بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل المؤلف: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي الجزء: 20 الوفاة: معاصر المجموعة: مصادر التفسير عند الشيعة تحقيق: الطبعة: سنة الطبع: المطبعة: الناشر: ردمك: ملاحظات: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل طبعة جديدة منقحة مع إضافات تأليف العلامة الفقيه المفسر آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي المجلد العشرون
1 2 نهاية تجربة 3 وبداية تجربة أخرى ها نحن بفضل الله ومنه وتوفيقه في نهاية المطاف مع " التفسير الأمثل "، بعد جولة في كتاب الله استغرقت خمسة عشر عاما: ومن المناسب أن يكون لنا مع القارئ الكريم، الذي رافقنا في هذه الرحلة الطويلة، حديث نستعرض فيه عصارة تجربتنا مع هذا التفسير على أن يكون مفيدا للسائرين على طريق الدراسة والتعمق في القرآن الكريم. 1 - خلال جولتنا في رحاب كتاب الله ازددنا تفهما لما ورد في الحديث الشريف بشأن وصف القرآن، بل تلمسنا هذه الأوصاف بكل وجودنا، ورأينا بام أعيننا. من ذلك ما ورد عن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام أنه قال في القرآن: " له نجوم، وعلى نجومه نجوم، ولا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى، ومنازل الحكمة ". (1) وعن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أنه في جواب من سأله: ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة؟ قال: " لأن الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة ". (2) نعم: إنه الشجرة الطيبة التي تؤتي اكلها كل حين بإذن ربها، وهو البحر
1 - بحار الأنوار، ج 89، ص 17. 2 - المصدر السابق، ص 15. 5 الواسع العميق الذي يجد فيه الغواص درا جديدا كلما ازداد فيه غوصا. هذه الحقيقة تتضح لكل السالكين طريق القرآن، وتبعث فيهم الشوق والإندفاع نحو طلب المزيد من مائدة كتاب الله، ونحو مواصلة هذا الطريق حتى نهاية رحلة العمر. وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال في حديثه عن القرآن: " فيه ربيع القلب، وينابيع العلم، وما للقلب جلاء غيره ". (1) وهذه حقيقة أخرى تلمسناها خلال جولتنا في رحاب القرآن الكريم. وكلما عاش الإنسان جو القرآن أكثر يحس بتفتح جديد في القلب والروح. وهذا الإحساس واضح لكل من دخل غمار التجربة. وباب الدخول مفتوح لمن أراد أن يجرب. 2 - من خلال هذه الجولة التفسيرية تبين مدى شمول التعاليم القرآنية، واتضح أن القرآن الكريم لم يترك مجالا من المجالات الحيوية في الساحة الإنسانية دون أن يبين أصولها ويعين إطارها (التفاصيل تكفلت السنة ببيانها). من هنا لا يحتاج الإنسان المسلم في تنظيم حياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى أن يولي وجهه شطر مدارس الشرق أو الغرب، وكما قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): " واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة ولا لأحد قبل القرآن من غنى ". (2) مشكلة المسلمين تكمن في عدم معرفتهم بما بين ظهرانيهم من كنز عظيم: كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ * والماء فوق ظهورها محمول وهنا نشير مرة أخرى إلى أن معارف القرآن وتعاليمه لا يمكن أن نتلقاها من
1 - نهج البلاغة، الخطبة 176. 2 - المصدر السابق. 6 كتاب الله العزيز إلا إذا جلسنا عنده متتلمذين متعلمين. أما إذا اقبلنا على القرآن بذهنية مملوءة بأحكام مسبقة ملتقطة من مدارس الشرق والغرب، فسوف نلجأ إلى زج آيات القرآن في إطار مفاهيم غريبة عليه، لتنسجم مع ما نحمله من أحكام ونظريات مسبقة، وبذلك نحرم من عطاء القرآن، ونحوله إلى " آلة " لتبرير أخطائنا وإسناد أفكارنا الناقصة. 3 - بعد هذه الجولة القرآنية التي تلمسنا فيها الحياة القرآنية بكل ما تحمله من عطاء ثر لحياة الفرد والجماعة، لابد أن نسجل أسفنا لما يحمله كثير من المسلمين من نظرة إلى القرآن... نظرة تجعل القرآن محاطا بهالة من القدسية غير أنه معزول عن الحياة. تتلمس الثواب والبركة في التلاوة، والفضيلة في الحفظ، دون أن ترى فيه منهجا للحياة. لقد نسي هؤلاء أن القرآن مدرسة للفرد المسلم وللجماعة المسلمة، يرسم لها طريقها في جميع المجالات، ويوجهها الوجهة الصحيحة في كل المنعطفات، وهنا تكمن عظمة القرآن وقدسيته. كثيرة هي مدارس القرآن وخلاوي التحفيظ ومجلس التلاوة في عالمنا الإسلامي، وكم يدور فيها من البحوث حول طريقة التجويد والترتيل! لكن الحديث عن المنهج العملي الذي يطرحه القرآن قليل، والالتزام بهذا المنهج أقل. ونحن في هذا التفسير قلما تعرضنا لسورة دون أن نبين أن التلاوة التي بينت السنة فضائلها إنما هي التلاوة المتبوعة بالفكر والعمل... فضيلة التلاوة أن يكون مقدمة للتفكر، أن يؤدي التفكر إلى العمل. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق علماء المسلمين لطرح منهج القرآن بين أبناء الأمة، وأن يوفق اتباع القرآن إلى العمل به في كل جوانب حياتهم، وهذه كلمتنا الأخيرة في التفسير الأمثل، وندع بقية الحديث إلى (التفسير الموضوعي). والحمد لله رب العالمين * * *
7 1 سورة 1 المطففين 1 مكية 1 وعدد آياتها ست وثلاثون آية
9 1 " سورة المطففين " 3 محتوى السورة: لقد جرى الحديث بين المفسرين بخصوص نزولها بين مكة والمدينة، وبملاحظة أسباب نزول الآيات الأولى من السورة، والتي تتعلق بالذين يخسرون الميزان، فسيظهر أن نزولها كان في المدينة. ولكن طبيعة بقية الآيات تأتي تماما مع سياق الآيات المكية، حيث أنها تتحدث وبعبارات موجزة ومثيرة عن حوادث يوم القيامة، وعلى الخصوص الآيات الأخيرة من السورة والتي تنقل لنا حالة استهزاء الكفار بالمسلمين، وهو ما ينسجم مع أوضاع مكة في أوائل الدعوة المباركة، حينها كان المؤمنون عصبة قليلة والكفار كثرة من حيث العدد. ولعل ذلك هو الذي دفع بالمفسرين لإعتبار قسم من الآيات مكية والقسم الآخر مدنية. وعموما، فالسورة أقرب منها للسور المكية من السور المدنية، وعلى أية حال، فبحوث السورة تدور حول محاور خمس: هي: 1 - تحذير وإنذار شديد للمطففين. 2 - الإشارة إلى أن منشأ الذنوب الكبيرة إنما يأتي من عدم رسوخ الإيمان بالبعث والمعاد. 3 - عرض لجوانب من عاقبة " الفجار " في ذلك اليوم العظيم. 4 - عرض لجوانب ما ينتظر المحسنين في الجنة من نعم إلهية وعطاء رباني جزيل.
11 5 - الإشارة لآثار استهزاء الكفار بالمؤمنين في الحياة الدنيا، وانعكاس الحال في يوم القيامة. 3 فضيلة السورة: روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنه قال: " من قرأ سورة المطففين سقاه الله من الرحيق المختوم " (1). وعن الإمام الصادق (عليه السلام): أنه قال: " من قرأ في فرائضه ويل للمطففين أعطاه الأمن يوم القيامة من النار، ولم تره، ولم يرها... " (2). وبطبيعة الحال، فكل هذا الثواب والفضيلة والبركة، سينالها من جعل قراءتها مقدمة للعمل على هديها. * * *
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 451. 2 - ثواب الأعمال، ص 122، وعنه نور الثقلين، ج 5، ص 527. 12 2 الآيات ويل للمطففين (1) الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون (2) وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون (3) ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون (4) ليوم عظيم (5) يوم يقوم الناس لرب العلمين (6) 2 سبب النزول قال ابن عباس: لما قدم نبي الله المدينة، كانوا من أبخس الناس كيلا، فأنزل الله هذه الآية، فأحسنوا الكيل بعد ذلك. وقيل: كان تجار المدينة تجارا يطففون، وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة، فنزلت هذه الآية، فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقرأها عليهم وقال: " خمس بخمس "، قيل يا رسول الله، وما خمس بخمس؟ قال: " ما نقص قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم! وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر! وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت!
13 ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين! ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم المطر! " (1). وروى العلامة الطبرسي في مجمع البيان: إن رجلا كان في المدينة يقال له (أبو جهينة) كان له صاعان، يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر، فنزلت هذه الآيات. (2) 2 التفسير 3 ويل للمطففين: بدأ الحديث في هذه السورة بتهديد شديد للمطففين: ويل للمطففين. وتمثل الآية في حقيقة توجيهها، إعلان حرب من الله عز وجل على هؤلاء الظالمين، الذين يأكلون حق الناس بهذه الطريقة القذرة. " المطففين ": من (التطفيف) وأصله من (الطف)، وهو جوانب الشئ وأطرافه، وإنما قيل لكربلاء ب (وادي الطف)، لوقوعها على ساحل نهر الفرات، و (الطفيف): الشئ النزر، و (التطفيف): البخس في الكيل والوزن، ونقص المكيال، وهو أن لا تملأه إلى أصباره. " ويل ": تأتي بمعاني: حلول الشر، الحزن، الهلاك، المشقة من العذاب، واد مهيب في نار جهنم، وتستعمل عادة في اللعن وبيان قبح الشئ، ورغم صغر الكلمة إلا أنها تستبطن مفاهيم كثيرة. وروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: " ولم يجعل الله الويل لأحد حتى يسميه كافرا، قال الله عز وجل: فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم (3).
1 - تفسير الفخر الرازي، ج 31، ص 88، وكذلك.. أبو الفتوح والمراغي في تفسيريهما. 2 - مجمع البيان، ج 10، ص 452. 3 - أصول الكافي، ج 2، ص 32، وعنه نور الثقلين، ج 5، ص 527. 14 وما نستفيده من هذه الرواية هو: إن التطفيف فيه وجه من الكفر. وتتطرق الآيتين التاليتين إلى طريقة عمل المطففين، فتقول الآية الأولى: الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون (1). وتقول الآية الثانية: إذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون وذهب جمع من المفسرين إلى أن الآية أرادت ب " المطفف " من يأخذ عند الشراء أكثر من حقه، ويعطي عند البيع أقل من الحق الذي عليه، وال " ويل " إنما جاء بلحاظ هاتين الجهتين. ولكن ما ذهب أولئك المفسرون غير صحيح، بدلالة " يستوفون " التي تعني أخذهم بالكامل، وليس ثمة ما يدل على أخذهم أكثر من حقهم، ويمكننا توجيه (الذم) الحاصل، باعتبار أخذهم حقهم كاملا عند الشراء، وينقصون من حق الآخرين عند البيع، كمن يريد أن يذم شخصا بقوله: ما أغربك من رجل، تراك تأتي في الموعد المقرر عندما تكون دائنا، وتتهرب من أداء ما عليك عندما تكون مدينا. فأخذ الحق في موعده المقرر ليس عملا سيئا، ولكن حصول الحالتين (أعلاه) في شخص واحد هو الشئ. وقد جاء ذكر " الكيل " في الآيتين عند حالة الشراء، وذكر " الكيل " و " الوزن " عند حالة البيع، وربما يرجع ذلك لأحد سببين: الأول: كان تجار تلك الأزمان الكبار يستعملون (المكيال) عند شرائهم للكميات الكبيرة من المواد، لأنه لم يكن عندهم ميزان كبير يستوعب تلك المواد الكثيرة. (وقيل: إن (الكر)، كان في الأصل اسما لمكيال كبير.. والكر: مصطلح
1 - " على الناس ": إشارة إلى ما لهم لدى الناس، والتقدير: (إذا كالوا ما على الناس) وذلك عند الأخذ منهم، وهو ما نستفيده من (كال عليه).. أما (كاله) أو (كال له) فهو عند العطاء. 15 يستعمل لقياس سعة الماء). أما في حالة البيع، فكانوا يكيلون لبيع الجملة، ويزنون لبيع المفرد. الثاني: إنهم كانوا يفضلون استعمال المكيال عند الشراء، لصعوبة الغش فيه، ويستغلون الميزان عند البيع لسهولة الغش فيه! ومما ينبغي الالتفات إليه.. إن الآيات وإن تحدثت عن التطفيف في الكيل والوزن، ولكن، لا ينبغي حصر مفهومها بهما، فالتطفيف يشمل حتى العدد، وليس من البعيد أن تكون الآيات قد أشارت إلى إنقاص ما يؤدي من خدمة مقابل أجر، كما لو سرق العامل أو الموظف من وقت عمله، فإنه والحال هذه سيكون في حظيرة " المطففين " المذمومين بشدة في الآيات المباركة المذكورة. ويتوسع البعض في مفهوم الآية أكثر وأكثر حتى يجعل أي تجاوز لحدود الله، وأي إنقاص أو اخلال في الروابط الاجتماعية أو انحلال في الضوابط الأخلاقية، إنما هو مفردات ومصاديق لهذا المفهوم. ومع أن ظاهر ألفاظ الآية لا يرمز إلى هذه المعاني، ولكنها لا تخلو من مناسبة. ولذا، فقد ورد عن ابن عباس، أنه قال: (الصلاة مكيال، فمن وفى، وفى الله له، ومن طفف، قد سمعتم ما قال الله في المطففين) (1). ويهدد القرآن الكريم المطففين، باستفهام توبيخي: ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون. ليوم عظيم. يوم عظيم في: عذابه، حسابه وأهواله. يوم يقوم الناس لرب العالمين.
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 452. 16 أي، إنهم لو كانوا يعتقدون بالبعث والحساب: وأن أعمالهم مسجلة وستعرض كاملة في محكمة العدل الإلهي بخيرها وشرها، وكبيرها وحقيرها، لو كانوا يعتقدون ذلك، لما ظلموا أحدا، ولأعطوا الناس حقوقهم كاملة. وقد اعتبر كثير من المفسرين: إن " الظن " الوارد في الآية من " يظن " بمعنى (اليقين): كما هو في الآية (249) من سورة البقرة: قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، وهذه الآية كانت تتحدث عن المراحل المختلفة لإيمان واستقامة بعض بني إسرائيل. ومما يشهد على ما ذكر أيضا، ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في تفسير الآية: ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم، أنه قال: " أليس يوقنون أنهم مبعوثون "؟ (1) وروي عنه (عليه السلام) أيضا، أنه قال: " الظن ظنان، ظن شك وظن يقين، فما كان من أمر المعاد من الظن فهو ظن يقين، وما كان من أمر الدنيا فهو على الشك ". (2) واحتمل البعض: إن " الظن " الوارد في الآية، هو ذات " الظن " المتعارف عليه في زماننا، وهو غير اليقين، فيكون إشارة إلى أن الإيمان بالقيامة يترك أثرا في روح الإنسان، يجعله يتنزه عن الوقوع في الذنوب والظلم، حتى وإن كان ذلك الإيمان بنسبة " الظن ".. فكيف به إن كان يقينا؟! ويصطلح العلماء على هذا المعنى، عنوان (دفع الضرر المظنون) أو (دفع الضرر المحتمل). فيكون مفهوم الآية، على ضوء ما ورد: ليس المطففين العاصين لا يملكون اليقين بوجود يوم القيامة، بل إنهم لا يظنون بذلك أيضا. (ويبدو أن التفسير الأول أنسب). و " الظن " - كما يقول الراغب في مفرداته -: اسم لما يحصل عن إمارة، ومتى
1 - تفسير البرهان، ج 4، ص 438. 2 - نور الثقلين، ج 5، ص 528. 17 قويت أدت إلى العلم، ومتى ضعفت جدا لم يتجاوز حد التوهم. وعليه.. فاصطلاح " الظن " - بخلاف ما يتبادر إليه الذهن في زماننا - يشمل العلم والظن، ويستعمل في الحالتين. * * * 2 ملاحظة 3 التطفيف من عوامل الفساد في الأرض: تعرض القرآن الكريم للتطفيف في الوزن مرارا، ومن ذلك ما جاء في الآيات (181 - 183) من سورة الشعراء، حينما خاطب شعيب (عليه السلام) قومه قائلا: أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين فالتطفيف في الوزن والكيل من الفساد في الأرض، وذلك لما تنتج عنه من مفاسد اجتماعية ذات أبعاد واسعة. كما جاء التأكيد في الآيتين (7 و 8) من سورة الرحمن على ضرورة الالتزام بالعدالة حين استعمال الميزان، بعد الإشارة إلى أن العدل أصل قد روعي فيه حتى نظام الخلق في عالم الوجود: والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان. ولذا، نجد أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قد أولوا هذا الموضوع اهتماما بالغا، حتى روي عن الأصبغ بن نباتة، أنه قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول على المنبر: " يا معشر التجار! الفقه ثم المتجر، الفقه ثم المتجر، الفقه ثم المتجر " إلى أن قال: " التاجر فاجر، والفاجر في النار، إلا من أخذ الحق وأعطى الحق ". (1)
1 - أصول الكافي، ج 5، ص 150، الحديث 1. 18 وفي رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: " كان أمير المؤمنين (عليه السلام) بالكوفة يغتدي كل يوم بكرة من القصر، فيطوف في أسواق الكوفة سوقا سوقا، ومعه الدرة على عاتقه (لمعاقبة المخالفين)، فينادي: يا معشر التجار اتقوا الله عز وجل، فإذا سمعوا صوته (عليه السلام) ألقوا ما بأيديهم، وأرعوا إليه بقلوبهم، وسمعوا بآذانهم، فيقول (عليه السلام): قدموا الاستخارة، وتبركوا بالسهولة، واقتربوا من المبتاعين، وتزينوا بالحلم، وتناهوا عن اليمين، وجانبوا الكذب، وتجافوا عن الظلم، وانصفوا المظلومين، ولا تقربوا الربا، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين، فيطوف (عليه السلام) في جميع أسواق الكوفة ثم يرجع فيقعد للناس " (1). وبشأن نزول الآيات، قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): " ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات واخذوا بالسنين ". وزبدة ما تقدم: يعتبر التطفيف في الميزان من العوامل الأساسية في عذاب وهلاك بعض الأمم السالفة، حيث أدى ذلك إلى اختلال النظام الاقتصادي عندهم من جهة، وإلى نزول العذاب الإلهي عليهم من جهة أخرى. وقد حثت الروايات الواردة في خصوص آداب التجارة على الأخذ ناقصا والعطاء راجحا، أي بعكس سلوكية من ذمتهم الآيات المبحوثة، فهم يأخذون بدقة ويعطون ناقصا. (2) وكما قلنا في تفسير الآية، فثمة من يذهب إلى أن مفهوم التطفيف أوسع من أن يحدد بالكيل والميزان، ويمتد ليشمل أي انقاص في عمل، وأي تقصير في أداء وظيفة فردية أو اجتماعية أو إلهية. * * *
1 - المصدر السابق، الحديث 3. 2 - ولمزيد من الاطلاع.. راجع وسائل الشيعة، ج 12، ص 290، أبواب التجارة، الباب 7. 19 2 الآيات كلا إن كتب الفجار لفى سجين (7) وما أدراك ما سجين (8) كتب مرقوم (9) ويل يومئذ للمكذبين (10) 2 التفسير 3 وما أدراك ما سجين؟! بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن المطففين، وعن ارتباط الذنوب بعدم الإيمان الراسخ بالمعاد ويوم القيامة، تشير الآيات أعلاه إلى ما ستؤول إليه عاقبة المسيئين والفجار يوم حلول اليوم المحتوم، فتقول: كلا فليس الامر كما يظن هؤلاء عن المعاد وأنه ليس هنا حساب وكتاب، بل إن كتاب الفجار لفي سجين. وما أدراك ما سجين. كتاب مرقوم. وتوجد نظرتان في تفسير الآية أعلاه: الأولى: المراد من " كتاب ": هو صحيفة الأعمال، التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة، من الأفعال الإنسان إلا وأحصتها.
20 والمراد ب " سجين ": هو الكتاب الجامع لكل صحائف أعمال الإنسان عموما. وما نستفيده من الآيات المذكورة وآيات أخرى: إن أعمال جميع المسيئين تجمع في كتاب يسمى " سجين "، وأعمال جميع الصالحين والأبرار تجمع في كتاب آخر، اسمه " عليين ". و " سجين ": من (السجن)، وهو (الحبس)، وله استعمالات متعددة، فهو: السجن الشديد، الصلب الشديد من كل شئ، اسم لوادي مهول في قعر جهنم، موضع فيه كتاب الفجار، ونار جهنم أيضا. وقال: " الطريحي " في " مجمع البحرين " في " سجين ": وفي التفسير هو كتاب جامع ديوان الشر، دون الله فيه أعمال الكفرة والفسقة من الجن والإنس... (1) أما القرائن التي تؤيد هذا التفسير، فهي: 1 - غالبا ما وردت كلمة " كتاب " في القرآن الكريم بمعنى (صحيفة الأعمال). 2 - ظاهر الآية التالية: كتاب مرقوم يشير إلى أنها تفسير ل " سجين ". 3 - قيل: إن " سجين " و " سجيل " بمعنى واحد، وكما هو معلوم أن " سجيل " بمعنى (كتاب كبير). (2) 4 - وتشير آيات قرآنية أخرى إلى أن أعمال الإنسان تضبط في عدة كتب، حتى لا يبقى عذر للإنسان في حال حسابه. وأولى تلك الكتب، صحيفة الأعمال المعدة لكل شخص، فالصالح سيعطى كتابه في يمينه، والمسئ سيعطى كتابه في شماله. وهذا المعنى كثير ما تكرر ذكره في القرآن الكريم. والكتاب الثاني، هو ما تسجل فيه أعمال الأمم، ويمكن أن نسميه ب (صحيفة
1 - ولم يوضح الطريحي أن هذا التفسير لمعصوم كان أم لغيره. 2 - روح المعاني، ج 30، ص 70، ومجمع البحرين، مادة (سجل). 21 أعمال الأمم) والآية (28) من سورة الجاثية تشير إلى هذا بقولها: كل أمة تدعى إلى كتابها. وثالث الكتب، هو صحيفة أعمال جميع الأبرار والفجار، التي وردت الإشارة إليهما في الآيات المبحوثة وما سيأتي من الآيات، باسم " سجين " و " عليين ". وخلاصة القول: إن " سجين " عبارة عن ديوان جامع لكافة صحائف الفجار والفسقة، وأطلق عليه هذا الاسم باعتبار أن ما فيه يؤدي إلى حبس أصحابه في جهنم، أو أن هذا الديوان موجود في قعر جهنم. على عكس كتاب الأبرار فإنه في أعلى عليين.. في الجنة. الثانية: إن " سجين "، هي " جهنم "... وهي سجن كبير لجميع المذنبين، أو هي محل شديد من جهنم. و " كتاب " الفجار، أي: ما قرر لهم من عاقبة ومصير. فيكون التقدير على ضوء هذا التفسير: إن جهنم هي المصير المقرر للمسيئين، وقد استعمل القرآن كلمة " كتاب " بهذا المعنى في مواضع عدة، ومن ذلك ما تناولته الآية (24) من سورة النساء حين بينت حرمة الزواج من المتزوجات: كتاب الله عليكم أي، إن هذا الحكم (وما سبقه من أحكام)، هي أحكام قررها الله عليكم، وكذلك ما جاء في الآية (75) من سورة الأنفال: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، أي فيما قرره الله وجعله من أحكام. ومما يؤيد هذا التفسير ما جاء في الروايات من أن " سجين " هي " جهنم "... ففي تفسير علي بن إبراهيم، قال في تفسير: إن كتاب الفجار لفي سجين: ما كتب الله لهم من العذاب لفي سجين. وعن الإمام الباقر (عليه السلام)، أنه قال: " السجين الأرض السابعة، وعليون السماء
22 السابعة "، (إشارة إلى أخفض وأعلى مكان) (1). وروي في روايات عديدة، إن الأعمال التي لا تليق بالقرب منه جل شأنه تسقط في سجين: كما نقل الأثر عن سيد البشر (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: " إن الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجا فإذا صعد بحسناته يقول الله عز وجل اجعلوها في سجين، إنه ليس إياي أراد فيها! " (2) ومن كل ما تقدم، نصل إلى أن " سجين ": مكان شديد جدا في جهنم، توضع فيه أعمال المسيئين أو صحيفة أعمالهم، أو يكون مصيرهم الحبس في ذلك المكان (السجن). وعلى ضوء هذا التفسير، تكون الآية: كتاب مرقوم تأكيدا للآية: إن كتاب الفجار لفي سجين، وليس تفسيرا لها، لأن العقاب قد قرر لهم، وهو قطعي وحتمي. " مرقوم ": من (رقم " على وزن (زخم)، وهو الخط الغليظ، ولكون هكذا خط من الوضوح بحيث لا إبهام فيه، فقد استعملته الآية للإشارة إلى قطعية ما قرر لهم من مصير من غير أي إبهام أو إغفال. وعلى أية حال، فلا مانع من الجمع بين التفسيرين، لأن " سجين " حسب التفسير الأول بمعنى الديوان الجامع لكل أعمال المسيئين، وحسب التفسير الثاني بمعنى: " جهنم " أو قعرها، فالأمران على صورة علة ومعلول، فإذا كانت صحيفة أعمال الإنسان السيئة في ذلك الديوان الجامع، فإن مقام الديوان هو قعر جهنم. وتأتي الآية التالية لتقول: ويل يومئذ للمكذبين. التكذيب الذي يوقع في ألوان من الذنوب، ومنها التطفيف والظلم.
1 - تفسير علي بن إبراهيم، ج 3، ص 410، وعنه نور الثقلين، ج 5، ص 530، الحديث 15. 2 - نور الثقلين، ج 5، ص 530، الحديث 19. 23 وبملاحظة كلمة " ويل " الواردة في أول أية وآخر آية، تبين شدة العلاقة الموجودة ما بين تلك الأعمال السيئة وإنكار المعاد، حيث بدأ الحديث بالويل للمطففين، ومرورا بالفجار ومن ثم الويل للمكذبين بيوم الدين. وسيتوضح هذا الترابط بشكل أدق في الآيات التالية. * * *
24 2 الآيات الذين يكذبون بيوم الدين (11) وما يكذب به إلا كل معتد أثيم (12) إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين (13) كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون (14) كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون (15) ثم إنهم لصالوا الجحيم (16) ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون (17) 2 التفسير 3 صدأ الذنوب: بعدما ذكرت آخر آية من الآيات السابقة مصير المكذبين، تأتي الآيات أعلاه لتشرح حالهم، فتقول: الذين يكذبون بيوم الدين، وهو يوم القيامة. وتقول أيضا: وما يكذب به إلا كل معتد أثيم. فإنكار القيامة لا يستند على المنطق السليم والتفكير الصائب والاستدلال العقلي، بل هو نابع من حب الاعتداء وارتكاب الذنوب والآثام (الصفة المشبهة " أثيم " تدل على استمرار الشخص في ارتكاب الذنوب).
25 فهم يريدون الاستمرار بالذنوب والإيغال بالاعتداءات وبكامل اختيارهم، ومن دون أي رادع يردعهم من ضمير أو قانون، وهذا الحال شبيه ما أشارت إليه الآية (5) من سورة القيامة: بل يريد الإنسان ليفجر أمامه، وعليه، فهو يكذب بيوم الدين. وعلى هذا الأساس، فإن للممارسات السيئة أثر سلبي على عقيدة الإنسان، مثلما للعقيدة من أثر على سلوكية وتوجيهات الإنسان، وهذا ما سيتوضح أكثر في تفسير الآيات القادمة. وتشير الآية التالية للصفة الثالثة لمنكري المعاد، فتقول: وإذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين. فبالإضافة لكون منكر المعاد معتد وأثيم، فهو من الساخرين والمستهزئين بآيات الله، ويصفها بالخرافات البالية (1)، وما ذلك إلا مبرر واه لتغطية تهربه من مسؤولية آيات الله عليه. ولم تختص الآية المذكورة بذكر المبررات الواهية لأولئك الضالين المجرمين فرارا من الاستجابة لنداء الدعوة الربانية، بل ثمة آيات أخرى تناولت ذلك، منها الآية (5) من سورة الفرقان: وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملي عليه بكرة وأصيلا، والآية (17) من سورة الأحقاف، حكاية عن قول شاب طاغ وقف أمام والديه المؤمنين مستهزءا بنصائحهما قائلا: ما هذا إلا أساطير الأولين. وقيل في شأن نزول الآية: إنها نزلت بشأن (النضر بن حارث بن كلدة)، ابن خالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان من رؤوس الكفر والضلال.
1 - " أساطير ": جمع (أسطورة) من (السطر)، وغالبا ما تستعمل في وصف الشخصيات الموهومة والأحاديث الملفقة والقصص الكاذبة. 26 ولا يمنع نزول الآية في شخص معين، من تعميم ما جاء فيها لكل من يشارك ذلك الشخص في الصفة والحال. فالطغاة، كثيرا ما يتذرعون بأعذار واهية، عسى أن يتخلصوا من لوم وتأنيب الضمير من جهة.. ومن اعتراضات الناس ورجال الحق من جهة أخرى، والعجيب أن الطغاة من الحماقة والتحجر بحيث أن أسلوب مواجهتهم للأنبياء (عليهم السلام) وعلى مر التاريخ قد جاء على وتيرة واحدة، وكأنهم قد وضعوا لأنفسهم مخططا لا ينبغي الحيد عنه، فعند مواجهتهم لدعوة الأنبياء (عليهم السلام) بتعاليم السماء، ليس عندهم سوى أن يقولوا: سحر، كهانة، جنون، أساطير! ويعري القرآن مرة أخرى جذر طغيانهم وعنادهم، بالقول: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون. ما أشد تقريع العبارة! فقد احتوى صدأ أعمالهم كل قلوبهم، فأزيل عنها ما جعل الله فيها من نور الفطرة الأولى وذهب صفائها، ولذا.. فلا يمكن لشمس الحقيقة أن تشرق بعد في أفق قلوبهم، ولا يمكن لتلك القلوب التعسة من أن تتقبل نفوذ أنوار الوحي الإلهي إلى دواخلها. " ران ": من (الرين) على وزن (عين)، وهو: الصدأ يعلو الشئ الجليل (كما يقول الراغب في مفرداته)، ويقول عنه بعض أهل اللغة: إنه قشرة حمراء تتكون على سطح الحديد عند ملامسته لرطوبة الهواء، وهي علامة لتلفه، وضياع بريقه وحسن ظاهره. وقيل: ران عليه: غلب عليه، ورين به: وقع في ما لا يستطيع الخروج منه ولا طاقة له به (1) وكل هذه المعاني هي من لوازم المعنى الأول.
1 - راجع: المنجد، وتفسير الفخر الرازي في الآية المبحوثة. 27 وسنتناول موضوع تأثير الرين على صفاء القلب ونورانيته في البحوث القادمة. ويستمر البيان القرآني: كلا إنهم عن ربهم يؤمئذ لمحجوبون. وهو أشد ما سيعاقبون به، مثلما منزلة اللقاء بالله ودرجة القرب منه هي من أعظم نعم الأبرار والصالحين وأكثرها لذة واستئناسا. " كلا ": عادة ما تستعمل لنفي ما قيل سابقا، وللمفسرين أقوال في تفسيرها: القول الأول: إنها تأكيد ل " كلا " المتقدمة في الآية السابقة، أي: يوم القيامة ليس بأسطورة كما يزعمون. والقول الثاني: " كلا " بمعنى لا يمكن إزالة الرين الذي فقأ البصيرة في قلوبهم، فهم محرومون من رؤية جمال الحق في هذا العالم وفي عالم الآخرة أيضا. القول الثالث: إن الآية تجيب زعم أولئك من أن القيامة (حتى على فرض وجودها!) فهم سينعمون بها كما (يتصورون) بأنهم منعمين في الدنيا، (وقد تناولت الآيات الأخرى ما جاء في زعمهم) (1). ولكن أحلامهم ستتلاشى أمام حقيقة وقوع القيامة، وما سينالونه من شديد العذاب. نعم، فأعمال الإنسان في دنياه ستتجسم له في آخرته شاء أم أبى، ولما كان أولئك قد أغلقوا عيونهم عن رؤية الحق، ورانت أعمالهم على قلوبهم، فسيحجبون عن ربهم في ذلك اليوم العظيم، وعندها فسوف لن يتمتعوا برؤية جمال الحق أبدا، وسيحرمون من نعمة اللقاء بالحبيب الحقيقي، الذي لا حبيب سواه. و: ثم إنهم لصالوا الجحيم. فدخولهم جهنم نتيجة طبيعية لاحتجابهم عن الله تعالى وأثر لازم له، ومما لا
1 - كما في الآية (32) من سورة الكهف: وما أطن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا، كما وجاء نظير ذلك في الآية (50) من سورة فصلت. 28 شك فيه إن لهيب الحرمان من لقاء الله أشد إيلاما وإحراقا من نار جهنم! وتقول الآية التالية: ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون. يقال لهم ذلك توبيخا ولوما لزيادة تعذيبهم روحيا، وهو ما ينتظر كل من عاند الحق وتخبط متاهات الضلال. * * * 2 ملاحظتان 3 1 - لم كانت الذنوب صدأ القلب؟! تناول القرآن الكريم في مواضع متعددة ما للذنوب من تأثيرات سلبية على إظلام القلب وتلويثه، فقد جاء في الآية (35) من سورة المؤمن: كذلك يطبع الله على قلب كل متكبر جبار. وقال في موضع آخر: ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم (1). وجاء في الآية (46) من سورة الحج: فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. نعم.. فأسوأ ما للاستمرار في الذنوب من آثار: إسوداد القلب، فقدان نور العلم، موت قدرة التشخيص بين ما هو حق وباطل. فآثار ما تقترفه الجوارح من ذنوب تصل إلى القلب وتحوله إلى مستنقع آسن، وعندها لا يقوى الإنسان على تشخيص طريق خلاصه، فيهوى في حفر الضلالة التي توصله لأدنى دركات الإنحطاط، وتكون النتيجة أن يرمي ذلك الإنسان مفتاح سعادته بنفسه من يده، ولا يجني حينها إلا الخيبة والخسران.
1 - البقرة، الآية 7. 29 وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " كثرة الذنوب مفسدة للقلب ". (1) وفي حديث آخر: " إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الرين الذي ذكر الله في القرآن: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون (2). وروي الحديث (بتفاوت يسير) عن الإمام الباقر (عليه السلام) (3). وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " تذاكروا وتلاقوا وتحدثوا فإن الحديث جلاء للقلوب، إن القلوب لترين كما يرين السيف، وجلائه الحديث ". (4) ومن الثابت في علم النفس، أن للأعمال الأثر الكبير على نفسية وروحية الإنسان، فنفسية الإنسان تتكيف تدريجيا على ضوء تلك الآثار، وبالنتيجة سينعكس ذلك على فكر وآراء الإنسان. وينبغي التنويه إلى: أن روح الإنسان تتعامل طرديا مع الذنوب، فمع استمرار الذنوب تغوص الروح في أعماق الظلام لحظة بلحظة، حتى تصل إلى درجة يبدأ الإنسان يرى سيئاته حسنات، وربما يتفاخر بها! وعندها.. ستغلق أمامه أبواب العودة: إلا أن يشاء الله، وهذه الحال من أخطر ما تعرض للإنسان في حياته الدنيوية من حالات. 3 2 - حجاب الروح! حاول كثير من المفسرين أن يجعل للآية: كلا إنهم عن ربهم لمحجوبون تقديرا، واحتاروا بين أن يجعلوا التقدير (الحجاب عن رحمة الله)، أم الحجاب
1 - تفسير الدر المنثور: ج 6، ص 326. 2 - المصدر السابق، ص 325. 3 - نور الثقلين، ج 5، ص 531، الحديث 22. 4 - المصدر السابق، الحديث 23. 30 عن إحسانه، أم كرامته، أم ثوابه... ولكن ظاهر الآية لا يبدو فيه الاحتياج لتقدير، فإنهم سيحجبون عن ربهم على الحقيقة، بينما سينعم الصالحون الطاهرون بقرب الله وجواره ليفعموا بلذيذ لقاء الحبيب، والرؤية الباطنية لهذا الحبيب الأمل، بينما الكفرة الفجرة ليس لهم من هذا الفيض العظيم والنعمة البالغة من شئ. وبعض المؤمنين المخلصين يتنعمون بهذا اللقاء حتى في حياتهم الدنيا، في حين لا يجني المجرمون المعمية قلوبهم سوى الحرمان... فهؤلاء في حضور دائم، وأولئك في ظلام وابتعاد! فلمناجاة المؤمنين مع بارئهم حلاوة لا توصف، وأما من اسودت قلوبهم فتراهم غرقى في بحر ذنوبهم وتتقاذفهم أمواج الشقاء، (أعاذنا الله من ذلك). ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في دعاء كميل: "... هبني صبرت على عذابك فكيف اصبر على فراقك ". * * *
31 2 الآيات كلا إن كتب الأبرار لفى عليين (18) وما أدراك ما عليون (19) كتب مرقوم (20) يشهده المقربون (21) إن الأبرار لفى نعيم (22) على الأرائك ينظرون (23) تعرف في وجوههم نضرة النعيم (24) يسقون من رحيق مختوم (25) ختمه مسك وفى ذلك فليتنافس المتنفسون (26) ومزاجه من تسنيم (27) عينا يشرب بها المقربون (28) 2 التفسير 3 عليون في انتظار الأبرار: بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن الفجار وكتابهم وعاقبة أمرهم، ينتقل الحديث في هذه الآيات للطرف المقابل لهؤلاء، فتتحدث عن الأبرار الصالحين وما سيئالون إليه من حسن مآب، ويبدأ الحديث بالقول: كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين. " عليين ": جمع (علي) على وزن (ملي)، وهو المكان المرتفع، أو الشخص
32 الجالس في مكان مرتفع، ويطلق أيضا على ساكني قمم الجبال. وقد فسر في الآية ب (أشرف الجنان) أو (أعلى مكان في السماء). وقيل: إنما استعمل اللفظ بصيغة الجمع للتأكيد على معنى (العلو في علو). وعلى أية حال، فما عرضناه بخصوص تفسير " سجين " يصدق على " عليين " أيضا، بقوليه: الأول: أن المقصود من " كتاب الأبرار " هو صحيفة أعمال الصالحين والمؤمنين، فجميع الأعمال تجمع في هذا الديوان العام، وهو ديوان عالي المقام وشريف القدر. الثاني: أن صحيفة أعمال الأبرار تكون في أشرف مكان، أو في أعلى مكان في الجنة، وهذا يكشف عن علو شأنهم ورفعة كرامتهم عند الله عز وجل. وجاء في الحديث النبوي الشريف: " عليون في السماء السابعة تحت العرش " (1). وهذا بالضبط هو المحل المضاد تماما لمحل صحيفة أعمال " الفجار "، حيث وضعت في أسفل طبقات جهنم. وذهب قسم من المفسرين إلى أن ال " كتاب " هنا يرمز لمعنى (المصير)، أو (الحكم القطعي الإلهي) بخصوص نيل الصالحين درجات الجنة العلى. ولا يضر من الجمع بين التفسيرين، فأعمال الأبرار مجموعة في ديوان عام، ومحل ذلك الديوان في أعلى نقطة من السماء، ويكون الحكم والقضاء الإلهي كذلك مبني على كونهم في أعلى درجات الجنة. ولأهمية وعظمة شأن " عليين ".. تأتي الآية التالية لتقول: وما أدراك ما عليون، إنه مقام من المكانة بحيث يتجاوز حدود التصور والخيال والقياس
1 - تفسير القرطبي، ج 10، ص 7053، ومجمع البحرين: مادة (علو). 33 والظن، بل وحتى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى ما له من علو شأن ومرتبة مرموقة، فلا يستطيع من تصور حجم أبعاد عظمته. ويبدأ البيان القرآني بتقريب ال " عليين " إلى الأذهان: " كتاب مرقوم " وهذا على ضوء تفسير " عليين " بالديوان العام لأعمال الأبرار، أما على ضوء التفسير الآخر فسيكون معنى الآية: إنه المصير الحتمي الذي قرره الله وسجله لهم، بأن يكون محلهم في أعلى درجات الجنة، (بناء على هذا التفسير فستكون الآية " كتاب مرقوم " مفسرة لكتاب الأبرار وليس لعليين). وكذلك: يشهده المقربون أي يشاهدونه، أو عليه يشهدون عليه. ثمة من ذهب إلى أن " المقربون " في الآية، هم ملائكة مقربون عند الله عز وجل، ينظرون إلى ديوان أعمال الصالحين، أو ينظرون إلى مصيرهم المحتوم. ولكن الآيات التالية تظهر بوضوح بأن المقربين، هم نخبة عالية من المؤمنين لهم مقام مرموق، وبإمكانهم مشاهدة صحيفة أعمال الأبرار والصالحين. ويمكن أن نستفيد هذا المعنى من الآيتين (10 و 11) من سورة الواقعة: والسابقون السابقون أولئك المقربون... ومن الآية (89) من سورة النحل: ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء. وينتقل الحديث إلى عرض بعض جوانب جزاء الأبرار: إن الأبرار لفي نعيم. " النعيم ": هو النعمة الكثيرة - على قول الراغب في مفرداته -، وجاءت بصيغة نكرة لتعظيم شأنها، أي إنهم في نعيم مادي ومعنوي لا حد لوصفه.
34 وينقلنا البيان القرآني لجوانب من نعيم الأبرار: على الأرائك ينظرون. (1) " الأرائك ": جمع (أريكة)، وهي سرير منجد مزين خاص بالملوك، أو سرير في حجلة، وجاءت في الآية بمعنى، الأسرة المزينة التي يتكئ عليها أهل الجنة. وثمة من يذهب إلى أنها معربة من " ارك " بمعنى قصر الملك في الفارسية، أو القلعة في وسط المدينة، وبما أن القلعة في وسط المدينة تكون للملوك عادة اطلق عليها هذه الكلمة، أو بمعنى عرش السلطان الذي يقال عنه بالفارسية " أراك "، ثم سميت العاصمة به (أراك) و " عراق " معرب " أراك " بمعنى مقر السلطان. فيما يقول آخرون أنها من (الأراك) وهو شجر معروف تصنع من الأسرة، وقيل أيضا، إنما سميت بذلك لكونها مكانا للإقامة من (الأروك) وهو الإقامة. (2) وجاءت " ينظرون " مطلقة، لإعطاء مفهوم السعة والشمول، فمسموح لهم النظر إلى لطف الباري وجماله، وإلى نعم الجنة الباهرة، وإلى ما أودع فيها من رونق وبهاء.. وذلك لأن لذة النظر من اللذائذ الإنسانية التي تدخل الغبطة والسرور في الإنسان بشكل كبير وملموس. ثم يضيف: تعرف في وجوههم نضرة النعيم. إشارة إلى أن ما يبدي على وجوههم من علائم النشاط والسرور والغبطة، إن هو إلا انعكاس لسعادتهم الحقة، بعكس أهل جهنم الذين لا يبدو على وجوههم إلا علائم الغم والحسرة والندم والشقاء. " نضرة ": إشارة إلى النشاط والأريحية التي تظهر على وجوههم. (كما أسلفنا القول). وبعد ذكر نعم: " الأرائك "، " النظر "، " الاطمئنان والسعادة ".. تذكر الآية التالية
1 - المبتدأ محذوف في الآية، التقدير: (هم على الأرائك ينظرون) " ينظرون "، حال، أو أن جملة " على الأرائك ": خبر ثان، نسبة إلى " إن " الواردة في الآية السابقة. 2 - لمزيد من الإيضاح.. راجع مفردات الراغب، ولسان العرب (مادة: أرك). 35 نعمة شراب الجنة، فتقول: يسقون من رحيق مختوم. إنه ليس كشراب أهل الدنيا الشيطاني، بما يحمل من خبث دافع إلى المعاصي والجنون، بل هو شراب طاهر يذكي العقول ويدب النشاط والصفاء في شاربه. و " الرحيق " - كما اعتبره المفسرين -: هو الشراب الخالص الذي لا يشوبه أي غش أو تلوث. و " مختوم ": إشارة إلى أنه أصلي ويحمل كل صفاته المميزة عن غيره من الأشربة ولا يجاريه شراب قط، وهذا بحد ذاته تأكيد آخر على خلوص الشراب وطهارته. والختم بالصورة المذكورة يظهر مدى الاحترام الخاص لأهل الجنة، حيث أن ذلك الإحكام وتلك الأختام مختصة لهم، ولا يفتحها أحد سواهم. (1) وتقول الآية التالية: ختامه مسك. فختامه ليس كختوم أهل الدنيا التي تلوث الأيدي، وأقل ما فيها أنها في حال فتحها ترمى في سلة الأوساخ، بل هو شراب طاهر مختوم، وإذا ما فتح ختمه فتفوح رائحة المسك منه! وقيل: " ختامه " يعني (نهايته)، فعندما ينتهي من شرب الرحيق، ستفوح من فمه رائحة المسك، على خلاف أشربة أهل الدنيا، التي لا تترك في الفم إلا المرارة والرائحة الكريهة، ولكنه بعيد بملاحظة الآية السابقة. ويقول العلامة الطبرسي في (مجمع البيان): " التنافس ": تمني كل واحد من النفسين مثل الشئ النفيس الذي للنفس الأخرى أن يكون له.
1 - عملية ختم الأشياء (كانت ولا زالت)، تستعمل للاطمئنان على سلامة تلك الأشياء من التلاعب بها، فمثلا.. لكي يطمأن على سلامة وصول شئ معين إلى صاحبه المراد، فإنه يوضع في ظرف خاص مغلق، وإذا ما كان الشئ بدرجة عالية من الأهمية، فلا يكتفي بالغلق، بل يربط بسلك أو ما شابه ومن ثم يوضع على عقدته شئ من الشمع أو الطين ويختم بختم معين، كل ذلك للتأكيد من وصوله إلى المراد بدون أن تمتد إليه يد التلاعب. 36 وفي (مجمع البحرين): نافست في الشئ: إذا رغبت فيه على وجه المبارات في الكرم، (سباق سالم ونزيه). وفي (مفردات الراغب): " المنافسة ": مجاهدة النفس للتشبه بالأفاضل واللحوق بهم من غير إدخال ضرر على غيره. وجاء مضمون الآية في الآية (21) من سورة الحديد: سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض، وما جاء في الآية (133) من سورة آل عمران: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض. وعلى آية حال، فدقة تعبير الآية وشفافيته، من أجمل تعابير التشجيع للوصول إلى النعيم الخالد، من خلال ترسيخ الإيمان في قلوب وتجسيد الأعمال الصالحة على سوح الواقع، والآية قطعة بلاغية رائعة (1) (2) ونصل لآخر وصف شراب الأبرار في الجنة: ومزاجه من تسنيم أي أنه ممزوج بالتسنيم، (عينا يشرب بها المقربون) (3). ومن خلال الآيتين أعلاه، يتضح لنا بأن " التسنيم " هو أشرف شراب في الجنة، و " المقربون " يشربون منه بشكل خالص، فيما يشربه " الأبرار " ممزوجا بالرحيق المختوم. أما وجه تسمية ذلك الشراب أو العين ب " تسنيم "، (علما بأن التسنيم في اللغة هو عين ماء يجري من علو إلى أسفل)، فقد قال البعض فيه: إنه شراب خاص
1 - يتضح من تفسير الآية، أن اسم الإشارة " ذلك " يعود على جميع نعم الجنة، وشرابها بالذات لما وصف فيه في الآية. 2 - " الواو " و " الفاء " في وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، كلاهما حرف عطف، وإذا ما سئل عن علة وجودهما معا، فالجواب هو: يوجد شرط محذوف، والتقدير: " وإن أريد تنافس في شئ فليتنافس في ذلك المتنافسون "، فحذفت أداة الشرط والجملة الشرطية وقدمت " في ذلك ". 3 - قيل في سبب نصب " عينا " عدة وجوه.. منها: لأنها حال التسنيم، تمييز، مدح واختصاص.. والتقدير: (أعني). و " الباء " في " بها ": زائدة، أو بمعنى (من) وهو الأنسب. 37 موجود في الطبقات العليا من الجنة.. وقال آخرون: إنه نهر يجري في الهواء فينصب في أواني أهل الجنة. والحقيقة، فللجنة ألوان من الأشربة، منها ما يجري على صورة أنهار، كما تشير إلى ذلك آيات قرآنية كثيرة (1)، ومنها يقدم في كؤوس مختومة، كما في الآيات أعلاه، ويأتي ال " تسنيم " في قمة أشربة الجنة، وله من العطاء على روح شاربه ما لا يوصف بوصف أبدا. ونعود لنكرر القول مرة أخرى: إن حقيقة النعم الإلهية في عالم الآخرة لا يمكن لأي كان من أن يتكلم عنها بلسان أو يوصفها بقلم أو يتصورها في ذهن، وكل ما يقال عنها لا يتعدى عن كونه صورا تقريبية على ضوء ما يناسب محدودية الإنسان. والآية (17) من سورة السجدة: فلا تعلم نفس ما اخفى لهم من قرة عين خير دليل على ذلك. * * * 2 بحثان 3 1 - من هم " الأبرار " و " المقربين "؟ ورد ذكر " الأبرار " و " المقربين " كثيرا في القرآن الكريم، وما أعد لهم من درجة رفيعة وثواب عظيم، حتى أن اولي الألباب تمنوا أن تكون وفاتهم مع الأبرار، كما تقول الآية (193) من سورة آل عمران: وتوفنا مع الأبرار. وتناولت الآيات (5 - 22) من سورة الدهر ما أعد لهم من ثواب جزيل، كما وتناولت الآية (13) من سورة الانفطار، والآيات المبحوثة بعض ما ينتظرهم من
1 - كالآية (15) من سورة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). 38 ألطاف إلهية. فمن هم يا ترى؟ " الأبرار ": هم أصحاب النفوس الزكية الأبية الطاهرة، ومعتنقي العقائد الصائبة، والذين لا يعملون إلا ما فيه الخير والصلاح. و " المقربون ": هم الذين لهم مقام القربة عند الله عز وجل. فبين الأبرار والمقربين عموم وخصوص مطلق، حيث كل المقربين أبرار، وليس كل الأبرار مقربين. وروي عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، أنه قال: " كلما في كتاب الله عز وجل من قوله: " إن الأبرار " فوالله ما أراد به إلا علي بن أبي طالب وفاطمة وأنا والحسين " (1) ومما لا يشوبه شك، أن الخمسة الطيبة، تلك الأنوار القدسية، وهي أفضل مصاديق الأبرار والمقربين. وكما ذكرنا في تفسيرنا لسورة الدهر التي تحدثت بشكل رئيسي عن أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، وقلنا بأن الآيات الثمانية عشر قد تناولت فضائلهم (عليهم السلام)، ولكن لا يمنع من انطباق على غير الخمسة الطيبة (عليهم السلام). 3 2 - خمور الجنة تبين لنا مختلف الآيات في القرآن الكريم أن ثمة ألوان من الأشربة والخمور الطاهرة بأسماء وكيفيات مختلفة، تباين خمور أهل الدنيا الملوثة من جميع جهاتها، فهذه: تأخذ بلب الإنسان صوب التيه، توصل شاربها لحال الجنون، كريهة الطعم والرائحة، وتزرع عند شاربها العداوة والبغضاء، تؤدي إلى سفك الدماء
1 - نور الثقلين، ج 5، ص 533، الحديث 33. 39 وتبث الرذيلة والفساد... أما تلك: تذكي عقل شاربها وتصفو به، وتزيده نشاطا وحيوية، ذات عطر لا يوصف وطهارة خالصة، ويغوص شاربها في نشوة روحية نقية راقية. وذكرت السورة المبحوثة نوعين منها: الرحيق المختوم و " التسنيم " في حين ذكرت سورة الدهر أنواعا أخرى، وفي سور أخرى - وقد تعرضنا لها في محلها. وتؤكد الأحاديث والروايات على أن تلك الأشربة خالصة لمن تنزه عن الولوغ في خمور الدنيا الخبيثة. فعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال لأمير المؤمنين (عليه السلام): " يا علي من ترك الخمر لله سقاه الله من الرحيق المختوم " (1). وفي حديث آخر أنه (عليه السلام) سأله عن هذا الترك أنه حتى لو كان: " لغير الله "؟، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " نعم والله، صيانة لنفسه فيشكره الله تعالى عن ذلك " (2). نعم، فهؤلاء من اولي الألباب، الذين تناولت ذكرهم الآية (193) من سورة آل عمران، وأولي الألباب مع الأبرار في تناول تلك الأشربة الطاهرة. وروي عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) أنه قال: " من سقى مؤمنا من ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم " (3). وجاء في حديث آخر: " من صام لله في يوم صائف، سقاه الله من الظمأ من الرحيق المختوم " (4)
1 - نور الثقلين، ج 5، ص 534، الحديث 40. 2 - المصدر السابق، الحديث 37. 3 - المصدر السابق، الحديث 35. 4 - مجمع البيان، ج 10، ص 456. 40 * * *
41 2 الآيات إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون (29) وإذا مروا بهم يتغامزون (30) وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين (31) وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون (32) وما أرسلوا عليهم حافظين (33) فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون (34) على الأرائك ينظرون (35) هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون (36) 2 سبب النزول ذكر المفسرون سببين لنزول هذه الآيات: الأول: إنها نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وذلك.. إنه كان في نفر من المسلمين جاؤوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فسخر منهم المنافقون، وضحكوا، وتغامزوا... فنزلت الآية قبل أن يصل علي (عليه السلام) وأصحابه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وذكر الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتابه (شواهد التنزيل) عن ابن عباس قال: إن الذين أجرموا منافقو قريش، والذين آمنوا علي بن أبي
42 طالب (عليه السلام) وأصحابه. (1) الثاني: إنها نزلت في مشركي قريش، أبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأشياعهم، كانوا يستهزؤون بفقرائهم كعمار وصهيب وخباب وبلال وغيرهم. (2) 2 التفسير 3 بالأمس كانوا يضحكون من المؤمنين.. أما!! بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن النعم التي تنتظر الأبرار والصالحين في الحياة الآخرة، تبدأ الآيات أعلاه بتبيان جوانب مما يعانوه من مصائب ومشاكل في الحياة الدنيا بسبب إيمانهم وتقواهم... وأن ما سيناله الأبرار من ثواب جزيل ليس اعتباطيا. فالآيات تنقل لنا أساليب الكفار القذرة التي كانوا يتعاملون بها مع المؤمنين البررة، وقد صنفتها في أربعة أساليب: الأسلوب الأول: إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون فأصل الطغيان والتكبر والغرور والغفلة الذي زرع في نفوسهم، يدفعهم للضحك على المؤمنين والاستهزاء بهم والنظر إليهم بسخرية واحتقار! وهذا هو شأن كل من غرته أحابيل الشيطان في مواجهة من آمن واتقى، وعلى مر الأيام. وجاء وصفهم ب " أجرموا " بدلا من " كفروا "، للإشارة إلى إمكان معرفة الكافرين من خلال أعمالهم الإجرامية، فالكفر دائما مصدرا للجرائم والعصيان.
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 457 - كما وذكر كثير من المفسرين مسألة نزولها في علي بن أبي طالب، ومشركي مكة، كما في تفسير القرطبي، وروح البيان، والكشاف، وتفسير الفخر الرازي... الخ. 2 - روح المعاني، ج 30، ص 76. 43 والأسلوب الثاني: وإذا مروا بهم يتغامزون فحينما يمر المشركون على مجموعة من المؤمنين يغمزون بأعينهم ويشيرون إليهم بالقول: انظروا إلى هؤلاء الفقراء المعدمين.. إنهم أصبحوا مقربين عند الله! انظروا إلى هؤلاء الحفاة العراة.. إنهم يدعون نزول الوحي الإلهي لهم! انظروا إليهم.. فإنهم يعتقدون بأن العظام البالية ستعود إلى الحياة مرة أخرى!! وما شابه ذلك، من الكلمات الرخيصة والموهنة.. ويبدو أن ممارسة الضحك من قبل المشركين يكون حينما يمر المؤمنون من أمامهم وهم متجمعون، في حين يمارسون الأسلوب الثاني وهو الإشارات الساخرة والغمز واللمز حين مرورهم هم أمام جمع من المؤمنين، لعدم تمكنهم من الضحك العلني أمام جمع المؤمنين. (1) " يتغامزون ": من (الغمز)، وهو الإشارة بالجفن أو اليد طلبا إلى ما فيه معاب، وعبرت الآية بهذا اللفظ " التغامز " للإشارة إلى اشتراكهم جميعا في ذلك الفعل. ولكنهم لم يكتفوا بالنيل من المؤمنين في حضورهم من خلال الضحك والتغامز، بل تعدوا إلى حال غيابهم أيضا، حيث تنقل لنا الآية التالية، الأسلوب الثالث بقولها: وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين. وكأنهم في ضحكهم وتغامزهم قد نالوا فتحا كبيرا! فتأخذهم نشوة تصور الغفلة والجهل لأن يتباهوا فيما قاموا به من فعل قبيح، ويبقون على حالة السخرية والاستهزاء بالمؤمنين رغم غياب المؤمنين عنهم!... " فكهين ": جمع (فكه)، وهي صفة مشبهة من (الفكاهة) بمعنى التمازح والضحك، مأخوذة من (الفاكهة)، وكأن لذة الخوض في هكذا حديث وسخرية كلذة أكل الفاكهة، كما ويطلق على حديث ذوي الأنس اسم (فكاهة).
1 - ذكر المفسرون احتمالين في ضمير " مروا " و " بهم "، فارجع بعضهم الأول إلى المشركين والثاني إلى المؤمنين، وقال البعض الآخر عكس ذلك، ويبدو أن الاحتمال الأول أقرب بلحاظ ما ذكر أعلاه. 44 " الأهل ": هم العائلة والأقرباء، وقد تشمل الأصدقاء المقربين أيضا. والأسلوب الرابع: وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون. لماذا؟ لأنهم تركوا ما كان شائعا من عبادة الأصنام، والخرافات التي يعتبرونها هداية! واتجهوا نحو الإيمان بالله والتوحيد الخالص. ولأنهم باعوا لذة الدنيا الحاضرة بنعيم الآخرة الغائبة!... ويمكن أن تكون هذه المواجهة قد حدثت بعد انتهاء مرحلة الاستهزاء، بعد أن غلف الأمر بطابع الجدية ورأوا ضرورة المواجهة الشديدة، لأن حال المشركين والكافرين على مر التاريخ في مواجهتهم لدعوة ورسالات الأنبياء (عليهم السلام) تبدأ بالسخرية وعدم المبالاة، وكأنهم لم يشاهدوا بعد من الدين الجديد ما يوجب الوقوف أمامه بجد وحزم، ولكن بمجرد إحساسهم بأن الدين الإلهي راح ينفذ إلى قلوب الناس، ورؤيتهم لازدياد أتباعه، سيزداد إحساسهم بالخطر، فيدخلون مرحلة المواجهة العنيفة مع الدين الجديد. فتشير الآية إلى أول خطوة جادة من قبل المجرمين في قبال المؤمنين، التي تتبعها خطوات وخطوات حتى تصل الحال إلى المواجهة الدموية الحادة. وغالبا ما لا يكون المؤمنون من أثرياء أو وجهاء القوم، ولذلك ينظر إليهم باحتقار ويهزأ بدينهم وإيمانهم، في مجتمع يسوده التمايز الطبقي بشكل راسخ وظاهر. فيقول القرآن الكريم في الآية التالية: وما أرسلوا عليهم حافظين فبأي حق إذن يهزأون بهم، ويقفون أمامهم؟! تنقل لنا الآية (27) من سورة هود ما قاله المستكبرين من أثرياء قوم نوح (عليه السلام): وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي، وتنقل لنا الآية (31) من نفس السورة جواب نوح (عليه السلام): ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم.
45 فجواب نوح (عليه السلام) عام يشمل حتى أولئك المغرورون في صدر الإسلام.. فما شأنكم وهؤلاء؟! وعليكم أن تنظروا إلى هذا الدين، وإلى النبي الذي جاء بهذا الدين، ولا تنظروا إلى من آمن به واتبعه!... وتبقى أساليب الذين يعادون الحق محدودة في إطار الحياة الدنيا، ولكن إذا كان يوم القيامة، فستختلف الحال تماما: فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون. فيوم القيامة، يوم مجازات الأعمال وإجراء العدالة الإلهية، والعدالة تقتضي بأن يستهزأ المؤمنون بالكافرين المعاندين للحق، والاستهزاء في ذلك اليوم أحد ألوان عذاب الآخرة الأليم الذي ينتظر أولئك المغرورون والمستكبرون. وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " المستهزئين بالناس في الدنيا يرفع لأحدهم يوم القيامة باب من أبواب الجنة، فيقال له: هلم، فيجئ بكربه وغمه، فإذا أتاه أغلق دونه، ثم يفتح له باب آخر، فيقال: هلم هلم، فيجئ بكربه وغمه، فإذا أتاه أغلق دونه، فما يزال كذلك حتى أنه ليفتح له الباب فيقال: هلم هلم، فلا يأتيه من أياسه " (1).. (وهنا يضحك المؤمنون الذين يطلعون عليه وعلى بقية الكفار من جنتهم). وتقول الآية التالية: على الأرائك ينظرون. ماذا ينظرون؟ إنهم ينظرون إلى: نعم الله التي لا توصف ولا تنفد في الجنة، وإلى كل ما فازوا به من الألطاف الإلهية والكرامة، وإلى ما أصاب الكفار والمجرمين من العذاب الأليم خاسئين... وفي آخر آيات السورة، يقول القرآن مستفهما: هل ثوب الكفار ما كانوا
1 - تفسير الدر المنثور، ج 6، ص 328. 46 يفعلون (1). فهذا القول سواء صدر من الله، أو من الملائكة، أو من المؤمنين، فهو في كل الحالات يمثل طعنا واستهزاءا بأفكار وادعاءات أولئك المغرورون، الذين كانوا يتصورون أن الله سيثيبهم على أعمالهم القبيحة، ويأتيهم النداء ردا على خطل تفكيرهم: هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون. واعتبر كثير من المفسرين أن الآية (جملة مستقلة)، في حين اعتبرها آخرون تابعة للآية التي قبلها، أي: إن المؤمنين سيجلسون على الأرائك ينظرون هل أن الكفار نالوا جزاءهم العادل؟ فإن كانوا يرجون ثوابا فليأخذوه من الشيطان!... ولكن هل بإمكان هذا اللعين المطرود من رحمة الله أن يثيبهم على ما عملوا له؟! " ثوب ": من (الثوب) على وزن (جوف)، وهو رجوع الشئ إلى حالته الأولى التي كان عليها، و " الثواب ": ما يرجع إلى الإنسان جزاء أعماله، ويستعمل للخير والشر أيضا، ولكن استعماله للخير هو الغالب (2). وعليه، فالآية تشير إلى الطعن بالكفار كنتيجة طبيعية لاستهزاءهم بالمؤمنين وبآيات الله في الحياة الدنيا، وما عليهم إلا أن يتقبلوا جزاء ما كسبت أيديهم. * * * 2 بحث 3 الاستهزاء.. سلاح بائس: من الحراب التي طالما شهرت في وجوه الأنبياء (عليهم السلام) عبر التاريخ.. حربة الاستهزاء والسخرية، وعكست لنا الآيات القرآنية مرارا تلك الصور التي تحكي
1 - الاستفهام في الآية.. استفهام تقريري. 2 - مفردات الراغب: مادة (ثوب). 47 هذا الموضوع، ولا عجب في ذلك حين صدور الاستهزاء من أناس ابتلوا بالظلم والكفر، لأن مصدر كفرهم وظلمهم هو عقدة الغرور والتكبر التي تدفعهم للنظر إلى الآخرين بعين التحقير والتصغير. ولم ينفلت زماننا المعاش من مدار تلك الأساليب القديمة، فما زال الإعلام الكافر وعبر وسائله التقنية، ما زال يبذل كل ما في جهده في استعمال ذات الحربة القديمة، عسى أن يخرج الحق وأتباعه من الميدان، وبواجهات عدة، ومنها تلك التي يسمونها برامج الترفيه والفكاهة. ولكن المؤمنين أقوى من أن تزلزلهم تلك الألاعيب الماكرة الواهية، وهم مطمئنون تماما بالوعد الإلهي الحق، كما ورد في الآيات أعلاه. وما استعمال أساليب السخرية والغمز والضحك في قبال دعوة تدعو إلى الحق إلا كاشف عن جهالة وغرور أولئك المساكين. فحتى على فرض عدم الإيمان بالدين الحق، أوليس المنطق السليم والحجة القاطعة هي سلاح الإنسان العاقل؟ فأين هم من إنسانيتهم أمام ما يمارسونه؟!... اللهم! قنا من الغرور والتكبر. اللهم! ارزقنا طلب الحق وزينا بالتواضع. اللهم! اجعل صحيفة أعمالنا في " عليين " وجنبها من الوقوع في " سجين "... آمين يا رب العالمين نهاية سورة المطففين * * *
48 1 سورة 1 الانشقاق 1 مكية 1 وعدد آياتها خمس وعشرون آية
50 1 " سورة الانشقاق " 3 محتوى السورة لا تخرج السورة عن الإطار العام لسور الجزء الأخير من القرآن الكريم، فتبدأ بوصف علامات أشراط القيامة وما سيحدث من أحداث مروعة في نهاية العالم وبداية يوم القيامة، ثم تتحدث ثانيا عن القيامة والحساب وما ستؤول إليه عاقبة كل من الصالحين والمجرمين، ثم تعطف السورة في المرحلة الثالثة لتوضيح ماهية الأعمال والعقائد التي تجر الإنسان إلى سخط الله وخلوده بالعذاب مهانا، وفي الرابعة تنتقل السورة لعرض مراحل سير الإنسان في حياتيه (الدنيا والآخرة)، وفي آخر مطاف السورة يدور الحديث خامسا عن جزاء الأعمال الحسنة والسيئة 3 فضيلة السورة: روي عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنه قال: " من قرأ سورة " انشقت " أعاذه الله أن يؤتيه كتابه وراء ظهره ". (1) وعن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنه قال: " من قرأ هاتين السورتين وجعلهما نصب عينه في صلاة الفريضة والنافلة لم يحجبه الله من حاجة، ولم يحجزه من الله حاجز، ولم يزل ينظر إليه حتى يفرغ من حساب الناس ". (2) * * *
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 458. 2 - نور الثقلين، ج 5، ص 536. 52 2 الآيات إذا السماء انشقت (1) وأذنت لربها وحقت (2) وإذا الأرض مدت (3) وألقت ما فيها وتخلت (4) وأذنت لربها وحقت (5) يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه (6) فأما من أوتى كتبه بيمينه (7) فسوف يحاسب حسابا يسيرا (8) وينقلب إلى أهله مسرورا (9) 2 التفسير 3 نحو الكمال المطلق: تبدأ السورة في ذكرها لأحداث نهاية العالم المهولة بالإشارة إلى السماء فتقول: إذا السماء انشقت (1) (فتلاشت نجومها وأجرامها واختل نظام الكواكب فيها)، كإشارة الآيتين (1 و 2) من سورة الانفطار التي أعلنت عن نهاية العالم بخرابه وفنائه: إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت. وتحكي الآية التالية حال السماء: وأذنت لربها وحقت. فلا يتوهم أن السماء بتلك العظمة بامكانها اظهار أدنى مقاومة لأمر الله.. بل ستستجيب لأمر الله خاضعة طائعة، لأن إرادته سبحانه في خلقه هي الحاكمة، ولا
1 - " إذا "، أداة شرط، حذف جزاؤها، والتقدير: (إذا السماء انشقت... لاقي الإنسان ربه فحاسبه وجازاه). 53 يحق لأي مخلوق أن يعصي أمره جل وعلا. " أذنت ": من (الاذن) على وزن (أفق)، وهي آلة السمع وتستعار لمن كثر استماعه، وفي الآية: كناية عن طاعة أمر الآمر والتسليم له. " حقت ": من (الحق)، أي: وحق لها أن تنقاد لأمر ربها. وكيف لها لا تسلم لأمره عز وجل، وكل وجودها وفي كل لحظة من فيض لطفه، ولو انقطع عنها بأقل من رمشة عين لتلاشت. نعم، فالسماء والأرض مطيعتان لأمر ربهما منذ أول خلقهما حتى نهاية أجلهما، كما تشير الآية (11) من سورة فصلت عن قولهما في ذلك: قالتا أتينا طائعين. وقيل: يراد ب " حقت ": إن الخوف من القيامة سيجعل السماء تنشق.. ولكن التفسير الأول أنسب. وفي المرحلة التالية تمتد الكارثة لتشمل الأرض أيضا: وإذا الأرض مدت. فالجيال - كما تقول آيات قرآنية أخرى - ستندك وتتلاشى، وستستوي الأرض في كافة بقاعها، لتلم جميع العباد في عرصتها، كما أشارت الآيات (105 - 107) من سورة طه إلى ذلك: ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا! فمحكمة ذلك اليوم من العظمة بحيث تجمع في عرصتها جميع الخلق من الأولين والآخرين، ولابد للأرض من هذا الانبساط الواسع. وقيل في معنى الآية: إن الله عز وجل سيمد الأرض يوم القيامة أكثر مما هي عليه الآن لتسع حشر الخلائق جميعا (1).
1 - الفخر الرازي، في تفسيره للآية المذكورة. 54 وفي ثالث مرحلة تقول الآية التالية: وألقت ما فيها وتخلت. والمعروف بين المفسرين أن الآية تشير إلى إلقاء الأرض بما فيها من موتى فيخرجون من باطن القبور إلى ظاهر الأرض، مرتدين لباس الحياة من جديد. وقد تناولت آيات أخرى هذا الموضوع، كالآية (2) من سورة الزلزال: وأخرجت الأرض أثقالها، والآيتين (13 و 14) من سورة النازعات: فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة. وقال بعض المفسرين: إن المعادن والكنوز المودعة في الأرض ستخرج مع الأموات أيضا. وثمة احتمال آخر في تفسير الآية، يقول: إن المواد المذابة التي في باطن الأرض ستخرج نتيجة الزلازل الرهيبة التي تقذفها إلى الخارج، فتملأ الحفر والمنخفضات الموجودة على سطح الأرض، وستهدأ الأرض بعد أن يخلو باطنها من هذه المواد. والجمع بين المعاني التي وردت في تفسير الآية، ممكن. و...: وأذنت لربها وحقت. فتسليم الموجودات لما سيحدث من كوارث كونية مدمرة ينم عن جملة أمور، فمن جهة: إن الفناء سيعم الدنيا بكاملها بأرضها وسمائها وإنسانها وكل شئ آخر، ومن جهة أخرى: فالفناء المذكور يمثل انعطافة حادة في مسير عالم الخليقة، ومقدمة للدخول في مرحلة وجود جديدة، ومن جهة ثالثة، فكل ما سيجري سينبأ بعظمة قدرة الخالق المطلقة، وخصوصا في مسألة المعاد. نعم، فسيرضخ الإنسان، بعد أن يرى بام عينيه وقوع تلك الحوادث العظام، وسيرى حصيلة أعماله الحسنة والسيئة. وتبين الآية التالية معالم طريق الحياة للإنسان مخاطبة له: يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه.
55 " الكدح ": - على وزن مدح - السعي والعناء الذي يخلق أثرا على الجسم والروح، ويقال: ثور فيه كدوح، أي آثار من شدة السعي. وجاء في (تفسير الكشاف) و (روح المعاني) و (تفسير الفخر الرازي): الكدح: جهد النفس في العمل والكد فيه حتى يؤثر فيها، من كدح جلده: إذا خدشه. والآية تشير إلى أصل أساسي في الحياة البشرية، فالحياة دوما ممزوجة بالتعب والعناء، وإن كان الهدف منها الوصول إلى متاع الدنيا، فكيف والحال إذا كان الهدف منها هو الوصول إلى رضوان الله ونيل حسن مآب الآخرة؟! فالحياة الدنيا قد جبلت على المشقة والتعب والألم، حتى لمن يرفل بأعلى درجات الرفاه المادي. وما ذكر " لقاء الله " في الآية إلا لتبيان أن حالة التعب والعناء والكدح حالة مستمرة إلى اليوم الموعود، ولا يتوقف إلا بانتهاء عجلة حياة الدنيا، ولا فرق في توجيه معنى " اللقاء " سواء كان لقاء يوم القيامة والوصول إلى عرصة حاكمية الله المطلقة، أو بمعنى لقاء جزاء الله من عقاب أو ثواب، أو بمعنى لقاء ذاته المقدسة عن طريق الشهود الباطني. نعم، فراحة الدنيا لا تخلو من تعب، والراحة الحقة.. هناك، حيث ينعم الإنسان بين فيافي جنان الخلد. وكان نداء الآية مخاطبا عموم " الإنسان "، ليشير إلينا بأن الله عز وجل قد وضع القدرة والقوة اللازمة لهذه الحركة الإلهية المستمرة في وجود وتكوين هذا المخلوق، والذي جعل من أشرف المخلوقات قاطبة. واستعمال كلمة " رب " فيه إشارة إلى ثمة ارتباط ما بين سعي وكدح الإنسان من جهة وذلك البرنامج التربوي الذي أعده الخالق لمخلوقه في عملية توجيه الإنسان نحو الكمال المطلق من جهة أخرى.
56 نعم، فمشوار حركة الوجود قد بدأ من العدم، والأقدام سائرة في خطوها صوب لقاء الله، شاء ذلك الموجود أم أبى. وقد تحدثت لنا آيات قرآنية أخرى عن السير التكاملي المستمر للمخلوقات نحو خالقها سبحانه وتعالى، ومنها. الآية (42) من سورة النجم: وأن إلى ربك المنتهى. والآية (18) من سورة فاطر: وإلى الله المصير.. بالإضافة إلى آيات مباركات اخر. وإلى ذلك المطاف، ستنفصل البشرية إلى فريقين: فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا، وينقلب إلى أهله مسرورا. فالذين ساروا على هدي المخطط الرباني لحركة الإنسان على الأرض، وكان كل عملهم وسعيهم لله دائما، وكدحوا في السير للوصول إلى رضوانه سبحانه، فسيعطون صحيفة أعمالهم بيمينهم، للدلالة على صحة إيمانهم وقبول أعمالهم والنجاة من وحشة ذلك اليوم الرهيب، وهو مدعاة للتفاخر والإعتزاز أمام أهل المحشر. وحينما توضع أعمال هؤلاء في الميزان الإلهي الذي لا يفوته شئ مهما قل وصغر، فإنه سبحانه وتعالى: سييسر حسابهم، ويعفو عن سيئاتهم، بل ويبدل لهم سيئاتهم حسنات. أما ما المراد من " الحساب اليسير "؟ فذهب بعض إلى أنه العفو عن السيئات والثواب على الحسنات وعدم المدافة في كتاب الأعمال. وحتى جاء في الحديث الشريف: " ثلاث من كن فيه حاسبه الله حسابا يسيرا، وأدخله الجنة برحمته. قالوا: وما هي يا رسول الله؟!
57 قال: تعطي من حرمك، وتصل من قطعك، وتعفو عمن ظلمك " (1). وجاء في بعض الروايات، أن الدقة والتشديد في الحساب يوم القيامة تتناسب ودرجة عقل وإدراك الإنسان. فعن الإمام الباقر (عليه السلام)، أنه قال: " إنما يداق الله العباد في الحساب يوم القيامة على ما آتاهم من العقول في الدنيا " (2). ووردت أقوال متفاوتة في تفسير كلمة " الأهل " الواردة في الآية إلى أهله. فمنهم من قال: هم الزوجة والأولاد المؤمنين، لأنه سيلتحق بهم في الجنة، وهي بحد ذاتها نعمة كبيرة، لأن الإنسان يأنس بلقاء من يحب، فكيف وسيكون معهم أبدا في الجنة! ومنهم من قال: الأهل: الحور العين اللاتي ينتظرنهم في الجنة. وآخرين قالوا: هم الاخوة المؤمنين الذين كانوا معه في الدنيا. ولا مانع من قبول كل هذه الأقوال في معنى الآية وما رمزت له. * * * 2 بحثان 3 1 - خذ العلم من علي (عليه السلام) في تفسير الآية المباركة: إذا السماء انشقت، روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " إنها تنشق من المجرة ". (3) والحديث يعتبر من الإعجاز العلمي لأمير المؤمنين (عليه السلام)، حيث أنه قد كشف
1 - مجمع البيان، في تفسير الآية. 2 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 537. 3 - روح المعاني، ج 30، ص 87، وفي الدر المنثور، ج 6، 329. 58 الستار عن حقيقة علمية قائمة لم يكن قد سبقها من علماء تلك الأزمان أحد قبله (عليه السلام)، وبقيت هذه الحقيقة خافية عن أنظار الناس (سوى الراسخين في العلم)، إلى أن تم صنع التلسكوبات الكبيرة، فتوصل علماء الفلك المعاصرين إليها. فعالم الوجود، يتكون من مجموعة مجرات، والمجرة عبارة عن مجموعة عظيمة من النجوم والمنظومات الشمسية، ولذا فقد اطلق على المجرات اسم (مدن النجوم). ومن هذه المجرات، مجرة (درب التبانة) المعروفة والتي يمكن مشاهدتها بالعين المجردة، والمتكونة من مجموعة من النجوم والشموس على شكل دائرة، ويبدو لنا طرفها البعيد عنا بصورة سحاب أبيض، وما هو في حقيقته إلا مجموعة من النجوم، تبدو لنا بهذه الصورة نتيجة لبعدها وعجز عيوننا عن تشخيصها. وما نراه ليلا على سطح السماء هو طرفها القريب. ومنظومتنا الشمسية جزء من هذه المجرة العظيمة. وكما يقول حديث أمير المؤمنين (عليه السلام)، فإن النجوم التي نراها في السماء اليوم، ستنفصل عن المجرة، وبها تنشق السماء. فمن كان يعلم في زمانه (عليه السلام) إن النجوم المتناثرة على القبة السماوية هي جزء من مجرة عظيمة؟! نعم، لا يعلم بذلك، إلا من كان قلبه متصلا بعالم الغيب، ومن يستقي من علم الله تعالى استقاء. 3 2 - الدنيا دار بلاء التعبير ب " كادح " للإشارة إلى أن طريق الحياة شاق وصعب، وخوضه يستلزم العناء والألم والمشاكل، في كافة خطوات المسير ولا يستثنى من ذلك الروح أو البدن، بل كليهما وبكل ما يحملان من جوارح وجوانح لا يخلوان من التأثر بهذه
59 الطبيعة الحاكمة على الحياة الدنيا. ويحدثنا الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)، فيما روي عنه أنه قال: " الراحة لم تخلق في الدنيا ولا لأهل الدنيا، إنما خلقت الراحة في الجنة ولأهل الجنة، والتعب والنصب خلقا في الدنيا، ولأهل الدنيا، وما أعطي أحد منها جفنة إلا أعطى من الحرص مثليها، ومن أصاب من الدنيا أكثر، كان فيها أشد فقرا لأنه يفتقر إلى الناس في حفظ أمواله، ويفتقر إلى كل آلة من آلات الدنيا، فليس في غنى الدنيا راحة... ". وجاء في آخر حديثه (عليه السلام): " كلا ما تعب أولياء الله في الدنيا للدنيا، بل تعبوا في الدنيا للآخرة ". (1) * * *
1 - الخصال، للشيخ الصدوق (رحمه الله): الجزء الأول، باب: الدنيا والآخرة ككفتي الميزان، الحديث 95. 60 2 الآيات وأما من أوتى كتبه وراء ظهره (10) فسوف يدعوا ثبورا (11) ويصلى سعيرا (12) إنه كان في أهله مسرورا (13) إنه ظن أن لن يحور (14) بلى إن ربه كان به بصيرا (15) 2 التفسير 3 الذين يستلمون كتابهم من وراء ظهرهم: بعد أن عرضت الآيات السابقة أحوال فريق أصحاب اليمين، تأتي الآيات أعلاه لتعرض لنا أحوال الفريق الآخر، وتوصف لنا كيفية إعطاء كتاب كل منهم مشرعة لتقديم المشاهد الأخرى: وأما من أوتي كتابه وراء ظهره.. فيصرخ وينادي الويل لي لقد هلكت فسوف يدعو ثبورا. ويصلى سعيرا ذكرت الآية بأن المجرمين سيؤتون كتبهم من وراء ظهورهم، في حين أن آيات أخرى تقول بأن المذنبين سيعطى كتاب كل منهم بيده الشمال. فهل من تأليف فيما بين العرضين؟ للمفسرين جملة آراء في ذلك، منها:
61 قيل: إن يدهم اليمنى تغل إلى أعناقهم، ويعطون الكتاب باليد اليسرى من وراء ظهورهم إيغالا في إذلالهم وإخجالهم. وقيل: إن كلتي يديهم تربط من خلفهم - كما يفعل بالأسير - ويعطون الكتاب باليد اليسرى من وراء الظهر. وقيل أيضا: ستكون وجوه المجرمين من الخلف، بدلالة الآية (47) من سورة النساء: من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها، فيعطون كتبهم من وراء ظهورهم وبيدهم اليسرى، كي يقرؤوها بأنفسهم. والأنسب أن نقول: سيأخذ أصحاب اليمين كتبهم بافتخار ومباهاة في يدهم اليمنى، وكل منهم يقول: هاؤم اقرأوا كتابيه (1)، ولكن المجرمين سيأخذون كتبهم بأيديهم اليسرى وبسرعة ويضعونها وراء ظهورهم خجلا وذلا، ولكي لا يطلع على ما فيها أحد، ولكن، هيهات.. فكل شئ حينئذ بارز، كيف لا وهو " يوم البروز "!... يدعو ثبورا: يصرخ بالويل والثبور، كما هو متعارف عليه عند نزول بلاء، أو وقوع حادث شديد الخطورة. و " الثبور ": الهلاك. ولكن صراخه سوف لا يدر عليه نفعا أبدا أبدا، ولابد من نيله جزاء ما اقترف: ويصلى سعيرا أي يدخل نار جهنم. وتبين الآية التالية علة تلك العاقبة المخزية: إنه كان في أهله مسرورا. سرورا ممتزجا بالغرور، وغرورا احتوشته الغفلة والجهل برب الأرباب سبحانه وتعالى، فالسرور المقصود في الآية، هو ذلك السرور المرتبط بشدة بالدنيا والمنسي لذكر الآخرة.
1 - سورة الحاقة، الآية 19. 62 وبديهي فالسرور والارتياح ليس مذموم بذاته، ولكن السرور المذموم هو الذي يغفل فيه الإنسان عن ذكر مولاه عز وجل، ويغرق به في بحر شهواته الموصل إلى التيه والضلالة والجهل. أما سرور المؤمن بلطف الله ونعمائه، وبشاشته عند مصاحبة إخوانه، فما أحلاها وأزكاها. ويتقرب لنا المعنى من خلال الآية التالية: إنه ظن أن لن يحور. فاعتقاده الفاسد وظنه الباطل الدائر على نفي المعاد، مصدر سروره وغروره وهو ما سيوصله إلى الشقاء الأبدي، لأنه ابتعد عن ساحة رضوانه سبحانه وتعالى بعد أن أوقعته شهواته في هاوية الاستهزاء بدعوة الأنبياء (عليهم السلام) الربانية، حتى أوصلته حالته المرضية تلك لأن يستمر في استهزاءه وسخريته حتى في حال عودته إلى أهله، كما أشارت الآية (31) من سورة المطففين: وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين، وكما وردت الإشارة أيضا على لسان علماء بني إسرائيل حينما خاطبوا قارون الثري المغرور الجاهل: لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين. (1) " لن يحور ": لن يرجع، من (الحور) - على زنة غور - بمعنى: الرجوع، التردد، الذهاب، والإياب (سواء كان في العمل أو الفكر)، و " حار الماء " في الغدير: تردد فيه، ويقال " المحور ": للعود الذي تجري عليه البكرة وتدور حوله والمحاورة و (الحوار): المراودة في الكلام، و (تحير في الأمر): تردد فيه بين أن يقدم أو لا يقدم. وقيل: أصل الكلمة (حبشي). وروي عن ابن عباس أنه قال: (ما كنت أدري ما معنى " حور " حتى سمعت
1 - سورة القصص، الآية 76. 63 أعرابية تقول لابنتها: " حوري " أي ارجعي) (1). وربما كان استعمال كلمة " الحواري " في نعت أصحاب عيسى (عليه السلام) أو أي مقربين لأحد، ربما كان لكثرة ترددهم عليه. وقيل: حورت الشئ، أي بيضته، وسمي أنصار عيسى (عليه السلام) الحواريين لتبييضهم قلوب الناس بالمواعظ الهادية، و " الحور العين " إشارة إلى بياضهن، أو لشفافية بياض عيونهن. وقيل أيضا: إن سبب تسميتهن ب " الحور العين " يعود إلى تحير العين في جمالهن الخارق. وعلى أية حال، فيقصد من الكلمة في الآية المبحوثة، الرجوع والمعاد، لإيضاح أن عدم الإيمان بالمعاد يؤدي إلى الوقوع في أتون الغفلة والغرور وارتكاب المعاصي. ولنفي العقائد الضالة، تقول الآية: بلى إن ربه كان به بصيرا. فكل أعمال الإنسان تسجل وتحصى عليه، لتعرض يوم الحساب في صحيفته. والآية تشارك الآية السابقة: يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه في كونها دليلا على المعاد أيضا. فتأكيد الآيتين على كلمة " رب " يدل على أن الإنسان في سيرة التكاملي صوب ربه لا ينتهي بالموت، وأن الحياة الدنيا لا يمكنها أن تكون هدفا وغاية لهذا الخلق العظيم وهذا المسار التكاملي... وكذلك كون الله " بصيرا " بأعمال الإنسان وتسجيلها لابد من اعتباره مقدمة للحساب والجزاء وإلا لكان عبثا، وهذا ما لا يكون. * * *
1 - مفردات الراغب، وتفسير الفخر الرازي، وغيرهما. 64 2 الآيات فلا أقسم بالشفق (16) والليل وما وسق (17) والقمر إذا اتسق (18) لتركبن طبقا عن طبق (19) فما لهم لا يؤمنون (20) وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون (21) بل الذين كفروا يكذبون (22) والله أعلم بما يوعون (23) فبشرهم بعذاب أليم (24) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون (25) 2 التفسير 3 سنة التغير! لمزيد من إيضاح ما ورد في الآيات السابقة بخصوص سير الإنسان التكاملي نحو خالقه سبحانه وتعالى.. تأتي الآيات لتقول: فلا أقسم بالشفق. والليل وما وسق، أي: وما جمع. والقمر إذا اتسق، أي: إذا اكتمل. لتركبن طبقا عن طبق.
