) بينهما ليس هو بينا في الحديث المشهور، لأنه بادر بنفسه فطلق قبل أن يخبره بوجوب الفرقة، والأصل أن لا
98 فرقة إلا بطلاق، وأنه ليس في الشرع تحريم يتأبد: أعني متفقا عليه، فمن غلب هذا الأصل على المفهوم لاحتماله نفي وجوب الفرقة قال بإيجابها. وأما سبب اختلاف من اشترط حكم الحاكم أو لم يشترطه فتردد هذا الحكم بين أن يغلب عليه شبه الاحكام التي يشترط في صحتها حكم الحاكم أو التي لا يشترط ذلك فيها. وأما المسألة الرابعة: وهي إذا قلنا إن الفرقة تقع فهل ذلك فسخ أو طلاق، فإن القائلين بالفرقة اختلفوا في ذلك، فقال مالك والشافعي: هو فسخ، وقال أبو حنيفة: هو طلاق بائن. وحجة مالك تأبيد التحريم به فأشبه ذات المحرم. وأما أبو حنيفة فشبهها بالطلاق قياسا على فرقة العنين إذ كانت عنده بحكم حاكم.
99 كتاب الاحداد أجمع المسلمون على أن الاحداد واجب على النساء الحرائر المسلمات في عدة الوفاة إلا الحسن وحده. واختلفوا فيما سوى ذلك من الزوجات، وفيما سوى عدة الوفاة، وفيما تمتنع الحادة منه مما لا تمتنع، فقال مالك: الاحداد على المسلمة والكتابية والصغيرة والكبيرة. وأما الأمة يموت عنها سيدها سواء كانت أم ولد أولم تكن فلا إحداد عليها عنده، وبه قال فقهاء الأمصار. وخالف قول مالك المشهور في الكتابية ابن نافع وأشهب، وروياه عن مالك، وبه قال الشافعي: أعني أنه لا إحداد على الكتابية، وقال أبو حنيفة: ليس على الصغيرة ولا على الكتابية إحداد، وقال قوم: ليس على الأمة المزوجة إحداد، وقد حكي ذلك عن أبي حنيفة. فهذا هو اختلافهم المشهور فيمن عليه إحداد من أصناف الزوجات ممن ليس عليه إحداد. وأما اختلافهم من قبل العدد فإن مالكا قال: لا إحداد إلا في عدة الوفاة. وقال أبو حنيفة والثوري: الاحداد في العدة من الطلاق البائن واجب، وأما الشافعي فاستحسنه للمطلقة ولم يوجبه. وأما الفصل الثالث وهو ما تمتنع الحادة منه مما لا تمتنع عنه، فإنها تمتنع عند الفقهاء بالجملة من الزينة الداعية للرجال إلى النساء، وذلك كالحلي والكحل - إلا ما لم تكن فيه زينة - ولباس الثياب المصبوغة إلا السواد، فإنه لم يكره مالك لها لبس السواد، ورخص كلهم في الكحل عند الضرورة، فبعضهم اشترط فيه ما لم يكن فيه زينة، وبعضهم لم يشترطه، وبعضهم اشترط جعله بالليل دون النهار. وبالجملة، فأقاويل الفقهاء فيما تجتنب الحادة متقاربة، وذلك ما يحرك الرجال بالجملة إليهن. وإنما صار الجمهور لايجاب الاحداد في الجملة لثبوت السنة بذلك عن رسول الله (ص). فمنها حديث أم سلمة زوج النبي عليه الصلاة والسلام أن امرأة جاءت إلى رسول الله (ص) فقالت: يا رسول الله.. إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينيها أفتكتحلهما، فقال رسول الله (ص): لا، مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول لها لا، ثم قال: إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن ترمى بالبعرة على رأس الحول. وقال أبو محمد فعلى هذا الحديث يجب التعويل على القول بإيجاب الاحداد. وأما حديث أم حبيبة حين دعت بالطيب فمسحت به عارضيها، ثم قالت: والله ما لي به من حاجة غير أني سمعت رسول الله (ص) يقول لا يحل لامرأة مؤمنة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت
100 فوق ثلاث ليال، إلا على زواج أربعة أشهر وعشرا فليس فيه حجة، لأنه استثناء من حظر فهو يقتضي الإباحة دون الايجاب. وكذلك حديث زينب بنت جحش. قال القاضي: وفي الامر إذا ورد بعد الحظر خلاف بين المتكلمين: أعني هل يقتضي الوجوب أو الإباحة. وسبب الخلاف: بين من أوجبه على المسلمة دون الكافرة أن من رأى أن الاحداد عبادة لم يلزمه الكافرة، ومن رأى أنه معنى معقول، وهو تشوف الرجال إليها وهي إلى الرجال، سوى بين الكافرة والمسلمة، ومن راعى تشوف الرجال دون تشوف النساء فرق بين الصغيرة والكبيرة إذا كانت الصغيرة لا يتشوف الرجال إليها، ومن حجة من أوجبه على المسلمات دون الكافرات قوله عليه الصلاة والسلام لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد إلا على زوج قال: وشرطه الايمان في الاحداد يقتضي أنه عبادة. وأما من فرق بين الأمة والحرة وكذلك الكتابية، فلانه زعم أن عدة الوفاة أوجبت شيئين باتفاق: أحدهما: الاحداد، والثاني: ترك الخروج، فلما سقط ترك الخروج عن الأمة بتبذلها والحاجة إلى استخدامها سقط عنها منع الزينة. وأما اختلافهم في المكاتبة فمن قبل ترددها بين الحرة والأمة، وأما الأمة بملك اليمين وأم الولد، فإنما صار الجمهور إلى اسقاط الاحداد عنها لقوله عليه الصلاة والسلام لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد إلا على زوج فعلم بدليل الخطاب أن من عدا ذات الزوج لا يجب عليها إحداد، ومن أوجبه على المتوفى عنها زوجها دون المطلقة تعلق بالظاهر المنطوق به، ومن ألحق المطلقات بهن فمن طريق المعنى، وذلك أنه يظهر من معنى الاحداد أن المقصود به أن لا تتشوف إليها الرجال في العدة ولا تتشوف هي إليهم. وذلك سدا للذريعة لمكان حفظ الأنساب، والله أعلم. كمل كتاب الطلاق والحمد لله على آلائه، والشكر على نعمه، ويتلوه كتاب البيوع إن شاء الله تعالى.
101 كتاب البيوع الكلام في البيوع ينحصر في خمس جمل: في معرفة أنواعها. وفي معرفة شروط الصحة في واحد واحد منها. وفي معرفة شروط الفساد. وفي معرفة أحكام البيوع الصحيحة. وفي معرفة أحكام البيوع الفاسدة. فنحن نذكر أنواع البيوع المطلقة، ثم نذكر شروط الفساد والصحة في واحد واحد منها. وأحكام بيوع الصحة، وأحكام البيوع الفاسدة. ولما كانت أسباب الفساد والصحة في البيوع منها عامة لجميع أنواع البيوع أو لأكثرها، ومنها خاصة، وكذلك الامر في أحكام الصحة والفساد اقتضى النظر الصناعي أن نذكر المشترك في هذه الأصناف الأربعة: أعني العام من أسباب الفساد وأسباب الصحة وأحكام الصحة وأحكام الفساد لجميع البيوع، ثم نذكر الخاص من هذه الأربعة بواحد واحد من البيوع، فينقسم هذا الكتاب باضطرار إلى ستة أجزاء: الجزء الأول: تعرف فيه أنواع البيوع المطلقة. والثاني: تعرف فيه أسباب الفساد العامة في البيوع المطلقة أيضا: أعني في كلها أو أكثرها إذ كانت أعرف من أسباب الصحة. الثالث: تعرف فيه أسباب الصحة في البيوع المطلقة أيضا. الرابع: نذكر فيه أحكام البيوع الصحيحة، أعني الأحكام المشتركة لكل البيوع الصحيحة أو لأكثرها. الخامس: نذكر فيه أحكام البيوع الفاسدة المشتركة: أعني إذا وقعت. السادس: نذكر فيه نوعا نوعا من البيوع بما يخصه من الصحة والفساد وأحكامها. الجزء الأول إن كل معاملة وجدت بين اثنين، فلا يخلو أن تكون عينا بعين، أو عينا بشئ في الذمة، أو ذمة بذمة، وكل واحد من هذه الثلاث إما نسيئة وإما ناجز، وكل واحد من هذه أيضا إما ناجز من الطرفين وإما نسيئة من الطرفين، وإما ناجز من الطرف الواحد نسيئة من الطرف الآخر، فتكون أنواع البيوع تسعة. فأما النسيئة من الطرفين فلا يجوز بإجماع لا في العين ولا في الذمة لأنه الدين بالدين المنهي عنه. وأسماء هذه البيوع منها ما يكون من قبل صفة العقد وحال العقد، ومنها ما يكون من قبل صفة العين المبيعة، وذلك أنها إذا كانت عينا بعين فلا تخلو أن تكون ثمنا بمثمون أو ثمنا بثمن، فإن كانت ثمنا بثمن سمي صرفا، وإن كانت ثمنا بمثمون سمي بيعا مطلقا وكذلك مثمونا بمثمون على الشروط التي تقال بعد، وإن كان عينا بذمة سمي سلما، وإن كان على الخيار سمي بيع خيار، وإن كان على المرابحة سمي بيع مرابحة. وإن كان على المزايدة سمي بيع مزايدة.
102 الجزء الثاني وإذا اعتبرت الأسباب التي من قبلها ورد النهي الشرعي في البيوع، وهي أسباب الفساد العامة وجدت أربعة: أحدها: تحريم عين المبيع. والثاني: الربا. والثالث: الغرر. والرابع: الشروط التي تؤول إلى أحد هذين أو لمجموعهما. وهذه الأربعة هي بالحقيقة أصول الفساد، وذلك أن النهي إنما تعلق فيها بالبيع من جهة ما هو بيع لا لأمر من خارج. وأما التي ورد النهي فيها لأسباب من خارج. فمنها الغش ومنها الضرر، ومنها لمكان الوقت المستحق بما هو أهم منه، ومنها لأنها محرمة البيع، ففي هذا الجزء أبواب: الباب الأول: في الأعيان المحرمة البيع وهذه على ضربين: نجاسات، وغير نجاسات. فأما بيع النجاسات فالأصل في تحريمها حديث جابر، ثبت في الصحيحين قال: قال رسول الله (ص) إن الله ورسوله حرما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله.. أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويستصبح بها؟ فقال: لعن الله اليهود.. حرمت الشحوم عليهم فباعوها وأكلوا أثمانها وقال في الخمر إن الذي حرم شربها حرم بيعها والنجاسات على ضربين: ضرب اتفق المسلمون على تحريم بيعها وهي الخمر وأنها نجسة، إلا خلافا شاذا في الخمر: أعني في كونها نجسة، والميتة بجميع أجزائها التي تقبل الحياة، وكذلك الخنزير بجميع أجزائه التي تقبل الحياة. واختلف في الانتفاع بشعره، فأجازه ابن القاسم ومنعه أصبغ. وأما القسم الثاني: وهي النجاسات التي تدعو الضرورة إلى استعمالها كالرجيع والزبل الذي يتخذ في البساتين، فاختلف في بيعها في المذهب فقيل بمنعها مطلقا، وقيل بإجازتها مطلقا، وقيل بالفرق بين العذرة والزبل: أعني إباحة الزبل ومنع العذرة. واختلفوا فيما يتخذ من أنياب الفيل لاختلافهم هل هو نجس أم لا؟ فمن رأى أنه ناب جعله ميتة، ومن رأى أنه قرن معكوس جعل حكمه حكم القرن، والخلاف فيه في المذهب. وأما ما حرم بيعه مما ليس بنجس أو مختلف في نجاسته، فمنها الكلب والسنور. أما الكلب فاختلفوا في بيعه، فقال الشافعي: لا يجوز بيع الكلب أصلا. وقال أبو حنيفة: يجوز ذلك. وفرق أصحاب مالك بين كلب الماشية والزرع المأذون في اتخاذه وبين ما لا يجوز اتخاذه، فاتفقوا على أن ما لا يجوز اتخاذه لا يجوز بيعه للانتفاع به وإمساكه. فأما من أراده للأكل فاختلفوا فيه، فمن أجاز أكله أجاز بيعه، ومن لم يجزه على رواية ابن حبيب لم يجز بيعه. واختلفوا أيضا في المأذون في اتخاذه، فقيل هو حرام، وقيل مكروه. فأما الشافعي فعمدته شيئان: أحدهما: ثبوت النهي الوارد عن ثمن الكلب عن النبي (ص). والثاني: أن الكلب عنده نجس العين كالخنزير، وقد ذكرنا دليله في ذلك في كتاب الطهارة. وأما من أجاز فعمدته أنه طاهر العين غير محرم الأكل،
103 فجاز بيعه كالأشياء الطاهرة العين، وقد تقدم أيضا في كتاب الطهارة استدلال من رأى أنه طاهر العين، وفي كتاب الأطعمة استدلال من رأى أنه حلال. ومن فرق أيضا فعمدته أنه غير مباح الأكل ولا مباح الانتفاع به، إلا ما استثناه الحديث من كلب الماشية أو كلب الزرع وما في معناه، ورويت أحاديث غير مشهورة اقترن فيها بالنهي عن ثمن الكلب استثناء أثمان الكلاب المباحة الاتخاذ. وأما النهي عن ثمن السنور فثابت، ولكن الجمهور على إباحته لأنه طاهر العين مباح المنافع. فسبب اختلافهم: في الكلاب تعارض الأدلة. ومن هذا الباب اختلافهم في بيع الزيت النجس وما ضارعه بعد اتفاقهم على تحريم أكله، فقال مالك: لا يجوز بيع الزيت النجس، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: يجوز إذا بين، وبه قال ابن وهب من أصحاب مالك. وحجة من حرمه حديث جابر المتقدم أنه سمع رسول الله (ص) عام الفتح يقول: إن الله ورسوله حرما الخمر والميتة والخنزير وعمدة من أجازه أنه إذا كان في الشئ أكثر من منفعة واحدة وحرم منه واحدة من تلك المنافع أنه ليس يلزمه أن يحرم منه سائر المنافع، ولا سيما إذا كانت الحاجة إلى المنفعة غير المحرمة كالحاجة إلى المحرمة، فإذا كان الأصل هذا يخرج منه الخمر والميتة والخنزير وبقيت سائر محرمات الأكل على الإباحة: أعني أنه إن كان فيها منافع سوى الأكل فبيعت لهذا جاز. ورووا عن علي وابن عباس وابن عمر أنهم أجازوا بيع الزيت النجس ليستصبح به، وفي مذهب مالك جواز الاستصباح به وعمل الصابون مع تحريم بيعه، وأجاز ذلك الشافعي أيضا مع تحريم ثمنه، وهذا كله ضعيف، وقد قيل إن في المذهب رواية أخرى تمنع الاستصباح به وهو ألزم للأصل: أعني لتحريم البيع. واختلف أيضا في المذهب في غسله وطبخه هل هو مؤثر في عين النجاسة ومزيل لها على قولين: أحدهما: جواز ذلك، والآخر: منعه، وهما مبنيان على أن الزيت إذا خالطته النجاسة هل نجاسته نجاسة عين أو نجاسة مجاورة؟ فمن رآه نجاسة مجاورة طهره عند الغسل والطبخ، ومن رآه نجاسة عين لم يطهره عند الطبخ والغسل. ومن مسائلهم المشهورة في هذا الباب اختلافهم في جواز بيع لبن الآدمية إذا حلب، فمالك والشافعي يجوزانه، وأبو حنيفة لا يجوزه وعمدة من أجاز بيعه أنه لبن أبيح شربه فأبيح بيعه قياسا على لبن سائر الانعام. وأبو حنيفة يرى أن تحليله إنما هو لمكان ضرورة الطفل إليه، وأنه في الأصل محرم، إذ لحم ابن آدم محرم، والأصل عندهم أن الألبان تابعة للحوم، فقالوا في قياسهم هكذا الانسان حيوان لا يؤكل لحمه، فلم يجز بيع لبنه أصله لبن الخنزير والأتان. فسبب اختلافهم في هذا الباب: تعارض أقيسة الشبه، وفروع هذا الباب كثيرة، وإنما نذكر من المسائل في كل باب المشهور ليجري ذلك مجرى الأصول. الباب الثاني: في بيوع الربا واتفق العلماء على أن الربا يوجد في شيئين: في البيع، وفيما تقرر في الذمة من بيع
104 أو سلف أو غير ذلك. فأما الربا فيما تقرر في الذمة فهو صنفان: صنف متفق عليه وهو ربا الجاهلية الذي نهي عنه، وذلك أنهم كانوا يسلفون بالزيادة وينظرون فكانوا يقولون: أنظرني أزدك، وهذا هو الذي عناه عليه الصلاة والسلام بقوله في حجة الوداع ألا وإن ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب والثاني ضع وتعجل وهو مختلف فيه وسنذكره فيما بعد. وأما الربا في البيع فإن العلماء أجمعوا على أنه صنفان: نسيئة وتفاضل، إلا ما روي عن ابن عباس من إنكاره الربا في التفاضل لما رواه عن النبي (ص) أنه قال لا ربا إلا في النسيئة وإنما صار جمهور الفقهاء إلى أن الربا في هذين النوعين لثبوت ذلك عنه (ص). والكلام في الربا ينحصر في أربعة فصول: الفصل الأول: في معرفة الأشياء التي لا يجوز فيها التفاضل، ولا يجوز فيها النساء، وتبيين علة ذلك. الثاني: معرفة الأشياء التي يجوز فيها التفاضل ولا يجوز فيها النساء. الثالث: في معرفة ما يجوز فيه الأمران جميعا. الرابع: في معرفة ما يعد صنفا واحدا مما لا يعد صنفا واحدا. الفصل الأول: في معرفة الأشياء التي لا يجوز فيها التفاضل ولا يجوز فيها النساء وتبيين علة ذلك فنقول: أجمع العلماء على أن التفاضل والنساء مما لا يجوز واحد منهما في الصنف الواحد من الأصناف التي نص عليها في حديث عبادة بن الصامت، إلا ما حكي عن ابن عباس، وحديث عبادة هو قال: سمعت رسول الله (ص) ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى فهذا الحديث نص في منع التفاضل في الصنف الواحد من هذه الأعيان. وأما منع النسيئة فيها فثابت من غير ما حديث، أشهرها حديث عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله (ص) الذهب بالذهب ربا، إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء فتضمن حديث عبادة منع التفاضل في الصنف الواحد، وتضمن أيضا حديث عبادة منع النساء في الصنفين من هذه، وإباحة التفاضل، وذلك في بعض الروايات الصحيحة، وذلك أن فيها بعد ذكره منع التفاضل في تلك الستة وبيعوا الذهب بالورق كيف شئتم يدا بيد والبر بالشعير كيف شئتم يدا بيد وهذا كله متفق عليه من الفقهاء إلا البر بالشعير. واختلفوا فيما سوى هذه الستة المنصوص عليها، فقال قوم منهم أهل الظاهر: إنما يمتنع التفاضل في صنف صنف من هذه الأصناف الستة فقط، وأن ما عداها لا يمتنع في الصنف الواحد منها التفاضل، وقال هؤلاء أيضا: إن النساء ممتنع في هذه الستة فقط اتفقت الأصناف أو اختلفت، وهذا أمر متفق عليه: أعني امتناع النساء فيها مع اختلاف الأصناف، إلا ما حكي عن ابن علية أنه قال: إذا اختلف الصنفان جاز التفاضل والنسيئة ما عدا الذهب والفضة. فهؤلاء جعلوا النهي المتعلق بأعيان هذه الستة من
105 باب الخاص أريد به الخاص. وأما الجمهور من فقهاء الأمصار، فإنهم اتفقوا على أنه من باب الخاص أريد به العام، واختلفوا في المعنى العام الذي وقع التنبيه عليه بهذه الأصناف: أعني في مفهوم علة التفاضل ومنع النساء فيها. فالذي استقر عليه حذاق المالكية أن سبب منع التفاضل أما في الأربعة، فالصنف الواحد من المدخر المقتات، وقد قيل الصنف الواحد المدخر وإن لم يكن مقتاتا. ومن شرط الادخار عندهم أن يكون في الأكثر، وقال بعض أصحابه: الربا في الصنف المدخر وإن كان نادر الادخار. وأما العلة عندهم في منع التفاضل في الذهب والفضة فهو الصنف الواحد أيضا مع كونهما رؤوسا للأثمان وقيما للمتلفات، وهذه العلة هي التي تعرف عندهم بالقاصرة، لأنها ليست موجودة عندهم في غير الذهب والفضة. أما علة منع النساء عند المالكية في الأربعة المنصوص عليها فهو الطعم والادخار دون اتفاق الصنف، ولذلك إذا اختلفت أصنافها جاز عندهم التفاضل دون النسيئة، ولذلك يجوز التفاضل عندهم في المطعومات التي ليست مدخرة أعني في الصنف الواحد منها، ولا يجوز النساء. أما جواز التفاضل، فلكونها ليست مدخرة، وقد قيل إن الادخار شرط في تحريم التفاضل في الصنف الواحد. وأما منع النساء فيها فلكونها مطعومة مدخرة، وقد قلنا إن الطعم بإطلاق علة لمنع النساء في المطعومات. وأما الشافعية فعلة منع التفاضل عندهم في هذه الأربعة هو الطعم فقط مع اتفاق الصنف الواحد. وأما علة النساء فالطعم دون اعتبار الصنف مثل قول مالك، وأما الحنفية فعلة منع التفاضل عندهم في الستة واحدة وهو الكيل أو الوزن مع اتفاق الصنف، وعلة النساء فيها اختلاف الصنف ما عدا النحاس والذهب، فإن الاجماع انعقد على أنه يجوز فيها النساء، ووافق الشافعي مالكا في علة منع التفاضل والنساء في الذهب والفضة، أعني أن كونهما رؤوسا للأثمان وقيما للمتلفات هو عندهم علة مع النسيئة إذا اختلف الصنف، فإذا اتفقا منع التفاضل. والحنفية تعتبر في المكيل قدرا يتأتى فيه الكيل، وسيأتي أحكام الدنانير والدراهم بما يخصها في كتاب الصرف، وأما ههنا فالمقصود هو تبيين مذاهب الفقهاء في علل الربا المطلق في هذه الأشياء، وذكر عمدة دليل كل فريق منهم، فنقول: إن الذين قصروا صنف الربا على هذه الأصناف الستة فهم أحد صنفين: إما قوم نفوا القياس في الشرع: أعني استنباط العلل من الألفاظ وهم الظاهرية، وإما قوم نفوا قياس الشبه وذلك أن جميع من ألحق المسكوت عنه ههنا بالمنطوق به، فإنما ألحقه بقياس الشبه لا بقياس العلة، إلا ما حكي عن ابن الماجشون أنه اعتبر في ذلك المالية وقال: علة منع الربا إنما هي حياطة الأموال، يريد منع العين. وأما القاضي أبو بكر الباقلاني فلما كان قياس الشبه عنده ضعيفا، وكان قياس المعنى عنده أقوى منه اعتبر في هذا الموضع قياس المعنى، إذ لم يتأت له قياس علة، فألحق الزبيب فقط بهذه الأصناف الأربعة، لأنه زعم أنه في معنى التمر. ولكل واحد من هؤلاء: أعني من القائلين دليل في استنباط الشبه الذي اعتبره في إلحاق المسكوت
106 عنه بالمنطوق به من هذه الأربعة. أما الشافعية فإنهم قالوا في تثبيت علتهم الشبهية: إن الحكم إذا علق باسم مشتق دل على أن ذلك المعنى الذي اشتق منه الاسم هو علة الحكم مثل قوله تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * فلما علق الحكم بالاسم المشتق وهو السارق علم أن الحكم متعلق بنفس السرقة. قالوا: وإذا كان هذا هكذا، وكان قد جاء من حديث سعيد بن عبد الله أنه قال: كنت أسمع رسول الله (ص) يقول: الطعام بالطعام مثلا بمثل فمن البين أن الطعم هو الذي علق به الحكم. وأما المالكية فإنها زادت على الطعم إما صفة واحدة وهو الادخار على ما في الموطأ، وإما صفتين وهو الادخار والاقتيات على ما اختاره البغداديون وتمسكت في استنباط هذه العلة بأنه لو كان المقصود الطعم وحده لاكتفي بالتنبيه على ذلك بالنص على واحد من تلك الأربعة الأصناف المذكورة، فلما ذكر منها عددا علم أنه قصد بكل واحد منها التنبيه على ما في معناه، وهي كلها يجمعها الاقتيات والادخار، أما البر والشعير فنبه بهما على أصناف الحبوب المدخرة، ونبه بالتمر على جميع أنواع الحلاوات المدخرة كالسكر والعسل والزبيب، ونبه بالملح على جميع التوابل المدخرة لاصلاح الطعام، وأيضا فإنهم قالوا: لما كان معقول المعنى في الربا إنما هو أن لا يغبن بعض الناس بعضا وأن تحفظ أموالهم، فواجب أن يكون ذلك في أصول المعايش وهي الأقوات. وأما الحنفية فعمدتهم في اعتبار المكيل والموزون أنه (ص) لما علق التحليل باتفاق الصنف واتفاق القدر، وعلق التحريم باتفاق الصنف واختلاف القدر في قوله (ص) لعامله بخيبر من حديث أبي سعيد وغيره إلا كيلا بكيل يدا بيد رأوا أن التقدير أعني الكيل أو الوزن هو المؤثر في الحكم كتأثير الصنف، وربما احتجوا بأحاديث ليست مشهورة فيها تنبيه قوي على اعتبار الكيل أو الوزن. منها أنهم رووا في بعض الأحاديث المتضمنة المسميات المنصوص عليها في حديث عبادة زيادة، وهي كذلك ما يكال ويوزن. وفي بعضها: وكذلك المكيال والميزان، هذا نص لو صحت الأحاديث، ولكن إذا تؤمل الامر من طريق المعنى ظهر - والله أعلم - أن علتهم أولى العلل، وذلك أنه يظهر من الشرع أن المقصود بتحريم الربا إنما هو لمكان الغبن الكثير الذي فيه، وأن العدل في المعاملات إنما هو مقاربة التساوي ولذلك لما عسر إدراك التساوي في الأشياء المختلفة الذوات جعل الدينار والدرهم لتقويمها: أعني تقديرها، ولما كانت الأشياء المختلفة الذوات: أعني غير الموزونة والمكيلة العدل فيها إنما هو في وجود النسبة، أعني أن تكون نسبة قيمة أحد الشيئين إلى جنسه نسبة قيمة الشئ الآخر إلى جنسه، مثال ذلك أن العدل إذا باع انسان فرسا بثياب هو أن تكون نسبة قيمة ذلك الفرس إلى الأفراس هي نسبة قيمة ذلك الثوب إلى الثياب، فإن كان ذلك الفرس قيمته
107 خمسون فيجب أن تكون تلك الثياب قيمتها خمسون، فليكن مثلا الذي يساوي هذا القدر عددها هو عشر أثواب، فإذا اختلاف هذه المبيعات بعضها ببعض في العدد واجبة في المعاملة العدالة، أعني أن يكون عديل فرس عشرة أثواب في المثل. وأما الأشياء المكيلة والموزونة، فلما كانت ليست تختلف كل الاختلاف، وكانت منافعها متقاربة ولم تكن حاجة ضرورية لمن كان عنده منها صنف أن يستبدله بذلك الصنف بعينه إلا على جهة السرف كان العدل في هذا إنما هو بوجود التساوي في الكيل أو الوزن إذ كانت لا تتفاوت في المنافع، وأيضا فإن منع التفاضل في هذه الأشياء يوجب أن لا يقع فيها تعامل لكون منافعها غير مختلفة، والتعامل إنما يضطر إليه في المنافع المختلفة، فإذا منع التفاضل في هذه الأشياء، أعني المكيلة والموزونة علتان: إحداهما: وجود العدل فيها، والثاني: منع المعاملة إذا كانت المعاملة بها من باب السرف. وأما الدينار والدرهم فعلة المنع فيها أظهر إذ كانت هذه ليس المقصود منها الربح، وإنما المقصود بها تقدير الأشياء التي لها منافع ضرورية. وروى مالك عن سعيد بن المسيب أنه كان يعتبر في علة الربا في هذه الأصناف الكيل والطعم، وهو معنى جيد لكون الطعم ضروريا في أوقات الناس، فإنه يشبه أن يكون حفظ العين وحفظ السرف فيما هو قوت أهم منه فيما ليس هو قوتا. وقد روي عن بعض التابعين أنه اعتبر في الربا الأجناس التي تجب فيها الزكاة، وعن بعضهم الانتفاع مطلقا: أعني المالية، وهو مذهب أين الماجشون. الفصل الثاني: في معرفة الأشياء التي يجوز فيها التفاضل ولا يجوز فيها النساء فيجب من هذا أن تكون علة امتناع النسيئة في الربويات هي الطعم عند مالك والشافعي. وأما في غير الربويات مما ليس بمطعوم، فإن علة منع النسيئة فيه عند مالك هو الصنف الواحد المتفق المنافع مع التفاضل، وليس عند الشافعي نسيئة في غير الربويات. وأما أبو حنيفة فعلة منع النساء عنده هو الكيل في الربويات، وفي غير الربويات الصنف الواحد متفاضلا كان أو غير متفاضل، وقد يظهر من ابن القاسم عن مالك أنه يمنع النسيئة في هذه، لأنه عنده من باب السلف الذي يجر منفعة. الفصل الثالث: في معرفة ما يجوز فيه الأمران جميعا وأما ما يجوز فيه الأمران جميعا: أعني التفاضل والنساء، فما لم يكن ربويا عند الشافعي. وأما عند مالك فما لم يكن ربويا ولا كان صنفا واحدا متماثلا أو صنفا واحدا بإطلاق على مذهب أبي حنيفة، ومالك يعتبر في الصنف المؤثر في التفاضل في الربويات، وفي النساء في غير الربويات اتفاق المنافع واختلافها، فإذا اختلفت جعلها صنفين، وإن كان الاسم واحدا، وأبو حنيفة يعتبر الاسم وكذلك الشافعي، وإن كان الشافعي ليس الصنف
108 عنده مؤثرا إلا في الربويات فقط: أعني أنه يمنع التفاضل فيه، وليس هو عنده علة للنساء أصلا. فهذا هو تحصيل مذاهب هؤلاء الفقهاء الثلاثة في هذه الفصول الثلاث. فأما الأشياء التي لا تجوز فيها النسيئة فإنها قسمان: منها ما لا يجوز فيها التفاضل وقد تقدم ذكرها، ومنها ما يجوز فيها التفاضل. فأما الأشياء التي لا يجوز فيها التفاضل فعلة امتناع النسيئة فيها هو الطعم عند مالك، وعند الشافعي الطعم فقط، وعند أبي حنيفة معلومات الكيل والوزن، فإذا اقترن بالطعم اتفاق الصنف حرم التفاضل عند الشافعي، وإذا اقترن وصف ثالث وهو الادخار حرم التفاضل عند مالك، وإذا اختلف الصنف جاز التفاضل وحرمت النسيئة. وأما الأشياء التي ليس يحرم التفاضل فيها عند مالك فإنها صنفان: إما مطعومة، وإما غير مطعومة. فأما المطعومة فالنساء عنده لا يجوز فيها. وعلة المنع الطعم، وأما غير المطعومة فإنه لا يجوز فيها النساء عنده فيما اتفقت منافعه مع التفاضل، فلا يجوز عنده شاة واحدة بشاتين إلى أجل إلا أن تكون إحداهما حلوبة والأخرى أكولة، هذا هو المشهور عنه، وقد قيل إنه يعتبر اتفاق المنافع دون التفاضل فعلى هذا لا يجوز عنده شاة حلوبة بشاة حلوبة إلى أجل. فأما إذا اختلفت المنافع فالتفاضل والنسيئة عنده جائزان وإن كان الصنف واحدا، وقيل يعتبر اتفاق الأسماء مع اتفاق المنافع، والأشهر أن لا يعتبر، وقد قيل يعتبر. وأما أبو حنيفة فالمعتبر عنده في منع النساء ما عدا التي لا يجوز عنده فيها التفاضل هو اتفاق الصنف اتفقت المنافع أو اختلفت، فلا يجوز عنده شاة بشاة ولا بشاتين نسيئة وإن اختلفت منافعها. وأما الشافعي فكل ما لا يجوز التفاضل عنده في الصنف الواحد يجوز فيه النساء، فيجيز شاة بشاتين نسيئة ونقدا، وكذلك شاة بشاة، ودليل الشافعي حديث عمرو بن العاص أن رسول الله (ص) أمره أن يأخذ في قلائص الصدقة البعير بالبعيرين إلى الصدقة قالوا فهذا التفاضل في الجنس الواحد مع النساء. وأما الحنفية فاحتجت بحديث الحسن عن سمرة أن رسول الله (ص) نهى عن بيع الحيوان بالحيوان قالوا: وهذا يدل على تأثير الجنس على الانفراد في النسيئة. وأما مالك فعمدته في مراعاة منع النساء عند اتفاق الأغراض سد الذريعة، وذلك أنه لا فائدة في ذلك إلا أن يكون من باب سلف يجر نفعا وهو يحرم، وقد قيل عنه إنه أصل بنفسه، وقد قيل عن الكوفيين إنه لا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة اختلف الجنس أو اتفق على ظاهر حديث سمرة، فكأن الشافعي ذهب مذهب الترجيح لحديث عمرو بن العاص، والحنفية لحديث سمرة مع التأويل له، لان ظاهره يقتضي أن لا يجوز الحيوان بالحيوان نسيئة اتفق الجنس أو اختلف، وكأن مالكا ذهب مذهب الجمع، فحمل حديث سمرة على اتفاق الاعراض. وحديث عمرو بن العاص على اختلافهما. وسماع الحسن من سمرة مختلف فيه، ولكن صححه الترمذي، ويشهد لمالك ما رواه الترمذي عن جابر قال: قال رسول الله (ص) الحيوان اثنان بواحد لا يصلح
109 النساء ولا بأس به يدا بيد وقال ابن المنذر: ثبت: أن رسول الله (ص) اشترى عبدا بعبدين أسودين، واشترى جارية بسبعة أرؤس وعلى هذا الحديث يكون بيع الحيوان بالحيوان يشبه أن يكون أصلا بنفسه لا من قبل سد ذريعة. واختلفوا فيما لا يجوز بيعه نساء، هل من شرطه التقابض في المجلس قبل الافتراق في سائر الربويات بعد اتفاقهم في اشتراط ذلك في المصارفة لقوله عليه الصلاة والسلام: لا تبيعوا منها غائبا بناجز فمن شرط فيها التقابض في المجلس شبهها بالصرف، ومن لم يشترط ذلك قال: إن القبض قبل التفرق ليس شرطا في البيوع إلا ما قام الدليل عليه، ولما قام الدليل على الصرف فقط بقيت سائر الربويات على الأصل. الفصل الرابع: في معرفة ما يعد صنفا واحدا، وما لا يعد صنفا واحدا واختلفوا من هذا الباب فيما يعد صنفا واحدا وهو المؤثر في التفاضل مما لا يعد صنفا واحدا في مسائل كثيرة، لكن نذكر منها أشهرها، وكذلك اختلفوا في صفات الصنف الواحد المؤثر في التفاضل، هل من شرطه أن لا يختلف بالجودة والرداءة، ولا باليبس والرطوبة؟ فأما اختلافهم فيما يعد صنفا واحدا مما لا يعد صنفا واحدا، فمن ذلك القمح والشعير، صار قوم إلى أنه مصنف واحد، وصار آخرون إلى أنهما صنفان، فبالأول قال مالك والأوزاعي، وحكاه مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب، وبالثاني قال الشافعي أما السماع فقوله (ص) لا تبيعوا وأبو حنيفة، وعمدتهما السماع والقياس البر بالبر والشعير بالشعير إلا مثلا بمثل فجعلهما صنفين، وأيضا فإن في بعض طرق حديث عبادة بن الصامت وبيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم، والبر بالشعير كيف شئتم، والملح بالتمر كيف شئتم يدا بيد ذكره عبد الرزاق ووكيع عن الثوري وصحح هذه الزيادة الترمذي. وأما القياس فلأنهما شيئان اختلفت أسماؤهما ومنافعهما، فوجب أن يكونا صنفين، أصله الفضة والذهب وسائر الأشياء المختلفة في الاسم والمنفعة. وأما عمدة مالك فإنه عمل سلفه بالمدينة. وأما أصحابه فاعتمدوا في ذلك أيضا السماع والقياس. أما السماع فما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: الطعام بالطعام مثلا بمثل فقالوا: اسم الطعام يتناول البر والشعير، وهذا ضعيف، فإن هذا عام يفسره الأحاديث الصحيحة. وأما من طريق القياس فإنهم عددوا كثيرا من اتفاقهما في المنافع، والمتفقة المنافع لا يجوز التفاضل فيها باتفاق، والسلت عند مالك والشعير صنف واحد، وأما القطنية فإنها عنده صنف واحد في الزكاة، وعنه في البيوع روايتان: إحداهما أنها صنف واحد، والأخرى أنها أصناف. وسبب الخلاف: تعارض اتفاق المنافع فيها واختلافها، فمن غلب الاتفاق قال: صنف واحد، ومن غلب الاختلاف قال: صنفان أو أصناف، والأرز والدخن والجاورس عنده صنف واحد.
110 مسألة: واختلفوا من هذا الباب في الصنف الواحد من اللحم الذي لا يجوز فيه التفاضل، فقال مالك: اللحوم ثلاثة أصناف: فلحم ذوات الأربع، ولحم ذوات الماء صنف، ولحم الطير كله صنف واحد أيضا، وهذه الثلاثة الأصناف مختلفة يجوز فيها التفاضل، وقال أبو حنيفة: كل واحد من هذه هو أنواع كثيرة، والتفاضل فيه جائز إلا في النوع الواحد بعينه، وللشافعي قولان: أحدهما مثل قول أبي حنيفة، والآخر أن جميعها صنف واحد. وأبو حنيفة يجيز لحم الغنم بالبقر متفاضلا، ومالك لا يجيزه والشافعي لا يجيز بيع لحم الطير بلحم الغنم متفاضلا، ومالك يجيزه. وعمدة الشافعي قوله عليه الصلاة والسلام: الطعام بالطعام مثلا بمثل ولأنها إذا فارقتها الحياة زالت الصفات التي كانت بها تختلف، ويتناولها اسم اللحم تناولا واحدا. وعمدة المالكية أن هذه أجناس مختلفة، فوجب أن يكون لحمها مختلفا. والحنفية تعتبر الاختلاف الذي في الجنس الواحد من هذه، وتقول إن الاختلاف الذي بين الأنواع التي في الحيوان، أعني في الجنس الواحد منه كأنك قلت الطائر هو وزان الاختلاف الذي بين التمر والبر والشعير. وبالجملة فكل طائفة تدعي أن وزان الاختلاف الذي بين الأشياء المنصوص عليها هو الاختلاف الذي تراه في اللحم، والحنفية أقوى من جهة المعنى، لان تحريم التفاضل إنما هو عند اتفاق المنفعة. مسألة: واختلفوا من هذا الباب في بيع الحيوان بالميت على ثلاثة أقوال: قول إنه لا يجوز بإطلاق، وهو قول الشافعي والليث، وقول إنه يجوز في الأجناس المختلفة التي يجوز فيها التفاضل، ولا يجوز ذلك في المتفقة: أعني الربوية لمكان الجهل الذي فيها من طريق التفاضل، وذلك في التي المقصود منها الأكل، وهو قول مالك، فلا يجوز شاة مذبوحة بشاة تراد للأكل، وذلك عنده في الحيوان المأكول: حتى أنه لا يجيز الحي بالحي إذا كان المقصود الأكل من أحدهما، فهي عنده من هذا الباب، أعني أن امتناع ذلك عنده من جهة الربا والمزابنة، وقول ثالث أنه يجوز مطلقا، وبه قال أبو حنيفة. وسبب الخلاف: معارضة الأصول في هذا الباب لمرسل سعيد بن المسيب، وذلك أن مالكا روى عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب أن رسول الله (ص) نهى عن بيع الحيوان باللحم فمن لم تنقدح عنده معارضة هذا الحديث لأصل من أصول البيوع التي توجب التحريم قال به، ومن رأى أن الأصول معارضة له وجب عليه أحد أمرين: إما أن يغلب الحديث فيجعله أصلا زائدا بنفسه أو يرده لمكان معارضة الأصول له، فالشافعي غلب الحديث وأبو حنيفة غلب الأصول، ومالك رده إلى أصوله في البيوع، فجعل البيع فيه من باب الربا، أعني بيع الشئ الربوي بأصله، مثل بيع الزيت بالزيتون وسيأتي الكلام على هذا الأصل فإنه الذي يعرفه الفقهاء بالمزابنة، وهي داخلة في الربا بجهة، وفي الغرر بجهة، وذلك أنها ممنوعة في الربويات من جهة الربا والغرر، وفي غير الربويات من جهة الغرر فقط الذي سببه الجهل بالخارج عن الأصل.
111 مسألة: ومن هذا البا ب اختلافهم في بيع الدقيق بالحنطة مثلا بمثل، فالأشهر عن مالك جوازه، وهو قول مالك في موطئه، وروي عنه أنه لا يجوز، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وابن الماجشون من أصحاب مالك، وقال بعض أصحاب مالك: ليس هو اختلافا من قوله، وإنما رواية المنع إذا كان اعتبار المثلية بالكيل، لان الطعام إذا صار دقيقا اختلف كيله، ورواية الجواز إذا كان الاعتبار بالوزن، وأما أبو حنيفة فالمنع عنده في ذلك من قبل أن أحدهما مكيل والآخر موزون. ومالك يعتبر الكيل أو الوزن فيما جرت العادة أن يكال أو يوزن، والعدد فيما لا يكال ولا يوزن. واختلفوا من هذا الباب فيما تدخله الصنعة مما أصله منع الربا فيه مثل الخبز بالخبز، فقال أبو حنيفة: لا بأس ببيع ذلك متفاضلا ومتماثلا، لأنه قد خرج بالصنعة عن الجنس الذي فيه الربا، وقال الشافعي: لا يجوز متماثلا فضلا عن متفاضل، لأنه قد غيرته الصنعة تغيرا جهلت به مقاديره التي تعتبر فيها المماثلة. وأما مالك فالأشهر في الخبز عنده أنه يجوز متماثلا. وقد قيل فيه إنه يجوز فيه التفاضل والتساوي. وأما العجين بالعجين فجائز عنده مع المماثلة. وسبب الخلاف: هل الصنعة تنقله من جنس الربويات أو ليس تنقله، وإن لم تنقله فهل تمكن المماثلة فيه أو لا تمكن؟ فقال أبو حنيفة: تنقله، وقال مالك والشافعي: لا تنقله واختلفوا في إمكان المماثلة فيهما، فكان مالك يجيز اعتبار المماثلة في الخبز واللحم بالتقدير والحزر فضلا عن الوزن. وأما إذا كان أحد الربويين لم تدخله صنعة والآخر قد دخلته الصنعة، فإن مالكا يرى في كثير منها أن الصنعة تنقله من الجنس: أعني من أن يكون جنسا واحدا فيجيز فيها التفاضل، وفي بعضها ليس يرى ذلك، وتفصيل مذهبه في ذلك عسير الانفصال، فاللحم المشوي والمطبوخ عنده من جنس واحد، والحنطة المقلوة عنده وغير المقلوة جنسان، وقد رام أصحابه التفصيل في ذلك، والظاهر من مذهبه أن ليس في ذلك قانون من قوله حتى تنحصر فيه أقواله فيها، وقد رام حصرها الباجي في المنتقى، وكذلك أيضا يعسر حصر المنافع التي توجب عنده الاتفاق في شئ شئ من الأجناس التي يقع بها التعامل، وتمييزها من التي لا توجب ذلك: أعني في الحيوان والعروض والنبات، وسبب العسر أن الانسان إذا سئل عن أشياء متشابهة في أوقات مختلفة ولم يكن عنده قانون يعمل عليه في تمييزها إلا ما يعطيه بادئ النظر في الحال جاوب فيها بجوابات مختلفة، فإذا جاء من بعده أحد فرام أن يجري تلك الأجوبة على قانون واحد وأصل واحد عسر ذلك عليه، وأنت تتبين ذلك من كتبهم، فهذه هي أمهات هذا الباب. فصل: وأما اختلافهم في بيع الربوي الرطب بجنسه من اليابس مع وجود التماثل في القدر والتناجز، فإن السبب في ذلك ما روى مالك عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: سمعت رسول الله (ص) يسأل عن شراء التمر بالرطب، فقال رسول الله (ص): أينقص الرطب
112 إذا جف؟ فقالوا: نعم، فنهى عن ذلك فأخذ به أكثر العلماء وقال: لا يجوز بيع التمر بالرطب على حال: مالك والشافعي وغيرهما، وقال أبو حنيفة: يجوز ذلك، وخالفه في ذلك صاحباه محمد بن الحسن وأبو يوسف. وقال الطحاوي بقول أبي حنيفة. وسبب الخلاف: معارضة ظاهر حديث عبادة وغيره له، واختلافهم في تصحيحه، وذلك أن حديث عبادة اشترط في الجواز فقط المماثلة والمساواة، وهذا يقتضي بظاهره حال العقد لا حال المآل، فمن غلب ظواهر أحاديث الربويات رد هذا الحديث، ومن جعل هذا الحديث أصلا بنفسه قال: هو أمر زائد ومفسر لأحاديث الربويات. والحديث أيضا اختلف الناس في تصحيحه ولم يخرجه الشيخان. قال الطحاوي: خولف فيه عبد الله، فرواه يحيى بن كثير عنه أن رسول الله (ص) نهى عن بيع الرطب بالتمر نسيئة وقال: إن الذي يروي عنه هذا الحديث عن سعد بن أبي وقاص هو مجهول، لكن جمهور الفقهاء صاروا إلى العمل به. وقال مالك في موطئه قياسا به على تعليل الحكم في هذا الحديث، وكذلك كل رطب بيابس من نوعه حرام: يعني منع المماثلة كالعجين بالدقيق واللحم اليابس بالرطب وهو أحد قسمي المزابنة عند مالك المنهي عنها عنده، والعرية عنده مستثناة من هذا الأصل، وكذلك عند الشافعي، والمزابنة المنهي عنها عند أبي حنيفة هو بيع التمر على الأرض بالتمر في رؤوس النخيل لموضع الجهل بالمقدار الذي بينهما أعني بوجود التساوي. وطرد الشافعي هذه العلة في الشيئين الرطبين، فلم يجز بيع الرطب بالرطب، ولا العجين بالعجين مع التماثل لأنه زعم أن التفاضل يوجد بينهما عند الجفاف، وخالفه في ذلك جل من قال بهذا الحديث. وأما اختلافهم في بيع الجيد بالردئ في الأصناف الربوية، فذلك يتصور بأن يباع منها صنف واحد وسط في الجودة بصنفين: أحدهما أجود من ذلك الصنف، والآخر أردأ، مثل أن يبيع مدين من تمر وسط بمدين من تمر أحدهما أعلى من الوسط، والآخر أدون منه، فإن مالكا يرد هذا لأنه يتهمه أن يكون إنما قصد أن يدفع مدين من الوسط في مد من الطيب، فجعل معه الردئ ذريعة إلى تحليل ما لا يجب من ذلك، ووافقه الشافعي في هذا، ولكن التحريم عنده ليس هو فيما أحسب لهذه التهمة لأنه لا يعمل التهم، ولكن يشبه أن يعتبر التفاضل في الصفة، وذلك أنه متى لم تكن زيادة الطيب على الوسط مثل نقصان الردئ عن الوسط، وإلا فليس هناك مساواة في الصفة. ومن هذا الباب اختلافهم في جواز بيع صنف من الربويات بصنف مثله وعرض أو دنانير أو دراهم إذا كان الصنف الذي يجعل معه العرض أقل من ذلك الصنف المفرد أو يكون مع كل واحد منهما عرض والصنفان مختلفان في القدر، فالأول: مثل أن يبيع كيلين من التمر بكيل من التمر ودرهم. والثاني: مثل أن يبيع كيلين من التمر وثوب بثلاثة أكيال من التمر ودرهم. فقال مالك والشافعي والليث: إن ذلك لا يجوز، وقال أبو حنيفة والكوفيون: إن ذلك
113 جائز. فسبب الخلاف: هل ما يقابل العرض من الجنس الربوي ينبغي أن يكون مساويا له في القيمة أو يكفي فذلك رضا البائع؟ فمن قال الاعتبار بمساواته في القيمة قال: لا يجوز لمكان الجهل بذلك، لأنه إذا لم يكن العرض مساويا لفضل أحد الربويين على الثاني كان التفاضل ضرورة، مثال ذلك أنه إن باع كيلين من تمر بكيل وثوب فقد يجب أن تكون قيمة الثوب تساوي الكيل، وإلا وقع التفاضل ضرورة. وأما أبو حنيفة فيكتفي في ذلك بأن يرضى به المتبايعان، ومالك يعتبر أيضا في هذا سد الذريعة، لأنه إنما جعل جاعل ذلك ذريعة إلى بيع الصنف الواحد متفاضلا، فهذه مشهورات مسائلهم في هذا الجنس. باب: في بيوع الذرائع الربوية وهنا شئ يعرض للمتبايعين: إذا قال أحدهما للآخر بزيادة أو نقصان، وللمتبايعين إذا اشترى أحدهما من صاحبه الشئ الذي باعه بزيادة أو نقصان وهو أن يتصور بينهما من غير قصد إلى ذلك تبايع ربوي، مثل أن يبيع انسان من انسان سلعة بعشرة دنانير نقدا ثم يشتريها منه بعشرين إلى أجل، فإذا أضيفت البيعة الثانية إلى الأولى استقر الامر على أن أحدهما دفع عشرة دنانير في عشرين إلى أجل، وهذا هو الذي يعرف ببيوع الآجال. فنذكر من ذلك مسألة في الإقالة، ومسألة من بيوع الآجال إذ كان هذا الكتاب ليس المقصود به التفريع، وإنما المقصود فيه تحصيل الأصول. مسألة: لم يختلفوا أن من باع شيئا ما كأنك قلت: عبدا بمائة دينار مثلا إلى أجل، ثم ندم البائع فسأل المبتاع أن يصرف إليه مبيعه ويدفع إليه عشرة دنانير مثلا نقدا أو إلى أجل أن ذلك يجوز وأنه لا بأس بذلك، وأن الإقالة عندهم إذا دخلتها الزيادة والنقصان هي بيع مستأنف، ولا حرج في أن يبيع الانسان الشئ بثمن ثم يشتريه بأكثر منه، لأنه في هذه المسألة اشترى منه البائع الأول العبد الذي باعه بالمائة التي وجبت له وبالعشرة مثاقيل التي زادها نقدا أو إلى أجل، وكذلك لا خلاف بينهم لو كان البيع بمائة دينار إلى أجل والعشرة مثاقيل نقدا أو إلى أجل. وأما إن ندم المشتري في هذه المسألة وسأل الإقالة على أن يعطي البائع العشرة المثاقيل نقدا أو إلى أجل أبعد من الاجل الذي وجبت فيه المسألة، فهنا اختلفوا، فقال مالك: لا يجوز. وقال الشافعي: يجوز ووجه ما كره من ذلك مالك أن ذلك ذريعة إلى قصد بيع الذهب بالذهب إلى أجل وإلى بيع ذهب وعرض بذهب. لان المشتري دفع العشرة مثاقيل والعبد في المائة دينار التي عليه، وأيضا يدخله بيع وسلف كأن المشتري باعه العبد بتسعين وأسلفه عشرة إلى الاجل الذي يجب عليه قبضها من نفسه لنفسه. وأما الشافعي فهذا عنده كله جائز لأنه شراء مستأنف، ولا فرق عنده بين هذه المسألة وبين أن تكون لرجل على رجل مائة دينار مؤجلة، فيشتري منه غلاما بالتسعين دينارا التي عليه ويتعجل له عشرة دنانير، وذلك جائز بإجماع. قال: وحمل الناس على التهم
114 لا يجوز. وأما إن كان البيع الأول نقدا فلا خلاف في جواز ذلك، لأنه ليس يدخله بيع ذهب بذهب نسيئة إلا أن مالكا كره ذلك لمن هو من أهل العينة: أعني الذي يداين الناس، لأنه عنده ذريعة لسلف في أكثر منه يتوصلان إليه بما أظهر من البيع من غير أن تكون له حقيقة. وأما البيوع التي يعرفونها ببيوع الآجال، فهي أن يبيع الرجل سلعة بثمن إلا أجل، ثم يشتريها بثمن آخر إلى أجل آخر، أو نقدا. (وهنا تسع مسائل، إذا لم تكن هناك زيادة عرض اختلف منها في مسألتين، واتفق في الباقي) وذلك أنه من باع شيئا إلى أجل ثم اشتراه، فإما أن يشتريه إلى ذلك الاجل بعينه أو قبله أو بعده، وفي كل واحد من هذه الثلاثة إما أن يشتريه بمثل الثمن الذي باعه به منه، وإما بأقل، وإما بأكثر يختلف من ذلك في اثنين، وهو أن يشتريها قبل الاجل نقدا بأقل من الثمن أو إلى أبعد من ذلك الاجل بأكثر من ذلك الثمن. فعند مالك وجمهور أهل المدينة أن ذلك لا يجوز. وقال الشافعي وداود وأبو ثور: يجوز، فمن منعه فوجه منعه اعتبار البيع الثاني بالبيع الأول، فاتهمه أن يكون إنما قصد دفع دنانير في أكثر منها إلى أجل، وهو الربا المنهي عنه فزور لذلك هذه الصورة ليتصلا بها إلى الحرام مثل أن يقول قائل لآخر: أسلفني عشرة دنانير إلى شهر وأرد إليك عشرين دينارا، فيقول: هذا لا يجوز، ولكن أبيع منك هذا الحمار بعشرين إلى شهر، ثم أشتريه منك بعشرة نقدا. وأما في الوجوه الباقية فليس يتهم فيها لأنه إن أعطى أكثر من الثمن في أقل من ذلك الاجل لم يتهم، وكذلك إن اشتراها بأقل من ذلك الثمن إلى أبعد من ذلك الاجل، ومن الحجة لمن رأى هذا الرأي حديث أبي العالية عن عائشة أنها سمعتها وقد قالت لها امرأة كانت أم ولد لزيد بن أرقم: يا أم المؤمنين إني بعت من زيد عبدا إلى العطاء بثمانمائة فاحتاج إلى ثمنه فاشتريته منه قبل محل الاجل بستمائة، فقالت عائشة: بئسما شريت، وبئسما اشتريت، أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله (ص) إن لم يتب. قالت: أرأيت إن تركت وأخذت الستمائة دينار؟ قالت: فهو * (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف) * وقال الشافعي وأصحابه: لا يثبت حديث عائشة، وأيضا فإن زيدا قد خالفها، وإذا اختلفت الصحابة فمذهبنا القياس. وروي مثل قول الشافعي عن ابن عمر. وأما إذا حدث بالمبيع نقص عند المشتري الأول، فإن الثوري وجماعة من الكوفيين أجازوا لبائعه بالنظرة أن يشتريه نقدا بأقل من ذلك الثمن. وعن مالك في ذلك روايتان. والصور التي يعتبرها مالك في الذرائع في هذه البيوع هي أن يتذرع منها إلى: أنظرني أزدك، أو إلى بيع ما لا يجوز متفاضلا أو بيع ما لا يجوز نساء، أو إلى بيع وسلف. أو إلى ذهب وعرض بذهب أو إلى: ضع وتعجل، أو بيع الطعام قبل أن يستوفى، أو بيع وصرف، فإن هذه هي أصول الربا. ومن هذا الباب اختلافهم فيمن باع طعاما بطعام قبل أن يقبضه. فمنعه مالك وأبو حنيفة وجماعة. وأجازه الشافعي والثوري
115 والأوزاعي وجماعة. وحجة من كرهه أنه شبيه ببيع الطعام بالطعام نساء، ومن أجازه لم ير ذلك فيه اعتبارا بترك القصد إلى ذلك. ومن ذلك اختلافهم فيمن اشترى طعاما بثمن إلى أجل معلوم، فلما حل الاجل لم يكن عند البائع طعام يدفعه إليه، فاشترى من المشتري طعاما بثمن يدفعه إليه مكان طعامه الذي وجب له، فأجاز ذلك الشافعي وقال: لا فرق بين أن يشتري الطعام من غير المشتري الذي وجب له عليه أو من المشتري نفسه، ومنع من ذلك مالك ورآه من الذريعة إلى بيع الطعام قبل أن يستوفى. لأنه رد إليه الطعام الذي كان ترتب في ذمته، فيكون قد باعه منه قبل أن يستوفيه. وصورة الذريعة في ذلك أن يشتري رجل من آخر طعاما إلى أجل معلوم، فإذا حل الاجل قال الذي عليه الطعام: ليس عندي طعام. ولكن أشتري منك الطعام الذي وجب لك علي، فقال: هذا لا يصح، لأنه بيع الطعام قبل أن يستوفى فيقول له: فبع طعاما مني وأرده عليك، فيعرض من ذلك ما ذكرناه، أعني أن يرد عليه ذلك الطعام الذي أخذ منه ويبقى الثمن المدفوع إنما هو ثمن الطعام الذي هو في ذمته. وأما الشافعي فلا يعتبر التهم كما قلنا، وإنما يراعي فيما يحل ويحرم من البيوع ما اشترطا وذكراه بألسنتهما وظهر من فعلهما لاجماع العلماء على أنه إذا قال: أبيعك هذه الدراهم بدراهم مثلها وأنظرك بها حولا أو شهرا أنه لا يجوز، ولو قال له: أسلفني دراهم وأمهلني بها حولا أو شهرا جاز، فليس بينهما إلا اختلاف لفظ البيع وقصده ولفظ القرض وقصده، ولما كانت أصول الربا كما قلنا خمسة: أنظرني أزدك، والتفاضل، والنساء، وضع وتعجل، وبيع الطعام قبل قبضه، فإنه يظن أنه من هذا الباب إذ فاعل ذلك يدفع دنانير ويأخذ أكثر منها من غير تكلف فعل ولا ضمان يتعلق بذمته، فينبغي أن نذكر ههنا هذين الأصلين. أما: ضع وتعجل، فأجازه ابن عباس من الصحابة وزفر من فقهاء الأمصار، ومنعه جماعة منهم ابن عمر من الصحابة ومالك وأبو حنيفة والثوري وجماعة من فقهاء الأمصار، واختلف قول الشافعي في ذلك، فأجاز مالك وجمهور من ينكر: ضع وتعجل، أن يتعجل الرجل في دينه المؤجل عرضا يأخذه وإن كانت قيمته أقل من دينه. وعمدة من لم يجز: ضع وتعجل، أنه شبيه بالزيادة مع النظرة المجتمع على تحريمها، ووجه شبهه بها أنه جعل للزمان مقدارا من الثمن بدلا منه في الموضعين جميعا، وذلك أنه هنالك ما زاد له في الزمان زاد له عرضه ثمنا، وهنا لما حط عنه الزمان حط عنه في مقابلته ثمنا، وعمدة من أجاز ما روي عن ابن عباس أن النبي (ص) لما أمر باخراج بني النضير جاءه ناس منهم فقالوا: يا نبي الله.. إنك أمرت باخراجنا ولنا على الناس ديون لم تحل، فقال رسول الله (ص): ضعوا وتعجلوا. فسبب الخلاف: معارضة قياس الشبه لهذا الحديث. وأما بيع الطعام قبل قبضه. فإن العلماء مجمعون على منع ذلك إلا ما يحكى عن عثمان البتي. وإنما أجمع العلماء على ذلك لثبوت النهي عنه عن رسول الله (ص) من حديث مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله (ص)
116 قال: من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه. واختلف من هذه المسألة في ثلاثة مواضع: أحدها: فيما يشترط فيه القبض من المبيعات. والثاني: في الاستفادات التي يشترط في بيعها القبض من التي لا يشترط. والثالث: في الفرق بين ما يباع من الطعام مكيلا وجزافا. ففيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: فيما يشترط فيه القبض من المبيعات وأما بيع ما سوى الطعام قبل القبض فلا خلاف في مذهب مالك في إجازته وأما الطعام الربوي فلا خلاف في مذهبه أن القبض شرط في بيعه. وأما غير الربوي من الطعام فعنه في ذلك روايتان: إحداهما: المنع وهي الأشهر. وبها قال أحمد وأبو ثور، إلا أنهما اشترطا مع الطعام الكيل والوزن. والرواية الأخرى: الجواز. وأما أبو حنيفة فالقبض عنده شرط في كل بيع ما عدا المبيعات التي لا تنتقل ولا تحول من الدور والعقار. وأما الشافعي فإن القبض عنده شرط في كل مبيع، وبه قال الثوري. وهو مروي عن جابر بن عبد الله وابن عباس، وقال أبو عبيد وإسحاق: كل شئ لا يكال ولا يوزن فلا بأس ببيعه قبل قبضه، فاشترط هؤلاء القبض في المكيل والموزون، وبه قال ابن حبيب وعبد العزيز بن أبي سلمة وربيعة، وزاد هؤلاء مع الكيل والوزن المعدود. فيتحصل في اشتراط القبض سبعة أقوال: الأول: في الطعام الربوي فقط. والثاني: في الطعام بإطلاق. الثالث: في الطعام المكيل والموزون. الرابع: في كل شئ ينقل. الخامس: في كل شئ. السادس: في المكيل والموزون. السابع: في المكيل والموزون والمعدود. أما عمدة مالك في منعه ما عدا المنصوص عليه فدليل الخطاب في الحديث المتقدم. وأما عمدة الشافعي في تعميم ذلك في كل بيع فعموم قوله عليه الصلاة والسلام لا يحل بيع وسلف ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك وهذا من باب بيع ما لم يضمن. وهذا مبني على مذهبه من أن القبض شرط في دخول المبيع في ضمان المشترط، واحتج أيضا بحديث حكيم بن حزام قال: قلت يا رسول الله.. إني أشتري بيوعا فما يحل لي منها وما يحرم؟ فقال: يا ابن أخي.. إذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه قال أبو عمر: حديث حكيم بن حزام رواه يحيى بن أبي كثير عن يوسف بن ماهك أن عبد الله بن عصمة حدثه أن حكيم بن حزام قال: ويوسف بن ماهك وعبد الله بن عصمة لا أعرف لهما جرحة إلا أنه لم يرو عنهما إلا رجل واحد فقط، وذلك في الحقيقة ليس بجرحة وإن كرهه جماعة من المحدثين. ومن طريق المعنى أن بيع ما لم يقبض يتطرق منه إلى الربا، وإنما استثنى أبو حنيفة ما يحول وينقل عنده مما لا ينقل، لان ما ينقل القبض عنده فيه هي التخلية، وأما من اعتبر الكيل والوزن، فلاتفاقهم أن المكيل والموزون لا يخرج من ضمان البائع إلى ضمان المشتري إلا بالكيل أو الوزن وقد نهي عن بيع ما لم يضمن.
117 الفصل الثاني: في الاستفادات التي يشترط في بيعها القبض من التي لا يشترط وأما ما يعتبر ذلك فيه مما لا يعتب، فإن العقود تنقسم أولا إلى قسمين: قسم يكون بمعاوضة، وقسم يكون بغير معاوضة كالهبات والصدقات، والذي يكون بمعاوضة ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: يختص بقصد المغابنة والمكايسة وهي البيوع والإجارات والمهور والصلح والمال المضمون بالتعدي وغيره. والقسم الثاني: لا يختص بقصد المغابنة، وإنما يكون على جهة الرفق وهو القرض. والقسم الثالث: فهو ما يصح أن يقع على الوجهين جميعا. أعني على قصد المغابنة وعلى قصد الرفق كالشركة والإقالة والتولية. وتحصيل أقوال العلماء في هذه الأقسام: أما ما كان بيعا وبعوض فلا خلاف في اشتراط القبض فيه، وذلك في الشئ الذي يشترط فيه القبض واحد واحد من العلماء، وأما ما كان خالصا للرفق، أعني القرض، فلا خلاف أيضا أن القبض ليس شرطا في بيعه أعني أنه يجوز للرجل أن يبيع القرض قبل أن يقبضه. واستثنى أبو حنيفة مما يكون بعوض المهر والخلع، فقال: يجوز بيعهما قبل القبض. وأما العقود التي تتردد بين قصد الرفق والمغابنة وهي التولية والشركة والإقالة. فإذا وقعت على وجه الرفق من غير أن تكون الإقالة أو التولية بزيادة أو نقصان. فلا خلاف أعلمه في المذهب أن ذلك جائز قبل القبض وبعده. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تجوز الشركة ولا التولية قبل القبض. وتجوز الإقالة عندهما لأنها قبل القبض فسخ بيع، لا بيع. فعمدة من اشترط القبض في جميع المعاوضات أنها في معنى البيع المنهي عنه، وإنما استثنى مالك من ذلك التولية والإقالة والشركة للأثر والمعنى. أما الأثر فما رواه من مرسل سعيد بن المسيب أن رسول الله (ص) قال: من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه إلا ما كان من شركة أو تولية أو إقالة وأما من طريق المعنى فإن هذه إنما يراد بها الرفق لا المغابنة إذا لم تدخلها زيادة أو نقصان. وإنما استثنى من ذلك أبو حنيفة الصداق والخلع والجعل، لان العوض في ذلك ليس بينا إذا لم يكن عينا. الفصل الثالث: في الفرق بين ما يباع من الطعام مكيلا وجزافا وأما اشتراط القبض فيما بيع من الطعام جزافا، فإن مالكا رخص فيه وأجازه وبه قال الأوزاعي، ولم يجز ذلك أبو حنيفة والشافعي وحجتهما عموم الحديث المتضمن للنهي عن بيع الطعام قبل قبضه لان الذريعة موجودة في الجزاف وغير الجزاف. ومن الحجة لهما ما روي عن ابن عمر أنه قال: كنا في زمان رسول الله (ص) نبتاع الطعام جزافا، فبعث
118 إلينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه قال أبو عمر: وإن كان مالك لم يرو عن نافع في هذا الحديث ذكر الجزاف، فقد روته جماعة وجوده عبد الله بن عمر وغيره، وهو مقدم في حفظ حديث نافع. وعمدة المالكية أن الجزاف ليس فيه حق توفية، فهو عندهم من ضمان المشتري بنفس العقد، وهذا من باب تخصيص العموم بالقياس المظنون العلة، وقد يدخل في هذا الباب إجماع العلماء على منع بيع الرجل شيئا لا يملكه، وهو المسمى عينة عند من يرى نقله من باب الذريعة إلى الربا. وأما من رأى منعه من جهة أنه قد لا يمكنه نقله فهو داخل في بيوع الغرر، وصورة التذرع منه إلى الربا المنهي عنه أن يقول رجل لرجل: أعطني عشرة دنانير على أن أدفع لك إلى مدة كذا ضعفها، فيقول له: هذا لا يصلح، ولكن أبيع منك سلعة كذا لسلعة يسميها ليست عنده بهذا العدد، ثم يعمد هو فيشتري تلك السلعة فيقبضها له بعد أن كمل البيع بينهما، وتلك السلعة قيمتها قريب مما كان سأله أن يعطيه من الدراهم قرضا فيرد عليه ضعفها، وفي المذهب في هذا تفصيل ليس هذا موضع ذكره، ولا خلاف في هذه الصورة التي ذكرنا أنها غير جائزة في المذهب: أعني إذا تقارا على الثمن الذي يأخذ به السلعة قبل شرائها، وأما الدين بالدين، فأجمع المسلمون على منعه. واختلفوا في مسائل هل هي منه أم ليست منه؟ مثل ما كان ابن القاسم لا يجيز أن يأخذ الرجل من غريمه في دين له عليه تمرا قد بدا صلاحه ولا سكنى دار ولا جارية تتواضع، ويراه من باب الدين بالدين. وكان أشهب يجيز ذلك ويقول: ليس هذا من باب الدين بالدين، وإنما الدين بالدين ما لم يشرع في أخذ شئ منه. وهو قياس عند كثير من المالكيين. وهو قول الشافعي وأبي حنيفة. ومما أجازه مالك من هذا الباب وخالفه فيه جمهور العلماء ما قاله في المدونة من أن الناس كانوا يبيعون اللحم بسعر معلوم والثمن إلى العطاء، فيأخذ المبتاع كل يوم وزنا معلوما قال: ولم ير الناس بذلك بأسا، وكذلك كل ما يبتاع في الأسواق. وروى ابن القاسم أن ذلك لا يجوز إلا فيما خشي عليه الفساد من الفواكه إذا أخذ جميعه. وأما القمح وشبهه فلا، فهذه هي أصول هذا الباب، وهذا الباب كله إنما حرم في الشرع لمكان الغبن الذي يكون طوعا وعن علم. الباب الثالث: في البيوع المنهي عنها وهي البيوع المنهي عنها من قبل الغبن الذي سببه الغرر، والغرر يوجد في المبيعات من جهة الجهل على أوجه: إما من جهة الجهل بتعيين المعقود عليه، أو تعيين العقد، أو من جهة الجهل بوصف الثمن والمثمون المبيع، أو بقدره أو بأجله إن كان هنالك أجل، وإما من جهة الجهل بوجوده أو تعذر القدرة عليه، وهذا راجع إلى تعذر التسليم، وإما من جهة الجهل بسلامته: أعني بقاءه، وههنا بيوع تجمع أكثر هذه أو بعضها. ومن البيوع التي
119 توجد فيها هذه الضروب من الغرر بيوع منطوق بها وبيوع مسكوت عنها، والمنطوق به أكثره متفق عليه، وإنما يختلف في شرح أسمائها، والمسكوت عن مختلف فيه، ونحن نذكر أولا المنطوق به في الشرع، وما يتعلق به من الفقه، ثم نذكر بعد ذلك من المسكوت عنه ما شهر الخلاف فيه بين فقهاء الأمصار ليكون كالقانون في نفس الفقه: أعني في رد الفروع إلى الأصول. فأما المنطوق به في الشرع فمنه نهيه (ص) عن بيع حبل الحبلة ومنها نهيه عن بيع ما لم يخلق، وعن بيع الثمار حتى تزهى، وعن بيع الملامسة والمنابذة، وعن بيع الحصاة ومنها نهيه عن المعاومة، وعن بيعتين في بيعة. وعن بيع وشرط، وعن بيع وسلف، وعن بيع السنبل حتى يبيض والعنب حتى يسود ونهيه عن المضامين والملاقيح. أما بيع الملامسة فكانت صورته في الجاهلية أن يلمس الرجل الثوب ولا ينشره، أو يبتاعه ليلا، ولا يعلم ما فيه وهذا مجمع على تحريمه، وسبب تحريمه الجهل بالصفة. وأما بيع المنابذة فكان أن ينبذ كل واحد من المتبايعين إلى صاحبه الثوب من غير أن يعين أن هذا بهذا، بل كانوا يجعلون ذلك راجعا إلى الاتفاق. وأما بيع الحصاة، فكانت صورته عندهم أن يقول المشتري: أي ثوب وقعت عليه الحصاة التي أرمي بها فهو لي، وقيل أيضا إنهم كانوا يقولون: إذا وقعت الحصاة من يدي فقد وجب البيع. وهذا قمار. وأما بيع حبل الحبلة ففيه تأويلان: أحدهما: أنها كانت بيوعا يؤجلونها إلى أن تنتج الناقة ما في بطنها ثم ينتج ما في بطنها، والغرر من جهة الاجل في هذا بين، وقيل إنما هو بيع جنين الناقة، وهذا من باب النهي عن بيع المضامين والملاقيح. والمضامين: هي ما في بطون الحوامل، والملاقيح ما في ظهور الفحول، فهذه كلها بيوع جاهلية متفق على تحريمها، وهي محرمة من تلك الأوجه التي ذكرناها. وأما بيع الثمار، فإنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن بيعها حتى يبدو صلاحها وحتى تزهى ويتعلق بذلك مسائل مشهورة نذكر منها نحن عيونها. وذلك أن بيع الثمار لا يخلو أن تكون قبل أن تخلق أو بعد أن تخلق، ثم إذا خلقت لا يخلو أن تكون بعد الصرام أو قبله. ثم إذا كان قبل الصرام فلا يخلو أن تكون قبل أن تزهى أو بعد أن تزهى، وكل واحد من هذين لا يخلو أن يكون بيعا مطلقا أو بشرط التبقية أو بشرط القطع، أما القسم الأول: وهو بيع الثمار قبل أن تخلق فجميع العلماء مطبقون على منع ذلك، لأنه من باب النهي عن بيع ما لم يخلق، ومن باب بيع السنين والمعاومة. وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن بيع السنين وعن بيع المعاومة وهي بيع الشجر أعواما، إلا ما روي عن عمر بن الخطاب وابن الزبير أنهما كانا يجيزان بيع الثمار سنين. وأما بيعها بعد الصرام فلا خلا ف في جوازه، وأما بيعها بعد أن خلقت فأكثر العلماء على جواز ذلك على التفصيل الذي نذكره، إلا ما روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن. وعن عكرمة أنه لا يجوز إلا بعد الصرام، فإذا قلنا بقول الجمهور: إنه
120 يجوز قبل الصرام، فلا يخلو أن تكون بعد أن تزهى أو قبل أن تزهى. وقد قلنا إن ذلك لا يخلو أن يكون بيعا مطلقا أو بيعا بشرط القطع أو بشرط التبقية. فأما بيعها قبل الزهو بشرط القطع فلا خلاف في جوازه إلا ما روي عن الثوري وابن أبي ليلى من منع ذلك. وهي رواية ضعيفة. وأما بيعها قبل الزهو بشرط التبقية فلا خلاف في أنه لا يجوز إلا ما ذكره اللخمي من جوازه تخريجا على المذهب. وأما بيعها قبل الزهو مطلقا، فاختلف في ذلك فقهاء الأمصار. فجمهورهم على أنه لا يجوز: مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والليث والثوري وغيرهم. وقال أبو حنيفة: يجوز ذلك إلا أنه يلزم المشتري عنده فيه القطع لا من جهة ما هو بيع ما لم يره بل من جهة أن ذلك شرط عنده في بيع الثمر على ما سيأتي بعد. أما دليل الجمهور على منع بيعها مطلقا قبل الزهو، فالحديث الثابت عن ابن عمر أن رسول الله (ص) نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمشتري فعلم أن ما بعد الغاية بخلاف ما قبل الغاية، وأن هذا النهي يتناول البيع المطلق بشرط التبقية، ولما ظهر للجمهور أن المعنى في هذا خوف ما يصيب الثمار من الجائحة غالبا قبل أن تزهى لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أنس بن مالك بعد نهيه عن بيع الثمرة قبل الزهو أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ لم يحمل العلماء النهي في هذا على الاطلاق: أعني النهي عن البيع قبل الازهاء بل رأى أن معنى النهي هو بيعه بشرط التبقية إلى الازهاء، فأجازوا بيعها قبل الازهاء بشرط القطع. واختلفوا إذا ورد البيع مطلقا في هذه الحال: هل يحمل على القطع وهو الجائز، أو على التبقية الممنوعة؟ فمن حمل الاطلاق على التبقية، أو رأى أن النهي يتناوله بعمومه قال: لا يجوز، ومن حمله على القطع قال: يجوز، والمشهور عن مالك أن الاطلاق محمول على التبقية، وقد قيل عنه إنه محمول على القطع. وأما الكوفيون فحجتهم في بيع الثمار مطلقا قبل أن تزهى حديث ابن عمر الثابت أن رسول الله (ص) قال: من باع نخلا قد أبرت، فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع قالوا: فلما جاز أن يشترطه المبتاع جاز بيعه مفردا، وحملوا الحديث الوارد بالنهي عن بيع الثمار قبل أن تزهى على الندب، واحتجوا لذلك بما روي عن زيد بن ثابت قال: كان الناس في عهد رسول الله (ص) يتبايعون الثمار قبل أن يبدو صلاحها، فإذا جد الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع: أصاب الثمر الزمان، أصابه ما أضر به قشام ومراض - لعاهات يذكرونها - فلما كثرت خصومتهم عند النبي قال كالمشورة يشير بها عليهم: لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحها وربما قالوا: إن المعنى الذي دل عليه الحديث في قوله حتى يبدو صلاحه هو ظهور الثمرة بدليل قوله عليه الصلاة والسلام أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ وقد كان يجب على من قال من الكوفيين بهذا القول ولم يكن يرى رأي أبي حنيفة في أن من ضرورة بيع الثمار القطع أن يجيز بيع الثمار قبل بدو صلاحها على شرط التبقية،
121 فالجمهور يحملون جواز بيع الثمار بالشرط قبل الازهاء على الخصوص: أعني إذا بيع الثمر مع الأصل. وأما شراء الثمر مطلقا بعد الزهو فلا خلاف فيه، والاطلاق فيه عند جمهور فقهاء الأمصار يقتضي التبقية، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: أرأيت إن منع الله الثمرة... الحديث. ووجه الدليل منه أن الجوائح إنما تطرأ في الأكثر على الثمار قبل بدو الصلاح، وأما بعد بدو الصلاح فلا تظهر إلا قليلا، ولو لم يجب في المبيع بشرط التبقية لم يكن هنالك جائحة تتوقع، وكان هذا الشرط باطلا. وأما الحنفية فلا يجوز عندهم بيع الثمر بشرط التبقية، والاطلاق عندهم كما قلنا محمول على القطع، وهو خلاف مفهوم الحديث، وحجتهم أن نفس بيع الشئ يقتضي تسليمه وإلا لحقه الغرر، ولذلك لم يجز أن تباع الأعيان إلى أجل. والجمهور على أن بيع الثمار مستثنى من بيع الأعيان إلى أجل لكون الثمر ليس يمكن أن ييبس كله دفعة، فالكوفيون خالفوا الجمهور في بيع الثمار في موضعين: أحدهما: في جواز بيعها قبل أن تزهى. والثاني: في منع تبقيتها بالشرط بعد الازهاء أو بمطلق العقد، وخلافهم في الموضع الأول أقوى من خلافهم في الموضع الثاني: أعني في شرط القطع وإن أزهى، وإنما كان خلافهم في الموضع الأول أقرب لأنه من باب الجمع بين حديثي ابن عمر المتقدمين، لان ذلك أيضا مروي عن عمر بن الخطاب وابن الزبير، وأما بدو الصلاح الذي جوز رسول الله (ص) البيع بعده، فهو أن يصفر فيه البسر ويسود فيه العنب إن كان مما يسود، وبالجملة أن تظهر في الثمر صفة الطيب، هذا هو قول جماعة فقهاء الأمصار، لما رواه مالك عن حميد عن أنس أنه (ص) سئل عن قوله حتى يزهى، فقال: حتى يحمر وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن بيع العنب حتى يسود، والحب حتى يشتد. وكان زيد بن ثابت في رواية مالك عنه لا يبيع ثماره حتى تطلع الثريا، وذلك لاثنتي عشرة ليلة خلت من أيار وهو مايو، وهو قول ابن عمر أيضا سئل عن قول رسول الله (ص) إنه نهى عن بيع الثمار حتى تنجو من العاهات، فقال عبد الله وأما الأنواع المتقاربة الطيب فيجوز عنده
122 بيع بعضها بطيب البعض، وبدو الصلاح المعتبر عن مالك في الصنف الواحد من الثمر هو وجود الازهاء في بعضه لا في كله، إذا لم يكن ذلك الازهاء مبكرا في بعضه تبكيرا يتراخى عنه البعض بل إذا كان متتابعا، لان الوقت الذي تنجو الثمرة فيه في الغالب من العاهات هو إذا بدأ الطيب في الثمرة ابتداء متناسقا غير منقطع. وعند مالك أنه إذا بدا الطيب في نخلة بستان جاز بيعه وبيع البساتين المجاورة له إذا كان نخل البساتين من جنس واحد. وقال الشافعي، لا يجوز إلا بيع نخل البستان الذي يظهر فيه الطيب فقط. ومالك اعتبر الوقت الذي تؤمن فيه العاهة إذا كان الوقت واحدا للنوع الواحد. والشافعي اعتبر نقصان خلقة الثمر، وذلك أنه إذا لم يطب كان من بيع ما لم يخلق، وذلك أن صفة الطيب فيه وهي مشتراة لم تخلق بعد، لكن هذا - كما قال - لا يشترط في كل ثمرة بل في بعض ثمرة جنة واحدة وهذا لم يقل به أحد، فهذا هو مشهور ما اختلفوا فيه من بيع الثمار. ومن المسموع الذي اختلفوا فيه من هذا الباب ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام من النهي عن بيع السنبل حتى يبيض والعنب حتى يسود، وذلك أن العلماء اتفقوا على أنه لا يجوز بيع الحنطة في سنبلها دون السنبل، لأنه بيع ما لم تعلم صفته ولا كثرته. واختلفوا في بيع السنبل نفسه مع الحب، فجوز ذلك جمهور العلماء: مالك وأبو حنيفة وأهل المدينة وأهل الكوفة، وقال الشافعي: لا يجوز بيع السنبل نفسه وإن اشتد، لأنه من باب الغرر وقياسا على بيعه مخلوطا بتبنه بعد الدرس. وحجة الجمهور شيئان: الأثر والقياس. فأما الأثر فما روي عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله (ص) نهى عن بيع النخيل حتى تزهى، وعن السنبل حتى تبيض وتأمن العاهة، نهى البائع والمشتري وهي زيادة على ما رواه مالك من هذا الحديث، والزيادة إذا كانت من الثقة مقبولة وروي عن الشافعي أنه لما وصلته هذه الزيادة رجع عن قوله، وذلك أنه لا يصح عنده قياس مع وجود الحديث. وأما بيع السنبل إذا أفرك ولم يشتد فلا يجوز عند مالك، إلا على القطع. وأما بيع السنبل غير محصود. فقيل عن مالك يجوز، وقيل لا يجوز، إلا إذا كان في حزمه. وأما بيعه في تبنه بعد الدرس فلا يجوز بلا خلاف فيما أحسب، هذا إذا كان جزافا، فأما إذا كان مكيلا فجائز عند مالك، ولا أعرف فيه قولا لغيره. واختلف الذين أجازوا بيع السنبل إذا طاب على من يكون حصاده ودرسه، فقال الكوفيون: على البائع حتى يعمله حبا للمشتري، وقال غيرهم: هو على المشتري. ومن هذا الباب ما ثبت أن رسول الله (ص) نهى عن بيعتين في بيعة وذلك من حديث ابن عمر وحديث ابن مسعود وأبي هريرة. قال أبو عمر: وكلها من نقل العدول. فاتفق الفقهاء على القول بموجب هذا الحديث عموم، واختلفوا في التفصيل، أعني في الصورة التي ينطلق عليها هذا الاسم من التي لا ينطلق عليها. واتفقوا أيضا على بعضها، وذلك يتصور على وجوه ثلاثة: أحدها: إما في مثمونين بثمنين، أو مثمون واحد بثمنين،
123 أو مثمونين بثمن واحد على أن أحد البيعين قد لزم. أما في مثمونين بثمنين، فإن ذلك يتصور على وجهين: أحدهما: أن يقول له: أبيعك هذه السلعة بثمن كذا على أن تبيعني هذه الدار بثمن كذا، والثاني: أن يقول له: أبيعك هذه السلعة بدينار أو هذه الأخرى بدينارين. وأما بيع مثمون واحد بثمنين، فإن ذلك يتصور أيضا على وجهين: أحدهما: أن يكون أحد الثمنين نقدا والآخر نسيئة، مثل أن يقول له: أبيعك هذا الثوب نقدا بثمن كذا على أن أشتريه منك إلى أجل كذا بثمن كذا، وأما مثمونان بثمن واحد، فمثل أن يقول له: أبيعك أحد هذين بثمن كذا. أما الوجه الأول: وهو أن يقول له: أبيعك هذه الدار بكذا على أن تبيعني هذا الغلام بكذا، فنص الشافعي على أنه لا يجوز، لان الثمن في كليهما يكون مجهولا، لأنه لو أفرد المبيعين لم يتفقا في كل واحد منهما على الثمن الذي اتفقا عليه في المبيعين في عقد واحد، وأصل الشافعي في رد بيعتين في بيعة إنما هو جهل الثمن أو المثمون. وأما الوجه الثاني: وهو أن يقول: أبيعك هذه السلعة بدينار أو هذه الأخرى بدينارين على أن البيع قد لزم في أحدهما فلا يجوز عند الجميع، وسواء أكان النقد واحدا أو مختلفا، وخالف عبد العزيز بن أبي سلمة في ذلك، فأجازه إذا كان النقد واحدا أو مختلفا، وعلة منعه عند الجميع الجهل، وعند مالك من باب سد الذرائع لأنه ممكن أن يختار في نفسه أحد الثوبين، فيكون قد باع ثوبا ودينارا بثوب ودينار، وذلك لا يجوز على أصل مالك. وأما الوجه الثالث: وهو أن يقول له: أبيعك هذا الثوب نقدا بكذا أو نسيئة بكذا، فهذا إذا كان البيع فيه واجبا فلا خلاف في أنه لا يجوز وأما إذ لم يكن البيع لازما في أحدهما فأجازه مالك، ومنعه أبو حنيفة والشافعي، لأنهما افترقا على ثمن غير معلوم، وجعله مالك من باب الخيار، لأنه إذا كان عنده على الخيار لم يتصور فيه ندم يوجب تحويل أحد الثمنين في الآخر، وهذا عند مالك هو المانع، فعلة امتناع هذا الوجه الثالث عند الشافعي وأبي حنيفة من جهة جهل الثمن، فهو عندهما من بيوع الغرر التي نهي عنها، وعلة امتناعه عند مالك سد الذريعة الموجبة للربا لامكان أن يكون الذي له الخيار قد اختار أولا إنفاذ العقد بأحد الثمنين المؤجل أو المعجل ثم بدا له ولم يظهر ذلك، فيكون قد ترك أحد الثمنين للثمن الثاني، فكأنه باع أحد الثمنين بالثاني، فيدخله ثمن بثمن نسيئة، أو نسيئة ومتفاضلا، وهذا كله إذا كان الثمن نقدا، وإن كان الثمن غير نقد بل طعاما دخله وجه آخر، وهو بيع الطعام بالطعام متفاضلا. وأما إذا قال: أشتري منك هذا الثوب نقدا بكذا على أن تبيعه مني إلى أجل. فهو عندهم لا يجوز بإجماع، لأنه من باب العينة وهو بيع الرجل ما ليس عنده، ويدخله أيضا علة جهل الثمن. وأما إذا قال له: أبيعك أحد هذين الثوبين بدينار وقد لزمه أحدهما أيهما يختار وافترقا قبل الخيار، فإذا كان الثوبان من صنفين وهما مما يجوز أن يسلم أحدهما في الثاني فإنه لا خلاف بين مالك والشافعي في أنه
124 لا يجوز، وقال عبد العزيز بن أبي سلمة: إنه يجوز، وعلة المنع الجهل والغرر. وأما إن كانا من صنف واحد فيجوز عند مالك، ولا يجوز عند أبي حنيفة والشافعي وأما مالك فإنه أجازه لأنه يجيز الخيار بعد عقد البيع في الأصناف المستوية لقلة الغرر عنده في ذلك. وأما من لا يجيزه فيعتبره بالغرر الذي لا يجوز. لأنهما افترقا على بيع غير معلوم. وبالجملة فالفقهاء متفقون على أن الغرر الكثير في المبيعات لا يجوز. وأن القليل يجوز. ويختلفون في أشياء من أنواع الغرر. فبعضهم يلحقها بالغرر الكثير، وبعضهم يلحقها بالغرر القليل المباح لترددها بين القليل والكثير، فإذا قلنا بالجواز على مذهب مالك، فقبض الثوبين من المشتري على أن يختار فهلك أحدهما أو أصابه عيب فمن يصيبه ذلك؟ فقيل تكون المصيبة بينهما. وقيل بل يضمنه كله المشتري. إلا أن تقوم البينة على هلاكه. وقيل فرق في ذلك بين الثياب وما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه كالعبد فيضمن فيما يغاب عليه ولا يضمن فيما لا يغاب عليه. وأما هل يلزمه أخذ الباقي؟ قيل يلزم. وقيل لا يلزم. وهذا يذكر في أحكام البيوع. وينبغي أن نعلم أن المسائل الداخلة في هذا المعنى هي: أما عند فقها الأمصار فمن باب الغرر، وأما عند مالك فمنها ما يكون عنده من باب ذرائع الربا، ومنها ما يكون من باب الغرر. فهذه هي المسائل التي تتعلق بالمنطوق به في هذا الباب. وأما نهيه عن بيع الثنيا وعن بيع وشرط فهو وإن كان سببه الغرر فالأشبه أن نذكرها في المبيعات الفاسدة من قبل الشروط. فصل: وأما المسائل المسكوت عنها في هذا الباب المختلف فيها بين فقهاء الأمصار فكثيرة، لكن نذكر منها أشهرها لتكون كالقانون للمجتهد النظار. مسألة: المبيعات على نوعين: مبيع حاضر مرئي، فهذا لا خلاف في بيعه. ومبيع غائب أو متعذر الرؤية، فهنا اختلف العلماء، فقال قوم: بيع الغائب لا يجوز بحال من الأحوال لا ما وصف ولا ما لم يوصف. وهذا أشهر قولي الشافعي وهو المنصوص عند أصحابه، أعني أن بيع الغائب على الصفة لا يجوز، وقال مالك وأكثر أهل المدينة: يجوز بيع الغائب على الصفة إذا كانت غيبته مما يؤمن أن تتغير فيه قبل القبض صفته، وقال أبو حنيفة: يجوز بيع العين الغائبة من غير صفة، ثم له إذا رآها الخيار، فإن شاء أنفذ البيع وإن شاء رده. وكذلك المبيع على الصفة من شرطه عندهم خيار الرؤية وإن جاء على الصفة وعند مالك أنه إذا جاء على الصفة فهو لازم، وعند الشافعي لا ينعقد البيع أصلا في الموضعين، وقد قيل في المذهب: يجوز بيع الغائب من غير صفة على شرط الخيار خيار الرؤية، وقع ذلك في المدونة، وأنكره عبد الوهاب وقال: هو مخالف لأصولنا. وسبب الخلاف: هل نقصان العلم المتعلق بالصفة عن العلم المتعلق بالحس هو جهل مؤثر في بيع الشئ فيكون من الغرر الكثير، أم ليس بمؤثر وأنه من الغرر اليسير المعفو عنه؟ فالشافعي رآه من الغرر الكثير،
125 ومالك رآه من الغرر اليسير، وأما أبو حنيفة فإنه رأى أنه إذا كان له خيار الرؤية أنه لا غرر هناك وإن لم تكن رؤية، وأما مالك فرأى أن الجهل المقترن بعدم الصفة مؤثر في انعقاد البيع، ولا خلاف عند مالك أن الصفة إنما تنوب عن المعاينة لمكان غيبة المبيع أو لمكان المشقة التي في نشره، وما يخاف أن يلحقه من الفساد بتكرار النشر عليه، ولهذا أجاز البيع على البرنامج على الصفة، ولم يجز عنده بيع السلاح في جرابه ولا الثوب المطوي في طيه حتى ينشر أو ينظر إلى ما في جرابها. واحتج أبو حنيفة بما روي عن ابن المسيب أنه قال: قال أصحاب النبي (ص): وددنا أن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف تبايعا حتى نعلم أيهما أعظم جدا في التجارة، فاشترى عبد الرحمن من عثمان بن عفان فرسا بأرض له أخرى بأربعين ألفا أو أربعة آلاف. فذكر تمام الخبر. وفيه بيع الغائب مطلقا، ولا بد عند أبي حنيفة من اشتراط الجنس. ويدخل البيع على الصفة أو على خيار الرؤية من جهة ما هو غائب غرر آخر ، وهو هل هو موجود وقت العقد أو معدوم؟ ولذلك اشترطوا فيه أن يكون قريب الغيبة إلا أن يكون مأمونا كالعقار. ومن ههنا أجاز مالك بيع الشئ برؤية متقدمة، أعني إذا كان من القرب بحيث يؤمن أن لا تتغير فيه. فاعلمه. مسألة: وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع الأعيان إلى أجل، وأن من شرطها تسليم المبيع إلى المبتاع بأثر عقد الصفقة، إلا أن مالكا وربيعة وطائفة من أهل المدينة أجازوا بيع الجارية الرفيعة على شرط المواضعة، ولم يجيزوا فيها النقد كما لم يجزه مالك في بيع الغائب. وإنما منع ذلك الجمهور لما يدخله من الدين بالدين، ومن عدم التسليم، ويشبه أن يكون بيع الدين بالدين من هذا الباب، أعني لما يتعلق بالغرر من عدم التسليم من الطرفين لا من باب الربا، وقد تكلمنا في علة الدين بالدين، ومن هذا الباب ما كان يرى ابن القاسم أنه لا يجوز أن يأخذ الرجل من غريمه في دين له عليه ثمرا قد بدا صلاحه ويراه من باب الدين بالدين، وكان أشهب يجيز ذلك ويقول: إنما الدين بالدين ما لم يشرع في قبض شئ منه، أعني أنه كان يرى أن قبض الأوائل من الأثمان يقوم مقام قبض الأواخر، وهو القياس عند كثير من المالكيين، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة. مسألة: أجمع فقهاء الأمصار على بيع الثمر الذي يثمر بطنا واحدا يطيب بعضه وإن لم تطب جملته معا، واختلفوا فيما يثمر بطونا مختلفة، وتحصيل مذهب مالك في ذلك أن البطون المختلفة لا تخلو أن تتصل أو لا تتصل فإن لم تتصل لم يكن بيع ما لم يخلق منها داخلا فيما خلق كشجر التين يوجد فيه الباكور والعصير، ثم إن اتصلت فلا يخلو أن تتميز البطون أو لا تتميز، فمثال المتميز جز القصيل الذي يجز مدة بعد مدة. ومثال غير المتميز المطابخ والمقاثئ والباذنجان والقرع، ففي الذي يتميز عنه وينفصل روايتان: إحداهما الجواز والأخرى المنع. وفي الذي يتصل ولا يتميز قول واحد وهو الجواز، وخالفه
126 الكوفيون وأحمد وإسحق والشافعي في هذا كله، فقالوا: لا يجوز بيع بطن منها بشرط بطن آخر، وحجة مالك فيما لا يتميز أنه لا يمكن حبس أوله على آخره، فجاز أن يباع ما لم يخلق منها مع ما خلق وبدا صلاحه، أصله جواز بيع ما لم يطب من الثمر مع ما طاب، لان الغرر في الصفة شبهه بالغرر في عين الشئ. وكأنه رأى أن الرخصة ههنا يجب أن تقاس على الرخصة في بيع الثمار، أعني ما طاب مع ما لم يطب لموضع الضرورة، والأصل عنده أن من الغرر ما يجوز لموضع الضرورة، ولذلك منع على إحدى الروايتين عنده بيع القصيل بطنا أكثر من واحد لأنه لا ضرورة هناك إذا كان متميزا. وأما وجه الجواز في القصيل فتشبيها له بما لا يتميز وهو ضعيف. وأما الجمهور فإن هذا كله عندهم من بيع ما لم يخلق، ومن باب النهي عن بيع الثمار معاومة. واللفت والجزر والكرنب جائز عند مالك بيعه إذا بدا صلاحه وهو استحقاقه للأكل، ولم يجزه الشافعي إلا مقلوعا، لأنه من باب بيع المعيب، ومن هذا الباب بيع الجوز واللوز والباقلا في قشره، أجازه مالك، ومنعه الشافعي. والسبب في اختلافهم: هل هو من الغرر المؤثر في البيوع أم ليس من المؤثر؟ وذلك أنهم اتفقوا أن الغرر ينقسم بهذين القسمين، وأن غير المؤثر هو اليسير أو الذي تدعو إليه الضرورة، أو ما جمع الامرين. ومن هذا الباب بيع السمك في الغدير أو البركة اختلفوا فيه أيضا، فقال أبو حنيفة: يجوز، ومنعه مالك والشافعي فيما أحسب، وهو الذي تقتضي أصوله. ومن ذلك بيع الآبق أجازه قوم بإطلاق، ومنعه قوم بإطلاق ومنهم الشافعي، وقال مالك: إذا كان معلوم الصفة معلوم الموضع عند البائع والمشتري جاز، وأظنه اشترط أن يكون معلوم الإباق، ويتواضعان الثمن أعني أنه لا يقبضه البائع حتى يقبضه المشتري، لأنه يتردد عند العقد بين بيع وسلف، وهذا أصل من أصوله يمنع به النقد في بيع المواضعة وفي بيع الغائب غير المأمون، وفيما كان من هذا الجنس. وممن قال بجواز بيع الآبق والبعير الشارد عثمان البتي. والحجة للشافعي: حديث شهر بن حوشب عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله (ص) نهى عن شراء العبد الآبق، وعن شراء ما في بطون الانعام حتى تضع، وعن شراء ما في ضروعها، وعن شراء الغنائم حتى تقسم وأجاز مالك بيع لبن الغنم أياما معدودة إذا كان ما يحلب منها معروفا في العادة. ولم يجز ذلك في الشاة الواحدة، وقال سائر الفقهاء: لا يجوز ذلك إلا بكيل معلوم بعد الحلب. ومن هذا الباب منع مالك بيع اللحم في جلده. ومن هذا الباب بيع المريض، أجازه مالك إلا أن يكون ميؤوسا منه، ومنعه الشافعي وأبو حنيفة، وهي رواية أخرى عنه ومن هذا الباب بيع تراب المعدن والصواغين، فأجاز مالك بيع تراب المعدن بنقد يخالفه أو بعرض، ولم يجز بيع تراب الصاغة، ومنع الشافعي البيع في الامرين جميعا، وأجازه قوم في الامرين جميعا، وبه قال الحسن البصري، فهذه هي البيوع
127 التي يختلف فيها أكثر ذلك من قبل الجهل بالكيفية. وأما اعتبار الكمية فإنهم اتفقوا على أنه لا يجوز أن يباع شئ من المكيل أو الموزون أو المعدود أو الممسوح إلا أن يكون معلوم القدر عند البائع والمشتري، واتفقوا على أن العلم الذي يكون بهذه الأشياء من قبل الكيل المعلوم أو الصنوج المعلومة مؤثر في صحة البيع، وفي كل ما كان غير معلوم الكيل والوزن عند البائع والمشتري من جميع الأشياء المكيلة والموزونة والمعدودة والممسوحة، وأن العلم بمقادير هذه الأشياء التي تكون من قبل الحزر والتخمين وهو الذي يسمونه الجزاف يجوز في أشياء ويمنع في أشياء. وأصل مذهب مالك في ذلك أنه يجوز في كل ما المقصود منه الكثرة لا آحاد وهو عنده على أصناف: منها ما أصله الكيل ويجوز جزافا، وهي المكيلات والموزونات، ومنها ما أصله الجزاف ويكون مكيلا، وهي الممسوحات كالأرضين والثياب، ومنها ما لا يجوز فيها التقدير أصلا بالكيل والوزن، بل إنما يجوز فيها العدد فقط ولا يجوز بيعها جزافا، وهي كما قلنا التي المقصود منها آحاد أعيانها. وعند مالك أن التبر والفضة الغير المسكوكين يجوز بيعهما جزافا ولا يجوز ذلك في الدراهم والدنانير، وقال أبو حنيفة والشافعي: يجوز ويكره. ويجوز عند مالك أن تباع الصبرة المجهولة على الكيل: أي كل كيل منها بكذا، فما كان فيها من الأكيال وقع من تلك القيمة بعد كيلها والعلم بمبلغها، وقال أبو حنيفة: لا يلزم إلا في كيل واحد وهو الذي سمياه. ويجوز هذا البيع عند مالك في العبيد والثياب وفي الطعام، ومنعه أبو حنيفة في الثياب والعبيد، ومنع ذلك غيره في الكل فيما أحسب للجهل بمبلغ الثمن. ويجوز عند مالك أن يصدق المشتري البائع في كيلها إذا لم يكن البيع نسيئة، لأنه يتهمه أن يكون صدقه لينظره بالثمن، وعند غيره لا يجوز ذلك حتى يكتالها المشتري لنهيه (ص) عن بيع الطعام حتى تجرى فيه الصيعان وأجازه قوم على الاطلاق، وممن منعه أبو حنيفة والشافعي وأحمد، وممن أجازه بإطلاق عطاء بن أبي رباح وابن أبي مليكة، ولا يجوز عند مالك أن يعلم البائع الكيل ويبيع المكيل جزافا ممن يجهل الكيل، ولا يجوز عند الشافعي وأبي حنيفة. والمزابنة المنهي عنها هي عند مالك من هذا الباب، وهي بيع مجهول الكمية بمجهول الكمية، وذلك أما في الربويات فلموضع التفاضل، وأما في غير الربويات فلعدم تحقق القدر. الباب الرابع: في بيوع الشروط والثنيا وهذه البيوع الفساد الذي يكون فيها هو راجع إلى الفساد الذي يكون من قبل الغرر، ولكن لما تضمنها النص وجب أن تجعل قسما من أقسام البيوع الفاسدة على حدة. والأصل في اختلاف الناس في هذا الباب ثلاثة أحاديث: أحدها: حديث جابر قال: ابتاع مني رسول الله (ص) بعيرا وشرط ظهره إلى المدينة وهذا الحديث في الصحيح. والحديث الثاني: حديث بريرة أن رسول الله (ص) قال كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة
128 شرط والحديث متفق على صحته. والثالث: حديث جابر قال: نهى رسول الله (ص) عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومة والثنيا، ورخص في العرايا وهو أيضا في الصحيح خرجه مسلم. ومن هذا الباب ما روي عن أبي حنيفة أنه روى أن رسول الله (ص) نهى عن بيع وشرط فاختلف العلماء لتعارض هذه الأحاديث في بيع وشرط، فقال قوم: البيع فاسد والشرط جائز. وممن قال بهذا القول الشافعي وأبو حنيفة، وقال قوم: البيع جائز والشرط جائز، وممن قال بهذا القول ابن أبي شبرمة، وقال قوم: البيع جائز والشرط باطل، وممن قال بهذا القول ابن أبي ليلى، وقال أحمد: البيع جائز مع شرط واحد، وأما مع شرطين فلا فمن أبطل البيع والشرط أخذ بعموم نهيه عن بيع وشرط، ولعموم نهيه عن الثنيا، ومن أجازهما جميعا أخذ بحديث عمر الذي ذكر فيه البيع والشرط، ومن أجاز البيع وأبطل الشرط أخذ بعموم حديث بريرة، ومن لم يجز الشرطين وأجاز الواحد احتج بحديث عمرو بن العاص خرجه أبو داود قال: قال رسول الله (ص) لا يحل سلف وبيع، ولا يجوز شرطان في بيع، ولا ربح ما لم تضمن، ولا بيع ما ليس هو عندك. وأما مالك فالشروط عنده تنقسم ثلاثة أقسام: شروط تبطل هي والبيع معا، وشروط تجوز هي والبيع معا، وشروط تبطل ويثبت البيع. وقد يظن أن عنده قسما رابعا وهو أن من الشروط ما إن يمسك المشترط بشرطه بطل البيع، وإن تركه جاز البيع، وإعطاء فروق بينة في مذهبه بين هذه الأصناف الأربعة عسير، وقد رام ذلك كثير من الفقهاء، وإنما هي راجعة إلى كثرة ما يتضمن الشروط من صنفي الفساد الذي يخل بصحة البيوع وهما الربا والغرر وإلى قلته وإلى التوسط بين ذلك، أو إلى ما يفيد نقصا في الملك، فما كان دخول هذه الأشياء فيه كثيرا من قبل الشرط أبطله وأبطل الشرط، وما كان قليلا أجازه وأجاز الشرط فيها، وما كان متوسطا أبطل الشرط وأجاز البيع. ويرى أصحابه أن مذهبه هو أولى المذاهب، إذ بمذهبه تجتمع الأحاديث كلها، والجمع عندهم أحسن من الترجيح. وللمتأخرين من أصحاب مالك في ذلك تفصيلات متقاربة، وأحد من له ذلك جدي والمازري والباجي، وتفصيله في ذلك أن قال: إن الشرط في المبيع يقع على ضربين أولين: أحدهما: أن يشترطه بعد انقضاء الملك مثل من يبيع الأمة أو العبد، ويشترط أنه متى عتق كان له ولاؤه دون المشتري، فمثل هذا قالوا: يصح فيه العقد ويبطل الشرط لحديث بريرة. والقسم الثاني: أن يشترط عليه شرطا يقع في مدة الملك، وهذا قالوا: ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إما أن يشترط في المبيع منفعة لنفسه، وإما أن يشترط على المشتري منعا من تصرف عام أو خاص، وإما أن يشترط إيقاع معنى في المبيع، وهذا أيضا ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون معنى من معاني البر. والثاني: أن يكون معنى ليس فيه من البر شئ. فأما إذا اشترط لنفسه منفعة يسيرة لا تعود بمنع التصرف في أصل المبيع، مثل أن يبيع الدار ويشترط سكناها مدة يسيرة مثل
129 الشهر، وقيل السنة، فذلك جائز على حديث جابر. وأما أن يشترط منعا من تصرف خاص أو عام، فذلك لا يجوز لأنه من الثنيا، مثل أن يبيع الأمة على أن لا يطأها أو لا يبيعها، وأما أن يشترط معنى من معاني البر مثل العتق، فإن كان اشترط تعجيله جاز عنده، وإن تأخر لم يجز لعظم الغرر فيه. وبقول مالك في إجازة البيع بشرط العتق المعجل قال الشافعي على أن من قوله منع بيع وشرط، وحديث جابر عنده مضطرب اللفظ، لان في بعض رواياته أنه باعه واشترط ظهره إلى المدينة، وفي بعضها أنه أعاره ظهره إلى المدينة. ومالك رأى هذا من باب الغرر اليسير فأجازه في المدة القليلة ولم يجزه في الكثيرة. وأما أبو حنيفة فعلى أصله في منع ذلك. وأما إن اشترط معنى في المبيع ليس ببر مثل أن لا يبيعها، فذلك لا يجوز عند مالك، وقيل عنه: البيع مفسوخ، وقيل: بل يبطل الشرط فقط. وأما من قال له البائع: متى جئتك بالثمن رددت علي المبيع فإنه لا يجوز عند مالك، لأنه يكون مترددا بين البيع والسلف، إن جاء بالثمن كان سلفا، وإن لم يجئ كان بيعا. واختلف في المذهب هل يجوز ذلك في الإقالة أم لا؟ فمن رأى أن الإقالة بيع فسخها عنده ما يفسخ سائر البيوع، ومن رأى أنها فسخ فرق بينها وبين البيوع. واختلف أيضا فيمن باع شيئا بشرط أن لا يبيعه حتى ينتصف من الثمن، فقيل عن مالك يجوز ذلك لان حكمه حكم الرهن، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الرهن هو المبيع أو غيره، وقيل عن ابن القاسم: لا يجوز ذلك، لأنه شرط يمنع المبتاع التصرف في المبيع المدة البعيدة التي لا يجوز للبائع اشتراط المنفعة فيها، فوجب أن يمنع صحة البيع، ولذلك قال ابن المواز إنه جائز في الأمد القصير. ومن المسموع في هذا الباب نهيه (ص) عن بيع وسلف، اتفق الفقهاء على أنه من البيوع الفاسدة واختلفوا إذا ترك الشرط قبل القبض، فمنعه أبو حنيفة والشافعي وسائر العلماء، وأجاز مالك وأصحابه إلا محمد بن عبد الحكم، وقد روي عن مالك مثل قول الجمهور، وحجة الجمهور أن النهي يتضمن فساد المنهي عنه مع أن الثمن يكون في المبيع مجهولا لاقتران السلف به. وقد روي أن محمد بن أحمد بن سهل البرمكي سأل عن هذه المسألة إسماعيل بن إسحاق المالكي فقال له: ما الفرق بين السلف والبيع، وبين رجل باع غلاما بمائة دينار وزق خمر فلما عقد البيع قال: أنا أدع الزق، قال: وهذا البيع مفسوخ عند العلماء بإجماع، فأجاب إسماعيل عن هذا بجواب لا تقوم به حجة، وهو أن قال له: الفرق بينهما أن مشترط السلف هو مخير في تركه، أو عدم تركه، وليس كذلك مسألة زق الخمر وهذا الجواب هو نفس الشئ الذي طولب فيه بالفرق، وذلك أنه يقال له: لم كان هنا مخيرا ولم يكن هنالك مخيرا في أن يترك الزق ويصح البيع؟ والأشبه أن يقال إن التحريم ههنا لم يكن لشئ محرم بعينه وهو السلف لان السلف مباح، وإنما وقع التحريم من أجل الاقتران: أعني اقتران البيع به، وكذلك البيع في نفسه جائز، وإنما امتنع من قبل اقتران
130 الشرط به، وهنالك إنما امتنع البيع من أجل اقتران شئ محرم لعينه به، لا أنه شئ محرم من قبل الشرط. ونكتة المسألة هل إذا لحق الفساد بالبيع من قبل الشرط يرتفع الفساد إذا ارتفع الشرط أم لا يرتفع كما لا يرتفع الفساد اللاحق للبيع الحلال من أجل اقتران المحرم العين به؟ وهذا أيضا ينبني على أصل آخر هو هل هذا الفساد حكمي أو معقول؟ فإن قلنا حكمي لم يرتفع بارتفاع الشرط، وإن قلنا معقول ارتفع بارتفاع الشرط. فمالك رآه معقولا، والجمهور رأوه غير معقول. والفساد الذي يوجد في بيوع الربا والغرر هو أكثر ذلك حكمي ولذلك ليس ينعقد عندهم أصلا، وإن ترك الربا بعد البيع أو ارتفع الغرر. واختلفوا في حكمه إذا وقع على ما سيأتي في أحكام البيوع الفاسدة. ومن هذا الباب بيع العربان، فجمهور علماء الأمصار على أنه غير جائز. وحكي عن قوم من التابعين أنهم أجازوه، منهم مجاهد وابن سيرين ونافع بن الحار ث وزيد بن أسلم. وصورته: أن يشتري الرجل شيئا فيدفع إلى المبتاع من ثمن ذلك المبيع شيئا على أنه إن نفذ البيع بينهما كان ذلك المدفوع من ثمن السلعة، وإن لم ينفذ ترك المشتري بذلك الجزء من الثمن عند البائع ولم يطالبه به، وإنما صار الجمهور إلى منعه لأنه من باب الغرر والمخاطرة وأكل المال بغير عوض، وكان زيد يقول: أجازه رسول الله (ص). وقال أهل الحديث: ذلك غير معروف عن رسول الله (ص). وفي الاستثناء مسائل مشهورة من هذا الباب اختلف الفقهاء فيها أعني هل تدخل تحت النهي عن الثنيا، أم ليست تدخل؟ فمن ذلك أن يبيع الرجل حاملا ويستثني ما في بطنها، فجمهور فقهاء الأمصار مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري على أنه لا يجوز، وقال أحمد وأبو ثور وداود ذلك جائز، وهو مروي عن ابن عمر. وسبب الخلاف: هل المستثنى مبيع مع ما استثنى منه، أم ليس بمبيع وإنما هو باق على ملك البائع؟ فمن قال مبيع قال: لا يجوز وهو من الثنيا المنهي عنها لما فيها من الجهل بصفته وقلة الثقة بسلامة خروجه؟ ومن قال هو باق على ملك البائع أجاز ذلك، وتحصيل مذهب مالك فيمن باع حيوانا واستثنى بعضه أن ذلك البعض لا يخلو أن يكون شائعا أو معينا أو مقدرا، فإن كان شائعا فلا خلاف في جوازه مثل أن يبيع عبدا إلا ربعه. وأما إن كان معينا فلا يخلو أن يكون مغيبا مثل الجنين، أو يكون غير مغيب، فإن كان مغيبا فلا يجوز، وإن كان غير مغيب كالرأس واليد والرجل، فلا يخلو الحيوان أن يكون مما يستباح ذبحه أو لا يكون، فإن كان مما لا يستباح ذبحه فإنه لا يجوز، لأنه لا يجوز أن يبيع أحد غلاما ويستثني رجله، لان حقه غير متميز، ولا متبعض وذلك مما لا خلاف فيه، وإن كان الحيوان مما يستباح ذبحه، فإن باعه واستثنى منه عضوا له قيمة بشرط الذبح، ففي المذهب فيه قولان: أحدهما: أنه لا يجوز وهو المشهور، والثاني: يجوز، وهو قول ابن حبيب جوز بيع الشاة مع استثناء القوائم والرأس. وأما إذا لم يكن المستثنى قيمة فلا خلاف في جوازه في المذهب، ووجه قول مالك أنه إن كان استثناؤه بجلده فما تحت الجلد مغيب وإن كان لم يستثنه بجلده فإنه لا يدري بأي صفة يخرج له بعد كشط الجلد
131 عنه. ووجه قول ابن حبيب أنه استثنى عضوا معينا معلوما، فلم يضره ما عليه من الجلد أصله شراء الحب في سنبله والجوز في قشره. وأما إن كان المستثنى من الحيوان بشرط الذبح إما عرفا وإما ملفوظا به جزءا مقدرا مثل أرطال من جزور، فعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما: المنع، وهي رواية ابن وهب، والثانية: الإجازة في الأرطال اليسيرة فقط، وهي رواية ابن القاسم. وأجمعوا من هذا الباب على جواز بيع الرجل ثمر حائطه واستثناء نخلات معينات منه قياسا على جواز شرائها. واتفقوا على أنه لا يجوز أن يستثني من حائط له عدة نخلات غير معينات إلا بتعيين المشتري لها بعد البيع، لأنه بيع ما لم يره المتبايعان واختلفوا في الرجل يبيع الحائط ويستثنى منه عدة نخلات بعد البيع، فمنعه الجمهور لمكان اختلاف صفة النخيل، وروي عن مالك إجازته، ومنع ابن القاسم قوله في النخلات وأجازه في استثناء الغنم. وكذلك اختلف قول مالك وابن القاسم في شراء نخلات معدودة من حائطه على أن يعينها بعد الشراء المشتري فأجازه مالك ومنعه ابن القاسم. وكذلك اختلفوا إذا استثنى البائع مكيلة من حائط، قال أبو عمر بن عبد البر: فمنع ذلك فقهاء الأمصار الذين تدور الفتوى عليهم، وألفت الكتاب على مذاهبهم لنهيه (ص) عن الثنيا في البيع، لأنه استثناء مكيل من جزاف، وأما مالك وسلفه من أهل المدينة فإنهم أجازوا ذلك فيما دون الثلث ومنعوه فيما فوقه، وحملوا النهي عن الثنيا على ما فوق الثلث، وشبهوا بيع ما عدا المستثنى ببيع الصبرة التي لا يعلم مبلغ كيلها فتباع جزافا ويستثنى منها كيل ما، وهذا الأصل أيضا مختلف فيه، أعني إذا استثني منها كيل معلوم واختلف العلماء من هذا الباب في بيع وإجارة معا في عقد واحد، فأجازه مالك وأصحابه، ولم يجزه الكوفيون ولا الشافعي، لان الثمن يرون أنه يكون حينئذ مجهولا، ومالك يقول إذا كانت الإجارة معلومة لم يكن الثمن مجهولا، وربما رآه الذين منعوه من باب بيعتين في بيعة. وأجمعوا على أنه لا يجوز السلف أو البيع كما قلنا. واختلف قول مالك في إجازة السلف والشركة، فمرة أجاز ذلك ومرة منعه، وهذه كلها اختلف العلماء فيها لاختلافهم بالأقل والأكثر في وجود علل المنع فيها المنصوص عليها، فمن قويت عنده علة المنع في مسألة منها منعها، ومن لم تقو عنده أجازها، وذلك راجع إلى ذوق المجتهد، لأن هذه المواد يتجاذب القول فيها إلى الضدين على السواء عند النظر فيها، ولعل في أمثال هذه المواد يكون القول بتصويب كل مجتهد صوابا، ولهذا ذهب بعض العلماء في أمثال هذه المسائل إلى التخيير.