65 " لا " في " لا أقسم ": زائدة، وجاءت للتأكيد. وثمة من اعتبرها (نافية)، أي: لا أقسم، لأن الأمر من الوضوح ما لا يحتاج فيه إلى قسم، أو أن القسم بهذا الموضوع لا يليق وأهميته، أو أن ما أقسم به من الأهمية بحيث يليق أن لا يقسم به. إلا أن الأول (كونها زائدة جاءت للتأكيد) أقرب من البقية. " الشفق ": اختلاط ضوء النهار بسواد الليل عند غروب الشمس، و (الإشفاق): عناية مختلطة بخوف، لأن (المشفق) يحب المشفق عليه ويخاف ما يلحقه (1). ويقول الفخر الرازي: تركيب لفظ " الشفق " في أصل اللغة لرقة الشئ، ومنه يقال: ثوب شفق، كأنه لا تماسك له لرقته، و (الشفقة): رقة القلب. (والظاهر أن قول الراغب أقرب للصواب). وعلى أية حال، ف " الشفق " هو وقت الغروب، وقد اختلف في تعيين وقته ما بين الحمرة التي تظهر في الأفق الغربي عند بداية الليل، وبين ما يظهر بعد الحمرة من بياض، والمشهور بين العلماء والمفسرين هو التعيين الأول، وهو المستعمل على لسان الأدباء أيضا حيث يشبهون دماء الشهداء بالشفق. إلا أن البعض اختار التعيين الثاني، على ما يبدو عليه من ضعف، وخصوصا إذا ما اعتبرنا (الرقة) هي الأصل اللغوي للكلمة، حيث أنها ستتناسب مع الحمرة الخفيفة الرقيقة دون الثاني. وعلى أية حال، فقد جاء القسم بالشفق للفت الأنظار إلى ما في هذه الظاهرة السماوية الجميلة من معان، فمنه تعلن حالة التحول العام من النهار إلى الليل، إضافة لما يتمتع به من بهاء وجمال، وكونه وقت صلاة المغرب. وأما القسم بالليل، فلما فيه من آثار كثيرة وأسرار عظيمة (وقد تناولنا ذلك
1 - مفردات الراغب. 66 مفصلا) (1). " ما وسق " (2): إشارة إلى عودة الإنسان والحيوانات والطيور إلى مساكنها عند حلول الليل (بلحاظ كون الوسق بمعنى جمع المتفرق) (3)، فيكون عندها سكنا عاما للكائنات الحية، وهو من أسرار وآثار الليل المهمة، كما أشارت الآية (61) من سورة غافر إلى ذلك: الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه. إذا اتسق: من (الاتساق)، وهو الاجتماع والإطراد، وتريد الآية به، اكتمال نور القمر في الليلة الرابعة عشر من الشهر القمري، حيث يكون بدرا. ولا يخفى ما لروعة البدر في تمامه، فنوره الهادئ الرقيق يكسو سطح الأرض، وهو من الرقة واللطافة بحيث لا يكسر ظلمة الليل وسكونه، ولكنه ينير درب سالكيه! فهو آية كبرى من آيات الله، ولذا جاء القسم به. وينبغي الالتفات إلى الصلة الموجودة فيما أقسمت الآيات بهن: (الشفق، الليل، ما اجتمع فيه، والقمر في حالة البدر) وجميعها موضوعات مترابطة ويكمل بعضها البعض الآخر، وتشكل بمجموعها لوحة فنية طبيعية رائعة، وتحرك عند الانسان التأمل والتفكير في عظمة ودقة وقدرة الخالق في خلقه، ويمكن للإنسان العاقل بتأمل هذه التحولات السريعة من التوجه إلى قدرته جل شأنه على المعاد ما يحمل بين طياته من تغيرات في عالم الوجود. والأمر المثير هو أن القرآن الكريم يشير هنا إلى أمور متتابعة الوقوع، فعندما تغيب الشمس يظهر الشفق معلنا عن بداية حلول الليل، الذي تتجه الكائنات الحية فيه إلى بيوتها، ثم يخرج القمر بدرا تاما (علما بأن البدر في ليلة تمامه يخرج مع
1 - راجع تفسير الآيات (71 - 73) من سورة القصص. 2 - " ما ": موصولة، واحتمال كونها (مصدرية) ضعيف، ضميرها محذوف، والتقدير: (وما وسقه). 3 - وجاء " الوسق "، أيضا بمعنى حمل بعير، أو ستين صاعا (وكل صاع يقرب من ثلاثة كيلوات)، وهو مأخوذ من الاجتماع أيضا. 67 بداية الليل!). ثم يأتي جواب القسم الوارد في الآيات أعلاه: لتركبن طبقا عن طبق، إشارة إلى المراحل والتحولات التي يمر بها الإنسان في حياته. وقد ذكرت تفاسير مختلفة لهذه الآية المباركة، منها: 1 - يقصد بها تلك الحالات المختلفة التي يمر بها الإنسان في كدحه وسيره المضني نحو الله جل وعلا، فيبدأ بحالة الدنيا، ثم ينتقل إلى عالم البرزخ ومنه إلى القيامة والآخرة (مع ملاحظة أن " طبق " من (المطابقة)، وهي جعل الشئ فوق شئ آخر بقدرة، وجاءت أيضا بمعنى، المنازل التي يطويها الإنسان في عملية صعوده). 2 - يقصد بها تلك الحالات التي يمر بها الإنسان منذ كونه نطفة حتى يموت، (وقد عدها البعض (37) حالة). 3 - يقصد بها تلك الحالات التي يعيشها الإنسان في حياته من: سلامة ومرض، سرور وغم، اليسر والعسر، السلم والحرب... الخ. 4 - يقصد بها تلك الحالات الصعبة التي ستواجه الإنسان يوم القيامة حتى يفرغ من حسابه، ويتجه إلى مصيره (الجنة أو النار). 5 - يقصد بها تلك الحالات التي مرت بها الأقوام السالفة بحلاوتها ومرها، وكذلك الإشارة إلى ألوان التكذيب والإنكار الذي يقع في هذه الأمة، وهذا المعنى قد ورد في حديث ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام). ولا يمنع من اعتبار كل ما جاء في التفاسير أعلاه مصاديق لمعنى الآية. وقيل: إن شخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المخاطب في الآية، والآية تشير إلى طبقات السماء التي طواهن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في معراجه. ولكن، بلحاظ وجود الضم على " الباء " في " لتركبن "، يتضح لنا أن المخاطب جمع وليس فرد هذا من جهة، ولو رجعنا إلى الآيات السابقة لرأينا النداء موجه
68 إلى الناس كافة من جهة أخرى، وعليه، فهذا التفسير بعيد عن مرام الآية. وعلى آية حال، فعدم استقرار الإنسان على حال ثابتة يدلل على فقر الإنسان واحتياجه، لأن كل متغير حادث، وكل حادث له محدث، كما وإن عدم استقرار هذا العالم علامة على حركة الإنسان المستمرة نحو الله والمعاد، وكما قالت الآية: يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه. ومن كل ما سبق.. يخرج القرآن الكريم بنتيجة: فما لهم لا يؤمنون. فمع وضوح أدلة الحق، مثل أدلة: التوحيد، معرفة الله، المعاد، بالإضافة إلى ما من الآفاق في آيات مثل: خلق... الليل والنهار، الشمس والقمر، النور والظلمة، شروق الشمس وغروبها، الشفق، ظلمة الليل، اكتمال القمر بدرا، وكذلك الآيات التي في نفس الإنسان منذ أن يكون نطفة في رحم امه، وما يطويه من مراحل حتى يكتمل جنينا، مرورا بما يمر به من حالات في حياته الدنيا، حتى يدركه الموت.. فمع وجود كل هذه الأدلة والآيات لم لا يؤمنون؟!.. وينتقل بنا العرض القرآني من كتاب (التكوين) إلى كتاب (التدوين)، فيقول: وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون. القرآن كالشمس يحمل دليل صدقه بنفسه، وتتلألأ أنوار الإعجاز من بين جنباته، ويشهد محتواه على أنه من الوحي الإلهي وكل منصف يدرك جيدا لدى قراءته له أنه فوق نتاجات عقول البشر ولا يمكن أن يصدر من انسان مهما كان عالما، فكيف بإنسان لم يتلق تعليما قط وقد نشأ في بيئة جاهلية موبوءة بالخرافات!... ويراد ب " السجود " هنا: الخضوع والتسليم والطاعة (1)، أما السجود المتبادر
1 - ومن الشواهد على هذا المعنى، بالإضافة إلى شهادة الآيات السابقة واللاحقة، إن السجود بمعنى وضع الجبين على الأرض عند تلاوة القرآن إنما يجب في مواضع محدودة جدا ويستحب في مواضع أخرى، وفي مواضع أخرى لا هو بالواجب ولا بالمستحب - وحينما تقول الآية: وإذا قرئ القرآن لا يسجدون فقد أطلقت القول، والإطلاق والحال هذه يراد به التسليم للقرآن. 69 إلى الذهن بوضع الجبين على الأرض، فهو أحد مصاديق مفهوم السجود، ولعل هذا هو ما ورد في الروايات من سجود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند قراءته لهذه الآية. والسجود في هذه الآية مستحب عند فتاوى فقهاء أهل البيت (عليهم السلام)، فيما يوجب ذلك فقهاء المذاهب الأربع، إلا (مالك)، فإنه يقول بالسجود عند الانتهاء من تلاوة السورة (1). وتأتي الآية التالية لتقول: بل الذين كفروا يكذبون. والتعبير عن ممارسة تكذيب الكافرين في الآية بصيغة المضارع المستمر، للإشارة إلى تكذيبهم المتعنت المستمر واصرارهم ولجاجتهم وليس تكذيبهم بسبب ضعف أدلة الحق، بل من أجل روح التعصب الأعمى للأسلاف والدنيا والمصالح المادية والحاكمة على قلوبهم المريضة، وأهوائهم الشيطانية. وببيان جدي وتهديد جدي، تقول الآية التالية: والله أعلم بما يوعون. فالله تعالى أعلم بدافع ونية وهدف ذلك التكذيب، ومهما تستروا على ما فعلوا فلا يجزون إلا بما كسبت أيديهم. " يوعون ": من (الوعاء) وهو الظرف، كما هو مستقى من قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: " إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها ". ثم...: فبشرهم بعذاب أليم. عادة ما تستعمل " البشارة " للأخبار السارة، وجاءت هنا لتنم عن نوع من الطعن والتوبيخ. والحال، إن البشارة الحقة للمؤمنين خالصة بما ينتظرهم من نعيم، وما للكاذبين إلا الغرق في بحر من الحسرة والندم، وما هم إلا في عذاب جهنم
1 - روح البيان، ج 1، ص 1382. 70 يخلدون. ويستثني المؤمنون من تلك البشرى المخزية: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون. " ممنون ": من (المن)، وهو القطع والنقصان، (ومنه " المنون " بمعنى الموت). وإذا ما جمعنا كل هذه المعاني، فستكون النعم الأخروية على عكس الدنيوية الناقصة والمنقطعة والمقترنة بمنة هذا وذاك، حيث أنها لا تنقطع ولا تنقص وليس فيها منة. أما الاستثناء الذي ورد في الآية السابقة، ففيه بحث: هل أنه " متصل " أو " منقطع ". قال بعض المفسرين: إنة منقطع، أي: إن القرآن الكريم انتقل بالآية من الحديث حول الكفار الذي عرض في الآيات السابقة، إلى الحديث عن المؤمنين وما ينتظرهم من أجر وثواب. والأقرب لسياق الآيات أن يكون الاستثناء متصلا، وفي هذه الحال يكون هدفه فتح الطريق أمام الكفار للعودة وتشجيعهم على ذلك، لأن الآية تقول: إن العذاب الأليم المذكور في الآية السابقة سوف لا يصيب من يؤمن منهم ويعمل صالحا وعلاوة على ذلك، سيكون له أجر غير ممنون. * * * 2 بحث وقد استنبط العلامة الطبرسي، في كتابه مجمع البيان، من الآيات الأخيرة للسورة ما يلي: أولا: حرية إرادة الإنسان واختياره. فقال: قوله سبحانه: فما لهم لا يؤمنون ولا يسجدون دلالة على أن
71 السجود فعلهم، لأن الحكيم لا يقول: مالك لا تؤمن ولا تسجد، لمن يعلم أنه لا يقدر على الإيمان والسجود. ثانيا: إن الذم على ترك السجود دليل على أن الكفار كما أنهم مكلفون بأصول الدين كذلك بفروعه أيضا. (هذا القول مبني على اعتبار كلمة السجود الواردة في الآية يراد منها (سجود الصلاة)، أو حتى إذا اعتبرنا الكلمة بمفهومها العام، فهي تتضمن سجود الصلاة كذلك). اللهم! يسر علينا الحساب يوم حشر الخلق في ساحة عدلك... اللهم! الكل إليك راجعون، فاهدنا الصراط المستقيم فيمن هديت.. ربنا! نحن مسلمون ومطأطأون برؤوسنا إجلالا لقرآنك فوفقنا للعمل بتعليماته وارشاداته.. وارزقنا العمل بكتابك الكريم. آمين يا رب العالمين نهاية سورة الانشقاق * * *
72 1 سورة 1 البروج 1 مكية 1 وعدد آياتها اثنتان وعشرون آية
74 1 " سورة البروج " 3 محتوى السورة: كان المؤمنون في بداية الدعوة المحمدية - خصوصا في مكة - يعانون من شدة التضييق وأقسى ألوان التعذيب الجسدي والنفسي، الذي انهال به عدوهم من الكفار على أن يتركوا إيمانهم بترك عقيدة الحق والارتداد عن الدين القويم! وبملاحظة كون السورة مكية، فيظهر إنها نزلت لتقوية معنويات المؤمنين لمواجهة تلك الظروف الصعبة، ولترغيبهم على الصمود أمام الصعاب والثبات على الإيمان وترسيخه في القلوب. وتناولت السورة قصة " أصحاب الأخدود "، الذين حفروا خندقا وسجروه بالنيران، وهددوا المؤمنين بإلقائهم في تلك النار إن لم يعودوا إلى كفرهم! وأحرقوا مجموعة منهم بالنار وهم أحياء، ومع ذلك لم يرجعوا عن دينهم.. وتعد السورة في بعض آياتها بعذاب جهنم الأليم لأولئك الذين يؤذون المؤمنين ويعذبونهم على إيمانهم، وتذمهم ذما شديدا، في حين تبشر المؤمنين الصابرين بالجنة والفوز بنعيمها. وفي جانب آخر من السورة، تعرض لنا مقتطفات من قصتي فرعون وثمود وقوميهما الجناة الطغاة، وما آلوا إليه من ذل وهلاك، كل ذلك تذكيرا لكفار مكة الذين هم أضعف قوة وأقل جندا من أولئك، فعسى أن يرعووا عما هم فيه من جهة، وتسلية لقلب الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن كان معه من المؤمنين من جهة أخرى. وتختم السورة في آخر مقاطعها بالإشارة إلى عظمة القرآن الكريم، وإلى
76 الأهمية البالغة لهذا الوحي الإلهي. وعموما، فالسورة من سور المقاومة والثبات والصبر أمام ضغوط الظالمين والمستكبرين، وآياتها تتضمن الوعد الإلهي بنصر المؤمنين. وسميت بسورة " البروج " بلحاظ ذكر الكلمة في أول آية من السورة بعد ذكر البسملة. 3 فضيلة السورة: روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من قرأ هذه السورة أعطاه الله من الأجر بعدد كل من اجتمع في جمعة وكل من اجتمع يوم عرفة عشر حسنات، وقراءتها تنجي من المخاوف والشدائد ". (1) وبملاحظة أن أحد تفاسير وشاهد ومشهود - من آيات السورة - هو يومي الجمعة وعرفة من جهة، وأن السورة حكاية مقاومة وبسالة المؤمنين السابقين أمام الشدائد والضغوط من جهة أخرى، وبملاحظة ذلك سيتضح لنا التناسب الموجود ما بين هذا الثواب الجزيل لمن يقرءها وبين محتوى السورة، وأن الأجر والثواب إنما يحصل لمن قرأها بتأمل معانيها، وعمل على ضوء هديها. * * *
1 - تفسير البرهان، ج 4، ص 445. 77 2 الآيات والسماء ذات البروج (1) واليوم الموعود (2) وشاهد ومشهود (3) قتل أصحب الأخدود (4) النار ذات الوقود (5) إذ هم عليها قعود (6) وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود (7) وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد (8) الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شئ شهيد (9) 2 التفسير 3 الإيمان الراسخ أقوى من حفر النيران! كما نعلم جميعا، بأن المسلمين في صدر الإسلام الأول، كانوا يعيشون في مكة تحت ظروف قاسية، بعد أن كشر أعدائهم بقباحة تلك الأنياب القذرة، فانهالوا على المؤمنين بأصناف العذاب وألوانه.. ولما كان الهدف من نزول السورة، وبما عرضته من صور الأولين هو انذار
78 هؤلاء الظالمين المغرورين بأن مصيرهم سيكون مثل مصير الأقوام السالفة من جهة، ومن جهة أخرى لتثبيت المؤمنين، وتقوية عزائمهم في صراعهم أمام أذى واضطهاد أهل مكة. ابتدأت السورة ب: والسماء ذات البروج. " البروج ": جمع (برج) وهو القصر، وقيل: هو الشئ الظاهر، وتسمية القصور والأبنية العالية بالبروج لظهورها ووضوحها، وقيل للمحلات الخاصة من السور المحيط بالبلد والتي يجتمع فيها الحراس والجنود (البروج) لظهورها الخاص، ويقال للمرأة التي تظهر زينتها (تبرجت). والأبراج السماوية: إما أن يكون المراد منها النجوم الزاهرة والكواكب المنيرة في السماء، أو المجموعات من النجوم تتخذ مع بعضها شكل شئ معروف في الأرض، وتسمى ب " الصور الفلكية "، وهي إثنا عشر برجا، وفي كل شهر تحاذي الشمس أحد هذه البروج، (طبيعي أن الشمس لا تتحرك تلك الحركة، وإنما الأرض تدور حول الشمس فيبدو لنا تغير موضع الشمس بالنسبة إلى الصور الفلكية أو الأبراج). (1) والقسم بهذه البروج يشير إلى عظمة أمرها، التي لم تكن معلومة للعرب الجاهليين وقت نزول الآية بينما أصبحت معلومة تماما في هذا الزمان والأقوى أن المراد منها هو النجوم المتلألئة ليلا في القبة السماوية. ولذا نقرأ فيما روي عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنه حينما سئل عن تفسير الآية قال: " الكواكب " (2). وتقول الآية الثانية: واليوم الموعود
1 - والأبراج الاثنا عشر هي: الحمل، الثور، الجوزاء، السرطان، الأسد، السنبلة، الميزان، العقرب، القوس، الجدي، الدلو والحوت. 2 - الدر المنثور، ج 6، ص 331. 79 اليوم الذي وعد به جميع الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام)، والذي تحدثت عنه مئات الآيات القرآنية المباركة، اليوم الذي يلتقي فيه جميع الخلق من الأولين والآخرين للحساب، إنه يوم القيامة الحق. وفي القسم الثالث والرابع يقول: وشاهد ومشهود. وقد تعرض المفسرون للآية بمعان متباينة، وصلت إلى ثلاثين معنى، وأدناه أهم ما ذكر منها: 1 - " الشاهد ": هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بدلالة الآية (45) من سورة الأحزاب: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا. و " المشهود ": هو يوم القيامة، بدلالة الآية (103) من سورة هود: ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود. 2 - " الشاهد ": هو ما سيشهد على أعمال الناس، كأعضاء بدنه، بدلالة الآية (24) من سورة النور: يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون. و " المشهود ": هم الناس وأعمالهم. 3 - " الشاهد ": هو يوم " الجمعة "، الذي يشهد اجتماع في صلاة مهمة، و " المشهود ": هو يوم " عرفة "، الذي يشهده زوار بيت الله الحرام، وهو ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام الباقر (عليه السلام) والإمام الصادق (عليه السلام) (1). 4 - " الشاهد ": عيد الأضحى. و " المشهود ": يوم عرفة. وروي أن رجلا دخل مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإذا رجل يحدث عن رسول الله، قال: فسألته عن الشاهد والمشهود، فقال: (نعم، الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة)، فجزته إلى آخر يحدث عن رسول الله، فسألته عن ذلك
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 466. 80 فقال: (أما الشاهد فيوم الجمعة، وأما المشهود فيوم النحر)، فجزتهما إلى غلام كأنه وجه الدينار، وهو يحدث عن رسول الله، فقلت أخبرني عن " وشاهد ومشهود " فقال: " نعم، أما الشاهد فمحمد، وأما المشهود فيوم القيامة، أما سمعت الله سبحانه يقول: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وقال ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود.. فسألت عن الأول، فقالوا: ابن عباس، وسألت عن الثاني، فقالوا: ابن عمر، وسألت عن الثالث: فقالوا: الحسن بن علي (عليهما السلام) (1) 5 - " الشاهد ": الليالي والأيام.. و " المشهود ": بنو آدم، حيث تشهد على أعمالهم، بدلالة ما جاء في دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) الذي يقرأ كل صباح ومساء: " هذا يوم حادث جديد، وهو علينا شاهد عتيد، إن أحسنا ودعنا بحمد، وإن أسأنا فارقنا بذنب ". (2) 6 - " الشاهد ": الملائكة.. و " المشهود ": القرآن. 7 - " الشاهد ": الحجر الأسود.. و " المشهود ": الحجاج الذين يأتون ويلمسونه. 8 - " الشاهد ": الخلق.. و " المشهود ": الحق. 9 - " الشاهد ": الأمة الإسلامية.. و " المشهود ": الأمم الأخرى، بدلالة الآية (143) من سورة البقرة: لتكونوا شهداء على الناس. 10 - " الشاهد ": النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).. و " المشهود ": سائر الأنبياء (عليهم السلام)، بدلالة الآية (41) من سورة النساء: وجئنا بك على هؤلاء شهيدا. 11 - " الشاهد ": النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).. و " المشهود ": أمير المؤمنين (عليه السلام). وإذا ما أدخلنا الآية في سياق الآيات السابقة لها، فسنصل إلى أن " الشاهد "
1 - نور الثقلين، ج 5، ص 543، وذكر مضمونه كل من (أبو الفتوح الرازي) و (الطبرسي) في تفسيرهما. 2 - الصحيفة السجادية: الدعاء السادس. 81 هو كل من سيقوم بالشهادة يوم القيامة، كشهادة: النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكل نبي على أمته، الملائكة، بالإضافة إلى شهادة: أعضاء بدن الإنسان، الليل والنهار.. إلخ.. و " المشهود ": الناس أو أعمالهم. وبهذا، يدغم الكثير من التفاسير المذكورة مع بعضها لتشكل مفهوما واسعا للآية المباركة. ويخرج عن هذا الإدغام تلك التفاسير التي تشير إلى: يوم الجمعة، يوم عرفة ويوم الأضحى. وإن كانت الأيام المذكورة ستشهد على أعمال الإنسان يوم الحشر، بل وكل يوم يجتمع فيه المسلمون يكاد يكون صورة مصغرة للحشر على رقعة الحياة الدنيا. ومع كل ما ذكر تتضح صلة التآلف ما بين التفاسير المذكورة أعلاه، حيث من الممكن جمعها تحت مظلة شمول مفهوم الآية، وهذا بحد ذاته يعكس لنا عظمة القرآن الكريم باحتوائه على هكذا مفاهيم واصطلاحات.. ف " الشاهد " ينطبق على كل من وما يشهد، وكذا " المشهود " ينطبق على كل من وما يشهد عليه، وما ورودهما بصيغة النكرة إلا لتعظيمهما، وهو ما ينعكس على كل التفاسير. وثمة علاقة خاصة بين الأقسام الأربع وبين ما أقسم به.. فالسماء وما فيها من بروج تحكي عن نظام وحساب دقيق، و " اليوم الموعود " يوم حساب وكتاب دقيق أيضا، و " شاهد ومشهود " أيضا وسيلة للحساب الدقيق على أعمال الإنسان، وكل ذلك لتذكير الظالمين الذين يعذبون المؤمنين، عسى أن يكفوا عن فعلتهم السيئة، ولإعلامهم بأن كل ما يفعله الإنسان يسجل عليه وبحساب دقيق جدا وسيواجه بها في اليوم الموعود بين عتبات ساحة العدل الإلهي، فسيشهد على أعمال الناس الملائكة الموكلون لهذا الأمر وأعضاء بدن ذات الإنسان وكذا الليل والنهار و.. و.. و..، وستكون الشهادة في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنين إلا من أتى
82 الله بقلب سليم! (1). وبعد هذه الأقسام الأربع، تقول الآية التالية: قتل أصحاب الأخدود. والمقصود هم الظالمين لا من القي في النار، فالجملة انشائية والمراد هو اللعن والدعاء عليهم. والأخدود ملئ بالنار الملتهبة: النار ذات الوقود. وكان الظالمون جالسون على حافة الأخدود يشاهدون المعذبين فيها: إذ هم عليها قعود. وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود. " الأخدود ": - على قول الراغب في مفرداته -: شق في الأرض مستطيل غائص، والجمع أخاديد، وأصل ذلك من " خد " الإنسان، وهو تقعر بسيط يكتنف الأنف من اليمين والشمال (وعند البكاء تسيل الدموع من خلاله) ثم اطلق مجازا على الخنادق والحفر في الأرض، ثم صار معنى حقيقيا لها. أما من هم الذين عذبوا المؤمنين؟ ومتى؟ فللمفسرين وأرباب التواريخ آراء مختلفة، سنستعرضها إن شاء الله في بحوث قادمة. ولكن القدر المسلم به، إنهم حفروا خندقا عظيما ووجروه بالنيران، وأوقفوا المؤمنين على حافة الخندق وطلبوا منهم واحدا واحدا بترك إيمانهم والرجوع إلى الكفر، ومن رفض القي بين ألسنة النيران حيا ليذهب إلى ربه صابرا محتسبا! " الوقود ": ما يجعل للاشتعال، و " ذات الوقود ": إشارة إلى كثرة ما فيها من الوقود، وشدة اشتعالها، فالنار لا تخلو من وقود، ولعل ما قيل من أن " ذات الوقود " بمعنى ذات اللهب الشديد، يعود للسبب المذكور، وليس كما ذهب به البعض من كون " الوقود " يطلق على معنيين: " الحطب " وعلى " شعلة النار " أيضا
1 - وعليه، فجواب القسم محذوف ويدل عليه قوله تعالى: قتل أصحاب الأخدود أو: إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات. والتقدير: (أقسم بهذه الأمور إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات معذبون ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود). 83 وتأسفوا لعدم التفات المفسرين لهذه النكتة! والآيتان: إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود، تشيران إلى ذلك الجمع من الناس الذين حضروا الواقعة، وهم ينظرون إلى ما يحدث بكل تلذذ وبرود وفي منتهى قساوة القلب (سادية)! وقيل: الإشارة إلى المأمورين بتنفيذ التهديد، وإجبار المؤمنين على ترك إيمانهم. وقيل أيضا: إنهم كانوا فريقين، فريق يباشر التعذيب، وآخر حضر للمشاهدة، وقد أشرك الجميع في هذا العمل لرضايتهم به. وهذه صورة طبيعية الوقوع، حيث هناك من يأمر (الرؤساء)، ومن ينفذ (المرأوسون)، وثمة المشاهدون من غير الآمر والمأمور. وقيل أيضا: ثمة فريق منهم كان مكلفا بمراقبة عملية التنفيذ لرفع تقاريرهم إلى السلطان عن كيفية أداء المأمورين لواجباتهم السلطانية. ولا يبعد وجود كل ما ذكر من أصناف في ذلك المشهد المروع، كما وبالإمكان الجمع بين كل الآراء المطروحة. ومجئ فعل جملة " يفعلون " بصيغة المضارع، للإشارة إلى أن ذلك العمل قد استغرق وقتا طويلا، وما كان بالحدث السريع العابر. وتقول الآية التالية: وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد. نعم، فجرمهم الوحيد إنهم آمنوا بالله الواحد الأحد دون تلك الأصنام الفاقدة للعقل والإحساس. " نقموا ": من (النقم) - على زنة قلم - وهو الإنكار باللسان أو بالعقوبة، ومنه (الانتقام). هكذا عقوبة لا تجري إلا على ذنب عظيم، وأين الإيمان بالله العزيز الحميد من الذنب؟! إنه الإنحطاط الكبير الذي وصل إليه أولئك القوم، قد صور لهم أعز
84 وأفضل ما ينبغي للإنسان أن يفتخر به (الإيمان بالله) على أنه جرم كبير وذنب لا يغتفر!... وينقل لنا القرآن في الآية (59) من سورة المائدة شبيه هذه الحادثة، حينما قال السحرة الذين آمنوا بموسى (عليه السلام) لفرعون عندما توعدهم بالعقاب المؤلم، فقالوا له: وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا. وذكر " العزيز الحميد " جواب لما اقترفوا من جريمة بشعة، واحتجاج على أولئك الكفرة، إذ كيف يكون الإيمان بالله جرم وذنب؟! وهو أيضا، تهديد لهم، بأن يأخذهم الله العزيز الحميد جراء ما فعلوا، أخذ عزيز مقتدر. وتأتي الآية الأخرى لتبين صفتين اخرتين للعزيز الحميد: الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شئ شهيد. فالصفات الأربعة المذكورة، تمثل رمز معبوديته جل وعلا، فالعزيز والحميد.. ذو الكمال المطلق، ومالك السماوات والأرض والشهيد على كل شئ.. أحق أن يعبد وحده دون غيره، لا شريك له. إضافة إلى كونها بشارة للمؤمنين، بحضور الله سبحانه وتعالى ورؤيته لصبرهم وثباتهم على الإيمان، فيدفع فيهم الحيوية والنشاط والقوة. ومن جهة أخرى تهديد للكفار، وإفهامهم بأن عدم منع ارتكاب مثل هذه الجرائم الخبيثة، ليس لعجز أو ضعف منه جل شأنه، وإنما ترك العباد يفعلون ما يرونه هم، امتحانا لهم، وسيريهم في عاقبة أمرهم جزاء ما فعلوا، وما للظالمين إلا العذاب المهين. * * *
85 2 بحثان 3 1 - من هم أصحاب الأخدود؟ قلنا إن " الأخدود " هو الشق العظيم في الأرض، أو الخندق.. وهو في الآية إشارة إلى تلك الخنادق التي ملأها الكفار نارا ليردعوا فيها المؤمنين بالتنازل عن إيمانهم والرجوع إلى ما كانوا عليه من كفر وضلال. ولكن.. متى حدث ذلك؟ في أي قوم؟ وهل حدث مرة واحدة أم لمرات؟ في منطقة أم مناطق؟ جرى بين المفسرين والمؤرخين مخاض طويل بخصوص الإجابة عن هذه الأسئلة. والمشهور: إن الآية قد أشارت إلى قصة (ذو نواس)، وهو آخر ملوك " حمير " (1) في أرض " اليمن ". وكان " ذو نواس " قد تهود، واجتمعت معه حمير على اليهودية، وسمى نفسه (يوسف)، وأقام على ذلك حينا من الدهر، ثم أخبر أن " بنجران " (شمال اليمن) بقايا قوم على دين النصرانية، وكانوا على دين عيسى (عليه السلام) وحكم الإنجيل، فحمله أهل دينه على أن يسير إليهم ويحملهم على اليهودية، ويدخلهم فيها، فسار حتى قدم نجران، فجمع من كان بها على دين النصرانية، ثم عرض عليهم دين اليهودية والدخول فيها، فأبوا عليه، فجادلهم وحرص الحرص كله، فأبوا عليه وامتنعوا من اليهودية والدخول فيها، واختاروا القتل، فاتخذ لهم أخدودا وجمع فيه الحطب، وأشعل فيه النار، فمنهم من أحرق بالنار، ومنهم من قتل بالسيف، ومثل بهم كل مثلة، فبلغ عدد من قتل وأحرق بالنار عشرين ألفا. (2) وأضاف بعض آخر: إن رجلا من بني نصارى نجران تمكن من الهرب،
1 - حمير: إحدى قبائل اليمن المعروفة. 2 - تفسير علي بن ابراهيم القمي، ج 2، ص 414. 86 فالتحق بالروم وشكا ما فعل (ذو نواس) إلى قيصر. فقال قيصر: إن أرضكم بعيدة، ولكني سأكتب كتابا إلى ملك الحبشة النصراني وأطلب منه مساعدتكم. ثم كتب رسالته إلى ملك الحبشة، وطلب منه الانتقام لدماء المسيحيين التي أريقت في نجران، فلما قرأ الرسالة تأثر جدا، وعقد العزم على الانتقام لدماء شهداء نجران. فأرسل كتائبه إلى اليمن والتقت بجيش (ذو نواس)، فهزمته بعد معركة طاحنة، وأصبحت اليمن ولاية من ولايات الحبشة. (1) وذكر بعض المفسرين: إن طول ذلك الخندق كان أربعين ذراعا، وعرضه اثني عشر ذراع، (وكل ذراع يقرب من نصف متر، وأحيانا يقصد به ما يقرب من متر كامل). وقيل: إنها كانت سبعة أخاديد، وكل منها بالحجم الذي ذكرناه. (2) وذكرت القصة في كتب تاريخية وتفسيرية كثيرة، بتفاصيل متفاوتة، منها: ما ذكره المفسر الكبير الطبرسي في (مجمع البيان)، وأبو الفتوح الرازي في تفسيره، والفخر الرازي في (تفسيره الكبير)، والآلوسي في (روح البيان)، والقرطبي في تفسيره، وكذلك ابن هشام في الجزء الأول من كتاب (السيرة) ص 35.. وغيرهم كذلك. وقد تبين مما ذكرناه بأن العذاب الإلهي قد أصاب أولئك الذين قاموا بتعذيب المؤمنين، وانتقم منهم في دنياهم جراء ما هدروا من دماء زكية بريئة، وأن عذاب نار الآخرة لفي انتظارهم. وأول من أوجد المحارق البشرية في التاريخ هم اليهود، وسرت هذه
1 - قصص القرآن، للبلاغي، ص 288. 2 - تفسير روح المعاني، وتفسير أبي الفتوح الرازي، عند تفسير الآيات المذكورة. 87 الممارسة الخبيثة على أيدي الطواغيت المجرمين، حتى شملت اليهود أنفسهم، كما حدث في ألمانيا النازية حينما أحرق جمع كبير من اليهود في محارق هتلر كما هو المشهور، فذاقوا " عذاب الحريق " في دنياهم قبل آخرتهم. كما أصاب الخزي والعذاب (ذو نواس اليهودي) وهو مؤسس هذا الأسلوب القذر من الجريمة. ذكرنا ما اشتهر بين أرباب التاريخ والتفسير من قصة أصحاب الأخدود، وثمة روايات تذكر بأن هذه الجريمة البشعة ما اقتصرت على أهل اليمن فقط ولم تقف عند عصر (ذو نواس)، حتى قيل عشرة أقوال في ذلك. وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " إنهم كانوا مجوس، أهل كتاب، وكانوا متمسكين بكتابهم، فتناول ملكهم الخمرة فوقع على أخته، وبعد أن أفاق ندم، فأعلن حلية زواج الأخت، فلم يقبل الناس، فهددهم فلم يقبلوا، فخد لهم الأخدود، وأوقد فيه النيران، وعرض أهل مملكته على ذلك، فمن أبى قذفه في النار، ومن أجاب خلى سبيله " (1). هذا في أصحاب فارس.. أما أصحاب أخدود الشام، فهم قوم مؤمنون أحرقهم (آنطياخوس) (2). وقيل أيضا: إن هذه الواقعة تعود لأصحاب نبي الله دانيال من بني إسرائيل، وقد أشير إلى ذلك في كتاب دانيال من التوراة. واعتبر الثعلبي: إنهم هم الذين احرقوا في أخدود فارس (3) ولا يبعد انطباق قصة " أصحاب الأخدود " على كل ما ذكر، وإن كان المشهور منها قصة (ذو نواس) في أرض اليمن.
1 - مجمع البيان، وعنه الميزان في تفسير الآية. 2 - تفسير الثعلبي، ص 275. 3 - المصدر السابق. 88 3 2 - الإيمان الثابت في قصص الأولين وما يجري عند الآخرين، ثمة وقائع رائعة في الثبات على الإيمان فقد تحمل البعض الحرق في النار وأشد من ذلك على أن يترك طريق الحق أو العدول عن دينه. وها هي " آسية " زوجة فرعون شاخصة بما تحملت من عذاب بسبب تصديقها بنبي الله موسى (عليه السلام) وإيمانها برسالته، حتى انتهى بها المطاف للارتواء من كأس الشهادة. وفي حديث عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: " إن الله بعث رجلا حبشيا نبيا، وهم حبشية، فكذبوه فقاتلهم، فقتلوا أصحابه، فأسروه وأسروا أصحابه، ثم بنوا له حيرا، ثم ملأوه نارا، ثم جمعوا الناس فقالوا: من كان على ديننا وأمرنا فليعتزل، ومن كان على دين هؤلاء فليرم نفسه في النار، فجعل أصحابه يتهافتون في النار، فجاءت امرأة معها صبي لها ابن شهر، فلما هجمت هابت ورقت على ابنها، فنادى الصبي: لا تهابي، وارميني ونفسك في النار، فإن هذا والله في الله قليل فرمت بنفسها في النار وصبيها، وكان ممن تكلم في المهد " (1). ويفهم من هذه الرواية، إن في الحبشة قسم رابع قد انطبقت عليهم قصة " أصحاب الأخدود ". ومن تاريخنا.. هناك قصة عمار بن ياسر وأبويه وأمثالهم، وأهم من كل ذلك ما جرى للحسين (عليه السلام) وأصحابه في ميدان التضحية والفداء (كربلاء)، وكيف أنهم قد تسابقوا على شرف نيل وسام الشهادة، كما هو معروف في التاريخ. وها هو عصرنا يرينا الكثير من صور التضحية والفداء في سبيل إعلاء كلمة
1 - تفسير الميزان، ج 20، ص 377، عن تفسير العياشي. 89 الحق وحفظ الدين القويم. وينبغي القول هنا: إن بقاء الدين الإلهي (على مر العصور) مرتهن على ما تقدم في سبيله من تضحيات مقدسة. * * *
90 2 الآيات إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق (10) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنت تجرى من تحتها الأنهر ذلك الفوز الكبير (11) إن بطش ربك لشديد (12) إنه هو يبدئ ويعيد (13) وهو الغفور الودود (14) ذو العرش المجيد (15) فعال لما يريد (16) 2 التفسير 3 العذاب الإلهي للمجرمين: بعد ذكر عظم جريمة أصحاب الأخدود التي ارتكبت ضد المؤمنين بحرقهم وهم أحياء، يشير القرآن الكريم في هذه الآيات إلى ما ينتظر أولئك الجناة من عذاب إلهي شديد، ويشير أيضا إلى ما أعد للمؤمنين من ثواب ونعيم جراء صبرهم وثباتهم على إيمانهم بالله. فتقول الآية الأولى: إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم
91 عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق. " فتنوا ": من مادة (فتن)، - على زنة متن - وهو إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، وقد استعملت (الفتنة) بمعنى (الاختبار)، وبمعنى (العذاب والبلاء)، وبمعنى (الضلال والشرك) أيضا. وهي في الآية بمعنى (العذاب)، على غرار ما جاء في الآيتين (13 و 14) من سورة الذاريات: يوم هم على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون. ثم لم يتوبوا: تدل على أن باب التوبة مفتوح حتى لأولئك الجناة المجرمين، وتدل أيضا على مدى لطف الباري جل وعلا على الإنسان حتى وإن كان مذنبا، وفي الجملة تنبيه لأهل مكة ليسارعوا في ترك تعذيب المؤمنين ويتوبوا إلى الله توبة نصوح. فباب التوبة لا يغلق بوجه أحد، وذكر العقاب الإلهي الشديد الأليم إنما جاء لتخويف الفاسدين والمنحرفين عسى أن يرعووا ويعودوا إلى الحق مولاهم. وقد ورد في الآية لونين من العذاب الإلهي، عذاب جهنم وعذاب الحريق، للإشارة إلى أن لعذاب جهنم ألوان عديدة، منها (عذاب النار)، وتعيين " عذاب الحريق "، للإشارة أيضا إلى أن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات وأحرقوهم بالنار، سوف يجازون بذات أساليبهم، ولكن، أين هذه النار من تلك؟! فنار جهنم قد سجرت بغضب الله، وهي نار خالدة ويصاحب داخليها الذل والهوان، أما نار الدنيا، فقد أوقدها الإنسان الضعيف، ودخلها المؤمنون بعزة وإباء وشرف ملتحقين بصفوف شهداء رسالة السماء الحقة. وقيل: إن عذاب جهنم جزاء كفرهم، وعذاب الحريق جزاء ما اقترفوا بحق المؤمنين الأخيار من جريمة بشعة. وتعرض لنا الآية التالية ما سيناله المؤمنون من ثواب: إن الذين آمنوا
92 وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير. وأي فوز أرقى وأسمى من الوصول إلى جوار الله، والتمتع في نعيمه الذي لا يوصف! نعم، فمفتاح ذلك الفوز العظيم هو (الإيمان والعمل الصالح)، وما عداه فروع لهذا الأصل. عملوا الصالحات: إشارة إلى أن العمل الصالح لا يختص بشئ محدد، بل ينبغي أن يكون محور حياة الإنسان هو: " العمل الصالح ". " ذلك ": إشارة للبعيد، واستعملت هنا لتبيان عظمة وأهمية المشار إليه، أي: إن فوزهم الكبير من عظمة الشأن، بقدر لا يخطر على بال أحد. ويعود القرآن مرة أخرى لتهديد الكفار الذين يفتنون المؤمنين، فيقول: إن بطش ربك لشديد. ولا تظنوا بأن القيامة أمر خيالي، أو إن المعاد من الأمور التي يشك في صحة تحققها، بل: إنه هو يبدئ ويعيد. " البطش ": تناول الشئ بصولة وقهر، وباعتباره مقدمة للعقاب، فقد استعمل بمعنى العقاب والمجازاة. " ربك ": تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتأكيد دعم الله اللامحدود له. والجدير بالملاحظة، إن الآية تضمنت جملة تأكيدات، لتبيان صرامة التهديد الإلهي بجدية وقطع. ف " البطش " يحمل معنى الشدة المؤكدة، والجملة الإسمية عادة ما تأتي للتأكيد، ووصف البطش بأنه " شديد "، وكذا وجود " إن "، ووجود لام التأكيد في " لشديد "، هذا بالإضافة إلى التأكيد المتضمن في قوله تعالى: إنه يبدئ ويعيد كدليل إجمالي على المعاد (1).
1 - وهذا يشبه دليل الآية (79) من سورة " يس ": قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم، يقال: إن الفارابي تمنى لو كان أرسطو " الفيلسوف اليوناني المعروف " حيا ليرى جمال هذا الدليل المحكم في القرآن الكريم. 93 ثم يعرض لنا القرآن الكريم خمسة أوصاف الباري جل شأنه: وهو الغفور الودود الذي يغفر للتائبين ويحب المؤمنين. ذو العرش المجيد صاحب الحكومة المقتدرة على عالم الوجود وذو المجد والعظيمة. فعال لما يريد. " الغفور " و " الودود ": كلاهما صيغة مبالغة، ويشيران إلى منتهى الغفران والود الإلهي، " الغفور " لعبادة المذنبين، و " الودود " المحب لعباده الصالحين. فذكر هذه الأوصاف بعد ما تضمنته الآيات السابقة من تهديد ووعيد، يبين أن طريق العودة إلى الله سالك وأن باب التوبة مفتوح لكل من ولغ في الذنوب، فالباري جلت عظمته في الوقت الذي هو شديد العقاب فهو الغفور الرحيم أيضا. وعلى هذا الضوء ف " الودود " جاء بصيغة اسم الفاعل، وليس كما قيل من أنه اسم مفعول، ليكون المعنى: بأن الله له محبون كثيرون، فهذا المعنى لا ينسجم مع الصفة السابقة " الغفور " ولا يتناسب مع سياق الكلام. وصفة: " ذو العرش ": كناية عن قدرته وحاكميته ومالكيته سبحانه وتعالى، ويتبين بهذا الوصف أن حكم عالم الوجود بيده جل وعلا، فما شاء كان، وقوله تعالى: فعال لما يريد من لوازم هذه الحاكمية المطلقة. ف " ذو العرش " تشير إلى قدرته تعالى على: المعاد، إحياء الموتى ومعاقبة الجبابرة والمجرمين والذين يفتنون المؤمنين والمؤمنات. " المجيد ": من (المجد)، وهو السعة في الكرم والجلال، وهي من الصفات المختصة بالله سبحانه، وقلما تستعمل لغيره. (1) وبنظرة بسيطة إلى هذه الصفات المذكورة سيتراءى أمامنا ذلك الانسجام
1 - جاءت كلمة " المجيد " في الآية مرفوعة (طبق القراءة المشهورة)، تكون صفة لله تعالى وليس صفة للعرش، وإلا لكانت مجرورة. 94 والترابط فيما بينها فالغفور والودود لمن له القدرة وسعة الكرم كي يفعل ما يريد، لا يمنعه شئ ولا يصد إرادته أمر، لأن إرادته في مطلق القوة والدوام ولا يصيبها تردد أو فسخ، سبحانه وتعالى. * * *
95 2 الآيات هل آتك حديث الجنود (17) فرعون وثمود (18) بل الذين كفروا في تكذيب (19) والله من ورائهم محيط (20) بل هو قرءان مجيد (21) في لوح محفوظ (22) 2 التفسير 3 ألم تر ما حل بجيش فرعون وثمود؟! فيما تعرضت الآيات السابقة لقدرة الله المطلقة وحاكميته، ولتهديد الكفار الذين يفتنون المؤمنين.. تتعرض الآيات أعلاه لما يؤكد هذا التهديد... فتخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلة: هل أتاك حديث الجنود. تلك الكتائب الجرارة التي وقفت بوجه أنبياء الله (عليهم السلام) بتصورها الساذج بأنها ستقف أمام قدرة الله عز وجل. وتشير إلى نموذجين واضحين، أحدهما من غابر الزمان، والآخر في زمن قريب من صدر دعوة الاسلام: فرعون وثمود. فأحدهما ملك الشرق والغرب، والآخر وصلت مدنيته لأن يحفر الجبال لبناء البيوت والقصور الفخمة، ولهما من الجبروت ما لم يستطع أحد من الوقوف
96 بوجههم، ولكن العزيز الجبار أهلكهم بالماء والهواء، مع ما لهاتين المادتين من لطافة وليونة، وما يمثلانه باعتبارهما من الوسائل المهمة المستلزمة لأساسيات حياة الإنسان، فقد أغرقت أمواج وتيارات نهر النيل ذلك الطاغي (فرعون) وجنوده، فيما سلط الله الهواء القارص بأعاصير مدمرة اجتاحت قوم ثمود حتى قطعت دابرهم، فأهلكوا جميعهم. القرآن الكريم يذكر مشركي مكة بذلك النموذجين ليعرفوا أنفسهم أمام الله تعالى، فإن كان الله قد أهلك تلك الجيوش العظيمة وبما تملك من عناصر القوة بماء وهواء، فهل سيبقى لزمام أمورهم من شئ، وهم أضعف من أولئك! علما بأن البشر أمام الله بكل ما يحملون من قوة فهم سواء، فلا فرق بين ضعيف وقوي.. فأين الخالق من المخلوق! وإنما اختير قوم " فرعون " و " ثمود " دون بقية الأقوام السالفة كنموذجين للعصاة والضالين، باعتبارهما كانا يمتلكان قدرة وقوة مميزة على بقية الأقوام، وأهل مكة على معرفة بتاريخهما إجمالا. وتقول الآية التالية: بل الذين كفروا في تكذيب. فآيات ودلائل الحق ليست بخافية على أحد، ولكن العناد واللجاجة هما اللذان يحجبان عن رؤية طريق الحق والإيمان. وكأن " بل " تشير إلى أن عناد وتكذيب أهل مكة أشد وأكثر من قوم فرعون وثمود وهم مشغولون دائما بتكذيب الحق وانكاره ويستخدمون كل وسيلة في هذا الطريق، (بلحاظ أن " بل " تستعمل عادة للاضراب: أي للعدول من شئ إلى شئ آخر). وعليهم أن يعلموا بقدرة الله: والله من ورائهم محيط. فلا يدل الإمهال على الضعف أو العجز، ولا يعني عدم تعجيل إنزال العقوبة الإلهية بأنهم قد خرجوا عن قدرته جل شأنه.
97 وما مجئ من ورائهم إلا للتعبير عن كونهم في قبضة القدرة الإلهية من جميع الجهات، وهو محيط بهم، وليس لهم من مخلص عن العذاب بحكم العدل الإلهي. وثمة من يذهب بإرادة الإحاطة العلمية في الآية، أي.. إن الله تعالى محيط بأعمالهم من كل جهة، فلا يغيب عنه سبحانه أي قول أو عمل أو نية. وتقول الآية التالية: بل هو قرآن مجيد ذو مكانة سامية ومقام عظيم. في لوح محفوظ، لا تصل إليه يد العبث، والشيطنة، ولا يصيبه أي تغيير أو تبديل، أو زيادة أو نقصان. فلا تبتأس يا محمد بما ينسبونه إليك افتراء، كأن يتهموك بالشعر، السحر، الكهانة والجنون.. فأصولك ثابتة، وطريقك نير، والقادر المتعال معك. " مجيد ": - كما قلنا - من (المجد)، وهو السعة في الكرم والجلال، وهو ما يصدق على القرآن تماما، فمحتواه واسع العظمة، ومعانيه سامية على كافة الأصعدة العلمية، العقائدية، الأخلاقية الوعظ والإرشاد، وكذا في الأحكام والسنن. " لوح " - بفتح اللام -: هو الصفحة العريضة التي يكتب عليها، و (اللوح) - بضم اللام -: العطش، والهواء بين السماء والأرض. الفعل الذي يشتق من الأول يأتي بمعنى الظهور والانكشاف. ويراد باللوح هنا: الصفحة التي كتب فيها القرآن، لكنها ليست كالألواح المتعارفة عندنا، بل (وعلى قول ابن عباس): إن اللوح المحفوظ طوله ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق والمغرب! ويبدو أن اللوح المحفوظ، هو " علم الله " الذي يملأ الشرق والغرب، ومصان من أي اختلاق أو تحريف. نعم، فالقرآن من علم المطلق، وما فيه يشهد على أنه ليس نتيجة إشراقة عقلية
98 في عقل بشر، ولا هو بنتاج الشياطين. ويحتمل أن يكون هو المقصود به " أم الكتاب " و " كتاب مبين " الواردان في الآية (39) من سورة الرعد: يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب، والآية (59) من سورة الأنعام: ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين. علما بأن تعبير (لوح محفوظ) لم يرد في القرآن إلا في هذا الموضع فقط. اللهم! زدنا معرفة بكتابك العظيم... اللهم! ضمنا بين جناح رحمتك يوم يفوز المؤمنون، وقنا غضبك يوم يهلك الكافرون والمجرمون في عذاب الحريق... اللهم! أنت الغفور الودود الرحيم، فعاملنا بمقتضى صفاتك، ولا تعاملنا بمقتضى أعمالنا... آمين يا رب العالمين نهاية سورة البروج * * *
99 1 سورة 1 الطارق 1 مكية 1 وعدد آياتها سبع عشرة آية
100 1 " سورة الطارق " 3 محتوى السورة: تدور مواضيع السورة حول محورين: 1 - محور المعاد والقيامة. 2 - محور القرآن الكريم وأهميته القيمة تبتدأ السورة بجملة أقسام تبعث على التأمل والتفكير، ثم تشير إلى المراقبين الإلهيين على الإنسان. وتنتقل السورة لإثبات إمكانية المعاد من خلال الإشارة إلى كيفية خلق الإنسان من نطفة. فالقادر على خلق الإنسان من نطفة نتنة لقادر على إعادة حياته بعد موته. وتعرض لنا السورة بعد ذلك معالم المرحلة التالية من خلال تبيان بعض ملامح يوم القيامة، ثم تذكر جملة أقسام أخرى للتأكيد على أهمية القرآن، ومن ثم نختم بإنذار الكفار بالعذاب الإلهي. 3 فضيلة السورة: روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنه قال: " من قرأها أعطاه الله بعدد كل نجم في السماء عشر حسنات " (1).
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 469. 102 وعن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنه قال: " من كانت قراءته في الفريضة ب (والسماء والطارق) كان له عند الله يوم القيامة جاه ومنزلة، وكان من رفقاء النبيين وأصحابهم في الجنة " (1) وبديهي، أن التأمل بمحتوى السورة والعمل على ضوءها هو الذي يضمن حصول ثوابها، وحركة اللسان الفارغة عن كل محتوى وتطبيق، لا تغني عن الحق شيئا. * * *
1 - ثواب الأعمال، ص 122، وعنه نور الثقلين، ج 5، ص 549. 103 2 الآيات والسماء والطارق (1) وما أدراك ما الطارق (2) النجم الثاقب (3) إن كل نفس لما عليها حافظ (4) فلينظر الإنسان مم خلق (5) خلق من ماء دافق (6) يخرج من بين الصلب والترائب (7) إنه على رجعه لقادر (8) يوم تبلى السرائر (9) فما له من قوة ولا ناصر (10) 2 التفسير 3 مم خلق الإنسان؟! تبتدأ السورة - كمثيلاتها من سور الجزء الأخير من القرآن الكريم - بعدة أقسام بليغة تبعث على التأمل، وهي مقدمة لبيان أمر مهم. والسماء والطارق.. وما أدراك ما الطارق.. النجم الثاقب. " الطارق ": من (الطرق) - على زنة برق - وهو الضرب، ولهذا قيل (الطريق) لما تطرقه أرض المشاة، و (المطرقة) هي الآلة التي يطرق بها الحديد وغيره.
104 ويقال للقادم ليلا (الطارق)، لإن البيوت عادة ما تغلق أبوابها ليلا، فكل قادم يلزمه والحال هذه طرق الباب. وعندما جاء المنافق (الأشعث بن قيس) لزيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) ليلا، جلب معه الحلوى، ظنا منه أن هذه الحلوى ستجعل من أمير المؤمنين (عليه السلام) ظهيرا له في قضية معينة. فذكر الأمير (عليه السلام) هذه الواقعة متعجبا وذاما: " وأعجب من ذلك طرقنا بملفوفة في وعائها ". (1) ويفسر القرآن الكريم " الطارق " بقوله: النجم الثاقب، النجم اللامع الذي مع علوه الشاهق وكأنه يريد أن يثقب سقف السماء، وكأن نوره المتشعشع يريد أن يثقب ستار الليل الحالك، فيجلب الأنظار بميزته هذه. ولكن، أي نجم هو الطارق؟ هل هو الثريا (لبعدها الغائر في عمق السماء)، زحل، الزهرة، أم الشهب (لما لها من نور جذاب)، أم كل النجوم؟ ثمة احتمالات متباينة في هذا الموضوع، ولكن وجود صفة " الثاقب " لهذا النجم تعطي الإشارة إلى أن النجوم المتلألئة التي تثقب أنوارها ظلمة الليل، وتجذب الأنظار إليها، هي المرادة وليس كل نجم. وفسرت بعض الروايات " النجم الثاقب " بكوكب (زحل) من المنظومة الشمسية لشدة نوره ولمعانه. وروي أن منجما سأل الإمام الصادق (عليه السلام)، بقوله: فما يعني بالثاقب؟ قال: " لأن مطلعه في السماء السابعة، وأنه ثقب بضوءه حتى أضاء السماء الدنيا، فمن ثم سماه الله النجم الثاقب ". (2) ويعتبر (زحل) من أبعد النجوم أو الكواكب في مجموعتنا الشمسية التي
1 - نهج البلاغة، الخطبة 224. 2 - نور الثقلين، ج 5، ص 550، ح 4. 105 يمكن رؤيتها بالعين المجردة، ويقع في المدار السابع للشمس، ولذا عبر عنه الإمام (عليه السلام) بأنه في السماء السابعة. وما لهذا الكوكب من خصائص تؤهله لأن يقسم به، فهو أبعد ما يمكن رؤيته من منظومتنا الشمسية، لذا فالعرب يشبهون كل عال به، ويطلقون عليه أحيانا (شيخ النجوم) (1)، وله حلقات رائعة تحيط به، وله أيضا ثمانية أقمار، وتعتبر من حلقاته من أعجب ظواهر السماء. ومع كل ما توصل إليه علماء الفلك بخصوصه، فثمة أسرار لم يكشف عنها الستار بعد. وقيل: إن لزحل عشرة أقمار، يمكن رؤية ثمانية منها بالناظور العادي (تلسكوب)، ولا يمكن رؤية الآخرين إلا بالنواظير الكبيرة (2). ومما لا شك فيه، إن هذه الحقائق ما كانت مكتشفة في عصر نزول الآية المباركة، وتوصل إليها بعد قرون من نزولها. وعلى أية حال، فيمكن تفسير: النجم الثاقب بكوكب زحل، على اعتبار كونه أحد مصاديقه الواضحة، ولا ينافي تفسيره بأية نجوم أخرى عالية ووضاءة، فالتفسير المصداقي كثير الاستعمال في رواياتنا. وفي الآية (10) من سورة الصافات: إلا من خطف الخطفة فاتبعه شهاب ثاقب، فوصف " الشهاب " بأنه " ثاقب " يحمل الإشارة لاحتمال أن تكون الظاهرة السماوية المذكورة هي ظاهرة " الشهب "، لتكون أحد تفاسير الآية المبحوثة، ويؤيد ذلك أيضا بعض ما ذكر في شأن نزول الآية. (3)
1 - دائرة المعارف دهخدا مادة زحل. 2 - دائرة المعارف دهخدا مادة زحل. 3 - روح البيان، ج 10، ص 397. 106 ولنرى لأي شئ كان هذا القسم: إن كل نفس لما عليها حافظ (1). يحفظ عليه أعماله، وتسجل كل أفعاله، ليوم الحساب. كما جاء في الآيات (10 - 12) من سورة الانفطار: وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون. فلا تظنوا بأنكم بعيدون عن الأنظار، بل أينما تكونوا فثمة عليكم ملائكة مأمورين يسجلون كل ما يبدر منكم.. وهذا ما له الأثر البالغ في عملية إصلاح وتربية الإنسان. مع أن الآية لم تحدد هوية " الحافظ "، ولكن الآيات الأخرى تبين بأن " الحفظة " هم الملائكة وأن " المحفوظ " هو أعمال الإنسان من الطاعات والمعاصي. وقيل: يراد بها حفظ الإنسان من الحوادث والمهالك، ولولا ذلك لما خرج الإنسان من الدنيا بالموت الطبيعي، والأطفال بالخصوص. أو المراد هو: حفظ الإنسان من وساوس الشيطان، ولولا هذا الحفظ لما سلم أحد من وساوس شياطين الجن والأنس. وبلحاظ ما تتطرق إليه الآيات التالية (حول المعاد والحساب الإلهي)، يكون التفسير الأول أقرب من غيره وأنسب، ولو أن الجمع بين هذه التفاسير الثلاثة غير بعيد عن مراد الآية. والعلاقة ما بين المقسوم به وما أقسم له وثيقة، حيث أن السماء العالية والنجوم التي تتحرك في مسارات منظمة، دليل على وجود النظم والحساب الدقيق في عالم الوجود، فكيف يمكن أن نتصور بأن أعمال الإنسان دون باقي الأشياء لا تخضع لهذه السنة، لتبقى سائبة بلا ضبط وتسجيل وليس عليها من حافظ؟!!..
1 - " إن " في الآية: نافية، و " لما ": بمعنى (إلا). 107 ثم يستدل القرآن الكريم على المعاد في مقابل من يقول باستحالة المعاد: فلينظر الإنسان مم خلق. وبهذا.. أخذ القرآن الكريم بأيدي الجميع وأرجعهم إلى أول خلقهم، مستفهما عما خلق منه الإنسان. وبدون أن ينتظر الجواب من أحد يجيب القرآن على استفهامه: خلق من ماء دافق، وهو ماء الرجل الذي تسبح فيه الحيامن، ويخرج بدفق. ويستمر في تقريب المراد: يخرج من بين الصلب والترائب. " الصلب ": الظهر: و " الترائب ": جمع (تريبة)، وهي - على ما هو مشهور بين علماء اللغة - عظام الصدر العليا وضلوعه. وكما يقول ابن منظور في لسان العرب: قال أهل اللغة أجمعون: الترائب موضع القلادة من الصدر. وذكرت معان أخرى للترائب، منها: إنها القسم الأمامي للإنسان (في قبال الصلب، الذي هو ظهر الإنسان)، إنها اليدان والرجلان والعينان، إنها عظام الصدر، أو ما يلي الترقوتين منه، وقيل: أربعة أضلاع من يمين الصدر وأربعة من يساره. وأدناه، نذكر بعض الآراء الكثيرة للمفسرين بخصوص المراد من " الصلب والترائب " الواردة في الآية المباركة. 1 - " الصلب " إشارة إلى الرجال، و " الترائب " إشارة إلى النساء، لأن في الرجال مظهر الصلابة، وفي النساء مظهر الرقة واللطافة. وعليه، فالآية بصدد ذكر حيمن الرجل وبويضة المرأة، ومنهما تتشكل نطفة خلق الإنسان. 2 - " الصلب " إشارة إلى ظهر الرجل، و " الترائب " إشارة إلى صدره، فيكون مراد الآية نطفة الرجل التي تقع ما بين ظهره وصدره. 3 - إرادة، خروج الجنين من رحم امه، لأنه يكون بين ظهرها والجزء
108 الأمامي لبدنها. 4 - قيل: إن في الآيتين سرا من أسرار التنزيل، ووجها من وجوه الأعجاز، إذ فيهما معرفة حقائق علمية لم تكن معروفة حينذاك وقد كشف عنها العلم أخيرا. وإذا رجعنا إلى علم الأجنة وجدنا في منشأ خصية الرجل ومبيض المرأة ما يفسر لنا هذه الآيات، التي حيرت الألباب، فقد ثبت أن خصية الرجل ومبيض المرأة في بداية ظهورهما في الجنين يقعان في مجاورة كلية الجنين، أي بين وسط الفقرات (الصلب) والاضلاع السفلى للصدر (الترائب) ثم مع نمو الجنين ينتقلان تدريجيا إلى الأسفل، وبما أن تكون الإنسان يمثل تركيبا من نطفة الرجل والمرأة والمحل الأصلي لجهاز توليد النطفة فيهما هو بين الصلب والترائب، أختار القرآن لذلك هذا التعبير. وهذا ما لم يكن معروفا حينذاك. وبعبارة أخرى: إن كل من الخصية والمبيض في بدء تكوينهما يجاور الكلي ويقع بين الصلب والترائب، أي ما بين منتصف العمود الفقري تقريبا ومقابل أسفل الضلوع. (1) ويشكل على هذا التفسير ب: إن القرآن إنما يقول: ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب، فهو يمر من بينهما حال الخروج، في حين لا يقول التفسير المذكور ذلك، ويشير إلى محل توليده بينهما أثناء النمو الجنيني، بالإضافة إلى أن تفسير " الترائب " بأسفل الضلوع لا يخلو من نقاش. 5 - مراد الآية، هو المني، لأنه في الحقيقة مأخوذ من جميع أجزاء البدن، ولذا عندما يقذف إلى الخارج فإنه يقترن مع انفعال وهيجان البدن كله وبعده فتور البدن بأجمعه، فيكون مقصود " الصلب " و " الترائب " في هذه الحال تمام قسمي بدن الإنسان، الإمامي والخلفي.
1 - تفسير المراغي، ج 30، ص 113. 109 6 - وقيل أيضا: إن المصدر الأساس لتكوين المني هو النخاع الشوكي الواقع في ظهر الإنسان، ثم القلب والكبد، فالأول يقع تحت أضلاع الصدر، والآخر بين المكانين المذكورين، وعلى هذا الأساس قالت الآية: من بين الصلب والترائب. ويكفينا الرجوع إلى الآيات المبحوثة لدفع الغموض الحاصل، فالآيات تشير إلى ماء الرجل دون المرأة، بقرينة " ماء دافق "، وهذا لا يصدق إلا على الرجل، وعليه يعود الضمير في " يخرج ". وعليه، فينبغي إخراج المرأة من هذه الدائرة، ليكون البحث منصبا على الرجل فقط، وهو المشار إليه في الآية. و " الصلب والترائب " هما ظهر الرجل وقسمه الأمامي، لأن ماء الرجل إنما يخرج من هاتين المنطقتين (1). وهذا التفسير واضح، خال من أي تكلف، ينسجم مع ما ورد في كتب اللغة بخصوص المصطلحين. كما ويمكن أن تكون الآية قد أشارت إلى حقيقة علمية مهمة لم يتوصل إلى اكتشافها بعد، وربما المستقبل سيكشف ما لم يكن بالحسبان. ونصل مع القرآن إلى نتيجة ما تقدم من الذكر الحكيم: إنه على رجعه لقادر. فالإنسان ترابا قبل أن يكون نطفة، ثم مر بمراحل عديدة مدهشة حتى أصبح إنسانا كاملا، وليس من الصعوبة بحال على الخالق أن يعيد حياة الإنسان بعد أن نخرت عظامه وصار ترابا، فالذي خلقه من التراب أول مرة قادر على إعادته مرة أخرى.
1 - عندما تتحدث الآيات القرآنية الأخرى عن خلق الإنسان، فإنها غالبا ما تشير إلى نطفة الرجل، باعتبارها أمرا محسوسا (راجع الآية 46 من سورة النجم، والآية 37 من سورة القيامة). 110 وقد ورد هذا المعنى في الآية (5) من سورة الحج: يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة، بالإضافة إلى الآية (67) من سورة مريم: أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا. وتصف لنا الآية التالية ذلك اليوم الذي سيرجع فيه الإنسان: يوم تبلى السرائر. (1) " تبلى ": من (البلوى)، بمعنى الاختبار والإمتحان، وهو هنا الظهور والبروز، لأن الامتحان يكشف عن حقيقة الأشياء ويظهرها. " السرائر ": جمع (سريرة)، وهي صفات ونوايا الإنسان الداخلية. نعم، فأسرار الإنسان الدفينة ستظهر في ذلك اليوم، " يوم البروز " و " يوم الظهور "، فسيظهر على الطبيعة كل من: الإيمان، الكفر، النفاق، نية الخير، نية الشر، الإخلاص، الرياء.... وسيكون ذلك الظهور مدعاة فخر ومزيد نعمة للمؤمنين، ومدعاة ذلة ومهانة وحسرة للمجرمين... وما أشد ما سيلاقي من قضى وطرا من عمره بين الناس بظاهر حسن ونوايا خبيثة! وما أتعسه حينما تهتك أقنعته المزيفة فيظهر على حقيقته أمام كل الخلائق! وربما ذلك من أشد عذاب جهنم عليه... وتصف لنا الآية (41) من سورة الرحمن هيئتهم بالقول: يعرف المجرمون بسيماهم، وكذا الآيات (38 - 41) من سورة عبس: وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة. نعم، فكما إن " الطارق " والنجوم الأخرى تظهر من خفائها ليلا على صفحة السماء، فكذا حال الإنسان في عرصة يوم القيامة، فالحفظة والمراقبين الإلهيين
1 - " يوم " ظرف زمان متعلق بالرجع في الآية السابقة. 111 المكلفين لتسجيل أعمال الإنسان سيظهرون كل شئ، كظهور ضوء النجم في الليل الداج. عن معاذ بن جبل أنه قال، سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وما هذه السرائر التي تبلى بها العباد في الآخرة؟ فقال: " سرائركم هي أعمالكم من الصلاة والصيام والزكاة والوضوء والغسل من الجنابة وكل مفروض، لأن الأعمال كلها سرائر خفية، فإن شاء الرجل قال صليت ولم يصل، وإن شاء قال توضيت ولم يتوضأ، فذلك قوله تعالى يوم تبلى السرائر " (1). ولكن أشد صعاب ذلك اليوم على الإنسان: فما له من قوة ولا ناصر. فلا يملك تلك القوة التي تخفي أعماله ونياته، وليس له ذلك الظهير الذي يعينه عن الخلاص من عذاب الله سبحانه وتعالى. وقد ورد هذا المعنى في آيات قرآنية أخرى، ففي ذلك اليوم: لا ناصر ولا معين، ولا يقبل فداء، ولا رجعة، وليس من وسيلة للفرار من قبضة العدل حينها، إلا وسيلة واحدة للنجاة وهي " الإيمان والعمل الصالح " فقط. * * *
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 472. ومثله في تفسير الدر المنثور، ج 6، ص 336. 112 2 الآيات والسماء ذات الرجع (11) والأرض ذات الصدع (12) إنه لقول فصل (13) وما هو بالهزل (14) إنهم يكيدون كيدا (15) وأكيد كيدا (16) فمهل الكافرين أمهلهم رويدا (17) 2 التفسير 3 خواء خطط الأعداء: بعد أن تضمنت الآيات السابقة استدلالا على المعاد، بطريق توجيه الإنسان إلى بداية خلقه، تعود هذه الآيات إلى المعاد مرة أخرى، لتشير إلى بعض الأدلة الأخرى عليه فتقول: والسماء ذات الرجع.. والأرض ذات الصدع.. إنه لقول فصل.. وما هو بالهزل. " الرجع ": من (الرجوع)، بمعنى العود، ويطلق على الأمطار اسم (الرجع) لأنها تبدأ من مياه الأرض والبحار، ثم تعود إليها تارة أخرى عن طريق الغيوم، أو لأن هطول المطر يكون في فواصل زمنية مختلفة. ويسمى الغدير رجعا.. إما للمطر الذي فيه، وإما لتراجع أمواجه، وتردده في
113 مكانه (1). " الصدع ": هو الشق في الأجسام الصلبة. وبملاحظة معنى " الرجع " في الآية السابقة، نصل إلى أن مراد الآية بالصدع هو شق الأرض اليابسة بالأمطار، وخروج النباتات منها. فالقسمان يشيران إلى إحياء الأراضي الميتة بالأمطار، وهذا ما تكرر ذكره في القرآن الكريم كدليل على إمكانية المعاد، كما في قوله تعالى في الآية (11) من سورة " ق ": وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج. وهنا تتجسد بلاغة الأسلوب القرآني، من خلال ربطه الدقيق فيما بين ما يقسم به وما يقسم له. وبعبارة أخرى، فالسورة قد استندت إلى المقارنة فيما بين خلق الإنسان من نطفة وبين إحياء الأرض الميتة بالأمطار، في استدلالها، وجاء شبيه هذا الاستدلال في الآية (5) من سورة الحج: يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم.. وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج. وقيل أيضا: إن الآية: والسماء ذات الرجع تشير إلى دوران الكواكب في مسارات معينة، كدوران الأرض حول نفسها وحول الشمس، وحركة الكواكب السيارة للمنظومة الشمسية، وكذلك شروق وغروب الشمس والقمر والنجوم، حيث أن كل هذه الحركات تتضمن الرجوع والعودة. وهذا الرجوع علامة لرجوع الناس العام إلى الحياة. ولكن من خلال ما تقدم يظهر لنا أن التفسير الأول أنسب وأقرب لقرائن السورة، حيث أنه أشار إلى مسألة شق الأرض مع أدلة المعاد.
1 - مفردات الراغب، مادة (رجع). 114 " القول الفصل ": هو القول أو الحديث الذي يفرق بين الحق والباطل، وقيل: هو في الآية يشير إلى المعاد، بقرينة الآيات السابقة، وقيل أيضا: هو إشارة إلى القرآن، وهناك بعض الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام) تؤيد هذا المعنى. وقد ورد التعبير عن القيامة ب " يوم الفصل " في الكثير من الآيات القرآنية. ويحتمل أيضا أن يكون المراد هو الإشارة إلى الآيات القرآنية والتي تتضمن الحديث عن المعاد، وبذلك يتم الجمع بين التفسيرين. فقد روي عن الإمام علي (عليه السلام): " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إنها ستكون فتنة! " قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟! قال: " كتاب الله فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ". (1) وتسلي الآيات التالية قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين من جهة، وتتوعد أعداء الإسلام من جهة أخرى: إنهم يكيدون كيدا، فالكفار يخططون من جهة، وأنا أخطط لإحباط تلك الخطط من جهة أخرى.. وأكيد كيدا. فمهل الكافرين أمهلهم رويدا، حتى يروا عاقبتهم! نعم، إنهم دوما يكيدون في حربك والحرب ضد دينك. فتارة بالإستهزاء.. واخرى بالحصار الاقتصادي.. ومرة بتعذيب المؤمنين.. واخرى يقولون: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه كي تنتصروا.. ويقولون عنك: ساحرا، كاهنا، مجنونا..
1 - تفسير روح المعاني، ج 30، ص 100، وتفسير المراغي، ج 30، ص 118، عن صحيح الترمذي وسنن الدارمي. 115 ويمارسون النفاق: بأن يؤمنوا بك صباحا ويكفروا مساء، كي يؤثروا على البسطاء.. ويقولون لك: أبعد الفقراء والمستضعفين عنك حتى نتبعك وأحيانا يقولون: آمن ببعض آلهتنا حتى نؤمن بك.. ويكيدون لإبعادك وقتلك.. والخلاصة: فشغلهم الشاغل هو: التخطيط المستمر لمواجهتك، لتفريق من آمن بك، والضغط على أصحابك، أو قتلك لإطفاء نور الله بذلك! ولا يعلمون بأن الله متم نوره ولو كرهوا. " الكيد " (1): ضرب من الاحتيال والتغلب على المشكل بتهيئة المقدمات، وفيه جنبة خفية، وقد يكون مذموما وممدوحا كقوله تعالى: كذلك كدنا ليوسف (2)، وإن كان يستعمل في المذموم أكثر. ومراد الآية هو كيد الأعداء كما هو واضح، وقد تعرضنا لبعض نماذجه أعلاه، فيما تناولت هذا الموضوع آيات قرآنية كثيرة. ولكن.. ما المقصود بالكيد الإلهي؟ قيل: إنه الإمهال الذي ينتهي بالأخذ الشديد والعذاب الأليم. وقيل أيضا: إنه نفس العذاب الذي ينتظرهم. والأنسب أن يقال: إنه تلك الألطاف الإلهية التي غمرت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن معه من المؤمنين، وما كان يصيب أعداء الإسلام من فشل مخططاتهم وخيبة مساعيهم. ويحمل التاريخ الإسلامي بين طياته شواهد كثيرة على هذا المعنى. وتأمر الآيات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - على الأخص - بأن يمهلهم ولا يتعجل على
1 - مفردات الراغب. 2 - سورة يوسف، الآية 76. 116 عذابهم، وأن يتم الحجة عليهم، فعسى أن يعود قسم منهم إلى رشده ويسلم وأساسا فالعجلة لمن يخاف الفوت، وهذا ما لا يصدق على القاهر القادر سبحانه وتعالى. والملاحظ في الآية، إنها شرعت ب فمهل الكافرين فيما أكدت ذلك بقولها " أمهلهم "، فالأول من باب (التفعيل)، والثاني من باب (الأفعال) وقد جاء للتأكيد دون تكرار اللفظ بعينه. " رويدا ": من (الرود) - على وزن عود - وهو التردد في طلب الشئ يرفق، ولها هنا معنى مصدريا مع تصغير، أي أمهلهم مهلة صغيرة (1). وبهذا يوصي الله عز وجل نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الجملة المختصرة ثلاث مرات بامهال ومداراة الكافرين وهذا في الحقيقة درس للمسلمين في الكيفية التي ينبغي العمل بها عند مواجهة أعداءهم، وخصوصا إذا ما كانوا أعداء أقوياء وشرسين، فلابد من الصبر والتأني والدقة في حساب خطوات المواجهة، وينبغي عدم التسرع في العمل، وكذا عدم تنفيذ القرارات غير المدروسة. مضافا إلى التبليغ والدعوة إلى الحق لابد فيها من تجنب العجلة والتسرع حتى تتاح الفرصة لكل من يمكن هديه، فلابد من تفهيم الإسلام بكل لطف وسعة صدر مع الدليل القاطع، وبهذا تتم الحجة على الآخرين. أما السبب في طلب الإمهال القليل، ففيه احتمالين: الأول: كان الإمهال لحين حدوث معركة بدر، حيث أحرز المسلمون فيها نصرا مبينا على الكفار بعد مدة قليلة من نزول الآية. ومعركة بدر أول ضربة موجعة تلقاها المشركون من المسلمين، ثم تلتها ضربات في معركة الأحزاب ومعركة خيبر وغيرها، مما أفشل مخططات الكفرة
1 - ف " رويدا " في محل مفعول مطلق، والمعنى: أمهلهم إمهالا قليلا، أما ما قيل من كونها تحمل معنى الأمر، فهو بعيد، لأن ذلك سيستلزم للآية ثلاثة أوامر. ومع أن " رويدا " جاءت بمعنى الأمر، وعلى صيغة اسم فعل، لكن الأنسب لها في هذا الموضع أن تكون منصوبة كمفعول مطلق. 117 لدحر الإسلام. وحينما وافى عمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الأجل، كان نور الإسلام قد غطى كل أرجاء شبه الجزيرة العربية، ولم يمض قرن واحد على عمر الرسالة الخاتمة حتى تفيأت معظم أجزاء العالم تحت ظله الآمن. الثاني: لأن عذاب القيامة سيقع حتما، وكل حتمي الوقوع قريب. وعلى أية حال، فقد بدأت السورة بالقسم بالسماء والنجوم، وانتهت بتهديد الكافرين والمتآمرين على الحق، وفيما بين البدء والانتهاء، تعرضت إلى بعض أدلة المعاد بأسلوب رائع ومؤثر، وإلى بيان شيق للرقابة الإلهية على أعمال الإنسان، بالإضافة إلى ما قدمته من تسلية لترطيب خواطر المؤمنين، بلسان في غاية اللطف البليغ. اللهم، رد كيد أعداء دينك، ولا سيما المتأخرين منهم الذين عاثوا في الأرض فسادا، واقطع دابر المتجبرين... اللهم، سد عوراتنا يوم تبلى السرائر... اللهم، لا قوة لنا ولا ناصر سواك، فلا تكلنا لغيرك... آمين يا رب العالمين نهاية سورة الطارق * * *
118 1 سورة 1 الأعلى 1 مكية 1 وعدد آياتها تسع عشرة آية
120 1 " سورة الأعلى " 3 محتوى السورة: تحتوي السورة على قسمين من المواضيع: القسم الأول: يحوي خطابا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، يأمره الباري سبحانه فيه بالتسبيح وأداء الرسالة، ثم ذكر سبعا من صفات الله عز وجل، لها صلة ربط بالأمر الرباني إلى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم). القسم الثاني: يتحدث عن المؤمنين الخاشعين، والكافرين الأشقياء، ويتناول باختصار العوامل التي تؤدي إلى كل من السعادة والشقاء الحق. وفي آخر السورة، يأتي التأكيد على أن ما جاء في هذه السورة ليس هو حديث القرآن الكريم فقط، بل وتناولته كتب وصحف الأولين أيضا، كصحف إبراهيم وموسى (عليهما السلام). 3 فضيلة السورة: روي عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنه قال: " من قرأها أعطاه الله عشر حسنات بعدد كل حرف أنزل الله على إبراهيم وموسى ومحمد (عليهم السلام) " (1). وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضا، أنه قال: " من قرأ سبح اسم ربك الأعلى في فرائضه أو نوافله قيل له يوم القيامة ادخل الجنة من أي أبواب الجنة شئت إن شاء الله " (2).
1 - نور الثقلين، ج 5، ص 553. 2 - المصدر السابق. 122 وورد في روايات عديدة: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، كانوا إذا قرأوا سبح اسم ربك الأعلى، قالوا: " سبحان ربي الأعلى " (1). وروي عن أحد أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)، إنه قال: صليت خلفه عشرين ليلة، وليس يقرأ إلا سبح اسم ربك الأعلى، وقال: " لو تعلمون ما فيها لقرأها الرجل كل يوم عشرين مرة، وأن من قرأها فكأنما قرأ صحف موسى وإبراهيم الذي وفى " (2). 3 وخلاصة القول: فيبدو أن السورة من الأهمية بحيث: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحب هذه السورة: سبح اسم ربك الأعلى " كما روي عن الإمام علي (عليه السلام) (3). وقد اختلف في مكان نزول الآية، فمع أن المشهور، نزولها في مكة، لكن ثمة من يقول بنزولها في المدينة. ويرجح العلامة الطباطبائي ((قدس سره)) أن يكون قسمها الأول مكيا والآخر مدنيا، فيقول: وسياق الآيات في صدر السورة سياق مكي، وأما ذيلها، أعني قوله: قد أفلح من تزكى الخ فقد ورد في طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وأن المراد به " زكاة الفطرة " و " صلاة العيد "، ومن المعلوم أن الصوم وما يتبعه من زكاة الفطرة وصلاة العيد إنما شرعت بالمدينة بعد الهجرة (4). ويحتمل أيضا أن الأمر بالصلاة العيد والزكاة الواردين في آخر السورة، هما أمران عامان، وما صلاة وزكاة الفطرة إلا مصداقان لهما، والتفسير بالمصداق كثير
1 - نور الثقلين، ج 5، ص 544. 2 - المصدر السابق. 3 - مجمع البيان، ج 10، ص 472. 4 - تفسير الميزان، ج 20، ص 386. 123 في روايات أهل البيت (عليهم السلام). وعليه.. فلا يبعد أن تكون السورة كلها مكية كما هو المشهور، بقرينة انسجام مقاطع الآيات الأولى منها والأخيرة أيضا. ويصعب اعتبار كون بعضها مكي والآخر مدني، خصوصا وأن الروايات تذكر، بأن كل مجموعة من المسلمين حينما يصلون المدينة، كانوا يقرأون هذه السورة لأهل المدينة (1). فمن المستبعد أن يقرأ صدر السورة في مكة، ومن ثم ينزل ذيلها في المدينة. * * *
1 - للتفصيل - راجع الدر المنثور، ج 6، ص 337. 124 2 الآيات سبح اسم ربك الأعلى (1) الذي خلق فسوى (2) والذي قدر فهدى (3) والذي أخرج المرعى (4) فجعله غثاء أحوى (5) 2 التفسير 3 تسبيح الله: تبدأ السورة بخلاصة دعوة الأنبياء (عليهم السلام)، حيث التسبيح والتقديس أبدا لله الواحد الأحد، فتخاطب النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقول: سبح اسم ربك الأعلى. يذهب جمع من المفسرين إلى أن المراد بال " اسم " هنا هو (المسمى)، في حين قال آخرون هو (اسم الله) سبحانه وتعالى. وليس ثمة فرق كبير بين القولين، فالإسم يدل على المسمى. وعلى أية حال، فمراد الآية أن لا يوضع اسمه جل شأنه في مصاف أسماء الأصنام، ويجب تنزيه ذاته المقدسة من كل عيب ونقص، ومن كل صفات المخلوق وعوارض الجسم، أي أن لا يحد.
125 فينبغي على المؤمنين ألا يتعاملوا مع اسمه الجليل كتعامل عبدة الأصنام، بأن يضعوا اسمه تعالى مع أسماء أصنامهم، ولا يفعلوا كما يفعل المجسمة، ممن وقعوا في خطأ كبير وفاحش حينما نسبوا إلى الباري جل جلاله الصفات الجسمية. الأعلى: أي الاعلى من كل: أحد، تصور، تخيل، قياس، ظن، وهم، ومن أي شرك بشقيه الجلي والخفي. ربك: إشارة إلى أنه غير ذلك الرب الذي يعتقد به عبدة الأصنام. وبعد ذكر هاتين الصفتين (الرب والأعلى)، تذكر الآيات التالية خمس صفات تبين ربوبية الله العليا..: الذي خلق فسوى سوى: من (التسوية)، وهي الترتيب والتنظيم، ويضم هذا المفهوم بين جناحيه كل أنظمة الوجود، مثل: النظام السماوي بنجومه وكواكبه، والأنظمة الحاكمة على المخلوقات في الأرض، ولا سيما الإنسان من حيث الروح والبدن. أما ما قيل، من كونها إشارة إلى نظام اليد أو العين أو اعتدال القامة، فهذا في واقعه لا يتعدى أن يكون إلا بيان لمصداق محدود من مصاديق هذا المفهوم الواسع. وعلى أية حال، فنظام عالم الخليقة، بدءا من أبسط الأشياء، كبصمات الأصابع التي أشارت إليها الآية (4) من سورة القيامة بلى قادرين على أن نسوي بنانه، وانتهاء بأكبر منظومة سماوية، كلها شواهد ناطقة على ربوبية الله سبحانه وتعالى، وأدلة إثبات قاطعة على وجوده عز وجل. وبعد ذكر موضوعي الخلق والتنظيم، تنتقل بنا الآية التالية إلى حركة الموجودات نحو الكمال: والذي قدر فهدى. والمراد ب (قدر)، هو: وضع البرامج، وتقدير مقادير الأمور اللازمة للحركة باتجاه الأهداف المرسومة التي ما خلقت الموجودات إلا لأجلها. والمراد ب (هدى) هنا، هي: الهداية الكونية، على شكل غرائز وسنن طبيعية
126 حاكمة على كل موجود (ولا فرق في الغرائز والدوافع سواء كانت داخلية أم خارجية). فمثلا، إن الله خلق ثدي المرأة وجعل في اللبن لتغذية الطفل، وفي ذات الوقت جعل عاطفة الأمومة شديدة عند المرأة، ومن الطرف الآخر جعل في الطفل ميلا غريزيا نحو ثدي امه، فكل هذه الاستعدادات والدوافع وشدة العلاقة الموجودة بين الام والابن والثدي مقدر بشكل دقيق، كي تكون عملية السير نحو الهدف المطلوب طبيعية وصحيحة. وهذا التقدير الحكيم ما نشاهده بوضوح في جميع الكائنات. وبنظرة ممعنة لبناء كل موجود، وما يطويه في فترة عمره من خطوات في مشوار الحياة، تظهر لنا بوضوح الحقيقة التالية: (ثمة برنامج وتخطيط دقيق يحيط بكل موجود، وثمة يد مقتدرة تهديه وتعينه على السير على ضوء ما رسم له)، وهذه بحد ذاتها علامة جلية لربوبية الله جل وعلا. وقد اختص الإنسان بهداية تشريعية إضافة للهداية التكوينية يتلقاها عن طريق الوحي وإرسال الأنبياء عليهم السلام، لتكتمل أمامه معالم الطريق من كافة جوانبه. وتوصلنا الآية (50) من سورة طه لهذا المعنى، وذلك لما نقلت لنا سؤال فرعون إلى موسى (عليه السلام) بقوله: ومن ربكما يا موسى، فأجابه (عليه السلام): ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى. وقد فهم قول موسى (عليه السلام) بشكل مجمل في زمانه، وحتى في زمان نزول الآية المباركة في صدر الدعوة الإسلامية، ولكن.. مع دوران عجلة الأيام، وتقدم العلوم البشرية، توصل الإنسان إلى معارف كثيرة ومنها ما يختص بمعرفة أنواع أحوال الموجودات الحية، فتوضح قول موسى (عليه السلام) أكثر فأكثر، حتى كتبت الآف الكتب في موضوع (التقدير) و (الهداية التكوينية)، ومع ما توصل إليه العلماء من معلومات
127 باهرة، إلا إنهم يؤكدون على أن ما بقي خافي عليهم، هو أكثر بكثير مما توصلوا لمعرفته! وتشير الآية التالية إلى النباتات، وما يخص غذاء الحيوانات منها: والذي أخرج المرعى. واستعمال كلمة أخرج فيه وصف جميل لعملية تكون النباتات، حيث إنه يتضمن وجودها داخل الأرض فأخرجها الباري منها. ومما لا شك فيه إن التغذية الحيوانية هي مقدمة لتغذية الإنسان، وبالنتيجة فإن فائدة عملية تغذية الحيوان تعود إلى الإنسان. ثم: فجعله غثاء أحوى. " الغثاء ": هو ما يطفح ويتفرق من النبات اليابس على سطح الماء الجاري، ويطلق أيضا على ما يطفح على سطح القدر عند الطبخ، ويستعمل كناية عن: كل ضائع ومفقود، وجاء في الآية بمعنى: النبات اليابس المتراكم. " أحوى ": من (الحوة) - على زنة قوة - وهي شدة الخضرة، أو شدة السواد، وكلاهما من أصل واحد، لأن الخضرة لو اشتدت قربت من السواد، وجاء في الآية بمعنى: تجمع النبات اليابس وتراكمه حتى يتحول لونه تدريجيا إلى السواد. ويمكن أن يكون اختيار هذا التعبير في مقام بيان النعم الإلهية، لأحد أسباب ثلاث: الأول: إن حال هذه النباتات يشير بشكل غير مباشر إلى فناء الدنيا، لتكون دوما درسا وعبرة للإنسان، فهي بعد أن تنمو وتخضر في الربيع، شيئا فشيئا ستيبس وتموت بعد مرور الأيام عليها، حتى يتحول جمالها الزاهي في فصل الربيع إلى سواد قاتم، ولسان حالها يقول بعدم دوام الدنيا وانقضائها السريع. الثاني: إن النباتات اليابسة عندما تتراكم، فستتحول بمرور الوقت إلى سماد طبيعي، ليعطي الأرض القدرة اللازمة لإخراج نباتات جديدة أخرى
128 الثالث: إن الآية تشير إلى تكون الفحم الحجري من النباتات والأشجار. فكما هو معلوم، إن الفحم الحجري، والذي يعتبر من المصادر المهمة للطاقة، قد تكون من النباتات والأشجار التي يبست منذ ملايين السنين، ودفنت في الأرض حتى تحجرت واسود لونها بمرور الزمان. ويعتقد بعض العلماء، بأن مناجم الفحم الحجري قد تكونت من جراء النباتات اليابسة المدفونة في داخل الأرض منذ (250) مليون سنة تقريبا! ولو أخذنا بنظر الاعتبار مقدار الاستهلاك الفعلي للفحم الحجري في العالم، لوجدنا أنها تؤمن احتياج الناس لأكثر من (4000) سنة. وتفسير الآية بالمعنى الأخير دون غيره بعيد حسب الظاهر، ولا يستبعد أن تكون الآية قد أرادت كل ما جاء في المعاني الثلاث أعلاه. وعلى أية حال، فللغثاء الأحوى منافع كثيرة.. فهو غذاء جيد للحيوانات في الشتاء، ويستعمل كسماد طبيعي للأرض، وكذا يستعمله الإنسان كوقود. فما ذكرته الآيات من صفات: الربوبية، الأعلى، الخلق، التسوية، التقدير، الهداية وإخراج المرعى، توصلنا إلى الربوبية الحقة لله جل وعلا، وبقليل من التأمل يتمكن أي إنسان من إدراك هذا المعنى، ليصل نور الإيمان إلى قلبه، فيشكر المنعم على ما أعطى. * * * 2 بحث مسألة التقدير والهداية العامة للموجودات، التي تناولتها الآيات الآنفة الذكر كمظهر من مظاهر ربوبية الله عز وجل، تعتبر من المسائل الحيوية والتي كلما تقدم الزمان وتوسعت مدارك وعلوم الإنسان، إزداد في الوصول إلى حقائق جديدة تضاف إلى معلوماته السابقة.
129 فالإكتشافات العلمية الجديدة في كل يوم تحيطنا علما لرؤية وجوه جديدة رائعة لتقدير الله مخلوقاته وهدايته لها. ويزين المفسرون تفاسيرهم ببعض النماذج من تلك الأسرار الرائعة في خصوص الهداية التكوينية لحركة الحيوانات، واعتمد البعض على ما ذكره العالم المعروف (كريسي موريسن) في كتابه (أسرار خلق الإنسان)، وإليكم مختصرا مما جاء فيه: 1 - تقطع الطيور المهاجرة - في بعض الأحيان - الآف الكيلومترات في السنة، عابرة الصحارى والغابات والبحار، وعند عودتها تعرف طريق موطنها الأصلي بكل دقة، ولا تضل عنه أبدا. ومن النحل ما يبتعد عن خليته لمسافات بعيدة جدا، ولكنه يعود إلى خليته بكل سهولة ويسر، في حين نرى الإنسان في حال عودته إلى وطنه يحتاج إلى عناوين وعلامات دقيقة، حتى لا يضل الطريق! 2 - الحشرات تتمتع بعيون مجهرية ذات دقة فائقة حيرت عقول العلماء، من حيث بنائها وقدرتها على النظر في حين أن عيون الصقور تلسكوبية تعينها على النظر لمسافات بعيدة جدا. 3 - حينما يسير الإنسان بين عتمة الليل الداكنة فلابد له من إضاءة تعينه في مسيره، إلا أن كثيرا من الطيور تصل أهدافها في حلكة الليل الدامس، مستعينة بما لعيونها من قدرة على التحسس بالأشعة ما دون الحمراء! ولبعضها مراكز حساسة تشبه في عملها الرادارات المتطورة! 4 - للكلاب حاسة شم مميزة، تستطيع من خلالها معرفة أي كائن حي يقع في طريقها، وهذا ما لا يتوفر عند الإنسان، بالرغم من التقدم التقني الذي وصل إليه. 5 - حاسة السمع عند جميع الحيوانات أقوى وأدق من سمع الإنسان بدرجات، على الرغم من استعمال الإنسان للأجهزة العلمية المتطورة في سمعه،
130 بحيث يستطيع أن يستمع إلى حركة أجنحة ذبابة على بعد عدة كيلومترات منه! ولعل السر في هذا التفاوت بين قدرة حواس الإنسان والحيوان، يرجع إلى القدرة العقلية المودعة في الإنسان، والتي بها يسد كل نقص، فيما لا تمتلك الحيوانات هذه القدرة الفعالة 6 - وثمة حركة عجيبة عند بعض الأسماك الصغيرة، فهي تقضي السنين من عمرها في البحار، ولكن حين يحين وقت وضع البيض، فإنها تترك البحار متجهة إلى تلك الأنهار التي فيها ولدت، فتسير بعكس التيار لمدة طويلة حتى تصل إلى مسقط رأسها، المكان المناسب لتكاثرها! 7 - والأعجب منها حياة بعض الأسماك وحيوانات الماء التي تسلك في حياتها عكس الصنف السابق. * * *
131 2 الآيات سنقرئك فلا تنسى (6) إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى (7) ونيسرك لليسرى (8) فذكر إن نفعت الذكرى (9) سيذكر من يخشى (10) ويتجنبها الأشقى (11) الذي يصلى النار الكبرى (12) ثم لا يموت فيها ولا يحيى (13) 2 التفسير 3 التوفيق الرباني: فيما كان الحديث في الآيات السابقة عن ربوبية الله وتوحيده جل شأنه، والهداية العامة للموجودات، وكذا عن تسبيح الرب الأعلى.. تأتي الآيات أعلاه لتتحدث عن: القرآن والنبوة، وهداية الإنسان، وكذا البيان القرآني للتسبيح. فتقول الآية الأولى مخاطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): سنقرئك فلا تنسى. فلا تتعجل نزول القرآن، ولا تخف من نسيان آياته، فالذي أرسلك بهذه الآيات لهداية البشرية كفيل بحفظها، ويخطها على قلبك الطاهر بما لا يمكن لآفة النسيان من قرض ولو حرف واحد منها أبدا.
132 وتدخل الآية في سياق الآية (114) من سورة طه: ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما، وكذا الآية (16) من سورة القيامة: لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرءانه تدخل في سياقهما. ولإثبات قدرته سبحانه وتعالى، وأن كل خير منه، تقول الآية: إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى. ولا يعني هذا الاستثناء بأن النسيان قد أخذ من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وطرا، وإنما هو لبيان أن قدرة حفظ الآيات هي موهبة منه سبحانه وتعالى، ومشيئته هي الغالبة أبدا، وإلا لتزعزعت الثقة في قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وبعبارة أخرى، إنما جاء الاستثناء لتبيان الفرق بين علم الله تعالى الذاتي، وعلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المعطى له من بارئه. والآية تشبه إلى حد ما ما جاء في الآية (108) من سورة هود، بخصوص خلود أهل الجنة: وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ. ف خالدين فيها دليل على عدم خروج أهل الجنة منها أبدا، فإذن.. عبارة إلا ما شاء ربك تكون إشارة إلى حاكمية الإرادة والقدرة الإلهية، وارتباط كل شئ بمشيئته جل وعلا، سواء في بداية الوجود أم في البقاء. ومما يشهد على ذلك أيضا.. أن حفظ بعض الأمور ونسيان أخرى تعتبر حالة طبيعية بين بني آدم، ولكن الله تعالى ميز حبيبه المصطفى بأن جعل فيه ملكة حفظ جميع آيات القرآن، والأحكام والمعارف الإسلامية، حينما خاطبه ب: سنقرئك فلا تنسى. وقيل: أريد بهذا الاستثناء تلك الآيات التي نسخ محتواها ونسخت تلاوتها أيضا.
133 ولكن لعدم ثبوت وجود هكذا آيات، فلا يمكننا الاعتماد على هذا القول الآنف أعلاه. وقيل أيضا: إن الاستثناء يختص بقراءة بعض الآيات، فعلى هذا يكون مفهوم الآية هو: إننا سنقرئك آيات القرآن إلا بعض الآيات التي أراد الله عز وجل أن تبقى في مخزون علمه.. ولا يتوافق هذا القول مع سياق الآية. أما جملة: إنه يعلم الجهر وما يخفى فلبيان علة أمر تضمنته جملة سنقرئك، أي: إن العليم جل اسمه عالم بجميع حقائق الوجود، أما ما يوحيه إليك، فهو ما يحتاج إليه البشر، ويصلك بالكامل دون أن ينقص منه شئ. وقيل أيضا: إن مراد الآية هو: على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يتعجل في أخذ الوحي، وأن لا يخشى نسيانه، فالله الذي يعلم الأمور ما خفي منها وما ظهر، سوف لا يتركه وقد تعهد له بالحفظ. وعلى أية حال، فمن معاجز النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، قابليته على حفظ الآيات والسور الطوال بعد تلاوة واحدة من جبرائيل (عليه السلام)، دون أن ينسى منها شيئا أبدا. وتخاطب الآية التالية النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) مسلية له: ونيسرك لليسرى. (1) أي، إخبار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بصعوبة الطريق في كافة محطاته، من تلقي الوحي وحفظه حتى البلاغ والنشر والتعليم والعمل به، وتطمئنه بالرعاية والعناية الربانية، بتذليل صعابه من خلال تيسيرها له (صلى الله عليه وآله وسلم). ويمكن كذلك أن تكون إشارة الآية إلى أن طبيعة الرسالة الإسلامية والتكاليف التي تضمنتها، طبيعة سهلة وسمحة، خالية من الحرج والمشقة. وهذا المعنى يعطي شمولية أكثر لمفهوم الآية، بالرغم من أن أكثر المفسرين قد
1 - قال بعض المفسرين: إن مفهوم الآية هو: " نيسر اليسرى لك "، وإنما حصل فيها التقديم والتأخير للتأكيد، وهذا على أن لا تكون " نيسرك " بمعنى (نوفقك)، وإلا لم تكن هناك حاجة للتقديم والتأخير. 134 حددوا الآية ببعد واحد من أبعاد مفهومها. وحقا، فلولا توفيق الله وتيسيره للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أمكنه من التغلب على كل تلك المشاكل والصعاب التي واجهته في حياته الرسالية، وحياته الشريفة تنطق بذلك. فنراه بسيطا في لباسه، قنوعا في طعامه، متواضعا في ركوبه، وتارة ينام على الفراش واخرى على التراب بل وعلى رمال الصحراء أيضا. فليس في حياته الشريفة أي تكلف، ولا أدنى تشريف من التشريفات الزائفة الواهية المحيطة بزعماء ورؤساء أي قوم أو امه. وبعد أن تبين الآيات العناية الربانية للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، تنتقل إلى بيان مهمته الرئيسية: فذكر إن نفعت الذكرى. قيل: الإشارة هنا إلى أن التذكير بحد ذاته نافع، وقليل أولئك من الذين لا ينتفعون به، والحد الأدنى للتذكير هو إتمام الحجة على المنكرين، وهذا بنفسه نفع عظيم. (1) ولكن ثمة من يعتقد أن في الآية محذوف، والتقدير: (فذكر إن نفعت الذكرى أو لم تنفع)، وهذا يشبه ما جاء في الآية (18) من سورة النحل: وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر، فذكر " الحر " وأضمر (البرد) لوضوحه بقرينة المقابلة. وهناك من يؤكد على أن الجملة الشرطية في الآية، لها مفهوم، والمراد: أنه يجب عليك التذكير إذا كان نافعا، فإن لم يكن نافعا فلا يجب. وقيل: " إن ": - في الآية - ليست شرطية، وجاءت بمعنى (قد) للتأكيد والتحقيق، فيكون مراد الآية: (ذكر فإن الذكرى مفيدة ونافعة).
1 - وما في الآية بخلاف ما جاء في الآية (6) من سورة البقرة: سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، لأنها تختص بفئة قليلة من الناس، وإلا فأكثر الناس يتأثرون بالبلاغ المبين، وإن كانوا بدرجات متفاوتة، وعليه.. فالجملة الشرطية في الآية المبحوثة من قبيل القيد بالغالب الأعم. 135 ويبدو لنا أن التفسير الأول مرجح على بقية التفاسير الثلاث، بقرينة سلوك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في نشره الإسلام، تبليغه الحق، فإنه كان يعظ وينذر الجميع. وتقسم الآيات التالية الناس إلى قسمين، من خلال مواقفهم تجاه الوعظ والإنذار، الذي مارسه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)...: سيذكر من يخشى نعم، فإذا ما فقد الإنسان روح " الخشية "، والخوف مما ينبغي أن يخاف منه، وإذا لم تكن فيه روحية طلب الحق - والتي هي من مراتب التقوى - فسوف لا تنفع معه المواعظ الإلهية، ولا حتى تذكيرات الأنبياء ستنفعه، على هذا الأساس كان القرآن " هدى للمتقين ". وتذكر الآية التالية القسم الثاني، بقولها: ويتجنبها الأشقى (1). وجاء عن ابن عباس، إن الآية السابقة: (سيذكر من يخشى) نزلت في (عبد الله بن أم مكتوم) (2)، ذلك البصير المؤمن الذي جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طلبا للحق والتبصر به. وروي، إن الآية: ويتجنبها الأشقى نزلت في (الوليد بن المغيرة) و (عتبة بن ربيعة) من رؤوس الشرك والكفر (3). وقيل: يراد بالأشقى، المعاندين للحق بعداء، فالناس على ثلاثة أقسام: إما عارف وعالم، وإما متوقف شاك، أو معاند، وأفراد الطائفة الأولى والثانية ينتفعون من التذكير طبيعيا، فيما لا ينفع القسم الثالث منهم، وليس للتذكير من أثر عليه سوى إتمام الحجة. ويفهم من سياق الآية، أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان ينذر ويعظ حتى المعاندين، لكنهم كانوا يتجنبونه ويهربون منه.
1 - يعود ضمير " يتجنبها " على " الذكرى " الواردة في الآيات السابقة. 2 - تفسير القرطبي، ج 10، ص 7110. 3 - تفسير الكشاف، روح المعاني (في ذيل الآيات المبحوثة). 136 يبدو من خلال الآيتين الآنفتي الذكر أن " الشقاء " يقابل " الخشية " في حين أن (السعادة) هي التي تقابله، ولعل هذا التقابل يستبطن حقيقة كون أساس سعادة الإنسان مبنية على إحساسه بالمسؤولية وخشيته. ويعرض لنا القرآن عاقبة القسم الثاني: الذي يصلى النار الكبرى.. ثم لا يموت فيها ولا يحيى. أي، لا يموت ليخلص من العذاب، ولا يعيش حياة خالية من العذاب، فهو أبدا يتقلقل بالعذاب بين الموت والحياة! ولكن ما هي " النار الكبرى "؟ قيل: إنها أسفل طبقة في جهنم، وأسفل السافلين، ولم لا يكون ذلك وهم أشقى الناس وأشدهم عنادا للحق. وقيل أيضا: إن وصف تلك النار ب " الكبرى " مقابل (النار الصغرى) في الحياة الدنيا. وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنه قال: " إن ناركم هذه جزء من سبعين جزء من نار جهنم، وقد أطفئت سبعين مرة بالماء ثم التهبت ولولا ذلك ما استطاع آدمي أن يطيقها " (1). وفي وصف نسبة بلاء الدنيا إلى بلاء الآخرة، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام)، في دعاء كميل: " على أن ذلك بلاء مكروه قليل مكثه، يسير بقاؤه، قصير مدته... ". * * *
1 - بحار الأنوار، ج 8: ص 288، الحديث 21. 137 2 الآيات قد أفلح من تزكى (14) وذكر اسم ربه فصلى (15) بل تؤثرون الحياة الدنيا (16) والآخرة خير وأبقى (17) إن هذا لفى الصحف الأولى (18) صحف إبراهيم وموسى (19) 2 التفسير 3 أسس دعوة الأنبياء جميعا (عليهم السلام): بعد أن عرضت الآيات السابقة صورة العذاب ومعاناة أهله، يأتي الحديث عن الذين نفعتهم الذكرى، ممن استمعوا إلى دعوة الهدى فطهروا أنفسهم من المعاصي والآثام، وخشعت قلوبهم لذكر الله.. ويقول القرآن: قد أفلح من تزكى. وذكر اسم ربه فصلى. فأساس الفلاح بالنجاة من العذاب والفوز بالنعيم الخالد، يعتمد على ثلاثة أركان رئيسية: " التزكية "، " ذكر اسم الله " و " الصلاة ". وقيل في معنى " التزكية " عدة أقوال: الا
138 أول: تطهير الروح وتزكيتها من الشرك، بقرينة الآيات السابقة، وباعتبار أن التطهير من الذنوب وعبادة الله، يعتمد بالأساس على التطهير من الشرك، فهو مقدمته اللازمة. الثاني: تطهير القلب من الرذائل الأخلاقية، والقيام بالأعمال الصالحة، بدلالة آيات الفلاح الواردة في كتاب الله الكريم، كالآيات الأولى من سورة المؤمن التي ذكرت أعمالا صالحة بعد أن قالت: قد أفلح المؤمنون، وكذا الآية (9) من سورة الشمس التي قالت، بعد ذكر مسألة التقوى والفجور: قد أفلح من زكاها. الثالث: " زكاة الفطرة " التي تؤدى يوم عيد الفطر، لأنها تدفع أولا ثم يصلى صلاة العيد، وهذا المعنى قد ورد في جملة روايات، رويت عن الإمام الصادق (عليه السلام) (1)، كما وروي في كتب أهل السنة ما يؤيد هذا المعنى نقلا عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (2). ويواجه القول الثالث بالإشكال التالي: إن سورة الأعلى مكية، في حين أن تشريع زكاة الفطرة وصوم شهر رمضان وصلاة العيد قد نزل في المدينة. فأجاب البعض: لا مانع من اعتبار أوائل آيات السورة مكية وأواخرها مدنية، فتكون الآيات المبحوثة مدنية. ويحتمل أن يكون التفسير المذكور من قبيل بيان مصداق واضح للآية، وليس مطلق مراد الآية. الرابع: يراد ب " التزكية " في الآية بمعنى: إعطاء الصدقة. المهم أن " التزكية " ذات مداليل واسعة تشمل: تطهير الروح من الشرك، تطهير الأخلاق من الرذائل، تطهير الأعمال من المحرمات والرياء، تطهير الأموال
1 - نور الثقلين، ج 5، ص 556، الحديثين (19 و 20). 2 - روح المعاني، ج 30، ص 110، وتفسير الكشاف، ج 4، ص 740. 139 والأبدان بإعطاء الزكاة والصدقات في سبيل الله، خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها. وبهذا تجمع كل الأقوال المذكورة لتدخل في مفهوم التزكية الواسع المداليل. والجدير بالذكر أن الآيات محل البحث تتحدث عن التزكية أولا، ثم ذكر الله ثم الصلاة. وقد أشار بعض المفسرين إلى هذه المراتب، بعد أن جدولها بالمراحل العملية الثلاثة للمكلف: الأولى: إزالة العقائد الفاسدة من القلب. الثانية: حضور معرفة الله وصفاته وأسمائه في القلب. الثالثة: الاشتغال بخدمته وفي سبيله جل وعلا. ويمكن القول: إن الصلاة فرع لذكر الله، فإذا لم يذكر الإنسان ربه، لم يسطع نور الإيمان في قلبه، وعندها فسوف لن يقوى على الوقوف للصلاة، والصلاة الحقة هي تلك التي يصاحبها التوجه الكامل والحضور التام بين يديه عز وجل وهذان التوجه والحضور إنما يحصلان من ذكره سبحانه وتعالى. أما ما ذكره البعض، من أن ذكر الله هو قول " الله أكبر " أو " بسم الله الرحمن الرحيم " في بداية الصلاة، فإنما هو بيان لأحد مصاديق الذكر ليس إلا. ويشير البيان القرآني إلى العامل الأساس في عملية الانحراف عن جادة الفلاح: بل تؤثرون الحياة الدنيا.. والآخرة خير وأبقى. ونقل الحديث النبوي الشريف هذا المعنى، بقوله: " حب الدنيا رأس كل خطيئة ". (1) فالإنسان العاقل لا يجيز لنفسه أن يبيع الدار الباقية بأمتعة فانية، ولا أن
1 - وروي الحديث بصور عدة عن الإمام الصادق (عليه السلام) والإمام السجاد (عليه السلام)، وورد معنى الحديث عن الأنبياء (عليهم السلام) أيضا، مما يشير إلى أهميته البالغة. 140 يستبدل اللذائذ المحدودة والمحفوفة بألوان الآلام بالنعم الخالدة والنقية الخالصة. وتختم السورة ب: إن هذا لفي الصحف الأولى.. صحف إبراهيم وموسى. (1) ولكن، ما المشار إليه ب " هذا "؟ فبعض قال: إنه إشارة إلى الأمر بالتزكية وذكر اسم الله والصلاة وعدم إيثار الحياة الدنيا على الآخرة. وذلك من أهم تعاليم جميع الأنبياء (عليهم السلام)، كما وورد هذا الأمر في جميع الكتب السماوية. واعتبره آخرون: إنه إشارة لجميع ما جاء في السورة، حيث أنها ابتدأت بالتوحيد مرورا بالنبوة حتى ختمت بالأعمال. وعلى أية حال، فهذا التعبير يبين أهمية محتوى السورة، أو خصوص الآيات الأخيرة منها، حيث اعتبرها من الأصول الأساسية للأديان، ومما حمله جميع الأنبياء (عليهم السلام) إلى البشرية كافة. " الصحف ": جمع و (صحيفة)، وهي اللوح الذي يكتب عليه. ونستدل بالآية الأخيرة بأن لإبراهيم وموسى (عليهما السلام) كتبا سماوية. وروي عن أبي ذر (رضي الله عنه)، إنه قال: قلت يا رسول الله، كم الأنبياء؟ فقال: " مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفا ". قلت: يا رسول الله، كم المرسلون منهم؟ قال: " ثلاثمائة وثلاثة عشر، وبقيتهم أنبياء ". قلت: كان آدم (عليه السلام) نبيا؟ قال: " نعم، كلمة الله وخلقه بيده.. يا أبا ذر، أربعة من الأنبياء عرب: هود
1 - يمكن أن تكون " صحف إبراهيم وموسى " توضيحا للصحف الأولى، كما ويمكن أن تكون إشارة لأحد مصاديق الصحف، وإلا فهي تشمل جميع كتب الأنبياء السابقين. 141 وصالح وشعيب ونبيك ". قلت: يا رسول الله، كم أنزل الله من كتاب؟ قال: " مائة وأربعة كتب، أنزل الله منها على آدم (عليه السلام) عشر صحف، وعلى شيث خمسين صحيفة، وعلى أخنوخ وهو إدريس ثلاثين صحيفة، وهو أول من خط بالقلم، وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان " (1). (أنزلت على موسى وعيسى وداود ومحمد على نبينا وآله وعليهم السلام). و " الصحف الأولى ": مقابل " الصحف الأخيرة " التي أنزلت على المسيح (عليه السلام) وعلى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم). * * * 2 بحث 3 شرح الحديث الشريف: " حب الدنيا رأس كل خطيئة " لما كان تفضيل الآخرة على الدنيا من الأمور الجلية لدى المؤمنين، فكيف تصيب الغفلة الإنسان المؤمن فيقع في فخ الخطايا والذنوب؟! ويكمن الجواب في جملة واحدة: عند غلبة الشهوات على وجود الإنسان ومصدر قوة الشهوات هو: حب الدنيا. يتضمن حب الدنيا: حب المال، المقام، الشهوة الجنسية، حب التفوق، حب الذات، وحب الانتقام... الخ.. وإذا ما غلب هذا الحب على وجود الإنسان فسيهتز كيانه بإعصار شديد ولا تستطيع كل معارف وعلوم وعقائد الإنسان من أن تقف أمام جموحه، حتى يصل الإنسان لفقدان قدرة التشخيص، فيقدم بالنتيجة الدنيا على الآخرة.
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 746. 142 ف " حب الدنيا رأس كل خطيئة " أمر محسوس ومجرب في حياتنا وحياة الآخرين وهو دائم الوقوع أمام ناظرينا. وعليه.. فلا سبيل لقطع جذور المعاصي إلا بإخراج حب الدنيا وعشقها من القلب. ينبغي علينا أن ننظر إلى الدنيا بواقعية وعقلائية، فالدنيا ليست أكثر من مرحلة انتقالية أو معبر أو مزرعة الآخرة، فما يبذر اليوم يحصد غدا، ولابد للإنسان أن العاقل ن يختار الطريق الذي يوصله إلى الهدف المنشود فيما إذا وقف بين مفترق طريقين، واحد يؤدي للحصول على متاع الدنيا الزائل، والآخر يوصل إلى نيل رضا الباري سبحانه وتعالى. ونظرة - وإن كانت سريعة - إلى ملفات الجرائم سترينا واقعية الحديث المذكور، وإذا ما تأملنا في بواعثها الحقيقية، فسيتوضح الحديث أكثر فأكثر. ولا تخرج علل الحروب وسفك الدماء (حتى بين الاخوة والأصدقاء) عن هذا الإطار المهلك (حب الدنيا). فكيف النجاة، وكلنا أبناء هذه الدنيا و " لا يلام الولد على حبه لامه " كما جاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام)؟! إن زورق النجاة من تلاطم أمواج وهيجان حب الدنيا لا يبنى إلا بالتربية الفكرية والعقائدية، ومن ثم تهذيب النفس ومجاهدتها، بالإضافة إلى الاعتبار من عواقب عبدة الدنيا. فما كانت عاقبة الفراعنة مع كل ما كان لهم من قوة؟! وأين هو الآن قارون وكنوزه التي لا يقدر مجموعة من الرجال على حمل مفاتيحها إلا بشق الأنفس؟! وحتى القوى المتسلطة في عصرنا المعاش، ليس لهم سوى فترة زمنية محدودة، فترى عروشها تتهاوى، وهم بين فار ومختبئ في أقذر المكانات وبين من سيلفه التراب، لينتقل بعدها إلى العالم الذي كان يكذب وجوده.. أوليس ذلك أفضل
143 واعظ لنا؟! ونختم بحثنا بما روي عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام)، حينما سئل عن أي الأعمال أفضل عند الله؟ قال: " ما من عمل بعد معرفة الله عز وجل ومعرفة رسوله أفضل من بغض الدنيا، فإن لذلك لشعبا كثيرة، وللمعاصي شعب. فأول ما عصي الله به " الكبر "، معصية إبليس حين أبى واستكبر وكان من الكافرين، ثم " الحرص " وهي معصية آدم وحواء حين قال الله عز وجل لهما: كلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأخذا ما لا حاجة بهما إليه، فدخل ذلك على ذريتهما إلى يوم القيامة، وذلك إن أكثر ما يطلب ابن آدم ما لا حاجة به إليه، ثم " الحسد " وهي معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله، فتشعب من ذلك حب النساء، وحب الدنيا (1)، وحب الرئاسة، وحب الراحة، وحب الكلام، وحب العلو والثروة، فصرن سبع خصال فاجتمعن كلهن في حب الدنيا، فقال الأنبياء والعلماء بعد ذلك: حب الدنيا رأس كل خطيئة " (2). اللهم، اخرج حب الدنيا من قلوبنا.. اللهم، خذ بأيدينا إلى صراطك القويم، وأبلغنا مغرمنا.. اللهم، إنك تعلم الجهر وما يخفى، فاغفر لنا ما ظهر من ذنوبنا وما خفى.. آمين يا رب العالمين نهاية سورة الأعلى * * *
1 - يبدو أن " حب الدنيا " هنا، بمعنى (حب البقاء في الدنيا)، باعتباره كأحد الشعب السبعة، ويبدو أنه يرادف (طور الأمد). 2 - أصول الكافي، ج 2، ص 239، باب حب الدنيا والحرص عليها، الحديث 8، وفي هذا الباب توجد رواية أخرى بهذا الشأن. 144 1 سورة 1 الغاشية 1 مكية 1 وعدد آياتها ست وعشرون آية
146 1 " سورة الغاشية " 3 محتوى السورة: تدور محتويات السورة على ثلاثة محاور: الأول: بحث " المعاد "، وبيان حال المجرمين بما فيه من شقاء وتعاسة، ووصف حال المؤمنين وهم يرفلون بنعيم لا ينضب. الثاني: بحث " التوحيد "، ويتناول موضوع خلق السماء والجبال والأرض، ونظر الإنسان إليها. الثالث: بحث " النبوة "، مع عرض لبعض وظائف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وعموما، فالسورة تسير على منهج السور المكية في تقوية أسس الإيمان والاعتقاد. 3 فضيلة السورة: ورد في فضيلة هذه السورة في الحديث النبوي الشريف: " من قرأها حاسبه الله حسابا يسيرا ". (1) وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنه قال: " من أدمن قراءة هل أتاك حديث الغاشية في فرائضه أو نوافله غشاه الله برحمته في الدنيا والآخرة، أو أعطاه الأمن يوم القيامة من عذاب النار ". (2) وبديهي أن الثواب المذكور لا يحصل إلا لمن تلاها بتأمل وعمل. * * *
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 477. 2 - المصدر السابق. 148 2 الآيات هل آتك حديث الغشية (1) وجوه يومئذ خشعة (2) عاملة ناصبة (3) تصلى نارا حامية (4) تسقى من عين آنية (5) ليس لهم طعام إلا من ضريع (6) لا يسمن ولا يغنى من جوع (7) 2 التفسير 3 المتعبون.. الأخسرون! تبتدأ السورة بذكر اسم جديد ليوم القيامة: هل أتاك حديث الغاشية. " الغاشية ": من (الغشاوة)، وهي التغطية، وسميت القيامة بذلك لأن حوادثها الرهيبة ستغطي فجاءة كل شئ. وقيل: بما أن الأولين والآخرين سيجمعون في ذلك اليوم، فالقيامة تغشاهم جميعا. وقيل أيضا: يراد بها نار جهنم، لأنها ستغطي وجوه الكافرين والمجرمين
149 ويبدو لنا التفسير الأول أنسب من غيره. وظاهر الآية: إنها خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما حوته من صيغة الاستفهام فلبيان عظمة وأهمية يوم القيامة. ويبدو بعيدا ما احتمله البعض من كون خطاب الآية موجه إلى كل إنسان. وتصف الآيات التالية، حال المجرمين في يوم القيامة، فتقول أولا: وجوه يؤمئذ خاشعة. لا شك أن الوضع النفسي والروحي، تنعكس آثاره على وجه صاحبه، لذا فسترى تلك الوجوه وقد علتها علائم الخسران والخشوع لما أصابها من ذل وخوف ووحشة وهم بانتظار ما سيحل بهم من عذاب مهين أليم. وقيل: " الوجوه " هنا، بمعنى وجهاء القوم ورؤساء الكفر والطغيان، لما سيكون لهم من ذل وهوان وعذاب أشد من غيرهم. ولكن المعنى الأول أنسب وتصف حال تلك الوجوه ثانيا: عاملة ناصبة. فكل ما سعوا وكدوا فيه في الحياة الدنيا سوف لا يجنون منه إلا التعب والنصب، وذلك: لأن أعمالهم غير مقبولة عند الله، وما جمعوه من أموال وثروات قد ذهبت لغيرهم، ولا يملكون من ذكر صالح يعقبهم في الدنيا ولا ولد صالح يدعو ويستغفر الله لهم، فما أصدق هذا القول بحقهم: عاملة ناصبة. وقيل: المراد، إنهم يعملون في الدنيا، ولهم التعب والألم في الآخرة. وقيل أيضا: إن المجرمين سيقومون بأعمال شاقة داخل جهنم، زيادة في عذابهم. ويبدو التفسير الأول أصح من غيره. وخاتمة مطاف تلك الوجوه التعبة الذليلة أن: تصلى نارا حامية. " تصلى ": من (صلى) - على زنة نفى - وهو دخول النار والبقاء فيها،
150 والاحتراق بها (1). ولن يقف عذابهم عند هذا الحد، بل أنهم وبسبب حرارة النيران يصيبهم العطش الشديد وحينئذ: تسقى من عين آنية. " آنية ": مؤنث آني من (الأني) - على زنة حلي - وهو التأخير، ويستعمل لما يقرب وقته، وجاء في الآية بمعنى: الماء الحارق الذي بلغ أقصى درجة حرارته وجاء في الآية (29) من سورة الكهف: وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا وتحكي لنا الآية التالية عن طعام المجرمين: ليس لهم طعام إلا من ضريع وقد تعددت الآراء في معنى " الضريع ". فقال بعض: نبت ذو شوك لاصق بالأرض، تسميه قريش (الشبرق) إذا كان رطبا، فإذا يبس فهو (الضريع)، لا تقربه دابة ولا بهيمة ولا ترعاه، وهو سم قاتل. (2) وقال الخليل (أحد علماء اللغة): الضريع نبات أخضر منتن الريح، يرمي به البحر. وعن ابن عباس: هو شجر من نار، ولو كانت في الدنيا لأحرقت الأرض وما عليها. وجاء في الحديث النبوي الشريف: " الضريع شئ يكون في النار يشبه الشوك، أشد مرارة من الصبر، وأنتن من الجيفة، وأحر من النار، سماه الله ضريعا ". وقال بعض آخر: هو طعام يضرعون عنده ويذلون، ويتضرعون منه إلى الله
1 - صلي بالنار، لزمها واحترق بها. 2 - تفسير القرطبي، ج 10، ص 7119. 151 تعالى طلبا للخلاص منه. (1) (ويذكر أن (الضرع) بمعنى الضعف والذلة والخضوع). (2) ولا تعارض بين هذه التفاسير، ويمكن قبولها كلها في تفسير الآية المذكورة. وتصف لنا الآية التالية ذلك الطعام: لا يسمن ولا يغني من جوع. فهو ليس لسد جوع أو تقوية بدن، وإنما هو طعام يغص به، ايغالا في العذاب، كما ورد هذا المعنى في الآية (13) من وسورة المزمل: وطعاما ذا غصة وعذابا أليما. فالذين شرهوا في تناول ألذ المأكولات في دنياهم، على حساب ظلم الناس والتجاوز على حقوقهم، ومنعوا لقمة العيش عن كثير من المحرومين، فليس في طعام آخرتهم سوى العذاب الأليم. ونعود لنكرر القول: إن ما نصفه ونتصوره عن نعيم الجنة وعذاب جهنم، لا يتعدى عن كونه مجرد إشارات وأشباح نراها من بعيد ونحن نعيش في سجن الدنيا المحدود، وإلا فحقيقة ما سينعم به أهل الجنة وما يعانيه أهل النار فمما لا يمكن لأحد وصفه!. * * *
1 - تفسير القرطبي، ج 10، ص 7120. 2 - بحثنا موضوع طعام أهل النار، الذي يسميه القرآن تارة ب " الضريع " واخرى ب " الزقوم " وثالثة ب " غسلين "، وما بينها من تفاوت.. في ذيل الآية (36) من سورة الحاقة. 152 2 الآيات وجوه يومئذ ناعمة (8) لسعيها راضية (9) في جنة عالية (10) لا تسمع فيها لغية (11) فيها عين جارية (12) فيها سرر مرفوعة (13) وأكواب موضوعة (14) ونمارق مصفوفة (15) وزرابي مبثوثة (16) 2 التفسير 3 صور من نعيم الجنة: بعد ذكر ما سيتعرض له أهل النار، تنتقل عدسة السورة لتنقل لنا مشاهدا رائعة لنعيم أهل الجنة.. ليتوضح لنا الفرق ما بين القهر الإلهي والرحمة الإلهية، وما بين الوعيد والبشارة. فتقول الآية الأولى: وجوه يومئذ ناعمة، على عكس وجوه المذنبين المكسوة بعلائم الذلة والخوف. " ناعمة ": من (النعمة)، وتشير هنا إلى الوجوه الغارقة في نعمة الله، وجوه طرية، مسرورة ونورانية، كما أشارت لهذا الآية (24) من سورة المطففين:
153 تعرف في وجوههم نضرة النعيم. وترى الوجوه: لسعيها راضية. على عكس أهل جهنم، فوجوههم " عاملة ناصبة "، أما أهل الجنة، فقد حان وقت حصادهم لما زرعوا في دنياهم، وحصلوا على أحسن ما يتمنون، فتراهم في غاية الرضي والسرور. وما زرعوا سيتضاعف ناتجه بإذن الله ولطفه أضعافا مضاعفة، فتارة عشرة أضعاف، واخرى سبعمائة ضعف، وثالثة يجازون على ما عملوا بغير حساب، كما أشارت الآية (10) من سورة الزمر إلى ذلك بقولها: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ويدخل البيان القرآني في التفصيل أكثر: في جنة عالية. " عالية ": قيل بإرادة المكان (في طبقات الجنة العليا)، وقيل أريد بها المقام الرفيع، ومع أن التفسير الثاني أرجح، إلا أنه لا مانع من الجمع بينهما: وكذا..: لا تسمع فيها لاغية. (1) فليس هناك ثمة: جدال، كلام نفاق، عداوة، حقد، حسد، كذب، تهمة، افتراء، غيبة ولا أي إيذاء، بل ولا حتى الكلام الفارغ. فهل يوجد مكان أهدأ وأجمل من ذلك؟! ولو تأملنا حقيقة مشاكلنا فيما بيننا، لرأينا أن الغالب منها ما كان ناشئا عن سماع هكذا أحاديث، والتي تؤدي إلى عدم الاستقرار النفسي، وإلى تهديم أركان الترابط الاجتماعي فينهار النظام وتشتعل نيران الفتن لتأكل الأخضر واليابس معا. وبعد ذكر القرآن لما يتمتع به أهل الجنة من نعمة روحية، يبين بعض النعم المادية في الجنة: فيها عين جارية.
1 - " لاغية ": بالرغم من كونها اسم فاعل، ولكنها تأتي بما يرادف (اللغو)، أي (ذات لغو). 154 ظاهر كلمة " عين " في الآية، إنها عين واحدة بدليل مجيئها نكرة، إلا أنه بالرجوع إلى بقية الآيات في القرآن الكريم، يتبين لنا إنها للجنس، فهي والحال هذه تشمل عيونا مختلفة، ومن قرائن ذلك ما جاء في الآية (15) من سورة الذاريات: إن المتقين في جنات وعيون. وقيل: في كل قصر من قصور أهل الجنة، ثمة " عين جارية "، وهو المراد في الآية، ومن ميزة تلك الأنهار أنها تجري حسب رغبة أهل الجنة، فلا داعي معها لشق أرض أو وضع سد. وينهل أهل الجنة أشربة طاهرة ومتنوعة، فتلك العيون وعلى ما لها من رونق وروعة، فلكل منها شراب معين له مواصفاته الخاصة به. وينتقل الوصف إلى أسرة الجنة: فيها سرر مرفوعة. " سرر ": جمع (سرير)، وهو من (السرور)، بمعنى المقاعد التي يجلس عليها في مجالس الانس والسرور (1). وجعلت تلك الأسرة من الارتفاع بحيث يتمكن أهل الجنة من رؤية كل ما يحيط بها والتمتع بذلك. يقول ابن عباس: إذا أراد أن يجلس عليها، تواضعت له حتى يجلس عليها، ثم ترتفع إلى موضعها. (2) ويحتمل أيضا: وصفت بالمرفوعة إشارة إلى رفعتها وعلو شأنها. وقيل: إنها من الذهب المزين والمرصع بالزبرجد والدر والياقوت. ولا مانع من الجمع بين ما ذكر. ولما كان شرب الشراب يستلزم ما يشرب به، فقد قالت الآية التالية: وأكواب موضوعة.
1 - مفردات الراغب، مادة (سر). 2 - مجمع البيان، ج 10، ص 479. 155 ومتى ما أرادوا الشرب ارتفعت تلك الأكواب لتصل بين أيديهم وقد ملئت من شراب تلك العيون، فيستلذون بما لا وصف له عند أهل الدنيا. " أكواب ": جمع (كوب)، وهو القدح، أو الظرف الذي له عروة. وبالإضافة إلى ذكر ال " أكواب " فقد ذكر القرآن الكريم تعابير أخرى لها، مثل: " أباريق " جمع (إبريق) وهو ظرف معروف، و " كأس " بمعنى القدح المملوء بالشراب، كما جاء في الآيتين (17) و (18) من سورة الواقعة: يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين ويستمر الحديث عن جزئيات نعيم الجنة: ونمارق مصفوفة. " نمارق ": جمع (نمرقة)، وهي الوسادة الصغيرة التي يتكأ عليها. " مصفوفة ": إشارة إلى تعددها بنظم خاص، ليظهر أن لأهل الجنة جلسات انس جماعية، التي لا يتخللها أي لغو وباطل، ويدور الحديث فيها حول الألطاف الإلهية ونعمة الخالدة، وعن الفوز الحقيقي الذي أبعدهم عن عذاب الآخرة، وكيف أنهم قد نجوا وخلصوا من الآم وأتعاب الدنيا. ثم تكون الإشارة إلى فرش الجنة الفاخرة: وزرابي مبثوثة. " زرابية ": جمع (زرب) أو (زربية)، وهي الفرش والبسط الفاخرة ذات المتكأ. ذكرت الآيات المبحوثة سبع نعم رائعة من نعم الجنة، وكل منها أكثر روعة من الأخرى. والخلاصة: فمنزل الجنة لا مثيل له من كل الجهات، فهو الخالي من أي ألم أو عذاب أو حرب أو جدال.. وتجد فيه كل ألوان الثمار والأنعام والعيون الجارية والأشربة الطاهرة والولدان المخلدين والحور العين والأسرة المرصعة والفرش الفاخرة وأقداح جميلة في متناول اليد وجلساء أصفياء، إلى غير ذلك مما لا يمكن عده بلسان أو وصفه بقلم ولا حتى تخيله إذا ما سرحت المخيلة في عالمها
156 الرحب!.. وكل ما ذكر وغيره سيكون في انتظار من آمن وعمل صالحا، بعد حصوله على إذن الدخول إلى تلك الدار العالية. وفوق هذا وذاك فثمة " لقاء الله "، الذي ليس من فوز يوازيه. * * *
157 2 الآيات أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت (17) وإلى السماء كيف رفعت (18) وإلى الجبال كيف نصبت (19) وإلى الأرض كيف سطحت (20) فذكر إنما أنت مذكر (21) لست عليهم بمصيطر (22) إلا من تولى وكفر (23) فيعذبه الله العذاب الأكبر (24) إن إلينا إيابهم (25) ثم إن علينا حسابهم (26) 2 التفسير 3 الإبل.. من آيات خلق الله: بعد أن تحدثت الآيات السابقة بتفصيل عن الجنة ونعيمها، تأتي هذه الآيات التوضح معالم الطريق الموصل إلى الجنة ونعيمها. فمفتاح المعرفة " معرفة الله "، ووصولا لهذا المفتاح تذكر الآيات أربعة نماذج لمظاهر القدرة الإلهية وبديع الخلقة، داعية الإنسان للتأمل، عسى أن يصل إلى ما ينبغي له أن يصل إليه. وتشير أيضا إلى أن قدرة الله المطلقة هي مفتاح درك المعاد..
158 فتقول الآية الأولى: أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت. ولكن، لم اختص ذكر " الإبل " قبل غيره؟ للمفسرين حديث طويل في ذلك، لكن الواضح إن الآيات في أول نزولها كانت تخاطب أهل مكة قبل غيرهم، والإبل أهم شئ في حياة أهل مكة في ذلك الزمان، فهي معهم ليل نهار وتنجز لهم ضروب الأعمال وتدر عليهم الفوائد الكثيرة. أضف إلى ذلك أن لهذا الحيوان خصائص عجيبة قد تفرد بها عن بقية الحيوانات، ويعتبر بحق آية من آيات خلق الله الباهرة. ومن خصائص الإبل: 1 - لو نظرنا إلى موارد الاستفادة من الحيوانات الأليفة، فسنرى أن قسما منها لا يستفاد إلا من لحومها، والقسم الآخر يستفاد من ألبانها على الأغلب، وقسم لا يستفاد منه إلا في الركوب، وقسم قد تخصص في حمل ونقل الأثقال، ولكن الإبل تقدم كل هذه الخدمات (اللحم، اللبن، الركوب والحمل). 2 - قدرة حمل وتحمل الإبل أكثر بكثير من بقية الحيوانات الأهلية، حتى أنها لتبرك على الأرض فتوضع الأثقال عليها ثم تنهض بها، وهذا ما لا تستطيع فعله بقية الحيوانات الأهلية. 3 - تتحمل العطش لأيام متتالية (بين السبعة إلى عشرة أيام)، وقابليتها على تحمل الجوع مذهلة. 4 - يطلق عليها اسم (سفينة الصحراء)، لما لها من قابلية فائقة على طي مسافات طويلة في اليوم الواحد، رغم الظروف الصحراوية الصعبة، فلا يعرقل حركتها صعوبة الأرض أو كثرة المنخفضات الرملية، وهذا ما لا نجده في أي حيوان أخر وبهذه المواصفات. 5 - مع إنها تتغذى على أي شوك وأي نبات، فهي تشبع بالقليل أيضا.
159 6 - لعينها واذنها وأنفها قدرة كبيرة على مقاومة الظروف الجوية الصعبة في الصحراء، وحتى العواصف الرملية لا تقف حائلا أمام مسيرها. 7 - والإبل مطيعة وسهلة الانقياد، لدرجة أن بإمكان طفل صغير أن يأخذ بزمام مجموعة كبيرة من الإبل وتتحرك معه حيث يريد. والخلاصة: إن ما يتمتع به هذا الحيوان من خصائص تدفع الإنسان لأن يلتفت إلى قدرة الخالق سبحانه وتعالى. وها هو القرآن ينادي بكل وضوح: يا أيها الضالون في وادي الغفلة ألا تتفكرون في كيفية خلق الإبل، لتعرفوا الحق وتخرجوا من ضلالكم؟! ولابد من التذكير، بأن " النظر " الوارد في الآية، يراد به النظر الذي يصحبه تأمل ودراسة. وينتقل بنا البيان القرآني في الإبل إلى السماء: وإلى السماء كيف رفعت. السماء التي حيرت العقول بعظمتها وعجائبها وما فيها من نجوم وما لها من بهاء وروعة.. السماء التي يتصاغر وجود الإنسان أمامها ليعد لا شئ بالنسبة لها.. السماء التي لها من دقة التنظيم والحساب الدقيق ما بهر فيها عقول العلماء المتخصصين. ألا ينبغي للإنسان أن يتفكر في أمر مدبر هذا الخلق، وما الأهداف المرجوة من خلقه؟! فكيف أصبحت تلك الكواكب في مساراتها المحدودة؟ وما هو سر استقرارها في أماكنها وبكل هذه الدقة؟ ولم لم يتغير محور حركتها بالرغم من مرور ملايين السنين عليها؟!!! ومع تطور الاكتشافات العلمية الحديثة، نرى أن عالم السماء وما يحويه يزداد عظمة وجلالا بدرجات ملموسة نسبة إلى ما كان عليه قبلا... مع كل هذا وذاك، ألا يكون أمر خلق السماء مدعاة للتأمل والتفكير،
160 والخضوع والتسليم لربوبية الخالق الواحد الأحد؟! وينقلنا إلى الجبال: وإلى الجبال كيف نصبت. الجبال التي تشمخ بتعمق جذورها في باطن الأرض، وتحيط بالأرض على شكل حلقات وسلاسل لتقلل من شدة الزلازل الناشئة من ذوبان المواد المعدنية في باطن الأرض، وكذا ما لها من دور في حفظ الأرض من عملية المد والجزر الناشئة من تأثيرات الشمس والقمر.. الجبال التي لولا وجودها بهذه الهيئة لما توفرت ظروف عيش الإنسان على سطح الأرض، لما تمثله من سد منيع أمام قوة أثر العواصف.. وأخيرا، الجبال التي تحفظ الماء في داخلها لتخرجه لنا على صورة عيون فياضة نعم الأرض ليخضر بساطها بأنواع المزارع والغابات. ولعل ذلك كله كان وراء وصفها " أوتادا " في القرآن الكريم. فهي عموما.. مظهر الأبهة والصلابة والشموخ، وهي مصدر خير وبركة معطاة، ولعل ذلك من علل تفتح ذهنية الإنسان عندها، كما وليس من العبث أن يتخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جبل النور وغار حراء محلا لعبادته قبل البعثة المباركة. " نصبت ": من (النصب)، وهو التثبيت، وربما رمز هذا التعبير إلى بداية خلق الجبال أيضا. فقد توصل العلم الحديث إلى أن تكون الجبال يعتمد على عوامل عديدة وقسمها إلى عدة أنواع: فمنها: ما تكون نتيجة للتراكمات الحاصلة على الأرض. ومنها: ما تكون من الحمم البركانية. ومنها: ما تكون نتيجة لتفتت الأرض بواسطة الأمطار. وكذا منها: ما تكون نتيجة للترسبات الحاصلة في أعماق البحار ومن بقايا الحيوانات (كالجبال والجزر والمرجانية). نعم، فالجبال وبكل ما فيها ولها تعد آية من آيات القدرة الإلهية، لمن رآها
161 بعين بصيرة ولب شغول. ثم إلى الأرض: وإلى الأرض كيف سطحت. فلينظر الإنسان إلى كيفية هطول الأمطار على الجبال لتسيل من بعدها محملة الأتربة كي تتكون بها السهول الصافية، لتكون صالحة للزراعة من جهة ومهيئة لما يعمل بها الإنسان من جهة أخرى.. ولو كانت كل الأرض عبارة عن جبال ووديان، فما أصعب الحياة على سطحها والحال هذه! ولابد لنا من التأمل والتفكير في من جعلها تكون على هذه الهيئة الملائمة تماما لحياة الإنسان؟.. ولكن، ما علاقة الربط بين الإبل والسماء والجبال والأرض، حتى تذكرها الآيات بهذا التوالي؟ يقول الفخر الرازي في ذلك: إن القرآن نزل على لغة العرب، وكانوا يسافرون كثيرا لأن بلدتهم بلدة خالية من الزراعية، وكانت أسفارهم في أكثر الأمر على الإيل، فكانوا كثيرا ما يسيرون عليها في المهامة والقفار مستوحشين، منفردين عن الناس، ومن شأن الإنسان إذا انفرد أن يقبل على التفكر في الأشياء، لأنه ليس معه من يحادثه، وليس هناك شئ يشغل به سمعه وبصره، وإذا كان كذلك لم يكن له بد من أن يشغل باله بالفكرة، فإذا فكر في ذلك وقع بصره أول الأمر على الجمل الذي ركبه، فيرى منظرا عجيبا، وإذا نظر إلى فوق لم ير غير السماء، وإذا نظر يمينا وشمالا لم ير غير الجبال، وإذا نظر إلى ما تحت لم ير غير الأرض، فكأنه تعالى أمره بالنظر وقت الخلوة والانفراد عن الغير حتى لا تحمله داعية الكبر والحسد على ترك النظر، ثم إنه في وقت الخلوة في المفازة البعيدة لا يرى شيئا سوى هذه الأشياء، فلا جرم جمع الله بينها في هذه الآية (1).
1 - تفسير الفخر الرازي، ج 31، ص 158. 162 وإذا ما ابتعدنا المحيط العربي القديم وما كان فيه، وتوسعنا في مجال تأملنا ليشمل كل محيط البشرية، لتوصلنا إلى أن هذه الأشياء الأربع تدخل في حياة الإنسان بشكل رئيسي، حيث من السماء مصدر النور والأمطار والهواء، والأرض مصدر نمو أنواع النباتات وما يتغذى به، وكذا الجبال فبالإضافة لكونها رمز الثبات والعلو ففيها مخازن المياه والمواد المعدنية بألوانها المتنوعة، وما الإبل إلا نموذج شاخص متكامل لذلك الحيوان الأهلي الذي يقدم مختلف الخدمات للإنسان. وعليه، فقد تجمعت في هذه الأشياء الأربع كل مستلزمات " الزراعة " و " الصناعة " و " الثروة الحيوانية "، وحري بالإنسان والحال هذه أن يتأمل في هذه النعم المعطاءة، كي يندفع بشكل طبيعي لشكر المنعم سبحانه وتعالى، وبلا شك فإن شكر المنعم سيدعوه لمعرفة خالق النعم أكثر فأكثر. وبعد هذا البحث التوحيدي، يتوجه القرآن الكريم لمخاطبة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): فذكر إنما أنت مذكر.. لست عليهم بمصيطر. نعم، فخلق السماء والأرض والجبال والحيوانات ينطق بعدم عبثية هذا الوجود، وأن خلق الإنسان إنما هو لهدف... فذكرهم بهدفية الخلق، وبين لهم طريق السلوك الرباني، وكن رائدهم وقدوتهم في مسيرة التكامل البشري. وليس باستطاعتك إجبارهم، وإن حصل ذلك فلا فائدة منه، لأن شوط الكمال إنما يقطع بالإرادة والاختيار، وليس ثمة من معنى للتكامل الإجباري. وقيل: إن هذا الأمر الإلهي نزل قبل تشريع " الجهاد "، ثم نسخ به! وما أعظم هذا الاشتباه!! فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مارس عملية التذكير والتبليغ منذ الوهلة الأولى للبعثة الشريفة واستمر على هذا النهج حتى آخر لحظة من حياته الشريفة المباركة، ولم
163 تتوقف العملية عن الممارسة من بعده، حيث قام بهذه المهمة الأئمة (عليهم السلام) والعلماء من بعدهم، حتى وصلت ليومنا وسوف لن تتوقف بإذن الله تعالى، فأي نسخ هذا الذي يتكلمون عنه! ثم إن عدم إجبار الناس على الإيمان يعتبر من ثوابت الشريعة الإسلامية السمحاء، أما هدف الجهاد فيتعلق بمحاربة الطغاة الذين يقفون حجر عثرة في طريق دعاة الحق وطالبيه. وثمة آيات أخرى في القرآن قد جاءت في هذا السياق، كالآية (80) من سورة النساء: ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا، وكذا الآية (107) من سورة الأنعام، والآية (48) من سورة الشورى - فراجع " مصيطر ": من (السطر)، وهو المعروف في الكتب، و (المسيطر): الذي ينظم السطور، ثم استعمل لكل من له سلطة على شئ، أو يجبر أحدا على عمل ما. وفي الآيتين التاليتين.. يأتي الاستثناء ونتيجته: إلا من تولى وكفر.. فيعذبه الله العذاب الأكبر. ولكن، إلى أية جملة يعود الاستثناء؟ ثمة تفاسير مختلفة في ذلك: الأول: إنه استثناء لمفعول الجملة " فذكر "، أي: لا ضرورة لتذكير المعاندين الذين رفضوا الحق جملة وتفصيلا، كما جاء في الآية (83) من سورة الزخرف: فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون. الثاني: إنه استثناء لجملة محذوفة، والتقدير: فذكر إن الذكرى تنفع الجميع إلا من تولى وكفر، كما جاء في الآية (9) من سورة الأعلى: فذكر إن نفعت الذكرى، (على أن يكون لها معنا شرطيا). الثالث: إنه استثناء من الضمير " عليهم " في الآية السابقة، أي: (إنك لست
164 عليهم بمصيطر إلا من تولى وكفر فأنت مأمور بمواجهات). (1) كل ما ذكر من تفاسير مبني على أن الاستثناء متصل، ولكن ثمة من يقول بأن الاستثناء منقطع، فيكون معناه بما يقارب معنى (بل)، فيصبح معنى الجملة: (بل من تولى وكفر فإن الله متسلط عليهم) أو (إنه سيعاقبهم بالعذاب الأكبر). ومن بين هذه التفاسير، ثمة تفسيران مناسبان. الأول: القائل بالاستثناء المتصل لجملة لست عليهم بمصيطر فيكون إشارة لاستعمال القوة في مواجهة من تولى وكفر. الثاني: القائل بالاستثناء المنفصل، أي، سينالهم العذاب الأليم، الذي ينتظر المعاندين والكافرين. ويراد ب العذاب الأكبر " عذاب الآخرة " الذي يقابل عذاب الدنيا الصغير نسبة لحجم وسعة عذاب الآخرة، بقرينة الآية (26) من سورة الزمر: فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر. وكذلك يحتمل إرادة نوع شديد من عذاب الآخرة، لأن عذاب جهنم ليس بمتساو للجميع. وبحدية قاطعة، تقول آخر آيتين في السورة: إن إلينا إيابهم.. ثم إن علينا حسابهم. والآيتان تتضمنان التسلية لقلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مواجهته لأساليب المعاندين، لكي لا يبتئس من أفعالهم، ويستمر في دعوته. وهما أيضا، تهديد عنيف لكل من تسول له نفسه فيقف في صف الكافرين والمعاندين، فيخبرهم بأن حسابهم سيكون بيد جبار شديد! بدأت سورة الغاشية بموضوع القيامة وختمت به أيضا، كما تمت الإشارة فيما
1 - ونستفيد من حديث شريف ورد في (الدر المنثور).. أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مأمورا بمحاربة عبدة الأصنام، وفي غير ذلك فهو مأمور بالتذكير. 165 بين البدء والختام إلى بحث التوحيد والنبوة، وهما دعامتا المعاد. كما وتضمنت السورة عرضا لبعض ما سيصيب المجرمين من عقاب، وعرضت في قبال ذلك ما سينعم به المؤمنون في جنات النعيم الخالدة. كما وأكدت السورة على حرية الإنسان في اختيار الطريق الذي يسلكه، وذكرت بعودة الجميع إلى مولاهم الحق، وهو الذي سيحاسبهم على كل ما فعلوا في دنياهم كما وبينت السورة أن مهمة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هي إبلاغ الرسالة، وأنه غير مسؤول عن كفر وانحراف الناس وذنوبهم، وهذه هي مهمة مبلغي طريق الحق. اللهم، ارحمنا يوم تعود الخلائق إليك ويكون حسابهم عليك.. اللهم، نجنا برحمتك الكبرى من عذابك الأكبر.. اللهم، إن مواهب أهل الجنة التي أوردت هذه السورة قسما منها عظيمة ومذهلة. فإن كنا لا نستحقها بأعمالنا فتفضل علينا بها بلطفك ورحمتك. آمين يا رب العالمين نهاية سورة الغاشية * * *
166 1 سورة 1 الفجر 1 مكية 1 وعدد آياتها ثلاثون آية
168 1 " سورة الفجر " 3 محتوى السورة: كبقية السور المكية، فسورة الفجر ذات آيات قصار وأسلوب واضح ومصحوب بالإنذار والتحذير.. وتقدم لنا الآيات الأولى أقساما نادرة في نوعها لتهديد الجبارين بالعذاب الإلهي. وتنقل لنا بعض آياتها ما حل ببعض الأقوام السالفة ممن طغوا في الأرض وعاثوا فسادا (قوم عاد، ثمود وفرعون)، وجعلهم عبرة لاولي الأبصار، ودرسا قاسيا لكل من يرى في نفسه القوة والإقتدار من دون الله. ثم تشير باختصار إلى الامتحان الرباني للإنسان، وتلومه على تقصيره في فعل الخيرات.. وفي آخر ما تتحدث عنه السورة هو " المعاد " وما سينتظر المؤمنين ذوي النفوس المطمئنة من ثواب جزيل، وأيضا ما سينتظر المجرمين والكافرين من عقاب شديد. 3 فضيلة السورة: روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنه قال: " من قرأها في ليال عشر غفر الله له، ومن
170 قرأها سائر الأيام كانت له نورا يوم القيامة " (1). كما وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنه قال: " اقرأوا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم فإنها سورة الحسين بن علي، من قرأها كان مع الحسين بن علي يوم القيامة في دوحته من الجنة ". (2) يمكن أن يكون وصف السورة بسورة الإمام الحسين (عليه السلام) بلحاظ أنه أفضل مصاديق ما جاء في آخر آياتها، حيث فيما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية الأخيرة من السورة: إن " النفس المطمئنة " هو الحسين بن علي (عليهما السلام). أو قد يكون بلحاظ ل " ليال عشر " المقسوم بها في أول السورة، حيث من ضمن تفاسيرها أنها: ليالي محرم العشرة، المتعلقة بشهادة الإمام الحسين (عليه السلام) وعلى أية حال، فثوابها لمن تبصر في قراءتها وعمل على ضوءها. * * *
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 481. 2 - مجمع البيان، 10، ص 481. 171 2 الآيات والفجر (1) وليال عشر (2) والشفع والوتر (3) والليل إذا يسر (4) هل في ذلك قسم لذي حجر (5) 2 التفسير والفجر..! بدأت السورة بخمسة أقسام: الأول: والفجر.. والثاني: وليال عشر. " الفجر ": في الأصل، بمعنى الشق الواسع، وقيل للصبح " الفجر " لأن نوره يشق ظلمة الليل. وكما هو معلوم فالفجر فجران، كاذب وصادق. الفجر الكاذب: هو الخيط الأبيض الطويل الذي يظهر في السماء، ويشبه بذنب الثعلب، تكون نقطة نهايته في الأفق، وقسمه العريض في وسط السماء. الفجر الصادق: هو النور الذي يبدأ من الأفق فينتشر، وله نورانية وشفافية خاصة، كنهر من الماء الزلال يغطي أفق الشرق ثم ينتشر في السماء.
172 ويعلن الفجر الصادق عن انتهاء الليل وابتداء النهار، وعنده يمسك الصائمون، وتصلى فريضة الصبح. وفسر " الفجر " في الآية بمعناه المطلق، أي: بياض الصبح. ولا شك فهو من آيات عظمة الله سبحانه وتعالى، ويمثل انعطافا في حركة حياة الموجودات الموجودة على سطح الأرض، ومنها الإنسان، ويمثل كذلك حاكمية النور على الظلام، وعند مجيئه تشرع الكائنات الحية بالحركة والعمل، ويعلن انتهاء فترة النوم والسكون. وقد أقسم الله تعالى ببداية حياة اليوم الجديد. وفسره بعض، بفجر أول يوم من محرم وبداية السنة الجديدة. وفسره آخرون، بفجر يوم عيد الأضحى، لما فيه من مراسم الحج المهمة ولإتصاله بالليالي العشرة الأولى من ذي الحجة. وقيل أيضا: إنه فجر أول شهر رمضان المبارك، أو فجر يوم الجمعة. ولكن مفهوم الآية أوسع من أن تحدد بمصداق من مصاديقها، فهي تضم كل ما ذكر. وذهب البعض إلى أوسع مما ذكر حينما قالوا: هو كل نور يشع وسط ظلام.. وعليه، فبزوغ نور الإسلام ونور المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) في ظلام عصر الجاهلية هو من مصاديق الفجر، وكذا بزوغ نور قيام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في وسط ظلام العالم (كما جاء في بعض الروايات) (1). ومن مصاديقه أيضا، ثورة الحسين (عليه السلام) في كربلاء الدامية، لشقها ظلمة ظلام بني أمية، وتعرية نظامهم الحاكم بوجهه الحقيقي أمام الناس. ويكون من مصاديقه، كل ثورة قامت أو تقوم على الكفر والجهل والظلم على
1 - راجع تفسير البرهان، ج 4، ص 457، الحديث 1. 173 مر التاريخ. وحتى انقداح أول شرارة يقظة في قلوب المذنبين المظلمة تدعوهم إلى التوبة، فهو " فجر ". ومما لا شك فيه أن المعاني هي توسعة لمفهوم الآية، أما ظاهرها فيدل على " الفجر " المعهود. والمشهور عن " ليال عشر ": إنهن ليالي أول ذي الحجة، التي تشهد أكبر اجتماع عبادي سياسي لمسلمي العالم من كافة أقطار الأرض، (وورد هذا المعنى فيما رواه جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)) (1). وقيل: ليالي أول شهر محرم الحرام. وقيل أيضا: ليالي آخر شهر رمضان، لوجود ليلة القدر فيها. والجمع بين كل ما ذكر ممكن جدا. وذكر في بعض الروايات التي تفسر باطن القرآن: إن " الفجر " هو " المهدي " المنتظر " " عجل الله تعالى فرجه الشريف ".. و " ليال عشر " هم الأئمة العشر قبله (عليهم السلام).. و " الشفع " - في الآية - هما علي وفاطمة (عليهما السلام). وعلى أية حال، فالقسم بهذه الليالي يدل على أهميتها الاستثنائية نسبة لبقية الليالي، وهذا هو شأن القسم (2)، ولا مانع من الجمع بين كل ما ذكر من معان. ويأتي القسم الثالث والقسم الرابع: والشفع والوتر. للمفسرين آراء كثيرة فيما أريد ب " الشفع والوتر " حتى ذكر بعضهم عشرين قولا (3)، فيما ذهب آخرون لذكر (36) قولا في ذلك (4).
1 - تفسير أبي الفتوح الرازي، ج 12، ص 74. 2 - جاءت " ليال عشر " بصيغة النكرة للدلالة على عظمتها وأهميتها، وإلا فهي تنطبق على كل ما ذكر أعلاه. 3 - تفسير الفخر الرازي، ج 31، ص 164. 4 - نقل ذلك كل من: العلامة الطباطبائي في الميزان عن بعض المفسرين في الجزء 20، ص 406.. وفي كتاب روح المعاني عن كتاب التحرير والتحيير، ج 30، ص 120. 174 وأهم تلك الأقوال، ما يلي: 1 - مراد الآية العددان الزوجي والفردي، فيكون القسم بجميع الأعداد، تلك الأعداد التي تدور عليها وبها كل المحاسبات والأنظمة والمغطية لجميع عالم الوجود، وكأنه سبحانه وتعالى يقول: قسما بالنظم والحساب. وحقيقة الحساب والنظم في عالم الوجود، تمثل الأسس الواقعية التي تقوم عليها الحياة الإنسانية. 2 - المراد ب " الشفع " المخلوقات، لوجود قرين لكل منها، والمراد ب " الوتر " الباري جل شأنه، لعدم وجود شبيه له ولا نظير. إضافة إلى أن الممكنات تتركب من (ماهية) و (وجود)، وهو ما يعبر عنه بالفلسفة ب (الزوج التركيبي)، أما الوجود المطلق الخالي من الماهية فهو " الله " حده، (وأشارت بعض الروايات المنقولة عن المعصومين (عليهم السلام) إلى ذلك) (1). 3 - المراد ب " الشفع والوتر " جميع المخلوقات، لأنها من جهة بعضها زوج والبعض الآخر فرد. 4 - المراد ب " الشفع والوتر " الصلاة، لأن بعضها زوجي والبعض الآخر فردي، (وورد هذا المعنى في بعض روايات أهل البيت (عليهم السلام) أيضا) (2).. أو هما ركعتي الشفع وركعة الوتر في آخر صلاة الليل. 5 - المراد ب " الشفع " يوم التروية (الثامن من شهر ذي الحجة، حيث يستعد الحجاج للوقوف على جبل عرفات)، و " الوتر " يوم عرفة (حيث يكون حجاج بيت لله الحرام في عرفات.. أو " الشفع " هو يوم عيد الأضحى (العاشر من ذي الحجة، و " الوتر " هو يوم عرفة.
1 - روي ذلك أبو سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) راجع مجمع البيان، ج 10، ص 485. 2 - المصدر السابق. 175 ووردت الإشارة إلى هذا المعنى في روايات أهل البيت (عليهم السلام) أيضا (1) والمهم.. إن الألف واللام في " الشفع والوتر " إن كانا للتعميم، فكل المعاني تجتمع فيهما، وكل معنى سيكون مصداق من مصاديق " الشفع " و " الوتر "، ولا داعي والحال هذه إلى حصر التفسير بإحدى المعاني المذكورة، بل كل منها تطبيق على مصداق بارز. أما إذا كانا للتعريف، فستكون إشارتهما إلى زوج وفرد خاصين، وفي هذه الحال سيكون تفسيران من التفاسير المذكورة أكثر من غيرهما مناسبة وقربا مع مراد الآية، وهما: الأول: المراد بهما يومي العيد وعرفة، وهذا ما يناسب ذكر الليالي العشر الأولى من شهر ذي الحجة، وفيهما تؤدى أهم فقرات مناسك الحج. الثاني: أنهما يشيران إلى " الصلاة "، بقرينة ذكر " الفجر "، وهو وقت السحر ووقت الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل. وقد ورد هذان التفسيران في روايات عن أئمة أهل البيت المعصومين (عليهم السلام). ونصل هنا، إلى القسم الخامس: والليل إذا يسر (2). فما أدق هذا التعبير وأجمله؟! فقد نسب السير إلى الليل، وذلك لأن " يسر " من (سرى) وهو السير ليلا على قول الراغب في مفرداته. وكأن الوصف يقول: بأن الليل موجود حسي، له حس وحركة، وهو يخطو في ظلمته وصولا لنور النهار. نعم، قسما بالظلام السائر نحو النور، قسما بالظلام المتحرك، لا الثابت الذي يثير الخوف والرعب في الانسان، والليل يكون ذا قيمة فيما لو كان سائرا نحو النور.
1 - المصدر السابق. 2 - " يسر ": في الأصل (يسري) من (السري)، وحذفت الياء للتخفيف، ولمناسبة الآيات السابقة. 176 وقيل: هو ظلمة الليل التي تتحرك على سطح الكرة الأرضية، والليل نافع بحركته وتناوبه مع النهار على سطح الأرض، لينعم نصفها بالسبات والنوم، وينعم النصف الآخر بالحركة والعمل تحت نور الشمس الرائع. اختلف المفسرون في مراد الآية من " الليل "، هل هو مطلق الليل أم ليلة مخصوصة، فإن كانت الألف واللام للتعميم فجميع الليالي، كآية من آيات الله ومظهر من مظاهر الحياة المهمة. وإن كانت الألف واللام للتعريف، فليلة عيد الأضحى، بلحاظ الآيات السابقة، حيث يتجه حجاج بيت الله الحرام من (عرفات) إلى (المزدلفة) - المشعر الحرام - ويقضون ليلهم في ذلك الوادي المقدس، وعند الصبح يتجهون نحو (منى). (وقد ورد في هذا روايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)) (1). والذين حضروا مثل تلك الليلة في عرفات ومشعر، قد رأوا كيف يتحرك أكثر من مليون مسلم وهم متجهون من عرفات إلى المشعر وكأن الليل بكله يتحرك وتشاطره في ذلك الأرض وكذا الزمان. وهناك يتلمس الإنسان معنى والليل إذا يسر بكل دقائقه. وعلى أية حال، فالليل سواء كان بمعناه المطلق أم المحدد فهو من آيات عظمة الخالق سبحانه وتعالى، وهو من الضرورات الحياتية في عالم الوجود. فالليل يكيف حرارة الجو، ويعم على جميع الكائنات الاستقرار والسكون بعد جهد الحركة والتنقل، وفوق هذا وذاك ففيه أفضل أوقات الدعاء والمناجات مع الله جل وعلا. وأما ليلة عيد الأضحى (ليلة الجمع) فهي من أعجب الليالي في ذلك الوادي
1 - راجع تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 571. 177 المقدس (المشعر الحرام). وتتجسد تلك العلاقة الموجودة بين الأشياء الخمس التي أقسم بها (الفجر، ليال عشر، الشفع، الوتر، الليل إذا يسر) إذا ما اعتبرناها ضمن أيام ذي الحجة ومراسم الحج العظيمة. وفي غير هذا فسيكون إشارة إلى مجموعة من حوادث عالم التكوين والتشريع المهمة، والتي تبين جلال وعظمة الخالق سبحانه وتعالى. ثم تأتي الآية التالية لتقول: هل في ذلك قسم لذي حجر. " الحجر " هنا بمعنى: العقل، وفي الأصل بمعنى (المنع)، كأن يقال: حجر القاضي فلانا، أو كأن يطلق على الغرفة (حجرة) لأنها محل محفوظ ويمنع دخوله من قبل الآخرين، وكذلك يقال للحضن (حجر) - على وزن فكر - لحفظه وإحاطته، وأطلق على العقل (حجر) لمنعه الإنسان عن الأعمال السيئة، كما أن مصطلح (العقل) هو بمعنى (المنع) أيضا، ومنه (العقال) الذي به تربط أرجل البعير ليمنعه من الحركة. ولكن... أين جواب القسم؟ ثمة احتمالان، هما: الأول: قوله تعالى: إن ربك لبالمرصاد. الثاني: جواب القسم محذوف وتدل عليه الآيات التالية، التي تتحدث عن عقاب الطغاة، والتقدير: (قسما بكل ما قلناه لنعذبن الكافرين والطغاة). * * *
178 2 الآيات ألم تر كيف فعل ربك بعاد (6) إرم ذات العماد (7) التي لم يخلق مثلها في البلد (8) وثمود الذين جابوا الصخر بالواد (9) وفرعون ذي الأوتاد (10) الذين طغوا في البلد (11) فأكثروا فيها الفساد (12) فصب عليهم ربك سوط عذاب (13) إن ربك لبالمرصاد (14) 2 التفسير 3 إمهال الظالمين.. والانتقام! بعد أن تضمنت الآيات الأولى خمسة أقسام حول معاقبة الطغاة، تأتي هذه الآيات لتعرض لنا نماذج من طواغيت الأرض من الذين توفرت لهم بعض سبل القوة والقدرة، فأهوتهم أهوائهم في قاع الغرور والكفر والطغيان، وتبين لنا الآيات المباركة ما حل بهم من عاقبة أليمة، محذرة المشركين في كل عصر ومصر على أن يرعووا ويعودوا إلى رشدهم بعد أن يعيدوا حسابهم ويستيقظوا من غفلتهم، لأنهم مهما تمتعوا بقوة وقدرة فلن يصلوا لما وصل إليه الأقوام السالفة، وينبغي الإتعاظ بعاقبتهم، وإلا فالهلاك والعذاب الأبدي ولا غير سواه. وتبتدأ الآيات ب: ألم تر كيف فعل ربك بعاد.
179 المراد " بالرؤية " هنا، العلم والمعرفة لما وصلت إليه تلك الأقوام من الشهرة بحال بحيث أصبح من جاء بعدهم يعرف عنهم الشئ الكثير وكأنه يراهم بام عينيه ولذا جاء في الآية: ألم تر. ومع أن المخاطب في الآية هو النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلا أن الخطاب موجه إلى الجميع. " عاد ": هم قوم نبي الله هود (عليه السلام)، ويذكر المؤرخون أن اسم " عاد " يطلق على قبيلتين.. قبيلة كانت في الزمن الغابر البعيد، ويسميها القرآن الكريم ب " عاد الأولى "، كما في الآية (50) من سورة النجم، (ويحتمل أنها كانت قبل التاريخ). ويحددون تاريخ القبيلة الثانية بحدود (700) سنة قبل الميلاد، وكانت تعيش في أرض الأحقاف أو اليمن. وكان أهل عاد أقوياء البنية، طوال القامة، لذا كانوا يعتبرون من المقاتلين الأشداد، هذا بالإضافة إلى ما كانوا يتمتعون به من تقدم مدني، وكانت مدنهم عامرة وقصورهم عالية وأراضيهم يعمها الخضار. وقيل: إن " عاد " هو اسم جد تلك القبيلة، وكانت تسمى القبيلة ب (عادة). ويضيف القرآن قائلا: ارم ذات العماد. اختلف المفسرون في علام يطلق اسم " إرم ". هل هو شخص أم قبيلة أم مدينة؟ ينقل الزمخشري في الكشاف عن بعضهم، قوله: إن عاد هو ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وسميت القبيلة باسم الجد وهو (إرم). ويعتقد آخرون: إن (إرم) هم " عاد الأولى "، و " عاد " هي القبيلة الثانية، يقال أيضا: إن " إرم " هو اسم مدينتهم. (1)
1 - تفسير الكشاف، ج 4، ص 747، وذكر ذلك أيضا القرطبي في تفسيره، وغيره. 180 وما يناسب الآية التالية، أن يكون (إرم) هو اسم مدينتهم. " عماد ": بمعنى العمود وجمعه " عمد " وهي على ضوء التفسير الأول، تشير إلى ضخامة أجسادهم كأعمدة البناء، وعلى ضوء التفسير الثاني تشير إلى عظمة أبنيتهم وعلو قصورهم وما فيها من أعمدة كبيرة. وعلى القولين فهي: إشارة إلى قدرة وقوة قوم عاد. (1) ولكن التفسير الثاني (أعمدة قصورهم العظيمة) أنسب. ولذا تقول الآية التالية: التي لم يخلق مثلها في البلاد. والآية تبين أن المراد ب " إرم " المدينة وليس شخص أو قبيلة، ولعل هذه الآية هي التي دعت بعض كبار المفسرين من اختيار هذا التفسير، ونراه كذلك راجحا (2). وقد ذكر بعض المفسرين قصة اكتشاف مدينة " إرم " العظيمة في صحاري شبه الجزيرة العربية وصحاري عدن، وتحدثوا بتفصيل عن رونقها وبنائها العجيب، ولكن القصة أقرب للخيال منها للواقع. وعلى أية حال، فقوم " عاد " كانوا من أقوى القبائل في حينها، ومدنهم من أرقى المدن من الناحية المدنية، وكما أشار إليها القرآن الكريم: التي لم يخلق مثلها في البلاد. وثمة قصص كثيرة عن " جنة شداد بن عاد " في كتب التاريخ، حتى أنها أصبحت مضربا للأمثال لما شاع عنها بين الناس وعلى مر العصور، إلا أن ما ورد بين متون كتب التاريخ لا يخرج عن إطار الأساطير التي لا واقع لها. وتذكر الآية التالية جمع آخر من الطغاة السابقين: وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وصنعوا منها البيوت والقصور.
1 - وعلى ضوء التفسير الأول يكون التعبير ب " ذات " لأن الطائفة والقبيلة مؤنث لفظي. 2 - " إرم " ممنوع من الصرف، لذا فقد نصب في حالة الجر. 181 " ثمود ": من أقدم الأقوام، ونبيهم صالح (عليه السلام)، وكانوا يعيشون في (وادي القرى) بين المدينة والشام، وكانوا يعيشون حياة مرفهة، ومدنهم عامرة. وقيل: " ثمود " اسم جد القبيلة، وقد سميت به (1). " جابوا ": من (الجوبة) - على زنة توبة - وهي الأرض المقطوعة، ثم استعملت في قطع كل أرض، وجواب كلام، هو ما يقطع الهواء فيصل من فم القائل إلى سمع المستمع، (أو لأنه يقطع السؤال وينهيه). وعلى أية حال، فمراد الآية: قطع أجزاء الجبال وبناء البيوت القوية، كما أشارت إلى ذلك الآية (82) من سورة الحجر - حول ثمود أنفسهم -: وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين، والآية (149) من سورة الشعراء، والتي جاء فيها:... بيوتا فارهين. وقيل: قوم ثمود أول من قطع الأحجار من الجبال، وصنع البيوت المحكمة في قلبها. " واد ": في الأصل (وادي)، وهو الموضع الذي يجري فيه النهر، ومنه سمي المفرج بين الجبلين واديا، لأن الماء يسيل فيه. والمعنى الثاني أكثر مناسبة بقرينة ما ورد في القرآن من آيات تتحدث عن هؤلاء القوم، وما ذكرناه آنفا يظهر بأنهم كانوا ينحتون بيوتهم في سفوح الجبال (2). وروي: إن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما وصل إلى وادي ثمود - شمال الجزيرة العربية - في طريقه إلى تبوك، قال وهو راكب على فرسه: " أسرعوا، فهي أرض ملعونة " (3).
1 - " ثمود ": من (الثمد)، وهو الماء القليل الذي لا مادة له، والمثمود: إذا كثر عليه السؤال حتى فقد مادة ما له، ويقال أنها كلمة أعجمية (مفردات الراغب). 2 - الباء في " الواد ": تعطي معنى الظرفية. 3 - روح البيان، ج 10، ص 425 (ما مضمونه). 182 مما لا شك فيه أن ثمود قوم قد وصلوا إلى أعلى درجات التمدن في زمانهم، ولكن ما يذكر عنهم في بعض كتب التفسير، يبدو وكأنه مبالغ فيه أو أسطورة، كأن يقولوا: إنهم بنوا ألفا وسبعمائة مدينة من الحجر! وتتعرض الآية التالية لقوم ثالث: وفرعون ذي الأوتاد. أي: ألم تر ما فعل ربك بفرعون الظالم المقتدر؟! " أوتاد ": جمع (وتد)، وهو ما يثبت به. ولم وصف فرعون بذي الأوتاد؟ وثمة تفاسير مختلفة: الأول: لأنه كان يملك جنودا وكتائبا كثيرة، وكانوا يعيشون في الخيم المثبتة بالأوتاد. الثاني: لما كان يستعمل من أساليب تعذيب من يغضب عليهم، حيث غالبا ما كان يدق على أيديهم وأرجلهم بأوتاد ليثبتها على الأرض، أو يضعهم على خشبة ويثبتهم بالأوتاد، أو يدخل الأوتاد في أيديهم وأرجلهم ويتركهم هكذا حتى يموتوا. وورد هذا الكلام في رواية نقلت عن الإمام الصادق (عليه السلام) (1). وتنقل كتب التاريخ إنه قد عذب زوجته " آسية " بتلك الطريقة البشعة حتى الموت، لأنها آمنت بما جاء به موسى (عليه السلام) وصدقت به. الثالث: " ذي الأوتاد ": كناية عن قدرة واستقرار الحكم. ولا تنافي فيما بين التفاسير الثلاثة، ويمكن إدخالها جميعها في معنى الآية. وينتقل القرآن العرض ما كانوا يقومون به من أعمال: الذين طغوا في البلاد.. فأكثروا فيها الفساد
1 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 571، الحديث (6)، كما نقله عن علل الشرائع. 183 الفساد الذي يشمل كل أنواع الظلم والاعتداء والانحراف، والذي هو نتيجة طبيعية من نتائج طغيانهم، فكل من يطغى سيؤول أمره إلى الفساد لا محال. ويذكر عقابهم الأليم وبعبارة موجزة: فصب عليهم ربك سوط عذاب " السوط ": هو الجلد المضفور الذي يضرب به، وأصل السوط: خلط الشئ بعضه ببعض، وهو هنا كناية عن العذاب، العذاب الذي يخلط لحم الإنسان بدمه فيؤذيه أشد الإيذاء. وجاء في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الامتحان: " والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة ولتغربلن غربلة ولتساطن سوط القدر ". (1) " صب عليهم ": تستعمل في الأصل لانسكاب الماء، وهنا إشارة إلى شدة واستمرار نزول العذاب، ويمكن أن يكون إشارة لتطهير الأرض من هؤلاء الطغاة أما أنسب معاني " السوط " فهو المعروف بين الناس به. فعلى إيجاز الآية، لكنها تشير إلى أنواع العذاب الذي أصابهم، فعاد أصيبوا بريح باردة، كما تقول الآية (6) من سورة الحاقة: وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية، وأهلك قوم ثمود بصيحة سماوية عظيمة، كما جاء في الآية (5) من سورة الحاقة أيضا: فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية، والآية (55) من سورة الزخرف تنقل صورة هلاك قوم فرعون: فأغرقناهم أجمعين. وتحذر الآية التالية كل من سار على خطو أولئك الطواغيت: إن ربك لبالمرصاد. " المرصاد ": من (الرصد)، وهو الاستعداد للترقب، وهو في الآية يشير إلى عدم وجود أي ملجأ أو مهرب من رقابة الله وقبضته، فمتى شاء سبحانه أخذ المذنبين بالعقاب والعذاب.
1 - نهج البلاغة، الخطبة 16. 184 وبديهي، أن التعبير لا يعني أن الله تعالى له مكان وكمين يرصد فيه الطواغيت، بل كناية عن إحاطة القدرة الإلهية بكل الجبارين والطغاة والمجرمين، وسبحانه وتعالى عن التجسيم وما شابه. وقد ورد في معنى الآية عن الإمام علي (عليه السلام) قوله: " إن ربك قادر على أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم " (1). وعن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنه قال: " المرصاد قنطرة على الصراط، لا يجوزها عبد بمظلمة عبد " (2). وهذا مصداق جلي للآية، حيث أن المرصاد الإلهي لا ينحصر بيوم القيامة والصراط، بل هو تعالى بالمرصاد لكل ظالم حتى في هذه الدنيا، وما عذاب تلك الأقوام الآنفة الذكر إلا دليل واضح على هذا. " ربك ": إشارة إلى أن هذه السنة الإلهية لم تقف عند حد الذين خلوا من الأقوام السالفة، بل هي سارية حتى على الظالمين من أمتك يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).. وفي ذلك تسلية لقلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتطمينا لقلوب المؤمنين، فالوعد الإلهي قد أكد على عدم انفلات الأعداء المعاندين من قبضة القدرة الإلهية أبدا أبدا، وفيه تحذير أيضا لأولئك الذين يؤذون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويظلمون المؤمنين، تحذير بالكف عن ممارساتهم تلك وإلا سيصيبهم ما أصاب الأكثر منهم قدرة وقوة، وعندها فسوف لن تقوم لهم قائمة إذا ما أتتهم ريح عاصفة أو صيحة مرعبة أو سيل جارف يقطع دابرهم. روي عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنه قال: " أخبرني الروح الأمين أن الله لا إله غيره إذا وقف الخلائق وجميع الأولين والآخرين، أتى بجهنم ثم يوضع عليها صراط أدق من الشعر وأحد من السيف، عليه ثلاث قناطر... الأولى: الأمانة
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 487. 2 - المصدر السابق. 185 والرحم، والثانية: عليها الصلاة، والثالثة: عليها عدل رب العالمين لا إله غيره، فيكلفون الممر عليها، فتحبسهم الرحم والأمانة، فإن نجوا منها حبستهم الصلاة، فإن نجوا منها كان المنتهى إلى رب العالمين جل ذكره، وهو قول الله تبارك وتعالى: إن ربك لبالمرصاد (1). وعن الإمام علي (عليه السلام): " ولئن أمهل الله الظالم فلن يفوت أخذه، وهو له بالمرصاد، على مجاز طريقه، وبموضع الشجى من مساغ ريقه ". (2) * * *
1 - نور الثقلين، ج 5، ص 573، عن روضة الكافي الحديث 486، اقتباس. 2 - نهج البلاغة، الخطبة 97. 186 2 الآيات فأما الإنسان إذا ما ابتله ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربى أكرمن (15) وأما إذا ما ابتله فقدر عليه رزقه فيقول ربى أهانن (16) كلا بل لا تكرمون اليتيم (17) ولا تحضون على طعام المسكين (18) وتأكلون التراث أكلا لما (19) وتحبون المال حبا جما (20) 2 التفسير 3 موقف الإنسان من تحصيل النعمة وسلبها! بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن عقاب الطغاة، وتحذيرهم وإنذارهم، تأتي هذه الآيات لتبين مسألة الابتلاء والتمحيص وأثرها على الثواب والعقاب الإلهي، وتعتبر مسألة الابتلاء من المسائل المهمة في حياة الإنسان. وتشرع الآيات ب: فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن. وكأنه لا يدري بأن الابتلاء سنة ربانية تارة يأتي بصورة اليسر والرخاء
187 واخرى بالعسر والضراء. فلا ينبغي للإنسان أن يغتر عند الرخاء، ولا أن ييأس عندما تصيبه عسرة الضراء، ولا ينبغي له أن ينسى هدف وجوده في الحالتين، وعليه أن لا يتصور بأن الدنيا إذا ما أرخت نعمها عليه فهو قد أصبح مقربا من الله، بل لابد أن يفهمها جيدا ويؤدي حقوقها، وإلا فسيفشل في الامتحان. ومن الجدير بالملاحظة، أن الآية ابتدأت بالحديث عن إكرام الله تعالى للإنسان " فأكرمه ونعمه "، في حين تلومه على اعتقاده بهذا الإكرام في آخرها: فيقول ربي أكرمن، وذلك.. لأن الإكرام الأول هو الإكرام الطبيعي، والإكرام الثاني بمعنى القرب عند الله تعالى. وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن. فيأخذه اليأس، ويظن إن الله قد ابتعد عنه، غافلا عن سنة الابتلاء في عملية التربية الربانية لبني آدم، والتي تعتبر رمزا للتكامل الإنساني، فمن خلال نظرة ومعايشة الإنسان للإبتلاء يرسم بيده لوحة عاقبته، فأما النعيم الدائم، وأما العقاب الخالد. وتوضح الآيتان بأن حالة اليسر في الدنيا ليست دليل قرب الله من ذلك الإنسان، وكذا الحال بالنسبة لحالة العسر فلا تعني بعد الله عن عبده، وكل ما في الأمر أن الحالتين صورتان مختلفتان للامتحان الذي قررته الحكمة الإلهية، ليس إلا. وتأتي الآية (51) من سورة فصلت في سياق الآيتين: وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض. وكذا الآية (9) من سورة هود: ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة منا ثم نزعناها منه إنه ليؤس كفور. وتنبهنا الآيتان أيضا، بأن لا نقع في خطأ التشخيص، فنحكم على فلان بأن
188 الله راضي عنه لأنه يفعم بالنعم الإلهية، وأن فلان قد سخط عليه الله لأنه محروم من نعم كثيرة، ولابد لنا من الرجوع إلى المعايير الثابتة عند القيام بعملية التشخيص والتقييم، فالعلم والإيمان والتقوى هي أسس التقييم، وليس ظاهر التمتع بحالة السراء.. فما أكثر الأنبياء الذين تناوشتهم أنياب البلايا والمصائب، وما أكثر الكافرين والطغاة الذين تنعموا بمختلف ملاذ الدنيا، إنها من سنن طبيعة الحياة الدنيا، ولكن.. أين الأنبياء من الكافرين و.. عقبى الدار؟! فالآية إذن، تشير إلى فلسفة البلاء، وما يصيب الإنسان من محن وإحن في دنياه. وتوجه الآيتان التاليتان نظر إلى الإنسان والأعمال التي تؤدي بحق للبعد عن الله، وتوجب عقابه: كلا فليس الأمر كما تظنون من أن أموالكم دليل على قربكم من الله، لأن أعمالكم تشهد ببعدكم عنه، بل لا تكرمون اليتيم.. ولا تحاضون على طعام المسكين. والملاحظ أن الآية لم تخص اليتيم بالإطعام بل بالإكرام، لأن الوضع النفسي والعاطفي لليتيم أهم بكثير من مسألة جوعه. فلا ينبغي لليتيم أن يعيش حالة الإنكسار والذلة بفقدان أبيه، وينبغي الاعتناء به وإكرامه لسد الثغرة التي تسببت برحيل أبيه، وقد أولت الأحاديث الشريفة والروايات هذا الجانب أهمية خاصة، وأكدت على ضرورة رعاية وإكرام اليتيم. فعن الإمام الصادق (عليه السلام)، إنه قال: " ما من عبد يمسح يده على رأس يتيم رحمة له إلا أعطاه الله بكل شعرة نورا يوم القيامة " (1). وتقول الآية (9) من سورة الضحى: فأما اليتيم فلا تقهر.
1 - بحار الأنوار، ج 15، ص 120 (الطبعة القديمة). 189 وهذه الدعوة الربانية تقابل ما كان سائدا في عصور الجاهلية، كيف وكانوا يتعاملون مع اليتامى، ولا تنفصل جاهلية اليوم عن تلك الجاهلية، فنرى من لم يدخل الإيمان قلبه، كيف يتوسل بمختلف الحيل والألاعيب لسرقة أموال اليتامى، والأشد من هذا فإنهم يتركون اليتامى جانبا بلا اهتمام ولا رعاية ليعيشوا غم فقدان الآباء وبأشد صورة! فإكرام اليتيم لا ينحصر بحفظ أموالهم - كما يقول البعض - بل يشمل حفظ الأموال وغيرها. " تحاضون ": من (الحض)، وهو الترغيب، فلا يكفي إطعام المسكين بل يجب على الناس أن يتواصوا ويحث بعضهم البعض الآخر على ذلك لتعم هذه السنة التربوية كل المجتمع (1). وقد قرنت الآية (34) من سورة الحاقة عدم الإكرام بعدم الإيمان بالله عز وجل: إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين (2). وتعرض الآية التالية ثالث أعمالهم القبيحة: وتأكلون التراث أكلا لما (3). مما لا شك فيه أن الاستفادة من الميراث المشروع عمل غير مذموم، ولذا فيمكن أن يكون المذموم في الآية أحد الأمور التالية: الأول: الجمع بين حق الإنسان وحق الآخرين في الميراث، لأن كلمة " لم " بمعنى الجمع، وفسرها الزمخشري في الكشاف بمعنى الجمع بين الحلال والحرام. وكانت عادة العرب في الجاهلية أن يحرموا النساء والأطفال من الإرث لاعتقادهم بأنه نصيب المقاتلين (لأن أكثر أموالهم تأتيهم عن طريق السلب والإغارة).
1 - " تخاضون ": في الأصل (تتحاضون)، وحذفت إحدى التائين للتخفيف. 2 - " طعام ": هو في الآية ذو معنى مصدري أي: (إطعام). 3 - " لم ": بمعنى الجمع، وتأتي بمعنى الجمع مع الإصلاح أيضا. 190 الثاني: عدم الإنفاق من الإرث على المحرومين والفقراء من الأقرباء وغيرهم، فإن كنتم تبخلون بهذه الأموال التي وصلت إليكم بلا عناء، فأنتم أبخل فيما تكدون في تحصيله، وهذا عيب كبير فيكم. الثالث: هو أكل إرث اليتامى والتجاوز على حقوق الصغار، وذلك من أقبح الذنوب، لأن فيه استغلال فاحش لحق من لا يستطيع الدفاع عن نفسه. والجمع بين هذه التفاسير الثلاث ممكن (1). ثم يأتي الذم الرابع: وتحبون المال حبا جما (2). فأنتم.. عبدة دنيا، طالبي ثروة، عشاق مال ومتاع.. ومن يكون بهذه الحال فمن الطبيعي أن لا يعتني في جمعه للمال، أكان من حلال أم من حرام، ومن الطبيعي أيضا أن يتجاوز على الحقوق الشرعية المترتبة عليه، بأن لا ينفقها أو ينقص منها.. ومن الطبيعي كذلك إن القلب الذي امتلأ بحب المال والدنيا سوف لا يبقى فيه محل لذكر الله عز وجل. ولذا نجد القرآن الكريم بعد ذكره لمسألة امتحان الإنسان، يتعرض لأربعة اختبارات يفشل فيها المجرمين. إكرام اليتيم. إطعام المسكين. أسهم الإرث. وجمعه من طريق مشروع وغير مشروع. وجمع المال بدون قيد أو شرط. والملاحظ أن الاختبارات المذكورة إنما تدور حول محور الأموال، للإشارة ما للمال من مطبات مهلكة، ولو تجاوزها الإنسان لسهلت عليه بقية العقبات في
1 - " تراث ": في الأصل (وراث)، ثم أبدلت الواو تاء. 2 - " الجم ": بمعنى الكثير، كما جاء في (مصباح اللغة)، و (المقاييس)، و (الجمة) الشعر المتجمع في مقدمة الرأس. 191 طريقه نحو التكامل والرقي والسمو. وثمة من يكون متذبذبا في الأمانة (بين أن يؤدي أو يخون)، وهكذا إنسان غالبا ما تصرعه وساوس الشيطان وترميه في جانب الخيانة.. أما أولئك الصادقون في إيمانهم فهم الامناء حقا في الرعاية والإهتمام لأداء الحقوق الواجبة والمستحبة للآخرين، ولا تراهم يتهاونون بأدنى درجات التهاون، ومثلهم هو الذي يتمكن من صعود سلم الرفعة والسمو على طريق الإيمان والتقوى. والخلاصة: من تجاوز اختبار المال بنجاح، فهو أهل للاعتماد، ومن أهل التقوى والورع، وهو خير أخ وصديق، وغالبا ما تراه صالحا في كافة مجالات حياته والمجتمع. ولذلك، نرى الاختبارات هنا دارت حول محور المال. * * *
192 2 الآيات كلا إذا دكت الأرض دكا دكا (21) وجاء ربك والملك صفا صفا (22) وجئ يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى (23) يقول يا ليتني قدمت لحياتي (24) فيومئذ لا يعذب عذابه أحد (25) ولا يوثق وثاقه أحد (26) 2 التفسير 3 يوم لا تنفع الذكرى! بعد أن ذمت الآيات السابقة الطغاة وعبدة الدنيا والغاصبين لحقوق الآخرين، تأتي هذه الآيات لتحذرهم وتهددهم بوجود القيامة والحساب والجزاء. فتقول أولا: " كلا " (فليس الأمر كما تعتقدون بأن لا حساب ولا جزاء، وأن الله قد أعطاكم المال تكريما وليس امتحانا).. إذا دكت الأرض دكا دكا. " الدك ": الأرض اللينة السهلة، ثم استعملت في تسوية الأرض من الارتفاعات والتعرجات، و (الدكان): المحل السوي الخالي من الارتفاعات و (الدكة): المكان السوي المهئ للجلوس.
193 وجاء تكرار " دكا " في الآية للتأكيد. وعموما، فالآية تشير إلى الزلازل والحوادث المرعبة التي تعلن عن نهاية الدنيا وبداية يوم القيامة، حيث تتلاشي الجبال وتستوي الأرض، كما أشارت لذلك الآيات (106 - 108) من سورة طه: ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا. وبعد أن ينتهي مرحلة القيامة الأولى (مرحلة الدمار)، تأتي المرحلة الثانية، حيث يعود الناس ثانية للحياة ليحضروا في ساحة العدل الإلهي: وجاء ربك والملك صفا صفا. نعم، فسيقف الجميع في ذلك المحشر لإجراء الأمر الإلهي وتحقيق العدالة الربانية، وقد بينت لنا الآيات ما لعظمة ذلك اليوم، وكيف أن الإنسان لا سبيل له حينها إلا الرضوخ التام بين قبضة العدل الإلهي. وجاء ربك: كناية عن حضور الأمر الإلهي لمحاسبة الخلائق، أو أن المراد: ظهور آيات عظمة الله سبحانه وتعالى، أو ظهور معرفة الله عز وجل في ذلك اليوم، بشكل بحيث لا يمكن لأي كان إنكاره، وكأن الجميع ينظرون إليه بام أعينهم. وبلا شك، إن حضور الله بمعناه الحقيقي المستلزم للتجسيم والتحديد بالمكان، هذا المعنى ليس هو المراد، لأن سبحانه وتعالى مبرأ من الجسمية وخواص الجسمية (1). وقد ورد هذا المعنى في كلام للإمام علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) (2). كما وتؤيد الآية (33) من سورة النحل هذا التفسير بقولها: هل ينظرون إلا
1 - يقول الفخر الرازي في تفسيره: إن في الآية محذوف، تقديره (أمر) أو (قهر) أو (جلائل آيات) أو (ظهور ومعرفة).. وظهرت هذه التقديرات في كتب غيره من المفسرين أيضا، وخصوصا التقدير الأول. 2 - راجع تفسير الميزان، ج 20، ص 416. 194 أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك. صفا صفا: إشارة إلى ورود الملائكة عرصة يوم القيامة على هيئة صفوف، ويحتمل تعلق الصفوف بكل السماوات. وتقول الآية التالية: وجئ يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى. وما نستنبطه من الآية، إن جهنم قابلة للحركة، فتقرب للمجرمين، كما هو حال حركة الجنة للمتقين: وأزلفت الجنة للمتقين (1). وثمة من يعطي للآية معنى مجازيا، ويعتبرها كناية عن ظهور الجنة والنار أمام أعين المحسنين والمسيئين. ولكن، لا دليل على الأخذ بخلاف الظاهر، ومن الأفضل التعامل مع ظاهر الآية، لأن حقائق عالم القيامة لا يمكن فهمها وتصورها بشكل دقيق لمحدودية عالمنا أمام ذلك العالم من جهة؟ ولاختلاف القوانين والسنن التي تحكم ذلك العالم من جهة أخرى.. ثم، ما المانع في تحرك كل من الجنة والنار في ذلك اليوم؟ وروي: لما نزلت هذه الآية، تغير وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعرف في وجهه حتى اشتد على أصحابه ما رأوا من حاله، وانطلق بعضهم إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقالوا: يا علي لقد حدث أمر قد رأيناه في نبي الله، فجاء علي (عليه السلام) فاحتضنه ثم قال: " يا نبي الله بأبي أنت وأمي، ما الذي حدث اليوم؟ ". قال: " جاء جبرائيل (عليه السلام) فأقرأني وجئ يومئذ بجهنم. قال: فقلت: كيف يجاء بهم؟ قال: يجئ بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام، فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع، ثم أتعرض لجهنم، فتقول: ما لي ولك يا محمد، فقد
1 - سورة الشعراء، الآية 90. 195 حرم الله لحمك علي، فلا يبقى أحد إلا قال: نفسي نفسي، وإن محمدا يقول: رب أمتي أمتي ". (1) نعم، فحينما يرى المذنب كل تلك الحوادث تهتز فرائصه ويتزلزل رعبا، فيستيقظ من غفلته ويعيش حالة الهم والغم، ويتحسر على كل لحظة مرت من حياته بعدما يرى ما قدمت يداه، ولكن. هل للحسرة حينها من فائدة؟! وكم سيتمنى المذنب لو تسنح له الفرصة ثانية للرجوع إلى الدنيا وإصلاح ما أفسد، ولكنه سيرى أبواب العودة مغلقة، ولا من مخرج!... ويود التوبة.. وهل للتوبة من معنى بعد غلق أبوابها؟! ويريد أن يعمل صالحا.. ولكن أين؟ فقد طويت صحائف الأعمال، ويومها يوم حساب بلا عمل!... وعندها.. بملأ يصرخ كيانه: يقول يا ليتني قدمت لحياتي. وفي قولته نكتة لطيفة، فهو لا يقول قدمت لآخرتي بل " لحياتي "، وكأن المعنى الحقيقي للحياة لا يتجسد إلا في الآخرة. كما أشارت لهذه الآية (64) من سورة العنكبوت: وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون. نعم، ففي دنياهم: يسرقون أموال اليتامى، لم يطعموا المساكين، يأخذون من الإرث أكثر مما يستحقون ويحبون المال حبا جما. وفي أخراهم، يقول كل منهم: يا ليتني قدمت لحياتي الحقيقية الباقية.. ولكن التمني ليس أكثر من رأس مال المفلسين. وتشير الآية التالية إلى شدة العذاب الإلهي: فيومئذ لا يعذب عذابه أحد.
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 483، وعنه الميزان، ج 20، ص 415، ومثله في تفسير الدر المنثور. 196 نعم، فمن استخدم في دنياه كل قدرته في ارتكاب أسوء الجرائم والذنوب، فلا يجني في آخرته إلا أشد العذاب... فيما سينعم المحسنون والصالحون في أحسن الثواب، ويخلدون بحال ما لا عين رأت ولا اذن سمعت، فالله " أرحم الراحمين " لمن أخلص النية وعمل، و " أشد المعاقبين " لمن تجاوز حدود هدف خلقه. وتكمل الآية التالية تصوير شدة العذاب: ولا يوثق وثاقه أحد. فوثاقه ليس كوثاق الآخرين، وعذابه كذلك، كل ذلك بما كسبت يداه حينما أوثق المظلومين في الدنيا بأشد الوثاق، ومارس معهم التعذيب بكل وحشية، متجرد عن كل ما وهبه الله من إنسانية. * * *
197 2 الآيات يا أيتها النفس المطمئنة (27) ارجعي إلى ربك راضية مرضية (28) فادخلي في عبدي (29) وادخلي جنتي (30) 2 التفسير 3 الشرف العظيم: وتنتقل السورة في آخر مطافها إلى تلك النفوس المطمئنة ثقة بالله وبهدف الخلق، بالرغم من معايشتها في خضم صخب الحياة الدنيا، فتخاطبهم بكل لطف ولين ومحبة، حيث تقول: يا أيتها النفس المطمئنة.. ارجعي إلى ربك راضية مرضية.. فادخلي في عبادي.. وادخلي جنتي. فهل ثمة أجمل وألطف من هذا التعبير!... تعبير يحكي دعوة الله سبحانه وتعالى لتلك النفوس المؤمنة، المخلصة، المحبة والواثقة بوعده جل شأنه.. دعوتها لتعود إلى ربها ومالكها ومصلحها الحقيقي.... دعوة مفعمة برضا الطرفين، رضا العاشق على معشوقه، ورضا المعشوق على عاشقه....
198 وتتوج تلك النفوس الطاهرة بتاج العبودية، لتدخل في صف المقربين عند الله، ولتحصل على إذن دخول جنان الخلد، وما قوله تعالى: " جنتي " إلا للإشارة إلى أن المضيف هو الله جل جلاله... فما أروعها من دعوة! وما أعظمه وأكرمه من داع! وما أسعده من مدعو! ويراد بالنفس هنا: الروح الإنسانية. " المطمئنة ": إشارة إلى الاطمئنان الحاصل من الإيمان، بدلالة الآية (28) من سورة الرعد: ألا بذكر الله تطمئن القلوب. ويعود اطمئنان النفس، لاطمئنانها بالوعود الإلهية من جهة، ولاطمئنانها لما اختارت من طريق.. وهي مطمئنة في الدنيا سواء أقبلت عليها أم أدبرت، ومطمئنة عند أهوال حوادث يوم القيامة الرهيبة أيضا. أما (الرجوع إلى الله)، فهو - على قول جمع من المفسرين - رجوع إلى ثوابه ورحمته.. ولكن الأنسب أن يقال: إنه رجوع إليه جل وعلا، رجوع إلى جواره وقربه بمعناها الروحي المعنوي، وليست بمعناها المكاني والجسماني. وثمة سؤال يرد إلى الذهن.. متى ستكون دعوته المباركة، هل ستكون بعد مفارقة الروح البدن، أم في يوم القيامة؟؟ لو أخذنا بظاهر الآيات المباركة، فسياقها يرتبط بالقيامة، وإن كان تعبير الآية ذو شمولية. " راضية ": لما ترى من تحقق الوعود الإلهية بالثواب والنعيم بأكثر مما كانت تتصور، وشمول العبد برحمة وفضل الله سيدخل في قلبه الرضا بكل ما يحمل الرضا من معان وأكثر. " مرضية ": لرضا الله تبارك وتعالى عنها.
199 فعبد بما ذكر من أوصاف، بلا شك مكانه الجنة، وذلك لأنه عمل بكل ما يملك في سبيل رضوان معبوده الأحد الصمد، ووصل في عمله لمقام الرضا التام والتسليم الكامل لخالقه تبارك وتعالى، حتى نال وسام حقيقة العبودية، ودخل طائعا وواثقا في صف عباد الله الصالحين.. وقد خص بعض المفسرين سبب نزول هذه الآيات في (حمزة سيد الشهداء)، ولكن بلحاظ كون السورة مكية، فيمكن اعتبار ذلك أحد تطبيقات (مصاديق) الآيات وليس شأنا للنزول، كما هو الحال في ما ذكرنا في أول السورة بشأن الإمام الحسين (عليه السلام). روي أن أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) قد سأله قائلا: جعلت فداك يا ابن رسول الله، هل يكره المؤمن على قبض روحه؟ قال: " لا والله، إنه إذا أتاه ملك الموت لقبض روحه جزع عند ذلك، فيقول له ملك الموت: يا ولي الله، لا تجزع، فوالذي بعث محمدا لأنا أبر بك وأشفق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينيك فانظر، قال: ويمثل له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ذريتهم (عليهم السلام)، فيقال له: هذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة (عليهم السلام) رفقاؤك، قال: فيفتح عينيه فينظر، فينادي روحه مناد من قبل رب العزة فيقول: " يا أيتها النفس المطمئنة (إلى محمد وأهل بيته) ارجعي إلى ربك راضية (بالولاية) مرضية (بالثواب) فادخلي في عبادي (يعني محمدا وأهل بيته) وادخلي جنتي "، فما شئ أحب إليه من استلال روحه واللحوق بالمنادي " (1). اللهم! اجعل نفوسنا مطمئنة ليشملنا خطابك الكريم.. اللهم! ولا ينال ذلك إلا بلطفك، فاغمرنا به..
1 - الكافي، ج 3، ص 127، باب إن المؤمن لا يكره على قبض روحه، الحديث 2. 200 اللهم! من علينا بكرمك الذي لا ينفد، واجعلنا من النفوس المطمئنة.. اللهم! لا يكون الاطمئنان إلا بذكرك، فوفقنا إليه بفضلك.. آمين يا رب العالمين نهاية سورة الفجر * * *
201 1 سورة 1 البلد 1 مكية 1 وعدد آياتها عشرون آية
202 1 " سورة البلد " 3 محتوى السورة: هذه السورة المباركة على قصرها تحمل حقائق كبرى: 1 - في بداية هذه السورة، بعد قسم ذي محتوى عميق، تقرر الآية أن حياة الإنسان في هذه الدنيا مقرونة بمشاكل وأتعاب، وبذلك تعد الإنسان من جهة ليصارع العقبات، ومن جهة أخرى تبعده عن طلب الراحة المطلقة في هذا العالم، فالراحة المطلقة والنعيم المطلق في الحياة الآخرة لا غيرها. 2 - في مقطع آخر من هذه السورة، إشارة إلى أهم النعم الإلهية، ثم ذكر جحود الإنسان بهذه النعم. 3 - وفي آخر هذه السورة تقسيم الناس إلى: " أصحاب الميمنة " و " أصحاب المشئمة "، ثم يأتي ذكر جانب من أعمال المجموعة الأولى وصفاتها (المجموعة المؤمنة الصالحة) وما ينتظرها من جزاء، ثم المجموعة الثانية، (وهي الكافرة المجرمة) وما تواجهه من مصير. عبارات السورة قاطعة قارعة، والجمل قصيرة ذات إيقاع قوي، والألفاظ واضحة مؤثرة معبرة، وشكل آياتها تدل على أنها مكية. 3 فضيلة السورة: روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من قرأها أعطاه الله الأمن من غضبه يوم
204 القيامة " (1). وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: " من كان قراءته في فريضته " لا أقسم بهذا البلد " كان في الدنيا معروفا أنه من الصالحين، وكان في الآخرة معروفا أن له من الله مكانا، وكان يوم القيامة من رفقاء النبيين والشهداء والصالحين " (2). * * *
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 490. 2 - ثواب الأعمال، نقلا عن نور الثقلين، ج 5، ص 578. 205 2 الآيات لا أقسم بهذا البلد (1) وأنت حل بهذا البلد (2) ووالد وما ولد (3) لقد خلقنا الإنسان في كبد (4) أيحسب أن لن يقدر عليه أحد (5) يقول أهلكت مالا لبدا (6) أيحسب أن لم يره أحد (7) 2 التفسير 3 لا أقسم بهذا البلد (1) في مواضع كثيرة يبدأ القرآن بالقسم عند تعرضه للحقائق الهامة... بالقسم الذي يؤدي بدوره إلى حركة في الفكر والعقل.. بالقسم المرتبط ارتباطا خاصا بالموضوع المطروح. وفي هذا الموضع تبدأ الآية بالقسم: قسما بهذه المدينة المقدسة مكة: لا أقسم بهذا البلد لتقرر حقيقة من حقائق حياة الإنسان، هي إن هذه الحياة
1 - (لا): زائد للتأكيد، وقيل إنها نافية (لمزيد من التوضيح راجع مطلع سورة القيامة). 206 مقرونة بالآلام والأسقام. وأنت حل بهذا البلد لم يرد ذكر " مكة " في الآية صريحا، لكن الدلالات تشير إلى أن المقصود بالبلد مكة، فالسورة مكية، وأهمية هذه المدينة المقدسة لا تبلغها مدينة، والمفسرون مجمعون على ذلك. أرض مكة مشرفة ومعظمة، لأن فيها أول مركز للتوحيد ولعبادة الله سبحانه، وكان هذا المركز مطاف أنبياء الله العظام... ولذلك أقسم الله بها... ولكن السورة تشير إلى عامل آخر أضفى على هذه المدينة شرفا وكرامة: وأنت حل بهذا البلد... فالبلد استحق أن يقسم به الله لوجودك أنت أيها النبي الكريم فيه! فلا يتصورن كفار مكة أن القرآن يقسم ببلدهم تكريما لهم ولأوثانهم، لا فهذا البلد مكرم لما يحمله من تاريخ الرسالات السماوية.. ولما يحتضنه من رسالة خاتمة، ونبي خاتم. وفي الآية تفسير آخر يعتبر (لا) في الآية السابقة نافية ويكون المعنى: " لا أقسم بهذا البلد المقدس حال كون حرمته قد هتكت والأنفس والأموال والأعراض فيه قد أحلت وأبيحت ". ويكون ذلك - على هذا التفسير - توبيخا وتقريعا لكفار قريش وهم الذين يعتبرون أنفسهم خدمة الحرم وسدنته، ويكنون له احتراما يفوق كل احترام حتى أن الرجل منهم يرى قاتل أبيه فيه فلا يتعرض له... بل حتى قيل إن الرجل يحمل معه شيئا من لحاء أشجار مكة فلا يتعرض له أحد. فلماذا إذن لم تراعوا هذه الآداب والتقاليد في حق النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! لماذا تماديتم في إيذائه وإيذاء صحابته، حتى سولت لكم أنفسكم استباحة دمه؟! وقد ورد هذا التفسير في حديث عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)
207 أيضا (1). ووالد وما ولد للمفسرين آراء عديدة عن المقصود بالوالد والولد في الآية. قيل: إن الوالد إبراهيم الخليل والولد إسماعيل الذبيح. والتفسير هذا يتناسب مع القسم بمكة... ونعلم أن إبراهيم وابنه رفعا القواعد من البيت، وبذلك وضعا حجر أساس البلد الأمين. والعرب في الجاهلية كانوا يجلون إبراهيم وابنه ويفخرون في الانتساب إليهما. وقيل: إن المقصود بالوالد والولد آدم وذريته. وقيل: آدم والأنبياء من ذريته. وقيل: كل والد وما ولد. متوالي الأجيال. وتعاقبها بالولادة من أعجب بدائع الكون، ولذلك خصها الله تعالى بالقسم ولا يستبعد الجمع بين هذه التفاسير وإن كان الأول أنسب. لقد خلقنا الإنسان في كبد. وهذا هو الهدف النهائي للقسم " الكبد " كما يقول الطبرسي في مجمع البيان في الأصل بمعنى " الشدة " ولذا يقال للبن إذا استغلظ " تكبد اللبن " ولكن كما يقول الراغب في مفرداته أن " كبد " ألم يصيب الكبد، ثم اطلق على كل ألم ومشقة. نعم... الإنسان يمر في دورة حياته بمراحل كلها مشوبة بالألم ومقرونة بالعناء. منذ أن يستقر نطفة في رحم امه حتى ولادته، ثم بعد ولادته في مراحل طفولته وشبابه وشيخوخته يعاني من ألوان والمشاق والآلام، هذه طبيعة الحياة، ومن توقع منها غير ذلك خيبت ظنه. يقول الشاعر: طبعت على كدر وأنت تريدها * صفوا من الأكدار والأقذار
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 493. 208 ومكلف الأيام ضد طباعها * متطلب في الماء جذوة نار وهذه الحالة تشمل كل أبناء البشر دونما استثناء، بمن فيهم أنبياء الله وأولياؤه الصالحون. وإذا خيل إلينا أن ثمة مجتمعات تبدو بعيدة عن الآلام والأتعاب وتعيش في دعة ورفاه، فذلك نتيجة نظرة سطحية، ولو تعمقنا في دراسة هذه المجتمعات، ونظرنا إليها عن كثب لتلمسنا ما تعانيه من عميق الألم وشدة النصب.. ثم إذا كان هناك استثناءات مكانية وزمانية محدودة من هذه الحالة العامة فلا ينتقض القانون العام للحياة أيحسب أن لن يقدر عليه أحد. (1) فما يحيط بالإنسان من مكابدة يدل على ضعف قدرته، هذه الحقيقة ترد على أولئك الذين يمتطون مركب الغرور، ويخالون أنهم في مأمن من العقاب الإلهي أو أنهم مانعتهم حصونهم ومناصبهم وثرواتهم، فيرتكبون الذنوب ويمارسون العدوان ويديرون ظهورهم لشريعة الله. ويحتمل أن المقصود هم الأثرياء الذين يتصورون أن لا أحد بإمكانه سلب ثروتهم منهم... وقيل أن المراد من الآية الأشخاص الذين يتصورون بأنه لا أحد يحاسبهم على أعمالهم. ولكن مفهوم الآية عام بإمكانه أن يستوعب جميع هذه التفاسير. وقيل إن الآية أشارت إلى " أبي الأسد بن كلدة " وهو رجل من " جمح " كان قويا شديد الخلق بحيث يجلس على أديم عكاظي فتجره عشرة رجال من تحته فينقطع ولا يبرح من مكانه (2). غير أن إشارة الآية إلى فرد، أو أفراد مغرورين لا يمنع شمولية مفهومها. يقول أهلكت مالا لبدا.
1 - " أن " في الآية مخففة من الثقيلة والتقدير: أنه لن يقدر عليه أحد. 2 - مجمع البيان، ج 10، ص 493. 209 إشارة إلى قول الذين يطلب منهم أن ينفقوا أموالهم في الخيرات، فيأبون ويقولون بغرور: إننا أنفقنا في هذا السبيل كثيرا من الأموال، بينما لم ينفق هؤلاء شيئا، وإن أعطوا لأحد شيئا فللرياء ولتحقيق هدف شخصي. وقيل إنها نزلت في نفر أنفقوا الأموال الطائلة في معاداة الرسول والرسالة، وتباهوا بذلك، يؤيد ذلك قول " عمرو بن عبد ود " في حرب الخندق حين عرض عليه علي (عليه السلام) الإسلام قال: فأين ما أنفقت فيكم مالا لبدا؟ (1) أي أنفقت مالا كثيرا في عداوة النبي. وقيل إنها نزلت في بعض رجال قريش وهو " الحرث بن عامر "، وذلك أنه أذنب ذنبا، فستفتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأمره أن يكفر. فقال: لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات، منذ دخولي دين محمد (2). والجمع بين التفاسير المذكورة جائز، وإن كان التفسير الأول أكثر انسجاما مع سياق الآيات التالية: والفعل " أهلكت " يوحي إبادة الأموال وعدم الحصول على عائد منها. و " لبد ": تعني الشئ المتراكم، وهنا تعني المال الوفير. أيحسب أن لم يره أحد. إنه غافل عن هذه الحقيقة... حقيقة اطلاع الباري تعالى على كل الأمور وعلى ظواهر الأعمال، بل على ما يختلج في أعماق النفس والقلب، وما يدور في الخلد والنية... وهل من المعقول أن لا يحيط المطلق الحق بكل شئ؟! هؤلاء الغافلون دفعهم جهلهم لأن يروا أنفسهم بمعزل عن الرقابة الإلهية. نعم، الله سبحانه يعلم مصدر حصولهم على هذه الأموال، ويعلم السبيل الذي انفقوها فيه.