132 الباب الخامس: في البيوع المنهي عنها من أجل الضرر أو الغبن والمسموع من هذا الباب ما ثبت من نهيه (ص) عن أن يبيع الرجل على بيع أخيه، وعن أن يسوم أحد على سوم أخيه، ونهيه عن تلقي الركبان، ونهيه عن أن يبيع حاضر لباد، ونهيه عن النجش. وقد اختلف العلماء في تفصيل معاني هذه الآثار اختلافا ليس بمتباعد، فقال مالك: معنى قوله عليه الصلاة والسلام لا يبع بعضكم على بيع بعض ومعنى نهيه عن أن يسوم أحد على سوم أخيه واحد، وهي في الحالة التي إذا ركن البائع فيها إلى السائم ولم يبق بينهما إلا شئ يسير مثل اختيار الذهب أو اشتراط العيوب أو البراءة منها، وبمثل تفسير مالك فسر أبو حنيفة هذا الحديث. وقال الثوري معنى لا يبع بعضكم على بيع بعض أن لا يطرأ رجل آخر على المتبايعين فيقول: عندي خير من هذه السلعة. ولم يحد وقت ركون ولا غيره. وقال الشافعي: معنى ذلك إذا تم البيع باللسان ولم يفترقا فأتى أحد يعرض عليه سلعة له هي خير منها، وهذا بناء على مذهبه في أن البيع إنما يلزم بالافتراق، فهو ومالك متفقان على أن النهي إنما يتناول حالة قرب لزوم البيع على ما سنذكره بعد، وفقهاء الأمصار على أن هذا البيع يكره، وإن وقع مضى لأنه سوم على بيع لم يتم، وقال داود وأصحابه: إن وقع فسخ في أي حالة وقع تمسكا بالعموم، وروي عن مالك وعن بعض أصحابه فسخه ما لم يفت، وأنكر ابن الماجشون ذلك في البيع فقال: وإنما قال بذلك مالك في النكاح وقد تقدم ذلك. واختلفوا في دخول الذمي في النهي عن سوم غيره، فقال الجمهور: لا فرق في ذلك بين الذمي وغيره وقال الأوزاعي: لا بأس بالسوم على سوم الذمي لأنه ليس بأخي المسلم، وقد قال (ص) لا يسم أحد على سوم أخيه ومن هنا منع قوم بيع المزايدة وإن كان الجمهور على جوازه. وسبب الخلاف: بينهم هل يحمل هذا النهي على الكراهة أو على الحظر، ثم إذا حمل على الحظر فهل يحمل على جميع الأحوال، أو في حالة دون حالة؟. فصل: وأما نهيه عن تلقي الركبان للبيع، فاختلفوا في مفهوم النهي ما هو، فرأى مالك أن المقصود بذلك أهل الأسواق لئلا ينفرد المتلقي برخص السلعة، دون أهل الأسواق، ورأي أنه لا يجوز أن يشتري أحد سلعة حتى تدخل السوق، هذا إذا كان التلقي قريبا، فإن كان بعيدا فلا بأس به، وحد القرب في المذهب بنحو من ستة أميال، ورأي أنه إن وقع جاز، ولكن يشرك المشتري أهل الأسواق في تلك السلعة التي من شأنها أن يكون ذلك سوقها. وأما الشافعي فقال: إن المقصود بالنهي إنما هو لأجل البائع لئلا يغبنه المتلقي، لان البائع يجهل سعر البلد، وكان يقول: إذا وقع فرب السلعة بالخيار إن شاء
133 أنفذ البيع أو رده. ومذهب الشافعي هو نص في حديث أبي هريرة الثابت عن رسول الله (ص) أنه قال عليه الصلاة والسلام لا تتلقوا الجلب، فمن تلقى منه شيئا فاشتراه، فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق أخرجه مسلم وغيره. فصل: وأما نهيه (ص) عن بيع الحاضر للباد، فاختلف العلماء في معنى ذلك، فقال قوم: لا يبع أهل الحضر لأهل البادية قولا واحدا. واختلف عنه في شراء الحضري للبدوي، فمرة أجازه، وبه قال ابن حبيب. ومرة منعه، وأهل الحضر عنده هم أهل الأمصار، وقد قيل عنه إنه لا يجوز أن يبيع أهل القرى لأهل العمود المنتقلين، وبمثل قول مالك قال الشافعي والأوزاعي، وقال أبو حنيفة وأصحابه، لا بأس أن يبيع الحاضر للبادي ويخبره بالسعر، وكرهه مالك، أعني أن يخبر الحضري البادي بالسعر، وأجازه الأوزاعي. والذين منعوه اتفقوا على أن القصد بهذا النهي هو إرفاق أهل الحضر، لان الأشياء عند أهل البادية أيسر من أهل الحاضرة، وهي عندهم أرخص، بل أكثر ما يكون مجانا عندهم: أي بغير ثمن، فكأنهم رأوا أنه يكره أن ينصح الحضري للبدوي، وهذا مناقض لقوله عليه الصلاة والسلام الدين النصيحة وبهذا تمسك في جوازه أبو حنيفة. وحجة الجمهور حديث جابر عند مسلم وأبو داود قال: قال رسول الله (ص) لا يبع حاضر لباد، ذروا الناس يرزق الله بعضهم من بعض وهذه الزيادة انفرد بها أبو داود فيما أحسب، والأشبه أن يكون من باب غبن البدوي لأنه يرد والسعر مجهول عنده، إلا أن تثبت هذه الزيادة، ويكون على هذا معنى الحديث معنى النهي عن تلقي الركبان على ما تأوله الشافعي: إذا وقع فقد تم وجاز البيع لقوله عليه الصلاة والسلام دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض واختلف في هذا المعنى أصحاب مالك، فقال بعضهم: يفسخ، وقال بعضهم: لا يفسخ. فصل: وأما نهيه عليه الصلاة والسلام عن النجش، فاتفق العلماء على منع ذلك، وأن النجش هو أن يزيد أحد في سلعة وليس في نفسه شراؤها، يريد بذلك أن ينفق البائع ويضر المشتري، واختلفوا إذا وقع هذا البيع، فقال أهل الظاهر: هو فاسد، وقال مالك: هو كالعيب والمشتري بالخيار، إن شاء أن يرد رد، وإن شاء أن يمسك أمسك، وقال أبو حنيفة والشافعي: وإن وقع أتم وجاز البيع. وسبب الخلاف: هل يتضمن النهي فساد المنهي، وإن كان النهي ليس في نفس الشئ بل من خارج، فمن قال يتضمن فسخ البيع لم يجزه، ومن قال ليس يتضمن أجازه. والجمهور على أن النهي عن الربا والغرر إذا ورد لمعنى في المنهي عنه أنه يتضمن الفساد، مثل النهي عن الربا والغرر، وإذا ورد الامر من خارج لم يتضمن الفساد، ويشبه أن يدخل في هذا الباب نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الماء لقوله عليه الصلاة والسلام في بعض ألفاظه إنه نهى عن بيع فضل الماء ليمنع به الكلأ وقال أبو بكر بن المنذر: ثبت أن رسول الله (ص) نهى عن بيع الماء، ونهى عن بيع فضل الماء ليمنع
134 به الكلأ وقال: لا يمنع وهو بئر ولا بيع ماء. واختلف العلماء في تأويل هذا النهي، فحمله جماعة من العلماء على عمومه، فقالوا: لا يحل بيع الماء بحال كان من بئر أو غدير أو عين في أرض مملكة أو غير مملكة، غير أنه إن كان متملكا كان أحق بمقدار حاجته منه، وبه قال يحيى بن يحيى قال: أربع لا أرى أن يمنعن: الماء، والنار، والحطب، والكلأ. وبعضهم خصص هذه الأحاديث بمعارضة الأصول لها، وهو أنه لا يحل مال أحد إلا بطيب نفس منه كما قال عليه الصلاة والسلام، وانعقد عليه الاجماع، والذين خصصوا هذا المعنى اختلفوا في جهة تخصيصه، فقال قوم: معنى ذلك أن البئر يكون بين الشريكين يسقي هذا يوما، فيروي زرع أحدهما في بعض يومه، ولا يروي في اليوم الذي لشريكه زرعه، فيجب عليه أن لا يمنع شريكه من الماء بقية ذلك اليوم. وقال بعضهم: إنما تأويل ذلك في الذي يزرع على مائه فتنهار بئره ولجاره فضل ماء أنه ليس لجاره أن يمنعه فضل مائه إلى أن يصلح بئره، والتأويلان قريبان، ووجه التأويلين أنهم حملوا المطلق في هذين الحديثين على المقيد وذلك أنه نهى عن بيع الماء مطلقا، ثم نهى عن منع فضل الماء، فحملوا المطلق في هذا الحديث على المقيد وقالوا: الفضل هو الممنوع في الحديثين. وأما مالك فأصل مذهبه أن الماء متى كان في أرض متملكة منيعة فهو لصاحب الأرض له بيعه ومنعه، إلا أن يرد عليه قوم لا ثمن معهم ويخاف عليهم الهلاك، وحمل الحديث على آبار الصحراء التي تتخذ في الأرضين الغير متملكة، فرأى أن صاحبها - أعني الذي حفرها - أولى بها، فإذا روت ماشيته ترك الفضل للناس، وكأنه رأى أن البئر لا تتملك بالاحياء. ومن هذا الباب التفرقة بين الوالدة وولدها، وذلك أنهم اتفقوا على منع التفرقة في المبيع بين الأم وولدها، لثبوت قوله عليه الصلاة والسلام من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة واختلفوا من ذلك في موضعين في وقت جواز التفرقة وفي حكم البيع إذا وقع. فأما حكم البيع فقال مالك: يفسخ، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يفسخ وأثم البائع والمشتري. وسبب الخلاف: هل النهي يقتضي فساد المنهي إذا كان لعلة من خارج؟ وأما الوقت الذي ينتقل فيه المنع إلى الجواز، فقال مالك: حد ذلك الاثغار، وقال الشافعي: حد ذلك سبع سنين أو ثمان، وقال الأوزاعي: حده فوق عشر سنين: وذلك أنه إذا نفع نفسه واستغنى في حياته عن أمه. ويلحق بهذا الباب إذا وقع في البيع غبن لا يتغابن الناس بمثله هل يفسخ البيع أم لا؟ فالمشهور في المذهب أن لا يفسخ. وقال عبد الوهاب: إذا كان فوق الثلث رد، وحكاه عن بعض أصحاب مالك، وجعله عليه الصلاة والسلام الخيار لصاحب الجلب إذا تلقي خارج المصر دليل على اعتبار الغبن، وكذلك ما جعل لمنقذ بن حبان من الخيار ثلاثا لما ذكر أنه يغبن في البيوع، ورأي قوم من السلف الأول أن حكم الوالد في ذلك حكم الوالدة، وقوم رأوا ذلك في الاخوة.
135 الباب السادس: في النهي من قبل وقت العبادات وذلك إنما ورد في الشرع في وقت وجوب المشي إلى الجمعة فقط لقوله تعالى: * (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) * وهذا أمر مجمع عليه فيما أحسب، أعني منع البيع عند الأذان الذي يكون بعد الزوال والامام على المنبر. واختلفوا في حكمه إذا وقع هل يفسخ أو لا يفسخ؟ فإن فسخ فعلى من يفسخ؟ وهل يلحق سائر العقود في هذا المعنى بالبيع أم لا يلحق؟ فالمشهور عند مالك أنه يفسخ، وقد قيل لا يفسخ، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة. وسبب الخلاف: كما قلنا غير ما مرة هل النهي الوارد لسبب من خارج يقتضي فساد المنهي عنه أو لا يقتضيه؟ وأما على من يفسخ؟ فعند مالك على من تجب عليه الجمعة لا على من لا تجب عليه. وأما أهل الظاهر فتقتضي أصولهم أن يفسخ على كل بائع. وأما سائر العقود فيحتمل أن تلحق بالبيوع، لان فيها المعنى الذي في البيع من الشغل به عن السعي إلى الجمعة ويحتمل أن لا يلحق به لأنها تقع في هذا الوقت نادرا بخلاف البيوع. وأما سائر الصلوات فيمكن أن تلحق بالجمعة على جهة الندب لمرتقب الوقت، فإذا فات فعلى جهة الحظر، وإن كان لم يقل به أحد في مبلغ علمي، ولذلك مدح الله تاركي البيوع لمكان الصلاة، فقال تعالى: * (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) *. وإذ قد أثبتت أسباب الفساد العامة للبيوع فلنصر إلى ذكر الأسباب والشروط المصححة له وهو القسم الثاني من النظر العام في البيوع. القسم الثاني: والأسباب والشروط المصححة للبيع هي بالجملة ضد الأسباب المفسدة له، وهي منحصرة في ثلاثة أجناس: النظر الأول: في العقد. والثاني: في المعقود عليه. والثالث: في العاقدين، ففي هذا القسم ثلاثة أبواب. الباب الأول: في العقد والعقد لا يصح إلا بألفاظ البيع والشراء التي صيغتها ماضية مثل أن يقول البائع: قد بعت منك، ويقول المشتري: قد اشتريت منك، وإذا قال له: بعني سلعتك بكذا وكذا فقال: قد بعتها. فعند مالك أن البيع قد وقع وقد لزم المستفهم إلا أن يأتي في ذلك بعذر، وعند الشافعي أنه لا يتم البيع حتى يقول المشتري: قد اشتريت، وكذلك إذا قال المشتري للبائع: بكم تبيع سلعتك؟ فيقول للمشتري بكذا وكذا، فقال: قد اشتريت منك. اختلف هل يلزم البيع أم لا حتى يقول: قد بعتها منك، وعند الشافعي أنه يقع البيع بالألفاظ الصريحة وبالكناية، ولا
136 أذكر لمالك في ذلك قولا، ولا يكفي عند الشافعي المعاطاة دون قول، ولا خلاف فيما أحسب أن الايجاب والقبول المؤثرين في اللزوم لا بتراخي أحدهما عن الثاني حتى يفترق المجلس، أعني انه متى قال البائع قد بعت سلعتي بكذا وكذا فسكت المشتري ولم يقبل البيع حتى افترقا ثم أتى بعد ذلك فقال: قد قبلت أنه لا يلزم ذلك البائع. واختلفوا متى يكون اللزوم. فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما وطائفة من أهل المدينة: إن البيع يلزم في المجلس بالقول وإن لم يفترقا، وقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود، وابن عمر من الصحابة رضي الله عنهم: البيع لازم بالافتراق من المجلس وأنهما مهما لم يفترقا، فليس يلزم البيع ولا ينعقد، وهو قول ابن أبي ذئب في طائفة من أهل المدينة وابن المبارك وسوار القاضي وشريح القاضي وجماعة من التابعين وغيرهم، وهو مروي عن ابن عمر وأبي برزة الأسلمي من الصحابة ولا مخالف لهما من الصحابة. وعمدة المشترطين لخيار المجلس حديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله (ص) قال المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يفترقا إلا بيع الخيار وفي بعض روايات هذا الحديث إلا أن يقول أحدهما لصاحبه اختر وهذا حديث إسناده عند الجميع من أوثق الأسانيد وأصحها، حتى لقد زعم أبو محمد أن مثل هذا الاسناد يوقع العلم وإن كان من طريق الآحاد. وأما المخالفون فقد اضطرب بهم وجه الدليل لمذهبهم في رد العمل بهذا الحديث: فالذي اعتمد عليه مالك رحمه الله في رد العمل به أنه لم يلف عمل أهل المدينة عليه مع أنه قد عارضه عنده ما رواه من منقطع حديث ابن مسعود أنه قال: أيما بيعين تبايعا فالقول قول البائع أو يترادان فكأنه حمل هذا على عمومه، وذلك يقتضي أن يكون في المجلس وبعد المجلس. ولو كان المجلس شرطا في انعقاد البيع لم يكن يحتاج فيه إلى تبيين حكم الاختلاف في المجلس لان البيع بعد لم ينعقد ولا لزم بل بالافتراق من المجلس، وهذا الحديث منقطع ولا يعارض به الأول، وبخاصة أنه لا يعارضه إلا مع توهم العموم فيه، والأولى أن ينبني هذا على ذلك، وهذا الحديث لم يخرجه أحد مسندا فيما أحسب، فهذا هو الذي اعتمده مالك رحمه الله في ترك العمل بهذا الحديث. وأما أصحاب مالك فاعتمدوا في ذلك على ظواهر سمعية، وعلى القياس، فمن أظهر الظاهر في ذلك قوله عز وجل: * (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) * والعقد هو الايجاب والقبول، والامر على الوجوب، وخيار المجلس يوجب ترك الوفاء بالعقد، لان له عندهم أن يرجع في البيع بعد ما أنعم ما لم يفترقا. وأما القياس فإنهم قالوا: عقد معاوضة، فلم يكن لخيار المجلس فيه أثر أصله سائر العقود مثل النكاح والكتابة والخلع والرهون والصلح على دم
137 العمد، فلما قيل لهم إن الظواهر التي تحتجون بها يخصصها الحديث المذكور، فلم يبق لكم في مقابلة الحديث إلا القياس، فيلزمكم على هذا أن تكونوا ممن يرى تغليب القياس على الأثر، وذلك مذهب مهجور عند المالكية، وإن كان قد روي عن مالك تغليب القياس على السماع مثل قول أبي حنيفة، فأجابوا عن ذلك بأن هذا ليس من باب رد الحديث بالقياس ولا تغليب، وإنما هو من باب تأويله وصرفه عن ظاهره. قالوا: وتأويل الظاهر بالقياس متفق عليه عند الأصوليين. قالوا: ولنا فيه تأويلان: أحدهما: أن المتبايعين في الحديث المذكور هما المتساومان اللذان لم ينفذ بينهما البيع، فقيل لهم إنه يكون الحديث على هذا لا فائدة فيه لأنه معلوم من دين الأمة أنهما بالخيار إذ لم يقع بينهما عقد بالقول. وأما التأويل الآخر: فقالوا: إن التفرق ههنا إنما هو كناية عن الافتراق بالقول لا التفرق بالأبدان كما قال الله تعالى: * (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته) * والاعتراض على هذا أن هذا مجاز لا حقيقة، والحقيقة هي التفرق بالأبدان. ووجه الترجيح أن يقاس بين ظاهر هذا اللفظ والقياس، فيغلب الأقوى. والحكمة في ذلك هي لموضع الندم، فهذه هي أصول الركن الأول الذي هو العقد. وأما الركن الثاني: الذي هو المعقود عليه، فإنه يشترط فيه سلامته من الغرر والربا، وقد تقدم المختلف في هذه من المتفق عليه وأسباب الاختلاف في ذلك، فلا معنى لتكراره. والغرر ينتفي عن الشئ بأن يكون معلوم الوجود، معلوم الصفة، معلوم القدر، مقدورا على تسليمه، وذلك في الطرفين: الثمن والمثمون معلوم الاجل أيضا إن كان بيعا مؤجلا. وأما الركن الثالث: وهما العاقدان، فإنه يشترط فيهما أن يكونا مالكين تامي الملك أو وكيلين تامي الوكالة بالغين، وأن يكونا مع هذا غير محجور عليهما أو على أحدهما، إما لحق أنفسهما كالسفيه عند من يرى التحجير عليه أو لحق الغير كالعبد إلا أن يكون العبد مأذونا له في التجارة. واختلفوا من هذا في بيع الفضولي، هل ينعقد أم لا؟ وصورته أن يبيع الرجل مال غيره بشرط إن رضي به صاحب المال أمضى البيع، وإن لم يرض فسخ، وكذلك في شراء الرجل للرجل بغير إذنه، على أنه إن رضي المشتري صح الشراء وإلا لم يصح، فمنعه الشافعي في الوجهين جميعا، وأجازه مالك في الوجهين جميعا، وفرق أبو حنيفة بين البيع والشراء فقال: يجوز في البيع ولا يجوز في الشراء. وعمدة المالكية ما روي أن النبي (ص) دفع إلى عروة البارقي دينارا وقال: اشتر لنا من هذا الجلب شاة، قال: فاشتريت شاتين بدينار وبعت إحدى الشاتين بدينار وجئت بالشاة والدينار، فقلت: يا رسول الله هذه
138 شاتكم وديناركم، فقال اللهم بارك له في صفقة يمينه ووجه الاستدلال منه أن النبي (ص) لم يأمره في الشاة الثانية لا بالشراء ولا بالبيع، فصار ذلك حجة على أبي حنيفة في صحة الشراء للغير، وعلى الشافعي في الامرين جميعا. وعمدة الشافعي النهي الوارد عن بيع الرجل ما ليس عنده، والمالكية تحمله على بيعه لنفسه لا لغيره، قالوا: والدليل على ذلك أن النهي إنما ورد في حكيم بن حزام وقضيته مشهورة، وذلك أنه كان يبيع لنفسه ما ليس عنده. وسبب الخلاف: المسألة المشهورة، هل إذا ورد النهي على سبب حمل على سببه أو يعم؟ فهذه هي أصول هذا القسم، وبالجملة فالنظر في هذا القسم هو منطوق بالقوة في الجزء الأول، ولكن النظر الصناعي الفقهي يقتضي أن يفرد بالتكلم فيه. وإذ قد تكلمنا في هذا الجزء بحسب غرضنا فلنصر إلى القسم الثالث، وهو القول في الاحكام العامة للبيوع الصحيحة. القسم الثالث: في الاحكام العامة للبيوع الصحيحة. وهذا القسم تنحصر أصوله التي لها تعلق قريب بالمسموع في أربع جمل: الجملة الأولى: في أحكام وجود العيب في المبيعات. والجملة الثانية: في الضمان في المبيعات متى ينتقل من ملك البائع إلى ملك المشتري. والثالثة: في معرفة الأشياء التي تتبع المبيع مما هي موجودة فيه في حين البيع من التي لا تتبعه. والرابعة: في اختلاف المتبايعين، وإن كان الأليق به كتاب الأقضية. وكذلك أيضا من أبواب أحكام البيوع: الاستحقاق، وكذلك الشفعة هي أيضا من الاحكام الطارئة عليه، لكن جرت العادة أن يفرد لها كتاب. الجملة الأولى وهذه الجملة فيها بابان: الباب الأول: في أحكام وجود العيوب في البيع المطلق. والباب الثاني: في أحكامهما في البيع بشرط البراءة. الباب الأول: في أحكام العيوب في البيع المطلق والأصل في وجود الرد بالعيب قوله تعالى: * (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) *. وحديث المصراة المشهور. ولما كان القائم بالعيب لا يخلو أن يقوم في عقد يوجب الرد، أو يقوم في عقد لا يوجب ذلك، ثم إذا قام في عقد يوجب الرد، فلا يخلو أيضا أن يقوم بعيب يوجب حكما أو لا يوجبه، ثم إن قام بعيب يوجب حكما فلا يخلو المبيع أيضا أن يكون قد حدث فيه تغير بعد البيع أو لا يكون، فإن كان لم يحدث فما حكمه؟ وإن كان حدث فيه فكم أصناف التغييرات وما حكمها؟ كانت الفصول المحيطة بأصول هذا الباب خمسة: الفصل الأول: في معرفة العقود التي يجب فيها بوجود العيب
139 حكم، من التي لا يجب ذلك فيها. الثاني: في معرفة العيوب التي توجب الحكم، وما شرطها الموجب للحكم فيها. الثالث: في معرفة حكم العيب الموجب إذا كان المبيع لم يتغير. الرابع: في معرفة أصناف التغييرات الحادثة عند المشتري. وحكمها. الخامس: في القضاء في هذا الحكم عند اختلاف المتبايعين، وإن كان أليق بكتاب الأقضية. الفصل الأول: في معرفة العقود التي يجب فيها بوجود العيب حكم من التي لا يجب فيها أما العقود التي يجب فيها بالعيب حكم بلا خلاف، فهي العقود التي المقصود منها المفاوضة، كما أن العقود التي ليس المقصود منها المعاوضة لا خلاف أيضا في أنه لا تأثير للعيب فيها، كالهبات لغير الثواب والصدقة، وأما ما بين هذين الصنفين من العقود، أعني ما جمع قصد المكارمة والمعاوضة مثل هبة الثواب، فالأظهر في المذهب أنه لا حكم فيها بوجود العيب، وقد قيل يحكم به إذا كان العيب مفسدا. الفصل الثاني: في معرفة العيوب التي توجب الحكم، وما شرطها الموجب للحكم فيها وفي هذا الفصل نظران: أحدهما: في العيوب التي توجب الحكم. والنظر الثاني: في الشرط الموجب له. النظر الأول: فأما العيوب التي توجب الحكم: فمنها عيوب في النفس، ومنها عيوب في البدن، وهذه منها ما هي عيوب بأن تشترط أضدادها في المبيع وهي التي تسمى عيوبا من قبل الشرط، ومنها ما هي عيوب توجب الحكم وإن لم يشترط وجود أضدادها في المبيع، وهذه هي التي فقدها نقص في أصل الخلقة، وأما العيوب الاخر فهي التي أضدادها كمالات، وليس فقدها نقصا مثل الصنائع، وأكثر ما يوجد هذا الصنف في أحوال النفس، وقد يوجد في أحوال الجسم. والعيوب الجسمانية، منها ما هي في أجسام ذوات الأنفس ومنها ما هي في غير ذوات الأنفس. والعيوب التي لها تأثير في العقد، هي عند الجميع، ما نقص عن الخلقة الطبيعية أو عن الخلق الشرعي نقصانا له تأثير في ثمن المبيع، وذلك يختلف بحسب اختلاف الأزمان والعوائد والأشخاص، فربما كان النقص في الخلقة فضيلة في الشرع، كالخفاض في الإماء، والختان في العبيد، ولتقارب هذه المعاني في شئ شئ مما يتعامل الناس به وقع الخلاف بين الفقهاء في ذلك، ونحن نذكر من هذه المسائل ما اشتهر الخلاف فيه بين الفقهاء ليكون ما يحصل من ذلك في نفس الفقيه يعود كالقانون والدستور الذي يعمل عليه فيما لم يجد فيه نصا عمن تقدمه أو فيما لم يقف على نص فيه لغيره، فمن ذلك وجود الزنا في العبيد. اختلف العلماء فيه، فقال مالك والشافعي هو عيب، وقال أبو حنيفة ليس بعيب وهو نقص في الخلق الشرعي الذي هو
140 العفة. والزواج عند مالك عيب، وهو من العيوب العائقة عن الاستعمال، وكذلك الدين، وذلك أن العيب بالجملة هو ما عاق فعل النفس أو فعل الجسم وهذا العائق قد يكون في الشئ وقد يكون من خارج. وقال الشافعي ليس الدين ولا الزواج بعيب فيما أحسب والحمل في الرائعة عيب عند مالك وفي كونه عيبا في الوخش خلاف في المذهب. والتصرية عند مالك والشافعي عيب وهو حقن اللبن في الثدي أياما حتى يوهم ذلك أن الحيوان ذو لبن غزير، وحجتهم حديث المصراة المشهور، وهو قوله (ص) لا تصروا الإبل والبقر، فمن فعل ذلك فهو بخير النظرين إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر قالوا: فأثبت له الخيار بالرد مع التصرية، وذلك دال على كونه عيبا مؤثرا. قالوا: وأيضا فإنه مدلس، فأشبه التدليس بسائر العيوب، وقال أبو حنيفة وأصحابه ليست التصرية عيبا للاتفاق على أن الانسان إذا اشترى شاة فخرج لبنها قليلا أن ذلك ليس بعيب. قالوا: وحديث المصراة يجب أن لا يوجب عملا لمفارقته الأصول، وذلك أنه مفارق للأصول من وجوه، فمنها أنه معارض لقوله عليه الصلاة والسلام الخراج بالضمان وهو أصل متفق عليه، ومنها أن فيه معارضة منع بيع طعام بطعام نسيئة، وذلك لا يجوز باتفاق، ومنها أن الأصل في المتلفات إما القيم وإما المثل، وإعطاء صاع من تمر في لبن ليس قيمة ولا مثلا. ومنها بيع الطعام المجهول: أي الجزاف بالمكيل المعلوم، لان اللبن الذي دلس به البائع غير معلوم القدر، وأيضا فإنه يقل ويكثر، والعوض ههنا محدود، ولكن الواجب أن يستثنى هذا من هذه الأصول كلها لموضع صحة الحديث، وهذا كأنه ليس من هذا الباب وإنما هو حكم خاص. ولكن اطرد إليه القول فلنرجع إلى حيث كنا فنقول: إنه لا خلاف عندهم في العور والعمى وقطع اليد والرجل أنها عيوب مؤثرة، وكذلك في المرض في أي عضو كان، أو كان في جملة البدن، والشيب في المذهب عيب في الرائعة، وقيل لا بأس باليسير منه فيها، وكذلك الاستحاضة عيب في الرقيق والوخش وكذلك ارتفاع الحيض عيب في المشهور من المذهب، والزعر عيب، وأمراض الحواس والأعضاء كلها عيب باتفاق. وبالجملة، فأصل المذهب أن كل ما أثر في القيمة: أعني نقص منها فهو عيب، والبول في الفراش عيب، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: ترد الجارية به، ولا يرد العبد به، والتأنيث في الذكر، والتذكير في الأنثى عيب هذا كله في المذهب إلا ما ذكرنا فيه الاختلاف. النظر الثاني: وأما شرط العيب الموجب للحكم به فهو أن يكون حادثا قبل أمد التبايع باتفاق، أو في العهدة عند من يقول بها، فيجب ههنا أن نذكر اختلاف الفقهاء في العهدة فنقول: انفرد مالك بالقول بالعهدة دون سائر فقهاء الأمصار، وسلفه في ذلك أهل المدينة الفقهاء السبعة وغيرهم. ومعنى العهدة أن كل عيب حدث فيها عند المشتري فهو
141 من البائع. وهي عند القائلين بها عهدتان: عهدة الثلاثة الأيام، وذلك من جمع العيوب الحادثة فيها عند المشتري. وعهدة السنة، وهي من العيوب الثلاثة: الجذام والبرص والجنون. فما حدث في السنة من هذه الثلاث بالمبيع فهو من البائع. وما حدث من غيرها من العيوب كان من ضمان المشتري على الأصل. وعهدة الثلاث عند المالكية بالجملة بمنزلة أيام الخيار وأيام الاستبراء، والنفقة فيها والضمان من البائع. وأما عهدة السنة فالنفقة فيها والضمان من المشتري إلا من الأدواء الثلاثة، وهذه العهدة عند مالك في الرقيق، وهي أيضا واقعة في أصناف البيوع في كل ما القصد منه المماكسة والمحاكرة وكان بيعا لا في الذمة. هذا ما لا خلاف فيه في المذهب. واختلف في غير ذلك. وعهدة السنة تحسب عنده بعد عهدة الثلاث في الأشهر من المذهب. وزمان المواضعة يتداخل مع عهدة الثلاث إن كان زمان المواضعة أطول من عهدة الثلاث. وعهدة السنة لا تتداخل مع عهدة الاستبراء، هذا هو الظاهر من المذهب، وفيه اختلاف. وقال الفقهاء السبعة: لا يتداخل منها عهدة مع ثانية فعهدة الاستبراء أولا، ثم عهدة الثلاث، ثم عهدة السنة. واختلف أيضا عن مالك هل تلزم العهدة في كل البلاد من غير أن يحمل أهلها عليها؟ فروي عنه الوجهان، فإذا قيل لا يلزم أهل هذه البلد إلا أن يكونوا قد حملوا على ذلك، فهل يجب أن يحمل عليها أهل كل بلد أم لا؟ فيه قولان في المذهب، ولا يلزم النقد في عهدة الثلاث وإن اشترط، ويلزم في عهدة السنة، والعلة في ذلك أنه يكمل تسليم البيع فيها للبائع قياسا على بيع الخيار لتردد النقد فيها بين السلف والبيع، فهذه كلها مشهورات أحكام العهدة في مذهب مالك وهي كلها فروع مبنية على صحة العهدة، فلنرجع إلى تقرير حجج المثبتين لها والمبطلين. وأما عمدة مالك رحمه الله في العهدة وحجته التي عول عليها، فهي عمل أهل المدينة. وأما أصحابه المتأخرون فإنهم احتجوا بما رواه الحسن عن عقبة بن عامر عن النبي (ص) قال: عهدة الرقيق ثلاثة أيام وروى أيضا لا عهدة بعد أربع وروى هذا الحديث أيضا الحسن عن سمرة بن جندب الفزاري رضي الله عنه، وكلا الحديثين عند أهل العلم معلول، فإنهم اختلفوا في سماع الحسن عن سمرة، وإن كان الترمذي قد صححه. وأما سائر فقهاء الأمصار فلم يصح عندهم في العهدة أثر، ورأوا أنها لو صحت مخالفة للأصول، وذلك أن المسلمين مجمعون على أن كل مصيبة تنزل بالمبيع قبل قبضه فهي من المشتري، فالتخصيص لمثل هذا الأصل المتقرر إنما يكون بسماع ثابت، ولهذا ضعف عند مالك في إحدى الروايتين عنه أن يقضى بها في كل بلد إلا أن يكون ذلك عرفا في البلد أو وروى الشافعي عن ابن جريج يشترط وبخاصة عهدة السنة، فإنه لم يأت في ذلك أثر قال: سألت ابن شهاب عن عهدة السنة والثلاث فقال: ما علمت فيها أمرا سالفا. وإذ قد تقرر القول في تمييز العيوب التي
142 توجب حكما من التي لا توجبه وتقرر الشرط في ذلك، وهو أن يكون العيب حادثا قبل البيع أو في العهدة عند من يرى العهدة، فلنصر إلى ما بقي. الفصل الثالث: في معرفة حكم العيب الموجب إذا كان المبيع لم يتغير وإذا وجدت العيوب، فإن لم يتغير المبيع بشئ من العيوب عند المشتري فلا يخلو أن يكون في عقار أو عروض أو في حيوان، فإن كان في حيوان فلا خلاف أن المشتري مخير بين أن يرد المبيع ويأخذ ثمنه أو يمسك ولا شئ له. وأما إن كان عقار فمالك يفرق في ذلك بين العيب اليسير والكثير فيقول: إن كان العيب يسيرا لم يجب الرد، ووجبت قيمة العيب وهو الأرش، وإن كان كثيرا وجب الرد. هذا هو الموجود المشهور في كتب أصحابه، ولم يفصل البغداديون هذا التفصيل. وأما العروض فالمشهور في المذهب أنها ليست في هذا الحكم بمنزلة الأصول، وقد قيل إنها بمنزلة الأصول في المذهب، وهذا الذي كان يختاره الفقيه بكر بن رزق شيخ جدي رحمة الله عليهما، وكان يقول: إنه لا فرق في هذا المعنى بين الأصول والعروض. وهذا الذي قاله يلزم من يفرق بين العيب الكثير والقليل في الأصول: أعني أن يفرق في ذلك أيضا في العروض، والأصل أن كل ما حط القيمة أنه يجب به الرد، وهو الذي عليه فقهاء الأمصار، ولذلك لم يعول البغداديون فيما أحسب على التفرقة التي قلت في الأصول، ولم يختلف قولهم في الحيوان أنه لا فرق فيه بين العيب القليل والكثير. 2 <فصل: وإذ قد قلنا إن المشتري يخير بين أن يرد المبيع ويأخذ ثمنه أو يمسك ولا شئ له، فإن اتفقا على أن يمسك المشتري سلعته ويعطيه البائع قيمة العيب، فعامة فقهاء الأمصار يجيزون ذلك. إلا ابن سريج من أصحاب الشافعي فإنه قال: ليس لهما ذلك لأنه خيار في مال، فلم يكن له إسقاطه بعوض كخيار الشفعة. قال القاضي عبد الوهاب: وهذا غلط، لان ذلك حق للمشتري فله أن يستوفيه: أعني أن يرد ويرجع بالثمن، وله أن يعارض على تركه، وما ذكره من خيار الشفعة فإنه شاهد لنا، فإن له عندنا تركه إلى عوض يأخذه، وهذا لا خلاف فيه. وفي هذا الباب فرعان مشهوران من قبل التبعيض: أحدهما: هل إذا اشترى المشتري أنواعا من المبيعات في صفقة واحدة فوجد أحدهما معيبا، فهل يرجع بالجميع؟ أو بالذي وجد فيه العيب؟ فقال قوم: ليس له إلا أن يرد الجميع أو يمسك، وبه قال أبو ثور والأوزاعي، إلا أن يكون قد سمى ما لكل واحد من تلك الأنواع من القيمة، فإن هذا مما لا خلاف فيه أنه يرد المبيع بعينه فقط، وإنما الخلاف إذا لم يسم. وقال قوم: يرد المعيب بحصته من الثمن وذلك بالتقدير، وممن قال بهذا القول سفيان الثوري وغيره. وروي عن الشافعي القولان معا. وفرق مالك فقال: ينظر في
143 المعيب، فإن كان ذلك وجه الصفقة والمقصود بالشراء رد الجميع، وإن لم يكن وجه الصفقة رده بقيمته، وفرق أبو حنيفة تفريقا آخر وقال: إن وجد العيب قبل القبض رد الجميع، وإن وجده بعد القبض رد المعيب بحصته من الثمن. ففي هذه المسألة أربعة أقوال: فحجة من منع التبعيض في الرد أن المردود يرجع فيه بقيمة لم يتفق عليها المشتري والبائع، وكذلك الذي يبقى إنما يبق بقيمة لم يتفقا عليها ويمكن أنه لو بعضت السلعة لم يشتر البعض بالقيمة التي أقيم بها. وأما حجة من رأى الرد في البعض المعيب ولا بد فلانه موضع ضرورة، فأقيم فيه التقويم والتقدير مقام الرضا قياسا على أن ما فات في البيع فليس فيه إلا القيمة. وأما تفريق مالك بين ما هو وجه الصفقة أو غير وجهها فاستحسان منه، لأنه رأى أن ذلك المعيب إذا لم يكن مقصودا في المبيع فليس كبير ضرر في أن لا يوافق الثمن الذي أقيم به إرادة المشتري أو البائع، وأما عندما يكون مقصودا أو جل المبيع فيعظم الضرر في ذلك. واختلف عنه هل يعتبر تأثير العيب في قيمة الجميع أو في قيمة المعيب خاصة. وأما تفريق أبي حنيفة بين أن يقبض أو لا يقبض، فإن القبض عنده شرط من شروط تمام البيع، وما لم يقبض المبيع فضمانه عنده من البائع، وحكم الاستحقاق في هذه المسألة حكم الرد بالعيب. وأما المسألة الثانية: فإنهم اختلفوا أيضا في رجلين يبتاعان شيئا واحدا في صفقة واحدة فيجدان به عيبا فيريد أحدهما الرجوع ويأبى الآخر، فقال الشافعي: لمن أراد الرد أن يرد، وهي رواية ابن القاسم عن مالك، وقيل ليس له أن يرد، فمن أوجب الرد شبهه بالصفقتين المفترقتين لأنه قد اجتمع فيها عاقدان ومن لم يوجبه شبهه بالصفقة الواحدة إذا أراد المشتري فيها تبعيض رد المبيع بالعيب. الفصل الرابع: في معرفة أصناف التغيرات الحادثة عند المشتري وحكمها وأما إن تغير المبيع عند المشتري ولم يعلم بالعيب إلا بعد تغير المبيع عنده فالحكم في ذلك يختلف عند فقهاء الأمصار بحسب التغير. فأما إن تغير بموت أو فساد أو عتق، ففقهاء الأمصار على أنه فوت، ويرجع المشتري على البائع بقيمة العيب. وقال عطاء بن أبي رباح: لا يرجع في الموت والعتق بشئ. وكذلك عندهم حكم من اشترى جارية فأولدها. وكذلك التدبير عندهم، وهو القياس في الكتابة. وأما تغيره في البيع فإنهم اختلفوا فيه، فقال أبو حنيفة والشافعي: إذا باعه لم يرجع بشئ، وكذلك قال الليث. وأما مالك فله في البيع تفصيل، وذلك أنه لا يخلو أن يبيعه من بائعه منه أو من غير بائعه، ولا يخلو أيضا أن يبيعه بمثل الثمن أو أقل أو أكثر، فإن باعه من بائعه منه بمثل الثمن فلا رجوع له بالعيب، وإن باعه منه بأقل من الثمن رجع عليه بقيمة العيب، وإن باعه بأكثر من الثمن نظر، فإن كان البائع
144 الأول مدلسا رجع الأول على الثاني في الثمن والثاني على الأول أيضا، وينفسخ البيعان، ويعود المبيع إلى ملك الأول، فإن باعه من عند بائعه منه، فقال ابن القاسم: لا رجوع له بقيمة العيب، مثل قول أبي حنيفة والشافعي، وقال ابن عبد الحكم: له الرجوع بقيمة العيب، وقال أشهب: يرجع بالأقل من قيمة العيب أو بقيمة الثمن، هذا إذا باعه بأقل مما اشتراه، وعلى هذا لا يرجع إذا باعه بمثل الثمن أو أكثر، وبه قال عثمان البتي. ووجه قول ابن القاسم والشافعي وأبي حنيفة أنه إذا فات بالبيع فقد أخذ عوضا من غير أن يعتبر تأثيرا بالعيب في ذلك العوض الذي هو الثمن، ولذلك متى قام عليه المشتري منه بعيب رجع على البائع الأول بلا خلاف. ووجه القول الثاني تشبيهه البيع بالعتق. ووجه قول عثمان وأشهب أنه لو كان عنده المبيع لم يكن له إلا الامساك أو الرد للجميع، فإذا باعه فقد أخذ عوض ذلك الثمن، فليس له إلا ما نقص إلا أن يكون أكثر من قيمة العيب. وقال مالك: إن وهب أو تصدق رجع بقيمة العيب، وقال أبو حنيفة لا يرجع، لان هبته أو صدقته تفويت للملك بغير عوض ورضى منه بذلك طلبا للأجر، فيكون رضاه بإسقاط حق العيب أولى وأحرى بذلك. وأما مالك فقاس الهبة على العتق، وقد كان القياس أن لا يرجع في شئ من ذلك إذا فات ولم يمكنه الرد، لان إجماعهم على أنه إذا كان في يده فليس يجب له إلا الرد أو الامساك دليل على أنه ليس للعيب تأثير في اسقاط شئ من الثمن، وإنما له تأثير في فسخ البيع فقط. وأما العقود التي يتعاقبها الاسترجاع كالرهن والإجارة فاختلف في ذلك أصحاب مالك، فقال ابن القاسم: لا يمنع ذلك من الرد بالعيب إذا رجع إليه المبيع، وقال أشهب: إذا لم يكن زمان خروجه عن يده زمانا بعيدا كان له الرد بالعيب، وقول ابن القاسم أولى، والهبة للثواب عند مالك كالبيع في أنها فوت. فهذه هي الأحوال التي تطرأ على المبيع من العقود الحادثة فيها وأحكامها. باب: في طرو النقصان وأما إن طرأ على المبيع نقص فلا يخلو أن يكون نقص في قيمته أو في البدن أو في النفس. فأما نقصان القيمة لاختلاف الأسواق، فغير مؤثر في الرد بالعيب بإجماع. وأما النقصان الحادث في البدن، فإن كان يسيرا غير مؤثر في القيمة فلا تأثير له في الرد بالعيب، وحكمه حكم الذي لم يحدث، وهذا نص مذهب مالك وغيره. وأما النقص الحادث في البدن المؤثر في القيمة، فاختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ليس له أن يرجع إلا بقيمة العيب فقط وليس له غير ذلك إذا أبى البائع من الرد، وبه قال الشافعي في قوله الجديد وأبو حنيفة، وقال الثوري: ليس له إلا أن يرد، ويرد مقدار العيب الذي حدث عنده، وهو قول الشافعي الأول. والقول الثالث قول مالك: إن المشتري بالخيار بين أن يمسك ويضع عنه البائع من الثمن قدر العيب أو يرده على البائع ويعطيه ثمن العيب الذي حدث عنده، وأنه
145 إذا اختلف البائع والمشتري، فقال البائع للمشتري أنا أقبض المبيع وتعطي أنت قيمة العيب الذي حدث عندك، وقال المشتري: بل أنا أمسك المبيع، وتعطي أنت قيمة العيب الذي حدث عندك، فالقول قول المشتري والخيار له، وقد قيل في المذهب القول قول البائع، وهذا إنما يصح على قول من يرى أنه ليس للمشتري إلا أن يمسك أو يرد، وما نقص عنده. وشذ أبو محمد بن حزم فقال: له أن يرد ولا شئ عليه. وأما حجة من قال: إنه ليس للمشتري إلا أن يرد ويرد قيمة العيب، أو يمسك، فلانه قد أجمعوا على أنه إذا لم يحدث بالمبيع عيب عند المشتري فليس إلا الرد، فوجب استصحاب حال هذا الحكم، وإن حدث عند المشتري عيب مع إعطائه قيمة العيب الذي حدث عنده. وأما من رأى أنه لا يرد المبيع بشئ وإنما قيمة العيب الذي كان عند البائع، فقياسا على العتق والموت لكون هذا الأصل غير مجمع عليه، وقد خالف فيه عطاء. وأما مالك فلما تعارض عنده حق البائع وحق المشتري غلب المشتري وجعل له الخيار، لان البائع لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون مفرطا في أنه لم يستعلم العيب ويعلم به المشتري، أو يكون علمه فدلس به على المشتري. وعند مالك أنه إذا صح أنه دلس بالعيب وجب عليه الرد من غير أن يدفع إليه المشتري قيمة العيب الذي حدث عنده، فإن مات من ذلك العيب كان ضمانه على البائع بخلاف الذي لم يثبت أنه دلس فيه. وأما حجة أبي محمد: فلانه أمر حدث من عند الله كما لو حدث في ملك البائع. فإن الرد بالعيب دال على أن البيع لم ينعقد في نفسه. وإنما انعقد في الظاهر، وأيضا فلا كتاب ولا سنة يوجب على مكلف غرم ما لم يكن له تأثير في نقصه إلا أن يكون على جهة التغليظ عند من ضمن الغاصب ما نقص عنده بأمر من الله، فهذا حكم العيوب الحادثة في البدن. وأما العيوب التي في النفس كالإباق والسرقة، فقد قيل في المذهب إنها تفيت الرد كعيوب الأبدان، وقيل لا، ولا خلاف أن العيب الحادث عند المشتري إذا ارتفع بعد حدوثه أنه لا تأثير له في الرد إلا أن لا تؤمن عاقبته. واختلفوا من هذا الباب في المشتري يطأ الجارية، فقال قوم: إذا وطئ فليس له الرد وله الرجوع بقيمة العيب. وسواء كانت بكرا أو ثيبا، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: يرد قيمة الوطئ في البكر ولا يردها في الثيب، وقال قوم: بل يردها ويرد مهر مثلها، وبه قال ابن أبي شبرمة وابن أبي ليلى، وقال سفيان الثوري: إن كانت ثيبا رد نصف العشر من ثمنها، وإن كانت بكرا رد العشر من ثمنها، وقال مالك: ليس عليه في وطئ الثيب شئ لأنه غلة وجبت له بالضمان. وأما البكر فهو عيب يثبت عنده للمشتري الخيار على ما سلف من رأيه، وقد روي مثل هذا القول عن الشافعي، وقال عثمان: الوطئ معتبر في العرف في ذلك النوع من الرقيق، فإن كان له أثر في القيمة رد البائع ما نقص، وإن لم يكن له أثر لم يلزمه شئ، فهذا هو حكم النقصان الحادث في المبيعات. وأما الزيادة الحادثة في المبيع، أعني المتولدة المنفصلة منه، فاختلف العلماء فيها، فذهب الشافعي إلى أنها غير مؤثرة في الرد وأنها للمشتري لعموم قوله عليه الصلاة والسلام
146 الخراج بالضمان. وأما مالك فاستثنى من ذلك الولد فقال: يرد للبائع، وليس للمشتري إلا الرد الزائد مع الأصل أو الامساك. قال أبو حنيفة: الزوائد كلها تمنع الرد وتوجب أرش العيب الغلة والكسب، وحجته أن ما تولد عن المبيع داخل في العقد، فلما لم يكن رده ورد ما تولد عنه كان ذلك فوتا يقتضي أرش العيب إلا ما نصصه الشرع من الخراج والغلة. وأما الزيادة الحادثة في نفس المبيع الغير منفصلة عنه فإنها إن كانت مثل الصبغ في الثوب والرقم في الثوب فإنها توجب الخيار في المذهب: إما الامساك والرجوع بقيمة العيب، وإما في الرد وكونه شريكا مع البائع بقيمة الزيادة. وأما النماء في البدن مثل السمن. فقد قيل في المذهب يثبت به الخيار، وقيل لا يثبت. وكذلك النقص الذي هو الهزال. فهذا هو القول في حكم التغيير. الفصل الخامس: في القضاء في اختلاف الحكم عند اختلاف المتبايعين وأما صفة الحكم في القضاء بهذه الأحكام فإنه إذا تقار البائع والمشتري على حالة من هذه الأحوال المذكورة ههنا وجب الحكم الخاص بتلك الحال، فإن أنكر البائع دعوى القائم، فلا يخلو أن ينكر وجود العيب أو ينكر حدوثه عنده. فإن أنكر وجود العيب بالمبيع فإن كان العيب يستوي في إدراكه جميع الناس كفى في ذلك شاهدان عدلان ممن اتفق من الناس، وإن كان مما يختص بعلمه أهل صناعة ما، شهد به أهل تلك الصناعة، فقيل في المذهب عدلان. وقيل لا يشترط في ذلك العدالة ولا العدد ولا الاسلام، وكذلك الحال إن اختلفوا في كونه مؤثرا في القيمة، وفي كونه أيضا قبل أمد التبايع أو بعده، فإنه إن لم يكن للمشتري بينة حلف البائع أنه ما حد ث عنده، وإن لم تكن له بينة على وجود العيب بالمبيع لم يجب له يمين على البائع. وأما إذا وجب الأرش فوجه الحكم في ذلك أن يقوم الشئ سليما ويقوم معيبا ويرد المشتري ما بين ذلك، فإن وجب الخيار قوم ثلاث تقويمات: تقويم وهو سليم، وتقويم بالعيب الحادث عند البائع، وتقويم بالعيب الحادث عند المشتري، فيرد البائع من الثمن ويسقط عنه ما قدر منه قدر ما تنقص به القيمة المعيبة عن القيمة السليمة، وإن أبى المشتري الرد وأحب الامساك رد البائع من الثمن ما بين القيمة الصحيحة والمعيبة عنده.
147 الباب الثاني: في بيع البراءة اختلف العلماء في جواز هذا البيع، وصورته أن يشترط البائع على المشتري التزام كل عيب يجده في المبيع على العموم، فقال أبو حنيفة: يجوز البيع بالبراءة من كل عيب سواء علمه البائع أو لم يعلمه، سماه أو لم يسمه، أبصره أو لم يبصره، وبه قال أبو ثور. وقال الشافعي في أشهر قوليه وهو المنصور عند أصحابه: لا يبرأ البائع إلا من عيب يريه للمشتري، وبه قال الثوري. وأما مالك فالأشهر عنه أن البراءة جائزة مما يعلم البائع من العيوب، وذلك في الرقيق خاصة، إلا البراءة من الحمل في الجواري الرائعات، فإنه لا يجوز عنده لعظم الغرر فيه، ويجوز في الوخش، وفي رواية ثانية: أنه يجوز في الرقيق والحيوان. وفي رواية ثالثة مثل قول الشافعي. وقد روي عنه أن بيع البراءة إنما يصح من السلطان فقط وقيل في بيع السلطان وبيع المواريث، وذلك من غير أن يشترطوا البراءة. وحجة من رأى القول بالبراءة على الاطلاق أن القيام بالعيب حق من حقوق المشتري قبل البائع، فإذا أسقطه سقط، أصله سائر الحقوق الواجبة. وحجة من لم يجزه على الاطلاق أن ذلك من باب الغرر فيما لم يعلمه البائع، ومن باب الغبن والغش فيما علمه، ولذلك اشترط جهل البائع مالك. وبالجملة فعمدة مالك ما رواه في الموطأ أن عبد الله بن عمر باع غلاما له بثمانمائة درهم وباعه على البراءة، فقال الذي ابتاعه لعبد الله بن عمر: بالغلام داء لم تسمه، فاختصما إلى عثمان، فقال الرجل: باعني عبدا وبه داء لم يسمه لي. وقال عبد الله: بعته بالبراءة، فقضى عثمان على عبد الله أن يحلف لقد باع العبد وما به من داء يعلمه، فأبى عبد الله أن يحلف وارتجع العبد. وروي أيضا أن زيد بن ثابت كان يجيز بيع البراءة. وإنما خص مالك بذلك الرقيق لكون عيوبهم في الأكثر خافية. وبالجملة خيار الرد بالعيب حق ثابت للمشتري، ولما كان ذلك يختلف اختلافا كثيرا كاختلاف المبيعات في صفاتها وجب إذا اتفقا على الجهل به أن لا يجوز أصله إذا اتفقا على جهل صفة المبيع المؤثرة في الثمن. ولذلك حكى ابن القاسم في المدونة عن مالك أن آخر قوله كان إنكار بيع البراءة إلا ما خفف فيه السلطان. وفي قضاء الديون خاصة. وذهب المغيرة من أصحاب مالك إلى أن البراءة إنما تجوز فيما كان من العيوب لا يتجاوز فيها ثلث المبيع، والبراءة بالجملة إنما تلزم عند القائلين بالشرط: أعني إذا اشترطها إلا بيع السلطان والمواريث عند مالك فقط. فالكلام بالجملة في بيع البراءة هو في جوازه وفي شرط جوازه، وفيما يجوز من العقود والمبيعات والعيوب، ولمن يجوز بالشرط أو مطلقا، وهذه كلها قد تقدمت بالقوة في قولنا فاعلمه. الجملة الثانية: في وقت ضمان المبيعات. واختلفوا في الوقت الذي يضمن فيه المشتري المبيع أنى تكون خسارته إن هلك منه. فقال أبو حنيفة والشافعي: لا يضمن
148 المشتري إلا بعد القبض. وأما مالك فله في ذلك تفصيل، وذلك أن المبيعات عنده في هذا الباب ثلاثة أقسام: بيع يجب على البائع فيه حق توفية من وزن أو كيل أو عدد. وبيع ليس فيه حق توفية. وهو الجزاف أو ما لا يوزن ولا يكال ولا يعد. فأما ما كان فيه حق توفية فلا يضمن المشتري إلا بعد القبض. وأما ما ليس فيه حق توفية وهو حاضر فلا خلاف في المذهب أن ضمانه من المشتري وإن لم يقبضه. وأما المبيع، فعن مالك في ذلك ثلاث روايات: أشهرها: أن الضمان من البائع إلا أن يشترطه على المبتاع. والثانية: أنه من المبتاع إلا أن يشترطه على البائع. والثالثة: الفرق بين ما ليس بمأمون البقاء إلى وقت الاقتضاء كالحيوان والمأكولات، وبين ما هو مضمون البقاء. والخلاف في هذه المسألة: مبني على هل القبض شرط من شروط العقد، أو حكم من أحكام العقد، والعقد لازم دون القبض؟ فمن قال القبض من شروط صحة العقد أو لزومه أو كيفما شئت أن تعبر في هذا المعنى كان الضمان عنده من البائع حتى يقبضه المشتري، ومن قال هو حكم لازم من أحكام المبيع والبيع، وقد انعقد ولزم قال: العقد يدخل في ضمان المشتري. وتفريق مالك بين الغائب والحاضر، والذي فيه حق توفية والذي ليس فيه حق توفية استحسان، ومعنى الاستحسان في أكثر الأحوال هو الالتفات إلى المصلحة والعدل. وذهب أهل الظاهر إلى أن بالعقد يدخل في ضمان المشتري فيما أحسب، وعمدة من رأى ذلك اتفاقهم على أن الخراج قبل القبض للمشتري، وقد قال عليه الصلاة والسلام الخراج بالضمان وعمدة المخالف حديث عتاب بن أسيد أن رسول الله (ص) لما بعثه إلى مكة قال له انههم عن بيع ما لم يقبضوا وربح ما لم يضمنوا وقد تكلمنا في شرط القبض في المبيع فيما سلف، ولا خلاف بين المسلمين أنه من ضمان المشتري بعد القبض إلا في العهدة والجوائح. وإذ قد ذكرنا العهدة فينبغي أن نذكر ههنا الجوائح. القول في الجوائح اختلف العلماء في وضع الجوائح في الثمار. فقال بالقضاء بها مالك وأصحابه. ومنعها أبو حنيفة والثور والشافعي - في قوله الجديد - والليث. فعمدة من قال بوضعها حديث جابر أن رسول الله (ص) قال من باع ثمرا فأصابته جائحة فلا يأخذ من أخيه شيئا. على ماذا يأخذ أحدكم مال أخيه؟ خرجه مسلم عن جابر. وما روي عنه أنه قال أمر رسول الله (ص) بوضع الجوائح. فعمدة من أجاز الجوائح حديثا جابر هذان، وقياس الشبه أيضا. وذلك أنهم قالوا: إنه مبيع بقي على البائع فيه حق توفية، بدليل ما عليه من سقيه إلى أن يكمل، فوجب أن يكون ضمانه منه أصله سائر المبيعات التي بقي لها حق توفية، والفرق عندهم بين هذا المبيع وبين سائر البيوع أن هذا بيع وقع في الشرع والمبيع لم يكمل بعد. فكأنه مستثنى من النهي عن بيع ما لم يخلق،
149 فوجب أن يكون في ضمانه مخالفا لسائر المبيعات. وأما عمدة من لم يقل بالقضاء بها فتشبيه هذا البيع بسائر المبيعات وأن التخلية في هذا المبيع هو القبض. وقد اتفقوا على أن ضمان المبيعات بعد القبض من المشتري، ومن طريق السماع أيضا حديث أبي سعيد الخدري قال أجيح رجل في ثمار ابتاعها وكثر دينه، فقال رسول الله (ص): تصدقوا عليه، فتصدق عليه فلم يبلغ وفاء دينه. فقال رسول الله (ص): خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك قالوا: فلم يحكم بالجائحة. فسبب الخلاف: في هذه المسألة هو تعارض الآثار فيها وتعارض مقاييس الشبه، وقد رام كل واحد من الفريقين صرف الحديث المعارض للحديث الذي هو الأصل عنده بالتأويل، فقال من منع الجائحة: يشبه أن يكون الامر بها إنما ورد من قبل النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، قالوا: ويشهد لذلك أنه لما كثر شكواهم بالجوائح أمروا أن لا يبيعوا الثمر إلا بعد أن يبدو صلاحه، وذلك في حديث زيد بن ثابت المشهور، وقال من أجازها في حديث أبي سعيد: يمكن أن يكون البائع عديما فلم يقض عليه بجائحة أو أن يكون المقدار الذي أصيب من الثمر مقدارا لا يلزم فيه جائحة، أو أن يكون أصيب في غير الوقت الذي تجب فيه الجائحة، مثل أن يصاب بعد الجذاذ أو بعد الطيب. وأما الشافعي فروى حديث جابر عن سليمان بن عتيق عن جابر، وكان يضعفه ويقول: إنه اضطرب في ذكر وضع الجوائح فيه ولكنه قال: إن ثبت الحديث وجب وضعها في القليل والكثير، ولا خلاف بينهم في القضاء بالجائحة بالعطش، وقد جعل القائلون بها اتفاقهم في هذا حجة على إثباتها. والكلام في أصول الجوائح على مذهب مالك ينحصر في أربعة فصول: الأول: في معرفة الأسباب الفاعلة للجوائح. والثاني: في محل الجوائح من المبيعات. الثالث: في مقدار ما يوضع منه فيه. الرابع: في الوقت الذي توضع فيه. الفصل الأول: في معرفة الأسباب الفاعلة للجوائح وأما ما أصاب الثمرة من السماء مثل البرد والقحط وضده والعفن، فلا خلاف في المذهب أنه جائحة. وأما العطش - كما قلنا - فلا خلاف بين الجميع أنه جائحة. وأما ما أصاب من صنع الآدميين فبعض من أصحاب مالك رآه جائحة، وبعض لم يره جائحة. والذين رأوه جائحة انقسموا قسمين: فبعضهم رأى منه جائحة ما كان غالبا كالجيش ولم ير ما كان منه بمغافصة جائحة مثل السرقة، وبعضهم جعل كل ما يصيب الثمرة من جهة
150 الآدميين جائحة بأي وجه كان، فمن جعلها في الأمور السماوية فقط اعتمد ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام أرأيت إن منع الله الثمرة؟ ومن جعلها في أفعال الآدميين شبهها بالأمور السماوية، ومن استثني اللص قال: يمكن أن يتحفظ منه. الفصل الثاني في محل الجوائح من المبيعات ومحل الجوائح هي الثمار والبقول. فأما الثمار فلا خلاف فيها في المذهب، وأما البقول ففيها خلاف، والأشهر فيها الجائحة. وإنما اختلفوا في البقول لاختلافهم في تشبيهها بالأصل الذي هو الثمر. الفصل الثالث: في مقدار ما يوضع منه فيه وأما المقدار الذي تجب فيه الجائحة، أما في الثمار فالثلث، وأما في البقول فقيل في القليل والكثير وقيل في الثلث. وابن القاسم يعتبر ثلث الثمر بالكيل وأشهب يعتبر الثلث في القيمة. فإذا ذهب من الثمر عند أشهب ما قيمته الثلث من الكيل وضع عنه الثلث من الثمن. وسواء كان ثلثا في الكيل أو لم يكن. وأما ابن القاسم فإنه إذا ذهب من الثمر الثلث من الكيل، فإن كان نوعا واحدا ليس تختلف قيمة بطونه حط عنه من الثمن الثلث، وإن كان الثمر أنواعا كثيرة مختلفة القيم، أو كان بطونا مختلفة القيم أيضا اعتبر قيمة ذلك الثلث الذاهب من قيمة الجميع، فما كان قدره حط بذلك القدر من الثمن، ففي موضع يعتبر المكيلة فقط، حيث تستوي القيمة في أجزاء الثمرة وبطونها، وفي موضع يعتبر الامرين جميعا حيث تختلف القيمة، والمالكية يحتجون في مصيرهم إلى التقدير في وضع الحوائج - وإن كان الحديث الوارد فيها مطلقا - بأن القليل في هذا معلوم من حكم العادة أنه يخالف الكثير إذ كان معلوما أن القليل يذهب من كل ثمر، فكأن المشتري دخل على هذا الشرط بالعادة وإن لم يدخل بالنطق، وأيضا فإن الجائحة التي علق الحكم بها تقتضي الفرق بين القليل والكثير. قالوا: وإذا وجب الفرق وجب أن يعتبر فيه، إذ قد اعتبره الشرع في مواضع كثيرة، وأن كان المذهب يضطرب في هذا الأصل، فمرة يجعل الثلث من حيز الكثير كجعله إياه ههنا، ومرة يجعله في حيز القليل. ولم يضطرب في أنه الفرق بين القليل والكثير، والمقدرات يعسر إثباتها بالقياس عند جمهور الفقهاء، ولذلك قال الشافعي: لو قلت بالجائحة لقلت فيها بالقليل والكثير، وكون الثلث فرقا بين القليل والكثير هو نص في الوصية في قوله عليه الصلاة والسلام: الثلث، والثلث كثير.
151 الفصل الرابع: في الوقت الذي توضع فيه وأما زمان القضاء بالجائحة، فاتفق المذهب على وجوبها في الزمان الذي يحتاج فيه إلى تبقية الثمر على رؤوس الشجر حيث يستوفى طيبه. واختلفوا إذا أبقاه المشتري في الثمار ليبيعه على النضارة وشيئا شيئا، فقيل فيه الجائحة تشبيها بالزمان المتفق عليه، وقيل ليس فيه جائحة تفريقا بينه وبين الزمان المتفق على وجوب القضاء بالجائحة فيه، وذلك أن هذا الزمان يشبه المتفق عليه من جهة ويخالفه من جهة، فمن غلب الاتفاق أوجب فيه الجائحة، ومن غلب الاختلاف لم يوجب فيه جائحة، أعني من رأى أن النضارة مطلوبة بالشراء كما الطيب مطلوب قال بوجوب الجائحة فيه، ومن لم ير الامر فيهما واحدا قال: ليس فيه الجائحة، ومن ههنا اختلفوا في وجوب الجوائح في البقول. الجملة الثالثة من جمل النظر في الاحكام وهو في تابعات المبيعات. ومن مسائل هذا الباب المشهورة اثنتان: الأولى: بيع النخيل وفيها الثمر متى يتبع بيع الأصل ومتى لا يتبعه؟ فجمهور الفقهاء على أن من باع نخلا فيها ثمر قبل أن يؤبر فإن الثمر للمشتري، وإذا كان البيع بعد الابار فالثمر للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، والثمار كلها في هذا المعنى في معنى النخيل، وهذا كله لثبوت حديث ابن عمر أن رسول الله (ص) قال من باع نخلا قد أبرت فثمرها للبائع إلا أن يشترطه المبتاع قالوا: فلما حكم (ص) بالثمن للبائع بعد الابار علمنا بدليل الخطاب أنها للمشتري قبل الابار بلا شرط، وقال أبو حنيفة وأصحابه: هي للبائع قبل الابار وبعده، ولم يجعل المفهوم ههنا من باب دليل الخطاب بل من باب مفهوم الأحرى والأولى، قالوا: وذلك أنه إذا وجبت للبائع بعد الابار فهي أحرى أن تجب له قبل الابار. وشبهوا خروج الثمر بالولادة وكما أن من باع أمة لها ولد فولدها للبائع إلا أن يشترطه المبتاع كذلك الامر في الثمن. وقال ابن أبي ليلى: سواء أبر أو لم يؤبر إذا بيع الأصل فهو للمشتري اشترطها أو لم يشترطها، فرد الحديث بالقياس، لأنه رأى أن الثمر جزء من المبيع، ولا معنى لهذا القول إلا إن كان لم يثبت عنده الحديث. وأما أبو حنيفة فلم يرد الحديث، وإنما خالف مفهوم الدليل فيه. فإذا سبب الخلاف: في هذه المسألة بين أبي حنيفة والشافعي ومالك ومن قال بقولهم معارضة دليل الخطاب لدليل مفهوم الأحرى والأولى. وهو الذي يسمى فحوى الخطاب لكنه ههنا ضعيف، وإن كان في الأصل أقوى من دليل الخطاب. وأما سبب مخالفة ابن أبي ليلى فمعارضة القياس للسماع، وهو كما قلنا ضعيف. والآبار عند العلماء أن يجعل طلع ذكور النخل في طلع إناثها، وفي سائر الشجر أن تنور وتعقد، والتذكير في شجر التين التي تذكر في معنى الابار، وإبار الزرع مختلف فيه في المذهب، فروى ابن القاسم عن مالك أن إباره أن يفرك قياسا على سائر الثمر، وهل الموجب لهذا الحكم هو الابار أو وقت الابار؟ قيل الوقت، وقيل الابار،
152 وعلى هذا ينبني الاختلاف إذا أبر بعض النخل ولم يؤبر البعض، هل يتبع ما لم يؤبر ما أبر أو لا يتبعه؟ واتفقوا فيما أحسبه على أنه إذا بيع ثمر وقد دخل الابار فلم يؤبر أن حكمه حكم المؤبر. المسألة الثانية: وهي اختلافهم فبيع مال العبد، وذلك أنهم اختلفوا في مال العبد هل يتبعه في البيع والعتق؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ماله في البيع والعتق لسيده، وكذلك في المكاتب، وبه قال الشافعي والكوفيون. والثاني: أن ماله تبع له في البيع والعتق، وهو قول داود وأبي ثور. والثالث: أنه تبع له في العتق لا في البيع إلا أن يشترطه المشتري، وبه قال مالك والليث. فحجة من رأى أن ماله في البيع لسيده إلا أن يشترطه المبتاع حديث ابن عمر المشهور عن النبي (ص) أنه قال: من باع عبدا وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع ومن جعله لسيده في العتق فقياسا على البيع. وحجة من رأى أنه تبع للعبد في كل حال انبنت على كون العبد مالكا عندهم وهي مسألة اختلف العلماء فيها اختلافا كثيرا: أعني هل يملك العبد أو لا يملك؟ ويشبه أن يكون هؤلاء إنما غلبوا القياس على السماع لان حديث ابن عمر هو حديث خالف فيه نافع سالما، لان نافعا رواه عن ابن عمر وسالم رواه عن ابن عمر عن النبي (ص) وأما مالك فغلب القياس في العتق والسماع في البيع. وقال مالك في الموطأ الامر المجتمع عليه عندنا أن المبتاع إذا اشترط مال العبد فهو له نقدا كان أو عرضا أو دينا. وقد روي عن النبي (ص) أنه قال من أعتق غلاما فماله له إلا أن يستثنيه سيده ويجوز عند مالك أن يشتري العبد وماله بدراهم، وإن كان مال العبد دراهم أو فيه دراهم. وخالفه أبو حنيفة والشافعي إذا كان مال العبد نقدا، وقالوا: العبد وماله بمنزلة من باع شيئين لا يجوز فيهما إلا ما يجوز في سائر البيوع. واختلف أصحاب مالك في اشتراط المشتري لبعض مال العبد في صفقة البيع، فقال ابن القاسم: لا يجوز، وقال أشهب: جائز أن يشترط بعضه، وفرق بعضهم فقال: إن كان ما اشترى به العبد عينا وفي مال العبد عين لم يجز ذلك لأنه يدخله دراهم بعرض ودراهم، وإن كان ما اشترى به عروضا أو لم يكن في مال العبد دراهم جاز. ووجه قول ابن القاسم أنه لا يجوز أن يشترط بعضه تشبيهه بثمر النخل الابار. ووجه قول أشهب تشبيهه الجزء بالكل، وفي هذا الباب مسائل مسكوت عنها كثيرة ليست مما قصدناه. ومن مشهور مسائلهم في هذا الباب الزيادة والنقصان اللذان يقعان في الثمن الذي انعقد عليه البيع بما يرضى به المتبايعان أعني أن يزيد المشتري البائع بعد البيع على الثمن الذي انعقد عليه البيع أو يحط منه البائع هل يتبع حكم الثمن أم لا؟ وفائدة الفرق أن من قال هي من الثمن أوجب ردها في الاستحقاق وفي الرد بالعيب وما أشبه ذلك، وأيضا من جعلها في حكم الثمن الأول إن كانت فاسدة البيع، ومن لم يجعلها من الثمن: أعني
153 الزيادة لم يوجب شيئا من هذا، فذهب أبو حنيفة إلى أنها من الثمن إلا أنه قال لا تثبت الزيادة في حق الشفيع ولا في بيع المرابحة، بل الحكم للثمن الأول، وبه قال مالك، وقال الشافعي: لا تلحق الزيادة والنقصان بالثمن أصلا وهو في حكم الهبة. واستدل من ألحق الزيادة بالثمن بقوله عز وجل: * (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة) * قالوا: وإذا لحقت الزيادة في الصداق بالصداق لحقت في البيع بالثمن. واحتج الفريق الثاني باتفاقهم على أنها لا تلحق في الشفعة، وبالجملة من رأى أن العقد الأول قد تقرر قال: الزيادة هبة، ومن رأى أنها فسخ للعقد الأول وعقد ثان عدها من الثمن. الجملة الرابعة وإذا اتفق المتبايعان على البيع واختلفا في مقدار الثمن ولم تكن هناك بينة، ففقهاء الأمصار متفقون على أنهما يتحالفان ويتفاسخان بالجملة، ومختلفون في التفصيل، أعني في الوقت الذي يحكم فيه بالايمان والتفاسخ. فقال أبو حنيفة وجماعة: إنهما يتحالفان ويتفاسخان ما لم تفت عين السلعة، فإن فاتت فالقول قول المشتري مع يمينه. وقال الشافعي ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة وأشهب صاحب مالك: يتحالفان في كل وقت. وأما مالك فعنه روايتان: إحداهما: أنهما يتحالفان ويتفاسخان قبل القبض، وبعد القبض القول قول المشتري. والرواية الثانية: مثل قول أبي حنيفة، وهي رواية ابن القاسم، والثانية رواية أشهب، والفوت عنده يكون بتغيير الأسواق وبزيادة المبيع ونقصانه. وقال داود وأبو ثور: القول قول المشتري على كل حال، وكذلك قال زفر، إلا أن يكونا اختلفا في جنس الثمن، فحينئذ يكون التفاسخ عندهم والتحالف ولا خلاف أنهم إذا اختلفوا في جنس الثمن أو المثمون أن الواجب هو التحالف والتفاسخ، وإنما صار فقهاء الأمصار إلى القول على الجملة بالتحالف والتفاسخ عند الاختلاف في عدد الثمن لحديث ابن مسعود أن رسول الله (ص) قال أيما بيعين تبايعا فالقول قول البائع أو يترادان فمن حمل هذا الحديث على وجوب التفاسخ وعمومه قال: يتحالفان في كل حال ويتفاسخان، والعلة في ذلك عنده أن كل واحد منهما مدع ومدعى عليه. وأما من رأى أن الحديث إنما يجب أن يحمل على الحالة التي يجب أن يتساوى فيها دعوى البائع والمشتري قال: إذا قبض السلعة أو فاتت فقد صار القبض شاهدا للمشتري وشبهة لصدقه، واليمين إنما يجب على أقوى المتداعيين شبهة، وهذا هو أصل مالك في الايمان، ولذلك يوجب في مواضع اليمين على المدعي، وفي مواضع على المدعى عليه، وذلك أنه لم يجب اليمين بالنص على المدعى عليه من حيث هو مدعى عليه، وإنما وجبت عليه من حيث هو في
154 الأكثر أقوى شبهة، فإذا كان المدعي في مواطن أقوى شبهة وجب أن يكون اليمين في حيزه. وأما من رأى القول قول المشتري، فإنه رأى أن البائع مقر للمشتري بالشراء ومدع عليه عددا ما في الثمن. وأما داود ومن قال بقوله فردوا حديث ابن مسعود لأنه منقطع ولذلك لم يخرجه الشيخان البخاري ومسلم، وإنما خرجه مالك. وعن مالك: إذا نكل المتبايعان عن الايمان روايتان: إحداهما الفسخ، والثانية أن القول قول البائع. وكذلك من يبدأ باليمين في المذهب فيه خلاف، فالأشهر البائع على ما في الحديث، وهل إذا وقع التفاسخ يجوز لأحدهما أن يختار قول صاحبه؟ فيه خلاف في المذهب. القسم الرابع: من النظر المشترك في البيوع: وهو النظر في حكم البيع الفاسد إذا وقع، فنقول: اتفق العلماء على أن البيوع الفاسدة إذا وقعت ولم تفت بإحداث عقد فيها أو نماء أو نقصان أو حوالة سوق أن حكمها الرد أعني أن يرد البائع الثمن والمشتري المثمون. واختلفوا إذا قبضت وتصرف فيها بعتق أو هبة أو رهن أو غير ذلك من سائر التصرفات هل ذلك فوت يوجب القيمة؟ وكذلك إذا نمت أو نقصت فقال الشافعي: ليس ذلك كله فوتا ولا شبهة ملك في البيع الفاسد وأن الواجب الرد، وقال مالك: كل ذلك فوت يوجب القيمة إلا ما روى عنه ابن وهب في الربا أنه ليس بفوت، ومثل ذلك قال أبو حنيفة والبيوع الفاسدة عند مالك تنقسم إلى محرمة وإلى مكروهة. فأما المحرمة فإنها إذا فاتت مضت بالقيمة. وأما المكروهة فإنها إذا فاتت صحت عنده، وربما صح عنده بعض البيوع الفاسدة بالقبض لخفة الكراهة عنده في ذلك. فالشافعية تشبه المبيع الفاسد لمكان الربا والغرر بالفاسد لمكان تحريم عينه كبيع الخمر والخنزير فليس عندهم فيه فوت، ومالك يرى أن النهي في هذه الأمور إنما هو لمكان عدم العدل فيها، أعني بيوع الربا والغرر، فإذا فاتت السلعة فالعدل فيها هو الرجوع بالقيمة، لأنه قد تقبض السلعة وهي تساوي ألفا وترد وهي تساوي خمسمائة أو بالعكس، ولذلك يرى مالك حوالة الأسواق فوتا في المبيع الفاسد، ومالك يرى في البيع والسلف أنه إذا فات وكان البائع هو المسلف رد المشتري القيمة ما لم تكن أزيد من الثمن لان المشتري قد رفع له في الثمن لمكان السلف فليس من العدل أن يرد أكثر من ذلك، وإن كان المشتري هو الذي أسلف البائع فقد حط البائع عنه من الثمن لمكان السلف، فإذا وجبت على المشتري القيمة ردها ما لم تكن أقل من الثمن، لأن هذه البيوع إنما وقع المنع فيها لمكان ما جعل فيها من العوض مقابل السلف الذي هو موضوع لعون الناس بعضهم لبعض، ومالك في هذه المسألة أفقه من الجميع. واختلفوا إذا ترك الشرط قبل القبض: أعني شرط السلف، هل يصح البيع أم لا؟ فقال أبو حنيفة والشافعي وسائر العلماء: البيع مفسوخ، وقال مالك وأصحابه: البيع غير مفسوخ إلا ابن عبد الحكم قال: البيع مفسوخ. وقد روي عن مالك
155 مثل قول الجمهور. وحجة الجمهور أن النهي يتضمن فساد المنهي فإذا انعقد البيع فاسدا لم يصححه بعد رفع الشرط الذي من قبله وقع الفساد، كما أن رفع السبب المفسد في المحسوسات بعد فساد الشئ ليس يقتضي عودة الشئ إلى ما كان عليه قبل الفساد من الوجود، فاعلمه. وروي أن محمد بن أحمد بن سهل البرمكي سأل عن هذه المسألة إسماعيل بن إسحاق المالكي فقال له: ما الفرق بين السلف والبيع وبين رجل باع غلاما بمائة دينار وزق خمر، فلما انعقد البيع بينهما قال: أنا أدع الزق، وهذا البيع مفسوخ عند العلماء بإجماع، فوجب أن يكون بيع السلف كذلك، فجاوب عن ذلك بجواب لا تقوم به حجة، وقد تقدم القول في ذلك. وإذ قد انقضى القول في أصول البيوع الفاسدة وأصول البيوع الصحيحة، وفي أصول أحكام البيوع الصحيحة، وأصول الاحكام الفاسدة المشتركة العامة لجميع البيوع أو لكثير منها فلنصر إلى ما يخص واحدا واحدا من هذه الأربعة الأجناس، وذلك بأن نذكر منها ما يجري مجرى الأصول.
156 كتاب الصرف ولما كان يخص هذا البيع شرطان: أحدهما: عدم النسيئة وهو الفور، والآخر: عدم التفاضل وهو اشتراط المثلية كان النظر في هذا الباب ينحصر في خمسة أجناس: الأول: في معرف ما هو نسيئة مما ليس بنسيئة. الثاني: في معرفة ما هو مماثل مما ليس بمماثل، إذ هذان القسمان ينقسمان بفصول كثيرة فيعرض هنالك الخلاف. الثالث: فيما وقع أيضا من هذا البيع بصورة مختلف فيها هل هو ذريعة إلى أحد هذين أعني الزيادة والنسيئة أو كليهما عند من قال بالذرائع وهو مالك وأصحابه، وهذا ينقسم أيضا إلى نوعين كانقسام أصله. الخامس: في خصائص أحكام هذا البيع من جهة ما يعتبر فيه هذان الشرطان: أعني عدم النساء والتفاضل أو كليهما، وذلك أنه يخالف هذا البيع البيوع لمكان هذين الشرطين فيه في أحكام كثيرة. وأنت إذا تأملت الكتب الموضوعة في فروع الكتاب الذي يوسمونه بكتاب الصرف وجدتها كلها راجعة إلى هذه الأجناس الخمسة، أو إلى ما تركب منها ما عدا المسائل التي يدخلون في الكتاب الواحد بعينه مما ليس هو من ذلك الكتاب مثل إدخال المالكية في الصرف مسائل كثيرة هي من باب الاقتضاء في السلف، ولكن لما كان الفاسد منها يؤول إلى أحد هذين الأصلين، أعني إلى صرف بنسيئة أو بتفاضل أدخلوها في هذا الكتاب، مثل مسائلهم في اقتضاء القائمة والمجموعة والفرادى بعضها من بعض، لكن لما كان قصدنا إنما هو ذكر المسائل التي هي منطوق بها في الشرع أو قريب من المنطوق بها رأينا أن نذكر في هذا الكتاب سبع مسائل مشهورة تجري مجرى الأصول لما يطرأ على المجتهد من مسائل هذا الباب. فإن هذا الكتاب إنما وضعناه ليبلغ به المجتهد في هذه الصناعة رتبة الاجتهاد إذا حصل ما يجب له أن يحصل قبله من القدر الكافي له في علم النحو واللغة وصناعة أصول الفقه ويكفي من ذلك ما هو مساو لجرم هذا الكتاب أو أقل. وبهذه الرتبة يسمى فقيها لا بحفظ مسائل الفقه ولو بلغت في العدد أقصى ما يمكن أن يحفظه انسان كما نجد متفقهة زماننا يظنون أن الأفقه هو الذي حفظ مسائل أكثر، وهؤلاء عرض لهم شبيه ما يعرض لمن ظن أن الخفاف هو الذي عنده خفاف كثيرة لا الذي يقدر على عملها، وهو بين أن الذي عنده خفاف كثيرة سيأتيه انسان بقدم لا يجد في خفافه ما يصلح لقدمه، فيلجأ إلى صانع الخفاف ضرورة، وهو الذي يصنع لكل قدم خفا يوافقه، فهذا هو مثال أكثر المتفقهة في هذا الوقت.
157 وإذ قد خرجنا عما كنا بسبيله فلنرجع إلى حيث كنا من ذكر المسائل التي وعدنا بها. المسألة الأولى: أجمع العلماء على أن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة لا يجوز إلا مثلا بمثل يدا بيد، إلا ما روي عن ابن عباس ومن تبعه من المكيين فإنهم أجازوا بيعه متفاضلا ومنعوه نسيئة فقط، وإنما صار ابن عباس لذلك لما رواه عن أسامة بن زيد عن النبي (ص) أنه قال لا ربا إلا في النسيئة وهو حديث صحيح، فأخذ ابن عباس بظاهر هذا الحديث فلم يجعل الربا إلا في النسيئة. وأما الجمهور فصاروا إلى ما رواه مالك عن نافع عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله (ص) قال: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها شيئا غائبا بناجز وهو من أصح ما روي في هذا الباب. وحديث عبادة بن الصامت حديث صحيح أيضا في هذا الباب، فصار الجمهور إلى هذه الأحاديث إذ كانت نصا في ذلك. وأما حديث ابن عباس فإنه ليس بنص في ذلك لأنه روي فيه لفظان: أحدهما: أنه قال إنما الربا في النسيئة وهذا ليس يفهم منه إجازة التفاضل إلا من باب دليل الخطاب وهو ضعيف ولا سيما إذا عارضه النص. وأما اللفظ الآخر وهو لا ربا إلا في النسيئة فهو أقوى من هذا اللفظ لان ظاهره يقتضي أن ما عدا النسيئة فليس بربا، لكن يحتمل أن يريد بقوله لا ربا إلا في النسيئة من جهة أن الواقع في الأكثر، وإذا كان هذا محتملا والأول نص وجب تأويله على الجهة التي يصح الجمع بينهما. وأجمع الجمهور على أن مسكوكه وتبره ومصوغه سواء في منع بيع بعضه ببعض متفاضلا لعموم الأحاديث المتقدمة في ذلك، إلا معاوية فإنه كان يجيز التفاضل بين التبر والمصوغ لمكان زيادة الصياغة، وإلا ما روي عن مالك أنه سئل عن الرجل يأتي دار الضرب بورقه فيعطيهم أجرة الضرب ويأخذ منهم دنانير ودراهم وزن ورقه أو دراهمه، فقال: إذا كان ذلك لضرورة خروج الرفقة ونحو ذلك فأرجو أن لا يكون به بأس، وبه قال ابن القاسم من أصحابه، وأنكر ذلك ابن وهب من أصحابه وعيسى بن دينار وجمهور العلماء، وأجاز مالك بدل الدينار الناقص بالوازن أو بالدينارين على اختلاف بين أصحابه في العدد الذي يجوز فيه ذلك من الذي لا يجوز على جهة المعروف. المسألة الثانية: اختلف العلماء في السيف والمصحف المحلى يباع بالفضة وفيه حلية فضة، أو بالذهب وفيه حلية ذهب، فقال الشافعي: لا يجوز ذلك لجهل المماثلة المشترطة في بيع الفضة بالفضة في ذلك والذهب بالذهب، وقال مالك: إن كان قيمة ما فيه من الذهب أو الفضة الثلث فأقل جاز بيعه، أعني بالفضة إن كانت حليته فضة، أو بالذهب إن كانت حليته ذهبا وإلا لم يجز، وكأنه رأى أنه إذا كانت الفضة قليلة لم تكن مقصودة في البيع وصارت كأنها هبة، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا بأس ببيع السيف المحلى بالفضة إذا كانت الفضة أكثر من
158 الفضة التي في السيف. وكذلك الامر في بيع السيف المحلى بالذهب، لأنهم رأوا أن الفضة التي فيه أو الذهب يقابل مثله من الذهب أو الفضة المشتراة به، ويبقى الفضل قيمة السيف. وحجة الشافعي عموم الأحاديث والنص الوارد في ذلك من حديث فضالة بن عبد الله الأنصاري أنه قال أتي رسول الله (ص) وهو بخيبر بقلادة فيها ذهب وخرز وهي من المغانم تباع، فأمر رسول الله (ص) بالذهب الذي في القلادة ينزع وحده، ثم قال لهم رسول الله (ص): الذهب بالذهب وزنا بوزن خرجه مسلم وأما معاوية كما قلنا فأجاز ذلك على الاطلاق. وقد أنكره عليه أبو سعيد وقال: لا أسكن في أرض أنت فيها.. لما رواه من الحديث. المسألة الثالثة: اتفق العلماء على أن من شرط الصرف أن يقع ناجزا. واختلفوا في الزمان الذي يحد هذا المعنى، فقال أبو حنيفة والشافعي: الصرف يقع ناجزا ما لم يفترق المتصارفان تعجل أو تأخر القبض، وقال مالك: إن تأخر القبض في المجلس بطل الصرف وإن لم يفترقا حتى كره المواعدة فيه. وسبب الخلاف: ترددهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام إلا هاء وهاء وذلك أن هذا يختلف بالأقل والأكثر، فمن رأى أن هذا اللفظ صالح لمن لم يفترق من المجلس، أعني أنه يطلق عليه أنه باع هاء وهاء قال: يجوز التأخير في المجلس. ومن رأى أن اللفظ لا يصح إلا إذا وقع القبض من المتصارفين على الفور قال: إن تأخر القبض عن العقد في المجلس بطل الصرف لاتفاقهم على هذا المعنى لم يجز عندهم في الصرف حوالة ولا حمالة ولا خيار، إلا ما حكي عن أبي ثور أنه أجاز فيه الخيار. واختلف في المذهب في التأخير الذي يغلب عليه المتصارفان أو أحدهما، فمرة قيل فيه إنه مثل الذي يقع بالاختيار، ومرة قيل إنه ليس كذلك في تفاصيل لهم في ذلك ليس قصدنا ذكرها في هذا الكتاب. المسألة الرابعة: اختلف العلماء فيمن اصطرف دراهم بدنانير ثم وجد فيها درهما زائفا، فأراد رده، فقال مالك ينتقض الصرف، وإن كانت دنانير كثيرة انتقض منها دينار للدرهم فما فوقه إلى صرف دينار فإن زاد درهم على دينار انتقض منها دينار آخر، وهكذا ما بينه وبين أن ينتهي إلى صرف دينار. قال: وإن رضي بالدرهم الزائف لم يبطل من الصرف شئ. وقال أبو حنيفة: لا يبطل الصرف بالدرهم الزائف، ويجوز تبديله إلا أن تكون الزيوف نصف الدراهم أو أكثر، فإن ردها بطل الصرف في المردود. وقال الثوري: إذا رد الزيوف كان مخيرا إن شاء أبدلها أو يكون شريكا له بقدر ذلك في الدنانير: أعني لصاحب الدنانير. وقال أحمد: لا يبطل الصرف بالرد قليلا كان أو كثيرا. وابن وهب من أصحاب مالك يجيز البدل في الصرف، وهو مبني على أن الغلبة على النظرة في الصرف ليس لها تأثير ولا سيما في البعض، وهو أحسن. وعن الشافعي في بطلان الصرف بالزيوف قولان، فيتحصل لفقهاء الأمصار في هذه المسألة أربعة أقوال: قول بإبطال الصرف مطلقا
159 عند الرد، وقول بإثبات الصرف ووجوب البدل، وقول بالفرق بين القليل والكثير، وقول بالتخيير بين بدل الزائف أيكون شريكا له. وسبب الخلاف في هذا كله: هل الغلبة على التأخير في الصرف مؤثرة فيه أو غير مؤثرة؟ وإن كانت مؤثرة فهل هي مؤثرة في القليل أو في الكثير؟ وأما وجود النقصان فإن المذهب اضطرب فيه، فمرة قال فيه إنه إن رضي بالنقصان جاز الصرف، وإن طلب البدل انتقض الصرف قياسا على الزيوف، ومرة قال: يبطل الصرف وإن رضي به، وهو ضعيف. واختلفوا أيضا إذا قبض بعض الصرف وتأخر بعضه، أعني الصرف المنعقد على التناجز، فقيل يبطل الصرف كله، وبه قال الشافعي، وقيل يبطل منه المتأخر فقط، وبه قال أبو حنيفة ومحمد وأبو يوسف، والقولان في المذهب. ومبنى الخلاف: في الصفقة الواحدة يخالطها حرام وحلال هل تبطل الصفقة كلها، أو الحرام منها فقط؟ المسألة الخامسة: أجمع العلماء على أن المراطلة جائزة في الذهب بالذهب وفي الفضة بالفضة، وإن اختلف العدد لاتفاق الوزن، وذلك إذا كانت صفة الذهبين واحدة. واختلفوا في المراطلة في الموضعين: أحدهما: أن تختلف صفة الذهبين. والثاني: أن ينقص أحد الذهبين عن الآخر. فيريه الآخر أن يزيد بذلك عرضا أو دراهم إن كانت المراطلة بذهب، أو ذهبا إن كانت المراطلة بدراهم، فذهب مالك: أما في الموضع الأول، وهو أن يختلف جنس المراطل بهما في الجودة والرداءة أنه متى راطل بأحدهما بصنف من الذهب الواحد وأخرج الآخر ذهبين، أحدهما أجود من ذلك الصنف الواحد والآخر أردأ، فإن ذلك عنده لا يجوز، وإن كان الصنف الواحد من الذهبين، أعني الذي أخرجه وحده أجود من الذهبين المختلفين اللذين أخرجهما الآخر أو أردأ منهما معا، أو مثل أحدهما وأجود من الثاني جازت المراطلة عنده. وقال الشافعي: إذا اختلف الذهبان فلا يجوز ذلك. وقال أبو حنيفة وجميع الكوفيين والبصريين: يجوز جميع ذلك. وعمدة مذهب مالك في منعه ذلك الاتهام، وهو مصير إلى القول بسد الذرائع، وذلك أنه يتهم أن يكون المراطل إنما قصد بذلك بيع الذهبين متفاضلا، فكأنه أعطى جزءا من الوسط بأكثر منه من الأردأ، أو بأقل منه من الأعلى، فيتذرع من ذلك إلى بيع الذهب بالذهب متفاضلا، مثال ذلك أن إنسانا قال لآخر: خذ مني خمسة وعشرين مثقالا وسطا بعشرين من الأعلى، فقال: لا يجوز هذا لنا، ولكن أعطيك عشرين من الأعلى وعشرة أدنى من ذهبك، وتعطيني أنت ثلاثين من الوسط، فتكون العشرة الأدنى يقابلها خمسة من ذهبك، ويقابل العشرين من ذهب الوسط العشرين من ذهبك الأعلى. وعمدة الشافعي اعتبار التفاضل الموجود في القيمة. وعمدة أبي حنفية اعتبار وجود الوزن من الذهبين ورد القول بسد الذرائع، وكمثل اختلافهم في المصارفة التي تكون بالمراطلة اختلفوا في هذا الموضع في المصارفة التي تكون بالعدد، أعني إذا اختلفت جودة الذهبين أو الا ذهاب. وأما اختلافهم
160 إذا نقصت المراطلة. فأراد أحدهما أن يزيد شيئا آخر مما فيه الربا، أو مما لا ربا فيه، فقريب من هذا الاختلاف، مثل أن يراطل أحدهما صاحبه ذهب بذهب، فينقص أحد الذهبين عن الآخر، فيريد الذي نقص ذهبه أن يعطي عوض الناقص دراهم أو عرضا، فقال مالك والشافعي والليث: إن ذلك لا يجوز والمراطلة فاسدة، وأجاز ذلك كله أبو حنيفة والكوفيون. وعمدة الحنفية تقدير وجود المماثلة من الذهبين وبقاء الفضل مقابل للعرض. وعمدة مالك التهمة في أن يقصد بذلك بيع الذهب بالذهب متفاضلا. وعمدة الشافعي عدم المماثلة بالكيل أو الوزن أو العدد الذي بالفضل. ومثل هذا يختلفون إذا كانت المصارفة بالعدد. المسألة السادسة: واختلفوا في الرجلين يكون لأحدهما على صاحبه دنانير وللآخر عليه دراهم، هل يجوز أن يتصارفاها وهي في الذمة؟ فقال مالك: ذلك جائز إذا كانا قد حلا معا، وقال أبو حنيفة يجوز في الحال وفي غير الحال، وقال الشافعي والليث: لا يجوز ذلك حلا أو لم يحلا. وحجة من لم يجزه أنه غائب بغائب، وإذا لم يجز غائب بناجز كان أحرى أن لا يجوز غائب بغائب. وأما مالك فأقام حلول الأجلين في ذلك مقام الناجز بالناجز، وإنما اشترط أن يكونا حالين معا، لئلا يكون ذلك من بيع الدين بالدين. ويقول الشافعي قال ابن وهب وابن كنانة من أصحاب مالك. وقريب من هذا اختلافهم في جواز الصرف على ما ليس عندهما إذا دفعه أحدهما إلى صاحبه قبل الافتراق مثل أن يستقرضاه في المجلس فتقابضاه قبل الافتراق فأجاز ذلك الشافعي وأبو حنيفة، وكرهه ابن القاسم من الطرفين واستخفه من الطرف الواحد، أعني إذا كان أحدهما هو المستقرض فقط. وقال زفر: لا يجوز ذلك إلا أن يكون من طرف واحد. ومن هذا الباب اختلافهم في الرجل يكون له على الرجل دراهم إلى أجل هل يأخذ فيها إذا حل الاجل ذهبا أو بالعكس؟ فذهب مالك إلى جواز ذلك إذا كان القبض قبل الافتراق، وبه قال أبو حنيفة إلا أنه أجاز ذلك وإن لم يحل الاجل، ولم يجز ذلك جماعة من العلماء، سواء أكان الاجل حالا أو لم يكن، وهو قول ابن عباس وابن مسعود. وحجة من أجاز ذلك حديث ابن عمر قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، أبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، فسألت عن ذلك رسول الله (ص) فقال: لا بأس بذلك إذا كان بسعر يومه خرجه أبو داود. وحجة من لم يجزه ما جاء في حديث أبي سعيد وغيره ولا تبيعوا منها غائبا بناجز. المسألة السابعة: اختلف في البيع والصرف في مذهب مالك فقال: إنه لا يجوز إلا أن يكون أحدهما الأكثر والآخر تبع لصاحبه، وسواء أكان الصرف في دينار واحد أو في دنانير، وقيل إن كان الصرف في دينار واحد جاز كيفما وقع، وإن كان في أكثر اعتبر كون أحدهما تابعا للآخر في الجواز، فإن كانا معا مقصودين لم يجز، وأجاز أشهب الصرف والبيع وهو أجود، لأنه ليس في ذلك ما يؤدي إلى ربا ولا إلى غرر.
161 كتاب السلم وفي هذا الكتاب ثلاثة أبواب: الباب الأول: في محله وشروطه. الباب الثاني: فيما يجوز أن يقتضي من المسلم إليه بدل ما انعقد عليه السلام، وما يعرض في ذلك من الإقالة والتعجيل والتأخير. الباب الثالث: في اختلافهم في السلم. الباب الأول: في محله وشرطه أما محله: فإنهم أجمعوا على جوازه في كل ما يكال أو يوزن لمثبت من حديث ابن عباس المشهور قال: قدم النبي (ص) المدينة وهم يسلمون في التمر السنتين والثلاث، فقال رسول الله (ص): من أسلف فليسلف في ثمن معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم واتفقوا على امتناعه فيما لا يثبت في الذمة، وهو الدور والعقار. وأما سائر ذلك من العروض والحيوان فاختلفوا فيها، فمنع ذلك داود وطائفة من أهل الظاهر مصيرا إلى ظاهر هذا الحديث. والجمهور على أنه جائز في العروض التي تنضبط بالصفة والعدد. واختلفوا من ذلك فيما ينضبط مما لا ينضبط بالصفة، فمن ذلك الحيوان والرقيق، فذهب مالك والشافعي والأوزاعي والليث إلى أن السلم فيهما جائز، وهو قول ابن عمر من الصحابة. وقال أبو حنيفة والثوري وأهل العراق: لا يجوز السلم في الحيوان، وهو قول ابن مسعود. وعن عمر في ذلك قولان. وعمدة أهل العراق في ذلك ما روي عن ابن عباس أن النبي (ص) نهى عن السلف في الحيوان وهذا الحديث ضعيف عند الفريق الأول. وربما احتجوا أيضا بنهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة. وعمدة من أجاز السلم في الحيوان ما روي عن ابن عمر أن رسول الله (ص) أمره أن يجهز جيشا، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلاص الصدقة، فأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة وحديث أبي رافع أيضا أن النبي (ص) استسلف بكرا قالوا: وهذا كله يدل على ثبوته في الذمة. فسبب اختلافهم: شيئان: أحدهما: تعارض الآثار في هذا المعنى. والثاني: تردد الحيوان بين أن يضبط بالصفة أو لا يضبط، فمن نظر إلى تباين الحيوان في الخلق والصفات وبخاصة صفات النفس قال: لا تنضبط. ومن نظر إلى تشابهها قال: تنضبط. ومنها اختلافهم في البيض والدر وغير ذلك، فلم يجز أبو حنيفة السلم في البيض وأجازه مالك
162 بالعدد، وكذلك في اللحم أجازه مالك والشافعي، ومنعه أبو حنيفة، وكذلك السلم في الرؤوس والأكارع، أجازه مالك، ومنعه أبو حنيفة، واختلف في ذلك قول أبي حنيفة والشافعي، وكذلك السلم في الدر والفصوص، أجازه مالك، ومنعه الشافعي، وقصدنا من هذه المسائل إنما هو الأصول الضابطة للشريعة لا إحصاء للفروع، لان ذلك غير منحصر. وأما شروطه: فمنها مجمع عليها ومنها مختلف فيها، فأما المجمع عليها فهي ستة: منها أن يكون الثمن والمثمون مما يجوز فيه النساء، وامتناعه فيما لا يجوز فيه النساء، وذلك إما اتفاق المنافع على ما يراه مالك رحمه الله، وإما اتفاق الجنس على ما يراه أبو حنيفة، وإما اعتبار الطعم مع الجنس على ما يراه الشافعي في علة النساء. ومنها أن يكون مقدرا إما بالكيل أو بالوزن أو بالعدد إن كان مما شأنه أن يلحقه التقدير، أو منضبطا بالصفة إن كان مما المقصود منه الصفة. ومنها أن يكون موجودا عند حلول الأجل. ومنها أن يكون الثمن غير مؤجل أجلا بعيدا، لئلا يكون من باب الكالئ بالكالئ، هذا في الجملة. واشترطوا في اشتراط اليومين والثلاثة في تأخير نقد الثمن بعد اتفاقهم على أن لا يجوز في المدة الكثيرة ولا مطلقا، فأجاز مالك اشتراط تأخير اليومين والثلاثة، وأجاز تأخيره بلا شرط. وذهب أبو حنيفة إلى أن من شرطه التقابض في المجلس كالصرف فهذه ستة متفق عليها. واختلفوا في أربعة: أحدها: الاجل. هل هو شرط فيه أم لا؟. والثاني: هل من شرطه أن يكون جنس المسلم فيه موجودا في حال عقد السلم أم لا؟ والثالث: اشتراط مكان دفع المسلم فيه. والرابع: أن يكون الثمن مقدرا إما مكيلا وإما موزونا وإما معدودا فأما الاجل: فإن أبا حنيفة هو عنده شرط صحة بلا خلاف عنه وأن لا يكون جزافا في ذلك. وأما مالك فالظاهر من مذهبه والمشهور عنه، أنه من شرط السلم، وقد قيل إنه يتخرج من بعض الروايات عنه جواز السلم الحال. وأما اللخمي فإنه فصل الامر في ذلك فقال: إن السلم في المذهب يكون على ضربين: سلم حال، وهو الذي يكون من شأنه بيع تلك السلعة. وسلم مؤجل، وهو الذي يكون ممن ليس من شأنه بيع تلك السلعة. وعمدة من اشترط الاجل شيئان: ظاهر حديث ابن عباس. والثاني: أنه إذ لم يشترط فيه الاجل كان من باب بيع ما ليس عند البائع المنهي عنه. وعمدة الشافعي أنه إذا جاز الاجل فهو حالا أجوز لأنه أقل غررا. وربما استدلت الشافعية بما روي أن النبي (ص) اشترى جملا من أعرابي بوسق تمر، فلما دخل البيت لم يجد التمر، فاستقرض النبي (ص) تمرا وأعطاه إياه قالوا: فهذا هو شراء حال بتمر في الذمة، والمالكية من طريق المعنى أن السلم إنما جوز لموضع الارتفاق، ولان المسلف يرغب في تقديم الثمن لاسترخاء المسلم فيه والمسلم إليه يرغب فيه لموضع النسيئة، وإذا لم يشترط الاجل زال هذا المعنى. واختلفوا في الاجل في موضعين: أحدهما: هل يقدر بغير الأيام والشهور مثل الجذاذ والقطاف والحصاد والموسم؟. والثاني:
163 في مقداره من الأيام. وتحصيل مذهب مالك في مقداره من الأيام أن المسلم فيه على ضربين: ضرب يقتضى بالبلد المسلم فيه، وضرب يقتضى بغير البلد الذي وقع فيه المسلم، فإن اقتضاه في البلد المسلم فيه، فقال ابن القاسم إن المعتبر في ذلك أجل تختلف فيه الأسواق، وذلك خمسة عشر يوما أو نحوها. وروى ابن وهب عن مالك أنه يجوز اليومين والثلاثة، وقال ابن عبد الحكم: لا بأس به إلى اليوم الواحد. وأما ما يقتضى ببلد آخر، فإن الاجل عندهم فيه هو قطع المسافة التي بين البلدين قلت أو كثرت، وقال أبو حنيفة: لا يكون أقل من ثلاثة أيام، فمن جعل الاجل شرطا غير معلل اشترط منه أقل ما ينطلق عليه الاسم، ومن جعله شرطا معللا باختلاف الأسواق، اشترط من الأيام ما تختلف فيه الأسواق غالبا. وأما الاجل إلى الجذاذ والحصاد وما أشبه ذلك فأجازه مالك ومنعه أبو حنيفة والشافعي فمن رأى أن الاختلاف الذي يكون في أمثال هذه الآجال يسير: أجاز ذلك إذ الغرر اليسير معفو عنه في الشرع، وشبهه بالاختلاف الذي يكون في الشهور من قبل الزيادة والنقصان، ومن رأى أنه كثير، وأنه أكثر من الاختلاف الذي يكون من قبل نقصان الشهور وكمالها لم يجزه. وأما اختلافهم في هل شرط السلم أن يكون جنس المسلم فيه موجودا في حين عقد السلم؟: فإن مالكا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور لم يشترطوا ذلك وقالوا: يجوز السلم في غير وقت إبانه. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي لا يجوز السلم إلا في إبان الشئ المسلم فيه. فحجة من لم يشترط الا بان ما ورد في حديث ابن عباس أن الناس كانوا يسلمون في التمر السنتين والثلاث فأقروا على ذلك ولم ينهوا عنه. وعمدة الحنفية: ما روي من حديث ابن عمر أن النبي (ص) قال لا تسلموا في النخل حتى يبدو صلاحها وكأنهم رأوا أن الغرر يكون فيه أكثر إذا لم يكن موجودا في حال العقد، وكأنه يشبه بيع ما لم يخلق أكثر، وإن كان ذلك معينا وهذا في الذمة، وبهذا فارق السلم بيع ما لم يخلق. وأما الشرط الثالث: وهو مكان القبض، فكان أبا حنيفة اشترطه تشبيها بالزمان ولم يشترطه غيره وهم الأكثر. وقال القاضي أبو محمد: الأفضل اشتراطه. وقال ابن المواز: ليس يحتاج إلى ذلك. وأما الشرط الرابع: وهو أن يكون الثمن مقدرا مكيلا أو موزونا أو معدودا أو مذروعا لا جزافا، فاشترط ذلك أبو حنيفة، ولم يشترطه الشافعي، ولا صاحبا أبي حنيفة: أبو يوسف ومحمد، قالوا: وليس يحفظ عن مالك في ذلك نص، إلا أنه يجوز عنده بيع الجزاف، إلا فيما يعظم الغرر فيه على ما تقدم من مذهبه. وينبغي أن تعلم أن التقدير في السلم يكون بالوزن فيما يكون فيه الوزن، وبالكيل فيما يكون فيه الكيل، وبالذرع فيما يكون فيه الذرع وبالعدد فيما يكون فيه العدد. وإن لم يكن فيه أحد من هذه التقديرات
164 انضبط بالصفا ت المقصودة من الجنس مع ذكر الجنس إن كان أنواعا مختلفة، أو مع تركه إن كان نوعا واحدا، ولم يختلفوا أن السلم لا يكون إلا في الذمة وأنه لا يكون في معين. وأجاز مالك السلم في قرية معينة إذا كانت مأمونة، وكأنه رآها مثل الذمة. الباب الثاني: فيما يجوز أن يقتضي من المسلم إليه بدل ما انعقد عليه السلام وما يعرض في ذلك من الإقالة والتعجيل والتأخير وفي هذا الباب فروع كثيرة، لكن نذكر المشهور منها: مسألة: اختلف العلماء فيمن أسلم في شئ من الثمر، فلما حل الاجل تعذر تسليمه حتى عدم ذلك المسلم فيه وخرج زمانه، فقال الجمهور: إذا وقع ذلك كان المسلم بالخيار بين أن يأخذ الثمن أو يصبر إلى العام القابل، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وابن القاسم، وحجتهم أن العقد وقع على موصوف في الذمة فهو باق على أصله، وليس من شرط جوازه أن يكون من ثمار هذه السنة، وإنما هو شئ شرطه المسلم فهو في ذلك بالخيار. وقال أشهب من أصحاب مالك: ينفسخ السلم ضرورة ولا يجوز التأخير، وكأنه رآه من باب الكالئ بالكالئ. وقال سحنون: ليس له أخذ الثمن، وإنما له أن يصبر إلى القابل، واضطرب قول مالك في هذا والمعتمد عليه في هذه المسألة ما رآه أبو حنيفة والشافعي وابن القاسم، وهو الذي اختاره أبو بكر الطرطوشي، والكالئ بالكالئ مسألة: اختلف العلماء المنهي عنه إنما هو المقصود - لا الذي يدخل اضطرارا في بيع المسلم فيه إذا حان الاجل من المسلم إليه قبل قبضه، فمن العلماء من لم يجز ذلك أصلا، وهم القائلون بأن كل شئ لا يجوز بيعه قبل قبضه، وبه قال أبو حنيفة وإسحاق. وتمسك أحمد وإسحاق في منع هذا بحديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (ص) من أسلم في شئ فلا يصرفه في غيره. وأما مالك فإنه منع شراء المسلم فيه قبل قبضه في موضعين: أحدهما: إذا كان المسلم فيه طعاما، وذلك بناء على مذهبه في أن الذي يشترط في بيعه القبض هو الطعام على ما جاء عليه النص في الحديث. والثاني: إذا لم يكن السلم فيه طعاما فأخذ عوضه المسلم ما لا يجوز أن يسلم فيه رأس ماله مثل أن يكون المسلم فيه عرضا والثمن عرضا مخالفا له فيأخذ المسلم من المسلم إليه إذا حان الاجل شيئا من جنس ذلك العرض الذي هو الثمن، وذلك أن هذا يدخله إما سلف وزيادة إن كان العرض المأخوذ أكثر من رأس مال السلم، وإما ضمان وسلف إن كان مثله أو أقل. وكذلك إن كان رأس مال السلم طعاما لم يجز أن يأخذ فيه طعام آخر أكثر، لا من جنسه ولا من غير جنسه، فإن كان مثل طعامه في الجنس والكيل والصفة
165 فيما حكاه عبد الوهاب جاز، لأنه يحمله على العروض، وكذلك يجوز عنده أن يأخذ من الطعام المسلم فيه طعاما من صفته وإن كان أقل جودة، لأنه عنده من باب البدل في الدنانير. والاحسان مثل أن يكون له عليه قمح فيأخذ بمكيلته شعيرا، وهذا كله من شرطه عند مالك أن لا يتأخر القبض لأنه يدخله الدين بالدين. وإن كان رأس مال المسلم عينا وأخذ المسلم فيه عينا من جنسه جاز ما لم يكن أكثر منه، ولم يتهمه على بيع العين بالعين نسيئة إذا كان مثله أو أقل، وإن أخذ دراهم في دنانير لم يتهمه على الصرف المتأخر، وكذلك إن أخذ فيه دنانير من غير صنف الدنانير التي هي رأس مال السلم. وأما بيع السلم من غير المسلم إليه، فيجوز بكل شئ يجوز التبايع به ما لم يكن طعاما، لأنه لا يدخله بيع الطعام قبل قبضه. وأما الإقالة فمن شرطها عند مالك أن لا يدخلها زيادة ولا نقصان، فإن دخلها زيادة أو نقصان كان بيعا من البيوع ودخلها ما يدخل البيوع، أعني أنها تفسد عنده بما يفسد بيوع الآجال مثل أن يتذرع إلى بيع وسلف، أو إلى: ضع وتعجل، أو إلى بيع السلم بما لا يجوز بيعه. مثال ذلك في دخول بيع وسلف به إذا حل الاجل، فأقاله على أن أخذ البعض وأقال من البعض فإنه لا يجوز عنده فإنه يدخله التذرع إلى بيع وسلف، وذلك جائز عند الشافعي وأبي حنيفة، لأنهما لا يقولان بتحريم بيوع الذرائع. مسألة: اختلف العلماء في الشراء برأس مال السلم من المسلم إليه شيئا بعد الإقالة بما لا يجوز قبل الإقالة، فمن العلماء من لم يجزه أصلا، ورأي أن الإقالة ذريعة إلى أن يجوز من ذلك ما لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ومالك وأصحابه، إلا أن عند أبي حنيفة لا يجوز على الاطلاق، إذ كان لا يجوز عنده بيع المسلم فيه قبل القبض على الاطلاق، ومالك يمنع ذلك في المواضع التي يمنع بيع المسلم فيه قبل القبض على ما فصلناه قبل هذا من مذهبه. ومن العلماء من أجازه، وبه قال الشافعية والثوري. وحجتهم أن بالإقالة قد ملك رأس ماله، فإذا ملكه جاز له أن يشتري به ما أحب، والظن الردئ بالمسلمين غير جائز. قال: وأما حديث أبي سعيد فإنه إنما وقع النهي فيه قبل الإقالة. مسألة: اختلفوا إذا ندم المبتاع في السلم فقال البائع: أقلني وأنظرك بالثمن الذي دفعت إليك، فقال مالك وطائفة: ذلك لا يجوز وقال قوم: يجوز، واعتل مالك في ذلك مخافة أن يكون المشتري لما حل له الطعام على البائع أخره عنه على أن يقيله، فكان ذلك من باب بيع الطعام إلى أجل قبل أن يستوفى، وقوم اعتلوا لمنع ذلك بأنه من باب فسخ الدين بالدين، والذين رأوه جائزا رأوا أنه باب المعروف والاحسان الذي أمر الله تعالى به. قال رسول الله (ص) من أقال مسلما صفقته أقال الله عثرته يوم القيامة، ومن أنظر معسرا أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. مسألة: أجمع العلماء على أنه إذا كان لرجل على رجل دراهم أو دنانير إلى أجل
166 فدفعها إليه عند الاجل وبعده أنه يلزمه أخذها. واختلفوا في العروض المؤجلة من السلم وغيره، فقال مالك والجمهور: إن أتى بها قبل محل الاجل لم يلزم أخذها. وقال الشافعي: إن كان مما لا يتغير ولا يقصد به النظارة لزمه أخذه كالنحاس والحديد، وإن كان مما يقصد به النظارة كالفواكه لم يلزمه. وأما إذا أتى به بعد محل الاجل فاختلف في ذلك أصحاب مالك فروي عنه أنه يلزمه قبضه مثل أن يسلم في قطائف الشتاء فيأتي بها في الصيف، فقال ابن وهب وجماعة: لا يلزمه ذلك وحجة الجمهور في أنه لا يلزمه قبض العروض قبل محل الاجل من قبل أنه من ضمانه إلى الوقت المضروب الذي قصده، ولما عليه من المؤنة في ذلك، وليس كذلك الدنانير والدراهم، إذ لا مؤنة فيها، ومن لم يلزمه بعد الاجل فحجته أنه رأى أن المقصود من العروض إنما كان وقت الاجل لا غيره. وأما من أجاز ذلك في الوجهين، أعني بعد الاجل أو قبله فشبهه بالدنانير والدراهم. مسألة: اختلف العلماء فيمن أسلم إلى آخر أو باع منه طعاما على مكيلة ما فأخبر البائع أو المسلم إليه المشترى بكيل الطعام، هل للمشتري أن يقبضه منه دون أن يكيله وأن يعمل في ذلك على تصديقه؟ فقال مالك: ذلك جائز في السلم وفي البيع بشرط النقد. وإلا خيف أن يكون من باب الربا، كأنه إنما صدقه في الكيل لمكان أنه أنظره بالثمن. وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري والأوزاعي والليث: لا يجوز ذلك حتى يكيله البائع للمشتري مرة ثانية بعد أن كاله لنفسه بحضرة البائع. وحجتهم أنه لما كان ليس للمشتري أن يبيعه إلا بعد أن يكيله، لم يكن له أن يقبضه إلا بعد أن يكيله البائع له، لأنه لما كان من شرط البيع الكيل فكذلك القبض واحتجوا بما جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع، وصاع المشتري. واختلفوا إذا هلك الطعام في يد المشتري، قبل الكيل، فاختلفا في الكيل، فقال الشافعي: القول قول المشتري، وبه قال أبو ثور، وقال مالك: القول قول البائع لأنه قد صدقه المشتري عند قبضه إياه، وهذا مبني عنده على أن البيع يجوز بنفس تصديقه. الباب الثالث: في اختلاف المتبايعين في السلم والمتبايعين في السلم إما أن يختلفا في قدر الثمن أو المثمون. وإما في جنسهما، وأما في الاجل، وإما في مكان قبض السلم، فأما اختلافهم في قدر المسلم فيه، فالقول فيه قول المسلم إليه إن أتى بما يشبه، وإلا فالقول أيضا قول المسلم إن أتى أيضا بما يشبه، فإن أتيا بما لا يشبه فالقياس أن يتحالفا ويتفاسخا. وأما اختلافهم في جنس المسلم فيه، فالحكم في ذلك التحالف والتفاسخ، مثل أن يقول أحدهما: أسلمت في تمر، ويقول الآخر: في قمح. وأما اختلافهم في الاجل فإن كان في حلوله فالقول قول المسلم إليه، وإن كان في قدره فالقول أيضا قول المسلم إليه إلا أن يأتي بما لا يشبه، مثل أن يدعي
167 المسلم وقت إبان المسلم فيه، ويدعي المسلم إليه غير ذلك الوقت، فالقول قول المسلم. وأما اختلافهم في موضع القبض، فالمشهور، أن من ادعى موضع عن السلم فالقول قوله، وإن لم يدعه واحد منهما فالقول قول المسلم إليه. وخالف سحنون في الوجه الأول فقال: القول قول المسلم إليه وإن ادعى القبض في موضع العقد تحالفا وتفاسخا. وأما اختلافهم في الثمن فحكمه حكم اختلاف المتبايعين قبل القبض، وقد تقدم ذلك.