1 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 580، الحديث 10. 2 - مجمع البيان، ج 10، ص 493. 210 وروي عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " لا تزول قدما العبد حتى يسأل عن أربعة: عن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين جمعه، وفى ماذا أنفقه، وعن عمله ماذا عمل به، وعن حبنا أهل البيت " (1). بعبارة موجزة: كيف يعتري الإنسان الغرور ويدعي القدرة وحياته ممزوجة بالآلام والأكدار؟! وكيف يدعي أنه أنفق مالا كثيرا في سبيل الله بينما الباري سبحانه عليم بنواياه، عليم بالطريق غير المشروع للحصول على هذه الأموال، وعليم بأهداف الرياء والذاتية في إنفاق هذه الأموال. * * *
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 494، وبهذا المعنى أيضا ورد في تفسير روح البيان، ج 10، ص 435. 211 2 الآيات ألم نجعل له عينين (8) ولسانا وشفتين (9) وهديناه النجدين (10) 2 التفسير 3 نعمة العين واللسان والهداية: استتباعا للآيات السابقة وما دار فيها من حديث عن الغرور والغفلة في الطاغين، تذكر هذه الآيات الكريمة جانبا من أهم ما أنعم الله به على الإنسان من نعم مادية ومعنوية... كي تكسر روح الغرور، وتدفع إلى التفكير في خالق هذه النعم، ولكي تحرك روح الشكر في نفس الكائن البشري ومن ثم تسوقه إلى معرفة الخالق: ألم نجعل له عينين؟ ولسانا وشفتين؟ وهديناه النجدين في هذه العبارات القصيرة إشارة إلى ثلاث نعم مادية هامة ونعمة معنوية كبرى هي بمجموعها من أعظم النعم الإلهية: نعمة العين واللسان والشفة من جانب، ونعمة الهداية ومعرفة الخير والشر من جانب آخر. " النجد ": في الأصل يعني المكان المرتفع، ويقابلها " تهامة " وهي الأرض
212 المنخفضة، وهنا كناية عن الخير والشر وعن سير السعادة والشقاء (1). ويكفي أن نذكر في النعم السابقة أن: " العين ": أهم وسيلة لارتباط الإنسان بالعالم الخارجي، عجائب العين تدفع الإنسان حقا إلى الخضوع أمام خالقه، الطبقات السبع للعين وهي المسماة بالقرنية، والمشيمية، والعنبية، والجلدية، والزلالية، والزجاجية، والشبكية، لكل منها تركيب عجيب دقيق مدهش، روعيت فيها القوانين الفيزيائية والكيمياوية المتعلقة بالنور وانعكاساته على أدق وجه، حتى إن أعقد أجهزة التصوير تعتبر تافهة مقارنة بهذا العضو. لو لم يكن في الكون سوى الإنسان، ولم يكن من وجود الإنسان سوى العين، لكانت مطالعة هذا العضو كافية وحدها لمعرفة علم الله الواسع وقدرته الجبارة جل وعلا. وأما " اللسان "، فهو أهم وسائل ارتباط الإنسان بغيره من أبناء جلدته، ونقل المعلومات وتبادلها بين أبناء البشر في الجيل الواحد وفي الأجيال المتعاقبة، وبدون هذه الوسيلة الهامة من وسائل الارتباط ما كان بامكان الإنسان اطلاقا أن يرتقي إلى ما ارتقى إليه في العلم والمعرفة. و " الشفتان ": تلعبان أولا دورا هاما في النطق، إذ أن الشفتين مخرج لكثير من الحروف، والشفتان تقومان بدور أيضا في هضم الطعام والمحافظة على رطوبة الفم، وشرب الماء، ترى لو انعدمت الشفتان فماذا كان وضع الإنسان في أكله وشربه ونطقه والمحافظة على ماء فمه وحتى جمال وجهه وشكله؟! إن درك الحقائق يتم أولا بالعين واللسان... ولذلك تقدم ذكرهما في
1 - وري عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنه قيل له: إن أناسا يقولون في قوله (وهديناه النجدين) أنهما الثديان (أي ثديا الام) فقال: " لا، هما الخير والشر " مجمع البيان، ذيل الآيات المذكورة، وضمنا التعبير ب " نجد " على الخير من أجل عظمته وفي مورد الشر من باب التغليب. 213 السياق... ثم تبع ذلك ذكر الهداية، الهداية العقلية والفطرية وهديناه النجدين، ويشمل التعبير أيضا " الهداية التشريعية " التي ينهض بمسؤوليتها الأنبياء والأولياء. نعم... لقد أنعم الله على الإنسان بالبصر والبصيرة، وأنعم عليه بهداية الإرشاد إلى الطريق والتحذير من مغبة الانحراف عنه، كي تكتمل الحجة على الإنسان. ومع كل هذه النعم، نعم الهداية، لو انحرف الإنسان عن جادة الحق، فلا يلومن إلا نفسه. عبارة وهديناه النجدين إضافة لما لها من مدلول على مسألة الاختيار وحرية الإنسان، تدل أيضا على ما يتطلبه طريق الخير من جهد وعناء، لأن " النجد " مكان مرتفع وتسلق المكان المرتفع يتطلب كدا وسعيا وجهدا، غير أن طريق الشر له مشاكله ومصاعبه أيضا، فأولى بالإنسان أن يبذل الجهد والسعي على طريق الخير. مع ذلك، فانتخاب الطريق بيد الإنسان... الإنسان هو الذي يتحكم في عينه ولسانه فيم يستعملها... في الحلال أو الحرام، وهو الذي يختار إحدى الجادتين " الخير " أو " الشر ". وفي الحديث القدسي أن الله سبحانه يخاطب أبناء آدم يقول: " يا ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فاطبق، وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فاطبق... " (1). فالله سبحانه منح هذه النعم، ومنح وسائل السيطرة عليها، وتلك من الألطاف الإلهية الكبرى. والملفت للنظر أن الآيات التي نحن بصددها أشارت إلى الشفتين بعد اللسان،
1 - نور الثقلين، ج 5، ص 581. 214 ولكن لم تشر إلى الجفنين بعد ذكر العين، ولعل ذلك يعود إلى أهمية الشفتين في الكلام والطعام وغيرها من الأمور أهمية تفوق بكثير أهمية الجفنين، وقد يعود أيضا إلى أن السيطرة على اللسان أهم وأخطر بكثير من السيطرة على العين. * * * 2 بحوث 3 1 - عجائب العين العين يشبهونها عادة بآلة التصوير (الكاميرا)، فهي تلتقط الصور من عدستها الدقيقة، بدلا من أن تعكسها على اللوح الحساس (الفيلم) كما تفعل الكاميرا، تعكس الصور على شبكية العين، ومن ثم تنتقل عن طريق الأعصاب البصرية إلى الدماغ. آلة التصوير الدقيقة الظريفة هذه قد تلتقط يوميا ملايين الصور، غير أنها من جهات مختلفة لا يمكن مقارنتها حتى بأعقد وأحدث أجهزة التصوير، لأنه: 1 - فتحة تنظيم النور (ديافراغم) في جهاز العين، وهو بؤبؤ العين، يعمل بشكل تلقائي أمام تغيير النور، فيتقلص أمام النور القوي، ويتسع أمام النور الضعيف، بينما أجهزة التصوير بحاجة إلى تنظيم بيد المصور. 2 - عدسة العين خلافا لأنواع عدسات أجهزة التصوير تتغير بتغير بعد الصورة عنها، فيكون قطرها حينا 5، 1 ملم، ويصل أحيانا إلى 8 ملم، وهذا التغيير يتم بواسطة عضلات تتقلص وتنبسط حسب بعد الصورة المرئية، فعدسة العين تستطيع أن تعمل ما تعمله مئات العدسات الزجاجية. 3 - العين تستطيع أن تتحرك في الجهات الأربع بمساعدة العضلات وتلتقط الصور في الأنحاء المختلفة. 4 - والمهم، أن أجهزة التصوير بحاجة إلى تبديل أفلامها، فإذا انتهت حلقة
215 فيلم، فلابد من فيلم آخر. لكن عين الإنسان تلتقط الصور طوال عمر الإنسان دون أن تحتاج إلى تعويض شئ، ويعود السبب إلى أن الشبكية التي تنعكس عليها الصور تحتوي على نوعين من الخلايا " المخروطية "، و " الأسطوانية " فيها مادة حساسة للغاية تجاه النور تتحلل بأقل شعاع من نور في الشبكية وتتحول إلى أمواج تنتقل إلى الدماغ، ثم يزول الأثر وتستعد الشبكية لالتقاط صور جديدة. 5 - أجهزة التصوير مصنعة من مواد قوية جدا، لكن جهاز العين لطيف وظريف إلى درجة كبيرة، لذلك وضع في محفظة عظيمة مستحكمة، والعين مع ظرافتها ولطافتها أكثر دواما بكثير من الحديد والفولاذ. 6 - مسألة تنظيم النور ذات أهمية فائقة للمصورين، وقد يطول الزمن بالمصور كي يستطيع تنظيم إضاءة الصورة، بينما تستطيع العين في جميع ظروف النور القوي والمتوسط والضعيف بل حتى في الظلام شريطة وجود بصيص من النور أن تلتقط الصور، وهذا من عجائب العين. 7 - حين ننتقل فجأة من النور إلى الظلمة، أو حين تنطفئ مصابيح الغرفة في الليل، لا تستطيع أعيننا في البرهة الأولى أن ترى شيئا، ثم بالتدريج تعتاد العين على الظرف الجديد فترى ما حولها، وهذا التعود هو تعبير بسيط عن التحول المعقد الذي يحدث في العين، ويؤدي خلال لحظات بسيطة إلى الانسجام بين العين والظروف الجديدة. وعكس ذلك يحدث عندما ننتقل من الظلام إلى النور، فالعين في البداية لا تتحمل النور القوي، ولكن بعد لحظات تتواءم مع الظرف الجديد، ومثل هذه الخصائص لا توجد اطلاقا في أجهزة التصوير. 8 - أجهزة التصوير تستطيع أن تصور زاوية محدودة مما يقع أمامها، بينما عين الإنسان تستطيع أن تلتقط كل ما في نصف الدائرة الأفقية أيامها بزاوية مقدارها 180 درجة تقريبا.
216 9 - من عجائب العينين أنهما تلتقطان الصورة لتعكسها معا في نقطة واحدة، وإذا اختل هذه التنظيم تصاب العين بالحول ويرى الفرد الشئ الواحد شيئين. 10 - ومن الطريف أن صورة الأجسام تنعكس على الشبكية مقلوبة، بينما لا نرى نحن الأشياء مقلوبة. 11 - سطح العين يجب أن يبقى رطبا دائما، وإذا جف أضر بالعين كثيرا، وهذه الرطوبة تفرزها الغدد الدمعية، فتدخل العين من جانب وتخرج عن طريق قنوات دقيقة تقع في جانب من العين إلى الأنف، فترطب الأنف أيضا. وإذا جفت الغدد الدمعية، تتعرض العين للخطر، وتتعذر حركة الأجفان، وإن زاد نشاط هذه الغدد أكثر من المطلوب يسيل الدمع باستمرار على الوجه، وإذا انسد طريق القنوات التي تدفع الدمع من العين إلى الأنف، فلابد للفرد أن ينشغل دائما بتجفيف الماء المتصبب على وجهه. 12 - تركيب الدمع معقد فيه أكثر من عشرة عناصر تشكل معا أفضل سائل للحفاظ على العين. بعبارة موجزة عجائب العين من الكثرة بحيث تتطلب كتابة المجلدات الضخام، وليست هي أكثر من شحمة صغيرة، وحقا ما قاله أمير المؤمنين علي (عليه السلام): " اعجبوا لهذا الإنسان ينظر بشحم ويتكلم بلحم، ويسمع بعظم، ويتنفس من خرم " (1). 3 2 - عجائب اللسان اللسان بدوره من الأعضاء الهامة في بدن الإنسان، وينهض بأعباء هامة فهو عامل مهم في مضغ الطعام وبلعه، يدفع باللقمة إلى الأسنان وتلتقطها دون أن
1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 8. 217 يتعرض هو للقطع. وقد يحدث نادرا أن يقع اللسان في مصيدة الأسنان أثناء الأكل، فنستغيث من الألم، ونفهم عندئذ مدى مهارة اللسان في تجنب الانزلاق تحت الأسنان مع أنه ملاصق لها!! واللسان بعد ذلك ينظف جوف الفم والأسنان من بقايا الطعام. وأهم من ذلك، دور اللسان في الكلام بتحركه السريع المتواصل المنظم في الجهات الست، وهو دور عجيب، والإمعان فيه يثير الدهشة والحيرة فقد يسر الله تعالى للانسان وسيلة سهلة للتكلم وفي متناول الجميع فلا يصيبها تعب ولا نصب ولا ملل ولا تكلف الإنسان خرجا!! وأعجب من ذلك موضوع استعداد الإنسان للكلام، وهذا الاستعداد أودعه الله في الإنسان ليستطيع من خلال تكوين الجمل باشكال لا تعد ولا تحصى أن يبين ما لا نهاية له من الغايات. وأهم من ذلك أيضا تنوع اللغات وقابلية الإنسان على وضع لغات مختلفة، وتتضح هذه الأهمية من خلال مطالعة مفردات آلاف اللغات المنتشرة في العالم... حقا " العظمة لله الواحد القهار! ". 3 3 - هداية النجدين " النجد " كما ذكرنا الارتفاع أو الأرض المرتفعة، و " النجدين " هنا طريق الخير وطريق الشر، وورد في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " يا أيها الناس! هما نجدان: نجد الخير ونجد الشر، فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير ". (1)
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 494، وتفسير القرطبي، ج 10، ص 7155. 218 تحمل " التكليف " والمسؤولية غير ممكن دون شك، بغير المعرفة والوعي وحسب هذه الآية فإن الله سبحانه منح الإنسان هذه المعرفة. وهذه المعرفة يحصل عليها الإنسان من ثلاثة طرق: من الإدراكات العقلية والاستدلال، ومن طريق الفطرة والوجدان دون الحاجة إلى الاستدلال، ومن طريق الوحي وتعاليم الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، وكل ما يحتاجه البشر ليطوي مسيرة تكامله قد بينه الله سبحانه له بواحد من هذه الطرق أو في كثير من الحالات بالطرق الثلاثة معا. ويلاحظ أن الحديث المذكور يصرح بأن نجد الشر ليس أحب إلى طبع الإنسان من نجد الخير، وهذا يرد على القائلين بأن الإنسان مطبوع على الشر وإن سلوك طريق الشر أيسر له وأسهل. ومن المؤكد أن البيئة الاجتماعية لو خلت من التربية الخاطئة والانحرافات لوفرت الأجواء لرغبة متزايدة في الإنسان نحو الخير، ولعل تعبير " نجد " وهي الأرض المرتفعة لطريق الخير يعود إلى أن الأرض المرتفعة ذات هواء أنقى وجو أبهج، وإنما اطلق النجد للشرور أيضا من باب التغليب (1). وقيل أيضا أن التعبير بالنجدين إشارة إلى ظهور طريقي الخير والشر وبروزهما، كبروز وظهور الأرض المرتفعة. * * *
1 - كما يقال للشمس والقمر: القمران. 219 2 الآيات فلا اقتحم العقبة (11) وما أدراك ما العقبة (12) فك رقبة (13) أو إطعام في يوم ذي مسغبة (14) يتيما ذا مقربة (15) أو مسكينا ذا متربة (16) ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة (17) أولئك أصحب الميمنة (18) والذين كفروا بآيتنا هم أصحب المشئمة (19) عليهم نار مؤصدة (20) 2 التفسير العقبة! بعد ذكر النعم الكبيرة في الآيات السابقة، تنحي هذه الآيات باللائمة على أولئك الذين يكفرون بهذه النعم، ولا يسخرونها على طريق النجاة، يقول سبحانه: فلا اقتحم العقبة (1)
1 - الظاهر أن (لا) في الآية " نافية " و " خبرية " ونستبعد أن تكون على وجه الدعاء على ضمير الفعل أو أن تكون استفهامية، والإشكال الوحيد الذي يرد على أنها خبرية هو عدم تكرارها لأن (لا) النافية حين تدخل على الفعل الماضي تكرر عادة كقوله سبحانه: فلا صدق ولا صلى، ولم تتكرر في الآية. ويذكر " الطبرسي " في " مجمع البيان " مواضع من أقوال العرب لم تتكرر فيها (لا) النافية مع دخولها على الفعل الماضي، وإلى ذلك ذهب أيضا " الفخر الرازي " و " القرطبي "، وقيل إن (لا) إذا كانت بمعنى " لم " لا يلزم تكرارها وبعضهم احتمل التكرار في التقدير والمعنى: فلا اقتحم العقبة، ولا فك رقبة، ولا أطعم في يوم ذي مسغبة. 220 وما المقصود من العقبة؟ الآيات التالية تفسرها: وما أدراك ما العقبة؟ فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة. من هنا فالعقبة التي لم يتهيأ الكافرون بأنعم الله لاجتيازها هي: فك رقبة عبد من الرقبة أي تحريره أو إطعام في يوم الضائقة الاقتصادية والمجاعة، يتيما ذا قربى أو فقيرا قد لصق بالتراب من شدة فقره، العقبة هي مجموعة أعمال الخير التي تتجه لخدمة الناس والأخذ بيد الضعفاء والمعوزين، كما إنها أيضا مجموعة من المعتقدات الصحيحة الخالصة تشير إليها الآيات التالية. نعم، إن اجتياز هذه العقبة ليس بالأمر اليسير لما لأغلب الناس من التصاق بالمال والثروة. ليس الإسلام والإيمان بالقول والادعاء، بل أمام كل إنسان مسلم ومؤمن عقبات يجب أن يجتازها الواحدة بعد الأخرى، مستمدا العون من الله سبحانه ومن روح الإيمان والإخلاص. بعضهم ذهب إلى أن " العقبة " هنا تعني أهواء النفس التي حث الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) على مقاومتها ومجاهدتها، ويسمى ذلك " الجهاد الأكبر "، واستنادا إلى هذا التفسير يكون فك الرقبة وإطعام المسكين من المصاديق البارزة لاجتياز عقبة هوى النفس. ومن المفسرين من قال إن " العقبة " هي الصراط الصعب يوم القيامة، كما جاء في حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
221 " إن أمامكم عقبة كؤودا لا يجوزها المثقلون، وأنا أريد أن أخفف عنكم لتلك العقبة " (1) وهذا الحديث طبعا لا يمكن أن يكون تفسيرا للآية، غير أن بعض المفسرين فهموا منه ذلك، وهذا الفهم لا يتناسب مع التفسير الصريح لكلمة " العقبة " في الآيات التالية، إلا إذا اعتبرنا العقبة الكؤود يوم القيامة تجسيدا للطاعات الثقيلة الصعبة في هذا العالم، واجتياز تلك العقبات فرع لاجتياز هذه الطاعات " تأمل بدقة ". تعبير " اقتحم " في الآية أصله من " الاقتحام " وهو الدخول في عمل صعب مخيف (مفردات الراغب)، أو الولوج والعبور بشدة ومشقة (تفسير الكشاف) وهذا يعني أن اجتياز هذه العقبة ليس بالأمر اليسير، كما أنه تأكيد على ما ورد في أول السورة بشأن ما يكابد الإنسان في حياته: لقد خلقنا الإنسان في كبد. وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قال: " إن الجنة حفت بالمكاره وإن النار حفت بالشهوات " (2). * * * 2 ملاحظات وهنا يلزم الالتفات إلى عدة ملاحظات: 1 - المقصود من " فك رقبة " على الظاهر هو تحرير العبد والرقيق. روي أن أعرابيا جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة.
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 495. 2 - نهج البلاغة، الخطبة 176. 222 أجابه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن كنت أقصرت الخطبة لقد عرضت المسألة (1) أعتق النسمة وفك الرقبة ". فقال الأعرابي: أوليسا واحدا؟! قال: " لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها " ثم قال: " والفئ على ذي الرحم الظالم، فإن لم يكن ذلك فأطعم الجائع واسق الظمآن وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، فإن لم تطق ذلك، فكف لسانك إلا من الخير " (2). 2 - قال بعض المفسرين أن معنى " فك رقبة " تحرير الفرد رقبته من الذنوب بالتوبة، أو تحرير نفسه من العذاب الإلهي بتحمل الطاعات، غير أن ما جاء في الآيات التالية من توصية باليتيم والمسكين يؤيد أن المقصود هو تحرير رقبة العبد. 3 - " المسغبة " من " سغب " على وزن " غضب " وهو الجوع، و " يوم ذي مسغبة " أي وقت المجاعة، والجياع موجودون في المجتمع عادة، والآية إنما تؤكد على إطعامهم في زمان المجاعة لأهمية الموضوع، وإلا فإن الجياع هو دائما من أفضل الأعمال. وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من أشبع جائعا في يوم سغب ادخله الله يوم القيامة من باب من أبواب الجنة لا يدخلها إلا من فعل مثل ما فعل " (3). 4 - " المقربة " بمعنى القرابة والرحم، والتأكيد على الأقرباء من اليتامى في الآية إنما هو لمراعاة الأولوية وللتأكيد على تصاعد المسؤولية تجاههم، لا لحصر الإطعام بهذا القسم من اليتامى.
1 - أي لقد طرحت بوضوح سؤالك، وإن كنت أجملت في الكلام. 2 - نور الثقلين، ج 5، ص 583. 3 - مجمع البيان، ج 10، ص 495. 223 ثم إن غمط حقوق اليتامى في ذلك العصر خاصة على يد الأقرباء استدعى التحذير من هذه العقبة بالذات. وذهب " أبو الفتوح الرازي " إلى أن " المقربة " ليست من القرابة، بل من " القرب " إشارة إلى التصاق بطون الجياع من شدة الجوع (1). ونستبعد كثيرا هذا المعنى في تفسير الآية. 5 - " المتربة " مصدر ميمي من " ترب "، وساكن التراب من شدة فقره هو ذو المتربة، والتأكيد على هذا النمط من المساكين لأولويتهم أيضا، إذ إطعام أي مسكين عمل مستحسن. وروي أن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) إذا أكل أتى بصحفة فتوضع قرب مائدته، فيعمد إلى أطيب الطعام مما يؤتى به فيأخذ من كل شئ شيئا فيضع في تلك الصفحة ثم يأمر بها للمساكين، ثم يتلو هذه الآية: فلا اقتحم العقبة ثم يقول: " علم الله عز وجل أنه ليس كل إنسان يقدر على عتق رقبة فجعل لهم السبيل إلى الجنة " (2). ثم تواصل الآية التالية بيان طبيعة هذه العقبة، وسبل اجتيازها فتقول: ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة. فالقادرون على اجتياز هذه العقبة متحلون بالإيمان ومتواصون بالصبر والاستقامة على الطريق، ومتواصون بالرحمة والعطف. وبهذا السياق القرآني لبيان طبيعة العقبة نفهم أن القادرين على اجتيازها هم المتحلون بالإيمان والخلق الكريم كالتواصي بالصبر والرحمة، وذوو أعمال البر والإحسان كتحرير العبيد وإطعام الأيتام والمساكين، إنهم بعبارة أولئك الذين يلجون ميادين الإيمان والأخلاق والعمل ويخرجون منها ظافرين منتصرين.
1 - تفسير أبي الفتوح الرازي، ج 12، ص 96. 2 - تفسير الميزان، ج 20، ص 295، نقلا عن الكافي. 224 العطف بالحرف " ثم " لا يعني دائما التأخير الزمني، أي لا يعني أن عملية الإطعام والإنفاق يجب أن تتقدم على الإيمان، بل إن هذا الحرف في مثل هذه الموارد - كما صرح بذلك جمع من المفسرين - لبيان علو المرتبة، إذ من المؤكد أن رتبة الإيمان والتوصية بالصبر والمرحلة أسمى وأعلى من مساعدة المحتاجين، بل الأعمال الصالحة تنبثق من ذلك الإيمان وتلك الأخلاق، وكل ما يفعله الإنسان تجد جذوره في معتقداته وأخلاقياته. واحتمل بعضهم أن " ثم " تفيد هنا التأخير الزمني، لأن أعمال الخير قد تكون منطلقا للتوجه نحو الإيمان، وهي بخاصة ذات تأثير في ترسيخ دعائم الأخلاق، إذ أن أخلاق الإنسان تبدأ بشكل " فعل " ثم تتحول إلى " حالة " ثم تتحول إلى " عادة " ثم تصبح " ملكة ". والتعبير بكلمة " تواصوا " وتعني تبادل التوصية، لها دلالة اجتماعية هامة، هي إن عملية التواصي بالسير على طريق الحق وبالاستقامة على طاعة الله ومكافحة جموح الأهواء النفسية، وبالحب والرحمة ليست عملية فردية يل يجب أن يتخذ طابعا اجتماعيا عاما في كل المجتمع الإيماني، وكل الأفراد مسؤولون أن يوصي بعضهم الآخر بحفظ هذه الأصول. وعن هذا الطريق أيضا تتعمق عرى التلاحم والاجتماعي. وقال بعضهم إن " الصبر " في الآية إشارة إلى توطين النفس على طاعة الله والإهتمام بأوامره، و " المرحمة " إشارة إلى علاقة الود مع الناس، ونعلم أن أساس الدين هو تنظيم هذه الرابطة بين العبد وربه، وبين الإنسان وأخيه الإنسان. وفي خاتمة هذه الأوصاف تذكر السورة مكانة المتحلين بها فتقول: أولئك أصحاب الميمنة. فصحيفة أعمالهم تسلم إليهم، في محضر الله سبحانه وتعالى، بيدهم اليمنى. ويحتمل أن تكون " الميمنة " من " اليمن " والبركة، أي إن أصحاب هذه
225 الصفات ذوو بركة لأنفسهم ولمجتمعهم. ثم تتعرض الآية لتصوير حالة الفاشلين في اجتياز " العقبة " فتقول: والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشئمة. و " المشئمة " من " الشؤم " تقابل " الميمنة " من " اليمن "، أي إن هؤلاء الكافرين مشؤومون لا يمن فيهم ولا بركة، بل هم عامل شقاء لأنفسهم ولمجتمعهم ثم إن علامة شؤم الفرد يوم القيامة تسلمه صحيفة أعماله بيده اليسرى، ومن هنا ذهب بعض المفسرين إلى أن " المشئمة " هي اليسار مقابل اليمين، أي إن الذين كفروا بآيات الله الذين يتسلمون صحائف أعمالهم بيدهم اليسرى خاصة وأن مادة " شؤم " جاءت في اللغة بمعنى اليسار أيضا (1). وفي الآية الأخيرة من السورة إشارة قصيرة ذات دلالة عميقة إلى جزاء هذه الفئة الأخيرة: عليهم نار مؤصدة. و " الإيصاد " إحكام الغلق، وواضح أن الإنسان - حين يكون في غرفة حارة الجو - يتوق إلى فتح أبوابها، ليهب عليه نسيم يلطف الهواء، فما بالك إذا كان في محرقة جهنم والأبواب كلها موصدة عليه؟! اللهم! قنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما... اللهم! وفقنا لاجتياز ما يعتري طريقنا من عقبات.. ولا توفيق إلا بك. اللهم! اجعلنا من أصحاب الميمنة: واحشرنا مع الصالحين والأبرار. آمين يا رب العالمين نهاية سورة البلد * * *
1 - تفسير أبي الفتوح الرازي، ج 12، ص 97، ولسان العرب، مادة شأم. 226 1 سورة 1 الشمس 1 مكية 1 وعدد آياتها خمس عشرة آية
228 1 " سورة الشمس " 3 محتوى السورة: هذه السورة هي في الواقع سورة تهذيب النفس، وتطهير القلوب من الأدران، ومعانيها تدور حول هذا الهدف، وفي مقدمتها قسم بأحد عشر مظهرا من مظاهر الخليقة وبذات الباري سبحانه، من أجل التأكيد على أن فلاح الإنسان يتوقف على تزكية نفسه، والسورة فيها من القسم ما لم يجتمع في سورة أخرى. وفي المقطع الأخير من السورة ذكر لقوم " ثمود " باعتبارهم نموذجا من أقوام طغت وتمردت، وانحدرت - بسبب ترك تزكية نفسها - إلى هاوية الشقاء الأبدي، والعقاب الإلهي الشديد. وهذه السورة القصيرة - في الواقع - تكشف عن مسألة مصيرية هامة من مسائل البشرية، وتبين نظام القيم في الإسلام بالنسبة إلى أفراد البشر. 3 فضيلة السورة: يكفي في تلاوة هذه السورة أن نذكر حديثا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من قرأها فكأنما تصدق بكل شئ طلعت عليه الشمس والقمر " (1) ومن المؤكد أن هذه الفضيلة الكبرى لا ينالها إلا من استوعب محتواها بكل وجوده، ووضع مهمة تهذيب النفس نصب عينيه دائما. * * *
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 496. 230 2 الآيات والشمس وضحها (21) والقمر إذا تلها (22) والنهار إذا جلها (23) والليل إذا يغشها (24) والسماء وما بنها (25) والأرض وما طحاها (26) ونفس وما سواها (27) فألهمها فجورها وتقواها (28) قد أفلح من زكها (29) وقد خاب من دسها (30) 2 التفسير أكبر عدد من القسم القرآني تتضمنه هذه السورة، هو في حساب " أحد عشر "، وفي حساب آخر " سبعة " أقسام... ويبين أن السورة تتعرض لموضوع خطير هام.. موضوع عظيم كعظمة السماء والأرض والشمس والقمر... موضوع حياتي مصيري. لنبدأ أولا بشرح ما جاء في السورة من قسم، لنتعرض بعد ذلك إلى الموضوع الآية الأولى تقول: والشمس وضحاها.
231 ولقد ذكرنا آنفا أن القسم في القرآن يستهدف مقصدين: الأول: بيان أهمية ما جاء القسم من أجله. والثاني: أهمية ما أقسم به القرآن، لأن القسم عادة يكون بالمهم من الأمور من هنا تعمل هذه الأقسام على تحريك الفكر في الإنسان كي يمعن النظر في هذه الموضوعات الهامة من عالم الخليقة، وليتخذ منها سبيلا إلى الله سبحانه وتعالى. " الشمس " ذات دور هام وبناء جدا في الموجودات الحية على ظهر البسيطة فهي إضافة إلى كونها مصدرا للنور والحرارة - وهما عاملان أساسيان في حياة الإنسان - تعتبر مصدرا لغيرهما من المظاهر الحياتية، حركة الرياح، وهطول الأمطار، ونمو النباتات، وجريان الأنهر والشلالات، بل حتى نشوء مصادر الطاقة مثل النفط والفحم الحجري... كل واحد منها يرتبط - بنظرة دقيقة - بنور الشمس. ولو قدر لهذا المصباح الحياتي أن ينطفئ يوما لساد الظلام والسكوت والموت في كل مكان. " الضحى " في الأصل انتشار نور الشمس، وهذا ما يحدث حين يرتفع قرص الشمس عن الأفق ويغمر النور كل مكان، ثم يطلق على تلك البرهة من اليوم اسم " الضحى "، والقسم بالضحى لأهميته، لأنه وقت هيمنة نور الشمس على الأرض. والقسم الثالث بالقمر: والقمر إذا تلاها. وهذا التعبير - كما ذهب إلى ذلك جمع من المفسرين - إشارة إلى القمر حين يكتمل ويكون بدرا كاملا في ليلة الرابع عشر من كل شهر، ففي هذه الليلة يطل القمر من أفق المشرق متزامنا مع غروب الشمس. فيسطع بجماله النير ويهيمن على جو السماء، ولجماله وبهائه في هذه الليلة أكثر من أية ليلة أخرى جاء القسم به في الآية الكريمة. واحتمل بعضهم أن يكون في تعبير الآية إشارة إلى تبعية القمر بشكل دائم للشمس، واكتساب النور من ذلك المصدر المشع، غير أن عبارة والقمر إذا تلاها تكون في هذه الحالة قيدا توضيحيا.
232 وثمة احتمالات أخرى ذكرت في تفسير الآية لا تستحق الذكر. والقسم الرابع بالنهار: والنهار إذا جلها. و " التجلية " هي الإظهار والإبراز. واختلف المفسرون في مرجع الضمير في " جلاها " قال أكثرهم يعود إلى الأرض أو الدنيا، أي: قسما بالنهار إذا أظهر الأرض بضوئه. وليس في الآيات السابقة إشارة إلى الأرض، ولكنها تتضح من قرينة المقام. وبعضهم قال إن الضمير يعود إلى الشمس، ويكون القسم بالنهار حين يجلي الشمس، صحيح أن الشمس تظهر النهار ولكن يمكن أن نقول مجازا إن النهار يجلي الشمس. غير أن التفسير الأول أنسب. على كل حال، القسم بهذه الظاهرة السماوية الهامة، يبين أهميتها الكبرى في حياة البشر وفي جميع الأحياء، فالنهار رمز الحركة والحياة، وكل الفعاليات والنشاطات ومساعي الحياة تتم عادة في ضوء النهار. والقسم الخامس بالليل: والليل إذا يغشاها (1). بالليل بكل ما فيه من بركة وعطاء... إذ هو يخفف من حرارة شمس النهار، ثم هو مبعث راحة جميع الموجودات الحية واستقرارها، ولولا ظلام الليل لما كان هناك هدوء واستقرار، لأن استمرار سطوع الشمس يؤدي إلى ارتفاع في درجة الحرارة وتلف كل شئ، ونفس هذه المشكلة تحدث لو اختل الوضع الحالي لنظام الليل والنهار، فعلى ظهر القمر، حيث ليله يعادل أسبوعين من كرتنا الأرضية ونهاره يعادل أيضا أسبوعين، ترتفع درجة الحرارة إلى ما يقارب ثلاثمائة درجة
1 - وفي ضمير " يغشاها " ذهب المفسرون إلى اتجاهين، منهم من قال: إنه يعود إلى " الأرض " لأن الليل يسدل استاره على الأرض. ومنهم من قال إلى " الشمس " إذ الليل يحجب وجه الشمس، والمعنى هذا مجازي طبعا، لأن الليل لا يحجب الشمس حقيقة، بل يظهر بعد غروب الشمس. والواقع أن الضمير في الآية السابقة إن عاد إلى " الأرض " فهنا يعود إليها أيضا. وإن عاد إلى الشمس يعود إليها هنا أيضا. 233 مئوية في وسط النهار، ومعها لا يبقى موجود حي نعرفه، على قيد الحياة، وفي وسط الليل تنخفض درجة الحرارة كثيرا تحت الصفر بحيث يتجمد حتما أي موجود حي لو قدر له أن يكون هناك. ويلاحظ أن الأفعال المذكورة في الآيات السابقة وردت بصيغة الماضي بينما وردت في هذه الآية بصيغة المضارع، ولعل هذا الاختلاف يشير إلى أن ظهور الليل والنهار من الحوادث التي لا تختص بزمان معين، بل تشمل الماضي والحاضر. من هنا كانت الأفعال ماضية تارة ومضارعة أخرى لبيان عمومية هذه الحوادث في مجرى الزمان. وفي القسمين السادس والسابع تحلق بنا الآية إلى السماوات وخالق السماوات: والسماء وما بناها. أصل خلقة السماوات بما فيها من عظمة مدهشة من أعظم عجائب الخليقة. وبناء كل هذه الكواكب والأجرام السماوية وما يحكمها من أنظمة أعجوبة أخرى... وأهم من كل ذلك... خالق هذه السماوات. ويلاحظ في عبارة " وما بناها " أن " ما " تستعمل في العربية لغير العاقل، ولا يصح استعمالها في موضع الحديث عن الباري العليم الحكيم سبحانه. ولذا ذهب بعض إلى أنها مصدرية لا موصولة، وبذلك يكون معنى الآية الكريمة: " والسماء وبنائها " غير أن الآيات التالية: ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، لا يدع بما لا للشك أن " ما " موصولة، وتعود إلى الله سبحانه خالق السماوات، وورد في مواضع أخرى من القرآن الكريم استعمال " ما " للعاقل، كقوله سبحانه: فانكحوا ما طاب لكم من النساء. من المفسرين من قال إن " ما " استعملت هنا لتطرح مسألة المبدأ بشكل مبهم كي يستطيع البشر بالدراسة والنظر أن يتوصلوا إلى علم بالمبدأ سبحانه وحكمته، ليتبدل بعد ذلك " ما " إلى " من " أي من الشئ المجهول الذي يعبر عنه ب " ما " إلى
234 معلوم، غير أن التفسير الأول أنسب. القسم الثامن والتاسع بالأرض وخالق الأرض: والأرض وما طحاها. بالأرض التي تحتضن حياة الإنسان وجميع الموجودات الحية... الأرض بجميع عجائبها: بجبالها، وبحارها، وسهولها، ووديانها، وغاباتها، وعيونها، وأنهارها، ومناجمها، وذخائرها... وبكل ما فيها من ظواهر يكفي كل واحد منها لأن يكون آية من آيات الله ودلالة على عظمته. وأعظم من الأرض وأسمى منها خالقها الذي " طحاها " و " الطحو " بمعنى البسط والفرش، وبمعنى الذهاب بالشئ وإبعاده أيضا. وهنا بمعنى " البسط "، لأن الأرض كانت مغمورة بالماء، ثم غاض الماء في منخفضات الأرض، وبرزت اليابسة، وانبسطت، ويعبر عن ذلك أيضا بدحو الأرض، هذا أولا. وثانيا: كانت الأرض في البداية على شكل مرتفعات ومنخفضات ومنحدرات شديدة غير قابلة للسكن عليها. فهطلت أمطار مستمرة سوت بين هذه التعاريج، وتسطحت الأرض فكانت صالحة لمعيشة الإنسان وللزراعة. يرى بعض المفسرين أن في الآية إشارة عابرة إلى حركة الأرض، لأن من معاني " الطحو " الدفع الذي يمكن أن يكون إشارة إلى حركة الأرض الانتقالية حول الشمس، أو إلى حركتها الوضعية حول نفسها، أو إلى الحركتين معا. وأخيرا القسم الحادي عشر والقسم الثاني عشر بالنفس الإنسانية وبارئها: ونفس وما سواها. قيل إن المراد بالنفس هنا روح الإنسان، وقيل إنه جسمه وروحه معا. ولو كان المراد من النفس الروح، " سواها " تعني إذن نظمها وعدل قواها ابتداء من الحواس الظاهرة وحتى قوة الإدراك، والذاكرة، والانتقال، والتخيل، والابتكار، والعشق، والإرادة، والعزم ونظائرها من الظواهر المندرجة في إطار " علم النفس ".
235 ولو كان المراد من النفس الروح والجسم معا، فالتسوية تشمل أيضا ما في البدن من أنظمة وأجهزة يدرسها علم التشريح وعلم الفسلجة. وفي القرآن الكريم وردت " نفس " بكلا المعنيين، بمعنى الروح، كقوله سبحانه في الآية (42) من سورة الزمر: الله يتوفى الأنفس حين موتها... وبمعنى الجسم، كقوله سبحانه في الآية (33) من سورة القصص: قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون. والأنسب هنا أن يكون معنى النفس هنا شاملا للمعنيين لأن قدرة الله سبحانه تتجلى في الاثنين معا. ويلاحظ أن الآية ذكرت كلمة " نفس " نكرة وفي ذلك إشارة إلى ما في النفس من عظمة تفوق قدرة التصور وإلى ما يحيطها من إبهام، يجعلها موجودا مجهولا. وهذا ما حدا ببعض العلماء المعاصرين أن يتحدث عن الإنسان في كتابه تحت عنوان: " الإنسان ذلك المجهول ". الآية التالية تتناول أهم ظاهرة في الخليقة وتقول: فألهمها فجورها وتقواها. نعم، حين اكتملت خلقة الإنسان وتحقق وجوده، علمه الله سبحانه الواجبات والمحظورات. وبذلك أصبح كائنا مزيجا في خلقته من " الحمأ المسنون " و " نفخة من روح الله "، ومزيجا في تعليمه من " الفجور " و " التقوى ". أصبح بالتالي كائنا يستطيع أن يتسلق سلم الكمال الإنساني ليفوق الملائكة، ومن الممكن أن ينحط لينحدر عن مستوى الأنعام ويبلغ مرحلة بل هم أضل. وهذا يرتبط بالمسير الذي يختاره الإنسان عن إرادة. " ألهمها " من الإلهام، وهو في الأصل بمعنى البلع والشرب، ثم استعمل في إلقاء الشئ في روع الإنسان من قبل الله تعالى، وكأن الإنسان يبتلع ذلك الشئ ويتشربه بجميع وجوده.
236 وجاء بمعنى " الوحي " أيضا. بعض المفسرين يرى أن الفرق بين " الإلهام " و " الوحي "، هو إن الفرد الملهم لا يدري من أين أتى بالشئ الذي ألهم به، وفي حالة الوحي يعلم بالمصدر وبطريقة وصول الشئ إليه. " الفجور " من مادة " فجر " وتعني - كما ذكرنا سابقا - الشق الواسع وسمي بياض الصبح بالفجر لأنه يشق ستار الظلام. ولما كانت الذنوب تهتك ستار الدين فإنها سميت بالفجور. المقصود بالفجور في الآية طبعا الأسباب والعوامل والطرق المؤدية إلى الذنوب. و " التقوى " من الوقاية وهي الحفظ، وتعني أن يصون الإنسان نفسه من القبائح والآثام والسيئات والذنوب. ويلزم التأكيد أن الآية الكريمة: فألهمها فجورها وتقواها لا تعني أن الله سبحانه قد أودع عوامل الفجور والتقوى في نفس الإنسان، كما تصور بعضهم، واستنتج من ذلك دلالة الآية الكريمة على وجود التضاد في المحتوى الداخلي للإنسان! بل تعني أن الله تعالى علم الإنسان هاتين الحقيقتين وألهمه إياهما، وبين له طريق السلامة وطريق الشر، ومثل هذا المفهوم ورد في الآية (10) من سورة البلد: وهديناه النجدين. بعبارة أخرى، إن الله سبحانه قد منح الإنسان قدرة التشخيص والعقل، والضمير اليقظ بحيث يستطيع أن يميز بين " الفجور " و " التقوى " عن طريق العقل والفطرة، لذلك ذهب بعض المفسرين إلى أن الآية تشير في الحقيقة إلى مسألة " الحسن والقبح العقليين " وقدرة الإنسان على إدراكهما. ومن بين النعم الطائلة التي أسبغها الله على الإنسان تركز هذه الآية على نعمة الهام الفجور والتقوى، وإدراك الحسن والقبح، لأنها من أهم المسائل المصيرية التي تواجه حياة الإنسان.
237 بعد هذه الأقسام المهمة المتتالية يخلص السياق القرآني إلى النتيجة فيقول: قد أفلح من زكاها. والتزكية تعني النمو، " والزكاة " في الأصل بمعنى النمو والبركة، وورد عن علي (عليه السلام) قوله: " المال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق " (1). ثم استعملت الكلمة بمعنى التطهير، وقد يعود ذلك إلى أن التطهير من الآثام يؤدي إلى النمو والبركة، والآية الكريمة تحتمل المعنيين. نعم، الفلاح لمن ربى نفسه ونماها، وطهرها من التلوث بالخصائل الشيطانية وبالذنوب والكفر والعصيان. والمسألة الأساسية في حياة الإنسان هي هذه " التزكية "، فإن حصلت سعد الإنسان وإلا شقى وكان من البائسين. ثم يعرج السياق القرآني على المجموعة المخالفة فيقول: وقد خاب من دساها. " خاب ": من الخيبة، وهي فوت الطلب، كما يقول الراغب في المفردات والحرمان والخسران. " دساها " من مادة " دس " وهي في الأصل بمعنى إدخال الشئ قسرا، وجاء في الآية (59) من سورة النحل قوله سبحانه: أم يدسه في التراب، إشارة إلى عادة الجاهليين في وأد البنات، أي إدخالهن في التراب كرها وقسرا ومنه " الدسيسة " التي تقال للأعمال الخفية والضارة. وما هي المناسبة بين معنى الدس، وقوله سبحانه: وقد خاب من دساها. قيل: إن هذا التعبير كناية عن الفسق والذنوب، فأهل التقوى والصلاح يظهرون أنفسهم، بينما المذنبون يخفونها، ويذكر أن العرب الكرماء جرت عادتهم
1 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 147. 238 على نصب خيامهم على المرتفعات، وإشعال النيران قربها في الليل، لتكون بادية للمارة ليل نهار، بينما أهل البخل واللؤم يقبعون في المنخفضات كي لا يأتيهم أحد. وقيل: إن المقصود اندساس المذنبين بين صفوف الصالحين. وقيل: إن المذنب يدس نفسه أو هويته الإنسانية في المعاصي والذنوب. وقيل: إنه يخفي المعاصي والذنوب في نفسه. والتعبير - على كل حال - كناية عن التلوث بالذنوب والمعاصي والخصائل الشيطانية، وبذلك يقع في المنطقة المقابلة للتزكية. والآية تحتمل في مفهومها الواسع كل هذه المعاني. وبهذا المعيار يتم تمييز الفائزين عن الفاشلين في ساحة الحياة. " تزكية النفس وتنميتها بروح التقوى وطاعة الله " أو " تلوثها بأنواع المعاصي والذنوب ". الإمامان الباقر والصادق (عليهما السلام) قالا في تفسير الآية الكريمة: " قد أفلح من أطاع وخاب من عصى " (1). وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال حين تلا الآية: " اللهم آت نفسي تقواها، أنت وليها ومولاها، وزكها أنت خير من زكاها " (2). وهذا الحديث يدل على أن اجتياز تعاريج المسيرة الحياتية والعبور من العقبة لا يتيسر حتى لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا بتوفيق الله تعالى، أي لا يتيسر إلا بعزم العبد وتأييد الباري، ولذلك ورد في حديث آخر عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير الآيتين قوله: " أفلحت نفس زكاها الله وخابت نفس خيبها الله من كل خير " (3). * * *
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 498. 2 - المصدر السابق. 3 - الدر المنثور، ج 6، ص 357. 239 2 ملاحظات 3 1 - ارتباط القسم القرآني بجواب القسم ما الارتباط بين هذه الأقسام الأحد عشر المتتالية في السورة، وبين الحقيقة التي جاءت الأقسام لتأكيدها؟ يظهر أن الله سبحانه وتعالى يريد أن يقول لعباده: إني وفرت لكم كل الوسائل المادية والمعنوية لسعادتكم، فبنور الشمس والقمر أضأت لكم الحياة وباركتها ونظمت لكم الليل والنهار والحركة والسكون، ومهدت الأرض لحياتكم. ومن جهة أخرى، خلقت أنفسكم بكل الكفاءات اللازمة، ووهبتكم الضمير اليقظ، وألهمتكم معرفة حسن الأمور وقبحها، فلا ينقصكم شئ إذن لطي طريق السعادة، لماذا إذن - مع كل هذا - لا تزكون أنفسكم وتستسلمون للدسائس الشيطانية؟ 3 2 - دور الشمس في عالم الحياة الحديث عن الشمس - وهي مركز المنظومة الشمسية وأميرة كواكبها - يدور تارة حول عظمتها وهو ما تطرقنا إليه سابقا، وتارة أخرى حول بركاتها وآثارها، وهذا ما سنعرض له بتلخيص في النقاط التالية: 1 - حياة البشر وجميع الموجودات الحية الأخرى بحاجة في الدرجة الأولى إلى الحرارة والنور، والحاجة إلى هذين الأمرين الحياتيين تؤمنها بشكل كامل متعادل هذه الكرة العظيمة المتوهجة. 2 - جميع المواد الغذائية يتم إعدادها بوسيلة نور الشمس، حتى الأحياء في قاع البحار والمحيطات تتغذى على النباتات التي تنمو على سطح المحيطات أو في خضم الأمواج مستفيدة من نور الشمس ثم تترسب إلى القيعان. 3 - كل الألوان ومظاهر الجمال المشهودة في الطبيعة ترتبط بشكل من
240 الأشكال بنور الشمس، وهذه مسألة علمية ثابتة وخاصة في الفيزياء. 4 - الأمطار التي تحيي الأرض بعد موتها تهطل من الغيوم والغيوم أبخرة متصاعدة من البحار والمحيطات نتيجة لسطوع الشمس عليها، مصادر المياه التي تتغذى من الأمطار بما فيها الأنهار والعيون والقنوات والآبار العميقة هي إذن من بركات نور الشمس. 5 - الرياح التي تؤدي مهمة تلطيف الجو، وتنقل السحب، وتلقيح النبات، ونقل الحرارة من المناطق الحارة على الكرة الأرضية إلى المناطق الباردة، ونقل البرودة من المناطق الباردة إلى الحارة، إنما تفعل ذلك بفضل سطوع نور الشمس، وتغيير درجة الحرارة في المناطق المختلفة من المعمورة. 6 - مصادر الطاقة بما فيها الشلالات، والسدود العظيمة في المناطق الجبلية، مصادر النفط ومناجم الفحم كلها ترتبط بشكل من الأشكال بالشمس، ولولاها لما وجدت هذه المصادر، ولتبدلت الحركة على وجه الأرض إلى سكون. 7 - بقاء نظام المنظومة الشمسية مدين للتعادل القائم بين قوى الجذب والدفع الموجودة بين كرة الشمس من جهة، والسيارات التي تدور حولها من جهة أخرى. وبذلك تنهض الشمس بدور فعال في حفظ هذه السيارات في مدارها. من مجموع ما ذكرنا نفهم السبب في بدء القسم في هذه السورة المباركة بالشمس. وهكذا القمر ونور النهار وظلام الليل، والكرة الأرضية، لكل واحد منها دور هام في حياة الإنسان وغير الإنسان، ولذلك جاء القسم بها جميعا، وأهم من كل ذلك الإنسان بروحه وجسمه فهو أعجب من الجميع وأشد غموضا وسرا منها. وسنعود إلى أهمية تهذيب النفس في نهاية السورة * * *
241 2 الآيات كذبت ثمود بطغواها (31) إذ انبعث أشقها (32) فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقيها (33) فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها (34) ولا يخاف عقبها (35) 2 التفسير 3 عاقبة مرة للطغاة: عقب التحذير الذي أطلقته الآية السابقة بشأن عاقبة من ألقى بنفسه في أوحال العصيان، قدمت هذه الآيات مصداقا تاريخيا واضحا لهذه السنة الإلهية، وتحدثت عن مصير قوم " ثمود " بعبارات قصيرة قاطعة ذات مدلول عميق. " الطغوى " و " الطغيان " بمعنى واحد وهو تجاوز الحد، وفي الآية تجاوز الحدود الإلهية والعصيان أمام أوامره (1). " قوم ثمود " من أقدم الأقوام التي سكنت منطقة جبلية بين " الحجاز " و " الشام ". كانت لهم حياة رغدة مرفهة، وأرض خصبة، وقصور فخمة، غير أنهم لم
1 - ذكر بعض علماء اللغة أن " الطغوى " مشتقة من مادة ناقص واوي (طغو) و " الطغيان " من مادة ناقص يائي (طغي). 242 يؤدوا شكر هذه النعم، بل طغوا وكذبوا نبيهم صالحا، واستهزأوا بآيات الله، فكان عاقبة أمرهم أن أبيدوا بصاعقة سماوية. ثم تستعرض السورة مقطعا بارزا من طغيان القوم وتقول: إذا انبعث أشقاها. و " أشقى " ثمود، هو الذي عقر الناقة التي ظهرت باعتبارها معجزة بين القوم، وكان قتلها بمثابة إعلان حرب على النبي صالح. ذكر المفسرون أن اسم هذا الشقي " قدار بن سالف " وروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي بن أبي طالب (عليه السلام): من أشقى الأولين؟ قال: عاقر الناقة. قال: صدقت، فمن أشقى الآخرين؟ قال: قلت لا أعلم يا رسول الله. قال: الذي يضربك على هذه، وأشار إلى يافوخه (1) في الآية التالية تفاصيل أكثر عن طغيان قوم ثمود: فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها المقصود من " رسول الله " نبي قوم ثمود صالح (عليه السلام)، وعبارة " ناقة الله " إشارة إلى أن هذه الناقة لم تكن عادية، بل كانت معجزة، تثبت صدق نبوة صالح، ومن خصائصها - كما في الرواية المشهورة أنها خرجت من قلب صخرة في جبل لتكون حجة على المنكرين. " الناقة " منصوبة بفعل محذوف، والتقدير " ذروا ناقة الله وسقياها "، ويستفاد من مواضع أخرى في القرآن الكريم أن النبي صالحا (عليه السلام) كان قد أخبرهم أن ماء القرية يجب تقسيمه بينهم وبين الناقة، يوم لهم ويوم للناقة: ونبئهم أن الماء
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 499، ووردت الرواية باختصار في تفسير القرطبي، ج 6، ص 7168. 243 قسمة بينهم كل شرب محتضر (1). وحذرهم من أن الإساءة إلى الناقة: فلا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم (2). الآية التالية تقول: فكذبوه فعقروها، و " العقر " - على وزن كفر - معناه الأساس والأصل والجذر، و " عقر الناقة " قطع أساسها وإهلاكها. وقيل: " العقر " بتر أسافل أطراف الناقة، مما يؤدي إلى سقوطها وهلاكها. ويلاحظ أن قاتل الناقة شخص واحد أشارت إليه الآية بأشقاها، بينما نسب العقر إلى كل طغاة قوم ثمود: " فعقروها "، وهذا يعني أن كل هؤلاء القوم كانوا مشاركين في الجريمة، وذلك أولا: لأن مثل هذه المؤامرات يخطط لها مجموعة ثم ينفذها فرد واحد أو أفراد. وثانيا: لأن هذه الجريمة تمت برضا القوم فهم شركاء في الجريمة بهذا الرضا، وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قال: " إنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمهم الله بالعذاب لما عموه بالرضى، فقال سبحانه: فعقروها فأصبحوا نادمين " (3) وعقب هذا التكذيب أنزل الله عليهم العقاب فلم يترك لهم أثرا: فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها. " دمدم " تعني أهلك، وتأتي أحيانا بمعنى عذب وعاقب وأحيانا بمعنى سحق واستأصل، وبمعنى سخط أو أحاط (4). و " سواها " من التسوية وهي تسوية الأبنية بالأرض نتيجة صيحة عظيمة وصاعقة وزلزلة، أو بمعنى إنهاء حالة هؤلاء القوم، أو تسويتهم جميعا في العقاب
1 - القمر، الآية 28. 2 - الشعراء، الآية 156. 3 - نهج البلاغة، الخطبة 201. 4 - مفردات الراغب، ولسان العرب، ومجمع البيان. 244 والعذاب، حتى لم يسلم أحد منهم. ومن الممكن أيضا الجمع بين هذه المعاني. الضمير في " سواها " يعود إلى قبيلة ثمود، وقد يعود إلى مدنهم وقراهم التي سواها رب العالمين مع الأرض. وقيل إن الضمير يعود إلى مصدر " دمدم " أي إن الله سوى غضبه وسخطه على القوم ليشملهم جميعا على حد سواء، والتفسير الأول أنسب. ومن الآية نستنتج بوضوح أن عقاب هؤلاء القوم كان نتيجة لذنوبهم وكان متناسبا مع تلك الذنوب، وهذا عين الحكمة والعدالة. في تاريخ الأمم نرى غالبا بروز حالة الندم فيهم حين يرون آثار العذاب ولجوءهم إلى التوبة، أما قوم ثمود، فالغريب أنهم حين رأوا علامات العذاب طفقوا يبحثون عن نبيهم صالح ليقتلوه (1). وهذا دليل على ارتكاسهم في العصيان والطغيان أمام الله ورسوله. لكن الله نجا صالحا وأهلك قومه شر إهلاك. وتختتم السورة الحديث عن هؤلاء القوم بتحذير قارع لكل الذين يتجهون في نفس هذه المسيرة المنحرفة فتقول: ولا يخاف عقباها. كثيرون من الحكام قادرون على انزال العقاب لكنهم يخشون من تبعات عملهم، ويخافون ردود الفعل التي قد تحدث نتيجة فعلهم، ولذلك يكفون عن المعاقبة. قدرتهم - إذن - محفوفة بالضعف وعلمهم ممزوج بالجهل. لا يعلمون مدى قدرتهم على مواجهة التبعات. بينما الله سبحانه قادر متعال، علمه محيط بكل الأمور وعواقبها، وقدرته على مواجهة النتائج لا يشوبها ضعف، فهو سبحانه وتعالى لا يخاف عقباها، ولذلك فإن مشيئته في العقاب نافذة حازمة. فالطغاة - إذن - عليهم أن يتنبهوا ويحذروا غضب الله وسخطه ونقمته.
1 - روح البيان، ج 20، ص 446. 245 والضمير في " عقباها " يعود إلى " الدمدمة " والهلاك. * * * 2 بحوث 3 1 - ملخص حديث قوم ثمود قوم " ثمود " - كما ذكرنا - كانوا يقطنون أرضا بين الشام ويثرب تسمى (وادي القرى)... يعبدون الأوثان... ويمارسون ألوان الآثام. بعث الله سبحانه فيهم " صالحا " (عليه السلام) يدعوهم إلى طريقة الهداية والنجاة، لكنهم أبوا إلا أن يعكفوا على أوثانهم ويمارسوا طغيانهم. وعندما طلبوا من نبيهم معجزة، أرسل الله إليهم " ناقة " بطريق إعجازي من قلب جبل، ولكنهم كلفوا بامتحان يتلخص في تقسيم ماء المدينة بينهم وبين الناقة... يوم لها ويوم لهم. وفي الأثر أن القوم كانوا يستفيدون من لبن الناقة في يوم منعهم من الماء، لكن المعجزة لم تخفف من غلواء لجاجهم وعنادهم، فخططوا لقتل الناقة ولقتل صالح أيضا لأنهم رأوا فيه عقبة أمام شهواتهم وميولهم. خطة " قتل الناقة " نفذت كما ذكرنا على يد شقي قسي اسمه " قدار بن سالف "، وكان ذلك في الحقيقة إعلان حرب على الله، لأنهم أرادوا بقتل هذه الناقة التي كانت معجزة نبي الله صالح أن يطفئوا نور الهداية، عندئذ أنذرهم صالح أن يتمتعوا في بيوتهم بما شاؤوا من اللذات ثلاثة أيام لينزل العذاب بعدها عليهم جميعا. (سورة هود - الآية 65). هذه الأيام الثلاثة كانت في الواقع فرصة لإعادة النظر، وآخر مهلة للعودة والتوبة، لكنهم أبوا إلا طغيانا بل ازدادوا عتوا، وهنا حل عليهم العذاب الإلهي،
246 وجاءت الصيحة السماوية (1) لتدك أرضهم، ولتبيدهم في دورهم: وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين (2). تفاصيل قصة ثمود وردت في المجلد السادس من هذا التفسير. 3 2 - أشقى الأولين وأشقى الآخرين جمع من علماء الشيعة والسنة منهم الثعلبي، والواحدي، وابن مردويه، والخطيب البغدادي، والموصلي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم باسنادهم عن عمار بن ياسر، وجابر بن سمرة، وعثمان بن صهيب، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي (عليه السلام): " يا علي! أشقى الأولين عاقر الناقة، وأشقى الآخرين قاتلك، وفي رواية: من يخضب هذه من هذا (وأشار إلى لحيته ويافوخه) " (3). وثمة تشابه في الواقع بين قاتل ناقة صالح، قدار بن سالف، وقاتل أمير المؤمنين (عليه السلام)، عبد الرحمن بن ملجم المرادي. لم يكن الاثنان يحملان عداء شخصيا، بل كان هدف الاثنين اطفاء نور الله والقضاء على معجزة وآية من آيات الله، وكما إن العذاب الإلهي عم قوم ثمود بعد حادثة الناقة، كذلك عم المسلمين بعد استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) داهية دهماء تمثلت في التسلط الأموي المتجبر الذي سام المسلمين سوء العذاب. ويذكر أن الحاكم الحسكاني أورد روايات كثيرة مستفيضة في هذا المجال (4)
1 - الصيحة السماوية أو الصاعقة، صوت عظيم تصحبه هزة شديدة وحرائق، وهي بالتعبير العلمي شرارة كهربائية كبرى تحدث نتيجة تفريغ كهربائي من الغيوم المحملة بشحنات موجبة إلى الأرض ذات الشحنات السلبية. 2 - هود، الآية 67. 3 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 587. 4 - شواهد التنزيل، ج 2، ص 335 - 343. 247 3 3 - أهمية تهذيب النفس كلما ازداد عدد أقسام (جمع قسم) القرآن ازدادت أهمية الموضوع، وفي هذه السورة المباركة أكبر عدد من الأقسام، خاصة وأن القسم بالذات الإلهية المقدسة تكرر ثلاث مرات، ثم جاء التركيز على أن النجاح والفلاح في تزكية النفس، وأن الخيبة والخسران في ترك التزكية. وهذه في الواقع أهم مسألة في حياة الإنسان، والقرآن الكريم إذ يطرح هذه الحقيقة إنما يؤكد على أن فلاح الإنسان لا يتوقف على الأوهام ولا على جمع المال والمتاع ونيل المنصب والمقام، ولا على أعمال أشخاص آخرين (كما هو معروف في المسيحية بشأن ارتباط فلاح الإنسان بتضحية السيد المسيح)... بل الفلاح يرتبط بتزكية النفس وتطهيرها وسموها في ظل الإيمان والعمل الصالح. وشقاء الإنسان ليس أيضا وليد قضاء وقدر وبالاجبار، ولا نتيجة مصير مرسوم، ولا بسبب فعل هذا وذاك، بل هو فقط بسبب التلوث بالذنوب والانحراف عن مسير التقوى. وفي الأثر أن زوج العزيز (زليخا) قالت ليوسف لما أصبح حاكم مصر: " إن الحرص والشهوة تصير الملوك عبيدا، وأن الصبر والتقوى يصير العبيد ملوكا، فقال يوسف: قال الله تعالى: إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين " (1). وعنها أيضا قالت لما رأت موكب يوسف مارا من أمامها: " الحمد لله الذي جعل الملوك بمعصيتهم عبيدا، وجعل العبيد بطاعتهم ملوكا " (2)
1 - المحجة البيضاء، ج 5، ص 116. 2 - المحجة البيضاء، ج 5، ص 117. 248 نعم، عبادة النفس تؤدي إلى وقوع الإنسان في أغلال الرقية بينما تزكية النفس توفر أسباب التحكم في الكون. ما أكثر الذين وصلوا بعبوديتهم لله تعالى درجة جعلتهم أصحاب ولاية تكوينية، ومكنتهم بإذن الله أن يؤثروا في حوادث هذا العالم وأن تصدر منهم الكرامات وخوارق العادات!! إلهي! أعنا على أنفسنا وعلى كبح جماح أهوائنا. إلهي! لقد ألهمتنا " الفجور " و " التقوى " فوفقنا للاستفادة من هذا الإلهام. إلهي! دسائس الشيطان خفية غامضة في نفس الإنسان، فوفقنا لمعرفتها. آمين يا رب العالمين نهاية سورة الشمس * * *
249 1 سورة 1 الليل 1 مكية 1 وعدد آياتها إحدى وعشرون آية
250 1 " سورة الليل " 3 محتوى السورة: هذه السورة مكية تحمل كل خصائص السور المكية من قصر في الآيات، وحرارة في طرح المحتوى، وتركز أساسا على القيامة وعلى ما في ذلك اليوم من جزاء وعقاب. بعد القسم بثلاث ظواهر في بداية السورة يأتي تقسيم الناس إلى منفقين متقين، وبخلاء منكرين، وتذكر عاقبة كل مجموعة، اليسر والسعادة والهناء للمجموعة الأولى، والعسر والضنك والشقاء للمجموعة الثانية. وفي مقطع آخر من السورة إشارة إلى أن الهداية من الله سبحانه لعباده هي انذارهم من النار يوم القيامة. ثم تذكر السورة في نهايتها من يدخل هذه النار ومن ينجو منها، مع ذكر أوصاف الفريقين. 3 فضيلة تلاوة السورة: ورد في فضيلة تلاوة هذه السورة عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن قال: " من قرأها أعطاه الله حتى يرضى، وعافاه من العسر ويسر له اليسر " (1). * * *
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 499. 252 2 الآيات والليل إذا يغشى (1) والنهار إذا تجلى (2) وما خلق الذكر والأنثى (3) إن سعيكم لشتى (4) فأما من أعطى واتقى (5) وصدق بالحسنى (6) فسنيسره لليسرى (7) وأما من بخل واستغنى (8) وكذب بالحسنى (9) فسنيسره للعسرى (10) وما يغنى عنه ماله إذا تردى (11) 2 سبب النزول روي عن ابن عباس في نزول هذه السورة: " أن رجلا كانت له نخلة فرعها في دار رجل فقير ذي عيال، وكان الرجل إذا جاء فدخل الدار وصعد النخلة ليأخذ منها التمر، فربما سقطت التمرة فيأخذها صبيان الفقير، فينزل الرجل من النخلة حتى يأخذ التمر من أيديهم، فإن وجدها في في أحدهم أدخل إصبعه حتى يأخذ التمرة من فيه. فشكا ذلك الرجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأخبره بما يلقي من صاحب النخلة، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إذهب. ولقي رسول الله صاحب النخلة فقال: تعطيني نخلتك المائلة التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة؟ فقال له
253 الرجل: إن لي نخلا كثيرا، وما فيه نخلة أعجب إلي تمرة منها. قال: ثم ذهب الرجل، فقال رجل كان يسمع الكلام من رسول الله: يا رسول الله: أتعطيني ما أعطيت الرجل نخلة في الجنة إن أنا أخذتها؟ قال: نعم. فذهب الرجل ولقي صاحب النخلة فساومها منه فقال له: أشعرت أن محمدا أعطاني بها نخلة في الجنة فقلت له يعجبني تمرتها وإن لي نخلا كثيرا فما فيه نخلة أعجب إلي ثمرة منها؟ فقال له الآخر: أتريد بيعها؟ فقال: لا إلا أن أعطى ما لا أظنه أعطى. قال: فما مناك؟ قال: أربعون نخلة فقال الرجل: جئت بعظيم، تطلب بنخلتك المائلة أربعين نخلة؟! ثم سكت عنه، فقال له: أنا أعطيك أربعين نخلة. فقال له: إشهد إن كنت صادقا، فمر إلى أناس فدعاهم فأشهد له بأربعين نخلة، ثم ذهب إلى النبي فقال: يا رسول الله إن النخلة صارت في ملكي، فهي لك. فذهب رسول الله إلى صاحب الدار، فقال له: النخلة لك ولعيالك، فأنزل الله تعالى: والليل إذا يغشى السورة وعن عطاء قال: اسم الرجل (أبو الدحداح) " (1) * * * 2 التفسير 3 التقوى والإمداد الإلهي: هذه السورة المباركة أيضا تبتدئ بثلاثة أقسام تثير التفكير في المخلوقات وفي الخالق.
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 501. 254 تقول: والليل إذا يغشى فالقسم الأول بالليل حين يغطي... يغطي بظلامه نصف الكرة الأرضية... أو يغطي قرص الشمس، وهذا القسم تأكيد على أهمية الليل ودوره الفاعل في حياة الأفراد، من تعديله لحرارة الشمس، ونشره السكينة على كل الموجودات الحية، وتوفير الجو لعبادة المتهجدين ومناجاة الصالحين. ويستمر السياق القرآني في القسم بالقول: والنهار إذا تجلى (1). والنهار يبدأ من اللحظة التي يطلع فيها الفجر، فيشق قلب ظلام الليل، ثم يمتد ليملأ كل السماء، ويغمر كل شئ بالنور... بهذا النور الذي هو رمز الحركة والحياة، والعامل على نمو كل الموجودات الحية. في القرآن الكريم تركيز على مسألة نظام " النور " و " الظلمة " ودورهما في حياة البشر، لأنهما من نعم الله الكبرى ومن آياته العظمى سبحانه. ثم القسم الأخير في السورة بالخالق المتعال: وما خلق الذكر والأنثى. فوجود الجنسين في عالم " الإنسان " و " الحيوان " و " النبات "... والمراحل التي تمر بها النطفة منذ انعقادها حتى الولادة... والخصائص التي يمتاز بها كل جنس متناسبة مع دوره ونشاطه... والأسرار العميقة المخبوءة في مفهوم الجنسية... كلها من دلالات وآيات عالم الخليقة الكبير... وبها يمكن الوقوف على عظمة الخالق. والتعبير ب " ما " عن الخالق سبحانه كناية عن عظمة الذات الإلهية، وما يحيط بهذه الذات من غموض تجعله سبحانه فوق كل وهم وخيال وظن وقياس.
1 - يلاحظ في السورة المباركة أن الفعل " يغشى " بصيغة المضارع، أما " تجلى " فبصيغة الماضي، قيل إن ذلك يعود إلى عصر نزول السورة، حيث كانت الجاهلية في بداية الدعوة مخيمة بظلامها على الأرض، وفي هذه الحالة سيكون القسم بظلام الجاهلية، وليس ذلك بجيد، ومن الأفضل القول إن هذا الفعل الماضي يفيد معنى المضارع لوقوعه بعد " إذا " الشرطية، أو إن أصل الفعل " تتجلى " حذفت إحدى التائين، عندئذ سيكون الفعل مؤنثا، ولا يكون فاعله " نهار "، بل سيكون التقدير: " إذا تتجلى الشمس فيه ". 255 قال بعضهم أن " ما " في الآية مصدرية، ومعناها أقسم بخلق الذكر والأنثى وهذا الاحتمال ضعيف في معنى الآية. الحقيقة أن القسمين الأول والثاني يشيران إلى الآيات " الآفاقية "، والقسم الثالث إلى الآيات " الأنفسية ". (1) ثم يأتي الهدف النهائي من كل هذه الأقسام بقوله سبحانه: إن سعيكم لشتى اتجاهات سعيكم مختلفة، ونتائجها مختلفة أيضا، هذا يعني أن أفراد البشر لا يستقرون في حياتهم على حال... بل هم في سعي مستمر... وفي استثمار دائم للطاقة التي أودعها الله في نفوسهم... فانظر أيها الإنسان في أي مسير تبذل هذه الطاقة التي هي رأس مال وجودك... في أي اتجاه... وفي سبيل أية غاية؟! حذار من تبديد كل هذه الطاقات في سبيل نتيجة تافهة... وحذار من بيعها بثمن بخس! " شتى " جمع " شتيت " من مادة " شت " أي فرق الجمع، وهنا بمعنى التفرق والتشعب في المساعي من حيث الكيفية والهدف والنتيجة. ثم يأتي تقسيم الناس على قسمين، ويبين خصائص كل قسم، يقول سبحانه: فأما من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، فسنيسره لليسرى. المقصود من الإعطاء في قوله: " أعطى " هو الإنفاق في سبيل الله ومساعدة المحتاجين. والتأكيد على " التقوى " عقب الإعطاء قد يشير إلى ضرورة تنزيه النية وإخلاص القصد عند الإنفاق، وإلى الحصول على المال من طريق مشروع، وإنفاقه في طريق مشروع أيضا، وإلى خلوه من المن والأذى... فكل هذه الصفات
1 - هذا التقسيم للآيات مستلهم من قوله سبحانه: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم. 256 تجتمع في عنوان التقوى. قال بعض إن " أعطى " إشارة إلى العبادات المالية و " اتقى " إشارة إلى سائر العبادات العملية من أداء الواجبات وترك المحرمات، غير أن التفسير الأول أنسب مع ظاهر الآية، ومع سبب نزولها. و " الحسنى " مؤنث " أحسن " إشارة إلى مثوبة الله وجزاءه الأوفى، والتصديق بالحسنى هو الإيمان بها، وفي سبب النزول ذكرنا أن " أبا الدحداح " أنفق أمواله لإيمانه بما سيعوضه الله في الآخرة. والحسنى وردت بهذا المعنى أيضا في قوله سبحانه: وكلا وعد الله الحسنى (1). قيل إن المقصود هو " الشريعة الحسنى "، والتصديق بالحسنى هو الإيمان بالإسلام، الذي هو أكمل الأديان. وقيل إنها كلمة " لا إله إلا الله "، وقيل: إنها الشهادتان. غير أن سياق الآيات وسبب النزول وذكر " الحسنى " بمعنى " الجزاء الحسن " في كثير من الآيات كله يرجح التفسير الأول. عبارة فسنيسره لليسرى قد تكون إشارة إلى التوفيق الإلهي وإلى تيسير الطاعة لمثل هؤلاء الأفراد، أو فتح طريق الجنة أمامهم وما يقابلونه من استقبال الملائكة وتحيتهم، أو كل ذلك. من المؤكد أن الذين سلكوا طريق الإنفاق والتقوى، واطمئنوا إلى جزاء الله وثوابه في الآخرة، تتذلل أمامهم المشاكل وينعمون في الدنيا والآخرة بالسكينة والاطمئنان. أضف إلى ما سبق، قد يكون الإنفاق المالي شاقا وثقيلا على طبع الإنسان في البداية، ولكن بتوطين النفس على ذلك والاستمرار فيه، يتحول إلى أمر ميسور...
1 - النساء، 95. 257 بل أمر فيه لذة وارتياح. ما أكثر الأفراد الأسخياء الذين ينشرحون لحضور الضيف على مائدتهم، ولا يرتاحون إذا خلت مائدتهم يوما من ضيف... وهذا نوع من تيسير الأمور لهؤلاء. ولا يفوتنا أن نذكر أيضا أن الإيمان بالمعاد وبثواب الآخرة يهون المشاكل والصعاب، ويجعل بذل المال بل النفس ميسورا، ويخلق الدافع نحو طلب الشهادة في ميادين الجهاد عن رغبة مقرونة باحساس باللذة والنشوة. " اليسرى " من اليسر، وهي في الأصل بمعنى إسراج الفرس والجامها وإعدادها للركوب. ثم أطلقت الكلمة على كل عمل سهل ممهد (1). وفي الجهة المقابلة تقف المجموعة الأخرى التي تتحدث عنها الآيات التالية: وأما من بخل واستغنى، وكذب بالحسنى، فسنيسره للعسرى. " من بخل " في هذه المجموعة مقابل " من أعطى " في تلك. كلمة " استغنى " أي طلب الغنى، قد تكون إشارة إلى ذريعتهم لبخلهم، ووسيلتهم لاكتناز المال، أو قد تكون إشارة إلى ظنهم بأنهم مستغنون عن ثواب الآخرة، عكس الطائفة الأولى المنشدة إلى مثوبة الله، أو قد تكون بمعنى الإحساس بالاستغناء عن طاعة الله وبالتالي التخبط المستمر في الآثام. من بين هذه التفاسير الثلاثة يبدو التفسير الأول أنسب، وإن أمكن أيضا الجمع بين الثلاثة. المقصود من التكذيب بالحسنى، هو إنكار ثواب الآخرة، أو إنكار الدين الإلهي. فسنيسره للعسرى... والتيسير للعسر بالنسبة لهذه المجموعة، يقابله التيسير لليسر للمجموعة الأولى التي يشملها الله بتوفيقه، وييسر لها طريق
1 - تفسير الكشاف، ج 4، ص 762. 258 الطاعة والإنفاق، وبذلك تتذلل أمامها مشاكل الحياة... أما هذه المجموعة فتحرم التوفيق، ويتعسر عليها شق الطريق وتواجه الضنك والنصب في الدنيا والآخرة، وهؤلاء البخلاء الخاوون من الإيمان يشق عليهم فعل الخير وخاصة الإنفاق، بينما هو للمجموعة الأولى مقرون باللذة والانشراح. (1) ثم يأتي التحذير لهؤلاء البخلاء المغفلين بالآية: وما يغني عنه ماله إذا تردى. لا يستطيع أن يصطحب ماله من هذه الدنيا، ولا يستطيع هذا المال - إذا اصطحبه - أن يقيه من السقوط في نار جهنم. " ما " في الآية قد تكون نافية، وقد تكون للاستفهام الإنكاري، أي ماذا يجديه المال إذا سقط في حفرة القبر أو في هاوية جهنم؟! " تردى " من (الردى) بمعنى الهلاك، وبمعنى السقوط من مكان مرتفع يؤدي إلى الهلاك، وقيل إن أصل الكلمة بمعنى السقوط: ولما كان السقوط من مكان مرتفع يؤدي إلى الهلاك، فقد أطلقت الكلمة وأريد بها الهلاك، والتردي في الآية قد يعني السقوط في القبر، أو في جهنم، أو بمعنى الهلاك الذي هو جزاء هؤلاء. وبهذا... تحدثت الآيات الكريمات عن مجموعتين: الأولى: مؤمنة، تقية، سخية، والثانية: خاوية الإيمان، عديمة التقوى، بخيلة ونموذج المجموعتين موجود في سبب نزول الآيات بوضوح. المجموعة الأولى، طوت طريقها بيسر بتوفيق الله، واتجهت نحو الجنة ونعيمها، بينما المجموعة الثانية، واجهت في مسيرتها الحياتية المشاكل المتفاقمة جمعت الأموال الطائلة، وتركتها وولت تجر أذيال الحسرة والهم والويال، ولم تنل سوى العقاب الإلهي.
1 - " اليسرى " مؤنث أيسر، و " العسرى " مؤنث أعسر، إنما جاءا بصيغة المؤنث إما لأنهما صفتان للأعمال والتقدير: فسنيسره لأعمال يسرى... أو - لأعمال عسرى، أو صفتان لحوادث الحياة، وإن كان الموصوف مفردا فقد يكون " طريقة " أو " خلة ". 259 * * *
260 2 الآيات إن علينا للهدى (12) وإن لنا للآخرة والأولى (13) فأنذرتكم نارا تلظى (14) لا يصلها إلا الأشقى (15) الذي كذب وتولى (16) وسيجنبها الأتقى (17) الذي يؤتى ماله يتزكى (18) وما لاحد عنده من نعمة تجزى (19) إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى (20) ولسوف يرضى (21) 2 التفسير 3 الإنفاق والنجاة من النار: عقب الآيات الكريمة السابقة التي قسمت الناس على مجموعتين: مؤمنة سخية، وعديمة الإيمان بخيلة، وبينت مصير كل منهما، تبدأ هذه الطائفة من الآيات بالتأكيد أن على الله الهداية لا الإجبار والإلزام، ويبقى الإنسان هو المسؤول عن اتخاذ القرار اللازم، وأن انتخاب الطريق المستقيم يعود بالنفع على الإنسان نفسه ولا حاجة لله سبحانه بعمل خير يقدمه الفرد. يقول تعالى: إن علينا للهدى الهدى عن طريق التكوين (الفطرة والعقل) أو عن طريق التشريع (الكتاب والسنة)... فقد بينا ما يلزم وأدينا الأمر حقه.
261 وبعد وإن لنا للآخرة والأولى (1) فلا حاجة بنا لإيمانكم وطاعتكم، ولا طاعتكم تجدينا نفعا ولا معصيتكم تصيبنا ضرا، وكل منهج الهداية لصالحكم أنفسكم. حسب هذا التفسير الهداية تعني " اراءة الطريق ". ويحتمل أن تكون الآيتان لتشجيع المؤمنين الأسخياء، والتأكيد على أن الله سبحانه سيشملهم بمزيد من الهداية، وييسر لهم الطريق في هذه الدنيا وفي الآخرة، فالله قادر على ذلك لأن له الآخرة والأولى. صحيح أن الدنيا مقدمة على الآخرة زمنيا، ولكن الآخرة أهم وهي الهدف النهائي، ولذلك تقدم ذكرها على الدنيا في الآية الإنذار والتحذير من سبل الهداية، ولذلك قال سبحانه: فأنذرتكم نارا تلظى. " تلظى " من اللظى، وهو الشعلة المتوهجة الخالصة والشعلة الخالصة من الدخان ذات حرارة أكبر، وتطلق " لظى " أحيانا على جهنم (2). ثم تشير الآية إلى المجموعة التي ترد هذه النار المتلظية الحارقة وتقول: لا يصلاها إلا الأشقى). وفي وصف الأشقى تقول الآية: الذي كذب وتولى. معيار الشقاء والسعادة - إذن - هو الكفر والإيمان وما ينبثق عنهما من موقف عملي، إنه لشقي حقا هذا الذي يعرض عن كل معالم الهداية وعن كل الإمكانات المتاحة للإيمان والتقوى... بل إنه أشقى الناس. عبارة الذي كذب وتولى قد يكون التكذيب إشارة إلى الكفر، والتولي إشارة إلى ترك الأعمال الصالحة، إذ هو ملازم للكفر، وقد يشير الفعلان إلى ترك
1 - " للام " في (للآخرة) و (للأولى) وكذلك في (للهدى) لام تأكيد تدخل على خبر إن، ودخلت هنا على اسمها لتقدم الخبر. 2 - تلظى أصلها تتلظى حذفت إحدى التائين للتخفيف. 262 الإيمان، ويكون التكذيب بنبي الاسلام، والتولي الإعراض عنه. كثير من المفسرين يعالجون هنا مسأله ترتبط بما طرحته الآية من اختصاص جهنم بالكافرين: لا يصلاها إلا الأشقى... الذي كذب وتولى، وهذا يتنافى مع آيات أخرى وروايات تتحدث عن شمول عذاب جهنم للمؤمنين المذنبين أيضا. والآيتان استدل بهما المرجئة في قولهم: لا تضر مع الإيمان معصية!. ولتوضيح ما يبدو هنا من تعارض يجب الالتفات إلى مسألتين: الأولى - المقصود بصلي جهنم هنا الخلود فيها، والخلود مختص بالكافرين، والقرينة على هذا القول تلك الآيات التي تتحدث عن دخول غير الكافرين أيضا جهنم. والاخرى، أن الآيتين المذكورتين وما بعدهما حيث يقول تعالى: وسيجنبها الأتقى تريد بمجموعها أن تبين فقط حال مجموعتين: عديمة الإيمان البخيلة، والمؤمنة السخية التقية، وتذكر أن مصير الأولى جهنم، والثانية الجنة، ولا تتطرق أساسا إلى المجموعة الثالثة وهي المؤمنة المذنبة. بعبارة أخرى الحصر هنا من النوع الإضافي، أي كأن الجنة خلقت للمجموعة الثانية فقط، وجهنم للمجموعة الأولى فحسب، وبهذا البيان تتضح الإجابة على إشكال آخر بشأن التضاد بين الآيتين اللتين نحن بصددهما وما يلي من آيات تحصر النجاة بالأتقى. ثم تتحدث السورة عن مجموعة قد جنبت النار وأبعدت عنها، تقول الآية: وسيجنبها الأتقى). ومن هو هذا الأتقى؟ تقول الآية الكريمة: الذي يؤتى ماله يتزكى. وعبارة " يتزكى " تشير إلى قصد القربة، وخلوص النية، سواء أريد منها معنى النمو الروحي والمعنوي، أم قصد بها تطهير الأموال، لأن التزكية جاءت بمعنى " التنمية "، وبمعنى " التطهير ". قال تعالى: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم
263 وتزكيهم بها، وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم (1)، أي تربيهم وتنميهم بها. وللتأكيد على خلوص النية في إنفاقهم تقول الآية: وما لأحد عنده من نعمة تجزى فلا أحد قد أنعم على هذا " الأتقى " ليكون إنفاقه جزاء على هذه النعمة. بل هدفه رضا الله لا غير: إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى. بعبارة أخرى: كثير من الإنفاق بين الناس يتم ردا على إنفاق مشابه سابق من الجانب الآخر، طبعا رد الإحسان بالإحسان عمل صالح، لكن حسابه يختلف عما يصدر عن الأتقياء من إنفاق مخلص. الآيات المذكورة أعلاه تقول: إنفاق المؤمنين الأتقياء ليس رياء ولا ردا على خدمات سابقة قدمت إليهم، بل دافعها رضا الله لا غير، ومن هنا كان إنفاقهم ذا قيمة كبرى. التعبير بكلمة " وجه " هنا يعني " الذات "، أي رضا ذات الباري تقدست أسماؤه. وعبارة " ربه الأعلى " تشير إلى أن هذا الإنفاق يتم عن معرفة كاملة... عن معرفة بربوبية الباري تعالى، وعلم بمكانته السامية العليا، وهذا الاستثناء ينفي أيضا كل نية منحرفة، مثل الإنفاق من أجل السمعة والوجاهة وأمثالها... ويجعله منحصرا في طلب رضا الله سبحانه (2). وفي خاتمة السورة ذكر بعبارة موجزة لما ينتظر هذه المجموعة من أجر عظيم تقول الآية: ولسوف يرضى.
1 - التوبة، الآية 103. 2 - " ابتغاء " منصوبة على الاستثناء، والاستثناء في الآية منقطع، أي إن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه أي: ما لأحد عنده من نعمة إلا ابتغاء وجه ربه، ويجوز أن يكون النصب على أن الكلمة مفعول له على المعنى، لأن معنى الكلام، لا يؤتى ماله إلا ابتغاء وجه ربه. 264 نعم، ولسوف يرضى، فهو قد عمل على كسب رضا الله، والله سبحانه سوف يرضيه، إرضاء مطلقا غير مشروط إرضاء واسعا غير محدود... إرضاء عميق المعنى يستوعب كل النعم... إرضاء لا يمكننا اليوم حتى تصوره... وأي نعمة أكبر من هذا الرضي! نعم، الله أعلى، وجزاؤه أعلى، ولا أعلى من رضا العبد رضا مطلقا. احتمل بعض المفسرين أن يكون الضمير في " يرضى " عائدا إلى الله سبحانه أي إن الله سوف يرضى عن هذه المجموعة، وهذا الرضا أيضا نعمة ما بعدها نعمة. نعمة رضا الله عن هذا العبد بشكل مطلق غير مشروط، ومن المؤكد أن هذا الرضا يتبعه رضا العبد الأتقى. فالاثنان متلازمان، وقد جاء في الآية (8) من سورة البينة قوله سبحانه: رضي الله عنهم ورضوا عنه وقوله تعالى في الآية (28) من سورة الفجر: راضية مرضية. لكن التفسير الأول أنسب. * * * 2 بحثان 3 1 - حول سبب نزول سورة الليل يقول الفخر الرازي: أجمع المفسرون منا على أن المراد منه (أي من قوله تعالى: وسيجنبها الأتقى أبو بكر (رض)، واعلم أن الشيعة بأسرهم ينكرون هذه الرواية، ويقولون أنها نزلت في حق علي بن أبي طالب (عليه السلام). ثم يعرب الرازي عن وجهة نظره في هذا المجال ويقول: وإنما قلنا إنه لا يمكن حملها على علي بن أبي طالب لأنه قال في صفة هذا الأتقى وما لأحد عنده من نعمة تجزى، وهذا الوصف لا يصدق على علي بن أبي طالب لأنه كان في تربية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنه أخذه من أبيه، وكان يطعمه ويسقيه ويكسوه ويربيه،
265 وكان الرسول منعما عليه نعمة يجب جزاؤها، أما أبو بكر فلم يكن للنبي عليه الصلاة والسلام عليه نعمة دنيوية، بل أبو بكر كان ينفق على الرسول عليه السلام (1). نحن لا نتطرق عادة في هذا التفسير لمثل هذه المسائل. لكن مثل هذه المحاولات الرامية إلى إثبات الأحكام الذهنية المسبقة بالاستناد إلى آيات قرآنية يبلغ بها الأمر أن تنسب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما لا يليق بمقامه الشامخ (2)، مما يستدعينا أن نتوقف عندها قليلا. أولا: ما يقوله الفخر الرازي بشأن إجماع أهل السنة على نزول السورة في أبي بكر منقوض بما أورده كثير من مفسري أهل السنة منهم القرطبي في تفسيره عن ابن عباس بشأن نزول كل سورة " الليل " في " أبي الدحداح " (3). والقرطبي حين يصل إلى تفسير الآية: وسيجنبها الأتقى يعيد القول أن المقصود به أبو الدحداح، وهذا المفسر يورد ما ذكره أكثر المفسرين بشأن نزول السورة في أبي بكر، غير أنه لا يقبل هذا الرأي. ثانيا: ما قيل بشأن اتفاق الشيعة على نزول الآية في علي (عليه السلام) غير صحيح أيضا، إذ أورد كثير من مفسري الشيعة قصة أبي الدحداح على أنها سبب نزول السورة. نعم، لقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) بأن " الأتقى " شيعة علي وأتباعه، و (الذي يوتى ماله يتزكى هو أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، لكن الظاهر أن هذه الروايات لا تتحدث عن سبب النزول، بل هي من قبيل ذكر المصاديق الواضحة
1 - الفخر الرازي التفسير الكبير، ج 31، ص 205. 2 - المدرسة الأموية كان لها أثرها بدرجة واخرى على كثير من العلماء على مر التاريخ، وتقوم على أساس الحط من شخصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونفي كل منقبة لعلي واله (عليهم السلام) " المترجم ". 3 - تفسير القرطبي، ج 10، ص 718. 266 والبارزة. ثالثا: " الأتقى " في السورة ليست هنا بمعنى أتقى الناس، بل بمعنى المتقي، والشاهد على ذلك كلمة " الأشقى " التي هي لا تعني أشقى الناس، بل هم الكفار الذين يبخلون بأموالهم فلا ينفقونها، أضف إلى ذلك أن الآية نزلت في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أيصح أن يكون أبو بكر مقدما في التقوى على النبي نفسه؟! لماذا نلجأ إلى إثبات أحكامنا الذهنية المسبقة إلى كل وسيلة حتى الحط من شخصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). إنه قيل أن للنبي حسابا آخر، نقول: لماذا لم يكن للنبي حساب آخر في الآية: وما لأحد عنده من نعمة تجزى؟ ففي هذه الآية يرفض الفخر الرازي أن تكون في علي، لأنه مشمول بنعم النبي الدنيوية. رابعا: أي إنسان ليست لأحد نعمة عليه في حياته، ولم يقدم له أحد هدية أو يدعوه لضيافة؟! هل كان أبو بكر كذلك في حياته؟ ألم يستجب لضيافة أو يقبل هدية أو خدمة دنيوية طوال حياته؟! هل هذا معقول؟ المقصود من الآية الكريمة: وما لأحد عنده من نعمة تجزى ليس إذن أن يكون هذا الأتقى غير مشمول بأية نعمة دنيوية من أحد. بل المقصود إن انفاقه ليس من أجل حق نعمة أغدقت عليه، أي أنه حين ينفق، فإنما ينفق في سبيل الله لا في سبيل خدمة أسديت إليه ويريد أن يجزي عليها. خامسا: آيات سورة الليل تنبئ أن السورة نزلت في واقعة ذات قطبين: " الأتقى " و " الأشقى "، وإن اعتبرنا قصة أبي الدحداح سببا للنزول، فالقطبان يتضحان، وإن قلنا إن الأتقى أبو بكر فيبقى السؤال عمن هو " الأشقى ". الشيعة لا يصرون على نزول الآية في علي (عليه السلام) ففي شأنه نزل كثير من القرآن، ولكن إن كان نزولها في علي، يتبين من جهة أخرى من هو " الأشقى "، إذ ورد في
267 تفسير الآية (12) من سورة الشمس: إذ انبعث أشقاها روايات كثيرة بطرق أهل السنة أن المقصود من الأشقى قاتل علي بن أبي طالب (عليه السلام). (وهذه الروايات جمعها - كما ذكرنا - الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل). بالاختصار، رأي الفخر الرازي في هذه الآية ضعيف غاية الضعف وملئ بالاشتباه، ولذلك رفضه الآلوسي في روح المعاني وقال: "... واستدل بذلك الإمام على أنه (أبو بكر) أفضل الأمة وذكر أن في الآيات ما يأبى قول الشيعة أنها في علي وأطال الكلام في ذلك وأتى بما لا يخلو عن قيل وقال " (1). 3 2 - فضيلة الإنفاق في سبيل الله الإنفاق في سبيل الله، ومساعدة المحرومين عن إخلاص نية وبدون منة مما أكد عليه القرآن الكريم في مواضع عديدة واعتبره من علامات الإيمان. والروايات تؤكد كثيرا على هذا المفهوم، وتعد الإنفاق المنطلق من دافع رضا الله والبعيد عن كل رياء ومن وأذى من أفضل الأعمال. وفي نهاية المطاف نورد بعض هذه الروايات: 1 - عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من الإيمان حسن الخلق، وإطعام الطعام: وإراقة الدماء " (2). (النحر في سبيل الله). 2 - عن الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) قال: " إن أحب الأعمال إلى الله إدخال السرور على المؤمن، شبعة مسلم أو قضاء دينه " (3) 3 - عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: " ما أرى شيئا يعدل زيارة
1 - لا ننسى أن نذكر أن الآلوسي رجل متعصب نسبيا للمدرسة الأموية، لكنه مع ذلك لم يوافق الفخر الرازي في رأيه. 2 - بحار الأنوار، ج 74، ص 365، ح 38. 3 - المصدر السابق، ح 35. 268 المؤمن إلا إطعامه، وحق على الله أن يطعم من أطعم مؤمنا من طعام الجنة " (1). 4 - وسأل رجل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أي الأعمال أفضل؟ قال: " اطعام الطعام وأطياب الكلام " (2). 5 - ومسك الختام حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من عال أهل بيت من المسلمين يومهم وليلتهم غفر الله ذنوبه " (3). اللهم! وفقنا لأن نكون من العاملين على هذا الطريق. اللهم! اجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم. اللهم! إنا نتضرع إليك أن تشملنا بنعمتك ورحمتك حتى ننعم بالرضى وتكون عنا راضيا. آمين يا رب العالمين نهاية سورة الليل * * *
1 - أصول الكافي، ج 2، باب إطعام المؤمن، ح 17. 2 - بحار الأنوار، ج 74، ص 388، ح 113. 3 - المصدر السابق، ص 389، ح 2. 269 1 سورة 1 الضحى 1 مكية 1 وعدد آياتها إحدى عشرة آية
271 1 " سورة الضحى " 3 محتوى السورة: هذه السورة نزلت في مكة، وحسب بعض الروايات أنها نزلت حين كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) متألما بسبب تأخر نزول الوحي، وتقول الأعداء نتيجة هذا الانقطاع المؤقت، نزلت السورة كغيث على قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأمدته بطاقة جديدة، وقطعت ألسن الأعداء. هذه السورة تبدأ بقسمين، ثم تبشر النبي بأن الله لا يتركه أبدا. ثم تبشره بعطاء رباني تجعله راضيا ثم تعرض له صورا من حياته السابقة تتجسد فيها الرحمة الإلهية التي كانت تشمله دائما وتحميه وتسنده في أشد اللحظات. وفي نهاية السورة تتكرر الأوامر الإلهية برعاية اليتيم والسائل، وباظهار النعم الإلهية (شكرا لهذه النعم). 3 فضيلة السورة: ويكفي في فضيلة هذه السورة ما وري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من قرأها كان ممن يرضاه الله، ولمحمد أن يشفع له، وله عشر حسنات بعدد كل يتيم وسائل " (1).
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 503. 273 وفضيلة التلاوة هذه هي طبعا من نصيب من يقرأ ويعمل بما يقرأ. جدير بالذكر أن الروايات تذكر هذه السورة والسورة التي تليها: ألم نشرح لك صدرك على أنها سورة واحدة، ولذلك لابد من قرائتهما معا بعد سورة الحمد في الصلاة (لوجوب قراءة سورة كاملة بعد الحمد في الصلاة حسب مذهب أهل البيت (عليهم السلام))، ونظير ذلك في سورتي " الفيل " و " لإيلاف ". ولو أمعنا النظر في سورتي الضحى والانشراح لألفينا ارتباط موضوعاتهما ارتباطا وثيقا يحتم أن تكون الثانية استمرارا للأولى وإن فصلت بينهما البسملة. علماء الفقه (في مدرسة أهل البيت) يجمعون على عدم كفاية واحدة من السورتين بعد الحمد في الصلاة، ولهم بحوث في كتب الفقه بشأن وحدتهما وتلاوتهما. * * *
274 2 الآيات والضحى (1) والليل إذا سجى (2) ما ودعك ربك وما قلى (3) وللآخرة خير لك من الأولى (4) ولسوف يعطيك ربك فترضى (5) 2 سبب النزول روي عن ابن عباس قال: احتبس الوحي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خمسة عشر يوما، فقال المشركون إن محمدا قد ودعه ربه وقلاه، ولو كان أمره من الله تعالى لتتابع عليه، فنزلت السورة وروي أنه لما نزلت السورة قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لجبرائيل (عليه السلام): " ما جئت حتى اشتقت إليك، فقال جبرائيل: وأنا كنت أشد إليك شوقا ولكني عبد مأمور وما نتنزل إلا بأمر ربك " وقيل: سألت اليهود رسول الله عن ذي القرنين وأصحاب الكهف وعن الروح، فقال: سأخبركم غدا، ولم يقل إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحي هذه الأيام، فاغتم لشماتة الأعداء فنزلت السورة تسلية لقلبه، (ونستبعد هذه الرواية لأن اتصال اليهود بالنبي وطرحهم الأسئلة عليه كان في المدينة لا في مكة عادة).
275 وقيل: إن المسلمين قالوا ما ينزل عليك الوحي يا رسول الله. فقال: وكيف ينزل علي الوحي وأنتم لا تنقون براجمكم (هي عقد الأصابع يجتمع فيها الوسخ) ولا تقلمون أظفاركم) (1). واختلفت الروايات في مدة انقطاع الوحي، قيل اثنا عشر يوما، وقيل خمسة عشر، وقيل تسعة عشر، وقيل خمسة وعشرون، وقيل أيضا أربعون. وفي رواية إنها ليلتان أو ثلاث. * * * 2 التفسير 3 يعطيك فترضى: في بداية السورة المباركة قسمان: الأول بالنور، والثاني بالظلمة، ويقول سبحانه: والضحى وهو قسم بالنهار - حين تغمر شمسه كل مكان. والليل إذا سجى أي إذا عمت سكينته كل مكان. " الضحى " يعني أوائل النهار، أي حين يرتفع قرص الشمس في كبد السماء، ويعم نورها الأرض، وهو في الحقيقة أفضل ساعات النهار، لأنه - على حد تعبير بعضهم - شباب النهار، وفيه لا يكون الجو حارا في فصل الصيف، ويكون الدف ء قد عم في فصل الشتاء وتصبح خلاله روح الإنسان مستعدة لممارسة النشاط. " سجى " من السجو أو السجو، أي سكن وهدأ، وتأتي الكلمة أيضا بمعنى غطى، وأقبل ظلامه. والميت الملفوف بالكفن " مسجى "، وفي الآية بمعنى سكن وهدأ، والليلة الخالية من الرياح تسمى " ليلة ساجية " أي هادئة، والبحر حين
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 504. 276 يستقر ويخلو من الأمواج الصاخبة يسمى " بحر ساج ". والمهم في الليل - على أي حال - هدؤوه وسكينته مما يضفي على روح الإنسان وأعصابه هدوء وارتياحا، ويعده لممارسة نشاط يوم غد، وهو لذلك نعمة مهمة استحقت القسم بها. بين القسمين ومحتوى السورة تشابه كبير وارتباط وثيق. النهار مثل نزول نور الوحي على قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والليل كانقطاع الوحي المؤقت، وهو أيضا ضروري في بعض المقاطع الزمنية. وبعد القسمين، يأتي جواب القسم، فيقول سبحانه: ما ودعك ربك وما قلى. " قلى " من " قلا " - على وزن صدا -، وهو شدة البغض، ومن القلو أيضا بمعنى الرمي. وكلا المعنيين يعودان إلى أصل واحد - في رأي الراغب الأصفهاني - فكأن المقلو هو الذي يقذفه القلب من بغضه فلا يقبله. على أي حال، في هذا التعبير سكن لقلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتسل له، ليعلم أن التأخير في نزول الوحي إنما يحدث لمصلحة يعلمها الله تعالى، وليست - كما يقول الأعداء - لترك الله نبيه أو لسخطه عليه. فهو مشمول دائما بلطف الله وعنايته الخاصة، وهو دائما في كنف حماية الله سبحانه. وللآخرة خير لك من الأولى. أنت في هذه الدنيا مشمول بالطاف الله تعالى، وفي الآخرة أكثر وأفضل. أنت آمن من غضب الله في الأمد القريب والبعيد. وباختصار أنت عزيز في الدنيا والآخرة... في الدنيا عزيز وفي الآخرة أعز... قيل إن " الآخرة " و " الأولى " يشيران إلى بداية عمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونهايته، أي إنك ستستقبل في عمرك نصرا ونجاحا أكثر مما استدبرت. وفي ذلك إشارة إلى اتساع رقعة انتشار الإسلام وانتصارات المسلمين المتلاحقة على الأعداء،
277 وفتوحهم في الغزوات، ونمو دوحة التوحيد، واندثار آثار الشرك وعبادة الأوثان. ولا مانع من الجمع بين التفسيرين. وتأتي البشرى للنبي الكريم لتقول له: ولسوف يعطيك ربك فترضى، وهذا أعظم أكرام وأسمى احترام من رب العالمين لعبده المصطفى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). فالعطاء الرباني سيغدق عليه حتى يرضى... حتى ينتصر على الأعداء ويعم نور الإسلام الخافقين، كما أنه سيكون في الآخرة أيضا مشمولا بأعظم الهبات الإلهية. النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) باعتباره خاتم الأنبياء، وقائد البشرية، لا يمكن أن يتحقق رضاه في نجاته فحسب، بل إنه سيكون راضيا حين تقبل منه شفاعته في أمته. ومن هنا جاءت الروايات لتؤكد أن هذه الآية أكثر آيات القرآن الكريم دلالة على قبول الشفاعة منه عليه أفضل الصلاة والسلام. وفي حديث رواه محمد بن علي (عليهما السلام) عن عمه محمد الحنفية عن أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " أشفع لامتي حتى يناديني ربي: أرضيت يا محمد؟ فأقول: نعم يا رب رضيت " ثم إن أمير المؤمنين التفت إلى جماعة وقال: " يا أهل العراق تزعمون أن أرجى آية في كتاب الله عز وجل: يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم... الآية، وإنا أهل البيت نقول أرجى آية في كتاب الله: ولسوف يعطيك ربك فترضى وهي والله الشفاعة ليعطيها في أهل لا إله إلا الله حتى تقول: رب رضيت ". (1) وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: دخل رسول الله على فاطمة (عليها السلام) وعليها كساء من خلة الإبل وهي تطحن بيدها وترضع ولدها فدمعت عينا رسول الله لما
1 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 595، الحديث رقم 12، في الأصل تفسير أبو الفتوح الرازي، ج 12، ص 110. 278 أبصرها فقال: " يا بنتاه تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة فقد أنزل الله علي ولسوف يعطيك ربك فترضى ". (1) * * * 2 بحث 3 فلسفة انقطاع الوحي: يتبين من الآيات الكريمة في هذه السورة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يملك لنفسه شيئا إلا من عند الله... لم يكن له اختيار حتى في نزول الوحي. متى ما شاء الله ينزل الوحي ومتى ما شاء ينقطع، ولعل انقطاع الوحي كان ردا على أولئك الذين كانوا يطالبون النبي بمعاجز مقترحة وفق أذواقهم، أو كانوا يقترحون عليه تغيير بعض الأحكام والنصوص، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لهم: قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي... (2). * * *
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 765. 2 - يونس، الآية 15. 279 2 الآيات ألم يجدك يتيما فأوى (6) ووجدك ضالا فهدى (7) ووجدك عائلا فأغنى (8) فأما اليتيم فلا تقهر (9) وأما السائل فلا تنهر (10) وأما بنعمة ربك فحدث (11) 2 التفسير 3 الشكر على كل هذه النعم الإلهية: ذكرنا أن هدف هذه السورة المباركة تسلية قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبيان الطاف الله التي شملته، وهذه الآيات المذكورة أعلاه تجسد للنبي ثلاث هبات من الهبات الخاصة التي أنعم الله بها على النبي، ثم تأمره بثلاثة أوامر. ألم يجدك يتيما فآوى. فقد كنت يا محمد في رحم أمك حين توفي والدك فآويتك إلى كنف جدك عبد المطلب (سيد مكة). وكنت في السادسة حين توفيت والدتك، فزاد يتمك، لكنني زدت حبك في قلب " عبد المطلب ". وكنت في الثامنة حين رحل جدك " عبد المطلب "، فسخرت لك عمك " أبا
280 طالب "، وليحافظ عليك كما يحافظ على روحه. نعم، كنت يتيما فآويتك. وقيلت في معنى هذه الآية آراء أخرى تبتعد عن ظاهرها. كقولهم إن اليتيم هو الفريد في فضائله وخصائله الحميدة، فتقول مثلا للجوهرة الفريدة " درة يتيمة "... ويكون المعنى حينئذ أن الله وجدك في فضائلك فريدا ليس لك نظير، ولذلك اختارك للنبوة. وكقولهم: إنك كنت يوما يتيما، وأصبحت ملاذا للأيتام وقائدا للبشرية. المعنى الأول دون شك أنسب وبظاهر الآية الصق. ثم يأتي ذكر النعمة الثانية: ووجدك ضالا فهدى. نعم، لم تكن أيها النبي على علم بالنبوة والرسالة، ونحن أنزلنا هذا النور على قلبك لتهدي به الإنسانية، وهذا المعنى ورد في قوله تعالى أيضا: ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا. (1) واضح أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان فاقدا لهذا الفيض الإلهي قبل وصوله مقام النبوة، فالله سبحانه أخذ بيده وهداه وبلغ به هذا المقام، وإلى هذا تشير الآية (3) من سورة يوسف: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين. من المؤكد أنه لولا الهداية الإلهية والإمداد الغيبي ما استطاع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يهتدي المسير نحو الهدف المقصود. من هنا فإن المقصود من الضلالة في كلمة " ضالا " في الآية ليس نفي الإيمان
1 - الشورى، الآية 52. 281 والتوحيد والطهر والتقوى عن النبي، بل بقرينة الآيات التي أشرنا إليها تعني نفي العلم بأسرار النبوة وبأحكام الإسلام، وتعني عدم معرفة هذه الحقائق، كما أكد على ذلك كثير من المفسرين. لكنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد البعثة اهتدى إلى هذه الأمور بعون الله تعالى. (تأمل بدقة). في الآية (282) من سورة البقرة، عند ذكر الشهادة وسبب استشهاد أكثر من شاهدة واحدة في كتابة عقود الدين يقول سبحانه: أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى. والضلالة في هذه الآية تعني " النسيان " بقرينة قوله " فتذكر ". وفي الآية تفاسير أخرى من ذلك. إنك كنت خامل الذكر غير معروف، والله أنعم عليك من المواهب الفريدة مما جعلك معروفا في كل مكان. ومن هذه التفاسير، إنك تهت وضللت الطريق مرات في عهد الطفولة (مرة في شعاب مكة حين كنت في حماية عبد المطلب، ومرة حين كانت حليمة السعدية تأتي بك إلى مكة لتسلمك إلى عبد المطلب فتهت في الطريق. مرة ثالثة حين كنت برفقة عمك أبي طالب ضمن قافلة متجهة إلى الشام فضللت الطريق في ليلة ظلماء والله سبحانه هداك في كل هذه المرات وأعادك إلى حضن جدك أو عمك). ويذكر أن كلمة " ضال " تعني " المفقود " وتعني " التائه ". ففي عبارة: " الحكمة ضالة المؤمن "، الضالة تعني الشئ المفقود. ومن ذلك جاءت هذه المفردة أيضا بمعنى المخفي والغائب ولذا ورد في الآية (10) من سورة السجدة قوله تعالى على لسان منكري المعاد: أإذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد، أي أإذا غبنا واختفينا في بطن الأرض. وإذا كانت كلمة " ضالا " في الآية تعني " المفقود " فلا يبرز إشكال في الموضوع... ولكن إذا كانت بمعنى " التائه " فالمقصود منها عدم الاهتداء إلى طريق
282 النبوة والرسالة قبل البعثة، وبعبارة أخرى لم يكن النبي مالكا لشئ في ذاته الوجودية، وما كان عنده فمن الله، وبهذا المعنى يندفع كل إشكال أيضا. ووجدك عائلا فأغنى (1). لقد جعلناك تستأثر باهتمام " خديجة " هذه المرأة المخلصة الوفية لتضع كل ثروتها تحت تصرفك ومن أجل تحقيق أهدافك، وبعد ظهور الإسلام رزقك مغانم كثيرة في الحروب ساعدتك في تحقيق أهدافك الرسالية الكبرى. وعن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في تفسير هذه الآيات قال: " ألم يجدك يتيما فآوى، قال: فردا لا مثيل في المخلوقين، فآوى الناس إليك. ووجدك ضالا أي ضالة في قوم لا يعرفون فضلك فهداهم إليك. ووجدك عائلا، تعول أقواما بالعلم فأغناهم بك " (2). هذه الرواية تتحدث طبعا عن بطون الآية، وإلا فإن ظاهرها هو ما ذكرناه. ولا يتصورن أحد أن تفسير الآيات بظاهرها يحط من مكانة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو يضفي عليه صفات سلبية من قبل الباري تعالى، بل إنها في الواقع بيان ما أغدق الله على نبيه من ألطاف واكرام واحترام، حين يتحدث المحبوب عن ألطافه بحق العاشق الواله، فإن حديثه هذا هو عين اللطف والمحبة، وهو دليل على عنايته الخاصة، والعاشق بسماعه هذه الألفاظ تسري في جسده روح جديدة، وتصفو نفسه ويغمر قلبه سكينة وهدوء. في الآيات التالية ثلاثة أوامر تصدر إلى الرسول باعتبارها نتيجة الآيات السابقة... والخطاب، وإن كان متجها إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنه يشمل أيضا كل المسلمين.
1 - " العائل " في الأصل كثير العيال، وجاءت أيضا بمعنى الفقير، وهي في الآية بهذا المعنى، ويستفاد من كلام الراغب أن (عال) إذا كانت أجوفا يائيا فهي بمعنى افتقر، وإن كانت أجوفا واويا فبمعنى كثر عياله. (ولا نستبعد أن يكون المعنيان متلازمين). 2 - مجمع البيان، ج 10، ص 506. 283 فأما اليتيم فلا تقهر. " تقهر " من القهر - كما يقول الراغب - الغلبة مع التحقير، ولكن تستعمل في كل واحد من المعنيين، ومعنى التحقير هنا هو المناسب. وهذا يدل على أن هناك مسألة أهم من الإطعام والإنفاق بشأن الأيتام، وهي اللطف بهم والعطف عليهم وإزالة إحساسهم بالنقص العاطفي، ولذا جاء في الحديث المعروف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من مسح على رأس يتيم كان له بكل شعرة تمر على يده نور يوم القيامة " (1). كأن الله يخاطب نبيه قائلا: لقد كنت يتيما أيضا وعانيت من آلام اليتم، والآن عليك أن تهتم بالأيتام كل اهتمام وأن تروي روحهم الظمأى بحبك وعطفك. وأما السائل فلا تنهر. " نهر " بمعنى رد بخشونة، ولا يستبعد أن تكون مشتركة في المعنى مع " نهر " الماء، لأن النهر يدفع الماء بشدة. وفي معنى " السائل " عدة تفاسير. الأول: أنه المتجه بالسؤال حول القضايا العلمية والعقائدية والدينية، والدليل على ذلك هو أن هذا الأمر تفريع مما جاء في الآية السابقة: ووجدك ضالا فهدى، فشكر هذه الهداية الإلهية يقتضي أن تسعى أيها النبي في هداية السائلين، وأن لا تطرد أي طالب للهداية عنك. والتفسير الآخر: هو الفقير في المال والمتاع، والأمر يكون عندئذ ببذل الجهد في هذا المجال، وبعدم رد هذا الفقير السائل يائسا. والثالث: أن المعنى يشمل الفقير علميا والفقير ماديا، والأمر بتلبية احتياجات السائل في المجالين، وهذا المعنى يتناسب مع الهداية الإلهية
1 - المصدر السابق. 284 لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومع إيوائه حين كان يتيما. وذهب بعضهم إلى حصر معنى السائل في طالب المعرفة العلمية، زاعما أن كلمة السائل لم ترد في القرآن الكريم بمعنى طالب المال والمتاع (1)، بينما تكرر في القرآن هذا المعنى كقوله تعالى: وفي أموالهم حق للسائل والمحروم (2) وبهذا المعنى أيضا وردت في المعارج - 25، وفي البقرة - 77. وأما بنعمة ربك فحدث. والحديث عن النعمة قد يكون باللسان، وبتعابير تنم عن غاية الشكر والإمتنان، لا عن التفاخر والغرور. وقد تكون بالعمل عن طريق الإنفاق من هذه النعمة في سبيل الله، انفاقا يبين مدى هذه النعمة. هذه هي خصلة الإنسان السخي الكريم... يشكر الله على النعمة، ويقرن الشكر بالعمل، خلافا للسخفاء البخلاء الذين لا يكفون عن الشكوى والتأوه، ولا يكشفون عن نعمة ولو حصلوا على الدنيا وما فيها، وجوههم يعلوها سيماء الفقر، وكلامهم مفعم بالتذمر والحسرة، وعملهم يكشف عن فقر! بينما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إن الله تعالى إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى أثر النعمة عليه " (3) من هنا يكون معنى الآية: بين ما أغدق الله عليك من نعم بالقول والعمل، شكرا على ما أغناك الله إذ كنت عائلا. بعض المفسرين ذهب إلى أن النعمة في الآية هي النعمة المعنوية ومنها النبوة والقرآن، والأمر للنبي بالإبلاغ والتبيين، وهذا هو المقصود من الحديث بالنعمة. ويحتمل أيضا أن يكون المعنى شاملا للنعم المادية والمعنوية، لذلك ورد عن
1 - تفسير محمد عبده، جزء عم، ص 113. 2 - الذاريات، الآية 19. 3 - نهج الفصاحة، حديث 683. 285 الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية قوله: " حدث بما أعطاك الله، وفضلك، ورزقك، وأحسن إليك وهداك " (1). وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من أعطي خيرا فلم ير عليه، سمي بغيض الله، معاديا لنعم الله " (2). وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: " إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر النعمة على عبده " (3) * * * 2 بحوث 3 1 - القيادة المنطلقة من المعاناة والآلام الآيات الكريمة في هذه السورة، ضمن سردها النعم الإلهية على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، تعكس أيضا مسألة يتم النبي في صباه، وظروفه المادية الصعبة التي عاناها، والأتعاب والآلام التي قاساها، ومن بين هذه الآلام انطلق، ويجب أن يكون كذلك. القائد الإلهي الإنساني يجب أن يذوق مرارة العيش، ويتلمس بنفسه الظروف القاسية، ويشعر بكل وجوده الحرمان، كي يستطيع أن يتفهم صحيح ما تعانيه الفئات المحرومة، ويتحسس آلام الناس ومعاناتهم في معيشتهم. يجب أن يفقد أباه في صغره كي يشعر بآلام الأطفال الأيتام، ولابد أن يبقى جائعا لأيام وأن ينام عاصب البطن، كي يفهم بكل وجوده آلام الجياع.
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 507. 2 - تفسير القرطبي، ج 10، ص 7192، وقريب من هذا المعنى في الكافي، ج 6، كتاب الزي والتجميل، حديث 2. 3 - فروع الكافي، ج 6، ص 438. 286 لذلك كان (صلى الله عليه وآله وسلم) تغرورق عينه بالدموع حين يرى يتيما، وكان يظم ذلك اليتيم إلى صدره ويداعبه بكل حرارة. يجب أن يتفهم ما يعانيه مجتمعه من فقر ثقافي، كي يعتز بكل من يأتيه لطلب معرفة أو علم، ويستقبله بصدر رحب. ليس النبي الخاتم وحده، بل قد يكون كل الأنبياء منطلقين من حياة المعاناة والألم، وهكذا كل القادة الحقيقيين الناجحين كانوا كذلك... ويجب أن يكونوا كذلك. من كان يرفل في نعومة العيش، وفي الثراء والقصور، وكان ينال كل ما يريد، كيف يستطيع أن يدرك آلام المحرومين، وكيف يستطيع أن يتفهم معاناة الفقراء والبائسين ليهب لمساعدتهم؟! في حديث عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): " ما بعث الله نبيا قط حتى يسترعيه الغنم يعلمه بذلك رعية الناس " (1). وفي رعي الغنم دروس في تحمل الآلام، وفي الصبر أمام موجود ضعيف قليل الشعور، كما إنه استلهام لدروس التوحيد والعرفان من خلال حياة الصحراء والعيش في أحضان الطبيعة. وفي رواية أن " موسى بن عمران " سأل ربه عن سبب اختياره لمقام النبوة، فجاءه الجواب: أتذكر يوما أن حملا قد فر من قطيع غنمك فتبعته حتى أخذته ثم قلت له: لماذا أتعبت نفسك، ثم حملته على كتفك، وجئت به إلى القطيع، ولذلك اخترتك راعيا لخلقي، وهذا يعني أن الله تعالى رأى في موسى قدرة فائقة على التحمل تجاه هذا الحيوان مما يدل على قوة روحية فائقة أهلته لهذه المنزلة
1 - بحار الأنوار، ج 11، ص 64: ح 7. 287 الكبيرة. 3 2 - الاهتمام بالأيتام لا يخلو مجتمع من أيتام فقدوا الأب في صغرهم، وهؤلاء الأطفال يجب أن يتمتعوا بحماية من مختلف الجهات. فمن الناحية العاطفية، يشعر هؤلاء بنقص، إذا لم يسد فإنهم سيشبون أفرادا غير سالمين، وكثيرا ما يكونون قساة مجرمين خطرين. ومن الناحية الإنسانية يجب أن يعيش هؤلاء في حماية ورعاية كسائر أبناء المجتمع، أضف إلى ذلك يجب أن يشعر أفراد المجتمع بضمان مستقبل أبنائهم الذين قد يصابون باليتم في يوم من الأيام. الأيتام قد يكونون أصحاب تركة مالية يجب أن تصان بكل دقة، وقد يكونون معدمين ماليا فيجب الاهتمام بهم من هذه الناحية، والآخرون يتحملون مسؤولية التعامل مع هؤلاء بكل اهتمام ورفق كي يزيلوا عنهم غبار عناء الوحدة. لذلك ركزت آيات القرآن الكريم ونصوص الشريعة الأخرى على هذه المسألة ذات البعد الأخلاقي والبعد الاجتماعي والإنساني. وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إن اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن، فيقول الله لملائكته يا ملائكتي من أبكى هذا اليتيم الذي غيب أبوه في التراب؟ فتقول الملائكة: أنت أعلم، فيقول الله تعالى: " يا ملائكتي، فإني أشهدكم أن لمن أسكته وأرضاه أن أرضيه يوم القيامة " (1). وأكثر من ذلك روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إذا بكى اليتيم وقعت دموعه في كف الرحمن " (2). وروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة إذا اتقى الله عز وجل،
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 506. 2 - تفسير الفخر الرازي، ج 31، ص 219. 288 وأشار بالسبابة والوسطى " (1). ولأهمية هذه المسألة قرنها علي أمير المؤمنين في وصيته المعروفة بالصلاة والقرآن وقال: " الله الله في الأيتام فلا تغبوا أفواههم ولا يضيعوا بحضرتكم " (2). وعن أحد الصحابة قال: كنا جلوسا عند رسول الله فأتاه غلام فقال: غلام يتيم وأخت لي يتيمة، وأم لي أرملة، أطعمنا مما أطعمك الله، أعطاك الله مما عنده حتى ترضى، قال: ما أحسن ما قلت يا غلام، أذهب يا بلال فأتنا بما كان عندنا فجاء بواحدة وعشرين تمرة، فقال: سبع لك وسبع لأختك وسبع لامك، فقام إليه معاذ بن جبل فمسح رأسه وقال: جبر الله يتمك وجعلك خلفا من أبيك وكان من أبناء المهاجرين. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): رأيتك يا معاذ وما صنعت. قال: رحمته. قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا يلي أحد منكم يتيما فيحسن ولايته، ووضع يده على رأسه إلا كتب الله له بكل شعرة حسنة ومحا عنه بكل شعرة سيئة، ورفع له بكل شعرة درجة ". (3) في المجتمعات الكبيرة مثل مجتمعاتنا اليوم، لا يمكن للمسلمين أن يكتفوا طبعا بالأعمال الفردية، بل لابد أن تتمركز القوى لرعاية الأيتام وفق برنامج اقتصادي وثقافي وتعليمي مدروس، كي ينشأ هؤلاء الأيتام أفرادا لائقين للمجتمع الإسلامي. وهذا يتطلب تعاونا اجتماعيا عاما. 3 3 - التحدث بالنعم إظهار نعمة الرب، حين يكون بدافع الشكر والثناء، لا على سبيل التفاخر
1 - نور الثقلين، ج 5، ص 597، ح 23. 2 - نهج البلاغة، قسم الرسائل، الرسالة رقم 47. 3 - مجمع البيان، ج 10، ص 506. 289 والاستعلاء، يدفع الإنسان نحو التكامل على سلم العبودية، كما إن له أيضا آثارا اجتماعية إيجابية، وآثارا نفسية تبعث على السكينة والاستقرار. الإنسان الذاكر لنعم ربه لا يشتد عليه ضغط النواقص. إذا أصيب في عضو من أعضاء بدنه يخفف عليه ألم الإصابة شكره على سلامة بقية الأعضاء، وإذا فقد شيئا لا يجزع لأنه شاكر على ما بقي عنده من امكانات. هؤلاء الذاكرون لنعم الله لا يعتريهم يأس وقنوط في الشدائد والهزات، ولا يصيبهم قلق واضطراب، قلوبهم هادئة ونفوسهم مطمئنة وقدرتهم على مواجهة المشاكل كبيرة. إلهي! نعمك أكثر من أن نحصيها ونتحدث بها، فلا تسلبها عنا، بل زدها بكرمك. رباه! نحن في هذه الدنيا مغمورون ببحر كرمك فلا تحرمنا من عطائك يوم القيامة. يا رب العالمين! وفقنا لأن نكون في مساعدة المحرومين مسارعين، ولحقوق الأيتام محافظين. آمين يا رب العالمين نهاية سورة الضحى * * *
290 1 سورة 1 الشرح 1 مكية 1 وعدد آياتها ثماني آيات
291 1 " سورة ألم نشرح " 3 محتوى السورة: المعروف أن هذه السورة نزلت بعد سورة " الضحى " ومحتواها يؤيد ذلك، لأنها تسرد أيضا قسما من الهبات الإلهية لرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم). في سورة " الضحى " عرض لثلاث هبات إلهية بعضها مادية وبعضها معنوية، وفي هذه السورة ذكر لثلاث هبات أيضا غير أن جميعها معنوية، وتدور السورة بشكل عام حول ثلاثة محاور. الأول: بيان النعم الثلاث، والثاني: تبشير النبي بزوال العقبات أمام دعوته، والثالث: الترغيب في عبادة الله الواحد الأحد. ولذلك ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) ما يدل أن هاتين السورتين سورة واحدة كما ذكرنا، ووجب قراءتهما معا في الصلاة لوجوب قراءة سورة كاملة بعد الحمد. ومن أهل السنة من ذهب إلى ذلك أيضا، كما نقل الفخر الرازي عن طاوس وعمر بن عبد العزيز أنهما يقرآنها معا في الصلاة ويحذفان البسملة بينهما (حسب فتاوى فقهاء مذهب أهل البيت قراءة البسملة في كليهما واجبة، وما نقله المرحوم الطبرسي بشأن حذف بعض الفقهاء البسملة هنا لا يبدو صحيحا). والفخر الرازي بعد نقل آراء القائلين بوحدة السورتين، يرد عليهم مستدلا بالفرق الموجود بين السورتين، ذلك لأن سورة والضحى - في رأيه - نزلت حين كان الرسول متألما ومغتما لما ناله من أذى الكفار، بينما السورة التالية نزلت في حالة انشراح الرسول وابتهاجه (1).
1 - تفسير الفخر الرازي، ج 32، ص 2. 293 وهذا استدلال غريب، فالسورتان كلاهما تتحدثان عما مضى من حياة الرسول، وكان ذلك حين تجاوز النبي كثيرا من مشاكل الدعوة، وحين أصبح قلبه الطاهر مفعما بالأمل والسرور. كلا السورتين تتحدثان عن الهبات الإلهية وتذكران بأيام المحن والصعاب كي يكون ذلك تسلية لقلب الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وتصعيدا للأمل في نفسه. على أي حال ارتباط محتوى السورتين ارتباطا وثيقا أمر لا يقبل الشك، وهكذا الكلام في سورتي الفيل وقريش كما سيأتي إن شاء الله. بشأن مكان نزول السورة، يتبين مما سبق أنها نزلت في مكة، ولكن آية: ورفعنا لك ذكرك حدث بالبعض إلى الاعتقاد أنها نزلت في المدينة، حيث ارتفع ذكر النبي وشاع صيته في كل مكان، وليس هذا الدليل بقانع، لأن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ذاع صيته قبل الهجرة رغم كل العقبات والمشاكل وكان الحديث عن دعوته على الألسن في جميع المحافل، كما إن خبر الدعوة انتشر في الحجاز عامة والمدينة خاصة من خلال الوافدين على مكة في موسم الحج. 3 فضيلة السورة: ورد في فضيلة هذه السورة عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من قرأها أعطي من الأجر كمن لقي محمدا مغتما ففرج عنه " (1). * * *
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 507. 294 2 الآيات ألم نشرح لك صدرك (1) ووضعنا عنك وزرك (2) الذي أنقض ظهرك (3) ورفعنا لك ذكرك (4) فإن مع العسر يسرا (5) إن مع العسر يسرا (6) فإذا فرغت فانصب (7) وإلى ربك فارغب (8) 2 التفسير 3 نعم إلهية: سياق الآيات ممزوج بالحب والحنان وبألطاف رب العالمين لنبيه الكريم. أهم هبة إلهية تشير إليها الآية الأولى: ألم نشرح لك صدرك. " الشرح ": في الأصل - كما يقول الراغب - توسعة قطع اللحم بتحويلها إلى شرائح أرق. و " شرح الصدر " سعته بنور إلهي وبسكينة واطمئنان من عند الله، و " شرح معضلات الحديث " التوسع فيه وتوضيح معانيه الخفية، و " شرح الصدر " في الآية كناية عن التوسعة في فكر النبي وروحه، ولهذه التوسعة مفهوم واسع،
295 تشمل السعة العلمية للنبي عن طريق الوحي والرسالة، وتشمل أيضا توسعة قدرة النبي في تحمله واستقامته أمام تعنت الأعداء والمعارضين. ولذلك حين أمر موسى بن عمران (عليه السلام) بدعوة فرعون: اذهب إلى فرعون إنه طغى دعا ربه وقال: رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري (1). وفي موضع آخر يخاطب الله نبيه بقوله سبحانه: فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت (2) أي لا تكن كيونس الذي ترك الصبر فوقع في المشاكل ولاقى أنواع الإرهاق. وشرح الصدر يقابله " ضيق الصدر "، كما في قوله تعالى: ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون (3). ولا يمكن أساسا لقائد كبير أن يجابه العقبات دون سعة صدر. ومن كانت رسالته أعظم (كرسالة النبي الأكرم) كانت الضرورة لشرح صدره أكبر،... كي لا تزعزعه العواصف ولا تثني عزمه الصعاب ولا تبعث في نفسه اليأس مكائد الأعداء، ولا يضيق بالملتوي من الأسئلة. وهذه كانت أعظم هبة إلهية لرسول رب العالمين. لذلك روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: لقد سألت ربي مسألة وددت أني لم أسأله. قلت: أي رب إنه قد كان أنبياء قبلي منهم من سخرت له الريح ومنهم من كان يحي الموتى. قال، فقال: ألم أجدك يتيما فآويتك؟ قال: قلت: بلى. قال: ألم أجدك ضالا فهديتك؟ قال: قلت: بلى أي رب، قال: ألم أشرح لك صدرك ووضعت عنك وزرك؟ قال: قلت: بلى أي رب (4).
1 - طه، الآية 25 - 26. 2 - القلم، الآية 48. 3 - الحجر، الآية 97. 4 - مجمع البيان، ج 10، ص 508. 296 وهذا يعني أن نعمة شرح الصدر تفوق معاجز الأنبياء. والمتمعن في دراسة حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما فيها من مظاهر تدل على شرح عظيم لصدره تجاه الصعاب والمشاق يدرك بما لا يقبل الشك أن الأمر لم يتأت لرسول الله بشكل عادي، بل إنه حتما تأييد إلهي رباني. وقيل أن شرح الصدر إشارة لحادثة واجهت الرسول في طفولته حين نزلت عليه الملائكة فشقت صدره وأخرجت قلبه وغسلته، وملأته علما وحكمة ورأفة ورحمة. (1) المقصود طبعا من القلب في هذه الرواية ليس القلب الجسماني، بل إنه كناية وإشارة إلى الإمداد الإلهي من الجانب الروحي، وإلى تقوية إرادة النبي وتطهيره من كل نقص خلقي ووسوسة شيطانية. ولكن، على أي حال، لا يتوفر عندنا دليل على أن الآية الكريمة مختصة بالحادثة المذكورة، بل لها مفهوم واسع، وقد تكون هذه القصة أحد مصاديقها. وبسعة الصدر هذه اجتاز الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) العقبات والحواجز والصعاب على أفضل وجه، وأدى رسالته خير أداء. ثم يأتي ذكر الموهبة الثانية. ووضعنا عنك وزرك أي ألم نضع عنك الحمل الثقيل. الذي انقض ظهرك. " الوزر " بمعنى الثقل، ومنها " الوزير " الذي يحمل أعباء الدولة، وسميت الذنوب " وزرا " لأنها تثقل كاهل صاحبها. " انقض " من (النقض) أي حل عقدة الحبل، أو فصل الأجزاء المتماسكة من البناء، و " الانتقاض " صوت انفصال اجزاء البناء عن بعضها، أو صوت فقرات
1 - تفسير الدر المنثور (نقلا عن تفسير الميزان، ج 20، ص 452) وتفسير الفخر الرازي، ج 32، ص 2. وهذه الرواية ذكرها البخاري والترمذي والنسائي أيضا في قصة المعراج. 297 الظهر حين تنوء بعب ء ثقيل. والكلمة تستعمل أيضا في نكث العهود وعدم الالتزام بها، فيقال نقض عهده. والآية تقول إذن، الله سبحانه وضع عنك أيها النبي ذلك الحمل الثقيل القاصم الظهر. وأي حمل وضعه الله عن نبيه؟ القرائن في الآيات تدل على أنه مشاكل الرسالة والنبوة والدعوة إلى التوحيد وتطهير المجتمع من ألوان الفساد، وليس نبي الإسلام وحده بل كل الأنبياء في بداية الدعوة واجهوا مثل هذه المشاكل الكبرى، وتغلبوا عليها بالإمداد الإلهي وحده، مع فارق في الظروف، فبيئة الدعوة الإسلامية كانت ذات عقبات أكبر ومشاكل.. نزوله. وقيل أيضا: أن " الوزر " يعني ثقل " الوحي " في بداية نزوله. وقيل: إنه عناد المشركين وتعنتهم. وقيل: إنه أذاهم. وقيل: إنه الحزن الذي ألم بالنبي لوفاة عمه أبي طالب وزوجه خديجة. وقيل: أيضا إنه العصمة وإذهاب الرجس. والظاهر أن التفسير الأول أنسب من غيره والتفاسير الأخرى تفريع من التفسير الأول. وفي الموهبة الثالثة يقول سبحانه. ورفعنا لك ذكرك فاسمك مع اسم الإسلام والقرآن قد ملأ الآفاق، وأكثر من ذلك اقترن اسمك باسم الله سبحانه في الأذان يرفع صباح مساء على المآذن. والشهادة برسالتك لا تنفك عن الشهادة بتوحيد الله في الإقرار بالإسلام وقبول الدين الحنيف. وأي فخر أكبر من هذا؟ وأي منزلة أسمى من هذه المنزلة. وروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير هذه الآية قال: " قال لي جبرائيل قال الله
298 عز وجل: إذا ذكرت ذكرت معي ". (وكفى بذلك منزلة). والتعبير بكلمة (لك) تأكيد على رفعة ذكر النبي رغم كل عداء المعادين وموانع الصادين. وقد ذكرنا أن هذه السورة مكية، بينما الآية الكريمة تتحدث عن انتشار الإسلام، وتجاوز عقبات الدعوة، وإزالة الأعباء التي كانت تثقل كاهل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وارتفاع ذكر النبي في الآفاق... وهذا ما حدث في المدينة لا في مكة. قيل: إن السورة تبشر النبي بما سيلقاه في المستقبل، وكان ذلك سببا لزوال الحزن والهم من قلبه، وقيل أيضا: إن الفعل الماضي هنا يعني المستقبل. ولكن الحق أن قسما من هذه الأمور قد تحقق في مكة خاصة في أواخر السنين الثلاث عشرة الأولى من الدعوة قبل الهجرة، تغلغل الإيمان في قلوب كثير من الناس وخفت وطأة المشاكل، وذاع صيت النبي في كل مكان، وتهيأت الأجواء لانتصارات أكبر في المستقبل. شاعر النبي " حسان بن ثابت " ضمن معنى الآية الكريمة في أبيات جميلة، وقال: وضم الإله اسم النبي إلى اسمه * إذ قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله * فذو العرش " محمود " وهذا " محمد " الآية التالية تبشر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأعظم بشرى، وتقول: فإن مع العسر يسرا ويأتي التأكيد الآخر: إن مع العسر يسرا. لا تغتم أيها النبي، فالمشاكل والعقبات لا تبقى على هذه الحالة، ودسائس الأعداء لن تستمر، وشظف العيش وفقر المسلمين سوف لا يظل على هذا المنوال.
299 الذي يتحمل الصعاب، ويقاوم العواصف سوف ينال يوما ثمار جهوده، وستخمد عربدة الأعداء، وتحبط دسائسهم، ويتمهد طريق التقدم والتكامل ويتذلل طريق الحق. بعض المفسرين ذهب إلى أن هذه الآيات تشير إلى فقر المسلمين في معيشتهم خلال الفترة الأولى من الدعوة، لكن المفهوم الواسع للآيات يستوعب كل ألوان المشاكل. أسلوب الآيتين يجعلهما لا تختصان بشخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبزمانه، بل بصورة قاعدة عامة مستنبطة مما سبق. وتبشر كل البشرية المؤمنة المخلصة الكادحة، وتقول لها: كل عسر إلى جانبه يسر، ولم ترد في الآية كلمة " بعد " بل " مع " للدلالة على الاقتران. نعم، كل معضلة ممزوجة بالإنفراج، وكل صعوبة باليسر، والاقتران قائم بين الاثنين أبدا. وهذا الوعد الإلهي يغمر القلب نورا وصفاء. ويبعث فيه الأمل بالنصر، ويزيل غبار اليأس عن روح الإنسان (1). وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " واعلم أن مع العسر يسرا، وأن مع الصبر النصر، وأن الفرج مع الكرب... ". (2) وروي أن امرأة شكت زوجها لأمير المؤمنين علي (عليه السلام)، لعدم إنفاقه عليها، وكان الزوج معسرا فأبى علي أن يسجن الزوج وقال للمرأة: إن مع العسر يسرا (ودعاها إلى الصبر). (3) فإذا فرغت فانصب أي إذا انتهيت من أداء أمر مهم فابدأ بمهمة أخرى،
1 - مما ذكرنا يتضح أن الألف واللام في (العسر) للجنس لا للعهد، و (يسرا) وردت نكرة، لكنها تعني الجنس أيضا، وتنكيرها في مثل هذه المواضع للتعظيم. 2 - تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 604، حديث 11، 13. 3 - المصدر السابق. 300 فلا مجال للبطالة والعطل. كن دائما في سعي مستمر ومجاهدة دائمة، واجعل نهاية أية مهمة بداية لمهمة أخرى. وإلى ربك فارغب، أي فاعتمد على الله في كل الأحوال. اطلب رضاه، واسع لقربه. الآيتان - حسب ما ذكرناه - لهما مفهوم واسع عام يقضي بالبدء بمهمة جديدة بعد الفراغ من كل مهمة. وبالتوجه نحو الله في كل المساعي والجهود، لكن أغلب المفسرين ذكروا معاني محددة لهما يمكن أن يكون كل واحد منها مصداقا للآيتين. قال جمع منهم: المقصود، إنك إذا فرغت من فريضة الصلاة فادع الله واطلب منه ما تريد. أو: عند فراغك من الفرائض إنهض لنافلة الليل. أو: عند فراغك من أمور الدنيا ابدأ بأمور الآخرة والصلاة وعبادة الرب. أو: عند فراغك من الواجبات توجه إلى المستحبات التي حث عليها الله. أو: عند فراغك من جهاد الأعداء انهض إلى العبادة. أو: عند فراغك من جهاد الأعداء ابدأ بجهاد النفس. أو: عند انتهائك من أداء الرسالة انهض لطلب الشفاعة. الحاكم الحسكاني - عالم أهل السنة المعروف - روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في " شواهد التنزيل " في تفسير الآية إنها تعني: " إذا فرغت فانصب عليا بالولاية " (1). القرطبي في تفسيره روى عن بعضهم أن معنى الآية: " إذا فرغت فانصب إماما يخلفك ". (لكنه رد هذا المعنى) (2).
1 - شواهد التنزيل: ج 2، ص 349، الأحاديث 1116 إلى 1119. 2 - القرطبي، ج 10، ص 7199. 301 موضوع " الفراغ " في الآية لم يذكر، وكلمة " فانصب " من النصب أي التعب والمشقة، ولذلك فالآية تبين أصلا عاما شاملا. وهدفها أن تحث النبي باعتباره القدوة - على عدم الخلود إلى الراحة بعد انتهائه من أمر هام. وتدعوه إلى السعي المستمر. انطلاقا من هذا المعنى يتضح أن التفاسير المذكورة للآية كلها صحيحة، ولكن كل واحد منها يقتصر على مصداق معين من هذا المعنى العام. وما أعظم العطاء التربوي لهذا الحث، وكم فيه من معاني التكامل والانتصار!! البطالة والفراغ من عوامل الملل والخمول والتقاعس والاضمحلال. بل من عوامل الفساد والسقوط في أنواع الذنوب غالبا. وحسب الإحصائيات، مستوى الفساد عند عطلة المؤسسات التعليمية يرتفع إلى سبعة أضعاف أحيانا. وبإيجاز، هذه السورة تبين بمجموعها عناية رب العالمين الخاصة للنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتسلية قلبه أمام المشاكل، ووعده بالنصر أمام عقبات الدعوة، وهي في الوقت ذاته تحيي الأمل والحركة والحياة في جميع البشرية المهتدية بهدى القرآن. * * * 2 ملاحظتان 1 - الآية الكريمة فإذا فرغت فانصب تعني - كما جاء في روايات عديدة - نصب أمير المؤمنين علي بالخلافة بعد الانتهاء من أمر الرسالة (كمصداق من المفهوم العام للآية). " الآلوسي " في " روح المعاني " بعد أن ينقل عن بعض " الإمامية " هذا التفسير يقول: هؤلاء قرأوا " فانصب " بكسر الصاد. وهب أن قراءتها كذلك فلا تنهض أن
302 تكون دليلا على نصب علي بن أبي طالب. ثم ينقل عن الزمخشري في الكشاف قوله: لو أمكن للشيعة مثل هذا التفسير، فالنواصب (أعداء علي) يمكنهم أن يفسروا الآية على أنها أمر بالنصب (ببغض علي) (1). ترى هل أن الشيعة بحاجة إلى تغيير قراءة الآية كي يستدلوا بها على ولاية علي؟! لا طبعا، بل هذه القراءة المعروفة تكفي للتفسير المذكور. لأنها تقول: إذا فرغت من مهمة مثل مهمة الرسالة فابدأ بمهمة أخرى كمهمة الولاية، وهذا مقبول باعتباره أحد مصاديق. ونعلم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - حسب حديث الغدير المعروف وأحاديث أخرى منتشرة في الصحاح والمسانيد - كان في سعي مستمر هي هذا المجال. ولكن المؤسف جدا أن يدفع التعصب برجل عالم مثل " الزمخشري " لأن يجيز لنفسه القول أن النواصب يمكنهم أن يفسروا الآية أيضا على أنها أمر ببغض علي!! أي تعبير ركيك هذا في حق شخص يؤمن به الزمخشري على أنه الخليفة الرابع للمسلمين! حقا إن مزالق التعصب سيئة! 2 - العالم المعتزلي المعروف " ابن أبي الحديد " يروي في " شرح نهج البلاغة " عن " الزبير بن بكار " وهو رجل - كما يقول ابن أبي الحديد - غير شيعي وغير خصم لمعاوية، بل فارق عليا والتحق بمعارضيه - والزبير هنا يروي عن ابن " المغيرة بن شعبة " يقول: دخلت مع أبي على معاوية، فكان أبي يأتيه، فيتحدث معه، ثم ينصرف إلي فيذكر معاوية وعقله، ويعجب بما يرى منه، إذ جاء ذات ليلة، فأمسك عن العشاء، ورأيته مغتما فانتظر ساعة، وظننت أنه لأمر حدث فينا، فقلت: ما لي أراك مغتما منذ الليلة؟ فقال: يا بني، جئت من عند أكفر الناس
1 - روح المعاني، ج 30، ص 172، تفسير الكشاف، ج 4، ص 772. 303 وأخبثهم، قلت: وما ذاك؟ قال: قلت له (لمعاوية) وقد خلوت به: إنك قد بلغت سنايا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلا، وبسطت خيرا فإنك قد كبرت، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم، فوصلت أرحامهم، فوالله ما عندهم اليوم شئ تخافه، وإن ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه، فقال: هيهات هيهات! أي ذكر أرجو بقاءه! ملك أخو تيم (أبو بكر) فعدل وفعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلا أن يقول قائل: أبو بكر، ثم ملك أخو عدي، فأجتهد وشمر عشر سنين، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلا أن يقول قائل: عمر، وإن ابن أبي كبشة (رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)) ليصاح به كل يوم خمس مرات: " أشهد أن محمدا رسول الله "، فأي عمل يبقى، وأي ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك! لا والله دفنا دفنا ". (1) لو أمعنا النظر في هذه الرواية لعلمنا مدى المأساة التي حلت بالمسلمين حتى تولى أمرهم البيت الأموي... وإنا لله وأنا إليه راجعون. إلهي! خلصنا من حب الذات، واغمر قلوبنا بحبك. أبا رب! لقد وعدت باليسر حين يشتد العسر... فيسر على المسلمين وهم يعانون مؤامرات الأعداء ودسائس الطامعين يا الله! زد نعمك علينا ووفقنا لأن نكون من الشاكرين. أمين يا رب العالمين نهاية سورة ألم نشرح * * *
1 - ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 129. 304 1 سورة 1 التين 1 مكية 1 وعدد آياتها ثماني آيات
305 1 " سورة التين " 3 محتوى السورة وفضيلتها: هذه السورة تدور آياتها حول حسن خلقة الإنسان ومراحل تكامله ونموه وانحطاطه. وتبدأ بقسم عميق المعنى، تذكر عوامل انتصار الإنسان ونجاته وتنتهي بالتأكيد على مسألة المعاد وحاكمية الله المطلقة. وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من قرأها أعطاه الله خصلتين: العافية واليقين ما دام في دار الدنيا، فإذا مات أعطاه الله من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة صيام يوم " (1). هذه السورة نزلت مكة، والآية: (وهذا البلد الأمين) قسم بمكة ودليل على مكية السورة لاستعمال اسم الإشارة للقريب. * * *
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 510. 307 2 الآيات والتين والزيتون (1) وطور سينين (2) وهذا البلد الأمين (3) لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم (4) ثم رددناه أسفل سافلين (5) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون (6) فما يكذبك بعد بالدين (7) أليس الله بأحكم الحكمين (8) 2 التفسير تبدأ السورة بالقسم أربع مرات لبيان أمر مهم: والتين، والزيتون. وطور سينين. (1) وهذا البلد الأمين.
1 - قيل إن " سينين " جمع " سينه " وهي شجرة: ولما كان " طور " اسم جبل، فيكون القسم بالجبل المغطى بالأشجار، وقيل إن سينين اسم الأرض التي يرسو عليها ذلك الجبل. وقيل إنه يعني كثير الخير والبركة، وجميل، بلسان أهل الحبشة (روح المعاني، ج 30، ص 173). 308 التين والزيتون ثمرتان معروفتان، واختلف المفسرون في المقصود بالتين وبالزيتون، هل هما الفاكهتان المعروفتان أم شئ آخر. بعضهم ذهب إلى أنهما الفاكهتان بما لهما من خواص عذائية وعلاجية كبيرة. وبعض آخر قال: المقصود منهما جبلان واقعان في مدينتي " دمشق " و " بيت المقدس " لأن المكانين منبثق كثير من الرسل والأنبياء.. وبذلك ينسجم هذان القسمان مع ما يليهما من قسمين بأراض مقدسة. وقال آخرون: إن تسمية الجبلين بالتين والزيتون يعود إلى وجود أشجار التين على أحدهما والزيتون على الآخر. وقال بعضهم: إن التين إشارة إلى عهد آدم، إذ أن آدم وحواء طفقا يضعان على عوراتهما من ورق التين في الجنة، والزيتون إشارة إلى عهد نوح لأنه اطلق في آخر مراحل الطوفان حمامة فعادت وهي تحمل غصن الزيتون، ففهم نوح (عليه السلام) أن الأرض بدأت تبتلع ماءها وظهرت اليابسة. (لذلك اتخذ غصن الزيتون رمزا للسلام). وقيل: إن التين إشارة إلى مسجد نوح الذي بني فوق جبل الجودي. والزيتون إشارة إلى بيت المقدس. ظاهر الآية يدل على أن المقصود هو الفاكهتان المعروفتان، ولكن القسمين التاليين يجعلان تفسير التين والزيتون بالجبلين أو المركزين المقدسين أنسب. طور سينين قيل هو: طور سيناء، وهو الجبل المعروف في صحراء سيناء حيث أشجار الزيتون المثمرة، وحيث ذهب موسى لمناجاة ربه، و " سيناء " تعني المبارك، أو كثير الأشجار، أو الجميل. وقيل: إنه جبل قرب الكوفة في أرض النجف. وقيل: إن سينين وسيناء بمعنى واحد وهو كثير البركة.
309 وهذا البلد الأمين (1)، والبلد الأمين مكة، الأرض التي كانت في عصر الجاهلية أيضا بلدا آمنا وحرما إلهيا، ولا يحق لأحد فيها أن يتعرض لأحد، المجرمون والقتلة كانوا في أمان إن وصلوا إليها أيضا. هذه الأرض لها في الإسلام أهمية عظمي، الحيوانات والنباتات والطيور فيها آمنة فما بالك بالإنسان. ويذكر أن كلمة " التين " وردت في هذا الموضع من القرآن فقط، بينما كلمة الزيتون تكررت في ستة مواضع باللفظ وفي موضع بالإشارة حيث يقول سبحانه: وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين (2) وهي شجرة الزيتون. إذا حملنا كلمتي " التين " و " الزيتون " على معناهما الظاهر الابتدائي، فالقسم بها ذو دلالة عميقة أيضا. " التين " فاكهة ذات مواد غذائية ثرة، ولقمة مغذية ومقوية لمختلف الأعمار، وخالية من القشر والنواة والزوائد. علماء الأغذية يقولون: يمكن الاستفادة من التين كسكر طبيعي للأطفال ويمكن للرياضيين ولمن يعانون ضعف الشيخوخة أن يستفيدوا من التين للتغذية. يقال إن أفلاطون كان يحب التين إلى درجة اطلق بعضهم على هذه الفاكهة اسم محبوب الفلاسفة، وسقراط كان يرى في التين عاملا على جذب المواد النافعة ورفع المواد الضارة. جالينوس كان قد وضع نظام تغذية خاص للأبطال من التين، وكان الرومان واليونان القدماء يغذون أبطالهم بالتين.
1 - " الأمين " على وزن فعيل بمعنى فاعل أي " ذو الأمانة " أو بمعنى مفعول أي الأرض المأمونة لسكنتها. 2 - المؤمنون، الآية 20. 310 علماء التغذية يقولون: التين ملئ بالفيتامينات المختلفة والسكر، ويمكن الاستفادة منه لعلاج كثير من الأمراض، وحين تخلط نسب متساوية من التين والعسل يكون الخليط مفيدا لقرحة المعدة، وتناول التين اليابس يقوي الفكر، وبإيجاز التين، لما فيه من عناصر معدنية تؤدي إلى تعادل قوى البدن والدم، يعتبر غذاء لمختلف الأعمار والظروف. وروي عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) قال: " التين يذهب بالبخر ويشد الفم والعظم، وينبت الشعر، ويذهب بالداء، ولا يحتاج معه إلى دواء ". وقال (عليه السلام): " التين أشبه شئ بنبات الجنة ". (1) وحول الزيتون، فإن العلماء الذين قضوا عمرهم في دراسة خواص النباتات يعيرون أهمية بالغة للزيتون وزيته. ويعتقدون أن الفرد إن أراد أن يعيش في سلامة دائمة فلابد له أن يستفيد من هذا الأكسير الحياتي. زيت الزيتون صديق حميم لكبد الإنسان، وله تأثير فعال في معالجة عوارض الكلى، وحصى الصفراء، والتشنجات الكليوية والكبدية، وإزالة الإمساك. ولذلك ورد ذكر شجرة الزيتون في القرآن الكريم بعبارة: شجرة مباركة. وزيت الزيتون مفعم أيضا بأنواع الفيتامينات وفيه الفوسفور والكبريت والكلسيوم والحديد والبوتاسيوم والمنغنيز الضمادات التي تحضر من زيت الزيتون والثوم مفيدة لأنواع الآلام الروماتيسمية، وحصى كيس الصفراء تزول بتناول زيت الزيتون. (2) وروي عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قال: " ما أفقر بيت يأتدمون بالخل والزيت
1 - الكافي، ج 6، ص 358. وأورده العلامة المجلسي في بحار الأنوار، ج 66، ص 184 روايات متعددة في حقل خواص التين، والمعلومات العلمية عن هذه الفاكهة منقولة عن كتاب " أول جامعة وآخر رسول " (فارسي)، ج 9، ص 90 وما بعدها. 2 - أول جامعة وآخر رسول، ج 9، ص 130 وما بعدها. 311 وذلك أدام الأنبياء " (1)، والزيت هو زيت الزيتون. وعن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) قال: " نعم الطعام الزيت، يطيب النكهة، ويذهب بالبلغم، ويصفي اللون، ويشد العصب، ويذهب بالوصب (المرض والألم والضعف) ويطفئ الغضب ". (2) ومسك الختام حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا المجال قال: " كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة " (3). ثم يأتي جواب القسم. لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم. " تقويم " يعني تسوية الشئ بصورة مناسبة، ونظام معتدل وكيفية لائقة، وسعة مفهوم الآية يشير إلى أن الله سبحانه خلق الإنسان بشكل متوازن لائق من كل الجهات، الجسمية والروحية والعقلية، إذ جعل فيه ألوان الكفاءات، وأعده لتسلق سلم السمو، وهو - وإن كان جرما صغيرا - وضع فيه العالم الأكبر، ومنحه من الكفاءات والطاقات ما جعله لائقا لوسام: ولقد كرمنا بني آدم (4)، وهذا الإنسان هو الذي يقول فيه الله سبحانه بعد ذكر انتهاء خلقته: فتبارك الله أحسن الخالقين وهذا الإنسان بكل ما فيه من امتيازات، يهبط حين ينحرف عن مسيرة الله إلى " أسفل سافلين ". لذلك تقول الآية التالية: ثم رددناه أسفل سافلين.
1 - بحار الأنوار، ج 66، ص 180، حديث 6. 2 - المصدر السابق، ص 183، حديث 22. 3 - المصدر السابق، ج 182، حديث 16. 4 - الإسراء، الآية 70. 312 يقال إن قمم الجبال الشماء إلى جانبها دائما وديان عميقة. وإزاء منحنيات الصعود في التكامل الإنساني توجد منحنيات نزول فظيعة، ولم لا يكون كذلك وهو الموجود الملئ بالكفاءات الثرة التي إن سخرها على طريق الصلاح يبلغ أسمى قمم الفخر وإن استعملها على طريق الفساد يخلق أكبر مفسدة، وينزلق طبعا إلى " أسفل سافلين ". ولكن الآية التالية تقول: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون. " ممنون ": من " المن " وتعني هنا القطع أو النقص، من هنا فالأجر غير مقطوع ولا منقوص، وقيل: إنه خال من المنة، لكن المعنى الأول أنسب. قيل: إن قوله: ثم رددناه أسفل سافلين تعني ضعف الجسم والذاكرة في شيخوخة الإنسان، ولكن هذا التفسير لا ينسجم مع الاستثناء المذكور في الآية التالية، ولذلك نختار التفسير الأول. الآية التالية تخاطب هذا الإنسان الكافر بأنعم ربه والمعرض عن دلائل المعاد وتقول له: فما يكذبك بعد بالدين. تركيب وجودك من جهة، وبنيان هذا العالم الواسع من جهة أخرى يؤكدان أن هذه الحياة الخاطفة لا يمكن أن تكون الهدف النهائي من خلقتك وخلقة هذا العالم الكبير. هذه كلها مقدمات لعالم أوسع وأكمل، وبالتعبير القرآني، هذه " النشأة " الأولى " تنبئ عن " النشأة الأخرى "، فلم لا يتذكر الإنسان؟! ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون. (1) عالم النبات كل عام يجسد مشهد الموت والبعث أمام عين الإنسان، وتطور
1 - راجع أدلة المعاد في تفسير سورة الواقعة. 313 الجنين خلقا بعد خلق، إنما هو في كل خلق معاد وحياة جديدة، فكيف - مع كل هذا - ينكر يوم الجزاء؟! مما تقدم يتضح أن المخاطب في الآية هذا النوع من الأفراد. وقيل: إن المخاطب شخص النبي، والمقصود من الآية هو: مع وجود أدلة المعاد، أي شخص أو أي شئ يستطيع تكذيبك، وهذا التفسير يبدو بعيدا. واتضح أيضا أن المقصود من " الدين " ليس هو الشريعة بل هو يوم الجزاء، الآية التالية تؤيد ذلك. أليس الله بأحكم الحاكمين. هذا سؤال يستهدف حث الإنسان على الاعتراف بأنه سبحانه أحكم الحاكمين في صنائعه وأفعاله، فكيف يترك هذه الخلائق فلا يجازيهم. وروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه حين كان يقرأ سورة التين، ويتلو قوله سبحانه: أليس الله بأحكم الحاكمين يقول: " بلى وأنا على ذلك من الشاهدين ". (1) يا رب! نشهد نحن أيضا أنك أحكم الحاكمين. ربنا! لقد خلقتنا في أحسن تقويم، فوفقنا لأن تكون أعمالنا وأخلاقنا في أحسن وجه. إلهنا! يسر لنا طريق الإيمان والصالح بلطفك ورحمتك. أمين يا رب العالمين نهاية سورة التين * * *
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 512. 314 1 سورة 1 العلق 1 مكية 1 وعدد آياتها تسع عشرة آية
315 1 " سورة العلق " 3 محتوى السورة: المشهور بين المفسرين أنها أول ما نزل من القرآن، ومحتواها يؤيد ذلك أيضا، وقال آخرون إن أول ما نزل سورة " الحمد " وقيل سورة " المدثر " وهو خلاف المشهور. هذه السورة تبدأ بأن تأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقراءة. ثم تتحدث عن خلقة الإنسان بكل عظمته من قطعة دم تافهة. وفي المرحلة التالية تتحدث السورة عن تكامل الإنسان في ظل لطف الله وكرمه، وعن تعليمه وتمكينه من القلم. ثم تتطرق إلى طغيان الإنسان رغم كل ما توفرت له من هبات إلهية واكرام رباني. وتشير بعد ذلك إلى ما ينتظر أولئك الصادين عن طريق الهداية والمانعين لأعمال الخير من عقاب. وفي ختام السورة أمر بالسجود والاقتراب من رب العالمين. 3 فضيلة السورة: روي في فضيلة هذه السورة عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: " من
317 قرأ في يومه أو ليلته إقرأ باسم ربك ثم مات في يومه أو ليلته مات شهيدا وبعثه الله شهيدا، وأحياه كمن ضرب بسيفه في سبيل الله مع رسول الله ". هذه السورة المباركة سميت سورة " العلق " و " إقرأ " و " القلم " لمناسبة هذه الكلمات فيها (1). * * *
1 - تفسير البرهان، ج 4، ص 478. 318 2 الآيات اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الانسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علم الانسان ما لم يعلم (5) 2 سبب النزول ذكرنا أن أكثر المفسرين يذهبون إلى أن هذه السورة أول ما نزل من القرآن، وقيل إن المفسرين يجمعون على نزول الآيات الخمس الأوائل في بداية نزول الوحي على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومضمون الآيات يؤيد ذلك. وجاء في الروايات أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) كان في غار حراء حين نزل عليه جبرائيل وقال له: إقرأ يا محمد. قال: ما أنا بقارئ، فاحتضنه جبرائيل وضغطه وقال له: إقرأ يا محمد وتكرر الجواب. ثم أعاد جبرائيل عمله ثانية وسمع نفس الجواب. وفي المرة الثالثة قال: إقرأ باسم ربك الذي خلق... إلى آخر الآيات الخمس الأول من السورة. قال ذلك واختفى عن أنظار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). رسول الله أحس بتعب شديد بعد هبوط أولى أشعة الوحي عليه فذهب إلى
319 خديجة وقال: " زملوني ودثروني ". (1) " الطبرسي " في مجمع البيان يروي عن الحاكم النيسابوري قصة أول نزول الوحي ما ينبئ أن سورة الحمد كانت أول ما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إن رسول الله قال لخديجة إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء. فقالت: ما يفعل الله بك إلا خيرا، فوالله إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم وتصدق الحديث، قالت خديجة: فانطلقنا إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عم خديجة فأخبره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما رأى، فقال له ورقة: إذا أتاك فأثبت له حتى تسمع ما يقول ثم إيتني فأخبرني، فلما خلا ناداه يا محمد: قل بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين... حتى بلغ ولا الضالين، قل لا إله إلا الله، فأتى ورقة فذكر له ذلك، فقال له: أبشر ثم أبشر، فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم، وإنك على مثل ناموس موسى، وإنك نبي مرسل، وإنك سوف تؤمر بالجهاد بعد يومك هذا، ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك، فلما توفي ورقة، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني " (2). جدير بالذكر أن في بعض كتب التفسير والتاريخ كلاما حول حياة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، في هذه البرهة الزمنية لا تتناسب أبدا مع شخصية النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتستند حتما إلى أحاديث مختلفة أو إلى إسرائيليات، من ذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اغتم كثيرا لدى نزول الوحي عليه أول مرة، وخشي أن يكون إلقاءات شيطانية! ومن ذلك أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) هم مرات أن يلقي بنفسه من أعلى الجبل! وأمثال هذه الخزعبلات التي لا تنسجم اطلاقا مع ما ذكرته كتب السيرة حول ما يتمتع به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من رجاحة في العقل، وضبط كبير في النفس، وصبر وسعة صدر، وثقة بالدور الكبير
1 - التفسير الكبير، ج 12، ص 96 (بتلخيص قليل)، وهذا المعنى أورده كثير من المفسرين بإضافات وزوائد لا يمكن قبول بعضها. 2 - تفسير مجمع البيان، ج 10، ص 514. 320 الذي ينتظره. ويبدو أن أعداء الإسلام دسوا هذه الروايات للطعن في الإسلام وللحط من شخصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). * * * 2 التفسير 3 اقرأ باسم ربك الآية الأولى فيها خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تقول له: اقرأ باسم ربك الذي خلق (1)، قيل إن مفعول إقرأ محذوف وتقديره: إقرأ القرآن باسم ربك، واستدل بعضهم بهذه الآية على أن البسملة جزء من سور القرآن. (2) وقيل: إن الباء هنا زائدة، أي إقرأ اسم ربك، وهذا بعيد لأن المناسب وهذه الحالة أن يقال أذكر اسم ربك لا إقرأ... ويلاحظ هنا قبل كل شئ التركيز على مسألة الربوبية، ونعلم أن " الرب " يعني " المالك المصلح "، أي الشخص الذي يملك شيئا، ويتعهد إصلاحه وتربيته أيضا. ولإثبات ربوبية الله جاء ذكر الخلقة... خلقة الكون، إذ إن أفضل دليل على ربوبيته خالقيته، فالذي يدبر العالم هو خالقه. وهذا في الحقيقة رد على مشركي العرب الذين قبلوا خالقية الله، وأوكلوا الربوبية والتدبير إلى الأوثان، ثم إن ربوبية الله وتدبيره لنظام الكون أفضل دليل على إثبات ذاته المقدسة.
1 - الراغب في المفردات يقول: إن القراءة تعني ضم الحروف والكلمات إلى بعضها. ولذلك لا يقال لنطق الحرف قراءة. 2 - الباء في هذه الحالة للملابسة. 321 ثم اختارت الآية التالية " الإنسان " باعتباره أهم مظاهر الخليقة وقالت: خلق الإنسان من علق. " العلق " في الأصل الالتصاق بشئ، ولذلك سمي الدم المنعقد المتلاصق، وهكذا الحيوان الذي يلتصق بالجسم لمص الدم، ب " العلق " والنطفة بعد أن تطوي المراحل الجنينية الأولى تتحول إلى قطعة دم متلاصقة هي العلق، وهي مع تفاهتها الظاهرية تعتبر مبدأ خلقة الإنسان، والآية تركز على هذه الظاهرة لتبين قدرة الرب العظيمة على خلق هذا الإنسان العجيب من هذه العلقة التافهة. وقيل: إن العلق في الآية يعني الطين الذي خلق منه آدم، وهو أيضا مادة متلاصقة، وبديهي أن الرب الذي خلق آدم من طين لازب يستحق كل تمجيد وثناء. وقيل أيضا: أن العلق يعني " صاحب العلاقة "، وفيه إشارة إلى الروح الاجتماعية للإنسان، والعلاقة الموجودة بين أفراد البشر هي في الواقع أساس تكامل البشر وتطور الحضارات. وقال آخرون: إن العلق إشارة إلى نطفة الرجل (الحيمن)، وهي تشبه دودة العلق إلى حد كبير، وهذا الموجود المجهري يسبح في ماء النطفة، ويتجه إلى بويضة المرأة في الرحم، ويلقحها ويكون منها النطفة الكاملة للإنسان. والقرآن الكريم بطرحه هذه المسألة يسجل معجزة علمية أخرى من معاجزه، إذ لم تكن هذه الأمور معروفة أبدا في عصر نزوله. ومن بين التفاسير الأربعة، يبدو أن التفسير الأول أوضح، وإن كان الجمع بين التفاسير الأربعة ممكن أيضا. مما تقدم نفهم أن " الإنسان " في الآية هو آدم حسب أحد التفاسير وهو مطلق الإنسان حسب التفاسير الثلاثة الأخرى. وللتأكيد، تقول الآية مرة أخرى:
322 إقرأ وربك الأكرم. (1) قيل: إن " إقرأ " في هذه الآية تأكيد لإقرأ في الآية السابقة، وقيل: إنها تختلف عن الآية الأولى، فالأولى قراءة النبي لنفسه، وفي الثانية القراءة للناس غير أن الرأي الأول أنسب، إذ لا يوجد دليل على اختلاف الاثنين. وهذه الآية في الواقع جواب على قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لجبرائيل: ما أنا بقارئ، وهذه الآية تقول: إنك قادر على القراءة بكرم الرب وفضله ومنه. ثم تصف الآيتان التاليتان الرب الأكرم: الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لا يعلم. وهاتان الآيتان أيضا تتجهان إلى الجواب على قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أنا بقارئ، أي إن الله الذي علم البشر بالقلم وكشف لهم المجاهيل، قادر على أن يعلم عبده الأمين القراءة والتلاوة. جملة الذي علم بالقلم تحتمل معنيين. الأول: أن الله علم الإنسان الكتابة، وأعطاه هذه القدرة العظيمة التي هي منبثق تاريخ البشر، ومنطلق جميع العلوم والفنون والحضارات. والثاني: المقصود أن الله علم الإنسان جميع العلوم عن طريق القلم وبوسيلة الكتابة. وبإيجاز إما أن يكون التعليم، تعليم الكتابة، أو تعليم العلوم عن طريق الكتابة. وهو - على أي حال - تعبير عميق المعنى في تلك اللحظات الحساسة من
1 - جملة " وربك الأكرم " جملة استئنافية مكونة من مبتدأ وخبر. 323 بداية نزول الوحي * * * 2 بحثان 3 1 - بداية نزول الوحي مقرون ببداية حركة علمية هذه الآيات كما ذكرنا هي أول ما نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما ذهب إليه أغلب المفسرين أو جميعهم، وبذلك بدأ فصل جديد في تاريخ البشرية، وأضحت الإنسانية مشمولة بأعظم الألطاف الإلهية وبأكمل الأديان وخاتمها. واستمر نزول الوحي حتى اكتمل التشريع الإلهي بمصداق قوله سبحانه: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا (1)، وبذلك أتم الله نعمته على الأجيال البشرية المتعاقبة حتى يرث الله الأرض ومن عليها. والمهم في الأمر أن هذه الآيات نزلت على نبي أمي لم يتعلم القراءة والكتابة وفي بيئة اجتماعية تسودها الأمية والجهل لتتحدث أول ما تتحدث عن العلم وعن القلم مباشرة بعد ذكر نعمة الخلق! هذه الآيات تتحدث في الواقع أولا عن تكامل " جسم " الإنسان من موجود تافه هو " العلقة "، ثم عن تكامل " روحه " بواسطة التعليم والتعلم خاصة عن طريق القلم. حين نزلت هذه الآيات لم تكن بيئة الحجاز وحدها بل كان العالم المتحضر في ذلك العصر أيضا لا يعير أهمية تذكر للقلم.
1 - المائدة، الآية 3. 324 أما اليوم فإننا نعلم أن القلم محور كل الحضارات والعلوم، وكل تقدم في أي مجال من المجالات، ونعلم تفوق أهمية " مداد العلماء " على " دماء الشهداء "، لأن هذا المداد هو الذي يكون الأساس القويم لدماء الشهداء والسند المتين له. ولا نكون مغالين إذا قلنا أن مصير المجتمعات البشرية مرتبط بما تفرزه الأقلام. إصلاح المجتمعات البشرية يبدأ من الأقلام الملتزمة المؤمنة، وفساد المجتمعات أيضا ينطلق من الأقلام المسمومة. ولأهمية القلم يقسم القرآن به وبما يفرزه، أي بآلة الكتابة وبمحصولها: ن والقلم وما يسطرون (1). نعلم أن حياة البشرية تقسم على مرحلتين: عصر التاريخ. وعصر ما قبل التاريخ. وعصر التاريخ يبدأ من استعمال القلم والكتابة والقراءة... من زمن اقتدار الإنسان على أن يكتب بالقلم، وأن يخلف تراثا للأجيال، من هنا فتاريخ البشرية مقرون بتاريخ ظهور القلم والخط. وحول دور القلم في حياة البشرية كان لنا وقفة طويلة في بداية تفسير سورة القلم. من هنا فإن أساس الإسلام أقيم منذ البداية على أساس العلم والقلم... ولذلك استطاع قوم متخلفون أن يتقدموا في العلم والمعرفة حتى تأهلوا - باعتراف الأعداء والأصدقاء - لتصدير علومهم إلى العالم! إن علم المسلمين ومعارفهم هو الذي مزق ظلام القرون الوسطى في أوروبا وأدخلها عصر الحضارة. وهذا ما
1 - القلم، الآية 1. 325 يعترف به علماء أوروبا أنفسهم فيما كتبوه في حقل تاريخ الحضارة الإسلامية وفي تراث الإسلام. وما أبشع وأفظع أن تكون أخلاق أمة كتلك تمتلك بين ظهرانيها دينا كهذا متخلفة في ميادين العلم والمعرفة ومحتاجة إلى الآخرين بل وتابعة لهم!! 3 2 - باسم الله في كل حال بدأت دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باسم الله وذكره: اقرأ باسم ربك. واستمرت حياة الرسول مقرونة في كل حال بذكر الله... اقترن الذكر بأنفاسه... بقيامه... بجلوسه... بنومه... بمشيه... بركوبه... بترجله... بتوقفه... كان كله باسم الله. عندما كان يستيقظ يقول: " الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور ". يقول ابن عباس: بت ليلة مع النبي، وعندما استيقظ رفع رأسه إلى السماء، وتلا الآيات العشر الأخيرة من سورة آل عمران: إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار... ثم قال: " اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن.. اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت... ". حين كان يخرج من البيت يقول: " بسم الله، توكلت على الله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل، أو أضل، أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل، أو يجهل علي ". وحين يرد المسجد يقول: " أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم ". وحين يرتدي لباسا جديدا يقول: " اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك
326 خيره وخير ما صنع له وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له ". وحين يعود إلى المنزل يقول: " الحمد لله الذي كفاني وأواني، والحمد لله الذي أطعمني وسقاني ". وبذلك فإن حياة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بكل مرافقها كانت مقرونة بذكر الله واسمه الكريم. (1) * * *
1 - في ظلال القرآن، ج 8، ص 619 وما يليها بتلخيص. 327 2 الآيات كلا إن الانسان ليطغى (6) أن رآه استغنى (7) إن إلى ربك الرجعي (8) أرأيت الذي ينهى (9) عبدا إذا صلى (10) أرأيت إن كان على الهدى (11) أو أمر بالتقوى (12) أرأيت إن كذب وتولى (13) ألم يعلم بأن الله يرى (14) 2 التفسير 3 سبب الطغيان: استتباعا للآيات السابقة التي تحدثت عن النعم المادية والمعنوية الإلهية على الإنسان... والنعم التي تستلزم شكر الإنسان وتسليمه أمام الله، هذه الآيات تبدأ بالقول: ليست نعم الله تحيي روح الشكر في الإنسان دائما، بل إنه يطغى: كلا إن الإنسان ليطغى (1) ومتى يكون ذلك؟ فيما لو رأى نفسه مستغنيا وغير محتاج.
1 - حسب المعنى الذي ذكرناه للآية (كلا) هنا للردع بالنسبة لما يستلزمه مضمون الآيات السابقة وقيل أيضا أنها بمعنى " حقا " للتأكيد. 328 أن رآه استغنى (1). هذه طبيعة أغلب أفراد البشر... الأفراد الذين لم يتربوا في مدرسة العقل والوحي، حين يرون أنفسهم مستغنين غير محتاجين يعمدون إلى الطغيان، وينسلخون من عبودية الله، ويرفضون الاعتراف بأحكامه، ويصمون أذانهم عن ندائه، ولا يراعون حقا ولا عدلا. لا الإنسان ولا أي مخلوق آخر قادر على أن يستغني، بل كل الموجودات الممكنة بحاجة إلى لطف الله ونعمه، وإذا انقطع فيضه سبحانه عنها لحظة واحدة، ففي هذه اللحظة بالذات تفنى بأجمعها، غير أن الإنسان يحس خطأ أحيانا أنه مستغن غير محتاج. والقرآن يشير إلى هذا الإحساس بعبارة دقيقة يقول: أن رآه استغنى لم يقل أن استغنى. قيل: إن المقصود بالإنسان في الآية أبو جهل الذي كان يطغى أمام الدعوة لكن مفهوم الإنسان هنا عام، وأمثال أبي جهل مصاديق له. يبدو أن الهدف من الآية الفات نظر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بمنعطفات الطبيعة البشرية كي لا يتوقع قولا سريعا من الناس لدعوته، وليعد نفسه لإنكار المنكرين ومعارضة الطغاة المستكبرين، وليعلم أن الطريق أمامه وعر ملئ بالمصاعب. ثم يأتي التهديد لهؤلاء الطغاة المستكبرين وتقول الآية التالية: إن إلى ربك الرجعي وهو الذي يعاقب الطغاة على ما اقترفوه، وكما إن رجوع كل شئ إليه، وميراث السماوات والأرض له سبحانه: ولله ميراث السماوات والأرض (2) فكل شئ في البداية منه، ولا مبرر للإنسان أن يشعر بالاستغناء ويطغى.
1 - جملة " أن رآه استغنى " مفعول لأجله، والتقدير: لأن... والرؤية هنا بمعنى العلم ولذا نصبت مفعولين، ويحتمل أيضا أن تكون الرؤية هنا حسية. و " استغنى " تكون عندئذ بمثابة الحال. 2 - آل عمران، الآية 180. 329 ثم تتحدث الآيات التالية عن بعض أعمال الطغاة المغرورين، مثل صدهم عباد الله عن السير في طريق الحق. أرأيت الذي ينهى. عبدا إذا صلى؟! ألا يستحق مثل هؤلاء عذابا سحيقا؟! وفي الحديث أن أبا جهل قال: " هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم (أي هل يسجد محمد بينكم) قالوا: نعم، قال: فبالذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته. فقيل له: ها هو ذاك يصلي، فانطلق ليطأ على رقبته، فما فاجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه. فقالوا: مالك يا أبا الحكم؟! قال: إن بيني وبينه خندقا من نار، وهولا، وأجنحة. وقال نبي الله: والذي نفسي بيده لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا. فأنزل الله سبحانه: أرأيت الذي ينهى إلى آخر السورة " (1) حسب هذه الرواية: الآيات التي نحن بصددها لم تنزل في بداية البعثة، بل نزلت حين أعلنت الدعوة، ولذلك قيل إن الآيات الخمس الأولى هي التي كانت أول ما نزل من الوحي والباقي بعد ذلك بمدة. على أي حال، سبب نزول الآيات لا يمنع من سعة مفهومها. الآيات التالية تأكيد على نفس المفاهيم. أرأيت إن كان على الهدى. أو أمر بالتقوى. أي أرأيت إن كان هذا العبد المصلي على الهدى أو أمر بالتقوى فهل يصح نهيه؟ ألا يستحق من ينهاه النار؟
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 515. 330 أرأيت إن كذب وتولى ولو كذب هذا الطاغية بالحق وتولى وأعرض عنه فماذا سيكون مصيره؟ ألم يعلم بأن الله يرى ويثبت كل شئ ليوم الجزاء والحساب. والتعبير بالقضية الشرطية في الآيتين إشارة إلى أن هذا الطاغي المغرور ينبغي أن يحتمل - على الأقل - أن النبي على طريق الهداية ودعوته تتجه إلى التقوى،. وهذا الاحتمال وحده كاف لصده عن الطغيان. من هنا فمفهوم الآيات ليس فيه ترديد في هداية النبي ودعوته إلى التقوى، بل ينطوي على إشارة دقيقة إلى المعنى المذكور. بعض المفسرين أرجع الضمير في " كان " و " أمر " إلى الشخص الطاغي الناهي، مثل أبي جهل، ويكون المعنى عندئذ: أرأيت إن قبل هذا هداية الإسلام، وأمر بالتقوى بدلا من نهيه عن الصلاة، فما أنفع ذلك له! لكن التفسير الأول أنسب! * * * 2 ملاحظة 3 عالم الوجود محضر الله: حين يؤمن الإنسان بأنه في كل حركاته وسكناته بين يدي الله، وأن عالم الوجود محضر الله سبحانه وتعالى، لا يخفى عليه شئ من عمل الفرد بل من نواياه، فإن ذلك سيؤثر على منهج هذا الإنسان في الحياة تأثيرا بالغا، ويصده عن الانحراف، إذا كان إيمانه - طبعا - متوغلا في قلبه، وكان اعتقاده قطعي لا تردد فيه. جاء في الحديث: " أعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ".
331 يقال أن عارفا تاب بعد ذنب، وكان بعد ذلك يبكي كثيرا قيل له: لم هذا البكاء؟ ألا تعلم أن الله تعالى غفور؟ قال: بلى، قد يعفو سبحانه. ولكن كيف أبعد عن نفسي الإحساس بالخجل، وقد رآني أذنب؟! * * *
332 2 الآيات كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية (15) ناصية كذبة خاطئة (16) فليدع ناديه (17) سندع الزبانية (18) كلا لا تطعه واسجد واقترب (19) 2 التفسير 3 السجود والتقرب: بعد الحديث في الآيات السابقة عن الطغاة الكافرين الصادين عن سبيل الله، توجه هذه الآيات أشد التهديد لهم وتقول: كلا لا يكون ما يتصور (لأنه تصور أن يصد عن عبادة الله بوضعه قدمه على رقبة النبي). كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية نعم، إذا لم ينته من إثمه وطغيانه سنجره بالقوة من شعر مقدمة رأسه (وهي الناصية)، وثم وصف الناصية هذه بأنها كاذبة خاطئة وهو وصف لصاحبها ناصية كاذبة خاطئة. " لنسفعا ": من السفع، وذكر له المفسرون معاني متعددة: الجر بالشدة، الصفع على الوجه، تسويد الوجه (الأثافي الثلاثة التي يوضع عليها القدر تسمى " سفع "
333 لأنها تسود بالدخان)، ووضع العلامة والإذلال (1). والأنسب المعنى الأول، وإن كانت الآية تحتمل معاني أخرى أيضا. وهل حدوث هذا السفع بالناصية في يوم القيامة، حيث يسحب أبو جهل وأمثاله من مقدمة شعر الرأس إلى جهنم، أم في الدنيا، أم في كليهما؟ لا يستبعد أن يكون في كليهما، والشاهد على ذلك الرواية التالية: " لما نزلت سورة الرحمن، علم القرآن... قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه: من يقرؤها منكم على رؤوساء قريش؟ فتثاقلوا مخافة أذيتهم، فقام ابن مسعود وقال: أنا يا رسول الله، فأجلسه عليه السلام، ثم قال: من يقرؤها عليهم؟ فلم يقم إلا ابن مسعود، ثم ثالثا كذلك إلى أن أذن له، وكان عليه السلام يبقي عليه لما كان يعلم من ضعفه وصغر جثته. ثم إنه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة، فافتتح قراءة السورة، فقام أبو جهل فلطمه فشق أذنه وأدماه، فانصرف وعيناه تدمع. فلما رآه النبي عليه السلام رق قلبه وأطرق رأسه مغموما، فإذا جبريل عليه السلام يجئ ضاحكا مستبشرا، فقال: يا جبريل تضحك وابن مسعود يبكي! فقال: ستعلم. فلما ظهر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في المجاهدين، فأخذ يطالع القتلى: فإذا أبو جهل مصروع يخور... فصعد على صدره، فلما رآه أبو جهل قال: يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعبا. فقال ابن مسعود: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. فقال أبو جهل: بلغ صاحبك أنه لم يكن أحد أبغض إلي منه في حياتي، ولا أحد أبغض إلي منه في حال مماتي. روي أنه عليه السلام لما سمع ذلك قال: " فرعوني أشد من فرعون موسى
1 - التفسير الكبير، ج 32، ص 23. 334 فإنه قال آمنت وهو قد زاد عتوا ". ثم قال أبو جهل لابن مسعود: اقطع رأسي بسيفي هذا، لأنه أحد وأقطع. فلما قطع رأسه لم يقدر على حمله، فراح يجره على ناصيته إلى رسول الله، (وبذلك تحقق قوله سبحانه: (لنسفعن بالناصية) في هذه الدنيا أيضا " (1). " الناصية ": شعر مقدم الرأس، و (السفع بالناصية) يراد به الإذلال والإرغام، لأن أخذ الشخص بناصيته يفقده كل حركة ويجبره على الاستسلام. " الناصية " تستعمل لمقدمة رأس الأفراد، وللجزء النفيس من الشئ كأن نقول " ناصية البيت ". ووصف الناصية بأنها " كاذبة خاطئة " يعني أن صاحبها كاذب في أقواله وخاطئ في أعماله، كما كان أبو جهل. ولقد وردت بعض الروايات الصحيحة بأن السورة - عدا المقطع الأول منها - قد نزلت في أبي جهل إذ مر برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يصلي عند المقام فقال (يا محمد ألم أنهك عن هذا؟ وتوعده فاغلظ له رسول الله وانتهره...) ولعلها هي التي أخذ فيها رسول الله بخناقه وقال له: (أولى لك ثم أولى) فقال: يا محمد بأي شئ تهددني؟ أما والله وإني لأكثر هذا الوادي ناديا) (2). وهنا نزلت الآية التالية تقول لأبي جهل: فليدع هذا الجاهل المغرور كل قومه وعشيرته وليستنجد بهم. فليدع ناديه. ونحن سندع أيضا زبانية جهنم: سندع الزبانية ليعلم هذا الجاهل الغافل أنه عاجز عن فعل أي شئ وإنه
1 - الفخر الرازي، ج 32، ص 23. 2 - تفسير في ظلال القرآن، ج 6، ص 3942 ذيل الآية. 335 في قبضة خزنة جهنم كقشة في مهب الريح. " النادية " من مادة (ندا) وهو المكان الذي يجتمع فيه القوم، وتارة يطلق على مركز التفريح، لأن القوم فيه ينادي بعضهم بعضا، أو من " الندا " بمعنى الكرم، لأن الأفراد يكرم فيه بعضهم بعضا. ومنه أيضا " الندوة " وهي مكان يتشاور فيه الجماعة. و " دار الندوة " مقر معروف لتشاور قريش. و " النادي " في الآية يقصد به القوم الذين يجتمعون في النادي. وأرادت منه الآية أولئك الذين يستند إليهم أمثال أبي جهل من أهل وعشير وأصحاب. و " الزبانية " جمع " زبنية " وهو في الأصل بمعنى الشرطة من مادة " زبن " - على زنة متن - وهو الدفع والردع والإبعاد. وهنا بمعنى ملائكة العذاب وخزنة جهنم. وفي آخر آية من السورة وهي آية السجدة يقول سبحانه: كلا أي ليس الأمر كما يتصور بأنه قادر على أن يمنع سجودك: لا تطعه واسجد واقترب فأبو جهل أقل من أن يستطيع منع سجودك أو الوقوف بوجه دينك، فتوكل على الله وأعبده واسجد له، وبذلك تقترب منه سبحانه على هذا المسير أكثر فأكثر. ويستفاد ضمنيا من هذه الآية أن " السجود " عامل اقتراب من الله، ولذا ورد في الحديث: " أقرب ما يكون العبد من الله إذا كان ساجدا ". وفي روايات أهل البيت (عليهم السلام) أن القرآن يتضمن أربعة مواضع فيها سجود واجب وهي في " ألم السجدة " و " فصلت " و " النجم " وفي هذه السورة " العلق " وبقية المواضع السجدة فيها مستحبة. * * *
336 2 ملاحظة 3 الطغيان والإحساس بالاستغناء: أغلب مفاسد العالم مصدرها الفئات المرفهة والمستكبرة في المجتمع. وهذه الفئات كانت دائما في مقدمة أعداء دعوة الأنبياء. وهؤلاء يطلق عليهم القرآن أحيانا: الملأ (1) وأحيانا المترفين (2) وأحيانا المستكبرين (3). المجموعة الأولى: هم الأشراف المنتفشون في الظاهر، الفارغون في الداخل. والثانية: هم الغارقون في الرخاء ويعيشون في سكرة وغرور بمعزل عن الآم الآخرين. والثالثة: هم الراكبون رؤوسهم كبرا وغرورا والغافلون عن الله وعن الخلق. ودافع كل أولئك إحساسهم بالاستغناء، وهذه طبيعة أفراد أفق تفكيرهم ضيق، تسكرهم النعمة، ويزلزل توازنهم المال والمقام، فيغطون في شعور بالاستغناء ينسيهم ذكر الله، بينما نعلم أن نسمة من الهواء قادرة على أن تطوي سجل أيامهم، وأن حادثة كسيل أو زلزال أو صاعقة قادرة على أن تبيد أموالهم... وأن شرقة بالماء قادرة على أن تخطف أرواحهم. أية غفلة هذه تصيب جماعة تجعلهم يشعرون بالاستغناء، وتدفعهم إلى امتطاء مركب الغرور ليصولوا ويجولوا في الساحة الاجتماعية!! نستجير بالله من هذا الجهل ومن هذه الغفلة والطغيان! وللتغلب على هذه الحالة يكفي أن يلتفت الإنسان قليلا إلى ضعفه الشديد وإلى قدرة الله المطلقة، وأن يتصفح تاريخ السابقين ليرى مصير أقوام أكثر منه قوة ومكنة.
1 - الأعراف، الآية 60. 2 - سبأ، الآية 34. 3 - المؤمنون، الآية 67. 337 اللهم احفظنا من الكبر والغرور فهما أساس الابتعاد عنك. ربنا! لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين في الدنيا والآخرة يا رب العالمين! وفقنا لأن نمرغ في التراب أنوف هؤلاء المستكبرين المغرورين الذين يصدون عن سبيلك، وأن نحبط مخططاتهم ومؤامراتهم. آمين يا رب العالمين نهاية سورة العلق * * *
338 1 سورة 1 القدر 1 مكية 1 وعدد آياتها خمس آيات
339 1 " سورة القدر " 3 محتوى السورة: محتوى السورة كما هو واضح من اسمها بيان نزول القرآن الكريم في ليلة القدر، وبيان أهمية هذه الليلة وبركاتها. وحول مكان نزولها في مكة أو المدينة، المشهور بين المفسرين أنها مكية، واحتمل بعضهم أنها مدنية، لما روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى في منامه " بني أمية " يتسلقون منبره، فصعب ذلك على النبي وآلمه، فنزلت سورة القدر تسليه (لذلك قيل إن ألف شهر في السورة هي مدة حكم بني أمية). ونعلم أن منبر النبي أقيم في مسجد المدينة لا في مكة (1). لكن المشهور - كما قلنا - أنها مكية، وقد تكون الرواية من قبيل التطبيق لا سببا للنزول. 3 فضيلة السورة: ويكفي في فضيلة السورة تلاوتها ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من قرأها أعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيا ليلة القدر " (2). وعن الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) قال: " من قرأ إنا أنزلناه بجهر كان كشاهر سيفه في سبيل الله، ومن قرأها سرا كان كالمتشحط بدمه في سبيل
1 - روح المعاني: ج 30، ص 188، والدر المنثور، ج 6، ص 371. 2 - مجمع البيان، ج 10، ص 516. 341 الله " (1). وواضح إن كل هذه الفضائل في التلاوة لا تعود على من يقرأها دون أن يدرك حقيقتها، بل إنها نصيب من يقرأها ويفهمها ويعمل بها... من يقدر القرآن حق قدره ويطبق آياته في حياته. * * *
1 - المصدر السابق. 342 2 الآيات إنا أنزلناه في ليلة القدر (1) وما أدراك ما ليلة القدر (2) ليلة القدر خير من ألف شهر (2) تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر (3) سلم هي حتى مطلع الفجر (4) 2 التفسير 3 ليلة القدر ليلة نزول القرآن: يستفاد من آيات الذكر الحكيم أن القرآن نزل في شهر رمضان: شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن (1)، وظاهر الآية يدل على أن كل القرآن نزل في هذا الشهر. والآية الأولى من سورة القدر تقول: إنا أنزلناه في ليلة القدر. اسم القرآن لم يذكر صريحا في هذه الآية، ولكن الضمير في " أنزلناه " يعود إلى القرآن قطعا. والإبهام الظاهري في ذكر اسم القرآن إنما هو لبيان عظمته
1 - البقرة، الآية 185. 343 وأهميته. عبارة إنا أنزلناه فيها إشارة أخرى إلى عظمة هذا الكتاب السماوي. فقد نسب الله نزوله إليه، وبصيغة المتكلم مع الغير أيضا، وهي صيغة لها مفهوم جمعي وتدل على العظمة. نزول القرآن في ليلة " القدر " وهي الليلة التي يقدر فيها مصير البشر وتعين بها مقدراتهم، دليل آخر على الأهمية المصيرية لهذا الكتاب السماوي. لو جمعنا بين هذه الآية وآية سورة البقرة لاستنتجنا أن " ليلة القدر " هي إحدى ليالي شهر رمضان، ولكنها أية ليلة؟ القرآن لا يبين لنا ذلك، ولكن الروايات تتناول هذا الموضوع بإسهاب. وسنتناولها في نهاية تفسير هذه السورة إن شاء الله. وهنا يطرح سؤال له طابع تاريخي وله ارتباط بما رافق أحداث حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من نزول القرآن. من المؤكد أن القرآن الكريم نزل تدريجيا خلال (23) عاما. فكيف نوفق بين هذا النزول التدريجي وما جاء في الآيات السابقة بشأن نزول القرآن في شهر رمضان وفي ليلة القدر؟ الجواب على هذا السؤال كما ذكره المحققون يتلخص في أن للقرآن نزولين: النزول الدفعي، وهو نزول القرآن بأجمعه على قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو على البيت المعمور، أو من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا. والنزول التدريجي، وهو ما تم خلال (23) سنة من عصر النبوة (ذكرنا شرح ذلك في تفسير الآية 3 من سورة الدخان). وقال بعضهم إن ابتداء نزول القرآن كان في ليلة القدر لا كله، ولكن هذا خلاف ظاهر الآية التي تقول: إنا أنزلناه في ليلة القدر. ويذكر أن تعبير الآيات عن نزول القرآن يكون مرة بكلمة " إنزال " ومرة أخرى بكلمة " تنزيل ". ويستفاد من كتب اللغة أن التنزيل للنزول التدريجي،
344 والإنزال له مفهوم واسع يشمل النزول الدفعي أيضا (1). وهذا التفاوت في التعبير القرآني قد يكون إشارة إلى النزولين المذكورين. في الآيتين التاليتين يبين الله تعالى عظمة ليلة القدر ويقول سبحانه: وما أدراك ما ليلة القدر. ليلة القدر خير من ألف شهر. والتعبير هذا يوضح أن عظمة ليلة القدر كبيرة إلى درجة خفيت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا قبل نزول هذه الآيات، مع ما له من علم واسع. و " ألف شهر " تعني أكثر من ثمانين عاما، حقا ما أعظم هذه الليلة التي تساوي قيمتها عمرا طويلا مباركا. وجاء في بعض التفاسير أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك فأنزل الله إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر، التي لبس فيها ذلك الرجل السلاح في سبيل الله ألف شهر (2). وروي أن أربعة أشخاص من بني إسرائيل عبدوا الله تعالى ثمانين سنة من دون ذنب، فتمنى الصحابة ذلك التوفيق لهم، فنزلت الآية المذكورة. وهل العدد (ألف) في الآية للعد أو التكثير؟:، قيل إنه للتكثير، وقيمة ليلة القدر خير من آلاف الأشهر أيضا، ولكن الروايات أعلاه تبين أن العدد المذكور للعد، والعدد عادة للعد إلا إذا توفرت قرينة واضحة تصرفه إلى التكثير. ولمزيد من وصف هذه الليلة تقول الآية التالية: تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر. و " تنزل " فعل مضارع يدل على الاستمرار (والأصل تتنزل) مما يدل على أن
1 - مفردات الراغب، مادة نزل. 2 - الدر المنثور، ج 8، ص 568. 345 ليلة القدر لم تكن خاصة بزمن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبنزول القرآن، بل هي ليلة تتكرر في كل عام باستمرار. وما المقصود ب " الروح "؟ قيل: إنه جبرائيل الأمين، ويسمى أيضا الروح الأمين. وقيل: إن الروح بمعنى الوحي بقرينة قوله تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا (1). وللروح تفسير آخر يبدو أنه أقرب، هو أن الروح مخلوق عظيم يفوق الملائكة. وروي أن الإمام الصادق (عليه السلام) سئل عن الروح وهل هو جبرائيل، قال: " جبرائيل من الملائكة، والروح أعظم من الملائكة، أليس أن الله عز وجل يقول: تنزل الملائكة والروح "؟ (2) فالإثنان متفاوتان بقرينة المقابلة. وذكرت تفاسير أخرى للروح هنا نعرض عنها لافتقادها الدليل. من كل أمر أي لكل تقدير وتعيين للمصائر، ولكل خير وبركة. فالهدف من نزول الملائكة في هذه الليلة إذن هو لهذه الأمور. أو بمعنى بكل خير وتقدير، فالملائكة تنزل في ليلة القدر ومعها كل هذه الأمور (3). وقيل: المقصود أن الملائكة تنزل بأمر الله، لكن المعنى الأول أنسب. عبارة " ربهم " تركز على معنى الربوبية وتدبير العالم، وتتناسب مع عمل الملائكة في تلك الليلة حيث تنزل لتدبير الأمور وتقديرها، وبذلك يكون عملها جزء من ربوبية الخالق.
1 - الشورى، الآية 52. 2 - تفسير البرهان، ج 4، ص 481. 3 - حسب التفسير الأول (من) هنا بمعنى لام التعليل أي لأجل كل أمر. وبناء على التفسير الثاني (من) تعني باء المصاحبة. 346 بإيجاز الآية الكريمة تقول: الملائكة والروح تتنزل في هذه الليلة بأمر ربهم لتقدير كل أمر من الأمور. سلام هي حتى مطلع الفجر والآية الأخيرة هذه تصف الليلة بأنها مفعمة بالخير والسلامة والرحمة حتى الصباح. القرآن نزل فيها، وعبادتها تعادل عبادة ألف شهر، وفيها تنزل الخيرات والبركات، وبها يحظى العباد برحمة خاصة، كما إن الملائكة والروح تتنزل فيها... فهي إذن ليلة مفعمة بالسلامة من بدايتها حتى مطلع فجرها. والروايات تذكر أن الشيطان يكبل بالسلاسل هذه الليلة فهي ليلة سالمة مقرونة بالسلامة. وإطلاق كلمة " سلام " على هذه الليلة بمعنى " سلامة " (بدلا من سالمة) هو نوع من التأكيد كأن نقول فلان عدل، للتأكيد على أنه عادل. وقيل: إن إطلاق كلمة (سلام) على تلك الليلة يعني أن الملائكة تسلم باستمرار على بعضها أو على المؤمنين، أو أنها تأتي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وخليفته المعصوم، تسلم عليه. ومن الممكن أيضا الجمع بين هذه التفاسير. إنها على أي حال ليلة ملؤها النور والرحمة والخير والبركة والسلامة والسعادة من كل الجهات. وسئل الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) عما إذا كان يعرف ليلة القدر، قال: " كيف لا نعرف والملائكة تطوف بنا فيها ". وجاء في قصة إبراهيم (عليه السلام) أن عددا من الملائكة جاءت إليه وبشرته بالولد وسلمت عليه (هود - 69) وفي الرواية أن إبراهيم أحس بلذة من سلام الملائكة لا تعدلها لذة، إذن، فأية لذة وبركة ولطف في سلام الملائكة على المؤمنين وهي تتنزل في ليلة القدر!! وحين القي إبراهيم (عليه السلام) في نار نمرود، جاءت إليه الملائكة وسلمت عليه
347 فتحولت النار إلى جنينة. ألا تتحول نار جهنم ببركة سلام الملائكة على المؤمنين في ليلة القدر إلى برد وسلام. نعم هذه كرامة لامة محمد وتعظيم لها حيث تنزل الملائكة هناك على الخليل (عليه السلام) وتنزل هنا على أمة الإسلام (1) * * * 2 بحوث 3 1 - ما هي الأمور التي تقدر في ليلة القدر؟ في سبب تسمية هذه الليلة بليلة القدر قيل الكثير من ذلك: 1 - لأنها الليلة التي تعين فيها مقدرات العباد لسنة كاملة، يشهد على ذلك قوله تعالى: إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين، فيها يفرق كل أمر حكيم (2) هذه الآية الكريمة تنسجم مع ما جاء من الروايات تقول: في هذه الليلة تعين مقدرات الناس لسنة كاملة، وهكذا أرزاقهم، ونهاية أعمارهم، وأمور أخرى تفرق وتبين في تلك الليلة المباركة. هذه المسألة طبعا لا تتنافى مع حرية إرادة الإنسان ومسألة الاختيار، لأن التقدير الإلهي عن طريق الملائكة إنما يتم حسب لياقة الأفراد وميزان إيمانهم وتقواهم وطهر نيتهم وأعمالهم. أي يقدر كل فرد ما يليق له، وبعبارة أخرى، أرضية التقدير يوفرها الإنسان نفسه، وهذا لا يتنافى مع الاختيار بل يؤكده. 2 - وقال بعض إنها سميت بالقدر لما لها من قدر عظيم وشرف كبير (في
1 - تفسير الفخر الرازي، ج 32، ص 36. 2 - الدخان، الآية 3 - 4. 348 القرآن جاء قوله سبحانه: ما قدروا الله حق قدره) (1). 3 - وقيل لأن القرآن بكل قدره ومنزلته نزل على رسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بواسطة الملك العظيم في هذه الليلة. 4 - إنها الليلة التي قدر فيها نزول القرآن. 5 - إنها الليلة التي من أحياها نال قدرا ومنزلة. 6 - وقيل أيضا لأنها الليلة التي تنزل فيها الملائكة حتى تضيق بهم الأرض لكثرتهم. لأن القدر جاء بمعنى الضيق أيضا كقوله تعالى: ومن قدر عليه رزقه (2). كل هذه التفاسير يستوعبها المفهوم الواسع لليلة القدر مع أن التفسير الأول أنسب وأشهر. 3 2 - أية ليلة هي ليلة القدر؟ لا شك أن ليلة القدر من ليالي شهر رمضان، لأن الجمع بين آيات القرآن يقتضي ذلك. فالقرآن نزل في شهر رمضان من جهة (البقرة - 185)، ومن جهة أخرى تقول آيات السورة التي نحن بصددها أنه نزل في ليلة القدر. ولكن، آية ليلة من شهر رمضان؟ قيل في ذلك كثير، وذكرت تفاسير عديدة من ذلك: أنها أول ليلة من شهر رمضان المبارك، الليلة السابعة عشرة، الليلة التاسعة عشرة، الليلة الحادية والعشرون، الليلة الثالثة والعشرون، الليلة السابعة والعشرون، والليلة التاسعة والعشرون. والمشهور في الروايات أنها في العشر الأخيرة من شهر رمضان، وفي الليلتين الحادية والعشرين أو الثالثة والعشرين. لذلك ورد في الروايات أن
1 - الحج، الآية 74. 2 - الطلاق، الآية 7. 349 النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحيي كل الليالي العشر الأخيرة من الشهر المبارك بالعبادة. وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنها الليلة الحادية والعشرون أو الثالثة والعشرون. وعندما أصر عليه أحدهم في تعيين واحدة بين الليلتين لم يزد الإمام على أن يقول: " ما أيسر ليلتين فيما تطلب!! " (1). ثمة روايات متعددة عن أهل البيت (عليهم السلام) تركز على الليلة الثالثة والعشرين. بينما روايات أهل السنة تركز على الليلة السابعة والعشرين. وروي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: " التقدير في ليلة القدر تسعة عشر، والإبرام في ليلة إحدى وعشرين، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين " (2). ليلة القدر إذن محاطة بهالة من الإبهام سنذكر سببه فيما يلي. 3 3 - لماذا خفيت ليلة القدر؟ الاعتقاد السائد أن اختفاء ليلة القدر بين ليالي السنة، أو بين ليالي شهر رمضان المبارك يعود إلى توجيه الناس إلى الاهتمام بجميع هذه الليالي، مثلما أخفى رضاه بين أنواع الطاعات كي يتجه الناس إلى جميع الطاعات، وأخفى غضبه بين المعاصي، كي يتجنب العباد جميعها، وأخفى أحباءه بين الناس كي يحترم كل الناس، وأخفى الإجابة بين الأدعية لتقرأ كل الأدعية، وأخفى الاسم الأعظم بين أسمائه كي تعظم كل أسمائه، وأخفى وقت الموت كي يكون الناس دائما على استعداد. ويبدو أن هذا دليل مقبول:
1 - نور الثقلين، ج 5، ص 625، الحديث 58. 2 - المصدر السابق، الحديث 626. 350 3 4 - هل كانت ليلة القدر معروفة بين الأمم السابقة؟ من ظاهر آيات هذه السورة نفهم أن ليلة القدر ليست خاصة بزمان نزول القرآن وعصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل تتكرر كل سنة حين يرث الله الأرض ومن عليها. التعبير بالفعل المضارع " تنزل " الدال على الاستمرار، وهكذا التعبير بالجملة الإسمية سلام هي حتى مطلع الفجر الدالة أيضا على الدوام يؤيد ذلك. مضافا إلى ذلك الروايات التي ربما بلغت حد التواتر في تأييد هذه المسألة. ولكن هل كانت هذه الليلة في الأمم السابقة؟ روايات متعددة تصرح أن هذه الليلة من المواهب الإلهية على هذه الأمة، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إن الله وهب لامتي ليلة القدر لم يعطها من كان قبلهم ". وفي تفسير الآيات التي نحن بصددها روايات تؤيد ذلك أيضا. 3 5 - ليلة القدر خير من ألف شهر لماذا كانت خيرا من ألف شهر... الظاهر لأهمية العبادة والإحياء فيها. وما جاء من روايات بشأن فضيلة ليلة القدر وفضيلة العبادة فيها في كتب الشيعة وأهل السنة كثير، ويؤيد هذا المعنى. أضف إلى ذلك، فإن نزول القرآن في هذه الليلة، ونزول البركات والرحمة الإلهية فيها يجعلها خيرا من ألف شهر. وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: لعلي بن أبي حمزة الثمالي: " فاطلبها (أي ليلة القدر) في ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين وصل في كل واحدة منهما مائة ركعة وأحيهما إن استطعت إلى النور، واغتسل فيهما " قال: قلت: فإن لم أقدر على ذلك وأنا قائم؟ قال: فصل وأنت جالس.