168 كتاب بيع الخيار والنظر في أصول هذا الباب، أما أولا فهل يجوز أم لا؟ وإن جاز فكم مدة الخيار؟ وهل يشترط النقدية فيه أم لا؟ وممن ضمان المبيع في مدة الخيار؟ وهل يورث الخيار أم لا؟ ومن يصح خياره ممن لا يصح؟ وما يكون من الأفعال خيارا كالقول؟ أما جواز الخيار فعليه الجمهور. إلا الثوري وابن أبي شبرمة وطائفة من أهل الظاهر. وعمدة الجمهور حديث حبان بن منقذ وفيه ولك الخيار ثلاثا وما روي في حديث ابن عمر البيعان بالخيار ما لم يفترقا إلا بيع الخيار. وعمدة من منعه أنه غرر وأن الأصل هو اللزوم في البيع إلا أن يقوم دليل على جواز البيع على الخيار من كتاب الله أو سنة ثابتة أو إجماع. قالوا: وحديث حبان إما أنه ليس بصحيح، وإما أنه خاص لما شكى إليه (ص) أنه يخدع في البيوع. قالوا: وأما حديث ابن عمر وقوله فيه إلا بيع الخيار فقد فسر المعنى المراد بهذا اللفظ، وهو ما ورد فيه من لفظ آخر وهو: أن يقول أحدهما لصاحبه: اختر وأما مدة الخيار عند الذين قالوا بجوازه فرأى مالك أن ذلك ليس له قدر محدود في نفسه وأنه إنما يتقدر بتقدر الحاجة إلى اختلاف المبيعات، وذلك يتفاوت بتفاوت المبيعات: فقال: مثل اليوم واليومين في اختيار الثوب، والجمعة والخمسة الأيام في اختيار الجارية، والشهر ونحوه في اختيار الدار. وبالجملة فلا يجوز عنده الاجل الطويل الذي فيه فضل عن اختيار المبيع، وقال الشافعي وأبو حنيفة: أجل الخيار ثلاثة أيام، لا يجوز أكثر من ذلك. وقال أحمد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن يجوز الخيار لأي مدة اشترطت، وبه قال داود. واختلفوا في الخيار المطلق دون المقيد بمدة معلومة، فقال الثوري والحسن بن جني وجماعة بجواز اشتراط الخيار مطلقا ويكون له الخيار أبدا، وقال مالك يجوز الخيار المطلق ولكن السلطان يضرب فيه أجل مثله. وقال أبو حنيفة والشافعي لا يجوز بحال الخيار المطلق ويفسد البيع. واختلف أبو حنيفة والشافعي إن وقع الخيار في الثلاثة أيام زمن الخيار المطلق، فقال أبو حنيفة: إن وقع في الثلاثة الأيام جاز، وإن مضت الثلاثة فسد البيع، وقال الشافعي: بل هو فاسد على كل حال، فهذه هي أقاويل فقهاء الأمصار في مدة الخيار، وهي هل يجوز مطلقا أو مقيدا؟ وإن جاز مقيدا فكم مقداره؟ وإن لم يجز مطلقا فهل من شرط ذلك أن لا يقع الخيار في الثلاث أم لا يجوز بحال؟ وإن وقع في الثلاث؟. فأما أدلتهم فإن عمدة من لم يجز الخيار هو ما قلناه. وأما عمدة من لم يجز الخيار إلا ثلاثا فهو أن الأصل هو أن لا يجوز الخيار فلا يجوز منه
169 إلا ما ورد فيه النص في حديث منقذ بن حبان أو حبان بن منقذ، وذلك كسائر الرخص المستثناة من الأصول مثل استثناء العرايا من المزابنة وغير ذلك. قالوا: وقد جاء تحديد الخيار بالثلاث في حديث المصراة وهو قوله: من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام وأما حديث منقذ، فأشبه طرقه المتصلة ما رواه محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله (ص) قال لمنقذ وكان يخدع في البيع إذا بعت فقل لا خلابة وأنت بالخيار ثلاثا. وأما عمدة أصحاب مالك، فهو أن المفهوم من الخيار هو اختيار المبيع، وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يكون ذلك محدودا بزمان إمكان اختيار المبيع، وذلك يختلف بحسب مبيع مبيع، فكأن النص إنما ورد عندهم تنبيها على هذا المعنى، وهو عندهم من باب الخاص أريد به العام، وعند الطائفة الأولى من باب الخاص أريد به الخاص. وأما اشتراط النقد فإنه لا يجوز عند مالك وجميع أصحابه لتردده عندهم بين السلف والبيع، وفيه ضعف. وأما ممن ضمان المبيع في مدة الخيار؟ فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال مالك وأصحابه والليث والأوزاعي: مصيبته من البائع، والمشتري أمين، وسواء أكان الخيار لهما أو لأحدهما، وقد قيل في المذهب أنه إن كان هلك بيد البائع فلا خلاف في ضمانه إياه، وإن كان هلك بيد المشتري فالحكم كالحكم في الرهن والعارية إن كان مما يغلب عليه فضمانه منه، وإن كان مما لا يغلب فضمانه من البائع. وقال أبو حنيفة: إن كان شرط الخيار لكليهما أو للبائع وحده فضمانه من البائع والمبيع عن ملكه، أما إن كان شرطه المشتري وحده فقد خرج المبيع عن ملك البائع ولم يدخل ملك المشتري الثمن، وبقي معلقا حتى ينقضي الخيار، وقد قيل عنه أن على المشتري الثمن، وهذا يدل على أنه قد دخل عنده في ملك المشتري. وللشافعي قولان: أشهرهما: أن الضمان من المشتري لأيهما كان الخيار. فعمدة من رأى أن الضمان من البائع على كل حال أنه عقد غير لازم فلم ينقل الملك عن البائع كما لو قال بعتك ولم يقل المشتري قبلت. وعمدة من رأى أنه من المشتري تشبيهه بالبيع اللازم وهو ضعيف لقياسه موضع الخلاف على موضع الاتفاق. وأما من جعل الضمان لمشترط الخيار إذا شرطه أحدهما ولم يشترطه الثاني فلانه إن كان البائع هو المشترط فالخيار له في إبقاء المبيع على ملكه، وإن كان المشتري هو المشترط له فقط فقد صرفه البائع من ملكه وأبانه فوجب أن يدخل في ملك المشتري إذا كان المشتري هو الذي شرطه فقط قال: قد خرج عن ملك البائع لأنه لم يشترط خيارا ولم يلزم أن يدخل في ملك المشتري لأنه شرط الخيار في رد الآخر له، ولكن القول يمانع الحكم، فإنه لا بد أن تكون مصيبته من أحدهما، والخلاف آيل إلى هل الخيار مشترط لايقاع الفسخ في البيع أو لتتميم البيع؟ فإذا قلنا لفسخ البيع فقد خرج من ضمان البائع، وإن قلنا لتتميمه فهو في ضمانه. وأما المسألة الخامسة: وهي: هل يورث خيار المبيع أم لا؟ فإن مالكا والشافعي
170 وأصحابهما قالوا: يورث. وأنه إذا مات صاحب الخيار فلورثته من الخيار مثل ما كان له، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يبطل الخيار بموت من له الخيار ويتم البيع، وهكذا عنده خيار الشفعة وخيار قبول الوصية وخيار الإقالة. وسلم لهم أبو حنيفة خيار الرد بالعيب: أعني أنه قال يورث، وكذلك خيار استحقاق الغنيمة قبل القسم وخيار القصاص وخيار الرهن. وسلم لهم مالك خيار رد الأب ما وهبه لابنه، أعني أنه لم ير لورثة الميت من الخيار في رد الأب ما وهبه لابنه ما جعل له الشرع من ذلك: أعني للأب، وكذلك خيار الكتابة والطلاق واللعان. ومعنى خيار الطلاق أن يقول الرجل لرجل آخر طلق امرأتي متى شئت، فيموت الرجل المجعول له الخيار، فإن ورثته لا يتنزلون منزلته عند مالك. وسلم الشافعي ما سلمت المالكية للحنفية من هذه الخيارات، وسلم زائدا خيار الإقالة والقبول فقال: لا يورثان. وعمدة المالكية والشافعية أن الأصل هو أن تورث الحقوق والأموال إلا ما قام دليل على مفارقة الحق في هذا المعنى للمال. وعمدة الحنفية أن الأصل هو أن يورث المال دون الحقوق إلا ما قام دليله من إلحاق الحقوق بالأموال. فموضع الخلاف: هل الأصل هو أن تورث الحقوق كالأموال أم لا؟ وكل واحد من الفريقين يشبه من هذا ما لم يسلمه له خصمه منها بما يسلمه منها له ويحتج على خصمه فالمالكية والشافعية تحتج على أبي حنيفة بتسليمه وراثة خيار الرد بالعيب، ويشبه سائر الخيارات التي يورثها به، والحنفية تحتج أيضا على المالكية والشافعية بما تمنع من ذلك وكل واحد منهم يروم أن يعطي فارقا فيما يختلف فيه قوله ومشابها فيما يتفق فيه قوله، ويروم في قول خصمه بالضد، أعني أن يعطي فارقا فيما يضعه الخصم متفقا، ويعطي اتفاقا فيما يضعه الخصم متباينا، مثل ما تقول المالكية: إنما قلنا إن خيار الأب في رد هبته لا يورث، لان ذلك خيار راجع إلى صفة في الأب لا توجد في غيره وهي الأبوة، فوجب أن لا تورث لا إلى صفة في العقد. وهذا هو سبب اختلافهم في خيار خيار. أعني أنه من انقدح له في شئ منها أنه صفة للعقد ورثه. ومن انقدح له أنه صفة خاصة بذي الخيار لم يورثه. وأما المسألة السادسة: وهي من يصح خياره فإنهم اتفقوا على صحة خيار المتبايعين. واختلفوا في اشتراط خيار الأجنبي. فقال مالك: يجوز ذلك والبيع صحيح. وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يجوز إلا أن يوكله الذي جعل له الخيار ولا يجوز الخيار عنده على هذا القول لغير العاقد. وهو قول أحمد. وللشافعي قول آخر مثل مالك. وبقول مالك قال أبو حنيفة واتفق المذهب على أن الخيار للأجنبي إذا جعله له المتبايعان وأن قوله لهما. واختلف المذهب إذا جعله أحدهما فاختلف البائع ومن جعل له البائع الخيار أو المشتري، ومن جعل له المشتري الخيار، فقيل القول في الامضاء، والرد قول الأجنبي سواء اشترط خياره البائع أو المشتري، وقال عكس هذا القول من جعل خياره هنا
171 كالمشورة. وقيل بالفرق بين البائع والمشتري: أي أن القول في الامضاء والرد قول البائع دون الأجنبي، وقول الأجنبي دون المشتري إن كان المشتري هو المشترط الخيار، وقيل القول قول من أراد منهما الامضاء، وإن أراد البائع الامضاء، وأراد الأجنبي الذي اشترط خياره الرد ووافقه المشتري، فالقول قول البائع في الامضاء، وإن أراد البائع الرد وأراد الأجنبي الامضاء ووافقه المشتري فالقول قول المشتري، وكذلك إن اشترط الخيار للأجنبي المشتري، فالقول فيهما قول من أراد الامضاء. وكذلك الحال في المشتري، وقيل بالفرق في هذا بين البائع والمشتري: أي إن اشترطه البائع فالقول قول من أراد الامضاء منهما، وإن اشترطه المشتري فالقول قول الأجنبي، وهو ظاهر ما في المدونة، وهذا كله ضعيف. واختلفوا فيمن اشترط من الخيار ما لا يجوز، مثل أن يشترط أجلا مجهولا وخيارا فوق الثلاث عند من لا يجوز الخيار فوق الثلاث أو خيار رجل بعيد الموضع بعينه: أعني أجنبيا، فقال مالك والشافعي: لا يصح البيع وإن أسقط الشرط الفاسد. وقال أبو حنيفة: يصح البيع مع اسقاط الشرط الفاسد. فأصل الخلاف: هل الفساد الواقع في البيع من قبل الشرط يتعدى إلى العقد أم لا يتعدى، وإنما هو في الشرط فقط؟ فمن قال يتعدى أبطل البيع وإن أسقطه، ومن قال لا يتعدى قال: البيع يصح إذا أسقط الشرط الفاسد لأنه يبقى العقد صحيحا. كتاب بيع المرابحة أجمع جمهور العلماء على أن البيع صنفان: مساومة ومرابحة، وأن المرابحة هي أن يذكر البائع للمشتري الثمن الذي اشترى به السلعة ويشترط عليه ربحا ما للدينار أو الدرهم. واختلفوا من ذلك بالجملة في موضعين: أحدهما: فيما للبائع أن يعده من رأس مال السلعة مما أنفق على السلعة بعد الشراء مما ليس له أن يعده من رأس المال. والموضع الثاني: إذا كذب البائع للمشتري فأخبره أنه اشتراه بأكثر مما اشترى السلعة به. أو وهم فأخبر بأقل مما اشترى به السلعة ثم ظهر له أنه اشتراها بأكثر، ففي هذا الكتاب بحسب اختلاف فقهاء الأمصار بابان: الباب الأول: فيما يعد من رأس المال مما لا يعد، وفي صفة رأس المال الذي يجوز أن يبنى عليه الربح. الثاني: في حكم ما وقع من الزيادة أو النقصان في خبر البائع بالثمن. الباب الأول: فيما يعد من رأس المال مما لا يعد، وفي صفة رأس المال الذي يجوز أن يبنى عليه الربح فأما ما يعد في الثمن مما لا يعد. فإن تحصيل مذهب مالك في ذلك أن ما ينوب البائع على السلعة زائدا على الثمن ينقسم ثلاثة أقسام: قسم يعد في أصل الثمن ويكون له
172 حظ من الربح. وقسم يعد في أصل الثمن ولا يكون له حظ من الربح. وقسم لا يعد في أصل الثمن ولا يكون له حظ من الربح. فأما الذي يحسبه في رأس المال ويجعل له حظا من الربح فهو ما كان مؤثرا في عين السلعة مثل الخياطة والصبغ. وأما الذي يحسبه في رأس المال ولا يجعل له حظا من الربح فما لا يؤثر في عين السلعة مما لا يمكن البائع أن يتولاه بنفسه كحمل المتاع من بلد إلى بلد وكراء البيوت التي توضع بها. وأما ما لا يحتسب فيه في الامرين جميعا. فما ليس له تأثير في عين السلعة مما يمكن أن يتولاه صاحب السلعة بنفسه كالسمسرة والطي والشد. وقال أبو حنيفة: بل يحمل على ثمن السلعة كل ما نابه عليها. وقال أبو ثور: لا يجوز المرابحة إلا بالثمن الذي اشترى به السلعة فقط إلا أن يفصل ويفسخ عنده إن وقع قال لأنه كذب، لأنه يقول له: ثمن سلعتي كذا وكذا وليس الامر كذلك. وهو عنده من باب الغش. وأما صفة رأس الثمن الذي يجوز أن يخبره به فإن مالكا والليث قالا فيمن اشترى سلعة بدنانير والصرف يوم اشتراها صرف معلوم ثم باعها بدراهم والصرف قد تغير إلى زيادة أنه ليس له أن يعلم يوم باعها بالدنانير التي اشتراها لأنه من باب الكذب والخيانة. وكذلك إن اشتراها بدراهم ثم باعها بدنانير وقد تغير الصرف. واختلف أصحاب مالك من هذا الباب فيمن ابتاع سلعة بعروض هل يجوز له أن يبيعها مرابحة أم لا يجوز؟ فإذا قلنا بالجواز فهل يجوز بقيمة العرض أو بالعرض نفسه؟ فقال ابن القاسم: يجوز له بيعها على ما اشتراه به من العروض ولا يجوز على القيمة. وقال أشهب: لا يجوز لمن اشترى سلعة بشئ من العروض أن يبيعها مرابحة لأنه يطالبه بعروض على صفة عرضه، وفي الغالب ليس يكون عنده فهو من باب بيع ما ليس عنده. واختلف مالك وأبو حنيفة فيمن اشترى سلعة بدنانير فأخذ في الدنانير عروضا أو دراهم هل يجوز له بيعها مرابحة دون أن يعلم بما نقد أم لا يجوز؟ فقال مالك لا يجوز إلا أن يعلم ما نقد. وقال أبو حنيفة: يجوز أن يبيعها منه مرابحة على الدنانير التي ابتاع بها السلعة دون العروض التي أعطى فيها أو الدراهم، قال مالك أيضا فيمن اشترى سلعة بأجل فباعها مرابحة أنه لا يجوز حتى يعلم بالأجل. وقال الشافعي إن وقع كان للمشتري مثل أجله. وقال أبو ثور: هو كالعيب وله الرد به. وفي هذا الباب في المذهب فروع كثيرة ليست مما قصدناه. الباب الثاني: في حكم ما وقع من الزيادة أو النقصان في خبر البائع بالثمن واختلفوا فيمن ابتاع سلعة مرابحة على ثمن ذكره، ثم ظهر بعد ذلك إما بإقراره وإما ببينة أن الثمن كان أقل والسلعة قائمة، فقال مالك وجماعة: المشتري بالخيار، إما أن يأخذ بالثمن الذي صح أو يترك إذا لم يلزمه البائع أخذها بالثمن الذي صح وإن ألزمه لزمه، وقال أبو حنيفة وزفر: بل المشتري بالخيار على الاطلاق، ولا يلزمه الاخذ بالثمن الذي إن ألزمه البائع لزمه، وقال الثوري وابن أبي ليلى وأحمد وجماعة: بل يبقى البيع لازما لهما
173 بعد حط الزيادة، وعن الشافعي القولان: القول بالخيار مطلقا، والقول باللزوم بعد الحط. فحجة من أوجب البيع بعد الحط أن المشتري إنما أربحه على ما ابتاع به السلعة لا غير ذلك، فلما ظهر خلاف ما قال وجب أن يرجع إلى الذي ظهر، كما لو أخذ بكيل معلوم فخرج بغير ذلك الكيل أنه يلزمه توفية ذلك الكيل. وحجة من رأى أن الخيار مطلقا تشبيه الكذب في هذه المسألة بالعيب، أعني أنه كما يوجب العيب الخيار كذلك يوجب الكذب. وأما إذا فاتت السلعة فقال الشافعي: يحط مقدار ما زاد من الثمن وما وجب له من الربح، وقال مالك: إن كانت قيمتها يوم القبض أو يوم البيع - على خلاف عنه في ذلك - مثل ما وزن المبتاع أو أقل فلا يرجع عليه المشتري بشئ، وإن كانت القيمة أقل خير البائع بين رده للمشتري القيمة أو رده الثمن أو إمضائه السلعة بالثمن الذي صح. وأما إذا باع الرجل سلعته مرابحة ثم أقام البينة أن ثمنها أكثر مما ذكره وأنه وهم في ذلك وهي قائمة، فقال الشافعي: لا يسمع من تلك البينة لأنه كذبها وقال مالك: يسمع منها ويجبر المبتاع على ذلك الثمن، وهذا بعيد لأنه بيع آخر. وقال مالك في هذه المسألة: إذا فاتت السلعة أن المبتاع مخير بين أن يعطى قيمة السلعة يوم قبضها أو أن يأخذها بالثمن الذي صح فهذه هي مشهورات مسائلهم في هذا الباب. ومعرفة أحكام هذا البيع تنبني في مذهب مالك على معرفة أحكام ثلاثة مسائل وما تركب منها: حكم مسألة الكذب، وحكم مسألة الغش، وحكم مسألة وجود العيب. فأما حكم الكذب فقد تقدم. وأما حكم الرد بالعيب فهو حكمه في البيع المطلق. وأما حكم الغش عنده فهو تخيير البائع مطلقا، وليس للبائع أن يلزمه البيع وإن حط عنه مقدار الغش كما له ذلك في مسألة الكذب، هذا عند ابن القاسم. وأما عند أشهب، فإن الغش عنده ينقسم قسمين: قسم مؤثر في الثمن، وقسم غير مؤثر. فأما غير المؤثر فلا حكم عنده فيه. وأما المؤثر فحكمه عنده حكم الكذب. وأما التي تتركب فهي أربع مسائل: كذب وغش، وكذب وتدليس، وغش وتدليس بعيب، وكذب وغش وتدليس بعيب، وأصل مذهب ابن القاسم فيها أنه يأخذ بالذي بقي حكمه إن كان فات بحكم أحدهما أو بالذي بقي حكمه أو بالذي هو أرجح له إن لم يفت حكم أحدهما، إما على التخيير حيث يمكن التخيير، أو الجمع حيث يمكن الجمع، وتفصيل هذا لائق بكتب الفروع، أعني مذهب ابن القاسم وغيره.
174 كتاب بيع العرية اختلف الفقهاء في معنى العرية والرخصة التي أتت فيها في السنة، فحكى القاضي أبو محمد عبد الوهاب المالكي أن العرية في مذهب مالك هي أن يهب الرجل ثمرة نخلة أو نخلات من حائطه لرجل بعينه، فيجوز للمعري شراؤها من المعرى له بخرصها تمرا على شروط أربعة: أحدها: أن تزهى. والثاني: أن تكون خمسة أوسق فما دون، فإن زادت فلا يجوز. والثالث: أن يعطيه التمر الذي يشتريها به عند الجذاذ، فإن أعطاه نقدا لم يجز. الرابع: أن يكون التمر من صنف تمر العرية ونوعها، فعلى مذهب مالك الرخصة في العرية إنما هي في حق المعرى فقط، والرخصة فيها إنما هي استثناؤها من المزابنة، وهي بيع الرطب بالتمر الجاف الذي ورد النهي عنه، ومن صنفي الربا أيضا: أعني التفاضل والنساء، وذلك أن بيع ثمر معلوم الكيل بثمر معلوم بالتخمين وهو الخرص، فيدخله بيع الجنس الواحد متفاضلا، وهو أيضا بثمر إلى أجل. فهذا هو مذهب مالك فيما هي العرية، وما هي الرخصة فيها، ولمن الرخصة فيها؟ وأما الشافعي فمعنى الرخصة الواردة عنده فيها ليست للمعري خاصة، وإنما هي لكل أحد من الناس أراد أن يشتري هذا القدر من الثمر: أعني الخمسة أوسق أو ما دون ذلك بتمر مثلها، وروي أن الرخصة فيها إنما هي معلقة بهذا القدر من التمر لضرورة الناس أن يأكلوا رطبا وذلك لمن ليس عنده رطب ولا تمر يشتري به الرطب. والشافعي يشترط في إعطاء التمر الذي تباع به العرية أن يكون نقدا، ويقول: إن تفرقا قبل القبض فسد البيع. والعرية جائزة عند مالك في كل ما ييبس ويدخر، وهي عند الشافعي في التمر والعنب فقط ولا خلاف في جوازها فيما دون الخمسة الأوسق عند مالك والشافعي، وعنهما الخلاف إذا كانت خمسة أوسق، فروي الجواز عنهما والمنع والأشهر عند مالك الجواز. فالشافعي يخالف مالكا في العرية في أربعة مواضع: أحدها: في سبب الرخصة كما قلنا. والثاني: أن العرية التي رخص فيها ليست هبة، وإنما سميت هبة على التجوز. والثالث: في اشتراط النقد عند البيع. والرابع:
175 في محلها. فهي عنده كما قلنا في التمر والعنب فقط، وعند مالك في كل ما يدخر وييبس. وأما أحمد بن حنبل فيوافق مالكا في أن العرية عنده هي الهبة، ويخالفه في أن الرخصة إنما هي عنده فيها للموهوب له أعني المعرى له لا المعري، وذلك أنه يرى أن له أن يبيعها ممن شاء بهذه الصفة لا من المعري خاصة كما ذهب إليه مالك. وأما أبو حنيفة فيوافق مالكا في أن العرية هي الهبة، ويخالفه في صفة الرخصة، وذلك أن الرخصة عنده فيها ليست هي من باب استثنائها من المزابنة ولا هي في الجملة في البيع، وإنما الرخصة فيها عنده من باب رجوع الواهب في هبته إذا كان الموهوب له لم يقبضها وليست عنده ببيع، وإنما هي رجوع في الهبة على صفة مخصوصة، وهو أن يعطى بدلها تمرا بخرصها. وعمدة مذهب مالك في العرية أنها بالصفة التي ذكر سنتها المشهورة عندهم بالمدينة، قالوا: وأصل هذا أن الرجل كان يهب النخلات من حائطه فيشق عليه دخول الموهوب له عليه، فأبيح له أن يشتريها بخرصها تمرا عند الجذاذ. ومن الحجة له في أن الرخصة إنما هي للمعري حديث سهل بن أبي حثمة أن رسول الله (ص) نهى عن بيع التمر بالرطب إلا أنه رخص في العرية أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رطبا قالوا: فقوله يأكلها رطبا دليل على أن ذلك خاص بمعريها، لأنهم في ظاهر هذا القول أهلها. ويمكن أن يقال إن أهلها هم الذين اشتروها كائنا من كان، لكن قوله رطبا هو تعليل لا يناسب المعرى، وعلى مذهب الشافعي هو مناسب، وهم الذين ليس عندهم رطب ولا تمر يشترونها به، ولذلك كانت الحجة للشافعي. وأما أن العرية عنده هي الهبة فالدليل على ذلك من اللغة، فإن أهل اللغة قالوا: العرية هي الهبة، واختلف في تسميتها بذلك، فقيل لأنها عريت من الثمن، وقيل إنها مأخوذة من عروت الرجل أعروه إذا سألته، ومنه قوله تعالى: * (وأطعموا القانع والمعتر) * وإنما اشترط مالك نقد الثمن عند الجذاذ أعني تأخيره إلى ذلك الوقت، لأنه تمر ورد الشرع بخرصه، فكان من سنته أن يتأجل إلى الجذاذ أصله الزكاة، وفيه ضعف، لأنه مصادمة بالقياس لأصل السنة. وعنده أنه إذا تطوع بعد تمام العقد بتعجيل التمر جاز، وأما اشتراطه جوازها في الخمسة الأوسق أو فيما دونها، فلما رواه عن أبي هريرة أن رسول الله (ص) أرخص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق، أو في خمسة أوسق وإنما كان عن مالك في الخمسة الأوسق روايتان لأن الشك الواقع في هذا الحديث من الراوي. وأما اشتراطه أن يكون من ذلك الصنف بعينه إذا يبس، فلما روي عن زيد بثابت أن رسول الله (ص) رخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها تمرا خرجه مسلم. وأما الشافعي فعمدته حديث رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة عن النبي (ص) أنه
176 نهى عن المزابنة التمر بالتمر إلا أصحاب العرايا، فإنه أذن لهم فيه وقوله فيها: يأكلها أهلها رطبا. والعرية عندهم هي اسم لما دون الخمسة الأوسق من التمر، وذلك أنه لما كان العرف عندهم أن يهب الرجل في الغالب من نخلاته هذا القدر فما دونه، خص هذا القدر الذي جاءت فيه الرخصة باسم الهبة لموافقته في القدر للهبة، وقد احتج لمذهبه بما رواه بإسناد منقطع عن محمود بن لبيد أنه قال لرجل من أصحاب رسول الله (ص) - أما زيد بن ثابت وإما غيره -: ما عراياكم هذه؟ قال: فسمى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله (ص) أن الرطب أتى وليس بأيديهم نقد يبتاعون به الرطب فيأكلونه مع الناس، وعندهم فضل من قوتهم من التمر، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي بأيديهم يأكلونها رطبا وإنما لم يجز تأخير نقد التمر لأنه بيع الطعام بالطعام نسيئة. وأما أحمد فحجته ظاهر الأحاديث المتقدمة أنه رخص في العرايا ولم يخص المعري من غيره. وأما أبو حنيفة فلما لم تجز عنده المزابنة وكانت إن جعلت بيعا نوعا من المزابنة رأى أن انصرافها إلى المعري ليس هو من باب البيع وإنما هو من باب رجوع الواهب فيما وهب بإعطاء خرصها تمرا، أو تسميته إياها بيعا عنده مجاز، وقد التفت إلى هذا المعنى مالك في بعض الروايات عنه، فلم يجز بيعها بالدراهم ولا بشئ من الأشياء سوى الخرص، وإن كان المشهور عنه جواز ذلك وقد قيل إن قول أبي حنيفة هذا هو من باب تغليب القياس على الحديث، وذلك أنه خالف الأحاديث في مواضع: منها أنه لم يسمها بيعا، وقد نص الشارع على تسميتها بيعا. ومنها أنه جاء في الحديث أنه نهى عن المزابنة ورخص في العرايا، وعلى مذهبه لا تكون العرية استثناء من المزابنة، لان المزابنة هي في البيع. والعجب منه أنه سهل عليه أن يستثنيها من النهي عن الرجوع في الهبة التي لم يقع فيها الاستثناء بنص الشرع، وعسر عليه أن يستثنيها مما استثنى منه الشارع، وهي المزابنة، والله أعلم.
177 بسم الله الرحمن الرحيم وصل الله على سيدنا محمد واله وصحبه وسلم تسليما كتاب الإجارات والنظر في هذا الكتاب شبيه بالنظر في البيوع: أعني أن أصوله: تنحصر بالنظر في أنواعها وفي شروط الصحة فيها والفساد وفي أحكامها، وذلك في نوع نوع منها، أعني فيما يخص نوعا نوعا منها، وفيما يعم أكثر من واحد منها فهذا الكتاب ينقسم أولا إلى قسمين: القسم الأول: في أنواعها وشروط الصحة والفساد. والثاني: في معرفة أحكام الإجارات وهذا كله بعد قيام الدليل على جوازها. فلنذكر أولا ما في ذلك من الخلاف ثم نصير إلى ذكر ما في ذينك القسمين من المسائل المشهورة. إذ كان قصدنا إنما هو ذكر المسائل التي تجري من هذه الأشياء مجرى الأمهات، وهي التي اشتهر فيها الخلاف بين فقهاء الأمصار، فنقول: إن الإجارة جائزة عند جميع فقهاء الأمصار والصدر الأول. وحكي عن الأصم وابن علية منعها. ودليل الجمهور قوله تعالى: * (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني) * الآية، وقوله: * (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) *. ومن السنة الثابتة ما خرجه البخاري عن عائشة قالت: استأجر رسول الله (ص) وأبو بكر رجلا من بني الديل هاديا خريتا وهو على دين كفار قريش، فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما وحديث جابر أنه باع من النبي (ص) بعيرا وشرط ظهره إلى المدينة. وما جاز استيفاؤه بالشرط جاز استيفاؤه بالأجر. وشبهة من منع ذلك أن المعاوضات إنما يستحق فيها تسليم الثمن بتسليم العين كالحال في الأعيان المحسوسة. والمنافع في الإجارات في وقت العقد معدومة، فكان ذلك غررا ومن بيع ما لم يخلق، ونحن نقول: إنها وإن كانت معدومة في حال العقد فهي مستوفاة في الغالب، والشرع إنما لحظ من هذه المنافع ما يستوفي في الغالب، أو يكون استيفاؤه وعدم استيفائه على السواء. القسم الأول: وهذا القسم النظر فيه في جنس الثمن وجنس المنفعة التي يكون الثمن مقابلا له وصفتها. فأما الثمن فينبغي أن يكون مما يجوز بيعه، وقد تقدم ذلك في باب البيوع.
178 وأما المنفعة فينبغي أن تكون من جنس ما لم ينه الشرع عنه، وفي كل هذه المسائل اتفقوا عليها واختلفوا فيها، فما اجتمعوا على إبطال إجارته: كل منفعة كانت لشئ محرم العين، كذلك كل منفعة كانت محرمة بالشرع، مثل أجر النوائح وأجر المغنيات، وكذلك كل منفعة كانت فرض عين على الانسان بالشرع مثل الصلاة وغيرها، واتفقوا على إجارة الدور والدواب والناس على الأفعال المباحة، وكذلك الثياب والبسط. واختلفوا في إجارة الأرضين وفي إجارة المياه وفي إجارة المؤذن وفي الإجارة على تعليم القرآن، وفي إجارة نزو الفحول، فأما كراء الأرضين فاختلفوا فيها اختلافا كثيرا، فقوم لم يجيزوا ذلك بتة وهم الأقل، وبه قال طاو س وأبو بكر بن عبد الرحمن، وقال الجمهور بجواز ذلك. واختلف هؤلاء فيما يجوز به كراؤها، فقال قوم: لا يجوز كراؤها إلا بالدراهم والدنانير فقط، وهو مذهب ربيعة وسعيد بن المسيب، وقال قوم: يجوز كراء الأرض بكل شئ ما عدا الطعام، وسواء كان ذلك بالطعام الخارج منها أو لم يكن، وما عدا ما ينبت فيها كان طعاما أو غيره، وإلى هذا ذهب مالك وأكثر أصحابه. وقال آخرون: يجوز كراء الأرض بما عدا الطعام فقط، وقال آخرون: يجوز كراء الأرض بكل العروض والطعام وغير ذلك ما لم يكن بجزء مما يخرج منها من الطعام، وممن قال بهذا القول سالم بن عبد الله وغيره من المتقدمين، وهو قول الشافعي وظاهر قول مالك في الموطأ، وقال قوم: يجوز كراؤها بكل شئ وبجزء مما يخرج منها، وبه قال أحمد والثوري والليث وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وابن أبي ليلى والأوزاعي وجماعة. وعمدة من لم يجز كراءها بحال ما رواه مالك بسنده عن رافع بن خديج: أن رسول الله (ص) نهى عن كراء المزارع قالوا: وهذا عام، وهؤلاء لم يلتفتوا إلى ما روى مالك من تخصيص الراوي له حين روى عنه، قال حنظلة، فسألت رافع بن خديج عن كرائها بالذهب والورق فقال: لا بأس به. وروى هذا عن رافع ابن عمر وأخذ بعمومه، وكان ابن عمر قبل يكري أرضه فترك ذلك، وهذا بناء على رأي من يرى أنه لا يخص العموم بقول الراوي. وروي عن رافع بن خديج عن أبيه قال: نهى رسول الله (ص) عن إجارة الأرضين قال أبو عمر بن عبد البر: واحتجوا أيضا بحديث ضمرة عن ابن شوذب عن مطرف عن عطاء عن جابر قال: خطبنا رسول الله (ص) فقال: من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يؤاجرها فهذه هي جملة الأحاديث التي تمسك بها من لم يجز كراء الأرض. وقالوا أيضا من جهة المعنى: إنه لم يجز كراؤها لما في ذلك من الغرر، لأنه ممكن أن يصيب الزرع جائحة من نار أو قحط أو غرق، فيكون قد لزم كراؤها من غير أن ينتفع من ذلك بشئ. قال القاضي: ويشبه أن يقال في هذا المعنى في ذلك قصد الرفق بالناس لكثرة وجود الأرض كما نهى عن بيع الماء، ووجه الشبه بينهما أنهما أصلا الخلقة، وأما عمدة من لم يجز كراءها إلا بالدراهم والدنانير فحديث طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج عن النبي (ص) أنه قال:
179 إنما يزرع ثلاثة: رجل له أرض فيزرعها، ورجل منح أرضا فهو يزرع ما منح، ورجل اكترى بذهب أو فضة قالوا: فلا يجوز أن يتعدى ما في هذا الحديث والأحاديث الاخر مطلقة وهذا مقيد، ومن الواجب حمل المطلق على المقيد. وعمدة من أجاز كراءها بكل شئ ما عدا الطعام، وسواء أكان الطعام مدخرا أو لم يكن: حديث يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله (ص): من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكرها بثلث ولا ربع ولا بطعام معين قالوا: وهذا هو معنى المحاقلة التي نهى رسول الله (ص) عنها، وذكروا حديث سعيد بن المسيب مرفوعا وفيه: والمحاقلة استكراء الأرض بالحنطة. قالوا: وأيضا فإنه من بيع الطعام بالطعام نسيئة. وعمدة من لم يجز كراءها بالطعام ولا بشئ مما يخرج منها، أما بالطعام فحجته حجة من لو يجز كراءها بالطعام. وأما حجته على منع كرائها مما تنبت فهو ما ورد من نهيه (ص) عن المخابرة، قالوا: وهي كراء الأرض بما يخرج منها وهذا قول مالك وكل أصحابه. وعمدة من أجاز كراءها بجميع العروض والطعام وغير ذلك مما يخرج منها أنه كراء منفعة معلومة بشئ معلوم، فجاز قياسا على إجارة سائر المنافع، وكأن هؤلاء ضعفوا أحاديث رافع. روي عن سالم بن عبد الله وغيره في حديث رافع أنهم قالوا: اكترى رافع. قالوا: وقد جاء في بعض الروايات عنه ما يجب أن يحمل عليها سائرها قال: كنا أكثر أهل المدينة حقلا، قال: وكان أحدنا يكري أرضه ويقول: هذه القطعة لي وهذه لك، وربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهاهم النبي (ص) خرجه البخاري. وأما من لم يجز كراءها بما يخرج منها، فعمدته النظر والأثر. أما الأثر: فما ورد من النهي عن المخابرة، وما ورد من حديث ابن خديج عن ظهير بن رافع قال: نهانا رسول الله (ص) عن أمر كان رفقا بنا، فقلت ما قال رسول الله (ص) فهو حق قال: دعاني رسول الله (ص) فقال: ما تصنعون بمحاقلكم؟ قلنا: نؤاجرها على الربع وعلى الأوسق من التمر والشعير، فقال رسول الله (ص): لا تفعلوا، ازرعوها أو زارعوها أو أمسكوها وهذا الحديث اتفق على تصحيحه الامام البخاري ومسلم. وأما من أجاز كراءها بما يخرج منها فعمدته حديث ابن عمر الثابت: أن رسول الله (ص) دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعملوها من أموالهم على نصف ما تخرجه الأرض والثمرة قالوا: وهذا الحديث أولى من أحاديث رافع لأنها مضطربة المتون، وإن صحت أحاديث رافع حملناها على الكراهية لا على الحظر، بدليل ما خرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس أنه قال: إن النبي (ص) لم ينه عنها ولكن قال: إن يمنح أحدكم أخاه يكن له خيرا من أن يأخذ منه شيئا قالوا: وقدم معاذ بن جبل اليمن حين بعثه رسول الله (ص) وهم يخابرون فأقرهم. وأما إجارة المؤذن: فإن قوما لم يروا في ذلك بأسا، وقوما كرهوا ذلك. والذين كرهوا ذلك وحرموه احتجوا بما روي عن عثمان بن أبي العاص قال: قال
180 رسول الله (ص): اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا والذين أباحوه قاسوه على الأفعال غير الواجبة، وهذا هو سبب الاختلاف، أعني هل هو واجب أم ليس بواجب؟ وأما الاستئجار على تعليم القرآن فقد اختلفوا فيه أيضا، وكرهه قوم، وأجازه آخرون. والذين أباحوه قاسوه على سائر الأفعال، واحتجوا بما روي عن خارجة بن الصامت عن عمه قال: أقبلنا من عند رسول الله (ص)، فأتينا على حي من أحياء العرب فقالوا: إنكم جئتم من عند هذا الرجل فهل عندكم دواء أو رقية، فإن عندنا معتوها في القيود، فقلنا لهم نعم، فجاؤوا به، فجعلت أقرأ عليه بفاتحة الكتاب ثلاثة أيام غدوة وعشية أجمع بريقي ثم أتفل عليه، فكأنما أنشط من عقال، فأعطوني جعلا، فقلت لا حتى أسأل رسول الله (ص)، فسألته فقال: كل فلعمري لمن أكل برقية باطل فلقد أكلت برقية حقا وبما روي عن أبي سعيد الخدري أن أصحاب رسول الله (ص) كانوا في غزاة، فمروا بحي من أحياء العرب، فقالوا: هل عندكم من راق، فإن سيد الحي قد لدغ أو قد عرض له، قال: فرقى رجل بفاتحة الكتاب فبرئ، فأعطي قطيعا من الغنم، فأبى أن يقبلها، فسأل عن ذلك رسول الله (ص) فقال: بم رقيته؟ قال: بفاتحة الكتاب. قال: وما يدريك أنها رقية؟ قال: ثم قال رسول الله (ص): خذوها واضربوا لي معكم فيها بسهم. وأما الذين كرهوا الجعل على تعليم القرآن فقالوا: هو من باب الجعل على تعليم الصلاة. قالوا: ولم يكن الجعل المذكور في الإجارة على تعليم القرآن وإنما كان على الرقي، وسواء أكان الرقي بالقرآن أو غيره الاستئجار عليه عندنا جائز كالعلاجات. قالوا: وليس واجبا على الناس، وأما تعليم القرآن فهو واجب على الناس. وأما إجارة الفحول من الإبل والبقر والدواب، فأجاز مالك أن يكري الرجل فحله على أن ينزو أكواما معلومة. ولم يجز ذلك أبو حنيفة ولا الشافعي. وحجة من لم يجز ذلك ما جاء من النهي عن عسيب الفحل ومن أجازه شبهه بسائر المنافع، وهذا ضعيف لأنه تغليب القياس على السماع. واستئجار الكلب أيضا هو من هذا الباب، وهو لا يجوز عند الشافعي ولا عند مالك، والشافعي يشترط في جواز استئجار المنفعة أن تكون متقومة على انفرادها، فلا يجوز استئجار تفاحة للشم، ولا طعام لتزيين الحانوت، إذ هذه المنافع ليس لها قيم على انفرادها، فهو لا يجوز عند مالك ولا عند الشافعي. ومن هذا الباب اختلاف المذهب في إجارة الدراهم والدنانير، وبالجملة كل ما لا يعرف بعينه، فقال ابن القاسم: لا يصح إجارة هذا الجنس وهو قرض، وكان أبو بكر الأبهري وغيره يزعم أن ذلك يصح وتلزم الأجرة فيه، وإنما منع من إجارتها، لأنه لم يتصور فيها منفعة إلا بإتلاف عينها، ومن أجاز إجارتها تصور فيها منفعة، مثل أن يتجمل بها أو يتكثر أو غير
181 ذلك مما يمكن أن يتصور في هذا الباب فهذه هي مشهورات مسائل الخلاف المتعلقة بجنس المنفعة. وأما مسائل الخلاف المتعلقة بجنس الثمن فهي مسائل الخلاف المتعلقة بما يجوز أن يكون ثمنا في المبيعات وما لا يجوز، ومما ورد النهي فيه من هذه الباب ما روى أنه (ص) نهي عن عسيب الفحل وعن كسب الحجام وعن قفيز الطحان قال الطحاوي: ومعنى نهى النبي (ص) عن قفيز الطحان هو ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من دفع القمح إلى الطحان بجزء من الدقيق الذي يطحنه، قالوا: وهذا لا يجوز عندنا، وهو استئجار من المستأجر بعين ليس عنده، ولا هي من الأشياء التي تكون ديونا على الذمم، ووافقه الشافعي على هذا. وقال أصحابه: لو استأجر السلاخ بالجلد والطحان بالنخالة أو بصاع من الدقيق فسد لنهيه (ص) عن قفيز الطحان، وهذا على مذهب مالك جائز، لأنه استأجره على جزء من الطعام معلوم، وأجرة الطحان ذلك الجزء وهو معلوم أيضا. وأما كسب الحجام، فذهب قوم إلى تحريمه، وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: كسبه ردئ يكره للرجل، وقال آخرون بل هو مباح. والسبب في اختلافهم: تعارض الآثار في هذا الباب، فمن رأى أنه حرام احتج بما روي عن أبي هريرة قال: رسول الله (ص): من السحت كسب الحجام وبما روي عن أنس بن مالك قال: حرم رسول الله (ص) كسب الحجام وروي عن عون بن أبي جحيفة قال: اشترى أبي حجاما فكسر محاجمه، فقلت له: لم يا أبت كسرتها؟ فقال: إن رسول الله (ص) نهى عن ثمن الدم. وأما من رأى إباحة ذلك، فاحتج بما روي عن ابن عباس قال: الحجام رسول الله (ص) وأعطى الحجام أجره قالوا: ولو كان حراما لم يعطه، وحديث جابر أن رسول الله (ص) دعا أبا طيبة فحجمه فسأله كم ضريبتك، فقال: ثلاثة آصع، فوضع عنه صاعا وعنه أيضا أنه أمر للحجام بصاع من طعام، وأمر مواليه أن يخففوا عنه. وأما الذين قالوا بكراهيته فاحتجوا بما روي أن رفاعة بن رافع أو رافع بن رفاعة جاء إلى مجلس الأنصار فقال: نهى رسول الله (ص) عن كسب الحجام وأمرنا أن نطعمه ناضحنا وبما روي عن رجل من بني حارثة كان له حجام، وسأل رسول الله (ص) عن ذلك فنهاه، ثم عاد فنهاه، ثم عاد فنهاه، فلم يزل يراجعه حتى قال له رسول الله (ص): أعلف كسبه ناضحك وأطعمه رقيقك. ومن هذا الباب أيضا اختلافهم في إجارة دار بسكنى دار أخرى. فأجاز ذلك مالك ومنعه أبو حنيفة، ولعله رآها من باب الدين بالدين وهذا ضعيف، فهذه مشهورات مسائلهم فيما يتعلق بجنس الثمن وبجنس المنفعة. وأما ما يتعلق بأوصافها فنذكر أيضا المشهور منها، فمن ذلك أن جمهور فقهاء الأمصار: مالك وأبو حنيفة والشافعي اتفقوا بالجملة أن من شرط الإجارة أن يكون الثمن معلوما والمنفعة معلومة القدر، وذلك إما بغايتها مثل خياطة الثوب وعمل الباب، وإما بضرب الاجل إذا لم تكن لها غاية مثل خدمة الأجير، وذلك
182 إما بالزمان إن كان عملا واستيفاء منفعة متصلة الوجود مثل كراء الدور والحوانيت، وإما بالمكان أن كان مثليا مثل كراء الرواحل. وذهب أهل الظاهر وطائفة من السلف إلى جواز إجارات المجهولات مثل أن يعطي الرجل حماره لمن يسقي عليه أو يحتطب عليه بنصف ما يعود عليه. وعمدة الجمهور أن الإجارة بيع فامتنع فيها من الجهل - لمكان الغبن - ما امتنع في المبيعات. واحتج الفريق الثاني بقياس الإجارة على القراض والمساقاة، والجمهور على أن القراض والمساقاة مستثنيان بالسنة فلا يقاس عليهما لخروجهما عن الأصول. واتفق مالك والشافعي على أنهما إذا ضربا للمنفعة التي ليس لها غاية أمدا من الزمان محدودا. وحددوا أيضا أول ذلك الأمد، وكان أوله عقب العقد أذلك جائز. واختلفوا إذا لم يحددوا أول الزمان أو حددوه ولم يكن عقب العقد، فقال مالك: يجوز إذا حدد الزمان ولم يحدد أوله، مثل أن يقول له استأجرت منك هذه الدار سنة بكذا أو شهرا بكذا، ولا يذكر أول ذلك الشهر ولا أول تلك السنة. وقال الشافعي: لا يجوز، ويكون أول الوقت عند مالك وقت عقد الإجارة، فمنعه الشافعي لأنه غرر، وأجازه مالك لأنه معلوم بالعادة، وكذلك لم يجز الشافعي إذا كان أول العقد متراخيا عن العقد، وأجازه مالك. واختلف قول أصحابه في استئجار الأرض غير المأمونة، والتغيير فيما بعد من الزمان، وكذلك اختلف مالك والشافعي في مقدار الزمان الذي تقدر به هذه المنافع، فمالك يجيز ذلك السنين الكثيرة، مثل أن يكري الدار لعشرة أعوام أو أكثر، مما لا تتغير الدار في مثله، وقال الشافعي: لا يجوز ذلك لأكثر من عام واحد. واختلف قول ابن القاسم وابن الماجشون في أرض المطر وأرض السقي بالعيون وأرض السقي بالآبار والأنهار، فأجاز ابن القاسم فيها الكراء السنين الكثيرة، وفصل ابن الماجشون فقال: لا يجوز الكراء في أرض المطر إلا لعام واحد، وأما أرض السقي بالعيون فلا يجوز كراؤها إلا لثلاثة أعوام وأربعة، وأما أرض الآبار والأنهار فلا يجوز إلا لعشرة أعوام فقط. فالاختلاف ههنا في ثلاثة مواضع: في تحديد أول المدة، وفي طولها، وفي بعدها من وقت العقد. وكذلك اختلف مالك والشافعي إذا لم يحدد المدة وحدد القدر الذي يجب لأقل المدة. مثل أن يقول: أكتري منك هذه الدار الشهر بكذا، ولا يضربان لذلك أمدا معلوما، فقال الشافعي: لا يجوز، وقال مالك وأصحابه: يجوز على قياس: أبيعك من هذه الصبرة بحساب القفيز بدرهم، وهذا لا يجوز غيره. وسبب الخلاف: اعتبار الجهل الواقع في هذه الأشياء هل هو من الغرر المعفو عنه أو المنهي عنه؟ ومن هذا الباب اختلافهم في البيع والإجارة، إجارة مالك، ومنعه الشافعي وأبو حنيفة، ولم يجز مالك أن يقترن بالبيع إلا الإجارة فقط. ومن هذه الباب اختلافهم في إجارة المشاع، فقال مالك والشافعي: هي جائزة، وقال أبو حنيفة: لا تجوز، لان عنده أن الانتفاع بها مع الإشاعة متعذر، وعند
183 مالك والشافعي أن الانتفاع بها ممكن مع شريكه كانتفاع المكري بها مع شريكه: أعني رب المال. ومن هذا الباب استئجار الأجير بطعامه وكسوته، وكذلك الظئر، فمنع الشافعي ذلك على الاطلاق، وأجاز ذلك مالك على الاطلاق: أعني في كل أجير، وأجاز ذلك أبو حنيفة في الظئر فقط. وسبب الخلاف: هل هي إجارة مجهولة، أم ليست مجهولة؟ فهذه هي شرائط الإجارة الراجعة إلى الثمن والمثمون. وأما أنواع الإجارة فإن العلماء على أن الإجارة على ضربين: إجارة منافع أعيان محسوسة، وإجارة منافع في الذمة قياسا على البيع. والذي في الذمة من شرطه الوصف. والذي في العين من شرطه الرؤية أو الصفة عنده كالحال في المبيعات، ومن شرط الصفة عنده ذكر الجنس والنوع، وذلك في الشئ الذي تستوفي منافعه، وفي الشئ الذي تستوفي به منافعه فلا بد من وصف المركوب مثلا، والحمل الذي تستوفي به منفعة المركوب. وعند مالك أن الراكب لا يحتاج أن يوصف، وعند الشافعي يحتاج إلى الوصف، وعند ابن القاسم أنه إذا استأجر الراعي على غنم بأعيانها أن من شرط صحة العقد اشتراط الخلف، وعند غيره تلزم الجملة بغير شرط. ومن شرط إجارة الذمة أن يعجل النقد عند مالك ليخرج من الدين بالدين. كما أن من شرط إجارة الأرض غير المأمونة السقي عنده أن لا يشترط فيها النقد إلا بعد الري. واختلفوا في الكراء هل يدخل في أنواعه الخيار أم لا؟ فقال مالك: يجوز الخيار في الصنفين من الكراء المضمون والمعين، وقال الشافعي: لا يجوز. فهذه هي المشهورات من المسائل الواقعة في هذا القسم الأول من هذا الكتاب، وهو الذي يشتمل على النظر في مجال هذا العقد وأوصافه وأنواعه، وهي الأشياء التي تجري من هذا العقد مجرى الأركان، وبها يوصف العقد إذا كان على الشروط الشرعية بالصحة، وبالفساد إذا لم يكن على ذلك، وبقي النظر في الجزء الثاني، وهو أحكام هذا العقد. الجزء الثاني من هذا الكتاب وهو النظر في أحكام الإجارات وأحكام الإجارات كثيرة، ولكنها بالجملة تنحصر في جملتين: الجملة الأولى: في موجبات هذا العقد ولوازمه من غير حدوث طارئ عليه. الجملة الثانية: في أحكام الطوارئ. وهذه الجملة تنقسم في الأشهر إلى معرفة موجبات الضمان وعدمه، ومعرفة وجوب الفسخ وعدمه، ومعرفة حكم الاختلاف. الجملة الأولى ومن مشهورات هذا الباب متى يلزم المكري دفع الكراء إذا أطلق العقد ولم يشترط قبض الثمن؟ فعند مالك وأبي حنيفة: أن الثمن إنما يلزم جزءا فجزءا بحسب ما يقبض من المنافع، إلا أن يشترط ذلك أو يكون هنالك ما يوجب التقديم، مثل أن يكون عوضا معينا أو يكون كراء في الذمة. وقال الشافعي: يجب عليه
184 الثمن بنفس العقد. فمالك رأى أن الثمن إنما يستحق منه بقدر ما يقبض من العوض، والشافعي كأنه رأى أن تأخره من باب الدين بالدين. ومن ذلك اختلافهم فيمن اكترى دابة أو دارا وما أشبه ذلك، هل له أن يكري ذلك بأكثر مما اكتراه؟ فأجازه مالك والشافعي وجماعة قياسا على البيع، ومنع ذلك أبو حنيفة وأصحابه. وعمدتهم أنه من باب ربح ما لم يضمن، لان ضمان الأصل هو من ربه: أعني من المكري. وأيضا فإنه من باب بيع ما لم يقبض، وأجاز ذلك بعض العلماء إذا أحدث فيها عملا. وممن لم يكره ذلك إذا وقع بهذه الصفة سفيان الثوري، والجمهور رأوا أن الإجارة في هذا شبيهة بالبيع. ومنها أن يكري الدار من الذي أكراها منه، فقال مالك: يجوز، وقال أبو حنيفة: لا يجوز، وكأنه رأى أنه إذا كان التفاضل بينهما في الكراء فهو من باب أكل المال بالباطل. ومنها إذا اكترى أرضا ليزرعها حنطة فأراد أن يزرعها شعيرا أو ما ضرره مثل ضرر الحنطة أو دونه، فقال مالك: له ذلك، وقال داود: ليس له ذلك. ومنها اختلافهم في كنس مراحيض الدور المكتراة، فالمشهور عن ابن القاسم أنه على أرباب الدور، وروي عنه أنه على المكتري، وبه قال الشافعي، واستثنى ابن القاسم من هذه الفنادق التي تدخلها قوم وتخرج قوم فقال: الكنس في هذه على رب الدار. ومنها اختلاف أصحاب مالك في الانهدام اليسير من الدار، هل يلزم رب الدار إصلاحه، أم ليس يلزم؟ وينحط عنه من الكراء ذلك القدر؟ فقال ابن القاسم: لا يلزمه، وقال غيره من أصحابه يلزمه. وفروع هذا الباب كثيرة، وليس قصدنا التفريع في هذا الكتاب. الجملة الثانية: وهي النظر في أحكام الطوارئ الفصل الأول منه: وهو النظر في الفسوخ فنقول: إن الفقهاء اختلفوا في عقد الإجارة، فذهب الجمهور إلى أنه عقد لازم، وحكي عن قوم أنه عقد جائز تشبيها بالجعل والشركة. والذين قالوا إنه عقد لازم اختلفوا فيما ينفسخ به، فذهب جماعة فقهاء الأمصار: مالك والشافعي وسفيان الثوري وأبو ثور وغيرهم إلى أنه لا ينفسخ إلا بما تنفسخ به العقود اللازمة من وجود العيب بها أو ذهاب محل استيفاء المنفعة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجوز فسخ عقد الإجارة للعذر الطارئ على المستأجر، مثل أن يكري دكانا يتجر فيه فيحترق متاعه أو يسرق. وعمدة الجمهور قوله تعالى: * (أوفوا بالعقود) * لان الكراء عقد على منافع فأشبه النكاح، ولأنه عقد على معارضة فلم ينفسخ أصله البيع. وعمدة أبي حنيفة أنه شبه ذهاب ما به تستوفي المنفعة بذهاب العين التي فيها المنفعة. وقد اختلف قول مالك إذا كان الكراء في غير مخصوص
185 على استيفاء من جنس مخصوص، فقال عبد الوهاب: الظاهر من مذهب أصحابنا أن محل استيفاء المنافع لا يتعين في الإجارة، وإن عين فذلك كالوصف لا ينفس ببيعها أو ذهابه، بخلاف العين المستأجرة إذا تلفت قال: وذلك مثل أن يستأجر على رعاية غنم بأعيانها أو خياطة قميص بعينه فتهلك الغنم ويحترق الثوب فلا ينفسخ العقد، وعلى المستأجر أن يأتي بغنم مثلها ليرعاها أو قميص مثله ليخيطه قال: وقد قيل إنها تتعين بالتعيين فينفسخ العقد بتلف المحل. وقال بعض المتأخرين: إن ذلك ليس اختلافا في المذهب وإنما ذلك على قسمين: أحدهما: أيكون المحل المعين لاستيفاء المنافع مما تقصد عينه أو مما لا تقصد عينه، فإن كان مما تقصد عينه انفسخت الإجارة كالظئر إذا مات الطفل، وإن كان مما لا يقصد عينه لم تنفسخ الإجارة على رعاية الغنم بأعيانها أو بيع طعام في حانوت وما أشبه ذلك. واشتراط ابن القاسم في المدونة أنه إذا استأجر على غنم بأعيانها فإنه لا يجوز إلا أن يشترط الخلف هو التفات منه إلى أنها تنفسخ بذهاب محل استيفاء المعين، لكن لما رأى التلف سائقا إلى الفسخ رأى أنه من باب الغرر، فلم يجز الكراء عليها إلا باشتراط الخلف. ومن نحو هذا اختلافهم في: هل ينفسخ الكراء بموت أحد المتعاقدين أعني المكري أو المكتري؟ فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: لا ينفسخ ويورث عقد الكراء، وقال أبو حنيفة والثوري والليث: ينفسخ، وعمدة من لم يقل بالفسخ أنه عقد معاوضة، فلم ينفسخ بموت أحد المتعاقدين أصله البيع. وعمدة الحنفية أن الموت نقله لأصل الرقبة المكتراة من ملك إلى ملك، فوجب أن يبطل أصله البيع في العين المستأجرة مدة طويلة: أعني أنه لا يجوز، فلما كان لا يجتمع العقدان معا غلب ههنا انتقال الملك وإلا بقي الملك ليس له وارث، وذلك خلاف الاجماع، وربما شبهوا الإجارة بالنكاح إذ كان كلاهما استيفاء منافع، والنكاح يبطل بالموت وهو بعيد. وربما احتجوا على المالكية فقط بأن الأجرة عندهم تستحق جزءا فجزءا بقدر ما يقبض من المنفعة، قالوا: وإذا كان هذا هكذا فإن مات الملك وبقيت الإجارة، فإن المستأجر يستوفي في ملك الوارث حقا بموجب عقد في غير ملك العاقد وذلك لا يصح، وإن مات المستأجر فتكون الأجرة مستحقة عليه بعد موته، والميت لا يثبت عليه دين بإجماع بعد موته. وأما الشافعية فلا يلزمهم هذا لان استيفاء الأجرة يجب عندهم بنفس العقد على ما سلف من ذلك، وعند مالك أن أرض المطر إذا أكريت فمنع القحط من زراعتها أو زرعها فلم ينبت الزرع لمكان القحط أن الكراء ينفسخ، وكذلك إذا استعذرت بالمطر حتى انقضى زمن الزراعة، فلم يتمكن المكتري من أن يزرعها، وسائر الجوائح التي تصيب الزرع لا يحط عنه من الكراء شئ، وعنده أن الكراء الذي بوقت ما أنه إن كان ذلك الوقت مقصودا مثل كراء الرواحل في أيام الحج فغاب المكري عن ذلك الوقت أنه ينفسخ الكراء. وأما إن
186 لم يكن الوقت مقصودا فإنه لا ينفسخ، هذا كله عنده في الكراء الذي يكون في الأعيان. فأما الكراء الذي يكون في الذمة فإنه لا ينفسخ عنده بذهاب العين التي قبض المستأجر ليستوفي منها المنفعة إذ كان لم ينعقد الكراء على عين بعينها وإنما انعقد على موصوف في الذمة. وفروع هذا الباب كثيرة، وأصوله هي هذه التي ذكرناها. الفصل الثاني: وهو النظر في الضمان والضمان عند الفقهاء على وجهين: بالتعدي، أو لمكان المصلحة وحفظ الأموال. فأما بالتعدي فيجب على المكري باتفاق، والخلاف إنما هو في نوع التعدي الذي يوجب ذلك أو لا يوجبه وفي قدره، فمن ذلك اختلاف العلماء في القضاء فيمن اكترى دابة إلى موضع ما فتعدى بها إلى موضع زائد على الموضع الذي انعقد عليه الكراء، فقال الشافعي وأحمد: عليه الكراء الذي التزمه إلى المسافة المشترطة ومثل كراء المسافة التي تعدى فيها، وقال مالك: رب الدابة بالخيار في أن يأخذ كراء دابته في المسافة التي تعدى فيها أو يضمن له قيمة الدابة، وقال أبو حنيفة: لا كراء عليه في المسافة المتعداة، ولا خلاف أنها إذا تلفت في المسافة المتعداة أنه ضامن لها. فعمدة الشافعي أنه تعدى على المنفعة فلزمه أجرة المثل أصله التعدي على سائر المنافع. وأما مالك فكأنه لما حبس الدابة عن أسواقها رأى أنه قد تعدى عليها فيها نفسها فشبهه بالغاصب، وفيه ضعف، وأما مذهب أبي حنيفة فبعيد جدا عما تقتضيه الأصول الشرعية، والأقرب إلى الأصول في هذه المسألة هو قول الشافعي. وعند مالك أن عثار الدابة لو كانت عثور تعد من صاحب الدابة يضمن بها الحمل، وكذلك إن كانت الحبال رثة، ومسائل هذا الباب كثيرة. وأما الذين اختلفوا في ضمانهم من غير تعد إلا من جهة المصلحة فهم الصناع، ولا خلاف عندهم أن الأجير ليس بضامن لما هلك عنده مما استؤجر عليه إلا أن يتعدى ما عدا حامل الطعام والطحان، فإن مالكا ضمنه ما هلك عنده، إلا أن تقوم له بينة على هلاكه من غير سببه. وأما تضمين الصناع ما ادعوا هلاكه من المصنوعات المدفوعة إليهم، فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال مالك وابن أبي ليلى وأبو يوسف: يضمنون ما هلك عندهم، وقال أبو حنيفة: لا يضمن من عمل بغير أجر ولا الخاص، ويضمن المشترك ومن عمل بأجر. وللشافعي قولان في المشترك. والخاص عندهم هو الذي يعمل في منزل المستأجر، وقيل هو الذي لم ينتصب للناس، وهو مذهب مالك في الخاص، وهو عنده غير ضامن، وتحصيل مذهب مالك على هذا أن الصانع المشترك يضمن، وسواء عمل بأجر أو بغير أجر، وبتضمين الصناع قال علي وعمر، وإن كان قد اختلف عن علي في ذلك. وعمدة من لم ير الضمان عليهم أنه شبه الصانع بالمودع عنده والشريك والوكيل وأجير الغنم، ومن ضمنه فلا دليل له إلا النظر إلى المصلحة وسد الذريعة. وأما من فرق بين أن يعملوا بأجر أو لا يعملوا بأجر، فلان العامل بغير أجر إنما قبض المعمول لمنفعة صاحبه فقط فأشبه المودع، وإذا قبضها بأجر فالمنفعة لكليهما، فغلبت
187 منفعة القابض، أصله القرض والعارية عند الشافعي، وكذلك أيضا من لم ينصب نفسه لم يكن في تضمينه سد ذريعة، والأجير عند مالك كما قلنا لا يضمن إلا أنه استحسن تضمين حامل القوت وما يجري مجراه، وكذلك الطحان وما عدا غيرهم فلا يضمن إلا بالتعدي، وصاحب الحمام لا يضمن عنده، هذا هو المشهور عنه، وقد قيل يضمن. وشذ أشهب فضمن الصناع ما قامت البينة على هلاكه عندهم من غير تعد منهم ولا تفريط وهو شذوذ، ولا خلاف أن الصناع لا يضمنون ما لم يقبضوا في منازلهم. واختلف أصحاب مالك إذا قامت البينة على هلاك المصنوع وسقط الضمان عنهم هل تجب لهم الأجرة أم لا، إذا كان هلاكه بعد إتمام الصنعة أو بعد تمام بعضها؟ فقال ابن القاسم: لا أجرة لهم، وقال ابن المواز: لهم الأجرة، ووجه ما قال ابن المواز أن المصيبة إذا نزلت بالمستأجر فوجب أن لا يمضي عمل الصانع باطلا، ووجه ما قال ابن القاسم أن الأجرة إنما استوجبت في مقابلة العمل، فأشبه ذلك إذا هلك بتفريط من الأجير، وقول ابن المواز أقيس، وقول ابن القاسم أكثر نظرا إلى المصلحة لأنه رأى أن يشتركوا في المصيبة. ومن هذا الباب اختلافهم في ضمان صاحب السفينة، فقال مالك: لا ضمان عليه، وقال أبو حنيفة: عليه الضمان إلا من الموج، وأصل مذهب مالك أن الصناع يضمنون كل ما أتى على أيديهم من حرق أو كسر في المصنوع أو قطع إذا عمله في حانوته، وإن كان صاحبه قاعدا معه، إلا فيما كان فيه تغرير من الأعمال، مثل ثقب الجوهر ونقش الفصوص وتقويم السيوف واحتراق الخبز عند الفران، والطبيب يموت العليل من معالجته وكذلك البيطار إلا أن يعلم أنه تعدى فيضمن حينئذ. وأما الطبيب وما أشبهه إذا أخطأ في فعله، وكان من أهل المعرفة فلا شئ عليه في النفس، والدية على العاقلة فيما فوق الثلث وفي ماله فيما دون الثلث، وإن لم يكن من أهل المعرفة فعليه الضرب والسجن والدية قيل في ماله، وقيل على العاقلة. الفصل الثالث: في معرفة حكم الاختلاف وهو النظر في الاختلاف، وفي هذا الباب أيضا مسائل: فمنها أنهم اختلفوا إذا اختلف الصانع ورب المصنوع في صفة الصنعة فقال أبو حنيفة: القول قول رب المصنوع، وقال مالك وابن أبي ليلى: القول قول الصانع. وسبب الخلاف: من المدعي منهما على صاحبه، ومن المدعى عليه؟ ومنها إذا ادعى الصناع رد ما استصنعوا فيه، وأنكر ذلك الدافع، فالقول عند مالك قول الدافع، وعلى الصناع البينة لأنهم كانوا ضامنين لما في أيديهم، وقال ابن الماجشون: القول قول الصناع إن كان ما دفع إليهم دفع بغير بينة، وإن كان دفع إليهم ببينة فلا يبرؤون إلا ببينة. وإذا اختلف الصانع ورب المتاع في دفع الأجرة، فالمشهور في المذهب أن القول قول الصانع مع يمينه إن قام بحدثان ذلك، وإن تطاول فالقول قول رب المصنوع، وكذلك إذا اختلف المكري والمكتري، وقيل بل القول قول
188 الصانع وقول المكري وإن طال، وهو الأصل. وإذا اختلف المكري والمكتري أو الأجير والمستأجر في مدة الزمان الذي وقع فيه استيفاء المنفعة إذا اتفقا على أن المنفعة لم تستوف في جميع الزمان المضروب في ذلك، فالمشهور في المذهب أن القول قول المكتري والمستأجر لأنه الغارم، والأصول على أن القول قول الغارم، وقال ابن الماجشون: القول قول المكتري له والمستأجر إذا كانت العين مستوفاة منها المنافع في قبضهما مثل الدار وما أشبه ذلك. وأما ما لم يكن في قبضه مثل الأجير فالقول قول الأجير. ومن مسائل المذهب المشهورة في هذا الباب اختلاف المتكاريين في الدواب وفي الرواحل، وذلك أن اختلافهما لا يخلو أن يكون في قدر المسافة، أو نوعها. أو قدر الكراء أو نوعه، فإن كان اختلافهما في نوع المسافة، أو في نوع الكراء، فالتحالف والتفاسخ كاختلاف المتبايعين في نوع الثمن، قال ابن القاسم: انعقد أو لم ينعقد، وقال غيره: القول قول رب الدابة إذا انعقد وكان يشبه ما قال. وإن كان اختلافهما في قدر المسافة، فإن كان قبل الركوب أو بعد ركوب يسير، فالتحالف والتفاسخ، وإن كان بعد ركوب كثير، أو بلوغ المسافة التي يدعيها رب الدابة فالقول قول رب الدابة في المسافة إن انعقد وكان يشبه ما قال، وإن لم ينعقد وأشبه قوله تحالفا ويفسخ الكراء على أعظم المسافتين، فما جعل منه للمسافة التي ادعاها رب الدابة أعطيه. وكذلك إن انعقد ولم يشبه قوله، وإن اختلفا في الثمن واتفقا على المسافة فالقول قول المكتري نقد أو لم ينقد لأنه مدعى عليه. وإن اختلفا في الامرين جميعا في المسافة والثمن مثل أن يقول والدابة بقرطبة: اكتريت منك إلى قرمونة بدينارين ويقول المكتري: بل بدينار إلى إشبيلية، فإن كان أيضا قبل الركوب أو بعد ركوب لا ضرر عليهما في الرجوع تحالفا وتفاسخا، وإن كان بعد سير كثير أو بلوغ المسافة التي يدعيها رب الدابة، فإن كان لم ينقد المكتري شيئا كان القول قول رب الدابة في المسافة، والقول قول المكتري في الثمن، ويغرم من الثمن ما يجب له من قرطبة إلى قرمونة، على أنه لو كان الكراء به إلى إشبيلية وذلك أنه قول المكتري، وإن لم يشبه ما قال رب الدابة غرم دينارين وإن كان المكتري نقد الثمن الذي يدعي أنه للمسافة الكبرى وأشبه قول رب الدابة كان القول قول رب الدابة في المسافة ويبقى له ذلك الثمن الذي قبضه لا يرجع عليه بشئ منه إذ هو مدعى عليه في بعضه، وهو يقول: بل هو لي وزيادة، فيقبل قوله فيه لأنه قبضه، ولا يقبل قوله في الزيادة ويسقط عنه ما لم يقرب به من المسافة أشبه ما قال أو لم يشبه، إلا أنه إذا لم يشبه قسم الكراء الذي أقر به المكتري على المسافة، فيأخذ رب الدابة من ذلك ما ناب المسافة التي ادعاها. وهذا القدر كاف لي في هذا الباب.
189 بسم الله الرحمن الرحيم وصل الله على سيدنا محمد واله وصحبه وسلم تسليما كتاب الجعل والجعل هو الإجارة على منفعة مظنون حصولها، مثل مشارطة الطبيب على البرء والمعلم على الحذاق والناشد على وجود العبد الآبق. وقد اختلف العلماء في منعه وجوازه، فقال مالك: يجوز ذلك في اليسير بشرطين: أحدهما أن لا يضرب لذلك أجلا. والثاني: أن يكون الثمن معلوما، وقال أبو حنيفة: لا يجوز، وللشافعي قولان. وعمدة من أجازه قوله تعالى: * (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) * وإجماع الجمهور على جوازه في الإباق والسؤال، وما جاء في الأثر من أخذ الثمن على الرقية بأم القرآن. وقد تقدم ذلك. وعمدة من منعه الغرر الذي فيه قياسا على سائر الإجارات، ولا خلاف في مذهب مالك أن الجعل لا يستحق شئ منه إلا بتمام العمل وأنه ليس بعقد لازم. واختلف مالك وأصحابه في هذا الباب في كراء السفينة، هل هو جعل أو إجارة؟ فقول مالك: ليس لصاحبها كراء إلا بعد البلوغ، وهو قول ابن القاسم ذهابا إلى أن حكمها حكم الجعل. وقال ابن نافع من أصحابه: له قدر ما بلغ من المسافة، فأجرى حكمه مجرى الكراء. وقال أصبغ: إن لجج فهو جعل وإن لم يلجج فهو إجارة له بحسب الموضع الذي وصل إليه. والنظر في هذا الباب في جوازه ومحله وشروطه وأحكامه. ومحله هو ما كان من الأفعال لا ينتفع الجاعل بجزء منه، لأنه إذا انتفع الجاعل بجزء مما عمل الملتزم للجعل، ولم يأت بالمنفعة التي انعقد الجعل عليها، وقلنا على حكم الجعل أنه إذا لم يأت بالمنفعة التي انعقد الجعل عليها لم يكن له شئ، فقد انتفع الجاعل بعمل المجعول من غير أن يعوضه من عمله بأجر وذلك ظلم، ولذلك يختلف الفقهاء في كثير من المسائل هل هو جعل أو إجارة مثل مسألة السفينة المتقدمة هل هي مما يجوز فيها الجعل أو لا يجوز مثل اختلافهم في المجاعلة على حفر الآبار، وقالوا في المغارسة إنها تشبه الجعل من جهة والبيع من جهة، وهي عند مالك أن يعطي الرجل أرضه لرجل على أن يغرس فيه عددا من الثمار معلوما، فإذا استحق الثمر كان للغارس جزء الأرض متفق عليه.
190 كتاب القراض ولا خلاف بين المسلمين في جواز القراض، وأنه مما كان في الجاهلية فأقره الاسلام. وأجمعوا على أن صفته أن يعطي الرجل الرجل المال على أن يتجر به على جزء معلوم يأخذه العامل من ربح المال، أي جزء كان مما يتفقان عليه ثلثا أو ربعا أو نصفا، وأن هذا مستثنى من الإجارة المجهولة، وأن الرخصة في ذلك إنما هي لموضع الرفق بالناس، وأنه لا ضمان على العامل فيما تلف من رأس المال إذا لم يتعد، وإن كان اختلفوا فيما هو تعد مما ليس بتعد. وكذلك أجمعوا بالجملة على أنه لا يقترن به شرط يزيد في مجهلة الربح أو في الغرر الذي فيه، وإن كان اختلفوا فيما يقتضي ذلك من الشروط مما لا يقتضي. وكذلك اتفقوا على أنه يجوز بالدنانير والدراهم، واختلفوا في غير ذلك. وبالجملة فالنظر فيه: في صفته وفي محله وفي شروطه وفي أحكامه، ونحن نذكر في باب باب من هذه الثلاثة الأبواب مشهورات مسائله. الباب الأول: في محله أما صفته فقد تقدمت وأنهم أجمعوا عليها، وأما محله فإنهم أجمعوا على أنه جائز بالدنانير والدراهم، واختلفوا في العروض فجمهور فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز القراض بالعروض، وجوزه ابن أبي ليلى، وحجة الجمهور أن رأس المال إذا كان عروضا كان غررا لأنه يقبض العرض وهو يساوي قيمة ما ويرده وهو يساوي قيمة غيرها، فيكون رأس المال والربح مجهولا. وأما إن كأنه رأس المال ما به يباع العروض، فإن مالكا منعه والشافعي أيضا، وأجازه أبو حنيفة. وعمدة مالك أنه قارضه على ما بيعت به السلعة وعلى بيع السلعة نفسها، فكأنه قراض ومنفعة، مع أن ما يبيع به السلعة مجهول، فكأنه إنما قارضه على رأس مال مجهول. ويشبه أن يكون أيضا إنما منع المقارضة على قيم العروض لمكان ما يتكلف المقارض في ذلك من البيع، وحينئذ ينض رأس مال القراض، وكذلك إن أعطاه العرض الذي اشتراه به، ولكنه أقرب الوجوه إلى الجواز، ولعل هذا هو الذي جوزه ابن أبي ليلى، بل هو الظاهر من قولهم، فإنهم حكوا عنه أنه يجوز أن يعطى الرجل ثوبا يبيعه، فما كان فيه من ربح فهو بينهما، وهذا إنما هو على أن يجعلا أصل المال الثمن الذي اشترى به الثوب، ويشبه أيضا إن جعل رأس
191 المال الثمن أن يتهم المقارض في تصديقه رب المال بحرصه على أخذ القراض منه. واختلف قول مالك في القراض بالنقد من الذهب والفضة، فروى عنه أشهب منع ذلك، وروى ابن القاسم جوازه، ومنه في المصوغ، وبالمنع في ذلك قال الشافعي والكوفي، فمن منع القراض بالنقد شبهها بالعروض، ومن أجازه شبهها بالدراهم والدنانير لقلة اختلاف أسواقها. واختلف أيضا أصحاب مالك في القراض بالفلوس، فمنعه ابن القاسم، وأجازه أشهب، وبه قال محمد بن الحسن، وجمهور العلماء مالك والشافعي وأبو حنيفة على أنه إذا كان لرجل على رجل دين لم يجز أن يعطيه له قراضا قبل أن يقبضه: أما العلة عند مالك فمخافة أن يكون أعسر بماله، فهو يريد أن يؤخره عنه على أن يزيد فيه، فيكون الربا المنهي عنه، وأما العلة عند الشافعي وأبي حنيفة، فإن ما في الذمة لا يتحول ويعود أمانة. واختلفوا فيمن أمر رجلا أن يقبض دينا له على رجل آخر، ويعمل فيه على جهة القراض فلم يجز ذلك مالك وأصحابه، لأنه رأى إذا ازداد على العامل كلفة، وهو ما كلفه من قبضه، وهذا على أصله أن من اشترط منفعة زائدة في القراض أنه فاسد، وأجاز ذلك الشافعي والكوفي، قالوا: لأنه وكله على القبض، لا أنه جعل القبض شرطا في المصارفة، فهذا هو القول في محله. وأما صفته فهي الصفة التي قدمناها. الباب الثاني: في مسائل الشروط وجملة ما لا يجوز من الشروط عند الجميع هي ما أدى عنده إلى غرر أو إلى مجهلة زائدة. ولا خلاف بين العلماء أنه إذا اشترط أحدهما لنفسه من الربح شيئا زائدا غير ما انعقد عليه القراض أن ذلك لا يجوز، لأنه يصير ذلك الذي انعقد عليه القراض مجهولا، وهذا هو الأصل عند مالك في أن لا يكون مع القراض بيع ولا كراء ولا سلف ولا عمل ولا مرفق يشترطه أحدهما لصاحبه مع نفسه، فهذه جملة ما اتفقوا عليه وإن كانوا قد اختلفوا في التفصيل، فمن ذلك اختلافهم إذا شرط العامل الربح كله له، فقال مالك: يجوز، وقال الشافعي: لا يجوز، وقال أبو حنيفة: هو قرض لا قراض، فمالك رأى أنه إحسان من رب المال وتطوع، إذ كان يجوز له أن يأخذ منه الجزء القليل من المال الكثير، والشافعي رأى أنه غرر، لأنه إن كان خسران فعلى رب المال وبهذا يفارق القرض، وإن كان ربح فليس لرب المال فيه شئ. ومنها إذا شرط رب المال الضمان على العامل، فقال مالك: لا يجوز القراض وهو فاسد، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة وأصحابه: القراض جائز والشرط باطل. وعمدة مالك أن اشتراط الضمان زيادة غرر في القراض نفسه، وأما أبو حنيفة فشبهه بالشرط الفاسد في البيع على رواية أن البيع جائز والشرط باطل اعتمادا على حديث بريرة المتقدم. واختلفوا في المقارض يشترط رب المال عليه خصوص التصرف، مثل أن يشترط عليه تعيين جنس ما من السلع، أو تعيين جنس ما من البيع، أو تعيين موضع ما للتجارة، أو تعيين صنف ما من الناس يتجر معهم فقال مالك
192 والشافعي في اشتراط جنس من السلع: لا يجوز ذلك إلا أن يكون ذلك الجنس من السلع لا يختلف وقتا ما من أوقات السنة، وقال أبو حنيفة: يلزمه من اشترط عليه، وإن تصرف في غير ما اشترط عليه ضمن. فمالك والشافعي رأيا أن هذا الاشتراط من باب التضييق على المقارض فيعظم الغرر بذلك، وأبو حنيفة استخف الغرر الموجود في ذلك، كما لو اشترط عليه أن لا يشتري جنسا ما من السلع لكان على شرطه في ذلك بإجماع. ولا يجوز القراض المؤجل عند الجمهور، وأجازه أبو حنيفة إلا أن يتفاسخا. فمن لم يجزه رأى أن في ذلك تضييقا على العامل يدخل عليه مزيد غرر، لأنه ربما بارت عنده سلع فيضطر عند بلوغ الاجل إلى بيعها فيلحقه في ذلك ضرر، ومن أجاز الاجل شبه القراض بالإجارة. ومن هذا الباب اختلافهم في جواز اشتراط رب المال زكاة الربح على العامل في حصته من الربح، فقال مالك في الموطأ: لا يجوز، ورواه عنه أشهب، وقال ابن القاسم: ذلك جائز، ورواه عن مالك، وبقول مالك قال الشافعي وحجة من لم يجزه أنه تعود حصة العامل ورب المال مجهولة، لأنه لا يدري كم يكون المال في حين وجوب الزكاة فيه، وتشبيها باشتراط زكاة أصل المال عليه - أعني على العامل - فإنه لا يجوز باتفاق. وحجة ابن القاسم أنه يرجع إلى جزء معلوم النسبة وإن لم يكن معلوم القدر، لان الزكاة معلومة النسبة من المال المزكى، فكأنه اشترط عليه في الربح الثلث إلا ربع العشر، أو النصف إلا ربع العشر، أو الربع إلا ربع العشر، وذلك جائز وليس مثل اشتراطه زكاة رأس المال، لان ذلك معلوم القدر غير معلوم النسبة، فكان ممكنا أن يحيط بالربح فيبقى عمل المقارض باطلا، وهل يجوز أن يشترط ذلك المقارض على رب المال؟ في المذهب فيه قولان: قيل بالفرق بين العامل ورب المال، وقيل يجوز أن يشترطه العامل على رب المال، ولا يجوز أن يشترطه رب المال على العامل، وقيل عكس هذا. واختلفوا في اشتراط العامل على رب المال غلاما بعينه على أن يكون للغلام نصيب من المال، فأجازه مالك والشافعي وأبو حنيفة. وقال أشهب من أصحاب مالك: لا يجوز ذلك فمن أجاز ذلك شبهه بالرجل يقارض الرجلين، ومن لم يجز ذلك رأى أنها زيادة ازدادها العامل على رب المال. فأما إن اشترط العامل غلامه، فقال الثوري: لا يجوز، وللغلام فيما عمل أجرة المثل، وذلك أن حظ العامل يكون عنده مجهولا. القول في أحكام القراض والاحكام، منها ما هي أحكام القراض الصحيح، ومنها ما هي أحكام القراض الفاسد، وأحكام القراض الصحيح، منها ما هي من موجبات العقد، أعني أنها تابعة لموجب العقد، وتختلف فيها هل هي تابعة أو غير تابعة؟ ومنها أحكام طوارئ تطرأ على العقد مما لم يكن موجبه من نفس العقد، مثل التعدي والاختلاف وغير ذلك. ونحن نذكر من هذه الأوصاف ما اشتهر عند فقهاء الأمصار. ونبدأ من ذلك بموجبات العقد فنقول: إنه أجمع العلماء على أن اللزوم ليس من موجبات عقد القراض، وإن لكل واحد منهما فسخه ما لم يشرع العامل في القراض. واختلفوا إذا شرع العامل، فقال مالك: هو لازم، وهو عقد يورث، فإن مات وكان
193 للمقارض بنون أمناء كانوا في القراض مثل أبيهم، وإن لم يكونوا أمناء كان لهم أن يأتوا بأمين، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لكل واحد منهم الفسخ إذا شاء، وليس هو عقد يورث. فمالك ألزمه بعد الشروع في العمل لما فيه من ضرر، ورآه من العقود المورثة. والفرقة الثانية شبهت الشروع في العمل بما بعد الشروع في العمل. ولا خلاف بينهم أن المقارض إنما يأخذ حظه من الربح بعد أن ينض جميع رأس المال، وأنه إن خسر ثم اتجر ثم ربح جبر الخسران من الربح. واختلفوا في الرجل يدفع إلى رجل مالا قراضا فيهلك بعضه قبل أن يعمل فيه، ثم يعمل فيه فيربح، فيريد المقارض أن يجعل رأس المال بقيمة المال بعد الذي هلك، هل له ذلك أم لا؟ فقال مالك وجمهور العلماء: إن صدقه رب المال، أو دفع رجل مالا قراضا لرجل فهلك منه جزء قبل أن يعمل فأخبره بذلك فصدقه ثم قال له يكون الباقي عندك قراضا على الشرط المتقدم لم يجز حتى يفاصله ويقبض منه رأس ماله وينقطع القراض الأول. وقال ابن حبيب من أصحاب مالك: إنه يلزمه في ذلك القول، ويكون الباقي قراضا، وهذه المسألة هي من أحكام الطوارئ، ولكن ذكرناها هنا لتعلقها بوقت وجوب القسمة، وهي من أحكام العقد، واختلفوا هل للعامل نفقته من المال المقارض عليه أم لا؟ على ثلاثة أقوال: فقال الشافعي في أشهر أقواله: لا نفقة له أصلا إلا أن يأذن له رب المال، وقال قوم: له نفقته، وبه قال إبراهيم النخعي والحسن، وهو أحد ما روي عن الشافعي، وقال آخرون: له النفقة في السفر من طعامه وكسوته، وليس له شئ في الحضر، وبه قال مالك وأبو حنيفة والثوري وجمهور العلماء إلا أن مالكا قال: إذا كان المال يحمل ذلك، وقال الثوري: ينفق ذاهبا ولا ينفق راجعا. وقال الليث: يتغدى في المصر ولا يتعشى، وروي عن الشافعي أن له نفقته في المرض، والمشهور عنه مثل قول الجمهور: أن لا نفقة له في المرض. وحجة من لم يجزه أن ذلك زيادة منفعة في القراض فلم يجز. أصله المنافع. وحجة من أجازه أن عليه العمل في الصدر الأول، ومن أجازه في الحضر شبهه بالسفر. وأجمع علماء الأمصار على أنه لا يجوز للعامل أن يأخذ نصيبه من الربح إلا بحضرة رب المال، وأن حضور رب المال شرط في قسمة المال وأخذ العامل حصته، وأنه ليس يكفي في ذلك أن يقسمه بحضور بينة ولا غيرها. القول في أحكام الطوارئ واختلفوا إذا أخذ المقارض حصته من غير حضور رب المال، ثم ضاع المال أو بعضه، فقال مالك: إن أذن له رب المال في ذلك فالعامل مصدق فيما ادعاه من الضياع، وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري: ما أخذ العامل يرده ويجبر به رأس المال، ثم يقتسمان فضلا إن كان هنالك. واختلفوا إذا هلك مال القراض بعد أن اشترى العامل به سلعة ما وقبل أن ينقده البائع. فقال مالك: البيع لازم للعامل، ورب المال مخير إن شاء دفع قيمة السلعة مرة ثانية، ثم تكون بينهما على ما شرطا من المقارضة، وإن شاء تبرأ عنها، وقال أبو حنيفة: بل يلزم ذلك الشراء
194 رب المال، شبهه بالوكيل، إلا أنه قال: يكون رأس المال في ذلك القراض الثمنين، ولا يقتسمان الربح إلا بعد حصوله عينا: أعني ثمن تلك السلعة التي تلفت أولا، والثمن الثاني الذي لزمه بعد ذلك. واختلفوا في بيع العامل من رب المال بعض سلع القراض، فكره ذلك مالك، وأجازه أبو حنيفة على الاطلاق، وأجازه الشافعي بشرط أن يكونا قد تبايعا بما لا يتغابن الناس بمثله. ووجهه ما كره من ذلك مالك أن يكون يرخص له في السلعة من أجل ما قارضه، فكأن رب المال أخذ من العامل منفعة سوى الربح الذي اشترط عليه. ولا أعرف خلافا بين فقهاء الأمصار أنه إن تكارى العامل على السلع إلى بلد فاستغرق الكراء قيم السلع وفضل عليه فضلة أنها على العامل لا على رب المال، لان رب المال إنما دفع ماله إليه ليتجر به، فما كان من خسران في المال فعليه، وكذلك ما زاد على المال واستغرقه. واختلفوا في العامل يستدين مالا فيتجر به مع مال القراض، فقال مالك: ذلك لا يجوز، وقال الشافعي وأبو حنيفة: ذلك جائز، ويكون الربح بينهما على شرطهما وحجة مالك أنه كما لا يجوز أن يستدين على المقارضة، كذلك لا يجوز أن يأخذ دينا فيها. واختلفوا هل للعامل أن يبيع بالدين إذا لم يأمره به رب المال؟ فقال مالك: ليس له ذلك، فإن فعل ضمن، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: له ذلك. والجميع متفقون على أن العامل إنما يجب له أن يتصرف في عقد القراض ما يتصرف فيه الناس غالبا في أكثر الأحوال، فمن رأى أن التصرف بالدين خارج عما يتصرف فيه الناس في الأغلب لم يجزه، ومن رأى أنه مما يتصرف فيه الناس أجازه. واختلف مالك والشافعي وأبو حنيفة والليث في العامل يخلط ماله بمال القراض من غير إذن رب المال، فقال هؤلاء كلهم ما عدا مالكا: هو تعد ويضمن، وقال مالك: ليس بتعد. ولم يختلف هؤلاء المشاهير من فقهاء الأمصار أنه إن دفع العامل رأس مال القراض إلى مقارض آخر أنه ضامن إن كان خسران، وإن كان ربح فذلك على شرطه، ثم يكون للذي عمل شرطه على الذي دفع إليه، فيوفيه حظه مما بقي من المال، وقال المزني عن الشافعي: ليس له إلا أجرة مثله، لأنه عمل على فساد. القول في حكم القراض الفاسد واتفقوا على أن حكم القراض الفاسد فسخه ورد المال إلى صاحبه ما لم يفت بالعمل. واختلفوا إذا فات بالعمل ما يكون للعامل فيه في واجب عمله على أقوال: أحدها: أنه يرد جميعه إلى قراض مثله، وهي رواية ابن الماجشون عن مالك، وهو قوله وقول أشهب. والثاني: أنه يرد جميعه إلى إجارة مثله، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وعبد العزيز بن أبي سلمة من أصحاب مالك، وحكى عبد الوهاب أنها رواية عن مالك. والثالث: أنه يرد إلى قراض مثله ما لم يكن أكثر مما سماه، وإنما له الأقل مما سمى أو قراض مثله إن كان رب المال هو مشترط الشرط على المقارض، أو الأكثر من قراض مثله، أو من الجزء الذي سمي له إن كان المقارض هو مشترط الشرط الذي يقتضي الزيادة التي من قبلها فسد القراض، وهذا القول يتخرج رواية عن
195 مالك. والرابع: أنه يرد إلى قراض مثله في كل منفعة اشترطها أحد المتقارضين على صاحبه في المال مما ليس ينفرد أحدهما بها عن صاحبه، وإلى إجارة مثله في كل منفعة اشترطها أحد المتقارضين خالصة لمشترطها مما ليست في المال وفي كل قراض فاسد من قبل الغرر والجهل، وهو قول مطرف وابن نافع وابن عبد الحكم وأصبغ، واختاره ابن حبيب. وأما ابن القاسم فاختلف قوله في القراضات الفاسدة، فبعضها وهو الأكثر قال: إن فيها أجرة المثل، وفي بعضها قال: فيها قراض المثل. فاختلف الناس في تأويل قوله، فمنهم من حمل اختلاف قوله فيها على الفرق الذي ذهب إليه ابن عبد الحكم ومطرف، وهو اختيار ابن حبيب واختيار جدي - رحمة الله عليه. ومنهم من لم يعلل قوله وقال: إن مذهبه أن كل قراض فاسد ففيه أجرة المثل إلا تلك التي نص فيها قراض المثل وهي سبعة: القراض بالعروض، والقراض بالضمان، والقراض إلى أجل، والقراض المبهم، وإذا قال له اعمل على أن لك في المال شركاء، وإذا اختلف المتقارضان وأتيا بما لا يشبه فحلفا على دعواهما، وإذا دفع إليه المال على أن لا يشتري به إلا بالدين فاشترى بالنقد، أو على أن لا يشتري إلا سلعة كذا وكذا والسلعة غير موجودة فاشترى غير ما أمر به. وهذه المسائل يجب أن ترد إلى علة واحدة، وإلا فهو اختلاف من قول ابن القاسم، وحكى عبد الوهاب عن ابن القاسم أنه فصل فقال: إن كان الفساد من جهة العقد رد إلى قراض المثل، وإن كان من جهة زيادة ازدادها أحدهما على الآخر رد إلى أجرة المثل، والأشبه أن يكون الامر في هذا بالعكس. والفرق بين الأجرة وقراض المثل أن الأجرة تتعلق بذمة رب المال سواء أكان في المال ربح أو لم يكن، وقراض المثل هو على سنة القراض إن كان فيه ربح كان للعامل منه، وإلا فلا شئ له. القول في اختلاف المتقارضين واختلف الفقهاء إذا اختلف العامل ورب المال في تسمية الجزء الذي تقارضا عليه، فقال مالك: القول قول العامل لأنه عنده مؤتمن، وكذلك الامر عنده في جميع دعاويه إذا أتى بما يشبه، وقال الليث: يحمل على قراض مثله، وبه قال مالك إذا أتى بما لا يشبه، وقال أبو حنيفة وأصحابه: القول قول رب المال، وبه قال الثوري، وقال الشافعي: يتحالفان ويتفاسخان، ويكون له أجرة مثله. وسبب اختلاف مالك وأبي حنيفة: اختلافهم في سبب ورود النص بوجوب اليمين على المدعى عليه، هل ذلك لأنه مدعى عليه، أو لأنه في الأغلب أقوى شبهة؟ فمن قال لأنه مدعى عليه قال: القول قول رب المال، ومن قال لأنه أقواهما شبهة في الأغلب قال: القول قول العامل لأنه عنده مؤتمن وأما الشافعي فقاس اختلافهما على اختلاف المتبايعين في ثمن السلعة. وهذا كاف في هذا الباب.
196 كتاب المساقاة القول في المساقاة أما أولا: ففي جوازها. والثاني: في معرفة الفساد والصحة فيها. والثالث: في أحكامها. القول في جواز المساقاة فأما جوازها فعليه جمهور العلماء: مالك والشافعي والثوري وأبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة وأحمد وداود، وهي عندهم مستثناة بالسنة من بيع ما لم يخلق، ومن الإجارة المجهولة، قال أبو حنيفة: لا تجوز المساقاة أصلا. وعمدة الجمهور في إجازتها حديث ابن عمر الثابت أن رسول الله (ص) دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعملوها من أموالهم، ولرسول الله (ص) شطر ثمرها خرجه البخاري ومسلم وفي بعض رواياته أنه (ص) ساقاهم على نصف ما تخرجه الأرض والثمرة وما رواه مالك أيضا من مرسل سعيد بن المسيب أن رسول الله (ص) قال ليهود خيبر يوم افتتح خيبر أقركم على ما أقركم الله، على أن الثمر بيننا وبينكم قال وكان رسول الله (ص) يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص بينه وبينهم، ثم يقول: إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي وكذلك مرسله أيضا عن سليمان بن يسار في معناه. وأما أبو حنيفة ومن قال بقوله فعمدتهم مخالفة هذا الأثر للأصول، مع أنه حكم مع اليهود، واليهود يحتمل أن يكون أقرهم على أنهم عبيد، ويحتمل أن يكون أقرهم على أنهم ذمة، إلا أنا إذا أنزلنا أنهم ذمة كان مخالفا للأصول، لأنه بيع ما لم يخلق، وأيضا فإنه من المزابنة، وهو بيع التمر بالتمر متفاضلا، لان القسمة بالخرص بيع الخرص، واستدلوا على مخالفته للأصول بما روي في حديث عبد الله بن رواحة أنه كان يقول لهم عند الخرص: إن شئتم فلكم وتضمنون نصيب المسلمين، وإن شئتم فلي وأضمن نصيبكم وهذا حرام بإجماع. وربما قالوا إن النهي الوارد عن المخابرة هو ما كان من هذا الفعل بخيبر. والجمهور يرون أن المخابرة هي كراء الأرض ببعض ما يخرج منها، قالوا: ومما يدل على نسخ هذا الحديث، أو أنه خاص باليهود ما ورد من حديث رافع وغيره من النهي عن كراء الأرض بما يخرج منها،
197 لان المساقاة تقتضي جواز ذلك، وهو خاص أيضا في بعض روايات أحاديث المساقاة، ولهذا المعنى لم يقل بهذه الزيادة مالك ولا الشافعي، أعني بما جاء من أنه (ص) ساقاهم على نصف ما تخرجه الأرض والثمرة وهي زيادة صحيحة وقال بها أهل الظاهر. القول في صحة المساقاة والنظر في الصحة راجع إلى النظر في أركانها، وفي وقتها، وفي شروطها المشترطة في أركانها. وأركانها أربعة: المحل المخصوص بها، والجزء الذي تنعقد عليه. وصفة العمل الذي تنعقد عليه. والمدة التي تجوز فيها وتنعقد عليها. الركن الأول: في محل المساقاة: واختلفوا في محل المساقاة، فقال داود: لا تكون المساقاة إلا في النخيل فقط، وقال الشافعي: في النخل والكرم فقط، وقال مالك: تجوز في كل أصل ثابت كالرمان والتين والزيتون وما أشبه ذلك من غير ضرورة، وتكون في الأصول غير الثابتة كالمقاثئ والبطيخ مع عجز صاحبها عنها، وكذلك الزرع، ولا تجوز في شئ من البقول عند الجميع إلا ابن دينار، فإنه أجازها فيه إذا نبتت قبل أن تستغل. فعمدة من قصره على النخل أنها رخصة، فوجب أن لا يتعدى بها محلها الذي جاءت فيه السنة. وأما مالك فرأى أنها رخصة ينقدح فيها سبب عام، فوجب تعدية ذلك إلى الغير. وقد يقاس على الرخص عند قوم إذا فهم هنالك أسباب أعم من الأشياء التي علقت الرخص بالنص بها، وقوم منعوا القيا س على الرخص، وأما داود فهو يمنع القياس على الجملة، فالمساقاة على أصوله مطردة، وأما الشافعي فإنما أجازها في الكرم من قبل أن الحكم في المساقاة هو بالخرص، وقد جاء في حديث عتاب بن أسيد الحكم بالخرص في النخل والكرم وإن كان ذلك في الزكاة، فكأنه قاس المساقاة في ذلك على الزكاة، والحديث الذي ورد عن عتاب بن أسيد هو أن رسول الله (ص) بعثه وأمره أن يخرص العنب وتؤدي زكاته زبيبا، كما تؤدي زكاة النخل تمرا ودفع داود حديث عتاب بن أسيد لأنه مرسل، ولأنه انفرد به عبد الرحمن بن إسحاق وليس بالقوي. واختلفوا إذا كان مع النخل أرض بيضاء أو مع الثمار، هل يجوز أن تساقى الأرض مع النخل بجزء من النخل أو بجزء من النخل وبجزء مما يخرج من الأرض؟ فذهب إلى جواز ذلك طائفة، وبه قال صاحبا أبي حنيفة والليث وأحمد والثوري وابن أبي ليلى وجماعة، وقال الشافعي وأهل الظاهر: لا تجوز المساقاة إلا في الثمر فقط، وأما مالك فقال: إذا كانت الأرض تبعا للثمر وكان الثمر أكثر ذلك، فلا بأس بدخولها في المساقاة، اشترط جزءا خارجا منها أو لم يشترطه، وحد ذلك الجزء بأن يكون الثلث فما دونه، أعني أن يكون مقدار كراء الأرض الثلث من الثمر فما دونه، ولم يجز أن يشترط رب الأرض أن يزرع البياض لنفسه، لأنها زيادة ازدادها
198 عليه، وقال الشافعي: ذلك جائز. وحجة من أجاز المساقاة عليهما جميعا - أعني على الأرض بجزء مما يخرج منها - حديث ابن عمر المتقدم، وحجة من لم يجز ذلك ما روي من النهي عن كراء الأرض بما يخرج منها في حديث رافع بن خديج، وقد تقدم ذلك، وقال أحمد بن حنبل: أحاديث رافع مضطربة الألفاظ، وحديث ابن عمر أصح. وأما تحديد مالك ذلك بالثلث فضعيف، وهو استحسان مبني على غير الأصول، لان الأصول تقتضي أنه لا يفرق بين الجائز من غير الجائز بالقليل والكثير من الجنس الواحد. ومنها اختلافهم في المساقاة في البقل، فأجازها مالك والشافعي وأصحابه ومحمد بن الحسن، وقال الليث: لا تجوز المساقاة في البقل، وإنما أجازها الجمهور لان العامل وإن كان ليس عليه فيها سقي فيبقى عليه أعمال أخر، مثل الابار وغير ذلك، وأما الليث فيرى السقي بالماء هو الفعل الذي تنعقد عليه المساقاة ولمكانه وردت الرخصة فيها. الركن الثاني: وأما الركن الذي هو العمل، فإن العلماء بالجملة أجمعوا على أن الذي يجب على العامل هو السقي والآبار. واختلفوا في الجذاذ على من هو؟ وفي سد الضار وتنقية العين والسانية. أما مالك فقال في الموطأ: السنة في المساقاة التي يجوز لرب الحائط أن يشترطه سد الحظار وخم العين وشرب الشراب وإبار النخل وقطع الجريد وجذ الثمر، هذا وأشباهه هو على العامل، وهذا الكلام يحتمل أن يفهم منه دخول هذه في المساقاة بالشرط، ويمكن أن يفهم منه دخولها فيها بنفس العقد. وقال الشافعي: ليس عليه سد الحظار لأنه ليس من جنس ما يؤثر في زيادة الثمرة مثل الابار والسقي. وقال محمد بن الحسن: ليس عليه تنقية السواني والأنهار. وأما الجذاذ فقال مالك والشافعي: هو على العامل، إلا أن مالكا قال: إن اشترطه العامل على رب المال جاز، وقال الشافعي: لا يجوز شرطه وتنفسخ المساقاة إن وقع، وقال محمد بن الحسن: الجذاذ بينهما نصفان، وقال المحصلون من أصحاب مالك: إن العمل في الحائط على وجهين: عمل ليس في إصلاح الثمرة، وعمل له تأثير في إصلاحها، والذي له تأثير في إصلاحها منه ما يتأبد ويبقى بعد الثمر ومنه ما لا يبقى بعد الثمر. فأما الذي ليس له تأثير في إصلاح الثمر فلا يدخل في المساقاة لا بنفس العقد ولا بالشرط إلا الشئ اليسير منه. وأما ما له تأثير في إصلاح الثمر ويبقى بعد الثمر فيدخل عنده بالشرط في المساقاة لا بنفس العقد، مثل إنشاء حفر بئر، أو إنشاء ظفيرة للماء، أو إنشاء غرس، أو إنشاء بيت يجنى فيه الثمر. وأما ما له تأثير في إصلاح الثمر ولا يتأبد، فهو لازم بنفس العقد، وذلك مثل الحفر والسقي وزبر
199 الكرم وتقليم الشجر والتذكير والجذاذ وما أشبه ذلك، وأجمعوا على أن ما كان في الحائط من الدواب والعبيد أنه ليس من حق العامل. واختلفوا في شرط العامل ذلك على المساقي، فقال مالك: يجوز ذلك فيما كان منها في الحائط قبل المساقاة. وأما إن اشترط فيها ما لم يكن في الحائط فلا يجوز، وقال الشافعي: لا بأس بذلك وإن لم يكن في الحائط، وبه قال ابن نافع من أصحاب مالك، وقال محمد بن الحسن: لا يجوز أن يشترطه العامل على رب المال، ولو اشترطه رب المال على العامل جاز ذلك. ووجه كراهيته ذلك ما يلحق في ذلك من الجهل بنصيب رب المال، ومن أجازه رأى أن ذلك تافه ويسير، ولتردد الحكم بين هذين الأصلين استحسن مالك ذلك في الرقيق الذي يكون في الحائط في وقت المساقاة ومنعه في غيرهم، لان اشتراط المنفعة في ذلك أظهر، وإنما فرق محمد بن الحسن لان اشتراطهما على العامل هو من جنس ما وجب عليه من المساقاة، وهو العمل بيده. واتفق القائلون بالمساقاة على أنه إن كانت النفقة كلها على رب الحائط وليس على العامل إلا ما يعمل بيده أن ذلك لا يجوز، لأنها إجارة بما لم يخلق، فهذه هي صفات هذا الركن والشروط الجائزة فيه وغير الجائزة. الركن الثالث: وأجمعوا على أن المساقاة تجوز بكل ما اتفقا عليه من أجزاء الثمر، فأجاز مالك أن تكون الثمرة كلها للعامل كما فعل في القراض، وقد قيل إن ذلك منحه لا مساقاة، وقيل لا يجوز. واتفقوا على أنه لا يجوز فيها اشتراط منفعة زائدة، مثل أن يشترط أحدهما على صاحبه زيادة دارهم أو دنانير ولا شيئا من الأشياء الخارجة عن المساقاة إلا الشئ اليسير عند مالك مثل سد الحظار واصلاح الظفيرة وهي مجتمع الماء، ولا يجوز عند مالك أن يساقى على حائطين: أحدهما على جزء، والآخر على جزء آخر، واحتج بفعله عليه الصلاة والسلام في خيبر، وذلك أنه سقى على حوائط مختلفة بجزء واحد، وفيه خلاف. وأكثر العلماء على أن القسمة بين العامل والمساقي في الثمر لا تكون إلا بالكيل، وكذلك في الشركة، وأنها لا تجوز بالخرص، وأجاز قوم قسمتها بالخرص. واختلف في ذلك أصحاب مالك، واختلفت الرواية عنه، فقيل يجوز، وقيل لا يجوز من الثمار في الربوية ويجوز في غير ذلك، وقيل يجوز بإطلاق إذا اختلفت حاجة الشريكين. وحجة الجمهور أن ذلك يدخله الفساد من جهة المزابنة ويدخله بيع الرطب بالتمر، وبيع الطعام بالطعام نسيئة. وحجة من أجاز قسمتها بالخرص تشبيهها بالعرية وبالخرص في الزكاة، وفيه ضعف. وأقوى ما اعتمدوا عليه في ذلك ما جاء من الخرص في مساقاة خيبر من مرسل سعيد بن المسيب وعطاء بن يسار. الركن الرابع: وأما اشتراط الوقت في المساقاة فهو صنفان: وقت هو مشترط في جواز المساقاة، ووقت هو شرط في صحة العقد، وهو المحدد لمدتها. فأما الوقت
200 المشترط في جواز عقدها فإنهم اتفقوا على أنها تجوز قبل بدو الصلاح. واختلفوا في جواز ذلك بعد بدو الصلاح، فذهب الجمهور من القائلين بالمساقاة على أنه لا يجوز بعد بدو الصلاح. وقال سحنون من أصحاب مالك: لا بأس بذلك. واختلف قول الشافعي في ذلك، فمرة قال: لا يجوز، ومرة قال: يجوز، وقد قيل عنه إنها لا تجوز إذا خلق الثمر. وعمدة الجمهور أن مساقاة ما بدا صلاحه من الثمر ليس فيه عمل ولا ضرورة داعية إلى المساقاة إذ كان يجوز بيعه في ذلك الوقت. قالوا: وإنما هي إجارة إن وقعت. وحجة من أجازها أنه إذا جازت قبل أن يخلق الثمر فهي بعد بدو الصلاح أجوز، ومن هنا لم تجز عندهم مساقاة البقول لأنه يجوز بيعها، أعني عند الجمهور. وأما الوقت الذي هو شرط في مدة المساقاة، فإن الجمهور على أنه لا يجوز أن يكون مجهولا - أعني مدة غير مؤقتة - وأجاز طائفة أن يكون إلى مدة غير مؤقتة منهم أهل الظاهر. وعمدة الجمهور ما يدخل في ذلك من الغرر قياسا على الإجارة، وعمدة أهل الظاهر ما وقع في مرسل مالك من قوله (ص) أقركم على ما أقركم الله وكره مالك المساقاة فيما طال من السنين، وانقضاء السنين فيها هو بالجذ لا بالأهلة. وأما هل اللفظ شرط في هذا العقد؟ فاختلفوا في ذلك، فذهب ابن القاسم إلى أن من شرط صحتها أن لا تنعقد إلا بلفظ المساقاة، وأنه ليس تنعقد بلفظ الإجارة، وبه قال الشافعي، وقال غيرهم: تنعقد بلفظ الإجارة، وهو قياس قول سحنون. القول في أحكام الصحة والمساقاة عند مالك من العقود اللازمة باللفظ لا بالعمل بخلاف القراض عنده الذي ينعقد بالعمل لا باللفظ، وهو عند مالك عقد موروث، ولورثة المساقي أن يأتوا بأمين يعمل إن لم يكونوا أمناء، وعليه العمل إن أبى الورثة من تركته، وقال الشافعي إذا لم يكن له تركة سلم إلى الورثة رب المال أجرة ما عمل وفسد العقد، وإن كانت له تركة لزمته المساقاة. وقال الشافعي: تنفسخ المساقاة بالعجز، ولم يفصل. وقال مالك: إذا عجز وقد حل بيع الثمر لم يكن له أن يساقي غيره ووجب عليه أن يستأجر من يعمل، وإن يكن له شئ استؤجر من حظه من الثمر، وإذا كان العامل لصا أو ظالما لم ينفسخ العقد بذلك عند مالك. وحكي عن الشافعي أنه قال: يلزمه أن يقيم غيره للعمل، وقال الشافعي: إذا هرب العامل قبل تمام العمل استأجر القاضي عليه من يعمل عمله. ويجوز عند مالك أن يشترط كل واحد منهما على صاحبه الزكاة بخلاف القراض ونصابهما عنده نصاب الرجل الواحد بخلاف قوله في الشركاء. وإذا اختلف رب المال والعامل في مقدار ما وقعت عليه المساقاة من الثمر، فقال مالك: القول قول العامل مع يمينه إذا أتى بما يشبه، وقال الشافعي: يتحالفان ويتفاسخان، وتكون للعامل الأجرة شبههه بالبيع وأوجب مالك اليمين في حق العامل لأنه مؤتمن، ومن
201 أصله أن اليمين تجب على أقوى المتداعيين شبهة. وفروع هذا الباب كثيرة، لكن التي اشتهر الخلاف فيها بين الفقهاء هي هذه التي ذكرناها. أحكام المساقاة الفاسدة واتفقوا على أن المساقاة إذا وقعت على غير الوجه الذي جوزها الشرع أنها تنفسخ ما لم تفت بالعمل. واختلفوا إذا فاتت بالعمل ماذا يجب فيها؟ فقيل إنها ترد إلى إجارة المثل في كل نوع من أنواع الفساد، وهو قياس قول الشافعي وقياس إحدى الروايتين عن مالك، وقيل إنها ترد إلى مساقاة المثل بإطلاق، وهو قول ابن الماجشون وروايته عن مالك، وأما ابن القاسم فقال في بعضها: ترد إلى مساقاة مثلها، وفي بعضها: إلى إجارة المثل. واختلف التأويل عنه في ذلك، فقيل في مذهبه إنها ترد إلى إجارة المثل إلا في أربع مسائل فإنها ترد إلى مساقاة مثلها: إحداها: المساقاة في حائط فيه تمر قد أطعم. والثانية: إذا اشترط المساقي على رب المال أن يعمل معه. والثالثة: المساقاة مع البيع في صفقة واحدة. والرابعة: إذا ساقاه في حائط سنة على الثلث وسنة على النصف. وقيل إن الأصل عنده في ذلك أن المساقاة إذا لحقها الفساد من قبل ما دخلها من الإجارة الفاسدة أو من بيع الثمر من قبل أن يبدو صلاحه، وذلك مما يشترطه أحدهما على صاحبه من زيادة رد فيها إلى أجرة المثل، مثل أن يساقيه على أن يزيد أحدهما صاحبه دنانير أو دراهم، وذلك أن هذه الزيادة إن كانت من رب الحائط كانت إجارة فاسدة، وإن كانت من العامل كانت بيع الثمر قبل أن يخلق. وأما فساده من قبل الغرر مثل المساقاة على حوائط مختلفة فيرد إلى مساقاة المثل، وهذا كله استحسان جار على غير قياس. وفي المسألة قول رابع، وهو أنه يرد إلى مساقاة مثله ما لم يكن أكثر من الجزء الذي شرط عليه إن كان للمساقي، أو أقل إن كان الشرط للمساقي، وهذا كاف بحسب غرضنا.
202 كتاب الشركة والنظر في الشركة، في أنواعها، وفي أركانها الموجبة للصحة في الاحكام ونحن نذكر من هذه الأبواب ما اتفقوا عليه، وما اشتهر الخلاف فيه بينهم على ما قصدناه في هذا الكتاب. والشركة بالجملة عند فقهاء الأمصار على أربعة أنواع: شركة العنان: وشركة الأبدان وشركة المفاوضة. وشركة الوجوه. واحدة منها متفق عليها، وهي شركة العنان، وإن كان بعضهم لم يعرف هذا اللفظ، وإن كانوا اختلفوا في بعض شروطها على ما سيأتي بعد. والثلاثة مختلف فيها، ومختلف في بعض شروطها عند من اتفق منهم عليها. القول في شركة العنان وأركان هذه الشركة ثلاثة: الأول: محلها من الأموال. والثاني: في معرفة قدر الربح من قدر المال المشترك فيه. الثالث: في معرفة قدر المال من الشريكين من قدر المال. الركن الأول: فأما محل الشركة، فمنه ما اتفقوا عليه، ومنه ما اختلفوا فيه، فاتفق المسلمون على أن الشركة تجوز في الصنف الواحد من العين: أعني الدنانير والدراهم، وإن كانت في الحقيقة بيعا لا تقع فيه مناجزة، ومن شرط البيع في الذهب وفي الدارهم المناجزة، لكن الاجماع خصص هذا المعنى في الشركة، وكذلك اتفقوا فيما أعلم على الشركة بالعرضين يكونان بصفة واحدة واختلفوا في الشركة بالعرضين المختلفين وبالعيون المختلفة، مثل الشركة بالدنانير من أحدهما، والدراهم من الآخر، وبالطعام الربوي إذا كان صنفا واحدا، فههنا ثلاث مسائل: المسألة الأولى: فأما إذا اشتركا في صنفين من العروض، أو في عروض ودراهم أو دنانير، فأجاز ذلك ابن القاسم، وهو مذهب مالك، وقد قيل عنه إنه كره ذلك وسبب الكراهية اجتماع الشركة فيها والبيع، وذلك أن يكون العرضان مختلفين كأن كل واحد
203 منهما باع جزءا من عرضه بجزء من العرض الآخر، ومالك يعتبر في العروض إذا وقعت فيها الشركة القيم، والشافعي يقول: لا تنعقد الشركة إلا على أثمان العروض، وحكى أبو حامد أن ظاهر مذهب الشافعي يشير إلى أن الشركة مثل القراض لا تجوز إلا بالدراهم والدنانير، قال: والقياس أن الإشاعة فيها تقوم مقام الخلط. المسألة الثانية: وأما إن كان الصنفان مما لا يجوز فيهما النساء مثل الشركة بالدنانير من عند أحدهما والدراهم من عند الآخر، أو بالطعامين المختلفين، فاختلف في ذلك قول مالك، فأجازه مرة، ومنعه مرة، وذلك لما يدخل الشركة بالدراهم من عند أحدهما والدنانير من عند الآخر من الشركة والصرف معا وعدم التناجز، ولما يدخل الطعامين المختلفين من الشركة وعدم التناجز، وبالمنع قال ابن القاسم، ومن لم يعتبر هذه العلل أجازها. المسألة الثالثة: وأما الشركة بالطعام من صنف واحد، فأجازها ابن القاسم قياسا على إجماعهم على جوازها في الصنف الواحد من الذهب أو الفضة ومنعها مالك في أحد قوليه - وهو المشهور - بعدم المناجزة الذي يدخل فيه، إذ رأى أن الأصل هو أن لا يقاس على موضع الرخصة بالاجماع، وقد قيل إن وجه كراهية مالك لذلك أن الشركة تفتقر إلى الاستواء في القيمة، والبيع يفتقر إلى الاستواء في الكيل، فافتقرت الشركة بالطعامين من صنف واحد إلى استواء القيمة والكيل وذلك لا يكاد يوجد، فكره مالك ذلك، فهذا هو اختلافهم في جنس محل الشركة. واختلفوا هل من شرط مال الشركة أن يختلط، أو لا يختلط؟ فقال مالك: إن من شرط الشركة: أن يختلطا: إما حسا وإما حكما، مثل أن يكونا في صندوق واحد وأيديهما مطلقة عليهما، وقال الشافعي: لا تصح الشركة حتى يخلطا ماليهما خلطا لا يتميز به مال أحدهما من مال الآخر، وقال أبو حنيفة: تصح الشركة وإن كان مال كل واحد منهما بيده. فأبو حنيفة اكتفى في انعقاد الشركة بالقول، ومالك اشترط إلى ذلك اشتراك التصرف في المال، والشافعي اشترط إلى هذين الاختلاط، والفقه أن بالاختلاط يكون عمل الشريكين أفضل وأتم، لان النصح يوجد منه لشريكه كما يوجد لنفسه، فهذا هو القول في هذا الركن وفي شروطه. فأما الركن الثاني: وهو وجه اقتسامها الربح، فإنهم اتفقوا على أنه إذا كان الربح تابعا لرؤوس الأموال، أعني إن كان أصل مال الشركة متساويين كان الربح بينهما نصفين. واختلفوا هل يجوز أن يختلف رؤوس أموالهما ويستويان في الربح؟ فقال مالك والشافعي: ذلك لا يجوز، وقال أهل العراق: يجوز ذلك. وعمدة من منع ذلك أن تشبيه الربح بالخسران، فكما أنه لو اشترط أحدهما جزءا من الخسران لم يجز، كذلك إذا اشترط جزءا من الربح خارجا عن ماله وربما شبهوا الربح بمنفعة العقار الذي بين الشريكين: أعني أن
204 المنفعة بينهما تكون على نسبة أصل الشركة. وعمدة أهل العراق تشبيه الشركة بالقراض، وذلك أنه لما جاز في القراض أن يكون للعامل من الربح ما اصطلحا عليه، والعامل ليس يجعل مقابله إلا عملا فقط كان في الشركة أحرى أن يجعل للعمل جزء من المال إذا كانت الشركة مالا من كل واحد منهما وعملا، فيكون ذلك الجزء من الربح مقابلا لفضل عمله على عمل صاحبه، فإن الناس يتفاوتون في العمل كما يتفاوتون في غير ذلك. وأما الركن الثالث: الذي هو العمل، فإنه تابع كما قلنا عند مالك للمال فلا يعتبر بنفسه، وهو عند أبي حنيفة يعتبر مع المال، وأظن أن من العلماء من لا يجيز الشركة إلا أن يكون مالاهما متساويين التفاتا إلى العمل. فإنهم يرون أن العمل في الغالب مستو فإذا لم يكن المال بينهما على التساوي كان هنالك غبن على أحدهما في العمل، ولهذا قال ابن المنذر: أجمع العلماء على جواز الشركة التي يخرج فيها كل واحد من الشريكين مالا مثل مال صاحبه من نوعه: أعني دراهم أو دنانير، ثم يخلطانهما حتى يصيرا مالا واحدا لا يتميز. على أن يبيعا ويشتريا ما رأيا من أنواع التجارة، وعلى أن ما كان من فضل فهو بينهما بنصفين، وما كان من خسارة فهو كذلك، وذلك إذا باع كل واحد منهما بحضرة صاحبه، واشتراطه هذا الشرط يدل على أن فيه خلافا، والمشهور عند الجمهور أنه ليس من شرط الشركاء أن يبيع كل واحد منهما بحضرة صاحبه. القول في شركة المفاوضة واختلفا في شركة المفاوضة، فاتفق مالك وأبو حنيفة بالجملة على جوازها، وإن كان اختلفوا في بعض شروطها، وقال الشافعي: لا تجوز. ومعنى شركة المفاوضة أن يفوض كل واحد من الشريكين إلى صاحبه التصرف في ماله مع غيبته وحضوره، وذلك واقع عندهم في جميع أنواع الممتلكات. وعمدة الشافعي أن اسم الشركة إنما ينطلق على اختلاط الأموال، فإن الأرباح فروع، ولا يجوز أن تكون الفروع مشتركة إلا باشتراك أصولها، وأما إذا اشترط كل واحد منهما ربحا لصاحبه في ملك نفسه فذلك من الغرر ومما لا يجوز، وهذه صفة شركة المفاوضة. وأما مالك فيرى أن كل واحد منهما قد باع جزءا من ماله بجزء من مال شريكه، ثم وكل واحد منهما صاحبه على النظر في الجزء الذي بقي في يده. والشافعي يرى أن الشركة ليست هي بيعا ووكالة. وأما أبو حنيفة فهو ههنا على أصله في أنه لا يراعى في شركة العنان إلا النقد فقط. وأما ما يختلف فيه مالك وأبو حنيفة من شروط هذه الشركة، فإن أبا حنيفة يرى أن من شرط المفاوضة التساوي في رؤوس الأموال، وقال مالك: ليس من شرطها ذلك تشبيها بشركة العنان، وقال أبو حنيفة، لا يكون لأحدهما شئ إلا أن يدخل في الشركة. وعمدتهم أن اسم المفاوضة يقتضي هذين الامرين، أعني تساوي المالين وتعميم ملكهما.
205 القول في شركة الأبدان وشركة الأبدان بالجملة عند أبي حنيفة والمالكية جائزة، ومنع منها الشافعي. وعمدة الشافعية أن الشركة إنما تختص بالأموال لا بالاعمال، لان ذلك لا ينضبط فهو غرر عندهم، إذ كان عمل كل واحد منهما مجهولا عند صاحبه. وعمدة المالكية اشتراك الغانمين في الغنيمة، وهم إنما استحقوا ذلك بالعمل. وما روي من أن ابن مسعود شارك سعدا يوم بدر، فأصاب سعد فرسين ولم يصب ابن مسعود شيئا، فلم ينكر النبي (ص) عليهما. وأيضا فإن المضاربة إنما تنعقد على العمل فجاز أن تنعقد عليه الشركة، وللشافعي أن المفاوضة خارجة عن الأصول فلا يقاس عليها، وكذلك يشبه أن يكون حكم الغنيمة خارجا عن الشركة، ومن شرطها عند مالك اتفاق الصنعتين والمكان، وقال أبو حنيفة: تجوز مع اختلاف الصنعتين، فيشترك عنده الدباغ والقصار، ولا يشتركان عند مالك. وعمدة مالك زيادة الغرر الذي يكون عند اختلاف الصنعتين أو اختلاف المكان. وعمدة أبي حنيفة جواز الشركة على العمل. القول في شركة الوجوه وشركة الوجوه عند مالك والشافعي باطلة، وقال أبو حنيفة: جائزة وهذه الشركة هي الشركة على الذمم من غير صنعة ولا مال. وعمدة مالك والشافعي أن الشركة إنما تتعلق على المال أو على العمل، وكلاهما معدومان في هذه المسألة مع ما في ذلك من الغرر، لان كل واحد منهما عارض صاحبه بكسب غير محدود بصناعة ولا عمل مخصوص، وأبو حنيفة يعتمد أنه عمل من الأعمال فجاز أن تنعقد عليه الشركة. القول في أحكام الشركة الصحيحة وهي من العقود الجائزة لا من العقود اللازمة: أي لاحد الشريكين أن ينفصل من الشركة متى شاء، وهي عقد موروث، ونفقتهما وكسوتهما من مال الشركة إذا تقاربا في العيال ولم يخرجا عن نفقة مثلهما ويجوز لاحد الشريكين أن يبضع وأن يقارض وأن يودع إذا دعت إلى ذلك ضرورة، ولا يجوز له أن يهب شيئا من مال الشركة، ولا أن يتصرف فيه إلا تصرفا يرى أنه نظر لهما. وأما من قصر في شئ أو تعدى فهو ضامن مثل أن يدفع مالا من التجارة فلا يشهد وينكره القابض، فإنه يضمن لأنه قصر إذ لم يشهد، وله أن يقبل الشئ المعيب في الشراء وإقرار أحد الشريكين في مال لمن يتهم عليه لا يجوز، وتجوز إقالته وتوليته، ولا يضمن أحد الشريكين ما ذهب من مال التجارة باتفاق، ولا يجوز للشريك المفاوض أن يقارض غيره إلا بإذن شريكه ويتنزل كل واحد منهما منزلة صاحبه فيما له وفيما عليه في مال التجارة، وفروع هذا الباب كثيرة.
206 كتاب الشفعة والنظر في الشفعة أولا في قسمين: القسم الأول: في تصحيح هذا الحكم وفي أركانه. القسم الثاني: في أحكامه. القسم الأول: فأما وجوب الحكم بالشفعة، فالمسلمون متفقون عليه، لما ورد في ذلك من الأحاديث الثابتة، إلا ما يتأمل على من يرى بيع الشقص المشاع، وأركانها أربعة: الشافع، والمشفوع عليه، والمشفوع فيه، وصفة الاخذ بالشفعة. الركن الأول: وهو الشافع، ذهب مالك والشافعي، وأهل المدينة إلى أن لا شفعة إلا للشريك ما لم يقاسم، وقال أهل العراق: الشفعة مرتبة، فأولى الناس بالشفعة الشريك الذي لم يقاسم، ثم الشريك المقاسم إذا بقيت في الطرق أو في الصحن شركة، ثم الجار الملاصق، وقال أهل المدينة: لا شفعة للجار ولا للشريك المقاسم. وعمدة أهل المدينة: مرسل مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب أن رسول الله (ص) قضى بالشفعة فيما لم يقسم بين الشركاء، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة وحديث جابر أيضا أن رسول الله (ص) قضى بالشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة خرجه مسلم والترمذي وأبو داود وكان أحمد بن حنبل يقول: حديث معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أصح ما روي في الشفعة. وكان ابن معين يقول: مرسل مالك أحب إلي إذ كان مالك إنما رواه عن ابن شهاب موقوفا وقد جعل قوم هذا الاختلاف على ابن شهاب في إسناده توهينا له، وقد روي عن مالك في غير الموطأ عن ابن شهاب عن أبي هريرة، ووجه استدلالهم من هذا الأثر ما ذكر فيه من أنه إذا وقعت الحدود فلا شفعة، وذلك أنه لما كانت الشفعة غير واجبة للشريك المقاسم، فهي أحرى أن لا تكون واجبة للجار، وأيضا فإن الشريك المقاسم هو جار إذا قاسم. وعمدة أهل العراق حديث أبي رافع عن النبي (ص) أنه قال: الجار أحق بصقبه وهو حديث متفق عليه، وخرج الترمذي وأبو داود عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: جار الدار أحق بدار
207 الجار وصححه الترمذي ومن طريق المعنى لهم أيضا أنه لما كانت الشفعة إنما المقصود منها دفع الضرر الداخل من الشركة، وكان هذا المعنى موجودا في الجار وجب أن يلحق به، ولأهل المدينة أن يقولوا: وجود الضرر في الشركة أعظم منه في الجوار. وبالجملة فعمدة المالكية أن الأصول تقتضي أن لا يخرج ملك أحد من يده إلا برضاه، وأن من اشترى شيئا فلا يخرج من يده إلا برضاه حتى يدل الدليل على التخصيص، وقد تعارضت الآثار في هذا الباب، فوجب أن يرجح ما شهدت له الأصول، ولكلا القولين سلف متقدم لأهل العراق من التابعين، ولأهل المدينة من الصحابة. الركن الثاني: وهو المشفوع فيه، اتفق المسلمون على أن الشفعة واجبة في الدور والعقار والأرضين كلها، واختلفوا فيما سوى ذلك، فتحصيل مذهب مالك أنها في ثلاثة أنواع: أحدها: مقصود، وهو العقار من الدور والحوانيت والبساتين. والثاني: ما يتعلق بالعقار مما هو ثابت لا ينقل ولا يحول، وذلك كالبئر ومحال النخل، ما دام الأصل فيها على صفة تجب فيها الشفعة عنه، وهو أن يكون الأصل هو الأرض مشاعا بينه وبين شريكه غير مقسوم. والثالث: ما تعلق بهذه كالثمار، وفيها عنه خلاف، وكذلك كراء الأرض للزرع وكتابة المكاتب. واختلف عنه في الشفعة في الحمام والرحا، وأما ما عدا هذا من العروض والحيوان فلا شفعة فيها عنده، وكذلك لا شفعة عنده في الطريق ولا في عرصة الدار. واختلف عنه في أكرية الدور، وفي المساقاة وفي الدين، هل يكون الذي عليه الدين أحق به؟ وكذلك الذي عليه الكتابة، وبه قال عمر بن عبد العزيز. وروي أن رسول الله (ص) قضى بالشفعة في الدين وبه قال أشهب من أصحاب مالك، وقال ابن القاسم: لا شفعة في الدين. ولم يختلفا في إيجابها في الكتابة لحرمة العتق. وفقهاء الأمصار على أن شفعة إلا في العقار فقط. وحكي عن قوم أن الشفعة في البئر وفي كل شئ ما عدا المكيل والموزون، ولم يجز أبو حنيفة الشفعة في البئر والفحل، وأجازها في العرصة والطريق، ووافق الشافعي مالكا في العرصة وفي الطريق وفي البئر، وخالفاه جميعا في الثمار. وعمدة الجمهور في قصر الشفعة على العقار ما ورد في الحديث الثابت من قوله عليه الصلاة والسلام: الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة فكأنه قال: الشفعة فيما تمكن فيه القسمة ما دام لم يقسم، وهذا استدلال بدليل الخطاب، وقد أجمع عليه في هذا الموضع فقهاء الأمصار مع اختلافهم في صحة الاستدلال به. وأما عمدة من أجازها في كل شئ فما خرجه الترمذي عن ابن عباس: أن رسول الله (ص) قال: الشريك شفيع في كل شئ ولان معنى ضرر الشركة والجوار موجود في كل شئ وإن كان العقار أظهر، ولما لحظ هذا مالك أجرى ما يتبع العقار مجرى العقار. واستدل أبو حنيفة على منع الشفعة في البئر بما روي لا شفعة في بئر ومالك حمل هذا
208 الأثر على آبار الصحارى التي تعمل في الأرض الموات، لا التي تكون في أرض متملكة. الركن الثالث: وأما المشفوع عليه فإنهم اتفقوا على أنه من انتقل إليه الملك بشراء من شريك غير مقاسم أو من جار عند من يرى الشفعة للجار. واختلفوا فيمن انتقل إليه الملك بغير شراء، فالمشهور عند مالك أن الشفعة إنما يجب إذا كان انتقال الملك بعوض كالبيع والصلح والمهر وأرش الجنايات وغير ذلك، وبه قال الشافعي، وعنه رواية ثانية أنها تجب بكل ملك انتقل بعوض أو بغير عوض، كالهبة لغير الثواب والصدقة، ما عدا الميراث فإنه لا شفعة عند الجميع فيه اتفاق. وأما الحنفية فالشفعة عندهم في المبيع فقط، وعمدة الحنفية ظاهر الأحاديث وذلك أن مفهومها يقتضي أنها في المبيعات، بل ذلك نص فيها لا في بعضها فلا بيع حتى يستأذن شريكه. وأما المالكية فرأت أن كل ما انتقل بعوض فهو في معنى البيع، ووجه الرواية الثانية أنها اعتبرت الضرر فقط. وأما الهبة للثواب فلا شفعة فيها عند أبي حنيفة ولا الشافعي، أما أبو حنيفة فلان الشفعة عنده في المبيع، وأما الشافعي فلان هبة الثواب عنده باطلة، وأما مالك، فلا خلاف عنده وعند أصحابه في أن الشفعة فيها واجبة. واتفق العلماء على أن المبيع الذي بالخيار أنه إذا كان الخيار فيه للبائع أن الشفعة لا تجب حتى يجب البيع. واختلفوا إذا كان الخيار للمشتري؟ فقال الشافعي والكوفيون: الشفعة واجبة عليه لان البائع قد صرم الشقص عن ملكه وأبانه منه، وقيل إن الشفعة غير واجبة عليه لأنه غير ضامن وبه قال جماعة من أصحاب مالك. واختلف في الشفعة في المساقاة، وهي تبديل أرض بأرض، فعن مالك في ذلك ثلاث روايات: الجواز، والمنع، والثالث أن تكون المناقلة بين الاشراك أو الأجانب فلم يرها في الاشراك ورآها في الأجانب. الركن الرابع: في الاخذ بالشفعة والنظر في هذا الركن بماذا يأخذ الشفيع، وكم يأخذ، ومتى يأخذ، فإنهم اتفقوا على أنه يأخذ في البيع بالثمن إن كان حالا، واختلفوا إذا كان البيع إلى أجل هل يأخذه الشفيع بالثمن إلى ذلك الاجل، أو يأخذ المبيع بالثمن حالا وهو مخير؟ فقال مالك: يأخذه بذلك الاجل إذا كان مليا أو يأتي بضامن ملئ، وقال الشافعي: الشفيع مخير، فإن عجل تعجلت الشفعة وإلا تتأخر إلى وقت الاجل، وهو نحو قول الكوفيين، وقال الثوري لا يأخذها إلا بالنقد لأنها قد دخلت في ضمان الأول قال: ومنا من يقول تبقى في يد الذي باعها، فإن بلغ الاجل أخذها الشفيع. والذين رأوا الشفعة في سائر المعاوضات مما ليس ببيع، فالمعلوم عنهم أنه يأخذ الشفعة بقيمة الشقص إن كان العوض مما ليس يتقدر، مثل أن يكون معطى في خلع. وأما أن يكون معطى في شئ يتقدر ولم يكن دنانير ولا دراهم ولا بالجملة مكيلا ولا موزونا، فإنه يأخذه بقيمة ذلك الشئ الذي دفع الشقص فيه، وإن كان ذلك الشئ محدود القدر بالشرع
209 أخذ ذلك القدر، مثل أن يدفع الشقص في موضحة وجبت عليه أو منقلة، فإنه يأخذه بدية الموضحة أو المنقلة. وأما كم يأخذ؟ فإن الشفيع لا يخلو أن يكون واحدا أو أكثر، والمشفوع عليه أيضا لا يخلو أن يكون واحدا أو أكثر، فأما أن الشفيع واحد والمشفوع عليه واحد فلا خلاف في أن الواجب على الشفيع أن يأخذ الكل أو يدع، وأما إذا كان المشفوع عليه واحدا والشفعاء أكثر من واحد فإنهم اختلفوا من ذلك في موضعين: أحدهما: في كيفية قسمة المشفوع فيه بينهم. والثاني: إذا اختلف أسباب شركتهم هل يحجب بعضهم بعضا عن الشفعة أم لا؟ مثل أن يكون بعضهم شركاء في المال الذي ورثوه لأنهم أهل سهم واحد، وبعضهم لأنهم عصبة. فأما المسألة الأولى: وهي كيفية توزيع المشفوع فيه، فإن مالكا والشافعي وجمهور أهل المدينة يقولون: إن المشفوع فيه يقتسمونه بينهم على قدر حصصهم، فمن كان نصيبه من أصل المال الثلث مثلا أخذ من الشقص بثلث الثمن، ومن كان نصيبه الربع أخذ الربع. وقال الكوفيون: هي على عدد الرؤوس على السواء، وسواء فذلك الشريك ذو الحظ الأكبر وذو الحظ الأصغر. وعمدة المدنيين أن الشفعة حق يستفاد وجوبه بالملك المتقدم، فوجب أن يتوزع على مقدار الأصل، أصله الأكرية في المستأجرات المشتركة والربح في شركة الأموال، وأيضا فإن الشفعة إنما هي لإزالة الضرر، والضرر داخل على كل واحد منهم على غير استواء، لأنه إنما يدخل على كل واحد منهم بحسب حصته، فوجب أن يكون استحقاقهم لدفعه على تلك النسبة. وعمدة الحنفية أن وجوب الشفعة إنما يلزم بنفس الملك فيستوفي ذلك أهل الحظوظ المختلفة لاستوائهم في نفس الملك، وربما شبهوا ذلك بالشركاء في العبد يعتق بعضهم نصيبه أنه يقوم على المعتقين على السوية: أعني حظ من لم يعتق. وأما المسألة الثانية: فإن الفقهاء اختلفوا في دخول الاشراك الذين هم عصبة في الشفعة مع الاشراك الذين شركتهم من قبل السهم الواحد فقال مالك: أهل السهم الواحد أحق بالشفعة إذا باع أحدهم من الاشراك معهم في المال من قبل التعصيب، وأنه لا يدخل ذو العصبة في الشفعة على أهل السهام المقدرة ويدخل ذوو السهام على ذوي التعصيب ، مثل أن يموت ميت فيترك عقارا ترثه عنه بنتان وابنا عم ثم تبيع البنت الواحدة حظها، فإن البنت الثانية عند مالك هي التي تشفع في ذلك الحظ الذي باعته أختها فقط دون ابني العم، وإن باع أحد ابني العم نصيبه يشفع فيه البنات وابن العم الثاني، وبهذا القول قال ابن القاسم. وقال أهل الكوفة: لا يدخل ذوو السهام على العصبات ولا العصبات على ذوي السهام، ويتشافع أهل السهم الواحد فيما بينهم خاصة، وبه قال أشهب. وقال الشافعي في أحد قوليه: يدخل ذوو السهام على العصبات والعصبات على ذوي السهام، وهو الذي
210 اختاره المزني، وبه قال المغيرة من أصحاب مالك. وعمدة مذهب الشافعي عموم قضائه (ص) بالشفعة بين الشركاء، ولم يفصل ذوي السهم من عصبة. ومن خصص ذوي السهام من العصبات فلانه رأى الشركة مختلفة الأسباب: أعني بين ذوي السهام وبين العصبات فشبه الشركات المختلفة الأسباب بالشركات المختلفة من قبل محالها - الذي هو المال - بالقسمة بالأموال. ومن أدخل ذوي السهام على العصبة ولم يدخل العصبة على ذوي السهام فهو استحسان على غير قياس، ووجه الاستحسان أنه رأى أن ذوي السهام أقعد من العصبة. وأما إذا كان المشفوع عليهما اثنين فأكثر فأراد الشفيع أن يشفع على أحدهما دون الثاني، فقال ابن القاسم: إما أن يأخذ الكل أو يدع، وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي: له أن يشفع على أيهما أحب، وبه قال أشهب، فأما إذا باع رجلان شقصا من رجل، فأراد الشفيع أن يشفع على أحدهما دون الثاني، فإن أبا حنيفة منع ذلك، وجوزه الشافعي. وأما إذا كان الشافعون أكثر من واحد، أعني الاشراك، فأراد بعضهم أن يشفع ويسلم له الباقي في البيوع، فالجمهور على أن للمشتري أن يقول للشريك إما أن تشفع في الجميع أو تترك، وأنه ليس له أن يشفع بحسب حظه إلا أن يوافقه المشتري على ذلك، وأنه ليس له أن يبعض الشفعة على المشتري إن لم يرض بتبعيضها. وقال أصبغ من أصحاب مالك: إن كان ترك بعضهم الاخذ بالشفعة رفقا بالمشتري لم يكن للشفيع إلا أن يأخذ حصته فقط. ولا خلاف في مذهب مالك أنه إذ كان بعض الشفعاء غائبا وبعضهم حاضرا، فأراد الحاضر أن يأخذ حصته فقط أنه ليس له ذلك، إلا أن يأخذ الكل أو يدع، فإذا قدم الغائب فإن شاء أخذ وإن شاء تر ك. واتفقوا على أن من شرط الاخذ بالشفعة أن تكون الشركة متقدمة على البيع. واختلفوا هل من شرطها أن تكون موجودة في حال البيع، وأن تكون ثابتة قبل البيع؟ فأما المسألة الأولى: وهي إذا لم يكن شريكا في حال البيع، وذلك يتصور بأن يكون يتراخى عن الاخذ بالشفعة بسبب من الأسباب التي لا يقطع له الاخذ بالشفعة حتى يبيع الحظ الذي كان به شريكا، فروى أشهب أن قول مالك اختلف في ذلك، فمرة قال: له الاخذ بالشفعة، ومرة قال: ليس له ذلك، واختار أشهب أنه لا شفعة له، وهو قياس قول الشافعي والكوفيين، لان المقصود بالشفعة إنما هو إزالة الضرر من جهة الشركة، وهذا ليس بشريك. وقال ابن القاسم: له الشفعة إذا كان قيامه في أثره، لأنه يرى أن الحق الذي وجب له لم يرتفع ببيعه حظه. وأما المسألة الثانية: فصورتها أن يستحق انسان شقصا في أرض قد بيع منها قبل وقت الاستحقاق شقص ما، هل له أن يأخذ بالشفعة أم لا؟ فقال قوم: له ذلك، لأنه وجبت له الشفعة بتقدم شركته قبل البيع، ولا فرق في ذلك كانت يده عليه أو لم تكن،
211 وقال قوم: لا تجب له الشفعة: لأنه إنما ثبت له مال الشركة يوم الاستحقاق، قالوا: ألا ترى أنه يأخذ الغلة من المشتري؟ فأما مالك فقال: إن طال الزمان فلا شفعة، وإن لم يطل ففيه الشفعة، وهو استحسان. وأما متى يأخذ وهل له الشفعة؟ فإن الذي له الشفعة رجلان: حاضر أو غائب. فأما الغائب فأجمع العلماء على أن الغائب على شفعته ما لم يعلم ببيع شريكه. واختلفوا إذا علم وهو غائب، فقال قوم: تسقط شفعته، وقال قوم: لا تسقط، وهو مذهب مالك والحجة له ما روي عن النبي (ص) من حديث جابر أنه قال: الجار أحق بصقبه أو قال: بشفعته ينتظر بها إذا كان غائبا وأيضا فإن الغائب في الأكثر معوق عن الاخذ بالشفعة، فوجب عذره. وعمدة الفريق الثاني أن سكوته مع العلم قرينة تدل على رضاه بإسقاطها. وأما الحاضر، فإن الفقهاء اختلفوا في وقت وجوب الشفعة له، فقال الشافعي وأبو حنيفة: هي واجبة له على الفور بشرط العلم وإمكان الطلب، فإن علم وأمكن ولم يطلب بطلت شفعته، إلا أن أبا حنيفة قال: إن أشهد بالأخذ لم تبطل وإن تراخى. وأما مالك فليست عنده على الفور، بل وقت وجوبها متسع. واختلف قوله في هذا الوقت هل هو محدود أم لا؟ فمرة قال: هو غير محدود وأنها لا تنقطع أبدا إلا أن يحدث المبتاع بناء أو تغييرا كثيرا بمعرفته وهو حاضر عالم ساكت، ومرة حدد هذا الوقت، فروي عنه السنة وهو الأشهر، وقيل أكثر من سنة، وقد قيل عنه أن الخمسة أعوام لا تنقطع فيها الشفعة. واحتج الشافعي بما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: الشفعة كحل العقال وقد روي الشافعي أن أمدها ثلاثة أيام. وأما من لم يسقط الشفعة بالسكوت واعتمد على أن السكوت لا يبطل حق امرئ مسلم ما لم يظهر من قرائن أحواله ما يدل على إسقاطه، وكان هذا أشبه بأصول الشافعي، لان عنده أنه ليس يجب أن ينسب إلى ساكت قول قائل، وإن اقترنت به أحوال تدل على رضاه، ولكنه فيما أحسب اعتمد الأثر. فهذا هو القول في أركان الشفعة وشروطها المصححة لها وبقي القول في الاحكام. القسم الثاني: القول في أحكام الشفعة وهذه الأحكام كثيرة، ولكن نذكر منها ما اشتهر فيه الخلاف بين فقهاء الأمصار، فمن ذلك اختلافهم في ميراث حق الشفعة، فذهب الكوفيون إلى أنه لا يورث كما أنه لا يباع، وذهب مالك والشافعي وأهل الحجاز إلى أنها موروثة قياسا على الأموال وقد تقدم. سبب الخلاف في هذه المسائل في مسألة الرد بالعيب. ومنها اختلافهم في عهدة الشفيع هل هي على المشتري أو على البائع، فقال مالك والشافعي: هي على المشتري: وقال ابن أبي ليلى: هي على البائع وعمدة مالك أن الشفعة إنما وجبت للشريك بعد حصول ملك المشتري وصحته، فوجب أن تكون عليه العهدة. وعمدة الفريق الآخر أن الشفعة إنما وجبت للشريك بنفس البيع، فطروها على البيع فسخ له وعقد لها. وأجمعوا على أن الإقالة
212 لا تبطل الشفعة من رأى أنها بيع، ومن رأى أنها فسخ - أعني الإقالة - واختلف أصحاب مالك على من عهدة الشفيع في الإقالة؟ فقال ابن القاسم: على المشتري، وقال أشهب: هو مخير. ومنها اختلافهم إذا أحدث المشتري بناء أو غرسا أو ما يشبه في الشقص قبل قيام الشفيع بطلب شفعته، فقال مالك: لا شفعة إلا أن يعطي المشتري قيمة ما بنى وما غرس، وقال الشافعي وأبو حنيفة: هو متعد وللشفيع أن يعطيه قيمة بنائه مقلوعا أو يأخذه بنقضه. والسبب في اختلافهم: تردد تصرف المشفوع عليه العالم بوجوب الشفعة عليه بين شبهة تصرف الغاصب وتصرف المشتري الذي يطرأ عليه الاستحقاق وقد بني في الأرض وغرس، وذلك أنه وسط بينهما، فمن غلب عليه شبه الاستحقاق لم يكن له أن يأخذ القيمة، ومن غلب عليه شبه التعدي قال: له أيأخذه بنقضه أو يعطيه قيمته منقوضا. ومنها اختلافهم إذا اختلف المشتري والشفيع في مبلغ الثمن، فقال المشتري: اشتريت الشقص بكذا، وقال الشفيع: بل اشتريته بأقل، ولم يكن لواحد منهما بينة، فقال جمهور الفقهاء: القول قول المشتري، لان الشفيع مدع والمشفوع عليه مدعى عليه. وخالف في ذلك بعض التابعين فقالوا: القول قول الشفيع، لان المشتري قد أقر له بوجوب الشفعة وادعى عليه مقدارا من الثمن لم يعترف له به. وأما أصحاب مالك فاختلفوا في هذه المسألة، فقال ابن القاسم: القول قول المشتري إذا أتى بما يشبه باليمين، فإن أتى بما لا يشبه فالقول قول الشفيع. وقال أشهب: إذا أتى بما يشبه فالقول قول المشتري بلا يمين وفيما لا يشبه باليمين. وحكي عن مالك أنه قال: إذا كان المشتري ذا سلطان يعلم بالعادة أنه يزيد في الثمن قبل قول المشتري بغير يمين، وقيل إذا أتى المشتري بما لا يشبه رد الشفيع إلى القيمة، وكذلك فيما أحسب إذا أتى كل واحد منهما بما لا يشبه واختلفوا إذا أتى كل واحد ببينة وتساوت العدالة فقال ابن القاسم: يسقطان معا ويرجع إلى الأصل من أن القول قول المشتري مع يمينه. وقال أشهب: البينة بينة المشتري لأنها زادت علما.
213 كتاب القسمة والأصل في هذا الكتاب قوله تعالى: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى) * وقوله: * (مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا) * وقول رسول الله (ص): أيما دار قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية وأيما دار أدركها الاسلام ولم تقسم فهي على قسم الاسلام. والنظر في هذا الكتاب في القاسم والمقسوم عليه والقسمة، والنظر في القسمة في أبواب: الباب الأول: في أنواع القسمة، الثاني: في تعيين محل نوع نوع من أنواعها: أعني ما يقبل القسمة وما لا يقبلها، وصفة القسمة فيها وشروطها أعني فيما يقبل القسمة، الثالث: في معرفة أحكامها. الباب الأول: في أنواع القسمة والنظر في القسمة ينقسم أولا إلى قسمين: قسمة رقاب الأموال. والثاني: منافع الرقاب. القسم الأول من هذا الباب: فأما قسمة الرقاب التي لا تكال ولا توزن، فتنقسم بالجملة إلى ثلاثة أقسام: قسمة قرعة بعد تقويم وتعديل. وقسمة مراضاة بعد تقويم وتعديل. وقسمة مراضاة بغير تقويم ولا تعديل. وأما ما يكال أو يوزن فبالكيل والوزن. القسم الثاني: وأما الرقاب، فإنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: ما لا ينقل ولا يحول، وهي الرباع والأصول. ما ينقل ويحول، وهذان قسمان: وإما غير مكيل ولا موزون، وهو الحيوان والعروض، وإما مكيل أو موزون. ففي هذا الباب ثلاثة فصول: الأول: في الرباع. والثاني: في العروض. والثالث: في المكيل والموزون.
214 الفصل الأول: في الرباع فأما الرباع والأصول، فيجوز أن تقسم بالتراضي وبالسهمة إذا عدلت بالقيمة، اتفق أهل العلم على ذلك اتفاقا مجملا، وإن كانوا اختلفوا في محل ذلك وشروطه، والقسمة لا تخلو أن تكون في محل واحد أو في محال كثيرة، فإذا كانت في محل واحد فلا خلاف في جوازها إذا انقسمت إلى أجزاء متساوية بالصفة ولم تنقص منفعة الاجزاء بالانقسام، ويجيز الشركاء على ذلك. وأما إذا انقسمت إلى ما لا منفعة فيه، فاختلف في ذلك مالك وأصحابه فقال مالك: إنها تنقسم بينهم إذا دعا أحدهم إلى ذلك ولو لم يصر لواحد منهم إلا ما لا منفعة فيه مثل قدر القدم، وبه قال ابن كنانة من أصحابه فقط، وهو قول أبي حنيفة والشافعي. وعمدتهم في ذلك قوله تعالى: * (مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا) * وقال ابن القاسم: لا يقسم إلا أن يصير لكل واحد في حظه ما ينتفع به من غير مضرة داخلة عليه في الانتفاع من قبل القسمة، وإن كان لا يراعى في ذلك نقصان الثمن. وقال ابن الماجشون: يقسم إذا صار لكل واحد منهم ما ينتفع به، وإن كان من غير جنس المنفعة التي كانت في الاشتراك أو كانت أقل. وقال مطرف من أصحابه: إن لم يصر في حظ كل واحد ما ينتفع به لم يقسم وإن صار في حظ بعضهم ما ينتفع به، وفي حظ بعضهم ما لا ينتفع به قسم وجبروا على ذلك سواء دعا إلى ذلك صاحب النصيب القليل أو الكثير، وقيل يجبر إن دعا صاحب النصيب القليل، ولا يجبر إن دعا صاحب النصيب الكثير، وقيل بعكس هذا وهو ضعيف. واختلفوا من هذا الباب فيما إذا قسم انتقلت منفعته إلى منفعة أخرى مثل الحمام. فقال مالك: يقسم إذا طلب ذلك أحد الشريكين، وبه قال أشهب، وقال ابن القاسم: لا يقسم، وهو قول الشافعي. فعمدة من منع القسمة قوله (ص): لا ضرر ولا ضرار وعمدة من رأى القسمة قوله تعالى: * (مما قل منه أو كثر نصيبنا مفروضا) * ومن الحجة لمن لم ير القسمة: حديث جابر عن أبيه " لا تعضية على أهل الميراث إلا ما حمل القسم " والتعضية: التفرقة، يقول: لا قسمة بينهم. وأما إذا كان الرباع أكثر من واحد فإنها لا تخلو أيضا أن تكون من نوع واحد أو مختلفة الأنواع، فإذا كانت متفقة الأنواع فإن فقهاء الأمصار في ذلك مختلفون، فقال مالك: إذا كانت متفقة الأنواع قسمت بالتقويم والتعديل والسهمة، وقال أبو حنيفة والشافعي: بل يقسم كل عقار على حدته فعمدة مالك أنه أقل للضرر الداخل على الشركاء من القسمة. وعمدة الفريق الثاني أن كل عقار تعينه بنفسه لأنه تتعلق به الشفعة. واختلف أصحاب مالك إذا اختلفت الأنواع في النفاق وإن تباعدت مواضعها على ثلاثة أقوال، وأما إذا كانت الرباع مختلفة مثل أن يكون منها دور
215 ومنها حوائط ومنها أرض، فلا خلاف أنه لا يجمع في القسمة بالسهمة. ومن شرط قسمة الحوائط المثمرة أن لا تقسم مع الثمرة إذا بدأ صلاحها باتفاق في المذهب، لأنه يكون بيع الطعام بالطعام على رؤوس الثمر، وذلك مزابنة. وأما قسمتها قبل بدو الصلاح ففيه اختلاف بين أصحاب مالك: أما ابن القاسم فلا يجيز ذلك قبل الابار بحال من الأحوال، ويعتل لذلك لأنه يؤدي إلى بيع طعام بطعام متفاضلا، ولذلك زعم أنه لم يجز مالك شراء الثمر الذي لم يطب بالطعام لا نسيئه ولا نقدا، وأما إن كان بعد الابار، فإنه لا يجوز عنده إلا بشرط أن يشترط أحدهما على الآخر أن ما وقع من الثمر في نصيبه فهو داخل في القسمة، وما لم يدخل في نصيبه فهم فيه على الشركة. والعلة في ذلك عنده أنه يجوز اشتراط المشتري الثمر بعد الابار ولا يجوز قبل الابار، فكأن أحدهما اشترى حظ صاحبه من جميع الثمرات التي وقعت له في القسمة بحظه من الثمرات التي وقعت لشريكه واشترط الثمر. وصفة القسم بالقرعة: أن تقسم الفريضة وتحقق وتضرب إن كان في سهامهم كسر إلى أن تصح السهام، ثم يقوم كل موضع منها وكل نوع من غراساتها، ثم يعدل على أقل السهام بالقيمة، فربما عدل جزء من موضع ثلاثة أجزاء من موضع آخر على قيم الأرضين ومواضعها، فإذا قسمت على هذه الصفات وعدلت كتبت في بطائق أسماء الاشراك وأسماء الجهات، فمن خرج اسمه في جهة أخذ منها، وقيل يرمى بالأسماء في الجهات، فمن خرج اسمه في جهة أخذ منها، فإن كان أكثر من ذلك السهم ضوعف له حتى يتم حظه، فهذه هي حال قرعة السهم في الرقاب. والسهمة إنما جعلها الفقهاء في القسمة تطيبا لنفوس المتقاسمين، وهي موجودة في الشرع في مواضع: منها قوله تعالى: * (فساهم فكان من المدحضين) * وقوله: * (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) * ومن ذلك الأثر الثابت الذي جاء فيه أن رجلا أعتق ستة أعبد عند موته، فأسهم رسول الله (ص) بينهم، فأعتق ثلث ذلك الرقيق. وأما القسمة بالتراضي سواء أكانت بعد تعديل وتقويم، أو بغير تقويم وتعديل، فتجوز في الرقاب المتفقة والمختلفة لأنه بيع من البيوع، وإنما يحرم فيها ما يحرم في البيوع. الفصل الثاني: في العروض وأما الحيوان والعروض، فاتفق الفقهاء على أنه لا يجوز قسمة واحد منهما للفساد الداخل في ذلك. واختلفوا إذا تشاح الشريكان في العين الواحدة منهما، ولم يتراضيا بالانتفاع بها على الشياع، وأراد أحدهما أن يبيع صاحبه معه، فقال مالك وأصحابه: يجبر على ذلك، فإن أراد أحدهما أن يأخذه بالقيمة التي أعطي فيها أخذه، وقال أهل الظاهر: لا
216 يجبر، لان الأصول تقتضي أن لا يخرج ملك أحد من يده إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع. وحجة مالك أن في ترك الاجبار ضررا، وهذا من باب القياس المرسل وقد قلنا في غير ما موضع إنه ليس يقول به أحد من فقهاء الأمصار إلا مالك، ولكنه كالضروري في بعض الأشياء. وأما إذا كانت العروض أكثر من جنس واحد، فاتفق العلماء على قسمتها على التراضي، واختلفوا في قسمتها بالتعديل والسهمة، فأجازها مالك وأصحابه في الصنف الواحد ومنع من ذلك عبد العزيز بن أبي سلمة وابن الماجشون. واختلف أصحاب مالك في تمييز الصنف الواحد الذي تجوز فيه السهمة من التي لا تجوز فاعتبره أشهب بما لا يجوز تسليم بعضه في بعض. وأما ابن القاسم فاضطرب، فمرة أجاز القسم بالسهمة فيما لا يجوز تسليم بعضه في بعض، فجعل القسمة أخف من السلم، ومرة منع القسمة فيما منع فيه السلم، وقد قيل إن مذهبه أن القسمة في ذلك أخف، وأن مسألة التي يظن من قبلها أن القسمة عنده أشد من السلم تقبل التأويل على أصله الثاني. وذهب ابن حبيب إلى أنه يجمع في القسمة ما تقارب من الصنفين مثل الخز والحرير والقطن والكتان. وأجاز أشهب جمع صنفين في القسمة بالسهمة مع التراضي، وذلك ضعيف لان الغرر لا يجوز بالتراضي. الفصل الثالث: في معرفة أحكامها فأما المكيل والموزون فلا تجوز فيه القرعة باتفاق إلا ما حكى اللخمي، والمكيل أيضا لا يخلو أن يكون صبرة واحدة أو صبرتين فزائدا، فإن كان صنفا واحد، فلا يخلو أن تكون قسمته على الاعتدال بالكيل أو الوزن إذا دعا إلى ذلك أحد الشريكين، ولا خلاف في جواز قسمته على التراضي على التفضيل البين كان ذلك من الربوي أو من غير الربوي: أعني الذي لا يجوز فيه التفاضل، ويجوز ذلك بالكيل المعلوم والمجهول، ولا يجوز قسمته جزافا بغير كيل ولا وزن. وأما إن كانت قسمته تحريا، فقيل لا يجوز في المكيل ويجوز في الموزون، ويدخل في ذلك من الخلاف ما يدخل في جواز بيعه تحريا، وأما إن لم يكن ذلك من صبرة واحدة وكانا صنفين، فإن كان ذلك مما لا يجوز فيه التفاضل فلا تجوز قسمتها على جهة الجمع إلا بالكيل المعلوم فيما يكال، وبالوزن بالصنجة المعروفة فيما يوزن، لأنه إذا كان بمكيال مجهول لم يدر كم يحصل فيه من الصنف الواحد إذا كانا مختلفين من الكيل المعلوم، وهذا كله على مذهب مالك، لان أصل مذهبه أنه يحرم التفاضل في الصنفين إذا تقاربت منافعهما مثل القمح والشعير، وأما إن كان مما يجوز فيه التفاضل فيجوز قسمته على الاعتدال والتفاضل البين المعروف بالمكيال المعروف أو الصنجة المعروفة: أعني على جهة الجمع وإن كانا صنفين، وهذا الجواز كله في المذهب على جهة الرضا. وأما في واجب الحكم فلا تنقسم كل صبرة إلا على حدة، وإذا قسمت كل صبرة على حدة جازت قسمتها بالمكيال المعلوم والمجهول، فهذا كله هو حكم القسمة التي تكون في الرقاب.
217 القول في القسم الثاني: وهو قسمة المنافع فأما قسمة المنافع، فإنها لا تجوز بالسهمة على مذهب ابن القاسم ولا يجبر عليها من أباها، ولا تكون القرعة على قسمة المنافع. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يجبر على قسمة المنافع، وقسمة المنافع هي عند الجميع بالمهايأة، وذلك إما بالأزمان وإما بالأعيان. أما قسمة المنافع بالأزمان فهو أن ينتفع كل واحد منهما بالعين مدة مساوية لمدة انتفاع صاحبه. وأما قسم الأعيان بأن يقسما الرقاب على أن ينتفع كل واحد منهما بما حصل له مدة محدودة والرقاب باقية على أصل الشركة. وفي المذهب في قسمة المنافع بالزمان اختلاف في تحديد المدة التي تجوز فيها القسمة لبعض المنافع دون بعض للاغتلال أو الانتفاع مثل استخدام العبد وركوب الدابة وزراعة الأرض، وذلك أيضا فيما ينقل ويحول، أو لا ينقل ولا يحول. فأما فيما ينقل ويحول فلا يجوز عند مالك وأصحابه في المدة الكثيرة ويجوز في المدة اليسيرة، وذلك في الاغتلال والانتفاع. وأما فيما لا ينقل ولا يحول، فيجوز في المدة البعيدة والأجل البعيد، وذلك في الاغتلال والانتفاع. واختلفوا في المدة اليسيرة فيما ينقل ويحول في الاغتلال فقيل: اليوم لواجد ونحوه، وقيل: لا يجوز ذلك في الدابة والعبد. وأما الاستخدام فقيل يجوز في مثل الخمسة الأيام، وقيل في الشهر وأكثر من الشهر قليلا. وأما التهايؤ في الأعيان بأن يستعمل هذا دارا مدة من الزمان، وهذا دارا تلك المدة بعينها، فقيل يجوز في سكني الدار وزراعة الأرضين، ولا يجوز ذلك في الغلة والكراء إلا في الزمان اليسير، وقيل يجوز على قياس التهايؤ بالأزمان، وكذلك القول في استخدام العبد والدواب يجري القول فيه علل الاختلاف في قسمتها بالزمان. فهذا هو القول في أنواع القسمة في الرقاب، وفي المنافع وفي الشروط المصححة والمفسدة. وبقي من هذا الكتاب القول في الاحكام. القول في الاحكام والقسمة من العقود اللازمة لا يجوز للمتقاسمين نقضها ولا الرجوع فيها إلا بالطوارئ عليها. والطوارئ ثلاثة: غبن، أو وجود عيب، أو استحقاق. فأما الغبن فلا يوجب الفسخ إلا في قسمة القرعة باتفاق في المذهب إلا على قياس من يرى له تأثيرا في البيع، فيلزم على مذهبه أن يؤثر في القسمة. وأما الرد بالعيب، فإنه لا يخلو على مذهب ابن القاسم أن يجد العيب في جل نصيبه أو في أقله، فإن وجده في جل نصيبه، فإنه لا يخلو أن يكون النصيب الذي حصل لشريكه قد فات أو لم يفت، فإن كان قد فات رد الواجد للعيب نصيبه على الشركة وأخذ من شريكه نصف قيمة نصيبه يوم قبضه، وإن كان لم يفت انفسخت القسمة وعادت الشركة إلى أصلها، وإن كان العيب في أقل ذلك رد ذلك الأقل على أصل الشركة فقط، سواء فات نصيب صاحبه أو لم يفت، ورجع على شريكه بنصف
218 قيمة الزيادة ولا يرجع في شئ مما في يده وإن كان قائما بالعيب. وقال أشهب: والذي يفيت الرد قد تقدم في كتاب البيوع. وقال عبد العزيز بن الماجشون: وجود العيب يفسخ القسمة التي بالقرعة ولا يفسخ التي بالتراضي، لان التي بالتراضي هي بيع. وأما التي بالقرعة فهي تمييز حق، وإذا فسخت بالغبن وجب إن تفسخ بالرد بالعيب. وحكم الاستحقاق عند ابن القاسم حكم وجود العيب أن كان المستحق كثيرا وحظ الشريك لم يفت رجع معه شريكا فيما في يديه، وإن كان قد فات رجع عليه بنصف قيمة ما في يديه، وإن كان يسيرا رجع عليه بنصف قيمة ذلك الشئ. وقال محمد: إذا استحق ما في يد أحدهما بطلت القسمة في قسمة القرعة، لأنه قد تبين أن القسمة لم تقع على عدل كقول ابن الماجشون في العيب. وأما إذا طرأ أعلى المال حق فيه مثل طوارئ الدين على التركة بعد القسمة أو طرو الوصية أو طرو وارث، فإن أصحاب مالك اختلفوا في ذلك. فأما إن طرأ الدين قيل في المشهور في المذهب وهو قول ابن القاسم: إن القسمة تنتقض إلا أن يتفق الورثة على أن يعطوا الدين من عندهم، وسواء أكانت حظوظهم باقية بأيديهم أو لم تكن، هلكت بأمر من السماء أو لم تهلك. وقد قيل أيضا إن القسمة إنما تنتقض بيد من بقي في يده حظه ولم تهلك بأمر من السماء، وأما من هلك حظه بأمر من السماء فلا يرجع هو على الورثة بما بقي بأيديهم بعد أداء الدين، وقيل بل تنتقض القسمة ولا بد لحق الله تعالى لقوله: * (من بعد وصية يوصي بها أو دين) * وقيل بل تنقض إلا في حق من أعطي منه ما ينوي به من الدين، وهكذا الحكم في طرو الموصى له على الورثة. وأما طرو الوارث على الشركة بعد القسمة وقبل أن يفوت حظ كل واحد منهم فلا تنتقض القسمة وأخذ من كل واحد حظه إن كان ذلك مكيلا أو موزونا وإن كان حيوانا أو عروضا انتقضت القسمة. وهل يضم كل واحد منهم ما تلف في يده بغير سبب منه؟ فقيل يضمن، وقيل لا يضمن.
219 كتاب الرهون والأصل في هذا الكتاب قوله تعالى: * (ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) والنظر في هذا الكتاب في الأركان وفي الشروط وفي الاحكام، والأركان هي النظر في الراهن والمرهون والمرتهن والشئ الذي فيه الرهن وصفة عقد الرهن. الركن الأول: فأما الراهن فلا خلاف أن من صفته أن يكون غير محجور عليه من أهل السداد، والوصي يرهن لمن يلي النظر عليه إذا كان ذلك سدادا ودعت إليه الضرورة عند مالك وقال الشافعي: يرهن لمصلحة ظاهرة ويرهن المكاتب والمأذون عند مالك. قال سحنون: فإن ارتهن في مال أسلفه لم يجز، وبه قال الشافعي. واتفق مالك والشافعي على أن المفلس لا يجوز رهنه، وقال أبو حنيفة: يجوز، واختلف قول مالك في الذي أحاط المدين بماله هل يجوز رهنه؟ أعني هل يلزم أم لا يلزم؟ فالمشهور عنه أنه يجوز، أعني قبل أن يفلس. والخلاف آيل إلى هل المفلس محجور عليه أم لا؟ وكل من صح أن يكون راهنا صح أن يكون مرتهنا. الركن الثاني: وهو الرهن، قالت الشافعية: يصح بثلاثة شروط: الأول: أن يكون عينا، فإنه لا يجوز أن يرهن الدين. الثاني: أن لا يمتنع إثبات يد الراهن على المرتهن عليه كالمصحف، ومالك يجيز رهن المصحف ولا يقرأ فيه المرتهن، والخلاف مبني على البيع. الثالث: أن تكون العين قابلة للبيع عند حلول الأجل، ويجوز عند مالك أن يرتهن ما لا يحل بيعه في وقت الارتهان كالزرع والثمر لم يبد صلاحه ولا يباع عنده في أداء الدين إلا إذا بدا صلاحه وإن حل أجل الدين، وعن الشافعي قولان في رهن الثمر الذي لم يبد صلاحه، ويباع عنده عند حلول الدين على شرط القطع، قال أبو حامد. والأصح جوازه ويجوز عند مالك رهن ما لم يتعين كالدنانير والدراهم إذا طبع عليها، وليس من شرط الرهن أن يكون
220 ملكا للراهن لا عند مالك ولا عند الشافعي، بل قد يجوز عندهما أن يكون مستعارا. واتفقوا على أن من شرطه أن يكون إقراره في يد المرتهن من قبل الراهن. واختلفوا إذا كان قبض المرتهن له بغصب ثم أقره المغصوب منه في يده رهنا، فقال مالك: يصح أن ينقل الشئ المغصوب من ضمان الغصب إلى ضمان الرهن، فيجعل المغصوب منه الشئ المغصوب رهنا في يد الغاصب قبل قبضه منه وقال الشافعي: لا يجوز بل يبقى على ضمان الغصب إلا أن يقبضه. واختلفوا في رهن المشاع، فمنعه أبو حنيفة وأجازه مالك والشافعي والسبب في الخلاف: هل تمكن حيازة المشاع أم لا تمكن؟ الركن الثالث: وهو الشئ المرهون فيه، وأصل مذهب مالك في هذا أنه يجوز أن يؤخذ الرهن في جميع الأثمان الواقعة في جميع البيوعات إلا الصرف ورأس المال في السلم المتعلق بالذمة، وذلك لان الصرف من شرطه التقابض. فلا يجوز فيه عقدة الرهن، وكذلك رأس مال السلم وإن كان عنده دون الصرف في هذا المعنى. وقال قوم من أهل الظاهر: لا يجوز أخذ الرهن إلا في السلم خاصة: أعني في المسلم فيه، وهؤلاء ذهبوا إلى ذلك لكون آية الرهن واردة في الدين في المبيعات وهو السلم عندهم، فكأنهم جعلوا هذا شرطا من شروط صحة الرهن، لأنه قال في أول آية: * (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) * ثم قال: * (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) * فعلى مذهب مالك يجوز أخذ الرهن في السلم وفي القرض وفي قيم المتلفات وفي أروش الجنايات في الأموال، وفي جراح العمد الذي لا قود فيه كالمأمومة والجائفة. وأما قتل العمد والجراح التي يقاد منها فيتخرج في جواز أخذ الرهن في الدية فيها إذا عفا الولي قولان: أحدهما: أن ذلك يجوز، وذلك على القول بأن الولي مخير في العمد بين الدية والقود. والقول الثاني: أما ذلك لا يجوز، وذلك أيضا مبني على أن ليس للولي إلا القود فقط إذا أبى الجاني من إعطاء الدية. ويجوز في قتل الخطأ أخذ الرهن ممن يتعين من العاقلة وذلك بعد الحلول، ويجوز في العارية التي تضمن، ولا يجوز فيما لا يضمن، ويجوز أخذه في الإجارات، ويجوز في الجعل بعد العمل، ولا يجوز قبله، ويجوز الرهن في المهر، ولا يجوز في الحدود ولا في القصاص ولا في الكتابة، وبالجملة فيما لا تصح فيه الكفالة. وقالت الشافعية: المرهون فيه له شرائط ثلاث: أحدها: أن يكون دينا، فإنه لا يرهن في عين. والثاني: أن يكون واجبا، فإنه لا يرهن قبل الوجوب، مثل أن يسترهنه بما يستقرضه، ويجوز ذلك عند مالك. والثالث: أن لا يكون لزمه متوقعا أن يجب، وأن لا يجب كالرهن في الكتابة، وهذا المذهب قريب من مذهب مالك.
221 القول في الشروط وأما شروط الرهن، فالشروط المنطوق بها في الشرع ضربان: شروط صحة، وشروط فساد. فأما شروط الصحة المنطوق بها في الرهن: أعني في كونه رهنا فشرطان: أحدهما: متفق عليه بالجملة ومختلف في الجهة التي بها شرط وهو القبض. والثاني: مختلف في اشتراطه. فأما القبض فاتفقوا بالجملة على أنه شرط في الرهن لقوله تعالى: * (فرهان مقبوضة) * واختلفوا هل هو شرط تمام أو شرط صحة؟ وفائدة الفرق أن من قال شرط صحة قال: ما لم يقع القبض لم يلزم الرهن الراهن، ومن قال شرط تمام قال: يلزم العقد ويجبر الراهن على الاقباض إلا أن يتراخى المرتهن عن المطالبة حتى يفلس الراهن أو يمرض أو يموت، فذهب مالك إلى أنه من شروط التمام، وذهب أبو حنيفة والشافعي وأهل الظاهر إلى أنه من شروط الصحة. وعمدة مالك قياس الرهن على سائر العقود اللازمة بالقول. وعمدة الغير قوله تعالى: * (فرهان مقبوضة) * وقال بعض أهل الظاهر: لا يجوز الرهن إلا أن يكون هنالك كاتب لقوله تعالى: * (ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) * لا يجوز أهل الظاهر أن يوضع الرهن على يدي عدل، وعند مالك أن من شرط صحة الرهن استدامه القبض، وأنه متى عاد إلى يد الراهن بإذن المرتهن بعارية أو وديعة أو غير ذلك، فقد خرج من اللزوم. وقال الشافعي: ليس استدامة القبض من شرط الصحة، فمالك عم الشرط على ظاهره، فألزم من قوله تعالى: * (فرهان مقبوضة) * وجود القبض واستدامته. والشافعي يقول: إذا وجد القبض فقد صح الرهن وانعقد، فلا يحل ذلك إعارته ولا غير ذلك من التصرف فيه كالحال في البيع، وقد كان الأولى بمن يشترط القبض في صحة العقد أن يشترط الاستدامة، ومن لم يشترطه في الصحة أن لا يشترط الاستدامة. واتفقوا على جوازه في السفر. واختلفوا في الحضر، فذهب الجمهور إلى جوازه. وقال أهل الظاهر ومجاهد: لا يجوز في الحضر لظاهر قوله تعالى: * (وإن كنتم على سفر) * الآية. وتمسك الجمهور بما ورد من: أنه (ص) رهن في الحضر والقول في استنباط منع الرهن في الحضر من الآية هو من باب دليل الخطاب. وأما الشرط المحرم الممنوع بالنص فهو أن يرهن الرجل رهنا على أنه إن جاء بحقه عند أجله وإلا فالرهن له فاتفقوا على أن هذا الشرط يوجب الفسخ، وأنه معنى قوله عليه الصلاة والسلام: لا يغلق الرهن. القول في الجزء الثالث من هذا الكتاب وهو القول في الاحكام وهذا الجزء ينقسم إلى معرفة ما للراهن من الحقوق في الرهن وما عليه، وإلى
222 معرفة ما للمرتهن وما عليه، اختلافهما في ذلك، وذلك إما من نفس العقد، وإما لأمور طارئة على الرهن، ونحن نذكر من ذلك ما اشتهر الخلاف فيه بين فقهاء الأمصار، والاتفاق. أما حق المرتهن في الرهن فهو أن يمسكه حتى يؤدي الراهن ما عليه، فإن لم يأت به عند الاجل كان له أن يرفعه إلى السلطان، فيبيع عليه الرهن وينصفه منه إن لم يجبه الراهن إلى البيع، وكذلك إن كان غائبا. وإن وكل الراهن المرتهن على بيع الرهن عند حلول الأجل جاز، وكرهه مالك إلا أن يرفع الامر إلى السلطان. والرهن عند الجمهور يتعلق بجملة الحق المرهون فيه وببعضه، أعني أنه إذا رهنه في عدد ما فأدى منه بعضه، فإن الرهن بأسره يبقى بعد بيد المرتهن حتى يستوفي حقه، وقال قوم: بل يبقى من الرهن بيد المرتهن بقدر ما يبقى من الحق وحجة الجمهور أنه محبوس بحق، فوجب أن يكون محبوسا بكل جزء منه أصله حبس التركة على الورثة حتى يؤدوا الدين الذي على الميت، وحجة الفريق الثاني أن جميعه محبوس بجميعه، فوجب أن يكون أبعاضه محبوسة بأبعاضه، أصله الكفالة. ومن مسائل هذا الباب المشهورة اختلافهم في نماء الرهن المنفصل مثل الثمرة في الشجر المرهون، ومثل الغلة، ومثل الولد هل يدخل في الرهن أم لا؟ فذهب قوم إلى أن نماء الرهن المنفصل لا يدخل شئ منه في الرهن: أعني الذي يحدث منه في يد المرتهن، وممن قال بهذا القول الشافعي، وذهب آخرون إلى أن جميع ذلك يدخل في الرهن، وممن قال بهذا القول أبو حنيفة والثوري وفرق مالك فقال: ما كان من نماء الرهن المنفصل على خلقته وصورته، فإنه داخل في الرهن كولد الجارية مع الجارية وأما ما لم يكن على خلقته فإنه لا يدخل في الرهن كان متولدا عنه كثمر النخل أو غير متولد ككراء الدار وخراج الغلام. وعمدة من رأى أن نماء الرهن وغلته للراهن قوله عليه الصلاة والسلام: الرهن محلوب ومركوب قالوا: ووجه الدليل من ذلك أنه لم يرد بقوله مركوب ومحلوب أي يركبه الراهن ويحلبه، لأنه كأن يكون غير مقبوض، وذلك مناقض لكونه رهنا، فإن الرهن من شرطه القبض، قالوا: ولا يصح أن يكون معناه أن المرتهن يحلبه ويركبه، فلم يبق إلا أن يكون المعنى في ذلك أن أجرة ظهره لربه ونفقته عليه. واستدلوا أيضا بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه قالوا: ولأنه نماء زائد على ما رضيه رهنا، فوجب أن لا يكون له إلا بشرط زائد. وعمدة أبي حنيفة أن الفروع تابعة للأصول فوجب لها حكم الأصل، ولذلك حكم الولد تابع لحكم أمه في التدبير والكتابة، وأما مالك فاحتج بأن الولد حكمه حكم أمه في البيع: أي هو تابع لها، وفرق بين الثمر والولد في ذلك بالسنة المفرقة في ذلك، وذلك أن الثمر لا يتبع بيع الأصل إلا بالشرط وولد الجارية يتبع بغير شرط. والجمهور على أن ليس للمرتهن أن ينتفع
223 بشئ من الرهن، وقال قوم: إذا كان الرهن حيوانا فللمرتهن أن يحلبه ويركبه بقدر ما يعلفه وينفق عليه، وهو قول أحمد وإسحاق، واحتجوا بما وراء أبو هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: الرهن محلوب ومركوب. ومن هذا الباب اختلافهم في الرهن يهلك عند المرتهن: ممن ضمانه؟ فقال قم: الرهن أمانة وهو من الراهن، والقول قول المرتهن مع يمينه أنه ما فرط فيه وما جنى عليه، وممن قال بهذا القول الشافعي وأحمد وأبو ثور وجمهور أهل الحديث، وقال قوم الرهن من المرتهن ومصيبته منه، وممن قال بهذا القول أبو حنيفة وجمهور الكوفيين. والذين قالوا بالضمان انقسموا قسمين: فمنهم من رأى أن الرهن مضمون بالأقل من قيمته أو قيمة الدين، وبه قال أبو حنيفة وسفيان وجماعة. ومنهم من قال: هو مضمون بقيمته قلت أو كثرت. وأنه إن فضل للراهن شئ فوق دينه أخذه من المرتهن، وبه قال علي بن أبي طالب وعطاء وإسحاق. وفرق قوم بين ما لا يغاب عليه مثل الحيوان والعقار مما لا يخفى هلاكه، وبين ما يغاب عليه من العروض، فقالوا: هو ضامن فيما يغاب عليه ومؤتمن فيما لا يغاب عليه. وممن قال بهذا القول مالك والأوزاعي وعثمان البتي، إلا أن مالكا يقول: إذا شهد الشهود بهلاك ما يغاب عليه من غير تضييع ولا تفريط. فإنه لا يضمن وقال الأوزاعي وعثمان البتي: بل يضمن على كل حال قامت بينة أو لم تقم، ويقول مالك قال ابن القاسم. ويقول عثمان والأوزاعي قال أشهب. وعمدة من جعله أمانة غير مضمونة حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي (ص) قال: لا يغلق الرهن وهو ممن رهنه: له غنمه وعليه غرمه: أي له غلته وخراجه. وعليه افتكاكه ومصيبته منه. قالوا: وقد رضي الراهن أمانته فأشبه المودع عنده. وقال المزني من أصحاب الشافعي محتجا له: قد قال مالك ومن تابعه إن الحيوان وما ظهر هلاكه أمانة، فوجب أن يكون كله كذلك. وقد قال أبو حنيفة: إن ما زاد من قيمة الرهن على قيمة الدين فهو أمانة فوجب أن يكون كله أمانة، ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام عند مالك ومن قال بقوله: وعليه غرمه أي نفقته. قالوا ومعنى ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: الرهن مركوب ومحلوب أي أجرة ظهره لربه. ونفقته عليه. وأما أبو حنيفة وأصحابه فتأولوا قوله عليه الصلاة والسلام: له غنمه وعليه غرمه أن غنمه ما فضل منه على الدين. وغرمه ما نقص. وعمدة من رأى أنه مضمون من المرتهن أنه عين تعلق بها حق الاستيفاء ابتداء فوجب أن تسقط بتلفه، أصله تلف المبيع عند البائع إذا أمسكه حتى يستوفي الثمن، وهذا متفق عليه من الجمهور، وإن كان عند مالك كالرهن، وربما احتجوا بما روي عن النبي (ص) أن رجلا ارتهن فرسا من رجل، فنفق في يده، فقال عليه الصلاة والسلام للمرتهن: ذهب حقك. وأما تفريق مالك بين ما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه فهو استحسان، ومعنى ذلك أن التهمة تلحق فيما يغاب عليه، ولا تلحق فيما لا يغاب عليه. وقد اختلفوا في معنى
224 الاستحسان الذي يذهب إليه مالك كثيرا، فضعفه قوم وقالوا: إنه مثل استحسان أبي حنيفة، وحددوا الاستحسان بأنه قول بغير دليل. ومعنى الاستحسان عند مالك هو جمع بين الأدلة المتعارضة، وإذا كان ذلك كذلك فليس هو قول بغير دليل. والجمهور على أنه لا يجوز للراهن بيع الرهن ولا هبته. وأنه إن باعه فللمرتهن الإجازة أو الفسخ. قال مالك: وإن زعم أن إجازته ليتعجل حقه حلف على ذلك وكان له. وقال قوم: يجوز بيعه. وإذا كان الرهن غلاما أو أمة فأعتقها الراهن فعند مالك أنه إن كان الراهن موسرا جاز عتقه وعجل للمرتهن حقه، وإن كان معسرا بيعت وقضى الحق من ثمنها. وعند الشافعي ثلاثة أقوال: الرد، والإجازة، والثالث مثل قول مالك. وأما اختلاف الراهن والمرتهن في قدر الذي وجب به الرهن، فإن الفقهاء اختلفوا في ذلك، فقال مالك: القول قول المرتهن فيما ذكره من قدر الحق ما لم تكن قيمة الرهن أقل من ذلك، فما زاد على قيمة الرهن فالقول قول الراهن. وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجمهور فقهاء الأمصار القول في قدر الحق قول الراهن. وعمدة الجمهور أن الراهن مدعى عليه، والمرتهن مدع، فوجب أن تكون اليمين على الراهن على ظاهر السنة المشهورة. وعمدة مالك ههنا أن المرتهن وإن كان مدعيا فله ههنا شبهة بنقل اليمين إلى حيزه، وهو كون الرهن شاهدا له، ومن أصوله أن يحلف أقوى المتداعيين شبهة، وهذا لا يلزم عند الجمهور، لأنه قد يرهن الراهن الشئ وقيمته أكثر من المرهون فيه. وأما إذا تلف الرهن - واختلفوا في صفته - فالقول ههنا عند مالك قول المرتهن لأنه مدعى عليه، وهو مقر ببعض ما ادعي عليه وهذا على أصوله، فإن المرتهن أيضا هو الضامن فيما يغاب عليه. وأما على أصول الشافعي، فلا يتصور على المرتهن يمين إلا أن يناكره الراهن في إتلافه. وأما عند أبي حنيفة فالقول قول المرتهن في قيمة الرهن، وليس يحتاج إلى صفة، لان عند مالك يحلف على الصفة وتقويم تلك الصفة. وإذا اختلفوا في الامرين جميعا، أعني في صفة الرهن وفي مقدار الرهن كان القول قول المرتهن في صفة الرهن وفي الحق ما كانت قيمته الصفة التي حلف عليها شاهدة له، وفيه ضعف. وهل يشهد الحق لقيمة الرهن إذا اتفقا في الحق واختلفا في قيمة الرهن؟ في المذهب فيه قولان، والأقيس الشهادة، لأنه إذا شهد الرهن للدين شهد الدين للمرهون. وفروع هذا الباب كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية في غرضنا.
225 كتاب الحجر والنظر في هذا الكتاب في ثلاثة أبواب: الباب الأول: في أصناف المحجورين الثاني: متى يخرجون من الحجر، ومتى يحجر عليهم، وبأي شروط يخرجون. الثالث: في معرفة أحكام أفعالهم في الرد والإجازة. الباب الأول: في أصناف المحجورين أجمع العلماء على وجوب الحجر على الأيتام الذين لم يبلغوا الحلم لقوله تعالى: * (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح) * الآية. واختلفوا في الحجر على العقلاء الكبار إذا ظهر منهم تبذير لأموالهم، فذهب مالك والشافعي وأهل المدينة وكثير من أهل العراق إلى جواز ابتداء الحجر عليهم بحكم الحاكم، وذلك إذا ثبت عنده سفههم وأعذر إليهم فلم يكن عندهم مدفع، وهو رأي ابن عباس وابن الزبير. وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل العراق إلى أنه لا يبتدأ الحجر على الكبار، وهو قول إبراهيم وابن سيرين وهؤلاء انقسموا قسمين: فمنهم من قال: الحجر لا يجوز عليهم بعد البلوغ بحال وإن ظهر منهم التبذير. ومنهم من قال: إن استصحبوا التبذير من الصغر يستمر الحجر عليهم وإن ظهر منهم رشد بعد البلوغ ثم ظهر منهم سفه، فهؤلاء لا يبدأ بالحجر عليهم. وأبو حنيفة يحد في ارتفاع الحجر وإن ظهر سفهه خمسة وعشرين عاما. وعمدة من أوجب على الكبار ابتداء الحجر أن الحجر على الصغار إنما وجب لمعنى التبذير الذي يوجد فيهم غالبا، فوجب أن يجب الحجر على من وجد فيه هذا المعنى وإن لم يكن صغيرا، قالوا: ولذلك اشترط في رفع الحجر عنهم مع ارتفاع الصغر إيناس الرشد، قال الله تعالى: * (فإن آنستم رشدا فادفعوا إليها أموالهم) * فدل هذا على أن السبب المقتضي للحجر هو السفه. وعمدة الحنفية حديث حبان بن منقذ إذ ذكر فيه لرسول الله (ص) أنه يخدع. فجعل له
226 رسول الله (ص) الخيار ثلاثا ولم يحجر عليه وربما قالوا: الصغر هو المؤثر في منع التصرف بالمال، بدليل تأثيره في اسقاط التكليف، وإنما اعتبر الصغر لأنه الذي يوجد فيه السفه غالبا كما يوجد فيه نقص العقل غالبا ولذلك جعل البلوغ علامة وجوب التكليف وعلامة الرشد، إذا كانا يوجدان فيه غالبا، أعني العقل والرشد، وكما لم يعتبر النادر في التكليف، أعني أن يكون قبل البلوغ عاقلا فيكلف، كذلك لم يعتبر النادر في السفه، وهو أن يكون بعد البلوغ سفيها فيحجر عليه، كما لم يعتبر كونه قبل البلوغ رشيدا. قالوا: وقوله تعالى: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * الآية، ليس فيها أكثر من منعهم من أموالهم، وذلك لا يوجب فسخ بيوعها وإبطالها. والمحجورون عن مالك ستة: الصغير، والسفيه، والعبد، والمفلس، والمريض، والزوجة. وسيأتي ذكر كل واحد منهم في بابه. الباب الثاني: متى يخرجون من الحجر، ومتى يحجر عليهم وبأي شروط يخرجون؟ والنظر في هذا الباب في موضعين: في وقت خروج الصغار من الحجر، ووقت خروج السفهاء. فنقول: إن الصغار بالجملة صنفان: ذكور، وإناث، وكل واحد من هؤلاء إما ذو أب، وإما ذو وصي، وإما مهمل، وهم الذين يبلغون ولا وصي لهم ولا أب. فأما الذكور الصغار ذوو الآباء فاتفقوا على أنهم لا يخرجون من الحجر إلا ببلوغ سن التكليف وإيناس الرشد منهم، وإن كانوا قد اختلفوا في الرشد ما هو، وذلك لقوله تعالى: * (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) * واختلفوا في الإناث، فذهب الجمهور إلى أن حكمهن في ذلك حكم الذكور أعني بلوغ المحيض وإيناس الرشد، وقال مالك: هي في ولاية أبيها في المشهور عنه حتى تتزوج ويدخل بها زوجها ويؤنس رشدها. وروي عنه مثل قول الجمهور، ولأصحاب مالك في هذا أقوال غير هذه قيل إنها في ولاية أبيها حتى يمر بها سنة بعد دخول زوجها بها، وقيل حتى يمر بها عامان، وقيل حتى تمر بها سبعة أعوام. وحجة مالك أن إيناس الرشد لا يتصور من المرأة إلا بعد اختبار الرجال. وأما أقاويل أصحابه فضعيفة مخالفة للنص والقياس، أما مخالفتها للنص، فإنهم لم يشترطوا الرشد، وأما مخالفتها للقياس، فلان الرشد ممكن تصوره منها قبل هذه المدة المحدودة، وإذا قلنا على قول مالك لا على قول الجمهور إن الاعتبار في الذكور ذوي الآباء البلوغ وإيناس الرشد، فاختلف قول مالك إذا بلغ ولم يعلم سفهه من رشده وكان مجهول الحال، فقيل عنه إنه محمول على السفه حتى يتبين
227 رشده، وهو المشهور، وقيل عنه إنه محمول على الرشد حتى يتبين سفهه. فأما ذوو الأوصياء فلا يخرجون من الولاية في المشهور عن مالك إلا بإطلاق وصية له من الحجر: أي يقول فيه إنه رشيد إن كان مقدما من قبل الأب بلا خلاف أو بإذن القاضي مع الوصي إن كان مقدما من غير الأب على اختلاف في ذلك. وقد قيل في وصي الأب إنه لا يقبل قوله في أنه رشيد إلا حتى يعلم رشده وقد قيل إن حاله مع الوصي كحاله مع الأب يخرجه من الحجر إذا آنس منه الرشد وإن لم يخرجه وصيه بالاشهاد، وأن المجهول الحال في هذا حكمه حكم المجهول الحال ذي الأب. وأما ابن القاسم فمذهبه أن الولاية غير معتبر ثبوتها إذا علم الرشد، ولا سقوطها إذا علم السفه. وهي رواية عن مالك، وذلك من قوله في اليتيم لا في البكر، والفرق بين المذهبين أن من يعتبر الولاية يقول أفعاله كلها مردودة وإن ظهر رشده حتى يخرج من الولاية، وهو قول ضعيف، فإن المؤثر هو الرشد لا حكم الحاكم. وأما اختلافهم في الرشد ما هو؟ فإن مالكا يرى أن الرشد هو تثمير المال واصلاحه فقط، والشافعي يشترط مع هذا صلاح الدين. وسبب اختلافهم: هل ينطلق اسم الرشد على غير صالح الدين؟. وحال البكر مع الوصي كحال الذكر لا تخرج من الولاية إلا بالاخراج ما لم تعنس على اختلاف في ذلك. وقيل حالها مع الوصي كحالها مع الأب وهو قول بن الماجشون. ولم يختلف قولهم: وإنه لا يعتبر فيها الرشد كاختلافهم في اليتيم. وأما المهمل من الذكور فإن المشهور أن أفعاله جائزة إذا بلغ الحلم كان سفيها متصل السفه أو غير متصل السفه، معلنا به أو غير معلن. وأما ابن القاسم فيعتبر نفس فعله إذا وقع، فإن كان رشدا جاز وإلا رده. فأما اليتيمة التي لا أب لها ولا وصي فإن فيها في المذهب قولين: أحدهما: أن أفعالها جائزة إذا بلغت المحيض. والثاني: أفعالها مردودة ما لم تعنس وهو المشهور. الباب الثالث: في معرفة أحكام أفعالهم في الرد والإجازة والنظر في هذا الباب في شيئين: أحدهما ما يجوز لصنف صنف من المحجورين من الأفعال، وإذ فعلوا فكيف حكم أفعالهم في الرد والإجازة؟، وكذلك أفعال المهملين الذين بلغوا الحلم من غير أب ولا وصي، وهؤلاء كما قلنا إما صغار وإما كبار متصلو الحجر من الصغر وإما مبتدأ حجرهم. فأما الصغار الذين لم يبلغوا الحلم من الرجال ولا المحيض من النساء فلا خلاف في المذهب في أنه لا يجوز له في ماله معروف من هبة ولا صدقة ولا عطية ولا عتق وإن أذن له الأب في ذلك أو الوصي، فإن أخرج من يده شيئا بغير عوض كان موقوفا على نظر وليه إن كان له ولي، فإن رآه رشدا أجازه وإلا أبطله، وإن لم يكن له ولي قدم له ولي ينظر في ذلك، وإن عمل في ذلك حتى يلي أمره كان النظر إليه في الإجازة أو الرد. واختلف إذا كان فعله سدادا ونظرا فيما كان يلزم الولي أن يفعله هل له أن ينقضه إذا آل الامر إلى خلاف بحوالة الأسواق أو نماء فيما باعه أو نقصان فيما ابتاعه؟، فالمشهور أن ذلك له، وقيل إن ذلك ليس له، ويلزم الصغير ما أفسد في ماله مما لم يؤتمن عليه. واختلف فيما أفسد وكسر مما اؤتمن عليه،
228 ولا يلزمه بعد بلوغه ورشده عتق ما حلف بحريته في صغره وحنث به في صغره. واختلف فيما حنث فيه في كبره وحلف به في صغره، فالمشهور أنه لا يلزمه. وقال ابن كنانة: يلزمه ولا يلزمه فيما ادعي عليه يمين. واختلف إذا كان له شاهد واحد هل يحلف معه؟ فالمشهور أنه لا يحلف، وروي عن مالك والليث أنه يحلف. وحال البكر ذات الأب والوصي كالذكر ما لم تعنس على مذهب من يعتبر تعنيسها. فأما السفيه البالغ، فجمهور العلماء على أن المحجور إذا طلق زوجته أو خالعها مضى طلاقه وخلعه، إلا ابن أبي ليلى وأبا يوسف، وخالف ابن أبي ليلى في العتق فقال: إنه ينفذ، وقال الجمهور: إنه لا ينفذ. وأما وصيته فلا أعلم خلافا في نفوذها، ولا تلزمه هبة ولا صدقة ولا عطية ولا عتق ولا شئ من المعروف إلا أن يعتق أم ولده، فيلزمه عتقها، وهذا كله في المذهب، وهل يتبعها مالها؟ فيه خلاف، قيل يتبع، وقيل لا يتبع، وقيل بالفرق بين القليل والكثير. وأما ما يفعله بعوض، فهو أيضا موقوف على نظر وليه إن كان له ولي، فإن لم يكن له ولي قدم له ولي. فإن رد بيعه الولي وكان قد أتلف الثمن لم يتبع من ذلك بشئ، وكذلك إن أتلف عين المبيع. وأما أحكام أفعال المحجورين أو المهملين على مذهب مالك فإنها تنقسم إلى أربعة أحوال: فمنهم من تكون أفعاله كلها مردودة، وإن كان فيها ما هو رشد. ومنهم ضد هذا، وهو أن تكون أفعاله كلها محمولة على الرشد وإن ظهر فيها ما هو سفه. ومنهم من تكون أفعاله كلها محمولة على السفه ما لم يتبين رشده، وعكس هذا أيضا أن تكون أفعاله كلها محمولة الرشد حتى يتبين سفهه. فأما الذي يحكم له بالسفه وإن ظهر رشده فهو الصغير الذي لم يبلغ، والبكر ذات الأب والوصي ما لم تعنس على مذهب من يعتبر التعنيس. واختلف في حده اختلافا كثيرا من دون الثلاثين إلى الستين، والذي يحكم له بحكم الرشد وإن علم سفهه، فمنها السفيه إذا لم تثبت عليه ولاية من قبل أبيه، ولا من قبل السلطان على مشهور مذهب مالك، خلافا لابن القاسم الذي يعتبر نفس الرشد لا نفس الولاية، والبكر اليتيمة المهملة على مذهب سحنون. وأما الذي يحكم عليه بالسفه بحكم ما لم يظهر رشده: فالابن بعد بلوغه في حياة أبيه على المشهور في المذهب، وحال البكر ذات الأب التي لا وصي لها إذا تزوجت ودخل بها زوجها ما لم يظهر رشدها وما لم تبلغ الحد المعتبر في ذلك من السنين عند من يعتبر ذلك، وكذلك اليتيمة التي لا وصي لها على مذهب من يرى أن أفعالها مردودة. وأما الحال التي يحكم فيها بحكم الرشد حتى يتبين السفه: فمنها حال البكر المعنس عند من يعتبر التعنيس، أو التي دخل بها زوجها ومضى لدخوله الحد المعتبر من السنين عند من يعتبر الحد، وكذلك حال الابن ذي الأب إذا بلغ وجهلت حاله على إحدى الروايتين، والابنة البكر بعد بلوغها على الرواية التي لا تعتبر فيها دخولها مع زوجها. فهذه هي جمل ما في هذا الكتاب والفروع كثيرة.
229 كتاب التفليس والنظر في هذا الكتاب فيما هو الفلس، وفي أحكام المفلس، فنقول: إن الافلاس في الشرع يطلق على معنيين: أحدهما: أن يستغرق الدين مال المدين، فلا يكون في ماله وفاء بديونه. والثاني: أن لا يكون له مال معلوم أصلا، وفي كلا الفلسين قد اختلف العلماء في أحكامهما. فأما الحالة الأولى: وهي إذا ظهر عند الحاكم من فلسه ما ذكرنا، فاختلف العلماء في ذلك هل للحاكم أن يحجر عليه التصرف في ماله حتى يبيعه عليه ويقسمه على الغرماء على نسبة ديونهم، أم ليس له ذلك؟ بل يحبس حتى يدفع إليهم جميع ماله على أي نسبة اتفقت أو لمن اتفق منهم، وهذا الخلاف بعينه يتصور فيمن كان له مال يفي بدينه، فأبى أن ينصف غرماءه، هل يبيع عليه الحاكم فيقسمه عليهم، أم يحسبه حتى يعطيهم بيده ما عليه؟ فالجمهور يقولون: يبيع الحاكم ماله عليه، فينصف منه غرماءه أو غريمه إن كان مليا، أو يحكم عليه بالافلاس إن لم يف ماله بديونه ويحجر عليه التصرف فيه، وبه قال مالك والشافعي، بالقول الآخر قال أبو حنيفة وجماعة من أهل العراق. وحجة مالك والشافعي حديث معاذ بن جبل أنه كثر دينه في عهد رسول الله (ص) فلم يزد غرماءه على أن جعله لهم من ماله، وحديث أبي سعيد الخدري أن رجلا أصيب على عهد رسول الله في ثمر ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله (ص): تصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء بدينه، فقال رسول الله (ص): خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا بذلك وحديث عمر في القضاء على الرجل المفلس في حبسه وقوله فيه: أما بعد، فإن الأسيفع أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته بأن يقال سبق الحاج، وأنه أدان معرضا فأصبح قدرين عليه، فمن كان له عليه دين فليأتنا. وأيضا من طريق المعنى فإنه إذا كان المريض محجورا عليه لمكان ورثته، فأحرى أن يكون المدين محجورا عليه لمكان الغرماء، وهذا القول هو الأظهر، لأنه أعدل. والله أعلم. وأما حجج الفريق الثاني الذين قالوا بالحبس حتى يعطي ما عليه أو يموت محبوسا، فيبيع القاضي حينئذ ماله ويقسمه على الغرماء، فمنها حديث جابر بن عبد الله حين استشهد أبوه بأحد وعليه دين، فلما طالبه
230 الغرماء قال جابر: فأتيت النبي (ص) فكلمته، فسألهم أن يقبلوا مني حائطي، ويحللوا أبي، فأبوا، فلم يعطهم رسول الله (ص) حائطي، قال: ولكن سأغدو عليك، قال: فغدا علينا حين أصبح فطاف بالنخل فدعا في ثمرها بالبركة قال: فجذذتها فقضيت منها حقوقهم، وبقي من ثمرها بقية وربما روي أيضا أنه مات أسيد بن الحضير وعليه عشرة آلاف درهم، فدعا عمر بن الخطاب غرماءه، فقبلهم أرضه وأربع سنين مما لهم عليه. قالوا: فهذه الآثار كلها ليس فيها أنه بيع أصل في دين. قالوا: ويدل على حبسه قوله (ص): لي الواجد يحل عرضه وعقوبته قالوا: والعقوبة هي حبسه. وربما شبهوا استحقاق أصول العقار عليه باستحقاق إجازته، وإذا قلنا إن المفلس محجور عليه، فالنظر في ماذا يحجر عليه؟ وبأي ديون تكون المحاصة في ماله؟ وفي أي شئ من ماله تكون المحاصة؟ وكيف تكون؟. فأما المفلس فله حالان: حال في وقت الفلس قبل الحجر عليه، وحال بعد الحجر. فأما قبل الحجر فلا يجوز له إتلاف شئ من ماله عند مالك بغير عوض إذا كان مما لا يلزمه ومما لا تجري العادة بفعله، وإنما اشترط إذا كان مما لا يلزمه، لان له أن يفعل ما يلزم بالشرع وإن لم يكن بعوض كنفقته على الآباء المعسرين أو الأبناء، وإنما قيل مما لم تجر العادة بفعله، لان له إتلاف اليسير من ماله بغير عوض كالأضحية والنفقة في العيد والصدقة اليسيرة، وكذلك تراعى العادة في إنفاقه في عوض كالتزوج والنفقة على الزوجة ويجوز بيعه وابتياعه ما لم تكن فيه محاباة، وكذلك يجوز إقراره بالدين لمن لا يتهم عليه. واختلف قول مالك في قضاء بعض غرمائه دون بعض وفي رهنه. وأما جمهور من قال بالحجر على المفلس فقالوا: هو قبل الحكم كسائر الناس، وإنما ذهب الجمهور لهذا لان الأصل هو جواز الأفعال حتى يقع الحجر، ومالك كأنه اعتبر المعنى نفسه، وهو إحاطة الدين بماله لكن لم يعتبره في كل حال، لأنه يجوز بيعه وشراؤه إذا لم يكن فيه محاباة، ولا يجوزه للمحجور عليه. وأما حاله بعد التفليس فلا يجوز له فيها عند مالك بيع ولا شراء ولا أخذ ولاعطاء، ولا يجوز إقراره بدين في ذمته لقريب ولا بعيد. قيل إلا إن يكون لواحد منهم بينة، وقيل يجوز لمن يعلم منه إليه تقاض. واختلف في إقراره بمال معين مثل القراض والوديعة على ثلاثة أقوال في المذهب: بالجواز، والمنع. والثالث: بالفرق بين أن يكون على أصل القراض أو الوديعة ببينة أو لا تكون، فقيل إن كانت صدق وإن لم تكن لم يصدق. واختلفوا من هذا الباب في ديون المفلس المؤجلة هل تحل بالتفليس أم لا؟ فذهب مالك إلى أن التفليس في ذلك كالموت، وذهب غيره إلى خلاف ذلك. وجمهور العلماء على أن الديون تحل بالموت، وقال ابن شهاب مضت السنة بأن دينه قد حل حين مات. وحجتهم أن الله تبارك وتعالى لم يبح التوارث إلا بعد قضاء الدين، فالورثة في ذلك بين أحد أمرين: إما أن لا يريد وأن يؤخروا حقوقهم في المواريث إلى محل أجل الدين
231 فيلزم أن يجعل الدين حالا، وإما أن يرضوا بتأخير ميراثهم حتى تحل الديون فتكون الديون حينئذ مضمونة في التركة خاصة لا في ذممهم، بخلاف ما كان عليه الدين قبل الموت، لأنه كان في ذمة الميت، وذلك يحسن في حق ذي الدين. ولذلك رأى بعضهم أنه إن رضي الغرماء بتحمله في ذممهم أبقيت الديون إلى أجلها، وممن قال بهذا القول ابن سيرين، واختاره أبو عبيد من فقهاء الأمصار، لكن لا يشبه الفلس في هذا المعنى الموت كل الشبه، وإن كانت كلا الذمتين قد خرجت فإن ذمة المفلس يرجى المال لها بخلاف ذمة الميت. وأما النظر فيما يرجع به أصحاب الديون من مال المفلس فإن ذلك يرجع إلى الجنس والقدر. أما ما كان قد ذهب عين العوض الذي استوجب من قبله الغريم على المفلس فإن دينه في ذمة المفلس. وأما إذا كان عين العوض باقيا بعينه لم يفت إلا أنه لم يقبض ثمنه، فاختلف في ذلك فقهاء الأمصار على أربعة أقوال: الأول: أن صاحب السلعة أحق بها على كل حال إلا أن يتركها ويختار المحاصة، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور. القول الثاني: ينظر إلى قيمة السلعة يوم الحكم بالتفليس فإن كانت أقل من الثمن خير صاحب السلعة بين أن يأخذها أو يحاص الغرماء، وإن كانت أكثر أو مساوية للثمن أخذها بعينها، وبه قال مالك وأصحابه. القول الثالث: تقوم السلعة بين التفليس، فإن كانت قيمتها مساوية للثمن أو أقل منه قضي له بها: أعني للبائع، وإن كانت أكثر دفع إليه مقدار ثمنه ويتحاصون في الباقي، وبهذا القول قال جماعة من أهل الأثر. والقول الرابع: أنه أسوة الغرماء فيها على كل حال، وهو قول أبي حنيفة وأهل الكوفة، والأصل في هذه المسألة ما ثبت من حديث أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال: أيما رجل أفلس فأدرك الرجل ماله بعينه فهو أحق به من غيره وهذا الحديث خرجه مالك والبخاري ومسلم، وألفاظهم متقاربة، وهذا اللفظ لمالك، فمن هؤلاء من حمله على عمومه وهو الفريق الأول، ومنهم من خصصه بالقياس وقالوا: إن معقوله إنما هو الرفق بصاحب السلعة لكون سلعته باقية، وأكثر ما في ذلك أن يأخذ الثمن الذي باعها به، فأما أن يعطى في هذه الحال الذي اشترك فيها مع الغرماء أكثر من ثمنها فذلك مخالف لأصول الشرع، وبخاصة إذا كان للغرماء أخذها بالثمن كما قال مالك. وأما أهل الكوفة فردوا هذا الحديث بجملته لمخالفته للأصول المتواترة على طريقتهم في رد خبر الواحد إذا خالف الأصول المتواترة لكون خبر الواحد مظنونا، والأصول يقينية مقطوع بها، كما قال عمر في حديث فاطمة بنت قيس: ما كنا لندع كتاب الله وسنة نبينا لحديث امرأة. ورواه عن علي أنه قضى بالسلعة للمفلس، وهو رأي ابن سيرين وإبراهيم من التابعين. وربما احتجوا بأن حديث أبي هريرة مختلف فيه، وذلك أن الزهري روى عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال: أيما رجل مات أو أفلس فوجد بعض غرمائه ماله بعينه فهو أسوة الغرماء وهذا الحديث أولى لأنه
232 موافق للأصول الثابتة. قالوا وللجمع بين الحديثين وجه، وهو حمل ذلك الحديث على الوديعة والعارية. إلا أن الجمهور دفعوا هذا التأويل بما ورد في لفظ حديث أبي هريرة في بعض الروايات من ذكر البيع. وهذا كله عند الجميع بعد قبض المشتري السلعة، فأما قبل القبض فالعلماء متفقون - أهل الحجاز وأهل العراق - أن صاحب السلعة أحق بها لأنها في ضمانه. واختلف القائلون بهذا الحديث إذا قبض البائع بعض الثمن، فقال مالك: إن شاء أن يرد ما قبض ويأخذ السلعة كلها، وإن شاء حاص الغرماء فيما بقي من سلعته، وقال الشافعي: بل يأخذ ما بقي من سلعته بما بقي من الثمن، وقالت جماعة من أهل العلم داود وإسحاق وأحمد: إن قبض من الثمن شيئا فهو أسوة الغرماء. وحجتهم ما روى مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن أن رسول الله (ص) قال: أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع أسوة الغرماء وهو حديث وإن أرسله مالك فقد أسنده عبد الرزاق، وقد روي من طريق الزهري عن أبي هريرة فيه زيادة بيان. وهو قوله، فيه: فإن كان قبض من ثمنه شيئا فهو أسوة الغرماء ذكره أبو عبيد في كتابه في الفقه وخرجه. وحجة الشافعي أن كل السلعة أو بعضها في الحكم واحد، ولم يختلفوا أنه إذا فوت المشتري بعضها أن البائع أحق بالمقدار الذي أدرك من سلعته، إلا عطاء فإنه قال: إذا فوت المشتري بعضها كان البائع أسوة الغرماء. واختلف الشافعي ومالك في الموت هل حكمه حكم الفلس أم لا؟ فقال مالك: هو في الموت أسوة الغرماء، بخلاف الفلس، وقال الشافعي، الامر في ذلك واحد. وعمدة مالك ما رواه عن ابن شهاب عن أبي بكر - وهو نص في ذلك - وأيضا من جهة النظر أن فرقا بين الذمة في الفلس والموت، وذلك أن الفلس ممكن أن تثري حاله فيتبعه غرماؤه بما بقي عليه وذلك غير متصور في الموت. وأما الشافعي فعمدته ما رواه ابن أبي ذئب بسنده عن أبي هريرة قال: قال: رسول الله (ص): أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق به فسوى في هذه الرواية بين الموت والفلس. وقال: وحديث ابن أبي ذئب أولى من حديث ابن شهاب. لان حديث ابن شهاب مرسل وهذا مسند، ومن طريق المعنى فهو مال لا تصرف فيه لمالكه إلا بعد أداء ما عليه، فأشبه مال المفلس، وقياس مالك أقوى من قياس الشافعي، وترجيح حديثه على حديث ابن أبي ذئب من جهة أن موافقة القياس له أقوى، وذلك أن ما وافق من الأحاديث المتعارضة قياس المعنى فهو أقوى مما وافقه قياس الشبه: أعني أن القياس الموافق لحديث الشافعي هو قياس شبه، والموافق لحديث مالك قياس معنى، ومرسل مالك خرجه عبد الرزاق. فسبب الخلاف: تعارض الآثار في هذا المعنى والمقاييس، وأيضا فإن الأصل يشهد لقول مالك في الموت أعني من باع شيئا فليس يرجع إليه، فمالك رحمه الله أقوى في هذه المسألة، والشافعي إنما ضعف
233 عنده فيها قول مالك لما روي من المسند المرسل عنده لا يجب العمل به. واختلف مالك والشافعي فيمن وجد سلعته بعينها عند المفلس وقد أحدث زيادة مثل أن تكون أرضا يغرسها أو عرصة يبنيها، فقال مالك: العمل الزائد فيها هو فوت ويرجع صاحب السلعة شريك الغرماء. وقال الشافعي: بل يخير البائع بين أن يعطي قيمة ما أحدث المشتري في سلعته ويأخذها، أو أن يأخذ أصل السلعة ويحاص الغرماء في الزيادة، وما يكون فوتا مما لا يكون فوتا في مذهب مالك منصوص في كتبه المشهورة. وتحصيل مذهب مالك فيما يكون الغريم به أحق من سائر الغرماء في الموت والفلس، أو في الفلس دون الموت أن الأشياء المبيعة بالدين تنقسم في التفليس ثلاثة أقسام: عرض يتعين، وعين اختلف فيه هل يتعين فيه أم لا؟ وعمل لا يتعين. فأما العرض فإن كان في يد بائعه لم يسلمه حتى أفلس المشتري، فهو أحق به في الموت والفلس، وهذا ما لا خلاف فيه. وإن كان قد دفعه إلى المشتري ثم أفلس وهو قائم) بيده فهو أحق به من الغرماء في الفلس دون الموت. ولهم عند أن يأخذوا سلعته بالثمن. وقال الشافعي: ليس لهم. وقال أشهب: لا يأخذونها إلا بزيادة يحطونها عن المفلس، وقال ابن الماجشون: إن شاءوا كان الثمن من أموالهم أو من مال الغريم، وقال ابن كنانة: بل يكون من أموالهم وأما العين فهو أحق بها في الموت أيضا، والفلس ما كان بيده. واختلف إذا دفعه إلى بائعه فيه ففلس أو مات وهو قائم بيده يعرف بعينه، فقيل إنه أحق به كالعروض في الفلس دون الموت وهو قول ابن القاسم، وقيل إنه لا سبيل له عليه، وهو أسوة الغرماء، وهو قول أشهب، والقولان جاريان على الاختلاف في تعيين العين، وأما إن لم يعرف بعينه فهو أسوة الغرماء في الموت والفلس. وأما العمل الذي لا يتعين فإن أفلس المستأجر قبل أن يستوفي عمل الأجير كان الأجير أحق بما عمله في الموت والفلس جميعا، كالسلعة إذا كانت بيد البائع في وقت الفلس، وإن كان فلسه بعد أن استوفى عمل الأجير فالأجير أسوة الغرماء بأجرته التي شارطه عليها في الفلس والموت جميعا على أظهر الأقوال، إلا أن تكون بيده السلعة التي استؤجر على عملها، فيكون أحق بذلك في الموت والفلس جميعا، لأنه كالرهن بيده، فإن أسلمه كان أسوة الغرماء بعمله إلا أن يكون له فيه شئ أخرجه فيكون أحق به في الفلس دون الموت، وكذلك الامر عنده في فلس مكتري الدواب إن استكرى أحق بما عليه من المتاع في الموت والفلس جميعا، وكذلك مكتري السفينة، وهذا كله شبهه مالك بالرهن. وبالجملة فلا خلاف في مذهبه أن البائع أحق بما في يديه في الموت والفلس، وأحق بسلعته القائمة الخارجة عن يده في الفلس دون الموت. وأنه أسوة الغرماء في سلعته إذا فاتت، وعندما يشبه حال الأجير عند أصحاب مالك. وبالجملة البائع منفعة بالبائع الرقبة. فمرة يشبهون المنفعة التي عمل بالسلعة التي لم يقبضها المشتري فيقولون: هو أحق بها في
234 الموت والفلس، ومرة يشبهونه بالتي خرجت من يده ولم يمت فيقولون: هو أحق بها في الفلس دون الموت. ومرة يشبهون ذلك بالموت الذي فاتت فيه فيقولون: هو أسوة الغرماء. ومثال ذلك اختلافهم فيمن استؤجر على سقي حائط فسقاه حتى أثمر الحائط ثم أفلس المستأجر فإنهم قالوا فيه الثلاثة الأقوال. وتشبيه بيع المنافع في هذا الباب ببيع الرقاب هو شئ - فيما أحسب - انفرد به مالك دون فقهاء الأمصار، وهو ضعيف لان قياس الشبه المأخوذ من الموضع المفارق للأصول يضعف، ولذلك ضعف عند قوم القياس على موضع الرخص، ولكن انقدح هنالك قياس علة، فهو أقوى، ولعل المالكية تدعي وجود هذا المعنى في القياس، ولكن هذا كله ليس يليق بهذا المختصر. ومن هذا الباب اختلافهم في العبد المفلس المأذون له في التجارة هل يتبع بالدين في رقبته أم لا؟ فذهب مالك وأهل الحجاز إلى أنه إنما يتبع بما في يده لا في رقبته، ثم إن أعتق أتبع بما بقي عليه. ورأي قوم أنه يباع. ورأي قوم أن الغرماء يخيرون بين بيعه وبين أن يسعى فيما بقي عليه من الدين، وبه قال شريح. وقالت طائفة: بل يلزم سيده ما عليه وإن لم يشترطه. فالذين لم يروا بيع رقبته قالوا: إنما عامل الناس على ما في يده فأشبه الحر، والذين رأوا بيعه شبهوا ذلك بالجنايات التي يجني، وأما الذين رأوا الرجوع على السيد بما عليه من الدين فإنهم شبهوا ماله بمال السيد إذ كان له انتزاعه. فسبب الخلاف: هو تعارض أقيسة الشبه في هذه المسألة، ومن هذا المعنى إذا أفلس العبد والمولى معا بأيهما يبدأ، هل بدين العبد، أم بدين المولى؟ فالجمهور يقولون: بدين العبد، لان الذين داينوا العبد إنما فعلوا ذلك ثقة بما رأوا عند العبد من المال، والذين داينوا المولى لم يعتدوا بمال العبد، ومن رأى البدء بالمولى قال: لان مال العبد هو في الحقيقة للمولى. فسبب الخلاف: تردد مال العبد بين أن يكون حكمه حكم مال الأجنبي أو حكم مال السيد. وأما قدر ما يترك للمفلس من ماله فقيل في المذهب: يترك له ما يعيش به هو وأهله وولده الصغار الأيام، وقال في الواضحة والعتبية: الشهر ونحو، ويترك له كسوة مثله، وتوقف مالك في كسوة زوجته لكونها هل تجب لها بعوض مقبوض، وهو الانتفاع بها أو بغير عوض، وقال سحنون: لا يترك له كسوة زوجته، وروى ابن نافع عن مالك أنه لا يترك له إلا ما يواريه، وبه قال ابن كنانة. واختلفوا في بيع كتب العلم عليه على قولين: وهذا مبني على كراهية بيع كتب الفقه أو لا كراهية ذلك. وأما معرفة الديون التي يحاص بها من الديون التي لا يحاص بها على مذهب مالك فإنها تنقسم أولا إلى قسمين: أحدهما: أن تكون واجبة عن عوض. والثاني: أن تكون واجبة من غير عوض. فأما الواجبة عن عوض، فإنها تنقسم إلى عوض مقبوض وإلى عوض غير مقبوض، فأما ما كانت عن عوض مقبوض، وسواء أكانت مالا أو أرش جناية،
235 فلا خلاف في المذهب أن محاصة الغرماء بها واجبة. وأما ما كان عن عوض غير مقبوض، فإن ذلك ينقسم خمسة أقسام: أحدها أن لا يمكنه دفع العوض بحال كنفقة الزوجات لما يأتي من المدة، والثاني: أن لا يمكنه دفع العوض، ولكن يمكنه دفع ما يستوفي فيه، مثل أن يكتري الرجل الدار بالنقد، أو يكون العرف فيه النقد، ففلس المكتري قبل أن يسكن أو بعد ما سكن بعض السكنى وقبل أن يدفع الكراء. والثالث: أن يكون دفع العوض يمكن ويلزمه كرأس مال السلم إذا أفلس المسلم إليه قبل دفع رأس المال. والرابع: أن يمكنه دفع العوض، ولا يلزمه مثل السلعة إذا باعها ففلس المبتاع قبل أن يدفعها إليه البائع. والخامس: أن لا يكون إليه تعجيل دفع العوض، مثل أن يسلم الرجل إلى رجل دنانير في عروض إلى أجل فيفلس المسلم قبل أن يدفع رأس المال وقبل أن يحل أجل السلم. فأما الذي لا يمكنه دفع العوض بحال فلا محاصة في ذلك إلا في مهور الزوجات إذا أفلس الزوج قبل الدخول. وأما الذي لا يمكنه دفع العوض ويمكنه دفع ما يستوفي منه، مثل المكتري يفلس قبل دفع الكراء، فقيل للمكري المحاصة بجميع الثمن وإسلام الدار للغرماء، وقيل ليس له إلا المحاصة بما سكن ويأخذ داره، وإن كان لم يسكن فليس له إلا أخذ داره. وأما ما يمكنه دفع العوض يلزمه وهو إذا كان العوض عينا، فقيل يحاص به الغرماء في الواجب له بالعوض ويدفعه، وقيل هو أحق به وعلى هذا لا يلزمه دفع العوض. وأما ما يمكنه دفع العوض ولا يلزمه فهو بالخيار بين المحاصة والامساك وذلك هو إذا كان العوض عينا. وأما إذا لم يكن إليه تعجيل العوض مثل أن يفلس المسلم قبل أن يدفع رأس المال، وقبل أن يحل أجل السلم، فإن رضي المسلم إليه أن يعجل العروض ويحاصص الغرماء برأس مال السلم فذلك جائز إن رضي بذلك الغرماء، فإن أبى ذلك أحد الغرماء حاص الغرماء برأس المال الواجب له فيما وجد للغريم من مال، وفي العروض التي عليه إذا حلت لأنها من مال الفلس، وإن شاءوا أن يبيعوها بالنقد ويتحاصوا فيها كان ذلك لهم. وأما ما كان من الحقوق الواجبة عن غير عوض فإن ما كان منها غير واجب بالشرع بل بالالتزام كالهبات والصدقات فلا محاصة فيها. وأما ما كان منها واجبا بالشرع كنفقة الآباء والأبناء، ففيها قولان: أحدهما: أن المحاصة لا تجب بها، وهو قول ابن القاسم، والثاني: أنها تجب بها إذا لزمت بحكم من السلطان، وهو قول أشهب. وأما النظر الخامس: وهو معرفة وجه التحاص، فإن الحكم في ذلك أن يصرف مال الغريم من جنس ديون الغرماء، وسواء أكان مال الغرماء من جنس واحد أو من أجناس مختلفة، إذ كان لا يقتضي في الديون إلا ما هو من جنس الدين إلا أن يتفقوا من ذلك على شئ يجوز. واختلفوا من هذا الباب في فرع طارئ، وهو إذا هلك مال المحجور عليه بعد الحجر وقبل قبض الغرماء: ممن مصيبته؟ فقال أشهب: مصيبته من المفلس، وقال ابن
236 الماجشون: مصيبته من الغرماء إذا وقفه السلطان. وقال ابن القاسم: ما يحتاج إلى بيعه فضمانه من الغريم لأنه إنما يباع على ملكه، وما لا يحتاج إلى بيعه فضمانه من الغرماء مثل أن يكون المال عينا والدين عينا، وكلهم روى قوله عن مالك، وفرق أصبغ بين الموت والفلس فقال: المصيبة في الموت من الغرماء، وفي الفلس من المفلس. فهذا هو القول في أصول أحكام المفلس الذي له من المال ما لا يفي بديونه. وأما المفلس الذي لا مال له أصلا، فإن فقهاء الأمصار مجمعون على أن العدم له تأثير في اسقاط الدين إلى وقت ميسرته، إلا ما حكي عن عمر بن عبد العزيز أن لهم أن يؤاجروه، وقال به أحمد من فقهاء الأمصار، وكلهم مجمعون على أن المدين إذا ادعى الفلس ولم يعلم صدقه أنه يحبس حتى يتبين صدقه أو يقر له بذلك صاحب الدين، فإذا كان ذلك خلي سبيله. وحكي عن أبي حنيفة أن لغرمائه أن يدوروا معه حيث دار، وإنما صار الكل إلى القول بالحبس في الديون، وإن كان لم يأت في ذلك أثر صحيح، لان ذلك أمر ضروري في استيفاء الناس حقوقهم بعضهم من بعض، وهذا دليل على القول بالقياس الذي يقتضي المصلحة، وهو الذي يسمى بالقياس المرسل. وقد روي أن النبي عليه الصلاة والسلام حبس رجلا في تهمة خرجه - فيما أحسب - أبو داود. والمحجورون عند مالك: السفهاء والمفلسون والعبيد والمرضى والزوجة فيما فوق الثلث لأنه يرى أن للزوج حقا في المال، وخالفه في ذلك الأكثر. وهذا القدر كاف بحسب غرضنا في هذا الكتاب.
237 كتاب الصلح والأصل في هذا الكتاب قوله تعالى: * (والصلح خير) * وما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام مرفوعا وموقوفا على عمر إمضاء الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا واتفق المسلمون على جوازه على الاقرار، واختلفوا في جوازه على الانكار، فقال مالك وأبو حنيفة: يجوز على الانكار، وقال الشافعي: لا يجوز على الانكار لأنه من أكل المال بالباطل من غير عوض. والمالكية تقول فيه عوض، وهو سقوط الخصومة واندفاع اليمين عنه، ولا خلاف في مذهب مالك أن الصلح الذي يقع على الاقرار يراعي في صحته ما يراعي في البيوع، فيفسد بما تفسد به البيوع من أنواع الفساد الخاص بالبيوع ويصح بصحته، وهذا هو مثل أن يدعي انسان على آخر دراهم فيصالحه عليها بعد الاقرار بدنانير نسيئة، وما أشبه هذا من البيوع الفاسدة من قبل الربا والغرر. وأما الصلح على الانكار فالمشهور فيه عن مالك وأصحابه أنه يراعي فيه من الصحة ما يراعي في البيوع، مثل أن يدعي انسان على آخر دراهم فينكر ثم يصالحه عليها بدنانير مؤجلة، فهذا لا يجوز عند مالك وأصحابه، وقال أصبغ: هو جائز، لان المكروه فيه من الطرف الواحد، وهو من جهة الطالب لأنه يعترف أنه أخذ دنانير نسيئة في دراهم حلت له. وأما الدافع فيقول: هي هبة مني. وأما إن ارتفع المكروه من الطرفين، مثل أن يدعي كل واحد منهما على صاحب دنانير أو دراهم فينكر كل واحد منهما صاحبه، ثم يصطلحان على أن يؤخر كل واحد منهما صاحبه فيما يدعيه قبله إلى أجل، فهذا عندهم هو مكروه. أما كراهيته فمخافة أن يكون كل واحد منهما. فيكون كل واحد منهما قد أنظر صاحبه لانظار الآخر إياه فيدخله أسلفني وأسلفك. وأما وجه جوازه فلان كل واحد منهما إنما يقول ما فعلت، إنما هو تبرع مني، وما كان يجب علي شئ، وهذا النحو من البيوع قيل إنه يجوز إذا وقع، وقال ابن الماجشون: يفسخ إذا وقع عليه أثر عقده، فإن طال مضى، فالصلح الذي يقع فيه مما لا يجوز في البيوع هو في مذهب مالك على ثلاثة أقسام: صلح يفسخ باتفاق، وصلح يفسخ باختلاف، وصلح لا يفسخ باتفاق إن طال، وإن لم يطل فيه اختلاف.