351 قال: قلت: فإن لم أستطع؟ قال: فعلى فراشك، لا عليك أن تكتحل أول الليل بشئ من النوم إن أبواب السماء تفتح في رمضان وتصفد (تقيد) الشياطين، وتقبل أعمال المؤمنين.. نعم الشهر رمضان! " (1). 3 6 - لماذا نزل القرآن في ليلة القدر؟ ليلة القدر - كما علمنا - ليلة تقدير مصائر البشر لسنة كاملة حسب ما يليق بكل فرد. فينبغي أن يكون الإنسان فيها مستيقظا وفي حالة تقرب إلى الله وتكامل على طريق بناء الشخصية الإسلامية ليرفع من مستوى لياقته لمزيد من رحمة الله. نعم، في اللحظات التي يتقرر فيها مصيرنا ينبغي أن لا نكون غافلين، وإلا فسيواجهنا المصير المؤلم. والقرآن... باعتباره الكتاب القادر على أن يرسم للبشرية مستقبلها ومصيرها ويهديها إلى طريق سعادتها وهدايتها، يجب أن ينزل في ليلة القدر... ليلة تعيين المصير... وما أجمل هذه العلاقة بين " القرآن " و " ليلة القدر "، وما أعمق معنى الارتباط بين الاثنين!! 3 7 - هل ليلة القدر واحدة في المعمورة؟ نعلم أن بدء الشهر القمري ليس واحدا في جميع البلدان. وقد يكون يومنا هذا أول الشهر في بلد ويكون الثاني في بلد آخر. من هنا لا يمكن أن تكون ليلة القدر ليلة معينة في السنة. على سبيل المثال قد تكون ليلة الثالث والعشرين في الحجاز هي ليلة الثاني والعشرين في إيران والعراق. وبهذا يكون لكل بلد ليلة
1 - نور الثقلين، ج 5، ص 626، مقطع من الحديث 58. 352 قدر! وهل هذا ينسجم مع ما جاء في الروايات المؤكدة على أن ليلة القدر ليلة معينة؟ الجواب يتضح بالالتفات إلى ما يلي: الليل هو ظل نصف الكرة الأرضية على النصف الآخر من هذه الكرة، ونعلم أن هذا الظل يتحرك بتحرك الكرة الأرضية، ويدور دورة كاملة في أربع وعشرين ساعة من هنا يمكن أن تكون ليلة القدر دورة كاملة لليل حول الأرض، أي تكون هذه الليلة مدة أربع وعشرين ساعة من دوران الظلام حول الكرة الأرضية بأجمعها، تبدأ من نقطة وتنتهي عند نقطة أخرى. (تأمل بدقة). اللهم! من علينا بيقظة ووعي كي نتزود من فضيلة ليلة القدر. ربنا! آمالنا منشدة إلى لطفك وكرمك، فقدر لنا وفق ما نأمله فيك. يا رب العالمين! لا تجعلنا من محرومي هذا الشهر فما بعد هذا الحرمان حرمان. آمين يا رب العالمين نهاية سورة القدر * * *
353 1 سورة 1 البينة 1 مدنية 1 وعدد آياتها ثماني آيات
355 1 " سورة البينة " 3 محتوى السورة: المشهور أن هذه السورة نزلت في المدينة، ومحتواها يؤيد ذلك، إذ تحدثت في مواضع متعددة عن أهل الكتاب، والمسلمون واجهوا أهل الكتاب في المدينة غالبا. أضف إلى ذلك أن السورة تحدثت عن الصلاة والزكاة، والزكاة - وإن شرعت في مكة - اتخذت طابعها الرسمي الواسع في المدينة. هذه السورة تناولت رسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما فيها من دلائل بينة، هذه الرسالة التي كان أهل الكتاب ينتظرونها، حين ظهرت أعرض عنها فريق منهم لما وجدوا فيها من خطر على مصالحهم الشخصية. والسورة تقرر حقيقة وجود الإيمان والتوحيد والصلاة والصيام في كل الأديان ودعوات الأنبياء باعتبارها أصولا ثابتة خالدة. وفي مقطع آخر من السورة بيان عن مواقف أهل الكتاب والمشركين تجاه الإسلام... بعضهم آمن وعمل صالحا فهو خير المخلوقات، وبعضهم كفر وأشرك فهو شر البرية. هذه السورة أطلق عليها لمناسبة الفاظها أسماء متعددة أشهرها: " البينة " و " لم يكن " و " القيمة ".
357 3 فضيلة السورة: روي في فضيلة تلاوة هذه السورة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " لو يعلم الناس ما في (لم يكن) لعطلوا الأهل والمال وتعلموها ". فقال رجل من خزاعة: ما فيها من الأجر يا رسول الله؟ فقال: " لا يقرأها منافق أبدا ولا عبد في قلبه شك في الله عز وجل، والله إن الملائكة المقربين ليقرؤونها منذ خلق الله السماوات والأرض لا يفترون عن قراءتها، وما من عبد يقرؤها بليل إلا بعث الله ملائكة يحفظونه في دينه ودنياه ويدعون له بالمغفرة والرحمة، فإن قرأها نهارا أعطي عليها من الثواب مثل ما أضاء عليه النهار وأظلم عليه الليل " (1). * * *
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 521. 358 2 الآيات لم يكن الذين كفروا من أهل الكتب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة (1) رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة (2) فيها كتب قيمة (3) وما تفرق الذين أوتوا الكتب إلا من بعد ما جاءتهم البينة (4) وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة (5) 2 التفسير 3 ذلك دين القيمة: في بداية السورة ذكر لأهل الكتاب (اليهود والنصارى) ومشركي العرب قبل ظهور الإسلام، فهؤلاء كانوا يدعون أنهم غير منفكين عن دينهم إلا بدليل واضح قاطع. لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة.
359 و " البينة " التي أرادوها: رسول من الله يتلو عليهم كتابا مطهرا من رب العالمين: رسول من الله يتلو صحفا مطهرة. وهذه الصحف فيها من الكتابة ما هو صحيح وثابت وذو قيمة. فيها كتب قيمة. كان هذا ادعاؤهم قبل ظهور الإسلام، وحينما ظهر ونزلت آياته تغير هؤلاء، واختلفوا وتفرقوا. وما تفرقوا إلا بعد أن جاءهم الدليل الواضح والنبي الصادح بالحق. وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة. مما تقدم، الآيات الأولى لهذه السورة المباركة تتحدث عن أهل الكتاب والمشركين الذين كانوا يدعون أنهم سوف يقبلون الدعوة إن جاءهم نبي بالدلائل الساطعة. لكنهم أعرضوا حين ظهر، وجابهوه، إلا فريق منهم آمن واهتدى. وهذا المعنى يشبه ما جاء في قوله تعالى: ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين. (1) نعلم أن أهل الكتاب كانوا ينتظرون مثل هذا الظهور، ولابد أن يكون مشركو العرب مشاركين لأهل الكتاب في هذا الانتظار لما كانوا يرون فيهم من علم ومعرفة، ولكن حين تحققت آمالهم غيروا مسيرهم والتحقوا بأعداء الدعوة. جمع من المفسرين لهم رأي آخر في تفسير الآية، يقولون: مقصود الآية هو أن أهل الكتاب والمشركين لم يكونوا منفكين عن دينهم حقيقة - لا ادعاء - حتى
1 - البقرة، الآية 89. 360 تأتيهم البينة. وهذا يعني أن هؤلاء آمنوا بعدما جاءتهم البينة، لكن الآيات التالية تدل على غير ذلك، اللهم إلا إذا قيل أن المقصود إيمان مجموعة منهم وإن كانت قليلة وتكون المسألة من قبيل ما يسمى في المنطق " موجبة جزئية ". ولكن على أي حال نستبعد هذا التفسير، ويبدو أن الفخر الرازي لهذا السبب وصف الآية الأولى من هذه السورة بأنها أعقد آية في القرآن لتعارضها مع الآيات التالية، ولحل هذا التعارض ذكر طرقا متعددة أفضلها هو الذي ذكرناه أعلاه. ثمة تفسير ثالث للآية هو أن الله لا يترك أهل الكتاب والمشركين لحالهم حتى يتم الحجة عليهم ويرسل إليهم البينة ويبين لهم الطريق. ولذلك أرسل إليهم نبي الإسلام لهدايتهم. بناء على هذا التفسير، هذه الآية تشير إلى قاعدة اللطف التي يتناولها علم الكلام وتقرر أن الله يبعث إلى كل قوم دلائل واضحة ليتم الحجة عليهم (1). على أي حال، " البينة " في الآية هي الدليل الواضح، ومصداقها حسب الآية الثانية شخص " رسول الله " وهو يتلو عليهم القرآن. " صحف " جمع " صحيفة "، وتعني ما يكتب عليه من الورق، والمقصود بها هنا محتوى هذه الأوراق، إذ نعلم أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يتلو شيئا عليهم من الأوراق. و " مطهرة " أي طاهرة من كل ألوان الشرك والكذب والباطل. ومن تلاعب شياطين الجن والإنس. كما جاء أيضا في قوله تعالى: لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (2)
1 - يجب ملاحظة أن " منفكين " جمع (منفك) يمكن أن تكون اسم فاعل أو اسم مفعول، فعلى التفسيرين الأول والثاني تعطي معنى اسم الفاعل، وعلى التفسير الثالث معنى اسم المفعول، فلاحظ. 2 - فصلت، الآية 42. 361 جملة فيها كتب قيمة إشارة إلى أن ما في هذه الصحف السماوية خال من الانحراف والإعوجاج. من هنا فإن هذه " الكتب " تعني المكتوبات، أو تعني الأحكام والتشريعات المنصوصة من الله، لأن الكتابة جاءت بمعنى تعيين الحكم أيضا، كقوله تعالى: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم (1). وبهذا يكون معنى " قيمة " السوية والمستقيمة، أو الثابتة والمستحكمة، أو ذات قيمة، أو كل هذه المعاني مجتمعة. ويحتمل أيضا أن يكون المعنى هو أن القرآن فيه الكتب السماوية القيمة السابقة لأنه يضم جميع محتوياتها وزيادة. ويلفت النظر تقدم ذكر أهل الكتاب على المشركين في الآية الأولى، والاقتصار على ذكر أهل الكتاب في الآية الرابعة دون ذكر المشركين، بينما الآية تريد الاثنين. وهذا يعود ظاهرا إلى أن أهل الكتاب كانوا هم الرواد في هذه المواقف، وكان المشركون تابعين لهم. أو لأن أهل الكتاب كانوا أهلا لذم أكثر لما عندهم من علماء كثيرين، وبذلك كانوا ذا مستوى أرفع من المشركين. معارضتهم - إذن - أفظع وأبشع وتستحق مزيدا من التقريع. ثم يتوالى التقريع لأهل الكتاب، ومن بعدهم للمشركين، لأنهم اختلفوا في الدين الجديد، منهم مؤمن ومنهم كافر، بينما: وما امروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة (2).
1 - البقرة، الآية 183. 2 - جملة " وما امروا " قد تكون حالية أو استثنائية. واللام في " ليعبدوا " لام الغرض، والمقصود هنا الغرض الذي يعود على العباد، لا الغرض الذي يعود على الله كما تصور بعض المفسرين وأدى بهم هذا التصور إلى إنكار " لام الغرض " في مثل هذه المواضع. كل أفعال الله معللة بالأغراض، لكنها أغراض تعود على العباد. بعضهم اعتبر اللام هنا بمعنى " أن " كما في قوله تعالى: يريد الله ليبين لكم النساء، الآية 26. 362 ثم تضيف الآية القول: وذلك دين القيمة. قيل في معنى " وما امروا... " أن المقصود هو: إن التوحيد والصلاة والزكاة من المسائل الثابتة في دين أهل الكتاب، لكنهم لم يبقوا أوفياء لهذه التعاليم. وقيل: المقصود هو إن دين الإسلام ليس فيه سوى التوحيد الخالص والصلاة والزكاة وأمثالها من التعاليم. وهذه أمور معروفة فلماذا يعرضون عنها؟. يبدو أن المعنى الثاني أقرب. لأن الآية السابقة تتحدث عن الاختلاف في قبول الدين الجديد، والمناسب هنا أن يكون المراد في " امروا... " هو الدين الجديد أيضا. أضف إلى ذلك أن المعنى الأول يصدق على أهل الكتاب وحدهم، بينما المعنى الثاني يشمل المشركين أيضا. المقصود ب " الدين " في عبارة مخلصين له الدين حنفاء قد يكون " العبادة "، وعبارة " إلا ليعبدوا الله " في الآية تؤكد هذا المعنى. ويحتمل أيضا أن يكون المقصود مجموع الدين والشريعة، أي أنهم امروا أن يعبدوا الله وأن يخلصوا له الدين والتشريع في جميع المجالات. وهذا المعنى يتناسب أكثر مع المفهوم الواسع للدين. وجملة وذلك دين القيمة تؤيد هذا المعنى لأنها طرحت الدين بمفهومه الواسع. " حنفاء " جمع " حنيف "، من الفعل الثلاثي حنف، أي عدل عن الضلال إلى الطريق المستقيم، كما يقول الراغب في المفردات. والعرب تسمي كل من حج أو ختن " خنيفا " إشارة إلى أنه على دين إبراهيم. و " الأحنف " من كانت رجله عوجاء. ويبدو أن الكلمة كانت في الأصل تستعمل للانحراف والإعوجاج، والنصوص الإسلامية استعملتها بمعنى الانحراف عن الشرك إلى التوحيد والهداية.
363 ومن الممكن أن تكون المجتمعات الوثنية قد أطلقت على من يترك الأوثان ويتجه إلى التوحيد اسم " حنيف "، أي منحرف. ثم أصبحت الكلمة بالتدريج اسما لسالكي طريق التوحيد ومن مستلزمات الكلمة الإخلاص في التوحيد والاعتدال التام واجتناب أي إفراط أو تفريط، غير أن هذه معان ثانوية للكلمة. جملة وذلك دين القيمة (1) إشارة إلى أن الأصول المذكورة في الآية وهي: التوحيد الخالص، والصلاة (الارتباط بالله) والزكاة (الارتباط بالناس) من الأصول الثابتة الخالدة في جميع الأديان، بل إنها قائمة في أعماق فطرة الإنسان. ذلك لأن مصير الإنسان يرتبط بالتوحيد، وفطرته تدعوه إلى معرفة المنعم وشكره، ثم إن الروح الاجتماعية المدنية للإنسان تدعوه إلى مساعدة المحرومين. من هنا، هذه التعاليم لها جذور في أعماق الفطرة، وهي لذلك كانت في تعاليم كل الأنبياء السابقين وتعاليم خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم). * * *
1 - دين القيمة، مضاف مضاف إليه، وليس صفة وموصوف ومفهومها أنه دين ورد في الكتب السابقة مستقيم وذو قيمة أو أنه دين فيه احكام وتعليمات ذات قيمة، فعلى هذا جاءت الكلمة بصيغة المؤنث لأنها صفة للكتب أو الملة والشريعة. 364 2 الآيات إن الذين كفروا من أهل الكتب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية (6) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية (7) جزاؤهم عند ربهم جنت عدن تجرى من تحتها الانهر خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشى ربه (8) 2 التفسير 3 خير البرية وشرها: الآيات السابقة تحدثت عن انتظار أهل الكتاب والمشركين لبينة تأتيهم من الله، لكنهم تفرقوا من بعدما جاءتهم البينة. هذه الآيات تذكر مجموعتين من الناس مختلفتين في موقفهما من الدعوة " كافرة " و " مؤمنة " تذكر الكافرين أولا بالقول: إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية. وإنما قال " كفروا " لكفرهم بالدين المبين، وإلا فإن كفرهم ليس بجديد.
365 وعبارة أولئك هم شر البرية عبارة قارعة مثيرة، تعني أنه لا يوجد بين الأحياء وغير الأحياء موجود أضل وأسوأ من الذين تركوا الطريق المستقيم بعد وضوح الحق وإتمام الحجة، وساروا في طريق الضلال، مثل هذا المعنى ورد أيضا في قوله تعالى: إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون (1). وفي قوله سبحانه يصف أهل النار: أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون (2). وهذه الآية التي نحن بصددها تذهب في وصف هؤلاء المعاندين إلى أبعد مما تذهب إليه غيرها، لأنها تصفهم بأنهم شر المخلوقات، وهذا بمثابة بيان الدليل على خلودهم في نار جهنم. ولم لا يكونون شر المخلوقات وقد فتحت أمامهم جميع أبواب السعادة فاعرضوا عنها كبرا وغرورا وعنادا. تقديم ذكر " أهل الكتاب " على " المشركين " في هذه الآية أيضا، قد يعود إلى ما عندهم من كتاب سماوي وعلماء ومن صفات صريحة لنبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتبهم، لذلك كانت معارضتهم أفظع وأسوأ. الآية التالية تذكر المجموعة الثانية، وهم المؤمنون وتقول: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية. والآية التالية تذكر جزاء هؤلاء المؤمنين، وما لهم عند الله من مثوبة: جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، رضي الله عنهم ورضوا عنه، ذلك لمن خشي ربه. يلاحظ أن الحديث عن المؤمنين مقرون بذكر الأعمال الصالحة، باعتبارها
1 - الأنفال، الآية 22. 2 - الأعراف، الآية 179. 366 ثمرة دوحة الإيمان. وفي ذلك إشارة إلى أن ادعاء الإيمان وحده لا يكفي، بل لابد أن تشهد عليه الأعمال الصالحة. لكن الكفر وحده - وإن لم يقترن بالأعمال السيئة - مبعث السقوط والشقاء. أضف إلى أن الكفر عادة منطلق لأنواع الذنوب والجرائم والانحرافات. عبارة أولئك هم خير البرية تبين بجلاء أن الإنسان المؤمن ذا الأعمال الصالحة أفضل من الملائكة، فعبارة الآية مطلقة وليس فيها استثناء والآيات الأخرى تشهد على ذلك أيضا، مثل آية سجود الملائكة لآدم، ومثل قوله سبحانه: ولقد كرمنا بني آدم (1). هذه الآية تحدثت عن الجزاء المادي الذي ينتظر المؤمنين، وعن الجزاء المعنوي الروحي لهم، وهو رضا الله عنهم ورضاهم عنه. إنهم راضون عن الله لأن الله أعطاهم ما أرادوه، والله راض عنهم لأنهم أدوا ما أراده منهم، وإن كانت هناك زلة فقد غفرها بلطفه وكرمه. وأية لذة أعظم من أن يشعر الإنسان أنه نال رضا المحبوب ووصاله ولقاءه. نعم، نعيم جسد الإنسان جنات الخلد، ونعيم روحه رضا الله ولقاؤه. جملة ذلك لمن خشي ربه تدل على أن كل هذه البركات تنطلق من " خشية الله ". لأن هذه الخشية دافع للحركة صوب كل طاعة وتقوى وعمل صالح. بعض المفسرين قرن هذه الآية، بالآية (28) من سورة فاطر حيث يقول سبحانه: إنما يخشى الله من عباده العلماء وخرج بنتيجة هي أن الجنة للعلماء طبعا لابد أن نأخذ بنظر الاعتبار وجود مراتب ومراحل للخشية وهكذا مراتب للعلم. قيل أيضا أن " الخشية " أسمى من " الخوف "، لأنها خوف مقرون بالتعظيم والاحترام.
1 - الاسراء، الآية 70. 367 * * * 2 بحوث 3 1 - علي (عليه السلام) وشيعته خير البرية ثمة روايات كثيرة بطرق أهل السنة في مصادرهم الحديثية المعروفة، وهكذا في المصادر الشيعية، فسرت الآية: أولئك هم خير البرية بأنهم علي وشيعته. " الحاكم الحسكاني النيسابوري " عالم أهل السنة المعروف في القرن الخامس الهجري نقل هذه الروايات في كتابه المشهور " شواهد التنزيل " بطرق مختلفة، ويزيد عدد هذه الروايات على العشرين نذكر منها على سبيل المثال ما يلي: 1 - عن ابن عباس قال: عندما نزلت آية: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير البرية قال رسول الله لعلي: " هو أنت وشيعتك تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ويأتي عدوك غضبانا مقحمين " (1). 2 - وعن أبي برزة قال: حينما تلا رسول الله هذه الآية قال: " هم أنت وشيعتك يا علي، وميعاد ما بيني وبينك الحوض " (2). 3 - وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: كنا جالسين عند النبي جوار الكعبة، فاقدم علينا علي، وحين رآه النبي قال: " قد أتاكم أخي "، ثم التفت إلى الكعبة، وقال: " ورب هذه البينة! إن هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة ". ثم التفت إلينا وقال: " أما والله إنه أولكم إيمانا بالله، وأقومكم بأمر الله، وأوفاكم بعهد الله، وأقضاكم بحكم الله، وأقسمكم بالسوية، وأعدلكم في الرعية
1 - شواهد التنزيل، ج 2، ص 357، الحديث 1126. 2 - المصدر السابق، ص 359، الحديث 1130. 368 وأعظمكم عند الله مزية " قال جابر: فأنزل الله: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية فكان علي إذا أقبل قال أصحاب محمد قد أتاكم خير البرية بعد رسول الله. (1) نزول هذه الآية جوار الكعبة لا يتنافى مع مدنية السورة. إذ من الممكن أن تكون من قبيل النزول المجدد، أو التطبيق، أضف إلى ذلك أن نزول هذه الآيات لا يستبعد أن يكون خلال أسفار النبي إلى مكة من المدينة، خاصة أن الراوي (جابر بن عبد الله الأنصاري) قد التحق بالنبي في المدينة. بعض هذه الأحاديث رواها ابن حجر في الصواعق، ومحمد الشبلنجي في نور الابصار (2). وجلال الدين السيوطي نقل القسم الأعظم من الرواية الأخيرة عن ابن عساكر عن جابر بن عبد الله الأنصاري (3). 4 - في " الدر المنثور " عن ابن عباس قال: " حين نزلت آية: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية. قال رسول الله لعلي: " هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ". 5 - وفي الدر المنثور أيضا عن ابن مردويه عن علي (عليه السلام) قال: " قال لي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ألم تسمع قول الله إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية؟ أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض، إذا جاءت الأمم للحساب تدعون غرا محجلين " (4).
1 - المصدر السابق، ص 362، الحديث 1139. 2 - الصواعق المحرقة، ص 96، ونور الابصار، ص 70 و 101. 3 - الدر المنثور، ج 6، ص 379. 4 - المصدر السابق. 369 كثير من علماء السنة، سوى من ذكرنا، نقلوا مثل هذه الروايات في كتبهم منهم: الخطيب الخوارزمي في المناقب، وأبو نعيم الأصفهاني في كفاية الخصام، والعلامة الطبري في تفسيره، وأين صباغ المالكي في الفصول المهمة، والعلامة الشوكاني في فتح الغدير، والشيخ سليمان القندوزي في ينابيع المودة، والآلوسي في روح المعاني. باختصار هذا الحديث من الأحاديث المعروفة المشهورة المقبولة لدى أكثر علماء الإسلام، وفيه بيان لفضيلة كبرى من فضائل علي وأتباعه. وهذه الروايات تدل ضمنا أن كلمة " الشيعة " باعتبارها اسما لأتباع علي (عليه السلام) كانت قد شاعت منذ عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين المسلمين على لسان الرسول نفسه. وأولئك الذين يخالون أن الكلمة هذه ظهرت في عصور متأخرة في خطأ كبير. 3 2 - ضرورة إخلاص النية في العبادة بعض علماء أصول الفقه استدلوا بالآية: وما امروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين على لزوم " قصد القربة " في العبادات، وأن الأصل في الأوامر أنها تعبدية لا توصلية. وهذا يتوقف على كون " الدين " في الآية بمعنى العبادة كي يصح الاستدلال بها على لزوم الإخلاص في العبادات... ويتوقف على أن يكون (الأمر) في الآية بشكل مطلق كي يكون مفهومها لزوم قصد القربة في كل الأوامر (عدا ما خرج منها بدليل). غير أن مفهوم الآية ليس كذلك على الظاهر. فالمقصود إثبات التوحيد مقابل الشرك، أي إن هؤلاء لم يؤمروا إلا بالتوحيد، وبهذا لا ترتبط المسألة بالأحكام الفرعية. 3 3 - منحنى الصعود والسقوط من آيات هذه السورة المباركة يستفاد أن الانسان فريد بين مخلوقات
370 الكون في البون الشاسع الذي يفصل بين منحنى ارتفاعه وسموه وبين منحنى سقوطه وهبوطه. لو كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات (عبارة " عملوا الصالحات " تشمل كل الأعمال الصالحة لا بعضها) فهو أفضل خلق الله، وإن سلك طريق الكفر والضلالة والعناد هبط إلى هوة سحيقة وكان شر خلق الله. هذا البون الشاسع بين الاتجاهين - رغم خطورته وحساسيته - له دلالة كبيرة على مكانة النوع البشري وقابليته للتكامل. وطبيعي أن يكون إلى جانب هذه القابلية العظيمة إمكان عظيم للهبوط والسقوط. ربنا! نستمد العون من فضلك وإحسانك لبلوغ درجة " خير البرية " ربنا! اجعلنا من شيعة ذلك الرجل الصالح الذي كان أجدر من نال هذه الدرجة. ربنا! من علينا باخلاص يجعلنا متفانين في حبك وعبادتك. آمين يا رب العالمين نهاية سورة البينة * * *
371 1 سورة 1 الزلزلة 1 مدنية 1 وعدد آياتها ثماني آيات
373 1 " سورة الزلزلة " 3 محتوى السورة: اختلف المفسرون في مكية هذه السورة أو مدنيتها. كثيرون ذهبوا إلى أنها مدنية. بينما ذهب بعض إلى أنها مكية لما تتناوله آياتها من حديث حول " المعاد " و " أشراط الساعة " (علامات يوم القيامة)... وهي موضوعات الآيات المكية عادة. ولكن ثمة رواية عن " أبي سعيد الخدري " أنه سأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين نزول هذه السورة عن آية: فمن يعمل مثقال ذرة... وأبو سعيد انضم إلى المسلمين في المدينة (1). ولا تأثير لمكيتها أو مدنيتها على مفاهيمها التي تدور حول ثلاثة محاور رئيسية: تتحدث أولا عن علامات البعث ويوم القيامة... ثم عن شهادة الأرض على جميع أعمال العباد.. وبعد ذلك تقسم الناس إلى مجموعتين صالحة وطالحة وتبين أن كل مجموعة ترى ثمار عملها. 3 فضيلة السورة: وردت في فضيلة هذه السورة نصوص تحمل إشارات هامة من ذلك ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من قرأها فكأنما قرأ البقرة وأعطي من الأجر كمن قرأ ربع القرآن " (2).
1 - روح المعاني، ج 30، ص 308. 2 - مجمع البيان، ج 10، ص 524. 375 وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: " لا تملوا من قراءة إذا زلزلت الأرض زلزالها فإنه من كانت قراءته بها في نوافله لم يصبه الله عز وجل بزلزلة أبدا، ولم يمت بها ولا بصاعقة ولا بآفة من آفات الدنيا حتى يموت ". (1) * * *
1 - أصول الكافي على ما في نور الثقلين، ج 5، ص 647، ح 4. 376 2 الآيات إذا زلزلت الأرض زلزالها (1) وأخرجت الأرض أثقالها (2) وقال الإنسان ما لها (3) يومئذ تحدث أخبارها (4) بأن ربك أوحى لها (5) يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعملهم (6) فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره (8) 2 التفسير 3 يوم يرى الناس أعمالهم: هذه السورة تبدأ - كما ذكرنا في محتواها - ببيان صور من الأحداث الهائلة المفزعة التي ترافق نهاية هذا العالم وبدء البعث والنشور. تقول: إذا زلزلت الأرض زلزالها (1). وأخرجت الأرض أثقالها.
1 - إذا شرطية، يحتمل أن يكون جزاء شرطها " يومئذ تحدث أخبارها " أو " يومئذ يصدر الناس أشتاتا "، أو أن الجزاء محذوف والجملة جاءت جوابا لسؤال: متى الساعة؟ والتقدير: إذا زلزلت الأرض زلزالها تقوم الساعة. 377 عبارة " زلزالها " تعني أن الأرض بأجمعها تهتز في ذلك اليوم (خلافا للزلازل العادية الموضعية عادة) أو أنها إشارة إلى الزلزلة المعهودة، أي زلزلة يوم القيامة (1). و " الأثقال " ذكر لها المفسرون معاني متعددة. قيل إنها البشر الذين يخرجون من أجداثهم على أثر الزلزال. كما جاء في قوله سبحانه: وألقت ما فيها وتخلت (2). وقيل إنها الكنوز المخبوءة التي ترتمي إلى الخارج، وتبعث الحسرة في قلوب عباد الدنيا (3). ويحتمل أيضا أن يكون المقصود إخراج المواد الثقيلة الذائبة في باطن الأرض، وهو ما يحدث أثناء البراكين والزلازل، فإن الأرض في نهاية عمرها تدفع ما في أعماقها إلى الخارج على أثر ذلك الزلزال العظيم. ويمكن الجمع بين هذه التفاسير. في ذلك الجو الملئ بالرهبة والفزع، تصيب الإنسان دهشة ما بعدها دهشة فيقول في ذعر: ما لهذه الأرض تتزلزل وتلقي ما في باطنها؟ وقال الإنسان ما لها. وذهب بعض المفسرين إلى أن الإنسان في الآية هو الكافر الذي كان شاكا في المعاد والبعث، ولكن الظاهر أن الإنسان هنا له معنى عام يشمل كل أفراد البشر. فالدهشة من وضع الأرض في ذلك اليوم لا يختص بالكافرين. وهل هذا السؤال التعجبي يرتبط بالنفخة الأولى أو الثانية؟ أي هل يرتبط
1 - بالمعنى الأول الإضافة لها معنى العموم، وفي الحالة الثانية معنى العهد. ثم إن الزلزال بكسر الزاي مصدر، والزلزال بفتح الزاي اسم مصدر، وهذه القاعدة جارية في الفعل الرباعي المضاعف مثل (صلصال) و (وسواس). 2 - الانشقاق، الآية 4. 3 - " أثقال " جمع ثقل - على وزن فكر - بمعنى الحمل، وقيل إنه جمع ثقل، على وزن عمل، وهو متاع البيت أو المسافر. والمعنى الأول أنسب. 378 بنهاية الأرض أم بالبعث؟ الظاهر أنها النفخة الأولى حيث تحدث الزلزلة الكبرى وينتهي فيها هذا العالم. ويحتمل أيضا أن تكون نفخة البعث والنشور، وإخراج الناس من الأجداث والآيات التالية ترتبط بالنفخة الثانية. ولما كان القرآن يتحدث في مواضع مختلفة عن أحداث النفختين معا، فالتفسير الأول أنسب لما ورد من ذكر الزلزال المرعب في نهاية العالم. وفي هذه الحالة يكون المقصود من أثقال الأرض معادنها وكنوزها والمواد المذابة فيها. وأهم من ذلك أن الأرض: يومئذ تحدث أخبارها. تحدث بالصالح والطالح، وبأعمال الخير والشر، مما وقع على ظهرها. وهذه الأرض واحد من أهم الشهود على أعمال الإنسان في ذلك اليوم. وهي إذن رقيبة على ما نفعله عليها. وفي حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " أتدرون ما أخبارها "؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: " أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عملوا على ظهرها. تقول عمل كذا وكذا، يوم كذا، فهذا أخبارها " (1). وفي حديث آخر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " حافظوا على الوضوء وخير أعمالكم الصلاة، فتحفظوا من الأرض فإنها أمكم، وليس فيها أحد يعمل خيرا أو شرا إلا وهي مخبرة به " (2). وعن أبي سعيد الخدري قال: متى كنت في بيداء فارفع صوتك بالأذان لأني
1 - نور الثقلين، ج 5، ص 649. 2 - مجمع البيان، ج 10، ص 526. 379 سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " لا يسمعه جن ولا إنس ولا حجر إلا يشهد له " (1). وهل إن تحديث الأرض يعني أنها تتكلم في ذلك اليوم بأمر الله، أم إن المقصود ظهور آثار أعمال الإنسان على ظهر الأرض؟ واضح أن كل عمل يقوم به الإنسان يترك آثاره حتما على ما حوله، وإن خفيت علينا هذه الآثار اليوم، تماما مثل آثار أصابع اليد التي تبقى على مقبض الباب، وفي ذلك اليوم تظهر كل هذه الآثار، وحديث الأرض ليس سوى هذا الظهور الكبير، تماما كما نقول لشخص نعسان: عينك تقول إنك كنت سهرانا أمس. أي إن آثار السهر عليها واضحة. وليس هذا الموضوع بغريب اليوم بعد الاكتشافات العلمية والاختراعات القادرة في كل مكان وفي لحظة أن تسجل صوت الإنسان وتصور أعماله وحركاته في أشرطة يمكن طرحها في المحكمة كوثائق إدانة لا تقبل الإنكار. لو كانت شهادة الأرض فيما مضى عجيبة، فليست اليوم بعجيبة ونحن نرى شريطا رقيقا يمكن أن يكون بحجم أزرار اللباس قادرا على أن يحتفظ بكثير من الأعمال والأقوال. وفي حديث عن علي (عليه السلام) قال: " صلوا المساجد في بقاع مختلفة، فإن كل بقعة تشهد للمصلي عليها يوم القيامة " (2). وعنه (عليه السلام) أيضا حينما كان يفرغ من تقسيم بيت المال يصلي ركعتين ويقول: " إشهدي أني ملأتك بحق وفرغتك بحق " (3). بأن ربك أوحى لها. (4)
1 - المصدر السابق. 2 - لئالئ الأخبار، ج 5، ص 79 (الطبعة الجديدة). 3 - المصدر السابق. 4 - الباء في (بأن) للسببية واللام في (لها) بمعنى إلى كما ورد في قوله تعالى: وأوحى ربك إلى النحل (النحل، الآية 68). 380 فما فعلته الأرض إنما كان بوحي ربها، وهي لا تتواني في تنفيذ أمر الرب. وعبارة " اوحى " إنما هي لبيان أن حديث الأرض خلاف طبيعتها، ولا يتيسر ذلك سوى عن طريق الوحي الإلهي. قيل: إن المقصود هو أن الله يوحي للأرض أن تخرج أثقالها. والتفسير الأول أصح وأنسب، يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم. " أشتات " جمع " شت " - على وزن شط - وهو المتفرق والمبعثر. أي إن الناس يردون ساحة المحشر متفرقين مبعثرين. وقد يكون التفرق والتبعثر لورود أهل كل دين منفصلين عن الآخرين. أو قد يكون لورود أهل كل نقطة من نقاط الأرض بشكل منفصل. أو قد يكون لورود جماعة بأشكال جميلة مستبشرة، وجماعة بوجوه عبوسة مكفهرة إلى المحشر. أو إن كل أمة ترد مع إمامها وقائدها كما في قوله تعالى: يوم تدعوا كل أناس بإمامهم. (1) أو أن يحشر المؤمنون مع المؤمنين والكافرون مع الكافرين. الجمع بين هذه التفاسير ممكن تماما لأن مفهوم الآية واسع. " يصدر " من الصدور، وهو خروج الإبل من بركة الماء مجتمعة هائجة وعكسه الورود. وهي هنا كناية عن خروج الأقوام من القبور وورودهم على المحشر للحساب. ويحتمل أيضا أن يكون صدور الناس في الآية من المحشر والتوجه نحو مستقرهم في الجنة أو النار.
1 - الاسراء، الآية 71. 381 المعنى الأول أكثر تناسبا مع الآيات السابقة. المقصود من عبارة ليروا أعمالهم هل هو: ليروا جزاء أعمالهم. أو ليروا صحيفة أعمالهم وما سجل فيها من حسنات وسيئات أو المشاهدة الباطنية، بمعنى المعرفة بكيفية الأعمال. أو أنها تعني " تجسم الأعمال " ورؤية الأعمال نفسها؟! التفسير الأخير أنسب مع ظاهر الآية. وهذه الآية أوضح الآيات الدالة على تجسم الأعمال. حيث تتخذ الأعمال في ذلك اليوم أشكالا تتناسب مع طبيعتها وتنتصب أمام صاحبها. وتكون رفقتها سرورا وانشراحا أو عذابا وبلاء. ثم ينتقل الحديث إلى جزاء أعمال المجموعتين المؤمنة والكافرة، الصالحة والطالحة. ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. فمن يعمل مثقال ذرة شرا يره. وهنا أيضا تفسيرات مختلفة لرؤية الأعمال هل هي رؤية جزاء الأعمال، أم صحيفة الأعمال، أو العمل نفسه. ظاهر الآية يدل أيضا على مسألة " تجسم الأعمال " ومشاهدة العمل نفسه، صالحا أم سيئا، يوم القيامة. حتى إذا عمل ما وزنه ذرة من الذرات يره مجسما يوم القيامة. " مثقال " في اللغة بمعنى الثقل، وبمعنى الميزان الذي يقاس به الثقل والمعنى الأول هو المقصود في الآية. و " الذرة " ذكروا لها معاني متعددة من ذلك، النملة الصغيرة، والغبار الذي يلصق باليد عند وضعها على الأرض، وذرات الغبار العالقة في الجو التي تتضح عندما تدخل حزمة ضوء من ثقب داخل غرفة مظلمة. والذرة تطلق اليوم على أصغر جزء من أجزاء المادة والتي منها تصنع " القنبلة
382 الذرية "، مع احتفاظه بخواص المادة الأصلية. ولا ترى بأقوى المجاهر، وتشاهد آثارها فقط، وتعرف خواصها بالمحاسبات العلمية.. مهما كان مفهوم الذرة فهو هنا أصغر وزن. هذه الآية على أي حال تهز كيان الإنسان الواعي من الأعماق، وتشير إلى أن حساب الله في ذلك اليوم دقيق وحساس للغاية. وميزان أعمال الناس دقيق إلى درجة يحصي أقل أعمال الإنسان. * * * 2 بحوث 3 1 - الدقة في تحري الأعمال الآيتان المذكورتان وآيات أخرى مشابهة تدل دلالة واضحة على الدقة المتناهية في تحري الأعمال وفي المحاسبة يوم القيامة، كقوله سبحانه: يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير (1). و " الخردل " بذر صغير جدا لنبات معروف يضرب به المثل لصغره. هذه التعابير القرآنية تدل على أن أصغر الأعمال يحاسب عليها في تلك المحاسبة الكبرى، وهذه الآيات تحذر أيضا من استصغار الذنوب الصغيرة، أو التهاون في أعمال الخير والصغيرة. فما يحاسب عليه الله سبحانه - مهما كان - ليس بقليل الأهمية. لذلك قال بعض المفسرين إن هذه الآيات نزلت حين كان بعض الصحابة يتهاون في إنفاق الأموال القليلة، وكانوا يقولون: إن الأجر يتوقف على إنفاق ما
1 - لقمان، الآية 16. 383 نحب، والأشياء الصغيرة لا نحبها. وهكذا كانوا يستهينون بالذنوب الصغيرة. فنزلت الآيات وحثتهم على فعل الخيرات مهما قلت ونهتهم عن الذنوب مهما صغرت. 3 2 - جواب على سؤال يطرح هنا سؤال بشأن ما تحدثت عنه الآيات وهو أن الإنسان يرى كل أعماله صالحة أم طالحة، صغيرة أم كبيرة. فكيف ينسجم ذلك مع الآيات التي تطرح مفاهيم " الإحباط " و " التكفير " و " العفو " و " التوبة "؟ فآيات " الإحباط " تقرر أن بعض السيئات مثل الكفر يذهبن الحسنات: لئن أشركت ليحبطن عملك (1). وآيات " التكفير " تقول: إن الحسنات يذهبن السيئات (2) وآيات " العفو والتوبة " توضح محو الذنوب بتوبة العبد وعفو الرب. فكيف تنسجم هذه المفاهيم مع رؤية كل أعمال الخير والسوء؟ والجواب: أن الآيات المذكورة أعلاه والتي تنص على رؤية أعمال الخير وأعمال السوء يوم القيامة هو أصل كلي وقانون عام. وكل قانون قد يكون له استثناءات. وآيات العفو والتوبة والإحباط والتكفير هي من هذه الاستثناءات. وثمة جواب آخر هو إنه في حالة الإحباط والتكفير تحدث في الواقع موازنة وكسر وانكسار تماما مثل " المطالبات " و " القروض " التي يقل بعضها على حساب بعض، وحينما يرى الإنسان نتيجة هذه الموازنة فإنما رأى في الواقع كل أعماله الصالحة والطالحة. ومثل هذا يصدق أيضا على " العفو " و " التوبة " لأن العفو لا يتم دون لياقة، والتوبة هي بنفسها من الأعمال الصالحة.
1 - الزمر، الآية 65. 2 - هود، الآية 114. 384 بعضهم ذكر هنا جوابا لا يبدو صحيحا، وهو أن الكفار يرون نتيجة أعمالهم الصالحة في هذه الدنيا، وهكذا المؤمنون ينالون جزاء أعمالهم السيئة في هذا العالم. والظاهر أن الآيات التي نحن بصددها ترتبط بالقيامة لا بالدنيا، أضف إلى ذلك ليست هناك قاعدة كلية تقضي أن يرى كل مؤمن وكافر نتيجة أعماله في هذه الدنيا. 3 3 - الآية الجامعة روي عن عبد الله بن مسعود قال: إن أحكم آية في القرآن: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسميها " الجامعة " (1). وحقا، لو تدبر الإنسان في محتوى هذه الآية تكفيه دافعا إلى طريق الخير وناهيا عن طريق الفساد والانحراف. لذا ورد أن رجلا جاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال له: علمني مما علمك الله. فأوكله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أحد أصحابه ليعلمه القرآن، فعلمه: إذا زلزلت الأرض إلى آخر السورة. فنهض الرجل وقال: هذه تكفيني... وفي رواية قال: تكفيني هذه الآية. عن زيد بن أسلم (رض) أن رجلا جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: علمني ما علمك الله، فدفعه إلى رجل يعلمه القرآن فعلمه إذا زلزلت الأرض حتى بلغ فمن يعمل الخ... قال الرجل: حسبي. فأخبر بذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " دعه فقد فقه الرجل " (2) وعن أبي سعيد الخدري قال: لما أنزلت هذه الآية فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره قلت: يا رسول الله إني لراء عملي؟
1 - نور الثقلين، ج 5، ص 164. 2 - تفسير روح البيان، ج 10، ص 495. 385 قال: نعم. قلت: الكبار الكبار. قال: نعم. قلت: الصغار الصغار. قال: نعم. قلت واثكلي أمي، قال: ابشر يا أبا سعيد فإن الحسنة بعشر أمثالها يعني إلى سبعمائة ضعف، والله يضاعف لمن يشاء والسيئة بمثلها أو يعفو الله، ولن ينجو أحد بعمله. قلت: ولا أنت يا نبي الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بالرحمة. (1) ربنا! عندما لا يكون في ذلك اليوم لرسولك العظيم ملاذ سوى عفوك ورحمتك، فكيف بنا وكيف حالنا... إلهنا! إذا كانت أعمالنا هي الأصل في نجاتنا فالويل لنا، وإن اسعفنا كرمك فهنيئا لنا.. اللهم! ليس لنا في ذلك اليوم الذي تتجسد فيه الأعمال صغيرها وكبيرها إلا لطفك العميم ورحمتك الواسعة. آمين يا رب العالمين نهاية سورة الزلزلة * * *
1 - الدر المنثور، ج 8، ص 594 386 1 سورة 1 العاديات 1 مدنية 1 وعدد آياتها إحدى عشرة آية
387 1 " سورة والعاديات " 3 محتوى السورة: اختلف المفسرون كثيرا في مكان نزول هذه السورة، كثير منهم اعتبرها مكية، وجمع منهم قال إنها مدنية. قصر مقاطع الآيات، واستنادها إلى القسم، وتناولها موضوع المعاد قرائن تدل على مكيتها. لكن مضمون القسم في السورة وارتباطه بمسائل الجهاد - كما سيتضح - وهكذا الرواية القائلة بنزول هذه السورة بعد غزوة (ذات السلاسل) (1) دلائل على مدنية السورة. حتى لو فسرنا مضمون القسم في السورة بحركة الحجاج نحو منى والمشعر فهو دليل على أنها مدنية أيضا. صحيح أن مراسم الحج بأكثر مناسكه كانت شائعة بين عرب الجاهلية بتأثير من سنة إبراهيم. لكنها كانت ممزوجة بالخرافات مما يجعل قسم القرآن بها مستبعدا. من مجموع كل ذلك نرجح أن تكون السورة مدنية. مما تقدم يتضح أيضا محتوى السورة، فهي تبدأ بالقسم بأمور محفزة محركة. ثم تتناول بعض مظاهر الضعف البشري كالكفر والبخل وحب الدنيا. ثم تشير السورة إشارة قصيرة معبرة إلى مسألة المعاد وإحاطة الله بعباده.
1 - واقعة حدثت في السنة الثامنة للهجرة، وفيها أسر عدد كبير من الكفار، فشدوا بالحبال مكبلين ولذا سميت الواقعة بذات السلاسل، وسيأتي شرحها في الآيات. 389 3 فضيلة السورة: ورد في فضيلة هذه السورة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد من بات بالمزدلفة، وشهد جمعا ". (1) وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من قرأ والعاديات وأدمن قراءتها بعثه الله مع أمير المؤمنين يوم القيامة خاصة، وكان في حجره ورفقائه ". (2) وفي بعض الروايات أن سورة " والعاديات " تعادل نصف القرآن. (3) ومن الواضح أن كل هذه الفضيلة إنما هي نصيب من جعل السورة منهاجا لحياته وآمن بكل محتواها وعمل بها. * * *
1 - " جمع " من أسماء المشعر الحرام، لاجتماع الناس فيه، أو لجمع صلاة المغرب والعشاء فيه. 2 - مجمع البيان، ج 10، ص 527. 3 - الدر المنثور، ج 6، ص 383. 390 2 الآيات والعاديات ضبحا (1) فالموريات قدحا (2) فالمغيرات صبحا (3) فأثرن به نقعا (4) فوسطن به جمعا (5) إن الإنسان لربه لكنود (6) وإنه على ذلك لشهيد (7) وإنه لحب الخير لشديد (8) أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور (9) وحصل ما في الصدور (10) إن ربهم بهم يومئذ لخبير (11) 2 سبب النزول روي أن هذه السورة نزلت بعد واقعة ذات السلاسل وكانت الحادثة على النحو التالي: في السنة الثامنة للهجرة بلغ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نبأ تجمع اثني عشر ألف راكب في أرض " يابس " تعاهدوا على أن لا يقر لهم قرار حتى يقتلوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليا (عليه السلام) ويبيدوا الجماعة المسلمة. وبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جمعا من أصحابه إليهم فكلموهم، ولكن دون جدوى. فأرسل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا (عليه السلام) مع جمع غفير من المهاجرين والأنصار
391 لمحاربتهم. فحثوا الخطى إلى منطقة العدو وطووا الطريق في الليل، فحاصروا العدو، وعرضوا عليهم الإسلام أولا، وحين أبوا شنوا هجومهم والجو لما يزل في ظلام، ودحروهم، فقتلوا جماعة وأسروا النساء والأطفال وغنموا أموالا كثيرة. ونزلت سورة " والعاديات "، وجيوش الإسلام لم تصل إلى المدينة بعد، وفي ذات اليوم صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالناس الغداة وقرأ " والعاديات "، فلما فرغ من صلاته قال أصحابه هذه سورة لم نعرفها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " نعم إن عليا ظفر بأعداء الله وبشرني بذلك جبرائيل (عليه السلام) في هذه الليلة. فقدم علي بعد أيام بالغنائم والأسارى. (1) وقيل: إن هذه الواقعة من المصاديق البارزة للآية وليست سببا لنزولها. 2 التفسير 3 قسما بالمجاهدين الواعين: قلنا إن هذه السورة تبدأ بالقسم بأمور محفزة منبهة. تقسم أولا بالخيول الجارية المندفعة (إلى ميدان الجهاد) وهي تحمحم وتتنفس بشدة: والعاديات ضبحا. (2) ويمكن أن يكون القسم هذا بإبل الحجاج المتجهة من عرفات إلى المشعر الحرام، ومن المشعر الحرام إلى منى وهي تتنفس بشدة. " العاديات " جمع عادية، من " العدو "، وهو المغادرة والابتعاد بالقلب. فتكون " العداوة " أو بالحركة الخارجية فيكون (العدو) وهو الركض، أو بالمعاملات فيسمى (العدوان). و " العاديات " في الآية هي الجاريات بسرعة،
1 - بحار الأنوار، ج 21، ص 66 وما بعدها. و " مجمع البيان " ج 10، ص 528. وبعض كتب التاريخ الأخرى. 2 - القاعدة أن تكون: والعاديات عدوا، ولكن " الضبح " لملازمته العدو ناب عنه، فكانت والعاديات ضبحا. وقيل إن ضبحا مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره: والعاديات يضبحن ضبحا. 392 " الضبح " صوت الخيل وهي تتنفس بشدة عند الجري. كما ذكرنا من قبل لهذه الآية تفسيران: الأول: أن المقسوم به في الآية الخيل السريعة الجري نحو ميدان الجهاد. ولما كان الجهاد أمرا مقدسا، فهذه الحيوانات في جريها في هذا المسير المقدس تنال من المكانة واللياقة ما تستحق أن يقسم بها. الثاني: أن المقسوم به الإبل الجارية في موسم الحج بين المواقف المشرفة وهي تنقل الحجاج. لذلك كانت ذا قداسة تستحق القسم بها. روي عن ابن عباس قال: بينما أنا جالس في حجر إسماعيل إذ أتاني رجل فسأل عن " العاديات ضبحا " فقلت له: الخيل حين تغير في سبيل الله ثم تأوي إلى الليل فيصنعون طعامهم ويورون نارهم. فانفتل عني وذهب إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو تحت سقاية زمزم. فسأله عن العاديات ضبحا، فقال: سألت عنها أحدا قبلي؟ قال: نعم، سألت عنها ابن عباس فقال: الخيل حين تغير في سبيل الله. قال: فاذهب فادعه لي فلما وقف على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به؟! والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام بدر، وما كانت معنا إلا فرسان. فرس للزبير وفرس للمقداد بن الأسود، فكيف تكون العاديات الخيل، بل العاديات ضبحا الإبل من عرفة إلى مزدلفة ومن مزدلفة إلى منى. قال ابن عباس فرغبت عن قولي ورجعت إلى الذي قاله علي (عليه السلام). (1) ويحتمل أيضا أن يكون " للعاديات " هنا معنى واسع يشمل خيول المجاهدين وإبل الحجاج. ويكون معنى رواية ابن عباس أنه لا ينحصر المعنى بالخيول إذ لا يصدق هذا المعنى في كل مكان. ومن مصاديقه هو إبل الحجاج. هذا التفسير أنسب من عدة جهات.
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 529، وأورد القرطبي هذه الرواية في تفسيره، ج 10، ص 7245. 393 ثم يأتي القسم التالي بهذه العاديات التي توري النيران بحوافرها: فالموريات قدحا. وهي خيل المجاهدين التي تجري بسرعة فائقة في ميدان القتال، بحيث تنقدح النار من تحت أرجلها جراء احتكاك حوافرها بصخور الأرض. أو هي الإبل التي تجري بين مواقف الحج، فتتطاير الحصى والحجارة من تحت أرجلها وترتطم بحصى وحجارة أخرى فتنقدح النيران. أو مجاميع الحجيج التي توري النار في المواقف للطعام. أو كناية عن الذين يضرمون نيران الحرب والجهاد. أو الألسن التي تشعل النار في قلب الأعداء ببيانها القامع. أو إنها - كما يقول بعض المفسرين - المجموعة الساعية في رفع حاجات الناس، مؤدية أهدافها. ويقال للمنجح في حاجته: ورى زنده. ظاهر الآية يؤيد التفسيرين الأولين، وبقية التفاسير يبدو أنها بعيدة. " الموريات " جمع " مورية "، والإيراء يعني إضرام النار، و " القدح " ضرب الحجارة أو الخشب أو الحديد بما يشبهه لتوليد النار. والقسم الثالث بالتي تغير صباحا على الأعداء: فالمغيرات صبحا. وكانت العرب - كما يقول الطبرسي في مجمع البيان - تقترب ليلا من منطقة العدو وتكمن له، وتشن غارتها في الصباح. وفي سبب نزول الآية (أو أحد مصاديقها الواضحة) رأينا أن جيوش المسلمين بقيادة علي (عليه السلام) استفادت من ظلام الليل، واتجهت نحو معسكر الأعداء، وكمنت له، ثم شنت غارتها في الصباح كالصاعقة. ودحرت العدو قبل أن يبدي مقاومة. ولو اعتبرنا القسم بإبل الحجاج، فالمغيرات في الآية هي قوافل الإبل في
394 صباح العيد من المشعر إلى منى. " المغيرات " جمع " مغيرة ". والإغارة: الهجوم على العدو، وقيل إن الكلمة تتضمن معنى الهجوم بالخيل، ولكن موارد استعمالها يبين أن هذا القيد - إن كان موجودا في الأصل - فقد حذف بالتدريج. وما أورده بعضهم من احتمال أن تكون " المغيرات " هي القبائل المهاجمة المتجهة إلى ميدان القتال، أو المسرعة إلى منى، فبعيد، لأن الآية: والعاديات ضبحا هي بالتأكيد وصف للخيل أو الإبل، لا أصحابها. وهذه الآية استمرار لتلك. ثم تشير الآية التالية إلى سرعة هذه العاديات في هجومها، وذلك بإثارتها الغبار في كل جانب: فأثرن به نقعا. (1) أو أن الغبار يثور من كل صوب نتيجة هجوم إبل الحجاج من المشعر الحرام على منى. " أثرن " من الإثارة، وهي نشر الغبار والدخان في الجو. وقد تأتي بمعنى الهياج، أو انتشار أمواج الصوت في الفضاء. " النقع " هو الغبار، وأصل الكلمة انغماس الماء أو الانغماس في الماء والانغماس في التراب يشبهه، ولذلك اتخذ نفس الاسم. و " النقيع " الماء الراكد. وفي آخر خصائص هذه " المغيرات " تذكر الآية أنها ظهرت بين الإعداء في الفجر: فوسطن به جمعا. (2)
1 - الضمير في (به) يعود إلى العدو المذكور في (والعاديات ضبحا) فهي باء السببية، أي بسبب هذا العدو يثور الغبار ويملا الجو، واحتمل بعضهم أن يكون مرجع الضمير زمان أو مكان ذلك الهجوم. وتكون الباء عندئذ ظرفية. والصحيح المعنى الأول. 2 - مرجع الضمير في (به) ومعنى الباء هو نفسه الذي ذكرناه في الآية السابقة. 395 هجومها كان مباغتا خاطفا بحيث استطاعت خلال لحظات أن تشق صفوف العدو وتشن حملتها في قلبه، وتشتت جمعه. وهذا نتيجة ما تتحلى به من سرعة ويقظة واستعداد وشهامة وشجاعة. أو إنها إشارة إلى ورود الحجاج من المشعر إلى قلب منى. وقيل إن المقصود محاصرة الأعداء. وهذا يصح لو كان الفعل " فوسطن " بتشديد السين، والقراءة المشهورة ليست كذلك. فالصحيح هو المعنى الأول. نستخلص مما سبق أن القسم في الآيات بهذه الخيول التي هي أولا تسرع إلى ميدان الجهاد بنفس شديد، ثم تزيد سرعتها حتى يتطاير الشرر من تحت حوافرها فيشق عتمة الليل... وبعدها تقترب من منطقة العدو، فتباغته، وعند انبلاج عتمة الليل تشن هجوما شديدا يثير الغبار في كل جانب، ثم تتوغل إلى قلب العدو وتشتت صفوفه. القسم إذن - بهذه الخيول المقتدرة!... بفرسانها الشجعان!... بأنفاس مركب المجاهدين!... بشرارات النيران المتطايرة من تحت حوافرها!... بذلك الهجوم المباغت!... بذرات الغبار المنتشرة في الفضاء!... بدخولها قلب صفوف الأعداء وتحقيق النصر الحاسم عليهم! هذه التعابير - وإن لم ترد كلها صراحة في الآيات - فهي مجموعة كلها في الدلالات الضمنية للكلام. من هنا يتضح أن الجهاد له منزلة عظيمة حتى أن أنفاس خيل المجاهدين استحقت أن يقسم بها... وهكذا الشرر المتطاير من حوافر هذه الخيول... والغبار الذي تثيره في الجو... نعم حتى غبار ساحة الجهاد له قيمة وعظمة. وقيل: أن المقصود بهذه الأقسام قد يكون النفوس التي تستطيع أن تنقل كمالها إلى الآخرين، وتقدح شرارة العلم بأفكارها، وتهجم على أهوائها النفسية، وتثير الشوق الإلهي في نفسها ونفوس الآخرين، وتستقر أخيرا في قلب سكنة
396 العليين. (1) واضح أن هذا لا يمكن أن يعتبر تفسيرا للآيات، بل هو تشبيهات تخطر في الذهن لمناسبة تفسير الآية. ثم يأتي جواب القسم، ويقول سبحانه: إن الإنسان لربه لكنود. نعم، الإنسان البعيد عن التربية الصحيحة... والذي لم تشرق في قلبه أنوار المعارف الإلهية وتعاليم الأنبياء... الإنسان الخاضع لأهوائه وشهواته الجامحة هو حتما كفور بالنعمة وبخيل... إنه لكنود. و " كنود " اسم للأرض التي لا تنبت، وتطلق على الإنسان الكفور والبخيل أيضا. المفسرون ذكروا لكلمة " كنود " معاني كثيرة، منهم " أبو الفتوح الرازي " نقل ما يقارب من خمسة عشر معنى، ولكنها غالبا فروع للمعنى الأصلي الذي ذكرناه، من ذلك: 1 - الكنود، الذي يهول من مصائبه وينسى النعم. 2 - هو الذي يأكل نعم الله وحده، ويمنعها عن الآخرين. وورد عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أتدرون من الكنود؟ قيل: الله ورسوله أعلم. قال: الكنود الذي يأكل وحده ويمنع رفده، ويضرب عبده. (2) 3 - الكنود، الذي لا يواسي اخوته في مشاكلهم ومصائبهم. 4 - من كان خيره شحيح. 5 - من يمنع نعمته عن الآخرين ويجزع في المشاكل والمصائب. 6 - من ينفق النعم الإلهية في المعاصي.
1 - تفسير البيضاوي، ص 465. 2 - مجمع البيان، ج 10، ص 530. 397 7 - من ينكر نعمة الله. وهذه المعاني - كما ذكرنا - مصاديق وتفريعات لمعنى الكفران والبخل. كلمة (الإنسان) في مثل هذه الاستعمالات القرآنية تعني الأفراد المتطبعين على الشر والشهوات الجامحة والطغيان، وقيل: إنه الإنسان الكافر. فهذه الصفة لا يمكن إطلاقها على مطلق الإنسان. فثمة أفراد ليسوا بقليلين من امتزج الشكر والعطاء بدمائهم، ورفضوا البخل والكفران، واستطاعوا بفضل الإيمان بالله أن يتحرروا من الذاتية والأهواء الدنيئة ويحلقوا في أجواء معرفة أسماء الله وصفاته والتخلق بالأخلاق الإلهية. وإنه على ذلك لشهيد. فهو بصير بنفسه، وأن استطاع أن يخفي سريرته فلا يستطيع أن يخفيها عن الله وعن ضميره، اعتراف بهذه الحقيقة أم لم يعترف. قيل: إن الضمير في (إنه) يعود إلى الله، أي إن الله شهيد على وجود صفة الكنود في الإنسان. ولكن الآيات السابقة واللاحقة تحمل ضمائر تعود على الإنسان. وبذا نستبعد هذا الاحتمال، وإن رجحه كثير من المفسرين. واحتمل بعضهم أن يكون المعنى شهادة الإنسان على عيوبه وذنوبه يوم القيامة كما ورد في مواضع متعددة من القرآن. وهذا التفسير لا يقوم على دليل، لأن مفهوم الآية واسع يشغل شهادة الإنسان على كنوده في هذه الدنيا أيضا. صحيح أن الإنسان يعجز أحيانا عن معرفة نفسه، وبذلك يخدع ضميره، وتصبح الصفات الذميمة - بتسويل الشيطان وتزيينه - حسنة ممدوحة لديه. ولكن صفة الكنود وهي الكفران والبخل واضحة إلى درجة لا يستطيع أن يخدع ضميره وأن يغطي عليها.
398 وإنه لحب الخير لشديد. أي إنه شديد الحب للمال والمتاع. (1) وهذا الانشداد المفرط بالمال والثروة هو سبب هذا البخل والكفران. كلمة (الخير) لها معنى واسع يشمل كل نعمة. كثير من النعم مثل العلم والمعرفة والتقوى والجنة والسعادة ليست مذمومة، ولا ينكر عليها القرآن. لذلك فسر الخير في الآية بأنه (المال). يدل على ذلك قرينة المقام والآية السابقة، وآيات أخرى كقوله سبحانه: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين. (2) إطلاق " الخير " على المال في الآية يعود إلى أن المال في حد ذاته شئ حسن، ويستطيع أن يكون وسيلة لأنواع الخيرات. لكن الإنسان الكنود يصرفه عن هدفه الأصلي، وينفقه في طريق ذاتياته وأهوائه. وفي استفهام استنكاري يقول سبحانه: أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور. وحصل ما في الصدور وانكشف ما في نفسه من كفر وايمان، ورياء واخلاص وغرور وتواضع وسائر نيات الخير والشر. إن ربهم بهم يومئذ لخبير. نعم، فهو عليهم أعمالهم ونياتهم وسيجازيهم وفقها. " بعثر " من " البعثرة " وهي البعث والإثارة والإخراج وبعثرة ما في القبور: بعث الموتى واخراجهم من القبور. " ما " اسم موصول لغير العاقل عادة، وإنما قال سبحانه:
1 - اللام في " لحب الخير " قد تكون لام التعدية أو لام العلة، إن كانت للتعدية فيكون المعنى هو الذي ذكرناه، وإن كانت للتعليل يكون المعنى: إن الإنسان بسبب حبه للمال بخيل. والأول أنسب. 2 - البقرة، الآية 180. 399 ما في القبور إما لكون الأفراد أمواتا، أو لأنهم لا يزالون في حالة إبهام بالنسبة لهويتهم. والتعبير بالقبور لا يتنافى مع عدم وجود قبر لبعض الأفراد، كالذين يغرقون في البحر، أو المندرسة قبورهم، والمتفرق تراب رفاتهم. لأن أغلب الناس لهم قبور، أضف إلى ذلك أن القبر يمكن أن يكون له معنى واسع يشمل كل محل فيه تراب جسد الإنسان، وإن لم يكن بشكل قبر اعتيادي. " حصل " من التحصيل، وهو في الأصل يعني إخراج اللب من القشر، وكذلك تصفية المعادن، واستخراج الذهب وأمثاله من الخامات. ثم استعملت لمطلق الاستخراج والفصل. والكلمة في الآية تعني فصل الخير عن الشر في القلوب... الإيمان عن الكفر، أو الصفات الحسنة عن الصفات السيئة... أو النوايا الحسنة عن الخبيثة... تفصل في ذلك اليوم وتظهر، وينال كل فرد حسب ذلك جزاؤه. كما قال سبحانه في موضع آخر: يوم تبلى السرائر. (1) والتعبير بكلمة " يومئذ " يعني أن الله (في ذلك اليوم) خبير بأعمال العباد وسرائرهم. ونعلم أن الله سبحانه عليم دائما بذات الصدور. فالتعبير " يومئذ " هو لأن ذلك اليوم يوم الجزاء، والله يجازيهم على أعمالهم وعقائدهم. هذا التعبير - كما قال بعض المفسرين - يشبه قول الذي يهدد شخصا فيقول: سأعرف ماذا دهاك، فهو يعرف أمره الآن أيضا، والقصد أنه سيريه نتيجة ذلك. نعم، الله سبحانه عليم وخبير بأسرارنا وما تنطوي عليه نفوسنا كاملا. لكن أثر هذا العلم سيكون أظهر وأوضح عند الجزاء. وهذا التحذير لو دخل دائرة إيمان البشر لكان سدا منيعا بينهم وبين الذنوب العلنية والخفية، والخارجية والباطنية،
1 - الطارق، الآية 9. 400 ولا يخفى على أحد ما لهذا الاعتقاد من آثار تربوية. * * * مسائل: 3 1 - ارتباط قسم هذه السورة بأهدافها من الأسئلة التي تطرح حول هذه السورة سؤال حول الارتباط بين ما في هذه السورة من قسم بخيول المجاهدين، وقوله سبحانه: " إن الإنسان لربه لكنود ". فمواضع القسم في القرآن يشاهد فيها ارتباط بين القسم والمقسم به. وفصاحة القرآن وبلاغته تقتضي ذلك. قد يكون الارتباط في هذه السورة أن القرآن يقول: ثمة أفراد من بني الإنسان يضحون على طريق الجهاد ويبذلون النفس والنفيس في سبيل الله، فكيف والحال هذه يستولي على بعض الناس البخل والكفران، فلا يؤدون فريضة شكر النعم ولا يبذلون في سبيل الله؟! صحيح أن القسم في الآيات بالخيل، لكن الخيل إنما اكتسبت أهميتها لأنها مركب المجاهدين. فالقسم إذن بجهاد المجاهدين. (وهكذا الأمر إذا كان القسم بإبل الحجاج). وقيل أيضا أن الارتباط المذكور يحصل بأن هذه الحيوانات تجري على طريق رضا الله، فلماذا لا تخضع أنت أيها الإنسان له، وأنت أشرف المخلوقات وأحق من غيرك؟! والمناسبة الأولى أوضح. 3 2 - هل الإنسان كنود بطبيعته؟ قد يستفاد من قوله سبحانه: إن الإنسان لربه لكنود أن البخل والكفران
401 صفة لازمة لطبيعة الإنسان، فكيف يتناسب هذا مع ما يمتلكه الإنسان من ضمير يقظ وشعور فطري يدعوه إلى شكر المنعم وإلى التضحية؟ مثل هذا السؤال يطرح في المواضع التي تتحدث عن صفة بارزة من صفات الضعف الإنساني كقوله سبحانه عن الإنسان بأنه ظلوم وجهول (1) وإنه هلوع (2) وإنه يؤوس وكفور (3) وإنه ليطغى (4). فهل نقاط الضعف هذه قائمة في طبيعة الكائن البشري؟ كيف يمكن أن يكون هذا والقرآن يقول: ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (5) جواب هذا السؤال يتضح لو عرفنا أن الإنسان له بعدان وجوديان. ولذلك يستطيع في منحناه الصعودي أن يرتقي إلى أعلى عليين، وفي منحناه النزولي إلى أسفل سافلين. إذا خضع للتربية الإلهية واستلهم نداء العقل، وبنى نفسه كان مصداقا لقوله سبحانه: وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا. وإذا أعرض عن الإيمان والتقوى، وخرج عن خط أولياء الله كان موجودا ظلوما كفارا ويؤوسا وكفورا وهلوعا وكنودا. من هنا فلا تناقض بين هذه الآيات، وكل منها يشير إلى واحد من بعدي وجود الإنسان. نعم، في داخل فطرة الإنسان تمتد جذور كل الحسنات والمفاخر والفضائل، كما إن فيه استعدادا لما يقابل هذه الفضائل.
1 - الأحزاب، الآية 72. 2 - المعارج، الآية 19. 3 - هود، الآية 9. 4 - العلق، الآية 6. 5 - الإسراء، الآية 70. 402 ولذلك لا يوجد في عالم الخلقة موجود يفصل بين قوسه الصعودي وقوسه النزولي هذا القدر من البون الشاسع. (تأمل بدقة). 3 3 - عظمة الجهاد القرآن تعرض للحديث عن مسألة الجهاد وعظمة المجاهدين في سبيل الله في مواضع عديدة. ولكن الحديث في هذه السورة فريد في تعظيمه للجهاد إذ عد حتى أنفاس خيل المجاهدين وشرر حوافرها والغبار الذي تثيره عظيمة استحقت أن يقسم بها. وركزت الآيات بشكل خاص على السرعة والعمل الخاطف للمجاهدين باعتباره أحد عوامل النصر في الحروب، وعلى المباغتة باعتبارها عاملا آخر من عوامل الانتصار في الحرب. وكل هذه تعاليم في منهج الجهاد. ويلفت النظر في سبب نزول الآية أن عليا (عليه السلام) أمر أن تسرج الخيل في ظلام الليل وأن تعد إعدادا كاملا، وحينما انفلق الفجر وزالت العتمة صلى بالناس الصبح، وشن هجومه مباشرة، وما أن انتبه العدو حتى وجد نفسه تحت وطأة خيل جيش الإسلام. هذه الحملة السريعة المباغتة جعلت إصابات المسلمين أقل ما يمكن، وحسمت الحرب خلال ساعات، وهذه المسائل انعكست جميعا في آيات هذه السورة بشكل دقيق رائع. واضح أن محور التكريم في هذه السورة ليس الخيل أو شرارة حوافرها أو الغبار المتصاعد من تحت أرجلها بل هو " الجهاد "، ثم " عدته " التي تشمل كل أنواع أجهزة الحرب في أي زمان... تشمل كل أنواع " القوة " المذكورة بشكل عام مطلق إلى جانب ذكر " رباط الخيل " في الآية (60) من سورة الأنفال.
403 ربنا! وفقنا للجهاد والتضحية في سبيل رضاك. إلهنا! النفس الجامحة تجنح إلى الكفران... فاحفظنا من أخطارها. اللهم! أنت عليم بسرائرنا وخبير بأعمالنا ما ظهر منها وما بطن فارفق بنا بلطفك وفضلك يا أرحم الراحمين. آمين يا رب العالمين نهاية سورة والعاديات * * *
404 1 سورة 1 القارعة 1 مكية 1 وعدد آياتها إحدى عشرة آية
405 1 " سورة القارعة " 3 محتوى السورة: تتناول هذه السورة بشكل عام، المعاد، ومقدماته، بتعابير حادة، وبيان مؤثر، وإنذار صريح وواضح، حيث تصنف الناس يوم القيامة، إلى صنفين أو جماعتين: الجماعة التي تكون أعمالها ثقيلة في ميزان العدل الإلهي، فتحظى جزاء بذلك، حياة راضية سعيدة في جوار الرحمة الإلهية، وجماعة أعمالها خفيفة الوزن، فتعيش في نار جهنم الحارة المحرقة. وقد اشتق اسم هذه السورة، أي (القارعة) من الآية الأولى فيها. 3 فضيلة السورة: يكفي في فضيلة هذه السورة أن نقرأ الحديث الشريف المروي عن الإمام الباقر (عليه السلام): " من قرأ القارعة آمنه الله من فتنة الدجال أن يؤمن به، ومن قيح جهنم يوم القيامة إن شاء الله " (1). * * *
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 530. 407 2 الآيات القارعة (1) ما القارعة (2) وما أدراك ما القارعة (3) يوم يكون الناس كالفراش المبثوث (4) وتكون الجبال كالعهن المنفوش (5) فأما من ثقلت موازينه (6) فهو في عيشة راضية (7) وأما من خفت موازينه (8) فأمه هاوية (9) وما أدراك ما هيه (10) نار حامية (11) 2 التفسير 3 الحادثة القارعة: هذه الآيات تصف القيامة وتقول: القارعة... ما القارعة؟! " القارعة " من القرع، وهو طرق الشئ بالشئ مع إحداث صوت شديد. وسميت العصا والمطرقة بالمقرعة لهذه المناسبة. بل سميت كل حادثة هامة صعبة بالقارعة. (تاء التأنيث قد تكون إشارة للتأكيد). الآية الثالثة تخاطب حتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقول له: وما أدراك ما القارعة
408 وهذا يدل على أن عظمة هذه الحادثة القارعة إلى درجة لا تخطر على فكر أحد. على أي حال، أكثر المفسرين ذكروا أن " القارعة " أحد أسماء القيامة، ولكن لم يوضحوا هل أنه اسم لمقدمات القيامة إذ تقرع هذه الدنيا، وينطفئ نور الشمس والقمر، وتغور البحار، إذا كانت القارعة هذه فوجه تسميتها واضح. أو إنه اسم للمرحلة التالية.. أي مرحلة احياء الموتى، وظهور عالم جديد، وتسميتها " القارعة " - في هذه الحالة - لما تبعثه من خوف وذعر في القلوب.. الآيات التالية بعضها يتناسب مع حادثة انهدام العالم، وبعضها مع إحياء الموتى، ولكن الاحتمال الأول أنسب، وإن ذكرت الحادثتان كلاهما في هذه الآيات متتابعتين. (مثل كثير من المواضع القرآنية الأخرى التي تخبر عن يوم القيامة) وفي وصف ذلك اليوم العجيب يقول سبحانه: يوم يكون الناس كالفراش المبثوث. " الفراش " جمع فراشة، وهي الحشرة المعروفة ذات الألوان الزاهية، وقيل إنها الجراد. ويبدو أن هذا المعنى مستلهم من قوله تعالى حيث يصف الناس يوم القيامة كأنهم جراد منتشر (1)، لكن المعنى اللغوي للكلمة هو الحشرة المعروفة. والتشبيه بالفراش قد يكون لأن هذه الحشرات تلقي بنفسها بشكل جنوني في النار، وهذا ما يفعله أهل السيئات إذ يلقون بأنفسهم في جهنم. ويحتمل أن يكون التشبيه لما يصيب جميع الناس في ذلك اليوم من حيرة. وإن كان الفراش بمعنى الجراد فوجه التشبيه هو إن الجراد - خلافا لكل الحيوانات التي تطير بشكل جماعي - ليس لها مسير مشخص في حركتها، وكل
1 - القمر، الآية 7. 409 منها يطير في اتجاه. ويطرح هنا السؤال أيضا بشأن مشاهد الحيرة والتشتت والفزع والاضطراب، هل هي من أثر الحوادث المرعبة المرافقة لنهاية العالم، أم حوادث بدء القيامة والحشر والنشر؟ جواب السؤال يتضح مما ذكرناه أعلاه. ثم تذكر الآية التالية وصفا آخر لذلك اليوم وتقول: وتكون الجبال كالعهن المنفوش. و " العهن " هو الصوف المصبوغ. و " المنفوش " هو المنشور ويتم ذلك عادة بآلة الحلج الخاصة. سبق أن ذكرنا أن القرآن الكريم في مواضع متعددة يتحدث عن الجبال عند قيام القيامة بأنها تتحرك أولا، ثم تدك وتتلاشى وأخيرا تصبح بشكل غبار متطاير في السماء. وهذه الحالة الأخيرة تشبهها الآية بالصوف الملون المجلوح... الصوف المتطاير في مهب الريح، لم يبق منه إلا ألوان... وهذه آخر مراحل انهدام الجبال. هذا التعبير (العهن المنفوش) قد يكون إشارة إلى الألوان المختلفة للجبال، فإن لها ألوان شتى. هذه العبارة تدل على أن الآيات أعلاه، تتحدث عن المرحلة الأولى للقيامة وهي مرحلة العالم ونهايته. ثم تتطرق الآيات التالية إلى الحشر والنشر وإحياء الموتى وتقسيمهم إلى مجموعتين: فأما من ثقلت موازينه أي إن ميزان عمله ثقيل. فهو في عيشة راضية، وأما من خفت موازينه، فأمه هاوية، وما أدراك ماهيه (1) نار حامية.
1 - " ماهيه "، أصلها " ما هي "، والهاء ألحقت بها للسكت. 410 " موازين " جمع ميزان،، وهو وسيلة للوزن، تستعمل في وزن الأجسام، ثم استعملت في المعايير المعنوية. وذهب بعضهم إلى أن أعمال الإنسان تتجسم في ذلك اليوم، وتصبح قابلة للوزن، وتوزن حقيقة بميزان الأعمال. وقيل أيضا أن صحيفة أعمال الفرد هي التي توزن، فإن كانت تحمل صالحا ثقلت، وإلا خفت أو انعدم وزنها. وفي الواقع، ليس من الضروري أن يكون الميزان هو الآلة المعروفة ذات الكفتين، بل هو كل وسيلة لتقويم الوزن، كما ورد في الحديث: " إن أمير المؤمنين والأئمة من ذريته (عليهم السلام) هم الموازين " (1). وعن الإمام الصادق (عليه السلام) حين سئل عن معنى الميزان قال: " الميزان العدل " (2). وبهذا نفهم أن أولياء الله وقوانين العدل الإلهي هي موازين يعرض عليها الناس وأعمالهم ويتم قياس الوزن على مقدار الشبه والمطابقة. واضح أن المقصود بثقل الموازين وخفتها هو ثقل الأشياء التي توزن بها وخفة تلك الأشياء. والتعبير بكلمة (موازين) بصيغة الجمع يعود إلى أن كل واحد من أولياء الله وكل قانون من القوانين الإلهية إنما هو ميزان. أضف إلى ذلك أن تنوع مواصفات الكائن البشري وأعماله يحتاج إلى تنوع في الموازين. الراغب في المفردات يقول: وذكر في مواضع الميزان بلفظ الواحد اعتبارا بالمحاسب (بكسر السين) وفي
1 - بحار الأنوار، ج 7، ص 251. 2 - تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 5. 411 مواضع الجمع اعتبارا بالمحاسبين (1) (بفتح السين). بعض المفسرين قال: إن الموازين جمع الموزون، أي العمل الذي يوزن فثقل الموازين وخفتها إذن هو ثقل نفس الأعمال وخفتها. لا ثقل الميزان وخفته (2). نتيجة الاثنين طبعا واحدة، ولكن من طريقين مختلفين. في هذا الموضوع شرح أكثر فصلناه في تفسير الآيتين 8 و 9 من سورة الأعراف، والآية (105) من سورة الكهف، والآية (102) من سورة المؤمنون. وصف العيشة بأنها " راضية " وصف رائع عن حياة ملؤها النعمة ورغد العيش لأهل الجنة في القيامة. الرضا في تلك الحياة عميق إلى درجة قال إنها " عيشة راضية "، ولم يقل " مرضية ". أي استعمل بدل اسم المفعول اسم الفاعل لمزيد من التأكيد (3). هذه ميزة الحياة الآخرة بشكل خاص. لأن الحياة الدنيا - مهما كان فيها من رفاه ونعمة ورغد عيش ورضا - لا تخلو من المكدرات. الحياة الأخرى هي وحدها المليئة بالرضا والأمن والسلام وهدوء البال. كلمة " أم " في قوله: فأمه هاوية تعني المأوى والملجأ، لأن " الأم " هي مأوى أبنائها وملاذهم، ويكون معنى الآية: إن هؤلاء المذنبين الذين خفت موازينهم لا ملاذ لهم سوى جهنم، وويل لمن كان ملجؤه جهنم. وقيل: " أم " تعني " الدماغ "، لأن العرب تطلق على الدماغ اسم " أم الرأس " ويكون معنى الآية أن رؤوس هؤلاء هاوية في جهنم، بعبارة أخرى إن هؤلاء يلقون على رؤوسهم في نار جهنم. ونستبعد هذا الاحتمال، لعدم انسجامه مع
1 - المفردات، ص 522. 2 - هذا الاحتمال ذكره الزمخشري في الكشاف، والفخر الرازي في التفسير الكبير، وأبو الفتوح الرازي في تفسيره. 3 - قيل أيضا أن " راضية " بمعنى (ذات رضا). أو قدروا محذوفا كأن تكون عيشة مرضية لأصحابها. والتفسير المذكور أعلاه أنسب من غيره. 412 الآية التالية: وما أدراك ما هيه؟. " هاوية " من (هوى)، أي سقط، والهاوية اسم لجهنم لأنها محل سقوط المذنبين. وهي إشارة أيضا إلى عمق نار جهنم. وإذا اعتبرنا (أم) بمعنى دماغ فتكون هاوية بمعنى ساقطة. والتفسير الأول أصح وأنسب. " حامية " من (حمى) - على وزن نفي - وهو شدة الحرارة. و " حامية " هنا إشارة إلى قدرة نار جهنم على الإحراق. وقوله سبحانه: وما أدراك ماهيه، نار حامية تأكيد على شدة عذاب نار جهنم وعلى أنها فوق تصور كل البشر. * * * 2 بحث 3 سبب ثقل ميزان الأعمال: الأعمال الصالحات هي دون شك متفاوتة في قيمتها ووزنها. من هنا فالنصوص الإسلامية ركزت على بعض الأعمال أكثر من غيرها واعتبرتها سببا لثقل ميزان الأعمال يوم القيامة. من ذلك حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال في تفسير لا إله إلا الله: " يعني بوحدانيته، لا يقبل الله الأعمال إلا بها، وهي كلمة التقوى، يثقل الله بها الموازين يوم القيامة " (1). وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال حول الشهادتين: " خف ميزان ترفعان منه، وثقل ميزان توضعان فيه " (2).
1 - نور الثقلين، ج 5، ص 659 الحديث 8 و 12. 2 - المصدر السابق، الحديث 7، ج 5، ص 659، ح 7. 413 وعن الإمام الباقر أو الصادق (عليهما السلام): " ما في الميزان شئ أثقل من الصلاة على محمد وآل محمد "... ثم يقول في ذيل الرواية: وإن الرجل لتوضع أعماله في الميزان فيميل به فيخرج الصلاة فيضعها في ميزانه فيرجح. (1) وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: " من كان ظاهره أرجح من باطنه خف ميزانه ". (2) ونختتم هذه الروايات بقول لسلمان الفارسي تلميذ مدرسة الوحي جوابا لرجل استهدف اهانته وقال له: من أنت، وما قيمتك! فقال: " أما أولي وأولك فنطفة قذرة، وأما أخري وأخرك فجيفة منتنة، فإذا كان يوم القيامة، ونصبت الموازين، فمن ثقلت موازينه فهو الكريم، ومن خفت موازينه فهو اللئيم " (3). اللهم! اجعل ميزان عملنا ثقيلا بحب محمد وآل محمد. ربنا! ما بوسعنا أن نصل إلى " عيشة راضية " إلا بلطفك وكرمك... فأعنا بفضلك على هذا الطريق. إلهنا! نار جهنم حامية... ولا طاقة لنا بها فاطفئ لظاها لنا بماء رحمتك وكرمك. آمين يا رب العالمين نهاية سورة القارعة * * *
1 - المصدر السابق. 2 - نور الثقلين، ج 5، ص 660، الحديث 13. 3 - المصدر السابق، الحديث 14. 414 1 سورة 1 التكاثر 1 مكية 1 وعدد آياتها ثماني آيات
415 1 " سورة التكاثر " 3 محتوى السورة: يعتقد كثير من المفسرين أن هذه السورة نزلت في مكة، وما فيها من ذكر للتفاخر والتكاثر إنما يرتبط بقبائل قريش التي كانت تتباهى على بعضها بأمور وهمية. وبعضهم - كالمرحوم الطبرسي في مجمع البيان - يرى أنها مدنية، وما فيها من ذكر للتفاخر قد ورد بشأن اليهود أو طائفتين من الأنصار، لكن مكيتها أصح لشبهها الكبير بالسور المكية. هذه السورة تتناول في مجموعها تفاخر الأفراد على بعضهم استنادا إلى مسائل موهومة، وتذم ذلك وتلوم عليه، ثم تحذرهم من حساب المعاد وعذاب جهنم ومما سيسألون يوم ذاك عن النعم التي من الله بها عليهم. اسم السورة مستل من الآية الأولى فيها. 3 فضيلة السورة: ورد في فضيلة هذه السورة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من قرأها لم يحاسبه الله بالنعيم الذي أنعم عليه في دار الدنيا، وأعطي من الأجر كأنما قرأ ألف آية " (1).
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 532. 417 وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: " قراءة هذه السورة في الفريضة والنافلة يعادل ثواب شهادة شهيد " (1). واضح أن كل هذا الثواب إنما هو لمن يقرأها ولمن يطبقها في برنامج حياته ويتفاعل معها روحيا ونفسيا. * * *
1 - المصدر السابق، بتلخيص. 418 2 الآيات ألهاكم التكاثر (1) حتى زرتم المقابر (2) كلا سوف تعلمون (3) ثم كلا سوف تعلمون (4) كلا لو تعلمون علم اليقين (5) لترون الجحيم (6) ثم لترونها عين اليقين (7) ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم (8) 2 سبب النزول المفسرون - كما أشرنا - يعتقدون أن السورة نزلت في قبائل كانت تتفاخر على بعضها بكثرة الأموال والأنفس حتى أنها كانت تذهب إلى المقابر وتعد موتاها لترفع احصائية أفراد القبيلة. بعضهم قال: إن المقصود قبيلتان من قريش في مكة، وبعضهم قال إنهما قبيلتان من قبائل الأنصار في المدينة، وقيل: إنه إشارة إلى تفاخر اليهود على غيرهم، ويبدو أن الأول أصح لمكان مكية هذه السورة. سبب النزول - مهما كان - فهو لا يحد قطعا معنى الآية.
419 2 التفسير 3 بلاء التكاثر والتفاخر: الآيات الأولى توجه اللوم إلى المتكاثرين المتفاخرين وتقول: ألهاكم التكاثر في الأنفس والأموال. حتى إنكم ذهبتم إلى المقابر لتستكثروا أفراد قبيلتكم: حتى زرتم المقابر. واحتمل بعض المفسرين في تفسير الآية أن المعنى هو: إنكم انشغلتم بالتكاثر والتفاخر حتى لحظة موتكم وورودكم إلى المقابر. لكن المعنى الأول أكثر انسجاما مع عبارة حتى زرتم المقابر ومع سبب النزول، وخطبة نهج البلاغة كما سنشير إلى ذلك. " ألهاكم " من " اللهو " وهو الانشغال بالأعمال الصغيرة والانصراف عن المهام الكبيرة. والراغب يفسر اللهو بالعمل الذي يشغل الإنسان ويصرفه عن مقاصده وأهدافه. " التكاثر " يعني التفاخر والمباهاة " زرتم " من الزيارة و " زور " (على وزن قول) في الأصل بمعنى أعلى الصدر، ثم استعمل للقاء والمواجهة. و " زور " (على وزن قمر) بمعنى انحراف أعلى الصدر، والكذب لانحرافه عن الحق سمي (زورا) - على وزن نور -. " المقابر " جمع مقبرة، وهي مكان دفن الميت. وزيارة المقابر إما أن تكون كناية عن الموت. أو بمعنى الذهاب إلى المقابر وإحصاء الموتى بهدف التكاثر في الأنفس والتفاخر بالعدد (حسب التفسير المشهور). وذكرنا أن المعنى الثاني أصح. وأحد شواهده كلام لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، بعد أن تلا: ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر قال: " يا له أمر ما أبعده! وزورا ما أغفله! وخطرا ما أفظعه! لقد استخلوا منهم أي مدكر وتناوشوهم من مكان بعيد. أفبمصارع آبائهم يفخرون؟! أو بعديد الهلكى
420 يتكاثرون؟! يرتجعون منهم أجسادا خوت، وحركات سكنت، ولأن يكونوا عبرا أحق من أن يكونوا مفتخرا!! " (1). هذه الخطبة قسم من خطبة عظيمة يقول عنها ابن أبي الحديد المعتزلي: " وأقسم بمن تقسم الأمم كلها به، لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسين سنة وإلى الآن أكثر من ألف مرة، ما قرأتها قط إلا وأحدثت عندي روعة وخوفا وعظة، وأثرت في قلبي وجيبا، وفي أعضائي رعدة، ولا تأملتها إلا وذكرت الموتى من أهلي وأقاربي، وأرباب ودي، وخيلت في نفسي أني أنا ذلك الشخص الذي وصف عليه السلام حاله. وكم قد قال الواعظون والخطباء والفصحاء في هذا المعنى! وكم وقفت على ما قالوه وتكرر وقوفي عليه! فلم أجد لشئ منه مثل تأثير هذا الكلام في نفسي، فإما أن يكون ذلك لعقيدتي في قائله، أو كانت نية القائل صالحة، ويقينه كان ثابتا، وإخلاصه كان محضا خالصا، فكان تأثير قوله في النفوس أعظم وسريان موعظته في القلوب أبلغ " (2). ويقول في مكان آخر: " ينبغي لو اجتمع فصحاء العرب قاطبة في مجلس وتلي عليهم أن يسجدوا " ثم يشير إلى قول معاوية حول فصاحة الإمام علي (عليه السلام): " والله ما سن الفصاحة لقريش غيره ". الآيات التالية فيها تهديد شديد لهؤلاء المتكاثرين، تقول: كلا سوف تعلمون فليس الأمر كما ترون، وبه تتفاخرون. بل سوف تعلمون عاجلا نتيجة هذا التكاثر الموهوم. لمزيد من التأكيد يقول سبحانه: ثم كلا سوف تعلمون. جمع من المفسرين ذهبوا إلى أن الآيتين تكرار لموضوع واحد وتأكيد عليه.
1 - نهج البلاغة، الخطبة 221. 2 - شرح نهج البلاغة، ج 11، ص 153. 421 وكلتاهما تشيران إلى العذاب الذي ينتظر هؤلاء المتكاثرين المتفاخرين. وبعضهم قال: إن الأولى إشارة إلى عذاب القبر والبرزخ والثانية إلى عذاب القيامة. وروي عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قال: " ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت ألهاكم التكاثر، إلى قوله: كلا سوف تعلمون، يريد في القبر، ثم كلا سوف تعلمون، بعد البعث " (1). في التفسير الكبير للفخر الرازي عن زربن حبيش أحد أصحاب الإمام علي (عليه السلام) قال: كنا في شك في عذاب القبر حتى سألنا عليا فأخبرنا أن هذه الآية دليل على عذاب القبر. كلا لو تعلمون علم اليقين. كلا ليس الأمر كما تظنون أيها المتفاخرون المتكاثرون. فلو إنكم تعلمون الآخرة علم اليقين، لما اتجهتم إلى التفاخر والمباهاة بهذه المسائل الباطلة. ولمزيد من التأكيد والإنذار تقول لهم الآيات التالية: لترون الجحيم، ثم لترونها عين اليقين، ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم في ذلك اليوم عليكم أن توضحوا كيف أنفقتم تلك النعم الإلهية. وهل استخدمتموها في طاعة الله أم في معصيته، أم أنكم ضيعتم النعمة ولم تؤدوا حقها؟ * * * 2 بحوث 3 1 - منبع التفاخر والتكاثر من آيات السورة يتبين أن أحد العوامل الأساسية للتفاخر والتكاثر والمباهات هو الجهل بجزاء الآخرة وعدم الإيمان بالمعاد.
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 534. 422 كما إن جهل الإنسان بضعفه ومسكنته... ببدايته ونهايته... من العوامل الأخرى الباعثة على الكبر والغرور والتفاخر. ولهذا فإن القرآن الكريم بهدف كسر روح التفاخر والتكاثر في الأفراد، يقص علينا في مواضع كثيرة مصير الأقوام السالفة، وكيف إنها كانت تمتلك كل وسائل القوة والمنعة، لكنها أبيدت بوسائل بسيطة... بالريح... بالصاعقة... بالزلزال... بالسيل... بعبارة أخرى بالماء والهواء والتراب.. وأحيانا بالسجيل وبطير أبابيل!! فلم - والحال هذه - كل هذا التفاخر والغرور؟! ثم عامل آخر لهذه الظاهرة هو الإحساس بالضعف وعقدة الحقارة الناتجة عن الفشل. والأفراد الفاشلون من أجل أن يغطوا على فشلهم يلجأون إلى الفخر والمباهات ولذلك ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: " ما من رجل تكبر أو تجبر إلا لذلة وجدها في نفسه " (1). وعن الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) قال: " ثلاثة من عمل الجاهلية: الفخر بالأنساب، والطعن بالأحساب والاستسقاء بالأنواء (طلب الماء بواسطة النجوم) " (2). وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قال: " أهلك الناس اثنان: خوف الفقر، وطلب الفخر " (3). والحق أن أهم عوامل الحرص والبخل والخلود إلى الدنيا والمنافسات المخربة، وكثير من المفاسد الاجتماعية هو هذا الخوف الوهمي من الفقر والتفاخر والتعالي بين الأفراد والأمم والقبائل. ولذا ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " ما أخشى عليكم الفقر ولكن أخشى
1 - أصول الكافي، ج 2، ص 236: باب الكبر، الحديث 17. 2 - بحار الأنوار، ج 73، ص 291. 3 - بحار الأنوار، ج 73، ص 290، الحديث 12. 423 عليكم التكاثر " (1). " التكاثر " كما أشرنا يعني في الأصل التفاخر، ولكنه يعني أحيانا حب الاستزادة من المال وجمعه، كما ورد في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " التكاثر في الأموال: جمعها من غير حقها، ومنعها من حقها، وشدها في الأوعية " (2). هذا البحث الموسع نختمه بحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير ألهاكم التكاثر قال: " يقول ابن آدم: مالي مالي، وما لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت " (3). نعم، حقا لا يعود على الإنسان شئ من ماله الذي جمعه وعدده، وتساهل - أحيانا - في حلاله وحرامه، إلا ما يأكل ويشرب ويلبس، أو ما ينفقه في سبيل الله وما ينفقه على الاحتياجات الشخصية قليل، فما أفضل أن يزيد حظه من ماله بالإنفاق! 3 2 - اليقين ومراحله " اليقين " يقابل " الشك "، كما إن " العلم " يقابل " الجهل "، واليقين يعني وضوح الشئ وثبوته. ويستفاد من الروايات أن اليقين هو أعلى مراحل الإيمان. الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) يجعل الإيمان أعلى من الإسلام درجة، والتقوى أعلى من الإيمان درجة، واليقين أعلى من التقوى درجة ثم يقول: " ولم يقسم بين الناس شئ أقل من اليقين ".
1 - الدر المنثور، ج 6، ص 387. 2 - نور الثقلين، ج 5، ص 662، الحديث 8. 3 - صحيح مسلم، نقلا عن مجمع البيان، ج 10، ص 534 424 ويسأل الراوي: ما هو اليقين؟ يقول: " التوكل على الله، والتسليم لله، والرضا بقضاء الله، والتفويض إلى الله! " (1). علو مقام اليقين على مقام التقوى والإيمان والإسلام أكدت عليه روايات أخرى (2). وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: " من صحة يقين المرء المسلم أن لا يرضي الناس بسخط الله، ولا يلومهم على ما لم يؤته الله... إن الله بعدله وقسطه جعل الروح والراحة في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط ". ومن هذه النصوص وأمثالها نفهم جيدا أن الإنسان - حين يصل إلى مقام اليقين - تغمر قلبه وروحه طمأنينة خاصة. ومع هذا، فلليقين مراتب، أشارت إليها الآية أعلاه والآية (95) من سورة الواقعة: إن هذا لهو حق اليقين، وهي ثلاثة: 1 - علم اليقين: وهو الذي يحصل للإنسان عند مشاهدته الدلائل المختلفة، كأن يشاهد دخانا فيعلم علم اليقين أن هناك نارا. 2 - عين اليقين: وهو يحصل حين يصل الإنسان إلى درجة المشاهدة كأن يرى بعينه مثلا النار. 3 - حق اليقين: وهو كأن يدخل الإنسان النار بنفسه ويحس بحرقتها، ويتصف بصفاتها. وهذه أعلى مراحل اليقين. يقول المحقق الطوسي: اليقين اعتقاد جازم مطابق ثابت، لا يمكن زواله، وهو في الحقيقة مؤلف من علمين، العلم بالمعلوم والعلم بأن خلاف ذلك العلم محال،
1 - بحار الأنوار، ج 70، ص 143. 2 - الميزان، ج 6، ص 187. 425 وله مراتب: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين (1). إنه ذكر عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن بعض أصحاب عيسى (عليه السلام) كان يمشي على الماء فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " لو كان يقينه أشد من ذلك لمشى على الهواء " فالحديث - كما ترى - يومئ إلى أن الأمر يدور مدار اليقين بالله سبحانه ومحو الأسباب الكونية عن الاستقلال في التأثير، فإلى أي مبلغ بلغ ركون الإنسان إلى القدرة المطلقة الإلهية انقادت له الأشياء على قدره (2). 3 3 - الجميع يرى جهنم الآية الكريمة: لترون الجحيم لها تفسيران: الأول: إنها تتحدث عن مشاهدة الجحيم في الآخرة، وهو خاص بالكفار، أو لعامة الجن والإنس، إذ تنص بعض الآيات على أنه ما من أحد إلا وارد جهنم. الثاني: إنها تتحدث عن الشهود القلبي في عالم الدنيا. وفي هذه الحالة تكون الآية جوابا لقضية شرطية هي: لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم (في هذه الدنيا بعين بصيرتكم). لأن الجنة وجهنم مخلوقان، ولهما الآن وجود خارجي. ولكن - كما ذكرنا - التفسير الأول أنسب مع الآيات التالية التي تتحدث عن يوم القيامة. من هنا، فالقضية قطعية وليست شرطية. 3 4 - أي نعيم يسأل عنه يوم القيامة؟ الآية الأخيرة من السورة تقول: ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم. قيل إن النعيم المسؤول عنه هو نعمة السلامة، وفراغ البال، وقيل: إنه الصحة والسلامة
1 - على ما في بحار الأنوار، ج 70، ص 143. 2 - الميزان، ج 6، ص 200 " ذيل الآية 105 من سورة المائدة ". 426 والأمن، وقيل: الآية تشمل كل هذه النعم. وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قال: " النعيم: الرطب، والماء البارد ". وروي أن أبا حنيفة سأل الإمام جعفر بن محمد الصادق عن تفسير هذه الآية قال الإمام: " ما النعيم عندك يا نعمان " قال: القوت من الطعام والماء البارد، فقال (عليه السلام) " لئن أوقفك الله يوم القيامة بين يديه حتى يسألك عن كل أكلة أكلتها وشربة شربتها ليطولن وقوفك بين يديه ". قال: فما النعيم جعلت فداك؟ قال الامام: " نحن أهل البيت النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين وبنا ألف الله بين قلوبهم وجعلهم أخوانا بعد أن كانوا أعداء وبنا هداهم الله للإسلام وهي النعمة التي لا تنقطع والله سائلهم عن حق النعيم الذي أنعم الله به عليهم وهو النبي وعترته " (1). من كل هذه الروايات - التي يبدو أنها مختلفة في ظاهرها - نفهم أن النعيم له معنى واسع جدا يشمل كل المواهب الإلهية المعنوية منها مثل: الدين والإيمان والإسلام والقرآن والولاية، وأنواع النعم المادية الفردية منها والاجتماعية. بيد أن النعم التي لها أهمية أكبر مثل: نعمة " الإيمان والولاية " يسأل عنها أكثر. هل أدى الإنسان حقها أم لا؟ والروايات التي تنفي شمول الآية للنعم المادية يظهر أنها تريد أن تقول: لا ينبغي أن نترك المصاديق الأهم للآية ونتمسك بالمصاديق الأصغر. إنه تحذير - في الواقع - إلى الناس بشأن سلسلة مراتب المواهب والنعم الإلهية، وبأنهم يتحملون إزاءها مسؤولية ثقيلة. وكيف يمكن أن لا يسأل عن هذه النعم؟ وهي ثروة كبيرة وهبت للبشرية يجب أن تقدر كل واحدة منها حق قدرها وأن يؤدى شكرها، وأن يستثمر كل منها
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 535. 427 في موضعها. اللهم! أدم علينا نعمك التي لا تحصى، خاصة نعمة الإيمان والولاية. ربنا! وفقنا لأداء حق كل هذه النعم. إلهنا! زد علينا من نعمك الكبرى، ولا تسلبها منا أبدا. آمين يا رب العالمين نهاية سورة التكاثر * * *
428 1 سورة 1 العصر 1 مكية 1 وعدد آياتها ثلاث آيات
429 1 " سورة والعصر " 3 محتوى السورة: المعروف أن هذه السورة مكية، واحتمل بعضهم أنها مدنية. ويشهد على مكيتها لحنها ومقاطعها القصيرة. شمولية هذه السورة تبلغ درجة حدت ببعض المفسرين إلى أن يرى فيها خلاصة كل مفاهيم القرآن وأهدافه. بعبارة أخرى: هذه السورة - رغم قصرها - تقدم المنهج الجامع والكامل لسعادة الإنسان. تبدأ السورة من قسم عميق المحتوى بالعصر. وسيأتي تفسيره. ثم تتحدث عن خسران كل أبناء البشر خسرانا قائما في طبيعة حياتهم التدريجية. ثم تستثني مجموعة واحدة من هذا الأصل العام، وهي التي لها منهج ذو أربع مواد: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وهذه الأصول الأربعة هي في الواقع المنهج العقائدي والعملي الفردي والاجتماعي للإسلام. 3 فضيلة السورة: ورد في فضيلة هذه السورة عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " من قرأ " والعصر " في نوافله بعثه الله يوم القيامة مشرقا وجهه، ضاحكا سنه، قريرة عينه، حتى
431 يدخل الجنة " (1). وواضح أن كل هذه الفضيلة وهذه البشرى نصيب من طبق الأصول الأربعة المذكورة في حياته، لا أن يقنع فقط بقراءتها. * * *
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 545. 432 2 الآيات والعصر (1) إن الانسان لفى خسر (2) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر (3) 2 التفسير 3 طريق النجاة الوحيد: في بداية هذه السورة نواجه قسما قرآنيا جديدا، يقول سبحانه: والعصر. كلمة (العصر) في الأصل الضغط، وإنما اطلق على وقت معين من النهار لأن الأعمال فيه مضغوطة. ثم أطلقت الكلمة على مطلق الزمان ومراحل تاريخ البشرية، أو مقطع زماني معين، كأن نقول عصر صدر الإسلام. ولذلك ذكر المفسرون في معنى العصر احتمالات كثيرة: 1 - قيل: إنه وقت العصر من النهار، بقرينة وجود مواضع أخرى أقسم الله فيها بأول النهار كقوله تعالى: والضحى (1) أو والصبح إذا أسفر (2).