238 كتاب الكفالة واختلف العلماء في نوعها وفي وقتها، وفي الحكم اللازم عنها، وفي شروطها، وفي صفة لزومها، وفي محلها، ولها أسماء: كفالة، وحمالة، وضمانة، وزعامة، فأما أنواعها فنوعان: حمالة بالنفس، وحمالة بالمال. أما الحمالة بالمال فثابتة بالسنة ومجمع عليها من الصدر الأول ومن فقهاء الأمصار. وحكي عن قوم أنها ليست لازمة تشبيها بالعدة وهو شاذ. والسنة التي صار إليها الجمهور في ذلك هو قوله عليه الصلاة والسلام: الزعيم غارم. وأما الحمالة بالنفس وهي التي تعرف بضمان الوجه، فجمهور فقهاء الأمصار على جواز وقوعها شرعا إذا كانت بسبب المال. وحكي عن الشافعي في الجديد أنها لا تجوز، وبه قال داود، وحجتهما قوله تعالى: * (قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده) * ولأنها كفالة بنفس فأشبهت الكفالة في الحدود. وحجة من أجازها عموم قوله عليه الصلاة والسلام: الزعيم غارم وتعلقوا بأن ذلك مصلحة، وأنه مروي عن الصدر الأول. وأما الحكم اللازم عنها، فجمهور القائلين بحمالة النفس متفقون على أن المتحمل عنه إذا مات لم يلزم الكفيل بالوجه شئ، وحكي عن بعضهم لزوم ذلك. وفرق ابن القاسم بين أن يموت الرجل حاضرا أو غائبا فقال: إن مات حاضرا لم يلزم الكفيل شئ، وإن مات غائبا نظر، فإن كانت المسافة التي بين البلدين مسافة يمكن الحميل فيها إحضاره في الاجل المضروب له في إحضاره، وذلك في نحو اليومين إلى الثلاثة ففرط غرم وإلا لم يغرم. واختلفوا إذا غاب المتحمل عنه ما حكم الحميل بالوجه؟ على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه يلزمه أن يحضره أو يغرم، وهو قول مالك وأصحابه وأهل المدينة. والقول الثاني: أنه يحبس الحميل إلى أن يأتي به أو يعلم موته، وهو قول أبي حنيفة وأهل العراق. والقول الثالث: أنه ليس عليه إلا أن يأتي به إذا علم موضعه، ومعنى ذلك أن لا يكلف إحضاره إلا مع العلم بالقدرة على إحضاره، فإن ادعى الطالب معرفة موضعه على الحميل، وأنكر الحميل كلف الطالب بيان ذلك. قالوا: ولا يحبس الحميل إلا إذا كان المحتمل عنه معلوم الموضع، فيكلف حينئذ إحضاره، وهذا القول حكاه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه في الفقه عن جماعة من الناس، واختاره. وعمدة مالك أن المتحمل
239 بالوجه غار لصاحب الحق فوجب عليه الغرم إذا غاب، وربما احتج لهم بما روي عن ابن عباس: أن رجلا سأل غريمه أن يؤدي إليه ماله أو يعطيه حميلا، فلم يقدر حتى حاكمه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فتحمل عنه رسول الله (ص) ثم أدى المال إليه قالوا: فهذا غرم في الحمالة المطلقة. وأما أهل العراق فقالوا: إنما يجب عليه إحضار ما تحمل به وهو النفس، فليس يجب أن يعدى ذلك إلى المال إلا لو شرطه على نفسه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: المؤمنون عند شروطهم فإنما عليه أن يحضر المال أو يحبس فيه، كذلك الامر في ضمان الوجه. وعمدة الفريق الثالث أنه إنما يلزمه إحضاره إذا كان إحضاره له مما يمكن، وحينئذ يحبس إذا لم يحضره، وأما إذا علم أن إحضاره له غير ممكن فليس يجب عليه إحضاره كما أنه إذا مات ليس عليه إحضاره. قالوا: ومن ضمن الوجه فأغرم المال فهو أحرى أن يكون مغرورا من أن يكون غارا. فأما إذا اشترط الوجه دون المال وصرح بالشرط فقد قال مالك: إن المال لا يلزمه، ولا خلاف في هذا فيما أحسب، لأنه كان يكون قد ألزم ضد ما اشترط، فهذا هو حكم ضمان الوجه. وأما حكم ضمان المال فإن الفقهاء متفقون على أنه إذا عدم المضمون أو غاب أن الضامن غارم. واختلفوا إذا حضر الضامن والمضمون وكلاهما موسر. فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق: للطالب أن يؤاخذ من شاء من الكفيل أو المكفول. وقال مالك في أحد قوليه: ليس له أن يأخذ الكفيل مع وجود المتكفل عنه. وله قول آخر مثل قول الجمهور. وقال أبو ثور: الحمالة والكفالة واحدة، ومن ضمن عن رجل مالا لزمه وبرئ المضمون، ولا يجوز أن يكون مال واحد على اثنين، وبه قال ابن أبي ليلى وابن شبرمة. ومن الحجة لمن رأى أن الطالب يجوز له مطالبة الضامن، كان المضمون عنه غائبا أو حاضرا، غنيا أو عديما، حديث قبيصة بن المخارقي قال: تحملت حمالة فأتيت النبي (ص) فسألت عنها، فقال: نخرجها عنك من إبل الصدقة... يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا في ثلاث، وذكر رجلا تحمل حمالة رجل حتى يؤديها. ووجه الدليل من هذا أن النبي (ص) أباح المسألة للمتحمل دون اعتبار حال المتحمل عنه. وأما محل الكفالة فهي الأموال عند جمهور أهل العلم لقوله عليه الصلاة والسلام: الزعيم غارم أعني كفالة المال وكفالة الوجه، وسواء تعلقت الأموال من قبل أموال أو من قبل حدود، مثل المال الواجب في قتل الخطأ أو الصلح في قتل العمد أو السرقة التي ليس يتعلق بها قطع وهي ما دون النصاب أو من غير ذلك. وروي عن أبي حنيفة إجازة الكفالة في الحدود والقصاص، أو في القصاص دون الحدود وهو قول عثمان البتي: أعني كفالة النفس. وأما وقت وجوب الكفالة بالمال أعني مطالبته بالكفيل، فأجمع العلماء على أن ذلك بعد ثبوت الحق على المكفول إما بإقرار وإما ببينة. وأما وقت وجوب الكفالة بالوجه، فاختلفوا هل تلزم قبل إثبات الحق أم لا؟ فقال
240 قوم: إنها لا تلزم قبل إثبات الحق بوجه من الوجوه، وهو قول شريح القاضي والشعب وبه قال سحنون من أصحاب مالك. وقال قوم: بل يجب أخذ الكفيل بالوجه على إثبات الحق، وهؤلاء اختلفوا متى يلزم ذلك؟ وإلى كم من المدة يلزم؟ فقال قوم: إن أتى بشبهة قوية مثل شاهد واحد لزمه أن يعطي ضامنا بوجهه حتى يلوح حقه وألا لم يلزمه الكفيل إلا أن يذكر بينة حاضرة في المصر فيعطيه حميلا من الخمسة الأيام إلى الجمعة، وهو قول ابن القاسم من أصحاب مالك، وقال أهل العراق: لا يؤخذ عليهم حميل قبل ثبوت الحق إلا أن يدعي بينة حاضرة في المصر نحو قول ابن القاسم، وإلا أنهم حدوا ذلك بالثلاثة الأيام يقولون إنه إن أتى بشبهة لزمه أن يعطيه حميلا حتى يثبت دعواه أو تبطل، وقد أنكروا الفرق في ذلك والفرق بين الذي يدعي البينة الحاضرة والغائبة، وقالوا: لا يؤخذ حميل على أحد إلا ببينة، وذلك إلى بيان صدق دعواه أو إبطالها. وسبب هذا الاختلاف: تعارض وجه العدل بين الخصمين في ذلك، فإنه إذا لم يؤخذ عليه ضامن بمجرد الدعوى لم يؤمن أن يغيب بوجهه فيعنت طالبه، وإذا أخذ عليه لم يؤمن أن تكون الدعوى باطلة فيعنت المطلوب، ولهذا فرق من فرق بين دعوى البينة الحاضرة والغائبة. وروي عن عراك بن مالك قال: أقبل نفر من الاعراب معهم ظهر فصحبهم رجلان فباتا معهم، فأصبح القوم وقد فقدوا كذا وكذا من إبلهم، فقال رسول الله (ص) لاحد الرجلين: اذهب واطلب وحبس الآخر، فجاء بما ذهب، فقال رسول الله (ص) لاحد الرجلين: استغفر لي، فقال: غفر الله لك، قال: وأنت فغفر الله لك وقتلك في سبيله خرج هذا الحديث أبو عبيد في كتابه في الفقه، قال: وحمله بعض العلماء على أن ذلك كان رسول الله (ص) حبسا قال: ولا يعجبني ذلك، لأنه لا يجب الحبس بمجرد الدعوى، وإنما هو عندي من باب الكفالة بالحق الذي لم يجب إذ كانت هنالك شبهة لمكان صحبتهما لهم. فأما أصناف المضمونين فليس يلحق من قبل ذلك اختلاف مشهور لاختلافهم في ضمان الميت إذا كان عليه دين ولم يترك وفاء بدينه، فأجازه مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يجوز. واستدل أبو حنيفة من قبل أن الضمان لا يتعلق بمعدوم قطعا، وليس كذلك المفلس. واستدل من رأى أن الضمان يلزمه بما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام كان في صدر الاسلام لا يصلي على من مات وعليه دين حتى يضمن عنه والجمهور يصح عندهم كفالة المحبوس والغائب، ولا يصح عند أبي حنيفة. وأما شروط الكفالة فإن أبا حنيفة والشافعي يشترطان في وجوب رجوع الضامن على المضمون بما أدى عنه أن يكون الضمان بإذنه، ومالك لا يشترط ذلك ولا تجوز عند الشافعي كفالة المجهول ولا الحق الذي لم يجب بعد، وكل ذلك لازم وجائز عند مالك وأصحابه. وأما ما تجوز فيه الحمالة بالمال مما لا تجوز، فإنها تجوز عند مالك بكل مال ثابت في الذمة إلا الكتابة وما لا يجوز فيه التأخير، وما يستحق شيئا فشيئا مثل النفقات على الأزواج، وما شاكلها.
241 كتاب الحوالة والحوالة معاملة صحيحة مستثناة من الدين بالدين، لقوله عليه الصلاة والسلام: مطل الغني ظلم وإذا أحيل أحدكم على غني فليستحل. والنظر في شروطها وفي حكمها، فمن الشروط اختلافهم في اعتبار رضا المحال والمحال عليه، فمن الناس من اعتبر رضا المحال ولم يعتبر رضا المحال عليه، وهو مالك، ومن الناس من اعتبر رضاهما معا، ومن الناس من لم يعتبر رضا المحال واعتبر رضا المحال عليه، وهو نقيض مذهب مالك، وبه قال داود، فمن رأى أنها معاملة اعتبر رضا الصنفين، ومن أنزل المحال عليه من المحال منزلته من المحيل لم يعتبر رضاه معه كما لا يعتبره مع المحيل إذا طلب منه حقه ولم يحل عليه أحدا. وأما داود فحجته ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: إذا أحيل أحدكم على ملئ فليتبع والامر على الوجوب، وبقي المحال عليه على الأصل، وهو اشتراط اعتبار رضاه. ومن الشروط التي اتفق عليها في الجملة كون ما على المحال عليه مجانسا لما على المحيل قدرا ووصفا، إلا أن منهم من أجازها في الذهب والدراهم فقط ومنعها في الطعام، والذين منعوها في ذلك رأوا أنها من باب الطعام قبل أن يستوفي، لأنه باع الطعام الذي كان له على غريمه بالطعام الذي كان عليه، وذلك قبل أن يستوفيه من غريمه، وأجاز ذلك مالك إذا كان الطعامان كلاهما من قرض إذا كان دين المحال حالا. وأما إن كان أحدهما من سلم فإنه لا يجوز إلا أن يكون الدينان حالين، وعند ابن القاسم وغيره من أصحاب مالك يجوز ذلك إذا كان الدين المحال به حالا، ولم يفرق بين ذلك الشافعي، لأنه كالبيع في ضمان المستقرض وإنما رخص مالك في القرض لأنه يجوز عنده بيع القرض قبل أن يستوفي. وأما أبو حنيفة فأجاز الحوالة بالطعام وشبهها بالدراهم وجعلها خارجة عن الأصول كخروج الحوالة بالدراهم. والمسألة مبنية على أن ما شذ عن الأصول هل يقاس عليه أم لا؟ والمسألة مشهورة في أصول الفقه، وللحوالة عند مالك ثلاثة شروط: أحدها: أن يكون دين المحال حالا، لأنه إن لم يكن حالا كان دينا بدين. والثاني: أن يكون الدين
242 الذي يحيله به مثل الذي يحيله عليه في القدر والصفة، لأنه إذا اختلفا في أحدهما كان بيعا ولم يكن حوالة، فخرج من باب الرخصة إلى باب البيع، وإذا خرج إلى باب البيع دخله الدين بالدين. والشرط الثالث: أن لا يكون الدين طعاما من سلم أو أحدهما ولم يحل الدين المستحال به على مذهب ابن القاسم، وإذا كان الطعامان جميعا من سلم فلا تجوز الحوالة بأحدهما على الآخر حلت الآجال أو لم تحل، أو حل أحدهما ولم يحل الآخر، لأنه يدخله بيع الطعام قبل أن يستوفي كما قلنا لكن أشهب يقول: إن استوت رؤوس أموالهما جازت الحوالة وكانت تولية، وابن القاسم لا يقول ذلك كالحال إذا اختلفت ويتنزل المحال في الدين الذي أحيل عليه منزلة من أحاله، ومنزلته في الدين الذي أحال به، وذلك فيما يريد أن يأخذ بدله منه أو يبيعه له من غيره، أعني أنه لا يجوز له من ذلك إلا ما يجوز له مع الذي أحاله وما يجوز للذي أحال مع الذي أحاله عليه، ومثال ذلك إن احتال بطعام كان له من قرض في طعام من سلم، أو بطعام من سلم في طعام من قرض لم يجز له أن يبيعه من غيره قبل قبضه منه، لأنه إن كان احتال بطعام كان من قرض في طعام من سلم نزل منزلة المحيل في أنه لا يجوز له بيع ما على غريمه قبل أن يستوفيه لكونه طعاما من بيع، وإن كان احتال بطعام من سلم في طعام من قرض نزل من المحتال عليه منزلته مع من أحاله، أعني أنه ما كان يجوز له أن يبيع الطعام الذي كان على غريمه المحيل له قبل أن يستوفيه، كذلك لا يجوز أن يبيع الطعام الذي أحيل عليه وإن كان من قرض، وهذا كله مذهب مالك، وأدلة هذه الفروق ضعيفة. وأما أحكامها فإن جمهور العلماء على أن الحوالة ضد الحمالة، في أنه إذا أفلس المحال عليه لم يرجع صاحب الدين على المحيل بشئ، قال مالك وأصحابه: إلا أن يكون المحيل غره فأحاله على عديم، وقال أبو حنيفة: يرجع صاحب الدين على المحيل إذا مات عليه مفلسا أو جحد الحوالة وإن لم تكن له بينة، وبه قال شريح وعثمان البتي وجماعة. وسبب اختلافهم: مشابهة الحوالة للحمالة.
243 كتاب الوكالة وفيها ثلاث أبواب: الباب الأول: في أركانها، وهي النظر فيما فيه التوكيل، وفي الموكل. والثاني: في أحكام الوكالة. والثالث: في مخالفة الموكل للوكيل. الباب الأول: في أركانها وهي النظر فيما فيه التوكيل، وفي الموكل، وفي الموكل الركن الأول: في الموكل. واتفقوا على وكالة الغائب والمريض والمرأة المالكين لأمور أنفسهم. واختلفوا في وكالة الحاضر الذكر الصحيح. فقال مالك: تجوز وكالة الحاضر الصحيح الذكر، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا تجوز وكالة الصحيح الحاضر ولا المرأة إلا أن تكون برزة. فمن رأى أن الأصل لا ينوب فعل الغير عن فعل الغير إلا ما دعت إليه الضرورة وانعقد الاجماع عليه قال: لا تجوز نيابة من اختلف في نيابته. ومن رأى أن الأصل هو الجواز قال: الوكالة في كل شئ جائزة إلا فيما أجمع على أنه لا تصح فيه من العبادات وما جرى مجراها. الركن الثاني: في الوكيل. وشرط الوكيل أن لا يكون ممنوعا بالشرع من تصرفه في الشئ الذي وكل فيه، فلا يصح توكيل الصبي ولا المجنون ولا المرأة عند مالك والشافعي على عقد النكاح. أما عند الشافعي فلا بمباشرة ولا بواسطة: أي بأن توكل هي من يلي عقد النكاح. ويجوز عند مالك بالواسطة الذكر. الركن الثالث: فيما فيه التوكيل. وشرط محل التوكيل أن يكون قابلا للنيابة مثل البيع والحوالة والضمان وسائر العقود والفسوخ والشركة والوكالة والمصارفة والمجاعلة والمساقاة والطلاق والنكاح والخلع والصلح ولا تجوز في العبادات البدنية وتجوز في المالية كالصدقة والزكاة والحج. وتجوز عند مالك في الخصومة على الاقرار والانكار، وقال الشافعي في أحد قوليه: لا تجوز على الاقرار، وشبه ذلك بالشهادة والايمان، وتجوز الوكالة على استيفاء العقوبات عند مالك، وعند الشافعي مع الحضور قولان.
244 والذين قالوا إن الوكالة تجوز على الاقرار اختلفوا في مطلق الوكالة على الخصومة هل يتضمن الاقرار أم لا؟ فقال مالك: لا يتضمن. وقال أبو حنيفة: يتضمن. الركن الرابع: وأما الوكالة فهي عقد يلزم بالايجاب والقبول كسائر العقود، وليست هي من العقود اللازمة بل الجائزة على ما نقوله في أحكام هذا العقد. وهي ضربان عند مالك: عامة وخاصة، فالعامة هي التي تقع عنده بالتوكيل العام الذي لا يسمى فيه شئ دون شئ، وذلك أنه إن سمى عنده لم ينتفع بالتعميم والتفويض، وقال الشافعي: لا تجوز الوكالة بالتعميم وهي غرر، وإنما يجوز منها ما سمي وحدد ونص عليه، وهو الأقيس إذ كان الأصل فيها المنع، إلا ما وقع عليه الاجماع. الباب الثاني: في الاحكام وأما الاحكام: فمنها أحكام العقد، ومنها أحكام فعل الوكيل. فأما هذا العقد فهو كما قلنا عقد غير لازم للوكيل أن يدع الوكالة متى شاء عند الجميع، لكن أبو حنيفة يشترط في ذلك حضور الموكل، وللموكل أن يعزله متى شاء قالوا: إلا أن تكون وكالة في خصومة. وقال أصبغ: له ذلك ما لم يشرف على تمام الحكم، وليس للوكيل أن يعزل نفسه في الموضع الذي لا يجوز أن يعزله الموكل، وليس من شروط انعقاد هذا العقد حضور الخصم عند مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: ذلك من شروطه. وكذلك ليس من شرط إثباتها عند الحاكم حضوره عند مالك. وقال الشافعي: من شرطه. واختلف أصحاب مالك هل تنفسخ الوكالة بموت الموكل على قولين. فإذا قلنا تنفسخ بالموت كما تنفسخ بالعزل، فمتى يكون الوكيل معزولا، والوكالة منفسخة في حق من عامله؟ في المذهب فيه ثلاثة أقوال: الأول: أنها تنفسخ في حق الجميع بالموت والعزل. والثاني: أنها تنفسخ في حق كل واحد منهم بالعلم. فمن علم انفسخت في حقه ومن لم يعلم لم تنفسخ في حقه. والثالث: أنها تنفسخ في حق عامل الوكيل بعلم الوكيل وإن لم يعلم هو، ولا تنفسخ في حق الوكيل بعلم الذي عامله إذا لم يعلم الوكيل، ولكن من دفع إليه شيئا بعد العلم بعزله ضمنه، لأنه دفع إلى من يعلم أنه يعلم أنه ليس بوكيل. وأما أحكام الوكيل ففيها مسائل مشهورة: أحدها إذا وكل على بيع شئ هل يجوز له أن يشتريه لنفسه؟ فقال مالك: يجوز. وقد قيل عنه: لا يجوز، وقال الشافعي: لا يجوز، وكذلك عند مالك الأب والوصي ومنها إذا وكله في البيع وكالة مطلقة لم يجز له عند مالك أن يبيع إلا بثمن مثله نقدا بنقد البلد، ولا يجوز إن باع نسيئة، أو بغير نقد البلد، أو بغير ثمن المثل، وكذلك الامر عنده في الشراء، وفرق أبو حنيفة بين البيع والشراء لمعين فقال: يجوز في البيع أن يبيع بغير ثمن المثل، وأن يبيع نسيئة، ولم يجز إذا وكله في شراء
245 عبد بعينه أن يشتريه إلا بثمن المثل نقدا ويشبه أن يكون أبو حنيفة إنما فرق بين الوكالة على شراء شئ بعينه، لان من حجته أنه كما أن الرجل قد يبيع بأقل من ثمن مثله ونساء لمصلحة يراها في ذلك كله، كذلك حكم الوكيل إذ قد أنزله منزلته، وقول الجمهور أبين، وكل ما يعتدي فيه الوكيل ضمن عند من يرى أنه تعدى، وإذا اشترى الوكيل شيئا وأعلم أن الشراء للموكل فالملك ينتقل إلى الموكل، وقال أبو حنيفة: إلى الوكيل أولا ثم إلى الموكل. وإذا دفع الوكيل دينا عن الموكل ولم يشهد فأنكر الذي له الدين القبض ضمن الوكيل. الباب الثالث: مخالفة الموكل للوكيل وأما اختلاف الوكيل مع الموكل، فقد يكون في ضياع المال الذي استقر عند الوكيل، وقد يكون في دفعه إلى الموكل، وقد يكون في مقدار الثمن الذي باع به أو اشترى إذا أمره بثمن محدود، وقد يكون في المثمون، وقد يكون في تعيين من أمره بالدفع إليه، وقد يكون في دعوى التعدي. فإذا اختلفا في ضياع المال فقال الوكيل ضاع مني وقال الموكل لم يضع، فالقول قول الوكيل إن كان لم يقبضه ببينة، فإن كان المال قد قبضه الوكيل من غريم الموكل ولم يشهد الغريم على الدفع لم يبرأ الغريم بإقرار الوكيل عند مالك وغرم ثانية، وهل يرجع الغريم على الوكيل؟ فيه خلاف، وإن كان قد قبضه ببينة برئ ولم يلزم الوكيل شئ. وأما إذا اختلفا في الدفع فقال الوكيل دفعته إليك، وقال الموكل: لا، فقيل القول قول الوكيل. وقيل القول قول الموكل. وقيل إن تباعد ذلك فالقول قول الوكيل. وأما اختلافهم في مقدار الثمن الذي به أمره بالشراء، فقال ابن القاسم: إن لم تفت السلعة قالقول قول المشتري، وإن فاتت فالقول قول الوكيل، وقيل يتحالفان وينفسخ البيع ويتراجعان وإن فاتت بالقيمة. وإن كان اختلافهم في مقدار الثمن الذي أمره به في البيع، فعند ابن القاسم أن القول فيه قول الموكل، لأنه جعل دفع الثمن بمنزلة فوات السلعة في الشراء. وأما إذا اختلفا فيمن أمره بالدفع ففي المذهب فيه قولان: المشهور أن القول قول المأمور، وقيل القول قول الآمر. وأما إذا فعل الوكيل فعلا هو تعد وزعم أن الموكل أمره، فالمشهور أن القول قول الموكل وقد قيل إن القول قول الوكيل إنه قد أمره لأنه قد ائتمنه على الفعل.
246 كتاب اللقطة والنظر في اللقطة في جملتين: الجملة الأولى: في أركانها. والثانية: في أحكامها. الجملة الأولى: والأركان ثلاثة: الالتقاط، والملتقط، واللقطة. فأما الالتقاط فاختلف العلماء هل هو أفضل أم الترك؟ فقال أبو حنيفة: الأفضل الالتقاط، لأنه من الواجب على المسلم أن يحفظ مال أخيه المسلم. وبه قال الشافعي، وقال مالك وجماعة بكراهية الالتقاط، وروي عن ابن عمر وابن عباس، وبه قال أحمد، وذلك لامرين: أحدهما ما روي أنه (ص) قال: ضالة المؤمن حرق النار ولما يخاف أيضا من التقصير في القيام بما يجب لها من التعريف وترك التعدي عليها، وتأول الذين رأوا الالتقاط أول الحديث وقالوا: أراد بذلك الانتفاع بها لا أخذها للتعريف، وقال قوم: بل لقطها واجب. وقد قيل إن هذا الاختلاف إذا كانت اللقطة بين قوم مأمونين والامام عادل. قالوا: وإن كانت اللقطة بين قوم غير مأمونين والامام عادل فواجب التقاطها. وإن كانت بين قوم مأمونين والامام جائز فالأفضل إن لا يلتقطها. وإن كانت بين قوم غير مأمونين والامام غير عادل فهو مخير بحسب ما يغلب على ظنه من سلامتها أكثر من أحد الطرفين، وهذا كله ما عدا لقطة الحاج، فإن العلماء أجمعوا على أنه لا يجوز التقاطها لنهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك، ولقطة مكة أيضا لا يجوز التقاطها إلا لمنشد لورود النص في ذلك، والمروي في ذلك لفظان: أحدهما: أنه لا ترفع لقطتها إلا لمنشد. والثاني: لا يرفع لقطتها إلا منشد، فالمعنى الواحد أنها لا ترفع إلا لمن ينشدها، والمعنى الثاني لا يلتقطها إلا من ينشدها ليعرف الناس. وقال مالك: تعرف هاتان اللقطتان أبدا. فأما الملتقط فهو كل حر مسلم بالغ لأنها ولاية، واختلف عن الشافعي في جواز التقاط الكافر. قال أبو حامد: والأصح جواز ذلك في دار الاسلام. قال: وفي أهلية العبد والفاسق له قولان: فوجه المنع عدم أهلية الولاية، ووجه الجواز عموم أحاديث اللقطة. وأما اللقطة بالجملة فإنها كل مال لمسلم معرض للضياع كان ذلك في عامر الأرض أو غامرها، والجماد والحيوان في ذلك سواء إلا الإبل باتفاق. والأصل في اللقطة حديث يزيد بن خالد الجهني. وهو متفق على صحته أنه قال: جاء رجل إلى
247 رسول الله (ص) فسأله عن اللقطة. فقال: اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها، قال: فضالة الغنم يا رسول الله؟ قال: هي لك أو لأخيك أو للذئب. قال: فضالة الإبل؟. قال: ما لك ولها معها سقاؤها وحذاؤها وترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها وهذا الحديث يتضمن معرفة ما يلتقط مما لا يلتقط. ومعرفة حكم ما يلتقط كيف يكون في العام وبعده وبماذا يستحقها مدعيها. فأما الإبل فاتفقوا على أنها لا تلتقط. واتفقوا على الغنم أنها تلتقط. وترددوا في البقر. والنص عن الشافعي أنها كالإبل. وعن مالك أنها كالغنم. وعنه خلاف. الجملة الثانية: وأما حكم التعريف، فاتفق العلماء على تعريف ما كان منها له بال سنة ما لم تكن من الغنم. واختلفوا في حكمها بعد السنة. فاتفق فقهاء الأمصار مالك والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وأبو عبيد وأبو ثور: إذا انقضت كان له أن يأكلها إن كان فقيرا، أو يتصدق بها إن كان غنيا. فإن جاء صاحبها كان مخيرا بين أن يجيز الصدقة فينزل على ثوابها أو يضمنه إياها. واختلفوا في الغني هل له أن يأكلها أو ينفقها بعد الحول؟ فقال مالك والشافعي: له ذلك، وقال أبو حنيفة: ليس له أن يأكلها أو يتصدق بها، وروي مثل قوله عن علي وابن عباس وجماعة من التابعين، وقال الأوزاعي: إن كان مالا كثيرا جعله في بيت المال، وروي مثل قول مالك والشافعي عن عمرو ابن مسعود وابن عمر وعائشة. وكلهم متفقون على أنه إن أكلها ضمنها لصاحبها إلا أهل الظاهر. واستدل مالك والشافعي بقوله عليه الصلاة والسلام: فشأنك بها ولم يفرق بين غني وفقير. ومن الحجة لهما ما رواه البخاري والترمذي عن سويد بن غفلة قال: لقيت أويس بن كعب فقال: وجدت صرة فيها مائة دينار، فأتيت النبي (ص) فقال: عرفها حولا، فعرفتها فلم أجد، ثم أتيته ثلاثا فقال: احفظ وعاءها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها وخرج الترمذي وأبو داود فاستنفقها. فسبب الخلاف: معارضة ظاهر لفظ حديث اللقطة لأصل الشرع، وهو أنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه، فمن غلب هذا الأصل على ظاهر الحديث، وهو قوله بعد التعريف فشأنك بها قال: لا يجوز فيها تصرف إلا بالصدقة فقط على أن يضمن إن لم يجز صاحب اللقطة الصدقة، ومن غلب ظاهر الحديث على هذا الأصل ورأي أنه مستثنى عنه قال تحل له بعد العام وهي مال من ماله لا يضمنها إن جاء صاحبها، ومن توسط قال: يتصرف بعد العام فيها وإن كانت عينا على جهة الضمان. وأما حكم دفع القطة لمن ادعاها، فاتفقوا على إنها لا تدف إليه إذا لم يعرف العفاص ولا الوكاء، واختلفوا إذا عرف ذلك هل يحتاج إلى بينة أم لا؟ فقال مالك: يستحق بالعلامة، ولا يحتاج إلى بينة، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يستحق إلا ببينة. وسبب الخلاف: معارضة الأصل في اشتراط الشهادة في صحة الدعوى لظاهر هذا
248 الحديث، فمن غلب الأصل قال: لا بد من البينة، ومن غلب ظاهر الحديث قال: لا يحتاج إلى بينة. وإنما اشترط الشهادة في ذلك الشافعي وأبو حنيفة لان قوله عليه الصلاة والسلام: اعرف عفاصها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها يحتمل أن يكون إنما أمره بذلك ليدفعها لصاحبها بالعفاص والوكاء، فلما وقع الاحتمال وجب الرجوع إلى الأصل، فإن الأصول لا تعارض بالاحتمالات المخالفة لها إلا أن تصبح الزيادة التي نذكرها بعد، وعند مالك وأصحابه أن على صاحب اللقطة أن يصف مع العفاص والوكاء صفة الدنانير والعدد، قالوا: وذلك موجود في بعض روايات الحديث، ولفظه فإن جاء صاحبها ووصف عفاصها ووكاءها وعددها فادفعها إليه قالوا: لكن لا يضره الجهل بالعدد إذا عرف العفاص والوكاء. وكذلك إن زاد فيه. واختلفوا إن نقص من العدد على قولين. وكذلك اختلفوا إذا جهل الصفة وجاء بالعفاص والوكاء. وأما إذا غلط فيها فلا شئ له. وأما إذا عرف إحدى العلامتين اللتين وقع عليهما وجهل الأخرى فقيل إنه لا شئ له إلا بمعرفتهما جميعا، وقيل يدفع إليه بعد الاستبراء. وقيل إن ادعى الجهالة استبرئ وإن غلط لم تدفع إليه. واختلف المذهب إذا أتى بالعلامة المستحقة هل يدفع إليه بيمين أو بغير يمين؟ فقال ابن القاسم: بغير يمين. وقال أشهب: بيمين. وأما ضالة الغنم. فإن العلماء اتفقوا على أن لواجد ضالة الغنم في المكان القفر البعيد من العمران أن يأكلها لقوله عليه الصلاة والسلام في الشاة: هي لك أو لأخيك أو للذئب واختلفوا هل يضمن قيمتها لصاحبها أم لا؟ فقال جمهور العلماء: إنه يضمن قيمتها، وقال مالك في أشهر الأقاويل عنه: إنه لا يضمن. وسبب الخلاف: معارضة الظاهر كما قلنا للأصل المعلوم من الشريعة، إلا أن مالكا هنا غلب الظاهر فجرى على حكم الظاهر، ولم يجز كذلك التصرف فيما وجب تعريفه بعد العام لقوة اللفظ ههنا. وعنه رواية أخرى أنه يضمن. وكذلك كل طعام لا يبقى إذا خشي عليه التلف إن تركه. وتحصيل مذهب مالك عند أصحابه في ذلك أنها على ثلاثة أقسام: قسم يبقى في يد ملتقطه ويخشى عليه التلف إن ترك كالشاة في القفر، والطعام الذي يسرع إليه الفساد. وقسم لا يخشى عليه التلف. فأما القسم الأول: وهو ما يبقى في يد ملتقطه ويخشى عليه التلف. فإنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون يسيرا لا بال له ولا قدر لقيمته ويعلم أن صاحبه لا يطلبه لتفاهته، فهذا لا يعرف عنده وهو لمن وجده. والأصل في ذلك ما روي: أن رسول الله (ص) مر بتمرة في الطريق فقال: لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها ولم يذكر فيها تعريفا، وهذا مثل العصا والسوط، وإن كان أشهب قد استحسن تعريف ذلك. والثاني: أن يكون يسيرا إلا أن له قدرا ومنفعة، فهذا لا خلاف في المذهب في تعريفه.
249 واختلفوا في قدر ما يعرف، فقيل سنة، وقيل أياما. وأما الثالث: فهو أن يكون كثيرا أو له قدر. فهذا لا اختلاف في وجوب تعريفه حولا. وأما القسم الثاني: وهو ما لا يبقى بيد ملتقطه ويخشى عليه التلف، فإن هذا يأكله غنيا كان أم فقيرا، وهل يضمن، فيه روايتان كما قلنا الأشهر أن لا ضمان عليه، واختلفوا إن وجد ما يسرع إليه الفساد في الحاضرة فقيل لا ضمان عليه، وقيل عليه الضمان، وقيل بالفرق بين أن يتصدق به فلا يضمن أو يأكله فيضمن. وأما القسم الثالث: فهو كالإبل، أعني أن الاختيار عنده فيه الترك للنص الوارد في ذلك، فإن أخذها وجب تعريفها، والاختيار تركها، وقيل في المذهب هو عام في جميع الأزمنة، وقيل إنما هو زمان العدل، وأن الفضل في زمان غير العدل التقاطها وأما ضمانها في الذي تعرف فيه، فإن العلماء اتفقوا على أن من التقطها وأشهد على التقاطها فهلكت عنده أنه غير ضامن واختلفوا إذا لم يشهد، فقال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن لا ضمان عليه إن لم يضيع وإن لم يشهد، وقال أبو حنيفة وزفر: يضمنها إن هلكت ولم يشهد. واستدل مالك والشافعي بأن اللقطة وديعة فلا ينقلها ترك الاشهاد من الأمانة إلى الضمان، قالوا: وهي وديعة بما جاء من حديث سليمان بن بلال وغيره أنه قال: إن جاء صاحبها وإلا فلتكن وديعة عندك. واستدل أبو حنيفة وزفر بحديث مطرف بن الشخير عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله (ص): من التقط لقطة فليشهد ذوي عدل عليه ولا يكتم ولا يعنت، فإن جاء صاحبها فهو أحق بها، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء. وتحصيل المذهب في ذلك أن واجد اللقطة عند مالك لا يخلو التقاطه لها من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يأخذها على جهة الاغتيال لها. والثاني: أن يأخذها على جهة الالتقاط. والثالث: أن يأخذها لا على جهة الالتقاط ولا على جهة الاغتيال، فإن أخذها على جهة الالتقاط فهي أمانة عنده عليه حفظها وتعريفها، فإن ردها بعد أن التقطها فقال ابن القاسم: يضمن، وقال أشهب: لا يضمن إذا ردها في موضعها، فإن ردها في غير موضعها ضمن كالوديعة، والقول قوله في تلفها دون يمين إلا أن يتهم. وأما إذا قبضها مغتالا لها فهو ضامن لها، ولكن لا يعرف هذا الوجه إلا من قبله. وأما الوجه الثالث فهو مثل أن يجد ثوبا فيأخذه، وهو يظنه لقوم بين يديه ليسألهم عنه، فهذا إن لم يعرفوه ولا ادعوه كان له أن يرده حيث وجده ولا ضمان عليه باتفاق عند أصحاب مالك. وتتعلق بهذا الباب مسألة اختلف العلماء فيها، وهو العبد يستهلك اللقطة، فقال مالك: إنها في رقبته إما إن يسلمه سيده فيها، وإما أن يفديه بقيمتها، هذا إذا كان استهلاكه قبل الحول، فإن استهلكها بعد الحول كانت دينا عليه ولم تكن في رقبته، وقال الشافعي: إن علم بذلك السيد فهو الضامن، وإن لم يعلم بها السيد كانت في رقبة العبد. واختلفوا هل يرجع الملتقط بما أنفق على اللقطة على صاحبها أم لا؟ فقال الجمهور: ملتقط اللقطة متطوع
250 بحفظها فلا يرجع بشئ من ذلك على صاحب اللقطة. وقال الكوفيون: لا يرجع بما أنفق إلا أن تكون النفقة عن إذن الحاكم، وهذه المسألة هي من أحكام الالتقاط، وهذا القدر كاف بحسب غرضنا في هذا الباب. باب: في اللقيط والنظر في أحكام الالتقاط وفي الملتقط واللقيط وفي أحكامه وقال الشافعي: كل شئ ضائع لا كافل له فالتقاطه من فروض الكفايات، وفي وجوب الاشهاد عليه خيفة الاسترقاق خلاف. والخلاف فيه: مبني على الاختلاف في الاشهاد على اللقطة. واللقيط: هو الصبي الصغير غير البالغ، وإن كان مميزا، ففيه في مذهب الشافعي تردد، والملتقط: هو كل حر عدل رشيد، وليس العبد والمكاتب بملتقط، والكافر دون المسلم، لأنه لا ولاية له عليه، ويلتقط المسلم الكافر، وينزع من يد الفاسق والمبذر، وليس من شرط الملتقط الغنى، ولا تلزم نفقة الملتقط على من التقطه، وإن أنفق لم يرجع عليه بشئ. وأما أحكامه فإنه يحكم له بحكم الاسلام إن التقطه في دار المسلمين ويحكم للطفل بالاسلام بحكم أبيه عند مالك، وعند الشافعي بحكم من أسلم منهما، وبه قال ابن وهب من أصحاب مالك. وقد اختلف في اللقيط فقيل إنه عبد لمن التقطه، وقيل إنه حر وولاؤه لمن التقطه، وقيل إنه حر وولاؤه للمسلمين، وهو مذهب مالك، والذي تشهد له الأصول إلا أن يثبت في ذلك أثر تخصص به الأصول مثل قوله عليه الصلاة والسلام: ترث المرأة ثلاثة: لقيطها وعتيقها وولدها الذي لاعنت عليه.
251 كتاب الوديعة وجل المسائل المشهورة بين فقهاء الأمصار هي في أحكام الوديعة: فمنها أنهم اتفقوا على أنها أمانة لا مضمونة، إلا ما حكي عن عمر بن الخطاب. قال المالكيون: والدليل على أنها أمانة أن الله أمر برد الأمانات وليأمر بالاشهاد، فوجب أن يصدق المستودع في دعواه رد الوديعة مع يمينه إن كذبه المودع، قالوا: إلا أن يدفعها إليه ببينة فإنه لا يكون القول قوله، قالوا: لأنه إذا دفعها إليه ببينة فكأنه ائتمنه على حفظها ولم يأتمنه على ردها، فيصدق في تلفها ولا يصدق على ردها، هذا هو المشهور عن مالك وأصحابه، وقد قيل عن ابن القاسم إن القول قوله وإن دفعها إليه ببينة، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة، وهو القياس، لأنه فرق بين التلف ودعوى الرد، ويبعد أن تنتقض الأمانة، وهذا فيمن دفع الأمانة إلى اليد التي دفعتها إليه. وأما من دفعها إلى غير اليد التي دفعتها إليه، فعليه ما على ولي اليتيم من الاشهاد عند مالك وإلا ضمن، يريد قول الله عز وجل: * (فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم) * فإن أنكر القابض القبض فلا يصدق المستودع في الدفع عند مالك وأصحابه إلا ببينة، وقد قيل إنه يتخرج من المذهب أنه يصدق في ذلك، وسواء عند مالك أمر صاحب الوديعة بدفعها إلى الذي دفعها أو لم يأمر، وقال أبو حنيفة: إن كان ادعى دفعها إلى أمره بدفعها فالقول قول المستودع مع يمينه، فإن أقر المدفوع إليه بالوديعة، أعني إذا كان غير المودع وادع التلف فلا يخلو أن يكون المستودع دفعها إلى أمانة وهو وكيل المستودع أو إلى ذمة، فإن كان القابض أمينا فاختلف في ذلك قول ابن القاسم فقال مره: يبرأ الدافع بتصديق القابض، وتكون المصيبة من الآمر الوكيل بالقبض، ومرة قال: لا يبرأ الدافع إلا بإقامة البينة على الدفع أو يأتي القابض بالمال. وأما إن دفع إلى ذمة، مثل أن يقول رجل للذي عنده الوديعة ادفعها إلي سلفا
252 أو تسلفا في سلعة أو ما أشبه ذلك، فإن كانت الذمة قائمة برئ الدافع في المذهب من غير خلاف، وإن كانت الذمة خربة فقولان. والسبب في هذا الاختلاف كله: أن الأمانة تقوي دعوى المدعي حتى يكون القول قوله مع يمينه، فمن شبه أمانة الذي أمره المودع أن يدفعها إليه، أعني الوكيل بأمانة المودع عنده قال: يكون القول قوله في دعواه التلف كدعوى المستودع عنده، ومن رأى أن تلك الأمانة أضعف قال: لا يبرأ الدافع بتصديق القابض مع دعوى التلف، ومن رأى المأمور بمنزله الآمر قال: القول قول الدافع للمأمور كما كان القول قوله مع الآمر، وهو مذهب أبي حنيفة، ومن رأى أنه أضعف منه قال: الدافع ضامن إلا أن يحضر القابض المال، وإذا أودعها بشرط الضمان فالجمهور على أنه لا يضمن، وقال الغير: يضمن. وبالجملة فالفقهاء يرون بأجمعهم أنه لا ضمان على صاحب الوديعة إلا أن يتعدى ويختلفون في أشياء هل هي تعد أم ليس بتعد؟ فمن مسائلهم المشهورة في هذا البا ب إذا أنفق الوديعة ثم رد مثلها أو أخرجها لنفقته ثم ردها فقال مالك: يسقط عنه الضمان بحالة مثل إذا ردها، وقال أبو حنيفة: إن ردها بعينها قبل أن ينفقها لم يضمن، وإن رد مثلها ضمن، وقال عبد الملك والشافعي: يضمن في الوجهين جميعا، فمن غلظ الامر ضمنه إياها بتحريكها ونية استنفاقها، ومن رخص لم يضمنها إذا أعاد مثلها. ومنها اختلافهم في السفر بها، فقال مالك: ليس له أن يسافر بها إلا أن تعطى له في سفر، وقال أبو حنيفة: له أن يسافر بها إذا كان الطريق آمنا ولم ينهه صاحب الوديعة. ومنها أنه ليس للمودع عنده أن يودع الوديعة غيره من غير عذر، فإن فعل ضمن، وقال أبو حنيفة: إن أودعها عند من تلزمه نفقته لم يضمن، لأنه شبهه بأهل بيته، وعند مالك له أن يستودع ما أودع عند عياله الذين يأمنهم وهم تحت غلقه من زوج أو ولد أو أمة ومن أشبههم. وبالجملة فعند الجميع أنه يجب عليه أن يحفظها مما جرت به عادة الناس أن تحفظ أموالهم، فما كان بينا من ذلك أنه حفظ اتفق عليه، وما كان غير بين أنه حفظ اختلف فيه، مثل اختلافهم في المذهب فيما جعل وديعة في جيبه فذهبت، والأشهر أنه يضمن، وعند ابن وهب أن من أودع وديعة في المسجد فجعلها على نعله فذهبت أنه لا ضمان عليه. ويختلف في المذهب ضمانها بالنسيان مثل أن ينساها في موضع أو ينسى من دفعها إليه، أو يدعيها رجلان، فقيل يحلفان وتقسم بينهما، وقيل إنه يضمن لكل واحد منهما. وإذا أراد السفر فله عند مالك أن يودعها عند ثقة من أهل البلد ولا ضمان عليه قدر على دفعها إلى الحاكم أولم يقدر. واختلف في ذلك أصحاب الشافعي، فمنهم من يقول: إن أودعها لغير الحاكم ضمن، وقبول الوديعة عند مالك لا يجب في حال، ومن العلماء من يرى أنه واجب إذا لم يجد المودع من يودعها عنده،
253 ولا أجر للمودع عنده على حفظ الوديعة، وما تحتاج إليه من مسكن أو نفقة فعلى ربها. واختلفوا من هذا الباب في فرع مشهور، وهو فيمن أودع مالا فتعدى فيه واتجر به فربح فيه، هل ذلك الربح حلال له أم لا؟ فقال مالك والليث وأبو يوسف وجماعة إذا رد المال طاب له الربح وإن كان غاصبا للمال فضلا عن أن يكون مستودعا عنده. وقال أبو حنيفة وزفر ومحمد بن الحسن: يؤدي الأصل ويتصدق بالربح، وقال قوم: لرب الوديعة الأصل والربح. وقال قوم: هو مخير بين الأصل والربح، وقال قوم: البيع الواقع في تلك التجارة فاسد، وهؤلاء هم الذين أوجبوا التصدق بالربح إذا مات. فمن اعتبر التصرف قال الربح للمتصرف، ومن اعتبر الأصل قال: الربح لصاحب المال.. ولذلك لما أمر عمر رضي الله عنه ابنيه عبد الله وعبيد الله أن يصرفا المال الذي أسلفهما وأبو موسى الأشعري من بيت المال فاتجرا فيه فربحا، قيل له: لو جعلته قراضا، فأجاب إلى ذلك، لأنه قد روي أنه قد حصل للعامل جزء ولصاحب المال جزء، وأن ذلك عدل.
254 كتاب العارية والنظر في العارية في أركانها وأحكامها، وأركانها خمسة: الإعارة، والمعير والمستعير، والمعار، والصيغة، أما الإعارة فهي فعل خير ومندوب إليه، وقد شدد فيها قوم من السلف الأول: روي عن عبد الله بن عباس و عبد الله بن مسعود أنهما قالا في قوله تعالى: * (ويمنعون الماعون) * أنه متاع البيت الذي يتعاطاه الناس بينهم من الفأس والدلو والحبل والقدر وما أشبه ذلك، وأما المعير فلا يعتبر فيه إلا كونه مالكا للعارية إما لرقبتها وإما لمنفعتها، والأظهر أنها لا تصلح من المستعير أعني أن يعيرها. وأما العارية فتكون في الدور والأرضين والحيوان، وجميع ما يعرف بعينه إذا كانت منفعته مباحة الاستعمال، ولذلك لا تجوز إباحة الجواري للاستمتاع ويكره للاستخدام إلا أن تكون ذات محرم. وأما صيغة الإعارة، فهي كل لفظ يدل على الاذن، وهي عقد جائز عند الشافعي وأبي حنيفة: أي للمعير أن يسترد عاريته إذا شاء، وقال مالك في المشهور: ليس له استرجاعها قبل الانتفاع، وإن شرط مدة لزمته من المدة ما يرى الناس أنه مدة لمثل تلك العارية. وسبب الخلاف: ما يوجد فيها من شبه العقود اللازمة وغير اللازمة. وأما الاحكام فكثيرة، وأشهرها هل هي مضمونة أو أمانة؟ فمنهم من قال: إنها مضمونة وإن قامت البينة على تلفها، وهو قول أشهب والشافعي، وأحد قولي مالك، ومنهم من قال نقيض هذا، وهو أنها ليست مضمونة أصلا وهو قول أبي حنيفة، ومنهم من قال: يضمن فيما يغاب عليه إذا لم يكن على التلف بينة، ولا يضمن فيما لا يغاب عليه، ولا فيما قامت البينة على تلفه، وهو مذهب مالك المشهور وابن القاسم وأكثر أصحابه. وسبب الخلاف: تعارض الآثار في ذلك، وذلك أنه ورد في الحديث الثابت أنه قال عليه الصلاة والسلام لصفوان بن أمية بل عارية مضمونة مؤداة وفي بعضها بل عارية مؤداة وروي عنه أنه قال: ليس على المستعير ضمان فمن رجح وأخذ بهذا أسقط
255 الضمان عنه، ومن أخذ بحديث صفوان بن أمية ألزمه الضمان، ومن ذهب مذهب الجمع فرق بين ما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه، فحمل هذا الضمان على ما يغاب عليه، والحديث الآخر على ما لا يغاب عليه، إلا أن الحديث الذي فيه ليس على المستعير ضمان غير مشهور، وحديث صفوان صحيح، ومن لم ير الضمان شبهها بالوديعة، ومن فرق قال: الوديعة مقبوضة لمنفعة الدافع، والعارية لمنفعة القابض. واتفقوا في الإجارة على أنها غير مضمونة: أعني الشافعي وأبا حنيفة ومالكا، ويلزم الشافعي إذا سلم أنه لا ضمان عليه في الإجارة أن لا يكون ضمان في العارية إن سلم أن سبب الضمان هو الانتفاع، لأنه إذا لم يضمن حيث قبض لمنفعتهما فأحرى أن لا يضمن حيث قبض لمنفعته إذا كانت منفعة الدافع مؤثرة في اسقاط الضمان. واختلفوا إذا شرط الضمان، فقال قوم: يضمن، وقال قوم: لا يضمن، والشرط باطل، ويجئ على قول مالك إذا اشترط الضمان في الموضع الذي لا يجب فيه عليه الضمان أن يلزم إجارة المثل في استعماله العارية لان الشرط يخرج العارية عن حكم العارية إلى باب الإجارة الفاسدة إذا كان صاحبها لم يرض أن يعير إلا بأن يخرجها في ضمانه، فهو عوض مجهول فيجب أن يرد إلى معلوم. واختلف عن مالك والشافعي إذا غرس المستعير وبنى ثم انقضت المدة التي استعار إليها، فقال مالك: المالك بالخيار وإن شاء أخذ المستعير بقلع غراسته وبنائه، وإن شاء أعطاه قيمته مقلوعا إذا كان مما له قيمة بعد القلع، وسواء عند مالك انقضت المدة المحدودة بالشرط أو بالعرف أو العادة، وقال الشافعي: إذا لم يشترط عليه القلع فليس له مطالبته بالقلع، بل يخير المعير بأن يبقيه بأجر يعطاه، أو ينقض بأرش، أو يتملك ببدل، فأيها أراد المعير أجبر عليه المستعير، فإن أبى كلف تفريغ الملك. وفي جواز بيعه للنقض عنده خلاف، لأنه معرض للنقض، فرأ الشافعي أخذه المستعير بالقلع دون أرش هو ظلم، ورأي مالك أن عليه إخلاء المحل، وأن العرف في ذلك يتنزل منزلة الشروط، وعند مالك أنه إن استعمل العارية استعمالا ينقصها عن استعمال المأذون فيه ضمن ما نقصها بالاستعمال. واختلفوا من هذا الباب في الرجل يسأل جاره أن يعيره جداره ليغرز فيه خشبة لمنفعته ولا تضر صاحب الجدار، وبالجملة في كل ما ينتفع به المستعير ولا ضرر على المعير فيه، فقال مالك وأبو حنيفة: لا يقضى عليه به إذ العارية لا يقضى بها، وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود وجماعة أهل الحديث: يقضى بذلك. وحجتهم ما خرجه مالك عن ابن شهاب عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال: لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافهم. واحتجوا أيضا بما رواه مالك عن عمر بن الخطاب أن الضحاك بن قيس) ساق خليجا له من العريض، فأرادوا أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة، فأبى محمد، فقال له
256 الضحاك: أنت تمنعني وهو لك منفعة، تسقي منه أولا وآخرا ولا يضرك؟ فأبى محمد، فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب، فدعا عمر محمد بن مسلمة، فأمره أن يخلي سبيله، قال محمد: لا، فقال عمر: لا تمنع أخاك ما ينفعه ولا يضرك، فقال محمد: لا، فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك، فأمره عمر أن يمر به، ففعل الضحاك. وكذلك حديث عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أنه قال: كان في حائط جدي ربيع لعبد الرحمن بن عوف، فأراد أن يحوله إلى ناحية من الحائط، فمنعه صاحب الحائط، فكلم عمر بن الخطاب، فقضى لعبد الرحمن بن عوف بتحويله. وقد عذل الشافعي مالكا لادخاله هذه الأحاديث في موطئه، وتركه الاخذ بها. وعمدة مالك وأبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام: لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه وعند الغير أن عموم هذا مخصص بهذه الأحاديث، وبخاصة حديث أبي هريرة. وعند مالك أنها محمولة على الندب، وأنه إذا أمكن أن تكون مختصة وأن تكون على الندب فحملها على الندب أولى، لان بناء العام على الخاص إنما يجب إذا لم يمكن بينهما جمع، ووقع التعارض. وروى أصبغ عن ابن القاسم: أنه لا يؤخذ بقضاء عمر على محمد بن مسلمة في الخليج. ويؤخذ بقضائه لعبد الرحمن بن عوف في تحويل الربيع، وذلك أنه رأى أن تحويل الربيع أيسر من أن يمر عليه بطريق لم يكن قبل. وهذا القدر كاف بحسب غرضنا.
257 كتاب الغصب وفيه بابان: الأول: في الضمان، وفيه ثلاثة أركان: الأول: الموجب للضمان. والثاني: ما فيه الضمان. والثالث: الواجب. وأما الباب الثاني: فهو في الطوارئ على المغصوب. الباب الأول: في الضمان الركن الأول: وأما الموجب للضمان، فهو إما المباشرة لاخذ المال المغصوب أو لاتلافه، وإما المباشرة للسبب المتلف، وإما إثبات اليد عليه. واختلفوا في السبب الذي يحصل بمباشرته الضمان إذا تناول التلف بواسطة سبب آخر هل يحصل به ضمان أم لا؟ وذلك مثل أن يفتح قفصا فيه طائر فيطير بعد الفتح. فقال مالك: يضمنه، هاجه على الطيران أو لم يهجه وقال أبو حنيفة لا يضمن على حال، وفرق الشافعي بين أن يهيجه على الطيران أو لا يهيجه، فقال: يضمن إن هاجه: ولا يضمن إن لم يهجه. ومن هذا من حفر بئرا فسقط فيه شئ فهلك، فمالك والشافعي يقولان: إن حفرة بحيث إن يكون حفره تعديا ضمن ما تلف فيه وإلا لم يضمن، ويجئ على أصل أبي حنيفة أنه لا يضمن في مسألة الطائر، وهل يشترط في المباشرة العمد أو لا يشترط؟ فالأشهر أن الأموال تضمن عمدا وخطأ، وإن كانوا قد اختلفوا في مسائل جزئية من هذا الباب، وهل يشترط فيه أن يكون مختارا؟ فالمعلوم عند الشافعي أنه يشترط أن يكون مختارا، ولذلك رأى على المكره الضمان: أعني المكره على الاتلاف. الركن الثاني: وأما ما يجب فيه الضمان فهو كل مال أتلفت عينه أو تلفت عند الغاصب عينه بأمر من السماء أو سلطت اليد عليه وتملك، وذلك فيما ينقل ويحول باتفاق، واختلفوا فيما لا ينقل ولا يحول مثل العقار، فقال الجمهور: إنها تضمن بالغصب. أعني أنها إن انهدمت الدار ضمن قيمتها، وقال أبو حنيفة: لا يضمن.
258 الركن الثالث: وهو الواجب في الغصب، والواجب على الغاصب إن كان المال قائما عنده بعينه لم تدخله زيادة ولا نقصان أن يرده بعينه، وهذا لا اختلاف فيه، فإذا ذهبت عينه فإنهم اتفقوا على أنه إذا كان مكيلا أو موزونا أن على الغاصب المثل، أعني مثل ما استهلك صفة ووزنا. واختلفوا في العروض فقال مالك: لا يقضي في العروض من الحيوان وغيره إلا بالقيمة يوم استهلك. وقال الشافعي وأبو حنيفة وداود: الواجب في ذلك المثل، ولا تلزم القيمة إلا عند عدم المثل. وعمدة مالك حديث أبي هريرة المشهور عن النبي (ص): من أعتق شقصا له في عبد قوم عليه الباقي قيمة العدل الحديث، ووجه الدليل منه أنه لم يلزمه المثل وألزمه القيمة. وعمدة الطائفة الثانية قوله تعالى: * (فجزاء مثل ما قتل من النعم) * ولان منفعة الشئ قد تكون هي المقصودة عند المتعدى عليه، ومن الحجة لهم ما خرجه أبو داود من حديث أنس وغيره أن رسول الله (ص) كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين جارية بقصعة لها فيها طعام، قال: فضربت بيدها فكسرت القصعة، فأخذ النبي (ص) الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى وجعل فيها جميع الطعام وهو يقول: غارت أمكم كلوا كلوا، حتى جاءت قصعتها التي في بيتها، وحبس رسول الله (ص) القصعة حتى فرغوا، فدفع الصفحة الصحيحة إلى الرسول، وحبس المكسورة في بيته وفي حديث آخر: أن عائشة كانت هي التي غارت وكسرت الاناء، وأنها قالت لرسول الله (ص): ما كفار ما صنعت؟ قال: إناء مثل إناء، وطعام مثل طعام. الباب الثاني: في الطوارئ والطوارئ على المغصوب إما بزيادة وإما بنقصان، وهذان إما من قبل المخلوق، وإما من قبل الخالق. فأما النقصان الذي يكون بأمر من السماء فإنه ليس له إلا أن يأخذه ناقصا، أو يضمنه قيمته يوم الغصب، وقيل إن له أن يأخذه ويضمن الغاصب قيمة العيب. وأما إن كان النقص بجناية الغاصب فالمغصوب مخير في المذهب بين ان يضمنه القيمة يوم الغصب أو يأخذه، وما نقصته الجناية يوم الجناية عند ابن القاسم. وعند سحنون ما نقصته الجناية يوم الغصب، وذهب أشهب إلى أنه مخير بين أن يضمنه القيمة أو يأخذه ناقصا، ولا شئ له في الجناية كالذي يصاب بأمر من السماء، وإليه ذهب ابن المواز. والسبب في هذا الاختلاف: أن من جعل المغصوب مضمونا على الغاصب بالقيمة يوم الغصب جعل ما حدث فيه من نماء أو نقصان، كأن حدث في ملك صحيح، فأوجب له الغلة ولم يوجب عليه في النقصان شيئا سواء
259 كان من سببه أو من عند الله، وهو قياس قول أبي حنيفة. وبالجملة فقياس قول من يضمنه قيمته يوم الغصب فقط، ومن جعل المغصوب مضمونا على الغاصب بقيمته في كل أوان كانت يده عليه آخذه بأرفع القيم، وأوجب عليه رد الغلة وضمان النقصان سواء أكان من فعله أو من عند الله، وهو قول الشافعي أو قياس قوله. ومن فرق بين الجناية التي تكون من الغاصب، وبين الجناية التي تكون بأمر من السماء، وهو مشهور مذهب مالك وابن القاسم، فعمدته قياس الشبه، لأنه رأى أن جناية الغاصب على الشئ الذي غصبه هو غصب ثان متكرر منه، كما لو جنى عليه وهو في ملك صاحبه، فهذا هو نكتة الاختلاف في هذا الباب فقف عليه. وأما إن كانت الجناية عند الغاصب من غير فعل الغاصب، فالمغصوب مخير بين أن يضمن الغاصب القيمة يوم الغصب ويتبع الغاصب الجاني، وبين أن يترك الغاصب ويتبع الجاني بحكم الجنايات، فهذا حكم الجنايات على العين في يد الغاصب. وأما الجناية على العين من غير أن يغصبها غاصب، فإنها تنقسم عند مالك إلى قسمين: جناية تبطل يسيرا من المنفعة، والمقصود من الشئ باق، فهذا يجب فيه ما نقص يوم الجناية، وذلك بأن يقوم صحيحا ويقوم بالجناية، فيعطى ما بين القيمتين. وأما إن كانت الجناية مما تبطل الغرض المقصود، فإن صاحبه يكون مخيرا إن شاء أسلمه للجاني وأخذ قيمته، وإن شاء أخذ قيمة الجناية، وقال الشافعي وأبو حنيفة: ليس له إلا قيمة الجناية. وسبب الاختلاف: الالتفات إلى الحمل على الغاصب، وتشبيه إتلاف أكثر المنفعة بإتلاف العين. وأما النماء فإنه على قسمين: أحدهما: أن يكون بفعل الله كالصغير يكبر والمهزول يسمن والعيب يذهب. والثاني: أن يكون مما أحدثه الغاصب. فأما الأول فإنه ليس يفوت. وأما النماء بما أحدثه الغاصب في الشئ المغصوب فإنه ينقسم فيما رواه ابن القاسم عن مالك إلى قسمين: أحدهما: أن يكون قد جعل فيه من ماله، ما له عين قائمة كالصبغ في الثوب والنقش في البناء وما أشبه ذلك. والثاني: أن لا يكون قد جعل فيه من ماله سوى العمل كالخياطة والنسج وطحن الحنطة والخشبة يعمل منها توابيت. فأما الوجه الأول: وهو أن يجعل فيه من ماله ما له عين قائمة، فإنه ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون ذلك الشئ مما يمكنه إعادته على حاله كالبقعة يبنيها وما أشبه ذلك. والثاني: أن لا يقدر على إعادته كالثوب يصبغه والسويق يلته. فأما الوجه الأول: فالمغصوب منه مخير بين أن يأمر الغاصب بإعادة البقعة على حالها وإزالة ما له فيها مما جعله من نقيض أو غيره، وبين أن يعطي الغاصب قيمة ماله فيها من النقض مقلوعا بعد حط أجر القلع، وهذا إن كان الغاصب ممن لا يتولى ذلك بنفسه ولا بغيره، وإنما يستأجر عليه، وقيل إنه لا يحط من ذلك أجر القلع، هذا إن كانت له قيمة، وأما إن لم تكن له قيمة لم يكن للغاصب على المغصوب فيه شئ، لان من حق المغصوب أن يعيد له الغاصب ما غصب منه على هيئته، فإن لم يطالبه بذلك لم يكن له مقا. وأما الوجه الثاني: فهو فيه مخير بين أن يدفع قيمة الصبغ وما أشبه ويأخذ ثوبه وبين أن يضمنه قيمة الثوب يوم غصبه،
260 إلا في السويق الذي يلته في السمن وما أشبه ذلك من الطعام، فلا يخير فيه لما يدخله من الربا ويكون ذلك فوتا يلزم الغاصب فيه المثل، أو القيمة فيما لا مثل له. وأما الوجه الثاني: من التقسيم الأول، وهو أن لا يكون أحدث الغاصب فيما أحدثه في الشئ المغصوب سوى العمل، فإن ذلك أيضا ينقسم قسمين: أحدهما: أن يكون ذلك يسيرا لا ينتقل به الشئ عن اسمه بمنزلة الخياطة في الثوب أو الرفولة. والثاني: أن يكون العمل كثيرا ينتقل به الشئ المغصوب عن اسمه كالخشبة يعمل منها تابوتا والقمح يطحنه والغزل ينسجه والفضة يصوغها حليا أو دراهم. فأما الوجه الأول: فلا حق فيه للغاصب، ويأخذ المغصوب منه الشئ المغصوب معمولا. وأما الوجه الثاني: فهو فوت يلزم الغاصب قيمة الشئ المغصوب يوم غصبه أو مثله فيما له مثل، هذا تفصيل مذهب ابن القاسم في هذا المعنى، وأشهب يجعل ذلك كله للمغصوب، أصله مسألة البنيان فيقول: إنه لا حق للغاصب فيما لا يقدر على أخذه من الصبغ والرفولة والنسج والدباغ والطحين. وقد روي عن ابن عباس أن الصبغ تفويت يلزم الغاصب فيه القيمة يوم الغصب، وقد قيل إنهما يكونان شريكين، هذا بقيمة الصبغ، وهذا بقيمة الثوب إن أبى رب الثوب أن يدفع قيمة الصبغ، وإن أبى الغاصب أن يدفع قيمة الثوب، وهذا القول أنكره ابن القاسم في المدونة في كتاب اللقطة وقال: إن الشركة لا تكون إلا فيما كان بوجه شبهة جلية. وقول الشافعي في الصبغ مثل قول ابن القاسم إلا أنه يجيز الشركة بينهما ويقول: إنه يؤمر الغاصب بقلب الصبغ إن أمكنه وإن نقص الثوب، ويضمن للمغصوب مقدار النقصان، وأصول الشرع تقتضي أن لا يستحل مال الغاصب من أجل غصبه. وسواء أكان منفعة أو عينا، إلا أن يحتج محتج بقوله عليه الصلاة والسلام: ليس عرق ظالم حق لكن هذا مجمل، ومفهومه الأول أنه ليس له منفعة متولدة بين ماله وبين الشئ الذي غصبه، أعني ماله المتعلق بالمغصوب، فهذا هو حكم الواجب في غير المغصوب تغير أو لم يتغير. وأما حكم غلته، فاختلف في ذلك في المذهب على قولين: أحدهما: أن حكم الغلة حكم الشئ المغصوب. والثاني: أن حكمها بخلاف الشئ المغصوب، فمن ذهب إلى أن حكمها حكم الشئ المغصوب، وبه قال أشهب من أصحاب مالك يقول: إنما تلزمه الغلة يوم قبضها أو أكثر مما انتهت إليه قيمتها على قول من يرى أن الغاصب يلزمه أرفع القيم من يوم غصبها لا قيمة الشئ المغصوب يوم الغصب. وأما الذين ذهبوا إلى أن حكم الغلة بخلاف حكم الشئ المغصوب، فاختلفوا في حكمها اختلافا كثيرا بعد اتفاقهم على أنها إن تلفت ببينة أنه لا ضمان على الغاصب، وإنه إن ادعى تلفها لم يصدق وأن كان مما لا يغلب عليه. وتحصيل مذهب هؤلاء في حكم الغلة هو أن الغلال تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها: غلة متولدة عن الشئ المغصوب على نوعه وخلقته وهو الولد، وغلة متولدة عن الشئ لا على صورته، وهو مثل الثمر ولبن
261 الماشية وجبنها وصوفها، وغلال غير متولدة بل هي منافع، وهي الأكرية والخراجات وما أشبه ذلك. فأما ما كان على خلقته وصورته فخلاف أعلمه أن الغاصب يرده كالولد مع الأم المغصوبة وإن كان ولد الغاصب. وإنما اختلفوا في ذلك إذا ماتت الأم، فقال مالك: هو مخير بين الولد وقيمة الأم وقال الشافعي: بل يرد الولد وقيمة الأم وهو القياس. وأما إن كان متولدا على غير خلقة الأصل وصورته ففيه قولان: أحدهما: أن للغاصب ذلك المتولد. والثاني: أنه يلزمه رده مع الشئ المغصوب إن كان قائما أو قيمتها إن ادعى تلفها ولم يعرف ذلك إلا من قوله، فإن تلف الشئ المغصوب كان مخيرا بين أن يضمنه بقيمته ولا شئ له في الغلة، وبين أن يأخذه بالغلة ولا شئ له من القيمة. وأما ما كان غير متولد، فاختلفوا فيه على خمسة أقوال: أحدها: أنه لا يلزمه رده جملة من غير تفصيل. والثاني: أنه يلزمه رده من غير تفصيل أيضا. والثالث: أنه يلزمه الرد إن أكرى، ولا يلزمه الرد إن انتفع أو عطل. والرابع: يلزمه إن أكرى أو انتفع، ولا يلزمه إن عطل. والخامس: الفرق بين الحيوان والأصول، أعني أنه يرد قيمة منافع الأصول، ولا يرد قيمة منافع الحيوان، وهذا كله فيما اغتل من العين المغصوبة مع عينها وقيامها. وأما ما اغتل منها بتصريفها وتحويل عينها كالدنانير فيغتصبها فيتجر بها فيربح، فالغلة له قولا واحدا في المذهب، وقال قوم: الربح للمغصوب وهذا أيضا إذا قصد غصب الأصل. وأما إذا قصد غصب الغلة دون الأصل فهو ضامن للغلة بإطلاق، ولا خلاف في ذلك سواء عطل أو انتفع أو أكرى، كان مما يزال به أو بما لا يزال به. وقال أبو حنيفة: إنه من تعدى على دابة رجل فركبها أو حمل عليها فلا كراء عليه في ركوبه إياها ولا في حمله، لأنه ضامن لها إن تلفت في تعديه، وهذا قوله في كل ما ينقل ويحول، فإنه لما رأى أنه قد ضمنه بالتعدي وصار فذمته جازت له المنفعة كما تقول المالكية فيما اتجر به من المال المغصوب، وإن كان الفرق بينهما أن الذي اتجر به تحولت عينه، وهذا لم تتحول عينه. وسبب اختلافهم: في هل يرد الغاصب الغلة أو لا يردها اختلافهم في تعميم قوله عليه الصلاة والسلام: الخراج بالضمان وقوله عليه الصلاة والسلام: ليس لعرق ظالم حق وذلك أن قوله عليه الصلاة والسلام هذا خرج على سبب، وهو في غلام قيم فيه بعيب، فأراد الذي صرف عليه أن يرد المشتري غلته، وإذا خرج العام على سبب هل يقصر على سببه أم يحمل على عمومه؟ فيه خلاف فقهاء الأمصار مشهور، فمن قصر ههنا هذا الحكم على سببه قال إنما تجب الغلة من قبل الضمان فيما صار إلى الانسان بشبهة، مثل أن يشتري شيئا فيستغله فيستحق منه. وأما ما صار إليه بغير وجه شبهة فلا تجوز له الغلة لأنه ظالم، وليس لعرق ظالم حق، فعمم هذا الحديث في الأصل والغلة: أعني عموم هذا الحديث وخصص الثاني. وأما من عكس الامر فعمم قوله عليه الصلاة والسلام: الخراج بالضمان على أكثر من السبب الذي خرج عليه، وخصص قوله عليه الصلاة والسلام: ليس لعرق ظالم حق بأن جعل ذلك في الرقبة دون الغلة قال: لا يرد الغلة الغاصب. وأما من المعنى كما تقدم من قولنا
262 فالقياس أن تجري المنافع والأعيان المتولدة مجرى واحدا، وأن يعتبر التضمن أو لا يعتبر. وأما سائر الأقاويل التي بين هذين فهي استحسان. وأجمع العلماء على أن من اغترس نخلا أو ثمرا بالجملة وبنيانا في غير أرضه أنه يؤمر بالقلع لما ثبت من حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله (ص) قال: من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق والعرق الظالم عندهم هو ما اغترس في أرض الغير. وروى أبو داود في هذا الحديث زيادة: قال عروة: ولقد حدثني الذي حدثني هذا الحديث أن رجلين اختصما إلى رسول الله (ص) غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر، فقضى لصاحب الأرض بأرضه، وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها قال: فلقد رأيتها وإنها لتضرب أصولها بالفؤوس وإنها لنخل عم حتى أخرجت منها. إلا ما روي في المشهور عن مالك أن من زرع زرعا في أرض غيره وفات أوان زراعته لم يكن لصاحب الأرض أن يقلع زرعه، وكان على الزارع كراء الأرض. وقد روي عنه ما يشبه قياس قول الجمهور، وعلى قوله: إن كل ما لا ينتفع الغاصب به إذا قلعه وأزاله أنه للمغصوب يكون الزرع على هذا للزارع. وفرق قوم بين الزرع والثمار فقالوا: الزارع في أرض غيره له نفقته وزريعته، وهو قول كثير من أهل المدينة، وبه قال أبو عبيد. وروي عن رافع بن خديج أنه قال عليه الصلاة والسلام: من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فله نفقته وليس له من الزرع شئ. واختلف العلماء في القضاء فيما أفسدته المواشي والدواب على أربعة أقوال: أحدها: أن كل دابة مرسلة فصاحبها ضامن لما أفسدته. والثاني: أن لا ضمان عليه. والثالث: أن الضمان على أرباب البهائم بالليل، ولا ضمان عليهم فيما أفسدته بالنهار. والرابع: وجوب الضمان في غير المنفلت ولا ضمان في المنفلت، وممن قال: يضمن بالليل ولا يضمن بالنهار مالك والشافعي، وبأن لا ضمان عليهم أصلا قال أبو حنيفة وأصحابه، وبالضمان بإطلاق، قال الليث، إلا أن الليث قال: لا يضمن أكثر من قيمة الماشية، والقول الرابع مروي عن عمر رضي الله عنه. فعمدة مالك والشافعي في هذا الباب شيئان: أحدهما: قوله تعالى: * (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم) * والنفش عند أهل اللغة لا يكون إلا بالليل، وهذا الاحتجاج على مذهب من يرى أنا مخاطبون بشرع من قبلنا، والثاني: مرسله عن ابن شهاب أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط قوم فأفسدت فيه، فقضى رسول الله (ص) أن على أهل الحوائط بالنهار حفظها، وأن ما أفسدته المواشي بالليل ضامن على أهلها أي مضمون. وعمدة أبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام: العجماء جرحها جبار وقال الطحاوي: وتحقيق مذهب أبي حنيفة أنه لا يضمن إذا أرسلها محفوظة فأما إذا لم يرسلها محفوظة فيضمن، والمالكية تقول: من شرط قولنا أن تكون الغنم في المسرح وأما إذا كانت في أرض مزرعة لا مسرح فيها فهم يضمنون ليلا ونهارا. وعمدة من رأى الضمان فيما أفسدت ليلا ونهارا شهادة الأصول له، وذلك أنه تعد
263 من المرسل، والأصول على أن على المعتدي الضمان، ووجه من فرق بين المنفلت وغير المنفلت بين، فإن المنفلت لا يملك. فسبب الخلاف في هذا الباب: معارضة الأصل للسمع، ومعارضة السماع بعضه لبعض، أعني أن الأصل يعارض جرح العجماء جبار ويعارض أيضا التفرقة التي في حديث البراء، وكذلك التفرقة التي في حديث البراء تعارض أيضا قوله: جرح العجماء جبار. ومن مسائل هذا الباب المشهورة اختلافهم في حكم ما يصاب من أعضاء الحيوان، فروي عن عمر بن الخطاب أنه قضى في عين الدابة بربع ثمنها، وكتب إلى شريح فأمره بذلك، وبه قال الكوفيون، وقضى به عمر بن عبد العزيز، وقال الشافعي ومالك: يلزم فيما أصيب من البهيمة ما نقص في ثمنها قياسا على التعدي في الأموال، والكوفيون اعتمدوا في ذلك على قول عمر رضي الله عنه وقالوا: إذا قال الصاحب قولا ولا مخالف له من الصحابة وقوله مع هذا مخالف للقياس وجب العمل به لأنه يعلم أنه إنما صار إلى القول به من جهة التوقيف. فسبب الخلاف إذن: معارضة القياس لقول الصاحب. ومن هذا الباب اختلافهم في الجمل الصؤول وما أشبهه يخاف الرجل على نفسه فيقتله، هل يجب عليه غرمه أم لا؟ فقال مالك والشافعي: لا غرم عليه إذا بان أنه خافه على نفسه، وقال أبو حنيفة والثوري: يضمن قيمته على كل حال. وعمدة من لم ير الضمان القياس على من قصد رجلا فأراد قتله، فدافع المقصود عن نفسه فقتل في المدافعة القاصد المتعدي أنه ليس عليه قود، وإذا كان ذلك في النفس كان في المال أحرى، لان النفس أعظم حرمة من المال، وقياسا أيضا على إهدار دم الصيد الحرمي إذا صال، وتمسك به حذاق أصحاب الشافعي. وعمدة أبي حنيفة أن الأموال تضمن بالضرورة إليها، أصله المضطر إلى طعام الغير ولا حرمة للبعير من جهة ما هو ذو نفس. ومن هذا الباب اختلافهم في المكرهة على الزنا، هل على مكرهها مع الحد صداق أم لا؟ فقال مالك والشافعي والليث: عليه الصداق والحد جميعا وقال أبو حنيفة والثوري: عليه الحد ولا صداق عليه، وهو قول ابن شبرمة. وعمدة مالك أنه يجب عليه حقان: حق الله وحق للآدمي، فلم يسقط أحدهما الآخر، أصله السرقة التي يجب بها عندهم غرم المال والقطع. وأما من لم يوجب الصداق، فتعلق في ذلك بمعنيين: أحدهما: أنه إذا اجتمع حقان: حق لله وحق للمخلوق سقط حق المخلوق لحق الله، وهذا على رأي الكوفيين في أنه لا يجمع على السارق غرم وقطع. والمعنى الثاني: أن الصداق ليس مقابل البضع، وإنما هو عبادة إذ كان النكاح شرعيا، وإذا كان ذلك كذلك فلا صداق في النكاح الذي على غير الشرع. ومن مسائلهم المشهورة في هذا الباب من غصب أسطوانة فبنى عليها بناء يساوي قائما أضعاف قيمة الأسطوانة، فقال مالك والشافعي: يحكم على الغاصب بالهدم ويأخذ المغصوب منه أسطوانته، وقال أبو حنيفة: تفوت بالقيمة كقول مالك فيمن غير المغصوب بصناعة لها قيمة كثيرة، وعند الشافعي لا يفوت المغصوب بشئ من الزيادة. وهنا انقضى هذا الكتاب.
264 كتاب الاستحقاق وجل النظر في هذا الكتاب هو في أحكام الاستحقاق، وتحصيل أصول أحكام هذا الكتاب أن الشئ المستحق من يد انسان بما تثبت به الأشياء في الشرع لمستحقها إذا صار إلى ذلك الانسان الذي استحق من يده الشئ المستحق بشراء أنه لا يخلو من أن يستحق من ذلك الشئ أقله أو كله أو جله، ثم إذا استحق منه كله أو جله فلا يخلو أن يكون قد تغير عند الذي هو بيده بزيادة أو نقصان أو يكون لم يتغير، ثم لا يخلو أيضا أن يكون المستحق منه قد اشتراه بثمن أو مثمون. فأما إن كان استحق منه أقله، فإنه إنما يرجع عند مالك على الذي اشتراه منه بقيمة ما استحق من يده، وليس له أن يرجع بالجملة. وأما إن كان استحق كله أو جله، فإن كان لم يتغير أخذه المستحق ورجع المستحق من يده على الذي اشتراه منه بثمن ما اشتراه منه، وإن كان اشتراه بالمثمون رجع بالمثمون بعينه إن كان لم يتغير، فإن تغير تغيرا يوجب اختلاف قيمته رجع بقيمته يوم الشراء، وإن كان المال المستحق قد بيع، فإن للمستحق أن يمضي البيع ويأخذ الثمن أو يأخذه بعينه، فهذا حكم المستحق من يده ما لم يتغير الشئ المستحق، فإن تغير الشئ المستحق فلا يخلو أن يتغير بزيادة أو نقصان: فأما إن كان تغير بزيادة فلا يخلو أن يتغير بزيادة من قبل الذي استحق من يده الشئ، أو بزيادة من ذات الشئ، فأما الزيادة من ذات الشئ فيأخذها المستحق، مثل أن تسمه الجارية أو يكبر الغلام. وأما الزيادة من قبل المستحق منه، فمثل أن يشتري الدار فبنى فيها فتستحق من يده، فإنه مخير بين أن يدفع قيمة الزيادة ويأخذ ما استحقه وبين أن يدفع إليه المستحق من يده قيمة ما استحق أو يكونا شريكين، هذا بقدر قيمة ما استحق من يده، وهذا بقدر قيمة ما بنى أو غرس، وهو قضاء عمر بن الخطاب. وأما إن كانت الزيادة ولادة من قبل المستحق منه، مثل أن يشتري أمة فيولدها ثم تستحق منه أو يزوجها على أنها حرة فتخرج أمة، فإنهم اتفقوا على أن المستحق ليس له أن يأخذ أعيان الولد، واختلفوا في أخذ قيمتهم. وأما الأم فقيل يأخذها بعينها، وقيل يأخذ قيمتها، وأما إن كان الولد بنكاح فاستحقت بعبودية فلا خلاف أن
265 لسيدها أن يأخذها ويرجع الزوج بالصداق على من غره، وإذا ألزمناه قيمة الولد لم يرجع بذلك على من غره، لان الغرر لم يتعلق بالولد. وأما غلة الشئ المستحق، فإنه إذا كان ضامنا بشبهة ملك فلا خلاف أن الغلة للمستحق منه، وأعني بالضمان أنها تكون من خسارته إذا هلكت عنده. وأما إذا كان غير ضامن، مثل أن يكون وارثا فيطرأ عليه وارث آخر فيستحق بعض ما في يده فإنه يرد الغلة. وأما إن كان غير ضامن إلا أنه ادعى في ذلك ثمنا مثل العبد يستحق بحرية، فإنه وإن هلك عنده يرجع بالثمن ففيه قولان: إنه لا يضمن إذا لم يجد على من يرجع، ويضمن إذا وجد على من يرجع. وأما من أي وقت تصح الغلة للمستحق؟ فقيل يوم الحكم، وقيل من يوم ثبوت الحق، وقيل من يوم توقيفه. وإذا قلنا إن الغلة تجب للمستحق في أحد هذه الأوقات الثلاثة فإذا كانت أصولا فيها ثمرة فأدرك هذا الوقت الثمر ولم يقطف بعده، فقيل إنها للمستحق ما لم تيبس، وقيل ما لم يطب ويرجع عليه بما سقى، وعالج المستحق من يديه، وهذا إن كان اشترى الأصول قبل الابار. وأما إن اشتراها بعد الابار فالثمرة للمستحق عند ابن القاسم إن جذت ويرجع بالسقي والعلاج، وقال أشهب: هي للمستحق ما لم تجذ. والأرض إذا استحقت، فالكراء إنما هو للمستحق إن وقع الاستحقاق في إبان زريعة الأرض. وأما إذا خرج الا بان فقد وجب كراء الأرض للمستحق منه. وأما إن كان بغير نقصان، فإن كان من غير سبب المستحق من يديه فلا شئ على المستحق من يديه. وأما إن كان أخذ له ثمنا مثل أن يهدم الدار فيبيع نقضها ثم يستحقها من يده رجل آخر، فإنه يرجع عليه بثمن ما باع من النقض. قال القاضي: ولم أجد في هذا الباب خلافا يعتمد عليه فيما نقلته فيه من مذهب مالك وأصحابه، وهي أصولهم في هذا الباب، ولكن يجئ على أصول الغير أنه إذا كان المستحق مشترى بعرض، وكان العرض قد ذهب أن يرجع المستحق من يده بعرض مثله لا بقيمته، وهم الذين يرون في جميع المتلفات المثل، وكذلك يجئ على أصول الغير أن يرجع على المشتري إذا استحق منه قليل أو كثير، لأنه لم يدخل على الباقي ولا انعقد عليه بيع ولا وقع به تراض. كمل كتاب الاستحقاق بحمد الله.
266 كتاب الهبات والنظر في الهبة: في أركانها، وفي شروطها، وفي أنواعها، وفي أحكامها. ونحن إنما نذكر من هذه الأجناس ما فيها من المسائل المشهورة. فنقول: أما الأركان فهي ثلاثة: الواهب، والموهوب له، والهبة. أما الواهب فإنهم اتفقوا على أنه تجوز هبته إذا كان مالكا للموهوب صحيح الملك، وذلك إذا كان في حال الصحة وحال إطلاق اليد، واختلفوا في حال المرض وفي حال السفه والفلس. وأما المريض فقال الجمهور: إنها في ثلثه تشبيها بالوصية، أعني الهبة التامة بشروطها، وقالت طائفة من السلف وجماعة أهل الظاهر: إن هبته تخرج من رأس ماله إذا مات، ولا خلاف بينهم أنه إذا صح من مرضه أن الهبة صحيحة. وعمدة الجمهور حديث عمران بن حصين عن النبي عليه الصلاة والسلام: في الذي أعتق ستة أعبد عند موته، فأمره رسول الله (ص) فأعتق ثلثهم وأرق الباقي وعمدة أهل الظاهر استصحاب الحال: أعني حال الاجماع، وذلك أنهم لما اتفقوا على جواز هبته في الصحة وجب استصحاب حكم الاجماع في المرض إلا أن يدل الدليل من كتاب أو سنة بينة، والحديث عندهم محمول على الوصية، والأمراض التي يحجر فيها عند الجمهور هي الأمراض المخوفة، وكذلك عند مالك الحالات المخوفة، مثل الكون بين الصفين، وقرب الحامل من وأما الأمراض المزمنة فليس عندهم الوضع، وراكب البحر المرتج، وفيه اختلاف فيها تحجير، وقد تقدم هذا في كتاب الحجر. وأما السفهاء والمفلسون فلا خلاف عند من يقول بالحجر عليهم أن هبتهم غير ماضية. وأما الموهوب فكل شئ صح ملكه. واتفقوا على أن للانسان أن يهب جميع ماله للأجنبي. واختلفوا فتفضيل الرجل بعض ولده على بعض في الهبة، أو في جميع ماله لبعضهم دون بعض، فقال جمهور فقهاء الأمصار بكراهية ذلك له، ولكن إذا وقع عندهم جاز، وقال أهل الظاهر: لا يجوز التفضيل فضلا عن أن يهب جميع ماله، وقال مالك: يجوز التفضيل ولا يجوز أن يهب بعضهم جميع المال دون بعض. ودليل أهل الظاهر حديث النعمان بن بشير، وهو حديث متفق على صحته، وإن كان قد اختلف في ألفاظه، والحديث أنه قال: إن أباه بشيرا أتى به إلى رسول الله (ص) فقال: إني نحلت ابني هذا
267 غلاما كان لي، فقال رسول الله (ص): أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ قال: لا، قال رسول الله (ص): فارتجعه. واتفق مالك والبخاري ومسلم على هذا اللفظ، قالوا: والارتجاع يقتضي بطلان الهبة. وفي بعض ألفاظ روايات هذا الحديث أنه قال عليه الصلاة والسلام: هذا جور. وعمدة الجمهور أن الاجماع منعقد على أن للرجل أن يهب في صحته جميع ماله للأجانب دون أولاده، فإن كان ذلك للأجنبي فهو للولد أحرى. واحتجوا بحديث أبي بكر المشهور أنه كان نحل عائشة جذاذ عشرين وسقا من مال الغابة فلما حضرته الوفاة قال: والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلي غنى بعدي منك، ولا أعز علي فقرا بعدي منك، وإني كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا فلو كنت جذذتيه واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث. قالوا: وذلك الحديث المراد به الندب، والدليل على ذلك أن في بعض رواياته: ألست تريد أن يكونوا لك في البر واللطف سواء؟ قال: نعم، قال: فأشهد على هذا غيري. وأما مالك فإنه رأى أن النهي عن أن يهب الرجل جميع ماله لواحد من ولده هو أحرى أن يحمل على الوجوب، فأوجب عنده مفهوم هذا الحديث النهي عن أن يخص الرجل بعض أولاده بجميع ماله. فسبب الخلاف: في هذه المسألة معارضة القياس للفظ النهي الوارد، وذلك أن النهي يقتضي عند الأكثر بصيغته التحريم، كما يقتضي الامر الوجوب، فمن ذهب إلى الجمع بين السماع والقياس حمل الحديث على الندب، أو خصصه في بعض الصور كما فعل مالك، ولا خلاف عند القائلين بالقياس أنه يجوز تخصيص عموم السنة بالقياس، وكذلك العدول بها عن ظاهرها أعني أن يعدل بلفظ النهي عن مفهوم الحظر إلى مفهوم الكراهية. وأما أهل الظاهر فلما لم يجز عندهم القياس في الشرع اعتمدوا ظاهر الحديث وقالوا: بتحريم التفضيل في الهبة. واختلفوا من هذا الباب في جواز هبة المشاع غير المقسوم، فقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور: تصح، وقال أبو حنيفة: لا تصح. وعمدة الجماعة أن القبض فيها يصح كالقبض في البيع. وعمدة أبي حنيفة أن القبض فيها لا يصح إلا مفردة كالرهن، ولا خلاف في المذهب في جواز هبة المجهول والمعدوم المتوقع الوجود، وبالجملة كل ما لا يصح بيعه في الشرع من جهة الغرر، وقال الشافعي: ما جاز بيعه جازت هبته كالدين، وما لم يجز بيعه لم تجز هبته، وكل ما لا يصح قبضه عند الشافعية لا تصح هبته كالدين والرهن، وأما الهبة فلا بد من الايجاب فيها والقبول عند الجميع. ومن شرط الموهوب له أن يكون ممن يصح قبوله وقبضه. وأما الشروط فأشهرها القبض، أعني أن العلماء اختلفوا هل القبض شرط صحة في صحة العقد أم لا؟ فاتفق الثوري والشافعي وأبو حنيفة أن من شرط صحة الهبة القبض، وأنه إذا لم يقبض لم يلزم الواهب، وقال مالك: ينعقد بالقبول ويجبر على القبض كالبيع سواء، فإن تأنى الموهوب له عن طلب القبض حتى أفلس الواهب أو مرض بطلت الهبة، وله إذا باع تفصيل: إن علم فتوانى لم يكن له إلا الثمن، وإن قام في الفور كان له الموهوب. فمالك: القبض عنده في الهبة من شروط التمام لا من شروط الصحة، وهو عند
268 الشافعي وأبي حنيفة من شروط الصحة. وقال أحمد وأبو ثور: تصح الهبة بالعقد، وليس القبض من شروطها أصلا، لا من شرط تمام ولا من شرط صحة، وهو قول أهل الظاهر. وقد روي عن أحمد بن حنبل أن القبض من شروطها في المكيل والموزون. فعمدة من لم يشترط القبض في الهبة تشبيهها بالبيع، وأن الأصل في العقود أن لا قبض مشترط في صحتها حتى يقوم الدليل على اشتراط القبض. وعمدة من اشترط القبض أن ذلك مروي عن أبي بكر رضي الله عنه في حديث هبته لعائشة المتقدم. وهو نص في اشتراط القبض في صحة الهبة. وما روى مالك عن عمر أيضا أنه قال: ما بال رجال ينحلون أبناءهم نحلا ثم يمسكونها، فإن مات ابن أحدهم قال: مالي بيدي لم أعطه أحدا وإن مات قال: هو لابني قد كنت أعطيته إياه فمن نحل نحلة فلم يجزها الذي نحلها للمنحول له وأبقاها حتى تكون إن مات لورثته فهي باطلة، وهو قول علي، قالوا: وهو إجماع من الصحابة، لأنه لم ينقل عنهم في ذلك خلاف. وأما مالك فاعتمد الامرين جميعا: أعني القياس وما روي عن الصحابة، وجمع بينهما، فمن حيث هي عقد من العقود لم يكن عنده شرطا من شروط صحتها القبض، ومن حيث شرطت الصحابة فيه القبض لسد الذريعة التي ذكرها عمر جعل القبض فيها من شرط التمام، ومن حق الموهوب له، وأنه إن تراخى حتى يفوت القبض بمرض أو إفلاس على الواهب سقط حقه. وجمهور فقهاء الأمصار على أن الأب يحوز لابنه الصغير الذي في ولاية نظره وللكبير السفيه الذي ما وهبه كما يجوز لهما ما وهبه غيره لهما، وأنه يكفي في الحيازة له إشهاده بالهبة والاعلان بذلك، وذلك كله فيما عدا الذهب والفضة وفيما لا يتعين. والأصل في ذلك عندهم ما رواه مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن عثمان بن عفان قال: من نحل ابنا له صغيرا لم يبلغ أن يحوز نحلته فأعلن ذلك وأشهد عليه فهي حيازة وإن وليها. وقال مالك وأصحابه: لا بد من الحيازة في المسكون والملبوس، فإن كانت دارا سكن فيها خرج منها، وكذلك الملبوس إن لبسه بطلت الهبة، وقالوا في سائر العروض بمثل قول الفقهاء، أعني أنه يكفي في ذلك إعلانه وإشهاده. وأما الذهب والورق فاختلفت الرواية فيه عمالك، فروي عنه أنه لا يجوز إلا أن يخرجه الأب عن يده إلى يد غيره، وروي عنه أنه يجوز إذا جعلها في ظرف أو إناء وختم عليها بخاتم وأشهد على ذلك الشهود. ولا خلاف بين أصحاب مالك أن الوصي يقوم في ذلك مقام الأب. واختلفوا في الأم، فقال ابن القاسم: لا تقوم مقام الأب، ورواه عن مالك، وقال غيره من أصحابه: تقوم، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي: الجد بمنزلة الأب، والجدة عند ابن وهب أم الأم تقوم مقام الأم، والأم عنده تقوم مقام الأب. القول في أنواع الهبات والهبة منها ما هي هبة عين، ومنها ما هي هبة منفعة. وهبة العين منها ما يقصد بها الثواب، ومنها ما لا يقصد بها الثواب. والتي يقصد بها الثواب منها ما يقصد بها وجه الله، ومنها ما يقصد
269 به وجه المخلوق. فأما الهبة لغير الثواب فلا خلاف في جوازها، وإنما اختلفوا في أحكامها. وأما هبة الثواب فاختلفوا فيها، فأجازها مالك وأبو حنيفة، ومنعها الشافعي، وبه قال داود وأبو ثور. وسبب الخلاف: هل هي بيع مجهول الثمن أو ليس بيعا مجهول الثمن؟ فمن رآه بيعا مجهول الثمن قال هو من بيوع الغرر التي لا تجوز، ومن لم ير أنها بيع مجهول قال: يجوز . وكأن مالكا جعل العرف فيها بمنزلة الشرط وهو ثواب مثلها، ولذلك اختلف القول عندهم إذا لم يرض الواهب بالثواب ما الحكم؟ فقيل تلزمه الهبة إذا أعطاه الموهوب القيمة، وقيل لا تلزمه إلا أن يرضيه، وهو قول عمر على ما سيأتي بعد، فإذا اشترط فيه الرضا فليس هنالك بيع انعقد، والأول هو المشهور عن مالك. وأما إذا ألزم القيمة فهنالك بيع انعقد، وإنما يحمل مالك الهبة على الثواب إذا اختلفوا في ذلك، وخصوصا إذا دلت قرينة الحال على ذلك مثل أن يهب الفقير للغني، أو لمن يرى أنه إنما قصد بذلك الثواب. وأما هبات المنافع فمنها ما هي مؤجلة، وهذه تسمى عارية ومنحة وما أشبه ذلك، ومنها ما يشترط فيها ما بقيت حياة الموهوب له هذه تسمى العمرى، مثل أن يهب رجل رجلا سكنى دار، حياته، وهذه اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها هبة مبتوتة: أي أنها هبة للرقبة، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد وجماعة. والقول الثاني: أنه ليس للمعمر فيها إلا المنفعة، فإذا مات عادت الرقبة للمعمر أو إلى ورثته، وبه قال مالك وأصحابه، وعنده أنه إن ذكر العقب عادت إذ انقطع العقب إلى المعمر أو إلى ورثته. والقول الثالث: أنه إذا قال: هي عمري لك ولعقبك كانت الرقبة ملكا للمعمر، فإذا لم يذكر العقب عادت الرقبة بعد موت المعمر للمعمر أو لورثته، وبه قال داود وأبو ثور. وسبب الخلاف: في هذا الباب اختلاف الآثار ومعارضة الشرط والعمل للأثر. أما الأثر ففي ذلك حديثان: أحدهما: متفق على صحته، وهو ما رواه مالك عن جابر أن رسول الله (ص) قال: أيما رجل أعمر عمري له ولعقبه فإنها للذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطاها أبدا لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث. والحديث الثاني: حديث أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله (ص): يا معشر الأنصار أمسكوا عليكم أموالكم ولا تعمروها فمن أعمر شيئا حياته فهو له حياته ومماته وقد روي عن جابر بلفظ آخر: لا تعمروا ولا ترقبوا فمن أعمر شيئا أو أرقبه فهو لورثته فحديث أبي الزبير عن جابر مخالف لشرط المعمر. وحديث مالك عنه مخالف أيضا لشرط المعمر إلا أنه يخيل أنه أقل في المخالفة، وذلك أن ذكر العقب يوهم تبتيت العطية، فمن غلب الحديث على الشرط قال بحديث أبي الزبير عن جابر، وحديث مالك عن جابر، ومن غلب الشرط قال بقول مالك، وأما من قال إن العمرى تعود إلى المعمر إن لم يذكر العقب، ولا تعود إن ذكر، فإنه أخذ بظاهر الحديث. وأما حديث أبي الزبير عن جابر فمختلف فيه، أعني رواية أبي الزبير عن جابر. وأما إذا أتى بلفظ الاسكان فقال: أسكنتك هذه الدار حياتك، فالجمهور على أن الاسكان عندهم أو الاخدام بخلاف العمرى وإن لفظ بالعقب،
270 فسوى مالك بين التعمير والاسكان. وكان الحسن وعطاء وقتادة يسوون بين السكنى والتعمير في أنها لا تنصرف إلى المسكن أبدا على قول الجمهور في العمرى. والحق أن الاسكان والتعمير معنى مفهوم منهما واحد، وأنه يجب أن يكون الحكم إذا لم يصرح بذكر العقب على ما ذهب إليه أهل الظاهر. القول في الاحكام ومن مسائلهم المشهورة في هذا الباب جواز الاعتصار في الهبة، وهو الرجوع فيها، فذهب مالك وجمهور علماء المدينة أن للأب أن يعتصر ما وهبه لابنه ما لم يتزوج الابن أو لم يستحدث دينا أو بالجملة ما لم يترتب عليه حق للغير، وأن للأم أيضا أن تعتصر ما وهبت إن كان الأب حيا، وقد روي عن مالك أنها لا تعتصر، وقال أحمد وأهل الظاهر: لا يجوز لاحد أن يعتصر ما وهبه، وقال أبو حنيفة: يجوز لكل أحد أن يعتصر ما وهبه إلا ما وهب لذي محرم محرمة عليه. وأجمعوا على أن الهبة التي يراد بها الصدقة أي وجه الله أنه لا يجوز لاحد الرجوع فيها. وسبب الخلاف: في هذا الباب تعارض الآثار، فمن لم ير الاعتصار أصلا احتج بعموم الحديث الثابت، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه ومن استثنى الأبوين احتج بحديث طاوس أنه قال عليه الصلاة والسلام: لا يحل لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد وقاس الأم على الوالد، وقال الشافعي: لو اتصل حديث طاوس لقلت به، وقال غيره: قد اتصل من طريق حسين المعلم، وهو ثقة. وأما من أجاز الاعتصار إلا لذوي الرحم المحرمة، فاحتج بما رواه مالك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: من وهب هبة لصلة رحم أو على جهة صدقة فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد الثواب بها فهو على هبته يرجع فيها إذا لم ير ض منها قالوا: وأيضا فإن الأصل أن من وهب شيئا عن غير عوض أنه لا يقضى عليه به كما لو وعد، إلا ما اتفقوا عليه من الهبة على وجه الصدقة. وجمهور العلماء على أن من تصدق على ابنه فمات الابن بعد أن حازها فإنه يرثها، وفي مرسلات مالك أن رجلا أنصاريا من الخزرج تصدق على أبويه بصدقة فهلكا فورث ابنهما المال وهو نخل، فسأل عن ذلك النبي عليه الصلاة والسلام فقال: قد أجرت في صدقتك وخذها بميراثك وخرج أبو داود عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن امرأة أتت رسول الله (ص) فقالت: كنت قد تصدقت على أمي بوليدة، وإنها ماتت وتركت تلك الوليدة، فقال (ص): وجب أجرك ورجعت إليك بالميراث وقال أهل الظاهر: لا يجوز الاعتصار لاحد لعموم قوله عليه الصلاة والسلام لعمر: لا تشتره - في الفرس الذي تصدق به - فإن العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه والحديث متفق على صحته. قال القاضي: والرجوع في الهبة ليس من محاسن الأخلاق، والشارع عليه الصلاة والسلام إنما بعث ليتمم محاسن الأخلاق، وهذا القدر كاف في هذا الباب.
271 كتاب الوصايا والنظر فيها ينقسم أولا قسمين: القسم الأول: النظر في الأركان. والثاني: في الاحكام. ونحن فإنما نتكلم من هذه فيما وقع فيها من المسائل المشهورة. القول في الأركان والأركان أربعة: الموصي، والموصى له، والموصى به، والوصية. أما الموصي فاتفقوا على أنه كل مالك صحيح الملك، ويصح عند مالك وصية السفيه والصبي الذي يعقل القرب، وقال أبو حنيفة لا تجوز وصية الصبي الذي لم يبلغ، وعن الشافعي القولان. وكذلك وصية الكافر تصح عندهم إذا لم يوص بمحرم. وأما الموصى له فإنهم اتفقوا على أن الوصية لا تجوز لوارث لقوله عليه الصلاة والسلام: لا وصية لوارث واختلفوا هل تجوز لغير القرابة؟ فقال جمهور العلماء: إنها تجوز لغير الأقربين مع الكراهية، وقال الحسن وطاوس: ترد الوصية على القرابة، وبه قال إسحاق. وحجة هؤلاء ظاهر قوله تعالى: * (الوصية للوالدين والأقربين) * والألف واللام تقتضي الحصر. واحتج الجمهور بحديث عمران بن حصين المشهور وهو: أن رجلا أعتق ستة أعبد له في مرضه عند موته لا مال له غيرهم، فأقرع رسول الله (ص) بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة والعبيد غير القرابة، وأجمعوا - كما قلنا - أنها لا تجوز لوارث إذا لم يجزها الورثة. واختلفوا - كما قلنا - إذا أجازتها الورثة، فقال الجمهور: تجوز، وقال أهل الظاهر والمزني: لا تجوز. وسبب الخلاف: هل المنع لعلة الورثة أو عبادة؟ فمن قال عبادة قال: لا تجوز وإن أجازها الورثة، ومن قال بالبيع لحق الورثة أجازها إذا أجازها الورثة، وتردد هذا الخلاف راجع إلى تردد المفهوم من قوله عليه الصلاة والسلام: لا وصية لوارث هل هو معقول المعنى أم ليس بمعقول؟ واختلفوا في الوصية للميت، فقال قوم: تبطل بموت الموصى له، وهم الجمهور، وقال قوم: لا تبطل، وفي
272 الوصية للقائل خطأ وعمدا في هذا الباب فرع مشهور، وهو إذا أذن الورثة للميت هل لهم أن يرجعوا في ذلك بعد موته؟ فقيل لهم، وقيل ليس لهم، وقيل بالفرق بين أن يكون الورثة في عيال الميت أو لا يكونوا، أعني أنهم إن كانوا في عياله كان لهم الرجوع، والثلاثة الأقوال في المذهب. القول في الموصى به والنظر في جنسه وقدره أما جنسه فإنهم اتفقوا على جواز الوصية في الرقاب، واختلفوا في المنافع فقال جمهور فقهاء الأمصار: ذلك جائز، وقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة وأهل الظاهر: الوصية بالمنافع باطلة. وعمدة الجمهور أن المنافع في معنى الأموال، وعمدة الطائفة الثانية أن المنافع منتقلة إلى ملك الورثة، لان الميت لا ملك له فلا تصح له وصية بما يوجد في ملك غيره، وإلى هذا القول ذهب أبو عمر بن عبد البر. وأما القدر فإن العلماء اتفقوا على أنه لا تجوز الوصية في أكثر من الثلث لمن ترك ورثة. واختلفوا فيمن لم يترك ورثة، وفي القدر المستحب منها، هل هو الثلث أو دونه؟ وإنما صار الجميع إلى أن الوصية لا تجوز في أكثر من الثلث لمن له وارث بما ثبت عنه (ص) أنه عاد سعد بن أبي وقاص قال له: يا رسول الله. قد بلغ مني الوجع ما ترى وأنا ذو مال ولا يرثي إلا ابنة لي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ فقال له رسول الله (ص): لا، فقال له سعد: فالشطر؟ قال: لا، ثم قال رسول الله (ص): الثلث، والثلث كثير.. إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس فصار الناس لمكان هذا الحديث إلى أن الوصية لا تجوز بأكثر من الثلث. واختلفوا في المستحب من ذلك، فذهب قوم إلى أنه ما دون الثلث، لقوله عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: والثلث كثير وقال بهذا كثير من السلف. قال قتادة: أوصى أبو بكر بالخمس، وأوصى عمر بالربع، والخمس أحب إلي. وأما من ذهب إلى أن المستحب هو الثلث فإنهم اعتمدوا على ما روي عن النبي (ص) أنه قال: إن الله جعل لكم في الوصية ثلث أموالكم زيادة في أعمالكم وهذا الحديث ضعيف عند أهل الحديث. وثبت عن ابن عباس أنه قال: لو غض الناس في الوصية من الثلث إلى الربع لكان أحب إلي، لان رسول الله (ص) قال: الثلث، والثلث كثير. وأما اختلافهم في جواز الوصية بأكثر من الثلث لمن لا وارث له، فإن مالكا لا يجيز ذلك والأوزاعي، واختلف فيه قول أحمد، وأجاز ذلك أبو حنيفة وإسحاق، وهو قول ابن مسعود. وسبب الخلاف: هل هذا الحكم خاص بالعلة التي علله بها الشارع أم ليس بخاص، وهو أن لا يترك ورثته عالة يتكففون الناس كما قال عليه الصلاة والسلام: إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس؟ فمن جعل هذا السبب خاصا وجب أن يرتفع الحكم بارتفاع هذه العلة، ومن جعل الحكم عبادة وإن كان قد علل بعلة، أو جعل جميع المسلمين في هذا المعنى بمنزلة الورثة قال: لا تجوز الوصية بإطلاق بأكثر من الثلث.
273 القول في المعنى الذي يدل عليه لفظ الوصية والوصية بالجملة هي هبة الرجل ما له لشخص آخر أو لاشخاص بعد موته أو عتق غلامه سواء صرح بلفظ الوصية أو لم يصرح به، وهذا العقد هو من العقود الجائزة باتفاق، أعني أن للموصي أن يرجع فيما أوصى به، إلا المدبر فإنهم اختلفوا فيه على ما سيأتي في كتاب التدبير، وأجمعوا على أنه لا يجب للموصى له إلا بعد موت الموصي. واختلفوا في قبول الموصى له هل هو شرط في صحتها أم لا؟ فقال مالك: قبول الموصى له إياها شرط في صحة الوصية، وروي عن الشافعي أنه ليس القبول شرطا في صحتها، ومالك شبهها بالهبة. القول في الاحكام وهذه الأحكام منها لفظية، ومنها حسابية، ومنها حكمية، فمن مسائلها المشهورة الحكمية اختلافهم في حكم من أوصى بثلث ماله لرجل وعين ما أوصى له به في ماله مما هو الثلث، فقال الورثة: ذلك الذي عين أكثر من الثلث، فقال مالك: الورثة مخيرون بين أن يعطوه ذلك الذي عينه الموصي أو يعطوه الثلث من جميع مال الميت، وخالفه في ذلك أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وأحمد وداود. وعمدتهم أن الوصية قد وجبت للموصى له بموت الموصي وقبوله إياها باتفاق، فكيف ينقل عن ملكه ما وجبله بغير طيب نفس منه وتغير الوصية؟ وعمدة مالك إمكان صدق الورثة فيما ادعو، وما أحسن ما رأى أبو عمر بن عبد البر في هذه المسألة، وذلك أنه قال: إذا ادعى الورثة ذلك كلفوا بيان ما ادعوا، فإن ثبت ذلك أخذ منه الموصى له قدر الثلث من ذلك الشئ الموصى به وكان شريكا للورثة، وإن كان الثلث فأقل جبروا على اخراجه، وإذا لم يختلفوا في أن ذلك الشئ الموصى به هو فوق الثلث، فعند مالك أن الورثة مخيرون بين أن يدفعوا إليه ما أوصي له به، أو يفرجوا له عن جميع ثلث مال الميت، إما في ذلك الشئ بعينه، وإما في جميع المال على اختلاف الرواية عن مالك في ذلك، وقال أبو حنيفة والشافعي: له ثلث تلك العين ويكون بباقيه شريكا للورثة في جميع ما ترك الميت حتى يستوفي تمام الثلث. <ش 6 <وسبب الخلاف: أن الميت لما تعدى في أن جعل وصيته في شئ بعينه، فهل الأعدل في حق الورثة أن يخيروا بين إمضاء الوصية أو يفرجوا له إلى غاية ما يجوز للميت أن يخرج عنهم من ماله، أو يبطل التعدي ويعود ذلك الحق مشتركا؟ وهذا هو الأولى إذا قلنا إن التعدي هو التعيين لكونه أكثر من الثلث، أعني أن الواجب أن يسقط التعيين. وأما أن يكلف الورثة أن يمضوا التعيين أو يتخلوا عن جميع الثلث فهو حمل عليهم. ومن هذا الباب اختلافهم فيمن وجبت عليه زكاة فمات ولم يوص بها فعل هي من الثلث، أو من رأس المال؟ فقال مالك: إذا لم يوص بها لم يلزم الورثة اخراجها. وقال الشافعي: يلزم الورثة اخراجها من رأس
274 المال، وإذا وصى فعند مالك يلزم الورثة اخراجها وهي عنده من الثلث، وهي عند الشافعي في الوجهين من رأس المال شبهها بالدين لقول رسول الله (ص): فدين الله أحق أن يقضى وكذلك الكفارات الواجبة والحج الواجب عنده، ومالك يجعلها من جنس الوصايا بالتوصية بإخراجها بعد الموت، ولا خلاف أنه لو أخرجها في الحياة أنها من رأس المال ولو كان في السياق، وكأن مالكا اتهمه هنا على الورثة، أعني في توصيته بإخراجها، قال: ولو أجيز هذا لجاز للانسان أن يؤخر جميع زكاته طول عمره حتى إذا دنا من الموت وصى بها فإذا زاحمت الوصايا الزكاة قدمت عند مالك على ما هو أضعف منها، وقال أبو حنيفة: هي وسائر الوصايا سواء، يريد في المحاصة. واتفق مالك وجميع أصحابه على أن الوصايا التي يضيق عنها الثلث إذا كانت مستوية أنها تتحاص في الثلث، وإذا كان بعضها أهم من بعض قدم الأهم. واختلفوا في الترتيب على ما هو مسطور في كتبهم، ومن مسائلهم الحسابية المشهورة في هذا الباب إذا أوصى لرجل بنصف ماله ولآخر بثلثيه ورد الورثة الزائد، فعند مالك والشافعي أنهما يقتسمان الثلث بينهما أخماسا، وقال أبو حنيفة: بل يقتسمان الثلث بالسوية. وسبب الخلاف: هل الزائد على الثلث الساقط هل يسقط الاعتبار به في القسمة كما يسقط في نفسه بإسقاط الورثة؟ فمن قال يبطل في نفيه ولا يبطل الاعتبار به في القسمة إذ كان مشاعا قال: يقتسمون المال أخماسا، ومن قال يبطل الاعتبار به كما لو كان معينا قال: يقتسمون الباقي على السواء. ومن مسائلهم اللفظية في هذا الباب إذا أوصى بجزء من ماله يعلم به ومال لا يعلم به، فعند مالك أن الوصية تكون فيما علم به دون ما لم يعلم، وعند الشافعي تكون في المالين. وسبب الخلاف: هل اسم المال الذي نطق به يتضمن ما علم وما لم يعلم، أو ما علم فقط؟ والمشهور عن مالك أن المدبر يكون في المالين إذا لم يخرج من المال الذي يعلم. وفي هذا الباب فروع كثيرة وكلها راجعة إلى هذه الثلاثة الأجناس، ولا خلاف بينهم أن للرجل أن يوصي بعد موته بأولاده وأن هذه خلافة جزئية كالخلافة العظمى الكلية التي للامام أن يوصي بها.
275 كتاب الفرائض والنظر في هذا الكتاب. فيمن يرث، وفيمن لا يرث، ومن يرث هل يرث دائما، أو مع وارث دون وارث، وإذا ورث مع غيره فكم يرث وكذلك إذا ورث وحده كم يرث؟ وإذا ورث مع وارث، فهل يختلف ذلك بحسب وارث وارث أو لا يختلف؟. والتعليم في هذا يمكن على وجوه كثيرة قد سلك أكثرها أهل الفرائض، والسبيل الحاضرة في ذلك بأن يذكر حكم جنس جنس من أجناس الورثة إذا انفرد ذلك الجنس وحكمه مع سائر الأجناس الباقية، مثال ذلك أن ينظر إلى الولد إذا انفرد كم ميراثه، ثم ينظر حاله مع سائر الأجناس الباقية من الوارثين. فأما الأجناس الوارثة فهي ثلاثة: ذو نسب، وأصهار، وموالي، فأما ذو النسب، فمنها متفق عليها، ومنها مختلف فيها. فأما المتفق عليها فهي الفروع: أعني الأولاد، والأصول: أعني الاباء والأجداد، ذكورا كانوا أو إناثا، وكذلك الفروع المشاركة للميت في الأصل الأدنى: أعني الاخوة ذكورا أو إناثا، أو المشاركة الأدنى أو الأبعد في أصل واحد، وهم الأعمام وبنو الأعمام، وذلك الذكور من هؤلاء خاصة فقط، وهؤلاء إذا فصلوا كانوا من الرجال عشرة ومن النساء سبعة، أما الرجال: فالابن، وابن الابن وإن سفل، والأب، والجد أبو الأب - وإن علا - والأخ من أي جهة كان: أعني للأم والأب أو لأحدهما، وابن الأخ - وإن سفل - وابن العم - وإن سفل - والزوج ومولى النعمة. وأما النساء: فالابنة، وابنة الابن: وإن سفلت، والأم، والجدة: وإن علت، والأخت، والزوجة، والمولاة. وأما المختلف فيهم فهم ذوو الأرحام، وهم من لا فرض لهم في كتاب الله، ولا هم عصبة، وهم بالجملة بنو البنات، وبنات الاخوة، وبنو الأخوات، وبنات الأعمام، والعم أخو الأب للأم فقط، وبنو الاخوة للأم، والعمات، والخالات، والأخوال. فذهب مالك، والشافعي، وأكثر فقهاء الأمصار، وزيد بن ثابت من الصحابة إلى أنه لا ميراث لهم، وذهب سائر الصحابة، وفقهاء العراق، والكوفة، والبصرة، وجماعة العلماء من سائر الآفاق إلى توريثهم. والذين قالوا بتوريثهم اختلفوا في صفة توريثهم، فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى توريثهم على ترتيب العصبات. وذهب سائر من ورثهم إلى التنزيل، وهو أن ينزل كل من أدلى بذي سهم أو عصبة
276 بمنزلة السبب الذي أدلى به. وعمدة مالك ومن قال بقوله أن الفرائض لما كانت لا مجال للقياس فيها كان الأصل أن لا يثبت فيها شئ إلا بكتاب أو سنة ثابتة أو إجماع، وجميع ذلك معدوم في هذه المسألة. وأما الفرقة الثانية، فزعموا أن دليلهم على ذلك من الكتاب والسنة والقياس. أما الكتاب فقوله تعالى: * (وأولوا الأرحام) * و * (الوالدان والأقربون) * واسم القرابة ينطلق على ذوي الأرحام، ويرى المخالف أن هذه مخصوصة بآيات المواريث. وأما السنة فاحتجوا بما خرجه الترمذي عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أبي عبيدة أن رسول الله (ص) قال: الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له. وأما من طريق المعنى فإن القدماء من أصحاب أبي حنيفة قالوا: إن ذوي الأرحام أولى من المسلمين لأنهم قد اجتمع لهم سببان: القرابة والإسلام، فأشبهوا تقديم الأخ الشقيق على الأخ للأب، أعني أن من اجتمع له سببان أولى ممن له سبب واحد. وأما أبو زيد، ومتأخرو أصحابه فشبهوا الإرث بالولاية وقالوا: لما كانت ولاية التجهيز والصلاة والدفن للميت عند فقد أصحاب الفروض والعصبات لذوي الأرحام، وجب أن يكون لهم ولاية الإرث، وللفريق الأول اعتراضات في هذه المقاييس فيها ضعف. وإذ قد تقرر هذا فلنشرع في ذكر جنس جنس من أجناس الوارثين، ونذكر من ذلك ما يجري مجرى الأصول من المسائل المشهورة، المتفق عليها، والمختلف فيها. ميرا ث الصلب: وأجمع المسلمون على أن ميراث الأولاد من والدهم، ووالدتهم إن كانوا ذكورا وإناثا معا هو أن للذكر منهم مثل حظ الأنثيين، وأن الابن الواحد إذا انفرد فله جميع المال، وأن البنات إذا انفردن فكانت واحدة أن لها النصف، وإن كن ثلاثا فما فوق فلهن الثلثان. واختلفوا في الاثنتين فذهب الجمهور إلى أن لهما الثلثين، وروي عن ابن عباس أنه قال: للبنتين النصف. والسبب في اختلافهم: تردد المفهوم في قوله تعالى: * (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك) * هل حكم الاثنتين المسكوت عنه يلحق بحكم الثلاثة أو بحكم الواحدة؟ والأظهر من باب دليل الخطاب أنهما لاحقان بحكم الثلاثة أو بحكم الواحدة، وقد قيل إن المشهور عن ابن عباس مثل قول الجمهور. وقد روي عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن حاتم بن عبد الله وعن جابر أن النبي (ص) أعطى البنتين الثلثين قال - فيما أحسب - أبو عمر بن عبد البر: وعبد الله بن عقيل قد قبل جماعة من أهل العلم حديثه، وخالفهم آخرون. وسبب الاتفاق في هذه الجملة قوله تعالى: * (يوصيكم الله في أولادكم، للذكر مثل حظ الأنثيين) * إلى قوله: * (وإن كانت واحدة فلها
277 النصف) * وأجمعوا من هذا الباب على أن بني البنين يقومون مقام البنين عند فقد البنين، يرثون كما يرثون، ويحجبون كما يحجبون، إلا شئ روي عن مجاهد أنه قال: ولد الابن لا يحجبون الزوج من النصف إلى الربع كما يحجب الولد نفسه ولا الزوجة من الربع إلى الثمن، ولا الأم من الثلث إلى السدس. وأجمعوا على أنه ليس لبنات الابن ميراث مع بنات الصلب إذا استكمل بنات المتوفى الثلثين. واختلفوا إذا كان مع بنات الابن ذكر ابن ابن في مرتبتهن أو أبعد منهن، فقال جمهور فقهاء الأمصار: إنه يعصب بنات الابن فيما فضل عن بنات الصلب فيقسمون المال للذكر مثل حظ الأنثيين، وبه قال علي (رضي الله عنه) وزيد بن ثابت من الصحابة، وذهب أبو ثور وداود أنه إذا استكمل البنات الثلثين أن الباقي لابن الابن دون بنات الابن كن في مرتبة واحدة مع الذكر، أو فوقه، أو دونه. وكان ابن مسعود يقول في هذه: * (للذكر مثل حظ الأنثيين) * إلا أن يكون الحاصل للنساء أكثر من السدس فلا تعطى إلا السدس. وعمدة الجمهور عموم قوله تعالى: * (يوصيكم الله في أولادكم، للذكر مثل حظ الأنثيين) *، وأن ولد الولد ولد من طريق المعنى، وأيضا لما كان ابن الابن يعصب من في درجته في جملة المال فواجب أن يعصب في الفاضل من المال. وعمدة داود وأبي ثور حديث ابن عباس أن النبي (ص) قال: اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله عز وجل، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر ومن طريق المعنى أيضا أن بنت الابن لما لم ترث مفردة من الفاضل عن الثلثين كان أحرى أن لا ترث مع غيرها. وسبب اختلافهم: تعارض القياس، والنظر في الترجيح، وأما قول ابن مسعود فمبني على أصله في أن بنات الابن لما كن لا يرثن مع عدم الابن أكثر من السدس، لم يجب لهن مع الغير أكثر مما وجب لهن مع الانفراد وهي حجة قريبة من حجة داود، والجمهور على أن ذكر ولد الابن يعصبهن كان في درجتهن أو أطرف منهن. وشذ بعض المتأخرين فقال: لا يعصبهن إلا إذا كان في مرتبتهن، وجمهور العلماء على أنه إذا ترك المتوفى بنتا لصلب، وبنت ابن، أو بنات ابن ليس معهن ذكر أن لبنات الابن السدس تكملة الثلثين، وخالفت الشيعة في ذلك فقالت لا ترث بنت الابن مع البنت شيئا كالحال في ابن الابن مع الابن، فالاختلاف في بنات الابن في موضعين: مع بني الابن، ومع البنات فيما دون الثلثين وفوق النصف. فالمتحصل فيهن إذا كن مع بني الابن أنه قيل يرثن، وقيل لا يرثن، وإذا قيل يرثن فقيل يرثن تعصيبا مطلقا، وقيل يرثن تعصيبا إلا أن يكون أكثر من السدس، وإذا قيل يرثن فقيل أيضا إذا كان ابن الابن في درجتهن وقيل كيفما كان، والمتحصل في وراثتهن مع عدم ابن الابن فيما فضل عن النصف إلى تكملة الثلثين، قيل: يرثن، وقيل لا يرثن.
278 ميراث الزوجات: وأجمع العلماء على أن ميرا ث الرجل من امرأته - إذا لم تترك ولدا ولا ولد ابن -: النصف، ذكرا كان الولد، أو أنثى، إلا ما ذكرنا عن مجاهد، وأنها إن تركت ولدا فله الربع، وأن ميراث المرأة من زوجها - إذا لم يترك الزوج ولدا ولا ولد ابن -: الربع، فإن ترك ولدا أو ولد ابن فالثمن، وأنه ليس يحجبهن أحد عن الميراث ولا ينقصهن إلا الولد ، وهذا لورود النص في قوله تعالى: * (ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد) * الآية. ميراث الأب والأم: وأجمع العلماء على أن الأب إذا انفرد كان له جميع المال، وأنه إذا انفرد الأبوان كان للأم الثلث، وللأب الباقي لقوله تعالى: * (وورثه أبواه فلأمه الثلث) * وأجمعوا على أن فرض الأبوين من ميراث ابنهما إذا كان للابن ولد أو ولد ابن: السدسان، أعني أن لكل واحد منهما السدس لقوله تعالى: * (ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد) * والجمهور على أن الولد هو الذكر دون الأنثى، وأجمعوا على أن الأب لا ينقص مع ذوي الفرائض من السدس وله ما زاد، وأجمعوا من هذا الباب على أن الأم يحجبهما الاخوة من الثلث إلى السدس لقوله تعالى: * (فإن كان له إخوة فلأمه السدس) *. واختلفوا في أقل ما يحجب الأم من الثلث إلى السدس من الاخوة، فذهب علي رضي الله عنه وابن مسعود إلى أن الاخوة الحاجبين هما اثنان فصاعدا وبه قال مالك، وذهب ابن عباس إلى أنهم ثلاثة فصاعدا، وأن الاثنين لا يحجبان الأم من الثلث إلى السدس، والخلاف آيل إلى أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع، فمن قال أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع ثلاثة قال: الاخوة الحاجبون ثلاثة فما فوق، ومن قال أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع اثنان قال: الاخوة الحاجبون هما اثنان أعني في قوله تعالى: * (فإن كان له إخوة) * ولا خلاف أن الذكر والأنثى يدخلان تحت اسم الاخوة في الآية وذلك عند الجمهور. وقال بعض المتأخرين لا أنقل الأم من الثلث إلى السدس بالأخوات المنفردات، لأنه زعم أنه ليس ينطلق عليهن اسم الاخوة إلا أن يكون معهن أخ لموضع تغليب المذكر على المؤنث، إذ اسم الاخوة هو جمع أخ، والأخ مذكر. واختلفوا من هذا الباب فيمن يرث السدس الذي تحجب عنه الأم بالاخوة وذلك إذا ترك المتوفى أبوين وإخوة، فقال الجمهور: ذلك السدس للأب مع الأربعة الأسداس. وروي عن ابن عباس أن ذلك السدس للاخوة الذين حجبوا، وللأب الثلثان لأنه ليس في الأصول من يحجب ولا يأخذ ما حجب إلا الاخوة مع الآباء، وضعف قوم الاسناد بذلك عن ابن عباس، وقول ابن عباس هو القياس. واختلفوا من هذا الباب في التي تعرف بالغراوين، وهي فيمن ترك زوجة
279 وأبوين، أو زوجا وأبوين، فقال الجمهور في الأولى للزوجة الربع، وللأم ثلث ما بقي، وهو الربع من رأس المال، وللأب ما بقي وهو النصف، وقالوا في الثانية: للزوج النصف وللأم ثلث ما بقي، وهو السدس من رأس المال، وللأب ما بقي وهو السدسان، وهو قول زيد، والمشهور من قول علي رضي الله عنه. وقال ابن عباس في الأولى: للزوجة الربع من رأس المال، وللأم الثلث منه أيضا لأنها ذات فرض، وللأب ما بقي لأنه عاصب، وقال أيضا في الثانية: للزوج النصف، وللأم الثلث، لأنها ذات فرض مسمى، وللأب ما بقي، وبه قال شريح القاضي، وداود، وابن سيرين، وجماعة. وعمدة الجمهور أن الأب والأم لما كانا إذا انفردا بالمال كان للأم الثلث وللأب الباقي، وجب أن يكون الحال كذلك فيما بقي من المال، كأنهم رأوا أن يكون ميراث الأم أكثر من ميراث الأب خروجا عن الأصول. وعمدة الفريق الآخر أن الأم ذات فرض مسمى والأب عاصب، والعاصب ليس له فرض محدود مع ذي الفروض، بل يقل ويكثر، وما عليه الجمهور من طريق التعليل أظهر، وما عليه الفريق الثاني مع عدم التعليل أظهر، وأعني بالتعليل ههنا أن يكون أحق سببي الانسان أولى بالإيثار: أعني الأب من الأم. ميراث الإخوة للأم: وأجمع العلماء على أن الاخوة للأم إذا انفرد الواحد منهم أن له السدس ذكرا كان أو أنثى وأنهم إن كانوا أكثر من واحد فهم شركاء في الثلث على السوية، للذكر منهم مثل حظ الأنثى سواء. وأجمعوا على أنهم لا يرثون مع أربعة: وهم الأب، والجد أو الأب وإن علا، والبنون ذكرانهم وإناثهم، وبنو البنين وإن سفلوا ذكرانهم وإناثهم، وهذا كله لقوله تعالى: * (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت) * الآية، وذلك أن الاجماع انعقد على أن المقصود بهذه الآية هم الاخوة للأم فقط، وقد قرئ وله أخ أو أخت من أمه وكذلك أجمعوا فيما أحسب ههنا على أن الكلالة هي فقد الأصناف الأربعة التي ذكرنا من النسب: أعني الآباء، والأجداد، والبنين، وبني البنين. ميراث الإخوة للأب والأم أو للأب: وأجمع العلماء على أن الإخوة للأب، والأم، أو للأب فقط يرثون في الكلالة أيضا. أما الأخت إذا انفردت فإن لها النصف، وإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان، كالحال في البنات، وأنهم إن كانوا ذكورا وإناثا فللذكر مثل حظ الأنثيين كحال البنين مع البنات، وهذا لقوله تعالى: * (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) * إلا أنهم اختلفوا في معنى الكلالة ههنا في أشياء واتفقوا منها في أشياء يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى. فمن ذلك أنهم أجمعوا من هذا الباب على أن الإخوة للأب والأم ذكرانا أو إناثا
280 أنهم لا يرثون مع الولد الذكر شيئا، ولا مع ولد الولد ولا مع الأب شيئا. واختلفوا فيما سوى ذلك، فمنها أنهم اختلفوا في ميراث الإخوة للأب والأم مع البنت أو البنات، فذهب الجمهور إلى أنهن عصبة يعطون ما فضل عن البنات، وذهب داود بن علي الظاهري وطائفة إلى أن الأخت لا ترث مع البنت شيئا. وعمدة الجمهور في هذا الحديث ابن مسعود عن النبي (ص) أنه قال في ابنة وابنة ابن وأخت أن للبنت النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت. وأيضا من جهة النظر لما أجمعوا على توريث الاخوة مع البنات، فكذلك الأخوات. وعمدة الفريق الآخر ظاهر قوله تعالى: * (إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت) * فلم يجعل للأخت شيئا إلا مع عدم الولد، والجمهور حملوا اسم الولد ههنا على الذكور دون الإناث. وأجمع العلماء من هذا الباب على أن الإخوة للأب والأم يحجبون الإخوة للأب عن الميراث قياسا على بني الأبناء مع بني الصلب. قال أبو عمر: وقد روي ذلك في حديث حسن من رواية الآحاد العدول عن علي رضي الله عنه قال: قضى رسول الله (ص) أن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات وأجمع العلماء على أن الأخوات للأب والأم إذا استكملن الثلثين فإنه ليس للأخوات للأب معهن شئ، كالحال في بنات الابن مع بنات الصلب، وأنه إن كانت الأخت للأب والأم واحدة فللأخوات للأب ما كن بقية الثلثين وهو السدس. واختلفوا إذا كان مع الأخوات للأب ذكر، فقال الجمهور: يعصبهن ويقتسمون المال للذكر مثل حظ الأنثيين، كالحال في بنات الابن مع بنات الصلب، واشترط مالك أن يكون في درجتهن، وقال ابن مسعود: إذا استكمل الأخوات الشقائق الثلثين فالباقي للذكور من الإخوة للأب دون الإناث، وبه قال أبو ثور، وخالفه داود في هذه المسألة، مع موافقته له في مسألة بنات الصلب وبني البنين، فإن لم يستكملن الثلثين، فللذكر عنده من بني الأب مثل حظ الأنثيين، إلا أن يكون الحاصل للنساء أكثر من السدس كالحال في بنت الصلب مع بني الابن. وأدلة الفريقين في هذه المسألة هي تلك الأدلة بأعيانها. وأجمعوا على أن الإخوة للأب يقومون مقام الإخوة للأب والأم عند فقدهم، كالحال في بني البنين مع البنين، وأنه إذا كان معهن ذكر عصبهن، بأن يبدأ بمن له فرض مسمى، ثم يرثون الباقي للذكر مثل حظ الأنثيين كالحال في البنين إلا في موضع واحد وهي الفريضة التي تعرف بالمشتركة، فإن العلماء اختلفوا فيها، وهي امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وإخوتها لأمها وإخوتها لأبيها وأمها، فكان عمر، وعثمان، وزيد بن ثابت يعطون للزوج النصف، وللأم السدس، وللاخوة للأم الثلث، فيستغرقون المال فيبقى الإخوة للأب والأم بلا شئ، فكانوا يشركون الإخوة للأب والأم في الثلث مع الاخوة للأم يقتسمونه بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، وبالتشريك قال من فقهاء الأمصار مالك والشافعي
281 والثوري. وكان علي رضي الله عنه، وأبي بن كعب، وأبو موسى الأشعري لا يشركون إخوة الأب والأم في الثلث مع إخوة الأم في هذه الفريضة، ولا يوجبون لهم شيئا فيها، وقال به من فقهاء الأمصار: أبو حنيفة وابن أبي ليلى وأحمد وأبو ثور وداود وجماعة. وحجة الفريق الأول أن الإخوة للأب والأم يشاركون الاخوة للأم في السبب الذي به يستوجبون الإرث وهي الأم، فوجب أن لا ينفردوا به دونهم، لأنه إذا اشتركوا في السبب الذي به يورثون وجب أن يشتركوا في الميراث. وحجة الفريق الثاني أن الاخوة الشقائق عصبة، فلا شئ لهم إذا أحاط ت فرائض ذوي السهام بالميراث. وعمدتهم باتفاق الجميع على أن من ترك زوجا وأما وأخا واحدا لأم وإخوة شقائق عشرة أو أكثر أن الأخ للأم يستحق ههنا السدس كاملا، والسدس الباقي بين الباقين مع أنهم مشاركون له في الأم. فسبب الاختلاف: في أكثر مسائل الفرائض، هو تعارض المقاييس، واشتراك الألفاظ فيما فيه نص. ميراث الجد: وأجمع العلماء على أن الأب يحجب الجد، وأنه يقوم مقام الأب عند عدم الأب مع البنين، وأنه عاصب مع ذوي الفرائض، واختلفوا هل يقوم مقام الأب في حجب الاخوة الشقائق، أو حجب الإخوة للأب؟ فذهب ابن عباس، وأبو بكر رضي الله عنهما وجماعة إلى أنه يحجبهم، وبه قال أبو حنيفة، وأبو ثور، والمزني، وابن سريج من أصحاب الشافعي، وداود، وجماعة، واتفق علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزيد بن ثابت، وابن مسعود على توريث الاخوة مع الجد، إلا أنهم اختلفوا في كيفية ذلك على ما أقوله بعد. وعمدة من جعل الجد بمنزلة الأب اتفاقهما في المعنى، أعني من قبل أن كليهما أب للميت، ومن اتفاقهما في كثير من الاحكام التي أجمعوا على اتفاقهما فيها، حتى إنه قد روي عن ابن عباس (رضي الله عنه) أنه قال: أما يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا، ولا يجعل أب الأب أبا؟!. وقد أجمعوا أنه مثله في أحكام أخرى سوى الفروض، منها أن شهادته لحفيده كشهادة الأب وأن الجد يعتق على حفيده كما يعتق الأب على الابن، وأنه لا يقتص له من جد كما لا يقتص له من أب. وعمدة من ورث الأخ مع الجد، أن الأخ أقرب إلى الميت من الجد، لان الجد أبو أبي الميت، والأخ ابن أبي الميت، والابن أقرب من الأب، وأيضا فما أجمعوا عليه من أن ابن الأخ يقدم على العم، وهو يدلي بالأب، والعم يدلي بالجد. فسبب الخلاف: تعارض القياس في هذا الباب. فإن قيل: فأي القياسين أرجح بحسب النظر الشرعي؟ قلنا: قياس من ساوى بين الأب والجد، فإن الجد أب في المرتبة الثانية أو الثالثة، كما أن ابن الابن ابن في المرتبة الثانية أو الثالثة. وإذا لم يحجب الابن الجد وهو يحجب الإخوة فالجد يجب أن يحجب من يحجب الابن، والأخ ليس بأصل للميت ولا فرع، وإنما هو مشارك له في الأصل، والأصل أحق بالشئ من المشارك له في الأصل، والجد ليس هو أصلا للميت من قبل الأب بل هو أصل أصله، والأخ يرث من قبل أنه فرع لأصل
282 الميت، فالذي هو أصل لأصله أولى من الذي هو فرع لأصله، ولذلك لا معنى لقول من قال إن الأخ يدلي بالبنوة، والجد يدلي بالأبوة، فإن الأخ ليس ابنا للميت وإنما هو ابن أبيه، والجد أبو الميت، والبنوة إنما هي أقوى في الميراث من الأبوة في الشخص الواحد بعينه أعني الموروث. وأما البنوة التي تكون لأب موروث، فليس يلزم أن تكون في حق الموروث أقوى من الأبوة التي تكون لأب الموروث، لان الأبوة التي لأب الموروث هي أبوة ما للموروث أعني بعيدة وليس البنوة التي لأب الموروث بنوة ما للموروث لا قريبة ولا بعيدة، فمن قال: الأخ أحق من الجد، لان يدلي بالشئ الذي من قبله كان الميراث بالبنوة وهو الأب والجد يدلي بالأبوة هو قول غالط مخيل، لان الجد أب ما، وليس الأخ ابنا ما. وبالجملة الأخ لاحق من لواحق الميت، وكأنه أمر عارض والجد سبب من أسبابه، والسبب أملك للشئ من لاحقه. واختلف الذين ورثوا الجد مع الاخوة في كيفية ذلك. فتحصيل مذهب زيد في ذلك أنه لا يخلو أن يكون معه سوى الاخوة ذو فرض مسمى أو لا يكون، فإن لم يكن معه ذو فرض مسمى، أعطي الأفضل له من اثنين: إما ثلث المال، وإما أن يكون كواحد من الاخوة الذكور، وسواء أكان الاخوة ذكرانا أو إناثا أو الامرين جميعا فهو مع الأخ الواحد يقاسمه المال، وكذلك مع الاثنين، ومع الثلاثة والأربعة يأخذ الثلث، وهو مع الأخت الواحدة إلى الأربع يقاسمهن للذكر مثل حظ الأنثيين، ومع الخمس أخوات له الثلث، لأنه أفضل له من المقاسمة، فهذه هي حاله مع الاخوة فقط دون غيرهم. وأما إن كان معهم ذو فرض مسمى فإنه يبدأ بأهل الفروض فيأخذون فروضهم، فما بقي أعطي الا فضله من ثلاث: إما ثلث ما بقي بعد حظوظ ذوي الفرائض، وإما أن يكون بمنزلة ذكر من الاخوة، وإما أن يعطى السدس من رأس المال لا ينقص منه، ثم ما بقي يكون للاخوة للذكر مثل حظ الأنثيين في الأكدرية - على ما سنذكر مذهبه فيها مع سائر مذاهب العلماء. وأما علي (رضي الله عنه) فكان يعطي الجد الا حظي له من السدس، أو المقاسمة، وسواء أكان مع الجد والاخوة غيرهم من ذوي الفرائض أو لم يكن، وإنما لم ينقصه من السدس شيئا، لأنهم لما أجمعوا أن الأبناء لا ينقصونه منه شيئا كان أحرى أن لا ينقصه الاخوة. وعمدة قول زيد أنه لما كان يحجب الإخوة للأم فلم يحجب عما يجب لهم وهو الثلث، وبقول زيد قال مالك، والشافعي، والثوري، وجماعة، وبقول علي (رضي الله عنه) قال أبو حنيفة. وأما الفريضة التي تعرف بالأكدرية وهي امرأة توفيت وتركت زوجا وأما وأختا شقيقة وجدا فإن العلماء اختلفوا فيها، فكان عمر رضي الله عنه وابن مسعود يعطيان للزوج النصف، وللأم السدس، وللأخت النصف، وللجد السدس، وذلك على جهة العول. وكان علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وزيد يقولان: للزوج النصف، وللأم الثلث، وللأخت النصف، وللجد السدس فريضة، إلا أن زيدا يجمع سهم الأخت والجد، فيقسم ذلك بينهم
283 للذكر مثل حظ الأنثيين، وزعم بعضهم أن هذا ليس من قول زيد، وضعف الجميع التشريك الذي قال به زيد في هذه الفريضة، وبقول زيد قال مالك، وقيل: إنما سميت الأكدرية لتكدر قول زيد فيها، وهذا كله على مذهب من يرى العول، وبالعول قال جمهور الصحابة وفقهاء الأمصار، إلا ابن عباس فإنه روي عنه أنه قال: أعال الفرائض عمر بن الخطاب، وأيم الله لو قدم من قدم الله وأخر من أخر الله ما عالت فريضة، قيل له: وأيها قدم الله، وأيها أخر الله؟ قال: كل فريضة لم يهبطها الله عز وجل عن موجبها إلا إلى فريضة أخرى فهي ما قدم الله، وكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما بقي فتلك التي أخر الله فالأول مثل الزوجة والأم، والمتأخر مثل الأخوات والبنات، قال: فإذا اجتمع الصنفان بدئ من قدم الله، فإن بقي شئ فلمن أخر الله، وإلا فلا شئ له، قيل له: فهلا قلت هذا القول لعمر، قال: هبته. وذهب زيد إلى أنه إذا كان مع الجد والاخوة الشقائق إخوة لأب، أن الاخوة الشقائق يعادون الجد بالاخوة للأب، فيمنعونه بهم كثرة الميراث، ولا يرثون مع الاخوة الشقائق شيئا إلا أن يكون الشقائق أختا واحدة، فإنها تعاد الجد بإخوتها للأب ما بينهما وبين أن تستكمل فريضتها، وهي النصف، وإن كان فيما يحاز لها ولاخوتها لأبيها فضل عن نصف رأس المال كله، فهو لاخوتها لأبيها للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن لم يفضل شئ على النصف فلا ميراث لهم، فأما علي (رضي الله عنه) فكان لا يلتفت هنا للاخوة للأب للاجماع على أن الاخوة الشقائق يحجبونهم، ولان هذا الفعل أيضا مخالف للأصول، أعني أن يحتسب بمن لا يرث. واختلف الصحابة (رضي الله عنهم) من هذا الباب في الفريضة التي تدعى الخرقاء، وهي أم وأخت وجد على خمسة أقوال. فذهب أبو بكر رضي الله عنه وابن عباس إلى أن للأم الثلث والباقي للجد وحجبوا به الأخت، وهذا على رأيهم في إقامة الجد مقام الأب. وذهب علي رضي الله عنه إلى أن للأم الثلث وللأخت النصف وما بقي للجد. وذهب عثمان إلى أن للأم الثلث وللأخت الثلث وللجد الثلث. وذهب ابن مسعود إلى أن للأخت النصف وللجد الثلث وللأم السدس، وكان يقول معاذ الله أن أفضل أما على جد. وذهب زيد إلى أن للأم الثلث وما بقي بين الجد والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين. ميراث الجدات: وأجمعوا على أن للجدة أم الأم السدس، مع عدم الأم، وأن للجدة أيضا أم الأب عند فقد الأب السدس، فإن اجتمعا كان السدس بينهما. واختلفوا فيما سوى ذلك، فذهب زيد وأهل المدينة إلى أن الجدة أم الأم يفرض لها السدس فريضة، فإذا اجتمعت الجدتان كان السدس بينهما إذا كان تعددهما سواء، أو كانت أم الأب أقعد، فإن كانت أم الأم أقعد: أي أقرب إلى الميت كان لها السدس، ولم يكن للجدة أم الأب
284 شئ، وقد روي عنه أيهما أقعد كان لها السدس، وبه قال علي (رضي الله عنه)، ومن فقهاء الأمصار أبو حنيفة، والثوري، وأبو ثور، وهؤلاء ليس يورثون إلا هاتين الجدتين المجتمع على توريثهما، وكان الأوزاعي وأحمد يورثان ثلاث جدات واحدة من قبل الأم واثنتان من قبل الأب: أم الأب وأم أبي الأب أعني الجد وكان ابن مسعود يورث أربع جدات: أم الأم وأم الأب وأم أبي الأب أعني الجد وأم أبي الأم أعني الجد، وبه قال الحسن وابن سيرين. وكان ابن مسعود يشرك بين الجدات في السدس دنياهن وقصواهن ما لم تكن تحجبها بنتها أو بنت بنتها. وقد روي أنه كان يسقط القصوى بالدنيا إذا كانتا من جهة واحدة. وروي عن ابن عباس أن الجدة كالأم إذا لم تكن أم، وهو شاذ عند الجمهور، ولكن له حظ من القياس. فعمدة زيد، وأهل المدينة، والشافعي، ومن قال بمذهب زيد ما رواه مالك أنه قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر رضي الله عنه تسأله عن ميراثها، فقال أبو بكر: مالك في كتاب الله عز وجل شئ وما علمت لك في سنة رسول الله (ص) شيئا فارجعي حتى أسأل الناس، فقال له المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله (ص) أعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقال: محمد بن مسلمة، فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذه أبو بكر لها، ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر بن الخطاب تسأله ميراثها، فقال لها: ما لك في كتاب الله عز وجل شئ، وما كان القضا الذي قضى به إلا لغيرك، وما أنا بزائد في الفرائض، ولكنه ذلك السدس، فإن اجتمعتما فيه فهو لكما، وأيتكما انفردت به فهو لها. وروى مالك أيضا أنه أتت الجدتان إلى أبي بكر، فأراد أن يجعل السدس للتي من قبل الأم، فقال له رجل: أما إنك تترك التي لو ماتت وهو حي كان إياها يرث، فجعل أبو بكر السدس بينهما قالوا: فواجب أن لا يتعدى في هذا هذه السنة وإجماع الصحابة. وأما عمدة من ورث الثلاث جدات فحديث ابن عيينة عن منصور عن إبراهيم: أن النبي (ص) ورث ثلاث جدات: اثنتين من قبل الأب، وواحدة من قبل الأم وأما ابن مسعود فعمدته القياس في تشبيهها بالجدة للأب لكن الحديث يعارضه. واختلفوا هل يحجب الجدة للأب ابنها وهو الأب، فذهب زيد إلى أنه يحجب، وبه قال مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وداود، وقال آخرون: ترث الجدة مع ابنها، وهو مروي عن عمر، وابن مسعود، وجماعة من الصحابة، وبه قال شريح، وعطاء، وابن سيرين، وأحمد، وهو قول الفقهاء المصريين. وعمدة من حجب الجدة بابنها أن الجد لما كان محجوبا بالأب وجب أن تكون الجدة أولى بذلك، وأيضا فلما كانت أم الأم لا ترث بإجماع مع الأم شيئا كان كذلك أم الأب مع الأب. وعمدة الفريق الثاني ما روى الشعبي عن مسروق عن عبد الله قال: أول جدة أعطاها رسول الله (ص) سدسا جدة مع ابنها وابنها حي قالوا: ومن طريق النظر لما كانت الأم وأم الأم لا يحجبن بالذكور كان كذلك حكم جميع
285 الجدات، وينبغي أن يعلم أن مالكا لا يخالف زيدا إلا في فريضة واحدة، وهي امرأة هلكت وتركت زوجا، وأما، وإخوة لأم، وإخوة لأب وأم وجدا، فقال مالك: للزوج النصف، وللأم السدس وللجد ما بقي وهو الثلث، وليس للاخوة الشقائق شئ، وقال زيد: للزوج النصف. وللأم السدس، وما بقي للاخوة الشقائق، فخالف مالك في هذه المسألة أصله من أن الجد لا يحجب الإخوة الشقائق ولا الأخوات للأب. وحجته أنه لما حجب الاخوة للأم عن الثلث الذي كانوا يستحقونه دون الشقائق كان هو أولى به. وأما زيد فعلى أصله في أنه لا يحجبهم. باب: في الحجب وأجمع العلماء على أن الأخ الشقيق يحجب الأخ للأب، وأن الأخ للأب يحجب بني الأخ الشقيق، وأن بني الأخ الشقيق يحجبون أبناء الأخ للأب، وبنو الأخ للأب أولى من بني ابن الأخ للأب والأم، وبنو الأخ للأب أولى من العم أخي الأب، وابن العم أخي الأب الشقيق أولى من ابن العم أخي الأب للأب، وكل واحد من هؤلاء يحجبون بنيهم، ومن حجب منهم صنفا فهو يحجب من يحجبه ذلك الصنف. وبالجملة، أما الاخوة فالأقرب منهم يحجب الأبعد، فإذا استووا حجب منهم من أدلى بسببين أم وأب من أدلى بسبب واحد وهو الأب فقط، وكذلك الأعمام الأقرب منهم يحجب الأبعد، فإن استووا حجب منهم من يدلي منهم إلى الميت بسببين من يدلي بسبب واحد أعني أنه يحجب العم أخو الأب لأب وابن العم الذي هو أخو الأب لأب فقط. وأجمعوا على أن الاخوة الشقائق والإخوة للأب يحجبون الأعمام، لان الاخوة بنو أب المتوفى، والأعمام بنو جده، والأبناء يحجبون بنيهم، والآباء أجدادهم، والبنون وبنوهم يحجبون الاخوة، والجد يحجب من فوقه من الأجداد بإجماع، والأب يحجب الإخوة ويحجب من تحجبه الاخوة، والجد يحجب الأعمام بإجماع والاخوة للأم، ويحجب بنو الاخوة الشقائق بني الإخوة للأب. والبنات، وبنات البنين يحجبن الاخوة للأم. واختلف العلماء فيمن ترك ابني عم أحدهما أخ للأم، فقال مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، والثوري: للأخ للأم السدس من جهة ما هو أخ لأم وهو في باقي المال مع ابن العم الآخر عصبة يقتسمونه بينهم على السواء، وهو قول علي (رضي الله عنه) وزيد وابن عباس، وقال قوم: المال كله لابن العم الذي هو أخ لأم يأخذ سدسه بالاخوة وبقيته بالتعصيب، لأنه قد أدلى بسببين. وممن قال بهذا القول من الصحابة ابن مسعود، ومن الفقهاء داود وأبو ثور والطبري، وهو قول الحسن، وعطاء. واختلف العلماء في رد ما بقي من مال الورثة على ذوي الفرائض إذا بقيت من المال فضلة لم تستوفها الفرائض ولم يكن هناك من يعصب، فكان زيد لا يقول بالرد ويجعل الفاضل في بيت المال، وبه قال مالك، والشافعي،
286 وقال جل الصحابة بالرد على ذوي الفروض ما عدا الزوج والزوجة، وإن كانوا اختلفوا في كيفية ذلك، وبه قال فقهاء العراق من الكوفيين، والبصريين. وأجمع هؤلاء الفقهاء على أن الرد يكون لهم بقدر سهامهم، فمن كان له نصف أخذ النصف مما بقي، وهكذا في جزء جزء. وعمدتهم أن قرابة الدين والنسب أولى من قرابة الدين فقط: أي أن هؤلاء اجتمع لهم سببان وللمسلمين سبب واحد. وهنا مسائل مشهورة الخلاف بين أهل العلم فيها تعلق بأسباب المواريث يجب أن نذكرها هنا، فمنها أنه أجمع المسلمون على أن الكافر لا يرث المسلم لقوله تعالى: * (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) * ولما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام: لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم واختلفوا في ميراث المسلم الكافر، وفي ميراث المسلم المرتد، فذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار إلى أنه لا يرث المسلم الكافر بهذا الأثر الثابت، وذهب معاذ بن جبل ومعاوية من الصحابة وسعيد بن المسيب ومسروق من التابعين وجماعة إلى أن المسلم يرث الكافر، وشبهوا ذلك بنسائهم، فقالوا: كما يجوز لنا أن ننكح نساءهم ولا يجوز لنا أن ننكحهم نساءنا كذلك الإرث، ورووا في ذلك حديثا مسندا، قال أبو عمر: وليس بالقوي عند الجمهور، وشبهوه أيضا بالقصاص في الدماء التي لا تتكافأ. وأما مال المرتد إذا قتل أو مات، فقال جمهور فقهاء الحجاز هو لجماعة المسلمين ولا يرثه قرابته، وبه قال مالك، والشافعي، وهو قول زيد من الصحابة. وقال أبو حنيفة، والثوري، وجمهور الكوفيين، وكثير من البصريين يرثه ورثته من المسلمين، وهو قول ابن مسعود من الصحابة، وعلي (رضي الله عنهما). وعمدة الفريق الأول عموم الحديث، وعمدة الحنفية تخصيص العموم بالقياس، وقياسهم في ذلك هو أن قرابته أولى من المسلمين لأنهم يدلون بسببين: بالاسلام والقرابة، والمسلمون بسبب واحد، وهو الاسلام، وربما أكدوا بما يبقى لماله حكم الاسلام بدليل أنه لا يؤخذ في الحال حتى يموت فكانت حياته معتبرة في بقاء ماله على ملكه، وذلك لا يكون إلا بأن يكون لماله حرمة إسلامية، ولذلك لم يجز أن يقر على الارتداد، بخلاف الكافر - وقال الشافعي، وغيره: يؤخذ بقضاء الصلاة إذا تاب من الردة في أيام الردة، والطائفة الأخرى تقول: يوقف ماله لان له حرمة إسلامية، وإنما وقف رجاء أن يعود إلى الاسلام، وأن استيجاب المسلمين لماله ليس على طريق الإرث. وشذت طائفة فقالت: ماله للمسلمين عندما يرتد، وأظن أن أشهب ممن يقول بذلك. وأجمعوا على توريث أهل الملة الواحدة بعضهم بعضا. واختلفوا في توريث الملل المختلفة، فذهب مالك وجماعة إلى أن أهل الملل المختلفة لا يتوارثون كاليهود والنصارى، وبه قال أحمد وجماعة، وقال الشافعي
287 وأبو حنيفة وأبو ثور والثوري وداود وغيرهم: الكفار كلهم يتوارثون، وكان شريح وابن أبي ليلى وجماعة يجعلون الملل التي لا تتوارث ثلاثا: النصارى واليهود والصابئين ملة، والمجوس ومن لا كتاب له ملة، والإسلام ملة. وقد روي عن ابن أبي ليلى مثل قول مالك. وعمدة مالك ومن قال بقوله ما روى الثقات عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي (ص) قال: لا يتوارث أهل ملتين، وعمدة الشافعية والحنفية قوله عليه الصلاة والسلام: لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم وذلك أن المفهوم من هذا بدليل الخطاب أن المسلم يرث المسلم والكافر يرث الكافر. والقول بدليل الخطاب فيه ضعف وخاصة هنا. واختلفوا في توريث الحملاء، والحملاء هم الذين يتحملون بأولادهم من بلاد الشرك إلى بلاد الاسلام وهم يدعون الولادة الموجبة للنسب، وذلك على ثلاثة أقوال: قول إنهم يتوارثون بما يدعون من النسب، وهو قول جماعة من التابعين وإليه ذهب إسحاق. وقول إنهم لا يتوارثون إلا ببينة تشهد على أنسابهم، وبه قال شريح والحسن وجماعة. وقول إنهم لا يتوارثون أصلا وروي عن عمر الثلاثة الأقوال، إلا أن الأشهر عنه أنه كان لا يورث إلا من ولد في بلاد العرب وهو قول عثمان وعمر بن عبد العزيز. وأما مالك وأصحابه فاختلف في ذلك قولهم، فمنهم من رأى أن لا يورثون إلا ببينة، وهو قول ابن القاسم: ومنهم من رأى أن لا يورثون أصلا ولا بالبينة العادلة، وممن قال بهذا القول من أصحاب مالك عبد الملك ابن الماجشون، وروى ابن القاسم عن مالك في أهل حصن نزلوا على حكم الاسلام، فشهد بعضهم لبعض أنهم يتوارثون، وهذا يتخرج منه أنهم يتوارثون بلا بينة. لان مالكا لا يجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض قال: فأما إن سبوا فلا يقبل قولهم في ذلك. وبنحو هذا التفصيل قال الكوفيون والشافعي وأحمد وأبو ثور، وذلك أنهم قالوا: إن خرجوا إلى بلاد الاسلام وليس لاحد عليهم يد قبلت دعواهم في أنسابهم، وأما إن أدركهم السبي والرق فلا يقبل قولهم إلا ببينة. ففي المسألة أربعة أقوال: اثنان طرفان، واثنان مفرقان. وجمهور العلماء من فقهاء الأمصار ومن الصحابة علي وزيد وعمر أن من لا يرث لا يحجب مثل الكافر والمملوك والقاتل عمدا، وكان ابن مسعود يحجب بهؤلاء الثلاثة دون أن يورثهم أعني بأهل الكتاب وبالعبيد وبالقاتلين عمدا، وبه قال داود وأبو ثور. وعمدة الجمهور أن الحجب في معنى الإرث وأنهما متلازمان. وحجة الطائفة الثانية أن الحجب لا يرتفع إلا بالموت. واختلف العلماء في الذين يفقدون في حرب أو غرق أو هدم ولا يدرى من مات منهم قبل صاحبه كيف يتوارثون إذا كانوا أهل ميراث؟ فذهب مالك وأهل المدينة إلى أنهم لا يورث بعضهم من بعض، وأن ميراثهم جميعا لمن بقي من قرابتهم الوارثين أو لبيت المال إن لم تكن لهم قرابة ترث، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه فيما حكى عنه الطحاوي. وذهب علي وعمر (رضي الله عنهما) وأهل الكوفة وأبو حنيفة - فيما ذكر غير الطحاوي عنه - وجمهور البصريين إلى أنهم يتوارثون وصفة
288 توريثهم عندهم أنهم يورثون كل واحد من صاحبه في أصل ماله دون ما ورث بعضهم من بعض، أعني أنه لا يضم إلى مال المورث ما ورث من غيره، فيتوارثون الكل على أنه مال واحد كالحال في الذين يعلم تقدم موت بعضهم على بعض، مثال ذلك زوج وزوجته توفيا في حرب أو غرق أو هدم ولكل واحد منهما ألف درهم، فيورث الزوج من المرأة خمسمائة درهم، وتورث المرأة من الألف التي كانت بيد الزوج دون الخمسمائة التي ورث منها ربعها وذلك مائتان وخمسون. ومن مسائل هذا لباب اختلاف العلماء في ميراث ولد الملاعنة وولد الزنا، فذهب أهل المدينة وزيد بن ثابت إلى أن ولد الملاعنة يورث كما يورث غير ولد الملاعنة، وأنه ليس لامه إلا الثلث والباقي لبيت المال، إلا أن يكون له إخوة لأم، فيكون لهم الثلث أو تكون أمه مولاة فيكون باقي المال لمواليها، وإلا فالباقي لبيت مال المسلمين، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه، إلا أن أبا حنيفة - على مذهبه - يجعل ذوي الأرحام أولى من جماعة المسلمين. وأيضا على قياس من يقول بالرد يرد على الأم بقية المال، وذهب علي وعمر وابن مسعود إلى أن عصبته عصبة أمه أعني الذين يرثونها. وروي عن علي وابن مسعود أنهم كانوا لا يجعلون عصبته عصبة أمه إلا مع فقد الأم وكانوا ينزلون الأم بمنزلة الأب، وبه قال الحسن وابن سيرين والثوري وابن حنبل وجماعة. وعمدة الفريق الأول عموم قوله تعالى: * (فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث) * فقالوا: هذه أم وكل أم لها الثلث، فهذه لها الثلث. وعمدة الفريق الثاني ما روي من حديث ابن عمر عن النبي (ص) أنه ألحق ولد الملاعنة بأمه وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جعل النبي (ص) ميراث ابن الملاعنة لامه ولورثته وحديث واثلة بن الأسقع عن النبي (ص) قال: المرأة تحوز ثلاثة أموال: عتيقها، ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه وحديث مكحول عن النبي (ص) بمثل ذلك، خرج جميع ذلك أبو داود وغيره. قال القاضي: هذه الآثار المصير إليها واجب لأنها قد خصصت عموم الكتاب. والجمهور على أن السنة يخصص بها الكتاب، ولعل الفريق الأول لم تبلغهم هذه الأحاديث أو لم تصح عندهم، وهذا القول مروي عن ابن عباس وعثمان، وهو مشهور في الصدر الأول، واشتهاره في الصحابة دليل على صحة هذه الآثار، فإن هذا ليس يستنبط بالقياس. والله أعلم. ومن مسائل ثبوت النسب الموجب للميراث اختلافهم فيمن ترك ابنين وأقر أحدهم بأخ ثالث وأنكر الثاني، فقال مالك وأبو حنيفة: يجب عليه أن يعطيه حقه من الميراث يعنون المقر، ولا يثبت بقوله نسبه، وقال الشافعي: لا يثبت النسب ولا يجب على المقر أن يعطيه من الميراث شيئا. واختلف مالك وأبو حنيفة في القدر الذي يجب على الأخ المقر، فقال مالك يجب عليه ما كان يجب عليه لو أقر الا الثاني وثبت النسب. وقال أبو حنيفة: يجب عليه أن يعطيه نصف ما بيده، وكذلك الحكم عند مالك وأبي حنيفة فيمن ترك ابنا واحدا
289 فأقر بأخ له آخر، أعني أنه لا يثبت النسب ويجب الميراث، وأما الشافعي فعنه في هذه المسألة قولا أحدهما: أنه لا يثبت النسب ولا يجب الميراث. والثاني: يثبت النسب ويجب الميراث، وهو الذي عليه تناظر الشافعية في المسائل الطبلولية ويجعلها مسألة عامة، وهو أن كل من يحوز المال يثبت النسب بإقراره وإن كان واحدا أخا أو غير ذلك. وعمدة الشافعية في المسألة الأولى، وفي أحد قوليه في هذه المسألة - أعني القول الغير المشهور - أن النسب لا يثبت إلا بشاهدي عدل، وحيث لا يثبت فلا ميراث، لان النسب أصل والميراث فرع، وإذا لم يوجد الأصل لم يوجد الفرع. وعمدة مالك وأبي حنيفة أن ثبوت النسب هو حق متعد إلى الأخ المنكر، فلا يثبت عليه إلا بشاهدين عدلين، وأما حظه من الميراث الذي بيد المقر فإقراره فيه عامل لأنه حق أقر به على نفسه. والحق أن القضاء عليه لا يصح من الحاكم إلا بعد ثبوت النسب وأنه لا يجوز له بين الله تعالى وبين نفسه أن يمنع من يعرف أنه شريكه في الميراث حظه منه. وأما عمدة الشافعية في إثباتهم النسب بإقرار الواحد الذي يجوز له الميراث فالسماع والقياس. أما السماع فحديث مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة المتفق على صحته قالت: كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه إليك، فلما كان عام الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص وقال: ابن أخي قد كان عهد إلي فيه، فقام إليه عبد بن زمعة، فقال: أخي وابن وليدة: أبي ولد على فراشه، فتساوقاه إلى رسول الله (ص)، فقال سعد: يا رسول الله.. ابن أخي قد كان عهد إلي فيه، فقام إليه عبد بن زمعة فقال: أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه، فقال رسول الله (ص): هو لك يا عبد بن زمعة، ثم قال رسول الله (ص): الولد للفراش وللعاهر الحجر، ثم قال لسودة بنت زمعة: احتجبي منه، لما رأى من شبهه بعتبة بن أبي وقاص قالت: فما رآها حتى لقي الله عز وجل، فقضى رسول الله (ص) لعبد بن زمعة بأخيه وأثبت نسبه بإقراره إذ لم يكن هنالك وارث منازع له. وأما أكثر الفقهاء فقد أشكل عليهم معنى هذا الحديث لخروجه عندهم عن الأصل المجمع عليه في إثبات النسب، ولهم في ذلك تأويلات، وذلك أن ظاهر هذا الحديث أنه أثبت نسبه بإقرار أخيه به، والأصل أن لا يثبت نسب إلا بشاهدي عدل، ولذلك تأول الناس في ذلك تأويلا ت، فقالت طائفة: إنه إنما أثبت نسبه عليه الصلاة والسلام بقول أخيه، لأنه يمكن أن يكون قد علم أن تلك الأمة كان يطؤها زمعة بن قيس، وأنها كانت فراشا له قالوا: ومما يؤكد ذلك أنه كان صهره، وسودة بنت زمعة كانت زوجته عليه الصلاة والسلام، فيمكن أن لا يخفى عليه أمرها، وهذا على القول بأن للقاضي أن يقضي بعلمه، ولا يليق هذا التأويل بمذهب مالك، لأنه لا يقضي القاضي عنده بعلمه، ويليق بمذهب الشافعي على قوله الآخر، أعني الذي لا يثبت فيه النسب. والذين قالوا بهذا التأويل قالوا: إنما أمر سودة بالحجبة احتياطا لشبهة
290 الشبه، لا أن ذلك كان واجبا، وقال لمكان هذا بعض الشافعية: إن للزوج أن يحجب الأخت عن أخيها وقالت طائفة: أمره بالاحتجاب لسودة دليل على أنه لم يلحق نسبه بقول عتبة ولا بعلمه بالفراش. وافترق هؤلاء في تأويل قوله عليه الصلاة والسلام: هو لك فقال طائفة: إنما أراد هو عبدك إذ كان ابن أمة وأبيك، وهذا غير ظاهر لتعليل رسول الله (ص) حكمه في ذلك بقوله: الولد للفراش وللعاهر الحجر وقال الطحاوي: إنما أراد بقوله عليه الصلاة والسلام: هو لك يا عبد بن زمعة أي يدك عليه بمنزلة ما هو يد اللاقط على اللقطة، وهذه التأويلات تضعف لتعليله عليه الصلاة والسلام حكمه بأن قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر. وأما المعنى الذي يعتمده الشافعية في هذا المذهب، فهو أن إقرار من يحوز الميراث هو إقرار خلافه: أي إقرار من حاز خلافة الميت، وعند الغير أنه إقرار شهادة لا إقرار خلافة، يريد أن الاقرار الذي كان للميت انتقل إلى هذا الذي حاز ميراثه. واتفق الجمهور على أن أولاد الزنا لا يلحقون بآبائهم إلا في الجاهلية على ما روي عن عمر بن الخطاب على اختلاف في ذلك بين الصحابة، وشذ قوم فقالوا: يلتحق ولد الزنا في الاسلام، أعني الذي كان عن زنا في الاسلام. واتفقوا على أن الولد لا يلحق بالفراش في أقل من ستة أشهر، إما من وقت العقد، وإما من وقت الدخول، وأنه يلحق من وقت الدخول إلى قصر زمان الحمل، أو إن كان قد فارقها واعتزلها. واختلفوا في أطول زمان الحمل الذي يلحق به الوالد الولد، فقال مالك: خمس سنين، وقال بعض أصحابه: سبع، وقال الشافعي: أربع سنين، وقال الكوفيون: سنتان. وقال محمد بن الحكم: سنة، وقال داود: ستة أشهر. وهذه المسألة مرجوع فيها إلى العادة والتجربة. ويقول ابن عبد الحكم والظاهرية هو أقرب إلى المعتاد، والحكم إنما يجب أن يكون بالمعتاد لا بالنادر، ولعله أن يكون مستحيلا. وذهب مالك والشافعي إلى أن من تزوج امرأة ولم يدخل بها أو دخل بها بعد الوقت وأتت بولد لستة أشهر من وقت العقد لا من وقت الدخول أنه لا يلحق به إلا إذا أتت به لستة أشهر فأكثر من ذلك من وقت الدخول. وقال أبو حنيفة: هي فراش له ويلحقه الولد. وعمدة مالك أنها ليست بفراش إلا بإمكان الوطئ وهو مع الدخول. وعمدة أبي حنيفة عموم قوله عليه الصلاة والسلام: الولد للفراش وكأنه يرى أن هذا تعبد بمنزلة تغليب الوطئ الحلال على الوطئ الحرام في إلحاق الولد بالوطئ الحلال. واختلفوا من هذا الباب في إثبات النسب بالقافة، وذلك عندما يطأ رجلان في طهر واحد بملك يمين أو بنكاح، ويتصور أيضا بالقافة في اللقيط الذي يدعيه رجلان أو ثلاثة. والقافة عند العرب: هم قوم كانت عندهم معرفة بفصول تشابه أشخاص الناس، فقال بالقافة من فقهاء الأمصار مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور والأوزاعي، وأبى الحكم بالقافة وأكثر أهل العراق، والحكم عند هؤلاء أنه
291 إذا ادعى رجلان ولدا كان الولد بينهما، وذلك إذا لم يكن لأحدهما فراش، مثل أن يكون لقيطا، أو كانت المرأة الواحدة لكل واحد منهما فراشا مثل الأمة أو الحرة يطؤها رجلان في طهر واحد، وعند الجمهور من القائلين بهذا القول إنه يجوز أن يكون عندهم للابن الواحد أبوان فقط، وقال محمد صاحب أبي حنيفة: يجوز أن يكون ابنا لثلاثة إن ادعوه، وهذا كله تخليط وإبطال للمعقول والمنقول. وعمدة استدلال من قال بالقافة ما رواه مالك عن سليمان بن يسار أن عمر بن الخطاب كان يليط أولاد الجاهلية بمن استلاطهم: أي بمن ادعاهم في الاسلام فأتى رجلان كلاهما يدعي ولد امرأة، فدعا قائفا فنظر إليه فقال القائف: لقد اشتركا فيه، فضربه عمر بالدرة، ثم دعا المرأة فقال: أخبريني بخبرك، فقالت: كان هذا - لاحد الرجلين - يأتي في إبل لأهلها فلا يفارقها حتى يظن ونظن أنه قد استمر بها حمل، ثم انصرف عنها فأهريقت عليه دما، ثم خلف هذا عليها، تعني الآخر. فلا أدري أيهما هو، فكبر القائف، فقال عمر للغلام: وال أيهما شئت. قالوا: فقضاء عمر بمحضر من الصحابة بالقافة من غير إنكار من واحد منهم هو كالاجماع. وهذا الحكم عند مالك إذا قضى القافة بالاشتراك أن يؤخر الصبي حتى يبلغ، ويقال له: وال أيهما شئت، ولا يلحق واحد باثنين، وبه قال الشافعي، وقال أبو ثور: يكون ابنا لهما إذا زعم القائف أنهما اشتركا فيه، وعند مالك أنه ليس يكون ابنا للاثنين لقوله تعالى: * (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) * واحتج القائلون بالقافة أيضا بحديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: دخل رسول الله (ص) مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: ألم تسمعي ما قال محرز المدلجي لزيد وأسامة ورأي أقدامهما فقال: إن هذه الاقدام بعضها من بعض قالوا: وهذا مروي عن ابن عباس وعن أنس بن مالك، ولا مخالف لهم من الصحابة. وأما الكوفيون فقالوا: الأصل أن لا يحكم لاحد المتنازعين في الولد إلا أن يكون هنالك فراش لقوله عليه الصلاة والسلام: الولد للفراش فإذا عدم الفراش أو اشتركا للفراش كان ذلك بينهما، وكأنهم رأوا ذلك بنوة شرعية لا طبيعية، فإنه ليس يلزم من قال: إنه لا يمكن أن يكون ابن واحد عن أبوين بالعقل أن لا يجوز وقوع ذلك في الشرع وروي مثل قولهم عن عمر، ورواه عبد الرازق عن علي، وقال الشافعي: لا يقبل في القافة إلا رجلان. وعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما مثل قول الشافعي، والثانية أنه يقبل قول قائف واحد. والقافة في المشهور عن مالك إنما يقضى بها في ملك اليمين فقط لا في النكاح، وروى ابن وهب عنه مثل قول الشافعي، وقال أبو عمر بن عبد البر: في هذا حديث
292 حسن مسند أخذ به جماعة من أهل الحديث وأهل الظاهر، رواه الثوري عن صالح بن حي عن الشعبي عن زيد بن أرقم قال: كان علي باليمن فأتي بامرأة وطئها ثلاثة أناس في طهر واحد، فسأل كل واحد منهم أن يقر لصاحبه بالولد فأبى، فأقرع بينهم وقضى بالولد للذي أصابته القرعة وجعل عليه ثلثي الدية، فرفع ذلك إلى النبي (ص) فأعجبه وضحك حتى بدت نواجذه وفي هذا القول إنفاذ الحكم بالقافة وإلحاق الولد بالقرعة. واختلفوا في ميراث القاتل على أربعة أقوال: فقال قوم: لا يرث القاتل أصلا من قتله. وقال آخرون: يرث القاتل وهم الأقل. وفرق قوم بين الخطأ والعمد فقالوا: لا يرث في العمد شيئا ويرث في الخطأ إلا من الدية، وهو قول مالك وأصحابه. وفرق قوم بين أن يكون في العمد قتل بأمر واجب أو بغير واجب، مثل أن يكون من له إقامة الحدود، وبالجملة بين أن يكون ممن يتهم أو لا يتهم. وسبب الخلاف: معارضة أصل الشرع في هذا المعنى للنظر المصلحي، وذلك أن النظر المصلحي يقتضي أن لا يرث لئلا يتذرع الناس من المواريث إلى القتل، واتباع الظاهر، والتعبد يوجب أن لا يلتفت إلى ذلك، فإنه لو كان ذلك مما قصد لالتفت إليه الشارع * (وما كان ربك نسيا) كما تقول الظاهرية. واختلفوا في الوارث الذي ليس بمسلم يسلم بعد موت مورثه المسلم وقبل قسم الميراث، كذلك إن كان مورثه على غير دين الاسلام، فقال الجمهور: إنما يعتبر في ذلك وقت الموت، فإن كان اليوم الذي مات فيه المسلم وارثه ليس بمسلم لم يرثه أصلا سواء قبل قسم الميراث أو بعده، وكذلك إن كان مورثه على غير دين الاسلام وكان الوارث يوم مات غير مسلم ورثه ضرورة سواء أكان إسلامه قبل القسم أو بعده. وقالت طائفة منهم الحسن وقتادة وجماعة: المعتبر في ذلك يوم القسم، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب. وعمدة كلا الفريقين قوله (ص): أيما دار أو أرض قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية، وأيما دار أو أرض أدركها الاسلام ولم تقسم فهي على ما قسم الاسلام فمن اعتبر وقت القسمة حكم للمقسوم في ذلك الوقت بحكم الاسلام ومن اعتبر وجوب القسمة حكم في وقت الموت للمقسوم بحكم الاسلام. وروي من حديث عطاء: أن رجلا أسلم على ميراث على عهد رسول الله (ص) قبل أن يقسم، فأعطاه رسول الله (ص) نصيبه، وكذلك الحكم عندهم فيمن أعتق من الورثة بعد الموت وقبل القسمة. فهذه هي المسائل المشهورة التي تتعلق بهذا الكتاب. قال القاضي: ولما كان الميراث إنما يكون بأحد ثلاثة أسباب: إما بنسب، أو صهر،
293 أو ولاء، وكان قد قيل في الذي يكون بالنسب والصهر، فيجب أن نذكر ههنا الولاء. ولمن يجب فيه ممن لا يجب، وما أحكامه؟. باب في الولاء فأما من يجب له الولاء، ففيه مسائل مشهورة تجري مجرى الأصول لهذا الباب. المسألة الأولى: أجمع العلماء على أن من أعتق عبده عن نفسه فإن ولاءه له وأنه يرثه إذا لم يكن له وارث، وأنه عصبة له إذا كان هنالك ورثة لا يحيطون بالمال. فأما كون الولاء للمعتق عن نفسه، فلما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريرة: إنما الولاء لمن أعتق واختلفوا إذا أعتق عبدا عن غيره، فقال مالك الولاء للمعتق عنه لا الذي باشر العتق، وقال أبو حنيفة والشافعي: إن أعتقه عن علم المعتق عنه، فالولاء للمعتق عنه، وإن أعتقه عن غير علمه، فالولاء للمباشر للعتق. وعمدة الحنفية والشافعية ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: الولاء لمن أعتق وقوله عليه الصلاة والسلام: الولاء لحمة كلحمة النسب قالوا: فلما لم يجز أن يلتحق نسب بالحر بغير إذنه، فكذلك الولاء، ومن طريق المعنى فلان عتقه حرية وقعت في ملك المعتق، فوجب أن يكون الولاء له، أصله إذا أعتقه من نفسه. وعمدة مالك أنه إذا أعتقه عنه فقد ملكه إياه، فأشبه الوكيل، ولذلك اتفقوا على أنه إذا أذن له المعتق عنه كان ولاؤه له لا للمباشر وعند مالك أنه من قال لعبده: أنت حر لوجه الله وللمسلمين أن الولاء يكون للمسلمين، وعندهم يكون للمعتق. المسألة الثانية: اختلف العلماء فيمن أسلم على يديه رجل هل يكون ولاؤه له؟ فقال مالك والشافعي والثوري وداود وجماعة: لا ولاء له، وقال أبو حنيفة وأصحابه: له ولاؤه إذا والاه، وذلك أن مذهبهم أن للرجل أن يوالي رجلا آخر فيرثه ويعقل عنه، وأن له أن ينصرف من ولاؤه إلى ولاء غيره ما لم يعقل عنه، وقال غيره: بنفس الاسلام على يديه يكون له ولاؤه. فعمدة الطائفة الأولى قوله (ص): إنما الولاء لمن أعتق وإنما هذه هي التي يسمونها الحاصرة، وكذلك الألف واللام هي عندهم للحصر ومعنى الحصر هو أن يكون الحكم خاصا بالمحكوم عليه لا يشاركه فيه غيره: أعني أن لا يكون ولاء بحسب مفهوم هذا القول إلا للمعتق فقط المباشر. وعمدة الحنفية في إثبات الولاء بالموالاة قوله تعالى: * (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون) * وقوله تعالى: * (والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) *
294 وحجة من قال: الولاء يكون بنفس الاسلام فقط حديث تميم الداري قال: سألت رسول الله (ص) عن المشرك يسلم على يد مسلم؟ فقال: هو أحق الناس وأولاهم بحياته ومماته وقضى عمر بن عبد العزيز. وعمدة الفريق الأول أن قوله تعالى: * (والذين عقدت أيمانكم) * منسوخة بآية المواريث، وأن ذلك كان في صدر الاسلام. وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع الولاء ولا هبته لثبوت نهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك إلا ولاء السائبة. المسألة الثالثة: اختلف العلماء إذا قال السيد لعبده أنت سائبة، فقال مالك: ولاؤه وعقله للمسلمين وجعله بمنزلة من أعتق عن المسلمين إلا أن يريد به معنى العتق فقط، فيكون ولاؤه له، وقال الشافعي وأبو حنيفة: ولاؤه للمعتق على كل حال، وبه قال أحمد وداود وأبو ثور، وقالت طائفة: له أن يجعل ولاءه حيث شاء، وإن لم يوال أحدا كان ولاؤه للمسلمين، وبه قال الليث والأوزاعي، وكان إبراهيم والشعبي يقولان: لا بأس ببيع ولاء السائبة وهبته، وحجة هؤلاء هي الحجج المتقدمة في المسألة التي قبلها. وأما من أجاز بيعه فلا أعرف له حجة في هذا الوقت. المسألة الرابعة: اختلف العلماء في ولاء العبد المسلم إذا أعتقه النصراني قبل أن يباع لمن يكون؟ فقال مالك وأصحابه: ولاؤه للمسلمين، فإن أسلم مولاه بعد ذلك لم يعد إليه ولاؤه ولا ميراثه وقال الجمهور ولاؤه لسيده فإن أسلم كان له ميراثه. وعمدة الجمهور أن الولاء كالنسب، وأنه إذا أسلم الأب بعد إسلام الابن أنه يرثه، فكذلك العبد، وأما عمدة مالك فعموم قوله تعالى: * (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) * فهو يقول: إنه لما لم يجب له الولاء يوم العتق لم يجب له فيما بعد. وأما إذا وجب له يوم العتق ثم طرأ عليه مانع من وجوبه فلم يختلفوا أنه إذا ارتفع ذلك المانع أنه يعود الولاء له. ولذلك اتفقوا أنه إذا أعتق النصراني الذمي عبده النصراني قبل أن يسلم أحدهما ثم أسلم العبد أن الولاء يرتفع، فإن أسلم المولى عاد إليه. وإن كانوا اختلفوا في الحربي يعتق عبده وهو على دينه، ثم يخرجان إلينا مسلمين، فقال مالك: هو مولاه يرثه، وقال أبو حنيفة: لا ولاء بينهما، وللعبد أن يوالي من شاء على مذهبه في الولاء والتحالف. وخالف أشهب مالكا فقال: إذا أسلم العبد قبل المولى لم يعد إلى المولى ولاؤه أبدا، وقال ابن القاسم: يعود. وهو معنى قول مالك، لان مالكا يعتبر وقت العتق. وهذه المسائل كلها هي مفروضة في القول لا تقع بعد. فإنه ليس من دين النصارى أن يسترق بعضهم بعضا. ولا من دين اليهود فيما يعتقدونه في هذا الوقت ويزعمون أنه من مللهم. المسألة الخامسة: أجمع جمهور العلماء على أن النساء ليس لهن مدخل في وراثة
295 الولاء إلا من باشرن عتقه بأنفسهن أو هاجر إليهن من باشرن عتقه، إما بولاء أو بنسب، مثل معتق معتقها أو ابن معتقها، وأنهن لا يرثن معتق من يرثنه أو ما حكي عن شريح. وعمدته أنه لما كان لها ولاء ما أعتقه بنفسها كان لها ولاء ما أعتقه مورثها قياسا على الرجل، وهذا هو الذي يعرفونه بقياس المعنى، وهو أرفع مراتب القياس، وإنما الذي يوهنه الشذوذ. وعمدة الجمهور أن الولاء إنما وجب للنعمة التي كانت للمعتق على المعتق، وهذه النعمة إنما توجد فيمن باشر العتق، أو كان من سبب قوي من أسبابه وهم العصبة. قال القاضي: وإذ قد تقرر من له ولاء ممن ليس له ولاء، فبقي النظر في ترتيب أهل الولاء في الولاء. فمن أشهر مسائلهم في هذا الباب المسألة التي يعرفونها بالولاء للكبر، مثال ذلك: رجل أعتق عبدا ثم مات ذلك الرجل وترك أخوين أو ابنين، ثم مات أحد الأخوين وترك ابنا، أو أحد الابنين، فقال الجمهور في هذه المسألة: إن حظ الأخ الميت من الولاء لا يرثه ابنه، وهو راجع إلى أخيه لأنه أحق به من ابنه بخلاف الميراث، لان الحجب في الميراث يعتبر بالقرب من الميت، وهنا بالقرب من المباشر للعتق، وهو مروي عن عمر بن الخطاب، وعلي وعثمان وابن مسعود وزيد بن ثابت من الصحابة، وقال شريح وطائفة من أهل البصرة: حق الأخ الميت في هذه وعمدة هؤلاء تشبيه الولاء بالميراث. وعمدة الفريق الأول أن المسألة لبنيه الولاء نسب مبدؤه من المباشر. ومن مسائلهم المشهورة في هذا الباب المسألة التي تعرف بجر الولاء. وصورتها أن يكون عبد له بنون من أمة، فأعتقت الأمة ثم أعتق العبد بعد ذلك، فإن العلماء اختلفوا لمن يكون ولاء البنين إذا أعتق الأب. وذلك أنهم اتفقوا على أن ولاءهم بعد عتق الأم إذا لم يمس المولود الرق في بطن أمه، وذلك يكون إذا تزوجها العبد بعد العتق وقبل عتق الأب هو لموالي الأم. واختلفوا إذا أعتق الأب هل يجر ولاء بنيه لمواليه أم لا يجر؟ فذهب الجمهور ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم إلى أنه يجر، وبه قال علي رضي الله عنه وابن مسعود والزبير وعثمان بن عفان. وقال عطاء وعكرمة وابن شهاب وجماعة: لا يجر ولاءه. وروي عن عمر، وقضى به عبد الملك بن مروان لما حدثه قبيصة بن ذؤيب عن عمر بن الخطاب، وإن كان قد روي عن عمر مثل قول الجمهور. وعمدة الجمهور أن الولاء مشبه بالنسب، والنسب للأب دون الأم. وعمدة الفريق الثاني أن البنين لما كانوا في الحرية تابعين لأمهم كانوا في موجب الحرية تابعين لها، وهو الولاء - وذهب مالك إلى أن الجد يجر ولاء حفدته إذا كان أبوهم عبدا، إلا أن يعتق الأب، وبه قال الشافعي وخالفه في ذلك الكوفيون واعتمدوا في ذلك على أن ولاء الجد إنما يثبت لمعتق الجد على البنين من جهة الأب، وإذا لم يكن للأب ولاء فأحرى أن لا يكون للجد. وعمدة الفريق الثاني أن عبودية الأب هي كموته فوجب أن ينتقل الولاء إلى أبي الأب، ولا خلاف بين من يقول
296 بأن الولاء للعصبة فيما أعلم أن الأبناء أحق من الآباء، وأنه لا ينتقل إلى العمود الأعلى إلا إذا فقد العمود الأسفل بخلاف الميراث، لان البنوة عندهم أقوى تعصيبا من الأبوة، والأب أضعف تعصيبا، والاخوة وبنوهم أقعد عند مالك من الجد. وعند الشافعي وأبي حنيفة الجد أقعد منهم. وسبب الخلاف: من أقرب نسبا وأقوى تعصيبا؟ وليس يورث بالولاء جزء مفروض وإنما يورث تعصيبا، فإذا مات المولى الأسفل ولم يكن له ورثة أصلا، أو كان له ورثة لا يحيطون بالميراث كان عاصبه المولى الأعلى، وكذلك يعصب لولي الأعلى كل من للمولى الأعلى عليه ولادة نسب: أعني بناته وبنيه وبني بنيه. وفي هذا الباب مسألة مشهورة وهي: إذا ماتت امرأة ولها ولاء وولد وعصبة لمن ينتقل الولاء، فقالت طائفة: لعصبتها أنهم الذين يعقلون عنها، والولاء العصبة، وهو قول علي بن أبي طالب، وقال قوم: لابنها، وهو قول عمر بن الخطاب، وعليه فقهاء الأمصار، وهو مخالف لأهل هذا السلف، لان ابن المرأة ليس من عصبتها. ثم كتاب الفرائض والولاء والحمد لله حق حمده.
297 كتاب العتق والنظر في هذا الكتاب فيمن يصح عتقه ومن لا يصح، ومن يلزمه ومن لا يلزمه: أعني بالشرع، وفي ألفاظه العتق، وفي الايمان به، وفي أحكامه وفي الشروط الواقعة فيه. ونحن فإنما نذكر من هذه الأبواب ما فيها من المسائل المشهورة التي يتعلق أكثرها بالمسموع. فأما من يصح عتقه، فإنهم أجمعوا على أنه يصح عتق المالك التام الملك الصحيح الرشيد القوي الجسم الغني غير العديم. واختلفوا في عتق من أحاط الدين بماله وفي عتق المريض وحكمه. فأما من أحاط الدين بماله، فإن العلماء اختلفوا في جواز عتقه، فقال أكثر أهل المدينة، مالك وغيره: لا يجوز ذلك، وبه قال الأوزاعي والليث. وقال فقهاء العراق: وذلك جائز حتى يحجر عليه الحاكم وذلك عند من يرى التحجير منهم، وقد يتخرج عن مالك في ذلك الجواز قياسا على ما روي عنه في الرهن أنه يجوز، وإن أحاط الدين بمال الراهن ما لم يحجر عليه الحاكم. وعمدة من منع عتقه أن ماله في تلك الحال مستحق للغرماء، فليس له أن يخرج منه شيئا بغير عوض، وهي العلة التي بها يحجر الحاكم عليه التصرف، والاحكام يجب أن توجد مع وجود عللها، وتحجير الحاكم ليس بعلة إنما هو حكم واجب من موجبات العلة فلا اعتبار بوقوعه. وعمدة الفريق الثاني أنه قد انعقد الاجماع على أن له أن يطأ جاريته ويحبلها ولا يرد شيئا مما أنفقه من ماله على نفسه وعياله حتى يضرب الحاكم على يديه فوجب أن يكون حكم تصرفاته هذا الحكم وهذا هو قول الشافعي. ولا خلاف عند الجميع أنه لا يجوز أن يعتق غير المحتلم ما لم تكن وصية منه، وكذلك المحجور، ولا يجوز عند العلماء عتقه لشئ من مماليكه إلا مالكا وأكثر أصحابه، فإنهم أجازوا عتقه لأم ولده. وأما المريض فالجمهور على أن عتقه إن صح وقع وإن مات كان من الثلث، وقال أهل الظاهر: هو مثل عتق الصحيح. وعمدة الجمهور حديث عمران بن الحصين أن رجلا أعتق ستة أعبد له... الحديث على ما تقدم. وأما من يدخل عليهم العتق كرها فهم ثلاثة: من بعض العتق - وهذا متفق عليه في أحد قسميه - واثنان مختلف فيهما وهما من ملك من يعتق عليه ومن مثل بعبده. فأما من بعض العتق فإنه ينقسم
298 قسمين: أحدهما: من وقع تبعيض العتق منه وليس له من العبد إلا الجزء المعتق. والثاني: أن يكون يملك العبد كله ولكن بعض عتقه اختيارا منه. فأما العبد بين الرجلين يعتق أحدهما حظه منه فإن الفقهاء اختلفوا في حكم ذلك، فقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل: إن كان المعتق موسرا قوم عليه نصيب شريكه قيمة العدل، فدفع ذلك إلى شريكه وعتق الكل عليه وكان ولاؤه له، وإن كان المعتق معسرا لم يلزمه شئ وبقي المعتق بعضه عبدا وأحكامه أحكام العبد، وقال أبو يوسف ومحمد: إن كان معسرا سعى العبد في قيمته للسيد الذي لم يعتق حظه منه وهو حر يوم أعتق حظه منه الأول ويكون ولاؤه للأول، وبه قال الأوزاعي وابن شبرمة وابن أبي ليلى وجماعة الكوفيين، إلا أن ابن شبرمة وابن أبي ليلى جعلا للعبد أن يرجع على المعتق بما سعى فيه متى أيسر. وأما شريك المعتق فإن الجمهور على أن له الخيار في أن يعتق أو يقوم نصيبه على المعتق، وقال أبو حنيفة: لشريك الموسر ثلاث خيارات: أحدها: أن يعتق كما أعتق شريكه ويكون الولاء بينهما، وهذا لا خلاف فيه بينهم، والخيار الثاني: أن تقوم عليه حصته. والثالث: أن يكلف العبد السعي في ذلك إن شاء ويكون الولاء بينهما للسيد المعتق عبده عنده إذا قوم عليه شريكه نصيبه أن يرجع على العبد فيسعى فيه ويكون الولاء كله للمعتق. وعمدة مالك والشافعي حديث ابن عمر أن رسول الله (ص) قال: من أعتق شركا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة العدل، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق. وعمدة محمد وأبي يوسف صاحبي أبي حنيفة ومن يقول بقولهم حديث أبي هريرة أن النبي (ص) قال: من أعتق شقصا له في عبد فخلاصه ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه وكلا الحديثين خرجه أهل الصحيح البخاري ومسلم وغيرهما، ولكل طائفة منهم قول في ترجيح حديثه الذي أخذ به، فمما وهنت به الكوفية حديث ابن عمر أن بعض رواته شك في الزيادة المعارضة فيه لحديث أبي هريرة، وهو قوله: وإلا فقد عتق منه ما عتق فهل هو من قوله عليه الصلاة والسلام، أم من قول نافع، وأن في ألفاظه أيضا بين رواته اضطرابا، ومما وهن به المالكيون حديث أبي هريرة أنه اختلف أصحاب قتادة فيه على قتادة في ذكر السعاية. وأما من طريق المعنى فاعتمدت المالكية في ذلك على أنه إنما لزم السيد التقويم إن كان له مال للضرر أدخله على شريكه، والعبد لم يدخل ضررا فليس يلزمه شئ. وعمدة الكوفيين من طريق المعنى أن الحرية حق شرعي لا يجوز تبعيضه، فإذا كان الشريك المعتق موسرا عتق الكل عليه، وإذا كان معسرا سعى العبد في قيمته وفيه مع هذا رفع الضرر الداخل على الشريك وليس فيه ضرر على العبد، وربما أتوا بقياس شبهي وقالوا: لما كان العتق يوجد منه في الشرع نوعان: نوع يقع بالاختيار، وهو إعتاق السيد عبده ابتغاء ثواب الله. ونوع يقع بغير اختيار،
299 وهو أن يعتق على السيد من لا يجوز له بالشريعة ملكه وجب أن يكون العتق بالسعي كذلك. فالذي بالاختيار منه هو الكتابة والذي هو داخل بغير اختيار هو السعي. واختلف مالك والشافعي في أحد قوليه إذا كان المعتق موسرا هل يعتق عليه نصيب شريكه بالحكم أو بالسراية؟ أعني أنه يسري وجوب عتقه عليه بنفس العتق؟ فقالت الشافعية: يعتق بالسراية، وقالت المالكية بالحكم، واحتجت المالكية بأنه لو كان واجبا بالسراية لسرى مع العدم واليسر. واحتجت الشافعية باللازم عن مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام: قوم عليه قيمة العدل فقالوا: ما يجب تقويمه فإنما يجب بعد إتلافه فإذن بنفس العتق أتلف حظ صاحبه فوجب عليه تقويمه في وقت الاتلاف، وإن لم يكن عليه بذلك حاكم، وعلى هذا فليس للشريك أن يعتق نصيبه، لأنه قد نفذ العتق وهذا بين. وقول أبي حنيفة في هذه المسألة مخالف لظاهر الحديثين، وقد روي فيها خلاف شاذ، فقيل عن ابن جبرين أنه جعل حصة الشريك في بيت المال، وقيل عن ربيعة فيمن أعتق نصيبا له في عبد أن العتق باطل. وقال قوم: لا يقوم على المعسر الكل، وينفذ العتق فيما أعتق، وقال قوم بوجوب التقويم على المعتق موسرا أو معسرا ويتبعه شريكه، وسقط العسر في بعض الروايات في حديث ابن عمر، وهذا كله خلاف الأحاديث، ولعلهم لم تبلغهم الأحاديث. واختلف قول مالك من هذا في فرع وهو إذا كان معسرا فأخر الحكم عليه بإسقاط التقويم حتى أيسر، فقيل يقوم، وقيل لا يقوم. واتفق القائلون بهذه الآثار على أن من ملك باختياره شقصا يعتق عليه من عبد: أنه يعتق عليه الباقي أن كان موسرا إلا إذا ملكه بوجه لا اختيار له فيه، وهو إن يملكه بميراث - فقال قوم، يعتق عليه في حال اليسر - وقال قوم: لا يعتق عليه، وقال قوم: في حال اليسر بالسعاية، وقال قوم: لا. وإذا ملك السيد جميع العبد فأعتق بعضه، فجمهور علماء الحجاز والعراق مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأحمد وابن أبي ليلى ومحمد بن الحسن وأبو يوسف يقولون: يعتق عليه كله، وقال أبو حنيفة وأهل الظاهر: يعتق منه ذلك القدر الذي عتق ويسعى العبد في الباقي وهو قول طاوس وحماد. وعمدة استدلال الجمهور أنه لما ثبت السنة في إعتاق نصيب الغير على الغير لحرمة العتق كان أحرى أن يجب ذلك عليه في ملكه. وعمدة أبي حنيفة أن سبب وجوب العتق على المبعض للعتق هو الضرر الداخل على شريكه، فإذا كان ذلك كله ملكا له لم يكن هنالك ضرر. فسبب الاختلاف: من طريق المعنى هل علة هذا الحكم حرمة العتق، أعني أنه لا يقع فيه تبعيض، أو مضرة الشريك؟. واحتجت الحنفية بما رواه إسماعيل بن أمية عن أبيه عن جده أنه أعتق نصف عبده، فلم ينكر رسول الله (ص) عتقه. ومن عمدة الجمهور ما رواه النسائي وأبو داود عن أبي المليح عن أبيه: أن رجلا من هذيل أعتق شقصا له من مملوك فتمم النبي عليه الصلاة والسلام عتقه وقال: ليس لله شريك وعلى هذا فقد نص على
300 العلة التي تمسك بها الجمهور، وصارت علتهم أولى، لان العلة المنصوص عليها أولى من المستنبطة. فسبب اختلافهم: تعارض الآثار في هذا الباب وتعارض القياس. وأما الاعتاق الذي يكون بالمثلة، فإن العلماء اختلفوا فيه، فقال مالك والليث والأوزاعي، من مثل بعبده أعتق عليه، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يعتق عليه وشذ الأوزاعي فقال: من مثل بعبد غيره أعتق عليه والجمهور على أنه يضمن ما نقص من قيمة العبد، فمالك ومن قال بقوله اعتمد حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن زنباعا وجد غلاما مع جارية، فقطع ذكره وجدع أنفه، فأتى النبي (ص) فذكر ذلك له، فقال له النبي (ص): ما حملك على ما فعلت؟ فقال: فعل كذا وكذا، فقال النبي (ص): اذهب فأنت حر. وعمدة الفريق الثاني قوله (ص) في حديث ابن عمر: من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته عتقه قالوا: فلم يلزم العتق في ذلك وإنما ندب إليه، ولهم من طريق المعنى أن الأصل في الشرع هو أنه لا يكره السيد على عتق عبده إلا ما خصصه الدليل. وأحاديث عمرو بن شعيب مختلف في صحتها، فلم تبلغ من القوة أن يخصص بها مثل هذه القاعدة. وأما هل يعتق على الانسان أحد من قرابته، وإن عتق فمن يعتق؟ فإنهم اختلفوا في ذلك، فجمهور العلماء على أنه يعتق على الرجل بالقرابة، إلا داود وأصحابه، فإنهم لم يروا أن يعتق أحد على أحد من قبل قربى، والذين قالوا بالعتق اختلفوا فيمن يعتق ممن لا يعتق بعد اتفاقهم على أنه يعتق على الرجل أبوه وولده، فقال مالك: يعتق على الرجل ثلاثة. أحدها: أصوله وهم الآباء والأجداد والجدات والأمهات وآباؤهم وأمهاتهم، وبالجملة كل من كان له على الانسان ولادة. والثاني: فروعه، وهم: الأبناء والبنات وولدهم مهما سلفوا، سواء في ذلك ولد البنين وولد البنات، وبالجملة كل من للرجل عليه ولادة بغير توسط أو بتوسط، ذكر أو أنثى. والثالث: الفروع المشاركة له في أصله القريب وهم الاخوة، وسواء أكانوا لأب وأم، أو لأب فقط، أو لأم فقط، واقتصر من هذا العمود على القريب فقط، فلم يوجب عتق بني الاخوة. وأما الشافعي فقال مثل قول مالك في العمودين الأعلى والأسفل، وخالفه في الاخوة فلم يوجب عتقهم. وأما أبو حنيفة فأوجب عتق كل ذي رحم محرم بالنسب كالعم والعمة والخال والخالة وبنات الأخ، ومن أشبههم ممن هو من الانسان ذو محرم. وسبب اختلاف: أهل الظاهر مع الجمهور اختلافهم في مفهوم الحديث الثالث، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: لا يجزي ولد عن والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه خرجه مسلم والترمذي وأبو داود وغيرهم، فقال الجمهور: يفهم من هذا أنه إذا اشتراه وجب عليه عتقه، وأنه ليس يجب عليه شراؤه. وقالت الظاهرية: المفهوم من الحديث أنه ليس يجب عليه شراؤه ولا عتقه إذا اشتراه، قالوا: لان إضافة عتقه إليه دليل على صحة ملكه له، ولو كان ما قالوا صوابا، لكان اللفظ: إلا أن يشتريه فيعتق عليه. وعمدة الحنفية ما رواه قتادة
301 عن الحسن عن سمرة أن النبي (ص) قال: من ملك ذا رحم محرم فهو حر وكأن هذا الحديث لم يصح عند مالك والشافعي، وقاس مالك الاخوة على الأبناء والآباء، ولم يلحقهم بهم الشافعي واعتمد الحديث المتقدم فقط، وقاس الأبناء على الآباء. وقد رامت المالكية أن تحتج لمذهبها بأن البنوة صفة هي ضد العبودية، وأنه ليس تجتمع معها لقوله تعالى: * (وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا. إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) *. وهذه العبودية هي معنى غير العبودية التي يحتجون بها، فإن هذه العبودية معقولة وبنوة معقولة. والعبودية التي بين المخلوقين وللولاية هي عبودية بالشرع ولا بالطبع أعني بالوضع لا مجال للعقل كما يقولون فيها عندهم، وهو احتجاج ضعيف. وإنما أراد الله تعالى أن البنوة تساوي الأبوة في جنس الوجود أو في نوعه أعني أن الموجودين اللذين أحدهما أب والآخر ابن هما متقاربان جدا، حتى أنهما إما أن يكونا من نوع واحد أو جنس واحد، وما دون الله من الموجودات فليس يجتمع معه سبحانه في جنس قريب ولا بعيد، بل التفاوت بينهما غاية التفاوت، فلم يصح أن يكون في الموجودات التي ههنا شئ نسبته إليه نسبة الأب إلى الابن، بل إن كان نسبة الموجودات إليه نسبة العبد إلى السيد كان أقرب إلى حقيقة الامر من نسبة الابن إلى الأب لان التباعد الذي بين السيد والعبد في المرتبة أشد من التباعد الذي بين الأب والابن، وعلى الحقيقة فلا شبه بين النسبتين، لكن لما لم يكن في الموجودات نسبة أشد تباعدا من هذه النسبة، أعني تباعد طرفيهما في الشرف والخسة ضرب المثال بها، أعني نسبة العبد للسيد، ومن لحظ المحبة التي بين الأب والابن والرحمة والرأفة والشفقة أجاز أن يقول في الناس إنهم أبناء الله على ظاهر شريعة عيسى. فهذه جملة المسائل المشهورة التي تتعلق بالعتق الذي يدخل على الانسان بغير اختياره. وقد اختلفوا من أحكام العتق في مسألة مشهورة تتعلق بالسماع، وذلك أن الفقهاء اختلفوا فيمن أعتق عبيدا له في مرضه أو بعد موته ولا مال له غيرهم، فقال مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد وجماعة: إذا أعتق في مرضه ولا مال له سواهم قسموا ثلاثة أجزاء وعتق منهم جزء بالقرعة بعد موته، وكذلك الحكم في الوصية بعتقهم. وخالف أشهب وأصبغ مالكا في العتق المبتل في المرض، فقالا جميعا: إنما القرعة في الوصية. وأما حكم العتق المبتل فهو كحكم المدبر. ولا خلاف في مذهب مالك أن المدبرين في كلمة واحدة إذا ضاق عنهم الثلث أنه يعتق من كل واحد منهم بقدر حظه من الثلث. وقال أبو حنيفة وأصحابه في العتق المبتل: إذا ضاق عنه الثلث أنه يعتق من كل واحد منه ثلثه. وقال الغير: بل يعتق من الجميع ثلثه. فقوم من هؤلاء اعتبروا في ثلث الجميع القيمة،
302 وهو مذهب مالك والشافعي، وقوم اعتبروا العدد. فعند مالك إذا كانوا ستة أعبد مثلا، عتق منهم الثلث بالقيمة كان الحاصل في ذلك اثنين منهم أو أقل أو أكثر، وذلك أيضا بالقرعة بعد أن يجبروا على القسمة أثلاثا، وقال قوم: بل المعتبر العدد، فإن كانوا ستة عتق منهم اثنان وإن كانوا مثلا سبعة عتق منهم اثنان وثلث. فعمدة أهل الحجاز ما رواه أهل البصرة عن عمران بن الحصين: أن رجلا أعتق ستة مملوكين عند موته ولم يكن له مال غيرهم فدعا رسول الله (ص) فجزأهم أثلاثا ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة خرجه البخاري ومسلم مسندا، وأرسله مالك. وعمدة الحنفية ما جرت به عادتهم من رد الآثار التي تأتي بطريق الآحاد إذا خالفتها الأصول الثابتة بالتواتر. وعمدتهم أنه قد أوجب السيد لكل واحد منهم العتق تاما، فلو كان له (مال) لنفذ بإجماع، فإذا لم يكن له مال وجب أن ينفذ لكل واحد منهم بقدر الثلث الجائز فعل السيد فيه، وهذا الأصل ليس بينا من قواعد الشرع في هذا الوضع، وذلك أنه يمكن أن يقال له إنه إذا أعتق من كل واحد منهم الثلث دخل الضرر على الورثة والعبيد المعتقين، وقد ألزم الشرع مبعض العتق أن يتم عليه، فلما لم يمكن ههنا أن يتمم عليه جمع في أشخاص بأعيانهم لكن متى اعتبرت القيمة في ذلك دون العدد أفضت إلى هذا الأصل، وهو تبعيض العتق، فلذلك كان الأولى أن يعتبر العدد وهو ظاهر الحديث، وكان الجزء المعتق في كل واحد منهم هو حق لله فوجب أن يجمع في أشخاص بأعيانهم أصله حق الناس. واختلفوا في مال العبد إذا أعتق لمن يكون، فقالت طائفة: المال للسيد، وقالت طائفة: ماله تبع له، وبالأول قال ابن مسعود من الصحابة، ومن الفقهاء أبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق، وبالثاني قال ابن عمر وعائشة والحسن وعطاء ومالك وأهل المدينة. والحجة لهم حديث ابن عمر أن النبي (ص): من أعتق فماله له إلا أن يشترط السيد ماله. وأما ألفاظ العتق، فإن منها شريحا ومنها كناية عند أكثر فقهاء الأمصار، وأما الألفاظ الصريحة، فهو أن يقول أنت حر، أو أنت عتيق وما تصرف من هذه، فهذه الألفاظ تلزم السيد بإجماع من العلماء. وأما الكناية فهي مثل قول السيد لعبده: لا سبيل لي عليك، أو لا ملك لي عليك، فهذه ينوي فيها سيد العبد، هل أراد به العتق أم لا عند الجمهور. ومما اختلفوا فيه في هذا الباب إذا قال السيد لعبده: يا بني، أو قال: يا أبي، أو يا أمي، فقال قوم وهم الجمهور: لا عتق يلزمه، وقال أبو حنيفة: يعتق عليه، وشذ زفر فقال: لو قال السيد لعبده: هذا ابني، عتق عليه وإن كان العبد له عشرون سنة وللسيد ثلاثون سنة. ومن هذا الباب اختلافهم فيمن قال لعبده: ما أنت إلا حر. فقال قوم: هو ثناء عليه وهم الأكثر، وقال قوم: هو حر، وهو قول الحسن البصري. ومن هذا الباب من نادى عبدا من عبيده باسمه، فاستجاب له عبد آخر، فقال له: أنت حر، وقال: إنما أردت الأول،
303 فقيل: يعتقان عليه جميعا، وقيل: ينوي. واتفقوا على أن من أعتق ما في بطن أمته فهو حر دون الأم. واختلفوا فيمن أعتق أمة واستثنى ما في بطنها فقالت طائفة: له استثناؤه وقالت طائفة: هما حران واختلفوا في سقوط العتق بالمشيئة، فقالت طائفة: لا استثناء فيه كالطلاق، وبه قال مالك، وقال قوم: يؤثر فيه الاستثناء كالطلاق، أعني قول القائل لعبده: أنت حر إن شاء الله. وكذلك اختلفوا في وقوع العتق بشرط الملك، فقال مالك: يقع، وقال الشافعي وغيره: لا يقع، وحجتهم قوله عليه الصلاة والسلام: لا عتق فيما لا يملك ابن آدم وحجة الفرقة الثانية تشبيههم إياه باليمين. وألفاظ هذا الباب شبيهة بألفاظ الطلاق، وشروطه كشروطه، وكذلك الايمان فيه تشبيهه بأيمان الطلاق. وأما أحكامه فكثيرة: منها أن الجمهور على أن الأبناء تابعون في العتق والعبودية للأم، وشذ قوم فقالوا: إلا أن يكون الأب عربيا. ومنها اختلافهم في العتق إلى أجل، فقال قوم: ليس له أن يطأها إن كانت جارية ولا يبيع ولا يهب، وبه قال مالك، وقال قوم: له جميع ذلك، وبه قال الأوزاعي والشافعي. واتفقوا على جواز اشتراط الخدمة على المعتق مدة معلومة بعد العتق وقبل العتق. واختلفوا فيمن قال لعبده: إن بعتك فأنت حر، فقال قوم: لا يقع عليه العتق لأنه إذا باعه لم يملك عتقه، وقال: إن باعه يعتق عليه، أعني من مال البائع إذا باعه، وبه قال مالك والشافعي، وبالأول قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري. وفروع هذا الباب كثيرة، وفي هذا كفاية.
304 كتاب الكتابة والنظر الكلي في الكتابة ينحصر في أركانها وشروطها وأحكامها. وأما الأركان فثلاثة: العقد وشروطه وصفته، والعاقد، والمعقود عليه وصفاتهما. ونحن نذكر المسائل المشهورة لأهل الأمصار في جنس جنس من هذه الأجناس. القول في مسائل العقد فمن مسائل هذا الجنس المشهورة اختلافهم في عقد الكتابة: هل هو واجب أو مندوب إليه؟ فقال فقهاء الأمصار: إنه مندوب. وقال أهل الظاهر: هو واجب، واحتجوا بظاهر قوله تعالى: * (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) * والامر على الوجوب. وأما الجمهور فإنهم لما رأوا أن الأصل هو أن لا يجبر أحد على عتق مملوكه حملوا هذه الآية على الندب لئلا تكون معارضة لهذا الأصل، وأيضا فإنه لم يكن للعبد أن يحكم له على سيده بالبيع له وهو خروج رقبته عن ملكه بعوض، فأحرى أن لا يحكم له عليه بخروجه عن غير عوض هو مالكه، وذلك أن كسب العبد هو للسيد. وهذه المسألة هي أقرب أن تكون من أحكام العقد من أن تكون من أركانه، وهذا العقد بالجملة هو أن يشتري العبد نفسه وماله من سيده بمال يكتسبه العبد. فأركان هذا العقد الثمن والمثمون والأجل والألفاظ الدالة على هذا العقد. فأما الثمن، فإنهم اتفقوا على أنه يجوز إذا كان معلوما بالعلم الذي يشترط في البيوع. واختلفوا إذا كان في لفظه إبهام ما، فقال أبو حنيفة ومالك: يجوز أن يكاتب عبده على جارية أو عبد من غير أن يصفهما ويكون له الوسط من العبيد، وقال الشافعي: لا يجوز حتى يصفه، فمن اعتبر في هذا طلب المعاينة شبهه بالبيوع، ومن رأى أن هذا العقد مقصوده المكارمة وعدم التشاح جوز فيه الغرر اليسير كحال اختلافهم في الصداق، ومالك يجيز بين العبد وسيده من جنس الربا ما لا يجوز بين الأجنبي والأجنبي من
305 مثل بيع الطعام قبل قبضه، وفسخ الدين في الدين، وضع وتعجل، ومنع ذلك الشافعي وأحمد، وعن أبي حنيفة القولان جميعا. وعمدة من أجازه أنه ليس بين السيد وعبده ربا، لأنه وماله له، وإنما الكتابة سنة على حدتها. وأما الاجل فإنهم اتفقوا على أنه يجوز أن تكون مؤجلة، واختلفوا في هل تجوز حالة، وذلك أيضا بعد اتفاقهم على أنها تجوز حالة على مال موجود عند العبد: وهي التي يسمونها قطاعه لا كتابة. وأما الكتابة فهي التي يشتري العبد فيها ماله ونفسه من سيده بمال يكتسبه. فموضع الخلاف: إنما هو هل يجوز أن يشتري نفسه من سيده بمال حال ليس هو بيده؟ فقال الشافعي: هذا الكلام لغو، وليس يلزم السيد شئ منه، وقال متأخر وأصحاب مالك: قد لزمت الكتابة للسيد ويرفعه العبد إلى الحاكم فينجم عليه المال بحسب حال العبد. وعمدة المالكية أن السيد قد أوجب لعبده الكتابة، إلا أنه اشترط فيها شرطا يتعذر غالبا، فصح العقد وبطل الشرط. وعمدة الشافعية أن الشرط الفاسد يعود ببطلان أصل العقد كمن باع جاريته واشترط أن لا يطأها، وذلك أنه إذا لم يكن له مال حاضر أدى إلى عجزه، وذلك ضد مقصود الكتابة. وحاصل قول المالكية يرجع إلى أن الكتابة من أركانها أن تكون منجمة، وأنه إذا اشترط فيها ضد هذا الركن بطل الشرط وصح العقد. واتفقوا على أنه إذا قال السيد لعبده: لقد كاتبتك على ألف درهم فإذا أديتها فأنت حر أنه إذا أداها فهو حر. واختلفوا إذا قال له: قد كاتبتك على ألف درهم وسكت هل يكون حرا دون أن يقول له: فإذا أديتها فأنت حر؟ فقال مالك وأبو حنيفة: هو حر. لان اسم الكتابة لفظ شرعي، فهو يتضمن جميع أحكامه. وقال قوم: لا يكون حرا حتى يصر بلفظ الأداء، واختلف في ذلك قول الشافعي. ومن هذا الباب اختلاف قول ابن القاسم ومالك فيمن قال لعبده: أنت حر وعليك ألف دينار. فاختلف المذهب في ذلك، فقال مالك يلزمه وهو حر، وقال ابن القاسم: هو حر ولا يلزمه. وأما إن قال: أنت حر على أن عليك ألف دينار، فاختلف المذهب في ذلك، فقال مالك: هو حر والمال عليه كغريم من الغرماء، وقيل: العبد بالخيار، فإن اختار الحرية لزمه المال ونفذت الحرية وإلا بقي عبدا، وقيل: إن قبل كانت كتابة: يعتق إذا أدى، والقولان لابن القاسم. وتجوز الكتابة عند مالك على عمل محدود، وتجوز عنده الكتابة المطلقة، ويرد إلى أن الكتابة مثله كالحال في النكاح، وتجوز الكتابة عنده على قيمة العبد، أعني كتابة مثله في الزمان والثمن، ومن هنا قيل: إنه تجوز عنده الكتابة الحالة. واختلف هل من شرط هذا العقد أن يضع السيد من آخر أنجم الكتابة شيئا عن المكاتب لاختلافهم في مفهوم قوله تعالى: * (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) * وذلك أن
306 بعضهم رأى أن السادة هم المخاطبون بهذه الآية، ورأي بعضهم أنهم جماعة المسلمين ندبوا لعون المكاتبين، والذين رأوا ذلك اختلفوا هل ذلك على الوجوب أو على الندب؟ والذين قالوا بذلك اختلفوا في القدر الواجب، فقال بعضهم: ما ينطلق عليه اسم شئ، وبعضهم حده. وأما المكاتب ففيه مسائل: إحداها: هل تجوز كتابة المراهق؟ وهل يجمع في الكتابة الواحدة أكثر من عبد واحد؟ وهل تجوز كتابة من يملك في العبد بعضه بغير إذن شريكه؟ وهل تجوز كتابة من لا يقدر على السعي؟ وهل تجوز كتابة من فيه بقيه رق؟ فأما كتابة المراهق القوي على السعي الذي لم يبلغ الحلم، فأجازها أبو حنيفة، ومنعها الشافعي إلا للبالغ، وعن مالك القولان جميعا. فعمدة من اشترط البلوغ تشبيهها بسائر العقود. وعمدة من لم يشترطه أنه يجوز بين السيد وعبده ما لا يجوز بين الأجانب، وأن المقصود من ذلك هو القوة على السعي، وذلك موجود في غير البالغ. وأما هل يجمع في الكتابة الواحدة أكثر من عبد واحد؟ فإن العلماء اختلفوا في ذلك، ثم إذا قلنا بالجمع فهل يكون بعضهم حملاء عن بعض بنفس الكتابة حتى لا يعتق واحد منهم إلا بعتق جميعهم؟ فيه أيضا خلاف. فأما هل يجوز الجمع؟ فإن الجمهور على جواز ذلك، ومنعه قوم، وهو أحد قولي الشافعي. أما هل يكون بعضهم حملاء عن بعض؟ فإن فيه لمن أجاز الجمع ثلاثة أقوال: فقالت طائفة: ذلك واجب بمطلق عقد الكتابة، أعني حمالة بعضهم عن بعض، وبه قال مالك وسفيان، وقال آخرون: لا يلزمه ذلك بمطلق العقد ويلزم بالشرط، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وقال الشافعي: لا يجوز ذلك لا بالشرط ولا بمطلق العقد، ويعتق كل واحد منهم إذا أدى قدر حصته. فعمدة من منع الشركة ما في ذلك من الغرر، لان قدر ما يلزم واحدا من ذلك مجهول. وعمدة من أجازه أن الغرر اليسير يستخف في الكتابة، لأنه بين السيد وعبده، والعبد وماله لسيده، وأما مالك فحجته أنه لما كانت الكتابة واحدة وجب أن يكون حكمهم كحكم الشخص الواحد. وعمدة الشافعية أن حمالة بعضهم عن بعض لا فرق بينها وبين حمالة الأجنبيين فمن رأى حمالة الأجنبيين في الكتابة لا تجوز قال: لا تجوز في هذا الموضع. وإنما منعوا حمالة الكتابة لأنه إذا عجز المكاتب لم يكن للحميل شئ يرجع عليه، وهذا كأنه ليس يظهر في حمالة العبيد بعضهم عن بعض، وإنما الذي يظهر في ذلك أن هذا الشرط هو سبب لان يعجز من يقدر على السعي بعجز من لا يقدر عليه، فهو غرر خاص بالكتابة، إلا أن يقال أيضا: إن الجمع يكون سببا لان يخرج حرا من لا يقدر من نفسه أن يسعى حتى يخرج حرا فهو كما يعود برق من يقدر على السعي، كذلك يعود بحرية من لا يقدر على السعي. وأما أبو حنيفة فشبهها بحمالة الأجنبي مع الأجنبي في الحقوق التي تجوز فيها الحمالة، فألزمها بالشرط، ولم يلزمها بغير شرط، وهو مع هذا أيضا لا يجيز حمالة الكتابة. وأما العبد بين الشريكين فإن العلماء اختلفوا هل لأحدهما أن يكاتب نصيبه دون إذن
307 صاحبه، فقال بعضهم: ليس له ذلك والكتابة مفسوخة. وما قبض منها هي بينهم على قدر حصصهم، وقالت طائفة: لا يجوز أن يكاتب الرجل نصيبه من عبده دون نصيب شريكه، وفرقت فرقة فقالت: يجوز بإذن شريكه ولا يجوز بغير إذن شريكه، وبالقول الأول قال مالك، وبالتالي قال ابن أبي ليلى وأحمد، وبالثالث قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وله قول آخر مثل قول مالك. وعمدة مالك أنه لو جاز ذلك لأدى إلى أن يعتق العبد كله بالتقويم على الذي كاتب حظه منه، وذلك لا يجوز إلا في تبعيض العتق، ومن رأى أن له أن يكاتبه رأى أن عليه أن يتم عتقه إذا أدى الكتابة إذا كان موسرا، فاحتجاج مالك هنا هو احتجاج بأصل لا يوافقه عليه الخصم، لكن ليس يمنع من صحة الأصل أن لا يوافقه عليه الخصم. وأما اشتراط الاذن فضعيف، وأبو حنيفة يرى في كيفية أداء المال للمكاتب إذا كانت الكتابة عن إذن شريكه أن كل ما أدى للشريك الذي كاتبه يأخذ منه الشريك الثاني نصيبه، ويرجع بالباقي على العبد فيسعى له فيه حتى يتم له ما كان كاتبه عليه، وهذا فيه بعد عن الأول. وأما هل تجوز مكاتبة من لا يقدر على السعي فلا خلاف فيما أعلم بينهم أن يكون قويا على السعي لقوله تعالى: * (إن علمتم فيهم خيرا) *. وقد اختلف العلماء ما الخير الذي اشترطه الله في الكاتبين في قوله: * (إن علمتم فيهم خيرا) * فقال الشافعي: الاكتساب والأمانة، وقال بعضهم: المال والأمانة، وقال آخرون الصلاح والدين. وأنكر بعض العلماء أن يكاتب من لا حرفة له مخافة السؤال، وأجاز ذلك بعضهم لحديث بريرة أنها كوتبت أن تسأل الناس وكره أن تكاتب الأمة التي لا اكتساب لها بصناعة مخافة أن يكون ذلك ذريعة إلى الزنا، وأجاز مالك كتابة المدبرة وكل من فيه بقية رق إلا أم الولد إذ ليس له عند مالك أن يستخدمها. القول في المكاتب وأما المكاتب فاتفقوا على أن شرطه أن يكون مالكا صحيح الملك غير محجور عليه صحيح الجسم. واختلفوا هل للمكاتب أن يكاتب عبده أم لا؟ وسيأتي هذا فيما يجوز من أفعال المكاتب مما لا يجوز، ولم يجز مالك أن يكاتب العبد المأذون له في التجارة لان الكتابة عتق ولا يجوز له أن يعتق، وكذلك لا يجوز كتابة من أحاط الدين بماله، إلا أن يجيز الغرماء ذلك إذا كان في ثمن كتابته إن بيعت مثل ثمن رقبته. وأما كتابة المريض، فإنها عنده في الثلث توقف حتى يصح فتجوز أو يموت فتكون من الثلث كالعتق سواء، وقد قيل: إن حابى كان كذلك وإن لم يحاب سعى، فإن أدى وهو في المرض عتق، وتجوز عنده
308 كتابة النصراني المسلم ويباع عليه كما يباع عليه العبد المسلم عنده. فهذه هي مشهورات المسائل التي تتعلق بالأركان، أعني المكاتب والمكاتب والكتابة. وأما الاحكام فكثيرة، وكذلك الشروط التي تجوز فيها من التي لا تجوز. ويشبه أن تكون أجناس الاحكام الأولى في هذا العقد هو أن يقال متى يعتق المكاتب ومتى يعجز فيرق، وكيف حاله إن مات قبل أن يعتق أو يرق، ومن يدخل معه في حال الكتابة ممن لا يدخل، وتمييز ما بقي عليه من حجر الرق مما لم يبق عليه. فلنبدأ بذكر مسائل الاحكام المشهورة التي في جنس جنس من هذه الأجناس الخمسة. الجنس الأول فأما متى يخرج من الرق؟ فإنهم اتفقوا على أنه يخرج من الرق إذا أدى جميع الكتابة، واختلفوا إذا عجز عن البعض وقد أدى البعض، فقال الجمهور: هو عبد ما بقي من كتابته شئ، وإنه يرق إذا عجز عن البعض. وروي عن السلف المتقدم سوى هذه القول الذي عليه الجمهور أقوال أربعة: أحدها: أن المكاتب يعتق بنفس الكتابة. والثاني: أنه يعتق منه بقدر ما أدى. والثالث: أنه يعتق إن أدى النصف فأكثر. والرابع: إن أدى الثلث وإلا فهو عبد. وعمدة الجمهور ما خرجه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي (ص) قال: أيما عبد كاتب على مائة أوقية فأداها إلا عشرة أواق فهو عبد، وأيما عبد كاتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة فهو عبد. وعمدة من رأى أنه يعتق بنفس عقد الكتابة تشبيهه إياه بالبيع، فكأن المكاتب اشترى نفسه من سيده، فإن عجز لم يكن له إلا أن يتبعه بالمال، كما لو أفلس من اشتراه منه إلى أجل وقد مات. وعمدة من رأى أنه يعتق منه بقدر ما أدى ما رواه يحيى بن كثير عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي (ص) قال: يؤدي المكاتب بقدر ما أدى دية حر وبقدر ما رق منه دية عبد خرجه النسائي، والخلاف فيه من قبل عكرمة، كما أن الخلاف في أحاديث عمرو بن شعيب من قبل أنه روى عن صحيفة، وبهذا القول قال علي، أعني بحديث ابن عباس. وروي عن عمر بن الخطاب أنه إذا أدى الشطر عتق. وكان ابن مسعود يقول: إذا أدى الثلث. وأقوال الصحابة وإن لم تكن حجة، فالظاهر أن التقدير إذا صدر منهم أنه محمول على أن في ذلك سنة بلغتهم. وفي المسألة قول خامس: إذا أدى الثلاثة الأرباع عتق. وبقي عديما في باقي المال. وقد قيل إن أدى القيمة فهو غريم، وهو قول عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت، والأشهر عن عمر وأم سلمة وهو قول الجمهور، وقول هؤلاء هو الذي اعتمده فقهاء الأمصار، وذلك أنه صحت الرواية في ذلك عنهم صحة لا شك فيها، روى ذلك مالك في موطئه. وأيضا فهو أحوط لأموال السادات، ولان المبيعات يرجع في عين المبيع له إذا أفلس المشتري.