1 - والضحى، الآية 1. 2 - المدثر، الآية 34. 433 وإنما أقسم بالعصر لأهميته، إذ هو في وقت من النهار يحدث فيه تغيير في نظام المعيشة وحياة البشر، الأعمال اليومية تنتهي، والطيور تعود إلى أوكارها، وقرص الشمس يميل إلى الغروب، ويتجه الجو إلى أن يكون مظلما بالتدريج. هذا التغيير يلفت نظر الإنسان إلى قدرة الله المطلقة في نظام الكون، وهو في الواقع أحد علامات التوحيد، وأية من آيات الله تستحق أن يقسم بها. 2 - قيل: إنه كل الزمان وتاريخ البشرية المملوء بدروس العبرة، والأحداث الجسيمة. وهو لذلك عظيم يستحق القسم الإلهي. 3 - بعضهم قال: إنه مقطع خاص من الزمان مثل عصر البعثة النبوية المباركة، أو عصر قيام المهدي المنتظر (عليه السلام)، وهي مقاطع زمنية ذات خصائص متميزة وعظمة فائقة في تاريخ البشر. والقسم في الآية إنما هو بتلك الأزمنة الخاصة (1). 4 - بعضهم عاد إلى الأصل اللغوي للكلمة، وقال إن القسم في الآية بأنواع الضغوط والمشاكل التي تواجه الإنسان في حياته، وتبعث فيه الصحوة وتوقظه من رقاده، وتذكره بالله سبحانه، وتربي فيه روح الاستقامة. 5 - قيل: إنها إشارة إلى " الإنسان الكامل " الذي هو في الواقع عصارة عالم الوجود والخليقة. 6 - وأخيرا قيل إن الكلمة يراد بها صلاة العصر، لأهميتها الخاصة بين بقية الصلوات، لأنها (الصلاة الوسطى) التي أمر الله أن يحافظ عليها خاصة. مع أن التفاسير أعلاه غير متضادة، ويمكن أن تجتمع كلها في معنى الآية، ويكون القسم بكل هذه الأمور الهامة، ولكن الأنسب فيها هو القسم بالزمان وتاريخ البشرية. لأن القسم القرآني - كما ذكرنا مرارا - يتناسب مع الموضوع الذي أقسم الله من أجله ومن المؤكد أن خسران الإنسان في الحياة ناتج عن
1 - عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال في تفسير آية: والعصر إن الإنسان لفي خسر: العصر عصر خروج القائم (أي خروج الإمام المهدي المنتظر سلام الله عليه). نور الثقلين، ج 5، ص 666، الحديث 5. 434 تصرم عمرهم، أو أنه عصر بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأن المنهج ذا المواد الأربع في ذيل هذه السورة نزل في هذا العصر. تتضح مما سبق عظمة آيات القرآن وسعة مفاهيمها. فكلمة واحدة تحمل من المعاني العميقة ما يجعلها صالحة لكل هذه التفاسير المتنوعة. الآية التالية تحمل الموضوع الذي جاء القسم من أجله، يقول سبحانه: إن الإنسان لفي خسر الإنسان يخسر ثروته الوجودية شاء أم أبى،. تمر الساعات والأيام والأشهر والأعوام من عمر الإنسان بسرعة، تضعف قواه المادية والمعنوية، تتناقص قدرته باستمرار. نعم، إنه كشخص عنده ثروة عظيمة، وهذه الثروة يؤخذ منها كل يوم شئ باستمرار رغم إرادته، هذه طبيعة الحياة الدنيوية... طبيعة الخسران المستمر! القلب له قدرة معينة على الضربان، وحين تنفد هذه القدرة يتوقف القلب تلقائيا دون علة من عيب أو مرض. هذا إذا لم يكن توقف الضربان نتيجة مرض. وهكذا سائر الأجهزة الوجودية للإنسان، وثروات قدراته المختلفة. " خسر " وخسران، كما يقول الراغب، انتقاص رأس المال، وينسب ذلك إلى الإنسان، فيقال خسر فلان، وإلى الفعل فيقال: خسرت تجارته. قال تعالى: تلك إذن كرة خاسرة. ويستعمل ذلك في المقتنيات الخارجية كالمال والجاه في الدنيا وهو الأكثر، وفي المقتنيات النفسية كالصحة والسلامة والعقل والإيمان والثواب، وهو الذي جعله الله تعالى الخسران المبين، وقال: " الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ألا ذلك هو الخسران المبين " (1). الفخر الرازي في تفسير هذه الآية ينقل عن أحد الصالحين ما ملخصه أنه
1 - مفردات الراغب، مادة خسر. 435 تعلم معنى هذه الآية الكريمة من بائع ثلج كان يصيح ويقول: ارحموا من يذوب رأس ماله، ارحموا من يذوب رأس ماله (1) على أي حال، الدنيا في المنظور الإسلامي سوق تجارة. كما يقول الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام): " الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون " (2) الآية الكريمة التي نحن بصددها تقول: كل الناس في هذه السوق الكبرى خاسرون إلا مجموعة تسير على المنهج الذي تبينه الآية التالية. نعم، هناك طريق واحد لا غير لتفادي هذا الخسران العظيم القهري الإجباري، وهو الذي تبينه آخر آيات هذه السورة. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر بعبارة أخرى: ما يستطيع أن يحول دون هذا الخسران الكبير، وأن يبدله إلى منفعة كبيرة وربح عظيم هو أنه مقابل فقدان رأس المال، يحصل على رأس مال أغلى وأثمن، يستطيع أن يسد مسد رأس المال المفقود، بل أن يكون أفضل وأكثر منه عشرات، بل مئات، بل آلاف المرات. كل نفس من أنفاس الإنسان يقربه خطوة نحو الموت، أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يقول: " نفس المرء خطاه إلى أجله " (3). وهكذا كل ضربة من ضربات القلب تقرب الإنسان من الموت من هنا لابد من المبادرة إلى ملء الفراغ الذي يولده هذا الخسران الحتمي. هناك من ينفق رأس مال عمره وحياته مقابل الحصول على مال قليل أو كثير، على بيت صغير أو فخم. هناك من ينفق كل رأس المال هذا من أجل الوصول إلى منصب أو مقام.
1 - تفسير الفخر الرازي، ج 32، ص 85. 2 - تحف العقول، ص 361، كلمات الإمام الهادي (عليه السلام). 3 - نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 74. 436 وهناك من ينفقه في سبيل أهوائه وملذاته. ليس أي واحد من هذه الأمور - دون شك - يمكن أن يكون ثمنا لتلك الثروة العظيمة... ثروة العمر... ثمنها الوحيد رضا الله سبحانه ومقام قربه لا غير. قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): " إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها " (1). وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) في دعاء شهر رجب: " خاب الوافدون على غيرك وخسر المتعرضون إلا لك ". ومن هنا كان أحد أسماء يوم القيامة " يوم التغابن " كما جاء في قوله سبحانه: ذلك يوم التغابن (2). أي ذلك اليوم الذي يظهر من هو المغبون والخاسر. إنه لتنظيم رائع في علاقة العبد بربه. فهو سبحانه من جهة يشتري رأس مال وجود الإنسان: إن الله اشترى من المؤمنين... (3). ومن جهة أخرى يشتري سبحانه رأس المال القليل: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره (4). ومن جانب آخر يدفع مقابل ذلك ثمنا عظيما يبلغ أحيانا عشرة أضعاف وأحيانا سبعمائة ضعف، وأحيانا أكثر: في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء (5). وكما ورد في الدعاء: " يا من يقبل اليسير ويعفو عن الكثير ". ومن جهة رابعة، فإن كل رؤوس أموال الإنسان وثرواته قد وهبها الله إياه... والله بفضله ومنه ولطفه يعود ليشتري هذه الثروات نفسها بأغلى الأثمان!
1 - المصدر السابق، الكلمة 456. 2 - التغابن، الآية 9. 3 - التوبة، الآية 111. 4 - الزلزال، الآية 7. 5 - البقرة، الآية 261. 437 * * * 2 بحث 3 منهج السعادة ذو المواد الأربع: من المهم أن نقف ولو قليلا عند المنهج الذي وضعه القرآن الكريم للنجاة من ذلك الخسران... إنه منهج يتكون من أربعة أصول هي: الأصل الأول: " الإيمان "، وهو البناء التحتي لكل نشاطات الإنسان، لأن فعاليات الإنسان العملية تنطلق من أسس فكره واعتقاده، لا كالحيوانات المدفوعة في حركاتها بدافع غريزي. بعبارة أخرى، أعمال الإنسان بلورة لعقائده وأفكاره، ومن هنا فإن جميع الأنبياء بدأوا قبل كل شئ باصلاح الأسس الاعتقادية للأمم والشعوب. وحاربوا الشرك بشكل خاص باعتباره أساس أنواع الرذائل والشقاوة والتمزق الاجتماعي. والآية الكريمة قالت: إلا الذين آمنوا فذكرت الإيمان بمعناه المطلق ليشمل الإيمان بكل المقدسات، ابتداء من الإيمان بالله وصفاته، حتى الإيمان بالقيامة والحساب والجزاء والكتب السماوية وأنبياء الله وأوصيائهم. الأصل الثاني: " العمل الصالح "، وهو ثمرة دوحة الإيمان. تقول الآية: ... وعملوا الصالحات لا العبادات فحسب، ولا الإنفاق في سبيل الله وحده، ولا الجهاد في سبيل الله فقط، ولا الاكتفاء بطلب العلم... بل كل الصالحات التي من شأنها أن تدفع إلى تكامل النفوس وتربية الأخلاق والقرب من الله، وتقدم المجتمع الإنساني. هذا التعبير يشمل الأعمال الصغيرة، كرفع الحجر من طريق الناس والأعمال الجسام مثل إنقاذ ملايين الناس من الضلالة والانحراف ونشر الرسالة الحقة والعدالة في أرجاء العالم.
438 وما ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) في تفسير وعملوا الصالحات بأنه المواساة والمساواة للأخوة في الله، إنما هو من قبيل بيان المصداق الواضح للآية. قد تصدر الأعمال الصالحة من أفراد غير مؤمنين، لكنها غير متجذرة وغير ثابتة وغير واسعة. لأنها لا تنطلق من دافع إلهي عميق، ولا تحمل صفة الشمولية. القرآن ذكر " الصالحات " هنا بصيغة الجمع مقرونة بالألف واللام لتدل على معنى العموم والشمول. ولتبين أن طريق تفادي الخسران الطبيعي الحتمي بعد الإيمان، هو أداء الأعمال الصالحة جميعا، وعدم الاكتفاء بعمل واحد أو بضع أعمال صالحات. حقا، لو رسخ الإيمان في النفس، لظهرت على الفرد مثل هذه الآثار. الإيمان ليس فكرة جامدة قابعة في زوايا الذهن، وليس اعتقادا خاليا من التأثير. الإيمان يصوغ كل وجود الإنسان وفق منهج معين. الإيمان مثل مصباح منير مضئ في غرفة. فهو لا يضئ الغرفة فحسب، بل إن أشعته تسطع من كل نوافذ الغرفة إلى الخارج بحيث يرى كل مار نوره بوضوح. وهكذا، حين يسطع مصباح الإيمان في قلب إنسان، فإن نوره ينعكس من لسان الإنسان وعينه وأذنه ويديه ورجليه. حركات كل واحدة من هذه الجوارح تشهد على وجود نور في القلب تسطع أشعته إلى الخارج. ومن هنا اقترن ذكر الصالح في أغلب مواضع القرآن بذكر الإيمان باعتبارها لازما وملزوما. فقال سبحانه: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة (1). ويقول تعالى عن أولئك الذين تركوا الدنيا دون عمل صالح، إنهم يصرون على العودة إلى الدنيا ويقولون: رب ارجعون لعلي أعمل
1 - النحل، الآية 97. 439 صالحا فيما تركت (1). ويقول سبحانه لرسله: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا (2). ولما كان الإيمان والعمل الصالح لا يكتب لهما البقاء إلا في ظل حركة اجتماعية تستهدف الدعوة إلى الحق ومعرفته من جهة، والدعوة إلى الصبر والاستقامة على طريق النهوض بأعباء الرسالة، فإن هذين الأصلين تبعهما أصلان آخران هما في الحقيقة ضمان لتنفيذ أصلي " الإيمان " و " العمل الصالح ". الأصل الثالث: " التواصي بالحق "، أي الدعوة العامة إلى الحق، ليميز كل أفراد المجتمع الحق من الباطل، ويضعوه نصب أعينهم، ولا ينحرفون عنه في مسيرتهم الحياتية. " تواصوا " كما يقول الراغب تعني أن يوصي بعضهم إلى بعض. و " الحق " في الأصل الموافقة والمطابقة للواقع. وذكر للكلمة معاني قرآنية متعددة من ذلك، والقرآن، والإسلام، والتوحيد، والعدل، والصدق، والوضوح، والوجوب وأمثالها من المعاني التي ترجع إلى نفس المعنى الأصلي الذي ذكرناه. عبارة تواصوا بالحق تحمل على أي حال معنى واسعا يشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويشمل أيضا تعليم الجاهل وإرشاده، وتنبيه الغافل، والدعوة إلى الإيمان والعمل الصالح. واضح أن المتواصين بالحق يجب أن يكونوا بدورهم من العاملين به، والمدافعين عنه. الأصل الرابع: " التواصي بالصبر "، والاستقامة، إذ بعد الإيمان والحركة في المسيرة الإيمانية تبرز في الطريق العوائق والموانع والسرور. وبدون الاستقامة
1 - المؤمنون، الآية 100. 2 - المؤمنون، الآية 51. 440 والصبر لا يمكن المواصلة في إحقاق الحق والعمل الصالح والثبات على الإيمان. نعم، إحقاق الحق في المجتمع لا يمكن من دون حركة عامة وعزم اجتماعي، ومن دون الاستقامة والوقوف بوجه ألوان التحديات. " الصبر " هنا يحمل مفهوما واسعا يشمل الصبر على الطاعة، والصبر على دوافع المعصية، والصبر إزاء المصائب والحوادث المرة، وفقدان الإمكانات والثروة والثمرات (1). مما تقدم نفهم أن الأصول الأربعة التي ذكرتها هذه السورة المباركة تشكل المنهج الجامع لحياة الإنسان وسعادته. ولذلك ورد في الروايات أن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا إذا اجتمعوا لا يفترقون إلا بعد تلاوة سورة " والعصر " ويتذاكروا في مضامينها (2). والمسلمون اليوم إذا طبقوا هذه الأصول الأربعة في حياتهم الفردية والاجتماعية لتغلبوا على كل ما يعانون منه من مشاكل وتدهور وتخلف، ولبدلوا ضعفهم وهزيمتهم انتصارا، ولاقتلعوا شر الأشرار من على ظهر الأرض. ربنا! تفضل علينا بالصبر والاستقامة والتواصي بالحق والتواصي بالصبر. إلهنا! كلنا في خسران، ولا يمكن أن نجبر هذا الخسر إلا بلطفك. اللهم! إنا نسألك توفيق العمل بالمواد الأربع التي ذكرتها في هذه السورة من كتابك. آمين يا رب العالمين نهاية سورة العصر * * *
1 - حول حقيقة الصبر ومراحله وشعبه، فصلنا الحديث في تفسير الآية (153) من سورة البقرة. 2 - الدر المنثور، ج 6، ص 392. 441 1 سورة 1 الهمزة 1 مكية 1 وعدد آياتها تسع آيات
444 1 " سورة الهمزة " 2 محتوى السورة: هذه السورة، وهي من السور المكية، تتحدث عن أناس كرسوا كل همهم لجمع المال، وحصروا كل قيم الإنسان الوجودية في هذا الجمع. ثم هم يسخرون من الذين لا يملكون المال وبهم يستهزئون. هؤلاء الأثرياء المستكبرون والمغرورون المحتالون أسكرهم الطغيان فراحوا يستهينون بالآخرين ويعيبونهم، ويتلذذون بما يفعلون من غيبة واستهزاء. السورة تتحدث في النهاية عن المصير المؤلم الذي ينتظر هؤلاء، وكيف أنهم يلقون في جهنم صاغرين، وأن نار جهنم تتجه بلظاها أولا إلى قلوبهم المليئة بالكبر والغرور، وتحرقها بالنار، بنار مستمرة. 3 فضيلة السورة: ورد في فضيلة هذه السورة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من قرأ سورة الهمزة أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد وأصحابه " (1). وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " من قرأ ويل لكل همزة في فريضة من فرائضه، نفت عنه الفقر وجلبت عليه الرزق وتدفع عنه ميتة السوء " (2). * * *
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 536. 2 - المصدر السابق. 446 2 الآيات ويل لكل همزة لمزة (1) الذي جمع مالا وعدده (2) يحسب أن ماله أخلده (3) كلا لينبذن في الحطمة (4) وما أدراك ما الحطمة (5) نار الله الموقدة (6) التي تطلع على الأفئدة (7) إنها عليهم مؤصدة (8) في عمد ممددة (9) 2 سبب النزول قال جمع من المفسرين إن آيات هذه السورة نزلت في (الوليد بن المغيرة) الذي كان يغتاب النبي ويطعن فيه ويستهزئ به. وقيل إنها نزلت في أفراد آخرين من رؤوس المشركين وأعداء الإسلام مثل (الأخنس بن شريق) و (أمية بن خلف) و (العاص بن وائل). ولكن، إن قبلنا أسباب النزول هذه فلا ينفي ذلك شمولية مفاهيم الآيات، بل إنها تستوعب كل الذين يحملون هذه الصفات.
447 2 التفسير 3 الويل للهمازين واللمازين: تبدأ هذه السورة بتهديد قارع وتقول: ويل لكل همزة لمزة... لكل من يستهزئ بالآخرين، ويعيبهم، ويغتابهم، ويطعن بهم، بلسانه وحركاته وبيده، وعينه وحاجبه. " الهمزة " و " اللمزة " صيغتا مبالغة، الأولى من الهمز، وهي في الأصل الكسر. العائبون المغتابون يكسرون شخصية الآخرين، ولذلك اطلق عليهم اسم (الهمزة). و " اللمزة " من اللمز، وهو اغتياب الآخرين، والصاق العيوب بهم. للمفسرين آراء متعددة في معاني هاتين الكلمتين، هل معناهما واحد، وهو المغتابون الناس العائبون عليهم، أو إن معناهما مختلف. قال بعضهم إن معناهما واحد، وذكرهما معا للتأكيد. وقيل: الهمزة هو المغتاب، واللمزة: العائب. وقيل: الهمزة هم العائبون بإشارة اليد والرأس. واللمزة من يعيب بلسانه. وقيل: الأولى إشارة إلى العائب في حضور الشخص، والثانية للعائب في الغيبة. وقيل: الأولى تعني العائب في العلن، والثانية للعائب في الخفاء، وبإشارة العين والحاجب. وقيل: إن الاثنتين بمعنى الذي ينبز الناس بألقاب قبيحة مستهجنة. وعن ابن عباس في تفسير الكلمتين قال: " هم المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الناعتون للناس بالعيب " (1). يبدو أن ابن عباس استلهم هذا التفسير من كلام لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول:
1 - تفسير الفخر الرازي، ج 32، ص 92. 448 " ألا أنبئكم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرآء المعايب " (1). من مجموع آراء اللغويين في الكلمتين يستفاد أنهما بمعنى واحد. ولهما مفهوم واسع يشمل كل ألوان إلصاق العيوب بالناس وغيبتهم والطعن والاستهزاء بهم، باللسان والإشارة والنميمة والذم. التعبير بكلمة (ويل) يحمل تهديدا شديدا لهذه الفئة. والقرآن يتشدد تجاه هؤلاء الأفراد ويذكرهم بعبارات لا نظير لها في ذكر سائر المذنبين. فحين يذكر المنافقين الذين يسخرون من المؤمنين يتهددهم بعذاب أليم ويقول: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم (2). مثل ذلك ذكره القرآن بشأن المنافقين المستهزئين بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية (5) من سورة (المنافقون). الإسلام، أساسا، ينظر إلى شخصية الإنسان وكرامته باحترام بالغ، ويعد أي عمل يؤدي إلى إهانة الآخرين ذنبا كبيرا، وورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " أذل الناس من أهان الناس " (3). في هذا المجال ذكرنا شرحا أوفى في تفسير الآيتين (11 و 12 من سورة الحجرات. ثم تذكر الآية التالية منبع ظاهرة اللمز والهمز في الأفراد، وترى أنها تنشأ غالبا من كبر وغرور ناشئين بدورهما من تراكم الثروة لدى هؤلاء الأفراد، وتقول: الذي جمع مالا وعدده بطريق مشروع أو غير مشروع. فهو أنشد بالمال انشدادا جعله منشغلا دائما بعد المال والإلتذاذ ببريق
1 - أصول الكافي، ج 2، باب النميمة، الحديث 1. 2 - التوبة، الآية 80. 3 - بحار الأنوار، ج 75، ص 142. 449 الدرهم والدينار. تحول الدرهم والدينار عنده إلى وثن ويرى فيه شخصيته وينظر من خلاله أيضا إلى شخصية الآخرين. ومن الطبيعي أن يكون تعامل مثل هذا الإنسان الضال الأبله بالسخرية والاستهزاء مع المؤمنين الفقراء. " عدده " من (عد) بمعنى حسب. وقيل من (العدة) بمعنى تجهيز الأموال ليوم الشدة. وقيل: أنها تعني أمسكه وحفظه. والمعنى الأول أظهر. على أي حال، هذه الآية تقصد الذين يدخرون الأموال ولا ينظرون إليها باعتبارها وسيلة بل هدفا، ولا يحدهم قيد أو شرط في جمعها، حتى ولو كان من طريق الحرام والاعتداء على حقوق الآخرين وارتكاب كل دنيئة ورذيلة، ويعتبرون ذلك دليلا على عظمتهم وشخصيتهم. هؤلاء لا يريدون المال لسد حاجاتهم الحياتية، ولذلك يزداد حرصهم على جمع المال كلما كثرت أموالهم. وإلا فإن المال في الحدود المعقولة ومن الطرق المشروعة ليس بمذموم، بل إن القرآن الكريم عبر عنه في موضع بأنه " فضل الله " حيث يقول تعالى: وابتغوا من فضل الله (1). وفي موضع آخر يسميه خيرا، كقوله سبحانه: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية. مثل هذا المال ليس بالتأكيد مبعث طغيان، ولا وسيلة تفاخر، ولا دافع سخرية بالآخرين. لكن المال الذي يصبح معبودا وهدفا نهائيا، ويدعو أصحابه من أمثال " قارون " إلى الطغيان، هو العار والذلة والمأساة ومبعث البعد عن الله والخلود في
1 - الجمعة، الآية 10. 450 النار. ومثل هذا المال لا يمكن جمعه وعده إلا بالسقوط في أوحال الحرام. لذلك ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) قال: " لا يجتمع المال إلا بخمس خصال: بخل شديد، وأمل طويل، وحرص غالب، وقطيعة رحم، وإيثار الدنيا على الآخرة " (1). لأن الأفراد الأسخياء البعيدين عن الآمال الوهمية الطويلة يهتمون بحلال أموالهم وحرامها، ويساعدون الأقربين، ولا تتراكم الثروة عندهم غالبا، وإن زادت عائداتهم. في الآية التالية يقول سبحانه: يحسب أن ماله أخلده (2). " أخلده " جاء في الآية بصيغة الماضي، ويعني أن هذا الهمزة اللمزة يحسب أن ماله قد صير منه موجودا خالدا، لا يستطيع الموت أن يصل إليه، ولا عوامل المرض والحوادث قادرة أن تنال منه، فالمال في نظره هو المفتاح الوحيد لحل كل مشكلة، وهو يملك هذا المفتاح. ما أتفه هذا التفكير!! قارون بكل ما كان يملكه من كنوز لا تستطيع العصبة أولو القوة أن تحمل مفاتحها، لم يستطع أن يستخدم أمواله لتأخير مصيره الأسود ساعة واحدة: فخسفنا به وبداره الأرض (3). الأموال التي كان يمتلكها الفراعنة:... من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين (4)، تحولت في ساعة إلى غيرهم: كذلك
1 - نور الثقلين، ج 5، ص 668، الحديث 7. 2 - " ماله " يمكن أن تكون مكونة من (مال) مضاف إلى ضمير الغائب. ويمكن أن تكون (ما) موصولة، وبعدها صلتها. جملة (أخلده) فعل ماض يتحمل معنى المضارع، أو بمعنى موجبات الخلود. 3 - القصص، الآية 81. 4 - الدخان، الآية 25 - 27. 451 وأورثناها قوما آخرين (1). لذلك فإن هؤلاء اللاهين بأموالهم، حين تزول من أمام أعينهم الحجب والأستار يوم القيامة يرفعون عقيرتهم بالقول: ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه (2). الإنسان - أساسا - يهرب من الفناء والعدم ويميل إلى الخلود، وهذه الرغبة الداخلية هي من أدلة المعاد وأن الإنسان مخلوق للخلود، وإلا ما كانت فيه غريزة حب الخلود. لكن الإنسان المغرور الأناني الدنيوي يخال خلوده كامنا في أشياء هي ذاتها عامل فنائه وانعدامه. على سبيل المثال: المال والمقام اللذان هما غالبا من أعداء بقائه يحسبهما وسيلة لخلوده. من هنا يتبين أن الظن بقدرة المال على الإخلاد، هو الذي يدفع إلى جمع المال، وجمع المال أيضا عامل على الاستهزاء والسخرية بالآخرين عند هؤلاء الغافلين. القرآن الكريم يرد على هؤلاء ويقول: كلا لينبذن في الحطمة كلا، ليس الأمر كما يتصور، فسرعان ما يقذف باحتقار وذلة في نار محطمة وما أدراك ما الحطمة، نار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة. " لينبذن " من نبذ، أي - كما يقول الراغب في مفرداته - رمي الشئ لتفاهة قيمته. أي إن الله سبحانه يرمي هؤلاء المغرورين المتعالين يوم القيامة في نار جهنم كموجودات تافهة لا قيمة لها، ليروا نتيجة كبرهم وغرورهم.
1 - الدخان، الآية 28. 2 - الحاقة، الآية 28 - 29. 452 " الحطمة " صيغة مبالغة من " حطم " أي هشم. وهذا يعني أن نار جهنم تهشم أعضاء هؤلاء. ويستفاد من بعض الروايات أن " الحطمة " ليست كل نار جهنم، بل هي طبقة رهيبة في حرارتها. (1) مفهوم تهشم الأعضاء بدل احتراقها في نار جهنم، ربما صعب فهمه في الماضي. ولكن المسألة اليوم ليست بعجيبة بعد أن اتضحت شدة تأثير أمواج الانفجار، وتبين أن الأمواج الناتجة عن انفجار كبير قادرة على تهشيم الإنسان، بل تهشيم العمارات الضخمة بأعمدتها الحديدية المستحكمة. عبارة " نار الله " دليل على عظمة هذه النار، و " الموقدة " تعني استعارها المستمر. والعجيب أن هذه النار ليست مثل نار الدنيا التي تحرق الجلد أولا ثم تنفذ إلى الداخل، بل هي تبعث بلهبها أولا إلى القلب، وتحرق الداخل وتبدأ أولا بالقلب ثم بما يحيطه، ثم تنفذ إلى الخارج. ما هذه النار التي تبعث بشررها إلى قلب الإنسان أولا؟! ما هذه النار التي تحرق الداخل قبل الخارج؟! كل شئ في القيامة عجيب، ومختلف كثيرا عن هذا العالم، حتى إحراق نارها. لماذا لا تكون كذلك، وقلوب هؤلاء الطاغين مركز للكفر والكبر والغرور، وبؤرة حب الدنيا والثروة والمال؟! لماذا لا تسيطر نار الغضب الإلهي على قلوب هؤلاء قبل أي شئ آخر وهم في هذه الدنيا احرقوا قلوب المؤمنين بسخريتهم وهمزهم ولمزهم؟! العدالة الإلهية تقتضي أن يرى هؤلاء جزاء يشبه أعمالهم.
1 - نور الثقلين، ج 3، ص 17 و 19، الحديث 60 و 64. 453 الآيات الأخيرة من السورة تقول: إنها عليهم مؤصدة، في عمد ممددة. و " مؤصدة " من الإيصاد، بمعنى الأحكام في غلق الباب. ولذلك تسمى الغرف الكائنة في داخل الجبال المخصصة لجمع الأموال " الوصيد ". هؤلاء في الحقيقة يقبعون في غرف تعذيب مغلقة الأبواب لا طريق للخلاص منها، كما كانوا يجمعون أموالهم في الخزانات المغلقة الموصدة. و " العمد " جمع عمود و " ممددة " تعني طويلة. جمع من المفسرين قال إنها الأوتاد الحديدية العظيمة التي تغلق بها أبواب جهنم حتى لم يعد هناك طريق للخروج منها أبدا، وهي بذلك تأكيد على الآية السابقة التي تقول: (إنها عليهم مؤصدة. وقيل إنها إشارة إلى نوع من وسائل التعذيب والجزاء تشبه تلك التي يغل بها الشخص في رجله فيفقد قدرة الحركة وهذا جزاء ما كانوا يمارسونه من تعذيب للناس الأبرياء في هذه الدنيا. وبعضهم أضاف تفسيرا ثالثا استمده من الاكتشافات العلمية، وهو أن شعلة من نيران جهنم تسلط على هؤلاء مثل أعمدة طويلة. يقولون: إن الاكتشافات الأخيرة أثبتت أن أشعة اكس الخاصة (أشعة رونتجن) تختلف عن سائر الأشعة الأخرى التي تنتشر بشكل مخروطي، وذلك أنها تنتشر بشكل عمودي، وقادرة على النفوذ في جميع الأجزاء الداخلية للإنسان بما في ذلك القلب. ولذلك يستفاد منها في تصوير الأعضاء الداخلية. والأشعة التي تخرج من نار جهنم شبيهة بالأشعة المذكورة (1).
1 - نور الثقلين، ج 5، ص 667، الحديث 5. 454 ومن بين هذه التفاسير، التفسير الأول أنسب. (واستنادا إلى بعض التفاسير عبارة في عمد ممددة تبين حالة جهنم، وبعضها الآخر يرى أنها بيان لحالة أهل جهنم). * * * 2 بحثان 3 1 - الكبر والغرور أساس الذنوب الكبيرة الإستعلاء والتكبر على الآخرين بلاء عظيم يصيب الإنسان فيدفعه إلى ارتكاب أنواع المعاصي، الغفلة عن الله، والكفران بالنعم، والانغماس في الأهواء والشهوات، والاستهانة بالآخرين، والاستهزاء بالمؤمنين... كلها من الآثار المشؤومة لهذه الصفة الدنيئة، الأفراد الذين يعانون من عقد النقص ما أن تتوفر لهم مكنة حتى يستفحل فيهم الكبر والغرور بحيث لا يقيمون للآخرين وزنا، ويودي ذلك إلى انفصالهم عن المجتمع وانفصال المجتمع عنهم. يغرقون في عالم وهمي، ويرون أنفسهم موجودا متميزا، حتى يبلغ الأمر بهم أن يروا أنفسهم من المقربين إلى الله. وهذا يدفعهم إلى الاستهانة بأرواح الآخرين وأعراضهم وأموالهم، وينشغلون بالهمز واللمز، ويخالون أنهم بالصاق العيب بالآخرين وذمهم يزيدون من عظمتهم وشخصيتهم. وفي بعض الروايات شبه هؤلاء الأفراد بالعقرب اللاسعة. (وإذا كان لسع العقرب عن طبيعة فيها، فلسع هؤلاء عن حقد وضغينة). وجاء في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " رأيت ليلة الإسراء قوما يقطع اللحم من جنوبهم ثم يلقمونه، ويقال: كلوا ما كنتم تأكلون من لحم أخيكم، فقلت: يا
455 جبرائيل من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الهمازون من أمتك اللمازون " (1). كما أشرنا من قبل، كان لنا وقفة أطول في هذا المجال عند تفسير سورة الحجرات. 3 2 - الحرص على جمع المال بشأن المال والثروة، اختلفت وجهات نظر الناس بين أفراط وتفريط، بعضهم أسبغ على المال أهمية فائقة فجعله مفتاح حل كل المشاكل. وإلى ذلك ذهب الشاعر. في قوله: فصاحة سحبان وخط ابن مقلة * وحكمة لقمان وزهد ابن أدهم إذا اجتمعت في المرء والمرء مفلس * فليس له قدر بمقدار درهم ولذلك فإن دأب هؤلاء الأفراد جمع المال، ولا يدخرون وسعا على هذا الطريق ولا يتقيدون بقيد، ولا يهتمون بحلال أو حرام ومقابل هذه المجموعة هناك من لا يعير أية أهمية للمال والثروة، يمتدحون الفقر ويشيدون به، ويرون في المال عائقا للتقوى وللقرب الإلهي. وإزاء ذاك الإفراط وهذا التفريط، تقف النصوص الإسلامية لتبين أن المال مطلوب، ولكن بشروط، أولها أن يكون وسيلة لا غاية. والآخر، أن لا يكون الإنسان له أسيرا، بل أن يكون عليه أميرا. والثالث: أن يأتي بالطرق المشروعة وأن ينفق في سبيل رضا الله. الرغبة في مثل هذا المال ليس دليلا على حب الدنيا، بل هو دليل على الانشداد بالآخرة. ولذلك ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه لعن الذهب والفضة، فتعجب أحد أصحابه وسأل الإمام فأجابه: " ليس حيث تذهب إليه إنما الذهب
1 - نور الثقلين، ج 5، ص 667، الحديث 5. 456 الذي ذهب بالدين، والفضة التي أفاضت الكفر " (1). وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قال: " السكر أربع سكرات: سكر الشراب، وسكر المال، وسكر النوم، وسكر الملك ". (2) وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " إن كان الحساب حقا فالجمع لماذا؟ وإن كان الخلف من الله عز وجل حقا فالبخل لماذا؟ " (3). كثيرون هم الذين ينشغلون حتى آخر حياتهم بجمع المال، ثم يتركونه للآخرين. هم مسؤولون عن حسابه، والآخرون ينالون ثماره، سئل أمير المؤمنين علي (عليه السلام): من أعظم الناس حسرة؟ قال: " من رأى ماله في ميزان غيره، وأدخله به النار، وأدخل وارثه به الجنة " (4). وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: وكذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم قال: " هو الرجل يدع المال لا ينفقه في طاعة الله بخلا ثم يموت فيدعه لمن يعمل به في طاعة الله أو في معصيته ". ثم قال الإمام: " فإن عمل به في طاعة الله رآه في ميزان فزاده حسرة، وقد كان المال له أو عمل به في معصية الله فهو قواه بذلك المال حتى عمل به في معاصي الله " (5). نعم، رؤية الإنسان للمال قد تصير من المال وثنا خطرا، وقد تجعل منه وسيلة لسعادة كبرى. نختتم هذه الوقفة بما ورد عن ابن عباس عن كلام عميق الدلالة قال: " إن أول
1 - بحار الأنوار، ج 73، ص 141، الحديث 17. 2 - المصدر السابق، ص 142. 3 - التوحيد للصدوق، نقلا عن نور الثقلين، ج 5، ص 668، الحديث 8. 4 - بحار الأنوار، ج 73، ص 142. 5 - المصدر السابق، الحديث 20. 457 درهم ودينار ضربا في الأرض نظر إليهما إبليس فلما عاينهما أخذهما فوضعهما على عينيه، ثم ضمهما إلى صدره، ثم صرخ صرخة، ثم ضمهما إلى صدره، ثم قال: أنتما قرة عيني! وثمرة فؤادي، ما أبالي من بني آدم إذا أحبوكما أن لا يعبدوا! وثنا! حسبي من بني آدم أن يحبوكما " (1). اللهم! احفظنا من سكرة المال والمقام والدنيا والشهوات. ربنا! نجنا من سيطرة الشيطان وعبودية الدرهم والدينار. إلهنا! لا نجاة لنا من " الحطمة " المهشمة إلا بفضلك فارأف بنا يا كريم. آمين يا رب العالمين نهاية سورة الهمزة * * *
1 - المصدر السابق، ص 137، الحديث 3. 458 1 سورة 1 الفيل 1 مكية 1 وعدد آياتها خمس آيات
460 1 " سورة الفيل " 3 محتوى السورة: هذه السورة - كما يظهر من اسمها - تشير إلى الحادثة التاريخية التي اقترنت بولادة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفيها نجي الله سبحانه الكعبة من شر جيش كافر كبير تجهز من اليمن ممتطيا الفيل. هذه السورة تذكر الناس بتلك القصة العجيبة التي كان كثير من أهل مكة يحفظون أحداثها في ذاكرتهم لأنها وقعت في الماضي القريب. التذكير بهذه القصة فيه تحذير للكفار المغرورين المعاندين، كي يفهموا ضعفهم تجاه قدرة الله تعالى الذي أباد جيشا عظيما بطير أبابيل تحمل حجارة من سجيل، وهو سبحانه إذن قادر على أن يعاقب هؤلاء المستكبرين المعاندين. فلا قدرتهم أعظم من قدرة أبرهة، ولا عدد أفرادهم يبلغ عدد ذلك الجيش السورة المباركة تقول لكفار قريش: إنكم رأيتم الواقعة بأعينكم فلماذا لا تترجلون من مطية غروركم. 3 فضيلة السورة: ورد في فضيلة هذه السورة عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " من قرأ في الفريضة ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل شهد له يوم القيامة كل سهل وجبل ومدر بأنه كان من المصلين وينادي يوم القيامة مناد: صدقتم على عبدي، قبلت شهادتكم له أو عليه، ادخلوا عبدي الجنة ولا تحاسبوه
462 فإنه ممن أحبه وأحب عمله " (1). واضح أن كل هذه الفضيلة وهذا الثواب لمن كانت قراءته باعثا على انكسار روح الغرور في نفسه، وعلى السير في طريق رضا الله سبحانه. * * *
1 - نور الثقلين، ج 5، ص 668، الحديث 1. 463 2 الآيات ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل (1) ألم يجعل كيدهم في تضليل (2) وأرسل عليهم طيرا أبابيل (3) ترميهم بحجارة من سجيل (4) فجعلهم كعصف مأكول (5) 2 سبب النزول ورد عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) أنه قال: كان أبو طالب يضرب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بسيفه إلى أن قال: فقال أبو طالب: يا ابن أخ إلى الناس كافة أرسلت أم إلى قومك خاصة؟ قال: لا بل إلى الناس أرسلت كافة الأبيض والأسود والعربي والعجمي والذي نفسي بيده لأدعون إلى هذا الأمر الأبيض والأسود ومن على رؤوس الجبال ومن في لجج البحار، ولأدعون السنة فارس والروم فحيرت قريش واستكبرت وقالت: أما تسمع إلى ابن أخيك وما يقول والله لو سمعت بهذا فارس والروم لاختطفتنا من أرضنا ولقلعت الكعبة حجرا حجرا، فأنزل الله تبارك وتعالى: وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شئ إلى آخر الآية وأنزل في قولهم لقلعت
464 الكعبة حجرا حجرا ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل إلى آخر الآية (1). 3 قصة أصحاب الفيل: ذكر المفسرون والمؤرخون هذه القصة بأساليب مختلفة واختلفوا في سنة وقوعها. لكن أصل القصة متوافرة، ونحن نذكرها استنادا إلى الروايات المعروفة في " سيرة ابن هشام " و " بلوغ الأرب " و " بحار الأنوار " و " مجمع البيان " بتلخيص: " ذو نواس " ملك اليمن اضطهد نصارى نجران قرب اليمن كي يتخلوا عن دينهم (ذكر القرآن قصة هذا الاضطهاد في موضوع أصحاب الأخدود في سورة البروج، وبيناها بالتفصيل هناك). بعد هذه الجريمة نجا من بين النصارى رجل اسمه (دوس) وتوجه إلى قيصر الروم الذي كان على دين المسيح، وشرح له ما جرى. ولما كانت المسافة بين الروم واليمن بعيدة، كتب القيصر إلى النجاشي (حاكم الحبشة) لينتقم من (ذو نواس) لنصارى نجران، وأرسل الكتاب بيد القاصد نفسه. جهز النجاشي جيشا عظيما يبلغ سبعين ألف محارب بقيادة (أرياط) ووجهه إلى اليمن. وكان (أبرهة) أيضا من قواد ذلك الجيش. اندحر (ذو نواس) وأصبح (أرياط) حاكما على اليمن، وبعد مدة ثار عليه أبرهة وأزاله من الحكم وجلس في مكانه. بلغ ذلك النجاشي، فقرر أن يقمع (أبرهة). لكن أبرهة أعلن استسلامه الكامل للنجاشي ووفاءه له. حين رأى النجاشي منه ذلك عفا عنه وأبقاه في مكانه. و (أبرهة) من أجل أن يثبت ولاءه، بنى كنيسة ضخمة جميلة غاية الجمال، لا يوجد على ظهر الأرض مثلها آنذاك، وقرر أن يدعو أهل الجزيرة العربية لأن
1 - نور الثقلين، ج 5، ص 669، الحديث 8. 465 يحجوا إليها بدل (الكعبة)، وينقل مكانة الكعبة إلى أرض اليمن. ارسل أبرهة الوفود والدعاة إلى قبائل العرب في أرض الحجاز، يدعونهم إلى حج كنيسة اليمن، فأحس العرب بالخطر لارتباطهم الوثيق بمكة والكعبة ونظرتهم إلى الكعبة على أنها من آثار إبراهيم الخليل (عليه السلام). تذكر بعض الروايات أن مجموعة من العرب جاؤوا خفية وأضرموا النار في الكنيسة. وقيل إنهم لوثوها بالقاذورات، ليعبروا عن اعتراضهم على فعل أبرهة ويهينوا معبده. غضب أبرهة وقرر أن يهدم الكعبة هدما كاملا، للانتقام ولتوجيه أنظار العرب إلى المعبد الجديد، فجهز جيشا عظيما كان بعض أفراده يمتطي الفيل، واتجه نحو مكة. عند اقترابه من مكة بعث من ينهب أموال أهل مكة، وكان بين النهب مائتا بعير لعبد المطلب. بعث (أبرهة) قاصدا إلى مكة وقال له: ابحث عن كبير القوم وقل له إن أبرهة ملك اليمن يدعوك. أنا لم آت لحرب، بل جئت لأهدم هذا البيت، فلو استسلمتم، حقنت دماؤكم. جاء رسول أبرهة إلى مكة وبحث عن شريفها فدلوه على عبد المطلب، فحدثه بحديث أبرهة، فقال عبد المطلب، نحن لا طاقة لنا بحربكم، وللبيت رب يحميه. ذهب عبد المطلب مع القاصد إلى النجاشي، فلما قدم عليه جعل النجاشي ينظر إليه وراقه حسنه وجماله وهيبته، حتى قام من مكانه احتراما وجلس على الأرض واجلس عبد المطلب إلى جواره لأنه ما أراد أن يجلس عبد المطلب على سرير ملكه ثم قال لمترجمه أسأله ما حاجتك؟ قال عبد المطلب: نهبت إبلي فمرهم بردها علي.
466 فاندهش أبرهة وقال لمترجمه: قل له إنه احتل مكانا في قلبي حين رأيته، والآن قد سقط من عيني. أنت تتحدث عن إبلك ولا تذكر الكعبة وهي شرفك وشرف أجدادك، وأنا قدمت لهدمها؟! قال عبد المطلب: أنا رب الإبل، وللبيت رب يحميه؟! عاد عبد المطلب إلى مكة، وأخبر أهلها أن يلجأوا إلى الجبال المحيطة بها، وذهب هو وجمع معه إلى جوار البيت ليدعو فأخذ حلقة باب الكعبة وانشد أبياته المعروفة: لا هم إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبدا محالك جروا جميع بلادهم والفيل كي يسبوا عيالك ولا هم إن المرء يمنع رحله فامنع عيالك وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك ثم لاذ عبد المطلب وجمع من قريش بإحدى شعاب مكة وأمر أحد ولده أن يصعد على جبل (أبو قبيس) ليرى ما يجري. عاد الابن مسرعا إلى أبيه وأخبره أن سحابة سوداء تتجه من البحر (البحر الأحمر) إلى أرض مكة. استبشر عبد المطلب وصاح: " يا معشر قريش ادخلوا منازلكم فقد أتاكم الله بالنصر من عنده ". من جانب آخر، توجه أبرهة راكبا فيله المسمى " محمودا " مع جيشه الجرار مخترقا الجبال ومنحدرا إلى مكة، لكن الفيل أبى أن يتقدم، أما حينما يوجهوه نحو اليمن يهرول، تعجب أبرهة من هذا وتحير. وفي هذه الأثناء وصلت طيور قادمة من جانب البحر كأنها الخطاطيف وهي تحمل حجرا في منقارها وحجرين في رجلها، بحجم الحمصة، وألقوها على جيش أبرهة، فأهلكتهم. وقيل: إن الحجر كان يسقط على الرجل منهم فيخترقه
467 ويخرج من الجانب الآخر. ساد الجيش ذعر عجيب، فهلك منه من هلك، وفر من استطاع الفرار، صوب اليمن، وكانوا يتساقطون في الطريق. (أبرهة) أصيب بحجر، وجرح، فأعيد إلى صنعاء عاصمة ملكه، وهناك فارق الحياة. وقيل: إن مرض الحصبة والجدري شوهد لأول مرة في أرض العرب في تلك السنة. وقيل: إن أبرهة جاء بفيل واحد كان يركبه واسمه محمود. وقيل بل ثمانية أفيال، وقيل: عشرة، وقيل: اثني عشر. وفي هذا العام ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حسب الرواية المشهورة، وقيل إن بين الحادثتين ارتباطا. على أي حال، فإن أهمية هذه الحادثة الكبرى بلغت درجة تسمية ذلك العام بعام الفيل، وأصبح مبدأ تاريخ العرب (1). * * * 2 التفسير 3 كيد أبرهة: يخاطب الله رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية الأولى من السورة ويقول له: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل؟ لقد جاؤوا بجيش جرار مجهز بالعدة والعدد ليهدموا الكعبة. والله سبحانه دحرهم بجيش في ظاهره صغير بسيط. وأباد الفيلة بطير صغير، وهدم الآلة
1 - سيرة ابن هشام، ج 1، ص 38 - 62، وبلوغ الإرب، ج 1، ص 250 - 263، وبحار الأنوار، ج 15، ص 130 وما بعدها، ومجمع البيان، ج 10، ص 542. 468 الحربية المتطورة في ذلك الزمان بحجارة من سجيل. ليتضح ضعف هذا الإنسان المغرور المتكبر أمام قدرة الله. التعبير بجملة ألم تر في الآية، مع أن الحادثة وقعت قبل ولادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو مقترنة بولادته، يعود إلى أن الحادثة المذكورة قريبة العهد من عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما إنها بلغت من الشهرة والتواتر وكأن النبي رأها بعينه المباركة. هذا إلى أن جمعا من معاصري الرسول كانوا قد رأوها بأعينهم. عبارة أصحاب الفيل إشارة إلى ما كان مع الجيش المهاجم من فيلة جاؤوا بها من اليمن ليرعبوا العرب وخيولهم (1). ألم يجعل كيدهم في تضليل؟! لقد استهدفوا الكعبة ليهدموها وليقيموا بدلها كعبة اليمن، وليدعوا قبائل العرب إلى حج هذا المعبد الجديد. لكنه سبحانه حال دون تحقق هدفهم، بل زاد الكعبة شهرة وعظمة بعد أن ذاع نبأ أصحاب الفيل في جزيرة العرب، وأصبحت قلوب المشتاقين تهوى إليها أكثر من ذي قبل، وأسبغ على هذه الديار مزيدا من الأمن. كيدهم إذن صار في تضليل، أي في ضلال حيث لم يصلوا إلى هدفهم. ثم تشرح الآيات التالية بعض جوانب الواقعة. وأرسل عليهم طيرا أبابيل. " أبابيل " لم تكن في لهجات العرب المعروفة اسما لطائر، بل إنها صفة، قيل إن معناها جماعات متفرقة. أي إن هذه الطير كانت تأتي على شكل مجموعات والكلمة لها معنى الجمع. وقيل: إن مفرده (أبابلة) وهي المجموعة من الطير أو الخيل أو الإبل، وقيل إن الكلمة جمع لا مفرد له من لفظه. على أي حال عبارة " طيرا أبابيل " تعني طيرا على شكل مجموعات.
1 - الفيل، لفظه مفرد، وله هنا معنى الجنس والجمع. 469 والمشهور أن هذه الطير كانت تشبه الخطاطيف قدمت من صوب البحر الأحمر في اتجاه أصحاب الفيل. ترميهم بحجارة من سجيل (1). وكما ذكرنا في قصة أصحاب الفيل، فإن كل واحدة من هذه الطير كانت تحمل ثلاث حجارات أصغر من الحمصة، واحدة في منقارها واثنين في أرجلها. وما أن تسقط هذه الحجارة على أحد حتى تهلكه. فجعلهم كعصف مأكول. و " العصف " هو النبات الجاف المتهشم، أي هو (التبن) بعبارة أخرى. وقيل إنه قشر القمح حين يكون في سنبله. والمناسب هنا هو المعنى الأول. وقال " مأكول " إشارة إلى أن هذا التبن قد سحق مرة أخرى بأسنان الحيوان، ثم هشم ثالثة في معدته، وهذا يعني أن أصحاب الفيل، قد تلاشوا بشكل كامل عند سقوط الحجارة عليهم. وهذا التعبير إضافة إلى ما له من معنى الإبادة التامة، يحمل معنى التفاهة والضعف مما صار إليه هؤلاء المهاجمون الطغاة المستكبرون والمتظاهرون بالقوة. * * * 2 بحوث 3 1 - المعجزة (للبيت رب يحميه) القرآن الكريم يذكر هذه القصة الطويلة في عبارات قليلة قصيرة قارعة، وفي غاية الفصاحة والبلاغة، ويركز على نقاط تساعد على تحقيق الأهداف القرآنية المتمثلة في إيقاظ المتعنتين المغرورين وبيان ضعف الإنسان أمام قدرة الجبار
1 - سجيل كلمة فارسية مأخوذة من دمج كلمتين هما " سنگ " و " گل ". وتعني الطين المتحجر. 470 المتعال. هذه الحادثة تبين أن المعجزات والخوارق لا تستلزم - كما ظن بعض - وجود النبي والإمام، بل تظهر في كل ظرف يشاء الله فيه أن تظهر. والهدف منها إظهار عظمة الله سبحانه وحقانية دينه. هذا العقاب العجيب الإعجازي، يختلف عما نزل من عقاب على أمم أخرى مثل طوفان قوم نوح، وزلزال قوم لوط وإمطارهم بالحجارة، وصاعقة قوم ثمود، فهذه سلسلة حوادث طبيعية يتمثل إعجازها في حدوثها في تلك الظروف الخاصة. أما قصة إبادة جيش أبرهة بحجارة من سجيل، ترميها طير أبابيل، وليست كالحوادث الطبيعية. تحليق هذه الطيور الصغيرة، واتجاهها نحو ذلك الجيش الخاص، ورميه بالحجارة التي تستطيع أن تهشم أجساد جيش ضخم... كل تلك أمور خارقة للعادة. ولكنها - كما نعلم - ضئيلة جدا أمام قدرة الله تعالى. الله الذي خلق داخل هذه الحجارة قدرة ذرية لو تحررت لولدت انفجارا هائلا، لقادر على أن يجعل في هذه الحجارة خاصية تستطيع أن تحول جيش أبرهة إلى (عصف مأكول). لسنا في حاجة لأن نذهب إلى ما ذهب إليه بعض المعاصرين في تفسير هلاك جيش أبرهة بمكروبات وباء الحصبة والجدري (1) أو أن نقول إن هذه الحجارة كانت ذرات متكافئة أزيلت الفراغات بينها فأصبحت ثقيلة للغاية، وقادرة على أن تخترق الأجساد. كل هذه تبريرات تستهدف اعطاء صفة طبيعية لهذه الحادثة. ولسنا بحاجة
1 - تفسير جزء عم، محمد عبده، ص 158. وذكر المؤرخون طبعا انتشار وباء الحصبة والجدري في بلاد العرب لأول مرة في نفس ذلك العام، لكن هذا لا ينهض دليلا على أن هلاك جيش أبرهة بتلك الأوبئة. 471 إليها. كل ما نعلمه هو أن هذه الحجارة كانت لها خاصية غريبة في تهشيم الأجسام. ولم يخبرنا القرآن بأكثر من ذلك، وليس الأمر بمتعذر أمام قدرة الله سبحانه. 3 2 - أشد الجزاء بأبسط وسيلة يلاحظ أن هذه القصة تتضمن بيان قدرة الله أمام المستكبرين والطغاة على أفضل وجه... ولعل العقاب الذي حل بإبرهة وجيشه لا يبلغه عقاب، إذ على أثره تهشم جيش وتحول إلى (عصف مأكول). ثم إن إبادة هذا الجيش الجرار بكل ما كان يمتلكه من قدرة وشوكة كانت بواسطة أحجار صغيرة، وبواسطة طيور صغيرة كالخطاطيف. وفي هذا تحذير وإنذار لكل الطغاة والمستكبرين في العالم، ليعلموا مدى ضعفهم أمام قدرة الله سبحانه. وقد يوكل الله سبحانه أداء هذه المهام الكبرى لموجودات أصغر، مثل المكروبات التي لا ترى بالعين المجردة، لتتكاثر وتتناسل في مدة وجيزة وتصيب أمما قوية بالأوبئة المختلفة كالطاعون، وتبيدهم خلال مدة قصيرة. " سد مأرب " العظيم في اليمن - كما جاء ذكره في تفسير سورة سبأ - كان وسيلة لعمران كبير ومدنية عظيمة وقوية لقوم سبأ، وحين طغى هؤلاء القوم، جاء أمر إبادتهم عن طريق فأر صحراوي أو عدد من الفئران - كما تذكر بعض الروايات - فثقبت السد، واتسع الثقب تدريجيا بالماء، وتحطم السد العظيم، واكتسح الماء كل ما بناه القوم وأغرق الأفراد أو شردهم إلى كل حدب وصوب متفرقين حيارى، وهذه من مظاهر قدرة الله سبحانه. 3 3 - أهداف قصة الفيل من السورة التالية (سورة لإيلاف) نفهم أن أحد أهداف سورة الفيل التذكير
472 بنعمة إلهية كبرى من الله سبحانه بها على قريش، وتفهيمهم أنه لولا لطف الله سبحانه وفضله لما بقي أثر لمكة ولا للكعبة ولا لقريش... لعل ذلك يكون عاملا على كبح جماح هؤلاء المغرورين، وعلى قبول دعوة الدين المبين. من جهة أخرى هذه الحادثة اقترنت بولادة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانت ممهدة للبعثة المباركة، وإرهاصا (1) من ارهاصات بزوغ فجر الإسلام. والقصة من ناحية ثالثة تهديد لكل طغاة العالم، من قريش وغير قريش، ليعلموا أنهم لا يستطيعون أبدا أن يقاوموا أمام قدرة الله تعالى، فما أجدر بهم أن يعودوا إلى رشدهم، ويخضعوا لأمر الله، ويستسلموا للحق والعدل. ثم هي من جانب رابع تبين أهمية هذا البيت الكبير. الأعداء الذين استهدفوا هدم الكعبة، ونقل مركزية هذا الحرم الإبراهيمي إلى مكان آخر، قد واجهوا من العذاب ما أصبح عبرة للأجيال، وما زاد من أهمية هذا المركز المقدس. ومن جهة خامسة، هذه الحادثة تؤكد مشيئة الله سبحانه في جعل هذا الحرم آمنا استجابة لدعوة إبراهيم الخليل (عليه السلام). 3 4 - حادثة تاريخية قطعية حادثة " أصحاب الفيل " كانت من الأهمية والشهرة بين العرب بحيث جعلوها مبدأ للتاريخ. والقرآن الكريم بدأ الحديث عن القصة بعبارة ألم تر مخاطبا نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي لم ير هذه الحادثة. وهي دلالة أخرى على قطعية وقوع الحادثة. أضف إلى ذلك أن النبي - حين تلا هذه الآيات على المشركين - لم ينكر عليه أحد، ولو كان أمرا مشكوكا لاعترضوا عليه، ولسجل المؤرخون هذا الاعتراض
1 - " الإرهاص "، هو المعجزة التي تسبق ظهور النبي، لتمهد لدعوته. والكلمة في الأصل تعني الأساس والحجر الأول الذي يقام عليه البناء، وكذلك بمعنى الاستعداد. 473 كما سجلوا سائر الاعتراضات، خاصة وأن القرآن بدأ الموضوع بجملة ألم تر. كما إن عظمة هذا البيت الكريم تتبين ضمنيا بهذا الإعجاز التاريخي القطعي. اللهم! وفقنا لصيانة هذا المركز التوحيدي العظيم. اللهم! طهر هذا البيت من أولئك الذين يكتفون بحفظ ظواهره ويصادرون رسالته التوحيدية الحقيقية. ربنا! ارزقنا زيارة البيت بوعي وعرفان. آمين يا رب العالمين نهاية سورة الفيل * * *
474 1 سورة 1 قريش 1 مكية 1 وعدد آياتها أربع آيات
476 1 " سورة قريش " 3 محتوى السورة: هذه السورة في الحقيقة مكملة لسورة الفيل، وآياتها تدل على ذلك. تتضمن هذه السورة بيان نعمة الله على قريش ولطفه لهم ومحبته له، كي يحرك فيهم دافع الشكر ويحثهم على عبادة رب هذا البيت العظيم الذي يستمدون منه كل مفاخرهم وشرفهم. وكما إن سورة " والضحى " وسورة " ألم نشرح " تعتبران سورة واحدة - كما ذكرنا - كذلك سورة " الفيل " وسورة " قريش " هما سورة واحدة، وارتباط موضوعهما يدل على ذلك أيضا. ولذلك وجب قراءتهما معا في الصلاة لمن يرى وجوب قراءة سورة كاملة بعد الحمد. لمزيد من التوضيح تراجع كتب الفقه في أبواب الصلاة. (1) 3 فضيلة السورة: ورد في فضيلة هذه السورة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من طاف بالكعبة واعتكف بها " (2).
1 - أورد الحر العاملي، في كتابه وسائل الشيعة، ج 4، ص 743، باب 10 من أبواب قراءة الصلاة، روايات عدة في هذا المضمار. 2 - مجمع البيان، ج 10، ص 543. 478 هذه الفضيلة دون شك لمن عبد رب البيت حق عبادته، وصان حرمة البيت كما يجب، وتشربت نفسه برسالة هذا المركز التوحيدي. * * *
479 2 الآيات لإيلاف قريش (1) إلفهم رحلة الشتاء والصيف (2) فليعبدوا رب هذا البيت (3) الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف (4) 2 التفسير 3 رب هذا البيت يجب أن يعبد: في سورة " الفيل " جاء ذكر إبادة أصحاب الفيل الذين جاؤوا لهدم الكعبة وهذه السورة التي تعتبر امتدادا للسورة السابقة تقول: نحن جعلنا أصحاب الفيل كعصف مأكول: لإيلاف قريش (1)، أي لكي تأتلف قريش في هذه الأرض المقدسة وتتهيأ بذلك مقدمات ظهور نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم). " إيلاف " مصدر آلف، و " آلفه " أي جعله يألف، أي جعله يجتمع اجتماعا مقرونا بالانسجام والأنس والإلتيام. وقال بعضهم: " الإيلاف " من المؤالفة، وهي
1 - " اللام " في " لإيلاف " بمعنى العلة، وجار ومجرور متعلق ب " جعل " في السورة السابقة في آية فجعلهم كعصف مأكول أو أحد الأفعال التي كانت في السورة، بينما يرى البعض أن الجار والمجرور يتعلقان بجملة " فليعبدوا " القادمة، لكن هذا الاحتمال لا يتفق مع مضمون الآيات، والمعنى الأول أحسن. 480 العهد والميثاق، ولا تناسب بين هذا المعنى وبين الكلمة وهي مصدر باب الأفعال، وبين محتوى السورة. على كل حال، المقصود إيجاد الألفة بين قريش وهذه الأرض المقدسة وهي مكة والبيت العتيق، لأنهم وكل أهل مكة اختاروا السكن في هذه الأرض لمكانتها وأمنها. كثير من أهل الحجاز كانوا يحجون البيت كل سنة، ويقترن حجهم بنشاط أدبي واقتصادي في هذا البلد الأمين. كل ذلك كان يحدث في ظل الجو الآمن. ولو أن هذا الأمن قد انعدم أو أن الكعبة قد انهدمت بفعل هجوم أبرهة وأمثاله لما كان لأحد ألفة بهذه الأرض. كلمة " قريش " في الأصل نوع من الأحياء البحرية الضخمة التي تبتلع كل ما يصادفها، كما يقول المفسرون واللغويون، وعن ابن عباس في معنى قريش قال: " لدابة تكون في البحر من أعظم دوابه، يقال لها القريش، لا تمر بشئ من الغث والسمين إلا أكلته "! واستشهد لذلك بأبيات مما قالته العرب. من هنا فإن انتخاب هذا الاسم لهذه القبيلة يعود إلى اقتدار هذه القبيلة وقوتها، وإلى استغلال هذه القوة في الانقضاض على الآخرين. وقيل إن قريش من القرش، وهو الإكتساب، لأن قريشا كانت مشغولة دوما بالتجارة والكسب. وقيل: إن معنى " القرش " التفتيش والمراجعة، وسميت قريش بذلك لتفقدها أحوال الحجاج والمسارعة لمساعدتهم. و " القرش " في اللغة ورد بمعنى الاجتماع أيضا، وإذا كان هذا المعنى مقصودا في التسمية فذلك يعود إلى ما كانت تتصف به هذه القبيلة من اجتماع وانسجام. على أي حال اسم قريش لم يقترن بسمعة طيبة. فهم وإن كانوا عشيرة الرسول - إلا أنهم ناصبوا الإسلام أشد العداء، ولم يألوا جهدا في وضع العراقيل أمام الدعوة والوقوف بوجهها وتعذيب الدعاة، وبعد انتصار الإسلام عليهم،
481 عمدوا إلى التآمر الخفي على المسلمين، ثم بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خلقوا أحداثا مؤلمة لا ينساها لهم تاريخ الإسلام أبدا. ونعلم أن بني أمية وبني العباس الذين أقاموا حكومة الجبابرة والطواغيت كانوا من قريش. القرائن التاريخية تشير إلى أن هذه القبيلة كانت في الجاهلية أيضا تستثمر الناس وتستغلهم. ولذلك وجدت في الإسلام خطرا على مصالحها لدعوته إلى تحرير الإنسان، وشنت عليه حربا لا هوادة فيها، إلى أن اندحرت أمام قدرة الإسلام. إيلافهم رحلة الشتاء والصيف (1). مكة تقع في واد غير ذي زرع، والرعي فيها قليل، لذلك كانت عائدات أهل مكة غالبا من قوافل التجارة، في فصل الشتاء يتجهون إلى أرض اليمن في الجنوب حيث الهواء معتدل، وفي فصل الصيف إلى أرض الشام في الشمال حيث الجو لطيف. والشام واليمن كانا من مراكز التجارة آنئذ، ومكة والمدينة حلقتا اتصال بينهما. هذه هي رحلة الشتاء... ورحلة الصيف. والمقصود ب " إيلافهم " في الآية أعلاه قد يكون جعلهم يألفون الأرض المقدسة خلال رحلاتهم وينشدون إليها لما فيها من آمن، كي لا تغريهم أرض اليمن والشام، فيسكنون فيها ويهجرون مكة. وقد يكون المقصود إيجاد الألفة بينهم وبين سائر القبائل طوال مدة الرحلتين، لأن الناس بدأوا ينظرون إلى قوافل قريش باحترام ويعيرونها أهمية
1 - " إيلافهم " بدل من في الآية السابقة، و (هم) مفعول أول، و (رحلة الشتاء) مفعول ثان، وقيل أنه ظرف، وقيل منصوب بنزع الخافض، أي إيلافهم من رحلة الشتاء والصيف (يبدو أن المعنى الثاني والثالث أنسب). " رحلة " في الأصل من " رحل " - على زنة شهر - بمعنى الغطاء الذي يغطي به ظهر الدابة لركوبها، ثم أطلقت على الإبل أو السفر بواسطته أو بوسائط أخرى. 482 خاصة بعد قصة اندحار جيش أبرهة. قريش لم تكن طبعا مستحقة لكل هذا اللطف الإلهي لما كانت تقترفه من آثام، لكن الله لطف بهم لما كان مقدرا للإسلام والنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يظهرا من هذه القبيلة وتلك الأرض المقدسة. الآية الأخيرة تقول: إن هذه النعم الإلهية التي أغدقت على قريش ببركة الكعبة يجب أن تدفعهم إلى عبادة رب البيت لا الأوثان. فليعبدوا رب هذا البيت. الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف... الذي جعل تجارتهم رائجة مريحة ومربحة، ودفع عنهم الخوف والضرر، كل ذلك باندحار جيش أبرهة. وبفضل دعاء إبراهيم الخليل (عليه السلام) مؤسس الكعبة. لكنهم لم يقدروا هذه النعمة، فبدلوا البيت المقدس ببيت للأوثان، وذاقوا في النهاية وبال أمرهم. اللهم! هب لنا توفيق العبادة والطاعة وشكر النعم وحراسة هذا البيت العظيم. ربنا! زد في عظمة هذا المركز الإسلامي الكبير واجعله حلقة اتصال بين المسلمين. إلهنا! اقطع دابر الأعداء الظالمين القتلة المتلاعبين بمقدرات هذا المركز الإسلامي الكبير. آمين يا رب العالمين نهاية سورة قريش * * *
483 1 سورة 1 الماعون 1 مكية 1 وعدد آياتها سبع آيات
484 1 " سورة الماعون " 3 محتوى السورة: هذه السورة - على رأي أكثر المفسرين - مكية، ولحنها الذي يتحدث عن القيامة وأعمال منكري القيامة بمقاطع قصيرة وقارعة يؤيد ذلك. السورة بشكل عام تذكر صفات وأعمال منكري القيامة في خمس مراحل. فهؤلاء نتيجة لتكذيبهم بذلك اليوم، لا ينفقون في سبيل الله وعلى طريق مساعدة اليتامى والمساكين. ثم هم يتساهلون في الصلاة، ويعرضون عن مساعدة المحتاجين. وفي سبب نزول السورة قيل إنها نزلت في " أبي سفيان " الذي كان ينحر في اليوم اثنين من الإبل ويطعم أصحابه، ولكن يتيما جاءه يوما يطلب منه شيئا فضربه بعصاه وطرده. وقيل: إنها نزلت في " الوليد بن المغيرة "، وقيل: في " العاص بن وائل ". 3 فضيلة السورة: ورد في فضيلة هذه السورة عن الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) قال: " من قرأ أرأيت الذي يكذب بالدين في فرائضه ونوافله قبل الله صلاته وصيامه، ولم يحاسبه بما كان منه في الحياة الدنيا " (1). * * *
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 546. 486 2 الآيات أرأيت الذي يكذب بالدين (1) فذلك الذي يدع اليتيم (2) ولا يحض على طعام المسكين (3) فويل للمصلين (4) الذين هم عن صلاتهم ساهون (5) الذين هم يراؤون (6) ويمنعون الماعون (7) 2 التفسير 3 إنكار المعاد وآثاره المشؤومة: هذه السورة المباركة تبدأ بسؤال موجه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الآثار المشؤومة لإنكار المعاد وتقول: أرأيت الذي يكذب بالدين. وتجيب عن السؤال: فذلك الذي يدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين " الدين " هنا " الجزاء " أو يوم الجزاء، وإنكار يوم الجزاء له عواقبه الوخيمة وانعكاسات على أعمال الإنسان. وفي هذه السورة ذكرت خمسة آثار لهذا
487 الإنكار منها: " طرد اليتيم، وعدم الحث على إطعام المسكين ". أي إن الشخص المنكر للمعاد لا يطعم المساكين، ولا يدعو الآخرين إلى إطعامهم. واحتمل بعض أن يكون المقصود من الدين هنا القرآن أو الإسلام. والمعنى الأول أنسب. ونظيره ورد في قوله تعالى: كلا بل تكذبون بالدين (1) وقوله سبحانه: فما يكذبك بعد بالدين (2). وفي هذه الآيات ورد " الدين " بمعنى يوم الجزاء أيضا بقرينة الآيات الأخرى. " يدع " أي يدفع دفعا شديدا، ويطرد بخشونة. و " يحض " أي يحرض ويرغب الآخرين على شئ، والحض مثل الحث، إلا أن الحث - كما يقول الراغب - يكون بسوق وسير، والحض لا يكون بذلك. وصيغة المضارع في الفعلين (يدع) و (يحض) تدل على استمرارهم على مثل هذا العمل في حق الأيتام والمساكين. ويلاحظ هنا بشأن الأيتام، أن العواطف الإنسانية تجاه هؤلاء أكثر أهمية من إطعامهم وإشباعهم. لأن آلام اليتيم تأتي من فقدانه مصدر العاطفة والغذاء الروحي والتغذية الجسمية تأتي في المرحلة التالية. ومرة أخرى نرى القرآن يتحدث عن إطعام المساكين، وهو من أهم أعمال البر، وفي الآية إشارة إلى أنك إذا لم تستطع إطعام المساكين، فشجع الآخرين على ذلك. الفاء في " فذلك " لها معنى السببية، وتعني أن التكذيب بالمعاد هو الذي يسبب هذه الانحرافات. والحق أن المؤمن بالمعاد وبتلك المحكمة الإلهية الكبرى وبالحساب والجزاء يوم القيامة، إيمانا راسخا تظهر عليه الآثار الإيجابية لهذا الإيمان في كل أعماله. ولكن فاقد الإيمان والمكذب بيوم الدين تظهر آثار
1 - الانفطار، الآية 9. 2 - التين، الآية 7. 488 التكذيب عليه متمثلة في الجرأة على ارتكاب الذنوب والجرائم بشكل محسوس. ويتواصل وصف هؤلاء المكذبين بالدين فتقول الآيات التالية: فويل للمصلين، الذين هم عن صلاتهم ساهون. لا يقيمون للصلاة وزنا، ولا يهتمون بأوقاتها، ولا يراعون أركانها وشروطها وآدابها. " ساهون " من السهو، وهو في الأصل الخطأ الذي يصدر من الإنسان عن غفلة، سواء كان مقصرا في المقدمات أم لم يكن. في الحالة الأولى لا يكون الساهي معذورا، وفي الحالة الثانية معذور. والمقصود في الآية السهو المقرون بالتقصير. ويلاحظ أن الآية لم تقل " في صلاتهم ساهون "، لأن السهو في الصلاة يعرض لكل فرد، ولكنها قالت: " عن صلاتهم ساهون ". فهم يسهون عن الصلاة بأجمعها. واضح أن هذه الحالة لو اتفق وقوعها مرة أو مرات لأمكن أن يكون ذلك عن قصور. لكن الذي يسهو عن صلاته دائما فهو المهمل لصلاته، لعدم إيمانه بها وإذا صلى أحيانا فلخوف من ألسن الناس وأمثال ذلك. إضافة لما ذكرناه من معاني لكلمة " ساهون " ذكر المفسرون معاني أخرى من ذلك تأخير الصلاة عن وقت فضيلتها. أو إشارة إلى المنافقين الذين ما كانوا يؤمنون بثواب الصلاة ولا بعقاب تركها. أو المقصود الذين يراؤون في صلاتهم (بينما جاء ذكر هذا المعنى في الآية التالية). الجمع بين هذه التفاسير ممكن طبعا، وإن كان التفسير الأول أنسب. على أي حال، حين يكون الساهون عن الصلاة مستحقين للويل، فما بالك بتاركي الصلاة؟! الصفة الرابعة والخامسة للمكذبين بالدين تذكرها الآيتان الأخيرتان.
489 الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون. من المؤكد أن أحد عوامل التظاهر والرياء عدم الإيمان بيوم القيامة، وعدم الانشداء بطلب الثواب الإلهي. وإلا كيف يمكن للإنسان أن يترك مثوبة الله ويتجه إلى الناس ليتزلف إليهم؟! " الماعون " من " المعن " وهو الشئ القليل. وكثير من المفسرين قالوا إن المقصود من " الماعون " الأشياء البسيطة التي يستعيرها أو يقتنيها الناس وخاصة الجيران من بعضهم، مثل حفنة الملح، والماء، والنار (الثقاب)، والأواني وأمثالها. واضح أن الذي يبخل في إعطاء مثل هذه الأشياء إلى غيره إنسان دنئ عديم الإيمان. أي إنه بخيل إلى درجة الإباء عن إعطاء مثل هذه الأشياء. بينما يمكن لهذه الأشياء البسيطة أن تسد الاحتياجات الكبيرة. ومنعها يؤدي إلى بروز مشاكل كثيرة في حياة الأفراد. وقيل: إن الماعون يعني الزكاة. لأن الزكاة تشكل نسبة قليلة من أصل المال قد تبلغ عشرة بالمائة وأحيانا خمسة بالمائة وأحيانا اثنين ونصف بالمائة. منع الزكاة طبعا من أفظع السيئات، لأن الزكاة تحل كثيرا من مشاكل المجتمع الاقتصادية. عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) في تفسير الماعون قال: " هو القرض يقرضه، والمتاع يعيره، والمعروف يصنعه " (1). وفي رواية أخرى عن الصادق (عليه السلام) فسر الماعون بنفس المعنى السابق. فسأله سائل قال: لنا جيرانا إذا أعرناهم متاعا كسروه وأفسدوه فعلينا جناح أن نمنعهم؟ فقال: " لا ليس عليكم جناح أن تمنعوهم إذا كانوا كذلك " (2).
1 - الكافي، نقلا عن نور الثقلين، ج 5، ص 679، الحديث 18. 2 - المصدر السابق، الحديث 19. 490 وفي معنى الماعون ذكرت احتمالات أخرى ذكر القرطبي منها اثني عشر رأيا يرجع كثير منها إلى معنى مشترك والمهم ما ذكرناه أعلاه. ذكر هاتين الصفتين بشكل متوال (الرياء ومنع الماعون) كأنه إشارة إلى أن هؤلاء المكذبين بالدين يؤدون ما لله بنية الناس، وما للناس يمنعونه عنهم، ومن هنا لا يصيب أي ذي حق حقه. مسك الختام حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من منع الماعون جاره منعه الله خيره يوم القيامة، ووكله إلى نفسه، ومن وكله إلى نفسه فما أسوأ حاله "؟! (1) * * * تعقيب 3 1 - تلخيص موضوعات سورة الماعون في هذه السورة القصيرة، ذكر الله سبحانه مجموعة من الصفات الرذيلة التي إن اتصف بها شخص فهي دليل عدم إيمانه ودنائته وحقارته. ويلاحظ أنها جميعا فروع لظاهرة التكذيب بيوم الدين أي بيوم الجزاء. إهانة اليتامى، وترك إطعام المساكين، والتهاون في الصلاة، والرياء، وعدم التعاون مع الناس حتى في إعارة الأشياء الصغيرة... تشكل بمجموعها طبيعة حياة هؤلاء المكذبين. من هنا فهؤلاء أناس بخلاء ذاتيون أنانيون متظاهرون لا ارتباط لهم بالخالق ولا بخلقه... أناس خلت نفوسهم من نور الإيمان والشعور بالمسؤولية، لا بثواب الله يفكرون، ولا من عذابه يخشون.
1 - نور الثقلين، ج 5، ص 679، الحديث 20. 491 3 2 - التظاهر والرياء بلاء اجتماعي كبير قيمة كل عمل تتوقف على دافعه، وبالتعبير الإسلامي، أساس كل عمل نية عامله. الإسلام يركز على النية في تقويم الأعمال. لذلك ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى ". وجاء في ذيل هذا الحديث: " فمن غزى ابتغاء ما عند الله فقد وقع أجره على الله عز وجل ومن غزى يريد عرض الدنيا أو نوى عقالا لم يكن له إلا ما نوى ". (1) وهذا يعود إلى أن النية هي التي تصوغ شكل العمل دائما. من كان يعمل لله جعل أساس عمله مستحكما، وسعى بكل جهده إلى أن يستفيد منه الناس أكثر الاستفادة. لكن المتظاهر المرائي يكتفي بزخرفة الظاهر وتنميقه من دون أن يهتم بعمق العمل وباطنه وبحاجة المحتاجين إليه. المجتمع الذي يتعود على الرياء لا يبتعد عن الله وعن الأخلاق الحسنة والملكات الفاضلة فحسب، بل تصبح كل برامجه الاجتماعية فارغة خالية المحتوى، لا تتعدى مجموعة من المظاهر، وإنها لمأساة أن يكون مصير الفرد ومصير المجتمع بهذا الشكل. الروايات في ذم الرياء كثيرة، بعضها وصفته بأنه نوع من الشرك. وهنا نذكر ثلاثا منها: 1 - عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " سيأتي على الناس زمان تخبث فيه سرائرهم، وتحسن فيه علانيتهم، طمعا في الدنيا، لا يريدون به ما عند ربهم، يكون دينهم رياء، لا يخالطهم خوف، يعمهم الله بعقاب، فيدعونه دعاء الغريق، فلا يستجيب لهم! " (2)
1 - وسائل الشيعة، ج 1، ص 35، ح 10. 2 - أصول الكافي، ج 2، باب الرياء، الحديث 14. 492 2 - وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا قال: " إن المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر! يا فاجر! يا غادر! يا خاسر! حبط عملك، وبطل أجرك، فلا خلاص لك فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له " (1). 3 - وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال مخاطبا زرارة (أحد أصحابه): " من عمل للناس كان ثوابه على الناس يا زرارة! كل رياء شرك " (2). اللهم! إخلاص النية أمر عسير فأعنا عليه بفضلك. ربنا! هب لنا إيمانا يجعل معيار تفكيرنا ثوابك وعقابك، ويساوي في أنظارنا بين سخط المخلوقين ورضاهم في السلوك إليك. إلهنا! اغفر برحمتك زلاتنا. آمين يا رب العالمين نهاية سورة الماعون * * *
1 - وسائل الشيعة، ج 1، ص 51 (ذيل الحديث 16). 2 - وسائل الشيعة، ج 1، ص 49 (ذيل الحديث 11). 493 1 سورة 1 الكوثر 1 مكية 1 وعدد آياتها ثلاث آيات
494 1 " سورة الكوثر " 3 محتوى السورة: المشهور أن هذه السورة نزلت في مكة، وقيل: في المدينة، وقيل: من المحتمل أنها نزلت مرتين في مكة والمدينة، لكن الروايات في سبب نزول السورة تؤيد أنها مكية. ذكر في سبب نزول السورة: أن " العاص بن وائل " رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخرج من المسجد، فالتقيا عند باب بني سهم، وتحدثا، وأناس من صناديد قريش جلوس في المسجد. فلما دخل " العاص " قيل له من الذي كنت تتحدث معه؟ قال: ذلك الأبتر. وكان قد توفي عبد الله بن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو من خديجة، وكانوا يسمون من ليس له ابن أبتر. فسمته قريش عند موت ابنه أبتر. (فنزلت السورة تبشر النبي بالنعم الوافرة والكوثر وتصف عدوه بالأبتر) (1). ولمزيد من التوضيح نذكر أن النبي كان له ولدان من أم المؤمنين خديجة (عليها السلام) أحدهما " القاسم " والآخر " الطاهر " ويسمى أيضا عبد الله. وتوفي كلاهما في مكة. وأصبح النبي من دون ولد. هذه المسألة وفرت للأعداء فرصة الطعن بالنبي فسموه الأبتر (2).
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 549. 2 - كان للرسول ابن آخر من " مارية القبطية " اسمه إبراهيم. ولد في الثامنة للهجرة بالمدينة، ولكنه توفي أيضا قبل بلوغ الثانية من عمره، وحزن عليه الرسول كثيرا. 496 والعرب حسب تقاليدها كانت تعير أهمية بالغة للولد، وتعتبره امتدادا لمهام الأب. بعد وفاة عبد الله خال الأعداء أن الرسالة سوف تنتهي بوفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). السورة نزلت لترد على هؤلاء الأعداء بشكل إعجازي ولتقول لهم: إن عدو الرسول هو الأبتر، وأن الرسالة سوف تستمر وتتواصل وهذه البشرى بددت من جهة آمال الأعداء وطيبت خاطر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن اغتم من لمز الأعداء وتآمرهم. 3 فضيلة السورة: ورد في فضيلة هذه السورة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من قرأها سقاه الله من أنهار الجنة، وأعطي من الأجر بعدد كل قربان قربه العباد في يوم عيد، ويقربون من أهل الكتاب والمشركين " (1) اسم هذه السورة (الكوثر) مأخوذة من أول آية فيها. * * *
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 548. 497 2 الآيات إنا أعطينك الكوثر (1) فصل لربك وانحر (2) إن شانئك هو الأبتر (3) 2 التفسير 3 أعطيناك الخير العميم، الحديث في كل هذه السورة موجه إلى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) (مثل سورة والضحى، وسورة ألم نشرح)، وأحد أهداف هذه السور تسلية قلب النبي إزاء ركام الأحداث المؤلمة وطعون الأعداء. تقول له أولا: إنا أعطيناك الكوثر. و " الكوثر ": من الكثرة، وبمعنى الخير الكثير، ويسمى الفرد السخي كوثرا. وفي معنى " الكوثر " ورد أنه لما نزلت سورة الكوثر صعد رسول لله (صلى الله عليه وآله وسلم) المنبر فقرأها على الناس. فلما نزل قالوا: يا رسول الله ما هذا الذي أعطاك الله؟ قال: " نهر في الجنة أشد بياضا من اللبن، وأشد استقامة من القدح، حافتاه قباب
498 الدر والياقوت... ". (1) وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في معنى الكوثر قال: " نهر في الجنة أعطاه الله نبيه عوضا من ابنه " (2). وقيل: هو حوض النبي الذي يكثر الناس عليه يوم القيامة. وقيل: هو النبوة والكتاب، وقيل: هو القرآن. وقيل: كثرة الأصحاب والأشياع. وقيل: هو كثرة النسل والذرية وقد ظهرت الكثرة في نسله من ولد فاطمة (عليها السلام) حتى لا يحصى عددهم، واتصل إلى يوم القيامة مددهم، وروي عن الصادق (عليه السلام) أنه الشفاعة (3) الفخر الرازي نقل خمسة عشر رأيا في تفسير الكوثر، ولكن هذه التفاسير تبين غالبا المصاديق البارزة لمعناها الواسع وهو " الخير الكثير ". نعلم أن الله سبحانه أعطى رسوله الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) نعما كثيرة، منها ما ذكره المفسرون في معنى الكوثر وغيرها كثير، وكلها يمكن أن تكون تفسيرا مصداقيا للآية. على أي حال، كل الهبات الإلهية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كل المجالات تدخل في إطار هذا الخير الكثير، ومن ذلك انتصاراته على الأعداء في الغزوات، بل حتى علماء أمته الذين يحملون مشعل الإسلام والقرآن في كل زمان ومكان. ولا ننسى أن كلام الله سبحانه تعالى لنبيه في هذه السورة كان قبل ظهور الخير الكثير. فهو إخبار بالمستقبل القريب والبعيد، إخبار إعجازي يشكل دليلا آخر على صدق دعوة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم). هذا الخير الكثير يستوجب شكرا عظيما، وإن كان المخلوق لا يستطيع أداء
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 549. 2 - المصدر السابق. 3 - المصدر السابق. 499 حق نعمة الخالق أبدا. إذ أن توفيق الشكر نعمة أخرى منه سبحانه. ولذا يقول سبحانه لنبيه: فصل لربك وانحر. نعم، واهب النعم هو سبحانه. لذلك ليس ثمة معنى للعبادات إن كانت لغيره. خاصة وإن كلمة (رب) تعني استمرار النعمة والتدبير والربوبية. بعبارة أخرى، العبادات، سواء كانت صلاة أم نحرا، تختص بالرب وولي النعمة، وهو الله سبحانه وتعالى. والأمر بالصلاة والنحر للرب مقابل ما كان يفعله المشركون من سجودهم للأصنام ونحرهم لها، بينما كانوا يرون نعمهم من الله. وتعبير (لربك) دليل واضح على وجوب قصد القربة في العبادات. كثير من المفسرين يعتقدون أن الآية تقصد صلاة عيد الأضحى والنحر فيه. لكن مفهوم الآية عام وواسع. وصلاة عيد الأضحى والنحر فيه من مصاديق الآية البارزة. عبارة " وانحر " من النحر، وهو ذبح الناقة. وقد يكون ذلك لأهمية الناقة بين أنواع الأضاحي. والمسلمون الأوائل كانوا يعتزون بالإبل، ونحرها يحتاج إلى إيثار كثير. وذكر للآية المباركة تفسيران آخران. 1 - المقصود من كلمة (وانحر) أن استقبل القبلة في الصلاة. لأن النحر أعلى الصدر، والعرب تستعمل الكلمة لاستقبال الشئ فيقولون: منازلنا تتناحر، أي تتقابل. 2 - المقصود رفع اليد عند النحر لدى التكبير ولذا ورد في الرواية أنه لما
500 نزلت هذه السورة قال النبي 6 لجبريل: " ما هذه النحيرة (1) التي أمرني بها ربي؟ " قال: " ليست بنحيرة، ولكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت، وإذا رفعت رأسك من الركوع وإذا سجدت، فإنه صلاتنا وصلاة الملائكة في السماوات السبع. فإن لكل شئ زينة، وإن زينة الصلاة رفع الأيدي عند كل تكبيرة " (2). وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية أنه أشار بيده وقال: " هكذا ". أي استقبل بيديه القبلة في افتتاح الصلاة (رفع يديه جاعلا كفه مقابل القبلة) (3). والتفسير الأول أنسب، لأن المقصود هو الرد على أعمال المشركين الذين كانوا يعبدون وينحرون لغير الله، ولكن لا مانع من الجمع بين هذه المعاني، خاصة وقد وردت بشأن رفع اليد عند التكبير روايات كثيرة في كتب الشيعة والسنة. وبذلك يكون للآية مفهوم جامع يشمل هذه المعاني أيضا. وفي آخر آية يقول الله سبحانه لنبيه ردا على ما وصمه به المشركون: إن شانئك هو الأبتر. " الشانئ " هو المعادي من " الشنان " - على وزن ضربان - وهو العداء والحقد. و " أبتر " في الأصل هو الحيوان المقطوع الذنب (4). وصدر هذا التعبير من أعداء الإسلام لانتهاك الحرمة والإهانة. وكلمة (شانئ) فيها ايحاء بأن عدوك لا يراعي أية حرمة ولا يلتزم بأي أدب، أي أن عداوته مقرونة بالفظاظة والدناءة. والقرآن يقول لهؤلاء الأعداء في الواقع: إنكم أنتم تحملون صفة الأبتر لا رسول
1 - " النحيرة " آخر الشهر، لأن الإنسان يستقبل فيه الشهر الجديد. وسؤال النبي لجبريل عن هذا الاستقبال للشهر الجديد، لذلك قال له جبريل: ليست بنحيرة. 2 - مجمع البيان، ج 10، ص 550. 3 - المصدر السابق. 4 - مجمع البيان، ج 1، ص 548. 501 الله. من جهة أخرى، كما ذكرنا في سبب نزول السورة، قريش كانت تترقب انتهاء الرسالة بوفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنهم كانوا يقولون: إن النبي بلا عقب. والقرآن يقول للنبي: " لست بلا عقب، بل شانئك بلا عقب ". * * * 2 بحوث 3 1 - فاطمة (عليها السلام) والكوثر قلنا إن " الكوثر " له معنى واسع يشمل كل خير وهبه الله لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومصاديقه كثيرة، لكن كثيرا من علماء الشيعة ذهبوا إلى أن " فاطمة الزهراء (عليها السلام) " من أوضح مصاديق الكوثر، لأن رواية سبب النزول تقول: إن المشركين وصموا النبي بالأبتر، أي بالشخص المعدوم العقب، وجاءت الآية لتقول: إنا أعطيناك الكوثر. ومن هنا نستنتج أن الخير الكثير أو الكوثر هو فاطمة الزهراء (عليها السلام)، لأن نسل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) انتشر في العالم بواسطة هذه البنت الكريمة... وذرية الرسول من فاطمة لم يكونوا امتدادا جسميا للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فحسب، بل كانوا امتدادا رساليا صانوا الإسلام وضحوا من أجل المحافظة عليه وكان منهم أئمة الدين الاثني عشر، أو الخلفاء الاثني عشر بعد النبي كما أخبر عنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأحاديث المتواترة بين السنة والشيعة، وكان منهم أيضا الآلاف المؤلفة من كبار العلماء والفقهاء والمحدثين والمفسرين وقادة الأمة. والفخر الرازي في استعراضه لتفاسير معنى الكوثر يقول: القول الثالث " الكوثر " أولاده. قالوا لأن هذه السورة إنما نزلت ردا على من عابه (عليه السلام) بعدم الأولاد فالمعنى أنه يعطيه نسلا يبقون على مر الزمان، فانظر كم قتل من أهل البيت
502 ثم العالم ممتلئ منهم ولم يبق من بني أمية في الدنيا أحد يعبأ به، ثم أنظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا (عليهم السلام) والنفس الزكية وأمثالهم (1). 3 2 - إعجاز السورة هذه السورة تتضمن في الواقع ثلاثة من أنباء الغيب والحديث عن المستقبل. فهي أولا تتحدث عن إعطاء الخير الكثير للنبي (أعطيناك الكوثر) وهذا الفعل وإن جاء بصيغة الماضي، قد يعني المستقبل الحتمي الوقوع. وهذا الخير الكثير يشمل كل الانتصارات والنجاحات التي أحرزتها الدعوة الإسلامية فيما بعد. وهي ما كانت متوقعة عند نزول السورة في مكة. من جهة أخرى، السورة تخبر النبي بأنه سوف لا يبقى بدون عقب، بل إن ذريته ستنتشر في الآفاق. ومن جهة ثالثة، تخبر السورة بأن عدوه هو الأبتر، وهذه النبوءة تحققت أيضا، فلا أثر لعدوه اليوم، بنو أمية وبنو العباس الذين عادوا النبي وأبناءه كانوا ذا نسل لا يحصى عدده، ولم يبق اليوم منهم شئ يذكر. 3 3 - " إنا " بصيغة الجمع، لماذا؟ يلاحظ في السورة وفي مواضع أخرى من القرآن أن الله سبحانه ذكر نفسه بصيغة الجمع (ضمير المتكلم مع الغير): إنا أعطيناك الكوثر. هذا التعبير لبيان عظمته جلت قدرته. فالعظماء حين يتحدثون عن أنفسهم، فلا يعنون بشخصهم فقط بل يخبرون عمن تحت إمرتهم. وهي كناية عن القدرة
1 - تفسير الفخر الرازي، ج 32، ص 124. 503 والعظمة وعن وجود من يأتمر بأمرهم. الآية الكريمة مؤكدة بحرف (إن) تأكيدا آخر، وعبارة " أعطيناك " تعني هبة الله سبحانه لنبيه هذا الكوثر، ولم يقل آتيناك. وهذه بشارة كبيرة للنبي تسلي قلبه أمام تخرصات الأعداء، وتثبت قدمه وتبعد الوهن عن عزيمته، وليعلم أن سنده هو الله مصدر كل خير وواهب ما عنده من خير كثير. ربنا! لا تحرمنا مما أنعمت به على نبيك من خير كثير. ربنا! إنك تعلم مدى حبنا لرسولك ولذريته الطاهرة، فاحشرنا في زمرتهم. ربنا! عظمة رسولك وعظمة رسالته لا تبلغها عظمة، اللهم فزدها عزة ومنعة وشوكة. آمين يا رب العالمين نهاية سورة الكوثر * * *
504 1 سورة 1 الكافرون 1 مكية 1 وعدد آياتها ست آيات
506 1 " سورة الكافرون " 3 محتوى السورة: هذه السورة نزلت في مكة لحنها ومحتواها يؤيدان ذلك. وسبب نزولها الذي سنبينه بإذن الله دليل آخر على مكيتها، ونستبعد ما ذهب إليه بعضهم من أنها مدنية. من لحن السورة نفهم أنها نزلت في زمان كان المسلمون في أقلية والكفار في أكثرية، والنبي يعاني من الضغوط التي تطلب منه أن يهادن المشركين. وأمام هذه الضغوط كان النبي يعلن صموده وإصراره على المبدأ، دون أن يصطدم بهم. وفي هذا درس عبرة لكل المسلمين أن لا يساوموا أعداء الإسلام في مبادئ الدين مهما كانت الظروف. وأن يبعثوا اليأس في قلوبهم متى ما بادروا إلى هذه المساومة. وفي هذه السورة تكرر مرتين نفي عبادة الإنسان المسلم لما يعبده الكافرون، وهو تأكيد يستهدف بث اليأس في قلوب الكافرين. كما تكرر مرتين نفي عبادة الكافر لما يعبده المسلمون من إله واحد أحد. وهذا دليل على تعنتهم ولجاجهم. ونتيجة ذلك هو الفصل العقائدي الحاسم بين منهج التوحيد ومتاهات الشرك: لكم دينكم ولي دين. 3 فضيلة السورة: ورد في فضيلة هذه السورة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من قرأ قل يا أيها الكافرون فكأنما قرأ ربع القرآن وتباعدت عنه مردة الشياطين، وبرأ من الشرك،
508 ويعافى من الفزع الإكبر " (1). وعبارة (ربع القرآن) قد تعني أن مسألة مواجهة الشرك والكفر تحتل ربع القرآن وجاءت عصارتها في هذه السورة المباركة. وإنما كانت هذه السورة عاملا على تباعد مردة الشياطين عن قارئها، لأنها رفض حاسم للشرك والمشركين، والشرك أهم حبائل الشيطان. والنجاة في يوم القيامة (أو المعافاة من الفزع الأكبر على حد تعبير الرواية) تتوقف بالدرجة الأولى على التوحيد ورفض الشرك. وهو ما دارت حوله مضامين هذه السورة. وفي رواية أخرى أن رجلا أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: جئت يا رسول الله لتعلمني شيئا أقوله عند منامي قال: " إذا أخذت مضجعك فاقرأ قل يا أيها الكافرون، ثم نم على خاتمتها فإنها براءة من الشرك " (2). وعن جبير بن مطعم قال: قال لي رسول الله: " أتحب يا جبير أن تكون إذا خرجت سفرا من أمثل أصحابك هيئة وأكثرهم زادا "؟ قلت: نعم بابي أنت وأمي يا رسول الله. قال: " فاقرأ هذه السور الخمس: قل يا أيها الكافرون، وإذا جاء نصر الله والفتح، وقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس. وافتتح قراءتك ببسم الله الرحمن الرحيم ". وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " كان أبي يقول: قل يا أيها الكافرون ربع القرآن. وكان إذا فرغ منها قال: أعبد الله وحده، أعبد الله وحده " (3). * * *
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 551. 2 - المصدر السابق. 3 - المصدر السابق. 509 2 الآيات قل يا أيها الكافرون (1) لا أعبد ما تعبدون (2) ولا أنتم عبدون ما أعبد (3) ولا أنا عابد ما عبدتم (4) ولا أنتم عبدون ما أعبد (5) لكم دينكم ولى دين (6) 2 سبب النزول جاء في الرواية أن السورة نزلت في نفر من قريش منهم " الحارث بن قيس السهمي " و " العاص بن أبي وائل " و " الوليد بن المغيرة "، و " أمية بن خلف " وغيرهم من القرشيين قالوا: هلم يا محمد فاتبع ديننا نتبع دينك، ونشركك في أمرنا كله، تعبد آلهتنا سنة ونعبد آلهتك سنة. فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه. وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " معاذ الله أن أشرك به غيره ". قالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد آلهتك. فقال: " حتى انظر ما يأتي من عند ربي ". فنزل قل يا أيها الكافرون - السورة. فعدل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المسجد
510 الحرام وفيه الملأ من قريش، فقام على رؤوسهم، ثم قرأ عليهم حتى فرغ من السورة فأيسوا عند ذلك، فآذوه وآذوا أصحابه ". (1). 2 التفسير 3 لا أهادن الكافرين: قل يا أيها الكافرون والخطاب إلى قوم مخصوصين من الكافرين كما ذكر كثير من المفسرين، والألف واللام للعهد. وإنما ذهب المفسرون إلى ذلك لأن الآيات التالية تنفي أن يعبد الكافرون ما يعبده المسلمون وهو الله سبحانه في الماضي والحال والمستقبل. والمجموعة المخاطبة بهذه الآيات بقيت بالفعل على كفرها وشركها حتى آخر عمرها. بينما دخل كثير من المشركين بعد فتح مكة في دين الله أفواجا. لا أعبد ما تعبدون فهذه مسألة مبدئية لا تقبل المساومة والمهادنة والمداهنة. ولا أنتم عابدون ما أعبد لما تأصل فيكم من لجاج وعناد وتقليد أعمى لآبائكم، ولما تجدونه في الدعوة من تهديد لمصالحكم وللأموال التي تدر عليكم من عبدة الأصنام. ولمزيد من التأكيد وبث اليأس في قلوب الكافرين، ولبيان حقيقة الفصل الحاسم بين منهج الإسلام ومنهج الشرك قال سبحانه: ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد فعلى هذا لا معنى
1 - ذكر سبب النزول هذا كثير من المفسرين على اختلاف يسير بينهم في العبارات منهم الطبرسي في مجمع البيان، والقرطبي في تفسيره، وأبو الفتوح الرازي في تفسيره، والسيوطي في الدر المنثور. 511 لإصراركم على المصالحة والمهادنة معي حول مسألة عبادة الأوثان فإنه أمر محال لكم دينكم ولي دين. * * * أسئلة: 3 1 - لماذا بدأت السورة بفعل الأمر " قل " " قل " فعل أمر موجه من الله سبحانه لنبيه كي يبلغ الكافرين ويقول لهم: ... يا أيها الكافرون... إلى آخر السورة، فلماذا بدأ النبي تلاوة السورة بكلمة " قل "، وهي موجهة إليه لا إلى الكافرين؟ أما كان من الأفضل أن تبدأ السورة بيا أيها الكافرون...؟ الجواب يتضح لو التفتنا إلى محتوى السورة. مشركو العرب كانوا قد دعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليهادنهم بشأن الأوثان وعليه أن يرد عليهم ويرفض الاستسلام لهم. وإذا لم يبدأ الكلام ب " قل " يصبح الأسلوب أسلوب خطاب طاب الله لهم. وهذا لا ينسجم مع قوله: لا أعبد ما تعبدون وما شابهه. أضف إلى ذلك أن كلمة " قل " كانت موجودة في النص الذي جاء به جبرائيل من الله تعالى. والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مكلف بالمحافظة على النص القرآني بحذافيره. وهذا يدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجبرائيل (عليه السلام) ليس لهما أي دور في صياغة النص القرآني وليس لهما حق أي تغيير فيه: بل يأتمران بما أمرهما الله. وهذا المعنى تؤكده الآية الكريمة: قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن اتبع إلا ما يوحى إلي (1).