309 الجنس الثاني وأما متى يرق، فإنهم اتفقوا على أنه إنما يرق إذا عجز إما عن البعض وإما عن الكل بحسب ما قدمنا اختلافهم. واختلفوا هل للعبد أن يعجز نفسه إذا شاء من غير سبب، أم ليس له ذلك إلا بسبب؟ فقال الشافعي: الكتابة عقد لازم في حق العبد وهي في حق السيد غير لازمة، وقال مالك وأبو حنيفة: الكتابة عقد لازم من الطرفين: أي بين العبد والسيد. وتحصيل مذهب مالك في ذلك أن العبد والسيد لا يخلو أن يتفقا على التعجيز أو يختلفا، ثم إذا اختلفا فإما أن يريد السيد التعجيز ويأباه العبد، أو بالعكس، أعني أنه يريد به السيد البقاء على الكتابة، ويريد العبد التعجيز. فأما إذا اتفقا على التعجيز فلا يخلو الامر من قسمين: أحدهما: أن يكون دخل في الكتابة ولد أو لا يكون، فإن كان دخل ولد في الكتابة فلا خلاف عنده أنه لا يجوز التعجيز. وإن لم يكن له ولد ففي ذلك روايتان: إحداهما أنه لا يجوز إذا كان له مال، وبه قال أبو حنيفة. والأخرى: أنه يجوز له ذلك. فأما إن طلب العبد التعجيز وأبى السيد لم يكن ذلك للعبد إن كان معه مال أو كانت له قوة على السعي. وأما إن أراد السيد التعجيز وأباه العبد. فإنه لا يعجزه عنده إلا بحكم حاكم. وذلك بعد أن يثبت السيد عند الحاكم أنه لا مال له ولا قدرة على الأداء. ويرجع إلى عمدة أدلتهم في أصل الخلاف في المسألة، فعمدة الشافعي ما روي أن بريرة جاءت إلى عائشة تقول لها: إني أريد أن تشتريني وتعتقيني، فقالت لها: إن أراد أهلك، فجاءت أهلها فباعوها وهي مكاتبة خرجه البخاري. وعمدة المالكية تشبيههم الكتابة بالعقود اللازمة. ولان حكم العبد في هذا المعنى يجب أن يكون كحكم السيد وذلك أن العقود من شأنها أن يكون اللزوم فيها أو الخيار مستويا في الطرفين. وأما أن يكون لازما من طرف وغير لازم من الطرف الثاني فخارج عن الأصول. وعللوا حديث بريرة بأن الذي باع أهلها كانت كتابتها لا رقبتها. والحنفية تقول: لما كان المغلب في الكتابة حق العبد، وجب أن يكون العقد لازما في حق الآخر المغلب عليه وهو السيد أصله النكاح، لأنه غير لازم في حق الزوج لمكان الطلاق الذي بيده وهو لازم في حق الزوجة، والمالكية تعترض على هذا بأن تقول: إنه عقد لازم فيما وقع به العوض إذ كان ليس له أن يسترجع الصداق. الجنس الثالث وأما حكمه إذا مات قبل أن يؤدي الكتابة، فاتفقوا على أنه إذا مات دون ولد قبل أن
310 يؤدي من الكتابة شيئا أنه يرق. واختلفوا إذا مات عن ولد فقال مالك: حكم ولده كحكمه، فإن ترك مالا فيه وفاء للكتابة أدوه وعتقوا، وإن لم يترك مالا وكانت لهم قوة على السعي بقوا على نجوم أبيهم حتى يعجزوا أو يعتقوا، وإن لم يكن عندهم لا مال ولا قدرة على السعي رقوا، وأنه إن فضل عن الكتابة شئ من ماله ورثوه على حكم ميراث الأحرار، وأنه ليس يرثه إلا ولده الذين هم في الكتابة معه دون سواهم من وارثيه إن كان له وارث غير الولد الذي معه في الكتابة. وقال أبو حنيفة: إنه يرثه بعد أداء كتابته من المال الذي ترك جميع أولاده الذين كاتب عليهم أو ولدوا في الكتابة وأولاده الأحرار وسائر ورثته. وقال الشافعي: لا يرثه بنوه الأحرار ولا الذين كاتب عليهم أو ولدوا في الكتابة، وماله لسيده، وعلى أولاده الذين كاتب عليهم أن يسعوا من الكتابة في مقدار حظوظهم منها، وتسقط حصة الأب عنهم، وبسقوط حصة الأب عنهم قال أبو حنيفة وسائر الكوفيين. والذين قالوا بسقوطها قال بعضهم: تعتبر القيمة، وهو قول الشافعي، وقيل: بالثمن، وقيل: حصته على مقدار الرؤوس. وإنما قال هؤلاء بسقوط حصة الأب عن الأبناء الذين كاتب عليهم لا الذين ولدوا في الكتابة، لان من ولد له أولاد في الكتابة فهم تبع لأبيهم. وعمدة مالك أن المكاتبين كتابة واحدة بعضهم حملاء عن بعض، ولذلك من عتق منهم أو مات لم تسقط حصته عن الباقي. وعمدة الفريق الثاني أن الكتابة لا تضمن. وروى مالك عن عبد الملك بن مروان في موطئه مثل قول الكوفيين. وسبب اختلافهم: ماذا يموت عليه المكاتب؟ فعند مالك أنه يموت مكاتبا، وعند أبي حنيفة أنه يموت حرا، وعند الشافعي أنه يموت عبدا. وعلى هذه الأصول بنوا الحكم فيه. فعمدة الشافعي أن العبودية والحرية ليس بينهما وسط، وإذا مات المكاتب فليس حرا بعد، لان حريته إنما تجب بأداء كتابته وهو لم يؤدها بعد، فقد بقي أنه مات عبدا لأنه لا يصح أن يعتق الميت. وعمدة الحنفية أن العتق قد وقع بموته مع وجود المال الذي كاتب عليه، لأنه ليس له أن يرق نفسه، والحرية يجب أن تكون حاصلة له بوجود المال لا بدفعه إلى السيد. وأما مالك فجعل موته على حالة متوسطة بين العبودية والحرية وهي الكتابة، فمن حيث لم يورث أولاده الأحرار منه جعل له حكم العبيد، ومن حيث لم يورث سيده ماله حكم له بحكم الأحرار، والمسألة في حد الاجتهاد. ومما يتعلق بهذا الجنس اختلافهم في أم ولد المكاتب إذا مات المكاتب وترك بنين لا يقدرون على السعي، وأرادت الأم أن تسعى عليهم، فقال مالك: لها ذلك، وقال الشافعي والكوفيون: ليس لها ذلك. وعمدتهم أن أم الولد - إذا مات المكاتب - مال من مال السيد، وأما مالك فيرى أن حرمة الكتابة التي لسيدها صائرة إليها وإلى بنيها. ولم يختلف قول مالك أن المكاتب إذا ترك بنين صغارا لا يستطيعون السعي، وترك أم ولد لا تستطيع السعي أنها تباع ويؤدي منها باقي الكتابة. وعند أبي
311 يوسف ومحمد بن الحسن أنه لا يجوز بيع المكاتب لأم ولده، ويجوز عند أبي حنيفة والشافعي. واختلف أصحاب مالك في أم ولد المكاتب إذا مات المكاتب وترك بنين ووفاه كتابته، هل تعتق أم ولده أم لا؟ فقال ابن القاسم: إذا كان معها ولد عتقت وإلا رقت، وقال أشهب: تعتق على كل حال، وعلى أصل الشافعي كل ما ترك المكاتب مال من مال سيده لا ينتفع به البنون في أداء ما عليه من كتابته، كانوا معه في عقد الكتابة أو كانوا ولدوا في الكتابة، وإنما عليهم السعي، وعلى أصل أبي حنيفة يكون حرا ولا بد، ومذهب ابن القاسم كأنه استحسان. الجنس الرابع وهو النظر فيمن يدخل معه في عقد الكتابة ومن لا يدخل. واتفقوا من هذا الباب على أولد المكاتب لا يدخل في كتابة المكاتب إلا بالشرط، لأنه عبد آخر لسيده، وكذلك اتفقوا على دخول ما ولد له في الكتابة فيها، واختلفوا في أم الولد على ما تقدم. وكذلك اختلفوا في دخول ماله أيضا بمطلق العقد، فقال مالك: يدخل ماله في الكتابة، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يدخل، وقال الأوزاعي: يدخل بالشرط، أعني إذا اشترطه المكاتب. وهذه المسألة مبنية على: هل يملك العبد أو لا يملك، وعلى هل يتبعه ماله في العتق أم لا؟ وقد تقدم ذلك. الجنس الخامس وهو النظر فيما يحجر فيه على المكاتب مما لا يحجر، وما بقي من أحكام العبد فيه. فنقول: إنه قد أجمع العلماء من هذا الباب على أنه ليس للمكاتب أن يهب من ماله شيئا له قدر ولا يعتق ولا يتصدق بغير إذن سيده، فإنه محجور عليه في هذه الأمور وأشباهها، أعني أنه ليس له أن يخرج من يده شيئا من غير عوض، واختلفوا من هذا الباب في فروع منها أنه إذا لم يعلم السيد بهبته أو بعتقه إلا بعد أداء كتابته، فقال مالك وجماعة من العلماء إن ذلك نافذ، ومنعه بعضهم. وعمدة من منعه أن ذلك وقع في حالة لا يجوز وقوعه فيها فكان فاسدا. وعمدة من أجازه أن السبب المانع من ذلك قد ارتفع وهو مخافة أن يعجز العبد. وسبب اختلافهم: هل إذن السيد من شرط لزوم العقد أو من شرط صحته؟ فمن قال من شرط الصحة لم يجزه وإن عتق، ومن قال من شرط لزومه قال يجوز إذا عتق لأنه وقع عقدا صحيحا، فلما ارتفع الاذن المرتقب فيه صح العقد كما لو أذن. هذا كله عند من أجاز عتقه إذا أذن السيد، فإن الناس اختلفوا أيضا في ذلك بعد اتفاقهم على أنه لا يجوز عتقه إذا لم يأذن السيد، فقال قوم: ذلك جائز، وقال قوم: لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة، وبالجواز قال مالك، وعن الشافعي في ذلك القولان جميعا: والذين أجازوا ذلك اختلفوا في ولاء المعتق لمن يكون، فقال مالك: إن مات المكاتب قبل أن يعتق كان ولاء
312 عبده لسيده، وإن مات وقد عتق المكاتب كان ولاؤه له، وقال قوم من هؤلاء: بل ولاؤه على كل حال سيده. وعمدة من لم يجز عتق المكاتب أن الولاء يكون للمعتق، لقوله عليه الصلاة والسلام: إنما الولاء لمن أعتق ولا ولاء للمكاتب في حين كتابته فلم يصح عتقه. وعمدة من رأى أن الولاء للسيد أن عبد عبده بمنزلة عبده، ومن فرق بين ذلك فهو استحسان. ومن هذا الباب اختلافهم في هل للمكاتب أن ينكح أو يسافر بغير إذن سيده؟ فقال جمهورهم: ليس له أن ينكح إلا بإذن سيده، وأباح بعضهم النكاح له. وأما السفر فأباحه له جمهورهم ومنعه بعضهم، وبه قال مالك وأباحه سحنون من أصحاب مالك، ولم يجز للسيد أن يشترطه على المكاتب، وأجازه ابن القاسم في السفر القريب. والعلة في منع النكاح أنه يخاف أن يكون ذلك ذريعة إلى عجزه، والعلة في جواز السفر أن به يقوى على التكسب في أداء كتابته، وبالجملة فللعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أن للمكاتب أن يسافر بإذن سيده وبغير إذنه، ولا يجوز أن يشترط عليه أن لا يسافر، وبه قال أبو حنيفة والشافعي. والقول الثاني: أنه ليس له أن يسافر إلا بإذن سيده، وبه قال مالك. والثالث: أن بمطلق عقد الكتابة له أن يسافر إلا أن يشترط عليه سيده أن لا يسافر، وبه قال أحمد والثوري وغيرهما. ومن هذا الباب اختلافهم في هل للمكاتب أن يكاتب عبدا له؟ فأجاز ذلك مالك ما لم يرد به المحاباة، وبه قال أبو حنيفة والثوري. وللشافعي قولان: أحدهما: إثبات الكتابة، والآخر إبطالها. وعمدة الجماعة: أنها عقد معاوضة المقصود منه طلب الربح فأشبه سائر العقود المباحة من البيع والشراء. وعمدة الشافعية: أن الولاء لمن أعتق ولا ولاء للمكاتب، لأنه ليس بحر. واتفقوا على أنه لا يجوز للسيد انتزاع شئ من ماله ولا الانتفاع منه بشئ. واختلفوا في وطئ السيد أمته المكاتبة، فصار الجمهور إلى منع ذلك، وقال أحمد وداود وسعيد بن المسيب من التابعين: ذلك جائز إذا اشترطه عليها وعمدة الجمهور: أنه وطئ تقع الفرقة فيه إلى أجل آت فأشبه النكاح إلى أجل. وعمدة الفريق الثاني: تشبيهها بالمدبرة. وأجمعوا على أنها إن عجزت حل وطؤها. واختلف الذين منعوا ذلك إذا وطئها هل عليه حد أو لا؟ فقال جمهورهم: لا حد عليه لأنه وطئ بشبهة، وقال بعضهم: عليه الحد. واختلفوا في إيجاب الصداق لها، والعلماء - فيما أعلم - على أنه في أحكامه الشرعية على حكم العبد مثل الطلاق والشهادة والحد وغير ذلك مما يختص به العبيد. ومن هذا الباب اختلافهم في بيعه، فقال الجمهور: لا يباع المكاتب إلا بشرط أن يبقى على كتابته عند مشتريه، وقال بعضهم: بيعه جائز ما لم يؤد شيئا من كتابته، لان بريرة بيعت ولم تكن أدت من كتابتها شيئا، وقال بعضها: إذا رضي المكاتب بالبيع جاز، وهو قول الشافعي، لان الكتابة عنده ليست بعقد لازم في حق العبد، واحتج بحديث بريرة إذ بيعت وهي مكاتبة. وعمدة من لم يجز بيع المكاتب ما في ذلك من نقض العهد، وقد أمر
313 الله تعالى بالوفاء به. وهذه المسألة مبينة على: هل الكتابة عقد لازم أم لا؟ وكذلك اختلفوا في بيع الكتابة، فقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يجوز ذلك، وأجازها مالك ورأي الشفعة فيها للمكاتب، ومن أجاز ذلك شبه بيعها ببيع الدين، ومن لم يجز ذلك رآه من باب الغرر، وكذلك شبه مالك الشفعة فيها بالشفعة في الدين، وفي ذلك أثر عن النبي (ص)، أعني في الشفعة في الدين، ومذهب مالك في بيع الكتابة أنها إن كانت بذهب أنها تجوز بعرض معجل لا مؤجل لما يدخل في ذلك من الدين بالدين. وإن كانت الكتابة بعرض كان شراؤها بذهب أو فضة معجلين أو بعرض مخالف، وإذا أعتق فولاؤه للمكاتب لا للمشتري. ومن هذا الباب اختلافهم هل للسيد أن يجبر العبد على الكتابة أم لا؟ وأما شروط الكتابة فمنها شرعية هي من شروط صحة العقد، وقد تقدمت عند ذكر أركان الكتابة، ومنها شروط بحسب التراضي، وهذه الشروط منها ما يفسد العقد، ومنها ما إذا تمسك به أفسدت العقد وإذا تركت صح العقد، ومنها شروط جائزة غير لازمة، ومنها شروط لازمة، وهذه كلها هي مبسوطة في كتب الفروع، وليس كتابنا هذا كتاب فروع، وإنما هو كتاب أصول. والشروط التي تفسد العقد بالجملة هي الشروط التي هي ضد شروط الصحة المشروعة في العقد. والشروط الجائزة هي التي لا تؤدي إلى إخلال بالشروط المصححة للعقد ولا تلازمها، فهذه الجملة ليس يختلف الفقهاء فيها، وإنما يختلفون في الشروط لاختلافهم فيما هو منها شرط من شروط الصحة أو ليس منها، وهذا يختلف بحسب القرب والبعد من إخلالها بشروط الصحة، ولذلك جعل مالك جنسا ثالثا من الشروط، وهي الشروط التي إن تمسك بها المشترط فسد العقد، وإن لم يتمسك بها جاز، وهذا ينبغي أن تفهمه في سائر العقود الشرعية. فمن مسائلهم المشهورة في هذا الباب إذا اشترط في الكتابة شرطا من خدمة أو سفر أو نحوه وقوي على أداء نجومه قبل محل أجل الكتابة هل يعتق أم لا؟ فقال مالك وجماعة: ذلك الشرط باطل، ويعتق إذا أدى جميع المال، وقالت طائفة: لا يعتق حتى يؤدي جميع المال، ويأتي بذلك الشرط وهو مروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه أعتق رقيق الامارة وشرط عليهم أن يخدموا الخليفة بعد ثلاث سنين. ولم يختلفوا أن العبد إذا أعتقه سيده على أن يخدمه سنين أنه لا يتم عتقه إلا بخدمة تلك السنين، ولذلك القياس قول من قال: إن الشرط لازم، فهذه المسائل الواقعة المشهورة في أصول هذا الكتاب. وههنا مسائل تذكر في هذا الكتاب وهي من كتب أخرى، وذلك أنها إذا ذكرت في هذا الكتاب ذكرت على أنها فروع تابعة للأصول فيه، وإذا ذكرت في غيره ذكرت على أنها أصول، ولذلك كان الأولى ذكرها في هذا الكتاب. فمن ذلك اختلافهم إذا زوج السيد بنته من مكاتبه ثم مات السيد وورثته البنت، فقال مالك والشافعي: ينفسخ النكاح لأنها ملكت جزءا منه، وملك يمين المرأة محرم عليها بإجماع، وقال أبو حنيفة: يصح النكاح، لان الذي ورثت إنما هو مال في ذمة المكاتب لا رقبة المكاتب، وهذه المسألة هي أحق بكتاب النكاح. ومن هذا الباب
314 اختلافهم إذا مات المكاتب وعليه دين وبعض الكتابة هل يحاص سيده الغرماء أم لا؟ فقال الجمهور: لا يحاص الغرماء، وقال شريح وابن أبي ليلى: يضرب السيد مع الغرماء. وكذلك اختلفوا إذا أفلس وعليه دين يستغرق ما بيده، هل يتعدى ذلك إلى رقبته؟ فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: لا سبيل لهم إلى رقبته، وقال الثوري وأحمد: يأخذونه إلا أن يفتكه السيد. واتفقوا على أنه إذا عجز عن عقل الجنايات أنه يسلم فيها إلا أن يعقل عنه سيده، والقول في هل يحاص سيده الغرماء أو لا يحاص هو من كتاب التفليس، والقول في جنايته هو من باب الجنايات. ومن مسائل الأقضية التي هي فروع في هذا الباب وأصل في باب الأقضية اختلافهم في الحكم عند اختلاف السيد والمكاتب في مال الكتابة، فقال مالك وأبو حنيفة: القول قول المكاتب، وقال الشافعي ومحمد وأبو يوسف يتحالفان ويتفاسخان قياسا على المتبايعين وفروع هذا الباب كثيرة، لكن الذي حضر منها الآن في الذكر هو ما ذكرناه، ومن وقعت له من هذا الباب مسائل مشهورة الخلاف بين فقهاء الأمصار وهي قريبة من المسموع، فينبغي أن تثبت في هذا الموضع إذ كان القصد إنما هو إثبات المسائل المشهورة التي وقع الخلاف فيها بين فقهاء الأمصار مع المسائل المنطوق بها في الشرع وذلك أن قصدنا في هذا الكتاب كما قلنا غير مرة: إنما هو أن نثبت المسائل المنطوق بها في الشرع المتفق عليها والمختلف فيها، ونذكر من المسائل المسكوت عنها التي شهر الخلاف فيها بين فقهاء الأمصار، فإن معرفة هذين الصنفين من المسائل هي التي تجري للمجتهد مجرى الأصول في المسكوت عنها وفي النوازل التي لم يشتهر الخلاف فيها بين فقهاء الأمصار سواء نقل فيها مذهب عن واحد منهم أو لم ينقل، ويشبه أن يكون من تدرب في هذه المسائل وفهم أصول الأسباب التي أوجبت خلاف الفقهاء فيها أن يقول ما يجب في نازلة من النوازل، أعني أن يكون الجواب فيها على مذهب فقيه من فقهاء الأمصار، أعني في المسألة الواحدة بعينها، ويعلم حيث خالف ذلك الفقيه أصله وحيث لم يخالف، وذلك إذا نقل عنه في ذلك فتوى. فأما إذا لم ينقل عنه في ذلك فنوى أو لم يبلغ ذلك الناظر في هذه الأصول فيمكنه أن يأتي بالجواب بحسب أصول الفقيه الذي يفتي على مذهبه، وبحسب الحق الذي يؤديه إليه اجتهاده، ونحن نروم إن شاء الله بعد فراغنا من هذا الكتاب أن نضع في مذهب مالك كتابا جامعا لأصول مذهبه ومسائله المشهورة التي تجري في مذهبه مجرى الأصول للتفريع عليها، وهذا هو الذي عمله ابن القاسم في المدونة، فإن جاوب فيما لم يكن عنده فيها قول مالك على قياس ما كان عنده في ذلك الجنس من مسائل مالك التي هي فيها جارية مجرى الأصول لما جبل عليه الناس من الاتباع والتقليد في الاحكام والفتوى، بيد أن في قوة هذا الكتاب أن يبلغ به الانسان كما قلنا رتبة الاجتهاد إذا تقدم، فعلم من اللغة العربية وعلم من أصول الفقه ما يكفيه في ذلك، ولذلك رأينا أن أخص الأسماء بهذا الكتاب أن نسميه كتاب: (بداية المجتهد وكفاية المقتصد)
315 كتاب التدبير والنظر في التدبير، في أركانه، وفي أحكامه. وأما الأركان فهي أربعة: المعنى، واللفظ، والمدبر والمدبر. وأما الاحكام فصنفان: أحكام العقد، وأحكام المدبر. الركن الأول: فنقول: أجمع المسلمون على جواز التدبير، وهو أن يقول السيد لعبده: أنت حر عن دبر مني، أو يطلق فيقول: أنت مدبر، وهذان هما عندهم لفظا التدبير باتفاق. والناس في التدبير والوصية على صنفين: منهم من لم يفرق بينهما، ومنهم من فرق بين التدبير والوصية بأن جعل التدبير لازما والوصية غير لازمة. والذين فرقوا بينهما اختلفوا في مطلق لفظ الحرية بعد الموت هل يتضمن معنى الوصية؟ أو حكم التدبير؟ أعني إذا قال: أنت حر بعد موتي، فقال مالك: إذا قال وهو صحيح: أنت حر بعد موتي فالظاهر أنه وصية، والقول قوله في ذلك، ويجوز رجوعه فيها إلا أن يريد التدبير. وقال أبو حنيفة: الظاهر من هذا القول التدبير وليس له أن يرجع فيه، وبقول مالك قال ابن القاسم، وبقول أبي حنيفة قال أشهب قال: إلا أن يكون هنالك قرينة تدل على الوصية، مثل أن يكون على سفر أو يكون مريضا، وما أشبه ذلك من الأحوال التي جرت العادة أن يكتب الناس فيها وصاياهم، فعلى قول من لا يفرق بين الوصية والتدبير - وهو الشافعي ومن قال بقوله - هذا اللفظ هو من ألفاظ صريح التدبير. وأما على مذهب من يفرق فهو إما من كنايات التدبير، وإما ليس من كناياته ولا من صريحه، وذلك أن ما يحمله على الوصية فليس هو عنده من كناياته ولا من صريحه. ومن يحمله على التدبير وينويه يقبل هذا العقد هو كل عبد صحيح العبودية ليس يعتق على سيده سواء ملك كله أو بعضه. واختلفوا في حكم من ملك بعضا فدبره، فقال مالك: يجوز ذلك، وللذي لم يدبر حظه خياران: أحدهما: أن يتقاوماه، فإن اشتراه الذي دبره كان مدبرا كله، وإن لم يشتره انتقض التدبير. والخيار الثاني: أن يقومه عليه الشريك، وقال أبو حنيفة: للشريك
316 الذي لم يدبر ثلاث خيارات: إن شاء استمسك بحصته، وإن شاء استسعى العبد في قيمة الحصة التي له فيه وإن شاء قومها على شريكه إن كان موسرا، وإن كان معسرا استسعى العبد، وقال الشافعي: يجوز التدبير ولا يلزم شئ من هذا كله، ويبقى العبد المدبر نصفه أو ثلثه على ما هو عليه، فإذا مات مدبره عتق منه ذلك الجزء ولم يقوم الجزء الباقي منه على السيد على ما يفعل في سنة العتق، لان المال قد صار لغيره وهم الورثة. وهذه المسألة هي من الاحكام لامن الأركان، أعني أحكام المدبر فلتثبت في الاحكام. وأما المدبر فاتفقوا على أن من شروطه أن يكون مالكا تام الملك غير محجور عليه سواء أكان صحيحا أو مريضا، وأن من شرطه أن لا يكون ممن أحاط الدين بماله، لأنهم اتفقوا على أن الدين يبطل التدبير. واختلفوا في تدبير السفيه. فهذه هي أركان هذا الباب. وأما أحكامه فأصولها راجعة إلى أجناس خمسة: أحدها: ماذا يخرج المدبر، هل من رأس المال أو الثلث؟. والثاني: ما يبقى فيه من أحكام الرق مما ليس يبقى فيه، أعني ما دام مدبرا. والثالث: ما يتبعه في الحرية مما ليس يتبعه. الرابع: مبطلات التدبير الطارئة عليه. والخامس: في أحكام تبعيض التدبير. الجنس الأول فأما مماذا يخرج المدبر إذا مات المدبر؟ فإن العلماء اختلفوا في ذلك، فذهب الجمهور إلى أنه يخرج من الثلث، وقالت طائفة: هو من رأس المال معظمهم أهل الظاهر، فمن رأى أنه من الثلث شبهه بالوصية، لأنه حكم يقع بعد الموت. وقد روي حديث عن النبي (ص) أنه قال: المدبر من الثلث إلا أنه أثر ضعيف عند أهل الحديث، لأنه رواه علي بن ظبيان عن نافع عن عبد الله بن عمر، وعلي بن ظبيان متروك الحديث عند أهل الحديث. ومن رآه من رأس المال شبهه بالشئ يخرجه الانسان من ماله في حياته فأشبه الهبة. واختلف القائلون بأنه من الثلث في فروع، وهو إذا دبر الرجل غلاما له في صحته، وأعتق في مرضه الذي مات عنه غلاما آخر فضاق الثلث عن الجمع بينهما، فقال مالك: يقدم المدبر لأنه كان في الصحة، وقال الشافعي: يقدم العتق المبتل، لأنه لا يجوز له رده، ومن أصله أنه يجوز عنده رد التدبير. وهذه المسألة هي أحق بكتاب الوصايا. وأما الجنس الثاني فأشهر مسألة فيه هي هل للمدبر أن يبيع المدبر أم لا؟ فقال مالك وأبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة: ليس للسيد أن يبيع مدبره، وقال الشافعي وأحمد وأهل الظاهر وأبو ثور: له أن يرجع فيبيع مدبره، وقال الأوزاعي: لا يباع إلا من رجل يريد عتقه واختلف أبو حنيفة ومالك من هذه المسألة في فروع وهو إذا بيع فأعتقه المشتري، فقال مالك: ينفذ العتق، وقال أبو حنيفة والكوفيون البيع مفسوخ سواء أعتقه المشتري أو لم يعتقه. وهو أقيس من جهة أنه ممنوع عبادة. فعمدة من أجاز بيعه ما ثبت من حديث جابر: أن النبي (ص) باع مدبرا
317 وربما شبهوه بالوصية. وأما عمدة المالكية فعموم قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) لأنه عتق إلى أجل فأشبه أم الولد أو أشبه العتق المطلق. فكان سبب الاختلاف ههنا: معارضة القياس للنص، أو العموم للخصوص. ولا خلاف بينهم أن المدبر أحكامه في حدوده وطلاقه وشهاداته وسائر أحكامه أحكام العبيد. واختلفوا من هذا الباب في جواز وطئ المدبرة، فجمهور العلماء على جواز وطئها، وروي عن ابن شهاب منع ذلك، وعن الأوزاعي كراهية ذلك إذا لم يكن وطئها قبل التدبير. وعمدة الجمهور: تشبيهها بأم الولد، ومن لم يجز ذلك شبهها بالمعتقة إلى أجل، ومنع وطئ المعتقة إلى أجل شبهها بالمنكوحة إلى أجل، وهي المتعة، واتفقوا على أن للسيد في المدبر الخدمة، ولسيده أن ينتزع ماله منه متى شاء كالحال في العبد، قال مالك: إلا أن يمرض مرضا مخوفا فيكره له ذلك. الجنس الثالث فأما ما يتبعه في التدبير ممالا يتبعه، فإن من مسائلهم المشهورة في هذا الباب اختلافهم في ولد المدبرة الذين تلدهم بعد تدبير سيدها من نكاح أو زنا، فقال الجمهور: ولدها بعد تدبيرها بمنزلتها يعتقون بعتقها ويرقون برقها، وقال الشافعي في قوله المختار عند أصحابه إنهم لا يعتقون بعتقها، وأجمعوا على أنه إذا أعتقها سيدها في حياته أنهم يعتقون بعتقها. وعمدة الشافعية: أنهم إذا لم يعتقوا في العتق المنجز فأحرى أن لا يعتقوا في العتق المؤجل بالشرط. واحتج أيضا بإجماعهم على أن الموصى لها بالعتق لا يدخل فيه بنوها. والجمهور رأوا: أن التدبير حرمة ما، فأوجبوا اتباع الولد تشبيها بالكتابة، وقول الجمهور مروي عن عثمان وابن مسعود وابن عمر، وقول الشافعي مروي عن عمر بن عبد العزيز وعطاء بن أبي رباح ومكحول. وتحصيل مذهب مالك في هذا أن كل امرأة فولدها تبع لها، إن كانت حرة فحر، وإن كانت مكاتبة فمكاتب وإن كانت مدبرة فمدبر، أو معتقة إلى أجل فمعتق إلى أجل، وكذلك أم الولد ولدها بمنزلتها - وخالف في ذلك أهل الظاهر - وكذلك المعتق بعضه عند مالك، وأجمع العلماء عن أن كل ولد من تزويج فهو تابع لامه في الرق والحرية وما بينهما من العقود المفضية إلى الحرية إلا ما اختلفوا فيه من التدبير ومن أمة زوجها عربي. وأجمعوا على أن كل ولد من ملك يمين أنه تابع لأبيه، إن حرا فحرا، وإن عبدا فعبدا، وإن مكاتبا فمكاتبا. واختلفوا في المدبر إذا تسرى فولد له فقال مالك: حكمه حكم الأب: يعني أنه مدبر، وقال الشافعي وأبو حنيفة: ليس يتبعه ولده في التدبير، وعمدة مالك: الاجماع على الولد من ملك اليمين تابع للأب ما عدا المدبر، وهو باب قياس موضع الخلاف على موضع الاجماع. وعمدة الشافعية: أن ولد المدبر مال من
318 ماله، ومال المدبر للسيد انتزاعه منه وليس يسلم له أنه مال من ماله، ويتبعه في الحرية ماله عند مالك. الجنس الرابع وأما النظر في تبعيض التدبير فقد قلنا فيمن دبر له حظا في عبده دون أن يدبر شريكه ونقله إلى هذا الموضع أولى، فلينقل إليه. وأما من دبر جزءا من عبد هو له كله. فإنه يقضي عليه بتدبير الكل، قياسا على من بعض العتق عند مالك. وأما الجنس الخامس وهو مبطلات التدبير فمن هذا الباب اختلافهم في إبطال الدين للتدبير، فقال مالك والشافعي: الدين يبطله، وقال أبو حنيفة: ليس يبطله ويسعى في الدين، وسواء أكان الدين مستغرقا للقيمة أو لبعضها. ومن هذا الباب اختلافهم في النصراني يدبر عبدا له نصرانيا، فيسلم العبد قبل موت سيده، فقال الشافعي: يباع عليه ساعة يسلم ويبطل تدبيره، وقال مالك: يحال بينه وبين سيده ويخارج على سيده النصراني، ولا يباع عليه حتى يبين أمر سيده، فإن مات عتق المدبر ما لم يكن عليه دين يحيط بماله، وقال الكوفيون: إذا أسلم مدبر النصراني قوم وصفي العبد في قيمته، ومدبر الصحة يقدم عند مالك على مدبر المرض إذا ضاق الثلث عنهما.
319 كتاب أمهات الأولاد وأصول هذا الباب النظر في هل تباع أم الولد أم لا؟ وإن كانت لا تباع فمتى تكون أم ولد، وبماذا تكون أم ولد، وما يبقى فيها لسيدها من أحكام العبودية، ومتى تكون حرة؟ أما المسألة الأولى: فإن العلماء اختلفوا فيها سلفهم وخلفهم، فالثابت عن عمر رضي الله عنه أنه قضى بأنها لا تباع وأنها حرة من رأس مال سيدها إذا مات. وروي مثل ذلك عن عثمان، وهو قول أكثر التابعين وجمهور فقهاء الأمصار. وكان أبو بكر الصديق وعلي رضوان الله عليهما وابن عباس وابن الزبير وجابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري يجيزون بيع أم الولد، وبه قالت الظاهرية من فقهاء الأمصار. وقال جابر وأبو سعيد: كنا نبيع أمهات الأولاد والنبي عليه الصلاة والسلام فينا لا يرى بذلك بأسا. واحتجوا بما روي عن جابر أنه قال: كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله (ص) وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، ثم نهانا عمر عن بيعهن ومما اعتمد عليه أهل الظاهر في هذه المسألة النوع من الاستدلال الذي يعرف باستصحاب حال الاجماع، وذلك أنهم قالوا: لما انعقد الاجماع على أنها مملوكة قبل الولادة، وجب أن تكون كذلك بعد الولادة إلى أن يدل الدليل على غير ذلك، وقد تبين في كتب الأصول قوة هذا الاستدلال، وأنه لا يصح عند من يقول بالقياس، وإنما يكون ذلك دليلا بحسب رأي من ينكر القياس، وربما احتج الجمهور عليهم بمثل احتجاجهم، وهو الذي يعرفونه بمقابلة الدعوى بالدعوى، وذلك أنهم يقولون: أليس تعرفون أن الاجماع قد انعقد على منع بيعها في حال حملها، فإذا كان ذلك وجب أن يستصحب حال هذا الاجماع بعد وضع الحمل، إلا أن المتأخرين من أهل الظاهر أحدثوا في هذا الأصل نقضا، وذلك أنهم لا يسلمون منع بيعها حاملا. ومما اعتمده الجمهور في هذا الباب من الأثر ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في مارية سريته لما ولدت إبراهيم: أعتقها ولدها ومن ذلك حديث ابن عباس عن النبي (ص) أنه قال: أيما امرأة ولدت من سيدها فإنها حرة إذا مات وكلا الحديثين لا يثبت عند أهل الحديث،
320 حكى ذلك أبو عمر بن عبد البر رحمه الله، وهو من أهل هذا الشأن، وربما قالوا أيضا من طريق المعنى إنها قد وجبت لها حرمة وهو اتصال الولد بها وكونه بعضا منها، وحكوا هذا التعليل عن عمر رضي الله عنه حين رأى أن لا يبعن فقال: خالطت لحومنا لحومهن، ودماؤنا دماءهن. وأما متى تكون أم ولد، فإنهم اتفقوا على أنها تكون أم ولد إذا ملكها قبل حملها منه. واختلفوا إذا ملكها وهي حامل منه أو بعد أن ولدت منه، فقال مالك: لا تكون أم ولد إذا ولدت منه قبل أن يملكها ثم ملكها وولدها، وقال أبو حنيفة: تكون أم ولد. واختلف قول مالك إذا ملكها وهي حامل، والقياس أن تكون أم ولد في جميع الأحوال إذ كان ليس من مكارم الأخلاق أن يبيع المرء أم ولده، وقد قال عليه الصلاة والسلام: بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وأما بماذا تكون أم ولد؟ فإن مالكا قال: كل ما وضعت مما يعلم أنه ولد كانت مضغة أو علقة، وقال الشافعي: لا بد أن يؤثر في ذلك شئ مثل الخلقة والتخطيط. واختلافهم راجع إلى ما ينطلق عليه اسم الولادة أو ما يتحقق أنه مولد. وأما ما بقي فيها من أحكام العبودية، فإنهم اتفقوا على أنها في شهادتها وحدودها وديتها وأرش جراحها كالأمة. وجمهور من منع بيعها ليس يرون ههنا سببا طارئا عليها يوجب بيعها إلا ما روي عن عمر بن الخطأ ب أنها إذا زنت رقت. واختلف قول الشافعي هل لسيدها استخدامها طول حياته واغتلاله إياها؟ فقال مالك: ليس له ذلك، وإنما له فيها الوطئ فقط، وقال الشافعي: له ذلك. وعمدة مالك: أنه لما لم يملك رقبتها بالبيع لم يملك إجارتها، إلا أنه يرى أن إجارة بنيها من غيره جائزة، لان حرمتهم عنده أضعف. وعمدة الشافعي: انعقاد الاجماع على أنه يجوز له وطؤها. فسبب الخلاف: تردد إجارتها بين أصلين: أحدهما: وطؤها. والثاني: بيعها. فيجب أن يرجح أقوى الأصلين شبها. وأما متى تكون حرة؟ فإنه لا خلاف بينهم أن آن ذلك الوقت هو إذا مات السيد، ولا أعلم الآن أحدا قال تعتق من الثلث، وقياسها على المدبر ضعيف على قول من يقول: إن المدبر يعتق من الثلث.
321 كتاب الجنايات والجنايات التي لها حدود مشروعة أربع جنايات على الأبدان والنفوس والأعضاء وهو المسمى قتلا وجرحا، وجنايات على الفروج وهو المسمى زنا وسفاحا، وجنايات على الأموال، وهذه ما كان منها مأخوذا بحرب سمي حرابة إذا كان بغير تأويل، وإن كان بتأويل سمي بغيا، وإن كان مأخوذا على وجه المنافسة من حرز يسمى سرقة، وما كان منها يعلو مرتبة وقوة وسلطان سمي غصبا، وجنايات على الاعراض، وهي المسمى قذفا، وجنايات بالتعدي على استباحة ما حرمه الشرع من المأكول والمشروب، وهذه إنما يوجد فيها حد في هذه الشريعة في الخمر فقط، وهو حد متفق عليه بعد صاحب الشرع صلوات الله عليه، فلنبتدئ منها بالحدود التي في الدماء فنقول: إن الواجب في إتلاف النفوس والجوارح هو إما قصاص وإما مال، وهو الذي يسمى الدية، فإذن النظر أولا في هذا الكتاب ينقسم إلى قسمين: النظر في القصاص، والنظر في الدية. والنظر في القصاص ينقسم إلى القصاص في النفوس، وإلى القصاص في الجوارح، والنظر أيضا في الديات ينقسم إلى النظر في ديات النفوس، وإلى النظر في ديات قط الجوارح والجراح. فينقسم أولا هذا الكتاب إلى كتابين: أولهما: يرسم عليه كتاب القصاص، والثاني: يرسم عليه كتاب الديات.
322 كتاب القصاص وهذا الكتاب ينقسم إلى قسمين: الأول: النظر في القصاص في النفوس، والثاني: النظر في القصاص في الجوارح، فلنبدأ من القصاص في النفوس. كتاب القصاص في النفوس والنظر أولا في هذا الكتاب ينقسم إلى قسمين: إلى النظر في الموجب، أعني الموجب للقصاص. وإلى النظر في الواجب. أعني القصاص وفي أبداله إن كان له بدل. فلنبدأ أولا بالنظر في الموجب. والنظر في الموجب يرجع إلى النظر في صفة القتل والقاتل التي يجب بمجموعها والمقتول القصاص. فإنه ليس أي قاتل اتفق يقتص منه، ولا بأي قتل اتفق، ولا من أي مقتول اتفق. بل من قاتل محدود، ومقتول محدود، إذ كان المطلوب في هذا الباب إنما هو العدل. فلنبدأ من النظر في القاتل. ثم في القتل. ثم في المقتول. القول في شروط القاتل فنقول: إنهم اتفقوا على أن القاتل الذي يقاد منه يشترط فيه باتفاق أن يكون عاقلا بالغا مختارا للقتل مباشرا غير مشارك له فيه غيره. واختلفوا في المكره والمكره، وبالجملة الآمر والمباشر، فقال مالك والشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وجماعة: القتل على المباشر دون الآمر، ويعاقب الآمر، وقالت طائفة: يقتلان جميعا، وهذا إذا لم يكن هنالك إكراه ولا سلطان للآمر على المأمور. وأما إذا كان للآمر سلطان على المأمور، أعني المباشر، فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال: فقال قوم: يقتل الآمر دون المأمور، ويعاقب المأمور، وبه قال داود وأبو حنيفة، وهو أحد قولي الشافعي، وقال قوم: يقتل المأمور دون الآمر، وهو أحد قولي الشافعي. وقال قوم: يقتلان جميعا، وبه قال مالك. فمن لم يوجب حدا على المأمور اعتبر تأثير الاكراه في اسقاط كثير من الواجبات في الشرع، لكون المكره يشبه من لا اختيار له. ومن رأى عليه القتل غلب عليه حكم الاختيار، وذلك أن المكره يشبه من جهة المختار، ويشبه من جهة المضطر المغلوب، مثل الذي يسقط من علو، والذي تحمله الريح من موضع إلى موضع. ومن رأى قتلهم جميعا لم يعذر المأمور بالاكراه ولا الآمر بعدم المباشرة. ومن رأى قتل الآمر
323 فقط شبه المأمور بالآلة التي لا تنطق، ومن رأى الحد على غير المباشر اعتمد أنه ليس ينطلق عليه اسم قاتل إلا بالاستعارة. وقد اعتمدت المالكية في قتل المكره على القتل بالقتل بإجماعهم على أنه لو أشرف على الهلاك من مخمصة لم يكن له أن يقتل إنسانا فيأكله. وأما المشارك للقاتل عمدا في القتل، فقد يكون القتل عمدا وخطأ، وقد يكون القاتل مكلفا وغير مكلف، وسنذكر العمد عند قتل الجماعة بالواحد. وأما إذا اشترك في القتل عامد ومخطئ أو مكلف وغير مكلف، مثل عامد وصبي أو مجنون، أو حر وعبد في قتل عبد عند من لا يقيد من الحر بالعبد، فإن العلماء اختلفوا في ذلك، فقال مالك والشافعي: على العامد القصاص وعلى المخطئ والصبي نصف الدية، إلا أن مالكا يجعله على العاقلة، والشافعي في ماله على ما يأتي، وكذلك قالا في الحر والعبد يقتلان العبد عمدا أن العبد يقتل، وعلى الحر نصف القيمة، وكذلك الحال في المسلم والذمي يقتلان جميعا. وقال أبو حنيفة إذا اشترك من يجب عليه القصاص مع من لا يجب عليه القصاص، فلا قصاص على واحد منهما وعليهما الدية. وعمدة الحنفية: أن هذه شبهة، فإن القتل لا يتبعض وممكن أن تكون إفاتة نفسه من فعل الذي لا قصاص عليه كامكان ذلك ممن عليه القصاص، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ادرأوا الحدود بالشبهات وإذا لم يكن الذم وجب بدله، وهو الدية. وعمدة الفريق الثاني: النظر إلى المصلحة التي تقتضي التغليظ لحوطة الدماء، فكأن كل واحد منهما انفرد بالقتل فله حكم نفسه، وفيه ضعف في القياس. وأما صفة الذي يجب به القصاص، فاتفقوا على أنه العمد، وذلك أنهم أجمعوا على أن القتل صنفان: عمد، وخطأ. واختلفوا في هل بينهما وسط أم لا؟ وهو الذي يسمونه شبه العمد، فقال به جمهور فقهاء الأمصار. والمشهور عن مالك نفيه إلا في الابن مع أبيه، وقد قيل: إنه يتخرج عنه في ذلك رواية أخرى. وباثباته قال عمر بن الخطاب وعلي وعثمان وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري والمغيرة، ولا مخالف لهم من الصحابة، والذين قالوا به فرقوا فيما هو شبه العمد مما ليس بعمد، وذلك راجع في الأغلب إلى الآلات التي يقع بها القتل، وإلى الأحوال التي كان من أجلها الضرب. فقال أبو حنيفة: كل ما عدا الحديد من القضب أو النار وما يشبه ذلك فهو شبه العمد، وقال أبو يوسف ومحمد أشبه العمد ما لا يقتل مثله وقال الشافعي: شبه العمد ما كان عمدا في الضرب خطأ في القتل: أي ما كان ضربا لم يقصد به القتل فتولد عنه القتل. والخطأ ما كان خطأ فيهما جميعا، والعمد ما كان عمدا فيهما جميعا وهو حسن فعمدة من نفى شبه العمد أنه لا واسطة بين الخطأ والعمد، أعني بين أن يقصد القتل أو لا يقصده. وعمدة من أثبت الوسط أن النيات لا يطلع عليها إلا الله تبارك وتعالى وإنما الحكم بما ظهر. فمن قصد ضرب آخر بآلة تقتل غالبا كان حكمه كحكم الغالب، أعني
324 حكم من قصد القتل فقتل بلا خلاف. ومن قصد ضرب رجل بعينه بآلة لا تقتل غالبا كان حكمه مترددا بين العمد والخطأ وهذا في حقنا لا في حق الآمر نفسه عند الله تعالى. أما شبهه العمد فمن جهة ما قصد ضربه. وأما شبهه للخطأ فمن جهة أنه ضرب بما لا يقصد به القتل. وقد روي حديث مرفوع إلى النبي (ص) أنه قال: ألا إن قتل الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا والحجر ديته مغلظة مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها إلا أنه حديث مضطرب عند أهل الحديث لا يثبت من جهة الاسناد فيما ذكره أبو عمر بن عبد البر، وإن كان أبو داود وغيره قد خرجه. فهذا النحو من القتل عند من لا يثبته يجب به القصاص، وعند من أثبته تجب به الدية، ولا خلاف في مذهب مالك أن الضرب يكون على وجه الغضب والنائرة يجب به القصا ص. واختلف في الذي يكون عمدا على جهة اللعب، أو على جهة الأدب لمن أبيح له الأدب. وأما الشرط الذي يجب به القصاص في المقتول، فهو أن يكون مكافئا لدم القاتل. والذي به تختلف النفوس هو الاسلام والكفر والحرية والعبودية والذكورية والأنوثية والواحد والكثير. واتفقوا على أن المقتول إذا كان مكافئا للقاتل في هذه الأربعة أنه يجب القصاص. واختلفوا في هذه الأربعة إذا لم تجتمع، أم الحر إذا قتل العبد عمدا، فإن العلماء اختلفوا فيه، فقال مالك والشافعي والليث وأحمد وأبو ثور: لا يقتل الحر بالعبد، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يقتل الحر بالعبد إلا عبد نفسه، وقال قوم: يقتل الحر بالعبد سواء أكان عبد القاتل أو عبد غير القاتل وبه قال النخعي فمن قال لا يقتل الحر بالعبد احتج بدليل الخطاب المفهوم من قوله تعالى: * (كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد) * ومن قال: بقتل الحر بالعبد احتج بقوله عليه الصلاة والسلام: المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم فسبب الخلاف: معارضة العموم لدليل الخطاب، ومن فرق فضعيف. ولا خلاف بينهم أن العبد يقتل بالحر، وكذلك الأنقص بالأعلى. ومن الحجة أيضا لمن قال: يقتل الحر بالعبد ما رواه الحسن عن سمرة أن النبي (ص) قال: من قتل عبده قتلناه به ومن طريق المعنى قالوا: ولما كان قتله محرما كقتل الحر، وجب أن يكون القصاص فيه كالقصاص في الحر. وأما قتل المؤمن بالكافر الذمي، فاختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: فقال قو: لا يقتل مؤمن بكافر، وممن قال به الشافعي والثوري وأحمد وداود وجماعة. وقال قوم: يقتل به، وممن قال بذلك أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى. وقال مالك والليث: لا يقتل به إلا أن يقتله غيلة، وقتل الغيلة أن يضجعه فيذبحه وبخاصة على
325 ماله. فعمدة الفريق الأول ما روي من حديث علي أنه سأله قيس بن عبادة والأشتر هل عهد إليه رسول الله (ص) عهدا لم يعهده إلى الناس قال: لا، إلا ما في كتابي هذا، وأخرج كتابا من قراب سيفه فإذا فيه: المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم. ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، من أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خرجه أبو داود. وروي أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي (ص) قال: لا يقتل مؤمن بكافر واحتجوا في ذلك بإجماعهم على أنه لا يقتل مسلم بالحربي الذي أمن. وأما أصحاب أبي حنيفة فاعتمدوا في ذلك آثار منها حديث يرويه ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الرحمن السلماني قال: قتل رسول الله (ص) رجلا من أهل القبلة برجل من أهل الذمة وقال: أنا أحق من وفى بعهده ورووا ذلك عن عمر، قالوا: وهذا مخصص لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: لا يقتل مؤمن بكافر أي أنه أريد بالكافر الحربي دون الكافر المعاهد، وضعف أهل الحديث حديث عبد الرحمن السلماني وما رووا من ذلك عن عمر. وأما من طريق القياس فإنهم اعتمدوا على إجماع المسلمين في أن يد المسلم تقطع إذا سرق من مال الذمي، قالوا: فإذا كانت حرمة ماله كحرمة مال المسلم فحرمة دمه كحرمة دمه. فسبب الخلاف: تعارض الآثار والقياس. وأما قتل الجماعة بالواحد، فإن جمهور فقهاء الأمصار قالوا تقتل الجماعة بالواحد، منهم مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وغيرهم، سواء كثرت الجماعة أو قلت، وبه قال عمر، حتى روي أنه قال: لو تمالا عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا. وقال داود وأهل الظاهر لا تقتل الجماعة بالواحد، وهو قول ابن الزبير، وبه قال الزهري، وروي عن جابر. وكذلك عند هذه الطائفة لا تقطع أيد بيد، أعني إذا اشترك اثنان فما فوق ذلك في قطع يد، وقال مالك والشافعي: تقطع الأيدي باليد، وفرقت الحنفية بين النفس والأطراف فقالوا: تقتل الأنفس بالنفس، ولا يقطع بالطرف إلا طرف واحد، وسيأتي هذا في باب القصاص من الأعضاء. فعمدة من قتل بالواحد الجماعة النظر إلى المصلحة، فإنه مفهوم أن القتل إنما شرع لنفي القتل كما نبه عليه الكتاب في قوله تعالى: * (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) * وإذا كان ذلك كذلك فلو لم تقتل الجماعة بالواحد لتذرع الناس إلى القتل بأن يتعمدوا قتل الواحد بالجماعة، ولكن للمعترض أن يقول: إن هذا إنما كان يلزم لو لم يقتل من الجماعة أحد، فأما إن قتل منهم واحد وهو الذي من قتله يظن إتلاف النفس غالبا على الظن، فليس يلزم أن يبطل الحد حتى يكون سببا للتسليط على إذهاب
326 النفوس. وعمدة من قتل الواحد بالواحد قوله تعالى: * (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين) * وأما قتل الذكر بالأنثى، فإن ابن المنذر وغيره ممن ذكر الخلاف حكى أنه إجماع إلا ما حكي عن علي من الصحابة، وعن عثمان البتي أنه إذ قتل الرجل بالمرأة كان على أولياء المرأة نصف الدية. وحكى القاضي أبو الوليد الباجي في المنتقى عن الحسن البصري، أنه لا يقتل الذكر بالأنثى، وحكاه الخطابي في معالم السنن، وهو شاذ، ولكن دليله قوي لقوله تعالى: * (والأنثى بالأنثى) * وإن كان يعارض دليل الخطاب ههنا العموم الذي في قوله تعالى: * (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) * لكن يدخله أن هذا الخطاب وارد في غير شريعتنا، وهي مسألة مختلف فيها، أعني هل شرع من قبلنا شرع لنا أم لا؟ والاعتماد في قتل الرجل بالمرأة هو النظر إلى المصلحة العامة. واختلفوا من هذا الباب في الأب والابن، فقال مالك: لا يقاد الأب بالابن إلا أن يضجعه فيذبحه، فأما إن حذفه بسيف أو عصا فقتله لم يقتل، وكذلك الجد عنده مع حفيده. وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري: لا يقاد الوالد بولده ولا الجد بحفيده إذا قتله بأي وجه كان من أوجه العمد، وبه قال جمهور العلماء. وعمدتهم حديث ابن عباس أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: لا تقام الحدود في المساجد ولا يقاد بالولد الوالد. وعمدة مالك عموم القصاص بين المسلمين. وسبب اختلافهم: ما رووه عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب أن رجلا من بني مدلج يقال له قتادة حذف ابنا له بالسيف فأصاب ساقه، فنزف جرحه فمات، فقدم سراقة بن جعشم على عمر بن الخطاب فذكر له، فقال له عمر: أعدد على ماء قديد عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك، فلما قدم عليه عمر أخذ من تلك الإبل ثلاثين حقه وثلاثين وأربعين خلفة، ثم قال: أين أخو المقتول؟ فقال: ها أنا ذا، قال: خذها، فإن رسول الله (ص) قال: ليس لقاتل شئ فإن مالكا حمل هذا الحديث على أنه لم يكن عمدا محضا، وأثبت منه شبه العمد فيما بين الابن والأب. وأما الجمهور فحملوه على ظاهره من أنه عمد لإجماعهم أن من حذف آخر بسيف فقتله فهو عمد. وأما مالك فرأى لما للأب من التسلط على تأديب ابنه ومن المحبة له أن حمل القتل الذي يكون في أمثال هذه الأحوال على أنه ليس بعمد ولم يتهمه إذ كان ليس بقتل غيلة فإنما يحمل فاعله على أنه قصد القتل من جهة غلبة الظن وقوة التهمة، إذ كانت النيات لا يطلع عليها إلا الله تعالى، فمالك لم يتهم الأب حيث اتهم الأجنبي، لقوة المحبة التي بين الأب والابن. والجمهور إنما عللوا درء الحد عن الأب لمكان حقه على الابن. والذي يجئ على أصول أهل الظاهر أن يقاد، فهذا هو القول في الموجب.
327 وأما القول في الواجب فاتفقوا على أن لولي الدم أحد شيئين: القصاص، أو العفو إما على الدية وإما على غير الدية. واختلفوا هل الانتقال من القصاص إلى العفو على أخذ الدية هو حق واجب لولي الدم دون أن يكون في ذلك خيار للمقتص منه أم لا تثبت الدية إلا بتراضي الفريقين أعني الولي والقاتل وأنه إذا لم يرد المقتص منه أن يؤدي الدية لم يكن لولي الدم إلا القصاص مطلقا أو العفو، فقال مالك: لا يجب للولي إلا أن يقتص أو يعفو عن غير دية إلا أن يرضى بإعطاء الدية القاتل، وهي رواية ابن القاسم عنه، وبه قال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وجماعة، وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود وأكثر فقهاء المدينة من أصحاب مالك وغيره: ولي الدم بالخيار إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية، رضي القاتل أو لم يرض، وروى ذلك أشهب عن مالك، إلا أن المشهور عنه هي الرواية الأولى. فعمدة مالك في الرواية المشهورة حديث أنس بن مالك في قصة سن الربيع أن رسول الله (ص) قال: كتاب الله القصاص فعلم بدليل الخطاب أنه ليس له إلا القصاص. وعمدة الفريق الثاني حديث أبي هريرة الثابت من قتل له قتيل فهو بخير النظرين بين أن يأخذ الدية وبين أن يعفو هما حديثان متفق على صحتهما، لكن الأول ضعيف الدلالة في أنه ليس له إلا القصاص. والثاني نص في أن له الخيار. والجمع بينهما يمكن إذا رفع دليل الخطاب من ذلك، فإن كان الجمع واجبا وممكنا فالمصير إلى حديث الثاني واجب، والجمهور على أن الجمع واجب إذا أمكن وأنه أولى من الترجيح، وأيضا فإن الله عز وجل يقول: * (ولا تقتلوا أنفسكم) * وإذا عرض على المكلف فداء نفسه بمال فواجب عليه أن يفديها، أصله إذا وجد الطعام في مخمصة بقيمة مثله وعنده ما يشتريه، أعني أنه يقضي عليه بشرائه فكيف بشراء نفسه؟ ويلزم على هذه الرواية إذا كان للمقتول أولياء صغار وكبار أن يؤخر القتل إلى أن يكبر الصغار فيكون لهم الخيار. ولا سيما إذا كان الصغار يحجبون الكبار مثل البنين مع الاخوة. قال القاضي: وقد كانت وقعت هذه المسألة بقرطبة حياة جدي - رحمه الله - فأفتى أهل زمانه بالرواية المشهورة، وهو أن لا ينتظر الصغير، فأفتى هو - رحمه الله - بانتظاره على القياس، فشنع أهل زمانه ذلك عليه لما كانوا عليه من شدة التقليد حتى اضطر أن يضع في ذلك قولا ينتصر فيه لهذا المذهب وهو موجود بأيدي الناس. والنظر في هذا الباب هو في قسمين: في العفو والقصاص. والنظر في العفو في شيئين: أحدهما: فيمن له العفو ممن ليس له، وترتيب أهل الدم في ذلك، وهل يكون له العفو على الدية أم لا؟ وقد تكلمنا في: هل له العفو على الدية. وأما من لهم العفو بالجملة فهم الذين لهم القيام بالدم، والذين لهم القيام بالدم هم العصبة عند مالك، وعند غيره: كل من يرث، وذلك أنهم أجمعوا
328 على أن المقتول عمدا إذا كان له بنون بالغون فعفا أحدهم أن القصاص قد بطل ووجبت الدية. واختلفوا في اختلاف البنات مع البنين في العفو أو القصاص. وكذلك الزوجة أو الزوج والأخوات، فقال مالك: ليس للبنات ولا الأخوات قول مع البنين والاخوة في القصاص أو ضده، ولا يعتبر قولهن مع الرجال، وكذلك الامر في الزوجة والزوج، وقال * (فهو كفارة له) * قيل على القاتل لمن رأى له توبة، وقيل على المقتول من ذنوبه وخطاياه. وأما اختلافهم في عفو المقتول خطأ عن الدية فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة، وجمهور فقهاء الأمصار: إن عفوه من ذلك في ثلثه إلا أن يجيزه الورثة، وقال قوم: يجوز في جميع ماله. وممن قال به طاوس والحسن. وعمدة الجمهور: أنه واهب مالا له بعد موته فلم يجز إلا في الثلث. أصله الوصية. وعمدة الفرقة الثانية: إذا كان له أن يعفو عن الدم فهو أحرى أن يعفو عن المال، وهذه المسألة هي أخص بكتاب الديات. واختلف العلماء إذا عفا المجروح عن الجراحات، فمات منها هل للأولياء أن يطالبوا بدمه أم لا؟ فقال مالك: لهم ذلك إلا أن يقول عفوت عن الجراحات وعما تؤول إليه. وقال أبو يوسف ومحمد: إذا عفا عن الجراحة ومات فلا حق لهم. والعفو عن الجراحات عفو عن الدم. وقال قوم: بل تلزمهم الدية إذا عفا عن الجراحات مطلقا، وهؤلاء اختلفوا، فمنهم من قال: تلزم الجارح الدية كلها، واختاره المزني من أقوال الشافعي. ومنهم من قال: يلزم من الدية ما بقي منها بعد اسقاط دية الجرح الذي
329 عفا عنه. وهو قول الثوري. وأما من يرى أنه لا يعفو عن الدم فليس يتصور معه خلاف في أنه لا يسقط ذلك طلب الولي الدية، لأنه إذا كان عفوه عن الدم لا يسقط حق الولي، فأحرى أن لا يسقط عفوه عن الجرح. واختلفوا في القاتل عمدا يعفى عنه، هل يبقى للسلطان فيه أم لا؟ فقال مالك والليث: إنه يجلد مائة ويسجن سنة. وبه قال أهل المدينة، وروي ذلك عن عمر، وقالت طائفة: الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: لا يجب عليه ذلك. وقال أبو ثور: إلا أن يكون يعرف بالشر فيؤدبه الامام على قدر ما يرى. ولا عمدة الطائفة الأولى إلا أثر ضعيف. وعمدة الطائفة الثانية ظاهر الشرع وأن التحديد في ذلك لا يكون إلا بتوقيف، ولا توقيف ثابت في ذلك. القول في القصاص والنظر في القصاص هو في صفة القصاص، وممن يكون؟ ومتى يكون؟ فأما صفة القصاص في النفس، فإن العلماء اختلفوا في ذلك فمنهم من قال: يقتص من القاتل على الصفة التي قتل، فمن قتل تغريقا قتل تغريقا، ومن قتل بضرب بحجر قتل بمثل ذلك، وبه قال مالك والشافعي، قالوا: إلا أن يطول تعذيبه بذلك فيكون السيف له أروح. واختلف أصحاب مالك فيمن حرق آخر، هل يحرق - مع موافقتهم لمالك في احتذاء صورة القتل؟ وكذلك فيمن قتل بالسهم، وقال أبو حنيفة وأصحابه: بأي وجه قتله لم يقتل إلا بالسيف، وعمدتهم ما روى الحسن عن النبي (ص) أنه قال: لا قود إلا بحديدة. وعمدة الفريق الأول حديث أنس أن يهوديا رضخ رأس امرأة بحجر، فرضخ النبي (ص) رأسه بحجر، أو قال: بين حجرين وقوله تعالى: * (كتب عليكم القصاص في القتلى) * والقصاص يقتضي المماثلة. وأما ممن يكون القصاص فالظاهر أنه يكون من ولي الدم، وقد قيل إنه لا يمكن منه لمكان العدواة ومخافة أن يجور فيه. أما متى يكون القصاص؟ فبعد ثبوت موجباته، والاعذار إلى القاتل في ذلك إن لم يكن مقرا. واختلفوا هل من شرط القصاص أن لا يكون الموضع الحرم. وأجمعوا على أن الحامل إذا قتلت عمدا أنه لا يقاد منها حتى تضع حملها. واختلفوا في القاتل بالسم والجمهور على وجوب القصاص، وقال بعض أهل الظاهر: لا يقتص منه من أجل أنه عليه الصلاة والسلام سم هو وأصحابه، فلم يتعرض لمن سمه. كمل كتاب القصاص في النفس.
330 كتاب الجراح والجراح صنفان: منها ما فيه القصاص أو الدية أو العفو. ومنها ما فيه الدية أو العفو. ولنبدأ بما فيه القصاص، والنظر أيضا ههنا في شروط الجارح والجرح الذي به يحق القصاص والمجروح، وفي الحكم الواجب الذي هو القصاص، وفي بدله إن كان له بدل. القول في الجارح ويشترط في الجارح أن يكون مكلفا كما يشترط ذلك في القاتل، وهو أيكون بالغا عاقلا، والبلوغ يكون بالاحتلام والسن بلا خلاف، وإن كان الخلاف في مقداره، فأقصاه ثماني عشرة سنة، وأقله خمس عشرة سنة، وبه قال الشافعي، ولا خلاف أن الواحد إذا قطع عضو انسان واحد اقتص منه إذا كان مما فيه القصاص. واختلفوا إذا قطعت جماعة عضوا واحدا، فقال أهل الظاهر: لا تقطع يدان في يد، وقال مالك والشافعي: تقطع الأيدي باليد الواحدة، كما تقتل عندهم الأنفس بالنفس الواحدة، وفرقت الحنفية بين النفس والأطراف، فقالوا: لا تقطع أعضاء بعضو، وتقتل أنفس بنفس، وعندهم أن الأطراف تتبعض، وإزهاق النفس لا يتبعض. واختلف في الانبات، فقال الشافعي: هو بلوغ بإطلاق. واختلف المذهب فيه في الحدود، هل هو بلوغ فيها أم لا؟ والأصل في هذا كله حديث بني قريظة: أنه (ص) قتل منهم من أنبت وجرت عليه المواسي كما أن في الأصل في السن حديث ابن عمر أنه عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يقبله وقبله يوم الخندق وهو ابن القول في المجروح وأما المجروح فإنه يشترط فيه أن يكون دمه خمس عشرة سنة مكافئا لدم الجارح والذي يؤثر في التكافؤ العبودية والكفر. أما العبد والحر فإنهم اختلفوا في وقوع القصاص بينهما في الجرح كاختلافهم في النفس، فمنهم من رأى أنه لا يقتص من الحر للعبد، ويقتص للحر من
331 العبد كالحال في النفس، ومنهم من رأى أنه يقتص لكل واحد منهما من كل واحد، ولم يفرق بين الجرح والنفس، ومنهم من فرق: فقال يقتص من الأعلى للأدنى في النفس والجرح ومنهم من قال: يقتص من النفس دون الجرح، وعن مالك الروايتان. الصواب كما يقتص من النفس أن يقتص من الجر. فهذه هي حال العبيد مع الأحرار. وأما حال العبيد بعضهم مع بعض، فإن للعلماء فيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أن القصاص بينهم في النفس وما دونها، وهو قول الشافعي وجماعة، وهو مروي عن عمر بن الخطاب، وهو قول مالك. والقول الثاني: أنه لا قصاص بينهم لا في النفس ولا في الجرح وأنهم كالبهائم، وهو قول الحسن وابن شبرمة وجماعة. والثالث: أن القصاص بينهم في النفس دون ما دونها، وبه قال أبو حنيفة والثوري، وروي ذلك عن ابن مسعود. وعمدة الفريق الأول: قوله تعالى: * (والعبد بالعبد) *. وعمدة الحنفية: ما روي عن عمران بن الحصين: أن عبدا لقوم فقراء قطع أذن عبد لقوم أغنياء، فأتوا رسول الله (ص) فلم يقتص منه فهذا هو حكم النفس. القول في الجرح وأما الجرح فيشترط فيه أن يكون على وجه العمد أعني الجرح الذي يجب فيه القصاص، والجرح لا يخلو أن يكون يتلف جارحة من جوارح المجروح أو لا يتلف، فإن كان مما يتلف جارحة فالعمد فيه هو أن يقصد ضرب على وجه الغضب بما جرح غالبا. وأما إن جرحه على وجه اللعب، أو اللعب بما يجرح به غالبا أو على وجه الأدب، فيشبه أن يكون فيه الخلاف الذي يقع في القتل الذي يتولد عن الضرب في اللعب والأدب بما لا يقتل غالبا، فإن أبا حنيفة يعتبر الآلة حتى يقول إن القاتل بالمثقل لا يقتل وهو شذوذ منه، أعني بالخلاف هل فيه القصاص أو الدية إن كان الجرح مما فيه الدية. وأما إن كان الجرح قد أتلف جارحة من جوارح المجروح، فمن شرط القصاص فيه العمد أيضا بلا خلاف، وفي تمييز العمد منه من غير العمد خلاف. أما إذا ضربه على العضو نفسه فقطعه وضربه بآلة تقطع العضو غالبا، أو ضربة على وجه النائرة فلا خلاف أن فيه القصاص. وأما إن ضربه بلطمة أو سوط أو ما أشبه ذلك مما الظاهر منه أنه لم يقصد إتلاف العضو مثل أن يلطمه فيفقأ عينه، فالذي عليه الجمهور أنه شبه العمد ولا قصاص فيه، وفيه الدية مغلظة في ماله، وهي رواية العراقيين عن مالك، والمشهور في المذهب أن ذلك عمد وفيه القصاص، إلا في الأدب مع ابنه، وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إلى أن شبه العمد إنما هو في النفس لا في الجرح. وأما إن جرحه فأتلف عضوا على وجه اللعب ففيه قولان: أحدهما: وجوب القصاص، والثاني: نفيه. وما يجب على هذين القولين ففيه القولان قيل: الدية مغلظة، وقيل دية الخطأ، أعني فيما فيه
332 دية، وكذلك إذا كان على وجه الأدب ففيه الخلاف. وأما ما يجب في جراح العمد إذا وقعت على الشروط التي ذكرنا فهو القصاص لقوله تعالى: * (والجروح قصاص) * وذلك فيما أمكن القصاص فيه منها، وفيما وجد منه محل القصاص ولم يخش منه تلف النفس، وإنما صاروا لهذا لما روي أن رسول الله (ص) رفع القود في المأمومة والمنقلة والجائفة فرأى مالك ومن قال بقوله أن هذا حكم ما كان في معنى هذه من الجراح التي هي متالف، مثل كسر عظم الرقبة والصلب والصدر والفخذ وما أشبه ذلك. وقد اختلف قول مالك في المنقلة، فمرة قال بالقصاص، ومرة قال بالدية، وكذلك الامر عند مالك فيما لا يمكن فيه التساوي في القصاص مثل الاقتصاص من ذهاب بعض النظر أو بعض السمع، ويمنع القصاص أيضا عند مالك عدم المثل مثل أن يفقأ أعمى عين بصير. واختلف من هذا في الأعور يفقأ عين الصحيح عمدا، فقال الجمهور: إن أحب الصحيح أن يستقيد منه فله القود، واختلفوا إذا عفا عن القود، فقال قوم: إن أحب فله الدية كاملة ألف دينار، وهو مذهب مالك، وقيل ليس له إلا نصف الدية، وبه قال الشافعي، وهو أيضا منقول عن مالك، وبقول الشافعي قال ابن القاسم، وبالقول الآخر قال المغيرة من أصحابه وابن دينار. وقال الكوفيون: ليس للصحيح الذي فقئت عينه إلا القود أو ما اصطلحا عليه، وقد لا يستقيد من الأعور وعليه الدية كاملة، روي هذا عن ابن المسيب وعن عثمان وعمدة صاحب هذا القول أن عين الأعور بمنزلة عينين، فمن فقأها في واحدة فكأنه اقتص من اثنين في واحدة، وإلى نحو هذا ذهب من رأى أنه إذا ترك القود أن له دية كاملة، ويلزم حامل هذا القول أن لا يستقيد ضرورة، ومن قال بالقود وجعل الدية نصف الدية فهو أحرز لأصله، فتأمله فإنه بين نفسه، والله أعلم. وأما هل المجروح مخير بين القصاص وأخذ الدية، أم ليس له إلا القصاص فقط إلا أن يصطلحا على أخذ الدية ففيه القولان عن مالك مثل القولين في القتل، وكذلك أحد قولي مالك في الأعور يفقأ عين الصحيح: أن الصحيح يخير بين أن يفقأ عين الأعور أو يأخذ الدية ألف دينار أو خمسمائة على الاختلاف في ذلك. وأما متى يستقاد من الجرح؟ فعند مالك أنه لا يستقاد من جرح إلا بعد اندماله، وعند الشافعي على الفور، فالشافعي تمسك بالظاهر. ومالك رأى أن يعتبر ما يؤول إليه أمر الجرح مخافة أن يقضي إلى إتلاف النفس. اختلف العلماء في المقتص من الجرح يموت المقتص منه من ذلك الجرح، فقال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد: لا شئ على المقتص، وروي عن علي وعمر مثل ذلك، وبه قال أحمد وأبو ثور وداود، وقال أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وجماعة: إذا مات وجب على عاقلة المقتص الدية، وقال
333 بعضهم: هي في ماله. وقال عثمان البتي: يسقط عنه من الدية قدر الجراحة التي اقتص منها، وهو قول ابن مسعود. فعمدة الفريق الأول: إجماعهم على أن السارق إذا مات من قطع يده أنه لا شئ على الذي قطع يده. وعمدة أبي حنيفة: أنه قتل خطأ وجبت فيه الدية، ولا يقاد عند مالك في الحر الشديد ولا البرد الشديد ويؤخر ذلك مخافة أن يموت المقاد منه، وقد قيل: إن المكان شرط في جواز القصاص وهو غير الحرم. فهذا هو حكم العمد في الجنايات على النفس وفي الجنايات على أعضاء البدن، وينبغي أن نصير إلى حكم الخطأ في ذلك. ونبتدئ بحكم الخطأ في النفس.
334 كتاب الديات في النفوس والأصل في هذا الباب قوله تعالى: * (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا) * والديات تختلف في الشريعة بحسب اختلاف الدماء، وبحسب اختلاف الذين تلزمهم الدية، وأيضا تختلف بحسب العمد إذا رضي بها الفريقان، وأما من له القود على ما تقدم من الاختلاف. والنظر في الدية هو في موجبها، أعني في أي قتل تجب، ثم في نوعها وفي قدرها، وفي الوقت الذي تجب فيه، وعلى من تجب. فأما في أي قتل تجب، فإنهم اتفقوا على أنها تجب في قتل الخطأ وفي العمد الذي يكون من غير مكلف مثل المجنون والصبي، وفي العمد الذي تكون حرمة المقتول فيه ناقصة عن حرمة القاتل، مثل الحر والعبد. ومن قتل الخطأ ما اتفقوا على أنه خطأ، ومنه ما اختلفوا فيه، وقد تقدم صدر من ذلك، وسيأتي بعد ذلك اختلافهم في تضمين الراكب والسائق والقائد. وأما قدرها ونوعها، فإنهم اتفقوا على أن دية الحر المسلم على أهل الإبل مائة من الإبل، وهي في مذهب مالك ثلاث ديات: دية الخطأ، ودية العمد إذا قبلت، ودية شبه العمد. وهي عند مالك في الأشهر عنه مثل فعل المدلجي بابنه. وأما الشافعي فالدية عنده اثنان فقط: مخففة ومغلظة. فالمخففة دية الخطأ، والمغلظة دية العمد ودية شبه العمد. وأما أبو حنيفة فالديات عنده اثنان أيضا: دية الخطأ ودية شبه العمد، وليس عنده دية في العمد وإنما الواجب عنده في العمد ما اصطلحا عليه وهو حال عليه غير مؤجل، وهو معنى قول مالك المشهور، لأنه إذا لم تلزمه الدية عنده إلا باصطلاح فلا معنى لتسميتها دية، إلا ما روي عنه أنها تكون مؤجلة كدية الخطأ فهنا يخرج حكمها عن حكم المال المصطلح عليه، ودية العمد عنده أرباع: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وهو قول ابن شهاب وربيعة، والدية المغلظة عنده أثلاثا: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة وهي الحوامل، ولا تكون المغلظة عنده في المشهور إلا في مثل فعل المدلجي بابنه، وعند الشافعي أنها تكون في شبه العمد أثلاثا
335 أيضا، وروي ذلك أيضا عن عمر وزيد بن ثابت، وقال أبو ثور: الدية في العمد إذا عفا ولي الدم أخماسا كدية الخطأ. واختلفوا في أسنان الإبل في دية الخطأ، فقال مالك والشافعي: هي أخماس: عشرون ابنة مخاض، وعشرون ابنة لبون، وعشرون ابن لبون ذكرا، وعشرون حقة، وعشر وجذعة، وهو مروي عن ابن شهاب وربيعة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، أعني التخميس، إلا أنهم جعلوا مكان ابن لبون ذكر: ابن مخاض ذكرا، وروي عن ابن مسعود الوجهان جميعا، وروي عن سيدنا علي أنه جعلها أرباعا، أسقط منها الخمس والعشرين بني لبون. وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز، ولا حديث في ذلك مسند، فدل على الإباحة - والله أعلم - كما قال أبو عمر بن عبد البر. وخرج البخاري والترمذي عن ابن مسعود عن النبي (ص) أنه قال: في دية الخطأ عشرون ابن مخاض ذكور وعشرون بنات لبون وعشرون جذعة وعشرون حقة واعتل لهذا الحديث أبو عمر بأنه روي عن حنيف بن مالك عن ابن مسعود وهو مجهول قال: وأحب إلي في ذلك الرواية عن علي، لأنه لم يختلف في ذلك عليه كما اختلف على ابن مسعود. وخرج أبو داود عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله (ص) قضى أن من قتل خطأ فديته مائة من الإبل: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشرة بني لبون ذكر قال أبو سليمان الخطابي: هذا الحديث لا أعرف أحدا من الفقهاء المشهورين قال به وإنما قال أكثر العلماء إن دية الخطأ أخماس، وإن كانوا اختلفوا في الأصناف، وقد روي أن دية الخطأ مربعة عن بعض العلماء وهم الشعبي والنخعي والحسن البصري، وهؤلاء جعلوها: خمسا وعشرين جذعة، وخمسا وعشرين حقة، وخمسا وعشرين بنات لبون، وخمسا وعشرين بنات مخاض، كما روي عن علي وخرجه أبو داود. وإنما صار الجمهور إلى تخميس دية الخطأ: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون بني مخاض ذكر، وإن كان لم يتفقوا على بني المخاض، لأنها لم تذكر في أسنان فيها، وقياس من أخذ بحديث التخميس في الخطأ وحديث التربيع في شبه العمد إن ثبت هذا. النوع الثالث أن يقول في دية العمد بالتثليث كما قد روي ذلك عن الشافعي، ومن لم يقل بالتثليث شبه العمد بما دونه. فهذا هو مشهور أقاويلهم في الدية التي تكون من الإبل على أهل الإبل. وأما أهل الذهب والورق فإنهم اختلفوا أيضا فيما يجب من ذلك عليهم، فقال مالك: على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم، وقال أهل العراق: على أهل الورق عشرة آلاف درهم، وقال الشافعي بمصر: لا يؤخذ من أهل الذهب ولا من أهل الورق إلا قيمة الإبل بالغة ما بلغت، وقوله بالعراق مثل قول مالك. وعمدة مالك: تقويم عمر بن الخطاب المائة من الإبل على أهل الذهب بألف دينار، وعلى أهل الورق باثني
336 عشر ألف درهم. وعمدة الحنفية: ما رووا أيضا عن عمر أنه قوم الدينار بعشرة دراهم، وإجماعهم على تقويم المثقال بها في الزكاة. وأما الشافعي فيقول: إن الأصل في الدية إنما هو مائة بعير، وعمر إنما جعل فيها ألف دينار على أهل الذهب، واثني عشر ألف درهم على أهل الورق، لان ذلك كان قيمة الإبل من الذهب والورق في زمانه، والحجة له ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: كانت الديات على عهد رسول الله (ص) ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين. قال: فكان ذلك حتى استخلف عمر، فقام خطيبا فقال: إن الإبل غلت، ففرضها عمر على أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وعلى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، وترك دية أهل الذمة لم يرفع فيها شيئا. واحتج بعض الناس لمالك لأنه لو كان تقويم عمر بدلا لكان ذلك دينا بدين، لإجماعهم أن الدية في الخطأ مؤجلة لثلاث سنين، ومالك وأبو حنيفة وجماعة متفقون على أن الدية لا تؤخذ إلا من الإبل أو الذهب أو الورق. وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن والفقهاء السبعة المدنيون: يوضع على أهل الشاة ألفا شاة، وعلى أهل البقر مائتا بقرة، وعلى أهل البرود مائتا حلة وعمدتهم حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده المتقدم، وما أسنده أبو بكر بن أبي شيبة عن عطاء أن رسول الله (ص) وضع الدية على الناس في أموالهم ما كانت على أهل الإبل مائة بعير، وعلى أهل الشاة ألف شاة، وعلى أهل البقر مائتا بقرة، وعلى أهل البرود مائة حلة وما روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى الأجناد أن الدية كانت على عهد رسول الله (ص) مائة بعير. قال: فإن كان الذي أصابه من الاعراب فديته من الإبل لا يكلف الاعرابي الذهب ولا الورق، فإن لم يجد الاعرابي مائة من الإبل فعدلها من الشاة ألف شاة. ولان أهل العراق أيضا رووا عن عمر مثل حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نصا. وعمدة الفريق الأول: أنه لو جاز أن تقوم بالشاة والبقر لجاز أن تقوم بالطعام على أهل الطعام، وبالخيل على أهل الخيل، وهذا لا يقول به أحد. والنظر في الدية كما قلت هو في نوعها، وفي مقدارها، وعلى من تجب، وفيما تجب، ومتى تجب؟ أما نوعها ومقدارها فقد تكلمنا فيه في الذكور الأحرار المسلمين. وأما على من تجب؟ فلا خلاف بينهم أن دية الخطأ تجب على العاقلة وأنه حكم مخصوص من عموم قوله تعالى: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * ومن قوله عليه الصلاة والسلام لأبي رمثة وولده: لا يجني عليك ولا تجني عليه. وأما دية العمد فجمهورهم على أنها ليست على العاقلة لما روي عن ابن عباس - ولا مخالف له من
337 الصحابة - أنه قال: لا تحمل العاقلة عمدا ولا اعترافا ولا صلحا في عمد. وجمهورهم على أنها لا تحمل من أصاب نفسه خطأ، وشذ الأوزاعي فقال: من ذهب يضرب العدو فقتل نفسه فعلى عاقلته الدية، وكذلك عندهم في قطع الأعضاء. وروي عن عمر أن رجلا فقأ عين نفسه خطأ، فقضى له عمر بديتها على عاقلته. واختلفوا في دية شبه العمد، وفي الدية المغلظة على قولين: واختلفوا في دية ما جناه المجنون والصبي على من تجب؟ فقال مالك وأبو حنيفة وجماعة: إنه كله يحمل على العاقلة، وقال الشافعي عمد الصبي في ماله. وسبب اختلافهم: تردد فعل الصبي بين العامد والمخطئ، فمن غلب عليه شبه العمد أوجب الدية في ماله، ومن غلب عليه شبه الخطأ أوجبها على العاقلة، وكذلك اختلفوا إذا اشترك في القتل عامد وصبي، والذين أوجبوا على العامد القصاص وعلى الصبي الدية اختلفوا على من تكون؟ فقال الشافعي: على أصله في مال الصبي، وقال مالك: على العاقلة، وأما أبو حنيفة فيرى أن لا قصاص بينهما. وأما متى تجب؟ فإنهم اتفقوا على أن دية الخطأ مؤجلة في ثلاث سنين، وأما دية العمد فحالة إلا أن يصطلحا على التأجيل. وأما من هم العاقلة؟ فإن جمهور العلماء من أهل الحجاز اتفقوا على أن العاقلة هي القرابة من قبل الأب، وهم العصبة دون أهل الديوان، وتحمل الموالي العقل عند جمهورهم إذا عجزت عنه العصبة، إلا داود فإنه لم ير الموالي عصبة، وليس فيما يجب على واحد واحد منهم حد عند مالك، وقال الشافعي: على الغني دينار وعلى الفقير نصف دينار، وهي عند الشافعي مرتبة على القرابة بحسب قربهم، فالأقرب من بني أبيه، ثم من بني جده، ثم من بني بني أبيه، وقال أبو حنيفة وأصحاب: العاقلة هم أهل ديوانه إن كان من أهل ديوان. وعمدة أهل الحجاز: أنه تعاقل الناس في زمان رسول الله (ص) وفي زمان أبي بكر ولم يكن هناك ديوان، وإنما كان الديوان في زمن عمر بن الخطاب. واعتمد الكوفيون حديث جبير بن مطعم عن النبي (ص) أنه قال: لا حلف في الاسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية فلا يزيده الاسلام إلا قوة. وبالجملة فتمسكوا في ذلك بنحو تمسكهم في وجوب الولاء للحلفاء. واختلفوا في جناية من لا عصبة له ولا موالي وهم السائبة إذا جنوا خطأ هل يكون عليه عقل أم لا؟ وإن كان فعلى من يكون؟ فقال من لم يجعل لهم موالي: ليس على السائبة عقل، وكذلك من لم يجعل العقل على الموالي، وهو داود وأصحابه. وقال: من جعل ولاءه لمن أعتقه عليه عقله، وقال: من جعل ولاءه للمسلمين عقله في بيت المال، ومن قال إن للسائبة أن يوالي من شاء جعل عقله لمن ولاه، وكل هذه الأقاويل قد حكيت عن السلف. والديات تختلف بحسب اختلاف المودي فيه، والمؤثر في نقصان الدية هي الأنوثة والكفر والعبودية. وأما دية المرأة فإنهم اتفقوا على أنها على النصف من دية الرجل في النفس فقط. واختلفوا فيما دون النفس من
338 الشجاج والأعضاء على ما سيأتي القول فيه في ديات الجروح والأعضاء. أما دية أهل الذمة إذا قتلوا خطأ، فإن للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أن ديتهم على النصف من دية المسلم: ذكرانهم على النصف من ذكران المسلمين، ونساؤهم على النصف من نسائهم، وبه قال مالك وعمر بن عبد العزيز، وعلى هذا تكون دية جراحهم على النصف من دية المسلمين. والقول الثاني: أن ديتهم ثلث دية المسلم، وبه قال الشافعي، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وقال به جماعة من التابعين. والقول الثالث: أن ديتهم مثل دية المسلمين، وبه قال أبو حنيفة والثوري وجماعة. وهو مروي عن ابن مسعود، وقد روي عن عمر وعثمان، وقال به جماعة من التابعين. فعمدة الفريق الأول ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي (ص) أنه قال: دية الكافر على النصف من دية المسلم وعمدة الحنفية عموم قوله تعالى: * (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة) *. ومن السنة ما رواه معمر عن الزهري قال: دية اليهودي والنصراني وكل ذمي مثل دية المسلم. قال: وكانت على عهد رسول الله (ص) وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي حتى كان معاوية، فجعل في بيت المال نصفها، وأعطى أهل المقتول نصفها، ثم قضى عمر بن عبد العزيز بنصف الدية وألغى الذي جعله معاوية في بيت المال. قال الزهري: فلم يقض لي أن أذكر بذلك عمر بن عبد العزيز فأخبره أن الدية كانت تامة لأهل الذمة. وأما إذا قتل العبد خطأ أو عمدا على من لا يرى القصاص فيه، فقال قوم: عليه قيمته بالغة ما بلغت وإن زادت على دية الحر، وبه قال مالك والشافعي وأبو يوسف، وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وقال أبو حنيفة ومحمد: لا يتجاوز بقيمة العبد الدية، وقالت طائفة من فقهاء الكوفة: فيه الدية، ولكن لا يبلغ به دية الحر ينقص منها شيئا. وعمدة الحنفية: أن الرق حال نقص، فوجب أن لا تزيد قيمته على دية الحر. وعمدة من أوجب فيه الدية ولكن ناقصة عن دية الحر أنه مكلف ناقص، فوجب أن يكون الحكم ناقصا عن الحر لكن واحدا بالنوع أصله الحد في الزنا والقذف والخمر والطلاق، ولو قيل فيه: إنها تكون على النصف من دية الحر لكان قولا له وجه: أعني في دية الخطأ، لكن لم يقل به أحد. وعمدة مالك: أنه مال قد أتلف فوجب فيه القيمة، أصله سائر الأموال. واختلف في الواجب في العبد على من يجب؟ فقال أبو حنيفة: هو على عاقلة القاتل، وهو الأشهر عن الشافعي، وقال مالك: هو على القاتل نفسه. وعمدة مالك: تشبيه العبد بالعروض،. وعمدة الشافعي: قياسه على الحر. ومما يدخل في هذا الباب من أنواع الخطأ دية الجنين، وذلك لان سقوط الجنين
339 عن الضرب ليس هو عمدا محضا، وإنما هو عمد في أمه خطأ فيه. والنظر في هذا الباب هو أيضا في الواجب في ضروب الأجنة وفي صفة الجنين الذي يجب فيه الواجب، وعلى من تجب، ولمن يجب، وفي شروط الوجود. فأما الأجنة فإنهم اتفقوا على أن الواجب في جنين الحرة وجنين الأمة من سيدها هو غرة لما ثبت ت عنه (ص) من حديث أبي هريرة وغيره أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها، فقضى فيه رسول الله (ص) بغرة: عبد أو وليدة واتفقوا على أن قيمة الغرة الواجبة في ذلك عند من رأى أن الغرة في ذلك محدودة بالقيمة وهو مذهب الجمهور هي نصف عشر دية أمه، إلا أن من رأى أن الدية الكاملة على أهل الدراهم هي عشرة آلاف درهم قال: دية الجنين خمسمائة درهم. ومن رأى أنها اثنا عشر ألف درهم قال: ستمائة درهم، والذين لم يحدوا في ذلك حدا أو لم يحدوها من جهة القيمة وأجازوا اخراج قيمتها عنها قالوا: الواجب في ذلك قيمة الغرة بالغر ما بلغت، وقال داود وأهل الظاهر: كل ما وقع عليه اسم غرة أجزأ، ولا يجزئ عنده القيمة في ذلك فيما أحسب. واختلفوا في الواجب في جنين الأمة وفي جنين الكتابية. فذهب مالك والشافعي إلى أن جنين الأمة عشر قيمة أمه ذكرا كان أو أنثى يوم يجنى عليه، وفرق قوم بين الذكر والأنثى. فقال قوم: إن كان أنثى فيه عشر قيمة أمه، وإن كان ذكرا فعشر قيمته لو كان حيا. وبه قال أبو حنيفة، ولا خلاف عندهم أن جنين الأمة إذا سقط حيا أن فيه قيمته، وقال أبو يوسف: في جنين الأمة إذا سقط ميتا منها ما نقص من قيمة أمه. أما جنين الذمية، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: فيه عشر دية أمه، لكن أبو حنيفة على أصله في أن دية الذمي ثلث دية المسلم، والشافعي على أصله في أن دية الذمي ثلث دية المسلم، ومالك على أصله في أن دية الذمي نصف دية المسلم. وأما صفة الجنين الذي تجب فيه فإنهم اتفقوا على أن من شروطه أن يخرج الجنين ميتا ولا تموت أمه من الضرب. واختلفوا إذا ماتت أمه من الضرب ثم سقط الجنين ميتا، فقال الشافعي ومالك: لا شئ فيه، وقال أشهب: فيه الغرة، وبه قال الليث وربيعة والزهري واختلفوا من هذا الباب في فروع، وهي العلامة التي تدل على سقوطه حيا أو ميتا. فذهب مالك وأصحابه إلى أن علامة الحياة الاستهلال بالصياح أو البكاء، وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأكثر الفقهاء: كل ما علمت به الحياة في العادة من حركة أو عطاس أو تنفس فأحكامه أحكام الحي. وهو الأظهر. واختلفوا من هذا الباب في الخلقة التي توجب الغرة، فقال مالك: كل ما طرحته من مضغة أو علقة مما يعلم أنه ولد ففيه الغرة، وقال الشافعي: لا شئ فيه حتى تستبين الخلقة. والأجود أن يعتبر نفخ الروح فيه، أعني أن يكون تجب فيه الغرة إذا علم أن الحياة قد كانت وجدت فيه. وأما على من تجب؟ فإنهم اختلفوا في ذلك، فقالت طائفة منهم مالك والحسن بن حي والحسن البصري: هي في
340 مال الجاني، وقال آخرون: هي على العاقلة، وممن قال بذلك الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجماعة. وعمدتهم أنها جناية خطأ فوجبت على العاقلة. وما روي أيضا عن جابر بن عبد الله: أن النبي (ص) جعل في الجنين غرة على عاقلة الضارب وبدأ بزوجها وولدها. وأما مالك فشبهها بدية العمد إذا كان الضرب عمدا. وأما لمن تجب؟ فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: هي لورثة الجنين، وحكمها حكم الدية في أنها موروثة، وقال ربيعة والليث: هي للأم خاصة، وذلك أنهم شبهوا جنينها بعضو من أعضائها، ومن الواجب الذي اختلفوا فيه في الجنين مع وجوب الغرة وجوب الكفارة، فذهب الشافعي إلى أن فيه الكفارة واجبة، وذهب أبو حنيفة إلى أنه ليس فيه كفارة، واستحسنها مالك ولم يوجبها فأما الشافعي فإنه أوجبها لان الكفارة عنده واجبة في العمد والخطأ، وأما أبو حنيفة فإن غلب عليه حكم العمد، والكفارة لا تجب عنده في العمد. وأما مالك فلما كانت الكفارة لا تجب عنده في العمد وتجب في الخطأ، وكان هذا مترددا عنده بين العمد والخطأ استحسن فيه الكفارة ولم يوجبها. ومن أنواع الخطأ المختلف فيه، اختلافهم في تضمين الراكب والسائق والقائد، فقال الجمهور: هم ضامنون لما أصابت الدابة، واحتجوا في ذلك بقضاء عمر على الذي أجرى فرسه فوطئ آخر بالعقل. وقال أهو الظاهر: لا ضمان على أحد في جرح العجماء، واعتمدوا الأثر الثابت فيه عنه (ص من حديث أبي هريرة أنه قال عليه الصلاة والسلام: جرح العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس فحمل الجمهور الحديث على أنه إذا لم يكن للدابة راكب ولا سائق ولا قائد، لأنهم رأوا أنه إذا أصابت الدابة أحدا وعليها راكب أو لها قائد أو سائق، فإن الراكب لها أو السائق أو القائد هو المصيب ولكن خطأ. واختلف الجمهور فيما أصابت الدابة برجلها، فقال مالك: لا شئ فيه إن لم يفعل صاحب الدابة بالدابة شيئا يبعثها به على أن ترمح برجلها، وقال الشافعي: يضمن الراكب ما أصابت بيدها أو برجلها، وبه قال ابن شبرمة وابن أبي ليلى، وسويا بين الضمان برجلها أو بغير رجلها، وبه قال أبو حنيفة، إلا أنه استثنى الرمحة بالرجل أو بالذنب، وربما احتج من لم يضمن رجل الدابة بما روي عنه (ص) الرجل جبار ولم يصح هذا الحديث عند الشافعي، ورده. وأقاويل العلماء فيمن حفر بئرا فوقع فيه انسان متقاربة، وقال مالك: إن حفر في موضع جرت العادة الحفر في مثله لم يضمن وإن تعدى في الحفر ضمن، وقال الليث: إن حفر في أرض يملكها لم يضمن وإن حفر فيما لا يملك ضمن، فمن ضمن عنده فهو من نوع الخطأ. وكذلك اختلفوا في الدابة الموقوفة، فقال بعضهم: إن أوقفها بحيث يجب له أن يوقفها لم يضمن، وإن لم يفعل ضمن، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: يضمن على كل حال، وليس يبرئه أن يربطها بموضع يجوز له أن يربطها فيه، كما لا يبرئه ركوبها من ضمان ما أصابته وإن
341 كان الركوب مباحا. واختلفوا في الفارسين يصطدمان فيموت كل واحد منهما، فقال مالك وأبو حنيفة وجماعة: على كل واحد منهما دية الآخر وذلك على العاقلة، وقال الشافعي وعثمان البتي: على كل واحد منهما نصف دية صاحبه، لان كل واحد منهما مات من فعل نفسه وفعل صاحبه. وأجمعوا على أن الطبيب إذا أخطأ لزمته الدية. مثل أن يقطع الحشفة في الختان، وما أشبه ذاك، لأنه في معنى الجاني خطأ، وعن مالك رواية: أنه ليس عليه شئ، وذلك عنده إذا كان من أهل الطب، ولا خلاف أنه إذا لم يكن من أهل الطب أنه يضمن لأنه متعد، وقد ورد في ذلك مع الاجماع حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله (ص) قال: من تطبب ولم يعلم منه قبل ذلك الطب فهو ضامن والدية فيما أخطأه الطبيب عند الجمهور على العاقلة، ومن أهل العلم من جعله في مال الطبيب، ولا خلاف أنه إذا لم يكن من أهل الطب أنها في ماله على ظاهر حديث عمرو بن شعيب. ولا خلاف بينهم أن الكفارة التي نص الله عليها في قتل الحر خطأ واجبة. واختلفوا في قتل العمد هل فيه كفارة؟ وفي قتل العبد خطأ، فأوجبها مالك في قتل الحر فقط في الخطأ دون العمد، وأوجبها الشافعي في العمد من طريق الأولى والأحرى، وعند مالك أن العمد في هذا حكمه حكم الخطأ. واختلفوا في تغليظ الدية في الشهر الحرام وفي البلد الحرام، فقال مالك وأبو حنيفة وابن أبي ليلى: لا تغلظ الدية فيهما، وقال الشافعي: تغلظ فيهما في النفس وفي الجراح، وروي عن القاسم بن محمد وابن شهاب وغيرهم أنه يزاد فيها مثل ثلثها، وروي ذلك عن عمر، وكذلك عند الشافعي من قتل ذا رحم محرم. وعمدة مالك وأبي حنيفة: عموم الظاهر في توقيت الديات، فمن ادعى في ذلك تخصيصا فعليه الدليل مع أنهم قد أجمعوا على أنه لا تغلظ الكفارة فيمن قتل فيهما. وعمدة الشافعي: أن ذلك مروي عن عمر وعثمان وابن عباس، وإذا روي عن الصحابة شئ مخالف للقياس وجب حمله على التوقيف، ووجه مخالفته للقياس أن التغليظ فيما وقع خطأ بعيد عن أصول الشرع، وللفريق الثاني أن يقول إنه قد ينقدح في ذلك قياس لما ثبت في الشرع من تعظيم الحرم واختصاصه بضمان الصيود فيه.
342 كتاب الديات فيما دون النفس والأشياء التي تجب فيها الدية فيما دون النفس هي شجاج وأعضاء، فلنبدأ بالقول في الشجاج، والنظر في هذا الباب في محل الوجوب وشرطه وفي قدره الواجب، وعلى من تجب؟ ومتى تجب؟ ولمن تجب؟ فأما محل الوجوب فهي الشجاج أو قطع الأعضاء، والشجاج عشرة في اللغة والفقه: أولها الدامية وهي التي تدمي الجلد، ثم الجارحة وهي التي تشق الجلد، ثم الباضعة وهي التي تبضع الحم: أي تشقه، ثم المتلاحمة وهي التي أخذت في اللحم، ثم السمحاق وهي التي تبلغ السمحاق وهو الغشاء الرقيق بين اللحم والعظم ويقال لها: الملطاء بالمد والقصر، ثم الموضحة وهي التي توضح العظم: أي تكشفه، ثم الهاشمة وهي التي تهشم العظم، ثم المنقلة وهي التي يطير العظم منها، ثم المأمومة وهي التي تصل أم الدماغ، ثم الجائفة وهي التي تصل إلى الجوف، وأسماء هذه الشجاج مختصة بما وقع بالوجه منها والرأس دون سائر البدن، واسم الجرح يختص بما وقع في البدن، فهذه أسماء هذه الشجاج. فأما أحكامها أعني الواجب فيها، فاتفق العلماء على أن العقل واقع في عمد الموضحة وما دون الموضحة خطأ. واتفقوا على أنه ليس فيما دون الموضحة خطأ عقل، وإنما فيها حكومة، قال بعضهم: أجرة الطبيب، إلا ما روي عن عمر وعثمان أنهما قضيا في السمحاق بنصف دية الموضحة، وروي عن علي أنه قضى فيها بأربع من الإبل، وروي عن زيد بن ثابت أنه قال: في الدامية بعير، وفي الباضعة بعيران، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة، وفي السمحاق أربعة، والجمهور من فقهاء الأمصار على ما ذكرنا، وذلك أن الأصل في الجراح الحكومة إلا ما وقتت فيه السنة حدا، ومالك يعتبر في إلزام الحكومة فيما دون الموضحة أن تبرأ على شين، والغير من فقهاء الأمصار يلزم فيها الحكومة برئت على شين أو لم تبرأ، فهذه هي أحكام ما دون الموضحة. وأما الموضحة فجميع الفقهاء على أن فيها إذا كانت خطأ خمسا من الإبل، وثبت ذلك عن رسول الله (ص) في كتابه لعمرو بن حزم، ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي (ص) قال في الموضحة خمس يعني من الإبل. واختلف العلماء في موضع الموضحة من الجسد بعد اتفاقهم على ما قلنا، أعني على وجوب القصاص في العمد ووجوب الدية في الخطأ منها، فقال مالك: لا تكون الموضحة إلا في جهة الرأس والجبهة والخدين واللحى الأعلى، ولا تكون في اللحى
343 الأسفل لأنه في حكم العنق ولا في الانف، وإما الشافعي وأبو حنيفة فالموضحة عندهما في جميع الوجه والرأس، والجمهور على أنها لا تكون في الجسد وقال الليث وطائفة: تكون الموضحة في الجنب، وقال الأوزاعي: إذا كانت في الجسد كانت على النصف من ديتها في الوجه والرأس. وروي عن عمر أنه قال: في موضحة الجسد نصف عشر دية ذلك العضو. وغلظ بعض العلماء في موضحة الوجه تبرأ على شين، فرأى فيها مثل نصف عقلها زائدا على عقلها، وروي ذلك مالك عن سليمان بن يسار، واضطرب قول مالك في ذلك، فمرة قال بقول سليمان بيسار، ومرة قال: لا يزاد فيها على عقلها شئ، وبه قال الجمهور، وقد قيل عن مالك إنه قال: إذا شانت الوجه كان فيها حكومة من غير توقيف، ومعنى الحكومة عند مالك ما نقص من قيمته أن لو كان عبدا. وأما الهاشمة ففيها عند الجمهور عشر الدية، وروي ذلك عن زيد بن ثابت، ولا مخالف له من الصحابة، وقال بعض العلماء: الهاشمة هي المنقلة وشذ. وأما المنقلة فلا خلاف أن فيها عشر الدية ونصف العشر إذا كانت خطأ، فأما إذا كانت عمدا، فجمهور العلماء على أن ليس فيها قود لمكان الخوف. وحكي عن ابن الزبير أنه أقاد منها ومن المأمومة. وأما الهاشمة في العمد، فروى ابن القاسم عن مالك أنه ليس فيها قود. ومن أجاز القود من المنقلة كان أحرى أن يجيز ذلك من الهاشمة. وأما الجائفة فلا خلاف أنه لا يقاد منها وأن فيها ثلث الدية إلا ما حكي عن ابن الزبير. وأما الجائفة فاتفقوا على أنها من جراح الجسد لا من جراح الرأس وأنها لا يقاد منها وأن فيها ثلث الدية وأنها جائفة متى وقعت في الظهر والبطن. واختلفوا إذا وقعت في غير ذلك من الأعضاء فنفذت إلى تجويفه، فحكى مالك عن سعيد بن المسيب أن في كل جراحة نافذة إلى تجويف عضو من الأعضاء - أي عضو كان - ثلث دية ذلك العضو. وحكى ابن شهاب أنه كان لا يرى ذلك، وهو الذي اختاره مالك لان القياس عنده في هذا لا يسوغ، وإنما سنده في ذلك الاجتهاد من غير توقيف. وأما سعيد فإنه قاس ذلك على الجائفة على نحو ما روي عن عمر في موضحة الجسد. وأما الجراحات التي تقع في سائر الجسد، فليس في الخطأ منها إلا الحكومة. القول في ديات الأعضاء والأصل فيما فيه من الأعضاء إذا قطع خطأ مال محدود، وهو الذي يسمى دية، وكذلك من الجراحات والنفوس حديث عمرو بن حزم عن أبيه أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله (ص) لعمرو بن حزم في العقول أن في النفس مائة من الإبل، وفي الانف إذا استوعب جذعا مائة من الإبل، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة مثلها وفي العين خمسون، وفي اليد خمسون وفي الرجل خمسون، وفي كل أصبع مما هنالك عشر من الإبل، وفي السن والموضحة خمس وكل هذا مجمع عليه إلا السن والابهام، فإنهم
344 اختلفوا فيها على ما سنذكره. ومنها ما اتفقوا عليه مما لم يذكر ههنا قياسا علما ذكر فنقول: إن العلماء أجمعوا على أن في الشفتين الدية كاملة، والجمهور على أن في كل واحدة منهما نصف الدية، وروي عن قوم من التابعين أن السفلى ثلثي الدية لأنها تحبس الطعام والشراب، وبالجملة فإن حركتها والمنفعة بها أعظم من حركة الشفة العليا، وهو مذهب زيد بن ثابت. وبالجملة فجماعة العلماء وأئمة الفتوى متفقون على أن في كل زوج من الانسان الدية ما خلا الحاجبين وثديي الرجل. واختلفوا في الاذنين متى تكون فيهما الدية؟ فقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري والليث: إذا اصطلمتا كان فيهما الدية، ولم يشترطوا إذهاب السمع، بل جعلوا في ذهاب السمع الدية مفردة. وأما مالك فالمشهور عنده أنه لا تجب في الاذنين الدية إلا إذا ذهب سمعهما، فإن لم يذهب ففيه حكومة، وروي عن أبي بكر أنه قضى في الاذنين بخمس عشرة من الإبل وقال: إنهما لا يضران السمع ويسترهما الشعر أو العمامة. وروي عن عمر وعلي وزيد أنهم قضوا في الاذن إذا اصطلمت نصف الدية. وأما الجمهور من العلماء فلا خلاف عندهم أن في الذهاب السمع الدية. وأما الحاجبان ففيهما عند مالك والشافعي حكومة، وقال أبو حنيفة: فيهما الدية، وكذلك في أشفار العين، وليس عند مالك في ذلك إلا حكومة. وعمدة الحنفية: ما روي عن ابن مسعود أنه قال: في كل اثنين من الانسان الدية وتشبيههما بما أجمعوا عليه من الأعضاء المثناة. وعمدة مالك: أنه لا مجال فيه للقياس وإنما طريقه التوقيف، فما لم يثبت من قبل السماع دية فالأصل أن فيه حكومة، وأيضا فإن الحواجب ليست أعضاء لهما منفعة ولا فعل بين - أعني ضروريا في الخلقة. وأما الأجفان فقيل في كل جفن منها ربع الدية، وبه قال الشافعي والكوفي، لأنه لا بقاء للعين دون الأجفان، وفي الجفنين الأسفلين عند غيرهما الثلث وفي الأعليين الثلثان. وأجمعوا على أن من أصيب من أطرافه أكثر من ديته أن له ذلك، مثل أن تصاب عيناه وأنفه فله ديتان. وأما الأنثيان فأجمعوا أيضا على أن فيهما الدية، وقال جميعهم: إن في كل واحدة منهما نصف الدية، إلا ما روي عن سعيد بن المسيب أنه قال: في البيضة اليسرى ثلثا الدية لان الولد يكون منها وفي اليمنى ثلث الدية، فهذه مسائل الأعضاء المزدوجة. وأما المفردة فإن جمهورهم على أن في اللسان خطأ الدية، وذلك مروي عن النبي (ص)، وذلك إذا قطع كله أو قطع منه ما يمنع الكلام، فإن لم يقطع منه ما منع الكلام ففيه حكومة. واختلفوا في القصاص فيه عمدا، فمنهم من لم ير فيه قصاصا وأوجب الدية، وهم مالك والشافعي والكوفي، لكن الشافعي يرى الدية في مال الجاني، والكوفي ومالك على العاقلة، وقال الليث وغيره: في اللسان عمدا القصاص وأما الانف فأجمعوا على أنه إذا أوعب جذعا على أن فيه الدية على ما في الحديث وسواء عند مالك
345 ذهب الشم أو لم يذهب، وعنده أنه إذا ذهب أحدهما ففيه الدية، وفي ذهاب أحدهما بعد الآخر الدية الكاملة. وأجمعوا على أن في الذكر الصحيح الذي يكون به الوطئ الدية كاملة. واختلفوا في ذكر العنين والخصي، كما اختلفوا في لسان الأخرس وفي اليد الشلاء، فمنهم من جعل فيها الدية، ومنهم من جعل فيها حكومة، ومنهم من قال: في ذكر الخصي والعنين ثلث الدية، والذي عليه الجمهور أن فيه حكومة. وأقل ما تجب فيه الدية عند مالك قطع الحشفة، ثم في باقي الذكر حكومة، وأما عين الأعور فللعلماء فيه قولان: أحدهما أن فيه الدية كاملة وإليه ذهب مالك وجماعة من أهل المدينة، وبه قال الليث، وقضى به عمر بن عبد العزيز، وهو قول ابن عمر، وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري: فيها نصف الدية كما في عين الصحيح، وهو مروي عن جماعة من التابعين. وعمدة الفريق الأول: أن العين الواحدة للأعور بمنزلة العينين جميعا لغير الأعور، وعمدة الفريق الثاني: حديث عمرو بن حزم: أعني عموم قوله: وفي العين نصف الدية وقياسا أيضا على إجماعهم أنه ليس على من قطع يد من له يد واحدة إلا نصف الدية. فسبب اختلافهم في هذا: معارضة العموم للقياس، ومعارضة القياس للقياس. ومن أحسن ما قيل فيمن ضرب عين رجل فأذهب بعض بصرها ما روي من ذلك عن علي رضي الله عنه أنه أمر بالذي أصيب بصره بأن عصبت عينه الصحيحة، وأعطى رجلا بيضة فانطلق بها وهو ينظر إليها حتى لم يبصرها، فخط عند أول ذلك خطا في الأرض ثم أمر بعينه المصابة فعصبت وفتحت الصحيحة، وأعطى رجلا البيضة بعينها فانطلق بها وهو ينظر إليها حتى خفيت عنه، فخط أيضا عند أول ما خفيت عنه في الأرض خطا، ثم علم ما بين الخطين من المسافة، وعلم مقدار ذلك من منتهى رؤية العين الصحيحة، فأعطاه قدر ذلك من الدية. ويختبر صدقه في مسافة إدراك العين العليلة والصحيحة بأن يختبر ذلك منه مرارا شتى في مواضع مختلفة، فإن خرجت مسافة تلك المواضع التي ذكر واحدة علمنا أنه صادق. واختلف العلماء في الجناية على العين القائمة الشكل التي ذهب بصرها. فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: فيها حكومة، وقال زيد بن ثابت: فيها عشر الدية مائة دينار، وحمل ذلك الشافعي على أنه كان ذلك من زيد تقويما لا تفويتا. وروي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس أنهما قضيا في العين القائمة الشكل واليد الشلاء والسن السوداء في كل واحدة منها ثلث الدية. وقال مالك: تتم دية السن باسودادها ثم في قلعها بعد اسودادها دية. واختلف العلماء في الأعور يفقأ عين الصحيح عمدا، فقال الجمهور إن لم يعف فله القود، وإن عفا فله الدية، قال قوم: كاملة، وقال قوم: نصفها، وبه قال الشافعي وابن القاسم، وبكلا القولين قال مالك: وبالدية كاملة قال المغيرة من أصحابه وابن دينار. وقال الكوفيون: ليس للصحيح الذي فقئت عينه إلا القود أو ما اصطلحوا عليه. وعمدة من رأى
346 جميع الدية عليه إذا عفا عن القود أنه يجب عليه دية ما ترك له وهي العين العوراء، وهي دية كاملة عند كثير من أهل العلم. ومذهب عمر وعثمان وابن عمر أن عين الأعور إذا فقئت وجب فيها ألف دينار، لأنها في حقه في معنى العينين كلتيهما إلا العين الواحدة، فإذ تركها له وجبت عليه ديتها. وعمدة أولئك: البقاء على الأصل، أعني أن في العين الواحدة نصف الدية. وعمدة أبي حنيفة: أن العمد ليس فيه دية محدودة، وهذه المسألة قد ذكرت في باب القود في الجراح. وقال جمهور العلماء وأئمة الفتوى: مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وغيرهم: إن في كل أصبع عشرا من الإبل وإن الأصابع في ذلك سواء وإن في كل أنملة ثلث العشر إلا ما له من الأصابع أنملتان كالابهام، ففي أنملته خمس من الإبل. وعمدتهم في ذلك ما جاء في حديث عمرو بن حزم أن رسول الله (ص) قال: وفي كل أصبع مما هنالك عشر من الإبل وخرج عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله (ص) قضى في الأصابع بعشر العشر وهو قول علي وابن مسعود وابن عباس وهي عندهم على أهل الورق بحسب ما يرى واحد واحد منهم في الدية من الورق. فهي عند من يرى أنها اثنا عشر ألف درهم عشرها، وعند من يرى أنها عشرة آلاف عشرها. وروي عن السلف المتقدم اختلاف في عقل الأصابع، فروي عن عمر بن الخطاب أنه قضى في الابهام والتي تليها بعقل نصف الدية، وفي الوسط بعشر فرائض، وفي التي تليها بتسع، وفي الخنصر بست. وروي عن مجاهد أنه قال في الابهام خمسة من الإبل، وفي التي تليها عشر، وفي الوسطى عشر، وفي التي تليها ثمان، وفي الخنصر سبع وأما الترقوة والضلع، ففيها عند جمهور فقهاء الأمصار حكومة، وروي عن بعض السلف فيها توقيت. وروي عن مالك أن عمر بن الخطاب قضى في الضرس بجمل، والضلع بجمل، وفي الترقوة بجمل. وقال سعيد بن جبير في الترقوة بعيران. وقال قتادة: أربعة أبعرة. وعمدة فقهاء الأمصار: أن ما لم يثبت فيه عن النبي (ص) توقيت فليس فيه إلا حكومة. وجمهور فقهاء الأمصار: على أن في كل سن من أسنان الفم خمسا من الإبل، وبه قال ابن عباس. وروي مالك عن عمر أنه قضى في الضرس بجمل وذلك فيما لم يكن منها في مقدم الفم. وأما التي في مقدم الفم فلا خلاف أن فيها خمسا من الإبل. وقال سعيد بن المسيب: في الأضراس بعيران. وروي عن عبد الملك بن مروان أن مروان بن الحكم اعترض في ذلك على ابن عباس فقال: أتجعل مقدم الأسنان مثل الأضراس؟ فقال ابن عباس: لو لم يعتبر ذلك إلا بالأصابع عقلها سواء، عمدة الجمهور في مثل ذلك: ما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: في السن خمس وذلك من حديث عمر بن شعيب عن أبيه عن جده واسم السن ينطلق على التي في مقدم الفم ومؤخره، وتشبيهها أيضا بالأصابع التي استوت ديتها وإن اختلفت منافعها. وعمدة من خالف بينهما
347 أن الشرع يوجد فيه تفاضل الديات لتفاضل الأعضاء مع أنه يثبته أن يكون من صار إلى ذلك من الصدر الأول إنما صار إليه عن توقيف، وجميع هذه الأعضاء التي تثبت الدية فيها خطأ فيها القود في قطع ما قطع وقلع ما قلع. واختلفوا في كسر ما كسر، منها الساق والذراع هل فيه قود أم لا؟ فذهب مالك وأصحابه إلى أن القود في كسر جميع العظام إلا الفخذ والصلب، وقال الشافعي، والليث: لا قصاص في عظم من العظام بكسر، وبه قال أبو حنيفة إلا أنه استثنى السن. وروي عن ابن عباس أنه لا قصاص في عظم، وكذلك عن عمر. قال أبو عمر بن عبد البر: ثبت أن النبي (ص) أقاد في السن المكسورة من حديث أنس قال: وقد روي من حديث آخر أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقد من العظم المقطوع في غير المفصل إلا أنه ليس بالقوي. وروي عن مالك أن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أقاد من كسر الفخذ. واتفقوا على أن دية المرأة نصف دية الرجل في النفس. واختلفوا في ديات الشجاج وأعضائها، فقال جمهور فقهاء المدينة: تساوي المرأة الرجل في عقلها من الشجاج والأعضاء إلى أن تبلغ ثلث الدية، فإذا بلغت ثلث الدية عادت ديتها إلى النصف من دية الرجل، أعني دية أعضائها من أعضائه، مثال ذلك أن في كل أصبع من أصابعها عشرا من الإبل، وفي اثنان منها عشرون، وفي ثلاثة ثلاثون، وفي أربعة عشرون، وبه قال مالك وأصحابه والليث بن سعد، ورواه مالك عن سعيد بن المسيب وعن عروة بن الزبير، وهو قول زيد بن ثابت ومذهب عمر بن عبد العزيز. وقالت طائفة: بل دية جراحة المرأة مثل دية جراحة الرجل إلى الموضحة، ثم تكون ديتها على النصف من دية الرجل، وهو الأشهر من قولي ابن مسعود. وهو مروي عن عثمان، وبه قال شريح وجماعة، وقال قوم: بل دية المرأة في جراحها وأطرافها على النصف من دية الرجل في قليل ذلك وكثيره، وهو قول علي رضي الله عنه، وروي ذلك عن ابن مسعود، إلا أن الأشهر عنه ما ذكرناه أولا. وبهذا القول قال أبو حنيفة والشافعي والثوري. وعمدة قائل هذا القول: أن الأصل هو أن دية المرأة نصف دية الرجل فواجب التمسك بهذا الأصل حتى يأتي دليل من السماع الثابت، إذ القياس في الديات لا يجوز وبخاصة لكون القول بالفرق بين القليل والكثير مخالفا للقياس ولذلك قال ربيعة لسعيد ما يأتي ذكره عنه، ولا اعتماد للطائفة الأولى إلا مراسيل، وما روي عن سعيد بن المسيب حين سأله ربيعة بن أبي عبد الرحمن كم في أربع من أصابعها؟ قال عشرون، قلت حين عظم جرحها واشتدت بليتها نقص عقلها، قال: أعراقي أنت؟ قلت: بل عالم متثبت أو جاهل متعلم، قال: هي السنة. وروي أيضا عن النبي عليه الصلاة والسلام من مرسل عمرو بن شعيب عن أبيه وعكرمة. وقد رأى قوم أن قول الصحابي إذا خالف القياس وجب العمل به، لأنه يعلم أنه لم يترك القول به إلا عن توقيف، لكن في هذا ضعف إذ كان يمكن أن يترك القول به إما
348 لأنه لا يرى القياس، وإما لأنه عارضه في ذلك قياس ثان أو قلد في ذلك غيره، فهذه حال ديات جراح الأحرار والجنابات على أعضائها الذكور منها والإناث. وأما جراح العبيد وقطع أعضائهم، فإن العلماء اختلفوا فيها على قولين: فمنهم من رأى أن في جراحهم وقطع أعضائهم ما نقص من ثمن العبد، ومنهم من رأى أن الواجب في ذلك من قيمته قدر ما في ذلك الجرح من ديته، فيكون في موضحته نصف عشر قيمته، وفي عينه مصف قيمته، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وهو قول عمر وعلي، وقال مالك: يعتبر في ذلك كله ما نقص من ثمنه إلا موضحته ومنقلته ومأمومته، ففيها من ثمنه قدره ما فيها في الحر من ديته. وعمدة الفريق الأول: تشبيهه بالعروض. وعمدة الفريق الثاني: تشبيهه بالحر إذ هو مسلم ومكلف. ولا خلاف بينهم أن دية الخطأ من هذه إذا جاوزت الثلث على العاقلة. واختلف فيما دون ذلك، فقال مالك وفقهاء المدينة السبعة وجماعة: إن العاقلة لا تحمل من ذلك إلا الثلث فما زاد، وقال أبو حنيفة تحمل من ذلك العشر فما فوقه من الدية الكاملة، قال الثوري وابن شبرمة: الموضحة فما زاد على العاقلة، وقال الشافعي وعثمان البتي: تحمل العاقلة القليل والكثير من دية الخطأ. وعمدة الشافعي: هي أن الأصل هو أن العاقلة هي التي تحمل دية الخطأ فمن خصص من ذلك شيئا فعليه الدليل، ولا عمدة للفريق المتقدم إلا أن ذلك معمول بل ومشهور. وهنا انقضى هذا الكتاب والحمد لله حق حمده.
349 كتاب القسامة اختلف العلماء في القسامة في أربعة مواضع تجري مجرى الأصول لفروع هذا الباب: المسألة الأولى: هل يجب الحكم بالقسامة أم لا؟ الثانية: إذا قلنا بوجوبها هل يجب بها الدم أو الدية أو دفع مجرد الدعوى؟ المسألة الثالثة: هل يبدأ بالايمان فيها المدعون أو المدعى عليهم. وكم عدد الحالفين من الأولياء؟ المسألة الرابعة: فيما يعد لوثا يجب به أن يبدأ المدعون بالايمان. المسألة الأولى: أما وجوب الحكم بها على الجملة فقال به جمهور فقهاء الأمصار: مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد وسفيان، وداود وأصحابهم وغير ذلك من فقهاء الأمصار. وقالت طائفة من العلماء سالم بن عبد الله وأبو قلابة وعمر بن عبد العزيز وابن علية: لا يجوز الحكم بها. وعمدة الجمهور: ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من حديث حويصة ومحيصة وهو حديث متفق على صحته من أهل الحديث، إلا أنهم مختلفون في ألفاظه على ما سيأتي بعد. وعمدة الفريق النافي لوجوب الحكم بها أن القسامة مخالفة لأصول الشرع المجمع على صحتها: فمنها أن الأصل في الشرع أن لا يحلف إلا على ما علم قطعا أو شاهد حسا، وإذا كان ذلك كذلك، فكيف يقسم أولياء الدم وهم لم يشاهدوا القتل؟ بل قد يكونون في بلد والقتل في بلد آخر، ولذلك روى البخاري عن أبي قلابة أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوما للناس ثم أذن لهم فدخلوا عليه فقال: ما تقولون في القسامة؟ فأضب القوم وقالوا: نقول إن القسامة القود بها حق قد أقاد بها الخلفاء فقال: ما تقول يا أبا قلابة؟ ونصبني للناس... فقلت: يا أمير المؤمنين عندك أشراف العرب ورؤساء الأجناد، أرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا عندك على رجل أنه زنى بدمشق ولم يروه أكنت ترجمه؟ قال: لا. قلت: أفرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا عندك على رجل أنه سرق بحمص ولم يروه أكنت تقطعه؟ قال: لا. وفي بعض الروايات: قلت: فما بالهم إذا شهدوا أنه قتله بأرض كذا وهم عندك أقدت بشهادتهم؟ قال: فكتب عمر بن عبد العزيز في القسامة: إنهم إن أقاموا شاهدي عدل أن فلانا قتله فأقده، ولا يقتل بشهادة الخمسين الذين
350 أقسموا. قالوا: ومنها أن من الأصول أن الايمان ليس لها تأثير في إشاطة الدماء. ومنها أن من الأصول أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر ومن حجتهم أنهم لم يروا في تلك الأحاديث أن رسول الله (ص) حكم بالقسامة وإنما كانت حكما جاهليا فتلطف لهم رسول الله (ص) ليريهم كيف لا يلزم الحكم بها على أصول الاسلام، ولذلك قال لهم: أتحلفون خمسين يمينا - أعني لولاة الدم وهم الأنصار؟ - قالوا: كيف نحلف ولم نشاهد؟ قال: فيحلف لكم اليهود، قالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟ قالوا: فلو كانت السنة أن يحلفوا وإن لم يشهدوا لقال لهم رسول الله (ص) هي السنة. قال: وإذا كانت هذه الآثار غير نص في القضاء بالقسامة. والتأويل يتطرق إليها فصرفها بالتأويل إلى الأصول أولى. وأما القائلون بها وبخاصة مالك فرأى أن سنة القسامة منفردة بنفسها مخصصة للأصول كسائر السنن المخصصة، وزعم أن العلة في ذلك حوطة الدماء، وذلك أن القتل لما كان يكثر وكان يقل قيام الشهادة عليه لكون القاتل إنما يتحرى بالقتل مواضع الخلوات جعلت هذه السنة حفظا للدماء، لكن هذه العلة تدخل عليه في قطاع الطريق والسراق، وذلك أن السارق تعسر الشهادة عليه، وكذلك قاطع الطريق، فلهذا أجاز مالك شهادة المسلوبين على السالبين مع مخالفة ذلك للأصول، وذلك أن المسلوبين مدعون على سلبهم. والله أعلم. المسألة الثانية: اختلف العلماء القائلون بالقسامة فيما يجب بها، فقال مالك وأحمد: يستحق بها الدم في العمد، والدية في الخطأ، وقال الشافعي والثوري وجماعة: تستحق بها الدية فقط، وقال بعض الكوفيين: لا يستحق بها إلا دفع الدعوى على الأصل في أن اليمين إنما تجب على المدعى عليه، وقال بعضهم: بل يحلف المدعى عليه ويغرم الدية، فعلى هذا إنما يستحق منها دفع القود فقط، فيكون فيما يستحق المقسمون أربعة أقوال. فعمدة مالك ومن قال بقوله ما رواه من حديث ابن أبي ليلى عن سهل بن أبي حثمة وفيه: فقال لهم رسول الله (ص): تحلفون وتستحقون دم صاحبكم وكذلك ما رواه من مرسل بشير بن يسار وفيه: فقال لهم رسول الله (ص): أتحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم؟. وأما عمدة من أوجب بها الدية فقط، فهو أن الايمان يوجد لها تأثير في استحقاق الأموال أعني في الشرع مثل ما ثبت من الحكم في الأموال باليمين والشاهد، ومثل ما يجب المال بنكول المدعى عليه أو بالنكول وقلبها على المدعي عند من يقول بقلب اليمين مع النكول مع أن حديث مالك عن ابن أبي ليلى ضعيف لأنه رجل مجهول لم يرو عنه غير مالك. وقيل فيه أيضا: إنه لم يسمع من سهل. وحديث بشير بن يسار قد اختلف في إسناده، فأرسله مالك وأسنده غيره. قال القاضي: يشبه أن تكون هذه العلة هي السبب في أن لم يخرج البخاري هذين الحديثين، واعتضد عندهم القياس في ذلك بما روي عن عمر
351 رضي الله عنه أنه قال: لا قود بالقسامة، ولكن يستحق بها الدية. وأما الذين قالوا إنما يستحق بها دفع الدعوى فقط، فعمدتهم أن الأصل هو أن الايمان على المدعى عليه، والأحاديث التي نذكرها فيما بعد إن شاء الله. المسألة الثالثة: واختلف القائلون بالقسامة أعني الذين قالوا: إنها يستوجب بها مال أو دم فيمن يبدأ بالايمان الخمسين على ما ورد في الآثار، فقال الشافعي وأحمد وداود بن علي وغيرهم: يبدأ المدعون، وقال فقهاء الكوفة والبصرة وكثير من أهل المدينة: بل يبدأ المدعى عليهم بالايمان. وعمدة من بدأ بالمدعين حديث مالك عن ابن أبي ليلى عن سهل بن حثمة، ومرسله عن بشير بن يسار. وعمدة من رأى التبدئة بالمدعى عليهم ما خرجه البخاري عن سعيد بن عبيد الطائي عن بشير بن يسار أن رجلا من الأنصار يقال له سهل بن حثمة وفيه فقال رسول الله (ص): تأتون بالبينة على من قتله قالوا: ما لنا بينة قال: فيحلفون لكم، قالوا: ما نرضى بأيمان يهود، وكره رسول الله (ص) أن يبطل دمه، فوداه بمائة بعير من إبل الصدقة قال القاضي: وهذا نص في أنه لا يستوجب بالايمان الخمسين إلا دفع الدعوى فقط. واحتجوا أيضا بما خرجه أبو داود أيضا عن أبي عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن رجال من كبراء الأنصار أن رسول الله (ص) قال ليهود وبدأ بهم: أيحلف منكم خمسون رجلا خمسين يمينا؟ فأبوا، فقال للأنصار: احلفوا، فقالوا: أنحلف على الغيب يا رسول الله؟ فجعلها رسول الله (ص) دية على يهود لأنه وجد بين أظهرهم، وبهذا تمسك من جعل اليمين في حق المدعى عليه وألزمهم الغرم مع ذلك، وهو حديث صحيح الاسناد، لأنه رواه الثقات عن الزهري عن أبي سلمة، وروى الكوفيون ذلك عن عمر، أعني أنه قضى على المدعى عليهم باليمن والدية. وخرج مثله أيضا من تبدئة اليهود بالايمان عن رافع بن خديج، واحتج هؤلاء القوم على مالك بما روي عن ابن شهاب الزهري عن سليمان بن يسار وعراك بن مالك أن عمر بن الخطاب قال للجهني الذي ادعى دم وليه على رجل من بني سعد وكان أجرى فرسه فوطئ على أصبع الجهني فتردى فيها فمات، فقال عمر للذي ادعى عليهم، أتحلفون بالله خمسين يمينا ما مات منها؟ فأبوا أن يحلفوا، وتحرجوا، فقال للمدعين: أحلفوا، فأبوا فقضى عليهم بشطر الدية. قالوا: وأحاديثنا هذه أولى من التي روي فيها تبدئة المدعين بالايمان، لان الأصل شاهد لأحاديثنا من أن اليمين على المدعى عليه. قال أبو عمر: والأحاديث المتعارضة في ذلك مشهورة. المسألة الرابعة: وهي موجب القسامة عند القائلين بها: أجمع جمهور العلماء القائلون بها أنها لا تجب إلا بشبهة. واختلفوا في الشبهة ما هي؟ فقال الشافعي: إذا كانت الشبهة في معنى الشبهة التي قضى بها رسول الله (ص) بالقسامة وهو أن يوجد قتيل في محله قوم
352 لا يخالطهم غيرهم، وبين أولئك القوم، وبين قوم المقتول عداوة كما كانت العداوة بين الأنصار واليهود، وكانت خيبر دار اليهود مختصة بهم، ووجد فيها القتيل من الأنصار، قال: وكذلك لو وجد في ناحية قتيل وإلى جانبه رجل مختضب بالدم، وكذلك لو دخل على نفر في بيت فوجد بينهم قتيلا وما أشبه هذه مما يغلب على ظن الحكام أن المدعي محق لقيام تلك الشبهة. وقال مالك بنحو من هذا، أعني أن القسامة لا تجب إلا بلوث والشاهد الواحد عنده إذا كان عدلا لوث باتفاق عند أصحابه، واختلفوا إذا لم يكن عدلا. وكذلك وافق الشافعي في قرينة الحال المخيلة مثل أن يوجد قتيل مشحطا بدمه وبقربه انسان بيده حديدة مدماة، إلا أن مالكا يرى أن وجود القتيل في المحلة ليس لوثا، وإن كانت هنالك عداوة بين القوم الذين منهم القتيل وأهل المحلة، وإذا كان ذلك كذلك لم يبق ههنا شئ يجب أن يكون أصلا لاشتراط اللوث في وجوبها، ولذلك لم يقل بها قوم، وقال أبو حنيفة وصاحباه: إذا وجد قتيل في محله قوم وبه أثر وجبت القسامة على أهل المحلة. ومن أهل العلم ما أوجب القسامة بنفس وجود القتيل في المحلة دون سائر الشرائط التي اشترط الشافعي، ودون وجود الأثر بالقتيل الذي اشترطه أبو حنيفة، وهو مروي عن عمر وعلي وابن مسعود، وقال به الزهري وجماعة من التابعين، وهو مذهب ابن حزم قال: القسامة تجب متى وجد قتيل يعرف من قتله أينما وجد، فادعى ولاة الدم على رجل وحلف منهم خمسون رجلا خمسين يمينا، فإن هم حلفوا على العمد فالقود وإن حلفوا على الخطأ فالدية، وليس يحلف عنده أقل من خمسين رجلا، وعند مالك رجلان فصاعدا من أولئك وقال داود: لا أقضي بالقسامة إلا في مثل السبب الذي قضى به رسول الله (ص). وانفرد مالك والليث من بين فقهاء الأمصار القائلين بالقسامة، فجعلا قول المقتول فلان قتلني لوثا يوجب القسامة، وكل قال بما غلب على ظنه أنه شبهة يوجب القسامة، ولمكان الشبهة رأى تبدئة المدعين من رأى ذلك منهم، فإن الشبه عند مالك تنقل اليمين من المدعى عليه إلى المدعي، إذ سبب تعليق الشرع عنده اليمين بالمدعى عليه، إنما هو لقوة شبهته فيما ينفيه عن نفسه، وكأنه شبه ذلك باليمين مع الشاهد في الأموال. وأما القول بأن نفس الدعوى شبهة فضعيف ومفارق للأصول والنص لقوله عليه الصلاة والسلام: لو يعطى الناس بدعاويهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه وهو حديث ثابت من حديث ابن عباس وخرجه مسلم في صحيحه، وما احتجت به المالكية من قصة بقرة بني إسرائيل فضعيف، لان التصديق هنالك أسند إلى الفعل الخارق للعادة. واختلف الذين أوجبوا القود بالقسامة هل يقتل بها أكثر من واحد؟ فقال مالك: لا تكون القسامة إلا على واحد، وبه قال أحمد بن حنبل، وقال أشهب: يقسم على الجماعة ويقتل منها واحد يعينه الأولياء، وهو ضعيف. وقال
353 المغيرة المخزومي: كل من أقسم عليه قتل، وقال مالك والليث: إذا شهد اثنان عدلان أن إنسانا ضرب آخر وبقي المضروب أياما بعد الضرب ثم مات أقسم أولياء المضروب أنه مات من ذلك الضرب وقيد به، وهذا كله ضعيف. واختلفوا في القسامة في العبد، فبعض أثبتها، وبه قال أبو حنيفة تشبيها بالحر، وبعض نفاها تشبيها بالبهيمة، وبها قال مالك والدية عندهم فيها في مال القاتل، ولا يحلف فيها أقل من خمسين رجلا خمسين يمينا عند مالك، ولا يحلف عنده أقل من اثنين في الدم ويحلف الواحد في الخطأ، وإن نكل عنده أحد من ولاة الدم بطل القود وصحت الدية في حق من لم ينكل، أعني حظه منها. وقال الزهر: إن نكل منهم أحد بطلت الدية في حق الجميع، وفروع هذا الباب كثيرة. قال القاضي: والقول في القسامة هو داخل فيما تثبت به الدماء، وهو في الحقيقة جزء من كتاب الأقضية، ولكن ذكرناه هنا على عادتهم، وذلك أنه إذا ورد قضاء خاص بجنس من أجناس الأمور الشرعية رأوا أن الأولى أن يذكر في ذلك الجنس. وأما القضاء الذي يعم أكثر من جنس واحد من أجناس الأشياء التي يقع فيها القضاء فيذكر في كتاب الأقضية، وقد تجدهم يفعلون الامرين جميعا كما فعل مالك في الموطأ، فإنه ساق فيه الأقضية من كل كتاب.
354 كتاب في أحكام الزنا والنظر في أصول هذا الكتاب في حد الزنا، وفي أصناف الزناة، وفي العقوبات لكل صنف منهم، وفيما تثبت به هذه الفاحشة. الباب الأول: في حد الزنا فأما الزنا فهو كل وطئ، وقع على غير نكاح صحيح ولا شبهة نكاح ولا ملك يمين، وهذا متفق عليه بالجملة من علماء الاسلام، وإن كانوا اختلفوا فيما هو شبهة تدرأ الحدود مما ليس بشبهة دارئة، وفي ذلك مسائل نذكر منها أشهرها، فمنها الأمة يقع عليها الرجل وله فيها شرك، فقال مالك: يدرأ عنه الحد وإن ولدت ألحق الولد به وقومت عليه، وبه قال أبو حنيفة وقال بعضهم: يغزر، وقال أبو ثور: عليه الحد كاملا إذا علم الحرمة، وحجة الجماعة قوله عليه الصلاة والسلام: ادرأوا الحدود بالشبهات والذين درأوا الحدود اختلفوا هل يلزمه من صداق المثل بقدر نصيبه أم لا يلزم. وسبب الخلاف: هل ذلك الذي يغلب منها حكمه على الجزء الذي لا يملك أم حكم الذي لا يملك يغلب على حكم الذي يملك؟ فإن حكم ما ملك الحلية، وحكم ما لم يملك الحرمية. ومنها اختلافهم في الرجل المجاهد يطأ جارية من المغنم فقال قوم: عليه الحد، ودرأ قوم عنه الحد وهو أشبه والسبب في هذه وفي التي قبلها واحد، والله أعلم. ومنها أن يحل رجل لرجل وطئ خادمه، فقال مالك: يدرأ عنه الحد، وقال غيره: يعزر، وقال بعض الناس: بل هي هبة مقبوضة والرقبة تابعة للفرج. ومنها الرجل يقع على جارية ابنه أو ابنته، فقال الجمهور: لا حد عليه لقوله عليه الصلاة والسلام لرجل خاطبه: أنت ومالك لأبيك ولقوله عليه الصلاة والسلام: لا يقاد الوالد بالولد ولاجماعهم على أنه لا يقطع فيما سرق من مال ولده، ولذلك قالوا: تقوم عليه حملت أم لم تحمل لأنها قد حرمت على ابنه فكأنه استهلكها. ومن الحجة لهم أيضا إجماعهم أن الأب لو قتل ابن ابنه لم يكن للابن أن يقتص من أبيه، وكذلك كل من كان الابن له وليا. ومنها الرجل يطأ جارية زوجته. اختلف العلماء فيه على أربعة أقوال، فقال مالك والجمهور: عليه الحد كاملا،
355 وقالت طائفة: ليس عليه الحد وتقوم عليه فيغرمها لزوجته إن كانت طاوعته، وإن كانت استكرهها قومت عليه وهي حرة، وبه قال أحمد وإسحاق، وهو قول ابن مسعود. والأول قول عمر، ورواه مالك في الموطأ عنه. وقال قوم: عليه مائة جلدة فقط سواء أكان محصنا أو ثيبا، وقال قوم: عليه التعزير. فعمدة من أوجب عليه الحد أنه وطئ دون ملك تام ولا شركة ملك ولا نكاح فوجب الحد. وعمدة من درأ الحد ما ثبت أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قضى في رجل وطئ جارية امرأته أنه كان استكرهها فهي حرة وعليه مثلها لسيدتها وإن كانت طاوعته فهي له، وعليه لسيدتها مثلها وأيضا فإن له شبهة في مالها بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: تنكح المرأة.... فذكر مالها ويقوى هذا المعنى على أصل من يرى أن المرأة محجور عليها من زوجها فيما فوق الثلث، أو في الثلث فما فوقه، وهو مذهب مالك. ومنها ما يراه أبو حنيفة من درء الحد عن واطئ المستأجرة، والجمهور على خلاف ذلك وقوله في ذلك ضعيف ومرغوب عنه، وكأنه رأى أن هذه المنفعة أشبهت سائر المنافع التي استأجرها عليها، فدخلت الشبهة وأشبه نكاح المتعة. ومنها درء الحد عمن امتنع اختلف فيه أيضا وبالجملة فالأنكحة الفاسدة داخلة في هذا الباب، وأكثرها عند مالك تدرأ الحد إلا ما انعقد منها على شخص مؤبد التحريم بالقرابة مثل الأم وما أشبه ذلك، مما لا يعذر فيه بالجهل. الباب الثاني: في أصناف الزناة وعقوباتهم والزناة الذين تختلف العقوبة باختلافهم أربعة أصناف: محصنون ثيب وأبكار وأحرار وعبيد وذكور وإناث. والحدود الاسلامية ثلاثة: رجم، وجلد، وتغريب. فأما الثيب الأحرار المحصنون، فإن المسلمين أجمعوا على أن حدهم الرجم إلا فرقة من أهل الأهواء فإنهم رأوا أن حد كل زان الجلد، وإنما صار الجمهور للرجم لثبوت أحاديث الرجم، فخصصوا الكتاب بالسنة أعني قوله تعالى: * (الزنية والزاني) * الآية. واختلفوا في موضعين: أحدهما: هل يجلدون مع الرجم أم لا؟ والموضع الثاني: في شروط الاحصان. أما المسألة الأولى: فإن العلماء اختلفوا هل يجلد من وجب عليه الرجم قبل الرجم أم لا؟ فقال الجمهور: لا جلد على من وجب عليه الرجم، وقال الحسن البصري وإسحاق وأحمد وداود: الزاني المحصن يجلد ثم يرجم. وعمدة الجمهور: أن رسول الله (ص) رجم ماعزا، ورجم امرأة من جهينة، ورجم يهوديين وامرأة من عامر من الأزد، كل ذلك مخرج في الصحاح ولم يروا أنه جلد واحدا منهم، ومن جهة المعنى أن الحد الأصغر ينطوي
356 في الحد الأكبر، وذلك أن الحد إنما وضع للزجر فلا تأثير وعمدة الشافعي: ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر، وهو حديث متفق عليه أن النبي (ص) رجم اليهودية واللذين زنيا إذ رفع إليه أمرهما اليهود، وأنه تعالى يقول: * (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) *. وعمدة مالك من طريق المعنى أن الاحصان عنده فضيلة ولا فضيلة مع عدم الاسلام، وهذا مبناه على أن الوطئ في نكاح صحيح هو مندوب إليه، فهذا هو حكم الثيب. وأما الابكار فإن المسلمين أجمعوا على أن حد البكر في الزنا جلد مائة لقوله تعالى: * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * واختلفوا في التغريب مع الجلد، فقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تغريب أصلا. وقال الشافعي: لا بد من التغريب مع الجلد لكل زان ذكرا كان أو أنثى، حرا كان أو عبدا، وقال مالك: يغرب الرجل ولا تغرب المرأة، وبه قال الأوزاعي، ولا تغريب عند مالك على العبيد. فعمدة من أوجب التغريب على الاطلاق حديث عبادة بن الصامت المتقدم وفيه البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام وكذلك ما خرج أهل الصحاح عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أنهما قالا: إن رجلا من الاعراب أتى النبي عليه الصلاة والسلام قال: يا رسول الله.. أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الخصم وهو أفقه منه: نعم اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم، فقال له النبي (ص): قل، إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديته بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا
357 الرجم، فقال رسول الله (ص): والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله... أما الوليدة والغنم فرد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا فإنه اعترفت فارجمها فغدا عليها أنيس فاعترفت، فأما النبي عليه الصلاة والسلام بها فرجمت. ومن خصص المرأة من هذا العموم فإنما خصصه بالقياس، لأنه رأى أن المرأة تعرض بالغربة لأكثر من الزنا، وهذا من القياس المرسل، أعني المصلحي الذي كثيرا ما يقول به مالك. وأما عمدة الحنفية: فظاهر الكتاب وهو مبني على رأيهم أن الزيادة على النص النسخ وأنه ليس ينسخ الكتاب بأخبار الآحاد. ورووا عن عمر وغيره أنه حد ولم يغرب، وروى الكوفيون عن أبي بكر وعمر أنهم غربوا. وأما حكم العبيد في هذه الفاحشة، فإن العبيد صنفان: ذكور وإناث، أما الإناث فإن العلماء أجمعوا على أن الأمة إذا تزوجت وزنت أن حدها خمسون جلدة لقوله تعالى: * (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) * واختلفوا إذا لم تتزوج، فقال جمهور فقهاء الأمصار: حدها خمسون جلدة، وقالت طائفة: لا حد عليها، وإنما عليها تعزير فقط، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب. وقال قوم: لا حد على الأمة أصلا. والسبب في اختلافهم: الاشتراك الذي في اسم الاحصان في قوله تعالى: * (فإذا أحصن) * فمن فهم من الاحصان التزوج وقال بدليل الخطاب قال: لا تجلد الغير متزوجة، ومن فهم من الاحصان الاسلام جعله عاما في المتزوجة وغيرها. واحتج من لم ير على غير المتزوجة حدا بحديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أن النبي عليه الصلاة السلام سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، فقال إن زنت فاجلدوها.. ثم إن زنت فاجلدوها.. ثم بيعوها ولو بضفير. وأما الذكر من العبيد، ففقهاء الأمصار على أن حد العبد نصف حد الحر قياسا على الأمة، وقال أهل الظاهر: بل حده مائة جلدة مصيرا إلى عموم قوله تعالى: * (فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * ولم يخصص حرا من عبد، ومن الناس من درأ الحد عنه قياسا على الأمة وهو شاذ، وروي عن ابن عباس. فهذا هو القول في أصناف الحدود وأصناف المحدودين والشرائط الموجبة للحد في واحد واحد منهم، ويتعلق بهذا القول في كيفية الحدود، وفي وقتها. فأما كيفيتها فمن مشهور المسائل في هذا الجنس اختلافهم في الحفر للمرجوم، فقالت طائفة: يحفر له، وروي ذلك عن علي في شراحة الهمدانية حين أمر برجمها، وبه قال أبو ثور، وفيه فلما كان يوم الجمعة أخرجها فحفر لها حفرة فأدخلت فيها وأحدق الناس بها يرمونها، فقال: ليس هكذا الرجم إني أخاف أن يصيب بعضكم بعضا، ولكن صفوا كما تصفون في الصلاة، ثم قال: الرجم
358 رجمان: رجم سر ورجم علانية، فما كان منه فإقرار فأول من يرجم الامام ثم الناس، وما كان ببينة فأول من يرجم البينة ثم الامام ثم الناس. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يحفر للمرجوم، وخير في ذلك الشافعي، وقيل عنه: يحفر للمرأة فقط. وعمدتهم ما خرج البخاري ومسلم من حديث جابر، قال جابر: فرجمناه بالمصلى فلما آذته الحجارة فر، فأدركنا بالحرة فرضخناه. وقد روى مسلم أنه حفر له في اليوم الرابع حفرة. وبالجملة فالأحاديث في ذلك مختلفة. قال أحمد الأحاديث على أن لا حفر، وقال مالك: يضرب في الحدود الظهر وما يقاربه، وقال أبو حنيفة والشافعي: يضرب سائر الأعضاء ويتقي الفرج والوجه، وزاد أبو حنيفة الرأس، ويجرد الرجل عند مالك في ضرب الحدود كلها، وعند الشافعي وأبي حنيفة ما عدا القذف على ما سيأتي بعد، ويضرب عند الجمهور قاعدا ولا يقام قائما خلافا لمن قال: إنه يقام لظاهر الآية، ويستحب عند الجميع أن يحضر الامام عند إقامة الحدود طائفة من الناس لقوله تعالى: * (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) *. واختلفوا فيما يدل عليه اسم الطائفة، فقال مالك: أربعة، وقيل: ثلاثة، وقيل اثنان، وقيل: سبعة، وقيل: ما فوقها. وأما الوقت، فإن الجمهور على أنه لا يقام في الحر الشديد ولا في البرد الشديد، ولا يقام على المريض، وقال قوم: يقام، وبه قال أحمد وإسحاق، واحتجا بحديث عمر أنه أقام الحد على قدامة وهو مريض. وسبب الخلاف: معارضة الظواهر للمفهوم من الحد، وهو أن يقام حيث لا يغلب على ظن المقيم له فوات نفس المحدود، فمن نظر إلى الامر بإقامة الحدود مطلقا من غير استثناء قال: يحد المريض، ومن نظر إلى المفهوم من الحد قال: لا يحد حتى يبرأ وكذلك الامر في شدة الحر والبرد. الباب الثالث: وهو معرفة ما تثبت به هذه الفاحشة وأجمع العلماء على أن الزنا يثبت بالاقرار وبالشهادة. واختلفوا في ثبوته بظهور الحمل في النساء الغير المزوجات إذا ادعين الاستكراه. وكذلك اختلفوا في شروط الاقرار وشروط الشهادة. فأما الاقرار فإنهم اختلفوا فيه في موضعين: أحدهما: عدد مرات الاقرار الذي يلزم به الحد. والموضع الثاني: هل من شرطه أن لا يرجع عن الاقرار حتى يقام عليه الحد؟ أما عدد الاقرار الذي يجب به الحد، فإن مالكا والشافعي يقولان: يكفي في وجوب الحد عليه اعترافه به مرة واحدة، وبه قال داود وأبو ثور والطبري وجماعة، وقال أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى، لا يجب الحد إلا بأقارير أربعة مرة بعد مرة، وبه قال أحمد وإسحاق وزاد أبو حنيفة وأصحابه: في مجالس متفرقة. وعمدة مالك والشافعي: ما جاء في حديث أبي هريرة
359 وزيد بن خالد من قوله عليه الصلاة والسلام: اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها ولم يذكر عددا. وعمدة الكوفيين: ما ورد من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي عليه الصلاة والسلام: أنه رد ماعزا حتى أقر أربع مرات ثم أمر برجمه وفي غيره من الأحاديث قالوا: وما ورد في بعض الروايات أنه أقر مرة ومرتين وثلاثا تقصير، ومن قصر فليس بحجة على من حفظ. وأما المسألة الثانية: وهي من اعترف بالزنا ثم رجع، فقال جمهور العلماء: يقبل رجوعه، إلا ابن أبي ليلى وعثمان البتي، وفصل مالك فقال: إن رجع إلى شبهة قبل رجوعه. وأما إن رجع إلى غير شبهة فعنه في ذلك روايتان: أحداهما: يقبل وهي الرواية المشهورة. والثانية: لا يقبل رجوعه، وإنما صار الجمهور إلى تأثير الرجوع في الاقرار لما ثبت من تقريره (ص) ماعزا وغيره مرة بعد مرة لعله يرجع. ولذلك لا يجب على من أوجب سقوط الحد بالرجوع أن يكون التمادي على الاقرار شرطا من شروط الحد. وقد روي من طريق أن ماعزا لما رجم ومسته الحجارة هرب فاتبعوه، فقال لهم: ردوني إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقتلوه رجما وذكروا ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام فقال: هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه ومن هنا تعلق الشافعي بأن التوبة تسقط الحدود، والجمهور على خلافه، وعلى هذا يكون عدم التوبة شرطا ثالثا في وجوب الحد. وأما ثبوت الزنا بالشهود فإن العلماء اتفقوا على أنه يثبت الزنا بالشهود وأن العدد المشترط في الشهود أربعة بخلاف سائر الحقوق لقوله تعالى: * (ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) * وأن من صفتهم أن يكونوا عدولا، وأن من شرط هذه الشهادة أن تكون بمعاينة فرجه في فرجها، وأنها تكون بالتصريح لا بالكناية، وجمهورهم على أن من شرط هذه الشهادة أن لا تختلف لا في زمان ولا في مكان، إلا ما حكي عن أبي حنيفة من مسألة الزوايا المشهورة، وهو أن يشهد كل واحد من الأربعة أنه رآها في ركن من البيت يطؤها غير الركن الذي رآه فيه الآخر. وسبب الخلاف: هل تلفق الشهادة المخالفة بالمكان أم لا تلفق كالشهادة المختلفة بالزمان؟ فإنهم أجمعوا على أنها لا تلفق، والمكان أشبه بالزمان. والظاهر من الشرع قصده إلى التوثق في ثبوت هذا الحد أكثر منه في سائر الحدود. وأما اختلافهم في إقامة الحدود بظهور الحمل مع دعوى الاستكراه، فإن طائفة أوجبت الحد على ما ذكره مالك في الموطأ من حديث عمر، وبه قال مالك، إلا أن تكون جاءت بأمارة على استكراهها، مثل أن تكون بكرا فتأتي وهي تدمي، أو تفضح نفسها بأثر الاستكراه، وكذلك عنده الامر إذا ادعت الزوجية إلا أن تقيم البينة على ذلك،
360 ما عدا الطارئة، فإن ابن القاسم قال: إذا ادعت الزوجية وكانت طارئة قبل قولها، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يقام عليها الحد بظهور الحمل مع دعوى الاستكراه وكذلك مع دعوى الزوجية، وإن لم تأت في دعوى الاستكراه بأمارة، ولا في دعوى الزوجية ببينة لأنها بمنزلة من أقر ثم ادعى الاستكراه. ومن الحجة لهم ما جاء في حديث شراحة أن عليا رضي الله عنه قال لها: استكرهت؟ قالت: لا قال: فلعل رجلا أتاك في نومك. قالوا: وروى الاثبات عن عمر أنه قبل قول امرأة ادعت أنها ثقيلة النوم وأن رجلا طرقها فمضى عنها ولم تدر من هو بعد. ولا خلاف بين أهل الاسلام أن المستكرهة. لا حد عليها، وإنما اختلفوا في وجوب الصداق لها. وسبب الخلاف: هل الصداق عوض عن البضع أو هو نحلة؟ فمن قال عوض عن البضع أوجبه في البضع في الحلية والحرمية، ومن قال إنه نحلة خص الله به الأزواج لم يوجبه. وهذا الأصل كاف في هذا الكتاب، والله الموفق للصواب.
361 كتاب القذف والنظر في هذا الكتاب: في القذف، والقاذف، والمقذوف، وفي العقوبة الواجبة فيه، وبماذا تثبت، والأصل في هذا الكتاب قوله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) * الآية. فأما القاذف فإنهم اتفقوا على أن من شرطه وصفين: وهما البلوغ والعقل، وسواء أكان ذكرا أو أنثى، حرا أو عبدا، مسلما أو غير مسلم. وأما المقذوف فاتفقوا على أن من شرطه أن يجتمع فيه خمسة أوصاف: البلوغ والحرية والعفاف والإسلام، وأن يكون معه آلة الزنا، فإن انخرم من هذه الأوصاف وصف لم يجب الحد، والجمهور بالجملة على اشتراط الحرية في المقذوف، ويحتمل أن يدخل في ذلك خلاف، ومالك يعتبر في سن المرأة أن تطيق الوطئ. وأما القذف الذي يجب به الحد، فاتفقوا على وجهين: أحدهما: أن يرمي القاذف المقذوف بالزنا، والثاني: أن ينفيه عن نسبه إذا كانت أمه حرة مسلمة، واختلفوا إن كانت كافرة أو أمة، فقال مالك: سواء أكانت حرة أو أمة مسلمة أو كافرة يجب الحد. وقال إبراهيم النخعي: لا حد عليه إذا كانت أم المقذوف أمة أو كتابية، وهو قياس قول الشافعي وأبي حنيفة. واتفقوا أن القذف إذا كان بهذين المعنيين أنه إذا كان بلفظ صريح وجب الحد، واختلفوا إن كان بتعريض، فقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى: لا حد في التعريض، إلا أن أبا حنيفة والشافعي يريان فيه التعزير، وممن قال بقولهم من الصحابة ابن مسعود، وقال مالك وأصحابه: في التعريض الحد، وهي مسألة وقعت في زمان عمر، فشاور عمر فيها الصحابة، فاختلفوا فيها عليه. فرأى عمر فيها الحد. وعمدة مالك: أن الكناية قد تقوم بعرف العادة والاستعمال الصريح وإن كان اللفظ فيها مستعملا في غير موضعه أعني مقولا بالاستعارة. وعمدة الجمهور: أن الاحتمال الذي في الاسم المستعار شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات، والحق أن الكناية قد تقوم في مواضع مقام النص، وقد تضعف في مواضع، وذلك أنه إذا لم يكثر الاستعمال لها والذي يندرئ به الحد عن القاذف أن يثبت زنا
362 المقذوف بأربعة شهود بإجماع الشهود عند مالك إذا كانوا أقل من أربعة قذفة وعند غيره ليسوا بقذفة. وإنما اختلف المذهب في الشهود الذين يشهدون على شهود الأصل. والسبب في اختلافهم: هل يشترط في نقل شهادة كل واحد منهم عدد شهود الأصل أم يكفي في ذلك الاثنان على الأصل المعتبر فيما سوى القذف إذا كانوا ممن لا يستقل بهم نقل الشهادة من قبل العدد. وأما الحد فالنظر فيه في جنسه وتوقيته ومسقطه: أما جنسه، فإنهم اتفقوا على أنه ثمانون جلدة للقاذف الحر لقوله تعالى: * (ثمانين جلدة) *. واختلفوا في العبد يقذف الحر: كم حده؟ فقال الجمهور من فقهاء الأمصار: حده نصف حد الحر، وذلك أربعون جلدة، وروي ذلك عن الخلفاء الأربعة، وعن ابن عباس، وقالت طائفة: حده حد الحر، وبه قال ابن مسعود من الصحابة وعمر بن عبد العزيز وجماعة من فقهاء الأمصار وأبو ثور والأوزاعي وداود وأصحابه من أهل الظاهر. فعمدة الجمهور: قياس حده في القذف على حده في الزنا. أما أهل الظاهر: فتمسكوا في ذلك بالعموم، ولما أجمعوا أيضا أن حد الكتابي ثمانون، فكان العبد أحرى بذلك. وأما التوقيت فإنهم اتفقوا على أنه إذا قذف شخصا واحدا مرارا كثيرة، فعليه حد واحد منها، وأنه إن قذف فحد ثم قذف ثانية حد حدا ثانيا واختلفوا إذا قذف جماعة، فقالت طائفة: ليس عليه إلا حد واحد جمعهم في القذف أو فرقهم وبه قال مالك وأبو حنيفة والثوري وأحمد وجماعة. وقال قوم: بل عليه لكل واحد حد، وبه قال الشافعي والليث وجماعة حتى روي عن الحسن بن حيي أنه قال: إن قال انسان: من دخل هذه الدار فهو زان جلد الحد لكل من دخلها، وقالت طائفة: إن جمعهم في كلمة واحدة مثل أن يقول لهم يا زناة فحد حد واحد، وإن قال لكل واحد منهم يا زاني فعليه لكل انسان منهم حد. فعمدة من لم يوجب على قاذف الجماعة إلا حدا واحدا حديث أنس وغيره أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك ابن سحماء، فرفع ذلك إلى النبي عليه الصلاة والسلام فلاعن بينهما ولم يحده لشريك، وذلك إجماع من أهل العلم فيمن قذ ف زوجته برجل. وعمدة من رأى أن الحد لكل واحد منهم أنه حق للآدميين، وأنه لو عفى بعضهم ولم يعف الكل لم يسقط الحد. وأما من فرق بين قذفهم في كلمة واحدة أو كلمات أو في مجلس واحد أو في مجالس، فلانه رأى أنه واجب أن يتعدد الحد بتعدد القذف، لأنه إذا اجتمع تعدد المقذوف وتعدد القذف كان أوجب أن يتعدد الحد. وأما سقوطه فإنهم اختلفوا في سقوطه بعفو المقذوف، فقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي: لا يصح العفو: أي لا يسقط الحد، وقال الشافعي: يصح العفو أي يسقط الحد بلغ الامام أو لم يبلغ، وقال قوم: إن بلغ الامام لم يجز العفو، وإن لم يبلغه جاز العفو. واختلف قول مالك في ذلك، فمرة قال بقول الشافعي، ومرة قال: يجوز إذا لم يبلغ الامام، وإن بلغ لم يجز إلا أن يريد بذلك
363 المقذوف الستر على نفسه، وهو المشهور عنه. والسبب في اختلافهم: هل هو حق لله، أو حق للآدميين، أو حق لكليهما؟ فمن قال حق لله لم يجز العفو كالزنا، ومن قال حق للآدميين أجاز العفو، ومن قال لكليهما وغلب حق الامام إذا وصل إليه قال بالفرق بين أن يصل الامام أو لا يصل، وقياسا على الأثر الوارد في السرقة. وعمدة من رأى أنه حق للآدميين وهو الأظهر أن المقذوف إذا صدقه فيما قذفه به سقط عنه الحد. وأما من يقيم الحد؟ فلا خلاف أن الامام يقيمه في القذف. واتفقوا على أنه يجب على القاذف مع الحد سقوط شهادته ما لم يتب. واختلفوا إذا تاب، فقال مالك: تجوز شهادته، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا تجوز شهادته أبدا. والسبب في اختلافهم: هل الاستثناء يعود إلى الجملة المتقدمة أو يعود إلى أقرب مذكور. وذلك في قوله تعالى: * (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا) * فمن قال يعود إلى أقرب مذكور قال: التوبة ترفع الفسق ولا تقبل شهادته، ومن رأى أن الاستثناء يتناول الامرين جميعا قال: التوبة ترفع الفسق، ورد الشهادة. وكون ارتفاع الفسق مع رد الشهادة أمر غير مناسب في الشرع: أي خارج عن الأصول، لان الفسق متى ارتفع قبلت الشهادة. واتفقوا على أن التوبة لا ترفع الحد. وأما بماذا يثبت؟ فإنهم اتفقوا على أنه يثبت بشاهدين عدلين حرين ذكرين. واختلف في مذهب مالك: هل يثبت بشاهد ويمين وبشهادة النساء؟ وهل تلزم في الدعوى فيه يمين؟ وإن نكل فهل يحد بالنكول ويمين المدعي؟ فهذه هي أصول هذا الباب التي تبنى عليه فروعه. قال القاضي: وإن أنسأ الله في العمر فسنضع كتابا في الفروع على مذهب مالك بن أنس مرتبا ترتيبا صناعيا، إذ كان المذهب المعمول به في هذه الجزيرة، التي هي جزيرة الأندلس حتى يكون به القارئ مجتهدا في مذهب مالك، لان إحصاء جميع الروايات عندي شئ ينقطع العمر دونه. باب: في شرب الخمر والكلام في هذه الجناية: في الموجب، والواجب، وبماذا تثبت هذه الجناية؟ فأما الموجب، فاتفقوا على أنه شرب الخمر دون إكراه قليلها وكثيرهم. واختلفوا في المسكرات من غيرها، فقال أهل الحجاز: حكمها حكم الخمر في تحريمها وإيجاب الحد من شربها، قليلا كان أو كثيرا، أسكر أو لم يسكر، وقال أهل العراق: المحرم منها هو السكر، وهو الذي يوجب الحد. وقد ذكرنا عمدة أدلة الفريقين في كتاب الأطعمة والأشربة. وأما الواجب فهو الحد والتفسيق إلا أن تكون التوبة، والتفسيق في شارب الخمر باتفاق وإن لم يبلغ حد السكر، وفيمن بلغ حد السكر فيما سوى الخمر واختلف الذين رأوا تحريم قليل الأنبذة في وجوب الحد، وأكثر هؤلاء على وجوبه، إلا أنهم اختلفوا في مقدار الحد الواجب، فقال الجمهور: الحد في ذلك
364 ثمانون، وقال الشافعي وأبو ثور وداود: الحد في ذلك أربعون، هذا في حد الحر. وأما حد العبد فاختلفوا فيه، فقال الجمهور: هو على النصف من الحر، وقال أهل الظاهر: حد الحر والعبد سواء، وهو أربعون، وعند الشافعي عشرون، وعند من قال ثمانون: أربعون. فعمدة الجمهور: تشاور عمر والصحابة لما كثر في زمانه شرب الخمر، وإشارة علي عليه بأن يجعل الحد ثمانين قياسا على حد الفرية، فإنه كما قيل عنه رضي الله عنه: إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى. وعمدة الفريق الثاني: أن النبي (ص) لم يحد في ذلك حدا، وإنما كان يضرب فيها بين يديه بالنعال ضربا غير محدود، وأن أبا بكر رضي الله عنه شاور أصحاب رسول الله (ص): كم بلغ ضرب رسول الله (ص) لشراب الخمر؟ فقدروه بأربعين. وروي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله (ص) ضرب في الخمر بنعلين أربعين فجعل عمر مكان كل نعل سوطا. وروي من طريق آخر عن أبي سعيد الخدري ما هو أثبت من هذا، وهو أن رسول الله (ص) ضرب في الخمر أربعين وروي هذا عن علي عن النبي عليه الصلاة والسلام من طريق أثبت. وبه قال الشافعي. وأما من يقيد هذا الحد فاتفقوا على أن الامام يقيمه، وكذلك الامر في سائر الحدود. واختلفوا في إقامة السادات الحدود على عبيدهم، فقال مالك: يقيم السيد على عبده حد الزنا وحد القذف إذا شهد عند الشهود، ولا يفعل ذلك بعلم نفسه، ولا يقطع في السرقة إلا الامام، وبه قال الليث. وقال أبو حنيفة: لا يقيم الحدود على العبيد إلا الامام، وقال الشافعي: يقيم السيد على عبده جميع الحدود، وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثور. فعمدة مالك: الحديث المشهور أن رسول الله (ص) سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال: إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير وقوله عليه الصلاة والسلام: إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها. وأما الشافعي فاعتمد مع هذه الأحاديث: ما روي عنه (ص) من حديث عنه أنه قال: أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ولأنه أيضا مروي عن جماعة من الصحابة ولا مخالف لهم، منهم ابن عمر وابن مسعود وأنس. وعمدة أبي حنيفة: الاجماع على أن الأصل في إقامة الحدود هو السلطان. وروي عن الحسن وعمر بن عبد العزيز وغيرهم أنهم قالوا: الجمعة والزكاة والفئ والحكم إلى السلطان. فصل: وأما بماذا يثبت هذا الحد، فاتفق العلماء على أنه يثبت بالاقرار وبشهادة عدلين واختلفوا في ثبوته بالرائحة، فقال مالك وأصحابه وجمهور أهل الحجاز: يجب الحد بالرائحة إذا شهد بها عند الحاكم شاهدان عدلان، وخالفه في ذلك الشافعي وأبو حنيفة وجمهور أهل العراق وطائفة من أهل الحجاز وجمهور علماء البصرة فقالوا: لا يثبت الحد بالرائحة. فعمدة من أجاز الشهادة على الرائحة تشبيهها على الصوت والخط. وعمدة من لم يثبتها اشتباه الروائح، والحد يدرأ بالشبهة.
365 كتاب السرقة والنظر في هذا الكتاب في حد السرقة، وفي شروط المسروق الذي يجب به الحد، وفي صفات السار الذي يجب عليه الحد، وفي العقوبة، وفيما تثبت به هذه الجناية. فأما السرقة ، فهي أخذ مال الغير مستترا من غير أن يؤتمن عليه، وإنما قلنا هذا لأنهم أجمعوا أنه ليس في الخيانة ولا في الاختلاس قطع إلا إياس بن معاوية، فإنه أوجب في الخلسة القطع، وذلك مروي عن النبي عليه الصلاة والسلام. وأوجب أيضا قوم القطع على من استعار حليا أو متاعا ثم جحده لمكان حديث المرأة المخزومية المشهورة أنها كانت تستعير الحلي، وأن رسول الله (ص) قطعها لموضع جحودها. وبه قال أحمد وإسحاق، والحديث حديث عائشة قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بقطع يدها، فأتى أسامة أهلها فكلموه، فكلم أسامة النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا أسامة لا أراك تتكلم في حد من حدود الله، ثم قام النبي عليه الصلاة والسلام خطيبا فقال: إنما أهلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعتها. ورد الجمهور هذا الحديث لأنه مخالف للأصول، وذلك أن المعار مأمون وأنه يأخذ بغير إذن فضلا أن يأخذ من حرز، قالوا: وفي حديث حذف، وهو أنها سرقت مع أنها جحدت، ويدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: إنما أهلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه قالوا: وروى هذا الحديث الليث بن سعد عن الزهري بإسناده، فقال فيه: إن المخزومية سرقت، وهذا يدل على أنها فعلت الامرين جميعا الجحد والسرقة. وكذلك أجمعوا على أنه ليس على الغاصب ولا على المكابر المغالب قطع إلا أن يكون قاطع طريق شاهرا للسلاح على المسلمين مخيفا للسبيل، فحكمه حكم المحارب، على ما سيأتي في حد المحارب. وأما السارق الذي يجب عليه حد السرقة، فإنهم اتفقوا على أن من شرطه أن يكون مكلفا، وسواء أكان حرا أو عبدا، ذكرا أو أنثى، مسلما، أو ذميا، إلا ما روي في الصدر الأول من الخلاف في قطع يد العبد الآبق إذا سرق، وروي ذلك عن ابن عباس وعثمان ومروان وعمر بن عبد العزيز،
366 ولم يختلف فيه بعد العصر المتقدم، فمن رأى أن الاجماع ينعقد بعد وجود الخلاف في العصر المتقدم كانت المسألة عنده قطعية، ومن لم ير ذلك تمسك بعموم الامر بالقطع، ولا عبرة لمن لم ير القطع على العبد الآبق إلا تشبيهه سقوط الحد عنه بسقوط شطره، أعني الحدود التي تنشطر في حق العبيد، وهو تشبيه ضعيف. وأما المسروق فإن له شرائط مختلفا فيها، فمن أشهرها اشتراط النصاب، وذلك أن الجمهور على اشتراطه، إلا ما روي عن الحسن البصري أنه قال: القطع في قليل المسروق وكثيره، لعموم قوله تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * الآية. وربما احتجوا بحديث أبي هريرة خرجه البخاري ومسلم عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده وبه قال الخوارج وطائفة من المتكلمين. والذين قالوا باشتراط النصاب في وجوب القطع وهم الجمهور اختلفوا في قدره اختلافا كثيرا، إلا أن الاختلاف المشهور من ذلك الذي يستند إلى أدلة ثابتة، وهو قولان: أحدهما: قول فقهاء الحجاز مالك والشافعي وغيرهم. والثاني: قول فقهاء العراق. أما فقهاء الحجاز فأوجبوا القطع في ثلاثة دراهم من الفضة، وربع دينار من الذهب. واختلفوا فيما تقوم به سائر الأشياء المسروقة مما عدا الذهب والفضة، فقال مالك في المشهور: تقوم بالدراهم لا بالربع دينار، أعني إذا اختلفت الثلاثة دراهم مع الربع دينار لاختلاف الصرف، مثل أن يكون الربع دينار في وقت درهمين ونصفا، وقال الشافعي: الأصل في تقويم الأشياء هو الربع دينار، وهو الأصل أيضا للدراهم فلا يقطع عنده في الثلاثة دراهم إلا أن تساوي ربع دينار. وأما مالك فالدنانير والدراهم عنده كل واحد منهما معتبر بنفسه. وقد روى بعض البغداديين عنه أنه ينظر في تقويم العروض إلى الغالب في نقود أهل ذلك البلد، فإن كان الغالب الدراهم قومت بالدراهم، وإن كان الغالب الدنانير قومت بالربع دينار، وأظن أن في المذهب من يقول إن الربع دينار يقوم بالثلاثة دراهم، وبقول الشافعي في التقويم قال أبو ثور والأوزاعي وداود، وبقول مالك المشهور قال أحمد: أعني بالتقويم بالدراهم. وأما فقهاء العراق فالنصاب الذي يجب القطع فيه هو عندهم عشرة دراهم لا يجب في أقل منه، وقد قال جماعة منهم ابن أبي ليلى وابن شبرمة: لا تقطع اليد في أقل من خمسة دراهم، وقد قيل: في أربعة دراهم، وقال عثمان البتي: في درهمين. فعمدة فقهاء الحجاز: ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم وحديث عائشة أوقفه مالك وأسنده البخاري ومسلم إلى النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا. وأما عمدة فقهاء العراق: فحديث ابن عمر المذكور، قالوا: ولكن قيمة المجن هو عشرة دراهم وروي ذلك في أحاديث. وقد خالف ابن
367 عمر في قيمة المجن من الصحابة كثير ممن رأى القطع في المجن كابن عباس وغيره. وقد روى محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله (ص) عشرة دراهم قالوا: وإذا وجد الخلاف في ثمن المجن وجب أن لا تقطع اليد إلا بيقين، وهذا الذي قالوه هو كلام حسن لولا حديث عائشة، وهو الذي اعتمده الشافعي في هذه المسألة وجعل الأصل هو الربع دينار. وأما مالك فاعتضد عنده حديث ابن عمر بحديث عثمان الذي رواه، وهو أنه قطع في أترجة قومت بثلاثة دراهم، والشافعي يعتذر عن حديث عثمان من قبل أن الصرف كان عندهم في ذلك الوقت اثنا عشر درهما والقطع في ثلاثة دراهم أحفظ للأموال، والقطع في عشرة دراهم أدخل في باب التجاوز والصفح عن يسير المال وشرف العضو، والجمع بين حديث ابن عمر وحديث عائشة وفعل عثمان ممكن على مذهب الشافعي وغير ممكن على مذهب غيره، فإن كان الجمع أولى من الترجيح فمذهب الشافعي أولى المذاهب، فهذا هو أحد الشروط المشترطة في القطع. واختلفوا من هذا الباب في فرع مشهور وهو إذا شرقت الجماعة ما يجب فيه القطع، أعني نصابا دون أن يكون حظ كل واحد منهم نصابا، وذلك بأن يخرجوا النصاب من الحرز معا، مثل أن يكون عدلا أو صندوقا يساوي النصاب، فقال مالك: يقطعون جميعا، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور، وقال أبو حنيفة: لا قطع عليهم حتى يكون ما أخذه كل واحد منهم نصابا فمن قطع الجميع رأى العقوبة إنما تتعلق بقدر مال المسروق أي أن هذا القدر من المال المسروق هو الذي يوجب القطع لحفظ المال، ومن رأى أن القطع إنما علق بهذا القدر لا بما دونه لمكان حرمة اليد قال لا تقطع أيد كثيرة فيما أوجب فيه الشرع قطع يد واحدة. واختلفوا متى يقدر المسروق، فقال مالك: يوم السرقة، وقال أبو حنيفة: يوم الحكم عليه بالقطع. وأما الشرط الثاني في وجوب هذا الحد فهو الحرز، وذلك أن جميع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى وأصحابهم متفقون على اشتراط الحرز في وجوب القطع، وإن كان قد اختلفوا فيما هو حرز مما ليس بحرز. والأشبه أن يقال في حد الحرز إنه ما شأنه أن تحفظ به الأموال كي يعسر أخذها مثل الاغلاق والحظائر وما أشبه ذلك، وفي الفعل الذي إذا فعله السارق اتصف بالاخراج من الحرز على ما سنذكره بعد، وممن ذهب إلى هذا مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وأصحابهم، وقال أهل الظاهر وطائفة من أهل الحديث: القطع على من سرق النصاب وإن سرقه من غير حرز. فعمدة الجمهور: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل، فإذا أواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن ومرسل مالك أيضا عن
368 عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي بمعنى حديث عمرو بن شعيب. وعمدة أهل الظاهر: عموم قوله تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * الآية. قالوا: فوجب أن تحمل الآية على عمومها، إلا ما خصصته السنة الثابتة ذلك. وقد خصصت السنة الثابتة المقدار الذي يقطع فيه من الذي لا يقطع فيه. وردوا حديث عمرو بن شعيب لموضع الاختلاف الواقع في أحاديث عمرو بن شعيب. وقال أبو عمر بن عبد البر: أحاديث عمرو بن شعيب العمل بها واجب إذا رواها الثقات. وأما الحرز عند الذين أوجبوه فإنهم اتفقوا منه على أشياء واختلفوا في أشياء، مثل اتفاقهم على أن باب البيت وغلقه حرز واختلافهم في الأوعية. ومثل اتفاقهم على من سرق من بيت دار غير مشتركة السكنى أنه لا يقطع حتى يخرج من الدار، واختلافهم في الدار المشتركة، فقال مالك وكثير ممن اشترط الحرز: تقطع يد إذا أخرج من البيت، وقال أبو يوسف ومحمد: لا قطع عليه إلا إذا أخرج من الدار. ومنها اختلافهم في القبر هل هو حرز حتى يجب القطع على النباش، أو ليس بحرز؟ فقال مالك والشافعي وأحمد وجماعة: هو حرز، وعلى النباش القطع، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وقال أبو حنيفة: لا قطع عليه، وكذلك قال سفيان الثوري، وروي ذلك عن زيد بن ثابت والحرز عند مالك بالجملة هو كل شئ جرت العادة بحفظ ذلك الشئ المسروق فيه، فمرابط الدواب عنده أحراز، وكذلك الأوعية، وما على الانسان من اللباس، فالانسان حرز لكل ما عليه أو هو عنده. وإذا توسد النائم شيئا فهو له حرز على ما جاء في حديث صفوان بن أمية وسيأتي بعد، وما أخذه من المنتبه فهو اختلاس. ولا يقطع عند مالك سارق ما كان على الصبي من الحلي أو غيره إلا أن يكون معه حافظ يحفظه، ومن سرق من الكعبة شيئا لم يقطع عنده، وكذلك من المساجد، وقد قيل في المذهب إنه إن سرق منها ليلا قطع. وفروع هذا الباب كثيرة فيما هو حرز وما ليس بحرز. واتفق القائلون بالحرز على أن كل من سمي مخرجا للشئ من حرزه وجب عليه القطع، وسواء أكان داخل الحرز أو خارجه. وإذا ترددت التسمية وقع الخلاف، مثل اختلاف المذهب إذا كانا سارقان: أحدهما: داخل البيت، والآخر خارجه، فقرب أحدهما المتاع المسروق إلى ثقب في البيت فتناوله الآخر، فقيل: القطع على الخارج المتناول له، وقيل: لا قطع على واحد منهما، وقيل: القطع على المقرب للمتاع من الثقب. والخلاف في هذا كله: آيل إلى انطلاق اسم المخرج من الحرز عليه أو لا انطلاقه. فهذا هو القول في الحرز واشتراطه في وجوب القطع، ومن رمى بالمسروق من الحرز ثم أخذه خارج الحرز قطع، وقد توقف مالك فيه إذا أخذ بعد رميه وقبل أن يخرج، وقال ابن القاسم: يقطع.
369 فصل: وأما جنس المسروق، فإن العلماء اتفقوا على أن كل متملك غير ناطق يجوز بيعه وأخذ العوض منه، فإنه يجب في سرقته القطع ما عدا الأشياء الرطبة المأكولة، والأشياء التي أصلها مباحة فإنهم اختلفوا في ذلك، فذهب الجمهور إلى أن القطع في كل متمول يجوز بيعه وأخذ العوض فيه، وقال أبو حنيفة: لا قطع في الطعام ولا فيما أصله مباح كالصيد والحطب والحشيش. فعمدة الجمهور: عموم الآية الموجبة للقطع وعموم الآثار الواردة في اشتراط النصاب. وعمدة أبي حنيفة في منعه القطع في الطعام الرطب: قوله عليه الصلاة والسلام: لا قطع في ثمر ولا كثر وذلك أن هذا الحديث روي هكذا مطلقا من غير زيادة. وعمدته أيضا في منع القطع فيما أصله مباح: الشبهة التي فيه لكل مالك، وذلك أنهم اتفقوا على أن من شرط المسروق الذي يجب فيه القطع أن لا يكون للسارق فيه شبهة ملك. واختلفوا فيما هو شبهة تدرأ الحد مما ليس بشبهة، وهذا هو أيضا أحد الشروط المشترطة في المسروق هو في ثلاثة مواضع: في جنسه، وقدره، وشروطه، وستأتي هذه المسألة فيما بعد. واختلفوا من هذا الباب - أعني من النظر في جنس المسروق - في المصحف، فقال مالك والشافعي: يقطع سارقه. وقال أبو حنيفة: لا يقطع. ولعل هذا من أبي حنيفة بناء على أنه لا يجوز بيعه. أو أن لكل أحد فيه حقا إذ ليس بمال. واختلفوا من هذا الباب فيمن سرق صغيرا مملوكا أعجميا ممن لا يفقه ولا يعقل الكلام، فقال الجمهور: يقطع. وأما إن كان كبيرا يفقه فقال مالك: يقطع، وقال أبو حنيفة: لا يقطع. واختلفوا في الحر، فعند مالك أن سارقه يقطع، ولا يقطع عند أبي حنيفة، وهو قول ابن الماجشون من أصحاب مالك. واتفقوا كما قلنا أن شبهة الملك القوية تدرأ هذا الحد. واختلفوا فيما هو شبهة يدرأ من ذلك مما لا يدرأ منها، فمنها العبد يسرق مال سيده، فإن الجمهور من العلماء على أنه لا يقطع، وقال أبو ثور: يقطع ولم يشترط شرطا، وقال أهل الظاهر: يقطع إلا أن يأتمنه سيده. واشترط مالك في الخادم الذي يجب أن يدرأ عنه الحد أن يكون يلي الخدمة لسيده بنفسه، والشافعي مرة اشترط هذا ومرة لم يشترطه. ويدرء الحد قال عمر - رضي الله عنه - وابن مسعود ولا مخالف لهما من الصحابة. ومنها أحد الزوجين يسرق من مال الآخر، فقال مالك: إذا كان كل واحد ينفرد ببيت فيه متاعه فالقطع على من سرق من مال صاحبه، وقال الشافعي: الاحتياط أن لا قطع على أحد الزوجين لشبهة الاختلاط وشبهة المال، وقد روي عنه مثل قول مالك، واختاره المزني. ومنها القرابات، فمذهب مالك فيها أن لا يقطع الأب فيما سرق من مال الابن فقط لقوله عليه الصلاة والسلام: أنت ومالك لأبيك ويقطع ما سواهم من القرابات، وقال الشافعي: لا يقطع عمود النسب الأعلى والأسفل: يعني الأب والأجداد والأبناء وأبناء الأبناء، وقال أبو حنيفة: لا يقطع ذو الرحم المحرمة، وقال أبو ثور: تقطع يد كل من سرق إلا ما خصصه الاجماع. ومنها اختلافهم فيمن
370 سرق من الغنم أو من بيت المال. فقال مالك: يقطع، وقال عبد الملك من أصحابه: لا يقطع. فهذا هو قول في الأشياء التي يجب بها ما يجب في هذه الجناية. القول في الواجب وأما الواجب في هذه الجناية إذا وجدت بالصفات التي ذكرنا، أعني الموجودة في السارق وفي الشئ المسروق وفي صفة السرقة، فإنهم اتفقوا على أن الواجب فيه القطع من حيث هي جناية، والغرم إذا لم يجب القطع. واختلفوا هل يجمع الغرم مع القطع؟ فقال قوم: عليه الغرم مع القطع، وبه قال الشافعي وأحمد والليث وأبو ثور وجماعة، وقال قوم: ليس عليه غرم إذا لم يجد المسروق منه متاعه بعينه، وممن قال بهذا القول أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وجماعة، وفرق مالك وأصحابه فقال: إن كان موسرا أتبع السارق بقيمة المسروق، وإن كان معسرا لم يتبع إذا أثرى، واشترط مالك دوام اليسر إلى يوم القطع فيما حكى عنه ابن القاسم. فعمدة من جمع بين الامرين أنه اجتمع في السرقة حقان: حق لله، وحق للآدمي، فاقتضى كل حق موجبه، وأيضا فإنهم لما أجمعوا على أخذه منه إذا وجد بعينه لزم إذا لم يوجد بعينه عنده أن يكون في ضمانه قياسا على سائر الأموال الواجبة. وعمدة الكوفيين: حديث عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله (ص) قال: لا يغرم السارق إذا أقيم عليه الحد وهذا الحديث مضعف عند أهل الحديث. قال أبو عمر: لأنه عندهم مقطوع، قال: وقد وصله بعضهم وخرجه النسائي. والكوفيون يقولون: إن اجتماع حقين في حق واحد مخالف للأصول، ويقولون إن القطع هو بدل من الغرم، ومن هنا يرون إذا سرق شيئا ما فقطع فيه ثم سرقه ثانيا أنه لا يقطع فيه. وأما تفرقة مالك فاستحسان على غير قياس. وأما القطع فالنظر في محله وفيمن سرق وقد عدم المحل. أما محل القطع فهو اليد اليمين باتفاق من الكوع، وهو الذي عليه الجمهور، وقال قوم: الأصابع فقط. فأما إذا سرق من قد قطعت يده اليمنى في السرقة، فإنهم اختلفوا في ذلك فقال أهل الحجاز والعراق: تقطع رجله اليسرى بعد اليد اليمنى، وقال بعض أهل الظاهر وبعض التابعين: تقطع اليد اليسرى بعد اليمنى، ولا يقطع منه غير ذلك. واختلف مالك والشافعي وأبو حنيفة بعد اتفاقهم على قطع الرجل اليسرى بعد اليد اليمنى. هل يقف القطع إن سرق ثالثة أم لا؟ فقال سفيان وأبو حنيفة: يقف القطع في الرجل، وإنما عليه في الثالثة الغرم فقط، وقال مالك والشافعي: إن سرق ثالثة قطعت يده اليسرى، ثم إن سرق رابعة قطعت رجله اليمنى، وكلا القولين مروي عن عمر وأبي بكر، أعني قول مالك وأبي حنيفة. فعمدة من لم ير إلا قطع اليد قوله تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * ولم يذكر الأرجل إلا في المحاربين فقط. وعمدة من قطع الرجل بعد اليد ما روي أن النبي (ص) أتي بعبد سرق فقطع
371 يده اليمنى، ثم الثانية فقطع رجله، ثم أتي به في الثالثة فقطع يده اليسرى، ثم أتي به في الرابعة فقطع رجله وروي هذا عن حديث جابر بن عبد الله، وفيه ثم أخذه الخامسة فقتله إلا أنه منكر عند أهل الحديث، ويرده قوله عليه الصلاة والسلام هن فواحش وفيهن عقوبة ولم يذكر قتلا. وحديث ابن عباس أن النبي عليه الصلاة والسلام قطع الرجل بعد اليد وعند مالك أنه يؤدب في الخامسة، فإذا ذهب محل القطع من غير سرقة بأن كانت اليد شلاء. فقيل في المذهب: ينتقل القطع إلى اليد اليسرى وقيل إلى الرجل. واختلف في موضع القطع من القدم. فقيل: يقع من المفصل الذي في أصل الساق، وقيل: يدخل الكعبان في القطع، وقيل: لا يدخلان، وقيل: إنها تقطع من المفصل الذي في وسط القدم. واتفقوا على أن لصاحب السرقة أن يعفو عن السارق ما لم يرفع ذلك إلى الامام لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله (ص) قال: تعافوا الحدود بينكم فما بلغني من حد فقد وجب وقوله عليه الصلاة والسلام: لو كانت فاطمة بنت محمد لأقمت عليها حد وقوله لصفوان: هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به؟. واختلفوا في السارق يسرق ما يجب فيه القطع فيرفع إلى الامام وقد وهبه صاحب السرقة ما سرقه، أو يهبه له بعد الرفع وقبل القطع فقال مالك والشافعي: عليه الحد، لأنه قد رفع إلى الامام، وقال أبو حنيفة وطائفة: لا حد عليه. فعمدة الجمهور: حديث مالك عن ابن شهاب عن صفوان بن عبد الله بن صفوان بن أمية أنه قيل له: إن من لم يهاجر هلك، فقدم صفوان بن أمية إلى المدينة، فنام في المسجد وتوسد رداءه فجاء سارق فأخذ رداءه، فأخذ صفوان السارق فجاء به إلى رسول الله (ص)، فأمر به رسول الله (ص) أن تقطع يده، فقال صفوان: لم أرد هذا يا رسول الله هو عليه صدقة، فقال رسول الله (ص): فهلا قبل أن تأتيني به. القول فيما تثبت به السرقة واتفقوا على أن السرقة تثبت بشاهدين عدلين، وعلى أنها تثبت بإقرار الحر، واختلفوا في إقرار العبد، فقال جمهور فقهاء الأمصار: إقراره على نفسه موجب لحده، وليس يوجب عليه غرما، وقال زفر: لا يجب بإقرار العبد على نفسه بما يوجب قتله ولا قطع يده لكونه مالا لمولاه، وبه قال شريح والشافعي وقتادة وجماعة، وإن رجع عن الاقرار إلى شبهة قبل رجوعه، وإن رجع إلى غير شبهة فعن مالك في ذلك روايتان، هكذا حكى البغداديون عن المذهب، وللمتأخرين في ذلك تفصيل ليس يليق بهذا الغرض، وإنما هو لائق بتفريع المذهب.
372 كتاب الحرابة والأصل في هذا الكتاب قوله تعالى: * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) * الآية. وذلك أن هذه الآية عند الجمهور هي في المحاربين. وقال بعض الناس: إنها نزلت في النفر الذين ارتدوا في زمان النبي عليه الصلاة والسلام واستاقوا الإبل، فأمر بهم رسول الله (ص) فقطعت أيديهم وأرجلهم وسملت أعينهم. والصحيح أنها في المحاربين لقوله تعالى: * (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) * وليس عدم القدرة عليهم مشترطة في توبة الكفار فبقي أنها في المحاربين. والنظر في أصول هذا الكتاب ينحصر في خمسة أبواب: أحدها: النظر في الحرابة. والثاني: النظر في المحارب. والثالث: فيما يجب على المحارب. والرابع: في مسقط الواجب عنه. وهي التوبة والخامس: بماذا تثبت هذه الجناية. الباب الأول: في النظر في الحرابة فأما الحرابة، فاتفقوا على أنها إشهار السلاح وقطع السبيل خارج المصر، واختلفوا فيمن حارب داخل المصر، فقال مالك: داخل المصر وخارجه سواء، واشترط الشافعي الشوكة، وإن كان لم يشترط العدد، وإنما معنى الشوكة عنده قوة المغالبة، ولذلك يشترط فيها البعد عن العمران، لان المغالبة إنما تتأتى بالبعد عن العمران، وكذلك يقول الشافعي: إنه إذا ضعف السلطان ووجدت المغالبة في المصر كانت محاربة، وأما غير ذلك فهو عنده اختلاس، وقال أبو حنيفة: لا تكون المحاربة في المصر. الباب الثاني: في النظر في المحارب فأما المحارب: فهو كل من كان دمه محقونا قبل الحرابة، وهو المسلم والذمي. الباب الثالث: فيما يجب على المحارب وأما ما يجب على المحارب، فاتفقوا على أنه يجب عليه حق لله وحق للآدميين، واتفقوا
373 على أن حق الله هو القتل والصلب وقطع الأيدي وقطع الأرجل من خلاف، والنفي على ما نص الله تعالى في آية الحرابة. واختلفوا في هذه العقوبات، هل هي على التخيير أو مرتبة على قدر جناية المحارب؟ فقال مالك: إن قتل فلا بد مقتله، وليس للامام تخيير في قطعه ولا في نفيه، وإنما التخيير في قتله أو صلبه. وأما إن أخذ المال ولم يقتل فلا تخيير في نفيه، وإنما التخيير في قتله أو صلبه أو قطعه من خلاف. وأما إذا أخاف السبيل فقط فالامام عنده مخير في قتله أو صلبه أو قطعه أو نفيه. ومعنى التخيير عنده أن الامر راجع في ذلك إلى اجتهاد الامام، فإن كان المحارب ممن له الرأي والتدبير، فوجه الاجتهاد قتله أو صلبه، لان القطع لا يرفع ضرره. وإن كان لا رأي له وإنما هو ذو قوة وبأس قطعه من خلاف، وإن كان ليس فيه شئ من هاتين الصفتين أخذ بأيسر ذلك فيه، وهو الضرب والنفي. وذهب الشافعي وأبو حنيفة وجماعة من العلماء إلى أن هذه العقوبة هي مرتبة على الجنايات المعلوم من الشرع ترتيبها عليه، فلا يقتل من المحاربين إلا من قتل، ولا يقطع إلا من أخذ المال، ولا ينفي إلا من لم يأخذ المال ولا قتل. وقال قوم: بل الامام مخير فيهم على الاطلاق، وسواء قتل أو لم يقتل، أخذ المال أو لم يأخذه. وسبب الخلاف: هل حرف أو في الآية للتخيير أو للتفصيل على حسب جناياتهم؟ ومالك حمل البعض من المحاربين على التفصيل والبعض على التخيير. واختلفوا في معنى قوله: * (أو يصلبوا) * فقال قوم: إنه يصلب حتى يموت جوعا، وقال قوم: بل معنى ذلك أنه يقتل ويصلب معا، وهؤلاء منهم من قال: يقتل أولا ثم يصلب، وهو قول أشهب، وقيل إنه يصلب حيا ثم يقتل في الخشبة، وهو قول ابن القاسم وابن الماجشون، ومن رأى أنه يقتل أولا ثم يصلب صلى عليه عنده قبل الصلب، ومن رأى أنه يقتل في الخشبة فقال بعضهم: لا يصلي عليه تنكيلا له، وقيل: يقف خلف الخشبة ويصلي عليه. وقال سحنون: إذا قتل في الخشبة أنزل منها وصلي عليه. وهل يعاد إلى الخشبة بعد الصلاة؟ فيه قولان عنه، وذهب أبو حنيفة وأصحابه أنه لا يبقى على الخشبة أكثر من ثلاثة أيام. وأما قوله: * (أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلا ف) * فمعناه أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، ثم إن عاد قطعت يده اليسرى ورجل اليمنى. واختلف إذا لم تكن له اليمنى، فقال ابن القاسم: تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى، وقال أشهب: تقطع يده اليسرى ورجله اليسرى. واختلف أيضا في قول: * (أو ينفوا من الأرض) * فقيل: إن النفي هو السجن، وقيل: إن النفي هو أن ينفى من بلد إلى بلد فيسجن فيه إلى أن تظهر توبته، وهو قول ابن القاسم عن مالك، ويكون بين البلدين أقل ما تقصر فيه الصلاة، والقولان عن مالك، وبالأول قال أبو حنيفة، وقال ابن الماجشون: معنى النفي هو فرارهم من الامام لإقامة الحد عليهم، فأما أن ينفى بعد أن يقدر عليه فلا، وقال الشافعي: أما النفي فغير مقصود، ولكن إن هربوا شردناهم في البلاد بالاتباع. وقيل: هي عقوبة مقصودة، فقيل على هذا ينفي ويسجن دائما وكلها عن الشافعي، وقيل معنى * (أو ينفوا) *: أي من أرض
374 الاسلام إلى أرض الحرب. والذي يظهر هو أن النفي تغريبهم عن وطنهم لقوله تعالى: * (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم) * الآية. فسوى بين النفي والقتل. وهي عقوبة معروفة بالعادة من العقوبات كالضرب والقتل، وكا ما يقال فيه سوى هذا فليس معروفا لا بالعادة ولا بالعرف. الباب الرابع: في مسقط الواجب عنه من التوبة وأما ما يسقط الحق الواجب عليه فإن الأصل فيه قوله تعالى: * (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) *. واختلف من ذلك في أربعة مواضع: أحدها: هل تقبل توبته؟ والثاني: إن قبلت فما صفة المحارب الذي تقبل توبته؟ فإن لأهل العلم في ذلك قولين: قول إنه تقبل توبته وهو أشهر لقوله تعالى: * (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) * وقول: إنه لا تقبل توبته قال ذلك من قال إن الآية لم تنزل في المحاربين. وأما صفة التوبة التي تسقط الحكم إنهم اختلفوا فيها على ثلاثة أقوال: أحدها: أن توبته تكون بوجهين: أحدهما: أن يترك ما هو عليه وإن لم يأت الامام، والثاني: أن يلقي سلاحه ويأتي الامام طائعا وهو مذهب ابن القاسم. والقول الثاني: أن توبته إنما تكون بأن يترك ما هو عليه ويجلس في موضعه ويظهر لجيرانه، وإن أتى الامام قبل أن تظهر توبته أقام عليه الحد، وهذا قول ابن الماجشون. والقول الثالث: إن توبته إنما تكون بالمجئ إلى الامام، وإن ترك ما هو عليه لم يسقط ذلك عنه حكما من الاحكام إن أخذ قبل أن يأتي الامام، وتحصيل ذلك هو أن توبته قيل: إنها تكون بأن يأتي الامام قبل أن يقدر عليه، وقيل: إنها تكون إذا ظهرت توبته قبل القدرة فقط، وقيل: تكون بالامرين جميعا. وأما صفة المحارب الذي تقبل توبته، فإنهم اختلفوا فيها أيضا على ثلاثة أقوال: أحدها: أن يلحق بدار الحرب. والثاني: أن تكون له فئة. والثالث: كيفما كانت له فئة أو لم تكن لحق بدار الحرب أو لم يلحق. واختلف في المحارب إذا امتنع فأمنه الامام على أن ينزل، فقيل: له الأمان ويسقط عنه حد الحرابة، وقيل: لا أمان له لأنه إنما يؤمن المشرك. وأما ما تسقط عنه التوبة، فاختلفوا في ذلك على أربعة أقوال: أحدها: أن التوبة إنما تسقط عنه حد الحرابة فقط، ويؤخذ بما سوى ذلك من حقوق الله وحقوق الآدميين، وهو قول مالك. والقول الثاني: أن التوبة تسقط عنه حد الحرابة وجميع حقوق الله من الزنا والشراب والقطع في السرقة، ويتبع بحقوق الناس من الأموال والدماء إلا أن يعفو أولياء المقتول. والثالث: أن التوبة ترفع جميع حقوق الله، ويؤخذ بالدماء وفي الأموال بما وجد بعينه في أيديهم ولا تتبع ذممهم. والقول الرابع: أن التوبة تسقط جميع حقوق الله وحقوق الآدميين من مال ودم إلا ما كان من
375 الأموال قائم العين بيده. الباب الخامس: بماذا تثبت هذه الجناية وأما بماذا يثبت هذا الحد فبالاقرار والشهادة، ومالك يقبل شهادة المسلوبين على الذين سلبوهم. وقال الشافعي: تجوز شهادة أهل الرفقة عليهم إذا لم يدعوا لأنفسهم ولا لرفقائهم ما لا أخذوه، وتثبت عند مالك الحرابة بشهادة السماع. فصل: في حكم المحاربين على التأويل وأما حكم المحاربين على التأويل، فإن محاربهم الامام، فإذا قدر على واحد منهم لم يقتل إلا إذا كانت الحرب قائمة، فإن مالكا قال: إن للامام أن يقتله إن رأى ذلك لما يخاف من عونه لأصحابه على المسلمين. وأما إذا أسر بعد انقضاء الحرب، فإن حكمه حكم البدعي الذي لا يدعو إلى بدعته، فهو يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وقيل: يستتاب فإن لم يتب يؤدب ولا يقتل، وأكثر أهل البدع إنما يكفرون بالمآل. واختلف قول مالك في التكفير بالمآل ومعنى التكفير بالمآل: أنهم لا يصرحون بقول هو كفر، ولكن يصرحون بأقوال يلزم عنها الكفر وهم لا يعتقدون ذلك اللزوم. وأما ما يلزم هؤلاء من الحقوق إذا ظفر بهم، فحكمهم إذا تابوا أن لا يقام عليهم حد الحرابة، ولا يؤخذ منهم ما أخذوا من المال إلا أن يوجد بيده فيرد إلى ربه. وإنما اختلفوا هل يقتل قصاصا بمن قتل؟ فقيل: يقتل وهو قول عطاء وأصبغ، وقال مطرف وابن الماجشون عن مالك: لا يقتل، وبه قال الجمهور، لان كل من قاتل على التأويل فليس بكافر بتة، أصله قتال الصحابة، وكذلك الكافر بالحقيقة هو المكذب لا المتأول. باب: في حكم المرتد والمرتد إذا ظفر به قبل أن يحارب، فاتفقوا على أنه يقتل الرجل لقوله عليه الصلاة والسلام: من بدل دينه فاقتلوه واختلفوا في قتل المرأة وهل تستتاب قبل أن تقتل؟ فقال الجمهور: تقتل المرأة، وقال أبو حنيفة: لا تقتل وشبهها بالكافرة الأصلية. والجمهور اعتمدوا العموم الوارد في ذلك، وشذ قوم فقالوا: تقتل وإن راجعت الاسلام. وأما الاستتاب فإن مالكا شرط في قتله ذلك على ما رواه عن عمر. وقال قوم: لا تقبل توبته. وأما إذا حارب المرتد ثم ظهر عليه فإنه يقتل بالحرابة ولا يستتاب، كانت حرابته بدار الاسلام أو بعد أن لحق بدار الحرب، إلا أن يسلم. وأما إذا أسلم المرتد المحارب بعد أن أخذ أو قبل أن يؤخذ، فإنه يختلف في حكمه، فإن كانت حرابته في دار الحرب فهو عند مالك كالحربي يسلم لا تبعة في شئ مما فعل في حال ارتداده. وأما إن كانت حرابته في دار الاسلام، فإنه يسقط إسلامه عنه حكم الحرابة خاصة، وحكمه فيما جنى حكم المرتد إذا جنى في ردته في دار الاسلام ثم أسلم، وقد اختلف أصحاب مالك فيه فقال: حكمه حكم المرتد من اعتبر يوم الجناية، وقال: حكمه حكم المسلم من اعتبر يوم الحكم. وقد اختلف في هذا الباب في حكم الساحر، فقال مالك: يقتل كفرا، وقال قوم: لا يقتل، والأصل أن لا يقتل إلا مع الكفر.
376 كتاب الأقضية وأصول هذا الكتاب تنحصر في ستة أبواب: أحدها: في معرفة من يجوز قضاؤه. والثاني: في معرفة ما يقضي به. والثالث: في معرفة ما يقضي فيه. والرابع: في معرفة من يقضي عليه أو له. والخامس: في كيفية القضاء. والسادس: في وقت القضاء. الباب الأول: في معرفة من يجوز قضاؤه النظر في هذا الباب فيمن يجوز قضاؤه، وفيما يكون به أفضل. فأما الصفات المشترطة في الجواز. فأن يكون حرا مسلما بالغا ذكرا عاقلا عدلا. وقد قيل في المذهب: إن الفسق يوجب العزل ويمضي ما حكم به. واختلفوا في كونه من أهل الاجتهاد، فقال الشافعي: يجب أن يكون من أهل الاجتهاد، ومثله حكى عبد الوهاب عن المذهب، وقال أبو حنيفة: يجوز حكم العامي. قال القاضي: وهو ظاهر ما حكاه جدي - رحمة الله عليه - في المقدمات عن المذهب لأنه جعل كون الاجتهاد فيه من الصفات المستحبة. وكذلك اختلفوا في اشتراط الذكورة، فقال الجمهور: هي شرط في صحة الحكم، وقال أبو حنيفة: يجوز أن تكون المرأة قاضيا في الأموال، قال الطبري: يجوز أن تكون المرأة حاكما على الاطلاق في كل شئ، قال عبد الوهاب: ولا أعلم بينهم اختلافا في اشتراط الحرية، فمن رد قضاء المرأة شبهه بقضاء الإمامة الكبرى، وقاسها أيضا على العبد لنقصان حرمتها. ومن أجاز حكمها في الأموال فتشبيها بجواز شهادتها في الأموال، ومن رأى حكمها نافذا في كل شئ قال: إن الأصل هو أن كل من يتأتى منه الفصل بين الناس فحكمه جائز إلا ما خصصه الاجماع من الإمامة الكبرى. وأما اشتراط الحرية فلا خلاف فيه، ولا خلاف في مذهب مالك أن السمع والبصر والكلام مشترطة في استمرار ولايته وليس شرطا في جواز ولايته، وذلك أن من صفات القاضي في المذهب ما هي شرط في الجواز، فهذا إذا ولي عزل وفسخ جميع ما حكم به. ومنها ما هي شرط في الاستمرار وليست شرطا في الجواز، فهذا إذا ولي القضاء عزل ونفذ ما حكم به إلا أن يكون جورا. ومن هذا الجنس عندهم هذه الثلاث صفات. ومن شرط القضاء عند مالك أن
377 يكون واحدا، والشافعي يجيز أن يكون في المصر قاضيان اثنان إذا رسم لكل واحد منهما ما يحكم فيه، وإن شرط اتفاقهما في كل حكم لم يجز، وإن شرط الاستقلال لكل واحد منهما فوجهان: الجواز، والمنع، قال: وإذا تنازع الخصمان في اختيار أحدهما وجب أن يقترعا عنده. وأما فضائل القضا فكثيرة، وقد ذكرها الناس في كتبهم. وقد اختلفوا في الأمي هل يجوز أن يكون قاضيا، والأبين جوازه لكونه عليه الصلاة والسلام أميا، وقال قوم: لا يجوز، وعن الشافعي القولان جميعا، لأنه يحتمل أن يكون ذلك خاصا به لموضع العجز، ولا خلا ف في جواز حكم الامام الأعظم، وتوليته للقاضي شرط في صحة قضائه لا خلاف أعرف فيه. واختلفوا من هذا الباب في نفوذ حكم من رضيه المتداعيان ممن ليس بوال على الاحكام. فقال مالك: يجوز، وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يجوز، وقال أبو حنيفة: يجوز إذا وافق حكمه حكم قاضي البلد. الباب الثاني: في معرفة ما يقضي به وأما فيما يحكم، فاتفقوا أن القاضي يحكم في كل شئ من الحقوق كان حقا لله أو حقا للآدميين، وأنه نائب عن الامام الأعظم في هذا المعنى وأنه يعقد الأنكحة ويقدم الأوصياء، وهل يقدم الأئمة في المساجد الجامعة؟ فيه خلاف، وكذلك هل يستخلف؟ فيه خلاف في المرض والسفر إلا أن يؤذن له. وليس ينظر في الحياة ولا في غير ذلك من الولاة، وينظر في التحجير على السفهاء عند من يرى التحجير عليهم. ومن فروع هذا الباب هل ما يحكم فيه الحاكم يحله للمحكوم له به، وإن لم يكن في نفسه حلالا؟ وذلك أنهم أجمعوا على أن حكم الحاكم الظاهر الذي يعتريه لا يحل حراما ولا يحرم حلالا، وذلك في الأموال خاصة لقوله عليه الصلاة والسلام: إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار. واختلفوا في حل عصمة النكاح أو عقده بالظاهر الذي يظن الحاكم أنه حق وليس بحق، إذ لا يحل حرام، ولا يحرم حلال بظاهر حكم الحاكم دون أن يكون الباطن كذلك هل يحل ذلك أم لا؟ فقال الجمهور: الأموال والفروج في ذلك سواء، لا يحل حكم الحاكم منها حراما ولا يحرم حلالا، وذلك مثل أن يشهد شاهد زور في امرأة أجنبية أنها زوجة لرجل أجنبي ليست له بزوجة، فقال الجمهور: لا تحل له وإن أحلها الحاكم بظاهر الحكم. وقال أبو حنيفة وجمهور أصحابه: تحل له. فعمدة الجمهور: عموم الحديث المتقدم، وشبهة الحنفية أن الحكم باللعان ثابت بالشرع، وقد علم أن أحد المتلاعنين كاذب، واللعان يوجب الفرقة ويحرم المرأة على زوجها الملاعن لها ويحلها لغيره، فإن كان هو الكاذب فلم تحرم عليه إلا بحكم الحاكم، وكذلك إن كانت هي الكاذبة، لان زناها لا يوجب فرقتها على قول أكثر
378 الفقهاء، والجمهور أن الفرقة ههنا إنما وقعت عقوبة للعلم بأن أحدهما كاذب. الباب الثالث: فيما يكون به القضاء والقضاء يكون بأربع: بالشهادة، وباليمين، وبالنكول، وبالإقرار، أو بما تركب من هذه، ففي هذا الباب أربعة فصول. الفصل الأول: في الشهادة والنظر في الشهود في ثلاثة أشياء: في الصفة، والجنس والعدد. فأما عدد الصفات المعتبرة في قبول الشاهد بالجملة فهي خمسة: العدالة، والبلوغ، والإسلام، والحرية، ونفي التهمة. وهذه منها متفق عليها، ومنها مختلف فيها. أما العدالة، فإن المسلمين اتفقوا على اشتراطها في قبول شهادة الشاهد لقوله تعالى: * (ممن ترضون من الشهداء) * ولقوله تعالى: * (وأشهدوا ذوي عدل منكم) *. واختلفوا فيما هي العدالة، فقال الجمهور: هي صفة زائدة على الاسلام، هو أن يكون ملتزما لواجبات الشرع ومستحباته، مجتنبا للمحرمات والمكروهات، وقال أبو حنيفة: يكفي في العدالة ظاهر الاسلام، وأن لا تعلم منه جرحة. وسبب الخلاف: كما قلنا ترددهم في مفهوم اسم العدالة المقابلة للفسق. وذلك أنهم اتفقوا على أن شهادة الفاسق لا تقبل لقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ) * الآية. ولم يختلفوا أن الفاسق تقبل شهادته إذا عرفت توبته، إلا من كان فسقه من قبل القذف، فإن أبا حنيفة يقول: لا تقبل شهادته وإن تاب. والجمهور يقولون: تقبل. وسبب الخلاف: هل يعود الاستثناء في قوله تعالى: * (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك) * إلى أقرب مذكور إليه، أو على الجملة إلا ما خصصه الاجماع، وهو أن التوبة لا تسقط عنه الحد، وقد تقدم هذا. وأما البلوغ فإنهم اتفقوا على أنه يشترط حيث تشترط العدالة. واختلفوا في شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجراح وفي القتل، فردها جمهور فقهاء الأمصار لما قلناه من وقوع الاجماع على أن من شرط الشهادة العدالة، ومن شرط العدالة البلوغ، ولذلك ليست في الحقيقة شهادة عند مالك، وإنما هي قرينة حال. ولذلك اشترط فيها أن لا يتفرقوا لئلا يجبنوا. واختلف أصحاب مالك هل تجوز إذا كان بينهم كبير أم لا؟ ولم يختلفوا أنه يشترط فيها العدة المشترطة في الشهادة، واختلفوا هل يشترط فيها الذكورة أم لا؟ واختلفوا أيضا هل تجوز في القتل الواقع بينهم؟ ولا عمدة لمالك في هذا إلا أنه مروي
379 عن ابن الزبير. قال الشافعي: فإذا احتج محتج بهذا قيل له: إن ابن عباس قد ردها، والقرآن يدل على بطلانها، وقال بقول مالك ابن أبي ليلى وقوم من التابعين، وإجازة مالك لذلك هو من باب إجازته قياس المصلحة. وأما الاسلام فاتفقوا على أنه شرط في القبول، وأنه لا تجوز شهادة الكافر، إلا ما اختلفوا فيه من جواز ذلك في الوصية في السفر لقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم) * الآية. فقال أبو حنيفة: يجوز ذلك على الشروط التي ذكرها الله تعالى. وقال مالك والشافعي: لا يجوز ذلك، ورأوا أن الآية منسوخة. وأما الحرية فإن جمهور فقهاء الأمصار على اشتراطها في قبول الشهادة، وقال أهل الظاهر: تجوز شهادة العبد، لان الأصل إنما هو اشتراط العدالة، والعبودية ليس لها تأثير في الرد، إلا أن يثبت ذلك من كتاب الله أو سنة أو إجماع، وكأن الجمهور رأوا أن العبودية أثر من أثر الكفر فوجب أن يكون لها تأثير في رد الشهادة. وأما التهمة التي سببها المحبة، فإن العلماء أجمعوا على أنها مؤثرة في اسقاط الشهادة. واختلفوا في رد شهادة العدل بالتهمة لموضع المحبة أو البغضة التي سببها العداوة الدنيوية، فقال بردها فقهاء الأمصار، إلا أنهم اتفقوا في مواضع على إعمال التهمة، وفي مواضع على اسقاطها، وفي مواضع اختلفوا فيها، فأهملها بعضهم وأسقطها بعضهم. فمما اتفقوا عليه رد شهادة الأب لابنه والابن لأبيه، وكذلك الأم لابنها وابنها لها. ومما اختلفوا في تأثير التهمة في شهادتهم شهادة الزوجين أحدهما للآخر، فإن مالكا ردها وأبا حنيفة، وأجازها الشافعي وأبو ثور والحسن، وقال ابن أبي ليلى: تقبل شهادة الزوج لزوجه ولا تقبل شهادتها له، وبه قال النخعي. وممن اتفقوا على اسقاط التهمة فيه شهادة الأخ لأخيه ما لم يدفع بذلك عن نفسه عارا علما قال مالك، وما لم يكن منقطعا إلى أخيه ينال بره وصلته، ما عدا الأوزاعي فإنه قال: لا تجوز. ومن هذا الباب اختلافهم في قبول شهادة العدو على عدوه، فقال مالك والشافعي: لا تقبل، وقال أبو حنيفة: تقبل. فعمدة الجمهور في رد الشهادة بالتهمة: ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين وما خرجه أبو داود من قوله عليه الصلاة والسلام: لا تقبل شهادة بدوي على حضري لقلة شهود البدوي ما يقع في المصر، فهذه فهذه هي عمدتهم من طريق السماع. وأما من طريق المعنى فلموضع التهمة، وقد أجمع الجمهور على تأثيرها في الأحكام الشرعية مثل اجتماعهم على أنه لا يرث القاتل المقتول، وعلى توريث المبتوتة في المرض وإن كان فيه خلاف. وأما الطائفة الثانية وهم شريح وأبو ثور وداود فإنهم قالوا: تقبل شهادة الأب لابنه فضلا عمن
380 سواه إذا كان الأب عدلا. وعمدتهم قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) * والامر بالشئ يقتضي إجزاء المأمور به إلا ما خصصه الاجماع من شهاد المرء لنفسه. وأما من طريق النظر، فإن لهم أن يقولوا رد الشهادة بالجملة إنما هو لموضع اتهام الكذب، وهذه التهمة إنما اعتملها الشرع في الفاسق ومنع إعمالها في العادل، فلا تجتمع مع التهمة. أما النظر في العدد والجنس، فإن المسلمين اتفقوا على أنه لا يثبت الزنا بأقل من أربعة عدول ذكور، واتفقوا على أنه تثبت جميع الحقوق ما عدا الزنا بشاهدين عدلين ذكرين ما خلا الحسن البصري، فإنه قال: لا تقبل بأقل من أربعة شهداء تشبيها بالرجم، وهذا ضعيف لقوله سبحانه: * (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) * وكل متفق أن الحكم يجب بالشاهدين غير يمين المدعي، إلا ابن أبي ليلى فإنه قال: لا بد من يمينه. واتفقوا على أنه تثبت الأموال بشاهد عدل ذكر وامرأتين لقوله تعالى: * (فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء) *. واختلفوا في قبولهما في الحدود، فالذي عليه الجمهور أنه لا تقبل شهادة النساء في الحدود لا مع رجل ولا مفردات، وقال أهل الظاهر: تقبل إذا كان معهن رجل وكان النساء أكثر من واحدة في كل شئ على ظاهر الآية، وقال أبو حنيفة: تقبل في الأموال وفيما عدا الحدود من أحكام الأبدان مثل الطلاق والرجعة والنكاح والعتق، ولا تقبل عند مالك في حكم من أحكام البدن. واختلف أصحاب مالك في قبولهن في حقوق الأبدان المتعلقة بالمال، مثل الوكالات والوصية التي لا تتعلق إلا بالمال فقط، فقال مالك وابن القاسم وابن وهب: يقبل فيه شاهد وامرأتان، وقال أشهب وابن الماجشون: لا يقبل فيه إلا رجلان. وأما شهادة النساء مفردات، أعني النساء دون الرجال فهي مقبولة عند الجمهور في حقوق الأبدان التي لا يطلع عليها الرجال غالبا مثل الولادة والاستهلال وعيوب النساء. ولا خلاف في شئ من هذا إلا في الرضاع، فإن أبا حنيفة قال: لا تقبل فيه شهادتهن إلا مع الرجال، لأنه عنده من حقوق الأبدان التي يطلع عليها الرجال والنساء. والذين قالوا بجواز شهادتهن مفردات في هذا الجنس اختلفوا في العدد المشترط في ذلك منهن، فقال مالك: يكفي في ذلك امرأتان، قيل مع انتشار الامر، وقيل إن لم ينتشر، وقال الشافعي: ليس يكفي في ذلك أقل من أربع. لان الله عز وجل قد جعل عديل الشاهد الواحد امرأتين، واشترط الاثنينية، وقال قوم: لا يكفي بذلك بأقل من ثلاث وهو قول لا معنى له، وأجاز أبو حنيفة شهادة المرأة فيما بين السرة والركبة، وأحسب أن الظاهرية أو بعضهم لا يجيزون شهادة النساء مفردات في كل شئ كما يجيزون مع
381 الرجال في كل شئ وهو الظاهر. وأما شهادة المرأة الواحدة بالرضاع، فإنهم أيضا اختلفوا فيها لقوله عليه الصلاة والسلام في المرأة الواحدة التي شهدت بالرضاع كيف وقد أرضعتكما وهذا ظاهره الانكار، ولذلك لم يختلف قول مالك في أنه مكروه. الفصل الثاني: في الايمان وأما الايمان، فإنهم اتفقوا على أنها تبطل بها الدعوى من المدعى عليه إذا لم تكن للمدعي بينة. واختلفوا هل يثبت بها حق المدعي، فقال مالك: يثبت بها حق المدعي في إثبات ما أنكره المدعى عليه وإبطال ما ثبت عليه من الحقوق إذا ادعى الذي ثبت عليه إسقاطه في الموضع الذي يكون المدعي أقوى سببا وشبهة من المدعى عليه، وقال غيره لا تثبت للمدعي باليمن دعوى سواء أكانت في اسقاط حق عن نفسه قد ثبت عليه، أو إثبات حق أنكره فيه خصمه. وسبب اختلافهم: ترددهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام: البينة على من ادعى واليمين على من أنكر هل ذلك عام في كل مدعى عليه ومدع، أم إنما خص المدعي بالبينة والمدعى عليه باليمين، لان المدعي في الأكثر هو أضعف شبهة من المدعى عليه والمدعي بخلافه؟ فمن قال هذا الحكم عام في كل مدع ومدعى عليه ولم يرد بهذا العموم خصوصا قال: لا يثبت باليمين حق، ولا يسقط به حق ثبت، ومن قال إنما خص المدعى عليه بهذا الحكم من جهة ما هو أقوى شبهة قال: إذا اتفق أن يكون موضع تكون فيه شبهة المدعي أقوى يكون القول قوله، واحتج هؤلاء بالمواضع التي اتفق الجمهور فيها على أن القول فيها قول المدعي مع يمينه، مثل دعوى التلف في الوديعة، وغير ذلك إن وجد شئ بهذه الصفة، ولأولئك أن يقولوا: الأصل ما ذكرنا إلا ما خصصه الاتفاق. وكلهم مجمعون على أن اليمين التي تسقط الدعوى أو تثبتها هي اليمين بالله، الذي لا إله إلا هو، وأقاويل فقهاء الأمصار في صفتها متقاربة، وهي عند مالك: الذي لا إله إلا هو، لا يزيد عليها، ويزيد الشافعي: الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية. وأما هل تغلظ بالمكان؟ فإنهم اختلفوا في ذلك، فذهب مالك إلى أنها تغلظ بالمكان، وذلك في قدر مخصوص، وكذلك الشافعي. واختلفوا في القدر، فقال مالك: إن من ادعى عليه بثلاثة دراهم فصاعدا وجبت عليه اليمين في المسجد الجامع، فإن كان مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، فلا خلاف أنه يحلف على المنبر، وإن كان في غيره من المساجد ففي ذلك روايتان: إحداهما: حيث اتفق من المسجد، والأخرى عند المنبر. وروى عنه ابن القاسم أنه يحلف فيما له بال في الجامع، ولم يحدد. وقال الشافعي: يحلف في المدينة عند المنبر، وفي مكة بين الركن والمقام، وكذلك عنده في كل بلد يحلف عند المنبر، والنصاب عنده في ذلك عشرون دينارا، وقال داود: يحلف على المنبر في القليل والكثير، وقال أبو حنيفة: لا تغلظ اليمين بالمكان. وسبب الخلاف: هل تغليظ
382 الوارد في الحلف على منبر النبي (ص) يفهم منه وجوب الحلف على المنبر أم لا؟ فمن قال: إنه يفهم منه ذلك قال: لأنه لو لم يفهم منه ذلك لم يكن للتغليظ في ذلك معنى، ومن قال للتغليظ معنى غير الحكم بوجوب اليمين على المنبر قال: لا يجب الحلف على المنبر، والحديث الوارد في التغليظ هو حديث جابر بن عبد الله الأنصاري أن رسول الله (ص) قال: من حلف على منبري آثما تبوأ مقعده من النار واحتج هؤلاء بالعمل فقالوا: هو عمل الخلفاء. قال الشافعي: لم يزل عليه العمل بالمدينة وبمكة. قالوا: ولو كان التغليظ لا يفهم منه إيجاب اليمين في الموضع المغلظ لم يكن له فائدة إلا تجنب اليمين في ذلك الموضع. قالوا: وكما أن التغليظ الوارد في اليمين مجردا مثل قوله عليه الصلاة والسلام: من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار يفهم منه وجوب القضاء باليمين، وكذلك التغليظ الوارد في المكان. وقال الفريق الاخر: لا يفهم من التغليب باليمن وجوب الحكم باليمن، وإذ لم يفهم من تغليظ اليمين وجوب الحكم باليمين لم يفهم من تغليظ اليمين بالمكان وجوب اليمين بالمكان وليس فيه إجماع من الصحابة، والاختلاف فيه مفهوم من قضية زيد بن ثابت. وتغلظ بالمكان عند مالك في القسامة واللعان، وكذلك بالزمان لأنه قال في اللعان أن يكون بعد صلاة العصر على ما جاء في التغليظ فيمن حلف بعد العصر. وأما القضاء باليمين مع الشاهد فإنهم اختلفوا فيه. فقال مالك والشافعي وأحمد وداود وأبو ثور والفقهاء السبعة المدنيون وجماعة: يقضي اليمين مع الشاهد في الأموال. وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وجمهور أهل العراق: لا يقضي باليمن مع الشاهد في شئ، وبه قال الليث من أصحاب مالك. وسبب الخلاف في هذا الباب: تعارض السماع. أما القائلون به فإنهم تعلقوا في ذلك آثار كثيرة، منها حديث ابن عباس، وحديث أبي هريرة، وحديث زيد بن ثابت، وحديث جابر، إلا أن الذي خرج مسلم منها حديث ابن عباس، ولفظه أن رسول الله (ص) قضى باليمين مع الشاهد أخرجه مسلم ولم يخرجه البخاري. وأما مالك فإنما اعتمد مرسله في ذلك عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله (ص) قضى باليمين مع الشاهد لان العمل عنده بالمراسيل واجب. وأما السماع المخالف لها فقوله تعالى: * (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء) * قالوا: وهذا يقتضي الحصر فالزيادة عليه نسخ، ولا ينسخ القرآن بالسنة الغير متواترة، وعند المخالف أنه ليس بنسخ بل زيادة لا تغير حكم المزيد. وأما السنة فما خرجه البخاري ومسلم عن الأشعث بن قيس قال: كان بيني وبين رجل خصومة في شئ، فاختصمنا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال:
383 شاهداك أو يمينه فقلت: إذن يحلف ولا يبالي. فقال النبي (ص) من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان قالوا: فهذا منه عليه الصلاة والسلام حصر للحكم ونقض لحجة كل واحد من الخصمين، ولا يجوز عليه (ص) ألا يستوفي أقسام الحجة للمدعي. والذين قالوا باليمين مع الشاهد هم على أصلهم في أن اليمين هي حجة أقوى المتداعيين شبهة. وقد قويت هنا حجة المدعي بالشاهد كما قويت في القسامة. وهؤلاء اختلفوا في القضاء مع المرأتين. فقال مالك: يجوز لان المرأتين قد أقيمتا مقام الواحد، وقال الشافعي: لا يجوز له، لأنه إنما أقيمت مقام الواحد مع الشاهد الواحد لا مفردة ولا مع غيره. وهل يقضي باليمين في الحدود التي هي حق للناس مثل القذف والجراح؟ فيه قولان في المذهب. الفصل الثالث: النكول وأما ثبوت الحق على المدعى عليه بنكوله، فإن الفقهاء أيضا اختلفوا في ذلك، فقال مالك والشافعي وفقهاء أهل الحجاز وطائفة من العراقيين: إذا نكل المدعى عليه لم يجب للمدعي شئ بنفس النكول، إلا أن يحلف المدعي أو يكون له شاهد واحد، وقال أبو حنيفة وأصحابه وجمهور الكوفيين: يقضي للمدعي على المدعى عليه بنفس النكول، وذلك في المال بعد أن يكرر عليه اليمين ثلاثا. وقلب اليمين عند مالك يكون في الموضع الذي يقبل فيه شاهد وامرأتان، وشاهد ويمين، وقلب اليمين عند الشافعي يكون في كل موضع يجب فيه اليمين، وقال ابن أبي ليلى: أردها في غير التهمة. ولا أردها في التهمة. وعند مالك في يمين التهمة هل تنقلب أم لا؟ قولان. فعمدة من رأى أن تنقلب ما رواه مالك من أن رسول الله (ص) رد في القسامة على اليهود بعد أن بدأ بالأنصار. ومن حجة مالك أن الحقوق عنده إنما تثبت بشيئين: إما بيمين وشاهد، وإما بنكول وشاهد، وإما بنكول ويمين، أصل ذلك عند اشتراط الاثنينية في الشهادة، وليس يقضي عند الشافعي بشاهد ونكول. وعمدة من قضى بالنكول أن الشهادة لما كانت لاثبات الدعوى، واليمين لابطالها وجب إن نكل عن اليمين أن تحقق عليه الدعوى، قالوا: وأما نقلها من المدعى عليه إلى المدعي فهو خلاف للنص، لان اليمين قد نص على أنها دلالة المدعى عليه. فهذه أصول الحجج التي يقضي بها القاضي. ومما اتفقوا عليه في هذا الباب أنه يقضي القاضي بوصول كتاب قاض آخر إليه. لكن هذا عند الجمهور ما اقتران الشهادة به، أعني إذا أشهد القاضي الذي يثبت عنده الحكم شاهدين عدلين أن الحكم ثابت عنده - أعني المكتوب في الكتاب الذي أرسله إلى القاضي الثاني، فشهدا عند القاضي الثاني أنه كتابه. وأنه أشهدهم بثبوته، وقد قيل: إنه يكتفي فيه بخط القاضي، وأنه كان به العمل الأول. واختلف مالك والشافعي وأبو حنيفة إن أشهدهم على الكتابة ولم يقرأه
384 عليهم. فقال مالك: يجوز. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يجوز ولا تصح الشهادة. واختلفوا في العفاص والوكاء هل يقضي به في اللقطة دون شهادة، أم لا بد في ذلك من شهادة؟ فقال مالك: يقضي بذلك، وقال الشافعي: لا بد من الشاهدين. وكذلك قال أبو حنيفة، وقول مالك هو أجرى على نص الأحاديث، وقول الغير أجرى على الأصول. ومما اختلفوا فيه من هذا الباب قضاء القاضي بعلمه، وذلك أن العلماء أجمعوا على أن القاضي يقضي بعلمه في التعديل والتجريح. وأنه إذا شهد الشهود بضد علمه لم يقض به، وأنه يقضي بعلمه في إقرار الخصم وإنكاره، إلا مالكا فإنه رأى أن يحضر القاضي شاهدين لاقرار الخصم وإنكاره، وكذلك أجمعوا على أنه يقضي بعلمه في تغليب حجة أحد الخصمين على حجة الآخر إذا لم يكن في ذلك خلاف. واختلفوا إذا كان في المسألة خلاف، فقال قوم: لا يرد حكمه إذا لم يخرق الاجماع، وقال قوم: إذا كان شاذا، وقال قوم: يرد إذا كان حكما بقياس، وهنالك سماع من كتاب أو سنة تخالف القياس، وهو الأعدل، إلا أن يكون القياس تشهد له الأصول، والكتاب محتمل، والسنة غير متواترة، وهذا هو الوجه الذي ينبغي أن يحمل عليه من غلب القياس من الفقهاء في موضع من المواضع على الأثر مثل ما ينسب إلى أبي حنيفة باتفاق، وإلى مالك باختلاف. واختلف هل يقضي بعلمه على أحد دون بينة أو إقرار، أو لا يقضي إلا بالدليل والاقرار؟ فقال مالك وأكثر أصحابه: لا يقضي إلا بالبينات أو الاقرار، وبه قال أحمد وشريح، وقال الشافعي والكوفي وأبو ثور وجماعة: للقاضي أن يقضي بعلمه، ولكلا الطائفتين سلف من الصحابة والتابعي، وكل واحد منهما اعتمد في قوله السماع والنظر. أما عمدة الطائفة التي منعت من ذلك، فمنها حديث معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي (ص) بعث أبا جهم على صدقة فلاحاه رجل في فريضة، فوقع بينهما شجاج، فأتوا النبي (ص) فأخبروه، فأعطاهم الأرش، ثم قال عليه الصلاة والسلام: إني خاطب الناس ومخبرهم أنكم قد رضيتم، أرضيتم؟ قالوا: نعم، فصعد رسول الله (ص) المنبر، فخطب الناس وذكر القصة، وقال: أرضيتم؟ قالوا: لا، فهم بهم المهاجرون، فنزل رسول الله (ص) فأعطاهم، ثم صعد المنبر فخطب، ثم قال: أرضيتم؟ قالوا: نعم فهذا بين في أنه لم يحكم عليهم بعلمه (ص). وأما من جهة المعنى فالتهمة اللاحقة في ذلك للقاضي. وقد أجمعوا أن للتهمة تأثيرا في الشرع: منها أن لا يرث القاتل عمدا عند الجمهور من قتله. ومنها ردهم شهادة الأب لابنه، وغير ذلك مما هو معلوم من جمهور الفقهاء. وأما عمدة من أجاز ذلك، أما من طريق السماع فحديث عائشة في قصة هند بنت عتبة بن ربيعة مع زوجها أبي سفيان بن حرب حين قال لها عليه الصلاة والسلام وقد شكت أبا سفيان خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف دون أن يسمع قول خصمها. وأما من طريق المعنى فإنه إذا كان له أن يحكم بقول الشاهد الذي هو مظنون في
385 حقه، فأحرى أن يحكم بما هو عنده يقين. وخصص أبو حنيفة وأصحابه ما يحكم فيه الحاكم بعلمه فقالوا: لا يقضي بعلمه في الحد ويقضي في غير ذلك، وخصص أيضا أبو حنيفة العلم الذي يقضي به فقال: يقضي بعلمه الذي علمه في القضاء، ولا يقضي بما علمه قبل القضاء. وروي عن عمر أنه قضى بعلمه على أبي سفيان لرجل من بني مخزوم. وقال بعض أصحاب مالك: يقضي بعلمه في المجلس أعني بما يسمع وإن لم يشهد عنده بذلك، وهو قول الجمهور كما قلنا، وقول المغيرة هو أجرى على الأصول، لان الأصل في هذه الشريعة لا يقضي إلا بدليل وإن كانت غلبة الظن الواقعة به أقوى من الظن الواقع بصدق الشاهدين. الفصل الرابع: في الاقرار وأما الاقرار إذا كان بينا فلا خلاف في وجوب الحكم به، وإنما النظر فيمن يجوز إقراره ممن لا يجوز. وإذا كان الاقرار محتملا رفع الخلاف. أما من يجوز إقراره ممن لا يجوز فقد تقدم. وأما عدد الاقرارات الموجبة فقد تقدم في باب الحدود، ولا خلاف بينهم أن الاقرار مرة واحدة عامل في المال. وأما المسائل التي اختلفوا فيها من ذلك فهو من قبل احتمال اللفظ، وأنت إن أحببت أن تقف عليه فمن كتب الفروع. الباب الرابع: في معرفة من يقضى عليه أو له وأما على من يقضى ولمن يقضي؟ فإن الفقهاء اتفقوا على أنه يقضي لمن ليس يتهم عليه. واختلفوا في قضائه لمن يتهم عليه. فقال مالك: لا يجوز قضاؤه على من لا تجوز عليه شهادته. وقال قوم: يجوز لان القضاء يكون بأسباب معلومة وليس كذلك الشهادة. وأما على من يقضى؟ فإنهم اتفقوا على أنه يقضى على المسلم الحاضر. واختلفوا في الغائب وفي القضاء على أهل الكتاب. فأما القضاء على الغائب، فإن مالكا والشافعي قالا: يقضى على الغائب البعيد الغيبة، وقال أبو حنيفة: لا يقضي على الغائب أصلا، وبه قال ابن الماجشون، وقد قيل عن مالك لا يقضي في الرباع المستحقة. فعمدة من رأى القضاء حديث هند المتقدم ولا حجة فيه، لأنه لم يكن غائبا عن المصر. وعمدة من لم ير القضاء قوله عليه الصلاة والسلام: فإنما أقضي له بحسب ما أسمع وما رواه أبو داود وغيره عن علي أن النبي (ص) قال له حين أرسله إلى اليمين لا تقض لاحد الخصمين حتى تسمع من الآخر وأما الحكم على الذمي، فإن في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يقضي بينهم إذا ترافعوا إليه بحكم المسلمين، وهو مذهب أبي حنيفة. والثاني: أنه مخير، وبه قال مالك، وعن الشافعي القولان، والثالث: أنه واجب على الامام أن يحكم بينهم وأن لم يتحاكموا إليه. فعمدة من اشترط مجيئهم للحاكم قوله تعالى: * (فإن جاؤوك فاحكم بينهم
386 أو أعرض عنهم) * وبهذا تمسك من رأى الخيار، ومن أوجبه اعتمد قوله تعالى: * (وأن احكم بينهم) * ورأي أن هذا ناسخ لآية التخيير. وأما من رأى وجوب الحكم عليهم وإن لم يترافعوا، فإنه احتج بإجماعهم على أن الذمي إذا سرق قطعت يده الباب الخامس: في كيفية القضاء وأما كيف يقضي القاضي، فإنهم أجمعوا على أنه واجب عليه أن يسوي بين الخصمين في المجلس وألا يسمع من أحدهما دون الآخر، وأن يبدأ بالمدعي فيسأله البينة إن أنكر المدعى عليه. وإن لم يكن له بينة فإن كان في ماله وجبت اليمين على المدعى عليه باتفاق، وإن كانت في طلاق أو نكاح أو قتل وجبت عند الشافعي بمجرد الدعوى. وقال مالك: لا تجب إلا مع شاهد، وإذا كان في المال فهل يحلفه المدعى عليه بنفس الدعوى أم لا يحلفه حتى يثبت المدعي الخلطة اختلفوا في ذلك، فقال جمهور فقهاء الأمصار: اليمين تلزم المدعى عليه بنفس الدعوى لعموم قوله عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عباس: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه وقال مالك: لا تجب اليمين إلا بالمخالطة، وقال بها السبعة من فقهاء المدينة. وعمدة من قال بها النظر إلى المصلحة لكيلا يتطرق الناس بالدعاوي إلى تعنيت بعضهم بعضا، وإذاية بعضهم بعضا، ومن هنا لم ير مالك إحلاف المرأة زوجها إذا ادعت عليه الطلاق إلا أن يكون معها شاهد، وكذلك إحلاف العبد سيده في دعوى العتق عليه. والدعوى لا تخلو أن تكون في شئ في الذمة أو في شئ بعينه، فإن كانت في الذمة فادعى المدعى عليه البراءة من تلك الدعوى وأن له بينة سمعت منه بينته باتفاق. وكذلك إن كان اختلاف في عقد وقع أو عين مثل بيع أو غير ذلك. وأما إن كانت الدعوى في عين وهو الذي يسمى استحقاقا، فإنهم اختلفوا هل تسمع بينة المدعى عليه؟ فقال أبو حنيفة: لا تسمع بينة المدعى عليه إلا في النكاح وما لا يتكرر، وقال غيره: لا تسمع في شئ، وقال مالك والشافعي: تسمع - أعني في أن تشهد للمدعي بينة المدعى عليه أنه مال له وملك. فعمدة من قال لا تسمع أن الشرع قد جعل البينة في حيز المدعي واليمين في حيز المدعى عليه، فوجب أن لا ينقلب الامر، وكان ذلك عندهما عبادة. وسبب الخلاف: هل تفيد بينة المدعى عليه معنى زائدا على كون الشئ المدعي فيه موجودا بيده، أم ليست تفيد ذلك؟ فمن قال: لا تفيد معنى زائدا قال: لا معنى لها، ومن قال تفيد: اعتبرها. فإذا قلنا باعتبار بينة المدعى عليه فوقع التعارض بين البينتين ولم تثبت إحداهما أمر زائدا مما لا يمكن أن يتكرر في ملك ذي الملك. فالحكم عند مالك أن يقضي بأعدل البينتين ولا يعتبر الأكثر، وقال أبو حنيفة: بينة المدعي أولى على أصله ولا تترجح عنده بالعدالة كما لا تترجح عند مالك بالعدد، وقال الأوزاعي:
387 تترجح بالعدد وإذا تساوت في العدالة فذلك عند مالك كلا بينة يحلف المدعى عليه، فإن نكل حلف المدعي ووجب الحق، لان يد المدعى عليه شاهدة له، ولذلك جعل دليله الدليلين: أعني اليمين. وأما إذا أقر الخصم فإن كان المدعى فيه عينا فلا خلاف أنه يدفع إلى مدعيه. وأما إذا كان مالا في الذمة، فإنه يكلف المقر غرمه فإن ادعى العدم حبسه القاضي عند مالك حتى يتبين عدمه، أما بطول السجن والبينة إن كان متهما فإذا لاح عسره خلي سبيله لقوله تعالى: * (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) *. وقال قوم: يؤاجره، وبه قال أحمد. وروي عن عمر بن عبد العزيز، وحكي عن أبي حنيفة أن لغرمائه أن يدوروا معه حيث دار، ولا خلاف أن البينة إذا جرحها المدعى عليه أن الحكم يسقط إذا كان التجريح قبل الحكم، وإن كان بعد الحكم لم ينتقض عند مالك، وقال الشافعي: ينتقض. وأما إن رجعت البينة عن الشهادة، فلا يخلو أن يكون ذلك قبل الحكم أو بعده، فإن كان قبل الحكم فالأكثر أن الحكم لا يثبت، وقال بعض الناس: يثبت. وإن كان بعد الحكم. فقال مالك: يثبت الحكم. وقال غيره لا يثبت الحكم. وعند مالك أن الشهداء يضمنون ما أتلفوا بشهادتهم. فإن كان مالا ضمنوه على كل حال، قال عبد الملك: لا يضمنون في الغلط، وقال الشافعي: لا يضمنون المال. وإن كان دما فإن ادعوا الغلط ضمنوا الدية. وإن أقروا أقيد منهم على قول أشهب، ولم يقتص منهم على قول ابن القاسم. الباب السادس: في وقت القضاء وأما متى يقضي، فمنها ما يرجع إلى حال القاضي في نفسه، ومنها ما يرجع إلى وقت إنفاذ الحكم وفصله، ومنها ما يرجع إلى وقت توقيف المدعي فيه وإزالة اليد عنه إذا كان غبنا. فأما متى يقضي القاضي؟ فإذا لم يكن مشغول النفس لقوله عليه الصلاة والسلام: لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان ومثل هذا عند مالك أن يكون عطشانا أو جائعا أو خائفا أو غير ذلك من العوارض التي تعوقه عن الفهم، لكن إذا قضى في حال من هذه الأحوال بالصواب فاتفقوا - فيما أعلم - على أنه ينفذ حكمه، ويحتمل أن يقال: ينفذ فيما وقع عليه النص وهو الغضبان، لان النهي يدل على فساد المنهي عنه. وأما متى ينفذ الحكم عليه فبعد ضرب الاجل والاعذار إليه، ومعنى نفوذ هذا، هو أن يحق حجة المدعي أو يدحضها، وهل له أن يسمع حجة بعد الحكم؟ فيه اختلاف من قول مالك، والأشهر أنه يسمع فيما كان حقا لله مثل الاحباس والعتق ولا يسمع في غير ذلك. وقيل لا يسمع بعد نفوذ الحكم وهو الذي يسمى التعجيز وقيل: لا يسمع منهما جميعا، وقيل بالفرق بين المدعي والمدعى عليه، وهو ما إذا أقر بالعجز. وأما وقت التوقيف فهو عند الثبوت وقبل الاعذار، وهو إذا لم يرد الذي استحق
388 الشئ من يده أن يخاصم فله أن يرجع بثمنه على البائع، وإن كان يحتاج في رجوعه به على البائع أن يوافقه عليه فيثبت شراءه منه إن أنكره، أو يعترف له به إن أقره فللمستحق من يده أن يأخذ الشئ من المستحق ويترك قيمته بيد المستحق. وقال الشافعي: يشتريه منه. فإن عطب في يد المستحق فهو ضامن له، وإن عطب في أثناء الحكم: ممن ضمانه؟ اختلف في ذلك، فقيل: إن عطب بعد الثبات فضمانه من المستحق وقيل: إنما يضمن المستحق بعد الحكم. وأما بعد الثبات وقبل الحكم فهو من المستحق منه، قال القاضي رضي الله عنه: وينبغي أن تعلم أن الأحكام الشرعية تنقسم قسمين: قسم يقضي به الحكام وجل ما ذكرناه في هذا الكتاب هو داخل في هذا القسم، وقسم لا يقضي به الحكام، وهذا أكثره هو داخل في المندوب إليه. وهذا الجنس من الاحكام هو مثل رد السلام وتشميت العاطس وغير ذلك مما يذكره الفقهاء في أواخر كتبهم التي يعرفونها بالجوامع، ونحن فقد رأينا أن نذكر أيضا من هذا الجنس المشهور منه إن شاء الله تعالى. وأما ما ينبغي قبل هذا أن تعلم أن السنن المشروعة العملية المقصود منها هو الفضائل النفسانية، فمنها ما يرجع إلى تعظيم من يجب تعظيمه وشكر من يجب شكره، وفي هذا الجنس تدخل العبادات. وهذه هي السنن الكرامية، ومنها ما يرجع إلى الفضيلة التي تسمى عفة وهذه صنفان: السنن الواردة في المطعم والمشرب، والسنن الواردة في المناكح، ومنها ما يرجع إلى طلب العدل والكف عن الجور. فهذه هي أجناس السنن التي تقتضي العدل في الأموال، والتي تقتضي العدل في الأبدان، وفي هذا الجنس يدخل القصاص والحروب والعقوبات. لأن هذه كلها إنما يطلب بها العدل، ومنها السنن الواردة في الاعراض، ومنها السنن الواردة في جميع الأموال وتقويمها، وهي التي يقصد بها طلب الفضيلة التي تسمى السخاء، وتجنب الرذيلة التي تسمى البخل. والزكاة تدخل في هذا الباب من وجه، وتدخل في باب الاشتراك في الأموال، وكذلك الامر في الصدقات. ومنها سنن واردة في الاجتماع الذي هو شرط في حياة الانسان وحفظ فضائله العملية والعلمية، وهي المعبر عنها بالرياسة، ولذلك لزم أيضا أن تكون سنن الأئمة والقوام بالدين. ومن السنة المهمة في حين الاجتماع السنن الواردة في المحبة والبغضة والتعاون على إقامة هذه السنن، وهو الذي يسمى: النهي عن المنكر والامر بالمعروف، وهي المحبة والبغضة: أي الدينية التي تكون إما من قبل الاخلال بهذه السنن، وإما من قبل سوء المعتقد في الشريعة. وأكثر ما يذكر الفقهاء في الجوامع من كتبهم ما شذ عن الأجناس الأربعة التي هي فضيلة العفة وفضيلة العدل وفضيلة الشجاعة وفضيلة السخاء، والعبادة التي هي كالشروط في تثبيت هذه الفضائل. كمل كتاب الأقضية، وبكماله كمل جميع الديوان، والحمد لله كثيرا على ذلك كما هو أهله.