1 - يونس - 15 512 3 2 - أكان عبدة الأصنام منكرين لله؟ نعلم أن عبدة الأصنام لم يكونوا منكرين لله سبحانه، والقرآن يؤيد ذلك في قوله سبحانه: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله (1). كيف إذن تقول الآية الكريمة: لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد. الجواب: أن الكلام في هذه السورة يدور حول العبادة لا الخلقة، ويتضح أن عبدة الأصنام كانوا يعتقدون أن " الله " خالق الكون، لكنهم كانوا يرون ضرورة " عبادة " الأصنام كي تكون واسطة بينهم وبين الله، أو لاعتقادهم بأنهم ليسوا أهلا لعبادة الله، بل لابد من عبادة أصنام جسمية، والقرآن الكريم يرد على هذه الأوهام ويقول: إن العبادة لله وحده لا للأصنام ولا لكليهما! 3 3 - لم هذا التكرار؟ لا أعبد ما تعبدون... ولا أنا عابد ما عبدتم الآيتان تكرران معنى واحدا، وهكذا ولا أنتم عابدون ما أعبد... ولا أنتم عابدون ما أعبد تكررت أيضا، لماذا؟ للمفسرين في جواب هذا السؤال آراء مختلفة. ذهب بعضهم إلى أن الهدف من التكرار التأكيد وبث اليأس في قلوب المشركين، وفصل المسيرة الإسلامية بشكل كامل عن مسيرتهم، وتثبيت فكرة عدم إمكان المهادنة بين التوحيد والشرك. بعبارة أخرى القرآن الكريم قابل دعوة المشركين إلى المساومة والمهادنة وإصرارهم على ذلك وتكرارهم لدعوتهم، بتكرار في الرد عليهم. ورد أن " أبا شاكر الديصاني " وهو من زنادق عصر الإمام الصادق (عليه السلام) سأل
1 - لقمان - 25 513 أحد أصحاب الصادق (عليه السلام) وهو " أبو جعفر الأحول " (محمد بن علي النعماني المعروف بمؤمن الطاق) عن سبب هذا التكرار، وهل الشخص الحكيم يرد في كلامه مثل هذا التكرار؟ أبو جعفر الأحول أعياه الجواب، فتوجه إلى المدينة، ودخل على الإمام الصادق (عليه السلام) وسأله عن ذلك، أجابه الإمام: كان سبب نزولها وتكرارها أن قريشا قالت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة وتعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة فأصابهم بمثل ما قالوا فقال فيما قالوا تعبد آلهتنا سنة قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون وفيما قالوا نعبد إلهك سنة ولا أنتم عابدون ما أعبد وفيما قالوا تعبد آلهتنا سنة ولا أنا عابد ما عبدتم وفيما قالوا نعبد إلهك سنة ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين. ذهب أبو جعفر الأحول بالجواب إلى أبي شاكر، فلما سمعه قال: " هذا ما حمله الإبل من الحجاز " (1)! (يشير بذلك إلى أن هذا ليس كلامك بل كلام الصادق). وقيل إن هذا التكرار يعود إلى أن الجملة الأولى تركز على الحال، والجملة الثانية تركز على المستقبل، ويكون معنى الجملتين لا أعبد ما تعبدون في الحال والمستقبل. ولا يوجد شاهد في الآية على هذا التفسير. ثمة تفسير ثالث لهذا التكرار هو إن الأولى تشير إلى الاختلاف في المعبود والثانية إلى الاختلاف في العبادة. أي لا أعبد الذي تعبدون، ولا أعبد عبادتكم لأن عبادتي خالصة من الشرك ولأنها عبادة عن وعي وعن أداء للشكر لا عن تقليد أعمى (2). والظاهر أن هذا التكرار للتأكيد كما ذكرنا أعلاه، وجاءت الإشارة إليه أيضا
1 - تفسير علي بن إبراهيم، ج 2، ص 445. 2 - بناء على هذا التفسير " ما " في الآيتين الثانية والثالثة موصولة، وفي الرابعة والخامسة مصدرية (ذكر هذا التفسير أبو الفتوح الرازي ضمن ذكره لاحتمالات تفسير الآية ج 12، ص 192، وأشار إليه الطبرسي أيضا). 514 في حديث الإمام الصادق 7. وهناك تفسير رابع للتكرار هو إن الآية الثانية تقول: لا أعبد ما تعبدون الآن. والآية الرابعة تقول: ما أنا عابد (في الماضي) معبودكم، فما بالكم اليوم. هذا التفسير يستند إلى التفاوت بين فعلي الآيتين، في الثانية الفعل مضارع " تعبدون "، وفي الآية الرابعة " عبدتم " بصيغة الماضي ونحن لا نستبعده. (1) وإن كان هذا يحل مسألة تكرار الآيتين الثانية والرابعة، وتبقى مسألة تكرار الآيتين الثالثة والخامسة على حالها. (2) 3 4 - هل الآية لكم دينكم ولي دين تعني جواز عبادة الأصنام؟! قد يتصور أن هذه الآية لها مفهوم " السلام العام " وتجيز حتى لعبدة الأصنام أن يظلوا عليها عاكفين، لأنها لا تصر على قبول دين الإسلام. لكن هذا التصور فارغ لا يقوم على أساس، لحن الآيات يوضح بجلاء أنها نوع من التحقير والتهديد، أي دعكم ودينكم فسترون قريبا وبال أمركم، تماما مثل ما ورد في قوله تعالى: وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين (3). والشاهد الواضح على ذلك مئات الآيات الكريمة التي ترفض الشرك بكل ألوانه، وتعتبره عملا لا شئ أبغض منه، وذنبا لا يغفر. وهناك إجابات أخرى على هذا السؤال مثل تقدير محذوف وتكون العبارة: لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني.
1 - بناء على هذا (عابد) وهو اسم فاعل يكون في الآية بمعنى الماضي أيضا. 2 - يجب الالتفات إلى أن " ما الموصولة " وإن استعملت غالبا في غير ذوي العقول، تستعمل أيضا في العاقل. وفي القرآن شواهد. 3 - سورة القصص، الآية 55. 515 وقيل أيضا: " الدين " هنا بمعنى الجزاء، ولا محذوف فيها ومفهومها لكم جزاؤكم ولي جزائي. (1) والتفسير الأول أنسب. 3 5 - هل هادن الشرك يوما؟ السورة تطرح حقيقة التضاد والانفصال التام بين منهج التوحيد ومنهج الشرك، وعدم وجود أي تشابه بينهما، التوحيد يشد الإنسان بالله بينما الشرك يجعل الإنسان غريبا عن الله. التوحيد رمز الوحدة والانسجام في جميع المجالات، والشرك مبعث التفرقة والتمزق في كل الشؤون. التوحيد يسمو بالإنسان على عالم المادة والطبيعة، ويربطه بما وراء الطبيعة بالوجود اللامتناهي لرب العالمين، بينما الشرك يجعل الإنسان يرسف في أغلال الطبيعة، ويربطه بموجودات ضعيفة فانية. من هنا فالنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر الأنبياء الكرام لم يهادنوا الشرك لحظة واحدة، بل جعلوا مقارعته في رأس قائمة أعمالهم. السائرون على طريق الله من الدعاة والعلماء الإسلاميين يتحملون مسؤولية مواصلة هذه المسيرة، وعليهم أن يعلنوا براءتهم من الشرك والمشركين في كل مكان. هذا هو طريق الإسلام الأصيل. اللهم! جنبنا كل شرك في أفكارنا وأعمالنا. ربنا! وساوس المشركين في عصرنا خطرة أيضا، فاحفظنا من الوقوع في
1 - ويلاحظ أن كلمة (دين) في الآية ولي دين مكسورة، وكسرتها تدل على ياء محذوفة أي: ولي ديني. 516 حبائلهم. إلهنا! من علينا بشجاعة وصراحة وحزم لنكون كما كان نبيك (صلى الله عليه وآله وسلم) رافضين لكل مساومة مع الكفر والكافرين والشرك والمشركين. آمين يا رب العالمين نهاية سورة الكافرون * * *
517 1 سورة 1 النصر 1 مدنية 1 وعدد آياتها ثلاث آيات
518 1 " سورة النصر " 3 محتوى السورة: هذه السورة نزلت في المدينة بعد الهجرة، وفيها بشرى النصر العظيم ودخول الناس في دين الله أفواجا، وتدعو النبي أن يسبح الله ويحمده ويستغفره شكرا على هذه النعمة. في الإسلام فتوحات كثيرة، ولكن فتحا بالمواصفات المذكورة في السورة ما كان سوى " فتح مكة "، خاصة وأن العرب - كما جاء في الروايات - كانت تعتقد أن نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يستطيع أن يفتح مكة إلا إذا كان على حق... ولو لم يكن على حق فرب البيت يمنعه كما منع جيش أبرهة، ولذلك دخل العرب في دين الله بعد فتح مكة أفواجا. قيل: إن هذه السورة نزلت بعد " صلح الحديبية " في السنة السادسة للهجرة، وقبل عامين من فتح مكة. وما احتمله بعضهم من نزول هذه السورة بعد فتح مكة في السنة العاشرة للهجرة في حجة الوداع فبعيد جدا، لأن عبارات السورة لا تنسجم وهذا المعنى، فهي تخبر عن حادثة ترتبط بالمستقبل لا بالماضي. ومن أسماء هذه السورة " التوديع " لأنها تتضمن خبر وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وفي الرواية أن هذه السورة لما نزلت قرأها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أصحابه ففرحوا واستبشروا، وسمعها العباس فبكى، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما يبكيك يا عم؟ "
520 فقال: أظن أنه قد نعيت إليك نفسك يا رسول الله، فقال: " إنه لكما تقول " (1). وظاهر السورة ليس فيه إنباء عن قرب رحلة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بل عن الفتح والنصر، فكيف فهم العباس أنها تنعي إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه؟ يبدو أن دلالة السورة على اكتمال الرسالة وتثبيت الدين هو الذي أوحى بقرب ارتحال الرسول إلى جوار ربه. 3 فضيلة السورة: وردت في فضيلة السورة عن رسول لله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من قرأها فكأنما شهد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتح مكة " (2). وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " من قرأ إذا جاء نصر الله والفتح في نافلة أو فريضة نصره الله على جميع أعدائه، وجاء يوم القيامة ومعه كتاب ينطق، قد أخرجه الله من جوف قبره، فيه أمان من حر جهنم " (3). واضح أن هذه الفضيلة لمن قرأ هذه السورة فسلك مسلك رسول الله وعمل بسيرته وسنته، لا أن يكتفي بلقلقة اللسان. * * *
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 554، هذه الرواية وردت بألفاظ مختلفة (الميزان، ج 20، ص 532). 2 - مجمع البيان، ج 10، ص 553. 3 - المصدر السابق. 521 2 الآيات إذا جاء نصر الله والفتح (1) ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا (2) فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا (3) 2 التفسير 3 عند انبلاج فجر النصر: إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا. هذه الآيات الثلاث القصار في ألفاظها العميقة في محتواها تتضمن مسائل دقيقة كثيرة نسلط عليها الضوء كي تساعدنا في فهم معنى السورة. 1 - " النصر ": في الآية أضيف إلى الله " نصر الله " وفي كثير من المواضع القرآنية نجد نسبة النصر إلى الله. يقول سبحانه ألا إن نصر الله قريب (1)، ويقول: وما النصر إلا من عند الله. (2)
1 - البقرة، الآية 214. 2 - آل عمران، الآية 126، الأنفال، الآية 10. 522 وهذا يعني أن النصر في أي حال لا يكون إلا بإرادة الله، نعم، لابد من إعداد القوة للغلبة على العدو، لكن الإنسان الموحد يؤمن أن النصر من عند الله وحده، ولذلك لا يغتر بالنصر، بل يتجه إلى شكر الله وحمده. 2 - في هذه السورة دار الحديث عن نصرة الله، ثم عن " الفتح " والانتصار، وبعدها عن اتساع رقعة الإسلام ودخول الناس في دين الله زرافات ووحدانا. وبين هذه الثلاثة ارتباط علة ومعلول. فبنصر الله زرافات يتحقق الفتح، وبالفتح تزال الموانع من الطريق ويدخل الناس في دين الله أفواجا. بعد هذه المراحل الثلاث - التي يشكل كل منها نعمة كبرى - تحل المرحلة الرابعة وهي مرحلة الشكر والحمد. من جهة أخرى نصر الله، والفتح هدفهما النهائي دخول الناس في دين الله وهداية البشرية. 3 - " الفتح " هنا مذكور بشكل مطلق، والقرائن تشير - كما ذكرنا - أنه فتح مكة الذي كان له ذلك الصدى الواسع المذكور في الآية. " فتح مكة " فتح في الواقع صفحة جديدة في تاريخ الإسلام، لأن مركز الشرك قد تلاشى بهذا الفتح، انهدمت الأصنام، وتبددت آمال المشركين وأزيلت السدود والموانع من طريق إيمان الناس بالإسلام. من هنا، يجب أن نعتبر فتح مكة بداية مرحلة تثبيت أسس الإسلام واستقراره في الجزيرة العربية ثم في العالم أجمع. لذلك لا نرى بعد فتح مكة مقاومة من المشركين (سوى مرة واحدة قمعت بسرعة) وكان الناس بعده يفدون على النبي من كل أنحاء الجزيرة ليعلنوا إسلامهم. 4 - في نهاية السورة يأمر الله سبحانه نبيه (بل كل المؤمنين) بثلاثة أمور ليجسد آلاء الشكر وليتخذ الموقف الإيماني المناسب من النصر الإلهي وهي : " التسبيح " و " الحمد " و " الاستغفار ".
523 " التسبيح " تنزيه الله من كل عيب ونقص. و " الحمد " لوصف الله بالصفات الكمالية. و " الاستغفار " إزاء تقصير العبد. هذا الانتصار الكبير أدى إلى تطهير الساحة من أفكار الشرك، وإلى تجلي جمال الله وكماله أكثر من ذي قبل، وإلى اهتداء من ضل الطريق إلى الله. هذا الفتح العظيم أدى إلى أن لا يظن فرد بأن الله يترك انصاره وحدهم (ولذلك جاء أمر التسبيح لتنزيهه من هذا النقص) وإلى أن يعلم المؤمنون بأن وعده الحق (موصوف بهذا الكمال)، وإلى أن يعترف العباد بنقصهم أمام عظمة الله. أضف إلى ما سبق، أن الإنسان - عند النصر - قد تظهر عليه ردود فعل سلبية فيقع في الغرور والتعالي، أو يتخذ موقف الانتقام وتصفية الحسابات الشخصية، وهذه الأوامر الثلاثة تعلمه أن يكون في لحظات النصر الحساسة ذاكرا لصفات جلال الله وجماله وأن يرى كل شئ منه سبحانه، ويتجه إلى الاستغفار كي يزول عنه غرور الغفلة ويبتعد عن الانتقام. 5 - رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مثل كل الأنبياء معصوم، فلماذا الاستغفار؟ الجواب أن هذا تعليم لكل الأمة لأنه: أولا: خلال أيام المواجهة بين الإسلام والشرك مرت فترات عصيبة على المسلمين، وتفاقمت في بعض المراحل مشاكل الدعوة، وضاقت صدور بعضهم وساور بعضهم الآخر شكوك في وعد الله. كما قال سبحانه فيهم عند غزوة " الأحزاب ": وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا (1). والآن إذ تحقق الانتصار فقد اتضح خطل تلك الظنون، ولابد من " الاستغفار " ثانيا: الإنسان لا يستطيع أن يؤدي حق الشكر، مهما حمد الله وأثنى عليه. ولذلك لا بد له بعد الحمد والثناء أن يتجه إلى استغفاره سبحانه.
1 - الأحزاب، الآية 10. 524 ثالثا: بعد الانتصار تبدأ عادة وساوس الشيطان، فتبرز ظاهرة الغرور تارة وظاهرة الانتقام تارة أخرى. ولابد إذن من ذكر الله واستغفاره باستمرار حتى لا تظهر هذه الحالات، ولتزول إن ظهرت. رابعا: إعلام هذا النصر يعني انتهاء مهمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تقريبا كما ذكرنا في بداية السورة، وانتهاء عمره المبارك والتحاقه بالرفيق الأعلى. ولذا جاء في الروايات أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد نزول هذه السورة كان يكثر من قول: " سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الرحيم ". 6 - عبارة إنه كان توابا تبين علة الاستغفار. أي استغفره وتب إليه لأنه سبحانه تواب. وقد تكون العبارة تستهدف تعليم المسلمين العفو، فكما إن الله تواب كذلك أنتم ينبغي أن تقبلوا توبة المذنبين بعد الانتصار ما أمكنكم ذلك. وأن لا تطردوهم ما داموا منصرفين عن المخالفة والتآمر. ولذلك اتخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في فتح مكة - كما سنرى - موقف الرحمة والرأفة مقابل الأعداء الحقودين. التسبيح والحمد والاستغفار دأب كل الأنبياء الكرام عند تحقق النصر. يوسف (عليه السلام) حين جلس على سرير الحكم في مصر وعاد إليه والداه واخوته بعد فراق طويل قال: رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما والحقني بالصالحين. (1) وعندما حضر عرش ملكة سبأ أمام سليمان (عليه السلام) قال: هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر. (2) * * *
1 - يوسف - الآية 101. 2 - النمل، الآية 40. 525 2 بحث 3 عند فتح مكة: فتح مكة - كما ذكرنا - فتح صفحة جديدة في تاريخ الإسلام، ودحر الأعداء بعد عشرين عاما من المقاومة. وتطهرت أرض الجزيرة العربية من الشرك والأوثان، والإسلام تأهب لدعوة بقية أصقاع العالم. ملخص الواقعة على النحو التالي: بعد صلح الحديبية، عمد المشركون إلى نقض العهد، وإلى خرق بنود وثيقة الصلح، واعتدوا على المتحالفين مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فشكى المتحالفون ذلك إلى الرسول، فقرر النبي أن يهب لحمايتهم. من جهة أخرى، الظروف في مكة - حيث مركز الوثنية والأصنام والشرك والنفاق - توفرت لتطهيرها. وهذه مهمة كان لابد من أدائها في وقت من الأوقات. لذلك استعد النبي للحركة بأمر الله سبحانه صوب مكة. فتح مكة تم في ثلاث مراحل. المرحلة التمهيدية وفيها تم تعبئة القوى اللازمة واختيار الظروف الزمانية المساعدة، وجمع المعلومات الكافية عن العدو، والمرحلة الثانية كانت فتح مكة بأسلوب ماهر خال من التلفات. والمرحلة الأخيرة هي مرحلة عطاء الفتح وآثاره. 1 - هذه المرحلة اتصفت بالدقة المتناهية. ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سيطر على الطريق بين مكة والمدينة سيطرة تامة حتى لا يسرب خبر هذا الاستعداد الإسلامي إلى مكة، ولكي يتم الفتح بشكل مباغت. وهذا أدى إلى فتح مكة دون إراقة دماء تقريبا. انقطاع اخبار المدينة عن مكة كان متقنا، حتى أن نفرا من ضعاف الإيمان اسمه " حاطب بن أبي بلتعة " كتب رسالة إلى قريش يخبر هم بأمر المسلمين في المدينة، وبعثها بيد امرأة من قبيلة " مزينة " اسمها " كفود "، أو " سارة ". فعلم بها
526 النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بطريق إعجازي، وبعث عليا (عليه السلام) إلى المرأة، فوجدها في منزل بين مكة والمدينة. أخذ منها الرسالة وأعادها إلى المدينة، وقد أوردنا قصتها في تفسير الآية الأولى من سورة الممتحنة. النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) استخلف أحد المسلمين على المدينة، وتوجه في العاشر من رمضان سنة ثمان للهجرة إلى مكة، ووصلها بعد عشرة أيام. في الطريق التقى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعمه العباس وهو يهاجر من مكة إلى المدينة. فطلب منه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يرسل متاعه إلى المدينة ويلتحق بالمسلمين، وأخبره بأنه آخر مهاجر. 2 - وصل المسلمون إلى مشارف مكة وعسكروا عند " مر الظهران " على بعد عدة كيلومترات من مكة. وفي الليل أشعلوا نيران كثيرة لإعداد الطعام (ولعلهم فعلوا ذلك لإثبات تواجدهم الواسع). رأى جمع من أهل مكة هذا المنظر فتحيروا. أخبار الزحف الإسلامي كانت لا تزال خافية على قريش في تلك الليلة خرج " أبو سفيان " ومعه عدد من سراة قريش للاستطلاع خارج مكة. وفي نفس الليلة قال العباس عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا سوء صباح قريش. والله لئن باغتها رسول الله في ديارها فدخل مكة عنوة إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر. فاستأذن رسول الله وخرج على بغلته لعله يرى أحدا متجها إلى مكة فيخبرهم بمكان رسول الله فيأتونه فيستأمنونه. وبينما العباس يطوف بأطراف مكة إذ سمع صوت أبي سفيان ومعه القرشيون الذين خرجوا يتجسسون. فقال: أبو سفيان: ما رأيت نيرانا أكثر من هذه! فقال له أحد مرافقيه: هذه نيران خزاعة. فقال أبو سفيان: خزاعة أذل من ذلك. نادى العباس أبا سفيان، فسأله أبو سفيان على الفور: ما وراءك؟ قال العباس: هذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المسلمين أتاكم في عشرة آلاف. قال أبو سفيان: ما تأمرني؟
527 أجابه العباس: تركب معي فأستأمن لك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فوالله لئن ظفر بك ليضربن عنقك. فخرجا يركضان نحو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكلما مرا بنار من نيران المسلمين يقولون: عم رسول الله على بغلة رسول الله. (أي إن المار ليس بغريب). حتى مرا بنار عمر بن الخطاب. فما أن أبصر به عمر حتى قال له: أبو سفيان! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد! دخل العباس وأبو سفيان على رسول الله وتبعهما عمر فدخل أيضا وقال للرسول: يا رسول الله هذا أبو سفيان عدو الله قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد فدعني اضرب عنقه. فقال العباس: يا رسول الله إني قد أجرته. وكثر الكلام بين العباس وعمر فقال رسول الله للعباس: إذهب فقد أمناه حتى تغدو علي به بالغداة. فلما كان من الغد جاء العباس بأبي سفيان إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان! " ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟ ". قال: بلى، بأبي أنت وأمي لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئا. فقال النبي: " ويحك ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ " فقال: بأبي أنت وأمي، أما هذه ففي النفس منها شئ. فقال: له العباس: ويحك تشهد شهادة الحق قبل أن تضرب عنقك! فتشهد. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للعباس: " إذهب فاحبس أبا سفيان عند خطم الجبل بمضيق الوادي حتى تمر عليه جنود الله ". قال العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان يحب الفخر فاجعل له شيئا يكون في قومه. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن... و. من دخل المسجد فهو
528 آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن ". خرج العباس وأجلس أبا سفيان عند خطم الجبل فمرت عليه القبائل، فيقول له العباس: هذه أسلم... هذه جهينة... حتى مر رسول ل الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتيبته الخضراء مع المهاجرين والأنصار متسربلين بالحديد لا يرى منهم إلا حدق عيونهم. فقال: ومن هؤلاء؟ قال العباس: هذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المهاجرين والإنصار. فقال أبو سفيان: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما. قال العباس: ويحك إنها النبوة. فقال: نعم إذن. ثم قال له العباس: الحق بقومك سريعا فحذرهم. فخرج حتى أتى مكة فصرخ في المسجد: يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به. ثم قال: من دخل داري فهو آمن. ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن... وقال: يا معشر قريش أسلموا تسلموا. فأقبلت امرأته هند فأخذت بلحيته وقالت: يا آل غالب اقتلوا هذا الشيخ الأحمق. فقال: أرسلي لحيتي وأقسم لئن أنت لم تسلمي لتضربن عنقك، ادخلي بيتك! فتركته. ثم بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع جيش المسلمين منطقة " ذي طوى " وهي مرتفع يشرف على بيوت مكة. فتذكر الرسول ذلك اليوم الذي خرج فيه مضطرا متخفيا من مكة. وها هو يعود إليها منتصرا، فوضع رأسه تواضعا لله وسجد على رحل ناقته شكرا له سبحانه. ثم ترجل النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في " الحجون " إحدى محلات مكة، وفيها قبر خديجة (عليها السلام)، واغتسل، ثم ركب ثانية بجهاز الحرب ودخل المسجد الحرام وهو
529 يتلو سورة الفتح. ثم كبر وكبر جند الإسلام معه، فدوى صوت التكبير في أرجاء مكة. ثم نزل من ناقته، واقترب من الكعبة، وجعل يسقط الأصنام واحدا بعد الآخر وهو يقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا. وكان عدد من الأصنام قد نصب فوق الكعبة، ولم تصل إليها يد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمر عليا أن يصعد على كتفه المباركة ويرمي بالأصنام فامتثل علي أمر الرسول. ثم أخذ مفاتيح الكعبة، وفتحها ومحا ما كان على جدرانها من صور الأنبياء. 3 - بعد الانتصار الرائع السريع أخذ رسول الله حلقة باب الكعبة، وتوجه إلى أهل مكة وقال لهم: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جيشه أن لا يتعرضوا لأحد، وأن لا يريقوا دم أحد. وأمر فقط بقتل ستة أفراد - حسب الروايات - ممن كانوا خطرين ومتوغلين في عدائهم للإسلام. وحين بلغه أن سعد بن عبادة - وهو أحد حملة ألوية الجيش الإسلامي - يصيح: اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبى الحرمة. أمر عليا (عليه السلام) أن يأخذ منه الراية ويدخل بها مكة دخولا رقيقا ويقول: اليوم يوم المرحمة!! وبهذا الشكل فتحت مكة دون إراقة دماء وكان لعفو الرسول ورحمته الأثر الكبير في القلوب، فدخل الناس في دين الله أفواجا. ودوى خبر الفتح في أرجاء الجزيرة العربية وذاع صيت الإسلام، وتعززت مكانة المسلمين (1). وجاء في كتب التاريخ أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما وصل الكعبة قال: لا إله إلا الله وحده وحده، انجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا إن كل مال أو مأثرة أو دم تدعى فهو تحت قدمي هاتين!... (وبذلك الغى كل مخلفات الجاهلية
1 - بتلخيص عن الكامل لا بن الأثير، ج 2، وتفسير مجمع البيان، تفسير سورة النصر. 530 وطوى جميع ملفاتها). هذا المشروع الإسلامي الجبار اقترن بالعفو العام، لينقل قبائل الجزيرة العربية من ماضيهم المظلم إلى نور الإسلام بعيدا عن كل ألوان الصراع والتخبط الجاهلي. وهذا ساعد كثيرا على انتشار الإسلام وأصبح قدوة لحاضرنا ومستقبلنا. اللهم! إنك قادر أن تعيد للمسلمين عزتهم وعظمتهم في ظل الاقتداء بسنة رسولك المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم). ربنا! اجعلنا في زمرة السائرين الحقيقيين على طريق نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم). إلهنا! وفقنا لإقامة حكومة العدل الاسلامية ونشر رايتها في العالم ليدخل الناس طواعية في دين الله أفواجا. آمين يا رب العالمين نهاية سورة النصر * * *
531 1 سورة 1 تبت 1 مكية 1 وعدد آياتها خمس آيات
532 1 " سورة تبت " 3 محتوى السورة: هذه السورة مكية ونزلت في أوائل الدعوة العلنية. وهي السورة الوحيدة التي تحمل هجوما شديدا بالاسم على أحد أعداء الإسلام والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) آنذاك وهو أبو لهب. ومن السورة يتضح أنه كان يحمل عداء خاصا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويمارس هو وزوجه كل أنواع الأذى بحقه. القرآن يصرح بأنهما أهل جهنم، وليس لهما طريق للنجاة، وتحققت هذه النبوءة القرآنية، وكلاهما مات على الكفر. 3 فضيلة السورة: ورد في فضيلة هذه السورة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من قرأها رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبي لهب في دار واحدة " (1). بديهي أن هذه الفضيلة نصيب من بقراءتها يفصل مسيرته عن مسيرة أبي لهب، لا من يقرأها بلسانه ويعمل عمل أبي لهب في أفعاله. * * *
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 558. 534 2 الآيات تبت يدا أبى لهب وتب (1) ما أغنى عنه ماله وما كسب (2) سيصلى نارا ذات لهب (3) وامرأته حمالة الحطب (4) في جيدها حبل من مسد (5) 2 سبب النزول عن ابن عباس قال: عندما نزلت وانذر عشيرتك الأقربين أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينذر عشيرته ويدعوهم إلى الإسلام (أي أن يعلن دعوته). صعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على جبل الصفا ونادى: " يا صباحاه "! (وهو نداء يطلقه العرب حين يهاجمون بغتة كي يتأهبوا للمواجهة، وإنما اختاروا هذه الكلمة لأن الهجوم المباغت كان يحدث في أول الصبح غالبا). عندما سمع أهل مكة هذا النداء قالوا: من المنادي؟ قيل: محمد. فاقبلوا نحوه، وبدأ ينادي قبائل العرب بأسمائها، ثم قال لهم: أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم، أما كنتم تصدقوني. قالوا: بلى. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبا لك. لهذا دعوتنا جميعا؟! فأنزل الله هذه السورة.
535 وقيل: إن امرأة أبي لهب (واسمها أم جميل) علمت أن هذه السورة نزلت فيها وفي زوجها. جاءت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والنبي لا يراها، حملت حجرا وقالت: سمعت أن محمدا هجاني، قسما لو وجدته لألقمن فمه هذا الحجر. أنا شاعرة أيضا. ثم أنشدت اشعارا في ذم النبي والإسلام (1). خطر أبي لهب وامرأته على الإسلام لم يكن منحصرا فيما ذكرناه. وإذ نرى القرآن يحمل عليهما بشدة ويذمهما بصراحة، فلأسباب أخرى، سنشير إليها فيما بعد. * * * 2 التفسير 3 تبت يدا أبي لهب هذه السورة - كما ذكرنا في سبب نزولها - ترد على بذاءات أبي لهب عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وابن عبد المطلب. وكان من ألد أعداء الإسلام، وحين صدح النبي بدعوته واعلنها على قريش وأنذرهم بالعذاب الإلهي قال: " تبا لك ألهذا دعوتنا جميعا "؟! والقرآن يرد على هذا الإنسان البذئ ويقول له: تبت يدا أبي لهب وتب. " التب " و " الكتاب " يعني الخسران المستمر كما يقول الراغب في مفرداته أو هو الخسران المنتهي بالهلاك كما يقول الطبرسي في مجمع البيان. وبعض اللغويين قال إنه القطع والبتر. وهذا المعنى الأخير هو النتيجة الطبيعية للخسران المستمر المنتهي بالهلاك.
1 - تفسير القرطبي، ج 10، ص 7324 (بتلخيص قليل) والرواية بنفس المضمون ذكرها الطبرسي في مجمع البيان، وابن الأثير في الكامل، ج 2، ص 60 وفي الدر المنثور، وأبي الفتوح الرازي والفخر الرازي، وفي ظلال القرآن، في تفسير هذه السورة. 536 الهلاك والخسران في الآية يمكن أن يكون دنيويا، ويمكن أن يكون معنويا أخرويا، أو كليهما. وهنا يثار تساؤل بشأن سبب ذم هذا الشخص باسمه - وهو خلاف نهج القرآن - وبهذه الشدة. يتضح ذلك لو عرفنا مواقف أبي لهب من الدعوة. اسمه " عبد العزى " وكنيته " أبو لهب " وقيل إنه كني بذلك لحمرة كانت في وجهه. وامرأته " أم جميل " أخت أبي سفيان، وكانت من أشد الناس عداوة وأقذعهم لسانا تجاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته. وفي الرواية عن " طارق المحاربي " قال: بينا أنا بسوق ذي المجاز إذا أنا بشاب يقول: " يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ". وإذا برجل خلفه يرميه قد أرمى ساقيه وعرقوبيه ويقول: يا أيها الناس إنه كذاب فلا تصدقوه. فقلت: من هذا؟ فقالوا هو محمد يزعم أنه نبي. وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب (1). وفي رواية عن " ربيعة بن عباد " قال: كنت مع أبي أنظر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتبع القبائل، ووراءه رجل أحول وضئ الوجه. يقف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على القبيلة فيقول: " يا بني فلان. إني رسول الله إليكم. آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تصدقوني وتمنعوني حتى أنفذ عن الله ما بعثني به ". وإذا فرغ من مقالته قال: الآخر من خلفه: يا بني فلان. هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الجن، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تسمعوا له، ولا تتبعوه. فقلت لأبي: من هذا؟ قال: عمه أبو لهب. (2) وفي رواية أخرى: وكان من عظيم خطر أبي لهب ضد الدعوة الإسلامية أنه
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 559. 2 - في ظلال القرآن، ج 8، ص 697. 537 كلما جاء وفد إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يسألون عنه عمه أبا لهب - اعتبارا بكبره وقرابته وأهميته - كان يقول لهم: إنه ساحر، فيرجعون ولا يلقونه، فأتاه وفد فقالوا: لا ننصرف حتى نراه، فقال: إنا لم نزل نعالجه من الجنون فتبا له وتعسا (1). من هذه الروايات نفهم بوضوح أن أبا لهب كان يتتبع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غالبا كالظل. وما كان يرى سبيلا لإيذائه إلا سلكه. وكان يقذعه بأفظع الألفاظ. ومن هنا كان أشد أعداء الرسول والرسالة. ولذلك جاءت هذه السورة لترد على أبي لهب وامرأته بصراحة وقوة (2). إنه الوحيد الذي لم يوقع على ميثاق حماية بني هاشم للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ووقف في صف الأعداء، واشترك في عهودهم. من كل ما سبق نفهم الوضع الاستثنائي لهذه السورة. ما أغنى عنه ماله وما كسب، فليس أبا مكان أمواله أن تدرأ عنه العذاب الإلهي سيصلى نارا ذات لهب. من الآية الأولى نفهم أنه كان ثريا ينفق أمواله في محاربة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وأبو لهب ناره ذات لهب يصلاها يوم القيامة. وقيل: يصلاها في الدنيا قبل الآخرة. و " لهب " جاءت بصيغة النكرة لتدل على عظمة لهب تلك النار. لا أبا لهب ولا أي واحد من الكافرين والمنحرفين تغنيه أمواله ومكانته الاجتماعية من عذاب الله، كما يقول سبحانه: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. (3) بل لم تغنه في الدنيا من سوء المصير. حيث جاء في الرواية، أن أبا لهب لم يشترك في بدر، بل ارسل من ينوب عنه. وبعد اندحار المشركين وعودتهم إلى مكة، هرع أبو لهب ليسأل أبا سفيان عن الخبر. فأخبره أبو سفيان بالهزيمة وقال:
1 - تفسير الفرقان، ج 30، ص 503. 2 - المصدر السابق. 3 - الشعراء، الآيتان 88 - 89. 538 " وأيم الله ما لمت الناس. لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض... " قال أبو رافع (مولى العباس) وقد كان جالسا: تلك الملائكة. فرفع أبو لهب يده فضرب وجهه ضربة شديدة، ثم حمله وضرب به الأرض، ثم برك عليه يضربه وكان رجلا ضعيفا. وما أن شهدت أم الفضل (زوجة العباس)، وكانت جالسة أيضا، ذلك حتى أخذت عمودا وضربت أبا لهب على رأسه وقالت: تستضعفه إن غاب عنه سيده؟! فقام موليا ذليلا. قال أبو رافع: فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة (مرض يشبه الطاعون) فمات. وقد تركه أبناه ليلتين أو ثلاثة ما يدفنانه حتى أنتن في بيته. فلما عيرهما الناس بذلك أخذ وغسل بالماء قذفا عليه من بعيد، ثم أخذوه فدفنوه بأعلى مكة وقذفوا عليه الحجارة حتى واروه (1). وامرأته حمالة الحطب (2)، في جيدها حبل من مسد. الآيتان تتحدثان عن " أم جميل " امرأة أبي لهب، وأخت أبي سفيان، وعمة معاوية. وتصفانها بأنها تحمل الحطب كثيرا، وفي رقبتها حبل من ليف النخيل. ولماذا وصفها القرآن بأنها حمالة الحطب؟ قيل: لأنها كانت تأخذ الحطب المملوء بالشوك وتضعه على طريق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لتدمي قدماه. وقيل: إنه كناية عن النميمة. وقيل: إنه كناية عن شدة البخل، فهي مع كثرة ثروتها أبت أن تساعد الفقراء وكانت شبيهة بحمال الحطب الفقير.
1 - بحار الأنوار، ج 19، ص 227. 2 - " امرأته " معطوف على ضمير مستتر في " سيصلى " و " حمالة " حال منصوب. وقيل إنها منصوبة بالشتم، كما ذهب إلى ذلك الزمخشري في الكشاف، والتقدير: أذم حمالة الحطب. والمعنى الأول أفضل. 539 وقيل: إنها في الآخرة تحمل أوزارا ثقيلة على ظهرها. وبين هذه المعاني، المعنى الأول أنسب، وإن كان الجمع بينها غير مستبعد أيضا. " الجيد " هو الرقبة، وجمعه أجياد. وقال بعض اللغويين: الجيد والعنق والرقبة لها معنى واحد، مع تفاوت هو إن الجيد أعلى الصدر، والعنق القسم الخلفي من الرقبة، والرقبة لجميعها، وقد يسمى الإنسان بها كقوله سبحانه: فك رقبة أي فك الإنسان وإطلاق سراحه (1). " مسد " هو الحبل المفتول من الألياف. وقيل: حبل يوضع على رقبتها في جهنم، له خشونة الألياف وحرارة النار وثقل الحديد. وقيل: إن نساء الأشراف كن يرين شخصيتهن في وسائل الزينة وخاصة القلادة الثمينة. والله سبحانه يلقي في عنقها يوم القيامة حبل من ليف للإهانة. أو إن التعبير أساسا للتحقير والإهانة. وقيل: إن هذه العبارة تشير إلى أن أم جميل أقسمت أن تنفق ثمن قلادتها الثمينة على طريق معاداة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). ولذلك تقرر لها هذا العذاب. * * * 2 ملاحظات 3 1 - إعجاز آخر علمنا أن هذه الآيات نزلت في مكة والقرآن أخبر بتأكيد كامل أن أبا لهب وامرأته من أهل النار، أي سوف لا يؤمنان أبدا. وهكذا كان كثير من مشركي مكة آمنوا عن إيمان أو عن استسلام. لكن هذين الزوجين لم يؤمنا لا حقيقة
1 - التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج 2، ص 158. 540 ولا ظاهرا. وهذا من أنباء الغيب في القرآن. وفي القرآن الكريم مثل هذه الأخبار في آيات أخرى. وتشكل بمجموعها فصلا من فصول إعجاز القرآن تحت عنوان " الأخبار الغيبية ". وكان لنا بحوث عندها. 3 2 - جواب عن سؤال القرآن أخبر عن أبي لهب بأنه سيصلى النار، أي أنه سيموت كافرا ولن يؤمن أبدا. وبهذا لا يمكن لأبي لهب أن يؤمن لأن نبوءة القرآن ستكون عندئذ كاذبة. وإلا سيكون أبو لهب مجبرا على الكفر. وليس له اختيار؟! مثل هذا السؤال يطرح عن علم الله سبحانه في مبحث الجبر والتفويض. وهو إن الله سبحانه يعلم من الأزل بكل شئ. بطاعة المطيعين ومعصية المذنبين أيضا. ألا يكون العصاة بذلك مجبرين على الذنب؟ وإن لم يكونوا كذلك ألا يتبدل علم الله إلى جهل؟! الفلاسفة الإسلاميون أجابوا عن هذا السؤال منذ القديم وقالوا إن الله سبحانه يعلم ما يفعله كل شخص بالاستفادة من حريته واختياره. ففي هذه الآيات مثلا يعلم الله منذ البداية أن أبا لهب وزوجته سيختاران بإرادتهما وعن رغبتهما طريق الكفر، لا بالإجبار. بعبارة أخرى، عنصر الحرية والاختيار أيضا جزء مما هو معلوم عند الله تعالى. إنه على علم بما يعمله العباد وهم مختارون متمتعون بالإرادة والحرية. ومن المؤكد أن مثل هذا العلم والإخبار عن المستقبل، تأكيد على الاختيار، لا على الإجبار. (تأمل بدقة).
541 3 3 - ليس من أهلك هذه السورة المباركة تؤكد مرة أخرى أن القرابة لا قيمة لها إن لم تكن مقرونة برباط رسالي. وحملة الرسالة الإلهية كانوا لا يلينون أمام المنحرفين والجبابرة والطغاة مهما كانت درجة قربهم منهم. مع أن أبا لهب كان من أقرب أقرباء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد عامله الإسلام مثل سائر المنحرفين والضالين حين فصل مسيرة العقائدي والعملي عن خط التوحيد، ووجه إليه أشد الرد وأحد التوبيخ. وعلى العكس ثمة أفراد بعيدون عن الرسول نسبا وقومية ولغة، كانوا بسبب ارتباطهم الرسالي من القرب من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى قال في أحدهم: " سلمان منا أهل البيت ". (1) صحيح أن آيات هذه السورة توجه التقريع لأبي لهب وزوجه، ولكن كان ذلك لما اتصفا به من صفات. من هنا فإن كل فرد أو جماعة على هذه الصفات سيواجهون مصيرا مشابها أيضا. اللهم! طهر قلوبنا من كل لجاج وعناد! ربنا! كلنا من مصيرنا وجلون، فبفضلك ومنك اجعل عواقب أمورنا خيرا. إلهنا! نحن نعلم أن الأموال والقرابة لا تغني عنا شيئا يوم الفزع الأكبر. فاشملنا برحمتك ولطفك. آمين رب يا العالمين نهاية سورة تبت * * *
1 - أوضحنا هذه المسألة أكثر في تفسير الآية (46) من سورة هود بمناسبة الحديث عن ابن نوح (عليه السلام). 542 1 سورة 1 الإخلاص 1 مكية 1 وعدد آياتها أربع آيات
544 1 " سورة الإخلاص " 3 محتوى السورة: هذه السورة، كما هو واضح من اسمها، (سورة الإخلاص، أو سورة التوحيد) تركز على توحيد الله، وفي أربع آيات قصار تصف التوحيد بشكل جامع لا يحتاج إلى أية إضافة وفي نزول السورة روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " إن اليهود سألوا رسول الله فقالوا: أنسب لنا ربك فلبث ثلاثا لا يجيبهم. ثم نزلت قل هو الله أحد إلى آخرها ". قيل إن السائل عبد الله بن صوريا اليهودي، وقيل: إنه عبد الله بن سلام سأل رسول الله ذلك بمكة ثم آمن وكتم إيمانه. وقيل: إن مشركي مكة سألوه ذلك (1). وقيل إن نصارى نجران هم الذين سألوا النبي ذلك. ولا تضاد بين هذه الروايات، إذ قد يكون هؤلاء جميعا سألوا الرسول نفس هذا السؤال، فكان الجواب لهم جميعا، وهو دليل آخر على عظمة هذه السورة. 3 فضيلة السورة: وردت في فضيلة هذه السورة نصوص كثيرة تدل على مكانة هذه السورة بين سور القرآن من ذلك.
1 - تفسير الميزان، ج 20، ص 390. 546 ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة "؟ قيل: يا رسول الله ومن يطيق ذلك؟ قال: " اقرأوا قل هو الله أحد " (1). وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " إن رسول الله صلى على سعد بن معاذ. فلما صلى عليه قال: لقد وافى من الملائكة سبعون ألف ملك، وفيهم جبرائيل يصلون عليه. فقلت: يا جبرائيل بم استحق صلاتهم عليه؟ قال: بقراءة قل هو الله أحد قاعدا وقائما وراكبا وماشيا وذاهبا وجائيا ". (2) وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضا قال: " من مضى به يوم واحد فصلى فيه الخمس صلوات ولم يقرأ فيها بقل هو الله أحد، قيل له: يا عبد الله لست من المصلين ". (3) وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع أن يقرأ في دبر الفريضة بقل هو الله أحد. فإنه من قرأها جمع له خير الدنيا والآخرة وغفر الله له ولوالديه وما ولدا ". ويستفاد من روايات أخرى أن قراءة هذه السورة عند دخول البيت تزيد الرزق وتدفع الفقر (4). والروايات في فضيلة هذه السورة أكثر من أن تستوعبها هذه السطور، وما نقلناه جزء يسير منها. ولكن كيف تعادل قل هو الله أحد ثلث القرآن؟ قيل: لأن القرآن يشمل " الأحكام " و " العقائد " و " التاريخ ". وهذه السورة
1 - نور الثقلين، ج 5، ص 705، الحديث 42، نقلا عن مجمع البيان. 2 - المصدر السابق، ص 700، الحديث 12، نقلا عن كتاب ثواب الأعمال. 3 - المصدر السابق، ص 699، الحديث 1. 4 - مجمع البيان، ج 10، ص 561، وكتب الحديث والتفسير الأخرى. 547 تبين قسم العقائد بشكل مقتضب. وقيل: إن القرآن على ثلاثة أقسام: المبدأ، والمعاد، وما بينهما. وهذه السورة تشرح القسم الأول. وواضح أن ثلث موضوعات القرآن تقريبا تدور حول التوحيد. وجاءت عصارتها في هذه السورة. ونختتم حديثنا برواية أخرى عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) حول عظمة هذه السورة قال: " إن الله عز وجل علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون، فأنزل الله تعالى: قل هو الله أحد. والآيات من سورة الحديد إلى قوله تعالى: وهو عليم بذات الصدور فمن رام وراء ذلك فقد هلك " (1). * * *
1 - أصول الكافي، ج 1، باب النسبة، الحديث 3. 548 2 الآيات قل هو الله أحد (1) الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفوا أحد (4) 2 التفسير 3 أحد - صمد: جوابا عن الأسئلة المكررة التي طرحت من قبل الأفراد والجماعات بشأن أوصاف الله سبحانه تقول الآية: قل هو الله أحد. (1) الضمير (هو) في الآية للمفرد الغائب ويحكي عن مفهوم مبهم، وهو في الواقع يرمز إلى أن ذاته المقدسة في نهاية الخفاء، ولا تنالها أفكار الإنسان المحدودة وإن كانت آثاره أظهر من أي شئ آخر، كما ورد في قوله تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق. (2)
1 - قيل " هو " في الآية ضمير الشأن، والله مبتدأ. والأفضل أن نعتبر " هو " إشارة إلى ذاته المقدسة، وقد كانت مجهولة لدى السائل، وتكون بذلك " هو " مبتدأ و " الله " خبرا و " أحد " خبر بعد الخبر. 2 - فصلت، الآية 53. 549 ثم بعد الضمير تكشف الآية عن هذه الحقيقة الغامضة وتقول: الله أحد. وقل في الآية تعني أن أظهر هذه الحقيقة وبينها. عن الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) قال بعد بيان معنى " قل " في الآية (وهو الذي ذكرناه): " إن الكفار نبهوا عن آلهتهم بحرف إشارة الشاهد المدرك. فقالوا: هذه آلهتنا المحسوسة المدركة بالأبصار. فأشر أنت يا محمد إلى إلهك الذي تدعو إليه حتى نراه وندركه ولا نأله فيه. فأنزل الله تبارك وتعالى: قل هو الله أحد، فالهاء تثبيت للثابت، والواو إشارة إلى الغائب عن درك الأبصار ولمس الحواس ". (1) وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قال: " رأيت الخضر (عليه السلام) في المنام قبل بدر بليلة، فقلت له: علمني شيئا أنصر به على الأعداء. فقال: قل: يا هو، يا من لا هو إلا هو. فلما أصبحت قصصتها على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لي: يا علي علمت الاسم الأعظم ". (2) وكان علي (عليه السلام) يذكر الله تعالى بهذا الذكر يوم صفين. فقال له عمار بن ياسر: يا أمير المؤمنين ما هذه الكنايات؟ قال: " اسم الله الأعظم وعماد التوحيد... ". (3) " الله " اسم علم للباري سبحانه وتعالى. ومفهوم كلام الإمام علي (عليه السلام) أن جميع صفات الجلال والجمال الإلهية أشير إليها بهذه الكلمة. ومن هنا سميت باسم الله الأعظم. هذا الاسم لا يطلق على غير الله، بينما أسماء الله الأخرى تشير عادة إلى واحدة من صفات جماله وجلاله مثل: العالم والخالق والرازق، وتطلق غالبا على غيره أيضا مثل: (رحيم، وكريم، وعالم، وقادر...).
1 - بحار الأنوار، ج 3، ص 221، الحديث 12. بتلخيص. 2 - المصدر السابق. 3 - المصدر السابق. 550 ولفظ الجلالة مشتق من معنى وصفي. قيل من " وله " أي تحير، لأن العقول تحير في ذاته المقدسة. وفي ذلك ورد عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قال: " الله معناه المعبود الذي يأله فيه الخلق، ويؤله إليه، والله هو المستور عن درك الأبصار، المحجوب عن الأوهام والخطرات ". (1) وقيل: إن لفظ الجلالة مشتق من " آله " بمعنى عبد، والإله: هو المعبود. حذفت همزته وادخل عليه الألف واللام فخص بالباري تعالى. ومهما يكن الأصل المشتق منه لفظ الجلالة، فهو اسم يختص به سبحانه ويعني الذات الجامعة لكل الأوصاف الكمالية، والخالية من كل عيب ونقص. هذا الاسم المقدس تكرر ما يقارب من " ألف مرة " في القرآن الكريم، ولم يبلغه أي اسم من الأسماء المقدسة في مقدار تكراره. وهو اسم ينير القلب، ويبعث في الإنسان الطاقة والطمأنينة، ويغمر وجوده صفاء ونور. " أحد ": من الواحدة، ولذلك قال بعضهم: أحد وواحد بمعنى واحد، وهو المتفرد الذي لا نظير له في العلم والقدرة والرحمانية والرحيمية، وفي كل الجهات. وقيل: إن بين " أحد " و " واحد " فرق هو إن " أحد " تطلق على الذات التي لا تقبل الكثرة لا في الخارج ولا في الذهن. ولذلك لا تقبل العد ولا تدخل في زمرة الأعداد، خلافا للواحد الذي له ثان وثالث، في الخارج أو في الذهن. ولذلك نقول: لم يأت أحد. للدلالة على عدم مجئ أي إنسان. وإذا قلنا: لم يأت واحد فمن الممكن أن يكون قد جاء اثنان أو أكثر. (2) ولكن هذا الاختلاف لا ينسجم كثيرا مع ما جاء في القرآن الكريم والروايات. وقيل: في " أحد " إشارة إلى بساطة ذات الله مقابل الأجزاء التركيبية
1 - المصدر السابق. 2 - الميزان، ج 20، ص 543. 551 الخارجية أو العقلية (الجنس، الفصل، والماهية، والوجود). بينما الواحد إشارة إلى وحدة ذاته مقابل أنواع الكثرة الخارجية. وفي رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: " الأحد المتفرد، والأحد والواحد بمعنى واحد، وهو المتفرد الذي لا نظير له، والتوحيد الإقرار بالوحدة وهو الانفراد ". وفي ذيل الرواية هذه جاء " إن بناء العدد من الواحد، وليس الواحد من العدد. لأن العدد لا يقع على الواحد بل يقع على الاثنين. فمعنى قوله: الله أحد. أي المعبود الذي يأله الخلق عن إدراكه والإحاطة بكيفيته، فرد بإلهيته، متعال عن صفات خلقه ". (1) وفي القرآن الكريم " واحد " و " أحد " تطلقان معا على ذات الله سبحانه. ومن الرائع في هذا المجال ما جاء في كتاب التوحيد للصدوق: أن أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين، أتقول: إن الله واحد؟ فحمل الناس عليه وقالوا: يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب (أي تشتت الخاطر)؟ فقال: أمير المؤمنين (عليه السلام): " دعوه فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم. ثم قال: يا أعرابي، إن القول في أن الله واحد على أربعة أقسام. فوجهان منها لا يجوزان على الله عز وجل، ووجهان يثبتان فيه. فأما اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد فهذا ما لا يجوز، لأن ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد. أما ترى أنه كفر من قال إنه ثالث ثلاثة؟ وقول القائل: هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس، فهذا ما لا يجوز (قوله على الله) لأنه تشبيه، وجل ربنا وتعالى عن ذلك. وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه، فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربنا. وقول القائل: إنه عز وجل أحدي المعنى، يعني به أنه لا ينقسم في
1 - بحار الأنوار، ج 3، ص 222. 552 وجود ولا عقل ولا وهم، كذلك ربنا عز وجل " (1). وباختصار: الله أحد وواحد لا بمعنى الواحد العددي أو النوعي أو الجنسي بل بمعنى الوحدة الذاتية. بعبارة أوضح: وحدانيته تعني عدم وجود المثل والشبيه والنظير. الدليل على ذلك واضح: فهو ذات غير متناهية من كل جهة، ومن المسلم أنه لا يمكن تصور ذاتين غير متناهيتين من كل جهة. إذ لو كان ثمة ذاتان، لكانت كلتاهما محدودتين، ولما كان لكل واحدة منهما كمالات الأخرى. (تأمل بدقة). الله الصمد وهو وصف اخر لذاته المقدسة. وذكر المفسرون واللغويون معاني كثيرة لكلمة " صمد ". الراغب في المفردات يقول: الصمد، هو السيد الذي يصمد إليه في الأمر، أي يقصد إليه. وقيل: الصمد الذي ليس بأجوف. وفي معجم مقاييس اللغة، الصمد له أصلان: أحدهما القصد، والآخر: الصلابة في الشئ... والله جل ثناؤه الصمد، لأنه يصمد إليه عباده بالدعاء والطلب (2). وقد يكون هذان الأصلان اللغويان هما أساس ما ذكر من معاني لصمد مثل: الكبير الذي هو في منتهى العظمة، ومن يقصد إليه الناس بحوائجهم، ومن لا يوجد أسمى منه، ومن هو باق بعد فناء الخلق. وعن الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) أنه ذكر لكلمة " صمد " خمسة معان هي: الصمد: الذي لا جوف له. الصمد: الذي قد انتهى سؤدده (أي في غاية السؤدد) الصمد: الذي لا يأكل ولا يشرب.
1 - بحار الأنوار، ج 3، ص 206، الحديث 1. 2 - معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، ج 3، ص 39. 553 الصمد: الذي لا ينام. الصمد: الذي لم يزل ولا يزال. وعن محمد بن الحنفية (رض) قال: الصمد القائم بنفسه الغني عن غيره. وقال غيره: الصمد، المتعالي عن الكون والفساد (1). وعن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) قال: " الصمد الذي لا شريك له، ولا يؤوده حفظ شئ، ولا يعزب عنه شئ. (أي لا يثقل عليه حفظ شئ ولا يخفى عنه شئ) " (2). وذهب بعضهم إلى أن " الصمد " هو الذي يقول للشئ كن فيكون. وفي الرواية أن أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن علي (عليه السلام) يسألونه عن الصمد. فكتب إليهم: " بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فلا تخوضوا في القرآن، ولا تجادلوا فيه، ولا تتكلموا فيه بغير علم. فقد سمعت جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار، وأنه سبحانه قد فسر الصمد فقال: الله أحد، الله الصمد، ثم فسره فقال: لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد... " (3). وعن ابن الحنفية قال: قال علي (عليه السلام) تأويل الصمد: " لا اسم ولا جسم، ولا مثل ولا شبه، ولا صورة ولا تمثال، ولا حد ولا حدود، ولا موضع ولا مكان، ولا كيف ولا أين، ولا هنا ولا ثمة، ولا ملأ ولا خلأ، ولا قيام ولا قعود، ولا سكون ولا حركة، ولا ظلماني ولا نوراني، ولا روحاني ولا نفساني، ولا يخلو منه موضع ولا يسعه موضع، ولا على لون، ولا على خطر قلب، ولا على شم رائحة، منفي عنه
1 - بحار الأنوار، ج 3، ص 223. 2 - المصدر السابق. 3 - مجمع البيان، ج 10، ص 565. 554 هذه الأشياء ". (1) هذه الرواية توضح أن " الصمد " له مفهوم واسع ينفي كل صفات المخلوقين عن ساحته المقدسة، لأن الأسماء المشخصة والمحدودة وكذلك الجسمية واللون والرائحة والمكان والسكون والحركة والكيفية والحد والحدود وأمثالها كلها من صفات الممكنات والمخلوقات، بل من أوصاف عالم المادة، والله سبحانه منزه منها جميعا. في العلوم الحديثة اتضح أن كل مادة في العالم تتكون من ذرات. وكل ذرة تتكون من نواة تدور حولها الإلكترونات. وبين النواة والإلكترونات مسافة كبيرة نسبيا. ولو أزيلت هذه الفواصل لصغر حجم الأجسام إلى حد كبير مدهش. ولو أزيلت الفواصل الذرية في مواد جسم الإنسان مثلا، وكثفت هذه المواد، لصغر جسم الإنسان إلى درجة عدم إمكان رؤيته بالعين المجردة، مع احتفاظه بالوزن الأصلي!!. وبعضهم استفاد من هذه الحقائق العلمية ليستنتج أن الآية تنفي عن الله كل ألوان الجسمانية، لأن واحدا من معاني " الصمد " هو الذي لا جوف له، ولما كانت كل الأجسام تتكون من ذرات، والذرات جوفاء، فالصمد نفي الجسمية عن رب العالمين. وبذلك تكون الآية من المعاجز العلمية في القرآن. ولكن، يجب أن لا ننسى المعنى الأصلي لكلمة " صمد " وهو السيد الذي يقصده الناس بحوائجهم، وهو كامل ومملوء من كل الجهات، وبقية المعاني والتفاسير الأخرى المذكورة للكلمة قد تعدو إلى نفس هذا المعنى. الآية التالية ترد على معتقدات اليهود والنصارى ومشركي العرب وتقول: لم يلد ولم يولد.
1 - بحار الأنوار، ج 3، ص 230.، الحديث 21. 555 إنها ترد على المؤمنين بالتثليث (الرب الأب، والرب الابن، وروح القدس). النصارى تعتقد أن المسيح ابن الله، واليهود ذهبت إلى أن العزير ابن الله: وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون (1). ومشركو العرب كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله: وخرقوا له بنين وبنات بغير علم (2). ويستفاد من بعض الروايات أن الولادة في قوله: لم يلد ولم يولد لها معنى واسع يشمل كل أنواع خروج الأشياء المادية واللطيفة منه، أو خروج ذاته المقدسة من أشياء مادية أو لطيفة. وفي نفس الرسالة التي كتبها الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) إلى أهل البصرة يجيبهم عن تساؤلهم بشأن معنى الصمد قال في تفسير: لم يلد ولم يولد: " لم يلد لم يخرج منه شئ كثيف كالولد وسائر الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين، ولا شئ لطيف كالنفس، ولا يتشعب منه البداوات (الحالات المختلفة) كالسنة والنوم، والخطرة والهم، والحزن والبهجة، والضحك والبكاء، والخوف والرجاء، والرغبة والسأمة، والجوع والشبع، تعالى أن يخرج منه شئ، وأن يتولد منه شئ كثيف أو لطيف، ولم يولد لم يتولد من شئ، ولم يخرج من شئ كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها كالشئ من الشئ والدابة من الدابة، والنبات من الأرض، والماء من الينابيع، والثمار من الأشجار، ولا كما تخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها، كالبصر من العين، والسمع من الاذن، والشم من الأنف، والذوق من الفم، والكلام من اللسان، والمعرفة والتمييز من القلب،
1 - التوبة، الآية 30. 2 - الأنعام، الآية 100. 556 وكالنار من الحجر... " (1). بناء على هذه الرواية، للتولد معنى واسع يشمل خروج وتفرع كل شئ من شئ، وهذا في الحقيقة المعنى الثاني للآية. ومعناها الأول هو المعنى الظاهر الذي ينفي أن يكون الباري سبحانه من أب أو أن يكون له ابن أضف إلى ذلك، المعنى الثاني قابل للفهم عند تحليل المعنى الأول. لأن الله سبحانه إنما لم يكن له ولد لأنه منزه عن عوارض المادة، وهذا المعنى يصدق بشأن سائر عوارض المادة الأخرى. ثم تبلغ الآية الأخيرة غاية الكمال في أوصاف الله تعالى. ولم يكن له كفوا أحد (2) أي ليس له شبيه ومثل اطلاقا. " الكفؤ ": هو الكفء في المقام والمنزلة والقدر. ثم أطلقت الكلمة على كل شبيه ومثيل. استنادا إلى هذه الآية، الله سبحانه منزه عن عوارض المخلوقين وصفات الموجودات وكل نقص ومحدودية. وهذا هو التوحيد الذاتي والصفاتي، مقابل التوحيد العددي والنوعي الذي جاء في بداية تفسير هذه السورة. من هنا فهو تبارك وتعالى لا شبيه له في ذاته، ولا نظير له في صفاته، ولا مثيل له في أفعاله، وهو متفرد لا نظير له من كل الجهات. أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يقول في إحدى خطب نهج البلاغة: " لم يلد فيكون مولودا، ولم يولد فيصير محدودا... ولا كف ء له فيكافئه، ولا نظير له فيساويه " (3). هذا التفسير الرائع يكشف عن أسمى معاني التوحيد وأدقها.
1 - بحار الأنوار، ج 3، ص 224. 2 - " أحد " اسم كان و " كفوا " خبرها. 3 - نهج البلاغة، الخطبة 186. 557 سلا الله عليك يا أمير المؤمنين. * * * 2 بحوث 3 الأول: التوحيد التوحيد، يعني وحدانية ذات الله تعالى ونفي أي شبيه ومثيل له. وإضافة إلى الدليل النقلي المتمثل في النصوص الدينية ثمة دلائل عقلية كثيرة أيضا تثبت ذلك نذكر قسما منها باختصار: 1 - برهان صرف الوجود: وملخصه أن الله سبحانه وجود مطلق لا يحده قيد ولا شرط، ومثل هذا الوجود سيكون غير محدود دون شك، فلو كان محدودا لمني بالعدم، والذات المقدسة التي ينطلق منها الوجود لا يمكن أن يعترضها العدم والفناء، وليس في الخارج شئ يفرض عليه العدم، ولذلك لا يحده حد. من جهة أخرى لا يمكن تصور وجودين غير محدودين في العالم. إذ لو كان ثمة وجودان لكان كل واحد منهما فاقدا حتما لكمالات الآخر، أي لا يملك كمالاته ومن هنا فكلاهما محدودان. وهذا دليل واضح على وحدانية ذات واجب الوجود (تأمل بدقة) 2 - البرهان العلمي: عندما ننظر إلى الكون الذي يحيط بنا، نلاحظ في البداية موجودات متفرقة... الأرض والسماء والشمس والقمر والنجوم وأنواع النباتات والحيوانات. وكلما ازددنا إمعانا في النظر ألفينا مزيدا من الترابط والانسجام بين أجزاء هذا العالم وذراته، وظهر لنا أنه مجموعة واحدة تتحكم فيها جميعا قوانين واحدة. ومهما تقدم العلم البشري اكتشف مزيدا من ظواهر وحدة أجزاء هذا العالم
558 وانسجامها، حتى أن ظاهرة بسيطة (مثل سقوط تفاحة من الشجرة) يؤدي إلى اكتشاف قانون عام يحكم كل أجزاء الكون. (مثل قانون الجاذبية الذي اكتشفه نيوتن). هذه الوحدة في نظام الوجود، والقوانين الحاكمة عليه، والانسجام التام بين أجزائه كلها ظواهر تشهد على وحدانية الخالق. 3 - برهان التمانع: (الدليل العلمي الفلسفي)، وهو دليل آخر على إثبات وحدانية الله، مستلهم من قوله سبحانه: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان رب العرش عما يصفون (1). توضيح هذا الدليل جاء في المجلد 10 الصفحة 145 من هذا التفسير تحت عنوان: برهان التمانع. 4 - دعوة الأنبياء إلى الله الواحد الأحد: وهو دليل آخر على وحدانية الله، إذ لو كان هناك خالقان كل واحد منهما واجب الوجود في العالم، لاستلزم أن يكون كل واحد منهما منبعا للفيض. فلا يمكن لوجود ذي كمال مطلق أن يبخل في الإفاضة لأن عدم الفيض نقص بالنسبة للوجود الكامل. وحكمته تستوجب أن يشمل الجميع بفيضه. وهذا الفيض له نوعان: فيض تكويني (في عالم الخلقة)، وفيض تشريعي (في عالم الهداية). من هنا لو كان هناك آلهة متعددة لوجب أن يأتي مبعوثون منهم جميعا، ليواصلوا فيضهم التشريعي إلى الناس. أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يقول لابنه الحسن (عليه السلام) وهو يوصيه: " واعلم يا بني أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنه إله واحد كما وصف نفسه ". (2)
1 - الأنبياء، الآية 22. 2 - نهج البلاغة، وصيته لابنه المجتبى (قسم الرسائل، الرسالة 31). 559 هذه كلها دلائل وحدانية ذاته. أما الدليل على عدم وجود أي تركيب وأجزاء في ذاته المقدسة فواضح، إذ لو كان له أجزاء خارجية لكان محتاجا إليها طبعا. والاحتياج لا يعقل لواجب الوجود. وإذا كان المقصود أجزاء عقلية (التركيب من الماهية والوجود، أو من الجنس والفصل) فهو محال أيضا. لأن التركيب من الماهية والوجود فرع لمحدودية الموجود. بينما وجوده سبحانه غير محدود. والتركيب من الجنس والفصل فرع من أن يكون للموجود ماهية. وما لا ماهية له، ليس له جنس ولا فصل. 3 الثاني: فروع دوحة التوحيد تذكر للتوحيد عادة أربعة فروع: 1 - توحيد الذات: (وهو ما شرحناه أعلاه). 2 - توحيد الصفات: أي إن صفاته لا تنفصل عن ذاته، ولا تنفصل عن بعضها. على سبيل المثال العلم والقدرة في الإنسان عارضان على ذاته. ذاته شئ، وعلمه وقدرته شئ آخر. كما إن علمه وقدرته منفصلان عن بعضهما. مركز العلم روح الإنسان، ومركز قدرته الجسمية دراعه وعضلاته. لكن صفات الله ليست زائدة على ذاته، وليست منفصلة عن بعضها. بل هو وجود كله علم، وكله قدرة، وكله أزلية وأبدية. ولو لم يكن ذلك لاستلزم التركيب، وإن كان مركبا لاحتاج إلى الأجزاء والمحتاج لا يكون واجبا للوجود. 3 - التوحيد الأفعالي: ويعني أن كل وجود وكل حركة وكل فعل في العالم يعود إلى ذاته المقدسة، فهو مسبب الأسباب وعلة العلل. حتى الأفعال التي تصدر منا هي في أحد المعاني صادرة عنه. فهو الذي منحنا القدرة والاختيار وحرية الإرادة. ومع أننا نفعل الأفعال بأنفسنا، وأننا مسؤولون تجاهها. فالفاعل
560 من جهة هو الله سبحانه لأن كل ما عندنا يعود إليه: (لا مؤثر في الوجود إلا الله). 4 - التوحيد في العبادة: أي تجب عبادته وحده دون سواه، ولا يستحق العبادة غيره. لأن العبادة يجب أن تكون لمن هو كمال مطلق. ومطلق الكمال، لمن هو غني عن الآخرين، ولمن هو واهب النعم وخالق كل الموجودات وهذه صفات لا تجتمع إلا في ذات الله سبحانه. الهدف الأصلي للعبادة هو الإقتراب من ذلك الكمال المطلق، والوجود اللامتناهي، هو السعي لإنارة النفس بقبس من صفات كماله وجماله... وينتج عن ذلك الابتعاد عن الأهواء والشهوات والاتجاه نحو بناء النفس وتهذيبها. هذا الهدف لا يتحقق إلا بعبادة الله، وهو الكمال المطلق. 3 الثالث: التوحيد الأفعالي توحيد الأفعال له بدوره فروع كثيرة نشير إلى ستة من أهمها: 3 1 - توحيد الخالقية والقرآن الكريم يقول: قل الله خالق كل شئ (1). ودليله واضح، فحين ثبت بالأدلة السابقة أن واجب الوجود واحد، وكل ما عداه ممكن الوجود، يترتب على ذلك أن خالق كل الموجودات واحد أيضا. 3 2 - توحيد الربوبية أي إن الله وحده هو مدبر العالم ومربيه ومنظمه. كما جاء في قوله تعالى: قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شئ. (2) دليل ذلك أيضا وحدة واجب الوجود، وتوحيد الخالق في عالم الكون.
1 - الرعد، الآية 160. 2 - الأنعام، الآية 164. 561 3 3 - التوحيد في التقنين والتشريع يقول سبحانه: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (1). لما ثبت أنه سبحانه هو المدير والمدبر، فليس لأحد غيره حتما صلاحية التقنين. إذ لا سهم لغيره في تدبير العالم كي يستطيع أن يضع قوانين منسجمة مع نظام التكوين. 3 4 - التوحيد في المالكية سواء " الملكية الحقيقية " أي السلطة التكوينية على الشئ، أم " الملكية الحقوقية " وهي السلطة القانونية على الشئ، فهي له سبحانه، كما يقول في كتابه العزيز: ولله ملك السماوات والأرض (2) ويقول سبحانه: وانفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه (3). والدليل على ذلك هو نفس الدليل على توحيد الخالقية، وحين يكون هو سبحانه خالق كل شئ فهو مالك كل شئ أيضا. فكل ملكية يجب أن تستمد وجودها من مالكيته. 3 5 - توحيد الحاكمية لابد للمجتمع البشري من حكومة، لأن الحياة الاجتماعية تتطلب ذلك، فلا يمكن بدون حكومة أن تقسم المسؤوليات، وتنظم المشاريع، ويحال دون التعدي والتجاوز. ومن جهة أخرى، مبدأ الحرية يقرر أن لا أحد له حق الحكومة على أحد، إلا
1 - المائدة، الآية 44. 2 - آل عمران، الآية 189. 3 - الحديد، الآية 7. 562 إذا سمح بذلك المالك الأصلي والصاحب الحقيقي. من هنا فالإسلام يرفض كل حكومة لا تنتهي إلى الحكومة الإلهية ومن هنا أيضا نرى شرعية الحكم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وللأئمة المعصومين (عليه السلام) ثم للفقيه الجامع للشرائط بعدهم. ومن الممكن أن يجيز الناس أحدا ليحكمهم. ولكن اتفاق الناس بأجمعهم غير ممكن في مجتمع عادة، ولذلك لا يمكن إقامة مثل هذه الحكومة عمليا. (1) جدير بالذكر أن توحيد الربوبية يرتبط بعالم التكوين، وتوحيد التقنين يرتبط بعالم التشريع. يقول سبحانه: إن الحكم إلا لله (2). 3 6 - توحيد الطاعة الله سبحانه هو وحده " واجب الإطاعة " في هذا الكون. وهو تعالى مصدر مشروعية إطاعة غيره. أي إن إطاعة غيره يجب أن تعد إطاعة له. دليل ذلك واضح أيضا، حين تكون الحاكمية له دون سواه فيجب أن يكون هو المطاع دون غيره، ولذلك نحن نعتبر إطاعتنا للأنبياء (عليهم السلام) والأئمة المعصومين ومن ينوب عنهم هي انعكاس عن طاعتنا لله. يقول تعالى: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم (3). ويقول سبحانه: من يطع الرسول فقد أطاع الله (4). كل واحد من المواضيع المذكورة أعلاه تحتاج إلى شرح وتفصيل، ونحن نكتفي بهذه الخلاصة كي لا نخرج عن إطار هذا التفسير.
1 - لذلك إذا تعينت حكومة عن طريق الانتخابات وبأكثرية الأصوات، فلابد من تنفيذ الفقيه الجامع للشرائط كي تكون لها شرعية إلهية. 2 - الأنعام، الآية 57. 3 - النساء، الآية 59. 4 - النساء، الآية 80. 563 إلهي! ثبت أقدامنا على خط التوحيد ما حيينا. ربنا! فروع الشرك مثل فروع التوحيد كثيرة ولا نجاة لنا من الشرك إلا بلطفك، فاشملنا بفضلك. إلهنا! اجعل حياتنا مع التوحيد، ومماتنا مع التوحيد، واحشرنا مع حقيقة التوحيد. آمين يا رب العالمين نهاية سورة الإخلاص * * *
564 1 سورة 1 الفلق 1 مكية 1 وعدد آياتها خمس آيات
566 1 " سورة الفلق " 3 محتوى السورة: قيل: أنها مكية، وبعض المفسرين قال إنها مدنية. تتضمن السورة تعاليم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة، وللناس عامة تقضي أن يستعيذوا بالله من شر كل الأشرار، وأن يوكلوا أمرهم إليه، ويأمنوا من كل شر في اللجوء إليه. وبشأن نزول السورة ذكرت الرواية المنقولة في أغلب كتب التفسير أن النبي أصيب بسحر بعض اليهود، ومرض على أثر ذلك فنزل جبرائيل وأخبره أن آلة السحر موجودة في بئر. فأرسل من يخرجها، ثم تلا هذه السورة، وتحسنت صحته. المرحوم الطبرسي ومحققون آخرون شككوا في هذه الرواية التي ينتهي سندها إلى عائشة وابن عباس لما يلي: أولا: السورة كما هو مشهور مكية ولحنها مثل لحن السور المكية، والنبي جابه اليهود في المدينة وهذا يدل على عدم أصالة الرواية. ثانيا: لو كان اليهود بمقدورهم أن يفصلوا بسحرهم ما فعلوه بالنبي حسب الرواية لاستطاعوا أن يصدوه عن أهدافه بسهولة عن طريق السحر، والله سبحانه قد حفظ نبيه كي يؤدي مهام النبوة والرسالة. ثالثا: لو كان السحر يفعل بجسم النبي ما فعله لأمكن أن يؤثر في روحه أيضا، وتكون أفكاره بذلك لعبة بيد السحرة، وهذا يزلزل مبدأ الثقة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والقرآن الكريم يرد على أولئك الذين اتهموا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه مسحور إذ قال:
568 وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا (1). " مسحور " في الآية تشمل من أصيب بسحر في عقله أو في جسمه، وهي دليل على ما نذهب إليه. على أي حال لا يجوز أن نمس من قداسة مقام النبوة بهذه الروايات المشكوكة، أو أن نعتمد عليها في فهم الآيات. 3 فضيلة السورة: روي في فضيلة هذه السورة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " أنزلت علي آيات لم ينزل مثلهن: المعوذتان " (2). وعن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) قال: " من أوتر بالمعوذتين وقل هو الله أحد قيل له: يا عبد الله أبشر فقد قبل الله وترك " (3). وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لأحد أصحابه: " ألا أعلمك سورتين هما أفضل سور القرآن، أو من أفضل القرآن؟ قلت: بلى يا رسول الله. فعلمني المعوذتين. ثم قرأ بهما في صلاة الغداة، وقال لي إقرأهما كلما قمت ونمت ". (4) واضح أن هذه الفضيلة نصيب من جعل روحه وعقيدته وعمله منسجما مع محتوى السورة. * * *
1 - الفرقان، الآيتان 8 و 9. 2 - نور الثقلين، ج 5، ص 716، ومجمع البيان، ج 10، ص 567. 3 - المصدر السابق. 4 - المصدر السابق. 569 2 الآيات قل أعوذ برب الفلق (1) من شر ما خلق (2) ومن شر غاسق إذا وقب (3) ومن شر النفاثات في العقد (4) ومن شر حاسد إذا حسد (5) 2 التفسير 3 برب الفلق أعوذ: يخاطب الله سبحانه نبيه باعتباره الأسوة والقدوة، ويقول له: قل أعوذ برب الفلق، من شر ما خلق " الفلق ": من فلق أي شق وفصل، وسمي طلوع الصبح بالفلق لأن ضوء الصبح يشق ظلمة الليل، ومثله الفجر، اطلق على طلوع الصبح لنفس المناسبة. وقيل: إن الفلق يعني ولادة كل الموجودات الحية، بشرية كانت أم حيوانية أم نباتية. فولادة هذه الموجودات تقترن بفلق حبتها أو بيضتها. والولادة من أعجب مراحل وجود هذه الأحياء، لأنها تشكل طفرة في مراحل وجودها، وانتقالا من عالم إلى عالم آخر. يقول سبحانه: إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من
570 الميت ويخرج الميت من الحي (1). وقيل: إن الفلق له معنى واسع يشمل كل خلق، لأن الخلق، هو شق ستار العدم ليسطع نور الوجود. وكل واحد من هذه المعاني الثلاثة (طلوع الصبح - وولادة الموجودات الحية - وخلق كل موجود) ظاهرة عجيبة تدل على عظمة الباري والخالق والمدبر، ووصف الله بذلك له مفهوم عميق. في بعض الروايات جاء أن الفلق بئر عظيم في جهنم تبدو وكأنها شق في داخلها. وقد تكون الرواية إشارة إلى أحد مصاديقها لا أن تحد المفهوم الواسع لكلمة " الفلق ". من شر ما خلق... من كل موجود شرير من الإنس والجن والحيوان وحوادث الشر والنفس الأمارة بالسوء، وهذا لا يعني أن الخلق الإلهي ينطوي في ذاته على شر، لأن الخلق هو الإيجاد، والإيجاد خير محض. يقول سبحانه: الذي أحسن كل شئ خلقه (2). بل الشر يعرض المخلوقات حين تنحرف عن قوانين الخلقة، وتنسلخ عن المسير المعين لها. على سبيل المثال، أنياب الحيوانات وسيلة دفاعية تستخدمها أمام الأعداء، كما نستخدم نحن السلاح للدفاع مقابل العدو. لو أن هذا السلاح استخدم في محله فهو خير، وإن لم يستعمل في محله كأن صوب تجاه صديق فهو شر. جدير بالذكر أن كثيرا من الأمور نحسبها شرا وفي باطنها خير كثير، مثل الحوادث والبلايا التي تنفض عن الإنسان غبار الغفلة وتدفعه إلى التوجه نحو الله هذه ليس من الشر حتما.
1 - الأنعام، الآية 95. 2 - ألم السجدة، الآية 7. 571 ومن شر غاسق إذا وقب. " غاسق ": من الغسق، وهو - كما يقول الراغب في المفردات - شدة ظلمة الليل في منتصفه. ولذلك يقول القرآن الكريم في إشارته إلى نهاية وقت صلاة المغرب: ... إلى غسق الليل... وما قاله بعضهم في الغسق أنه ظلمة أول الليل فبعيد خاصة وأن أصل الكلمة يعني الامتلاء والسيلان. وظلمة الليل تكون ممتلئة حين ينتصف الليل. وأحد المفاهيم الملازمة لهذا المعنى الهجوم، ولذلك استعملت الكلمة في هذا المعنى أيضا. " غاسق ": تعني إذن في الآية: الفرد المهاجم، أو الموجود الشرير الذي يتستر بظلام الليل لشن هجومه. فليست الحيوانات الوحشية والزواحف اللاسعة وحدها تنشط في الليل وتؤذي الآخرين بل الأفراد الشريرين يتخذون من الليل أيضا ستارا لتنفيذ أهدافهم الخبيثة. " وقب ": من الوقب، وهو الحفرة، ثم استعمل الفعل " وقب " للدخول في الحفرة، وكأن هذه الموجودات الشريرة المضرة تستغل ظلام الليل، فتصنع الحفر الضارة لتحقق مقاصدها الخبيثة. وقد يكون الفعل يعني: نفذ وتوغل. من شر النفاثات في العقد. " النفاثات ": من " النفث " وهو البصق القليل، ولما كان البصق مقرونا بالنفخ، فاستعملت نفث بمعنى نفخ أيضا. كثير من المفسرين قالوا إن " النفاثات " هي النساء الساحرات. وهي صيغة جمع للمؤنث ومبالغة من نفث. وهذه النسوة كن يقرأن الأوراد وينفخن في عقد، وبذلك يعملن السحر. وقيل: إنها إشارة للنساء اللاتي كن يوسوسن في أذن الرجال وخاصة الأزواج ليثنوهم عن عزمهم وليوهنوا إرادتهم في أداء المهام الكبرى. وما أكثر الحوادث المؤلمة التي أدت إليها وساوس أمثال هذه النسوة
572 طوال التاريخ! وما أكثر نيران الفتنة التي أشعلتها، والعزائم التي أرختها وأوهنتها! الفخر الرازي يقول النساء يتصرفن في قلوب الرجال لنفوذ محبتهن في قلوبهم (1). وهذا المعنى في عصرنا أظهر من أي وقت آخر، إذ إن إحدى أهم وسائل نفوذ الجواسيس في أجهزة السياسة العالمية استخدام النساء، اللائي ينفثن في العقد، فتنفتح مغاليق الأسرار في القلوب ويحصلن على أدق الأسرار. وقيل: إن النفاثات هي النفوس الشريرة، أو الجماعات المشككة التي تبعث بوساوسها عن طريق وسائل إعلامها لتوهن عزيمة الجماعات والشعوب. ولا يستبعد أن تكون الآية ذات مفهوم عام جامع يشمل كل أولئك ويشمل أيضا النمامين والذين يهدمون بنيان المحبة بين الأفراد. وينبغي التأكيد على أن السورة لا تتضمن أية دلالة على أن المقصود بآياتها سحر الساحرين. وعلى فرض أنها تشير إلى سحر الساحرين، فإنها لا تشكل دليلا على صحة سبب النزول الذي ذكره المفسرون للسورة، بل تدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) استعاذ بالله من شر الساحرين. تماما مثل الفرد السالم الذي يستعيذ بالله من السرطان وهو لم يصب به أصلا. ومن شر حاسد إذا حسد. هذه الآية تبين أن الحسد أسوأ الصفات الرذيلة وأحطها، لأن القرآن وضعه في مستوى أعمال الحيوانات المتوحشة والثعابين اللاسعة والشياطين الماكرة. * * *
1 - تفسير الفخر الرازي، ج 32، ص 196. 573 2 بحوث 3 1 - أخطر مصادر الشر والفساد السورة تبدأ بأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستعيذ بالله من شر ما خلق. ثم تبين ثلاثة أنواع من الشرور كتوضيح للآية: شر المهاجمين القساة الذين يتسترون بالليل لشن هجومهم. وشر الموسوسين الذين يوهنون بأحابيلهم إرادة الأفراد وإيمانهم وعقيدتهم وأواصر الحب والود بينهم. وشر الحاسدين. من هذه العبارات المجملة نستطيع أن نستنتج أن أخطر مصادر الشر والفساد هي هذه الثلاثة المذكورة في السورة. وهذا يستدعي التأمل والتعمق. 3 2 - تناسب الآيات يلاحظ أن أول آية في السورة تأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستعيذ برب الفلق، من شر ما خلق. وانتخاب " رب الفلق " قد يعود إلى أن الموجودات الشريرة تطفئ نور السلامة والهداية. لكن الله سبحانه رب الفلق... رب فلق الظلمات. 3 3 - تأثير السحر في تفسير الآيتين 102 و 103 من سورة البقرة، في الجزء الأول من هذا التفسير تحدثنا بالتفصيل عن حقيقة السحر في الأزمنة الغابرة، ورأي الإسلام في السحر، وكيفية تأثيره. وهناك ذكرنا قبولنا لتأثير السحر بشكل عام، ولكن لا بالصورة التي يتخيلها المتخيلون والخرافيون. ومن أراد مزيدا من التوضيح في هذا المجال فليراجع بحثنا المذكور. ومن اللازم أن نذكر هنا أن آيات هذه السورة لو كانت تستهدف أمر النبي
574 بالاستعاذة من سحر الساحرين، فهذا لا يعني أن النبي تعرض لتأثير السحر. بل إنها تشبه استعاذة النبي بالله من كل خطأ وذنب. أي إنه مصون من هذه العوارض بلطف الله وفضله، ولولا فضله لما سلم من تأثير السحر هذا من جهة. ومن جهة أخرى، لا يوجد دليل كما قلنا على أن معنى، النفاثات في العقد هو السحرة أو الساحرات. 3 4 - شر الحاسدين " الحسد " خصلة سيئة شيطانية تظهر في الإنسان نتيجة عوامل مختلفة مثل: ضعف الإيمان، وضيق النظر، والبخل. وهو يعني طلب وتمني زوال النعمة من شخص آخر. الحسد منبع كثير من الذنوب الكبيرة. عن الإمام محمد بن علي الباقر (عليه السلام) قال: " إن الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب " (1). وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: " آفة الدين الحسد والعجب والفخر " (2). ذلك لأن الحسود يعترض في الواقع على حكمة الله وعلى ما آت الله من نعمة لهذا الفرد أو ذاك. كما يقول سبحانه: أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله (3). وقد يبلغ الحسد بالحاسد إلى أن يوقع نفسه في كل تهلكة من أجل زوال النعمة من الشخص المحسود، كما هو معروف في حوادث التاريخ.
1 - بحار الأنوار، ج 73، ص 237. 2 - المصدر السابق، ص 248. 3 - النساء، الآية 54. 575 وفي ذم الحسد يكفي أن أول قتل حدث في العالم كان من قابيل على أثر حسده لأخيه هابيل. " الحساد " كانوا دوما عقبة على طريق الأنبياء والأولياء. ولذلك يأمر الله نبيه أن يستعيذ برب الفلق من شر حاسد إذا حسد. المخاطب في هذه السورة والسورة التالية شخص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكنه خوطب لأنه القدوة والنموذج، وكل المسلمين يجب أن يستعيذوا بالله من شر الحاسدين. اللهم! إنا نعوذ بك من شر الحاسدين إلهنا! احفظنا من شر الوقوع في حسد الآخرين. ربنا! استرنا بسترك من شر النفاثات في العقد، ومن كل الموسوسين المشككين في مسيرتنا إليك. آمين يا رب العالمين نهاية سورة الفلق * * *
576 1 سورة 1 الناس 1 مكية 1 وعدد آياتها ست آيات
578 1 " سورة الناس " 3 محتوى السورة: الإنسان معرض دائما لوساوس الشيطان. وشياطين الجن والإنس يسعون دائما للنفوذ في قلبه وروحه. ومقام الإنسان في العلم مهما ارتفع، ومكانته في المجتمع مهما سمت يزداد تعرضه لوساوس الشياطين ليبعدوه عن جادة الحق. وليبيدوا العالم بفساد العالم. هذه السورة تأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باعتباره القدوة والأسوة أن يستعيذ بالله من شر الموسوسين. محتوى هذه السورة شبيه بمحتوى سورة الفلق، فكلاهما يدوران حول الإستعاذة بالله من الشرور والآفات، مع فارق أن سورة الفلق تتعرض لأنواع الشرور، وهذه السورة تركز على شر (الوسواس الخناس). واختلف المفسرون في مكان نزول هذه الآية. قيل إنها مكية، وقيل إنها مدنية، ولحن الآيات يزيد احتمال مكيتها. هذه السورة وسورة الفلق نزلتا معا حسب الروايات. وسورة الفلق على رأي الكثيرين مكية. وهذه السورة يمكن أن تكون مكية أيضا. 3 وفضيلة السورة: وردت في فضيلة هذه السورة روايات متعددة منها ما روي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اشتكى شكوى شديدة، ووجع وجعا شديدا. فأتاه جبرائيل
580 وميكائيل (عليه السلام) فقعد جبرائيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه، فعوذه جبرائيل بقل أعوذ برب الفلق وميكائيل بقل أعوذ برب الناس. (1) وذكرنا ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: " من أوتر بالمعوذتين وقل هو الله أحد قيل له: يا عبد الله ابشر فقد قبل الله وترك ". (2) * * *
1 - نور الثقلين، ج 5، ص 7645، ومجمع البيان، ج 10، ص 567 و 569. 2 - المصدر السابق. 581 2 الآيات قل أعوذ برب الناس (1) ملك الناس (2) إله الناس (3) من شر الوسواس الخناس (4) الذي يوسوس في صدور الناس (5) من الجنة والناس (6) 2 التفسير 3 برب الناس أعوذ: في هذه السورة يتجه الخطاب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) باعتباره الأسوة والقدوة: قل أعوذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس يلاحظ أن الآيات ركزت على ثلاث من صفات الله سبحانه هي (الربوبية والمالكية والألوهية) وترتبط كلها ارتباطا مباشرا بتربية الإنسان ونجاته من براثن الموسوسين. المقصود من الإستعاذة بالله ليس طبعا ترديد الإستعاذة باللسان فقط، بل على الإنسان أن يلجأ إليه جل وعلا في الفكر والعقيدة والعمل أيضا، مبتعدا عن الطرق الشيطانية والأفكار المضللة الشيطانية، والمناهج والمسالك الشيطانية والمجالس والمحافل الشيطانية، ومتجها على طريق المسيرة الرحمانية، وإلا فإن
582 الإنسان الذي أرخى عنان نفسه تجاه وساوس الشيطان لا تكفيه قراءة هذه السورة ولا تكرار الفاظ الإستعاذة باللسان. على المستعيذ الحقيقي أن يقرن قوله " رب الناس " بالاعتراف بربوبية الله تعالى، وبالانضواء تحت تربيته، وأن يقرن قوله " ملك الناس " بالخضوع لمالكيته، وبالطاعة التامة لأوامره، وأن يقرن قوله: " إله الناس " بالسير على طريق عبوديته، وتجنب عبادة غيره. ومن كان مؤمنا بهذه الصفات الثلاث، وجعل سلوكه منطلقا من هذا الإيمان فهو دون شك سيكون في مأمن من شر الموسوسين. هذه الأوصاف الثلاثة تشكل في الواقع ثلاثة دروس تربوية هامة... ثلاث سبل وقاية... وثلاث طرق نجاة من شر الموسوسين، إنها تؤمن على مسيرة الإنسان من الأخطار. من شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس. كلمة " الوسواس " أصلها - كما يقول الراغب في المفردات - صوت الحلي (اصطكاك حلية بحلية). ثم اطلق على أي صوت خافت. ثم على ما يخطر في القلب من أفكار وتصورات سيئة، لأنها تشبه الصوت الباهت الذي يوشوش في الأذن. " الوسواس ": مصدر، ويأتي بمعنى اسم الفاعل بمعنى الموسوس، وهي في الآية بهذا المعنى. " الخناس " صيغة مبالغة من الخنوس وهو التراجع، لأن الشياطين تتراجع عند ذكر اسم الله، والخنوس له معنى الاختفاء أيضا، لأن التراجع يعقبه الاختفاء عادة. فقوله سبحانه: من شر الوسواس الخناس أي أعوذ بالله من شر الموسوس ذي الصفة الشيطانية الذي يهرب ويختفي من ذكر اسم الله.
583 الشياطين يمزجون أعمالهم دائما بالتستر. ويرمون بالقاءاتهم في الإنسان بطريقة خفية حتى يخال الإنسان أن هذه الإلقاءات من بنات أفكاره، وهذا ما يؤدي إلي ضلاله وغوايته. عمل الشيطان هو التزيين، واخفاء الباطل تحت طلاء الحق، والكذب في قشر من الصداق، والذنب في لباس العبادة، والضلال خلف ستار الهداية. وبإيجاز، الموسوسون متسترون، وطرقهم خفية، وفي هذا تحذير لكل سالكي طريق الله أن لا يتوقعوا رؤية الشياطين في صورتهم الأصلية، أو رؤية مسلكهم على شكله المنحرف. أبدا... فهم موسوسون خناسون... وعملهم الحيلة والمكر والخداع والتظاهر والرياء وإخفاء الحقيقة. لو أن هؤلاء أماطوا اللثام عن وجههم الحقيقي، ولم يخلطوا الحق بالباطل، لو أن هؤلاء قالوا كلمتهم صريحة واضحة " لم يخف على المرتادين " كما يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) نعم لم يخف في هذه الحالة على رواد طريق الحق. ولكنهم يأخذون شيئا من هذا وشيئا من ذاك فيخلطونه وبذلك تنطلي حيلتهم على الآخرين أو كما يقول علي (عليه السلام): " فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه ". (1) عبارة " يوسوس " وعبارة " في صدور الناس " تأكيد على هذا المعنى. جملة من الجنة والناس تنبيه على حقيقة هامة هي إن " الوسواس الخناس " لا ينحصر وجوده في مجموعة معينة، ولا في فئة خاصة، بل هو موجود في الجن والإنس... في كل جماعة وفي كل ملبس، فلابد من الحذر منه أينما كان، والاستعاذة بالله منه في كل أشكاله وصوره. أصدقاء السوء، والجلساء المنحرفون، وأئمة الظلم والضلال، والولاة الجبابرة الطواغيت، والكتاب والخطباء الفاسدون، والمدارس الإلحادية والالتقاطية
1 - نهج البلاغة، الخطبة 50. 584 المخادعة، ووسائل الإعلام المزورة الملفقة، كلها هي وأمثالها تندرج ضمن المفهوم الواسع للوسواس الخناس وتتطلب من الإنسان أن يستعيذ بالله منها. * * * 2 ملاحظات 3 1 - لماذا نستعيذ بالله؟! الإنسان معرض للانحراف في كل لحظة، وحين يأمر الله نبيه أن يستعيذ به من شر " الوسواس الخناس " فإن ذلك دليل على إمكان الوقوع في شراك الموسوسين الخناسين. مع أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مأمن من الانحراف بفضل الله ومدده الغيبي وخضوعه التام لله، فالآيات تأمره أن يستعيذ بالله من شر الوسواس الخناس، فما بالك بغيره من الناس! ولا يجوز للإنسان أن ييأس أمام مخاوف الموسوسين. فملائكة الله تهب للأخذ بناصية المؤمنين والسائرين على طريق الله. فالمؤمنون ليسوا وحيدين في ساحة صراع الحق مع الباطل، بل ملائكة الله في عونهم: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة. (1) ولكن، على أي حال، لا يجوز للإنسان أن يغتر وأن يحسب نفسه غنيا عن الموعظة والتذكير والإمداد الإلهي. يجب الإستعاذة به سبحانه دائما ويجب أن يكون الإنسان على وعي وحذر باستمرار. 3 2 - لماذا تكررت كلمة " الناس " في سبب تكرار كلمة " الناس " في السورة، قيل: إن كل واحد منها لها معنى
1 - فصلت، الآية 30. 585 خاص. ولكن يظهر أن التكرار تأكيد على عمومية هذه الصفات الثلاث الإلهية، وهي في المواضع الثلاثة بمعنى واحد. 3 3 - معنى الخناس على لسان الرواية روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " ما من مؤمن إلا ولقلبه في صدره أذنان: أذن ينفث فيها الملك، وأذن ينفث فيها الوسواس الخناس، فيؤيد الله المؤمن بالملك، فهو قوله سبحانه: وأيدهم بروح منه ". (1) وروي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: " لما نزلت هذه الآية: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم. صعد إبليس جبلا بمكة يقال له ثوير، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه فقالوا: يا سيدنا لم دعوتنا؟ قال: نزلت هذه الآية فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين فقال: أنا لها بكذا وكذا. قال: لست لها. فقام لها آخر فقال مثل ذلك. فقال: لست لها. فقال الوسواس الخناس: أنا لها. قال: بماذا؟ قال: أعدهم وأمنيهم حتى يواقعوا الخطيئة.. فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار. فقال: أنت لها فوكله بها إلى يوم القيامة ". (2)
1 - مجمع البيان، ج 10، ص 571. 2 - تفسير الميزان، ج 20، ص 557. 586 اللهم! احفظنا من شر كل وسواس خناس. ربنا! التآمر دقيق، والعدو متربص، والمخططات خفية رهيبة، ولا نجاة لنا منها إلا بلطفك وفضلك. يا كريم! بفضلك وبمنك وبنعمتك استطعنا بعد جولة استغرقت ما يقرب من خمسة عشر عاما في كتابك الكريم أن ننهي هذا التفسير. يا غفور ويا رحيم! تعلم أننا في هذه اللحظات الأخيرة من كتابة هذا التفسير مغمورون بفرحة ممزوجة بالشكر فنبتهل إليك ونتضرع أن تغفر لنا زلاتنا فإنك أرحم الراحمين. وتقبل منا يا رب هذا الجهد المتواضع بكرمك، واجعله لنا ذخرا يوم نلقاك. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين نهاية سورة الناس انتهى تأليف هذا التفسير في الثامن من ذي القعدة سنة 1407 هجرية * * *